نشأة التشيع والشيعة
السيد محمد باقر الصدر
الجزء:
الوفاة: ١٤٠٠
المجموعة: مصادر سيرة النبي والائمة
تحقيق: تحقيق وتعليق : عبد الجبار شرارة
بسم الله الرحمن الرحيم
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الكتاب: نشأة التشيع والشيعة
المؤلف: الامام الشهيد السيد محمد باقر الصدر
تحقيق: الدكتور عبد الجبار شرارة
الناشر: مركز الغدير للدراسات الاسلامية
الطبعة: الثانية
شوال 1417 ه / 1997 م
المطبعة: قدس
عدد النسخ: 2000
6
مقدمة المحقق
بين يدي المؤلف والكتاب:
إن الامام الشهيد الصدر (رضي الله عنه) - الذي ينشر له هذا
البحث - عالم رباني، وفقيه من أعاظم فقهاء العصر، ومجاهد في
سبيل الله، متفان في سبيل الاسلام إلى درجة الاستشهاد. وهو (رضي
الله عنه) كان ينبوعا متدفقا من العطاء العلمي الأصيل، فهو إمام فد
في الدراسات الأصولية والفقهية، وعبقري نادر في المنطق ومناهج
البحث، ومجدد في الفكر الاسلامي لمواجهة التحديات الفكرية
المعاصرة، في الفلسفة والاقتصاد والاجتماع، وهو بعد ذلك كله قد
أسهم بأطروحاته، ونظراته، وآرائه الأصيلة في تأصيل المدرسة
الاسلامية، وتجديد البحوث الكلامية، وإغناء المعرفة القرآنية، كما
أرسى دعائم منهج علمي رصين في كل ما تناوله قلمه الشريف من موضوعات.
إن الدراسة الرائدة التي بين أيدينا حول (قضية التشيع) قد
7
نهج فيها الشهيد الصدر (رضي الله عنه) المنهج العلمي الرصين،
وأحكم فيها المنطق النزيه، وسار في خطواتها بعمق الخبير البصير
الذي يعرف منذ البداية كيف ينقل القاري خطوة بعد خطوة بما يمليه
منطق الحق.
لقد تناول الشهيد الصدر هذا الموضوع الخطير فجاء فيه على
وجازته بما لم يسبقه إليه، من قوة الحجة ومتانتها، ورصانة
العبارة ودقتها، وحسن العرض ولطافته، مع كثرة نكته وإشاراته التي
يفطن إليها كل أديب وأريب، ولكنها تغيب عمن لم يمارس هذا النوع
من البحوث الكلامية العميقة، ولم يلج ميدان الحجاج والمناظرة، ولم
يعالج من قبل النصوص النبوية الشريفة، والوقائع التاريخية. ومع أهمية
هذا البحث العميق موضوعا وأسلوبا ومعالجة، إلا أن مما يوسف له أنه
لم يخرج إخراجا يليق به، ولم يحظ بالتحقيق والتعليق بما يرشد إلى
مظان الشواهد، ويوضح الدليل في موارد الإشارة وينبه إلى مواطن
الحجة حتى يتجلى فيها للقاري صدق المنطق فيطمئن إلى منطق الصدق.
إن هذا البحث - الذي بين يديك - كان في الأصل تصديرا بقلم
الشهيد الصدر (رضي الله عنه) لكتاب الدكتور عبد الله فياض
الموسوم ب " تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة " الذي صدرت طبعته
الأولى في بغداد - مطبعة أسعد - عام 1390 ه / 1970 م. ثم نشر في
كتاب مستقل عام 1397 ه. فقد نشر في القاهرة باشراف السيد طالب
الحسيني الرفاعي - دار أهل البيت - مطابع الدجوي - عادين - القاهرة،
8
الطبعة الأولى عام 1397 ه / 1977 م، كما نشر في العام نفسه من
قبل
دار التعارف للمطبوعات - بيروت. ولكن كلتا الطبعتين لم تكونا
وافيتين بالغرض، إذ لم تعتنيا بالتحقيق والتدقيق، ولم تهتما بتخريج
الأحاديث وتوثيق النصوص، فضلا عن كثرة الأخطاء المطبعة، على أن
طبعة القاهرة قد حظيت ببعض التعليقات النافعة بقلم السيد الرفاعي،
وكانت أحسن ضبطا، وأقل أخطاء. هذا مع اختلاف الطبعتين في
العنوان، فبينما صدرت طبعة القاهرة بعنوان: " التشيع ظاهرة طبيعية في
اطار الدعوة الاسلامية ". نجد أن الطبعة البيروتية صدرت بعنوان:
" بحث حول الولاية ".
من هنا مست الحاجة إلى أن ينال هذا البحث ما يستحقه من
عناية التحقيق والتدقيق والتعليق. وقد جهدت كل الجهد أن أضبط
العبارة مستفيدا من الطبعات المذكورة، مراعيا التصحيحات اللازمة،
أما العنوان فقد استأنست برأي سماحة آية الله السيد محمود الهاشمي
الذي أشار علي أن يكون العنوان: " نشأة التشيع والشيعة ". فكان هو العنوان الأنسب.
وأخيرا فقد رأيت أن الحق بهذا البحث الأصيل للشهيد الصدر
(رضي الله عنه) دراسة علمية أترسم فيها المنهج الرصين نفسه،
أعالج فيها أمرا نبهه إليه الشهيد الصدر (رضي الله عنه) ولكنه لم
يبسط القول فيه - اعتمادا على ما يظهر - على أنه مما تضافر على نقله
الرواة وتداولته كتب السيرة، وذلك هو: الاعداد الفكري والتربوي
لامامة علي (عليه السلام)، وخلافته.
9
عملي في التحقيق:
أولا: لم يتوفر لدي سوى ما أشرت إليه من النسخ المطبوعة،
وسوى التصدير الذي في مقدمة كتاب الدكتور عبد الله فياض
الموسوم ب " تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة ". ولما كانت نسخة
طبعة القاهرة التي صدرت باشراف السيد طالب الرفاعي هي أضبط
النسخ وأكملها، لذلك اعتمدتها أصلا، واستعنت بالطبعتين الأخريين،
طبعة دار التعارف البيروتية، والطبعة في مقدمة كتاب الدكتور فياض
البغدادية، وذلك لضبط النص ومعالجة الأخطاء أو الاشتباهات التي
وقعت في طبعة القاهرة.
ثانيا: أخرجت البحث إخراجا جديدا، إذ ثم توزيعه على
تمهيد وفصلين، عنون الفصل الأول ب " كيف ولد التشيع " وكما أراد
المؤلف الباحث الشهيد الصدر أن يبرزه وقد وزعته على ثلاثة
مباحث: اختص المبحث الأول بما عنون بالطريق الأول وهو السلبية
اي إهمال أمر الخلافة، وقد برزت هذا العنوان طبعة القاهرة، وتناول
المبحث الثاني الطريق الثاني وهو الايجابية ممثلة بنظام الشورى،
وعرض المبحث الثالث الطريق الثالث: الايجابية ممثلة في إعداد
ونصب من يقود الأمة. أما الفصل الثاني فقد عنون ب " كيف وجدت
الشيعة " ووزع أيضا على ثلاثة مباحث، كان المبحث الأول حول
الاتجاهين الرئيسيين اللذين رافقا نشوء الأمة، واختص المبحث الثاني
بالكلام على المرجعية الفكرية والقيادية، وعرض المبحث الثالث
لمسألة التشيع الروحي والتشيع السياسي.
10
ثالثا: رجعت إلى المصادر التي أحال إليها الشهيد الصدر
(رضي الله عنه)، ووثقت النص الذي اعتمده، مشيرا إلى الجزء
والصفحة في الموارد التي لم يذكر فيها. وقد بلغت الاحالات في
طول البحث ثلاثا وعشرين إحالة وضعت إزاءها كلمة (الشهيد) بين
قوسين كبيرين حفاظا على الأصل المكتوب بهوامشه، وتمييزا لما من
الهوامش والتعليقات التي كتبتها بقلمي.
رابعا: بالنسبة إلى النصوص التي أوردها الشهيد (رضي الله
عنه)، أو أشار إليها، ولم يذكر المصدر قمت بتخريجها من مظانها
المعتبرة، كما خرجت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
خامسا: الآراء والأفكار التي نبه إليها الشهيد (رضي الله عنه)،
وثقت منها ما يحتاج إلى توثيق.
سادسا: علقت بتعليقات مناسبة على كثير من المطالب، إما
توضيحا للمطلب أو تعزيزا بالأدلة والشواهد.
أرجو الله تعالى أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم.
والحمد لله رب العالمين.
المحقق
د. عبد الجبار شرارة
11
التمهيد
جرى بعض الباحثين على دراسة التشيع بوصفه ظاهرة طارئة
في المجتمع الاسلامي، والنظر إلى القطاع الشيعي من جسم الأمة
الاسلامية بصفته قطاعا تكون على مر الزمن، نتيجة لاحداث وتطورات
اجتماعية معينة، أدت إلى تكوين فكري ومذهبي خاص لجزء من
ذلك الجسم الكبير، ثم اتسع ذلك الجزء بالتدريج (1).
إن هؤلاء الباحثين، بعد أن يفترضوا ذلك، يختلفون في تلك
الاحداث والتطورات التي أدت إلى نشوء تلك الظاهرة وولادة ذلك
(1) راجع: الصلة بين التصوف والتشيع / الدكتور كامل مصطفى الشيبي / ج / ص 11 - 14، فقد
عرض آراء كثير من الباحثين قدماء ومعاصرين حول نشأة التشيع، وتطوره، وذكر أيضا أن
بعضهم يفرقون بين التشيع السياسي والتشيع الروحي (المذهبي).
وراجع أيضا: إسلام بلا مذاهب / الدكتور مصطفى الشكعة / ص 153.
وأيضا: النظريات السياسية الاسلامية / الدكتور ضياء الدين الريس / ص 69.
13
الجزء. فمنهم من يفترض أن عبد الله بن سبأ (1) ونشاطه السياسي
المزعوم كان هو الأساس لقيام ذلك التكتل الشيعي. ومنهم من يرد
ظاهرة التشيع إلى عهد خلافة الإمام علي (عليه السلام)، وما هيأه
ذلك العهد من مقام سياسي واجتماعي على مسرح الاحداث. ومنهم
من يزعم أن ظهور الشيعة يكمن في أحداث متأخرة عن ذلك في
التسلسل التاريخي للمجتمع الاسلامي (2).
والذي دعا - فيما أظن - كثيرا من هؤلاء الباحثين إلى هذا
(1) راجع: حركات الشيعة المتطرفين وأثرهم في الحياة الاجتماعية للدكتور محمد جابر
عبد العال: ص 19، فقد نسب هذا القول إلى بعض المؤرخين المسلمين. ولكنه أورد أن
برناردلويس وهو مستشرق معروف قد رفض ذلك.
ونقل عن فلهاوزن وفريد لندر وهما من كبار الباحثين قولهما: " إن ابن سبأ هذا هو من
اختلاف المتأخرين... ".
وقد ذكر الدكتور طه حسين في الفتنة الكبرى " 2 / 327: " إن ابن سبأ هذا هو من اختلاف المتأخرين... ".
وقد ذكر الدكتور طه حسين في الفتنة الكبرى: 2 / 327: " أن خصوم الشيعة بالغوا
في أمر ابن سبأ هذا ليشنعوا على علي وشيعته... " وقال: " نحن لا نجد لابن سبأ ذكرا في
المصادر المهمة... فلم يذكر في أنساب الأشراف للبلاذري، وقد ذكره الطبري في تأريخه
عن سيف بن عمر التميمي... ".
(وسيف هذا قال عنه ابن حباس: يروي الموضوعات، وقالوا انه يضع الحديث، وقال
الحاكم عنه انه اتهم بالزندقة وهو في الروايد ساقط). راجع تهذيب التهذيب لابن حجر:
4 / 260، وراجع حول أسطورة ابن سبأ للعلامة مرتضى العسكري في كتابه: عبد الله بن
سبأ.
(2) راجع الصلة بين التصوف والتشيع / السابق.
راجع أيضا تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة للدكتور عبد الله فياض.
وكذلك إسلام بلا مذاهب للدكتور مصطفى الشكعة: ص 152، وما بعدها.
وراجع: النظريات السياسية الاسلامية للدكتور ضياء الدين الريس: ص 72 وما بعدها.
14
الافتراض والاعتقاد، بأن " التشيع " ظاهرة طارئة في المجتمع
الاسلامي، هو أن الشيعة لم يكونوا يمثلون في صدر الاسلام إلا جزءا
ضئيلا من مجموع الأمة الاسلامية.
فق أوحت هذه الحقيقة شعورا بأن اللاتشيع كان هو القاعدة
في المجمتع الاسلامي، وأن التشيع هو الاستثناء والظاهرة الطارئة التي
يجب اكتشاف أسبابها من خلال تطورات المعارضة للوضع السائد.
ولكن اتخاذ الكثرة العددية والضالة النسبية أساسا لتمييز
القاعدة والاستثناء أو الأصل والانشقاق، ليس شيئا منطقيا، فمن
الخطأ إعطاء الاسلام اللاشيعي صفة الأصالة على أساس الكثرة
العددية، واعطاء الاسلام الشيعي صفة الظاهرة الطارئة ومفهوم
الانشقاق، على أساس القلة العددية، فإن هذا لا يتفق مع طبيعة
الانقسامات العقائدية، إذ كثيرا ما نلاحظ انقساما عقائديا في إطار
رسالة واحدة، يقوم على أساس الاختلاف في تجديد بعض معالم
تلك الرسالة، وقد لا يكون القسمان العقائديان متكافئين من الناحية
العددية ولكنهما في أصلهما معبران بدرجة واحدة عن الرسالة
المختلف بشأنها، ولا يجوز بحال من الأحوال أن نبني تصوراتنا عن الانقسام العقائدي داخل إطار الرسالة الاسلامية إلى شيعة وغيرهم،
على الناحية العددية (1)، كما لا يجوز أيضا أن نقرن ولادة الأطروحة
(1) نعم ليس متسقا مع المنطق، وليس متسقا مع منطق القرآن الكريم أيضا، فالقرآن نجده
غالبا - إن لم يكن دائما - يذم الكثرة في موارد كثيرة جدا، كما نجده يمدح القلة في موارد
مثلها، فقد جاء مثلا قوله تعالى: (... ولكن أكثرهم لا يشكرون) النمل / 73، وجاء قوله
تعالى: (وقليل من عبادي الشكور) سبأ / 13، وجاء قوله تعالى: (... وإن كثيرا من
الناس لفاسقون) المائدة / 49، وجاء قوله تعالى: (أولئك المقربون * في جنات
النعيم * ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين) الواقعة / 11 - 14.
هذا من وجه، ومن وجه آخر نجد القرآن الكريم ينبه في موارد كثيرة إلى إن الذين
يتبعون الحق ويتبعون الرسل، وينقادون للتعاليم الإلهية قليلون دائما بالقياس إلى الكثرة من
المعاندين للحق، قال تعالى: (... وأكثرهم للحق كارهون) المؤمنون / 70، وقال تعالى:
(وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) يوسف / 103، وفي كل ذلك إشارة إلى بطلان
اعتماد معيار الكثرة لتقييم صحة الاتجاه وصحة الرأي في مثل هذه الأمور.
وراجع: المعجم المفهرس الألفاظ القرآن / محمد فؤاد عبد الباقي / ص 597
وما بعدها.
15
الشيعة، في إطار الرسالة الاسلامية، بولادة كلمة " الشيعة " أو
" التشيع " كمصطلح واسم خاص لفرقة محددة من المسلمين، لان
ولادة الأسماء والمصطلحات شئ ونشوء المحتوى وواقع الاتجاه
والأطروحة شئ آخر، فإذا كنا لا نجد كلمة " الشيعة " (5) في اللغة
السائدة في حياء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أو بعد وفاته، فلا
يعني هذا أن الأطروحة والاتجاه الشيعي لم يكن موجودا.
(1) الظاهر أن الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) يذكر هذا من باب التنزل والتسامح، وإلا فإن
هناك نصوصا نبوية تصرح بلفظ الشيعة مقرونة بعلي، جاء في مختصر تاريخ ابن عساكر لابن
منظور / ج 17 / ص 384: عن علي (عليه السلام) قال: " قال لي رسول الله (صلى الله
عليه وآله): (أنت وشيعتك في الجنة ". وفي ج 18 / ص 14 منه رواية أخرى عن جابر.
وراجع:: النهاية / لابن الأثير / مادة قمح: ج 4 / ص 106، " ستقدم أنت وشيعتك راضين
مرضين... " الخطاب لعلي (عليه السلام).
16
فبهذه الروح يجب أن نعالج قضية " التشيع " و " الشيعة "، ونجيب
عن السؤالين الا تبين:
كيف ولد التشيع؟ وكيف وجدت الشيعة؟
17
الفصل الأول
نشأة التشيع
المبحث الأول
* الموقف السلبي: إهمال أمر الخلافة
المبحث الثاني * الايجابية ممثلة بنظام الشورى
المبحث الثالث
* الايجابية ممثلة بالاختيار والتعيين
19
تمهيد
أما فيما يتعلق بالسؤال الأول: " كيف ولد التشيع؟ " فتحن
نستطيع أن نعتبر التشيع نتيجة طبيعية للاسلام، وممثلا لأطروحة كان
من المفروض للدعوة الاسلامية أن تتوصل إليها حفاظا على نموها
السليم.
ويمكننا أن نستنتج هذه الأطروحة استنتاجا منطقيا من الدعوة
التي كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يتزعم قيادتها بحكم
طبيعة تكوينها، ونوع الظروف التي عاشتها، فإن النبي (صلى الله عليه
وآله)، كان يباشر قيادة دعوة انقلابية، ويمارس عملية تغيير شامل
للمجتمع وأعرافه وأنظمته ومفاهيمه، ولم يكن الطريق قصيرا أمام
عملية التغيير هذه، بل كان طريقا طويلا وممتدا بامتداد الفواصل
يمارسها النبي أن تبدأ بإنسان الجاهلية فتنشئه إنشاء جديدا، وتجعل
21
منه الانسان الاسلامي، الذي يحمل الدور الجديد إلى العالم، وتجتث
منه كل جذور الجاهلية ورواسبها (6).
وقد خطا القائد الأعظم (صلى الله عليه وآله) بعملية التغيير
خطوات مدهشة، في برهة قصيرة، وكان على العملية التغييرية أن
تواصل طريقها الطويل حتى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله).
وكان النبي يدرك منذ فترة قبل وفاته، أن أجله قد دنا، وأعلن ذلك
بوضوح في " حجة الوداع " (7)، ولم يفاجئه الموت مفاجأة. وهذا يعني
أنه كان يملك فرصد كافية للتفكير في مستقل الدعوة بعده، حتى إذا
للرسالة عن طريق الوحي (8). وفي هذا الضوء يمكننا أن الإلهية المباشرة
للرسالة عن طريق الوحي (8). وفي هذا الضوء يمكننا أن نلاحظ أن
النبي (صلى الله عليه وآله) كان أمامه ثلاثة طرق بالامكان انتهاجها
تجاه مستقبل الدعوة. أولهما: الطريق السلبي، وثانيهما: الطريق
الايجابي ممثلا بالشورى وثالثهما: التعيين [وهنا ثلاثة مباحث].
(6) جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من
الظلمات إلى النور) الحديد / 9.
(7) جاء ذلك عنه صلوات الله وسلامه عليه في خطبة حجة الوداع إذ قال: " ألا وإني أوشك أن
ادعى فأجيب... وفي رواية كأني قد دعيت فأجبت، واني تركت فيكم الثقلين... " صحيح
مسلم / ج 4 / ص 1874، وعن عبد الله بن مسعود قال: " كنا مع النبي (صلى الله عليه
وآله) ليلة فتنفس، فقلت: ما شأنك يا رسول الله؟ قال: نعيت إلى نفسي... " مختصر تاريخ
ابن عساكر / ج 18 / ص 32.
(8) بمعنى أننا لو افترضنا أن النبي حريص على دعوته المباركة - كما هو شأنه - وعلى أن تصل
هذه الدعوة إلى مداها المقدار لها، وقد كان متطلعا إلى أن تصل إلى العالم أجمع، فإن هذا
بحد ذاته يقتضيه أن يحسب حساب المستقبل.
22
المبحث الأول
الموقف السلبي: إهمال أمر الخلافة (*).
وذلك بأن يقف من مستقبل الدعوة موقفا سلبيا، ويكتفي
بممارسة دوره في قيادة الدعوة وتوجيهها فترة حياته، ويترك مستقبلها
للظروف والصدف.
وهذه السلبية في الموقف لا يمكن افتراضها في النبي (صلى
الله عليه وآله)، لأنها إنما تنشأ من أحد أمرين كلاهما لا ينطبقان عليه:
الامر الأول:
الاعتقاد بأن هذه السلبية والاهمال لا تؤثر على مستقبل
الدعوة، وإن الأمة التي سوف يخلف الدعوة فيها قادرة على التصرف
* - عناوين المباحث الثلاثة للفصلين الأول والثاني مستوحاة من كلام السيد الشهيد الصدر وهي
ليست في الأصل.
23
بالشكل الذي يحمي الدعوة، ويضمن عدم الانحراف.
وهذا الاعتقاد لا مبرر له من الواقع إطلاقا، بل إن طبيعة الأشياء
كانت تدل على خلافه، لان الدعوة - بحكم كونها عملا تغيير انقلابيا
في بدايته، يستهدف بناء أمة واستئصال كل جذور الجاهلية منها -
تتعرض لأكبر الاخطار إذا خلت الساحة من قائدها، وتركها دون أي
تخطيط، فهناك:
أولا: الاخطار التي تنبع عن طبيعة مواجهة الفراغ دون أي
تخطيط مسبق، وعن الضرورة الآنية لاتخاذ موقف مرتجل في ظل
الصدمة العظيمة بفقد النبي، فإن الرسول (صلى الله عليه وآله) إذا ترك
الساحة دون تخطيط لمصير الدعوة فسوف تواجه الأمة، ولأول مرة،
مسؤولية التصرف بدون قائها تجاه أخطر مشاكل الدعوة، وهي
لا تمتلك أي مفهوم سابق بهذا الصدد، وسوف يتطلب منها الموقف
تصرفا سريعا آنيا على رغم خطورة المشكلة، لان الفراغ لا يمكن أن
يستمر (9)، وسوف يكون هذا التصرف السريع في لحظة الصدمة التي
تمنى بها الأمة، وهي تشعر بفقدها لقائدها الكبير، هذه الصدمة التي
تزعزع بطبيعتها سير التفكير، وتبعث على الاضطراب حتى أنها جعلت
(9) أصبح معلوما أن شغور كرسي الرئاسة في الدولة يستتبع محاذير وأخطارا لا حصر لها،
بالأخص إذا لم تكن ثمة ضوابط دستورية محددة واضحة لملئه بشكل عاجل. راجع
النظريات السياسية الاسلامية / الدكتور الريس / ص 134.
24
صحابيا معروفا يعلن - بفعل الصدمة - أن النبي لم يمت ولن يموت (10).
نعم سوف يكون مثل هذا التصرف محفوفا بالخطر غير محمود العواقب.
ثانيا: وهناك الاخطار التي تنجم عن عدم النضج الرسالي
بدرجة تضمن للنبي، سلفا، موضوعية التصرف الذي سوف، يقع،
وانسجامه مع الإطار الرسالي للدعوة، وتغلبه على التناقضات الكامنة
التي كانت تلا تزال تعيش في زوايا نفوس المسلمين على أساس
الانقسام إلى مهاجرين وأنصار، أو قريش وسائر العرب، أو مكة
والمدينة (11).
ثالثا: هناك الاخطار التي تنشأ لوجود القطاع المتستر بالاسلام،
والذي كان يكيد له في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) باستمرار، وهو القطاع
الذي كان يسميه القرآن " بالمنافقين " (12). وإذا أضفنا إليهم عددا
(10) راجع الملل والنحل / الشهرستاني / ج 1 / ص 15 فقد جاء فيه: قال عمر بن الخطاب:
" من قال إن محمدا مات قتلته بسيفي هذا، وإنما رفع إلى السماء... " وراجع تاريخ
الطبري / محمد بن جرير الطبري / ج 2 / ص 233... قال: " إن محمدا لم يمت وانه
خارج إلى من أرجف بموته وقاطع أيديهم وضارب أعناقهم... ".
(11) هناك أكثر من شاهد على هذه الحالة، فقد روى الشيخان والترمذي في كتاب التفسير عن
جابر بن عبد الله قال: " كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال
الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجرين، فسمع ذلك رسول الله (صلى الله عليه
وآله) فقال: ما يدل دعوى الجاهلية... وسمع ابن سلول فقال: فعلوها، والله لئن رجعنا إلى
المدينة ليخرجن الأعز منا الأذل " التاج الجامع للأصول / الشيخ ناصف / ج 4 / ص 263.
(12) حاول قطاع المنافقين في حياة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) أن يقوم بأدوار خطيرة
جدا في الكيد للاسلام وللرسول وللمسلمين. لا حظ مثلا ما نقلناه في الهامش السابق من
قول ابن سلول - رأس المنافقين - ولا حظ ما أثاروه وروجوه مثلا في حادثة الإفك، وفي
إشاعة الأراجيف كما حصل في معركة أحد، وفي معركة الأحزاب. وقد انزل الله تعالى في
القرآن سورة المنافقين سلط فيها الأضواء على هذا القطاع الخبيث، وعرف الرسول
بنواياهم وما يخبئون.
راجع مثلا تفسير الفخر الرازي / ج 8 / ص 157 ط 1 / الخيرية 1308 ه مصر، وراجع
الكشاف / الزمخشري / 4: ص 811.
25
كبيرا ممن أسلم بعد الفتح، استسلاما للامر الواقع لا انفتاحا على
الحقيقة، نستطيع حينئذ أن نقدر الخطر الذي يمكن لهذه العناصر أن
تولده وهي تجد فجأة فرصة لنشاط واسع في فراغ كبير، مع خلو
الساحة من رعاية القائد (13).
فلم تكن إذن خطورة الموقف بعد وفاة النبي (صلى الله عليه
وآله) شيئا يمكن أن يخفى على أي قائد مارس العمل العقائدي
فضلا عن خاتم الأنبياء (14). وإذا كان أبو بكر لم يشأ أن يترك الساحة
دون أن يتدخل تدخلا ايجابيا في ضمان مستقبل الحكم بحجة الاحتياط
(13) لا حظ توقع حدوث ظاهرة خروج أعداد كبيرة من الدين بالنسبة لمن أسلم بعد الفتح، حديث
جابر بن عبد الله الأنصاري قال: " سمعت رسول الله يقول: دخل الناس أفواجا وسيخرجون
أفواجا... " ولا حظ أيضا حركة الارتداد التي حصلت بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) مع
تحذيراته الكثيرة من تلك الحالة. الكشاف / ج 4 / ص 811، وراجع تاريخ الطبري / ج 2
ص 245. وراجع حديث الحوض المشهور في قوله (صلى الله عليه وآله): " أنا فرطكم على
الحوض فيؤتى برجال أعرفهم فيمنعون مني فأقول أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا
بعدك فأقول سحقا لمن بدل بعدي " راجع صحيح البخاري / ج 8 / ص 86 كتاب الفتن.
(14) المصدر السابق.
26
للامر (15). وإذا كان الناس قد هرعوا إلى عمر حين ضرب قاتلين: " يا أمير المؤمنين لو عهدت عهدا " (16)، وكل ذلك كان خوفا من الفراغ
الذي سوف يخلفه الخليفة، بالرغم من التركز السياسي والاجتماعي
الذي كانت الدعوة قد بلغته بعد عقد من وفاة الرسول (صلى الله عليه
وآله)، وإذا كان عمر قد أوصى إلى سقه (17) تجاوبا مع شعور الآخرين
بالخطر، وإذا كان عمر يدرك بعمق خطورة الموقف في يوم السقيفة،
وما كان بالامكان أن تؤدي إليه خلافة أبي بكر بشكلها المرتجل من
مضاعفات، إذ يقول: " إن بيعة أبي بكر بشكلها المرتجل من
شرها... " (18)، وإذا كان أبو بكر نفسه يعتذر عن تسرعه إلى قبول
الحكم، وتحمل المسؤوليات الكبيرة، بأنه شعر بخطورة الموقف،
وضرورة الاقدام السريع على حل ما، إذ يقول - وقد عوتب على قبول
السلطة -: " إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبض، والناس حديثو
عهده بالجاهلية، فخشيت أن يفتتنوا، وأن أصحابي حملونيها " (19) إذا
(15) راجع قصة استخلاف أبي بكر لعمر بن الخطاب، وقوله: " إنكم إن أمرتم في حياة مني كان
أجدر الا تختلفوا بعدي... " مختصر تاريخ ابن عساكر / ج 18 / ص 308 / 309، وراجع
تاريخ الطبري / ج 2 / ص 245، ص 280.
(16) راجع تاريخ الطبري / ج 2 / ص 580 (الشهيد)، مختصر تاريخ ابن عساكر / لابن منظور
ج 18 / ص 312.
(17) تاريخ الطبري / ج 2 / ص 581 (الشهيد).
(18) تاريخ الطبري / ج 2 / ص 205 تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، السابق ج 2 / ص 581.
(19) شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد / تحقيق أبو الفضل إبراهيم / ج 2 ص 42 (الشهيد)،
وراجع تاريخ الطبري / ج 2 ص 353. قال أبو بكر: " وودت لو لم أقبلها... ".
27
كان كل ذلك صحيحا (20)، فمن البديهي إذن أن يكون رائد الدعوة ونبيها
أكثر شعورا بخطر السلبية (21)، وأكبر ادراكا، وأعمق فهما لطبيعة الموقف
ومتطلبات العمل التغييري الذي يمارسه في أمة حديثة عهد بالجاهلية
على حد تعبير أبي بكر.
الامر الثاني - النظرة المصلحة:
إن الامر الثاني الذي يمكن أن يفسر سلبية القائد تجاه مستقبل
الدعوة، ومصيرها بعد وفاته، أنه على رغم شعوره بخطر هذا
الموقف، لا يحاول تحصين الدعوة ضد ذلك الخطر، لأنه ينظر إلى
الدعوة نظرة مصلحية، فلا يهمه إلا أن يحافظ عليها ما دام حيا
(20) راجع: الفاروق عمر للدكتور محمد حسين هيكل / ج 2 / ص 313 / 314: " كان عمر يود
لو يتم التشاور، ويختاروا خليفة، قبل أن يقبض ليموت مطمئنا إلى مصير الاسلام من
بعده... ".
(21) إن حرص النبي محمد (صلى الله عليه وآله) على دعوته المباركة وعلى وحدة الأمة ومصير
الاسلام، لابد أن يكون بالضرورة أكثر من حرص أصحابه وأشد، قال تعالى: (... عزيز
عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) التوبة / 128. والاهم فإن توعيته
للأمة وتربيته لأصحابه في ضرورة تجنب الاختلاف، وممارساته العملية بهذا الشأن لا
تحتاج إلى دليل، فضلا عن كون القرآن قد طفح بعشرات الآيات التي تدعو إلى نبذ الخلاف،
والتنفير من أسبابه ودواعيه، فكيف يمكن تصور أن يترك النبي الرحيم أهم سبب يدعو إلى
التنازع وهو الرئاسة دون أن يضع ما من شأنه أن يعطله ويغلق الباب دون تفاعلاته، مع أن
هذا الادراك كما يقولون دفع الخليفتين الأول والثاني إلى الاستخلاف كما صرحوا به هم
أنفسهم / تاريخ الطبري / ج 2 / ص 580.
(22) المصدر السابق.
28
ليستفيد منها، ويستمتع بمكاسبها، ولا يعنى بحماية مستقبلها بعد وفاته.
وهذا التفسير لا يمكن أن يصدق على النبي محمدا (صلى الله
عليه وآله)، حتى إذا لم نلاحظه بوصفه نبيا ومرتبطا بالله سبحانه
وتعالى في كل ما يرتبط بالرسالة، وافترضناه قائدا رساليا كقادة
الرسالات الأخرى، لان تاريخ القادة الرساليين لا يملك نظيرا للقائد
الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)، في إخلاصه لدعوته، وتفانيه
فيها، وتضحيته من أجلها إلى آخر لحظة من حياته. وكل تاريخه يبرهن
على ذلك، فقد كان (صلى الله عليه وآله) على فراش الموت وقد ثقل
مرضه، وهو يحمل هم معركة كان قد خطط لها، وجهز جيش أسامة
لخوضها، فكان يقول: " جهزوا جيش أسامة، أنفذوا جيش أسامة،
أرسلوا بعث أسامة "، يكرر ذلك، ويغمى عليه بين الحين والحين (23)،
فإذا كان اهتمام الرسول (صلى الله عليه وآله) بقضية من قضايا الدعوة
العسكرية يبلغ إلى هذه الدرجة، وهو يجود بنفسه على فراش الموت، ولا يمنعه علمه بأنه سيموت قبل أن يقطف ثمار تلك المعركة، عن
تبنيه لها، وإن تكون همه الشاغل وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، فكيف
يمكن أن نتصور أن النبي لا يعيش هموم مستقبل الدعوة، ولا يخطط
لسلامتها، بعد وفاته (صلوات الله عليه) من الاخطار المرتقبة؟!
وأخيرا فإن في سلوك الرسول (صلى الله عليه وآله) في مرضه
(23) راجع: تاريخ الكامل / لابن الأثير / ج 2 / ص 318 (الشهيد)، وراجع أيضا الطبقات
الكبرى لابن سعد / ج 2 / ص 249.
29
الأخير رقما واحدا يكفي لنفي الطريق الأول، وللتدليل على أن القائد
الأعظم، نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) كان أبعد ما يكون من فرضية
الموقف السلبي تجاه مستقبل الدعوة، لعدم الشعور بالخطر، أو لعدم
الاهتمام بشأنه، وهذا الرقم أجمعت صحاح المسلمين جميعا - سنة
وشيعة - على نقله، وهو أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لما حضرته
الوفاة، وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النبي (صلى الله
عليه وآله): " ائتوني بالكتف والدواة أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده
أبدا " (24) فإن هذه المحاولة من القائد الكريم، المتفق على نقلها
وصحتها تدل بكل وضوح على أنه كان يفكر في أخطار المستقبل،
ويدرك بعمق ضرورة التخطيط لتحصين الأمة من الانحراف، وحماية
الدعوة من التميع والانهيار، فليس إذن من الممكن افتراض الموقف
السلبي (25) من النبي (صلى الله عليه وآله) بحال من لأحوال.
(24) راجع: صحيح البخاري / ج 1 / ص 37 كتاب العلم ج 8 / ص 61 كتاب الاعتصام (الشهيد)
وراجع: صحيح مسلم / ج 5 / ص 76 باب الوصية / مطبعة محمد علي صبيح القاهرة: (الشهيد) مسند
الإمام أحمد / ج 1 / ص 355، وراجع الطبقات الكبرى / لابن سعد / ج 2 / ص 242 / 244 (الشهيد).
(25) إن كل مسلم يؤمن بعظمة شخصية الرسول القائد (صلى الله عليه وآله)، فضلا عن إيمانه بأنه
نبي رسول، يقتضيه ذلك الايمان استبعاد مثل هذه الفرضية مطلقا، بل يلزم القول بامتناعها
في حقه عليه الصلاة والسلام، وذلك لسببين على الأقل: أولهما: إنه خلاف المعهود من سيرته
صلوات الله وسلامه عليه بإجماع الملة، تلك السيرة المشرقة الزاخرة بالعمل والجهاد
المتواصل بلا انقطاع من أجل التغيير والبناء وانقاذ الأمة. وثانيهما: إنه مخالف لما تواتر عنه
صلوات الله وسلامه عليه، ولما ربي الأمة عليه، من الاهتمام بالأمور حتى قال: " من أصبح
ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم " أصول الكافي / ج 2 / ص 131. ولذا يكون اهماله
الاهتمام بمستقبل الدعوة، ومستقبل الأمة يعني الاخلال الصريح بمصداقيته وعهوده.
30
المبحث الثاني
الايجابية ممثلة بنظام الشورى
إن الطريق الثاني المفترض، هو أن يخطط الرسول القائد (صلى
الله عليه وآله) لمستقبل الدعوة بعد وفاته، ويتخذ موقفا إيجابيا،
فيجعل القيمومة على الدعوة، وقيادة التجربة للأمة ممثلة - على أساس
نظام الشورى - في جيلها العقائدي الأول الذي يضم مجموع
المهاجرين والأنصار، فهذا الجيل الممثل للأمة هو الذي سيكون
قاعدة للحكم، ومحورا لقيادة الدعوة في خط نموها.
بالنسبة لهذا الافتراض، يلاحظ هنا أن طبيعة الأشياء، والوضع
العام الثابت عن الرسول الأكرم والدعوة والدعاة، يرفض هذه
الفرضية، وينفي أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله) قد انتهج هذا
الطريق، واتجه إلى ربط قيادة الدعوة بعده مباشرة بالأمة ممثلة في
جيلها الطليعي من المهاجرين والأنصار على أساس نظام الشورى.
31
وفيما: يأتي بعض النقاط التي توضح ذلك:
النقطة الأولى:
لو كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد اتخذ من مستقبل الدعوة
بعده موقفا إيجابيا يستهدف وضع نظام الشورى موضع التطبيق، بعد
وفاته مباشرة، وإسناد زعامة الدعوة إلى القيادة التي تنبثق عن هذا
النظام، لكان من أبده الأشياء التي يتطلبها هذا الموقف الايجابي، أن
يقوم الرسول القائد بعملية توعية للأمة والدعوة على نظام الشورى.
وحدوده وتفاصيله، وإعطائه طابعا دينيا مقدسا، وإعداد المجتمع
الاسلامي إعداد فكريا وروحيا لتقبل هذا النظام، وهو مجتمع نشأ من
مجموعة من العشائر، لم تكن قد عاشت - قبل الاسلام - وضعا سياسيا
على أساس الشورى، وإنما كانت تعيش، في الغالب، وضع زعامات
قبلية وعشائرية تتحكم فيها القوة والثروة وعامل الوراثة إلى حد
كبير (26).
ونستطيع بسهولة أن ندرك أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم
يمارس عملية التوعية على نظام الشورى، وتفاصيله التشريعية،
ومفاهيمه الفكرية، لان هذه العملية لو كانت قد أنجزت، لكان من
الطبيعي أن تنعكس وتتجسد في الأحاديث المأثورة عن النبي (صلى
الله عليه وآله)، وفي ذهنية الأمة، أو على الأقل في ذهنية الجيل
(26) راجع: النظم الاسلامية / الدكتور عبد العزيز الدوري / ص 7، مطبعة نجيب - بغداد 1950 م
أيضا النظم الاسلامية / الدكتور صبحي الصالح / ص 50 دار العلم للملايين 1965.
32
الطليعي منها، الذي يضم المهاجرين والأنصار 7 بوصفه هو المكلف
بتطبيق نظام الشورى 7 مع أننا لا نجد في الأحاديث عن النبي (صلى
الله عليه وآله) أي صورة تشريعية محددة لنظام الشورى (27).
وأما ذهنية الأمة أو ذهنية الجيل الطليعي منها فلا نجد فيها أي
ملامح أو انعكاسات محددة لتوعية من ذلك القبيل. فإن هذا الجيل
كان يحتوي على اتجاهين، أحدهما الاتجاه الذي يتزعمه أهل البيت،
والاخر الاتجاه الذي تمثله السقيفة والخلافة التي قامت فعلا بعد وفاة
النبي (صلى الله عليه وآله).
فأما الاتجاه الأول: فمن الواضح أنه كان يؤمن بالوصاية والإمامة،
ويؤكد على القرابة، ولم ينعكس منه الايمان بفكرة الشورى (28).
(27) يعترف الدكتور ضياء الدين الريس في كتابه " النظريات السياسية الاسلامية " بأن الخلافة
بالصورة التي انتهى إليها نظام الشورى لم يكن أساسها الأحاديث، وإنما إجماع الصحابة
على حد زعمه. ص 106 في الهامش ردا على آرنولد. ويظهر ذلك بصورة أوضح في معرض
رده ومناقشته للدكتور على عبد الرزاق في كتابه " الاسلام وأصول الحكم " إذ نفى هذا الأخير
وجود أي نصوص تشريعية حديثية يستفاد منها نظام الحكم والسياسة وقد رد عليه الدكتور
الريس، محتجا بما جرت عليه سيرة الخلفاء الراشدين وإن فعلهم ذاك هو الاخر له قيمة
تشريعية في الاسلام. راجع ص 174 / 175.
وراجع مناقشة وافية شافية كافية للنصوص التي قيل إنها في الشورى / أساس الحكومة
الاسلامية للعلامة السيد كاظم الحائري / ص 81 وما بعدها - مطبعة النيل - بيروت / 1399.
(28) راجع انكار الإمام علي " على " فكرة الشورى، واحتجاجه على المؤتمرين في السقيفة عندما
احتج أبو بكر بالقرابة من رسول الله (صلى الله عليه وآله) الخطبة الشقشقية وقوله عليه
السلام: فيالله وللشورى... " نهجه البلاغة / شرح الإمام محمد عبده / ج 1 / ص 30 / 33.
33
وأما الاتجاه الثاني: فكل الأرقام والشواهد في حياته وتطبيقه
العملي تدل بصورة لا تقبل الشك على أنه لم يكن يؤمن بالشورى،
ولم يبن ممارساته الفعلية على أساسها، والشئ نفسه نجده في سائر
قطاعات ذلك الجيل الذي عاصر وفاة الرسول الأعظم
(صلى الله عليه
وآله) من المسلمين (29).
وتلاحظ بهذا الصدد للتأكد من ذلك، أن أبا بكر - حينما اشتدت
به العلة - عهد إلى عمر بن الخطاب، فأمر عثمان أن يكتب عهده،
وكبت " بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد به أبو بكر خليفة رسول
الله، إلى المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم فإني أحمد الله إليكم.
أما بعد: فإني قد استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فاسمعوا
وأطيعوا " (30) ودخل عبد الرحمن بن عوف فقال: كيف أصبحت
يا خليفة رسول الله؟ فقال: أصبحت موليا، وقد زدتموني علي ما بي،
إذ رأيتموني استعملت رجلا منكم، فكلكم قد أصبح ورما أنفه، وكل
يطلبها لنفسه... " (31).
(29) لاحظ ما جرى يوم السقيفة من نقاش وحجاج، إذ لم يرد للشورى ذكر ولا اسم بل الذي
جرى على خلافها، ومنها إطروحة منا أمير ومنكم أمير، وكيف رفض أبو بكر ومن بعده
عمر بن الخطاب هذه الفكر، ثم كيف بادر عمر بن الخطاب إلى حسم الموقف بأن أخذ يد
أبي بكر، وقال: " ابسط يدك لأبايعك... ".
راجع نصوص السقيفة في تاريخ الطبري / ج 2 / ص 234 وما بعدها، وفي ص 203
طبعة دار التراث، وراجع شرح النهج / لابن أبي الحديد / ج 6 / ص 6 - 9. تحقيق أبو الفضل إبراهيم.
(30) راجع: مختصر تاريخ دمشق / ابن منظور / ج 18 / ص 310، تاريخ الطبري / ج 2 / ص 352.
(31) تاريخ اليعقوبي / ج 2 / ص 126، طبعة النجف الحيدرية، (الشهيد) وراجع مختصر تاريخ
ابن عساكر / ج 18 / ص 310، وتاريخ الطبري / ج 4 / ص 52 / ط 1 / الحسينية المصرية.
34
وواضح من هذا الاستخلاف، وهذا الاستنكار للمعارضة، أن
الخليفة لم يكن يفكر بعقلية نظام الشورى، وأنه كان يرى من حقه
تعيين الخليفة، وأن هذا التعيين يفرض على المسلمين الطاعة، ولهذا
أمرهم بالسمع والطاعة (32)، فليس هو مجرد ترشيح أو تنبيه، بل هو
إلزام ونصب.
ونلاحظ أيضا أن عمر رأى هو الاخر. أيضا، أن من حقه فرض
الخليفة على المسلمين، ففرضه في نطاق ستة أشخاص، وأو كل أمر
التعيين إلى الستة أنفسهم دون أن يجعل لسائر المسلمين أي دور
حقيقي في الانتخاب (33)، وهذا يعني أيضا، أن عقلية نظام الشورى لم
تتمثل في طريقة الاستخلاف التي انتهجها عمر، كما لم تتمثل، من
(32) راجع مختصر تاريخ ابن عساكر / ج 18 / ص 312: عن قيس بن أبي حازم، قال: خرج
علينا عمر ومعه شديد مولى أبي بكر ومعه جريدة... فقال: أيها الناس اسمعوا قول خليفة
رسول الله، إني قد رضيت لكم عمر، فبايعوه، وفي رواية: اسمعوا وأطيعوا لمن في هذه
الصحيفة.
(33) قال عمر لصهيب: صل بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليا وعثمان والزبير وسعدا وعبد الرحمن
بن عوف وطلحة، إن قدم، وأحضر عبد الله بن عمر ولا شئ له من الامر وقم على رؤوسهم،
فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبي واحد فاشدخ رأسه، أو اضرب رأسه بالسيف، وإن
اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبي اثنان فاضرب رؤوسهما، فإن رضي ثلاثة رجلا منهم،
فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، واقتلوا
الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس... " راجع: تاريخ الطبري / ج 2 / ص 581،
الكامل في التاريخ / ابن أثير / ج 3 / ص 67 / طبعة دار صار، وهذا النص غني عن التعليق.
35
قبل، في الطريقة التي سلكها الخليفة الأول.
وقد قال عمر - حين طلب منه النساء الاستخلاف -: " لو أدركني
أحد رجلين فجعلت هذا الامر إليه لوثقت به: سالم مولى أبي حذيفة،
وأبي عبيدة بن الجراح، ولو كان سالم حيا ما جعلتها شوري... " (34).
وقد قال أبو بكر لعبد الرحمن بن عوف، وهو يناجيه على
فراش الموت: " وددت أني كنت سألت رسول الله (صلى الله عليه
وآله) لمن هذا الامر، فلا ينازعه أحد... " (35) وحينما تجمع الأنصار في
السقيفة لتأمير سعد بن عبادة، قال منهم قائل: " إن أبت مهاجرة قريش
فقالوا نحن المهاجرون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فقالت طائفة منهم
إذن نقول منا أمير ومنكم أمير، لن نرضى بدون هذا منهم أبدا... " (36).
وحينما خطب أبو بكر فيهم قال:
" كنا معاشر المسلمين المهاجرين أول الناس اسلاما، والناس لنا في
ذلك تبع، نحن عشيرة رسول الله وأوسط العرب أنسابا... " (37)
وحينما اقترح الأنصار أن تكون الخلافة دورية بين المهاجرين
والأنصار رد أبو بكر قائلا: " إن رسول الله لما بعث عظم على
(34) راجع طبقات ابن سعد / ج 3 / ص 343 - طبعة دار صادر - بيروت (الشهيد)، وراجع تاريخ
الطبري / ج 2 / ص 580. الدار العلمية، الروايد تختلف عن رواية ابن سعد المذكورة.
(35) تاريخ الطبري / ج / 2 ص 354 ط 3 - طبعة دار الكتب العلمية - بيروت / 1408 ه (الشهيد).
(36) المصدر السابق / ج 2 / ص 242.
(37) المصدر السابق / ج 2 / ص 235.
36
العرب أن يتركوا دين آبائهم فخالفوه وشاقوه وخص الله المهاجرين
الأولين من قومه بتصديقه.. فهم أول من عبد الله في الأرض، وهم
أولياؤه وعترته، وأحق الناس بالامر بعده، لا ينازعهم فيه الا
ظالم... " (38).
وقال الحباب بن المنذر، وهو يشجع الأنصار على التماسك:
" املكوا عليكم أيديكم إنما الناس في فيئكم وظلكم، فإن أبى هؤلاء
فمنا أمير ومنهم أمير... " (39) ورد عليه عمر قائلا: هيهات لا يجتمع
سيفان في غمد... من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه، ونحن
أولياؤه وعشيرته إلا مدل بباطل، أو متجانف لاثم، أو متورط في
هلكة " (40).
إن الطريقة التي مارسها الخليفة الأولى والخليفة الثاني
(38) المصدر السابق / ج 2 / ص 242: وقد رد الإمام علي عليه السلام مثل هذا الاحتجاج كما
في مختصر تاريخ ابن عساكر / ج 18 / ص 38 / 39، وحاصله: إذا كان السبق إلى الاسلام
والايمان هو الذي يرشح الانسان للخلافة مع ضرورة كونه أقرب إلى رسول الله (صلى الله
عليه وآله) وأن يكون من أوليائه وعترته، فإن عليا هو الأسبق إلى عبادة الله، والايمان
برسالة نبيه صلوات الله عليه، بل إن عبادة لم تكن مسبوقة بشرك - فهو لم يسجد لصنم
قط - على خلاف الجميع وأما القرب من رسول الله فهو من عترته وخاصته وهو بالنص
الصريح وليه وأخوه ونفسه - وأنه هو وحده الذي يودي عنه. راجع مسند الإمام أحمد
/ ج 4 / ص 281. إذن بمقتضى هذا المنطق يلزم أن يكون هو الأحق لا غيره.
(39) راجع تاريخ الطبري / ج / ص 241 وما بعدها - حوادث سنة (11) هجرية.
(40) المصدر السابق / ج 2 / ص 243. وراجع شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد / ج 6 / ص 6 - 9
(الشهيد)
37
للاستخلاف، وعدم استنكار عامة المسلمين لتلك الطريقة، والروح
التي سادت على منطق الجناحين المتنافسين من الجيل الطليعي، المهاجرين والأنصار يوم السقيفة، والاتجاه الواضح الذي بدا لدي
المهاجرين نحو تقرير مبدأ انحصار السلطة بهم، وعدم مشاركة الأنصار
في الحكم، والتأكيد على المبررات الوراثية التي تجعل من عشيرة
النبي أولى العرب بميراثه، واستعداد كثير من الأنصار لتقبل فكرة
أميرين، أحدهما من الأنصار والاخر من المهاجرين، واعلان أبى بكر
الذي فاز بالخلافة - في ذلك اليوم - عن أسفه لعدم السؤال من النبي
عن صاحب الأمر بعده... (41)، كل ذلك يوضح، بدرجة لا تقبل الشك،
أن هذا الجبل الطليعي من الأمة الاسلامية - بما فيه القطاع الذي تسلم
الحم، بعد وفاة النبي - لم يكن يفكر بذهنية الشورى، ولم يكن يملك
فكرة محددة عن هذا النظام، فكيف يمكن أن نتصور أن النبي (صلى
الله عليه وآله) قد مارس عملية توعية على نظام الشورى تشريعيا
وفكريا، وأعد جيل المهاجرين والأنصار لتسلم قيادة الدعوة بعده على أساس هذا النظام، ثم لا نجد لدى هذا الجيل تطبيقا واعيا لهذا النظام
أو مفهوما محددا عنه؟ (42) كما أننا لا يمكن أن نتصور - من ناحية
أخرى - أن الرسول القائد يضع هذا النظام، ويحدده تشريعيا ومفهوميا،
(41) تاريخ الطبري / ج 2 / ص 354.
38
ثم لا يقوم بتوعية المسلمين عليه وتثقيفهم به (43).
وهكذا يبرهن ما تقدم على أن النبي (صلى الله عليه وآله) لم
يكن طرح الشورى كنظام بديل على الأمة، إذ ليس من الممكن عادة
أن تطرح بالدرجة التي تتناسب مع أهميتها، ثم تختفي اختفاء كاملا
عن الجميع وعن كل الاتجاهات (44).
ومما يوضح هذه الحقيقة بدرجة أكبر أن نلاحظ.
أولا: إن نظام الشورى كان نظاما جديدا بطبيعته على تلك
البيئة التي لم تكن قد مارست، قيل النبوة، أي نظام مكتمل للحكم (45).
فكان لابد من توعية مكثفة ومركزة عليه كما أوضحنا ذلك.
(43) لان التوعية في مثل هذه الموارد قد جرت عليه سيرته الشريفة وسنته المباركة، ونجد ذلك
في الأمور التي هي أقل شأنا وأهمية من هذا الامر في مناسبات وموارد لا تحصى كثرة.
(44) اختفاء تفاصيل فكرة الشورى حتى على مستوى تحديد معالمها الأساسية كنظام للحكم
حقيقة قائمة إذ لم ينقل أن أحدا من المتنازعين سواء في مؤتمر السقيفة أو بعده قد تقدم
ولو بنص واحد يتعلق بها من قريب أو بعيد. راجع نصوص السقيفة مثلا في تاريخ
الطبري / ج 2 / ص 234 وما بعدها.
(45) قضية عدم وجود نظام للحكم في الجزيرة العربية - قبل البعثة النبوية وتأسيس دولة
الاسلام في المدينة - أمر متسالم عليه عند لمؤرخين لضرورة عدم وجود دولة أصلا من
جهة، ولخضوع العرب إلى أعرافهم وتقاليدهم القبلية، راجع محاضرات في تاريخ
العرب / الدكتور صالح أحمد العلي / ط 2 - بغداد، وراجع محاضرات في تاريخ العرب
الاسلام / الدكتور عبد اللطيف الطيباوي / ج 1 / ص 121 - دار الأندلس - بيروت / 1963،
وراجع تاريخ العرب قبل الاسلام / القسم السياسي / د. جواد علي - طبعة دار المجمع
العلمي العراقي، وراجع تاريخ الاسلام السياسي / الدكتور حسن إبراهيم حسن / ص 51.
39
ثانيا: إن الشورى، كفكرة مفهوم غائم، لا يكفي طرحه هكذا، لامكان وضعه موضع التنفيذ، ما لم تشرح تفاصيله
وموازينه ومقاييس التفضيل عند اختلاف الشورى، وهل تقوم هذه المقاييس على أساس
العدد والكم، أو على أساس الكيف والخبرة؟؟ إلى غير ذلك مما
يحدد للفكرة معالمها ويجعلها صالحة للتطبيق (46) فور وفاة النبي (صلى
الله عليه وآله)
ثالثا: إن الشورى تعبر في الحقيقة عن ممارسة للأمة - بشكل أو
آخر - للسلطة عن طريق التشاور وتقرير مصير الحكم، فهي مسؤولية
تتعلق بعدد كبير من الناس هم كل الذين تشملهم الشورى، وهذا يعني
أنها لو كانت حكما شرعيا يجب وضعه موضع التنفيذ عقيب وفاة
النبي (صلى الله عليه وآله) لكان لا بد من طرحه على أكبر عدد من
أولئك الناس لان موقفهم من الشورى ايجابي، وكل منهم يتحمل
قسطا من المسؤولية (47).
وكل هذه النقاط تبرهن على أن النبي (صلى الله عليه وآله) في
حالة تبنيه لنظام الشورى، كبديل له بعد وفاته، يتحتم عليه أن يطرح
(46) بلحاظ ضرورة الوضوح بدرجة كافية لحسم مسألة الرئاسة بعد شغور كرسيها تجنبا للمخاطر
المتوقعة في حالة عدم وجود معايير محددة في هذا المجال.
(47) أي كما هو الشأن في كل تكليف شرعي، إذ يقتضي البيان والتفضيل، وهذا ما كان عليه دأبه
صلوات الله وسلامه عليه، في كل التكاليف الشرعية، قال، تعالى: (... وأنزلنا إليك الذكر
لتبين للناس ما نزل إليهم...) النحل / 44، فلو كان، حكما شرعيا إذن، وواجبا يجب
ممارسته ممن عنده الأهلية، لكان يقتضي البيان.
40
فكرة الشورى على نطاق واسع، وبعمق، وباعداد نفسي عام، وملء
كل الثغرات، وابراز لكل التفاصيل التي تجعل الفكرة عملية، وطرح
للفكرة على هذا المستوى كما وكيفا وعمقا، لا يمكن أن يمارسه
الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، ثم تنطمس معالمه لدى جميع
المسلمين الذين عاصروه إلى حين وفاته صلوات الله عليه.
وقد يفترض أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان قد طرح فكرة
الشورى بالصورة اللازمة، وبالحجم الذي يتطلبه الموقف كما وكيفا، واستوعبها المسلمون، غير أن الدوافع السياسية استيقظت فجأة
وحجت الحقيقة وفرضت على الناس كتمان ما سمعوه من النبي فيما
يتصل بالشورى وأحكامها وتفاصيلها.
غير أن هذا الافتراض ليس عمليا، لان تلك الدوافع مهما قيل
عنها، فهي لا تشمل المسلمين الاعتياديين من الصحابة الذين لم
يساهموا في الاحداث السياسية عقب وفاة النبي (صلى الله عليه
وآله)، ولا في بناء هرم السقيفة، وكان موقفهم موقف المترسل،
وهؤلاء يمثلون في كل مجتمع جزءا كبيرا من الناحية العددية مهما
طغى الجانب السياسي عليه (48).
(48) أي كما تمت محاولة طمس مبدأ الولاية لعلي (عليه السلام) ومع ذلك فإن النصوص
المتعلقة بها لم تختف تماما ولا كليا، بل وصلت نصوص كثيرة بلغ بعضها حد الشهرة
والتواتر. راجع مختصر تاريخ ابن عساكر / ابن منظور / ج 17 / ص 356 وما بعدها وج 18
ص 1 - 50 فلو كان هناك بيانات ونصوص عن الشورى كنظام لاستعصت على الطمس.
41
فلو كانت الشورى مطروحة من قبل النبي (صلى الله عليه وآله)
بالحجم المطلوب لما اختص الاستماع إلى نصوصها بأصحاب تلك
الدوافع، بل لسمعها مختلف الناس، ولانعكست بصورة طبيعية عن
طريق الاعتياديين من الصحابة كما انعكست فعلا النصوص النبوية
على فضل الإمام (عليه السلام) ووصايته عن طريق الصحابة أنفسهم،
فكيف لم تحل الدوافع السياسية دون أن تصل إلينا مئات الأحاديث
- عن طريق الصحابة - عن النبي (صلى الله عليه وآله) في فضل علي
(عليه السلام) ووصايته ومرجعيته (49)، على الرغم من تعارض ذلك مع
الاتجاه السائد وقتئذ، ولم يصلنا شئ ملحوظ من ذلك فيما يتصل
بفكرة الشورى؟ (50) بل حتى أولئك الذين كانوا يمثلون الاتجاه السائد
كانوا في كثير من الأحيان يختلفون في الموقف السياسية، وتكون من
مصلحة هذا الفريق أو ذاك أن يرفع شعار الشورى ضد الفريق الاخر،
(49) راجع ما نقلناه في الدراسة " الملحق " وراجع مختصر تاريخ ابن عساكر / لابن
منظور / ج 17 / ص 354 / ص 1 - 50، وراجع حلية الأولياء / لأبي
نعيم / ج 1 / ص 66، وراجع الطبقات الكبرى لابن سعد / ج 2 / ص 338، وراجع ينابيع
المودة للقندوزي / ج 1 / ص 62 وما بعدها وراجع السنن الكبرى - النسائي / الخصائص
ج 5 / ص 128 وما بعدها.
(50) من الملاحظ أن الكتاب المسلمين الذين بحثوا في مسألة نظام الحكم، أو في مسألة الخلافة، ممن
نظام الشورى محتجين بالقرآن في بعض الموارد 7 لم يعثروا على نصوص نبوية تسعفهم في تأييد
دعواهم، ولذلك اضطروا إلى اعتماد سيرة الصحابة، ومع ذلك فإنهم لم يجدوا تفسيرا
منطقيا للوضع المتباين والمضطرب الذي كان عليه استخلاف الصحابة. راجع النظريات
السياسية الاسلامية / الدكتور الريس، وراجع السقيفة والخلافة لعبد الفتاح عبد المقصود.
42
ومع ذلك لم نعهد أن فريقا منهم استعمل هذا الشعار كحكم سمعه
من النبي (صلى الله عليه وآله)، فلاحظوا - على سبيل المثال - موقف
طلحة من تعيين أبي بكر لعمر، واستنكاره لذلك، وإعلانه السخط
على هذا التعيين (51)، فإنه لم يفكر - على رغم ذلك - أن يلعب ضد هذا
التعيين بورقة الشورى، ويشجب موقف أبي بكر، بأنه يخالف ما هو
المسموع من النبي (صلى الله عليه وآله) عن الشورى والانتخاب.
النقطة الثانية:
إن النبي لو كان قد قرر أن يجعل من الجيل الاسلامي الرائد،
الذي يضم المهاجرين والأنصار من صحابته قيما على الدعوة بعده،
ومسؤولا عن مواصلة عملية التغيير، فهذا يحتم على الرسول القائد
(صلى الله عليه وآله) أن يعبئ هذا الجيل تعبئة رسالية وفكرية
واسعة، يستطيع أن يمسك بالنظرية بعمق ويمارس التطبيق في ضوئها
بوعي، ويضع للمشاكل التي تواجهها الدعوة باستمرار حلولها النابعة
من الرسالة، خصوصا إذا لا حظنا أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان - وهو الذي بشر بسقوط كسرى وقيصر (52) - يعلم بأن الدعوة مقبلة على
فتوح عظيمة، وأن الأمة الاسلامية سوف تضم إليها في غد قريب
شعوبا جديدة ومساحة كبيرة * وتواجه مسؤولية توعية تلك الشعوب على
(51) راجع مختصر تاريخ ابن عساكر / ابن منظور / ج 18 / ص 230 الروايد عن الشعبي وكان
مع طلحة والزبير وسعيد وعبد الرحمن.
(52) راجع تاريخ الطبري / ج 2 / ص 92 / ط 1 - دار الكتب العلمية - بيروت / حديث النبي
عند حفر الخندق.
43
الاسلام، وتحصين الأمة من أخطار هذا الانفتاح، وتطبيق أحكام
الشريعة على الأرض المفتوحة وعلى أهل، وبالرغم من أن
الجيل الرائد من المسلمين كان أنظف الأجيال التي توارثت الدعوة
وأكثرها استعدادا للتضحية، بالرغم من كل ذلك، لا نجد فيه ملامح ذلك
الاعداد الخاص للقيمومة على الدعوة، والتثقيف الواسع العميق على
مفاهيمها، والأرقام التي تبرر هذا النفي كثيرة لا يمكن استيعابها في هذا
المجال. ويمكننا أن نلاحظ بهذا الصدد، أن مجموع ما نقله الصحابة من
نصوص عن النبي (صلى الله عليه وآله) في مجال التشريع لا يتجاوز
بضع مئات من الأحاديث (53)، بينما كان عدد الصحابة يناهز اثني عشر
ألفا على ما أحصته كتب التاريخ (54). وكان النبي (صلى الله عليه وآله)
يعيش مع آلاف من هؤلاء في بلد واحد ومسجد واحد، صباحا ومساء،
فهل يمكن أن نجد في هذه الأرقام ملامح الاعداد الخاص؟!
والمعروف عن الصحابة أنهم كانوا يتحاشون من ابتداء النبي
(صلى الله عليه وآله) بالسؤال حتى أن أحدهم كان ينتظر فرصة مجئ
(53) راجع سنن أبي داود / لاختصاصه بأحاديث الاحكام والموطأ / للامام مالك / مجموع
أحاديثه (1570) بعضها مراسيل.
(54) ما أحصاه ابن حجر في (الإصابة في تمييز الصحابة) في أربع مجلدات / بلغ عدد التراجم
(12267). راجع بحوث في تاريخ السنة المشرقة / الدكتور أكرم ضياء العمري / هامش
ص 71 / ط 3 مؤسسة الرسالة - بيروت / 1975، وراجع علوم الحديث ومصطلحه
الدكتور صبحي الصالح / ص 354، فقد نقل عن أبي زرعة ان رسول الله (صلى الله عليه
وآله) قبض عن (114000) مائة الف وأربعة عشر ألفا من الصحابة.
44
أعرابي من خارج المدينة يسأل ليسمع الجواب (55)، وكانوا يرون أن من
الترف الذي يجب الترفع عنه السؤال عن حكم قضايا لم تقع بعد. ومن
أجل ذلك قال عمر على المنبر... " (56) وقال: " لا يحل لاحد أن يسأل
عما لم يكن. إن الله قد قضى فيما هو كائن... " (57) وجاء رجل يوما إلى
ابن عمر يسأله عن شئ فقال له ابن عمر: " لا تسأل عما لم يكن،
فإني سمعت عمر بن الخطاب يلعن من سال عما لم يكن... " (58)،
وسأل رجل أبي بن كعب عن مسالة، قال " يا بني أكان الذي سألتني
عنه؟ قال: لا، قال: أما لا، فأجلني حتى يكون " (59).
" وقرا عمر يوما القرآن، فانتهى إلى قوله تعالى: (فأنبتنا فيها
حبا * وعنبا وقضيا * وزيتونا نخلا * وحدائق غلبا * وفاكهة
وأبا) (60)، فقال كل هذا عرفناه، فما الأب؟ ثم قال: هذا لعمر الله هو
التكلف، فما عليك أن لا تدري ما الأب، اتبعوا ما بين لكم هداه من
(55) راجع خطبة الإمام علي (عليه السلام) رقم 210 / ص 327 نهج البلاغة / الدكتور صبحي
الصالح. قال " وليس كل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كان يسأله
ويستفهمه، حتى إن كانوا ليحبون أن يجئ الأعرابي والطاري فيسأله صلوات الله عليه حتى
يسمعوا، وكان لا يمر بي من ذلك شئ دار إحياء السنة النبوية.
(56) سنن الدارمي / ج 1 / ص 50 نشر دار إحياء السنة النبوية.
(57) المصدر السابق / ج 1 / ص 50 (الشهيد).
(58) المصدر السابق / ج 1 / ص 50 (الشهيد).
(59) المصدر السابق / ج 1 / ص 56 (الشهيد).
(60) سورة عبس / آية 27 - 31.
45
الكتاب فاعملوا به، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه... " (61).
وهكذا نلاحظ اتجاها لدى الصحابة إلى العزوف عن السؤال إلا
في حدود المشاكل المحددة الواقعة. وهذا الاتجاه هو الذي أدى إلى
ضالة عدد النصوص التشريعية التي نقلوها عن الرسول (صلى الله عليه
وآله)، وهو الذي أدي - بعد ذلك - إلى الاحتياج إلى مصادر أخرى غير
الكتاب والسنة، كالاستحسان والقياس وغيرهما من ألوان الاجتهاد التي
يتمثل فيها العنصر الذاتي للمجتهد (62)، الامر الذي أدى إلى تسرب
شخصية الانسان بذوقه وتصوراته الخاصة إلى التشريع... وهذا الاتجاه
أبعد ما يكون عن عملية الاعداد الرسالي الخاص التي كانت تتطلب
تثقيفا واسعا لذلك الجيل وتوعية له على حلول الشريعة للمشاكل التي
سوف يواجهها عبر قيادته.
وكما أمسك الصحابة عن مبادرة النبي بالسؤال، كذلك أمسكوا
عن تدوين آثار الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وسنته (63) على
(61) الاتقان في علوم القرآن / السيوطي / ج 2 / ص 4 - تحقيق أبو الفضل إبراهيم.
(62) أنكر الاجتهاد الشافعي نظريتي الاستحسان والمصالح المرسلة لان الشريعة قد تكفلت
ببيان كل ما يحتاج الانسان إلى معرفته من الاحكام، إما بالنص الصريح، أو بالإشارة، أو
بطريق القياس المشروع، ولأن الاستحسان لا ضابط له ولا مقاييس يقاس بها الحق من
الباطل... ولذا أير عن الشافعي قوله: " من استحسن فقد شرع... ".
راجع المدخل الفقهي العام / الدكتور / مصطفى الزرقا / ج 1 / ص 124 / 125.
(63) راجع في مسالة تدوين الحديث، والمنع منه أو إجازته فيما بعد أورده ونقله الدكتور
صبحي الصالح / ص 20 وما بعدها في الهامش / علوم الحديث ومصطلحه - طبعة دار
العلم للملايين.
46
رغم أنها المصدر الثاني من مصادر الاسلام، وأن التدوين كان هو
الأسلوب الوحيد للحفاظ عليها وصيانتها من الضياع والتحريف، فقد
أخرج الهروي في ذم الكلام عن طريق يحيى بن سعد عن عبد الله بن
دينار قال: لم يكن الصحابة، ولا التابعون، يكتبون الأحاديث، وإنما
كانوا يؤدونها لفظا ويأخذونها حفظا (64). بل إن الخليفة الثاني - على ما
في طبقات ابن سعد - ظل يفكر في الموقف الأفضل تجاه سنة الرسول،
واستمر به التفكير شهرا ثم أعلن منعه عن تسجيل شئ من ذلك (65).
وبقيت سنة الرسول الأعظم التي هي أهم مصدر للاسلام بعد الكتاب
الكريم، في ذمة القدر يتحكم فيها النسيان تارة، والتحريف أخرى،
وموت الحفاظ ثالثة، طيلة مائة وخمسين سنة تقريبا (66).
ويستثنى من ذلك اتجاه أهل البيت، فإنهم دأبوا على التسجيل
والتدوين منذ العصر الأول، وقد استفاضت رواياتنا عن أئمة أهل
البيت بأن عندهم كتاب ضخما مدونا بإملاء رسول (صلى الله عليه
(64) راجع المصدر السابق، وراجع: سنن الدارمي / ج 1 / ص 119 / باب من لم ير كتابة
الحديث.
(65)
الطبقات الكبرى / ابن سعد / ج 3 / ص 287 - طبعة دار بيروت / 1405.
(66) كان أول تدوين رسمي للسنة علي يد محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت 124 ه)، بأمر
من عمر بن عبد العزيز ونقل عنه قوله " لم يدون هذا العلم أحد قبل تدويني... "... وكان
ذلك بداية المائة الثانية من الهجرة، راجع علوم الحديث ومصطلحه / الدكتور صبحي
الصالح / ص 46.
47
وآله) وخط علي بن أبي طالب (عليه السلام) (67) فيه جميع سنن
رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فهل ترى بربك أن ذلك الاتجاه الساذج - إن كانت المسألة مسألة سذاجة - الذي ينفر من السؤال عن واقعة قبل حدوثها ويرفض
تسجيل الجديدة وقيادتها في أهم وأصعب مراحل مسيرتها الطويلة؟؟!
أو هل ترى بربك أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان يترك
سنته مبعثرة بدون ضبط وتسجيل مع أنه يأمر بالتمسك بها؟ (68) أو لم
يكن من الضروري إذا كان يمهد لفكرة الشورى حقا أن يحدد للشورى
دستورها ويضبط سنته لكي تسير الشورى على منهاج ثابت محدد لا
تتلاعب به الأهواء؟ (69).
أو ليس التفسير الوحيد المعقول لهذا الموقف من النبي أنه كان
قد أعد الامام عليا للمرجعية وزعامة التجربة بعده، وأودعه سنته
(67) أصول الكافي / ج 1 / ص 241 / 242، باب ذكر الصحيفة والجفر والجامعة... / نشر دار
الكتب الاسلامية / طهران 1388 ه.
(68) كما في حديث الثقلين: " إني تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي... ".
وقد مر تخريجه، راجع مثلا صحيح مسلم / ج 4 / ص 1874، وراجع الأصول العامد / محمد
تقي الحكيم / بحث السنة.
(69) أشرنا إلى مسالة الاضطراب في قضية الشورى واختلاف معاييرها ومعالمها من خلافة إلى
أخرى في الهامش رقم (50) وراجع: السقيفة والخلافة / عبد الفتاح عبد المقصود / ص 264.
48
كاملة، وعمله ألف باب من العلم (70).
وقد أثبت الاحداث - بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) أن
جيل المهاجرين والأنصار، لم يكن يملك اي تعليمات محددة عن
كثير من المشاكل الكبيرة التي كان من المفروض أن تواجهها الدعوة
بعد البني، حتى أن المساحة الهائلة من الأرض، التي امتد إليها الفتح
الاسلامي، لم يكن لدي الخليفة والوسط الذي يسنده، أي تصور
محدد عن حكمها الشرعي، وعما إذا كانت تقسم بين المقاتلين أو
تجعل وقفا على المسلمين عموما (71)، فهل يمكننا أن نتصور أن النبي
يؤكد للمسلمين أنهم سوف يفتحون أرض كسرى وقيصر (72)، ويجعل
من جيل المهاجرين والأنصار القيم على الدعوة، والمسؤول عن هذا
الفتح، ثم لا يخبره بالحكم الشرعي الذي يجب أن يطبقه على تلك
المساحة الهائلة من الدنيا التي سوف يمتد إليها الاسلام؟
بل إننا نلاحظ أكثر من ذلك أن الجيل المعاصر للرسول (صلى الله عليه وآله) لم يكن يملك تصورات واضحة محددة حتى في مجال
القضايا الدينية التي كان النبي (صلى الله عليه وآله) يمارسها مئات
المرات، وعلى مرأى ومسمع من الصحابة. ونذكر على سبيل المثال
(70) راجع الارشاد / الشيخ المفيد / ص 22، ينابيع المودة / القندوزي / ج 1 / ص 62 وراجع
الملحق الذي كتبناه: " الاعداد الفكري والتربوي لامامة علي... ".
(71) راجع احكام القرآن / ابن عربي / ج 4 / ص 1778 / سورة الحشر، وراجع: فتوح البلدان /
البلاذري / ص 268.
(72) تاريخ الطبري / ج 2 / ص 92 في البشار بفتح أرض كسرى وقيصر - دار الكتب العلمية - بيروت.
49
لذلك، الصلاة على الميت، فإنها عبادة كان النبي (صلى الله عليه وآله)
قد مارسها علانية مئات المرات، وأداها في مشهد عام من المشيعين
والمصلين، وبالرغم من ذلك يبدو أن الصحابة كانوا لا يجدون ضرورة
معرفة هذه العبادة ما دام النبي (صلى الله عليه وآله) يؤديها، وما داموا
يتابعون فيها النبي (صلى الله عليه وآله) في عدد التكبيرات في صلاة الميت، " فقد أخرج الطحاوي عن إبراهيم قال: قبض رسول الله، والناس
مختلفون في التكبير على الجنازة لا تشاء أن تسمع رجلا يقول سمعت
رسول الله يكبر خمسا، وآخر يقول سمعت رسول الله يكبر أربعا،
فاختلفوا في ذلك حتى قبض أبو بكر، فلما ولي عمر، ورأى اختلاف
الناس في ذلك، شق عليه جدا، فأرسل إلى رجال من أصحاب رسول
الله فقال: " إنكم معاشر أصحاب رسول الله متى تختلفون على الناس
يختلفون من بعدكم، ومتى تجتمعون على أمر يجتمع الناس عليه،
فانظروا ما تجتمعون عليه، فكأنما أيقظهم، فقالوا: نعم ما رأيت يا أمير
المؤمنين " (73). وهكذا نجد أن الصحابة كانوا في حياة النبي (صلى
الله عليه وآله) يتكلون غالبا على شخص النبي (صلى الله عليه وآله)،
ولا يشعرون بضرورة الاستيعاب المباشر للأحكام والمفاهيم ما داموا
في كتب النبي (صلى الله عليه وآله) (74).
(73) راجع: عمدة القاري شرح صحيح البخاري / ج 8 / ص 137 باب التكبير على الجنازة
طبعة دار إحياء التراث / بيروت (الشهيد).
(74) راجع: تمهيد لتاريخ الفلسفة / د. مصطفى عبد الرزاق / ص 272.
50
وقد تقول إن هذه الصورة التي عرضت عن الصحابة، وما فيها
من أرقام على عدم كفايتهم للقيادة يتعارض مع ما نؤمن به جميعا من
أن التربية النبوية أحرزت درجة هائلة من النجاح، وحققت جيلا
رساليا رائعا!.
والجواب: إنا بما قدمناه قد حددنا الصورة الواقعية لذلك الجيل
الواسع الذي عاصر وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) دون أن نجد في
ذلك ما يتعارض مع التقييم الايجابي بدرجة عالية للتربية النبوية التي
مارسها الرسول (صلى الله عليه وآله) في حياته الشريفة، لأننا في نفس
الوقت الذي نؤمن فيه بأن التربية النبوية كانت مثلا ربانيا رائعا وبعثا
رساليا متميزا في تاريخ العمل النبوي على مر الزمن نجد أن الايمان
بذلك والوصول إلى تقييم حقيقي لمحصول هذه التربية ونتائجه،
لا يقوم على أساس ملاحظة الكم، بصورة منفصلة عن الكيف.
ومن أجل توضيح ذلك خذ هذا المثال، نفترض مدرسا يدرس عددا
من طلبة اللغة الانكليزية وآدابها، ونريد أن نقيم قدرته التدريسية فإننا
لا نكتفي بمجرد دراسة مدى وما وصل إليه هؤلاء الطلبة من ثقافة
واطلاع على اللغة الانكليزية وآدابها، وإنما نربط ذلك بتجديد الزمن
الذي مارس فيه المدرس تدريسه لهؤلاء الطلبة وبتحديد الوضع القبلي
لهم، ودرجة قربهم أو بعدهم مسبقا عن أجواء اللغة الانكليزية وآدابها،
وحجم الصعاب والعقبات الاستثنائية التي واجهت عملية التدريس،
وأعاقت سيرد الطبيعي، والهدف الذي كان المدرس يتوخاه من تدريس
51
طلبته آداب تلك اللغة، ونسبة المحصول النهائي لعملية التدريس إلى
حالات تدريس أخرى مختلفة (75).
ففي مجال تقييم التربية النبوية يجب أن نأخذ بعين الاعتبار:
أولا: قصر الفترة الزمنية التي مارس النبي (صلى الله عليه وآله)
فيها تربيته، لأنها لا تتجاوز تقريبا عقدين من الزمن بالنسبة إلى أقدم
صحبة من القلائل الذين رافقوه في بدايات الطريق، ولا تتجاوز عقدا
واحدا من الزمن بالنسبة إلى الكثرة الكاثرة من الأنصار، ولا تتجاوز
ثلاث سنوات أو أربع بالنسبة إلى الاعداد الهائلة التي دخلت الاسلام،
ابتداء منذ صلح الحديبية، واستمرارا إلى حين فتح مكة.
ثانيا: الوضع المسبق الذي كان هؤلاء يعيشونه من الناحية
الفكرية والروحية والدينية والسلوكية قبل أن يبدأ النبي (صلى الله عليه
وآله) بممارسة دوره: وما كانوا عليه من سذاجة وفراغ وعقوبة في
مختلف مجالات حياتهم، ولا أجدني بحاجة إلى توضيح إضافي لهذه
النقطة، لأنها واضحة بذاتها حيث إن الاسلام لم يكن عملية تغيير في
سطح المجتمع، بل هو عملية تغيير في الجذور، وبناء انقلابي لامة
جديدة:، وهذا يعني الفاصل المعنوي الهائل بين الوضع الجديد الذي
بدأ النبي (صلى الله عليه وآله) تربيته للأمة في اتجاهه، وبين الوضع
(75) التفاتة رائعة من الشهيد (رض) إلى المعايير الدقيقة في عملية تقويم العمل التربوي
ومحصوله النهائي. وهذا المعايير والملاحظات يمكن الإفادة منها في أية عملية إعداد
فكري أو تربوي. وكذلك في أي عملية تقييم موضوعي لحالة مشابهة.
52
السابق (76).
ثالثا: ما زخرت به تلك الفترة من أحداث وألوان الصراع
السياسي والعسكري على جبهات متعددة الامر الذي ميز طبيعة
العلاقة بين الرسول الأعظم وصحابته من نوع العلاقة بين شخص
كالسيد المسيح وتلامذته، فلم تكن علاقة مدرس ومرب متفرغ لاعداد
تلامذته، وإنما هي العلاقة التي تتناسب مع موقع الرسول كمرب
وقائد حرب ورئيس دولة (77).
رابعا: ما واجهته الجماعة المسلمة نتيجة احتكاكها بأهل
الكتاب، وبثقافات دينية متنوعة من خلال صراعها العقائدي
الاجتماعي فقد كان هذا الاحتكاك وما يطرحه على الساحة خصوم
الدعوة الجديدة المثقفين بثقافات دينية سابقة، مصدر قلق وإثارة
مستمرة وكلنا نعرف أنه شكل بعد ذلك تيارا فكريا إسرائيليا تسرب
بصورة عفوية، أو بسوء نية إلى كثير من مجالات التفكير (78)، ونظرة
فاحصة في القرآن الكريم تكفي لاكتشاف حجم المحتوى لفكر الثورة
(76) راجع ما كان عليه المجتمع العربي والحجازي قبل الاسلام: تاريخ العرب قبل
الاسلام / الدكتور جواد علي / القسم الديني، القسم الاجتماعي.
(77) إن تنوع المسؤوليات وطبيعتها، والتحديات التي واجهت الرسول القائد كانت من الضخامة
بحيث لم يتهيأ للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الوقت الكافي ليشمل بتربيته وتثقيفه
القطاعات الواسعة من الأمة. راجع علوم القرآن / محمد باقر الحكيم / ص 96 - 100 (78)
راجع: الإسرائيليات في التفسير والحديث / الدكتور محمد حسين الذهبي / دار الايمان
دمشق / 1985.
53
المضادة، ومدى اهتمام الوحي برصدها مناقشة أفكارها (79).
خامسا: إن الهدف الذي كان يسعى المربي الأعظم (صلى الله
عليه وآله) لتحقيقه على المستوى العام، وفي تلك المرحلة هو إيجاد
القاعدة الشعبية الصالحة، التي يمكن لزعامة الرسالة الجديدة - في
حياته أو بعد وفاته - أن تتفاعل معها، وتواصل عن طريقها التجربة،
ولم يكن الهدف المرحلي وقتئذ، تصعيد الأمة إلى مستوى هذه
الزعامة نفسها، بما تتطلبه من فهم كامل للرسالة، وتفقه شامل على
أحكامها، والتحام مطلق مع مفاهيمها. وتجديد الهدف في تلك
المرحلة، بالدرجة التي ذكرناها كان أمرا منطقيا تفرضه طبيعة العمل
التغييري، إذ ليس من المعقول أن يرسم الهدف إلا وفقا لممكنات
عملية، ولا إمكان عملي في حالة كالحالة التي واجهها الاسلام إلا
ضمن الحدود التي ذكرناها، لان الفاصل المعنوي والروحي والفكري
والاجتماعي بين الرسالة الجديدة وبين الواقع الفاسد القائم، وقتئذ،
كان لا يمسح بالارتفاع بالناس إلى مستوى زعامة هذه الرسالة مباشرة.
وهذا ما سنشرحه في النقطة التالية (80) ونبرهن عن طريقه على
أن استمرار الوصاية على التجربة الانقلابية الجديدة، متمثلة في إمامة
(79) لا حظ سورة (المنافقون) في القرآن الكريم. ولا حظ حركة وتحركات اليهود والأدوار التي
لعبوها في التاريخ الاسلامي، راجع: إسرائيليات في القرآن / محمد جواد مغنية - طبعة
بيروت.
(80) أي في الفصل القادم " الطريق الثالث ".
54
أهل البيت وخلافة علي (عليه السلام)، كانت أمرا ضروريا يفرضه
منطق العمل التغييري على مسار التاريخ.
سادسا: إن جزءا كبيرا من الأمة التي تركها النبي (صلى الله
عليه وآله) بوفاته كان يمثل مسلمة الفتح، أي المسلمين الذين دخلوا
الاسلام بعد فتح مكة (81)، وبعد ان أصبحت الرسالة الجديدة سيدة
الموقف في الجزيرة العربية سياسيا وعسكريا. وهؤلاء لم يتح للرسول
الأعظم (صلى الله عليه وآله) أن يتفاعل معهم في الفترة القصيرة التي
أعقبت الفتح إلا بقدر ضئيل، وكان جل تفاعله معهم بوصفه حاكما،
بحكم المرحلة التي كانت الدولة الاسلامية تمر بها، وفي هذه المرحلة
برزت فكرة المؤلفة قلوبهم، والتي أخذت موضعها في تشريع الزكاة (82)،
وفي اجراءات أخرى ولم يكن هذا الجزء من الأمة مفصولا عن
الاجزاء الأخرى بل كان مندمجا فيها، ومؤثرا، ومتأثرا في نفس الوقت.
ففي إطار هذه الأمور الستة نجد أن التربية النبوية أنتجت إنتاجا
عظيما، وحققت تحولا فريدا، وأنشأت جيلا صالحا مؤهلا لما استهدفه
النبي من تكوين قاعدة شعبية صالحة للالتفات حول الزعامة القائدة
للتجربة الجديدة وإسنادها، ولهذا نجد أن ذلك الجيل كان يؤدي دوره
كقاعدة شعبية صالحة ما دامت الزعامة القائدة الرشيدة كانت قائمة في
شخص النبي، ولو قد لهذا الزعامة أن تأخذ مسارها الرباني لظلت
(81) راجع تفسير الكشاف / الزمخشري / ج 4 / ص 810 / تفسير سورة النصر.
(82) كما جاء في قوله تعالى: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة
قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله...) التوبة / 60.
55
القاعدة تؤدي دورها الصالح، غير أن هذا لا يعني - بحال من الأحوال -
أنها مهيأة فعلا لكي تتسلم هذه الزعامة، وتقود بنفسها التجربة
الجديدة، لان هذه التهيئة تتطلب درجة أكبر من الانصهار الروحي
والايماني بالرسالة، وإحاطة أو سع كثيرا بأحكامها ومفاهيمها ووجهات
نظرها المختلفة عن الحياة، وتطهيرا أشمل لصفوفها من المنافقين
والمندسين والمؤلفة قلوبهم، الذين كانوا لا يزالون يشكلون جزءا من
ذلك الجيل له أهميته العددية (83)، ومواقعه التاريخية، كما أن له آثاره
السلبية، بدليل حجم ما تحدث به القرآن الكريم عن المنافقين
ومكائدهم ومواقفهم (84)، مع تواجد أفراد في ذلك الجيل قد
استطاعت التجربة أن تبنيهم بناء رساليا رفيعا، وتصهرهم في يوتقتها،
كسلمان وأبي ذر وعمار وغيرهم (85).
أقول: أن تواجد هؤلاء الافراد ضمن ذلك الجيل الواسع لا يبرهن
على أن ذلك الجيل ككل بلغ إلى الدرجة التي تبرر إسناد مهام
التجربة إليه على أساس الشورى. وحتى أولئك الافراد الذين مثلوا
النمط الرفيع رساليا من ذلك الجيل لا يوجد في أكثرهم ما يبرر
افتراض كفايتهم الرسالية لزعامة التجربة من الناحية الفكرية والثقافية
(83) يظهر أنهم من الكثرة بحيث شكلوا عبئا على الموارد المالية للدولة، مما دفع الخليفة الثاني
إلى إلغائها بحجة أن الاسلام صار عزيزا قويا.
(84) راجع تفسير سورة (المنافقون) في كتب التفاسير.
(85) قال رسول الله: " إن الله أمرني بحيث أربعة وأخبرني أنه يحبهم: على وأبو ذر والمقداد
وسلمان " سنن ابن ماجة / ج 1 / ص 66، وراجع التاج الجامع للأصول / ج 3 / ص 405.
56
على رغم شدة إخلاصهم، وعمق ولائهم، لان الاسلام ليس نظرية
بشرية لكي يتحدد فكريا من خلال الممارسة والطبيق (86)، وتتبلور
مفاهيمه عبر التجربة المخلصة، وإنما هو رسالة الله التي حددت فيها
الاحكام والمفاهيم وزودت ربانيا بكل التشريعات العامة التي تتطلبها
التجربة (87)، فلا بد لزعامة هذه التجربة من استيعاب الرسالة بحدودها
وتفاصيلها، ومن وعي بكل أحكامها ومفاهيمها (88) * وإلا اضطراب إلى
استلهام مسبقاتها الذهنية ومرتكزاتها القبلة وأدى ذلك إلى نكسة في
مسيرة التجربة، وبخاصة إذا لاحظنا أن الاسلام كان هو الرسالة
الخاتمة من رسالات السماء التي يجب أن تمتد مع الزمن، وتتعدى
كل الحدود الوقتية والإقليمية والقومية (89)، الامر الذي لا يسمع بأن
تمارس زعامته التي تشكل الأساس لك ذلك الامتداد، تجارب الخطأ
والصواب، التي تتراكم فيها الأخطاء عبر فترة من الزمن حتى تشكل
ثغرة تهدد، التجربة بالسقوط والانهيار (90).
(86) من المقولات الشائعة في أوساط أصحاب النظريات وعند المفكرين: أن النظرية تغتني
بالتطبيق ولذلك ينبه الشهيد الصدر على أن الاسلام ليس من هذا القبيل.
(87) لاحظ قوله تعالى: (... ما فرطنا في الكتاب من شئ...) الانعام / 38 وقال تعالى:
(... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ...) النحل / 89 وقال تعالى: (... وما آتاكم
الرسول فحدوه وما نهاكم عنه فانتهوا...) الحشر / 7.
(88) راجع الدراسة التي ألحقت بالبحث في الاخر.
(89) قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس...) سبا / 28 وقال تعالى: (وما أرسلناك
إلا رحمة للعالمين) الأنبياء / 107.
(90) لقد أراد نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) تجنيب أمته مرارة ومعاناة تجربة الخطأ
والصواب وما يمكن أن تجره على الأمة المسلمة من ويلات وآلام وتيه فقال: " هلموا
اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي أبدا...) ولكن الرزية كل الرزية - على حد تعبير ابن عباس
أن منع رسول الله من ذلك.
راجع القصة في صحيح البخاري / ج 8 ص 161 باب الاعتصام.
57
وكل ما تقدم يدل على أن التوعيد التي مارسها النبي (صلى الله
عليه وآله) على المستوى العام للمهاجرين والأنصار، لم تكن بالدرجة التي يتطلبها إعداد القيادة الواعية الفكرية والسياسية لمستقبل الدعوة
وعملية التغيير، وإنما كانت توعية بالدرجة التي نبي القاعدة الشعبية
الواعية التي تلتف حول قيادة الدعوة في الحاضر والمستقبل.
وأي افتراض يتجه إلى القول بأن النبي (صلى الله عليه وآله) كان
يخطط لاسناد قيادة التجربة والقيمومة على الدعوة بعده مباشرة إلى
جيل المهاجرين والأنصار، يحتوي ضمنا اتهام أذكى وأبصر قائد
رسالي في تاريخ العمليات التغييرية، بعدم القدرة على التمييز بين
الوعي المطلوب على مستوى القاعدة الشعبية للدعوة والوعي
المطلوب على مستوى قيادة الدعوة وإمامتها الفكرية والسياسية.
النقطة الثالثة:
إن الدعوة عملية تغيير، ومنهاج حياة جديد، وهي تستهدف
بناء أمة من جديد واقتلاع كل جذور الجاهلية ورواسبها من وجودها.
والأمة الاسلامية - ككل - لم تكن قد عاشت في ظل عملية
التغيير هذه إلا عقدا واحدا من الزمن على أكثر تقدير، وهذا الزمن
58
القصير لا يكفي - عادة - في منطق الرسالات العقائدية، والدعوات
التغييرية، لارتفاع الجيل الذي عاش في كنف الدعوة عشر سنوات
فقط إلى درجة من الوعي والموضوعية والتحرر من رواسب
الماضي (91)، والاستيعاب لمعطيات الدعوة الجديدة، تؤهله للقيمومة
على الرسالة وتحمل مسؤوليات الدعوة ومواصلة عملية التغيير بدون
قائد، بل إن منطق الرسالات العقائدية يفرض أن تمر الأمة بوصاية
عقائدية فترة أطول من الزمن، تهيؤها للارتفاع إلى مستوى تلك
القيمومة (92).
وليس هذا شيئا نستنتجه استنتاجا فحسب، وإنما يعبر أيضا عن
الحقيقة التي برهنت عليها الاحداث بعد وفاه القائد الرسول (صلى
الله عليه وآله)، وتجلت عبر نصف قرن أو أقل من خلال ممارسة جيل
المهاجرين والأنصار لامامة الدعوة والقيمومة عليها، إذ لم يمض على
هذه القيمومة ربع قرن حتى بدأت الخلافة الراشدة والتجربة
(91) لاحظ حدوث حالات النكوص والارتداد بعد وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولاحظ
المفارقات والمخالفات الصريحة لمتبنيات الاسلام وأخلاقيته فيما أقدم عليه حتى بعض
القادة العسكريين الكبار، كما حصل من مثل خالد بن الوليد، إذا تهمه الخليفة الثاني عمر
في قصة مالك بن نويرة فقال عن خالد: انه قتل أمرا مسلما - يعني مالك بن نويرة - ونزا
على امرأته.
راجع: تاريخ الطبري / ج 2 / ص 280، الطبعة المحققة / دار التراث بيروت.
(92) كان هذا منطق الرسالات السابقة، كما في وراثة سليمان لداود، وكما في خلافة هارون عن
موسى: " قال اخلفني في قومي وأصلح... ".
ثم هو يقتضيه منطق الأشياء، ومنطق الشريعة الخاتمة - راجع الملحق.
59
الاسلامية، التي تولى جيل المهاجرين والأنصار قيادتها تنهار تحت وقع
الضربات الشديدة التي وجهها أعداء الاسلام القدامى (93)، ولكن من
داخل إطار التجربة الاسلامية لامن خارجها، إذا استطاعوا أن يتسللوا
إلى مراكز النفوذ في التجربة بالتدريج، ويستغلوا القيادة غير الواعية،
ثم صادروا بكل وقاحة وعنف، تلك القيادة، وأجيروا الأمة وجيلها
الطليعي الرائد على التنازل عن شخصيته وقيادته، وتحولت الزعامة
إلى ملك موروث (94)، يستهتر بالكرامات ويقتل الأبرياء (95)، ويبعثر
الأموال (96)، ويعطل الحدود، ويجمد الاحكام (97)، ويتلاعب
(93) يقصد بهم من أسلم زمن الفتح - فتح مكة - وكان من المؤلفة قلوبهم أبو سفيان ومعاوية.
تاريخ الطبري / ج 2 / ص 175.
(94) راجع: المقدمة / ابن خلدون / ص 227 / انقلاب الخلافة إلى ملك طبعة دار الجيل، وقد
نقل ابن الأثير / ج 3 / ص 199 (طبعة الحلبي) عن عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو يقاطع
مروان حين كان يخطب على منبر المدينة، مدافعا عن وجهه نظر معاوية، إذ صاح به
عبد الرحمن قائلا: كذبت والله وكذب، معاوية، ما الخيار أردتما لامة محمد، ولكنكم
تريدون أن تجعلوها هرقلية كلما مات هرقل قام... وراجع تاريخ الخلفاء
السيوطي / ص 203.
(95) نقل ابن الأثير / ج 3 / ص 487: عن الحسن البصري - وهو من أجلاء التابعين المشهورين -
أنه قال: أرجع خصال كن في معاوية، لو لم تكن فيه إلا خصلة واحدة لكانت موبقة، انتزاؤه
على هذه الأمة بالسيف حتى أخذ الامر من غير مشورة، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضلية،
واستخلافه بعده ابنه يزيد سكيرا، وادعاؤه زيادا، وقتله حجر بن عدي وأصحاب حجر، فيا
ويلا له من حجر، ويا ويلا له من حجر وأصحاب حجر...
(96) راجع: التاج الجامع للأصول / ج 5 / ص 310، وراجع للتفصيل، العدالة الاجتماعية في
الاسلام / الشهيد سيد قطب / ص 231 وما بعدها.
(97) راجع ما نقله السيوطي في تاريخه / ص 209 وما بعدها: ما ارتكبه يزيد من المنكرات
الشيعة، من قتله ريحانة رسول الله الحسين (عليه السلام)، وسبي حرم رسول الله، من
ضرب الكعبة، واستباحة المدينة المنورة وقتل أهلها والاعتداء على النواميس.
60
بمقدرات الناس، وأصبح الفئ والسواد بستانا لقريش، والخلافة كرة
يتلاعب بها صبيان بني أمية (98).
فواقع التجربة بعد النبي، وما تمخض عنه بعد ربع قرن من
نتائج يدعم الاستنتاج المتقدم، الذي يؤكد أن إسناد القيادة والامامية
الفكرية والسياسية لجيل المهاجرين والأنصار عقيب وفاة النبي (صلى
الله عليه وآله) مباشرة إجراء مبكر، وقبل وقته الطبيعي ولهذا ليس من
المعقول أن يكون النبي قد اتخذ إجراء من هذا القبيل.
(98) يريد قول أبي سفيان لعثمان حين توليه الخلافة. / راجع تاريخ الخلفاء السيوطي / ص 209.
وراجع: النزاع والتخاصم بين بني هاشم وبني أمية / المقريزي / ص 56 / تحقيق الدكتور مؤنس.
61
المبحث الثالث
الايجابية ممثلة بالاختيار والتعيين
إن الطريق الثالث المفترض هو الايجابية ممثلة في إعداد ونصب
من يقود الأمة وهذا هو الطريق الوحيد الذي بقي منسجما مع طبيعة
الأشياء، ومعقولا في ضوء ظروف الدعوة والدعاة، وسلوك النبي
(صلى الله عليه وآله) (99)، وهو أن يقف النبي من مستقبل الدعوة بعد
وفاته موقفا إيجابيا، فيختار بأمر الله سبحانه وتعالى - شخصا يرشحه
عمق وجوده في كيان الدعوة، فيعده إعداد رساليا (100) وقياديا خاصا،
لتمثل فيه المرجعية الفكرية والزعامة السياسية للتجربة، وليواصل
بعده - بمساندة القاعدة الشعبية الواعية من المهاجرين والأنصار - قيادة
(99) لا شك بعد استبعاد الافتراضين السابقين علميا، لا يبقى إلا هذا الافتراض من وجهه منطقية
مقبولة.
(100) راجع ما بيناه عن هذا الاختيار، وعن عملية الاعداد الرسالي (الفكري والعلمي والتربوي)
في الملحق.
63
الأمة وبناءها عقائديا، وتقريبها باستمرار نحو المستوى الذي يؤهلها
لتحمل المسؤوليات القيادية.
وهكذا نجد أن هذا هو الطريق الوحيد الذي كان بالامكان أن
يضمن سلامة مستقبل الدعوة، وصيانة التجربة في خط نموها وهكذا
كان (101).
وليس ما تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله) من النصوص التي
تدل على أنه كان يمارس إعداد رساليا وتثقيفا عقائديا خاصا لبعض
الدعاة على مستوى يهيئه للمرجعية الفكرية والسياسية، وإنه (صلى
الله عليه وآله) قد عهد إليه بمستقبل الدعوة، وزعامة الأمة من بعده،
فكريا وسياسيا (102)، ليس هذا إلا تعبيرا عن سلوك القائد الرسول
(صلى الله عليه وآله) للطريق الثالث الذي كانت تفرضه، وتدل عليه
من قبل ذلك طبيعة الأشياء كما عرفنا.
ولم يكن هذا الشخص الداعية المرشح للاعداد الرسالي
القيادي، والمنصوب لتسلم مستقبل الدعوة، وتزعمها فكريا وسياسيا،
إلا علي بن أبي طالب، الذي رشحه لذلك عمق وجوده في كيان
الدعوة، وإنه المسلم الأول، والمجاهد الأول في سبيلها عبر كفاحها
المرير ضد كل أعدائها، وكذلك عمق وجوده في حياة القائد الرسول
(صلى الله عليه وآله)، وإنه ربيبه الذي فتح عينيه في حجره، ونشأ في
(101) إذ لم تهيئة الخليفة القائد - وتم تعيينه فعلا - كما هو تصريح النصوص.
(102) راجع ما نقلناه من النصوص المعتبرة عن إخواننا السنة / في الملحق.
64
كنفه، وتهيأت له من فرص التفاعل معه والاندماج بخطه، ما لم يتوفر
لأي إنسان آخر (103).
والشواهد من حياة النبي والإمام علي، على أن النبي (صلى الله
عليه وآله) كان يعد الامام اعدادا رساليا خاصا، كثيرة جدا، فقد كان
النبي يخصه بكثير من مفاهيم الدعوة وحقائقها، ويبدؤه، بالعطاء
الفكري والتثقيف إذا استنفذ الامام أسئلته (104)، ويختلي به الساعات
الطوال في الليل والنهار، يفتح عينيه على مفاهيم الرسالة ومشاكل
الطريق، ومناهج العمل إلى آخر يوم من حياته الشريفة.
روى الحاكم في المستدرك بسنده عن أبي إسحاق، سالت
القاسم بن العباس " كيف ورث علي رسول الله؟ قال: " لأنه كان أولنا
به لحوقا وأشدنا به لزوقا... " (105).
وفي حلية الأولياء عن ابن عباس أنه يقول: " كنا نتحدث أن
النبي (صلى الله عليه وآله) عهد إلى علي بسبعين عهدا، لم يعهد إلى
غيره " (106).
(103) راجع خطبة الإمام علي (عليه السلام) الشهيرة بالقاصعة - كما ذكرها في الملحق -
نهج البلاغة / ص 300 / 301 ضبط الدكتور صبحي الصالح.
(104) جاء عن الإمام علي (عليه السلام) أنه قال: " كنت إذا سألته - أي رسول الله - أعطاني وإذا
سكت ابتدأني... " السنن الكبرى / النسائي / ج 5 / ص 142، الصواعق المحرقة / ص 127.
(105) المستدرك على الصحيحين / الحاكم النيسابوري / ج 3 / ص 136 حديث رقم 4633 طبعة
دار الكتب العلمية - بيروت.
(106) حلية الأولياء / لأبي نعيم / ج 1 / ص 68، طبعة دار الكتاب العربي بيروت - ط 5 / 1407 ه.
65
وروى النسائي في الخصائص عن الإمام علي أنه يقول: " كانت
لي منزلة من رسول الله لم تكن لاحد من الخلائق، كنت أدخل على
نبي الله كل ليلة، فإن كان يصلي سبح فدخلت، وإن لم يكن يصلي
أذن لي فدخلت " (107). وروي أيضا عن الإمام علي (عليه السلام) قوله: " كان لي من النبي مدخلان مدخل بالليل ومدخل بالنهار... ". (108).
وروى النسائي عن الامام أيضا انه كان يقول: " كنت إذا سألت
رسول الله أعطيت، وإذا سكت ابتدائي... " (109). ورواه الحاكم في
المستدرك أيضا، وقال: صحيح على شرط الشيخين (110).
وروي النسائي عن أم سلمة أنها كانت تقول ": والذي تحلف به
أم سلمة: إن أقرب الناس عهدا برسول الله (صلى الله عليه وآله) علي
قالت: لما كانت غداة قبض رسول الله، فأرسل إليه رسول الله، وأظنه
كان بعثه في حاجة، فجعل يقول: جاء علي؟ ثلاث مرات، فجاء قبل
طلوع الشمس، فلما أن جاء عرفنا أن له إليه حاجة، فخرجنا من
البيت، وكنا عند رسول الله يومئذ في بيت عائشة، وكنت في آخر من
خرج من البيت، ثم جلست وراء الباب، فكنت أدناهم إلى الباب،
(107) السنن الكبر ى - الخصائص ج 5 / ص 140 ح / 8499 / 1.
(108) المصدر السابق / ج 5 / ص 141.
(109) المصدر السابق / ج 5 / ص 142.
(110) المستدرك / ج 3 / ص 135 - حديث برقم 4630 - تحقيق مصطفى عبد القادر عطا / طبعة
دار الكتب العلمية - بيروت 1411 ه.
66
فأكب عليه على فكان آخر الناس به عهدا، فجعل يساره ويناجيه (111).
وقال أمير المؤمنين في خطبته القاصعة الشهيرة، وهو يصف
علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القربية، والمنزلة الخصيصة،
وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه،
ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما
وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل... ولقد كنت أتبعه اتباع
الفصيل لاثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما، ويأمرني
بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري،
ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله وخديجة وأنا
ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة... " (112).
إن هذه الشواهد، وشواهد أخرى كثيرة، تقدم لنا صورة عن
ذلك الاعداد الرسالي الخاص الذي كان النبي (صلى الله عليه وآله)
يمارسه في سبيل توعية الامام على المستوى القيادي للدعوة. كما إن
في حياة الإمام علي (عليه السلام) بعد وفاة القائد الرسول (صلى الله
عليه وآله) أرقاما كثيرة جدا تكشف عن ذلك الاعداد العقائدي
الخاص للإمام علي (عليه السلام) من قبل النبي (صلى الله عليه وآله)،
(111) السنن الكبرى / النسائي / ج 5 / ص 154 باب 54، وراجع الروايد في مختصر تاريخ ابن
عساكر / ج 18 / ص 21.
(112) نهج البلاغة / ضبط الدكتور صبحي الصالح / خطبة رقم 192.
67
بما تعكسه من آثار ذلك الاعداد الخاص ونتائجه. فقد كان الامام هو
المفزع والمرجع لحل اي مشكلة يستعصي حلها على القيادة الحاكمة
وقتئذ (113). ولا نعرف في تاريخ التجربة الاسلامية على عهد الخلفاء
واقعة واحدة رجع فهيا الامام إلى غيره لكي يتعرف على رأي الاسلام
وطريقة علاجه للموقف، بينما نعرف في التاريخ عشرات الوقائع التي
أحست القيادة الاسلامية الحاكمة بضرورة الرجوع إلى الامام على رغم
تحفظاتها في هذا الموضوع.
وإذا كانت الشواهد كثيرة على أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان
بعد الامام إعداد خاصا لمواصلة قيادة الدعوة من بعده، فالشواهد
الفكرية والسياسية رسميا إلى الإمام علي (عليه السلام) لا تقل عنها
كثرة، كما نلاحظ ذلك في حديث الدار (114)، وحديث الثقلين (115)،
وحديث المنزلة (116)، وحديث الغدير (117)، وعشرات النصوص النبوية
(113) راجع الملحق، وراجع تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص 170 / 172. قال عمر بن الخطاب:
" لا أبقاني الله لمعظلة ليس لها أبو الحسن " الصواعق المحرقة / ابن حجر / ص 127.
(114) حديث الدار: عند ما نزل قول تعالى: (وأنذر عشيرتك الأقربين) راجع تفسير
الخازن / ج 3 / ص 371، دار المعرفة - بيروت.
(115) حديث الثقلين أخرجه أصحاب الصحاح والسنن والمسانيد، راجع: صحيح مسلم / ج 4
ص 1873، صحيح الترمذي / ج 5 / ص 596 - تحقيق كمال الحوت / طبعة دار الفكر.
(116) حديث المنزلة: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى... " صحيح البخاري / ج 5 / ص 81 / باب 39.
(117) حديث الغدير: راجع سنن ابن ماجة / المقدمة / باب 11 / ج 1 ص 43، ومسند الإمام أحمد
/ ج 4 / ص 281 - طبعة دار صادر - بيروت.
68
الأخرى (118).
وهكذا وجد التشيع في إطار الدعوة الاسلامية متمثلا في هذه
الأطروحة النبوية التي وضعها النبي (صلى الله عليه وآله) - بأمر من الله.
للحفاظ على مستقبل الدعوة.
وهكذا وجد التشيع لا كظاهرة طارئة على مسرح الاحداث،
بل كنتيجة ضرورية لطبيعة تكون الدعوة وحاجاتها وظروفها الأصلية
التي كانت تفرض على الاسلام أن يلد (التشيع)، وبمعنى آخر كانت
تفرض على القائد الأول للتجربة أن يعد للتجربة قائدها الثاني (119).
الذي تواصل على يده ويد خلفائه نموها الثوري، وتقترب نحو
اكتمال هدفها التغييري في اجتثاث كل رواسب الماضي الجاهلي
وجذوره، وبناء أمة جديدة على مستوى متطلبات الدعوة
ومسؤولياتها.
(118) راجع ملحق البحث في بسط هذا المطلب والتوسع فيه.
(119) راجع مختصر تاريخ ابن عساكر / ج 18 / ص 35: قول الخليفة الثاني لأصحاب الشورى.
69
الفصل الثاني
نشأة الشيعة
المبحث الأول
* نشوء اتجاهين رئيسين في حياة النبي (ص)
المبحث الثاني * المرجعية الفكرية والمرجعية القيادية
المبحث الثالث
* التشيع الروحي والتشيع السياسي
71
تمهيد
عرفنا كيف ولد (التشيع)، وأما كيف ولد " الشيعة " ونشأ
الانقسام على أساس ذلك في الأمة الاسلامية، فهذا ما سنجيب عنه
الان:
إننا إذا تتبعنا المرحلة الأولى من حياة الأمة الاسلامية، في
عصر النبي (صلى الله عليه وآله) نجد أن اتجاهين رئيسين ومختلفين
قد رافقا نشوء الأمة وبداية التجربة الاسلامية منذ السنوات الأولى
وكانا يعيشان معا داخل إطار الأمة الوليدة التي أنشأها الرسول القائد
(صلى الله عليه وآله). وقد أدى هذا الاختلاف بين الاتجاهين إلى
انقسام عقائدي عقيب وفاة الرسول مباشرة، شطر الأمة الاسلامية إلى
شطرين، قدر لأحدهما أن يحكم فاستطاع أن يمتد ويستوعب أكثرية
المسلمين، بينما أقصي الشطر الاخر عن الحكم، وقدر له أن يمارس
وجوده، كأقلية معارضة، ضمن الإطار الاسلامي العام، وكانت هذه
الأقلية هي (الشيعة). (وهاهنا ثلاثة مباحث).
73
المبحث الأول
نشوء اتجاهين رئيسين في حياة النبي (ص)
إن الاتجاهين الرئيسين اللذين رافقا نشوء الأمة الاسلامية في حياة
النبي (صلى الله عليه وآله) منذ البدء هما:
أولا: الاتجاه الذي يؤمن بالتعبد بالدين وتحكيمه والتسليم
المطلق للنص الديني في كل جوانب الحياة (120).
وثانيا: الاتجاه الذي لا يرى أن بالدين يتطلب منه التعبد
إلا في نطاق خاص من العبادات والغيبيات، ويؤمن بإمكانية الاجتهاد
وجواز التصرف على أساسه بالتغيير والتعديل في النص الديني وفقا
للمصالح في غير ذلك النطاق من مجالات الحياة (121).
(120) هذا هو اتجاه مدرسة أهل البيت عليهم السلام واتجاه التشيع.
(121) هذا هو اتجاه المدرسة الأخرى من المذاهب السنية.
راجع للتفصيل: معالم المدرستين / العلامة السيد مرتضى العسكري.
وراجع أيضا: مناهج الاجتهاد - الدكتور محمد سلام مدكور / مطبوعات جامعة الكويت.
75
وبالرغم من أن الصحابة، بوصفهم الطليعة المؤمنة والمستنيرة،
كانوا أفضل وأصلح بذرة لنشوء أمة رسالية، حتى أن تاريخ الانسان لم
يشهد جيلا عقائديا أروع وأنبل وأطهر من الجيل الذي أنشأه الرسول
القائد. وبالرغم من ذلك نجد من الضروري التسليم بوجود اتجاه
واسع، منذ كان النبي حيا، يميل إلى تقديم الاجتهاد في تقدير
المصلحة، واستنتاجها من الظروف، على التعبد بحرفية النص الديني،
وقد تحمل الرسول (صلى الله عليه وآله) المرارة في كثير من الحالات
بسبب هذا الاتجاه حتى وهو على فراش الموت في ساعاته الأخيرة
على ما يأتي (122)، كما كان هناك اتجاه آخر يؤمن بتحكيم الدين
والتسليم له والتعبد بكل نصوصه في جميع جوانب الحياة.
وقد يكون من عوامل انتشار الاتجاه الاجتهادي في صفوف
المسلمين انه يتفق مع ميل الانسان بطبيعته إلى التصرف وفقا
لمصلحة يدركها وبقدرها، بدلا عن التصرف وفقا لقرار لا يفهم مغزاه.
(122) راجع صحيح البخاري / ج 8 / ص 161 كتاب الاعتصام.
لاحظ المواقف التي لم يتعبدوا فيها بالنص. ما حدث في عدم إنفاذ سرية أسامة،
واعتراضهم وما حدث عند إرادة كتب الكتاب عندما قال النبي (صلى الله عليه وآله)
(هلموا اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي...) ولاحظ الموقف من صلح الحديبية.
راجع كتب التواريخ والرواية فيما ذكرنا. والمناقشة والتفصيل: المراجعات / السيد
العلامة عبد الحسين شرف الدين. مؤسسة دار الكتاب اسلامي تحقيق وتعليق حسين
الراضي - تقديم الدكتور حامد حفني والشيخ محمد فكري أبو النصر.
76
وقد قدر لهذا الاتجاه ممثلون جريئون من كبار الصحابة من
قبيل عمر بن الخطاب الذي ناقش الرسول (صلى الله عليه وآله)،
واجتهد في مواضع عديدة، خلافا للنص ايمانا منه بجواز ذلك ما
دام يرى أنه لم يخطي المصلحة في اجتهاده. وبهذا الصدد يمكننا ان
نلاحظ، موقفه من صلح الحديبية واحتجاجه على هذا الصلح) (123)،
وموقفه من الاذان وتصرفه فيه باسقاط (حي على خير العمل) (124)
وموقفه من النبي حين شرع متعة الحج (125) إلى غير ذلك من مواقفه
(123) راجع السيرة النبوية / لابن هشام / القسم الثاني / ص 316 / 317، تحقيق مصطفى السقا
وآخرين دار الكنوز الأدبية بيروت.
وراجع أيضا: تاريخ الطبري / ج 2 / ص 122.
(124) راجع شرح التجريد / القوشجي / آخر مبحث الإمامة قال: كانت همم أولي الأمر منصرفة
إلى نشر الدعوة الاسلامية وفتح المشارق والمغارب وفتح الممالك لا يكون الا بتشويق
الجند إلى التورط في سبيله بالمهالك، بحيث يشربون في قلوبهم الجهاد، حتى يعتقدون أنه
خير عمل يرجونه، يوم المعاد. ولذا ترجح في نظر هم إسقاط هذا الفصل يعني حي على خير
العمل - في الاذان - تقديما لتلك المصلحة على التعبد بما جاء به الشرع الأقدس، فقال
الخليفة الثاني على المنبر: ثلاث كن على عهد رسول الله، وأنا أنهى عنهن، وأحرمهن،
وأعاقب عليهن، متعة النساء ومتعة الحج، وحي على خير العمل.
(125) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول / الشيخ منصور على ناصف من علماء الأزهر
الشريف / ج 2 / ص 124 - كتاب الحج - عن أبي حمزه الضبعي قال: تمتعت فنهاني ناس
عن ذلك فسالت ابن عباس، فأمرني بها ثم انطلقت إلى البيت فتمت فأتاني آت في منامي
فقال: عمرة متقبلة وحج مبرور قال: فاتيت ابن عباس فأخبرته بما رأيت فقال: الله أكبر
الله أكبر سنة أبي القاسم (صلى الله عليه وآله) ورواه مسلم والبخاري... وعن عمران بن
حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله ففعلناه مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولم
يحرمها قرآن، ولم ينه عنها حتى ورواه الشيخان قال الشيخ ناصف في الهامش
(اشتهر النهي عن المتعة عن عمر وعثمان ومعاوية).
77
الاجتهادية (126).
وقد انعكس كلا الاتجاهين في مجلس الرسول (صلى الله عليه
وآله) في آخر يوم من أيام حياته فقد روى البخاري في صحيحه عن
ابن عباس قال: لما حضر رسول الله الوفاة وفي البيت رجال فيهم
عمر بن الخطاب، قال النبي (صلى الله عليه وآله) هلم اكتب الكم كتابا
لن تضلوا بعده. فقال عمر: إن النبي (صلى الله عليه وآله) قد غلب
عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت
فاختصموا، منهم من يقول، قربوا يكتب لكم النبي كتابا لن تضلوا
بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند
النبي قال لهم: قوموا (127).
وهذه الواقعة وحدها كافية للتدليل على عمق الاتجاهين،
ومدى التناقض والصراع بينهما.
ويمكن أن نضيف إليها - لتصوير عمق الاتجاه الاجتهادي
ورسوخه - ما حصل من نزاع وخلاف بين الصحابة حول تأمير أسامة
ابن زيد على الجيش بالرغم من النص النبوي الصريح على ذلك، حتى خرج الرسول (صلى الله عليه وآله) وهو مريض - فخطب الناس وقال:
(126) راجع تفاصيل أوفى / النص والاجتهاد / العلامة عبد الحسين شرف الدين / ص 169 / 243.
(127) راجع صحيح البخاري / كتاب العلم / ج 1 / ص 37، طبعة دار الفكر - بيروت / 1981
وراجع: الطبقات الكبرى / لابن سعد / ج 2 / ص 242.
78
(يا أيها الناس من مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة،
ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأمير أبيه من قبل، وأيم
الله إن كان لخليقا بالامارة، وإن ابنه من لخليق بها) (128).
وهذان الاتجاهان اللذان بدا الصراع بينهما في حياة النبي
(صلى الله عليه وآله)، قد انعكسا على موقف المسلمين من إطروحة
زعامة الامام للدعوة بعد النبي (صلى الله عليه وآله). فالممثلون
للاتجاه التعبدي وجدوا في النص النبوي على هذه الأطروحة سببا
بقبولها، دون توقف أو تعديل.
وأما الاتجاه الاجتهادي فقد رأى أنه بامكانه أن يتحرر من
الصيغة المطروحة من قبل النبي (صلى الله عليه وآله)، إذا أدى اجتهاده
إلى صيغة أخرى أكثر انسجاما - في تصوره - مع الظروف.
وهكذا ترى أن الشيعة ولدوا منذ وفاة الرسول (صلى الله عليه
وآله) مباشرة متمثلين في المسلمين الذين خضعوا عمليا لأطروحة
زعامة الامام وقيادته التي فرض النبي الابتداء بتنفيذها من حين
وفاته مباشرة، وقد تجسد الاتجاه الشيعي، منذ اللحظة الأولى في
إنكار ما اتجهت إليه السقيفة من تجميد لأطروحة زعامة الإمام علي،
واسناد السلطة إلى غيره.
ذكر الطبرسي في الاحتجاج عن أبان بن تغلب قال: (قلت
(128) راجع الطبقات الكبرى / لابن سعد / ج 2 / ص 248، وراجع أيضا الكامل في التاريخ / لابن الأثير / ج 2 / ص 318 / 319.
79
لجعفر بن محمد الصادق: جعلت فداك، هل كان أحد في أصحاب
رسول الله أنكر على أبي بكر فعله؟ قال: نعم كان الذي أنكر عليه اثنا عشر رجلا، فمن المهاجرين: خالد بن سعيد: ابن أبي العاص،
وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، والمقداد بن الأسود وعمار بن
ياسر، وبريدة الأسلمي، ومن الأنصار: أبو الهيثم بن التيهان، وعثمان
ابن حنيف وخزيمة بن ثابت ذو الشهادتين، وأبي بن كعب، وأبو
أيوب الأنصاري) (129).
وقد تقول: إذا كان الاتجاه الشيعي يمثل التعبد بالنص، والاتجاه الاخر المقابل له يمثل الاجتهاد، فهذا يعني أن الشيعة
يرفضون الاجتهاد ولا يسمحون لأنفسهم به، مع انا نجد أن الشيعة يمارسون عملية الاجتهاد في الشريعة دائما!
والجواب: إن الاجتهاد الذي يمارسه الشيعة ويرونه جائزا بل واجبا،
وجوبا كفائيا، هو الاجتهاد في استنباط الحكم الشرعي من النص
الشرعي، لا الاجتهاد في النص الشرعي لرأي يراه المجتهد أو لمصلحة يخمنها (130)، فإن هذا غير جائز، والاتجاه الشيعي يرفض أي
(129) الاحتجاج / الطبرسي / ج 1 / ص 75 نشر مؤسسة الأعلمي - بيروت / 1983 (الشهيد)
وراجع: تاريخ اليعقوبي / ج 2 / ص 103.
(130) راجع: المعالم الجديدة للأصول / الشهيد الصدر (رض) ص 23 وما بعدها ففيه تفصيل
واف لتطور دلالة الاجتهاد وأنه كان مما يتحرج منه إذ كان يراه به (المبدأ الفقهي الذي
يتخذ من التفكير الشخصي مصدرا من مصادر الحكم وقد دخلت الحملة ضد هذا المبدأ
الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضا والرواد الذين حملوا آثارها...) فالاجتهاد هنا
إذا اعتبر دليلا من أدلة الفقيه ومصدرا من مصادر يستدل به إذا لم يتوفر عنده النص، هذا
النوع من الاجتهاد، وهو ما نادت به مدارس كثيرة في الفقه السني كمدرسة أبي حنيفة،
مرفوض وقد قال الطوسي: (اما القياس والاجتهاد عندنا فليسا بدليلين بل محظور في
الشريعة استعمالهما ولكن عندما تطور مفهوم الاجتهاد وصار يعني عملية استنباط الحكم
من النص اي صار يرادف عملية الاستنباط أصبح مقبولا ومعمولا به وراجع أقسام الاجتهاد
وأنواعه، ونطاقه: الأصول العامة للفقه المقارن / العلامة محمد تقي الحكيم / ص 561 وما
بعدها.
80
ممارسة للاجتهاد بهذا المعين، ونحن حينما نتحدث عن قيام
اتجاهين منذ صدر الاسلام:
أحدهما: اتجاه التعبد بالنص، والاخر: اتجاه الاجتهاد ونعني
بالاجتهاد هنا، الاجتهاد في رفض النص أو قبوله.
وقيام هذين الاتجاهين شئ طبيعي في ظل كل رسالة تغييرية
شاملة تحاول تغيير الواقع الفاسد من الجذور فإنها تتخذ درجات
مختلفة من التأثير حسب حجم الرواسب المسبقة ومدى انصهار الفرد
بقيم الرسالة الجديدة ودرجة ولائه لها.
وهكذا نعرف أن الاتجاه الذي يمثل التعبد بالنص يمثل
الدرجة العليا من الانصهار بالرسالة والتسليم الكامل لها، وهو لا يرفض
الاجتهاد ضمن إطار النص، وبذل الجهد في استخراج الحكم الشرعي
منه (131) ومن المهم أن نشير - في هذا الصدد أيضا - إلى أن التعبد *
(131) راجع:: الأصول العامة للفقه المقارن / محمد تقي الحكيم / ص 563.
81
بالنص لا يعني الجمود والتصلب الذي يتعارض مع متطلبات التطور
وعوامل التجديد المختلفة في حياة الانسان، فإن التعبد بالنص معناه
- كما عرفنا - التعبد بالدين، والاخذ به كاملا، دون تبعيض، وهذا الدين
نفسه يحمل في أحشائه كل عناصر المرونة والقدرة علي مسايرة
الزمن واستيعابه، بكل ما يحمل من ألوان التجديد والتطور، فالتعبد به
وبنصه تعبد بكل تلك العناصر، وبكل ما فيها من قدرة على الخلق
والابداع والتجديد. (132) هذه خطوط عامة في تفسير التشيع، بوصفه
ظاهرة طبيعية في إطار الدعوة الاسلامية، وتفسير ظهور الشيعة
كاستجابة لتلك الظاهرة الطبيعية.
(132) راجع: المعالم الجديدة للأصول / ص 40.
82
المبحث الثاني
المرجعية الفكرية والمرجعية القيادية
إن إمامة أهل البيت والإمام علي التي تمثلها تلك الظاهرة
الطبيعية تعبر عن مرجعيتين.
إحداهما المرجعية الفكرية والأخرى المرجعية في العمل
القيادي والاجتماعي، وكلتا المرجعيتين كانتا تتمثلان في شخص النبي
(صلى الله عليه وآله)، وكان لابد في ضوء ما درسنا من ظروف أن
يصمم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) الامتداد الصالح له لتحمل
كلتا المرجعيتين، لكي تقوم المرجعية الفكرية بملء الفراغات التي قد
تواجهها ذهنية المسلمين، وتقديم المفهوم المناسب، ووجهة النظر
الاسلامية فيما يستجد من قضايا الفكر والحياة وتفسير ما يشكل
ويغمض من معطيات الكتاب الكريم (133) الذي يشكل المصدر
(133) راجع ما أثبتناه في الملحق آخر الكتاب حول هذه المسألة: مدى قدرة الإمام علي (ع)
واستيعابه لكتاب الله تعالى واحاطته بخاصة وعامه، وبناسخه ومنسوخه وبأحكامه
وشرائعه وبظاهره وباطنه وراجع مثلا: الاتقان / السيوطي / ج 4 / ص 234.
83
الأول للمرجعية الفكرية في الاسلام ولكي تقوم المرجعية القيادية
الاجتماعية بمواصلة المسيرة، وقيادة المسيرة الاسلامية في خطها
الاجتماعي.
وقد جمعت كلتا المرجعيتين لأهل البيت (عليهم السلام)،
بحكم الظروف التي درسناها، وجاءت النصوص النبوية الشريفة تؤكد
ذلك باستمرار والمثال الرئيسي للنص النبوي على المرجعية الفكرية
حديث الثقلين إذ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
إني أو شك أن ادعى فأجيب واني تارك فيكم الثقلين كتاب
الله، حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأن
اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض،
فانظروا كيف تخلفوني فيهما... (134) والمثال الرئيسي للنص النبوي
على المرجعية في العمل القيادي الاجتماعي حديث الغدير حيث
أخرج الطبراني بسند مجمع على صحته عن زيد بن أرقم قال: خطب
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بغدير تحت شجرات فقال:
(134) المستدرك على الصحيحين / الحاكم النيسابوري ج 3 / ص 119 قال: صحح على شرط
الشيخين (الشهيد) وقد أخرجه مسلم في صحيحه / ج 4 / ص 1874 (الشهيد) وراجع:
صحيح الترمذي / ج 1 / ص 130 (الشهيد).
السنن الكبرى / النسائي / ج 5 / ص 622 (الشهيد).
مسند الإمام أحمد بن حنبل / ج 4 / ص 217، ج 3 / ص 14 / ص 17 (الشهيد) وراجع
أيضا: سنن الدارمي / ج 2 / ص 432 باب فضائل القرآن دار إحياء السنة النبوية.
84
أيها الناس يوشك أن ادعى فأجيب واني مسؤول وأنكم
مسؤولون فماذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وجاهدت،
ونصحت فجزاك الله خيرا، فقال: أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأن
محمدا عبده ورسوله وإن جنته حق، وأن ناره حق وأن الموت حق،
وأن البعث حق بعد الموت وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله
يبعث من في القبور؟ فقالوا: بلي نشهد بذلك قال:
اللهم اشهد. ثم قال: يا أيها الناس، إن الله مولاي وانا مولى
المؤمنين وانا أولى بهم نم أنفسهم، فمن كنت مولاه، فهذا مولاه
يعني عليا - اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه (135).
وهكذا جسد هذان النصان النبويان الشريفان، في عدد كبير من
أمثالهما، كلتا المرجعيتين في أهل البيت (عليهم السلام) وقد اخذ
الاتجاه الاسلامي القائم على التعبد بنصوص النبي (صلى الله عليه
وآله) بكلا النصين وآمن بكلتا المرجعيتين وهو اتجاه المسلمين
(135) قال الشهيد الصدر في الهامش: وحديث الغدير مستفيض في كتب الحديث عند الشيعة
والسنة معا، وقد أحصي بعض المحققين عدد رواة الحديث من الصحابة فكانوا أكثر من
مائة وعددهم من التابعين فكانوا أكثر من ثمانين تابعيا وعددهم من الحفاظ في القرن
الثاني الهجري فكانوا قرابة ستين شخصا من حفاظ الحديث ورجالاته لاحظ كتاب الغدير
للعلامة الأميني (الشهيد) أورد العلامة الأميني في كتابه الغدير عدة أحاديث عن زيد بن
أرقم وبألفاظ مختلفة ويبدو ان السيد الشهيد قد جمع بين تلك المرويات وأخرجها بهذا
الشكل راجع الغدير / ج 1 / ص 31 - 36 وراجع تخريج الحديث في الملحق تذكر
منها: سنن ابن ماجة / ج 1 / المقدمة - الباب 11.
ومسند الإمام أحمد بن حنبل / ج 4 / ص 281 ص 368 طبعة دار صادر.
85
الموالين لأهل البيت. ولئن كانت المرجعية القيادية الاجتماعية لكل
إمام تعني ممارسته للسلطة خلال حياته، فإن المرجعية الفكرية حقيقة
ثابتة مطلقة لا تتقيد بزمان حياة الامام. ومن هنا كان لها مدلولها
العملي الحي في كل وقت، فما دام المسلمون بحاجة إلى فهم محدد
للاسلام وتعرف على احكامه وحلاله وحرامه ومفاهيمه وقيمه، فهم
بحاجة إلى المرجعية الفكرية المحددة ربانيا المتمثلة أولا: في كتاب
الله تعالى وثانيا: في سنة رسوله (صلى الله عليه وآله) والعترة
المعصومة من أهل البيت التي لا تفترق ولن تفترق عن الكتاب كما
نص الرسول (136) الأعظم (صلى الله عليه وآله).
وأما الاتجاه الاخر في المسلمين الذي قام على الاجتهاد بدلا
عن التعبد بالنص فقد فرر في البدء عند وفاة الرسول الأعظم (صلى
الله عليه وآله) تسليم المرجعية القيادية التي تمارس السلطة إلى
رجالات من المهاجرين وفقا لاعتبارات متغيرة ومتحركة ومرنة. وعلى
هذا الأساس تسلم أبو بكر السلطة بعد وفاة النبي مباشرة على
أساس ما تم من تشاور محدود في مجلس السقيفة (137) ثم تولى
الخلافة عمر بنص محدد من أبي بكر (138) وخلفهما عثمان بنص غير
محدد من عمر (139)، وأدت المرونة بعد ثلث قرن من وفاة الرسول
(136) حديث الثقلين المشهور - مر تخريجه.
(137) راجع نصوص السقيفة / تاريخ الطبري / ج 2 / ص 234.
(138) راجع قصة استخلاف عمر / المصدر السابق.
(139) راجع قصة الستة الشورى في استخلاف عثمان / تاريخ الطبري / ج 2 / ص 580 وراجع
الخطبة الشقشقية للإمام علي - الخطبة رقم 3 نهج البلاغة ضبط الدكتور صبحي
الصالح / ص 48 وراجع شرحها لابن أبي الحديد / ج 1 / ص 151 وما بعدها / تحقيق أبو
الفضل إبراهيم وراجع السقيفة والخلافة / عبد الفتاح عبد المقصود / ص 264.
86
القائد إلى تسلل أبناه الطلقاء (140) الذين حاربوا الاسلام بالأمس إلى
مراكز السلطة.
هذا فيما يتصل بالمرجعية القيادية التي تمارس السلطة، وأما
بالنسبة إلى المرجعية الفكرية فقد كان من الصعب إقرارها في أهل
البيت، بعد أن أدى الاجتهاد إلى انتزاع المرجعية القيادية منهم، لان
إقرارها كان يعني خلق الظروف الموضوعية التي تمكنهم من تسلم
السلطة والجمع بين المرجعيتين كما أنه كان من الصعب أيضا من
الناحية الأخرى، الاعتراف بالمرجعية الفكرية لشخص الخليفة الذي
يمارس السلطة فالاحساس المرجعية الفكرية تختلف عن متطلبات
ممارسة السلطة فالاحساس بجدارة الشخص لممارسة السلطة
والتطبيق لا يعني بحال الشعور بإمكانية نصبه إماما فكريا ومرجعا
أعلى بعد القرآن والسنة النبوية لفهم النظرية لان هذه الإمامة الفكرية
تتطلب درجة عالية من الثقافة، والإحاطة واستيعاب النظرية وكان من
الواضح إن هذا لم يكن متوفرا في اي صحابي بمفرده (141) إذا قطع
(140) الطلقاء: وصف يطلق على من أسلم زمن الفتح في مكة ومنهم أبو سفيان وابنه معاوية،
راجع: تاريخ الطبري / ج 2 / ص 161.
علما بأنهما كانا من المؤلفة قلوبهم / راجع تاريخ الطبري / ج 2 / ص 175.
(141) لاحظ احتياجهم إلى مرجعية الإمام علي عليه السلام في موارد كثيرة وما صدر عنهم من
عبارات تصرح بذلك. راجع تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص 171 هذا مع عدم رجوع
الإمام علي (عليه السلام) إلى اي واحد منهم في أمور الشريعة واحكامها.
87
النظر عن أهل البيت (عليهم السلام).
ولهذا ظل ميران المرجعية الفكرية يتأرجح فترد من الزمن،
وظل الخلفاء في كثير من الحالات، يتعاملون مع الإمام علي على
أساس إمامته الفكرية، أو على أساس قريب من ذلك حتى قال
الخليفة الثاني مرات عديدة: (لولا علي لهلك عمر، ولا أبقاني الله
لمعضلة ليس لها أبو حسن) (124) ولكن بمرور الزمن، بعد وفاة النبي
(صلى الله عليه وآله)، وتعود المسلمين تدريجيا على النظر إلى أهل
البيت، والإمام علي بوصفهم أشخاصا اعتياديين ومحكومين أمكن
الاستغناء عن مرجعيتهم الفكرية أساسا، وإسنادها إلى بديل معقول،
وهذا البديل ليس هو شخص الخليفة بل الصحابة، وهكذا وضع
بالتدريج مبدأ مرجعية الصحابة، ككل، بدلا عن مرجعية أهل البيت،
وهو بديل يستسيغه النظر بعد تجاوز المرجعية المنصوصة لان هؤلاء
هم الجيل الذي رافق النبي (صلى الله عليه وآله) وعاش حياته
وتجربته، ووعى حديثه وسنته (143).
(142) الطبقات الكبرى / ج 2 / ص 339.
(143) لاحظ أولا تقييم الشهيد الصدر للجيل الأول من الصحابة وهو تقييم ينم عن مدى
الموضوعية التي تمسك بها الشهيد الصدر (رضوان الله عليه) في تناوله لتاريخ المسلمين،
ولدور الرعيل الأول.
وثانيا: إن جعل الصحابة بديلا عن أهل البيت، لم يحظ بالقبول من كثير من أجلاء الصحابة كسلمان وعمار وأبي ذر والمقداد وغيرهم بل بقي هؤلاء على ولاتهم لأهل البيت،
وثالثا: إنه وإن أصبحت سيرد الصحابة أو قول الصحابي أمرا واقعا إلا أنه لم يتم
التسليم بحجية أقوالهم وحسبك ان سيرة الشيخين عرضت على الإمام علي (عليه السلام)
يوم الشورى فلم يقبل بها، وراجع المناقشة العلمية الشافية في الأصول العامة للفقه
المقارن / العلامة محمد تقي الحكيم / ص 133 - 142.
88
وبهذا فقد أهل البيت عمليا امتيازهم الرباني، وأصبحوا
يشكلون جزءا من المرجعية الفكرية بوصفهم صحابة وبحكم ما قدر
أن عاشه الصحابة أنفسهم من اختلافات حادة، وتناقضات شديدة،
بلغت، في كثير من الأحيان إلى مستوى القتال وهدر كل فريق دم
الفريق الاخر وكرامته، واتهامه بالانحراف والخيانة (144) وبحكم هذه
الاختلافات والاتهامات بين صفوف الإمامة الفكرية، والمرجعية
العقائدية نفسها، نشأت ألوان من التناقض العقائدي والفكري (145) في
جسم الأمة الاسلامية كانعكاسات لاوجه التناقض في داخل تلك
الإمامة الفكرية التي قررها الاجتهاد
(144) راجع اتهام الخليفة الثاني عمر بن الخطاب لخالد بن الوليد بأنه قبل رجلا مسلما ونزا على
(145) راجع مناهج الاجتهاد / د. محمد سلام مدكور / حول نشوء الفرق والمذاهب الاسلامية
الكلامية والفقهية والنزاعات الحاصلة بينهم.
وراجع أيضا: الملل والنحل / الشهرستاني / ج 1 / ص 15 وما بعدها.
89
المبحث الثالث
التشيع الروحي والتشيع السياسي
أود أن أشير هنا إلى نقطة أعتبر توضيحها على درجة كبيرة من
الأهمية، وهي أن بعض الباحثين يحاول التمييز بين نحوين من
التشيع، أحدهما (التشيع الروحي)، والاخر (التشيع السياسي) ويعتقد
أن التشيع الروحي أقدم عهدا من التشيع السياسي (146)، وأن أئمة
الشيعة الإمامية - من أبناء الحسين (عليه السلام) قد اعتزلوا بعد
مذبحة كربلاء السياسة، وانصرفوا إلى الارشاد والعبادة، والانقطاع عن
الدنيا.
والحقيقة أن (التشيع) لم يكن في يوم من الأيام منذ ولادته
مجرد اتجاه روحي بحت، وإنما ولد التشيع في أحضان الاسلام
(146) راجع: الصلة بين التصوف والتشيع / الدكتور الشيبي / ج 1 / ص 12.
وراجع أيضا: مقدمة في تاريخ صدر الاسلام / الدكتور عبد العزيز الدوري / ص 72.
91
بوصفه إطروحة مواصلة الإمام علي (عليه السلام) للقيادة بعد النبي
فكريا واجتماعيا وسياسيا على السواء كما أوضحنا سابقا عند
استعراض الظروف التي أدت إلى ولادة التشيع ولم يكن بالامكان
بحكم هذه الظروف التي استعرضناها - أن يفصل الجانب الروحي
عن الجانب السياسي في أطروحة التشيع تبعا لعدم انفصال أحدهما
عن الاخر في الاسلام نفسه.
فالتشيع إذن لا يمكن أن يتجزأ إلا إذا فقد معناه كأطروحة
لحماية مستقبل الدعوة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو مستقبل
بحاجة إلى المرجعية الفكرية والزعامة السياسية للتجربة الاسلامية
معا. وقد كان هناك ولاء واسع النطاق للامام على (عليه السلام) في
صفوف المسلمين باعتباره الشخص الجدير بمواصلة دور الخلفاء
الثلاثة في الحكم وهذا الولاء هو الذي جاء به إلى السلطة عقيب
مقتل الخليفة عثمان (147) ولكن هذا الولاء ليس تشيعا روحيا ولا
سياسيا، لان التشيع يؤمن بعلي كبديل عن الخلفاء الثلاثة وخليفة
مباشر للرسول (صلى الله عليه وآله) فالولاء الواسع للامام في صفوف
المسلمين أوسع نطاقا من التشيع الحقيقي الكامل، وإن نما التشيع
الروحي والسياسي داخل إطار هذا الولاء فلا يمكن أن نعتبره مثالا
على التشيع المجزأ. كما أن الإمام علي (عليه السلام) يتمتع بولاء
(147) راجع: تاريخ الطبري / ج 2 / ص 696 وما بعدها وراجع أيضا وصف الحالة في خطبة الإمام علي
من قوله: (فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلى ينثالون علي من كل جانب... مجتمعين
حولي كربيضة الغنم نهج البلاغة / ضبط الدكتور صبحي الصالح / ص 48 - الشقشقية.
92
روحي وفكري من عدد من كبار الصحابة في عهد أبي بكر وعمر من
قبيل سلمان وأبي ذر وعمار وغيرهم، ولكن هذا لا يعني أيضا تشيعا
روحيا منفصلا عن الجانب السياسي بل إنه تعبير عن إيمان أولئك
الصحابة بقيادة الإمام علي للدعوة بعد وفاة النبي فكريا وسياسيا وقد
انعكس إيمانهم بالجانب الفكري من هذه القيادة بالولاء الروحي
المتقدم وانعكس إيمانهم بالجانب السياسي منها بمعارضتهم لخلافة
أبي بكر (148) وللاتجاه الذي أدى إلى صرف السلطة عن الامام إلى غيره.
ولم تنشأ في الواقع النظرة التجزيئية إلى التشيع الروحي بصورة
منفصلة عن التشيع السياسي ولم تولد في ذهن الانسان الشيعي، إلا
بعد أن استسلم إلى الواقع، وانطفأت جذوة التشيع في نفسه كصيغة
محددة لمواصلة القيادة الاسلامية في بناء الأمة، وإنجاز عملية التغيير
الكبيرة التي بدأها الرسول الكبير، وتحولت إلى مجرد عقيدة يطوي
الانسان عليها قلبه، ويستمد منها سلوته وأمله.
وهنا نصل إلى ما يقال من أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
من أبناء الحسين (عليه السلام) اعتزلوا السياسية وانقطعوا عن الدنيا،
فتلاحظ أن التشيع بعد أن فهمناه كصيغة لمواصلة القيادة الاسلامية،
والقيادة الاسلامية لا تعني إلا ممارسة عملية التغيير التي بدأها
الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بناء الأمة على أساس
الاسلام، فليس من الممكن أن نتصور تنازل الأئمة عن الجانب
(148) راجع ما نقله الطبرسي في الاحتجاج / ج 1 / ص 75.
93
السياسي إلا إذا تنازلوا عن التشيع. غير أن الذي ساعد على تصور
اعتزال الأئمة وتخليهم من الجانب السياسي من قيادتهم، ما بدا من
عدم إقدامهم على عمل مسلح ضد الوضع الحاكم مع إعطاء الجانب
السياسي من القيادة معن ضيقا لا ينطبق إلا على عمل مسلح من
هذا القبيل.
ولدينا نصوص عديدة عن الأئمة (عليهم السلام) توضح أن
إمام الوقت دائما كان مستعدا لخوض عمل مسلح إذا وجدت لديه
القناعة بوجود الأنصار والقدرة على تحقيق الأهداف الاسلامية من
وراء ذلك العلم المسلح (149).
ونحن إذا تتبعنا سير الحركة الشيعية، نلاحظ أن القيادة الشيعية
المتمثلة في أئمة أهل البيت، كانت تؤمن بأن تسلم السلطة وحده
لا يكفي، ولا يمكن من تحقيق عملية التغيير إسلاميا، ما لم تكن هذه
السلطة مدعمة بقواعد شعبية واعية تعي أهداف تلك السلطة وتؤمن
بنظريتها في الحكم، وتعمل في سبيل حمايتها، وتفسير مواقفها
للجماهير، وتصمد في وجه الأعاصير:
وفي نصف القرن الأولى بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)
كانت القيادة الشيعية بعد إقصائها عن الحكم، تحاول باستمرار استعادة الحكم بالطرق التي تؤمن بها، لأنها كانت تؤمن بوجود قواعد
(149) راجع: أصول الكافي / ج 2 / ص 190 - باب في قلد عدد المؤمنين / الطبعة الاسلامية
طهران / 1388 ه.
94
شعبية واعية، أو في طريق التوعية من المهاجرين والأنصار والتابعين
باحسان ولكن بعد نصف قرن وبعد أن لم يبق من هذه القواعد
الشعبية شئ مذكور ونشأت أجبال مائعة (150) في ظل الانحراف، لم
يعد تسلم الحركة الشيعية للسلطة محققا للهدف الكبير لعدم وجود
القواعد الشعبية المساندة بوعي وتضحية وأمام هذا الواقع كان لابد
من عملين:
أحدهما: العمل من أجل بناء هذه القواعد الشعبية الواعية
التي تهئ أرضية صالحة لتسلم السلطة.
وثانيهما: تحريك ضمير الأمة الاسلامية وإرادتها والاحتفاظ
للضمير الاسلامي والإرادة الاسلامية بدرجة من الحياة والصلابة
تحصن الأمة ضد التنازل المطلق عن شخصيتها وكرامتها للحكام
المنحرفين.
والعمل الأول هو الذي مارسه الأئمة (عليهم السلام) بأنفسهم،
والعمل الثاني، هو الذي مارسه ثائرون علويون كانوا يحاولون
(150) راجع ما أحدثته السياسة الأموية في أوساط الأمة من نشر اللهو وإشاعة المجون وشرب
الخمر ثم استخدام سياسية البطش والقمح ضد كل المناوئين.
راجع في هذه القضية مروج الذهب / المسعودي / ج 3 / ص 214 وما بعدها.
وراجع: العقد الفريد / ابن عبد ربه / ج 5 / ص 200 - 202.
وراجع: الأغاني / أبي الفرج الأصفهاني / ج 7 / ص 6 وما بعدها طبعة دار الفكر
بيروت / ط 1 / 1407 ه
وراجع: حول عبث الأمويين في الأموال: العدالة الاجتماعية في الاسلام / سيد قطب.
95
بتضحياتهم الباسلة أن يحافظوا على الضمير الاسلامي والإرادة
الاسلامية وكان الأئمة (عليهم السلام) يسندون المخلصين منهم.
قال الإمام علي بن موسى الرضا للمأمون وهو يحدثه عن زيد
ابن علي الشهيد: (أنه كان من علماء آل محمد، غضب لله تعالى
فجاهد أعداءه، حتى قتل في سبيله، ولقد حدثني أبي موسى بن
جعفر أنه سمع أباه جعفر بن محمد يقول: رحم الله عمي زيدا، إنه
دعا إلى الرضا من آل محمد، ولو ظفر لو في بما دعا إليه... إن زيد بن
علي لم يدع ما ليس له بحق، وإنه كان أتقى لله من ذلك، انه قال:
أدعوكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) (151).
وفي رواية انه ذكر بين يدي الإمام الصادق من خرج من آل
محمد، فقال: (لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل
محمد، ولوددت أن الخارجي من آل محمد خرج وعلي نفقة
عياله) (152).
فترك الأئمة إذن العمل المسلح بصورة مباشرة ضد الحكام
المنحرفين لم يكن يعني تخليهم عن الجانب السياسي من قيادتهم
(151) وسائل الشيعة / للحر العاملي / تحقيق عبد الكريم الشيرازي / ج 11 / ص 39 / ط 5 / المكتبة
الاسلامية - طهران / 1401 ه (الشهيد). وراجع الطبعة المحققة / مؤسسة آل البيت / قم
ج 15 / ص 54 كتاب الجهاد.
(152) السرائر / لابن إدريس / ج 3 / ص 569 الرواية عن أبي عبد الله السياري عن رجل من
الأصحاب / مؤسسة النشر الاسلامي / قم (الشهيد).
96
وانصرافهم إلى العبادة، وإنما يعبر عن اختلاف صيغة العمل
الاجتماعي التي تحددها الظروف الموضوعية، وعن إدراك معمق
لطبيعة العمل التغييري وأسلوب تحقيقه.
تم بحمد الله تعالى وعونه وتوفيقه تحقيق الكتاب والتعليق عليه
محرم الحرام / 1414 ه
د. شرارة
97
ملحق البحث
الاعداد التربوي والفكري لولاية علي (عليه السلام) وخلافته
بقلم الدكتور عبد الجبار شراره
99
المبحث الأول
* الاعداد التربوي والفكري لعلي (عليه السلام)
المبحث الثاني
* إعداد الأمة وتهيئتها لتولي علي (عليه السلام)
الخلافة
المبحث الثالث
* مدخلية اختصاص علي (عليه السلام) بالمعرفة
القرآنية في إعداده للخلافة
101
تمهيد
إن عملية الاعداد الفكري والتربوي (الرسالي) لولاية علي بن
أبي طالب وخلافته، التي قام بها الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)
كانت تسير في خطين متوازيين ومتكاملين، وهما إعداد على (عليه
السلام)
وإعداد الأمة في آن واحد. فبينما نجد الرسول القائد (صلى
الله عليه وآله) يتعهد عليا برعاية خاصة، تربية وتثقيفا، فكريا
وعقائديا، وفق برنامج دقيق ويومي متواصل، نجده صلوات الله عليه
يتولى تهيئة ذهنية الأمة المسلمة، وتربيتها فكريا وعقائديا أيضا
لترسيخ ولاية علي، وتأكيد أهليته لقيادة المسيرة الاسلامية والتجربة
الاسلامية بعده مباشرة. وقد كان تدخل الوحي المباشر في كثير من
الموارد والمناسبات - كما سيأتي - يصب هو الاخر في هذا الاتجاه.
لقد كان قرآن ينزل دائما يحمل الإشادة بفضل على تارة،
ويدل على خصائصه تارة، وبشخصه دون غيره إلى أن يصل الامر
إلى تعليق إكمال تبليغ الرسالة على الاعلان عن ولايته، والتصريح بها
103
للأمة - كما سيأتي البيان -. هذا ما سنحاول استيضاحه وتوثيقه في هذه الدراسة التي
نلحقها بهذا البحث العميق والأصيل للشهيد الصدر (رضوان الله تعالى عليه).
وسنوزع هذه الدراسة على ثلاثة مباحث:
نعرض في المبحث الأول: عملية الاعداد الفكري والتربوي
لعلي (عليه السلام) من أجل تولي مهمة القيادة بعد النبي (صلى الله
عليه وآله).
ونعرض في المبحث الثاني عملية الاعداد الفكري والتربوي
للأمة المسلمة من اجل تلك المهمة نفسها.
ونعرض في المبحث الثالث، مدخلية إفراد علي بعلم القرآن
خاصة بتلك المهمة نفسها.
وسنحاول في هذه الدراسة الموجزة تسليط الأضواء على تلك
الحقائق معتمدين أصول البحث العلمي وقواعده، بعيدا عن
المبالغات والتمحلات، مستندين إلى المصادر الحديثية والتفسيرية
من مصنفات العلماء والمحدثين والباحثين الفضلاء وخاصة من أهل
السنة.
نستمد العون من الله تعالى وهو حسبنا ونعم والوكيل.
104
المبحث الأول
الاعداد الفكري والتربوي لعلي (عليه السلام)
نستطيع القول بكل تأكيد أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه
وآله)، قد قام بعملية الاعداد الرسالي (التربوي والفكري) لعلي بن
أبي طالب (عليه السلام) منذ صدع بالوحي، وكان صلوات الله عليه
يضع الخطوات العملية من أجل بلوغ الغاية المتوخاة من ذلك، وهي
تولي علي للمهمة القيادة (الاجتماعية والسياسية) بعده مباشرة.
ويظهر لنا من سير الاحداث، وما تناقلته كتب السيرة والتواريخ، وما
نقله الرواة الثقاة، أن ذلك تم عن طريقين:
الأول: تعهد الرسول القائد (صلى الله عليه وآله) نفسه بكفالة
علي (عليه السلام) منذ صغره، وتولي تربيته ورعايته، والحرص البالغ
علي أن لا يفارقه إلا لضرورة.
والثاني: إفراد علي (عليه السلام) من بين سائر الصحابة
105
بمقامات وعلوم ومواقف ترتبط بوجود الاسلام وبمستقبله.
فاما أولا: فإن كتب السيرة والرواية قد تكفلت ببيان تفصيلات
وافية في هذا الصدد، حتى أن أمر تعهد الرسول الأعظم (صلى الله
عليه وآله) لعلي بكفالته منذ صغره، وتربيته في بيته من أوضح ما
تزخر به سيرته الشريفة (1)، ويكفي أن نورد ما بينه الإمام علي (عليه
السلام) نفسه في خطبته الشهيرة بالقاصعة إذ يقول: (وقد علمتم
موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القربية، والمنزلة
الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني
في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني عرفه. وكان يمضغ الشئ ثم
يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل... ولقد كنت
أتبعه اتباع الفصيل اثر أمه، يرفع لي في كل يوم ن أخلافه علما،
ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه
غيري. ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الاسلام غير رسول الله
(صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا، أرى نور الوحي والرسالة وأشم
ريح النبوة...) (2).
إن هذه الصورة التي ينقلها لنا الإمام علي (عليه السلام) نفسه
عن كيفية وطريقة التعامل التي كان يتبعها النبي معه، تكشف لنا عن
حقيقة وأبعاد الهدف الأعظم من ذلك.
(1) السيرة النبوية / ابن هشام / ج 1 / ص 246، تحقيق مصطفى السقا وآخرون.
(2) نهج البلاغة / ضبط الدكتور صبحي الصالح / خطبة 192 / ص 300 / 301
106
إن هذه التربية المخصوصة لعلي (عليه السلام)، والرعاية
الفائقة، والحرص على أن يكون علي قريبا جدا من أنوار الوحي، وأن
يكون متعرضا لنفحات النبوة، وأن يكون ثالث ثلاثة في بيت الرسول
القائد حيث مهبط الوحي، فيتلقى في هذا المكان المشرف الدروس
الأولى والتوجيهات النبوية المباشرة فينعكس ذلك على تكوينه
الفكري والعقيدي (فلا يسجد لصنم قط) (3) ولا يخالط عقله لحظة
شرك، وينعكس على سلوكه (فلا كذبة في قوله، ولا خطلة في
فعل. ان هذا ليكشف عن إعداد تربوي خاص بلا أدني شك.
ومما يلاحظ في هذا الصدد أن تعهد الرسول القائد (صلى الله عليه
وآله) لعلي بالرعاية والعناية الخاصتين لم يقتصر على فترة الطفولة
والصبا، ولم يتوقف عند مرحلة معينة لأننا نجد أن الرسول القائد كان
حريصا على أن يكون علي إلى جانبه دائما لا يفارقه ليلا ولا نهارا،
كما ورد عن علي (عليه السلام) قال: (كان لي مع النبي (صلى الله
عليه وآله) مدخلان، مدخل بالليل، ومدخل بالنهار.. (4) بل نجد
الرسول القائد لا يفارق عليا ولا يتركه إلا لضرورة تتصل تحفظ حياة
الرسول نفسه أو بحفظ الدعوة الاسلامية وحمايتها من أخطار
محتملة.
(3) مناقب أمير المؤمنين / ج 2 / ص 540 / حديث رقم 1045 عن أبي سعيد الخدري وراجع
الروض الأنف / السهيلي / ج 3 / ص 16 أول ن صلى علي / الهامش (1) قال: واليه ذهب
سلمان وخباب وجابر وأبو سعيد كذا في الطبراني.
(4) السنن الكبري / الخصائص / النسائي / ج 5 / ص 141 ح 8502.
107
ونذكر على كل حالة مثالا واحدا لتأكيد المطلب.
أ - المورد الأول الذي يتصل بحفظ حياد الرسول القائد نفسه،
وهو عندما ترك رسول الله عليا ليبيت في فراشه ليلد هجرته (5)
المباركة إلى المدينة، إيهاما لقريش المترصدين، وإنجاء لنفسه
صلوات الله عليه وآله وسلم من مؤامرتهم لقتله (6). وقد نزل في ذلك
قوله تعالى: (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله..) (7)
كما ذكره الفخر الرازي (8).
ب - المورد الاخر الذي يتصل بحفظ الرسالة وحمايتها، وهو
عندما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يخرج إلى بعض مغازيه
قيل تبوك - ترك عليا في المدينة خليفة (9) عنه، لان ابن أبي بن
سلول رأس المنافقين كان قد تخلف في المدينة فاقتضى الموقف أن
يترك علي لمواجهة أي تطور غير محسوب قد يهدد دولة الرسول
القائد في المدينة، ذكر الطبري: (أنه لما سار رسول الله - إلى - تبوك -
تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب -
وكان عبد الله بن أبي إخا بني عوف بن الخزرج - وعبد الله بن نبتل أخا
بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت أخا بني قينقاع،
(5) سيرة ابن هشام / ص 95. مطبعة الحجازي / القاهرة / 1937.
(6) المصدر السابق.
(7) البقر / 207.
(8) التفسير الكبير / ج 5 / ص 204 - نشر دار الكتب العلمية - طهران - ط 3.
(9) صحيح الترمذي / ج 5 / ص 596 - مطبعة دار الفكر - تحقيق كمال الحوت.
108
كانوا - أي المذكورون - من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد
الاسلامي وأهله.
قال الطبري: وفيه - فيما حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة
عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد عن الحسين البصري - أنزل الله
تعالى: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور...) (10)... وهنا
أدرك المنافقون أن بقاء علي في المدينة سيفوت الفرصة عليهم، قال
الطبري في تتمة الخبر: (فأرجف المنافقون بعلي بن أبي طالب،
وقالوا: ما خلفه إلا استثقالا له وتخففا منه. فلما قال ذلك المنافقون،
أخذ علي سلاحه ثم خرج حتى أتي رسول الله
وهو بالجرف - موضع على مسافة من المدينة - فقال: يا نبي الله، زعم
المنافقون انك إنما خلفتك انك استثقلتني وتخففت مني فقال:
كذبوا، ولكني إنما خلفتك لما ورائي... أفلا ترضى أن يكون مني - يا
علي - بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي! فرجع علي إلى
المدينة ومضى رسول الله (صلى الله عليه وآله) على سفره) (11).
وقد نقل البخاري (12) ومسلم (13) حديث المنزلة هذا، وفي الرواية
عن سعد بن أبي وقاص: قال خلف رسول الله عليا - في بعض
(10) التوبة / 48.
(11) تاريخ الطبري / ج 2 / ص 182 / 183 البداية والنهاية / ابن كثير / ج 7 / ص 340 وما بعدها.
(12) راجع التاج الجامع للأصول / الشيخ ناصف / ج 3 / ص 332 قال: رواه الشيخان
والترمذي.
(13) صحيح مسلم / ج 4 / ص 1873.
109
مغازيه - في المدينة، فقال علي: يا رسول الله قد خلفتني مع النساء والصبيان فسمعت رسول الله يقول: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة
هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي...) (14) ومن الأمور الملفتة للنظر
أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) كان يعبر عن تلهفه وهواجسه
عندما يغيب عنه علي (عليه السلام)، ويتطلع إلى رؤيته والاطمئنان
عليه، فعن أم عطية على ما أخرجه ابن كثير (15) وحسنة، قالت: بعث
النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: (اللهم لا تمتني حتى تريني عليا) (16).
ويصل الامر أحيانا إلى أن النبي (صلى الله عليه وآله) عندما
يخص بأكلة لا يطيق أن يأكلها لوحده، ثم هو لا يكتفي بان يدعو الله
إلى أن يشاركه علي بتلك الاكلة، بل يجعلها مناسبة لبيان مقم علي
(عليه السلام) ومنزلته، فعن أنس بن مالك قال: (كان عند النبي طير
- وفي بعض الروايات طائر مشوي - (17) فقال (صلى الله عليه وآله):
(اللهم ائتني بأحب خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي
فاكل معه...) (18). ومن الملفت للنظر أن بعض الروايات تنقل أن
(14) صحيح الترمذي / 5 / ص 596.
(15) البداية والنهاية / ابن كثير / ج 7 / ص 357.
(16) التاج الجامع للأصول في أحاديث الرسول / الشيخ منصور علي ناصف / ج 3 / ص 334
دار احياء الكتب العربية - طبعة باموق استانبول ط 3 / 1961.
(17) البداية والنهاية / ج 7 / ص 351.
(18) التاج الجامع للأصول / السابق / ج 3 / ص 336.
110
محاولة جرت لصرف علي عند مجيئه إلى بيت الرسول (صلى الله
عليه وآله) بعد دعوته تلك، ولكنها فشلت بتدخل الرسول نفسه على
ما نقله ابن كثير (19).
ويستفاد من هذه الرواية - كما هو ظاهر - أن النبي (صلى الله عليه
وآله) أراد أن يرسخ ويؤكد أن عليا هو أحب الخلق إلى الله تعالى أيضا (20).
كل ذلك يدل بما لا يدع مجالا للشك على أن التربية التي
خص بها نبينا محمد (صلى الله عليه وآله) عليا، كانت تهدف إلى
إعداده وتهيئته لمسؤولية قيادة الدعوة، وليس لمجرد أن يكون أحد
أركانها وكوادرها الأساسية. إذ وجدنا الرسول القائد يتعهد جمعا من
صحابته بالتربية والتثقيف والرعاية، ولكن ليس بمثل المستوي
والطريقة والأسلوب والعناية التي اتبعت مع علي مما يكشف أن
المسؤولية المنوطة بعلي هي أكبر بكثير من مسؤولية الآخرين.
أما الأسلوب الثاني: وهو افراد علي واختصاصه بالعلوم،
وخاصة القرآنية، وبالمواقف الحاسمة في تاريخ الرسول والرسالة، وتثقيفه
تثقيفا مركزا بأحكام الشريعة، فإن هناك شواهد كثيرة وأدلة وفيرة عليه،
ومن يراجع كتب الحديث والسيرة والتواريخ (21) يظفر بالكثير جدا.
(19) البداية والنهاية / ص 351 / 352.
(20) غاية المأمول شرح التاج للأصول / ج 3 / ص 336، الهامش (6) قال عن الحديث
(وفيه أن عليا رضي الله عنه أحب الخلق إلى الله تعالى).
(21) راجع مختصر تاريخ ابن عساكر / لابن منظور / ج 17 / ص 356 وما بعدها ج 18 إلى ص 51.
111
ونذكر أمثله وشواهد عليه تثبيتا للمطلب:
لقد تولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بنفسه، وبأمر إلهي
مهمة الاعداد الفكري والعلمي لعلي، وتزويده دون سواه بالمعرفة
القرآنية الشاملة، وبأصول العلوم ينابيعها وبالحكمة وآدابها، وبتفهيم
أحكام الشريعة حلالها وحرامها.
جاء عن علي (عليه السلام) قوله: (علمني رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ألف باب من العلم، يفتح لي من كل باب ألف باب
.. (22). وكان علي (عليه السلام) تارة يبادر هو بالحصول على
المعارف والعلوم والاحكام من الرسول الأعظم، وتارة يبادر الرسول
(صلى الله عليه وآله) نفسه بذلك، قال علي (عليه السلام): (كنت إذا
سألت النبي (صلى الله عليه وآله) أعطاني، وإذا سكت ابتداني...) 23).
ثم قال مرة (إن الله وهب لي لسانا سؤولا وقلبا عقولا..) (24) وفي
حديث طويل تحدث الإمام علي (عليه السلام) في هذا الصدد قائلا:
(ما نزلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) آية إلا أقرأنيها وأملاها
علي فكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها،
ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها ودعا الله لي إن يعطيني فهمها
وحفظها فما نسيت آية من كتاب الله تعالى، وعلما املاه علي وكتبته
(22) الارشاد / الشيخ المفيد / رواية عن عبد الله بن مسعود / ص 22.
(23) التاج الجامع للأصول / ج 3 / ص 335 تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص 170 الصواعق
المحرقة / ابن حجر / ص 126 / 127.
(24) الاتقان / السيوطي / ج 4 / ص 234.
112
منذ دعا الله لي بما دعا، وما ترك رسول الله علما علمه الله من حلال
ولا حرام، ولا أمر ولا نهي كان أو يكون... إلا علمنيه وحفظته، ولم
أنس حرفا واحدا منه... (25).
وقد أورد السيوطي أن معمر روى عن وهب عن أبي الطفيل
قال: شهدت عليا يخطب وهو يقول: سلوني فوالله لا تسألوني عن
شئ إلا أحدثكم به، وسلوني عن كتاب الله، فوالله ما من آية إلا وأنا
أعلم أبليل نزلت أم في نهار أم في سهل أم في جبل...) (26).
قال السيوطي: (إن أحدا من الصحابة لم يجرؤ على أن يقول
سلوني غير علي...) (27).
وكل ما تحدث به علي، ونقله لنا التاريخ نقلا أمينا، شهد به
أجلاء الصحابة وأقر به علماؤهم وكبارهم، فقد أخرج أبو نعيم في
الحلية عن ابن مسعود أنه قال: (إن القرآن انزل على سبعة أحرف، ما
منها حرف إلا وله ظهر وبطن، وإن علي بن أبي طالب عنده من
الظاهر والباطن...) (28) وجاء عن ابن عباس أنه قال: (والله لقد
(25) نهج البلاغة / خطبة 210 ص 325 ضبط الدكتور صبحي الصالح 110 راجع أيضا بحار الأنوار
/ المجلسي / ج 92 / ص 99 طبعة طهران.
(26) الاتقان / ج 4 / ص 233 وراجع طبقات ابن سعد / ج 2 / ص 338 الصواعق المحرقة
ابن حجر / ص 127.
(27) تاريخ الخلفاء / ص 166.
(28) نقله في الاتقان / السيوطي / ج 4 / ص 233.
113
أعطي علي بن أبي طالب تسعد أعشار العلم) (29)، وورد عنه أيضا
قوله: (كنا نتحدث أن النبي (صلى الله عليه وآله) عهد إلى علي
سبعين عهدا، لم يعهد إلى غيره) (30). وعمليا كان علي مرجع
الصحابة في كل ما يعرضهم من المسائل العلمية والمشاكل الإدارية،
والمعضلات القضائية. فلقد ثبت عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب
أنه قال: (لولا علي لهلك عمر) (31) وأنه كان يقول: (أعوذ بالله من
معضلة، ولا أبو حسن لها...) (32)، وثبت عنه أنه قال: (أقضانا
علي...) (33). والقضاء يعني العلم بكل احكام الشرع.
(29) ينابيع المودة / القندوزي / ج 1 / ص 69.
(30) حلية الأولياء / ج 1 / ص 68 - دار الكتب العربية / بيروت / ط 5.
(31) البداية والنهاية / ابن كثير / ج 7 / ص 359، وراجع تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص 171.
(32) المصدر السابق / ج 7 / ص 373، الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص 127.
(33) الطبقات الكبرى / ابن سعد / ج 3 / ص 339 ط 2 دار الكتب العلمية / بيروت / 1408 ه.
114
المبحث الثاني
إعداد الأمة وتهيئتها لتولي علي (عليه السلام) الخلافة
لقد بدأت علمية إعداد الأمة وتربيتها لقبول واستقبال خلافة
علي (عليه السلام)، وقيادته للمسيرة الاسلامية بعد النبي (صلى الله
عليه وآله)، منذ وقت مبكر، فعندها أمر النبي الأكرم بالانذار والتبليغ
كما في قوله تعالى: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) (34)
قال الطبري: وكان قبل ذلك في السنين الثلاث من مبعثه إلى أن أمر
باظهار الدعاء إلى الله، مستسرا مخفيا أمره (صلى الله عليه وآله)، وأنزل
عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين) (35) ثم أخرج الطبري رواية عن
عبد الله بن عباس عن علي بن أبي طالب، قال: (لما نزلت هذه الآية
علي رسول الله (صلى الله عليه وآله) (وأنذر عشيرتك الأقربين)
دعاني رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال لي يا علي إن الله أمرني
(34) الحجر / 94.
(35) الشعراء / 214.
115
أن أنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعا، وعرفت أني متى
أباديهم بهذا الامر أرى منهم ما أكره فصمت عليه حتى جاءني
جبريل، فقال يا محمد إلا تفعل ما تؤمر به يعذبك ربك، فاصنع لنا
صاعا من طعام واجعل عليه رجل شاة، واملأ لنا عسا من لبن ثم
أجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلمهم وأبلغهم ما أمرت به، ففعلت
ما امرني به ثم دعوتهم له وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو
ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب والحمزة والعباس وأبو لهب...)
وتكررت المحاولة فلما أكلوا وشربوا قال الطبري: (فتكلم رسول الله
فقال: يا بني عبد المطلب إني والله ما اعلم شابا في العرب جاء قومه
بأفضل ما جئتكم به إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد امرني الله
تعالى أن أدعوكم إليه فأيكم يؤازرني على هذا الامر على أن يكون
أخي ووصيي وخليفتي فيكم. قال: فأحجم القوم عنها جميعا، فقلت
وأني لأحدثهم سنا، وأرمصهم عينا... أنا يا بني الله أكون وزيرك عليه،
فاخذ برقبتي ثم قال: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم فاسمعوا
له وأطيعوا قال - أي علي (عليه السلام) - فقام القوم يضحكون،
ويقولون لأبي طالب قد امرك أن تسمع لابنك وتطيع...) (36).
ومن هذه الروايد يتضح لنا أن أول عملية لاعداد الذهنية من
(36) تاريخ الطبري / ج 3 / ص 218 / 219 / المطبعة الحسينية بمصر / الطبعة الأولى
راجع تفصيل الرواية وأسانيدها في ما نزل من القرآن في علي / لأبي نعيم / جمع الشيخ
المحمودي / ص 155. وراجع تفسير الخازن / ج 3 ص 371 طبعة دار المعرفة / بيروت.
116
أجل قبول علي، وصيا وخليفة، قد تمت في الوسط الخاص،
(عشيرة النبي المقربين) وكان ذلك جنبا إلى جنب مع التبشير برسالته
والاعلان عن نبوته وبعثته صلوات الله وسلامه عليه.
ثم اتخذت عملية إعداد الأمة منحى آخر:
فقد بدا القران يتنزل تباعا، وبدا علي يقاتل دونه مع رسول
الله وبدأت الآيات القرآنية تنزل أيضا في الإشادة بفضل علي (عليه
السلام) وبفضائله، لأجل نفس الهدف. وقد أخرج ابن عساكر على ما
نقله السيوطي: (أنه ما نزل في أحد من كتاب الله كما نزل في
علي...) (37) وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس أيضا) أنه نزلت في
علي ثلاثمائة آية) (38).
ونورد هنا بعض الآيات التي ذكر غير واحد انها نزلت في
علي، وتدخل في هذا الإطار اي تؤشر حقيقة إعداد الأمة وتربيتها
في هذا الاتجاه:
أ - جاء قوله تعالى: (إن الذين امنوا وعملوا الصالحات
سيجعل لهم الرحمن ودا) (39) أخرج غير واحد من الحفاظ
بأسانيد مختلفة أنها نزلت في علي، لان مامن مسلم إلا ولعلي في
(37) تاريخ الخلفاء / ص 171، الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص 127.
(38) المصدران السابقان.
(39) مريم / 96.
117
قلبه محبة...) (40).
فعن البراء بن عازب قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)
لعلي بن أبي طالب يا علي قل اللهم اجعل لي عندك عهدا، واجعل
لي في صدور المؤمنين مودة.
فأنزل الله: (إن الذين امنوا...) قال: نزلت في علي (41).
ب - قوله تعالى: (هذان خصمان اختصموا في ربهم...) (42).
عن علي (عليه السلام) قال: أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن
للخصومة يوم القيامة، قال قيس: وفيهم نزلت (هذان خصمان
اختصموا في ربهم...) قال: (هم الذين بارزوا يوم بدر علي وحمزة
وعبيدة وشيبة بن ربيعة...) (43).
ج - قوله تعالى: (ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا
خيرا وكفى الله المؤمنين القتال...) (44). روى غير واحد أن عبد الله
ابن مسعود كان يقرأ هذه الآية هكذا: (وكفى الله المؤمنين القتال)
بعلي بن أبي طالب (45).
(40) راجع ما نزل من القرآن في علي / لأبي نعيم الأصبهاني / جمع الشيخ المحمودي / ص 130 وما بعدها.
(41) شواهد التنزيل / الحسكاني / ج 1 / ص 360 / 361 ط 1.
(42) سورة الحج / آية 19.
(43) التاج الجامع للأصول / ج 4 / ص 181 وقال رواه الشيخان (البخاري ومسلم) كتاب
التفسير.
(44) الأحزاب / 25.
(45) ما نزل من القرآن في علي / لأبي نعيم / تحقيق المحمودي / ص 172. وراجع
ما نقله عن ميزان الاعتدال الذهبي / ج 2 / ص 380 ترجمة عياد بن يعقوب تحت
الرقم 4149.
118
د - قوله تعالى (يا أيها الذين امنوا اتقوا الله وكونوا مع
الصادقين) (46).
ذكر غير واحد من الحفاظ والمحدثين عن ابن عباس قال: هو
علي بن أبي طالب (عليه السلام) خاصة (47).
ه - قوله تعالى: (والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير
ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا) (48).
وورد بعدة: طرق أنها نزلت في علي، وذلك أن نفرا من
المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه (49).
إن مما يؤكد أن هذه الآيات قد جاءت ونزلت لبيان منزلة علي
(عليه السلام) وعظمة شخصيته، ودوره الكبير في حياة الرسالة
والرسول، وأن المؤمنين يلزمهم وعي هذه الحقائق والانقياد إليها، مما
يؤكد ذلك هو ما جاء من الأحاديث النبوية في تثبيت هذه المعاني.
فقد روي الصحابي سعد بن أبي وقاص قال: امرني معاوية أن
(46) التوبة / 119.
(47) ما نزل من القرآن في علي) لأبي نعيم / ص 104 وراجع الهامش فقد نقل روايات
بأسانيد مختلفة وراجع أيضا: الصواعق المحارقة / لابن حجر / ص 152.
(48) الأحزاب / 58.
(49) راجع تفسير الكشاف / ج 3 / ص 559.
119
أسب أبا التراب، فقلت: أما ما ذكرت ثلاثا قالهن له رسول الله فلن
أسبه، لان تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم، قد خلفه
رسول الله في بعض مغازيه فقال علي: يا رسول الله خلقتني مع
النساء والصبيان، فسمعت رسول الله يقول: أما ترضى أن تكون مني
بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي (50) وسمعته يقول يوم
خيبر: لأعطين الراية رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، قال:
فتطاولنا لها (51) فقال: ادعو لي عليا فاتي به أرمد فبصق في عينه،
ودفع الراية إليه، ففتح الله عليه، ولما نزلت هذه الآية: (فمن حاجك
فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم
ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على
الكاذبين) (52) دعا رسول الله عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، وقال:
اللهم هؤلاء أهلي (رواه مسلم (53) والترمذي (54).
إن هذه الرواية - علي طولها التي رواها سعد تؤكد أمورا منها:
أ - نزول آية المباهلة - وهي الآية المذكورة في نص الرواية - في
(50) حديث المنزلة سبق تخريجه، راجع الجامع للأصول / ج 3 ص 3323 رواه الشيخان والترمذي.
(51) راجع: الرواية عن أبي هريرة وفيها قال عمر: ما أحببت الامارة الا يومئذ فتساورت
لها...) التاج الجامع للأصول / ج 3 / ص 331 / رواه الشيخان.
(52) آل عمران / 61.
(53) صحيح مسلم / ج 4 / ص 1873.
(54) صحيح الترمذي / ج 5 / ص 596، وراجع الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص 143.
وراجع الرواية في التاج الجامع للأصول / ج 3 / ص 333.
120
علي وزوجته البتول وولديهما الحسن والحسين (عليهم السلام).
ب - توكد أن هؤلاء هم أهل البيت دون سواهم (55). وبالتالي
نفهم أنهم هم المقصودون في آية التطهير التي هي قوله تعالى:
(... إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم
تطهيرا) (56) وفي آية التطهير هذه يتبين لنا نزاهة علي وأمانته،
وسمو ذاته وطهارته، بل عصمته.
ومن هنا يبدأ الاستحقاق لان يحتل علي مقام الخلافة والولاية
وقيادة المسيرة، قال الراغب الأصفهاني: (لا يصلح لخلافة الله ولا
يكمل لعبادته وعمرة أرضه إلا من كان طاهر النفس قد أزيل رجسها
ونجسها، فللنفس نجاسة كما إن للبدن نجاسة، لكن نجاسة البدن قد
تدرك بالبصر ونجاسة النفس لا تدرك إلا بالبصيرة... وإنما لم يصلح
لخلافة الله إلا من كان طاهر النفس لان الخلافة هي الاقتداء به تعالى
علي الطاقة البشرية، ومن لم يكن طاهر القول والفعل فكل إناء بالذي
فيه يرشح...) (57).
(55) التاج الجامع للأصول / ج 4 / ص 207 قال روى الترمذي ومسلم عن عمر بن أم سلمة
ربيب رسول الله: لما نزلت هذه الآية - التطهير - في بيت أم سلمة دعا رسول الله فاطمة وحسنا
وحسينا وعليا، فجللهم بكساء ثم قال: اللهم هؤلاء أهل بيتي فاذهب عنهم الرجس وطهرهم
تطهيرا قالت أم سلمة، وأنا معهم يا رسول الله. قال: أنت على مكانك، وأنت علي خير.
(56) الأحزاب / 33.
(57) الذريعة إلى مكارم الشريعة / أين المفضل الراغب الأصفهاني / ص 29 مراجعة وتعليق طه
عبد الرؤوف سعد / ط 1 / مكتبة الكليات الأزهرية - القاهرة / 393 ه، وراجع استفادة
العصمة من آية التطهير / الأصول العامة للفقه المقارن / محمد تقي الحكيم / ص 174.
121
يتبين لنا من ذلك أن القرآن الكريم بعد أن أشاد بفضل علي
وبفضائله، ارتقى به إلى منزلة التزكية المطلقة (التطهير) ثم صعد به
إلى منزلة علي غاية من الأهمية إذ جعل نفس علي كنفس النبي
محمد (صلى الله عليه وآله) كما هو صريح آية المباهلة. وتأسيسا على
ذلك، أكد النبي (صلى الله عليه وآله) مرارا وكرارا قائلا: (على مني وأنا
من علي) (58) وعندما حاول بعض الناس الشكوى من علي بغية التشويش
على مقامه هذا ومنزلته، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما
تريدون من علي...؟ رددها، ثم قال (إن عليا مني وأنا منه) (59).
ومن أجل قطع الطريق أمام المتشككين بهذه المنزلة الرفيعة
التي أنزل الله تعالى فيها عليا، ولترسيخ وتأكيد ولايته وخلافته بعد
النبي، في كل ما يهم المسلمين من أجل ذلك، جاء قوله تعالى: (إنما
وليكم الله ورسوله والذين امنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة
وهم راكعون) (60) فقد ذكر الزمخشري أن هذه الآية المباركة نزلت في
علي (عليه السلام) حين سأله سائل، وهو راكع في صلاته فطرح له
خاتمه (61). ولإزالة الالتباس، وقطعا لدابر اي تأويل في المراد بالولي
(58) التاج الجامع للأصول / ناصف / ج 3 / ص 334 وراجع تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص 169.
(59) صحيح الترمذي / ج 5 / ص 594.
(60) المائدة / 55.
(61) الكشاف / الزمخشري / ج 1 / ص 649 قال في الهامش في تخريج الحديث: رواه ابن أبي
حاتم من طريق سلمة بن كهيل: قال: تصدق علي بخاتمه وهو راكع فنزلت / اي الآية.
ولابن مردويه عن سفيان الثوري عن ابن سنان عن الضحاك عن ابن عباس مثله.
وراجع أيضا أسباب النزول / الواحدي / ص 134 قال: نزلت في علي.
122
وتشخيصه في مثل هذه الموارد صرح النبي (صلى الله عليه وآله) في
أكثر من مناسبة قائلا: (إن عليا مني، وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن
بعدي...) (62) ولتأكيد ولاية علي، ودوره الهام بالنسبة إلى الرسالة
الاسلامية قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (علي مني أنا من
علي ولا يؤدي عني - أي بصفته نبيا رسولا - إلا أنا وعلي...) (63) ثم
رسخ هذا المفهوم عمليا جهارا نهارا في قصة تبليغ سورة براءة، كما
أخرج هذه الرواية الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي بكر
الصديق أنه قال: (إن النبي بعثه ببراءة إلى أهل مكة، فسار ثلاثا ثم قال
لعلي: الحقة، فرد علي أبا بكر وبلغها، فلما قدم أبو بكر على رسول
الله (صلى الله عليه وآله) قال: يا رسول الله حدث في شئ قال: ما
وجدت فيك إلا خيرا، لكنني أمرت أن لا يبلغ إلا أن أو رجل
مني...) (64) وفي الكشاف: روي أن أبا بكر لما كان ببعض الطريق -
أي لتبليغ سورة براءة - هبط جبرائيل (عليه السلام)، فقال: يا محمد
: لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك، فأرسل عليا...) (65).
وأخيرا ختم القرآن الكريم هذا الموضوع الحيوي والمهم أي
(62) صحيح الترمذي / السابق - باب فضائل الإمام علي وراجع التاج الجامع للأصول / ج 3 / ص 335.
(63) المصدر السابق.
(64) مسند الإمام أحمد بن حنبل / ج 1 / ص 3 - طبعة دار صار وراجع: تفسير الكشاف
الزمخشري / ج 2 / ص 243، وراجع الروايد أيضا في صحيح الترمذي / ج 5 / ص 594.
(65) الكشاف / المصدر السابق.
123
عملية الاعداد الفكري والتربوي في آخر ما نزل منه في آية التبليغ ثم
في أية إكمال الدين بعد حديث الغدير المشهور، وعنده لم يعد هناك
عذر لمعتذر. وقصة الغدير - كما تناقلها الرواة مع بعض الاختلاف - هي كما يأتي:
لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع، نزل
عليه الوحي مشددا (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وإن
لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس) (66) قحط
الركب عند غدير خم، وجمع الناس في منتصف النهار، والحر شديد، وخطب فيهم قائلا، كأني قد دعيت فأجبت وإني تركت فيكم الثقلين،
أحدهما أكبر من الاخر، كتاب الله وعترتي - وفي رواية مسلم (67) وأهل
بيتي - فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض... ثم قال: إن الله مولاي، وأنا مولى كل مؤمن، ثم أخذ بيد
علي فقال: من كنت مولاه فهذا وليه - فهذا مولاه (68) - اللهم وال محمد
والاه وعاد من عاداه، واخذل من خذله، وانصر من نصره (69)... وأدر
(66) المائدة / 67، قال الواحدي في أسباب النزول / ص 135، نزلت في غدير خم.
(67) صحيح مسلم / ج 4 / ص 1874.
(68) التاج الجامع للأصول / ج 3 / ص 333. رواية عن زيد بن أرقم عن النبي (صلى الله عليه
وآله) وهي في صحيح الترمذي أيضا / ج 5 / ص 591.
(69) مسند الإمام أحمد بن حنبل / ج 4 / ص 281، 368 دار صادر وراجع تفسير ابن كثير / ج 1 ص 22.
وراجع سنن ابن ماجة / المقدمة / ج 1 / باب 11 وراجع تحقيقات وافية شافية في أسانيد الحديث الغدير / العلامة الأميني.
وراجع البداية والنهاية / لابن كثير أيضا بعدد طرق / ج 7 / ص 360 / 361.
124
الحق معه حيثما دار... (70) وقد أعقب هذا الحدث الكبير نزول الوحي
مرة أخرى بقوله تعالى: (... اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا...) (71).
وقد ورد في بعض الروايات أن الرسول القائد (صلى الله عليه
وآله) قال بعد نزول هذه الأيد في ذلك اليوم المشهود وهو يوم الثامن
عشر من ذي الحجة (72) يوم الغدير قال: (الله أكبر، الحمد لله على اكمال الدين واتمام النعمة ورضى الرب برسالتي وبالولاية لعلي بعدي) (73).
وفي رواية لأحمد (فلقيه عمر بن الخطاب - أي لقي عليا - بعد
ذلك، فقال له هنيئا أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة...) (74).
ومما يؤسف له حقا أن بعض الناس كان لا يرضيهم أن يعطى
على مثل هذه الامتيازات والمقامات، وكان بعض الناس يكثر لغطه
واعتراضه عندما يخص الرسول القائد عليا بذلك، فيضطر الرسول
الاكرام صلوات الله عليه وآله أن يذكرهم بأنه رسول رب العالمين
(70) التاج الجامع للأصول / ج 3 / ص 337. وراه مستقلا: (رحم الله عليا اللهم أدر الحق معه
حيث دار...).
(71) المائدة / 3.
(72) راجع الاتقان / السيوطي / ج 1 / ص 75 في رواية نزول الآية يوم الغدير وأنه يوم الثامن
عشر من ذي الحجة. وراجع أسباب النزول / الواحدي / ص 135.
(73) مناقب أمير المؤمنين / الحافظ محمد بن سلمان الكوفي القاضي / من أعلام القرن الثالث /
تحقيق الشيخ المحمودي / ج 1 / ص 119 مجمع إحياء الثقافة الاسلامية / قم / 1412 ه.
(74) مسند الإمام أحمد بن حنبل / ج 4 / ص 281، وقد أشهد علي جمعا من الناس، فشهد له
ثلاثون أنهم سمعوا هذا الحديث من رسول الله ابن كثير / البداية والنهاية / ج 7 / ص 360.
125
الذي يصدع بما يؤمر وأنه: (وما ينطق عن الهوي * إن هو إلا وحي
يوحي) (75).
ومن الشواهد على ذلك ما رواه الترمذي وحسنه، عن جابر
ابن عبد الله قال: (دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا يوم الطائف
فانتجاه - أي كلمة سرا - فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمه، فقال
الرسول: ما انتجيته ولكن الله انتجاه...) (76).
وعن ميمون عن زيد بن أرقم قال: (كان لنفر من أصحاب رسول
الله (صلى الله عليه وآله) أبواب شارعة في المسجد قال: فقال رسول
الله يوما سدوا هذه الأبواب إلا باب علي قال: فتكلم في ذلك
الناس، قال، فقام رسول الله فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد
فإني أمرت بسد هذه الأبواب، إلا باب على، وقال فيه قائلكم، وإني
والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكني أمرت بشئ فاتبعته...) (77).
وهكذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلما يخص عليا
دون سواه بأمر، يصرح لهم، ويبين للأمة أن ذلك إنما هو بأمر من الله
تعالى. وقد حدث ذلك في إرسال علي (عليه السلام) لتبليغ سورة
براءة بدلا من أبي بكر، وحدث ذلك يوم المناجاة في الطائف،
(75) النجم / 3 - 4.
(76) راجع صحيح الترمذي / ج 5 / ص 597، وراجع البداية والنهاية / لابن كثير / ج 7 ص 369، وراجع التاج الجامع للأصول / ج 3 / ص 336.
(77) مسند الإمام أحمد / ج 4 / ص 369، وراجع تاريخ ابن كثير / ج 7 / ص 355.
126
وحدث ذلك يوم الغدير، إلى غير ذلك. ومما يلاحظ أيضا أن
المواقف الحاسمة في تاريخ الاسلام، وفي حياة الرسول الأعظم
(صلى الله عليه وآله)، بما فيها ما يتصل بحماية التجربة الاسلامية
ومستقبلها، يلاحظ أن الرسول القائد كان يقدم عليا ويدعوه شخصيا
دون غيره لحسم تلك المواقف ودفع الخطر الداهم، حدث ذلك في
معركة بدر الكبرى، إذا كان علي صاحب الراية، وقتل من صناديد
المشركين من قتل، وحدت ذلك يوم أحد إذ قتل علي طلحة بن
عثمان صاحب لواء المشركين، روى الطبري قال: لما قتل علي بن أبي
طالب أصحاب الألوية، أبصر رسول الله جماعة من المشركين فقال
لعلي: احمل عليهم، ففرق جمعهم، وقتل عمرو
الجمحي، ثم أبصر رسول الله (صلى الله عليه وآله) جماعة من
المشركين، فقال (جبريل) يا رسول الله إن هذه للمواساة، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): إنه مني وأنا منه، فقال (جبريل) وأنا
منكما، قال الطبري ثم سمعوا صوتا يهتف:
(لا سيف الا ذو الفقار * ولا فتى إلا علي) (78).
ويكفي ما نقله سعد بن أبي وقاص علي ما روى الشيخان في يوم خيبر (79).
(78) تاريخ الطبري / ج 2 / ص 25 وص 65 - 66 - طبعة المكتبة العلمية - بيروت.
(79) رواية سعد أخرجها الشيخان / راجع هامش 54 - 55.
127
وقد يكون من المناسب أن نذكر هنا ما أخرجه الطبراني وابن
أبي حاتم عن ابن عباس قال: ولقد عاتب الله أصحاب رسول الله
(صلى الله عليه وآله) في غير موضع وما ذكر عليا إلا بخير (80).
(80) تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص 171.
128
المبحث الثالث
مدخلية اختصاص علي بالمعرفة القرآنية في الاعداد لخلافته
في ضوء ما تقدم، لا حظنا أن هناك علاقة وارتباطا من نوع
خاص بين علي (عليه السلام) والقرآن الكريم، نشأت هذه العلاقة،
ونمت، وتطورت حتى انتهت - على حد تعبير الرسول الأعظم (صلى
الله عليه وآله) - إلى أن: (القرآن مع علي وعلي مع القرآن، ولن يفترقا
حتى يردا على الحوض...) (81). وكذلك انتهت أيضا إلى أن عليا
سيقاتل على تأويل القرآن كما كان قد قاتل على تنزيله (82)، فما هي
مدخلية ذلك في عملية الاعداد الفكري والتربوي لخلافة علي؟
نستطيع أن نؤكد أن الرسول القائد صلوات الله وسلامه
عليه نفسه قد قام بتنمية وترسيخ مثل هذه العلاقة، وبأمر من الله
تعالى كما كان يحدث دائما. ويظهر أن هدفا كبيرا يلزم الوصول إليه عبر
(81) راجع: الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص 123 وراجع تاريخ الخلفاء / السيوطي / ص 173.
(82) ينابيع المودة / القندوزي البلخي / ج 2 / ص 58 / ط 1 منشورات الأعلمي / بيروت.
وراجع الصواعق المحرقة / لابن حجر / ص 127.
129
تلك الاجراءات والخطوات العلمية والعملية.
ونستطيع أن نبين ذلك الهدف في ضوء الملاحظات الآتية:
أولا: إن منطق الشريعة الخالدة الكاملة يقتضي تأمين الوصول إلى فهم
القرآن ومعرفة تفسيره وفقه أحكامه، بصفته المصدر الأساس (83) لهذه
الشريعة الخالدة وإن تحكيم القرآن في البلاد والعباد هو ما أمرنا الله
تعالى به، إذ جاء فيه: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله
حكما لقوم يوقنون) (84). ومقتضاه أن نحتكم إلى القرآن في كل
صغيرة وكبيرة. وأن نكفر بحكم الجاهلية الذي هو حكم الأهواء. كما
نهانا الله تعالى أيضا أن نتحاكم إلى الطاغوت، فقال: (ألم تر إلى الذين
يزعمون أنهم امنوا بما انزل إليك وما انزل من قبلك يريدون أن
يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن
تضلهم ضلالا بعيدا) (85).
وقد جعل القرآن الكريم هنا اختيار التحاكم إلى غير ما انزل الله
وإلى غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) تحاكما إلى الشيطان (86)
الذي يسير بهم إلى الضلال حتما، ثم اكد القرآن الكريم أن الاحتكام
إلى غير ما انزل الله هو فسق وظلم وكفر، قال تعالى (... ومن لم
(83) كون القرآن المصدر الأول والأساس للشريعة الاسلامية محل اجماع الملة الاسلامية.
راجع: الأصول العامة للفقه المقارن / العلامة محمد تقي الحكيم / ص 101.
(84) المائدة / 50.
(85) النساء / 60.
(86) الكشاف / الزمخشري / ج 1 / ص 525.
130
يحكم بما انزل الله فأولئك هم الفاسقون) (87) وقال تعالى: (... ومن
لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الظالمون) (88) وقال تعالى (...
ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون) (89) وقد بعث نبينا
محمد (صلى الله عليه وآله) لامحاء صفحة الظلم والفسق والكفر.
إذن فبحسب منطق القرآن، يكون عدم الرجوع إلى أحكام
القرآن التي أنزلها الله تعالى، يعني الاحتكام إلى الطاغوت (90)، وعليه
فإذا كان ذلك يتطلب بالضرورة الوصول إلى حكم الله تعالى الذي
أنزله في القرآن الكريم، فلا بد من افتراض من هو مؤهل ومعد إعدادا
أمينا لتحقيق ذلك الامر الإلهي، وتلك الإرادة الربانية، وليس ذلك
بالضرورة إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو من هو منه يودي
عنه (91)، ويبلغ عنه، ومؤهل مثله، ومعد لذلك الغرض.
ثانيا: إن العلماء قد وقع بينهم الاختلاف الكثير، وقد حصل ذلك منذ
وقت مبكر، بالأخص في الأقضية التي تهم الناس، وتتصل بحياتهم،
(87) المائدة / 47.
(88) المائدة / 45.
(89) المائدة / 44.
(90) الطاغوت: يطلق على كل رئيس في الضلالة، وعلى كل من عبد من دون الله، ويطلق على
الكافر والشيطان والأصنام / مجمع البحرين / الطبرسي / ج 1 / ص 276، باب الألف أوله ط.
(91) راجع قصة تبليغ سورة براءة / مسند الإمام أحمد بن حنبل / ج 1 / ص 3 طبعة دار صادر،
وراجع نص الحديث في الصواعق لمحرقة / لابن حجر / ص 122.
131
وليس إلا بسبب عدم فقههم بالقرآن.
وقد تحدث الإمام علي عن هذه المسألة في معرض ذمه لمثل
هذا الاختلاف مع وجود القرآن بين أظهرهم، فقال (عليه السلام):
(ترد على أحدهم القضية، في حكم من الاحكام، فيحكم فيها برأيه،
ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلاف قوله، ثم
يجتمع القضاة بذلك عند الامام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم
جميعا، وإلههم واحد! ونبيهم واحد! وكتابهم واحد! أفأمرهم الله
سبحانه بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعصوه؟! أم أنزل الله دينا
ناقصا ماستعان بهم على اتمامه؟! أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا
وعليه أن يرضى؟! أم أنزل الله دينا تاما فقصر الرسول (صلى الله عليه
وآله) عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه وتعالى يقول: (... ما قرطنا في
الكتاب من شئ) (92) (... ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ
وهدي ورحمة...) (93)، وذلك أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وانه - أي
القرآن - لا اختلاف فيه فقال سبحانه (... ولو كان من عند غير الله
لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (94). وإن القرآن ظاهره أنيق...) (95) إذن
(92) الانعام / 38.
(93) النحل / 89.
(94) النساء / 82.
(95) راجع النص في الخطبة 18 / نهج / البلاغة ضبط الدكتور صبحي الصالح / ص 60 / 61،
وراجع: الصواعق المحرقة / ص 152، نقل عن الإمام زين العابدين في دعاء له قائلا:
(فإلى من يفزع خلف هذه الأمة وقد درست أعلام هذه الملة، ودانت الأمة بالفرقة
والاختلاف يكفر بعضهم بعضا، والله تعالى يقول: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا
من بعد ما جاءهم البينات) فمن الموثوق به على إبلاغ الحجة وتأويل الحكم إلا أبناء أئمة
الهدى، ومصابيح الدجي الذين احتج الله بهم على عباده، ولم يدع الخلق سدى من غير
حجة، هل تعرفونهم أو تجدونهم إلا من فروع الشجرة المباركة وبقايا الصفوة الذين أذهب
الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وبرأهم من الآفات وافترض مودتهم في الكتاب...).
132
بموجب هذا وبمقتضاه لا بد من افتراض إعداد أحد مؤهل لفقه القرآن.
ثالثا: إن اختصاص علي بالعلوم القرآنية، وبمعرفة القرآن ظاهره وباطنه
محكمة ومتشابهه، خاصه وعامه، وإن قدرته الفذة على فهم آياته
وفقه احكامه، امر متسالم عليه عند علماء الصحابة - كما نوهنا - (96).
وقد ساعدت النصوص النبوية، على تأكيده وبيانه - كما ذكرنا - ويؤيده
أيضا، ما أورده أصحاب التفسير والأثر عن علي (عليه السلام) ومن
طرق أخرى: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (يا علي إن الله عز
وجل أمرني أن أدينك وأعلمك لتعي وأنزلت هذه الآية (وتعيها اذن
واعية) (97) فأنت أذن واعية لعلمي...) (98).
وقد جاء عن علي (عليه السلام) أيضا قوله.
(ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه... إلا
وإن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم
(96) راجع الصفحة (113) في الملحق.
(97) الحاقة / 12.
(98) راجع: ما نزل من القرآن في علي / لأبي نعيم / تحقيق المحمودي / ص 266 وقد ذكر
المحقق في الهامش أسانيده. وراجع الدر المنثور / السيوطي / ج 6 / ص 260 منشورات
المرعشي.
133
أمركم...) (99). وهكذا يصرح الإمام علي ويؤكد بان هذا القرآن بما انطوى
عليه من هذه المطالب الجليلة والمعاني العميقة من شفاء الأدواء
الاجتماعية، وانتظام أمور الحياة بكل جوانبها، كل ذلك لا يكون
بمقدور أحد أن يصل إليه، أو يفقهه إلا هو، وإلا عن طريقه. وهكذا
يتضح لدينا أنه ليس هناك أحد مؤهل لفقه القرآن ومعد لتحقيق الامر
الإلهي وتنفيذ الإرادة الربانية بإزالة الظلم والفسق والكفر غير علي بن
أبي طالب حصرا. كما هو مقتضي النصوص والوقائع. وهو الافتراض
المنطقي والمعقول جدا لتفسير الاجراءات العلمية والعملية التي
اتخذها الرسول القائد (صلى الله عليه وآله) بإفراد علي وتخصيصه
دون غيره بالعلوم القرآنية والمعارف القرآنية والاحكام القرآنية كما
صرحت النصوص المتواترة.
وأخيرا يقتضي الموقف أن نعالج تساؤلا يثور بالضرورة، أو هو
طالما أثير مرارا وهو:
إذا كانت كل تلك الاجراءات والخطوات العلمية والعملية قد
اتخذت من أجل تولي علي بن أبي طالب الخلافة وقيادة المسيرة
بعد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فلماذا لم يكن هناك عهد
مكتوب بصورة جازمة قاطعة ليس فيه عذر لمعتذر ولا تأويل لمتأول؟! (100).
(99) نهج البلاغة ص 223 / خطبة (158).
(100) هذا السؤال أثير (المراجعات) بين العلامة شرف الدين والشيخ سليم البشيري شيخ
الجامع الأزهر.
134
وجوابه:
إن النصوص التي أوردناها، والروايات المتضافرة التي تصرح
ببيان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ولاية علي ووزارته،
وخلافته، وإمرته من بعده، في مواقف لا تحصى كثرة، ومناسبات
لا تعد مما لم يحظ به امر ديني أو دنيوي، ومما لم ينل من اهتمامه
صلوات الله وسلامه عليه ما ناله مثل هذا الامر، حتى انتهى إلى
الاعلان الرسمي يوم الغدير المشهود، وإلى التصريح به مرارا، كما
أشرنا إليه - وكما ستجده في البحث الذي بين يدلك للشهيد الصدر
رضوان الله تعالى عليه - فضلا عما اقتضاه منطق الأشياء، ومنطق
الشريعة الخالدة الكاملة، إن ذلك كله فيه الكفاية لمن ألقى السمع
وهو شهيد. ومع ذلك كله فقد أراد الرسول القائد (صلى الله عليه
وآله) أن يختصر على الأمة المعاناة، وأن يكرمها بألطاف العناية
الربانية فيجنبها العثرات وأسباب الضلال فقال صلوات الله وسلامه
عليه وهو على فراش مرضه وفي آخر ساعات حياته الشريفة: (هلموا
أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدي ابدا...) (101) وقد كان عنده جمع من
كبار الصحابة، نعم أراد أن يكون ذلك عهدا مكتوبا يشهده جمعهم،
إلا أن الرزية كل الرزية قد حدثت - على حد تعبير ابن عباس - عندما
حيل بين النبي الأكرم وبين كتابة الكتاب على ما أخرجه البخاري قال:
(101) راجع الطبقات الكبري / لابن سعد / ج 2 / ص 242 طبعة دار بيروت للطباعة / 1985.
135
(لما اشتد بالنبي وجعه قال: ائتوني بكتاب اكتب لكم كتابا
لا تضلوا بعده. قال عمر: إن النبي غليه الوجع وعندنا كتاب الله
حسبنا. فاختلفوا وكثر اللغط. قال - أي النبي - قوموا عني ولا ينبغي
عندي التنازع. فخرج ابن عباس يقول: الرزية كل الرزية ما حال بين
رسول الله وبين كتابه...) (102).
ولعل من المناسب أن نذكر هنا محاورة رواها ابن عباس جرت
بينه وبين عمر بن الخطاب في أوائل عهده بالخلافة، وملخصها أن
عمر قال له: (يا عبد الله عليك دماء البدن إن كتمتها... هل بقي في
نفس علي شئ من أمر الخلافة؟ قلت: نعم، قال: أيزعم أن رسول الله
نص عليه؟ قلت: نعم، فقال عمر، لقد كان في رسول الله من أمره ذروة
من قول؟ لا يثبت حجة، ولا يقطع عذرا.. ولقد أراد في مرضه أن
يصرح باسمه فمنعت من ذلك اشفاقا وحيطة على الاسلام... فعلم
رسول الله ما في نفسي فأمسك...) (103) وسواء صحت أم لا، فإن
هناك ما يؤيد هذا المسعى من الخليفة عمر في أكثر من مناسبة لاحقا
، وقد صرح مرة كما نقل الطبري عنه: (إن قومكم يكرهون أن تجتمع
فيكم - والخطاب لابن عباس أيضا - النبوة والخلافة...) (104).
والظاهر أن ترك رسول الله (صلى الله عليه وآله) للكتابة والعهد
(102) صحيح البخاري / ج 1 / ص 37، كتاب العلم - باب كتابة العلم، وراجع ج 8 / ص 161
كتاب الاعتصام. طبعة أوفسيت عن طبعة دار العامرة - استانبول - دار الفكر بيروت.
(103) شرح نهج البلاغة / لابن أبي الحديد / ج 3 / ص 97. دار الكتب العربية الكبرى / مصر.
(104) راجع: تاريخ الطبري / ج 3 / ص 577 / طبعة دار الكتب العلمية - بيروت.
136
المذكور قد يكون لاعتبارين والله العالم:
الأول: هو وقوع الاختلاف والتنازع واللغط في الدر عند إرادة كتابة
الكتاب - العهد - إلى الحد الذي وصل إلى اتهامه صلوات الله وسلامه
عليه بأنه يهجر - كما في رواية (105) أو غلبه الوجع كما في رواية
أخرى - وهذا اتهام خطير يمس أصل النبوة وصدق الرسالة. ثم إن
الامر قد كان بينه رسول الله صلوات الله وسلامه عليه مرارا وكرارا كما
وضحنا. فليبق إذن الاختيار، ولتبق القضية للامتحان والابتلاء.
الثاني: إن النبي الأكرم صلوات الله وسلامه عليه قد اتخذ احتياطا
لمثل هذه الحالة الطارئة، إذ قد جهز جيش أسامة بن زيد، وأمر
بانفاذه على كل حال، وقد بلغ من حرصه صلوات الله وسلامه عليه
على إنفاذه مبلغا عظيما، إذ تذكر الروايات أن الرسول الأعظم مع بدء
مرضه واشتداده لم يكن يشغله شئ عن محاولة انفاذ جيش
أسامة (106)، وننقل من رواية ابن سعد في الطبقات ما يثبت ذلك،
فقد قال - بعد أن ذكر تجهيز جيش أسامة - لما كان يوم الأربعاء بدا
برسول الله المرض فحم... فلما أصبح يوم الخميس عقد لأسامة لواء
بيده ثم قال: اغز باسم الله وفي سبيل الله، فقاتل من كفر بالله... قال ابن
سعد فخرج بلوائه معقودا فدفعه إلى بريدة بن الحصيب الأسلمي،
وعسكر بالجرف - وهو موضع على ثلاثة أميال من المدينة - مع وجوه
(105) راجع: النهاية في غريب الحديث والأثر / لابن الأثير / ج 5 / ص 242 / مادة هجر / تحقيق الطناحي.
(106) الكامل في التاريخ / لابن الأثير / ج 2 / ص 218 طبعة دار صادر.
137
المهاجرين والأنصار، فيهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة... فتكلم قوم
وقالوا: أيستعمل علينا هذا الغلام على المهاجرين الأولين؟ فغضب
الرسول (صلى الله عليه وآله) غضبا شديدا، فخرج وقد عصب على
رأسه عصابة، فصعد المنبر، وقال: (أما بعد أيها الناس فما مقالة
بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة ولئن طعنتم في امارة أسامة لقد
طعنتم في إمارة أبيه من قبله، وأيم الله إن كان للامارة لخليقا، وإن ابنه
من بعده لخليق للامارة إن كان لمن أحب الناس إلى، وانهما لمحلان
لكل خير، فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم.. ثم نزل صلوات الله
عليه، فدخل بيته، وذلك يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول...
وثقل على الرسول المرض، وجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة...) (107).
ويظهر من كل تلك المواقف والكلمات وتطورات الاحداث أن
الرسول الأعظم إنما أراد من جملة ما أراد:
1 - تهيئة الأجواء الفكرية والنفسية من جهة تأمير أسامة على وجوه
المهاجرين والأنصار، فيكون قبوله سابقة لقبول تولي علي الامرة
والخلافة، فلا يعترض معترض بكونه أصغر سنا من بعضهم.
2 - أراد أيضا تهيئة الأجواء السياسية والأمنية وذلك بإبعاد عناصر
المعارضة المحتملة (108)، ليتولى علي بن أبي طالب مهام الخلافة
التي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يتولى رعايتها والتخطيط
(107) الطبقات الكبرى / ج 2 / ص 248 / 250.
(108) المراجعات / العلامة عبد الحسين شرف الدين / ص 472.
138
والسهر من أجل بلوغها، كما توضح لنا ذلك.
ومع كل ذلك فقد جرت الأمور والاحداث على غير ما أراده
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد أراد أن يختزل على الأمة
المعاناة، وأراد أن يجنبها ويلات تجربة الخطأ والصواب، أراد أن
تتمسك الأمة بالكتاب الكريم، وبالعترة الطاهرة لتسلم من التيه
والضلال.
وهكذا ترك أمر (العهد القاطع الجازم المكتوب) لتطل الأمة
عرضة للامتحان في مثل هذه القضية الخطيرة، وكما جرت السنن
الإلهية، فقد قال تعالى: (ألم * أحسب الناس ان يتركوا ان يقولوا
امنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين
صدقوا وليعلمن الكاذبين) (109).
نعم أراد الله تعالى ذلك، كما أراد رسوله الكريم أن يكون إيمان
من يؤمن منهم بمن ولاه عليهم وجعله خليفة من بعده إيمانا
راسخا، واعتقادهم بأحقيته اعتقادا عن تدبر، وتشيعهم له تشيعا
مخلصا، حتى تستمر المسيرة في تنفيذ الإرادة الإلهية تحت قيادته
المباركة، ويتحقق إزالة الظلم والفسق والكفر من الوجود.
(وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي
(109) العنكبوت / 1 - 3.
139
ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي
شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) (110).
والحمد لله رب العالمين أولا وآخرا
محرم الحرام / 1414 ه
د. شراره
(110) النور / 55.
140