أم المؤمنين خديجة الطاهرة (ع) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أم المؤمنين خديجة الطاهرة (ع) - نسخه متنی

حسین شاکری

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

أم المؤمنين خديجة الطاهرة (ع)


 


الحاج حسين الشاكري
المقدمة
كان من المقرر في بادئ الأمر أن ألخص ما كتبته في
" موسوعة المصطفى والعترة " من ترجمة حياة الرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته الطاهرين صلوات الله عليهم
أجمعين إلى المجلد السادس من ترجمة سيد الشهداء
الإمام الحسين (عليه السلام) " بشكل كراس " وذلك خدمة
لخطباء المنبر الحسيني، ولبعض المثقفين، وطلاب
الحقيقة، والذين ضربهم التيار الجاهلي فجعلهم طرائق
قددا كأيدي سبأ، أو الذين اضطروا للالتجاء إلى بلد
3

الكفر، " كالمستجير من الرمضاء بالنار " لأجعل هذه
الكراريس في متناول أيديهم، للاستفادة منها.
ولما انتهيت من ذلك وجدت لزاما علي أن أسير في
الطريق وأواصل المشوار إلى ما شاء الله، وقد تم إلى الآن
" ولله الحمد " ما ينيف على ثمانية عشر كراسا بضمنها
ترجمة شيخ البطحاء أبي طالب، وأم المؤمنين خديجة
الذي هو بين يديك.
وقد تطرقت في بحثي هذا إلى حقيقتين مهمتين،
درسهما التاريخ ولفقهما ذوي الأهواء الضالة، ولعب في
تغيير مسارهما الوضاعين من المرتزقة ورواة السوء،
الذين باعوا دينهم بدنياهم بإغراء معاوية بالسحت من
الأموال التي سرقها من أموال المسلمين، لتغيير معالم
التاريخ، وتشويه حقيقة الإسلام لأغراضه السياسية،
وللحط من شخصية أم المؤمنين خديجة، لأنه بدعم
أموالها للرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) أثبتت معالم الدين
4

ومحاربة الكفرة والمشركين في بدء الدعوة.
والذي لفق هذه الفرية - أزنى ثقيف " المغيرة بن
شعبة " أن ادعى وروى أن السيدة خديجة متزوجة
برجلين من أعراب الجاهلية قبل اقترانها بالنبي
الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) في حين أنها رفضت الزواج ممن تقدم إليها
من سادات قريش وزعماء العرب.
والفرية الثانية التي أحدثها الوضاعون هي، أن زينب
وأم كلثوم، ورقية، بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من زوجته
خديجة، وبعضهم من يقول: إنهن من بنات خديجة من
زوجيها السابقين كذبا وبهتانا، ليرفعوا بذلك من شأن
عثمان بن عفان، وقد سموه " بذي النورين " والحقيقة
الثابتة أنهن بنات هالة أخت خديجة، من زوجها، عتيق
المخزومي، أو أبو هند التميمي، وإنما تربين في حجر أم
المؤمنين خديجة، وانتسبن إليها بالتبني.
هذه بعض المفتريات التي خلفها الحزب الأموي
5

الضال المضل وبعض أكاذيبه، وستجد تفصيل ذلك
ضمن البحث.
* (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة
للمتقين) *.
قم المقدسة
دار الهجرة 15 / ربيع الثاني / 1421 ه‍
حسين الشاكري
خديجة في سطور
6

خديجة في سطور
خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي
القرشية الأسدية
أمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم، واسمه جندب بن
هدم إلى أن ينتهي نسبها إلى عامر بن لوي.
كانت خديجة بنت خويلد - أم فاطمة الزهراء (عليها السلام) -
من أسرة أصيلة، لها مكانة وشرف في قريش، عرفت
بالعلم والمعرفة، والتضحية والفداء، وحماية الكعبة
وحينما جاء تبع - ملك اليمن - ليأخذ الحجر الأسود من
المسجد الحرام إلى اليمن، هبت قريش ومنهم خويلد
لحمايته ومنعه عن ذلك (1).
(1) الروض الأنف ج 1 ص 213.
7

وكان أسد بن عبد العزى - جد خديجة - من المبرزين
في حلف الفضول الذي تداعت له قبائل من قريش،
فتعاقدوا وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من
أهلها أو غيرهم ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا
معه وكانوا على من ظلمه حتى ترد مظلمته.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): " لقد شهدت في دار عبد الله بن
جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به
في الإسلام لأجبت " (1).
وكان ورقة بن نوفل - ابن عم خديجة - أحد الأربعة
الذين رفضوا عبادة الأوثان، وبحثوا عن الدين الحق.
وكانوا من الأحناف، يدينون الله على ملة إبراهيم. وهم
ورقة بن نوفل، وزيد بن عمرو، وابن أبي السلط، وقس
ابن ساعدة وغيرهم ممن سخروا بالأصنام وعبادتها،
(1) سيرة ابن هشام ج 1 ص 141.
8

واعتبروا ذلك جهلا وضلالا.
قال ابن إسحاق: واجتمعت قريش يوما في عيد لهم
عند صنم من أصنامهم كانوا يعظمونه وينحرون له
ويعكفون عنده ويديرون به، فخلص منهم أربعة نفر
نجيا، ثم قال بعضهم لبعض: تصادقوا وليكتم بعضكم
على بعض.
قالوا: أجل - وهم ورقة بن نوفل وثلاثة آخرون -
كما سبق ذكرهم.
فقال بعضهم لبعض: تعلموا - والله - ما قومكم على
شئ، لقد أخطأوا دين أبيهم إبراهيم، ما حجر نطيف به
لا يسمع ولا يبصر، ولا يضر ولا ينفع؟
فتفرقوا في البلدان يلتمسون الحنيفية، دين
إبراهيم (1).
(1) سيرة ابن هشام ج 1 ص 237.
9

وحينما نزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لقيه ورقة
بن نوفل وهو يطوف فقال: يا ابن أخي، أخبرني بما
رأيت وسمعت، فأخبره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال له ورقة:
والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، ولقد جاءك
الناموس الأكبر الذي جاء موسى، ولتكذبنه، ولتؤذينه،
ولتخرجنه، ولتقاتلنه (1)، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم
لأنصرن الله نصرا يعلمه. ثم أدنى رأسه منه فقبل
يأفوخه، ثم أنصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى منزله (2)...
المرأة التاجرة
يفهم من هذه الأخبار وأمثالها أن خديجة كانت من
الأسر العريقة المعروفة بالعلم والفضل، وكان ذووها
على الحنيفية دين إبراهيم، ينتظرون دين الحق. وكانت
تسمى في الجاهلية بالطاهرة.
(1) الهاء في هذه الأفعال للسكت.
(2) سيرة ابن هشام ج 1، ص 253 و 254.
10

المرأة التاجرة
مع أن التاريخ لم يتعرض للجزئيات المتعلقة بحياة
السيدة خديجة، إلا أن ما وصل إلينا يمكن أن يرسم
بعض معالم شخصيتها المتميزة والبارزة.
وهنا ينبغي الالتفات إلى نكتة مهمة تكشف عن روح
هذه المرأة الشريفة الكبيرة، وهمتها العالية، وحريتها
واستقلالها، وهي:
إن خديجة التي ورثت أموالا طائلة، من أبيها الذي
قتل في حرب الفجار أو قبلها بقليل، لم تترك هذه
الأموال راكدة، ولم تراب بها في زمن كان الربا رائجا،
وإنما استثمرت هذه الأموال في التجارة، واستخدمت
رجالا صالحين لهذا الغرض، واستطاعت أن تكسب عن
طريق التجارة ثروة ضخمة حتى قيل: إن لها أكثر من
ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان، وكان لها في كل
11

ناحية تجارة، وفي كل بلد مال، مثل مصر والحبشة
وغيرها (1).
وقيل: وكانت خديجة بنت خويلد امرأة ذات شرف
ومال، تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم (2).
ولا بد أن نقول: إن إدارة قافلة تجارية كبيرة من هذا
القبيل في ذلك العصر في الجزيرة العربية، كان أمرا
عسيرا، ولا سيما إذا كان المدير امرأة، في زمن كانت
المرأة محرومة من جميع حقوقها الاجتماعية، وكثيرا ما
كان الرجال القساة يئدون بناتهم دون ذنب.
إذن، لا بد لهذه المرأة العظيمة من نبوغ متفوق،
وشخصية شامخة قوية وخبرة بشؤون الحياة كافية
تؤهلها لإدارة تلك التجارة الواسعة (3).
(1) بحار الأنوار ج 16 ص 22.
(2) سيرة ابن هشام ج 1 ص 199.
(3) أنظر: فاطمة الزهراء المرأة النموذجية في الإسلام / إبراهيم
أميني / تعريب علي جمال الحسيني.
12

ومن نبوغها وحدة ذكائها ونظرتها البعيدة أدركت
عظمة شخصية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وسمو أخلاقه
ومستقبله الزاهر قبل تكليفه برسالة السماء، فاختارته
زوجا لها دون الرجال والشخصيات المرموقة الذين
تقدموا لخطبتها والذين سبق أن ردتهم، بل هي التي
تقدمت وعرضت نفسها ورغبت في الاقتران به، على
رغم الفرق الشاسع بين حياتها المادية وحياته البسيطة،
وعلى رغم كونها امرأة، ومن صفات المرأة الحرص
على ما تملك، لا سيما إذا كانت ذات ثروة وليس لها
كفيل ولا حام يحميها.
ومع ذلك كله فقد عشقت شخصية محمد بن عبد الله
ومكارم أخلاقه وبذلت له نفسها وما تملك قبل البعثة
وبعدها، ومكنته من التصرف في أموالها وبذله في سبيل
13

الله والإسلام والدفاع عن القيم الفاضلة.
وكان لأموال السيدة الطاهرة خديجة بنت خويلد
(سلام الله عليها) الأثر البالغ، والركيزة الأولى،
والمنعطف التاريخي الخطير في تثبيت دعائم الإسلام
يومذاك وتقويته، إذ كان الدين الإسلامي برعما، وفي
خطواته الأولى وفي دور التكوين، وكان بأمس الحاجة
إلى المال لتبليغ رسالة السماء وبلوغ هدفه، فقيض الله
سبحانه لخدمة الإسلام السيدة خديجة وأموالها،
وبفضل مالها تحقق الهدف الأول المنشود، فكان ركنا
من أركان الإسلام، وقد أشار سبحانه وتعالى بهذه الآية
خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأموال خديجة إلى الشام
* (ووجدك عائلا فأغنى) * أغناك بمال خديجة،
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما نفعني مال قط مثل ما نفعني مال
خديجة ". وما ثبت دعائم الإسلام إلا أموال خديجة
وحماية شيخ البطحاء أبي طالب ونصرته، وسيف علي
بن أبي طالب وجهاده المستميت.
14

خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأموال خديجة إلى الشام
حدث بكر بن عبد الله الأشجعي، عن آبائه قالوا:
خرج عبد مناف بن كنانة، ونوفل بن معاوية بن عروة،
تجارا إلى الشام، في السنة التي خرج فيها النبي
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بأموال خديجة للتجارة إلى الشام، وهو ابن
خمس وعشرين سنة، فلقيهما في بصرى أبو الموهيب
الراهب فقال لهما: من أنتما؟
قالا: نحن تجار من أهل الحرم من قريش.
قال لهما: من أي قريش؟ فأخبراه.
فقال لهما: هل قدم معكما من قريش غيركما؟
قالا: نعم، شاب من بني هاشم اسمه محمد.
فقال أبو الموهيب: إياه والله أردت.
فقالا: والله ما في قريش أخمل ذكرا منه، إنما يسمونه
يتيم أبي طالب، وهو أجير لامرأة منا يقال لها خديجة،
15

فما حاجتك إليه؟
فأخذ يحرك رأسه ويقول: هو هو، فقال لهما: تدلاني
عليه؟
فقالا: تركناه في سوق بصرى.
فبينما هم في الكلام إذ طلع عليهم، فقالا: هو هذا.
فخلا به ساعة يناجيه ويكلمه، ثم أخذ يقبل بين
عينيه، وأخرج شيئا من كمه لا ندري ما هو، ورسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يأبى أن يقبله، فلما فارقه قال لنا: تسمعان
مني؟ هذا والله نبي هذا الزمان، سيخرج إلى قريب يدعو
الناس إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإذا رأيتم ذلك
فاتبعوه، ثم قال: هل ولد لعمه أبي طالب ولد يقال له
علي، فقلنا: لا، قال إما أن يكون قد ولد أو يولد في
سنته، وهو أول من يؤمن به، نحن نعرفه، إنا لنجد صفته
عندنا في الوصية كما نجد صفة محمد بالنبوة، وأنه سيد
العرب وربانها وذو قرنيها، يعطي السيف حقه، اسمه في
16

الملأ الأعلى علي، هو أعلى الخلائق يوم القيامة بعد
الأنبياء ذكرا، وتسميه الملائكة البطل الأزهر المفلح، لا
يتوجه إلى جهة إلا أفلح وظفر، والله لهو أعرف بين
أصحابه في السماوات من الشمس الطالعة.
اقتران النور بالعطاء
وهو أول اقتران له (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطاهرة خديجة الكبرى.
بلغ محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ريعان الشباب مفعما
بالفضائل، والاستقامة، والخلق القويم، والانقطاع إلى
عبادة ربه الواحد الأحد، متبتلا إلى الله سبحانه وتعالى،
يحمل بين جنباته روح الإنسانية، والتفاني في إسعاد
الآخرين، ويطفح إيمانا وحبا وخلقا جسد مكارم
الأخلاق بكماله وتمامه.
بلغ العلى بكماله * كشف الدجى بجماله
حسنت جميع خصاله * صلوا عليه وآله
17

ومثل هذا الشخص العظيم لا بد أن يفكر بالاقتران
بامرأة تشاطره هذه الصفات، وترتفع إلى مستوى
حياته، وتعاضده في بلوغ أهدافه المقدسة، وتتفهمه
وتصمد أمام الهزات والصدمات التي تنتظره في
المستقبل، وتبذل كل غال ونفيس في سبيل نيل
الأهداف السامية.
ولم يكن في سماء تفكير محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثمة امرأة
تفهمه، وتتحسس مشاعره وأحاسيسه، وتصلح لتحمل
هذه المهمة الصعبة، وتكون جديرة بمشاركته، غير أن
الله قيض له السيدة الطاهرة خديجة الكبرى (عليها السلام)، المرأة
العاقلة، اللبيبة، الفاضلة، الحنون، الثرية، سيدة مكة
الأولى.
ولم يخطر على بال محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتزوج من امرأة
ثرية، ولم يشغل المال باله لحظة واحدة من حياته
المباركة، إلا أن السيدة خديجة بنت خويلد (عليها السلام) هي التي
18

عرضت نفسها عليه، واختارته لنفسها، ويا لها من
سعادة.
ولم يكن زواج محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) واقترانه بالسيدة خديجة
الكبرى يشبه الزواج المتعارف بين الناس، ولا بين
الخاصة من علية القوم، بل يعتبر هذا الزواج النموذج
الوحيد من نوعه في الجزيرة العربية، وخاصة بين
قريش، إذ كان ذلك القران الميمون المبارك نتيجة حب
وتعلق، وتحديق في أعماق الروح والمستقبل والذوات
المقدسة، دونما التفات إلى أي دافع مادي أو سياسي أو
ما يشبه ذلك مما يحدث بين العظماء والرؤساء في
العالم.
ولم يكن هناك تناسب بين طريقة حياة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
الموصوفة بالبساطة والزهد، حيث كان يعيش في
حماية وكفالة عمه أبي طالب، شيخ البطحاء بعد وفاة
جده عبد المطلب، سيد قريش وعظيمهم، وكانت
19

حياتهم العفيفة البسيطة أقرب ما تكون إلى الكفاف
والزهد على الرغم من علو قدرهم ومقامهم الشامخ في
مكة، وبين قريش بصورة خاصة، وفي الجزيرة العربية،
وفي أوساط القبائل بصورة عامة. وبين حياة ومعيشة
سيدة مكة الأولى " خديجة بنت خويلد " القرشية، التي
كانت تعتبر أثرى قرشية وأغنى امرأة في مكة، حيث
كانت أموالها وتجاراتها سائرة في رحلاتها صيفا وشتاء،
بين مكة والشام، وبين مكة واليمن: سيدة ببركتها كان
يعيش العشرات بل المئات من الناس بفضل تجارتها.
كانت السيدة خديجة (عليها السلام) تحتفظ بأنوثتها وجاذبيتها،
وقد بلغت من العمر ثمان وعشرون سنة كما روى ابن
عباس، على خلاف المشهور خطأ بأن عمرها كان
أربعين عاما.
وقصة زواج خديجة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تعد منعطفا
مهما ومن النقاط اللامعة النورانية في حياتها. فلما قتل
20

أبوها خويلد في حرب الفجار ظهرت عليها روح
الاستقلال، والاعتماد على النفس، والحرية بشكل
واضح، وكانت تمارس التجارة كأفضل الرجال عقلا
ورشدا. ورفضت - بإصرار - الزواج من الملوك
والأشراف والأثرياء الذين تقدموا إليها - لما عرفت به
من الشرف والنسب الرفيع والثروة - وبذلوا لها الكثير من
الأموال مهرا لأنها لم تجد في أحدهم كفئا لها. ورضيت
راغبة بالزواج من النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الفقير اليتيم، لم
ترفض أولئك وترضى بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، بل تقدمت
بشوق واندفاع لتقترح على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الزواج منه
والاقتران به.
فأصبح هذا الأمر سببا لسخرية نساء قريش ونقدهن
اللاذع لها. وقد اشتهر أن النساء يعشقن الثروة
والكماليات في الحياة، وغاية مطامحهن أن يتزوجن من
ثري شريف يعشن في بيته بهدوء، ويشتغلن بالتجمل
21

والأنس، وخديجة لم تبحث عن الرجل الغني لأنها لا
تحتاج إلى ذلك، ولأن أفكارها أجل وأرفع من هذا،
وإنما هي تنتظر الزوج العظيم المثالي، والرجل القوي،
والشخصية اللامعة، والروحانية الشفافة التي تنجي
العالم من وحل الجاهلية، ومستنقع التخلف والتعاسة.
لذلك رفضت كل من تقدم لخطبتها.
وهذا دليل على أنها لم تتزوج برجل قبله بل كانت
بكرا عذراء.
والتاريخ يروي لنا أن خديجة سمعت من العلماء
والأحبار أن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) نبي آخر الزمان فتعلق قلبها
به، فأرسلت إليه تسأله الخروج إلى الشام في قافلة مع
مولاها ميسرة - ليراقب تحركاته وسلوكه عن كثب،
ولعل هذا العمل كان اختبارا لما سمعته من العلماء
والأحبار - فسافر النبي بعيرها إلى الشام، فرأى ميسرة
منه في الطريق العجائب، وحينما عادوا من السفر حكى
22

لها ميسرة ما شاهده، فوجدت خديجة فيه الشخص
الكامل، كما وصفه الأديب:
وأحسن منك لم تر قط عيني * وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءا من كل عيب * كأنك قد خلقت كما تشاء
فبعثت إلى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقالت له: يا ابن العم، قد
رغبت فيك لقرابتك مني، وشرفك في قومك ووسطك
فيهم، وأمانتك عندهم، وحسن خلقك، وصدق
حديثك، ثم عرضت عليه نفسها (1).
فلما أراد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتزوج خديجة بنت خويلد أقبل
أبو طالب وحمزة في أهل بيته ومعه نفر من قريش حتى
دخل على عم خديجة عمرو بن أسد، فابتدأ أبو طالب
(1) بحار الأنوار ج 16 ص 9.
23

بالكلام قائلا:
" الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم
وذرية إسماعيل، وأنزلنا حرما آمنا، وجعلنا الحكام
على الناس، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه، ثم إن ابن
أخي هذا - يعني محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) - ممن لا يوزن برجل من
قريش إلا رجح به، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه، ولا
عدل له في الخلق، وإن كان مقلا في المال فإن المال رفد
جار وظل زائل، وله في خديجة رغبة، وقد جئناك
لنخطبها إليك برضاها وأمرها، والمهر علي في مالي
الذي سألتموه عاجله وآجله، وله ورب هذا البيت حظ
عظيم، ودين شائع، ورأي كامل ".
ثم سكت أبو طالب، فتكلم عمها وتلجلج وقصر عن
جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر، وكان رجلا
عالما، فقالت خديجة مبتدئة: يا عماه إنك وإن كنت
أولى بنفسي مني في الشهود فلست أولى بي من نفسي.
24

قد زوجتك يا محمد نفسي والمهر علي في مالي، فأمر
عمك فلينحر ناقة فليولم بها (1).
ويروى أن خديجة وكلت ابن عمها ورقة بن نوفل في
أمرها، فلما عاد ورقة إلى منزل خديجة بالبشرى، وهو
فرح مسرور نظرت إليه فقالت: مرحبا وأهلا بك يا ابن
عم، لعلك قضيت الحاجة؟
قال: نعم يا خديجة يهنئك، وقد رجعت أحكامك إلي
وأنا وكيلك وفي غداة غد أزوجك إن شاء الله تعالى
بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
فلما سمعت خديجة كلامه فرحت وخلعت عليه
خلعة قد اشتراها عبدها ميسرة من الشام بخمسمائة
دينار (2).
(1) بحار الأنوار ج 16 ص 14، تذكرة الخواص ص 302.
(2) بحار الأنوار ج 16 ص 65.
25

ولما خطب أبو طالب (عليه السلام) الخطبة المعروفة، وعقد
النكاح، قام (صلى الله عليه وآله وسلم) ليذهب مع عمه أبي طالب، فقالت
خديجة: إلى بيتك، فبيتي بيتك وأنا جاريتك (1).
وهكذا تزوج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)... وكان لهذا الزواج
أهمية كبرى في حياته، لأنه كان فقيرا معدما ماليا - وقد
يكون لهذا السبب أو لأسباب أخرى تأخر زواجه
المبارك إلى سن الخامسة والعشرين - ووحيدا ليس له
عائلة من جهة أخرى، وبزواجه المبارك ارتفع الفقر
والحرمان، ووجد من يشاركه همومه، ويشاوره في
أمره، ويقاسمه مر الحياة وحلوها (2). كما أن
خديجة (عليها السلام) فرحت بهذا الزواج فرحا شديدا وغمرتها
سعادة ما بعدها سعادة، سعادة تحقيق أمانيها باقترانها
(1) سفينة البحار ج 16 ص 279.
(2) أنظر: فاطمة الزهراء المرأة النموذجية في الإسلام / إبراهيم
أميني / تعريب علي جمال الحسيني.
26

بالرجل المأمول حيث نالت أغلى أمانيها وغاية
مقصودها.
وقد ذكر الرواة بعض ما ورد من أشعار أنشدت في
زواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخديجة (عليها السلام):
قال عبد الله بن غنم:
هنيئا مريئا يا خديجة قد جرت * لك الطير فيما كان منك بأسعد
تزوجت من خير البرية كلها * ومن ذا الذي في الناس مثل محمد؟
به بشر البران عيسى بن مريم * وموسى بن عمران فيا قرب موعد
أقرت به الكتاب قدما بأنه * رسول من البطحاء هاد ومهتد (1)
(1) بحار الأنوار 16 ص 15.
27

وقال حبر من أحبار اليهود مبشرا خديجة (عليها السلام) بنبوة
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم):
يا خديج لا تنسي الآن قولي * وخذي منه غاية المحصول
يا خديج هذا النبي بلا شك * هكذا قد قرأت في الإنجيل
سوف يأتي من الإله بوحي * ويحبى من الإله بالتنزيل
ويزوجه ذات الفخار فيضحى * في الورى شامخا على كل جيل (1)
وقال بعض النساء ممن حضرت عقد خديجة (عليها السلام):
أضحى الفخار لنا وعز الشأن * ولقد فخرنا يا بني عدنان
(1) بحار الأنوار ج 16 ص 21.
28

أخديجة نلت العلا بين الورى * وفخرت فيه جملة الثقلان
أعني محمدا الذي لا مثله * ولدت نساء الأرض في الأزمان
صلوا عليه وسلموا وترحموا * فهو المفضل من بني عدنان
فتطاولي فيه خديجة واعلمي * أن قد خصصت بصفوة الرحمن (1)
وخرجت بين يديها صفية بنت عبد المطلب (رضي الله عنه)
وقالت:
جاء السرور مع الفرح * ومضى النحوس مع الترح
أنوارنا قد أقبلت * والحال فيها قد نجح
(1) بحار الأنوار ج 16 ص 74.
هل هناك صلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل النبوة والبعثة؟؟ أو هل
هناك ذكر لجبرئيل قبل المبعث؟
29

بمحمد المذكور في * كل المفاوز والبطح
لو أن يوازن أحمد * بالخلق كلهم رجح
ولقد بدا من فضله * لقريش أمر قد وضح
ثم السعود لأحمد * والسعد عنه ما برح
بخديجة بنت الكمال * وبحر نايلها طفح
يا حسنها في حليها * والحلم منها ما برح
هذا الأمين محمد * ما في مدائحه كلح (1)
صلوا عليه تسعدوا * والله عنكم قد صفح (2)
وقالت أيضا:
أخذ الشوق موثقات الفؤاد * وألفت السهاد بعد الرقاد
(1) الكلح: العبوس والقبح.
(2) بحار الأنوار ج 16 ص 75.
30

فليالي اللقا بنور التداني * مشرقات خلاف طول البعاد
فزت بالفخر يا خديجة إذ نلت * من المصطفى عظيم الوداد
فغدا شكره على الناس فرضا * شاملا كل حاضر ثم بادي
كبر الناس والملائك جمعا * جبرئيل لدى السماء ينادي
فزت يا أحمد بكل الأماني * فنحى الله عنك أهل العناد
فعليك الصلاة ما سرت العيس * وحطت لثقلها في البلاد (1)
(1) بحار الأنوار ج 16 ص 76.
31

البيت الأول في الإسلام
نعم،.... اجتمع شمل محمد وخديجة، وتأسست
الأسرة، وبني البيت الذي يغمره الحب والسعادة والحنان
والدف ء العائلي والتفاهم، فقد كانت خديجة أول من
آمن من النساء بدعوة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، وبذلت كل
ما بوسعها من أجل أهدافه المقدسة، وجعلت ثروتها بين
يدي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وقالت: جميع ما أملك بين يديك
وفي حكمك، اصرفه كيف تشاء في سبيل إعلاء كلمة الله
ونشر دينه.
البيت الأول في الإسلام
وتأسست أول أسرة في الإسلام من لبنات ثلاث:
محمد، وخديجة، وعلي (1).
(1) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة، مناقب ابن شهرآشوب ج 2
ص 180.
32

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): " ولم يجمع بيت واحد يومئذ
في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما.
أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة ".
وكانت تلك الأسرة المباركة بمثابة البذرة الأولى
للثورة الإسلامية العالمية، فقد تحملت وظائفها الجسام،
ومسؤوليتها الشاقة في محاربة الكفر والشرك وعبادة
الأوثان، ونشر راية التوحيد في العالم، وإشاعة العدل
في ربوعه.
ولم يك على وجه الأرض بيت إسلامي سواه، فعميد
البيت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد قال الله فيه: * (وإنك لعلى خلق
عظيم) * (1) وسيدة شؤونه الداخلية خديجة (عليها السلام)، وعلي
الجندي الفدائي، وهم القاعدة الأولى للتوحيد التي
ضمت جنودا أوفياء، تجهزوا واستعدوا للنفوذ إلى
(1) سورة القلم، الآية: 4.
33

العالم، وفتح قلوب الناس، وبث عقيدة التوحيد فيها،
حتى شملت راية التوحيد أم القرى وما حولها.
وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يحب خديجة من أعماق قلبه،
ويحترمها غاية الاحترام. كما كان يحب أخيه وابن عمه
علي بن أبي طالب (عليه السلام).
يقول ابن هشام: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يودها
ويحترمها ويشاورها في أموره كلها، وكانت له وزير
صدق، وهي أول امرأة آمنت به، ولم يتزوج في حياتها
واحدة غيرها (1).
وقد جاء على لسان النبي الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) المزيد من
الثناء على أم المؤمنين خديجة (عليها السلام) فذكر فضائلها وعبر
عن عمق محبته لها.
فيروى عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: "... وخير نساء
(1) تذكرة الخواص، سبط بن الجوزي ط النجف 1283 ص 302.
34

أمتي خديجة بنت خويلد " (1).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " خير نسائها خديجة " (2).
وفي حديث عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا
ذكر خديجة لم يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها،
فذكرها ذات يوم فحملتني الغيرة، فقلت: وهل كانت إلا
عجوزا قد أخلف الله لك خيرا منها.
قالت: فغضب حتى أهتز مقدم شعره وقال:
" والله ما أخلف لي خيرا منها، لقد آمنت بي إذ كفر
الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وأنفقتني مالها إذ
حرمني الناس، ورزقني الله أولادها إذ حرمني أولاد
النساء ".
قالت: فقلت في نفسي: والله لا أذكرها بسوء أبدا (3).
(1) المصدر السابق.
(2) كشف الغمة ج 2 ص 71.
(3) تذكرة الخواص ص 303، كشف الغمة ج 2 ص 78.
35

وقد ورد في الرواية: أن جبرئيل (عليه السلام) أتى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال:
" يا محمد، هذه خديجة قد أتتك، فاقرأها السلام من
ربها، وبشرها ببيت في الجنة من قصب (1)، لا صخب فيه
ولا نصب " (2).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا خديجة... إن الله - عز وجل - ليباهي
بك كرام ملائكته كل يوم مرارا " (3).
وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) يحترم صديقاتها إكراما وتقديرا لها.
روي عن أنس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا أتي بهدية
قال: " إذهبوا إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة
(1) القصب: ما كان مستطيلا من الجوهر، والزبرجد الرطب المرصع
بالياقوت.
(2) تذكرة الخواص ص 302.
(3) بحار الأنوار ج 16 ص 78.
36

لخديجة، إنها كانت تحبها " (1).
وفي الصحيحين: إن عائشة قالت: ما غرت على أحد
من نساء رسول الله ما غرت على خديجة، وما رأيتها
قط، ولكن كان رسول الله يكثر ذكرها، وربما ذبح الشاة
فيقطع أعضاءها ويبعث بها إلى صدائق خديجة.
فأقول: كأنه لم تكن في الدنيا امرأة إلا خديجة.
فيقول: " إنها كانت، وكان لي منها الأولاد ".
وروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنه كان إذا ذبح الشاة يقول:
" أرسلوا إلى أصدقاء خديجة ".
فتسأله عائشة في ذلك فيقول:
" إني لأحب حبيبها ".
ويروى: إن امرأة جاءته (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو في حجرة عائشة
فاستقبلها واحتفى بها، وأسرع في قضاء حاجتها،
(1) سفينة البحار ج 1 ص 380.
37

فتعجبت عائشة من ذلك، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم):
" إنها كانت تأتينا في حياة خديجة ".
وجرت مرة محاورة بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزوجته
عائشة حين شعرت بالغيرة تملأ قلبها من كثرة ذكر
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لخديجة، وتعلق حبه بها، فقالت له:
ما تذكر من عجوز حمراء الشدقين، قد أبدلك الله
خيرا منها؟
فآلم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا القول، ورد عليها قائلا:
" ما أبدلني الله خيرا منها، كانت أم العيال، وربة
البيت، آمنت بي حين كذبني الناس وواستني بمالها
حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمت من
غيرها " (1).
(1) باقر شريف القرشي - حياة الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) ج 1 /
ط 3 / ص 40 نقلا عن إسعاف الراغبين المطبوع على هامش نور
الأبصار للشبلنجي ص 96. وما يقرب من ذلك في مسند أحمد
ج 6 ص 150. وفي سنن ابن ماجة في باب الغيرة من أبواب
النكاح.
38

وخديجة بنت خويلد (عليها السلام) حرية بهذا القدر والمقام
عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد أن حازت المقام الرفيع
والدرجة السامية عند ربها، فهي المرأة التي حباها رب
العالمين، وبشرها بالخلد والنعيم.
ولذا قال فيها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). " أفضل نساء أهل
الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم
بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون " (1).
وقابلته خديجة حبا بحب، ووفاء بوفاء، وتضحية
بتضحية، وآمنت به وبدعوته وبأهدافه المقدسة، وبذلت
(1) محب الدين الطبري - ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى
ص 42 ط 1967 / وروى نظيره الحاكم في مستدركه ج 3
ص 157 وص 125 وخرجه أحمد وأبو حاتم.
39

كل وجودها من أجل ذلك، وقالت له بتواضع وخشوع:
البيت بيتك، وجميع ما أملك تحت يدك، وأنا
جاريتك.
وكانت تؤازره على أمره، فخفف الله بذلك عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه
وتكذيب له فيحزنه ذلك، إلا فرج الله ذلك عن رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بها، إذا رجع إليها تخفف عنه، وتهون عليه أمر
الناس، حتى ماتت - رحمها الله -... وكان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)
يسكن إليها، ويشاورها في المهم من أموره (1).
بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
هناك روايات كثيرة بطرق متعددة وألفاظ متباينة عن
كيفية إبلاغ جبرائيل (عليه السلام) الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة
(1) بحار الأنوار ج 16 ص 10.
40

في بادئ الأمر، غير أني لخصت بعض هذه الروايات
بصورة موجزة، جامعة شاملة، مع تغيير في الألفاظ دون
المساس بالمعنى والجوهر، عن طرق روايات أهل
البيت (عليهم السلام) وأردفته بصورة موجزة أيضا ما في الصحاح
من طرق روايات العامة، وبينت ما ترويه صحاحهم في
أن الوحي حينما جاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان نائما، بينما
عليه روايات أهل البيت (عليهم السلام) كان يقظا وفي حال تعبد
وتهجد وتحنث في الغار.
ذكر المجلسي في بحاره، والطبرسي في أعلام
الورى، والفتال النيشابوري في روضة الواعظين،
والطباطبائي في تفسيره، والسيد هاشم البحراني في
تفسيره البرهان ما معناه ملخصا:
قبل أن يبعث الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وأول ما بدئ به
من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم فكان لا يرى رؤيا إلا
جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء،
41

والانعزال، وكان يخلو بغار حراء يتعبد ويتحنث فيه،
وهو التعبد في الليالي العددية، حتى جاءه الحق وهو في
غار حراء، فجاءه الملك جبرائيل.
فقال: إقرأ؟
قال: ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم
أرسلني.
فقال: إقرأ؟
فقلت: ما أنا بقارئ.
قال: فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم
أرسلني.
فقال: اقرأ؟
فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ
مني الجهد ثم أرسلني.
فقال: * (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان
42

من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم) *
إلى آخر سورة العلق.
فلما قرأ السورة ونطق بها أبلغه جبرائيل بأنه رسول
الله وهنأه بالرسالة والنبوة. فسمع صوتا من السماء
يقول: يا محمد أنت رسول الله وأنا جبرئيل.
فنزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غار حراء ورجع إلى منزله،
فما مر بشجر أو مدر إلا وسلم عليه وهنأه بالرسالة وشهد
له بها، فدخل على زوجته خديجة بنت خويلد.
فقال: زملوني زملوني، فزملوه (1) حتى ذهب عنه
الروع، فأخبرها الخبر وقال: لقد خشيت على نفسي.
فقالت خديجة: كلا ما يخزيك الله أبدا إنك لتصل
الرحم، وتحمل الكل، وتكسي المعدم، وتقري الضيف،
وتعين على نوائب الخلق.
(1) أي دثروه وغطوه.
43

البشارات والتبليغ
البشارات والتبليغ
قال ابن إسحاق: إنه حدث عن خديجة (عليه السلام) أنها قالت
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة: يا ابن عم هل تستطيع أن
تخبرني بصاحبك الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم.
فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عندها إذ جاء جبرئيل، فقال: هذا
جبرئيل قد جاءني، فقالت: أتراه الآن؟ قال: نعم. قالت
اجلس على شقي الأيسر، فجلس، فقالت هل تراه
الآن؟ قال: نعم، قالت: اجلس على شقي الأيمن،
فجلس، قالت: هل تراه الآن؟ قال: نعم، فتحسرت
وألقت خمارها، وقالت: هل تراه الآن؟ قال: لا، قالت:
ما هذا بشيطان، إن هذا إلا ملك كريم، يا ابن عم، أثبت
وأبشر، ثم آمنت به وشهدت أن الذي جاء به الحق (1).
(1) سيرة ابن هشام: 1 / 238، ومثله الاستيعاب على هامش
الإصابة: ج 4 / 282 وكذلك في الإصابة نفس المصدر.
44

فخفف الله بذلك عن رسوله، لا يسمع شيئا يكرهه من
رد عليه وتكذيب الناس له فيحزنه إلا فرج الله عنه بها،
إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه، وتصدقه وتهون عليه
أمر الناس (1).
وبينما هو في نومه وإذا به قد اهتز واضطرب، وثقل
نفسه، وبلل العرق وجهه فاستيقظ من نومه ليستمع إلى
الوحي يقول له: * (يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك
فكبر * وثيابك فطهر * والرجز فاهجر * ولا تمنن
تستكثر * ولربك فاصبر) * (2).
عظم على خديجة ما رأت من حاله، وتوسلت إليه أن
يسلم نفسه للراحة، فقال لها: لقد انقضى يا خديجة عهد
النوم والراحة.
(1) سيرة ابن هشام: 1 / 240.
(2) المدثر آية: 1 - 7.
45

فلبست خديجة جلبابها وانطلقت به إلى ورقة بن
نوفل ابن عم خديجة وكان شيخا كبيرا وقد تنصر
وترهب وهو مشغول بكتابة الإنجيل بالعبرانية، وقيل أنه
كان من المتألهين الأحناف.
فقالت له خديجة: يا ابن عم اسمع من ابن أخيك.
فقال له ورقة: يا بن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما رأى.
فقال له ورقة: سبوح قدوس، هذا الناموس الذي
أنزل الله على موسى ابن عمران، قدوس قدوس، يا
ليتني أكون جذعا (1) يا ليتني أكون حيا، إذ يخرجك
قومك (2).
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) متعجبا: أو مخرجي هم؟
(1) أي شابا.
(2) البخاري، بدء الوحي: 1 / 403.
46

قال: نعم لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا
عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا،
ويروى أنه قبله من رأسه، ولم يلبث ورقة بعده إلا فترة
قصيرة حتى مات.
ثم كان جبرئيل (عليه السلام) يأتيه، فلا يدنو منه إلا بعد أن
يستأذن عليه، فأتاه يوما وهو بأعلى مكة، فغمز بعقبه
بناحية الوادي فانفجرت عين ماء، فقال جبرئيل (عليه السلام): قم
يا محمد فتوضأ للصلاة، فتوضأ جبرئيل (عليه السلام) وتوضأ
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، ثم صلى الظهر، وهي أول صلاة فرضها
الله عز وجل.
فعلمه جبرئيل (عليه السلام) الوضوء: وغسل الوجه واليدين
من المرافق، ومسح الرأس والرجلين، وعلمه الركوع
والسجود وحدود الصلاة.
فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلي ركعتين ركعتين في كل
وقت، وتابعه في صلاته زوجته السيدة خديجة، وعلي
47

بن أبي طالب وهو حدث لم يبلغ العاشرة من عمره،
وهما أول من آمن بالله ورسوله.
وهكذا تم تبليغ الرسالة.
ولقد ورد في الصحاح: أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يتعبد ويتحنث
في غار حراء، من كل سنة شهرا واحدا، وإذا انفتل ونزل
من حراء، فأول ما يبدأ به أن يأتي الكعبة فيطوف بها
سبعا أو أكثر.
وهناك روايات متعددة بألفاظ مختلفة لا تخرج عن
هذا المعنى.
يوم الدار ودعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقومه
يوم الدار ودعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقومه
لقد أجمع المؤرخون على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لما أمره
تعالى أن ينذر الأقربين من عشيرته، دعا عليا (عليه السلام) وقال
48

له: اصنع طعاما واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسا (1)
من لبن واجمع لي بني هاشم وعبد المطلب حتى أكلمهم
وأدعوهم إلى الإسلام وأبلغهم ما أمرت به.
ففعل علي (عليه السلام) ما أمره به، ودعاهم وكانوا يوم ذاك
أربعين رجلا، يزيدون رجلا أو ينقصون، فيهم أعمامه:
أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب، وبنو عمومته،
فأحضر لهم علي (عليه السلام) الطعام فأكلوا حتى شبعوا.
وجاء عن علي (عليه السلام) أنه قال: لقد كان الرجل الواحد
منهم يأكل جميع ما شبعوا كلهم منه، فلما فرغوا من
الأكل وأراد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكلمهم، بدره أبو لهب عمه
إلى الكلام، وقال: لشد ما سحركم صاحبكم، فتفرق
القوم ولم يكلمهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
وبعد أيام قال لعلي (عليه السلام): يا علي، قد رأيت كيف
(1) العس: القدح الكبير.
49

سبقني هذا الرجل إلى الكلام، فاصنع لنا في غد كما
صنعت بالأمس، واجمعهم لعلي أكلمهم بما أمرني الله.
فصنع علي (عليه السلام) لهم الطعام، فلما أكلوا وشربوا قال لهم
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أعلم إنسانا في العرب جاء قومه بمثل ما
جئتكم به، لقد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني
ربي أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر
على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي من بعدي،
فأحجم القوم إلا علي (عليه السلام)، فقام وهو أحدثهم سنا
وأرمصهم عينا وأحمشهم ساقا وقال: أنا يا نبي الله،
فأمره النبي بالجلوس وكرر عليهم مقالته فلم يستجب له
أحد غير علي (عليه السلام).
ما ظهر من آياته ومعاجزه بعد بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم)
ولما رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إحجامهم وإصرار علي (عليه السلام) أخذ
برقبته وقال: إن هذا أخي ووصيي، وخليفتي فيكم (من
بعدي) فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون،
ويقولون لأبي طالب: قد أمرك محمد أن تسمع لابنك
50

وتطيعه.
ما ظهر من آياته ومعاجزه بعد بعثته (صلى الله عليه وآله وسلم)
وإليك هذا الغيض من فيض معاجزه التي لا تحصى،
كل ذلك بفضل رعاية الله تعالى له.
1 - منها: خروجه (صلى الله عليه وآله وسلم) من داره ليلة هجرته مرورا
من بين كفار قريش المحيطين بداره للانقضاض عليه.
وقتله، تاليا الآية الشريفة:
* (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
فأغشيناهم فهم لا يبصرون) * إلى الغار الذي التجأ إليه
حيث نسج العنكبوت شراكه، وبعث الله حمامتين
وحشيتين بنت عشهما بفم الغار.
2 - ومنها: قدوم فتيان قريش من كل بطن بعصيهم
وسيوفهم يتتبعون آثار إقدامه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى وصلوا باب
الغار فوجدوا نسيج العنكبوت وعش الحمام الوحشي
51

فرجعوا خائبين وكفاه الله شرهم (1).
3 - ومنها: أنه أطعم من القليل الجمع الغفير من
أعمامه في يوم الدار حينما أراد أن ينذرهم برسالته
ويبشرهم.
4 - ومنها: حديث سراقة حين أدركه عند توجهه
مهاجرا إلى يثرب ليتقرب إلى قريش بأخذه وقتله، فلما
ظن أنه نال غرضه دعا عليه فساخت قوائم فرسه في
الأرض حتى تغيبت بأجمعها وهو بموضع جدب وقاع
صفصف، فقال: يا محمد أدع ربك يطلق قوائم فرسي
ولك ذمة الله علي أن لا أدل عليك أحدا، فدعا له فوثب
كأنما أفلت من أنشوطة وكان رجلا ذا هيئة، علم أنه
(1) وفي ذلك يقول السيد الحميري (رحمه الله):
حتى إذا قصدوا لباب مغارة * ألفوا عليه مثل نسيج العنكب
صنع الإله لهم فقال فريقهم * ما في المفازة لطالب من مطالب
ميلوا وصدهم المليك ومن يرد * عنه الدفاع مليكه لم يعطب
52

سيكون له شأن فطلب منه أمانا.
5 - ومنها: حديث شاة أم معبد لما هاجر بطريقه إلى
يثرب (المدينة) فطلبوا ما يشربون فلم يجدوه، وقالت
أم معبد: إنا مرملون.
فرأى (صلى الله عليه وآله وسلم) شاة فقال: ما هذه الشاة يا أم معبد؟
قالت: خلفها الجهد (1) عن الغنم.
قال: هل بها لبن؟
فقالت: هي أجهد من ذلك.
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): أتأذنين في أن أحلبها؟
فقالت: نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبا
فاحلبها.
فدعا بها ومسح على ضرعها وقال: اللهم بارك لها في
شاتها، فتفاجت ودرت، ودعا بإناء لها فسقاها فشربت
(1) أي هزال.
53

حتى رويت، ثم سقى أصحابه فشربوا حتى رووا
وشرب هو آخرهم، وقال: ساقي القوم آخرهم شربا،
وشربوا جميعا عللا بعد نهل، ثم حلب ثانيا عودا على
بدء فملأ الإناء وأعطاها إياها ثم غادر من عندها، فجاء
زوجها أبو معبد ومعه أعنز عجاف، فرأى اللبن فقال: من
أين لكم هذا ولا حلوب لكم والشاة عازب؟
فقالت: إنه مر بنا رجل مبارك من حديثه كيت وكيت،
وحدثته بما جرى.
نقل الزمخشري في كتابه (ربيع الأبرار) عن هند بنت
الجون قالت: نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيمة خالتها أم معبد،
فقام من رقدته فدعا بماء فغسل يديه ثم تمضمض
ومج (1) في عوسجة إلى جانب الخيمة، فأصبحنا وهي
(1) مج: أي قذف الماء من فمه، والعوسجة: من شجر البادية.
54

كأعظم دوحة (1)، وجاءت بثمر كأعظم ما يكون في لون
الورس (2) ورائحة العنبر وطعم الشهد، ما أكل منها جائع
إلا شبع، ولا ظمآن إلا روى، ولا سقيم إلا برئ، وما أكل
من ورقها بعير ولا شاة إلا در لبنها، وكنا نسميها
المباركة، وينتابنا من البوادي من يستشفي بورقها
ويتزود منها، حتى أصبحنا ذات يوم وقد تساقط ثمرها،
واصفر ورقها، ففزعنا فما راعنا إلا نعي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم إنها بعد ثلاثين سنة أصبحت ذات شوكة، من
أسفلها إلى أعلاها، وبعدها تساقط ثمرها فذهب، فما
شعرنا إلا بمقتل أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فما
أثمرت بعد ذلك، وكنا ننتفع بورقها.
ثم أصبحنا وإذا بها قد نبع من ساقها دم عبيط، وقد
(1) الدوحة: الشجرة العظيمة المثمرة.
(2) الورس: نبات حبه كالسمسم أصفر اللون يصبغ به كالزعفران.
55

ذبل ورقها، فبينا نحن فزعون مهمومون إذ أتانا خبر
مقتل الحسين (عليه السلام)، ويبست الشجرة على أثر ذلك
وذهبت.
أقول: والعجب كيف لم يشتهر أمر هذه الشجرة كما
اشتهر أمر الشاة في قصة هي من أعلام القصص؟.
والراوي الزمخشري وهو من أعلام أهل السنة.
6 - ومنها: مجيء الشجرة إليه، وقد ذكرها أمير
المؤمنين (عليه السلام) في خطبته القاصعة حين قال له الكفار: إن
دعوتها فجاءت آمنا، فقال: أيتها الشجرة إن كنت
تؤمنين بالله واليوم الآخر، وتعلمين أني رسول الله
فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله، فجاءت
ولها دوي شديد، " الحديث بتمامه " فقالوا: ساحر
كذاب.
7 - ومنها: خروج الماء من بين أصابعه، وذلك حين
كان في سفر وشكا أصحابه العطش وكانوا بمعرض
56

التلف، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): كلا إن معي ربي عليه توكلت، ثم
دعا بركوة فصب فيها ماء ما كان يروي إنسانا واحدا،
وجعل يده فنبع الماء من بين أصابعه، فصيح في الناس:
اشربوا، فشربوا، وسقوا حتى نهلوا وعلوا.
8 - ومنها: الذراع المسموم الذي كلمه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال،
إني مسموم، وذلك حين أهدته اليهودية، وقصته معروفة
ومشهورة.
9 - ومنها: حينما شكا إليه قوم ملوحة بئرهم وقلة
مائها، وأنهم يجدون من الظمأ شدة، فتفل فيها فغزر
ماؤها وطاب وعذب، وكان أهلها يفخرون بها
ويتوارثونها (1).
(1) لما ادعى مسيلمة الكذاب النبوة أتته امرأة وطلبت منه أن يدعو
الله لمائها ونخلها كما دعا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لأولئك القوم في بئرهم،
ففعل مسيلمة مثل ما فعل رسول الله وتفل في البئر، فغار ماؤها
ويبس نخلها.
57

10 - ومنها كلام الذئب، وذلك أن رجلا كان في غنمه
فأخذ منه الذئب شاة فأقبل يعدو خلفه فطرحها، وقال
بلسان عربي فصيح: تمنعني رزقا ساقه الله إلي؟ فقال
الراعي: يا عجبا للذئب يتكلم.
قال: أنتم أعجب في شأنكم عبرة للمعتبرين، هذا
محمد يدعو إلى الحق ببطن مكة وأنتم عنه لاهون،
فأبصر الرجل رشده وهداه الله وأقبل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وأبقى لعقبة شرفا وكانوا يعرفون ببني مكلم الذئب (1).
11 - ومنها: حديث الاستسقاء، وذلك حين شكا إليه
أهل المدينة العطش فدعا الله فمطروا، حتى أشفقوا من
خراب دورهم فسألوه في كشفه، فقال: اللهم حوالينا
ولا علينا، فاستدار حتى صار كالإكليل والشمس طالعة
(1) وفي رواية ابن شهرآشوب أن ذلك الرجل كان (جندب بن
جنادة) أبا ذر الغفاري (رحمه الله).
58

في المدينة والمطر يهطل على ما حولها، يرى ذلك
مؤمنهم وكافرهم، فتبسم (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: لله در أبي طالب لو
كان حيا لقرت عيناه، فقام أمير المؤمنين (عليه السلام) وقال: يا
رسول الله كأنك تريد قوله:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه * ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يطوف على الهلاك من آل هاشم * فهم عنده في نعمة وفواضل
12 - ومنها: انشقاق القمر بأمره، وقصته معروفة،
وغيرها وغيرها من إخباره بالمغيبات والكائنات مما هو
مدون ومشهور في كتب السير والتاريخ، ولو تتبعت ذلك
وجمعته لاحتجت إلى عدة مجلدات، بل ولتعذر جمعه
والإحاطة به، وكيف يمكن أن يصف اللسان أو القلم
فضله وشرفه، وهو خلاصة الوجود؟
أما أخلاقه: فقد مدحه الجليل في محكم كتابه
59

المجيد بقوله: * (وإنك لعلى خلق عظيم) * (1) فقد عجز
نعت الناعتين عن بعض صفاته الحميدة، من كرمه،
وشجاعته، وفصاحته، وبلاغته، وأمانته، وذكره،
وشكره، وعبادته، وكرم عشرته، وشفقته، وأدبه،
ورفقه، وتجاوزه، وبأسه، ونجدته، وعزمه، وهمته،
وعلمه، وحكمته، وزهده، وورعه، وصبره، ورضاه،
وسخائه، وجوده، إلى غير ذلك من خصال نفسه الزكية
ومكارم أخلاقه الحميدة (2).
ولادة فاطمة الزهراء (عليها السلام)
ولادة فاطمة الزهراء (عليها السلام)
حملت السيدة خديجة بفاطمة الزهراء (عليها السلام)،
وتصرمت أيام الحمل، ولم تزل خديجة (عليها السلام) على ذلك
(1) القلم الآية: 4.
(2) إلى هذا الحد أكتفي حتى لا أخرج عن الإيجاز، ومن يرد
التفصيل والاستقصاء فليراجع كتب السير والتاريخ المنتشرة.
60

إلى أن حضرتها الولادة، فوجهت إلى نساء قريش،
يجئن ويلين منها ما تلي النساء من النساء.
فأرسلن إليها: عصيتينا ولم تقبلي قولنا، وتزوجت
محمدا يتيم أبي طالب، فقيرا لا مال له، فلسنا نجئ ولا
نلي من أمرك شيئا.
فاغتمت خديجة لذلك... فبينا هي كذلك إذ دخل
عليها أربع نسوة طوال كأنهن من نساء بني هاشم،
ففزعت منهن، فقالت إحداهن: لا تحزني يا خديجة،
فإنا رسل ربك إليك، ونحن أخواتك: أنا سارة، وهذه
آسية بنت مزاحم، وهي رفيقتك في الجنة، وهذه مريم
بنت عمران، وهذه كلثم أخت موسى بن عمران، بعثنا الله
- تعالى - إليك لنلي من أمرك ما تلي النساء من النساء.
فجلست واحدة عن يمينها، والأخرى عن يسارها،
والثالثة من بين يديها، والرابعة من خلفها، فوضعت
فاطمة (عليها السلام) طاهرة مطهرة، فلما سقطت إلى الأرض
61

أشرق منها نور حتى دخل بيوتات مكة. وقالت النسوة:
خذيها يا خديجة طاهرة مطهرة زكية ميمونة، بورك
فيها وفي نسلها، فتناولتها فرحة مستبشرة (1).
يا حبذا من ليلة الميلاد * الليلة العشرين من جمادي
ميلاد بنت المصطفى الرسول * صديقة طاهرة بتول
سيدة إنسية حوراء * فاطمة زكية زهراء
يا ليلة سر بها محمد * إذ ولدت بنت النبي أحمد
(1) بحار الأنوار ج 6 ص 80 - 81، وج 43 ص 2 ح 1. أمالي
الصدوق ص 470 ح 1 ومصباح الأنوار.
62

ميلادها سر قلوب البشر * لأنها شفيعة في المحشر
وقرت العيون من ابناها * كذاك قرت عين من والاها
خديجة بمكة مليكة * كانت على العريش والأريكة
حق لها لو فخرت مدى الزمن * ببنتها أم الحسين والحسن
نور الإله قد ضحى وأشرق * غصن النبي قد علا وأورق
وأشرقت مكة بالأنوار * وطيبة كذاك بالأزهار
بكل الآفاق ضياؤها ضحى * أنار أطباق السماوات العلى
63

ونورها قد كان قنديل الضيا * معلقا في ساق عرش الكبريا (1)
عن جابر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قلت: لم سميت
فاطمة الزهراء " زهراء "؟ فقال: " لأن الله عز وجل
خلقها من عظمته، فلما أشرقت أضاءت السماوات
والأرضين بنورها، وغشت أبصار الملائكة، وخرت
الملائكة لله ساجدين وقالوا: إلهنا وسيدنا، ما هذا النور؟
فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري، أسكنته سمائي،
خلقته من عظمتي، أخرجه من صلب نبي من أنبيائي،
أفضله على جميع الأنبياء، وأخرج من ذلك النور أئمة
يقومون بأمري، يهدون إلى حقي وأجعلهم خلفائي في
أرضي بعد انقضاء وحيي ".
(1) الكوكب الدري للشيخ مهدي المازندراني نقله عنه الهمداني في
فاطمة الزهراء بهجة المصطفى.
64

وكان ميلادها (عليها السلام) ليلة العشرين من جمادي الثاني
في السنة الخامسة من البعثة الشريفة على أصح
الروايات عند أهل البيت (عليهم السلام).
نعم... هذا منبت فاطمة الزهراء... فقد ولدت من
الأصلاب الشامخة والأرحام الطاهرة لم تنجسها
الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسها من مدلهمات ثيابها
ولدت لأبوين كريمين طاهرين، وفي جو يغمره الحب
والحنان والوئام، في بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومما لا شك فيه فإن عوامل الوراثة والبيئة هذه التي
توفرت لفاطمة (عليها السلام)... مع ما جعل الله تعالى لها من الفضل
والكرامة، قد جعلت من فاطمة الوليدة الأولى في عالم
الإسلام التي لا تضاهيها وليدة أخرى.
ففي أجواء هذا البيت ولدت الزهراء، وتحت هذه
الظلال عاشت وترعرعت، وفي هذه الرعاية نشأت
وتربت، وكان طبيعيا أن تؤثر هذه البيئة العائلية على
65

حياة فاطمة، وشخصيتها، فتتأثر بأبويها، وتقتدي بخيرة
خلق الله، خلقا وإنسانية، فكانت خيرة النساء، وقدوة
المرأة المسلمة، وأم الأئمة الهداة.
وهذه فاطمة الزهراء (عليها السلام) سليلة أبوين جمعا المكارم
بكل أطرافه.
سليلة الرسالة السماوية، والوحي الإلهي وطيب
الأرومة.
سليلة النور والمآثر الحميدة، والمجد التليد، وأم
الأئمة الهداة الطاهرين.
أقول: وهل كرم الله سبحانه وتعالى زينب وأم كلثوم
ورقية كما كرم فاطمة الزهراء (عليها السلام) إذا كن شقيقاتها؟؟
صحيفة القاطعة، وشعب أبي طالب
وهل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كرمهن كما كرم بضعته فاطمة
الزهراء (عليها السلام) إذا كن شقيقات فاطمة كما يدعي
المخالفون.
وهذه بعض الأحاديث النبوية التي بحقها:
66

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاطمة بضعة مني من آذاها فقد
آذاني.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاطمة بضعة مني من أغضبها
فقد أغضبني.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاطمة روحي التي بين جنبي.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاطمة حوراء إنسية.
إلى غير ذلك من فضائل فاطمة التي ذكرها أصحاب
السير وأهل التاريخ والمحدثون في صحاحهم
ومسانيدهم (1).
صحيفة المقاطعة، وشعب أبي طالب
لما رأت قريش عز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن معه، وانتشار
الإسلام بين القبائل العربية، وعز أصحابه الذين هاجروا
(1) راجع المجلد الرابع من موسوعة المصطفى والعترة.
67

إلى الحبشة، بالإضافة إلى إعلان حمزة بن عبد
المطلب (رضي الله عنه) الإسلام، ووقوف علي بن أبي طالب (عليه السلام)
بفتوته مدافعا عن ابن عمه وعن دعوته الإسلامية،
ومناصرة بني هاشم وبني عبد المطلب، وتيقن
المشركون أن لا قدرة لهم على قتل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأن أبا
طالب لا يسلم محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم ولا يخذله. فأخذهم
الفرق من اتساع الدعوة وانتشارها، وأحسوا بالخطر
المحدق بهم على زعامتهم ومصالحهم وأن جميع
جهودهم وظلمهم ومقاومتهم للإسلام ولرسوله باءت
بالفشل. لذا حاولت قريش أن تقوم بتجربة جديدة غير
أسلوب الإرهاب والتعذيب، والضغط، فلجأت إلى
الحصار الاقتصادي والاجتماعي، ضد أبي طالب
والهاشميين، وهذا الحصار لا يخلو من ثلاث حالات:
إما أن يرضخوا لمطالبها في تسليم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لها
لتقتله.
68

وإما أن يتراجع محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) عن دعوته.
وإما أن يموتوا جوعا وذلا، وهذا الإجراء يرفع
المسؤولية عن الفرد المحدد، فتكون مسؤوليته جماعية
عامة، فقروا هذا الرأي بعد اجتماع مشيخة قريش في
دار الندوة.
اجتمعوا في دار الندوة، وتداولوا الآراء مع شياطينهم
وقلبوا الأمور ظهرا لبطن، فاتخذوا قرارا بالإجماع أن
يكتبوا صحيفة مقاطعة بني هاشم ويودعوها في الكعبة
بشروط قاسية وملزمة لكل من قريش وكنانة ومن
تابعهم، وهي أن لا يبايعوا بني هاشم ولا يشاوروهم، ولا
يحدثوهم، ولا يجتمعوا معهم، ولا يناكحوهم ولا يقضوا
لهم حاجة ولا يعاملوهم حتى يدفع بنو هاشم إليهم
محمدا فيقتلوه، أو يخلوا بينهم وبينه أو ينتهي من تسفيه
أحلامهم.
ووقع على هذه الصحيفة أربعون زعيما من وجوه
69

قريش وكنانة، وختموها بأختامهم، وعلقت هذه الوثيقة
في الكعبة، وكان ذلك في سنة سبع من البعثة على أشهر
الروايات.
ولما علم أبو طالب بصحيفة المقاطعة، قام إليهم
يحذرهم الحرب، وقطيعة الرحم، وينهاهم عن اتباع
السفهاء، ويعلمهم استمراره على مؤازرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
بكل ما يستطيع من قوة ويذكرهم بفضله وشرفه،
ويضرب لهم المثل بناقة صالح، ويذكرهم بإلغاء أمر
الصحيفة. بقوله:
ألا أبلغا عني على ذات بينها * لؤيا وخصا من لؤي بني كعب
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب
وأن عليه في العباد محبة * ولا حيف فيمن خصه الله بالحب
70

وأن الذي لفقتم في كتابكم * يكون لكم يوما كراغية السقب
أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الزبى * ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب
ولا تتبعوا أمر الغواة وتقطعوا * أواصرنا بعد المودة والقرب
إلى آخر الأبيات المذكورة في ديوان أبي طالب وفي
كتاب، إيمان أبي طالب - للإمام شمس الدين بن معد
المتوفى سنة 630 ه‍ -.
ودخل بنو هاشم الشعب - شعب أبي طالب - ومعهم
بنو المطلب بن عبد مناف باستثناء عبد العزى (أبي
لهب)، لعنه الله وأخزاه، واستمروا فيه إلى السنة
العاشرة، وكانوا ينفقون من أموال السيدة خديجة بنت
خويلد، وأموال أبي طالب (عليه السلام) حتى نفدت، ولقد
اضطروا بعدها إلى أن يقتاتوا بورق الشجر، وكان
71

صبيتهم يتضورون جوعا، وظل المسلمون في شعب
أبي طالب يقاسون الجوع والحرمان لا يخرجون منه إلا
في أيام الموسم، موسم العمرة في رجب، وموسم الحج
في ذي الحجة، فكانوا يشترون حينئذ ويبيعون ضمن
ظروف صعبة جدا.
وكان علي بن أبي طالب (عليه السلام) يأتيهم بالطعام سرا من
مكة، من حيث تمكن، وقد كان يأتيهم سرا من أناس
كانوا مرغمين على مجاراة قريش كهشام بن عمرو أحد
بني عامر، الذي كان يأتي بالبعير بعد البعير ليلا محملا
بأنواع الطعام والتمر إلى فم الشعب، فإذا انتهى به إلى
ذلك المكان نزع عنه خطامه وضربه على جنبيه،
فيدخل الشعب بما عليه، ولكن تلك الصلات البسيطة لم
تكن لتكفيهم. والسيدة خديجة كانت تشاركهم شظف
العيش وفاطمة صبية في أول عمرها.
واستمرت هذه المحنة ثلاث سنين، من السنة
72

السابعة إلى العاشرة من البعثة، عند ذلك تلاوم رجال من
بني عبد مناف ومن قصي وسواهم من قريش قد ولدتهم
نساء من بني هاشم على هذا الحصار الظالم والمقاطعة
الجائرة.
وأول من سعى إلى نقض الصحيفة والاتفاق، وفك
الحصار عن الهاشميين، هشام بن عمرو، وزهير بن أبي
أمية المخزومي، والمطعم بن عدي، وزمعة بن المطلب
بن أسد، والبختري بن هشام، واتفقوا أن يفدوا إلى
أنديتهم، ويعلنوا رفض المقاطعة، وإنهاء الحصار.
وجاء في سيرة ابن هشام: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال
لعمه أبي طالب: يا عم إن ربي الله قد سلط الأرضة على
صحيفة قريش، فلم يدع اسما إلا (باسمك اللهم).
فقال: ربك أخبرك بهذا؟ قال: نعم.
فخرج أبو طالب إلى أندية قريش قبل أن يثير النفر
الخمسة اعتراضهم على الحصار والمقاطعة، وقال: يا
73

معشر قريش أن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلموا إلى
صحيفتكم، فإن كان كما قال ابن أخي فانتهوا عن قطيعتنا
وأنزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبا دفعت إليكم ابن أخي،
فقال القوم بأجمعهم: قد أنصفت ورضينا، وتعاقدوا على
ذلك.
وقام المطعم إلى الصحيفة وجاء بها وفتحت على
مرأى من الجميع فإذا بها كما أخبرهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على
لسان عمه أبي طالب، قد أكلت الأرضة جميع حروفها
" إلا بسمك اللهم " ومزقت الصحيفة، بعد موقف هؤلاء
النفر الذين أبت نفوسهم الكريمة هذه القطيعة التي كادت
أن تقضي على الهاشميين.
وفي تلك السنة، وقبل الهجرة بثلاث سنين، مرض
أبو طالب ثم توفي، رضوان الله عليه، وكان ذلك في شهر
شوال، السنة العاشرة من البعثة النبوية، وكان له من
العمر ست وثمانون سنة، وقيل تسعون سنة، ودفن
74

بالحجون إلى جنب قبري جده وأبيه.
لما حضرت أبا طالب الوفاة، دعا أولاده، وإخوته
وأحلافه وعشيرته وأكد عليهم في وصيته نصرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ومؤازرته، وبذل النفوس دون مهجته،
وعرفهم ما لهم في ذلك من الشرف العاجل والثواب
الآجل، وأنشأ يقول:
أوصي بنصر نبي الخير أربعة * ابني عليا وشيخ القوم عباسا
وحمزة الأسد الحامي حقيقته * وجعفرا أن تذودوا دونه الناسا
كونوا فداء لكم أمي وما ولدت * في نصر أحمد دون الناس أتراسا
فهذا الحديث وحده يكفي للدلالة على إيمان أبي
طالب رضوان الله عليه.
وهناك وجوه كثيرة تدل على صدق إيمانه بالله
75

وإقراره بالنبوة نذكر منها وجهين: أحدهما: أمر
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) أن يفعل به ما يفعل بأموات
المسلمين من الغسل والتحنيط والتكفين دون الجاحدين
من أولاده، إذ لم يكن حضر أحد منهم سوى علي أمير
المؤمنين (عليه السلام) من المؤمنين، وأما جعفر فكان يومئذ عند
النجاشي ببلاد الحبشة، وأما طالب وعقيل فكانا يومئذ
حاضرين، ولكنهما كانا مقيمين على خلاف الإسلام،
ولم يسلم واحد منهما بعد، فخص بذلك عليا أمير
المؤمنين (عليه السلام) بتوليه أمره وتجهيزه لمكان إيمانه، ولم
يتركه لهما على رغم أنهما أكبر من علي (عليه السلام) سنا
لمباينتهما له في معتقده، ولو كان أبو طالب مات كافرا،
لما أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا بتولية أمره لانقطاع العصمة
بين الكافر والمسلم، ولتركه لهما كما ترك عمه الآخر أبا
لهب. ولم يعبأ بشأنه، ولم يحفل بأمره، وتوليه علي (عليه السلام)
تجهيزه من دون أخويه اللذين هما أكبر منه، شاهد قاطع
76

على صدق إيمان أبي طالب وإسلامه.
والوجه الآخر تأبين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا طالب بهذه
الكلمات الرائعة الخالدة، والدعاء له " وصلتك رحم
وجزيت خيرا " ووعد أصحابه بالشفاعة له التي يعجب
بها أهل الثقلين، وموالاته بين الدعاء له والثناء عليه،
لدليل قاطع على إسلام أبي طالب وإيمانه، ومنتهى الأمر
أنه كان يكتم إيمانه ولا يجاهر به، لمصالح تتعلق بحفظ
الإسلام ودعوة التوحيد وهي في أيامها الأولى،
وكان (رضي الله عنه) يجاهر بالنصرة والحماية. وشيعه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى
مدفنه في مقابر قريش بالحجون إلى جنب أبيه عبد
المطلب، وجده عبد مناف (رحمهم الله).
ولم تكن الصلاة على أموات المسلمين مشرعة غير
هذه الصلاة في صدر الإسلام، حتى فرض الله سبحانه
صلاة الجنائز فيما بعد، ومثل ذلك صلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على
زوجته الطاهرة السيدة خديجة، سلام الله عليهما.
77

ثم رثى الإمام علي (عليه السلام) أباه أبا طالب بهذه الأبيات.
أبا طالب عصمة المستجير * وغيث المحول ونور الظلم
لقد هد فقدك أهل الحفاظ * فصلى عليك ولي النعم
ولقاك ربك رضوانه * فقد كنت للمصطفى خير عم
وبعد أيام مرضت السيدة خديجة بنت خويلد،
فدخل عليها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تجود بنفسها، فقال:
بالكره مني ما أرى، ولعل الله أن يجعل في الكره خيرا
كثيرا.
وفاة الأم
وبعد شهر وخمسة أيام من وفاة السيدة خديجة توفي
عمه أبي طالب، وذلك في منتصف شهر شوال من تلك
78

السنة، ولها من العمر خمس وستون سنة.
عزت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الفاجعة، وشقت
عليه، وقد اجتمعت عليه مصيبتان دفعة واحدة، فقد
عمه وحاميه أبي طالب، وفقد زوجته وحبيبته خديجة
بنت خويلد، فقال: والله لا أدري بأيهما أشد جزعا.
فلزم بيته، وقل خروجه، وطمعت فيه قريش، إذ فقد
حاميه، ونالت منه ما لم تكن تنال ولا تطمع به من قبل.
ومما يذيب القلب حسرة أن خديجة (عليها السلام) توفيت قبل
مضي عام واحد على خروجها وخروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
وصحبه من شعب أبي طالب (1)، والزهراء بعد لم تذق
طعم الحياة، وتتنفس الصعداء وتتلمس الراحة، حين
فجعت بوفاة أمها الرؤوم، فأخذ هذا الحادث المفاجئ
منها مأخذا عظيما، وصدع روحها الشفيفة ومشاعرها
(1) مناقب ابن شهرآشوب ج 1 ص 174.
79

الحساسة وصدمها صدمة ذوت لها زهور الأمل،
وانهمرت دموعها الساخنة على فقد أمها الحبيبة، وهي
تبحث عنها في كل مكان. فإن يتم الأم أعظم أثرا من يتم
الأب لدى الطفل.
وجعلت تلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتدور حوله وتقول:
" أبه أين أمي؟! " تكرر ذلك عدة مرات فنزل جبرئيل
فقال له: " ربك يأمرك أن تقرأ فاطمة السلام وتقول لها:
إن أمك في الجنة في بيت من قصب، لا تعب فيه ولا
نصب " (1).
عمر السيدة خديجة (عليها السلام)
عمر السيدة خديجة (عليها السلام)
في تاريخ دمشق لابن عساكر: ولدت السيدة
خديجة بنت خويلد قبل عام الفيل بخمس عشر سنة في
(1) ينابيع المودة ص 313. البحار ج 16 ص 1.
80

مكة، واقترنت بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة، وعمرها حينذاك
أربعين سنة (1)، وبقيت معه أربع وعشرين عاما، وقد
توفيت في مكة قبل الهجرة بثلاث سنين - في السنة
العاشرة من البعثة، بعد خروجها من شعب أبي طالب،
وكان عمر فاطمة (عليها السلام) يناهز الخمس أو الست سنين،
وعندما توفيت كان عمرها المبارك أربع وستين سنة،
ودفنت في مقابر قريش بالحجون وعندما كانت تنازع
ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند رأسها قال لها: على كره مني ما
أرى بك، وعسى أن تكرهي شيئا فيجعل الله فيه خيرا
كثيرا.
ولما قضت نحبها جهزها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحفر لها
قبرا في مقابر قريش بالحجون بالقرب من قبور سادات
قريش، وقد أنزلها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حفرتها وألحدها،
(1) وفي رواية ابن عباس ثمان وعشرون عاما.
81

ولم يكن يومذاك صلاة الجنازة (1).
وقال ابن الأثير في الكامل: توفي أبو طالب في
شوال من تلك السنة، وقد توفيت السيدة خديجة قبله
بخمسة وثلاثين يوما في الحادي عشر من شهر رمضان.
فعظمت المصيبة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهلاكهما حتى
سمى ذلك العام، بعام الأحزان.
كنيتها
وقال ابن إسحاق، فتتابعت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
المصائب بموت خديجة، وأبي طالب اللذين كان يسكن
إليهما، وكانا الدرع الواقي الحصين، وبموتهما، نشطت
قريش واستكلبت على إيذائه (2).
يلاحظ: مدى الاختلاف في عمر السيدة خديجة
عند اقترانها بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)، فبعضهم يقول: كان
(1) وقد حصل لي الشرف بزيارة مرقدها ومراقد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
كلما سنحت لي فرص التشرف للحج أو أداء العمرة المفردة.
(2) أعيان الشيعة: ج 6 / 308 - 309.
82

عمرها 25 سنة، وآخر يقول: 28، وثالث 30 ورابع
35، وخامس 40، وسادس 45 سنة كان عمرها ولكن
المشهور هو قول الخامس أي أن عمرها 40 سنة
واشتهاره خطأ وبدون سند.
كنيتها
تكنى أم هند، والطاهرة، في الجاهلية.
وفي ذيل المذيل وغيره: أول امرأة تزوجها رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خديجة بنت خويلد، وجميع أولاده منها، غير
إبراهيم، وأمه مارية القبطية. ولم يتزوج غيرها في
حياتها حتى ماتت، سلام الله عليها.
أقوال العلماء في حقها
في سيرة بن هشام ج 2 ص 19: كانت السيدة خديجة
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وزير صدق على الإسلام.
وفي الاستيعاب: كانت تدعى بالطاهرة في الجاهلية.
83

وفي الإصابة، عن الزبير بن بكار: كانت تدعى قبل
البعثة " الطاهرة ".
وفي السيرة الهشامية عن ابن إسحاق: آمنت خديجة
برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصدقت بما جاء به من الله، ووازرته
على أمره، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله وصدق بما
جاء به من الله ووازرته على أمره، فقد خفف الله بذلك
عن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه
وتكذيب له فيحزنه إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها،
فتثبته وتخفف عنه وتصدقه، وتهون عليه من أمر الناس،
وهناك أقوال وروايات كثيرة لم نذكرها روما للاختصار.
فضائلها ومناقبها
كفاها فخرا أنها أسبق نساء الأمة إسلاما وإيمانا.
فضائلها ومناقبها
وفي أسد الغابة بسنده عن أنس قال، قال رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خير نساء العالمين مريم بنت عمران، وآسية
84

بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد،
وفاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
ذكر ذلك أرباب السير والتاريخ كافة، في مصادرهم
وبألفاظ مختلفة.
وفي أسد الغابة عن عائشة: قالت: ما غرت على أحد
من أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما غرت على خديجة، وما بي أن
أكون أدركتها. وما ذاك إلا لكثرة ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لها،
وإن كان ربما يذبح الشاة يتبع بها صدائق خديجة فيهديها
لهن.
وبسنده عن عائشة: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يكاد
يخرج من البيت حتى يذكر خديجة فيحسن الثناء
عليها، ذكرها يوما من الأيام فأدركتني الغيرة، فقلت:
هل كانت إلا عجوزا، فقد أبدلك الله خيرا منها، فغضب
حتى اهتز مقدم شعر رأسه من الغضب، ثم قال: والله ما
أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني
85

إذ كذبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني الناس،
ورزقني الله منها أولادا إذ حرمني أولاد النساء -
الحديث -.
وفي تاريخ دمشق لابن عساكر - مثل ذلك بلفظ
آخر، إلى أن قال: كيف قلت؟!، والله لقد آمنت بي إذ
كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس.. إلى آخر
حديثه (صلى الله عليه وآله وسلم).
دين السيدة خديجة
أحمد بن جعفر القطيعي... أتى جبرائيل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وكان يتحنث في الغار فقال: يا رسول الله هذه خديجة قد
أتتك ومعها إناء فيه أدام أو طعام أو شراب فإذا هي أتتك
فاقرأ عليها السلام من ربها، وبشرها ببيت في الجنة من
قصب لا صخب فيه ولا نصب، هذا حديث صحيح على
شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ورواية أحمد بن سهيل ببخارى،... عن أنس، قال:
أتى جبرئيل (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعنده خديجة (رضي الله
86

عنها) فقال: إن الله يقرئ خديجة السلام، فقالت: إن الله
هو السلام، وعليك السلام ورحمة الله وبركاته.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم
يخرجاه.
وفي أسد الغابة بسنده: دخل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على
خديجة في مرضها الذي ماتت فيه فقال: بالكره مني ما
أتى عليك يا خديجة، وقد يجعل الله في الكره خيرا
كثيرا " الحديث ".
وهناك أحاديث كثيرة في فضل خديجة أعرضنا عنها
روما للاختصار.
دين السيدة خديجة
من الأديان السائدة في الجزيرة العربية حينذاك
وخاصة في مكة عبادة الأوثان ويقال لعبدتها
المشركون، ويليهم في الكثرة الأحناف الذين بقوا على
87

دين أبيهم إبراهيم الخليل ويدينون الله سبحانه وتعالى
به، ويليهم النصارى، واليهود، والصابئة وقليل منهم
يدينون بالركوسية، وهي خليط من عقائد الصابئة
والنصرانية، كما كانت تدين بها قبيلة طي.
هذا ما كان من الأديان السائدة حينذاك، ومن الذين
يدينون الله بملة إبراهيم من قريش هم بنو هاشم بن عبد
مناف إلا ما شذ منهم مثل " أبي لهب " عبد العزى بن عبد
المطلب، حيث صاهر بني أمية ودان بدينهم.
وكثير من بني زهرة، وبني أسد، كانوا من الأحناف
يدينون الله بدين إبراهيم الخليل، ومنهم السيدة خديجة
بنت خويلد كانت تدين الله بالحنيفية، وكذلك ابن عمها
ورقة بن نوفل الذي دان بالنصرانية بعد أن كان حنيفيا.
وكذلك السيدة آمنة بنت وهب وأهلها من بني زهرة
والدة النبي الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) والسيدة فاطمة بنت أسد
الهاشمية وأهلها والدة الإمام علي أمير المؤمنين
88

وغيرهم (عليهم السلام) كما يؤيد ذلك الزيارات الواردة عن الأئمة
الطاهرين (عليهم السلام): " بقولهم أشهد أنك كنت نورا في
الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، لم تنجسك
الجاهلية بأنجاسها، ولم تلبسك من مدلهمات ثيابها "
ولا يمكن عقلا، وشريعة، وسليقة، أن يولد حماة الدين
من أصلاب المشركين، أو الأرحام المدنسة بأنجاس
الجاهلية، وقد قال الله سبحانه وتعالى: * (لا ينال عهدي
الظالمين) *، والشرك هو الظلم بعينه، وشاء الله الحكيم
أن يحفظ رحم السيدة الطاهرة خديجة الكبرى ليكون
وعاء طاهرا لصلب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويحتوي النطف
الطاهرة (فاطمة الزهراء، وأشقائها القاسم وعبد الله)
المكنى " بالطيب والطاهر " وقد توفاهما الله لحكمته
وهم أطفال، وما أنجبت خديجة غيرهم، ولم يأذن الله
سبحانه وتعالى أبدا أن تولد السيدة فاطمة الزهراء سيدة
نساء العالمين وولداها الحسن والحسين سيدا شباب
89

أهل الجنة وذريتها الأئمة الطاهرون المعصومون أن
يولدوا من نطف أو أرحام كافرة أو مشركة نجسة،
حاشا لله.
أقول:
ما كانت أم المؤمنين خديجة مشركة ولا انحنت لصنم
بل كانت هي وآباؤها موحدون أحناف مسلمون يدينون
الله تعالى على ملة أبيهم إبراهيم (عليه السلام) وكان قبل بعث
الإسلام هو الدين الحق، والمقبول من قبل السماء.
ولو أن سنة النكاح الجارية عند المشركين في
الجاهلية مشروعة وليست سفاحا إلا ما شذ منها مثل
نكاح زوجة الأب بعد موته، غير أنها لا توازي طهارة
وشرعية نكاح الأحناف الموحدين قبل البعثة.
وأين نسبة نكاح الإيمان من نكاح الكفر؟!!
عذرية خديجة
90

عذرية خديجة
لقد أثبت المرحوم القاضي الشيخ عبد الواحد
الأنصاري بأدلة قاطعة من مصادر موثوقة في سلسلته
التاريخية أن السيدة خديجة حينما اقترنت بالنبي كانت
عذراء باكر لم يمسها بشر، وأن ما ادعاه المؤرخون من
أهل السنة، من زواجها باثنين من المشركين هي أقوال
لا يركن إليها ولا تستند على أساس متين إنما هي
تكهنات وفرضيات أموية يراد منها توهين مقام السيدة
خديجة (عليها السلام) وإعلاء شأن عثمان بن عفان ليجعلوه صهرا
لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأطلقوا عليه لقب - ذي النورين -.
نعود إلى المزاعم القائلة بزواج السيدة خديجة (عليها السلام)
من رجلين جاهليين قبل اقترانها بالمصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم)
فنقول: إن ذلك لا يناسب هذه المرأة الجليلة، الموحدة
والحنيفية الدين أن يطأها مشركان، والتي عرفت لها
91

مكانتها الشامخة المرموقة في وسطها من قريش،
وكانت تدعى ب‍ (الطاهرة) وقد دون لها التاريخ سيرتها
العطرة، حتى امتازت بين سيدات مجتمعها، فكيف
تقترن برجلين نكرتين، أمثال أبي هالة زرارة التميمي،
أو عتيق بن عائد المخزومي، في الوقت الذي هجرتها
نساء قريش حينما اقترنت بالمصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) وغضبن
عليها، فقلن لها: خطبك أشراف قريش وأمراؤهم فلم
تتزوجي أحدا منهم، وتزوجت محمدا يتيم أبي طالب
فقيرا لا مال له؟!!
مع أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في نظر قريش، ذو نسب شريف
والمعروف بالصادق الأمين، وحفيد عبد المطلب سيد
البطحاء وشيخ قريش، وابن أخ أبي طالب الذي انتهت
إليه زعامة البطحاء، فكيف يجوز عقلا أن تتزوج السيدة
خديجة من مشركين، وهي الحنيفية دينا وتترك سادات
قريش وتمتنع من أشرافهم؟!! ألا يعلم أهل البصائر
92

وذوي النهى أنه من أبين المحال، وأفضع المقال؟!!
ولكن المؤرخون من أهل السنة مجمعون على أن
السيدة خديجة متزوجة برجلين قبل اقترانها برسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ولكنهم اختلفوا في زينب ورقية وأم كلثوم في
هل هن بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة (عليها السلام) أم أنهن
بنات زوجيها السابقين، والمؤرخون ينقلون الأخبار
على عواهنها ويرددونها دون تحقيق أو تمحيص،
وكذلك قولهم إن زينب ورقية كانتا ابنتي هالة أخت
خديجة.
والحق نسبهما ونسب أخيهما هند، برسول الله
وخديجة كما في سنة العرب الجاهلية، لأن اسم خديجة
كان نابها شائعا معروفا، واسم أختها هالة خاملا مغمورا،
فظنوا لما غلب اسم خديجة على اسم أختها هالة.
أقول: لقد اختلف المؤرخون من أهل السنة،
وتضاربت آراؤهم فيمن تزوج بالسيدة خديجة قبل
93

اقترانها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمنهم من قدم عتيق بن عابد
المخزومي، ومنهم من قدم مالك بن زرارة التميمي،
فولدت له هند، ومنهم من يقول غير ذلك!! كل ذلك
للحط من السيدة الطاهرة خديجة.
لقد تحدث المؤرخون والمؤلفون في السيرة عن
النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل زواجه من خديجة، يوم كان
يسافر في تجارتها، وأضاف أكثر المؤلفين في سيرة
الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن خديجة بنت خويلد التي جمعت
إلى جانب ثروتها المادية، الشرف، والعفة، والذكاء
والصون، والكرم، وأصبحت تعد السيدة الأولى في مكة
في ذلك العصر، وبعد أن عرفت هذه السيدة ما كان يتمتع
به محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من صفات الكمال التي رفعته
على السادة من أشراف قريش من مكارم أخلاقه
وصدقه، وأمانته، وعفته، وخدماته التي كان يقدمها
لذوي الحاجات، بعد أن اشتهر أمره بذلك، ولقب
94

ب‍ (الصادق الأمين) دعته السيدة خديجة إلى المضاربة
في تجارتها إلى الشام لقاء أجر معين يعادل ضعفي ما
كانت تفرضه لغيره من المكيين، وفي بعض الروايات
تنص أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ضاربها في تجارتها وما كان أجيرا لأن
مكانته السامية أرفع من أن يكون أجيرا بأموالها. وتشاء
الإرادة أن يلبي طلبها ويذهب لأول مرة في تجارتها مع
غلام لها يدعى ميسرة كمعاون له على إدارة شؤون
القافلة ورعاية الإبل حسبما تفرضه المصلحة، وللتثبت
عما يتمتع به (صلى الله عليه وآله وسلم) من الصفات الحميدة ومكارم
الأخلاق، والأمانة، والإخلاص، وسمو الذات.
وتمت الرحلة والتقى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أبو الموهيب
الراهب، وميسرة يشاهد كل ما حدث وما جرى من
غرائب الأمور والمعاجز التي لم ير لها مثيلا من قبل في
سفراته السابقة، وكانت مع ذلك تلك الرحلة ناجحة
تجاريا، وأرباحها خيالية قفزت عن الربح المتعارف
95

بشكل لم يكن أحد يتصوره من التجار، ورجعت القافلة
تحرسها عناية الله سبحانه، وأسرع ميسرة إلى مكة تاركا
محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن معه من التجار ليقص عليها أخبار تلك
الرحلة وما شاهده من محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأبو الموهيب
الراهب من الكرامات التي تدهش وتحير العقول، من
الغمامة التي كانت تظلل عليه من الشمس وغيرها.
دخل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة في اليوم الثاني ومضى من
ساعته ليؤدي الأمانة إلى خديجة، فاستقبلته ببشاشتها
المعروفة وشكرت له جهوده، وهنأته بسلامة العودة،
لكنها أحست بشئ جديد طرأ على حياتها، وباتت
ليلتها تفكر في أمر هذا الإنسان، الذي ملك إحساسها
وترقبت له مستقبلا حافلا بالأحداث ستنجلي عنه الأيام
والأعوام القريبة القادمة، وكانت قد صممت أن تعيش
بعيدة عن الرجال ومشاكلهم أيام فتوتها وشبابها،
وهاهي اليوم أشد تصميما على ذلك وقد أصبحت على
96

أبواب الأربعين من عمرها، ولكنها عادت تفكر في
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لا في غيره من الرجال الذين تقدموا
لخطبتها من قبل طمعا في مالها وثروتها، وودت لو
يبادلها هذا التفكير ويتقدم في خطبتها، لكنه لم يصنع
شيئا من ذلك، فأرسلت إليه مع امرأة من المكيات
صديقتها تدعى نفيسة ابنة منبه لتسأله عما يمنعه من
الزواج وقد بلغ الخامسة والعشرين من عمره، فأجابها
بأن لا شئ يمنعه إلا عدم توفر المال لديه، ولما نقلت
إليه رغبة خديجة، رحب بتلك البادرة وعرضها على
عمه الكفيل أبي طالب خاصة وبقية أعمامه فتلقاها
أعمامه بالقبول والترحاب، وكلهم يعرف فضل خديجة
وثراءها الواسع وشرفها العريق، وذهب أبو طالب من
ساعته ومعه حمزة بن عبد المطلب وبعض بني عبد
المطلب إلى عمها عمرو بن أسد، لأن أباها خويلد بن
أسد قتل مع من قتل من قريش في حرب الفجار.
97

وخطب خطبته المعروفة التي سبق ذكرها.
وقد سبق أن ذكرنا تقدم الأشراف من سادة قريش
لخطبتها، فردتهم وامتنعت عن الزواج من أحدهم طمعا
في أموالها، ولكنها وجدت في محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
شيئا أسمى مما تعهده في سادات قريش الذين تقدموا
لخطبتها، فقد وجدت فيه حسب المعلومات التي
توفرت لديها عنه ضربا آخر من الرجال، لا تستغويه
أمتعة الدنيا، ولديه من مكارم الأخلاق ما يرتفع به فوق
الجميع، وكان رجل أحلامها. فطلبته إلى نفسها،
وأرسلت إليه من يشجعه على خطبتها كما ذكرنا ذلك من
قبل.
وهذا البحث يدلنا على أن السيدة خديجة لما اقترنت
بالنبي كانت عذراء بكر وهو أول رجل يتزوجها أو قبلت
بالزواج منه.
وليس غريبا على المرأة الفاضلة كخديجة أن تطلب
98

لنفسها محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتفضله على سادة مكة
وأشرافها، فلقد كان القمة في صفاته الحميدة التي لم
يعرف له العرب مثيلا في ماضيهم وحاضرهم، واجتهد
خصومه أن يجدوا في حياته ولو نزوة تخدش تاريخه
المجيد، وسلوكه المستقيم، أو مغامرة منه لنيل جاه أو
اصطياد ثروة، أو انحراف مع غرائز الشباب التي تثور
وتتمرد أحيانا على العقل والخلق والحكمة فلم يجدوا
شيئا من ذلك، وكان قد جمع إلى ذلك من صباحة الوجه
وجمال التركيب، ما لم يتوفر في أحد سواه كما ووصفه
عارفوه:
وأحسن منك لم تر قط عيني * وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرءا من كل عيب * كأنك قد خلقت كما تشاء
وقال أديب آخر:
99

بلغ العلى بكماله * كشف الدجى بجماله
حسنت جميع خصاله * صلوا عليه وآله
عدا أن بعضهم يقول: إن زينب ورقية وأم كلثوم من
أزواج خديجة الأول.
وانفرد السيد هاشم معروف الحسني بأن أم المؤمنين
خديجة أنجبت له (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة أولاد ما بين ذكور وإناث
وهم القاسم وبه يكنى، وزينب، ورقية، وأم كلثوم،
وعبد الله، وفاطمة، وتوفي القاسم بعد أن بلغ سن يمكنه
ركوب الدابة، على حد تعبير الشيخ الغزالي في كتابه
(فقه السيرة) ومات عبد الله وهو طفل وكان يكنى
بالطيب والطاهر، وماتت سائر بناته في حياته إلا
فاطمة (عليها السلام) فإنها عاشت بعد أبيها خمسة وسبعين يوما
كما جاء في رواية الكليني، أو ستة أشهر كما جاء في
رواية المؤرخين.
فقد كانت السيدة الطاهرة خديجة تنظر بنور الله
100

وثاقب بصيرتها إلى ما ينتظر محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من
الرفعة، والعظمة، والخلود، في رسالته التي قيضه الله
تعالى واعده لحملها، بعكس ما ينظرن سيدات مجتمعها
من الأمور الظاهرية المادية وحطام الدنيا الزائل.
هذا ما كان يعتقده أئمة أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم.
أما ما يذهب إليه مؤرخو العامة من أهل السنة، فيه
خلط كثير، ومذاهب شتى، متضاربة بحيث يتيه القارئ
بأيها يأخذ، كل ذلك التأويل والتهويل غايتهم إثبات بنوة
زينب ورقية لرسوله الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكونهما شقيقتي فاطمة
الزهراء من أمها وأبيها ليرفعوا بذلك من شأن عثمان بن
عفان الذي تزوجهما الواحدة بعد الأخرى حتى يكنى
(بذي النورين)، وهي واحدة من المؤامرات والمكائد
التي حاكها الحزب القرشي والحزب الأموي حقدا
ونكاية للسيدة أم المؤمنين خديجة بعد موتها، لأنها
سخرت جميع ما تملك لخدمة الدين العزيز وتثبيت
101

رواسي الرسالة، ولولا أموال خديجة ودفاع عمه أبي
طالب، وسيف علي بن أبي طالب (عليه السلام) لما قام لهذا الدين
من قائم، كما أن حسد المنافقين، وأعداء الإسلام
وحقدهم على السيدة خديجة وابنتها فاطمة الزهراء (عليها السلام)
وبعلها وأبيه أبي طالب، كان ظاهرا للنيل منهم.
وحاك على منوالهم الحزب الأموي، وبذلوا الأموال
الطائلة لمن لا حريجة له في الدين من الوضاعين
والكذابين وحملة الأقلام المسمومة لتشويه معالم الدين
بتلفيق الأحاديث المنحرفة، وخلق أحاديث ما أنزل الله
بها من سلطان من المفتريات - أمثال كعب الأحبار،
وأبي هريرة، وسمرة بن جندب، والمغيرة بن شعبة،
وابن أبي الدرداء، وغيرهم من الحاسدين والمنافقين
والطامعين الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر والغدر
والعداء لمؤسسي الدين، وفي طليعتهم أم المؤمنين
خديجة (عليها السلام) ليعزوا إليها أنها تزوجت بأعراب جاهليين،
102

وتركت سادة قريش وأشرافهم، وأنجبت منهم البنات
اللاتي تزوجن في الجاهلية من المشركين، ومن ثم
تزوجن بعثمان بن عفان بعد إسلامهن - ليشرفوه بلقب
" ذي النورين ".
والحقيقة كما ذكرنا في المقدمة أنهن بنات (هالة)
أخت خديجة من الأعرابي عتيق المخزومي، أو من أبي
هند التميمي إلى غير ذلك الأدلة المقبولة عقلا ونقلا من
الفريقين.
والحقيقة التاريخية الثابتة والمنطقية، هي أن زينب
ورقية، بنات أخت خديجة (هاله) تزوجها رجل
مخزومي فولدت منه بنتا، ثم خلف عليها زرارة التميمي
يقال له (أبو هند) فأولدها ولدا اسمه هند بن أبي هند
وابنتين زينب، ورقية، ومات أبو هند وقد بلغ ابنه هند
والتحق بقومه، وبقيت هالة أخت خديجة، والبنتان
اللتان من التميمي " زينب ورقية " فضمتهم خديجة
103

إليها، وبعد أن تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخديجة بمدة
يسيرة ماتت أختها هالة، وخلفت البنتين، (زينب
ورقية) في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحجر خديجة.
وكان من سنة العرب في الجاهلية إن من يربي يتيما
ينسب ذلك اليتيم إليه، ولا يستحل التزوج بمن يربيها،
لأنها كانت عندهم بزعمهم بنتا لمربيها، فلما ربى رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة هاتين البنتين أصبح نسبتهما إليهما،
وهما في الحقيقة بنتا أبي هند التميمي من زوجته هالة
أخت خديجة.
إلى آخر ما ذكر في أعيان الشيعة، نقلا عن كتاب
الإغاثة، للشريف أبي القاسم علي بن أحمد الكوفي
العلوي المتوفى سنة 352.
وقد تزوجت زينب حين بلوغها بأبي العاص بن
الربيع زعيم المشركين، وهل من المعقول والمنطق أن
النبي الهادي للأمة من ضلال المشركين أن يزوج ابنته
104

من ابن زعيم المشركين؟ وهو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمينه
على وحيه الذي صدع بجهاد المشركين وتسفيه
أحلامهم كما أن رقية وأم كلثوم تزوجتا بعتبة وعتيبة ابني
عبد العزى بن عبد المطلب عم النبي المعروف " بأبي
لهب "، والذي نزلت فيه سورة تندد به وتلعنه - " تبت
يدي أبي لهب وتب " إلى آخر السورة التي تصف امرأته
أم جميل بنت أبي سفيان بحمالة الحطب، فهل من
المنطق والمعقول لذوي الألباب أن يزوج بنتيه إلى فساق
المشركين من قريش؟! - لا ه الله - وألف كلا وما عرض
هذا على عاقل ولبيب فصدق - وقد قيل: " حدث العاقل
بما لا يليق فإن صدق فلا عقل له ".
ومما يدل على ما قدمناه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما انفك طيلة
أيام حياته ومن حين ما توفت زوجته خديجة يحيط
جل عنايته ورعايته ببضعته الزهراء فاطمة (عليها السلام) ويشيد
بمكارمها ويوسعها حبا وحنانا، وكذلك الأحاديث
105

العديدة في فضل فاطمة الذي نطق بها الصادق الأمين،
والتي لا تعد ولا تحصى والمعتبرة عند الفريقين،
والمتواترة إلى حد الامتناع من النيل منها أو الخدش في
صحتها - منها: " فاطمة بضعة مني " و " من أغضب
فاطمة فقد أغضبني " و " فاطمة روحي التي بين
جنبي "، و " إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى
لرضاها "، وغيرها.
وهل وجدت أيها المنصف شيئا من ذلك في حق
زينب، أو رقية، أو أم كلثوم؟ إذا كن أخوات فاطمة من
صلبه ومن خديجة، حاشا لله وعدالته أن يفرق
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهن وبين فاطمة إذا كانتا من صلبه؟!! اللهم
إن هذا بهتان عظيم، وأعوذ بالله من الخطل، والزلل،
والتعصب الأعمى.
وقد ثبت بعد التحقيق، أن البنات اللاتي نسبن إلى
خديجة (عليها السلام) من غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن بناتها، وكذا
106

اللاتي نسبن إليها من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ادعي أن عثمان بن
عفان تزوج منهن اثنتين، هما زينب، ورقية، لذا لقب ب‍
(ذي النورين).
إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرزق من البنات إلا فاطمة
الزهراء (عليها السلام) وإلا القاسم الذي يكنى به فعاش حتى درج
ثم مات، وعبد الله المكنى بالطاهر والطيب وقد ماتا
صغيرين في مكة وكلاهما من السيدة الطاهرة (خديجة
الكبرى) (عليها السلام).
وأما ولده (صلى الله عليه وآله وسلم) (إبراهيم) فمن السيدة مارية القبطية،
فقد ولد ومات صغيرا في المدينة المنورة، ودفن في
البقيع وقد حصل لنا شرف زيارته، وقبره للآن شاخص
معلوم، وكان من حكمة الله سبحانه وتعالى أن تنحصر
ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بضعته الطاهرة فاطمة الزهراء -
الكوثر الذي ذكره سبحانه وتعالى في محكم كتابه
المجيد - * (إنا أعطيناك الكوثر) * ومن صلب أخيه وابن
107

عمه وخليفته من بعده علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهما
الإمامان " الحسن والحسين " صلوات الله عليهما،
ليستمر النسل الطاهر المبارك في الأئمة الطاهرين
صلوات الله عليهم أجمعين، مصداقا للآية الشريفة
المذكورة أعلاه.
ولإتمام الصورة وإيضاح الأمر أنقل مقتطفات مما
ذكره العلامة المحقق السيد جعفر مرتضى عن حياة
السيدة خديجة الزوجية في موسوعته الصحيح من
السيرة ج 2 ص 120.
خديجة مثل أعلى
خديجة بين نساء قريش
وبالنسبة لعرض خديجة نفسها عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) نقول:
هكذا، تفعل الحرة العاقلة اللبيبة، فلا تغرها زبارج
الدنيا وبهارجها، ولا تبحث عن اللذة لأجل اللذة، ولا
عن المال والشهرة، وإنما تبحث عما يخدم هدفها
108

الأسمى في الحياة، فتفعل - كما فعلت خديجة - ترد
زعماء قريش، أصحاب المال والجاه، والقدرة،
والسلطان، وتبحث عن رجل فقير لا مال له، تبادر هي
لعرض نفسها عليه، لأن كل ذلك لا يملأ عينها، لأنه كله
ربما يكون سببا في تدمير الحياة والانسان، وحتى
الإنسانية جمعاء. وإنما هي تنظر فقط إلى الأخلاق
الفاضلة، والسجايا الكريمة، وإلى الواقعية في التعامل،
والسمو في الهدف.
لأن كل ذلك هو الذي يسخر المال، والحياة، والقوة،
وكل شئ لخدمة الإنسان والإنسانية، وتكاملها في
الدرجات العلى.
خديجة بين نساء قريش
وتجدر الإشارة هنا إلى أن عامة المؤرخين على
اختلاف أذواقهم، ومشاربهم، ونحلهم، يقولون: إن
109

خديجة كانت أجمل نساء قريش. كما أنه لا ريب في
أنها أفضل نسائه صلوات الله وسلامه عليها.
ولعل ذلك يفسر لنا السبب في غيرة بعض نساء
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منها، حتى بعد وفاتها، بحيث كن يحاولن
تنقيصها، والإزراء عليها باستمرار، مع أنهن لم يدركنها
في بيت الزوجية أصلا.
هذا، ولعل أم سلمة تأتي في المرتبة الثانية بين
أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد خديجة، فضلا وإخلاصا، وولاء،
وحتى جمالا، كما يظهر من كلام للإمام الباقر (عليه السلام).
هل تزوجت خديجة بأحد قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وعلى كل حال: فقد كان ذوات الجمال والإخلاص
من أزواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) يواجهن الغيرة القاتلة، والتآمر
المستمر من قبل البعض الآخر من نسائه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ممن لم
يكن لهن نصيب من جمال، ولا من التزام تام بالأدب
النبوي الكريم. بل كن يؤذينه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمواقفهن
وتصرفاتهن.
110

هل تزوجت خديجة بأحد قبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
ثم إنه قد قيل: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتزوج بكرا غير عائشة،
وأما خديجة، فيقولون: إنها قد تزوجت قبله (صلى الله عليه وآله وسلم)
برجلين، ولها منهما بعض الأولاد. وهما عتيق بن عائذ
بن عبد الله المخزومي، وأبو هالة التميمي.
أما نحن فنقول: إننا نشك في دعواهم تلك، ونحتمل
جدا أن يكون كثير مما يقال في هذا الموضوع قد صنعته
يد السياسة. ولا نريد أن نسهب في الكلام عن اختلافهم
في اسم أبي هالة، هل هو النباش بن زرارة أو عكسه، أو
هند، أو مالك، وهل هو صحابي أولا. وهل تزوجته قبل
عتيق. أو تزوجت عتيقا قبله (1).
ولا في كون هند الذي ولدته خديجة هو ابن هذا
(1) راجع الأوائل ج 1 هامش ص 159.
111

الزوج أو ذاك، فإن كان ابن عتيق، فهو أنثى (1) وإلا فهو
ذكر. وأنه هل قتل مع علي في حرب الجمل، أو مات
بالطاعون بالبصرة (2).
لا، لا نريد أن نطيل بذلك، وإنما نكتفي بتسجيل
الملاحظات التالية:
أولا: قال ابن شهرآشوب: " وروى أحمد
البلاذري، وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى
في الشافي، وأبو جعفر في التلخيص: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
(1) راجع: الأوائل ج 1 ص 159 وقال: إن هندا هذه قد تزوجت من
صيفي بن عائذ فولدت محمد بن صيفي.
(2) للاطلاع على هذه الاختلافات وغيرها راجع المصادر التالية،
وقارن بينها: الإصابة ج 3 ص 611 / 612، ونسب قريش لمصعب
الزبيري ص 22، والسيرة الحلبية ج 1 ص 140، وقاموس
الرجال ج 10 ص 431، ونقل عن البلاذري وأسد الغابة ج 5
ص 12 / 13 و 71، وغير ذلك.
112

تزوج بها، وكانت عذراء.
يؤكد ذلك ما ذكر في كتابي الأنوار والبدع: أن رقية
وزينب كانتا ابنتي هالة أخت خديجة (1) ".
وثانيا: قال أبو القاسم الكوفي: " إن الإجماع من
الخاص والعام، من أهل الانال (الآثار ظ) ونقلة
الأخبار، على أنه لم يبق من أشراف قريش، ومن
ساداتهم وذوي النجدة منهم، إلا من خطب خديجة،
ورام تزويجها، فامتنعت على جميعهم من ذلك، فلما
تزوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غضب عليها نساء قريش
وهجرنها، وقلن لها: خطبك أشراف قريش وأمراؤهم
فلم تتزوجي أحديا منهم، وتزوجت محمدا يتيم أبي
طالب، فقيرا، لا مال له؟!
(1) مناقب آل أبي طالب ج 1 ص 159، والبحار: ورجال
المامقاني، وقاموس الرجال كلهم عن المناقب.
113

فكيف يجوز في نظر أهل الفهم أن تكون خديجة،
يتزوجها أعرابي من تميم، وتمتنع من سادات قريش،
وأشرافها على ما وصفناه؟! ألا يعلم ذوو التمييز والنظر:
أنه من أبين المحال، وأفظع المقال؟! " (1).
وثالثا: كيف لم يعيرها زعماء قريش الذين خطبوها
فردتهم، بزواجها من أعرابي بوال على عقبيه؟!
ورابعا: لقد روي أنه كانت لخديجة أخت اسمها
هالة (2)، تزوجها رجل مخزومي، فولدت له بنتا اسمها
هالة، ثم خلف عليها - أي على هالة الأولى - رجل
تميمي يقال له: أبو هند، فأولدها ولدا اسمه هند.
وكان لهذا التميمي امرأة أخرى قد ولدت له زينب
ورقية، فماتت، ومات التميمي، فلحق ولده هند بقومه،
(1) الاستغاثة ج 1 ص 70.
(2) لها ذكر في كتب الأنساب، فراجع على سبيل المثال: نسب
قريش لمصعب الزبيري. الاستغاثة ج 1 / 68 - 69.
114

وبقيت هالة أخت خديجة والطفلتان اللتان من التميمي
وزوجته الأخرى، فضمتهم خديجة إليها، وبعد أن
تزوجت بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ماتت هالة، فبقيت الطفلتان في
حجر خديجة والرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
وكان العرب يزعمون: أن الربيبة بنت، ولأجل ذلك
نسبتا إليه (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع أنهما ابنتا أبي هند زوج أختها
وكذلك كان الحال بالنسبة لهند نفسه (1).
ولربما يمكن تأييد هذه الروايات بما ورد من
الاختلاف في اسم والد هند، فلتراجع المصادر التي
ذكرناها ثمة.
(1) راجع: الاستغاثة ج 1 ص 68 - 669، ورسالة حول بنات
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطبوعة ط حجرية في آخر مكارم الأخلاق ص 6.
115

زوجتا عثمان، هل هن بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
وأننا بالإضافة إلى ما قدمناه آنفا عن الاستغاثة نذكر:
زوجتا عثمان، هل هما بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟!
أن مما يدل على عدم كون زوجتي عثمان بنات
له (صلى الله عليه وآله وسلم) - عدا عن كون بعض الأقوال تنافي ذلك -
ما ذكره المقدسي، عن سعيد بن أبي عروة، عن قتادة،
قال: ولدت خديجة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عبد مناف في
الجاهلية، وولدت له في الإسلام غلامين، وأربع بنات:
القاسم، وبه كان يكنى: أبا القاسم، فعاش حتى مشى،
ثم مات، وعبد الله، مات صغيرا. وأم كلثوم. وزينب.
ورقية. وفاطمة (1).
وقال القسطلاني بعد كلام له: " وقيل: ولد له ولد قبل
المبعث، يقال له: عبد مناف، فيكونون على هذا اثني
(1) البدء والتاريخ ج 5 ص 16 وج 4 ص 139.
116

عشر، وكلهم سوى هذا ولد في الإسلام بعد المبعث " (1).
كما أن بعضهم ينص على أنه قد صح عنده: أن رقية
كانت أصغر من الكل حتى من فاطمة (عليها السلام) (2).
وبعد هذا، فكيف نصدق قول من يقول: إنهما تزوجتا
في الجاهلية من ابني أبي لهب، ثم جاء الإسلام
ففارقاهما.
يقول المقدسي: " فزوج رسول الله رقية عثمان بن
عفان، وهاجرت معه في الهجرتين إلى الحبشة،
(1) المواهب اللدنية ج 1 ص 196.
(2) راجع الإصابة ج 4 ص 304 عن الجرجاني، والاستيعاب
بهامش الإصابة ج 4 ص 299، 282. وفي ص 281 عن الزبير بن
بكار، أن عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية كلهم ولدوا بعد
الإسلام، وكذا في البداية والنهاية ج 2 ص 294. ونسب قريش
صفحة 21.
117

وأسقطت في الهجرة الأولى علقة في السفينة " (1).
نعم، كيف نصدق هذا، ونحن نعلم: أن الهجرة الأولى
إلى الحبشة كانت بعد البعثة بخمس سنين، فكيف تكون
رقية قد تزوجت قبل البعثة بابن أبي لهب، ثم فارقها
ليتزوجها عثمان، ثم تحمل منه قبل الهجرة إلى الحبشة،
وهي إنما ولدت بعد البعثة؟! إن ذلك لعجيب!! وعجيب
حقا!!.
وثانيا: لقد ذكرت بعض الروايات: أن أبا لهب قد أمر
ولديه بطلاق رقية وأم كلثوم بعد نزول سورة " تبت يدا
أبي لهب " (2). مع أنهم يقولون: إن هذه السورة قد نزلت
(1) البدء والتاريخ ج 5 ص 17 وتهذيب تاريخ دمشق ج 1 ص 298.
(2) نسب قريش لمصعب الزبيري ص 22 وتهذيب تاريخ دمشق
ج 1 ص 293 و 298 وأسد الغابة ج 5 ص 456 والاستيعاب
(مطبوع بهامش الإصابة) ج 4 ص 299 والدر المنثور ج 6
ص 409 عن الطبراني.
118

حينما كان النبي والمسلمون محصورين في الشعب (1).
وقد كان ذلك بعد الهجرة الأولى إلى الحبشة.
وثالثا: لقد روي: أن خديجة ولدت للنبي عبد الله،
ثم أبطأ عليها الولد، فبينما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يكلم رجلا،
والعاص بن وائل ينظر إليه، إذ مر رجل فسأل العاص عن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقال: من هذا؟
قال: هذا الأبتر.
فأنزل الله: * (إن شانئك هو الأبتر) * (2).
فظاهر الرواية: أنها حين ولدت عبد الله لم تكن قد
ولدت غيره، أو أن من ولدتهم ماتوا جميعا حتى لم يعد
للنبي أولاد أصلا. مع أن رقية كانت عند عثمان قبل
ولادة فاطمة، فلا يصح وصف العاص للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأبتر
(1) الدر المنثور ج 6 ص 408 عن أبي نعيم في الدلائل.
(2) راجع تهذيب تاريخ دمشق ج 1 ص 294 والدر المنثور ج 6
ص 404.
119

فتنزل الآية.
إلا أن يقال: إن العرب لم تكن تهتم بالبنات، بل
الميزان عندهم هو خصوص الذكور، ولأجل ذلك وصفه
العاص بالأبتر.
ورابعا: قد تقدم أن هناك من يقول: إن خديجة إنما
تزوجت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل البعثة بعشر أو بثلاث، أو
بخمس سنوات، فكيف تكون رقية وزينب قد ولدتا من
خديجة، وتزوجتا قبل البعثة؟!.
خامسا: أن الدولابي يقول: إن عثمان كان قد تزوج
رقية في الجاهلية (1).
هل زينب بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أم ربيبته؟!
وذلك كله يؤكد ويؤيد: أن رقية التي تزوجها عثمان
هي غير رقية التي يدعي أنها بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتي
يقال: إنها ولدت بعد البعثة، وأن التي تزوجها عثمان هي
(1) راجع: المواهب اللدنية ج 1 ص 197.
120

ربيبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لا ابنته. وقد كانت العرب تطلق على
ربيبة الرجل أنها ابنته كما قلنا: وكذلك يقال بالنسبة لأم
كلثوم، لأن الفرض أنها قد ولدت بعد البعثة أيضا.
هل زينب بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) أم ربيبته؟
وأما عن زينب فلا نستطيع أن نطمئن إلى أنها كانت
بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضا، لأننا بالإضافة إلى أن ما
قدمناه آنفا حول زوجتي عثمان، كله بعينه جار هنا إذا
كان أبو العاص بن الربيع قد تزوجها قبل البعثة - نشير
إلى ما يلي:
1 - قال مغلطاي عن خديجة: " ثم خلف عليها أبو
هالة النباش بن زرارة فولدت له هندا، والحرث،
وزينب، وكانت تكنى أم هند، وتدعى الطاهرة " (1).
(1) سيرة مغلطاي ص 12.
121

2 - وعن عمرو بن دينار: أن حسن بن محمد بن علي
أخبره: أن أبا العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد
شمس بن عبد مناف، وكان زوجا لبنت خديجة فجيئ
به للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قد، فحلته زينب بنت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
الخ (1).
فالتعبير أولا ببنت خديجة يشير أنها لم تكن
ابنته (صلى الله عليه وآله وسلم) وإن كان عاد فذكر أنها بنت النبي، فلا يبعد أنه
يريد بنوتها له بالتربية، وإلا فلماذا خصها أولا بأنها بنت
خديجة؟! فنسبتها إلى خديجة أولا يكون قرينة على
إرادة بنوتها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتربية. والتبني.
3 - ويذكر الشيخ محمد حسن آل ياسين عن زينب
أن: بعض المصادر تقول: إنها ولدت وعمره (صلى الله عليه وآله وسلم)
(1) المصنف للحافظ عبد الرزاق ج 5 ص 224.
122

ثلاثين سنة (1)، وتزوجها أبو العاص بن الربيع قبل البعثة،
وولدت له عليا مات صغيرا، وأمامة، أسلمت حين
أسلمت أمها أول البعثة النبوية (2).
وذلك غير معقول، فإنه لا يمكن لبنت في العاشرة أن
تتزوج، ويولد لها بنت، وتكبر تلك البنت حتى تسلم مع
أمها في أول البعثة، وهذا حيث لا تزال أمها في العاشرة
من عمرها (3).
ولكن كلام هذا الباحث غير متين، لأن المقصود
بالتي أسلمت هي وأمها، زينب وخديجة، وليس
المقصود هنا أمامة وزينب وذلك ظاهر لا يخفى.
(1) أسد الغابة ج 5 ص 467، ونهاية الإرب ج 18 ص 211،
والاستيعاب هامش الإصابة ج 4 ص 311.
(2) راجع كتاب النبوة هامش ص 65.
(3) راجع هامش كتاب النبوة للشيخ محمد حسن آل ياسين
ص 65.
123

وبالنسبة لأم كلثوم فإن الروايات تذكر: أن عليا حين
هاجر اصطحب معه خصوص الفواطم، وأم أيمن،
وجماعة من ضعفاء المؤمنين (1). وليست أم كلثوم بينهم،
فهل هاجرت قبل ذلك، أو بعده وحدها؟ وكيف لم
يصطحبها علي (عليه السلام) معه ليحميها من كيد قريش؟ ولماذا؟
ولماذا؟!.
وبعد ما تقدم نستطيع أن نقول: إننا لا يمكن أن
نطمئن بشكل نهائي إلى ما يقال: من أن عثمان قد تزوج
ابنتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للاحتمال القوي بأن تكونا
ربيبتيه. وكذا بالنسبة لزينب زوجة أبي العاص.
وعلى هذا فيصح أن يقال: لمن تزوج ربيبة
لشخص: أن ذلك الشخص قد صاهره، ونال درجة من
القرب منه، وعلى هذا فلا منافاة بين ما ذكرناه، وبين
(1) سيره المصطفى ص 259. والسيرة الحلبية ج 2 ص 53.
124

قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لعثمان: " وقد نلت من صهيره
ما لم ينالا " (1).
لكن يبقى: أن ذلك الصهر هل قام بواجباته تجاه
ذلك الذي أكرمه بتزويج ربيبته له؟! فهذا بحث آخر، وله
مجال آخر، وستأتي بعض الإشارات لما كان من عثمان
في حق زوجيته ربيبتي النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ومهما يكن من أمر فقد طبع لنا كتاب باسم بنات
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أم ربائبه، فليرجع إليه من أراد التفصيل (2).
(1) نهج البلاغة ج 2 ص 85 وأنساب الأشراف ج 5 ص 60 والعقد
الفريد ج 3 ص 376 والجمل ص 100 عن المدائني والغدير ج 9
ص 74. عن بعض من تقدم وعن تاريخ الأمم والملوك ج 5
ص 96 وعن الكامل في التاريخ ج 3 ص 63 وعن البداية والنهاية
ج 7 ص 168.
(2) الصحيح من السيرة - السيد جعفر مرتضى - ج 2.
125

منافسون لعلي
ولعل إصرار الآخرين على بنوتهن له (صلى الله عليه وآله وسلم)،
وإرسالهم له إرسال المسلمات، يهدف إلى إيجاد
منافسين لعلي في فضائله الخارجية، ولذلك أطلقوا
على عثمان لقب " ذي النورين "!! هذا، مع العلم بأن
سيرته لم تكن مع هاتين البنتين على ما يرام، كما سوف
نشير إليه حين الحديث عن وفاتهما في الجزء الرابع من
هذا الكتاب إن شاء الله تعالى (1).
زواج بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
زواج بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)
ودبج بعض مؤرخي السنة أحاديث موضوعة
يزعمون فيها تزويج بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة من
(1) الصحيح من السيرة للسيد جعفر مرتضى ج 2.
126

سادات قريش المشركين قبل البعثة، وأطلقوها بأسلوب
روائي منمق في قول لا يستند إلى دليل، ومتناقض
الفحوى.
وقد أعرضنا عما ذكره المؤرخون السنة بروايات
ملفقة من نسيج الحزب القرشي والحزب الأموي
وأتباعهم المرتزقة من رواة السوء الوضاعين ليرفعوا
بذلك شأن عثمان بن عفان، حتى يوصلوه إلى مصاف
الإمام علي (عليه السلام) وجهاده.
والثابت عند المؤرخين المنصفين، أن زينب،
ورقية، وأم كلثوم، كن بنات (هالة) أخت السيدة
خديجة، وهن من زوجها، أبي هند التميمي ولما مات
الأب بقين مع أمهن، وهند التحق بأهله فلما اقترن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسيدة خديجة، وماتت هاله بعد زواجهما
بقليل، بقين في كنف خالتهن خديجة، فثبتهم وتبناهن
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وفي عرف عرب الجزيرة أن من يتبنى يتيما
127

يدعى بمن تبناه - فمحمد وخديجة - أبواهن بالتبني،
هذا ما صح عرفا، ورواية، وعقلا.. والله العالم ببواطن
الأمور. انتهى كلام السيد جعفر مرتضى في
موسوعته (1).
أقوال بعض المستشرقين
أقوال بعض المستشرقين
وقد جاء في كلمات بعض المستشرقين المتهمين على
الإسلام أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما تزوج خديجة طمعا في مالها، ولا
نريد الإسهاب في الإجابة على هذا الهذيان، فإن حياة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بدايتها إلى نهايتها لخير شاهد على أنه ما
كان يقيم للمال وزنا.
ولقد أنفقت السيدة خديجة (عليها السلام) كل أموالها طائعة
راغبة، في سبيل الدعوة إلى الإسلام وفي سبيل هذا
(1) الصحيح من السيرة ج 2 ص 120.
128

الدين، ثم إن السيدة خديجة هي التي عرضت نفسها
على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يتقدم هو (صلى الله عليه وآله وسلم) بطلب يدها، ليقال:
إنما فعل ذلك طمعا في مالها. وهذا مما لفقه أعداء
الإسلام.
وإنما تفعل الحرة العاقلة اللبيبة ذلك، فلا تغرها
زبارج الدنيا وبهارجها، ولا تبحث عن اللذة لأجل
اللذة، وعن المال للشهرة، إنما تبحث عمن يخدم هدفها
الأسمى في الحياة، وعن الأخلاق الفاضلة والسجايا
الحميدة، والواقعية في التعامل والسمو في الهدف، لأن
كل ذلك هو الذي يسخر المال والجاه والقوة وكل شئ
لخدمة الإنسان والإنسانية، وتكاملها في الدرجات
العليا.
أشعار أم المؤمنين خديجة
وذكر العلامة الأميني - في غديره:
129

شعر أم المؤمنين خديجة... كانت رقيقة الشعر جدا،
ومن شعرها في تمريغ البعير وجهه على قدمي
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونطقه بفضله كرامة له (صلى الله عليه وآله وسلم) قولها..
نطق البعير بفضل أحمد مخبرا * هذا الذي شرقت به أم القرى
هذا محمد خير مبعوث أتى * فهو الشفيع وخير من وطئ الثرى
يا حاسديه تمزقوا من غيضكم * فهو الحبيب ولا سواه في الورى (1)
خديجة في بعض المصادر العربية
في ذكاء فاطمة الزهراء، وخلقها، قول أم المؤمنين
خديجة (عليها السلام) عنها: كانت فاطمة تحدث في بطن أمها،
ولما ولدت وقعت على الأرض ساجدة [لله] رافعة
(1) بحار الأنوار 6 / 103.
130

إصبعها (1).
خديجة في بعض المصادر العربية
جاء في كتاب - نساء أهل البيت (عليهم السلام) (2) - أيتها السيدة
الكريمة أن تاريخ النساء في دنيا التاريخ، لم يحفظ في
أوراقه أن امرأة من فضليات النساء في دنيا النساء، قد
فاحت سيرتها بالعطاء كما كانت أم المؤمنين خديجة
الطاهرة.
لقد تناول التاريخ سيرة نساء كثيرات، اشتهرن
بجانب أو أكثر من العبقريات ولكنه لم يحدثنا - كما
حدثنا عن السيدة خديجة من بلوغ قمم المكارم في كل
الفضائل، ولم يستطع أن يحصر تلك الفضائل بين دفتيه.
(1) سيرة الملا، ذخائر العقبى 45، نزهة المجالس 2 / 227.
(2) في ضوء القرآن والحديث - أحمد جمعة ط. بيروت ص 13.
131

فقد - ولدت السيدة خديجة في بيت مجد وسؤدد قبل
عام الفيل بخمسة عشر عاما، عام 68 قبل الهجرة
وحينما توفيت كان عمرها 65 عاما أي قبل الهجرة
بثلاث سنين، في مكة لعشر خلون من شهر رمضان من
السنة العاشرة من النبوة بعد وفاة أبي طالب بثلاثة أيام
وأمها فاطمة بنت زائدة بن الأصم (1).
ولقد كانت واسطة العقد في نساء أهل البيت الذي
أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
رؤيا نورانية
أصبحت خديجة سيدة نساء قريش قبل أن تبلغ
الخامسة والعشرين من عمرها، وكانت امرأة عالية
الهمة، جياشة العواطف واسعة الأفق، مفطورة على
التدين والنقاء والطهر، حتى عرفت بين أترابها وبين نساء
(1) وروى المؤرخون وأهل السير غير ذلك.
132

قريش بالطاهرة (1) وناهيك بهذه الصفة التي حلقت بها
فجعلتها في سماء السبق إلى ساحة المعالي.
رؤيا نورانية
في ليلة غارت نجومها، واحلولك ظلامها، جلست
خديجة في بيتها، بعد أن طافت مرارا حول الكعبة،
كعادتها كل ليلة، وما أن أسلمت جنبها للرقاد حتى
استسلمت للنوم وراحت في سبات عميق.
ورأت فيما يرى النائم شمسا عظيمة تهبط من سماء
مكة لتستقر في دارها، وتملأ جوانب الدار نورا وبهاء،
ويفيض من دارها ليغمر كل ما حولها بضياء يبهر
النفوس، قبل أن يبهر الأبصار.
(1) سيرة أعلام النبلاء: 2 / 111، وفتح الباري: 7 / 167، ونساء
ميسرات بالجنة: 1 / 17.
133

هبت خديجة من نومها، وراحت تدير عينيها فيما
حولها بدهشة فإذا بالليل ما يزال يسربل الدنيا بالسواد.
عندما غادر الليل الدنيا، غادرت خديجة فراشها، مع
إشراقة الشمس وتسربلت جلبابها وغادرت البيت في
طريقها إلى دار ابن عمها ورقة بن نوفل، لعلها تجد عنده
تفسيرا لحلمها، فألفته قد عكف على قراءة صحيفة من
صحف السماء التي شغف بها، وما أن سمع صوتها حتى
هب مرحبا، وقال متعجبا: خديجة الطاهرة؟!!
قالت: هي.. هي، قال في دهشة: ما جاء بك الساعة؟
جلست خديجة، وراحت تقص عليه ما رأت في منامها
حرفا حرفا، ومشهدا مشهدا.
وكان ورقة يصغي إليها باهتمام، وما أن انتهت من
كلامها، حتى تهلل وجهه بالبشر، وارتسمت على شفتيه
ابتسامة الرضا، ثم قال لخديجة في هدوء ووقار،
أبشري يا ابنة العم... لو صدق الله رؤياك ليدخلن نور
134

النبوة دارك.. الله أكبر. ماذا تسمع خديجة، وما الذي
يقوله ابن عمها؟ وجمت خديجة لحظات... وسرت في
بدنها قشعريرة. وظلت خديجة تعيش على رفرف الأمل
وعبير الحلم الذي رأته.
وكانت خديجة إذا تقدم إليها سيد من سادات قريش
لخطبتها، تقيسه بمقياس الحلم الذي رأته.
ذكر أهل الأخبار أنه كان لنساء قريش عيد يجتمعن
فيه عند الحرم، وفي أحد الأعياد، خرجت خديجة من
بيتها نحو الكعبة ثم طافت بالبيت العتيق سبعا، وراحت
تبتهل إلى الله وتدعوه في صدق أن يحقق لها حلمها، ثم
انطلقت نحو نسوة كن بالقرب من الكعبة، وجلست
معهن يتجاذبن أطراف الحديث، وفي تلك الساعة، قطع
أصواتهن صارخ وقف بالقرب منهن، وكان حبرا من
اليهود، وصاح يا معشر نساء قريش... فالتفتن إليه
وأصخن السمع فقال: يا معشر نساء قريش، إنه يوشك
135

فيكن نبي، أفأيتكن استطاعت أن تكون له فراشا
فلتفعل، ويبدو أن نسوة قريش حسبنه يهذي، فرماه
بعضهن بالحصباء، وبعضهن بالسباب، وأغلظن له
القول، وطردنه من ذلك المكان، إلا السيدة خديجة فقد
خفق قلبها، من حديث اليهودي، وهاج ذكرياتها وأعاد
إلى ذهنها حلمها الذي ليس هو ببعيد، ترى متى يكون
ذلك اليوم؟ وفي كتاب نساء الرسول (1).
وفي غمرة حيرتها واضطرابها، زارتها صديقتها
نفيسة بنت منبه، فما زالت تحادثها حتى كشفت دخيلة
نفسها وما انطوت عليه أضلاعها، فهونت الأمر عليها،
وما أن خرجت نفيسة من عند خديجة حتى انطلقت إلى
الصادق الأمين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وابتدرته متسائلة بذكاء
حذر، ما يمنعك أن تتزوج يا محمد؟ قال لها: ما في يدي
(1) د. بسام محمد حمامي - ط بيروت ص 68.
136

ما أتزوج به، فابتسمت قائلة، فإن كفيت ودعيت إلى
المال والجمال والشرف والكفاءة فهل تجيب؟
فرد متسائلا: ومن؟ قالت على الفور: خديجة بنت
خويلد، فقال: إن وافقت فقد قبلت.
وانطلقت نفيسة لتزف البشرى إلى خديجة، وأخبر
الصادق الأمين أعمامه برغبته في الزواج من خديجة،
فذهب أبو طالب ومعه من سادات عبد مناف وحمزة
وغيرهما إلى عم خديجة " عمرو بن أسد بن عبد العزى
بن قصي " لخطبتها كما تقدم، فأثنى عليه عمها وأنكحها
منه على صداق قدره عشرون بكرة. إلى آخر ما تقدم من
المصادر.
ولما نزل (صلى الله عليه وآله وسلم) من غار حراء، وجاءه جبرئيل
بالوحي وبشره بالنبوة دخل داره وزوجته خديجة في
انتظاره قال: زملوني، زملوني، دثروني، دثروني.
ضمته السيدة خديجة إلى صدرها، وإحاطته بأسمى
137

عواطفها، وهتفت في ثقة ويقين " الله يرعاك يا أبا
القاسم، ابشر يا ابن عم وأثبت، فوالذي نفس خديجة
بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، والله لا يخزيك
الله أبدا... إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل
الكل، وتقري الضيف وتعين على النوائب، واطمأن فؤاد
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمام هذا التثبيت، وعاودته سكينته أمام
تصديق زوجته وإيمانها بما جاء به... إلى آخر ما ذكرناه
في ما سبق.
وهذه بعض مناقبها
بعض مناقبها
(1) تراجم أعلام النساء
أخرج ابن السني بسنده عن خديجة: أنها خرجت
تلتمس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأعلى مكة ومعها غداؤه، فلقيهما
جبرئيل (عليه السلام) في صورة رجل، فسألها عن رسول
138

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهابته وخشيت أن يكون بعض من يريد أن
يغتاله، فلما ذكرت ذلك للنبي، قال لها: هو جبرئيل وقد
أمرني أن إقرأ عليك السلام، وبشرها ببيت في الجنة من
قصب لا صخب فيه ولا نصب. (1)
(2) مستدرك الحاكم
أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري... عن عفيف بن
عمرو قال: كنت امرأ تاجرا، وكنت صديقا للعباس بن
عبد المطلب في الجاهلية فقدمت لتجارة فنزلت على
العباس بن عبد المطلب بمنى، فجاء رجل فنظر إلى
الشمس حين مالت فقام يصلي، ثم جاءت امرأة فقامت
تصلي، ثم جاء غلام حين راهق الحلم فقام يصلي،
(1) رواه البخاري - في كتاب الأنبياء - آل عمران / 42 - 45 ورواه
مسلم في كتاب الفضائل - باب فضائل خديجة.
139

فقلت للعباس: من هذا؟ فقال هذا محمد بن عبد الله بن
عبد المطلب ابن أخي يزعم أنه نبي ولم يتابعه على أمره
غير هذه المرأة وهذا الغلام، وهذه المرأة خديجة بنت
خويلد امرأته وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب،
قال عفيف الكندي " بعد أن أسلم وحسن إسلامه "
لوددت أني كنت أسلمت يومئذ فيكون لي ربع الإسلام.
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد
معتبر من أولاد عفيف بن عمرو.
خديجة الكبرى مثل أعلى للمرأة المسلمة
(3) عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن
جده أبي رافع (رضي الله عنه) عنه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صلى يوم
الاثنين وصلت خديجة معه، وأنه عرض على علي يوم
الثلاثاء الصلاة فأسلم وقال: دعني أوامر أبا طالب في
الصلاة قال: فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما هو أمانة. فقال علي:
فأصلي إذن، فصلى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الثلاثاء، هذا
حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
140

خديجة الكبرى
مثل أعلى للمرأة المسلمة
كانت جزيرة العرب وما حولها ظمأى ترهقها
الجاهلية بعذاباتها وسياط طيشها، حين تفجر ينبوع
الإسلام الهادي كنبع من الماء الصافي الرقراق في تلك
الصحارى المجدبة من كل خير من أجل أن يروي
عطش الدنيا إلى الحق والهدى والسلام.
لقد جاء الإسلام الحنيف بدعوته إلى الخير
والمعروف والعدل والصلاح بلسما لجراح المعذبين
والمظلومين في الأرض، وكانت المرأة أكثر عباد الله
نصيبا من هذا الخير المنقذ..
وفي هذا البحث المتواضع نقدم للقارئ الكريم
دراسة لحياة السيدة الخالدة خديجة بنت خويلد أم
المؤمنين الأولى (عليها السلام)، لتكون نموذجا يحتذى من قبل
المسلمات في كل عصر وجيل، وقدوة للمؤمنات
العاملات للحق، الباذلات للمعروف والحافظات لحدود الله..
141

الهوية الشخصية
من هي السيدة خديجة أم المؤمنين؟
احتلت خديجة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذروة من قريش في
نسبها وشرفها، فهي من القوادم في كيان قريش لا من أذنابها.
وكانت من عقائل قريش وسيدة نساء مكة، وهي
تلتقي برسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة أبيها
بالجد الأعلى الشريف " قصي " ومن جهة أمها بلؤي بن
غالب، فهي قرشية أبا وأما، ومن الشجرة الطيبة في قريش.
فمن جهة أبيها هي: خديجة بنت خويلد بن أسد بن
عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن لؤي بن غالب
بن فهر بن ما لم بن النضر بن كنانة.
وأمها: فاطمة بنت زائدة بنت الأصم (واسمه
جندب) بن رواحة الهرم ابن حجر بن عبد بن معيص بن
عامر بن لؤي بن غالب بن فهر (1).
(1) يراجع ابن المغازلي الشافعي أبا الحسن بن علي بن محمد
الواسطي الجلالي ت 483 في مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام) ط 2
عام 1402 ه‍ طهران ص 329 - 330. كما يراجع نسبها في
سيرة ابن هشام: 187 - 189 والسير والمغازي لابن إسحاق:
82 وغيرها.
142

ويحفظ التاريخ من مفاخر أبيها " خويلد بن أسد "
أنه تصدى لتبع ملك اليمن وحال بينه وبين السطو على
الحجر الأسود وحمله إلى مملكته في اليمن.
ومنذ مطلع حياة السيدة خديجة كانت قريش تتوسم
فيها النبل والطهر وسمو الأخلاق حتى لقبت
بالطاهرة (1)، كما لقبت بسيدة قريش بالنظر لعلو شأنها،
وشرف منبتها وكرم أصلها، وحميد أفعالها.
الأمر الذي يفسر السر المكنون بامتناع خديجة من
الاقتران بأي أحد من قريش حتى توفرت ظروف
اقترانها برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، رغم ما بذل عليه قومها من
(1) ترجمة خديجة في الإستيعاب لابن عبد البر وأبو نعيم في حلية
الأولياء.
143

محاولات لزواجها، إلا أنها كانت ترفضهم جميعا منتظرة
أمرا ما سيحدث في حياتها، فيكمل شوط مسيرتها نحو
الكمال الذي اختاره الله عز وجل والذي عبر عنه النبي
الصادق الأمين (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: " حسبك من نساء العالمين
أربع: مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم امرأة
فرعون، وخديجة بن خويلد وفاطمة بنت محمد " (1).
ومما تجدر الإشارة إليه، أن هذه المرأة الجليلة قد
ولدت قبل عام الفيل ببضع سنوات وتزوجها رسول
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعمرها ثمان وعشرون سنة كما روى ابن
عباس (رحمه الله) (2)، وإن كان زواجها في غير هذا السن هو الذي
(1) ابن المغازلي الشافعي / المصدر السابق ص 363 نقلا عن
الترمذي في جامعه الصغير 5: 367 وابن عبد البر في الاستيعاب
والحاكم في المستدرك 3: 157 بطريق ابن حنبل وغيرهم.
(2) كشف الغمة في معرفة الأئمة، أبو الحسن علي بن عيسى بن أبي
الفتح الإربلي ت 693 ه‍ 2: 135 ط دار الأضواء بيروت
وبحار الأنوار، المرحوم الشيخ محمد باقر المجلسي 16: 12
وغيرهما.
144

اشتهر خطأ.
وهي أول امرأة أسلمت لله رب العالمين، وصدقت
برسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). هذا، ومن الجدير ذكره، أن السيدة
خديجة قد توفيت قبل فرض الصلاة وقيل (1) الهجرة إلى
المدينة بثلاث سنين.
وسنتعرض لتفصيل هذه الأمور في الأبحاث القادمة
إن شاء الله تعالى.
لسان الحق يتحدث عن خديجة
كانت السيدة خديجة رغم نبلها وشرفها ومكانتها في
الناس وسيادتها في بني أسد ونساء قريش وهي صفات
كفيلة لوحدها لأن تؤهلها للرعاية والمحبة والرضا من
(1) م. ن: 134 و 11 نقلا عن عروة بن الزبير بن العوام.
145

لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلا أنها فوق ذلك، قد وهبت كل
وجودها لله ورسوله ودعوة الحق التي صدع بها.
فقد وهبت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كل أموالها ليغطي بها
نفقات الدعوة والدعاة المستضعفين.
ولقد عاصرت أشد الظروف قسوة فما لانت من
قناتها أبدا، وتحدت أصعب الأزمات وأكثر المواقف
عسرا، وصبرت على الأذى في جنب الله عز وجل،
وسمت بذلك على نعيمها الدنيوي السابق، وركلت
اخضرار العيش الذي اعتادته برجليها لتعيش مع
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) محنته وآلامه التي صبتها عليه قريش
وحلفاؤها وظلت طوال عشر سنين من المحنة تبث
الأمل في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتشد من أزره، وتقوي
من عزيمته على مواصلة المسير، وأنت خبير بما تؤديه
مواقف المرأة المشجعة لزوجها من أثر إيجابي على
الاستمرار في الصمود والمواجهة وشد العزيمة.
وقد كانت أعظم مواقفها الجهادية في تحديها لمحنة
146

حصار شعب أبي طالب الذي فرض على بني هاشم من
قبل طغات قريش وحلفائها.
فقد كان لمواقف السيد خديجة المعروفة لإضعاف
قبضة الحصار أثرها الواضح المخلد في التخفيف من
أضرار حصار المشركين على الدعوة وأنصارها.
وهكذا تتجلى مكانة أم المؤمنين الكبرى خديجة
بنت خويلد (عليها السلام) كما نطق بها لسان الحق المقدس.
خديجة والحياة الجديدة
1 - مقدمة تاريخية ضرورية:
قبل الحديث عن زواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسيدة
خديجة بنت خويلد (عليها السلام) لا بد من التذكير، إن هذا
الموضوع قد تعرض إلى التشويه إلى حد كبير، إما
لعوامل سياسية تاريخية أو لعوامل الغيرة والحسد التي
اتصفت بها بعض أزواج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصورة غير
اعتيادية.
147

وأهم المواضيع التي نالها التزييف والتشويه هو:
الادعاء بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو الزوج الثالث
لخديجة، بعد أن كانت قد تزوجت بأثنين من سائر
الناس، واحد بعد الآخر تسمي الروايات الموضوعة
أحدهما بعتيق ابن عابد المخزومي ويدعى الآخر بأبي
هالة هند بن زرارة بن نباش التميمي، ثم عاشت بعد وفاة
الثاني أيما، حتى خطبها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
هكذا تصور الأخبار المنسوبة قصة - الحياة
الاجتماعية - الزوجية لخديجة.
ونفس المصادر التي تروي قصة زواجها الأول
والثاني تذكر بإصرار، أن خديجة عقيلة قريش كانت قد
خطب ودها سادة القبائل وعظماء قريش، ولكنها
تعرض عنهم في كل مرة بإباء سمح، وترغب عنهم
مترفعة مع تواضع لا يحط من قدر الخاطبين.
ولقد ذكر المؤرخون أن من جملة من خطبها كان أبا
جهل وأبا سفيان وعقبة بن أبي معيط والصلت بن أبي
148

يهاب وغيرهم من سادة القوم وعليتهم.
كما تقع المصادر نفسها في تشوش وتناقض شديدين
بالنسبة للزوجين المزعومين. فبعض المصادر تسمي
أحدهما أبا شهاب عمرو الكنذي، وتسميه أخرى مالك
بن النباش بن زرارة التميمي، وأخرى تسميه هند بن
النباش، وأخرى تسميه النباش بن زرارة.
وأما من دعي بعتيق بن عابد المخزومي، وهو الزوج
الثاني المفترض!، فقد سمته بعض المصادر عتيق بن
عابد التميمي (1) إلى غير ذلك.
وهكذا تشرق الادعاءات وتغرب دون ضابطة
صحيحة ولا إشارة من علم!
ومن حقنا أن نتساءل: كيف يمكن للمصادر التاريخية
(1) لمعرفة التناقض راجع البحار 16: 22 والصحيح من سيرة النبي
الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) العلامة السيد جعفر مرتضى العملي 1: 121 وما
بعدها، وفقه السيرة، محمد سعيد البوطي: 61، والاستغاثة، أبو
القاسم الكوفي المتوفى عام 352 ه‍ وما بعدها.
149

أن توفق بين إصرار السيدة خديجة (عليها السلام) على رفض
جميع من خطبها بما فيهم وجوه الناس وأشرافهم، وبين
زواجها من شخصين من دهماء الناس على التوالي لم
تضبط الأخبار حتى أسماءهم؟!
إن هذا لشئ عجاب!
إنك لا تكاد تقرأ مصدرا حديثا ولا قديما إلا وتجد
الرفض القاطع الذي تبده السيدة خديجة بنت خويلد
لكل خاطب لها مهما أعطي من مال أو جاه ومكانة،
فكيف ترضى الاقتران بذين على ماهما عليه من
مغمورية، وقلة جاه ومكانة؟
ولكي نتخطى سطح المشكلة، ونواجه الواقع، لا بد
من الإشارة إلى أن السيدة خديجة (عليها السلام) كانت لها أخت
تسمى هالة (1) تزوجت رجلا من بني تميم أولدها ذكرا
(1) أنظر مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري ط الكويت 2:
204 حديث 1674.
150

أسماه هندا.
وكان للتميمي زوجة أخرى أولدها بنتين إحداهما
زينب والأخرى رقية، ثم هلك الرجل، فالتحق هند
بعشيرته وأهله في البادية، والتحقت هالة وزوجة
التميمي الأخرى والبنتان بالسيدة خديجة التي امتازت
بمال وفير وطيب نفس، فشملتهم جميعا برعايتها.
وفي هذه الأيام تزوج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من خديجة
فصارت زينب ورقية تحت رعاية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)
والسيدة خديجة (عليها السلام) حتى نسبتا إليهما، وهو أمر مألوف
عند عرب ذلك الزمان (1) وفق قاعدة التبني التي أبطلها
القرآن الكريم بعد ذلك سنين في آية 4 من سورة
الأحزاب.
وهكذا تكون قضية هالة بنت خويلد وقصة زواجها
(1) تراجع هذه القضية في كتاب الاستغاثة لأبي القاسم الكوفي
المتوفى 352 ه‍ ص 82 وما بعدها.
151

قد انسحبت على سيرة السيدة خديجة وحياتها بسبب
ذلك التبني، حتى بلغت الحال أن تشعبت بقصد وبغيرة
لتكون زينب ورقية ابنتين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما يكون
الرجل المخزومي الذي كان أول زوج لهالة بنت خويلد
ثم زوجها الثاني التميمي قد نسبا إلى السيدة خديجة
كزوجين لها قبل زواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منها.
وهكذا، تقحم حياة هالة الزوجية ونتائجها على
خديجة (عليها السلام) وحياتها الشخصية.
ومما يعزز صحة هذه الواقعة التاريخية الهامة التي
سردناها ما ذكره ابن شهرآشوب المازندراني، حيث
قال: روى أحمد البلاذري وأبو القاسم الكوفي في
كتابيهما والمرتضى في الشافي، وأبو جعفر في
التلخيص: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوج بها وكانت عذراء (1).
(1) راجع مناقب آل أبي طالب 1: 159.
152

هذا، ومن الجدير ذكره، أن المصادر التي اعتبرت
زينبا ورقية بنتين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من السيدة خديجة، قالت
بولادتهما بعد البعثة ثم تقول ذات المصادر، أن رقية
التي كانت أصغر بنات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) (1) قد تزوجت عثمان
ابن عفان قبل الهجرة إلى الحبشة علما بأن الهجرة
المذكورة قد وقعت بعد البعثة بخمس سنين.
فهل تنسجم العقول مع هذه التقولات الساذجة (2) التي
تناقضت مع نفسها ومع الوقائع التاريخية؟
وتحقق أمل خديجة!!
كانت حياة السيدة خديجة (عليها السلام) مزيجة بين الرفض
(1) الإصابة 4: 304.
(2) للتفاصيل يراجع الشيخ محمد حسن آل ياسين، النبوة هامش
ص 65 كما يراجع الاستغاثة: 80 وما بعدها والصحيح من سيرة
النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، السيد جعفر مرتضى العاملي 1: 121 وما بعدها.
153

الصارم لكل من يطلب يدها من أجل الزواج، وبين
الانتظار والأمل لمن يلبي طموحها المعنوي من الرجال
كزوج وولي أمر.
وبينما كاد الرجال يقطعون الأمل من قناعتها بأي
منهم، كانت سيدة قريش قد تحولت إلى أذن صاغية
تتسمع أخبار خير شباب قريش الذي ملأ ذكره الحسن،
والحديث عن شمائله الطيبة في أركان مكة ونواديها
حتى أسماه قومه بالصادق الأمين، وهو لما يزل في
ريعان شبابه، ذلك هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب.
فقد كانت تتوسم أن يكون هو القرين المنتظر لها،
وبدأ حدسها يقترب من اليقين رويدا رويدا كلما تقدمت
الأيام.
وماذا يمنعها أن تنتظر وهي لا تزال في عز شبابها،
وغضارة جمالها؟ فقد تأملت كثيرا في حديث لأحد
أحبار اليهود حضر المسجد الحرام وراح يتحدث عن
154

اقتراب موعد بعثة الرسول الموعود من هذه الديار، وهو
ينوه بالتهنئة للمرأة التي تكون له زوجة وسكنا (1).
وجاءت الخطوة الأخرى لتقرب الأمل المتقد في
وجدانها، فحيث امتلأ سمعها بجميل ذكر محمد بن عبد
الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتى أبي طالب شيخ الأبطح، بالنظر لعظيم
أمانته، وكريم صفاته ونبل خصائصه، وصدق حديثه
ومواقفه، فما بالها يا ترى لا تعقد صفقة تجارية معه،
تضاربه ببعض أموالها ليخرج بها متاجرا إلى الشام، ومن
كمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في صدقه وسلامة سلوكه واستقامته؟
لقد انتفضت من غفلتها عنه، وكأنها لامت نفسها عن
طول هذه الغفلة عنه، فبعثت من يعرض عليه هذا
المشروع التجاري المربح الذي طالما اشرأبت إليه
(1) بحار الأنوار للعلامة المجلسي 16: 4 نقلا من مناقب آل أبي
طالب.
155

أعناق الرجال، وعرضت عليه من خلال وسيطها أن
يكون له من الربح أفضل ما اعتادت أن تعطيه لمن
تضاربه من التجار.
ووجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حاجة في نفسه، فتداول مع
عمه أبي طالب في ذلك، فلم يجد منه اعتراضا.
وكان هذا الغرس الطيب مدركا أن عمه قد كبر سنه،
وأثقلته السنون، فلا بد من استثمار هذه الفرصة لدعم
عمه الكريم الذي امتاز بجوده وكرمه ورعايته للناس
رغم كونه أقل سادة قريش مالا.
وخرج المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في تجارته إلى الشام يصحبه
ميسرة غلام خديجة الذي أنابته عنها في هذا المشروع.
وقد كان ميسرة يقوم بمهمتين معا، إحداهما:
اقتصادية روتينية تتعلق بالتجارة والمال وما إلى ذلك من
شؤون.
وثانيتهما: معنوية، ولعلها كانت هي المهمة المركزية
156

التي كلف بها من قبل سيدته خديجة!!
فقد كان موكولا إليه أن يرصد محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عن كثب
في هذه السفرة الطويلة نسبيا، كي يقدم تقريرا إلى
السيدة خديجة حول أبعاد شخصيته، ليكمل الصورة عن
محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) لديها.
ويبدو أن ميسرة كان جديرا بإعطاء الصورة
المطلوبة، ولذا اختارته سيدته لذلك.
وما أن صحب الغلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا ورأى
الأعاجيب مما لم يكن في حسابه ولا في تصوراته،
فرغم طيب المعاشرة، وحسن الأخلاق، وصدق
المعاملة، وعظيم الأمانة، فإن أمورا خارجة عن
المألوف تمكن ميسرة من مشاهدتها عيانا. إلى آخر ما
سبق ذكره.
157

/ 1