تحقيق في الإمامة و شؤونها نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تحقيق في الإمامة و شؤونها - نسخه متنی

عبدالطیف بغدادی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

التحقيق في الإمامة و شؤونها


 


عبد اللطيف البغدادي
لبعض الشعراء
كتابته وإن فنيت يداه يسرك في القيامة أن تراه.
وما من كاتب إلا ستبقى فلا تكتب بكفك غير شيء.
العقد الفريد ج 2 ص 208
الإهداء
إليكم يا هداة العباد...
إليكم يا من جاهدتم في الله حق الجهاد...
إليك يا رسول الله وإلى أهل بيتك الطاهرين...
2
إليكم جميعا أعود - مرة أخرى - فأرفع هذا المجهود المتواضع وهو عنوان ولائي الخالص لكم جميعا راجيا التفضل علي بالقبول وهو حسبي
المؤلف
آيات افتتاحية من الذكر الحكيم
- - - - - - - - - - - - - - -
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
(ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون (18) إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين (19) هذا بصائر للناس وهدى ورحمة
3

لقوم يوقنون (20) أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون (
[الجاثية / 19 - 22].
دعاء افتتاحي
اللهم إني لو وجدت شفعاء أقرب من محمد (ص) وأهل بيته الأخيار الأئمة الأبرار لجعلتهم شفعائي إليك، فبحقهم الذي أوجبت لهم عليك، أسألك أن تدخلني في جملة العارفين بهم وبحقهم وفي زمرة المرحومين بشفاعتهم، إنك أرحم الراحمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم تسليما كثيرا، وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير (1).
(1) راجعها بسندها في مفتاح الجنات ج 2 ص 210.
4

آخر زيارة الجامعة الكبيرة
مقدمة الكتاب
في آيات مختارة
- - - - - - - - - - - - - - - -
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
F
(الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا (1) قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا (2) ماكثين فيه أبدا (3) وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا (
[الكهف / 1 - 5].
(هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو
5

الفوز المبين (30) وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين (
[الجاثية / 30 - 32].
(إنا أنزلنا عليك الكتاب للناس بالحق فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنت عليهم بوكيل (
[الزمر / 42].
(فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما (
[النساء / 66].
(والسلام على من اتبع الهدى (
[طه / 48].
والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين.
المؤلف
6

F
وبه نستعين
من هو الإمام المدعو كل أناس به يوم القيامة؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ولا يظلمون فتيلا (71) ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (
[الإسراء / 71 - 72].
مقدمة تمهيدية
تشتمل هاتان الآيتان على بحوث تحتاج إلى شيء من التفصيل والتحقيق نذكرهما - بعون الله - بعد ذكر مقدمة تمهيدية حول الآيتين ومفادهما.
استعرض الله تبارك وتعالى في هاتين الآيتين من سورة الإسراء منظرا ومشهدا من مشاهد يوم القيامة العامة ومناظرها، فصور لنا جل وعلا الخلائق وكأنها محشورة على صعيد واحد المهتدي منها والضال
17

والبر والفاجر والراعي والرعية والإمام والمأموم وصارت كل جماعة منها تنادى وتدعى بالإمام الذي ائتمت به وبمنهجه الذي كان عليه في الحياة الدنيا من أئمة الهدى والعدل المتبعة لنهج الحق والسعادة وأئمة الضلال والجور المتبعة لنهج الباطل والشقاء.
تدعى كل جماعة بإمامها - أي تدعى باسمه أو معه - ليسلم لها كتاب عملها وفيه بيان جزائها في الدار الآخرة لكل فرد منها قال تعالى: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا (13) اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا ([الإسراء / 14 - 15].
وإنما تدعى كل جماعة بإمامها لأن الإمام - لغة - هو المقتدى الذي يقتدى به ويتبع في أوامره ونواهيه، فقد يكون لأناس إمام هدى وقد يكون لأناس آخرين إمام ضلالة، وقد سمى الله سبحانه وتعالى في القرآن بأسم إمام وأئمة أفرادا من البشر وجماعات يهدون الناس بأمره تعالى كما في قوله مخاطبا خليله إبراهيم (ع): (إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ([البقرة / 125]، وقال تعالى في مدح جملة من الأنبياء: (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ([الأنبياء / 74]، وقال تعالى: (وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون ([السجدة / 25].
18

كما سمى جل وعلا جماعة آخرين - أيضا - أئمة ولكن يقتدى بهم في الضلال، وإنهم يدعون إلى النار، وأضافهم إلى الكفر، وأمر بقتالهم لعدم وفائهم بأيمانهم كما في قوله تعالى: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ([التوبة / 12]، وقال تعالى: (وجعلناهم (1) أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ([القصص / 42].
أما المراد من أئمة الهدى، وأئمة الضلال فمعلوم أن أئمة الهدى والحق هم الذين يجتبيهم الله ويختارهم في كل زمان لهداية أهله، أنبياء كانوا كإبراهيم الخليل ومحمد الحبيب (ص) أو غير أنبياء كأوصياء الأنبياء السابقين، وكأئمة الهدى من آل محمد (ص) وهم جميعا يدعون الناس إلى الهدى بأمر الله لا بأمرهم ويقدمون أمر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم، ويؤيدهم الله سبحانه بالمعجزات وخوارق العادات التي يجريها على أيديهم لتكون دليلا على صدقهم، وأئمة الضلال والباطل هم الذين تسلطوا على الناس بالقوة، أو اتخذهم بعض الناس أئمة واختاروهم واقتدوا بهم في الدنيا بدون تشريع وإذن خاص من الله ورسوله، وهؤلاء يدعون إلى النار لأنهم يقدمون أمر قبل أمرهم الله وحكمهم قبل حكم الله، ويأخذون بأهوائهم وأهواء اتباعهم خلاف ما في كتاب الله، والله تعالى يقول: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ([المؤمنون / 72].
(1) الفرق بين الجعل في أئمة الهدى، والجعل في أئمة الضلال هو أنه في الأول جعل تشريعي مرضي لله تعالى، والجعل في الثاني جعل تكويني غير تشريعي وغير مرضي، راجع التفصيل في كتابنا (الحقائق الكونية) ج 1 ص 36 - 49.
19

ومن المعلوم أن الله سبحانه قادر على عدم تمكينهم من السلطة والحكم ولكن قد يمكن ويبقي أناسا على ذلك، وقد يحول بين بعضهم وبين ما يريدون، وذلك كله اختبارا لعباده وامتحانا لهم ليرى ويشاهد من يتبع الحق وأهله ومن يتبع الباطل وأهله (1).
قال تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون (112) ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون (113) أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين ([الأنعام / 113 - 115].
تفسير الآيتين من سورة الإسراء
والآن وبعد هذا البيان الضافي نعود إلى بحوث الآيتين بشيء من التفصيل والتحقيق يقول تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (.
أولا: - المراد من اليوم هو يوم القيامة بإجماع المفسرين وبلا خلاف بينهم، يدعون فيه للحساب.
ثانيا: - الظاهر من الآية الكريمة أن هذه الدعوة تعم الناس جميعا جيلا فجيلا من الأمم الماضية ومن هذه الأمة إلى يوم القيامة، يدعون في
(1) راجع موضوع - الاختبار والامتحان - مفصلا في (الحقائق الكونية) ج 2 من أوله إلى ص 133.
20

ذلك اليوم إلى الحساب والجزاء، قال تعالى: (هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين ([المرسلات / 39].
ثالثا: - (يوم ندعو كل أناس بإمامهم ((معنى الباء) المعنى: يدعى كل أناس باسم إمامهم - على حذف مضاف - فيقال مثلا: يا شيعة فلان، ويا شيعة فلان، أو يا اتباع فلان ويا اتباع فلان، كقوله تعالى: (واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون ([يوسف / 83]، والمعنى: وأسال أهل القرية، وأهل العير، ويقول آخرون من المفسرين المراد أن يدعى كل أناس مع إمامهم، أي مصاحبين له ومختلطين معه، كما يقال مثلا: ركب الأمير بجيشه، أي مع جيشه، والظاهر لنا احتمال كلا المعنيين وصحتهما معا، وذلك بان يدعى كل أناس باسم إمامهم ومعه، ولعل إلى ذلك أشار سفيان بن مصعب العبدي الكوفي شاعر أهل البيت وأحد تلامذة الإمام الصادق (ع) يقول مخاطبا أئمة الهدى:
إذا ما إلى رب العباد معا قمنا * بسيما الذي يهواكم والذي يشنا (1).
أئمتنا أنتم سندعي بكم غدا * وأنتم على الأعراف أعرف عارف
رابعا: - من هو الإمام في الآية الكريمة الذي يدعى كل أناس به؟ الجواب نقول: للمفسرين في المراد من الإمام أقوال عديدة، ومذاهب شتى.
(1) البيتان من قصيدة عصماء لسفيان بن مصعب العبدي ذكر بعضها الشيخ الأميني في الغدير ج 2 ص 292 وذكر ترجمة الشاعر وشرح بعض أبياتها.
21

أقوال المفسرين في المراد من الإمام وهي ستة
1 - إن المراد من الإمام مطلق من اتخذ إماما من أئمة هدى أو ضلال.
2 - إنه هو إمام الحق المنصوب من قبل الله نبيا كان أو وصيا.
3 - إنه هو إمام الحق مع الكتاب الذي أنزله الله على أحد رسله كالتوراة لموسى والإنجيل لعيسى والقرآن لمحمد (ص) ومع سنة ذلك الرسول من أقواله وأفعاله وإقراره، وهذه الأقوال الثلاثة لها قسط من الحق، وهناك أقوال أخرى بعيدة عن الحقيقة والواقع وهي:
4 - إن المراد من الإمام كتاب أعمال الخلائق لأن لكل إنسان كتابا يخصه وقد سجل فيه عمله فيدعى به.
5 - إنه اللوح المحفوظ الذي سجل الله فيه كل ما سيكون قبل أن يكون.
6 - وشذ بعضهم ففسر الإمام بالأمهات، وان قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (أي بإمهاتهم، كل ذلك محاولة من بعضهم تضييع الحقيقة أو جهلا بها (1).
(1) راجع الأقوال في تفسير (الكشاف) للزمخشري ج 2 ص 682 و (مفاتيح الغيب) للرازي ج 5 ص 417 - 418، و (مجمع البيان) للطبرسي م 3 ص 429 - 430 وغيرها.
22

أصح الأقوال ثلاثة
ولكن الحقيقة التي تتلائم مع الآيتين والآيات الأخر من القرآن، وتتلائم مع الأخبار المروية عن النبي (ص) وأهل بيته الأطهار من طرق الفريقين هي أحد القولين الأولين أو كلاهما مع القول الثالث وهذا هو الأظهر.
أما الأقوال الثلاثة الأخرى فمعلومة البطلان لمخالفتها لنص الآية الكريمة، فإن الآية تقول: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (فلو كان المراد من الإمام الكتاب الذي فيه تسجيل عمل كل إنسان فردا فردا لقال: (يوم ندعو كل إنسان بإمامه)، ولو كان المراد من الإمام اللوح المحفوظ الذي فيه تسجيل كل ما قدر لبني الإنسان من أول إيجاده إلى آخر الدنيا لقال: (يوم ندعو الناس جميعا بإمامهم)، ولو كان المراد من الإمام الأمهات لقال: (يوم ندعو كل إنسان بإمامه)، أو: (ندعو كل الناس بإمهاتهم).
هذا مع العلم أيضا أن كتاب تسجيل العمل لا يقال له إمام، لأن الإمام هو المقتدى المتبع كالرسل والأنبياء والأوصياء وما انزل الله عليهم من كتب وما شرع لهم ولأممهم من نظم.
وكذلك الأمهات لا تطلق عليها لفظة إمام، وعليه نعود إلى الأقوال الثلاثة الأولى وبيان الحقيقة فيها فنقول:
23

القول الأول وأدلته
أما القول الأول وهو أن المراد من الإمام مطلق من إتخذ إماما وعلى هذا يكون معنى الآيتين، إن كل طائفة من الناس أو فرقة منهم اتخذت إماما لها فبايعته أو اقتدت به في الحياة الدنيا واتبعته تدعى به يوم القيامة سواء كان ذلك الإمام إمام هدى أو إمام ضلالة، واتباعها له في سبيل الحق كان أو في سبيل الباطل، فتدعى تلك الفرقة
بإمامها الذي ائتمت به في الحياة الدنيا، وإذا دعي كل أناس بإمامهم فحينئذ من اقتدى منهم بإمام الحق والهدى وقد دعي باسمه ومعه فأولئك يأخذون كتابهم بأيمانهم ويقرؤونه فرحين مستبشرين بالسعادة والنعيم (ولا يظلمون فتيلا (والفتيل هو الحبل الذي يكون في شق النواة، والمعنى لا يظلمون مقدار فتيل بل يوفون أجورهم تامة غير منقوصة، ثم يكونون أخيرا معهم في الجنة.
وأما من اقتدى بغير إمام الحق والهدى فيظهر حينئذ فيه العمى وهو عمى البصيرة الذي كان عليه في الدنيا، قال تعالى: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ([الحج / 47]، وظهر عليه في الآخرة، بل يظهر من الآية الكريمة أن عماه في الآخرة يكون أشد من عماه في الدنيا لذا قال: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا (أي أكثر عمى وضلالا.
والمعنى ومن كان في هذه الحياة الدنيا لا يعرف إمام الحق ولا يسلك سبيله فهو في الآخرة لا يجد السعادة والفلاح ولا يهتدي إلى المغفرة والرحمة، ويكون أخيرا مع إمام الضلال والباطل في النار.
24

ويؤيد ذلك قول النبي (ص) في آخر خطبة خطبها في مسجده وهي خطبة طويلة منها قال: " أيها الناس هذا علي بن أبي طالب كنز الله اليوم وما بعد اليوم فمن أحبه ووالاه اليوم وما بعد اليوم فقد أوفى بما عاهد عليه الله، وأدى ما وجب عليه من الله، ومن عاداه اليوم وما بعد اليوم جاء يوم القيامة أعمى وأصم لا حجة له عند الله... الخ (1).
وربما يضاف - لهذا الإنسان - إلى عمى البصيرة، ويؤيد ذلك قول الله عز وجل: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى (124) قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (125) قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى (فقوله تعالى: (قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا (المراد من العمى في هذه الآية الكريمة عمى البصر لا البصيرة.
وعلى كل المراد من الإمام - في هذا القول الأول - مطلق من أتخذ إماما من إمام هدى أو ضلالة، وهذا المعنى يلائم ظاهر الآية ولا يخالفها بشيء وتذكره بعض الأخبار المروية عن النبي (ص) وأهل بيته وصحبه ومنها ما ورد عن علي أمير المؤمنين (ع) إنه قال: سمعت رسول الله (ص) يقول: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليأت كل قوم بمن يأتمون به في الحياة الدنيا وذلك قول الله عز وجل: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (.
(1) راجع الخطبة في (البحار) ج 22 ص 487.
25

قصة جماعة يدعون يوم القيامة وإمامهم الضب
ولهذا الحديث قصة ذكرها المؤرخون والمحدثون منهم الشيخ سليمان الحنفي في (ينابيع المودة)، والصدوق في (الأمالي)، والمفيد في (الاختصاص)، والسيد هاشم البحراني في (مدينة المعاجز) وغيرهم، ومجملها أن أمير المؤمنين (ع) لما أراد المسير إلى النهروان لقتال الخوارج، وكان (ع) قد أمر جيشه أن يعسكر بالمدائن قرب بغداد تخلف عن الخروج معه نفر من المنافقين الذين كانوا قد بايعوه، وكانوا يتظاهرون بحبه ونصرته، وهم - على ما في مدينة المعاجز - شبث بن ربعي، والأشعث بن قيس الكندي، وجرير بن عبد الله البجلي، وعمرو بن حريث مع مواليهم.
أما رواية شيخنا الصدوق في (الخصال) بسنده عن الأصبغ بن نباتة يقول: تخلف عمرو ابن حريث في سبعة نفر، ولم يذكر أسماؤهم فسألهم أمير المؤمنين (ع) لم تتخلفون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين ان لنا حوائج نقضيها ثم نلحق بك، فقال (ع) لهم: والله مالكم من حاجة تتخلفون عليها ولكنكم تتخلفون لتخلفوا بيعة أخي رسول الله وابن عمه وصهره وتنقضوا ميثاقه الذي أخذه الله ورسوله عليكم، فقالوا: والله يا أمير المؤمنين ما نريد إلا قضاء حوائجنا ونلحق بك، ثم مضى أمير المؤمنين إلى معسكره، وخرج هؤلاء النفر في اليوم التالي إلى الخورنق في الحيرة للنزهة وهيأوا طعامهم وشرابهم وجلسوا يأكلون ويشربون الخمر وبينما هم كذلك إذ مر بهم ضب (وهو حيوان بري كما في حياة الحيوان) (1).
(1) (حياة الحيوان) ج 2 ص 135.
26

فأمروا غلمانهم فصادوه وجاءوا به إليهم، فقالوا: يا ضب أنت والله أحب إلينا من علي بن أبي طالب، وفي (الخصال) قال عمرو بن حريث: بايعوا هذا الضب فهذا أمير المؤمنين وبسط لهم كفه فبايعه السبعة وعمرو ثامنهم، ثم ارتحلوا متوجهين إلى المدائن، وقدموها يوم الجمعة وأمير المؤمنين (ع) يخطب في المسجد فدخلوا إليه، فلما نظر إليهم أمير المؤمنين قال أثناء خطابه: أيها الناس سمعت رسول الله (ص) يقول: إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليأتي كل قوم بمن يأتمون به في الحياة الدنيا، وذلك قول الله عز وجل: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (وكأني انظر يوم القيامة إلى قوم يحشرون وإمامهم الضب يسوقهم إلى النار.
وفي (الخصال): إن أمير المؤمنين قال حين دخلوا باب المسجد وهو يخطب: يا أيها الناس إن رسول الله (ص) أسر إلي ألف حديث في كل حديث ألف باب لكل باب ألف مفتاح، وإني سمعت الله عز وجل يقول: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (وإني أقسم لكم بالله ليبعثن يوم القيامة ثمانية نفر يدعون بإمامهم وهو ضب، ولو شئت أن أسميهم لفعلت.
قال الراوي فلقد رأيت عمرو بن حريث قد سقط كما تسقط السعفة حياء ولؤما.
وفي (مدينة المعاجز): ان أمير المؤمنين (ع) قال لهم: فبعدا لكم وسحقا لئن كان مع رسول الله منافقون فإن معي أيضا منافقون، أما والله يا شبث بن ربعي وأنت يا عمرو بن حريث ومحمد ابنك يا أشعث لتقتلن ابني
27

الحسين هكذا حدثني حبيبي، فالويل لمن كان خصمه رسول الله يوم القيامة (1).
ومن الأحاديث التي تصرح من ان المراد من الإمام إمام هدى وإمام ضلالة ما ورد من طرق أهل السنة والشيعة مسندا عن الإمام الصادق عن أبيه عن جده زين العابدين
أن بشر بن غالب الأسدي سأل الحسين - حين صادفه في طريقه إلى كربلاء - قال:
يا بن رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (فقال له الحسين (ع) نعم يا أخا بني أسد هما إمامان، إمام هدى دعا إلى هدى وإمام ضلالة دعا إلى ضلالة، فهذا ومن أجابه إلى الهدى في الجنة، وهذا ومن أجابه إلى الضلالة في النار، وهو قوله تعالى: (فريق في الجنة وفريق في السعير ([الشورى / 8] (2).
وروى المفسرون أيضا عن الإمام الصادق (ع) انه قال لبعض أصحابه: ألا تحمدون الله تعالى انه إذا كان يوم القيامة يدعى كل قوم إلى
(1) (ينابيع المودة) ص 71 بسنده عن الأصبغ نقلا عن كتاب المناقب، ونقلها عنه المرعشي في (احقاق الحق) ج 7 ص 598، والصدوق في (الخصال) ج 2 ص 644، والمفيد في (الاختصاص) ص 277، و (شجرة طوبى) ج 2 ص 149 نقلا عن (مدينة المعاجز)
(2) راجع (مقتل الحسين) للخوارزمي الحنفي ج 1 ص 221، و (الأمالي) للصدوق ص 93، و (تفسير الصافي) نقلا عن المجالس عن تفسير الآية، والمجلسي في (البحار) ج 44 ص 367 عن اللهوف لابن طاووس ص 60 ومثير الأحزان لابن نما ص 21، ونقله عنهما السيد بحر العلوم في نقتله ص 224 مختصرا.
28

من يتولونه، وفزعنا إلى رسول الله (ص) وفزعتم أنتم إلينا فإلى أين ترون يذهب بكم؟ إلى الجنة ورب الكعبة قالها ثلاثا (1).
إلى غير ذلك من الأخبار المؤيدة لهذا المعنى، وهو مروي أيضا من طرق أهل السنة، فقد روى السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) قال: - أخرج أبن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (قال: إمام هدى وإمام ضلالة (2).
القول الثاني وأدلته
وهناك أخبار أخرى واردة عن النبي وأهل بيته الأطهار تدل على القول الثاني وهو أن المراد من قوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (أي بإمام زمانهم الذي جعله الله - بتشريعه - إماما عليهم من نبي أو وصي.
فقد روى العياشي في تفسيره، وعلي بن إبراهيم في تفسيره، وغيرهما عن الفضيل بن يسار قال: - سألت أبا جعفر (أي الإمام الباقر) عن قول الله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (قال يجيء رسول الله
(1) (مجمع البيان) ج 3 ص 430، و (الصافي)، و (الميزان) ج 13 ص 81، نقلا عن تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب والبحار ج 8 ص 8.
(2) (الدر المنثور) ج 4 ص 194.
29

في قومه، وفي نص في قرنه، وعلي في قومه، والحسن في قومه، والحسين في قومه، وكل من مات بين ظهراني إمام جاء معه (1).
وقريب من هذا الحديث ما رواه البرقي في (المحاسن) بسنده عن يعقوب بن شعيب قال: - قلت لأبي عبد الله (ع): (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (فقال: يدعى كل قرن من هذه الأمة بإمامهم، قلت: فيجيء رسول الله في قرنه، والحسن في قرنه، والحسين في قرنه، وكل إمام في قرنه الذي هلك بين أظهرهم؟ قال: نعم (2).
وروى العياشي في تفسيره عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) انه قال: إذا كان يوم القيامة يدعى كل بإمامه الذي مات في عصره، فإن أثبته " أي أقر بإمامته " أعطي كتابه بيمينه لقوله تعالى: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم (إلى أن قال (ع): ومن نبذه وراء ظهره كما قال تعالى: (فنبذوه وراء ظهورهم ([آل عمران / 178].
(1) راجع (تفسير العياشي) ج 2 ص 302، وعلي بن إبراهيم ج 2 ص 23، ونقله عنهما المجلسي في (البحار) ج 8 ص 6، وص 11، و (الصافي) ج 1 ص 981، و (البرهان) ج 2 ص 340.
(2) (المحاسن) ص 109، ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 8 ص 11.
30

ومن أنكره كان من أصحاب الشمال الذين قال الله تعالى فيهم: (وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال (41) في سموم وحميم (42) وظل من يحموم ([الواقعة / 42 - 44] (1).
وفي تفسير العياشي عن عمار الساباطي عن أبي عبد الله (ع) قال: " لا تترك الأرض بغير إمام يحل حلال الله ويحرم حرامه وهو قول الله: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (، ثم قال رسول الله (ص) من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية (2)، ونقله عنه السيد الطباطبائي في (الميزان).
القول الثالث وأدلته
أما القول الثالث وهو أن المراد من الإمام في الآية إمام الحق مع الكتاب والسنة، فقد روى شيخنا الصدوق في (عيون أخبار الرضا)، والطبرسي في (مجمع البيان) قال بما نصه: ويجمع هذه الأقوال ما رواه الخاص والعام عن الرضا علي بن موسى (ع) بالأسانيد الصحيحة أنه (ع) روى عن آبائه عن النبي (ص) انه قال فيه: " يدعى كل أناس بإمام زمانهم، وكتاب ربهم وسنة نبيهم (3).
(1) (تفسير العياشي) ج 2 ص 302، و (البحار) ج 8 ص 11، والصافي ج 1 ص 981، و (البرهان) ج 2 ص 430.
(2) (تفسير العياشي) ج 2 ص 303، وفي الحاشية: (البرهان) ج 2 ص 430، و (البحار) ج 8 ص 12 نقلا عن العياشي، و (الصافي) ج 1 ص 981، و (الميزان) ج 13 ص 182.
(3) (مجمع البيان) ج 3 ص 430، و (البحار) ص 10، نقلا عن (العيون) ص 201.
31

وهذا الحديث الشريف ممن رواه من العامة السيوطي في (الدر المنثور) قال: وأخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله (ص): (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (قال يدعى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنة نبيهم (1).
الجمع بين هذه الأقوال وأدلته
وهذه الأحاديث لا تنافي الآية الكريمة، ولا الأحاديث السابقة، بل يستفاد من مجموع هذه الأحاديث، ومن الآية الكريمة، ومن آيات قرآنية اخرى معنى أجمع وأشمل وهو:
ان الله تعالى يدعو يوم القيامة كل أناس بإمام زمانهم الذي جعله الله إماما عليهم المهتدي منهم والضال، فمن كان من اتباع إمام الحق وشيعته اوتي كتابه بيمينه وصار إلى النعيم المقيم، ومن لم يكن من اتباعه واتبع رؤساء الضلال وأئمة الجور مع وجود إمام الحق فيأتون مع إمامهم الحق ليشهد عليهم، ويكون خصما لهم (2).
ولكن معهم الذين اقتدوا بهم واتبعوهم من أئمة الجور والضلال فينادون باسمهم ويحاسبون ثم يعطون كتبهم بشمائلهم ويكون مصيرهم إلى النار والعذاب المقيم مع رؤسائهم وأئمتهم.
(1) (الدر المنثور) ج 4 ص 194.
(2) سنذكر إن شاء الله شهادة النبي (ص) والأئمة (ع) في فصل مستقل في هذا الكتاب على الناس أجمعين فراجع.
32

وكيف ما كان هو أن الذي لا ريب فيه ان المهتدين يحشرون ويصيرون مع الهادين إلى الجنة، والضالين يحشرون ويصيرون مع المضلين إلى النار، وهذا المعنى تصرح به آيات كثيرة وأحاديث متواترة، ومن الآيات قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون موقوفون عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الذين استضعفوا للذين استكبروا لولا أنتم لكنا مؤمنين (31) قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين (32) وقال الذين استضعفوا للذين
استكبروا بل مكر الليل والنهار (1) إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون ([سبأ / 32 - 34].
وإذا صار المستكبرون والمستضعفون إلى العذاب والنار فحينئذ يطلب المستضعفون من الله تعالى أن يضاعف العذاب على رؤسائهم كما في قوله تعالى حاكيا عنهم وهو في النار (وقالوا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا (67) ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا ([الأحزاب / 68 - 69]، وهذا دعاء مستجاب منهم.
وكان النبي (ص) يصرح به في كتبه ورسائله إلى ملوك ورؤساء العالم من الأكاسرة والقياصرة والأقابطة والأساقفة وغيرهم فمثلا يكتب إلى كسرى ملك الفرس: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما
(1) في هذا النص " بل مكر الليل والنهار " إشارة واضحة إلى وسائل الإعلام الحديثة التي بواسطتها استطاع الظالمون أن يواصلوا مكرهم وخداعهم للشعوب المستضعفة ليلا ونهارا وبلا انقطاع " والله من ورائهم محيط " [البروج / 21].
33

عليك إثم المجوس، ويكتب إلى قيصر ملك الروم: اسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الاريسيين، ويكتب إلى المقوقس ملك القبط في مصر: أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإنما عليك إثم القبط، وهكذا في سائر رسائله وكتبه (1).
وإذا كان الضالون يحشرون مع رؤسائهم المضلين، ويصيرون معهم إلى العذاب المقيم حسب نصوص تلك الآيات البينات، فالمهتدون يحشرون أيضا مع رؤسائهم الهادين ويصيرون أخيرا معهم إلى النعيم المقيم، وقد نصت على ذلك بعض الآيات الواضحات ومنها قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (69) ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ([النساء / 70 - 71].
وإلى كل ما ذكرناه يشير قوله تعالى: (وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون (28) هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون (29) فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيدخلهم ربهم في رحمته ذلك هو الفوز المبين (30) وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما مجرمين ([الجاثية / 29 - 32].
وأما الأخبار فقد تواترت تواترا قطعيا عند جميع فرق المسلمين في أن الإنسان يحشر ويصير يوم القيامة مع من تولاه وأحبه من رؤساء
(1) (مكاتيب الرسول لعلي بن حسين الأحمدي) ج 1 ص 90 وص 105.
34

الهدى أو الضلال، فقد روى الإمام أحمد بن حنبل، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وغيرهم من أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد رووا عن انس بن مالك، وابن مسعود عن النبي (ص) أنه قال: المرء مع من أحب، وقال (ص): من أحب قوما حشر معهم، وفي نقل: من أحب قوما حشره الله في زمرتهم (1).
وجاء في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري حينما زار الإمام الحسين في زيارة الأربعين وزار أهل بيته وأصحابه، فكان فيما قال في زيارتهم: والذي بعث محمدا (ص) بالحق نبيا لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه، قال عطية: فقلت: يا جابر كيف نشاركهم فيما دخلوا فيه؟ ولم نهبط واديا ولم نعل جبلا ولم نضرب بسيف؟ فقال يا عطية: سمعت رسول الله حبيبي يقول: من أحب قوما حشر معهم، ومن أحب عمل قوم أشرك في عملهم، والذي بعث محمدا نبيا أن نيتي ونية أصحابي على ما مضى عليه الحسين (ع) وأصحابه.. الخ (2).
والمراد من الحب في هذه الأحاديث الشريفة هو الحب المقرون بالأتباع لأئمة الهدى أو لأئمة الضلال، ويؤيده ما رواه العياشي في تفسيره، والكليني في (أصول الكافي) في باب: أن الأئمة في كتاب الله إمامان إمام يدعو إلى الله وإمام يدعو إلى النار، ووراه المولى محسن الفيض في تفسيره الصافي مسندا عن أبي جعفر الباقر (ع) انه قال: لما نزلت هذه الآية: (يوم ندعو كل أناس بإمامهم (قال المسلمون: يا رسول الله
(1) راجع كتاب (الغدير) ج 2 ص 292 في مصادر هذه الأحاديث.
(2) راجع كتاب (بشارة المصطفى) ص 90.
35

ألست إمام الناس كلهم أجمعين؟ فقال (ص): أنا رسول الله إلى الناس أجمعين، ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من أهل بيتي يقومون في الناس فيكذبون ويظلمهم أئمة الكفر وأشياع الضلالة - فمن والاهم - أي الأئمة من الله واتبعهم فهو مني وسيلقاني، ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وأنا منه بريء (1).
ولنختم هذا الفصل بقوله تعالى يخاطب نبيه (ص) يأمره أن يقول لأمته: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ([آل عمران / 32].
(1) راجع (تفسير العياشي) ج 2 ص 304، و (الشافي في شرح أصول الكافي) مجلد 3 ص 146، و (البحار) ج 8 ص 13، و (تفسير البرهان) ج 2 ص 430، و (الصافي) و (المحاسن) للبرقي وغيرها.
36

F
وبه نستعين
الإمامة كالنبوة اختيارها بيد الله الحكيم الخبير
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون (68) وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (
[القصص / 69 - 70].
الإمامة - عند الشيعة الإمامية - من أصول الدين
وهي عبارة عن الاعتقاد بأن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين هو الإمام والحجة والخليفة لله بعد رسول الله (ص)، وكذلك أبناؤه المعصومون من بعده أئمة وحجج الله على خلقه وخلفاؤه في عباده وسفراؤه في أمره ونهيه.
كما يجب أن يعتقد - عندهم أيضا - إن الإمامة إمرة إلهية كالنبوة أمرها بيد الله عز وجل لا بيد خلقه، لا بالاختيار والانتخاب من الناس، أما
39

النبوة فقد اجمع المسلمون قاطبة على عدم الخيرة للناس في نصب النبي، ولا خلاف في ذلك لأحد منهم.
وأما الإمامة فقد جوز أهل السنة الاختيار في نصب الإمام، والحقيقة إنه تجويز لا نراه يتفق أبدا مع حكم الكتاب والسنة والعقل والإجماع، وإليك البيان.
بيان الأدلة الأربعة على عدم الخيرة للناس
الأول - الكتاب الكريم
أما الكتاب فيه آيات كثيرة تدل على عدم الخيرة للناس، فمنها قوله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون (فأخبر جل وعلا:
أولا: - إنه هو الذي يخلق ما يشاء، أي إنه هو الذي يوجد ما يشاء إيجاده.
ثانيا: - إنه هو الذي يختار من خلقه من يشاء، وعطف الاختيار على الخلق والإيجاد ليعلم جميع عباده الذين يعتقدون إن الموجد هو الله وحده لا شريك له يعلمهم أيضا إن الاختيار كذلك بيده وحده لا شريك له وهو الخالق، وهو المختار، (وربك يخلق ما يشاء ويختار (.
40

ثالثا: - نفى تبارك وتعالى - نفيا صريحا - أن تكون الخيرة للخلق (ما كان لهم الخيرة (نعم الظاهر أن " ما " هنا نافية كما عليه المحققون كصاحب تفسير الميزان (1).
وقيل أن " ما " هنا موصولة بمعنى الذي فيكون المعنى أن الله هو الذي يختار لهم الذي فيه الخيرة وعلى كلا المعنيين تكون النتيجة إن الخيرة بيده لا بيد غيره.
رابعا: - أخبر عن تنزيهه وتعاليه عن أن يشرك خلقه معه في الخلق والاختيار (سبحان الله وتعالى عما يشركون (، ثم بين جل وعلا في الآية التالية الحكمة في ذلك، وهي حكمة واضحة جلية، تلك هي أن الخالق أعلم بنفسيات خلقه ومن يصلح للرئاسة عليهم ومن لا يصلح، (وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (.
فإن قيل: هذا الاختيار المذكور في الآية مختص بمسألة النبوة دون غيرها؟ قلنا: ليس في صدر الآية أو ذيلها ما يشعر - ولو من طرف خفي - بالاختصاص بالنبوة فقط، بل ان إطلاقها - بما تحمل فيه من صراحة ووضوح - تأبى كل قيد أو تأويل، كيف لا، والإمامة تعتبر استمرارا لمقام النبوة وإتماما للرسالة، وان اختيار النبي والإمام معا بيد الله عز وجل.
وبهذا جاء النص الصريح عن النبي (ص) الذي أنزل الله عليه القرآن وخاطبه بهذه الآية (وربك يخلق ما يشاء ويختار (على ما هو منقول عن كتاب محمد بن مؤمن الشيرازي من علماء الجمهور المستخرج من
(1) راجع (تفسير الميزان) ج 16 ص 68 وص 69.
41

التفاسير الاثني عشر، عن أنس بن مالك قال: سألت النبي (ص) عن هذه الآية (وربك يخلق ما يشاء ويختار (فقال (ص) ان الله خلق آدم من الطين كيف يشاء ويختار، وان الله اختارني وأهل بيتي على جميع الخلق فانتجبنا فجعلني الرسول، وجعل علي بن أبي طالب الوصي، ثم قال: (ما كان لهم الخيرة (يعني ما جعلت للعباد أن يختاروا ولكني أختار من أشاء، فأنا وأهل بيتي صفوته وخيرته من خلقه (1).
وجاء في حديث الإمام الرضا (ع) في وصف الإمام والإمامة ومكانهما السامي، وهو حديث مهم وطويل، رواه جل علمائنا، وسنذكره إن شاء الله بعد هذا الفصل بكامله، ونذكر الآن محل الشاهد منه يقول (ع): ورغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله إلى اختيارهم، والقرآن يناديهم (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون (.
محاورة ابن عباس مع الخليفة الثاني في الخلافة
ومما يؤيد ذلك إن عبد الله بن عباس وهو حبر الأمة وعالمها وابن عم نبيها، والذي يعبر عنه بترجمان القرآن قد احتج بهذه الآية (وربك يخلق ما يشاء ويختار (على الخليفة الثاني عمر بن الخطاب أيام خلافته في كلام دار بينهما ذكره المؤرخون في كتب التاريخ والأدب، وذلك حين قال الخليفة لابن عباس: أتدري يا بن عباس ما منع الناس منكم بعد رسول الله (ص)؟ قال: لا يا أمير المؤمنين، قال: لكني أدري، قال: ما هو يا أمير
(1) راجع كتاب (الوصي) للعلامة السيد علي تقي الحيدري ص 23، و (البحار) ج 23 ص 74 نقلا عن مناقب ابن شهر آشوب ج 1 ص 220.
42

المؤمنين؟ قال: كرهت قريش أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتجفخوا الناس جفخا (1).
فنظرت قريش لا نفسها فاختارت ووفقت وأصابت، فقال أبن عباس: أيميط أمير المؤمنين عني غضبه فيسمع؟ قال: قل ما تشاء، قال: أما قول أمير المؤمنين: أن قريشا كرهت أن تجتمع لكم النبوة والخلافة، فإن الله عز وجل وصف قوما بالكراهة بقوله تعالى: (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ([محمد / 10]، وأما قولك فتجفخوا الناس جفخا (أو تجخفوا الناس) فلو جفخنا بالخلافة لجفخنا بالقرابة ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله (ص) الذي قال الله تعالى مخاطبا له: (وإنك لعلى خلق عظيم ([القلم / 5]، وقال له: (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ([الشعراء / 216]، وأما قولك فنظرت قريش لا نفسها فاختارت ووفقت وأصابت، فإن الله تعالى يقول: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة (وقد علمت يا أمير المؤمنين أن الله قد اختار من خلقه من اختار، فلو نظرت قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت.
فقال عمر: على رسلك يا بن عباس أبت قلوبكم يا بني هاشم إلا حسدا وغشا في أمر قريش لا يزول، وحقدا عليها لا يحول، فقال ابن عباس مهلا يا أمير المؤمنين لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الحسد والغش فإن قلوبهم من قلب رسول الله (ص) الذي طهره الله وزكاه مع أهل بيته الذين
(1) جفخ جفخا: أي تكبر وتطاول على غيره، وفي بعض النصوص فتجخفوا الناس جخفا، ومعنى أجخف أي مال، وجخف جخفا أي افتخر بأكثر مما عنده. راجع (المنجد) ص 77 وص 91.
43

قال الله لهم: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ([الأحزاب / 34].
وأما الحقد فكيف لا يحقد من غصب حقه ويراه بيد غيره؟
فقال عمر: أما أنت يا بن عباس فقد بلغني عنك كلام أكره أن أخبرك به فتزول منزلتك عندي، قال: يا أمير المؤمنين إخبرني به، فإن يك باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه، وإن يك حقا فإن منزلتي عندك لا تزول به، قال: بلغني إنك تقول: اخذ هذا الأمر " أمر الخلافة " حسدا وظلما، قال: أما قولك يا أمير المؤمنين " حسدا " فقد حسد إبليس آدم فأخرجه من الجنة، فنحن بنو آدم المحسودون، وأما قولك " ظلما " فأمير المؤمنين يعلم صاحب الحق من هو؟.... الخ. أخيرا قال عمر لجلسائه:
وآها - أي عجبا - لابن عباس ما رايته لاحى أحدا قط إلا خصمه (1).
وشاهدنا من هذه المحاورة استشهاد ابن عباس بالآية الكريمة لما قال له عمر: " ولكن اختارت فريش لا نفسها " قال: قال الله تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة (فلو كانت هذه الآية تخص النبوة فقط
(1) راجع المحاورة بكاملها في (تاريخ الطبري) ط القاهرة سنة 1357 ه‍، و (تاريخ ابن الأثير) ط مصر سنة 1348 ه‍، و (قصص العرب) ط مصر ج 2 ص 357، و (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد ج 3 ص 107 ط دار الكتب العربية مصر، و (الدرجات الرفيعة) لصدر الدين المدني الشيرازي ط النجف ص 303، و (المراجعات) لشرف الدين ص 319، و (المطالعات في مختلف المؤلفات) للسيد محمد علي الحمامي ط الأولى.
44

لما احتج بها ابن عباس في موضوع الإمامة، ولرد عليه عمر في محاورته معه، وهناك آيات اخر تصرح بأن الاختيار بيد الله لا بيد غيره مثل قوله تعالى: (الله أعلم حيث يجعل رسالته ([الأنعام / 125]، وقوله تعالى: (ولقد اخترناهم على علم على العالمين ([الدخان / 33]، وقوله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير ([الملك / 15].
ومن آيات الكتاب التي تدل على عدم الخيرة للناس حتى المؤمنين منهم قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ([الأحزاب / 37].
والظاهر ان المراد من القضاء في هذه الآية هو القضاء التشريعي دون التكويني، وهو ما شرعه الله وحكم به تشريعيا في شيء مما يرجع إلى أعمال العباد في شأن من شؤونهم بواسطة رسول من رسله (1)، والمعنى ليس لأحد من المؤمنين والمؤمنات إذا قضى الله ورسوله التصرف في أمر من أمورهم أن يثبت لهم الاختيار بغير ما شرع الله لهم بحجة انتساب ذلك الأمر إليهم وكونه أمرا من أمورهم فيختاروا منه غير ما قضى الله ورسوله، لا، بل عليهم أن يتبعوا إرادة الله وإرادة الرسول فهي المتقدمة على غيرها من الإرادات.
ووجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة نقول: الإمامة أن كانت مما قضى الله بتركها وعدم تشريعها مثلا - وحاشا اللطيف الخبير تركها - فلا
(1) راجع تفسيرها في (الميزان) ج 16 ص 340 ط الأولى وغيره من التفاسير.
45

يجوز للناس الخيرة في إثباتها، وإن كانت مما قضى الله إثباتها وتشريعها - وهو الحق - كانت كغيرها من الأحكام والتشريعات التي قضى الله عليها وأمر بها ولم يهملها فهي منه لا من غيره من الناس، فإذا خالفوا الله وعصوه واختاروا خلاف ما اختار الله فقد ضلوا ضلالا مبينا.
ومنها قوله تعالى مخاطبا رسوله الأكرم (ص): (يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله ([آل عمران / 155].
وهذه الآية المباركة صريحة الدلالة على أن ليس للأمة وأحادها أمر ولا حكم في شيء من الأشياء مطلقا، بل كله لله عز وجل، فإذا لا يجوز اختيار الناس للإمام ونصبه من عند أنفسهم لأنه من أعظم الأمور وأهمها حيث على الإمام تبني مصالح العباد الدينية والدنيوية وقبل هذه الآية بآيات خاطب الله رسوله (ص) بقوله: (ليس لك من الأمر شيء ([آل عمران / 128].
ومن هنا نعلم أن أمر الإمامة ليس بيد مخلوق مطلقا حتى النبي (ص) فضلا عن أمته وأحادها، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تدل بصراحة على أن الاختيار بيد الله لا بيد خلقه.
ولقد أجاد من قال:
لو لا اتباع الهوى والغي والحسد منا وفرق بين الغي والرشد من اهتدى بهداهم واستقام هدي مثل النبوة لم تنقص ولم تزد نحن اختيار كما قد قال فاقتصد (1).
نور الهداية لا يخفى على أحد قد بين الله ما يرضى ويسخطه بأحمد المصطفى الهادي وعترته ان الإمامة رب العرش نصبها والله يختار من يرضاه ليس لنا.
(1) تجد الأبيات في مناقب ابن شهر آشوب ج 1 ص 259.
46

الثاني - السنة
وأما السنة النبوية فهي تابعة للكتاب في ذلك وفي غير ذلك إذ " ما كان رسول الله (ص) عن كتاب الله صادفا، ولا لأحكامه مخالفا " - نص مقتطف من خطبة الزهراء الكبيرة - فهذا ابن هشام يروي في سيرته، والحلبي في (السيرة الحلبية)، وزيني دحلان في (السيرة الدحلانية)، ومحمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد)، وأبو القاسم السهيلي في كتابه (الروض الانف)، كما نقل عنهم الأميني في (الغدير) رووا كلهم: أن النبي (ص) لما عرض نفسه على بني عامر بن صعصعة ودعاهم إلى الله تعالى قال قائل منهم: أرايت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله عليه وعلى من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال (ص) ان الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء (1).
الثالث - العقل
وأما دليل العقل فإنه يدل على عدم الخيرة للناس في اختيار الإمام من جهات عديدة منها إن الإمامة من الوظائف الدينية باعتبار ان الإمام هو
(1) راجع (سيرة ابن هشام) ج 2 ص 32، و (السيرة الحلبية) ج 2 ص 3، و (السيرة الدحلانية) ج 1 ص 302، و (حياة محمد) ص 152، و (الروض الانف) ج 1 ص 264، والغدير ج 7 ص 134.
47

الحافظ للدين القائم به، وكل ما كان من الوظائف الدينية فليس أمره لغير الله، لأن الدين لله فهو الذي يختار له حافظا وراعيا له قائما به.
ثم إذا كانت عناية الله في العالم الإنساني واللطف بهم ان يهيئ لهم كل ما يحتاجون إليه فيسخر لهم - بلطفه بهم - كل ما في السماوات وما في الأرض، ويرسل السماء
عليهم مدرارا بالمطر لحاجتهم لذلك، قال تعالى: (وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ([الجاثية / 14].
وان لا يترك جوارح الإنسان بلا مدبر يدبرها وهو القلب، فكيف يتخلف لطفه بهم فيترك العالم خال من رئيس يدبرهم ويرشدهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية، وكيف يكل ذلك إليهم مع ان العقل السليم يوجب أن يكون الإمام مكتنفا بشرائط بعضها بل المهم منها من النفسيات الباطنة الخفية كالعصمة، والقداسة الروحية، والعلم الذي لا يضل معه في شيء من الأحكام، إلى كثير من الشرائط التي تقوم بها نفس الإمام، وهذه شرائط لا يعلمها إلا الله العالم بالضمائر المطلع على ما في السرائر: (وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون (لأن الأمة المنكفي علمها عن الغيوب لا يمكنها تشخيص من تحلى بتلك الشروط، والغالب على خيرتها الخطأ.
قصة السبعين رجلا الذين اختارهم موسى (ع)
ولك أكبر عبرة على ذلك ما قصه الله في القرآن من قصة السبعين رجلا الذين اختارهم موسى بن عمران إلى ميقات ربه، وقد ذكرها الله تعالى في آيات من القرآن منها قوله تعالى في سورة الأعراف: (واختار
48

موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا ([الأعراف / 156].
ومنها قوله تعالى في سورة البقرة (وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون (55) ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون ([البقرة / 56 - 57].
ومنها قوله تعالى في سورة النساء بقوله (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ([النساء / 154].
ومجمل تلك القصة هي ان الله تعالى أمر موسى بن عمران أن يأتي إلى ميقاته ومناجاته وان يختار من قومه خيرتهم في رأيه، فلما جاء بهم، وكلمه الله، وسمع السبعون كلام الله له (فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم (فهذا كليم الله مع وفور عقله وكمال علمه ونزول الوحي عليه وصلته بقومه وصلتهم به اختار من أعيانهم ووجوه رجالهم لميقات ربه سبعين رجلا ممن لا يشك في إيمانهم وإخلاصهم، وإذا بخيرته قد وقعت على المنافقين الذين وصفهم الله في تلك الآيات بالظلم وانهم قالوا جهلا منهم بربهم (أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة (فإذا كان اختيار من اصطفاه الله للنبوة قد وقع على الأفسد دون الأصلح، وهو يظن أنه الأصلح دون الأفسد علمنا حينئذ أن الاختيار للأصلح ليس إلا لمن (يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ([المؤمن / 20]، وهو الله وحده لا شريك له.
49

بعض المنافقين لا يعلمهم إلا الله تعالى
وهذا نبينا محمد (ص) وهو سيد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل المخلوقين يخاطبه الله جل وعلا في القرآن المجيد بقوله: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم ([التوبة / 101].
فقوله تعالى لنبيه (لا تعلمهم نحن نعلمهم (صريح في ظاهره ان هناك منافقون معه في المدينة مردوا على النفاق، أي لجوا فيه واستمروا عليه، وهو لا يعلمهم، أي لا يعلمهم من نفسه وان كان الله سبحانه قد أعلمه بهم، وانه لولا إعلام الله له بهم ما علمهم، فإذن " لا يعلم الناس إلا خالق الناس ".
وقد يقول بعض المفسرين: ان الخطاب في الآية وإن كان موجها للنبي (ص) ولكن المراد به الامة، وهو من باب " إياك أعني واسمعي يا جارة " أي ان الامة لا تعلمهم، وكيفما كان فالأمة لا تستطيع - بصورة قطعية - اختيار من يصلح لأن يكون مرجعا لها ويقوم بصالحها، والوجدان يعني عن البيان فكم رأينا أهل الحل والعقد، والتدبير والعقل اتفقوا على تعيين وال في قرية أو حكم ثم تبين لهم خطأهم في ذلك فغيروه وبدلوه فكيف تفي العقول الناقصة بتعيين رئيس عام على جميع الخلائق في أمور الدين والدنيا.
وأنى يسوغ العقل ان تكون خيرة للخلق في الأمر مع وجود الأغراض والغايات، والميول والشهوات، ومع اختلاف الآراء وكثرة
50

الأحزاب والفرق والطوائف المتشاكسة والمختلفة، وكم بالانتخاب هتكت حرمات وأهينت مقدسات واختل الوئام وأقلق السلام وأضيعت حقائق، ودحض الحق الثابت حتى صار يطمع في الأمر طليق غاشم وخمار سكير ومستهتر مشاغب ومبغض متعصب وأموي ناصب، وخلاصة القول: ان العقل يأبى من العزيز الحكيم ان يهمل الأمة مع نهاية رأفته بهم وغاية شفقته عليهم ولطفه لهم ولا يعين لهم رئيسا يقولون في المشكلات عليه، ويركنون في سائر الأمور إليه.
الرابع - الإجماع
لم يقبض الله نبيا حتى يعين له وصيا
أما دليل الإجماع فقد أجمع علماء المسلمين بجريان عادة الله تعالى من آدم إلى خاتم الأنبياء أنه لم يقبض نبيا حتى يعين له وصيا من بعده يكون خليفة على أمته، فهذا آدم صفي الله وصيه ولده هبة الله شيث، وهذا نوح شيخ المرسلين وصيه ولده سلم، أو سام، وهذا إبراهيم خليل الله وصيه ولده إسحاق، وهذا موسى كليم الله وصيه يوشع بن نون وهذا داود وصيه ولده سليمان، وهذا سليمان وصيه آصف بن برخيا، وهذا عيسى روح الله وصيه شمعون الصفا، وهكذا جميع الأنبياء والمرسلين لكل نبي منهم وصي يقوم بالأمر من بعده.
راجع كتابنا (قبس من القرآن) في صفات الرسول الأعظم في فصوله ومنها الفصل الأول تحت عنوان " مقتضيات الخلود في الشريعة الإسلامية " والفصل الثالث تحت عنوان " الرسول الأعظم وبشائر الأنبياء
51

به " (1)، راجع إذا شئت كتاب (الوصية) للعلامة المحقق علي بن الحسين المعروف بالمسعودي صاحب كتاب " مروج الذهب ".
فكيف إذن تخلفت هذه العادة الجارية بين رسل الله وأنبيائه بالنسبة إلى نبينا فقط هذا مع ان الله تعالى يقول في محكم كتابه المجيد مخاطبا له: (قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين ([الأحقاف / 10].
لا يسافر نبينا (ص) ولا يبعث سرية حتى يعين له خليفة
واجمع المؤرخون وعلماء المسلمين أيضا بجريان عادة نبينا (ص) انه لم يسافر حتى يعين له خليفة بالمدينة حتى يرجع، ولم يبعث سرية قلت أم كثرت إلا ويجعل لها قائدا واليا عليها، وقد يعين قوادا فيما إذا علم من الله ان القائد الأول سيقتل كما في سرية مؤتة حين عين ثلاثة قواد وولاة وهم جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، ونص (ص) انه إذا قتل الأول يقوم الثاني مقامه وإذا قتل الثاني فالثالث يقوم مقامه.
وحينما هاجر بعض المستضعفين من المؤمنين إلى أرض الحبشة من أذى قريش جعل عليهم واليا وهو جعفر بن أبي طالب (ع) يرجعون إليه في أمور دينهم وسائر شؤونهم، فكيف إذن يترك أمته كلها من بعده بلا راع يرعاهم مع انه قد طالت أيام مرضه قبل وفاته إلى ثمانية عشر يوما، على ما نص عليه الطبراني في معجمه، أما كان يسأل من قبل أصحابه
(1) (القبس) ص 19 - 25 وص 48 - 256.
52

وسائر الناس الوافدين عليه عن ولي عهده والقائم مقامه من بعده من هو؟ هذا ما لا يكون أبدا بحكم العقل وهو مخالف للإجماع.
طريقة الخلفاء والرؤساء في الاستخلاف
ثم نرى طريقة الخلفاء والرؤساء الذين قاموا من بعده كل خليفة منهم يجعل له وصيا وخليفة من بعده يقوم مقامه، فهذا الخليفة الأول أبو بكر لم يهمل امر الأمة ولم ينس أمر الخلافة من بعده فقد نص بها على عمر، وهذا عمر لم يهمل أمر الأمة ولم ينس أمر الخلافة من بعده فقد جعلها شورى بين ستة ليختاروا واحدا منهم، وصار عثمان الخليفة الثالث ببيعة عبد الرحمن بن عوف له، وهو أحد أصحاب الشورى (1).
ولولا مقتل عثمان والفتنة التي حدثت، لحدثنا التاريخ عن خليفة رابع ينص عليه عثمان لم يكن بالحسبان، ولكن معاوية بن أبي سفيان من بعده ادعى الخلافة لقرابته من عثمان وحيث انه رأى الطريق معبدا له وممهدا فسار فيه.
ثم نراه - مع علمه بنفسه وانه غاصب لها، ومع علمه بابنه يزيد وما هو عليه من الخمور والفجور، مع هذا كله - لم يهمل أمر الخلافة بل نص بها عليه من بعده، وهكذا بقية رجال الدولة الأموية، ومن بعدها الدولة العباسية الغاصبين لحق محمد وآل محمد نرى كل واحد منهم لم يهمل أمر الأمة، ولم ينس أمر الخلافة بل ينص بها على من بعده.
(1) لنا تحقيق حول الشورى ضمن شرح الخطبة الشقشقية نسأل الله تعالى ان يوفقنا لنشره.
53

وهكذا جرت سنة الكون إلى يومنا هذا لابد للخليفة أو الملك أو الرئيس من ولي عهد، أو نائب أول يقوم بالأمر من بعده، فكيف إذن تخلفت هذه العادة والطريقة الكونية - الجارية في العالم الإسلامي والإنساني من يومه الأول إلى اليوم وإلى يوم القيامة - بالنسبة إلى خاتم الأنبياء المرسل إلى هذه الأمة المرحومة بأن يهملها ويتركها سدى، هذا كله مع انقطاع الأنبياء والرسل وبقاء التكليف إلى يوم القيامة؟
وكيف يعقل أن يترك النبي (ص) أمته سدى بلا راع يرعاهم وهو الشفيق عليهم الرؤوف الرحيم بهم، قال تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم ([التوبة / 128]، وقال جل جلاله: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ([الأنبياء / 108].
إنكار أم المؤمنين عائشة، وعبد الله بن عمر على أبيه
أما كان (ص) يخشى على أمته الفتنة والاختلاف؟ وهذه عائشة دعت عبد الله بن عمر بن الخطاب بعد ما طعن أباه أبو لؤلؤة، وعلم إن أيام حياته قد انتهت أظهر أولا انه سوف لا يستخلف أحدا بعده - لاقتضاء سياسته - وبلغ ذلك عائشة لذا دعت ابنه عبد الله وقالت له - كما في كتاب الإمامة والسياسة -: يا بني أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد بلا راع استخلف عليهم ولا تدعهم بعدك هملا فأني أخشى عليهم الفتنة... الخ. بربك قل لي - أيها المنصف - أفكانت عائشة اشفق على أمة محمد (ص) منه؟ بحيث هي تخشى عليهم الفتنة - إذا تركوا من غير خليفة - وهو (ص) لا يخشى على أمته الفتنة والاختلاف؟
54

وقوع الاختلاف والحروب الدامية بين الأمة
كما وقد وقعت الفتنة والاختلافات الكثيرة بعده، بل وقعت تلك الحروب الدامية من اجل الخلافة كحروب الردة أيام الخلفاء الثلاث، وكحرب الجمل بين أمير المؤمنين (ع) وبين طلحة والزبير وعائشة وقد قتل فيها من الفريقين ثلاث وعشرون ألف قتيل، وثمانية عشر ألف من أصحاب طلحة والزبير، خمسة آلاف من أصحاب علي، ذكر ذلك سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص (1).
وكحرب صفين بين علي ومعاوية، وقد قتل فيه من الفريقين قيل: مائة ألف وعشرة آلاف، وقيل: قتل فيه خمس وتسعون ألف، سبعون ألف من أصحاب معاوية، وخمس وعشرون ألف من أصحاب علي، وأقل ما قيل فيه: سبعون ألف، خمس وأربعون ألف من أصحاب معاوية، وخمس وعشرون ألف من أصحاب علي (ع) (2) كما في أعيان الشيعة، وكحرب النهروان وقد قتل فيه بالاتفاق المشهور أربعة آلاف، تسعة من أصحاب علي والباقون من الخوارج، وكواقعة الطف التي استؤصلت فيها ذرية رسول الله (ص) وقد قتل فيها من الفريقين ما لم يضبط لكثرتهم، وكواقعة الحرة بين يزيد وأهل المدينة، وقد قتل فيها من المهاجرين والأنصار وأبنائهم وسائر المسلمين اللائذين بضريح سيد النبيين عشرة آلاف وسبع مائة وثمانون رجلا (3).
(1) راجع تذكرة الخواص ص 85.
55

ولم يبق بعدها بدري، وقتل من النساء والصبيان عدد كثير وكان الجندي من جنود يزيد يأخذ بيد الرضيع أو رجله ويجذبه من يد أمه فيضرب به الأرض فيخلط لحمه بعظمه ودماغه بدمه وأمه تنظر إليه، نص على ذلك ابن قتيبة الدينوري في (الإمامة والسياسة) (3).
ثم أمروا بالبيعة ليزيد على أنهم خول له وعبيد ان شاء استرق وان شاء أعتق، فبايعوه على ذلك وأموالهم منهوبة ونساؤهم مسلوبة ودماؤهم مسفوكة واعراضهم مهتوكة حتى قال السيوطي في كتابه (تاريخ الخلفاء): افتض في تلك الوقعة ألف عذراء من بنات المهاجرين والأنصار، وقال ابن الطقطقي في تاريخه المعروف ب‍ (الفخري): ان الرجل من أهل المدينة بعد ذلك كان إذا زوج ابنته لا يضمن بكارتها و يقول لعلها افتضت في واقعة الحرة.
إمامة أهل البيت أمان من الفرقة
فلو انهم تعبدوا بنص الرسول على علي (ع) لما وقع شيء من ذلك ولبقي الأمر بيد أئمة الهدى ولعاشت الأمة كلها بسعادة وهناء بلا فرقة ولا اختلاف، ولكانت الدنيا لهم جنة أولى، وهذه هي العلة في تشريع الله للإمامة وجعلها في أهل البيت (ع) كما أشارت إلى ذلك الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء في خطبتها بمسجد أبيها وقد تعرضت (ع) فيها إلى فلسفة العقائد والعبادات والأحكام الإسلامية، وذكرت موضوع الإمامة وفلسفتها فقالت (ع): وجعل - الله - إمامتنا أمانا من الفرقة.
56

نعم لما غصبت الخلافة منهم وقع ما وقع بين الأمة من الاختلاف والاقتتال كما ذكرت ذلك أيضا في خطبتها الصغيرة التي خطبتها على نساء المهاجرين والأنصار حين جئن إليها يعدنها: بقولها: فأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبهرج شامل دائم، واستبداد من الظالمين، يدع فيأكم زهيدا وجمعكم حصيدا فيا حسرة لكم وأنى بكم وقد عميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون.
وهذا البيهقي ينقل في (سننه) عن صحيح مسلم: ومحب الدين الطبري في (الرياض النضرة)، وأبو نعيم الاصفهاني في (حلية الأولياء)، وابن الجوزي في (سيرة عمر)، كما في الغدير، وغير هؤلاء: ان عبد الله بن عمر دخل على أبيه بعد ما طعن، وقال له: يا أبة ان الناس يتحدثون انك غير مستخلف ولو كان لك راعي إبل، أو راعي غنم ثم جاءك وترك رعيته لرأيت أن قد ضيع " أو فرط " ورعية الناس أشد من رعية الإبل والغنم، ماذا تقول لله إذا لقيته ولم تستخلف على عباده؟ (1)
ومعلوم ان هذا القول - من ابن عمر - بتشبيهه الرعية بالغنم، والخليفة بالراعي من أبلغ الأدلة على ان الاستخلاف من الأمور
(1) (سنن البيهقي) ج 8 ص 149، و (الرياض النضرة) ج 2 ص 98، (حلية الأولياء) ج 1 ص 44، (سيرة عمر) ص 190، (الغدير) ج 7 ص 133، راجع مصادر الخطبة الكبرى وطرقها من الفريقين (كتابنا قبس من القرآن) من ص 34 - ص 38، والخطبة الصغرى رواها الكثير من العامة ومنهم أحمد بن أبي طاهر في (بلاغات النساء)، وأحمد بن عبد العزيز الجوهري في (السقيفة)، وابن أبي الحديد في (شرح النهج)، ورواها من علمائنا الكثير راجع (البحار) ج 43 من ص 158 - 170.
57

الضرورية التي لا يجوز لمثل عمر ان يتركها ويغفل عنها فكيف إذن يتركها رسول الله (ص) ويغفل عنها، وهو أكمل البشر يا مسلمون؟
الإشارة إلى نصوص رسول الله (ص) على علي بالخلافة
وهذه نصوص رسول الله (ص) على علي بالخلافة يحدثنا عنها علماء التاريخ، ورواة الصحاح والسنن والفضائل والمناقب من مبدأ أمره إلى منتهى عمره تصريحا تارة وتلويحا أخرى.
وأشهرها نص يوم الغدير بعدما رجع النبي (ص) من حجة الوداع، وقد اجتمع عنده في ذلك اليوم مائة ألف أو يزيدون من الناس، فنادى النبي لعلي بالولاية العامة، ورفعه حتى بان بياض إبطيهما، ونادى فاسمع - كما هو المتواتر من طرق الفريقين: -
أيها الناس ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار.
ثم أمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين لتتم له البيعة في حياته ولا يختلف فيه أحد بعد وفاته، فتسابق الناس للسلام عليه بإمرة المؤمنين وتهنئته بالمقام الرفيع، وكان في مقدمة من هنأه بذلك أبو بكر وعمر، فقالا له: كما في مسند أحمد بن حنبل، والصواعق المحرقة لابن
58

حجر وغيرهما: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة (1).
وحين تمت البيعة له أنزل الله تعالى على رسوله (ص) (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ([المائدة / 4]، فكان إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب بالإسلام دينا للمسلمين بولاية علي أمير المؤمنين.
ولقد أجاد من قال:
وليس يبلغها قولي ولا عملي ولايتي لأمير المؤمنين علي.
مواهب الله عندي جاوزت أملي لكن أفضلها عندي وأشرفها.
شرائط الإمامة، واجتماعها في علي وأبنائه الطاهرين (ع)
وكان (ع) جامعا لشرائط الإمامة، متحليا بأفضل صفات الكمال بخلاف غيره من الأصحاب، ولقد أجاد السيد الحميري حيث يقول:
والمرء عما قال مسؤول * علي التقى والبر مجبول
له على الأمة تفضيل * ولا تلهيه الأباطيل وأحجمت عنها البهاليل
ابيض ماضي الحد مصقول * أبرزه للقنص الغيل
عليه ميكائيل وجبريل ألف * ويتلوهم سرافيل
كأنهم طير أبابيل * وذاك إعظام وتبجيل (2)
.
أقسم بالله وآلائه * أن علي بن أبي طالب
وانه كان الإمام الذي * يقول بالحق ويعني به
كان إذ الحرب مرتها القنا * مشى إلى الموت وفي كفه
مشي العفرنا بين أشباله * ذاك الذي سلم في ليلة
جبرئيل في ألف وميكال في * ليلة بدر مدوا أنزلوا فسلموا لما أتوا حذوه.
(1) راجع (الغدير) ج 1 ص 272 - 283، فقد أثبت التهنئة من ستين مصدرا.
(2) راجع (الغدير) ج 2 ص 243 ط النجف، وقد نقل الأبيات وسبب انشائها عن أمالي الشيخ ص 124 وفي ط النجف ص 201.
59

وشرائط الإمامة كثيرة منها العصمة من الذنوب والخطأ وعدم النسيان والسهو في شيء من أمور الدين.
تعريف العصمة لغة واصطلاحا
والعصمة في معناها اللغوي المنع، قال تعالى حاكيا على لسان ابن نوح يخاطب أباه وجواب أبيه له (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ([هود / 44].
فقوله: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء (أي يمنعني من الغرق في الماء، وهذا معنى العصمة لغة.
60

وأما معناها اصطلاحا: فالعصمة قوة تكوينية في العقل والعلم موهبة من الله لمن شاء من عباده - تمنعهم من اقتراف المعاصي مع قدرتهم عليها، لأنهم ان لم يكونوا قادرين عليها لا فخر ولا فضل لهم في اجتنابها، لأنهم غير قادرين أصلا على اقترافها، وبالإجمال ان الإمام المعصوم لا يترك واجبا أبدا ولا يفعل محرما مطلقا مع قدرته على الترك والفعل وإلا لا يستحق مدحا ولا ثوابا.
والشيعة هي التي تشترط العصمة - بهذا المعنى - في الإمام كما هي شرط في النبوة، قال الشيخ المفيد في كتاب (أوائل المقالات) القول في العصمة: إن الأئمة القائمين مقام الأنبياء في تنفيذ الأحكام، وإقامة الحدود، وحفظ الشرائع وتأديب الأنام - معصومون كعصمة الأنبياء لا تجوز عليهم كبيرة ولا صغيرة، ولا سهو في شيء من الدين، ولا ينسون شيئا من الأحكام، وعلى هذا مذاهب سائر الإمامية إلا من شذ منهم (1).
وقال العلامة الحلي في كتابه (نهج الحق) ذهبت الإمامية إلى أن الأئمة كالأنبياء في وجوب عصمتهم عن جميع القبائح والفواحش من الصغر إلى الموت عمدا وسهوا، لأنهم حفظة الشرع، والقوامون به، فحالهم في ذلك كحال النبي، ولأن الحاجة إلى الإمام إنما هي للانتصاف للمظلوم من الظالم، ورفع الفساد وحسم مادة الفتن، وإن الإمام يمنع القاهرين " أي الظالمين من التعدي، ويحمل الناس على فعل الطاعات واجتناب المحرمات، ويقيم الحدود والفرائض ويؤاخذ الفساق ويعزر من
(1) راجع (أوائل المقالات) للشيخ المفيد ص 76 ط الحيدرية النجف.
61

يستحق التعزير، فلو جازت عليه المعصية وصدرت منه انتفت هذه الفوائد وافتقر هو إلى إمام آخر يرفع فساده وهكذا فيتسلسل، والتسلسل باطل بالإجماع، إذ لا بد وإن ينتهي الأمر إلى إمام لا تصدر المعصية منه أبدا (1).
إشتراط العصمة غير خارج عن الأدلة
وهذه العصمة التي اشترطتها الشيعة في الإمام ليست مسألة تدعو إلى الغرابة أو العجب، أو هي خارجة عن الأدلة الإسلامية، ذلك لأن فاعل المعصية ظالم حسب النص القرآني قال تعالى: (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ([البقرة / 230]، وقال عز وجل: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه ([الطلاق / 2]، وقال سبحانه: (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ([هود / 19]، وقال تباركت أسماؤه: (فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون ([آل عمران / 95]، إلى أمثال هذه الآيات وهي كثيرة في القرآن المجيد.
وهنا العاصي الذي سماه الله ظالما لا يمكن أن يكون مرجعا عاما للأمة بعد نبيها، ومتحملا المسؤوليات الشرعية المرتبطة بالله تعالى ودينه وشرائعه كلها وهذا هو ما نص عليه القرآن المجيد بقوله تعالى: (قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين ([البقرة / 125].
(1) راجع (دلائل الصدق) للشيخ محمد حسن المظفر ج 2 ص 3 نقلا عن نهج الحق.
62

نعم هكذا يبدوا أن اشتراط العصمة في الإمام ليس من غرائب الأفكار أو من عجائب المعتقدات كما يبدو من كلام بعض الباحثين في المذاهب الإسلامية، بل ان ذلك الشرط هو المنسجم مع النصوص الشرعية القطعية، والفكر الديني الأصيل، بالإضافة إلى دليل العقل السليم.
لقد أقام المهوسون الدنيا وأقعدوها على الشيعة لأنهم قالوا بعصمة الأئمة، ولو كان لهم أدنى خبرة بكتاب الله وسنة نبيه، مع الإنصاف والرجوع إلى الحق لقالوا بمقالة الشيعة، وما ذنب الشيعة، إذا فرضت عليهم الأدلة القطعية الكثيرة القول، بل العقيدة بإمامة أئمة الهدى من أهل بيت نبيهم والاعتراف بعصمتهم من مطلق الذنوب والخطأ.
ألم يأمر الله تعالى بإطاعتهم مطلقا، ويقرن إطاعتهم بإطاعة الرسول، تماما وكمالا بحيث يجعلها بميزان واحد وأمر واحد وذلك بقوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ([النساء / 60]، راجع ما ورد في تفسيرها عن النبي (ص) (إكمال الدين) للصدوق، وراجع ما كتب في دلالتها العلامة السيد محمد تقي الحكيم في كتابه (الأصول العامة) ص 159 - ص 164.
ألم يعلن الله جل وعلا إذهاب الرجس عنهم دون غيرهم، والرجس الأعمال القبيحة والذنوب والمآثم، وإنه تعالى طهرهم منه تطهيرا تاما بقوله عز من قائل: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ([الأحزاب / 34].
63

راجع ما كتب حول الآية، (الكلمة الغراء) للسيد شرف الدين، و (الأصول العامة) للسيد الحكيم، وكتاب (الإجماع) للسيد محمد صادق الصدر، وألف في الموضوع السيد محي الدين الموسوي الغريفي كتابا يشتمل على 288 صفحة أسماه (آية التطهير في الخمسة أهل الكساء) (1).
ألم يخلف الرسول الأعظم (ص) في أمته الكتاب والعترة ويعلن لهم ان التمسك (أي العمل) بهما موجب لعدم الإضلال المؤبد والمؤكد، وانهما (أي الكتاب والعترة) لن يفترقا، ولن يخالف أحدهما الآخر إلى يوم القيامة بقوله (ص) إني مخلف فيكم الثقلين، وفي نص خليفتين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض يوم القيامة، وهو مروي عن عشرات من الصحابة والقرابة في أكثر من مائة مصدر من مصادر السنة فضلا عن غيرهم.
راجع ما كتبناه حول الحديث في كتابنا (قبس من القرآن) وألف في الموضوع الشيخ نجم الدين العسكري كتابا تعرض فيه لبعض مصادر الحديث ونصوصه، وأدخله في ضمن كتابه، (محمد وعلي وبنوه الأوصياء)، كما ألفت دار التقريب بين المذاهب الإسلامية كتابا خاصا في الحديث أسمته، (حديث الثقلين)، وألف في الحديث أيضا كتابا خاصا العلامة الكبير الشيخ محمد حسين المظفر أسماه (الثقلان) استعرض فيه بعض مصادره الموثوقة، ومفاده يقع الكتاب في مائة وعشر صحائف،
(1) (الكلمة الغراء) المطبوعة مع (الفصول المهمة) ص 203 - 217، و (الأصول العامة) ص 149 - 159، و (الإجماع) ص 63 - ص 77.
64

وأما من استعرضه في ضمن مؤلفه أو احتج به فهم كثير لا يمكننا حصرهم، ولعل أوسع من كتب في الحديث صاحب كتاب (العبقات) (1).
ألم يأمر (ص) أمته بالاعتراف بولاية علي وذريته، وانهم لن يخرجوا الأمة من باب هدى، ولن يدخلوهم في باب ضلالة، مع الترغيب والتشويق السامي الموجب لسعادة الدارين بقوله (ص): من أحب أن يحيى حياتي ويموت ميتتي، ويدخل الجنة التي وعدني ربي وهي جنة الخلد.
فليتول عليا وذريته من بعده (أهل بيته الطاهرين)، فأنهم لن يخرجوكم باب هدى، ولن يدخلوكم باب ضلالة (2).
ألم يقل النبي في علي خاصة؟ علي مع الحق والحق مع علي يدور معه الحق حيث ما دار، وفي نص: علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وفي نص آخر: عن أم سلمة انها قالت: والذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله (ص) يقول: علي مع الحق والقرآن، والحق والقرآن مع علي ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض، إلى غير ذلك من نصوص أحاديث الحق وكونه مع علي وهي كثيرة، ومفادها ومعناها متواتر تواترا قطعيا، راجع إذا شئت طرق تلك الأحاديث وما ذكرناه منها كقطرة من بحر (3).
(1) راجع (القبس) من ص 337 - 345، و (محمد وعلي وبنوه الأوصياء) ج 1 ص 117 - 239، و (حديث الثقلين) 30 صفحة، و (الثقلان) 110 صحائف وغيرها كثير.
(2) راجع (القبس) من ص 58 - 63 في مصادر هذا النص وفي نصين آخرين.
(3) راجع (إحقاق الحق) ج 5 ص 623 - 645.
65

بربك قل لي: أي مسلم ذكي أو غبي لا يفهم معنى العصمة من تلك الأحاديث وغيرها وهي كثيرة، على ان الموافق والمخالف قد أجمعا معا على أن الأئمة من أهل البيت (ع) كانوا على هدي جدهم الرسول (ص) قولا وعملا، وان الناس كانوا يلجأون إليهم في حل المشكلات والمعضلات، وكانوا يتقربون إلى الله سبحانه بتعظيمهم وتقديسهم، بل حتى أعداؤهم وغاصبي حقوقهم ما كان يسعهم إلا التظاهر بتعظيم الأئمة وتقديسهم والخضوع أمام الناس لهم تماما كما كانت الحال بالنسبة إلى رسول الله (ص) في تعظيم حاله عند صديقه وعدوه.
تساؤل مهم
وبودنا أن نسأل الذين أنكروا على الشيعة القول في العصمة؟: هل تنكرون أصل العصمة وفكرتها من الأساس؟ أو تنكرون عصمة الأئمة فقط؟ والأول إنكار لعصمة الأنبياء، والرسل التي اتفق عليها المسلمون الشيعة والسنة في الجملة، والثاني إنكار لسنة الرسول الذي ساوى بين عترته وبين القرآن، هذا بالإضافة إلى أن نصوص الشريعة جامدة لا حراك فيها، وإنما تحيى بتطبيقها والعمل بها، وإذا لم يكن القائم على الشريعة هو نفس الشريعة مجسمة في شخصه لم يتحقق الغرض المقصود من تطبيقها على سائر الناس، لذلك قال الإمام (ع): ذاك القرآن الصامت وأنا القرآن الناطق (1).
(1) راجع كتاب (الشيعة والتشيع) لمحمد جواد مغنية ص 40.
66

أفضلية الإمام وأكمليته
الثاني من شرائط الإمامة أن يكون الإمام أفضل رعيته وأكملهم بكل ما للكمال والفضل من معنى مطلقا، بمعنى أن يكون الإمام أعلمهم بجميع ما يحتاجون إليه، ولا سيما احتياجها إليه في أمور الدين، وإلا لم يؤمن أن يقلب الحدود ويغير الفرائض، كما غيرت وقلبت بالفعل بسبب قيام غير الأعلم وبقيام أهل الجهل بالصالح الخاص والعام.
وقد قيل: الجهالة قائد الضلالة، والضلالة قائد البلاء والفتنة، وفي الفتنة الدمار والهلكة (1).
(1) نقلنا هذا القول عن (مفكرة ورق الشام) الصادرة بتاريخ 9 / شعبان / 1377 ه‍، المصادف 28 / شباط / 1958 ميلادية. وتنقل المفكرة قبل هذا القول ما دار بين الخليفة الثاني عمر بن الخطاب وبين حذيفة بن اليمان من " معارض الكلم " بقول حذيفة له حين سأله: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت والله أكره الحق، وأحب الفتنة، وأشهد بما لم أره، وأصلي على غير وضوء، ولي في الأرض ما ليس لله في السماء، فغضب عمر لقوله، وانصرف من فوره غضبانا، وقد عزم على أذى حذيفة، وبينما هو في الطريق، إذ مر بعلي بن أبي طالب، فرأى الغضب باديا في وجهه، فقال (ع) ما أغضبك يا عمر؟ فقال: لقيت حذيفة بن اليمان فسألته: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت أكره الحق، فقال (ع): صدق، يكره الموت وهو حق قال الله تعالى: " وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد " [ق / 20]، فقال: يقول: وأحب الفتنة، فقال: صدق، يحب المال والولد، وقد = = قال الله تعالى: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم " [التغابن / 16]، فقال: يا علي يقول: وأشهد بما لم أره، فقال: صدق، يشهد لله بالوحدانية، والموت والبعث والقيامة، والصراط، والجنة، والنار، ولم ير ذلك كله، فقال: يا علي ويقول: أصلي على غير وضوء، فقال: صدق، يصلي على ابن عمي رسول الله على غير وضوء، فقال: يا ابا الحسن وقد قال أكبر من ذلك، فقال: ما هو؟ قال: قال: أن لي في الأرض ما ليس لله في السماء، قال صدق له زوجة وولد وتعالى الله عن ذلك، فقال عمر: كاد يهلك ابن الخطاب لو لا علي بن أبي طالب "، أخرجه الكنجي الشافعي في (كفاية المطالب) ص 96، وقال: هذا ثابت عن أهل النقل. وذكره غير واحد بين أهل السير، وابن الصباغ المالكي بتغيير يسير في (الفصول المهمة) ص 17 والشبلنجي الشافعي في (نور الأبصار) ص 72، وقد نقل الأميني هذه القصة في (الغدير) ج 6 عن المصادر المذكورة.
67

وان يكون أشجع الناس وأقواهم لدفع الفتن واستئصال أهل الباطل لأن فرار الرئيس وضعفه يورثان ضررا عظيما ووهنا جسيما، بخلاف الرعية، وأن يكون أسدهم رأيا وأشدهم حزما، ليوصل الناس بسديد رأيه وشديد حزمه إلى صلاحهم وإصلاحهم، وأعرفهم بطرق السياسة الحقة الحكيمة، ليرقى بهم إلى روح السعادة في الدارين وأزهدهم وأطوعهم لله عز وجل، لكي يقتدي الناس به وبزهده.
وهكذا يكون أحلمهم وأعفهم وأسخاهم وأحسنهم في الأخلاق الحسنة كافة وان تكون إمامته عامة أيضا على جميع الرعايا غير منحصرة في بعض دون بعض، ليلا يظهر الفساد فيمن لا ولاية له عليهم، وان يكون مبرأ من العيوب الموجبة لنفرة الخلق، في الخلق والخلق، كالجذام، والبرص، والعمش، والعرج وكالبخل، والحرص على الدنيا، والجفاء والغلظة على الرعية، كما يكون مبرءا أيضا من دناءة النسب والتولد من الزنا، إلى غير ذلك من الصفات الدنية والذميمة، ليكون الإمام بتحليته بالأفضلية والأكملية المطلقة وتخليته عن المساوئ والعيوب المخزية أقرب للأتباع له، والانقياد والتسليم لأوامره و الاقتفاء لآثاره لأن صلاح الرعية بصلاح راعيها ومن هنا جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمد
68

الصادق عن أبيه (ع) أنه قال: قال رسول الله (ص): صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي، وإذا فسدا فسدت أمتي، قيل له: يا رسول الله ومن هما؟ قال:
الفقهاء والأمراء " (1).
وبكلمة وجيزة: يلزم أن يكون الإمام أطوع خلق الله لله، وأكثرهم علما وعملا بالبر والخير، وأبرأهم من العيوب والمساوئ: ذلك كله لئلا يلزم تقديم المفضول على الفاضل، وخفض مرتبة الفاضل ورفع مرتبة المفضول.
إنكار القرآن تقديم المفضول على الفاضل
وقد أنكر القرآن المجيد تقديم المفضول على الفاضل استنادا إلى حكم العقل السليم بقوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ([يونس / 36]، (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع (ك‍ (أمير المؤمنين (ع)) الذي يقول في بعض خطبه:
أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله (ص) هذا ما زقني رسول الله زقا، فاسألوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثنيت لي وسادة وجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق كل كتاب من هذه الكتب فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله
(1) (الخصال) ج 1 ص 36.
69

تعالى في، وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا فهل فيكم أحد يعلم ما أنزل فيه (1).
قل لي بربك: أهذا أحق أن يتبع، (أمن لا يهدي إلا أن يهدى (كالخليفة الأول الذي يقول في أول خطبة خطبها ومن جملة ما قال فيها: ولقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة ولا يد، واعلموا أيها الناس أن لي شيطانا يعتريني فإذا رأيتموني قي استقمت فاتبعوني وان رغت فقوموني، وإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني... الخ (2).
فإذا كان كما قال: قد قلد أمرا ماله به طاقة ولا يد وأنه في حاجة إلى الهداية، وأن له شيطانا يعتريه كيف يكون هاديا عاما؟
الإمام الجامع للشرائط لا يعلمه إلا الله
ومعلوم أن الإمام الجامع لشرائط الإمامة التي ذكرنا بعضها من العصمة والأفضلية والأكملية لا يعلمه إلا الله العالم بالضمائر المطلع على السرائر، وهو الذي يختاره ويعينه حجة على خلقه، وهو الذي يفيض عليه
(1) راجع (الأمالي) للصدوق ط قم ص 205 برواية الأصبغ بن نباتة، وعن أبي البحتري كما في (المناقب) لأخطب خوارزم الحنفي ط النجف ص 47 باختلاف يسير، وكذا في مقتل الحسين للخوارزمي أيضا ج 1 ص 44، و (ينابيع المودة) للشيخ سليمان الحنفي نقلا عن الخوارزمي، والحمويني في (فرائد السمطين)، وكذا في (فضل الخطاب) لمحمد خواجة البخاري، راجع (الينابيع) ص 74، وص 264، وص 373، وراجع (إحقاق الحق) ج 7 ص 610 - 623.
(2) (الإمامة والسياسة) لابن قتيبة الدينوري ج 1 ص 16 ط مصر.
70

ألطافه وعناياته، وتسديده وتأييده بكل ذلك وغير ذلك، وما على الأمة إلا اختيار من اختار الله لها والأتباع له، والاهتداء بهديه.
أما إذا اختارت الأمة غيره فقد ضلت وأضلت، ولقد أجاد سفيان بن مصعب العبدي الكوفي المعاصر للإمام الصادق (ع) وهو أحد تلامذته حيث يقول:
إماما ولكنا لأنفسنا اخترنا * أطعنا وأن ضل الهداية قومنا
بحمد من الرحمن تهتم وما * تهنا لنا يوم خم ما اعتدينا ولا حلنا
فتجزون ما قلتم ونجزى * الذي قلنا فيا رب زدنا منك نورا وقومنا (1).
وقالوا رسول الله ما اختار بعده أقمنا إماما إن أقام على الهدى فقلنا إذن أنتم أمام إمامكم ولكننا اخترنا الذي اختار ربنا سيجمعنا يوم القيامة ربنا ونحن على نور من الله واضح.
ثبوت الإمامة يكون من طريقين النص والمعجز
أما ثبوت الإمامة وتعيينها للإمام الجامع للشرائط، والذي يعلن للناس إمامته ويدعوهم إليها فيكون من طريقين:
(1) راجع (دلائل الصدق) للمظفري ط قم ص 205، وراجع (ترجمة الشاعر في الغدير) ج 2 ص 262 - ص 295 وتجد الأبيات في (مناقب ابن شهر آشوب) ج 1 ص 258.
71

الطريق الأول: النص على إمامته من الله تعالى بواسطة رسوله في نصوص مشتركة ومزدوجة من الكتاب والسنة (1)، ومن الإمام السابق - الثابتة إمامته بالنص المشترك - على الإمام اللاحق.
والطريق الثاني: هو إظهار الله المعجزات وخوارق العادات على يده التي يعجز جميع الناس عن الإتيان بمثلها، والتي يجريها الله على يده ليعلم العباد أن الله - الذي على كل شيء قدير - هو الذي أيده بتلك المعجزات وخوارق العادات.
فالصادق بدعواه الإمامة من صدقه الله بإجراء المعجزات له، والكاذب من كذبه الله بعدم إجراء المعجزات على يده، ومن هذين الطريقين الذين بهما ثبتت الرسالة والنبوة للرسل والأنبياء، ثبتت أيضا إمامة أئمتنا الهداة من أهل بيت النبي (ص) وهم علي أمير المؤمنين وأبناؤه الطاهرون الحسن والحسين والأئمة التسعة من أبناء الحسين (ع).
حيث أن النصوص - من الكتاب والسنة على إمامتهم، وظهور المعجزات على أيديهم ولا سيما الإمام الأول منهم وهو علي أمير المؤمنين (ع) - ثابتة عند شيعتهم بالتواتر القطعي من طرقهم، ومن طرق غيرهم، ومعترف بها عند الجميع، كما انهم هم الذين توفرت فيهم - دون غيرهم - شرائط الإمامة من العصمة والأفضلية بكل معانيها.
(1) النصوص على إمامة أئمتنا كثيرة ومتواترة من الكتاب والسنة ومن طرق الفريقين وأشرنا إلى بعضها، وقد يأتي بعضها.
72

وقد برأهم الله من كل عيب كما قد طهرهم من كل رجس وهم كما قال فيهم أبو نؤاس الحسن بن هاني في أبياته الشهيرة:
تجري الصلاة عليهم أين ما ذكروا فماله في قديم الدهر مفتخر صفاكم واصطفاكم أيها البشر علم الكتاب وما جاءت به السور.
مطهرون نقيات ثيابهم من لم يكن علويا حين تنسبه فالله لما برى خلقا فأتقنه وأنتم الملأ الأعلى وعندكم..
وقال فيهم شاعر آخر:
ورحمة ربي دائما أبدا تجري وزادهم في الفضل فخرا على فخر وأكرمهم فرعا على الفحص والعثر وأتقاهم لله في السر والجهر وأقولهم في الحق في محكم الذكر وأجودهم لله في العسر واليسر فدقت معانيهم على كل ذي فكر (1).
سلام على آل النبي محمد وصلى عليهم ذو الجلال معظما هم خير خلق الله أصلا ومحمدا وأوسعهم علما وأحسنهم هدى وأفضلهم في كل فضل مفضل وأشجعهم في النازلات وفي الوغى أناس علوا كل المعاني بأسرها..
الحجة لله قبل الخلق، ومع الخلق، وبعد الخلق
والجدير بالذكر - الذي يلزم التنبيه عليه هو - أن الله سبحانه قد شاء - بحكمته البالغة، وقدرته الباهرة - أن لا يخلي الأرض وأهلها - في كل عصر وجيل - من إمام يكون حجة عليها وعلى أهلها، إماما مشهورا،
(1) تجد الأبيات في (نور الأبصار) للشيخ مهدي المازندراني ص 106.
73

أو خائفا مستورا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته، ومجملا: - كما قال الإمام الصادق (ع): الحجة قبل خلق الخلق، ومع الخلق، وبعد الخلق (1).
ومن هنا قال رسول الله (ص): من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية (2).
وإمام زماننا الآن هو الحجة المهدي بن الحسن العسكري صاحب العصر والزمان، الغائب المنتظر الذي يملأ الله به الأرض كلها قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا، وهو الطالب بثار آبائه الطاهرين
(1) (إكمال الدين) للصدوق ص 4.
(2) هذا الحديث الشريف وما في معناه من النصوص العديدة ثابت عن النبي (ص) من طرق شتى، حيث أفاضه على أصحابه مرارا كثيرة، وشهرته تغني عن ذكر مصادره، وللتأكيد نشير إلى بعضها فنقول: روى الحديث جملة من الصحابة كعبد الله بن عمر، وابن عباس، ومعاوية بن أبي سفيان، وعامر بن ربيعة، وأبي هريرة، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، والمقداد بن الأسود الكندي، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم، كما رواه جمع من أئمة الهدى أيضا وقد روته بالأسانيد المعتبرة الصحاح والسنن والمسانيد كأحمد بن حنبل في مسنده ج 3 ص 446، وج 4 ص 96، والبخاري في ثاني أبواب كتاب (الفتن)، ومسلم في باب الأمر بلزوم الجماعة من كتاب الإمارة من صحيحه ج 6 ص 21 وص 22، وأبي داود الطيالسي في مسنده ص 256، والبيهقي في سننه ج 8 ص 156، والهيثمي في (مجمع الزوائد) من عدة طرق ج 5 ص 218، والتفتازاني في (شرح المقاصد) ج 2 ص 275، وأبي جعفر الإسكافي في (خلاصة نقض العثمانية) للجاحظ ص 29، وغيرهم كثير. راجع (إحقاق الحق) ج 2 ص 297 وص 298، و (دلائل الصدق) ج 2 ص 6، و (الغدير) ج 10 ص 358 - ص 362، و (إكمال الدين) للصدوق باب 42 في من أنكر القائم ص 387 - 392، و (المحاسن) ص 116، = = و (الشافي في شرح الكافي) ج 4 ص 459 - ص 460، و (الرجعة) للمؤلف ص 11، والحمد لله.
74

وخصوصا ثأر جده الحسين (ع) يضع سيفه على عاتقه ثمانية أشهر فلا يزال يقتل أعداء الله وأعداء رسوله والجبابرة والطواغيت، وبينما هو يقاتل ويبكي وينادي ألا يا أيها العالم إن جدي الحسين قتلوه عطشانا.
هذا وقد بشرنا الله تعالى به، وبإيراثه الأرض بقوله تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ([الأنبياء / 106].
75

هوية الإمام والإمامة في أحاديث
جاء في هوية الإمام والإمامة، ومكانتها السامية في القرآن المجيد، وفي السنة النبوية الغراء، وأحاديث أهل بيت العصمة الشيء الكثير، ولكنا اخترنا - بعد التوكل على الله عز وجل - ثلاثة أحاديث شريفة، وجامعة، تبين للأمة عظمة هذا المقام، ومن الذي يصلح له، ومن لا يصلح، وإليك تلك الأحاديث بنصوصها:
الحديث الأول:
روى الكليني في (أصول الكافي)، والصدوق في (عيون أخبار الرضا) بسنديهما عن عبد العزيز بن مسلم قال: - كنا في أيام علي بن موسى الرضا (ع) بمرو، فاجتمعنا في مسجد جامعها، في يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأدار الناس أمر الإمامة وكثرة اختلاف الناس فيها، فدخلت على سيدي ومولاي الرضا (ع) فأعلمته ما خاض الناس فيه، فتبسم (ع) ثم قال: -
إكمال الدين بالإمامة
يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم، ان الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه (ص) حتى أكمل له الدين، وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء بين فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه الناس كملا - أي تاما كاملا - فقال عز وجل: (ما فرطنا في الكتاب من شيء ([الأنعام / 39]، وانزل في حجة الوداع وهي آخر عمره (ص): (اليوم
79

أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ([المائدة / 4] (1).
وأمر الإمامة من تمام الدين، ولم يمض (ص) حتى بين لامته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم، وتركهم على قصد سبيل الحق، وأقام لهم عليا (ع) علما وإماما، وما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة إلا بينه، فمن زعم أن الله لم يكمل دينه فقد رد كتاب الله عز وجل، ومن رد كتاب الله تعالى فهو كافر.
محل الإمامة من الأمة
هل يعرفون قدر الإمامة، ومحلها من الأمة فيجوزون فيها اختيارهم، ان الإمامة أجل قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم، أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم.
ان الإمامة خص الله بها إبراهيم (ع) بعد النبوة، والخلة مرتبة ثالثة وفضيلة شرفه بها وأشاد بها ذكره، فقال عز وجل: (إني جاعلك للناس إماما (فقال الخليل (ع) سرورا بها: (ومن ذريتي (قال الله عز وجل: (لا ينال عهدي الظالمين ([البقرة / 125].
فأبطلت هذه الآية إمامة كل ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثم أكرمه الله عز وجل بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة، فقال عز وجل: (ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة وكلا جعلنا
(1) راجع (الغدير) ج 1 ص 230 - ص 238 في نزول الآية في الولاية.
80

صالحين (72) وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وكانوا لنا عابدين ([الأنبياء / 73 - 74].
فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرنا فقرنا حتى ورثها النبي (ص) فقال الله عز وجل: (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ([آل عمران / 69]، فكانت له خاصة فقلدها عليا بأمر الله عز وجل على رسم ما فرضها الله، فصارت في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان بقوله عز وجل: (وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث ([الروم / 57].
فهي في ولد علي خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد (ص) فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟
ان الإمامة هي منزلة الأنبياء وارث الأوصياء، إن الإمامة خلافة الله عز وجل، وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين (ع).
إن الإمامة زمام الدين، ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا، وعز المؤمنين.
إن الإمامة أس الإسلام النامي - أي أصله - وفرعه السامي.
الإمام الدال على الهدى والمنجي من الردى
بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وتوفير الفيئ والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام، ومنع الثغور والأطراف، الإمام يحل
81

حلال الله ويحرم حرام الله ويقيم حدود الله ويذب عن دين الله ويدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، والحجة البالغة، الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي بالأفق بحيث لا تنالها الأيدي والأبصار، الإمام البدر المنير والسراج الزاهر والنور الساطع والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيد القفار ولجج البحار، الإمام الماء العذب على الظماء والدال على الهدى والمنجي من الردى، والإمام النار على اليفاع - اليفاع ما أرتفع من الأرض - الحار لمن اصطلى به والدليل في المهالك، ومن فارقه فهالك، الإمام السحاب الماطر والغيث الهاطل، والشمس المضيئة والسماء الظليلة، والأرض البسيطة، والعين الغزيرة والغدير والروضة، الإمام الرفيق والولد الرقيق والأخ الشفيق، ومفزع العباد في الداهية، الإمام أمين الله في أرضه وحجته على عباده وخليفته في بلاده، الداعي إلى الله والذاب عن حرم الله، الإمام المطهر من الذنوب المبرأ من العيوب، مخصوص بالعلم موسوم بالحلم نظام الدين وعز المسلمين وغيظ المنافقين وبوار الكافرين، الإمام واحد دهره لا يدانيه أحد ولا يعادله عالم ولا يوجد له بدل ولا له مثل ولا نظير، مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له ولا اكتساب بل اختصاص من المفضل الوهاب " أي أن الله يخصهم بالعلم والفضل، وسنذكر ذلك ان شاء الله بالدليل القطعي ".
فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟ هيهات هيهات ضلت العقول وتاهت الحلوم حارت الألباب وخسئت العيون وتصاغرت العظماء وتحيرت الحكماء وتقاصرت الحلماء وحصرت الخطباء وجهلت
82

الألباب وكلت الشعراء وعجزت الأدباء وعييت (1) البلغاء عن وصف شأن من شأنه أو فضيلة من فضائله فأقرت بالعجز والتقصير، وكيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه، أو يفهم شيء من أمره، أو يوجد من يقام مقامه، ويغني غناه، لا، كيف وأنى وهو بحيث النجم من أيدي المتناولين ووصف الواصفين.
أقول: ويؤيد قول الإمام الرضا (ع) من معرفة الإمام قد ضلت عنها العقول وتاهت الحلوم، وأنه لا يوصف بكله ولا ينعت بكنهه... الخ، ويؤيده ما ورد عن جده رسول الله الصادق بقوله لعلي أمير المؤمنين: يا علي ما عرف الله إلا أنا وأنت، وما عرفني إلا الله وأنت، وما عرفك يا علي إلا الله وأنا (2).
(1) عييت - هكذا وردت في النصوص ولعل الصحيح (عيت).
(2) حديث مشهور، والمراد من معرفة النبي (ص) وعلي بالله إنما هي أعلى معرفة ممكنة للمخلوقين، وإنهما عرفاه بحقيقة ذاته وكنهه فإن هذا مستحيل وغير حاصل لأي مخلوق مطلقا، ومن هنا جاء عن النبي (ص) قوله في بعض مناجاته: سبحانك ما عرفناك حق معرفتك، وقوله (ص): سبحان من لا يعلم كيف هو إلا هو، ولقد أجاد ابن أبي الحديد حيث يقول: =
علموا ولا جبريل وهو إلى محل القدس يصعد من كنه ذاتك غير انك أوحدي الذات سرمد من أنت يا أرسطو ومن أفلاطون قبلك يا ملبد ما أنتم إلا الفراش رأى السراج وقد توقد ولو اهتدى رشدا لا بعد.
= والله لا موسى ولا عيسى المسيح ولا محمد كلا ولا النفس البسيطة لا ولا العقل المجرد وجدوا إضافات وسلبا والحقيقة ليس توجد ومن ابن سينا حين قرر ما بناه له وشيد فدنا فاحرق نفسه.
(1) الدحض: الزلق.
83

وأحسن من قال:
يا بن عم النبي إلا الله.
ليس يدري بكنه ذاتك ما هو.
ثم قال الإمام الرضا (ع) في حديثه: فأين الاختيار من هذا؟ وأين العقول عن هذا؟ وأين يوجد مثل هذا؟ أظنوا أن يوجد ذلك في غير آل الرسول (ص)؟ كذبتهم والله أنفسهم ومنتهم الباطل، فارتقوا مرتقى صعبا دحضا (1)، تزل عنه إلى الحضيض أقدامهم، راموا إقامة الإمام بعقول بائرة ناقصة، وآراء مضلة، فلم يزدادوا منه إلا بعدا: (قاتلهم الله أنى يؤفكون ([التوبة / 3]، لقد راموا صعبا وقالوا فكا، و (ضلوا ضلالا بعيدا ([النساء / 168]، ووقعوا في الحيرة، إذ تركوا الإمام عن بصيرة (وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ([العنكبوت / 29] (2).
(1) قول الله تعالى: " وكانوا مستبصرين " وقول الإمام في حديثه: تركوا الإمام عن بصيرة،
(2) ان النصان من القرآن والحديث يدلان - بوضوح - على أن تاركي إمامة الأئمة من آل محمد (ع) ما كانوا جاهلين بها، بل كانوا عارفين مستبصرين بأنها لهم دون = = غيرهم، بل قد عرفوا أيضا عظيم مقامهم واستحقاقهم لها، وتيقنوا ذلك، ومع ذلك عدلوا عنهم إلى غيرهم ظلما واستكبارا وتعاليا كما قال تعالى " وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين " [النمل / 15]، ولذلك - كما لا يخفى - أسباب كثيرة ومجملها أن الأئمة من آل محمد (ع) على الحق ومع الحق، وطبيعة الغالب من الناس والكثير منهم الكره للحق كما قال تعالى: " أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون (69) أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون (70) ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون " [المؤمنون / 70 - 72]، وقال تعالى: " لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون " [الزخرف / 79].
84

ورغبوا عن اختيار الله واختيار رسوله إلى اختيارهم، والقرآن يناديهم (وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ([القصص / 69].
وقال عز وجل: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا ([الأحزاب / 37].
وقال عز وجل: (ما لكم كيف تحكمون (36) أم لكم كتاب فيه تدرسون (37) إن لكم فيه لما يخيرون (38) أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون (39) سلهم أيهم بذلك زعيم (40) أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين ([القلم / 37 - 42].
وقال عز وجل: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ([محمد / 25]، أم (طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون ([التوبة / 87]، أم (قالوا سمعنا وهم لا يسمعون (21) إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون (22) ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ([الأنفال / 22 - 24]، و (قالوا سمعنا وعصينا ([البقرة / 94]، بل هو (فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم ([الحديد / 22].
85

فكيف لهم باختيار الإمام؟ والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة، مخصوص بدعوة نسل المطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب، ولا يدانيه ذو حسب، فالنسب من قريش، " وفي نص ": فالبيت من قريش والذروة من هاشم والعترة من آل الرسول (ص) والرضا من الله عز وجل، شرف الأشراف والفرع من عبد مناف، نامي الحلم، مضطلع بالإمامة - أي قوي فيها - عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عز وجل، ناصح لعباد
الله، حافظ لدين الله.
منبع علوم الأنبياء والأئمة
أن الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم يوفقهم الله ويؤتيهم من مخزون علمه وحكمه ما لا يؤتيه غيرهم، فيكون علمهم فوق كل علم أهل زمانهم - فأنظر - في قوله تعالى: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون ([يونس / 36].
وقوله عز وجل: (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ([البقرة / 270]، وقوله عز وجل في طالوت: (إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم ([البقرة / 248] (1).
(1) لنا في كتابنا " الشفاء الروحي والجسمي في القرآن من 253 - ص 265، تعاليق حول الآية وقصتها تحت العناوين التالية: " قصة طالوت مع بني إسرائيل وآياتها "، " موارد الاستشفاء والعبرة بالقصة "،
1 - الهدف من القصص القرآنية الهداية إلى الحق.
2 - اختيار حجج الله بيد الله عز وجل.
3 - جعل الله آية ومعجزة لمن يختاره من حججه.
4 - طبيعة الناس المخالفة لله ولحججه إلا من عصم.
5 - نصر الله إنما يكون بصبر الثابتين على دينه وإن قلوا.
86

وقال عز وجل لنبيه (ص): (وكان فضل الله عليك عظيما ([النساء / 114].
وقال عز وجل في الأئمة من أهل بيت نبيه وعترته وذريته: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (54) فمنهم من آمن به ومنهم من صد عنه وكفى بجهنم سعيرا ([النساء / 55 - 56].
وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لامور عباده شرح الله صدره وأودع قلبه ينابيع الحكمة وألهمه العلم إلهاما فلم يعي " أي يعجز " بعده بجواب، ولا يحيد فيه عن الصواب وهو معصوم مؤيد موفق مسدد، قد أمن الخطايا والزلل والعثار، يخصه الله بذلك ليكون حجته على خلقه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
أقول: أشار بكلامه هذا إلى قول الله عز وجل (إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم (73) يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ([آل عمران / 74 - 75].
87

فهل يقدرون على مثل هذا؟ فيختاروه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدموه؟ تعدوا (1) وبيت الله الحرام، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون.
أقول: أشار (ع) بقوله: ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم إلى قول الله عز وجل: (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون ([آل عمران / 188].
وفي كتاب الهدى والشفاء، فنبذوه وأتبعوا أهواءهم، فذمهم الله ومقتهم وأتعسهم، أي أهلكهم، فقال عز وجل: (ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين ([القصص / 51]، وقال عز وجل: (فتعسا لهم وأضل أعمالهم ([محمد / 9]، وقال عز وجل: (كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار ((2).
الحديث الثاني:
إيضاح دين الله بأئمة الهدى من أهل البيت (ع)
(1) قول الإمام: تعدوا وبيت الله الحرام، هذا قسم منه ~ ببيت الله وهو يدل بكل صراحة على جواز القسم بغير الله عز وجل ولا مانع منه، وقد ورد القسم بغير الله في القرآن وفي الأحاديث بكثرة.
88

روى الكليني في (أصول الكافي) بسنده عن إسحاق بن غالب عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة (ع) وصفاتهم قال: ان الله عز وجل أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا عن دينه، وأبلج بهم عن سبيل منهاجه، وفتح بهم عن باطن ينابيع علمه، فمن عرف من أمة محمد (ص) واجب حق إمامه وجد طعم حلاوة إيمانه، وعلم فضل طلاوة إسلامه، " أي حسنه وبهجته "، لأن الله تبارك وتعالى نصب الإمام علما لخلقه، وجعله حجة على أهل مواده وعالمه " أهل مواده، أي أهل زياداته وعطاياه المتصلة المتواترة غير المنقطعة مطيعين كانوا أو عاصين من العالمين يكون الإمام حجة عليهم " وألبسه الله تاج الوقار، وغشاه من نور الجبار، يمد بسبب إلى السماء لا ينقطع عنه مواده، ولا ينال ما عند الله إلا بجهة أسبابه، ولا يقبل الله أعمال العباد إلا بمعرفته، فهو عالم بما يرد عليه من متلبسات الدجى، ومعميات السنن، ومشبهات الفتن، فلم يزل الله تبارك وتعالى يختار لخلقه من ولد الحسين (ع) من عقب كل إمام، يصطفيهم لذلك، ويجتبيهم ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم، كل ما مضى منهم - واحد - نصب لخلقه من عقبه إماما بينا، وهاديا نيرا، وإماما قيما، وحجة عالما، أئمة من الله، يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد، وتستهل بنورهم البلاد، وينمو ببركتهم التلاد، " التلاد القديم وهو نقيض الطارف " جعلهم الله حياة للأنام، ومصابيح للظلام ومفاتيح للكلام، ودعائم للإسلام، جرت بذلك فيهم مقادير الله على محتومها، فالإمام هو المنتخب المرتضى الهادي المنتجى، والقائم المرتجى، اصطفاه الله بذلك واصطنعه على عينه في الذر حين ذرأه في البرية.
89

خلق الله روح الإمام قبل الخلق
برأه " أي خلقه " ظلا قبل خلق - أي - نسمة عن يمين عرشه محبوا بالحكمة في علم الغيب عنده، اختاره بعلمه، وانتجبه لطهره، بقية من آدم (ع) وخيرة من نوح (ع) ومصطفى من آل إبراهيم، وسلالة من إسماعيل، وصفوة من عترة محمد (ص) لم يزل مرعيا بعين الله يحفظه ويكلؤه بستره مطرودا عنه حبائل إبليس وجنوده، مدفوعا عنه وقوب الغواسق " أي يدفع عنه حوادث الظلام في الليالي " ونفوذ كل غاسق، مصروفا عنه قوارف السوء، مبرءا من العاهات محجوبا من الآفات معصوما من الزلات، مصونا عن الفواحش كلها، معروفا بالحلم والبر في يفاعه، " أي في أوائل سنه قبل احتلامه " منسوبا إلى العفاف والعلم والفضل عند انتهائه، مسندا إليه أمر والده، صامتا عن المنطق في حياته، فإذا انقضت مدة والده إلى أن انتهت به مقادير الله إلى مشيئته، وجاءت الإرادة من الله فيه إلى حجته، وبلغ مدة والده صلى الله عليه وسلم فمضى وصار أمر الله إليه من بعده، وقلده دينه، وجعله الحجة على عباده فقيمه في بلاده، وأيده بروحه، وآتاه علمه، وأنبأه فصل بيانه " أي أعطي
فصل الخطاب الذي يفصل بين الحق والباطل " واستودعه سره، وأنتدبه لعظيم أمره، وأنبأه فضل بيان علمه، ونصبه علما لخلقه، وجعله حجة على أهل عالمه، وضياء لأهل دينه، والقيم على عباده، رضي الله به إماما لهم، استودعه سره، وأستحفظه علمه، واستحباه واسترعاه لدينه، وانتدبه لعظيم أمره، وأحيى به مناهج سبيله وفرائضه وحدوده، فقام بالعدل عند تحير أهل الجهل، وتحيير أهل الجدل، بالنور الساطع، والشفاء النافع، بالحق الأبلج، والبيان اللائح من كل
90

مخرج، على طريق المنهج الذي مضى عليه الصادقون من آبائه (ع)، فليس يجهل حق هذا العالم إلا شقي، ولا يجحده إلا غوي، ولا يصد عنه إلا جريء على الله جل وعلا (1).
الحديث الثالث:
مميزات الأئمة (ع) وأوصافهم السامية
روى فرات بن إبراهيم في تفسيره بسنده عن زياد بن المنذر قال: -
سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر (ع) وهو يقول:
الأئمة شجرة أصلها رسول الله (ص)
نحن شجرة أصلها رسول الله (ص)، وفرعها علي بن أبي طالب (ع)، وأغصانها فاطمة بنت النبي (ص)، وثمرها الحسن والحسين عليهما السلام والتحية والإكرام (2).
(1) راجع (الشافي في شرح أصول الكافي) المجلد الثالث ص 109.
(2) أشار الإمام ~ بقوله: " نحن شجرة أصلها رسول الله (ص)... الخ، إلى حديث الشجرة المعروف الشهير الذي روته كتب الصحاح والسنن والمسانيد والتفسير والحديث والتاريخ من طرق كثيرة، ونصوص عديدة، عن جملة من القرابة والصحابة عن الصادق الأمين (ص)، ذكرنا بعض نصوصه وطرقه ومصادره في كتابنا (الحقائق الكونية) ج 2 ص 41 - ص 44، وراجع إذا شئت كتاب (تعليقات إحقاق الحق) للسيد شهاب الدين النجفي ج 5 ص 255 - 269، وج 9 من ص 149 - 159، وكتاب (محمد وعلي وبنوه الأوصياء) للشيخ نجم الدين العسكري ج 1 من ص 303 - ص 314.
91

وإنا شجرة النبوة، وبيت الرحمة، ومفتاح الحكمة، ومعدن العلم، وموضع الرسالة، ومختلف الملائكة وموضع سر الله ووديعته، والأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال (1)، وحرم الله الأكبر، وبيت
(1) الأمانة المعروضة على السماوات ومعناها:
قول الإمام ~ والأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال، أي نحن وإمامتنا الأمانة التي عرضت على السماوات، وقد أشار بذلك إلى قول الله عز وجل " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا " [الأحزاب / 73].
والأمانة معناها شيء يودع عند الغير ليحتفظ به ثم يرده إلى من أودعه عنده، أو ليقضي به مأربه ثم يرجعه إليه، فهناك أناس يؤدون الأمانة، أي يرجعونها إلى أهلها كما هي، وهناك أناس يخونونها.
هذا معنى الأمانة لغة، وقد يطلق لفظ " الأمانة " على الدين الذي شرعه الله عز وجل لعباده وبعث به رسله وأنبياءه، وعلى هذا يكون الدين أمانة الله عند عباده، ولكن العباد منهم من يحافظ على دينه ويؤديه كما شرعه الله عز وجل ومنهم من يخونه بأنواع الخيانات، إما أن يأخذ منه ما تهواه نفسه، وما ينفعه في دنياه فقط، وإلى أمثال هؤلاء يشير القرآن المجيد بقوله تعالى " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون " [البقرة / 86]، وإما أن يخون دينه بارتكاب أنواع المعاصي والسيئات، وأنواع الظلم والجرائم وترك الواجبات والفرائض بلا ندم ولا توبة وإلى أمثال هؤلاء يشير قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون " [الأنفال / 28].
ومعلوم أن هذه الخيانات - بكل أنواعها - تعود أخيرا بالضرر على الخائنين أنفسهم، فهم يخونون أنفسهم قبل أن يخونوا الله ورسوله، وإلى ذلك يشير القرآن المجيد بقوله تعالى: " ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما " [النساء / 108]، وقال تعالى: " علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا = = عنكم " [البقرة / 188]، وإلى مجموعة هذه الخيانات يشير قوله تعالى مخاطبا نبيه (ص): " وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم والله عليم حكيم " [الأنفال / 72]، نعم أمكن الله منهم فأخزاهم وأذلهم في الدنيا، واستحقوا العذاب الأليم في الآخرة، فالذين يؤدون أمانة الدين ويقيمونه كما هو هم الأعزاء في الدارين، والذين يخونون دينهم ولا يؤدوه كما هو هم الأدلاء في الدارين، وفي طليعة من حملهم الله دينه، وأدوه كما هو من غير تبديل ولا تغيير - في هذه الأمة - هم نبينا وأهل بيته الأئمة الأطهار (ع).
فهم إذن الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا.
فالأمانة تطلق على الدين، وتطلق أيضا الأمانة - بالخصوص - على الولاية الإلهية التي جعلها الله تعالى - في تشريعاته الحكيمة - بعد ولايته جل وعلا في هذه الأمة لنبيه محمد (ص) وبعده لعلي أمير المؤمنين والأئمة الطاهرين من أهل بيته.
فهم إذن الأمانة، أي هم أهل الولاية والإمامة العامة بعد النبي (ص) قال تعالى " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " [المائدة / 55].
وقد أجمع المفسرون أن هذه الآية الكريمة نزلت في علي أمير المؤمنين حينما تصدق بخاتمه في الصلاة وهو راكع، نزلت فيه، وهي جارية في أبنائه المعصومين من بعده ولكن هذه الولاية حملها بعض الناس ظلما وجهلا وإليهم تشير الآية المبحوث عنها " إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ".
أما سائر الناس فمنهم من تبع أهل ولاية الله الحقة من رسل وأنبياء وأئمة، ومنهم من تبع الإنسان الظلوم الجهول، وحساب الجميع والقضاء فيما بينهم بيد الله يوم القيامة يجازي كلا بما يستحق من الجزاء، قال تعالى " إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " [يونس / 94]، ولزيادة الإيضاح، والتأكد راجع إذا شئت (البحار) ج 23 ص 273 - 283 باب: أن الأمانة في القرآن الإمامة، وراجع تفسير الآية، والتي بعدها في آخر سورة الأحزاب: في كتاب (الميزان) في تفسير القرآن ج 16 ص 370 - 376.
92

الله العتيق، وذمته، وعندنا علم المنايا والبلايا والقضايا والوصايا وفصل الخطاب، ومولد الإسلام، وانتساب العرب.
إن الأئمة كانوا نورا مشرقا حول عرش ربهم، فأمرهم أن يسبحوا، فسبح أهل السماوات لتسبيحهم (1).
وإنهم لهم الصافون، وإنهم لهم المسبحون، فمن أوفى بذمتهم فقد أوفى بذمة الله، ومن عرف حقهم فقد عرف حق الله، هؤلاء عترة رسول الله (ص) ومن جحد حقهم فقد جحد حق الله، هم ولاة أمر الله وخزنة وحي الله، وورثة كتاب الله، وهم المصطفون بأمر الله، والأمناء على وحي الله هؤلاء أهل بيت النبوة، ومفاض الرسالة، والمستأنسون بخفق أجنحة الملائكة، من كان يغذوهم جبرئيل بأمر الملك الجليل بخبر التنزيل، وبرهان الدليل، هؤلاء أهل بيت أكرمهم الله بشرفه وشرفهم بكرامته وأعزهم بالهدى وثبتهم بالوحي (2).
(1) راجع الفصل السابع من كتابنا (قبس من القرآن) وعنوانه " الرسول الأعظم والنور الذي انزل معه " لتعلم حقيقة نورهم وتسبيحهم حول العرش وأدلته من ص 307، وإلى آخر الكتاب ص 346.
(2) إن قيل: هل هم أنبياء حتى يوحى إليهم، الجواب: الوحي كلام خفي، ويكون من الله للأنبياء ولغير الأنبياء بواسطة الملائكة أو بغير واسطة، والدليل على ذلك قوله تعالى: " وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين " [القصص / 8]، أما كلام الملائكة لهم فسيأتيك دليله إن شاء الله تعالى، وذكرناه في كتابنا (الحقائق الكونية) ج 1 ص 83 - ص 86 تحت عناوين عديدة، فراجع إذا شئت.
94

وجعلهم أئمة وهداة، ونورا في الظلم للنجاة، واختصهم لدينه، وفضلهم بعلمه، وآتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، وجعلهم عمادا لدينه ومستودعا لمكنون سره، وأمناء على وحيه، وشهداء على بريته، واختارهم واجتباهم، وخصهم واصطفاهم، وفضلهم وارتضاهم، وانتجبهم وجعلهم نورا للبلاد، وعمادا للعباد، وحجته العظمى، وأهل النجاة والزلفى، وهم الخيرة الكرام، هم القضاة الحكام، هم النجوم الأعلام، وهم الصراط المستقيم، هم السبيل الأقوم، الراغب عنهم مارق، والمقصر عنهم زاهق، واللازم لهم لاحق هم نور الله في قلوب المؤمنين، والبحار السائغة للشاربين، أمن لمن التجأ إليهم، وأمان لمن تمسك بهم، إلى الله يدعون، وله يسلمون، وبأمره يعملون، وببيانه يحكمون، فيهم بعث الله رسوله، وعليهم هبطت ملائكته، وبينهم نزلت سكينته، وإليهم بعث الروح الأمين، منا من الله عليهم فضلهم به، وخصهم بذلك، وآتاهم تقواهم، وبالحكمة قواهم، هم فروع طيبة، وأصول مباركة، خزان العلم، وورثة الحلم، وأولوا التقى والنهى، والنور والضياء، وورثة الأنبياء، وبقية الأوصياء.
منهم الطيب ذكره اسمه محمد المصطفى والمرتضى، ورسوله الأمي، ومنهم الملك الأزهر، والأسد الباسل، حمزة بن عبد المطلب، ومنهم المستسقى به يوم الرمادة (1)، العباس بن عبد المطلب عم رسول الله (ص)
(1) رمدت الغنم، هلكت من برد أو صقيع، والصقيع الجليد الذي يسقط من السماء في الليل كأنه ثلج " القاموس ".
95

وصنوا أبيه، وجعفر ذو الجناحين والقبلتين والهجرتين والبيعتين، من الشجرة المباركة صحيح الأديم وضاح البرهان، ومنهم حبيب محمد (ص) وأخوه، والمبلغ عنه من بعده، البرهان والتأويل، ومحكم التفسير، أمير المؤمنين، ووصي رسول رب العالمين، علي بن أبي طالب عليه من الله الصلوات الزكية والبركات السنية، هؤلاء الذين افترض الله مودتهم وولايتهم على كل مسلم ومسلمة، فقال في محكم كتابه لنبيه (ص): (قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسنا إن الله غفور شكور ([الشورى / 24]، قال أبو جعفر محمد بن علي (ع) اقتراف الحسنة حبنا أهل البيت (1).
(1) راجع (تفسير فرات بن إبراهيم) ص 147 - 148، ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 23 ص 224 - ص 246.
96

صفات خمس لنبينا (ص) في القرآن، شاركه بها أئمة الهدى
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ([الأحزاب / 46 - 47].
وصف الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم بهاتين الآيتين من سورة الأحزاب بخمس صفات جليلة، هن من شؤون نبوته ورسالته، وحجيته وولايته العامتين على أمته وعلى أهل الأرض جميعا.
الأولى: كونه (ص) شاهدا
الصفة الأولى كونه " شاهدا " يشهد على أمته يوم القيامة كما يشهد على الناس أجمعين من يهود ونصارى ومشركين وملحدين فيما يعتقدون ويعملون من إيمان أو كفر، وطاعة أو معصية، يشهد لهم أو عليهم يوم القيامة حتى يجازى كل بما أعتقد وعمل طبق اعتقاده وعمله، وطبق شهادة الرسول (ص) له أو عليه.
وكون النبي (ص) شاهدا على أمته وعلى الناس أجمعين هذه حقيقة قرآنية قد نص عليها القرآن في سور عديدة وآيات كثيرة، منها الآية المبحوث عنها (إنا أرسلناك شاهدا (وهكذا قال تعالى في سورة الفتح: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ([الفتح / 9].
101

ومنها قوله تعالى: (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا ([المزمل / 16].
بل يصرح القرآن المجيد بأن كل أمة من الأمم جعل الله عليها شهيدا منهم من نبي أو رسول أو إمام، قال تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ([النساء / 42].
وقال تعالى: (ونزعنا من كل أمة شهيدا فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله وضل عنهم ما كانوا يفترون ([القصص / 76].
وقال تعالى: (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ([النمل / 90].
وقال تعالى: (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون ([النحل / 85].
وقال تعالى: (ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ([الزمر / 70].
إلى غير ذلك من الآيات، ومن هنا جاء عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: لكل زمان وأمة إمام، تبعث كل أمة مع إمامها (1)، وإنما تبعث كل أمة مع إمامها ليشهد عليها.
(1) (مجمع البيان) للطبرسي م 3 ص 378، و (تفسير القمي) ج 1 ص 388، و (الميزان) ج 2 ص 349.
102

أما هذه الامة الإسلامية التي هي آخر الأمم فشهيدها الأول وبالإجماع - بعد الله تعالى - هو رسول الله (ص) ولكن هل هناك شهود عليها غير الرسول الأعظم؟ نعم، الشهود عليها بعد الرسول إنما هم أهل بيته أئمة الهدى من بعده، يشهد كل إمام منهم على أهل زمانه.
الأمة الوسط الشهيدة على الناس إنما هم الأئمة من آل محمد (ص)
وهذا أيضا أشار إليه القرآن وذكره في عديد من آياته، ومنها قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ([البقرة / 144].
لنقف قليلا أو كثيرا عند هذه الآية الكريمة من سورة البقرة ونتدبر في المراد من الأمة الوسط التي جعلها الله شهيدة على الناس.
نعم هذه الآية - حسب نصها - تقول: إن الأمة الوسط هي الشهيدة على الناس، ولكن من المراد من الأمة الوسط هل هي الأمة الإسلامية بكاملها تشهد على الناس ويشهد بعضها على بعض؟ كما يصرح به إخواننا أهل السنة في تفاسيرهم، وبعض أخبارهم؟
كالسيوطي في تفسيره (الدر المنثور) (1).
والفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب) (2).
(1) (الدر المنثور) ج 1 ص 144، نقلا عن رجل مجهول إنه سال ابن عمر فقال: " والأمة الوسط أمة محمد (ص) جميعا.
(2) (مفاتيح الغيب) ج 2 ص 7، ويستدل بالآية على أحقية إجماع الأمة.
103

وابن كثير الدمشقي في تفسيره (القرآن العظيم) (1)، وغيرهم.
نعم الفخر الرازي استثنى من مجموع الأمة ثلاث فرق حيث قال: دلت الآية على أن من ظهر كفره وفسقه نحو المشبه، والخوارج، والروافض فإنه لا يعتد به في الإجماع، لأن الله إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخيرية... الخ (2).
ليست الأمة كلها شهداء
ونحن نرى أن تفسير الأمة الوسط بالأمة الإسلامية كلها، وحتى لو استثني منها - برغم الفخر الرازي - المشبهة والخوارج والروافض، نراه تفسيرا يخالف العقل والوجدان، والذوق، والمنطق السليم، والتحليل العلمي، كما يخالف النصوص القرآنية، من جهات عديدة.
منها إن الشاهد يجب أن يكون عالما بما يشهد به، إذ معنى " شهد فلان عند الحاكم، أو عند القاضي " أي بين له ما شهده وحضره، أو بين له ما علمه علم اليقين، أما إذا كان الشاهد غير عالم بما يشهد به، أو غير مشاهد لما يشهد به فلا يعتبر شاهدا، ولا تقبل منه الشهادة أصلا، وإذا كان كذلك فمن أين للأمة وأفرادها العلم بما يشهدون به على
(1) (تفسير القرآن العظيم) ج 1 ص 191.
104

الناس، مع أنهم يعيشون في أدوار متعاقبة لم يعاصر بعضهم بعضا، كما يعيشون في الدور الواحد في الشرق والغرب قد لا يرى أحدهم الآخر، وعلى فرض أنهم يعيشون معا في بلد واحد وحتى لو كانوا في محلة واحدة فهل يعلم أحدهم بكامل أعمال الآخر؟ قطعا لا، وعلى فرض أنه يشهد ببعض ما شاهده من عمله، فهل يعلم هذا الشاهد بحقيقة ذلك العمل وما نوى به صاحبه من حق أو باطل؟ مثلا شاهدتني أصلي وشهدت لي بما عملت وشاهدت لكن هل تعلم أني صليت خالصا لوجه الله أو كانت صلاتي رياء؟ وهل علمت أن صلاتي - مثلا - كانت جامعة لشرائط القبول أم لا؟ قطعا لا تعلم ذلك، فكيف تشهد به؟ وكيف يقبل الله شهادتك؟
هذا مع العلم ان الله يحاسب الناس يوم القيامة بما كسبت قلوبهم وما انطوت عليه ضمائرهم من الحقائق في الأعمال، ومن المعاني النفسانية من الكفر والإيمان والفوز والخسران كما قال تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ([البقرة / 226].
وهذه الأمور النفسانية لا تدركها الحواس الخمسة الظاهرية، ولا يعلمها أحد إلا الله، أو من يعلمه الله ويتولى أمره ويكشف له ذلك بنفسه لأنه تعالى هو وحده العالم بما في الضمائر المطلع على ما في السرائر، وعلى كل لا بد من أن يكون الشاهد عالما بما يشهد به، وليس ذلك باستطاعة الأمة بكاملها بحكم العقل والوجدان والذوق السليم والمنطق الحاسم، والتحليل العلمي.
105

يجيب بعض المفسرين والمحدثين عن هذا الإشكال الحقيقي البين ببعض الأحاديث، وينسبونها إلى النبي (ص) ومضمونها: أن هذه الأمة تشهد على الأمم الماضية كأمة نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، حيث ان هذه الأمم تنكر أن يكون قد جاءهم نذير ورسول من الله، يقولون: ما آتانا من نذير، وما آتانا من أحد، فيقال للرسول ك‍ (نوح وغيره): هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد (ص) وأمته، فيدعى بمحمد وأمته فيقال لهم: هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: ما علمكم؟ جاءنا نبينا فأخبرنا إن الرسل قد بلغوا، فذلك قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا (أي عدلا (1).
وأقول: على فرض صحة هذا الخبر، فالقرينة دالة على أن الأمة الشاهدة مع نبيها إنما هم أهل بيته أئمة الهدى الاثني عشر، لا الأمة كلها يدعى بها لتشهد، فإن هذا غير معقول ولا مقبول، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية إن الشاهد يجب أن يكون عادلا وإلا لا يصح الاستشهاد به في الدنيا فضلا عن الآخرة، قال تعالى: (وأشهدوا ذوى عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ([الطلاق / 3].
والحال الأمة الإسلامية - بحكم الضرورة والبداهة - فيها العادل والظالم، والمؤمن والمنافق، والبر والفاجر، فكيف يستشهد الله تعالى بهم جميعا؟ هذا ما لا يرتضيه العقل ويخالف الوجدان والذوق والمنطق السليم، والتحليل العلمي ويخالف أيضا القرآن العظيم، يقول تعالى
(1) راجع تفسير (مفاتيح الغيب) للرازي ج 2 ص 9، و (البيضاوي) ج 1 ص 195، و (الدر المنثور) للسيوطي ج 1 ص 144، و (ابن كثير) ج 1 ص 191 وغيرها.
106

مخاطبا المؤمنين من هذه الأمة: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين ([آل عمران / 141]، فقوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء (لفظة " منكم " هنا للتبعيض، أي يتخذ بعضكم شهداء، فلو أن الأمة تشهد لقال: (ويتخذكم شهداء) وهذا دليل قرآني واضح على أن الشهداء على الأمة الإسلامية بعضها لا كلها، فمن أولئك البعض؟:
إنما هم خلفاء النبي على أمته من بعده وهم أئمة الهدى، وهذه الجهة الثانية.
ومن جهة ثالثة إن القرآن يصرح بأن كل أمة من الأمم يجعل الله عليها شهيدا واحدا كما في قوله تعالى: (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد (وقوله تعالى: (ويوم نبعث من كل أمة شهيدا (وقوله تعالى (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم (وقوله تعالى: (ونزعنا من كل أمة شهيدا (إلى غير ذلك من الآيات الأخرى في هذا المعنى.
إذا كيف يجعل الله هذه الأمة كلها شهداء؟ فهذا المعنى يخالف سنة الله الجارية في الأمم، ومعلوم أن سنة الله في خلقه لا تتحول ولا تتبدل قال تعالى: (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ([الأحزاب / 63].
107

والخلاصة ان الشهداء على هذه الأمة إنما هم الأئمة الاثني عشر (ع) كل واحد منهم يكون شهيدا على أهل زمانه دون غيرهم.
الأمة الوسط في الأحاديث
كما جاء هذا المعنى صريحا في أحاديث أهل البيت (ع) قال أبو جعفر الباقر (ع): إنما أنزل الله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا (يعني عدلا، (لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (قال: " ولا يكون شهداء على الناس إلا الأئمة والرسل، وأما الامة فإنه غير جائز أن يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته على حزمة بقل (1).
وقال الإمام الباقر (ع) أيضا في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس (قال: نحن الأمة الوسطى، ونحن شهداء الله على خلقه، وحججه في أرضه (2).
وقال الإمام الصادق (ع) أيضا في المراد من الأمة: هم الأئمة (3).
(1) راجع (البحار) ح 23 ص 351 نقلا عن (المناقب) لابن شهر آشوب، ونقله عنه مختصرا الأستاذ الطباطبائي في (الميزان)، وكذا في (تفسير الصافي).
(2) (تفسير العياشي) ج 1 ص 62، و (الصافي) ج 1 ص 147، و (البرهان) ج 1 ص 160، و (البحار) ج 23 ص 342 نقلا عن (العياشي)، وعن (بصائر الدرجات) ص 19 وص 24 من طريقين، كما نقله المجلسي في (البحار) ص 336 عن (الكافي) للكليني م 3 ص 74 وفيه زيادة مهمة، والطبرسي في (مجمع البيان) م 1 ص 224.
(3) (العياشي) في تفسيره ج 1 ص 63، ونقله المجلسي في (البحار) ج 23 ص 343 عن (بصائر الدرجات) ص 23 وعن (العياشي)، وفي ص 353 عن (محاسبة النفس) لابن طاووس نقلا عن كتاب (تفسير القرآن) لابن عقدة و (كتاب الدلائل) للحميري وغيرهم.
108

إلى غير ذلك من الأخبار الصريحة في هذا المعنى وهي كثيرة جدا ومتواترة، حتى أن شيخنا المجلسي في (البحار) نقل في باب عرض الأعمال على النبي (ص) والأئمة وأنهم الشهداء - خمسة وسبعين حديثا في الشهادة على الناس، وان الشهداء هم الأنبياء والأئمة (ع) (1).
وهذا المعنى جاء في بعض روايات أهل السنة فقد روى الحاكم الحسكاني في كتابه (شواهد التنزيل) باسناده عن سليم بن قيس عن علي (ع) انه قال: ان الله تعالى إيانا عنى بقوله: (لتكونوا شهداء على الناس (فرسول الله شاهد علينا، ونحن شهداء على خلقه، وحجته في أرضه، ونحن الذين قال الله فيهم: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا ((2)
ويؤيد هذه الأحاديث من أن الأمة الإسلامية كلها لا يمكن أن تكون الأمة الوسط، والأمة الشهيدة على الناس ما جاء في ذم أكثر الأمة في آيات كثيرة في القرآن المجيد، فتارة بأنهم لا يعقلون وأخرى بأنهم لا يعلمون، ومرة بأنهم لا يشكرون، وهكذا من أنهم لا يؤمنون، وأن أكثرهم الفاسقون وأكثرهم للحق كارهون (3).
(1) (البحار) ج 23 ص 333 - ص 353 و (شواهد التنزيل) ج 1 ص 92 والطبرسي ص 324.
(2) المصدر السابق.
(3) راجع (المرشد إلى آيات القرآن الكريم) ص 497 باب كثر.
109

فإذا كانت حالة الأمة هكذا كيف يمكن أن تتصف بالخيار، والعدل، والشهادة على الناس، حكم عقلك وشرعك؟!!
علي أمير المؤمنين الشاهد الأول على الأمة بعد نبيها (ص)
ويؤيد كل ما مضى ما رواه جمهور كبير من المفسرين والمحدثين في تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ([هود / 18]، ورووا عن عدة من القرابة والصحابة كابن عباس، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وزاذان، وعمرو بن العاص وغيرهم عن رسول الله (ص)، وعن أمير المؤمنين (ع): إن الذي كان على بينة من ربه هو رسول الله (ص) ويتلوه شاهد منه وهو علي أمير المؤمنين (ع) (1).
(1) روى الثعلبي في تفسيره بسنده عن أبي صالح، عن ابن عباس أنه قال: " أفمن كان على بينة من ربه (رسول الله (ص)) ويتلوه شاهد منه " علي خاصة، ونقلها عن الثعلبي سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص ص 20، ورواها القرطبي في تفسيره (الجامع لأحكام القرآن) ج 9 ص 12 ط القاهرة، والشيخ سليمان الحنفي في (ينابيع المودة) ص 99 نقلا عن الحمويني في (فرائد السمطين) عن ابن عباس، وعن زاذان، والزرندي في (نظم درر السمطين) ص 90 ورواها أخطب خوارزم الحنفي في (المناقب) ص 197، ونقلها عنه صاحب الينابيع ص 99، كما نقلها عن كل من الثعلبي، وأبي نعيم، والواقدي، بأسانيدهم عن أبن عباس، وروى الثعلبي بسنده عن جابر بن عبد الله قال: قال علي بن أبي طالب ~: ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان، فقال له رجل: وأي آية نزلت فيك؟ فقال علي ~ أما تقرأ الآية التي في سورة هود " ويتلوه شاهد منه " ورواها عن جابر الطبري في تفسيره ج 12 ص 10 ط الميمنية بمصر، ورواها النيشابوري في تفسيره بهامش تفسير الطبري ج 12 ص 16، والعلامة الخازن في تفسيره ج 3 ص 183 ط مصر، والسيوطي في (الدر المنثور) ج 3 ص 324 ط مصر قال: اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه، وأبو نعيم في المعرفة عن علي بن أبي طالب (رض) قال: ما من رجل من قريش إلا نزلت فيه طائفة من القرآن، فقال له رجل: ما نزل فيك؟ قال أما تقرأ سورة هود " أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه " رسول الله (ص) على بينة من ربه، وأنا شاهد منه، قال السيوطي: أخرج ابن مردويه، وأبن عساكر عن علي في الآية أنه قال: قال رسول الله (ص) على بينة من ربه، وأنا شاهد منه، وقال السيوطي أيضا: واخرج بن مردويه من وجه آخر عن علي (رض) قال: قال رسول الله (ص): " أفمن كان على بينة من ربه " أنا، " ويتلوه شاهد منه " قال: علي، ونقلها عن علي ~ من رسول الله (ص) العلامة السيد الآلوسي = = في تفسيره (روح المعاني) ج 12 ص 25 ط المنيرية بمصر، وقال: واخرج ابن أبي حاتم، وأبن مردويه عن علي ~ قال: ما من رجل من قريش.. الخ، وقال أخرج المنهال عن عبادة بن عبد مثله.
وروى الثعلبي في تفسيره بسنده عن زاذان قال: سمعت عليا يقول: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها - أي لو كانت الأمور متمهدة لي - لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما من قرشي جرت عليه المواسي إلا وأنا أعرف له بسوقه إلى الجنة، أو بقوده إلى النار، فقام إليه رجل فقال: ما آيتك يا أمير المؤمنين التي نزلت فيك؟ قال " أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه " ونقله عن الثعلبي سبط بن الجوزي في (تذكرة الخواص) ص 20، وقريب منه نقله الشيخ سليمان الحنفي في (ينابيع المودة) ص 99 عن ابن المغازلي بسنده عن عباد بن عبد الله قال: سمعت عليا يقول في خطبته... الخ، وقال الشيخ سليمان: أيضا عن زين العابدين والباقر والصادق (ع) ذكروا هذا الحديث، وقال أيضا الحسن بن علي ~ ذكر هذه الآية ويفسرها مثله في خطبته.
هذا وقد ذكر بعض المفسرين أن الآية نازلة بعلي من دون أن يذكروا الرواية كالفخر الرازي في تفسيره حيث أورد عن البعض أن المراد من الشاهد هو علي بن أبي طالب (رض) ثم قال: والمعنى أنه يتلو تلك البينة، وقوله: منه أي هذا الشاهد من محمد وبعض منه، والمراد منه تشريف هذا الشاهد بأنه بعض من محمد (ص) ج 5 ص 46، وكأبي حيان الأندلسي في تفسيره (البحر المحيط) ج 5 ص 211 ط السعادة بمصر، وهكذا صاحب (فتح البيان) وروى الكنجي الشافعي في (كفاية لطالب) ص 110 بسنده أن رسول الله (ص) قال: علي على بينة من ربه وأنا الشاهد منه، راجع (إحقاق الحق) ج 3 ص 352 - 357 وج 4 ص 309 وما بعدها.
وروى نزول الآية في علي أيضا عمرو بن العاص، وراجع (المناقب) للخوارزمي ص 128.
110

فهذه الآية وما ورد في تفسيرها من طرق الجمهور تدل على ان عليا شاهد على الناس، وأنه من النبي الذي هو على بينة من ربه، والنبي منه.
وهذا ما صرح به (ص) بقوله الشهير المتواتر: علي مني وأنا من علي (1).
وهذا كله يؤيد أن المراد من الأمة التي تكون شهيدة على الناس إنما هي علي والأئمة من أبنائه (ع)، فإن قيل: كيف تفسر الأحاديث الأمة بالأئمة، ولم عبر الله عنهم بالأمة وهم أفراد منها؟
الجواب نقول:
(1) راجع (إحقاق الحق) ج 5 من ص 274 - 317 لتعلم تواتر الحديث وشهرته وكثرة مصادره في الصحاح والسنن والمسانيد والتفسير والتاريخ، وراجع كتابنا (قبس من القرآن) ص 329 تحت عنوان " دلالة أحاديث النور " في معنى: أن عليا من النبي والنبي منه، وهكذا أهل بيته منه وهو منهم، وأنهم من نور واحد.
112

أن الله سمى خليله إبراهيم (ع) وهو فرد واحد أمة في قوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يكن من المشركين ([النحل / 121].
وإنما سماه أمة لأنه (ع) قد أتصف بكل فضل وفضيلة اتصفت بها أمته وهو أفضلهم وأكملهم بكل ما للفضل والفضيلة والكمال من معنى، وهو المقتدى لهم والإمام عليهم، يقول الشاعر:
ليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد.
ويقول الجلالان في تفسيرهما: (إن إبراهيم كان أمة (إماما قدوة، جامعا لخصال الخير (1).
وهكذا أئمة الهدى هم المتحلون بكل فضل وفضيلة وكمال اتصفت بها الأمة الإسلامية بعد نبيها، وقد أتاهم الله ما لم يؤت أحدا من العالمين، ولذلك عبر عنهم بالأمة، إذ هم الممثلون لكل فضل اتصفت به الأمة، وتفوقوا عليها بكل ذلك، وهم القدوة في ذلك للجميع، وأئمة للكل.
فإذا تعبير الله عنهم (ع) بالأمة أبلغ من التعبير بالأئمة، ويرى بعض المفسرين أن المراد بكون الأمة شهيدة عليهم أن هذه الشهادة تكون فيهم، لا أن كلهم فردا فردا يشهدون، ونظير ذلك والدليل عليه قوله
(1) (تفسير الجلالين) ص 218.
113

تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين ([الجاثية / 17].
والمقطوع به هو أن المراد من إيتاء الكتاب والحكم والنبوة والتفضيل على العالمين لبني إسرائيل أن فيهم من يتصف بهذه الصفات، وإنما هم الرسل والأنبياء منهم، لا أن كل واحد منهم متصف بتلك الصفات، أي نسب وصف البعض إلى الكل لكون البعض فيه ومنه، وهكذا كون الأمة شهيدة هو أن فيهم من يشهد على الناس، ويشهد الرسول عليهم، وهم خلفاؤه أئمة الهدى من بعده، وهو وجه وجيه (1).
ويؤيد ذلك قوله تعالى: (ويتخذ منكم شهداء (ويؤيده أيضا أن الآية وصفت الأمة بالوسط فقال: (أمة وسطا (وما هو معنى الوسط في هذه الآية.
معاني الوسط
ذكر الفخر الرازي في تفسيره من معاني الوسط معنيين: -
المعنى الأول: ان الوسط هو العدل، واستدل عليه بالكتاب والسنة والأدب واللغة.
(1) راجع (الميزان) في تفسير القرآن ج 1 ص 325.
114

المعنى الثاني: الذي ذكره للوسط: أن الوسط من كل شيء خياره، وقال: وقالوا: هذا التفسير أولى من الأول لوجوه، وذكر وجوها عديدة في ان الوسط هو الخيار (1).
ومن جوامع كلمات نبينا (ص) خير الامور أواسطها، وقال الشاعر مشيرا للحديث:
وغير هذا غلط.
خير الامور الوسط.
وهذان المعنيان منطبقان على أئمة الهدى، إذ لا خلاف في عدالتهم، ولا ريب في أنهم أفضل الأمة وخيارها، كما صرح بذلك الرسول الأعظم (ص) في كثير من أحاديثه الشريفة ومنها:
قوله (ص): " ما خلق الله خلقا أفضل مني، ولا أكرم عليه مني، قال علي: فقلت: يا رسول الله فأنت أفضل أم جبرئيل؟ فقال: يا علي إن الله تبارك وتعالى فضل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقربين، وفضلني على جميع النبيين والمرسلين والفضل لك يا علي وللأئمة من ولدك... الخ (2).
ولقد أجاد النبهاني حيث يقول:
(1) راجع (تفسير الرازي) ج 2 ص 6 - 7.
(2) راجع الحديث بطوله في كتابنا (قبس من القرآن) ص 334، وقد نقلناه عن (ينابيع المودة) ص 485 نقلا عن المناقب، راجع القبس أيضا في (بشائر الله لأنبيائه بنبينا وأهل بيته) من ص 64 - ص 111.
115

جدكم خيرة وأنتم خيار البيت قدما فأنتم الأطهار غير ود القربى ونعم الإجار (1).
آل طاها يا آل خير نبي أذهب الله عنكم الرجس أهل لم يسل جدكم على الدين أجرا.
وذكر الأستاذ العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في تفسيره (الميزان) معنى آخر للوسط في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس (وهو أنهم (ع) متوسطون ومتخللون بين الرسول وبين الناس الذين يشهدون عليهم، وذلك باعتبار أن علومهم بعقائد الناس وأعمالهم عن الله عز وجل بواسطة الرسول (
ص) إذ هم خلفاؤه من بعده، فيما حصلوا عليه من العلوم الإلهية وبواسطة الرسول كانت لهم منزلة الشهادة على الناس في العقائد والأعمال.
وسنذكر - قريبا - بعض طرق تحصيلهم للعلوم الإلهية، ولذلك جعلت الآية كونهم (ع) شهداء على الناس غاية متفرعة على جعلهم أمة وسطا، لكونهم متوسطون بين الرسول وبين الناس كانوا شهداء على الناس.
وكيفما يفسر الوسط بالعدل، أو الخيار، أو التوسط فهو لا ينطبق - حقيقة - إلا على أئمة الهدى من آل محمد (ص) إذ هم أعدل الأمة وخيارها والمتوسطون بين الرسول وبين الناس بأمر الله عز وجل.
(1) (الكلمة الغراء في تفضيل فاطمة الزهراء) لسيدنا السيد عبد الحسين شرف الدين المطبوعة مع الفصول المهمة ص 229.
116

قال الطبرسي في قوله تعالى (أمة وسطا (الوسط العدل، وقيل: الخيار، قال صاحب العين: الوسط من كل شيء أعدله أو فضله، أو الواسطة بين الرسول وبين الناس.
(ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ([آل عمران / 54].
شهادة الأئمة (ع) على الناس بحق، وعن علم مستمد عن الله تعالى، ومن الشفعاء؟ ولمن يشفعون؟
(ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ([الزخرف / 87].
نفت هذه الآية الكريمة من سورة الزخرف الشفاعة عن مخلوقين نفيا صريحا، وأثبتتها لآخرين منهم إثباتا حقيقيا وواقعيا، فقوله تعالى: (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة (أي أن الذين يدعون من دون الله والى عبادة غير الله من مطلق رؤساء الكفر والشرك والضلال، ومن كل معبود دون الله من الأصنام وغيرها لا يملكون الشفاعة لأتباعهم لا ملكا ذاتيا ولا بتمليك من الله لهم، وقوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (هذا استثناء فيه إثبات للشفاعة لمن شهد بالحق، وكانت شهادته عن علم ودراية، وهم المعبر عنهم بشهداء العمال، وهم بين ملائكة وبشر وآخرين.
فمن شهداء الأعمال من البشر في الأمم الماضية الرسل والأنبياء وأوصياؤهم، وفي هذه الأمة النبي (ص) وبعده أئمة الهدى من أهل بيته، فهم
117

الذين يملكون حق الشفاعة بتمليك من الله لهم، إذ أن أمر الشفاعة بيد الله عز وجل، والحكم له يوم القيامة وحده لا شريك له قال تعالى: (يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمان ورضي له قولا ([طه / 110].
ومن المعلوم المقطوع به أن في طليعة من يأذن لهم الرحمن بالشفاعة، ويرتضي قولهم هم محمد وأهل بيته الأطهار، فهم الشفعاء بأذن الله.
أما لمن يشفعون؟ فقد قال تعالى مجيبا على هذا التساؤل (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ([الأنبياء / 29]، أي لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، والدين المرتضى لله هو الدين الإسلامي المشروط بولاية الله ورسوله وأوليائه قال تعالى بعد تبليغ النبي (ص) ولاية علي أمير المؤمنين (ع) يوم غدير خم (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ([المائدة / 4].
وقال النبي (ص) بعد نزول هذه الآية الكريمة: الحمد لله على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب بالإسلام دينا للمسلمين بولاية علي أمير المؤمنين.
فمن مات مسلما مؤمنا بالله، وبدين الله ووعده ووعيده، وبأولياء الله، وكان قد والى أولياء الله وعادى أعداءه، وعليه بعض الذنوب والمعاصي التي لم يتب منها، ولم تغتفر له، فهؤلاء يستحقون الشفاعة
118

من الشافعين من محمد وآله الطاهرين (ع) فهم الشفعاء إذا بأمر الله كما هم الشهداء على الناس بأمره (1).
وشهادتهم بحق، وعن علم مستمد من الله تبارك وتعالى.
هذا ما أفادته هذه الآية الكريمة (ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون (وهي بنصوصها مؤيدة لما حققناه فيما مضى من ان الشاهد يجب أن يكون عالما بما يشهد به وإلا فلا تصح شهادته، كما يجب أن يكون عادلا ليشهد بالحق لا بالباطل وإلا فلا تقبل شهادته، وأن الشهداء على الناس جميعا يوم القيامة هم من كل أمة ومن كل دور شهيد واحد من رسول أو نبي أو وصي لا ان الأمة كلها شهيدة على الناس، لعدم توفر شرائط الشهادة لجميع الأمة.
فالأمة الوسط في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (إنما هم من الأئمة من آل محمد (ص).
(1) ذكرنا الشفاعة هنا مجملا، ومن أراد التفصيل فعليه ب‍ (الميزان في تفسير القرآن) للعلامة الأستاذ السيد محمد حسين الطباطبائي فإنه ذكر بحوثا مهمة في ج 1 من ص 156 - ص 188 بهذه العناوين التالية: ما هي الشفاعة / إشكالات الشفاعة / = = فيمن تجري الشفاعة / من تقع منه الشفاعة / بماذا تتعلق الشفاعة / متى تنفع الشفاعة / بحث روائي في الشفاعة / بحث فلسفي في الشفاعة / بحث اجتماعي في الشفاعة، فما أجدر بالباحثين بالرجوع إلى كل تلك البحوث القيمة.
119

من أين جاء العلم للأئمة (ع) بعمل الأمة
وهنا قد يأتي سؤال يفرض نفسه بنفسه فيقال: من أين جاء العلم للأئمة بكل أعمال الأمة وأعمال الناس جميعا، وهم أفراد من الأمة حتى يشهدوا عليهم وعلى غيرهم بكامل أعمالهم وحقائقها؟ فنقول: ان علمهم باعمال الناس أجمعين مع حقائق أعمالهم وعقائدهم لا من عند أنفسهم، ولو قلنا أنهم (ع) علموا ذلك من أنفسهم بأنفسهم لكان ذلك شركا بالله وكفرا به، ولكن الله جل وعلا لما جعلهم حججا على عباده، وجعل لهم الولاية العامة على الناس بعد ولايته وولاية رسوله (ص) بقوله: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ([المائدة / 56].
وقد اجمع المفسرون ان هذه الآية المباركة كانت قد نزلت في علي أمير المؤمنين (ع) حينما تصدق بخاتمه في الصلاة وهو راكع، وهي جارية في أبنائه من الأئمة الطاهرين من بعده (1).
فهؤلاء الأئمة هم الذين تولى الله سبحانه تعليمهم بكامل أعمال الأمة والناس أجمعين بما آتاهم من العلم الواسع الغزير، وبما أطلعهم عليه من تصرفات الناس وسلوكها ونواياها، وأشار إلى ذلك في بعض الآيات القرآنية النازلة فيهم (ع).
ومن تلك الآيات قوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ([العنكبوت / 148].
(1) راجع تفسيرها في (الميزان) ج 6 ص 2 - ص 24، و (الغدير) ج 2 ص 47.
120

فقد صح عن أئمة الهدى منهم الإمام الباقر والصادق والرضا (ع) العديد من رواياتهم التي ذكرها المحدثون والمفسرون كشيخنا الكليني في (الكافي)، والقمي في (تفسيره)، وفرات بن إبراهيم في (تفسيره)، وابن شهر آشوب في (المناقب)، ومحمد بن الحسن الصفار في (بصائر الدرجات)، والطبرسي في (مجمع البيان)، والمجلسي في (البحار) وغيرهم كثير أنهم (ع) فسروا قوله تعالى: (بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم (بأنهم هم الأئمة من آل محمد خاصة، أي بعد الرسول (ص) وأنه من عيسى أن يكون غيرهم، وأنهم هم الراسخون بالعلم، وأن صدورهم هي الحاوية لتلك الآيات البينات فراجع (1).
طرق علومهم (ع) ومنابعها
أما طرق علومهم (ع) بذلك وغير ذلك من أنواع العلوم الكثيرة وينابيعها الممنوحة لهم من الله تعالى فنذكر منها ما يلي:
(1) (الشافي في شرح أصول الكافي)، باب 82، ص 141 - ص 143، و (تفسير القمي) ج 2 ص 151، و (مجمع البيان) ج 4 ص 288، و (البحار) ج 23 باب 10، فقد ذكر كثيرا من تلك الروايات من مصادر عديدة من ص 189 - ص 204.
121

الطريق الأول
الإلهام
أولا العلم الإلهامي: وهو أفضل طرق علومهم وأساسها الذي منه تتفرع جميع الطرق والجهات الأخرى، وذلك بأن يلهمهم الله ما يشاء من العلوم، وهو المعبر عنه - في بعض أحاديثهم أنه - (نكت في القلوب) وفي بعضها (قذف في القلوب) (1).
وقال الإمام الرضا (ع) في حديثه عن الإمامة وشؤونها - وقد مر حديثه في الفصل السابق قال (ع): وإن العبد إذا اختاره الله عز وجل لأمور عباده شرح لذلك صدره، وأودع قلبه ينابيع الحكمة، وألهمه العلم إلهاما فلم يعي بعده بجواب ولا يحيد فيه عن الصواب، وهو معصوم مؤيد، موفق مسدد قد أمن من الخطايا والزلل والعثار... الخ.
التحليل والدليل على تلقي الفيوضات الإلهية للمخلصين
وهذا المعنى وهو كونهم (ع) ملهمين العلم ومؤيدين من الله تعالى ليس بعجيب ولا غريب من قدرة الله الذي هو على كل شيء قدير، كما أنه ليس ببعيد من تحقيق إرادته ومشيئته تعالى في إيتائهم العلم الإلهامي، وبيان ذلك هو أن الثابت بالأدلة القطعية أن العبد المؤمن بالله إذا ازداد إيمانا به عز وجل، وإخلاصا له بأعماله، وصبرا وجهادا في
(1) (الشافي) باب 108، جهات علومهم ص 247 - 248 م 3 ج 4.
122

سبيله يكون ذلك العبد مستحقا وقابلا لتلقي أنواع الفيوضات الإلهية، والمواهب الربانية بمقدار ما عنده من إيمان وإخلاص وصبر وجهاد، قال تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ([العنكبوت / 70].
وقال تعالى: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ([محمد / 18].
ومعلوم ان من كان مع الله كان الله معه، ومن أصلح لله أمرا أصلح الله له أموره، وقال النبي (ص) فيما رواه الخاص والعام كالصدوق في عيون أخبار الرضا، وابن عبد ربه الأندلسي المالكي في (العقد الفريد) وغيرهما (1).
انه (ص) قال ما اخلص عبد لله عز وجل أربعين صباحا إلا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه وفي نص آخر: من أخلص لله أربعين صباحا انفجرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، وقال (ص): من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم (2).
(1) (عيون أخبار الرضا) ج 2 ص 69 الباب 13 الرقم 321، و (العقد الفريد) ج 2 ص 223، وكتاب (زينب الكبرى) للشيخ جعفر النقدي ص 45.
(2) (جامع السعادات) للنراقي ج 1 ص 12، و (الدين والإسلام) للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ص 82.
123

وقال (ع): من زهد في الدنيا، ولم يجزع من ذلها، ولم ينافس في عزها " أي لم يفاخر غيره تطاولا عليه " هداه الله بغير هداية من مخلوق، وعلمه بغير تعليم، وأثبت الحكمة في صدره، وأجراها على لسانه (1).
ويقول النبي (ص): ليس العلم في السماء فينزله عليكم، ولا في الأرض فيخرج إليكم، ولكنه مودع في نفوسكم، تخلقوا بأخلاق الروحانيين يظهر لكم.
فتذكر - أيها المطالع الكريم - في ان أي مؤمن من سائر المؤمنين جاهد في الله استحق الهداية الخاصة من الله تعالى، وأنه يكون مع المحسنين المجاهدين هاديا ومرشدا وناصرا ومعلما، وأن من أخلص لله أربعين صباحا انفجرت وظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه، ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، ومن زهد في الدنيا ولم يجزع ولم يفاخر غيره تطاولا هداه الله بغير هداية من مخلوق وعلمه بغير تعليم، وأثبت الحكمة في صدره، وأجراها على لسانه، إذا كيف بمن كان مجاهدا في الله حق الجهاد طيلة حياته بكل ما للجهاد من معنى، ومخلصا له عز شأنه في عباداته كافة وأنواع تصرفاته في كل أيامه ولياليه لا يريد بذلك إلا وجهه الكريم وطلب رضاه، وعاملا بكل ما أوتي من علم على الإطلاق من كلي وجزئي، وزاهدا في الدنيا بكل ما للزهد من معنى، فهذا الإنسان المتصف بأعلى وأرقى هذه الصفات من الجهاد والإخلاص والعمل الصالح مع الزهد، وقد علم الله ذلك منه
(1) (البحار) ج 78 ص 63.
124

أما يستحق أن يميزه على غيره ويخصه بما لم يخص به أحدا من العالم؟
وبهذا يتضح لك السر في أن الله قد أتى نبيه والأئمة من أهل بيته الأطهار ما لم يؤت أحدا من العالمين، ومن جملة ما آتاهم العلم الإلهامي الذي تفوقوا به على الأمة كافة، وجعلهم خلفاء في أرضه وحججا على عباده، وشهداء على خلقه.
قال إمامنا أمير المؤمنين صلوات الله عليه: إن الله تبارك وتعالى طهرنا، وعصمنا، وجعلنا شهداء على خلقه وحجته في أرضه، وجعلنا مع القرآن، وجعل القرآن معنا، لا نفارقه ولا يفارقنا (1).
شهادة القرآن لهم (ع) بالإخلاص
وقد شهد لهم القرآن بالإخلاص في الأعمال لله، وطلب رضاه ووجهه الكريم بآيات عديدة قد أنزلها الله تعالى فيهم، وفي إكبار أعمالهم منها قوله تعالى في سورة (هل أتى) التي أنزلها في علي وفاطمة والحسن والحسين (ع) حينما تصدقوا بقوتهم على المسكين واليتيم والأسير (إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا (5) عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا (6) يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره
(1) راجع (الشافي في شرح أصول الكافي) باب 68، في أن الأئمة شهداء الله على خلقه ج 3 ص 76، ونقله المجلسي في (البحار) ج 23 ص 342 عن كتاب (بصائر الدرجات) ص 24.
125

مستطيرا (7) ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا (8) إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا ([الإنسان / 6 - 10].
وقال تعالى في علي (ع) حين بات على فراش رسول الله (ص) ليلة الهجرة فاديا له بنفسه: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله والله رءوف بالعباد ([البقرة / 208]، إلى غير ذلك من الآيات البينات (1).
أقسام العلوم بالنسبة إلى طرق تحصيلها، وعلم الأئمة (ع) اللدني
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب ([الزمر / 10].
هذه الآية الكريمة من سورة الزمر من الآيات القرآنية الكثيرة التي تميز بين صنفين من الناس، إذ على غرارها وأسلوبها آيات أخر، بعضها مثلا تميز وتفرق بين المؤمن والفاسق كقوله تعالى: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ([السجدة / 19]، وبعضها تفرق بين المسلمين والمجرمين كقوله تعالى: (أفنجعل المسلمين كالمجرمين (35) ما لكم كيف تحكمون ([القلم / 36 - 37]، وبعضها تميز بين الطيب
(1) راجع نزول الآية الكريمة في علي ~ ومباهاة الله به ملائكته (إحقاق الحق) ج 6 من ص 479 - ص 481 فقد نقله عن مصادر عديدة، والطوسي في أماليه ج 2 ص 83، والسيد محسن الأمين في (أعيان الشيعة) ج 2 ص 131.
126

والخبيث من الناس كقوله تعالى: (قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون ([المائدة / 101]، وهكذا آيات كثيرة تعد بالعشرات تميز بين أصناف الناس ومنها هذه الآية المبحوث عنها: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب (فقد ميزت هذه الآية الكريمة بين من يعلمون وبين من لا يعلمون، والعقل السليم يستقل في التمييز بين هذين الصنفين، فيجزم جزما قاطعا في أن الذين يعلمون أفضل وأولى من الذين لا يعلمون، واستنادا إلى حكم العقل قال تعالى في خاتمة الآية: (إنما يتذكر أولوا الألباب (وأولوا الألباب هم أهل العقول، إذ الإنسان كالقشر، ولبه عقله.
ولما كان العالمون مختلفين في درجات علمهم وأنواعه فبعضهم أعلم وأفضل من بعض نرى أن العقل يجزم قاطعا بأن الأعلم بنوع من العلم أفضل من غيره، كما أن الأعلم بكل علم يحتاجه الناس يكون أولى بأتباع الناس له - بحكم العقل - في جعله مرجعا عاما لهم دون غيره، وخصوصا علماء الدين.
أهل البيت أعلم الأمة، وفيهم نزلت الآية الكريمة
وأعلم هذه الأمة - على الاطلاق - بعد نبيها هم أهل بيته الأطهار صلوات الله عليهم، وهم الذين نزلت هذه الآية الكريمة فيهم
127

على ما روى الكليني في (الكافي) بسنده عن جابر الجعفي عن أبي جعفر الباقر (ع) في قوله تعالى: (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون (... الخ قال: نحن الذين يعلمون، وعدونا الذين لا يعلمون، وشيعتنا أولوا الألباب (1).
ولقد أحسن الأديب السيد محمد نجل العلامة السيد رضا الهندي في تضمينه قسما من الآية المبحوث عنها في أبيات من الشعر قال:
وعن رعاع همج بكل شيء جهلا هل يستوي الذين يعلمون والذين لا؟.
يا سائلي عن علماء حكماء فضلا أما قرأت قوله قدس شأنا وعلا..
وقد ألحقت بها أبياتا اخرى فقلت:
بان من يعلم لا يقاس فيمن جهلا والأفضلون قدموا بالعقل عند العقلا حبلا بغير الله والإسلام إن رام العلا محمد وآله الأطهار سادات الملا.
فالعقل يجري حكمه في هؤلاء وهؤلاء والعالمون شمت فيهم فاضلا وأفضلا والفخر للفضل والأكمل أن لا يوصلا والفضل كل الفضل موصول إلى.
نعم آل محمد (ص) هم أهل الفضل العميم، والكمال المطلق، وهم أعلم هذه الأمة بعد نبيها، وبيان ذلك بالدليل فنقول:
يمكن أن يقال: إن العلم - بالنسبة إلى مصدر تحصيله وطرقه - ينقسم أولا إلى قسمين لدني، وكسبي، واللدني ينقسم إلى أقسام عديدة
(1) راجع (الشافي في شرح أصول الكافي) ج 3 ص 138.
128

سنذكرها أن شاء الله تعالى، ولكن يمكن أن يقال: ان أقسام العلوم اللدنية ترجع أخيرا إلى قسمين إيحائي تشريعي وإلهامي إلهي. وعلى هذا تكون أقسام العلوم ثلاثة إيحائي تشريعي، وإلهامي إلهي، وكسبي.
أما الإيحائي التشريعي فهو علم يوحيه الله إلى أنبيائه ورسله بواسطة أمينه من الملائكة جبرئيل أو غيره في بعض المناسبات، ومن هنا قال عز من قائل بالنسبة إلى علم نبينا محمد (ص): (وما ينطق عن الهوى (3) إن هو إلا وحي يوحى (4) علمه شديد القوى ([النجم / 4 - 6].
وأما الإلهامي الإلهي فهو علم يلهمه الله قلب من يشاء من عباده من رسل وأنبياء وأوصياء، وبعض المؤمنين الصالحين في بعض المناسبات الخاصة من باب:
المؤمن ينظر بنور الله (1).
وهذان العلمان الإيحائي التشريعي، والإلهامي كل منهما يقال له: لدني، أي أنه من لدن الله سبحانه ومن هنا قال تعالى بالنسبة إلى علم الخضر الذي تفوق به على كليم الله موسى بن عمران (ع) حيث أطلعه عليه دون موسى قال: (فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا
(1) راجع (البحار) ج 24 ص 128، وراجع ما مر ص 118 - ص 119 تحت عنوان " التحليل والدليل على تلقي الفيوضات الإلهية للمخلصين).
129

وعلمناه من لدنا علما ([الكهف / 66]، وقال تعالى مخاطبا نبينا محمد (ص): (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ([النمل / 7]، فهذا العلم اللدني بقسميه.
أما الكسبي فهو علم يكتسبه الإنسان من العلماء والمرشدين بعض من بعض، وهو علم من جهة يقع فيه الخطأ والصواب والصحة والغلط، وغلط العالم - ولا سيما إذا كان مرجعا عاما - يعود على العالم كله، لأن الناس أتباع العلماء في الحلال والحرام، وفي جميع الأحكام.
ومعلوم أن الله جل شأنه لا يريد - في تشريعاته - ويرضى إلا بالعمل طبق الشريعة التي أنزلها كما أنزلها من دون تغيير ولا تبديل، والأحكام التي شرعها من دون زيادة ولا نقيصة، فلا بد إذا من أن يكون في الناس عالم لا يخطأ ولا يغلط، ولا يسهو ولا ينسى ليرشد الناس إلى تلك الشريعة المنزلة منه تعالى تماما وكمالا، ولا يكون ذلك إلا إذا كان علم العالم - المرجع للجميع - وحيا أو إلهاما، لذلك شاء الله أن يكون علم الرسل والأنبياء وأوصيائهم من العلم الإيحائي أو الإلهامي صونا وحفظا لهم وللأمم من أتباعهم من الوقوع في المخالفة.
ومن جهة أخرى أن صاحب العلم الكسبي لا يمكنه - وبلا ريب - تحصيل كل ما يحتاجه وتحتاجه الأمة من العلم حتى لو عاش ما عاش من مئات السنين، واجتهد - فيها - كل الاجتهاد في تحصيله.
ولقد أجاد الإمام الشافعي بقوله:
130

لا ولو مارسه ألف سنة فخذوا من كل شيء أحسنه (1).
ما حوى العلم جميعا أحد إنما العلم بعيد غوره...
بينما إذا كان العالم علمه لدنيا من الله العالم بكل شيء، فحينئذ يمده الله العليم الحكيم بكل ما يحتاجه وتحتاجه الأمة من العلم طبق مشيئته وأرادته، قال تعالى: (ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ([البقرة / 256].
وبعد هذا البيان، أو هذه المقدمة نقول:
أن علم أئمتنا الهداة - ومما لا ريب فيه - كان من العلم الإلهامي اللدني، لأن العلم الإيحائي التشريعي قد انتهى بوفاة النبي (ص) إذ هو الذي شرع الله له ولأمته الدين، وما قبضه الله إليه إلا بعد أن أكمل له ولأمته تشريع الدين، وأتم لهم النعمة ورضي لهم الإسلام دينا خالدا إلى يوم القيامة كما قال تعالى - بعد تبليغ النبي (ص) أمته بولاية علي بن أبي طالب وخلافته، وولاية الأئمة الأطهار من ولده وخلافتهم يوم غدير خم (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ([المائدة / 4].
وأما العلم الكسبي فقد علمنا أنه يقع فيه الخطأ والصواب، وصاحبه لا يمكنه الوقوف على كل ما تحتاج إليه الأمة، فالأئمة (ع) من جهة كانوا قد عصمهم الله من الخطأ والغلط بحكم الأدلة، راجع ما مر
(1) نسب البيتين إلى الشافعي صاحب كتاب (الاثني عشرية) ص 446.
131

من هذا الكتاب ص 37 - 38، تحت عنوان " تعريف العصمة لغة واصطلاحا ".
ومن جهة أخرى كانوا هم المرجع للناس بعد النبي (ص) في مشاكلهم واحتياجاتهم كافة، فإذا كان علمهم علما إلهاميا لدنيا من الله تعالى، وبذلك تفوقوا في علومهم على الأمة وأفرادها أجمعين، وكان إتباعهم - بحكم العقل - أولى من إتباع غيرهم.
الأدلة على علم الأئمة الإلهامي
أما الأدلة التي تدل على علمهم (ع) إلهامي - بالإضافة إلى ما تقدم - فهي كثيرة منها هو ان الناس كل الناس كانوا محتاجين إلى علمهم وحل المشاكل لهم، وكلما رجعوا إليهم في أمر من الأمور وجدوا علمه حاضرا عندهم من دون تأخر أو توقف أو تردد.
ومن هنا ورد عن عكرمة عن ابن عباس: ان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قال ذات يوم لعلي (ع) يا أبا الحسن إنك لتعجل في الحكم والفصل للشيء إذا سئلت عنه، قال: فأبرز علي كفه وقال له: كم هذه؟ فقال عمر: خمسة، فقال: عجلت يا أبا حفص، قال: لم يخف علي، فقال علي: وأنا أسرع فيما لا يخفى علي (1).
(1) راجع كتاب (المناقب) لابن شهر آشوب ج 2 ص 31، وراجع كتاب (الحقائق في الجوامع والفوارق) للعلامة الشيخ حبيب العاملي ج 1 ص 18 حين اختلف الصحابة بحصول الجنابة ووجوب الغسل منها، هل هو بالإنزال فقط؟ أو يكون بمجرد التقاء الختان بالختان وان لم ينزل؟ وأنهم لما رجعوا إلى علي أقام لهم الدليل الواضح على وجوب الغسل بمجرد الالتقاء.
132

والغرض ان الناس إذا رجعوا إليهم في أمورهم وجدوا الجواب الحاسم حاضرا عندهم، أما هم (ع) ما احتاجوا إلى علم الناس أبدا، بل كل واحد من الناس مفتقر إلى علمهم، وما جرت كلمة (لا أدري) على لسان أحدهم.
فاحتياج الكل إليهم، واستغناؤهم عن الكل، دليل قاطع على أنهم أعلم الكل، وأئمة الجميع، وكونهم (ع) ما احتاجوا إلى أحد من سائر الناس وان الناس كانوا محتاجين إليهم هذه حقيقة واقعية يثبتها لهم التاريخ الثابت الصحيح عند الخاص والعام، ولا سيما أيام الخلفاء الثلاث أبي بكر، وعمر وعثمان، ورجوعهم إلى علي (ع) في حل المشاكل التي حلت بهم، والأسئلة التي وجهت إليهم ولم يكن فيها علم عندهم، وهكذا رجوع بقية الخلفاء من بني أمية وبني العباس وغيرهم إلى الأئمة (ع) كله ثابت عند الجميع في التاريخ الإسلامي في حوادث كثيرة قد لا يستطيع الإنسان إحصاءها لكثرتها (1).
(1) راجع (الحقائق) للعاملي ج 1 ص 98، تحت عنوان " رجوع أكابر المسلمين في أحكام الدين إلى أهل البيت، علي والأئمة من ولده (ع) " ثم يذكر ص 101: الرجوع لعلي على عهد أبي بكر (رض) وفي ص 104: الرجوع لعلي على عهد عمر، وفي ص 115: الرجوع لعلي على عهد عثمان، وهكذا يذكر رجوع الأمويين والعباسيين وسائر الناس إلى الأئمة من الحسين إلى الإمام المهدي ~ ص 164، وراجع (نوادر الأثر في علم عمر) في الغدير ج 6 ص 74 - ص 313 ط النجف، وكتاب (علي والخلفاء) للشيخ نجم الدين العسكري من أوله إلى آخره.
133

ومما يدل على أن علم الأئمة إلهامي من الله هو انهم (ع) طالما كانوا يخبرون عن وقوع حوادث قبل أن تقع، ثم تقع طبق ما أخبروا به، وهذا باب واسع وعليه شواهد كثيرة لا مجال لنا الآن إلى ذكرها لكثرتها وشهرتها في التاريخ عند الخاص والعام، وان شئت فارجع إلى كتاب (إحقاق الحق) ج 8 الباب الخامس، باب ما اخبر به أمير المؤمنين (ع) من المغيبات من ص 87 - 181.
ومعلوم أنه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل وحده لا شريك له، أما أخبار غير الله عن أمور غيبية من رسل وأنبياء وأئمة إنما هو تبليغ من الله تعالى، فلو لم يكن علم
الأئمة مستمد من الله لما تمكنوا من معرفة الحوادث والملاحم قبل وقوعها.
قيام الإمام الجواد (ع) بالإمامة وهو ابن ثمان سنين
ومما يؤكد لنا ان علم الأئمة إلهامي من الله تأكيدا قطعيا لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه هو أن إمامنا محمد الجواد (ع) انتهت إليه الإمامة بعد أبيه الإمام الرضا وهو ابن ثمان سنين كما صرح بذلك كثير من المؤرخين، بل عليه إجماعهم.
ومع ذلك قام بأبي هو وأمي - بما قام به آباؤه من التعليم والإرشاد، وأخذ العلماء منه - على اختلاف طبقاتهم - أنواع العلوم خاضعين له، مستفيدين منه، وما وجدوا في علومه - على صغر سنه - نقصا عن علوم آبائه وأجداده لا كثيرا ولا قليلا، بل كان علمه وهو
134

ابن ثمان سنين - بلا مغالات ولا مبالغة - كعلم سميه وجده محمد بن عبد الله (ص) وهو مستمد منه.
الأسئلة التي قدمت إليه بحضور عمه
حتى انه لما قبض الإمام الرضا (ع) توجه تلك السنة أكابر المسلمين من العلماء والفقهاء والمتكلمين من الشيعة وغيرهم إلى الحج، وتشرفوا بلقائه بالمدينة، فدخلوا عليه في داره للتعرف على صحة إمامته، هذا وقد حضر خلق كثير من الشيعة ومن كل بلد لذلك إذ دخل عمه عبد الله بن موسى بن جعفر وكان شيخا كبيرا نبيلا، عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجادة، أي أثر السجود، فجلس، وخرج أبو جعفر الجواد من الحجرة، وعليه قميص ورداء، وفي رجليه نعلان، فقام عمه عبد الله وقبل ما بين عينيه، وقامت الشيعة إجلالا له، ثم قعد أبو جعفر على كرسي، وجلس الناس ينظر بعضهم إلى بعض تحيرا لصغر سنه.
فابتدر رجل من القوم فقال لعمه سائلا منه: أصلحك الله ما تقول في رجل أتى بهيمة؟ فقال: تقطع يمينه، ويضرب الحد، فغضب أبو جعفر (ع) ثم نظر إليه فقال: يا عم اتق الله، اتق الله انه لعظيم ان تقف يوم القيامة بين يدي الله عز وجل فيقول لك: لم أفتيت الناس بما لا تعلم؟.
فقال عمه استغفر الله يا سيدي، أليس قال هذا أبوك صلوات الله عليه؟ فقال أبو جعفر (ع): إنما سئل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها، فقال أبي: تقطع يمينه للنبش، ويضرب حد الزنا، فان حرمة الميتة
135

كحرمة الحية، فقال عبد الله صدقت يا سيدي، وأنا استغفر الله، والظاهر أن عبد الله قد نسي، فتعجب الناس، وقالوا: يا سيدنا أتأذن لنا أن نسألك؟ قال: نعم، فسألوه في مجلس واحد عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم عنها وله يومئذ تسع سنين (1).
وفي رواية أخرى عشر سنين (2).
والظاهر لنا أن مراد الراوي من " المجلس الواحد " الذي سئل فيه الإمام (ع) عن ثلاثين ألف مسألة هو المكان المعد لجلوسه فيه للناس، كما يقال مثلا: ذهبت اليوم إلى مجلس زيد أو عمرو ورأيت كذا أو سمعت كذا... الخ، فالإمام سئل في مجلسه ذلك للناس، عن ثلاثين ألف مسألة، فالراوي عين نوعية المكان الذي سئل فيه الإمام، وأنه مكان واحد وهو الذي يستقبل به الناس دون غيره من الأماكن الأخرى، ولم يعين الوقت، والوقت يعرف من القرينة، والقرينة دالة على ان الناس كانوا يتوافدون على الإمام في موسم الحج من جميع النواحي والأقطار والأمصار ليتعرفوا عليه ويسألوه عما حملوا إليه من الأسئلة الكثيرة الكتابية والشفوية، فكان عدد تلك الأسئلة التي وجهت إليه وأجاب عنها
(1) (الاختصاص) للمفيد ص 99، ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 50 ص 85.
(2) (الشافي في شرح أصول الكافي) ج 4 ص 646، ونقله عنه المجلسي في (البحار) ص 93 وكذا في (كشف الغمة) للأربلي ج 3 ص 154 و (المناقب) لابن شهر آشوب ج 3 ص 384 وغيرهم، {ملاحظة: حكم من أتى بهيمة أن يضرب دون الحد ويغرم ثمن البهيمة، ويحرم ظهرها ونتاجها، وتخرج إلى البرية حتى تأتي عليها المنية} راجع (البحار) ج 50 ص 91.
136

ثلاثين ألف مسألة، وذكر المجلسي في (البحار) وجوها أخرى بالإضافة إلى هذا الوجه وإلى ذلك أشار السيد صالح القزويني حيث يقول مخاطبا له:
ثلاثين ألفا عالما لا تعلم.
وأنت أجبت السائلين مسائلا.
التعظيم للإمام الجواد، والشهادة له بالإمامة على صغر سنه
وهذا علي بن الإمام جعفر الصادق (ع) شيخ العلويين في عهد الإمام الجواد سنا وفضلا، وكان إذا أقبل الجواد يقوم له ويقبل يده، وإذا خرج يسوي له نعله، وسئل عن الإمام الناطق بعد الإمام الرضا من هو؟ فقال: هو أبنه أبو جعفر، فقيل له: أنت في سنك وقدرك، وأبوك جعفر بن محمد تقول هذا القول في هذا الغلام؟ فقال للسائل: ما أراك إلا شيطانا، ثم أخذ بلحيته وقال: فما حيلتي إن كان الله رآه أهلا لهذا (أي لمنصب الإمامة) ولم ير هذه الشيبة لهذا أهلا) (1).
هذا وعلي بن جعفر الصادق أخو الكاظم، والكاظم (ع) جد الجواد، فما ترى بينهما من السن، وعلي أخذ العلم من أبيه الصادق، وأخيه الكاظم، وابن أخيه الرضا، فلو كان علمهم بالتحصيل والكسب لكان علي أكثر تحصيلا واكتسابا، ولو كانت الإمامة بالسن لكان علي أكبر العلويين سنا.
(1) راجع (رجال الكشي) ص 364، ونقله عنه الشيخ محمد حسين المظفري في كتابه (الصادق) ج 1 ص 145.
137

على أن الجواد قد فارقه أبوه يوم سافر إلى خراسان وهو ابن خمس سنين، فمن الذي كان يؤدبه ويثقفه بعد أبيه حتى جعله بتلك المنزلة العلمية الرفيعة؟ وقبض الجواد وهو أبن خمس وعشرين سنة وأبن هذا السن لم يبلغ من العلم شيئا كثيرا لو انفق عمره كله في الطلب، فكيف يكون عالم الأمة ومرشدها، ومعلم العلماء ومثقفهم؟ وقد رجعت إليه الشيعة وعلماؤها من يوم وفاة أبيه الرضا (ع).
حتى ان بعضهم - ويقال له يونس بن عبد الرحمن - شكك في إمامته لصغر سنه، فرد عليه الريان بن الصلت قائلا: إن كان أمره من الله جل وعلا، فابن يوم واحد أو ابن يومين مثل ابن مائة سنة، وان لم يكن من عند الله فلو عمر ألف سنة، وفي نص: خمسة آلاف سنة ما كان يأتي بمثل ما يأتي به السادة أو بعضه، ويكون كواحد من الناس (1).
وعلى كل علم الأئمة (ع) إلهامي من الله تعالى.
اعتراف المأمون بعلم الأئمة الإلهامي، واحتجاجه على العباسيين
(1) (إثبات الوصية) للمسعودي ص 184، و (دلائل الإمامة) ص 205، ونقله عنه القرشي في (حياة الإمام الجواد) ص 61، والمجلسي في (البحار) ج 50 ص 99 نقلا عن (عيون المعجزات).
138

وقد اعترف بذلك المأمون العباسي كما جاء فيما رواه علماء التاريخ من أهل الشيعة والسنة، إن المأمون لما أراد أن يزوج ابنته أم الفضل أبا جعفر الجواد بلغ ذلك العباسيين فشق عليهم، واستنكروه منه، وخافوا أن ينتهي الأمر معه إلى ما انتهى مع الرضا (ع) فخاضوا في ذلك.
ثم اجتمع معه أهل بيته الأدنون فقالوا له: ننشدك الله يا أمير المؤمنين إلا ما رجعت عن هذه النية من تزويج ابن الرضا، فإنا نخاف ان يخرج به أمر قد ملكناه الله وينزع منا عزا قد ألبسناه الله، وقد عرفت ما بيننا وبين هؤلاء القوم قديما وحديثا، وما كان عليه الخلفاء قبلك من تبعيدهم والتصغير بهم، وقد كنا في وهلة " أي فزعة " من عملك مع الرضا وكفانا الله المهم من ذلك فالله الله ان تردنا إلى غم قد انحسر عنا، وأصرف رأيك عن ابن الرضا، وأعدل إلى من تراه من أهل بيتك يصلح لذلك.
فقال لهم المأمون: أما ما كان بينكم وبين آل أبي طالب فأنتم السبب فيه، ولو أنصفتم القوم لكانوا أولى منكم، وأما ما كان يفعله من كان قبلي بهم فقد كان قاطعا للرحم، وأعوذ بالله من ذلك، والله ما ندمت على ما كان مني من استخلاف الرضا (ع) ولقد سألته ان يقوم بالأمر وانزعه من نفسي فأبى، وكان أمر الله قدرا مقدورا.
وأما أبو جعفر فقد اخترته لتبريزه " أي تفوقه " على أهل الفضل كافة في العلم والفضل، مع صغر سنه، والأعجوبة فيه بذلك، وأنا أرجو أن يظهر للناس ما قد عرفته منه، فيعلموا ان الرأي ما رأيت فيه،
139

فقالوا: ان هذا الفتى وان راقك منه هدية إلا انه صبي لا معرفة له ولا فقه، فأمهله ليتأدب ثم اصنع ما تراه بعد ذلك، فقال لهم: ويحكم إني أعرف بهذا الفتى منكم، وان أهل هذا البيت علمهم من الله، ومواده وإلهامه، لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدين، والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال، فإن شئتم فامتحنوه بما يتبين لكم به ما وصفت من حاله، قالوا: قد رضينا لك يا أمير المؤمنين ولأنفسنا بامتحانه، فخل بيننا وبينه لننصب من يسأله بحضرتك عن شيء من فقه الشريعة، فان أصاب في الجواب عنه لم يكن لنا اعتراض في أمره، وظهر للخاصة والعامة سديد رأي أمير المؤمنين فيه، وان عجز عن ذلك فقد كفينا الخطب في معناه، فقال لهم المأمون شأنكم وذلك متى أردتم.
مسألة يحيى بن أكثم للإمام الجواد (ع)
فخرجوا من عنده، وأجمع رأيهم على مسألة يحيى بن أكثم وهو يومئذ قاضي الزمان، على أن يسأله مسألة لا يعرف الجواب فيها، ووعدوه بأموال نفيسة على ذلك.
وعادوا إلى المأمون وسألوه أن يختار لهم يوما للاجتماع، فأجابهم إلى ذلك، فاجتمعوا في اليوم الذي إتفقوا عليه، وحضر معهم يحيى بن أكثم وأمر المأمون بأن يفرش لأبي جعفر فراشا حسنا وان يجعل له مسورتان، (أي وسادتان)، ففعل له ذلك.
وخرج أبو جعفر فجلس بين المسورتين، وجلس القاضي مقابله، وجلس الناس من خواص الدولة وأعيانها وحجابها وقوادها في مراتبهم وعلى قدر طبقاتهم ومنازلهم، والمأمون جالس إلى جنب أبي جعفر (ع)
140

فقال يحيى بن أكثم للمأمون: أيأذن لي أمير المؤمنين أن أسأل أبا جعفر عن مسألة؟ فقال له المأمون: استأذنه في ذلك، فأقبل عليه يحيى وقال: أتأذن لي - جعلت فداك - في مسألة؟ فقال أبو جعفر: سل إن شئت.
قال يحيى: ما تقول - جعلت فداك - في محرم قتل صيدا؟ فقال أبو جعفر: قتله في حل أو حرم، عالما كان المحرم أم جاهلا، قتله عمدا أم خطأ، حرا كان المحرم أم عبدا، صغيرا كان أم كبيرا، مبتدئا بالقتل أو معيدا، من ذوات الطير كان أم من غيرها، من صغار الصيد أم من كبارها، مصرا على ما فعل أم نادما، في الليل كان قتله للصيد أم في النهار، محرما كان بالعمرة إذ قتله أو بالحج كان محرما؟
فتحير يحيى بن أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتى عرف أهل المجلس عجزه، فقال المأمون: الحمد لله على هذه النعمة والتوفيق لي في الرأي، ثم نظر إلى أهل بيته فقال لهم: أعرفتم الآن ما كنتم تنكرونه؟ وقال المأمون لأبي جعفر (ع) إن رأيت جعلت فداك ان تذكر الفقه الذي فصلته من وجوه قتل المحرم للصيد لنعلمه ونستفيده؟ فقال أبو جعفر نعم، " ثم بين لهم تلك الوجوه بأجمعها " وما يترتب عليها من الأحكام في الشريعة الغراء، فراجع المصادر.
وقال المأمون بعد ما سمع ومن معه الجواب الحاسم: أحسنت يا أبا جعفر أحسن الله إليك، وأمر المأمون أن يكتب ذلك عنه.
ثم قال: فإن رأيت أن تسأل يحيى عن مسألة كما سألك؟ فقال أبو جعفر ليحيى: أسألك؟
141

قال: ذلك إليك جعلت فداك، فان عرفت جواب ما تسألني عنه وإلا استفدت منك، فقال أبو جعفر: أخبرني عن رجل نظر إلى امرأة في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه، فلما ارتفع النهار حلت له، فلما زالت الشمس حرمت عليه، فلما كان وقت العصر حلت له، فلما غربت الشمس حرمت عليه، فلما دخل العشاء الآخرة حلت له، فلما كان وقت انتصاف الليل حرمت عليه، فلما طلع الفجر حلت له.
ما حال هذه المرأة؟ وبماذا حلت له وحرمت عليه؟ فقال يحيى والله لا اهتدي إلى جواب هذا السؤال، ولا أعرف الوجه فيه، فأن رأيت أن تفيدنا به.
فقال أبو جعفر هذه امرأة أمة لرجل من الناس نظر إليها أجنبي في أول النهار فكان نظره إليها حراما عليه، فلما أرتفع النهار ابتاعها من مولاها فحلت له، فلما كان عند الظهر اعتقها فحرمت عليه، فلما كان وقت العصر تزوجها فحلت له، فلما كان وقت المغرب ظاهر منها فحرمت عليه، فلما كان وقت العشاء الآخرة كفر عن الظهار فحلت له، فلما كان نصف الليل طلقها واحدة فحرمت عليه، فلما كان عند الفجر راجعها فحلت له. فعند ذلك أقبل المأمون على من حضر من أهل بيته فقال لهم: هل
فيكم من يجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب؟ أو يعرف القول فيما تقدم من السؤال؟ قالوا: لا والله، إن أمير المؤمنين أعلم فيما رأى، فقال: ويحكم ان أهل هذا البيت خصوا من دون الخلق بما ترون من الفضل، وان صغر السن فيهم لا يمنعهم من الكمال.
142

أما علمتم أن رسول الله (ص) افتتح دعوته بدعاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وهو ابن عشر سنين، وقبل منه الإسلام وحكم له به، ولم يدع أحدا في سنه غيره، وبايع الحسن والحسين (ع) وهما أبناء دون الست سنين، ولم يبايع صبي غيرهما، أو لا تعلمون ما اختص الله به هؤلاء القوم وانهم ذرية بعضها من بعض يجري لآخرهم ما يجري لأولهم، فقالوا صدقت يا أمير المؤمنين (1).
وما انفض ذلك المجلس حتى عقد له (ع) على ابنته أم الفضل، ووزع المأمون على الحاضرين الجوائز وأنواع الهدايا والطيب، ووضعت الموائد فأكل كل الناس وانصرفوا.
قيام الإمام علي الهادي (ع) بالإمامة وهو أبن ست سنين
ومما يؤكد لنا تأكيدا بعد تأكيد هو أن الإمام عليا الهادي (ع) قام بأمر الإمامة وله من العمر ست سنين وخمسة أشهر، وماذا يحسن من كان علمه بالكسب والتعليم من الآخرين في حين كان (ع) - عند قيامه -
(1) موضوع تزويج المأمون للإمام الجواد بابنته أم الفضل ذكره الخاصة والعامة، اختصره بعضهم وفصله آخرون، فراجع (الفصول المهمة) لابن الصباغ المالكي ص 249، و (الصواعق المحرقة) لابن حجر ص 123، و (نور الأبصار) للشبلنجي ص 148، وسبط ابن الجوزي في (التذكرة) ص 368 وقد ذكره مفصلا و (إثبات = = الوصية) للمسعودي ص 187، و (الاحتجاج) للطبرسي ج 2 ص 240 ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 50 ص 74، والسيد الأمين في (المجالس) ج 5 ص 425 عن المفيد وغيرهم.
143

مقام أبيه من بعده - أعلم أهل زمانه على الإطلاق، وأعترف بذلك الخاصة والعامة.
قال ابن حجر في (الصواعق المحرقة): وكان وارث أبيه علما ومنحا، ونقله عن (الصواعق) الشبلنجي الشافعي في (نور الأبصار) (1).
وثبت هذا حينما رجع الناس إليه من الراعي والرعية، والصديق والعدو، واختبروه بأنواع الاختبارات وسألوه عن مختلف العلوم والمعارف وإذا علمه (ع) - وهو أبن ست سنين واشهر - كعلم سميه علي أمير المؤمنين باب مدينة علم الرسول الأعظم (ص) وقام بالإمامة بعده أبنه الحسن العسكري، وأخيرا قبض الحسن (ع) مسموما وعمره يومئذ ثمان أو تسع وعشرين سنة، والإمام بعده ابنه الحجة المهدي (عج) وعمره يومئذ خمس سنين، وآتاه الله ما آتى آباءه الطاهرين من العلم والفضل العميم.
قال ابن حجر في (الصواعق المحرقة) بعد ذكره لأبيه الحسن العسكري، ووفاته بالسم بما نصه قال:
ولم يخلف غير ولده أبي القاسم محمد الحجة، وعمره عند وفاة أبيه خمس سنين ولكن آتاه الله فيها الحكمة ويسمى القائم المنتظر... الخ (2).
(1) (الصواعق المحرقة) ص 123، و (نور الأبصار) ص 151.
(2) (الصواعق) ص 124.
144

وقال الشيخ سليمان الحنفي في (ينابيع المودة) عند ذكر الإمام المهدي (ع) نقلا عن كتاب (فصل الخطاب) للشيخ خواجة محمد يا رسا قال: وقالوا: أتاه الله تبارك وتعالى الحكمة وفصل الخطاب في طفولته وجعله آية للعالمين، كما قال تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا ([مريم / 13]، وقوله تعالى: (قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29) قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا ([مريم / 30 - 31]... الخ (1).
وذكر هذا المعنى ابن الصباغ المالكي في كتابه (الفصول المهمة) في الفصل الثاني عشر (2)، نعم هكذا (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين (33) ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم ([آل عمران / 34 - 35].
الطريق الثاني من ينابيع علم الأئمة
عرض صحائف الأعمال عليهم (ع)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(1) (ينابيع المودة) ص 452.
145

(وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون ([التوبة / 105].
هذه الآية الكريمة من سورة التوبة من الآيات القرآنية الكثيرة النازلة في شأن من شؤون نبينا محمد (ص) وخلفائه أئمة الهدى الاثني عشر من بعده، إذ هي تشير إلى ينبوع من ينابيع علمهم الذي تفوقوا به على الأمة كافة وأفرادها كما ستعلم ذلك خلال بحوثها.
دلالة الآية الكريمة
والآية بعموم خطابها، وصريح بيانها ونصوص ألفاظها تدل على ان أعمال المكلفين من الناس أجمعين من مؤمنين وكافرين ومنافقين ستكون مشاهدة ومرئية - بعد صدورها منهم في حياتهم الدنيا - لله عز وجل أولا، ولرسوله (ص) ثانيا، وللمؤمنين ثالثا، ثم تكون تلك الأعمال مشاهدة ومرئية لعامليها أنفسهم يوم القيامة رابعا، سواء صدرت منهم سرا أو علانية، خيرا أو شرا، طاعة أو معصية، فلا بد من مشاهدتها ورؤيتها لله ولرسوله وللمؤمنين في الدنيا، ولأربابها في الآخرة ليكون الجزاء لهم مناسبا لأعمالهم إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، هذا ما دلت عليه الآية الكريمة: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (أما كيف تكون تلك الأعمال مشاهدة ومرئية للخالق جل
146

وعلا، والمخلوق في الدنيا والآخرة، فهذا ما سنفصله باذن الله تعالى بدلائله الواضحة وبراهينه الجلية فنقول:
معنى الغيب والشهادة، وعلم الله عز وجل بهما
أما مشاهدتها لله عز وجل فالمراد من ذلك انه سيعلمها ويراها موجودة بعلم الشهادة، بعد أن علمها معدومة بعلم الغيب، وبيان ذلك:
أولا: ان الله هو العليم الخبير بالأشياء كلها، ومنها علمه بعباده وحقائق أعمالهم ونياتهم علما ذاتيا أزليا قبل إيجادها، وهو المسمى بعلم الغيب وإليه الإشارة بعدة آيات
منها قوله تعالى: (عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ([سبأ / 4]، ومنها قوله تعالى: (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين ([الأنعام / 60].
والظاهر لنا ان المراد من الغيب ومن مفاتحه أي خزائنه، هو علمه الذاتي الأزلي بمطلق الحوادث قبل حدوثها مما سيكون، وما لا يكون مما شاء عدم إيجاده أو يشاء محوه من الوجود.
ثانيا: ان الله هو العليم الخبير بالأشياء كلها - ومنها علمه بعباده وحقائق أعمالهم ونياتهم - علما حضوريا عند إيجادها وهو المسمى بعلم الشهادة وإليه الإشارة بعدة آيات منها قوله: (إن الله
147

على كل شيء شهيد ([الحج / 18]، وقوله تعالى: (ألا إنه بكل شيء محيط ([فصلت / 55].
فلله علمان علم غيب وهو علمه بالمعدومات قبل إيجادها، أي أنه يعلم بما سيكون قبل أن يكون، وبما سيحدث قبل أن يحدث، وما لا يكون ولا يحدث.
وعلم شهادة وهو علمه بالموجودات عند إيجادها، أي أنه يشاهد ويرى ويبدو له ما وجد وحدث فعلا، فهو عالم بما كان بالفعل، وبما سيكون في المستقبل بلا اختلاف بينهما، إذ إن علمه بالأشياء قبل وجودها كعلمه بها بعد وجودها، نعم علمه الغيبي أوسع من علمه المشاهد، لأن علمه الغيبي يشمل ما يكون وما لا يكون، والجدير بالذكر ان علم البداء المختلف فيه - بالنسبة إلى الله تعالى - هو علم الشهادة.
وقد نص الله سبحانه على هذين العلمين ووصف نفسه بهما بعشر آيات من القرآن المجيد بكونه " عالم الغيب والشهادة " (1).
ومن تلك الآيات الآية المبحوث عنها بقوله تعالى: (وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (.
ويؤيد ذلك ما رواه شيخنا الصدوق في كتابه (معاني الأخبار)، باب معنى الغيب والشهادة بأسناده عن أبي عبد الله (أي الصادق (ع)) في
(1) راجع (المرشد) إلى آيات القرآن الكريم ص 311.
148

قول الله عز وجل: (عالم الغيب والشهادة (انه قال: الغيب ما لم يكن، والشهادة ما قد كان (1) قوله (ع): -
" ما لم يكن " أي ما لم يكن بعد، وما لم يكن أصلا، " ما قد كان " أي ما قد حدث بالفعل فقط.
وعلى كل فالله سبحانه هو خالقنا ومالكنا ولا يخفى عليه شيء من أعمالنا وسرائرنا وهو المحيط بنا قال تعالى: (ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا ([النساء / 127]، فلكونه محيطا بكل شيء فهو يرى ويشاهد عباده وأعمالهم ونياتهم ويعلمها بلا حاسة إذ: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ([الشورى / 12]، وهو أقرب إليهم من حبل الوريد كما نصت الآية الكريمة: (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ([ق / 17].
فقوله تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم (المراد بذلك كما ذكرنا سابقا انه سيعلمها موجودة بعلم الشهادة بعد أن علمها وهي معدومة بعلم الغيب، قال تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ([يونس / 15].
(1) (معاني الأخبار) للصدوق ص 144، ونقله عنه وعن تفسير (البرهان) السيد الطباطبائي في (تفسير الميزان) ج 7 ص 159 وإذا أردت التفصيل فارجع إلى كتابنا (الحقائق الكونية) ج 1 ص 115 وما بعدها وج 2 ص 3.
149

أما الرسول والمؤمنون فكيف يشاهدون أعمالنا ويرونها وهم قطعا مخلوقون عاجزون بأنفسهم عن الإحاطة العلمية بأعمال الناس كلها؟ الجواب: -
هو ان الله تعالى الذي هو على كل شيء قدير هو الذي يطلعهم على أعمال عباده خيرها وشرها بصور خاصة وطرق عديدة ذكرنا {أولا} طريق الإلهام.
{ثانيا} ومن تلك الصور والطرق أيضا هي أن يطلعهم الله على صحائف أعمال عباده، وبواسطتها يرون تلك الأعمال ويعلمونها بكاملها - إلا ما شاء الله منها - ليكونوا بذلك شهداء على الناس يوم القيامة.
تسجيل الملائكة لأعمال المكلفين ومثاله
وبيان ذلك هو ان كل إنسان - ذكرا وأنثى - منذ يكلف بالعبادة في هذه الحياة الدنيا إلى أن يأتيه أجله النهائي الذي يموت فيه، يوكل الله به حفظة من ملائكته يسجلون عليه أعماله أفعالا وأقوالا، ملك يكون عن يمينه ووظيفته تسجيل الحسنات، وآخر عن شماله ووظيفته تسجيل السيئات وإلى ذلك أشارت عدة من الآيات القرآنية منها قوله تعالى: (إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد (17) ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ([ق / 18 - 19]، وقال تعالى: (وإن عليكم لحافظين (10) كراما كاتبين (11) يعلمون ما تفعلون ([الانفطار / 11 - 13]، وقال
150

تعالى: (هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ([الجاثية / 30].
نعم هكذا تسجل الملائكة على الإنسان أفعاله وأقواله وحركاته وسكناته كافة، في الخير والشر والسر والعلانية كما يسجل الشريط السينمائي الصور والأعمال والأقوال، وكما تسجل (الفيديو) و (التلفزيون) صورة المذيع أو المذيعة وتنقل للمشاهدين لها تلك الصورة كما هي، وهكذا المسجل الذي يسجل الخطب والأقوال في الشريط وتبقى محفوظة فيه تعاد متى شاء الإنسان إعادتها.
عنوان صحائف الأعمال للمؤمنين
وقطعا كل إنسان له صحيفته الخاصة به، وفيها أسمه وعنوانه مؤمنا كان أو كافرا محبا كان أو مبغضا، ومن هنا ورد مسندا عن انس بن مالك عن النبي (ص) انه قال في الحديث الذي رواه الخاص والعام:
عنوان صحيفة المؤمن حب علي بن أبي طالب (1).
(1) رواه الخطيب في (تاريخ بغداد) بسنده ج 4 ص 410، ونقله عنه ابن المغازلي في (مناقب أمير المؤمنين) والديلمي في (الفردوس) على ما في مناقب عبد الله الشافعي ص 23 مخطوط، وابن عساكر في (تاريخه) على ما في منتخبه ج 1 ص 454 ط الترقي بدمشق وابن حسنويه الموصلي في (در بحر المناقب) ص 36 مخطوط وابن حجر العسقلاني في (لسان الميزان) ج 4 ص 471 ط حيدر أباد الدكن والصفوري في (نزهة المجالس) ج 2 ص 208 ط القاهرة والسيوطي في (ذيل الآلي) ص 63 وفي (الجامع الصغير) ج 2 ص 145 ط مصر وابن حجر الهيتمي في (الصواعق المحرقة) ص 75 ط الميمنية والمتقي الهندي الحنفي في (منتخب كنز العمال) ج 5 مطبوع بهامش المسند والسيد علي الهمداني في (المودات) على ما في مناقب الكاشي ص 89، ومحمد صالح الكشفي الترمذي في (المناقب المرتضوية) ص 21 ط بمبي والمناوي في (كنوز الحقائق) ص 99 ط بولاق، والبدخشي في (مفتاح النجا) ص 61 مخطوط والقندوزي الحنفي في (ينابيع المودة) ص 91 وص 125 عن طريق ابن المغازلي وص 180 نقلا عن (كنوز الحقائق) للمناوي وص 186 نقلا عن (الجامع الصغير) وص 231 نقلا عن كتاب (السبعين في فضائل أمير المؤمنين) الحديث الأول منها، وص 251 نقلا عن (المودات) للسيد علي الهمداني وص 284 عن الخطيب البغدادي ورواه الحمزاوي في (مشارق الأنوار) ص 91 ط الشرقية بمصر وبهجت أفندي في (تاريخ آل محمد) ص 121 ط / 4 آفتاب، والشيخ عبيد الله في (أرجح المطالب) ص 522 ط لاهور، نقلا عن الديلمي في (الفردوس) نقلنا الحديث بهذه المصادر عن (إحقاق = = الحق) ج 7 ص 248 - ص 251 ونقله السيد مرتضى الفيروز آبادي في (فضائل الخمسة) ج 2 ص 218 عن عدة مصادر.
151

فصحائف الأعمال هذه تعرض على رسول الله (ص) أولا وعلى المؤمنين ثانيا، فيرون تلك الأعمال ثابتة في تلك الصحائف، وهذا ما أشارت إليه الآية المبحوث عنها: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون (والمراد من قوله (ورسوله (بالإجماع هو نبينا محمد (ص) تعرض عليه أعمال العباد جميعا في حياته وبعد وفاته إلى يوم القيامة.
152

أما المراد من قوله (والمؤمنون (فمن هم المؤمنون؟ هل هم كل المؤمنين من الأمة الإسلامية؟ كما يظهر ذلك من أقوال المفسرين من أهل السنة، وقد يصرح به الكثير منهم (1).
والحال هذا يخالف ظاهر الآية الكريمة، كما يخالف أدلة الوجدان والعيان، إذ أن ظاهر الآية بإطلاق العمل وحذف متعلقة - يدل على عمومه، والمعنى: اعملوا ما شئتم من خير أو شر، بسر أو علانية، فإنه مشاهد مرئي لله ولرسوله وللمؤمنين.
ويؤيد ظاهر الآية بعموم العمل نص الحديث الذي يرويه المحدثون والمفسرون من أهل السنة كالإمام أحمد بن حنبل، وأبي يعلي، وابن حبان، والبيهقي (2)، والفخر الرازي، وابن كثير الدمشقي، والسيوطي وغيرهم (3)، عند تفسيرهم الآية المبحوث عنها بالإسناد عن
(1) راجع تفسير (الفخر الرازي) ج 4 ص 496 و (الدر المنثور) للسيوطي ج 3 ص 275، و (تفسير ابن كثير الدمشقي) ج 2 ص 386، و (المنار) ج 11 ص 33، و (الكشاف) للزمخشري ج 2 ص 308، و (البيضاوي) ج 3 ص 80، و (تفسير الجلالين) ص 156، و (الجواهر) للطنطاوي ج 5 ص 127، و (المراغي) ج 11 ص 20، و (في ظلال القرآن) للسيد قطب ج 11 ص 16 فكل هؤلاء وغيرهم بين من يصرح، ومن يشير إلى ان " المؤمنين " هم الناس والمؤمنون عامة.
(2) راجع (تفسير المنار) ج 11 ص 34 فإنه نقل الحديث عن المصادر المذكورة في الأصل، وفيما يأتي في الحاشية.
(3) وراجع (مفاتيح الغيب) للرازي ج 4 ص 497، و (تفسير ابن كثير) ج 2 ص 387، والسيوطي في (الدر المنثور) ج 3 ص 276 عن مسند أحمد بن حنبل، وأبي يعلى، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي في (الشعب)، وابن أبي الدنيا في (المختارة)، ويشير إليه صاحب (مجمع البحرين) كتاب الدال ما أوله شين ص 202.
153

أبي سعيد الخدري عن رسول الله (ص) أنه قال: لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لأخرج الله عمله للناس كائنا ما كان، أي أي شيء كان عمله فلا بد أن يخرج الله عمله للناس وهنا نتسائل هل يمكن ان يكون المراد من الناس في الحديث، ومن المؤمنين في الآية كل الناس وجميع المؤمنين، وانهم يشاهدون الأعمال كلها؟ قطعا لا، إذ الناس والمؤمنون لا علم لهم بعموم الأعمال، ولا يشاهدونها ولا يطلعهم الله عليها ولا يخرجها لهم، فإذا لابد وأن يكون المراد من الناس والمؤمنون في الآية والرواية بعضهم لا كلهم، فمن أولئك البعض؟
نعم إنما هم شهداء الأعمال، الناطقون الصادقون السابقون إلى الرغائب، المعصومون من الخطأ والزلل والمعائب، المزودون بالعلم من الله عز وجل، وهم الأئمة من آل محمد (ص) لذلك عطفهم - برؤيتهم أعمال العباد على رسوله الأعظم، وعطف رسوله - برؤيته لتلك الأعمال - على ذاته المتعالية ليبين بذلك عظيم مقامهم عنده وانهم خلفاؤه في أرضه وولاته على عباده وشهداؤه على بريته بعد رسوله (ص) فهذا ما يستفاد من الآية الكريمة.
154

ويؤيده أيضا النصوص الكثيرة والصريحة الواردة عن النبي (ص) وأهل بيته في ان المراد من المؤمنين في الآية إنما هم علي وأبناؤه المعصومون دون غيرهم (1).
سبب نزول الآية الكريمة
ومن تلك النصوص الحديث النبوي الذي يذكر سبب نزول الآية، وينقله المجلسي في (البحار) عن كتاب (محاسبة النفس)، للسيد الجليل علي بن طاووس نقلا عن محمد بن العباس باسناده عن طريق الجمهور عن أبي سعيد الخدري انه قال: ان عمارا قال: يا رسول الله وددت انك عمرت فينا عمر نوح (ع) فقال رسول الله (ص) يا عمار حياتي خير لكم، ووفاتي ليست بشر لكم، أما حياتي فتحدثون واستغفر الله لكم، وأما بعد وفاتي فاتقوا الله وأحسنوا الصلاة علي وعلى أهل بيتي فإنكم تعرضون علي بأسمائكم وأسماء آبائكم وقبائلكم فان يكن خيرا حمدت الله، وان يكن سوى ذلك استغفر الله لكم " أو قال: استغفر الله لذنوبكم " فقال المنافقون والشكاك والذين في قلوبهم مرض: يزعم ان الأعمال تعرض عليه بعد وفاته بأسماء الرجال وأسماء آبائهم وأنسابهم إلى قبائلهم، وإن هذا لهو الإفك، فأنزل الله جل جلاله (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم
(1) راجع (الشافي في شرح الكافي) م 2 ص 157، و (تفسير العياشي) ج 2 ص 109، و (تفسير القمي) ج 1 ص 304، و (الصافي)، و (بصائر الدرجات) ص 126، وراجع (البحار) ج 3 ص 337 وما بعدها فقد ذكر أكثر من خمسة عشر حديثا من مصادر عديدة... الخ في ان المراد من المؤمنين هم الأئمة عليهم السلام.
155

ورسوله والمؤمنون (فقيل له: يا رسول الله ومن المؤمنون؟ فقال: عامة وخاصة، أما الذين قال الله في الآية: (والمؤمنون (فهم آل محمد منهم عليهم السلام، ثم قال: (وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (من طاعة ومعصية (1).
الأوقات التي تعرض فيها صحائف الأعمال
هذا حديث واحد من عشرات الأحاديث الواردة عن النبي (ص) وأهل بيته في هذا الموضوع، وتدل تلك الأحاديث - بمجموعها - على أن صحائف الأعمال تعرض عليهم في أوقات متعددة، ففي بعضها إنها تعرض عليهم كل يوم صباحا (2).
وفي بعضها كل يوم وليلة وصباحا ومساءا (3).
وفي بعضها كل خميس (4).
(1) راجع (البحار) ج 23 ص 353 نقلا عن محاسبة النفس ص 126.
(2) (تفسير العياشي) ج 2 ص 109، و (تفسير القمي) ج 1 ص 304، و (الشافي في شرح الكافي) ج 3 ص 156، و (معاني الأخبار) للصدوق باب النوادر ص 372، و (البحار) ج 23 ص 340 نقلا عن القمي في تفسيره، و (المعاني)، و (العياشي)، (بصائر الدرجات) لمحمد بن الحسن الصفار ص 126.
(3) (البحار) ج 23 نقلا عن كتاب (بصائر الدرجات) ص 127 و (الشافي) ج 53 ص 158، و (تفسير الصافي) عند تفسير الآية الكريمة.
(4) المصدر السابق نقلا عن (أمالي الشيخ الطوسي) ص 261 وص 344 وص 345 وص 346 وص 347 وص 348، نقلا عن (بصائر الدرجات) ص 125 - 127.
156

وفي بعضها كل اثنين وخميس (1) أي في الأسبوع مرتين، وفي بعضها عند انتهاء أجل الإنسان (2).
وفي بعضها لا تعين رقما لعرضها عليهم (3).
والذي يستفاد من مجموعها انها تعرض عليهم في كل هذه الأوقات.
وعلى كل المراد من المؤمنين في الآية، إنما هم الأئمة من آل محمد (ص) خاصة لا عامة المؤمنين، نعم المؤمنون الصالحون المتبعون لله ولرسوله وللأئمة يسألون الله ويطلبون منه ان يجعلهم مع الشهداء من الأئمة الأطهار في الجنة كما أشار إلى هذا القرآن الكريم بقوله تعالى: (ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ([آل عمران / 54].
(1) قال الطبرسي في (مجمع البيان) ج 11 م 3 ص 69، وروى أصحابنا ان أعمال العباد تعرض على النبي (ص) في كل اثنين وخميس فيعرفها وكذلك تعرض على الأمة فيعرفونها.. الخ، و (العياشي) ج 2 ص 55، و (القمي) ج 1 ص 277، و (تفسير فرات بن إبراهيم) ص 97، و (بصائر الدرجات) ص 131.
(2) (العياشي) ص 109، و (القمي) ص 304، و (الصافي)، وراجع (البحار) من ص 333 - 353.
(3) (العياشي) في تفسيره ص 108، والقمي ج 1 ص 304، و (البحار) ج 23 ص 338 عن مصادر.
157

وقد استجاب الله لهم دعاءهم كما في قوله تعالى: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا
([النساء / 70] (1).
فنسأل الله تعالى أن يرحمنا بمحمد وآله صلوات الله عليهم ويرزقنا شفاعتهم ويجعلنا من المهتدين بهداهم انه سميع مجيب.
ولكن لا أدري إذا عرضت عليهم صحائف أعمالنا ماذا يرون فيها؟ هل يرونها ملأى بالحسنات من العقائد الحقة، والأخلاق الفاضلة، والعبادات الصحيحة، والمعاملات السليمة، أم بالعكس، يرونها سوداء بأنواع المعاصي والسيئات من الكفر، والنفاق، والأخلاق السيئة من الاعتداء والظلم وقول الزور وعبادة النفس الأمارة بالسوء، والشيطان، والطواغيت... الخ.
وقطعا ان رسول الله (ص) والأئمة (ع) إذا رأوا صحائف أعمالنا وفيها الحسنات والأعمال الصالحة والكلام الطيب فإنهم يسرون بذلك، أما إذا رأوها بالعكس فيها أنواع السيئات والمعاصي فإنهم يستاؤون بذلك، ومن هنا ورد عن الإمام الصادق (ع) انه قال لجماعة من أصحابه: ما لكم تسوؤن رسول الله (ص)؟! فقال له رجل منهم: جعلت فداك فكيف نسوؤه؟
(1) روى العياشي ج 1 ص 256، والمفيد في (الاختصاص) ص 102 عن الإمام الصادق ~ انه قال لأبي بصير: يا أبا محمد لقد ذكركم الله في كتابه فقال: {أولئك مع الذين أنعم الله عليهم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} فرسول الله في هذا الموضع النبي، ونحن الصديقون والشهداء، وأنتم الصالحون تسموا بالصلاح كما سماكم الله.
158

فقال: أما تعلمون ان أعمالكم تعرض عليه؟ فإذا رأى فيها معصية ساءه ذلك، فلا تسوؤا رسول الله (ص) وسروه (1).
وإذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فإذن يلزم على العاقل المؤمن أن يندم ويتوب إلى الله ويستغفره من جميع ذنوبه ومعاصيه دائما وأبدا فإن الله يتوب عليه ويغفر له، ويرزقه خير الدنيا والآخرة قال تعالى: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا (10) يرسل السماء عليكم مدرارا (11) ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ([نوح / 11 - 13]، وورد في الحديث: طوبى لمن وجد في صحيفته تحت كل ذنب استغفار، وورد أيضا ان التائب من الذنب كمن لا ذنب عليه.
تبديل سيئات التائب حسنات
والتائب الحقيقي بتوبة صادقة عن ندم على ما مضى، وعزم على ترك العود إلى ما تاب عنه، يستحق ان يبدل الله سيئاته حسنات كما قال تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورا رحيما ([الفرقان / 71].
(1) (شرح الشافي) للكافي ج 3 ص 158 ونقله عنه الملا محسن الفيض في (الصافي)، و (البحار) نقلا عن (بصائر الدرجات) ص 123.
159

أما إذا بقي الإنسان مصرا على معاصيه وسيئاته لم يندم ولم يتب حتى ينزل به الموت فإنه يكون حينئذ رهين تلك المعاصي والسيئات، وينبئه بها عالم الغيب والشهادة يوم رجوعه إليه عند قبض روحه، وعند الحساب يوم القيامة، كما نصت الآية المبحوث عنها بقوله: (وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون (ولا يسع الإنسان يومئذ إنكار أعماله السيئة وجحودها لأنه يراها بحقيقتها كليها وجزئيها ثابتة عليه منكشفة له قال تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ([ق / 23].
الشهود على الإنسان عند الحساب
هذا من جهة، ومن جهة أخرى انه يشهد عليه - بعد الله تعالى - نبيه وأهل بيته المعصومون (ع) بما اقترف من تلك السيئات. كما علمنا فيما مضى.
من الشهود على الإنسان القرآن الكريم
ومن جهة ثالثة يشهد عليه القرآن الكريم الذي هو الخليفة الأول على الأمة بعد رسول الله (ص)، وقد صرح النبي بذلك في آخر خطبة خطبها على الأنصار حينما حضرته الوفاة وقد أحضرهم عنده في بيته نذكر منها محل الشاهد قال (ص):
160

كتاب الله وأهل بيتي العمل مع كل واحد منهما مقرون بالآخر إني أرى أن لا افتراق بينهما جميعا، لو قيس بينهما بشعرة ما انقاست (1).
من أتى بواحدة وترك الأخرى كان جاحدا للأولى ولا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا، " أي لا يقبل الله منه عملا لا مستحبا ولا واجبا "، ثم قال: فأن الكتاب هو القرآن، وفيه الحجة والنور والبرهان كلام الله جديد غض طري، شاهد عادل محكم، ولنا قائد بحلال الله وحرامه وأحكامه.
يقوم غدا فيحاج أقواما فينزل الله به أقدامهم عن الصراط، واحفظوني معاشر الأنصار في أهل بيتي فان اللطيف الخبير أخبرني انهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (2).
ومن جهة رابعة يشهد عليه الملكان اللذان يسجلان عليه أعماله، وإلى هذا يشير قوله تعالى: (وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (
(1) طالما يتساءل عن الكتاب والعترة أيهما أفضل، فالجواب عن هذا التساؤل ذكره النبي (ص) في هذه الخطبة بقوله: {إني أرى أن لا افتراق بينهما جميعا، لو قيس بينهما بشعرة ما انقاست... الخ} فإذن هما في الفضل سواء، إلا أن الكتاب يقدم بالذكر قبل العترة تأدبا.
(2) تجد الخطبة في كتابنا (قبس من القرآن) ص 343، وقد نقلناها عن (البحار) ج 22 ص 476، وقد نقلها المجلسي عن كتاب (الطرف) للسيد ابن طاووس، نقلا عن كتاب (الوصية) لعيسى بن المستفاد الضرير عن الإمام موسى بن جعفر ~.
161

[ق / 22]، أي تجيء كل نفس من المكلفين في يوم الوعيد ومعها سائق يسوقها، أي يحثها على السير إلى الحساب، وشهيد من الملائكة يشهد عليها بما يعلم من حالها، وبما شاهده منها، وكتبه عليها، فلا يجد إلى الهرب ولا إلى الجحود سبيلا.
ومن جهة خامسة تشهد عليه أيضا جوارحه كلها بما اقترف بها من السيئات قال تعالى في سورة يس: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ([يس / 66]، أي تشهد عليه كل من الأيدي والأرجل بما اكتسب بواسطتهما من المعاصي الخاصة بهما.
أعضاء الإنسان كلها تشهد عليه
ويظهر من مجموع الآيات التي تستعرض هذا الموضوع ان ذكر الأيدي والرجل فقط دون بقية الأعضاء من باب الأنموذج، وإلا فالأعضاء كلها تشهد عليه قال تعالى في سورة الإسراء: (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ([الإسراء / 37].
ومعنى الآية: لا تتبع ما ليس لك به علم في مجموع تصرفاتك واتجاهاتك عقيدة وعملا، لأن الله سيسأل السمع والبصر والفؤاد، وهو النفس الإنسانية، عما اعتقدت به من العقائد وقامت به من الأعمال ويسأل السمع هل كان ما سمعه معلوما مقطوعا به أنه حق أم لا؟
162

ويسأل البصر هل كان حقا بينا أم لا؟ ويسأل الفؤاد هل كان ما اعتقده وفكر به حقا لا شك فيه أم لا؟ وهي بدورها لا محالة ستجيب بالحق وتشهد على ما هو الواقع، فإذا شهدت بما أعتقد وعمل من باطل وجهل يكون ماله حينئذ الخسران والعياذ بالله ولا يقبل منه عذر أبدا.
وقال تعالى في سورة النور: (يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ([النور / 25]، وقال تعالى في سورة فصلت السجدة: (يوم يحشر أعداء الله إلى النار فهم يوزعون (19) حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (20) وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (21) وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون (22) وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين ([فصلت / 20 - 24]، وقال إمامنا أمير المؤمنين (ع) في بعض خطبه يصف فيها هول يوم القيامة: " ختم على الأفواه فلا تكلم، وقد تكلمت الأيدي وشهدت الأرجل ونطقت الجلود بما عملوا فلا يكتمون الله حديثا " (1).
(1) (تفسير العياشي) ج 1 ص 242، ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 7 ص 313، كما نقله عنه أيضا العلامة الطباطبائي في (الميزان) ج 17 ص 109، ورواه الملا محسن الفيض في تفسيره (الصافي) عن الإمام الصادق عن آبائه (ع).
163

فعلينا يا عباد الله أن نتوب إلى الله توبة نصوحا، ونسأله أن يهب لنا ما اقترفناه من الذنوب، وما خالفنا به من الحق ونتضرع إليه بما جاء في دعاء كميل بن زياد ونقول:
" إلهي وسيدي فأسألك بالقدرة التي قدرتها وبالقضية التي حتمتها وحكمتها وغلبت من عليه أجريتها أن تهب لي في هذه الليلة وفي هذه الساعة كل جرم أجرمته وكل ذنب أذنبته وكل قبيح أسررته وكل جهل عملته كتمته أو أعلنته أخفيته أو أظهرته، وكل سيئة أمرت بإثباتها الكرام الكاتبين الذين وكلتهم بحفظ ما يكون مني وجعلتهم شهودا علي مع جوارحي وكنت أنت الرقيب علي من ورائهم والشاهد لما خفي عنهم وبرحمتك أخفيته وبفضلك سترته... الخ ".
نعم المؤمن بالمعاد يوم القيامة والحساب والثواب والعقاب، والذي إذا اقترف ما اقترف من الذنوب يستغفر الله ويتوب إليه منها فان الله يستر عليه ذنوبه ويخفيها حتى على ملكيه، ويؤيد ذلك ما رواه المحدثون ومنهم شيخنا الكليني في الكافي بسنده عن معاوية بن وهب أنه قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: إذا تاب العبد توبة نصوحا أحبه الله فستر عليه في الدنيا والآخرة، فقلت كيف يستر عليه؟ قال (ع): ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ويوحي إلى جوارحه: اكتمي عليه ذنوبه، ويوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي ما كان يعمل عليك من
164

الذنوب، فيلقى الله حين يلقاه وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب (1).
ومن الشهود على الإنسان بقاع الأرض
قول الإمام الصادق (ع) في هذا الحديث: ويوحي إلى بقاع الأرض: اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب، يدل بصراحة على أن من الشهود على الإنسان يوم القيامة بقاع الأرض التي يعمل عليها من الحسنات أو السيئات فتشهد له أو عليه، إلا المؤمن التائب من ذنوبه فإنها بوحي من الله تعالى لها تكتم تلك الذنوب فلا تشهد عليه بها.
وقد جاء في حديث آخر عن الإمام الصادق (ع) أيضا أن رجلا سأله فقال: يصلي الرجل نوافله في موضع أو يفرقها؟ قال: بل ههنا وههنا، فإنها تشهد له يوم القيامة (2).
وشهادة بقاع الأرض على الإنسان يشير إليها القرآن المجيد بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم
(1) (الشافي في شرح الكافي) باب التوبة م 6 ص 566 ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 7 ص 317.
(2) (علل الشرائع) للصدوق ص 343 ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 7 ص 318.
165

(إذا زلزلت الأرض زلزالها (1) وأخرجت الأرض أثقالها (2) وقال الإنسان ما لها (3) يومئذ تحدث أخبارها (4) بأن ربك أوحى لها (5) يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم (6) فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ([الزلزال]
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه السورة المباركة القيامة، وصدور الناس في يومها للجزاء، بعد تزلزل الأرض، وتعجب الإنسان من ذلك الزلزال المتناهي في الشدة والهول، وانها أي الأرض تحدث يومئذ أخبارها بوحي من الله لها أن تحدث.
يقول المفسرون: أن الأرض تشهد يومئذ على بني آدم وتحدث بما عمل العاملون على ظهرها من أعمال في الخير أو الشر، وتشهد عليهم كما تشهد الأعضاء، وكتاب الأعمال من الملائكة وشهداء الأعمال من البشر وغيرهم.
وروى المفسرون في ذلك عدة أحاديث عن النبي (ص) منها ما روي مسندا عن أنس بن مالك انه قال: قرأ رسول الله (ص) (بسم الله الرحمن الرحيم، إذا زلزلت الأرض زلزالها (إلى قوله: (يومئذ تحدث أخبارها (وقال أتدرون ما أخبارها؟ جاءني جبرئيل وقال: خبرها، إذا كان يوم القيامة أخبرت بكل عمل عمل على ظهرها (1).
(1) راجع تفسير (الدر المنثور) للسيوطي ج 6 ص 380 نقلا عن ابن مردويه، والبيهقي في (شعب الإيمان) ونقله عن (الدر المنثور) الطباطبائي في (الميزان) ج 20 ص 486، ورواه مرسلا كل من الطبرسي في (مجمع البيان) ج 5 ص 526، والرازي في تفسيره ج 8 ص 486 وغيرهم.
166

وعن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله (ص) هذه الآية: (يومئذ تحدث أخبارها (قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أخبارها أن تشهد على كل عبد بما عمل على ظهرها، تقول: عمل كذا وكذا في يوم كذا وكذا فهذا أخبارها (1).
وفي حديث آخر ان رسول الله (ص) قال: تحفظوا من الأرض فإنها أمكم، وانه ليس من أحد عامل عليها خيرا أم شرا إلا وهي مخبرة به (3).
الإدراك والشعور موجودان في كل مخلوق
والجدير بالذكر الذي يلزم إلفات النظر إليه هو ان المستفاد من ظاهر كلام الله سبحانه في موارد عديدة من القرآن المجيد، ومن السنة النبوية الغراء في بعض أحاديثها، أن الإدراك والشعور موجودان وساريان في كل مخلوق وان كان ذلك المخلوق جمادا، فإنا وإن كنا في غفلة من ذلك، ولا نفقة للجماد إدراكا وشعورا لكنهما بالفعل موجودان في الجمادات كافة، كما هما موجودان في النبات والحيوان وسائر
(1) و (3) (الدر المنثور) نقلا عن احمد بن حنبل، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وقد صححه، وابن مردويه، والبيهقي في (شعب الإيمان)، ونقله ابن كثير الدمشقي في تفسيره ج 4 ص 539 عن عدة مصادر ومنها (معجم الطبراني).
167

المخلوقات عامة، نهاية الأمر ان الإدراك والشعور في الإنسان أقوى منهما في سائر الحيوان وأبين، وفي سائر الحيوان أقوى منهما في النبات وأبين، وفي النبات أقوى منهما في الجماد وأبين، فكل مخلوق أوجده الله أعطاه إدراكا وشعورا يناسب حاله لا صلاحه، ولعل إلى هذا يشير قوله تعالى حاكيا على لسان كليمه موسى في جوابه إلى فرعون لما سأله: (قال فمن ربكما يا موسى (أجاب (قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ([طه / 50 - 51]، أي أعطى كل شيء هديه بما جعل له من الإدراك والشعور كما أعطاه إيجاده أولا، كما ان جميع المخلوقات - ومنها الجماد - لها نطق يناسب حالها حسب اختلاف القوة في الإدراك والشعور، وهذا ما يستفاد من بعض الآيات القرآنية وهي كثيرة.
الآيات الدالة على الإدراك والشعور في كل مخلوق
فمن الآيات التي تدل على ذلك قوله تعالى: (يومئذ تحدث أخبارها (4) بأن ربك أوحى لها (والمعنى ان الأرض تحدث يوم القيامة أخبارها، بسبب ان ربك أوحى إليها ان تحدث فهي شاعرة ومدركة لما وقع عليها من الأعمال خيرها وشرها، متحملة لها منذ صدر العمل عليها في الدنيا، ويؤذن لها يوم القيامة بالوحي أن تحدث أخبارها وتشهد بما تحملته.
168

ومنها الآيات التي تذكر شهادة أعضاء الإنسان يوم القيامة من الأيدي والأرجل والسمع والبصر والجلود وغيرها من الأعضاء والتي منها قوله تعالى: (حتى إذا ما جاءوها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون (ومعنى شهادة الأعضاء هو ذكرها واخبارها بما تحملته في الدنيا من معصية صاحبها فهي إذن شاهدة شهادة أداء لما تحملته عن إدراك وشعور، ولذلك لما يعترض أصحاب تلك الأعضاء المجرمون ويعتبون عليها، كما في قوله تعالى حاكيا عنهم قولهم: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا (مجيبين (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون (فظاهر هذا النص القرآني ان شهادة الأعضاء على المجرمين كانت نطقا حقيقيا عن إدراك وشعور بما تحملته سابقا أيام الحياة الدنيا، وان الله جل وعلا هو الذي أنطقها وألجأها إلى الكشف عما كانت قد تحملته، وان النطق ليس مختصا بالأعضاء فقط بل هو عام شامل لكل شيء، وان السبب الموجب لنطقهم هو الله سبحانه " لذا " قالوا (أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء (.
وهكذا آيات آخر كثيرة تدل دلالة واضحة على وجود الإدراك والشعور في المخلوقات كافة من نبات وجماد وغيرهما، كقوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ([فصلت السجدة / 12]، وكقوله تعالى: (تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ([الإسراء / 45
169

]، إلى غير ذلك من الآيات الآخر من هذا القبيل، كآية عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال... الخ.
التحقيق في وجود الإدراك والشعور في كل مخلوق
فان قيل: لو كان غير الإنسان والحيوان، كالنبات والجماد لهما إدراك وشعور لبانت آثارهما؟ وظهر منهما ما يظهر من الإنسان والحيوان من الأعمال والانفعالات الشعورية؟ فالجواب عن ذلك يكون من جهات ثلاث.
الجهة الأولى هي: ان الله سبحانه قد حجب عنا ما أودع فيهما من إدراك وشعور خصوصا بالنسبة للجمادات، وإلى ذلك يشير قوله تعالى: (وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم (فهو جل وعلا يثبت تعميم التسبيح له مع الحمد من كل شيء، أي كما يسبحه تعالى وينزهه كذلك يحمده بالثناء عليه بجميل صفاته وجليل أفعاله بطريقته ولغته من لسان القال دون لسان الحال، ثم يخبر جل وعلا بانا لا نفقه تسبيحهم، أي إنا في غفلة وحجاب عن ذلك التسبيح والتحميد له سبحانه فلو لم تكن السماوات السبع والأرض، ومن فيهن مدركة وشاعرة بأن لها خالقا مدبرا غنيا، وهي مفتقرة إلى تدبيره لما سبحته وحمدته على إيجاده وتدبيره لها.
ومما يؤيد ان تسبيحها بلسان القال دون لسان الحال ما جاء في دعاء اليوم الثاني عشر من كل شهر الوارد عن أمير المؤمنين علي (ع)
170

في الصحيفة المنسوبة إليه قال: سبحان من تسبح له الجبال الرواسي بأصواتها تقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، سبحان من تسبح له الأشجار بأصواتها تقول: سبحان الله الملك الحق المبين، سبحان من تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن يقولون: سبحان الله العظيم الحليم الكريم وبحمده... الخ (1).
وقد نقل شيخنا المجلسي في (البحار) عن بعض العارفين انه قال: خلق الله الخلق ليوحدوه فأنطقهم بالتسبيح والثناء عليه والسجود، فقال: (ألم ترى أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء ([الحج / 19].
ثم قال هذا العارف: وخاطب الله بهاتين الآيتين نبيه الذي أشهده ذلك فقال تعالى: (ألم ترى (ولم يقل " ألم تروا " فانا ما رأينا فهو لنا إيمان، ولمحمد (ص) عيان، فأشهده سجود كل شيء وتواضعه لله، وكل من أشهده الله ذلك وأراه دخل تحت هذا الخطاب (2)... الخ.
أقول: وممن دخل تحت هذا الخطاب، واراه الله تسبيح المخلوقات وحمدهم له أئمة الهدى من أهل بيته (ع) كما أن قول هذا العارف:
(1) راجع (ضياء الصالحين) ص 457، ونظير هذا المعنى منتشر في كثير من كتب الأدعية.
171

وخاطب الله بهاتين الآيتين نبيه الذي أشهده الله ذلك فقال تعالى: (ألم ترى (ولم يقل " ألم تروا "... الخ، هو قول صحيح ذلك لأن ما حجبت رؤيته وفقهه عن سائر الناس يأتي الخطاب - غالبا - خاصا لنبيه (ص) وأما ما كان مشاهدا لسائر الناس من التسخيرات المادية المرئية فيخاطب بها الناس كلهم، كقوله تعالى في سورة لقمان: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير ([لقمان / 21]، وكقوله تعالى: (ألم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا (15) وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا (16) والله أنبتكم من الأرض نباتا (17)
ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا ([نوح / 16 - 17].
الجهة الثانية هي ان الله سبحانه إذا شاء أن يظهر آثار تسبيح وحمد بعض الأشياء له، والدالين على شعورها وإدراكها أظهرهما من باب المعجز لبعض رسله الكرام، وسائر حججه العظام، ومن هنا قد استفاضت الروايات من طرق عديدة من الشيعة وأهل السنة في إظهار الله تسبيح بعض الأشياء للناس وإدراكها وان للأشياء تسبيحا.
حنين الجذع، وتسبيح الحصى في كف النبي (ص)
ومن ذلك ما اشتهر من تسبيح الحصى في كف رسول الله (ص) وحنين الجذع الذي كان يخطب مستندا إليه، فلما اتخذ منبرا وتحول عن الجذع حن الجذع لفراقه له، وسمع حنينه، فأخذه النبي وضمه إليه
172

فسكن حنينه، وجاء إليه رجل وقال له: هل عندك من برهان نعرف به انك رسول الله؟ فدعا بتسع حصيات فسبحن في يده فسمع نغمات التسبيح من جوفها (1).
وسأل الشيخ أحمد بن المبارك شيخه الشيخ عبد العزيز الدباغ عن تسبيح الحصى ونحوه، فقال: إن ذلك كلامها وتسبيحها دائما، وإنما سأل النبي (ص) ربه ان يزيل الحجاب عن الحاضرين حتى يسمعوا ذلك (2).
وقال شاعر أهل البيت السيد مهدي الأعرجي في مدح النبي وبعض معجزاته:
فوق البراق فحل اشرف موضع * والجذع حن له حنين المرضع
نصفين في أفق السماء الرفع * شمس ولا قمر يرى في مطلع
كلا ولا قد قيل: يا أرض أبلغي * للناس بالدين الحنيف الأنصح.
خير البرية من رقى السبع العلى من كلمته الجامدات كرامة أوما إلى القمر المنير فشقه لولاه ما خلق الوجود ولم تكن لولاه لم يغفر لآدم ذنبه هو خير مبعوث من المولى أتى.
إظهار تسبيح الجبال والطير مع داود (ع)
(1) راجع (أعيان الشيعة) للسيد الأمين ج 2 ص 48 نقلا عن (إعلام النبوة) للماوردي و (إعلام الورى بأعلام الهدى) للطبرسي ص 32، وغيرهم.
(2) راجع (تفسير الجواهر) للطنطاوي ج 9 ص 66.
173

ومن هذا القبيل ما جعله الله لنبيه داود (ع) وذكره الله سبحانه في عدة آيات منها قوله تعالى: (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين ([الأنبياء / 80].
والمعنى كما يقول بعض المفسرين: ان الجبال والطير لهما تسبيح في نفسهما، وتسخيرهما أن يسبحن مع داود بموافقة تسبيحه، لذا قال تعالى: (وسخرنا مع داوود الجبال يسبحن (أي معه حين يسبح، و (الطير (معطوف على الجبال، وقرع تسبيحها وتسبيح داود أسماع الناس معجزة له.
وهكذا قال تعالى في آية أخرى: (إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق ([سورة ص / 19]، والعشي آخر النهار والإشراق أوله وهو إشراق الشمس، والمعنى ان الله جل وعلا جعل تسبيح الجبال في موافقة ومواطأة تسبيحه، وإسماع الناس تسبيحها معا في الوقتين.
وهكذا قال تعالى في آية ثالثة: (ولقد آتينا داوود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد ([سبأ / 11]، والمعنى ان الله أعطى داود فضلا منه بأن جعل الجبال تؤوب " أي ترجع وتردد " معه الصوت بالتسبيح.
قال ابن كثير الدمشقي في تفسيره: وما أعطاه ومنحه " أي الله لداود " من الصوت العظيم الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال
174

الراسيات الصم الشامخات، وتقف له الطيور السارحات والغاديات والرائحات وتجاوبه بأنواع اللغات (1).
عدم تساوي آثار الإدراك والشعور في المخلوقات
الجهة الثالثة هي ان الإدراك والشعور لم يكونا على سنخ واحد حتى تتشابه آثارهما المترشحة منهما وتكون متساوية، بل هما مختلفان باختلاف أربابهما، ولذلك تكون آثارهما مختلفة بحسب خلقة ذوي الشعور والإدراك، كما يقرر ذلك بعض الحكماء مثل الشيرازي حيث يقول في كتابه (الأسفار) في علم الحكمة:
إن هذا الوجود كله حي، ولا معنى للوجود بغير حياة، وان الحياة على مقدار اشراق أنوار الوجود الأعلى على المخلوق فللإنسان وللحيوان وللنبات حياة، أي هناك نوعا من الشعور، وهكذا الجماد له من الشعور أقل، لأنه أفيض عليه من الحي (2).
وعلى كل للنبات وسائر الأنواع الطبيعية المعبر عنها بالجماد آثار عجيبة متقنة ومشهودة في عالمنا هذا مناسبة لخلقها، مثلا نرى النبات ينمو في الجبال الصخرية، في حين لا يمكن للنبات ان يخترق الصخور، فالله سبحانه يجعل له من الإدراك والشعور في أن يسير إلى جهات لا تحجبه الصخور من النمو، وإذا علا نبات وكان، فوقه حاجب
(1) راجع (تفسير ابن كثير) ج 3 ص 526.
175

يحجبه من الصعود فهو - قبل أن يصطدم بذلك الحاجب - يشعر ان هناك حاجبا سوف يحجبه عن الصعود فيميل عنه قبل اصطدامه به، وأمثال ذلك ما يشاهد في عالم النبات كثير.
وأما الجماد فلا تقصر آثاره عن ذلك مما نشاهد في السماء والأرض، والجبال من حدوث حمرة، أو زلزال، أو اضطراب واهتزاز وبركان وعواصف وكل ذلك لا يكون إلا بإذن الله لها، فتحركها وتغيرها بأمر الله الذي له ملكوت كل شيء وهو على كل شيء قدير، والإنسان يشاهد ويرى تلك الآيات الإلهية في العالمين العلوي والسفلي ولا يعتبر بما يرى، قال تعالى: (وكأين من آية في السماوات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون ([يوسف / 106].
تأثر الكائنات وتغيرها في بعض الحوادث
ومما يدلنا دلالة واضحة على إدراك وشعور سائر الكائنات هو ما يحدث فيها من تأثر وتغير واضح بسبب وقوع بعض الحوادث المهمة وهي كثيرة ومنها.
الآثار الكونية عند ولادة النبي (ص)
ما حدث من الآثار العجيبة عند ولادة النبي (ص) في الآفاق وفي الجمادات مما تواتر واشتهر في التاريخ، وورد عن بعض أئمة الهدى (ع) ونكتفي بذكر حديثين واحد عما جاء عن علي أمير المؤمنين (ع) انه قال: ان محمدا (ص) لما سقط من بطن أمه سقط واضعا يده اليسرى على
176

الأرض، رافعا يده اليمنى إلى السماء، ويحرك شفتيه بالتوحيد، وبدا من فيه نور رأى أهل مكة منه قصور بصرى من الشام وما يليها، والقصور الحمر من أرض اليمن وما يليها، والقصور البيض من إصطخر وما يليها (1).
ولقد أضاءت الدنيا ليلة ولد النبي (ص) حتى فزعت الجن والإنس والشياطين وقالوا: لقد حدث في الأرض حدث، ولقد رأت " الشياطين " الملائكة ليلة ولد تصعد وتنزل وتسبح وتقدس وتضطرب النجوم وتتساقط علامات لميلاده (ص)، ولقد هم إبليس بالضعن إلى السماء لما رأى من الأعاجيب في تلك الليلة، وكان له مقعد في السماء الثالثة، والشياطين يسترقون السمع، فلما رأوا الأعاجيب أرادوا أن يسترقوا السمع فأذاهم قد حجبوا من السماوات كلها، ورموا بالشهب دلالة لنبوته (ص) (2).
والحديث الثاني جاء مسندا عن الإمام أبي عبد الله الصادق (ع) انه قال: كان إبليس لعنه الله يخترق السماوات السبع، فلما ولد عيسى (ع) حجب عن ثلاث سماوات، وكان يخترق أربع سماوات، فلما ولد رسول الله (ص) حجب عن السبع كلها، ورميت الشياطين بالنجوم، وقالت قريش: هذا قيام الساعة الذي كنا نسمع أهل الكتب يذكرونه، وقال عمرو بن
(1) أي ان الله تبارك وتعالى كشف لأهل مكة الحجب، وأراهم تلك القصور، كما قال تعالى: " فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ".
(2) راجع (الاحتجاج) للطبرسي ج 1 ص 331، ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 15 ص 261 في ضمن حديث طويل احتج به أمير المؤمنين ~ على يهودي.
177

أمية - وكان من أزجر أهل الجاهلية - أي أكثرهم معرفة بالكهانة والقيافة، قال: انظروا هذه النجوم التي يهتدى بها، ويعرف بها أزمان الشتاء والصيف، فإن كان رمي بها فهو هلاك كل شيء وإن كانت ثبتت ورمي بغيرها فهو أمر قد حدث، وأصبحت الأصنام كلها - صبيحة ولد النبي (ص) - وليس منها صنم إلا وهو منكب على وجهه، وارتجس (1) - في تلك الليلة - إيوان كسرى، وسقطت منه أربع عشرة شرفة، وغاضت بحيرة ساوة، أي غار ماؤها وذهب، وفاض وادي السماوة، " وهي فلاة بالبادية تتصل بالشام، فاض الماء فيها " وخمدت نيران فارس، ولم تخمد قبل ذلك بألف عام، ورأى الموبذان - " وهو فقيه الفرس وحاكم المجوس " في تلك الليلة في المنام - إبلا صعابا تقود خيلا عربا " أي خيلا كرائما سالمة " قد قطعت دجلة وانسربت في بلادهم " أي دخلت في بلادهم " وأنقصم طاق كسرى من وسطه، وانخرقت عليه دجلة العوراء، " أي ان كسرى كان قد بنى على دجلة بناء (سدا) وطم بعضها فانخرق ذلك البناء (أي السد) ودخلت دجلة عليه "، وانتشر في تلك الليلة نور من قبل الحجاز ثم استطار حتى بلغ المشرق، ولم يبق سرير لملك من ملوك الدنيا إلا وأصبح منكوسا، والملك مخرسا لا يتكلم يومه ذلك، وانتزع علم الكهنة، وبطل سحر السحرة، ولم تبق كاهنة في العرب إلا حجبت عن صاحبها، وعظمت قريش وسموا آل الله عز وجل، قال أبو عبد الله الصادق (ع): إنما سموا آل الله لأنهم في بيت الله الحرام.
(1) (ارتجس) أي اضطرب وتحرك حركة لها صوت.
178

وقالت آمنة: إن ابني والله سقط فاتقى الأرض بيده، ثم رفع رأسه إلى السماء فنظر إليها، ثم خرج مني نور أضاء له كل شيء، وسمعت في الضوء قائلا يقول: إنك قد ولدت سيد الناس فسميه محمدا، وأتي به عبد المطلب لينظر إليه وقد بلغه ما قالت أمه آمنة، فأخذه فوضعه في حجره ثم قال:
هذا الغلام الطيب الأردان (1).
الحمد لله الذي أعطاني.
قد ساد في الهدى على الغلمان
ثم عوذه بأركان الكعبة، وقال فيه أشعارا، قال الإمام (ع): وصاح إبليس لعنه الله في أبالسته، فاجتمعوا إليه، فقالوا: ما الذي أفزعك يا سيدنا؟ قال: ويلكم لقد أنكرت السماء والأرض منذ الليلة، لقد حدث في الأرض حدث عظيم ما حدث مثله منذ رفع عيسى بن مريم (ع) فأخرجوا وانظروا ما هذا الحدث، فافترقوا ثم اجتمعوا إليه فقالوا: ما وجدنا شيئا، فقال إبليس: أنا لهذا الأمر ثم انغمس في الدنيا فجالها حتى انتهى إلى الحرم فوجد الحرم محفوظا بالملائكة، فذهب ليدخل فصاحوا به فرجع، ثم صار مثل الصر وهو العصفور فدخل من قبل حراء، فقال له جبرئيل: وراءك لعنك الله، فقال له: حرف أسألك عنه يا جبرئيل، ما هذا الحدث الذي حدث منذ الليلة في الأرض؟ فقال له ولد محمد (ص) فقال
(1) الأردان: جمع ردن، وهو أصل الكم.
179

إبليس: هل لي فيه نصيب؟ قال: لا، قال: ففي أمته؟ قال: نعم، قال: رضيت (1).
حادثة الطف المفجعة، وآثارها في الكون
ومن الحوادث المهمة التي ظهرت فيها التأثرات الكونية حادثة الطف المفجعة التي قتل فيها الحسين ومن معه من أهل بيته وأصحابه، وسبيت عياله وأطفاله.
حيث انقلب العالم بأسره انقلابا هائلا، وتأثرا ملحوظا في العالمين العلوي والسفلي، فبكته السماء والأرض بكاء ما بكته على أحد قبله ولا بعده من نبي أو وصي (2).
بل أبكت مصيبته جميع أنواع المخلوقات من ملك وفلك، وجماد ونبات وسائر الحيوان من أنس وجان، وأثرت فيها أثرا محسوسا مشاهدا لدى أهل ذلك الزمان، وخلد لنا التاريخ ذكر الأثر العظيم،
(1) راجع (الأمالي) للصدوق ص 171 ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 15 ص 257.
(2) قال تعالى في فرعون وآل فرعون بعد إهلاكهم: " فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين " [الدخان / 30] والمنطوق من هذه الآية الكريمة ان السماء والأرض ما بكت عليهم، لكفرهم، والمفهوم منها إن المؤمنين الصالحين تبكي عليهم السماء والأرض بعد فقدهم ولنا تحقيق حول هذه القصة وآياتها في ج 1 من (دراسات موضوعية في الإمام الحسين وعشرة محرم) نسأل الله أن يوفقنا لنشره قريبا.
180

وتسالم عليه الفريقان من الخاصة والعامة كخسوف القمر وكسوف الشمس (أي غياب نورهما على غير مجاري العادة الطبيعية) بحيث رؤيت النجوم نهارا، وكمطر السماء دما وترابا أحمر بحيث بقي أثره في الثياب حتى تقطعت، وكتساقط الكواكب وظهور الحمرة في السماء واسودادها، وكتفجر الأرض دما عبيطا بحيث ما رفع حجر منها إلا وخرج تحته دم عبيطا، وسيلان حيطانها دما، ونبوع الدم من الشجر، وكنوح الجن وبكائها الذي سمعته أم سلمة وغيرها، إلى غير ذلك من انقلاب الورس - وهو نبات كالسمسم يصبغ به - رمادا واللحم علقما، وهذا كله قد اتفق الفريقان على وقوعه (1).
ونظمه الأدباء في تأبينهم لسيد الشهداء فقال الشيخ صالح التميمي:
عبيطا فما قدر الدموع السواجم * حنين تحاكيه رعود الغمائم.
وقل بقتيل قد بكته السماء دما * وناحت عليه الجن حتى بدا لها.
وقال الشيخ صالح العرندسي:
إمام بكته الإنس والجن والسما.. * ووحش الفلا والطير والبر والبحر.
(1) راجع (الصواعق المحرقة) لابن حجر ص 115 - 117 فقد نقل عن عشرات المصادر انقلاب العالم بأسره وتأثره بقتل الحسين ~ وكذا (إقناع اللائم) للسيد الأمين العاملي ص 10 - ص 28 فإنه نقل عن المصادر العديدة تأثر أنواع المخلوقات.
181

وهذا بعض ما شوهد - يومئذ للناس - وما خفي عليهم أعظم مما أوحاه الله العليم الخبير إلى رسوله الصادق الأمين وأخبر به (ص) أهل بيته وغيرهم، ومن ذلك ما جاء في الحديث المعروف بحديث أم أيمن (رض) وهو حديث طويل أخبر الله به رسوله (ص) على لسان جبرئيل بما يصاب به أهل بيته عامة، وما يصاب به أمير المؤمنين والحسين (ع) خاصة، فجاء في هذا الحديث ان جبرئيل قال للنبي (ص) فيما قال له:
يا محمد إن أخاك " يعني عليا أمير المؤمنين (ع) " مضطهد بعدك، مغلوب على أمتك، متعوب من أعدائك، ثم مقتول بعدك، يقتله أشر الخلق والخليقة وأشقى البرية يكون نظير عاقر الناقة، ببلد تكون إليه هجرته، وهو مغرس شيعته وشيعة ولده، وفيه على كل حال يكثر بلواهم ويعظم مصابهم ثم قال جبرئيل: وان سبطك هذا - وأومأ بيده إلى الحسين (ع) - مقتول في عصابه من ذريتك وأهل بيتك وأخيار من أمتك بضفة الفرات بكربلاء، من أجلها يكثر الكرب والبلاء على أعدائك وأعداء ذريتك في اليوم الذي لا ينقضي كربه ولا تفنى حسرته، وهي أطيب بقاع الأرض وأعظمها حرمة يقتل فيها سبطك وأهله، وإنها من بطحاء الجنة، ثم قال:
فإذا كان اليوم الذي يقتل فيه سبطك وأهله، وأحاطت بهم كتائب الكفر واللعنة تزعزعت الأرض من أقطارها، ومادت الجبال وكثر اضطرابها، واصطفقت البحار بأمواجها، وماجت السماوات بأهلها غضبا لك يا محمد ولذريتك، واستعظاما لما ينتهك من حرمتك، ولشر ما تكافأ به ذريتك وعترتك، ولا يبقى شيء من ذلك إلا أستأذن الله عز
182

وجل في نصرة أهلك المستضعفين المظلومين الذين هم حجة الله على خلقه بعدك.
فيوحي الله إلى السماوات والأرض والجبال والبحار ومن فيهن " وما فيهن ": إني أنا الله الملك القادر الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه ممتنع، وأنا أقدر فيه على الانتصار والانتقام، وعزتي وجلالي لأعذبن من وتر رسولي وصفيي وانتهك حرمته، وقتل عترته، ونبذ عهده، وظلم أهل بيته عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين، فعند ذلك يضج كل شيء في السماوات والأرض بلعن من ظلم عترتك واستحل حرمتك... الخ (1).
من الشهود على بعض الناس الحجر الأسود
ومن الشهود عند الحساب يوم القيامة على بعض الناس الحجر الأسود الذي جاء به آدم من الجنة، فوضعه على أحد أركان البيت
(1) راجع الحديث بطوله في (البحار) ج 45 ص 179 نقلا عن كتاب (كامل الزيارات) لابن قولويه ص 260، ونقله عنه أيضا الدكتور عبد الجواد الكليدار في كتابه (كربلاء وحائر الحسين) ص 77، ونقله عن البحار الشيخ مهدي المازندراني في (معالي السبطين) ص 83، ونقله عن الكامل الشيخ جعفر نقدي في كتابه (زينب الكبرى) ص 53، وقد ذكرناه بكامله في كتابنا (دراسات موضوعية في الإمام الحسين وعشرة محرم) في المجلس الرابع من الفصل الأول.
183

الحرام ليستلمه الناس، وهو أول حجر وضع على وجه الأرض، وكان أشد بياضا من الثلج فأسود من خطايا بني آدم (1).
وهذا الحجر المقدس يشهد يوم القيامة لكل من وافاه مخلصا بتوحيد الله عز وجل، أو غير مخلص، وقد جاءت بذلك عدة أحاديث عن النبي (ص) وأهل بيته الأطهار (ع) نذكر بعضها.
منها ما رواه الصدوق في (علل الشرائع) بسنده عن ابن عباس ان النبي (ص) قال لعائشة وهي تطوف معه بالكعبة حين استلما الركن وبلغا إلى الحجر قال: يا عائشة لولا ما طبع الله على هذا الحجر من أرجاس الجاهلية وأنجاسها إذا لاستشفي به من كل عاهة، " إلى أن قال ": وان الركن يمين الله تعالى في الأرض وليبعثنه الله يوم القيامة وله لسان وشفتان وعينان، ولينطقنه الله يوم القيامة بلسان طلق ذلق يشهد لمن استلمه بحق... الخ.
(1) هذا ما أجاب به أمير المؤمنين ~ اليهودي الذي سأله عن مسائل عديدة منها سؤاله عن أول حجر وضع على وجه الأرض فقال ~: وأما سؤالك عن أول حجر وضع على وجه الأرض؟ فان اليهود يزعمون انه الحجر الذي ببيت = = المقدس وكذبوا إنما هو الحجر الأسود الذي هبط به آدم معه من الجنة، فوضعه على الركن في البيت والناس يستلمونه ويقبلونه ويجددون العهد والميثاق فيما بينهم وبين الله، وكان أشد بياضا من الثلج فأسود من خطايا بني آدم، قال اليهودي: أشهد بالله لقد صدقت... الخ، راجع أسئلة اليهودي في الغدير ج 6 ص 251 نقلا من كتاب (زين الفتى في شرح سورة هل آتى) للحافظ العاصمي، ونقلها الشيخ نجم الدين العسكري قي (علي والخلفاء) ص 138 عن (فرائد السمطين) باب 66 وعن زين الفتى، ورواها الصدوق في (إكمال الدين) من طريقين من ص 288 - ص 293.
184

وفي حديث آخر مسند عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): طوفوا بالبيت واستلموا الركن، فإنه يمين الله في أرضه يصافح بها خلقه مصافحة العبيد أو الدخيل، ويشهد لمن استلمه بالموافاة (1).
وفي حديث روته السنن والمسانيد وكتب التاريخ من الفريقين مسندا عن أبي سعيد الخدري (رض) انه قال: حججنا مع عمر بن الخطاب فلما دخل الطواف استقبل الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله قبلك ما قبلتك.
فقال له علي بن أبي طالب: بلى انه يضر وينفع، قال: بم؟ قال بكتاب الله تبارك وتعالى، قال: وأين ذلك من كتاب الله؟ قال: قال الله عز وجل: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى ([الأعراف / 173].
ثم قال (ع): خلق الله آدم ومسح على ظهره، " أي قررا رواح ذريته "، بأنه الرب وانهم العبيد، وأخذ عهودهم ومواثيقهم وكتب ذلك في رق، وكان لهذا الحجر عينان ولسان فقال له: افتح فاك، قال: ففتح فاه فألقمه ذلك الرق، وقال: إشهد لمن وافاك بالموافاة يوم القيامة.
(1) راجع (علل الشرائع) ص 424 وص 427.
185

واني أشهد لسمعت رسول الله (ص) يقول: يؤتى يوم القيامة بالحجر الأسود وله لسان ذلق يشهد لمن يستلمه بالتوحيد، فهو يضر وينفع، فقال عمر: أعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم يا أبا الحسن (1).
الطريق الثالث من ينابيع علم الأئمة
حديث الملائكة معهم (ع)
قال إمامنا أمير المؤمنين (ع) في بعض خطبه: نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكمة، ناظرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ينتظر السطوة (2).
(1) مصادر القصة: (مستدرك الحاكم) ج 1 ص 457، و (تلخيص المستدرك) في الذيل للذهبي، و (سيرة عمر) لابن الجوزي ص 106، و (عمدة القارئ) للعيني ج 4 = = ص 606، و (إرشاد الساري) للقسطلاني ج 3 ص 195 نقلا عن (تاريخ مكة) للأزرقي، و (الدر المنثور) للسيوطي ج 3 ص 144 نقلا عن كل من الخجندي في (فضائل مكة) وأبي الحسن القطان في (المطولات)، والبيهقي في (شعب الإيمان) وغيرهم، و (الجامع الكبير) للسيوطي أيضا كما في (تربيته) ج 3 ص 35 عن مصادر عديدة، ومنهم ابن حيان، و (الفتوحات الإسلامية) لأحمد زيني دحلان ج 2 ص 486، و (شرح النهج) لابن أبي الحديد ج 3 ص 122، و (كنز العمال) للمتقي الهندي الحنفي ج 5 ص 93، و (أخبار الدول) للإسحاقي ص 31، و (أرجح المطالب) للشيخ عبد الله الحنفي ص 122، وغير هؤلاء، راجع (الغدير) للأميني ج 6 ص 95، و (الإحقاق) ج 8 ص 208 - 210، و (علي والخلفاء) للشيخ نجم الدين العسكري ص 112 - 117، و (البحار) للمجلسي ج 99 ص 216 وذكرنا القصة، ومصادرها في كتابنا (الشفاء الروحي والجسمي في القرآن) تحت عنوان " قصة ظريفة تتعلق بتقبيل النبي (ص) للحجر الأسود "، وتجد القصة مفصلا في (البحار) ص 216 - 219.
(2) راجع (المراجعات) لشرف الدين رقم 6 ص 46 نقلا عن (نهج البلاغة) ج 2 ص 36 عدد 140، والنصوص التي قالها أمير المؤمنين ~ في هذه الخطبة جاءت متواترة عن أئمة الهدى في محاجاتهم، وأدعيتهم، وأحاديثهم، راجع (الشافي في شرح أصول الكافي) م 3 ص 162 وغيره من المصادر.
186

قول أمير المؤمنين (ع): نحن شجرة النبوة، يشير إلى حديث الشجرة الشهير والمتواتر عن النبي (ص) (1).
أما قوله (ع): ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم، فيشير بهذه النصوص إلى ما تزودهم به الملائكة عن الله عز وجل، وعن رسوله (ص) من أنواع العلوم والحكم في مخلف الأوقات ومنها عرض الملائكة عليهم (ع) صحائف أعمال العباد صباحا ومساء وفي الأسبوع مرتين، وعند حضور أجل كل إنسان كما مر.
عرض الملائكة على النبي (ص) والأئمة ما قدر ليلة القدر
ومنها عرض الملائكة على النبي (ص) والأئمة كل ليلة قدر ما قدر الله وقوعه في الكون، وما سيلاقيه العباد في سنتهم كلها من ليلة قدر أولى إلى ليلة قدر أخرى من كل سنة، من كلي أو جزئي، من حق أو باطل، من خير أو شر، مما يحبون أو مما يكرهون، من حياة أو موت، ومن سعة رزق أو ضيق، وهكذا إلى آخر سنتهم من التقديرات الإلهية
(1) راجع ما مر من كتابنا هذا الحديث الثالث من الفصل الثالث ص 60 في مصادر حديث الشجرة، وبعض نصوصه.
187

العامة والخاصة، من أفعاله الحكيمة مباشرة، أو من أفعال عباده بمشيئته.
وكل ذلك لا يقع - أيضا - إلا في الآجال المقدرة لهم بلا تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقصان فهذه التقديرات الإلهية كافة تهبط بها الملائكة من اللوح وتعرضها على النبي (ص) والأئمة من أهل بيته أيام حياتهم وبعد وفاتهم وتطلعهم عليها بعد السلام عليهم في كل ليلة قدر.
وهذا ما ذكره الله وأشار إليه في سورة القدر بقوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر (4) سلام هي حتى مطلع الفجر (وذكره وأشار إليه في سورة الدخان بقوله تعالى: (فيها يفرق كل أمر حكيم (4) أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين (5) رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ([الدخان / 5 - 7] (1).
على من تنزل التقديرات في ليلة القدر؟ ولمن ترسل؟
والملاحظ هنا هو ان الآيات المباركات من سورتي القدر والدخان صريحة بأن الله ينزل الملائكة والروح بتقديرات السنة، ويرسلها بأذنه وأمره في ليلة القدر وعلى ذلك إجماع المسلمين أجمعين.
(1) ذكرنا تفسير سورة القدر مفصلا في ثلاث بحوث في كتابنا (الحقائق الكونية) ج 1 من ص 59 - ص 90 واستشهدنا بالآيات من سورة الدخان، وما ذكرناه هنا سنذكره مختصرا من ذلك المفصل، فراجعه فإنه مهم.
188

ولكن السؤال هنا على من تنزل تلك التقديرات؟ ولمن ترسل؟ هذا التساؤل قد يجيب عنه القرآن الكريم في بعض آياته بصورة إجمالية مثل قوله تعالى: (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده ([النحل / 3]، والمراد (من عباده (هم المخلصون منهم فقط، لا كل العباد، ولكن الجواب عن هذا التساؤل بصورة واضحة جلية تجيب عنه الأحاديث الشريفة المروية والثابتة عن النبي (ص) وأهل بيته الأطهار وهي كثيرة وإليك بعضها.
الأحاديث الشريفة التي تجيب على هذا التساؤل
1 - روى الثقات من العلماء كالصدوق في كتابيه (الخصال) و (إكمال الدين) والشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) مسندا عن أبي جعفر الثاني، أي الإمام محمد الجواد عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال:
سمعت رسول الله (ص) يقول لأصحابه: آمنوا بليلة القدر إنها تكون لعلي بن أبي طالب وولده الأحد عشر من بعدي (1).
2 - وروى الصدوق في (الخصال)، وفي (إكمال الدين) والكليني في (الكافي) بأسانيدهم عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (ع) عن آبائه (ع) ان أمير المؤمنين (ع) قال لابن عباس: -
(1) (الخصال 9 ج 2 ص 480، و (إكمال الدين) ص 272 ونقله عن المصدرين المجلسي في (البحار) ج 97 ص 15، و (الغيبة) ص 100.
189

ان ليلة القدر في كل سنة، وانه يتنزل في تلك الليلة أمر السنة، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله (ص) فقال ابن عباس: من هم؟ قال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون (1) أي تحدثهم الملائكة.
1 - وروى القمي في تفسيره، ومحمد بن الحسن الصفار في (بصائر الدرجات) بسنديهما عن أبي جعفر الباقر (ع) وأبي عبد الله الصادق (ع) وأبي الحسن (ع)، ومن طريق آخر عن أبي المهاجر عن أبي جعفر انه قال: يا أبا المهاجر لا تخفى علينا ليلة القدر، ان الملائكة يطوفون بنا فيها (2).
2 - وروى القمي بسنده في تفسير قول الله تعالى: (تعرج الملائكة والروح إليه ([المعارج / 5]، عن أبي الحسن انه قال: (تعرج الملائكة والروح (في صبح ليلة القدر من عند النبي والوصي (3).
وروى الصدوق في (معاني الأخبار) بسنده عن الأصبغ بن نباتة عن علي بن أبي طالب (ع) انه قال: قال لي رسول الله (ص): يا علي أتدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول الله، فقال (ص): ان الله
(1) (الخصال) ص 479، و (إكمال الدين) ص 299، و (الشافي في شرح الكافي) ج 2 ص 210، و (البحار) ج 97 ص 15.
(2) (تفسير القمي) ج 2 ص 290، و (بصائر الدرجات) ص 221، والمجلسي في (البحار) ج 97 ص 13.
(3) (تفسير القمي) ج 2 ص 376، و (البحار) ج 97 ص 14.
190

1 - تبارك وتعالى قد قدر فيها ما هو كائن إلى يوم القيامة، فكان فيما قدر عز وجل ولايتك وولاية الأئمة من ولدك إلى يوم القيامة (1).
والمراد من هذا التقدير للولاية - التقدير الشرعي -.
2 - وروى الصدوق في (معاني الأخبار) بسنده عن المفضل بن عمر قال: ذكر عند أبي عبد الله (ع) (إنا أنزلناه في ليلة القدر (فقال: ما أبين فضلها على السور، قال: قلت: وأي شيء فضلها على السور؟ قال: نزلت ولاية أمير المؤمنين فيها، قلت: في ليلة القدر التي نرتجيها في شهر رمضان؟ قال: نعم هي ليلة قدرت فيها السماوات والأرض، وقدرت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فيها (2).
3 - وروى محمد بن الحسن الصفار في (بصائر الدرجات) بسنده عن بريدة (رض) انه قال: كنت جالسا مع رسول الله (ص) وعلي معه، إذ قال: يا علي ألم أشهدك معي في سبعة مواطن: الموطن الخامس: ليلة القدر خصنا ببركتها ليست لغيرنا (3).
وروى الصفار أيضا في (بصائر الدرجات) بسنده عن داود بن فرقد قال: سألته - أي الإمام الصادق (ع) - عن قول الله عز وجل: (إنا أنزلناه في ليلة القدر (1) وما أدراك ما ليلة القدر (قال: نزل فيها ما يكون من السنة إلى السنة، من موت أو مولود، قلت له:
(1) (معاني الأخبار) ص 300 ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 97 ص 18.
(2) المصدران السابقان.
(3) (بصائر الدرجات) ص 220، و (البحار) ج 97 ص 24.
191

1 - إلى من؟ فقال: إلى من عسى أن يكون؟ ان الناس في تلك الليلة في صلاة ودعاء ومسألة، وصاحب هذا الأمر في شغل تنزل الملائكة إليه بأمور السنة من غروب الشمس إلى طلوعها، من كل أمر سلام هي إلى أن يطلع الفجر (1).
2 - وروى الشيخ الطوسي في (أماليه)، والمفيد في (مجالسه)، وأبو جعفر الطبري الإمامي في (بشارة المصطفى) وعلي بن عيسى الأربلي في (كشف الغمة)، والشيخ حسن بن سليمان في (المختصر) وغيرهم بأسانيدهم عن الأصبغ بن نباتة قال: دخل الحارث الهمداني على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في نفر من الشيعة، وكنت فيهم فجعل - الحارث - يتئد، أي يتثبت ويتأنى، في مشيته، ويخبط الأرض بمحجنته، أي يضرب الأرض بعصاه، وكان مريضا، فأقبل عليه أمير المؤمنين (ع) وكانت له منزلة منه، فقال له: كيف تجدك يا حارث؟ قال: نال الدهر مني يا أمير المؤمنين، وزادني أوارا وغليلا، أي حرارة في الحزن، اختصام أصحابك ببابك، قال: وفيم خصومتهم؟ قال: في شأنك والبلية من قبلك فمن مفرط غال، ومقتصد قال، أي مبغض لعدوك، ومن متردد مرتاب لا يدري أيقدم أو يحجم، قال:
فحسبك يا أخا همدان ألا ان خير شيعتي النمط الأوسط (2).
(1) المصدران السابقان.
(2) قول أمير المؤمنين: ألا ان خير شيعتي النمط الأوسط إليه يشير بعض السادة الشعراء وهو السيد عدنان شبر:
وسيدها الحاكم المقسط وفي حبه هلك المفرط وشيعته النمط الأوسط.
إمام الهدى وغياث الورى إمام به هلك المبغضون كلا الجانبين عدو له.
192

إليهم يرجع الغالي، وبهم يلحق التالي، قال: لو كشفت - فداك أبي وأمي - الرين عن قلوبنا - أي الشك من نفوسنا - وجعلتنا في ذلك على بصيرة من أمرنا، قال: فذاك، فإنك أمرؤ ملبوس عليك، فان دين الله لا يعرف بالرجال بل بآية الحق، فأعرف الحق تعرف أهله، يا حارث ان الحق أحسن الحديث، والصادع به مجاهد، أي المتكلم به جهارا مجاهد، وبالحق أخبرك فارعني سمعك، أي أصغ لمقالي، ثم خبر به من كانت له حصافة من أصحابك، وفي نص: من كانت له حصانة (1).
ألا أني عبد الله، وأخو رسوله، وصديقه الأول، قد صدقته وآدم بين الروح والجسد، ثم أني صديقه الأول في أمتكم حقا، فنحن الآخرون، ألا وأنا خاصته.
يا حارث وخالصته، وصنوه ووصيه، ووليه وصاحب نجواه وسره، أوتيت فهم الكتاب، وفصل الخطاب، وعلم القرون والأسباب، واستودعت ألف مفتاح يفتح كل مفتاح ألف باب، يفضي كل باب إلى ألف ألف عهد، وأيدت - أو قال: أمددت - بليلة القدر نفلا - أي زيادة
(1) المراد من الحصانة، أي المتحصن بالدليل، والحصافة استحكام العقل فيجوز هذا، وذاك، والله العالم.
193

على ما أعطيت من الفضائل والكرائم، وان ذلك ليجري لي ومن استحفظ من ذريتي ما جرى الليل والنهار حتى يرث الله الأرض ومن عليها... الخ (1).
1 - وروى الصفار في (بصائر الدرجات) بسنده عن محمد بن عمران عن أبي عبد الله (ع) قال: قلت له: ان الناس يقولون: ان ليلة النصف من شعبان تكتب فيها الآجال، وتقسم فيها الأرزاق، وتخرج صكاك الحاج، فقال: ما عندنا في هذا شيء، ولكن إذا كانت ليلة تسع عشر من شهر رمضان تكتب فيها الآجال، وتقسم فيها الأرزاق، وتخرج صكاك الحاج، ويطلع الله على خلقه - أي ينظر إليهم ويشاهد حالهم - فلا يبقى مؤمن إلا غفر له إلا شارب الخمر.
فإذا كانت ليلة ثلاث وعشرين (فيها يفرق كل أمر حكيم) أمضاه ثم أنهاه، قال الراوي: قلت: إلى من جعلت فداك؟ فقال: إلى صاحبكم وعنى بذلك نفسه (ع)، ولولا ذلك لم يعلم ما يكون في تلك السنة (2).
(1) أمالي الطوسي ج 2 ص 238، ومجالس المفيد ص 4، وبشارة المصطفى ص 5، وكشف الغمة للأربلي ج 2 ص 37، والمحتضر للحلي ص 29، والبحار ج 6 ص 178 نقلا عن أمالي الشيخ، ومجالس المفيد، وسيأتيك إن شاء الله تمام الحديث في الفصل التالي.
(2) راجع (البحار) ج 97 ص 19 - 20 نقلا عن (بصائر الدرجات) ص 222.
194

وقوله (ع) ولولا ذلك لم يعلم... الخ، يشير بذلك إلى ان العلم بالأقدار الآتية إنما يعلمها أي الإمام من هذا الطريق المستند إلى رسول الله (ص) وأخيرا إلى الله عز وجل، ولولاه لم يعلم.
ومن هنا نعلم انه لا يعلم الغيب إلا الله عز وجل أو من يعلمه الله، قال تعالى: (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا (26) إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا (27) ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ([الجن / 27 - 29].
1 - وروى الصفار أيضا في (بصائر الدرجات) عن أبي عبد الله الصادق (ع) انه قال:
قال علي (ع) في صبح أول ليلة القدر التي بعد رسول الله (ص): فاسألوني فوالله لأخبرنكم بما يكون إلى ثلاثمائة وستين يوما من الذر فما دونه وما فوقه، ثم لا أخبركم بشيء من ذلك بتكلف، ولا برأي، ولا بادعاء في علم إلا من علم الله وتعليمه، والله لا يسألني أهل التوراة، ولا أهل الإنجيل، ولا أهل الزبور ألا فرقت بين أهل كل كتاب بحكم ما في كتابهم... الخ (1).
وهذا الحديث يؤيد ما قلناه من ان علم الإمام إنما هو بتعليم من الله عز وجل.
(1) المصدران السابقان.
195

1 - وروى الكليني في (الكافي) عن الإمام أبي جعفر (ع) انه قال في وصيته لشيعته: يا معشر الشيعة خاصموا بسورة (إنا أنزلناه في ليلة القدر (تفلحوا، فوالله إنها لحجة الله تبارك وتعالى على الخلق بعد رسول الله (ص) وإنها لسيدة دينكم، وإنها لغاية علمنا.
يا معشر الشيعة خاصموا ب‍ (حم (1) والكتاب المبين (2) إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين (فإنها لولاة الأمر خاصة بعد رسول الله (ص).
يا معشر الشيعة يقول الله تبارك وتعالى (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ([فاطر / 25]، قيل: يا أبا جعفر نذيرها محمد (ص) قال: صدقت، فهل كان نذير وهو حي من البعثة في أقطار الأرض؟ فقال السائل: لا، قال أبو جعفر (ع): أرأيت بعيثه - أي الذي يبعثه رسول الله (ص) إلى قوم _ أليس نذيره كما أن رسول الله (ص) في بعثته من الله عز وجل نذيره؟ فقال السائل: بلى، قال: فكذلك لم يمت محمد (ص) إلا وله بعيث نذير، ثم قال الإمام (ع): فان قلت لا، فقد ضيع رسول الله (ص) من في أصلاب الرجال من أمته... الخ (1).
كشف الأحاديث عن حقائق ثابتة عند الجميع
تكشف لنا هذه الأحاديث الشريفة - وهي اثنى عشر حديثا - عن حقائق عديدة وثابتة عند الجميع منها:
(1) راجع (الشافي في شرح الكافي) ج 3 ص 214.
196

1 - استمرار ليلة القدر في كل سنة
أولا ان ليلة القدر مستمرة - في الأجيال كلها - إلى يوم القيامة وهذا ما دل عليه النص القرآني وهو قوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها (وقوله: (فيها يفرق كل أمر حكيم (فقوله (تنزل) وقوله (يفرق) بصيغة المضارع يدل على الاستمرار لا على الماضي فقط، كما أن استمرارها جاء في أحاديث صريحة عن النبي (ص) الصادق الأمين، وأهل بيته الأطهار وأصحابه الكرام، والتابعين لهم من طرق عديدة، ويقول جمهور المسلمين: انها باقية في كل سنة، ويحتفلون بها كل عام كما هو معلوم، ويصرح به علماؤهم، وتنص عليه أحاديثهم (1).
2 - فيها تنزل الملائكة على النبي (ص) والأئمة الاثني عشر
ثانيا ان كل ليلة قدر (تنزل الملائكة والروح فيها (على النبي (ص) والأئمة الأطهار الاثني عشر بعده واحدا بعد واحد، أيام حياتهم وبعد مماتهم وآخرهم مهدي آل محمد (ص) الموجود في الجماعة الإسلامية وبينها وان كان غائبا عن الأبصار، وأنهم هم ولاة الأمر الذين عناهم الله تعالى بقوله: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ([النساء / 60]، حيث قرن جل وعلا إطاعتهم بإطاعة الرسول (ص) كما قرن الزكاة بالصلاة، ومعنى هذا الاقتران ان منزلتهم -
(1) راجع (الدر المنثور) للسيوطي ج 6 ص 371 وص 372، و (مفاتيح الغيب) ج 8 ص 469.
197

عند الله عز وجل - كمنزلة الرسول في العصمة ووجوب الإطاعة إلا أنهم ليسوا أنبياء بعده كما هو معلوم من قول الله عز وجل: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ([الأحزاب / 41]، ومن قول النبي (ص): {علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي} (1).
وجعل جل وعلا أيضا إطاعتهم - المقرونة بإطاعة الرسول - في آية أولي الأمر مطلقة غير مقيدة بقيد أو شرط، وهذا يدل على عصمتهم وعظيم مقامهم عنده تعالى.
3 - الأئمة محدثون وليسوا بأنبياء
ثالثا ان الملائكة الذين يتنزلون في ليلة القدر يحدثون النبي (ص) والأئمة الأطهار من أهل بيته ويعلمونهم بما قدر الله المتعال لعباده في سنتهم، فهم محدثون أي تحدثهم الملائكة وليسوا بأنبياء.
وهنا قد يتساءل ويقال: وهل تحدث الملائكة غير الأنبياء؟ الجواب: نعم، ان الملائكة تحدث الأنبياء وغير الأنبياء ممن شاء من عباده كما هو صريح في نصوص القرآن المجيد، وإليك بعضهم.
(1) حديث شهير متفق عليه، ترويه الصحاح والسنن والمسانيد وكتب التاريخ والفضائل والمناقب، راجع مصادره، ومفاده وموارده كتاب (المراجعات) لشرف الدين من ص 150 - ص 171.
198

المحدثون، وليسوا بأنبياء من الرجال والنساء
فهذه مريم بنت عمران (ع) كانت محدثة ولم تكن نبية، يقول عز من قائل: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين (42) يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين (43) ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون (44) إذ قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين (45) ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين (46) قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ([آل عمران / 42 - 48].
وهذه سارة زوجة إبراهيم الخليل كانت محدثة ولم تكن نبية يقول الله تعالى: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ (69) فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط (70) وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب (71) قالت يا ويلتا أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب (72) قالوا أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ([هود / 70 - 74].
وهذه أم موسى بن عمران واسمها (بوخابيد) على الأشهر كانت محدثة ولم تكن نبية يقول الله سبحانه: (وأوحينا إلى أم موسى أن
199

أرضعيه فإذا خفت عليه فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ([القصص / 8].
وهذه سيدتهن فاطمة الزهراء (ع) كانت محدثة ولم تكن نبية كما جاء في الحديث المسند عن محمد بن عيسى بن زيد بن علي، قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: إنما سميت فاطمة محدثة لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها كما تنادي مريم وتقول لها: يا فاطمة ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين، فتحدثهم ويحدثونها، فقالت ذات ليلة: أليست المفضلة على نساء العالمين مريم بنت عمران؟ فقالوا: ان مريم كانت سيدة نساء عالمها، وان الله جعلك سيدة نساء الأولين والآخرين (1).
أما المحدثون من الرجال فهم كثيرون ومنهم ذو القرنين الذي ذكر الله سبحانه وتعالى قصته في سورة الكهف يقول: (ويسألونك عن ذي القرنين قل سأتلو عليكم منه ذكرا (83) إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا (84) فأتبع سببا ([الكهف / 84 - 86].
ومن المحدثين من الرجال أيضا لقمان الحكيم (ع) الذي سمى الله سبحانه وتعالى سورة من سور القرآن المجيد باسمه، ونص فيها على إعطائه الحكمة بقوله تعالى: (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله
(1) (علل الشرائع) ص 182 ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 14 ص 206 وج 43 ص 278.
200

ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد ([لقمان / 13].
ومن المحدثين من الرجال يوشع بن نون (ع) وهو وصي كليم الله موسى بن عمران وخليفته من بعده، وهو الذي عبر عنه القرآن بفتى موسى حيث قال تعالى: (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا ([الكهف / 61].
وهكذا آصف بن برخيا وهو وصي سليمان بن داود (ع) وهو الذي ذكره الله سبحانه عند استعراض قصة سليمان مع بلقيس وإتيان عرشها بقوله: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك ([النمل / 41].
فهؤلاء كانوا محدثين ولم يكونوا أنبياء ومن هنا جاء في حديث مسند عن حمران بن أعين قال: قال أبو جعفر (أي الإمام الباقر (ع)) إن عليا كان محدثا، قال فخرجت إلى أصحابي فقلت لهم، جئتكم بعجيبة، فقالوا: وما هي؟ فقلت: سمعت أبا جعفر (ع) يقول: كان علي (ع) محدثا، فقالوا: ما صنعت شيئا، ألا سألته من كان يحدثه؟ فرجعت إليه فقلت: إني حدثت أصحابي بما حدثتني به، فقالوا: ما صنعت شيئا ألا سألته من كان يحدثه؟ فقال لي: يحدثه ملك، قلت: تقول: انه نبي؟ قال: فحرك الإمام يده هكذا - أي أنه (ع) نفى بيده أن يكون نبيا، ثم قال: أو كصاحب
201

سليمان، أو صاحب موسى، أو كذي القرنين، أو ما بلغكم انه (ع) قال: وفيكم مثله (1).
الملائكة تحدث المؤمنين وغير المؤمنين عند حضور آجالهم
بل يرشدنا القرآن الكريم إلى ان كل محتضر من الناس من المؤمنين، بل وغير المؤمنين قد تحدثه الملائكة عند حضور أجله وقبض روحه، كما جاء هذا صريحا في عدة آيات من القرآن المجيد.
أما بالنسبة إلى المؤمنين فيقول عز من قائل: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون (30) نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون (31) نزلا من غفور رحيم ([فصلت / 31 - 33]، ويقول تبارك وتعالى: (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون ([النحل / 33]، وقال جلت عظمته مخاطبا روح المؤمن عند قبضها: (يا أيتها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى ربك راضية مرضية (28) فادخلي في عبادي (29) وادخلي جنتي ([الفجر / 28 - 31].
هذا بالنسبة إلى المؤمن، وأما بالنسبة لغير المؤمن فإن الملائكة أيضا تحدثهم عند قبض أرواحهم، وتبشرهم بالنار يقول تعالى: (إن
(1) (الشافي في شرح الكافي) ج 3 ص 262، و (الاختصاص) ص 281 و (بصائر الدرجات) ج 7 ص 321.
202

الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا ([النساء / 98]، وقال تعالى أيضا: (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم ما كنا نعمل من سوء (فتجيبهم الملائكة - (بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون (28) فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين ([النحل / 29 - 30].
فمختلف الملائكة وحديثهم مع الأئمة الأطهار بعد النبي (ص) أمر ممكن ولا مانع منه بحكم الأدلة الخاصة والعامة قال تعالى: (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما ([النساء / 55]، وقال تعالى: (ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليما ([النساء / 71].
الطريق الرابع من ينابيع علم الأئمة (ع)
الوراثة من السابق إلى اللاحق
قال عز من قائل: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير (31) ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ([فاطر / 32 - 33].
من الذين اصطفاهم الله؟ وسبقوا غيرهم بالخيرات؟
203

الخطاب في هاتين الآيتين الكريمتين من الله عز وجل إلى النبي (ص) يخبره - مؤكدا له - ان الكتاب الذي أوحاه الله إليه - وهو القرآن - هو الحق الذي لا يشوبه باطل مطلقا، ويوضح ذلك قوله تعالى في سورة فصلت: (وإنه لكتاب عزيز (41) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ([فصلت / 42 - 43].
فهذا الكتاب الذي هو الحق جاء (مصدقا لما بين يديه (أي مصدقا للكتب الإلهية التي أنزلها الله قبله من صحف وتوراة وإنجيل وزبور، وان الله بعباده لخبير بصير، أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم لخبرته بهم، وإبصاره لأعمالهم عند صدورها منهم.
ثم يقول الخبير البصير سبحانه في الآية الثانية: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا (أي هذا الكتاب هو الحق أورثناه الذين اصطفينا من عبادنا، أي تركناه فيهم يقومون بأمره بعد النبي (ص) من بعد ما كان هو (ص) القائم بأمره، المتصرف فيه، والداعي إليه، والإرث كما يكون للمال المادي كذلك يكون للعلم والجاه وسائر الأمور المادية والمعنوية، وعلى هذا يكون إيراث هذا الكتاب - في خصوص هذه الآية الكريمة - إيراثا عاما لكل ما في هذا الكتاب من أنواع العلوم والمعارف للذين اصطفاهم الله من عباده بعد رسوله (ص) لا مجرد الكتاب المجموع ما بين الدفتين بل هو، وما يحتوي عليه الكتاب من علوم ومعارف مطلقا.
والاصطفاء معناه أخذ صفوة الشيء، ويقرب معنى الاصطفاء من معنى الاختيار، ولكن الفرق بينهما ان الاختيار أخذ الشيء من بين
204

الأشياء بما انه خيرها، أما الاصطفاء فمعناه أخذه من بينها بما أنه صفوتها وخالصتها وعلى هذا يكون الاصطفاء أبلغ من الاختيار، ولذلك يجب أن يكون الذين اصطفاهم الله تعالى مطهرين معصومين منزهين عن القبائح، لأنه سبحانه لا يصطفي إلا من كان كذلك، بحيث يكون ظاهرهم مثل باطنهم في الطهارة والعصمة سواء كانوا أنبياء أو أئمة أو غيرهم ممن عصمهم الله واختارهم.
أما المراد من هؤلاء الذين اصطفاهم الله - في هذه الآية الكريمة - وأورثهم الكتاب من هم؟، ففيه اختلاف بين المفسرين، وأشهر أقوالهم أربعة:
أولا: - قيل: هم أمة محمد (ص) بحجة أورثوا القرآن من نبيهم إليه يرجعون، وبه ينتفعون، علماؤهم بلا واسطة وغيرهم بواسطتهم.
ثانيا: - وقيل: هم العلماء من الأمة باعتبار ان العلماء ورثة الأنبياء.
ثالثا: - وقيل: انهم ذرية النبي (ص) من أولاد فاطمة وان الآية نازلة فيهم، ووردت في هذا القول أحاديث عن بعض أئمة الهدى.
رابعا: - القول المأثور عن الصادقين - بتواتر قطعي - ان المقصود من الذين اصطفاهم الله - في هذه الآية - إنما هم الأئمة الاثني عشر من آل محمد (ص)، وفيهم نزلت الآية الكريمة (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا (.
205

فهذه أربعة أقوال في المراد من الذين اصطفاهم الله وأورثهم الكتاب.
التحقيق في من اصطفاهم الله، وأورثهم الكتاب؟
القول الأول إنهم الأمة كلها، والثاني علماؤهم كلهم، وهذان القولان من جهة لا نص فيهما عن النبي (ص) وأهل بيته الطاهرين سوى ادعاء بعض المفسرين فقط، والادعاء بلا دليل لا حجة فيه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى انهما يخالفان نصوص الآيتين والآيات التي بعدهما التي نصت على دخول - من نزلت بهم الآيات - جنات عدن، ووصفت النعيم المقيم الذي سيلاقونه فيها... الخ.
وهذا قطعا لا يكون للأمة الإسلامية كلها ولا لعلمائها كلهم، وفيهم من فيهم ممن يعلم ولا يعمل ويتبع هوى نفسه الأمارة بالسوء وما أكثرهم.
أما القول الثالث وهو أنهم ذرية النبي (ص) من فاطمة، فيراد بهم المؤمنون من ذريتها الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا، لا من دعا إلى نفسه، أو سل سيفه عليهم (1).
بغيا فإنه خارج بالدليل، فهذه الذرية المؤمنة يمكن نسبة الاصطفاء، والوراثة إليهم من باب نسبة البعض إلى الكل، ويكون هذا
(1) راجع (الاحتجاج) للطبرسي ج 2 ص 138 ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 23 ص 215.
206

كقوله تعالى: (ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب (53) هدى وذكرى لأولي الألباب ([المؤمن / 54 - 55]، فبنوا إسرائيل - بنص هذه الآية - أورثوا الكتاب، ولكن المودون حقه، والعارفون القائمون به بعضهم، وهم الذين اصطفاهم الله من الأنبياء والأوصياء منهم لا جميعهم فكذلك هذه الآية - المبحوث عنها - إيراث الكتاب فيها - وهو القرآن - وان نسب في الأخبار - إلى ذرية النبي ولكن المقصود الأئمة الاثني عشر منهم (ع) إذ هم القائمون العارفون به، والمودون حقه، واصطفاهم من بين البرية على البرية.
ومن هنا نعلم ان الحق والحقيقة - في المقصود - من الاصطفاء والوراثة والسبق بالخيرات إنما هم الأئمة الطاهرون فقط دون غيرهم.
الإشارة إلى محاجة الإمام الرضا (ع) حول الآية
وللإمام الرضا (ع) حول هذه الآية الكريمة - محاجة طويلة مع جماعة من علماء أهل العراق وخراسان في مجلس من مجالس المأمون العباسي، وأثبت الإمام (ع) ان الذين اصطفاهم الله وأورثهم الكتاب وسبقوا غيرهم بالخيرات إنما هم عترة النبي (ص) أهل بيته من بعده، أثبت ذلك بالعشرات من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، مع دليل العقل والمنطق الحاسم بحيث اعترف - بعد تلك المحاجة - المأمون
207

والعلماء جميعا بواقعها، وقالوا للإمام: جزاكم الله أهل بيت نبيكم عن هذه الأمة خيرا، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلا عندكم (1).
أما قوله تعالى في الآية الكريمة: (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير (هنا يحتمل ان يكون ضمير (منهم) راجعا إلى قوله تعالى (الذين اصطفينا (فتكون الطوائف الثلاث الظالم لنفسه والمقتصد بالخيرات شركاء في الوراثة والاصطفاء، وإن كان الوارث الحقيقي والمصطفى هو العالم بالكتاب والحافظ له، وهو السابق بالخيرات والمصطفى، وقد مر بيان ذلك.
ويحتمل أن يكون الضمير راجعا إلى قوله تعالى (من عبادنا (وهم أما ذرية النبي (ص) وأن هذه الذرية منهم الظالم لنفسه وهو الذي لم يعرف حق الإمام، ومنهم
المقتصد الذي عرف حق الإمام، ومنهم السابق بالخيرات وهو الإمام نفسه.
(1) راجع المحاجة بتفصيلها في كتاب (عيون أخبار الرضا) لشيخنا الصدوق ج 1 ص 228 - ص 240 باب 23، كما ذكرها في كتابه (الأمالي) المجلس 79 ص 312 - ص 319، وقد نقلها عن العيون الشيخ سليمان الحنفي في (ينابيع المودة) ص 43 - ص 46 من الباب الخامس. =
= وراجع إذا شئت (البحار) للمجلسي ج 23 ص 212 - 228 باب " ان من اصطفاه الله من عباده، وأورثه الكتاب هم الأئمة (ع) وقد ذكر واحدا وخمسين حديثا من مختلف المصادر الموثوق بها على ان الذين اصطفاهم الله هم الأئمة، وان الآية الكريمة نازلة فيهم.
208

وأما المراد من (عبادنا (مجموع الأمة الإسلامية، وقد اختار هذا القول السيد المرتضى، وان منهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات، وهم الاثني عشر كما علمنا مما مضى، ولا يبعد صحة هذا القول.
وقد ذكر الله تعالى هذه الأقسام في سورة الواقعة بقوله تعالى: (وكنتم أزواجا ثلاثة (7) فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة (8) وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة (9) والسابقون السابقون (10) أولئك المقربون (11) في جنات النعيم (12) ثلة من الأولين (13) وقليل من الآخرين ([الواقعة / 8 - 15].
وخلاصة الآية الكريمة - لمن تدبرها - ان إيراث الكتاب - وهو القرآن الكريم الذي فيه تبيان كل شيء، وما فرط الله فيه من شيء - كله بتفسيره تنزيلا وتأويلا وسائر معارفه وعلومه كان لمن اصطفاهم الله واختارهم من بين عباده، وان العباد منهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات بأذن الله إذنا تكوينيا، أي بالفعل كانوا هم السابقين لغيرهم من العباد بكل فضل وفضيلة، وإذنا تشريعيا، أي شرع الله لهم السبق على غيرهم، وإن هذا الإيراث والاصطفاء والسبق هو الفضل الكبير من الله لهم.
209

(ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ((1).
الموارد العلمية التي ورثها الأئمة عن النبي (ص)
1 - علمنا مما سبق ان أول علم ورثوه عن النبي (ص) هو العلم الإلهامي الذي هو أساس علومهم كلها كما مر تفصيله، أي انهم لا يلهمون شيئا من العلم إلا بعد ما ألهم به النبي (ص) ويعلم به، ثم يلهم به كل واحد منهم سواء أيام حياتهم أو بعد وفاتهم، حتى لا يكون اللاحق أعلم من السابق.
2 - علم صحائف الأعمال للعباد أيضا تعرض على السابق منهم ثم اللاحق.
3 - علم المقدرات في ليلة القدر إلى ليلة القدر الثانية تعرض على السابق قبل اللاحق وهلم جرا.
4 - ورثوا القرآن بأنواع علومه ومعارفه تنزيلا وتأويلا، كما قال تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا (.
(1) راجع الأصناف الثلاثة في كتابنا (فاطمة والمفضلات من النساء).
210

أول الوارثين المصطفين علي أمير المؤمنين (ع)
وأول الذين اصطفاهم بعد نبيه، وأورثهم علوم الكتاب هو نفس النبي (ص) بحكم آية المباهلة (1)، وأخوه بحكم المؤاخاة قبل الهجرة وبعدها (2)، وزوج سيدة نساء العالمين التي زوجه الله سبحانه بها، وأشهد على زواجه ملائكته (3)، وربيبة الذي وضعه في حجره وهو وليد، يضمه إلى صدره، ويكنفه في فراشه، ويمضغ الشيء ثم يلقمه إياه (4)، وباب مدينة علمه بنص النبي الصادق الأمين (ص) وهو علي أمير المؤمنين (ع) (5).
علمه (ع) بالقرآن، وقوله: سلوني قبل أن تفقدوني
(1) راجع (الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء) للسيد شرف الدين مطبوعة مع (الفصول المهمة) لشرف الدين ص 197 - ص 203 في نزول آية المباهلة.
(2) راجع كتاب (حياة أمير المؤمنين) للسيد محمد صادق الصدر ط 2 من ص 113 - ص 125، و (الغدير) للأميني ج 3 ص 104 - ص 116 وص 153 وص 154.
(3) راجع المصدرين السابقين (حياة أمير المؤمنين) ص 167 - 186، و (الغدير) ج 2 ص 283 - ص 285.
(4) راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج 3 من ص 250 - ص 255.
(5) راجع (الغدير) ج 6 ص 51 - ص 335 في ترجمة الشاعر شمس الدين المالكي وما علق على شعره ومما علق عليه قوله
من العلم وهو الباب والباب فاقصد.
وقال رسول الله إني مدينة.
وقد علق على حديث: أنا مدينة العلم وعلي بابها.. الخ وذكر مصادره ومن أخرجه وهم جمع كثير من الحفاظ وأئمة الحديث فذكر له مائة وواحد وأربعين مصدرا من ص 54 - ص 69 فراجع.
211

ومن هنا كان (ع) طالما يرقى المنبر - أيام خلافته - ويقول: سلوني قبل أن تفقدوني، ومن ذلك ما قاله (ع) لما بويع بالخلافة: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله، هذا ما زقني رسول الله زقا زقا، فاسألوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول: صدق علي ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله في، وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهارا فهل فيكم أحد يعلم ما نزل فيه، ولولا آية في كتاب الله عز وجل لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائن إلى يوم القيامة وهي هذه الآية (يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب ([الرعد / 40].
ثم قال (ع) سلوني قبل أن تفقدوني فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل أنزلت أو في نهار أنزلت، مكيها ومدنيها، سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم... الخ (1).
(1) راجع (الأمالي) للصدوق ص 205 - 208 الخطبة بكاملها، والأسئلة التي سئل عنها وأجاب، و (التوحيد) ص 223 - 226، و (الاختصاص) للمفيد ص 229 - 234 و (الاحتجاج) للطبرسي ص 384 ج 1 ونقلها المجلسي في (البحار) عن المصادر الأربعة ج 10 ص 117، وراجع (إحقاق الحق) ج 7 ص 610 - ص 623 في اختصاصه يقول: سلوني قبل ان تفقدوني، وبعض مواردها من طرق أهل السنة.
212

حديث مهم له (ع) حدث به سليم الهلالي
عن سليم بن قيس قال: قلت لأمير المؤمنين: يا أمير المؤمنين إني سمعت من سلمان، والمقداد، وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن، ومن الأحاديث عن النبي (ص) ثم سمعت منك تصديق ما سمعته منهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن، ومن الأحاديث عن النبي (ص) تخالف الذي سمعته منكم، وأنتم تزعمون ان ذلك باطل، أفترى يكذبون على رسول الله (ص) متعمدين؟ ويفسرون القرآن برأيهم؟ قال: فأقبل علي (ع) فقال لي:
يا سليم سألت فأفهم الجواب:
ان في أيدي الناس حقا وباطلا، وصدقا وكذبا، وناسخا ومنسوخا، وخاصا وعاما، ومحكما ومتشابها، وحفظا ووهما، وقد كذب على رسول الله (ص) على عهده، حتى قام خطيبا فقال:
أيها الناس قد كثرت الكذابة، فمن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، ثم كذب عليه من بعده حتى توفي رحمة الله على نبي الرحمة وصلى الله عليه وآله.
تقسيم المحدثين عن النبي إلى أربعة أقسام
213

وإنما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليس لهم خامس، (رجل) منافق مظهر للإيمان، متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج ان يكذب على رسول الله (ص) متعمدا، فلو
علم المسلمون انه منافق كذاب لم يقبلوا منه، ولم يصدقوه، ولكنهم قالوا: هذا صاحب رسول الله.
وقد أخبر الله عن المنافقين بما اخبر ووصفهم بما وصفهم فقال الله عز وجل: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم ([المنافقون / 5]، ثم بقوا بعده وتقربوا إلى أئمة الضلال والدعاة إلى النار بالزور والكذب والبهتان، فولوهم الأعمال وحملوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك، والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أول الأربعة.
و (رجل) سمع من رسول الله (ص) فلم يحفظه على وجهه، ووهم فيه، ولم يتعمد كذبا، وهو في يده يرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله (ص) فلو علم المسلمون انه وهم لم يقبلوا، ولو علم هوانه وهم لرفضه.
و (رجل) ثالث سمع رسول الله (ص) شيئا أمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه نهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ فلو علم انه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون انه منسوخ لرفضوه.
و (رجل) رابع لم يكذب على الله، ولا على رسول الله بغضا للكذب وتخوفا من الله وتعظيما لرسوله (ص) ولم يوهم، بل حفظ ما سمع
214

على وجهه فجاء به كما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص، وحفظ الناسخ من المنسوخ فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ، وان أمر رسول الله (ص) ونهيه مثل القرآن ناسخ ومنسوخ، وعام وخاص، ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من رسول الله (ص) الكلام له وجهان كلام خاص، وكلام عام مثل القرآن يسمعه من لا يعرف ما عنى الله به، وما عنى به رسول الله (ص).
وليس كل أصحاب رسول الله (ص) كان يسأله فيفهم، وكان منهم من يسأله ولا يستفهم، حتى ان كانوا يحبون ان يجئ الطارئ، والأعرابي فيسأل رسول الله (ص) حتى يسمعوا منه، وكنت أدخل على رسول الله (ص) كل يوم دخلة، وكل ليلة دخلة، فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله (ص) انه لم يكن يصنع ذلك بأحد غيري، وربما كان ذلك في منزلي فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نساءه فلم يبق غيري وغيره، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم يقم من عندنا لا فاطمة ولا أحدا من ابني، وإذا سألته أجابني، وإذا سكت أو نفذت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية من القرآن إلا أقرأنيها وأملاها علي فكتبتها بخطي، ودعا الله أن يفهمني إياها ويحفظني، فما نسيت آية من كتاب الله منذ حفظتها وعلمني تأويلها وأملاه علي فكتبته، وما ترك شيئا علمه الله من حلال وحرام، أو أمر ونهي، أو طاعة ومعصية، ما كان أو يكون إلى يوم القيامة إلا وقد علمنيه وحفظته ولم أنس منه حرفا واحدا، ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علما، وفهما وحكما ونورا، وأن يعلمني فلا أجهل، وأن يحفظني فلا أنسى، فقلت له
215

ذات يوم: يا نبي الله إنك منذ يوم دعوت الله لي لم أنس شيئا مما علمتني، فلم تمليه علي وتأمرني بكتابته؟
أتتخوف علي النسيان؟ فقال: لا يا أخي لست أخوف عليك النسيان، ولا الجهل، وقد أخبرني الله انه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك.
قلت: يا نبي الله ومن شركائي؟ قال الذين قرنهم الله بنفسه، وبي معه، الذين قال في حقهم (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ([النساء / 60]، قلت: يا نبي الله ومن هم؟ قال: الأوصياء إلى ان يردوا علي حوضي، كلهم هاد مهتد لا يضرهم كيد من كادهم، ولا خذلان من خذلهم، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم، بهم ينصر الله أمتي، وبهم يمطرون، ويدفع عنهم بمستجاب دعوتهم.
فقلت يا رسول الله سمهم لي؟ فقال: ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسن - ثم ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسين - ثم ابن ابني هذا - ووضع يده على رأس الحسين أيضا - وهو " علي بن الحسين " ثم ابن له أسمي اسمه محمد باقر علمي وخازن وحي الله، وسيولد علي في حياتك يا أخي فأقرئه مني السلام، ثم أقبل على الحسين وقال له: سيولد لك محمد بن علي في حياتك فأقرئه مني السلام، ثم تكملة الاثني عشر إماما من ولدك يا أخي، فقلت: يا نبي الله سمهم لي فسماهم لي رجلا رجلا، منهم والله - يا بني هلال - مهدي هذه الأمة
216

يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا، والله إني لأعرف جميع من يبايعه بين الركن والمقام، وأعرف أسماء الجميع وقبائلهم.
قال سليم: ثم لقيت الحسن والحسين (ع) بالمدينة بعد ما قتل أمير المؤمنين (ع) فحدثتهما بهذا الحديث عن أبيهما فقالا: صدقت، قد حدثك أبونا بهذا الحديث ونحن جلوس، وقد حفظنا ذلك عن رسول الله (ص) كما حدثك أبونا سواء لم يزد ولم ينقص.
قال سليم: ثم لقيت علي بن الحسين (ع) وعنده ابنه محمد بن علي (ع) فحدثته بما سمعت من أبيه وعمه وما سمعت من علي (ع) فقال علي بن الحسين (ع): قد أمرني أمير المؤمنين (ع) عن رسول الله (ص) السلام وهو مريض وأنا صبي، ثم قال محمد (ع): وقد أمرني جدي الحسين (ع) من رسول الله (ص) - وهو مريض - السلام... الخ (1).
الطريق الخامس من ينابيع علم الأئمة (ع)
الكتب المنزلة على رسل الله السابقين
الخامس مما ورثه علي (ع) والأئمة من أبنائه من النبي (ص) الكتب الإلهية التي أنزلها الله على رسله وأنبيائه السابقين من صحف، وتوراة، وإنجيل، وزبور، وسائر ما أتى الله رسله من علوم ومعجزات، وسلاح وكرامات، وقد ورثها النبي (ص) عنهم، وورثها أئمة الهدى منه (ص) وقد تواتر هذا عنهم (ع) وأذاعوه ونشروه في الكثير من أحاديثهم الشريفة، وما ورد
(1) كتاب سليم بن قيس من ص 83 - ص 87.
217

عنهم في أدعيتهم، والزيارات الواردة عنهم، حتى لا يبقى أحد يجهل هذه الحقيقة الثابتة لهم، وإليك بعض تلكم النصوص.
نصوص من الأحاديث
فقد ذكر شيخنا الكليني في (أصول الكافي) في أبواب عديدة في أنهم (ع) ورثة علوم النبي (ص) الذي ورث من قبلهم علوم الأنبياء (ع) حيث روى في باب: " ان الأئمة (ع) ورثة العلم يرث بعضهم بعضا " ثمانية أحاديث في هذا الباب نذكر واحدا منها حذرا من الإطالة.
روى مسندا عن علي بن النعمان، عن أبي جعفر (ع) انه قال: يمصون الثماد، ويدعون النهر العظيم، قيل له: وما النهر العظيم؟ قال: رسول الله (ص)، والعلم الذي أعطاه الله، ان الله جمع لمحمد (ص) سنن النبيين من آدم وهلم جرا إلى محمد (ص)، قيل له: وما تلك السنن؟ قال: علم النبيين بأسره، وان رسول الله (ص) صير ذلك كله عند أمير المؤمنين (ع)، فقال له رجل: يا بن رسول الله فأمير المؤمنين أعلم أم بعض النبيين؟ فقال أبو جعفر: اسمعوا ما يقول: إن الله يفتح مسامع من يشاء إني أحدثه ان الله جمع لمحمد (ص) علم النبيين، وإنه جمع ذلك كله عند أمير المؤمنين (ع) وهو يسألني أهو أعلم أم بعض النبيين؟ (1)
إيضاح مهم للحديث
(1) (الشافي في شرح الكافي) م 3 من ص 163 - 166 والحديث ص 165 وروى الحديث أيضا الصفار في (بصائر الدرجات) ج 5 ص 228.
218

قوله (ع) في هذا الحديث الشريف: يمصون الثماد، ويدعون النهر، المص هو الشرب بالجذب كما يجذب الرضيع اللبن من ثدي أمه ويمصه، والثماد جمع، مفرده الثمد، وهو الماء القليل المتجمع في الأرض والوحل، وأراد (ع) بهذا المثل أن يبين لنا ان الذي يأخذ العلم من غير طريق علي والأئمة مثله كمن يمص الماء القليل المخلوط بالطين، والذي ليس له مادة متصلة من ينبوع جار، ويعني بذلك ان هذا العلم المأخوذ من غير طريقهم (ع) كله مخلوط بالشبه والشكوك وغير معلوم اتصاله بالمنبع الأصيل، كما الثماد المخلوط بالطين والوحل، ومثل من يأخذ العلم من طريق أهل البيت (ع) كمثل من يشرب الماء ويأخذه من النهر العظيم الجاري الذي لا ينقطع فحينئذ يكون علمه متصلا بالعلم الذي أخذه رسول الله (ص) عن الله عز وجل من طريق الوحي والإلهام، والذي جمع الله له علوم النبيين كلهم، وأخيرا أودعه كله عند علي أمير المؤمنين والأئمة من أبنائه (ع).
وإلى هذه الحقيقة يشير النبي (ص) بأحاديث كثيرة وشهيرة من طرق عديدة، مثل قوله (ص):
{أنا مدينة العلم وعلي بابها... الخ} (1).
وقوله (ص): {علي والأئمة من بعده أبواب العلم في أمتي} (2).
وقوله (ص) من جملة حديث: {علي وارث علم النبيين} (3).
(1) راجع (إحقاق الحق) في مصادر الحديث، ج 5 الباب التسع من ص 468 - 500.
(2) المصدر السابق ج 4 ص 59.
(3) (إحقاق الحق) ج 4 ص 122.
219

وذكر الكليني في (الكافي) باب " ان الأئمة (ع) ورثوا علم النبي وجميع الأنبياء والأوصياء " سبعة أحاديث نذكر واحدا منها مسندا عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (ص): ان أول وصي كان على وجه الأرض هبة الله (شيت) بن آدم، وما من نبي مضى إلا وله وصي، وكان جميع الأنبياء مائة ألف نبي وأربعة وعشرين ألف نبي، منهم خمسة أولوا العزم، نوح، وإبراهيم، وعيسى، وموسى، ومحمد عليهم السلام، وان علي بن أبي طالب كان هبة الله لمحمد (ص) ورث علم الأوصياء وعلم من كان قبله، أما ان محمدا ورث علم من كان قبله من الأنبياء والمرسلين، على قائمة العرش مكتوب، حمزة أسد الله وأسد رسوله وسيد الشهداء، وفي ذوابة العرش (أي أعلاه) علي أمير المؤمنين (ع) فهذه حجتنا على من أنكر حقنا وجحد ميراثنا... الخ (1).
وذكر الكليني في (الكافي) في باب " ان الأئمة (ع) عندهم جميع الكتب التي أنزلت من عند الله عز وجل، وأنهم يعرفونها على اختلاف ألسنها " حديثين نذكر واحدا منهما، يروي بسنده عن مفضل بن عمر قال: أتينا باب أبي عبد الله أي الصادق (ع) ونحن نريد الأذن عليه، فسمعناه يتكلم بكلام ليس بالعربية فتوهمنا انه بالسريانية، ثم بكى فبكينا لبكائه، ثم خرج إلينا الغلام فإذن لنا فدخلنا عليه، فقلت: أصلحك الله أتينا نريد الإذن عليك فسمعناك تتكلم بكلام ليس بالعربية، فتوهمنا انه
(1) (الشافي) ج 3 ص 167 - ص 175 والحديث ص 169.
220

من السريانية، ثم بكيت فبكينا لبكائك، فقال: نعم: ذكرت إلياس النبي (ع) وكان من عباد بني إسرائيل، فقلت كما كان يقول في سجوده، يقول المفضل: ثم اندفع الإمام فيه بالسريانية، فلا والله ما رأينا قسا ولا جاثليقا أفصح لهجة منه به.
ثم فسر لنا كلامه بالعربية فقال: كان يقول في سجوده أتراك معذبي وقد أظمأت لك هواجري (1).
أتراك معذبي وقد عفرت لك في التراب وجهي، أتراك معذبي وقد اجتنبت لك المعاصي، أتراك معذبي وقد أسهرت لك ليلي: قال: فأوحى الله إليه، أن ارفع رأسك فأنى غير معذبك... الخ (2).
وذكر الكليني في باب " ما عند الأئمة من آيات الأنبياء " خمسة أحاديث نذكر حديثا منها حيث روى بسنده عن محمد بن الفيض، عن أبي جعفر (ع) قال: كانت عصى موسى ل (آدم) (ع) فصارت إلى شعيب ثم صارت إلى موسى بن عمران، وإنها لعندنا، وان عهدي بها آنفا، وهي خضراء كهيئتها حين انتزعت من شجرتها، وإنها لتنطق إذا استنطقت، اعدت لقائمنا (ع) يصنع بها ما كان يصنع موسى، وإنها لتروع وتلقف ما يأفكون... الخ (3).
(1) الهواجر، جمع هاجرة، تكن الناس في بيوتهم كأنهم قد تهاجروا لشدة الحر.
(2) المصدر السابق م 3 ص 176 - ص 178، و (الاختصاص) للمفيد ص 286 بتغيير يسير ومن طريق آخر.
(3) (الشافي) ج 3 ص 184 - ص 188 و (بصائر الدرجات) ج 4 ص 183 ط 2.
221

أقول: وفي بقية الأحاديث من هذا الباب ان عندهم أيضا ألواح موسى، وحجر موسى الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وخاتم سليمان، وقميص يوسف وهو القميص الذي أنزله الله من الجنة على آدم (ع) وان كل نبي ورث علما أو غيره وقد انتهى إلى آل محمد (ص) وانهم ورثة الأنبياء.
وذكر الكليني في باب " ان الأئمة يعلمون جميع العلوم التي خرجت إلى الملائكة والأنبياء والرسل (ع)، وروى في هذا الباب أربعة أحاديث نذكر واحدا منها، روى بسنده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (ع) انه قال: ان لله عز وجل علمين علما عنده لم يطلع عليه أحدا من خلقه، وعلما نبذه إلى ملائكته ورسله، فما نبذه إلى ملائكته
ورسله فقد انتهى إلينا (1).
تعليق مهم على تلك الأحاديث
قد يتوهم بعض السامعين أو المطالعين - لهذه الأحاديث الواردة عن أئمة الهدى - ان فيها مغالاة أو مبالغة في علومهم، وقد يشك في صحة ثبوتها عنهم أو عدم ثبوتها، ولكن التدبر لما قدمناه من طرق علومهم الإلهامية، وعرض صحائف الأعمال عليهم دائما وأبدا في حياتهم وبعد وفاتهم، وحديث الملائكة معهم، وعرض المقدرات ليلة القدر عليهم، وإيراثهم تلك العلوم كلها عن النبي (ص) والتي من جملتها
(1) (الشافي) ج 3 ص 224 - 226.
222

علوم القرآن المجيد الذي فيه تبيان كل شيء، وما مر من الدلائل الواضحة القطعية على ذلك فحينئذ - بهذا التدبر - يزول ذلك التوهم، وهذا الشك، لأن تلك العلوم من تلكم الطرق هي الأهم والأعظم من إيراثهم علوم الأنبياء وكتبهم.
ويؤيد ذلك ما ورد في بعض أحاديثهم (ع) عن ضريس الكناسي قال: كنت عند أبي عبد الله (ع) وعنده أبو بصير فقال أبو عبد الله: ان داود ورث علم الأنبياء وان سليمان ورث داود، وان محمدا ورث سليمان، وإنا ورثنا محمدا (ص) وان عندنا صحف إبراهيم وألواح موسى، فقال أبو بصير: (ويقال له أبو محمد أيضا): ان هذا لهو العلم، فقال الإمام (ع):
يا أبا محمد ليس هذا هو العلم، إنما العلم ما يحدث بالليل والنهار يوما بيوم، وساعة بساعة (1)، قول الإمام الصادق (ع) في هذا الحديث: {ليس هذا هو العلم، إنما العلم ما يحدث بالليل والنهار يوما بيوم، وساعة بساعة} نفيه (ع) في هذا الحديث العلم الموروث من الأنبياء وكتبهم بقوله {ليس هذا هو العلم} إنما يريد به النسبة.
أي نسبة هذا العلم إلى العلم الذي يفيضه الله سبحانه من عنده على قلب المؤمن آنا بعد آن، كأنه ليس بعلم، لأن ذلك العلم الموروث من الأنبياء وكتبهم مادي وتقليدي، قد يحصل من طرق السماع وقراءة الكتب أو حفظها، وقد تقع كتبهم بيد من لا يعرف تنزيلها وتأويلها
(1) (الشافي) ج 3 ص 171، و (بصائر الدرجات) ج 3 ص 135 من طريقين.
223

ومفادها ولكن العلم الحقيقي هو العلم الذي يفيضه الله سبحانه على قلوب المخلصين من عباده في كل وقت من الليل والنهار ساعة بساعة، كما ورد: {إن العلم نور يقذفه الله في قلوب العارفين} وفي نص {العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء}، إذ بهذا العلم الحقيقي المستمد مباشرة من الله عز وجل وبلا واسطة هو الذي تستر به النفس الإنسانية السليمة، وينشرح به الصدر للمؤمن، ويتنور به القلب للمخلص، ويتحقق به العلم للعالم بحيث كأنه ينظر إليه ويشاهده.
وإلى هذا العلم يشير القرآن المجيد بقوله تعالى: (أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله أولئك في ضلال مبين ([الزمر / 23].
وبقوله تعالى: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ([الأنعام / 126].
ومن هنا قلنا - فيما مضى -: ان العلم الإلهامي هو أفضل طرق علومهم، وأساسها الذي تتفرع منه وترجع إليه جميع الطرق والجهات الأخرى.
بل قد تعتبر جميع طرق علومهم من عرض صحائف الأعمال، وعرض المقدرات من السنة إلى السنة في ليلة القدر، وعرض سائر الكتب الإلهية من صحف وتوراة وإنجيل وزبور وقرآن وغيرها من
224

الكتب - التي سنذكرها فيما يلي - كلها تعتبر كجسم، وعلمهم الإلهامي روح لها.
فلولا هذا العلم الإلهامي من الله عز وجل لهم لما استطاعوا ان يتفوقوا على جميع ما أودع في تلك الكتب من حقائق وعلوم ومعارف.
فهم (ع) إنما يستمدون علومهم كلها - بجهد - من هذه المعروضات عليهم بواسطة الإلهام، لا أنهم يستمدون علمهم مما عند الناس الآخرين، حيث ان الله جل وعلا قد أغناهم بهذه العلوم عما عند الناس من علم.
وقد اعترف بهذه الحقيقة وعرفها جيدا المأمون بن الرشيد العباسي بقوله لبني العباس لما أراد أن يزوج الإمام الجواد (ع) بابنته - لأغراض سياسية - ومنعه العباسيون من ذلك، قال لهم: ويحكم ان أهل هذا البيت علمهم من الله، ومواده، وإلهامه، لم تزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب عن الرعايا الناقصة عن حد الكمال... الخ (1).
بل قد اعترف بهذه الحقيقة لأئمة الهدى حتى يزيد بن معاوية بقوله لما طلب زين العابدين (ع) منه ان يخطب وأبى أن يأذن له، قال له أصحابه إئذن له يا أمير، قال: انه ان صعد لم ينزل إلا بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان، فقالوا له: وما قدر ما يحسن هذا؟ قال: انه من أهل بيت زقوا العلم زقا، أي زقوا العلم من الله بواسطة رسوله (ص) ويشير بذلك إلى قول علي (ع) في بعض خطبه: هذا سفط العلم هذا لعاب رسول
(1) راجع التفصيل في كتابنا هذا من ص 84 - ص 98.
225

الله (ص) هذا ما زقنيه رسول الله زقا، فاسألوني فأن عندي علم الأولين والآخرين.
نعم هكذا عرف أعداء أهل البيت - وغاصبي حقهم - مقامهم السامي عند الله، وأنهم حجج الله بعد رسوله، وان علومهم كلها من عند الله، وأنهم مع الحق والحق معهم، ولكنهم كرهوهم، وغصبوا حقوقهم لكرههم الحق بعد أن عرفوه - إتباعا للهوى، وركونا إلى الدنيا - وهذا ما أنكره الله عليهم وعلى أمثالهم بقوله تعالى: (أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون (69) أم يقولون به جنة بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون (70) ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل
أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون ([المؤمنون / 70 - 72]، وقال تعالى: (لقد جئناكم بالحق ولكن أكثركم للحق كارهون (78) أم أبرموا أمرا فإنا مبرمون (79) أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون ([الزخرف / 79 - 80]، وقال تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ([النمل / 15].
ومن مجموع ما تقدم علمنا علم اليقين ان أئمة الهدى من أهل بيت النبي (ص) لا يقاس بهم أحد من الناس مطلقا لتفوقهم عليهم بكل فضل وفضيلة، وان الله قد آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، لعلمه جل وعلا باستحقاقهم لهذا التفوق وهو الحكيم العليم.
226

ويؤيد ذلك قول النبي (ص) الشهير المروي بأسانيد عديدة وطرق كثيرة: نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد (1).
وكان علي (ع) يصرح بهذا على المنبر أمام الجماهير العامة فيقول: " نحن أهل بيت رسول الله لا يقاس بنا أحد " (2).
وهذا عبد الله بن عمر بن الخطاب حينما سئل عن علي - بالنسبة إلى الصحابة - قال: علي من أهل بيت لا يقاس به أحد، وهو مع رسول الله (ص) في درجته، ثم استدل على ذلك بقول الله تعالى: ان الله يقول: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم ([الطور / 22]، ثم قال: ففاطمة مع رسول الله في درجته، وعلي معهما (3).
فهذا علي وهؤلاء أبناؤه المعصومون هم أهل العلوم الإلهامية وهم مع رسول الله في درجته، وورثة علومه وعلوم الأنبياء والمرسلين من قبله الذين اجتباهم الله سبحانه وخاطبهم بقوله: (شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى
(1) راجع (ذخائر العقبى) لمحب الدين الطبري الشافعي باب ذكر أنهم لا يقاس أحد بهم ص 17 نقلا عن الملا في سيرته، و (أرجح المطالب) للشيخ عبيد الله الحنفي ص 330، نقلا عن ابن مردويه في (المناقب) و (كنز العمال) للمتقي الهندي الحنفي ج 1 ص 218، والشيخ سليمان الحنفي في (ينابيع المودة) نقلا عن الملا ص 192، و (مقام أمير المؤمنين) للشيخ نجم الدين العسكري ص 49.
(2) (أرجح المطالب) نقلا عن الديلمي في (فردوس الأخبار)، ونقله عن الفردوس أيضا المتقي الهندي في (كنز العمال) ص 218.
(3) (ينابيع المودة) ص 253 نقلا عن كتاب (مودة القربى) للسيد علي الشافعي.
227

وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب ([الشورى / 14] (1).
فالرسل والأنبياء والأوصياء ونبينا وأئمة الهدى من أهل بيته هم كلهم حملة دين الله، وأمناؤه في أرضه، وحفظة سره كما جاء في دعاء الندبة بعد ذكر أولي العزم من الرسل نوح وإبراهيم وموسى وعيسى قال: وكل شرعت له شريعة، ونهجت له منهاجا، وتخيرت له أوصياء مستحفظا بعد مستحفظ من مدة إلى مدة إقامة لدينك وحجة على عبادك... الخ. (2)
فهم سلسلة متواصلة غير منقطعة من آدم إلى الخاتم وإلى ان يرث الله الأرض ومن عليها، يرث اللاحق منهم السابق وأفضلهم - على الإطلاق - نبينا وأئمتنا الهداة (ع) الذين ورثوا العلوم كلها عن الله ورسوله وسائر رسله وأنبيائه السابقين.
نصوص من الزيارات
اقرأ ما جاء في زيارة الجامعة الكبيرة التي هي أحسن الزيارات الجامعة متنا وسندا وأكملها وأولها تقول: " أشهد ان لا إله إلا الله وحده
(1) راجع (الشافي في شرح أصول الكافي) م 3 ص 167 فيما ورد من تفسير الآية الكريمة.
(2) (مفتاح الجنات) ج 3 من ص 328 - ص 335 وسائر كتب الأدعية.
228

لا شريك له، وأشهد ان محمدا عبده ورسوله، ثم تكبر الله مائة مرة، ثم تقول:
السلام عليكم يا أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ومهبط الوحي ومعدن الرحمة وخزان العلم ومنتهى الحلم وأصول الكرم وقادة الأمم وأولياء النعم وعناصر الأبرار ودعائم الأخبار، وساسة العباد وأركان البلاد، وأبواب الإيمان وأمناء الرحمن وسلالة النبيين وصفوة المرسلين وعترة خيرة رب العالمين ورحمة الله وبركاته.
السلام على أئمة الهدى ومصابيح الدجى وأعلام التقى وذوي النهى واولي الحجى وكهف الورى وورثة الأنبياء والمثل الأعلى والدعوة الحسنى وحجج الله على أهل الدنيا والآخرة والأولى ورحمة الله وبركاته... الخ " (1).
وجاء في زيارة أمير المؤمنين (ع) ليلة المبعث النبوي ويومه على ما ذكر المفيد، والشهيد في مزاريهما، والسيد ابن طاووس في مصباح الزائر فقالوا: إذا أردت زيارة أمير المؤمنين (ع) ليلة المبعث أو يومه فقف على باب القبة الشريفة مقابل ضريحه وقل:
" أشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وان علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عبد الله وأخو رسوله،
(1) (راجع (مفتاح الجنات) ج 2 ص 211 وسائر كتب الأدعية.
229

وأن الأئمة الطاهرين من ولده حجج الله على خلقه، ثم ادخل وكبر الله مائة مرة وقل:
السلام عليك يا وارث آدم خليفة الله، السلام عليك يا وارث نوح صفوة الله، السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل الله، السلام عليك يا وارث موسى كليم الله، السلام عليك يا وارث عيسى روح الله، السلام عليك يا وارث محمد سيد رسل الله، السلام عليك يا أمير المؤمنين... الخ " (1).
ومثل ذلك ورد في زيارة الإمام الحسين المعروفة بزيارة وارث، وجاء في كثير من زيارات أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين (ع) انهم ورثة علوم الأنبياء، وورثة علوم الأولين والآخرين.
ويؤيد ذلك ما تواتر عن النبي (ص) بتشبيهه علي (ع) برسل الله وأنبيائه في أحاديث كثيرة، مثل قوله (ص): {من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، " وفي نص: في طاعته، وفي نص: في حكمه "، وإلى إبراهيم في خلته، " وفي نص: في حلمه "، وإلى موسى في بطشه، " وفي نص: في هيبته "، وإلى عيسى في عبادته " وفي نص: في ورعه "، فلينظر إلى علي بن أبي طالب}.
(1) راجع (البحار) ج 10 ص 377، وفي الحاشية (مصباح الزائر) ص 93 و (مزار الشهيد) ص 30، و (مفتاح الجنات) ج 2 ص 291، وص 285، وص 304، وص 111 وغيرها من كتب الأدعية.
230

وفي بعض النصوص: وإلى يعقوب في حزنه، وإلى يوسف في جماله، وإلى سليمان في ملكه، وإلى أيوب في صبره، وإلى يحيى في زهده، وإلى يونس في سننه، وإلى محمد (ص) في خلقه وجسمه وشرفه وكمال منزلته فلينظر إلى علي بن أبي طالب.
ومصادر هذه الأحاديث كثيرة، وقد جمع بعضها صاحب (تعليقات إحقاق الحق) فراجع إذا شئت (1).
يقول الشاعر:
أن يجمع العالم في واحد.
ليس على الله بمستنكر.
ونختم هذا المورد بما جاء في الصحيفة السجادية الجامعة ص 43، ومنتخب الأدعية ص 13: -
" اللهم يا من خص محمدا وآله بالكرامة، وحباهم بالرسالة، وخصهم بالوسيلة، وجعلهم ورثة الأنبياء، وختم بهم الأوصياء والأئمة (ع) وعلمهم علم ما كان وعلم ما يكون، وجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم، فصل على محمد وآله الطاهرين وأفعل بنا ما أنت أهله في الدين والدنيا إنك على كل شيء قدير برحمتك يا ارحم الراحمين ".
(1) (إحقاق الحق) ح 4 من ص 392 - ص 406، وج 5 ص 4 - ص 6.
231

الطريق السادس من ينابيع علم الأئمة (ع)
تفسير القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين (ع)
بأمر النبي بعد وفاته (ص)
السادس مما ورثه الأئمة من النبي (ص) تفسير القرآن المجيد الذي ألفه الإمام علي (ع) بأمر النبي بعد وفاته (ص) مباشرة، وهو (ع) أول من جمع القرآن وفسره حسب النصوص الواردة من طرق عديدة.
قال السيد عبد الحسين شرف الدين في كتابيه (المراجعات) و (مؤلفوا الشيعة في صدر الإسلام): وأول شيء دونه أمير المؤمنين (ع) كتاب الله عز وجل، فإنه (ع) بعد فراغه من تجهيز النبي (ص) آلى على نفسه ان لا يرتدي إلا للصلاة أو يجمع القرآن فجمعه مرتبا على حسب النزول (1).
(1) القرآن الذي جمعه أمير المؤمنين ~ وألفه هو هذا المجموع بين الدفتين، والموجود بين الناس من سورة الفاتحة إلى سورة الناس بلا زيادة ولا نقيصة، ولا تغيير ولا تبديل، وهو الحجة الباقية على الناس أجمعين، وبه يحتج الله تعالى يوم القيامة على العباد، وهو الحجة البالغة، قال تعالى: " إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون " [الحجر / 9]، نعم وهذا القرآن الموجود بيننا - بالإجماع - لم يرتب على حسب نزوله كما هو معلوم لدى القاصي والداني، والذي جمعه كما هو موجود الآن هو النبي (ص) مع جبرئيل ~ كما ورد: ان جبرئيل كان يعارض النبي (ص) بالقرآن كل عام مرة، وانه عارضه به عام وفاته مرتين، أي كان يدارسه جميع ما نزل من القرآن، من المعارضة - وهي المقابلة، ومنه: عارضت الكتاب أي قابلته (راجع مجمع البحرين ص 330 كتاب الضاد، باب ما أوله العين، وراجع - فيمن جمع = = القرآن، وفي صيانة من التحريف، بصورة مفصلة - البيان في تفسير القرآن، لآية الله السيد الخوئي (ره) من ص 136 - ص 181، وكتاب (سلامة القرآن الكريم من التحريف)، لفضيلة العلامة الشيخ باقر القريشي).
ولا يخفى ان هذا الجمع - بهذا النظام - يقصر عنه جميع الناس، ولا يستطيعه أحد منهم ولا كلهم، لأنه فعل الله، وبأمر الله، وكما أن الله ليس كمثله شيء، فكذلك فعل الله ليس كفعل خلقه.
ومن هنا نرى ان القرآن - من أوله إلى آخره - مرتبط بعضه ببعض، في آياته وسوره كلها، ويبين ذلك الارتباط الكثير من المفسرين المحققين كما هو معلوم لدارسي تفسير القرآن، ومزاولي علومه، ولو جمع على حسب نزوله - للقراءة - لكان غير مرتبط بعضه ببعض، ذلك لاختلاف الموارد التي تنزل فيها آياته فتدبر.
أما أمير المؤمنين ~ فقد جمعه - بأمر النبي (ص) - جمعا مرتبا على حسب نزوله لتفسيره، وتحقيق معارفه كلها، وهو ~ أعلم - بعد النبي (ص) بها كما هو معلوم، والحمد لله.
232

وأشار إلى عامه وخاصه ومطلقه ومقيده، ومجمله ومبينه، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وسننه وآدابه، ونبه على أسباب النزول في آياته البينات، وأوضح ما عساه يشكل من بعض الجهات.
وكان ابن سيرين يقول فيما نقله عنه ابن حجر في (صواعقه ص 76): لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم.
233

وقال (ابن حجر في الصواعق أيضا ص 72): ان عليا جمع القرآن وعرضه على النبي (ص)، والصحيح ما قلناه، وبه تواترت الأخبار عن أبنائه الأخيار... الخ (1).
فكان جمع علي (ع) للقرآن وتأليفه له جمعا مرتبا على حسب نزوله من جهة، ومفسرا له من جهة ثانية (2).
وروى سليم بن قيس في كتابه في ضمن حديث طويل ينقله عنه سلمان الفارسي جاء فيه قوله: وأقبل علي (ع) على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه كله وكتبه بيده، تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ، وبعث إليه أبو بكر أن اخرج وبايع، فبعث إليه علي: إني مشغول، وقد آليت على نفسي يمينا ان لا أرتدي رداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه، فسكتوا عنه أياما، فجمعه في ثوب واحد وختمه، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله (ص) فنادى علي بأعلى صوته: أيها الناس إني لم أزل منذ قبض رسول الله (ص) مشغولا بغسله، ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد، قلم ينزل الله آية إلا وقد جمعتها، وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله (ص) وعلمني تأويلها لئلا تقولوا غدا إنا كنا عن هذا غافلين، ولا يقولوا: إني لم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته، فقال عمر: ما أغنانا بما معنا من القرآن عما تدعونا إليه... الخ (3).
(1) (المراجعات) رقم 110 ص 333، و (مؤلفوا الشيعة في صدر الإسلام) ص 13.
(2) راجع (البيان) للسيد الخوئي ص 172، ففيه زيادة إيضاح ونصوص.
(3) راجع الحديث بطوله في كتاب (سليم بن قيس) ص 63 - 72.
234

وقال المسعودي في (إثبات الوصية): ثم ألف (ع) القرآن، وخرج إلى الناس وقد حمله في إزار معه، وهو ينط من تحته، فقال لهم: هذا كتاب قد ألفته كما أمرني، وأوصاني رسول الله (ص) كما انزل، فقال له بعضهم: اتركه وأمض فقال لهم: إن رسول الله (ص) قال لكم: إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فإن قبلتموه فاقبلوني معه أحكم بينكم بما فيه من أحكام الله، فقالوا له: لا حاجة لنا فيه ولا فيك، فأنصرف به معك لا تفارقه ولا يفارقك، فأنصرف عنهم... الخ (1).
نعم وبقي ذلك القرآن في تفسيره الصحيح عند علي (ع) ومن بعده عند الحسن (ع)، وهكذا صار من المواريث الخاصة بالأئمة الطاهرين، وهو الآن عند إمام العصر والزمان مهدي آل محمد (عج).
ومن هنا ورد عن الإمام الباقر (ع) انه قال: إذا خرج " أي الإمام المهدي " يقوم بأمر جديد، وكتاب جديد، وسنة جديدة، وقضاء جديد، على العرب شديد. (المجالس السنية) (2).
وعنه (ع) في حديث آخر قال: لكأني أنظر إليه بين الركن والمقام يبايع الناس بأمر جديد، وكتاب جديد، وسلطان جديد من السماء، أما انه لا ترد له راية أبدا حتى يموت (3).
(1) راجع (إثبات الوصية) للمسعودي ص 121.
(2) راجع (المجالس السنية) ج 5 ص 634.
(3) المصدر السابق.
235

والمراد من الأمر الجديد والكتاب الجديد والسنة الجديدة والقضاء الجديد والسلطان الجديد إنما هو الإتيان بشريعة الإسلام الحقة كما شرعها الله، والإتيان بالقرآن في تنزيله وتأويله، كما انزل في تفسيره وبيان أحكامه، والعمل بما درس من الحق قال تعالى: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ([الأنبياء / 106].
ووردت من طرق أهل السنة في جمع علي (ع) للقرآن مرتبا حسب النزول عدة روايات وتصريحات أخر منها، قال أبو الفرج محمد بن إسحاق المعروف بابن النديم في (الفهرس) ما نصه: ترتيب سور القرآن في مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، قال ابن المنادي، حدثني الحسن بن عباس قال: أخبرني عن عبد الرحمن بن حماد عن الحكم بن ظهير السدي عن عبد خير، عن علي (ع) انه:
رأى من الناس طيرة عند وفاة النبي (ص) فأقسم انه لا يضع عن ظهره رداءه حتى يجمع القرآن من قلبه... الخ (1).
وقال السيوطي في (الإتقان) قال ابن حجر: وقد ورد عن علي (ع) انه جمع القرآن على ترتيب النزول عقيب موت النبي (ص) أخرجه ابن أبي داود، وقال محمد بن سيرين: لو أصبت ذلك الكتاب كان فيه العلم (2).
(1) راجع كتاب (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) للسيد حسن الصدر ص 316.
(2) راجع كتاب (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) للسيد حسن الصدر ص 316.
236

واخرج أبو نعيم في (حلية الأولياء) بسنده عن عبد بن خير، عن علي (ع) قال: لما قبض رسول الله (ص) أقسمت، أو قال: حلفت ان لا أضع ردائي عن ظهري حتى أجمع ما بين اللوحين، " القرآن الذي كان مجموعا أيام النبي (ص) قال: فما وضعت ردائي عن ظهري حتى جمعت القرآن " (1).
الطريق السابع من ينابيع علومهم (ع) التي قد ورثوها
الكتب التي أملأها رسول الله (ص) على علي أمير المؤمنين (ع)
السابع مما ورثه الأئمة من النبي الكتب التي أملأها (ص) على علي أمير المؤمنين (ع) وقد دونت تلك الكتب على صحائف من جلود الأنعام، من بقر أو غنم أو أبل أو معز... الخ.
وكانت تتخذ لكتابة العلم فيها لقلة الورق في ذلك العصر، وكانوا يضمون الجلود بعضها إلى بعض لعدم كفاية جلد واحد للكتابة، وهي على أقسام.
1 - الجامعة
(1) (حلية الأولياء) لأبي نعيم ج 1 ص 67 ونقله عنه السيد الفيروز آبادي في (فضائل الخمسة من الصحاح الستة) ج 3 ص 51، ونقله السيوطي في (الإتقان) عن الحلية، وعن الخطيب في (الأربعين)، ونقله عن الإتقان السيد حسن الصدر في (تأسيس الشيعة لعلوم الإسلام) ص 316.
237

القسم الأول من تلك الكتب الجامعة، وهي كتاب طويل طوله سبعون ذراعا، من إملاء رسول الله (ص) وخط علي (ع) وتحتوي على جميع ما يحتاجه الناس من الحلال والحرام وسائر الأحكام، حتى أن فيها أرش الخدش، أي دية الخدش، وذلك كتفصيل لما جاء في القرآن الشريف من الأحكام التي شرعها الله لعباده وبيان لها.
وقد ورد وصفها بذلك في روايات عديدة عن الإمامين الباقر والصادق (ع) وقد سميت في تلك الروايات - بالجامعة، والصحيفة العتيقة، وقد رواها - عند الإمامين الباقر والصادق (ع) - بعض الرواة الثقاة من أصحابهما كأبي بصير وغيره، وإن الأئمة (ع) يتبعون ما في هذه الصحيفة ولا يحتاجون إلى أحد من الناس في علومهم (1).
كما صرح به الإمام الصادق (ع) في رواية بكر بن كرب الصيرفي قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: ان عندنا ما لا نحتاج معه إلى الناس، وأن الناس ليحتاجون إلينا، وان عندنا كتابا بإملاء رسول الله (ص) وخط
(1) ذكرت هذه الروايات في (بصائر الدرجات) تأليف الإمام محمد بن الحسن الصفار المتوفى سنة تسعين ومائتين وهو شيخ المحدثين القميين وقد أدرك الإمام الحسن العسكري، وقد كتب إليه بمسائل وتشرف بالجواب منه عليها، وذكرت هذه الروايات أيضا في (الكافي) للكليني و (الوافي) للمولى محسن الفيض، وذكر هذه الروايات المجلسي في (البحار) ج 7 من الطبع القديم باب جهات علومهم من ص 286 - ص 322.
238

علي (ع) بيده، صحيفة فيها كل حلال وحرام، وإنكم لتأتون بالأمر فنعرف إذا أخذتم به ونعرف إذا تركتموه (1).
ويشير (ع) بقوله: - فنعرف إذا أخذتم بهن ونعرف إذا تركتموه - إلى معرفتهم بأعمالهم بواسطة عرض صحائف الأعمال عليهم (ع).
وفي (بصائر الدرجات) قال (ع) وأنكم لتأتوننا فتدخلون علينا فنعرف خياركم من شراركم (2).
2 - الجفر الأبيض والجفر الأحمر
والقسم الثاني من الكتب التي ورثوها عن رسول الله (ص) الجفر الأبيض والجفر الأحمر، والجفر لغة هو جلد شاة أو ثور أو بعير يكتب عليه، والجفران هما من مؤلفات أمير المؤمنين (ع) أملأها عليه رسول الله (ص) وجاءت فيهما أخبار صحيحة عن أهل البيت (ع) وأكثرها عن الإمامين الباقر والصادق (ع) فمن تلك الأخبار ما رواه محمد بن الحسن الصفار في (بصائر الدرجات) والكليني في (الكافي) وغيرهما بإسناد عن الحسين بن عبد أبي العلاء قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: عندي الجفر الأبيض، قال: قلنا: أي شيء فيه؟ قال: فيه زبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى، وصحف إبراهيم، والحلال والحرام ومصحف فاطمة، ما أزعم أن فيه قرآنا، وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج إلى أحد.
(1) راجع (بصائر الدرجات) ج 3 ص 142، و (الشافي في شرح الكافي) ج 3 ص 202.
(2) (بصائر الدرجات) ج 3 ص 142.
239

وعندي الجفر الأحمر، وما يدريهم ما الجفر الأحمر؟ قال: قلنا: وأي شيء في الجفر الأحمر؟ قال: السلاح، وذلك إنما يفتح للدم، يفتحه صاحب السيف للقتل، فقال له عبد الله بن أبي يعفور: أصلحك الله أيعرف هذا بنو الحسن؟ فقال: أي والله كما يعرفون الليل أنه ليل والنهار أنه نهار، ولكنهم يحملهم الحسد، وطلب الدنيا على الجحود، ولو طلبوا الحق بالحق لكان خيرا لهم (1).
3 - مصحف فاطمة (ع)
والقسم الثالث من الكتب التي ورثوها عن رسول الله (ص) مصحف فاطمة، وهو من مؤلفات أمير المؤمنين (ع) الموجودة عند الأئمة الأطهار، وقد تواترت بذلك الأخبار عنهم (ع) وان فيه مثل قرآنكم هذا ثلاث مرات، وإنه ما فيه من قرآنكم حرف واحد، أو آية واحدة.
وبعض تلك الأخبار تصرح بأنه أملاه رسول الله (ص) وخطه علي أمير المؤمنين (ع) وبعضها تصرح بأنه أملاه جبرئيل على فاطمة (ع) بعد وفاة أبيها (ص) وان فيه أسماء الملوك، وليس فيه لبني الحسن شيء من الخلافة، وفيه علم ما يكون من الحوادث.
وأقول: يمكن أن يكون قسما منه إملاء رسول الله (ص) على علي (ع) أيام حياة النبي (ص) وقسم منه من حديث جبرئيل لفاطمة بعد وفاة أبيها هذا من جهة، ومن
جهة اخرى أن ما كان يحدثها به جبرئيل - قطعا - انه
(1) (بصائر الدرجات) ج 3 ص 150، و (الشافي في شرح الكافي) ص 200.
240

يعرض أولا على رسول الله (ص) ثم تحدث به فاطمة (ع) فهو يصح أن يكون من إملاء رسول الله (ص) وبأمره أيضا، وبهاتين الجهتين أو بأحديهما يرتفع الاختلاف بين التصريحين ولله الحمد.
وان كان المشهور انه من إملاء جبرئيل على فاطمة بعد وفاة أبيها (ص) وقد جاء هذا بعدة أحاديث منها ما جاء في حديث أبي عبيدة أنه سأل الإمام الصادق (ع) عن مصحف فاطمة، فقال (ع): ان فاطمة مكثت بعد رسول الله (ص) خمسة وسبعين يوما، وكان قد دخلها حزن شديد على أبيها، وكان جبرئيل يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها، ويخبرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها، وكان علي يكتب ذلك، فهذا مصحف فاطمة (ع).
وفي حديث آخر مسند عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وذلك أني نظرت في مصحف فاطمة، قال: فقلت: وما مصحف فاطمة؟ فقال: ان الله تبارك وتعالى لما قبض نبيه (ص) دخل على فاطمة من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فأرسل الله إليها ملكا يسلي عنها غمها، ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (ع) فقال لها: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته، فجعل يكتب كلما سمع حتى أثبت من ذلك مصحفا، قال:
241

أما أنه ليس فيه من الحلال والحرام، ولكن فيه علم ما يكون (1).
وهذه الكتب من الجامعة، والجفر الأبيض والجفر الأحمر ومصحف فاطمة، وتفسير القرآن المجيد، وسائر العلوم التي أنزلها الله تبارك وتعالى على رسوله (ص) وغيرها من كتب أخرى، وأسلحة كلها ورثها الأئمة الهداة من نبي الرحمة نبينا محمد (ص) وهي الآن عند الإمام صاحب العصر والزمان صلوات الله وسلامه عليه وعلى آبائه الطاهرين وعجل الله تعالى فرجه.
أما ما كان يحدث به جبرئيل وغيره من الملائكة فاطمة الزهراء (ع) فلا غرابة فيه ولا بدعة، ولا منافاة للأدلة القطعية، بل هذه خصوصيات يخص الله بها من يشاء من عباده من الرجال والنساء.
وللتأكيد راجع ما مر عليك من (الطريق الثالث من ينابيع علم الأئمة - حديث الملائكة معهم (ع) ومن جملة عناوين هذا الباب " المحدثون وليسوا بأنبياء من الرجال والنساء " و " الملائكة تحدث المؤمنين وغير المؤمنين عند حضور آجالهم ") ونختم الموضوع بقوله تبارك وتعالى: (يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم ([البقرة / 107] و [آل عمران / 76].
عود إلى الصفات الخمس لنبينا في القرآن
(1) راجع (بصائر الدرجات) ج 3 ص 53 أو ص 151، و (الشافي في شرح الكافي) ج 3 ص 200 وص 202.
242

يقول الله تبارك وتعالى في سورة الأحزاب: (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (45) وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا (.
الصفة الثانية والثالثة: كونه (ص) مبشرا ونذيرا
الصفة الثانية كونه (ص) مبشرا، أي يبشر كل من أطاع الله وأطاعه (ص) - بمطلق ما جاء به من الدين عقيدة وعملا - بحسن العاقبة في الدنيا، والجنة والنعيم المقيم في الآخرة.
والصفة الثالثة كونه (ص) نذيرا أي ينذر كل من عصى الله وعصاه - بمطلق ما جاء به (ص) من الدين عقيدة وعملا بسوء العاقبة والعذاب الأليم في الآخرة.
وقد جاء هذا النص المخاطب به النبي (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا (مكررا في سورتي [الأحزاب] و [الفتح / 9] كما جاء في سورة الفرقان قوله تعالى: (وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ([الفرقان / 56]، وقد قام النبي (ص) - امتثالا لأمر ربه - بواجب التبشير والتنذير بكل ما فيهما من معنى، حتى عرف (ص) وسمي بالبشير النذير.
ولم يقم بهذا الواجب الإلهي بتمامه وكماله نيابة عن النبي (ص) مثل ما قام به - بلا تغيير ولا تبديل ولا زيادة ولا نقصان - علي أمير المؤمنين وأبناؤه المعصومون من بعده، إذ هم أوصياؤه من بعده وخلفاؤه في أمته، وورثة علومه، وهم المبشرون والمنذرون بالتمام والكمال اللذين قام بهما النبي (ص).
243

الصفة الرابعة: كونه (ص) داعيا إلى الله
والصفة الرابعة كونه (ص) داعيا إلى الله باذنه أي يدعو إلى الله من الإقرار بتوحيده والامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه وسائر عباداته جل وعلا.
وهذه الدعوة منه (ص) بأذن تشريعي من الله له، أي ان الله هو الذي شرع له هذه الدعوة فهو إذا داعي الله في عباده، وما علينا نحن إلا أن نستجيب لهذه الدعوة المباركة التي تسبب لنا من جهة غفران ذنوبنا، وإخراجنا من العذاب الأليم، قال تعالى: (يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم (31) ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ([الأحقاف / 32 - 33].
ومن جهة أخرى ان استجابتنا له (ص) تسبب لنا الحياة الروحية الحقيقية وبدونها نكون أمواتا قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ([الأنفال / 25].
تدبروا هذه الآية الكريمة التي يخاطب الله بها المؤمنين بقوله (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول (ثم يقول (إذا دعاكم (ولم يقل: إذا دعاكما، فالضمير هنا يعود إلى الرسول فقط، ذلك لأن الرسول (ص) هو المباشر لهذه الدعوة باذن الله، وفلسفتها وعلتها، وفائدتها إنها
244

جاءت لإحيائنا، ومعنى هذا إنا إن أجبنا دعوة نبينا فنحن أحياء وإلا فنحن أموات غير أحياء، كما قال عز من قائل: (أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون ([النحل / 22].
وقال تعالى: (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين (80) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون ([النمل / 81 - 82]، و [الروم / 51 - 52].
ولم يقم أيضا بهذه الدعوة إلى الله وإلى دينه القويم بتمامه وكماله نيابة عن النبي (ص) مثل ما قام به - بلا تغيير ولا تبديل، ولا زيادة ولا نقيصة - علي الذي يقول فيه النبي (ص) " {لا يؤدي عني إلا أنا أو علي} (1).
وهكذا أئمة الهدى الأحد عشر من أبنائه المعصومين من بعده وخلفائه في أمته وورثة علومه " الدعاة إلى الله، والأدلاء على مرضاة الله، والمستقرين في أمر الله، والتامين في محبة الله، والمخلصين في توحيد الله، والمظهرين لأمر الله ونهيه، وعباده المكرمين الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون (2).
(1) راجع مصادر الحديث ونصوصه في كتاب (أبو هريرة) لآية الله السيد عبد الحسين شرف الدين ص 119 - 135 ط بيروت / المعارف.
(2) (مفتاح الجنات) ج 2 ص 212 من زيارة الجامعة الكبيرة.
245

قال رسول الله (ص): في كل خلف من أمتي عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ألا إن أئمتكم وفدكم إلى الله فانظروا من توفدون (1).
الصفة الخامسة: كونه (ص) سراجا منيرا
والصفة الخامسة كونه (ص) سراجا منيرا " أي يصدر منه النور المعنوي من جهته - بأفعاله وأقواله وإقراره - كما يصدر الضياء من جهة السراج. هذا من جهة ومن جهة أخرى قد يصدر منه النور المادي المشرق كإشراق الشمس نهارا، والقمر ليلا معجزة يجريها الله تعالى له لتصديق ما جاء به من ادعائه النبوة، أو ادعائه بوحي خاص أوحاه الله إليه في بعض الأحيان، فهو السراج المنير معنويا وماديا، روحا وجسما.
أما جسمه الشريف فقد خلقه الله من أفضل طينة مباركة، وأما روحه الطاهرة فقد خلقها الله من نوره جل وعلا، وهكذا أهل بيته المعصومون من علي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة التسعة من ولد
(1) راجع مصادر الحديث في كتابنا (قبس من القرآن) ص 23 فقد نقلناه عن (الصواعق المحرقة) ص 90، و (ذخائر العقبى) ص 17، نقلا عن الملا في سيرته، و (ينابيع المودة) ص 297، و (شرف النبوة) لأبي سعيد كما في (الصواعق) ص 141، ورواه من علمائنا الشيخ الصدوق في (إكمال الدين) ج 1 ص 330 عن الإمام الصادق عن آبائه (ع) ونصه: ان في كل خلف من أمتي عدلا من أهل بيتي ينفي عن هذا الدين تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، وان أئمتكم وفودكم إلى الله عز وجل، فانظروا من تقتدون في صلاتكم ودينكم.
246

الحسين (ع) كلهم شاركوه في ذلك النور المادي والمعنوي والروحي والجسمي، وهم منه وهو منهم على ما تواتر ذلك عنه (ص)، وكلهم مخلوقون من طينة واحدة، ومن نور واحد، وتجد تحقيق ذلك، والاستدلال عليه في كتابنا (قبس من القرآن) في صفات الرسول الأعظم (ص) في الفصل الأخير منه وعنوانه " الرسول الأعظم والنور الذي انزل معه " من ص 307 - ص 346، فراجع.
(والسلام على من اتبع الهدى ([طه / 48].
247

تحقيق حضور النبي والأئمة عند المحتضرين
روي عن النبي (ص) أنه قال: أول من اتخذ علي بن أبي طالب أخا من أهل السماء إسرافيل ثم ميكائيل ثم جبرئيل، وأول من أحبه من أهل السماء حملة العرش ثم رضوان خازن الجنان ثم ملك الموت وان ملك الموت ليترحم على محبي علي بن أبي طالب كما يترحم على الأنبياء (1).
يا لها من درجة عالية، ومنزلة راقية، وميزة عظيمة، ونعمة من الله تعالى جسيمة لمحبي علي أمير المؤمنين (ع) حيث ان ملك الموت يترحم عليهم - عند قبض أرواحهم - كما يترحم على الأنبياء الذين هم أفضل خلق الله عز وجل حسب نص هذا الحديث الشريف الذي رواه الخاص والعام بأسانيدهم عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود:
وصية النبي (ص) وأهل بيته ملك الموت بمحبهم
وإنما يترحم ملك الموت عليهم لان النبي (ص) والأئمة إذا حضروا محبهم حال احتضاره يوصون ملك الموت به، فإذا ترحمه على المحبين لا من نفسه بل بوصية من النبي (ص) وأهل بيته.
(1) راجع كتاب (المناقب) لأخطب خوارزم الحنفي ص 31 ط النجف، وص 42 ط تبريز، و (مقتل الحسين) للخوارزمي أيضا ج 1 ص 39 ط النجف ونقله عن الخوارزمي الشيخ سليمان الحنفي في (ينابيع المودة) ص 133 ط إسلام بول ونقله صاحب (إحقاق الحق) ج 6 ص 111 عن الشيخ عبيد الله الحنفي في (أرجح المطالب) ط لاهور ص 526، وقد رواه عن كتاب (اليواقيت).
255

وهذا ليس بغريب ولا عجيب من لطف أهل البيت وحنانهم لمحبيهم، لأن العادة قضت ان المحب الحقيقي يحضر عند محبوبه في وقت محنته وبلائه ليكون مساعدا له على ذلك.
وليت شعري أي محنة وبلاء أعظم من ساعة انتزاع الروح من الجسد ومفارقة الأحباب والمال والجاه والحياة التي هي أغلى كل شيء.
ومعلوم ان رسول الله (ص) والأئمة هم مثال العطف والحنان والرعاية والإحسان لشيعتهم ومحبيهم لذا يحضرون عندهم - وهم أحياء عند ربهم يرزقون - في مثل هذا المأزق الحرج والظرف العصيب ليكونوا مساعدين لهم ومنقذين لهم من ذلك البلاء، ومبشرين لهم بالخير العميم الذي سيقدمون عليه في عالمي البرزخ والقيامة.
يقول الإمام الصادق (ع) لمسمع بن عبد الملك البصري وكان من شيعته: يا مسمع أما أنك سترى - عند موتك - حضور آبائي لك، ووصيتهم ملك الموت بك وما يلقونك به من البشارة ما تقر به عينك قبل الموت، فملك الموت أرق عليك وأشد رحمة لك من الأم الشفيقة على ولدها (1).
(1) حديث الإمام الصادق مع مسمع طويل يرويه ابن قولويه في (كامل الزيارات) رقم 7 ص 134 على ما في كتاب (كربلاء وحائر الحسين) ص 89 وينقله المجلسي في (البحار) ج 44 ص 289 عن (الكامل) ص 100 وينقله الحائري في (معالي السبطين) ج 1 ص 93.
256

من شؤون إمامة النبي (ص) والأئمة حضورهم عند المحتضرين
وحضورهم (ع) لم يكن عند المحتضرين من محبيهم فقط، بل يحضرون عند كل محتضر مؤمن وكافر محب ومبغض، إذ أن من شؤون إمامتهم العامة - على جميع الناس - حضورهم عند كل محتضر ليبشروا المؤمن المحب بحسن العاقبة والجنة، والكافر المبغض بسوء العاقبة والنار.
وقد تواتر هذا المعنى في أحاديث النبي (ص) وأهل بيته الأطهار بتفصيل تارة، واختصار تارة أخرى، ومن تلك التفاصيل التي تفصل كيفية حضورهم عند المحتضرين ما رواه جل علمائنا كالكليني في (الكافي)، وابن شعبة في (تحف العقول)، وفرات بن إبراهيم في (تفسيره) وغيرهم من طرق عديدة بأسانيدهم عن الإمام الصادق (ع) انه قال لجماعة من شيعته المؤمنين:
" منكم والله يقبل، ولكم والله يغفر، انه ليس بين أحدكم وبين أن يغتبط، ويرى السرور وقرة العين إلا ان تبلغ نفسه ههنا - وأومأ بيده إلى حلقه - ثم قال: انه إذا كان ذلك واحتضر، حضره رسول الله (ص) وعلي وجبرئيل وملك الموت (ع) فيدنو منه علي (ع) فيقول: يا رسول الله ان هذا كان يحبنا أهل البيت فأحبه، ويقول رسول الله (ص) يا جبرئيل ان هذا كان يحب الله ورسوله وأهل بيت رسوله فأحبه، ويقول جبرئيل لملك الموت: ان هذا كان يحب الله ورسوله وأهل بيت رسوله فاحبه وأرفق به فيدنو منه ملك الموت فيقول: يا عبد الله أخذت فكاك رقبتك؟ أخذت أمان براءتك؟ تمسكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدنيا؟ قال: فيوفقه الله عز وجل فيقول: نعم،
257

فيقول وما ذاك؟ فيقول: ولاية علي بن أبي طالب فيقول: صدقت: أما الذي كنت ترجوه فقد أدركته، ابشر بالسلف الصالح مرافقة رسول الله (ص) وعلي وفاطمة (ع) ثم يسل نفسه سلا رفيقا.
وفي بعض طرق الحديث قال الإمام الصادق (ع): ويناديه مناد من بطنان العرش يسمعه ويسمع من بحضرته، " أي الذين حضروا قبض روحه من النبي (ص) وأهل بيته والملائكة "، (يا أيتها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى ربك راضية مرضية (28) فادخلي في عبادي (29) وادخلي جنتي ([الفجر / 28 - 31].
وقال الإمام (ع): (يا أيتها النفس المطمئنة (إلى محمد ووصيه والأئمة من بعده، (ارجعي إلى ربك راضية (بالولاية (مرضية (بالثواب، (فادخلي في عبادي (محمد وأهل بيته، (وادخلي جنتي (غير مشوبة، أي غير مخلوطة، بكدر وهرم وما شاكل ذلك (1).
ثم قال الإمام الصادق (ع) ثم ينزل بكفنه من الجنة وحنوطه من الجنة بمسك أذفر، فيكفن بذلك الكفن، ويحنط بذلك الحنوط، ثم يكسى حلة صفراء من حلل الجنة، فإذا وضع في قبره فتح الله له بابا من أبواب الجنة
(1) راجع كتاب (الشيعة والرجعة) للعلامة الطبسي ج 2 ص 81 نقلا عن تفسير فرات بن إبراهيم ص 536 وكون ولاية علي ~ هي العصمة الكبرى لأن الله سبحانه وتعالى قرنها وعطفها على ولاية رسول الله (ص) وولايته جل وعلا في قوله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون " [المائدة / 56]، حيث أجمع المفسرون انها نزلت في علي أمير المؤمنين ~ بعدما تصدق بخاتمه في الصلاة وهو راكع.
258

يدخل عليه من روحها وريحانها، ثم يفتح له عن أمامه مسيرة شهر وعن يمينه وعن يساره، ثم يقال له: نم نومة العروس في فراشها، ابشر بروح وريحان وجنة ونعيم، ورب غير غضبان، ثم يزوره آل محمد في جنان رضوى فيأكل معهم من طعامهم، ويشرب من شرابهم ويتحدث معهم في مجالسهم حتى يقوم قائمنا أهل البيت، فإذا قام قائمنا بعثهم الله فأقبلوا معه يلبون زمرا زمرا (1).
فعند ذلك يرتاب المبطلون ويضمحل المحلون " أي الذين لا يرون حرمة الأئمة ولا يتابعونهم " وقليل ما يكونون، هلكت المحاضير، ونجا المقربون، من أجل ذلك قال رسول الله (ص) لعلي: {أنت أخي، وميعاد ما بيني وبينك وادي السلام}.
ثم قال الإمام (ع) في بقية حديثه: وإذا احتضر الكافر حضره رسول الله (ص) وعلي وجبرئيل وملك الموت " أي كما يحضرون عند المحب المؤمن كذلك يحضرون عند المبغض الكافر " فيدنو منه علي (ع) فيقول: يا رسول الله ان هذا كان يبغضنا أهل البيت فابغضه، ويقول رسول الله (ص): يا جبرئيل ان هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله فابغضه واعنف به، ويقول
(1) هذا نص صريح في بعث الله وإرجاعه المؤمنين إلى الدنيا أيام قيام القائم المهدي ~ وانهم يلبون الله تعالى أي يستجيبون له زمرا زمرا - أي جماعات جماعات - راجع تفاصيل الرجعة بأدلتها القطعية كتابنا (الرجعة على ضوء الأدلة الأربعة).
259

جبرئيل: يا ملك الموت ان هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله فابغضه واعنف به (1).
فيدنو منه ملك الموت فيقول: يا عبد الله أخذت فكاك رقبتك؟ أخذت أمان براءتك من النار؟ تمسكت بالعصمة الكبرى في الحياة الدنيا؟ فيقول: لا، فيقول: ابشر يا عدو الله بسخط الله عز وجل وعذابه والنار، أما الذي كنت تحذره فقد نزل بك، ثم يسل نفسه سلا عنيفا، ثم يوكل الله بروحه ثلاثمائة شيطان كلهم يبزق في وجهه، ويتأذى بروحه، فإذا وضع في قبره فتح له باب من أبواب النار فيدخل عليه من قيحها ولهبها (2).
(1) مما يلزم إلفات النظر إليه - في هذا المقام - هو ان عليا يقول - بالنسبة إلى المؤمن -: يا رسول الله ان هذا كان يحبنا أهل البيت فأحبه، فيقول رسول الله (ص): يا جبرئيل ان هذا كان يحب الله ورسوله وأهل بيت رسوله فأحبه... الخ ويقول علي - بالنسبة إلى المبغض -: يا رسول الله ان هذا كان يبغضنا أهل البيت فأبغضه، فيقول رسول الله (ص): يا جبرئيل ان هذا كان يبغض الله ورسوله وأهل بيت رسوله فأبغضه... الخ، وهذا مما يدل على أن من أبغض أهل البيت فقد أبغض الله ورسوله وأهل البيت، ومن أحب أهل البيت فقد أحب الله ورسوله وأهل البيت، ذلك لأنهم مع الله ورسوله (ص) فكونوا عباد الله - دائما وأبدا - مع أهل البيت الذين هم مع الله ورسوله ومع الحق والهدى.
(2) راجع (البحار) للمجلسي ج 6 ص 197 - ص 199 نقلا عن (الكافي في الفروع) للكليني ج 3 ص 131 ط طهران، و (تحف العقول) للحسن بن شعبة ص 36، وكتاب (الحسين بن سعد) أو لكتابه النوادر، كما رواه أيضا بسنده فرات بن إبراهيم في تفسيره ص 136 ونقله عنه الطبسي في (الشيعة والرجعة) ج 2 ص 81، ونقله عن فروع الكافي السيد عبد الله شبر في (مصابيح الأنوار) ج 2 ص 172.
260

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ومروية عن النبي (ص) وهذا التفصيل الوارد عن الإمام الصادق (ع) وارد عن أمير المؤمنين (ع) وأهل بيته الطاهرين (ع) مختصرا حيث قال (ع): والله لا يحبني عبد أبدا فيموت على حبي إلا رآني عند موته حيث يحب، ولا يبغضني عبد أبدا فيموت على بغضي إلا رآني عند موته حيث يكره (1).
والأحاديث هي هذا المعنى كثيرة ومروية عن النبي (ص) وأهل بيته الطاهرين، وبعضها مروي من طرق أهل السنة، وإليك هذا الحديث الذي رواه أخطب خوارزم الحنفي في (مقتل الحسين) بسنده عن زيد بن علي بن الحسين، عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب (ع) قال: قال رسول الله (ص): {والذي نفسي بيده، لا تفارق روح جسد صاحبها حتى يأكل من ثمر الجنة، أو من شجر الزقوم، وحتى يرى ملك الموت ويراني ويرى عليا وفاطمة والحسن والحسين فإن كان يحبنا قلت: يا ملك الموت ارفق به فإنه كان يحبني وأهل بيتي، وان كان يبغضني ويبغض أهل بيتي قلت: يا ملك الموت شدد عليه فإنه كان يبغضني ويبغض أهل بيتي ثم قال (ص): لا يحبنا إلا مؤمن، ولا يبغضنا إلا منافق شقي} (2).
(1) المصادر السابقة وقوله ~: " لا يحبني عبد أبدا فيموت على حبي "، فيه اشتراط البقاء على حبه إلى حين موته وكذا قوله " لا يبغضني عبد أبدا فيموت على بغضي " لأن المحب قد يرتد عن حبه والعياذ بالله، والمبغض قد يهتدي قبل موته، نسأل الله تعالى حسن العاقبة.
(2) (مقتل الحسين) للخوارزمي ص 109 وينقله عنه صاحب (تعليقات إحقاق الحق) ج 1 ص 458.
261

وينقل عن أمير المؤمنين (ع) انه قال لولده الحسن: إعلم يا بني انه لا تموت نفس في شرق الأرض وغربها إلا وأبوك حاضرها (1).
وقال (ع) للحارث الهمداني وكان من خلص شيعته وأصحابه: يا حارث ابشر ليعرفني - والذي فلق الحبة وبرأ النسمة - وليي وعدوي في مواطن شتى عند الممات وعند الصراط وعند الحوض وعند المقاسمة، فقال الحارث: يا أمير المؤمنين وما المقاسمة؟ فقال (ع): مقاسمة النار أقاسمها قسمة صحاحا، أقول هذا ولي وهذا
عدوي (2).
وإلى هذا يشير السيد الحميري حيث يقول:
كم ثم أعجوبة له حملا من مؤمن أو منافق قبلا بنعته واسمه وما عملا (3) فلا تخف عثرة ولا زللا تخاله في الحلاوة العسلا دعيه لا تقربي الرجلا حبلا بحبل الوصي متصلا أعطاني الله فيهم الأملا (4).
قول علي لحارث عجب يا حار همدان من يمت يرني يعرفني طرفه وأعرفه وأنت عند الصراط تعرفني أسقيك من بارد على ظمأ أقول للنار حين توقد للعرض دعيه لا تقربيه إن له هذا لنا شيعة وشيعتنا.
(1) هذا الحديث لم استحضر له مصدرا في الحال وقد سمعته من بعض الخطباء وهو مؤيد بأحاديث أخرى كثيرة مما ذكرنا، ومما يأتي ومما لم نذكره، ومؤيد بالأدلة العلمية كما سيأتي.
(2) حديث أمير المؤمنين ~ مع الحارث الهمداني من الأحاديث المهمة، وهو حديث طويل ويشتمل على فوائد جمة، وقد ذكرناه في كتابنا (الشفاء الروحي والجسمي في القرآن) ص 71 - 75، ويرويه الشيخ الطوسي في (أماليه) ج 2 ص 268 والطبري من علماء الإمامية في (بشارة المصطفى) ص 4 ونقله المجلسي في (البحار) ج 6 ص 178 عن كل من مجالس المفيد وأمالي الشيخ، ورواه الأربلي في (كشف الغمة) ج 2 ص 307 ونقله عن كتاب (المحتضر) ص 29 للشيخ حسن بن سليمان، ويرويه المفيد في (أوائل المقالات) ص 89.
(3) كون علي ~ يعرف من يحضره عند الاحتضار - من مؤمن وكافر ومنافق - باسمه ونعته " أي صفته " وعمله لم يكن قول الشاعر مغال أو وهمي أو خيالي بل هو الواقع المدعم بالأدلة، راجع كتابنا هذا (الطريق الثاني من ينابيع علم الأئمة عرض صحائف الأعمال).
(4) قد نسب بعض هذه الأبيات إلى أمير المؤمنين بعض المفسرين كعلي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: " إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا " [حم، فصلت / 31] ج 2 ص 226 ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 6 ص 181، والطبرسي في (مجمع البيان) ج 2 ص 138 وكذا الشيخ المفيد في (أوائل المقالات) ص 89 ط الثالثة، وابن أبي الحديد في (شرح النهج)، ولكن الظاهر انه اشتباه، لأن الأبيات للسيد الحميري وقد نظم فيها بعض ما قاله أمير المؤمنين ~ في حديثه للحارث الهمداني وكل من ذكر حديثه ~ للحارث ذكر الأبيات للسيد الحميري كالشيخ الطوسي في (الأمالي)، والمجلسي، والمفيد، والأربلي.
262

حضور النبي (ص) والأئمة عند المحتضرين بأدلة القرآن المجيد
ومما تجدر الإشارة إليه هو ان حضور النبي (ص) وأهل بيته عند المحتضرين - ولا سيما المؤمن - مشار إليه في القرآن المجيد الذي فيه تبيان كل شيء - بآيات عديدة منه، كما في كثير من أحاديث أهل البيت (ع)
263

ومنها ما مر ذكره علينا عن الإمام الصادق (ع) ي قوله تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة (27) ارجعي إلى ربك راضية مرضية (حيث يقول الإمام: (يا أيتها النفس المطمئنة (أي إلى محمد ووصيه والأئمة من بعده، (ارجعي إلى ربك راضية (أي بالولاية، (مرضية (أي بالثواب، (فادخلي في عبادي (محمد وأهل بيته، (وادخلي جنتي (أي معهم... الخ.
ومن الآيات التي تشير إلى ذلك قوله تعالى: (الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ([يونس / 64 - 65].
وبيان ذلك نقول:
صرحت هاتان الآيتان بأن (الذين آمنوا (، أي صدقوا بالله واعترفوا بوحدانيته، وبوعده ووعيده على لسان رسوله، (وكانوا يتقون (أي يحذرون معاصيه، (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة (ومما لا ريب فيه ان الله بشر عامة المؤمنين المتقين في هذه الدنيا في القرآن على إيمانهم وتقواهم مثل قوله تعالى مخاطبا رسوله: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ([البقرة / 29]، وقوله تعالى: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم ([يونس / 4]، إلى غير ذلك من الآيات، وقد قام النبي (ص) - امتثالا لأمر ربه - بالبشائر العديدة للمؤمنين المتقين، كما قام بالإنذار للكافرين والعاصين وهو البشير النذير.
264

وهذا لا ريب فيه، ولكن المؤمن المتقي هل يحصل عنده الجزم واليقين بصورة قطعية بأنه سيموت مؤمنا متقيا؟ وسيحظى بتلك البشائر التي بشر بها في الدنيا؟ لا، ولكن يرجو تحصيل تلك البشائر، فقد ورد عن رسول الله (ص) انه قال: لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة ولا يتيقن الوصول إلى رضوان الله حتى يكون وقت نزوع روحه وظهور ملك الموت له (1).
نعم لا يحصل اليقين بعد الرجاء للمؤمن إلا في وقت واحد وهو حضور أجله، إذا حضره نبيه وأهل بيته مع جبرئيل وملك الموت، فعند ذلك يبشرونه جميعا - بصورة جزمية - بما سيقدم عليه من النعيم الخالد.
وهذا ما ذكرته الأخبار بصراحة، وأشار إليه القرآن المجيد بقوله تعالى: (الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا (أي تتأكد لهم البشرى فيها عند الاحتضار، (وفي الآخرة (أي يوم القيامة عند خروجه من قبره، وفي حشره، وقوله تعالى: (لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم (أشار به إلى ان تلك البشارة من القضاء المحتوم الذي لا يتغير ولا يتبدل، أي لابد من وقوعها عند الاحتضار وفي القيامة، حيث وردت عن أهل البيت (ع) في تفسير الآيتين بالخصوص أخبار عديدة، ومن تلك الأخبار ما رواه العياشي في (تفسيره)، وأبو جعفر البرقي في (المحاسن)، والكليني في (الكافي) وغيرهم عن عقبة بن خالد قال:
(1) (البحار) ج 6 ص 179 نقلا عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري.
265

دخلت أنا والمعلى بن خنيس على أبي عبد الله (ع) فقال: يا عقبة لا يقبل الله من العباد يوم القيامة إلا هذا الدين الذي أنتم عليه، وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقر به عينه إلا ان تبلغ نفسه إلى هذه وأومأ بيده إلى رقبته ووريده ثم اتكأ " أي الإمام " وغمزني المعلى أن سله، فقلت: يا بن رسول الله إذا بلغت نفسه إلى هذه فأي شيء يرى؟ فقال (ع): يرى، فقلت بضع عشر مرة: أي شيء يرى؟ فقال في آخرها: يا عقبة، فقلت: لبيك وسعديك، فقال: أبيت إلا أن تعلم؟ فقلت نعم يا بن رسول الله إنما ديني مع دمي " أي ديني مقرون بحياتي، ومع عدم الدين فكأني لست بحي " فقال الإمام عند ذلك: يراهما والله، فقلت: بأبي وأمي من هما؟ فقال: (هما) رسول الله (ص) وعلي (ع): يا عقبة لن تموت نفس مؤمنة أبدا حتى تراهما، فقلت: إذا نظر إليهما المؤمن أيرجع إلى الدنيا؟ قال: لا بل يمضي أمامه، فقلت له: يقولان له شيئا جعلت فداك؟ فقال: نعم، يدخلان جميعا على المؤمن فيجلس رسول الله عند رأسه، وعلي عند رجليه، فيكبوا عليه رسول الله (ص) فيقول: يا ولي الله ابشر أنا رسول الله، إني خير لك مما تترك من الدنيا ثم يكبو عليه علي فيقول: يا ولي الله ابشر أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحبني أما لا نفعك ثم قال الإمام الصادق (ع): أما ان هذا في كتاب الله، قلت: جعلت فداك أين هذا من كتاب الله؟ قال: في سورة يونس (الذين آمنوا وكانوا يتقون (63) لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم ((1).
(1) راجع تفسير العياشي ج 2 ص 125 رقم 33، و (المحاسن) للبرقي ص 133، ونقله المجلسي في (البحار) ج 6 ص 185 عن المصدرين، و (تفسير البرهان)، و (الصافي).
266

ومثل هذا الحديث وارد أيضا عن عبد الرحيم القصير وعن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر (ع) (1).
وكما يبشر المؤمن المتقي عند موته بما تقر به عينه كذلك يبشر الفاجر الشقي بما أعد له من الخزي والعذاب كما ورد عن أبى جعفر الباقر (ع) انه قال: كل نفس ذائقة
الموت ومبشورة كذا انزل بها على محمد (ص) انه ليس أحد من هذه الأمة إلا ويبشرون، فأما المؤمنون فيبشرون إلى قرة عين، وأما الفجار فيبشرون إلى خزي الله إياهم (2).
وقد يظهر لكل من الطرفين ما يبشران به عند حضور المنية، وحضور النبي (ص) وأهل البيت عندهما، بحيث روى الفضيل بن يسار عن الإمامين أبي جعفر الباقر وأبي عبد الله الصادق (ع) إنهما قالا: حرام على روح أن تفارق جسدها حتى ترى الخمسة، محمدا وعليا وفاطمة وحسنا وحسينا بحيث تقر عينها، أو تسخن عينها (3).
الاستدلال العلمي على حضور النبي (ص) وأهل بيته عند كل محتضر
ولو قال قائل: كيف يحضر رسول الله (ص) وعلي وأهل البيت عند كل ذي روح محتضر، مؤمن وكافر محب ومبغض؟ وكيف نؤمن به وذلك يخالف الحس والوجدان من جهة، والعقل من جهة اخرى؟، أما مخالفة الحس والوجدان فلانا نحضر الموتى عند حضور آجالهم إلى قبض
(1) تفسير العياشي ج 2 ص 124 - وص 126.
(2) (البحار) ج 6 ص 188، نقلا عن العياشي.
(3) (كشف الغمة) لعلي بن عيسى الأربلي ج 2 ص 40، و (البحار) ج 6 ص 191 برقم 37.
267

أرواحهم ولا نرى عندهم أحدا، وأما مخالفة العقل فلأنه يمكن قبض أرواح الآلاف من الناس في آن واحد في أمكنة متعددة من شرق الأرض وغربها فكيف يحضرون عند كل من يموت في الشرق والغرب؟
فالجواب عن الأول وهو مخالفة الحس، فنقول: - ان الله قادر على أن يحجبهم عن أبصارنا دون أبصار المحتضرين لضرب من المصلحة - وهو على كل شيء قدير - والدليل على ذلك ما ورد في أخبار أهل السنة والشيعة في تفسير قوله تعالى: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ([الإسراء / 46].
فقد ورد ان الله تعالى طالما أخفى شخص النبي (ص) عن أعين أعدائه مع أن أولياءه كانوا يرونه وينظرون إليه.
قال الطبرسي في (مجمع البيان): (وإذا قرأت القرآن (يا محمد (جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة (وهم المشركون، (حجابا مستورا (قال الكلبي: وهم أبو سفيان، والنضر بن الحرث، وأبو جهل وأم جميل امرأة أبي لهب، حجب الله رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، وكانوا يأتونه ويمرون به ولا يرونه (1).
وقال السيوطي في تفسيره (الدر المنثور) ما نصه: أخرج أبن أبي حاتم عن زهير بن محمد: (وإذا قرأت القرآن (الآية قال: ذاك رسول الله (ص) إذا قرأ القرآن على المشركين بمكة سمعوا صوته ولا يرونه (2).
(1) (مجمع البيان) ج 3 ص 418، صيدا، العرفان.
(2) (الدر المنثور) ج 4 ص 178، أوفسيت على ط مصر.
268

وجاءت في هذا المعنى أخبار كثيرة (1).
وهذا المعنى الذي ذكره المفسرون مفهوم واضح من نفس الآية الكريمة فتدبرها: (وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا (وقد وقع حجب أبصار المشركين عن رسول الله (ص) دون أبصار المؤمنين حفظا لنبيه من أذاهم مرارا عديدة ومن ذلك ما أجمع عليه المفسرون والمؤرخون من حجب أبصار المشركين عن رؤيتهم للنبي (ص) ليلة هجرته من مكة إلى المدينة، حيث كانت قريش قد بينته في داره واجتمعت على باب الدار وهم حوالي أربعون نفرا أو أقل يريدون قتله، وقد أوحى الله تعالى إليه أن يخرج من الدار عند اجتماعهم على بابها وأن يهاجر، فخرج (ص) امتثالا لأمر ربه وقد تناول قبضة من التراب ووضع منه على رأس كل واحد منهم وهو يقرأ قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ([يس / 9] وسار من بينهم ولم يره أحد منهم (2).
وشاهدنا من كل ذلك ان الله قادر على أن يحجب أبصار الحاضرين دون أبصار المحتضرين عن رؤية النبي وأهل بيته في حالة الاحتضار كما حجب أبصار المشركين عن رؤية النبي (ص) دون المؤمنين هذا من جهة، ومن جهة أخرى هي ان الله جل وعلا يزيد أبصار المحتضرين قوة عند حضور آجالهم، ويكشف لهم الحجب ويزيل عنهم الأغطية، وبذلك
(1) راجع (الدر المنثور) ج 4 ص 186 - 187، و (تفسير القرآن العظيم) لابن كثير الدمشقي ج 3 ص 43 و (مفاتيح الغيب) للرازي ج 5 ص 401 وغيرها.
269

يختصون - دون غيرهم - برؤية النبي (ص) وأهل بيته الأطهار (ع) ورؤية أعمالهم مع جزائها من النعيم أو الجحيم، وقد أشار القرآن المجيد إلى هذا المعنى بقوله تعالى: (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (19) ونفخ في الصور ذلك يوم الوعيد (20) وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد (21) لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ([ق / 20 - 23].
أي حاد قوي ولذلك لا تقبل ولا تصح التوبة منه عند حضور أجله وكشف الحقائق له، كما قال تعالى: (إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما (17) وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما ([النساء / 27 - 28]، وإلى كشف الحجب والأغطية للإنسان - عند حضور أجله، وكذلك يوم القيامة - ومشاهدة الحقائق بينهما - يشير إمامنا علي أمير المؤمنين (ع) بقوله الشهير: {لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا}.
وأما الجواب عن الإشكال الثاني وهو: كيف يحضرون عند كل من يموت في الشرق والغرب؟ وقد يموت الألوف أو الملايين من الناس في آن واحد في أمكنة متعددة في شرق الأرض وغربها؟
فنقول: ان الإشكال يكون صحيحا فيما إذا كان حضورهم (ع) حضورا بأجسادهم المادية المكونة من لحم وعظم، والحال ان حضورهم روحيا إما
270

في قالب أو قوالب مثالية لأجسادهم الطاهرة لا بأجسادهم نفسها فحينئذ ينحل الإشكال، لأن الأرواح لها قابلية التنقل في الشرق والغرب في الدنيا والآخرة، هذا من جهة
، ومن جهة أخرى يمكن أن يكون المراد - والله أعلم - ان صورهم المثالية لهياكلهم المقدسة تتجلى - طبق الأصل تماما - لكل محتضر مؤمن وكافر، محب ومبغض كما تتجلى صورة الشيء في المرآة ولكن مع أرواحهم الشريفة، وما أكثر الدلائل الفعلية والوجدانية التي يستدل بها على ذلك ووقوعها بالفعل ومنها ما اخترعه المخترعون من أهل الشرق والغرب من الأقمار الاصطناعية وآلاتها المنوعة، وآلات التلفاز والفيديو وغيرها التي - بواسطة الكهرباء، وما أودع الله في هذا الفضاء من قابلية - تصور لمتقنيها والحاضرين عندها صورة الأشياء وصورة المذيع أو المذيعة وتسمعهم صوته، وتريهم حركاته وسكناته طبق الأصل في سائر أنحاء العالم، بل بواسطة الأقمار الاصطناعية وآلاتها يصورون لأهل الأرض ما في السماء وما في السماء لأهل الأرض.
هذا ما اخترعه المخترعون من غربيين وشرقيين وأين مزاياهم من مزايا المبدع المكون، وفي الحقيقة لم يتوصل المخترعون لهذه المخترعات وأمثالها التي كانت غاية في الإبداع والدقة - إلا من فيض واجب الوجود الذي صرح في كتابه الكريم: (علم الإنسان ما لم يعلم ([العلق / 6]، أفترى أن الله الذي خلق كل شيء وهو على كل شيء قدير يعجزه ان يري المحتضر مثالا كاملا لرسوله وأهل بيته مع أرواحهم الشريفة؟ ليرى محبهم جزاء محبته لله ولرسوله وأهل بيته؟ ويرى مبغضهم أيضا جزاء بغضه لهم، كما قد وردت نصوص عديدة تصرح بأن المحتضر يمثل له
271

النبي (ص) والأئمة الأطهار، ومن تلك النصوص ما رواه جل علمائنا المحدثين كالكليني والصدوق، وابن شعبة، وغيرهم بأسانيدهم عن سدير الصيرفي قال: لأبي عبد الله (ع): جعلت فداك يا بن رسول الله هل يكره المؤمن على قبض روحه؟ قال: لا والله انه إذا أتاه ملك الموت لقبض روحه جزع عند ذلك، فيقول ملك الموت: يا ولي الله لا تجزع فوالذي بعث محمدا (ص) نبيا لأنا أبر بك وأشفق عليك من والد رحيم لو حضرك، افتح عينيك فانظر قال: ويمثل له رسول الله (ص) وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريتهم، فيقال له: هذا رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والأئمة رفقاؤك، قال: فيفتح عينيه فينظر وينادي روحه مناد من قبل رب العزة فيقول له: (يا أيتها النفس المطمئنة (إلى محمد ووصيه وأهل بيته، (ارجعي إلى ربك راضية (بالولاية (مرضية (بالثواب، (فادخلي في عبادي (يعني محمدا وأهل بيته، (وادخلي جنتي (فما من شيء أحب إليه من استدلال روحه واللحوق بالمنادي (1).
ومن النصوص التي تصرح بأن المحتضر يمثل له النبي (ص) وسائر أصحابه إلى الله أخيارا كانوا أو أشرارا ما رواه الكليني في (أصول الكافي) بسنده عن علي أمير المؤمنين (ع) انه قال: قال رسول الله (ص): انظروا من تحادثون فإنه ليس من أحد ينزل به الموت إلا مثل له أصحابه إلى الله،
(1) (فروع الكافي) ج 3 ص 127 ط طهران، و (تحف العقول) ج 1 ص 35، و (فضائل الشيعة) للصدوق كما في (علي والشيعة) ص 152 ط الآداب النجف، والمجلسي في (البحار) ج 6 ص 196 نقلا عن (الكافي) و (تحف العقول).
272

وفي نص: مثلت له أصحابه في الله ان كانوا أخيارا فخيارا، وان كانوا أشرارا فشرارا، وليس أحد يموت إلا تمثلت له عند موته (1).
ومن جهة ثالثة يمكن أن يكشف الله الحجب ويزيل الأغطية عن أبصار المحتضرين ويريهم النبي (ص) وأهل بيته بأجسادهم الطاهرة الأصلية، وأرواحهم المقدسة، ويسمعهم أيضا كلامهم ويريهم سائر حركاتهم وسكناتهم (ع) في جناتهم ومقامهم السامي عند ربهم.
ونستدل على هذا المعنى من عظيم قدرة الله عز وجل الباهرة بما قصه الله لنا في القرآن المجيد من إنه تبارك وتعالى يطلع أهل الجنة - وهم في الجنة - على أهل النار، كما يطلع أهل النار - وهم في النار - على أهل الجنة، ويخاطب بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم خطاب بعض، بالرغم مما بينهم من بعد المسافات وكثرة الحجب التي لا يعلمها إلا الله.
وهذا المعنى قد استعرضه الله سبحانه بآيات عديدة من القرآن المجيد منها قوله تعالى في سورة الأعراف: (ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين (إلى قوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ([الأعراف / 45 - 51].
(1) (الشافي في شرح أصول الكافي) ج 7 ص 233.
273

ومن الآيات التي تصرح بتساؤل أهل النار قوله تعالى في سورة المدثر: (في جنات يتساءلون (40) عن المجرمين (41) ما سلككم في سقر (42) قالوا لم نك من المصلين ([المدثر / 41 - 44]، ومنها في سورة الصافات مما يجري فيما بين أهل الجنة من التساؤل: (فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون (50) قال قائل منهم إني كان لي قرين (51) يقول أئنك لمن المصدقين (52) أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمدينون (53) قال هل أنتم مطلعون (54) فاطلع فرآه في سواء الجحيم (55) قال تالله إن كدت لتردين (56) ولولا نعمة ربي لكنت من المحضرين ([الصافات / 51 - 58].
ومنها في سورة المطففين حيث يصف أهل الجنة وانهم في جناتهم يشرفون على أهل النار ينظرون إليهم ويضحكون عليهم بقوله تعالى: (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون (34) على الأرائك ينظرون (35) هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ([المطففين / 35 - 37].
أي هل جوزي الكفار ما كانوا يفعلون؟ فيأتيهم الجواب منهم: نعم هذا عذابنا هو جزاء فعلنا.
المكتشفات العلمية، ومشاهد عالمي البرزخ والقيامة
وهكذا استعرض الله سبحانه في كتابه المجيد، والنبي وأهل البيت (ع) في أحاديثهم الشريفة كثيرا من مشاهد عالمي البرزخ والقيامة، وعالمي الجنة والنار وصوروا لنا تلك المشاهد الغيبية تصويرا حسيا متحركا، وتلك المشاهد كان المسلمون والمؤمنين يؤمنون بها ويصدقونها لعلمهم ان الله على كل شيء قدير، ولكن شاء الله - في قرننا هذا - ان تظهر للناس
274

أمثلة رائعة لتلك الحقائق والمشاهد الغيبية بواسطة المكتشفات العلمية الحديثة التي جاءت مدعمة ومؤيدة لما جاء به الدين القويم في كتابه، وعلى لسان رسوله وأهل بيته (ع).
ولكن - مما يبعث على الأسف والأسى أنه - كلما ازدادت تلك المكتشفات العلمية وتجيئ مؤيدة لما جاء به الدين يبتعد الناس أكثر عن الدين اتباعا للنفس الأمارة بالسوء، وركونا إلى الدنيا وزينتها الخداعة، واستجابة لدعوة شياطين الإنس والجن دون الاستجابة لله ولرسوله التي بها حياتهم الحقيقية في الدنيا والآخرة قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون ([الأنفال / 25].
إمارات وتصريحات على ألسن بعض المحتضرين
وعلى كل حضور النبي (ص) والأئمة الأطهار من أهل بيته قد جاءت به الأخبار الكثيرة المتواترة تواترا قطعيا، والتي نقلنا بعضها مما فيه الكفاية، والتي أشار إليها القرآن المجيد، وأيدها العلم الحديث.
كما جاءت إمارات وتصريحات واضحة جلية على ألسن بعض المحتضرين تدل على مشاهدتهم للنبي (ص) وأهل بيته منها:
قصة السيد الحميري فيما جرى له عند وفاته
من تلك الإمارات الدالة على ذلك قصة السيد الحميري وما جرى له وما صدر عند وفاته وهي قصة شهيرة رواها الخاص والعام وشاهدها كل
275

من كان حاضرا عنده من المحبين والمبغضين وجاءت بطرق عديدة عن بعض الحاضرين عنده فمنها.
ما رواه الشيخ الطوسي في (أماليه)، وابن شهر آشوب في (المناقب)، وعلي بن عيسى الأربلي في (كشف الغمة) وغيرهم كثير مسندا عن علي بن الحسين بن عون عن أبيه انه قال: دخلت على السيد الحميري عائدا له في علته التي مات فيها، فوجدته يساق به، ووجدت عنده جماعة من جيرانه وكانوا عثمانية، وكان السيد جميل الوجه رحب الجبهة، عريض ما بين السالفتين (1).
فبدت في وجهه نكتة سوداء مثل النقطة من المداد، ثم لم تزل تزيد وتنمى حتى طبقت وجهه اسودادا فاغتم لذلك من حضر من الشيعة، وظهر من الناصبة سرور وشماتة، فلم يلبث على ذلك إلا قليلا حتى بدت في ذلك المكان من وجهه لمعة بيضاء فلم تزل تزيد بياضا وتنمى حتى أسفر وجهه وأشرق وافتر السيد ضاحكا (2).
وأنشأ يقول:
لا ينجي محبه من هنات (3) وعفى لي الإله عن سيئاتي وتولوا علي حتى الممات واحدا بعد واحد في الصفات.
كذب الزاعمون ان عليا قد وربي دخلت جنة عدن فأبشروا اليوم أولياء علي ثم من بعده تولوا بنيه.
(1) السالفتين: ناحية مقدم العنق من لدن معلق القرط إلى قلت الترقوة (البحار).
(2) أفتر الرجل: ضحك ضحكا حسنا أو المراد أفتر أي دار بوجهه.
(3) الهنات: الداهية.
276

ثم اتبع قوله هذا: اشهد ان لا إله إلا الله حقا حقا وأشهد ان محمدا رسول الله حقا حقا واشهد ان عليا أمير المؤمنين حقا حقا، أشهد ان لا إله إلا الله. ثم غمض عينيه لنفسه فكأنما كانت روحه ذبالة طفئت أو حصاة سقطت (1).
قال الراوي علي بن الحسين بن عون: قال لي أبي الحسين بن عون: وكان اذينة حاضرا، فلما شاهد ما شاهد مما جرى للسيد عند احتضاره، فقال: الله أكبر ما من شهد كمن لم يشهد أخبرني - وإلا صمتا - الفضيل بن يسار عن أبي جعفر وعن ابنه جعفر (ع) انهما قالا: حرام على روح ان تفارق جسدها حتى ترى الخمسة محمدا وعليا وفاطمة وحسنا وحسينا بحيث تقر عينها أو - تسخن عينها، فانتشر الحديث في الناس، وشهد جنازة السيد - والله - الموافق والمفارق (2).
وممن شاهد حالة السيد عند احتضاره بشير بن عمار، وحدث بما شاهد، وذكر حديثه المؤرخون ومنهم أبو الفرج الاصفهاني في كتابه
(1) الذبالة: الفتيلة في الشمعة.
(2) (أمالي) الشيخ الطوسي ج 2 ص 240 ط النجف، و (المناقب) لابن شهر آشوب ج 3 ص 220 ط قم، و (كشف الغمة) لعلي بن عيسى الأربلي ج 2 ص 40 ط قم، و (البحار) للمجلسي ج 6 ص 192 ط الحديد نقلا عن المصادر الثلاثة السابقة، وكذا الشيخ الأميني في (الغدير) ج 2 ص 48 ط النجف وغيرهم كثير.
277

(الأغاني)، ونقل عنه الشيخ الأميني في (الغدير) قال بشير بن عمار: حضرت وفاة السيد في الرميلة ببغداد (1).
فوجه رسولا - قبل وفاته - إلى جماعة الكوفيين يعلمهم بحاله، وقرب وفاته، فغلط الرسول فذهب إلى جماعة من غيرهم، فشتموه ولعنوه، فعلم الرسول أنه غلط فعاد إلى الكوفيين يعلمهم بحاله ووفاته، فوافاه سبعون كفنا، قال: وحضرناه جميعا، وانه ليتحسر تحسرا شديدا، وان وجهه لأسود كالقار، وما يتكلم، إلى ان أفاق إفاقة وفتح عينيه، فنظر إلى ناحية القبلة " جهة النجف الأشرف " ثم قال: يا أمير المؤمنين أتفعل هذا بوليك؟ قالها ثلاث مرات مرة بعد أخرى، قال: فتجلى والله في جبينه عرق بياض فما زال يتسع ولبس وجهه حتى صار كله كالبدر، وتوفي، فأخذنا في جهازه ودفناه في الجنينة (2)، ببغداد وذلك في خلافة الرشيد (3).
وممن نقل حالة السيد عند احتضاره أبو سعيد محمد بن رشيد الهروي، وقد ذكر حديثه كل من ابن الشيخ الطوسي في (أماليه)، والكشي في (رجاله)، والطبري الإمامي في (بشارة المصطفى) مسندا عن أبي سعيد الهروي: ان السيد أسود وجهه عند الموت فقال: هكذا يفعل بأوليائكم يا أمير المؤمنين؟ قال: فأبيض وجهه كأنه القمر ليلة البدر، وآخر شعر قاله السيد الحميري قبل وفاته:
(1) الرميلة: محلة في بغداد.
(2) الجنينة: تصغير جنة، والمراد بها الحديقة، أو البستان.
(3) (الأغاني) لأبي الفرج ج 7 ص 277، ونقل الحديث عنه الشيخ الأميني في (الغدير) ج 2 ص 247 ط النجف.
278

تلقاه بالبشرى لدى الموت يضحك فليس له إلا إلى النار مسلك ومالي وما أصبحت في الأرض املك وأني بحبل من هواك لممسك فإنا نعادي مبغضك ونترك فقلت لحاك الله إنك أعفك (1) وقاليك معروف الضلالة مشرك (2).
أحب الذي من مات من أهل وده ومن مات يهوى غيره من عدوه أبا حسن أفديك نفسي وأسرتي أبا حسن إني بفضلك عارف وأنت وصي المصطفى وابن عمه ولاح لحاني في علي وحزبه مواليك ناج مؤمن بين الهدى.
السبب في اسوداد وجهه أولا وإشراقه ثانيا
وهنا قد يتساءل ويقال: لم اسود وجه السيد أولا؟ ثم أبيض حتى أسفر وجهه ثانيا؟
فالجواب واضح، وهو ان السيد الحميري - ومما لا ريب فيه - كان أولا كيساني العقيدة يقول بإمامة محمد بن الحنفية بعد إمامة علي والحسن والحسين، ويعتقد غيبته
وله في ذلك شعر معروف، ثم أدركته السعادة ببركة الإمام الصادق (ع) حيث رأى منه علامات الإمامة، وشاهد منه دلائل
(1) لاح: أي لائم، لحاني أي لامني، لحاك الله أي لعنك وقبحك، أعفك، أي أحمق، قال أي مبغض.
(2) (أمالي الشيخ) ج 1 ص 48، (رجال الكشي) ص 243، (بشارة المصطفى) ص 91، ونقله الأميني في (الغدير) ج 2 ص 248، وفي الحديث اختلاف يسير واتفق الجميع على الاسوداد والإشراق.
279

الوصية، وسأل الإمام عن الغيبة فذكر له: إنها حق، ولكنها تقع في الثاني عشر من الأئمة (ع) وأخبره بموت محمد بن الحنفية، وان أباه محمد بن علي الباقر (ع) شاهد دفنه، فرجع السيد الحميري عن مقالته واستغفر الله من اعتقاده، ورجع إلى الحق عند اتضاحه له، ودان الله بالإمامة، وقال في ذلك أشعارا كثيرة ومنها قصيدته التي يقول فيها:
وأيقنت ان الله يعفو ويغفر به ونهاني سيد الناس جعفر.
تجعفرت باسم الله والله أكبر ودنت بدين غير ما كنت داينا.
ومعلوم ان السيد كان شخصية لامعة، وهو كما عبر عنه الإمام الصادق (ع) بسيد الشعراء (1).
(1) كان السيد الحميري معاصرا للإمام الصادق ~ وكان قد لقبته أمه بالسيد عرف بهذا اللقب واشتهر به ثم عرف بسيد الشعراء وكان السبب في ذلك على ما روى الكشي في (رجاله) ص 245، ان أبا عبد الله ~ لقي السيد ذات يوم فقال له: سمتك أمك سيدا ووفقت في ذلك وأنت سيد الشعراء فأنشد السيد في ذلك:
علامة فهم من الفقهاء * أنت الموفق سيد الشعراء
بالمدح منك وشاعر بسواء * والمدح مثل لهم بغير عطائي
لو قد وردت عليهم بجزاء * من حوض أحمد شربة من ماء.
ولقد عجبت لقائل لي مرة * سماك قومك سيدا
صدقوا به ما أنت * حين تخص آل محمد
مدح الملوك ذو * العطا لعطائهم
فأبشر فإنك فائز في حبهم * ما يعدل الدنيا جميعا كلها.
280

كما انه كان - ولا سيما بعد تصحيح مذهبه - عظيم الولاء لأهل البيت لذلك وغير ذلك شاء الله أن تكون له هذه المكرمة الخالدة تذكر له مدى الدهر وتكون تلك المكرمة - من جهة تشير إلى ضلاله أولا، واهتدائه إلى الحق أخيرا لذلك، - عند احتضاره اسود وجهه ثم ابيض وأشرق.
ومن جهة أخرى كانت بذلك عبرة واضحة للناس بحسن عاقبته بسبب ولائه الخالص الأخير لأئمة الهدى، وانهم قد حضروه عند احتضاره وأنقذوه بشفاعتهم له عند الله، كما قد أشار إلى ذلك بشعره بعد ما ابيض وجهه بقوله:
لا ينجي محبه من هنات.
كذب الزاعمون ان عليا.
فقصته فيها إمارة واضحة على حضور النبي وعلي وأهل البيت عند محبهم حال احتضاره من حيث يحب (1).
قصة خطاب الجهني واستغاثته عند احتضاره
وبالعكس هناك إمارات وتصريحات تدل على حضورهم عند مبغضهم من حيث يكره، ومن ذلك ما رواه الكليني في (فروع الكافي)، والحسن بن علي بن شعبة في (تحف العقول) وغيرهما مسندا عند أبن أبي يعفور قال: كان خطاب الجهني خليطا لنا، وكان شديد النصب لآل محمد (ص)
(1) راجع ترجمة السيد وشعره مفصلا في كتاب (الغدير) ج 2 ص 193 - ص 269.
281

وكان يصحب نجدة الحروري قال: فدخلت عليه أعوده للخلطة والتقية فإذا هو مغمى عليه في حد الموت، فسمعته يقول: مالي ولك يا علي؟ فأخبرت بذلك أبا عبد الله (ع) فقال أبو عبد الله: رآه ورب الكعبة، رآه ورب الكعبة، رآه ورب الكعبة (1).
فخطاب لو لم يكن قد شاهد عليا - عند احتضاره - من حيث يكره لما استغاث قائلا: ما لي ولك يا علي؟ فنسأل الله - بنيات صادقة - ان يرزقنا حسن العاقبة والممات على ولاية الله ورسوله وأمير المؤمنين والأئمة الطاهرين (ع) إذا الإنسان مات على الولاية نجا وفاز وإلا هلك وخاب وخسر خسران الأبد.
قصة واقعية، في رؤيا صادقة
وبهذه المناسبة أسجل قصة واقعية حدثني بها فضيلة العلامة الشيخ عبد المنعم الفرطوسي وقد نقلها لي:
1 - عن آية الله السيد علي شبر والد الخطيب السيد جواد شبر نقلا عن فضيلة العلامة الشيخ راضي آل نصار والد الشيخ محمد حسين آل نصار.
2 - وعن الشيخ راضي نفسه (ره) انه قال لي: رأيت - في منامي - وأنا في النجف الأشرف - ليلة من ليالي الأربعاء قبل طلوع الفجر وقت
(1) (فروع الكافي) ج 3 ص 133 ط طهران، و (تحف العقول) ج 1 ص 37 كما في (البحار) ج 6 ص 199.
282

السحر الأخير بحيث انتبهت عند الآذان - كأن الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن الزكي، والإمام الحسين المظلوم، والإمام الحجة (عج) قد دخلوا داري، وحين استقر بهم الجلوس قال الإمام الحجة المهدي كالمخبر: " فلان مات " فالتفت الإمام أمير المؤمنين فقال: ان الرجل تعب كثيرا ولكن الذنوب حالت بينه وبين الولاية عند الموت، يقول الشيخ راضي:
ثم انتبهت وإذا المؤذن يقول: الله أكبر، قال: ولم تمضي عن تلك الرؤيا إلا مقدار الزمن الذي ينقل به جثمان الميت من منطقة ذلك الرجل الذي أخبر الإمام الحجة المهدي (ع) بموته، وإذا بأخ المتوفي يطرق الباب، وعند مشاهدتي له قلت: ما الخبر؟ فأجاب: ان فلانا مات، وجئنا بجثمانه، فقلت: بأي ليلة وبأي ساعة توفي؟ قال: ليلة الأربعاء عند السحر المقارب لطلوع الفجر، فقلت في نفسي: سبحان الله، يقول الشيخ منعم الفرطوسي: قد أزعجتني هذه الرؤيا وتركت في نفسي اضطرابا كثيرا وبقيت أفكر في عظم الذنوب وجنسها التي تحول بين الإنسان وبين هذه الولاية (1).
(1) لعل من أهم ما يحول بين الإنسان وبين الولاية عند الموت هو موالاة أعداء الله ومعاداة أولياء الله، والحكم بغير ما انزل الله، وغصب حقوق الناس بأنواع الظلم والغش والسرقات والخيانات وترك أركان الدين الخمسة مع الإصرار عليه إلى غير ذلك من الإصرار على كبائر الذنوب بلا ندم ولا توبة: " يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار " [التحريم / 9].
283

مع ان الولاية تجري في الإنسان مجرى الدم في عروقه، ولشدة اضطرابي نظمت أبياتا جعلت الولاية والدين فيها وديعة مني عند أمين الله في أرضه أمير المؤمنين (ع) وصرت اقرأها عند زيارتي للإمام في أكثر الأوقات وهذه هي الأبيات:
وحجته على نهج الهداية من القرآن ينطق بالوصاية ببيعته من التنزيل آية محب في البداية والنهاية وهم أهل المودة عن دراية بساعات النزاع من الغواية به أرجو الممات على الولاية.
إمام هدى ولي الله حقا وصي محمد (ص) وكفاه نص غداة تنزلت بغدير خم واني مؤمن بولا علي مقر بالأئمة من بنيه ولكني أخاف لعظم ذنبي وقد أودعته ديني وأني.
ونقل لي فضيلة العلامة السيد حسين زيني (ح ه) عن والده السيد كاظم زيني (ره) ما يقارب هذا النص نقلا منه عن الشيخ راضي آل نصار، ومضافا إلى ذلك إن الشيخ راضي حاول جاهدا أن يشارك عائلة المتوفى في التشييع فلم يوفق، وكذلك لم يوفق لحضور مجلس العزاء، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، قال تعالى: (
وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ([الإنسان / 31].
تصريح أمير المؤمنين برؤية رسول الله (ص) والملائكة والنبيين عند وفاته
284

وممن صرح بملاقاته لرسول الله (ص) مع الملائكة والنبيين عن احتضاره علي أمير المؤمنين، وفي ذلك روايات من طرق عديدة منها ما روى الصدوق في (الأمالي) بسنده عن حبيب بن عمرو قال: دخلت على أمير المؤمنين (ع) في مرضه الذي قبض فيه، فحل عن جراحته، فقلت: يا أمير المؤمنين ما جرحك هذا بشيء، وما بك من بأس، فقال لي: يا حبيب أنا والله مفارقكم الساعة، قال: فبكيت عند ذلك، وبكت أم كلثوم - من وراء الحجاب - فقال لها: ما يبكيك يا بنية؟ فقالت: ذكرت يا أبه انك تفارقنا الساعة فبكيت، فقال لها: يا بنية لا تبكين فوالله لو ترين ما يرى أبوك ما بكيت، قال حبيب: فقلت له: وما الذي ترى يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا حبيب أرى ملائكة السماء والنبيين بعضهم في أثر بعض وقوفا إلى أن يتلقوني، وهذا أخي محمد رسول الله (ص) جالس عندي يقول: إقدم فإن ما أمامك خير لك مما أنت فيه، قال: فما خرجت من عنده حتى توفي.. الخ (1).
ومنها ما رواه ابن الأثير في (اسد الغابة) بسنده ونصه: عن عمرو ذي مر قال: لما أصيب علي (ع) بالضربة دخلت عليه وقد عصب رأسه، قال: قلت: يا أمير المؤمنين أرني ضربتك، قال: فحلها فقلت: خدش وليس بشيء، قال: إني مفارقكم، فبكيت أم كلثوم من وراء الحجاب، فقال لها: اسكتي فلو ترين ما أرى لما بكيت، قال: فقلت: يا أمير المؤمنين ماذا
(1) (أمالي الصدوق) مجلس 52 ص 192، ونقله عنه المجلسي في (البحار) ج 42 ص 201 وما في معناه تجده في كتاب (نزهة المحبين) للشيخ جعفر النقدي ص 158.
285

ترى؟ قال: هذه الملائكة وفود والنبيون، وهذا محمد (ص) يقول: يا علي ابشر فما تصير إليه خير مما أنت فيه (1).
وهكذا بقية أئمة الهدى (ع) يصرحون - عند احتضارهم - بملاقاتهم رسول الله (ص) وسائر آبائهم الطاهرين ويقولون: (الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ([الزمر / 75]
وممن صرح بملاقاته رسول الله (ص) عند احتضاره علي بن الحسين الأكبر، فإنه لما صرع يوم عاشوراء نادى أباه - كما ذكر أرباب المقاتل من الخاصة والعامة -: أبتاه هذا جدي رسول الله قد سقاني بكأسه الأوفى شربة لا أظمأ بعدها أبدا، وهو يقول لك العجل العجل فإن لك كأسا مذخورة حتى تشربها الساعة (2).
رؤيا أم سلمة، وعبد الله بن عباس يوم عاشوراء رسول الله (ص) وانه شهد قتل الحسين آنفا
وروى علماء التاريخ والصحاح والسنن والمسانيد بالاتفاق ان أم سلمة أم المؤمنين رأت رسول الله (ص) في منامها يوم عاشوراء، وعلى رأسه
(1) راجع (فضائل الخمسة من الصحاح الستة) ج 3 ص 73 نقلا عن (اسد الغابة) ج 4 ص 38.
(2) (مقتل الحسين) لأخطب خوارزم ج 2 ص 31، وسائر المقاتل.
286

ولحيته التراب، فجعلت تنفضه بكمها وهي تقول: ما لك يا رسول الله مغبرا ومتى أهملت نفسك هكذا؟ فقال (ص): شهدت مقتل الحسين آنفا (1).
وكذلك رآه عبد الله بن عباس - في ذلك اليوم نصف النهار في منامه - أشعث أغبر - وفي يده قارورة فيها دم يلتقطه فقال: يا رسول الله ما هذا الدم؟ فقال:
هذا دم ابني الحسين وأصحابه لم أزل أتتبعه منذ اليوم فنظروا فوجدوه قد قتل في ذلك اليوم (2).
(1) روى ذلك الترمذي في (سننه) وهو أحد الصحاح الستة ج 2 ص 306 في " مناقب الحسن والحسين " ط بولاق، والحاكم في (المستدرك) ج 4 ص 19 ط حيدر أباد، والذهبي في (تلخيصه)، وابن حجر العسقلاني في (تهذيب التهذيب) ج 2 ص 356 ط حيدر أباد، وابن حجر الهيتمي في (الصواعق المحرقة) ص 115، ومحب الدين الطبري في (ذخائر العقبى) ص 148 ط القدسي نقلا عن الترمذي والبغوي في (الحسان)، واخطب خوارزم في (المقتل) ج 2 ص 96، وروى ذلك الصدوق في = = (الأمالي) ص 84 بسنده عن الإمام الصادق عن أبيه الباقر (ع) عن أم سلمة، وكذلك رواه الشيخ المفيد في (المجالس)، والشيخ الطوسي في (أماليه) من طرق عديدة، راجع (البحار) ج 45 ص 230، و (إقناع اللائم) ص 38.
(2) روى ذلك الإمام أحمد بن حنبل في (مسنده) ج 1 ص 242 ط الميمنية بمصر من طريقين، والحاكم في (المستدرك) ج 4 ص 397، والخطيب البغدادي في (تأريخ بغداد) ج 1 ص 142 ط السعادة بمصر، وابن الأثير في (اسد الغابة) ج 2 ص 22 ط الوهبية بمصر، وابن عبد البر في (الاستيعاب) ج 1 ص 144 ط حيدر أباد، وج 1 ص 380 مصر، وابن حجر العسقلاني في (الإصابة) ج 2 ص 17 ط كلكتة، وج 1 ص 334 ط مصر سنة 1358 ه‍، وابن حجر الهيتمي في (الصواعق المحرقة) ص 116 ط الميمنية بمصر، وأخطب خوارزم الحنفي في (مقتل الحسين) ج 2 ص 94، راجع (فضائل الخمسة) للفيروز آبادي، ج 3 ص 288 ط النجف، ورواه العلامة الكنجي الشافعي في (كفاية الطالب) ص 210.
287

(سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد (53) ألا إنهم في مرية من لقاء ربهم ألا إنه بكل شيء محيط ([فصلت / 54 - 55].
288

عناية الله ورسوله وخلفائه والمؤمنين بحديث الغدير
ويوم الحبور ويوم السرور وإتمام نعمة رب غفور ويوم الصلاح لكل الأمور أبي الحسنين الإمام الأمير بتقدير رب عليم قدير على المؤمنين بيوم الغدير على كل خلق السميع البصير وعترته الأطهرين البدور (1).
هنيئا هنيئا ليوم الغدير ويوم الكمال لدين الإله ويوم الفلاح ويوم النجاح ويوم الإمارة للمرتضى ويوم الخطابة من جبرئيل ويم اشتراط ولاء الوصي ويوم الولاية في عرضها ويوم الصلاة على المصطفى.
إن حديث يوم الغدير كان محل العنايات السامية، والرعايات العالية، عنايات ورعايات عظيمة ومتواصلة من الله ورسوله وخلفائه والمؤمنين جيلا بعد جيل من يومه الأول وإلى الآن وإلى يوم القيامة.
وأي عناية ورعاية من الله جل وعلا في حديث أعظم من عنايته بحديث يوم الغدير، والذي من عنايته به أن أوحاه إلى رسوله الأعظم (ص) مرارا عديدة، وأنزل فيه قرآنا يرتله المسلمون آناء الليل وأطراف النهار.
الآيات النازلة في الحديث
انزل فيه آيات ناصعة عديدة لا آية واحدة، منها آية التبليغ وهي قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما
(1) الأبيات من قصيدة طويلة للشيخ الكفعمي وتجدها في مصباحه ص 927 - 935.
293

بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين " [المائدة / 68].
ومنها آية الإكمال وهي قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " [المائدة / 4].
وبعد هاتين الآيتين انزل جل وعلا ثلاث آيات آلا وهي آيات العذاب الواقع على الكافرين بحديث الغدير وهي قوله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم، سأل سائل بعذاب واقع (1) للكافرين ليس له دافع (2) من الله ذي المعارج " [المعارج / 1 - 4].
وقد ذكر شيخنا الأميني في موسوعته الضخمة الغدير في الجزء الأول ثلاثين مصدرا من مصادر أهل السنة من مفسرين ومؤرخين ومحدثين في نزول آية التبليغ في ولاية
أمير المؤمنين يوم غدير خم، وستة عشر مصدرا من مصادرهم الموثوقة في نزول آية الإكمال في ذلك اليوم، وثلاثين مصدرا في نزول آيات العذاب الواقع للكافرين بحديث الغدير، فتكون مجموع هذه المصادر التي ذكرها الأميني في نزول الآيات في شأن حديث الغدير ستة وسبعون مصدرا.
السبب في نزول آيات العذاب الواقع على الكافرين بالحديث
وذكر المفسرون - من أهل السنة - ومنهم الثعلبي في تفسيره (الكشف والبيان) سبب نزول آيات العذاب الواقع للكافرين بحديث الغدير وهو انه -: لما كان الرسول (ص) بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد
294

علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد، فبلغ ذلك - أحد أعدائه وهو الحرث بن النعمان الفهري (1).
فأتى رسول الله (ص) على ناقة له فنزل عنها وأناخها فقال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله فقبلناه، وأمرتنا أن نصلي خمسا فقبلناه منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا، وأمرتنا ان نصوم شهر رمضان فقبلنا، وأمرتنا بالحج فقبلنا ثم لم ترض عنا حتى رفعت بضبعي ابن عمك ففضلته علينا وقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أم من الله عز وجل فقال (ص): والذي لا إله إلا هو ان هذا من الله، فولى الحرث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم ان كان ما يقول محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء أو ءآتنا بعذاب أليم، فما وصل ناقته حتى رماه الله تعالى بحجر فسقط على هامته وخرج من دبره وقتله.
وأنزل الله عز وجل على رسوله: (بسم الله الرحمن الرحيم، سأل سائل بعذاب واقع... " الخ (2).
(1) في رواية الحافظ أبو عبيد الهروي في تفسيره (غريب القرآن) ان الذي أتى رسول الله، واعترض عليه هو جابر بن النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، ولا يبعد صحة ذلك حيث ان جابرا هذا قد قتل والده النضر يوم بدر صبرا علي أمير المؤمنين بأمر رسول الله (ص) بعد ان اسر فكان قلبه يغلي حقدا وبغضا على رسول الله (ص) وعلى أمير المؤمنين، فلذا لما نص رسول الله على ولاية أمير المؤمنين يوم غدير خم وبلغه ذلك جاء إلى النبي (ص) معترضا عليه.
(2) راجع (الغدير) ج 1 ص 214 - ص 266، تحت عنوان " التدبر في الكتاب العزيز " ويذكر نزول الآيات البينات، ومصادرها، وما يتعلق بها من بحوث وشواهد وأشعار.
295

نعم ذكر شيخنا الأميني لهذه الواقعة ثلاثين مصدرا من مصادر أهل السنة، وأما من طرقنا فهي شهيرة ومسلم بها إلى غير ذلك من الآيات النازلة في حديث الغدير وفي المخالفين له.
وأما الآيات التي تؤيد حديث الغدير فهي أكثر من ثلاثمائة آية، وإذا كانت العنايات من الله - بحديث الغدير - بهذا الشكل، فلا غرو ان تكون العنايات الهامة من رسول الله (ص) بنشر هذا الحديث على جميع الناس.
إعلان النبي (ص) عن حجة الوداع
ولذا أن النبي (ص) لما علم دنو أجله ونعيت إليه نفسه في ذلك العام أعلن (ص) إلى الناس وأذن فيهم قبل موسم الحج في الأقطار والأمصار انه سيحج في هذا العام حجة الوداع، أي هي آخر حجة حجها، فمن أحب منكم أن يحج معي فليلحق بي، فوافاه الناس من كل فج عميق، حتى خرج من المدينة ومعه أكثر من مائة ألف حاج وحاجة.
ولما كان يوم الموقف بعرفة خطب في الناس وأشاد بفضل علي أمير المؤمنين وأهل بيته الأطهار ونادى في الناس:
" علي مني وأنا منه ولا يؤدي عني إلا أنا أو علي " يعني تأدية رسالته بتمامها وكمالها.
ولما قفل راجعا بمن معه من تلك الألوف، وقارب مكان غدير خم، في مكان يقال له ضجنان، هبط عليه الأمين جبرئيل وأمره عن الله عز وجل أن يبلغ الناس ولاية علي أمير المؤمنين من بعده، فراجع النبي بذلك
296

جبرئيل - خوفا من مخالفة قومه - وقال: أخي جبرئيل ان الناس جديد عهد بالإسلام فلعلهم لا يمتثلون أمري في ولاية علي أو ينالنا منهم سوء، فعرج جبرئيل ثم هبط على النبي (ص) وقد وصل إلى غدير خم، وقد جاءه بهذه الآية عن الله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين ".
فحينما جاءه الأمر من الله بالعزيمة ووجوب التبليغ، عند ذلك نزل النبي (ص) بذلك المكان وحط رحله هناك حتى لحق به من تأخر عنه، وأرجع إليه من تقدمه، وكان من ذلك المكان تتشعب منه الطرق، طرق المدنيين والمصريين والعراقيين وغيرهم.
فجمع رسول الله الناس قبل أن يتفرقوا، ولما اجتمعوا صلى بهم الفريضة، ثم خطبهم - عن الله عز وجل - بخطبة جامعة ذكر فيها أصول الدين وفروعه وسائر أحكامه، وحث الناس فيها على إطاعة الله في أوامره والانتهاء عن نواهيه.
وأشاد بفضل القرآن وأهل بيته وإنهما الثقلان اللذان خلفهما على الأمة، ثم تناول عليا بيده المباركة من يده الكريمة ورفعه حتى بان بياض إبطيهما، ونادى فأسمع: أيها الناس ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره وأخذل من خذله وأدر الحق معه حيث دار.
297

بيعة الناس لعلي (ع) وبخبخة الشيخين له
وبعد ذلك نصب لعلي خيمة فجلس فيها، وأمر (ص) أولئك الجماهير بأن يسلموا عليه بأمرة المؤمنين ويبايعوه، لتتم له البيعة في حياته، ولا يختلف فيه أحد بعد وفاته، فتسابق الناس للسلام عليه بأمرة المؤمنين وتهنئته بالمقام الرفيع.
وكان من جملة المبايعين والمهنئين له الشيخان أبو بكر وعمر، فدخل كل منهما على علي وهنأه بالولاية الكبرى وقال كل منهما له، بخ بخ لك يا علي أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، وقد ذكر شيخنا الأميني لبخبختهما لعلي بالولاية ستين مصدرا من مصادر أهل السنة في كتابه (الغدير) (1).
وبعد ان تمت البيعة له انزل الله على رسوله آية الإكمال: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا " [المائدة / 4]، فكان إكمال الدين
وإتمام النعمة ورضا الرب بالإسلام دينا للمسلمين بولاية علي أمير المؤمنين، ولقد أجاد من قال:
وليس يبلغها قولي ولا عملي ولايتي لأمير المؤمنين علي.
مواهب الله عندي جاوزت أملي لكن أشرفها عندي وأفضلها.
(1) راجع (الغدير) في تفاصيل التهنئة والبيعة وعيدها، ج 1 من ص 267 - 289 وما بعدها.
298

تواتر حديث الغدير والاحتجاج به
وقد حمل حديث الغدير عن رسول الله (ص) كل من كان معه من تلك الجماهير التي كانت تربو على مائة ألف من بلدان شتى، فلذا شاع حديث الغدير وتواتر عند جميع المسلمين وبقي خالدا بذكراه العطرة في الأجيال كلها.
على ان لأئمة الهدى (ع) وسائر أهل البيت وشيعتهم من الصحابة والتابعين والعلماء والمؤلفين والشعراء والأدباء طرقا تمثل الحكمة في بثه وإشاعته في الأعصار والأمصار.
فقد قام أمير المؤمنين (ع) يحتج به على الناس مرارا عديدة أيام خلافة الخلفاء، وأيام خلافته احتج به على الناس حتى يبقى خالدا، ومن ذلك:
ما احتج به أيام خلافته (ع) إذ جمع الناس في الرحبة ليناشد كل أمرئ مسلم سمع رسول الله (ص) يقول يوم غدير خم ما قال إلا قام وشهد بما سمع، وانه لا يقم ويشهد به إلا من رآه بعينه وسمع مقالته بأذنه، فقام ثلاثون صحابيا فيهم اثنى عشر بدريا، فشهدوا ان رسول الله (ص) أخذ بيده وقال للناس: أتعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: نعم، فقال (ص):
من كنت مولاه فهذا علي مولاه، وقعد عن الشهادة بالحديث - يومئذ - ثلاثة نفر أقعدهم البغض عن القيام بواجب الشهادة فأصابتهم دعوة أمير المؤمنين (ع) كأنس بن مالك حيث قال له علي: مالك القوم مع أصحاب رسول الله فتشهد بما سمعته يومئذ منه؟ فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت ونسيت، فقال علي (ع) له: ان كنت كاذبا فضربك الله ببياض لا تواريه
299

العمامة، فما قام حتى أبيض وجهه برصا على ما ذكر المؤرخون ذلك من الفريقين.
وممن احتج به الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء كما جاء في (أسنى المطالب) مسندا عن ابنتها أم كلثوم إنها قالت محتجة على القوم: أنسيتم قول رسول الله (ص) يوم غدير خم: من كنت مولاه فعلي مولاه، وقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى... الخ.
واحتج به الإمام السبط الحسن المجتبى في خطبة له عام الصلح قال من جملتها: وقد رأوه وسمعوه حين أخذ بيد أبي بغدير خم وقال لهم: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وآل من والاه وعاد من عاداه، ثم أمرهم أن يبلغ الشاهد الغائب... الخ.
واحتج به الإمام الحسين (ع) قبل هلاك معاوية، في اجتماع كبير يضم المئات من الصحابة والتابعين بمنى في موسم الحج، وخطب فيهم وقال من جملتها: أنشدكم الله أتعلمون ان رسول الله (ص) نصبه يوم غدير خم فنادى له بالولاية وقال: ليبلغ الشاهد الغائب، قالوا: اللهم نعم.
إلى غير ذلك ممن احتج بحديث الغدير، راجع التفصيل في كتاب (الغدير) ج 1 من ص 159 - ص 213.
(إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا " [المزمل / 20].
حديث الغدير، والشعراء قديما وحديثا
300

وقد نظم حديث الغدير الشعراء، وأكثروا من نظمه منذ عهد الصحابة إلى هذا اليوم، وهم ألوف مؤلفة لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل.
وممن نظم حديث الغدير شعرا من الصحابة حسان بن ثابت شاعر النبي (ص) نظمه شعرا في ذلك الحشد الرهيب وأنشده عند النبي وقال له النبي (ص): يا حسان لا تزال مؤيدا بروح القدس ما نصرتنا أهل البيت، وهذه أبياته:
بخم وأسمع بالنبي مناديا فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا ولم تلق منا في الولاية عاصيا رضيتك من بعدي إماما وهاديا فكونوا له اتباع صدق مواليا وكن للذي عادى عليا معاديا (1).
يناديهم يوم الغدير نبيهم فقال: فمن مولاكم ونبيكم؟ إلهك مولانا وأنت نبينا فقال له: قم يا علي؟ فإنني فمن كنت مولاه فهذا وليه هناك دعا اللهم؟ وال وليه.
وممن نظم حديث الغدير شعرا من الصحابة أيضا قيس بن سعد بن عبادة الصحابي الجليل المخلص أنشد أبياتا يوم صفين بين يدي أمير المؤمنين (ع)، منها:
حسبنا ربنا ونعم الوكيل كرة بالأمس والحديث طويل.
قلت لما بغى العدو علينا حسبنا ربنا الذي فتح البصر
(1) راجع ترجمة حسان وشعره، وما يتبعه في الغدير ج 2 ص 32 - ص 59.
301

ويقول فيها:
لسوانا أتى به التنزيل ه فهذا مولاه خطب جليل حتم ما فيه قال وقيل (1)..
وعلي إمامنا وإمام يوم قال النبي: من كنت مولا إنما قاله النبي على الأمة.
وممن نظم حديث الغدير من الصحابة عمرو بن العاص المحارب لعلي يوم صفين، أيضا نظم الحديث في قصيدته الشهيرة المعروفة بالجلجلية التي بعث بها إلى معاوية حينما أراد عزله عن ولاية مصر فبعث إليه عمرو بهذه القصيدة والتي منها يقول:
وصايا مخصصة في علي يبلغ والركب لم يرحل ينادي بأمر العزيز العلي بأولى؟ فقالوا: بلى فافعل من الله مستخلف المنحل فهذا له اليوم نعم الولي وعاد معادي أخ المرسل فمدخله فيكم مدخل فقاطعهم بي لم يوصل عرى عقد حيدر لم تحلل (2).
وكم قد سمعنا من المصطفى وفي يوم خم رقى منبرا وفي كفه كفه معلنا ألست بكم منكم في النفوس فانحله أمره المؤمنين وقال: فمن كنت مولا له فوال مواليه يا ذا الجلال وقال: وليكم فاحفظوه ولا تنقصوا العهد من عترتي فبخبخ شيخك لما رأى.
(1) راجع ترجمة قيس، وشعره ومقاماته السامية في الغدير ج 2 من ص 60 - ص 100.
(2) راجع ترجمة عمرو وشعره ونسبه وإسلامه وشجاعته ووفاته في الجزء الثاني من الغدير من ص 101 - ص 160.
302

وممن نظم حديث الغدير شعرا صاحب الغدير نفسه وهو علي أمير المؤمنين (ع) نظمه في أبيات بعث بها إلى معاوية قبل حرب صفين، حينما بعث إليه معاوية كتابا يقول فيه:
إن لي فضائل، كان أبي سيدا في الجاهلية، وصرت ملكا في الإسلام، وأنا صهر رسول الله وخال المؤمنين، فقال أمير المؤمنين (ع): أبا الفضائل يبغي علي ابن آكلة الأكباد: أكتب يا غلام
وحمزة سيد الشهداء عمي يطير مع الملائكة ابن أمي منوط لحمها بدمي ولحمي فأيكم له سهم كسهمي على ما كان من فهمي وعلمي رسول الله يوم غدير خم لمن يلقى الإله غدا بظلمي (1).
محمد النبي أخي وصهري وجعفر الذي يضحي ويمسي وبنت محمد سكني وعرسي وسبطا أحمد ولداي منها سبقتكم إلى الإسلام طرا وأوجب لي ولايته عليكم فويل ثم ويل ثم ويل.
خاتمة الكتاب
قصيدة عاشق لصاحب الغدير لولدنا علي
عشقت عليا
مهداة إلى سيدي ومولاي أمير المؤمنين الإمام (علي بن أبي طالب ~) راجيا الشفاعة.
فصار هواه أميرا عليا فأسلك فيه " صراطا سويا " وأسقى شرابا به كوثريا وأبعث بعد وفاتي حيا عقدت بحبك عقدا وفيا آذانا تردد من والديا على أسم الأمير يسمى عليا وحيث رجوتك ألقاك رفيا لكل قويم وحقا جليا رأيتك في النهج " نهجا " " رضيا " تكفر من لا يراك وليا ومنه سأجني قطافا جنيا وأسمع منك " نداء خفيا " تمعنت فيك مليا مليا وأنك لولاه كنت النبيا. عشقت عليا أميرا عليا يسد علي دروب ضلالي وأظفر منه " بصك نجاتي " وأولد حيا وادفن حيا فمذ كنت في نطفة مستكينا وحال ولدت حللت بسمعي ولما استبينا عن أسمي قالا فصرت معي أين سارت دروبي ولما بلغت وجدتك شرعا قرأتك في " الذكر " ذكرا عظيما عرفت الجنان لحبك وقفا وإني " برفضي " سأدعى إليها فرحت أناجيك في كل هم تفكرت فيك وما أنت فيه فأيقنت أنك صنو النبي.
* * * *.
وأقرب مني مرارا إليا نقضت التشيع من راحتيا لأفنيت عمري وما جئت شيئا بذلك جبريل صوتا عليا ولا عرف الكون طه النبيا فقلت: " ادخلوا بسلام " عليا فكل علوم الرسول لديا تكفلتها فارسا حيدريا ولا عشقت غير فيك فيا ومن ذا طواها بكفيه طيا من البات فيه ونام هنيا تراه طعاما إليها شهيا وصار له غربها مشرقيا " وأشرقت الأرض " نورا بهيا وحطمت أصنام من ضل غيا فكان وأياك في النفس رسيا. هواك بصلب كياني مقيم تشيعت فيك ولولاك فيه ولو جئت أمدح فيك خصالا فسيفك لا سيف إلاه نادى ولولاك ما عاش للدين ذكر أبى العلم إلاك بابا إليه وقلت: " سلوا قبل أن تفقدوني " وراية خيبر لم تعل حتى فما احتملت غير كفك كفا سلوا باب خيبر من قد دحاها وذاك فراش النبي سلوه وأسياف غدر على الباب تجثوا ومن ذا سواه له الشمس ردت ولدت بكعبة ربك طهرا وفيها رقيت على كتف طه وباهل فيك الرسول بنص.
* * *
عداه تسيدهم هاشميا ويؤتي الزكاة ركوعا خشيا فتى " يقرض الله قرضا " سخيا فطهر من كل رجس نقيا وأضحى على كل عبد وليا وبلغ أمر الإله جليا " وكونوا مع الصادقين " سويا فما قولكم أين نلقى عليا؟. " من المؤمنين رجال " ومن ذا " يجاهد في الله حق جهاد " على حبه يطعم الزاد زلفى توغل في البر حتى تناهى ويوم " الغدير " تعلى إماما فتمت رسالة أحمد فيه فيا مؤمنون اتقوا الله حقا فهذا علي بآي الكتاب.
* * *
فياليت أفديك ميتا صبيا بكل لحيظة عمر لديا تقي لتخلد في مقلتيا إذا رحت تشرق في ناظريا وكل ضريح لميت تهيا ففاضت معانيه من أصغريا. وما دمت تحضر كل احتضار ويا ليت ألفا أموت وأحيى وياليتني نبت عن كل ميت وأني لأعشق مني غروبي وأغبط في موتها كل عين سرى بعروقي ولاء علي.
* * *
أساها فتذرف دمعا هميا يعيث فسادا وينطق غيا وما كنت يوما لهم نسيا فأكثرهم يكره الحق حيا وجاؤوا بغدرك " شيئا فريا " وفزت وربك فوزا عليا وعاش ومات المعادي شقيا وتدخل جنة عدن تقيا يعيش كما الخلد للدهر حيا نظل ننادي عليا عليا. وللآن ألفي جراحك ينمو وتذهل رؤياك في كنه خلق وكم أقرضتك الهموم هموما لأنك حي تمنوك ميتا عصوك لأنك لم تعص حقا قضيت شهيدا بمحراب نسك فعشت عليا ومت عليا بأمرك تدخل من ضل نارا وهذا مزارك آيات صدق بكل مكان وفي كل حين.
* * *
ألقيت في مجلس الشعريات الأسبوعي العامر بتاريخ 19 / 11 / 1998 م
نسألكم الدعاء
(1) راجع الجزء الثاني من الغدير في ترجمة أمير المؤمنين وشعره وما يتبع من ص 24 - ص 31، " والسلام على من اتبع الهدى ".
303

فهرس الكتاب
التحقيق في الإمامة وشؤونها
الإهداء
آيات افتتاحية من الذكر الحكيم
دعاء افتتاحي
مقدمة الكتاب في آيات مختارة
الفصل الأول
من هو الإمام المدعو كل أناس به يوم القيامة
مقدمة تمهيدية
تفسير الآيتين من سورة الإسراء
أقوال المفسرين في المراد من الإمام
أصح الأقوال ثلاثة
القول الأول وأدلته
قصة جماعة يدعون يوم القيامة وإمامهم الضب
القول الثاني وأدلته
القول الثالث وأدلته
الجمع بين هذه الأقوال وأدلته
الفصل الثاني
الإمامة كالنبوة اختيارها بيد الله الحكيم الخبير
الإمامة - عند الشيعة الإمامية - من أصول الدين
309

بيان الأدلة الأربعة على عدم الخيرة للناس
الأول: - الكتاب الكريم
محاورة ابن عباس مع الخليفة الثاني في الخلافة
الثاني: - السنة
الثالث: - العقل
قصة السبعين رجلا الذين اختارهم موسى ~
بعض المنافقين لا يعلمهم إلا الله تعالى
الرابع: - الإجماع
لم يقبض الله نبيا حتى يعين له وصيا
لا يسافر نبينا (ص) ولا يبعث سرية حتى يعين له خليفة
طريقة الخلفاء والرؤساء في الاستخلاف
إنكار أم المؤمنين عائشة، وعبد الله بن عمر على أبيه
وقوع الاختلاف والحروب الدامية بين الأمة
إمامة أهل البيت أمان من الفرقة
الإشارة إلى نصوص رسول الله (ص) على علي بالخلافة
شرائط الإمامة واجتماعها في علي وأبنائه الطاهرين (ع)
تعريف العصمة لغة واصطلاحا
اشتراط العصمة غير خارج عن الأدلة
تساؤل مهم
أفضلية الإمام وأكمليته
إنكار القرآن تقديم المفضول على الفاضل
310

الإمام الجامع للشرائط لا يعلمه إلا الله
ثبوت الإمامة يكون من طريقين النص والمعجز
الحجة لله قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق
الفصل الثالث
هوية الإمام والإمامة في أحاديث
الحديث الأول: - إكمال الدين بالإمامة
محل الإمامة من الأمة
الإمام الدال على الهدى والمنجي من الردى
منع علوم الأنبياء والأئمة
الحديث الثاني: - إيضاح دين الله بأئمة الهدى من أهل البيت (ع).
خلق الله روح الإمام قبل الخلق
الحديث الثالث: - مميزات الأئمة وأوصافهم السامية
الأئمة شجرة أصلها رسول الله (ص)
الفصل الرابع: -
صفات خمس لنبينا (ص) في القرآن شاركه بها أئمة الهدى
الأول.... كونه شاهدا
الأمة الوسط الشهيدة على الناس إنما هم الأئمة من آل محمد (ص)
ليست الأمة كلها شهداء
الأمة الوسط في الأحاديث
علي أمير المؤمنين الشاهد الأول على الأمة بعد نبينا (ص)
معاني الوسط
311

شهادة الأئمة (ع) على الناس بحق وعن علم مستمد عن الله تعالى، ومن الشفعاء؟ ولمن يشفعون؟
من أين جاء العلم للأئمة (ع) بعمل الأمة؟
طرق علومهم (ع) ومنابعها
الطريق الأول - - - الإلهام
التحليل والدليل على تلقي الفيوضات الإلهية للمخلصين
شهادة القرآن لهم (ع) بالإخلاص
أقسام العلوم بالنسبة إلى طرق تحصيلها وعلم الأئمة (ع) اللدني
أهل البيت أعلم الأمة، وفيهم نزلت الآية الكريمة
الأدلة على علم الأئمة الإلهامي
قيام الإمام الجواد ~ بالإمامة وهو ابن ثمان سنين
الأسئلة التي قدمت إليه بحضور عمه
التعظيم للإمام الجواد، والشهادة له بالإمامة على صغر سنه
اعتراف المأمون بعلم الأئمة الإلهامي، واحتجاجه على العباسيين
مسألة يحيى بن أكثم للإمام الجواد ~
قيام الإمام علي الهادي ~ بالإمامة وهو ابن ست سنين
الطريق الثاني من ينابيع علم الأئمة (ع) - - - عرض صحائف الأعمال عليهم
دلالة الآية الكريمة
معنى الغيب والشهادة، وعلم الله عز وجل بهما
312

تسجيل الملائكة لأعمال المكلفين ومثاله
عنوان صحائف الأعمال للمؤمنين
سبب نزول الآية الكريمة
الأوقات التي تعرض فيها صحائف الأعمال
تبديل سيئات التائب حسنات
الشهود على الإنسان عند الحساب
من الشهود على الإنسان القرآن الكريم
أعضاء الإنسان كلها تشهد عليه
ومن الشهود على الإنسان بقاع الأرض
الإدراك والشعور موجودان في كل مخلوق
الآيات الدالة على الإدراك والشعور في كل مخلوق
التحقيق في وجود الإدراك والشعور في كل مخلوق
حنين الجذع وتسبيح الحصى في كف النبي (ص)
إظهار تسبيح الجبال والطير مع داود ~
عدم تساوي آثار الإدراك والشعور في كل مخلوق
تأثر الكائنات وتغيرها في بعض الحوادث
الآثار الكونية عند ولادة النبي (ص)
حادثة الطف المفجعة وآثارها في الكون
من الشهود على بعض الناس الحجر الأسود
الطريق الثالث من ينابيع علم الأئمة - - - حديث الملائكة معهم (ع)
313

عرض الملائكة على النبي (ص) والأئمة ما قدر ليلة القدر
على من تنزل التقديرات في ليلة القدر؟ ولمن ترسل؟
الأحاديث الشريفة التي تجيب على هذا التساؤل
كشف الأحاديث عن حقائق ثابتة عند الجميع
1 - استمرار ليلة القدر في كل سنة
2 - فيها تنزل الملائكة على النبي (ص) والأئمة الاثني عشر
3 - الأئمة محدثون وليسوا بأنبياء
الملائكة تحدث المؤمنين وغير المؤمنين عند حضور آجالهم
الطريق الرابع من ينابيع علم الأئمة - - - الوراثة من السابق إلى اللاحق
من الذين اصطفاهم الله؟ وسبقوا غيرهم بالخيرات؟
التحقيق في من اصطفاهم الله وأورثهم الكتاب
الإشارة إلى محاجة الإمام الرضا ~ حول الآية
الموارد العلمية التي ورثها الأئمة عن النبي (ص)
أول الوارثين المصطفين علي أمير المؤمنين ~
علمه ~ بالقرآن وقوله: سلوني قبل أن تفقدوني
حديث مهم له ~ حدث به سليم الهلالي
تقسيم المحدثين عن النبي إلى أربعة أقسام
الطريق الخامس من ينابيع علم الأئمة (ع) - - - الكتب المنزلة على رسل الله السابقين
314

نصوص من الأحاديث
إيضاح مهم للحديث الأول
تعليق مهم على تلك الأحاديث نصوص من الزيارات والأدعية
الطريق السادس من علم الأئمة - - - تفسير القرآن الذي ألفه أمير المؤمنين ~ بأمر النبي بعد وفاته (ص)
الطريق السابع من ينابيع علومهم التي قد ورثوها - - - الكتب التي أملاها رسول الله (ص) على علي أمير المؤمنين ~
1 - الجامعة
2 - الجفر الأبيض والجفر الأحمر
3 - مصحف فاطمة
عود إلى الصفات الخمس لنبينا في القرآن
الصفة الثانية والثالثة كونه مبشرا ونذيرا
الصفة الرابعة كونه (ص) داعيا إلى الله
الصفة الخامسة كونه (ص) سراجا منيرا
الفصل الخامس
تحقيق حضور النبي (ص) والأئمة عند المحتضرين
وصية النبي (ص) وأهل بيته ملك الموت بمحبهم
من شؤون إمامة النبي (ص) والأئمة حضورهم عند المحتضرين
حضور النبي (ص) والأئمة عند المحتضرين بأدلة القرآن المجيد
الاستدلال العلمي على حضور النبي (ص) وأهل بيته عند كل محتضر
315

المكتشفات العلمية ومشاهد عالمي البرزخ والقيامة
قصة السيد الحميري فيما جرى له عند وفاته
السبب في اسوداد وجهه أولا وإشراقه ثانيا
قصة خطاب الجهني واستغاثته عند احتضاره
قصة واقعية في رؤيا صادقة
تصريح أمير المؤمنين ~ برؤية رسول الله (ص) والملائكة والنبيين عند وفاته
رؤيا أم سلمة، وعبد الله بن عباس يوم عاشوراء رسول الله (ص) وانه شهد قتل الحسين آنفا
الفصل السادس
عناية الله ورسوله وخلفائه والمؤمنين بحديث الغدير
الآيات النازلة في الحديث
السبب في نزول آيات العذاب الواقع على الكافرين بالحديث
إعلان النبي (ص) عن حجة الوداع
بيعة الناس لعلي ~ وبخبخة الشيخين له
تواتر حديث الغدير والاحتجاج به
حديث الغدير والشعراء قديما وحديثا
خاتمة الكتاب قصيدة عاشق لصاحب الغدير لولدنا علي " عشقت عليا "
فهرس الكتاب
فهرس تعاليق الكتاب
316

فهرس تعاليق الكتاب
الفرق في الجعل - من الله تعالى - بين أئمة الهدى والضلال
الإشارة - في القرآن - إلى وسائل الإعلام
معاريض الكلم فيما دار بين حذيفة والخليفة الثاني
مصادر حديث " من مات ولم يعرف إمام زمانه "
المراد من معرفة النبي (ص) وعلي ~ بالله تعالى
القرآن والحديث يصرحان " بأن منكري إمامة أئمة الهدى عارفون بها وينكرونها استكبارا وظلما
الإشارة إلى تعاليق حول آية " ان الله اصطفاه عليكم "
الاستدلال على جواز القسم بغير الله من المقدسات
الإشارة إلى حديث الشجرة ومصادره
الأمانة المعروضة على السماوات ومعانيها
تعريف الوحي، وكونه للأنبياء وغيرهم
مصادر نزول آية " ويتلوه شاهد منه " في علي ~
الإشارة إلى تفصيل الشفاعة ومواردها
الرجوع إلى علي ~ في حصول الجنابة بالالتقاء
الإشارة إلى رجوع الخلفاء والحكام إلى علي والأئمة (ع)
مصادر حديث " عنوان صحيفة المؤمن حب علي ~ "
مصادر نزول آية " فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " وان المقصود بالمؤمنين الأئمة الهداة (ع)
318

الجواب عن سؤال: الكتاب أفضل أم العترة؟
عدم بكاء السماوات والأرض على الكافرين
جواب أمير المؤمنين ~ لليهودي عن أول حجر وضع على الأرض
مصادر قصة وحديث " يؤتى بالحجر الأسود يوم القيامة وله لسان ذلق "
التحقيق في جمع علي ~ القرآن وسلامته من التخريف
لفت نظر إلى أن من أحب أهل البيت (ع) فقد أحب الله ورسوله (ص)
أهم ما يحول بين الإنسان والولاية عند الموت
319

فهرس مصادر الكتاب
1
2 - القرآن الكريم
إثبات الوصية -
المسعودي -
ط الحيدرية / النجف
3 - الاثني عشرية - محمد بن قاسم الحسيني العاملي - ط الإسلامية / طهران
4 - الإجماع - السيد محمد صادق الصدر - ط عويدات / لبنان
5 - الاحتجاج - الطبرسي - ط النعمان / النجف
6 - إحقاق الحق - السيد نور الله الحسيني - ط الإسلامية / طهران
7 - أخبار الدول - الإسحاقي - بالواسطة
8 - الاختصاص - الشيخ المفيد - ط الحيدرية / النجف
9 - أرجح المطالب - الشيخ عبيد الله الحنفي - ط لاهور / بالواسطة
10 - إرشاد الساري - القسطلاني - ط لاهور / بالواسطة
11 - الاستيعاب - ابن عبد البر المالكي - ط مصطفى محمد / مصر / 1358
12 - اسد الغابة - ابن الأثير - بالواسطة
13 - الأسفار - الشيرازي - بالواسطة
14 - الإصابة في تمييز الصحابة - ابن حجر العسقلاني - ط مصطفى محمد / مصر
15 - أصول الكافي - الكليني، مع شرح الشافي - ط النعمان / النجف / 1956.
16 - الأصول العامة - السيد محمد تقي الحكيم - ط الأندلس / بيروت / 1383.
320

17 - أعلام النبوة - الماوردي - بالواسطة
18 - إعلام الورى - الطبرسي - ط التعارف / بيروت / 1399.
19 - أعيان الشيعة - السيد محسن الأمين - ط دمشق
20 - الأغاني - أبو الفرج الأصفهاني - بالواسطة
21 - إقناع اللائم - السيد محسن الأمين - ط العرفان صيدا / 1344
22 - إكمال الدين - الشيخ الصدوق - ط الحيدرية / النجف.
23 - الأمالي - الشيخ الصدوق - ط الحكمة / قم / 1373.
24 - أمالي الشيخ الطوسي - - ط النعمان / النجف / 1384.
25 - الإمامة والسياسة - ابن قتيبة الدنيوري - ط بيروت
26 - أوائل المقالات - الشيخ المفيد - ط الحيدرية / 1393.
27 - آية التطهير - السيد محي الدين الغريفي - ط العلمية / النجف / 1377
- الباء -
28 - بشارة المصطفى - أبو جعفر الطبري الإمامي - ط الحيدرية / النجف / 1949.
29 - بحار الأنوار - الشيخ المجلسي - ط الإسلامية / طهران
30 - البحر المحيط في التفسير - أبو حيان الأندلسي - ط السعادة بمصر / بالواسطة
31 - البرهان في التفسير - السيد هاشم البحراني - بالواسطة
32 - بصائر الدرجات - محمد بن حسن الصفار -
33 - بلاغات النساء - أحمد بن أبي طاهر - بالواسطة
- التاء -
34 - تاريخ ابن الأثير / المسمى بالكامل - ط مصر / بالواسطة
321

35 - تاريخ ابن عساكر - - ط مصر / بالواسطة
36 - تاريخ آل محمد - - ط مصر / بالواسطة
37 - تاريخ بغداد - الخطيب البغدادي - ط السعادة بمصر / بالواسطة
38 - تاريخ الطبري - أبو جعفر الطبري - ط الاستقامة / القاهرة / بالواسطة
39 - تاريخ مكة - العلامة الأزرقي - بالواسطة
40 - تحف العقول - ابن شعبة - بالواسطة
41 - تذكرة الخواص - سبط ابن الجوزي - ط العلمية / النجف
42 - تعليقات إحقاق الحق - السيد شهاب الدين - ط طهران
43 - تفسير ابن عقدة - - بالواسطة
44 - تفسير الجلالين - جلال الدين المحلي والسيوطي - ط المعرفة / بيروت / بالواسطة
45 - تفسير الجواهر - الجواهري الطنطاوي - ط مصطفى البابي / مصر
46 - تفسير الخازن - العلامة علاء الدين - ط القاهرة / بالواسطة
47 - تفسير العياشي - - ط العلمية / قم / 1960
48 - تفسير فرات بن إبراهيم - - بالواسطة
49 - تفسير القرآن العظيم - ابن كثير الدمشقي - ط مصطفى البابي / مصر / بالواسطة / 1962
50 - تفسير القمي - علي بن إبراهيم القمي - ط النجف / النجف / 1966
51 - تفسير المراغي - المراغي - ط مصطفى البابي / مصر / 1962
52 - التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري - بالواسطة
53 - تلخيص المستدرك - الذهبي - ط النصر الحديثة / الرياض
54 - تهذيب التهذيب - الذهبي - بالواسطة
322

55 - التوحيد - الشيخ الصدوق - ط المصطفوي / طهران / 1375
- الثاء -
56 - الثقلان - محمد حسين المظفري - ط الأولى
- الجيم -
57 - جامع البيان في التفسير - محمد بن جرير الطبري - ط بولاق
58 - جامع السعادات - الشيخ مهدي النراقي - ط النجف / النجف / 1373
59 - الجامع الصغير - السيوطي - بالواسطة
60 - الجامع الكبير - السيوطي - بالواسطة
61 - الجامع لأحكام القرآن - القرطبي - بالواسطة
- الحاء -
62 - الحسان - - بالواسطة
63 - حديث الثقلين - الشيخ محمد قوام الدين القمي - بالواسطة
64 - الحقائق الكونية بجزأيه - الخطيب عبد اللطيف البغدادي - 1995
65 - الحقائق في الجوامع والفوارق - الشيخ حبيب العاملي - ط الإبراهيمي / بعلبك
66 - حياة الإمام الجواد - الشيخ باقر القريشي - ط النعمان / النجف / 1400
67 - حياة أمير المؤمنين - محمد صادق الصدر - ط دار الكتب / بيروت
68 - حياة الحيوان الكبرى - الدميري - ط التحرير / مصر
69 - حياة محمد - محمد حسين هيكل - بالواسطة
- الخاء -
70 - خلاصة نقض العثمانية - الجاحظ - بالواسطة
323

- الدال -
71 - در بحر المناقب - الموصلي - بالواسطة
72 - الدر المنثور في التفسير - السيوطي - ط الإسلامية / طهران / 1377
73 - الدرجات الرفيعة - السيد علي خان - ط الحيدرية / النجف
74 - الدلائل - الحيدري -
75 - دلائل الإمامة - الطبري الإمامي - ط الحيدرية / النجف / بالواسطة
76 - دلائل الصدق - الشيخ محمد حسن المظفري - ط الحيدرية / النجف / 1372
77 - الدين والإسلام - الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء - 1387
- الذال -
78 - ذخائر العقبى - محب الدين الطبري - ط دار الكتب العراقية / بغداد
79 - ذيل اللآليء - السيوطي - بالواسطة
- الراء -
80 - رجال الكشي - - ط الآداب / النجف
81 - الرجعة على ضوء الأدلة الأربعة - عبد اللطيف البغدادي - بيروت / 1979
82 - روض الأنف - أبو القاسم - بالواسطة
83 - روح المعاني في التفسير - السيد محمود الآلوسي - بالواسطة
84 - الرياض النضرة - محب الدين الطبري - دار التأليف / النجف
- الزاء -
85 - زينب الكبرى - الشيخ جعفر النقدي - ط الحيدرية / النجف / 1361
324

86 - زين الفتن في شرح سورة هل أتى - الحافظ العاصمي - بالواسطة
- السين -
87 - السقيفة - أحمد بن عبد العزيز الجوهري - بالواسطة
88 - سنن ابن المنذر - - بالواسطة
89 - سنن البيهقي - - بالواسطة
90 - سنن الترمذي من الصحاح - بالواسطة
91 - سنن النسائي من الصحاح - بالواسطة
92 - سيرة ابن هشام - - ط القاهرة / حجازي / بالواسطة
93 - السيرة الحلبية - الحلبي - بالواسطة
94 - السيرة الدحلانية - احمد زيني دحلان - ط القاهرة / بالواسطة
95 - سيرة عمر - ابن الجوزي - بالواسطة
- الشين -
96 - الشافي في شرح أصول الكافي - الشيخ عبد الحسين المظفر - النعمان / النجف
97 - شجرة طوبى - الشيخ محمد مهدي المازندراني - ط النجف
98 - شرح المقاصد - التفتازاني - بالواسطة
99 - شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - ط دار الكتب العربية / مصر
100 - شرح نهج البلاغة - محمد عبدة - ط مصطفى البابي / مصر / ط قديم
101 - شعب الإيمان - البيهقي - بالواسطة
102 - الشيعة والرجعة - الشيخ الطبسي - ط الحيدرية / النجف
103 - الشيعة والتشيع - محمد جواد مغنية - ط دار الكتب / بيروت
104 - الشفاء الروحي والجسمي - عبد اللطيف البغدادي - 1997
325

105 - شواهد التنزيل - الحاكم الحسكاني - ط الأعلمي / بيروت / 1397
- الصاد -
106 - الصادق ~ - محمد حسين المظفر - ط الغري / النجف / 1365
107 - الصافي في التفسير - المولى محسن الفيض - ط طهران / حجرية
108 - صحيح البخاري - البخاري - ط دار التربية / بغداد / 1406
109 - صحيح مسلم - مسلم - بالواسطة
110 - الصواعق المحرقة - ابن حجر الهيتمي - ط الميمنية / مصر / 1330
- الضاد -
111 - ضياء الصالحين - الجوهري في الأدعية - ط أوفسيت
- الطاء -
112 - الطرف - ابن طاووس - بالواسطة
- العين -
113 - العبقات - السيد هاشم البحراني - بالواسطة
114 - العقد الفريد - ابن عبد ربه الأندلسي - ط دار الكتاب العربي / بيروت / 1385
115 - علل الشرائع - الشيخ الصدوق - ط الحيدرية / النجف
116 - علي والخلفاء - الشيخ نجم الدين العسكري - ط الآداب / النجف
117 - عمدة القارئ - العيني - بالواسطة
118 - عيون أخبار الرضا - الشيخ الصدوق - ط العلمية / قم
119 - عيون المعجزات المنسوب للسيد المرتضى - بالواسطة
- الغين -
326

120 - الغدير - الشيخ عبد الحسين الأميني - ط النجف / والحيدرية / طهران
121 - غريب القرآن - الهروي - بالواسطة
122 - الغزوات أو نزهة المحبين - الشيخ جعفر النقدي - ط العلمية / النجف / 1355 / بالواسطة
123 - الغيبة - الشيخ الطوسي - بالواسطة
- الفاء -
124 - فاطمة والمفضلات من النساء - عبد اللطيف البغدادي - 1995
125 - الفتوحات الإسلامية - احمد زيني دحلان - بالواسطة
126 - فتح البيان مطبوع مع ينابيع المودة - بالواسطة
127 - فرائد السمطين - الحمويني الشافعي - ط النعمان / النجف
128 - الفردوس - الديلمي - بالواسطة
129 - فروع الكافي - الشيخ الكليني - بالواسطة
130 - فصل الخطاب - محمد خواجة مطبوع مع ينابيع المودة
131 - الفصول المهمة في تأليف الأمة - السيد عبد الحسين شرف الدين - النعمان / النجف
132 - الفصول المهمة في تعريف الأئمة - ابن الصباغ المالكي - ط دار الكتب
133 - فضائل الخمسة - السيد مرتضى الفيروز آبادي - ط النجف / 1383
134 - فضائل الشيعة - الشيخ الصدوق - ط الآداب / النجف
135 - فضائل مكة - الخجندي - بالواسطة
136 - في ظلال القرآن في التفسير - السيد قطب - دار إحياء الكتب العربية / مصر
327

- القاف -
137 - القاموس المحيط في اللغة - محب الدين الفيروز آبادي - ط مصر / 1357
138 - قبس من القرآن - عبد اللطيف البغدادي - ط الآداب / النجف / 1389
139 - قصص العرب - - بالواسطة
- الكاف -
140 - كامل الزيارات - ابن قولويه القمي - بالواسطة
141 - كتاب الحسين بن سعد - - بواسطة البحار
142 - كتاب النوادر لعلي بن اسباط - بواسطة البحار
143 - كربلاء وحائر الحسين - عبد الجواد الكليدار - ط المعارف / بغداد / 1368
144 - الكشاف في التفسير - الزمخشري - ط الكتاب العربي / بيروت
145 - كشف الغمة - الأربلي - ط قم العلمية / 1381
146 - كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب - الكنجي - ط الغري / 1356
147 - الكلمة الغراء في تفضيل فاطمة الزهراء - السيد عبد الحسين شرف الدين - ط النعمان
148 - كنوز الحقائق - - بالواسطة
- اللام -
149 - اللهوف - للسيد ابن طاووس - بالواسطة
- الميم -
328

150 - مثير الأحزان - شريف بن الشيخ حسن - ط 1386
151 - مجالس المفيد - للشيخ المفيد - بالواسطة
152 - المجالس السنية - السيد محسن الأمين - ط الترقي / دمشق / 1343
153 - مجمع البحرين - للشيخ الطريحي - ط طهران / 1376
154 - مجمع البيان - الشيخ الطبرسي - ط العرفان / صيدا / 1331
155 - مجمع الزوائد - أبو بكر الهيثمي - بالواسطة
156 - المحاسن - البرقي - ط الحيدرية / النجف
157 - محاسبة النفس - السيد ابن طاووس - بالواسطة
158 - المحتضر - الشيخ حسن سليمان - ط الحيدرية / النجف / 1370
159 - محمد وعلي وبنوه الأوصياء - الشيخ نجم الدين العسكري - ط الآداب / النجف / 1959 م
160 - المختارة - لابن أبي الدنيا - بالواسطة
161 - المراجعات - للسيد عبد الحسين شرف الدين - ط النعمان / 6
162 - مسند أبي حاتم - بواسطة السيوطي - بالواسطة
163 - مسند أبي داود الطيالسي - بواسطة السيوطي - بالواسطة
164 - مسند أبي يعلي - بواسطة السيوطي -
165 - مسند ابن حيان - بواسطة السيوطي -
166 - مسند ابن مردويه - بواسطة السيوطي -
167 - مسند احمد بن حنبل - - ط المعارف وط الميمنية / مصر / بالواسطة
168 - مسند عبد بن حميد - بواسطة السيوطي -
169 - مستدرك الحاكم - - ط النصر الحديثة / الرياض
170 - مشارق الأنوار - الحمزاوي - بالواسطة
329

171 - مصابيح الأنوار - السيد عبد الله شبر - ط الزهراء / بغداد
172 - المطالعات في مختلف المؤلفات - السيد محمد علي الحمامي - ط الآداب
173 - المطولات - أبو الحسن القطان - بالواسطة
174 - معالي السبطين - الشيخ مهدي المازندراني - ط العلمية / النجف
175 - معاني الأخبار - الشيخ الصدوق - ط الحيدرية / النجف
176 - معجم الطبراني - - بالواسطة
177 - المعرفة - لأبي نعيم الاصفهاني - بالواسطة
178 - مفاتيح الغيب في التفسير - الفخر الرازي - ط الخيرية / مصر / 1307
179 - مفتاح النجا - العلامة البدخشي - بالواسطة
180 - مفكرة ورق الشام - - 1377 ه‍ / 1957 م / شعبان
181 - مفتاح الجنات - السيد محسن الأمين - ط دمشق / 1351
182 - مقتل الحسين - السيد محمد تقي بحر العلوم - ط الزهراء / بغداد
183 - مقتل الحسين - اخطب خوارزم - ط الزهراء / النجف / 1367
184 - مكاتيب الرسول - علي بن حسين الأحمدي - ط المصطفوي / طهران
185 - المناقب - لأخطب خوارزم - ط الحيدرية / النجف / 1385
186 - المناقب - ابن المغازلي مخطوط - بالواسطة
187 - المناقب - لابن شهر آشوب - ط العلمية / قم 1379
188 - المناقب - عبد الله الشافعي - بالواسطة
189 - مناقب الكاشي - - بالواسطة
190 - المناقب المرتضوية - محمد صالح الكشفي - ط بمبي / بالواسطة
191 - منتخب تاريخ ابن عساكر - ابن عساكر - بالواسطة
330

192 - منتخب كنز العمال - المتقي الهندي الحنفي - بالواسطة
193 - المنجد في اللغة - -
194 - المودات - السيد علي الهمداني بواسطة ينابيع المودة
195 - الميزان في تفسير القرآن - الأستاذ الطباطبائي - ط دار الكتب الإسلامية
- النون -
196 - نزهة المجالس - العلامة الصفوري - بالواسطة
197 - نظم درر السمطين - جمال الدين الزرندي - ط القضاء / النجف / 1377
198 - نهج الحق - العلامة الحلي - ط طهران مع إحقاق الحق
199 - نور الأبصار - الشبلنجي الشافعي - ط مصر
200 - نور الأبصار - الشيخ مهدي المازندراني - ط المرتضوية / النجف
- الواو -
201 - الوصي - العلامة السيد علي نقي الحيدري -
202 - الوصية - عيسى بن المستقاد - بالواسطة
- الياء -
203 - ينابيع المودة - الشيخ سليمان الحنفي - ط دار الكتب العراقية / 1385
204 - اليواقيت - - بالواسطة
تم كتاب (التحقيق في الإمامة وشؤونها) بخط المؤلف بتاريخ 24 / 12 / 1419 ه‍ المصادف 4 / 4 / 1999 ميلادية، يوم المباهلة.
331

نسألكم الدعاء
332

/ 1