حاشية على كفاية الأصول (جزء 2) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

حاشية على كفاية الأصول (جزء 2) - نسخه متنی

حسین بروجردی؛ محقق: بهاء الدین حجتی بروجردی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

حاشية على كفاية الأصول


تقرير بحث البروجردي ، للحجتي
الجزء: ٢
الوفاة: ١٣٨٣
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقصد السادس:
في بيان الامارات المعتبرة شرعا أو عقلا
وقبل الخوض في ذلك، لا بأس بصرف الكلام إلى بيان بعض ما للقطع من
الاحكام، وإن كان خارجا من مسائل الفن، وكان أشبه بمسائل الكلام، لشدة
مناسبته مع المقام.
5

فاعلم: أن البالغ الذي وضع عليه القلم،
7

إذا التفت إلى حكم فعلي واقعي أو ظاهري، متعلق به أو بمقلديه، فإما
أن يحصل له القطع به، أو لا، وعلى الثاني، لا بد من انتهائه إلى ما استقل به
العقل، من اتباع الظن لو حصل له، وقد تمت مقدمات الانسداد - على تقرير
الحكومة - وإلا فالرجوع إلى الأصول العقلية: من البراءة والاشتغال والتخيير،
على تفصيل يأتي في محله إن شاء الله تعالى.
8

وإنما عممنا متعلق القطع، لعدم اختصاص أحكامه بما إذا كا متعلقا
بالأحكام الواقعية، وخصصنا بالفعلي، لاختصاصها بما إذا كان متعلقا به - على ما
ستطلع عليه - ولذلك عدلنا عما في رسالة شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - من
تثليث الأقسام.
وإن أبيت إلا عن ذلك، فالأولى أن يقال: إن المكلف إما أن يحصل له
9

القطع أولا، وعلى الثاني إما أن يقوم عنده طريق معتبر أولا، لئلا تتداخل الأقسام
فيما يذكر لها من الاحكام، ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقررة عقلا أو نقلا لغير
القاطع، ومن يقوم عنده الطريق، على تفصيل يأتي في محله - إن شاء الله تعالى -
حسبما يقتضي دليلها.
وكيف كان فبيان أحكام القطع وأقسامه، يستدعي رسم أمور:
الامر الأول: لا شبهة في وجوب العمل على وفق القطع عقلا، ولزوم
الحركة على طبقه جزما، وكونه موجبا لتنجز التكليف الفعلي فيما أصاب باستحقاق
10

الذم والعقاب على مخالفته وعذرا فيما أخطأ قصورا، وتأثيره في ذلك لازم،
وصريح الوجدان به شاهد وحاكم، فلا حاجة إلى مزيد بيان وإقامة برهان.
(1) لعل وجه التأمل هو عدم لزوم التسلسل أصلا، وذلك لعدم الاحتياج إلى قطع آخر غير القطع
الأول المتعلق بذات المقطوع فإنه إذا حصل القطع بشئ يكون طريقا إلى ذلك الشئ الذي
فرض كونه جزئا للموضوع، وهو بنفس ذاته العنواني الذي فرض كونه جزئا آخر له، طريق
إلى نفسه بذات نفسه من دون احتياج إلى محرز آخر في احرازه، فإنه محرز بذات نفسه،
وبالجملة القطع مع كونه موضوعا يكون أيضا طريقا إلى ذات المقطوع والى نفس ذاته بذاته
من دون احتياج إلى محرز آخر. وهذا نظير ما ذكرناه في تصحيح اخذ التقرب والداعي في متعلق
الامر سابقا من عدم احتياج الداعي إلي داع آخر متعلق بالداعي، وكفاية ذاته عنه بذاته.
11

ولا يخفى أن ذلك لا يكون بجعل جاعل، لعدم جعل تأليفي حقيقة بين
12

الشئ ولوازمه، بل عرضا بتبع جعله بسيطا.
وبذلك انقدح امتناع المنع عن تأثيره أيضا، مع أنه يلزم منه اجتماع الضدين
اعتقادا مطلقا، وحقيقة في صورة الإصابة، كما لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك أن التكليف ما لم يبلغ مرتبة البعث والزجر لم يصر فعليا،
وما لم يصر فعليا لم يكد يبلغ مرتبة التنجز واستحقاق العقوبة على المخالفة، وإن
كان ربما يوجب موافقته استحقاق المثوبة، وذلك لان الحكم ما لم يبلغ تلك المرتبة
لم يكن حقيقة بأمر ولا نهي، ولا مخالفته عن عمد بعصيان، بل كان مما سكت الله
عنه، كما في الخبر، فلاحظ وتدبر.
نعم، في كونه بهذه المرتبة موردا للوظائف المقررة شرعا للجاهل إشكال لزوم
اجتماع الضدين أو المثلين، على ما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى، مع ما هو
التحقيق في دفعه، في التوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري، فانتظر.
13

الامر الثاني: قد عرفت أنه لا شبهة في أن القطع يوجب استحقاق العقوبة
على المخالفة، والمثوبة على الموافقة في صورة الإصابة، فهل يوجب استحقاقها في
صورة عدم الإصابة على التجري بمخالفته، واستحقاق المثوبة على الانقياد
بموافقته، أو لا يوجب شيئا؟.
الحق أنه يوجبه، لشهادة الوجدان بصحة مؤاخذته، وذمه على تجريه،
وهتكه لحرمة مولاه وخروجه عن رسوم عبوديته، وكونه بصدد الطغيان، وعزمه
على العصيان، وصحة مثوبته، ومدحه على قيامه بما هو قضية عبوديته، من
العزم على موافقته والبناء على إطاعته، وإن قلنا بأنه لا يستحق مؤاخذة أو مثوبة،
14

ما لم يعزم على المخالفة أو الموافقة، بمجرد سوء سريرته أو حسنها، وإن كان
مستحقا للوم أو المدح بما يستتبعانه، كسائر الصفات والاخلاق الذميمة أو الحسنة.
وبالجملة: ما دامت فيه صفة كامنة لا يستحق بها إلا مدحا أو لوما، وإنما
يستحق الجزاء بالمثوبة أو العقوبة مضافا إلى أحدهما، إذا صار بصدد الجري على
طبقها والعمل على وفقها وجزم وعزم، وذلك لعدم صحة مؤاخذته بمجرد سوء
سريرته من دون ذلك، وحسنها معه، كما يشهد به مراجعة الوجدان الحاكم
بالاستقلال في مثل باب الإطاعة والعصيان، وما يستتبعان من استحقاق النيران أو
الجنان.
ولكن ذلك مع بقاء الفعل المتجري [به] أو المنقاد به على ما هو عليه من الحسن
15

أو القبح، والوجوب أو الحرمة واقعا، بلا حدوث تفاوت فيه بسبب تعلق القطع بغير
ما هو عليه من الحكم والصفة، ولا يغير جهة حسنه أو قبحه بجهته أصلا،
ضرورة أن القطع بالحسن أو القبح لا يكون من الوجوه والاعتبارات التي بها يكون
الحسن والقبح عقلا ولا ملاكا للمحبوبية والمبغوضية شرعا، ضرورة عدم تغير
الفعل عما هو عليه من المبغوضية والمحبوبية للمولى، بسبب قطع العبد بكونه
محبوبا أو مبغوضا له. فقتل ابن المولى لا يكاد يخرج عن كونه مبغوضا له، ولو اعتقد
العبد بأنه عدوه، وكذا قتل عدوه، مع القطع بأنه ابنه، لا يخرج عن كونه محبوبا أبدا.
هذا مع أن الفعل المتجرئ به أو المنقاد به، بما هو مقطوع الحرمة أو
الوجوب لا يكون اختياريا، فإن القاطع لا يقصده إلا بما قطع أنه عليه من عنوانه
الواقعي الاستقلالي لا بعنوانه الطارئ الآلي، بل لا يكون غالبا بهذا العنوان مما
يلتفت إليه، فكيف يكون من جهات الحسن أو القبح عقلا؟ ومن مناطات الوجوب
أو الحرمة شرعا؟ ولا يكاد يكون صفة موجبة لذلك إلا إذا كانت اختيارية.
16

إن قلت: إذا لم يكن الفعل كذلك، فلا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفة
القطع، وهل كان العقاب عليها إلا عقابا على ما ليس بالاختيار؟.
قلت: العقاب إنما يكون على قصد العصيان والعزم على الطغيان، لا على
الفعل الصادر بهذا العنوان بلا اختيار.
إن قلت: إن القصد والعزم إنما يكون من مبادئ الاختيار، وهي ليست
باختيارية، وإلا لتسلسل.
قلت: - مضافا إلى أن الاختيار وإن لم يكن بالاختيار، إلا أن بعض مباديه
غالبا يكون وجوده بالاختيار، للتمكن من عدمه بالتأمل فيما يترتب على ما عزم عليه
17

من تبعة العقوبة واللوم والمذمة - يمكن أن يقال: إن حسن المؤاخذة والعقوبة إنما
يكون من تبعة بعده عن سيده بتجريه عليه، كما كان من تبعته بالعصيان في صورة
المصادفة، فكما أنه يوجب البعد عنه، كذلك لا غرو في أن يوجب حسن العقوبة،
وإن لم يكن باختياره إلا أنه بسوء سريرته وخبث باطنه، بحسب نقصانه واقتضاء
استعداده ذاتا وإمكانه، وإذا انتهى الامر إليه يرتفع الاشكال وينقطع السؤال
ب‍ (لم) فإن الذاتيات ضروري الثبوت للذات.
18

وبذلك أيضا ينقطع السؤال عن أنه لم اختار الكافر والعاصي الكفر
والعصيان؟ والمطيع والمؤمن الإطاعة والايمان؟ فإنه يساوق السؤال عن أن الحمار لم
يكون ناهقا؟ والانسان لم يكون ناطقا؟.
وبالجملة: تفاوت أفراد الانسان في القرب منه تعالى والبعد عنه، سبب
لاختلافها في استحقاق الجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها، (وموجب لتفاوتها في نيل
الشفاعة وعدم نيلها)، وتفاوتها في ذلك بالآخرة يكون ذاتيا، والذاتي لا يعلل.
إن قلت: على هذا، فلا فائدة في بعث الرسل وإنزال الكتب والوعظ والانذار.
قلت: ذلك لينتفع به من حسنت سريرته وطابت طينته، لتكمل به نفسه،
ويخلص مع ربه أنسه، ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، قال الله تبارك وتعالى:
19

* (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * وليكون حجة على من ساءت سريرته
وخبثت طينته، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، كيلا يكون
للناس على الله حجة، بل كان له حجة بالغة.
ولا يخفى أن في الآيات والروايات، شهادة على صحة ما حكم به
الوجدان الحاكم على الاطلاق في باب الاستحقاق للعقوبة والمثوبة، ومعه لا حاجة
إلى ما استدل على استحقاق المتجري للعقاب بما حاصله: إنه لولاه مع
استحقاق العاصي له يلزم إناطة استحقاق العقوبة بما هو خارج عن الاختيار، من
مصادفة قطعه الخارجة عن تحت قدرته واختياره، مع بطلانه وفساده، إذ للخصم
أن يقول بأن استحقاق العاصي دونه، إنما هو لتحقق سبب الاستحقاق فيه، وهو
مخالفته عن عمد واختيار، وعدم تحققه فيه لعدم مخالفته أصلا، ولو بلا اختيار، بل
عدم صدور فعل منه في بعض افراده بالاختيار، كما في التجري بارتكاب ما
قطع أنه من مصاديق الحرام، كما إذا قطع مثلا بأن مائعا خمر، مع أنه لم يكن
20

بالخمر، فيحتاج إلى إثبات أن المخالفة الاعتقادية سبب كالواقعية الاختيارية،
كما عرفت بما لا مزيد عليه.
ثم لا يذهب عليك: إنه ليس في المعصية الحقيقية إلا منشأ واحد لاستحقاق
العقوبة، وهو هتك واحد، فلا وجه لاستحقاق عقابين متداخلين كما توهم،
مع ضرورة أن المعصية الواحدة لا توجب إلا عقوبة واحدة، كما لا وجه لتداخلهما
على تقدير استحقاقهما، كما لا يخفى.
21

ولا منشأ لتوهمه، إلا بداهة أنه ليس في معصية واحدة إلا عقوبة واحدة، مع
الغفلة عن أن وحدة المسبب تكشف بنحو الآن عن وحدة السبب.
الامر الثالث: إنه قد عرفت أن القطع بالتكليف أخطأ أو أصاب،
يوجب عقلا استحقاق المدح والثواب، أو الذم والعقاب، من دون أن يؤخذ شرعا
في خطاب، وقد يؤخذ في موضوع حكم آخر يخالف متعلقه، لا يماثله ولا يضاده،
كما إذا ورد مثلا في الخطاب أنه (إذا قطعت بوجوب شئ يجب عليك التصدق
بكذا) تارة بنحو يكون تمام الموضوع، بأن يكون القطع بالوجوب مطلقا ولو أخطأ
موجبا لذلك، وأخرى بنحو يكون جزؤه وقيده، بأن يكون القطع به في خصوص
ما أصاب موجبا له، وفي كل منهما يؤخذ طورا بما هو كاشف وحاك عن متعلقه،
وآخر بما هو صفة خاصة للقاطع أو المقطوع به، وذلك لان القطع لما كان من
22

الصفات الحقيقية ذات الإضافة - ولذا كان العلم نورا لنفسه ونورا لغيره - صح أن
يؤخذ فيه بما هو صفة خاصة وحالة مخصوصة، بإلغاء جهة كشفه، أو اعتبار
خصوصية أخرى فيه معها، كما صح أن يؤخذ بما هو كاشف عن متعلقه وحاك
عنه، فتكون أقسامه أربعة، مضافا إلى ما هو طريق محض عقلا غير مأخوذ في
الموضوع شرعا.
ثم لا ريب في قيام الطرق والامارات المعتبرة - بدليل حجيتها واعتبارها - مقام
هذا القسم، كما لا ريب في عدم قيامها بمجرد ذلك الدليل مقام ما أخذ في
23

الموضوع على نحو الصفتية من تلك الأقسام، بل لا بد من دليل آخر على التنزيل،
فإن قضية الحجية والاعتبار ترتيب ما للقطع بما هو حجة من الآثار، لا له بما هو صفة
وموضوع، ضرورة أنه كذلك يكون كسائر الموضوعات والصفات.
ومنه قد انقدح عدم قيامها بذاك الدليل مقام ما أخذ في الموضوع على نحو
الكشف، فإن القطع المأخوذ بهذا النحو في الموضوع شرعا، كسائر مالها دخل في
الموضوعات أيضا، فلا يقوم مقامه شئ بمجرد حجيته، وقيام دليل على اعتباره،
ما لم يقم دليل على تنزيله، ودخله في الموضوع كدخله، وتوهم كفاية دليل
الاعتبار الدال على إلغاء احتمال خلافه وجعله بمنزلة القطع، من جهة كونه
موضوعا ومن جهة كونه طريقا فيقوم مقامه طريقا كان أو موضوعا، فاسد جدا.
فإن الدليل الدال على إلغاء الاحتمال، لا يكاد يكفي إلا بأحد التنزيلين،
24

حيث لا بد في كل تنزيل منهما من لحاظ المنزل والمنزل عليه، ولحاظهما في أحدهما
آلي، وفي الآخر استقلالي، بداهة أن النظر في حجيته وتنزيله منزلة القطع في
طريقيته في الحقيقة إلى الواقع ومؤدى الطريق، وفي كونه بمنزلته في دخله في الموضوع
إلى أنفسهما، ولا يكاد يمكن الجمع بينهما.
نعم لو كان في البين ما بمفهومه جامع بينهما، يمكن أن يكون دليلا على
التنزيلين، والمفروض أنه ليس، فلا يكون دليلا على التنزيل إلا بذاك اللحاظ
الآلي، فيكون حجة موجبة لتنجز متعلقه، وصحة العقوبة على مخالفته في صورتي
إصابته وخطئه بناء على استحقاق المتجري، أو بذلك اللحاظ الآخر الاستقلالي،
فيكون مثله في دخله في الموضوع، وترتيب ماله عليه من الحكم الشرعي.
لا يقال: على هذا لا يكون دليلا على أحد التنزيلين، ما لم يكن هناك قرينة
في البين.
فإنه يقال: لا إشكال في كونه دليلا على حجيته، فإن ظهوره في أنه بحسب
اللحاظ الآلي مما لا ريب فيه ولا شبهة تعتريه، وإنما يحتاج تنزيله بحسب اللحاظ
الآخر الاستقلالي من نصب دلالة عليه، فتأمل في المقام فإنه دقيق ومزال الاقدام
للاعلام.
25

ولا يخفى أنه لولا ذلك، لأمكن أن يقوم الطريق بدليل واحد دال على إلغاء
احتمال خلافه مقام القطع بتمام أقسامه، ولو فيما أخذ في الموضوع على نحو
الصفتية، كان تمامه أو قيده وبه قوامه.
فتلخص مما ذكرنا: إن الامارة لا تقوم بدليل اعتبارها إلا مقام ما ليس
بمأخوذ في الموضوع أصلا.
وأما الأصول فلا معنى لقيامها مقامه بأدلتها - أيضا - غير الاستصحاب،
لوضوح أن المراد من قيام المقام ترتيب ماله من الآثار والاحكام، من تنجز التكليف
وغيره - كما مرت إليه الإشارة - وهي ليست إلا وظائف مقررة للجاهل في مقام
العمل شرعا أو عقلا.
لا يقال: إن الاحتياط لا بأس بالقول بقيامه مقامه في تنجز التكليف لو
كان.
فإنه يقال: أما الاحتياط العقلي، فليس إلا لاجل حكم العقل بتنجز
التكليف، وصحة العقوبة على مخالفته، لا شئ يقوم مقامه في هذا الحكم.
وأما النقلي، فإلزام الشارع به، وإن كان مما يوجب التنجز وصحة العقوبة
على المخالفة كالقطع، إلا أنه لا نقول به في الشبهة البدوية، ولا يكون بنقلي في
المقرونة بالعلم الاجمالي، فافهم.
ثم لا يخفى إن دليل الاستصحاب أيضا لا يفي بقيامه مقام القطع المأخوذ
26

في الموضوع مطلقا، وإن مثل (لا تنقض اليقين) لا بد من أن يكون مسوقا إما
بلحاظ المتيقن، أو بلحاظ نفس اليقين.
وما ذكرنا في الحاشية - في وجه تصحيح لحاظ واحد في التنزيل منزلة الواقع
والقطع، وأن دليل الاعتبار إنما يوجب تنزيل المستصحب والمؤدى منزلة الواقع،
وإنما كان تنزيل القطع فيما له دخل في الموضوع بالملازمة بين تنزيلهما، وتنزيل
القطع بالواقع تنزيلا وتعبدا منزلة القطع بالواقع حقيقة - لا يخلو من تكلف بل
تعسف.
فإنه لا يكاد يصح تنزيل جزء الموضوع أو قيده، بما هو كذلك بلحاظ أثره،
إلا فيما كان جزؤه الآخر أو ذاته محرزا بالوجدان، أو تنزيله في عرضه، فلا يكاد
يكون دليل الامارة أو الاستصحاب دليلا على تنزيل جزء الموضوع، ما لم يكن هناك
دليل على تنزيل جزئه الآخر، فيما لم يكن محرزا حقيقة، وفيما لم يكن دليل على
تنزيلهما بالمطابقة، كما في ما نحن فيه - على ما عرفت - لم يكن دليل الامارة دليلا
عليه أصلا، فإن دلالته على تنزيل المؤدى تتوقف على دلالته على تنزيل القطع
بالملازمة، ولا دلالة له كذلك إلا بعد دلالته على تنزيل المؤدى، فإن الملازمة إنما
تكون بين تنزيل القطع به منزلة القطع بالموضوع الحقيقي، وتنزيل المؤدى منزلة
الواقع كما لا يخفى، فتأمل جيدا، فإنه لا يخلو عن دقة.
27

ثم لا يذهب عليك أن هذا لو تم لعم، ولا اختصاص له بما إذا كان القطع
مأخوذا على نحو الكشف.
الامر الرابع: لا يكاد يمكن أن يؤخذ القطع بحكم في موضوع نفس هذا
الحكم للزوم الدور، ولا مثله للزوم اجتماع المثلين، ولا ضده للزوم اجتماع
الضدين، نعم يصح أخذ القطع بمرتبة من الحكم في مرتبة أخرى منه أو مثله
أو ضده.
وأما الظن بالحكم، فهو وإن كان كالقطع في عدم جواز أخذه في موضوع
نفس ذاك الحكم المظنون، إلا أنه لما كان معه مرتبة الحكم الظاهري محفوظة، كان
جعل حكم آخر في مورده - مثل الحكم المظنون أو ضده - بمكان من الامكان.
إن قلت: إن كان الحكم المتعلق به الظن فعليا أيضا، بأن يكون الظن متعلقا
بالحكم الفعلي، لا يمكن أخذه في موضوع حكم فعلي آخر مثله أو ضده، لاستلزامه
الظن باجتماع الضدين أو المثلين، وأنما يصح أخذه في موضوع حكم آخر، كما في
القطع، طابق النعل بالنعل.
قلت: يمكن أن يكون الحكم فعليا، بمعنى أنه لو تعلق به القطع - على ما هو
عليه من الحال - لتنجز واستحق على مخالفته العقوبة، ومع ذلك لا يجب على الحاكم
رفع عذر المكلف، برفع جهله لو أمكن، أو بجعل لزوم الاحتياط عليه فيما أمكن،
28

بل يجوز جعل أصل أو أمارة مؤدية إليه تارة، وإلى ضده أخرى، ولا يكاد يمكن مع
القطع به جعل حكم آخر مثله أو ضده، كما لا يخفى، فافهم.
إن قلت: كيف يمكن ذلك؟ وهل هو إلا أنه يكون مستلزما لاجتماع المثلين
أو الضدين؟.
قلت: لا بأس باجتماع الحكم الواقعي الفعلي بذاك المعنى - أي لو قطع به من
باب الاتفاق لتنجز - مع حكم آخر فعلي في مورده بمقتضى الأصل أو الامارة، أو
دليل أخذ في موضوعه الظن بالحكم بالخصوص، على ما سيأتي من التحقيق في
التوفيق بين الحكم الظاهري والواقعي.
الامر الخامس: هل تنجز التكليف بالقطع - كما يقتضي موافقته عملا -
يقتضي موافقته التزاما، والتسليم له اعتقادا وانقيادا؟ كما هو اللازم في الأصول
الدينية والأمور الاعتقادية، بحيث كان له امتثالان وطاعتان، إحداهما بحسب القلب
والجنان، والأخرى بحسب العمل بالأركان، فيستحق العقوبة على عدم الموافقة
التزاما ولو مع الموافقة عملا، أو لا يقتضي؟ فلا يستحق العقوبة عليه بل إنما
يستحقها على المخالفة العملية.
29

الحق هو الثاني، لشهادة الوجدان الحاكم في باب الإطاعة والعصيان بذلك،
واستقلال العقل بعدم استحقاق العبد الممتثل لامر سيده إلا المثوبة دون العقوبة،
ولو لم يكن متسلما وملتزما به ومعتقدا ومنقادا له، وإن كان ذلك يوجب تنقيصه
وانحطاط درجته لدى سيده، لعدم اتصافه بما يليق أن يتصف العبد به من
الاعتقاد بأحكام مولاه والانقياد لها، وهذا غير استحقاق العقوبة على مخالفته لامره أو
نهيه التزاما مع موافقته عملا، كما لا يخفى.
ثم لا يذهب عليك، أنه على تقدير لزوم الموافقة الالتزامية، لو كان المكلف
متمكنا منها لوجب، ولو فيما لا يجب عليه الموافقة القطعية عملا، ولا يحرم المخالفة
القطعية عليه كذلك أيضا لامتناعهما، كما إذا علم إجمالا بوجوب شئ أو حرمته،
للتمكن من الالتزام بما هو الثابت واقعا، والانقياد له والاعتقاد به بما هو الواقع
والثابت، وإن لم يعلم أنه الوجوب أو الحرمة.
وإن أبيت إلا عن لزوم الالتزام به بخصوص عنوانه، لما كانت موافقته
القطعية الالتزامية حينئذ ممكنة، ولما وجب عليه الالتزام بواحد قطعا، فإن محذور
الالتزام بضد التكليف عقلا ليس بأقل من محذور عدم الالتزام به بداهة، مع
ضرورة أن التكليف لو قيل باقتضائه للالتزام لم يكد يقتضي إلا الالتزام بنفسه
عينا، لا الالتزام به أو بضده تخييرا.
ومن هنا قد انقدح أنه لا يكون من قبل لزوم الالتزام مانع عن إجراء الأصول
30

الحكمية أو الموضوعية في أطراف العلم لو كانت جارية، مع قطع النظر عنه، كما لا
يدفع بها محذور عدم الالتزام به.
إلا أن يقال: إن استقلال العقل بالمحذور فيه إنما يكون فيما إذا لم يكن
هناك ترخيص في الاقدام والاقتحام في الأطراف، ومعه لا محذور فيه، بل ولا في
الالتزام بحكم آخر.
إلا أن الشأن حينئذ في جواز جريان الأصول في أطراف العلم الاجمالي، مع
عدم ترتب أثر عملي عليها، مع أنها أحكام عملية كسائر الأحكام الفرعية، مضافا
إلى عدم شمول أدلتها لأطرافه، للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها،
كما ادعاه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، وإن كان محل تأمل ونظر، فتدبر
جيدا.
الامر السادس: لا تفاوت في نظر العقل أصلا فيما يترتب على القطع من
الآثار عقلا، بين أن يكون حاصلا بنحو متعارف، ومن سبب ينبغي حصوله منه،
أو غير متعارف لا ينبغي حصوله منه، كما هو الحال غالبا في القطاع، ضرورة أن
31

العقل يرى تنجز التكليف بالقطع الحاصل مما لا ينبغي حصوله، وصحة مؤاخذة
قاطعه على مخالفته، وعدم صحة الاعتذار عنها بأنه حصل كذلك، وعدم صحة
المؤاخذة مع القطع بخلافه، وعدم حسن الاحتجاج عليه بذلك، ولو مع التفاته
إلى كيفية حصوله.
نعم ربما يتفاوت الحال في القطع المأخوذ في الموضوع شرعا، والمتبع في
عمومه وخصوصه دلالة دليله في كل مورد، فربما يدل على اختصاصه بقسم في
مورد، وعدم اختصاصه به في آخر، على اختلاف الأدلة واختلاف المقامات،
بحسب مناسبات الاحكام والموضوعات، وغيرها من الامارات.
وبالجملة القطع فيما كان موضوعا عقلا لا يكاد يتفاوت من حيث القاطع،
ولا من حيث المورد، ولا من حيث السبب، لا عقلا وهو واضح ولا شرعا، لما
عرفت من أنه لا تناله يد الجعل نفيا ولا إثباتا، وإن نسب إلى بعض الأخباريين
أنه لا اعتبار بما إذا كان بمقدمات عقلية، إلا أن مراجعة كلماتهم لا تساعد
على هذه النسبة، بل تشهد بكذبها، وأنها إنما تكون إما في مقام منع الملازمة بين
حكم العقل بوجوب شئ وحكم الشرع بوجوبه، كما ينادي به بأعلى صوته ما
حكي عن السيد الصدر في باب الملازمة، فراجع.
32

وإما في مقام عدم جواز الاعتماد على المقدمات العقلية، لأنها لا تفيد إلا
الظن، كما هو صريح الشيخ المحدث الأمين الاسترآبادي - رحمه الله - حيث قال -
في جملة ما استدل به في فوائده على انحصار مدرك ما ليس من ضروريات الدين
في السماع عن الصادقين (عليهم السلام):
الرابع: إن كل مسلك غير ذلك المسلك - يعني التمسك بكلامهم (عليهم
الصلاة والسلام) - إنما يعتبر من حيث إفادته الظن بحكم الله تعالى، وقد أثبتنا
سابقا أنه لا اعتماد على الظن المتعلق بنفس أحكامه تعالى أو بنفيها) وقال في جملتها
أيضا بعد ذكر ما تفطن بزعمه من الدقيقة ما هذا لفظه:
(وإذا عرفت ما مهدناه من الدقيقة الشريفة، فنقول: إن تمسكنا بكلامهم
عليهم السلام فقد عصمنا من الخطأ، وإن تمسكنا بغيره لم يعصم عنه، ومن
المعلوم أن العصمة عن الخطأ أمر مطلوب مرغوب فيه شرعا وعقلا، ألا ترى أن
الامامية استدلوا على وجوب العصمة بأنه لولا العصمة للزم أمره تعالى عباده باتباع
الخطأ، وذلك الامر محال، لأنه قبيح، وأنت إذا تأملت في هذا الدليل علمت أن
مقتضاه أنه لا يجوز الاعتماد على الدليل الظني في أحكامه تعالى)، انتهى موضع
الحاجة من كلامه.
33

وما مهده من الدقيقة هو الذي نقله شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - في
الرسالة.
وقال في فهرست فصولها أيضا:
(الأول: في إبطال جواز التمسك بالاستنباطات الظنية في نفس أحكامه
تعالى شأنه، ووجوب التوقف عند فقد القطع بحكم الله، أو بحكم ورد عنهم
عليهم السلام)، انتهى.
وأنت ترى أن محل كلامه ومورد نقضه وإبرامه، هو العقلي الغير المفيد
للقطع، وإنما همه إثبات عدم جواز اتباع غير النقل فيما لا قطع.
وكيف كان، فلزوم اتباع القطع مطلقا، وصحة المؤاخذة على مخالفته عند
إصابته، وكذا ترتب سائر آثاره عليه عقلا، مما لا يكاد يخفى على عاقل فضلا عن
فاضل، فلا بد فيما يوهم خلاف ذلك في الشريعة من المنع عن حصول العلم
التفصيلي بالحكم الفعلي لاجل منع بعض مقدماته الموجبة له، ولو إجمالا، فتدبر
جيدا.
الامر السابع: إنه قد عرفت كون القطع التفصيلي بالتكليف الفعلي علة
تامة لتنجزه، لا تكاد تناله يد الجعل إثباتا أو نفيا، فهل القطع الاجمالي كذلك؟.
34

فيه إشكال، ربما يقال: إن التكليف حيث لم ينكشف به تمام الانكشاف،
وكانت مرتبة الحكم الظاهري معه محفوظة، جاز الأذان من الشارع بمخالفته احتمالا
بل قطعا، وليس محذور مناقضته مع المقطوع إجمالا [إلا] محذور مناقضة الحكم
الظاهري مع الواقعي في الشبهة الغير المحصورة، بل الشبهة البدوية، ضرورة عدم
35

تفاوت في المناقضة بين التكليف الواقعي والا ذن بالاقتحام في مخالفته بين الشبهات
أصلا، فما به التفصي عن المحذور فيهما كان به التفصي عنه في القطع به في
الأطراف المحصورة أيضا، كما لا يخفى، [وقد أشرنا إليه سابقا، ويأتي إن شاء الله
مفصلا].
36

نعم كان العلم الاجمالي كالتفصيلي في مجرد الاقتضاء، لا في العلية التامة،
فيوجب تنجز التكليف أيضا لو لم يمنع عنه مانع عقلا، كما كان في أطراف كثيرة غير
محصورة، أو شرعا كما في ما أذن الشارع في الاقتحام فيها كما هو ظاهر (كل شئ
فيه حلال وحرام، فهو لك حلال، حتى تعرف الحرام منه بعينه).
37

وبالجملة: قضية صحة المؤاخذة على مخالفته، مع القطع به بين أطراف
محصورة وعدم صحتها مع عدم حصرها، أو مع الاذن في الاقتحام فيها، هو
كون القطع الاجمالي مقتضيا للتنجز لا علة تامة.
وأما احتمال أنه بنحو الاقتضاء بالنسبة إلى لزوم الموافقة القطعية، وبنحو
38

العلية بالنسبة إلى الموافقة الاحتمالية وترك المخالفة القطعية، فضعيف جدا.
ضرورة أن احتمال ثبوت المتناقضين كالقطع بثبوتهما في الاستحالة، فلا
يكون عدم القطع بذلك معها موجبا لجواز الاذن في الاقتحام، بل لو صح الاذن في
المخالفة الاحتمالية صح في القطعية أيضا، فافهم.
39

ولا يخفى أن المناسب للمقام هو البحث عن ذلك، كما أن المناسب في باب
البراءة والاشتغال - بعد الفراغ هاهنا عن أن تأثيره في التنجز بنحو الاقتضاء لا
العلية - هو البحث عن ثبوت المانع شرعا أو عقلا وعدم ثبوته، كما لا مجال بعد
البناء على أنه بنحو العلية للبحث عنه هناك أصلا، كما لا يخفى.
40


(1) سورة المائدة: 5.
41

هذا بالنسبة إلى إثبات التكليف وتنجزه به،
وأما سقوطه به بأن يوافقه أجمالا، فلا إشكال فيه في التوصليات. وأما
[في] العباديات فكذلك فيما لا يحتاج إلى التكرار، كما إذا تردد أمر عبادة بين الأقل
والأكثر، لعدم الاخلال بشئ مما يعتبر أو يحتمل اعتباره في حصول الغرض منها،
42

مما لا يمكن أن يؤخذ فيها، فإنه نشأ من قبل الامر بها، كقصد الإطاعة والوجه
والتمييز فيما إذا أتى بالأكثر، ولا يكون إخلال حينئذ إلا بعدم إتيان ما احتمل
جزئيته على تقديرها بقصدها، واحتمال دخل قصدها في حصول الغرض ضعيف
في الغاية وسخيف إلى النهاية.
43

وأما فيما احتاج إلى التكرار، فربما يشكل من جهة الاخلال بالوجه تارة،
وبالتمييز أخرى، وكونه لعبا وعبثا ثالثة.
وأنت خبير بعدم الاخلال بالوجه بوجه في الاتيان مثلا بالصلاتين
المشتملتين على الواجب لوجوبه، غاية الامر أنه لا تعيين له ولا تمييز فالاخلال إنما
يكون به، واحتمال اعتباره أيضا في غاية الضعف، لعدم عين منه ولا أثر في
الاخبار، مع أنه مما يغفل عنه غالبا، وفي مثله لا بد من التنبيه على اعتباره ودخله في
الغرض، وإلا لأخل بالغرض، كما نبهنا عليه سابقا.
وأما كون التكرار لعبا وعبثا، فمع أنه ربما يكون لداع عقلائي، إنما يضر إذا
44

كان لعبا بأمر المولى، لا في كيفية إطاعته بعد حصول الداعي إليها، كما لا يخفى،
هذا كله في قبال ما إذا تمكن من القطع تفصيلا بالامتثال.
وأما إذا لم يتمكن إلا من الظن به كذلك، فلا إشكال في تقديمه على الامتثال
الظني لو لم يقم دليل على اعتباره، إلا فيما إذا لم يتمكن منه، وأما لو قام على اعتباره
مطلقا، فلا إشكال في الاجتزاء بالظني، كما لا إشكال في الاجتزاء بالامتثال الاجمالي
في قبال الطني، بالظن المطلق المعتبر بدليل الانسداد، بناء على أن يكون من
45

مقدماته عدم وجوب الاحتياط، وأما لو كان من مقدماته بطلانه لاستلزامه العسر
المخل بالنظام، أو لأنه ليس من وجوه الطاعة والعبادة، بل هو نحو لعب وعبث بأمر
المولى فيما إذا كان بالتكرار، كما توهم، فالمتعين هو التنزل عن القطع تفصيلا إلى
الظن كذلك.
وعليه: فلا مناص عن الذهاب إلى بطلان عبادة تارك طريقي التقليد
والاجتهاد، وإن احتاط فيها، كما لا يخفى.
هذا بعض الكلام في القطع مما يناسب المقام، ويأتي بعضه الآخر في مبحث
البراءة والاشتغال، فيقع المقال فيما هو المهم من عقد هذا المقصد، وهو بيان ما قيل
باعتباره من الامارات، أو صح أن يقال، وقبل الخوض في ذلك.
46

ينبغي تقديم أمور:
أحدها: إنه لا ريب في أن الامارة الغير العلمية، ليس كالقطع في كون
الحجية من لوازمها ومقتضياتها بنحو العلية، بل مطلقا، وأن ثبوتها لها محتاج إلى
جعل أو ثبوت مقدمات وطروء حالات موجبة لاقتضائها الحجية عقلا، بناء على
47

تقرير مقدمات الانسداد بنحو الحكومة، وذلك لوضوح عدم اقتضاء غير القطع
للحجية بدون ذلك ثبوتا بلا خلاف، ولا سقوطا وإن كان ربما يظهر فيه من بعض
المحققين الخلاف والاكتفاء بالظن بالفراغ، ولعله لاجل عدم لزوم دفع الضرر
المتحمل، فتأمل.
48

ثانيها: في بيان إمكان التعبد بالامارة الغير العلمية شرعا، وعدم لزوم
محال منه عقلا، في قبال دعوى استحالته للزومه، وليس الامكان بهذا المعنى،
بل مطلقا أصلا متبعا عند العقلاء، في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع، لمنع
كون سيرتهم على ترتيب آثار الامكان عند الشك فيه، ومنع حجيتها - لو سلم
ثبوتها - لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها، والظن به لو كان فالكلام الآن في
49

إمكان التعبد بها وامتناعه، فما ظنك به؟ لكن دليل وقوع التعبد بها من طرق إثبات
إمكانه، حيث يستكشف به عدم ترتب محال من تال باطل فيمتنع مطلقا، أو على
الحكيم تعالى، فلا حاجة معه في دعوى الوقوع إلى إثبات الامكان، وبدونه لا فائدة
في إثباته، كما هو واضح.
50

وقد انقدح بذلك ما في دعوى شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - من كون
الامكان عند العقلاء مع احتمال الامتناع أصلا، والامكان في كلام الشيخ
الرئيس: (كلما قرع سمعك من الغرائب فذره في بقعة الامكان، ما لم يذدك
عنه واضح البرهان)، بمعنى الاحتمال المقابل للقطع والايقان، ومن الواضح أن لا
موطن له إلا الوجدان، فهو المرجع فيه بلا بينة وبرهان.
51

وكيف كان، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبد بغير العلم من
المحال، أو الباطل ولو لم يكن بمحال أمور:
أحدها: اجتماع المثلين من ايجابين أو تحريمين مثلا فيما أصاب، أو ضدين
من إيجاب وتحريم ومن إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار
في البين فيما أخطأ، أو التصويب وأن لا يكون هناك غير مؤديات الامارات أحكام.
52

ثانيها: طلب الضدين فيما إذا أخطأ وأدى إلى وجوب ضد الواجب.
ثالثها: تفويت المصلحة أو الالقاء في المفسدة فيما أدى إلى عدم وجوب ما هو
واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه محكوما بسائر الاحكام.
والجواب: إن ما ادعي لزومه، إما غير لازم، أو غير باطل، وذلك لان
التعبد بطريق غير علمي إنما هو بجعل حجيته، والحجية المجعولة غير مستتبعة
لانشاء أحكام تكليفية بحسب ما أدى إليه الطريق، بل إنما تكون موجبة لتنجز
53

التكليف به إذا أصاب، وصحة الاعتذار به إذا أخطأ، ولكون مخالفته وموافقته
تجريا وانقيادا مع عدم إصابته، كما هو شأن الحجة الغير المجعولة، فلا يلزم
اجتماع حكمين مثلين أو ضدين، ولا طلب الضدين ولا اجتماع المفسدة والمصلحة
ولا الكراهة والإرادة، كما لا يخفى.
54

وأما تفويت مصلحة الواقع، أو الالقاء في مفسدته فلا محذور فيه أصلا، إذا
كانت في التعبد به مصلحة غالبة على مفسدة التفويت أو الالقاء.
نعم لو قيل باستتباع جعل الحجية للأحكام التكليفية، أو بأنه لا معنى لجعلها
إلا جعل تلك الأحكام، فاجتماع حكمين وإن كان يلزم، إلا أنهما ليسا بمثلين أو
ضدين، لان أحدهما طريقي عن مصلحة في نفسه موجبة لانشائه الموجب
55

للتنجز، أو لصحة الاعتذار بمجرده من دون إرادة نفسانية أو كراهة كذلك متعلقة
بمتعلقه فيما يمكن هناك انقداحهما، حيث إنه مع المصلحة أو المفسدة الملزمتين في
فعل، وإن لم يحدث بسببها إرادة أو كراهة في المبدأ الأعلى، إلا أنه إذا أوحى بالحكم
الناشئ من قبل تلك المصلحة أو المفسدة إلى النبي، أو ألهم به الولي، فلا محالة
ينقدح في نفسه الشريفة بسببهما، الإرادة أو الكراهة الموجبة للانشاء بعثا أو
56

زجرا، بخلاف ما ليس هناك مصلحة أو مفسدة في المتعلق، بل إنما كانت في نفس
إنشاء الامر به طريقيا.
والآخر واقعي حقيقي عن مصلحة أو مفسدة في متعلقه، موجبة لإرادته أو
كراهته، الموجبة لانشائه بعثا أو زجرا في بعض المبادئ العالية، وإن لم يكن في المبدأ
57

الأعلى إلا العلم بالمصلحة أو المفسدة - كما أشرنا - فلا يلزم أيضا اجتماع إرادة
وكراهة، وإنما لزم إنشاء حكم واقعي حقيقي بعثا وزجرا، وإنشاء حكم آخر
طريقي، ولا مضادة بين الانشاءين فيما إذا اختلفا، ولا يكون من اجتماع المثلين فيما
اتفقا، ولا إرادة ولا كراهة أصلا إلا بالنسبة إلى متعلق الحكم الواقعي، فافهم.
58

نعم يشكل الامر في بعض الأصول العملية، كأصالة الإباحة الشرعية،
فإن الاذن في الاقدام والاقتحام ينافي المنع فعلا، كما فيما صادف الحرام، وإن كان
الاذن فيه لاجل مصلحة فيه، لا لاجل عدم مصلحة ومفسدة ملزمة في المأذون فيه،
فلا محيص في مثله إلا عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في بعض المبادئ
العالية أيضا، كما في المبدأ الأعلى، لكنه لا يوجب الالتزام بعدم كون التكليف
61

الواقعي بفعلي، بمعنى كونه على صفة ونحو لو علم به المكلف لتنجز عليه، كسائر
التكاليف الفعلية التي تتنجز بسبب القطع بها، وكونه فعليا إنما يوجب البعث أو
الزجر في النفس النبوية أو الولوية، فيما إذا لم ينقدح فيها الاذن لاجل مصلحة فيه.
فانقدح بما ذكرنا أنه لا يلزم الالتزام بعدم كون الحكم الواقعي في مورد
الأصول والامارات فعليا، كي يشكل تارة بعدم لزوم الاتيان حينئذ بما قامت الامارة
62

على وجوبه، ضرورة عدم لزوم امتثال الاحكام الانشائية ما لم تصر فعلية ولم تبلغ
مرتبة البعث والزجر، ولزوم الاتيان به مما لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.
لا يقال: لا مجال لهذا الاشكال، لو قيل بأنها كانت قبل أداء الامارة إليها
إنشائية، لأنها بذلك تصير فعلية، تبلغ تلك المرتبة.
فإنه يقال: لا يكاد يحرز بسبب قيام الامارة المعتبرة على حكم إنشائي لا
حقيقة ولا تعبدا، إلا حكم إنشائي تعبدا، لا حكم إنشائي أدت إليه الامارة، أما
63

حقيقة فواضح، وأما تعبدا فلان قصارى ما هو قضية حجية الامارة كون مؤداها
هو الواقع تعبدا، لا الواقع الذي أدت إليه الامارة، فافهم.
اللهم إلا أن يقال: إن الدليل على تنزيل المؤدى منزلة الواقع - الذي صار
مؤدى لها - هو دليل الحجية بدلالة الاقتضاء، لكنه لا يكاد يتم إلا إذا لم يكن
للاحكام بمرتبتها الانشائية أثر أصلا، وإلا لم تكن لتلك الدلالة مجال، كما لا
يخفى.
وأخرى بأنه كيف يكون التوفيق بذلك؟ مع احتمال أحكام فعلية بعثية أو
زجرية في موارد الطرق والأصول العملية المتكفلة لاحكام فعلية، ضرورة أنه كما لا
يمكن القطع بثبوت المتنافيين، كذلك لا يمكن احتماله.
64

فلا يصح التوفيق بين الحكمين، بالتزام كون الحكم الواقعي - الذي يكون
مورد الطرق - إنشائيا غير فعلي، كما لا يصح بأن الحكمين ليسا في مرتبة واحدة بل في
مرتبتين، ضرورة تأخر الحكم الظاهري عن الواقعي بمرتبتين، وذلك لا يكاد
يجدي، فإن الظاهري وإن لم يكن في تمام مراتب الواقعي، إلا أنه يكون في مرتبته
أيضا.
وعلى تقدير المنافاة لزم اجتماع المتنافيين في هذه المرتبة، فتأمل فيما ذكرنا من
التحقيق في التوفيق، فإنه دقيق وبالتأمل حقيق.
(1) وجه التأمل هو ان الالتزام بعد فعلية الاحكام يغنينا عن التزام الترتب في الاحكام - ومع
عدم الالتزام بعدم الفعلية لا مجال للترتب أصلا، وذلك لأنه مع عدم فعلية الاحكام يندفع
اشكال اجتماع المثلين أو الضدين واجتماع الإرادة والكراهة، فإنه لا مضادة بين الحكم
65

ثالثها: إن الأصل فيما لا يعلم اعتباره بالخصوص شرعا ولا يحرز التعبد به
واقعا، عدم حجيته جزما، بمعنى عدم ترتب الآثار المرغوبة من الحجة عليه قطعا،
فإنها لا تكاد تترتب إلا على ما اتصف بالحجية فعلا، ولا يكاد يكون الاتصاف بها،
إلا إذا أحرز التعبد به وجعله طريقا متبعا، ضرورة أنه بدونه لا يصح المؤاخذة على
مخالفة التكليف بمجرد إصابته، ولا يكون عذرا لدى مخالفته مع عدمها، ولا يكون
الذي وصل إلى حد البعث والزجر كالحكم الظاهري بين الحكم الواقعي الذي لم يصل إلى هذا
الحد في مرتبة الأصول والامارات، ومعه لا نحتاج إلى الترتب في حسم الاشكال، ومع الفعلية
من جميع الجهات لا موقع لترتب حكم على آخر، وذلك لان حكم المترتب انما يصح ويأتي
فيما إذا لم يكن حكم المترتب عليه باقيا على حاله كما إذا سقط الأول بالعصيان مثل الامر
المتعلق بالمهم بعد عصيان الامر المتعلق بالأهم، أو كان الامر الأول بمثابة يصح معها جعل
الثاني، وهي كون الأول في مرتبة عدم الفعلية، فلا يصح جعل الثاني مع فرض الفعلية حتى
في حال الجهل، فافهم.
66

مخالفته تجريا، ولا يكون موافقته بما هي موافقة انقيادا، وإن كانت بما هي محتملة
لموافقة الواقع كذلك إذا وقعت برجاء إصابته، فمع الشك في التعبد به يقطع
بعدم حجيته وعدم ترتيب شئ من الآثار عليه، للقطع بانتفاء الموضوع معه،
ولعمري هذا واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان أو إقامة برهان.
وأما صحة الالتزام بما أدى إليه من الاحكام، وصحة نسبته إليه تعالى،
فليسا من آثارها، ضرورة أن حجية الظن عقلا - على تقرير الحكومة في حال
67

الانسداد - لا توجب صحتهما، فلو فرض صحتهما شرعا مع الشك في التعبد به لما
كان يجدي في الحجية شيئا ما لم يترتب عليه ما ذكر من آثارها، ومعه لما كان يضر
عدم صحتهما أصلا، كما أشرنا إليه آنفا.
فبيان عدم صحة الالتزام مع الشك في التعبد، وعدم جواز إسناده إليه
تعالى غير مرتبط بالمقام، فلا يكون الاستدلال عليه بمهم، كما أتعب به شيخنا
العلامة - أعلى الله مقامه - نفسه الزكية، بما أطنب من النقض والابرام، فراجعه
بما علقناه عليه، وتأمل.
وقد انقدح - بما ذكرنا - أن الصواب فيما هو المهم في الباب ما ذكرنا في تقرير
الأصل، فتدبر جيدا.
68

إذا عرفت ذلك، فما خرج موضوعا عن تحت هذا الأصل أو قيل
بخروجه يذكر في ذيل فصول.
فصل
لا شبهة في لزوم اتباع ظاهر كلام الشارع في تعيين مراده في الجملة،
لاستقرار طريقة العقلاء على اتباع الظهورات في تعيين المرادات، مع القطع بعدم
الردع عنها، لوضوح عدم اختراع طريقة أخرى في مقام الإفادة لمرامه من كلامه،
كما هو واضح.
والظاهر أن سيرتهم على اتباعها، من غير تقييد بإفادتها للظن فعلا، ولا
بعدم الظن كذلك على خلافها قطعا، ضرورة أنه لا مجال عندهم للاعتذار عن
مخالفتها، بعدم إفادتها للظن بالوفاق، ولا بوجود الظن بالخلاف.
كما أن الظاهر عدم اختصاص ذلك بمن قصد إفهامه، ولذا لا يسمع اعتذار
من لا يقصد إفهامه إذا خالف ما تضمنه ظاهر كلام المولى، من تكليف يعمه أو
يخصه، ويصح به الاحتجاج لدى المخاصمة واللجاج، كما تشهد به صحة الشهادة
بالاقرار من كل من سمعه ولو قصد عدم إفهامه، فضلا عما إذا لم يكن بصدد
إفهامه، ولا فرق في ذلك بين الكتاب المبين وأحاديث سيد المرسلين والأئمة
الطاهرين.
وإن ذهب بعض الأصحاب إلى عدم حجية ظاهر الكتاب، إما بدعوى
69

اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله ومن خوطب به، كما يشهد به ما ورد في ردع
أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به.
أو بدعوى أنه لاجل احتوائه على مضامين شامخة ومطالب غامضة عالية،
لا يكاد تصل إليها أيدي أفكار أولي الانظار الغير الراسخين العالمين بتأويله، كيف؟
ولا يكاد يصل إلى فهم كلمات الأوائل إلا الأوحدي من الأفاضل، فما ظنك بكلامه
تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كل شئ.
أو بدعوى شمول المتشابه الممنوع عن اتباعه للظاهر، لا أقل من احتمال
شموله لتشابه المتشابه وإجماله.
أو بدعوى أنه وإن لم يكن منه ذاتا، إلا أنه صار منه عرضا، للعلم الاجمالي
بطروء التخصيص والتقييد والتجوز في غير واحد من ظواهره، كما هو الظاهر.
أو بدعوى شمول الاخبار الناهية عن تفسير القرآن بالرأي، لحمل الكلام
الظاهر في معنى على إرادة هذا المعنى.
ولا يخفى أن النزاع يختلف صغرويا وكبرويا بحسب الوجوه، فبحسب غير
الوجه الأخير والثالث يكون صغرويا، وأما بحسبهما فالظاهر أنه كبروي، ويكون
70

المنع عن الظاهر، إما لأنه من المتشابه قطعا أو احتمالا، أو لكون حمل الظاهر على
ظاهره من التفسير بالرأي وكل هذه الدعاوي فاسدة:
أما الأولى، فإنما المراد مما دل على اختصاص فهم القرآن ومعرفته بأهله
اختصاص فهمه بتمامه بمتشابهاته ومحكماته، بداهة أن فيه ما لا يختص به، كمالا
يخفى.
وردع أبي حنيفة وقتادة عن الفتوى به إنما هو لاجل الاستقلال في الفتوى
بالرجوع إليه من دون مراجعة أهله، لا عن الاستدلال بظاهره مطلقا ولو مع
الرجوع إلى رواياتهم والفحص عما ينافيه، والفتوى به مع اليأس عن الظفر به،
كيف؟ وقد وقع في غير واحد من الروايات الارجاع إلى الكتاب والاستدلال
بغير واحد من آياته.
وأما الثانية، فلان احتواءه على المضامين العالية الغامضة لا يمنع عن فهم
ظواهره المتضمنة للاحكام وحجيتها، كما هو محل الكلام.
وأما الثالثة، فللمنع عن كون الظاهر من المتشابه، فإن الظاهر كون المتشابه
هو خصوص المجمل، وليس بمتشابه ومجمل.
71

وأما الرابعة، فلان العلم إجمالا بطروء إرادة خلاف الظاهر، إنما يوجب
الاجمال فيما إذا لم ينحل بالظفر في الروايات بموارد إرادة خلاف الظاهر بمقدار المعلوم
بالاجمال.
مع أن دعوى اختصاص أطرافه بما إذا تفحص عما يخالفه لظفر به، غير
بعيدة، فتأمل جيدا.
وأما الخامسة، فيمنع كون حمل الظاهر على ظاهره من التفسير، فإنه كشف
القناع ولا قناع للظاهر، ولو سلم، فليس من التفسير بالرأي، إذ الظاهر أن المراد
بالرأي هو الاعتبار الظني الذي لا اعتبار به، وإنما كان منه حمل اللفظ على خلاف
ظاهره، لرجحانه بنظره، أو حمل المجمل على محتمله بمجرد مساعدته ذاك
الاعتبار، من دون السؤال عن الأوصياء، وفي بعض الاخبار (إنما هلك الناس
في المتشابه، لأنهم لم يقفوا على معناه، ولم يعرفوا حقيقته، فوضعوا له تأويلا من
عند أنفسهم بآرائهم واستغنوا بذلك عن مسألة الأوصياء فيعرفونهم).
هذا مع أنه لا محيص عن حمل هذه الروايات الناهية عن التفسير به على ذلك،
ولو سلم شمولها لحمل اللفظ على ظاهره، ضرورة أنه قضية التوفيق بينها وبين ما دل
على جواز التمسك بالقرآن، مثل خبر الثقلين، وما دل على التمسك به،
والعمل بما فيه، وعرض الاخبار المتعارضة عليه، ورد الشروط المخالفة له،
72

وغير ذلك، مما لا محيص عن إرادة الارجاع إلى ظواهره لا خصوص نصوصه،
ضرورة أن الآيات التي يمكن أن تكون مرجعا في باب تعارض الروايات أو
الشروط، أو يمكن أن يتمسك بها ويعمل بما فيها، ليست إلا ظاهرة في معانيها،
ليس فيها ما كان نصا، كما لا يخفى.
ودعوى العلم الاجمالي بوقوع التحريف فيه بنحو: إما بإسقاط، أو
تصحيف، وإن كانت غير بعيدة، كما يشهد به بعض الاخبار ويساعده
الاعتبار، إلا أنه لا يمنع عن حجية ظواهره، لعدم العلم بوقوع خلل فيها بذلك
أصلا.
ولو سلم، فلا علم بوقوعه في آيات الاحكام، والعلم بوقوعه فيها أو في
غيرها من الآيات غير ضائر بحجية آياتها، لعدم حجية ظاهر سائر الآيات، والعلم
الاجمالي بوقوع الخلل في الظواهر إنما يمنع عن حجيتها إذا كانت كلها حجة، وإلا
لا يكاد ينفك ظاهر عن ذلك، كما لا يخفى، فافهم.
نعم لو كان الخلل المحتمل فيه أو في غيره بما اتصل به، لأخل بحجيته،
لعدم انعقاد ظهور له حينئذ، وإن انعقد له الظهور لولا اتصاله.
73

ثم إن التحقيق أن الاختلاف في القراءة بما يوجب الاختلاف في الظهور مثل
(يطهرن) بالتشديد والتخفيف، يوجب الاخلال بجواز التمسك والاستدلال،
لعدم إحراز ما هو القرآن، ولم يثبت تواتر القراءات، ولا جواز الاستدلال بها،
وإن نسب إلى المشهور تواترها، لكنه مما لا أصل له، وإنما الثابت جواز القراءة
بها، ولا ملازمة بينهما، كما لا يخفى.
ولو فرض جواز الاستدلال بها، فلا وجه لملاحظة الترجيح بينها بعد كون
الأصل في تعارض الامارات هو سقوطها عن الحجية في خصوص المؤدى، بناء
على اعتبارها من باب الطريقية، والتخيير بينها بناء على السببية، مع عدم دليل على
الترجيح في غير الروايات من سائر الامارات، فلا بد من الرجوع حينئذ إلى الأصل
أو العموم، حسب اختلاف المقامات.
74

فصل
قد عرفت حجية ظهور الكلام في تعيين المرام: فإن أحرز بالقطع وأن
المفهوم منه جزما بحسب متفاهم أهل العرف هو ذا فلا كلام، وإلا فإن كان
لاجل احتمال وجود قرينة فلا خلاف في أن الأصل عدمها، لكن الظاهر أنه معه
يبنى على المعنى الذي لولاها كان اللفظ ظاهرا فيه ابتداء، لا أنه يبنى عليه بعد البناء
على عدمها، كما لا يخفى، فافهم.
وإن كان لاحتمال قرينية الموجود فهو، وإن لم يكن بخال عن الاشكال - بناء
على حجية أصالة الحقيقة من باب التعبد - إلا أن الظاهر أن يعامل معه معاملة
المجمل، وإن كان لاجل الشك فيما هو الموضوع له لغة أو المفهوم منه عرفا،
فالأصل يقتضي عدم حجية الظن فيه، فإنه ظن في أنه ظاهر، ولا دليل إلا على
حجية الظواهر.
75

نعم نسب إلى المشهور حجية قول اللغوي بالخصوص في تعيين الأوضاع،
واستدل لهم باتفاق العلماء بل العقلاء على ذلك، حيث لا يزالون يستشهدون بقوله
في مقام الاحتجاج بلا إنكار من أحد، ولو مع المخاصمة واللجاج، وعن بعض
دعوى الاجماع على ذلك.
وفيه: أن الاتفاق - لو سلم اتفاقه - فغير مفيد، مع أن المتيقن منه هو الرجوع
إليه مع اجتماع شرائط الشهادة من العدد والعدالة.
والاجماع المحصل غير حاصل، والمنقول منه غير مقبول، خصوصا في مثل
المسألة مما احتمل قريبا أن يكون وجه ذهاب الجل لولا الكل، هو اعتقاد أنه مما
اتفق عليه العقلاء من الرجوع إلى أهل الخبرة من كل صنعة فيما اختص بها.
76

والمتيقن من ذلك إنما هو فيما إذا كان الرجوع يوجب الوثوق والاطمئنان،
ولا يكاد يحصل من قول اللغوي وثوق بالأوضاع، بل لا يكون اللغوي من أهل
خبرة ذلك، بل إنما هو من أهل خبرة موارد الاستعمال، بداهة أن همه ضبط
موارده، لا تعيين أن أيا منها كان اللفظ فيه حقيقة أو مجازا، وإلا لوضعوا لذلك
علامة، وليس ذكره أولا علامة كون اللفظ حقيقة فيه، للانتقاض بالمشترك.
وكون موارد الحاجة إلى قول اللغوي أكثر من أن يحصى، لانسداد باب العلم
بتفاصيل المعاني غالبا، بحيث يعلم بدخول الفرد المشكوك أو خروجه، وإن كان
المعنى معلوما في الجملة لا يوجب اعتبار قوله، ما دام انفتاح باب العلم
بالاحكام، كما لا يخفى، ومع الانسداد كان قوله معتبرا إذا أفاد الظن، من باب
77

حجية مطلق الظن، وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات بتفاصيلها فيما عدا
المورد.
نعم لو كان هناك دليل على اعتباره، لا يبعد أن يكون انسداد باب العلم
بتفاصيل اللغات موجبا له على نحو الحكمة لا العلة.
لا يقال: على هذا لا فائدة في الرجوع إلى اللغة.
فإنه يقال: مع هذا لا تكاد تخفى الفائدة في المراجعة إليها، فإنه ربما يوجب
القطع بالمعنى، وربما يوجب القطع بأن اللفظ في المورد ظاهر في معنى - بعد الظفر به
وبغيره في اللغة - وإن لم يقطع بأنه حقيقة فيه أو مجاز، كما اتفق كثيرا، وهو يكفي في
الفتوى.
78

فصل
الاجماع المنقول بخبر الواحد حجة عند كثير ممن قال باعتبار الخبر
بالخصوص، من جهة أنه من أفراده، من دون أن يكون عليه دليل بالخصوص،
فلا بد في اعتباره من شمول أدلة اعتباره له، بعمومها أو إطلاقها.
وتحقيق القول فيه يستدعي رسم أمور:
الأول: إن وجه اعتبار الاجماع، هو القطع برأي الإمام (عليه السلام)،
(1) سورة يوسف: 16.
(2) سورة النساء: 115.
79

ومستند القطع به لحاكيه - على ما يظهر من كلماتهم - هو علمه بدخوله (عليه
السلام) في المجمعين شخصا، ولم يعرف عينا، أو قطعه باستلزام ما يحكيه لرأيه
(عليه السلام) عقلا من باب اللطف، أو عادة أو اتفاقا من جهة حدس رأيه، وإن
لم تكن ملازمة بينهما عقلا ولا عادة، كما هو طريقة المتأخرين في دعوى الاجماع،
حيث إنهم مع عدم الاعتقاد بالملازمة العقلية ولا الملازمة العادية غالبا وعدم
العلم بدخول جنابه (عليه السلام) في المجمعين عادة، يحكون الاجماع كثيرا، كما
(1) رغم اشتهار هذا الحديث عند المتأخرين ونقلهم في كتبهم الكلامية والأصولية، ولكنا لم نجد
فيما توصلنا إليه من كتب: الاخبار والصحاح إلا مضامين: " إن أمتي... أو أمة محمد لا تجتمع
على ضلالة "، " لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة " وجامع: سنن أبي داود، والترمذي، وابن ماجة،
والدارمي، ومستدرك الحاكم، والجامع الصغير للسيوطي، وأصول السرخسي وغيرها لكن عدم
الوجدان لا يدل على عدم الوجود.
80

أنه يظهر ممن اعتذر عن وجود المخالف بأنه معلوم النسب، أنه استند في دعوى
الاجماع إلى العلم بدخوله (عليه السلام) وممن اعتذر عنه بانقراض عصره، أنه
استند إلى قاعدة اللطف.
هذا مضافا إلى تصريحاتهم بذلك، على ما يشهد به مراجعة كلماتهم، وربما
يتفق لبعض الأوحدي وجه آخر من تشرفه برؤيته (عليه السلام) وأخذه الفتوى من
جنابه، وإنما لم ينقل عنه، بل يحكي الاجماع لبعض دواعي الاخفاء.
الامر الثاني: إنه لا يخفى اختلاف نقل الاجماع، فتارة ينقل رأيه (عليه
السلام) في ضمن نقله حدسا كما هو الغالب، أو حسا وهو نادر جدا، وأخرى لا
ينقل إلا ما هو السبب عند ناقله، عقلا أو عادة أو اتفاقا، واختلاف ألفاظ النقل
81

أيضا صراحة وظهورا وإجمالا في ذلك، أي في أنه نقل السبب أو نقل السبب
والمسبب.
الامر الثالث: إنه لا إشكال في حجية الاجماع المنقول بأدلة حجية الخبر،
إذا كان نقله متضمنا لنقل السبب والمسبب عن حس، لو لم نقل بأن نقله كذلك في
زمان الغيبة موهون جدا، وكذا إذا لم يكن متضمنا له، بل كان ممحضا لنقل السبب
عن حس، إلا أنه كان سببا بنظر المنقول إليه أيضا عقلا أو عادة أو اتفاقا، فيعامل
82

حينئذ مع المنقول معاملة المحصل في الالتزام بمسببه بأحكامه وآثاره.
وأما إذا كان نقله للمسبب لا عن حس، بل بملازمة ثابتة عند الناقل بوجه
دون المنقول إليه ففيه إشكال، أظهره عدم نهوض تلك الأدلة على حجيته، إذ
المتيقن من بناء العقلاء غير ذلك، كما أن المنصرف من الآيات والروايات ذلك،
على تقدير دلالتهما، خصوصا فيما إذا رأى المنقول إليه خطأ الناقل في اعتقاد
الملازمة، هذا فيما انكشف الحال.
83

وأما فيما اشتبه، فلا يبعد أن يقال بالاعتبار، فإن عمدة أدلة حجية الاخبار
هو بناء العقلاء، وهم كما يعملون بخبر الثقة إذا علم أنه عن حس، يعملون به فيما
يحتمل كونه عن حدس، حيث إنه ليس بناؤهم إذا أخبروا بشئ على التوقف
والتفتيش، عن أنه عن حدس أو حس، بل العمل على طبقه والجري على
وفقه بدون ذلك، نعم لا يبعد أن يكون بناؤهم على ذلك، فيما لا يكون هناك أمارة
على الحدس، أو اعتقاد الملازمة فيما لا يرون هناك ملازمة.
84

هذا لكن الاجماعات المنقولة في ألسنة الأصحاب غالبا مبنية على حدس الناقل
أو اعتقاد الملازمة عقلا، فلا اعتبار لها ما لم ينكشف أن نقل السبب كان مستندا إلى
الحس، فلا بد في الاجماعات المنقولة بألفاظها المختلفة من استظهار مقدار دلالة
ألفاظها، ولو بملاحظة حال الناقل وخصوص موضع النقل، فيؤخذ بذاك
المقدار ويعامل معه كأنه المحصل، فإن كان بمقدار تمام السبب، وإلا فلا يجدي
ما لم يضم إليه مما حصله أو نقل له من سائر الأقوال أو سائر الامارات ما به تم،
فافهم.
85

فتلخص بما ذكرنا: أن الاجماع المنقول بخبر الواحد، من جهة حكايته رأي
الإمام (عليه السلام) بالتضمن أو الالتزام، كخبر الواحد في الاعتبار إذا كان من
نقل إليه ممن يرى الملازمة بين رأيه (عليه السلام) وما نقله من الأقوال، بنحو
الجملة والاجمال، وتعمه أدلة اعتباره، وينقسم بأقسامه، ويشاركه في أحكامه،
وإلا لم يكن مثله في الاعتبار من جهة الحكاية.
86

وأما من جهة نقل السبب، فهو في الاعتبار بالنسبة إلى مقدار من الأقوال التي
نقلت إليه على الاجمال بألفاظ نقل الاجماع، مثل ما إذا نقلت على التفصيل، فلو
ضم إليه مما حصله أو نقل له - من أقوال السائرين أو سائر الامارات - مقدار كان
المجموع منه وما نقل بلفظ الاجماع بمقدار السبب التام، كان المجموع كالمحصل،
ويكون حاله كما إذا كان كله منقولا، ولا تفاوت في اعتبار الخبر بين ما إذا كان المخبر به
تمامه، أو ما له دخل فيه وبه قوامه، كما يشهد به حجيته بلا ريب في تعيين حال
87

السائل، وخصوصية القضية الواقعة المسؤول عنها، وغير ذلك مما له دخل في تعيين
مرامه (عليه السلام) من كلامه.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: إنه قد مر أن مبنى دعوى الاجماع غالبا، هو اعتقاد الملازمة عقلا،
لقاعدة اللطف، وهي باطلة، أو اتفاقا بحدس رأيه (عليه السلام) من فتوى
جماعة، وهي غالبا غير مسلمة، وأما كون المبنى العلم بدخول الامام بشخصه في
الجماعة، أو العلم برأيه للاطلاع بما يلازمه عادة من الفتاوى، فقليل جدا في
88

الاجماعات المتداولة في السنة الأصحاب، كما لا يخفى، بل لا يكاد يتفق العلم
بدخوله (عليه السلام) على نحو الاجمال في الجماعة في زمان الغيبة، وإن احتمل
تشرف بعض الأوحدي بخدمته ومعرفته أحيانا، فلا يكاد يجدي نقل الاجماع إلا
من باب نقل السبب بالمقدار الذي أحرز من لفظه، بما اكتنف به من حال أو مقال،
ويعامل معه معاملة المحصل.
الثاني: إنه لا يخفى أن الاجماعات المنقولة، إذا تعارض اثنان منها أو أكثر،
فلا يكون التعارض إلا بحسب المسبب، وأما بحسب السبب فلا تعارض في
البين، لاحتمال صدق الكل، لكن نقل الفتاوى على الاجمال بلفظ الاجماع
89

حينئذ، لا يصلح لان يكون سببا، ولا جزء سبب، لثبوت الخلاف فيها، إلا إذا
كان في أحد المتعارضين خصوصية موجبة لقطع المنقول إليه برأيه (عليه السلام) لو
اطلع عليها، ولو مع اطلاعه على الخلاف، وهو وإن لم يكن مع الاطلاع على
الفتاوى على اختلافها مفصلا ببعيد، إلا أنه مع عدم الاطلاع عليها كذلك إلا
مجملا بعيد، فافهم.
الثالث: إنه ينقدح مما ذكرنا في نقل الاجماع حال نقل التواتر، وأنه من
حيث المسبب لا بد في اعتباره من كون الاخبار به إخبارا على الاجمال بمقدار يوجب
قطع المنقول إليه بما أخبر به لو علم به، ومن حيث السبب يثبت به كل مقدار كان
اخباره بالتواتر دالا عليه، كما إذا أخبر به على التفصيل، فربما لا يكون إلا دون حد
90

التواتر، فلا بد في معاملته معه معاملته من لحوق مقدار آخر من الاخبار، يبلغ
المجموع ذاك الحد.
نعم، لو كان هناك أثر للخبر المتواتر في الجملة - ولو عند المخبر - لوجب
ترتيبه عليه، ولو لم يدل على ما بحد التواتر من المقدار.
91

فصل
مما قيل باعتباره بالخصوص الشهرة في الفتوى، ولا يساعده دليل، وتوهم
دلالة أدلة حجية خبر الواحد عليه بالفحوى، لكون الظن الذي تفيده أقوى مما يفيده
الخبر، فيه ما لا يخفى، ضرورة عدم دلالتها على كون مناط اعتباره إفادته الظن،
92

غايته تنقيح ذلك بالظن، وهو لا يوجب إلا الظن بأنها أولى بالاعتبار، ولا اعتبار
به، مع أن دعوى القطع بأنه ليس بمناط غير مجازفة.
وأضعف منه، توهم دلالة المشهورة والمقبولة عليه، لوضوح أن المراد
93

بالموصول في قوله في الأولى: (خذ بما اشتهر بين أصحابك) وفي الثانية: (ينظر إلى
ما كان من روايتهم عنا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه بين أصحابك،
فيؤخذ به) هو الرواية، لا ما يعم الفتوى، كما هو أوضح من أن يخفى.
نعم بناء على حجية الخبر ببناء العقلاء، لا يبعد دعوى عدم اختصاص
94

بنائهم على حجيته، بل على حجية كل أمارة مفيدة للظن أو الاطمئنان، لكن
دون إثبات ذلك خرط القتاد.
(1) ولعل وجهه انه يمكن ان يقال: ان المقصود من الشهرة في المقبولة هو الشهرة في الرواية، وانها
تكون موجبة لعدم الريب في أصل الصدور، واما الريب في وجه الصدور فهو منفي بالأصل.
منه طاب ثراه.
95

فصل
المشهور بين الأصحاب حجية خبر الواحد في الجملة بالخصوص، ولا يخفى
أن هذه المسألة من أهم المسائل الأصولية، وقد عرفت في أول الكتاب أن الملاك
في الأصولية صحة وقوع نتيجة المسألة في طريق الاستنباط، ولو لم يكن البحث فيها
عن الأدلة الأربعة، وإن اشتهر في ألسنة الفحول كون الموضوع في علم الأصول هي
97

الأدلة، وعليه لا يكاد يفيد في ذلك - أي كون هذه المسألة أصولية - تجشم دعوى
أن البحث عن دليلية الدليل بحث عن أحوال الدليل، ضرورة أن البحث في المسألة
ليس عن دليلية الأدلة، بل عن حجية الخبر الحاكي عنها، كما لا يكاد يفيد عليه
تجشم دعوى أن مرجع هذه المسألة إلى أن السنة - وهي قول الحجة أو فعله أو
تقريره - هل تثبت بخبر الواحد، أو لا تثبت إلا بما يفيد القطع من التواتر أو
98

القرينة؟ فإن التعبد بثبوتها مع الشك فيها لدى الاخبار بها ليس من عوارضها، بل
من عوارض مشكوكها، كما لا يخفى، مع أنه لازم لما يبحث عنه في المسألة من
حجية الخبر، والمبحوث عنه في المسائل إنما هو الملاك في أنها من المباحث أو من
غيره لا ما هو لازمه، كما هو واضح.
99

وكيف كان، فالمحكي عن السيد والقاضي وابن زهرة والطبرسي
وابن إدريس عدم حجية الخبر، واستدل لهم بالآيات الناهية عن اتباع غير العلم،
والروايات الدالة على رد ما لم يعلم أنه قولهم (عليهم السلام)، أو لم يكن
100

عليه شاهد من كتاب الله أو شاهدان، أو لم يكن موافقا للقرآن إليهم، أو على
بطلان ما لا يصدقه كتاب الله، أو على أن ما لا يوافق كتاب الله زخرف، أو على
النهي عن قبول حديث إلا ما وافق الكتاب أو السنة، إلى غير ذلك.
والاجماع المحكي عن السيد في مواضع من كلامه، بل حكي عنه أنه
جعله بمنزلة القياس، في كون تركه معروفا من مذهب الشيعة.
والجواب: أما عن الآيات، فبأن الظاهر منها أو المتيقن من اطلاقاتها هو
اتباع غير العلم في الأصول الاعتقادية، لا ما يعم الفروع الشرعية، ولو سلم
عمومها لها، فهي مخصصة بالأدلة الآتية على اعتبار الاخبار.
101

وأما عن الروايات، فبأن الاستدلال بها خال عن السداد، فإنها أخبار
آحاد.
102

لا يقال: إنها وإن لم تكن متواترة لفظا ولا معنى، إلا أنها متواترة إجمالا،
للعلم الاجمالي بصدور بعضها لا محالة.
فإنه يقال: إنها وإن كانت كذلك، إلا أنها لا تفيد إلا فيما توافقت عليه،
وهو غير مفيد في إثبات السلب كليا، كما هو محل الكلام ومورد النقض والابرام،
وإنما تفيد عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنة، والالتزام به ليس بضائر، بل
103

لا محيص عنه في مقام المعارضة.
وإما عن الاجماع، فبأن المحصل منه غير حاصل، والمنقول منه للاستدلال به
غير قابل، خصوصا في المسألة، كما يظهر وجهه للمتأمل، مع أنه معارض بمثله،
وموهون بذهاب المشهور إلى خلافه.
104

وقد استدل للمشهور بالأدلة الأربعة:
فصل
في الآيات التي استدل بها:
فمنها: آية النبأ، قال الله تبارك وتعالى: * (إن جاءكم فاسق بنبأ
فتبينوا) *. ويمكن تقريب الاستدلال بها من وجوه: أظهرها أنه من جهة مفهوم
105

الشرط، وأن تعليق الحكم بإيجاب التبين عن النبأ الذي جئ به على كون الجائي به
الفاسق، يقتضي انتفاءه عند انتفائه.
ولا يخفى أنه على هذا التقرير لا يرد: أن الشرط في القضية لبيان تحقق
الموضوع فلا مفهوم له، أو مفهومه السالبة بانتفاء الموضوع، فافهم.
106

نعم لو كان الشرط هو نفس تحقق النبأ ومجئ الفاسق به، كانت القضية
الشرطية مسوقة لبيان تحقق الموضوع، مع أنه يمكن أن يقال: إن القضية ولو كانت
مسوقة لذلك، إلا أنها ظاهرة في انحصار موضوع وجوب التبين في النبأ الذي جاء به
الفاسق، فيقتضي انتفاء وجوب التبين عند انتفائه ووجود موضوع آخر، فتدبر.
(1) اعلم أن الضابط في أن الشرط المذكور في القضية الذي سبق لبيان تحقق الموضوع وعدمه هو
ان يجعل الموضوع نفس المقيد وكان القيد خارجا عن الموضوع، وان كان له دخل في ثبوت
الجزاء، أو يجعل مجموع ذلك موضوعا، فإن كان الشرط من قبيل الأول لا يكون محققا
للموضوع، بل يكون خارجا عنه، ويفيد المفهوم لمكان دخله في ثبوت الحكم، وان كان من قبيل
107


الثاني يكون من محققات الموضوع ولا يفيد المفهوم، وذلك لان انتفاء الحكم عند انتفاء موضوعه
عقلي، وثبوت نقيض الحكم المذكور في القضية لموضوع آخر يحتاج إلى دليل، هذا كله في مقام
الثبوت، واما في مقام الاثبات فطريقه منحصر في النص، ومع فقده فهم العرف، ولا يبعد ان
تكون الآية الشريفة بحسب فهم العرف من قبيل الأول.
108

ولكنه يشكل بأنه ليس لها ها هنا مفهوم، ولو سلم أن أمثالها ظاهرة في
المفهوم، لان التعليل بإصابة القوم بالجهالة المشترك بين المفهوم والمنطوق. يكون
قرينة على أنه ليس لها مفهوم.
ولا يخفى أن الاشكال إنما يبتني على كون الجهالة بمعنى عدم العلم، مع أن
دعوى أنها بمعنى السفاهة وفعل ما لا ينبغي صدوره من العقل غير بعيدة.
ثم إنه لو سلم تمامية دلالة الآية على حجية خبر العدل،
109

ربما أشكل شمول مثلها للروايات الحاكية لقول الإمام (عليه السلام)
بواسطة أو وسائط، فإنه كيف يمكن الحكم بوجوب التصديق الذي ليس إلا بمعنى
وجوب ترتيب ما للمخبر به من الأثر الشرعي بلحاظ نفس هذا الوجوب، فيما كان
المخبر به خبر العدل أو عدالة المخبر، لأنه وإن كان أثرا شرعيا لهما، إلا أنه بنفس
الحكم في مثل الآية بوجوب تصديق خبر العدل حسب الفرض.
111

نعم لو أنشأ هذا الحكم ثانيا، فلا بأس في أن يكون بلحاظه أيضا، حيث إنه
صار أثرا بجعل آخر، فلا يلزم اتحاد الحكم والموضوع، بخلاف ما إذا لم يكن هناك
إلا جعل واحد، فتدبر.
ويمكن ذب الاشكال، بأنه إنما يلزم إذا لم يكن القضية طبيعية، والحكم
فيها بلحاظ طبيعة الأثر، بل بلحاظ أفراده، وإلا فالحكم بوجوب التصديق يسري
إليه سراية حكم الطبيعة إلى أفراده، بلا محذور لزوم اتحاد الحكم والموضوع.
113

هذا مضافا إلى القطع بتحقق ما هو المناط في سائر الآثار في هذا الأثر - أي
وجوب التصديق - بعد تحققه بهذا الخطاب، وإن كان لا يمكن أن يكون ملحوظا
لاجل المحذور، وإلى عدم القول بالفصل بينه وبين سائر الآثار، في وجوب الترتيب
لدى الاخبار بموضوع، صار أثره الشرعي وجوب التصديق، وهو خبر العدل، ولو
بنفس الحكم في الآية به، فافهم.
114

ولا يخفى أنه لا مجال بعد اندفاع الاشكال بذلك للاشكال في خصوص
الوسائط من الاخبار، كخبر الصفار المحكي بخبر المفيد مثلا، بأنه لا يكاد يكون
خبرا تعبدا إلا بنفس الحكم بوجوب تصديق العادل الشامل للمفيد، فكيف يكون
هذا الحكم المحقق لخبر الصفار تعبدا مثلا حكما له أيضا، وذلك لأنه إذا كان خبر
العدل ذا أثر شرعي حقيقة بحكم الآية وجب ترتيب أثره عليه عند إخبار العدل
115

به، كسائر ذوات الآثار من الموضوعات، لما عرفت من شمول مثل الآية للخبر
الحاكي للخبر بنحو القضية الطبيعية، أو لشمول الحكم فيها له مناطا، وإن لم
يشمله لفظا، أو لعدم القول بالفصل، فتأمل جيدا.
ومنها: آية النفر، قال الله تبارك وتعالى: * (فلولا نفر من كل فرقة منهم
طائفة) * الآية، وربما يستدل بها من وجوه:
(1) التوبة: 122.
116

أحدها: إن كلمة (لعل) وإن كانت مستعملة على التحقيق في معناه
الحقيقي، وهو الترجي الايقاعي الانشائي، إلا أن الداعي إليه حيث يستحيل في
حقه تعالى أن يكون هو الترجي الحقيقي، كان هو محبوبية التحذر عند الانذار،
وإذا ثبت محبوبيته ثبت وجوبه شرعا، لعدم الفصل، وعقلا لوجوبه مع وجود ما
يقتضيه، وعدم حسنه، بل عدم إمكانه بدونه.
ثانيها: إنه لما وجب الانذار لكونه غاية للنفر الواجب، كما هو قضية
كلمة (لولا) التحضيضية، وجب التحذر، وإلا لغى وجوبه.
117

ثالثها: إنه جعل غاية للانذار الواجب، وغاية الواجب واجب.
ويشكل الوجه الأول، بأن التحذر لرجاء إدراك الواقع وعدم الوقوع في
محذور مخالفته، من فوت المصلحة أو الوقوع في المفسدة، حسن، وليس بواجب
فيما لم يكن هناك حجة على التكليف، ولم يثبت ها هنا عدم الفصل، غايته عدم
القول بالفصل.
والوجه الثاني والثالث بعدم انحصار الانذار ب‍ [إيجاب] التحذر
تعبدا، لعدم إطلاق يقتضي وجوبه على الاطلاق، ضرورة أن الآية مسوقة لبيان
118

وجوب النفر، لا لبيان غايتية التحذر، ولعل وجوبه كان مشروطا بما إذا أفاد العلم
لو لم نقل بكونه مشروطا به، فإن النفر إنما يكون لاجل التفقه وتعلم معالم الدين،
ومعرفة ما جاء به سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله وسلم)، كي ينذروا بها
المتخلفين أو النافرين، على الوجهين في تفسير الآية، لكي يحذروا إذا أنذروا بها،
وقضيته إنما هو وجوب الحذر عند إحراز أن الانذار بها، كما لا يخفى.
119

ثم إنه أشكل أيضا، بأن الآية لو سلم دلالتها على وجوب الحذر مطلقا فلا
دلالة لها على حجية الخبر بما هو خبر، حيث إنه ليس شأن الراوي إلا الاخبار بما
تحمله، لا التخويف والانذار، وإنما هو شأن المرشد أو المجتهد بالنسبة إلى المسترشد
أو المقلد.
قلت: لا يذهب عليك أنه ليس حال الرواة في الصدر الأول في نقل ما تحملوا
من النبي (صلى الله عليه وعلى أهل بيته الكرام) أو الإمام (عليه السلام) من
الاحكام إلى الأنام، إلا كحال نقلة الفتاوى إلى العوام.
120

ولا شبهة في أنه يصح منهم التخويف في مقام الابلاغ والانذار والتحذير
بالبلاغ، فكذا من الرواة، فالآية لو فرض دلالتها على حجية نقل الراوي إذا كان
مع التخويف، كان نقله حجة بدونه أيضا، لعدم الفصل بينهما جزما، فافهم.
ومنها: آية الكتمان، * (إن الذين يكتمون ما أنزلنا) * (1) الآية.
وتقريب الاستدلال بها: إن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عقلا،
للزوم لغويته بدونه، ولا يخفى أنه لو سلمت هذه الملازمة لا مجال للايراد على
هذه الآية بما أورد على آية النفر، من دعوى الاهمال أو استظهار الاختصاص بما
إذا أفاد العلم، فإنها تنافيهما، كما لا يخفى، لكنها ممنوعة، فإن اللغوية غير لازمة،
(1) البقرة: 159.
121

لعدم انحصار الفائدة بالقبول تعبدا، وإمكان أن تكون حرمة الكتمان لاجل وضوح
الحق بسبب كثرة من أفشاه وبينه، لئلا يكون للناس على الله حجة، بل كان له
عليهم الحجة البالغة.
ومنها: آية السؤال عن أهل الذكر * (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا
تعلمون) * (1). وتقريب الاستدلال بها ما في آية الكتمان.
وفيه: إن الظاهر منها إيجاب السؤال لتحصيل العلم، لا للتعبد بالجواب.
وقد أورد عليها: بأنه لو سلم دلالتها على التعبد بما أجاب أهل الذكر،
(1) النحل: 43، الأنبياء: 7.
122

فلا دلالة لها على التعبد بما يروي الراوي، فإنه بما هو راو لا يكون من أهل الذكر
والعلم، فالمناسب إنما هو الاستدلال بها على حجية الفتوى لا الرواية.
وفيه: إن كثيرا من الرواة يصدق عليهم أنهم أهل الذكر والاطلاع على
رأي الإمام (عليه السلام) كزرارة ومحمد بن مسلم ومثلهما، ويصدق على السؤال
عنهم أنه السؤال عن [أهل] الذكر والعلم، ولو كان السائل من أضرابهم،
فإذا وجب قبول روايتهم في مقام الجواب بمقتضى هذه الآية، وجب قبول روايتهم
ورواية غيرهم من العدول مطلقا، لعدم الفصل جزما في وجوب القبول بين
المبتدئ والمسبوق بالسؤال، ولا بين أضراب زرارة وغيرهم ممن لا يكون من أهل
الذكر، وإنما يروي ما سمعه أو رآه، فافهم.
123

ومنها: آية الاذن * (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن قل أذن خير
لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) * فإنه تبارك وتعالى مدح نبيه بأنه يصدق
المؤمنين، وقرنه بتصديقه تعالى.
وفيه: أولا: إنه إنما مدحه بأنه أذن، وهو سريع القطع، لا الاخذ بقول
الغير تعبدا.
(1) سورة التوبة: 61.
(2) سورة الأحزاب: 21.
124

وثانيا: إنه إنما المراد بتصديقه للمؤمنين، هو ترتيب خصوص الآثار التي
تنفعهم ولا تضر غيرهم، لا التصديق بترتيب جميع الآثار، كما هو المطلوب في باب
حجية الخبر، ويظهر ذلك من تصديقه للنمام بأنه ما نمه، وتصديقه لله تعالى بأنه
نمه، كما هو المراد من التصديق في قوله (عليه السلام): (فصدقه وكذبهم)،
حيث قال - على ما في الخبر -: (يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك،
فإن شهد عندك خمسون قسامة أنه قال قولا، وقال: لم أقله، فصدقه وكذبهم)
فيكون مراده تصديقه بما ينفعه ولا يضرهم، وتكذيبهم فيما يضره ولا ينفعهم، وإلا
فكيف يحكم بتصديق الواحد وتكذيب خمسين؟ وهكذا المراد بتصديق المؤمنين في
قصة إسماعيل، فتأمل جيدا.
125

فصل
في الاخبار التي دلت على اعتبار أخبار الآحاد.
وهي وإن كانت طوائف كثيرة، كما يظهر من مراجعة الوسائل وغيرها،
إلا أنه يشكل الاستدلال بها على حجية أخبار الآحاد بأنها أخبار آحاد، فإنها غير
متفقة على لفظ ولا على معنى، فتكون متواترة لفظا أو معنى.
ولكنه مندفع بأنها وإن كانت كذلك، إلا أنها متواترة إجمالا، ضرورة أنه
يعلم إجمالا بصدور بعضهما منهم (عليهم السلام)، وقضيته وإن كان حجية خبر
126

دل على حجيته أخصها مضمونا إلا أنه يتعدى عنه فيما إذا كان بينها ما كان بهذه
الخصوصية، وقد دل على حجية ما كان أعم، فافهم.
فصل
في الاجماع على حجية الخبر.
وتقريره من وجوه:
أحدها: دعوى الاجماع من تتبع فتاوى الأصحاب على الحجية من زماننا
إلى زمان الشيخ، فيكشف رضاه (عليه السلام) بذلك، ويقطع به، أو من تتبع
الاجماعات المنقولة على الحجية، ولا يخفى مجازفة هذه الدعوى، لاختلاف الفتاوى
127

فيما أخذ في اعتباره من الخصوصيات، ومعه لا مجال لتحصيل القطع برضاه (عليه
السلام) من تتبعها، وهكذا حال تتبع الاجماعات المنقولة، اللهم إلا أن يدعى
تواطؤها على الحجية في الجملة، وإنما الاختلاف في الخصوصيات المعتبرة فيها،
ولكن دون إثباته خرط القتاد.
ثانيها: دعوى اتفاق العلماء عملا بل كافة المسلمين على العمل بخبر
الواحد في أمورهم الشرعية، كما يظهر من أخذ فتاوى المجتهدين من الناقلين لها.
128

وفيه: مضافا إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الأول، أنه لو سلم اتفاقهم على
ذلك، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتدينون بهذا الدين، أو بما هم عقلاء ولو
لم يلتزموا بدين، كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الأمور الدينية من الأمور
العادية، فيرجع إلى ثالث الوجوه، وهو دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي
الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة، واستمرت إلى زماننا، ولم يردع عنه نبي ولا
129

وصي نبي، ضرورة أنه لو كان لاشتهر وبان، ومن الواضح أنه يكشف عن رضى
الشارع به في الشرعيات أيضا.
إن قلت: يكفي في الردع الآيات الناهية، والروايات المانعة عن اتباع غير
العلم، وناهيك قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *، وقوله
تعالى: * (وإن الظن لا يغني من الحق شيئا) *.
130

قلت: لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك، فإنه - مضافا إلى أنها وردت
إرشادا إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين، ولو سلم فإنما المتيقن لولا أنه المنصرف
إليه إطلاقها هو خصوص الظن الذي لم يقم على اعتباره حجة - لا يكاد يكون الردع
بها إلا على وجه دائر، وذلك لان الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها، أو
تقييد إطلاقها بالسيرة على اعتبار خبر الثقة، وهو يتوقف عل الردع عنها بها، وإلا
131

لكانت مخصصة أو مقيدة لها، كما لا يخفى.
لا يقال: على هذا لا يكون اعتبار خبر الثقة بالسيرة أيضا، إلا على وجه
دائر، فإن اعتباره بها فعلا يتوقف على عدم الردع بها عنها، وهو يتوقف على
132

تخصيصها بها، وهو يتوقف على عدم الردع بها عنها.
فإنه يقال: إنما يكفي في حجيته بها عدم ثبوت الردع عنها، لعدم نهوض ما
يصلح لردعها، كما يكفي في تخصيصها لها ذلك، كما لا يخفى، ضرورة أن ما
133

جرت عليه السيرة المستمرة في مقام الإطاعة والمعصية، وفي استحقاق العقوبة
بالمخالفة، وعدم استحقاقها مع الموافقة، ولو في صورة المخالفة عن الواقع، يكون
عقلا في الشرع متبعا ما لم ينهض دليل على المنع عن اتباعه في الشرعيات، فافهم
وتأمل.
134

فصل
في الوجوه العقلية التي أقيمت على حجية الخبر الواحد.
أحدها: إنه يعلم إجمالا بصدور كثير مما بأيدينا من الاخبار من الأئمة
الأطهار (عليهم السلام) بمقدار واف بمعظم الفقه، بحيث لو علم تفصيلا ذاك
136

المقدار لا نحل علمنا الاجمالي بثبوت التكاليف بين الروايات وسائر الامارات إلى
العلم التفصيلي بالتكاليف في مضامين الاخبار الصادرة المعلومة تفصيلا، والشك
البدوي في ثبوت التكليف في مورد سائر الامارات الغير المعتبرة،
137

ولازم ذلك لزوم العمل على وفق جميع الاخبار المثبتة، وجواز العمل على
طبق النافي منها فيما إذا لم يكن في المسألة أصل مثبت له، من قاعدة الاشتغال أو
الاستصحاب، بناء على جريانه في أطراف ما علم إجمالا بانتقاض الحالة السابقة
في بعضها، أو قيام أمارة معتبرة على انتقاضها فيه، وإلا لاختص عدم جواز العمل
على وفق النافي بما إذا كان على خلاف قاعدة الاشتغال.
139

وفيه: إنه يكاد ينهض على حجية الخبر، بحيث يقدم تخصيصا أو تقييدا أو
ترجيحا على غيره، من عموم أو إطلاق أو مثل مفهوم، وإن كان يسلم عما أورد
عليه من أن لازمه الاحتياط في سائر الامارات، لا في خصوص الروايات، لما
عرفت من انحلال العلم الاجمالي بينهما بما علم بين الاخبار بالخصوص ولو بالاجمال
فتأمل جيدا.
140

ثانيها: ما ذكره في الوافية، مستدلا على حجية الاخبار الموجودة في
الكتب المعتمدة للشيعة، كالكتب الأربعة، مع عمل جمع به من غير رد ظاهر، وهو:
(إنا نقطع ببقاء التكليف إلى يوم القيامة، سيما بالأصول الضرورية، كالصلاة
والزكاة والصوم والحج والمتاجر والأنكحة ونحوها، مع أن جل أجزائها وشرائطها
وموانعها إنما يثبت بالخبر الغير القطعي، بحيث نقطع بخروج حقائق هذه الأمور عن
كونها هذه الأمور عند ترك العمل بخبر الواحد، ومن أنكر فإنما ينكره باللسان وقلبه
مطمئن بالايمان). انتهى.
وأورد عليه: أولا: بأن العلم الاجمالي حاصل بوجود الأجزاء والشرائط
بين جميع الاخبار، لا خصوص الاخبار المشروطة بما ذكره، فاللازم حينئذ: إما
الاحتياط، أو العمل بكل ما دل على جزئية شئ أو شرطيته.
141

قلت: يمكن أن يقال: إن العلم الاجمالي وإن كان حاصلا بين جميع
الاخبار، إلا أن العلم بوجود الاخبار الصادرة عنهم (عليهم السلام) بقدر الكفاية بين
تلك الطائفة، أو العلم باعتبار طائفة كذلك بينها، يوجب انحلال ذاك العلم
الاجمالي، وصيرورة غيره خارجا عن طرف العلم، كما مرت إليه الإشارة في تقريب
الوجه الأول، اللهم إلا أن يمنع عن ذلك، وادعي عدم الكفاية فيما علم بصدوره
أو اعتباره، أو ادعي العلم بصدور أخبار أخر بين غيرها، فتأمل.
وثانيا: بأن قضيته إنما هو العمل بالاخبار المثبتة للجزئية أو الشرطية، دون
الاخبار النافية لهما.
والأولى أن يورد عليه: بأن قضيته إنما هو الاحتياط بالاخبار المثبتة فيما لم
142

تقم حجة معتبرة على نفيهما، من عموم دليل أو إطلاقه، لا الحجية بحيث يخصص
أو يقيد بالمثبت منها، أو يعمل بالنافي في قبال حجة على الثبوت ولو كان أصلا، كما
لا يخفى.
ثالثها: ما أفاده بعض المحققين بما ملخصه: إنا نعلم بكوننا مكلفين
بالرجوع إلى الكتاب والسنة إلى يوم القيامة، فإن تمكنا من الرجوع إليهما على نحو
يحصل العلم بالحكم أو ما بحكمه، فلا بد من الرجوع إليهما كذلك، وإلا فلا
محيص عن الرجوع على نحو يحصل الظن به في الخروج عن عهدة هذا التكليف،
فلو لم يتمكن من القطع بالصدور أو الاعتبار، فلا بد من التنزل إلى الظن بأحدهما.
143

وفيه: إن قضية بقاء التكليف فعلا بالرجوع إلى الاخبار الحاكية للسنة، كما
صرح بأنها المراد منها في ذيل كلامه - زيد في علو مقامه - إنما هي الاقتصار في
الرجوع إلى الاخبار المتيقن الاعتبار، فإن وفى، وإلا أضيف إليه الرجوع إلى ما هو
المتيقن اعتباره بالإضافة لو كان، وإلا فالاحتياط بنحو عرفت، لا الرجوع إلى ما
ظن اعتباره، وذلك للتمكن من الرجوع علما تفصيلا أو إجمالا، فلا وجه معه من
الاكتفاء بالرجوع إلى ما ظن اعتباره.
هذا مع أن مجال المنع عن ثبوت التكليف بالرجوع إلى السنة - بذاك المعنى -
فيما لم يعلم بالصدور ولا بالاعتبار بالخصوص واسع.
وأما الايراد عليه: برجوعه إما إلى دليل الانسداد لو كان ملاكه دعوى
144

العلم الاجمالي بتكاليف واقعية، وإما إلى الدليل الأول، لو كان ملاكه دعوى العلم
بصدور أخبار كثيرة بين ما بأيدينا من الاخبار.
ففيه: إن ملاكه إنما هو دعوى العلم بالتكليف، بالرجوع إلى الروايات في
الجملة إلى يوم القيامة، فراجع تمام كلامه تعرف حقيقة مرامه.
فصل
في الوجوه التي أقاموها على حجية الظن، وهي أربعة:
الأول: إن في مخالفة المجتهد لما ظنه من الحكم الوجوبي أو التحريمي مظنة
للضرر، ودفع الضرر المظنون لازم.
أما الصغرى، فلان الظن بوجوب شئ أو حرمته يلازم الظن بالعقوبة
على مخالفته أو الظن بالمفسدة فيها، بناء على تبعية الاحكام للمصالح والمفاسد.
145

وأما الكبرى، فلاستقلال العقل بدفع الضر المظنون، ولو لم نقل بالتحسين
والتقبيح، لوضوح عدم انحصار ملاك حكمه بهما، بل يكون التزامه بدفع
الضرر المظنون بل المحتمل بما هو كذلك ولو لم يستقل بالتحسين والتقبيح، مثل
الالتزام بفعل ما استقل بحسنه، إذا قيل باستقلاله، ولذا أطبق العقلاء عليه، مع
خلافهم في استقلاله بالتحسين والتقبيح، فتدبر جيدا.
والصواب في الجواب: هو منع الصغرى، أما العقوبة فلضرورة عدم
الملازمة بين الظن بالتكليف والظن بالعقوبة على مخالفته، لعدم الملازمة بينه والعقوبة
على مخالفته، وإنما الملازمة بين خصوص معصيته واستحقاق العقوبة عليها، لا بين
146

مطلق المخالفة والعقوبة بنفسها، وبمجرد الظن به بدون دليل على اعتباره لا
يتنجز به، كي يكون مخالفته عصيانه.
إلا أن يقال: إن العقل وإن لم يستقل بتنجزه بمجرده، بحيث يحكم
باستحقاق العقوبة على مخالفته، إلا أنه لا يستقل أيضا بعدم استحقاقها معه،
فيحتمل العقوبة حينئذ عل المخالفة، ودعوى استقلاله بدفع الضرر المشكوك
كالمظنون قريبة جدا، لا سيما إذا كان هو العقوبة الأخروية، كما لا يخفى.
وأما المفسدة فلانها وإن كان الظن بالتكليف يوجب الظن بالوقوع فيها لو
خالفه، إلا أنها ليست بضرر على كل حال، ضرورة أن كل ما يوجب قبح الفعل من
المفاسد لا يلزم أن يكون من الضرر على فاعله، بل ربما يوجب حزازة ومنقصة في
147

الفعل، بحيث يذم عليه فاعله بلا ضرر عليه أصلا، كما لا يخفى.
وأما تفويت المصحلة، فلا شبهة في أنه ليس فيه مضرة، بل ربما يكون في
استيفائها المضرة، كما في الاحسان بالمال.
هذا مع منع كون الاحكام تابعة للمصالح والمفاسد في المأمور به والمنهي
عنه، بل إنما هي تابعة لمصالح فيها، كما حققناه في بعض فوائدنا.
وبالجملة: ليست المفسدة ولا المنفعة الفائتة اللتان في الأفعال وأنيط بهما
148

الاحكام بمضرة، وليس مناط حكم العقل بقبح ما فيه المفسدة أو حسن ما فيه
المصلحة من الأفعال على القول باستقلاله بذلك، هو كونه ذا ضرر وارد على
فاعله أو نفع عائد إليه، ولعمري هذا أوضح من أن يخفى، فلا مجال لقاعدة رفع
الضرر المظنون ها هنا أصلا، ولا استقلال للعقل بقبح فعل ما فيه احتمال
المفسدة أو ترك ما فيه احتمال المصلحة، فافهم.
الثاني: إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح.
(1) يمكن ان يقال في وجه الامر بالفهم: ان العقل كما يحكم بوجوب التحرز عن الضرر
المظنون لاعتباره عنده على المقروض، وبقاعدة الملازمة يثبت اعتباره عند الشرع أيضا،
والمفروض من الضرر في المقام هو العقاب، وحكمه بثبوت العقاب يلازم حكمه بثبوت
الحكم الوجوبي والتحريمي.
149

وفيه: إنه لا يكاد يلزم منه ذلك إلا فيما إذا كان الاخذ بالظن أو بطرفه
لازما، مع عدم إمكان الجمع بينهما عقلا، أو عدم وجوبه شرعا، ليدور الامر بين
ترجيحه وترجيح طرفه، ولا يكاد يدور الامر بينهما إلا بمقدمات دليل الانسداد،
150

وإلا كان اللازم هو الرجوع إلى العلم أو العلمي أو الاحتياط أو البراءة أو
غيرهما على حسب اختلاف الاشخاص أو الأحوال في اختلاف المقدمات، على ما
ستطلع على حقيقة الحال.
151

الثالث: ما عن السيد الطباطبائي (قدس سره)، من:
إنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات، ومقتضى ذلك
وجوب الاحتياط بالاتيان بكل ما يحتمل الوجوب ولو موهوما، وترك ما يحتمل
الحرمة كذلك، ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج عدم وجوب ذلك كله، لأنه
عسر أكيد وحرج شديد، فمقتضى الجمع بين قاعدتي الاحتياط وانتفاء الحرج العمل
بالاحتياط في المظنونات دون المشكوكات والموهومات، لان الجمع على غير هذا
الوجه باخراج بعض المظنونات وإدخال بعض المشكوكات والموهومات باطل
إجماعا.
ولا يخفى ما فيه من القدح والفساد، فإنه بعض مقدمات دليل الانسداد،
ولا يكاد ينتج بدون سائر مقدماته، ومعه لا يكون دليل آخر، بل ذاك الدليل.
152

الرابع: دليل الانسداد، وهو مؤلف من مقدمات، يستقل العقل مع
تحققها بكفاية الإطاعة الظنية حكومة أو كشفا على ما تعرف، ولا يكاد يستقل بها
بدونها، وهي خمس.
أولها: إنه يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة فعلية في الشريعة.
153

ثانيها: إنه قد انسد علينا باب العلم والعلمي إلى كثير منها.
ثالثها: إن لا يجوز لنا إهمالها وعدم التعرض لامتثالها أصلا.
رابعها: إنه لا يجب علينا الاحتياط في أطراف علمنا، بل لا يجوز في
الجملة، كما لا يجوز الرجوع إلى الأصل في المسألة، من استصحاب وتخيير وبراءة
واحتياط، ولا إلى فتوى العالم بحكمها.
154

خامسها: إنه كان ترجيح المرجوح على الراجح قبيحا، فيستقل العقل حينئذ
بلزوم الإطاعة الظنية لتلك التكاليف المعلومة، وإلا لزم - بعد انسداد باب العلم
والعلمي بها - إما إهمالها، وإما لزوم الاحتياط في أطرافها، وإما الرجوع إلى الأصل
الجاري في كل مسألة، مع قطع النظر عن العلم بها، أو التقليد فيها، أو الاكتفاء
بالإطاعة الشكية أو الوهمية مع التمكن من الظنية.
والفرض بطلان كل واحد منها:
155

أما المقدمة الأولى: فهي وإن كانت بديهية إلا أنه قد عرفت انحلال العلم
الاجمالي بما في الاخبار الصادرة عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) التي تكون
فيما بأيدينا، من الروايات في الكتب المعتبرة، ومعه لا موجب للاحتياط إلا في
خصوص ما في الروايات، وهو غير مستلزم للعسر فضلا عما يوجب الاختلال، ولا
إجماع على عدم وجوبه، ولو سلم الاجماع على عدم وجوبه لو لم يكن هناك انحلال.
وأما المقدمة الثانية: أما بالنسبة إلى العلم، فهي بالنسبة إلى أمثال زماننا
156

بينة وجدانية، يعرف الانسداد كل من تعرض للاستنباط والاجتهاد.
وأما بالنسبة إلى العلمي، فالظاهر أنها غير ثابتة، لما عرفت من نهوض الأدلة
على حجية خبر يوثق بصدقه، وهو بحمد الله واف بمعظم الفقه، لا سيما بضميمة ما
علم تفصيلا منها، كما لا يخفى.
وأما الثالثة: فهي قطعية، ولو لم نقل بكون العلم الاجمالي منجزا مطلقا أو
فيما جاز، أو وجب الاقتحام في بعض أطرافه، كما في المقام حسب ما يأتي، وذلك
لان إهمال معظم الاحكام وعدم الاجتناب كثيرا عن الحرام، مما يقطع بأنه
مرغوب عنه شرعا ومما يلزم تركه إجماعا.
إن قلت: إذا لم يكن العلم بها منجزا لها للزوم الاقتحام في بعض الأطراف
157

- كما أشير إليه - فهل كان العقاب على المخالفة في سائر الأطراف - حينئذ - على تقدير
المصادفة إلا عقابا بلا بيان؟ والمؤاخذة عليها إلا مؤاخذة بلا برهان؟!
قلت: هذا إنما يلزم، لو لم يعلم بإيجاب الاحتياط، وقد علم به بنحو اللم،
حيث علم اهتمام الشارع بمراعاة تكاليفه، بحيث ينافيه عدم إيجابه الاحتياط
الموجب للزوم المراعاة، ولو كان بالالتزام ببعض المحتملات، مع صحة دعوى
الاجماع على عدم جواز الاهمال في هذا الحال، وأنه مرغوب عنه شرعا قطعا، [وأما
158

مع استكشافه] فلا يكون المؤاخذة والعقاب حينئذ بلا بيان وبلا برهان، كما
حققناه في البحث وغيره.
وأما المقدمة الرابعة: فهي بالنسبة إلى عدم وجوب الاحتياط التام بلا
كلام، فيما يوجب عسره اختلال النظام، وأما فيما لا يوجب، فمحل نظر بل منع،
لعدم حكومة قاعدة نفي العسر والحرج على قاعدة الاحتياط، وذلك لما حققناه في
معنى ما دل على نفي الضرر والعسر، من أن التوفيق بين دليلهما ودليل التكليف أو
(1) سورة الحج: 78.
(2) الوسائل ج 10 ص الحديث 4 وبغير كلمة (في الدين).
159

الوضع المتعلقين بما يعمهما، هو نفيهما عنهما بلسان نفيهما، فلا يكون له حكومة على
الاحتياط العسر إذا كان بحكم العقل، لعدم العسر في متعلق التكليف، وإنما هو
في الجمع بين محتملاته احتياطا.
نعم، لو كان معناه نفي الحكم الناشئ من قبله العسر - كما قيل - لكانت
160

قاعدة نفيه محكمة على قاعدة الاحتياط، لان العسر حينئذ يكون من قبل التكاليف
المجهولة، فتكون منفية بنفيه.
ولا يخفى أنه على هذا لا وجه لدعوى استقلال العقل بوجوب الاحتياط في
بعض الأطراف بعد رفع اليد عن الاحتياط في تمامها، بل لا بد من دعوى وجوبه
شرعا، كما أشرنا إليه في بيان المقدمة الثالثة، فافهم وتأمل جيدا.
.
(1) سورة الحج: 78
161

وأما الرجوع إلى الأصول، فبالنسبة إلى الأصول المثبتة من احتياط أو
استصحاب مثبت للتكليف فلا مانع عن إجرائها عقلا مع حكم العقل وعموم
النقل. هذا، ولو قيل بعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الاجمالي،
لاستلزام شمول دليله لها التناقض في مدلوله، بداهة تناقض حرمة النقض في كل منها
بمقتضى (لا تنقض) لوجوبه في البعض، كما هو قضية (ولكن تنقضه بيقين آخر)
وذلك لأنه إنما يلزم فيما إذا كان الشك في أطرافه فعليا.
162

وأما إذا لم يكن كذلك، بل لم يكن الشك فعلا إلا في بعض أطرافه، وكان
بعض أطرافه الآخر غير ملتفت إليه فعلا أصلا، كما هو حال المجتهد في مقام
استنباط الاحكام، كما لا يخفى، فلا يكاد يلزم ذلك، فإن قضية (لا تنقض) ليس
حينئذ إلا حرمة النقض في خصوص الطرف المشكوك، وليس فيه علم بالانتقاض
كي يلزم التناقض في مدلول دليله من شموله له، فافهم.
ومنه قد انقدح ثبوت حكم العقل وعموم النقل بالنسبة إلى الأصول النافية
أيضا، وأنه لا يلزم محذور لزوم التناقض من شمول الدليل لها لو لم يكن هناك
مانع عقلا أو شرعا من إجرائها، ولا مانع كذلك لو كانت موارد الأصول المثبتة
بضميمة ما علم تفصيلا، أو نهض عليه علمي بمقدار المعلوم إجمالا، بل بمقدار لم
يكن معه مجال لاستكشاف إيجاب الاحتياط، وإن لم يكن بذلك المقدار، ومن
الواضح أنه يختلف باختلاف الاشخاص والأحوال.
163

وقد ظهر بذلك أن العلم الاجمالي بالتكاليف ربما ينحل ببركة جريان الأصول
المثبتة وتلك الضميمة، فلا موجب حينئذ للاحتياط عقلا ولا شرعا أصلا، كما لا
يخفى.
كما ظهر أنه لو لم ينحل بذلك، كان خصوص موارد أصول النافية مطلقا - ولو
من مظنونات [عدم] التكليف - محلا للاحتياط فعلا، ويرفع اليد عنه فيها كلا
أو بعضا، بمقدار رفع الاختلال أو رفع العسر - على ما عرفت - لا محتملات
التكليف مطلقا.
164

وأما الرجوع إلى فتوى العالم فلا يكاد يجوز، ضرورة أنه لا يجوز إلا للجاهل
لا للفاضل الذي يرى خطأ من يدعي انفتاح باب العلم أو العلمي، فهل يكون
رجوعه إليه بنظره إلا من قبيل رجوع الفاضل إلى الجاهل؟.
وأما المقدمة الخامسة: فلاستقلال العقل بها، وأنه لا يجوز التنزل - بعد
عدم التمكن من الإطاعة العلمية أو عدم وجوبها - إلا إلى الإطاعة الظنية دون
الشكية أو الوهمية، لبداهة مرجوحيتها بالإضافة إليها، وقبح ترجيح المرجوح على
الراجح، لكنك عرفت عدم وصول النوبة إلى الإطاعة الاحتمالية، مع دوران الامر
165

بين الظنية والشكية أو الوهمية، من جهة ما أوردناه على المقدمة الأولى من انحلال
العلم الاجمالي بما في أخبار الكتب المعتبرة، وقضيته الاحتياط بالالزام عملا بما فيها
من التكاليف، ولا بأس به حيث لا يلزم منه عسر فضلا عما يوجب اختلال
النظام.
وما أوردنا على المقدمة الرابعة من جواز الرجوع إلى الأصول مطلقا، ولو
كانت نافية، لوجود المقتضي وفقد المانع عنه لو كان التكليف في موارد الأصول المثبتة
166

وما علم منه تفصيلا، أو نهض عليه دليل معتبر بمقدار المعلوم بالاجمال، وإلا فإلى
الأصول المثبتة وحدها، وحينئذ كان خصوص موارد الأصول النافية محلا لحكومة
العقل، وترجيح مظنونات التكليف فيها على غيرها، ولو بعد استكشاف وجوب
الاحتياط في الجملة شرعا، بعد عدم وجوب الاحتياط التام شرعا أو عقلا - على ما
عرفت تفصيله - هذا هو التحقيق على ما يساعد عليه النظر الدقيق، فافهم وتدبر
جيدا.
167

فصل
هل قضية المقدمات على تقدير سلامتها هي حجية الظن بالواقع، أو
بالطريق، أو بهما؟ أقوال:
والتحقيق أن يقال: أنه لا شبهة في أن هم العقل في كل حال إنما هو
168

تحصيل الامن من تبعة التكاليف المعلومة، من العقوبة على مخالفتها، كما لا شبهة في
استقلاله في تعيين ما هو المؤمن منها، وفي أن كلما كان القطع به مؤمنا في حال
الانفتاح كان الظن به مؤمنا حال الانسداد جزما، وإن المؤمن في حال الانفتاح هو
القطع بإتيان المكلف به الواقعي بما هو كذلك، لا بما هو معلوم ومؤدى الطريق
ومتعلق العلم، وهو طريق شرعا وعقلا، أو بإتيانه الجعلي، وذلك لان العقل قد
استقل بأن الاتيان بالمكلف به الحقيقي بما هو هو، لا بما هو مؤدى الطريق مبرئ
للذمة قطعا.
كيف؟ وقد عرفت أن القطع بنفسه طريق لا يكاد تناله يد الجعل إحداثا
وإمضاء، إثباتا ونفيا، ولا يخفى أن قضية ذلك هو التنزل إلى الظن بكل واحد
من الواقع والطريق، ولا منشأ لتوهم الاختصاص بالظن بالواقع إلا توهم أنه
قضية اختصاص المقدمات بالفروع، لعدم انسداد باب العلم في الأصول، وعدم
إلجاء في التنزل إلى الظن فيها، والغفلة عن أن جريانها في الفروع موجب لكفاية
الظن بالطريق في مقام يحصل الامن من عقوبة التكاليف، وإن كان باب العلم في
غالب الأصول مفتوحا، وذلك لعدم التفاوت في نظر العقل في ذلك بين الظنين،
كما أن منشأ توهم الاختصاص بالظن بالطريق وجهان:
169

أحدهما: ما أفاده بعض الفحول وتبعه في الفصول، قال فيها:
إنا كما نقطع بأنا مكلفون في زماننا هذا تكليفا فعليا بأحكام فرعية كثيرة، لا
سبيل لنا بحكم العيان وشهادة الوجدان إلى تحصيل كثير منها بالقطع، ولا بطريق
معين يقطع من السمع بحكم الشارع بقيامه، أو قيام طريقه مقام القطع ولو عند
تعذره، كذلك نقطع بأن الشارع قد جعل لنا إلى تلك الأحكام طريقا مخصوصا،
وكلفنا تكليفا فعليا بالعمل بمؤدى طرق مخصوصة، وحيث أنه لا سبيل غالبا إلى
تعيينها بالقطع، ولا بطريق يقطع من السمع بقيامه بالخصوص، أو قيام طريقه
كذلك مقام القطع ولو بعد تعذره، فلا ريب أن الوظيفة في مثل ذلك بحكم العقل
إنما هو الرجوع في تعيين ذلك الطريق إلى الظن الفعلي الذي لا دليل على [عدم]
حجيته، لأنه أقرب إلى العلم، وإلى إصابة الواقع مما عداه.
وفيه: أولا - بعد تسليم العلم بنصب طرق خاصة باقية فيما بأيدينا من الطرق
الغير العلمية، وعدم وجود المتيقن بينها أصلا - أن قضية ذلك هو الاحتياط في
أطراف هذه الطرق المعلومة بالاجمال لا تعيينها بالظن.
170

لا يقال: الفرض هو عدم وجوب الاحتياط، بل عدم جوازه، لان
الفرض إنما هو عدم وجوب الاحتياط التام في أطراف الاحكام، مما يوجب العسر
المخل بالنظام، لا الاحتياط في خصوص ما بأيدينا من الطرق.
فإن قضية هذا الاحتياط هو جواز رفع اليد عنه في غير مواردها، والرجوع
إلى الأصل فيها ولو كان نافيا للتكليف، وكذا فيما إذا نهض الكل على نفيه، وكذا
فيما إذا تعارض فردان من بعض الأطراف فيه نفيا وإثباتا مع ثبوت المرجح للنافي
بل مع عدم رجحان المثبت في خصوص الخبر منها، ومطلقا في غيره بناء على عدم
ثبوت الترجيح على تقدير الاعتبار في غير الاخبار وكذا لو تعارض اثنان منها في
الوجوب والتحريم، فإن المرجع في جميع ما ذكر من موارد التعارض هو الأصل
الجاري فيها ولو كان نافيا، لعدم نهوض طريق معتبر ولا ما هو من أطراف العلم به
على خلافه، فافهم.
وكذا كل مورد لم يجر فيه الأصل المثبت، للعلم بانتقاض الحالة السابقة فيه
171

إجمالا بسبب العلم به، أو بقيام أمارة معتبرة عليه في بعض أطرافه، بناء على عدم
جريانه بذلك.
وثانيا: لو سلم أن قضيته لزوم التنزل إلى الظن، فتوهم أن الوظيفة حينئذ
هو خصوص الظن بالطريق فاسد قطعا، وذلك لعدم كونه أقرب إلى العلم وإصابة
الواقع من الظن، بكونه مؤدى طريق معتبر من دون الظن بحجية طريق أصلا،
ومن الظن بالواقع، كما لا يخفى.
لا يقال: إنما لا يكون أقرب من الظن بالواقع، إذا لم يصرف التكليف الفعلي
عنه إلى مؤديات الطرق ولو بنحو التقييد، فإن الالتزام به بعيد، إذ الصرف لو لم
يكن تصويبا محالا، فلا أقل من كونه مجمعا على بطلانه، ضرورة أن القطع بالواقع
يجدي في الاجزاء بما هو واقع، لا بما هو مؤدى طريق القطع، كما عرفت.
172

ومن هنا انقدح أن التقييد أيضا غير سديد، مع أن الالتزام بذلك غير مفيد،
فإن الظن بالواقع فيما ابتلي به من التكاليف لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى طريق
معتبر، والظن بالطريق ما لم يظن بإصابته الواقع غير مجد بناء على التقييد، لعدم
استلزامه الظن بالواقع المقيد به بدونه.
هذا مع عدم مساعدة نصب الطريق على الصرف ولا على التقييد، غايته أن
العلم الاجمالي بنصب طرق وافية يوجب انحلال العلم بالتكاليف الواقعية إلى
العلم بما هو مضامين الطرق المنصوبة من التكاليف الفعلية، والانحلال وإن كان
يوجب عدم تنجز ما لم يؤد إليه الطريق من التكاليف الواقعية، إلا أنه إذا كان رعاية
العلم بالنصب لازما، والفرض عدم اللزوم، بل عدم الجواز.
وعليه يكون التكاليف الواقعية، كما ذا لم يكن هناك علم بالنصب في كفاية
173

الظن بها حال انسداد باب العلم، كما لا يخفى، ولا بد حينئذ من عناية أخرى في
لزوم رعاية الواقعيات بنحو من الإطاعة، وعدم إهمالها رأسا كما أشرنا إليها، ولا
شبهة في أن الظن بالواقع لو لم يكن أولى حينئذ لكونه أقرب في التوسل به إلى ما به
الاهتمام من فعل الواجب وترك الحرام، من الظن بالطريق، فلا أقل من كونه
مساويا فيما يهم العقل من تحصيل الامن من العقوبة في كل حال، هذا مع ما عرفت
من أنه عادة يلازم الظن بأنه مؤدى طريق، وهو بلا شبهة يكفي، ولو لم يكن هناك
ظن بالطريق، فافهم فإنه دقيق.
ثانيهما: ما اختص به بعض المحققين، قال:
(لا ريب في كوننا مكلفين بالأحكام الشرعية، ولم يسقط عنا التكليف
بالأحكام الشرعية، وأن الواجب علينا أولا هو تحصيل العلم بتفريغ الذمة في
حكم المكلف، بأن يقطع معه بحكمه بتفريغ ذمتنا عما كلفنا به، وسقوط تكليفنا
عنا، سواء حصل العلم معه بأداء الواقع أولا، حسبما مر تفصيل القول فيه.
فحينئذ نقول: إن صح لنا تحصيل العلم بتفريغ ذمتنا في حكم الشارع، فلا
إشكال في وجوبه وحصول البراءة به، وإن انسد علينا سبيل العلم كان الواجب
174

علينا تحصيل الظن بالبراءة في حكمه، إذ هو الأقرب إلى العلم به، فيتعين الاخذ به
عند التنزل من العلم في حكم العقل، بعد انسداد سبيل العلم والقطع ببقاء
التكليف، دون ما يحصل معه الظن بأداء الواقع، كما يدعيه القائل بأصالة
حجية الظن). انتهى موضوع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه.
وفيه أولا: إن الحاكم على الاستقلال في باب تفريغ الذمة بالإطاعة
والامتثال إنما هو العقل، وليس للشارع في هذا الباب حكم مولوي يتبعه حكم
العقل، ولو حكم في هذا الباب كان بتبع حكمه إرشادا إليه، وقد عرفت استقلاله
بكون الواقع بما هو [هو] مفرغ، وأن القطع به حقيقة أو تعبدا مؤمن جزما،
وأن المؤمن في حال الانسداد هو الظن بما كان القطع به مؤمنا حال الانفتاح، فيكون
الظن بالواقع أيضا مؤمنا حال الانسداد.
وثانيا: سلمنا ذلك، لكن حكمه بتفريغ الذمة - فيما إذا أتى المكلف بمؤدى
الطريق المنصوب - ليس إلا بدعوى أن النصب يستلزمه، مع أن دعوى أن التكليف
بالواقع يستلزم حكمه بالتفريغ فيما إذا أتى به أولى، كما لا يخفى، فيكون الظن به
175

ظنا بالحكم بالتفريغ أيضا.
إن قلت: كيف يستلزمه الظن بالواقع؟ مع أنه ربما يقطع بعدم حكمه به
معه، كما إذا كان من القياس، وهذا بخلاف الظن بالطريق، فإنه يستلزمه ولو كان
من القياس.
قلت: الظن بالواقع أيضا يستلزم الظن بحكمه بالتفريغ، ولا ينافي
القطع بعدم حجيته لدى الشارع، وعدم كون المكلف معذورا - إذا عمل به فيهما -
فيما أخطأ، بل كان مستحقا للعقاب - ولو فيما أصاب - لو بنى على حجيته والاقتصار
عليه لتجريه، فافهم.
وثالثا: سلمنا أن الظن بالواقع لا يستلزم الظن به، لكن قضيته ليس إلا
التنزل إلى الظن بأنه مؤدى طريق معتبر، لا خصوص الظن بالطريق، وقد عرفت
أن الظن بالواقع لا يكاد ينفك عن الظن بأنه مؤدى الطريق غالبا.
176

فصل
لا يخفى عدم مساعدة مقدمات الانسداد على الدلالة على كون الظن طريقا
منصوبا شرعا، ضرورة أنه معها لا يجب عقلا على الشارع أن ينصب طريقا، لجواز
اجتزائه بما استقل به العقل في هذا الحال، ولا مجال لاستكشاف نصب الشارع من
حكم العقل، لقاعدة الملازمة، ضرورة أنها إنما تكون في مورد قابل للحكم
الشرعي، والمورد ها هنا غير قابل له، فإن الإطاعة الظنية التي يستقل العقل
177

بكفايتها في حال الانسداد إنما هي بمعنى عدم جواز مؤاخذة الشارع بأزيد منها،
وعدم جواز اقتصار المكلف بدونها، ومؤاخذة الشارع غير قابلة لحكمه، وهو
واضح.
واقتصار المكلف بما دونها، لما كان بنفسه موجبا للعقاب مطلقا، أو فيما
أصاب الظن، كما أنها بنفسها موجبة للثواب أخطأ أو أصاب من دون حاجة إلى
178

أمر بها أو نهي عن مخالفتها، كان حكم الشارع فيه مولويا بلا ملاك يوجبه، كما لا
يخفى، ولا بأس به إرشاديا، كما هو شأنه في حكمه بوجوب الإطاعة وحرمة
المعصية.
وصحة نصبه الطريق وجعله في كل حال بملاك يوجب نصبه وحكمة داعية
إليه، لا تنافي استقلال العقل بلزوم الإطاعة بنحو حال الانسداد، كما يحكم
بلزومها بنحو آخر حال الانفتاح، من دون استكشاف حكم الشارع بلزومها
179

مولويا، لما عرفت.
فانقدح بذلك عدم صحة تقرير المقدمات إلا على نحو الحكومة دون
الكشف، وعليها فلا إهمال في النتيجة أصلا، سببا وموردا ومرتبة، لعدم تطرق
الاهمال والاجمال في حكم العقل، كما لا يخفى.
180

أما بحسب الأسباب فلا تفاوت بنظره فيها.
وأما بحسب الموارد، فيمكن أن يقال بعدم استقلاله بكفاية الإطاعة الظنية،
إلا فيما ليس للشارع مزيد اهتمام فيه بفعل الواجب وترك الحرام، واستقلاله
بوجوب الاحتياط فيما فيه مزيد الاهتمام، كما في الفروج والدماء بل وسائر حقوق
181

الناس مما لا يلزم من الاحتياط فيها العسر.
وأما بحسب المرتبة، فكذلك لا يستقل إلا بلزوم التنزل إلى مرتبة الاطمئنان
من الظن بعدم التكليف، إلا على تقدير عدم كفايتها في دفع محذور العسر.
182

وأما على تقرير الكشف، فلو قيل بكون النتيجة هو نصب الطريق الواصل
بنفسه، فلا إهمال فيها أيضا بحسب الأسباب، بل يستكشف حينئذ أن الكل
حجة لو لم يكن بينها ما هو المتيقن، وإلا فلا مجال لاستكشاف حجية غيره،
ولا بحسب الموارد، بل يحكم بحجيته في جميعها، وإلا لزم عدم وصول الحجة،
ولو لاجل التردد في مواردها، كما لا يخفى.
183

ودعوى الاجماع على التعميم بحسبها في مثل هذه المسألة المستحدثة مجازفة
جدا.
وأما بحسب المرتبة، ففيها إهمال، لاجل احتمال حجية خصوص
الاطمئناني منه إذا كان وافيا، فلا بد من الاقتصار عليه، ولو قيل بأن النتيجة هو
نصب الطريق الواصل ولو بطريقه، فلا إهمال فيها بحسب الأسباب، لو لم يكن
فيها تفاوت أصلا، أولم يكن بينها إلا واحد، وإلا فلا بد من الاقتصار على متيقن
الاعتبار منها أو مظنونه، بإجراء مقدمات دليل الانسداد حينئذ مرة أو مرات في
تعيين الطريق المنصوب، حتى ينتهي إلى ظن واحد أو إلى ظنون متعددة لا تفاوت
بينها، فيحكم بحجية كلها، أو متفاوتة يكون بعضها الوافي متيقن الاعتبار،
فيقصر عليه.
184

وأما بحسب الموارد والمرتبة، فكما إذا كانت النتيجة هي الطريق الواصل
بنفسه، فتدبر جيدا.
ولو قيل بأن النتيجة هو الطريق ولو لم يصل أصلا، فالاهمال فيها يكون من
الجهات، ولا محيص حينئذ إلا من الاحتياط في الطريق بمراعاة أطراف
الاحتمال لو لم يكن بينها متيقن الاعتبار، لو لم يلزم منه محذور، وإلا لزم
التنزل إلى حكومة العقل بالاستقلال، فتأمل فإن المقام من مزال الاقدام.
وهم ودفع: لعلك تقول: إن القدر المتيقن الوافي لو كان في البين لما كان
مجال لدليل الانسداد، ضرورة أنه من مقدماته انسداد باب العلمي أيضا.
لكنك غفلت عن أن المراد ما إذا كان اليقين بالاعتبار من قبله لاجل اليقين
بأنه لو كان شئ حجة شرعا كان هذا الشئ حجة قطعا، بداهة
185

أن الديل على أحد المتلازمين إنما هو الدليل على الآخر، لا الدليل على
الملازمة.
186

ثم لا يخفى أن الظن باعتبار ظن بالخصوص، يوجب اليقين باعتباره من
باب دليل الانسداد على تقرير الكشف بناء على كون النتيجة هو الطريق الواصل
بنفسه، فإنه حينئذ يقطع بكونه حجة، كان غيره حجة أولا، واحتمال عدم حجيته
بالخصوص لا ينافي القطع بحجيته بملاحظة الانسداد، ضرورة أنه على الفرض لا
يحتمل أن يكون غيره حجة بلا نصب قرينة، ولكنه من المحتمل أن يكون هو الحجة
دون غيره، لما فيه من خصوصية الظن بالاعتبار، وبالجملة الامر يدور بين حجية
الكل وحجيته، فيكون مقطوع الاعتبار.
ومن هنا ظهر حال القوة، ولعل نظر من رجح بها إلى هذا الفرض، وكان
منع شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - عن الترجيح بهما، بناء على كون النتيجة
187

هو الطريق الواصل ولو بطريقه، أو الطريق ولو لم يصل أصلا، وبذلك ربما يوفق
بين كلمات الاعلام في المقام، وعليك بالتأمل التام.
ثم لا يذهب عليك أن الترجيح بهما إنما هو على تقدير كفاية الراجح، وإلا
فلا بد من التعدي إلى غيره بمقدار الكفاية، فيختلف الحال باختلاف الانظار بل
الأحوال.
وأما تعميم النتيجة بأن قضية العلم الاجمالي بالطريق هو الاحتياط في
أطرافه، فهو لا يكاد يتم إلا على تقدير كون النتيجة هو نصب الطريق ولو لم يصل
188

أصلا، مع أن التعميم بذلك لا يوجب العمل إلا على وفق المثبتات من الأطراف
دون النافيات، إلا فيما إذا كان هناك ناف من جميع الأصناف، ضرورة أن الاحتياط
فيها يقتضي رفع اليد عن الاحتياط في المسألة الفرعية إذا لزم، حيث لا ينافيه،
كيف؟ ويجوز الاحتياط فيها مع قيام الحجة النافية، كما لا يخفى، فما ظنك بما لا
يجب الاخذ بموجبه إلا من باب الاحتياط؟ فافهم.
فصل
قد اشتهر الاشكال بالقطع بخروج القياس عن عموم نتيجة دليل الانسداد
بتقرير الحكومة، وتقريره على ما في الرسائل أنه:
(كيف يجامع حكم العقل بكون الظن كالعلم مناطا للإطاعة والمعصية، ويقبح
على الآمر والمأمور التعدي عنه، ومع ذلك يحصل الظن أو خصوص الاطمئنان من
القياس، ولا يجوز الشارع العمل به؟ فإن المنع عن العمل بما يقتضيه العقل من
الظن، أو خصوص الاطمئنان لو فرض ممكنا، جرى في غير القياس، فلا يكون
العقل مستقلا، إذ لعله نهى عن أمارة مثل ما نهى عن القياس [بل وأزيد]
واختفى علينا، ولا دافع لهذا الاحتمال إلا قبح ذلك على الشارع، إذ احتمال
صدور ممكن بالذات عن الحكيم لا يرتفع إلا بقبحه، وهذا من أفراد ما اشتهر من
أن الدليل العقلي لا يقبل التخصيص). انتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو
مقامه.
وأنت خبير بأنه لا وقع لهذا الاشكال، بعد وضوح كون حكم العقل بذلك
معلقا على عدم نصب الشارع طريقا واصلا، وعدم حكمه به فيما كان هناك
منصوب ولو كان أصلا، بداهة أن مقدمات حكمه عدم وجود علم ولا علمي،
فلا موضوع لحكمه مع أحدهما، والنهي عن ظن حاصل من سبب ليس إلا
189

كنصب شئ، بل هو يستلزمه فيما كان في مورده أصل شرعي، فلا يكون نهيه عنه
رفعا لحكمه عن موضوعه، بل به يرتفع موضوعه، وليس حال النهي عن سبب
مفيد للظن إلا كالامر بما لا يفيده، وكما لا حكومة معه للعقل لا حكومة له معه،
وكما لا يصح بلحاظ حكمه الاشكال فيه، لا يصح الاشكال فيه بلحاظه.
نعم لا بأس بالاشكال فيه في نفسه، كما أشكل فيه برأسه بملاحظة توهم
استلزام النصب لمحاذير، تقدم الكلام في تقريرها وما هو التحقيق في جوابها في
جعل الطرق.
غاية الامر تلك المحاذير - التي تكون فيما إذا أخطأ الطريق المنصوب - كانت في
الطريق المنهي عنه في مورد الإصابة، ولكن من الواضح أنه لا دخل لذلك في
الاشكال على دليل الانسداد بخروج القياس، ضرورة أنه بعد الفراغ عن صحة
النهي عنه في الجملة، قد أشكل في عموم النهي لحال الانسداد بملاحظة حكم
العقل، وقد عرفت أنه بمكان من الفساد.
واستلزام إمكان المنع عنه، لاحتمال المنع عن أمارة أخرى وقد اختفى
علينا، وإن كان موجبا لعدم استقلال العقل، إلا أنه إنما يكون بالإضافة إلى تلك
الامارة، لو كان غيرها مما لا يحتمل فيه المنع بمقدار الكفاية، وإلا فلا مجال لاحتمال
المنع فيها مع فرض استقلال العقل، ضرورة عدم استقلاله بحكم مع احتمال
وجود مانعه، على ما يأتي تحقيقه في الظن المانع والممنوع.
وقياس حكم العقل بكون الظن مناطا للإطاعة في هذا الحال على حكمه
بكون العلم مناطا لها في حال الانفتاح، لا يكاد يخفى على أحد فساده، لوضوح أنه
مع الفارق، ضرورة أن حكمه في العلم على نحو التنجز، وفيه على نحو التعليق
ثم لا يكاد ينقضي تعجبي لم خصصوا الاشكال بالنهي عن القياس، مع
جريانه في الامر بطريق غير مفيد للظن، بداهة انتفاء حكم في مورد الطريق قطعا،
190

مع أنه لا يظن بأحد أن يستشكل بذلك، وليس إلا لاجل أن حكمه به معلق على
عدم النصب، ومعه لا حكم له، كما هو كذلك مع النهي عن بعض أفراد الظن،
فتدبر جيدا.
وقد انقدح بذلك أنه لا وقع للجواب عن الاشكال: تارة بأن المنع عن
القياس لاجل كونه غالب المخالفة، وأخرى بأن العمل به يكون ذا مفسدة غالبة
على مصلحة الواقع الثابتة عند الإصابة، وذلك لبداهة أنه إنما يشكل بخروجه بعد
الفراغ عن صحة المنع عنه في نفسه، بملاحظة حكم العقل بحجية الظن ولا يكاد
يجدي صحته كذلك في ذب الاشكال في صحته بهذا اللحاظ، فافهم فإنه لا
يخلو عن دقة.
وأما ما قيل في جوابه، من منع عموم المنع عنه بحال الانسداد، أو منع
حصول الظن منه بعد انكشاف حاله، وأن ما يفسده أكثر مما يصلحه، ففي غاية
الفساد، فإنه مضافا إلى كون كل واحد من المنعين غير سديد - لدعوى الاجماع على
عموم المنع مع إطلاق أدلته وعموم علته، وشهادة الوجدان بحصول الظن منه في
بعض الأحيان - لا يكاد يكون في دفع الاشكال بالقطع بخروج الظن الناشئ منه
بمفيد، غاية الامر أنه لا إشكال مع فرض أحد المنعين، لكنه غير فرض الاشكال،
فتدبر جيدا.
فصل
إذا قام ظن على عدم حجية ظن بالخصوص، فالتحقيق أن يقال بعد تصور
المنع عن بعض الظنون في حال الانسداد: إنه لا استقلال للعقل بحجية ظن
احتمل المنع عنه، فضلا عما إذا ظن، كما أشرنا إليه في الفصل السابق، فلا بد من
الاقتصار على ظن قطع بعدم المنع عنه بالخصوص، فإن كفى، وإلا فبضميمة ما لم
يظن المنع عنه وإن احتمل، مع قطع النظر عن مقدمات الانسداد، وإن انسد
191

باب هذا الاحتمال معها، كما لا يخفى، وذلك ضرورة أنه لا احتمال مع الاستقلال
حسب الفرض، ومنه انقدح أنه لا تتفاوت الحال لو قيل بكون النتيجة هي حجية
الظن في الأصول أو في الفروع أو فيهما، فافهم.
فصل
لا فرق في نتيجة دليل الانسداد، بين الظن بالحكم من أمارة عليه، وبين
الظن به من أمارة متعلقة بألفاظ الآية أو الرواية، كقول اللغوي فيما يورث الظن
بمراد الشارع من لفظه، وهو واضح، ولا يخفى أن اعتبار ما يورثه لا محيص عنه فيما
إذا كان مما ينسد فيه باب العلم، فقول أهل اللغة حجة فيما يورث الظن بالحكم مع
الانسداد، ولو انفتح باب العلم باللغة في غير المورد.
نعم لا يكاد يترتب عليه أثر آخر من تعيين المراد في وصية أو إقرار أو غيرهما من
الموضوعات الخارجية، إلا فيما يثبت فيه حجية مطلق الظن بالخصوص، أو ذاك
المخصوص، ومثله الظن الحاصل بحكم شرعي كلي من الظن بموضوع خارجي،
كالظن بأن راوي الخبر هو زرارة بن أعين مثلا، لا آخر.
فانقدح أن الظنون الرجالية مجدية في حال الانسداد، ولو لم يقم دليل على
اعتبار قول الرجالي، لا من باب الشهادة ولا من باب الرواية.
تنبيه: لا يبعد استقلال العقل بلزوم تقليل الاحتمالات المتطرقة إلى مثل
السند أو الدلالة أو جهة الصدور، مهما أمكن في الرواية، وعدم الاقتصار
على الظن الحاصل منها بلا سد بابه فيه بالحجة من علم أو علمي، وذلك لعدم
جواز التنزل في صورة الانسداد إلى الضعيف مع التمكن من القوي أو ما بحكمه
عقلا، فتأمل جيدا.
192

فصل
إنما الثابت بمقدمات دليل الانسداد في الاحكام هو حجية الظن فيها، لا
حجيته في تطبيق المأتي به في الخارج معها، فيتبع مثلا في وجوب صلاة الجمعة
يومها، لا في إتيانها، بل لا بد من علم أو علمي بإتيانها، كما لا يخفى.
نعم ربما يجري نظير مقدمات الانسداد في الاحكام في بعض الموضوعات
الخارجية، من انسداد باب العلم به غالبا، واهتمام الشارع به بحيث علم بعدم
الرضا بمخالفة الواقع باجراء الأصول فيه مهما أمكن، وعدم وجوب الاحتياط
شرعا أو عدم إمكانه عقلا، كما في موارد الضرر المردد أمره بين الوجوب والحرمة
مثلا، فلا محيص عن اتباع الظن حينئذ أيضا، فافهم.
خاتمة: يذكر فيها أمران استطرادا:
الأول: هل الظن كما يتبع عند الانسداد عقلا في الفروع العملية،
المطلوب فيها أولا العمل بالجوارح، يتبع في الأصول الاعتقادية المطلوب فيها عمل
الجوانح من الاعتقاد به وعقد القلب عليه وتحمله والانقياد له، أو لا؟.
الظاهر لا، فإن الامر الاعتقادي وإن انسد باب القطع به، إلا أن باب
الاعتقاد إجمالا - بما هو واقعه والانقياد له وتحمله - غير منسد، بخلاف العمل
بالجوارح فإنه لا يكاد يعلم مطابقته مع ما هو واقعه إلا بالاحتياط، والمفروض
عدم وجوبه شرعا، أو عدم جوازه عقلا، ولا أقرب من العمل على وفق الظن.
وبالجملة: لا موجب مع انسداد باب العلم في الاعتقاديات لترتيب
الاعمال الجوانحية على الظن فيها، مع إمكان ترتيبها على ما هو الواقع فيها، فلا يتحمل إلا لما هو الواقع، ولا ينقاد إلا له، لا لما هو مظنونه، وهذا بخلاف
193

العمليات، فإنه لا محيص عن العمل بالظن فيها مع مقدمات الانسداد.
نعم يجب تحصيل العلم في بعض الاعتقادات لو أمكن، من باب وجوب
المعرفة لنفسها، كمعرفة الواجب تعالى وصفاته أداء لشكر بعض نعمائه، ومعرفة
أنبيائه، فإنهم وسائط نعمه وآلائه، بل وكذا معرفة الإمام (عليه السلام) على وجه
صحيح، فالعقل يستقل بوجوب معرفة النبي ووصيه لذلك، ولاحتمال الضرر
في تركه، ولا يجب عقلا معرفة غير ما ذكر، إلا ما وجب شرعا معرفته، كمعرفة
الإمام (عليه السلام) على وجه آخر غير صحيح، أو أمر آخر مما دل الشرع على
وجوب معرفته، وما لا دلالة على وجوب معرفته بالخصوص، لا من العقل ولا من
النقل، كان أصالة البراءة من وجوب معرفته محكمة.
ولا دلالة لمثل قوله تعالى * (وما خلقت الجن والإنس) * الآية، ولا لقوله
(صلى الله عليه وآله): (وما أعلم شيئا بعد المعرفة أفضل من هذه
الصلوات الخمس) ولا لما دل على وجوب التفقه وطلب العلم من الآيات
والروايات على وجوب معرفته بالعموم، ضرورة أن المراد من (ليعبدون) هو
خصوص عبادة الله ومعرفته، والنبوي أنما هو بصدد بيان فضيلة الصلوات لا بيان
حكم المعرفة، فلا إطلاق فيه أصلا، ومثل آية النفر، إنما هو بصدد بيان الطريق
المتوسل به إلى التفقه الواجب، لا بيان ما يجب فقهه ومعرفته، كما لا يخفى، وكذا
ما دل على وجوب طلب العلم إنما هو بصدد الحث على طلبه، لا بصدد بيان ما
يجب العلم به.
ثم إنه لا يجوز الاكتفاء بالظن فيما يجب معرفته عقلا أو شرعا، حيث أنه ليس
بمعرفة قطعا، فلا بد من تحصيل العلم لو أمكن، ومع العجز عنه كان معذورا إن
كان عن قصور لغفلة أو لغموضة المطلب مع قلة الاستعداد، كما هو المشاهد في
كثير من النساء بل الرجال، بخلاف ما إذا كان عن تقصير في الاجتهاد، ولو لاجل
حب طريقة الآباء والأجداد واتباع سيرة السلف، فإنه كالجبلي، وقلما عنه
194

تخلف.
والمراد من المجاهدة في قوله تعالى * (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) *
هو المجاهدة مع النفس، بتخليتها عن الرذائل وتحليتها بالفضائل، وهي التي كانت
أكبر من الجهاد، لا النظر والاجتهاد، وإلا لادى إلى الهداية، مع أنه يودي إلى
الجهالة والضلالة، إلا إذا كانت هناك منه - تعالى - عناية، فإنه غالبا بصدد إثبات
أن ما وجد آباءه عليه هو الحق، لا بصدد الحق، فيكون مقصرا مع اجتهاده،
ومؤاخذ إذا أخطأ على قطعه واعتقاده.
ثم لا استقلال للعقل بوجوب تحصيل الظن مع اليأس عن تحصيل العلم،
فيما يجب تحصيله عقلا لو أمكن، لو لم نقل باستقلاله بعدم وجوبه، بل بعدم
جوازه، لما أشرنا إليه من أن الأمور الاعتقادية مع عدم القطع بها أمكن الاعتقاد
بما هو واقعها والانقياد لها، فلا إلجاء فيها أصلا إلى التنزل إلى الظن فيما انسد فيه
باب العلم، بخلاف الفروع العملية، كما لا يخفى.
وكذلك لا دلالة من النقل على وجوبه، فيما يجب معرفته مع الامكان شرعا،
بل الأدلة الدالة على النهي عن اتباع الظن، دليل على عدم جوازه أيضا.
وقد انقدح من مطاوي ما ذكرنا، أن القاصر يكون في الاعتقاديات للغفلة،
أو عدم الاستعداد للاجتهاد فيها، لعدم وضوح الامر فيها بمثابة لا يكون الجهل بها
إلا عن تقصير، كما لا يخفى، فيكون معذورا عقلا.
ولا يصغى إلى ما ربما قيل: بعدم وجود القاصر فيها، لكنه إنما يكون معذورا
غير معاقب على عدم معرفة الحق، إذا لم يكن يعانده، بل كان ينقاد له على إجماله لو
احتمله.
هذا بعض الكلام مما يناسب المقام، وأما بيان حكم الجاهل من حيث الكفر
والإسلام، فهو مع عدم مناسبته خارج عن وضع الرسالة.
195

الثاني: الظن الذي لم يقم على حجيته دليل، هل يجبر به ضعف السند أو
الدلالة بحيث صار حجة ما لولاه لما كان بحجة، أو يوهن به ما لولاه على خلافه
لكان حجة، أو يرجح به أحد المتعارضين، بحيث لولاه على وفقه لما كان ترجيح
لأحدهما، أو كان للآخر منهما، أم لا؟.
ومجمل القول في ذلك: إن العبرة في حصول الجبران أو الرجحان بموافقته،
هو الدخول بذلك تحت دليل الحجية، أو المرجحية الراجعة إلى دليل الحجية، كما
أن العبرة في الوهن إنما هو الخروج بالمخالفة عن تحت دليل الحجية، فلا يبعد جبر
ضعف السند في الخبر بالظن بصدوره أو بصحة مضمونه، ودخوله بذلك تحت ما
دل على حجية ما يوثق به، فراجع أدلة اعتبارها.
وعدم جبر ضعف الدلالة بالظن بالمراد لاختصاص دليل الحجية بحجية
الظهور في تعيين المراد، والظن من أمارة خارجية به لا يوجب ظهور اللفظ فيه كما
هو ظاهر، إلا فيما أوجب القطع ولو إجمالا باحتفافه بما كان موجبا لظهوره فيه لولا
عروض انتفائه، وعدم وهن السند بالظن بعدم صدوره، وكذا عدم وهن دلالته مع
ظهوره، إلا فيما كشف بنحو معتبر عن ثبوت خلل في سنده، أو وجود قرينة مانعة
عن انعقاد ظهوره فيما فيه ظاهر لولا تلك القرينة، لعدم اختصاص دليل اعتبار
خبر الثقة ولا دليل اعتبار الظهور بما إذا لم يكن ظن بعدم صدوره، أو ظن بعدم
إرادة ظهوره.
وأما الترجيح بالظن، فهو فرع دليل على الترجيح به، بعد سقوط الامارتين
بالتعارض من البين، وعدم حجية واحد منهما بخصوصه وعنوانه، وإن بقي أحدهما
بلا عنوان على حجيته، ولم يقم دليل بالخصوص على الترجيح به.
وإن ادعى شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه - استفادته من الاخبار الدالة
على الترجيح بالمرجحات الخاصة على ما في تفصيله في التعادل والترجيح.
196

ومقدمات الانسداد في الاحكام إنما توجب حجية الظن بالحكم أو بالحجة،
لا الترجيح به ما لم يوجب ظن بأحدهما، ومقدماته في خصوص الترجيح لو جرت
إنما توجب حجية الظن في تعيين المرجح، لا أنه مرجح إلا إذا ظن أنه - أيضا -
مرجح، فتأمل جيدا، هذا فيما لم يقم على المنع عن العمل به بخصوصه دليل.
وأما ما قام الدليل على المنع عنه كذلك كالقياس، فلا يكاد يكون به جبر أو
وهن أو ترجيح، فيما لا يكون لغيره أيضا، وكذا فيما يكون به أحدهما، لوضوح أن
الظن القياسي إذا كان على خلاف ما لولاه لكان حجة - بعد المنع عنه - لا يوجب
خروجه عن تحت دليل حجيته، وإذا كان على وفق ما لولاه لما كان حجة لا
يوجب دخوله تحت دليل الحجية، وهكذا لا يوجب ترجيح أحد المتعارضين، وذلك
لدلالة دليل المنع على إلغائه الشارع رأسا، وعدم جواز استعماله في الشرعيات
قطعا، ودخله في واحد منها نحو استعمال له فيها، كما لا يخفى، فتأمل جيدا.
197

المقصد السابع
الأصول العملية
199

المقصد السابع: في الأصول العملية.
وهي التي ينتهي إليها المجتهد بعد الفحص واليأس عن الظفر بدليل، مما
دل عليه حكم العقل أو عموم النقل، والمهم منها أربعة، فإن مثل قاعدة الطهارة
فيما اشتبه طهارته بالشبهة الحكمية، وإن كان مما ينتهي إليها فيما لا حجة على
طهارته ولا على نجاسته، إلا أن البحث عنها ليس بمهم، حيث إنها ثابته بلا كلام،
201

من دون حاجة إلى نقض وإبرام، بخلاف الأربعة، وهي: البراءة والاحتياط،
والتخيير والاستصحاب، فإنها محل الخلاف بين الأصحاب، ويحتاج تنقيح مجاريها
وتوضيح ما هو حكم العقل أو مقتضى عموم النقل فيها إلى مزيد بحث وبيان
ومؤونة حجة وبرهان، هذا مع جريانها في كل الأبواب، واختصاص تلك القاعدة
ببعضها، فافهم.
فصل
لو شك في وجوب شئ أو حرمته، ولم تنهض عليه حجة جاز شرعا وعقلا
ترك الأول وفعل الثاني، وكان مأمونا من عقوبة مخالفته، كان عدم نهوض الحجة
لاجل فقدان النص أو إجماله، واحتماله الكراهة أو الاستحباب، أو تعارضه فيما لم
يثبت بينهما ترجيح، بناء على التوقف في مسألة تعارض النصين فيما لم يكن ترجيح
في البين.]
202

وأما بناء على التخيير - كما هو المشهور - فلا مجال لأصالة البراءة وغيرها،
لمكان وجود الحجة المعتبرة، وهو أحد النصين فيما، كما لا يخفى، وقد استدل على
ذلك بالأدلة الأربعة:
203

أما الكتاب: فبآيات أظهرها قوله تعالى: * (وما كنا معذبين حتى نبعث
(1) سورة الإسراء: 15
204

رسولا) *.
وفيه: إن نفي التعذيب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل لعله كان منة منه تعالى
على عباده مع استحقاقهم لذلك، ولو سلم اعتراف الخصم بالملازمة بين
الاستحقاق والفعلية، لما صح الاستدلال بها إلا جدلا، مع وضوح منعه، ضرورة
أن ما شك في وجوبه أو حرمته ليس عنده بأعظم مما علم بحكمه، وليس حال
الوعيد بالعذاب فيه إلا كالوعيد به فيه، فافهم.
205

وأما السنة: فبروايات منها: حديث الرفع، حيث عد (ما لا يعلمون)
من التسعة المرفوعة فيه، فالالزام المجهول مما لا يعلمون، فهو مرفوع فعلا وإن
كان ثابتا واقعا، فلا مؤاخذة عليه قطعا.
لا يقال: ليست المؤاخذة من الآثار الشرعية، كي ترتفع بارتفاع التكليف
المجهول ظاهرا، فلا دلالة له على ارتفاعها.
207

فإنه يقال: إنها وإن لم تكن بنفسها أثرا شرعيا، إلا أنها مما يترتب عليه
بتوسيط ما هو أثره وباقتضائه، من إيجاب الاحتياط شرعا، فالدليل على رفعه دليل
على عدم إيجابه المستتبع لعدم استحقاق العقوبة على مخالفته.
لا يقال: لا يكاد يكون إيجابه مستتبعا لاستحقاقها على مخالفة التكليف
المجهول، بل على مخالفة نفسه، كما هو قضية إيجاب غيره.
208

فإنه يقال: هذا إذا لم يكن إيجابه طريقيا، وإلا فهو موجب لاستحقاق
العقوبة على المجهول، كما هو الحال في غيره من الايجاب والتحريم الطريقيين،
ضرورة أنه كما يصح أن يحتج بهما صح أن يحتج به، ويقال: لم أقدمت مع ايجابه؟
ويخرج به عن العقاب بلا بيان والمؤاخذة بلا برهان، كما يخرج بهما.
وقد انقدح بذلك، أن رفع التكليف المجهول كان منة على الأمة، حيث كان
له تعالى وضعه بما هو قضيته من إيجاب الاحتياط، فرفعه، فافهم.
209

ثم لا يخفى عدم الحاجة إلى تقدير المؤاخذة ولا غيرها من الآثار الشرعية في
(ما لا يعلمون)، فإن ما لا يعلم من التكليف مطلقا كان في الشبهة الحكمية أو
الموضوعية بنفسه قابل للرفع والوضع شرعا، وإن كان في غيره لا بد من تقدير
الآثار أو المجاز في إسناد الرفع إليه، فإنه ليس ما اضطروا وما استكرهوا.. إلى
آخر التسعة بمرفوع حقيقة.
210

نعم لو كان المراد من الموصول في (ما لا يعلمون) ما اشتبه حاله ولم يعلم
عنوانه، لكان أحد الامرين مما لا بد منه أيضا. ثم لا وجه لتقدير خصوص
المؤاخذة بعد وضوح أن المقدر في غير واحد غيرها، فلا محيص عن أن يكون المقدر
هو الأثر الظاهر في كل منها، أو تمام آثارها التي تقتضي المنة رفعها، كما أن ما يكون
بلحاظه الاسناد إليها مجازا، هو هذا، كما لا يخفى.
فالخبر دل على رفع كل أثر تكليفي أو وضعي كان في رفعه منة على الأمة، كما
211

استشهد الإمام (عليه السلام) بمثل هذا الخبر في رفع ما استكره عليه من الطلاق
والصدقة والعتاق.
ثم لا يذهب عليك أن المرفوع فيما اضطر إليه وغيره، مما أخذ بعنوانه
الثانوي، إنما هو الآثار المترتبة عليه بعنوانه الأولي، ضرورة أن الظاهر أن هذه
العناوين صارت موجبة للرفع، والموضوع للأثر مستدع لوضعه، فكيف يكون
موجبا لرفعه؟.
212

لا يقال كيف؟ وإيجاب الاحتياط فيما لا يعلم وإيجاب التحفظ في الخطأ
والنسيان، يكون أثرا لهذه العناوين بعينها وباقتضاء نفسها.
فإنه يقال: بل إنما تكون باقتضاء الواقع في موردها، ضرورة أن الاهتمام به
يوجب إيجابهما، لئلا يفوت على المكلف، كما لا يخفى.
213

ومنها: حديث الحجب، وقد انقدح تقريب الاستدلال به مما ذكرنا في
حديث الرفع، إلا أنه ربما يشكل بمنع ظهوره في وضع ما لا يعلم من التكليف،
بدعوى ظهوره في خصوص ما تعلقت عنايته تعالى بمنع اطلاع العباد عليه، لعدم
أمر رسله بتبليغه، حيث إنه بدونه لما صح إسناد الحجب إليه تعالى.
ومنها: قوله (عليه السلام) (كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام
بعينه) الحديث، حيث دل على حلية ما لم يعلم حرمته مطلقا، ولو كان من جهة
عدم الدليل على حرمته، وبعدم الفصل قطعا بين إباحته وعدم وجوب الاحتياط
فيه وبين عدم وجوب الاحتياط في الشبهة الوجوبية، يتم المطلوب.
214

مع إمكان أن يقال: ترك ما احتمل وجوبه مما لم يعرف حرمته، فهو حلال،
تأمل
ومنها: قوله (عليه السلام) (الناس في سعة ما لا يعلمون) فهم في سعة
ما لم يعلم، أو ما دام لم يعلم وجوبه أو حرمته، ومن الواضح أنه لو كان الاحتياط
واجبا لما كانوا في سعة أصلا، فيعارض به ما دل على وجوبه، كما لا يخفى.
215

لا يقال: قد علم به وجوب الاحتياط.
فإنه يقال: لم يعلم الوجوب أو الحرمة بعد، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من
أجله؟ نعم لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه،
لكنه عرفت أن وجوبه كان طريقيا، لاجل أن لا يقعوا في مخالفة الواجب أو الحرام
أحيانا، فافهم.
216

ومنها: قوله (عليه السلام) (كل شئ مطلق حتى يرد فيه نهي) ودلالته
يتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد العلم أو ما بحكمه، بالنهي عنه وإن صدر
عن الشارع ووصل إلى غير واحد، مع أنه ممنوع لوضوح صدقه على صدوره عنه
سيما بعد بلوغه إلى غير واحد، وقد خفي على من لم يعلم بصدوره.
217

لا يقال: نعم، ولكن بضميمة أصالة العدم صح الاستدلال به وتم.
فإنه يقال: وإن تم الاستدلال به بضميمتها، ويحكم بإباحة مجهول الحرمة
وإطلاقه، إلا أنه لا بعنوان أنه مجهول الحرمة شرعا، بل بعنوان أنه مما لم يرد عنه
النهي واقعا.
218

لا يقال: نعم، ولكنه لا يتفاوت فيما هو المهم من الحكم بالإباحة في مجهول
الحرمة كان بهذا العنوان أو بذاك العنوان.
فإنه يقال: حيث أنه بذاك العنوان لاختص بما لم يعلم ورود النهي عنه
أصلا، ولا يكاد يعم ما إذا ورد النهي عنه في زمان، وإباحته في آخر، واشتبها
من حيث التقدم والتأخر.
219

لا يقال: هذا لولا عدم الفصل بين أفراد ما اشتبهت حرمته.
فإنه يقال: وإن لم يكن بينها الفصل، إلا أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم
بالإباحة في بعضها الدليل، لا الأصل، فافهم.
وأما الاجماع: فقد نقل على البراءة، إلا أنه موهون، ولو قيل باعتبار
الاجماع المنقول في الجملة فإن تحصيله في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل،
ومن واضح النقل عليه دليل، بعيد جدا.
220

وأما العقل: فإنه قد استقل بقبح العقوبة والمؤاخذة على مخالفة التكليف
المجهول، بعد الفحص واليأس عن الظفر بما كان حجة عليه، فإنهما بدونها عقاب
بلا بيان ومؤاخذة بلا برهان، وهما قبيحان بشهادة الوجدان.
ولا يخفى أنه مع استقلاله بذلك، لا احتمال لضرر العقوبة في مخالفته، فلا
يكون مجال ها هنا لقاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، كي يتوهم أنها تكون بيانا،
221

كما أنه مع احتماله لا حاجة إلى القاعدة، بل في صورة المصادفة استحق العقوبة على
المخالفة ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المتحمل.
وأما ضرر غير العقوبة، فهو وإن كان محتملا، إلا أن المتيقن منه فضلا عن
محتمله ليس بواجب الدفع شرعا ولا عقلا، ضرورة عدم القبح في تحمل بعض
المضار ببعض الدواعي عقلا وجوازه شرعا، مع أن احتمال الحرمة أو الوجوب لا
222

يلازم احتمال المضرة، وإن كان ملازما لاحتمال المفسدة أو ترك المصلحة، لوضوح
أن المصالح والمفاسد التي تكون مناطات الاحكام، وقد استقل العقل بحسن
الأفعال التي تكون ذات المصالح وقبح ما كان ذات المفاسد، ليست براجعة إلى
المنافع والمضار، وكثيرا ما يكون محتمل التكليف مأمون الضرر، نعم ربما تكون
223

المنفعة أو المضرة مناطا للحكم شرعا وعقلا.
إن قلت: نعم، ولكن العقل يستقل بقبح الاقدام على ما لا تؤمن
مفسدته، وأنه كالاقدام على ما علم مفسدته، كما استدل به شيخ الطائفة
(قدس سره)، على أن الأشياء على الحظر أو الوقف.
224

قلت: استقلاله بذلك ممنوع، والسند شهادة الوجدان ومراجعة ديدن
العقلاء من أهل الملل والأديان، حيث إنهم لا يحترزون مما لا تؤمن مفسدته، ولا
يعاملون معه معاملة ما علم مفسدته، كيف؟ وقد أذن الشارع بالاقدام عليه، ولا
يكاد يأذن بارتكاب القبيح، فتأمل.
225

واحتج للقول بوجوب الاحتياط فيما لم تقم فيه حجة، بالأدلة الثلاثة:
أما الكتاب: فبالآيات الناهية عن القول بغير العلم، وعن الالقاء في
التهلكة، والآمرة بالتقوى.
والجواب: إن القول بالإباحة شرعا وبالأمن من العقوبة عقلا، ليس قولا
بغير علم، لما دل على الإباحة من النقل وعلى البراءة من حكم العقل، ومعهما لا
مهلكة في اقتحام الشبهة أصلا، ولا فيه مخالفة التقوى، كما لا يخفى.
226

وأما الاخبار: فبما دل على وجوب التوقف عند الشبهة، معللا في
بعضها بأن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في المهلكة، من الاخبار الكثيرة
الدالة عليه مطابقة أو التزاما، وبما دل على وجوب الاحتياط من الأخبار الواردة
بألسنة مختلفة.
227

والجواب: إنه لا مهلكة في الشبهة البدوية، مع دلالة النقل على
[الإباحة] وحكم العقل بالبراءة كما عرفت.
وما دل على وجب الاحتياط لو سلم، وإن كان واردا على حكم العقل، فإنه
كفى بيانا على العقوبة على مخالفة التكليف المجهول.
228

ولا يصغى إلى ما قيل: من أن إيجاب الاحتياط إن كان مقدمة للتحرز عن
عقاب الواقع المجهول فهو قبيح، وإن كان نفسيا فالعقاب على مخالفته لا على
مخالفة الواقع، وذلك لما عرفت من أن إيجابه يكون طريقيا، وهو عقلا مما يصح أن
يحتج به على المؤاخذة في مخالفة الشبهة، كما هو الحال في أوامر الطرق والامارات
والأصول العملية.
229

إلا أنها تعارض بما هو أخص وأظهر، ضرورة أن ما دل على حلية المشتبه
أخص، بل هو في الدلالة على الحلية نص، وما دل على الاحتياط غايته أنه ظاهر في
وجوب الاحتياط، مع أن هناك قرائن دالة على أنه للارشاد، فيختلف إيجابا
واستحبابا حسب اختلاف ما يرشد إليه.
ويؤيده أنه لو لم يكن للارشاد يوجب تخصيصه لا محالة ببعض الشبهات
إجماعا، مع أنه آب عن التخصيص قطعا، كيف لا يكون قوله: (قف عند الشبهة
فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة) للارشاد؟ مع أن المهلكة
ظاهرة في العقوبة، ولا عقوبة في الشبهة البدوية قبل إيجاب الوقوف والاحتياط،
فكيف يعلل إيجابه بأنه خير من الاقتحام في الهلكة؟.
لا يقال: نعم، ولكنه يستكشف منه على نحو الآن إيجاب الاحتياط من
قبل، ليصح به العقوبة على المخالفة.
230

فإنه يقال: إن مجرد إيجابه واقعا ما لم يعلم لا يصحح العقوبة، ولا يخرجها
عن أنها بلا بيان ولا برهان، فلا محيص عن اختصاص مثله بما يتنجز فيه المشتبه لو
كان كالشبهة قبل الفحص مطلقا، أو الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، فتأمل
جيدا.
وأما العقل: فلاستقلاله بلزوم فعل ما احتمل وجوبه وترك ما احتمل
حرمته، حيث علم إجمالا بوجود واجبات ومحرمات كثيرة فيما اشتبه وجوبه
أو حرمته، مما لم يكن هناك حجة على حكمه، تفريغا للذمة بعد اشتغالها، ولا
خلاف في لزوم الاحتياط في أطراف العلم الاجمالي إلا من بعض الأصحاب.
231

والجواب: إن العقل وإن استقل بذلك، إلا أنه إذا لم ينحل العلم الاجمالي
إلى علم تفصيلي وشك بدوي، وقد انحل ها هنا، فإنه كما علم بوجود تكاليف
إجمالا، كذلك علم إجمالا بثبوت طرق وأصول معتبرة مثبتة لتكاليف بمقدار تلك
232

التكاليف المعلومة أو أزيد، وحينئذ لا علم بتكاليف أخر غير التكاليف الفعلية في
الموارد المثبتة من الطرق والأصول العملية.
233

إن قلت: نعم، لكنه إذا لم يكن العلم بها مسبوقا بالعلم بالتكاليف.
قلت: إنما يضر السبق إذا كان المعلوم اللاحق حادثا وأما إذا لم يكن كذلك
بل مما ينطبق عليه ما علم أولا، فلا محالة قد انحل العلم الاجمالي إلى التفصيلي
234

والشك البدوي.
إن قلت: إنما يوجب العلم بقيام الطرق المثبتة له بمقدار المعلوم بالاجمال
ذلك إذا كان قضية قيام الطريق على تكليف موجبا لثبوته فعلا، وأما بناء على أن
قضية حجيته واعتباره شرعا ليس إلا ترتيب ما للطريق المعتبر عقلا، وهو تنجز ما
أصابه والعذر عما أخطأ عنه، فلا انحلال لما علم بالاجمال أولا، كما لا يخفى.
235

قلت: قضية الاعتبار شرعا - على اختلاف ألسنة أدلته - وإن كان ذلك على ما
قوينا في البحث، إلا أن نهوض الحجة على ما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال في بعض
الأطراف يكون عقلا بحكم الانحلال، وصرف تنجزه إلى ما إذا كان في ذاك
الطرف والعذر عما إذا كان في سائر الأطراف، مثلا إذا علم إجمالا بحرمة إناء زيد
236

بين الإناءين وقامت البينة على أن هذا إناؤه، فلا ينبغي الشك في أنه كما إذا علم
أنه إناؤه في عدم لزوم الاجتناب إلا عن خصوصه دون الآخر، ولولا ذلك لما كان
يجدي القول بأن قضية اعتبار الامارات هو كون المؤديات أحكاما شرعية فعلية،
ضرورة أنها تكون كذلك بسبب حادث، وهو كونها مؤديات الامارات الشرعية.
237

هذا إذا لم يعلم بثبوت التكاليف الواقعية في موارد الطرق المثبتة بمقدار المعلوم
بالاجمال، وإلا فالانحلال إلى العلم بما في الموارد وانحصار أطرافه بموارد تلك الطرق
بلا إشكال. كما لا يخفى.
238

وربما استدل بما قيل: من استقلال العقل بالحظر في الأفعال الغير
الضرورية قبل الشرع، ولا أقل من الوقف وعدم استقلاله، لا به ولا بالإباحة،
ولم يثبت شرعا إباحة ما اشتبه حرمته، فإن ما دل على الإباحة معارض بما دل على
وجوب التوقف أو الاحتياط.
وفيه أولا: إنه لا وجه للاستدلال بما هو محل الخلاف والاشكال، وإلا لصح
الاستدلال على البراءة بما قيل من كون تلك الأفعال على الإباحة.
وثانيا: إنه ثبت الإباحة شرعا، لما عرفت من عدم صلاحية ما دل على
التوقف أو الاحتياط، للمعارضة لما دل عليها.
239

وثالثا: أنه لا يستلزم القول بالوقف في تلك المسألة، للقول بالاحتياط في
هذه المسألة، لاحتمال أن يقال معه بالبراءة لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، وما
قيل - من أن الاقدام على ما لا يؤمن المفسدة فيه كالاقدام على ما يعلم فيه
المفسدة - ممنوع، ولو قيل بوجوب دفع الضرر المحتمل، فإن المفسدة المحتملة في
المشتبه ليس بضرر غالبا، ضرورة أن المصالح والمفاسد التي هي مناطات الاحكام
ليست براجعة إلى المنافع والمضار، بل ربما يكون المصلحة فيما فيه الضرر، والمفسدة
فيما فيه المنفعة، واحتمال أن يكون في المشتبه ضرر ضعيف غالبا لا يعتنى به قطعا،
مع أن الضرر ليس دائما مما يجب التحرز عنه عقلا، بل يجب ارتكابه أحيانا فيما كان
المترتب عليه أهم في نظره مما في الاحتراز عن ضرره، مع القطع به فضلا عن
احتماله.
240

بقي أمور مهمة لا بأس بالإشارة إليها:
الأول: إنه إنما تجري أصالة البراءة شرعا وعقلا فيما لم يكن هناك أصل
موضوعي مطلقا ولو كان موافقا لها، فإنه معه لا مجال لها أصلا، لوروده عليها كما
يأتي تحقيقه فلا تجري - مثلا - أصالة الإباحة في حيوان شك في حليته مع الشك في
241

قبوله التذكية، فإنه إذا ذبح مع سائر الشرائط المعتبرة في التذكية، فأصالة عدم
التذكية تدرجه فيما لم يذك وهو حرام إجماعا، كما إذا مات حتف أنفه، فلا حاجة
إلى إثبات أن الميتة تعم غير المذكى شرعا، ضرورة كفاية كونه مثله حكما، وذلك بأن
التذكية إنما هي عبارة عن فري الأوداج [الأربعة] مع سائر شرائطها، عن
خصوصية في الحيوان التي بها يؤثر فيه الطهارة وحدها أو مع الحلية، ومع الشك في
تلك الخصوصية فالأصل عدم تحقق التذكية بمجرد الفري بسائر شرائطها، كما لا
يخفى.
نعم لو علم بقبوله التذكية وشك في الحلية، فأصالة الإباحة فيه محكمة، فإنه
حينئذ إنما يشك في أن هذا الحيوان المذكى حلال أو حرام، ولا أصل فيه إلا أصالة
الإباحة، كسائر ما شك في أنه من الحلال أو الحرام.
هذا إذا لم يكن هناك أصل موضوعي آخر مثبت لقبوله التذكية، كما إذا شك
242

- مثلا - في أن الجلل في الحيوان هل يوجب ارتفاع قابليته لها، أم لا؟ فأصالة قبوله
لها معه محكمة، ومعها لا مجال لأصالة عدم تحققها، فهو قبل الجلل كان يطهر ويحل
بالفري بسائر شرائطها، فالأصل أنه كذلك بعده.
ومما ذكرنا ظهر الحال فيما اشتبهت حليته وحرمته بالشبهة الموضوعية من
الحيوان، وأن أصالة عدم التذكية محكمة فيما شك فيها لاجل الشك في تحقق ما اعتبر
في التذكية شرعا، كما أن أصالة قبول التذكية محكمة إذا شك في طروء ما يمنع عنه،
فيحكم بها فيما أحرز الفري بسائر شرائطها عداه، كما لا يخفى، فتأمل جيدا.
الثاني: إنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا في الشبهة الوجوبية
أو التحريمية في العبادات وغيرها، كما لا ينبغي الارتياب في استحقاق الثواب فيما
243

إذا احتاط وأتى أو ترك بداعي احتمال الامر أو النهي.
وربما يشكل في جريان الاحتياط في العبادات عند دوران الامر بين الوجوب
وغير الاستحباب، من جهة أن العبادة لا بد فيها من نية القربة المتوقفة على العلم
بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا.
وحسن الاحتياط عقلا لا يكاد يجدي في رفع الاشكال، ولو قيل بكونه موجبا
لتعلق الامر به شرعا، بداهة توقفه على ثبوته توقف العارض على معروضه، فكيف
يعقل أن يكون من مبادئ ثبوته؟.
244

وانقدح بذلك أنه يكاد يجدي في رفعه أيضا القول بتعلق الامر به من جهة
ترتب الثواب عليه، ضرورة أنه فرع إمكانه، فكيف يكون من مبادئ جريانه؟.
هذا مع أن حسن الاحتياط لا يكون بكاشف عن تعلق الامر به بنحو اللم،
ولا ترتب الثواب عليه بكاشف عنه بنحو الآن، بل يكون حاله في ذلك حال
الإطاعة، فإنه نحو من الانقياد والطاعة.
وما قيل في دفعه: من كون المراد بالاحتياط في العبادات هو مجرد الفعل
المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة.
فيه: مضافا إلى عدم مساعدة دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها، بداهة
أنه ليس باحتياط حقيقة، بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا
عباديا، والعقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط، والنقل لا يكاد يرشد إلا إليه.
245

نعم، لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة، لما
كان محيص عن دلالته اقتضاء على أن المراد به ذاك المعنى، بناء على عدم إمكانه فيها
بمعناه حقيقة، كمالا يخفى أنه التزام بالاشكال وعدم جريانه فيها، وهو كما ترى.
قلت: لا يخفى أن منشأ الاشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة
مثل سائر الشروط المعتبرة فيها، مما يتعلق بها الامر المتعلق بها، فيشكل جريانه
حينئذ، لعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها، وقد عرفت أنه فاسد، وإنما
اعتبر قصد القربة فيها عقلا لاجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه.
246

وعليه كان جريان الاحتياط فيه بمكان من الامكان، ضرورة التمكن من
الاتيان بما احتمل وجوبه بتمامه وكماله، غاية الامر أنه لا بد أن يؤتى به على نحو لو
كان مأمورا به لكان مقربا، بأن يؤتى به بداعي احتمال الامر أو احتمال كونه محبوبا له
تعالى، فيقع حينئذ على تقدير الامر به امتثالا لامره تعالى، وعلى تقدير عدمه انقيادا
لجنابه تبارك وتعالى، ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد.
وقد انقدح بذلك أنه لا حاجة في جريانه في العبادات إلى تعلق أمر بها،
بل لو فرض تعلقه بها لما كان من الاحتياط بشئ، بل كسائر ما علم وجوبه أو
استحبابه منها، كما لا يخفى.
247

فظهر أنه لو قيل بدلالة أخبار (من بلغه ثواب) على استحباب العمل
الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف، لما كان يجدي في جريانه في خصوص ما
دل على وجوبه أو استحبابه خبر ضعيف، بل كان عليه مستحبا كسائر ما دل الدليل
على استحبابه.
لا يقال: هذا لو قيل بدلالتها على استحباب نفس العمل الذي بلغ عليه
الثواب بعنوانه، وأما لو دل على استحبابه لا بهذا العنوان، بل بعنوان أنه محتمل
الثواب، لكانت دالة على استحباب الاتيان به بعنوان الاحتياط، كأوامر
الاحتياط، لو قيل بأنها للطلب المولوي لا الارشادي.
248

فإنه يقال: إن الامر بعنوان الاحتياط ولو كان مولويا لكان توصليا، مع أنه لو
كان عباديا لما كان مصححا للاحتياط، ومجديا في جريانه في العبادات كما أشرنا
إليه آنفا.
ثم إنه لا يبعد دلالة بعض تلك الأخبار على استحباب ما بلغ عليه الثواب،
فإن صحيحة (3) هشام بن سالم المحكية عن المحاسن، عن أبي عبد الله (عليه
السلام) قال: (من بلغه عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - شئ من الثواب
فعمله، كان أجر ذلك له، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وآله - لم
يقله) ظاهرة في أن الاجر كان مترتبا على نفس العمل الذي بلغه عنه (صلى الله عليه
وآله وسلم) أنه ذو ثواب، وكون العمل متفرعا على البلوغ، وكونه الداعي إلى
249

العمل غير موجب لان يكون الثواب إنما يكون مترتبا عليه، فيما إذا أتى برجاء
أنه مأمور به وبعنوان الاحتياط، بداهة أن الداعي إلى العمل لا يوجب له وجها
وعنوانا يؤتى به بذاك الوجه والعنوان.
وإتيان العمل بداعي طلب قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما قيد
به في بعض الاخبار، وإن كان انقيادا، إلا أن الثواب في الصحيحة إنما رتب على
250

نفس العمل، ولا موجب لتقييدها به، لعدم المنافاة بينهما، بل لو أتى به كذلك أو
التماسا للثواب الموعود، كما قيد به في بعضها الآخر، لأوتي الاجر والثواب على
نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد، فيكشف عن كونه بنفسه مطلوبا وإطاعة،
فيكون وزانه وزان (من سرح لحيته) أو (من صلى أو صام فله كذا) ولعله لذلك
أفتى المشهور بالاستحباب، فافهم وتأمل.
251

الثالث: إنه لا يخفى أن النهي عن شئ، إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان
أو مكان بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلا، كان
اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة ولو بالأصل، فلا يجوز الاتيان بشئ يشك
معه في تركه، إلا إذا كان مسبوقا به ليستصحب مع الاتيان به.
252

نعم، لو كان بمعنى طلب ترك كل فرد منه على حدة، لما وجب إلا ترك ما علم
أنه فرد، وحيث لم يعلم تعلق النهي إلا بما علم أنه مصداقه، فأصالة البراءة في
المصاديق المشتبهة محكمة.
فانقدح بذلك أن مجرد العلم بتحريم شئ لا يوجب لزوم الاجتناب عن
أفراده المشتبهة، فيما كان المطلوب بالنهي طلب ترك كل فرد على حدة، أو كان
253

الشئ مسبوقا بالترك، وإلا لوجب الاجتناب عنها عقلا لتحصيل الفراغ قطعا،
فكما يجب فيما علم وجوب شئ إحراز إتيانه إطاعة لامره، فكذلك يجب فيما علم
حرمته إحراز تركه وعدم إتيانه امتثالا لنهيه.
غاية الامر كما يحرز وجود الواجب بالأصل، كذلك يحرز ترك الحرام به،
والفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه، إلا أن قضية لزوم
إحراز الترك اللازم وجوب التحرز عنه، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا،
254

فتفطن.
الرابع: إنه قد عرفت حسن الاحتياط عقلا ونقلا، ولا يخفى أنه مطلقا
كذلك، حتى فيما كان هناك حجة على عدم الوجوب أو الحرمة، أو أمارة معتبرة على
أنه ليس فردا للواجب أو الحرام، ما لم يخل بالنظام فعلا، فالاحتياط قبل ذلك
مطلقا يقع حسنا، كان في الأمور المهمة كالدماء والفروج أو غيرها، وكان احتمال
التكليف قويا أو ضعيفا كانت الحجة على خلافه أو لا كما أن الاحتياط الموجب
لذلك لا يكون حسنا كذلك وان كان الراجح لمن التفت إلى ذلك من أول الامر
ترجيح بعض الاحتياطات احتمالا أو محتملا فافهم
فصل
إذا دار الامر بين وجوب شئ وحرمته لعدم نهوض حجه على أحدهما
تفصيلا بعد نهوضها إجمالا ففيه وجوه
255

الحكم بالبراءة عقلا ونقلا لعموم النقل، وحكم العقل بقبح المؤاخذة على
خصوص الوجوب أو الحرمة للجهل به، ووجوب الاخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا،
والتخيير بين الترك والفعل عقلا، مع التوقف عن الحكم به رأسا،
256

أو مع الحكم عليه بالإباحة شرعا، أوجهها الأخير، لعدم الترجيح بين
الفعل والترك، وشمول مثل (كل شئ لك حلال حتى تعرف أنه حرام) له، ولا
مانع عنه عقلا ولا نقلا.
وقد عرفت أنه لا يجب موافقة الاحكام التزاما، ولو وجب لكان الالتزام
إجمالا بما هو الواقع معه ممكنا، والالتزام التفصيلي بأحدهما لو لم يكن تشريعا محرما لما
نهض على وجوبه دليل قطعا، وقياسه بتعارض الخبرين - الدال أحدهما على الحرمة
والآخر على الوجوب - باطل، فإن التخيير بينهما على تقدير كون الاخبار حجة من
باب السببية يكون على القاعدة، ومن جهة التخيير بين الواجبين المتزاحمين، وعلى
تقدير أنها من باب الطريقية فإنه وإن كان على خلاف القاعدة، إلا أن أحدهما
259

- تعيينا أو تخييرا - حيث كان واجدا لما هو المناط للطريقية من احتمال الإصابة مع
اجتماع سائر الشرائط، صار حجة في هذه الصورة بأدلة الترجيح تعيينا، أو التخيير
تخييرا، وأين ذلك مما إذا لم يكن المطلوب إلا الاخذ بخصوص ما صدر واقعا؟ وهو
حاصل، والاخذ بخصوص أحدهما ربما لا يكون إليه بموصل.
نعم، لو كان التخيير بين الخبرين لاجل إبدائهما احتمال الوجوب والحرمة،
وإحداثهما الترديد بينهما، لكان القياس في محله، لدلالة الدليل على التخيير بينهما
على التخيير ها هنا، فتأمل جيدا.
260

ولا مجال - ها هنا - لقاعدة قبح العقاب بلا بيان، فإنه لا قصور فيه - ها هنا -
وإنما يكون عدم تنجز التكليف لعدم التمكن من الموافقة القطعية كمخالفتها،
والموافقة الاحتمالية حاصلة لا محالة، كما لا يخفى.
ثم إن مورد هذه الوجوه، وإن كان ما [إذا] لم يكن واحدا من الوجوب
والحرمة على التعيين تعبديا، إذ لو كانا تعبديين أو كان أحدهما المعين كذلك، لم يكن
إشكال في عدم جواز طرحهما والرجوع إلى الإباحة، لأنها مخالفة عملية قطعية على
ما أفاد شيخنا الأستاذ (قدس سره) إلا أن الحكم أيضا فيهما إذا كانا كذلك هو
261

التخيير عقلا بين إتيانه على وجه قربي، بأن يؤتى به بداعي احتمال طلبه، وتركه
كذلك، لعدم الترجيح وقبحه بلا مرجح.
فانقدح أنه لا وجه لتخصيص المورد بالتوصليين بالنسبة إلى ما هو المهم في
المقام، وإن اختص بعض الوجوه بهما، كما لا يخفى.
ولا يذهب عليك أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح
في أحدهما على التعيين، ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه كما هو الحال
262

في دوران الامر بين التخيير والتعيين في غير المقام، ولكن الترجيح إنما يكون لشدة
الطلب في أحدهما، وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الاخلال بها في صورة
المزاحمة، ووجب الترجيح بها، وكذا وجب ترجيح احتمال ذي المزية في صورة
الدوران.
ولا وجه لترجيح احتمال الحرمة مطلقا، لاجل أن دفع المفسدة أولى من ترك
المصلحة، ضرورة أنه رب واجب يكون مقدما على الحرام في صورة المزاحمة بلا
كلام، فكيف يقدم على احتماله احتماله في صورة الدوران بين مثليهما؟ فافهم.
263

فصل
لو شك في المكلف به مع العلم بالتكليف من الايجاب أو التحريم فتارة
لتردده بين المتباينين، وأخرى بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فيقع الكلام في
مقامين:
المقام الأول: في دوران الامر بين المتباينين.
لا يخفى أن التكليف المعلوم بينهما مطلقا - ولو كانا فعل أمر وترك آخر - إن كان
فعليا من جميع الجهات، بأن يكون واجدا لما هو العلة التامة للبعث أو الزجر
الفعلي، مع ما هو [عليه] من الاجمال والتردد والاحتمال، فلا محيص عن
تنجزه وصحة العقوبة على مخالفته، وحينئذ لا محالة يكون ما دل بعمومه على الرفع أو
264

الوضع أو السعة أو الإباحة مما يعم أطراف العلم مخصصا عقلا، لاجل مناقضتها
معه.
وإن لم يكن فعليا كذلك، ولو كان بحيث لو علم تفصيلا لوجب امتثاله وصح
العقاب على مخالفته، لم يكن هناك مانع عقلا ولا شرعا عن شمول أدلة البراءة
الشرعية للأطراف.
ومن هنا انقدح أنه لا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي، إلا أنه لا مجال
265

للحكم الظهري مع التفصيلي، فإذا كان الحكم الواقعي فعليا من سائر الجهات،
لا محالة يصير فعليا معه من جميع الجهات، وله مجال مع الاجمالي، فيمكن أن لا
يصير فعليا معه، لامكان جعل الظاهري في أطرافه، وإن كان فعليا من غير هذه
الجهة، فافهم.
ثم إن الظاهر أنه لو فرض أن المعلوم بالاجمال كان فعليا من جميع الجهات
لوجب عقلا موافقته مطلقا ولو كانت أطرافه غير محصورة، وإنما التفاوت بين
المحصورة وغيرها هو أن عدم الحصر ربما يلازم ما يمنع عن فعلية المعلوم، مع كونه
فعليا لولاه من سائر الجهات.
266

وبالحملة لا يكاد يرى العقل تفاوتا بين المحصورة وغيرها، في التنجز
وعدمه، فيما كان المعلوم إجمالا فعليا، يبعث المولى نحوه فعلا أو يزجر عنه كذلك
مع ما هو عليه من كثرة أطرافه.
والحاصل أن اختلاف الأطراف في الحصر وعدمه لا يوجب تفاوتها في
ناحية العلم، ولو أوجب تفاوتا فإنما هو في ناحية المعلوم في فعلية البعث أو الزجر
مع الحصر، وعدمها مع عدمه، فلا يكاد يختلف العلم الاجمالي باختلاف الأطراف
قلة وكثرة في التنجيز وعدمه ما لم يختلف المعلوم في الفعلية وعدمها بذلك، وقد
عرفت آنفا أنه لا تفاوت بين التفصيلي والاجمالي في ذلك، ما لم يكن تفاوت في طرف
المعلوم أيضا، فتأمل تعرف.
267

وقد انقدح أنه لا وجه لاحتمال عدم وجوب الموافقة القطعية مع حرمة
مخالفتها، ضرورة أن التكليف المعلوم إجمالا لو كان فعليا لوجب موافقته قطعا،
وإلا لم يحرم مخالفته كذلك أيضا.
ومنه ظهر أنه لو لم يعلم فعلية التكليف مع العلم به إجمالا، أما من جهة عدم
الابتلاء ببعض أطرافه، أو من جهة الاضطرار إلى بعضها معينا أو مرددا، أو من
جهة تعلقه بموضوع يقطع بتحققه إجمالا في هذا الشهر، كأيام حيض المستحاضة
268

مثلا، لما وجب موافقته بل جاز مخالفته، وأنه لو علم فعليته ولو كان بين أطراف
تدريجية، لكان منجزا ووجب موافقته. فان التدرج لا يمنع عن الفعلية، ضرورة
أنه كما يصح التكليف بأمر حالي كذلك يصح بأمر استقبالي، كالحج في الموسم
للمستطيع، فافهم.
تنبيهات
الأول: إن الاضطرار كما يكون مانعا عن العلم بفعلية التكليف لو كان إلى
واحد معين، كذلك يكون مانعا لو كان إلى غير معين، ضرورة أنه مطلقا موجب لجواز
ارتكاب أحد الأطراف أو تركه، تعيينا أو تخييرا، وهو ينافي العلم بحرمة المعلوم
أو بوجوبه بينها فعلا، وكذلك لا فرق بين أن يكون الاضطرار كذلك سابقا على
حدوث العلم أو لاحقا، وذلك لان التكليف المعلوم بينها من أول الامر كان
269

محدودا بعدم عروض الاضطرار إلى متعلقة، فلو عرض على بعض أطرافه لما كان
التكليف به معلوما، لاحتمال أن يكون هو المضطر إليه فيما كان الاضطرار إلى
المعين، أو يكون هو المختار فيما كان إلى بعض الأطراف بلا تعيين.
.
(1) أقول: ان أريد من لزوم التناقض بين ايجاب الاحتياط والاجتناب عن جميع الأطراف وبين الترخيص
في بعضها غير المعين فلا تناقض أصلا، لان ايجاب الاجتناب عن الجميع انما يكون بحكم العقل مقدمة
لحصول العلم بالواقع لا بحكم الشرع، فان حكمه انما كون متعلقا بما يكون واجبا أو حراما واقعا لا
بجميع الأطراف تعيينا ولا ببعضها تخييرا، وان أريد بالتناقض بين زجر الشرع عما يكون حراما واقعا
وبين ترخيصه في ارتكاب المضطر إليه في صورة التصادف مع الحرام واقعا، فالامر وان كان كذلك لكنه
لا اختصاص في ذلك بصورة الاضطرار تخييرا، بل يعم صورة الاضطرار إلى المعين. فتأمل. منه طاب
ثراه
270

لا يقال: الاضطرار إلى بعض الأطراف ليس إلا كفقد بعضها، فكما لا
إشكال في لزوم رعاية الاحتياط في الباقي مع الفقدان، كذلك ينبغي الاشكال في
لزوم رعايته مع الاضطرار، فيجب الاجتناب عن الباقي أو ارتكابه خروجا عن
271

عهدة ما تنجز عليه قبل عروضه.
فإنه يقال: حيث أن فقد المكلف به ليس من حدود التكليف به وقيوده، كان
التكليف المتعلق به مطلقا، فإذا اشتغلت الذمة به، كان قضية الاشتغال به يقينا
الفراغ عنه كذلك، وهذا بخلاف الاضطرار إلى تركه، فإنه من حدود التكليف به
272

وقيوده، ولا يكون الاشتغال به من الأول إلا مقيدا بعدم عروضه، فلا يقين
باشتغال الذمة بالتكليف به إلا إلى هذا الحد، فلا يجب رعايته فيما بعده، ولا يكون
إلا من باب الاحتياط في الشبهة البدوية، فافهم وتأمل فإنه دقيق جدا.
273

الثاني: أنه لما كان النهي عن الشئ إنما هو لاجل أن يصير داعيا
للمكلف نحو تركه، لو لم يكن له داع آخر - ولا يكاد يكون ذلك إلا فيما يمكن عادة
ابتلاؤه به، وإما ما لا ابتلاء به بحسبها، فليس للنهي عنه موقع أصلا، ضرورة أنه
بلا فائدة ولا طائل، بل يكون من قبيل طلب الحاصل - كان الابتلاء بجميع
الأطراف مما لا بد منه في تأثير العلم، فإنه بدونه لا علم بتكليف فعلي، لاحتمال
تعلق الخطاب بما لا ابتلاء به.
275

ومنه قد انقدح أن الملاك في الابتلاء المصحح لفعلية الزجر وانقداح طلب تركه
في نفس المولى فعلا، هو ما إذا صح انقداح الداعي إلى فعله في نفس العبد مع
اطلاعه على ما هو عليه من الحال، ولو شك في ذلك كان المرجع هو البراءة، لعدم
القطع بالاشتغال، لا إطلاق الخطاب، ضرورة أنه لا مجال للتشبث به إلا فيما إذا
شك في التقييد بشئ بعد الفراغ عن صحة الاطلاق بدونه، لا فيما شك في
اعتباره في صحته، تأمل لعلك تعرف إن شاء الله تعالى.
276

الثالث: إنه قد عرفت أنه مع فعلية التكليف المعلوم، لا تفاوت بين أن
تكون أطرافه محصورة وأن تكون غير محصورة.
نعم ربما تكون كثرة الأطراف في مورد موجبة لعسر موافقته القطعية
باجتناب كلها أو ارتكابه، أو ضرر فيها أو غيرهما مما لا يكون معه التكليف فعليا
277

بعثا أو زجرا فعلا، وليس بموجبة لذلك في غيره، كما أن نفسها ربما يكون موجبة
لذلك، ولو كانت قليلة في مورد آخر، فلا بد من ملاحظة ذاك الموجب لرفع فعلية
التكليف المعلوم بالاجمال أنه يكون أو لا يكون في هذا المورد، أو يكون مع كثرة
أطرافه وملاحظة أنه مع أية مرتبة من كثرتها، كما لا يخفى.
ولو شك في عروض الموجب، فالمتبع هو إطلاق دليل التكليف لو كان، وإلا
فالبراءة لاجل الشك في التكليف الفعلي، هذا هو حق القول في المقام، وما قيل
في ضبط المحصور وغيره لا يخلو من الجزاف.
278

الرابع: إنه إنما يجب عقلا رعاية الاحتياط في خصوص الأطراف، مما
يتوقف على اجتنابه أو ارتكابه حصول العلم بإتيان الواجب أو ترك الحرام المعلومين
279

في البين دون غيرها، وإن كان حاله حال بعضها في كونه محكوما بحكمه واقعا.
ومنه ينقدح الحال في مسألة ملاقاة شئ مع أحد أطراف النجس المعلوم
بالاجمال، وأنه تارة يجب الاجتناب عن الملاقي دون ملاقيه، فيما كانت الملاقاة بعد
العلم إجمالا بالنجس بينها، فإنه إذا اجتنب عنه وطرفه اجتنب عن النجس في البين
قطعا، ولو لم يجتنب عما يلاقيه، فإنه على تقدير نجاسته لنجاسته كان فردا آخر من
النجس، قد شك في وجوده، كشئ آخر شك في نجاسته بسبب آخر.
280

ومنه ظهر أنه لا مجال لتوهم أن قضية تنجز الاجتناب عن المعلوم هو
الاجتناب عنه أيضا، ضرورة أن العلم به إنما يوجب تنجز الاجتناب عنه، لا تنجز
الاجتناب عن فرد آخر لم يعلم حدوثه وإن احتمل.
وأخرى يجب الاجتناب عما لاقاه دونه، فيما لو علم إجمالا نجاسته أو نجاسة
شئ آخر، ثم حدث [العلم ب‍] الملاقاة والعلم بنجاسة الملاقي أو ذاك الشئ
281

أيضا، فإن حال الملاقي في هذه الصورة بعينها حال ما لاقاه في الصورة السابقة في
عدم كونه طرفا للعلم الاجمالي، وأنه فرد آخر على تقدير نجاسته واقعا غير معلوم
النجاسة أصلا، لا إجمالا ولا تفصيلا، وكذا لو علم بالملاقاة ثم حدث العلم
الاجمالي، ولكن كان الملاقي خارجا عن محل الابتلاء في حال حدوثه وصار مبتلى به
بعده.
282

وثالثة يجب الاجتناب عنهما، فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد العلم
بالملاقاة، ضرورة أنه حينئذ نعلم إجمالا: إما بنجاسة الملاقي والملاقى أو بنجاسة
الآخر كما لا يخفى، فيتنجز التكليف بالاجتناب عن النجس في البين، وهو الواحد
أو الاثنان.
283

المقام الثاني: (في دوران الامر بين الأقل والأكثر الارتباطيين).
والحق أن العلم الاجمالي بثبوت التكليف بينهما - أيضا - يوجب الاحتياط عقلا
بإتيان الأكثر، لتنجزه به حيث تعلق بثبوته فعلا.
284

وتوهم انحلاله إلى العلم بوجوب الأقل تفصيلا والشك في وجوب الأكثر
بدوا - ضرورة لزوم الاتيان بالأقل لنفسه شرعا، أو لغيره كذلك أو عقلا، ومعه لا
يوجب تنجزه لو كان متعلقا بالأكثر - فاسد قطعا، لاستلزام الانحلال المحال،
بداهة توقف لزوم الأقل فعلا إما لنفسه أو لغيره على تنجز التكليف مطلقا، ولو
285

كان متعلقا بالأكثر، فلو كان لزومه كذلك مستلزما لعدم تنجزه إلا إذا كان متعلقا
بالأقل كان خلفا، مع أنه يلزم من وجوده عدمه، لاستلزامه عدم تنجز التكليف
على كل حال المستلزم لعدم لزوم الأقل مطلقا، المستلزم لعدم الانحلال، وما يلزم
من وجوده عدمه محال.
(1) أقول يمكن ان يقال ان الشك في تعلق الامر بالزائد وبسطه عليه وان كان بدويا والعقل يحكم بالبراءة
عنه بهذا الاعتبار فلا يجب الاتيان بالزائد، الا ان الشك في الزائد يوجب الشك في امتثال الامر المتعلق
بالأقل مع كونه معلوما ومنجزا بالإضافة إلى الأقل، والعقل مستقل بلزوم الاتيان بالواجب على وجه
يقطع بحصول الامتثال، وفي المقام لا يقطع بامتثال الامر المتعلق بالأقل الا بإتيان الزائد فالعقل حاكم
بلزوم الاحتياط من هذه الجهة.
والجواب عن هذا الاشكال، على ما أفاده السيد الأستاذ، هو انه بناء على ما ذكرنا من بسط الامر
وتوزيعه على تمام الاجزاء يحصل القطع بامتثال مقدار من الامر وهو الذي انبسط على الأقل، وهذا
المقدار من الامتثال يكفي لحكم العقل بحصول الامتثال ولا يجب تحصيل القطع بامتثال تمام الامر فإنه
بتمامه لم يكن منجزا حتى يقال بلزوم امتثاله، بل المقدار المنجز منه وهو المتعلق بالأقل يحصل امتثاله
باتيان الأقل قطعا.
قلت: هذا صحيح إذا قلنا بامكان التبعيض في امتثال الامر الواحد المتعلق بالمركب، وفيه ما لا يخفى
كما يظهر بالتأمل.
286

نعم إنما ينحل إذا كان الأقل ذا مصلحة ملزمة، فإن وجوبه حينئذ يكون
معلوما له، وإنما كان الترديد لاحتمال أن يكون الأكثر ذا مصلحتين، أو مصلحة
أقوى من مصلحة الأقل، فالعقل في مثله وإن استقل بالبراءة بلا كلام، إلا أنه
خارج عما هو محل النقض والابرام في المقام.
287

هذا مع أن الغرض الداعي إلى الامر لا يكاد يحرز إلا بالأكثر، بناء على ما
ذهب إليه المشهور من العدلية من تبعية الأوامر والنواهي للمصالح والمفاسد في
المأمور به والمنهي عنه، وكون الواجبات الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية، وقد
مر اعتبار موافقة الغرض وحصوله عقلا في إطاعة الامر وسقوطه، فلا بد من
إحرازه في إحرازها، كما لا يخفى.
ولا وجه للتفصي عنه: تارة بعدم ابتناء مسألة البراءة والاحتياط على ما
ذهب إليه مشهور العدلية، وجريانها على ما ذهب إليه الأشاعرة المنكرين لذلك، أو
288

بعض العدلية المكتفين بكون المصلحة في نفس الامر دون المأمور به.
وأخرى بأن حصول المصلحة واللطف في العبادات لا يكاد يكون إلا بإتيانها
على وجه الامتثال، وحينئذ كان لاحتمال اعتبار معرفة أجزائها تفصيلا - ليؤتى بها
مع قصد الوجه - مجال، ومعه لا يكاد يقطع بحصول اللطف والمصلحة الداعية إلى
الامر، فلم يبق إلا التخلص عن تبعة مخالفته بإتيان ما علم تعلقه به، فإنه واجب
عقلا وإن لم يكن في المأمور به مصلحة ولطف رأسا، لتنجزه بالعلم به إجمالا.
289

وأما الزائد عليه لو كان فلا تبعة على مخالفته من جهته، فإن العقوبة عليه بلا
بيان.
وذلك ضرورة أن حكم العقل بالبراءة - على مذهب الأشعري - لا يجدي من
ذهب إلى ما عليه المشهور من العدلية، بل من ذهب إلى ما عليه غير المشهور،
لاحتمال أن يكون الداعي إلى الامر ومصلحته - على هذا المذهب أيضا - هو ما في
الواجبات من المصلحة وكونها ألطافا، فافهم.
290

وحصول اللطف والمصلحة في العبادة، وإن كان يتوقف على الاتيان بها على
وجه الامتثال، إلا أنه لا مجال لاحتمال اعتبار معرفة الاجزاء وإتيانها على وجهها،
كيف؟ ولا إشكال في إمكان الاحتياط ها هنا كما في المتباينين، ولا يكاد يمكن مع
اعتباره. هذا مع وضوح بطلان احتمال اعتبار قصد الوجه كذلك، والمراد بالوجه
في كلام من صرح بوجوب إيقاع الواجب على وجهه ووجوب اقترانه به، هو وجه
نفسه من وجوبه النفسي، لا وجه أجزائه من وجوبها الغيري أو وجوبها العرضي،
291

وإتيان الواجب مقترنا بوجهه غاية ووصفا بإتيان الأكثر بمكان من الامكان، لانطباق
الواجب عليه ولو كان هو الأقل، فيتأتى من المكلف معه قصد الوجه، واحتمال
اشتماله على ما ليس من أجزائه ليس بضائر، إذا قصد وجوب المأتي على إجماله، بلا
تمييز ما له دخل في الواجب من أجزائه، لا سيما إذا دار الزائد بين كونه جزءا لماهيته
وجزءا لفرده، حيث ينطبق الواجب على المأتي حينئذ بتمامه وكماله، لان الطبيعي
يصدق على الفرد بمشخصاته.
292

نعم، لو دار بين كونه جزءا أو مقارنا لما كان منطبقا عليه بتمامه لو لم يكن
جزءا، لكنه غير ضائر لانطباقه عليه أيضا فيما لم يكن ذاك الزائد جزء غايته، لا
بتمامه بل بسائر أجزائه.
هذا مضافا إلى أن اعتبار قصد الوجه من رأس مما يقطع بخلافه مع أن
الكلام في هذه المسألة لا يختص بما لا بد أن يؤتى به على وجه الامتثال من العبادات،
مع أنه لو قيل باعتبار قصد الوجه في الامتثال فيها على وجه ينافيه التردد والاحتمال،
293

فلا وجه معه للزوم مراعاة الامر المعلوم أصلا، ولو بإتيان الأقل لو لم يحصل
الغرض، وللزم الاحتياط بإتيان الأكثر مع حصوله، ليحصل القطع بالفراغ بعد
القطع بالاشتغال، لاحتمال بقائه مع الأقل بسبب بقاء غرضه، فافهم.
هذا بحسب حكم العقل.
وأما النقل فالظاهر أن عموم مثل حديث الرفع قاض برفع جزئية ما شك
في جزئيته، فبمثله يرتفع الاجمال والتردد عما تردد أمره بين الأقل والأكثر، ويعينه في
294

الأول.
لا يقال: إن جزئية السورة المجهولة - مثلا - ليست بمجعولة وليس لها
أثر مجعول، والمرفوع بحديث الرفع إنما هو المجعول بنفسه أو أثره، ووجوب الإعادة
295

إنما هو أثر بقاء الامر الأول بعد العلم مع أنه عقلي، وليس إلا من باب وجوب
الإطاعة عقلا.
لأنه يقال: إن الجزئية وإن كانت غير مجعولة بنفسها، إلا أنها مجعولة بمنشأ
انتزاعها، وهذا كاف في صحة رفعها.
296

لا يقال: إنما يكون ارتفاع الامر الانتزاعي برفع منشأ انتزاعه، وهو الامر
الأول: ولا دليل آخر على أمر آخر بالخالي عنه.
لأنه يقال: نعم، وإن كان ارتفاعه بارتفاع منشأ انتزاعه، إلا أن نسبة
حديث الرفع - الناظر إلى الأدلة الدالة على بيان الاجزاء - إليها نسبة الاستثناء، وهو
297

معها يكون دالة على جزئيتها إلا مع الجهل بها، كما لا يخفى، فتدبر جيدا.
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: إنه ظهر مما مر حال دوران الامر بين المشروط بشئ ومطلقه، وبين
الخاص كالانسان وعامه كالحيوان، وأنه لا مجال ها هنا للبراءة عقلا، بل كان الامر
298

نعم لا بأس بجريان البراءة النقلية في خصوص دوران الامر بين المشروط
وغيره، دون دوران الامر بين الخاص وغيره، لدلالة مثل حديث الرفع على عدم
شرطية ما شك في شرطيته، وليس كذلك خصوصية الخاص، فإنها إنما تكون منتزعة
عن نفس الخاص، فيكون الدوران بينه و [بين] غيره من قبيل الدوران بين
299

فيهما أظهر، فإن الانحلال المتوهم في الأقل والأكثر لا يكاد يتوهم ها هنا، بداهة
أن الاجزاء التحليلية لا يكاد يتصف باللزوم من باب المقدمة عقلا، فالصلاة
- مثلا - في ضمن الصلاة المشروطة أو الخاصة موجودة بعين وجودها، وفي ضمن
صلاة أخرى فاقدة لشرطها وخصوصيتها تكون متباينة للمأمور بها، كما لا يخفى.
المتباينين، فتأمل جيدا.
الثاني: إنه لا يخفى أن الأصل فيما إذا شك في جزئية شئ أو شرطيته في
300

حال نسيانه عقلا ونقلا، ما ذكر في الشك في أصل الجزئية أو الشرطية، فلولا مثل
حديث الرفع مطلقا ولا تعاد في الصلاة لحكم عقلا بلزوم إعادة ما أخل بجزئه
أو شرطه نسيانا، كما هو الحال فيما ثبت شرعا جزئيته أو شرطيته مطلقا نصا أو
إجماعا.
301

ثم لا يذهب عليك أنه كما يمكن رفع الجزئية أو الشرطية في هذا الحال بمثل
حديث الرفع، كذلك يمكن تخصيصهما بهذا الحال بحسب الأدلة الاجتهادية،
كما إذا وجه الخطاب على نحو يعم الذاكر والناسي بالخالي عما شك في دخله مطلقا،
وقد دل دليل آخر على دخله في حق الذاكر، أو وجه إلى الناسي خطاب يخصه
302

بوجوب الخالي بعنوان آخر عام أو خاص، لا بعنوان الناسي كي يلزم استحالة
إيجاب ذلك عليه بهذا العنوان، لخروجه عنه بتوجيه الخطاب إليه لا محالة، كما
توهم لذلك استحالة تخصيص الجزئية أو الشرطية بحال الذكر وإيجاب العمل
الخالي عن المنسي على الناسي، فلا تغفل.
303

الثالث: إنه ظهر - مما مر - حال زيادة الجزء إذا شك في اعتبار عدمها شرطا
أو شطرا في الواجب - مع عدم اعتباره في جزئيته، وإلا لم يكن من زيادته بل من
نقصانه - وذلك لاندراجه في الشك في دخل شئ فيه جزءا أو شرطا، فيصح لو أتى
به مع الزيادة عمدا تشريعا أو جهلا قصورا أو تقصيرا أو سهوا، وإن استقل العقل
304

لولا النقل بلزوم الاحتياط، لقاعدة الاشتغال.
نعم لو كان عبادة وأتى به كذلك، على نحو لو لم يكن للزائد دخل فيه لما
يدعو إليه وجوبه، لكان باطلا مطلقا أو في صورة عدم دخله فيه، لعدم قصد
الامتثال في هذه الصورة، مع استقلال العقل بلزوم الإعادة مع اشتباه الحال لقاعدة
الاشتغال.
وأما لو أتى به على نحو يدعوه إليه على أي حال كان صحيحا، ولو كان مشرعا
في دخله الزائد فيه بنحو، مع عدم علمه بدخله، فإن تشريعه في تطبيق المأتي مع
305

المأمور به، وهو لا ينافي قصده الامتثال والتقرب به على كل حال.
ثم إنه ربما تمسك لصحة ما أتي به مع الزيادة باستصحاب الصحة، وهو لا
يخلو من كلام ونقض وإبرام خارج عما هو المهم في المقام، ويأتي تحقيقه في مبحث
الاستصحاب، إن شاء الله تعالى.
الرابع: إنه لو علم بجزئية شئ أو شرطيته في الجملة، ودار [الامر] بين
أن يكون جزءا أو شرطا مطلقا ولو في حال العجز عنه، وبين أن يكون جزءا أو شرطا
في خصوص حال التمكن منه، فيسقط الامر بالعجز عنه على الأول، لعدم القدرة
حينئذ على المأمور به، لا على الثاني فيبقى متعلقا بالباقي، ولم يكن هناك ما يعين
أحد الامرين، من إطلاق دليل اعتباره جزءا أو شرطا، أو إطلاق دليل المأمور به مع
إجمال دليل اعتباره أو إهماله، لاستقل العقل بالبراءة عن الباقي، فإن العقاب على
تركه بلا بيان والمؤاخذة عليه بلا برهان.
لا يقال: نعم ولكن قضية مثل حديث الرفع عدم الجزئية أو الشرطية إلا في
حال التمكن منه.
فإنه يقال: إنه لا مجال ها هنا لمثله، بداهة أنه ورد في مقام الامتنان،
306

فيختص بما يوجب نفي التكليف لا إثباته.
نعم ربما يقال: بأن قضية الاستصحاب في بعض الصور وجوب الباقي في
حال التعذر أيضا.
ولكنه لا يكاد يصح إلا بناء على صحة القسم الثالث من استصحاب الكي،
أو على المسامحة في تعيين الموضوع في الاستصحاب، وكان ما تعذر مما يسامح به
عرفا، بحيث يصدق مع تعذره بقاء الوجوب لو قيل بوجوب الباقي، وارتفاعه لو
قيل بعدم وجوبه، ويأتي تحقيق الكلام فيه في غير المقام.
كما أن وجوب الباقي في الجملة ربما قيل بكونه مقتضى ما يستفاد من قوله
(صلى الله عليه وآله وسلم): (إذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم)
وقوله: (الميسور لا يسقط بالمعسور) وقوله: (ما لا يدرك كله لا يترك كله)
ودلالة الأول مبنية على كون كلمة (من) تبعيضية، لا بيانية، ولا بمعنى الباء،
وظهورها في التبعيض وإن كان مما لا يكاد يخفى، إلا أن كونه بحسب الاجزاء غير
307

واضح، لاحتمال أن يكون بلحاظ الافراد، ولو سلم فلا محيص عن أنه - ها هنا -
بهذا اللحاظ يراد، حيث ورد جوابا عن السؤال عن تكرار الحج بعد أمره به، فقد
روي أنه خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: (إن الله كتب
عليكم الحج، فقام عكاشة - ويروى سراقة بن مالك - فقال: في كل عام يا
رسول الله؟ فأعرض عنه حتى أعاد مرتين أو ثلاثا، فقال: ويحك، وما يؤمنك أن
أقول: نعم، والله لو قلت: نعم، لوجب، ولو وجب ما استطعتم، ولو تركتم
لكفرتم، فاتركوني ما تركتم، وإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم،
واختلافهم إلى أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن
شئ فاجتنبوه).
308

ومن ذلك ظهر الاشكال في دلالة الثاني أيضا، حيث لم يظهر في عدم سقوط
الميسور من الاجزاء بمعسورها، لاحتمال إرادة عدم سقوط الميسور من أفراد العام
بالمعسور منها.
هذا مضافا إلى عدم دلالته على عدم السقوط لزوما، لعدم اختصاصه
بالواجب، ولا مجال معه لتوهم دلالته على أنه بنحو اللزوم، إلا أن يكون المراد عدم
سقوطه بماله من الحكم وجوبا كان أو ندبا، بسبب سقوطه عن المعسور، بأن يكون
قضية الميسور كناية عن عدم سقوطه بحكمه، حيث إن الظاهر من مثله هو ذلك،
كما أن الظاهر من مثل (لا ضرر ولا ضرار) هو نفي ما له من تكليف أو وضع، لا
أنها عبارة عن عدم سقوطه بنفسه وبقائه على عهدة المكلف كي لا يكون له دلالة
309

على جريان القاعدة في المستحبات على وجه، أو لا يكون له دلالة على وجوب الميسور
في الواجبات على آخر، فافهم.
وأما الثالث، فبعد تسليم ظهور كون الكل في المجموعي لا الافرادي، لا
دلالة له إلا على رجحان الاتيان بباقي الفعل المأمور به - واجبا كان أو مستحبا - عند
تعذر بعض أجزائه، لظهور الموصول فيما يعمهما، وليس ظهور (لا يترك) في
الوجوب - لو سلم - موجبا لتخصيصه بالواجب، لو لم يكن ظهوره في الأعم
قرينة على إرادة خصوص الكراهة أو مطلق المرجوحية من النفي، وكيف كان
فليس ظاهرا في اللزوم هاهنا، ولو قيل بظهوره فيه في غير المقام.
310

ثم إنه حيث كان الملاك في قاعدة الميسور هو صدق الميسور على الباقي عرفا،
كانت القاعدة جارية مع تعذر الشرط أيضا، لصدقه حقيقة عليه مع تعذره عرفا،
كصدقه عليه كذلك مع تعذر الجزء في الجملة، وإن كان فاقد الشرط مباينا للواجد
عقلا، ولأجل ذلك ربما لا يكون الباقي - الفاقد لمعظم الاجزاء أو لركنها - موردا لها
فيما إذا لم يصدق عليه الميسور عرفا، وإن كان غير مباين للواجد عقلا.
نعم ربما يلحق به شرعا ما لا يعد بميسور عرفا بتخطئته للعرف، وإن عدم
العد كان لعدم الاطلاع على ما هو عليه الفاقد، من قيامه في هذا الحال بتمام ما قام
عليه الواجد، أو بمعظمه في غير الحال، وإلا عد أنه ميسوره، كما ربما يقوم الدليل
على سقوط ميسور عرفي لذلك أي - للتخطئة - وأنه لا يقوم بشئ من ذلك.
311

وبالجملة: ما لم يكن دليل على الاخراج أو الالحاق كان المرجع هو الاطلاق،
ويستكشف منه أن الباقي قائم بما يكون المأمور به قائما بتمامه، أو بمقدار يوجب
ايجابه في الواجب واستحبابه في المستحب، وإذا قام دليل على أحدهما فيخرج أو
يدرج تخطئة أو تخصيصا في الأول، وتشريكا في الحكم، من دون الاندراج في
الموضوع في الثاني، فافهم.
تذنيب: لا يخفى أنه إذا دار الامر بين جزئية شئ أو شرطيته، وبين مانعيته
أو قاطعيته، لكان من قبيل المتباينين، ولا يكاد يكون من الدوران بين المحذورين،
لامكان الاحتياط بإتيان العمل مرتين، مع ذاك الشئ مرة وبدونه أخرى، كما هو
أوضح من أن يخفى.
312

خاتمة: في شرائط الأصول
أما الاحتياط: فلا يعتبر في حسنه شئ أصلا، بل يحسن على كل
حال، إلا إذا كان موجبا لاختلال النظام، ولا تفاوت فيه بين المعاملات والعبادات
مطلقا ولو كان موجبا للتكرار فيها، وتوهم كون التكرار عبثا ولعبا بأمر
المولى - وهو ينافي قصد الامتثال المعتبر في العبادة - فاسد، لوضوح أن التكرار ربما
يكون بداع صحيح عقلائي، مع أنه لو لم يكن بهذا الداعي وكان أصل إتيانه
بداعي أمر مولاه بلا داع له سواه لما ينافي قصد الامتثال، وإن كان لاغيا في كيفية
امتثاله، فافهم.
315

بل يحسن أيضا فيما قامت الحجة على البراءة عن التكليف لئلا يقع فيما كان في
مخالفته على تقدير ثبوته، من المفسدة وفوت المصلحة.
وأما البراءة العقلية: فلا يجوز إجراؤها إلا بعد الفحص واليأس عن
الظفر بالحجة على التكليف، لما مرت الإشارة إليه من عدم استقلال العقل بها إلا
بعدهما.
وأما البراءة النقلية: فقضية إطلاق أدلتها وإن كان هو عدم اعتبار
الفحص في جريانها، كما هو حالها في الشبهات الموضوعية، إلا أنه استدل على
اعتباره بالاجماع وبالعقل، فإنه لا مجال لها بدونه، حيث يعلم إجمالا بثبوت
التكليف بين موارد الشبهات، بحيث لو تفحص عنه لظفر به.
316

ولا يخفى أن الاجماع ها هنا غير حاصل، ونقله لوهنه بلا طائل، فإن تحصيله
في مثل هذه المسألة مما للعقل إليه سبيل صعب لو لم يكن عادة بمستحيل، لقوة
احتمال أن يكون المستند للجل - لولا الكل - هو ما ذكر من حكم العقل، وأن
الكلام في البراءة فيما لم يكن هناك علم موجب للتنجز، إما لانحلال العلم الاجمالي
بالظفر بالمقدار المعلوم بالاجمال، أو لعدم الابتلاء إلا بما لا يكون بينها علم بالتكليف
من موارد الشبهات، ولو لعدم الالتفات إليها.
فالأولى الاستدلال للوجوب بما دل من الآيات والاخبار على وجوب
التفقه والتعلم، والمؤاخذة على ترك التعلم في مقام الاعتذار عن عدم العمل بعدم
317

العلم، بقوله تعالى كما في الخبر: (هلا تعلمت) فيقيد بها أخبار البراءة، لقوة
ظهورها في أن المؤاخذة والاحتجاج بترك التعلم فيما لم يعلم، لا بترك العمل فيما
علم وجوبه ولو إجمالا، فلا مجال للتوفيق بحمل هذه الأخبار على ما إذا علم
إجمالا، فافهم.
ولا يخفى اعتبار الفحص في التخيير العقلي أيضا بعين ما ذكر في البراءة، فلا
تغفل.
ولا بأس بصرف الكلام في بيان بعض ما للعمل بالبراءة قبل الفحص من
التبعة والاحكام.
318

أما التبعة، فلا شبهة في استحقاق العقوبة على المخالفة فيما إذا كان ترك
التعلم والفحص مؤديا إليها، فإنها وإن كانت مغفولة حينها وبلا اختيار، إلا أنها
منتهية إلى الاختيار، وهو كاف في صحة العقوبة، بل مجرد تركهما كاف في صحتها،
وإن لم يكن مؤديا إلى المخالفة، مع احتماله، لاجل التجري وعدم المبالاة بها.
319

نعم يشكل في الواجب المشروط والمؤقت، لو أدى تركهما قبل الشرط والوقت
إلى المخالفة بعدهما، فضلا عما إذا لم يؤد إليها، حيث لا يكون حينئذ تكليف فعلي
أصلا، لا قبلهما وهو واضح، ولا بعدهما وهو كذلك، لعدم التمكن منه بسبب
الغفلة، ولذا التجأ المحقق الأردبيلي وصاحب المدارك (قدس سرهما) إلى
الالتزام بوجوب التفقه والتعلم نفسيا تهيئيا، فتكون العقوبة على ترك التعلم نفسه لا
على ما أدى إليه من المخالفة.
320

فلا إشكال حينئذ في المشروط والمؤقت، ويسهل بذلك الامر في غيرهما لو
صعب على أحد، ولم تصدق كفاية الانتهاء إلى الاختيار في استحقاق العقوبة على ما
كان فعلا مغفولا عنه وليس بالاختيار، ولا يخفى أنه لا يكاد ينحل هذا الاشكال إلا
بذلك، أو الالتزام بكون المشروط أو المؤقت مطلقا معلقا، لكنه قد اعتبر على نحو
لا تتصف مقدماته الوجودية عقلا بالوجوب قبل الشرط أو الوقت غير التعلم،
فيكون الايجاب حاليا، وإن كان الواجب استقباليا قد أخذ على نحو لا يكاد يتصف
بالوجوب شرطه، ولا غير التعلم من مقدماته قبل شرطه أو وقته.
321

وأما لو قيل بعدم الايجاب إلا بعد الشرط والوقت، كما هو ظاهر الأدلة
وفتاوى المشهور، فلا محيص عن الالتزام يكون وجوب التعلم نفسيا، لتكون
- العقوبة لو قيل بها - على تركه لا على ما أدى إليه من المخالفة، ولا بأس به كما
لا يخفى، ولا ينافيه ما يظهر من الاخبار من كون وجوب التعلم إنما هو لغيره لا
لنفسه، حيث أن وجوبه لغيره لا يوجب كونه واجبا غيريا يترشح وجوبه من وجوب
غيره فيكون مقدميا، بل للتهيؤ لايجابه، فافهم.
322

وأما الاحكام، فلا إشكال في وجوب الإعادة في صورة المخالفة، بل في
صورة الموافقة أيضا في العبادة، فيما لا يتأتى منه قصد القربة وذلك لعدم الاتيان
بالمأمور به مع عدم دليل على الصحة والاجزاء، إلا في الاتمام في موضع القصر أو
323

الاجهار أو الاخفات في موضع الآخر، فورد في الصحيح - وقد أفتى به المشهور -
صحة الصلاة وتماميتها في الموضعين مع الجهل مطلقا، ولو كان عن تقصير موجب
لاستحقاق العقوبة على ترك الصلاة المأمور بها، لان ما أتى بها وإن صحت وتمت إلا
أنها ليست بمأمور بها.
324

إن قلت: كيف يحكم بصحتها مع عدم الامر بها؟ وكيف يصح الحكم
باستحقاق العقوبة على ترك الصلاة التي أمر بها، حتى فيما إذا تمكن مما أمر بها؟ كما
هو ظاهر إطلاقاتهم، بأن علم بوجوب القصر أو الجهر بعد الاتمام والاخفات وقد
بقي من الوقت مقدار إعادتها قصرا أو جهرا، ضرورة أنه لا تقصير ها هنا يوجب
325

استحقاق العقوبة، وبالجملة كيف يحكم بالصحة بدون الامر؟ وكيف يحكم
باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة؟ لولا الحكم شرعا بسقوطها وصحة ما
أتى بها.
قلت: إنما حكم بالصحة لاجل اشتمالها على مصلحة تامة لازمة الاستيفاء
في نفسها مهمة في حد ذاتها، وإن كانت دون مصلحة الجهر والقصر، وإنما لم
يؤمر بها لاجل أنه أمر بما كانت واجدة لتلك المصلحة على النحو الأكمل والأتم.
326

وأما الحكم باستحقاق العقوبة مع التمكن من الإعادة فإنها بلا فائدة، إذ مع
استيفاء تلك المصلحة لا يبقى مجال لاستيفاء المصلحة التي كانت في المأمور بها، ولذا
لو أتى بها في موضع الآخر جهلا مع تمكنه من التعلم فقد قصر، ولو علم بعده
وقد وسع الوقت.
327

فانقدح أنه لا يتمكن من صلاة القصر صحيحة بعد فعل صلاة الاتمام، ولا
من الجهر كذلك بعد فعل صلاة الاخفات، وإن كان الوقت باقيا.
328

إن قلت: على هذا يكون كل منهما في موضع الآخر سببا لتفويت الواجب
فعلا، وما هو سبب لتفويت الواجب كذلك حرام، وحرمة العبادة موجبة لفسادها
بلا كلام.
قلت: ليس سببا لذلك، غايته أنه يكون مضادا له، وقد حققنا في
محله أن الضد وعدم ضده متلازمان ليس بينهما توقف أصلا.
لا يقال: على هذا فلو صلى تماما أو صلى إخفاتا - في موضع القصر والجهر
مع العلم بوجوبهما في موضعهما - لكانت صلاته صحيحة، وإن عوقب على مخالفة
الامر بالقصر أو الجهر.
فإنه يقال: لا بأس بالقول به لو دل دليل على أنها تكون مشتملة على المصلحة
329

ولو مع العلم، لاحتمال اختصاص أن يكون كذلك في صورة الجهل، ولا بعد
أصلا في اختلاف الحال فيها باختلاف حالتي العلم بوجوب شئ والجهل به، كما
لا يخفى. وقد صار بعض الفحول بصدد بيان إمكان كون المأتي في غير موضعه
مأمورا به بنحو الترتب، وقد حققناه في مبحث الضد امتناع الامر بالضدين مطلقا،
ولو بنحو الترتب، بما لا مزيد عليه فلا نعيد.
ثم إنه ذكر لأصل البراءة شرطان آخران:
أحدهما: أن لا يكون موجبا لثبوت حكم شرعي من جهة أخرى.
ثانيهما: أن لا يكون موجبا للضرر على آخر.
330

ولا يخفى أن أصالة البراءة عقلا ونقلا في الشبهة البدوية بعد الفحص لا محالة
تكون جارية، وعدم استحقاق العقوبة الثابت بالبراءة العقلية والإباحة أو رفع
التكليف الثابت بالبراءة النقلية، لو كان موضوعا لحكم شرعي أو ملازما له فلا
محيص عن ترتبه عليه بعد إحرازه، فإن لم يكن مترتبا عليه بل على نفي التكليف
واقعا، فهي وإن كانت جارية إلا أن ذاك الحكم لا يترتب، لعدم ثبوت ما يترتب
عليه بها، وهذا ليس بالاشتراط.
وأما اعتبار أن لا يكون موجبا للضرر، فكل مقام تعمه قاعدة نفي الضرر
وإن لم يكن مجال فيه لأصالة البراءة، كما هو حالها مع سائر القواعد الثابتة بالأدلة
الاجتهادية، إلا أنه حقيقة لا يبقى لها مورد، بداهة أن الدليل الاجتهادي يكون
بيانا وموجبا للعلم بالتكليف ولو ظاهرا، فإن كان المراد من الاشتراط ذلك، فلا بد من
اشتراط أن لا يكون على خلافها دليل اجتهادي، لا خصوص قاعدة الضرر،
فتدبر، والحمد لله على كل حال.
331

ثم إنه لا بأس بصرف الكلام إلى بيان قاعدة الضرر والضرار على نحو
الاقتصار، وتوضيح مدركها وشرح مفادها، وإيضاح نسبتها مع الأدلة المثبتة
للاحكام الثابتة للموضوعات بعناوينها الأولية أو الثانوية، وإن كانت أجنبية عن
مقاصد الرسالة، إجابة لالتماس بعض الأحبة، فأقول وبه أستعين:
إنه قد استدل عليها بأخبار كثيرة:
منها: موثقة زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام: (إن سمرة بن جندب كان
له عذق في حائط لرجل من الأنصار، وكان منزل الأنصاري بباب البستان، وكان
سمرة يمر إلى نخلته ولا يستأذن، فكله الأنصاري أن يستأذن إذا جاء فأبى، سمرة،
(1) سمرة بفتح الأول وضم الثاني وفتح الثالث، بن جندب بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال،
صحابي من بني شمخ بن فزارة، وكان من أشد الناس قسوة وعداوة لأهل البيت عليهم السلام
وشيعتهم، وكان لا يبالي بقتل الأبرياء وجعل الأكاذيب وتحريف الكلم عن مواضعه، وهو الذي
اخذ أربعمأة الف درهم من معاوية وحرف آيتين من الكتاب العزيز عن موضعهما، وهو الذي
قتل ثمانية آلاف من الشيعة في البصرة في سنة خمسين من الهجرة، وهلك سنة 58 أو 59 أو سنة
60 أو بعدها فان ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) قال: إن سمرة عاش حتى حضر
مقتل الحسين عليه السلام، وكان من شرطة ابن زياد ويحرض الناس إلى قتاله..
332

فجاء الأنصاري إلى النبي صلى الله عليه وآله فشكى إليه، فأخبر بالخبر، فأرسل
رسول الله وأخبره بقول الأنصاري وما شكاه، فقال: إذا أردت الدخول فاستأذن،
فأبى، فلما أبى فساومه حتى بلغ من الثمن ما شاء الله، فأبى أن يبيعه، فقال: لك
بها عذق في الجنة، فأبى أن يقبل، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله للأنصاري:
اذهب فاقلعها وارم بها إليه، فإنه لا ضرر ولا ضرار).
وفي رواية الحذاء عن أبي جعفر عليه السلام مثل ذلك، إلا أنه فيها بعد
الاباء (ما أراك يا سمرة إلا مضارا، إذهب يا فلان فاقلعها وارم بها وجهه) إلى غير
ذلك من الروايات الواردة في قصة سمرة وغيرها. وهي كثيرة وقد
ادعي تواترها، مع اختلافها لفظا وموردا، فليكن المراد به تواترها إجمالا، بمعنى
(1) فروع الكافي ج 1 ص 414 بحار الأنوار ج 22 ص 135 ط بيروت.
333

القطع بصدور بعضها، والانصاف أنه ليس في دعوى التواتر كذلك جزاف، وهذا
مع استناد المشهور إليها موجب لكمال الوثوق بها وانجبار ضعفها، مع أن بعضها
موثقة، فلا مجال للاشكال فيها من جهة سندها، كما لا يخفى.
وأما دلالتها، فالظاهر أن الضرر هو ما يقابل النفع، من النقص في النفس أو
الطرف أو العرض أو المال، تقابل العدم الملكة، كما أن الأظهر أن يكون الضرار
بمعنى الضرر جئ به تأكيدا، كما يشهد به إطلاق المضار على سمرة، وحكي عن
النهاية لا فعل الاثنين، وإن كان هو الأصل في باب المفاعلة، ولا الجزاء على
الضرر لعدم تعاهده من باب المفاعلة، وبالجملة لم يثبت له معنى آخر غير الضرر.
كما أن الظاهر أن يكون (لا) لنفي الحقيقة، كما هو الأصل في هذا التركيب
حقيقة أو ادعاء، كناية عن نفي الآثار، كما هو الظاهر من مثل: (لا صلاة لجار
المسجد إلا في المسجد) و (يا أشباه الرجال ولا رجال) فإن قضية البلاغة في
الكلام هو إرادة نفي الحقيقة ادعاء، لا نفي الحكم أو الصفة، كما لا يخفى.
334

ونفي الحقيقة ادعاء بلحاظ الحكم أو الصفة غير نفي أحدهما ابتداء مجازا في
التقدير أو في الكلمة، مما لا يخفى على من له معرفة بالبلاغة.
وقد انقدح بذلك بعد إرادة نفي الحكم الضرري، أو الضرر الغير
المتدارك، أو إرادة النهي من النفي جدا، ضرورة بشاعة استعمال الضرر
وإرادة خصوص سبب من أسبابه، أو خصوص الغير المتدارك منه، ومثله لو أريد
ذاك بنحو التقييد، فإنه وإن لم يكن ببعيد، إلا أنه بلا دلالة عليه غير سديد، وإرادة
النهي من النفي وإن كان ليس بعزيز، إلا أنه لم يعهد من مثل هذا التركيب، وعدم
إمكان إرادة نفي الحقيقة حقيقة لا يكاد يكون قرينة على إرادة واحد منها، بعد
إمكان حمله على نفيها ادعاء، بل كان هو الغالب في موارد استعماله.
ثم الحكم الذي أريد نفيه بنفي الضرر هو الحكم الثابت للأفعال
بعناوينها، أو المتوهم ثبوته لها كذلك في حال الضرر لا الثابت له بعنوانه، لوضوح
(1) هذا الوجه حكاه الشيخ في رسالته المطبوعة في ملحقات المكاسب عن بعض الفحول ولم يسمه.
335

أنه العلة للنفي، ولا يكاد يكون الموضوع يمنع عن حكمه وينفيه بل يثبته ويقتضيه.
ومن هنا لا يلاحظ النسبة بين أدلة نفيه وأدلة الاحكام، وتقدم أدلته على
أدلتها - مع أنها عموم من وجه - حيث أنه يوفق بينهما عرفا، بأن الثابت للعناوين
الأولية اقتضائي، يمنع عنه فعلا ما عرض عليها من عنوان الضرر بأدلته، كما هو
الحال في التوفيق بين سائر الأدلة المثبتة أو النافية لحكم الأفعال بعناوينها الثانوية،
والأدلة المتكفلة لحكمها بعناوينها الأولية.
نعم ربما يعكس الامر فيما أحرز بوجه معتبر أن الحكم في المورد ليس بنحو
الاقتضاء، بل بنحو العلية التامة.
(1) وسائل الشيعة ج 3 أبواب احكام المساجد الباب الثاني الحديث الأول عن البني صلى الله عليه وآله أنه قال
: لا صلاة لجار المسجد الا في مسجده.
(2) نهج البلاغة خطبة 27.
336

وبالجملة الحكم الثابت بعنوان أولي:
تارة يكون بنحو الفعلية مطلقا، أو بالإضافة إلى عارض دون عارض،
بدلالة لا يجوز الاغماض عنها بسبب دليل حكم العارض المخالف له، فيقدم دليل
ذاك العنوان على دليله.
وأخرى يكون على نحو لو كانت هناك دلالة للزم الاغماض عنها بسببه عرفا،
حيث كان اجتماعهما قرينة على أنه بمجرد المقتضي، وأن العارض مانع فعلي، هذا
ولو لم نقل بحكومة دليله على دليله، لعدم ثبوت نظره إلى مدلوله، كما قيل.
ثم انقدح بذلك حال توارد دليلي العارضين، كدليل نفي العسر ودليل نفي
الضرر مثلا، فيعامل معهما معاملة المتعارضين لو لم يكن من باب تزاحم المقتضيين،
وإلا فيقدم ما كان مقتضيه أقوى وإن كان دليل الآخر أرجح وأولى، ولا يبعد أن
الغالب في توارد العارضين أن يكون من ذاك الباب، بثبوت المقتضي فيهما مع
تواردهما، لا من باب التعارض، لعدم ثبوته إلا في أحدهما، كما لا يخفى، هذا
حال تعارض الضرر مع عنوان أولي أو ثانوي آخر.
337

وأما لو تعارض مع ضرر آخر، فمجمل القول فيه أن الدوران إن كان بين
ضرري شخص واحد أو اثنين، فلا مسرح إلا لاختيار أقلهما لو كان، وإلا فهو
مختار.
وأما لو كان بين ضرر نفسه وضرر غيره، فالأظهر عدم لزوم تحمله الضرر،
ولو كان ضرر الآخر أكثر، فإن نفيه يكون للمنة على الأمة، ولا منة على تحمل
الضرر، لدفعه عن الآخر وإن كان أكثر.
نعم لو كان الضرر متوجها إليه، ليس له دفعه عن نفسه بإيراده على الآخر،
اللهم إلا أن يقال: إن نفي الضرر وإن كان للمنة، إلا أنه بلحاظ نوع الأمة،
واختيار الأقل بلحاظ النوع منة، فتأمل.
338

فصل
في الاستصحاب: وفي حجيته إثباتا ونفيا أقوال للأصحاب.
ولا يخفى أن عباراتهم في تعريفه وإن كانت شتى، إلا أنها تشير إلى مفهوم
واحد ومعنى فارد، وهو الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه:
إما من جهة بناء العقلاء على ذلك في أحكامهم العرفية مطلقا، أو في الجملة
339

تعبدا، أو للظن به الناشئ عن ملاحظة ثبوته سابقا.
وإما من جهة دلالة النص أو دعوى الاجماع عليه كذلك، حسبما تأتي الإشارة
إلى ذلك مفصلا.
ولا يخفى أن هذا المعنى هو القابل لان يقع فيه النزاع والخلاف في نفيه وإثباته
مطلقا أو في الجملة، وفي وجه ثبوته، على أقوال.
ضرورة أنه لو كان الاستصحاب هو نفس بناء العقلاء على البقاء أو الظن به
الناشئ مع العلم بثبوته، لما تقابل فيه الأقوال، ولما كان النفي والاثبات واردين
على مورد واحد بل موردين، وتعريفه بما ينطبق على بعضها، وإن كان ربما يوهم أن
لا يكون هو الحكم بالبقاء بل ذاك الوجه، إلا أنه حيث لم يكن بحد ولا برسم بل من
قبيل شرح الاسم، كما هو الحال في التعريفات غالبا، لم يكن له دلالة على أنه نفس
الوجه، بل للإشارة إليه من هذا الوجه، ولذا لا وقع للاشكال على ما ذكر في تعريفه
بعدم الطرد أو العكس، فإنه لم يكن به إذا لم يكن بالحد أو الرسم بأس.
فانقدح أن ذكر تعريفات القوم له، وما ذكر فيها من الاشكال، بلا حاصل
وطول بلا طائل.
ثم لا يخفى أن البحث في حجيته مسألة أصولية، حيث يبحث فيها لتمهيد
قاعدة تقع في طريق استنباط الأحكام الفرعية، وليس مفادها حكم العمل بلا
واسطة، وإن كان ينتهي إليه، كيف؟ وربما لا يكون مجرى الاستصحاب إلا حكما
340

أصوليا كالحجية مثلا، هذا لو كان الاستصحاب عبارة عما ذكرنا.
وأما لو كان عبارة عن بناء العقلاء على بقاء ما علم ثبوته، أو الظن به الناشئ
من ملاحظة ثبوته، فلا إشكال في كونه مسألة أصولية.
وكيف كان، فقد ظهر مما ذكرنا في تعريفه اعتبار أمرين في مورده: القطع
بثبوت شئ، والشك في بقائه، ولا يكاد يكون الشك في البقاء إلا مع اتحاد القضية
المشكوكة والمتيقنة بحسب الموضوع والمحمول، وهذا مما لا غبار عليه في
الموضوعات الخارجية في الجملة.
341

وأما الأحكام الشرعية سواء كان مدركها العقل أم النقل، فيشكل حصوله
فيها، لأنه لا يكاد يشك في بقاء الحكم إلا من جهة الشك في بقاء موضوعه، بسبب
تغير بعض ما هو عليه مما احتمل دخله فيه حدوثا أو بقاء، وإلا لما تخلف الحكم
عن موضوعه إلا بنحو البداء بالمعنى المستحيل في حقه تعالى، ولذا كان النسخ
بحسب الحقيقة دفعا لا رفعا.
ويندفع هذا الاشكال، بأن الاتحاد في القضيتين بحسبهما، وإن كان مما لا
محيص عنه في جريانه، إلا أنه لما كان الاتحاد بحسب نظر العرف كافيا في تحققه وفي
صدق الحكم ببقاء ما شك في بقائه، وكان بعض ما عليه الموضوع من الخصوصيات
التي يقطع معها بثبوت الحكم له، مما يعد بالنظر العرفي من حالاته - وإن كان واقعا
من قيوده ومقوماته - كان جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية الثابتة
342

لموضوعاتها عند الشك فيها - لاجل طروء انتفاء بعض ما احتمل دخله فيها، مما عد
من حالاتها لا من مقوماتها، بمكان من الامكان، ضرورة [صحة] إمكان دعوى
بناء العقلاء على البقاء تعبدا، أو لكونه مظنونا ولو نوعا، أو دعوى دلالة النص أو
قيام الاجماع عليه قطعا، بلا تفاوت في ذلك بين كون دليل الحكم نقلا أو عقلا.
أما الأول فواضح، وأما الثاني، فلان الحكم الشرعي المستكشف به عند
طروء انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه، مما لا يرى مقوما له، كان مشكوك البقاء
عرفا، لاحتمال عدم دخله فيه واقعا، وإن كان لا حكم للعقل بدونه قطعا.
إن قلت: كيف هذا؟ مع الملازمة بين الحكمين.
قلت: ذلك لان الملازمة إنما تكون في مقام الاثبات والاستكشاف لا في مقام
الثبوت، فعدم استقلال العقل إلا في حال غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك
الحال، وذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة
التي هي ملاك حكم العقل، كان على حاله في كلتا الحالتين، وإن لم يدركه إلا في
343

إحداهما، لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه، أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر.
بلا دخل لها فيه أصلا، وإن كان لها دخل فيما اطلع عليه من الملاك.
وبالجملة: حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا، لا ما هو
مناط حكمه فعلا، وموضوع حكمه كذلك مما لا يكاد يتطرق إليه الاهمال
والاجمال، مع تطرقه إلى ما هو موضوع حكمه شأنا، وهو ما قام به ملاك حكمه
واقعا، فرب خصوصية لها دخل في استقلاله مع احتمال عدم دخله، فبدونها لا
استقلال له بشئ قطعا، مع احتمال بقاء ملاكه واقعا. ومعه يحتمل بقاء حكم
الشرع جدا لدورانه معه وجودا وعدما، فافهم وتأمل جيدا.
ثم إنه لا يخفى اختلاف آراء الأصحاب في حجية الاستصحاب مطلقا،
وعدم حجيته كذلك، والتفصيل بين الموضوعات والاحكام، أو بين ما كان الشك
في الرافع وما كان في المقتضي، إلى غير ذلك من التفاصيل الكثيرة، على أقوال شتى
لا يهمنا نقلها ونقل ما ذكر من الاستدلال عليها، وإنما المهم الاستدلال على ما هو
المختار منها، وهو الحجية مطلقا، على نحو يظهر بطلان سائرها، فقد استدل عليه
بوجوه:
الوجه الأول: استقرار بناء العقلاء من الانسان بل ذوي الشعور من
كافة أنواع الحيوان على العمل على طبق الحالة السابقة، وحيث لم يردع عنه
الشارع كان ماضيا.
344

وفيه: أولا منع استقرار بنائهم على ذلك تعبدا، بل إما رجاء واحتياطا، أو
اطمئنانا بالبقاء، أو ظنا ولو نوعا، أو غفلة كما هو الحال في سائر الحيوانات دائما وفي
الانسان أحيانا.
وثانيا: سلمنا ذلك لكنه لم يعلم أن الشارع به راض وهو عنده ماض،
ويكفي في الردع عن مثله ما دل من الكتاب والسنة على النهي عن اتباع غير العلم،
وما دل على البراءة أو الاحتياط في الشبهات، فلا وجه لاتباع هذا البناء فيما لا بد في
اتباعه من الدلالة على إمضائه، فتأمل جيدا.
الوجه الثاني: إن الثبوت في السابق موجب للظن به في اللاحق.
وفيه: منع اقتضاء مجرد الثبوت للظن بالبقاء فعلا ولا نوعا، فإنه لا وجه له
أصلا إلا كون الغالب فيما ثبت أن يدوم مع إمكان أن لا يدوم، وهو غير معلوم، ولو
سلم، فلا دليل على اعتباره بالخصوص، مع نهوض الحجة على عدم اعتباره
بالعموم.
345

الوجه الثالث: د عوى الاجماع عليه، كما عن المبادئ حيث قال:
الاستصحاب حجة، لاجماع الفقهاء على أنه متى حصل حكم، ثم وقع
الشك في أنه طرأ ما يزيله أم لا؟ وجب الحكم ببقائه على ما كان أولا، ولولا القول
بأن الاستصحاب حجة، لكان ترجيحا لاحد طرفي الممكن من غير مرجح،
انتهى. وقد نقل عن غيره أيضا.
وفيه: إن تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة مما له مبان مختلفة في غاية
الاشكال، ولو مع الاتفاق، فضلا عما إذا لم يكن وكان مع الخلاف من المعظم،
حيث ذهبوا إلى عدم حجيته مطلقا أو في الجملة، ونقله موهون جدا لذلك، ولو
قيل بحجيته لولا ذلك.
الوجه الرابع: وهو العمدة في الباب، الأخبار المستفيضة.
346

منها: صحيحة زرارة (قال: قلت له: الرجل ينام وهو على وضوء،
أيوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال: يا زرارة، قد تنام العين ولا ينام
القلب والاذن، وإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء، قلت: فإن
حرك في جنبه شئ وهو لا يعلم، قال: لا، حتى يستيقن أنه قد نام، حتى يجئ
من ذلك أمر بين، وإلا فإنه على يقين من وضوئه، ولا ينقض اليقين أبدا بالشك،
ولكنه ينقضه بيقين آخر).
وهذه الرواية وإن كانت مضمرة إلا أن إضمارها لا يضر باعتبارها، حيث
كان مضمرها مثل زرارة، وهو ممن لا يكاد يستفتي من غير الامام - عليه السلام - لا
سيما مع هذا الاهتمام.
(1) التهذيب ج 1 ص 3 وسائل الشيعة ج 1 ص 174 ط بيروت *.
347

وتقريب الاستدلال بها أنه لا ريب في ظهور قوله عليه السلام: (وإلا فإنه
على يقين.. إلى آخره) عرفا في النهي عن نقض اليقين بشئ بالشك فيه، وأنه
عليه السلام بصدد بيان ما هو علة الجزاء المستفاد من قوله عليه السلام: (لا) في
جواب: (فإن حرك في جنبه.. إلى آخره)، وهو اندراج اليقين والشك في مورد
السؤال في القضية الكلية الارتكازية الغير المختصة بباب دون باب، واحتمال أن
يكون الجزاء هو قوله: (فإنه على يقين.. إلى آخره) غير سديد، فإنه لا يصح
إلا بإرادة لزوم العمل على طبق يقينه، وهو إلى الغاية بعيد، وأبعد منه كون الجزاء
قوله: (لا ينقض.. إلى آخره) وقد ذكر: (فإنه على يقين) للتمهيد.
وقد انقدح بما ذكرنا ضعف احتمال اختصاص قضية: (لا ينقض.. إلى
آخره) باليقين والشك بباب الوضوء جدا، فإنه ينافيه ظهور التعليل في أنه بأمر
ارتكازي لا تعبدي قطعا، ويؤيده تعليل الحكم بالمضي مع الشك في غير الوضوء في
348

غير هذه الرواية بهذه القضية أو ما يرادفها، فتأمل جيدا.
هذا مع أنه لا موجب لاحتماله إلا احتمال كون اللام في اليقين للعهد،
إشارة إلى اليقين في (فإنه على يقين من وضوئه) مع أن الظاهر أنه للجنس، كما هو
الأصل فيه، وسبق: (فإنه على يقين... إلى آخره) لا يكون قرينة على، مع
كمال الملاءمة مع الجنس أيضا، فافهم.
مع أنه غير ظاهر في اليقين بالوضوء، لقوة احتمال أن يكون (من وضوئه)
متعلقا بالظرف لا ب‍ (يقين)، وكان المعنى: فإنه كان من طرف وضوئه على يقين،
وعليه لا يكون الأوسط إلا اليقين، لا اليقين بالوضوء، كما لا يخفى على المتأمل.
349

وبالجملة: لا يكاد يشك في ظهور القضية في عموم اليقين والشك،
خصوصا بعد ملاحظة تطبيقها في الاخبار على غير الوضوء أيضا.
ثم لا يخفى حسن اسناد النقض - وهو ضد الابرام - إلى اليقين، ولو كان
متعلقا بما ليس فيه اقتضاء للبقاء والاستمرار، لما يتخيل فيه من الاستحكام بخلاف
الظن، فإنه يظن أنه ليس فيه إبرام واستحكام وإن كان متعلقا بما فيه اقتضاء ذلك،
وإلا لصح إن يسند إلى نفس ما فيه المقتضي له، مع ركاكة مثل (نقضت الحجر من
مكانه) ولما صح أن يقال: (انتقض اليقين باشتعال السراج) فيما إذا شك في
بقائه للشك في استعداده، مع بداهة صحته وحسنه.
(1) اعلم أن الاتحاد المبحوث عنه في المقام غير اتحاد القضيتين الذي ذكرناه سابقا، وذلك لان
الاتحاد المبحوث عنه هنا هو اتحاد ظرف الشك واليقين لصحة اسناد النقض إلى اليقين، بخلافه
هناك فإنه عبارة عن اتحاد متعلق اليقين والشك موضوعا ومحمولا كقضية نجاسة الثوب مثلا التي
تقع متعلقة لليقين فإنه يشترط ان تكون بعينها متعلقة للشك من غير تغير فيها لا موضوعا ولا
محمولا، واشتراط ذلك هناك انما يكون لصدق البقاء، وبالجملة الاتحاد هنا هو الاتحاد في زمان
الشك واليقين لصحة اسناد النقض إلى اليقين، وهذا انما يشترط على القول باسناد النقض
إلى اليقين، واما على القول باسناده إلى المتيقن فلا، واما الاتحاد هناك فهو عبارة عن اتحاد
متعلقهما لصدق البقاء، وذلك الاشتراط في جريان الاستصحاب يكون مطلقا سواء أقلنا باسناد
النقض إلى اليقين أم إلى المتيقن، فافهم، منه قدس سره.
350

قلت: الظاهر أن وجه الاسناد هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين والشك
ذاتا، وعدم ملاحظة تعددهما زمانا، وهو كاف عرفا في صحة إسناد النقض إليه
واستعارته له، بلا تفاوت في ذلك أصلا في نظر أهل العرف، بين ما كان هناك
اقتضاء البقاء وما لم يكن، وكونه مع المقتضي أقرب بالانتقاض وأشبه لا يقتضي
تعيينه لاجل قاعدة (إذا تعذرت الحقيقة)، فإن الاعتبار في الأقربية إنما هو بنظر
العرف لا الاعتبار، وقد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهله، هذا كله في
المادة.
وأما الهيئة، فلا محالة يكون المراد منها النهي عن الانتقاض بحسب البناء
والعمل لا الحقيقة، لعدم كون الانتقاض بحسبها تحت الاختيار، سواء كان
متعلقا باليقين - كما هو ظاهر القضية - أو بالمتيقن، أو بآثار اليقين بناء على
التصرف فيها بالتجوز أو الاضمار، بداهة أنه كما لا يتعلق النقض الاختياري
القابل لورود النهي عليه بنفس اليقين، كذلك لا يتعلق بما كان على يقين منه أو
أحكام اليقين، فلا يكاد يجدي التصرف بذلك في بقاء الصيغة على حقيقتها،
فلا مجوز له فضلا عن الملزم، كما توهم.
352

لا يقال: لا محيص عنه، فإن النهي عن النقض بحسب العمل لا يكاد
يراد بالنسبة إلى اليقين وآثاره، لمنافاته مع المورد.
فإنه يقال: إنما يلزم لو كان اليقين ملحوظا بنفسه وبالنظر الاستقلالي،
لا ما إذا كان ملحوظا بنحو المرآتية بالنظر الآلي، كما هو الظاهر في مثل قضية
(لا تنقض اليقين) حيث تكون ظاهرة عرفا في أنها كناية عن لزوم البناء
والعمل، بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما، ولحكمه إذا كان
موضوعا، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل
لحكمه شرعا، وذلك لسراية الآلية والمرآتية من اليقين الخارجي إلى مفهومه
الكلي، فيؤخذ في موضوع الحكم في مقام بيان حكمه، مع عدم دخله فيه
أصلا، كما ربما يؤخذ فيما له دخل فيه، أو تمام الدخل، فافهم.
353

ثم إنه حيث كان كل من الحكم الشرعي وموضوعه مع الشك قابلا
للتنزيل بلا تصرف وتأويل، غاية الامر تنزيل الموضوع بجعل مماثل حكمه،
وتنزيل الحكم بجعل مثله - كما أشير إليه آنفا - كان قضية (لا تنقض) ظاهرة في
اعتبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية والموضوعية، واختصاص المورد
بالأخيرة لا يوجب تخصيصها بها، خصوصا بعد ملاحظة أنها قضية كلية
ارتكازية، قد أتي بها في غير مورد لاجل الاستدلال بها على حكم المورد،
فتأمل.
354

ومنها: صحيحة أخرى لزرارة: (قال: قلت له: أصاب ثوبي دم
رعاف أو غيره أو شئ من المني، فعلمت أثره إلى أن أصيب له الماء،
فحضرت الصلاة، ونسيت أن بثوبي شيئا وصليت، ثم أني ذكرت بعد ذلك،
قال: تعيد الصلاة وتغسله، قلت: فان لم أكن رأيت موضعه، وعلمت أنه
قد أصابه، فطلبته ولم أقدر عليه، فلما صليت وجدته، قال عليه السلام:
تغسله وتعيد، قلت: فإن ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك، فنظرت فلم أر
شيئا فصليت، فرأيت فيه، قال: تغسله ولا تعيد الصلاة، قلت: لم ذلك؟
قال: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت، فليس ينبغي لك أن تنقض
اليقين بالشك أبدا، قلت: فإني قد علمت أنه قد أصابه، ولم أدر أين هو،
فأغسله؟ قال: تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها، حتى تكون
على يقين من طهارتك، قلت: فهل علي إن شككت في أنه أصابه شئ أن
أنظر فيه؟ قال: لا ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك،
355

قلت: إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة، قال: تنقض الصلاة وتعيد، إذا
شككت في موضع منه ثم رأيته، وإن لم تشك ثم رأيته رطبا، قطعت الصلاة
وغسلته، ثم بنيت على الصلاة، لأنك لا تدري لعله شئ أوقع عليك،
فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك).
وقد ظهر مما ذكرنا في الصحيحة الأولى تقريب الاستدلال بقوله: (فليس
ينبغي أن تنقض اليقين بالشك) في كلا الموردين، ولا نعيد.
نعم دلالته في المورد الأول على الاستصحاب مبني على أن يكون المراد من
اليقين في قوله عليه السلام: (لأنك كنت على يقين من طهارتك) اليقين
(1) التهذيب باب زيادات تطهير البدن والثياب تحت رقم 8.
وهذا الحديث مروي في العلل لابن بابويه بطريق حسن، وصرح فيه باسم الامام المروي
عنه، وهذه صورة اسناده هناك: أبي رحمه الله قال: حدثنا علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد عن حريز، عن زرارة، قال: قلت لابي جعفر عليه السلام وذكر الحديث بطوله، وفي متنه نوع
مخالفة لا تغير المعنى.
356

بالطهارة قبل ظن الإصابة كما هو الظاهر، فإنه لو كان المراد منه اليقين الحاصل
بالنظر والفحص بعده الزائل بالرؤية بعد الصلاة، كان مفاده قاعدة اليقين،
كما لا يخفى.
ثم إنه أشكل على الرواية، بأن الإعادة بعد انكشاف وقوع الصلاة
[في النجاسة] ليست نقضا لليقين بالطهارة بالشك فيها، بل باليقين
بارتفاعها، فكيف يصح أن يعلل عدم الإعادة بأنها نقض اليقين بالشك؟
نعم إنما يصح أن يعلل به جواز الدخول في الصلاة، كما لا يخفى، ولا
يكاد يمكن التفصي عن هذا الاشكال إلا بأن يقال: إن الشرط في الصلاة فعلا
357

حين الالتفات إلى الطهارة هو إحرازها، ولو بأصل أو قاعدة لا نفسها، فيكون
قضية استصحاب الطهارة حال الصلاة عدم إعادتها ولو انكشف وقوعها في
النجاسة بعدها، كما أن إعادتها بعد الكشف يكشف عن جواز النقض وعدم
حجية الاستصحاب حالها، كما لا يخفى، فتأمل جيدا.
لا يقال: لا مجال حينئذ لاستصحاب الطهارة فإنها إذا لم تكن شرطا لم
تكن موضوعة لحكم مع أنها ليست بحكم، ولا محيص في الاستصحاب عن
كون المستصحب حكما أو موضوعا لحكم.
358

فإنه يقال: إن الطهارة وإن لم تكن شرطا فعلا، إلا أنها غير منعزلة عن
الشرطية رأسا، بل هي شرط واقعي اقتضائي، كما هو قضية التوفيق بين بعض
الاطلاقات ومثل هذا الخطاب، هذا مع كفاية كونها من قيود الشرط، حيث
أنه كان إحرازها بخصوصها لا غيرها شرطا.
لا يقال: سلمنا ذلك، لكن قضيته أن يكون علة عدم الإعادة حينئذ،
بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجاسة، هو إحراز الطهارة حالها باستصحابها،
لا الطهارة المحرزة بالاستصحاب، مع أن قضية التعليل أن تكون العلة له هي
نفسها لا إحرازها، ضرورة أن نتيجة قوله: (لأنك كنت على يقين... إلى
آخره)، أنه على الطهارة لا أنه مستصحبها، كما لا يخفى.
359

فإنه يقال: نعم، ولكن التعليل إنما هو بلحاظ حال قبل انكشاف
الحال، لنكتة التنبيه على حجية الاستصحاب، وأنه كان هناك استصحاب مع
وضوح استلزام ذلك لان يكون المجدي بعد الانكشاف، هو ذلك الاستصحاب
لا الطهارة، وإلا لما كانت الإعادة نقضا، كما عرفت في الاشكال.
ثم إنه لا يكاد يصح التعليل، لو قيل باقتضاء الامر الظاهري للاجزاء،
كما قيل، ضرورة أن العلة عليه إنما هو اقتضاء ذاك الخطاب الظاهري حال
الصلاة للاجزاء وعدم إعادتها، لا لزوم النقض من الإعادة كما لا يخفى،
اللهم إلا أن يقال: إن التعليل به إنما هو بملاحظة ضميمة اقتضاء الامر
الظاهري للاجزاء، بتقريب أن الإعادة لو قيل بوجوبها كانت موجبة لنقض
اليقين بالشك في الطهارة قبل الانكشاف وعدم حرمته شرعا، وإلا للزم عدم
اقتضاء ذاك الامر له، كما لا يخفى مع اقتضائه شرعا أو عقلا، فتأمل.
360

ولعل ذلك مراد من قال بدلالة الرواية على إجزاء الامر الظاهري.
هذا غاية ما يمكن أن يقال في توجيه التعليل، مع أنه لا يكاد يوجب
الاشكال فيه - والعجز عن التفصي عنه - إشكالا في دلالة الرواية على
الاستصحاب، فإنه لازم على كل حال، كان مفاده قاعدته أو قاعدة اليقين،
مع بداهة عدم خروجه منهما، فتأمل جيدا.
361

ومنها: صحيحة ثالثة لزرارة: (وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في
أرفع، وقد أحرز الثلاث، قال فأضاف إليها أخرى ولا شئ عليه، ولا ينقض
اليقين بالشك، ولا يدخل الشك في اليقين، ولا يخلط أحدهما بالآخر، ولكنه
ينقض الشك باليقين، ويتم على اليقين فيبني عليه، ولا يعتد بالشك في حال
من الحالات).
والاستدلال بها على الاستصحاب مبني على إرادة اليقين بعدم الاتيان
بالركعة الرابعة سابقا والشك في إتيانها.
وقد أشكل بعدم إمكان إرادة ذلك على مذهب الخاصة، ضرورة أن
قضيته إضافة ركعة أخرى موصولة، والمذهب قد استقر على إضافة ركعة بعد
362

التسليم مفصولة، وعلى هذا يكون المراد باليقين اليقين بالفراغ، بما علمه
الإمام عليه السلام من الاحتياط بالبناء على الأكثر، والاتيان بالمشكوك بعد
التسليم مفصولة.
ويمكن ذبه بأن الاحتياط كذلك لا يأبى عن إرادة اليقين بعدم
الركعة المشكوكة، بل كان أصل الاتيان بها باقتضائه، غاية الامر إتيانها
مفصولة ينافي إطلاق النقض، وقد قام الدليل على التقييد في الشك في الرابعة
وغيره، وأن المشكوكة لا بد أن يؤتى بها مفصولة، فافهم.
وربما أشكل أيضا، بأنه لو سلم دلالتها على الاستصحاب كانت من
الاخبار الخاصة الدالة عليه في خصوص المورد، لا العامة لغير مورد، ضرورة
ظهور الفقرات في كونها مبنية للفاعل، ومرجع الضمير فيها هو المصلي الشاك.
وإلغاء خصوصية المورد ليس بذاك الوضوح، وإن كان يؤيده تطبيق
قضية (لا تنقض اليقين) وما يقاربها على غير مورد.
بل دعوى أن الظاهر من نفس القضية هو أن مناط حرمة النقض إنما
يكون لاجل ما في اليقين والشك، لا لما في المورد من الخصوصية، وإن مثل
اليقين لا ينقض بمثل الشك، غير بعيدة.
ومنها قوله: (من كان على يقين فأصابه شك فليمض على
يقينه، فإن الشك لا ينقض اليقين) أو (فإن اليقين لا يدفع بالشك) وهو
وإن كان يحتمل قاعدة اليقين لظهوره في اختلاف زمان الوصفين، وإنما يكون
363

ذلك في القاعدة دون الاستصحاب ضرورة إمكان اتحاد زمانهما، إلا أن المتداول
في التعبير عن مورده هو مثل هذه العبارة، ولعله بملاحظة اختلاف زمان
الموصوفين وسرايته إلى الوصفين، لما بين اليقين والمتيقن من نحو من الاتحاد،
فافهم.
هذا مع وضوح أن قوله: (فإن الشك لا ينقض.. إلى آخره). هي
القضية المرتكزة الواردة مورد الاستصحاب في غير واحد من أخبار الباب.
ومنها: خبر الصفار، عن علي بن محمد القاساني، (قال: كتبت
إليه - وأنا بالمدينة - عن اليوم الذي يشك فيه من رمضان، هل يصام أم لا؟
فكتب: اليقين لا يدخل فيه الشك، صم للرؤية وافطر للرؤية) حيث دل
364

على أن اليقين ب‍ (شعبان) (4) لا يكون مدخولا بالشك في بقائه وزواله بدخول
شهر رمضان، ويتفرع [عليه] عدم وجوب الصوم إلا بدخول شهر
رمضان.
وربما يقال: إن مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشك يشرف القطع بأن
المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان، وأنه لا بد في وجوب الصوم
ووجوب الافطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه، وأين هذا من
الاستصحاب؟ فراجع ما عقد في الوسائل لذلك من الباب تجده شاهدا عليه
ومنها: قوله عليه السلام: (كل شئ طاهر حتى تعلم أنه
قذر) وقوله عليه السلام: (الماء كله طاهر حتى تعلم أنه نجس) وقوله
عليه السلام: (كل شئ حلال حتى تعرف أنه حرام) وتقريب دلالة مثل
365

هذا الاخبار على الاستصحاب أن يقال: إن الغاية فيها إنما هو لبيان استمرار ما
حكم على الموضوع واقعا من الطهارة والحلية ظاهرا، ما لم يعلم بطروء ضده أو
نقيضه، لا لتحديد الموضوع، كي يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شك في
طهارته أو حليته، وذلك لظهور المغيى فيها في بيان الحكم للأشياء بعناوينها،
لا بما هي مشكوكة الحكم، كما لا يخفى.
فهو وإن لم يكن له بنفسه مساس بذيل القاعدة ولا الاستصحاب إلا أنه
بغايته دل على الاستصحاب، حيث أنها ظاهرة في استمرار ذاك الحكم الواقعي
ظاهرا ما لم يعلم بطروء ضده أو نقيضه، كما أنه لو صار مغيى لغاية، مثل
الملاقاة بالنجاسة أو ما يوجب الحرمة، لدل على استمرار ذاك الحكم واقعا، ولم
366

يكن له حينئذ بنفسه ولا بغايته دلالة على الاستصحاب، لا يخفى أنه لا يلزم
على ذلك استعمال اللفظ في معنيين أصلا، وإنما يلزم لو جعلت الغاية مع كونها
من حدود الموضوع وقيوده غاية لاستمرار حكمه، ليدل على القاعدة
والاستصحاب من غير تعرض لبيان الحكم الواقعي للأشياء أصلا، مع وضوح
ظهور مثل (كل شئ حلال، أو طاهر) في أنه لبيان حكم الأشياء بعناوينها
الأولية، وهكذا (الماء كله طاهر)، وظهور الغاية في كونها حدا للحكم لا
لموضوعه، كما لا يخفى، فتأمل جيدا.
ولا يذهب عليك انه بضميمة عدم القول بالفصل قطعا بين الحلية
والطهارة وبين سائر الاحكام، لعم الدليل وتم.
367

ثم لا يخفى أن ذيل موثقة عمار: (فإذا علمت فقد قذر، وما لم
تعلم فليس عليك) يؤيد ما استظهرنا منها، من كون الحكم المغيى واقعيا ثابتا
للشئ بعنوانه، لا ظاهريا ثابتا له بما هو مشتبه، لظهوره في أنه متفرع على
الغاية وحدها، وأنه بيان لها وحدها، منطوقها ومفهومها، لا لها مع المغيى،
كما لا يخفى على المتأمل.
ثم إنك إذا حققت ما تلونا عليك مما هو مفاد الاخبار، فلا حاجة في
إطالة الكلام في بيان سائر الأقوال، والنقض والابرام فيما ذكر لها من
الاستدلال.
368

ولا بأس بصرفه إلى تحقيق حال الوضع، وأنه حكم مستقل بالجعل
كالتكليف، أو منتزع عنه وتابع له في الجعل، أو فيه تفصيل، حتى يظهر حال
ما ذكر ها هنا بين التكليف والوضع من التفصيل.
فنقول وبالله الاستعانة:
لا خلاف كما لا إشكال في اختلاف التكليف والوضح مفهوما،
واختلافهما في الجملة موردا، لبداهة ما بين مفهوم السببية أو الشرطية ومفهوم
مثل الايجاب أو الاستحباب من المخالفة والمباينة.
كما لا ينبغي النزاع في صحة تقسيم الحكم الشرعي إلى التكليفي
والوضعي، بداهة أن الحكم وإن يصح تقسيمه إليهما ببعض معانيه ولم يكد
يصح إطلاقه على الوضع، إلا أن صحة تقسيمه بالبعض الآخر إليهما وصحة
إطلاقه عليه بهذا المعنى، مما لا يكاد ينكر، كمالا يخفى، ويشهد به كثرة
إطلاق الحكم عليه في كلماتهم، والالتزام بالتجوز فيه، كما ترى.
وكذا لا وقع للنزاع في أنه محصور في أمور مخصوصة، كالشرطية والسببية
والمانعية - كما هو المحكي عن العلامة - أو مع زيادة العلية والعلامية، أو مع زيادة
الصحة والبطلان، والعزيمة والرخصة، أو زيادة غير ذلك - كما هو المحكي عن
غيره - أو ليس بمحصور، بل كلما ليس بتكليف مما له دخل فيه أو في متعلقه
وموضوعه، أو لم يكن له دخل مما أطلق عليه الحكم في كلماتهم، ضرورة أنه
369

لا وجه للتخصيص بها بعد كثرة إطلاق الحكم في الكلمات على غيرها، مع أنه
لا تكاد تظهر ثمرة مهمة علمية أو عملية للنزاع في ذلك، وإنما المهم في
النزاع هو أن الوضع كالتكليف في أنه مجعول تشريعا بحيث يصح انتزاعه
بمجرد إنشائه، أو غير مجعول كذلك، بل إنما هو منتزع عن التكليف ومجعول
بتبعه وبجعله.
والتحقيق أن ما عد من الوضع على أنحاء.
منها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل تشريعا أصلا، لا استقلالا ولا
تبعا، وإن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك.
ومنها: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلا تبعا للتكليف.
370

ومنها: ما يمكن فيه الجعل استقلالا بإنشائه، وتبعا للتكليف بكونه
منشأ لانتزاعه، وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله، وكون التكليف
من آثاره وأحكامه، على ما يأتي الإشارة إليه.
أما النحو الأول: فهو كالسببية والشرطية والمانعية والرافعية لما هو
سبب التكليف وشرطه ومانعه ورافعه، حيث أنه لا يكاد يعقل انتزاع هذه
العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا، حدوثا أو ارتفاعا، كما أن اتصافها
بها ليس إلا لاجل ما عليها من الخصوصية المستدعية لذلك تكوينا، للزوم أن
يكون في العلة بأجزائها من ربط خاص، به كانت مؤثرة في معلولها، لا في
غيره، ولا غيرها فيه، وإلا لزم أن يكون كل شئ مؤثرا في كل شئ، وتلك
الخصوصية لا يكاد يوجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين، ومثل قول: دلوك
371

الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاء لا إخبارا، ضرورة بقاء الدلوك على ما هو
عليه قبل إنشاء السببية له، من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها أو فاقدا
لها، وإن الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى
وجوبها، ومعه تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببية للدلوك أصلا.
ومنه انقدح أيضا، عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة
عنده، لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة.
نعم لا بأس باتصافه بها عناية، واطلاق السبب عليه مجازا، كما لا بأس
بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك - مثلا - بأنه سبب لوجوبها فكني
به عن الوجوب عنده.
فظهر بذلك أنه منشأ لانتزاع السببية وسائر ما لاجزاء العلة
للتكليف، إلا ما هي عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كل فيه على نحو غير
دخل الآخر، فتدبر جيدا.
372

وإما النحو الثاني: فهو كالجزئية والشرطية والمانعية والقاطعية، لما
هو جزء المكلف به وشرطه ومانعه وقاطعه، حيث أن اتصاف شئ بجزئية
المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلا بالأمر بجملة أمور مقيدة بأمر
وجودي أو عدمي، ولا يكاد يتصف شئ بذلك - أي كونه جزء أو شرطا
للمأمور به - إلا بتبع ملاحظة الامر بما يشتمل عليه مقيدا بأمر آخر، وما لم
يتعلق بها الامر كذلك لما كاد اتصف بالجزئية أو الشرطية، وإن أنشأ الشارع
له الجزئية أو الشرطية وجعل الماهية واختراعها ليس إلا تصوير ما فيه المصلحة
المهمة الموجبة للامر بها، فتصورها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتصاف شئ
منها بجزئية المأمور به أو شرطه قبل الامر بها، فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له
إنما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الامر به، بلا حاجة إلى جعلها له، وبدون
الامر به لا اتصاف بها أصلا، وإن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصور أو
لذي المصلحة، كما لا يخفى.
373

وأما النحو الثالث: فهو كالحجية والقضاوة والولاية والنيابة والحرية
والرقية والزوجية والملكية إلى غير ذلك، حيث أنها وإن كان من الممكن انتزاعها
من الأحكام التكليفية التي تكون في مواردها - كما قيل - ومن جعلها بإنشاء
أنفسها، إلا أنه لا يكاد يشك في صحة انتزاعها من مجرد جعله تعالى، أو من
بيده الامر من قبله - جل وعلا - لها بإنشائها، بحيث يترتب عليها آثارها، كما
يشهد به ضرورة صحة انتزاع الملكية والزوجية والطلاق والعتاق بمجرد العقد أو
الايقاع ممن بيده الاختيار بلا ملاحظة التكاليف والآثار، ولو كانت منتزعة عنها لما
كاد يصح اعتبارها إلا بملاحظتها، وللزم أن لا يقع ما قصد، ووقع ما لم يقصد.
374

كما لا ينبغي أن يشك في عدم صحة انتزاعها عن مجرد التكليف في
موردها، فلا ينتزع الملكية عن إباحة التصرفات، ولا الزوجية من جواز
الوطئ، وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والايقاعات.
فانقدح بذلك أن مثل هذه الاعتبارات إنما تكون مجعولة بنفسها، يصح
انتزاعها بمجرد إنشاءها كالتكليف، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه.
375

وهم ودفع: أما الوهم (1): فهو أن الملكية كيف جعلت من الاعتبارات
الحاصلة بمجرد الجعل والانشاء التي تكون من خارج المحمول، حيث ليس
بحذائها في الخارج شئ، وهي إحدى المقولات المحمولات بالضميمة التي لا
تكاد تكون بهذا السبب، بل بأسباب أخر كالتعمم والتقمص والتنعل، فالحالة
الحاصلة منها للانسان هو الملك، وأين هذه من الاعتبار الحاصل بمجرد
إنشائه؟.
376

وأما الدفع: فهو أن الملك يقال بالاشتراك على ذلك، ويسمى بالجدة
أيضا، واختصاص شئ بشئ خاص، وهو ناشئ إما من جهة إسناد وجوده
إليه، ككون العالم ملكا للباري جل ذكره، أو من جهة الاستعمال والتصرف
فيه، ككون الفرس لزيد بركوبه له وسائر تصرفاته فيه، أو من جهة إنشائه
والعقد مع من اختياره بيده، كملك الأراضي والعقار البعيدة للمشتري بمجرد
عقد البيع شرعا وعرفا.
377

فالملك الذي يسمى بالجدة أيضا، غير الملك الذي هو اختصاص
خاص ناشئ من سبب اختياري كالعقد، أو غير اختياري كالإرث، ونحوهما
من الأسباب الاختيارية وغيرها، فالتوهم إنما نشأ من إطلاق الملك على مقولة
الجدة أيضا، والغفلة عن أنه بالاشتراك بينه وبين الاختصاص الخاص والإضافة
الخاصة الاشراقية كملكه تعالى للعالم، أو المقولية كملك غيره لشئ بسبب
من تصرف واستعمال أو إرث أو عقد أو غيرها من الاعمال، فيكون
شئ ملكا لاحد بمعنى، ولآخر بالمعنى الآخر، فتدبر.
378

إذا عرفت اختلاف الوضع في الجعل، فقد عرفت أنه لا مجال
لاستصحاب دخل ماله الدخل في التكليف إذا شك في بقائه على ما كان عليه
من الدخل، لعدم كونه حكما شرعيا، ولا يترتب عليه أثر شرعي، والتكليف
وإن كان مترتبا عليه إلا أنه ليس بترتب شرعي، فافهم.
379

وإنه لا إشكال في جريان الاستصحاب في الوضع المستقل بالجعل، حيث
أنه كالتكليف، وكذا ما كان مجعولا بالتبع، فإن أمر وضعه ورفعه بيد الشارع
ولو بتبع منشأ انتزاعه، وعدم تسميته حكما شرعيا لو سلم غير ضائر بعد كونه
مما تناله يد التصرف شرعا، نعم لا مجال لاستصحابه، لاستصحاب سببه
ومنشأ انتزاعه، فافهم.
380

ثم إن ها هنا تنبيهات:
الأول: إنه يعتبر في الاستصحاب فعلية الشك واليقين، فلا
استصحاب مع الغفلة، لعدم الشك فعلا ولو فرض أنه يشك لو التفت،
ضرورة أن الاستصحاب وظيفة الشاك، ولا شك مع الغفلة أصلا، فيحكم
381

بصحة صلاة من أحدث ثم غفل وصلى ثم شك في أنه تطهر قبل الصلاة،
لقاعدة الفراغ، بخلاف من التفت قبلها وشك ثم غفل وصلى، فيحكم بفساد
صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشك، لكونه محدثا قبلها بحكم
الاستصحاب، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي.
382

لا يقال: نعم، ولكن استصحاب الحدث في حال الصلاة بعد ما التفت
بعدها يقتضي أيضا فسادها.
فإنه يقال: نعم، لولا قاعدة الفراغ المقتضية لصحتها المقدمة على أصالة
فسادها.
383

الثاني: إنه هل يكفي في صحة الاستصحاب الشك في بقاء شئ على
تقدير ثبوته، وإن لم يحرز ثبوته فيما رتب عليه أثر شرعا أو عقلا؟ إشكال من
384

عدم إحراز الثبوت فلا يقين، ولا بد منه، بل ولا شك، فإنه على تقدير لم
يثبت، ومن أن اعتبار اليقين إنما هو لاجل أن التعبد والتنزيل شرعا إنما هو في
البقاء لا في الحدوث، فيكفي الشك فيه على تقدير الثبوت، فيتعبد به على هذا
التقدير، فيترتب عليه الأثر فعلا فيما كان هناك أثر، وهذا هو الأظهر، وبه
يمكن أن يذب عما في استصحاب الاحكام التي قامت الامارات المعتبرة على مجرد
385

ثبوتها، وقد شك في بقائها على تقدير ثبوتها، من الاشكال بأنه لا يقين بالحكم
الواقعي، ولا يكون هناك حكم آخر فعلي، بناء على ما هو التحقيق، من
أن قضية حجية الامارة ليست إلا تنجز التكاليف مع الإصابة والعذر مع
المخالفة، كما هو قضية الحجة المعتبرة عقلا، كالقطع والظن في حال
386

الانسداد على الحكومة، لا إنشاء أحكام فعلية شرعية ظاهرية، كما هو ظاهر
الأصحاب.
ووجه الذب بذلك، إن الحكم الواقعي الذي هو مؤدى الطريق حينئذ
محكوم بالبقاء، فتكون الحجة على ثبوته حجة على بقائه تعبدا، للملازمة بينه
وبين ثبوته واقعا.
387

إن قلت: كيف؟ وقد أخذ اليقين بالشئ في التعبد ببقائه في الاخبار،
ولا يقين في فرض تقدير الثبوت.
قلت: نعم، ولكن الظاهر أنه أخذ كشفا عنه ومرآة لثبوته ليكون التعبد
في بقائه، والتعبد مع فرض ثبوته إنما يكون في بقائه، فافهم.
388

الثالث: إنه لا فرق في المتيقن السابق بين أن يكون خصوص أحد
الاحكام، أو ما يشترك بين الاثنين منها، أو الأزيد من أمر عام فإن كان
389

الشك في بقاء ذاك العام من جهة الشك في بقاء الخاص الذي كان في ضمنه
وارتفاعه، كان استصحابه كاستصحابه بلا كلام، وإن كان الشك فيه من جهة
تردد الخاص الذي في ضمنه، بين ما هو باق أو مرتفع قطعا، فكذا لا إشكال
في استصحابه، فيترتب عليه كافة ما يترتب عليه عقلا أو شرعا من أحكامه
ولوازمه، وتردد ذاك الخاص - الذي يكون الكلي موجودا في ضمنه ويكون
وجوده بعين وجوده - بين متيقن الارتفاع ومشكوك الحدوث المحكوم بعدم
حدوثه، غير ضائر باستصحاب الكلي المتحقق في ضمنه، مع عدم إخلاله
باليقين والشك في حدوثه وبقائه، وإنما كان التردد بين الفردين ضائرا
390

باستصحاب أحد الخاصين اللذين كان أمره مرددا بينهما، لاخلاله باليقين الذي
هو أحد ركني الاستصحاب، كما لا يخفى.
نعم، يجب رعاية التكاليف المعلومة إجمالا المترتبة على الخاصين، فيما
علم تكليف في البين، وتوهم كون الشك في بقاء الكلي الذي في ضمن ذاك
المردد مسببا عن الشك في حدوث الخاص المشكوك حدوثه المحكوم بعدم
الحدوث بأصالة عدمه فاسد قطعا، لعدم كون بقائه وارتفاعه من لوازم حدوثه
وعدم حدوثه، بل من لوازم كون الحادث المتيقن ذاك المتيقن الارتفاع أو
391

البقاء، مع أن بقاء القدر المشترك إنما هو بعين بقاء الخاص الذي في ضمنه لا
أنه من لوازمه، على أنه لو سلم أنه من لوازم حدوث المشكوك فلا شبهة في
كون اللزوم عقليا، ولا يكاد يترتب بأصالة عدم الحدوث إلا ما هو من لوازمه
وأحكامه شرعا.
وأما إذا كان الشك في بقائه، من جهة الشك في قيام خاص آخر في مقام
ذاك الخاص الذي كان في ضمنه بعد القطع بارتفاعه، ففي استصحابه
إشكال، أظهره عدم جريانه، فإن وجود الطبيعي وإن كان بوجود فرده، إلا
392

أن وجوده في ضمن المتعدد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له، بل متعدد
حسب تعددها، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها، لقطع بارتفاع وجوده،
وإن شك في وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاك الفرد، أو لارتفاعه بنفسه أو
بملاكه، كما إذا شك في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الايجاب بملاك مقارن أو
حادث.
393

لا يقال: الامر وإن كان كما ذكر، إلا أنه حيث كان التفاوت بين
الايجاب والاستحباب وهكذا بين الكراهة والحرمة، ليس إلا بشدة الطلب
بينهما وضعفه، كان تبدل أحدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غير موجب لتعدد
وجود الطبيعي بينهما، لمساوقة الاتصال مع الوحدة، فالشك في التبدل حقيقة
شك في بقاء الطلب وارتفاعه، لا في حدوث وجود آخر.
فإنه يقال: الامر وإن كان كذلك، إلا أن العرف حيث يرى الايجاب
والاستحباب المتبادلين فردين متباينين، لا واحد مختلف الوصف في زمانين، لم
يكن مجال للاستصحاب، لما مرت الإشارة إليه وتأتي، من أن إطلاق
أخبار الباب، أن العبرة فيه بما يكون رفع اليد عنه مع الشك بنظر العرف
نقضا، وإن لم يكن بنقض بحسب الدقة، ولذا لو انعكس الامر ولم يكن نقض
عرفا، لم يكن الاستصحاب جاريا وإن كان هناك نقض عقلا.
ومما ذكرنا في المقام، يظهر - أيضا - حال الاستصحاب في متعلقات
الاحكام في الشبهات الحكمية والموضوعية، فلا تغفل.
395

الرابع: إنه لا فرق في المتيقن بين أن يكون من الأمور القارة أو التدريجية
الغير القارة، فإن الأمور الغير القارة وإن كان وجودها ينصرم ولا يتحقق
منه جزء إلا بعدما انصرم منه جزء وانعدم، إلا أنه ما لم يتخلل في
البين العدم، بل وإن تخلل بما لا يخل بالاتصال عرفا وإن انفصل حقيقة،
كانت باقية مطلقا أو عرفا، ويكون رفع اليد عنها - مع الشك في استمرارها
وانقطاعها - نقضا.
396

ولا يعتبر في الاستصحاب - بحسب تعريفه وأخبار الباب وغيرها من
أدلته - غير صدق النقض والبقاء كذلك قطعا، هذا مع أن الانصرام والتدرج
في الوجود في الحركة - في الأين وغيره - إنما هو في الحركة القطعية، وهي كون
الشئ في كل آن في حد أو مكان، لا التوسطية وهي كونه بين المبدأ والمنتهى،
فإنه بهذا المعنى يكون قارا مستمرا.
فانقدح بذلك أنه لا مجال للاشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار
وترتيب مالهما من الآثار، وكذا كلما إذا كان الشك في الامر التدريجي من جهة
397

الشك في انتهاء حركته ووصوله إلى المنتهى، أو أنه بعد في البين، وأما إذا كان
من جهة الشك في كميته ومقداره، كما في نبع الماء وجريانه، وخروج الدم
وسيلانه، فيما كان سبب الشك في الجريان والسيلان الشك في أنه بقي في المنبع
والرحم فعلا شئ من الماء والدم غير ما سال وجرى منهما، فربما يشكل في
استصحابهما حينئذ، فإن الشك ليس في بقاء جريان شخص ما كان جاريا، بل
في حدوث جريان جزء آخر شك في جريانه من جهة الشك في حدوثه، ولكنه
يتخيل بأنه لا يختل به ما هو الملاك في الاستصحاب، بحسب تعريفه ودليله
حسبما عرفت.
398

ثم إنه لا يخفى أن استصحاب بقاء الامر التدريجي، إما يكون من قبيل
استصحاب الشخص، أو من قبيل استصحاب الكلي بأقسامه، فإذا شك في
أن السورة المعلومة التي شرع فيها تمت أو بقي شئ منها، صح فيه استصحاب
الشخص والكلي، وإذا شك فيه من جهة ترددها بين القصيرة والطويلة، كان
من القسم الثاني، وإذا شك في أنه شرع في أخرى مع القطع بأنه قد تمت
الأولى كان من القسم الثالث، كما لا يخفى.
399

هذا في الزمان ونحوه من سائر التدريجيات.
وأما الفعل المقيد بالزمان، فتارة يكون الشك في حكمه من جهة الشك
في بقاء قيده، وطورا مع القطع بانقطاعه وانتفائه من جهة أخرى، كما إذا
احتمل أن يكون التعبد به إنما هو بلحاظ تمام المطلوب لا أصله، فإن كان من
جهة الشك في بقاء القيد، فلا بأس باستصحاب قيده من الزمان، كالنهار
الذي قيد به الصوم مثلا، فيترتب عليه وجوب الامساك وعدم جواز الافطار ما
لم يقطع بزواله، كما لا بأس باستصحاب نفس المقيد، فيقال: إن الامساك
كان قبل هذا الآن في النهار، والآن كما كان فيجب، فتأمل.
وإن كان من الجهة الأخرى، فلا مجال إلا لاستصحاب الحكم في
خصوص ما لم يؤخذ الزمان فيه إلا ظرفا لثبوته لا قيدا مقوما لموضوعه، وإلا
401

فلا مجال إلا لاستصحاب عدمه فيما بعد ذاك الزمان، فإنه غير ما علم ثبوته
له، فيكون الشك في ثبوته له - أيضا - شكا في أصل ثبوته بعد القطع بعدمه،
لا في بقائه.
لا يقال: إن الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن أخذ ظرفا
لثبوت الحكم في دليله، ضرورة دخل مثل الزمان فيما هو المناط لثبوته، فلا
مجال إلا لاستصحاب عدمه.
فإنه يقال: نعم، لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقة ونظر
العقل، وأما إذا كانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة في أن الفعل بهذا النظر
موضوع واحد في الزمانين، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الأول، وشك في
بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثاني، فلا يكون مجال إلا لاستصحاب
ثبوته.
402

لا يقال: فاستصحاب كل واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلا
النظرين، ويقع التعارض بين الاستصحابين، كما قيل.
فإنه يقال: إنما يكون ذلك لو كان في الدليل ما بمفهومه يعم النظرين،
وإلا فلا يكاد يصح إلا إذا سبق بأحدهما، لعدم إمكان الجمع بينهما لكمال
المنافاة بينهما، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمهما، فلا يكون هناك إلا
استصحاب واحد، وهو استصحاب الثبوت فيما إذا أخذ الزمان ظرفا،
واستصحاب العدم فيما إذا أخذ قيدا، لما عرفت من أن العبرة في هذا الباب
بالنظر العرفي، ولا شبهة في أن الفعل فيما بعد ذاك الوقت مع ما قبله متحد في
الأول ومتعدد في الثاني بحسبه، ضرورة أن الفعل المقيد بزمان خاص غير الفعل
في زمان آخر، ولو بالنظر المسامحي العرفي.
403

نعم، لا يبعد أن يكون بحسبه - أيضا - متحدا فيما إذا كان الشك في
بقاء حكمه، من جهة الشك في أنه بنحو التعدد المطلوبي، وأن حكمه بتلك
المرتبة التي كان مع ذاك الوقت وإن لم يكن باقيا بعده قطعا، إلا أنه يحتمل
بقاؤه بما دون تلك المرتبة من مراتبه فيستصحب، فتأمل جيدا.
إزاحة وهم: لا يخفى أن الطهارة الحدثية والخبثية وما يقابلها
يكون مما إذا وجدت بأسبابها، لا يكاد يشك في بقائها إلا من قبل الشك في
الرافع لها، لا من قبل الشك في مقدار تأثير أسبابها، ضرورة أنها إذا وجدت
بها كانت تبقى ما لم يحدث رافع لها، كانت من الأمور الخارجية أو الأمور
الاعتبارية التي كانت لها آثار شرعية، فلا أصل لأصالة عدم جعل الوضوء سببا
للطهارة بعد المذي، وأصالة عدم جعل الملاقاة سببا للنجاسة بعد الغسل مرة،
كما حكي عن بعض الأفاضل، ولا يكون ها هنا أصل إلا أصالة الطهارة أو
النجاسة.
404

الخامس: إنه كما لا إشكال فيما إذا كان المتيقن حكما فعليا مطلقا،
لا ينبغي الاشكال فيما إذا كان مشروطا معلقا، فلو شك في مورد لاجل طروء
بعض الحالات عليه في بقاء أحكامه، ففيما صح استصحاب أحكامه المطلقة
صح استصحاب أحكامه المعلقة، لعدم الاختلال بذلك فيما اعتبر في قوام
الاستصحاب من اليقين ثبوتا والشك بقاء.
405

وتوهم أنه لا وجود للمعلق قبل وجود ما علق عليه فاختل أحد ركنيه
فاسد، فإن المعلق قبله إنما لا يكون موجودا فعلا، لا أنه لا يكون موجودا
أصلا، ولو بنحو التعليق، كيف؟ والمفروض أنه مورد فعلا للخطاب
بالتحريم - مثلا - أو الايجاب، فكان على يقين منه قبل طروء الحالة فيشك فيه
بعده، ولا يعتبر في الاستصحاب إلا الشك في بقاء شئ كان على يقين من
ثبوته، واختلاف نحو ثبوته لا يكاد يوجب تفاوتا في ذلك.
406

وبالجملة: يكون الاستصحاب متمما لدلالة الدليل على الحكم فيما أهمل
أو أجمل، كان الحكم مطلقا أو معلقا، فببركته يعم الحكم للحالة الطارئة
اللاحقة كالحالة السابقة، فيحكم - مثلا - بأن العصير الزبيبي يكون على ما
كان عليه سابقا في حال عنبيته، من أحكامه المطلقة والمعلقة لو شك فيها، فكما
يحكم ببقاء ملكيته يحكم بحرمته على تقدير غليانه.
إن قلت: نعم، ولكنه لا مجال لاستصحاب المعلق لمعارضته
باستصحاب ضده المطلق، فيعارض استصحاب الحرمة المعلقة للعصير
باستصحاب حليته المطلقة.
407

قلت: لا يكاد يضر استصحابه على نحو كان قبل عروض الحالة التي
شك في بقاء حكم المعلق بعده، ضرورة أنه كان مغيى بعدم ما علق عليه
المعلق، وما كان كذلك لا يكاد يضر ثبوته بعده بالقطع فضلا عن
الاستصحاب، لعدم المضادة بينهما، فيكونان بعد عروضها بالاستصحاب
كما كانا معا بالقطع قبل بلا منافاة أصلا، وقضية ذلك انتفاء الحكم (1) المطلق بمجرد
ثبوت ما علق عليه المعلق، فالغليان في المثال كما كان شرطا للحرمة كان
غاية للحلية، فإذا شك في حرمته المعلقة بعد عروض حالة عليه، شك في
408

حليته المغياة لا محالة أيضا، فيكون الشك في حليته أو حرمته فعلا بعد عروضها
متحدا خارجا مع الشك في بقائه على ما كان عليه من الحلية والحرمة بنحو كانتا
عليه، فقضية استصحاب حرمته المعلقة بعد عروضها الملازم لاستصحاب
حليته المغياة حرمته فعلا بعد غليانه وانتفاء حليته، فإنه قضية نحو ثبوتهما كان
بدليلهما أو بدليل الاستصحاب، كما لا يخفى بأدنى التفات على ذوي الألباب،
فالتفت ولا تغفل.
409

السادس: لا فرق أيضا بين أن يكون المتيقن من أحكام هذه
الشريعة أو الشريعة السابقة، إذا شك في بقائه وارتفاعه بنسخه في هذه
الشريعة، لعموم أدلة الاستصحاب، وفساد توهم اختلال أركانه فيما كان
المتيقن من أحكام الشريعة السابقة لا محالة، إما لعدم اليقين بثبوتها في حقهم،
وإن علم بثبوتها سابقا في حق آخرين، فلا شك في بقائها أيضا، بل في ثبوت
مثلها، كما لا يخفى، وإما لليقين بارتفاعها بنسخ الشريعة السابقة بهذه
الشريعة، فلا شك في بقائها حينئذ، ولو سلم اليقين بثبوتها في حقهم، وذلك
لان الحكم الثابت في الشريعة السابقة حيث كان ثابتا لافراد المكلف، كانت
محققة وجودا أو مقدرة، كما هو قضية القضايا المتعارفة المتداولة، وهي قضايا
حقيقية، لا خصوص الافراد الخارجية، كما هو قضية القضايا الخارجية، وإلا
لما صح الاستصحاب في الأحكام الثابتة في هذه الشريعة، ولا النسخ بالنسبة
إلى غير الموجود في زمان ثبوتها، كان الحكم في الشريعة السابقة ثابتا لعامة أفراد
411

المكلف ممن وجد أو يوجد، وكان الشك فيه كالشك في بقاء الحكم الثابت في
هذه الشريعة لغير من وجد في زمان ثبوته، والشريعة السابقة وإن كانت
منسوخة بهذه الشريعة يقينا، إلا أنه لا يوجب اليقين بارتفاع أحكامها بتمامها،
ضرورة أن قضية نسخ الشريعة ليس ارتفاعها كذلك، بل عدم بقائها بتمامها، والعلم إجمالا بارتفاع بعضها إنما يمنع عن استصحاب ما شك في بقائه منها،
فيما إذا كان من أطراف ما علم ارتفاعه إجمالا، لا فيما إذا لم يكن من أطرافه،
كما إذا علم بمقداره تفصيلا، أو في موارد ليس المشكوك منها، وقد علم بارتفاع
ما في موارد الأحكام الثابتة في هذه الشريعة.
ثم لا يخفى أنه يمكن إرجاع ما أفاده شيخنا العلامة - أعلى الله في الجنان
412

مقامه - في ذب اشكال تغاير الموضوع في هذا الاستصحاب من الوجه
الثاني إلى ما ذكرنا، لا ما يوهمه ظاهر كلامه، من أن الحكم ثابت للكلي،
كما أن الملكية له في مثل باب الزكاة والوقف العام، حيث لا مدخل للاشخاص
فيها، ضرورة أن التكليف والبعث أو الزجر لا يكاد يتعلق به كذلك، بل لا
بد من تعلقه بالاشخاص، وكذلك الثواب أو العقاب المترتب على الطاعة أو
المعصية، وكان غرضه من عدم دخل الاشخاص عدم أشخاص خاصة،
فافهم.
وأما ما أفاده من الوجه الأول، فهو وإن كان وجيها بالنسبة إلى جريان
الاستصحاب في حق خصوص المدرك للشريعتين، إلا أنه غير مجد في حق غيره
من المعدومين، ولا يكاد يتم الحكم فيهم، بضرورة اشتراك أهل الشريعة
الواحدة أيضا، ضرورة أن قضية الاشتراك ليس إلا أن الاستصحاب حكم كل
من كان على يقين فشك، لا أنه حكم الكل ولو من لم يكن كذلك بلا شك،
وهذا واضح.
413

السابع: لا شبهة في أن قضية أخبار الباب هو إنشاء حكم مماثل
للمستصحب في استصحاب الاحكام، ولاحكامه في استصحاب الموضوعات،
كما لا شبهة في ترتيب ما للحكم المنشأ بالاستصحاب من الآثار الشرعية
والعقلية، وإنما الاشكال في ترتيب الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب
بواسطة غير شرعية عادية كانت أو عقلية، ومنشؤه أن مفاد الاخبار: هل هو
تنزيل المستصحب والتعبد به وحده؟ بلحاظ خصوص ماله من الأثر بلا
واسطة، أو تنزيله بلوازمه العقلية أو العادية؟ كما هو الحال في تنزيل مؤديات
الطرق والامارات، أو بلحاظ مطلق ما له من الأثر ولو بالواسطة؟ بناء على
414

صحة التنزيل بلحاظ أثر الواسطة أيضا لاجل أن أثر الأثر أثر.
وذلك لان مفادها لو كان هو تنزيل الشئ وحده بلحاظ أثر نفسه، لم
يترتب عليه ما كان مترتبا عليها، لعدم إحرازها حقيقة ولا تعبدا، ولا يكون
تنزيله بلحاظه، بخلاف ما لو كان تنزيله بلوازمه، أو بلحاظ ما يعم آثارها،
فإنه يترتب باستصحابه ما كان بوساطتها.
والتحقيق أن الاخبار إنما تدل على التعبد بما كان على يقين منه فشك،
بلحاظ ما لنفسه من آثاره وأحكامه، ولا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه التي
لا يكون كذلك، كما هي محل ثمرة الخلاف، ولا على تنزيله بلحاظ ما له مطلقا
ولو بالواسطة، فإن المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه، وأما آثار لوازمه فلا دلالة
هناك على لحاظها أصلا، وما لم يثبت لحاظها بوجه أيضا لما كان وجه لترتيبها
عليه باستصحابه، كما لا يخفى.
415

نعم لا يبعد ترتيب خصوص ما كان منها محسوبا بنظر العرف من آثار
نفسه لخفاء ما بوساطته، بدعوى أن مفاد الاخبار عرفا ما يعمه أيضا حقيقة،
فافهم.
كما لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه وبين
المستصحب تنزيلا، كما لا تفكيك بينهما واقعا، أو بوساطة ما لاجل وضوح
لزومه له، أو ملازمته معه بمثابة عد اثره اثرا لهما، فإن عدم ترتيب مثل هذا
الأثر عليه يكون نقضا ليقينه بالشك أيضا، بحسب ما يفهم من النهي عن
نقضه عرفا، فافهم.
416

ثم لا يخفى وضوح الفرق بين الاستصحاب وسائر الأصول التعبدية وبين
الطرق والامارات، فإن الطريق والامارة حيث أنه كما يحكي عن المؤدى ويشير
إليه، كذا يحكي عن أطرافه من ملزومه ولوازمه وملازماته ويشير إليها، كان
مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها، وقضيته حجية المثبت
منها كما لا يخفى، بخلاف مثل دليل الاستصحاب، فإنه لا بد من الاقتصار مما
فيه من الدلالة على التعبد بثبوته، ولا دلالة له إلا على التعبد بثبوت المشكوك
بلحاظ أثره، حسبما عرفت فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه، كسائر الأصول
التعبدية، إلا فيما عد أثر الواسطة أثرا له لخفائها، أو لشدة وضوحها
وجلائها، حسبما حققناه.
417

الثامن: إنه لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب، بين أن
يكون مترتبا عليه بلا وساطة شئ، أو بوساطة عنوان كلي ينطبق ويحمل عليه
بالحمل الشائع ويتحد معه وجودا، كان منتزعا عن مرتبة ذاته، أو بملاحظة
بعض عوارضه مما هو خارج المحمول لا بالضميمة، فإن الأثر في الصورتين
انما يكون له حقيقة، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه، لا
لغيره مما كان مباينا معه، أو من أعراضه مما كان محمولا عليه بالضميمة كسواده
مثلا أو بياضه، وذلك لان الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده، كما أن
العرضي كالملكية والغصبية ونحوهما لا وجود له إلا بمعنى وجود منشأ انتزاعه،
فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب عليه الأثر، لا شئ آخر،
فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت كما توهم، وكذا لا تفاوت في الأثر
418

المستصحب أو المترتب عليه، بين أن يكون مجعولا شرعا بنفسه كالتكليف
وبعض أنحاء الوضع، أو بمنشأ انتزاعه كبعض أنحائه كالجزئية والشرطية
والمانعية، فإنه أيضا مما تناله يد الجعل شرعا ويكون أمره بيد الشارع وضعا
ورفعا ولو بوضع منشأ انتزاعه ورفعه.
ولا وجه لاعتبار أن يكون المترتب أو المستصحب مجعولا مستقلا كما لا
يخفى، فليس استصحاب الشرط أو المانع لترتيب الشرطية أو المانعية بمثبت،
419

كما ربما توهم بتخيل أن الشرطية أو المانعية ليست من الآثار الشرعية، بل من
الأمور الانتزاعية، فافهم.
وكذا لا تفاوت في المستصحب أو المترتب بين أن يكون ثبوت الأثر
ووجوده، أو نفيه وعدمه، ضرورة أن أمر نفيه بيد الشارع كثبوته، وعدم
إطلاق الحكم على عدمه غير ضائر، إذ ليس هناك ما دل على اعتباره بعد صدق
نقض اليقين بالشك برفع اليد عنه كصدقه برفعها من طرف ثبوته كما هو
420

واضح، فلا وجه للاشكال في الاستدلال على البراءة باستصحاب البراءة من
التكليف، وعدم المنع عن الفعل بما في الرسالة، من أن عدم استحقاق
العقاب في الآخرة ليس من اللوازم المجعولة الشرعية، فإن عدم استحقاق
العقوبة وإن كان غير مجعول، إلا أنه لا حاجة إلى ترتيب أثر مجعول في
استصحاب عدم المنع، وترتب عدم الاستحقاق مع كونه عقليا على
استصحابه، إنما هو لكونه لازم مطلق عدم المنع ولو في الظاهر، فتأمل.
التاسع: إنه لا يذهب عليك أن عدم ترتب الأثر الغير الشرعي ولا
الشرعي بوساطة غيره من العادي أو العقلي بالاستصحاب، إنما هو بالنسبة
إلى ما للمستصحب واقعا، فلا يكاد يثبت به من آثاره إلا أثره الشرعي الذي
421

كان له بلا واسطة، أو بوساطة أثر شرعي آخر، حسبما عرفت فيما مر، لا
بالنسبة إلى ما كان للأثر الشرعي مطلقا، كان بخطاب الاستصحاب أو بغيره
من أنحاء الخطاب، فإن آثاره شرعية كانت أو غيرها يترتب عليه إذا ثبت ولو
بأن يستصحب، أو كان من آثار المستصحب، وذلك لتحقق موضوعها حينئذ
حقيقة، فما للوجوب عقلا يترتب على الوجوب الثابت شرعا باستصحابه أو
استصحاب موضوعه، من وجوب الموافقة وحرمة المخالفة واستحقاق العقوبة
إلى غير ذلك، كما يترتب على الثابت بغير الاستصحاب، بلا شبهة ولا
ارتياب، فلا تغفل.
العاشر: إنه قد ظهر مما مر لزوم أن يكون المستصحب حكما شرعيا أو
ذا حكم كذلك، لكنه لا يخفى أنه لا بد أن يكون كذلك بقاء ولو لم يكن كذلك ثبوتا
فلو لم يكن المستصحب في زمان ثبوته حكما ولا له أثر شرعا وكان في زمان
استصحابه كذلك - أي حكما أو ذا حكم - يصح استصحابه كما في استصحابه عدم
التكليف، فإنه وإن لم يكن بحكم مجعول في الأزل ولا ذا حكم، إلا أنه حكم
مجعول فيما لا يزال، لما عرفت من أن نفيه كثبوته في الحال مجعول شرعا، وكذا
استصحاب موضوع لم يكن له حكم ثبوتا، أو كان ولم يكن حكمه فعليا وله حكم
422

كذلك بقاء، وذلك لصدق نقض اليقين بالشك على رفع اليد عنه والعمل، كما إذا
قطع بارتفاعه يقينا، ووضوح عدم دخل أثر الحالة السابقة ثبوتا فيه وفي تنزيلها
بقاء، فتوهم اعتبار الأثر سابقا - كما ربما يتوهمه الغافل من اعتبار كون المستصحب
حكما أو ذا حكم - فاسد قطعا، فتدبر جيدا.
الحادي عشر: لا إشكال في الاستصحاب فيما كان الشك في أصل تحقق
حكم أو موضوع.
وإما إذا كان الشك في تقدمه وتأخره بعد القطع بتحققه وحدوثه في زمان:
فإن لوحظا بالإضافة إلى أجزاء الزمان، فكذا لا إشكال في استصحاب عدم
تحققه في الزمان الأول، وترتيب آثاره لا آثار تأخره عنه، لكونه بالنسبة إليها مثبتا
إلا بدعوى خفاء الواسطة، أو عدم التفكيك في التنزيل بين عدم تحققه إلى زمان
423

وتأخره عنه عرفا، كما لا تفكيك بينهما واقعا، ولا آثار حدوثه في الزمان الثاني،
فإنه نحو وجود خاص، نعم لا بأس بترتيبها بذاك الاستصحاب، بناء على أنه عبارة
عن أمر مركب من الوجود في الزمان اللاحق وعدم الوجود في السابق.
وإن لوحظا بالإضافة إلى حادث آخر علم بحدوثه أيضا، وشك في تقدم ذاك
عليه وتأخره عنه، كما إذا علم بعروض حكمين أو موت متوارثين، وشك في المتقدم
والمتأخر منهما، فإن كانا مجهولي التاريخ:
424

فتارة كان الأثر الشرعي لوجود أحدهما بنحو خاص من التقدم أو التأخر أو
التقارن، لا للآخر ولا له بنحو آخر، فاستصحاب عدمه صار بلا معارض،
بخلاف ما إذا كان الأثر لوجود كل منهما كذلك، أو لكل من أنحاء وجوده، فإنه
حينئذ يعارض، فلا مجال لاستصحاب العدم في واحد، للمعارضة باستصحاب
العدم في آخر، لتحقق أركانه في كل منهما. هذا إذا كان الأثر المهم مترتبا على
وجوده الخاص الذي كان مفاد كان التامة.
425

وأما إن كان مترتبا على ما إذا كان متصفا بالتقدم، أو بأحد ضديه الذي كان
مفاد كان الناقصة، فلا مورد ها هنا للاستصحاب، لعدم اليقين السابق فيه، بلا
ارتياب.
وأخرى كان الأثر لعدم أحدهما في زمان الآخر، فالتحقيق أنه أيضا ليس
بمورد للاستصحاب، فيما كان الأثر المهم مترتبا على ثبوته [للحادث، بأن يكون
الأثر للحادث] المتصف بالعدم في زمان حدوث الآخر لعدم اليقين بحدوثه
كذلك في زمان، [بل قضية الاستصحاب عدم حدوثه كذلك، كما لا يخفى].
426

وكذا فيما كان مترتبا على نفس عدمه في زمان الآخر واقعا، وإن كان على يقين منه في
آن قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما، لعدم إحراز اتصال زمان شكه وهو زمان
حدوث الآخر بزمان يقينه، لاحتمال انفصاله عنه باتصال حدوثه به.
وبالجملة كان بعد ذاك الآن الذي قبل زمان اليقين بحدوث أحدهما
زمانان: أحدهما زمان حدوثه، والآخر زمان حدوث الآخر وثبوته الذي يكون طرفا
للشك في أنه فيه أو قبله، وحيث شك في أن أيهما مقدم وأيهما مؤخر لم يحرز اتصال
427

زمان الشك بزمان اليقين، ومعه لا مجال للاستصحاب حيث لم يحرز معه كون رفع
اليد عن اليقين بعدم حدوثه بهذا الشك من نقض اليقين بالشك.
لا يقال: لا شبهة في اتصال مجموع الزمانين بذاك الآن، وهو بتمامه زمان
الشك في حدوثه لاحتمال تأخره على الآخر، مثلا إذا كان على يقين من عدم حدوث
واحد منهما في ساعة، وصار على يقين من حدوث أحدهما بلا تعيين في ساعة أخرى
بعدها، وحدوث الآخر في ساعة ثالثة، كان زمان الشك في حدوث كل منهما تمام
الساعتين لا خصوص أحدهما، كما لا يخفى.
428

فإنه يقال: نعم، ولكنه إذا كان بلحاظ إضافته إلى أجزاء الزمان،
والمفروض أنه بلحاظ إضافته إلى الآخر، وأنه حدث في زمان حدوثه وثبوته أو قبله،
ولا شبهة أن زمان شكه بهذا اللحاظ أنما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر وحدوثه لا
الساعتين.
فانقدح أنه لا مورد ها هنا للاستصحاب لاختلال أركانه لا أنه مورده، وعدم
جريانه إنما هو بالمعارضة، كي يختص بما كان الأثر لعدم كل في زمان الآخر، وإلا
كان الاستصحاب فيما له الأثر جاريا.
429

وأما لو علم بتاريخ أحدهما، فلا يخلو أيضا إما يكون الأثر المهم مترتبا على
الوجود الخاص من المقدم أو المؤخر أو المقارن، فلا إشكال في استصحاب عدمه،
لولا المعارضة باستصحاب العدم في طرف الآخر أو طرفه، كما تقدم.
وإما يكون مترتبا على ما إذا كان متصفا بكذا، فلا مورد للاستصحاب
أصلا، لا في مجهول التاريخ ولا في معلومه كما لا يخفى، لعدم اليقين بالاتصاف به
سابقا فيهما.
.
(1) قال المقرر رحمة الله عليه في الهامش: اعلم أن الاشكال المذكور أعني اشكال عدم الاتصال
لا يرد في المتضادين مثل الطهارة والحدث وذلك لصدق البقاء والابقاء فيهما في زمان الشك وهي
الساعة الثالثة، ضرورة ان الطهارة أو الحدث ان كانت موجودة انما تكون موجودة بوجودها
البقائي لعدم احتمال طهارة أخرى على المفروض وهذا يكشف عن الاتصال، والسر في ذلك أنه
انما يعتبر الشك في الحادثين بالإضافة إلى زمان حدوثهما ولذا يحتمل انفصال زمان حدوث
الآخر الذي يكون زمان الشك عن زمان اليقين باعتبار احتمال انتقاض العدم المستصحب قبل
حدوث الآخر، وهذا بخلاف المتضادين فإنه لا معنى لاعتبار الشك فيهما بالإضافة إلى زمان
حدوث الآخر للتضاد بينهما، بل انما يكون اعتبار الشك فيهما بالإضافة إلى اجزاء الزمان
فيكون زمان الشك متصلا بزمان اليقين مثل سائر الاستصحابات، وبعبارة أخرى الفرق بين
المتضادين والحادثين هو ان الترديد في الحادثين انما يكون في زمان الشك فان الشك يعتبر
بالإضافة إلى حادث آخر وزمانه مردد بين الساعة الثانية والثالثة فيكون الترديد في زمان الشك
بخلافه هنا فان الترديد انما يكون في زمان المتيقن ولا ترديد في زمان الشك، فإنه عبارة عن
الساعة الثالثة المتأخرة عن الساعة المرددة بين الأولى والثانية اللتين كانتا زمان المتيقنين، وبذاك
الفرق يمكن ان يقال بعدم طرو ملاك اشكال عدم الاتصال، وهو عدم صدق البقاء مع
الانفصال، وذلك لان زمان الشك هو زمان التعبد بالبقاء، ولا بد في التعبد به من صدق البقاء
ومع الترديد يشك في صدقه، وهذا الملاك موجود في الحادثين لا في المتضادين فإنه لا ترديد في
زمان الشك حتى يشك في صدق البقاء، وانما الترديد في زمان المتيقن، ولا مدخلية له في التعبد
به حتى يوجب الترديد فيه الشك في صدق البقاء كما لا يخفى فتأمل
430

وإما يكون مترتبا على عدمه الذي هو مفاد ليس التامة في زمان الآخر،
فاستصحاب العدم في مجهول التاريخ منهما كان جاريا، لاتصال زمان شكه بزمان
يقينه، دون معلومه لانتفاء الشك فيه في زمان، وإنما الشك فيه بإضافة زمانه إلى
الآخر، وقد عرفت جريانه فيهما تارة وعدم جريانه كذلك أخرى.
.
بالإضافة إلى حادث آخر وزمانه مردد بين الساعة الثانية والثالثة فيكون الترديد في زمان الشك
بخلافه هنا فان الترديد انما يكون في زمان المتيقن ولا ترديد في زمان الشك، فإنه عبارة عن
الساعة الثالثة المتأخرة عن الساعة المرددة بين الأولى والثانية اللتين كانتا زمان المتيقنين، وبذاك
الفرق يمكن ان يقال بعدم طرو ملاك اشكال عدم الاتصال، وهو عدم صدق البقاء مع
الانفصال، وذلك لان زمان الشك هو زمان التعبد بالبقاء، ولا بد في التعبد به من صدق البقاء
ومع الترديد يشك في صدقه، وهذا الملاك موجود في الحادثين لا في المتضادين فإنه لا ترديد في
زمان الشك حتى يشك في صدق البقاء، وانما الترديد في زمان المتيقن، ولا مدخلية له في التعبد
به حتى يوجب الترديد فيه الشك في صدق البقاء كما لا يخفى فتأمل
431

فانقدح أنه لا فرق بينهما، كان الحادثان مجهولي التاريخ أو كانا مختلفين، ولا
بين مجهوله ومعلومه في المختلفين، فيما اعتبر في الموضوع خصوصية ناشئة من إضافة
أحدهما إلى الآخر بحسب الزمان من التقدم، أو أحد ضديه وشك فيها، كما لا
يخفى.
كما انقدح أنه لا مورد للاستصحاب أيضا فيما تعاقب حالتان متضادتان
كالطهارة والنجاسة، وشك في ثبوتهما وانتفائهما، للشك في المقدم والمؤخر منهما،
432

وذلك لعدم إحراز الحالة السابقة المتيقنة المتصلة بزمان الشك في ثبوتهما، وترددها بين
الحالتين، وأنه ليس من تعارض الاستصحابين، فافهم وتأمل في المقام فإنه دقيق.
433

الثاني عشر: إنه قد عرفت أن مورد الاستصحاب لا بد أن يكون حكما
شرعيا أو موضوعا لحكم كذلك، فلا إشكال فيما كان المستصحب من الأحكام الفرعية
، أو الموضوعات الصرفة الخارجية، أو اللغوية إذا كانت ذات احكام
شرعية.
وأما الأمور الاعتقادية التي كان المهم فيها شرعا هو الانقياد والتسليم
والاعتقاد بمعنى عقد القلب عليها من الاعمال القلبية الاختيارية، فكذا لا إشكال
في الاستصحاب فيها حكما وكذا موضوعا، فيما كان هناك يقين سابق وشك لاحق،
لصحة التنزيل وعموم الدليل، وكونه أصلا عمليا إنما هو بمعنى أنه وظيفة الشاك
تعبدا، قبالا للامارات الحاكية عن الواقعيات، فيعم العمل بالجوانح كالجوارح،
434

وأما التي كان المهم فيها شرعا وعقلا هو القطع بها ومعرفتها، فلا مجال له موضوعا
ويجري حكما، فلو كان متيقنا بوجوب تحصيل القطع بشئ - كتفاصيل القيامة - في
زمان وشك في بقاء وجوبه، يستصحب.
وأما لو شك في حياة إمام زمان مثلا فلا يستصحب، لاجل ترتيب لزوم معرفة
إمام زمانه، بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه، ولا يكاد يجدي في
مثل وجوب المعرفة عقلا أو شرعا، إلا إذا كان حجة من باب إفادته الظن وكان
المورد مما يكتفى به أيضا، فالاعتقاديات كسائر الموضوعات لا بد في جريانه فيها من
أن يكون في المورد أثر شرعي، يتمكن من موافقته مع بقاء الشك فيه، كان ذاك
متعلقا بعلم الجوارح أو الجوانح.
435

وقد انقدح بذلك أنه لا مجال له في نفس النبوة، إذا كانت ناشئة من كمال
النفس بمثابة يوحى إليها، وكانت لازمة لبعض مراتب كمالها، إما لعدم الشك فيها
بعد اتصاف النفس بها، أو لعدم كونها مجعولة بل من الصفات الخارجية التكوينية،
ولو فرض الشك في بقائها باحتمال انحطاط النفس عن تلك المرتبة وعدم بقائها
بتلك المثابة، كما هو الشأن في سائر الصفات والملكات الحسنة الحاصلة بالرياضات
والمجاهدات، وعدم أثر شرعي مهم لها يترتب عليها باستصحابها.
نعم لو كانت النبوة من المناصب المجعولة وكانت كالولاية، وإن كان لا بد
في إعطائها من أهلية وخصوصية يستحق بها لها، لكانت موردا للاستصحاب
بنفسها، فيترتب عليها آثارها ولو كانت عقلية بعد استصحابها، لكنه يحتاج إلى دليل
كان هناك غير منوط بها، وإلا لدار، كما لا يخفى.
وأما استصحابها بمعنى استصحاب بعض أحكام شريعة من اتصف بها، فلا
إشكال فيها كما مر.
ثم لا يخفى أن الاستصحاب لا يكاد يلزم به الخصم، إلا إذا اعترف بأنه على
يقين فشك، فيما صح هناك التعبد والتنزيل ودل عليه الدليل، كما لا يصح أن يقنع
به إلا مع اليقين والشك والدليل على التنزيل.
436

ومنه انقدح أنه لا موقع لتشبث الكتابي باستصحاب نبوة موسى أصلا، لا
إلزاما للمسلم، لعدم الشك في بقائها قائمة بنفسه المقدسة، واليقين بنسخ
شريعته، وإلا لم يكن بمسلم، مع أنه لا يكاد يلزم به ما لم يعترف بأنه على يقين
وشك، ولا اقناعا مع الشك، للزوم معرفة النبي بالنظر إلى حالاته ومعجزاته
عقلا، وعدم الدليل على التعبد بشريعته لا عقلا ولا شرعا، والاتكال على قيامه في
شريعتنا لا يكاد يجديه إلا على نحو محال، ووجوب العمل بالاحتياط عقلا في حال
عدم المعرفة بمراعاة الشريعتين ما لم يلزم منه الاختلال، للعلم بثبوت إحداهما على
الاجمال، إلا إذا علم بلزوم البناء على الشريعة السابقة ما لم يعلم الحال.
الثالث عشر: إنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب في مقام مع دلالة
مثل العام، لكنه ربما يقع الاشكال والكلام فيما إذا خصص في زمان في أن المورد بعد
هذا الزمان مورد الاستصحاب أو التمسك بالعام.
437

والتحقيق أن يقال: إن مفاد العام، تارة يكون - بملاحظة الزمان - ثبوت
حكمه لموضوعه على نحو الاستمرار والدوام، وأخرى على نحو جعل كل يوم من
الأيام فردا لموضوع ذاك العام. وكذلك مفاد مخصصه تارة يكون على نحو أخذ
الزمان ظرف استمرار حكمه ودوامه، وأخرى على نحو يكون مفردا ومأخوذا في
موضوعه.
فإن كان مفاد كل من العام والخاص على النحو الأول، فلا محيص عن
استصحاب حكم الخاص في غير مورد دلالته، لعدم دلالة للعام على حكمه، لعدم
438

دخوله على حدة في موضوعه، وانقطاع الاستمرار بالخاص الدال على ثبوت الحكم
له في الزمان السابق، من دون دلالته على ثبوته في الزمان اللاحق، فلا مجال إلا
لاستصحابه.
نعم لو كان الخاص غير قاطع لحكمه، كما إذا كان مخصصا له من الأول، لما
ضر به في غير مورد دلالته، فيكون أول زمان استمرار حكمه بعد زمان دلالته،
439

فيصح التمسك ب‍ (أوفوا بالعقود) ولو خصص بخيار المجلس ونحوه، ولا
يصح التمسك به فيما إذا خصص بخيار لا في أوله، فافهم.
وإن كان مفادهما على النحو الثاني، فلا بد من التمسك بالعام بلا كلام،
لكون موضوع الحكم بلحاظ هذا الزمان من أفراده، فله الدلالة على حكمه،
والمفروض عدم دلالة الخاص على خلافه.
440

وإن كان مفاد العام على النحو الأول والخاص على النحو الثاني، فلا مورد
للاستصحاب، فإنه وإن لم يكن هناك دلالة أصلا، إلا أن انسحاب الحكم الخاص
إلى غير مورد دلالته من إسراء حكم موضوع إلى آخر، لا استصحاب حكم
الموضوع، ولا مجال أيضا للتمسك بالعام لما مر آنفا، فلا بد من الرجوع إلى سائر
الأصول.
وإن كان مفادهما على العكس كان المرجع هو العام، للاقتصار في تخصيصه
441

بمقدار دلالة الخاص، ولكنه لولا دلالته لكان الاستصحاب مرجعا، لما عرفت من
أن الحكم في طرف الخاص قد أخذ على نحو صح استصحابه، فتأمل تعرف أن
اطلاق كلام شيخنا العلامة (أعلى الله مقامه) في المقام نفيا وإثباتا في غير محله.
الرابع عشر: الظاهر أن الشك في أخبار الباب وكلمات الأصحاب هو
خلاف اليقين، فمع الظن بالخلاف فضلا عن الظن بالوفاق يجري الاستصحاب،
ويدل عليه - مضافا إلى أنه كذلك لغة كما في الصحاح، وتعارف استعماله فيه في
الاخبار في غير باب - قوله عليه السلام في أخبار الباب: (ولكن تنقصه بيقين آخر)
حيث أن ظاهره أنه في بيان تحديد ما ينقض به اليقين وأنه ليس إلا اليقين. وقوله
442

أيضا: (لا حتى يستيقن أنه قد نام) بعد السؤال عنه عليه السلام عما (إذا حرك في
جنبه شئ وهو لا يعلم) حيث دل بإطلاقه مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت
هذه الامارة الظن، وما إذا لم تفد، بداهة أنها لو لم تكن مفيدة له دائما لكانت مفيدة
له أحيانا، على عموم النفي لصورة الإفادة، وقوله عليه السلام بعده: (ولا تنقض
اليقين بالشك) أن الحكم في المغيى مطلقا هو عدم نقض اليقين بالشك، كما لا
يخفى.
وقد استدل عليه أيضا بوجهين آخرين:
الأول: الاجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظن بالخلاف
على تقدير اعتباره من باب الاخبار.
وفيه: إنه لا وجه لدعواه ولو سلم اتفاق الأصحاب على الاعتبار، لاحتمال
443

أن يكون ذلك من جهة ظهور دلالة الاخبار عليه.
الثاني: إن الظن الغير المعتبر، إن علم بعدم اعتباره بالدليل، فمعناه
أن وجوده كعدمه عند الشارع، وأن كلما يترتب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتب
على تقدير وجوده، وإن كان مما شك في اعتباره، فمرجع رفع اليد عن اليقين
بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشك، فتأمل جيدا.
وفيه: إن قضية عدم اعتباره لالغائه أو لعدم الدليل على اعتباره لا يكاد
يكون إلا عدم إثبات مظنونه به تعبدا، ليترتب عليه آثاره شرعا، لا ترتيب آثار
الشك مع عدمه، بل لا بد حينئذ في تعيين أن الوظيفة أي أصل من الأصول العملية
من الدليل، فلو فرض عدم دلالة الاخبار معه على اعتبار الاستصحاب فلا بد من
الانتهاء إلى سائر الأصول بلا شبهة ولا ارتياب، ولعله أشير إليه بالأمر بالتأمل (3)،
فتأمل جيدا.
تتمة: لا يذهب عليك أنه لا بد في الاستصحاب من بقاء الموضوع، وعدم
أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه، فها هنا مقامان:
المقام الأول: إنه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع بمعنى اتحاد القضية
المشكوكة مع المتيقنة موضوعا، كاتحادهما حكما، ضرورة أنه بدونه لا يكون الشك
في البقاء بل في الحدوث، ولا رفع اليد عن اليقين في محل الشك نقض اليقين
بالشك، فاعتبار البقاء بهذا المعنى لا يحتاج إلى زيادة بيان وإقامة برهان،
444

والاستدلال عليه باستحالة انتقال العرض إلى موضوع آخر لتقومه بالموضوع
وتشخصه به غريب، بداهة أن استحالته حقيقة غير مستلزم لاستحالته تعبدا،
والالتزام بآثاره شرعا.
وأما بمعنى إحراز وجود الموضوع خارجا، فلا يعتبر قطعا في جريانه لتحقق
أركانه بدونه، نعم ربما يكون مما لا بد منه في ترتيب بعض الآثار، ففي استصحاب
عدالة زيد لا يحتاج إلى إحراز حياته لجواز تقليده، وإن كان محتاجا إليه في جواز
الاقتداء به أو وجوب إكرامه أو الانفاق عليه.
وإنما الاشكال كله في أن هذا الاتحاد هل هو بنظر العرف؟ أو بحسب دليل
الحكم؟ أو بنظر العقل؟ فلو كان مناط الاتحاد هو نظر العقل فلا مجال للاستصحاب
في الاحكام، لقيام احتمال تغير الموضوع في كل مقام شك في الحكم بزوال بعض
خصوصيات موضوعه، لاحتمال دخله فيه، ويختص بالموضوعات، بداهة أنه إذا
شك في حياة زيد شك في نفس ما كان على يقين منه حقيقة، بخلاف ما لو كان
بنظر العرف أو بحسب لسان الدليل، ضرورة أن انتفاء بعض الخصوصيات وإن
كان موجبا للشك في بقاء الحكم لاحتمال دخله في موضوعه، إلا أنه ربما لا يكون
بنظر العرف ولا في لسان الدليل من مقوماته.
445

كما أنه ربما لا يكون موضوع الدليل بنظر العرف بخصوصه موضوعا، مثلا
إذا ورد (العنب إذا غلى يحرم) كان العنب بحسب ما هو المفهوم عرفا هو خصوص
العنب، ولكن العرف بحسب ما يرتكز في أذهانهم ويتخيلونه من المناسبات بين
الحكم وموضوعه، يجعلون الموضوع للحرمة ما يعم الزبيب ويرون العنبية والزبيبية
من حالاته المتبادلة، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب، كان
عندهم من ارتفاع الحكم عن موضوعه، ولو كان محكوما به كان من بقائه، ولا ضير
في أن يكون الدليل بحسب فهمهم على خلاف ما ارتكز في أذهانهم بسبب ما تخيلوه
من الجهات والمناسبات فيما إذا لم تكن بمثابة تصلح قرينة على صرفه عما هو ظاهر
فيه.
ولا يخفى أن النقض وعدمه حقيقة يختلف بحسب الملحوظ من الموضوع،
446

فيكون نقضا بلحاظ موضوع، ولا يكون بلحاظ موضوع آخر، فلا بد في تعيين أن
المناط في الاتحاد هو الموضوع العرفي أو غيره، من بيان أن خطاب (لا تنقض) قد
سيق بأي لحاظ؟
فالتحقيق أن يقال: إن قضية إطلاق خطاب (لا تنقض) هو أن يكون
بلحاظ الموضوع العرفي، لأنه المنساق من الاطلاق في المحاورات العرفية ومنها
الخطابات الشرعية، فما لم يكن هناك دلالة على أن النهي فيه بنظر آخر غير ما هو
الملحوظ في محاوراتهم، لا محيص عن الحمل على أنه بذاك اللحاظ، فيكون المناط
في بقاء الموضوع هو الاتحاد بحسب نظر العرف، وإن لم يحرز بحسب العقل أو لم
يساعده النقل، فيستصحب مثلا ما يثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيبا، لبقاء
الموضوع واتحاد القضيتين عرفا، ولا يستصحب فيما لا اتحاد كذلك وإن كان هناك
اتحاد عقلا، كما مرت الإشارة إليه في القسم الثالث من أقسام استصحاب
الكلي، فراجع.
المقام الثاني: إنه لا شبهة في عدم جريان الاستصحاب مع الامارة المعتبرة
في مورد، وإنما الكلام في أنه للورود أو الحكومة أو التوفيق بين دليل اعتبارها
وخطابه.
447

والتحقيق أنه للورود، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة
على خلافه ليس من نقض اليقين بالشك بل باليقين، وعدم رفع اليد عنه مع الامارة
على وفقه ليس لاجل أن لا يلزم نقضه به، بل من جهة لزوم العمل بالحجة.
لا يقال: نعم، هذا لو اخذ بدليل الامارة في مورده، ولكنه لم لا يؤخذ
بدليله ويلزم الاخذ بدليلها؟
فإنه يقال: ذلك إنما هو لاجل أنه لا محذور في الاخذ بدليلها بخلاف الاخذ
بدليله، فإنه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصص إلا على وجه دائر، إذ التخصيص
به يتوقف على اعتباره معها، واعتباره كذلك يتوقف على التخصيص به، إذ لولاه لا
مورد له معها، كما عرفت آنفا.
وأما حديث الحكومة فلا أصل له أصلا، فإنه لا نظر لدليلها إلى مدلول
دليله إثباتا وبما هو مدلول الدليل، وإن كان دالا على إلغائه معها ثبوتا وواقعا، لمنافاة
448

لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها، كما أن قضية دليله إلغائها
كذلك، فإن كلا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل، فيطرد كل منهما
الآخر مع المخالفة، هذا مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة، ولا أظن أن يلتزم
به القائل بالحكومة، فافهم فإن المقام لا يخلو من دقة.
وأما التوفيق، فإن كان بما ذكرنا فنعم الاتفاق، وإن كان بتخصيص دليله
بدليلها فلا وجه له، لما عرفت من أنه لا يكون مع الاخذ به نقض يقين بشك، لا
أنه غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشك.
خاتمة
لا بأس ببيان النسبة بين الاستصحاب وسائر الأصول العملية، وبيان
التعارض بين الاستصحابين.
أما الأول: فالنسبة بينه وبينها هي بعينها النسبة بن الامارة وبينه، فيقدم
عليها ولا مورد معه لها، للزوم محذور التخصيص إلا بوجه دائر في العكس وعدم
محذور فيه أصلا، هذا في النقلية منها.
449

وأما العقلية فلا يكاد يشتبه وجه تقديمه عليها، بداهة عدم الموضوع معه لها،
ضرورة أنه إتمام حجة وبيان ومؤمن من العقوبة وبه الأمان، ولا شبهة في أن
الترجيح به عقلا صحيح.
450

وأما الثاني: فالتعارض بين الاستصحابين، إن كان لعدم إمكان العمل
بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، كاستصحاب وجوب أمرين
حدث بينهما التضاد في زمان الاستصحاب، فهو من باب تزاحم الواجبين.
وإن كان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، فتارة يكون
المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعية لمستصحب الآخر، فيكون الشك فيه
مسببا عن الشك فيه، كالشك في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة وقد
كان طاهرا، وأخرى لا يكون كذلك.
451

فإن كان أحدهما أثرا للآخر، فلا مورد إلا للاستصحاب في طرف السبب،
فإن الاستصحاب في طرف المسبب موجب لتخصيص الخطاب، وجواز نقض
اليقين بالشك في طرف السبب بعدم ترتيب أثره الشرعي، فإن من آثار طهارة الماء
طهارة الثوب المغسول به ورفع نجاسته، فاستصحاب نجاسة الثوب نقض لليقين
بطهارته، بخلاف استصحاب طهارته، إذ لا يلزم منه نقض يقين بنجاسة الثوب
بالشك، بل باليقين بما هو رافع لنجاسته، وهو غسله بالماء المحكوم شرعا
بطهارته.
(1) قال المقرر طاب ثراه في الهامش: أقول: ظاهر كلامه قدس سره انه إذا كان في البين حكمان
مستصحبان ولا يمكن الجمع بينهما فتارة يكون ذلك باعتبار عدم قدرة المكلف على امتثال كل
من الحكمين الظاهرين فلا محالة يكن أحد الحكمين ثابتا والآخر غير ثابت فيكون الحكم
حينئذ التخيير عقلا إن لم يكن أهم في البين وإلا فلا بد من الاخذ بالأهم فافهم، وتارة أخرى
يكون عدم امكان الجمع باعتبار القطع بثبوت أحدهما وارتفاع الآخر وكان الثابت مرددا بين
ذاك وذا.
452

وبالجملة فكل من السبب والمسبب وإن كان مورد للاستصحاب، إلا أن
الاستصحاب في الأول بلا محذور، بخلافه في الثاني ففيه محذور التخصيص بلا
وجه إلا بنحو محال، فاللازم الاخذ بالاستصحاب السببي، نعم لو لم يجر هذا
الاستصحاب بوجه لكان الاستصحاب المسببي جاريا، فإنه لا محذور فيه حينئذ مع
وجود أركانه وعموم خطابه.
وإن لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار للآخر، فالأظهر جريانهما فيما لم
يلزم منه محذور المخالفة القطعية للتكليف الفعلي المعلوم إجمالا، لوجود المقتضي
إثباتا وفقد المانع عقلا.
453

أما وجود المقتضي، فلاطلاق الخطاب وشموله للاستصحاب في أطراف
المعلوم بالاجمال فإن قوله عليه السلام في ذيل بعض أخبار الباب: (ولكن تنقض
اليقين باليقين) لو سلم أنه يمنع عن شمول قوله عليه السلام في صدره: (لا
تنقض اليقين بالشك) لليقين والشك في أطرافه، للزوم المناقضة في مدلوله،
ضرورة المناقضة بين السلب الكلي والايجاب الجزئي، إلا أنه لا يمنع عن عموم النهي
في سائر الاخبار مما ليس فيه الذيل، وشموله لما في أطرافه، فإن إجمال ذاك الخطاب
لذلك لا يكاد يسري إلى غيره مما ليس فيه ذلك.
454

وأما فقد المانع، فلأجل أن جريان الاستصحاب في الأطراف لا يوجب إلا
المخالفة الالتزامية وهو ليس بمحذور لا شرعا ولا عقلا.
ومنه قد انقدح عدم جريانه في أطراف العلم بالتكليف فعلا أصلا ولو في
بعضها، لوجوب الموافقة القطعية له عقلا، ففي جريانه لا محالة يكون محذور المخالفة
القطعية أو الاحتمالية، كما لا يخفى.
455

تذنيب
لا يخفى أن مثل قاعدة التجاوز في حال الاشتغال بالعمل، وقاعدة الفراغ
بعد الفراغ عنه، وأصالة صحة عمل الغير إلى غير ذلك من القواعد المقررة في
الشبهات الموضوعية إلا القرعة تكون مقدمة على استصحاباتها المقتضية لفساد ما
شك فيه من الموضوعات، لتخصيص دليلها بأدلتها، وكون النسبة بينه وبين بعضها
عموما من وجه لا يمنع عن تخصيصه بها بعد الاجماع على عدم التفصيل بين
مواردها مع لزوم قلة المورد لها جدا لو قيل بتخصيصها بدليلها، إذ قل مورد منها لم
يكن هناك استصحاب على خلافها، كما لا يخفى.
456

وأما القرعة فالاستصحاب في موردها يقدم عليها، لأخصية دليله من
دليلها، لاعتبار سبق الحالة السابقة فيه دونها، واختصاصها بغير الاحكام إجماعا لا
يوجب الخصوصية في دليلها بعد عموم لفظها لها، هذا مضافا إلى وهن دليلها بكثرة
تخصيصه، حتى صار العمل به في مورد محتاجا إلى الجبر بعمل المعظم، كما قيل،
وقوة دليله بقلة تخصيصه بخصوص دليل.
لا يقال: كيف يجوز تخصيص دليلها بدليله؟ وقد كان دليلها رافعا لموضوع
دليله لا لحكمه، وموجبا لكون نقض اليقين باليقين بالحجة على خلافه، كما هو الحال
بينه وبين أدلة سائر الامارات، فيكون - ها هنا أيضا - من دوران الامر بين
التخصيص بلا وجه غير دائر والتخصص.
457

فإنه يقال: ليس الامر كذلك، فإن المشكوك مما كانت له حالة سابقة وإن
كان من المشكل والمجهول والمشتبه بعنوانه الواقعي، إلا أنه ليس منها بعنوان ما طرأ
عليه من نقض اليقين بالشك، والظاهر من دليل القرعة أن يكون منها بقول مطلق
لا في الجملة، فدليل الاستصحاب الدال على حرمة النقض الصادق عليه حقيقة،
رافع لموضوعه أيضا، فافهم.
فلا بأس برفع اليد عن دليلها عند دوران الامر بينه وبين رفع اليد عن دليله،
لوهن عمومها وقوة عمومه، كما أشرنا إليه آنفا، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله
على محمد وآله باطنا وظاهرا.
458

المقصد الثامن
التعادل والترجيح
459

المقصد الثامن
في تعارض الأدلة والامارات
فصل
التعارض هو تنافي الدليلين أو الأدلة بحسب الدلالة ومقام الاثبات على وجه
التناقض أو التضاد حقيقة أو عرضا، بأن علم بكذب أحدهما إجمالا مع عدم امتناع
اجتماعهما أصلا، وعليه فلا تعارض بينهما بمجرد تنافي مدلولهما، إذا كان بينهما
حكومة رافعة للتعارض والخصومة، بأن يكون أحدهما قد سيق ناظرا إلى بيان كمية
461

ما أريد من الآخر، مقدما كان أو مؤخرا، أو كانا على نحو إذا عرضا على العرف
وفق بينهما بالتصرف في خصوص أحدهما، كما هو مطرد في مثل الأدلة المتكفلة لبيان
أحكام الموضوعات بعناوينها الأولية، مع مثل الأدلة النافية للعسر والحرج والضرر
والاكراه والاضطرار، مما يتكفل لاحكامها بعناوينها الثانوية، حيث يقدم في مثلهما
الأدلة النافية، ولا تلاحظ النسبة بينهما أصلا ويتفق في غيرهما، كما لا يخفى.
أو بالتصرف فيهما، فيكون مجموعهما قرينة على التصرف فيهما، أو في أحدهما
المعين ولو كان الآخر أظهر، ولذلك تقدم الامارات المعتبرة على الأصول الشرعية،
فإنه لا يكاد يتحير أهل العرف في تقديمها عليها بعد ملاحظتهما، حيث لا يلزم منه
محذور تخصيص أصلا، بخلاف العكس فإنه يلزم منه محذور التخصيص بلا وجه أو
بوجه دائر، كما أشرنا إليه في أواخر الاستصحاب.
462

وليس وجه تقديمها حكومتها على أدلتها لعدم كونها ناظرة إلى أدلتها بوجه،
وتعرضها لبيان حكم موردها لا يوجب كونها ناظرة إلى أدلتها وشارحة لها، وإلا
كانت أدلتها أيضا دالة - ولو بالالتزام - على أن حكم مورد الاجتماع فعلا هو مقتضى
الأصل لا الامارة، وهو مستلزم عقلا نفي ما هو قضية الامارة، بل ليس مقتضى
حجيتها إلا نفي ما قضيته عقلا من دون دلالة عليه لفظا، ضرورة أن نفس الامارة لا
دلالة له إلا على الحكم الواقعي، وقضية حجيتها ليست إلا لزوم العمل على وفقها
شرعا المنافي عقلا للزوم العمل على خلافه وهو قضية الأصل، هذا مع احتمال أن
يقال: إنه ليس قضية الحجية شرعا إلا لزوم العمل على وفق الحجة عقلا وتنجز
الواقع مع المصادفة، وعدم تنجزه في صورة المخالفة.
وكيف كان ليس مفاد دليل الاعتبار هو وجوب إلغاء احتمال الخلاف تعبدا،
كي يختلف الحال ويكون مفاده في الامارة نفي حكم الأصل، حيث أنه حكم
الاحتمال بخلاف مفاده فيه، لاجل أن الحكم الواقعي ليس حكم احتمال خلافه،
كيف؟ وهو حكم الشك فيه واحتماله، فافهم وتأمل جيدا.
463

فانقدح بذلك أنه لا تكاد ترتفع غائلة المطاردة والمعارضة بين الأصل
والامارة، إلا بما أشرنا سابقا وآنفا، فلا تغفل، هذا ولا تعارض أيضا إذا كان
أحدهما قرينة على التصرف في الآخر، كما في الظاهر مع النص أو الأظهر، مثل
العام والخاص والمطلق والمقيد، أو مثلهما مما كان أحدهما نصا أو أظهر حيث أن
بناء العرف على كون النص أو الأظهر قرينة على التصرف في الآخر.
وبالجملة: الأدلة في هذه الصور وإن كانت متنافية بحسب مدلولاتها، إلا
أنها غير متعارضة، لعدم تنافيها في الدلالة وفي مقام الاثبات، بحيث تبقى أبناء
المحاورة متحيرة، بل بملاحظة المجموع أو خصوص بعضها يتصرف في الجميع أو في
البعض عرفا، بما ترتفع به المنافاة التي تكون في البين، ولا فرق فيها بين أن يكون
464

السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا، فيقدم النص أو الأظهر - وان كان بحسب السند
ظنيا - على الظاهر ولو كان بسحبه قطعيا. وإنما يكون التعارض في غير هذه الصور
مما كان التنافي فيه بين الأدلة بحسب الدلالة ومرحلة الاثبات، وإنما يكون التعارض
بحسب السند فيما إذا كان كل واحد منها قطعيا دلالة وجهة، أو ظنيا فيما إذا لم يكن
التوفيق بينهما بالتصرف في البعض أو الكل، فإنه حينئذ لا معنى للتعبد بالسند في
الكل، إما للعلم بكذب أحدهما، أو لاجل أنه لا معنى للتعبد بصدورها مع أجمالها،
فيقع التعارض بين أدلة السند حينئذ، كما لا يخفى.
فصل
التعارض وإن كان لا يوجب إلا سقوط أحد المتعارضين عن الحجية رأسا،
حيث لا يوجب إلا العلم بكذب أحدهما، فلا يكون هناك مانع عن حجية الآخر،
إلا إنه حيث كان بلا تعيين ولا عنوان واقعا - فإنه لم يعلم كذبه إلا كذلك، واحتمال
465

كون كل منهما كاذبا - لم يكن واحد منهما بحجة في خصوص مؤداه، لعدم التعيين
في الحجة أصلا، كما لا يخفى.
نعم يكون نفي الثالث بأحدهما لبقائه على الحجية، وصلاحيته على ما هو
عليه من عدم التعين لذلك لا بهما، هذا بناء على حجية الامارات من باب
الطريقية، كما هو كذلك حيث لا يكاد يكون حجة طريقا إلا ما احتمل إصابته، فلا
محالة كان العلم بكذب أحدهما مانعا عن حجيته، وأما بناء على حجيتها من باب
466

السببية فكذلك لو كان الحجة هو خصوص ما لم يعلم كذبه، بأن لا يكون المقتضى
للسببية فيها إلا فيه، كما هو المتيقن من دليل اعتبار غير السند منها، وهو بناء العقلاء
على أصالتي الظهور والصدور، لا للتقية ونحوها، وكذا السند لو كان دليل اعتباره
هو بناؤهم أيضا، وظهوره فيه لو كان هو الآيات والاخبار، ضرورة ظهورها فيه،
لو لم نقل بظهورها في خصوص ما إذا حصل الظن منه أو الاطمئنان.
467

وأما لو كان المقتضي للحجية في كل واحد من المتعارضين لكان التعارض
بينهما من تزاحم الواجبين، فيما إذا كانا مؤديين إلى وجوب الضدين أو لزوم
المتناقضين، لا فيما إذا كان مؤدى أحدهما حكما غير إلزامي، فإنه حينئذ لا يزاحم
الآخر، ضرورة عدم صلاحية ما لا اقتضاء فيه أن يزاحم به ما فيه الاقتضاء، إلا أن
يقال بأن قضية اعتبار دليل الغير الالزامي أن يكون عن اقتضاء، فيزاحم به حينئذ ما
يقتضي الالزامي، ويحكم فعلا بغير الالزامي، ولا يزاحم بمقتضاه ما يقتضى الغير
الالزامي، لكفاية عدم تمامية علة الالزامي في الحكم بغيره.
468

نعم يكون باب التعارض من باب التزاحم مطلقا لو كان قضية الاعتبار هو
لزوم البناء والالتزام بما يؤدي إليه من الاحكام، لا مجرد العمل على وفقه بلا لزوم
الالتزام به، وكونهما من تزاحم الواجبين حينئذ وإن كان واضحا، ضرورة عدم
إمكان الالتزام بحكمين في موضوع واحد من الاحكام، إلا أنه لا دليل نقلا ولا
عقلا على الموافقة الالتزامية للاحكام الواقعية فضلا عن الظاهرية، كما مر
تحقيقه.
وحكم التعارض بناء على السببية فيما كان من باب التزاحم هو التخيير لو لم
469

يكن أحدهما معلوم الأهمية أو محتملها في الجملة، حسبما فصلناه في مسألة الضد،
وإلا فالتعيين، وفيما لم يكن من باب التزاحم هو لزوم الاخذ بما دل على الحكم
الالزامي، لو لم يكن في الآخر مقتضيا لغير الالزامي، وإلا فلا بأس بأخذه والعمل
عليه، لما أشرنا إليه من وجهه آنفا، فافهم.
هذا هو قضية القاعدة في تعارض الامارات، لا الجمع بينها بالتصرف في أحد
470

المتعارضين أو في كليهما، كما هو قضية ما يتراءى مما قيل من أن الجمع مهما أمكن أولى
من الطرح، إذ لا دليل عليه فيما لا يساعد عليه العرف مما كان المجموع أو أحدهما
قرينة عرفية على التصرف في أحدهما بعينه أو فيهما، كما عرفته في الصور السابقة،
مع أن في الجمع كذلك أيضا طرحا للامارة أو الامارتين، ضرورة سقوط أصالة
الظهور في أحدهما أو كليهما معه، وقد عرفت أن التعارض بين الظهورين فيما كان
471

سنديهما قطعيين، وفي السندين إذا كانا ظنيين، وقد عرفت أن قضية التعارض إنما
هو سقوط المتعارضين في خصوص كل ما يؤديان إليه من الحكمين، لا بقاؤهما على
الحجية بما يتصرف فيهما أو في أحدهما، أو بقاء سنديهما عليها كذلك بلا دليل يساعد
عليه من عقل أو نقل، فلا يبعد أن يكون المراد من إمكان الجمع هو إمكانه عرفا،
ولا ينافيه الحكم بأنه أولى مع لزومه حينئذ وتعينه، فإن أولويته من قبيل الأولوية في
أولي الأرحام، وعليه لا إشكال فيه ولا كلام.
472

فيه على ما هو التحقيق انه ان قلنا بان مقتضى دليل الحجية هو حجية خصوص
ما لم يعلم كذبه فالكلام فيه هو الكلام بناء على الطريقية واما ما علم كذبه فلا
يدل على حجيته كما هو كذلك، فان المتيقن من دليل الاعتبار اي بناء العقلاء
هو ظاهر الآيات والاخبار. واما ان قلنا بشموله لما علم كذبه اجمالا مثل المتعارضين
فلما كان مقتضى السببية على هذا الفرض في كل من المتعارضين موجودا فلا يخلو
حينئذ اما أن يكون كل واحد منهما مؤديا إلى التكليف، مثل ما إذا دل أحدهما
على وجوب شئ والآخر على حرمته، واما أن يكون أحدهما مؤديا إلى التكليف
اي الحكم الالزامي كالوجوب والحرمة، والآخر إلى حكم غير الزامي كالإباحة
والاستحباب والكراهة فإن كان من قبيل الأول يكون من باب التزاحم، وحكمه
التخييران لم يكن في البين أهمية أو احتمالها، وإلا فلا بد من الاخذ بالأهم أو
محتمل الأهمية، وان كان من قبيل الثاني فلا تزاحم في البين لعدم صلاحية
التزاحم بين ما لا اقتضاء فيه وما فيه الاقتضاء، وحكمه الاخذ بما دل على الحكم
الالزامي لان دليل غير الالزامي لا يقتضي نفي الالزامي، اللهم الا ان يقال
ان دليل غير الالزامي يدل على أنه كان عن علة واقتضاء فلا محالة يقع التزاحم
بين المقتضيين، والحكم فيه هو الاخذ بما دل على غير الالزامي، لعدم تمامية علة
الالزامي، ضرورة وجود الشك في وصول العلة بمرتبة تقتضي الالزام، وهذا كاف
في الحكم بعدم الالزام. * * *
473

فصل
لا يخفى أن ما ذكر من قضية التعارض بين الامارات، إنما هو بملاحظة
القاعدة في تعارضها، وإلا فربما يدعى الاجماع على عدم سقوط كلا المتعارضين في
الاخبار، كما اتفقت عليه كلمة غير واحد من الاخبار، ولا يخفى أن اللازم فيما إذا لم
تنهض حجة على التعيين أو التخيير بينهما هو الاقتصار على الراجح منهما، للقطع
بحجيته تخييرا أو تعيينا، بخلاف الآخر لعدم القطع بحجيته، والأصل عدم حجية
ما لم يقطع بحجيته، بل ربما ادعي الاجماع (1) أيضا حجية خصوص الراجح،
واستدل عليه بوجوه أخر أحسنها الاخبار، وهي على طوائف:
474

منها: ما دل على التخيير على الاطلاق، كخبر الحسن بن الجهم، عن
الرضا - عليه السلام -: (قلت: يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين
ولا يعلم أيهما الحق، قال: فإذا لم يعلم فموسع عليك بأيهما أخذت).
وخبر الحارث بن المغيرة، عن أبي عبد الله عليه السلام: (إذا سمعت من
أصحابك الحديث وكلهم ثقة، فموسع عليك حتى ترى القائم فترد عليه).
ومكاتبة عبد الله بن محمد إلى أبي الحسن عليه السلام (اختلف أصحابنا في
رواياتهم عن أبي عبد الله عليه السلام، في ركعتي الفجر، فروى بعضهم: صل في
المحمل، وروى بعضهم: لا تصلها إلا في الأرض، فوقع عليه السلام: موسع
عليك عليك بأية عملت) ومكاتبة الحميري إلى الحجة عليه السلام - إلى أن قال في
الجواب عن ذلك حديثان.. إلى أن قال عليه السلام - (وبأيهما أخذت من باب
التسليم كان صوابا) إلى غير ذلك من الاطلاقات.
ومنها: ما دل على التوقف مطلقا.
475

ومنها: ما دل على ما هو الحائط منها.
ومنها: ما دل على الترجيح بمزايا مخصوصة ومرجحات منصوصة، من
مخالفة القوم وموافقة الكتاب والسنة، والأعدلية، والأصدقية، والأفقهية
والأورعية، والأوثقية، والشهرة على اختلافها في الاقتصار على بعضها وفي الترتيب
بينها.
ولأجل اختلاف الاخبار اختلفت الانظار.
فمنهم من أوجب الترجيح بها، مقيدين بأخباره إطلاقات التخيير، وهم بين
من اقتصر على الترجيح بها، ومن تعدى منها إلى سائر المزايا الموجبة لأقوائية ذي
المزية وأقربيته، كما صار إليه شيخنا العلامة أعلى الله مقامه، أو المفيدة للظن، كما
ربما يظهره من غيره.
فالتحقيق أن يقال: إن أجمع خبر للمزايا المنصوصة في الاخبار هو
المقبولة والمرفوعة، مع اختلافهما وضعف سند المرفوعة جدا، والاحتجاج
بهما على وجوب الترجيح في مقام الفتوى لا يخلو عن إشكال، لقوة احتمال
اختصاص الترجيح بها بمورد الحكومة لرفع المنازعة وفصل الخصومة كما هو
موردهما، ولا وجه معه للتعدي منه إلى غيره، كما لا يخفى.
ولا وجه لدعوى تنقيح المناط، مع ملاحظة أن رفع الخصومة بالحكومة في
صورة تعارض الحكمين، وتعارض ما استندا إليه من الروايتين لا يكاد يكون إلا
بالترجيح ولذا أمر عليه السلام بإرجاء الواقعة إلى لقائه عليه السلام في صورة
تساويهما فيما ذكر من المزايا، بخلاف مقام الفتوى ومجرد مناسبة الترجيح لمقامها
أيضا لا يوجب ظهور الرواية في وجوبه مطلقا ولو في غير مورد الحكومة، كما لا
يخفى.
وإن أبيت إلا عن ظهورهما في الترجيح في كلا المقامين، فلا مجال لتقييد
إطلاقات التخيير في مثل زماننا مما لا يتمكن من لقاء الإمام عليه السلام بهما، لقصور
476

المرفوعة سندا وقصور المقبولة دلالة، لاختصاصها بزمان التمكن من لقائه عليه
السلام، ولذا ما أرجع إلى التخيير بعد فقد الترجيح، مع أن تقييد الاطلاقات
الواردة في مقام الجواب عن سؤال حكم المتعارضين - بلا استفصال عن كونهما
متعادلين أو متفاضلين، مع ندرة كونهما متساويين جدا - بعيد قطعا، بحيث لو لم
يكن ظهور المقبولة في ذاك الاختصاص لوجب حملها عليه أو على ما لا ينافيها من
الحمل على الاستحباب، كما فعله بعض الأصحاب، ويشهد به الاختلاف
الكثير بين ما دل على الترجيح من الاخبار.
ومنه قد انقدح حال سائر أخباره، مع أن في كون أخبار موافقة الكتاب أو
مخالفة القوم من أخبار الباب نظرا، وجهه قوة احتمال أن يكون الخبر المخالف
للكتاب في نفسه غير حجة، بشهادة ما ورد في أنه زخرف، وباطل، وليس
بشئ، أو أنه لم نقله، أو أمر بطرحه على الجدار، وكذا الخبر الموافق للقوم،
ضرورة أن أصالة عدم صدوره تقية - بملاحظة الخبر المخالف لهم مع الوثوق بصدوره
لولا القطع به - غير جارية، للوثوق حينئذ بصدوره كذلك، وكذا الصدور أو
الظهور في الخبر المخالف للكتاب يكون موهونا بحيث لا يعمه أدلة اعتبار السند ولا
الظهور، كما لا يخفى، فتكون هذه الأخبار في مقام تميز الحجة عن اللا حجة
لا ترجيح الحجة على الحجة، فافهم.
وإن أبيت عن ذلك، فلا محيص عن حملها توفيقا بينها وبين الاطلاقات، إما
على ذلك أو على الاستحباب كما أشرنا إليه آنفا، هذا ثم إنه لولا التوفيق بذلك للزم
التقييد أيضا في أخبار المرجحات، وهي آبية عنه، كيف يمكن تقييد مثل: (ما
خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف، أو باطل)؟ كما لا يخفى.
فتلخص - مما ذكرنا - أن اطلاقات التخيير محكمة، وليس في الاخبار ما
يصلح لتقييدها.
نعم قد استدل على تقييدها، ووجوب الترجيح في المتفاضلين بوجوه أخر:
منها: دعوى الاجماع على الاخذ بأقوى الدليلين.
477

وفيه أن دعوى الاجماع - مع مصير مثل الكليني إلى التخيير، وهو في عهد
الغيبة الصغرى ويخالط النواب والسفراء، قال في ديباجة الكافي: ولا نجد شيئا
أوسع ولا أحوط من التخيير - مجازفة.
ومنها: أنه لو لم يجب ترجيح ذي المزية، لزم ترجيح المرجوح على
الراجح وهو قبيح عقلا، بل ممتنع قطعا. وفيه أنه إنما يجب الترجيح لو كانت المزية
موجبة لتأكد ملاك الحجية في نظر الشارع، ضرورة إمكان أن تكون تلك المزية
بالإضافة إلى ملاكها من قبيل الحجر في جنب الانسان، وكان الترجيح بها بلا
مرجح، وهو قبيح كما هو واضح، هذا مضافا إلى ما هو في الاضراب من الحكم
بالقبح إلى الامتناع، من أن الترجيح بلا مرجح في الأفعال الاختيارية ومنها الأحكام الشرعية
، لا يكون إلا قبيحا، ولا يستحيل وقوعه إلا على الحكيم تعالى، وإلا فهو
بمكان من الامكان، لكفاية إرادة المختار علة لفعله، وإنما الممتنع هو وجود الممكن
بلا علة، فلا استحالة في ترجيحه تعالى للمرجوح، إلا من باب امتناع صدوره منه
تعالى، وأما غيره فلا استحالة في ترجيحه لما هو المرجوح مما باختياره.
وبالجملة: الترجيح بلا مرجح بمعنى بلا علة محال، وبمعنى بلا داع عقلائي
قبيح ليس بمحال، فلا تشتبه.
ومنها: غير ذلك مما لا يكاد يفيد الظن، فالصفح عنه أولى وأحسن.
ثم إنه لا إشكال في الافتاء بما اختاره من الخبرين، في عمل نفسه وعمل
مقلديه، ولا وجه للافتاء بالتخيير في المسألة الفرعية، لعدم الدليل عليه فيها.
نعم له الافتاء به في المسألة الأصولية، فلا بأس حينئذ باختيار المقلد غير ما
اختاره المفتي، فيعمل بما يفهم منه بصريحه أو بظهوره الذي لا شبهة فيه.
وهل التخيير بدوي أم استمراري؟ قضية الاستصحاب لو لم نقل بأنه قضية
الاطلاقات أيضا كونه استمراريا. وتوهم أن المتحير كان محكوما بالتخيير، ولا
تحير له بعد الاختيار، فلا يكون الاطلاق ولا الاستصحاب مقتضيا للاستمرار،
لاختلاف الموضوع فيهما، فاسد، فإن التحير بمعنى تعارض الخبرين باق على
478

حاله، وبمعنى آخر لم يقع في خطاب موضوعا للتخيير أصلا، كما لا يخفى.
فصل
هل على القول بالترجيح، يقتصر فيه على المرجحات المخصوصة
المنصوصة، أو يتعدى إلى غيرها؟ قيل بالتعدي، لما في الترجيح بمثل الأصدقية
والأوثقية ونحوهما، مما فيه من الدلالة على أن المناط في الترجيح بها هو كونها موجبة
للأقربية إلى الواقع، ولما في التعليل بأن المشهور مما لا ريب فيه، من استظهار أن
العلة هو عدم الريب فيه بالإضافة إلى الخبر الآخر ولو كان فيه ألف ريب، ولما في
التعليل بأن الرشد في خلافهم.
ولا يخفى ما في الاستدلال بها:
أما الأول: فإن جعل خصوص شئ فيه جهة الإراءة والطريقية حجة أو
مرجحا لا دلالة فيه على أن الملاك فيه بتمامه جهة إراءته، بل لا إشعار فيه كما لا
يخفى، لاحتمال دخل خصوصيته في مرجحيته أو حجيته، لا سيما قد ذكر فيها ما لا
يحتمل الترجيح به إلا تعبدا، فافهم.
وأما الثاني: فلتوقفه على عدم كون الرواية المشهورة في نفسها مما لا ريب
فيها، مع أن الشهرة في الصدر الأول بين الرواة وأصحاب الأئمة - عليهم السلام -
موجبة لكون الرواية مما يطمأن بصدورها، بحيث يصح أن يقال عرفا: إنها مما لا
ريب فيها، كما لا يخفى. ولا بأس بالتعدي منه إلى مثله مما يوجب الوثوق
والاطمئنان بالصدور، لا إلى كل مزية ولو لم يوجب إلا أقربية ذي المزية إلى الواقع،
من المعارض الفاقد لها.
وأما الثالث: فلاحتمال أن يكون الرشد في نفس المخالفة، لحسنها، ولو
سلم أنه لغلبة الحق في طرف الخبر المخالف، فلا شبهة في حصول الوثوق بأن الخبر
الموافق المعارض بالمخالف لا يخلو من الخلل صدورا أو جهة، ولا بأس بالتعدي
منه إلى مثله، كما مر آنفا.
479

ومنه انقدح حال ما إذا كان التعليل لاجل انفتاح باب التقية فيه، ضرورة
كمال الوثوق بصدوره كذلك، مع الوثوق بصدورهما، لولا القطع به في الصدر
الأول، لقلة الوسائط ومعرفتها، هذا مع ما في عدم بيان الامام - عليه السلام -
للكلية كي لا يحتاج السائل إلى إعادة السؤال مرارا، وما في أمره - عليه السلام -
بالارجاء بعد فرض التساوي فيما ذكره من المزايا المنصوصة، من الظهور في أن المدار
في الترجيح على المزايا المخصوصة، كما لا يخفى.
ثم إنه بناء على التعدي حيث كان في المزايا المنصوصة ما لا يوجب الظن بذي
المزية ولا أقربيته، كبعض صفات الراوي مثل الأورعية أو الأفقهية، إذا كان
موجبهما مما لا يوجب الظن أو الأقربية، كالتورع من الشبهات، والجهد في
العبادات، وكثرة التتبع في المسائل الفقهية أو المهارة في القواعد الأصولية، فلا وجه
للاقتصار على التعدي إلى خصوص ما يوجب الظن أو الأقربية، بل إلى كل مزية،
ولو لم تكن بموجبة لأحدهما، كما لا يخفى.
وتوهم أن ما يوجب الظن بصدق أحد الخبرين لا يكون بمرجح، بل موجب
لسقوط الآخر عن الحجية للظن بكذبه حينئذ، فاسد. فإن الظن بالكذب لا يضر
بحجية ما اعتبر من باب الظن نوعا، وإنما يضر فيما أخذ في اعتباره عدم الظن
بخلافه، ولم يؤخذ في اعتبار الاخبار صدورا ولا ظهورا ولا جهة ذلك، هذا
مضافا إلى اختصاص حصول الظن بالكذب بما إذا علم بكذب أحدهما صدورا،
وإلا فلا يوجبه الظن بصدور أحدهما لامكان صدورهما مع عدم إرادة الظهور في
أحدهما أو فيهما، أو إرادته تقية، كما لا يخفى.
نعم لو كان وجه التعدي اندراج ذي المزية في أقوى الدليلين لوجب الاقتصار
على ما يوجب القوة في دليليته وفي جهة إثباته وطريقيته، من دون التعدي إلى ما لا
يوجب ذلك، وإن كان موجبا لقوة مضمون ذيه ثبوتا، كالشهرة الفتوائية أو الأولوية
الظنية ونحوهما، فإن المنساق من قاعدة أقوى الدليلين أو المتيقن منها، إنما هو
الأقوى دلالة، كما لا يخفى. فافهم.
480

فصل
قد عرفت سابقا أنه لا تعارض في موارد الجمع والتوفيق العرفي، ولا يعمها ما يقتضيه
الأصل في المتعارضين، من سقوط أحدهما رأسا وسقوط كل منهما في خصوص
مضمونه، كما إذا لم يكونا في البين، فهل التخيير أو الترجيح يختص أيضا بغير
مواردها أو يعمها؟ قولان: أولهما المشهور، وقصارى ما يقال في وجهه: إن الظاهر
من الاخبار العلاجية - سؤالا وجوابا - هو التخيير أو الترجيح في موارد التحير، مما لا
يكاد يستفاد المراد هناك عرفا، لا فيما يستفاد ولو بالتوفيق، فإنه من أنحاء طرق
الاستفادة عند أبناء المحاورة.
ويشكل بأن مساعدة العرف على الجمع والتوفيق وارتكازه في أذهانهم على وجه
وثيق، لا يوجب اختصاص السؤالات بغير موارد الجمع، لصحة السؤال بملاحظة
التحير في الحال لاجل ما يتراءى من المعارضة وإن كان يزول عرفا بحسب المآل، أو
للتحير في الحكم واقعا وإن لم يتحير فيه ظاهرا، وهو كاف في صحته قطعا، مع
إمكان أن يكون لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة،
وجل العناوين المأخوذة في الأسئلة لولا كلها يعمها، كما لا يخفى.
ودعوى أن المتيقن منها غيرها مجازفة، غايته أنه كان كذلك خارجا لا بحسب
مقام التخاطب، وبذلك ينقدح وجه القول الثاني، اللهم إلا أن يقال: إن التوفيق
في مثل الخاص والعام والمقيد والمطلق، كان عليه السيرة القطعية من لدن زمان
الأئمة عليهم السلام، وهي كاشفة إجمالا عما يوجب تخصيص أخبار العلاج بغير
موارد التوفيق العرفي، لولا دعوى اختصاصها به، وأنها سؤالا وجوابا بصدد
الاستعلاج والعلاج في موارد التحير والاحتياج، أو دعوى الاجمال وتساوي احتمال
العموم مع احتمال الاختصاص، ولا ينافيها مجرد صحة السؤال لما لا ينافي العموم
ما لم يكن هناك ظهور أنه لذلك، فلم يثبت بأخبار العلاج ردع عما هو عليه بناء
العقلاء وسيرة العلماء، من التوفيق وحمل الظاهر على الأظهر، والتصرف فيما
481

يكون صدورهما قرينة عليه، فتأمل.
فصل
قد عرفت حكم تعارض الظاهر والأظهر وحمل الأول على الآخر، فلا إشكال
فيما إذا ظهر أن أيهما ظاهر وأيهما أظهر، وقد ذكر فيما أشتبه الحال لتمييز ذلك ما لا
عبرة به أصلا، فلا بأس بالإشارة إلى جملة منها وبيان ضعفها:
منها: ما قيل في ترجيح ظهور العموم على الاطلاق، وتقديم التقييد على
التخصيص فيما دار الامر بينهما، من كون ظهور العام في العموم تنجيزيا، بخلاف
ظهور المطلق في الاطلاق، فإنه معلق على عدم البيان، والعام يصلح بيانا، فتقديم
العام حينئذ لعدم تمامية مقتضى الاطلاق معه، بخلاف العكس، فإنه موجب
لتخصيصه بلا وجه إلا على نحو دائر. ومن أن التقييد أغلب من التخصيص.
وفيه: إن عدم البيان الذي هو جزء المقتضي في مقدمات الحكمة، إنما هو عدم
البيان في مقام التخاطب لا إلى الأبد، وأغلبية التقييد مع كثرة التخصيص بمثابة قد
قيل: ما من عام إلا وقد خص، غير مفيد، فلا بد (2) في كل قضية من ملاحظة
خصوصياتها الموجبة لأظهرية أحدهما من الآخر، فتدبر.
ومنها: ما قيل فيما إذا دار بين التخصيص والنسخ - كما إذا ورد عام بعد
حضور وقت العمل بالخاص، حيث يدور بين أن يكون الخاص مخصصا أو يكون
العام ناسخا، أو ورد الخاص بعد حضور وقت العمل بالعام، حيث يدور بين أن
يكون الخاص مخصصا للعام، أو ناسخا له ورافعا لاستمراره ودوامه - في وجه تقديم
التخصيص على النسخ، من غلبة التخصيص وندرة النسخ.
ولا يخفى أن دلالة الخاص أو العام على الاستمرار والدوام إنما هو بالاطلاق لا
بالوضع، فعلى الوجه العقلي في تقديم التقييد على التخصيص كان اللازم في هذا
الدوران تقديم النسخ على التخصيص أيضا، وإن غلبة التخصيص إنما توجب
أقوائية ظهور الكلام في الاستمرار والدوام من ظهور العام في العموم إذا كانت
482

مرتكزة في أذهان أهل المحاورة بمثابة تعد من القرائن المكتنفة بالكلام، وإلا فهي
وإن كانت مفيدة للظن بالتخصيص، إلا أنها غير موجبة لها، كما لا يخفى.
ثم إنه بناء على إعتبار عدم حضور وقت العمل في التخصيص، لئلا يلزم
تأخير البيان عن وقت الحاجة، يشكل الامر في تخصيص الكتاب أو السنة
بالخصوصيات الصادرة عن الأئمة عليهم السلام، فإنها صادرة بعد حضور وقت
العمل بعموماتها، والتزام نسخهما بها ولو قيل بجواز نسخهما بالرواية عنهم عليهم
السلام كما ترى، فلا محيص في حله من أن يقال: إن اعتبار ذلك حيث كان لاجل
قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة، وكان من الواضح أن ذلك فيما إذا لم يكن هناك
مصلحة في إخفاء الخصوصات أو مفسدة في إبدائها، كإخفاء غير واحد من
التكاليف في الصدر الأول، لم يكن بأس بتخصيص عموماتهما بها، واستكشاف أن
موردها كان خارجا عن حكم العام واقعا وإن كان داخلا فيه ظاهرا، ولأجله لا بأس
بالالتزام بالنسخ بمعنى رفع اليد بها عن ظهور تلك العمومات بإطلاقها في الاستمرار
والدوام أيضا، فتفطن.
فصل
لا إشكال في تعيين الأظهر لو كان في البين إذا كان التعارض بين الاثنين،
وأما إذا كان بين الزائد عليهما فتعينه ربما لا يخلو عن خفاء، ولذا وقع بعض (1)
الاعلام في اشتباه وخطأ، حيث توهم أنه إذا كان هناك عام وخصوصات وقد
خصص ببعضها، كان اللازم ملاحظة النسبة بينه وبين سائر الخصوصات بعد
تخصيصه به، فربما تنقلب النسبة إلى عموم وخصوص من وجه، فلا بد من رعاية
هذه النسبة وتقديم الراجح منه ومنها، أو التخيير بينه وبينها لو لم يكن هناك راجح،
لا تقديمها عليه، إلا إذا كانت النسبة بعده على حالها.
وفيه: إن النسبة إنما هي بملاحظة الظهورات، وتخصيص العام بمخصص
منفصل ولو كان قطعيا لا ينثلم به ظهوره، وإن انثلم به حجيته، ولذلك يكون بعد
التخصيص حجة في الباقي، لأصالة عمومه بالنسبة إليه.
483

لا يقال: إن العام بعد تخصيصه بالقطعي لا يكون مستعملا في العموم
قطعا، فكيف يكون ظاهرا فيه؟
فإنه يقال: إن المعلوم عدم إرادة العموم، لا عدم استعماله فيه لإفادة القاعدة
الكلية، فيعمل بعمومها ما لم يعلم بتخصيصها، وإلا لم يكن وجه في حجيته في تمام
الباقي، لجواز استعماله حينئذ فيه وفي غيره من المراتب التي يجوز أن ينتهي إليها
التخصيص، وأصالة عدم مخصص آخر لا يوجب انعقاد ظهور له، لا فيه ولا في
غيره من المراتب، لعدم الوضع ولا القرينة المعينة لمرتبة منها، كما لا يخفى، لجواز
إرادتها وعدم نصب قرينة عليها.
نعم ربما يكون نصب قرينة مع كون العام في مقام البيان قرينة على إرادة
التمام، وهو غير ظهور العام فيه في كل مقام.
فانقدح بذلك أنه لا بد من تخصيص العام بكل واحد من الخصوصات
مطلقا، ولو كان بعضها مقدما أو قطعيا، ما لم يلزم منه محذور انتهائه إلى ما لا يجوز
الانتهاء إليه عرفا، ولو لم يكن مستوعبة لافراده، فضلا عما إذا كانت مستوعبة لها،
فلا بد حينئذ من معاملة التباين بينه وبين مجموعها ومن ملاحظة الترجيح بينهما
وعدمه، فلو رجح جانبها أو اختير فيما لم يكن هناك ترجيح فلا مجال للعمل به
أصلا، بخلاف ما لو رجح طرفه أو قدم تخييرا، فلا يطرح منها إلا خصوص ما لا
يلزم مع طرحة المحذور من التخصيص بغيره، فإن التباين إنما كان بينه وبين
مجموعها لا جميعها، وحينئذ فربما يقع التعارض بين الخصوصات فيخصص ببعضها
ترجيحا أو تخييرا، فلا تغفل.
هذا فيما كانت النسبة بين المتعارضات متحدة، وقد ظهر منه حالها فيما كانت
النسبة بينها متعددة، كما إذا ورد هناك عامان من وجه مع ما هو أخص مطلقا من
أحدهما، وأنه لا بد من تقديم الخاص على العام ومعاملة العموم من وجه بين
العامين من الترجيح والتخيير بينهما، وإن انقلبت النسبة بينهما إلى العموم المطلق بعد
تخصيص أحدهما، لما عرفت من أنه لا وجه إلا لملاحظة النسبة قبل العلاج.
484

نعم لو لم يكن الباقي تحته بعد تخصيصه إلا ما لا يجوز أن يجوز عنه التخصيص
أو كان بعيدا جدا، لقدم على العام الآخر، لا لانقلاب النسبة بينهما، بل لكونه
كالنص فيه، فيقدم على الآخر الظاهر فيه بعمومه، كما لا يخفى.
فصل
لا يخفى أن المزايا المرجحة لاحد المتعارضين الموجبة للاخذ به وطرح الآخر
- بناء على وجوب الترجيح - وإن كانت على أنحاء مختلفة ومواردها متعددة، من راوي
الخبر ونفسه ووجه صدوره ومتنه ومضمونه مثل: الوثاقة والفقاهة والشهرة
ومخالفة العامة والفصاحة وموافقة الكتاب والموافقة لفتوى الأصحاب، إلى غير ذلك
مما يوجب مزية في طرف من أطرافه، خصوصا لو قيل بالتعدي من المزايا
المنصوصة، إلا أنها موجبة لتقديم أحد السندين وترجيحه وطرح الآخر، فإن أخبار
العلاج دلت على تقديم رواية ذات مزية في أحد أطرافها ونواحيها فجميع هذه من
مرجحات السند حتى موافقة الخبر للتقية، فإنها أيضا مما يوجب ترجيح أحد
السندين وحجيته فعلا وطرح الآخر رأسا، وكونها في مقطوعي الصدور متمحضة في
ترجيح الجهة لا يوجب كونها كذلك في غيرهما، ضرورة أنه لا معنى للتعبد بسند
ما يتعين حمله على التقية، فكيف يقاس على ما لا تعبد فيه للقطع بصدوره؟.
ثم إنه لا وجه لمراعاة الترتب بين المرجحات لو قيل بالتعدي وإناطة الترجيح
بالظن أو بالأقربية إلى الواقع، ضرورة أن قضية ذلك تقديم الخبر ظن
صدقه أو كان أقرب إلى الواقع منهما، والتخيير بينهما إذا تساويا، فلا وجه لاتعاب
النفس في بيان أن أيها يقدم أو يؤخر إلا تعيين أن يكون فيه المناط في صورة مزاحمة
بعضها مع الآخر.
وأما لو قيل بالاقتصار على المزايا المنصوصة فله وجه لما يتراءى من ذكرها مرتبا
في المقبولة والمرفوعة، مع إمكان أن يقال: إن الظاهر كونهما كسائر أخبار الترجيح
بصدد بيان أن هذا مرجح وذاك مرجح، ولذا اقتصر في غير واحد منها على
ذكر مرجح واحد، وإلا لزم تقييد جميعها على كثرتها بما في المقبولة، وهو بعيد جدا،
485

وعليه فمتى وجد في أحدهما مرجح وفي الآخر آخر منها، كان المرجح هو إطلاقات
التخيير، ولا كذلك على الأول بل لا بد من ملاحظة الترتيب، إلا إذا كانا في عرض
واحد.
وانقدح بذلك أن حال المرجح الجهتي حال سائر المرجحات، في أنه لا بد في
صورة مزاحمته مع بعضها من ملاحظة أن أيهما فعلا موجب للظن بصدق ذيه
بمضمونه، أو الأقربية كذلك إلى الواقع، فيوجب ترجيحه وطرح الآخر، أو أنه لا
مزية لأحدهما على الآخر، كما إذا كان الخبر الموافق للتقية بماله من المزية مساويا
للخبر المخالف لها بحسب المناطين، فلا بد حينئذ من التخيير بين الخبرين، فلا
وجه لتقديمه على غيره، كما عن الوحيد البهبهاني - قدس سره - وبالغ فيه
بعض أعاظم المعاصرين - أعلى الله درجته - ولا لتقديم غيره عليه، كما يظهر من
شيخنا العلامة - أعلى الله مقامه قال:
أما لو زاحم الترجيح بالصدور الترجيح من حيث جهة الصدور، بأن كان
الأرجح صدروا موافقا للعامة، فالظاهر تقديمه على غيره وإن كان مخالفا للعامة،
بناء على تعليل الترجيح بمخالفة العامة باحتمال التقية في الموافق، لان هذا الترجيح
ملحوظ في الخبرين بعد فرض صدورهما قطعا كما في المتواترين، أو تعبدا كما في
الخبرين بعد عدم إمكان التعبد بصدور أحدهما وترك التعبد بصدور الآخر، وفيما
نحن فيه يمكن ذلك بمقتضى أدلة الترجيح من حيث الصدور.
إن قلت: إن الأصل في الخبرين الصدور، فإذا تعبدنا بصدورهما اقتضى
ذلك الحكم بصدور الموافق تقية، كما يقتضي ذلك الحكم بإرادة خلاف الظاهر في
أضعفهما، فيكون هذا المرجح نظير الترجيح بحسب الدلالة مقدما على الترجيح
بحسب الصدور.
قلت: لا معنى للتعبد بصدورهما مع وجوب حمل أحدهما المعين على التقية،
لأنه إلغاء لأحدهما في الحقيقة.
وقال بعد جملة من الكلام:
486

فمورد هذا الترجيح تساوي الخبرين من حيث الصدور، إما علما كما في
المتواترين، أو تعبدا كما في المتكافئين من الاخبار، وأما ما وجب فيه التعبد بصدور
أحدهما المعين دون الآخر فلا وجه لاعمال هذا المرجح فيه، لان جهة الصدور
متفرع على أصل الصدور، إنتهى موضع الحاجة من كلامه، زيد في علو مقامه.
وفيه - مضافا إلى ما عرفت - أن حديث فرعية جهة الصدور على أصله إنما يفيد
إذا لم يكن المرجح الجهتي من مرجحات أصل الصدور بل من مرجحاتها، وأما إذا
كان من مرجحاته بأحد المناطين، فأي فرق بينه وبين سائر المرجحات؟ ولم يقم دليل
بعد في الخبرين المتعارضين على وجوب التعبد بصدور الراجح منهما من حيث غير
الجهة، مع كون الآخر راجحا بحسبها، بل هو أول الكلام، كما لا يخفى، فلا
محيص من ملاحظة الراجح من المرجحين بحسب أحد المناطين، أو من دلالة أخبار
العلاج، على الترجيح بينهما مع المزاحمة، ومع عدم الدلالة ولو لعدم التعرض لهذه
الصورة فالمحكم هو إطلاق التخيير، فلا تغفل.
وقد أورد بعض أعاظم تلاميذه عليه بانتقاضه بالمتكافئين من حيث
الصدور، فإنه لو لم يعقل التعبد بصدور المتخالفين من حيث الصدور، مع حمل
أحدهما على التقية، لم يعقل التعبد بصدورهما مع حمل أحدهما عليها، لأنه إلغاء
لأحدهما أيضا في الحقيقة.
وفيه مالا يخفى من الغفلة، وحسبان أنه التزم - قدس سره - في مورد
الترجيح بحسب الجهة باعتبار تساويهما من حيث الصدور، إما للعلم بصدورهما،
وإما للتعبد به فعلا، مع بداهة أن غرضه من التساوي من حيث الصدور تعبدا
تساويهما بحسب دليل التعبد بالصدور قطعا، ضرورة أن دليل حجية الخبر لا
يقتضي التعبد فعلا بالمتعارضين، بل ولا بأحدهما، وقضية دليل العلاج ليس إلا
التعبد بأحدهما تخييرا أو ترجيحا.
والعجب كل العجب أنه رحمه الله لم يكتف بما أورده من النقض، حتى ادعى
استحالة تقديم الترجيح بغير هذا المرجح على الترجيح به، وبرهن عليه بما حاصله
487

امتناع التعبد بصدور الموافق، لدوران أمره بين عدم صدوره من أصله، وبين
صدوره تقية، ولا يعقل التعبد به على التقديرين بداهة، كما أنه لا يعقل التعبد
بالقطعي الصدور الموافق، بل الامر في الظني الصدور أهون، لاحتمال عدم
صدوره، بخلافه.
ثم قال: فاحتمال تقديم المرجحات السندية على مخالفة العامة، مع نص
الامام - عليه السلام - على طرح موافقهم، من العجائب والغرائب التي لم يعهد
صدورها من ذي مسكة، فضلا عمن هو تالي العصمة علما وعملا.
ثم قال: وليت شعري، إن هذه الغفلة الواضحة كيف صدرت منه؟ مع أنه
في وجودة النظر يأتي بما يقرب من شق القمر.
وأنت خبير بوضوح فساد برهانه، ضرورة عدم دوران أمر الموافق بين
الصدور تقية وعدم الصدور رأسا، لاحتمال صدوره لبيان حكم الله واقعا، وعدم
صدور المخالف المعارض له أصلا، ولا يكاد يحتاج في التعبد إلى أزيد من احتمال
صدور الخبر لبيان ذلك بداهة، وإنما دار احتمال الموافق بين الاثنين إذا كان المخالف
قطعيا صدروا وجهة ودلالة، ضرورة دوران معارضة حينئذ بين عدم صدوره
وصدوره تقية، وفي غير هذه الصورة كان دوران أمره بين الثلاثة لا محالة، لاحتمال
صدوره لبيان الحكم الواقعي حينئذ أيضا.
ومنه قد انقدح إمكان التعبد بصدور الموافق القطعي لبيان الحكم الواقعي
أيضا، وإنما لم يكن التعبد بصدوره لذلك إذا كان معارضة المخالف قطعيا بحسب
السند والدلالة، لتعيين حمله على التقية حينئذ لا محالة، ولعمري إن ما ذكرنا أوضح
من أن يخفى على مثله، إلا أن الخطأ والنسيان كالطبيعة الثانية للانسان، عصمنا
الله من زلل الاقدام والأقلام في كل ورطة ومقام.
ثم إن هذا كله إنما هو بملاحظة أن هذا المرجح مرجح من حيث الجهة،
وأما بما هو موجب لأقوائية دلالة ذيه من معارضه، لاحتمال التورية في المعارض
المحتمل فيه التقية دونه، فهو مقدم على جميع مرجحات الصدور، بناء على ما هو
488

المشهور من تقدم التوفيق - بحمل الظاهر على الأظهر - على الترجيح بها، اللهم إلا
أن يقال: أن باب احتمال التورية وإن كان مفتوحا فيما احتمل فيه التقية، إلا أنه
حيث كان بالتأمل والنظر لم يوجب أن يكون معارضه أظهر، بحيث يكون قرينة على
التصرف عرفا في الآخر، فتدبر.
فصل
موافقة الخبر لما يوجب الظن بمضمونه ولو نوعا من المرجحات في الجملة - بناء
على لزوم الترجيح - لو قيل بالتعدي من المرجحات المنصوصة، أو قيل بدخوله في
القاعدة المجمع عليها كما ادعي، وهي لزوم العمل بأقوى الدليلين، وقد عرفت
أن التعدي محل نظر بل منع، وأن الظاهر من القاعدة هو ما كان الأقوائية من حيث
الدليلية والكشفية، ومضمون أحدهما مظنونا، لاجل مساعدة أمارة ظنية عليه، لا
يوجب قوة فيه من هذه الحيثية، بل هو على ما هو على من القوة لولا مساعدتها، كما
لا يخفى، ومطابقة أحد الخبرين لها لا يكون لازمه الظن بوجود خلل في الآخر، إما
من حيث الصدور، أو من حيث جهته، كيف؟ وقد اجتمع مع القطع بوجود جميع
ما اعتبر في حجية المخالف لولا معارضة الموافق، والصدق واقعا لا يكاد يعتبر في
الحجية، كما لا يكاد يضر بها الكذب كذلك، فافهم. هذا حال الامارة الغير
المعتبرة لعدم الدليل على اعتبارها.
أما ما ليس بمعتبر بالخصوص لاجل الدليل على عدم اعتباره بالخصوص
كالقياس، فهو وإن كان كالغير المعتبر لعدم الدليل، بحسب ما يقتضي الترجيح به
من الاخبار بناء على التعدي، والقاعدة بناء على دخول مظنون المضمون في أقوى
الدليلين، إلا أن الاخبار الناهية عن القياس وأن السنة إذا قيست محق
الدين، مانعة عن الترجيح به، ضرورة أن استعماله في ترجيح أحد الخبرين
استعمال له في المسألة الشرعية الأصولية، وخطره ليس بأقل من استعماله في المسألة
الفرعية.
وتوهم أن حال القياس ها هنا ليس في تحقق الأقوائية به إلا كحاله فيما ينقح به
489

موضوع آخر ذو حكم، من دون اعتماد عليه في مسألة أصولية ولا فرعية، قياس
مع الفارق، لوضوح الفرق بين المقام والقياس في الموضوعات الخارجية الصرفة،
فإن القياس المعمول فيها ليس في الدين، فيكون إفساده أكثر من إصلاحه، وهذا
بخلاف المعمول في المقام، فإنه نحو إعمال له في الدين، ضرورة أنه لولاه لما تعين
الخبر الموافق له للحجية بعد سقوطه عن الحجية بمقتضى أدلة الاعتبار، والتخيير بينه
وبين معارضه بمقتضى أدلة العلاج، فتأمل جيدا.
وإما ما إذا اعتضد بما كان دليلا مستقلا في نفسه، كالكتاب والسنة القطعية،
فالمعارض المخالف لأحدهما إن كانت مخالفته بالمباينة الكلية، فهذه الصورة خارجة
عن مورد الترجيح، لعدم حجية الخبر المخالف كذلك من أصله، ولو مع عدم
المعارض، فإنه المتيقن من الاخبار الدالة على أنه زخرف أو باطل، أو أنه: لم
نقله، أو غير ذلك.
وإن كانت مخالفته بالعموم والخصوص المطلق، فقضية القاعدة فيها، وإن
كانت ملاحظة المرجحات بينه وبين الموافق وتخصيص الكتاب به تعيينا أو تخييرا، لو
لم يكن الترجيح في الموافق، بناء على جواز تخصيص الكتاب بخير الواحد، إلا أن
الاخبار الدالة على أخذ الموافق من المتعارضين غير قاصرة عن العموم لهذه الصورة،
لو قيل بأنها في مقام ترجيح أحدهما لا تعيين الحجة عن اللا حجة، كما نزلناها
عليه، ويؤيده أخبار العرض على الكتاب الدالة على عدم حجية المخالف من
أصله، فإنهما تفرغان عن لسان واحد، فلا وجه لحمل المخالفة في أحدهما على
خلاف المخالفة في الأخرى، كما لا يخفى.
اللهم إلا أن يقال: نعم، إلا أن دعوى اختصاص هذه الطائفة بما إذا
كانت المخالفة بالمباينة - بقرينة القطع بصدور المخالف الغير المباين عنهم عليهم السلام
كثيرا، وإباء مثل: ما خالف قول ربنا لم أقله، أو زخرف أو باطل عن
التخصيص - غير بعيدة، وإن كانت المخالفة بالعموم والخصوص من وجه، فالظاهر
أنها كالمخالفة في الصورة الأولى كما لا يخفى، وأما الترجيح بمثل الاستصحاب، كما
490

وقع في كلام غير واحد من الأصحاب، فالظاهر أنه لاجل اعتباره من باب الظن
والطريقية عندهم، وأما بناء على اعتباره تعبدا من باب الاخبار وظيفة للشاك، كما
هو المختار، كسائر الأصول العملية التي يكون كذلك عقلا أو نقلا، فلا
وجه للترجيح به أصلا، لعدم تقوية مضمون الخبر بموافقته، ولو بملاحظة
دليل اعتباره كما لا يخفى.
هذا آخر ما أردنا إيراده، والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا. * * *
491

الخاتمة
الاجتهاد والتقليد
493

أما الخاتمة: فهي فيما يتعلق بالاجتهاد والتقليد
فصل
الاجتهاد لغة: تحمل المشقة، واصطلاحا كما عن الحاجبي والعلامة:
استفراغ الوسع في تحصيل الظن بالحكم الشرعي، وعن غيرهما: ملكة يقتدر بها
على استنباط الحكم الشرعي الفرعي من الأصل فعلا أو قوة قريبة.
ولا يخفى أن اختلاف عباراتهم في بيان معناه اصطلاحا، ليس من جهة
الاختلاف في حقيقته وماهيته، لوضوح أنهم ليسوا في مقام بيان حده أو رسمه، بل
إنما كانوا في مقام شرح اسمه والإشارة إليه بلفظ آخر وإن لم يكن مساويا له بحسب
مفهومه، كاللغوي في بيان معاني الألفاظ بتبديل لفظ بلفظ آخر، ولو كان أخص
منه مفهوما أو أعم.
ومن هنا انقدح أنه لا وقع للايراد على تعريفاته بعدم الانعكاس أو الاطراد،
كما هو الحال في تعريف جل الأشياء لولا الكل، ضرورة عدم الإحاطة بها بكنهها،
أو بخواصها الموجبة لامتيازها عما عداها، لغير علام الغيوب، فافهم.
وكيف كان، فالأولى تبديل الظن بالحكم بالحجة عليه، فإن المناط فيه هو
تحصيلها قوة أو فعلا لا الظن حتى عند العامة القائلين بحجيته مطلقا، أو بعض
الخاصة القائل بها عند انسداد باب العلم بالاحكام، فإنه مطلقا عندهم، أو عند
495

الانسداد عنده من أفراد الحجة، ولذا لا شبهة في كون استفراغ الوسع في تحصيل
غيره من أفرادها - من العلم بالحكم أو غيره مما اعتبر من الطرق التعبدية الغير المفيدة
للظن ولو نوعا - اجتهادا أيضا.
ومنه قد انقدح أنه لا وجه لتأبي الاخباري عن الاجتهاد بهذا المعنى، فإنه لا
محيص عنه كما لا يخفى، غاية الامر له أن ينازع في حجية بعض ما يقول الأصولي
باعتباره ويمنع عنها، وهو غير ضائر بالاتفاق على صحة الاجتهاد بذاك المعنى،
ضرورة أنه ربما يقع بين الأخباريين، كما وقع بينهم وبين الأصوليين.
فصل
ينقسم الاجتهاد إلى مطلق وتجز، فالاجتهاد المطلق هو ما يقتدر به على
استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة، أو أصل معتبر عقلا أو نقلا في الموارد
التي لم يظفر فيها بها، والتجزي هو ما يقتدر به على استنباط بعض الاحكام.
ثم إنه لا إشكال في إمكان المطلق وحصوله للاعلام، وعدم التمكن من
الترجيح في المسألة وتعيين حكمها والتردد منهم في بعض المسائل أنما هو بالنسبة إلى
حكمها الواقعي، لاجل عدم دليل مساعد في كل مسألة عليه، أو عدم الظفر به بعد
الفحص عنه بالمقدار اللازم، لا لقلة الاطلاع أو قصور الباع.
وأما بالنسبة إلى حكمها الفعلي، فلا تردد لهم أصلا، كما لا إشكال في جواز
العمل بهذا الاجتهاد لمن اتصف به، وأما لغيره فكذا لا إشكال فيه، إذا كان
المجتهد ممن كان باب العلم أو العلمي بالاحكام مفتوحا له - على ما يأتي من الأدلة
على جواز التقليد - بخلاف ما إذا انسد عليه بابهما، فجواز تقليد الغير عنه في غاية
الاشكال، فإن رجوعه إليه ليس من رجوع الجاهل إلى العالم بل إلى الجاهل، وأدلة
جواز التقليد إنما دلت على جواز رجوع غير العالم إلى العالم كما لا يخفى، وقضية
مقدمات الانسداد ليست إلا حجية الظن عليه لا على غيره، فلا بد في حجية اجتهاد
مثله على غيره من التماس دليل آخر غير دليل التقليد وغير دليل الانسداد الجاري
في حق المجتهد، من إجماع أو جريان مقدمات دليل الانسداد في حقه، بحيث
496

تكون منتجة لحجية الظن الثابت حجيته بمقدماته له أيضا، ولا مجال لدعوى
الاجماع، ومقدماته كذلك غير جارية في حقه، لعدم انحصار المجتهد به، أو عدم
لزوم محذور عقلي من عمله بالاحتياط وان لزم منه العسر، إذا لم يكن له سبيل إلى
إثبات عدم وجوبه مع عسره.
نعم، لو جرت المقدمات كذلك، بأن انحصر المجتهد، ولزم من الاحتياط
المحذور، أو لزم منه العسر مع التمكن من إبطال وجوبه حينئذ، كانت منتجة
لحجيته في حقه أيضا، لكن دونه خرط القتاد، هذا على تقدير الحكومة.
وأما على تقدير الكشف وصحته، فجواز الرجوع إليه في غاية الاشكال لعدم
مساعدة أدلة التقليد على جواز الرجوع إلى من اختص حجية ظنه به، وقضية
مقدمات الانسداد اختصاص حجية الظن بمن جرت في حقه دون غيره، ولو سلم
أن قضيتها كون الظن المطلق معتبرا شرعا، كالظنون الخاصة التي دل الدليل على
اعتبارها بالخصوص، فتأمل.
إن قلت: حجية الشئ شرعا مطلقا لا يوجب القطع بما أدى إليه من الحكم
ولو ظاهرا، كما مر تحقيقه، وأنه ليس أثره إلا تنجز الواقع مع الإصابة، والعذر
مع عدمها، فيكون رجوعه إليه مع انفتاح باب العلمي عليه أيضا رجوعا إلى
الجاهل، فضلا عما إذا انسد عليه.
قلت: نعم، إلا إنه عالم بموارد قيام الحجة الشرعية على الاحكام، فيكون
من رجوع الجاهل إلى العالم.
إن قلت: رجوعه إليه في موارد فقد الامارة المعتبرة عنده التي يكون المرجع فيها
الأصول العقلية، ليس إلا الرجوع إلى الجاهل.
قلت: رجوعه إليه فيها إنما هو لاجل اطلاعه على عدم الامارة الشرعية فيها،
وهو عاجز عن الاطلاع على ذلك، وأما تعيين ما هو حكم العقل وأنه مع عدمها هو
البراءة أو الاحتياط، فهو إنما يرجع إليه، فالمتبع ما استقل به عقله ولو على خلاف ما
ذهب إليه مجتهده، فافهم.
497

وكذلك لا خلاف ولا إشكال في نفوذ حكم المجتهد المطلق إذا كان باب العلم
أو العلمي له مفتوحا، وأما إذا انسد عليه بابهما ففيه إشكال على الصحيح من تقدير
المقدمات على نحو الحكومة، فإن مثله - كما أشرت آنفا - ليس ممن يعرف الاحكام،
مع أن معرفتها معتبرة في الحاكم، كما في المقبولة، إلا أن يدعى عدم القول
بالفصل، وهو وإن كان غير بعيد، إلا أنه ليس بمثابة يكون حجة على عدم
الفصل، إلا أن يقال بكفاية انفتاح باب العلم في موارد الاجماعات والضروريات
من الدين أو المذهب، والمتواترات إذا كانت جملة يعتد بها، وإن انسد باب العلم
بمعظم الفقه، فإنه يصدق عليه حينئذ أنه ممن روى حديثهم (عليه السلام) ونظر
في حلالهم (عليهم السلام) وحرامهم عليهم السلام: وعرف أحكامهم عرفا
حقيقة. وأما قوله (عليه السلام) في المقبولة (فإذا حكم بحكمنا) فالمراد أن مثله إذا
حكم كان بحكمهم حكم، حيث كان منصوبا منهم، كيف وحكمه غالبا يكون في
الموضوعات الخارجية، وليس مثل ملكية دار لزيد أو زوجية امرأة له من أحكامهم
(عليهم السلام) فصحة إسناد حكمه إليهم (عليهم السلام) إنما هو لاجل كونه
من المنصوب من قبلهم.
وأما التجزي في الاجتهاد ففيه مواضع من الكلام:
الأول: في امكانه وهو ان كان محل الخلاف بين الاعلام إلا أنه لا ينبغي
الارتياب فيه، حيث كانت أبواب الفقه مختلفة مدركا، والمدارك متفاوته سهوله
وصعوبة، عقلية ونقلية، مع اختلاف الاشخاص في الاطلاع عليها، وفي طول
الباع وقصوره بالنسبة إليها، فرب شخص كثير الاطلاع وطويل الباع في مدرك باب
بمهارته في النقليات أو العقليات، وليس كذلك في آخر لعدم مهارته فيها وابتنائه
عليها، وهذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها لسهولة
مدركه أو لمهارة الشخص فيه مع صعوبته، مع عدم القدرة على ما ليس كذلك، بل
يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزي، للزوم الطفرة. وبساطة
الملكة وعدم قبولها التجزئة، لا تمنع من حصولها بالنسبة إلى بعض الأبواب، بحيث
498

يتمكن بها من الإحاطة بمداركه، كما إذا كانت هناك ملكة الاستنباط في جميعها،
ويقطع بعدم دخل ما في سائرها به أصلا، أو لا يعتني باحتماله لاجل الفحص
بالمقدار اللازم الموجب للاطمئنان بعدم دخله، كما في الملكة المطلقة، بداهة أنه لا
يعتبر في استنباط مسألة معها من الاطلاع فعلا على مدارك جميع المسائل، كما لا
يخفى.
الثاني: في حجية ما يؤدي إليه على المتصف به، وهو أيضا محل الخلاف،
إلا أن قضية أدلة المدارك حجيته، لعدم اختصاصها بالمتصف بالاجتهاد المطلق،
ضرورة أن بناء العقلاء على حجية الظواهر مطلقا، وكذا ما دل على حجية خبر
الواحد، غايته تقييده بما إذا تمكن من دفع معارضاته كما هو المفروض.
الثالث: في جواز رجوع غير المتصف به إليه في كل مسألة اجتهد فيها،
وهو أيضا محل الاشكال، من أنه من رجوع الجاهل إلى العالم، فتعمه أدلة جواز
التقليد، ومن دعوى عدم إطلاق فيها، وعدم إحراز أن بناء العقلاء أو سيرة
المتشرعة على الرجوع إلى مثله أيضا، وستعرف إن شاء الله تعالى ما هو قضية
الأدلة.
وأما جواز حكومته ونفوذ فصل خصومته فأشكل، نعم لا يبعد نفوذه فيما إذا
عرف جملة معتدة بها واجتهد فيها، بحيث يصح أن يقال في حقه عرفا أنه ممن عرف
أحكامهم، كما مر في المجتهد المطلق المنسد عليه باب العلم والعلمي في معظم
الاحكام.
فصل
لا يخفى احتياج الاجتهاد إلى معرفة العلوم العربية في الجملة ولو بأن يقدر على
معرفة ما يبتني عليه الاجتهاد في المسألة، بالرجوع إلى ما دون فيه، ومعرفة التفسير
كذلك.
وعمدة ما يحتاج إليه هو علم الأصول، ضرورة أنه ما من مسألة الا ويحتاج في
499

استنباط حكمها إلى قاعدة أو قواعد برهن عليها في الأصول، أو برهن عليها مقدمة
في نفس المسألة الفرعية، كما هو طريقة الاخباري، وتدوين تلك القواعد المحتاج
إليها على حدة لا يوجب كونها بدعة، وعدم تدوينها في زمانهم (عليهم السلام) لا
يوجب ذلك، وإلا كان تدوين الفقه والنحو والصرف بدعة.
وبالجملة لا محيص لاحد في استنباط الأحكام الفرعية من أدلتها إلا الرجوع
إلى ما بنى عليه في المسائل الأصولية، وبدونه لا يكاد يتمكن من استنباط واجتهاد،
مجتهدا كان أو أخباريا. نعم يختلف الاحتياج إليها بحسب اختلاف المسائل والأزمنة
والاشخاص، ضرورة خفة مؤونة الاجتهاد في الصدر الأول، وعدم حاجته إلى كثير
مما يحتاج إليه في الأزمنة اللاحقة، مما لا يكاد يحقق ويختار عادة إلا بالرجوع إلى ما
دون فيه من الكتب الأصولية.
فصل
اتفقت الكلمة على التخطئة في العقليات، واختلفت في الشرعيات، فقال
أصحابنا بالتخطئة فيها أيضا، وأن له تبارك وتعالى في كل مسألة حكم يؤدي إليه
الاجتهاد تارة وإلى غيره أخرى.
وقال مخالفونا بالتصويب، وأن له تعالى أحكاما بعدد آراء المجتهدين، فما
يؤدي إليه الاجتهاد هو حكمه تبارك وتعالى، ولا يخفى أنه لا يكاد يعقل الاجتهاد في
حكم المسألة إلا إذا كان لها حكم واقعا، حتى صار المجتهد بصدد استنباطه من
أدلته، وتعيينه بحسبها ظاهرا، فلو كان غرضهم من التصويب هو الالتزام بإنشاء
أحكام في الواقع بعدد الآراء - بأن تكون الاحكام المؤدي إليها الاجتهادات أحكاما
واقعية كما هي ظاهرية - فهو وإن كان خطأ من جهة تواتر الاخبار، وإجماع أصحابنا
الأخيار على أن له تبارك وتعالى في كل واقعة حكما يشترك فيه الكل، إلا أنه غير
محال، ولو كان غرضهم منه الالتزام بإنشاء الاحكام على وفق آراء الاعلام بعد
الاجتهاد، فهو مما لا يكاد يعقل، فكيف يتفحص عما لا يكون له عين ولا أثر، أو
يستظهر من الآية أو الخبر، إلا أن يراد التصويب بالنسبة إلى الحكم الفعلي، وأن
500

المجتهد وإن كان يتفحص عما هو الحكم واقعا وإنشاء، إلا أن ما أدى إليه اجتهاده
يكون هو حكمه الفعلي حقيقة، وهو مما يختلف باختلاف الآراء ضرورة، ولا
يشترك فيه الجاهل والعالم بداهة، وما يشتركان فيه ليس بحكم حقيقة بل إنشاء،
فلا استحالة في التصويب بهذا المعنى، بل لا محيص عنه في الجملة بناء على اعتبار
الاخبار من باب السببية والموضوعية كما لا يخفى، وربما يشير إليه ما اشتهرت بيننا أن
ظنية الطريق لا ينافي قطعية الحكم.
نعم بناء على اعتبارها من باب الطريقية، كما هو كذلك، فمؤديات الطرق
والامارات المعتبرة ليست بأحكام حقيقة نفسية، ولو قيل بكونها أحكاما طريقية،
وقد مر غير مرة إمكان منع كونها أحكاما كذلك أيضا، وإن قضية حجيتها ليس
إلا تنجز [تنجيز] مؤدياتها عند إصابتها، والعذر عند خطئها، فلا يكون حكم
أصلا إلا الحكم الواقعي، فيصير منجزا فيما قام عليه حجة من علم أو طريق
معتبر، ويكون غير منجز بل غير فعلي فيما لم تكن هناك حجة مصيبة، فتأمل جيدا.
فصل
إذا اضمحل الاجتهاد السابق بتبدل الرأي الأول بالآخر أو بزواله بدونه، فلا
شبهة في عدم العبرة به في الاعمال اللاحقة، ولزوم اتباع اجتهاد اللاحق مطلقا أو
الاحتياط فيها، وأما الاعمال السابقة الواقعة على وفقه المختل فيها ما اعتبر في صحتها بحسب هذا الاجتهاد، فلا بد من معاملة البطلان معها فيما لم ينهض دليل
على صحة العمل فيما إذا اختل فيه لعذر، كما نهض في الصلاة وغيرها، مثل: لا
تعاد، وحيث الرفع، بل الاجماع على الاجزاء في العبادات على ما ادعي.
وذلك فيما كان بحسب الاجتهاد الأول قد حصل القطع بالحكم وقد اضمحل
واضح، بداهة أنه لا حكم معه شرعا، غايته المعذورية في المخالفة عقلا، وكذلك
فيما كان هناك طريق معتبر شرعا عليه بحسبه، وقد ظهر خلافه بالظفر بالمقيد أو
المخصص أو قرينة المجاز أو المعارض، بناء على ما هو التحقيق من اعتبار الامارات
من باب الطريقية، قيل بأن قضية اعتبارها إنشاء أحكام طريقية، أم لا على ما مر
501

منا غير مرة، من غير فرق بين تعلقه بالاحكام أو بمتعلقاتها، ضرورة أن كيفية
اعتبارها فيهما على نهج واحد، ولم يعلم وجه للتفصيل بينهما، كما في الفصول (3)
وأن المتعلقات لا تتحمل اجتهادين بخلاف الاحكام، إلا حسبان أن الاحكام قابلة
للتغير والتبدل، بخلاف المتعلقات والموضوعات، وأنت خبير بأن الواقع واحد
فيهما، وقد عين أولا بما ظهر خطؤه ثانيا، ولزوم العسر والحرج والهرج والمرج المخل
بالنظام والموجب للمخاصمة بين الأنام، لو قيل بعدم صحة العقود والايقاعات
والعبادات الواقعة على طبق الاجتهاد الأول الفاسدة بحسب الاجتهاد الثاني،
ووجوب العمل على طبق الثاني، من عدم ترتيب الأثر على المعاملة وإعادة العبادة،
لا يكون إلا أحيانا، وأدلة نفي العسر لا ينفي إلا خصوص ما لزم منه العسر فعلا،
مع عدم اختصاص ذلك بالمتعلقات، ولزوم العسر في الاحكام كذلك أيضا لو قيل
بلزوم ترتيب الأثر على طبق الاجتهاد الثاني في الاعمال السابقة، وباب الهرج والمرج
ينسد بالحكومة وفصل الخصومة.
وبالجملة لا يكون التفاوت بين الاحكام ومتعلقاتها، بتحمل الاجتهادين
وعدم التحمل بينا ولا مبينا، بما يرجع إلى محصل في كلامه - زيد في علو مقامه -
فراجع وتأمل.
وأما بناء على اعتبارها من باب السببية والموضوعية، فلا محيص عن القول
بصحة العمل على طبق الاجتهاد الأول، عبادة كان أو معاملة، وكون مؤداه - ما لم
يضمحل - حكما حقيقة، وكذلك الحال إذا كان بحسب الاجتهاد الأول مجرى
الاستصحاب أو البراءة النقلية، وقد ظفر في الاجتهاد الثاني بدليل على الخلاف،
فإنه عمل بما هو وظيفته على تلك الحال، وقد مر في مبحث الاجزاء تحقيق المقال،
فراجع هناك.
502

فصل
في التقليد
وهو أخذ قول الغير ورأيه للعمل به في الفرعيات، أو للالتزام به في
الاعتقاديات تعبدا، بلا مطالبة دليل على رأيه، ولا يخفى أنه لا وجه لتفسيره بنفس
العمل، ضرورة سبقه عليه، وإلا كان بلا تقليد، فافهم.
ثم إنه لا يذهب عليك أن جواز التقليد ورجوع الجاهل إلى العالم في الجملة،
يكون بديهيا جبليا فطريا لا يحتاج إلى دليل، وإلا لزم سد باب العلم به على العامي
مطلقا غالبا، لعجزه عن معرفة ما دل عليه كتابا وسنة، ولا يجوز التقليد فيه أيضا،
وإلا لدار أو تسلسل، بل هذه هي العمدة في أدلته، وأغلب ما عداه قابل
للمناقشة، لبعد تحصيل الاجماع في مثل هذه المسألة، مما يمكن أن يكون القول فيه
لاجل كونه من الأمور الفطرية الارتكازية، والمنقول منه غير حجة في مثلها، ولو
قيل بحجيتها في غيرها، لوهنه بذلك.
ومنه قد انقدح إمكان القدح في دعوى كونه من ضروريات الدين، لاحتمال
أن يكون من ضروريات العقل وفطرياته لا من ضرورياته، وكذا القدح في
دعوى سيرة المتدينين.
وأما الآيات، فلعدم دلالة آية النفر والسؤال على جوازه، لقوة احتمال
أن يكون الارجاع لتحصيل العلم لا للاخذ تعبدا، مع أن المسؤول في آية السؤال
هم أهل الكتاب كما هو ظاهرها، أو أهل بيت العصمة الأطهار كما فسر به في
الاخبار.
نعم لا بأس بدلالة الاخبار عليه بالمطابقة أو الملازمة، حيث دل بعضها
على وجوب اتباع قول العلماء، وبعضها على أن للعوام تقليد العلماء،
وبعضها على جواز الافتاء مفهوما مثل ما دل على المنع عن الفتوى بغير علم، أو
503

منطوقا مثل ما دل على إظهاره (عليه السلام) المحبة لان يرى في أصحابه من يفتي
الناس بالحلال والحرام.
لا يقال: إن مجرد إظهار الفتوى للغير لا يدل على جواز أخذه واتباعه.
فإنه يقال: إن الملازمة العرفية بين جواز الافتاء وجواز اتباعه واضحة، وهذا
غير وجوب إظهار الحق والواقع، حيث لا ملازمة بينه وبين وجوب أخذه تعبدا،
فافهم وتأمل.
وهذه الأخبار على اختلاف مضامينها وتعدد أسانيدها، لا يبعد دعوى القطع
بصدور بعضها، فيكون دليلا قاطعا على جواز التقليد، وإن لم يكن كل واحد منها
بحجة، فيكون مخصصا لما دل على عدم جواز اتباع غير العلم والذم على التقليد،
من الآيات والروايات.
قال الله تبارك وتعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) * (1) وقوله تعالى:
* (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) * (2) مع احتمال أن الذم إنما
كان على تقليدهم للجاهل، أو في الأصول الاعتقادية التي لا بد فيها من اليقين
وأما قياس المسائل الفرعية على الأصول الاعتقادية، في أنه كما لا يجوز التقليد فيها
مع الغموض فيها كذلك لا يجوز فيها بالطريق الأولى لسهولتها، فباطل، مع أنه
مع الفارق، ضرورة أن الأصول الاعتقادية مسائل معدودة، بخلافها فإنها مما لا
تعد ولا تحصى، ولا يكاد يتيسر من الاجتهاد فيها فعلا طول العمر إلا للأوحدي في
كلياتها، كما لا يخفى.
فصل
إذا علم المقلد اختلاف الاحياء في الفتوى مع اختلافهم في العلم والفقاهة،
فلا بد من الرجوع إلى الأفضل إذا احتمل تعينه، للقطع بحجيته والشك في حجية
(1) الاسراء: 36.
(2) الزخرف: 23 *.
504

غيره، ولا وجه لرجوعه إلى الغير في تقليده، إلا على نحو دائر.
نعم لا بأس برجوعه إليه إذا استقل عقله بالتساوي، وجواز الرجوع إليه
أيضا، أو جوز له الأفضل بعد رجوعه إليه، هذا حال العاجز عن الاجتهاد في تعيين
ما هو قضية الأدلة في هذه المسألة.
وأما غيره، فقد اختلفوا في جواز تقليد المفضول وعدم جوازه، ذهب
بعضهم إلى الجواز، والمعروف بين الأصحاب - على ما قيل - عدمه وهو الأقوى،
للأصل، وعدم دليل على خلافه، ولا إطلاق في أدلة التقليد بعد الغض عن
نهوضها على مشروعية أصله لوضوح أنها إنما تكون بصدد بيان أصل جواز الاخذ
بقول العالم لا في كل حال، من غير تعرض أصلا لصورة معارضته بقول الفاضل،
كما هو شأن سائر الطرق والامارات على ما لا يخفى.
ودعوى السيرة على الاخذ بفتوى أحد المخالفين في الفتوى من دون فحص
عن أعلميته مع العلم بأعلمية أحدهما، ممنوعة.
ولا عسر في تقليد الأعلم، لا عليه لاخذ فتاواه من رسائله وكتبه، ولا لمقلديه
لذلك أيضا وليس تشخيص الأعلمية بأشكل من تشخيص أصل الاجتهاد، مع
أن قضية نفي العسر الاقتصار على موضوع العسر، فيجب فيما لا يلزم منه عسر،
فتأمل جيدا.
وقد استدل للمنع أيضا بوجوه:
أحدها: نقل الاجماع على تعين تقليد الأفضل.
ثانيها: الاخبار الدالة على ترجيحه مع المعارضة، كما في المقبولة وغيرها،
أو على اختياره للحكم بين الناس، كما دل عليه المنقول عن أمير المؤمنين
(عليه السلام): (اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك).
ثالثها: إن قول الأفضل أقرب من غيره جزما، فيجب الاخذ به عند
المعارضة عقلا.
505

ولا يخفى ضعفها:
أما الأول: فلقوة احتمال أن يكون وجه القول بالتعيين للكل أو الجل هو
الأصل، فلا مجال لتحصيل الاجماع مع الظفر بالاتفاق، فيكون نقله موهونا، مع
عدم حجية نقله ولو مع عدم وهنه.
وأما الثاني: فلان الترجيح مع المعارضة في مقام الحكومة، لاجل رفع
الخصومة التي لا تكاد ترتفع إلا به، لا يستلزم الترجيح في مقام الفتوى، كما لا
يخفى.
وأما الثالث: فممنوع صغرى وكبرى، أما الصغرى فلأجل أن فتوى غير
الأفضل ربما يكون أقرب من فتواه، لموافقته لفتوى من هو أفضل منه ممن مات، ولا
يصغى إلى أن فتوى الأفضل أقرب في نفسه، فإنه لو سلم أنه كذلك إلا أنه ليس
بصغرى لما ادعي عقلا من الكبرى، بداهة أن العقل لا يرى تفاوتا بين أن تكون
الأقربية في الامارة لنفسها، أو لاجل موافقتها لامارة أخرى، كما لا يخفى.
وأما الكبرى فلان ملاك حجية قول الغير تعبدا ولو على نحو الطريقية، لم
يعلم أنه القرب من الواقع، فلعله يكون ما هو في الأفضل وغيره سيان، ولم يكن
لزيادة القرب في أحدهما دخل أصلا.
نعم لو كان تمام الملاك هو القرب، كما إذا كان حجة بنظر العقل، لتعين
الأقرب قطعا، فافهم.
فصل
اختلفوا في اشتراط الحياة في المفتي، والمعروف بين الأصحاب الاشتراط
وبين العامة عدمه، وهو خيرة الأخباريين، وبعض المجتهدين من أصحابنا،
وربما نقل تفاصيل:
منها: التفصيل بين البدوي فيشترط، والاستمراري فلا يشترط،
506

والمختار ما هو المعروف بين الأصحاب، للشك في جواز تقليد الميت، والأصل عدم
جوازه، ولا مخرج عن هذا الأصل، إلا ما استدل به المجوز على الجواز من وجوه
ضعيفة.
منها: استصحاب جواز تقليده في حال حياته، ولا يذهب عليك أنه لا
مجال له، لعدم بقاء موضوعه عرفا، لعدم بقاء الرأي معه، فإنه متقوم بالحياة بنظر
العرف، وإن لم يكن كذلك واقعا، حيث أن الموت عند أهله موجب لانعدام الميت
ورأيه، ولا ينافي ذلك صحة استصحاب بعض أحكام حال حياته، كطهارته
ونجاسته وجواز نظر زوجته إليه، فإن ذلك إنما يكون فيما لا يتقوم بحياته عرفا
بحسبان بقائه ببدنه الباقي بعد موته، وإن احتمل أن يكون للحياة دخل في عروضه
واقعا، وبقاء الرأي لا بد منه في جواز التقليد قطعا، ولذا لا يجوز التقليد فيما إذا
تبدل الرأي أو ارتفع، لمرض أو هرم إجماعا.
وبالجملة يكون انتفاء الرأي بالموت بنظر العرف بانعدام موضوعه، ويكون
حشره في القيامة إنما هو من باب إعادة المعدوم، وإن لم يكن كذلك حقيقة، لبقاء
موضوعه، وهو النفس الناطقة الباقية حال الموت لتجرده، وقد عرفت في باب
الاستصحاب أن المدار في بقاء الموضوع وعدمه هو العرف، فلا يجدي بقاء النفس
عقلا في صحة الاستصحاب مع عدم مساعدة العرف عليه، وحسبان أهله أنها غير
باقية وإنما تعاد يوم القيامة بعد انعدامها، فتأمل جيدا.
لا يقال: نعم، الاعتقاد والرأي وإن كان يزول بالموت لانعدم موضوعه،
إلا أن حدوثه في حال حياته كاف في جواز تقليده في حال موته، كما هو الحال في
الرواية.
فإنه يقال: لا شبة في أنه لا بد في جوازه من بقاء الرأي والاعتقاد، ولذا لو
زال بجنون أو تبدل ونحوهما لما جاز قطعا، كما أشير إليه آنفا. هذا بالنسبة إلى
التقليد الابتدائي.
وأما الاستمراري، فربما يقال بأنه قضية استصحاب الاحكام التي قلده
507

فيها، فإن رأيه وإن كان مناطا لعروضها وحدوثها، إلا أنه عرفا من أسباب
العروض لا من مقومات الموضوع والمعروض، ولكنه لا يخفى أنه لا يقين بالحكم
شرعا سابقا، فإن جواز التقليد إن كان بحكم العقل وقضية الفطرة كما عرفت
فواضح، فإنه لا يقتضي أزيد من تنجز ما أصابه من التكليف والعذر فيما أخطأ،
وهو واضح. وإن كان بالنقل فكذلك، على ما هو التحقيق من أن قضية الحجية
شرعا ليس إلا ذلك، لانشاء أحكام شرعية على طبق مؤداها، فلا مجال
لاستصحاب ما قلده، لعدم القطع به سابقا، إلا على ما تكلفنا في بعض تنبيهات
الاستصحاب، فراجع، ولا دليل على حجية رأيه السابق في اللاحق.
وأما بناء على ما هو المعروف بينهم، من كون قضية الحجية الشرعية جعل مثل
ما أدت إليه من الأحكام الواقعية التكليفية أو الوضعية شرعا في الظاهر،
فلاستصحاب ما قلده من الاحكام وإن كان مجال، بدعوى بقاء الموضوع عرفا،
لاجل كون الرأي عند أهل العرف من أسباب العروض لا من مقومات المعروض،
إلا أن الانصاف عدم كون الدعوى خالية عن الجزاف، فإنه من المحتمل - لولا
المقطوع - أن الاحكام التقليدية عندهم أيضا ليست أحكاما لموضوعاتها بقول
مطلق، بحيث عد من ارتفاع الحكم عندهم من موضوعه، بسبب تبدل الرأي
ونحوه، بل إنما كانت أحكاما لها بحسب رأيه، بحيث عد من انتفاء الحكم بانتفاء
موضوعه عند التبدل، ومجرد احتمال ذلك يكفي في عدم صحة استصحابها،
لاعتبار إحراز بقاء الموضوع ولو عرفا، فتأمل جيدا.
هذا كله مع إمكان دعوى أنه إذا لم يجز البقاء على التقليد بعد زوال الرأي،
بسبب الهرم أو المرض إجماعا، لم يجز في حال الموت بنحو أولى قطعا، فتأمل.
ومنها: إطلاق الآيات الدالة على التقليد.
وفيه - مضافا إلى ما أشرنا إليه من عدم دلالتها عليه - منع إطلاقها على تقدير
دلالتها، وإنما هو مسوق لبيان أصل تشريعه كما لا يخفى. ومنه انقدح حال إطلاق
ما دل من الروايات على التقليد، مع إمكان دعوى الانسياق إلى حال الحياة
508

فيها.
ومنها: دعوى أنه لا دليل على التقليد إلا دليل الانسداد، وقضيته جواز
تقليد الميت كالحي بلا تفاوت بينهما أصلا، كما لا يخفى.
وفيه أنه لا يكاد تصل النوبة إليه، لما عرفت من دليل العقل والنقل عليه.
ومنها: دعوى السيرة على البقاء، فإن المعلوم من أصحاب الأئمة
(عليهم السلام) عدم رجوعهم عما أخذوه تقليدا بعد موت المفتي.
وفيه منع السيرة فيما هو محل الكلام، وأصحابهم (عليهم السلام) إنما لم
يرجعوا عما أخذوه من الاحكام لاجل أنهم غالبا إنما كانوا يأخذونها ممن ينقلها عنهم
(عليهم السلام) بلا واسطة أحد، أو معها من دون دخل رأي الناقل فيه أصلا،
وهو ليس بتقليد كما لا يخفى، ولم يعلم إلى الآن حال من تعبد بقول غيره ورأيه، أنه
كان قد رجع أو لم يرجع بعد موته.
[ومنها: غير ذلك مما لا يليق بأن يسطر أو يذكر
509

/ 1