أعلام من الصحابة و التابعين (جزء 2) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أعلام من الصحابة و التابعين (جزء 2) - نسخه متنی

حسین شاکری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

 الأعلام من الصحابة والتابعين


 


الحاج حسين الشاكري
الجزء: ٢
بسم الله الرحمن الرحيم
* (إن الله مع الذين اتقوا * والذين هم محسنون) * (1)
عمار بن ياسر
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
" صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة " (2)
" ويح بن سمية تقتله الفئة الباغية " (3)
خريجو مدرسة: الرسول الأعظم: وأمير المؤمنين
صلوات الله عليهم أجمعين
(1) النحل: 128.
(2) سير أعلام النبلاء: ح 1 ص 409.
(3) المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3 ص 388.
3

المقدمة
لقد دأب معاوية من خلال تسلطه على الحكم أن
يمارس شتى أساليب التعسف والإبادة لشيعة علي (عليه السلام)
وملاحقتهم بالقتل وقطع الأيدي والأرجل وسمل العيون،
وبقر البطون، وصلب الأجساد العارية على جذوع
النخل، والتشريد، وحرق البيوت وهدمها على أصحابها
وما إلى ذلك من أنواع سبل الإبادة والاستئصال لشيعة
علي (عليه السلام) ومواليه كما دأب على إجرامه، وحاك على
منواله، حكام بني أمية، وبني مروان وبني
العباس.
ولم يسلم من هذا التنكيل حتى الشيوخ والنساء،
والأطفال والمرضى، وخاصة البارزين منهم وعوائلهم
أمثال حجر بن عدي، وميثم التمار، ورشيد الهجري،
وعمرو بن الحمق الخزاعي وغيرهم مما يطول ذكرهم.
والمنفذ لهذه الأعمال الإجرامية في صيتها زياد الخزي
4

والعار ابن سمية وابن مرجانة.
واستطاع معاوية بهذه القسوة والأساليب
الوحشية أن ينشر الرعب والخوف والهلع على عامة
المؤمنين، خاصة أهل الكوفة والبصرة، وأن يحد من
تجاهر الكثير منهم بالتشيع والولاء وإضعاف معنوياتهم
إلى حد كبير، بحيث أن الواحد منهم يرضى أن يتهم بالقتل
والسرقة أو الزندقة أو أي جريمة أخرى ولا يتهم بالتشيع
لعلي (عليه السلام) ومذهبه وموالاته.
وعلى رغم كل تلكم الممارسات الوحشية وسبل
الإبادة ما استطاع استئصال جذور التشيع من قلوب
المؤمنين وعقولهم، ولا إطفاء جذوة الحب والولاء
لعلي (عليه السلام) وأهل بيته، وظل رمز التشيع الذي يجسد جوهر
الإسلام الحقيقي الأصيل يسير وينتشر على مر العصور
والأزمان مستهينا بكل ما يجري عليه من العناء ومتحديا
الصعاب والعذاب الذي يمارسه حكام الظلم والجور
ضده.
5

وسن سب علي (عليه السلام) وشتمه من على منابرهم طيلة
ألف شهر. وفرض البراءة من علي (عليه السلام) ودينه واللعن على
شيعته ومحبيه، حتى نشأت عليه أجيال، وغرس جذور
العداء بين المسلمين، وكأنهم بذلك يدفعون به إلى عنان
السماء، ويرفعونه عاليا حتى أصبحت أقدامه فوق
رؤوسهم.
قال الشافعي: لما سئله أحد أصحابه عن علي بن
أبي طالب (عليه السلام) (1): ما أقول في رجل أسر أولياءه مناقبه
تقية، وكتمها أعداؤه حنقا وعداوة، ومع ذلك فقد شاع ما
بين الكتمانين ما ملأ الخافقين؟
سئل الخليل بن أحمد الفراهيدي (2)، لم هجر الناس
عليا (عليه السلام)، وقرباه من رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
قال: ما أقول في حق امرء كتمت مناقبه أولياؤه
(1) الكنى والألقاب ترجمة الشافعي.
(2) سفينة البحار مادة خلل.
6

خوفا، وأعداؤه حسدا، ثم ظهر من بين الكتمانين ما ملأ
الخافقين؟
وسئل أيضا، ما الدليل على أن عليا (عليه السلام) إمام الكل
في الكل؟ قال: احتياج الكل إليه واستغنائه عن
الكل.
وقد نظم السيد تاج الدين الحلي هذا المعنى في قوله:
لقد كتمت آثار آل محمد * محبوهم خوفا وأعداؤهم بغضا
فأبرز من بين الفريقين نبذة * بها ملأ الله السماوات والأرضا
وقال عامر بن عبد الله بن الزبير (1): لابن له
ينتقص عليا (عليه السلام):
يا بني إياك والعودة إلى ذلك، فإن [بني أمية] وبني
(1) علي في الكتاب والسنة ج 3 ص 239 ح 22، وهناك أحاديث
قبله وبعده فراجع.
7

مروان شتموه ستين سنة، فلم يزده الله بذلك إلا رفعة.
وإن الدين لم يبن شيئا فهدمته الدنيا، وإن الدنيا لم
تبن شيئا إلا عاودت على ما بنت فهدمته.
ومن هذا المنطلق، وعرفانا بفضل أولئك الصفوة
الذين قدموا أنفسهم وما يملكون من غال ونفيس قربانا
على مذبح الحرية والعقيدة، والدين والولاء الصادق،
للرسول الكريم وأهل بيته الطاهرين (صلى الله عليه وآله) وما أخذتهم في
الله لومة لائم. حتى استطاعوا أن يظهروا الحق، ويرسخوا
دعائم الدين الحنيف وشريعة السماء، ويفضحوا أساليب
الطامعين في الحكم، والمنافقين في الدين، ويكشفوا
حقيقتهم الكافرة الحاقدة.
وقد اختصرت على تراجم عدد منهم في هذا
الكراس وسنذكر الآخرين في كراسات متتالية ضمن
سلسلة " الأعلام: من الصحابة والتابعين ".
ومنه سبحانه وتعالى استمد العون والتسديد فإنه
أرحم الراحمين.
8

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة
والسلام على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.
العبد المنيب
حسين الشاكري
دار الهجرة - قم المقدسة
الفاتح من شهر محرم الحرام 1418 ه‍
9

عمار بن ياسر
كانت مكة مهجرا تترى إليه الوفود اليمانية منذ أن
تفرقوا أيدي سبأ.
قدم مكة ياسر بن عمار العربي العنسي المذحجي
القحطاني من اليمن مع أخويه مالك، والحارث، يبحثون
عن أخ رابع لهم، كان القدر قذف به إلى عالم مجهول.
فلما يئس الإخوان الثلاثة من العثور على مفقودهم
في مكة، رحل عنها مالك والحارث واستقر فيها " ياسر "
حليفا لمضيفه أبي حذيفة سيد مخزوم يحفظه هذا، وهو
يحفظ له يده عنده، وكان زعيم مخزوم سمحا كريما حافظا
للمعروف والعهد، وكان حدبا على حليفه العنسي (ياسر)
خاصة، كما كان (ياسر) وفيا لحليفه مخلصا في سلوكه
وذاته صادقا في قوله، عفيفا في بطنه وفرجه، عاقلا في
تصرفه. ومن أجل هذا أحبه مضيفه أبو حذيفة وحالفه،
10

فأصبح بذلك مخزوميا له ما للمخزوميين وعليه ما عليهم.
وذات يوم فكر أبو حذيفة بحليفه العنسي (ياسر)
فرآه مستقيما في كل أموره وتصرفاته، لا تطيف به
النزوات، ورأى أنه لا بد له من زوجة يسكن إليها
ويستقر عندها، ورأى أن الحياء وقلة ذات اليد يمنعانه مما
يصبوا إليه من زوجة تدير له منزله، وتكشف عنه وحشة
الوحدة، وتهبه الأولاد، لذلك قرر أن يزوجه أحب إمائه
إليه وأحظاهن عنده، وكانت من أكرم الإماء في ذاتها
وطهارتها سمية بنت خياط فزوجه إياها.
ثم كان من بره بحليفه وتقديره لمشاعره الحرة،
تحرير أبنائه من (سمية) فرفع عنها العبودية بأريحيته،
وجعلها حرة. فبلغ بذلك ما كان في نفس ياسر، فكانت
أفضل هدية عند (ياسر) هي حرية ما في بطن سميه من
مولود، وقد كان ذلك المولود كنزا وأي كنز.
ولد (عمار بن ياسر) في حي بني مخزوم من مكة
11

سنة 570 ميلادية (1) عام الفيل أو نحوها، فقد كان تربا
لرسول الله (صلى الله عليه وآله) كما يقول هو.
أما أمه (سميه بنت خياط) فلم يكن في إماء قريش
مثلها في ذكاء القلب وصحة العقل، وملاحة الوجه، وعفة
النفس، وطهارة الذيل.
كان (عمار بن ياسر) أسمر اللون كأنما عجنت
طينته بالمسك الأذفر، مديد القامة، بعيدا ما بين المنكبين،
مهيبا أشهلا أصلعا، كما قال عنه معاصروه، وكان طويل
الصمت، سديد الرأي، لا يخدع عن الصواب، راجح
العقل، زكي النفس، سخي اليد، هبابا للحق جريئا.
درج الصبي (عمار) في ربوع مكة، يستبق الزمن
إلى اكتمال الرجولة، واستيفاء الذكاء، وشب الصبي بعيدا
عن طيش أترابه من الشباب ومجونهم، فهو في شبابه كان
(1) المستدرك للحاكم النيسابوري ج 3 ص 38، سير أعلام النبلاء
ج 1 ص 407.
12

صامتا رائحا وغاديا مطرقا، يترفع بنفسه عما يلهو به
غيره من أترابه وما يدنسهم منصرفا عما لا يعنيه.
وكان خلال صمته وتفكره ينتقد بينه وبين نفسه،
وربما انتقد بينه وبين أبيه الأوضاع الشاذة السائدة
حينذاك في مكة، وطغيان ساداتها وجبروتهم الذي
يوشك أن يطيح بهم، أو أن يبدلوا أمن الحرم خوفا،
ورخاء العيش شدة.
فهؤلاء السفهاء من بني أمية، وجمع، وسهم،
وعدي، وغيرهم من المهيمنين على أهل مكة، لا يكفيهم
أفياؤهم ومرابحهم، ولا تسد شهواتهم القيان ومن
استزلهن الشيطان من نساء الحاضرة، حتى سطوا على
تجارة الغرباء، وغلبوا الزائرين على بناتهم، فيبلغوا
حاجتهم من الأموال والأعراض، ويغزوهم بأبشع من
غزو البادية، وأشنع استهتارا.
وقد قال عمار لأبيه مرة، ويح هؤلاء ألا يتقون شر
هذه البدع المنكرة في قدسية بلدهم الذي يحيون به؟ ألا
13

يرون إذا تسامع الناس من حجاج البيت ومصرفي
التجارة أن يثوروا عليهم ويخلعوهم من البيت أو
يزيلوهم من الحكم والزعامة، أو يقاطعوهم إذا لم
يستطيعوا إلى خلعهم سبيلا، فسيميتوهم فقرا ومذلة
وهوانا؟ ما رأيت طيشا كطيش هؤلاء السفهاء.
فقال له أبوه ياسر: أراك منذ اليوم تكبر على سنك
وتسمو فوق شأنك أتسوق إلي هذا الحديث من نفسك؟
أم ألقى به إليك ملق أراد بك شرا؟
قال الشاب الناضج عمار: لم يلق إلي بهذا الحديث
أحد إلا عيني المبصرة، وأذني السامعة، وما سمعه مني
أحد قبلك، وإن كنت أعلم أن نفرا من المستضعفين أمثالي
يئنون أنيني ويشكون شكواي.
ألا تقرأ ذلك في أعين الناس؟ ثم تراهم تطيب
نفوسهم بما تنكره أعينهم من استرقاق الناس واستضعاف
الضعيف، وسلب الناس حقوقهم باسم الآلهة التي هي أشد
رقا وأعظم ضعفا.
14

فقال له أبوه: قد أعلم ما تعلم يا بني وأوقن بما
توقن، وأزيد فإني أعرف نفرا من العبيد والأحلاف
وبعض أبناء البيوت يشوكهم ما يشوكك، ولكن اكتم هذا
في نفسك ولا تجاوزه إلى أحد ممن في الوادي، أن يذيع
عنك هذا النقد فيثير عليك شرا لا تقدر على دفعه، ولا
تقوى على تحمله، واعلم يا بني أن لهذا البيت ربا يحميه،
ويكشف عنه الضر. فأنت أضعف من هؤلاء السفهاء
فتربص بهم، أما نحن الآن يا بني فليس لنا من الأمر غير
الرضوخ والصبر، فإن أبينا سلخوا جلودنا كما تسلخ
الشاة.
قال عمار لأبيه: لست أعدو لك رأيا ولا أخالف
لك أمرا، ولكني رأيت تخضع الهاشميين إلى إله غير آلهة
قريش، فما هو هذا الإله؟ وما مكانه؟ ولماذا لا يظهرونه
كما يظهر الآخرون آلهتهم؟
قال ياسر: يا بني أنا لا أعرف إله الهاشميين معرفة
كاملة، ولكني أدرت فيهم وفي قومهم ما يمكن أن أدير من
15

عقلي فوجدت لهؤلاء رأيا جميلا في الله، ورأيا جميلا في
الحياة ليس لقومهم مثلها، ثم أردف قائلا لكل أجل كتاب
لا يسبقه ولا يتأخر عنه.
وهكذا دار الحوار السري بين الابن الذكي الناضج
وبين الأب العاقل الصالح الحكيم.
وكان عبد المطلب يتعبد ويتحنث على الحنيفية ملة
أبيه إبراهيم (عليه السلام)، برغم تمسك قريش بشركهم عاكفين على
عبادة أوثانهم، يغتنم الفرصة ويسعى في مهل إلى عبادة
ربه دون أن يثير حفيظة قومه أو يريبهم، فيفاجئهم شيئا
فشيئا بسنن " الحنيفية " من دين جده إبراهيم الخليل (عليه السلام)،
ومن حكمته في تأتيه الفرصة وتحينها، إنه بدأ بنفسه
فاجتنب الخمرة على أنها رجس، ولم يحرج قومه بحملهم
على اجتنابها، ثم فارق المشركين في حقيقة دينهم كله
بسلبية أخرى دون إكراه، ثم ذهب إلى غار (حراء)
يتحنث، ويتنسك معتزلا آلهتهم متوجها إلى عبادة ربه
بصومه وصلاته، ثم تجاوز بثورة أخرى لم يفطن لها
16

المشركون، حيث حفر " بئر زمزم " بالقرب جدا من
صنمي " أسافة ونائلة " إلهي النحر والأضحيات، حتى
ضعضع مكانها وقد تحمل بهذه الخطة الذكية بعض الجهد
والمشقة، لكن الله سبحانه سدد خطاه وأعانه على بلوغ
خطته، وأخيرا انتصر، وجنى من نصره هذا نصرين
عظيمين. أولهما النصر على الخرافة والتقاليد التي كان
يدين بها المشركون في " أسافة ونائلة " وإعلان عدم
خطرهما وعجزهما، وانتصر على عجز الانسان ببلوغه
حفر " بئر زمزم " المطمور منذ عهود سحيقة وإحيائه
بإخراج الماء منه وإسقاء الحجيج. ثم ظهرت له آيات
أحدثت في كيانهم بعض التصدع وفتحت فيه بعض الثغور
لا سيما مواجهته الطاغية الغازي " إبرهة الحبشي ".
قال عمار: يا أبي رأيتك تعظم من بني هاشم ما لا
تعظمه من بني مخزوم؟ وقد أعلم أن بني هاشم أرفع مكانا
وأعز نفرا، ولكن مخزوم حلفاؤك وذوو الفضل عندك،
أليس من الوفاء لهم أن تحبس عليهم ميلك وودك؟
17

فقال أبوه: أنا إنما أعظم الحق بمعزل عن هاشم
ومخزوم، خذ الحق يا بني حتى من نفسك، فورب عبد
المطلب لو فارقتني أنت فيه لفارقتك، ولكان أعظم بري
بك وحبي له أن أدخلك عليه ما استطعت، وبلغا من
حوارهما هذا الحد.
وتمر الأيام آخذة بعضها برقاب البعض، وعمار
يكتمل رجولة ونضوجا، وهو يغدو على أبيه ويمسي بخبر
من الأخبار، وبفكرة من الأفكار ولا يوصله تفكيره إلى
شئ، لا يمل هو، ولا يمله أبوه، ولعل أباه أعرف منه بهذه
الأخبار ومجريات الأمور، ولكنه كان يصغي لولده الفطن
إصغاء المشجع والعالم المتجاهل ويجيبه جواب المربي
الحكيم، ويوصيه بعد كل حوار بالتحفظ والكتمان، وأصبح
عمار في مصاف الرجال ويكنى بأبي اليقظان.
وعندما ظهرت دعوة الإسلام في ربوع مكة
وانتشرت انتشار النار في الهشيم بعد أن أعلنها الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) بأول شعار أطلقه " قولوا لا إله إلا الله
18

تفلحوا " أطلقها صرخة مدوية في وجوه الكفرة المشركين
وكان عمار سابع من أسلم استيقظت على صداها بيوت
مكة وأنديتها، حتى شطرتها إلى شطرين، وعلى أثر ذلك
اجتمعت مشيخة قريش في " حجر إسماعيل " يتداولون
فيما بينهم ما دهمهم من الأمر، وقد ضاقوا ذرعا بأمر محمد
ابن عبد الله (صلى الله عليه وآله) وانتشار دعوته بين البيض والحمر،
والأحرار والعبيد، وأصبح خطرا مؤكدا تخشاه طبقة
النبلاء على مراكز نفوذها وزعامتها ومكانتها.
وتوافد إلى هؤلاء المؤتمر زعماؤها، كالوليد بن
المغيرة زعيم مخزوم، وابن أخيه الطاغية عمر بن هاشم
(أبو جهل)، وعتبة وشيبة أبناء ربيعة بن عبد شمس،
وصخر بن حرب (أبو سفيان)، والنضر بن الحرث
صاحب لواء بني عبد الدار، والأسود بن عبد المطلب بن
هاشم " أبو لهب "، وعبد الله بن أمية، والعاص بن وائل،
ونبيه ومنبه أبناء الحجاج السهمي، وأمية بن الخلف
الجمحي، وعقبة بن أبي معيط، وغيرهم من مشايخ قريش
19

وزعمائها. فلما اكتمل جمعهم، تذاكروا وتدارسوا خطر
الدعوة المحمدية، ومن دخل فيها من السادة والموالي،
وتجسد أمامهم الخطر المحدق بهم، بسبب أحقية الدعوة،
وبلاغة بيان خطب الرسول (صلى الله عليه وآله) وفصاحته، وسحر
كلامه، ووضوح رؤيا الرسالة كما إنه (صلى الله عليه وآله) سفه أحلام
قريش وسخف آلهتهم، وعاب آباءهم.
وبعد أن استمر اجتماع المؤتمر الساعات الطويلة، بل
الأيام العديدة لم يصلوا إلى قرار حازم شاف، غير
الوقوف بوجه الدعوة بكل ما يملكون من تدبير وقوة،
وأخذ الذين اعتنقوا الدعوة بكل صرامة وشدة في
التعذيب، وكل واحد منهم مسؤول عن حلفائه وعبيده
وإمائه ومن يكون تحت نفوذه، وكان الطاغية أبو جهل
أشد المؤتمرين على الدعوة والرسالة، وكان يحرض بقيه
الزعماء على أخذ أتباع محمد (صلى الله عليه وآله) بالشدة والحزم، وقال
أبو جهل دعوا لي تعذيب العبيد والسفهاء وسترون غدا ما
يحل بآل سمية من أبكار الكوارث.
20

وكان هذا المجرم دائم التعرض إلى الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) وخاصة عندما يخرج من بيته إلى الحرم
ليصلي إلى ربه بعض الركعات فكان يغري سفهاء قريش
وصبيانهم بإيذاء النبي ورميه بالحجارة، وبالكلام
القارص، حتى جاء ذلك اليوم الذي صب أبو جهل أمعاء
القرابين وما فيها من رفث ودم على رسول الله وهو ساجد
فرفع رأسه وأزال ما صب عليه وذهب إلى داره، وهو
يقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون.
ولما سمع فتى العرب وفارسها " حمزة بن عبد
المطلب " أبا عمارة عم النبي بعد رجوعه من الصيد بما
أصاب ابن أخيه من أبي جهل استشاط غضبا وأقبل على
المؤتمر المنعقد بمشيخة قريش وزعمائها وقصد أبا جهل من
بينهم دون أن يكلمه بكلمة واحدة ورفع قوسه وأهوى به
على رأس أبي جهل وصدره حتى سقى الأرض من دمائه،
وقال له إن بك جرأة الرد علي، وأنذره أن هو تعرض
بعدها لابن أخيه محمد (صلى الله عليه وآله) ليحدثن به ما يحدث، وأعلن
21

على مسمع مشيخة قريش وزعمائهم إسلامه وحمايته
لابن أخيه، فأسقط ما في أيدي قريش وهيمن عليهم
الوجوم وخيم، أثر ضربة حمزة لأبي جهل ولم يستطع الرد
عليه فجلس مكانه وأراد بعض فتيان مخزوم الانتصار
لأبي جهل فمنعهم خوفا من اتساع الفتنة ووقع قتال بين
بني هاشم ومخزوم، وبإسلام حمزة قويت شوكة المسلمين.
كان " عمار بن ياسر " قائما يصلي في محراب مسجد
بيته (1)، عندما طرق الباب طارق، فخفت (سمية) أم عمار
لفتح الباب، وإذا بها ترى زيد بن حارثة، فرحبت
بالقادم الكريم، قائلة أهلا بأبي أسامة مولى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) وقادته إلى مصلى ولدها، ولما انفتل عمار من
نافلته، وكان الوقت أصيلا، نهض فحيا القادم زيدا
(1) سير أعلام النبلاء للذهبي ج 1 / 411، المسعودي عن القاسم
بن عبد الرحمان: أول من بنى مسجدا يصلي فيه عمار بن ياسر،
أخرجه ابن سعد في الطبقات 3 / 178، والحكام 3 / 358.
22

ورحب به، فابتدره زيد: هل لك أبا اليقظان بالخروج إلى
البيت (الحرم) لنلم بأندية قريش؟ وقد حملت إلينا
بشارة، أرسلني سيدي " أبو القاسم " (صلى الله عليه وآله) أتثبت منها
وأتحقق، وأحببت أن تصاحبني لندخل البيت معا، ثم
ننقلب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في " دار السلام " بالخبر اليقين.
قال عمار: وأي بشارة تعني؟ ومثلك من يبشر.
هل من جديد في الإسلام؟ شد ما يصبر الله على هؤلاء
المشركين.
قال زيد بن حارثة: جاءنا في " دار السلام " إن أبا
عمارة حمزة بن عبد المطلب، ضرب أبا جهل على ملأ من
قومه ضربة بالقوس سقت الأرض من دمه، وأنذره إن
تعرض بعدها للنبي ابن أخيه ليحدثن به ما يحدث، وأعلن
على مسمع من مشيخة قريش وزعمائهم إسلامه منذ
اليوم، وكان ردا على أذاه لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
قال عمار: مبتهجا مسرورا - حمزة فعل ذلك؟!
والله لطالما كنت أتوقعها من فتى العرب وفارسها، أن لا
23

يقر لجهل أبي جهل، إن هذا الطاغية الخبيث نشط منذ أيام
في إيذاء النبي ومناوأته والاعتداء عليه، وإغراء سفهاء
قومه وصبيانهم، وأقل جزائه الموت.
قال زيد: ما تزال قوة مكة بأيدي هؤلاء الطغاة
المردة، ولا يرى لنا " أبو القاسم " إلا الصبر، وأن لا
نحدث فيهم أمرا فإنه مأمور بالسلم ما أمكن السلم وإلا ما
أيسر قتل أبي جهل وغيره.
وبآخر كلمة من زيد دخلا البيت فإذا ضربة حمزة
لأبي جهل وإعلان إسلامه منعطفا خطيرا في تطور الدعوة
الإسلامية، وقد اتخذت أبعادا وأشكالا مختلفة،
وتصورات متضاربة، فيها الذل والهوان وفيها النقمة
والثأر، وفيها الحذر، وفيها العزم، وفيها الثورة، وفيها
الحيرة، والكل واجمون صامتون مفكرون، وأبو جهل ما
يزال في مجلسه لم يفارقه، وهو يمسح الدم عن رأسه
ووجهه وجسده.
وما إن رأى عمارا يدخل البيت يصاف زيد بن
24

حارثة على ملأ من قريش حتى تنفس وانفجر كالبركان
الثائر صارخا بمن حوله أرأيتم أشد صلفا من هذا المقبل
الذي استله زيد من عبيد مخزوم، وأقبل به يسدد إلي
ضربة أخرى، تالله ما رأيت كاليوم تغيرا في مكة!
وأسرع غلمان أبي جهل يستبقون إلى " عمار بن
ياسر " يدعونه إلى سيدهم، فاعترضهم زيد ممانعا قائلا
لهم: ماذا يبتغي أبو جهل من أبي اليقظان؟ قولوا له عني،
إن عمارا مشغول عنه بواجب، وسيلقاه حين يفرغ من
واجبه، لكن الجلاوزة سحبوه بعنف، وخشي عمار أن
يتطور الموقف إلى ما لا يحمد عقباه، فيؤخذ زيد أيضا
بسببه، فقال له: دعني يا أبا أسامة أكابد الرجل ولا تخشى
علي من بأس، وأقبل عمار مع الغلمان إلى أبي جهل،
وعندما اقترب منه قال: هل لأبي الحكم من حاجة إلى
حليفه عمار؟
رفع أبو جهل رأسه وقال: وأنت يا بن سمية؟
قال عمار: في مخزوم نساء كثيرات كسمية يا أبا
25

الحكم؟ لقد كانت سميه أمة فتحررت، ثم من الله عليها
بحرية الإسلام، فهي اليوم تنعم بحريتين خيرهما الحرية
من رق الكفر وعبودية الأوثان، فما أراك إلا تمدحني من
حيث تريد أن تسبني.
فقال أبو جهل: ويلك.
فقاطعه عمار قائلا: الويل لي إذا أشركت وكفرت
وعبدت غير الله. قال أبو جهل: صدق صخر إذ أخبرني
إنك أفقت ذات صباح فوجدت نفسك بمعجزة محمد سيدا
فوق السادة، ولكن سأريك مكانك اللائق بك أيها العبد
اللاجئ، فأمهلني حتى أعذر بك.
قال عمار: وهل تعذرني؟! أو تملك عذرا لتعتذر،
وأنت تعبد الأوثان.
قال أبو جهل: أترى إلى هذا الدم يخضب رأسي
ووجهي ويسقي الأرض؟ ودار الحديث والنقاش طويلا
بينهما وأخيرا.
قال أبو جهل: ما رأيت كاليوم لجاجة من عبد
26

سوء! ويح أبي حنظلة (1) ما أعرفه بالناس، ويلك يا بن
سمية ألست حليفا لمخزوم تحارب من يحاربون وتسالم من
يسالمون؟
قال عمار: وليس شئ أدل على وفائي لهذا الحلف
من دعوتي إياك إلى الإسلام، فوالذي نفسي بيده لم أنصح
إليك فيما مضى من عمري كما نصحت إليك اليوم.
قال أبو جهل متهكما: أو تشفع لي عند محمد إذا
أتيته الليلة معك؟
قال عمار: لا تسخر يا أبا الحكم، ولا تأخذك العزة
بالإثم، إن محمدا (صلى الله عليه وآله) نبي رحمة، ورسول خير إليكم.
قال أبو جهل: ها أنت توفر لي العذر أيها الأحمق!
أملوم أنا الآن إذا سلخت جلدك كما تسلخ النعاج؟ إنما
أنت سيئة من سيئات محمد الذي أدار لسانك بمثل هذا
السحر العجيب.
(1) يعني أبا سفيان.
27

قال عمار: وأين كانت هذه الشجاعة حين عمك
قوس أبي عمارة (1)؟ أم خشيت سطوة فتى العرب
وفارسها، وأشبال عبد المطلب، وأمنت عمارا وياسرا
الغريبين اللاجئين؟ لو كنت رشيدا لنهاك الاستخداء بين
يدي حمزة بن عبد المطلب عن الاستفحال. أمام عمار،
وحسبك من شريعتك أنك تعق عمك وتخفر جواره وهو
في قبره.
ثم التفت أبو جهل لغلمانه وقال: خذوا هذا الأحمق
عسى أن يبدل رأيه إذا مسه السوط، وبينما كانت السياط
تتلوى على ظهر عمار بن ياسر بين يدي أبي جهل، كان
الله سبحانه يبارك روحه وصبره في " دار الإسلام " حيث
تنزل فيه وفي أبي جهل آية من القرآن: * (أو من كان ميتا
فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في
الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا
(1) يعني حمزة بن عبد المطلب.
28

يعملون) * (1).
يقول ابن عباس: الرجل النير في هذه الآية إنما هو
عمار بن ياسر، والرجل المظلم والكافر إنما هو عمرو بن
هشام، " أبو جهل " (2).
محنة المستضعفين من المؤمنين
قالت (سمية) لزوجها ياسر، بؤسا لهذا الطاغية لقد
امتلأت مكة بحديث قسوته على عمار وشدته عليه، ويلي
لعمار ولهفي عليه، ألا يقبل هذا الطاغية به بدلا؟ لجلده، إن
عمارا لم يتعود مس السياط على ظهره، ولا خشونة
الهراوات.
قال ياسر: إحتسبي يا أمة الله عذاب عمار عند
(1) سورة الأنعام (122).
(2) الاستيعاب للقرطبي ج 2 / 478.
29

الله، فقد أمرنا النبي (صلى الله عليه وآله) بالصبر، ووعدنا الجنة، ولا
تعجلي، غدا ستقرن أم عمار ويقرن معها أبوه إلى عمار
ويساقان مع ابنهما إلى العذاب تحت أشعة الشمس المحرقة،
ذلك وعد الله، ووعده حق، وماذا على عمار وأبيه إذا
دفعوا من أجسامهم هذا الثمن الزهيد فداء لكلمة الله
والإسلام، وسبيلا إلى إنقاذ المؤمنين والناس مما يرهقهما
بأشد من جلد عمار وأبي عمار، ولكن عزاؤك أنك صائرة
منذ الغد إلى لقاء عمار تقاسمينه السياط، وغير السياط من
وحشية عذاب هذا الطاغية " أبو جهل " وتأسي فليس
آل ياسر وحدهم في محنة الإسلام، فهناك طائفة من
المستضعفين المؤمنين أصيبوا بمثل ما منينا به فصبروا
واحتسبوا، وقد وثب كل مشرك من الطغاة إلى عبيده
وأحلافه المؤمنين وسلطوا عليهم السياط وألسنة النيران
ليلا ونهارا، كبلال بن رباح من قبل أمية بن خلف،
وجارية بني مؤمل من قبل عمر بن الخطاب، وسالم مولى
أبي حذيفة، وخباب بن الأرت، وصهيب بن سنان،
30

وعبد الله بن مسعود، وعامر بن فهير، وأبي فكيهة، وأم
عنيس، وغيرهم من الأخوة المؤمنين الذين منوا بالعذاب
من قبل طواغيتهم من قبائل سهم، وجمع، وأمية،
وزهرة، وتيم، وعدي، فما بالك تقلقين على عمار؟ وهو
يعذب مع هذه الطليعة من المؤمنين، فله بهم أسوة حسنة،
وحسبهم جميعا أنهم بعين الله يرعاهم، ومضى هزيع من
الليل ساهرين مناجين، وانسل كل واحد منهم إلى محرابه
يصلي لله راكعا وساجدا، يذكر الآخرة، بتهجده وعبادته
وقبل أن تنشر الشمس أشعتها طرق عليهما الباب طرقا
عنيفا اهتزت لشدته الجدران وتضعضعت الباب من الدفع
وتداعت تحت أقدام الجلاوزة المهاجمين الذين دخلوا
صحن الدار حاملين مشاعل تتوقد منها السنة النار،
وآخرون ورائهم يحملون رزمات الحطب، وما أبصر
الشيخان ذلك حتى أخذت السنة النار تأخذ أطراف
الدار، وامتدت إليهما أيد غلاظ شداد فاختطفتهما ورمتهما
خارج الدار بأسرع من البرق وشدت وثاقهما بالحبال،
31

ولا يشعران إلا وهما يسحبان ويجران من أرجلهما على
الأرض المملوءة بالأحجار والصخور، ورأسهما يعلوان
ويهبطان على الصخور من عنف السحب، ولما قدم
الشيخان المؤمنان إلى جلادهما الطاغية أبي جهل قال:
كيف وجدتما وعد محمد أيها الخائنان؟
فقال ياسر: هذا ما وعد الله ورسوله، وقالت سمية:
صدق الله وصدق رسوله.
قال أبو جهل: أتلعنا محمد وتثنيا على آلهتنا
فتسلمان؟ أم تغدوان على عذاب لم تسمع بمثله الأذن، ولم
تر مثاله العين؟
قال ياسر: هذا ما وعد الله ورسوله، وقالت سمية:
صدق الله ورسوله.
قال أبو جهل: لا تطيلا اللجاجة، أنا أخيركما بين
عبوس العذاب، وبين ابتسامة السلامة، فكونا عاقلين،
ولا تتبعان هذا الأحمق الذي ولدتماه شؤما عليكما وعلى
بني مخزوم.
32

قال ياسر: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وقالت
سمية: صدق الله ورسوله.
قال أبو جهل لغلمانه، أذيقوهما العذاب إذا اشتعلت
الهاجرة، فسحب الشيخان على الرمضاء الهاجرة
والرمال الملتهبة، وامتدت الأيدي الغلاظ الشداد إليهم
بالسياط لتتلوى على جسديهما النحيفين، وهما ثابتان
صابران، وكأن السياط تئن من الوقع ولا يئن الشيخان،
فإذا كلت السواعد وغلب أبو جهل على أمره، استشاط
غيضا وأمر جلاوزته بسحبهما إلى مثوى ولدهما (عمار)
فإذا صار قريبا منه هش لهما وهشا له مغتبطين كان ليس
بهما إلا العافية.
قال عمار وهو في قيوده: كيف أنتما يا أبوي؟ فقالا
بلسان واحد بل أنت كيف تجد نفسك يا بني؟ قال إن كان
إيماني وكنتما بخير كنت كذلك، فردا عليه بمثل ما قال.
قال ياسر هنيئا لك يا عمار: ألا أبشرك ببشارة
تثبتك فيما أنت فيه؟ لقد بلغني إن الله أنزل قرآنا يذكرك
33

عامرا لمسجدك الذي أحرقه المشركون، فقال تعالى:
* (أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة
ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا
يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب) * (1) فاستقبل عمار
بشارة أبيه بعينين تفيضان بالدمع من الفرح والرحمة،
وأومأ بالسجود شكرا وامتنانا.
وصممت الأسرة الكريمة المؤمنة عزمها على
الاستخفاف بكل ما ينتظرها من المحن والعذاب مهما بلغ
من الشدة والنكال.
خرج النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك اليوم وقت الظهيرة، وكانت
الشمس تسلط نار أشعتها على ربوع مكة سعيرا،
وترسلها في الهواء فإذا هي لهب لافح يشوي الوجوه،
وتنشره على الرمال فإذا هي لظى يؤجج بعضه بعضا،
وتبعث من توقدها سعيرا آخر أحمى من السعير، تقدم
(1) سورة الزمر (9).
34

النبي (صلى الله عليه وآله) نحو " البطحاء " بخطى ثابتة حتى أشرف على
الرمضاء ليرى ويا لهول ما يرى، يرى فوق سعير
الرمضاء نارا مشبوبة، إلى جنبها أحواضا من أدم
تتفايض بالماء، ويرى رماحا مشرعة بأيدي عصابة
جبارة ومشاعل لاهبة بأيدي عصابة أخرى، والعصابتان
تدوران حولهم كحلقة المعصم، يتقدم أبو القاسم (صلى الله عليه وآله) نحو
الشيخين وابنيهما ثابت القدم راسخ الجنان حتى يخترق
تلكم العصابة وذلك النطاق، ليرى الشيخين والكهل
مطروحين على الرمضاء عراة، مربطين بالحال وعلى
صدورهم الصخور الثقيلة، والجلاوزة يدورون حولهم
ويطعنوهم بأطراف أسنة الحراب ويلدغوهم بأطراف
المشاعل، وأبو جهل قائم على رؤوسهم ويقول لا ينجيكم
مما أنتم فيه، إلا ثلاث، سب محمد، والبراءة من دينه
والرجوع إلى عبادة (اللات والعزى) وهم أرسخ من
الجبال ثابتون صامدون يسبون آلهتهم ويذكرونهم بكل
سوء، ويحمدون الله ويمجدون رسوله بأطيب الذكر
35

وأرضاه، ويستزيدون من عذاب أبي جهل.
فلما رأوا الرسول (صلى الله عليه وآله) مقبلا لزيارتهم ومواساتهم
بنفسه، عقد الحب والإيمان، والإجلال لسان عمار وأمه
سمية، وانطلق لسان ياسر بالسلام متوجها نحو الرسول
الكريم (صلى الله عليه وآله) يهون عليه ما نزل بهم من العذاب فيقول
" هكذا الدهر " يا رسول الله، ويجلس النبي القرفصاء عند
رؤوسهم يمسحها بيده الكريمة ويقول: " صبرا آل ياسر
فإن موعدكم الجنة "، ثم يرفع طرفه إلى السماء ليقول:
" اللهم اغفر لآل ياسر وقد فعل " ثم ينهض لشأن من
شؤون المسلمين، فيودعهم متجلدا صابرا وكان أبو جهل
ينظر هذا المشهد من بعيد ولا يجرؤ أن يتقدم خطوة مع
طغيانه وجبروته، إلا أنه بعد ما انصرف الرسول (صلى الله عليه وآله) جن
جنون أبي جهل واحتدم غيضا، وكال على الشيخين
والكهل شديد عذابه، فأمر بإزالة الصخور من على
صدورهم، فاختلفت السياط وانهالت الحراب والمشاعل
على رؤوسهم، وصدورهم وجنوبهم أينما وقعت، فإذا كل
36

الجلادون وعجزوا ولم يظفر أبو جهل من المجلودين بغير
الصبر والثبات، أمر بتغطية رؤوسهم في بركة الماء لتخمد
أنفاسهم غرقا، ويخرج آل ياسر رؤوسهم من الماء
ليلتقطوا أنفسا تلهج بحمد الله والثناء عليه وتصلي على
رسوله الكريم، وعيب آلهتهم " اللات والعزى " وذكر أبي
جهل بما يكره، عند ذلك فقد أبو جهل صوابه، وجن
جنونه، فأخذ إحدى الحراب من غلمانه وغمدها في قلب
(سمية) في عدة طعنات حتى قضى عليها، ثم انثنى هائجا
كالثور المحموم فرفس ياسر عدة رفسات برجله حتى لفظ
الشيخ آخر أنفاسه، كل ذلك جرى أمام ولدهم البار عمار
يسمع ويرى، وكانت سمية وزوجها ياسر أول الشهداء في
الإسلام، وطليعة القادمين على الله بشرف الشهادة وقد
زف ياسر وزوجته إلى الجنة بموكب ملائكي مهيب
محاطين بالرضوان، وتحفهم الملائكة الكرام. فسلام عليهما
يوم ولدا، ويوم أسلما، ويوم جاهدا، ويوم استشهدا،
ويوم يبعثا حيين.
37

بقي عمار وحده للمحنة يكابد آلامها، وقد نسج
من خيوطها بطولات خالدة صارت رمزا للجهاد
والشهادة مدى العصور والأزمان عبر التاريخ، ليضرب
بذلك المثل الأعلى في الصبر والتضحية، والإيمان الراسخ،
وبقي عمار نصب عتو أبي جهل، حيث صب على رأسه
أنواع العذاب من حر الحديد، ولفح النار، وضغط الماء،
وغيرها مبلغا لا يعلمه إلا الله، ولم يدر معه ما يقول: فلما
أطلقه أبو جهل، أقبل على النبي، كئيبا حزينا، مسود
الوجه، منكسر النفس، دامع العين فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ما
وراءك يا عمار، قال شر يا رسول الله، والله ما تركوني
حتى ذكرت آلهتهم بخير، وذكرتك بما تكره.
قال النبي: " فكيف تجد قلبك "؟ قال أجده مطمئنا
بالإيمان قال: " فإن عادوا فعد " ثم نزلت في عمار هذه
الآية: * (من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه
مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم
38

غضب من الله ولهم عذاب عظيم) * (1).
لم ينجه من مكر أبي جهل إلا أمر الله بالهجرة إلى
الحبشة، فكان من أهل القافلة الثانية إلى دار النجاشي،
وظل فيها ينعم بالدعة والاستقرار حتى عاد فيمن عاد
إلى يثرب " المدينة المنورة " بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله) إليها
مباشرة.
كان لثبات " عمار بن ياسر " تحت سياط التعذيب
صدى عظيما في نفوس المؤمنين، وأصبح نضاله رمزا
للهداية والإيمان، لا سيما بعد ما توجه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)
بأحاديثه الخالدة منها:
عندما جاء قوم لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وقالوا: إن عمارا
قد كفر، قال كلا: " إن عمارا ملئ إيمانا إلى مشاشه " (2).
(1) سورة النحل (106).
(2) المستدرك للحاكم النيسابوري ج 3 / 392، سير أعلام
النبلاء ج 1 / 413، الإصابة ج 2 / 512، أعيان الشيعة 8 / 373،
رجال بحر العلوم 3 / 172.
39

وقال (صلى الله عليه وآله) في مواقف عديدة " ويح ابن سمية تقتله
الفئة الباغية " (1)، واستأذن عمار يوما على رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فعرف صوته فقال مرحبا " بالطيب المطيب "، وفي رواية
" الطيب ابن الطيب " (2).
تقول عائشة: ما من أحد من أصحاب رسول
الله (صلى الله عليه وآله) أشاء أن أقول فيه، إلا عمار، فإني سمعته يقول
فيه: " إن عمار ملئ إيمانا إلى أخمص قدميه " وهو أحد
الأربعة اشتاقت لهم الجنة - أولهم علي (عليه السلام).
وقال أنس بن مالك سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
(1) أخرجه ابن ماجة 147 في المقدمة باب فضل عمار بن ياسر،
وأبو نعيم في الحلية ج 1 ص 139، وذكر الهيثمي في المجمع ج 9
ص 395.
(2) المستدرك للحاكم النيسابوري ج 3 / 388، سير أعلام
النبلاء ج 1 / 413، الإصابة ج 2 / 512، أعيان الشيعة 8 / 373،
رجال بحر العلوم 7 / 172.
40

إن الجنة تشتاق إلى أربعة، علي وسلمان، وعمار،
والمقداد (1).
عن ابن مسعود قال: سمعت رسول الله يقول: " إن
ابن سمية لم يخير بين أمرين قط إلا اختار أرشدهما فالزموا
ابن سمية " (2) وكان عمار ميزان الحق وقسطاس الصواب
والهداية، والنجم الثاقب في الليل المظلم، الممتلئ إيمانا،
والثابت حين المحنة والفتنة، والتابع لإمام الهدى، والمقتول
بسيف البغي والعدي.
قال خالد بن الوليد: كان بيني وبين عمار كلام
فأغلظت له القول فانطلق عمار يشكوني لرسول الله (صلى الله عليه وآله)
فأتبعته وأنا أشكوه إليه وزدته غلظة والنبي ساكت لا
(1) الاستيعاب على هامش الإصابة ج 2 / 479، أعيان الشيعة
8 / 373، رجال بحر العلوم 3 / 176.
(2) المستدرك للحاكم النيسابوري 3 / 388، سير أعلام النبلاء
1 / 416، أعيان الشيعة 3 / 373، رجال بحر العلوم 3 / 177.
41

يتكلم فبكى عمار وقال يا رسول الله ألا تراه؟ فرفع
النبي (صلى الله عليه وآله) رأسه وقال: " من عادى عمارا عاداه الله ومن
أبغض عمارا أبغضه الله "، قال خالد: فخرجت فما كان
شئ أحب إلي من رضى عمار فلقيته فرضي (1).
سئل حذيفة بن اليمان، وهو يحتضر في فتنة " عثمان
بن عفان " عن الإمام الحق إذا اختلف الناس؟ قال:
عليكم بابن سمية فإنه لن يفارق الحق حتى يموت (2).
صلى عمار إلى القبلتين (3) وهاجر الهجرتين (4)،
وهو من أهل بيعة الرضوان، وكان في طليعة الأبطال
الذين دافعوا عن الإسلام وجاهدوا بين يدي رسول
(1) الإصابة 2 / 512، سير أعلام النبلاء 1 / 451، المستدرك
للنيسابوري 3 / 291.
(2) الاستيعاب على هامش الإصابة 2 / 480، المستدرك
للنيسابوري 3 / 291.
(3) القبلتان: بيت المقدس وبيت الحرام.
(4) الهجرتان: هجرة الحبشة، وهجرة المدينة
42

الله (صلى الله عليه وآله) ممن أبلوا بلاء حسنا في المواقع كلها لا سيما في غزوة
بدر الكبرى، وأحد، والخندق، وحنين، وكان من حملة
راياته في بعض مواقعه.
كما اشترك في صدر الإسلام في بناء مسجد قبا،
ومسجد رسول الله، وحفر الخندق، بكل جد ونشاط مع
شيخوخته وكبر سنه.
وعندما ولي إمارة الكوفة في عهد عمر بن الخطاب
سار في أهلها سيرا لم تجده إلا عند أمير المؤمنين علي بن
أبي طالب (عليه السلام) من العدل وإحقاق الحق، ومكافحة
الباطل، وما كان يهتم بأبهة الولاية ولا بمظهر الدنيا،
ويروي أحد معاصريه من أهل الكوفة، رأيت عمار بن
ياسر وهو أمير الكوفة يشتري من قثائها ثم يربطه بحبل
ويحمله فوق ظهره ويمضي به إلى داره!! ولم يكن عسيرا
عليه أن يتمتع بنعيمها أو أن يتجبر ويتكبر، يمشي خلفه
الخدم والحشم والحرس وهو والي الكوفة، وأمير جيشها،
ولكنه ترفع عن هذا كله، وكان يأكل من كد يده ولا تطمع
43

نفسه إلى بيضاء أو صفراء، وكان من أبرز معارضي عثمان
حين انحرف ومن الثائرين عليه.
وكان عمار من حملة راية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)
في حرب الجمل الناكثين، وفي حرب صفين القاسطين
واستشهد فيها - مصداق قوله (صلى الله عليه وآله) تقتلك الفئة الباغية.
وكان عمار مصدرا من مصادر العلم والحديث،
وقد أخذ عنه وروى ابن عباس، وأبو موسى الأشعري،
وعبد الله بن جعفر، وأبو الأوس الخزاعي، وأبو الطفيل،
وأبو أمامة، وجابر بن عبد الله، ومحمد بن الحنفية،
وعلقمة، وأبو وائل، وهمام بن الحارث، ونعيم بن
حنظلة، وعبد الرحمن بن أتري، وناجية بن كعب، وأبو
لاس الخزاعي، وعبد الله بن سملة المرادي، وابن
الحوتكية، وثروان بن ملحان، ويحيى بن جعارة،
والسائب والد عطاء، وقيس بن عباد، وصلة بن زفر،
ومخارق بن سليم، وعامر بن سعد بن أبي وقاص، وأبو
البختري، وجماعة من التابعين.
44

أقدم النبي (صلى الله عليه وآله) على بناء مسجده في المدينة فشمر
عمار عن ساعد الجد والعمل في بناء المسجد مع سائر
المسلمين، وكانت هذه المساواة دعوة بلسان الحال لكافة
المسلمين أن يشاركوا في العمل دون أنفة أو استكبار،
وكان أنشودة المسلمين حين العمل:
لئن قعدنا والنبي يعمل * لذاك من العمل المضلل
كان يحمل كل مسلم لبنة واحدة لرصفها في البناء،
أما عمار فكان يحمل لبنتين معا كل مرة (1)، ويبذل كل
مسلم جهدا واحدا ويأبى عمار إلا أن يبذل جهدين، فزاد
أحدهم لبنة أخرى فقال: يا رسول الله قتلوني يحملون
علي ما لا يحملون، قالت أم سلمة زوج النبي فرأيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينفض وفرته بيده وكان رجلا جعدا وهو
يقول: ويح ابن سمية ليسوا يقتلونك إنما تقتلك الفئة الباغية
(1) أعيان الشيعة 8 / 373، المستدرك للحاكم النيسابوري
3 / 387.
45

وتكرر قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعمار تقتلك الفئة الباغية في حفر
الخندق وغيرها.
وارتجز علي بن أبي طالب (عليه السلام) يومئذ هذه الأنشودة
أثناء العمل:
لا يستوي من يعمر المساجدا * يدأب فيه قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
فجعل يرتجز فيها ويكثر من ذكرها فظن رجل من
الصحابة أن عمارا يعرض به فقال (1): قد سمعت ما تقول
منذ اليوم يا بن سمية، والله لا أراني سأعرض هذه العصا
لأنفك، وكانت في يده عصا فغضب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم
قال: " ما لهم ولعمار يدعوهم إلى الجنة، ويدعونه إلى
(1) ما اشترك عثمان في بادئ الأمر بالبناء، وحينما خرج من بيته
صادف أن اندهم الجدار فأثار الغبار، فتنحى عثمان عنه وأمسك
بطرف ثوبه أنفة لذلك ظن أن عمار تعرض له.
46

النار، أن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفي ".
لما ورد النبي (صلى الله عليه وآله) منطقة قبا القريبة من المدينة، نزل
في بني عمرو بن عوف، ومنتظرا قدوم علي بن أبي
طالب (عليه السلام) من مكة ومعه الفواطم، فقال عمار: لا بد أن
نجعل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) مكانا يستظل به ويصلي فيه،
فاستشار رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببناء مسجد قبا فوافق، وتقدم
ووضع حجر الأساس في قبلة المسجد وأتم عمار ومن معه
بناء المسجد، وهو أول مسجد بني في الإسلام، وأنزل الله
تبارك وتعالى فيه هذه الآية: * (لمسجد أسس على التقوى
من أول يوم أحق أن تقوم فيه) * (1).
وقد شهد عمار بن ياسر مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) جميع
غزواته ومواقفه وقد أبلى بلاء حسنا في غزوة بدر
الكبرى خاصة وقتل عددا من صناديد قريش
وشجعانهم من المشركين.
(1) سورة التوبة (108).
47

ويوم المؤاخاة آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين عمار
وحذيفة بن اليمان وكانا محافظين لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما كان
عمار ملازما لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولطول
الصحبة توافقا روحيا، وتتبع أثره إلى آخر ساعة من
حياته وبقي وفيا بمبادئه للإمام علي (عليه السلام).
يوم الخندق
علم النبي (صلى الله عليه وآله) بعزم المشركين وبقية الأحزاب
المؤيدة لهم على غزو النبي وأصحابه في المدينة المنورة،
بعد معركة بدر واحد، فاستشار أصحابه فأشار عليه
سلمان الفارسي بحفر الخندق، فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بما أشار
عليه سلمان، وأمر بتهيئة الفؤوس، والمساحي، والمكاتل،
لنقل التراب وبعض آلات الحفر.
وبدأ النبي (صلى الله عليه وآله) باسم الله فكان أول ضارب في حفر
الخندق، وأول مغبر بترابه، وأول مالئ مكتله من
48

التراب، وهو ماض بكل همة ونشاط، وتبعه المسلمون
فقسم كل مساحة من الحفر على جماعة من المهاجرين
والأنصار، وهو معهم ويردد هذه الأنشودة:
اللهم إن العيش عيش الآخرة * فاغفر إلى الأنصار والمهاجرة
تمضي الأيام الستة ويتم حفر الخندق عن آخره،
ولما اطلع المشركون على فكرة الخندق وعرفوا الخطة
وبهتوا وتعجبوا وقالوا: ما هي إلا مكيدة الفارسي الذي
معه. وإذا كان بلاء كل مسلم بلاء واحدا فعمار أبلى نسفه
وأجهدها مرتين بالعمل، حتى سعى النبي (صلى الله عليه وآله) إليه بنفسه
ينفض التراب عن رأسه قائلا له كلمته الخالدة: " ويح بن
سمية تقتله الفئة الباغية ".
كان عمار ملازما للنبي (صلى الله عليه وآله) طيلة أيام حياته حتى
آخر ساعات عمره الشريف ما فارقه أبدا ولا فارق ابن
عمه وخليفته من بعده، علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولما التحق
الرسول الأعظم بالرفيق الأعلى، كان ممن تخلف عن بيعة
49

أبي بكر من وجوه المهاجرين والأنصار، ومالوا مع علي
ابن أبي طالب (عليه السلام) ولم يبايعوا أبا بكر، إلا بعد شهادة
فاطمة الزهراء (عليها السلام) ورحيلها، وبعد ما بايع أمير المؤمنين
علي (عليه السلام) أبا بكر حفاظا على وحدة المسلمين.
انكشفت الأقنعة وظهرت فرق الأحزاب في سقيفة
بني ساعدة، وأخرج المتحزبون رؤوسهم من مغرزها
متصارعة فيما بينها على كرسي الخلافة والحكم، والنبي بعد
لما يقبر، مجتمعين على غصبها من أصحابها الشرعيين
" أهل البيت " وقد انقسموا إلى عدة فرق وأحزاب:
الحزب الأول: حزب قريش المتمثل بأبي بكر
وعمر وأبي عبيدة بن الجراح.
الحزب الثاني: المتمثل بالأوس والخزرج من
الأنصار مع ما بهم من خلاف وأقحم الحزب الأموي
نفسه إقحاما بزعامة صخر بن حرب " أبو سفيان " لعل أن
يضع له قدما في الساحة، فإن لم يستطع فبإمكانه إفساد
الأمر على الجميع بخلق الفتنة والخلاف بين المسلمين.
50

وأهل البيت أصحاب الحق الشرعيين مشغولون
بتجهيز النبي ومذهولون من شدة المصيبة، وعمار معهم لا
يفارقهم مع خلص أصحابه.
وبعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ارتدت العرب،
وكثرت الفتن، وكانت فتنة مسيلمة الكذاب أعظمها،
حيث انقادت له اليمامة، وبنو حنيفة، فأرسل أبو بكر
جيشا كبيرا، وقد شارك في قتال مسيلمة وأتباعه جل
الصحابة من بدريين وغيرهم، وكان فيهم عمار بن ياسر،
وقد ظهرت منه شجاعة فائقة ونجدة بالغة على رغم
شيخوخته وكبر سنه.
وهناك مواقف عديدة وقفها عمار بوجه عثمان بن
عفان في صدر الإسلام، وفي زمان الرسول (صلى الله عليه وآله) لم نذكرها
بغية الاختصار.
ويوم الشورى بعد مقتل عمر بن الخطاب، دافع
عمار عن الحق ومبادئ الإسلام، وأعلن رأيه في عثمان،
فنادى أهل الشورى وناشدهم لله ناصحا وهو في مكانه
51

بين المسلمين، إذا أردتم أن لا يختلف الناس فبايعوا عليا،
وتابعه المقداد مؤيدا ومصدقا لعمار قائلا: إن بايعتم عليا
سمعنا وأطعنا.
ويعلو صوت عبد الله بن أبي سرج الأموي المنافق
الذي أنزل الله بنفاقه قرآنا يا معشر أهل الشورى بايعوا
عثمانا إن كانت لكم حاجة بأن نسمع ونطيع، فيعترضه
عمار ويشتمه ويقول له: ما أنت وهذا إنما أنت منافق؟ إن
الله والناس يعلمون إنك ما زلت تكيد للإسلام وتبغي له
الغوائل والشرور، وتصدى لعمار نفر من بني أمية فوقف
دونهم نفر من بني هاشم مدافعين عن عمار، وكادت الفتنة
أن تقع لولا لطف الله ورحمته، وقف عمار بين الناس
يخطب بلسانه ونطقه الساحر، داعيا إلى الحق، معلنا
فضائل علي وجهاده وبلاءه في الإسلام، غير أن المؤتمرين
حسموا الأمر لصالح عثمان بالسرعة الممكنة خوفا من
وقوع الفتنة، وكأن الأمر مدبرا ومحسوما من قبل عمر قبل
موته.
52

ولما ظهرت البوائق من حكم عثمان بن عفان
وانحرافه عن حكم الإسلام وسيرة الشيخين، تصدى
عمار له معلنا معارضته والدفاع عن الحق والإسلام،
وناشد عليا (عليه السلام) بهذه الكلمات الرائعة.
أيا ناعي الإسلام قم فانعه * لقد مات عرف وبدا نكر
أما والله لو أن لي أعوانا لقاتلتهم، والله لو قاتلهم
واحد لأكونن ثانيا.
وليس لجهاد عمار وثباته غاية إلا للدفاع عن بيضة
الإسلام، وكلمة الحق.
قال ابن قتيبة: كتب بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) كتابا
ذكروا فيه ما خالف عثمان من سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وسنة
صاحبيه. وما كان من هبته خمس أفريقيا لمروان بن
الحكم وفيه حق الله ورسوله، وأمورا أخرى ارتكبها
عثمان على خلاف الحق، ثم تعاهد الأصحاب ليدفعن
الكتاب في يد عثمان وكان ممن حضر الكتاب عمار بن
ياسر، والمقداد والأسود وكانوا عشرة، فلما خرجوا
53

بالكتاب ليدفعوه إلى عثمان، والكتاب في يد عمار جعلوا
يتسللون عن عمار حتى بقي وحده، فمضى حتى جاء دار
عثمان فاستأذن عليه، فأذن له في يوم شات، فدخل عليه
وعنده مروان بن الحكم وأهله من بني أمية، فدفع إليه
الكتاب فقرأه فقال له: أنت كتبت هذا الكتاب؟ فقال نعم،
قال: ومن كان معك؟ قال: كان معي نفر تفرقوا خوفا
منك، قال: من هم؟ قال: لا أخبرك بهم. قال: فلم
اجترأت علي من بينهم؟ قال مروان بن الحكم يا أمير
المؤمنين إن هذا العبد الأسود، (يعني عمار) قد جرأ عليك
الناس وإنك إن قتلته نكلت به من وراءه، وقال عثمان
اضربوه، فضربوه وكان حينذاك ينيف على الثمانين عاما،
واشترك عثمان بنفسه معهم في الضرب حتى فتقوا بطنه
فغشي عليه فجروه حتى طرحوه على باب الدار، فأمرت
به أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله) فأدخل منزلها لمعالجته،
وغضبت فيه بنو مخزوم وكان عمار حليفهم، فلما خرج
عثمان لصلاة الظهر عرض له هشام بن المغيرة فقال: والله
54

لئن مات عمار من ضربته هذه لأقتلن به رجلا عظيما من
بني أمية. فقال عثمان لست هناك واجتمعت بنو مخزوم
وقالوا: والله لئن مات ما قتلنا به أحدا غير عثمان (1).
بلغ عمار القمه من ثقة المسلمين وتقديرهم، بفضل
ما قال فيه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) من الثناء له في أحاديثه
الشريفة، وما قدمه من التضحيات في مواقفه الرائعة في
سوح الجهاد في سبيل الإسلام.
كما أبلى بلاء حسنا يوم الجمل ويوم صفين مع أمير
المؤمنين (عليه السلام) وكان حامل رايته.
ولما شبت المعركة في صفين واحتدم القتال بين الحق
والباطل بين علي أمير المؤمنين وبين معاوية، كان عمار في
صف جيش أمير المؤمنين (عليه السلام) وفي أواخر هجمات القتال
الذي استمر ثلاثة أيام بلياليها وكانت آخر ليلة " ليلة
الهرير "، زحف عمار بن ياسر بكتيبته على الأعداء
جيش الضلال جيش معاوية وحزبه من أهل الشام،
(1) الإمامة والسياسة.
55

وكان صاحب رايته وحاملها البطل المقدام هاشم بن عتبة
المرقال. قائلا له تقدم فداك أبي وأمي، وانقض على أهل
الشام انقضاض الصقر على فريسته، فزحزح صفوفهم،
حتى دنا من قائدهم عمرو بن العاص في قلب معسكره
وناداه يا عمرو بعت دينك بمصر؟ تبا لك، ولطالما بغيت
للإسلام شرا، ثم هجم عليهم فتضعضعت صفوفهم، وكان
وقع كلامه أشد عليهم من وقع سيفه، وأعاد إلى ذهنه
وتذكر وهو في ساحة المعركة أن هذه الراية التي بيد عمرو
بن العاص في جيش الضلال قاتلها وبارزها ثلاث مرات
وهو بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1) وكانت في جبهة الباطل،
ثم لكز حامل رايته هاشم المرقال وقال له تقدم فداك أبي
وأمي والذي نفسي بيده لو ضربونا حتى يبلغوا بنا سعفات
هجر لعرفت إننا على الحق، وإنهم على الباطل (2)، تلك
الراية قاتلتها بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرات وهذه
(1) الثلاث مرات هي معارك: بدر، واحد، والأحزاب.
(2) المستدرك للحاكم النيسابوري 3 / 384.
56

الرابعة ثم انصب عليهم انصباب الصاعقة، فانهزموا أمامه
انهزام المعزى أمام الذئب.
وقد علم أهل الشام حديث الرسول (صلى الله عليه وآله) فيه وإنه
تقتله الفئة الباغية وهم اليوم الفئة الباغية التي قاتلهم عمار
بسيفه، كما أن خطر عمار ما خفي على معاوية والمقربين من
حزبه، ومضى عمار مقداما يبطش بالباغين ويحث حامل
رايته على التقدم والانقضاض عليهم كالصاعقة والجيش
الأموي يتراجع وينهار انهيارا مطردا، ومن جهة أخرى
يتقدم القائد مالك الأشتر ويغوص فيهم وينهزم جيش
الضلال أمامه حتى كاد النصر يلوح بالأفق لجيوش
الإيمان. لولا حيلة رفع المصاحف.
أعود فأقول تقدم عمار بكتيبته وحامل لوائه هاشم
المرقال يجاهد الباغين، لا يهدأ ولا يستقر، يجهد نفسه،
ويجهد جيشه وينصب عليهم كالصاعقة، حتى اليوم
الثالث وعمار وكتيبته في الميدان وهم أثبت من الجبال
الرواسي، فلما مالت الشمس إلى المغيب ودخلت " ليلة
57

الهرير " طلب عمار ماء ليفطر عليه وكان صائما فجئ إليه
بإناء فيه لبن، فتبسم قبل إفطاره وأشرقت فيها نفسه
وعلم أن أجله قد قرب فقال: قال لي حبيبي رسول
الله (صلى الله عليه وآله): " آخر شرابك (1) من الدنيا ضياح من لبن
وتقتلك الفئة الباغية "، أفطر عمار على اللبن وهو على
جواده وكر بكتيبته على الباغين مقبلا غير مدبر لا يبالي
أوقع على الموت أم وقع الموت عليه. ودلف ساحة القتال
غير مبال، ثم وقف في وسط الميدان ينادي هل من
مبارز؟ فبرز إليه فارس من السكاسك فتقدم إليه عمار
فقتله، ثم برز إليه فارس آخر من حمى فقتله أيضا،
وجعل يقتل كل من يبرز إليه وتقدم نحوه، وكان أبو
العادية الفزاري الجهني يتتبعه أيام عثمان، ويبغي له
الغوالي، وها هو الآن يكيد له ويتحين له الفرصة، حتى
رأى انهماكه بالبراز وانحسار الدرع عن ركبته فطعنه طعنة
نجلاء وقع على أثرها على الأرض وأطبق عليه فارسان
(1) في رواية زادك.
58

كانا معه فأجهزا عليه، فقضى نحبه، ألا لعنة الله على أبي
العادية الفزاري ومن شاركه في قتل رجل طالما أفنى
عمره في جهاد أعداء الإسلام. واستشهد عمار وله من
العمر أربعة وتسعون عاما.
وكان لمصرع عمار صدى حزن بالغ في معسكر
الإمام وتيقن في معسكر الأعداء حيث علم أغلبهم أنهم
الفئة الباغية، ولكن لا يمكنهم التمرد على معاوية وفي أثر
ذلك شلت حركة الدفاع في معسكر أهل الشام، ولكن
أثره كان مؤقتا بسبب دهاء معاوية، كما ارتفعت الحماسة
والمعنويات في معسكر الحق معسكر الإمام (عليه السلام).
ولما قتل أبو العادية عمارا تصايح الناس من
المعسكرين ويلك قتلت أبا اليقظان؟ قتلك الله وأخزاك
وجعل النار مثواك.
عند ذلك اضطر معاوية وعمرو بن العاص إلى
خداع الناس في معسكرهم بالتأويل " إن الذي قتل عمار
هو الذي أخرجه إلى ساحة القتال ".
59

لو صدق هذا الكلام لكان الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) هو
الذي قتل عمه حمزة سيد الشهداء وهو الذي قتل جعفر
الطيار لأنه هو الذي أخرجهم للقتال في أحد وفي مؤتة.
وشهد خزيمة بن ثابت يوم الجمل ويوم صفين وهو
لا يسل فيها سيفا، فلما قتل عمار وهو في صفوف الإمام
قال: الآن بانت لي الضلالة من الهدى، ثم تقدم بسيفه
وقاتل أهل الشام وهو في صفوف الإمام حتى قتل.
قال: عمرو بن العاص، لقد سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول: " قاتل عمار وسالبه في النار " فرد عليه معاوية
كيف تقول ذلك، فيجيبه عمرو والله هو ذاك والله إنك
لتعلمه، ولوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة.
لأن أي امرئ من المسلمين لم يعظم عليه قتل
عمار بن ياسر، ولم تدخل به عليه المصيبة الموجعة لغير
رشيد.
وقف أمير المؤمنين (عليه السلام) على عمار وهاشم المرقال
وأبنهما خير تأبين وأمر أن يصف جثمانهما معا فصلى عليهما
60

معا دون أن يغسلهما أو يكفنهما ودفنهما بملابسهما في أرض
صفين، وذلك في شهر صفر من سنة سبع وثلاثين للهجرة.
فسلام عليك يا أبا اليقظان وعلى المستشهدين
معك يوم ولدت، ويوم أسلمت ويوم عذبت، ويوم
جاهدت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيا.
ملاحظة:
اعتمدنا في هذا البحث " عمار بن ياسر " حليف
مخزوم للمرحوم، السيد صدر الدين شرف الدين، وبعض
المصادر المهمة، ومن يرد التوسعة في البحث فليراجع
المصادر التالية:
مصادر البحث
مسند أحمد ج 4 ص 262، 319.
طبقات ابن سعد 3 / 176.
61

حلية الأولياء 1 / 139.
الاستيعاب 2 / 476، 8 / 225.
تاريخ بغداد 1 / 150.
تاريخ دمشق 12 / 300.
أسد الغابة 4 / 43، 129.
تهذيب التهذيب 7 / 407.
تهذيب الكمال 21 / 215.
الإصابة 2 / 512.
كنز العمال 13 / 526.
شذرات الذهب 1 / 45.
سير أعلام النبلاء 1 / 406.
الأعلام للزركلي 5 / 36.
أعيان الشيعة ج 8 ص 373.
المستدرك للحاكم ج 3 ص 387 - 290.
رجال بحر العلوم ج 3 ص 172.
عمار بن ياسر حليف مخزوم.
62

* (إن الله مع الذين اتقوا * والذين هم محسنون) * (1)
عمرو بن الحمق الخزاعي
الحواريون
خريجو مدرسة: الرسول الأعظم: وأمير المؤمنين
صلوات الله عليهم أجمعين
(1) النحل: 128.
63

عمرو بن الحمق الخزاعي
عمرو بن الحمق الخزاعي بن كاهل بن حبيب
صحابي جليل القدر ومن خواص أمير المؤمنين (عليه السلام)
وحواريه، شهد معه المشاهد كلها.
روى الكشي في رجاله عن الحسن بن محبوب، عن
أبي القاسم وهو معاوية بن عمار مرفوعا قال: أرسل
رسول الله (صلى الله عليه وآله) سرية فقال لهم: أنكم تضلون ساعة كذا
من الليل فخذوا ذات اليسار فإنكم تمرون برجل في شأنه
[كذا] فسترشدونه فيأبى أن يرشدكم حتى تصيبوا من
طعامه فيذبح لكم كبشا فيطعمكم ثم يقوم فيرشدكم
فاقرؤه مني السلام وأعلموه إني قد ظهرت بالمدينة،
فمضوا فضلوا الطريق فقال قائل منهم ألم يقل لكم رسول
الله (صلى الله عليه وآله) تياسروا ففعلوا فمروا بالرجل الذي قال لهم رسول
65

الله قال: فقال لهم الرجل وهو عمرو بن الحمق الخزاعي
أظهر النبي بالمدينة؟
فقالوا نعم فلحق به [بعد أن أطعمهم وسقاهم
ودلاهم الطريق] ولبث ما شاء الله، ثم قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله): إرجع إلى الموضع الذي منه هاجرت فإذا تولى
أمير المؤمنين (عليه السلام) [الخلافة] بالكوفة فأته، فانصرف
الرجل [عمرو بن الحمق] حتى إذا تولى أمير المؤمنين (عليه السلام)
الكوفة أتاه [والتحق به] وأقام معه، وشهد المشاهد كلها
معه.
روى نصر بن مزاحم في كتاب صفين [مع بعض
التقديم في العبارة]، سمع أمير المؤمنين (عليه السلام) حجر بن عدي
وعمرو بن الحمق وهو يتجهز إلى صفين، يظهران البراءة
واللعن من أهل الشام فأمرهما بالكف، فقالا ألسنا
محقين؟ قال: بلى، ولكن كرهت لكم أن تكونوا لعانين
شتامين، ولكن لو وصفتم مساوئ أفعالهم لكان أصوب
في القول وأبلغ في العذر وقلتم مكان لعنكم إياهم
66

وبراءتكم منهم: " اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح
ذات بيننا وبينهم واهدهم من ضلالهم " كان هذا أحب إلي
وخيرا لكم، فقالا يا أمير المؤمنين نقبل عظتك ونتأدب
بأدبك. ثم قال عمرو بن الحمق يوما لأمير المؤمنين معربا
عن ولائه وإخلاصه: والله ما أحببتك للدنيا ولا لمنزلة
تكون لي بها، وإنما أحببتك لخمس خصال، لأنك أول
المسلمين إيمانا وابن عم رسول الله وأعظم المهاجرين
والأنصار جهادا وتضحية وتفانيا في سبيل محمد ورسالته
وزوج بضعة الرسول سيدة النساء (عليها السلام) وأب لعترة الرسول
وذريته، والله لو قطعت الجبال الرواسي وعبرت البحار
الطوامي في توهين عدوك وتلقيح حجتك كان ذلك قليلا
من كثير ما يجب علي من حقك.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) اللهم نور قلبه بالتقى واهده
إلى الصراط المستقيم ليت أن في جندي مائة مثلك [أيها
الخزاعي] فقال حجر بن عدي إذا والله يا أمير المؤمنين
صلح جندك وقل فيهم من يغشك، وأمره الإمام (عليه السلام) يوم
67

صفين على خزاعة، وقال: عمرو بن الحمق يوم صفين
هذه الأبيات:
تقول عرسي لما أن رأت أرقي * ماذا يهيجك من أصحاب صفينا
ألست في عصبة يهدي الإله بهم * أهل الكتاب ولا بغيا يريدونا
فقلت إني على ما كان من سدد * أخشى عواقب أمر سوف يأتينا
إدالة القوم في أمر يراد بهم * فاقني حياء وكفي ما تقولينا
فتقدم جماعة من أهل اليمن في جيش معاوية
يريدون الهجوم على جيش الإمام وهم يرتجزون:
أكرم بجمع طيب يماني * جذوا تكونوا أوليا عثمان
خليفة الله على تبياني
فحمل عليهم عمرو بن الحمق وجنده وهو يقول:
68

بؤسا لجند ضائع يماني * مستوسقين كانسياق الضان
تهوي إلى راع لها سنان * أقحمها عمرو (1) إلى الهوان
يا ليت كفي عدمت بناني * وإنكم بالشجر من عمان
ولما رفعت المصاحف يوم صفين قال عمرو بن
الحمق يا أمير المؤمنين إنا والله ما اخترناك ولا نصرناك
عصبيه على الباطل، ولا أحببناك إلا لله عز وجل ولا
طلبنا إلا الحق ولو دعانا غيرك إلى ما دعوت إليه لكان
فيه اللجاج وطالت فيه النجوى وقد بلغ الحق مقطعه
وليس لنا معك رأي.
قال الفضل بن شاذان: كان عمرو بن الحمق من
السابقين الذين رجعوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام).
(1) عمرو بن العاص.
69

وعن ميمون بن مهران أن عمرو بن الحمق سقى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لبنا فقال: اللهم متعه بشبابه، فمرت عليه
ثمانون سنة ولم ير شعرة بيضاء.
قال عمرو بن عبد البر في (الاستيعاب) أسلم
عمرو بن الحمق بعد الحديبية وصحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) مدة
وكان يحفظ الأحاديث، وسكن الشام ثم نزل الكوفة
واتخذها وطنا له، وهو أحد الأربعة الذين اقتحموا على
عثمان بن عفان الدار، وكان من شيعة علي بن أبي
طالب (عليه السلام) وشهد معه جميع حروبه من الجمل، وصفين،
والنهروان، ولما توفي علي (عليه السلام) قام مع حجر بن عدي في
منع بني أمية من سب علي بن أبي طالب.
ولما أمر زياد بن سمية بالقبض على حجر هرب
عمرو بن الحمق إلى الموصل واختفى في غار فلدغته حية
به فمات، ولما وصل إليه الجماعة الذين بعث بهم زياد لعنه
الله وجدوه ميتا في الغار فقطعوا رأسه وذهبوا به إلى زياد،
فبعث به إلى معاوية وهو أول رأس حمل من بلد إلى
70

بلد.
روى الكشي في رجاله: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال
لعمرو بن الحمق ألك دار؟ قال نعم: قال بعها واجعلها في
الأزد، فإني غدا لو غبت لطلبت فمنعك الأزد حتى تخرج
من الكوفة متوجها إلى جسر الموصل فتمر برجل مقعد
فتقعد عنده ثم تستسقيه فيسقيك ويسألك عن شأنك
فأخبره وادعه إلى الإسلام فإنه يسلم وامسح بيدك على
وركيه فإن الله يمسح به وينهض قائما فيتبعك، وتمر برجل
أعمى على ظهر الطريق فتستقيه فيسقيك ويسألك عن
شأنك فأخبره وادعه إلى الإسلام فإنه يسلم وامسح بيدك
على عينيه فإن الله تعالى يعيده بصيرا فيتبعك، وهما
يواريان بدنك في التراب، ثم تتبعك الخيل فإذا صرت
قريبا من الحصن في موضع كذا وكذا رهقتك الخيل فأنزل
عن فرسك ومر إلى الغار فإنه يشترك في دمك فسقة من
الجن والإنس ففعل ما قال أمير المؤمنين (عليه السلام).
قال المحدث فلما انتهى إلى الحصن قال للرجلين
71

اصعدا فانظرا هل تريان شيئا؟ قالا: نرى خيلا مقبلة
فنزل عن فرسه ودخل الغار، وغار فرسه فلما دخل الغار
ضربه أسود سالخ (1) فيه، وجاءت الخيل فلما رأوا فرسه
غائرا قالوا هذا فرسه وهو قريب فطلبه الرجال فأصابوه
في الغار ميتا فأخذوا رأسه فأتوا به زيادا فنصبه على رمح
وهو أول رأس نصب في الإسلام وكان قتل عمرو بن
الحمق بالموصل سنة إحدى وخمسين هجرية وهي السنة
التي قتل فيها حجر بن عدي، وكان معاوية قد فعل
بالمؤمنين الأفاعيل وطاردهم وقتل منهم الكثير بالصلب
على جذوع النخل، وقطع الأيدي والأرجل وسمل
العيون، وبقر البطون وحتى الشيوخ والنساء والأطفال
والمرضى لم ينج منهم أحد، بالإضافة إلى كل ذلك كان
التعذيب النفسي والجسدي والتهجير خبزهم اليومي،
وليس لهم جرم إلا أنهم من شيعة علي ومواليه ومحبيه،
(1) أسود سالخ: أي أفعى سوداء.
72

وكان المنفذ المباشر لهذه الجرائم خاصة في الكوفة والبصرة
هو ابن سمية ومن لف لفه، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وهذه رواية أخرى عن كيفية مقتل عمرو بن
الحمق الخزاعي:
وحينما تولى زياد بن أبيه الكوفة وراح يتتبع
ويلاحق زعماءهم بالقتل والحبس والتعذيب والتنكيل
كان عمرو بن الحمق في طليعة أولئك المطلوبين فجعل
زياد يلاحقه ويطارده ففر إلى المدائن ومعه رفاعة بن
شداد فاعتقل زوجته آمنة بنت الشريد ووضعها في حبسه
ثم أرسلها إلى معاوية فأمر بحبسها ومكث هو ورفيقه
رفاعة في المدائن مدة من الزمن، وحينما علم زياد بمكانهما
أرسل جلاوزته إلى المدائن في طلبهما وحينما عرفا بأن
معاوية أرسل في طلبهما خرجا من المدائن ليلا باتجاه
الموصل إلى جبل في ضواحي الموصل فأقاما فيه أياما
73

وبلغ عامل معاوية على الموصل بلتعة بن أبي عبد الله (1) أن
رجلين يكمنان في ذلك الجبل ويتجنبان الناس فسار إليهما
مع جماعة من أصحابه فلما انتهوا إلى الجبل خرج إليهما
عمرو ورفاعة، وكان عمرو يعاني من مرض ألم به من
آثار سم دسه إليه جماعة من أنصار معاوية، ولم يكن
باستطاعته أن يقاوم أو يهرب منهم فاستسلم للقوم، وأما
رفاعة فقد كان شابا فركب فرسه والتفت إلى عمرو وقال:
إني سأدافع عنك، فنهاه عن ذلك وقال له: إن دفاعك لا
يجديني نفعا وأرى لك أن تنجو بنفسك إن استطعت،
فهجم رفاعة بسيفه على القوم فأفرجوا له ولم يتمكنوا من
أسره، واعتقلوا عمروا وهم لا يعرفونه وامتنع من أن
يعرفهم بنفسه ونسبه وقال لهم: أنا من أن تركتموه كان
أسلم لكم وإن قتلتموه كان أضر عليكم، ولما امتنع أن
يعرفهم عن نفسه أرسلوه إلى حاكم الموصل عبد الرحمن
(1) في الغدير ج 11 ص 41 عبيد الله بن أبي بلتعة.
74

بن عبد الله الثقفي، وكان يعرفه فأرسل رسالة إلى معاوية
بن هند يخبره بأمره فأجابه برسالة جاء فيها:
" لقد قيل بأنه طعن عثمان بن عفان تسع طعنات
بمشاقص كانت معه ونحن لا نريد أن نعتدي عليه فاطعنه
تسع طعنات كما طعن عثمان "، فأخرجه من سجنه وأمر
بطعنه تسع طعنات فمات من الطعنة الأولى أو الثانية كما
جاء في تاريخ الطبري ثم احتز رأسه وأرسله إلى معاوية
بالشام فأمر أن يطاف به في الشام وغيرها على حد تعبير
صاحب الاستيعاب (ص 517 من المجلد الثاني).
ثم أمر أن يرسلوه إلى زوجته آمنة بنت الشريد
وكان قد وضعها معاوية في السجن لأنها لم تتبرأ من علي
ابن أبي طالب فوضعوا رأس زوجها في حجرها وهي لا
تعلم من أمره شيئا، فلما نظرت اضطربت وكادت أن
تموت لهول الصدمة، وصاحت بصوت يزعزع العدو
والصديق: واحزناه غيبتموه عني طويلا وأهديتموه إلي
قتيلا فأهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية وأنا له اليوم غير
75

ناسية.
والتفتت إلى الرسول والألم يقطع أحشاءها وقالت
له: ارجع إلى معاوية قل له: أيتم الله ولدك وأوحش منك
أهلك ولا غفر لك ذنبك، ولما بلغه الرسول مقالتها غاظه
كلامها وأمر بإحضارها لمجلسه فلما حضرت قال لها:
" أنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغني
عنك؟ "، فأجابته غير مكترثة به ولا هيابة لسلطانه
قائلة: نعم، لا نازعة عنه ولا معتذرة منه، ولا منكرة له،
وقد اجتهدت في الدعاء عليك إن نفع الدعاء وإن الحق لمن
وراء العباد وما بلغت شيئا من جزائك.
والتفت إليه إياس بن حسل أحد المرتزقة وقال له:
اقتل هذه المرأة يا أمير المؤمنين، فوالله إن زوجها لم يكن
أحق بالقتل منها، فردت عليه قائلة له: تبا لك ويلك إن
بين لحييك كجثمان الضفدع، ثم أنت تدعوه إلى قتلي كما
قتل زوجي بالأمس إن تريد إلا تكون جبارا في الأرض
وما تريد أن تكون من المصلحين.
76

واستمر الحوار الحاد بينها وبين معاوية بشجاعة قل
نظيرها في تاريخ المرأة التي لا ترى للحياة وزنا ولا قيمة
بعد زوجها وظلت تحاوره بلهجة الساخرة منه ومن
سلطانه وجلاديه وأعوانه حتى أمر بإخراجها من مجلسه.
وجاء في بعض المرويات أنه أمر بقتلها بعد أن
عرض عليها البراءة من علي (عليه السلام) فامتنعت عليه وتبرأت
منه ومن جلاديه ومن يحابيه بفعل أو قول.
وغير بعيد على ابن هند أن يقتل امرأة لأنها لم تتبرأ
من علي ودين علي (عليه السلام) كما قتل غيرها من أعيان المسلمين
وصحابة الرسول لهذا السبب، وهم لا يملكون سلاحا غير
سلاح الإيمان الذي كان يعمر قلوبهم، وبه وحده وقفوا
تلك المواقف الخالدة يجاهدون به من ضل عن الحق
وتخبط في متاهات الباطل والظلم والطغيان.
وهل يملك معاوية من الدين والقيم والرحمة ما يمنعه
عن قتل امرأة مسلمة لأنها لم تلعن عليا وتتبرأ من دينه،
دين محمد بن عبد الله بعد أن أمر جلاديه بنقلها من بيتها في
77

الكوفة إلى سجونه المظلمة في دمشق.
وأي فرق بين قتلها بالسيف وبين وضعها مكبلة في
سجود دمشق ليفاجئها برأس زوجها الصحابي الجليل ابن
الثمانين بعد أن طاف به في البلدان، وقد اقتدى به ولده
يزيد من بعده فطاف برأس الحسين (عليه السلام) ونساءه في البلدان
وانتهى به المطاف ليضعه في قصر الحمراء بين يديه وينكث
ثناياه بمخصرته بحضور نساءه وشقيقاته وأطفاله.
ومن تتبع تاريخ الابن وما ارتكبه من الجرائم
والموبقات يجد أن يزيدا قد ورث عن أبيه جميع خصاله
وصفاته بما في ذلك حقده على محمد وآله صلوات الله
عليهم وأن جميع ما قام به الابن قد قام بمثله وبما يشبهه
أبوه من قبله.
وقد أحس المسلمون بصدمة عنيفة لما جرى لعمرو
ابن الحمق وزوجته وأيقنوا بأن كرامة خيارهم قد
أصحبت تحت أقدام معاوية وزياد بن سمية وأمثاله من
المردة والمرتزقة، وأرسل الإمام أبو عبد الله الحسين رسالة
78

إلى معاوية يعبر فيها عن موقفه من هذا الحادث وأمثاله
من الأحداث الخطيرة مثل قتل حجر بن عدي وأصحابه
قبلها بأشهر، جاء فيها:
أو لست قاتل عمرو بن الحمق، العبد الصالح
صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي أبلته العبادة فنحل جسمه
واصفر لونه بعد ما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه
ما لو أعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل، ثم قتلته
جرأة على ربك واستخفافا بتلك العهود التي أعطيته
إياها.
وخلاصة القول كانت شهادة الصحابي الجليل
عمرو بن الحمق الخزاعي في الموصل سنة إحدى وخمسين
هجرية، في السنة التي قتل فيها الصحابي الجليل حجر بن
عدي وأصحابه في مرج عذراء بأمر معاوية وطيف برأسه
إلى دمشق الشام.
هذه خلاصة ما عثرنا عليه من ترجمة الصحابي
الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي رضوان الله عليه
79

وختمت أو انطفئت بشهادته شعلة من قبسات الإيمان،
وصارم من صوارم الإسلام.
فسلام عليه يوم ولد، ويوم أسلم وجاهد، ويوم
استشهد، ويوم يبعث حيا ليلتحق بالركب الميمون من
أرواح الشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
80

* (إن الله مع الذين اتقوا * والذين هم محسنون) * (1)
صعصعة بن صوحان العبدي
الحواريون
خريجو مدرسة: الرسول الأعظم: وأمير المؤمنين
صلوات الله عليهم أجمعين
(1) النحل: 128.
81

صعصعة بن صوحان العبدي
قال الزركلي في أعلامه (1):
صعصعة بن صوحان العبدي بن حجر بن الحارث
العبدي، من سادات عبد القيس، ينتهي نسبه إلى ربيعة
ابن نزار، سكن الكوفة، كان مولده في دارين " قرب
القطيف "، كان خطيبا، بليغا، عاقلا، له شعر، شهد
(صفين) مع علي (عليه السلام) وله مع معاوية مواقف، قال الشعبي
كنت أتعلم منه الخطب، نفاه المغيرة بن شعبة من الكوفة
إلى الجزيرة " أوال " في البحرين بأمر من معاوية فمات
فيها سنة 56 هجرية عن عمر يناهز السبعين عاما.
كتب أديب من البحرين، في جريدة الخليج العربي
(1) الأعلام للزركلي ج 3 ص 205.
83

26 / 10 / 1379 ه‍ أن قبره لا يزال معروفا في بلدة
تسمى " الكلابية " بالبحرين.
وقيل مات بالكوفة: [زمن معاوية] وفي تاريخها
أن مسجده لا يزال معروفا [باسمه] خلف مسجد السهلة
في الكوفة إلى الآن (1).
وذكر في الاستيعاب (هامش الإصابة)، كما في
أسد الغابة (2)، قال القرطبي، والجزري، وابن سعد إن
صعصعة بن صوحان العبدي كان مسلما على عهد رسول
الله (صلى الله عليه وآله) لم يره صغر عن ذلك، وكان سيدا من سادات
قومه عبد القيس، وكان فصيحا، خطيبا، لسنا، دينا،
فاضلا، بليغا، يعد من أصحاب علي رضي الله عنه.
قال يحيى بن معين: صعصعة، وزيد، وسيحان، بنو
(1) الإصابة 412.
(2) الاستيعاب بهامش الإصابة ج 2 ص 196، أسد الغابة
2 / 320 و 3 / 20.
84

صوحان كانوا خطباء من عبد القيس، قتل زيد وسيحان
يوم الجمل، وصعصعة هو القائل لعمر بن الخطاب حين
قسم المال الذي بعثه إليه أبو موسى الأشعري، وكان ألف
ألف درهم، وفضلت منه فضلة فاختلفوا عليه حيث
يضعها. فقام [عمر] خطيبا فحمد الله وأثنى عليه وقال:
أيها الناس قد بقيت لكم فضلة بعد حقوق الناس ما
تقولون فيها؟ فقام صعصعة بن صوحان وهو غلام شاب
فقال يا أمير المؤمنين: إنما تشاور الناس فيما لم ينزل الله
فيه قرآنا وأما ما أنزل الله به القرآن، ووضعه في مواضعه
فضعه في مواضعه التي وضعه الله تعالى فيها، قال عمر:
صدقت أنت مني وأنا منك، فقسمه بين المسلمين، ذكره
ابن شبه (1).
صعصعة تلميذ أمير المؤمنين (عليه السلام) وحسبه بذلك
(1) أسد الغابة ج 3 ص 20، الاستيعاب للقرطبي، بهامش
الإصابة ج 2 ص 196.
85

فخرا وشرفا، وكفاه مدحا أن يثني عليه سيد البلغاء
ويطريه بالمهارة وفصاحة اللسان. ولقد منحه الله تعالى
إلى فصاحته قوة الجنان، حيث خاض غمار الحروب غير
مرة، وكان قد أمره الإمام علي (عليه السلام) على بعض الكراديس
يوم صفين.
قال المسعودي: لصعصعة بن صوحان أخبار
حسان، وكلام في نهاية البلاغة والفصاحة والإيضاح عن
المعاني، على إيجاز واختصار (1)، وله أحاديث طريفة
ومحاورات أدبية رائعة مع عبد الله بن العباس ذكرها
المسعودي.
صعصعة بن صوحان، كريم المحتد شريف النسب
قبيلته من أشهر قبائل العرب آل عبد القيس، من ربيعة
ابن نزار، وشخصيته تساير التاريخ بالفخر والاعتزاز.
كنيته: أبو طلحة، ويكنى أيضا بأبي عمر.
(1) مروج الذهب للمسعودي ج 3 ص 43.
86

صعصعة يحاور عثمان
قال صعصعة دخلت على عثمان بن عفان في نفر من
المصريين فقال عثمان: قدموا رجلا منكم يكلمني،
فقدموني، فقال عثمان: هذا؟ وكأنه استحدثني، فقلت له:
إن العلم لو كان بالسن لم يكن لي ولا لك فيه سهم، ولكنه
بالتعلم، فقال عثمان: هات فقلت: بسم الله الرحمن
الرحيم * (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة) *
الآية فقال عثمان: فينا نزلت هذه الآية؟ فقلت له: فأمر
بالمعروف وأنه عن المنكر، وفي رواية الحافظ عن حميد بن
هلال العدوي قال: قام صعصعة إلى عثمان وهو على المنبر
فقال: يا أمير المؤمنين ملت، فمالت أمتك، إعدل تعتدل
أمتك.
ولي الكوفة سعيد بن العاص " الأموي " من قبل
87

عثمان، وقد أنكر أعماله جماعة من القران والزعماء
والأخيار من أهل الكوفة على عثمان، وفي طليعتهم: مالك
الأشتر، وزيد بن صوحان، وصعصعة بن صوحان،
وعدي بن حاتم الطائي، ومالك بن حبيب بن خراش،
وغيرهم من وجوه أهل الكوفة.
وراح سعيد بن العاص يندد بهم ويهددهم،
وقابلوه بالغلظة في الكلام، فكتب إلى عثمان في أمرهم،
فأجابه أن سيرهم إلى الشام. وكتب معاوية بدوره إلى
مالك الأشتر يهدده، إني لأراك تضمر شيئا لو أظهرته لحل
دمك، وما أظنك منتهيا حتى تصيبك قارعة لا بقيا بعدها،
فإذا أتاك كتابي هذا فسر إلى الشام لإفسادك من قبلك
وإنك لا تألوهم خبالا، فسير سعيد بن العاص، مالك
الأشتر، ومن كان وثب مع الأشتر وهم زيد، وصعصعة
أبناء صوحان، وعائذ بن حملة الطهري من بني تميم،
وكميل بن زياد النخعي، وأضرابهم.
فكتب جماعة من أشراف أهل الكوفة وأعيانهم
88

إلى عثمان أن سعيدا كثر على قوم من أهل الورع والفضل
والعفاف فحملك في أمرهم على ما لا يحمل في دين، ولا
يحسن في سماع، وإنا نذكرك في أمة محمد (صلى الله عليه وآله) فقد خفنا أن
يكون فساد أمرهم على يديك، لأنك قد حملت بني أبيك
على رقابهم، واعلم أن ذلك ناصرا ظالما، وناقما عليك
مظلوما، فمتى نصرك الظالم ونقم عليك الناقم تباين
الفريقان واختلفت الكلمة، ونحن نشهد عليك الله وكفى به
شهيدا فإنك أميرنا أطعت الله واستقمت، ولن تجد دون
الله ملتحدا ولا عنه منقذا، ولم يسم أحد منهم نفسه في
الكتاب خوفا من بطشه ونكاله، وبعثوا به مع رجل من
عنزة يكنى أبا ربيعة، وكتب كعب بن عبدة كتابا من نفسه
تسمى فيه ودفعه إلى أبي ربيعة، فلما قدم أبو ربيعة على
عثمان سأله عن أسماء القوم الذي كتبوا الكتاب فلم يخبره،
فأراد ضربه وحبسه، فمنعه الإمام علي (عليه السلام) من ذلك،
وقال: إنما هو رسول أدى ما حمل، وكتب عثمان إلى سعيد
أن يضرب كعب بن عبدة عشرين سوطا ويحول ديوانه
89

إلى الري ففعل.
وأما مالك الأشتر، وكميل بن زياد، وزيد،
وصعصعة أبناء صوحان، وعدي بن حاتم الطائي ومن
معهم فإنهم سيروا إلى الشام، فخاف معاوية أن يهيجوا
عليه أهل الشام، فكتب في أمرهم إلى عثمان فكتب إليه أن
سيرهم إلى حمص وكان وإليها عبد الرحمن بن خالد بن
الوليد بن المغيرة.
وكتب عثمان إلى ولادته بالحضور عنده، فسار إليه
معاوية من الشام، وعبد الرحمن من حمص، وسعيد بن
العاص من الكوفة وغيرهم من أقطار أخرى فاغتنم
القراء هذه الفرصة غياب القوم عن ولا يأتهم فرجعوا إلى
الكوفة، ولما دخل مالك الأشتر الكوفة، قال له قبيصة بن
جابر بن وهب الأسدي: يا أشتر دام شترك وعفا أثرك
أطلت الغيبة، وجئت بالخيبة، أتأمرنا بالفرقة والفتنة
ونكثت البيعة وخلع الخليفة؟ فقال الأشتر: يا قبيصة بن
جابر، وما أنت وهذا فوالله ما أسلم قومك إلا كرها ولا
90

هاجروا إلا فقرا، ووثب الناس على قبيصة فضربوه،
وجرحوه فوق حاجبيه.
ثم صلى الأشتر بالناس الجمعة، وقال لزياد بن
النضر: صل بالناس سائر صلواتهم والزم القصر، وأمر
كميل بن زياد فأخرج ثابت بن قيس الأنصاري من
القصر، وكان سعيد بن العاص خلفه على الكوفة حين
شخص إلى عثمان (1)، ورتب الأشتر المراتب وعسكر
العساكر، وبعث القواد إلى الأطراف، حتى قام بالأمر
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).
صعصعة وإخوته يوم الجمل
لصعصعة بن صوحان إخوة عرفوا بصدق إسلامهم
وإيمانهم وجهادهم وإخلاصهم في العقيدة: زيد،
(1) البلاذري أنساب الأشراف ج 5 ص 39.
91

وسيحان.
كانت راية أمير المؤمنين (عليه السلام) بيد سيحان يوم الجمل
يحملها. طاعن بها حتى قتل، حملها من بعده أخوه زيد،
وراح يقاتل ويجالد بين يدي إمامه حتى أدى حقها،
فتعطف عليه أشرار أهل البصرة أصحاب الجمل وقتلوه،
فأخذ الراية أخوهما صعصعة.
وزيد كان من خيار الناس، وروى الحديث، أن
النبي (صلى الله عليه وآله) قال زيد الخير الأجذم فقد سبقته يده إلى الجنة
بثلاثين عاما، وذلك عندما شهد يوم جلولاء فقطعت
يده.
وشهد مع الإمام علي (عليه السلام) يوم الجمل، فقال: يا
أمير المؤمنين ما أراني إلا مقتولا، قال: وما علمك بذلك
يا أبا سليمان؟ قال: رأيت يدي نزلت من السماء وهي
تستشلني، فقتله عمرو بن يثربي يوم الجمل.
92

صعصعة رسول الإمام لمعاوية
بعد الجمل
ذكر المسعودي: بعد حذف السند قال: لما انصرف
الإمام علي (عليه السلام) من حرب الجمل، قال: لآذنه من بالباب
من وجوه العرب؟ قال: محمد بن عمير بن عطارد
التميمي، والأحنف بن قيس، وصعصعة بن صوحان، في
رجال سماهم، فقال: ائذن لهم، فدخلوا فسلموا عليه
بالخلافة فقال لهم: أنتم وجوه العرب عندي، ورؤساء
أصحابي، فأشيروا علي في أمر هذا الغلام المترف - يعني
معاوية - فافتت بهم المشورة عليه، فقال صعصعة: إن
معاوية أترفه الهوى، وجبت إليه الدنيا، فهانت عليه
مصارع الرجال، وابتاع آخرته بدنياهم فإن تعمل فيه
برأي ترشد وتصيب، إن شاء الله، والتوفيق بالله وبرسوله
93

وبك يا أمير المؤمنين، والرأي أن ترسل له عينا من
عيونك وثقة من ثقاتك، بكتاب تدعوه إلى بيعتك فإن
أجاب وأناب كان له ما لك وعليه ما عليك، وإلا
جاهدته وصبرت لقضاء الله حتى يأتيك اليقين، فقال
الإمام علي (عليه السلام): عزمت عليك يا صعصعة إلا كتبت
الكتاب بيدك، وتوجهت به إلى معاوية، واجعل صدر
الكتاب تحذيرا وتخويفا، وعجزه استتابة واستنابة،
وليكن فاتحة الكتاب.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية: سلام
عليك، أما بعد، ثم اكتب ما أشرت به علي.
واجعل عنوان الكتاب " ألا إلى الله تصير
الأمور "، قال صعصعة: إعفني يا أمير المؤمنين من ذلك،
قال: عزمت عليك لتفعلن، قال: أفعل إن شاء الله، فخرج
94

بالكتاب وتجهز وسار حتى ورد دمشق، فأتى باب
معاوية، فقال للآذن: استأذن لرسول أمير المؤمنين علي
ابن أبي طالب وبالباب أردفه من بني أمية، فأخذته
الأيدي لقوله وهو يقول " أتقتلون رجلا أن يقول ربي
الله "، وكثرت الجلبة واللفظ، فاتصل ذلك بمعاوية فوجه
من يكشف الناس عنه، فكشفوا، ثم أذن لهم فدخلوا،
فقال لهم: من هذا الرجل؟ فقالوا رجل من العرب يقال له
صعصعة بن صوحان معه كتاب من علي، فقال: والله لقد
بلغني أمره، هذا أحد سهام علي وخطباء العرب، ولقد
كنت إلى لقائه شيقا ائذن له يا غلام فدخل عليه فقال:
السلام عليك يا ابن أبي سفيان، هذا كتاب أمير المؤمنين،
فقال معاوية: أما إنه لو كانت الرسل تقتل في الجاهلية أو
الإسلام لقتلتك، ثم اعترضه معاوية في الكلام، وأراد أن
يستخرج ليعرف قريحته أطيعا أم تكلفا، وجرى نقاش
طويل فيما بينهم، حتى قال معاوية: ويحك يا بن صوحان
فما تركت لهذا الحي من قريش مجدا ولا فخرا، قال: بلى
95

والله لقد تركت لهم ما لا يصلح إلا بهم إلى أن قال: وهم
منار الله في الأرض، ونجومه في السماء، ففرح معاوية،
وظن أن كلامه يشمل قريشا كلها، فقال: صدقت يا ابن
صوحان، إن ذلك كذلك، فعرف صعصعة ما أراد، فقال:
ليس لك ولا لقومك في ذلك إصدار ولا إيراد، بعدتم أنف
المرعى وعلوتم عن عذب الماء قال: فلم ذلك؟ ويلك
يا بن صوحان قال: الويل لأهل النار، ذلك لبني هاشم،
قال: قم، فأخرجوه، فقال صعصعة: الصدق ينبي عنك
لا الوعيد، من أراد المشاجرة قبل المحاورة، فقال معاوية
لشئ ما سوده قومه، وددت والله أني من صلبه، ثم
التفت إلى بني أمية وقال: هكذا فلتكن الرجال.
استيلاء أهل الشام على الماء
عن عبد الله بن عوف الأحمر، قال: لما قدمنا على
معاوية وأهل الشام، وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه،
96

وأخذوا الشريعة في أيديهم، وقد صف أبو الأعور
قائدهم عليها الخيل والرجال، وقد أجمعوا أن يمنعونا
الماء، ففزعنا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فأخبرناه بذلك، فدعا
صعصعة بن صوحان العبدي، فقال: إئت معاوية فقل: إنا
سرنا مسيرنا هذا وأنا أكره قتالكم قبل الأعذار إليكم،
وإنك قدمت بخيلك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك، بدأتنا بالقتال
ونحن من رأينا الكف عنك حتى ندعوك ونحتج عليك،
وقد حلتم بين الناس وبين الماء، فخل بينهم وبينه حتى
ننظر فيما بيننا وبينكم، وفيما قدمنا له وقدمتم، وإن كان
أحب إليك أن ندع ما جئنا له، وندع الناس يقتتلون على
الماء حتى يكون الغالب هو الشارب فعلنا فقال معاوية
لأصحابه: ما تقولون؟
فقال الوليد بن عقبة: امنعهم الماء كما منعوا ابن
عفان، إقتلهم عطشا قتلهم الله.
وقال عمرو بن العاص: خل بين القوم وبين الماء،
فإنهم لن يعطشوا وأنت ريان.
97

وقال عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخو عثمان
بالرضاعة: امنعهم الماء إلى الليل فإنهم لم يقدروا عليه
رجعوا، وكان رجوعهم هزيمة، امنعهم الماء منعهم الله يوم
القيامة (1).
فقال صعصعة بن صوحان: إنما يمنعه الله يوم القيامة
الكفرة الفجرة شربة الخمر، ضربك وضرب هذا الفاسق،
وأشار إلى الوليد بن عقبة، فوثبوا إليه يشتمونه
ويتهددونه، فقال معاوية: كفوا عن الرجل فإنه رسول.
ثم رجع صعصعة، وأخبر الإمام بما كان فقيل وما
رد عليك معاوية؟
قال: سيأتيكم رأيي. قال: فوالله ما راعنا إلا
تسوية الرجال والخيل صفوفا واستعداد أبي الأعور
للحرب ومنع الماء.
(1) البدء والتاريخ ج 5 ص 222، وذكره ابن كثير في البداية
والنهاية ج 7 ص 256.
98

فازدلفنا والله إليهم، فارتمينا وأطعنا بالرماح
واضطربنا بالسيوف، فطال بيننا ذلك وبينهم، فصار الماء
في أيدينا، فقلنا والله لا نسقيهم، فأرسل إلينا الإمام
علي (عليه السلام) خذوا من الماء حاجتكم، وخلوا بينهم وبين الماء
فإن الله تعالى قد نصركم ببغيهم وظلمهم وما أحسن قول
الشاعر:
فالبغي يصرع أهله * والظلم مصدره وخيم
من وقائع معركة صفين
روى صعصعة بن صوحان العبدي، عن واقعة يوم
صفين فقال: عقد الإمام علي (عليه السلام) الألوية، وكتب
الكتائب، وجعل مالك الأشتر على الجيش، فبرز إليه من
أهل الشام أبطال مستميتون وتصدى لهم مالك الأشتر
فقتل منهم في واقعة واحدة سبعة أبطال وهم: صالح بن
فيروز العكي، ومالك بن أدهم السلماني، ورياح بن
99

عتيك الغساني، والأحلج بن منصور الكندي، وإبراهيم
بن وضاح الجمحي، وزامل بن عبيد الخزامي، ومحمد بن
الجمحي، هؤلاء السبعة الذين برزوا إلى الأشتر واحدا
بعد آخر فقتلهم جميعا حتى جبن من يبرز إليه.
قال صعصعة: ثم هجم الأشتر ومن معه على
الفرات وأقبل يضرب بسيفه على جيش الشام بقيادة أبي
الأعور السلمي فكشفهم عن الماء واستولى على الشريعة،
وهو يرتجز ويقول:
لا تذكروا ما قد مضى وفاتا * والله ربي باعث الأمواتا
من بعد ما صوروا صدى رفاتا * لأوردن خيلي الفراتا
ضعث النواصي أو يقال ماتا
كما يروي صعصعة موقفا من مواقف أمير
المؤمنين (عليه السلام) في وقعة صفين.
قال: إن الإمام علي (عليه السلام) أشرف على أهل الشام
100

[واستعرضهم] حتى برز رجل من حمير من آل ذي يزن،
اسمه كريب بن الصباح بين الصفين، وكان شديد المراس،
معروفا بالبأس، والشدة، ثم نادى من يبارز؟ فبرز إليه
المرتفع بن الوضاح الزبيدي فقتله، ثم نادى من يبارز؟
فبرز إليه الحارث بن الحلاج فقتله، ثم نادى من يبارز؟
فبرز إليه عائذ بن مسروق الهمداني فقتله، ثم نادى هل
بقي من يبارز؟ فبرز إليه الإمام علي (عليه السلام) ثم ناداه ويحك يا
كريب. إني أحذرك الله بأسه ونقمته. أدعوك إلى سنة الله
وسنة رسوله، ويحك لا يدخلنك ابن آكلة الأكباد النار،
فكان جوابه: ما أكثر ما قد سمعنا هذه المقالة منك فلا
حاجة لنا فيها. أقدم إذا شئت. وصاح من يشتري سيفي
وهذا إثره بكل غرور وعجرفة. فقال الإمام علي (عليه السلام) لا
حول ولا قوة إلا بالله، ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه
ضربة خر منها قتيلا يتشحط بدمه، ثم نادى (عليه السلام) من
يبارز؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري. فقتله، ثم
نادى من يبارز؟ فلم يبرز إليه أحد.
101

ثم نادى الإمام (عليه السلام) يا معشر المسلمين * (الشهر
الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله
واعلموا أن الله مع المتقين) * ويحك يا معاوية هلم إلي
فبارزني، ولا يقتتلن الناس فيما بينهم، فقال عمرو بن
العاص: منتهزا الفرصة لقد أنصفك الرجل من نفسه وقد
قتل ثلاثة من أبطال العرب [أهل الشام] إني أطمع أن
يظفرك الله به، فقال معاوية: ويحك يا عمرو، ما غششتني
منذ أن نصحتني غير هذا اليوم، والله ما تريد إلا قتلي
فتصيب الخلافة بعدي، إذهب إليك عني فليس مثلي
يخدع، قال صعصعة: وقام إبرهة بن الصباح بن إبرهة
الحميري - من جيش معاوية - وقال: ويلكم يا معشر
أهل اليمن، والله إني لأضن أن قد أذن بفنائكم، ويحكم
خلوا بين هذين الرجلين فليقتتلا، فأيهما قتل صاحبه ملنا
معه جميعا، وكان إبرهة من رؤساء جيش أصحاب
معاوية فبلغ ذلك عليا فقال: صدق الرجل " إبرهة " والله
102

ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سرورا مني
بهذه، وبلغ معاوية كلام إبرهة، فتأخر إلى آخر الصفوف،
وقال لمن حوله: إني لأظن إبرهة لمصابا في عقله، فأقبل
أهل الشام يقولون، والله إن إبرهة لأفضلنا دينا ورأيا
وبأسا، ولكن معاوية كره مبارزة علي (عليه السلام) فقال إبرهة في
ذلك:
لقد قال ابن إبرهة مقالا * وخالفه معاوية بن حرب
إلى آخر شعره، ويروي صعصعة أخبارا كثيرة عن
معركة صفين، نكتفي بهذا القدر.
روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين أن صعصعة بن
صوحان، استأذن على علي (عليه السلام) وقد أتاه عائدا لما ضربه
ابن ملجم فلم يكن عليه إذن، فقال صعصعة للآذن: قل له
يرحمك الله يا أمير المؤمنين حيا وميتا فلقد كان الله في
صدرك عظيما، ولقد كنت بكلمات الله عليما فأبلغه الآذن
ذلك فقال وأنت يرحمك الله فلقد كنت خفيف المؤنة كثير
المعونة.
103

وله شعر كثير في رثائه وهذا نموذج منه:
ألا من لي بأنسك يا أخيا؟ * ومن لي أن أبثك ما لديا؟
طوتك خطوب دهر قد توالى * لذاك خطوبة نشرا وطيا
فلو نشرت قواك لي المنايا * شكوت إليك ما صنعت إليا
بكيتك يا علي بدر عيني * فلم يغن البكاء عليك شيا
كفى حزنا بدفنك ثم أني * نفضت تراب قبرك من يديا
وكانت في حياتك لي عظات * وأنت اليوم أوعظ منك حيا
فيا أسفي عليك وطول شوقي * ألا لو أن ذلك رد شيا
وقوله أيضا:
104

هل خبر القبر سائليه * أم قر عينا بزائريه
أم هل تراه أحاط علما؟ * بالجسد المستكين فيه
لو علم القبر من يوارى * تاه على كل من يليه
يا موت ماذا أردت مني * حققت ما كنت أتقيه
يا موت لو تقبل افتداء * لكنت بالروح أفتديه
دهر رماني فقد إلفي * أذم دهري وأشتكيه
يحدثنا المسعودي في مروجه (1) عن الحارث بن
مسمار البهرائي، قال: حبس معاوية صعصعة بن صوحان
العبدي، ورجالا آخرين من أصحاب علي (عليه السلام) مع رجال
آخرين من قريش، فدخل عليهم معاوية يوما، فقال:
نشدتكم بالله إلا ما قلتم حقا وصدقا، أي الخلفاء
رأيتموني؟ فقام بعضهم وتكلم بما يرد به معاوية ويضعه
في موضعه، وقال أحدهم: يا ابن أبي سفيان إن لكل كلام
جوابا، ونحن نخاف جبروتك، فإن كنت تطلق ألسنتنا
(1) مروج الذهب ج 2 ص 340.
105

ذببنا عن أهل العراق، بالسنة حداد لا تأخذها في الله
لومة لائم، وإلا فإنا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على
فرجه، قال معاوية: والله لا يطلق لك لسان.
ثم تكلم صعصعة، فقال: تكلمت يا ابن أبي سفيان
فأبلغت ولم تقصر عما أردت، وليس الأمر على ما ذكرت،
أنى يكون الخليفة من ملك الناس قهرا ودانهم كبرا،
واستولى بأسباب الباطل كذبا ومكرا؟؟ أما والله ما لك
يوم بدر مضرب ولا مرمى، ما كنت فيه إلا كما قال القائل
" لا حل ولا سير " (1)، ولقد كنت وأبوك في العير
والنفير (2) ممن أجلب على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإنما أنت طليق
وابن طليق، أطلقكما رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأنى تصلح الخلافة
لطليق؟ فقال معاوية: لولا أني أرجع إلى قول ابن أبي
طالب حيث يقول: قابلت جهلهم حلما ومغفرة، والعفو
عن قدرة ضرب من الكرم لقتلتكم.
(1) مثل يضرب به.
(2) مثل يضرب به.
106

هكذا الطغاة والفراعنة يلجأون إلى القوة حين
يفشلون مع خصومهم.
بعد حذف السند والمقدمة، عن أحمد بن النضر
قال: قال أبو الحسن الثاني (عليه السلام) قال لي: يا أحمد إن أمير
المؤمنين (عليه السلام) عاد صعصعة بن صوحان في مرضه، فقال: يا
صعصعة لا تتخذ عيادتي لك أبهة على قومك، قال: قال
صعصعة: بلى والله أعدها منة من الله علي وفضلا قال:
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) إني كنت ما علمتك إلا خفيف
المؤونة حسن المعونة قال: فقال صعصعة: وأنت والله يا
أمير المؤمنين ما علمتك إلا بالله عليما وبالمؤمنين رؤوفا
رحيما (1).
وفي رواية زار الإمام علي (عليه السلام) صعصعة في مرضه
وقال له: لا تتخذ زيارتنا إياك فخرا على قومك.
فقال صعصعة: لا يا أمير المؤمنين ولكن ذخرا
(1) معجم الرجال للسيد الخوئي ج 9 ص 105، 106.
107

وأجرا إلى آخر ما تقدم.
وكان من شهود وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) (1).
بعد حذف السند، إن معاوية حين قدم الكوفة
دخل عليه رجال من أصحاب الإمام علي (عليه السلام) وكان
الإمام الحسن (عليه السلام) قد أخذ الأمان لرجال منهم مسمين
بأسمائهم وأسماء آبائهم وكان فيهم صعصعة.
ذكر العلامة القرشي في كتابه الإمام الحسن (عليه السلام).
وأخذ الأمان لأصحاب أبيه، وكان صعصعة من جملة
الذين طلب لهم الأمان، وعدم التعرض لهم بسوء
ومكروه، ولكن معاوية لم يف بذلك، فقد روعه،
وأفزعه، وأودعه في سجنه، كما روع غيره من الزعماء،
وأن المغيرة نفاه أخيرا إلى الجزيرة كما مر عليك، فمات بها
(1) الكافي ج 7 كتاب الصدقات، باب صدقات النبي (ص)
وفاطمة والأئمة (ع) 35 الحدث 7، والتهذيب ج 9 باب الوقوف
والصدقات الحديث 608.
108

معتقلا منفيا بعيدا عن أهله ووطنه.
فلما دخل عليه صعصعة، قال معاوية لصعصعة: أما
والله إني كنت لأبغض أن تدخل في أمان، قال: وأنا والله
أبغض أن أسميك بهذا الاسم ثم سلم عليه بالخلافة، فقال
معاوية: إن كنت صادقا فاصعد المنبر والعن عليا؟! قال:
فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس
أتيتكم من عند رجل قدم شره وأخر خيره وإنه أمرني أن
ألعن عليا فالعنوه لعنه الله، فضج أهل المسجد بآمين، فلما
رجع إليه فأخبره، بما قال: قال: لا والله ما عنيت غيري،
ارجع حتى تسميه باسمه، فرجع وصعد المنبر، ثم قال:
أيها الناس أن أمير المؤمنين أمرني أن ألعن علي بن أبي
طالب، فالعنوا من لعن علي بن أبي طالب، قال: فضجوا
بآمين. قال: فلما خبر معاوية قال: لا والله ما عني غيري
أخرجوه لا يساكنني في بلد فأخرجوه.
109

ذكر الذهبي (1)، قال: وفد صعصعة على معاوية
فخطب فقال معاوية: إن كنت لأبغض أن أراك خطيبا،
قال: وأنا كنت لأبغض أن أراك خليفة.
جواب صعصعة للإمام علي (عليه السلام)
لما رفعت المصاحف مكيدة من أهل الشام، تكلم
جماعة في الموادعة ورفع الأشعث بن قيس عقيرته وقال:
إن هذه الحرب أكلتنا، وأذهبت الرجال واتبعه جماعة
قالوا الرأي الموادعة. وقال بعضهم: لا بل نقاتلهم اليوم
على ما قاتلناهم عليه أمس فاشتد النزاع بين فرق جيش
الإمام واختلفوا وكادت الفتنة أن تقع كما ذكرت ذلك في
كتابي علي في الكتاب والسنة الجزء الثالث، وفي الجزء
الثاني من موسوعة المصطفى والعترة، وحسما للنزاع قام
(1) جامع الرواة للأربلي ج 1 ص 411، 412.
110

الإمام علي (عليه السلام) فخطب أصحابه حينذاك، فقال: أيها
الناس إنه لم أزل من أمري على ما أحب، حتى أحتكم
الحرب، وقد والله أخذت منكم وتركت. وهي لعدوكم
أنهك... الخ. فتكلم الوجوه من أصحابه (عليه السلام) وأبدوا ما
عندهم من الولاء والطاعة لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)، أمثال
عمرو بن الحمق الخزاعي، والأحنف بن قيس، وغيرهم
من أجلة الصحابة والتابعين وفي طليعتهم صعصعة بن
صوحان العبدي، فكان من كلامه أن قال: يا أمير
المؤمنين إنا سبقنا الناس إليك يوم قدوم طلحة والزبير
عليك الصرة فدعانا حكيم بن جبلة إلى نصرة عاملك
عثمان بن حنيف فأجبناه، فقاتلنا عدوك حتى أصيب في
قومي من بني عبد القيس الذين عبدوا الله حتى كانت
أكفهم مثل كف الإبل، وجباههم مثل ركب المعز، فأسر
الحي منهم وسلب القتيل فكنا أول قتيل وأسير، ثم رأيت
بلاءنا، وقد كلت البصائر، وذهب الصبر، وبقي الحق
موفورا، وأنت بالغ بهذا حاجتك والأمر إليك ما أراك الله
111

فمرنا به.
صعصعة يكلم الخوارج
لما حكم الحكمان بغير ما أنزل الله تعالى، وانقلب
الخوارج الذين كانوا هم أصل الفتنة بقيادة الأشعث بن
قيس، وابن الكواء، وشبث بن ربعي وغيرهم، ومرقوا
من الدين كما يرمق السهم من الرمية، واختلف أصحاب
الجباه السود على إمامهم وخليفتهم الشرعي أمير المؤمنين
علي (عليه السلام) واعتزله منهم اثنا عشر ألف مسلح، وصاروا إلى
حروراء قرية من سواد الكوفة، وأمروا على القتال شبث
بن ربعي، وعلى الصلاة عبد الله بن الكواء، فبعث إليهم
الإمام (عليه السلام) عبد الله بن العباس، وصعصعة بن صوحان
يدعوانهم إلى الجماعة فما رجعوا عن غيهم وصمموا على
مفارقة الإمام والخروج عليه حتى انتهت بقتل أربعة
آلاف رجل منهم بعد أن تاب ورجع ثمانية آلاف رجل في
112

حديث مفصل ذكرناه في الجزء الثالث من كتابنا " علي في
الكتاب والسنة ".
ثم كلمهم أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وأوقفهم على
خطاهم، وألقى عليهم الحجة، قالوا أمهلنا حتى ننظر
فانصرف الإمام علي (عليه السلام)، ثم قام صعصعة بن صوحان،
وقال: يا أمير المؤمنين ائذن لي في كلام القوم، قال نعم: ما
لم تبسط يدا، فنادى صعصعة ابن الكواء فخرج إليه،
فقال: أنشدكم بالله يا معشر الخارجين على إمامكم، أن لا
تكونوا عارا على من لا يعزو لغيره، وأن لا تخرجوا
بأرض تسموا بها بعد اليوم، ولا تستعجلوا ضلال العام،
خشية ضلال عام قابل، فقال ابن الكواء: إن صاحبك
لقينا بأمر قولك فيه صغير، فأمسك (1).
(1) العقد الفريد: ج 3 ص 122.
113

صعصعة عند مصرع الراسبي
ذكر الأزدي قال: نظرت إلى أبي أيوب الأنصاري
يوم النهروان، وقد علا عبد الله بن وهب الراسبي فضرب
ضربة على كتفه فأبان يده، وقال: بؤبها إلى النار يا
مارق، فقال الراسبي: ستعلم أينا أولى بها صليا (1).
وقد وقف عليه صعصعة وقال: أولى بها صليا من
ظل في الدنيا عميا، وصار في الآخرة شقيا، أبعدك الله
وأنزحك، أما والله لقد أنذرتك هذه الصرعة بالأمس
فأبيت إلا نكوصا على عقبيك، فذق يا مارق وبال أمرك،
ولقد صرت إلى نار لا يطفأ لهيبها، ولا يخبو سعيرها، ثم
احتز رأسه وأتيا به عليا (عليه السلام) فقالا: هذا رأس الفاسق
الناكث المارق عبد الله بن وهب الراسبي، فنظر إليه
(1) مروج الذهب ج 2 ص 346.
114

الإمام (عليه السلام) بازدراء وقال: شاه هذا الوجه، قد كان أخو
راسب، حافظا لكتاب الله، تاركا لحدود الله، ثم قال لهما:
اطلبا لي ذا الثدية فطلباه فلم يجداه، فرجعا إليه وقالا: ما
أصبنا شيئا، فقال (عليه السلام) والله لقد قتل في يومه هذا، وما
كذبني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا كذبت عليه، قوموا بجمعكم
فاطلبوه، فقامت جماعة من أصحابه فتفرقوا في القتلى
فأصابوه في دهس (1) من الأرض، فوقه زهاء مائة قتيل،
فأخرجوه بجر رجله، ثم أتي به إلى الإمام علي (عليه السلام) فقال:
اشهدوا أنه ذوا الثدية. إنتهى.
(1) الدهس: الأرض السهلة.
115

صعصعة يؤبن عليا (عليه السلام)
لما الحد أمير المؤمنين (عليه السلام) (1) وذلك قبل طلوع الفجر
من ليلة إحدى وعشرين من شهر الصيام في قبره
بالغري، وقف أولاده وخلص أصحابه على ضريحه
الطاهر وهم في حالة حزن وبكاء، وقد ارتج الوادي من
بكائهم، وكان من جملة أصحابه صعصعة بن صوحان
العبدي، فوقف على شفير قبره وألقى كلمة أبن بها إمامه
الراحل (عليه السلام) ثم وضع إحدى يديه على فؤاده والأخرى قد
أخذ بها التراب قال: بأبي أنت يا أمير المؤمنين، ثم قال:
هنيئا لك يا أبا الحسن فلقد طاب مولدك، وقوي صبرك
وعظم جهادك، وظفرت برأيك وربحت تجارتك،
وقدمت إلى خالقك فتلقاك ببشارته، وحفتك ملائكته،
(1) المجلسي في البحار ج 9 ص 675.
116

واستقررت في جوار المصطفى، فأكرمك الله وألحقك
بدرجته شربت بكأسه الأوفى، فأسأل الله أن يمن علينا
باقتفاء أثرك، والعمل بسيرتك، والموالاة لأوليائك
والمعادات لأعدائك، وأن يحشرنا في زمرة أوليائك
الصالحين، فقد نلت ما لم ينله أحد، وأدركت ما لم يدركه
أحد، وجاهدت في سبيل ربك بين يدي [رسوله] أخيك
المصطفى حق جهاده، وقمت بين يدي الله حق القيام حتى
أقمت السنن، وأبرت الفتن، واستقام الإسلام، وانتظم
الإيمان، فعليك مني أفضل الصلاة والسلام، بك اشتد ظهر
المؤمنين، واتضحت أعلام السبل، وأقمت السنن، وما
جمعت لأحد مناقبك وخصالك، سبقت إلى إجابة
النبي (صلى الله عليه وآله) مقدما مؤثرا، وسارعت إلى نصرته، ووقيته
بنفسك، ورميت بسيفك ذا الفقار في مواطن الخوف
والحذر، قصم الله بك كل ذي بأس شديد، وذل بك كل
جبار عنيد، وهدم بك حصون أهل الشرك والكفر
والعدوان والردى، وقتل بك أهل الضلال من العدى،
117

فهنيئا لك يا أمير المؤمنين، كنت أقرب الناس من رسول
الله قربى، وأولهم سلما، وأكثرهم علما وفهما، فهنيئا لك يا
أبا الحسن، لقد شرف الله مقامك، كنت أقرب الناس إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) نسبا وأولهم إسلاما، وأوفاهم يقينا،
وأشدهم قلبا، وأبذلهم لنفسه مجاهدا، وأعظمهم في الخير
نصيبا، فلا حرمنا الله أجرك ولا أذلنا بعدك، فوالله لقد
كانت حياتك مفاتح الخير ومغالق الشر، وإن يومك هذا
مفتاح كل شر ومغلاق كل خير، ولو أن الناس قبلوا
منك، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنهم آثروا
الدنيا على الآخرة، ثم بكى بكاء شديدا، وبكى كل من
كان معه.
وعدلوا إلى الإمامين الحسن والحسين (عليهما السلام) ومحمد،
وجعفر، والعباس، ويحيى، وعون، وعبد الله، فعزوهم في
أبيهم، ثم رجعوا جميعا في ليلتهم إلى الكوفة، فإنا لله وإنا
إليه راجعون.
118

محاورة صعصعة مع معاوية
ذكر إبراهيم بن عقيل البصري، قال: قال معاوية
يوما وصعصعة عنده، وكان قدم عليه بكتاب من الإمام
علي (عليه السلام) وعنده وجوه الناس، الأرض لله وأنا خليفة الله،
فما آخذ من مال فهو لي، وما تركته منه كان جائزا لي،
فقال صعصعة:
تمنيك نفسك ما لا يكو * ن جهلا معاوي لا تأثم
فقال معاوية: يا صعصعة تعلمت الكلام، قال:
العلم بالتعلم، ومن لا يعلم يجهل، قال معاوية: ما
أحوجك إلى أن أذيقك وبال أمرك، قال: ليس ذلك
بيدك، ذلك بيد الذي يؤخر نفسا إذا جاء أجلها، قال:
ومن يحول بيني وبينك؟ قال: الذي يحول بين المرء وقلبه،
قال معاوية: اتسع بطنك للكلام كما اتسع بطن البعير
للشعير، قال: اتسع بطن من لا يشبع ودعا عليه من لا
119

يجمع (1).
ذكر الأندلسي في عقده (2) قال: ودخل صعصعة بن
صوحان على معاوية، وكان عمرو بن العاص جالسا معه
على سريره، فقال: وسع له على ترابية فيه، فقال
صعصعة: إني والله لترابي، منه خلقت وإليه أعود ومنه
أبعث، وإنك لمارج من نار.
وفد من العراق على معاوية
قدم وفد من العراق على معاوية، وكان فيهم عدي
ابن حاتم الطائي، وصعصعة بن صوحان، من الكوفة،
والأحنف بن قيس من البصرة، فقال عمرو بن العاص
لمعاوية: هؤلاء رجال الدنيا وهم شيعة علي الذين قاتلوا
(1) مروج الذهب ج 2 ص 432.
(2) العقد الفريد ج 3 ص 132.
120

معه يومي الجمل وصفين فكن منهم على حذر، فأمر لكل
رجل منهم بمجلس سري واستقبل القوم بالكرامة فلما
دخلوا عليه قال لهم معاوية: مرحبا بكم يا أهل العراق،
قدمتم أرض الله المقدسة أرض الأنبياء والرسل منها
المنشر وإليها المحشر، قدمتم على خير أمير يبركم ويرحم
صغيركم ولو أن الناس كلهم ولد أبي سفيان لكانوا حلماء
عقلاء.
فأشار الوفد إلى صعصعة بن صوحان، فقام،
فحمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ثم قال: أما قولك
يا معاوية، إنا قدمنا إلى الأرض المقدسة، فلعمري ما
الأرض تقدس الناس ولا يقدس الناس إلا أعمالهم، وأما
قولك أرض الأنبياء والرسل فمن بها من أهل النفاق
والشرك والفراعنة والجبابرة أكثر من الأنبياء، وأما قولك
إن منها المنشر وإليها المحشر، فلعمري ما ينفع قربها كافرا،
ولا يضر بعدها مؤمنا، أما قولك لو أن الناس كلهم ولد
أبي سفيان لكانوا حلماء عقلاء، فقد ولدهم من هو خير
121

من أبي سفيان، آدم (عليه السلام) فأولد الأحمق والمنافق،
والفاسق، والمعتوه، والمجنون ولما كل معاوية عن الجواب
اتخذ القوة والقهر سبيلا لفشله وذريعة لقهره وهكذا يفعل
الجبابرة. فقال معاوية: لأجفينك عن الوسادة، ولأشردن
بك في البلاد، فقال صعصعة غير مكترث والله إن في
الأرض لسعة، وإن في فراقك لدعة، فقال معاوية:
لأحبسن عطاءك، قال: إن كان ذلك بيدك فافعل، إن
العطاء وفضائل النعماء في ملكوت من لا تنفذ خزائنه، ولا
يبيد عطاؤه، ولا يحيف في قضيته فقال معاوية: لقد
استقتلت؟ فقال له صعصعة: مهلا لم أقل جهلا، ولم أستحل
قتلا، * (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) * * (ومن
قتل مظلوما) * كان الله لقاتله مقيما، يرهقه أليما ويجرعه
حميما، ويصليه جحيما، فقال معاوية لعمرو بن العاص:
اكفناه، فقال له عمرو: وما يجهمك لسانك؟ فقال له
صعصعة، ويلي عليك [يا ابن النابغة] يا مأوى مطردي
أهل الفساد، ومعادي أهل الرشاد، فسكت عمرو ولم
122

يجبه بشئ خوفا من سليط لسانه.
قال أبو عمرو: خرج صعصعة بن صوحان العبدي
عائدا من مكة، فلقيه رجل في الطريق، فقال له: يا
عبد الله كيف تركت الأرض؟ قال: عريضة أريضة، قال:
إنما عنيت السماء؟ قال: فوق البشر ومدى البصر، قال:
سبحان الله، إنما أردت السحاب، قال: تحت الخضراء
وقفو الغبراء، قال: إنما أعني المطر، قال: قد عفى الأثر
وملأ الفتر وبل الوبر ومطرنا أحيى مطر، قال: إنسي أنت
أم جني؟ قال بل إنسي من أمة رجل مهدي (صلى الله عليه وآله).
عقيل يمدح صعصعة لمعاوية
ذكر المسعودي في عرض دخول عقيل بن أبي
طالب على معاوية والمفخارة معه، ولما ظهر عليه
وأفحمه، وكان آخر ما قاله عقيل لمعاوية: ولكن أنت يا
معاوية إذا افتخرت بنو أمية فيمن تفتخر؟ قال معاوية:
123

عزمت عليك يا أبا يزيد (1) لما أمسكت، فإني لم أجلس
لهذا، وإنما أردت أن أسألك عن أصحاب علي فإنك ذو
معرفة بهم، فقال عقيل: سل عما بدا لك، فقال: ميز لي
أصحاب علي، وابدأ بآل صوحان فإنهم مخاريق الكلام،
قال: أما صعصعة فعظيم الشأن، عضب اللسان، قائد
الفرسان، قاتل الأقران، يرتق ما فتق ويفتق ما رتق قليل
النظير، وأما زيد وعبد الله، [أي سيحان] فإنهما نهران
جاريان، يصب فيهما الخلجان، ويغاث بهما البلدان،
رجلا جد لا لعب معهما... وبنو صوحان كما قال الشاعر:
إذا نزل العدو فإن عندي * اسودا تخلس الأسد النفوسا
(1) كان عقيل يكنى بأبي يزيد لحادثة مفصلة.
124

كلام الجاحظ في حق صعصعة
قال الجاحظ في فصل له وقوله على الأسهاب. إلى
أن قال واستشهد بقول أشيم بن شفيق بن ثور لعبيد الله بن
زياد بن ظبيان. لما قال له: ما أنت قائل لربك، وقد
حملت رأس مصعب بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان؟!
قال: اسكت، فأنت يوم القيامة أخطب من صعصعة بن
صوحان إذا تكلمت الخوارج.
قال الجاحظ: فما ظنك ببلاغة رجل يضرب به
المثل؟ وإنما أردنا بهذا الحديث، خاصة الدلالة على تقديم
صعصعة في الخطب وأولى من كل دلالة استنطاق علي (عليه السلام)
له، قلت: كيف لا يكون صعصعة كذلك وهو خريج
مدرسة الإمام علي (عليه السلام) وصاحبه، ومن قواد جيشه،
لازمه حتى أفجع ابن ملجم لعنه الله به الإسلام
والمسلمين، ولم يفارقه إلا ساعة أن نفض التراب من
125

دفنه، وسيأتيك ما أبن به عليا (عليه السلام) بعد أن واراه أولاده في
نفر من أصحابه التراب وكان فيهم صعصعة بن صوحان.
اتفقت كلمة أجلاء العلماء والمحدثين والمؤرخين
على فضائل ومناقب، وخطب صعصعة بن صوحان
العبدي. منهم: الجاحظ، والقرطبي، وابن حجر
العسقلاني، وابن سعد، والجزري، والمسعودي، وابن
الأثير، وابن قتيبة الدينوري، والشعبي، والذهبي،
والأردبيلي، والزركلي، وغيرهم فضلا عن علماء
ومؤرخي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ذكرهم مفصلا الخطيب
السيد علي الهاشمي في كتابه صعصعة بن صوحان، فراجع.
وإلى هنا أختتم ما استطعنا أن نمسك به من خيوط
حياة هذا الصحابي الجليل والتابعي المخلص الوفي ويكون
آخر عهدنا به قوله في تأبين سيده ومولاه إمام المتقين،
وقائد الغر المحجلين، تبيانا لعظيم منزلته وشدة قربه من
أئمته ودلالة على جزيل فصاحته وقوة بلاغته.
فسلام عليه يوم ولد على الفطرة ويوم جاهد،
126

ويوم استشهد، ويوم يبعث حيا.
مصادر البحث
معجم رجال الحديث ج 9 ص 104.
الاستيعاب ج 2 ص 196.
أسد الغابة ج 3 ص 20.
الأعلام للزركلي ج 3 ص 20 و ج 2 ص 320.
صعصعة بن صوحان - للسيد علي الهاشمي.
أعيان الشيعة ج 7 ص 388.
مروج الذهب ج 3 ص 37 و ج 2 ص 340.
الإصابة 412.
طبقات ابن سعد ج 6 ص 221.
البداية والنهاية لابن كثير ج 7 ص 256.
جامع الرواة للأربلي ج 1 ص 411.
127

/ 1