تحفة العسجدية نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تحفة العسجدية - نسخه متنی

یحیی بن حسین رسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

 التحفة العسجدية


 


يحيى بن الحسين بن القاسم


بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الكتاب
الحمد لله الذي أمر تخييرا، ونهى تحذيرا، وكلف يسيرا،
واشهد أن لا إلاه إلا الله وحده لا شريك له، المنزه عن فعل القبائح
والفساد، والظلم والجور للباد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
المرسل رحمة للعالمين، والهادي للخلق إلى الحق المبين، صلى
الله وسلم عليه وعلى آله الهداة المتقين.
وبعد:
فإن شبهة الجبر وهو القول: (بأن الله يجبر عباده على فعل
المعاصي) شبهة قديمة، أول من قال بها إبليس لعنه الله، قال
تعالى حاكيا عنه: (قال رب بما أغويتني) الآية، فأضاف الاغواء
إلى الله تعالى، ثم تبعه في هذه الشبهة المشركون والكفار، قال
تعالى حاكيا عنهم: (وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله
أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله مالا تعلمون)
قال الحسن البصري رحمه الله: (إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وآله وسلم
إلى العرب وهم قدرية وهم قدرية مجبرة يحملون ذنوبهم على الله)
ذكره في الكشاف.
ثم جدد هذه الشبهة معاوية فانتشرت وعمت أكثر المعلمين، إلا
من عصم الله وهم (العدلية) فقد روي أنه قال - أي معاوية - في
بعض خطبه: " لو لم يرني الله أهلا لهذا الامر ما تركني وإياه، ولو
كره الله تعالى ما نحن فيه لغيره ". وكان يقول: " أنا عامل من عمال
2

الله أعطي من أعطاه الله، وأمنع من منعه الله، ولو كره الله أمرا
لغيره ". فأنكر عليه عبادة بن الصامت وغيره ممن حضر من
الصحابة، ولم يزل ذلك في بني أمية حتى قال الحجاج وقد قتل
رجلا لأجل اظهاره حب علي عليه السلام: " اللهم أنت قتلته لو
شئت منعتني منه ".
قال الامام المنصور باد عبد الله بن حمزة عليه السلام: " الجبر
أموي إلا الشاذ النادر كالناقص والأشج، والعدل هاشمي إلا الشاذ
النادر كالمتوكل (1).
ومن زمن معاوية إلى وقتنا هذا لا زال الصراع مستمرا بين
العدلية والجبرية من خلال المؤلفات والمناظرات، ومن أحسن
ما ألف في هذا الموضوع في عصرنا كتاب التحفة العسجدية، وهو
هذا الذي بين أيدينا نقدمه للقارئ الكريم فقد أظهر فيه مؤلفه
مخازي المجبرة، واستكمل فيه جميع شبههم، ورد عليها بالأدلة
العقلية والنقلية، فلم يدع للخصم أي مجال للجدال، كما ستعرف
ذلك عند قراءتك له.
ترجمة المؤلف
هو مولانا أمير المؤمنين الإمام الهادي لدين الله. رب العالمين
الحسن بن يحي بن علي بن أحمد بن علي بن قاسم بن حسن بن
علي بن محمد بن أحمد بن حسن بن زيد بن محمد بن أبي القاسم
1 ذكر ذلك كله في الشافي للامام المنصور بالله عليه السلام، والمنية والأمل للإمام المهدي عليه السلام.
3

بن الإمام علي بن المؤيد بن جبريل بن المؤيد بن أحمد بن يحي
بن أحمد بن يحي بن يحي بن الناصر بن الحسن بن عبد الله بن
محمد بن القاسم بن الناصر أحمد بن الإمام الهادي يحي بن
الحسين سلام الله عليهم أجمعين.
مولده
ولد عليه السلام بهجرة ضحيان شمال مدينة صعدة من اليمن في
ليلة الخامس من ربيع الأول سنة 1280 ه
نشأته
تربى في حجر والديه، وقرأ القرآن، وأول معالم الدين
عليهما، ثم انتقل إلى الشيوخ بجامع ضحيان، يغترف من بحورهم
المتدفقة، فكدح في تحصيلها وحفظها، حتى صار إمام العلم
والمرجع في كل فن من الفنون.
مشايخه
أخذ عن علامة الآل وحافظ علومهم عبد الله بن أحمد مشكاع
الضحياني المؤيدي، رحمه الله، وأجازه إجازة عامة، والقاضي
العلامة محمد بن عبد الله الغالبي رحمه الله، وأجازه إجازة عامة،
وأجازه الإمام المهدي محمد بن القاسم عليه السلام فيما حوى عليه
اسناد حواري الآل عبد الله بن علي الغالبي، وأجازه القاضي
العلامة أحمد بن رزن السياني فيما حواه اتحاف الأكابر للشوكاني،
وأخذ عن غير من ذكرنا من العلماء، وهو أول من فتح في الزمن
4

الأخير باب الجهاد والاجتهاد من علماء صعدة.
مؤلفاته
ألف كتبا كثيره نافعة في مختلف الفنون منها: التحفة
العسجدية، و هي هذه التي بين يديك، والبحث السديد في
الأسماء والصفات، ورد على الحشوية في مسألة الاستواء على
العرش، ومختصر ينابيع النصيحة، الجميع في أصول الدين،
والمسائل الرائقة في أصول الفقه، والمسائل النافعة، ومنسك
للحج في الفروع، ومجموع فيما وقف عليه من أخبار الانتصار في
الحديث، ومحاسن الأنظار فيما قيل في الاخبار، ومجموعين
لطيفين، في الرواة، وسبيل الرشاد في طرق الاسناد، والتهذيب
، ومنية الراغب في النحو، وحاشية على مقدمة ابن الحاجب في الصرف،
وحاشية على التخليص في المعاني والبيان، والأنوار الصادعة في
علم الباطن والمعاملة، والنور الساطع، ومختمر السفينة في
الأدعية، والادراك في المنطق، والمنهل الصافي في العروض
والقوافي، والروض المستطاب في الحكم، والجوابات التهامية،
وغير ذلك من الرسائل والفوائد والجوابات التي يصعب حصرها.
تلامذته
أخذ عنه جم غفير، يشق حصرهم، نكتفي بذكر بعضهم لميلنا
إلى الاختصار، فمنهم: العلامة حسن بن حسين عدلان، والعلامة
علي بن يحي العجري، والعلامة يحي بن حسن طيب، والعلامة
5

عبد الكريم بن عبد الله العنثري، وأولاده العلماء المجتهدون، منهم
: المولى العلامة فخر الاسلام عبد الله بن الإمام رحمهم الله جميعا.
دعوته
بث دعاته عليه السلام رأس 1320 ه وقيد دعوته بآخر جزء من
إمامة المنصور محمد بن يحي حميد الدين، وأظهرها يوم الأربعاء
17 ربيع أول، بعد وفاة المنصور بثمانية أيام سنة 1322 ه من جامع
المزار بوادي فلله، جنوب هجرة ضحيان التي تبعد عن مدينة صعدة
بمقدار 23 كم تقريبا فأجابه أكثر سكان بلاد جماعة وسحار وخولان
، ورازح وهمدان وغيرهم.
الاحداث التي وقعت حال ولايته
وقع بينه وبين المتوكل يحي بن محمد حميد الدين حروب كثيرة
، ومعارك صعبة، ثم ظهر النكث عليه ممن أجابه، وعند ذلك انتقل
من محل دعوته المزار إلى حصن أم ليلى شمال مدينة صعدة،
بمقدار 40 كم تقريبا، وذلك سنة 1327 ه، ولم يزل بها مجاهدا،
صابرا محييا للعلوم، إلى أن أحاطت به جنود المتوكل في ذلك
الحصن، في 17 ربيع أول فخرج منه بعد أن خذله جميع من تابعه
إلى الحرجة عام 1330 ه بعد ولاية استمرت سبع سنين.
أما سبب خذلان الناس له فهو حب الدنيا والمال، والملوك
، وهذا مصداق قول علي عليه السلام في النهج: " وانما الناس مع
الملوك والدنيا إلا من عصم الله " ومصداق قول ولده الحسين عليه
6

السلام: " الناس عبيد الدنيا، والدين لغو على ألسنتهم يحوطونه
ما درت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون " رواه الإمام أبو
طالب في أماليه.
مدة بقائه في الحرجة ثم انتقاله منها إلى باقم
بقي في الحرجة نحو ثلاث سنين تقريبا محييا للعلوم إلى أن
ضاق من بقائه في تلك البلاد لقلة دين أهلها ومباينتهم لآل رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم، وميلهم إلى الوهابية أهل النصب والعناد، فعاد إلى باقم
من بلاد جماعة، شمال مدينة صعدة بنحو 53 كم تقريبا عام 1333 ه،
ولم يزل بها غوثا للورى، ومنهلا للفقراء، آمرا بالمعروف، ناهيا
عن المنكر، عاكفا على التدريس إلى أن توفاه الله.
وفاته
توفي ليلة الاثنين 5 جمادى الأولى عام 1343 ه في مدينة باقم،
ودفن في ساحة جامعها الكبير رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه
جنات تجري من تحتها الأنهار.
نبذة ممن رثاه من العلماء.
رثاه العلماء بمراث كثيرة نذكر منهم المتوكل يحي بن محمد
حميد الدين، والعلامة محمد بن إبراهيم حورية، والعلامة أمير
الدين الحوثي، والعلامة عبد الله بن عبد الله العنثري رحمهم الله،
والعلامة مجد الدين بن محمد المؤيدي أبقاه الله.
7

الحمد لله.
قد وقفت على التحفة العسجدية، وتأملت ما دار بين العدلية،
والجبرية، فوجدت مؤلف هذا الكتاب لا زال في حفظ رب الأرباب
، سلك مسلك الحق والصواب، وأتى في مؤلفه بالعجب العجاب
، واستظهر بمدلولي السنة والكتاب، وزيف أقوال الخصوم، التي
هي أشبه بلامع السراب، ونفى شبه أهل الزيغ والارتياب، ورد
الحق إلى نصابه، وأتى البيت من بابه، وأنجح في مطالبه وخطابه
، حتى توضح الحق، وظهر وخنس داعي الشيطان ونفر (فبهت
الذي كفر) وقد ضمن الله لهدى الدين بأيمة هادين مهتدين، ينفون
عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
كل من كان في المدارك غرا * فليطالع للتحفة العسجدية
فبها الحق ما به من خفاء * وعليها دارت رحى العدلية
وكلام الخصوم محض هباه * ويح قوم من فرقة جبريه
كابروا العقل والنصوص جميعا * وأحالوا فعلهم للمشيه
ثم قالوا إن القبائح فينا * والمعامي من فعل باري البرية
ولكم جادلوا بجهل وغي * واستباحوا شتم اللآلي المضيئة
حرفوا قالب القران وقالوا * إن آل النبي هم بدعيه
ثم قالوا إن الأئمة لما * باينوهم سموهم الرافضيه
ويح قوم قد جادلونا بجهل * ورمونا من دائهم بالبليه
نحن آل النبي سفينة نوح * عترة المصطفى خيار البرية
وكفى فخرنا إليه انتسابا * واختياري لمذهب العدلية
8

قد رضيت الندا في يوم حشري * يوم ادعى بسيد الزيدية
بالامام المظلوم زيد عليه * رحمة الله بكرة وعشيه
يا ابن يحي لا زلت تحي علوما * من علوم للسادة الهادويه
وعليك السلام يبقى دواما * يا إماما له العلوم الجلية
9

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على محمد الأمين،
وآله الطيبين الأكرمين. وبعد
فهذه تحفة للطالبين، وتبصره للمستبصرين، فيما يتعلق بأفعال
المكلفين، من الخلاف بين المجبرة، وأهل العدل، وما دار بينهم
في ذلك من عدم الائتلاف، فنقول وبالله التوفيق، ونسأله الهداية
إلى واضح الطريق:
اتفقت المجبرة (1) على أن كل كفر وفسق وفحش، وزنا ولواط،
وتظالم وايمان وبر، واحسان وقع فالله سبحانه الخالق له،
والموجد له، وليس للعبد في ذلك قدرة مؤثرة، ولا اختيار، وأنه
سبحانه يأمر وينهى بما لا يريد، ويفعل الفعل من دون حكمة وغرض
والجامع لما تعلقوا به في ذلك، الداعي (2) والعلم، ونفي
الحسن والقبح العقليين، وأن لا يقع في ملكه ما لا يريد، وتكليف
ما لا يطاق، والآيات والاخبار التي ظاهرها الجبر، وأنهم السواد
الأعظم لكثرتهم، ومناظرة إبليس والملائكة بعد أمره بالسجود.
واتفق أهل العدل على أن العبد قادر بقدرة أعطاه الله إياها بها
يتمكن من ايجاد الفعل، وتركه باختياره، وأن الله عدل حكيم،
لا يكلف ما لا يطاق، وأن جميع أفعاله حكمة مقصودة له، وأنه متعال
1 سميت المجبرة مجبرة لقولهم: إن العبد مجبر على ما هو منه من طاعة أو معصية. شرح الملل والنحل
للإمام المهدي عليه السلام.
2 حقيقة الداعي: ما يترجح لأجله وجود الفعل على تركه.
10

عن خلق الكفر والفسق، وأفعال العباد.
وتعلقوا في صحة ذلك بضرورة العقل وبالسمع.
فصل
أما الداعي وهو المرجع للفعل على الترك، فبيانه:
أنه إن كان الفعل لازم الصدور عن العبد بحيث لا يمكنه الترك
فواضح أنه غير مختار، وإن كان جائزا وجوده وعدمه، فإن افتقر
إلى مرجح فمع المرجح يعود التقسيم فيه بأن يقال: إن كان لازما
فاضطراري، وإلا احتاج إلى مرجح آخر، ولزم التسلسل، وإن لم
يفتقر إلى مرجح بل يصدر عنه تارة، ولا يصدر عنه أخرى مع
تساوي الحالتين، فهو اتفاقي (1).
والاتفاقي (2) لا يكون في وسعه واختياره، فيلزم من هذا الجبر،
وهو المطلوب.
قال الرازي (3): ولو أجمع الأولون والآخرون على هذا
1 فهو كفعل الساهي والنائم.
2 قوله: فهو اتفاقي، أي فالفعل اتفاقي صادر بلا سبب يقتضيه، فلا يكون اختياريا، لان الفعل الاختياري لابد
له من إرادة جازمة ترجحه، يعني ترجح الوجود على الترك، لا أنه تصيره راجحا، إذ قد يريد المرجوح
، وهو ما تركه أولى من فعله. تمت من حواشي شرح الغاية.
والحاصل أن المرجح إما أن يكون من فعل الله، أو من فعل العبد، أولا من فعل الله ولا من فعل العبد لا جائز
أن يكون من فعل العبد، وإلا لزم التسلسل، ولا جائز ان يكون لا بفعل الله، ولا بفعل العبد لأنه يلزم من
ذلك حدوث شئ لا لمؤثر، وذلك يبطل القول بالصانع، إذ يقتضي القدح في الاستدلال بالممكن على
المؤثر، وذلك يقتضي نفي الصانع.
3 الرازي هو أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازي مولدا، الأشعري أصولا الشافعي فروعا صاحب
التفسير الكبير وفاته عام 606 ه.
11

البرهان لما تخلصوا عنه إلا بالتزام، وقوع الممكن لاعن مرجح،
وحينئذ يفسد باب اثبات الصانع، أو بالتزام أن يفعل الله ما يشاء،
يعني اجبار العبد، وأن الفعل فعله سبحانه.
أجاب العدلية (1) عن ذلك بوجوه أربعة:
الأول: بأنه استدلال في مقابلة الضرورة، فيكون باطلا، وذلك
أنا نفرق ضرورة بين الافعال الضرورية، والاختيارية، كالسقوط
والصعود، وحركتي الاختيار والرعشة.
الثاني: أنه يجري في فعل الباري تعالى، فيلزم أن لا يكون
مختارا، وأنه كفر.
الثالث: يلزم أن لا يوصف الفعل بحسن ولا قبح شرعا، إذ
لا تكليف لغير المختار عندكم وإن جوزتموه.
الرابع: أنا نختار أنه يحتاج إلى مرجح، والمرجح لفعل
العبد على تركه هو الإرادة للفعل، فلا يلزم كون العبد مجبورا
في أفعاله.
أجابت الجبرية (2) عن الأول: بأن الضروري وجود القدرة
لا تأثيرها.
قالت العدلية: جعلكم الضروري وجود القدرة لا تأثيرها مغالطة
، فإنه لا طريق إلى العلم بوجودها إلا العلم الضروري باختيارنا في
1 سميت العدلية عدلية لقولهم بعدل الله وحكمته.
2 سميت الجبرية جبرية نسبة إلى الجبر، وهو القول بأن الله يجبر عباده على فعل المعاصي.
12

أفعالنا، وعدم توقفها على شئ سوى إرادتنا ثم إذا وجدنا مختارا
يتمكن من فعل دون آخر علمنا وجودها في الأول دون الثاني،
ولولا تعلقها بأفعالنا، وتأثيرها فيها لم يعلم وجودها أصلا، على
أن نفي تأثيرها يرفع فائدة خلقها، إذ وجودها ولا أثر لها كعدمها.
وأجابت الجبرية عن الثاني: بأن مرجح فاعليته تعالى قديم،
وهو ارادته القديمة، فلا يحتاج إلى مرجح آخر بخلاف مرجح
فاعلية العبد، فإنه حادث، فيحتاج إلى مؤثر، فإن صدر عن العبد
تسلسل، وإلا كان مجبورا في فعله.
أجابت العدلية: بأنه لا يفيدكم ما ذكرتموه، لان ارادته تعالى
قديمة عندكم، وفعله تعالى مستند إليها وجوبا عندكم، وهي مستندة
إلى ذاته بطريق الايجاب (1) وإذا وجب الفعل بما ليس اختياريا
له تطرق إليه الايجاب فلم يكن مختارا في فعله.
وأجابت الجبرية عن الوجه الثالث: بأن للعبد قدرة واختيارا،
لكن لا تأثير لقدرته، ومثل هذا لا ينافي التكليف الشرعي.
أجابت العدلية: بأن ما ذكرتموه لا يدفع الجبر (2) المنافي
للاختيار بالضرورة (3) وجعل بعض الأفعال الواجبة (4) اختياريا
1 إذ لو كان صدور الإرادة القديمة بطريق الاختيار لزم أن لا يكون القديم قديما، فثبت أن استنادها بطريق
الايجاب.
2 أي عدم استقلال العبد كما هو مرادهم حيث يقولون فعل العبد واسطة بين الجبر والاختيار، فأشار
المؤلف عليه السلام أن لافرق عند التحقيق.
3 متعلق بمناف.
4 أي الذي يجب وجوها عند تحقق الإرادة، والمراد بالبعض هو الفعل الشرعي، أي ما حسنه الشرع أو قبحه
13

مجرد تسمية تكذبها الحقيقة (1)
وأجابت الجبرية عن الوجه الرابع بأن الاختيار، والإرادة من
فعل الله، لان اختيار العبد ليس باختياره، وإلا لزم التسلسل،
فيبطل استقلال العبد بفعله.
أجابت العدلية: بأنا لا نسلم أن الإرادة من فعل الله تعالى، بل
من فعل العبد، ولا يلزم التسلسل لان المحتاج إليها هو المتوجه
إليه قصد الإرادة، وأيضا يدل على أن الإرادة من فعل العبد قوله
تعالى: (يريدون ليطفؤا نور الله) (2) وقوله: (ويريد الذين يتبعون
الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما) (3) وقوله: (ويريد الشيطان) (4
) الآية، وغير ذلك من الآيات الدالة على أنهم أرادوا غير ما أراد
سبحانه، فكيف تكون إرادة العبد منه، وهو يخبر أن ارادتهم غير
إرادة! وفي قولهم هذا مخالفة للقرآن، ولما نجده من أنفسنا،
على أن ابن الحاجب (5) قد استضعف دليلهم هذا، أعني الداعي
والمرجح من حيث هو، وهو من فحول المجبرة، وأيضا فقد ذم
الله أهل الكتاب في قوله سبحانه: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من
الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل) (6)
1 لما عرفت من أنه لافرق بين وجود القدرة من غير تأثير، وهو المسمي عندهم بعدم الاستقلال وبين الجبر
المحض.
2 الصف (8).
3 النساء (27).
4 النساء (60).
5 هو أبو عمرو عثمان بن أبي بكر الكردي المالكي النحوي الأصولي توفي سنة 646 ه.
6 النساء (44).
14

ولو لم يكن لهم إرادة لما ذمهم عليها، ولما استحقوا الذم
على ذلك، وأيضا: لو لم يكن للعبد إرادة لما كان للوعيد عليها
معنى، وكان عبثا، حيث يقول تعالى: (ومن يرد فيه بإلحاد بظلم
نذقه من عذاب اليم) (1)
ثم إن القول بعدم إرادة العبد يلزم منه تكذيب القرآن في قوله
تعالى: (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء) (2
) (أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا) (3) وقوله: (ويريدون
أن يتخذوا بين ذلك سبيلا) (4) وقوله (ستجدون آخرين يريدون أن
يأمنوكم) (5) وقوله تعالى (يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت) (6
) إلى قوله (ويريد الشيطان أن يضلهم) وقوله تعالى: (إن يريدا
اصلاحا يوفق الله بينهما) (7) وقوله تعالى: (ويريد الذين يتبعون
الشهوات أن تميلوا) (8) وقوله تعالى: (منكم من يريد الدنيا ومنكم
من يريد الآخرة) (9) وقوله تعالى: (يريدون أن يبدلوا كلام الله) (10
) وقوله تعالى: (ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب
1 الحج (25).
2 المائدة (91).
3 النساء (144).
4 النساء (150).
5 النساء (91).
6 النساء (60).
7 النساء (35).
8 النساء (27).
9 آل عمران (152).
10 الفتح (15).
15

الآخرة نؤتها منها) (1) وغير هذه الآيات، والله سبحانه يقول: (ذلك
الكتاب لا ريب فيه) (2)
فصل
وأما العلم فقالت الجبرية: قد سلمتم كونه تعالى عالما بجميع
المعلومات، ووقوع الشئ على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه
جهلا، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال، فيكون علمه
سابقا سائقا، لهذا فالقضاء والقدر لازم لكم بهذا الدليل لزوما
لا جواب عنه.
أجابت العدلية بأن علم الله سابق غير سائق، فلم يناف تمكن
العبد من الفعل والترك، فعلمه تعالى هو بالفعل وشرطه، وهو
التمكن والاختيار، وإن سلم ما ادعته المجبرة من أن علمه سبحانه
سائق فنقول:
علم الله سبحانه ساقه إلى التمكن والاختيار إذ هو عالم بان
العبد متمكن من الفعل ومختار له، فلم يكشف وقوع الايمان من
الكافر، لو قدرنا وقوعه عن الجهل في حقه تعالى، لعلمه سبحانه
بالفعل، وشرطه كعلمه سبحانه عدم اطلاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أهل
الكهف، فإنه لم يكشف عن الجهل في حقه تعالى، بعد أن علم
أنه لو اطلع عليهم لولى منهم فرارا، ولملئ منهم رعبا، لأنه
1 آل عمران (145).
2 البقرة (2).
16

لا يكشف عن الجهل في حقه تعالى، الا حيث كان لا يعلم إلا
أحدهما (1) ثم أن هذا الدليل الذي زعم الرازي أنه لا جواب عنه
يلزم منه أن يكون الباري تعالى غير مختار في رزقنا، ولا في خلق
السماوات والأرض وما بينهما، لأنه قد سبق في علمه أنه يخلق ويرزق
، فلا بد له من ذلك، وإلا انقلب علمه جهلا، فيلزم عدم اختياره
في شئ من أفعاله، وقد اعترف بهذا الالزام ابن الحاجب،
وسعد الدين وغيرهما من الجبرة، وأقروا بأنه يلزم منه الكفر.
قال الرازي حكاية عن العدلية بعد كلام معناه ما سبق فيلزم ان
لا يكون الله سبحانه قادرا على شئ أصلا، وذلك كفر بالاتفاق،
فثبت أن العلم بعدم الشئ لا يمنع من امكان وجوه، ثم قال عنهم
: ولو كان الخبر والعلم مانعا لما كان العبد قادرا على شئ أصلا
، لان الذي علم الله وقوعه كان واجب الوقوع، والواجب لا قدرة
عليه، والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع، والممتنع لا قدرة عليه
، فوجب ألا يكون العبد قادرا على شئ، فكانت حركاته وسكناته
جارية مجرى حركات الجمادات، والحركات الاضطرارية
للحيوانات، لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك، فإن من رمي انسانا
بالآجرة حتى شجه فإنا نذم الرامي، ولا نذم الآجرة، وندرك بالبديهة
تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه وبين ما إذا لكمه انسان
بالاختيار، ولذلك فإن العقلاء ببداهة عقولهم يدركون الفرق بين
مدح المحسن، وذم المسئ، ويلتمسون ويأمرون، ويعاتبون ويقولون
1 الايمان في حق المؤمن، أو الكفر في حق الكافر.
17

: لم فعلت؟ ولم تركت؟.
وقال أيضا عنهم: لو كان العلم بالعدم مانعا للوجود لكان أمر
الله تعالى للكافر بالايمان أمرا بإعدم علمه، وكما أنه لا يليق به أن
يأمر عباده بأن يعدموه، فكذلك لا يليق به أن يأمرهم بأن يعدموا
علمه، لان اعدام ذات الله وصفاته غير معقول، والامر به سفه
وعبث.
ثم قال عنهم: الايمان في نفسه من قبيل الممكنات فوجب أن
يعلمه الله من الممكنات، إذ لو لم يعلمه كذلك لكان ذلك العلم
جهلا، وهو محال، وإذ علمه الله من الممكنات التي لا يمتنع
وجوده وعدمه البتة، فلو صار بسبب العلم واجبا لزم أن يجتمع
على الشئ الواحد كونه من الممكنات، وكونه ليس منها، وذلك
محال.
ثم قال عنهم: إن العلم بوجود الشئ لو اقتضى وجوبه لأغنى
العلم عن القدرة، والإرادة، فوجب أن لا يكون الله تعالى قادرا
مريدا مختارا، وذلك قول الفلاسفة. اه
وقالت العدلية: من احتج بأن العلم سائق لزمه أن تكون أفعالنا
لا باختيارنا، ولا باختيار الله أما كونها لا باختيارنا فهو مقتضى التشبث
بهذه الشبهة، وأما كونها لا باختيار الله تعالى، فلأنها أيضا قد
سبقت في علمه، فلا بد من فعلها وجوبا، والوجوب ينافي الاختيار
، ولو لم يكن فعله لها واجبا لكان جائزا، فيجوز أن لا يفعلها
فينقلب علمه جهلا وهو محال.
إذا عرفت هذا علمت أن العلم لا أثر له في المعلوم إذ قد
18

أعلمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالدجال وكفره، والمهدي وهداه، وليس لعلمنا
أثر في الدجال والمهدي، وما علم الله إلا بهذه المثابة.
فصل
وأما نفي الحسن والقبح العقليين
فقالت الجبرية: لأحسن ولأقبح للأفعال قبل ورود الشرع، فلا
حكم للعقل في حسن الأشياء وقبحها، فلو عكس الشارع القضية
فحسن ما قبحه، وقبح ما حسنه لم يكن ممتنعا، وانقلب الامر فصار
القبيح حسنا، والحسن قبيحا، كما في النسخ من الحرمة إلى
الوجوب، ومن الوجوب إلى الحرمة، وهذه المسألة قراره
مطلوبنا الذي هو الجبر، فكلما ألزمتمونا في خلق الله للأفعال،
أجبنا عليكم بهذه المسألة.
ثم قالت الجبرية محتجين على ما ذهبوا إليه:
العبد مجبور في أفعاله، وإذا كان كذلك لم يحكم العقل فيها
بحسن ولا قبح، لان ما ليس فعلا اختياريا، لا يتصف بهذه الصفات
اتفاقا.
بيانه أن العبد إن لم يتمكن من الترك فهو الجبر، وإلا يكن
كذلك بل تمكن من الترك، فإما أن لا يتوقف وجود الفعل منه على
مرجح فالفعل اتفاقي، فلا يكون اختياريا، وإن توقف على
المرجح، فإن كان المرجح لم يكن من العبد فالفعل مثله، وإن كان
من العبد عاد التقسيم، وقد مر ذلك، ومر جواب العدلية عن
ذلك.
19

واحتجوا ثانيا: لو كان ذاتيا لزم قيام المعنى بالمعنى، أي
العرض بالعرض، واللازم باطل.
أما الأولى: فلان حسن الفعل مثلا أمر زائد على مفهوم الفعل
، والا لزم من تعقل الفعل تعقله، ولا يلزم، إذ يعقل الفعل
ولا يخطر بالبال حسنه، ثم يلزم أن يكون أمرا وجوديا لان نقيضه
لأحسن وهو سلب، إذ لو لم يكن سلبا لاستلزم محلا موجودا،
فلم يصدق على المعدوم أنه ليس بحسن، وأنه باطل بالضرورة،
وأيضا إذا لم يصدق عليه أنه ليس بحسن، صدق عليه أنه حسن،
إذ لا مخرج من النفي والاثبات، فلم يكن الحسن وصفا ذاتيا، إذ
المعدوم لا يكون له صفة إلا مقدرة موهومة، وكيف يكون صفة حقيقة
ذاتية لما لا حقيقة ولا ذات له؟ وإذا ثبت أن نقيضه سلب كان هو
وجودا، والا ارتفع النقيضان، فثبت أنه زائد وجودي، فهو معنى
لان ذلك هو معنى المعنى.
ثم نقول: الفعل قد وصف حيث يقال: الفعل حسن، فيلزم قيام
الحسن بالفعل لامتناع أن يوصف الشئ بمعنى يقوم بغيره
والفعل أيضا معنى وهو ظاهر، فيلزم قيام المعنى بالمعنى.
وأما الثانية: وهي بطلان اللازم الذي هو قيام المعنى،
وهو الحسن بالمعنى، وهو الفعل، فلانه يلزم اثبات الحكم - الفعل
- وهو كون المعنى قائما به لمحل المعنى، وهو الفاعل، لا للفعل
نفسه، لان الحاصل قيام المعنيين معا بالجوهر، إذ المعنيان معا في
حيز الجوهر بطريق التبعية له، وحقيقة القيام: هو التبعية في
التحيز.
20

بيان ذلك أن قيام الصفة بالموصوف الذي هو الفاعل مثلا معناه
تحيز الصفة تبعا لتحيز الموصوف، ولا يتصور إلا في المتحيز
بالذات، لان المتحيز وهو الفعل مثلا بتبعية غيره وهو الفاعل
لا يكون متبوعا لثالث وهو الحسن مثلا إذ ليس كونه متبوعا لذلك
الثالث أولى من كونه تابعا له، والعرض وهو الفعل مثلا ليس
بمتحيز بالذات، بل هو تابع في التحيز للجوهر، وهو الفاعل
مثلا فلا يقوم به غيره، أي فلا يقوم الحسن بالفعل عقلا، وهو
المطلوب.
أجابت العدلية: إن هذا الدليل يجري في الحسن الشرعي بأن
يقال: لو كان حسنا شرعا لقام المعنى بالمعنى إلى آخره.
ويلزم منه امتناع اتصاف الفعل بكونه ممكنا، معلوما ومقدورا
ومذكورا، فيلزم أن لا يكون الامكان ذاتيا، فلا يكون الفعل في
نفسه ممكنا.
وأجابت العدلية بمنع المقدمة الأولى، وهي الشرطية، وما ذكر
في بيانها، فإن نقيض العدمي لا يجب وجوده فقد يكون الشئ
ونقيضه معدومين معا (1) وبمنع الثانية، وهو بطلان قيام المعنى
بالمعنى لأنا لا نسلم أن القيام التبعية في التحيز كما ذكرتم بل هو
الاختصاص الناعت، وهو أن يختص شئ بآخر اختصاصا يصير به
1 وموجودين معا، ومنقسمين، وتحقيقه أن الوجودي يطلق على معنيين: الموجود، وما ليس في مفهومه سلب
، والعدمي يقابله فيهما، والنقيضان لابد أن يكون أحدهما وجوديا، والآخر عدميا بالمعنى الثاني، لكن
الوجودي بهذا المعنى لا يجب أن يكون موجودا لجواز كونه مفهوما اعتباريا، ليس فيه سلب ولا يجب
ذلك في المعنى الأول لجواز ارتفاعهما بحسب الوجود في الخارج، إنما يمتنع ارتفاعهما في الصدق.
21

ذلك الشئ نعتا للاخر، والاخر منعوتا، وسواء فيه الجوهر وغيره
، وقد استضعف ابن الحاجب دليل الجبرية هذا.
فصل
قالت العدلية: العقل حاكم (1) بحسن الأشياء وقبحها لوجوه -
منها: أن الناس طرا يجزمون بقبح الظلم والكذب الضار
، ويذمون على ما يجزمون بقبحه، وليس ذلك بالشرع، إذ يقول به
المتشرع وغيره، ولا العرف لاختلافه باختلاف الأمم، وهذا لا يختلف
بل الأمم قاطبة متفقون عليه.
ومنها: أنه لو لم يكن عقليا لحسن منه تعالى الكذب، وخلق
المعجز على يد الكاذب، وفي ذلك ابطال الشرائع وبعثة الرسل
بالكلية، إذ لا يتبين صدقه تعالى من الكذب ولا النبي عن المتنبي.
ومنها: أنه لو لم يكن الحسن والقبح عقليين لجاز أن الشارع
يحسن ما قبحه، ويقبح ما حسنه، كما في النسخ فيلزم جواز حسن
الإساءة، وقبح الاحسان، وذلك باطل بالضرورة.
ومنها: أنا نعلم أن من خالفنا في هذه المسألة بأنه يفرق بضرورة
عقله بين من أحسن إليه ومن أساء، وبين الظلم والعدل، ومن
1 اعلم أن ادراكات العقل ثلاثة الأول: صفة الكمال والنقص، والثاني: ملائمة الغرض ومنافرته، وهذان
لا نزاع في ادراكه لهما، والثالث: الحسن والقبيح المتعلق بالمدح والذم والثواب والعقاب، والنزاع
في الثالث، وأما الأولان فالأشعرية يوافقون في ادراك العقل للحسن والقبيح فيهما، و أما الثالث فلا
حكم فيه إلا للشرع عندهم. وعند العدلية العقل حاكم، والشرع كاشف، قال الله تعالى (إن الله يأمر
بالعدل والاحسان) الآية تقتضي كونه عدلا واحسانا قبل الامر.
22

أنكر ذلك فهو مكابر منكر للضرورة.
ومنها: أن الشرع قد أكد ذلك قال تعالى (فألهمها فجورها
وتقواها) (1) أي بما ركب فيها من العقول والالهام لا يكون بصريح
الكلام.
ومنها: أن الدليل على صدق النبوة لا يتم الا بأن الله تعالى جعل
المعجزة لصدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن صدقه الله فهو صادق، وهذا لا يصح
عند المخالف، لأنه يجوز أن يجعل الله المعجزة للاغواء والاضلال
لعدم امتناع القبح منه، ولا يمتنع عندهم أن يصدق الله المبطل
الكذاب، فلا يحكم بصحة النبوة ولا صدق النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أصلهم،
وقد أقر العضد بأنه لا يمتنع الكذب منه تعالى عقلا.
وقد تحير المحققون منهم في هذا، فبعضهم رمز إلى فساد هذا
المذهب، وبعضهم صرح قال بعضهم: لا يتم استحالة النقص عليه
تعالى إلا على رأي المعتزلة القائلين بالقبح العقلي.
وقال الجويني (2): لا يمكن التمسك في تنزيه الرب تعالى من
الكذب بكونه نقصا، لان الكذب عندنا لا يقبح لعينه.
وقال صاحب التلخيص: الحكم بأن الكذب نقص، ان كان عقليا
كان قولا بحسن الأشياء وقبحها عقلا، وان كان سمعيا لزم الدور (3).
وقال العضد: لم يظهر لي فرق بين صفة النقص والقبح العقلي
1 الشمس (8).
2 عبد الملك بن محمد بن عبد الله الجويني توفي 478 ه تمت منهاج الوصول باختصار، تحقيق الدكتور
المأخذي.
3 لأنه لا يقبح الكذب إلا بالسمع، ولا يكون السمع صدقا إلا بقبح الكذب.
23

، بل هو بعينه، وذلك لأنهم يقولون ويعترفرن ويوافقون: إن العقل
يدرك صفة الكمال والنقص، ويدرك ملاءمة الغرض ومنافرته،
وإنما ينكرون الحسن والقبح في الفعل المتعلق بالمدح والذم،
فعندهم أن العقل لا يحكم بذلك، وقالوا لا يقبح من الله قبيح
ولا ظلم، فالكفر والزنا واللواط والجور والظلم والتعذيب بغير
جرم، ورفع فرعون في عليين، وانزال موسى في الدرك الأسفل
من النار الجميع فعله وخلقه، ولا يقبح منه ذلك، وممن صرح منهم
بفساد مذهبهم في نفي التحسين والتقبيح العقليين وهو كون الشئ
متعلق المدح عاجلا والثواب آجلا، وكونه متعلق الذم عاجلا
والعتاب آجلا.
صاحب التوضيح (1) قال: كل من علم أن الله تعالى عالم فاعل
بالاختيار، وعلم أنه غريق بنعمة الله في كل لحظة، ثم مع ذلك
ينسب من الصفات والافعال ما يعتقد أنه في غاية القبح والشناعة إليه
تعالى فلم ير بعقله أنه يستحق بذلك مذمة، ولم يتيقن أنه في
معرض سخط عظيم، وعذاب اليم، فقد سجل غوايته على غباوته
ولجاجته، وبرهن على سخافة عقله واعوجاجه، واستخف بفكره
ورأيه، حيث لم يعلم بالشر الذي في رأيه، إلى أن قال: فلما
أبطلنا دليل الأشعري رجعنا إلى إقامة الدليل على مذهبنا.
وقال أيضا: على أن الأشعري يسلم القبح والحسن عقلا بمعنى
الكمال والنقصان، فلا شك أن كل كمال محمود، وكل نقصان
1 هو من القائلين بخلق أفعال المكلفين.
24

مذموم، وأن أصحاب الكمالات محمودون بكمالاتهم، وأصحاب
النقائص مذمومون بنقائصهم.
فانكاره الحسن والقبح بمعنى أنهما صفتان لأجلهما يحمد أو يذم
الموصوف بهما في غاية التناقض إلى آخر كلامه. انتهى.
وقال في المواقف (1) وشرحه (2) واعلم أنه لم يظهر لي فرق بين
النقص في الفعل، وبين القبح العقلي فيه، فإن النقص في الافعال
هو القبح العقلي بعينه فيها، وإنما تختلف العبارة دون المعنى،
فأصحابنا المنكرون للقبح العقلي، كيف يتمسكون في دفع الكذب
عن الكلام اللفظي بلزوم النقص في أفعاله تعالى.
فصل
وأما أنه لا يقع في ملكه ما لا يريد فقالت المجبرة: لو كان الفعل
من العبد لكان فعله المعصية والفساد منازعة له تعالى في سلطانه
ومغالبة له، ويلزم أن يكون تعالى عاجزا.
أجابت العدلية: بأن فعل العبد ليس مغالبة ومنازعة، أما فعل
الطاعة والمباح فواضح، واما فعل المعصية فهو كفعل عبد قال له
سيده لا أرضاك تأكل البر لمصلحة رايتها لك، ولا أحبسك عنه،
لكن إن فعلت عاقبتك، ففعل العبد ليس نزاعا لسيده، لان النزاع
هو المقاومة والمغالبة، وهذا العبد لم يقاوم ولم يغالب، وهذا
1 للعضد.
2 للشريف.
25

الألزم لازم لكم، لأنكم تقرون بان الله تعالى قد خولف فيما امر به
، فما المانع أن يخالف فيما اراده عندكم! إنما ذلك مقتضى
الحكمة في انزال الكتب، وارسال الرسل، فالامر أولى بأن تكون
مخالفته لازمة للعجز، لأنه لا يتردد عند سماعه أن الآمر طلبه
بخلاف الإرادة، فإنها لا تظهر مع عدم القرينة، ولأن الامر لا يكون
إلا بعد الإرادة فهي من لوازمه قال تعالى: (إن الله يحكم ما يريد) (1
) بعد قوله: (غير محلي الصيد).
وقالت العدلية أيضا إما ان يكون الله تعالى قادرا على أن يخلق
للعبيد قدرة مؤثرة، أو غير قادر.
فإن قالت المجبرة: إنه غير قادر لزمهم أنه عاجز، والامر على
خلافه، لان الله على كل شئ قدير.
وان قالوا: إنه قادر على ذلك.
قلنا: فقد فعل بشهادة ضرورة العقل، وشهادة صريح القرآن حيث
يقول عز وجل: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) (2) فقد
قضت حكمته بأن جعل الاختيار إليهم في عمل أيهما شاؤوا،
ليستحقوا الثواب، أو العتاب، ولو منعه عن فعل المعصية والطاعة
، لم يستحق الثواب على فعل الطاعة، ولا العقاب على فعل
المعصية، وبطل التكليف إذ هو ملجأ حينئذ، ثم إن قولكم:
لا يقع في ملكه مالا يريد، يرده أيضا قوله تعالى: (وما الله يريد
1 المائدة (1).
2 فصلت (46).
26

ظلما للعباد) (1) فنزه تعالى نفسه عن إرادة شئ من الظلم،
والظلم بين عبيده واقع لا محالة، وكل واقع عندهم مراد له تعالى
، فيلزمهم أن الظلم مراد له تعالى، وهو رد لصريح الآية.
فصل
وأما تكليف ما لا يطاق
فقال الرازي في مفاتيح الغيب: احتج أهل السنة بهذه الآية
أعني قوله تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم
تنذرهم لا يؤمنون) (2) وكل ما أشبهها من قوله تعالى: (لقد حق القول
على أكثرهم فهم لا يؤمنون) (3) وقوله: (ذرني ومن خلقت وحيدا) إلى
قوله: (سأرهقه صعودا) (4) وقوله: (تبت يدا أبي لهب) على
تكليف ما لا يطاق، وتقريره أنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه
لا يؤمن قط، فلو صدر منه الايمان لزم انقلاب خبر الله - عن -
الصدق كذبا، والكذب عند الخصم قبيح، وفعل القبيح يستلزم
إما الجهل وإما الحاجة، وهما محالان على الله تعالى، والمفضي
إلى المحال محال، فصدور الايمان منه محال، فالتكليف به
تكليف بالمحال، إلى قال بعد ذكره لصور في هذا المعنى مؤداها
هذا التقرير الذي ذكرنا، قال: وهذا هو الكلام الهادم لأصول
1 غافر (31).
2 البقرة (6).
3 يس (7).
4 المدثر (17).
27

الاعتزال، ولقد قاموا وقعدوا واحتالوا على دفعه فما أتوا بشئ
مقنع واحتجوا أيضا، بأنه كلف أبا لهب بتصديقه صلى الله عليه وآله وسلم في جميع
ما جاء به، ومنه أن لا يصدقه، فصار مكلفا بأنه يؤمن بأنه لا يؤمن،
وهو جميع بين النقيضين.
أجابت العدلية: أنه لم يكلف أن يعلم أنه كافر، وانه من أهل
النار، كما لم يكلف أن يعلم أن في المدينة منافقون، وان امرأة
لوط من أهل النار، وامرأة فرعون من أهل الجنة، وأن الله سبحانه
أغرق فرعون وقومه، وخسف بقارون، وأيضا كفره سبب للاعلام من
الله تعالى بأنه كافر، وقد فعل الكفر باختياره من غير مانع، لا أن
ذلك الاعلام سبب لحمول كفره، وإذا لم يكن الاعلام سببا لكفره
، لم يلزم التكليف من الله بالكفر، بل حصل منه الكفر باختياره،
وأيضا لم يكلف أبو جهل بالعلم بأنه كافر لحصوله عنده بسبب كفره
، فهو عالم بأنه جاحد لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومنكر لشرعه، وإذا
كان كذلك، كان تكليفه بأن يعلم ذلك محالا، إذ هو تحصيل
الحاصل، وتحصيل الحاصل محال، وامر الحكيم به محال، فثبت
أنه لم يكلف إلا بالايمان بالله فقط، وأيضا قد حصل العلم الضروري
بقبح ذلك في الخالق والمخلوق، فان من كلف الأعمى بنقط
المصحف، ومن لا جناح له بالطيران عد تكليفه سفها، وسخفا،
وذم عند العقلاء، وما ذاك إلا لكونه تكليفا بما لا يطاق، فيجب قبحه
أيضا في حق الله تعالى لحمول العلة الموجبة لقبحه.
وقال الحاكم: التكليف بما لا يطاق على سبيل الجملة معلوم
قبحه ضرورة. انتهى
28

وأيضا المحال لا يمكن وجوده في الخارج من المكلف، وكل
ما لم يمكن وجوده في الخارج من المكلف لا يطلب، فالمحال
لا يطلب.
أما الأولى فضرورية، وأما الكبرى فلان الطلب عبث قبيح،
لا يجوز على الله تعالى كما تقرر في مسألة الحسن والقبح.
وأيضا لو سلم لهم ما قالوا في الآيات لم يضرنا، فان غايته
الاخبار من عالم الغيب بالواقع من اختياره، لترجيح جنبة الكفر
على جنبة الايمان، وذلك لا ينافي التمكن والاختيار.
وأيضا قد أكد الشارع ذلك بقوله تعالى: (لا يكلف الله نفسا الا
وسعها) (1) (ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) (2).
وقد وافق العدلية (3) في هذه المسألة الغزالي وابن الحاجب
وأبو حامد وابن دقيق العيد.
فصل
قالت الجبرية: إن الله سبحانه يأمر وينهى بما لا يريد، لأنه لو
أراد الايمان من الكافر والطاعة من العاصي، وقد صدر الكفر من
الكافر، والمعصية من العاصي لزم أن لا يحصل مراد الله، ويحصل
مراد الكافر والعاصي، فيلزم أن يكون الله تعالى مغلوبا، والكافر
والعاصي غالبين عليه، بل يلزم أن يكون أكثر ما يقع من العباد
خلاف مراده تعالى والظاهر أنه لا يصبر على ذلك رئيس قرية من
1 البقرة (286).
2 الطلاق (7).
3 وافقوهم في المنع من تكليف ما لا يطاق.
29

عباده، مع أنه قد أمر ونهى.
أجابت العدلية: انه تعالى لو أمر العاصي بالطاعة، والمراد
منه فعل الفساد والعدوان على العباد لكان قد أراد القبيح، وترك
إرادة الحسن، وذلك قبيح عقلا، فلا يصدر منه تعالى، وما ذكروه
من لزوم كونه مغلوبا، والكافر والعاصي غالبين إنما يتم لو أراد
ايقاعها منهم على اية حال طوعا أو كرها، لكن المعلوم ضرورة أنه
لم يرد إلا ايقاعها منهم بالاختيار، فلا مغلوبية مع ارادتها
باختيارهم.
وأما أنه لا يصبر على ذلك رئيس قرية.
فجوابه: أنه لا يحسن من الرئيس أمر غير انزال العقوبة بمن
عصاه، والله سبحانه قد أعد للعصاة من العقاب ما أعده، و أيضا قال
تعالى: (إن الله يحكم ما يريد) (1) فيلزمكم أن الكفر والفسق والزنا
واللواط والظلم، وكل فحش محكم لان الله قد أراده، والآية ترد
هذا، وقال تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر) (2) وقال تعالى: (وإن
تشكروا يرضه لكم) (3) فصريح هذا يدل على أن ارادته من لوازم
أمره، و أنه لا يأمر وينهى الا بما يريد، كيف وقد نعى الله سبحانه
على المشركين مقالتهم: (لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا) فقال
: (كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عنكم من
1 المائدة (1).
2 الزمر (2).
3 الزمر (2).
30

علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) (1).
1 الانعام (148).
31

فصل
وأما أنه سبحانه سبحانه يفعل الفعل من دون غرض وحكمة،
ولهذا قال الرازي: إنهم يتأولون كل لام في القرآن ظاهرها الغرض
، لأنه تعالى لا يفعل كذا لكذا. انتهى.
فعندهم لا يتقيد فعله تعالى بحكمة.
قال الرازي في مفاتيح الغيب تقريرا لهذه المسألة: حكى
الشهرستاني عن ماري شارح الأناجيل، وهي مذكورة في التوراة
متفرقة على شكل مناظرة بين إبليس، وبين الملائكة بعد الامر
بالسجود قال إبليس للملائكة: إني أسلم أن لي الها هو خالقي،
لكن لي على حكمة الله تعالى أسئلة سبعة:
الأول - ما الحكمة في الخلق ولا سيما أنه كان عالما بأن الكافر
لا يستوجب عند خلقه إلا الآلام؟.
2 - ثم ما الفائدة في التكليف مع أنه لا يعود منه نفع ولا ضرر،
وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة
التكليف؟.
3 - هب أنه كلفني بمعرفته وطاعته، فلماذا كلفني السجود لآدم؟.
4 - ثم لما عصيته فلم لعنني؟ وأوجب عقابي مع أنه لا فائدة له،
ولا لغيره فيه، ولي فيه أعظم الضرر؟
5 - ثم لما فعل ذلك فلم مكنني من الوسوسة لآدم؟
6 - ثم لما فعلت فلم سلطني على أولاده؟ ومكنني من اغوائهم؟
7 - ثم لما استمهلته المدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني ومعلوم
أن العالم لو كان خاليا عن الشر لكان ذلك خيرا؟
32

قال شارح الأناجيل: فأوحى الله إليه يا إبليس إنك ما عرفتني،
ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض علي في شئ من أفعالي، فأنا الله
لا اله الا أنا، لا أسئل عما أفعل.
وأعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون من الخلائق، وحكموا
بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات مخلصا، وكان
الكل لازما، وما أحسن ما قال بعضهم: جل جناب الجلال عن أن
يوزن بميزان الاعتزال. انتهى كلام الرازي.
ثم قالوا: وكيف في مطيع وكافر وطفل، وردوا يوم القيامة فقال
المؤمن لربه تعالى: لم ألزمتني المشتاق في الدنيا؟ فقال له: إني
عرضتك بذلك لهذه المنازل التي أنت واصل إليها، ولولا تكليفي لم
تصل إليها.
فقال له الطفل: فهلا كلفتني لأصل إلى هذه المنازل؟
فقال: لأني علمت أنك تكفر فتستحق النار فاقتصرت بك على
العوض فاخترمتك.
وقال له الكافر: فقد علمت مني أني أكفر فهلا اخترمتني كما
اخترمت الطفل؟
فيلزم أن الحجة لزمت الباري على مقتضى ما ذهب إليه الخصوم.
أجابت العدلية: ان الفعل العاري عن الغرض عبث، والحكيم
لا يفعله.
ثم إن الله سبحانه وصف نفسه بالحكيم العليم، وإذا كان كذلك
كان فعله حكمة وصوابا، وسواء علمنا وجه الحكمة أو جهلناها، قال
33

تعالى: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا) (1
) فقد صرح بالغرض، وأنتم تنفونه، وصرح انه حكيم عليم، فنعتقد
أن أفعاله كلها سبحانه لغرض صحيح، وحكمة وصواب، لهذه الأدلة
وغيرها، وإن قصر علمنا وفهمنا عن وجه الحكمة في بعض الأشياء،
فلا يمنع ذلك كونه حكمة في نفس الامر، ألا ترى إلى قوله تعالى
جوابا على الملائكة لما خفي عليهم وجه الحكمة في جعله في الأرض
خليفة: (إني أعلم من الله ما لا تعلمون) (2) أي اني أعلم من الحكمة
والمصلحة مالا تعلمون، فعند ذلك يقول: (لا يسئل عما يفعل) (3) لأنه
أعلم بالمصلحة والحكمة، فما ذكرتموا من مناظرة إبليس والملائكة
غير وارد علينا، لأن له تعالى أن يختبر عباده، وإن كان عالما بما
سيكون ليعلق الجزاء على الأعمال الظاهرة لئلا يكون لهم حجة
(ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من
الطيب) (4) يميزهم بالامتحان، وسائر البلاوي من وسوسة الشيطان
وغير ذلك من الاختبارات (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي
عن بينة) (5).
وقضت حكمته باختبار من في السماء ومن في الأرض.
وقضت حكمته بالجزاء على الطاعة والعصيان، من غير أن نوجب
1 الملك (2).
2 البقرة (30).
3 الأنبياء (23).
4 آل عمران (179).
5 الأنفال (43).
34

عليه تعالى شيئا قال تعالى: (وإن كنا لمبتلين) (1).
وقضت حكمته بأن جعل هذه الدار دار عمل واختبار، والآخرة
دار جزاء على الأعمال.
وكذلك لا يلزم من مثال الطفل والكافر نقض الحكمة، لأنا وإن
جهلنا وجه ذلك، فقد وصف نفسه تعالى بالحكمة والعلم.
ثم إنا نقول: أما المؤمن فيجوز أن الحكمة والغرض في تكليفه
لأجل ما حصل له من الثواب العظيم.
والطفل اخترمه تفضلا منه، ولا نوجب عليه التفضل للكافر لان
التفضل غير واجب، وتركه غير مخل بالحكمة، وأيضا الحكمة فيه
الاختبار، ولو اخترم كل عاص، لما تمت الحكمة في الاختبار
والجزاء على الأعمال.
ثم إن الأدلة قضت ان أفعاله لغرض صحيح، فلا نقصر الحكمة
على ما فهمنا.
ونفيكم أن أفعاله لا لغرض رد لصريح القرآن قال تعالى: (وما خلقت
الجن والإنس إلا ليعبدون) (2) وقال: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) (3
) (يريد الله ليبين لكم ويهديكم) (4) وقد هدى الكفار لكن لم يقبلوا
(فأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (5) وقال
1 المؤمنون (43).
2 الذاريات (56).
3 المؤمنون (151).
4 النساء (26).
5 فصلت (17).
35

تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (1) (لنبلوكم بالشر والخير
فتنة) (2) (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) (3) (تلك
آيات الله نتلوها عليك بالحق) (4) (والله يقضي بالحق) (5) (جعلناكم
أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (6) (وما جعلنا القبلة التي
كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول) (7) (وجعلنا في الأرض
رواسي أن تميد بهم) (8) (ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب
الأكبر لعلهم يرجعون) (9) (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا)
(10) (ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون)
(11) (الله الذي جعل لكم الانعام لتركبوا منها ومنها تأكلون) (12
) (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين) (13) (ما خلقناهما إلا
بالحق) (14) (فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون) (15) (وهو الذي
1 الأنبياء (107).
2 الأنبياء (35).
3 النساء (165).
4 البقرة (252).
5 غافر (20).
6 البقرة (43).
7 البقرة (43).
8 الأنبياء (31).
9 السجدة (21).
10 سبا (28).
11 الزمر (27).
12 غافر (79).
13 الدخان (38).
14 الدخان (39).
15 الدخان (58).
36

جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا) (1).
وكم في القرآن من صريح العلة غير هذا وقد كرر في القرآن قوله
(وهو العليم الحكيم) في سورة البقرة، وفي سورة يوسف، وفي
سورة التحريم.
وكرر (العزيز الحكيم) في تسعة وعشرين موضعا من القرآن.
وكرر (عزيزا حكيما) بالنصب في خمسة مواضع.
وكرر (عزيز حكيم) بالرفع في ثلاثة عشر موضعا.
وكرر (عليما حكيما) بالنصب في عشرة مواضع.
هذا ما جاء في رؤس الآي من غير ما يدل على ذلك في أثنائها.
ثم إن المجبرة يغفلون عن مذهبهم عند تعريفهم للمعجزة،
ويناقضون نفيهم الغرض، حيث يقولون: انزل المعجزة لتصديق
النبي.
قال الرازي: لا يمكن الحكم بصحة ما جاءت به الأنبياء إلا على
أصول المعتزلة.
فصل
وأما الآيات التي تعلقوا بها في قولهم بالجبر فقالوا: قال الله
1 الفرقان (62).
37

تعالى: (الله خالق كل شئ) (1) (وهل من خالق غير الله) (2).
أجابت العدلية: إن مثل ذلك إنما سيق للتمدح بأنه الخالق
الرازق، ايقاظا وتحريضا على ترك عبادة ما هو مخلوق له تعالى،
كعبادة الأحجار والشمس والقمر وغيرها من المخلوقات، وأنه تعالى
الحقيق بالعبادة دون كل مخلوق، وأنه الرازق دونهم.
ألا ترى إلى قوله تعالى في آخر قوله (هل من خالق غير الله)
حيث قال: (يرزقكم من السماء والأرض) ولو كان الامر كما زعمتم أنه
خالق الكفر والفساد، وظلم العباد لانعكس هذا التمدح، وصار في
نقيض التمدح جليا، على أنا لو فرضنا أن ذلك لم يساق للتمدح،
وأن لهم في ذلك تعلق، فذلك مخصص بأفعالنا الاختيارية، التي
تحكم بها ضرورة العقول، فإن الرعشة بالبرد ليست كالرعشة بالاختيار
ضرورة، ثم إنه يلزمكم خلق القرآن لأنه شئ، وجميع الصفات
القديمة لديكم لأنها أشياء.
ثم نقول: ما خص نفسه وخروجه من العموم خص أفعالنا الاختيارية
بالضرورة، ثم إن معنى قولكم: لا خالق إلا الله، لا فاعل للمعاصي إلا
الله، تعالى الله عن ذلك، وأن العصاة منزهون عن نسبة القبائح إليهم
، ومعذورون في جميع الفواحش.
1 الزمر (62).
2 فاطر (3).
38

تنبيه
لما ذكر الرازي الزامات وستأتي على القول بالجبر واشكالات،
قال في مفاتيح الغيب ما لفظه: فإن قال قائل: هذه الاشكالات إنما
تلزم على قول من يقول بالجبر، وأنا لا أقول بالجبر ولا بالقدر، بل
أقول: الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر، وهو (الكسب).
فنقول: هذا ضعيف، لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في
الفعل على سبيل الاستقلال، أو لا يكون؟ فإن كان الأول فهو تمام
القول بالاعتزال، وإن كان الثاني فهو الجبر المحض، والسؤالات
المذكورة واردة على هذا القول، فكيف يعقل حصول الواسطة! أه.
فصل
قالت الجبرية: والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى
(ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) (1) فالختم
هو خلق الكفر في قلوب الكفار، أو خلق الداعية التي هي سبب
موجب لوقوع الكفر، وكذلك ما هو بمعناها، نحو (كلا بل ران على
قلوبهم) (2) (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه) (3) وفي آذانهم
وقرا) (وطبع على قلوبهم) (4) (فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون) (5
1 البقرة (7).
2 المطففين (14).
3 الانعام (25).
4 التوبة (47).
5 فصلت (4).
39

) (لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين) (1) (إنك لا تسمع
الموتى ولا تسمع الصم الدعاء) (2) (أموات غير أحياء) (3) (في
قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) (4).
واستدلوا بقوله تعالى (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم) (5
) وقالوا تقدير الآية: ولو شاء الله أن لا يقتتلوا لم يقتتلوا، ثم قال
تعالى: (ولكن الله يفعل ما يريد) فيوفق من يشاء، ويخذل من يشاء،
فلو كان يريد الايمان من الكفار لفعل فيهم الايمان، واستدلوا بقوله
تعالى: (لله ما في السماوات وما في الأرض) (6) وما بمعناها، لان أفعال
العباد من جملة ما في السماوات وما في الأرض، فوجب كونها له،
وإنما يصح أنها له لو كانت مخلوقة له.
واستدلوا بقوله تعالى: (ولا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم
خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا اثما) (7).
قالوا: إطالة المدة لاشك انها من فعل الله، وهذا الاملاء نص أنه
ليس بخير، فيدل أنه تعالى فاعل الخير والشر.
وهذا الاملاء ليزدادوا الاثم بالبغي والعدوان، فدل على أن
المعاصي بإرادة الله، واستدلوا بقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول
1 يس (70).
2 النمل (80).
3 النحل (21).
4 البقرة (10).
5 البقرة (253).
6 البقرة (284).
7 آل عمران (178).
40

إلا ليطاع بإذن الله) (1) فدلت على أنه لا يوجد شئ من الخير والشر
والكفر والايمان، والطاعة والعصيان، الا بإرادته، ولا يمكن أن
يكون المراد من هذا الاذن (الامر والتكليف) لأنه لا معنى لكونه
رسولا إلا أن الله أمر بطاعته، وهي غير الاذن، وإلا كان تكريرا،
وهذا تصريح بأنه ما أراد من الكل طاعة الرسول، بل من الذي وفقه
لا المجرمون.
واستدلوا بما ورد من قوله تعالى (صم بكم عمي) (2) واستدلوا
بقوله: (من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم) (3
) وما ورد من الضلال والهدى.
واستدلوا بقوله تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء
من الله عليهم من بيننا) (4) فقد نسب الفتنة إليه تعالى، ولو كان
الايمان أيضا من العبد ما من الله به عليه، بل هو المان على نفسه،
واستدلوا بقوله تعالى: (كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) (5
) وشبهها من ذكر التزيين.
وقالوا: الله المزين لهم الكفر، واستدلوا بقوله تعالى: (وكذلك
جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها) (6) قالوا: فدلت
على أن الخير والشر بإرادة الله سبحانه.
1 النساء (64).
2 البقرة (18).
3 الانعام (39).
4 الانعام (53).
5 الانعام (122).
6 الانعام (123).
41

واستدلوا بقوله تعالى: (فلو شاء لهداكم أجمعين) (1) وشبهها من
ذكر المشية.
واستدلوا في مسألة القضاء والقدر بقوله تعالى: (فثبطهم) (2
) وسائر ما ذكر من الآيات في معنى القضا والقدر.
واستدلوا بقوله تعالى: (وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (3).
قالوا: أراد ازهاق أنفسهم مع الكفر، ومن أراد ذلك فقد أراد
الكفر، واستدلوا بقوله تعالى: (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام) (4).
واستدلوا بقوله تعالى: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين
لا يؤمنون به) (5).
قالوا: إن الله تعالى يخلق الباطل في قلوب الكافرين.
واستدلوا بقوله تعالى: (أفمن يخلق كن لا يخلق) (6) قالوا: دلت
على أن العبد غير خالق لافعال نفسه.
واستدلوا بقوله تعالى: (وما بكم من نعمة فمن الله) (7) قالوا:
الايمان نعمة فدل على أن الله الذي خلق الايمان.
واستدلوا بقوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا
وما يزيدهم إلا نفورا) (8) قالوا: دلت على أنه تعالى ما أراد الايمان
1 الانعام (149).
2 التوبة (49).
3 الاسراء (81).
4 إبراهيم (35).
5 الحجر (12).
6 النحل (17).
7 النحل (53).
8 الاسراء (41).
42

من الكفار، وإلا لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة.
واستدلوا بقوله تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) (1)
واستدلوا بقوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من
المجرمين) (2) قالوا: دلت على أنه تعالى خالق الخير والشر.
واستدلوا بقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) (3).
واستدلوا بقوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم) (4) قالوا:
الله يريد الكفر من الكفار، لأنه قيض لهم من يزين لهم ذلك.
فصل
أجابت العدلية عن هذه الآيات وما بمعناها مما استدلت به المجبرة
من الاخبار - إن صحت.
أجابوا عن ذلك أنه يجب تأويلها، وردها إلى ما دل عليه ضرورة
العقل، ونصوص القرآن التي لا تحتمل التأويل لوجوه: -
الأول: ان الله سبحانه أنزل القرآن ليكون حجة على الكافرين
لا ليكون حجة لهم، فلو كان المراد بهذه الآيات وما ناسبها من الاخبار
ما ذهبت إليه الجبرية لقالت الكفرة: كيف تأمرنا بالايمان، وقد
منعنا الله منه! وكيف تنهانا عن الكفر، وعبادة الأصنام، وقد خلق الله
ذلك فينا؟ وحينئذ تكون الحجة لهم على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويكون ذلك
1 الكهف (28).
2 الانعام (112).
3 الصافات (96).
4 فصلت (25).
43

من أقوى القوادح في النبوة، فلما لم يكن ذلك كذلك، علمنا أن
المراد بها غير ما ذهبت إليه المجبرة.
الثاني: أن الله سبحانه نعى على الكفار مقالتهم، حيث
قالوا: (قلوبنا غلف) (1) (قلوبنا في أكنة) ولو كانوا صادقين لما نعى
الله عليهم ذلك، ولكان النبي حينئذ محجوجا، والحجة لهم.
الثالث: أنه لو كان المقصود بها أن الله خالق الكفر والايمان،
والطاعة والعصيان لما كان ثم فائدة في بعثة الرسل، وانزال الكتب،
وكانت عبثا، والله يتعالى عن فعل العبث.
الرابع: انه لو كان المقصود بها ما ذهبت إليه الجبرية لوجب
تأويل القرآن كله غير هذه الآيات، وآيات قليلة، واخراجه عن
ظاهر، وأنه لا حقيقة فيه بل كله أريد به غير ظاهره، وذلك باطل
بالضرورة.
الخامس: أن الله سبحانه تحدى بالقرآن ليكون معجزة لرسوله،
فلو كان المقصود بها ما ذهبت إليه الجبرية من أن الله الخالق لكل
شئ، وأن العبد لا قدرة له مؤثرة لبطل التحدي، إذ لا يعقل تحدي
من لا قدرة له، كالجمادات، ويستوي في المعجزة القرآن وغيره،
فلا يكون القرآن مختصا بالاعجاز، لعدم قدرة العبد على شئ،
وتحديده يعود في الحقيقة على نفسه، لأنه لا خالق وفاعل سواه، وهو
سبحانه قادر على الاتيان بمثله، وبطل حينئذ اعجاز القرآن، وذلك
باطل عقلا.
1 البقرة (88).
44

السادس: أنا نجد تفرقة ضرورية بديهية بين الحركات الاختيارية
والاضطرارية، وجزما بديهيا بحسن المدح للمحسن، وقبح الذم له
، وحسن الأمر والنهي، وحسن الذم للمسئ.
السابع: إن قيل: إن بعض ما خلق الله باطل، فبالاجماع أن من
قال: إن الله تعالى يخلق ويقضي ويقدر الباطل فهو كافر.
وإن قيل: جميع ما خلقه حق لزم أن من قال: إن الله ثالث ثلاثة
فهو حق، وهذا شرك بالله تعالى.
وكذا يلزم أن يكون الزنا والربا وشرب الخمر، وسائر المعاني
حقا (1)، والشارع قد حرمها، فعلمنا أن المقصود بها غير ما ذهبت
إليه المجبرة.
فصل
قالت العدلية: إن بعض ما تعلقت به الجبرية مساق مساق السبب
والمسبب، فلما حصل منهم الكفر والتمادي، ولم يقبلوا هداية الله،
حسن منه تعالى العقوبة بالطبع والإزاغة والختم ونحو ذلك.
قال الله تعالى: (طبع الله عليها بكفرهم) (2) (فلما زاغوا أزاغ
الله قلوبهم) (3) (كذلك نطبع على قلوب المعتدين) (4) (والله
1 في الام حق.
2 النساء (155).
3 الصف (5).
4 يونس (74).
45

إركسهم بما كسبوا) (فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه) (1
) (بما أخلفوا الله ما وعدوه) (2) (كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا
يكسبون) (3).
كذلك الختم مرتب على الكفر (إن الذين كفروا سواء عليهم
أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم) (4) الآية (وأما
من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى) (5) (ونقلب
أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة) (6) أي عقوبة لهم على
تركهم الايمان في المرة الأولى، فالكاف بمعنى الجزاء (صرف الله
قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون) (7) أي بسبب أنهم لا يتدبرون حتى
يفقهوا (وما يضل به الا الفاسقين) (8) أي المتمردين (ولا تكونوا
كالذين نسوا الله) (9) اي حقه (فأنساهم أنفسهم) بسبب ذلك حتى لم
يسعوا لما ينفعهم، والقرآن يفسر بعضه بعضها.
ولم يقل سبحانه: إن الذين ختم الله على قلوبهم، أي ابتداء،
وكذلك ضد ذلك قال سبحانه في قول إبراهيم لأبيه: (اتبعني أهدك)
(10) (والذين اهتدوا زادهم هدى) (11) أي لطفا يزادوا به هدى
1 التوبة (77).
2....
3 المطففين (14).
4 البقرة (6 - 7).
5 الليل (10).
6 الانعام (110).
7 التوبة (127).
8 البقرة (26).
9 الحشر (19).
46

لكونهم قبلوا الهداية فزادهم الله توفيقا مكافأة.
نعم فما في القرآن من نحو الختم والطبع، إلا وتجده مرتبا على
فعل العبد، فيجري ذلك مجرى (فلما آسفونا انتقمنا منهم) (1) ومما
يؤيد ذلك أن الختم وقع جزاء ذلك قوله: (ولهم عذاب عظيم) (2
) عطفا عليه.
ثم إن الختم بالاتفاق مجاز، إذ هو في الحقيقة الاستيثاق، وإذا
كان كذلك فمن المعلوم أن لا يستوثق من الشئ إلا إذا كان على
صفة لولا الاستيثاق منه لكان على صفة أخرى، كالإناء الملآن بالماء
إذا لم يشد وكاه اهراق، فإذا كان الكفر بخلق الله تعالى فلا حاجة
إذا إلى الختم لمنع الايمان، بل لكفي منه تعالى عدم خلق الايمان
، أو خلق الكفر، ولا دخل للختم في الكفر، فما هو إلا كالختم
بالاستيثاق من الحجر التي ليس فيها ما يخاف سيلانه، ولا يصح
المجاز على هذا، وكان يكفي على كلام المجبرة عن قوله تعالى
: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة) كلمة
واحدة، وهي قوله: خلقت فيهم الكفر، أولاني لم أخلق فيهم
ايمانا.
نعم فالطبع والختم عبارة عن سلب الله تعالى إياهم تنوير القلب
الزائد على العقل الكافي في التكليف ما دام المكلف مصرا على
10 مريم (43).
11 محمد (17).
1 الزخرف (55).
2 البقرة (7).
47

عصيانه، فشبه الله سلبهم ذلك بالختم والطبع، أو أن الختم
والطبع مكافأة كما سبق.
ومثل ما ذكرنا في الختم والطبع - الرين والأكنة.
وأما الغشاوة والوقر والعمى، والصمم والبكم، وغير أحياء،
وأموات، فتشبيه لحالهم حيث لم يعملوا بمقتضى ما سمعوا وأبصروا،
ولا عملوا بنصيحة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بمن في اذنيه وقر، فلا يسمع، وعلى
بصره غشاوة فلا يبصر، وبمن هو ميت لا يدرك، وبمن هو أبكم لا يتكلم.
و أما التزيين فالمنسوب إليه تعالى نحو (زينا لكل أمة عملهم) أي
زين العمل اللائق بهم، وهو المفروض والمندوب زينه تعالى بالوعد
بالثواب، فلم يقبلوا إلا ما زينه لهم الشيطان، أو ضلال الانس،
وكذا ما ابتلاهم به تعالى من النعم، وامهال الشيطان، فينسب إليه
التزيين، لذلك مجازا، والمجاز الحكمي تصححه بعض الملابسات.
وأما الفتنة: فهي المحنة والاختبار بالبلاوي، قال في الصحاح:
تقول: فتنت الذهب، إذا أدخلته النار لتعرف ما جودته، وكذا
يكون بمعنى التعذيب (يوم هم على النار يفتنون) (1).
وأما الهدى: فهو بمعنى الدلالة، والدعاء إلى الخير، وبمعنى
زيادة البصيرة بتنوير القلب، وبمعنى الفوز بالمطلوب، وبمعنى
1 الذاريات (13).
48

الحكم والتسمية، قال تعالى: (فأما ثمود فهديناهم) (1) أي دعوناهم
ودليناهم، وقال: (والذين اهتدوا زادهم هدى) (2) وقال: (يهديهم
ربهم بإيمانهم) (3) أي يثيبهم.
وقال الشاعر:
ما زال يهدي قومه ويضلنا * جهرا وينسبنا إلى الكفار
أي يحكم، فمعنى لا يهدي القوم الظالمين، أي لا يزيدهم بصيرة،
أو لا يثيبهم، أو لا يحكم لهم بالهدى، أو لا يسميهم به.
ومعنى (يهدي من يشاء) أي يفعل أحد هذه المعاني (ويجعله
على صراط مستقيم) كذلك، وله المنة أن هدانا للايمان بالدعاء
والعقل، وبعثة الرسل، وزيادة التنوير.
وأما الضلال: فهو بمعنى الهلاك، وبمعنى العذاب، وبمعنى
الغواية عن واضح الطريق.
والاضلال أيضا: بمعنى الاهلاك والتعذيب والاغواء، وبمعنى
الحكم والتسمية، فمعنى (يضل الظالمين) و (من يشاء) أي يحكم
عليهم بالضلال، ويسميهم به لما ضلوا عن طريق الحق، أو بمعنى
يهلكهم، أو يعذبهم.
وأما ما كان منسوبا إلى غيره تعالى فيجوز إغواهم وأضلهم عن
1 فصلت (17).
2 محمد (17).
3 يونس (9).
49

طريق الحق، قال تعالى: (وأضل فرعون قومه وما هدى) (1).
والقضاء: يكون بمعنى الخلق والتقدير.
قال تعالى: (فقضاهن سبع سماوات في يومين) (2).
وبمعنى الالزام: (وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه) (3).
وبمعنى الاعلام (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في
الأرض) (4) فالطاعات بقضاء الله، أي الزامه.
والقدر: بمعنى القدرة والاحكام (إنا كل شئ خلقناه بقدر) (5).
وبمعنى العلم: (ولكن ينزل بقدر ما يشاء) (6) اي بعلم أو بتقدير
منه.
وبمعنى القدر بسكون الدال (فسالت أودية بقدرها) (7).
وبمعنى الاعلام قال الشاعر:
واعلم بأن ذا الجلال قد قدر * في الصحف الأولى التي كان سطر
أي أعلم.
وبمعنى الاجل: (إلى قدر معلوم) (8).
وبمعنى الحتم: (وكان أمر الله قدرا مقدورا) (9) فيقال الواجبات
1 طه (79).
2 فصلت (12).
3 الاسراء (23).
4 الاسراء (6).
5 القمر (49).
6 الشورى (27).
7 الرعد (17).
8 المرسلات (22).
9 الأحزاب (38).
50

بقدر الله، أي حتمه والزامه.
وقدر مشددا: بمعنى خلق، وبمعنى أحكم، وبمعنى بين، وبمعنى
قاس، وبمعنى فرض وأوجب، فيقال: قدر الله المعصية والطاعة أي
بينهما، وقدر الطاعة، أي فرضها.
51

فصل
وأما قوله تعالى: (ولو شاء الله ما اقتتل).
إلى قوله: (ولكن الله يفعل ما يريد) (1) (ولو شاء لهداكم) (2
) (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله) (3).
فأجابت العدلية عن ذلك وما أشبهه:
أما قوله: (ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاء تهم
البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر) وهو أن الرسل
بعد ما جاءتهم البينات اختلفت أقوامهم.
فتقول العدلية: إن الله سبحانه لما أوضح لهم الدلائل والبراهين
، اختلفوا فمنهم من قبل وآمن، ومنهم من عند وكفر، فأراد الله
جهاد المؤمنين للكافرين، ولو شاء أن يترك أمرهم بالجهاد، أو أن
ينتصر لنفسه، أو يمنعهم بالقسر لفعل، ولكن ليبلو بعضكم ببعض،
حكمة منه تعالى.
ثم قال: (ولكن الله يفعل ما يريد) من التخلية بينهم وانزال
البينات، ومن سائر أفعال نفسه.
وأما قوله: (ولو شاء لهداكم) (4) أي بأن يقسركم، ولكن قضت
الحكمة بالاختيار.
1 البقرة (253).
2 النحل (9).
3 التكوير (29).
4 في الام بالفاء.
52

وأما قوله: (وما تشاؤن إلا أن يشاء الله) (1) فالله سبحانه قد شاء منا
الاختيار قال تعالى: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) (2) وقوله
: (ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها) (3) أي الزايد على الدعاء
والدلالة (وأما ثمود فهديناهم) (4) ولكن قضت حكمته بالاختيار،
ليتعلق الجزاء بالطاعة، والمعصية على حسب الاختيار منا.
وأما قوله تعالى: (في قلوبهم مرض) (5) فيحتمل الحسد والغل
للنبي ومن معه، أو الغم لما رأوا ثبات أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستعلاء
شأنه، أو كفرهم فزادهم الله غما بسبب استعلاء امر النبي، أو حسدا
بسبب ذلك، أو كفرا بسبب انزال التكاليف، والآيات كقوله تعالى
: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (6) ونسبته إلى الله لما كان هو السبب.
وأما قوله تعالى: (ويمدهم في طغيانهم يعمهون) (7) يريد بيمدهم:
أن يتركهم من فوائده، ومنحه التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم،
ويمنعها من الكافرين عقابا، وذلك شرح صدور المؤمنين، وتنويره
لقلوبهم.
وأما قوله تعالى: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك
خلقهم) (8) فلفظة (ذلك) تحتمل رجوعها إلى الرحمة، لأنه تعالى
1 التكوير (29).
2 الكهف (29).
3 السجدة (13).
4 فصلت (17).
5 البقرة (10).
6 التوبة (125).
7 البقرة (15).
8 هود (119).
53

كره الاختلاف، ولأن الرحمة أقرب إلى هذه الكناية من الاختلاف،
ولا يضر تذكير الكناية، لان تأنيث لرحمة غير حقيقي، ومعناها هو
الفضل والانعام مذكر.
ويحتمل ان يكون رجوعه إلى الاختلاف، أي ولذلك، وهو
وجوب مخالفة المؤمن للكافر، وعداوته له خلقهم.
وأما قوله تعالى: (ويحق القول على الكافرين) (1) فالقول
العذاب، (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم) (2) (حقت كلمة
العذاب) (3).
وأما قوله تعالى: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) (4
) فهو ما قاله على لسان الرسل من التوحيد وغيره، وبيان برهانه
فأكثرهم لا يؤمنون لسوء اختيارهم.
وأما قوله تعالى: (لله ما في السماوات وما في الأرض) (5) و ما بمعناها
، فسيق ذلك للتمدح بكمال القدرة والعلم، والملك، لا للتمدح
بخلق الكفر والفساد.
ثم إن أفعال العباد خارجة ومخصصة كما سبق في (هل من خالق
غير الله) (6).
و أما قوله تعالى: (لا تحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير
1 يس (70).
2 السجدة (13).
3 الزمر (71).
4 يس (7).
5 البقرة (284).
6 فاطر (3).
54

لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا اثما ولهم عذاب مهين) (1) فالازدياد
في الاثم عقوبة لهم على معاندتهم، وجحودهم، وعدم قبولهم
الهداية، ولذا عطف عليه (ولهم عذاب مهين) لان هذه الآية وما قبلها
، وما بعدها في شأن (أحد) وفي تثبيط المنافقين وللمؤمنين.
وأما قوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) (2
) أي بسبب اذن الله في طاعته، أو بأنه أمر المبعوث إليهم بان
يطيعوه، وبتيسير الله وتوفيقه.
وأما قوله تعالى: (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم
وقرا) (3) فإنهم لما نبوا عن الايمان، ولم يسمعوا القرآن سماع تدبر
، عاقبهم الله بذلك على ذلك، أو أن ذلك مثل في نبو قلوبهم،
ومسامعهم عن قبوله، واعتقاد صحته، ووجه اسناد الفعل إلى ذاته
للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم، كأنهم مجبولون عليه.
وأما قوله تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها
ليمكروا فيها) (4) أي خليناهم ليمكروا، وما كففناهم عن المكر، ثم
قال: (وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) (5) في معرض التهديد
لهم والزجر، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وتقديم موعد بالنصرة
عليهم.
1 آل عمران (178).
2 النساء (64).
3 الاسراء (46).
4 الانعام (123).
5 الانعام (123).
55

وأما قوله تعالى: (فثبطهم) (1) فإنما كسلهم لان في خروجهم
مفسدة.
وأما قوله تعالى: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) (2) فمعناه في
عاقبة أمرنا من الظفر بالعدو، والمقصود أن يظهر للمنافقين أن
أحوال المسلمين وان كانت مختلفة في السرور والغم، إلا أن في
العاقبة الدولة لهم، والفتح فيكون ذلك اغتياظا للمنافقين، وردا
عليهم في فرحهم.
أو يكون المعنى ما قال الزجاج: إذا صرنا مغلوبين صرنا مستحقين
للاجر العظيم، وإن صرنا غالبين صرنا مستحقين للثواب في الآخرة،
وفزنا بالمال الكثير، والثناء الجميل في الدنيا، فمع هذا صارت
تلك المصائب والمحزنات في جنب هذا محتملة.
وفي الكشاف ما لفظه: واللام في قوله: (إلا ما كتب الله لنا) مفيدة
معنى الاختصاص، كأنه قيل: لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله بإثباته،
وايجابه من النصرة عليكم، أو الشهادة.
و أما قوله تعالى: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا
وتزهق أنفسهم وهم كافرون) (3) فذلك عقوبة لهؤلاء المنافقين على
كفرهم (وما منعهم ان تقبل نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله
1 التوبة (46).
2 التوبة (51).
3 التوبة (55).
56

ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) (1) الآية.
وأما قوله تعالى: (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا
وكرها) (2) أي ينقادون لاحداث ما أراده فيهم من أفعاله شاءوا أو أبوا
لا يقدرون أن يمتنعوا عليه كالموت، والفقر والعمى والزمانة.
وأما قوله تعالى: (واجنبني وبني ان نعبد الأصنام) (3) فمعناه ثبتنا
، وأدمنا على اجتناب عبادتها بالألطاف والتوفيق.
وأما قوله تعالى: (كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به)
(4) فالمراد إقامة الحجة، على المكذبين بأن الله سبحانه يسلك
القرآن في قلوبهم، كما سلك ذلك في قلوب المؤمنين فكذب به
هؤلاء، وصدق به هؤلاء كل على علم وفهم، لئلا يكون للكفار على
الله حجة بأنهم ما فهموا وجوه الاعجاز، كما فهمها من آمن فأعلمهم
الله تعالى من الآن، وهم في مهلة وامكان أنهم ما كفروا إلا على علم
، معاندين غير معذورين، وهذا التفسير ذكره بعض المجبرة، إلا
أنه يصلح للعدلية، ويجري على قواعدهم.
وأما قوله تعالى: (أفمن يخلق كمن لا يخلق) (5) وهم الأصنام
(والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون) (6) وهذا
من سياق نعمه تعالى، ونعي على عباد الأوثان وانكار عليهم التسوية
1 التوبة (54).
2 الرعد (15).
3 إبراهيم (35).
4 الحجر (12).
5 النحل (17).
6 النحل (20).
57

بين من يخلق ومن لا يخلق.
والعدلية لم يعبروا عن فعل العبد بأنه خلقه، وإنما يقولون:
أوجده على حسب اختياره، ونسبة ذلك إليهم بهت.
وقد قامت الدلالة العقلية على أن ثم فرق بين الحركة الاضطرارية
والاختيارية.
وأما قوله تعالى: (وما بكم من نعمة من الله) (1) فالعدلية يعترفون أن
الايمان نعمة من الله أنعم بها على المؤمنين بالدعاء والعقل، وبعثة
الرسل، وانزال الكتب والالطاف.
وأما قوله تعالى: (ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم
إلا نفورا) (2) فقد ذكر الله العلة في ذلك، وهو إرادة أن يذكروا
فأبوا إلا نفورا عن الحق، وليس فيها ما يدل على أنه لم يرد
ايمانهم، بل ذكر العكس.
وأما قوله تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا) (3) فمعناه
من جعلنا قلبه غافلا عن الذكر بالخذلان لاتباعه هواه، أوجدناه غافلا
عنه، كقولك: جبنته، وأبخلته إذا وجدته كذلك، أو من أغفل إبله
إذا تركها بغير سمة، أي لم نسمه بالذكر.
وقد أبطل الله توهم المجبرة بقوله: (واتبع هواه).
1 النحل (53).
2 الاسراء (41).
3 الكهف (28).
58

وأما قوله تعالى: (وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين) (1
) فمعنى جعلنا حكمنا على الأنبياء بعداوة أهل الفسق والردة من
المجرمين (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله
ورسوله) (2) واقتضى ذلك عداوة الكفار لهم، فهو سبحانه الحامل
والداعي إلى ما استعقب تلك العداوة.
وأما قوله تعالى: (وقيضنا لهم قرناء فزينوا لهم) (3) يعني لمشركي
مكة، لما تعاموا عن اتباع الحق، وتجاهلوا وهم يعلمون أنه الحق
، وتمادوا قدرنا وأخرجنا لهم من الشياطين قرناء أخدانا، وخذلناهم
بسبب ذلك فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين (ومن يعش عن ذكر
الرحمن نقيض له شيطانا) (4) بسبب ذلك، ثم بين سبحانه أن بعضهم
يزين لبعض، ولم يقل ليزينوا.
وأما قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) (5) فنذكر ما قاله
الرازي في مفاتيح الغيب، لأنه منهم، قال ما لفظه: احتج جمهور
الأصحاب بقوله: (والله خلقكم وما تعملون) على أن فعل العبد مخلوق
لله تعالى، فقالوا (6): النحويون اتفقوا على أن لفظ ما مع ما بعده
في تقدير المصدر، فقوله: (وما تعملون) معناه وعملكم، وعلى هذا
التقدير صار معنى الآية: والله خلقكم وخلق عملكم.
1 الفرقان (31).
2 المجادلة (22).
3 فصلت (25).
4 الزخرف (36).
5 الصافات (96).
6 أي الأصحاب.
59

فإن قيل: هذه الآية حجة عليكم من وجوه: الأول - أنه قال تعالى
: (أتعبدون ما تنحتون) أضاف العبادة والنحت إليهم أضافة الفعل إلى
الفاعل، ولو كان ذلك واقعا بتخليق الله لاستحال كونه فعلا للعبد.
الثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية توبيخا لهم على عبادة
الأصنام، لأنه تعالى بين أنه خلقهم، وخالق لتلك الأصنام، والخالق
هو المستحق للعبادة دون المخلوق، فلما تركوا عبادته سبحانه،
وهو خالقهم، وعبدوا الأصنام لاجرم أنه سبحانه وتعالى وبخهم على
هذا الخطأ العظيم فقال: (أتعبدون ما تنحتون والله خلقكم وما تعملون)
ولو لم يكونوا فاعلين لأفعالهم لما جاز توبيخهم عليها، سلمنا أن هذه
الآية ليست حجة عليكم، لكن لا نسلم أنها حجة لكم.
قوله: لفظة (ما) مع ما بعدها في تقدير المصدر؟
قلنا: هذا ممنوع، وبيانه أن سيبويه والأخفش اختلفا في أنه هل
يجوز أن يقال: أعجبني ما قمت، أي قيامك، فجوزه سيبويه،
ومنعه الأخفش، وزعم أن هذا لا يجوز إلا في الفعل المتعدي،
وذلك يدل على أن ما مع ما بعدها في تقدير المفعول عند الأخفش،
سلمنا أن ذلك قد يكون بمعنى المصدر لكنه أيضا قد يكون بمعنى
المفعول، ويدل عليه وجوه:
الأول - قوله: (أتعبدون ما تنحتون) والمراد بقوله: (ما تنحتون)
المنحوت لا النحت، لأنهم ما عبدوا النحت، وإنما عبدوا المنحوت،
فوجب أن يكون المراد بقوله: (ما تعملون) المعمول لا العمل، حتى
يكون كل واحد من هذين اللفظين على وفق الآخر.
60

والثاني - أنه تعالى قال: (فإذا هي تلقف ما يأفكون) (1) وليس
المراد أنها تلقف نفس الإفك، بل أراد العصي والحبال التي هي
متعلقات ذلك الإفك، فكذا هاهنا.
الثالث - أن العرب تسمي محل العمل عملا، يقال في الباب
والخاتم: هذا عمل فلان، والمراد محل عمله.
فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن لفظة ما مع ما بعدها كما تجيء
بمعنى المصدر، فقد تجيء أيضا بمعنى المفعول، فكان حمله هاهنا
على المفعول أولى، لان المقصود في هذه الآية تزييف مذهبهم في
عبادة الأصنام، لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال نفوسهم، لان الذي جرى
ذكره في أول الآية إلى هذا الموضع هو مسألة عبادة الأصنام لا خلق
الأعمال.
واعلم أن هذه السؤالات قوبة، وفي دلائلنا كثرة.
فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية. انتهى كلام الرازي، وقد
أنصف هنا.
فصل
قالت العدلية: ليس في ظاهر قوله تعالى حكاية عن نوح
: (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن
1 الشعراء (45).
61

يغويكم) (1) خلاف مذهبنا لأنه لم يقل تعالى: إنه فعل الغواية
وأرادها، وإنما أخبر أن نصح النبي عليه الصلاة والسلام لا ينفع إن
كان الله يريد غوايتهم. ووقوع الإرادة لذلك أو جواز وقوعها لا دلالة
عليه في الظاهر، على أن الغواية هاهنا الخيبة، وحرمان الثواب،
قال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس امره ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
فكأنه تعالى قال: إن كان الله يريد أن يعاقبكم بسوء أعمالكم،
ويحرمكم ثوابه، فليس ينفعكم نصحي ما دمتم مقيمين على ما أنتم عليه
إلا أن تطيعوا، وقد سمى الله العقاب غيا، قال تعالى: (فسوف
يلقون غيا) (2) وما قبل هذه الآية يشهد بما ذكرناه، وأن القوم
استعجلوا عقاب الله تعالى، فقالوا: (يا نوح قد جادلتنا فأكثرت
جدالنا) (3) إلى قوله: (ولا ينفعكم نصحي) فأخبر أن نصحه لا ينفع
من يرد الله أن ينزل به العذاب.
وقيل: كان في القوم مجبرة، فنبههم على فساد مذهبهم، على
طريقة الانكار والتعجب من قولهم، أي إن كان كما تقولون فما
ينفعكم نصحي، فلا تطلبوا مني نصحا، وأنتم على ذلك لا تنتفعون به.
وقال الحسن البصري: المعنى فيها أن الله يريد أن يعذبكم فليس
ينفعكم نصحي عند نزول العذاب بكم، وإن قبلتموه وآمنتم به به،
لان من حكم الله تعالى أن لا يقبل الايمان عند نزول العذاب.
1 هود (34).
2 مريم (59).
3 هود (32).
62

وقوله تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل
إلى مضاجعهم) (1) ليس فيها خلاف مذهبنا، لان الضمير للمنافقين
الذين قالوا: (لو كان لنا من الامر شئ ما قتلنا هاهنا) (2) فكأنه قيل
للمنافقين: لو جلستم في بيوتكم وتخلفتم عن الجهاد لخرج المؤمنون
الذين كتب عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم، ولم يتخلفوا عن هذه
الطاعة بسبب تخلفكم وتثبيطكم، ولا سامعين لكم أن تثبطوهم.
1 آل عمران (154).
2 آل عمران (154).
63

فصل
قوله تعالى: (قل كل من عند الله) (1) أي الخصب والجدب والشدة
والرخاء، لان سبب النزول ما كان من تطير هم بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما قوله تعالى: (ماء أصابك من حسنة فمن الله) (2) فنسبها إليه
تعالى، لما كان الحسنة قد يكون ابتداؤها منه تعالى.
وأما قوله تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) (3) لما كان
هذه آية من آيات الله، ومعجزة من معجزات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه
لم يبق منهم أحد إلا ودخل في عينيه شئ، ولو قسم ذلك التراب
على كل نفر منهم لم يكن يبدأ على عشر عشرهم، فما كان هذا
خارجا عن طوق البشر، خص الله ذلك من أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم،
وكانت أفعال النبي صلى الله عليه وآله وسلم منه لامن الله تعالى، إلا ما أخرجه وخصه
دليل خارجي، كهذه الآية أخرجت هذا الفعل العجيب.
ويجري مجراها قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) (4) أي
هو الذي خذلهم، وأدخل الفشل عليهم والوجل، أو أن القتل الذي
نفاه الله عنهم هو قتل لم تباشره أيديهم، وإنما باشرته أيدي الملائكة
، وإنما نسب إلى الله لان الملائكة قتلوهم بأمره وارادته.
1 النساء (78).
2 النساء (79).
3 الأنفال (17).
4 الأنفال (17).
64

فصل
قالت الجبرية: إنهم السواد الأعظم، أهل الحق لكثرتهم.
وقالت العدلية: السواد الأعظم عند الله أهل الحق وإن قلوا،
والقرآن ورد بذم الكثرة، ومدح القلة نحو قوله تعالى: (منهم
المؤمنون وأكثرهم الفاسقون) (1) (بل طبع الله عليها بكفرهم فلا
يؤمنون إلا قليلا) (2) (ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا) (3
) (ولكن كثيرا منهم فاسقون) (4) (لا يستوي الخبيث والطيب ولو
أعجبك كثرة الخبيث) (5) (وأن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن
سبيل الله) (6) (ولا تجد أكثرهم شاكرين) (7) (وما وجدنا لأكثرهم من
عهد وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين) (8) (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) (9
) (ولكن أكثر الناس لا يشكرون) (10) (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) (11) (وما يؤمن
أكثرهم بالله إلا وهم مشركون) (12) (ولكن أكثر الناس لا يؤمنون) (13) (وأكثرهم
1 آل عمران (110).
2 النساء (155).
3 المائدة (13).
4 المائدة (81).
5 المائدة (100).
6 الانعام (116).
7 الأعراف (17).
8 الأعراف (102).
9 يوسف (40).
10 يوسف (38).
11 يوسف (103).
12 يوسف (106).
13 هود (17).
65

الكافرون) (1) (فأبى أكثر الناس إلا كفورا) (2) (أم تحسب أن
أكثرهم يسمعون أو يعقلون) (3) (وما كان أكثرهم مؤمنين) (4) (ولكن
أكثرهم لا يشكرون) (5) (ولكن أكثرهم لا يعلمون) (6) (بل أكثرهم
لا يعقلون) (7) (وإن كثيرا من الناس بلقاء ربهم لكافرون) (8) (قليلا
ما تشكرون) (9) (بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون) (10
) وغير هذه الآيات.
فصل
قالت العدلية: والله سبحانه خلق للعباد قدرة، يوجدون بها
أفعالهم على حسب دواعيهم وإرادتهم، واستدلوا بوجوه: -
منها - أن القرآن ملآن من الأوامر والنواهي، ولا يصح من الحكيم
أن يأمر وينهى من لا يقدر على الامتثال.
ومنها: قوله تعالى: (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها
وما ربك بظلام للعبيد) (11).
1 النحل (83).
2 الاسراء (89).
3 الفرقان (44).
4 الشعراء (8).
5 يونس (60).
6 الأعراف (131).
7 العنكبوت (63).
8 الروم (18).
9 الأعراف (10).
10 سماء (41).
11 فصلت (46).
66

ولا يفهم من هذه الآية كل عاقل إلا ان صالحات أعمالنا وقبيحات
أفعالنا واقفة على اختيارنا، وأنه لو عذبنا تعالى على غير سيئة
فعلناها، أو على ما خلقه فينا وأوجده فينا لما قال: (وما ربك بظلام
للعبيد) (1) لكن الظلم ممتنع في حكمته.
ومنها قوله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف، ثم جعل من بعد
ضعف قوة) (2) (إن خير من استأجرت القوي الأمين) (3) (وآتيناه من
الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة) (4) (كانوا أشد منكم
قوة) مما صرح فيه بخلق القوة في الانسان التي بها يتمكن من الترك
والفعل، كما قال تعالى: (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على
الهدى) (5) فتركوا الهدى بعد التمكن.
وقال تعالى (وهديناه النجدين) (6).
ومنها ما قاله ابن القيم الجوزية عن نفسه، أو حكاية عن ابن تيمية
، وإن كان منهم إلا أنه حجة عليه، وحجة للعدلية، قال ما لفظه:
وأما القدرية الابليسية، فكثير منهم منسلخ عن الشرع، إلى أن
قال: وراثة عن شيوخه الذين قال الله فيهم: (سيقول الذين أشركوا
لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من شئ، كذلك كذب
الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا
1 فصلت (46).
2 الروم (54).
3 القصص (26).
4 القصص (76).
5 فصلت (17).
6 البلد (6).
67

إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) (1) وقال تعالى: (وقال
الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شئ نحن ولا آباؤنا
ولا حرمنا من دونه من شئ كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على
الرسل الا البلاغ المبين) (2).
وقال تعالى: (وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم مالهم بذلك من
علم إن هم إلا يخرصون) (3).
وقال تعالى وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا
للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم الا في ضلال مبين)
(4) انتهى.
ومن عرف ما سبق من مذهب المجبرة علم أن هذا عين مذهبهم
ومآله.
ومنها ما ذكره هذا (ابن القيم) في ذمه من استدل بالقدر على
الجبر، وهو أيضا حجة عليهم، وحجة للعدلية، وقد رأينا نقله
لتعرف أن بديهة عقولهم تنكر ما يؤول إليه مذهبهم، وأنهم أيضا
شنعوا على من صرح بما يؤول إليه مذهبهم قال ما لفظه: -
وأما المقام الثاني: وهو مقام الضلال والردى والهلاك، فهو
الاحتجاج به، يعني بالقدر على الله وحمل العبد ذنبه على ربه،
وتنزيه نفسه الجاهلة الظالمة، الامارة بالسوء، وجعل ارحم
1 الانعام (148).
2 النحل (35).
3 الزخرف (20).
4 يس (47).
68

الراحمين، وأعدل العادلين، وأحكم الحاكمين، وأغنى الأغنياء
أضر على العباد من إبليس، كما صرح به بعضهم، واحتج عليه بما
خصمه فيه من لا تدحض حجته، ولا تطاق مغالبته، حتى يقول قائل
هؤلاء:
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له * إياك إياك أن تبتل بالماء
ويقول قائلهم:
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى * دخولي سبيل بينوا لي قضيتي
وقال بعضهم وقد ذكر له من يخاف من افساده؟ فقال: لي خمس
بنات لا أخاف على افسادهن غيره.
وصعد رجل يوما على سطح دار له، فأشرف على غلام له يفجر
بجاريته فنزل وأخذهما ليعاقبهما، فقال الغلام: ان القضاء والقدر لم
يدعانا حتى فعلنا ذلك، فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلي من
كل شئ، أنت حر لوجه الله.
ورأى آخر يفجر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرب، فأقبل يضرب
المرأة، وهي تقول: القضاء والقدر، فقال: يا عدوة الله أتزني
وتعتذري بمثل هذا، فقالت: أوه تركت السنة، وأخذت بمذهب ابن
عباس، فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها، وقال: لولاك
لضللت.
ورأى آخر رجلا يفجر بامرأته، فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا
قضاء الله وقدره، فقال: الخيرة فيما قضى الله.
69

وقيل: لبعض هؤلاء: أليس هو يقول: " (ولا يرضى لعباده الكفر) (1
)! فقال: دعنا من هذا رضيه وأحبه وأراده، وما أفسدنا غيره.
ولقد بالغ بعضهم في ذلك حتى قال: القدر عذر لجميع العصاة
، وإنما مثلنا في ذلك كما قيل:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم * وتذنبون فنأتيكم فنعتذر
وبلغ بعض هؤلاء أن عليا عليه السلام مر بقتلى النهروان، فقال:
بؤسا لكم، لقد ضركم من غركم، فقيل: من غرهم؟ فقال: الشيطان
والنفس الامارة بالسوء والأماني، فقال هذا القائل: كان علي قدريا،
وإلا فالله غرهم، وفعل بهم ما فعل، وأوردهم تلك الموارد.
واجتمع جماعة من هؤلاء يوما فتذاكروا القدر، فجرى ذكر
الهدهد وقوله: (وزين لهم الشيطان أعمالهم) (2) فقال: كان الهدهد
قدريا، أضاف العمل إليهم، والتزيين إلى الشيطان، وجميع ذلك
فعل الله.
وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس: (ما منعك أن تسجد
لما خلقت بيدي) (3) أيمنعه ثم يسأله ما منعه؟ قال: نعم، قضى عليه
في السر ما منعه في العلانية، ولعنه عليه، قال له: فما معنى قوله
تعالى: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله) (4) إذا كان هو الذي منعهم؟.
قال: استهزأ بهم، قال: فما معنى قوله: (ما يفعل الله بعذابكم إن
1 الزمر (7).
2 النمل (24).
3 ص (75).
4 النساء (39).
70

شكرتم وآمنتم) (1)؟ قال: قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جنوه بل
ابتدأهم بالكفر، ثم عذبهم عليه، وليس للآية معنى.
وقال بعض هؤلاء: وقد عوتب على ارتكابه معاصي الله، فقال: إن
كنت عاصيا لامره، فأنا مطيع لإرادته.
وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه، وامتناعه من السجود
لآدم، فأخذ الجماعة يلعنونه، ويذمونه، فقال: إلى متى هذا اللوم،
ولو خلي لسجد، ولكن منع، وأخذ يقيم عذره، فقال بعض
الحاضرين: تبا لك أتذب عن الشيطان، وتلوم الرحمن.
ومر بلص مقطوع اليد على بعض هؤلاء، فقال: مسكين مظلوم
أجبره على السرقة، ثم قطع يده عليها.
وقيل لبعضهم: أترى الله كلف عباده ما لا يطيقون، ثم يعذبهم عليه
؟ قال: والله قد فعل ذلك، ولكن لا نجسر أن نتكلم.
وقال بعض هؤلاء: ذنبة أذنبا أحب إلي من عبادة الملائكة، قيل:
ولم؟ قال: لعلمي بأن الله قضاها علي وقدرها، ولم يقضها إلا
والخيرة لي فيها.
وقرأ قارئ بحضرة بعض هؤلاء (قال يا إبليس ما منعك أن تسجد
لما خلقت بيدي) (2) فقال: هو والله منعه، ولو قال إبليس ذلك لكان
صادقا، وقد أخطأ إبليس الحجة، ولو كنت حاضرا لقلت له أنت
منعته.
1 النساء (147).
2 ص (75).
71

وسمع بعض هؤلاء قارئا يقرأ (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا
العمى على الهدى) (1) فقال: ليس من هذا شئ، بل أضلهم
وأعماهم، قالوا: فما معنى الآية؟ قال: مخرفة يمخرف بها.
إلى أن قال: وسمعته يقول يعني ابن تيمية: القدرية المذمومون
في السنة، وعلى لسان السلف هم هؤلاء، الفرق الثلاثة، نفاته، وهم
القدرية المجوسية، المعارضون به للشريعة الذين قالوا لو شاء الله
ما أشركنا، وهم القدرية المشركية.
والمخاصمون به للرب سبحانه، وهم أعداء الله وخصومه، وهم
القدرية الإبليسية، وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على الله
بالقدر، فقال: (بما أغويتني) (2) ولم يعترف بالذنب، ويبوء به، كما
اعترف به آدم.
إلى أن قال: ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والمشركية شر
من القدرية النفاة، لان النفاة إنما نفوه تنزيها للرب، وتعظيما له،
أن يقدر الذنب، ثم يلوم عليه، ويعاتب، ونزهوه أن يعاقب العبد
على ما صنع للعبد فيه البتة، بل هو بمنزلة طوله وقصره، وسواده
وبياضه، ونحو ذلك، كما يحكى عن بعض الجبرية، أنه حضر
مجلس بعض الولاة، فأتي بطرار أحول، فقال له الوالي: ما ترى فيه
؟ قال: اضربه خمسة عشر، يعني سوطا، فقال له بعض الحاضرين
ممن ينفي الجبر: بل ينبغي أن يضرب ثلاثين سوطا، خمسة عشر
1 فصلت (17).
2 الأعراف (16).
72

لطره، ومثلها لحوله، فقال الجبري: كيف يضرب على الحول،
ولا صنع له فيه! فقال: كما يضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك،
فبهت الجبري.
انتهى كلام ابن القيم الجوزية الحنبلي.
قال بعض العدلية: وغير خاف عليك ما ذهبت إليه الجبرية، وقد
سبق فلا حاجة إلى تكريره، فقد وقعوا فيما شنعوا به، وذموا،
وكفوك المؤمنة من فساد قولهم وبطلانه، وصحة مذهب العدل
ورجحانه.
وأما تسترهم بالكسب، فهو شئ لا معنى له، وقد سبق كلام
الرازي، وهو فحلهم، وقد صرحوا بأن للعبد قدرة لا تأثير لها.
قالت العدلية: فلا فائدة فيها إذا، بل لا تسمى قدرة رأسا.
فصل
ومما استدلت به العدلية على صحة قولها، وفساد قول الجبرية
ما قاله الرازي في مفاتيح الغيب، حيث قال: قالت المعتزلة:
قوله: (أعوذ بالله) يعني الاستعاذة بالله تبطل القول بالجبر من وجوه:
الأول: إن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بكون العبد فاعلا لتلك
الاستعاذة، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى لامتنع كون العبد
فاعلا، لان تحصيل الحاصل محال، وأيضا فإذا خلقه الله في العبد
امتنع دفعه، وإذا لم يخلقه الله فيه امتنع تحصيله، فثبت أن قوله:
أعوذ بالله، اعتراف بكون العبد موجدا لافعال نفسه.
73

الثاني: أن الاستعاذة إنما تحسن من الله تعالى إذا لم يكن الله
تعالى خالقا للأمور التي منها يستعاذ.
أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى امتنع أن يستعاذ بالله منها،
لان على هذا التقدير يصير كان العبد استعاذ بالله من الله، في عين
ما يفعله الله.
الثالث: أن الاستعاذة بالله من المعاصي تدل على أن العبد غير
راض بها، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى، وقضائه،
وحكمه وجب على العبد كونه راضيا بها، لما ثبت بالاجماع أن
الرضاء بقضاء الله واجب.
الرابع: ان الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تعقل وتحسن لو كانت
تلك الوسوسة فعلا للشيطان، أما إذا كانت فعلا لله ولم يكن
للشيطان في وجودها اثر البتة، فكيف يستعاذ من شر الشيطان، بل
الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله تعالى، لأنه لا شر
إلا من قبله.
الخامس: أن الشيطان يقول: إذا كنت ما فعلت شيئا أصلا، وأنت
يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني، ولا قدرة لي على مخالفة
قدرتك، وحكمت بها علي، ولا قدرة لي على مخالفة حكمك، ثم
74

قلت: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) (1) وقلت: (يريد الله بكم اليسر
ولا يريد بكم العسر) (2) وقلت: (وما جعل عليكم في الدين من حرج)
(3) فمع هذه الأعذار الظاهرة، والأسباب القوية، كيف يجوز في
حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني.
السادس: جعلتني مرجوما، ملعونا، بسبب جرم صدر مني، أولا
بسبب جرم صدر مني، فإن كان الأول بطل الجبر، وإن كان الثاني،
فهذا محض الظلم، وأنت قلت: (وما الله يريد ظلما للعباد) (4) فكيف
يليق هذا بك!.
فإن قال قائل: هذه الاشكالات إنما تلزم على قول من يقول
بالجبر، وأنا لا أقول بالجبر ولا بالقدر، بل أقول الحق: حالة
متوسطة بين الجبر والقدر، وهو (الكسب).
فنقول: هذا ضعيف، لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل
على سبيل الاستقلال، أو لا يكون، فإن كان الأول فهو تمام القول
بالاعتزال، وإن كان الثاني فهو الجبر المحض.
والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول، فكيف يعقل حصول
الواسطة؟ انتهى كلام الرازي.
فالقول بالجبر هو لمن قال بخلق الافعال، والفلاسفة والدهرية.
قال الرازي: وأما الفلاسفة، فالجبر مذهبهم، ثم قال: والدهرية،
1 البقرة (286).
2 البقرة (185).
3 الحج (78).
4 غافر (31).
75

إلى أن قال: فيكون الجبر لازما يعني لهم، وذكر السبب القاضي
بقول الفلاسفة والدهرية بالجبر، في سورة الحديد.
وجوابه هذا على الفنقلة، يصلح جوابا على من يقول: إن الله
خالق أفعال العبد، ثم يفر من الجبر بزعمه بأمور لا تعقل،
أو متناقضة، وتكثير عبارات لا تخرجه في الحقيقة عن الجبر ولوازمه.
فصل
واستدلت العدلية على صحة ما ذهبت إليه أن القرآن مملوء من
الآيات الدالة على أنه لا مانع لاحد من الايمان، قال تعالى: (وما منع
الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى) (1) وهو انكار بلفظ الاستفهام،
ومعلوم ان رجلا لو حبس آخر في بيت، بحيث لا يمكنه الخروج عنه
، ثم يقول: ما منعك من التصرف في حوائجي، كان ذلك منه مستقبحا
وكذا قوله تعالى: (وماذا عليهم لو آمنوا بالله) (2) وقوله
لإبليس: (ما منعك أن تسجد) (3) وقوله: (فما لهم لا يؤمنون) (4) وقول
موسى لأخيه: (ما منعك إذ رأيتهم ضلوا) (5) وقوله: (فما لهم عن
التذكرة معرضين) (6).
1 الكهف (55).
2 النساء (39).
3 ص (75).
4 الانشقاق (20).
5 طه (92).
6 المدثر (49).
76

قال الصاحب بن عباد في فصل له في هذا الباب رواه الرازي في
مفاتيح الغيب قال: كيف يأمره بالايمان وقد منعه عنه! وينهاه عن
الكفر وقد حمله عليه! وكيف يصرفه عن الايمان ثم يقول: (فأنى
تصرفون) (1) ويخلق فيهم الإفك ثم يقول: (فأنى تؤفكون) (2) و أنشأ
فيهم الكفر ثم يقول: (لم تكفرون) (3) وخلق فيهم لبس الحق بالباطل
ثم يقول: (لم تلبسون الحق بالباطل) (4) وصدهم عن السبيل ثم
يقول: (لم تصدون عن سبيل الله) (5) وحال بينهم وبين الايمان ثم
قال: (وماذا عليهم لو آمنوا) (6) وذهب بهم عن الرشد ثم قال: (فأين
تذهبون) (7) وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ثم قال: (فما لهم عن
التذكرة معرضين) (8) انتهى كلام الصاحب.
وقال تعالى: (رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله
حجة بعد الرسل) (9) وقال: (ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا
ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى) (10
) فلما بين أنه ما أبقى لهم عذرا، إلا وقد أزاله عنهم، فلو كان هو
1 يونس (32).
2 الانعام (95).
3 آل عمران (70).
4 آل عمران (71).
5 آل عمران (99).
6 النساء (39).
7 التكوير (26).
8 المدثر (49).
9 النساء (165).
10 طه (134).
77

المانع لهم عن الايمان، لكان ذلك من أعظم الاعذار، وأقوى
الوجوه الدافعة للعقاب عنهم.
فلما لم يكن كذلك علمنا أنه تعالى غير مانع.
وقال تعالى حكاية عن الكفار (وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا
إليه وفي آذاننا وقر) (1) وإنما ذكر الله تعالى ذلك ذما لهم في هذا
القول، فلو كان أنه تعالى المانع لكانوا صادقين في ذلك. فلم ذمهم
عليه؟ وقال تعالى: (نعم المولى ونعم النصير) (2) و لو كان مع قيام
المانع عن الايمان، كلف به ثم عذب على تركه، لما كان نعم المولى
، بل كان بئس المولى.
ومعلوم أن ذلك كفر، فثبت أنه ليس عن الايمان والطاعة مانع
البتة.
وأيضا أنه سبحانه لو كان فاعلا للكفر لجاز منه اظهار المعجز على
يد الكذاب، فكان لا يبقى كون القرآن حجة، فكيف نتشاغل بمعانيه
وتفسيره!.
وقال تعالى: (إلا إبليس أبى واستكبر) (3).
قالت العدلية: إن الله تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين،
فكان يجوز أنه يظن أنه كان معذورا في ترك السجود، فبين تعالى
أنه لم يسجد مع القدرة، وزوال العذر بقوله: (أبى) لان الاباء هو
1 فصلت (5).
2 الأنفال (40).
3 البقرة (34).
78

الامتناع مع الاختيار، أما من لم يكن قادرا على الفعل، لا يقال:
إنه أبى، ثم قد كان يجوز أنه كذلك، ولا ينضم إليه الكبر، فبين
تعالى أنه ذلك الاباء كان على وجه الاستكبار بقوله: (واستكبر)
قالوا: وهو يدل على بطلان قول أهل الجبر من وجوه: -
أحدها: أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السجود،
لان عندهم القدرة على الفعل منتفية، ومن لا يقدر على الشئ لا يقال:
إنه أباه.
ثانيها: أن من لا يقدر على الفعل لا يقال: استكبر بأن لم يفعل،
لأنه إذا لم يقدر على الفعل لا يقال استكبر عن الفعل، وإنما يوصف
بالاستكبار إذا لم يفعل مع كونه لو أراد الفعل لأمكنه.
ثالثها: قال: وكان من الكافرين، ولا يجوز أن يكون كافرا، بأن
لا يفعل ما لا يقدر عليه.
رابعها: أن استكباره وامتناعه خلق من الله فيه، فهو بأن يكون
معذورا، أولى من أن يكون مذموما.
قالت العدلية: ومن اعتقد مذهب الجبر يقيم العذر لإبليس فهو
خاسر الصفقة.
فصل
قالت العدلية: ومما يبطل قول الجبرية أن الله سبحانه يقول: (والله
79

يحكم ما يريد) (1) (صنع الله الذي أتقن كل شئ) (2) (ما ترى في
خلق الرحمن من تفاوت) (3).
وإذا كان الكفر والفسق والزنا واللواط، وتظالم العباد خلقه
تعالى، كانت محكمة متقنة لا تفاوت فيها، والمعلوم خلاف ذلك.
وأيضا القرآن كله لم يكن فيه آية، أو شطر آية، تنص على أنه
لم يكن المانع للكافرين من الايمان، إلا أنه خلق فيهم الكفر
وأوجده.
وأما الاخبار التي يروونها في القدر والجبر، وشحنوا بها كتبهم
، فهي لا تقبل ممن يجر إلى بدعته، كما هي القاعدة، وإنما يقبل في
هذا الباب ما اتفق عليه أهل العدل وأهل الجبر، وحينئذ يكون
حكمها حكم الآيات في التأويل.
وأيضا مما يدل على أن ما أصلوه مخالف لبديهة عقولهم،
ومخالف للضرورة أنهم يجرون مع العدلية في تصرفاتهم ووعظهم،
وفقههم، وقراءتهم، وتأليفهم في النحو والصرف والمعاني والبيان،
فلا يلتفتون إلى ما أسسوه إلا في مسارح الخلاف، وفي غير ذلك
نادر، بل رضاهم وغضبهم في المحاورة والمخاصمة، الخارجية
يجرونها على أصل الفطرة، ولا ينتبهون (4) لقاعدتهم، حتى لو صفعت
أحدهم، وأخذت شيئا من ماله، أو تناولت من عرضه، لرأيته يشن
1 المائدة (1).
2 النمل (88).
3 الملك (3).
4 في الام يجروها على أصل الفطرة ولا ينتبهوا.
80

عليك الغارة، ويذهب عليه ما أصلوه في المغازة.
وأيضا لو كان ما أصلوه حقا، مما قدمناه عنهم لم يكن حينئذ فرق
بين الظلم والعدل، ولابين الحكمة والعبث، ولابين الحسن والقبيح
، ولابين العلم والجهل، ولابين الصدق والكذب، بل كلها سواء
على أصولهم، والمعلوم بالضرورة أن ثم فرقا بين ما ذكر، وأيضا لم
يرد سبحان خالق الصلاة، سبحان خالق الزنا، سبحان خالق اللواط
، كما ورد سبحان خالق السماوات، وصح سبحان خالق الشيطان
والكلب والخنزير.
والعجب من أهل الفطنة من علمائهم، أنه يمر على الآيات
الكثيرة، الناصة على قول أهل العدل، فلا يتأمل لما فيها من
الدلالة على صحة القول بالعدل، مع كثرة ذلك وصراحته، وموافقته
لما دل عليه بديهة عقولهم، بل يتأملون في بعض تلك الآيات لما فيها
من علم العربية فقط، وإذا مروا على آية تقوي شبهة الجبر، مع
ندورها، وما فيها من الاحتمال أطالوا فيها التأمل، والاستخراج لما
يخالف في الحقيقة النصوص القرآنية، والبديهات العقلية.
ومما يدل على ضعف مذهب الجبر وفساده أن النقاد من المجبرة
رجعوا عنه في أواخر أيامهم كالغزالي، روى ذلك في مطلع البدور
، وعد من رجال الزيدية، وكذلك الفخر الرازي، روى ذلك الامام
81

عز الدين (1)، وكذلك السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني (2).
قال بعض العدلية: بلغنا ذلك بالسند الصحيح مع أن جماعة
العترة القدماء عدلية، وكذا المتأخرين، إلا من غلب عليه مذهب
أهل بلده، وضعفت همته عن النظر في طلب الحق، ودخل تحت
أسر تقليد المنحرفين عن العترة، وهم أفراد لا يؤبه لهم، ولا ينظر
إليهم، لأنهم مقلدون وتابعون غير متبوعين، وخرجوا عما أجمع
عليه العترة قبل وجودهم، وليسوا من المشهورين المحققين، كما
اشتهر السيد الشريف الجرجاني بالفطنة والتحقيق، وهو هذا قد
رجع إلى العدل، وهو اللائق بفطنته، وهمته العلوية.
فصل
ومما استدلت به العدلية من الآيات قوله تعالى: (إياك نعبد) إذ
لا يعقل إلا أن العابد غير المعبود.
(و إياك نستعين) كذلك، وإلا كان المعنى نستعين بك على فعلك
1 هو الامام عز الدين بن الحسن بن الإمام علي بن المؤيد عليهم السلام، ولد لعشر ليال بقين من شوال سنة
880 ه له مصنفات كثيرة نافعة، توفي رحمه الله في 22 رجب سنة 900 ه، ودفن بهجرة فلله من أعمال صعدة.
2 هو السيد الشريف علي بن محمد بن علي الجرجاني، يرتفع نسبه إلى الحسن بن علي بن أبي طالب، ومن
أجل هذا لقب بالشريف، كما لقب بالسيد، ولد سنة 740 ه بلغ مبلغا من المعرفة صار بها إماما في جميع
العلوم العقلية، وغيرها، متفردا فيها مصنفا في جميع أنواعها، متبحرا في دقيقها وجليلها، وطار صيته
في الآفاق، وانتفع الناس بمصنفاته في جميع البلاد.
قال العلامة محمد بن إسحاق العبدي في كتابه ابطال العناد: السيد الشريف أعظم من كان في حزب الأشاعرة
الجبرية، لكنه قد بلغنا بالسند الصحيح المتصل بابن بنته، أنه ما مات إلا وقد رجع عن هذه المذاهب
الردية، وهو اللائق بفطنته وهمته العلوية، فلا نطيل هنا بذكر السند في رجوعه إلينا، والحمد لله الذي من
علينا. اه توفي سنة 816 ه كتبها عبد الله إبراهيم الهادي.
82

، ولاوجه له.
وقوله تعالى: (كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله) (1) إذ
لا يعقل إلا ان الموقد غير المطفئ.
وقوله تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم) (2).
وقوله تعالى حكاية عن المشركين: (لو شاء الله ما أشركنا) (3
) وما هو معناها قد سبق في رد الله عليهم، وتكذيبهم.
وقوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (4
) ولابد من المغايرة بين الفعلين، وإلا لزم اتحاد العلة والمعلول،
والسبب والمسبب.
ومثلها قوله تعالى: (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض) (5
).
وقوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم) (6
) وهي مثل ما سبق، وقوله تعالى حكاية (لو أن الله هداني لكنت من
المتقين) (7) ورد الله على تلك النفس بقوله: (بلى قد جاءتك آياتي
فكذبت بها واستكبرت) (8) وقوله: (إن الله لا يأمر بالفحشاء) (9).
1 المائدة (64).
2 غافر (17).
3 الانعام (48).
4 الرعد (11).
5 الشورى (27).
6 الحشر (19).
7 الزمر (57).
8 الزمر (59).
9 الأعراف (28).
83

وقوله تعالى: (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) (1) إلى
قوله في الرد عليهم في نفي الاستطاعة: (والله يعلم إنهم لكاذبون) (2
) اي قد استطاعوا الخروج.
وقوله تعالى: (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة) (3) إلى قوله
: (ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب) ولو كانت الافعال خلقا
له ما أكذبهم.
وقوله تعالى: (ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا) (4) وعلى
الجبر هو المبدل والمنعم، ولا تغاير.
وقوله تعالى: (وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه
من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله وما هو من
عند الله) (5) وعلى الجبر أنه من عند الله، وقد صرح الله بنفي ذلك،
ونسبته إلى الله بهت، لأنه تبرأ منه، وقد ذم الله من يرم بريئا من
العباد بقوله: (ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل
بهتانا واثما مبينا) (6) فكيف من يرم رب العالمين.
وقوله تعالى: (قل أرأيتم ما نزل الله لكم من رزق فجعلتم منه
حراما وحلالا قل الله أذن لكم أم على الله تفترون) (7) وعلى الجبر
1 التوبة (42).
2 التوبة (42).
3 المائدة (301).
4 إبراهيم (28).
5 آل عمران (78).
6 النساء (112).
7 يونس (59).
84

أنهم ما افتروا، لان ذلك خلقه، وهو مريد له تعالى.
وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى
فبرأه الله مما قالوا) (1) ولابد في الأذية وابراء من التغاير، وعلى
الجبر هما واحد، لأنهما خلقه، وارادته، لكن يقال: فلم نهى
المؤمنين، وذم قوم موسى؟.
وقوله تعالى: (والذين سعوا في آياتنا معاجزين) (2) وعلى الجبر
انه المعاجز لنفسه، لأنه خلقه، ولاوجه للذم على الجبر.
وقوله تعالى: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) (3) فأخبر أنه
لا يعاقب على الاكراه.
فلو كانت المعاصي خلق الله لما عاقب عليها لعدم الاختيار.
وقوله تعالى: (والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له
حجتهم داحضة عند ربهم) (4) فلو كان سبحانه خلق المحاجة هذه
لما توعدهم على ذلك وذمهم، وكان المعنى: حجتي داحضة، وذلك
خطل من القول.
وقوله تعالى: (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله) (5
) وعلى الجبر يكون المعنى أريد مد لأطفئ نوري، وأنا أأبي ذلك،
ويكون هو المطفئ والآبي، ولاوجه حينئذ للذم، وهذا غير معقول.
1 سباء (69).
2 الحج (51).
3 النحل (16).
4 الشورى (16).
5 التوبة (32).
85

وقوله تعالى: (إذ يبيتون ما لا يرضى من القول) (1) وعلى الجبر أنه
خلقه وأراده، ولاوجه للذم.
وقوله تعالى: (اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه) (2) وكيف
يكون سخط الله، وهو خلقه وارادته.
وقوله تعالى: (ينادون لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم) (3) وعلى
الجبر هما سواء، لأنهما خلقه، ويكون المعنى مقتي أكبر من مقتي.
وقوله تعالى بعد تعداد المعاصي: (كل ذلك كان سيئة عند ربك
مكروها) (4) وعلى الجبر أنه مريد له غير مكروه.
وقوله تعالى: (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) (5) وعلى الجبر
أنه كتبها وخلقها.
وقوله تعالى: (ولا يرضى لعباده الكفر) (6) وعند الجبرية أنه مريد
له، وغير هذه الآيات مما تدل على صحة القول بالعدل، وبطلان
الجبر.
قال بعض العدلية: ولو أردنا الاحتجاج بجميع ما في القرآن من
فاتحة التحميد إلى خواتم التعويذ، لأمكننا ذلك امكانا ظاهرا،
وكان احتجاجا قاهرا، ألا ترى أن معنى بسم الله: أبتدئ، والحمد
لله: نحمد، وغير ذلك، وانظر إلى قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك
1 النساء (108).
2 محمد (28).
3 غافر (10).
4 الاسراء (38).
5 الحديد (37).
6 الزمر (7).
86

نستعين) فإن معناه لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين الا بك، ولابد من
الحكم بأن المعبود غير فاعل العبادة وموجدها، وإلا كان المعبود
هو العابد، كما هو معنى مذهب اخوان الجبرية.
وخلاصة كلام أهل وحدة الوجود من الصوفية، ثم إن الاستعانة به
هل تصح أن تكون على فعله، فيكون معنى الآية نستعين بك على
فعلك، وما حاجتنا إلى هذه الاستعانة على هذا المذهب، وهل فعله
وأثره تعالى مما يستعين العبد عليه، أم هل يصح مثل هذا لغة
أو عقلا. انتهى
فائدة
ناظر أبو الهذيل أشعريا فقال: هل ثم موجود غير الله وغير ما خلق
؟ فقال الأشعري: لا، قال أبو الهذيل: فبماذا يعذب الله الكفار،
لأنه الله، أو لأنه خلق؟ فانقطع الأشعري، فقال النظام: قل: لأنهم
اكتسبوا المعاصي، فقال الأشعري: كذلك، فقال أبو الهذيل: هل
الكسب شئ غير الله وغير ما خلق؟ فقال: لا، فقال له: فلم سخط
على العصاة، لأنه الله، أو لأنه خلق فانقطع.
وقوله تعالى: (لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين إن نشأ ننزل
87

عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين) (1) فدلت هذه الآية
على أنهم مختارون متمكنون، وأن الله تعالى لو شاء لأنزل آية تكون
سببا في خضوعهم واقرارهم رغما، ولكن أبت حكمته إلى أن يكل
أمرهم إلى الاختيار مع أنه لم يقل تعالى: إن نشأ نخلق فيهم
الخضوع، أو الايمان كما هو رأي الجبرية، فمفهوم الآية ظاهر في
أن غاية الامر نزول آية تحوجهم إلى الخضوع، لا خلق الخضوع
فيهم.
فصل
قالت العدلية: لو كان فعل العبد خلقا لله لما نسب الأعمال إليهم
في قوله تعالى: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال
ذرة شرا يره) (2).
وقوله تعالى: (ووجدوا ما عملوا حاضرا) (3).
وقوله: (وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون) (4).
وقوله تعالى: (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) (5).
وقوله تعالى: (ألم تكن آياتي تتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوما
مجرمين) (6).
1 الشعراء (3 - 4).
2 الزلزلة (7 - 8).
3 الكهف (49).
4 الزخرف (72).
5 الحجر (92).
6 الجاثية (31).
88

وقوله تعالى: (ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون) (1).
وقوله تعالى: (وتخلقون افكا) (2) وقوله: (بما يصنعون) (3).
وقوله تعالى: (هل تجزون إلا ما كنتم تعملون) (4).
وقوله تعالى: (يعلمون ما تفعلون) (5) وقوله تعالى: (لنا أعمالنا
ولكم أعمالكم) (6)، وقوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل) (7).
وقوله تعالى: (ومن يعمل سوءا يجز به) (8) ونحو ذلك من
الصرائح.
وقوله تعالى: (ولا تتخذوا آيات الله هزؤا) (9)
وقال تعالى: (فإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون
مما أعمل و أنا بريء مما تعملون) (10).
وقال تعالى: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله) (11).
وقال تعالى: (وإن كلا لما ليوفينهم ربك أعمالهم إنه بما يعملون
خبير) (12).
1 المؤمنون (63).
2 العنكبوت (17).
3 النور (30).
4 النمل (90).
5 الانفطار (12).
6 الشورى (15).
7 الفرقان (23).
8 النساء (123).
9 البقرة (231).
10 يونس (41).
11 التوبة (105).
12 هود (111).
89

قال بعض العدلية: أيرتاب في هذه النصوص، ولا يرتاب في قول
مخلوق من مشائخ الجبرية، والقرآن محكم، على التوراة والإنجيل
، ولا يحكم على قول جبري (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه
، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وإنهم لفي شك منه مريب) (1
) قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي
لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل واتبع ما يوحى
إليك من ربك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) (2).
وقال تعالى: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما
ولا هضما) (3) فجعل عدم جزائه للعامل على عمله ظلما، خلاف
ما يزعمونه من نفي الحكمة، وجواز إثابة الكافر وعقاب المؤمن
فناقضوا الآية.
نعم: ونسب الله العمل فيها إلى العبد، ورتب على هذه النسبة
كون عدم الجزاء لفاعلها ظلما، وهذا أعظم شاهد على أن العمل
من العبد وإلا لم يكن ترك الجزاء عليه ظلما إذ لا يكون عدم جزائه
على ما ليس لنا فيه تأثير ظلما، كما لا يكون ظالما في عدم جزاء
القصير على قصره، والأسود على سواده.
1 هود (110).
2 يونس (108 - 109).
3 طه (112).
90

فصل
وأما الكسب فقالت العدلية: هو أمر لا تحقق له، وعباراتهم
ترجع إلى الجبرية، لأنهم فسروا الكسب بما يرجع إلى المحلية،
أي ان العبد محل لما يجريه الله عليه من الافعال، فلا يجعلون
الكافر هو الموجد لكفره، بل الله تعالى هو الذي أوجده، واثر فيه
، وليس للعبد أثر في شئ من أفعاله إذ ليس عندهم قدرة مؤثرة.
والمحققون منهم قد عرفوا أن كلامهم كلام الجبرية بعينه، ولهذا
تجد الرازي لا يتحاشى من نسبتهم جبرية، لعرفانه أن كلامهم محض
الجبر، وقد سبق له كلام في ذلك.
وكذا صرح السمرقندي في الصحائف، وصرح الجويني في
مقدمات كتابه البرهان: بأن الكسب تمويه، بل لو سئلوا عن كل جزء
من أجزاء الفعل، وما يترتب عليه هل من الله أو من العبد؟ فإن كان
من الله فهو الجبر، وتعطل معنى الكسب، والجزء الاختياري.
وإن كان من العبد، ولو جزءا ما فهو مذهب أهل العدل، فما
مرادهم إلا أن العبد استقل بالتأثير في شئ ما، فليس لهم جواب
عن هذا السؤال إلا بالجبر أو العدل، وما زادوا على تفسيره
بالمحلية، وما خرجوا عن زمرة الجبرية.
قال بعض العدلية: الأشاعرة تحيروا، وحيروا أتباعهم، وصاروا
يوهمون أنهم على شئ، وأنهم متمسكون بذنب الحق، وهو في
طرف الضلال، وعجزوا عن التعبير عن هذا الخيال، وهم في
الباطن معترفون بأنهم في حومة الاشكال، ألا ترى أن التفتازاني،
وهو من أشدهم في نصرة الأشعري، ولو بمجرد الجدال قد اعترف
91

بصعوبة ايضاح معنى الكسب.
وقال الغزالي: لا تعرف مسألة الكسب، لا في الدنيا ولا في الآخرة
، وقال ابن عربي: مكثت ثلاثين سنة أبحث عنها، ولم أعرفها، ثم
اعترف بالجبر، لحتى قال: والذي أظنه أن الأشعري إنما قال
بالكسب مع معرفته أنه ليس تحته مسمى تسترا عما يلزم الجبر من
اللوازم.
إلى أن قال: ومن العجائب اصرارهم على دعوى الكسب مع عدم
عثورهم على ماهيته قرنا بعد قرق، منذ عصر الشيخ أبي الحسن إلى
تاريخنا، وقد طلب من تعب منهم في البحث عن حقيقته، وأفنى
عمره في طلب معرفته فلم يجد ما يشفي، وكأنهم يلتمسون محله
الذي واراه فيه الشيخ الكبير، ويظنون بأنفسهم القصور، أو التقصير
، فهم في هذا التعب والشقا، ولم يعلموا أن الشيخ إنما دفنه تحت
بيضة العنقاء (1).
ومن عجائبهم: انهم يقولون: إن الكسب كان مذهب النبي صلى الله عليه وآله وسلم
والصحابة والتابعين، وإن هذا أمرا كان مأنوسا، ثم يرتبون على
هذا الافتراء صرف جميع ما في القرآن من ذكر لفظ الكسب إلى
اصطلاح الأشعري، ويتركون اللغة العربية ظهريا، وهو من جنس
تحريف الباطنية، ويغفلون عما يوردونه هم من مجادلة أبي بكر وعمر
في ذلك، وذهاب أحدهما إلى الاختيار، والآخر إلى الجبر،
وترافعهما إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله لهما: إن المجادلة في ذلك قد
1 العنقاء طائر متوهم يضرب به المثل فيما هو مستحيل. تمت من المعجم الوجيز.
92

وقعت بين جبريل وميكائيل، ولم يجيء في ما رووه هم ذكر الكسب
والتوسط بزعمهم، ولاذكر في المناظرات منذ عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى
عصر الأشعري، وكانت المناظرة في خلق الافعال لا تزال، وما كان
الناس إلا فرقتين جبرية وعدلية. إلى أن قال: ومن عجائبهم تصدرهم
للوعظ، وكثرة تصنيفهم فيه، ومذهبهم يقتضى أن هذا من جملة
العبث، إذ لا حاصل فيه إن لم يخلق الله الطاعة، ومع خلقه لها
لا حاجة إلى الوعظ، ولا يصلح أن يكون الوعظ سببا لخلق الله
الطاعة، إذ لا تكون أفعاله تعالى ناشئة عن علل كما هو مذهبهم.
ومن تصفح ما تعلقوا به في اثبات مذهبهم على أنهم جبرية، فقولهم
: لا موجد إلا الله لو سألتهم عن الكسب الذي لا تدرك ماهيته، هل
أوجده العبد باختياره؟ وقدرته المؤثرة، أو الله سبحانه الذي أوجده
؟ لقالوا: الله الذي أوجده إذ ليس للعبد قدرة مؤثرة، وهذا الجبر
، وإن قالوا بالأول فهو مذهب أهل العدل.
حكاية
روى عن أبي حنيفة قال: دخلت المدينة فأتيت أبا عبد الله فسلمت
عليه وقمت من عنده، ورأيت ابنه موسى في دهليزه قاعدا في مكتبه
، وهو صغير السن، فقلت له أين يحدث الرجل عندكم إذا أراد
ذلك؟ فنظر إلي، ثم قال: يتجنب شطوط الأنهار، ومسقط الثمار،
وافناء الدور، والطرق النافذة، والمساجد، ويضع ويرفع بعد ذلك
حيث شاء.
قال: فلما سمعت هذا القول نبل في عيني وعظم في قلبي، فقلت
93

له جعلت فداك ممن المعصية؟ فنظر إلي ثم قال: اجلس حتى أخبرك
، فجلست فقال: إن المعصية لابد أن تكون من العبد أو من ربه،
أو منهما جميعا، فان كانت من الله فهو أعدل وأنصف من أن يظلم عبده
، ويأخذه بما لم يفعله، وإن كانت منهما فهو شريكه، والقوي أولى
بإنصاف عبده الضعيف، وإن كانت من العبد وحده فعليه وقع الامر،
واليه توجه النهي، وله حق العقاب والثواب، ووجبت الجنة والنار
، قال: فلما سمعت ذلك قلت: (ذرية بعضها من بعض والله سميع
عليم) (1) وقد نظم هذا المعنى شعرا فقيل:
لم تخل أفعالنا اللاتي نذم بها * أحدا ثلاث خلال حين نأتيها
أما تفرد بارينا بصنعتها * فيسقط اللوم عنها حين ننشيها
أو كان يشركنا فيها فيلحقه * ما سوف يلحقنا من لائم فيها
أولم يكن لإلهي في جنايتها * ذنب فما الذنب إلا ذنب جانيها
فائدة
قال أبو الهذيل: قال لي المعذل بن غيلان العبدي: يا أبا الهذيل
إن في نفسي شيئا من قول القوم في الاستطاعة فبين لي ما يذهب
بالريب عني، فقال: خبرني عن قول الله عز وجل: (وسيحلفون بالله
1 آل عمران (34).
94

لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون) (1
) هل يخلو من أن يكون أكذبهم، لأنهم مستطيعون الخروج، وهم
يكذبون، فيقولون: لسنا نستطيع ولو استطعنا لخرجنا معكم،
فأكذبهم الله تعالى على هذا الوجه؟.
أو يكون على وجه أخر، يقول: (إنهم لكاذبون) أي ان أعطيتهم
الاستطاعة لم يخرجوا فتكون معهم الاستطاعة على الخروج،
ولا يخرجون - ولا يكون الخروج - وعلى كل حال قد كانت الاستطاعة
على الخروج، ولا يكون الخروج، ولا يعقل للآية معنى ثالثا غير
الوجهين الذين ذكرناهما.
فصل
واعلم أنه قد جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن القدرية مجوس هذه الأمة،
واتفق أهل الملة على صحة هذا الخبر، واختلفوا فيمن أراده صلى الله عليه وآله وسلم
فقالت العدلية: إن القدرية هم المجبرة، والمجبرة هم كل من زعم
أن المكلف لا اختيار له في فعله، وأنه مخلوق فيه.
يدل على أنهم هم القدرية أنهم يقولون: إن المعاصي بقدر الله،
ونحن ننفي ذلك عن الله سبحانه، والنسبة في لغة العرب من الاثبات
لامن النفي، كجبري لمن أثبت الجبر، وثنوي لمن أثبت إلها مع الله
، لا لمن ينفي ذلك.
وقالت المجبرة: بل العدلية هم القدرية، لأنهم أثبتوا قدرة
96 از ص 96 إلى ص 127 مفقود ميباشد
* (ازص 96 إلى 127 مفقود ميباشد)
* التحفة العسجدية از ص 128 - 157
1 التوبة (42)
95

ما إن تسالمتم عليه لم تهلكوا، إنما وليكم الله ورسوله، وإن امامكم
علي بن أبي طالب فناصحوه وصدقوه، فإن جبريل اخبرني بذلك).
قال: وفي مسند أحمد قالت عائشة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول
: (إنهم - يعني الخوارج - شر الخلق والخليقة، يقتلهم خير الخلق
والخليقة، وأقربهم عند الله وسيلة).
قال في شرح النهج: وأخرج المدايني عن مسروق عن عائشة لما
عرفت أن عليا قتل ذا الثدية: ليس يمنعني ما في نفسي أن أقول
ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (يقتله خير أمتي من بعدي).
وقال رحمه الله: وقد روى كثير من المحدثين أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال
لأصحابه يوما: (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على
تنزيله) فقال أبو بكر أنا يا رسول الله؟ قال: لا، فقال عمر (1): أنا
يا رسول الله؟ فقال: لا بل خاصف النعل، وأشار إلى علي عليه
السلام). انتهى
قال رحمه الله: ونحن نذكر ما استفاض في الروايات من مناشدته
أصحاب الشورى، إلى أن قال: قد روى الناس ذلك، فأكثروا،
والذي صح عندنا أنه لم يكن الامر كما روى، ولكنه قال لهم بعد أن
بايع عبد الرحمن والحاضرون عثمان، وتلكأ هو عليه السلام عن
البيعة: (إن لنا حقا إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل
وإن طال السرى) ثم قال لهم: (أنشدكم الله أفيكم أحد آخى رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم بينه وبين نفسه غيري؟ فقالوا: لا، فقال: أفيكم أحد قال له
1 يؤخذ من هذا أن الامارة في نفوسهما.
128

رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من كنت مولاه فهذا مولاه) غيري؟ فقالوا: لا،
فقال: أفيكم أحد قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أنت مني بمنزلة هارون من
موسى إلا أنه لا نبي بعدي) غيري؟ قالوا: لا فقال: أفيكم من أؤتمن
على سورة براءة وقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إنه لا يؤدي عني إلا أنا
أو رجل مني) غيري؟ قالوا: لا.
قال: (ألا تعلمون أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فروا عنه في مآقط
الحرب في غير موطن؟ وما فررت قط) قالوا: بلى.
قال: (أتعلمون أني أول الناس اسلاما)؟ قالوا: بلى.
قال: (فأينا أقرب إلى رسول الله نسبا)؟ قالوا: أنت.
فقطع عليه عبد الرحمن كلامه، وقال: يا علي: قد أبى الناس الا
على عثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا، ثم قال: يا أبا طلحة
ما الذي أمرك به عمر؟ قال: أن أقتل من شق عصا الجماعة، فقال
عبد الرحمن لعلي عليه السلام: بائع اذن، وإلا كنت متبعا غير
سبيل المؤمنين، وأنفذنا فيك ما أمرنا به، فقال (عليه السلام): لقد
علمتم أني أحق بها من غيري.
وقال فيها: قالت عائشة: قال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يبغضه - يعني
عليا عليه السلام - أحد من أهل بيتي، ولا من غيرهم من الناس (إلا
وهو خارج من الايمان).
وروى أن أم سلمة ذكرت عائشة، قالت أم سلمة: وجاء أبوك
ومعه عمر، ونحن في سفر فاستأذنا عليه، فقمنا إلى الحجاب،
ودخلا يحدثانه فيما أرادا، ثم قالا: يا رسول الله إنا لا ندري قدر
ما تصحبنا فلو أعلمتنا من يستخلف علينا ليكون لنا بعدك مفزعا،
129

فقال لهما: (أما اني قد أرى مكانه، ولو فعلت لتفرقتم عنه كما
تفرقت بنو إسرائيل عن هارون بن عمران) فسكتا ثم خرجا.
فلما خرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قلت له: من كنت مستخلفا عليهم
؟ فقال: (خاصف النعل) فنزلنا فلم نرى أحدا إلا عليا، فقلت:
يا رسول الله ما أرى إلا عليا؟ فقال: (هو ذاك) فقالت عائشة: نعم
أذكر ذلك. انتهى
وقال في شرح النهج أيضا: قد جاء في الأخبار الصحيحة أنه
صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يا جبريل إنه مني وأنا منه) فقال جبريل: (وأنا منكما).
وروى أبو أيوب الأنصاري مرفوعا: (لقد صلت الملائكة علي،
وعلى علي سبع سنين لم تصل على ثالث لنا، وذلك قبل أن يظهر
امر الاسلام، ويتسامع الناس به).
وفي خطبة الحسن بن علي عليه السلام لما قبض أبوه: (لقد فارقكم
في هذه الليلة رجل لم يسبقه الأولون، ولا يدركه الآخرون كان يبعثه
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للحرب وجبريل عن يمينه وميكائيل عن يساره).
وجاء في الحديث: انه سمع يوم أحد صوت من الهوى من جهة
السماء يقول: لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي) وأن رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم قال: (هذا صوت جبريل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد
المدينة فليأت الباب) وقال: (أقضاكم علي).
130

وجاء في تفسير قوله تعالى: (وتعيها اذن واعية) (1) سألت الله أن
يجعلها اذنك يا علي ففعل).
وجاء في تفسير قوله تعالى: (أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله
من فضله) (2) أنها نزلت في علي.
وجاء في تفسير قوله تعالى: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه
شاهد منه) (3) أن الشاهد علي عليه السلام.
وروى المحدثون أنه قال لفاطمة: (زوجتك أقدمهم سلما،
وأعظمهم حلما، وأعلمهم علما).
وروى المحدثون أيضا عنه عليه السلام أنه قال: (من أراد أن
ينظر إلى نوح في عزمه، وموسى في علمه، وعيسى في ورعه فلينظر
إلى علي بن أبي طالب).
وقال فيه: إن عثمان قال لابن عباس: ولقد علمت أن الامر لكم،
ولكن قومكم دفعوكم عنه، واختزلوه دونكم.
وفيه قال عثمان لعلي عليه السلام: ما أصنع إن كانت قريش
لا تحبكم، وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين، كأن وجوههم شنوف
الذهب تصرع آنافهم قبل شفاههم.
وروى فيه قول علي عليه السلام للعباس رضي الله عنه لما جعلها
عمر شورى، وفضل عبد الرحمن ما لفظه: (والله ما جعل الله ذلك لهم
علينا، كما لم يجعله لأولاهم على أولانا، أما والله لئن - كان - عمر
1 الحاقة (12).
2 النساء (54).
3 هود (17).
131

لم يمت لأذكرنه ما أتى إلينا قديما، ولأعلمنه سوء رأيه فينا حديثا،
ولئن مات، وليموتن ليجتمعن هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الامر
عنا، ولئن فعلوها، وليفعلن ليروني حيث يكرهون).
وقال فيه أيضا: قد جاء في حقه الخبر الشائع المستفيض أنه قسيم
النار والجنة).
واعلم أن أمير المؤمنين لو فخر بنفسه وبالغ في تعديد مناقبه
وفضائله بفصاحته التي آتاه الله تعالى إياها، واختصه بها، وساعد
على ذلك فصحاء العرب كافة، لم يبلغوا إلى معشار ما نطق به
الرسول الصاق صلوات الله عليه وآله في أمره.
ولست أعني بذلك الاخبار العامة الشائعة التي تحتج بها الامامية
على إمامته كخبر الغدير، والمنزلة، وقصة براءة، وخبر المناجاة،
وقصة خيبر، وخبر الدار بمكة في ابتداء الدعوة، ونحو ذلك، بل
الأخبار الخاصة التي رواها فيه أئمة الحديث التي لم يحصل أقل
القليل منها لغيره.
وأنا أذكر من ذلك شيئا يسيرا مما رواه علماء الحديث، الذين
لا يتهمون فيه، وجلهم قائلون بتفضيل غيره عليه، فروايتهم فضائله
توجب سكون النفس ما لا يوجبه رواية غيرهم.
الخبر الأول
(يا علي إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها
، هي زينة الأبرار عند الله: الزهد في الدنيا، جعلك لا ترزأ من
الدنيا شيئا، ولا ترزأ الدنيا منك شيئا، ووهب لك حب المساكين،
132

فجعلك ترضى بهم أتباعا، ويرضون بك إماما).
رواه أبو نعيم الحافظ في كتابه المعروف بحلية الأولياء.
وزاد فيه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند: (فطوبى لمن أحبك
، وصدق فيك، وويل لمن أبغضك وكذب فيك).
الخبر الثاني
قال لوفد ثقيف: (لتسلمن أو لأبعثن إليكم رجلا مني، أو قال: عديل
نفسي، فليضربن أعناقكم، وليسبين ذراريكم، وليأخذن أموالكم)
قال عمر: فما تمنيت الامارة إلا يومئذ، وجعلت أنصب له صدري
رجاء أن يقول: هو هذا، فالتفت فأخذ بيد علي وقال: (هو هذا
مرتين).
رواه احمد في المسند، ورواه في كتاب فضائل علي عليه السلام
أنه قال: (لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن إليكم رجلا كنفسي يمضي فيكم
أمري، يقتل المقاتلة، ويسبي الذرية) قال أبو ذر: فما راعني إلا برد
كف عمر في حجزتي من خلفي يقول: من تراه يعني؟ فقلت: إنه
لا يعنيك، وإنما يعني خاصف النعل بالبيت، وأنه قال: هو هذا.
الخبر الثالث:
(إن الله عهد إلي في علي عهدا، فقلت: يا رب بينه لي؟ قال:
اسمع أن عليا راية الهدى، وامام أوليائي، ونور من أطاعني، وهو
الكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه فقد أحبني، ومن أطاعه فقد
أطاعني، فبشره بذلك، فقلت: قد بشرته يا رب، فقال: أنا عبد الله
133

وفي قبضته، فإن يعذبني فبذنوبي، ولم يظلم شيئا، وإن يتم لي
ما وعدني فهو أولى، وقد دعوت له فقلت: اللهم اجل قلبه، واجعل
ربيعه الايمان بك، قال: قد فعلت ذلك غير أني مختصه بشئ من
البلاء، لم أختص به أحدا من أوليائي، فقلت: رب أخي وصاحبي
، قال: إنه قد سبق في علمي أنه لمبتلى ومبتلى) ذكره أبو نعيم
الحافظ في حلية الأولياء عن أبي برزة الأسلمي، ثم رواه بإسناد آخر
بلفظ آخر عن انس بن مالك: (إن رب العالمين عهد إلي في علي
عهدا أنه راية الهدى، ومنار الايمان وامام أوليائي، ونور جميع من
أطاعني، إن عليا غدا أميني في القيامة، وصاحب رايتي بيد علي
مفاتيح خزائن رحمة ربي).
الخبر الرابع
من أراد أن ينظر إلى نوح في عزمه والى آدم في علمه، والى
إبراهيم في حلمه، والى موس في فطنته، والى عيسى في زهده،
فلينظر إلى علي بن أبي طالب).
رواه أحمد بن حنبل في المسند، ورواه أحمد والبيهقي في
صحيحه.
الخبر الخامس
(من سره أن يحيا حياتي ويموت ميتتي، ويتمسك بالقضيب من
الياقوتة التي خلقها الله تعالى بيده، ثم قال لها: كوني فكانت،
فليتمسك بولاء علي بن أبي طالب).
134

ذكره أبو نعيم الحافظ في كتاب حلية الأولياء، ورواه أبو عبد الله
أحمد بن حنبل في المسند، وفي كتاب فضائل علي عليه السلام.
وحكاية لفظ احمد (من أحب أن يتمسك بالقضيب الأحمر الذي
غرسه الله في جنة عدن، فليتمسك بحب علي بن أبي طالب).
الخبر السادس
(والذي نفسي بيده لولا أن تقول طوائف من أمتي فيك ما قالت
النصارى في ابن مريم لقلت اليوم فيك مقالا لا تمر بملاء من المسلمين
إلا اخذوا التراب من تحت قدميك للبركة.
ذكره أبو عبد الله أحمد بن حنبل في المسند.
الخبر السابع
خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الحجيج عشية عرفة فقال لهم: (إن الله
قد باهى بكم الملائكة عامة وغفر لكم عامة، وباهى بعلي خاصة،
وغفر له خاصة، إني قائل لكم قولا غير محاب فيه لقرابتي: إن
السعيد كل السعيد، حق السعيد من أحب عليا في حياته وبعد
موته) رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في كتاب فضائل علي عليه
السلام، وفي المسند أيضا.
الخبر الثامن
رواه أبو عبد الله أحمد بن حنبل في الكتابين المذكورين: (أنا أول
من يدعى به يوم القيامة فأقوم عن يمين العرش في ظله، ثم أكسى
135

حلة، ثم يدعى بالنبيين بعضهم على اثر بعض، فيقومون عن يمين
العرش، ويكسون حللا، ثم يدعى بعلي بن أبي طالب لقرابته مني
، ومنزلته عندي، ويدفع إليه لوائي لواء الحمد، آدم ومن دونه
تحت ذلك اللواء، ثم قال لعلي: فتسير به حتى تقف بيني، وبين
إبراهيم الخليل، ثم تكسى حلة، وينادى مناد من العرش نعم العبد
أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، ابشر فإنك تدعى إذا دعيت
، وتكسى إذا كسيت، وتحيا إذا حييت).
الخبر التاسع
(يا أنس أسكب لي وضوءا، ثم قام فصلى ركعتين، ثم قال: أول
من يدخل عليك من هذا الباب امام المتقين، وسيد المسلمين،
ويعسوب الدين، وخاتم الوصيين، وقائد الغر المحجلين) قال انس:
فقلت: اللهم اجعله رجلا من الأنصار، وكتمت دعوتي، فجاء علي
عليه السلام، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: (من جاء يا أنس) فقلت: علي: فقام إليه
مستبشرا فاعتنقه، ثم جعل يمسح عرق وجهه، فقال علي: يا رسول الله
صلى الله عليك وآلك لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئا ما صنعته
بي من قبل؟ قال: وما يمنعني وأنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي،
وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي) رواه أبو نعيم الحاظ في حلية
الأولياء.
الخبر العاشر
(ادعوا لي سيد العرب عليا) فقالت عائشة: ألست سيد العرب
136

؟ فقال: (أنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب) فلما جاء أرسل إلى
الأنصار فأتوه فقال لهم: (يا معشر الأنصار ألا أدلكم على ما إن تمسكتم
به لن تضلوا أبدا) قالوا: بلى يا رسول الله قال: (هذا علي فأحبوه
بحبي، وأكرموه بكرامتي، فإن جبريل امرني بالذي قلت لكم عن
الله عز وجل) رواه الحافظ أبو نعيم في حلية الأولياء.
الخبر الحادي عشر
(مرحبا بسيد المؤمنين وامام المتقين) فقيل لعلي عليه السلام:
كيف شكرك؟ فقال: (احمد الله على ما آتاني، وأسأله الشكر على
ما أولاني، وأن يزيدني مما أعطاني) ذكره صاحب الحلية أيضا.
الخبر الثاني عشر
(من سره أن يحيا حياتي، ويموت مماتي، ويسكن جنة عدن التي
غرسها ربي فليوال عليا من بعدي، وليوال وليه، وليقتد بالأيمة من
بعدي، فإنهم عترتي خلقوا من طينتي، ورزقوا فهما وعلما، فويل
للمكذبين من أمتي القاطعين فيهم صلتي لا أنالهم الله شفاعتي) ذكره
صاحب الحلية أيضا.
الخبر الثالث عشر
(بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خالد بن الوليد في سرية، وبعث عليا عليه
السلام في سرية أخرى، وكلاهما إلى اليمن، وقال: (إن اجتمعتما
فعلي على الناس، وإن افترقتما فكل واحد منكما على جنده)
137

فاجتمعا وأغارا، وسبيا نساء، وأخذا أموالا، وقتلا ناسا، وأخذ
علي جارية فاختصها لنفسه، فقال خالد: لأربعة من المسلمين منهم
بريدة الأسلمي: اسبقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاذكروا له كذا،
واذكروا له كذا، لأمور عددها على علي، فسبقوا إليه، وجاء وأحد
من جانبه فقال: إن عليا فعل كذا، فأعرض عنه، فجاء الآخر من
الجانب الآخر فقال: إن عليا فعل كذا فأعرض عنه، فجاء بريدة
الأسلمي فقال: يا رسول الله: إن عليا فعل ذلك فأخذ جارية لنفسه،
فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى احمر وجهه وقال: (دعوا لي عليا يكررها
، إن عليا مني، وأنا من علي، و إن حظه في الخمس أكثر مما أخذ
، وهو ولي كل مؤمن من بعدي) رواه أبو عبد الله احمد في المسند غير
مرة، ورواه في كتاب فضائل علي، ورواه أكثر المحدثين.
الخبر الرابع عشر
(كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم
بأربعة عشر الف عام، فلما خلق آدم قسم ذلك فيه، وجعله جزأين
، فجزء أنا، وجز علي).
رواه احمد في المسند، وفي كتاب فضائل علي عليه السلام.
وذكره صاحب كتاب الفردوس، وزاد فيه: (ثم انتقلنا حتى صرنا
في عبد المطلب فكان لي النبوة، ولعلي الوصية).
الخبر الخامس عشر
(النظر إلى وجهك يا علي عبادة، أنت سيد في الدنيا، وسيد في
الآخرة، من أحبك أحبني، وحبيبي حبيب الله، وعدوك عدوي،
138

وعدوي عدو الله، الويل لمن أبغضك) رواه أحمد في المسند قال:
وكان ابن عباس يفسره، ويقول: إن من ينظر إليه يقول: سبحان الله
ما أعلم هذا الفتى سبحان الله ما أشجع هذا الفتى، سبحان الله
ما أفصح هذا الفتى.
الحديث السادس عشر
(لما كانت ليلة بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من يستقي لنا ماء؟
فأحجم الناس، فقام علي فاحتضن قربة، ثم أتى بئرا بعيدة القعر
مظلمة، فانحدر فيها، فأوحى الله إلى جبريل وميكائيل وإسرافيل أن
تأهبوا لنصر محمد وأخيه، وحزبه فهبطوا من السماء لهم لغط يذعر
من يسمعه، فلما حاذوا البئر سلموا عليه من عند آخرهم اكراما له
واجلالا) رواه احمد في كتاب فضائل علي، وزاد فيه في طريق أخرى
عن انس بن مالك (لتؤتين يا علي يوم القيامة بناقة من نوق الجنة
فتركبها، وركبتك مع ركبتي، وفخذك مع فخذي حتى ندخل الجنة).
الحديث السابع عشر
خطب صلى الله عليه وآله وسلم الناس يوم جمعة فقال: (أيها الناس قدموا قريشا
ولا تقدموها، وتعلموا منها، ولا تعلموها، قوة رجل من قريش، تعدل
قوة رجلين من غيرهم، وأمانة رجل من قريش تعدل أمانة رجلين من
غيرهم، أيها الناس أوصيكم بحب ذي قرباها أخي وابن عمي، علي
بن أبي طالب، لا يحبه الا مؤمن، ولا يبغضه إلا منافق، من أحبه فقد
أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني، ومن أبغضني عذبه الله بالنار) رواه
139

احمد في كتاب فضائل علي عليه السلام.
الحديث الثامن عشر
(الصديقون ثلاثة - حبيب النجار الذي جاء من أقصى المدينة
يسعى، ومؤمن آل فرعون الذي كان يكتم ايمانه، وعلي بن أبي
طالب، وهو أفضلهم) رواه احمد في كتاب فضائل علي.
الحديث التاسع عشر
(أعطيت في علي خمسا، هن أحب إلي من الدنيا وما فيها، أما
واحدة - فهو كأب بين يدي الله عز وجل حتى يفرغ من حساب
الخلائق. وأما الثانية: فلواء الحمد بيده، آدم ومن ولد تحته،
وأما الثالثة: فواقف على عقر حوضي يسقي من عرف من أمتي،
وأما الرابعة: فساتر عورتي، ومسلمي إلى ربي، وأما الخامسة:
فإني لست أخشى عليه أن يعود كافرا بعد ايمان، ولا زانيا بعد
احصان) رواه احمد في كتاب الفضائل.
140

الحديث العشرون
كانت لجماعة من الصحابة أبواب شارعة في مسجد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
فقال صلى الله عليه وآله وسلم يوما: (سدوا كل باب في المسجد إلا باب علي) فسدت،
فقال في ذلك قوم حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام فيهم فقال: (إن قوما
قالوا في سد الأبواب، وتركي باب علي إني ما سددت ولا فتحت،
ولكني أمرت بأمر فاتبعته) رواه احمد في المسند مرارا، وفي كتاب
الفضائل.
الحديث الحادي والعشرون
دعا صلى الله عليه وآله وسلم عليا في غزاة الطائف، فانتجاه، وأطال نجواه، حتى
كره قوم من الصحابة ذلك، فقال قائل منهم: لقد أطال اليوم نجوى
ابن عمه، فبلغه صلى الله عليه وآله وسلم ذلك فجمع منهم قوما ثم قال: (إن قائلا قال:
لقد أطال اليوم نجوى ابن عمه، أما اني ما انتجيته، ولكن الله
انتجاه) رواه احمد في المسند.
الحديث الثاني والعشرون
(أخصمك يا علي بالنبوة، فلا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع
لا يجاحد فيها أحد من قريش، أنت أولهم ايمانا بالله، وأوفاهم بعهد
الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسوية، وأعدلهم في الرعية،
وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند الله مزية) رواه أبو نعيم الحافظ في
حلية الأولياء.
141

الخبر الثالث والعشرون
قالت فاطمة: إنك زوجتني فقيرا لا مال له، فقال: (زوجتك
أقدمهم سلما، وأعظمهم حلما، وأكثرهم علما ألا تعلمين أن الله
تعالى اطلع إلى الأرض اطلاعه، فاختار منها أباك، ثم اطلع إليها
ثانية فاختار منها بعلك) رواه احمد في المسند.
الحديث الرابع والعشرون
لما أنزل إذا جاء نصر الله والفتح بعد انصرافه صلى الله عليه وآله وسلم من غزاة حنين
جعل يكثر من سبحان الله، استغفر الله، ثم قال: (يا علي إنه قد جاء
ما وعدت به، جاء الفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأنه
ليس أحد أحق منك بمقامي، لقدمك في الاسلام، وقربك مني،
وصهرك، وعندك سيد نساء العالمين، وقبل ذلك ما كان من بلاء أبي
طالب عندي حين نزل القرآن، فأنا حريص أن أراعي ذلك لولده،
رواه أبو إسحاق الثعلبي في تفسير القرآن، وقال فيه: قيل لعمر:
ول عليا امر الجيش والحرب، فقال: هو أتيه من ذلك، وقال زيد
بن ثابت: ما رأينا أزهى من علي وأسامة، قال فيه: واعلم أنه قد
تواترت الاخبار عنه بنحو قوله: (ما زلت مظلوما منذ قبض رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم حتى يوم الناس هذا).
وقوله: (اللهم أجز قريشا فإنها منعتني حقي، وغصبتني أمري).
وقوله: (فجزى قريشا عني الجوازي فإنهم ظلموني حقي،
واغتصبوني سلطان ابن أمي).
142

وقوله وقد سمع صارخا ينادي: أنا مظلوم فقال: (هلم فلنصرخ معا
فإني ما زلت مظلوما).
وقوله: (وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى).
وقوله: (أرى تراثي نهبا).
وقوله: (اصغيا بإنائنا وحملا الناس على رقابنا).
وقوله: (إن لنا حقا إن نعطه نأخذه، وان نمنعه نركب اعجاز
الإبل، وإن طال السرى).
وقوله: (ما زلت مستأثرا علي مدفوعا عما استحقه واستوجبه.
وأصحابنا يحملون ذلك كله على ادعائه الامر بالأفضلية والأحقية،
وهو الحق والصواب.
فإن حمله على الاستحقاق بالنص تكفير، أو تفسيق لوجوه
المهاجرين والأنصار، ولكن الامامية والزيدية، حملوا هذه الأقوال
على ظواهرها، وارتكبوا بها مركبا صعبا، ولعمري أن هذه الألفاظ
موهمة، ومغلبة على الظن ما يقوله القوم، لكن تصفح الأحوال،
تبطل ذلك الظن، ويدرأ ذلك الوهم، فوجب أن يجرى مجرى
الآيات المتشابهات.
وقال فيه: (استعديك) أطلب ان تعديني عليهم، وأن تنصف لي
منهم (قطعوا رحمي) لم يراعوا قربة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (وصغروا
عظيم منزلتي) لم يقفوا مع النصوص الوارة فيه (وأجمعوا على
منازعتي أمرا هو لي) أي بالأفضلية، هكذا ينبغي أن يتأول كلامه.
وكذلك قوله: (إنما اطلب حقا لي، وأنتم تحولون بيني وبينه،
وتضربون وجهي دونه) قال فيه، وقد روى كثير من المحدثين أنه
143

عقيب يوم السقيفة تألم وتظلم، واستنجد واستصرخ، حيث ساموه
الحضور والبيعة.
وأنه قال وهو يشير إلى القبر: (يا ابن أم ان القوم استضعفوني
وكادوا يقتلونني).
وأنه قال: (وا جعفراه ولا جعفر لي اليوم، وا حمزتاه ولا حمزة لي
اليوم).
وقال فيه: قرأت في كتاب غريب الحديث لابن قتيبة في حديث
حذيفة، إنه ذكر خروج عائشة فقال: (يقاتل معها مضر مضرها الله في
النار، وأزد عمان سلت الله أقدامها، و إن قيسا لن تنفك تبغي دين
الله شرا حتى يركبها الله بالملائكة).
قلت: هذا الحديث من اعلام نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه اخبار
عن غيب، تلقاه حذيفة من النبي، وحذيفة أجمع أهل السيرة أنه
مات وعلي عليه السلام لم يتكامل بيعة الناس، ولم يدرك الجمل.
وقال فيه: إن عمر قال لابن عباس: إن قومكم كرهوا أن تجتمع
لكم النبوة والخلافة، فتذهبوا في السماء شمخا وبذخا.
وقال فيه: قال عمر لابن عباس: هل بقي في نفسه - يعني عليا -
شئ من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أيزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
نص عليه؟ قلت: نعم وأزيدك، سألت أبي عما يدعيه فقال: صدق.
فقال عمر: لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره ذرو من قول
لا يثبت حجة، ولا يقطع عذرا، ولقد كان يرفع في أمره وقتا ما،
ولقد أراد في مرضه أن يصرح باسمه فمنعت من ذلك اشفاقا وحيطة
على الاسلام، ورب هذه البنية لا تجتمع عليه قريش أبدا، ولو وليها
144

لانتفضت عليه العرب من أقطارها، فعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أني علمت
ما في نفسه، فأمسك وأبى الله الا امضاء ما حتم، ذكر هذا الخبر
أحمد بن أبي طاهر، صاحب كتاب تاريخ بغداد في كتابه مسندا.
وفيه عن ابن عباس قال عمر: يا ابن عباس ما أرى صاحبك إلا
مظلوما، فقلت: أردد إليه ظلامته، فانتزع يده من يدي، ومضى
يهمهم ساعة، ثم وقف، فلحقته، فقال: يا ابن عباس ما أظنهم منعهم
عنه إلا أنه استصغره قومه، فقلت: والله ما استصغره الله ورسوله حين
أمراه أن يأخذ براءة من صاحبك فأعرض عني.
وفيه قال عمر: يا ابن عباس إن صاحبكم إن ولي هذا الامر أخشى
عجبه بنفسه، أن يذهب به فليتني أراكم بعدي.
قلت: إن صاحبنا ما قد علمت، إنه ما غير ولا بدل، ولا أسخط
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيام صحبته له، قال: فقطع علي الكلام، فقال:
ولا في ابنة أبي جهل، لما أراد أن يخطبها على فاطمة، فقلت: قال
الله تعالى (ولم نجد له عزما) وصاحبنا لم يعزم على سخط رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن الخواطر التي لا يقدر أحد على رفعها عن نفسه، وربما
كانت من الفقيه في دين الله العالم العامل بأمر الله تعالى.
وفيه قال عمر: يا ابن عباس: أتدري ما منع الناس منكم؟ قال: لا
، قال: عمر: لكنني أدري، قال: وما هو؟ قال: كرهت قريش أن
تجتمع لكم النبوة، والخلافة فتجحفوا الناس جحفا، فنظرت قريش
لأنفسها فاختارت ووفقت، فأصابت.
فقال ابن عباس: أما قولك: إن قريشا كرهت، فإن الله قال لقوم
145

ذلك: (بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) (1).
وأما قولك: إنا كنا نجحف، فلو جحفنا بالخلافة، جحفنا
بالقرابة، ولكنا قوم أخلاقنا مشتقة من خلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن
قال: وأما قولك: فإن قريشا اختارت، فإن الله تعالى يقول: (وربك
يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة) (2).
وقد علمت أن الله اختار من خلقه، لذلك من اختار، فلو نظرت
قريش من حيث نظر الله لها لوفقت وأصابت.
فقال عمر: أبت قلوبكم يا بني هاشم الا غشا في أمر قريش لا يزول
، وحقدا عليها لا يحول.
فقال ابن عباس: مهلا لا تنسب قلوب بني هاشم إلى الغش، فإن
قلوبهم من قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي طهره الله، وزكاه، وهم أهل البيت
الذين قال الله تعالى لهم: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (3).
وأما قولك: حقدا، فكيف لا يحقد من غصب شيئه، ويراه في يد
غيره.
إلى أن قال عمر: بلغني أنك لا تزال تقول: أخذ هذا الامر منا
حسدا، وظلما، إلى أن قال ابن عباس: وأما قولك: ظلما، فأنت
تعلم صاحب الحق، من هو، الكلام بطوله في شرح النهج.
وفيه وروى ابن عباس قال: خرجت مع عمر إلى الشام، إلى أن
1 محمد (9).
2 القصص (68).
3 الأحزاب (33).
146

قال: فقال لي: يا ابن عباس: أشكو إليك ابن عمك، سألته أن يخرج
معي فلم يفعل، ولم أزل أراه واجدا فبم تظن موجدته؟
قلت: إنك لتعلم، قال: أظنه لا يزال كئيبا لفوت الخلافة، قلت:
هو ذاك إنه يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد الامر له.
فقال: يا ابن عباس، وأراد رسول الله الامر له؟ فكان ماذا إذا لم
يرد الله تعالى، ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أراد ذلك، وأراد الله غيره
(1)، فنفذ مراد الله، ولم ينفذ مراد رسوله.
وفيه عن ابن عباس قال: دخلت على عمر فقال: يا ابن عباس، لقد
أجهد هذا الرجل نفسه في العبادة، حتى نحلته رياء.
قلت: وما يقصد بالرياء؟
قال: يرشح نفسه بين الناس بالخلافة؟
قلت: وما يصنع بالترشيح، قد رشحه لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصرفت
عنه.
قال: إنه كان شابا حدثا، فاستصغرت العرب سنه، وقد كمل الآن،
إلى آخر الكلام بطوله.
وفيه: فميل عبد الرحمن إلى جهة عثمان، وانحرافه عن علي عليه
السلام قليلا، وليس هذا بمخصوص بعبد الرحمن بل قريش قاطبة،
كانت منحرفة عنه.
وقال فيه: وأنا أعجب من لفظة عمر، إن كان قالها، إن فيه -
يعني عليا عليه السلام - بطالة، وما أظن عمر إن شاء الله قالها،
1 حاشا الله أن يريد ما لا يأمر، وحاشا رسول الله أن يريد غير مراد الله، ومن قال عليه هذا فقد أبطل عصمته.
147

وأظنها زيدت في كلامه، وأن الكلمة هاهنا لدالة على انحراف
شديد.
وقال ابن أبي الحديد فيه أيضا: وقفت في بعض الكتب على
خطبة لعلي عليه السلام من جملتها: (إن قريشا طلبت السعادة
فشقيت، وطلبت النجاة فهلكت، وطلبت الهدى فضلت) ألم
يسمعوا ويحهم قوله تعالى: (الذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان
ألحقنا بهم ذرياتهم) (1) فأين المعدل والمفزع عن ذرية رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم الذين شيد الله بنيانهم فوق بنيانهم، وأعلى رؤوسهم فوق
رؤوسهم، واختارهم عليهم، ألا ان الذرية أفنان أنا شجرتها،
ودوحة أنا ساقها، وإني من أحمد بمنزلة الصنو من الصنو، كنا ظلالا
تحت العرش قبل خلق البشر، وقبل خلق الطينة، التي كان منها
البشر أشباحا عالية لا أجساما نامية، إن أمرنا صعب مستصعب،
لا يعرف كنهه إلا ثلاثة: ملك مقرب، أو نبي مرسل أو عبد امتحن
قلبه للايمان، فإذا انكشف لكم سر، أو وضح لكم أمر، فاقبلوه،
والا فاسكتوا تسلموا، وردوا علمنا إلى الله فإنكم في أوسع مما بين
السماء والأرض.
وهذه الخطبة ذكرها في الجزء الثالث عشر في شرح قوله في
النهج: (فمن الايمان ما يكون ثابتا مستقرا في القلوب، ومنه ما يكون
عواري بين القلوب والصدور إلى أجل معلوم، فإذا كانت لكم براءة
من أحد، فقفوه حتى يحضره الموت، فعند ذلك يقع حد البراءة،
1 الطور (21).
148

والهجرة قائمة على حدها الأول، ما كان لله في أهل الأرض حاجة من
مستسر الأمة ومعلنها، لا يقع اسم الهجرة على أحد، الا بمعرفة
الحجة في الأرض، فمن عرفها، وأقر بها، فهو مهاجر، ولا يقع
اسم الاستضعاف على من بلغته الحجة، فسمعتها اذنه، ووعاها قلبه،
إن أمرنا صعب مستصعب، لا يحمله إلا عبد مؤمن امتحن الله قلبه
للايمان، ولا يعي حديثنا إلا صدور أمينة، وأحلام رزينة، أيها الناس
سلوني قبل أن تفقدوني، فلانا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض
، قبل ان تشغر برجلها فتنة، تطأ في خطامها، وتذهب بأحلام
قومها) انتهت من النهج.
وقال ابن أبي الحديد رحمه الله في شرحه على النهج: روي أنه
صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم على قتلى أحد، وقال: (أنا شهيد على هؤلاء)
فقال له أبو بكر: ألسنا إخوانهم أسلمنا كما أسلموا، وجاهدنا كما
جاهدوا؟ قال: (بلى ولكن هؤلاء لم يأكلوا من أجورهم شيئا،
ولا أدري ما تحدثون بعدي).
وفيه روي في كتاب من أمير المؤمنين إلى معاوية، وفيه: (واعلم أن
هذا الامر لو كان إلى الناس، أو بأيديهم، لحسدوناه، ولا امتنوا
علينا به، ولكنه قضاء مما منحناه، واختصنا به على لسان نبيه،
الصادق المصدق، لا أفلح من شك بعد العرفان والبينة).
وقال في شرح وصية الصدقة، حيث خص الوصية بأولاد فاطمة،
قربة في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ما لفظه: وفي هذا رمز وأزراء بمن صرف
الامر عن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع وجود من يصلح للامر، أي
كان الأليق بالمسلمين والأولى أن يجعلوا الرياسة بعده لأهله، قربة
149

إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتكريما لحرمته، وطاعة له، وأنفة لقدره صلى الله عليه وآله وسلم
، أن يكون ورثته سوقة يليهم الأجانب، ومن ليس من شجرته وأصله.
وقال في شرح قول علي عليه السلام في كتاب معاوية: (فدع عنك
من مالت به الرمية) أي دع ذكر من مال إلى الدنيا، ومالت به،
أي أمالته إليها.
فإن قلت: فهل هذا إشارة إلى أبي بكر وعمر؟ قلت: ينبغي أن
ينزه أمير المؤمنين عن ذلك، وأن تصرف هذه الكلمة إلى عثمان، لان
معاوية ذكره في كتابه.
وفيه: ومن جملة كتاب الحسن: (ثم حاججنا نحن قريشا، بمثل
ما حاججت به العرب فلم تنصفنا قريش انصاف العرب لها، إنهم
أخذوا هذا الامر دون العرب بالانصاف والاحتجاج، فلما صرنا أهل
بيت محمد وأولياؤه إلى محاجتهم، وطلب النصف منهم باعدونا،
و استدلوا بالاجتماع على ظلمنا، ومراغمتنا، والعنت منهم لنا،
فالموعد الله، وهو الولي النصير.
وقال فيه: ولولا عمر لما بايع يعني لأبي بكر علي، ولا الزبير،
و لا أكثر الأنصار، والامر في هذا أظهر من كل ظاهر.
وقال فيه: وقالت الأنصار: لولا علي بن أبي طالب عليه السلام
في المهاجرين لأنفنا لأنفسنا، أن يذكر المهاجرون معنا، أو أن يقرنوا
بنا، ولكن رب واحد كألف، بل كألوف. انتهى رحم الله ابن أبي
الحديد، فأين صحة دعوى المعتزلة الاجماع على امامة أبي بكر!
و أين رضاء أمير المؤمنين حسبما ذكر هنا، ونقلناه عنه!.
واعلم وفقنا الله وإياك أن من بحث وتطلع على ما روته الأمة في
150

علي عليه السلام، على تباين في عقائدها، واختلاف في مذاهبها،
وتفهم لذلك علم يقينا عصمته عليه السلام، وعلم بما دلت عليه تلك الأخبار
التي يشق علينا نقلها، لكثرتها أنه أعلم الأمة بعد نبيها،
وأنه مع الحق والحق مه، وأن قوله حجة في الأصول والفروع،
وأنه أعلم بأخر الامرين من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه وصي رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم، وأنه الامام بعده بلا فصل، وأن الله يحبه ورسوله، وأنه أفضل
الأمة بعد نبيها، وأن بغضه نفاق، وحبه ايمان، وهذا الذي أدين الله
به فيه، وسكنت عليه النفس لا عن تقليد، بل عن نظر صحيح، فنحن
نحب من أحبه أمير المؤمنين، ونبغض من بغضه، ونتجرم ممن تجرم
منه (1)، ونقتدي به فيما صح لنا عنه والحمد لله رب العالمين.
ولا شك أنه قد تجرم وتظلم ممن تقدمه، وهو قدوتنا في ديننا،
وعلى هذا قدماء العترة، وأكثر أعيان المتأخرين، ومن أراد التطلع
على كثير مما روت الأمة فيه فعليه بالشافي للمنصور بالله، ومقدمة
الاعتصام للامام القاسم، وشرح الغاية لولده الحسين، وأنوار
اليقين، وينابيع النصيحة، وغير هذه من المؤلفات لأهل البيت
وشيعتهم، ولفقهاء العامة، كابن المغازلي الشافعي، والكنجي،
وغيرهما.
وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، وصلى الله وسلم على
محمد وآله.
1 فنحب شيعته حقا، ونبغض أعداؤه كمعاوية وأضرابه واتباعهم، ونتجرم ممن تجرم منه كالشيخين أبي بكر وعمر
واضرابهم، تمت مؤلف.
151

اللهم أحسن لنا الختام، وأدم لنا النعمة حتى تهنينا المعيشة،
واختم لنا بخير حتى لا تضرنا ذنوبنا، واكفنا هم الدنيا، وكل هول
في القيامة، حتى تدخلنا الجنة، يا رحمن يا رحيم، وصل وسلم على
محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قال المؤلف الإمام الهادي / الحسن بن يحي بن علي القاسمي
المؤيدي اليحيوي الضحياني غفر الله له.
وكان تمام تأليف هذه النسخة المباركة في الحرجة من بلاد شريف
، قبيل صلاة العصر يوم الأحد لعله سادس عشر شهر شعبان من عام
1331 هجرية.
انتهت كتابة هذه النسخة المباركة والحمد لله رب العالمين، وصلى
الله وسلم على محمد وآله الطاهرين، وذلك في 1 جمادى الأولى من
عام 1412 هجرية، وكتب حسن بن حسن بن علي الهادي غفر الله له
ولوالديه والمؤمنين.
152

بسم الله الرحمن الرحيم
فهرست الكتاب
تقريض للكتاب، وترجمة المؤلف.
اتفاق المجبرة على أن كل ما وقع من العبد من الافعال فهو من الله
الجامع لما تعلقوا به في ذلك
الجامع لما اتفقت عليه العدلية.
حقيقة الداعي، وبيانه وهو مما تعلقت به المجبرة
جواب العدلية عن ذلك بأربعة وجوه.
إجابة الجبرية عن تلك الأربعة.
نقض العدلية لأجوبتهم.
فصل في العلم، وهو مما تعلقت به الجبرية.
إجابة العدلية عن تلك الشبهة
فصل في نفي الحسن والقبح العقليين عند الجبرية.
حجة الجبرية على ذلك
جواب العدلية عن ذلك.
فصل قالت العدلية: العقل حاكم
اقرار العضد بأنه لا يمتنع الكذب منه تعالى عقلا.
فصل: وأما أنه يقع في ملكه ما لا يريد.
تناقض مذهبهم في التحسين والتقبيح القلبيين.
153

جواب العدلية عن ذلك
فصل في تكليف ما لا يطاق واحتجاج أهل الجبر على جوازه
جواب العدلية عن ذلك.
فصل قول المجبرة: ان الله سبحانه يأمر وينهى بما لا يريد
جواب العدلية.
فصل قول المجبرة: إنه سبحانه يفعل الفعل من دون غرض وحكمة
أسئلة سبعة لإبليس لعنه الله.
جواب العدلية.....
فصل الآيات التي تعلقوا بها في قولهم بالجبر.
جواب العدلية..
تنبيه " قول الرازي في تضعيف الكسب ".
فصل في آيات اخر استدل بها الجبرية على الجبر
جواب العدلية عن ذلك..
معنى الطبع والختم.
معنى الغشاوة والوقر والعمى والصم والبكم.
معنى التزيين والفتنة.
معنى الهدى والضلال.
معنى القضاء والقدر.
فصل في تأويل آيات تعلقت بها المجبرة أيضا.
فصل في تأويل آيات تعلقت بها المجبرة أيضا.
فصل في معنى قوله تعالى (ولا ينفعكم نصحي).
معنى قوله تعالى: (قل لو كنتم في بيوتكم).
154

معنى قوله تعالى (قل كل من عند الله)..
فصل في احتجاج الجبرية بأنهم السواد الأعظم، وجواب العدلية.
آيات تزيد على العشرين آية في ذم الكثرة
فصل قول العدلية: والله سبحانه خلق للعباد قدرة لايجاد أفعالهم
كلام ابن القيم في القدرية.
حكايات مخزية للجبرية.
كلام ابن تيمية في القدرية.
فصل احتجاج للعدلية من كلام الرازي في الاستعاذة
فصل الاستعاذة تبطل الجبر من وجوه ستة.
فمل احتجاج للعدلية من القرآن على أن لا مانع من الايمان.
فمل احتجاج للعدلية يبطل قول الجبرية.
فائدة مناظرة أبي الهذيل الأشعري..
فصل قول العدلية: لو كان فعل العبد خلقا لله لما نسب الأعمال
إليهم.
فصل في الكسب.
حوار بين أبي حنيفة وموسى بن جعفر.
جواب أبي الهذيل عن الاستطاعة..
فصل قوله صلى الله عليه وآله وسلم (القدرية مجوس هذه الأمة).
فصل حول قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (القدرية مجوس هذه الأمة)
فصل لو كانت القدرية هم العدلية للزم التناقض في خبره صلى الله عليه وآله وسلم
سؤال الشامي لعلي عليه السلام عن القضاء والقدر
حكاية لعمرو بن عبيد في القدر.
155

عجيبة.
مسائل اتفق عليها أهل العدل.
مناظرة الإمام الهادي عليه السلام مع مجبرة صنعاء
سؤال الحجاج لأربعة من علماء المعتزلة عن أفعال العباد
تحذير من مذهب الجبرية، وذكر جملة من قواعدهم
تجنب البخاري الرواية عن جعفر الصادق، وروايته عن النواصب
حملة أهل الحديث على أتباع أهل البيت عليهم السلام.
سؤال هل كان النبي يحب عليا عليه السلام؟
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته روافض على مصطلح أهل السنة
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة والحسنان وأولادهم يحبون عليا عليه السلام.
حديث (علي خير البشر) وما في معناه.
تحكم أهل الحديث
مذاكرة بين بعض أئمة أهل البيت وأهل الحديث
الشافعي رافضي عند يحي بن معين
بيان أن رواي البخاري شخص واحد فقط
رواية أهل الحديث لمساوي معاوية وبني أمية
كلام التفتازاني حول ما وقع من الصحابة
تعليق لابن الأمير على تحديد ابن حجر للشيعي
اعتراف المقبلي باضطراب أهل الحديث
بيان عقائد أهل السنة.
قاعدة لا تقبل رواية الراوي في ما يقوي بدعته.
فصل اجماع الشيعة على أن عليا عليه السلام أفضل الأمة، وأنه
156

الامام بعده صلى الله عليه وآله وسلم
اتفاق الأخبار الصحيحة على قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعلي (لا يبغضك إلا
منافق)
جملة أخبار في علي عليه السلام ذكرها ابن أبي الحديد.
تظلم علي عليه السلام من الصحابة.
حوار ابن عباس وعمر في شان علي عليه السلام.
خطبة الإمام علي عليه السلام في قريش، وفي أن أمر أهل
البيت صعب
من كتاب أمير المؤمنين إلى معاوية
شرح ابن أبي الحديد لوصية صدقة علي عليه السلام
كتاب الحسن بن علي عليهما السلام
كلام المؤلف رحمه الله حول علي عليه السلام
157

/ 1