بداية الوصول في شرح كفاية الأصول
الشيخ محمد طاهر آل الشيخ راضي
الجزء: ٣
الوفاة: ١٤٠٠
المجموعة: أصول الفقه عند الشيعة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقصد الثاني في النواهي
فصل
الظاهر أن النهي بمادته وصيغته في الدلالة على الطلب، مثل الامر بمادته وصيغته، غير أن متعلق الطلب في أحدهما الوجود، وفي الآخر العدم، فيعتبر فيه ما استظهرنا اعتباره فيه بلا تفاوت أصلا (1)، نعم يختص
1
النهي بخلاف، وهو: أن متعلق الطلب فيه، هل هو الكف، أو مجرد الترك وأن لا يفعل والظاهر هو الثاني (1)، وتوهم أن الترك ومجرد أن
2
لا يفعل خارج عن تحت الاختيار، فلا يصح أن يتعلق به البعث والطلب، فاسد، فإن الترك أيضا يكون مقدورا، وإلا لما كان الفعل مقدورا وصادرا بالإرادة والاختيار، وكون العدم الأزلي لا بالاختيار،
3
لا يوجب أن يكون كذلك بحسب البقاء والاستمرار الذي يكون بحسبه محلا للتكليف (1).
4
ثم إنه لا دلالة لصيغته على الدوام والتكرار، كما لا دلالة لصيغة الامر (1) وإن كان قضيتهما عقلا تختلف ولو مع وحدة متعلقهما، بأن يكون طبيعة واحدة بذاتها وقيدها تعلق بها الامر مرة والنهي أخرى (2)،
7
ضرورة أن وجودها يكون بوجود فرد واحد، وعدمها لا يكاد يكون إلا بعدم الجميع، كما لا يخفى.
ومن ذلك يظهر أن الدوام والاستمرار، إنما يكون في النهي إذا كان متعلقه طبيعة مطلقة غير مقيدة بزمان أو حال، فإنه حينئذ لا يكاد يكون مثل هذه الطبيعة معدومة، إلا
بعدم جميع أفرادها الدفعية والتدريجية.
وبالجملة قضية النهي، ليس إلا ترك تلك الطبيعة التي تكون متعلقة له، كانت مقيدة أو مطلقة، وقضية تركها عقلا، إنما هو ترك جميع أفرادها.
ثم إنه لا دلالة للنهي على إرادة الترك لو خولف، أو عدم إرادته، بل لابد في تعيين ذلك من دلالة، ولو كان إطلاق المتعلق من هذه الجهة،
ولا يكفي إطلاقها من سائر الجهات، فتدبر جيدا (1).
9
فصل
اختلفوا في جواز اجتماع الأمر والنهي في واحد، وامتناعه، على أقوال: ثالثها جوازه عقلا وامتناعه عرفا، وقبل الخوض في المقصود (1)
11
يقدم أمور:
الأول: المراد بالواحد مطلق ما كان ذا وجهين، ومندرجا تحت عنوانين، بأحدهما كان موردا للامر، وبالآخر للنهي، وإن كان كليا مقولا على كثيرين، كالصلاة في المغصوب، وإنما ذكر لاخراج ما إذا تعدد متعلق الأمر والنهي ولم يجتمعا وجودا، ولو جمعهما واحد مفهوما، كالسجود لله تعالى، والسجود للصنم مثلا، لا لاخراج الواحد الجنسي أو النوعي كالحركة والسكون الكليين المعنونين بالصلاتية والغصبية (1).
12
الثاني: الفرق بين هذه المسألة ومسألة النهي في العبادة، هو أن الجهة المبحوث عنها فيها التي بها تمتاز المسائل، هي أن تعدد الوجه والعنوان في الواحد يوجب تعدد متعلق الأمر والنهي، بحيث ترتفع به غائلة استحالة الاجتماع في الواحد بوجه واحد، أو لا يوجبه، بل يكون حاله حاله، فالنزاع في سراية كل من الأمر والنهي
إلى متعلق الآخر، لاتحاد متعلقيهما وجودا، وعدم سرايته لتعددهما وجها، وهذا بخلاف الجهة المبحوث عنها في المسألة الأخرى، فإن البحث فيها في أن النهي في العبادة أو المعاملة يوجب فسادها، بعد الفراغ عن التوجه إليها (1).
15
نعم لو قيل بالامتناع مع ترجيح جانب النهي في مسألة الاجتماع، يكون مثل الصلاة في الدار المغصوبة من صغريات تلك المسألة.
فانقدح أن الفرق بين المسألتين في غاية الوضوح (1).
وأما ما أفاده في الفصول، من الفرق بما هذه عبارته ثم اعلم أن الفرق بين المقام والمقام المتقدم، وهو أن الأمر والنهي هل يجتمعان في شيء واحد أو لا؟ أما في المعاملات فظاهر، وأما في العبادات، فهو أن النزاع هناك فيما إذا تعلق الأمر والنهي بطبيعتين متغايرتين بحسب
19
الحقيقة (1)، وإن كان بينهما عموم مطلق، وهنا فيما إذا اتحدتا حقيقة وتغايرتا بمجرد الاطلاق والتقييد، بأن تعلق الامر بالمطلق، والنهي
20
بالمقيد انتهى موضع الحاجة، فاسد، فإن مجرد تعدد الموضوعات وتغايرها بحسب الذوات، لا يوجب التمايز بين المسائل، ما لم يكن هناك اختلاف الجهات، ومعه لا حاجة أصلا إلى تعددها، بل لابد من عقد مسألتين، مع وحدة الموضوع
وتعدد الجهة المبحوث عنها، وعقد مسألة واحدة في صورة العكس، كما لا يخفى (1).
ومن هنا انقدح أيضا فساد الفرق، بأن النزاع هنا في جواز الاجتماع عقلا، وهناك في دلالة النهي لفظا، فإن مجرد ذلك لو لم يكن تعدد الجهة
23
في البين، لا يوجب إلا تفصيلا في المسألة الواحدة، لا عقد مسألتين، هذا مع عدم اختصاص النزاع في تلك المسألة بدلالة اللفظ، كما سيظهر (1).
الثالث: إنه حيث كانت نتيجة هذه المسألة مما تقع في طريق الاستنباط، كانت المسألة من المسائل الأصولية، لامن مبادئها الأحكامية،
24
ولا التصديقية، ولا من المسائل الكلامية، ولا من المسائل الفرعية، وإن كانت فيها جهاتها، كما لا يخفى (1)، ضرورة أن مجرد ذلك لا يوجب
25
كونها منها إذا كانت فيها جهة أخرى، يمكن عقدها معها من المسائل، إذ لا مجال حينئذ لتوهم عقدها من غيرها في الأصول، وإن عقدت كلامية في الكلام، وصح عقدها فرعية أو غيرها بلا كلام، وقد عرفت في أول الكتاب أنه لا ضير في كون مسألة واحدة، يبحث فيها عن جهة خاصة من مسائل علمين، لانطباق جهتين عامتين على تلك الجهة، كانت بإحداهما من مسائل علم، وبالأخرى من آخر، فتذكر (1).
28
الرابع: إنه قد ظهر من مطاوي ما ذكرناه، أن المسألة عقلية، ولا اختصاص للنزاع في جواز الاجتماع والامتناع فيها بما إذا كان الايجاب والتحريم باللفظ، كما ربما يوهمه التعبير بالأمر والنهي الظاهرين في الطلب بالقول، إلا أنه لكون الدلالة عليهما غالبا بهما، كما هو أوضح من أن يخفى.
وذهاب البعض إلى الجواز عقلا والامتناع عرفا، ليس بمعنى دلالة اللفظ، بل بدعوى أن الواحد بالنظر الدقيق العقلي اثنان، وأنه بالنظر المسامحي العرفي واحد ذو وجهين، وإلا فلا يكون معنى محصلا للامتناع العرفي، غاية الأمر دعوى دلالة اللفظ على عدم الوقوع بعد اختيار جواز الاجتماع، فتدبر جيدا (1).
29
الخامس: لا يخفى أن ملاك النزاع في جواز الاجتماع والامتناع يعم جميع اقسام الايجاب والتحريم، كما هو قضية اطلاق لفظ الأمر والنهي (1)، ودعوى الانصراف إلى النفسيين التعيينيين العينيين في
33
مادتهما، غير خالية عن الاعتساف، وإن سلم في صيغتهما، مع أنه فيها ممنوع.
نعم لا يبعد دعوى الظهور والانسباق من الاطلاق، بمقدمات الحكمة غير الجارية في المقام، لما عرفت من عموم الملاك لجميع الاقسام (1)، وكذا
34
ما وقع في البين من النقض والابرام (1)، مثلا إذا أمر بالصلاة والصوم تخييرا بينهما، وكذلك نهى عن التصرف في الدار والمجالسة مع الاغيار (2)، فصلى فيها مع مجالستهم، كان حال الصلاة فيها حالها، كما إذا أمر بها تعيينا، ونهى عن التصرف فيها كذلك في جريان النزاع في الجواز والامتناع، ومجئ أدلة الطرفين، وما وقع من النقض والابرام في البين، فتفطن (3).
36
السادس: إنه ربما يؤخذ في محل النزاع قيد المندوحة في مقام الامتثال، بل ربما قيل: بأن الاطلاق إنما هو للاتكال على الوضوح، إذ بدونها يلزم التكليف بالمحال.
ولكن التحقيق مع ذلك عدم اعتبارها في ما هو المهم في محل النزاع من لزوم المحال، وهو اجتماع الحكمين المتضادين، وعدم الجدوى في كون موردهما موجها بوجهين في دفع غائلة اجتماع الضدين، أو عدم لزومه، وأن تعدد الوجه يجدي في دفعها، ولا يتفاوت في ذلك أصلا
37
وجود المندوحة وعدمها، ولزوم التكليف بالمحال بدونها محذور آخر لا دخل له بهذا النزاع.
نعم لابد من اعتبارها في الحكم بالجواز فعلا، لمن يرى التكليف بالمحال محذورا ومحالا، كما ربما لابد من اعتبار أمر آخر في الحكم به كذلك أيضا.
وبالجملة لا وجه لاعتبارها، إلا لأجل اعتبار القدرة على الامتثال، وعدم لزوم التكليف بالمحال، ولا دخل له بما هو المحذور في المقام من التكليف المحال (1)،
38
فافهم واغتنم (1).
41
السابع: إنه ربما يتوهم تارة أن النزاع في الجواز والامتناع، يبتني على القول بتعلق الاحكام بالطبائع، وأما الامتناع على القول بتعلقها بالافراد فلا يكاد يخفى، ضرورة لزوم تعلق الحكمين بواحد شخصي، ولو كان ذا وجهين على هذا القول.
وأخرى أن القول بالجواز مبني على القول بالطبائع، لتعدد متعلق الأمر والنهي ذاتا عليه، وإن اتحد وجودا، والقول بالامتناع على القول بالافراد، لاتحاد متعلقهما شخصا خارجا، وكونه فردا واحدا (1).
42
وأنت خبير بفساد كلا التوهمين، فإن تعدد الوجه إن كان يجدي بحيث لا يضر معه الاتحاد بحسب الوجود والايجاد، لكان يجدي ولو على
43
القول بالافراد، فإن الموجود الخارجي الموجه بوجهين، يكون فردا لكل من الطبيعتين، فيكون مجمعا لفردين موجودين بوجود واحد، فكما لا يضر وحدة الوجود بتعدد الطبيعتين، كذلك لا يضر بكون المجمع اثنين بما هو مصداق وفرد لكل من الطبيعتين، وإلا لما كان يجدي أصلا، حتى على القول بالطبائع، كما لا يخفى، لوحدة الطبيعتين وجودا واتحادهما خارجا، فكما أن وحدة الصلاتية والغصبية في الصلاة في الدار المغصوبة وجودا غير ضائر بتعددهما وكونهما طبيعتين، كذلك وحدة ما وقع في الخارج من خصوصيات الصلاة فيها وجودا غير ضائر بكونه فردا للصلاة، فيكون مأمورا به، وفردا للغصب فيكون منهيا عنه، فهو على وحدته وجودا يكون اثنين، لكونه مصداقا للطبيعتين، فلا تغفل (1).
44
الثامن: إنه لا يكاد يكون من باب الاجتماع، إلا إذا كان في كل واحد من متعلقي الايجاب والتحريم مناط حكمه مطلقا، حتى في مورد التصادق والاجتماع، كي يحكم على الجواز بكونه فعلا محكوما بالحكمين وعلى الامتناع بكونه محكوما بأقوى المناطين، أو بحكم آخر غير الحكمين فيما لم يكن هناك أحدهما أقوى، كما يأتي تفصيله.
وأما إذا لم يكن للمتعلقين مناط بذلك، فلا يكون من هذا الباب، ولا يكون مورد الاجتماع محكوما إلا بحكم واحد منهما، إذا كان له مناطه، أو حكم آخر غيرهما، فيما لم يكن لواحد منهما، قيل بالجواز أو الامتناع (1)،
47
هذا بحسب مقام الثبوت (1).
وأما بحسب مقام الدلالة والاثبات، فالروايتان الدالتان على الحكمين متعارضتان، إذا احرز أن المناط من قبيل الثاني، فلابد من عمل المعارضة حينئذ بينهما من الترجيح والتخيير، وإلا فلا تعارض في البين، بل كان من باب التزاحم بين المقتضيين، فربما كان الترجيح مع ما هو أضعف دليلا، لكونه أقوى مناطا، فلا مجال
50
حينئذ لملاحظة مرجحات الروايات أصلا، بل لابد من مرجحات المقتضيات المتزاحمات، كما يأتي الإشارة إليها.
نعم لو كان كل منها متكفلا للحكم الفعلي، لوقع بينهما التعارض، فلابد من ملاحظة مرجحات باب المعارضة، لو لم يوفق بينهما بحمل أحدهما على الحكم الاقتضائي بملاحظة مرجحات باب المزاحمة (1)،
51
فتفطن (1).
التاسع: إنه قد عرفت أن المعتبر في هذا الباب، أن يكون كل واحد من الطبيعة المأمور بها والمنهي عنها، مشتملة على مناط الحكم مطلقا، حتى في حال الاجتماع، فلو كان هناك ما دل على ذلك من اجماع أو غيره فلا إشكال، ولو لم يكن إلا اطلاق دليلي الحكمين، ففيه تفصيل وهو: إن الاطلاق لو كان في بيان الحكم الاقتضائي، لكان دليلا على ثبوت المقتضي والمناط في مورد الاجتماع، فيكون من هذا الباب، ولو كان بصدد الحكم الفعلي، فلا إشكال في استكشاف ثبوت المقتضي في
53
الحكمين على القول بالجواز، إلا إذا علم إجمالا بكذب أحد الدليلين، فيعامل معهما معاملة المتعارضين.
وأما على القول بالامتناع فالاطلاقان متنافيان، من غير دلالة على ثبوت المقتضي للحكمين في مورد الاجتماع أصلا، فإن انتفاء أحد المتنافيين، كما يمكن أن يكون لأجل المانع مع ثبوت المقتضي له، يمكن أن يكون لأجل انتفائه، إلا أن يقال: إن قضية التوفيق بينهما، هو حمل كل منهما على الحكم الاقتضائي، لو لم يكن أحدهما أظهر، وإلا فخصوص الظاهر منهما (1).
54
فتلخص أنه كلما كانت هناك دلالة على ثبوت المقتضي في الحكمين، كان من مسألة الاجتماع، وكلما لم تكن هناك دلالة عليه، فهو من باب التعارض مطلقا، إذا كانت هناك دلالة على انتفائه في أحدهما بلا تعيين ولو على الجواز، وإلا فعلى الامتناع (1).
58
العاشر: إنه لا إشكال في سقوط الامر وحصول الامتثال بإتيان المجمع بداعي الامر على الجواز مطلقا، ولو في العبادات، وإن كان معصية للنهي أيضا، وكذا الحال على الامتناع مع ترجيح جانب الامر، إلا أنه
59
لا معصية عليه، وأما عليه وترجيح جانب النهي فيسقط به الامر به مطلقا في غير العبادات، لحصول الغرض الموجب له، وأما فيها فلا، مع الالتفات إلى الحرمة أو بدونه تقصيرا، فإنه وإن كان متمكنا - مع عدم الالتفات - من قصد القربة، وقد قصدها، إلا أنه مع التقصير لا يصلح لان يتقرب به أصلا، فلا يقع مقربا، وبدونه لا يكاد يحصل به الغرض الموجب للامر به عبادة، كما لا يخفى.
وأما إذا لم يلتفت إليها قصورا، وقد قصد القربة بإتيانه، فالامر يسقط، لقصد التقرب بما يصلح أن يتقرب به، لاشتماله على المصلحة، مع صدوره حسنا لأجل الجهل بحرمته قصورا، فيحصل به الغرض من الامر، فيسقط به قطعا، وإن لم يكن امتثالا له بناءا على تبعية الاحكام لما هو الأقوى من جهات المصالح والمفاسد واقعا، لا لما هو المؤثر منها فعلا للحسن أو القبح، لكونهما تابعين لما علم منهما كما حقق في محله (1).
60
مع أنه يمكن أن يقال بحصول الامتثال مع ذلك، فإن العقل لا يرى تفاوتا بينه وبين سائر الافراد في الوفاء بغرض الطبيعة المأمور بها، وإن لم تعمه بما هي مأمور بها، لكنه لوجود المانع لا لعدم المقتضي.
ومن هنا انقدح أنه يجزي، ولو قيل باعتبار قصد الامتثال في صحة العبادة، وعدم كفاية الاتيان بمجرد المحبوبية، كما يكون كذلك في ضد الواجب، حيث لا يكون هناك أمر يقصد أصلا (1).
66
و بالجملة مع الجهل قصورا بالحرمة موضوعا أو حكما، يكون الاتيان بالمجمع امتثالا، وبداعي الامر بالطبيعة لا محالة، غاية الأمر أنه لا يكون مما تسعه بما هي مأمور بها (1)، لو قيل بتزاحم الجهات في مقام
67
تأثيرها للاحكام الواقعية (1)، وأما لو قيل بعدم التزاحم إلا في مقام فعلية الاحكام، لكان مما تسعه وامتثالا لأمرها بلا كلام (2).
وقد انقدح بذلك الفرق بين ما إذا كان دليلا الحرمة والوجوب متعارضين، وقدم دليل الحرمة تخييرا أو ترجيحا، حيث لا يكون معه مجال للصحة أصلا، وبين ما إذا كانا
من باب الاجتماع. وقيل بالامتناع، وتقديم جانب الحرمة، حيث يقع صحيحا (3) في غير مورد من موارد
68
الجهل والنسيان، لموافقته للغرض بل للامر، ومن هنا علم أن الثواب عليه من قبيل الثواب على الإطاعة، لا الانقياد ومجرد اعتقاد الموافقة.
وقد ظهر بما ذكرناه، وجه حكم الأصحاب بصحة الصلاة في الدار المغصوبة (1)، مع النسيان أو الجهل بالموضوع، بل أو الحكم إذا كان عن
69
قصور (1)، مع أن الجل لولا الكل قائلون بالامتناع وتقديم الحرمة، ويحكمون بالبطلان في غير موارد العذر، فلتكن من ذلك على ذكر.
إذا عرفت هذه الأمور، فالحق هو القول بالامتناع، كما ذهب إليه المشهور، وتحقيقه على وجه يتضح به فساد ما قيل، أو يمكن أن يقال، من وجوه الاستدلال لسائر الأقوال، يتوقف على تمهيد مقدمات:
إحداها: إنه لا ريب في أن الأحكام الخمسة متضادة في مقام فعليتها، وبلوغها إلى مرتبة البعث والزجر، ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامة
70
بين البعث نحو واحد في زمان والزجر عنه في ذاك الزمان، وإن لم يكن بينها مضادة ما لم يبلغ إلى تلك المرتبة، لعدم المنافاة والمعاندة بين وجوداتها الانشائية قبل البلوغ إليها، كما لا يخفى.
فاستحالة اجتماع الأمر والنهي في واحد لا تكون من باب التكليف بالمحال، بل من جهة أنه بنفسه محال، فلا يجوز عند من يجوز التكليف بغير المقدور أيضا (1).
71
ثانيتها: إنه لا شبهة في أن متعلق الاحكام، هو فعل المكلف وما هو في الخارج يصدر عنه، وهو فاعله وجاعله، لا ما هو اسمه، وهو واضح، ولا ما هو عنوانه مما قد انتزع عنه، بحيث لولا انتزاعه تصورا واختراعه ذهنا، لما كان بحذائه شيء خارجا ويكون خارج المحمول،
73
كالملكية والزوجية والرقية والحرية والمغصوبية، إلى غير ذلك من الاعتبارات والإضافات (1)، ضرورة أن البعث ليس نحوه، والزجر
74
(1) منظومة السبزواري، قسم المنطق: ص 29. (حجري).
75
لا يكون عنه، وإنما يؤخذ في متعلق الاحكام آلة للحاظ متعلقاتها، والإشارة إليها، بمقدار الغرض منها والحاجة إليها، لا بما هو هو وبنفسه، وعلى استقلاله وحياله (1).
77
ثالثتها: إنه لا يوجب تعدد الوجه والعنوان تعدد المعنون، ولا ينثلم به وحدته، فإن المفاهيم المتعددة والعناوين الكثيرة ربما تنطبق على الواحد، وتصدق على الفارد الذي لا كثرة فيه من جهة، بل بسيط من جميع الجهات، ليس فيه حيث غير حيث، وجهة مغايرة لجهة أصلا، كالواجب تبارك وتعالى، فهو على بساطته ووحدته وأحديته، تصدق عليه مفاهيم
78
الصفات الجلالية والجمالية (1)، له الأسماء الحسنى والأمثال العليا، لكنها بأجمعها حاكية عن ذاك الواحد الفرد الأحد.
عباراتنا شتى وحسنك واحد وكل إلى ذاك الجمال يشير (2).
79
رابعتها: إنه لا يكاد يكون للموجود بوجود واحد، إلا ماهية واحدة وحقيقة فاردة، لا يقع في جواب السؤال عن حقيقته بما هو إلا تلك الماهية، فالمفهومان المتصادقان على ذاك لا يكاد يكون كل منهما ماهية وحقيقة، وكانت عينه في الخارج كما هو شأن الطبيعي وفرده، فيكون الواحد وجودا واحدا ماهية وذاتا لا محالة، فالمجمع وإن تصادق عليه متعلقا الأمر والنهي، إلا أنه كما يكون واحدا وجودا، يكون واحدا ماهية وذاتا، ولا يتفاوت فيه القول بأصالة الوجود أو أصالة الماهية.
ومنه يظهر عدم ابتناء القول بالجواز والامتناع في المسألة، على القولين في تلك المسألة، كما توهم في الفصول (1)، كما ظهر عدم الابتناء
80
على تعدد وجود الجنس والفصل في الخارج، وعدم تعدده، ضرورة عدم كون العنوانين المتصادقين عليه من قبيل الجنس والفصل له، وإن مثل الحركة في دار من أي مقولة كانت، لا يكاد يختلف حقيقتها وماهيتها ويتخلف ذاتياتها، وقعت جزءا للصلاة أو لا، كانت تلك الدار مغصوبة أو لا (1).
83
إذا عرفت ما مهدناه، عرفت أن المجمع حيث كان واحدا وجودا وذاتا، كان تعلق الأمر والنهي به محالا، ولو كان تعلقهما به بعنوانين، لما عرفت من كون فعل المكلف بحقيقته وواقعيته الصادرة عنه، متعلقا للاحكام لا بعناوينه الطارئة عليه (1)، وأن غائلة اجتماع الضدين فيه
85
لا تكاد ترتفع بكون الاحكام تتعلق بالطبائع لا الافراد، فإن غاية تقريبه أن يقال: إن الطبائع من حيث هي هي، وإن كانت ليست إلا هي، ولا تتعلق بها الأحكام الشرعية
، كالآثار العادية والعقلية، إلا أنها مقيدة بالوجود، بحيث كان القيد خارجا والتقيد داخلا، صالحة لتعلق الاحكام بها، ومتعلقا الأمر والنهي على هذا لا يكونان متحدين أصلا، لا في مقام تعلق البعث والزجر، ولا في مقام عصيان النهي وإطاعة الامر بإتيان المجمع بسوء الاختيار.
أما في المقام الأول، فلتعددهما بما هما متعلقان لهما وإن كانا متحدين فيما هو خارج عنهما، بما هما كذلك.
86
وأما في المقام الثاني، فلسقوط أحدهما بالإطاعة، والآخر بالعصيان بمجرد الاتيان، ففي أي مقام اجتمع الحكمان في واحد (1)؟
87
وأنت خبير بأنه لا يكاد يجدي بعد ما عرفت، من أن تعدد العنوان لا يوجب تعدد المعنون لا وجودا ولا ماهية، ولا تنثلم به وحدته أصلا، وأن المتعلق للاحكام هو المعنونات لا العنوانات، وأنها إنما تؤخذ في المتعلقات بما هي حاكيات كالعبارات، لا بما هي على حيالها واستقلالها (1).
89
كما ظهر مما حققناه: أنه لا يكاد يجدي أيضا كون الفرد مقدمة لوجود الطبيعي المأمور به أو المنهي عنه، وأنه لا ضير في كون المقدمة محرمة في صورة عدم الانحصار بسوء الاختيار، وذلك - مضافا إلى وضوح فساده، وأن الفرد هو عين الطبيعي في الخارج، كيف؟ والمقدمية تقتضي الاثنينية بحسب الوجود، ولا تعدد كما هو واضح - أنه إنما يجدي
90
لو لم يكن المجمع واحدا ماهية، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنه بحسبها أيضا واحد (1).
91
ثم إنه قد استدل على الجواز بأمور:
منها: إنه لو لم يجز اجتماع الأمر والنهي، لما وقع نظيره وقد وقع، كما في العبادات المكروهة، كالصلاة في مواضع التهمة وفي الحمام والصيام في السفر وفي بعض الأيام.
بيان الملازمة: إنه لو لم يكن تعدد الجهة مجديا في إمكان اجتماعهما لما جاز اجتماع حكمين آخرين في مورد مع تعددهما، لعدم اختصاصهما من بين الاحكام بما يوجب الامتناع من التضاد، بداهة تضادها بأسرها، والتالي باطل (1)، لوقوع اجتماع الكراهة والايجاب أو الاستحباب، في
93
مثل الصلاة في الحمام، والصيام في السفر، وفي عاشوراء ولو في الحضر، واجتماع الوجوب أو الاستحباب مع الإباحة أو الاستحباب (1)، في مثل الصلاة في المسجد أو الدار (2).
والجواب عنه أما إجمالا: فبأنه لابد من التصرف والتأويل فيما وقع في الشريعة مما ظاهره الاجتماع، بعد قيام الدليل على الامتناع، ضرورة أن الظهور لا يصادم البرهان (3)، مع أن قضية ظهور تلك الموارد،
95
اجتماع الحكمين فيها بعنوان واحد، ولا يقول الخصم بجوازه كذلك، بل بالامتناع ما لم يكن بعنوانين وبوجهين، فهو أيضا لابد له من التفصي عن إشكال الاجتماع فيها (1) لا سيما إذا لم يكن هناك مندوحة، كما في العبادات المكروهة التي لا بدل لها، فلا يبقى له مجال للاستدلال بوقوع الاجتماع فيها على جوازه أصلا، كما لا يخفى (2).
96
وأما تفصيلا: فقد أجيب عنه بوجوه، يوجب ذكرها بما فيها من النقض والابرام طول الكلام بما لا يسعه المقام، فالأولى الاقتصار على ما هو التحقيق في حسم مادة الاشكال.
فيقال وعلى الله الاتكال: إن العبادات المكروهة على ثلاثة أقسام:
أحدها: ما تعلق به النهي بعنوانه وذاته، ولا بدل له، كصوم يوم عاشوراء، والنوافل المبتدئة في بعض الأوقات.
ثانيها: ما تعلق به النهي كذلك، ويكون له البدل، كالنهي عن الصلاة في الحمام.
ثالثها: ما تعلق النهي به لا بذاته، بل بما هو مجامع معه وجودا، أو ملازم له خارجا، كالصلاة في مواضع التهمة، بناء على كون النهي عنها لأجل اتحادها مع الكون في مواضعها (1).
أما القسم الأول: فالنهي تنزيها عنه بعد الاجتماع على أنه يقع صحيحا، ومع ذلك يكون تركه أرجح، كما يظهر من مداومة الأئمة
97
عليهم السلام على الترك (1)، إما لأجل انطباق عنوان ذي مصلحة على الترك، فيكون الترك كالفعل ذا مصلحة موافقة للغرض، وإن كان مصلحة الترك أكثر، فهما حينئذ يكونان من قبيل المستحبين المتزاحمين، فيحكم بالتخيير بينهما لو لم يكن أهم في البين، وإلا فيتعين الأهم وإن كان الآخر يقع صحيحا، حيث أنه كان راجحا وموافقا للغرض، كما هو الحال في سائر المستحبات المتزاحمات بل الواجبات (2)، وأرجحية
98
الترك من الفعل لا توجب حزازة ومنقصة فيه أصلا، كما يوجبها ما إذا كان فيه مفسدة غالبة على مصلحته (1)، ولذا لا يقع صحيحا على الامتناع،
هو نفس الفعل مرجوحا، فلا يمكن ان يكون فيه مع ذلك مصلحة راجحة، إذ المرجوحية والراجحية في واحد من اجتماع النقيضين، فلذا جعل المصلحة في العنوان المنطبق على الترك، فان الترك وان كان هو المعنون بذلك العنوان ذي المصلحة الا ان الفعل ليس نقيضا للترك بما هو معنون بذلك العنوان، بل الفعل نقيض للترك بما هو ترك لا بما هو معنون بعنوان.
وعلى كل فالفعل يكون ذا مصلحة، والترك لتعنونه بذلك العنوان يكون ذا مصلحة أيضا، فان كانت المصلحتان متساويتين يقع التخيير بين الفعل والترك، وإذا كانت مصلحة الترك أقوى فهي أهم من مصلحة الفعل لقوتها، فيكون الحكم الفعلي هو الموافق لمصلحة الترك لأنها أقوى، كما أنه كذلك في المقام لمداومة الأئمة على الترك ويكون الحكم في طرف الفعل شأنيا لا فعليا، وانما يقع الفعل صحيحا وعبادة باعتبار المصلحة الموجودة في ذاته، ولذا قام الاجماع على صحته ووقوعه عبادة ان لم يكن له حكم فعلي.
والحاصل: ان الفعل يكون مستحبا والترك يكون مستحبا، وحيث كان الاستحباب في الترك أقوى لذلك كان الترك أقوى استحبابا من استحباب الفعل، فهما مستحبان متزاحمان قدم الأقوى منهما في الفعلية، ولكنه حيث كان الفعل أيضا مستحبا وذا مصلحة فلذلك يقع صحيحا وعبادة.
99
(1) كفاية الأصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس سره): ج 1 ص 256. (حجري).
100
فإن الحزازة والمنقصة فيه مانعة عن صلاحية التقرب به، بخلاف المقام، فإنه على ما هو عليه من الرجحان وموافقة الغرض. كما إذا لم يكن تركه راجحا بلا حدوث حزازة فيه أصلا (1).
وإما لأجل ملازمة الترك لعنوان كذلك، من دون انطباقه عليه، فيكون كما إذا انطبق عليه من غير تفاوت، إلا في أن الطلب المتعلق بهي حينئذ ليس بحقيقي، بل بالعرض والمجاز، فإنما يكون في الحقيقة متعلقا بما يلازمه من العنوان، بخلاف صورة الانطباق لتعلقه به حقيقة، كما في سائر المكروهات من غير فرق، إلا أن منشأه فيها حزازة ومنقصة في نفس الفعل، وفيه
101
رجحان في الترك، من دون حزازة في الفعل أصلا، غاية الأمر كون الترك أرجح (1).
102
نعم يمكن أن يحمل النهي - في كلا القسمين - على الارشاد إلى الترك الذي هو أرجح من الفعل، أو ملازم لما هو الأرجح وأكثر ثوابا لذلك، وعليه يكون النهي على نحو الحقيقة، لا بالعرض والمجاز، فلا تغفل (1).
103
وأما القسم الثاني (1): فالنهي فيه يمكن أن يكون لأجل ما ذكر في القسم الأول، طابق النعل بالنعل (2)، كما يمكن أن يكون بسبب حصول
104
منقصة في الطبيعة المأمور بها، لأجل تشخصها في هذا القسم بمشخص غير ملائم لها، كما في الصلاة في الحمام، فإن تشخصها بتشخص وقوعها
105
فيه، لا يناسب كونها معراجا (1)، وإن لم يكن نفس الكون في الحمام بمكروه ولا حزازة فيه أصلا، بل كان راجحا، كما لا يخفى.
106
وربما يحصل لها لأجل تخصصها بخصوصية شديدة الملاءمة معها مزية فيها كما في الصلاة في المسجد والأمكنة الشريفة (1)، وذلك لأن الطبيعة
107
المأمور بها في حد نفسها، إذا كانت مع تشخص لا يكون معه شدة الملاءمة، ولا عدم الملاءمة لها مقدار من المصلحة والمزية، كالصلاة في الدار مثلا، وتزداد تلك المزية فيما كان تشخصها بما له شدة الملاءمة، وتنقص فيما إذا لم تكن له ملاءمة، ولذلك ينقص ثوابها تارة ويزيد أخرى، ويكون النهي فيه لحدوث نقصان في مزيتها فيه إرشادا إلى ما لا نقصان فيه من سائر الافراد، ويكون أكثر ثوابا منه، وليكن هذا مراد من قال: إن الكراهة في العبادة بمعنى أنها تكون أقل ثوابا (1)، ولا يرد
عليه بلزوم اتصاف العبادة التي تكون أقل ثوابا من الأخرى بالكراهة، ولزوم اتصاف ما لا مزيد فيه ولا منقصة بالاستحباب، لأنه أكثر ثوابا مما فيه المنقصة، لما عرفت من أن المراد من كونه أقل ثوابا، إنما هو بقياسه
108
إلى نفس الطبيعة المتشخصة بما لا يحدث معه مزية لها، ولا منقصة من المشخصات، وكذا كونه أكثر ثوابا (1).
109
ولا يخفى أن النهي في هذا القسم لا يصح إلا للارشاد، بخلاف القسم الأول، فإنه يكون فيه مولويا، وإن كان حمله على الارشاد بمكان من الامكان (1).
110
وأما القسم الثالث فيمكن أن يكون النهي فيه عن العبادة المتحدة مع ذاك العنوان أو الملازمة له بالعرض والمجاز، وكان المنهي عنه به حقيقة ذاك العنوان، ويمكن أن يكون على الحقيقة إرشادا إلى غيرها من سائر الأفراد، مما لا يكون متحدا معه أو ملازما له، إذ المفروض التمكن من استيفاء مزية العبادة، بلا ابتلاء بحزازة ذاك
العنوان أصلا (1).
111
هذا على القول بجواز الاجتماع.
وأما على الامتناع، فكذلك في صورة الملازمة، وأما في صورة الاتحاد وترجيح جانب الامر - كما هو المفروض، حيث أنه صحة العبادة - فيكون حال النهي فيه حاله في القسم الثاني، فيحمل على ما حمل عليه فيه، طابق النعل بالنعل (1)، حيث إنه بالدقة يرجع إليه، إذا
113
على الامتناع، ليس الاتحاد مع العنوان الآخر إلا من مخصصاته ومشخصاته التي تختلف الطبيعة المأمور بها في المزية زيادة ونقيصة بحسب اختلافها في الملاءمة كما عرفت (1).
وقد انقدح بما ذكرناه: أنه لا مجال أصلا لتفسير الكراهة في العبادة بأقلية الثواب في القسم الأول مطلقا، وفي هذا القسم على القول بالجواز (2).
114
كما انقدح حال اجتماع الوجوب والاستحباب فيها وأن الأمر الاستحبابي يكون على نحو الإرشاد إلى أفضل الأفراد مطلقا على نحو الحقيقة، ومولويا اقتضائيا كذلك، وفعليا بالعرض والمجاز فيما كان ملاكه ملازمتها لما هو مستحب، أو متحدة معه على القول بالجواز (1).
117
ولا يخفى أنه لا يكاد يأتي القسم الأول هاهنا، فإن انطباق عنوان راجح على الفعل الواجب الذي لا بدل له إنما يؤكد ايجابه، لا أنه يوجب استحبابه أصلا، ولو بالعرض والمجاز إلا على القول بالجواز، وكذا فيما إذا لازم مثل هذا العنوان فإنه لو لم يؤكد الإيجاب لما يصحح الاستحباب إلا اقتضائيا بالعرض والمجاز، فتفطن (1).
121
ومنها: إن أهل العرف يعدون من اتى بالمأمور به في ضمن الفرد المحرم، مطيعا وعاصيا من وجهين، فإذا أمر المولى عبده بخياطة ثوب ونهاه عن الكون في مكان خاص - كما مثل به الحاجبي والعضدي - فلو خاطه في ذاك المكان عد مطيعا لأمر الخياطة، وعاصيا للنهي عن الكون في ذلك المكان (1).
122
وفيه: مضافا إلى المناقشة في المثال بأنه ليس من باب الاجتماع، ضرورة أن الكون المنهي عنه غير متحد مع الخياطة وجودا أصلا، كما لا يخفى - المنع إلا عن صدق أحدهما: إما الإطاعة بمعنى الامتثال فيما غلب جانب الأمر، أو العصيان فيما غلب جانب النهي، لما عرفت من البرهان على الامتناع.
نعم لا بأس بصدق الإطاعة بمعنى حصول الغرض والعصيان في التوصليات.
وأما في العبادات فلا يكاد يحصل الغرض منها إلا فيما صدر من المكلف فعلا غير محرم وغير مبغوض عليه، كما تقدم (1).
123
بقي الكلام في حال التفصيل من بعض الأعلام، والقول بالجواز عقلا والامتناع عرفا.
125
وفيه: إنه لا سبيل للعرف في الحكم بالجواز أو الامتناع إلا طريق العقل، فلا معنى لهذا التفصيل إلا ما أشرنا إليه من النظر المسامحي للغير المبتني على التدقيق والتحقيق. وأنت خبير بعدم العبرة به، بعد الاطلاع على خلافه بالنظر الدقيق.
وقد عرفت فيما تقدم: أن النزاع ليس في خصوص مدلول صيغة الأمر والنهي، بل في الأعم، فلا مجال لأن يتوهم أن العرف هو المحكم في تعيين المداليل، ولعله كان بين مدلوليهما حسب تعيينه تناف لا يجتمعان في واحد ولو بعنوانين وإن كان العقل يرى جواز اجتماع الوجوب والحرمة في واحد بوجهين، فتدبر (1).
126
وينبغي التنبيه على أمور:
الأول: إن الاضطرار إلى ارتكاب الحرام وإن كان يوجب ارتفاع حرمته، والعقوبة عليه مع بقاء ملاك وجوبه - لو كان - مؤثرا له، كما إذا لم يكن بحرام بلا كلام إلا أنه إذا لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار بأن يختار ما يؤدي إليه لا محالة، فإن الخطاب بالزجر عنه حينئذ وإن كان ساقطا إلا أنه حيث يصدر عنه مبغوضا عليه وعصيانا لذاك الخطاب ومستحقا عليه العقاب لا يصلح لأن يتعلق بها الإيجاب (1)، وهذا في الجملة مما لا شبهة
128
فيه ولا ارتياب (1).
وإنما الإشكال فيما إذا كان ما اضطر إليه بسوء اختياره مما ينحصر به التخلص عن محذور الحرام - كالخروج عن الدار المغصوبة فيما إذا توسطها بالاختيار - في كونه منهيا عنه أو مأمورا به، مع جريان حكم المعصية عليه أو بدونه، فيه أقوال. هذا على الامتناع.
130
وأما على القول بالجواز، فعن أبي هاشم: أنه مأمور به ومنهي عنه، واختاره الفاضل القمي ناسبا له إلى أكثر المتأخرين وظاهر الفقهاء (1).
131
والحق أنه منهي عنه بالنهي السابق الساقط بحدوث الاضطرار إليه، وعصيان له بسوء الاختيار، ولا يكاد يكون مأمورا به - كما إذا لم يكن هناك توقف عليه أو بلا
انحصار به - وذلك ضرورة أنه حيث كان قادرا على ترك الحرام رأسا لا يكون عقلا معذورا في مخالفته فيما اضطر إلى ارتكابه بسوء اختياره، ويكون معاقبا عليه - كما إذا كان ذلك بلا توقف عليه أو مع عدم الانحصار به - ولا يكاد يجدي توقف انحصار التخلص عن الحرام به، لكونه بسوء الاختيار (1).
132
(1) كفاية الأصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس سره) ج 1 ص 264 (حجري).
134
إن قلت: كيف لا يجديه، ومقدمة الواجب واجبة (1)؟
135
قلت: إنما تجب المقدمة لو لم تكن محرمة، ولذا لا يترشح الوجوب من الواجب إلا على ما هو المباح من المقدمات دون المحرمة مع اشتراكهما في المقدمية.
وإطلاق الوجوب بحيث ربما يترشح منه الوجوب عليها مع انحصار المقدمة بها إنما هو فيما إذا كان الواجب أهم من ترك المقدمة المحرمة، والمفروض هاهنا وإن كان ذلك إلا أنه كان بسوء الاختيار ومعه لا يتغير عما هو عليه من الحرمة والمبغوضية، وإلا لكانت الحرمة معلقة على إرادة المكلف واختياره لغيره، وعدم حرمته مع اختياره له، وهو كما ترى مع أنه خلاف الفرض وأن الاضطرار يكون بسوء الاختيار (1).
136
إن قلت: إن التصرف في أرض الغير بدون إذنه بالدخول والبقاء حرام بلا إشكال ولا كلام، وأما التصرف بالخروج الذي يترتب عليه رفع الظلم، ويتوقف عليه التخلص عن التصرف الحرام، فهو ليس بحرام في حال من الحالات، بل حاله حال مثل شرب الخمر المتوقف عليه النجاة من الهلاك في الاتصاف بالوجوب في جميع الأوقات.
ومنه ظهر المنع عن كون جميع انحاء التصرف في أرض الغير مثلا حراما قبل الدخول، وأنه يتمكن من ترك الجميع حتى الخروج، وذلك لأنه لو لم يدخل لما كان متمكنا من الخروج وتركه، وترك الخروج بترك الدخول رأسا ليس في الحقيقة إلا ترك الدخول. فمن لم يشرب الخمر، لعدم وقوعه في المهلكة التي يعالجها به مثلا، لم يصدق عليه إلا أنه لم يقع في المهلكة، لا أنه ما شرب الخمر فيها إلا على نحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع كما لا يخفى.
وبالجملة لا يكون الخروج - بملاحظة كونه مصداقا للتخلص عن الحرام أو سببا له - إلا مطلوبا، ويستحيل أن يتصف بغير المحبوبية، ويحكم عليه بغير المطلوبية (1).
139
قلت: هذا غاية ما يمكن أن يقال في تقريب الاستدلال على كون ما انحصر به التخلص مأمورا به - وهو موافق لما أفاده شيخنا العلامة ((أعلى الله مقامه))، على ما في تقريرات بعض الأجلة - لكنه لا يخفى أن ما به التخلص عن فعل الحرام أو ترك الواجب إنما يكون حسنا عقلا ومطلوبا شرعا بالفعل - وإن كان قبيحا ذاتا - إذا لم يتمكن المكلف من التخلص بدونه، ولم يقع بسوء اختياره، إما في الاقتحام في ترك الواجب أو فعل الحرام، وإما في الإقدام على ما هو قبيح وحرام، لولا أن به التخلص بلا كلام كما هو المفروض في المقام، ضرورة تمكنه منه قبل اقتحامه فيه بسوء اختياره (1).
142
وبالجملة كان قبل ذلك متمكنا من التصرف خروجا، كما يتمكن منه دخولا، غاية الأمر يتمكن منه بلا واسطة ومنه بالواسطة، ومجرد عدم التمكن منه إلا بواسطة لا يخرجه عن كونه مقدورا (1)، كما هو الحال في
145
البقاء، فكما يكون تركه مطلوبا في جميع الأوقات، فكذلك الخروج، مع أنه مثله في الفرعية على الدخول، فكما لا تكون الفرعية مانعة عن مطلوبيته قبله وبعده، كذلك لم تكن مانعة عن مطلوبيته، وإن كان العقل يحكم بلزومه إرشادا إلى اختيار أقل المحذورين وأخف القبيحين (1).
146
ومن هنا ظهر حال شرب الخمر علاجا وتخلصا عن المهلكة، وأنه إنما يكون مطلوبا على كل حال لو لم يكن الاضطرار إليه بسوء الاختيار، وإلا فهو على ما هو عليه من الحرمة، وإن كان العقل يلزمه إرشادا إلى ما هو أهم وأولى بالرعاية من تركه، لكون الغرض فيه أعظم، من ترك الاقتحام فيما يؤدي إلى هلاك النفس، أو شرب الخمر، لئلا يقع في أشد
147
المحذورين منهما، فيصدق أنه تركهما، ولو بتركه ما لو فعله لأدى لا محالة إلى أحدهما (1)، كسائر الأفعال التوليدية، حيث يكون العمد
148
إليها بالعمد إلى أسبابها، واختيار تركها بعدم العمد إلى الأسباب، وهذا يكفي في استحقاق العقاب على الشرب للعلاج، وإن كان لازما عقلا للفرار عما هو أكثر عقوبة (1).
150
ولو سلم عدم الصدق إلا بنحو السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع، فهو غير ضائر بعد تمكنه من الترك - ولو على نحو هذه السالبة - ومن الفعل بواسطة تمكنه مما هو من قبيل الموضوع في هذه السالبة، فيوقع نفسه بالاختيار في المهلكة، أو يدخل الدار فيعالج بشرب الخمر ويتخلص بالخروج، أو يختار ترك الدخول والوقوع فيهما، لئلا
يحتاج إلى التخلص والعلاج (1).
151
فإن قلت: كيف يقع مثل الخروج والشرب ممنوعا عنه شرعا ومعاقبا عليه عقلا مع بقاء ما يتوقف عليه على وجوبه، وسقوط الوجوب مع امتناع المقدمة المنحصرة، ولو كان بسوء الاختيار، والعقل قد استقل بان الممنوع شرعا كالممتنع عادة أو عقلا (1).
152
قلت: أولا إنما كان الممنوع كالممتنع، إذا لم يحكم العقل بلزومه إرشادا إلى ما هو أقل المحذورين، وقد عرفت لزومه بحكمه، فإنه مع لزوم الإتيان بالمقدمة عقلا لا بأس في بقاء ذي المقدمة على وجوبه، فإنه حينئذ ليس من التكليف بالممتنع، كما إذا كانت المقدمة ممتنعة (1).
154
وثانيا لو سلم، فالساقط إنما هو الخطاب فعلا بالبعث والإيجاب لا لزوم إتيانه عقلا، خروجا عن عهدة ما تنجز عليه سابقا، ضرورة أنه لو لم يأت به لوقع في المحذور الأشد ونقض الغرض الأهم، حيث أنه الآن كما كان عليه من الملاك والمحبوبية، بلا حدوث قصور أو طرو فتور فيه أصلا، وإنما كان سقوط الخطاب لأجل المانع، وإلزام العقل به
155
لذلك إرشادا كاف لا حاجة معه إلى بقاء الخطاب بالبعث إليه والإيجاب له فعلا، فتدبر جيدا (1).
وقد ظهر مما حققناه فساد القول بكونه مأمورا به، مع إجراء حكم
156
المعصية عليه نظرا إلى النهي السابق (1)، مع ما فيه من لزوم اتصاف فعل واحد بعنوان واحد بالوجوب والحرمة (2)، ولا يرتفع غائلته باختلاف
157
زمان التحريم والإيجاب، قبل الدخول وبعده - كما في الفصول - مع اتحاد زمان الفعل المتعلق لهما، وإنما المفيد اختلاف زمانه ولو مع اتحاد زمانهما، وهذا أوضح من أن يخفى (1)، كيف ولازمه وقوع الخروج بعد
158
الدخول عصيانا للنهي السابق، وإطاعة للأمر اللاحق فعلا، ومبغوضا ومحبوبا كذلك بعنوان واحد (1)، وهذا مما لا يرضى به القائل بالجواز، فضلا عن القائل بالامتناع (2).
159
كما لا يجدي في رفع هذه الغائلة كون النهي مطلقا وعلى كل حال وكون الأمر مشروطا بالدخول، ضرورة منافاة حرمة شيء كذلك مع وجوبه في بعض الأحوال (1).
وأما القول بكونه مأمورا به ومنهيا عنه، ففيه - مضافا إلى ما عرفت من امتناع الاجتماع فيما إذا كان بعنوانين، فضلا عما إذا كان بعنوان واحد كما في المقام، حيث كان الخروج بعنوانه سببا للتخلص، وكان بغير إذن المالك، وليس التخلص إلا منتزعا عن ترك الحرام المسبب عن الخروج، لا عنوانا له - أن الاجتماع ها هنا لو سلم أنه لا يكون بمحال، لتعدد العنوان، وكونه مجديا في رفع غائلة التضاد، كان محالا، لأجل كونه طلب المحال، حيث لا مندوحة هنا، وذلك لضرورة عدم صحة
160
تعلق الطلب والبعث حقيقة بما هو واجب أو ممتنع ولو كان الوجوب أو الامتناع بسوء الاختيار (1).
161
وما قيل: ((أن الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار)) (1) إنما هو في قبال استدلال الأشاعرة للقول بأن الأفعال غير اختيارية، بقضية ((أن الشيء ما لم يجب لم يوجد)) (2).
164
فانقدح بذلك فساد الاستدلال لهذا القول: بأن الأمر بالتخلص والنهي عن الغصب دليلان يجب إعمالهما ولا موجب للتقييد عقلا، لعدم استحالة كون الخروج واجبا وحراما باعتبارين مختلفين، إذ منشأ الاستحالة إما لزوم اجتماع الضدين وهو غير لازم، مع تعدد الجهة، وإما لزوم التكليف بما لا يطاق وهو ليس بمحال إذا كان مسببا عن سوء الاختيار (1)، وذلك لما عرفت من ثبوت الموجب للتقييد عقلا ولو كانا
167
بعنوانين، وأن اجتماع الضدين لازم ولو مع تعدد الجهة، مع عدم تعددها هاهنا، والتكليف بما لا يطاق محال على كل حال. نعم لو كان بسوء الاختيار لا يسقط العقاب بسقوط التكليف بالتحريم أو الإيجاب (1).
168
ثم لا يخفى أنه لا إشكال في صحة الصلاة مطلقا في الدار المغصوبة، على القول بالاجتماع. وأما على القول بالامتناع، فكذلك مع الاضطرار إلى الغصب لا بسوء الاختيار أو معه ولكنها وقعت في حال الخروج، على القول بكونه مأمورا به بدون إجراء حكم المعصية عليه، أو مع غلبة ملاك الأمر على النهي مع ضيق الوقت (1).
169
أما الصلاة في سعة الوقت فالصحة وعدمها مبنيان على عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن الضد واقتضائه فإن الصلاة في الدار المغصوبة وإن كانت مصلحتها غالبة على ما فيها من المفسدة، إلا أنه لا شبهة في أن الصلاة في غيرها تضادها، بناءا على أنه لا يبقي مجال مع إحداهما للأخرى، مع كونها أهم منها، لخلوها من المنقصة الناشئة من قبل اتحادها مع الغصب، لكنه عرفت عدم الاقتضاء بما لا مزيد عليه،
170
فالصلاة في الغصب اختيارا في سعة الوقت صحيحة، وإن لم تكن مأمورا بها (1).
171
الأمر الثاني: قد مر في بعض المقدمات أنه لا تعارض بين مثل خطاب ((صل)) وخطاب ((لا تغصب)) على الامتناع، تعارض الدليلين (1) بما
173
هما دليلان حاكيان، كي يقدم الأقوى منهما دلالة أو سندا، بل إنما هو من باب تزاحم المؤثرين والمقتضيين، فيقدم الغالب منهما وإن كان الدليل على مقتضى الآخر أقوى من دليل مقتضاه. هذا فيما إذا أحرز الغالب منهما، وإلا كان بين الخطابين تعارض فيقدم الأقوى منهما دلالة أو سندا وبطريق الإن يحرز به أن مدلوله أقوى مقتضيا. هذا لو كان كل من الخطابين متكفلا لحكم فعلي، وإلا فلابد من الأخذ بالمتكفل لذلك منهما لو كان، وإلا فلا محيص عن الانتهاء إلى ما تقتضيه الأصول العملية (1).
174
ثم لا يخفى أن ترجيح أحد الدليلين وتخصيص الآخر به في المسألة لا يوجب خروج مورد الاجتماع عن تحت الآخر رأسا كما هو قضية التقييد والتخصيص في غيرها مما لا يحرز فيه المقتضي لكلا الحكمين، بل قضيته ليس إلا خروجه فيما كان الحكم الذي هو مفاد الآخر فعليا، وذلك لثبوت المقتضي في كل واحد من الحكمين فيها. فإذا لم يكن المقتضي لحرمة الغصب مؤثرا لها لاضطرار أو جهل أو نسيان كان المقتضي لصحة الصلاة مؤثرا لها فعلا، كما إذا لم يكن دليل الحرمة أقوى، أو لم يكن واحد من الدليلين دالا على الفعلية أصلا.
فانقدح بذلك فساد الإشكال في صحة الصلاة في صورة الجهل أو النسيان ونحوهما فيما إذا قدم خطاب ((لا تغصب))، كما هو الحال فيما
176
إذا كان الخطابان من أول الأمر متعارضين، ولم يكونا من باب الاجتماع أصلا، وذلك لثبوت المقتضي في هذا الباب، كما إذا لم يقع بينهما تعارض ولم يكونا متكفلين للحكم الفعلي. فيكون وزان التخصيص في مورد الاجتماع وزان التخصيص العقلي الناشئ من جهة تقديم أحد المقتضيين وتأثيره فعلا، المختص بما إذا لم يمنع عن تأثيره مانع المقتضي، لصحة مورد الاجتماع مع الأمر، أو بدونه فيما كان هناك مانع عن تأثير المقتضي للنهي له أو عن فعليته، كما مر تفصيله.
وكيف كان، فلا بد في ترجيح أحد الحكمين من مرجح، وقد ذكروا لترجيح النهي وجوها (1):
177
منها: إنه أقوى دلالة، لاستلزامه انتفاء جميع الأفراد، بخلاف الأمر (1).
وقد أورد عليه بأن ذلك فيه من جهة إطلاق متعلقه بقرينة الحكمة، كدلالة الأمر على الاجتزاء بأي فرد كان (2).
179
وقد أورد عليه بأنه لو كان العموم المستفاد من النهي بالإطلاق بمقدمات الحكمة وغير مستند إلى دلالته عليه بالالتزام، لكان استعمال مثل ((لا تغصب)) في بعض أفراد الغصب حقيقة. وهذا واضح الفساد، فتكون دلالته على العموم من جهة أن وقوع الطبيعة في حيز النفي أو النهي، يقتضي عقلا سريان الحكم إلى جميع الأفراد، ضرورة عدم الانتهاء عنها أو انتفائها، إلا بالانتهاء عن الجميع أو انتفائه (1).
180
قلت: دلالتهما على العموم والاستيعاب ظاهرا مما لا ينكر، لكنه من الواضح أن العموم المستفاد منهما كذلك، إنما هو بحسب ما يراد من متعلقهما، فيختلف سعة وضيقا، فلا يكاد يدل على استيعاب جميع الأفراد، إلا إذا أريد منه الطبيعة مطلقة وبلا قيد، ولا يكاد يستظهر ذلك مع عدم دلالته عليه بالخصوص إلا بالاطلاق وقرينة الحكمة، بحيث لو لم يكن هناك قرينتها بأن يكون الإطلاق في غير مقام البيان لم يكد
181
يستفاد استيعاب أفراد الطبيعة. وذلك لا ينافي دلالتهما على استيعاب أفراد ما يراد من المتعلق، إذ الفرض عدم الدلالة على أنه المقيد أو المطلق (1).
182
اللهم إلا أن يقال: إن في دلالتهما على الاستيعاب كفاية ودلالة على أن المراد من المتعلق هو المطلق، كما ربما يدعى ذلك في مثل: ((كل رجل))، وإن مثل لفظة ((كل)) تدل على استيعاب جميع أفراد الرجل من غير حاجة إلى ملاحظة إطلاق مدخوله وقرينة الحكمة، بل يكفي إرادة ما هو معناه من الطبيعة المهملة ولا بشرط في دلالته على الاستيعاب وإن كان لا يلزم مجاز أصلا، لو أريد منه خاص بالقرينة، لا فيه لدلالته على استيعاب أفراد ما يراد من المدخول، ولا فيه إذا كان بنحو تعدد
184
الدال والمدلول، لعدم استعماله إلا فيما وضع له، والخصوصية مستفادة من دال آخر، فتدبر (1).
185
ومنها: إن دفع المفسدة أولى من جلب المنفعة (1).
وقد أورد عليه في القوانين، بأنه مطلقا ممنوع، لأن في ترك الواجب أيضا مفسدة إذا تعين (2).
186
ولا يخفى ما فيه، فإن الواجب ولو كان معينا، ليس إلا لأجل أن في فعله مصلحة يلزم استيفاؤها من دون أن يكون في تركه مفسدة، كما أن الحرام ليس إلا لأجل المفسدة في فعله بلا مصلحة في تركه (1).
187
ولكن يرد عليه: أن الأولوية مطلقا ممنوعة، بل ربما يكون العكس أولى، كما يشهد به مقايسة فعل بعض المحرمات مع ترك بعض الواجبات، خصوصا مثل الصلاة وما يتلو تلوها (1)، ولو سلم فهو أجنبي
189
عن المقام، فإنه فيما إذا دار بين الواجب والحرام (1).
190
(1) كفاية الأصول بحاشية المحقق المشكيني ج 1، ص 277. (حجري)
191
ولو سلم فإنما يجدي فيما لو حصل به القطع (1)، ولو سلم أنه يجدي ولو لم يحصل، فإنما يجري فيما لا يكون هناك مجال لأصالة البراءة أو
193
الاشتغال، كما في دوران الأمر بين الوجوب والحرمة التعيينيين، لا فيما تجري، كما في محل الاجتماع، لأصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته (1) ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الأجزاء والشرائط، فإنه
194
لا مانع عقلا إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءة عنها عقلا ونقلا (1).
196
نعم لو قيل بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم يكن الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غير جارية، بل كانت أصالة الاشتغال بالواجب لو كان عبادة محكمة ولو قيل بأصالة البراءة في الأجزاء والشرائط، لعدم تأتي قصد القربة مع الشك في المبغوضية (1)،
197
فتأمل (1).
(1) كفاية الأصول بحاشية المحقق المشكيني (قدس سره) ج 1، ص 278 (حجري).
199
ومنها: الاستقراء، فإنه يقتضي ترجيح جانب الحرمة على جانب الوجوب، كحرمة الصلاة في إيام الاستظهار، وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين (1).
200
وفيه: أنه لا دليل على اعتبار الاستقراء، ما لم يفد القطع. ولو سلم فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار (1).
201
ولو سلم فليس حرمة الصلاة في تلك الأيام، ولا عدم جواز الوضوء منهما مربوطا بالمقام، لأن حرمة الصلاة فيها إنما تكون لقاعدة الإمكان والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا، فيحكم بجميع أحكامه ومنها حرمة الصلاة عليها لا لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى. هذا
202
لو قيل بحرمتها الذاتية في أيام الحيض، وإلا فهو خارج عن محل الكلام (1).
203
ومن هنا انقدح أنه ليس منه ترك الوضوء من الإناءين، فإن حرمة الوضوء من الماء النجس ليس إلا تشريعيا، ولا تشريع فيما لو توضأ منهما احتياطا، فلا حرمة في البين غلب جانبها، فعدم جواز الوضوء منهما ولو كذلك (1)، بل إراقتهما - كما في النص - ليس إلا من باب
204
التعبد (1) أو من جهة الابتلاء بنجاسة البدن ظاهرا بحكم الاستصحاب، للقطع بحصول النجاسة حال ملاقاة المتوضئ من الإناء الثانية، إما
205
بملاقاتها، أو بملاقاة الأولى، وعدم استعمال مطهر بعده (1) ولو طهر
206
بالثانية مواضع الملاقاة بالأولى (1).
نعم لو طهرت على تقدير نجاستها بمجرد ملاقاتها، بلا حاجة إلى التعدد وانفصال الغسالة لا يعلم تفصيلا بنجاستها وإن علم بنجاستها حين ملاقاة الأولى أو الثانية إجمالا، فلا مجال لاستصحابها بل كانت قاعدة الطهارة محكمة (2).
208
الأمر الثالث: الظاهر لحوق تعدد الإضافات بتعدد العنوانات والجهات في أنه لو كان تعدد الجهة والعنوان كافيا مع وحدة المعنون وجودا في جواز الاجتماع كان تعدد الإضافات مجديا، ضرورة أنه يوجب أيضا اختلاف المضاف بها بحسب المصلحة والمفسدة والحسن والقبح عقلا، وبحسب الوجوب والحرمة شرعا. فيكون مثل ((أكرم العلماء)) و ((لا تكرم الفساق)) من باب الاجتماع ك ((صل))
209
و ((لا تغصب)) لا من باب التعارض (1) إلا إذا لم يكن للحكم في أحد
210
الخطابين في مورد الاجتماع مقتض (1)، كما هو الحال أيضا في تعدد العنوانين (2).
211
فما يتراءى منهم من المعاملة مع مثل ((أكرم العلماء)) و ((لا تكرم الفساق)) معاملة تعارض العموم من وجه، إنما يكون بناءا على الامتناع أو عدم المقتضي
لأحد الحكمين في مورد الاجتماع.
213
فصل
في أن النهي عن الشيء، هل يقتضي فساده أم لا (1)؟
وليقدم أمور:
الأول: إنه قد عرفت في المسألة السابقة الفرق بينها وبين هذه المسألة، وإنه لادخل للجهة المبحوث عنها في إحداهما، بما هو جهة البحث في الأخرى، وإن البحث في هذه المسألة في دلالة النهي بوجه يأتي تفصيله على الفساد بخلاف تلك المسألة، فإن البحث فيها في أن تعدد الجهة يجدي في رفع غائلة اجتماع الأمر والنهي
في مورد الاجتماع أم لا (2)؟
214
الثاني: إنه لا يخفى أن عد هذه المسألة من مباحث الالفاظ، إنما هو لأجل أنه في الأقوال قول بدلالته على الفساد في المعاملات، مع إنكار الملازمة بينه وبين الحرمة التي هي مفاده فيها (1)، ولا ينافي ذلك أن
215
الملازمة على تقدير ثبوتها في العبادة إنما تكون بينه وبين الحرمة ولو لم تكن مدلولة بالصيغة، وعلى تقدير عدمها تكون منتفية بينهما (1)،
217
لامكان أن يكون البحث معه في دلالة الصيغة، بما تعم دلالتها بالالتزام (1)، فلا تقاس بتلك المسألة التي لا يكاد يكون لدلالة اللفظ بها
218
مساس (1)، فتأمل جيدا.
219
الثالث: ظاهر لفظ النهي وإن كان هو النهي التحريمي، إلا أن ملاك البحث يعم التنزيهي، ومعه لا وجه لتخصيص العنوان (1)، واختصاص
220
عموم ملاكه بالعبادات لا يوجب التخصيص به، كما لا يخفى (1).
221
كما لا وجه لتخصيصه بالنفسي (1)، فيعم الغيري إذا كان
222
أصليا (1)، وأما إذا كان تبعيا، فهو وإن كان خارجا عن محل البحث، لما عرفت أنه في دلالة النهي والتبعي منه من مقولة المعنى، إلا أنه داخل فيما
224
هو ملاكه، فإن دلالته على الفساد على القول به فيما لم يكن للارشاد إليه، إنما يكون لدلالته على الحرمة، من غير دخل لاستحقاق العقوبة على مخالفته في ذلك، كما توهمه القمي (قدس سره) ويؤيد ذلك أنه جعل ثمرة النزاع في أن الامر بالشيء يقتضي النهي عن ضده، فساده إذا كان عبادة، فتدبر جيدا.
الرابع: ما يتعلق به النهي، إما أن يكون عبادة أو غيرها، والمراد بالعبادة - هاهنا - ما يكون بنفسه وبعنوانه عبادة له تعالى، موجبا بذاته للتقرب من حضرته لولا حرمته، كالسجود والخضوع والخشوع له وتسبيحه وتقديسه (1)، أو ما لو تعلق الامر به كان أمره أمرا عباديا،
226
لا يكاد يسقط إلا إذا أتى به بنحو قربى، كسائر أمثاله، نحو صوم العيدين والصلاة في أيام العادة (1)، لا ما أمر به لأجل التعبد به، ولا ما
228
يتوقف صحته على النية، ولا ما لا يعلم انحصار المصلحة فيها في شيء، كما عرف بكل منها العبادة، ضرورة أنها بواحد منها، لا يكاد يمكن أن يتعلق بها النهي، مع ما أورد عليها بالانتقاض طردا أو عكسا، أو بغيره، كما يظهر من مراجعة المطولات، وإن كان الاشكال بذلك فيها في غير محله، لأجل كون مثلها من التعريفات، ليس بحد ولا برسم، بل من قبيل شرح الاسم كما نبهنا عليه غير مرة، فلا وجه لإطالة الكلام بالنقض والابرام في تعريف العبادة، ولا في تعريف غيرها كما هو العادة (1).
229
الخامس: إنه لا يدخل في عنوان النزاع إلا ما كان قابلا للاتصاف بالصحة والفساد، بأن يكون تارة تاما يترتب عليه ما يترقب عنه من الأثر، وأخرى لا كذلك، لاختلال بعض ما يعتبر في ترتبه، إما ما لا أثر له شرعا، أو كان أثره مما لا يكاد ينفك عنه، كبعض أسباب الضمان، فلا يدخل في عنوان النزاع لعدم طروء الفساد عليه كي ينازع في أن النهي عنه يقتضيه أو لا، فالمراد بالشيء في العنوان هو العبادة بالمعنى الذي تقدم، والمعاملة بالمعنى الأعم، مما يتصف بالصحة والفساد، عقدا كان أو إيقاعا أو غيرهما، فافهم (1).
231
السادس: إن الصحة والفساد وصفان إضافيان يختلفان بحسب الآثار والانظار، فربما يكون شيء واحد صحيحا بحسب أثر أو نظر وفاسدا بحسب آخر.
ومن هنا صح أن يقال: إن الصحة في العبادة والمعاملة لا تختلف، بل فيهما بمعنى واحد وهو التمامية، وإنما الاختلاف فيما هو المرغوب منهما من الآثار التي بالقياس
عليها تتصف بالتمامية وعدمها، وهكذا الاختلاف بين الفقيه والمتكلم في صحة العبادة، إنما يكون لأجل الاختلاف فيما هو المهم لكل منهما من الأثر، بعد الاتفاق ظاهرا على أنها بمعنى التمامية، كما هي معناها لغة وعرفا. فلما كان غرض الفقيه، هو وجوب القضاء، أو الإعادة، أو عدم الوجوب، فسر صحة العبادة بسقوطهما، وكان غرض المتكلم هو حصول الامتثال الموجب عقلا لاستحقاق المثوبة، فسرها بما يوافق الامر تارة، وبما يوافق الشريعة أخرى (1).
233
وحيث أن الامر في الشريعة يكون على أقسام: من الواقعي الأولي، والثانوي، والظاهري، والانظار تختلف في أن الأخيرين يفيدان الاجزاء أو لا يفيدان، كان الاتيان بعبادة موافقة لامر ومخالفة لآخر، أو مسقطا للقضاء والإعادة بنظر، وغير مسقط لهما بنظر آخر، فالعبادة الموافقة
236
للامر الظاهري، تكون صحيحة عند المتكلم والفقيه، بناءا على أن الامر في تفسير الصحة بموافقة الامر أعم من الظاهري، مع اقتضائه للاجزاء، وعدم اتصافها بها عند الفقيه بموافقته، بناءا على عدم الاجزاء، وكونه مراعى بموافقة الامر الواقعي عند المتكلم، بناءا على كون الامر في تفسيرها خصوص الواقعي (1).
237
تنبيه: وهو أنه لا شبهة في أن الصحة والفساد عند المتكلم، وصفان اعتباريان ينتزعان من مطابقة المأتي به مع المأمور به وعدمها (1)، وأما
240
الصحة بمعنى سقوط القضاء والإعادة عند الفقيه، فهي من لوازم الاتيان بالمأمور به بالامر الواقعي الأولي عقلا، حيث لا يكاد يعقل ثبوت الإعادة أو القضاء معه جزما، فالصحة بهذا المعنى فيه، وإن كان ليس بحكم وضعي مجعول بنفسه أو بتبع تكليف، إلا أنه ليس بأمر اعتباري ينتزع كما توهم، بل مما يستقل به العقل، كما يستقل باستحقاق المثوبة به (1) وفي غيره، فالسقوط ربما يكون مجعولا، وكان الحكم به تخفيفا ومنة
241
على العباد، مع ثبوت المقتضي لثبوتهما، كما عرفت في مسألة الاجزاء، كما ربما يحكم بثبوتهما، فيكون الصحة والفساد فيه حكمين مجعولين لا وصفين انتزاعيين (1).
243
نعم، الصحة والفساد في الموارد الخاصة، لا يكاد يكونان مجعولين، بل إنما هي تتصف بهما بمجرد الانطباق على ما هو المأمور به، هذا في العبادات (1).
244
وأما الصحة في المعاملات، فهي تكون مجعولة، حيث كان ترتب الأثر على معاملة إنما هو بجعل الشارع وترتيبه عليها ولو إمضاء، ضرورة أنه لولا جعله، لما كان يترتب عليه، لأصالة الفساد (1).
245
نعم صحة كل معاملة شخصية وفسادها، ليس إلا لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا وعدمه، كما هو الحال في التكليفية من الاحكام، ضرورة أن اتصاف المأتي به بالوجوب أو الحرمة أو غيرهما، ليس إلا لانطباقه مع ما هو الواجب أو الحرام (1).
246
السابع: لا يخفى أنه لا أصل في المسألة يعول عليه، لو شك في دلالة النهي على الفساد (1).
247
نعم، كان الأصل في المسألة الفرعية الفساد، لو لم يكن هناك إطلاق أو عموم يقتضي الصحة في المعاملة.
248
وأما العبادة فكذلك، لعدم الامر بها مع النهي عنها، كما لا يخفى (1).
(1) الوسائل ج 1: 546 / 2، باب 7 من أبواب الحيض.
249
الثامن: إن متعلق النهي إما أن يكون نفس العبادة، أو جزأها، أو شرطها الخارج عنها (1)، أو وصفها الملازم لها كالجهر والاخفات للقراءة، أو وصفها الغير الملازم كالغصبية لاكوان الصلاة المنفكة عنها لا ريب في دخول القسم الأول في محل النزاع، وكذا القسم الثاني بلحاظ أن
251
جزء العبادة عبادة (1)، إلا أن بطلان الجزء لا يوجب بطلانها، إلا مع الاقتصار عليه، لا مع الاتيان بغيره مما لا نهي عنه (2)، إلا أن يستلزم
252
محذورا آخر (1).
253
وأما القسم الثالث، فلا يكون حرمة الشرط والنهي عنه موجبا لفساد العبادة، إلا فيما كان عبادة، كي تكون حرمته موجبة لفساده المستلزم لفساد المشروط به.
وبالجملة لا يكاد يكون النهي عن الشرط موجبا لفساد العبادة المشروطة به، لو لم يكن موجبا لفساده، كما إذا كانت عبادة (1).
254
وأما القسم الرابع، فالنهي عن الوصف اللازم مساوق للنهي عن موصوفه، فيكون النهي عن الجهر في القراءة مثلا مساوقا للنهي عنها، لاستحالة كون القراءة التي يجهر بها مأمورا بها، مع كون الجهر بها منهيا عنه فعلا، كما لا يخفى (1).
وهذا بخلاف ما إذا كان مفارقا، كما في القسم الخامس، فإن النهي عنه لا يسري إلى الموصوف، إلا فيما إذا اتحد معه وجودا، بناءا على
256
امتناع الاجتماع، وأما بناء على الجواز فلا يسري إليه، كما عرفت في المسألة السابقة، هذا حال النهي المتعلق بالجزء أو الشرط أو الوصف (1).
257
وأما النهي عن العبادة لأجل أحد هذه الأمور، فحاله حال النهي عن أحدها إن كان من قبيل الوصف بحال المتعلق.
وبعبارة أخرى: كان النهي عنها بالعرض، وإن كان النهي عنها على نحو الحقيقة، والوصف بحاله، وإن كان بواسطة أحدها، إلا أنه من قبيل الواسطة في الثبوت لا العروض، كان حاله حال النهي في القسم الأول، فلا تغفل.
ومما ذكرنا في بيان أقسام النهي في العبادة (1)، يظهر حال الاقسام في
258
المعاملة، فلا يكون بيانها على حدة بمهم (1)، كما أن تفصيل الأقوال في الدلالة على الفساد وعدمها، التي ربما تزيد على العشرة - على ما قيل كذلك، إنما المهم بيان ما هو الحق في المسألة، ولابد في تحقيقه على نحو يظهر الحال في الأقوال، من بسط المقال في مقامين:
الأول في العبادات: فنقول وعلى الله الاتكال: إن النهي المتعلق بالعبادة بنفسها، ولو كانت جزء عبادة بما هو عبادة - كما عرفت - مقتض لفسادها، لدلالته على حرمتها ذاتا، ولا يكاد يمكن اجتماع الصحة
259
بمعنى موافقة الامر أو الشريعة مع الحرمة، وكذا بمعنى سقوط الإعادة، فإنه مترتب على إتيانها بقصد القربة، وكانت مما يصلح لان يتقرب به، ومع الحرمة لا تكاد تصلح لذلك، ويتأتى قصدها من الملتفت إلى حرمتها، كما لا يخفى (1).
260
لا يقال: هذا لو كان النهي عنها دالا على الحرمة الذاتية، ولا يكاد يتصف بها العبادة، لعدم الحرمة بدون قصد القربة، وعدم القدرة عليها مع قصد القربة بها إلا تشريعا، ومعه تكون محرمة بالحرمة التشريعية لا محالة، ومعه لا تتصف بحرمة أخرى، لامتناع اجتماع المثلين كالضدين (1).
261
فإنه يقال: لا ضير في اتصاف ما يقع عبادة - لو كان مأمورا به - بالحرمة الذاتية، مثلا صوم العيدين كان عبادة منهيا عنها، بمعنى أنه لو أمر به كان عبادة، لا يسقط الامر به إلا إذا أتى به بقصد القربة، كصوم سائر الأيام، هذا فيما إذا لم يكن ذاتا عبادة، كالسجود لله تعالى ونحوه، وإلا كان محرما مع كونه فعلا عبادة، مثلا إذا نهي الجنب والحائض عن السجود له تبارك وتعالى، كان عبادة محرمة ذاتا حينئذ، لما فيه من المفسدة والمبغوضية في هذا الحال (1)، مع أنه لا ضير في اتصافه
263
بهذه الحرمة مع الحرمة التشريعية، بناءا على أن الفعل فيها لا يكون في الحقيقة متصفا بالحرمة، بل إنما يكون المتصف بها ما هو من أفعال القلب، كما هو الحال في التجري والانقياد (1)،
265
فافهم (1).
هذا مع أنه لو لم يكن النهي فيها دالا على الحرمة، لكان دالا على الفساد، لدلالته على الحرمة التشريعية، فإنه لا أقل من دلالته على أنها ليست بمأمور بها، وإن عمها إطلاق دليل الامر بها أو عمومه (2)، نعم لو
266
لم يكن النهي عنها إلا عرضا، كما إذا نهى عنها فيما كانت ضد الواجب مثلا، لا يكون مقتضيا للفساد، بناءا على عدم اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن الضد الا كذلك أي عرضا، فيخصص به أو يقيد (1).
268
المقام الثاني في المعاملات: ونخبة القول، أن النهي الدال على حرمتها لا يقتضي الفساد، لعدم الملازمة فيها - لغة ولا عرفا - بين حرمتها وفسادها أصلا، كانت الحرمة متعلقة بنفس المعاملة بما هو فعل بالمباشرة، أو بمضمونها بما هو فعل بالتسبب أو بالتسبب بها اليه وان لم يكن السبب ولا المسبب بما هو فعل من الافعال بحرام، وإنما يقتضي الفساد فيما إذا كان دالا على حرمة ما لا يكاد يحرم مع صحتها، مثل النهي عن أكل الثمن أو المثمن في بيع أو بيع شيء (1).
269
نعم لا يبعد دعوى ظهور النهي عن المعاملة في الارشاد إلى فسادها، كما أن الامر بها يكون ظاهرا في الارشاد إلى صحتها من دون دلالته على إيجابها أو استحبابها، كما لا يخفى.
لكنه في المعاملات بمعنى العقود والايقاعات، لا المعاملات بالمعنى الأعم المقابل للعبادات، فالمعول هو ملاحظة القرائن في خصوص المقامات، ومع عدمها لا محيص عن الاخذ بما هو قضية صيغة النهي من الحرمة، وقد عرفت أنها غير مستتبعة للفساد، لا لغة ولا عرفا (1).
274
نعم ربما يتوهم استتباعها له شرعا، من جهة دلالة غير واحد من الاخبار عليه، منها ما رواه في الكافي والفقيه، عن زرارة، عن الباقر
275
عليه السلام سأله عن مملوك تزوج بغير إذن سيده، فقال: ذلك إلى سيده، إن شاء أجازه وإن شاء فرق بينهما، قلت: أصلحك الله تعالى، إن الحكم بن عتيبة وإبراهيم
النخعي وأصحابهما، يقولون: إن أصل النكاح فاسد، ولا يحل إجازة السيد له، فقال أبو جعفر عليه السلام: إنه لم يعص الله، إنما عصى سيده، فإذا أجاز فهو له جائز حيث دل بظاهره ان النكاح لو كان مما حرمه الله تعالى عليه كان فاسدا (1)،
276
ولا يخفى أن الظاهر أن يكون المراد بالمعصية المنفية ها هنا، أن النكاح ليس مما لم يمضه الله ولم يشرعه كي يقع فاسدا، ومن المعلوم استتباع المعصية بهذا المعنى للفساد كما لا يخفى، ولا بأس بإطلاق المعصية على عمل لم يمضه الله ولم يأذن به، كما أطلق عليه بمجرد عدم إذن السيد فيه أنه معصية.
وبالجملة: لو لم يكن ظاهرا في ذلك، لما كان ظاهرا فيما توهم، وهكذا حال سائر الأخبار الواردة في هذا الباب، فراجع وتأمل (1).
277
تذنيب: حكي عن أبي حنيفة والشيباني دلالة النهي على الصحة، وعن الفخر أنه وافقهما في ذلك (1)، والتحقيق انه في المعاملات كذلك إذا كان عن المسبب أو التسبيب، لاعتبار القدرة في متعلق النهي كالأمر،
281
ولا يكاد يقدر عليهما إلا فيما كانت المعاملة مؤثرة صحيحة، وأما إذا كان عن السبب، فلا، لكونه مقدورا وإن لم يكن صحيحا، نعم قد عرفت أن النهي عنه لا ينافيها (1).
282
وأما العبادات فما كان منها عبادة ذاتية كالسجود والركوع والخشوع والخضوع له تبارك وتعالى، فمع النهي عنه يكون مقدورا، كما إذا كان مأمورا به، وما كان منها عبادة لاعتبار
283
قصد القربة فيه لو كان مأمورا به، فلا يكاد يقدر عليه إلا إذا قيل باجتماع الأمر والنهي في شيء ولو بعنوان واحد، وهو محال، وقد عرفت أن النهي في هذا القسم إنما يكون نهيا عن العبادة، بمعنى أنه لو كان مأمورا به، كان الامر به أمر عبادة لا يسقط إلا بقصد القربة (1)،
284
فافهم (1).
285
المقصد الثالث
في المفاهيم
287
المقصد الثالث
في المفاهيم
مقدمة وهي: إن المفهوم - كما يظهر من موارد إطلاقه - هو عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري تستتبعه خصوصية المعنى الذي أريد من اللفظ، بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، وافقه في الايجاب والسلب أو خالفه، فمفهوم إن جاءك زيد فأكرمه مثلا - لو قيل به - قضية شرطية سالبة بشرطها وجزائها، لازمة للقضية الشرطية التي تكون معنى القضية اللفظية، وتكون لها خصوصية، بتلك الخصوصية كانت مستلزمة لها (1)، فصح أن يقال: إن المفهوم إنما هو
288
حكم غير مذكور، لا أنه حكم لغير مذكور، كما فسر به، وقد وقع فيه النقض والابرام بين الاعلام، مع أنه لا موقع له كما أشرنا إليه في غير مقام، لأنه من قبيل شرح الاسم، كما في التفسير اللغوي.
289
ومنه قد انقدح حال غير هذا التفسير مما ذكر في المقام، فلا يهمنا التصدي لذلك، كما لا يهمنا بيان (1) أنه من صفات المدلول أو الدلالة
290
وإن كان بصفات المدلول أشبه، وتوصيف الدلالة به أحيانا كان من باب التوصيف بحال المتعلق (1).
وقد انقدح من ذلك أن النزاع في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة، إنما يكون في أن القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل تدل بالوضع أو بالقرينة العامة على تلك الخصوصية المستتبعة لتلك القضية الأخرى، أم لا (2)؟
291
فصل
الجملة الشرطية هل تدل على الانتفاء عند الانتفاء، كما تدل على الثبوت عند الثبوت بلا كلام، أم لا؟ فيه خلاف بين الاعلام.
لا شبهة في استعمالها وإرادة الانتفاء عند الانتفاء في غير مقام، إنما الاشكال والخلاف في أنه بالوضع أو بقرينة عامة، بحيث لابد من الحمل عليه لو لم يقم على خلافه قرينة من حال أو مقال، فلابد للقائل بالدلالة من إقامة الدليل على الدلالة، بأحد الوجهين على تلك الخصوصية المستتبعة لترتب الجزاء على الشرط، نحو ترتب المعلول
على علته المنحصرة.
292
وأما القائل بعدم الدلالة ففي فسحة، فإن له منع دلالتها على اللزوم، بل على مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق، أو منع دلالتها على الترتب، أو على نحو الترتب على العلة، أو العلة المنحصرة بعد تسليم اللزوم أو العلية (1).
293
لكن منع دلالتها على اللزوم، ودعوى كونها اتفاقية، في غاية السقوط، لانسباق اللزوم منها قطعا، وأما المنع عن أنه بنحو الترتب
295
على العلة فضلا عن كونها منحصرة، فله مجال واسع (1) ودعوى تبادر اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة - مع كثرة استعمالها في الترتب على نحو الترتب على غير المنحصرة منها بل في مطلق اللزوم - بعيدة، عهدتها على مدعيها (2)، كيف؟ ولا يرى في استعمالها فيها
296
عناية، ورعاية علاقة، بل إنما تكون إرادته كإرادة الترتب على العلة المنحصرة بلا عناية، كما يظهر على من أمعن النظر وأجال البصر في موارد الاستعمالات، وفي عدم الالزام والاخذ بالمفهوم في مقام المخاصمات والاحتجاجات (1)، وصحة الجواب بأنه لم يكن لكلامه
297
مفهوم، وعدم صحته لو كان له ظهور فيه معلوم (1).
وأما دعوى الدلالة، بادعاء انصراف إطلاق العلاقة اللزومية إلى ما هو أكمل افرادها، وهو اللزوم بين العلة المنحصرة ومعلولها، ففاسدة جدا، لعدم كون الأكملية موجبة للانصراف إلى الأكمل، لا سيما مع كثرة الاستعمال في غيره، كما لا يكاد يخفى. هذا مضافا إلى منع كون اللزوم بينهما أكمل مما إذا لم تكن العلة بمنحصرة، فإن الانحصار لا يوجب أن يكون ذاك الربط الخاص الذي لابد منه في تأثير العلة في معلولها آكد وأقوى (2).
298
إن قلت: نعم، ولكنه قضية الاطلاق بمقدمات الحكمة، كما أن قضية إطلاق صيغة الامر هو الوجوب النفسي (1).
300
قلت: أولا: هذا فيما تمت هناك مقدمات الحكمة، ولا تكاد تتم فيما هو مفاد الحرف كما هاهنا، وإلا لما كان معنى حرفيا، كما يظهر وجهه بالتأمل (1).
وثانيا: تعينه من بين أنحائه بالاطلاق المسوق في مقام البيان بلا معين، ومقايسته مع تعين الوجوب النفسي بإطلاق صيغة الامر مع الفارق، فإن النفسي هو الواجب على كل حال بخلاف الغيري، فإنه واجب على تقدير دون تقدير، فيحتاج بيانه إلى مؤونة التقييد بما إذا وجب الغير، فيكون الاطلاق في الصيغة مع مقدمات الحكمة محمولا عليه، وهذا بخلاف اللزوم والترتب بنحو الترتب على العلة المنحصرة، ضرورة أن كل واحد من أنحاء اللزوم والترتب، محتاج في تعينه إلى القرينة مثل الآخر، بلا تفاوت أصلا، كما لا يخفى (2).
301
ثم إنه ربما يتمسك للدلالة على المفهوم بإطلاق الشرط، بتقريب أنه لو لم يكن بمنحصر يلزم تقييده، ضرورة أنه لو قارنه أو سبقه الآخر لما أثر وحده، وقضية إطلاقه أنه يؤثر كذلك مطلقا (1).
303
وفيه أنه لا تكاد تنكر الدلالة على المفهوم مع إطلاقه كذلك، إلا أنه من المعلوم ندرة تحققه، لو لم نقل بعدم اتفاقه.
فتلخص بما ذكرناه، أنه لم ينهض دليل على وضع مثل (إن) على تلك الخصوصية المستتبعة للانتفاء عند الانتفاء، ولم تقم عليها قرينة عامة، أما قيامها أحيانا كانت مقدمات الحكمة أو غيرها، مما لا يكاد ينكر، فلا يجدي القائل بالمفهوم، انه قضية الاطلاق في مقام من باب الاتفاق (1).
304
وأما توهم أنه قضية إطلاق الشرط، بتقريب أن مقتضاه تعينه، كما أن مقتضى إطلاق الامر تعين الوجوب (1).
ففيه: أن التعين ليس في الشرط نحوا يغاير نحوه فيما إذا كان متعددا، كما كان في الوجوب كذلك، وكان الوجوب في كل منهما متعلقا بالواجب بنحو آخر، لابد في التخييري منهما من العدل، وهذا بخلاف الشرط فإنه واحدا كان أو متعددا، كان نحوه واحدا ودخله في المشروط
305
بنحو واحد، لا تتفاوت الحال فيه ثبوتا كي تتفاوت عند الاطلاق إثباتا، وكان الاطلاق مثبتا لنحو لا يكون له عدل لاحتياج ما له العدل إلى زيادة مؤونة، وهو ذكره بمثل أو كذا (1) واحتياج ما إذا كان الشرط
306
متعددا إلى ذلك إنما يكون لبيان التعدد، لا لبيان نحو الشرطية، فنسبة إطلاق الشرط إليه لا تختلف، كان هناك شرط آخر أم لا، حيث كان مسوقا لبيان شرطيته بلا إهمال ولا إجمال. بخلاف إطلاق الامر، فإنه
308
لو لم يكن لبيان خصوص الوجوب التعييني، فلا محالة يكون في مقام الاهمال أو الاجمال، تأمل تعرف (1).
هذا مع أنه لو سلم لا يجدي القائل بالمفهوم، لما عرفت أنه لا يكاد ينكر فيما إذا كان مفاد الاطلاق من باب الاتفاق (2).
ثم إنه ربما استدل المنكرون للمفهوم بوجوه (1):
309
أحدها: ما عزي إلى السيد من أن تأثير الشرط، إنما هو تعليق الحكم به، وليس بممتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه، ولا يخرج عن كونه شرطا، فإن قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم (يمنع من قبول الشاهد الواحد، حتى ينضم إليه شاهد آخر، فانضمام الثاني إلى الأول شرط في القبول، ثم علمنا أن ضم امرأتين إلى الشاهد الأول شرط في القبول، ثم علمنا أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضا، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى، مثل الحرارة، فإن انتفاء الشمس لا يلزم انتفاء الحرارة، لاحتمال قيام النار مقامها، والأمثلة لذلك كثيرة شرعا وعقلا (2).
310
والجواب: أنه (قدس سره) إن كان بصدد إثبات إمكان نيابة بعض الشروط عن بعض في مقام الثبوت وفي الواقع، فهو مما لا يكاد ينكر، ضرورة أن الخصم يدعي عدم وقوعه في مقام الاثبات، ودلالة القضية الشرطية عليه، وإن كان بصدد إبداء احتمال وقوعه، فمجرد الاحتمال لا يضره، ما لم يكن راجحا أو مساويا، وليس فيما أفاده ما يثبت ذلك أصلا، كما لا يخفى (1).
311
ثانيها: إنه لو دل لكان بإحدى الدلالات، والملازمة كبطلان التالي ظاهرة (1)، وقد أجيب عنه بمنع بطلان التالي، وأن الالتزام ثابت، وقد
314
عرفت بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته أو منعه، فلا تغفل (1).
315
ثالثها: قوله تبارك وتعالى: (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا).
وفيه ما لا يخفى، ضرورة أن استعمال الجملة الشرطية فيما لا مفهوم له أحيانا وبالقرينة، لا يكاد ينكر، كما في الآية وغيرها، وإنما القائل به إنما يدعي ظهورها فيما له المفهوم وضعا أو بقرينة عامة، كما عرفت (1).
316
بقي ها هنا أمور: الأول: إن المفهوم هو انتفاء سنخ الحكم المعلق على الشرط عند انتفائه، لا انتفاء شخصه، ضرورة انتفائه عقلا بانتفاء موضوعه ولو ببعض قيوده (1)، فلا يتمشى الكلام - في أن للقضية
317
الشرطية مفهوما أوليس لها مفهوم - إلا في مقام كان هناك ثبوت سنخ الحكم في الجزاء، وانتفاؤه عند انتفاء الشرط ممكنا، وإنما وقع النزاع في أن لها دلالة على الانتفاء عند الانتفاء، أو لا يكون لها دلالة (1).
319
ومن هنا انقدح أنه ليس من المفهوم دلالة القضية على الانتفاء عند الانتفاء في الوصايا والأوقاف والنذور والايمان، كما توهم (1)، بل عن
320
تمهيد القواعد، أنه لا إشكال في دلالتها على المفهوم، وذلك لان انتفاءها عن غير ما هو المتعلق لها، من الاشخاص التي تكون بألقابها أو بوصف شيء أو بشرطه، مأخوذة في العقد أو مثل العهد ليس بدلالة الشرط أو الوصف أو اللقب عليه، بل لأجل أنه إذا صار شيء وقفا على أحد أو أوصى به أو نذر له، إلى غير ذلك، لا يقبل أن يصير وقفا على غيره أو وصية أو نذرا له (1)، وانتفاء شخص الوقف أو النذر أو الوصية عن غير
321
مورد المتعلق، قد عرفت أنه عقلي مطلقا، ولو قيل بعدم المفهوم في مورد صالح له (1).
إشكال ودفع: لعلك تقول: كيف يكون المناط في المفهوم هو سنخ الحكم؟ لا نفس شخص الحكم في القضية، وكان الشرط في الشرطية إنما وقع شرطا بالنسبة إلى الحكم الحاصل بإنشائه دون غيره، فغاية قضيتها انتفاء ذاك الحكم بانتفاء شرطه، لا انتفاء سنخه، وهكذا الحال في سائر القضايا التي تكون مفيدة للمفهوم (2).
322
ولكنك غفلت عن أن المعلق على الشرط، إنما هو نفس الوجوب الذي هو مفاد الصيغة ومعناها، وأما الشخص والخصوصية الناشئة من قبل استعمالها فيه، لا تكاد تكون من خصوصيات معناها المستعملة فيه، كما لا يخفى، كما لا يكون الخصوصية الحاصلة من قبل الاخبار به، من خصوصيات ما أخبر به واستعمل فيه إخبارا لا إنشاء.
وبالجملة: كما لا يكون المخبر به المعلق على الشرط خاصا بالخصوصيات الناشئة من قبل الاخبار به، كذلك المنشأ بالصيغة المعلق عليه، وقد عرفت بما حققناه في معنى الحرف وشبهه، أن ما استعمل فيه الحرف عام كالموضوع له، وأن خصوصية لحاظه بنحو الآلية والحالية لغيره من خصوصية الاستعمال، كما أن خصوصية لحاظ المعنى بنحو الاستقلال في الاسم كذلك، فيكون اللحاظ الآلي كالاستقلالي، من خصوصيات الاستعمال لا المستعمل فيه (1).
324
وبذلك قد انقدح فساد ما يظهر من التقريرات في مقام التفصي عن هذا الاشكال، من التفرقة بين الوجوب الاخباري والانشائي، بأنه كلي في الأول، وخاص في الثاني، حيث دفع الاشكال بأنه لا يتوجه في الأول، لكون الوجوب كليا، وعلى الثاني بأن ارتفاع مطلق الوجوب فيه من فوائد العلية المستفادة من الجملة الشرطية، حيث كان ارتفاع شخص الوجوب ليس مستندا إلى ارتفاع العلة المأخوذة فيها، فإنه يرتفع ولو لم يوجد في حيال أداة الشرط كما في اللقب والوصف (1).
326
وأورد على ما تفصي به عن الاشكال بما ربما يرجع إلى ما ذكرناه، بما حاصله: إن التفصي لا يبتني على كلية الوجوب، لما أفاده، وكون الموضوع له في الانشاء عاما لم يقم عليه دليل، لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه، حيث أن الخصوصيات بأنفسها مستفادة من الالفاظ (1).
328
وذلك لما عرفت من أن الخصوصيات في الانشاءات والإخبارات، إنما تكون ناشئة من الاستعمالات بلا تفاوت أصلا بينهما، ولعمري - لا يكاد ينقضي تعجبي - كيف تجعل خصوصيات الانشاء من خصوصيات المستعمل فيه؟ مع أنها كخصوصيات الاخبار، تكون ناشئة من الاستعمال، ولا يكاد يمكن أن يدخل في المستعمل فيه ما ينشأ من قبل الاستعمال، كما هو واضح لمن تأمل (1).
329
الأمر الثاني: إنه إذا تعدد الشرط، مثل إذا خفي الاذان فقصر، وإذا خفي الجدران فقصر، فبناءا على ظهور الجملة الشرطية في المفهوم، لابد من التصرف (1) ورفع اليد عن الظهور. إما بتخصيص مفهوم كل منهما
330
بمنطوق الآخر، فيقال بانتفاء وجوب القصر عند انتفاء الشرطين (1). وإما
331
برفع اليد عن المفهوم فيهما، فلا دلالة لهما على عدم مدخلية شيء آخر في الجزاء، بخلاف الوجه الأول، فإن فيهما الدلالة على ذلك (1). وإما بتقييد إطلاق الشرط في كل منهما بالآخر، فيكون الشرط هو خفاء
332
الاذان والجدران معا، فإذا خفيا وجب القصر، ولا يجب عند انتفاء خفائهما ولو خفي أحدهما (1).
333
وإما بجعل الشرط هو القدر المشترك بينهما، بأن يكون تعدد الشرط قرينة على أن الشرط في كل منهما ليس بعنوانه الخاص، بل بما هو مصداق لما يعمهما من العنوان (1).
334