التغني بالقرآن
لبيب السعيد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة وإهداء
الحمد لله حمدا طيبا طاهرا، وصلى الله وسلم وبارك
على رسوله الكريم سيدنا محمد، ونسأله سبحانه أن يبارك لنا
في القرآن العظيم، وأن يهدينا الصراط المستقيم.
وبعد، فشهر رمضان هو عيد القرآن، ولعله بذلك
أن يكون خير مناسبة يصدر فيها بحث يتصل بهذا الكتاب
العظيم، وهذا لنور المبين
وقد تعود هذا الضعيف أن يحترم قراءه، حتى في مجال
الثقافة العامة، فلا يقدم لهم عملا لم يبذل له كل جهده وهو
متواضع، وغاية طاقته وهي محدودة
وهذا البحث على ضالة حجمه وعمومية مكتبته كبد
3
صاحبه في كتابته مشقة يرجو بعدها ألا يكون البحث مرسلا
أو خديجا عاميا أو رخيصا
* * *
وسبحان الله وبحمده، وأستغفر الله وأتوب إليه
ذلك، ويصدر البحث في أيام لا يزال فيها الأم لفقد
(جمال عبد الناصر) يفعل في ما يفعل بكل أبناء العروبة
والإسلام: يعتصر قلبي، ويرمض جوانحي فليكن هذا
البحث هدية مخلصة لروح القائد المجاهد المسلم الصالح،
وليكن دعاء ضارعا إلى الله أن يقبل عن (عبد الناصر)
أحسن ما عمل، وأن يزيده من فضله
شعبان 1390
لبيب السعيد
أكتوبر 1970
4
الفصل الأول
الغناء في المجتمعات العربية والإسلامية
- 1 -
من الخصائص اللافتة في الشعوب العربية الإسلامية أنها
تهوى - في كل مجالات حياتها - الألحان المطربة والنغمات
المشجية: تهواها مرددة إياها، وتهواها مصغية إليها
ومن العادات الملحوظة وذات الدلالة في هذه الشعوب
أن الأطفال يغنون، والباعة إذ يروجون
لبضائعهم يغنون، بل إن النساء حين يبكين موتاهن
الأعزة يغنين
- 2 -
وقد عنيت الثقافة العربية الإسلامية بالغناء والألحان:
ففي اللغة:
5
الغناء من الصوت ما طرب به...
وقد غنى بالشعر، وتغنى به...
وغناء بالشعر، وغناء إياه...
ويقال: غنى فلان يغنى أغنية، وتغنى بأغنية حسنة،
وجمعها الأغاني...
وغنى بالمرأة: تغزل بها
غناه بها: ذكره إياها
......... وغنى الحمام، وتغنى: صوت (1)
وقال أبو العباس: ويقال إن الغناء إنما سمى غناء،
لأنه يستغنى به صاحبه عن كثير من الأحاديث، ويفر إليه
منها، ويؤثره عليها... (2)
وصاحب (العين):
(1) انظر: ابن منظور: لسان العرب فصل الغين، حرف
الواو والياء، ج 19 ص 376 و 377.
(2) انظر: ابن سيده: المخصص ج 13 ص 9 - باب الملاهي
والغناء
6
اللحن من الأصوات: المصوغة الموضوعة، والجمع:
ألحان، ولحون (1)
ولحن في قراءته: إذا غرد وطرب فيها بألحان (2) وهو ألحن الناس: إذا كان أحسنهم قراءة أو غناء (3)
وقال في (الصحاح):
التلحين: التخطئة
وقال فيه:... وهو ألحن الناس: إذا كان أحسنهم
قراءة أو غناء
وقال ساجقلي زاده:
وبالجملة، ان اللحن يجئ بمعنيين:
(أحدهما) الخطأ في القراءات
(والآخر) الصوت الحسن المطرب، وبجمع - بكل
من المعنين - على لحون وألحان
(1) ابن سيده: نفس المرجع
(2) ابن منظور: اللسان - فصل الام، حرف النون
ج 17 ص 263 (3) نفس المرجع
7
والأول: هو ما ذكر في كتب التجويد، وانقسم إلى:
جلى: وهو حرام بلا خلاف
وخفى: وهو مكروه: بعضه تحريما، وهو ما يعرفه
عامة القراء، وبعضه تنزيها، وهو مالا يعرفه إلا مهرة
القراء (1)
وتكلم ابن سيده عن (الطبقة) في الغناء، فقال:
(... والطبقة حد مختار للصوت، وينبغي أن توضع
الألحان فيما شاكلها من الأشعار:
فمنها: ما يبكى ويرقق، وهو لما كان من الشعر
في الغزل، والتشوق إلى الوطن، والبكاء على الشباب،
والمراثي والزهد
ومنها: ما يطرب، وهو لما كان في نعت الشراب،
وذكر الإماء، والمجالس، والصبوح، والدساكر.
ومنها: ما يشوق وترتاح له النفس، مثل صفة الأشجار
والزهر، والمتنزهات، والصيد
(1) رسالة في التغني واللحن ص 8 (مخطوطة لدنيا مصورة
عن مخطوطة بدار الكتب والوثائق القومية)
8
ومنها: ما يسر ويفرح، وبحث على الكرم، وهو لما كان
في المديح والفخر، وصفة الملك.
ومنها: ما يشجع، وهو لما كان في الحرب، وذكر
الوقائع، والغارات، والأسرى، وغير ذلك
وهذا كله يدعى غناء... الخ (1)
- 3 -
والمجتمع العربي الاسلامي - في احتفاله بالغناء وعنايته به -
يقول في الغناء عبارات بليغة، منها:
- غناؤه كالغنى بعد الفقر، وهو جبر للكسير
- غناؤه يبسط أسره الوجه، يرفع حجاب الأذن،
ويأخذ بمجامع القلب، ويحرك النفوس، ويرقص الرؤوس
- فلان طبيب القلوب والأسماع، ومحيى موات الخواطر
والطباع، ويطعم الآذان سرورا، ويقدح في القلوب
نورا... الخ (2)
(1) ابن سيده: المرجع السابق
(2) الحصري: زهر الآداب ج 1 ص 615 (بتحقيق البجاوي)
9
- 4 - وعمر بن الخطاب كان يقول: الغناء زاد الراكب (1).
وكذلك كان عروة الزبير يقول: نعم زاد الراكب الغناء
نصبا (2)
وخوات بن جبير الصحابي كان في ركب فيهم عمر
ابن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وعبد الرحمن
ابن عوف، فغنى من بنيات فؤاده، يعنى من شعره،
حي كان السحر... (3)
وأسامة بن زيد رؤى واضعا إحدى رجليه على الأخرى
يغنى النصب (4)
ويقول الزهري، وابن جريج، في تفسير قوله تعالى:
(يزيد في الخلق ما يشاء) (5): يعنى حسن
(1) انظر: لكتابي: التراتيب الإدارية ج 2 ص 136 و
137..
(2) نفس المرجع، والنصب: الانشاد بصوت رفيع
(3) انظر نفس المرجع.
(4) نفس المرجع.
(5) سورة فاطر / 1
10
الصوت (1)
وذكر يحيى بن كثير في قوله تعالى: (فهم في روضة
يحبرون) (2): السماع في الجنة (3)
وقاله الأوزاعي (4)
وفى رواية: يلتذون بالسماع فيها (5)
وورد في الخبر: ليس في خلق الله تعالى أحسن
صوتا من إسرافيل، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل السماوات
صلاتهم وتسبيحهم (6)
وفى (الصحيح) عن بلال، أنه رفع عقيرته ينشد
شعرا (7)
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ج 14 ص 320.
وانظر: الأبشيهي: المستطرف من كل فن مستظرف ج 2 باب 110
ص 176 - ط 1285 ه
(2) سورة الروم / 15
(3) القرطبي: المرجع السابق ج 14 ص 12
(4) نفس المرجع
(5)
انظر: احمد تيمور: الموسوعة التيمورية ص 148.
(6) نفس المرجع.
(7) الكتاني: المرجع السابق
11
وترويج بعض الأنصار فتاة لعائشة، فأهدتها إلى (قباء)،
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: أهديت عروسك؟
قالت: نعم
قال: فأرسلت معها بغناء، فإن الأنصار يحبونه؟
قالت: لا
قال: فأدركيها يا زينب: امرأة كانت تغنى بالمدينة (1)
وعن عائشة أن أبا بكر دخل عليها، وعندها جاريتان له في أيام منى تغنيان وتضربان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم
مسجى بثوبه، فانتهرهما أبو بكر، فكشف رسول الله صلى الله
عليه وسلم عنه، فقال: دعهما يا أبا بكر، فإنها
أيام عيد (2)
وفى عرس رجل من أهل المدينة يكنى أبا حنظلة،
غنى مالك صاحب المذهب:
(1) انظر: ابن حجر العسقلاني، الإصابة ج 4 ص 221
والنويري: نهاية الإرب ج 4 ص 139
(2) انظر: ابن حزم الظاهري: المحلى ج 5 ص 93 ط
الميزية سنة 1349 ه (بتحقيق أحمد محمد شاكر)
12
سليمى أزمعت بينا فأين تقولها، أينا؟ (1)
وثمة أبيات رقيقة لممر بن أبي ربيعة غناها ابن سريج،
وذكر عمر بن بانة أن لحنها هو لملك
وقال الهاشمي مثل ذلك (2).
وقد أورد النويري أن أبا على محمد بن أحمد بن أبي موسى
الهاشمي سئل عن السماع، فقال:
(ما أدرى ما أقول فيه، غير أنى حضرت دار شيخنا
أبى الحسن عبد العزيز بن الحارث التميمي سنة 370، في دعوة
عملها لأصحابه، حضرها أبو بكر الأبهري شيخ المالكية،
وأبو القاسم الداركي شيخ الشافعية، وأبو الحسن بن طاهر
ابن الحسن شيخ أصحاب الحديث، وأبو الحسن بن سمعون
شيخ الوعاظ والزهاد، وأبو عبد الله محمد بن مجاهد شيخ
المتكلمين، وصاحبه أبو بكر الباقلاني في دار شيخنا
أبى الحسن التميمي شيخ الحنابلة
(1) انظر: أبو الفرج الأصفهاني: الأغاني ج 2 ص 238
(2) انظر: المرجع السابق ج 10 ص 105
13
فقال أبو علي: لو سقط السقف عليهم لم يبق بالعراق
من يغنى في حادثه يشبه واحدا منهم
ومعهم أبو عبد الله غلام تام وكان هذا يقرأ القرآن
بصوت حسن، وربما قال شيقا
فقل له: قل لنا شيئا
فقال لهم، وهم يسمعون:
- خصلت أناملها في بطن قرطاس
رسالة بعبير لا بأنفاس -
- أن زر فديتك لي من غير محتشم
فأن حبك لي قد شاع في الناس -
- فكان قولي لمن أدى رسالتها
قف لي لأمشي على العينين والرأس -
قال أبو علي: فبعد أن رأيت هذا لا يمكنني أن أفتى
في هذه المسألة بحظر ولا إباحة) (1)
(1) نهاية الإرب ج ص 195 و 196.
14
- 5 -
وهذا المجتمع، في عنايته بالأنغام والموسيقى، يجمع
علمها، وييسر صعبها، وينظم شاعره (1) هذين البيتين
في أنغام الموسيقى:
رست وهوى بوسليك حسيني * وحجاز وزنكلا وعراق
والنوى والبزرك مع زيرا فكنده * والأصبهان والعشاق (2)
ويترجمون لواحد) خرج في فنون العلم إماما)،
وهو عبد العزيز بن أبي الصلت الأشبيلي، فيقولون:
(وأمتن علومه: الفلسفة والطب التلحين...) (3)
ويحددون في دقة، الشروط التي يجب على المغنى أن
يستوفيها في غنائه، فيقول ابن أبي إسرائيل عن المحسن المصيب
(1) صفى الدين المحلى
(2) الكنز المدفون ص 18، نقلا عن أحمد تيمور: المرجع
السابق ص 167
(3) المقرى: نفح الطيب ج 1 ص 530،
نقلا عن أحمد تيمور
المرجع السابق
15
من المغنين: هو الذي يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدل
الأوزان، ويفخم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم
الإعراب، ويستوفى النغم الطوال، ويحسن مقاطع النغم
القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواضع النبرات،
ويستوفى ما يشاكلها من النقرات (1)
- 6 -
وحتى الأوتار، أباح بعض الفقهاء سماعها، (لأنه
لم يرد الشرع بتحليلها ولا تحريمها) (2)، وقيل إن كل
ما ورد في تحريمها غير ثابت عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، وإنه (لا خلاف بين أهل المدينة في إباحة سماعه) (3)
وعمل أهل المدينة له عند المالكية حجيته
وقيل: (ومن الدليل على إباحته أن إبراهيم بن سعد
ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، مع جلالته وفقهه
وثقفه - كان يفتى بحله، وقد ضرب بالعود، ولم تسقط
(1) انظر: النويري: نهاية الإرب ج 5 ص 117
(2) النويري: المرجع السابق ج 4 ص 143
(3) نفس المرجع
16
عدالته بفعله عند أهل العلم، فكيف يسقط عدالة المستمع؟!،
وكان يبالغ في هذا الأمر أتم مبالغة، وقد أجمعت الأئمة
على عدالته، واتفق البخاري ومسلم على إخراج حديثه
في الصحيح وقد علم من مذهبه إباحة سماع الأوتار
والأئمة الذين رووا عنه أهل الحل والعقد في الآفاق إنما
سمعوا منه، ورووا عنه بعد اسماعهم غناءه، وعلمهم أنه
يبيحه، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل، سمع منه ببغداد،
بعد حلفه أنه لا يحدث حديثا إلا بعد أن يغنى على عود... الخ) (1)
(1) المرجع السابق ص 143 و 144
17
الفصل الثاني
التغني بالقرآن في السنة
- 1 -
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتغنى بالقران، ويرجع
صوته به أحيانا، كما رجع يوم الفتح في قراءته: (أنا
فتحنا لك فتحا مبينا) (1)، وكانت صفة ترجيعه -
فيما حكى عبد الله بن مغفل - آ... آ... آ...، ثلاث
مرات (2)
وظاهر أن هذا الترجيع كان اختيارا لا اضطرارا، لهز
(1) سورة الفتح / 1
(2) البخاري: الصحيح - باب ذكر النبي صلى الله عليه
وسلم وروايته عن ربه، وأنظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري
ج 13 ص
441 و 442
18
الناقة له، وكما يقول أين قيم الجوزية: (كان النبي يرجع
في قراءته، فنسب الترجيع إلى فعله، ولو كان من هز الراحلة
لم يكن منه فعل يسمى ترجيعا (1)
ويقول ابن عمر، في دعوى أن الترجيع كان لهز الناقة:
(... وفيه نظر، لأن الظاهر أنه عليه السلام فعل ذلك
قصدا، لسرور لحقه في ذلك اليوم، والترجيع ينشأ غالبا
من السرور (2)
- 2 - ويقول البراء: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ
بمن العشاء: (والتين والزيتون (3)
)، فما سمعت أحدا
أحسن صوتا أو قراءة منه (4)
وعن جابر بن عبد الله، يقول: كان في كلام رسول الله
(1) زاد المعاد ج 1 ص 134
(2) ساجقلي زاده: المرجع السابق ص 30
(3) يقصد سورة التين
(4) البخاري: الصحيح - باب قول النبي صلى الله عليه
وسلم: الماهر بالقرآن... وانظر: ابن حجر العسقلاني فتح الباري
ج 13 ص 445
19
صلى الله عليه وسلم ترتيل وترسيل (1)
ولم يكن غربيا، ما دام النبي صلى الله عليه وسلم قد
تغنى بالقرآن، أن يقول: (ليس منا من لم يتغن بالقرآن)) (2)
وقد كان سفيان بن عيينة يقول في تفسير هذا الحديث:
(أي من لم يتغن بالقرآن)، فقال الشافعي: (ليس هو هكذا،
لو كان هكذا لقال: يتغانا، إنما هو يتحزن ويترنم به،
ويقرؤه حدرا وتحزينا) (3)
وكان أبو عبيد القاسم بن سلام اللغوي المحدث يرى مثل
رأى سفيان أين عيينة، وكان يحتج ببيت الأعشى:
وكنت امرأ زمنا بالعراق عفيف المناخ طويل التغني (4)
وكان يحتج أيضا بقول عبيد الله بن معاوية ضمن أبيات:
(1) ابن سعد: الطبقات الكبرى ج 1 ص 97 (ط ليدن
1321)
(2) رواه البخاري عن أبي هريرة، وراه أحمد في مسنده،
وأبو داود، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في (المستدرك)، عن
سعد بن أبي وقاص
(3) أنظر السبكي: طبقات الشافعية الكبرى ج 2 ص 130
وبتحقيق الطناحي والحلو)
(4) ديوان الأعشى ص 22
20
كلانا غنى عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا (1)
وكذلك احتج بأقوال أخرى منسوبة إلى ابن مسعود،
وإلى النبي صلى الله عليه وسلم
وقال أبو عبيد: (ولو كان معناه الترجيح لعظمت المحنة
علينا بذلك، إذ كان من لم يرجع القرآن فليس منه عليه
السلام) (2)
وقد ناقش المرتضى - في أماليه - ما قبل في تفسير ذلك
الحديث، وانتهى إلى أن التغني هنا ليس التحنين والترجيع،
وإنما هو على هذا الوجه: من لم يقم على القرآن فلا يتجاوزه
إلى غيره، ولا يتعداه إلى سواه، ويتخذه مغنى ومنزلا
ومقاما فليس منا (3)
وكذلك ناتش ابن قيم الجوزية هذا التفسير، فروى أن
ابن بطال قال: (... وقالت طائفة: التغني بالقران هو
تحسين الصوت، والترجيح بقراءته، والتغني بما شاء من
الأصوات واللحون، وأن هذا قول بن المبارك والنصر
(1) الكامل للمبرد بشرح المرصفي ج 3 ص 13
(2) أنظر: الشريف المرتضى: أمالي المرتضى، أو غرر الفوائد
ودرر القلائد ص 31 و 32
(3) ص 21 - 35
21
ابن شميل (1)
وأورد ابن القيم عمر بن الخطاب كان يقول لأبي موسى
الأشعري: ذكرنا ربنا فيقرأ أبو موسى ويتلاحن (2)
وينقل ابن القيم قول ابن جرير (3): الدليل على أن معنى
الحديث تحسين الصوت والغناء المعقول الذي هو تحزين القارئ
سامع قراءته، كما أن الغنا، المعقول الذي
يطرب سامعه
- 2 -
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أذن الله لشئ
ما أذن لنبي حسن الترنم بالقران (4)، وفى رواية:
(لم يأذن الله...)
(1) زاد المعاد ج 1 ص 191
(2) نفس المرجع
(3) نفس المرجع ص 191 وما بعدها
(4) رواه البخاري في باب قوله صلى الله عليه وسلم: (الماهر
بالقران..)، ولفظه: (لم يأذن الله.)
وأنظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري ج 13
ص 444 و 445 ومسلم بن الحجاج: الجامع الصحيح ج 2 ص 192
وسنن أبي داود، كتاب 8 باب 200
وسنن النسائي، كتاب 11 باب 83
وسنن الدارمي، كتاب 2 باب 171، وكتاب 23 باب 33
22
ومعنى قوله: (يأذن): يستمع له، يقال: أذنت
للشئ، آذن، أذنا، إذا استمعت له قال الشاعر:
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به
وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
قال عدى بن زيد العبادي:
أيها القلب، تعلل بددن
ان همى في سماع وأذن
والأذان السماع (1)
قالوا: ومعقول عند ذوي الحجى أن الترنم لا يكون
إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به (2)
قال الطبري: (وهذا الحديث من أبين البيان أن ذلك
كما قلنا، قال: ولو كان كما قال ابن عيينة يعنى يستغنى به
عن غيره لم يكن لذكر حسن الصوت والجهر به معنى
والمعروف في كلام العرب أن التغني إنما هو الغناء الذي هو
حسن الصوت بالترجيع. قال الشاعر:
تغن بالشعر إذا ما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار
وأما ادعاء الزاعم أن (تغنيت) بمعنى (استغنيت)
(1) أنظر: الشريف المرتضى: المرجع السابق
(2) ابن القيم: المرجع السابق ص 191
23
فاش في كلام العرب، فلم نعلم أحدا قال به من أهل العلم
بكلام العرب.. الخ (1)
ويقول الطيري: فإن وجه بوجه التغني بالقرآن
إلى هذا المعنى على بعده من مفهوم كلام العرب كانت المصيية
في خطئه في ذلك أعظم، لأنه يوجب من تأويله أن يكون
الله تعالى ذكره لم يأذن لنبيه أن يستغنى بالقرآن، وإنما أذن له
أن يظهر من نفسه لنفسه خلاف ما هو به من الحال، وهذا
لا يخفى فساده (2)
وقال: إن الاستغناء عن الناس بالقرآن من المحال أن يوصف
أحد أنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن، الا أن يكون الأذن
عند ابن عيينة بمعنى الأذن الذي هو اطلاق وإباحة، وإن كان
كذلك فهو غلط من وجهين:
(أحدهما) من اللغة و (الثاني) من إحالة المعنى عن وجهه
... الخ (3)
(1) نفس المرجع
(2) نفس المرجع
(3) نفس المرجع
24
- 3 - ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعلموا القرآن
وغنوا به واكتبوه... الخ (1)
(لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن للصوت بالقرآن
من صاحب القينة إلى قينته)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في أبى موسى الأشعري
: (لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك البارحة! لقد أوتيت مزمارا
من مزامير داود)، ورد أبو موسى: (لو عملت أنك
تسمع لقراءتي لحبرته لك تحبيرا) (3)
وفي ترجمة أبى موسى هذا، يقول ابن حجر العسقلاني:
(... أحد قضاة الأمة الأربعة، وجامع العلم فما أوسعه!
المفرد بحسن للصوت، إذا قرأ كان مزمار من مزامير آل داود
معه)
(1) رواه موسى بن أبي رباح أبيه عن عقبة بن عامر،
وأنظر: نفس المرجع ص 193
(2) قال الحاكم النيسابوري: حديث صحيح على شرط
الشيخين (المستدرك ج 1 ص 571)
(3) رواه البخاري، ومسلم، والنسائي، واحمد، وأنظر
حواش الجامع الصحيح لمسلم ج 2 ص 192 و 193 (ط. استامبول)
25
وفى (تذكرة الحفاظ)، قال عنه الذهبي: (... إليه
المنتهى في حسن الصوت بالقرآن)، ونقل عن ابن الهندي:
(ما سمعت طنبورا ولا صنجا ولا مزمارا أحسن من صوت
أبى موسى الأشعري، كان يصلى بنا فنود أنه قرأ البقرة (1)
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (زينوا القرآن
بأصواتكم (2) ويقول: (لكل شئ حلية، وإن حلية
القرآن الصوت الحسن) (3)
(1) ج 1 ص 22 مط
دار المعارف النظامية بالهند سنة
1333 ه. وأنظر: الكتاني: التراتيب الإدارية ج 2 ص 425 و 426
(2) رواه أحمد، وأبو داود، وابن ماجة، والدارمي، ورواه
النسائي، وابن حبان، والحاكم، وزاد: (.. فان الصوت
الحسن يزيد القرآن حسنا)
وأنظر: على القاري: مرقاة المفاتيح ج 2 ص 614 والحاكم
النيسابوري: المستدرك ج 1 ص 571 والطيالسي مسند الطيالسي
حديث 738
(3) عن انس بن مالك، وأورده عبد الرزاق في (الجامع)،
والمقدس في (المختار) وانظر: ابن رجب: الليل على طبقات
الحنابلة ج 1 ص 41 (بتحقيق حامد الفقي) سنة 1953
والمناوي: فيض القدير ج 5 ص 285
26
وعن عائشة، قالت: استبطأني رسول الله صلى الله عليه
وسلم ذات ليلة، فقال: ما حسبك؟
قلت: إن في المسجد لأحسن من سمعت صوته بالقرآن
فأخذ رداءه وخرج يسمعه، فإذا هو سالم مولى أبى حذيفة
فقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك (1)
- 4 - وعن قتادة: ما بعث الله نبيا قط إلا بعثه حسن الوجه،
حسن الصوت، حتى بعث نبيكم صلى الله عليه وسلم حسن
الوجه حسن الصوت... الخ
(2)
(1) الذهبي: سير أعلام النبلاء ج 1 ص 122 وانظر: ابن
قدامة المغنى ج 9 ص 179 (ط. المنار سنة 1367 ه) وابن
الأمير: أسد الغابة ج 2 ص 245 و 246 وابن حجر: الإصابة
ج 3 ص 57، وقال: رجاله ثقات
(2) ابن سعد: الطبقات الكبرى ج 1 ص 98 (ط. ليدن سنة 1321
27
الفصل الثالث
التغني بالقرآن
عند الصابة والتابعين وتابعيهم
- 1 - وقد وعت كتب السنة، وكتب التراجم الإسلامية
أن من الصحابة من كانوا يحسنون لصوت بالقرآن: 1 - كان أسيد بن حضير من أحسن الناس صوتا بالقرآن (1)
قال أسيد:
(قرأت ليلة سورة البقرة، وفرس لي مربوط، ويحيى
ابني مضطجع قريب منى، وهو غلام، فجالت الفرس،
فقمت وليس لي هم إلا ابني، ثم قرأت، فجالت الفرس،
(1) ابن الأثير: أسد الغابة ج 1 ص 92
28
فرفعت رأسي، فإذا شئ كهيئة الظلة في مثل المصابيح،
مقبل من السماء، فهالني، فسكت..
فلما أصبحت، غدوت على رسول الله صلى عليه
وسلم، فأخبرته
فقال: إقرأ أبا يحيى
فقلت: قد قرأت، فجالت، فقمت ليس لي هم
إلا ابني
فقال لي: إقرأ أبا يحيى
فقلت: قد قرأت، فرفعت رأسي، فإذا كهيئة الظلة
فيها المصابيح، فهالني
فقال: تلك الملائكة دنوا لصوتك، ولو قرأت حتى
يصبح الناس ينظرون إليهم) (1)
(1) نفس المرجع ص 932 و 93
29
2 - وعقبة بن عامر، كان من أحسن الناس صوتا
بالقرآن (1)
3 وعلقمة بن قيس النخعي المتوفى سنة 62 ه
والذي سمع من على، وعمر، وأبى الدرداء، وعائشة كان
من أحسن الناس صوتا بالقرآن، (وكان إذا سمعه ابن مسعود
يقول: لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلم لسربك (2)
4 - وعمر بن عبد العزيز كان حسن الصوت بالقرآن،
فخرج ليلة، وجهر بصوته، فاستمع له الناس، فقال سعيد
ابن المسيب: فتنت الناس! فدخل (3)
5 - والشافعي صاحب المذهب، والمتوفى سنة 204 ه
(كان يستفتح القرآن، فيتساقط الناس، ويكثر عجيبهم
بالبكاء من حسن صوته، فإذا رأى ذلك أمسك عن
القراءة (4)
(1) أخرجه الثلاثة، وانظر: ابن الأثير: أسد الغابة معرفة
الصحابة ج 3 ص 417
(2) ابن الجزري: غاية النهاية ج 1 ص 516
(3) نفس المرجع ص 593
(4) أنظر: ابن شاكر الكتبي: عيون التواريخ - الجزء من
سنة 204 ه إلى 250 ه ص 5 - مخطوطة مصورة بدار الكتب
والوثائق القومية رقمها 1495 تاريخ
30
6 - وحمزة أحد أئمة القراءات المتوفى سنة 156 ه،
حدث بعض جيرانه أنه لا ينام الليل، وأنهم يسعون قراءته
يرتل القران ترتيلا (1)
7 - ويحيى بن وثاب المتوفى سنة 103 ه، كان - فيما روى
الأعمش - من أحسن الناس قراءة، وكان إذا لم تحسن
في المسجد حركة كأن ليس في المسجد أحد (2)
8 - وابن اللبان الذي وصف بأنه (أحد أوعية العلم
وأهل الدين والفضل)، (كان من أحسن الناس تلاوة للقرآن) (3)
9 - وأبو بكر الضرير الواعظ المتوفى سنة 314 ه
(كان من حفاظ القرآن، حسن الصوت، وكان يقعد
في المجامع، ويقرأ بالألحان ويقع كلامه في القلوب (4)
10 - وابن شفيع الأندلسي المقرئ الحاذق المجود،
(1) أنظر: الذهبي: طبقات القراء ج 1 ص 96 (بتحقيق
محمد سيد جاد الحق)
(2) أنظر: المرجع السابق ص 52
(3) السبكي: طبقات الشافعية ج 3 ص 207
(4) ابن الجوزي: المنتظم ج 6 ص 204
31
والمتوفى سنة 514 ه (كان شيخا صالحا مجودا حسن الصوت
بالقرآن) (1)
11 - ومحمد بن سعد بن سعيد العسال (كان من القراء
المجودين الموصوفين بحسن الأداء..) (2)
12 - وعبد الله بن علي بن عبد الله البغدادي المولود
سنة 464 ه، قال عنه ابن الجوزي: (... ولم أسمع قارئا
أطيب صوتا منه، ولا أحسن أداء، على كبر سنه... الخ) (3)
13 - وسيط الخياط المتوفى سنه 541 ه) كان أطيب
أهل زمانه صوتا بالقران على كبر السن) (4)
14 - وأبو عمرو ابن عظيمة العبدوي الأشبيلي المتوفى
سنة 585 ه كان (عذب الصوت...) (5)
14 - وابن القبيطى المتوفى سنة 602 ه) كان ممن جمع
(1) ابن الجزري: غاية النهاية ج 1 ص 394
(2) ابن رجب: الديل على طبقات الحنابلة ج 1 ص 113
(3) المرجع السابق ص 209 و 210
(4) ابن الجزري: غاية النهاية ج 1 ص 434 و 435
(5) نفس المرجع ص 607
32
بين التجويد وحسن الأداء والصوت) (1)
16 - والمزراب المقرئ المجود المتوفى 703 ه
(كان صوته طيبا) (2)
17 - وخليل بن عثمان بن عبد الرحمن المولود سنة
في المحراب) (3)
18 - وعلى نور الدين الضرر المقرئ في باب الشعرية
في القرآن التاسع، كان (طري النغمة) (4)
19 - وأحمد بن محمد البلقيني المولود سنة 796 ه
(كان حسن الصوت بالقران جدا) (5)
20 - ومحمد الغزي المقدم على سائر علماء القاهرة أيام
السلطان الغوري، والمتوفى سنة 918 ه (كان حسن الصوت
(1) نفس المرجع ص 264
(2) نفس المرجع ج 2 ص 191
(3) الضوء اللامع ج 2 ص 200 الترجمة 758
(4) نفس المرجع 6 ص 59 - الترجمة 177
(5) نفس المرجع ج 2 ص 102 - الترجمة 309
33
جدا، لا يمل قراءته من صلى خلفه وإن أطال القراءة) (1)
21 - ومحمد الدكدسجمي من أعيان الصوفية في القرن
الثاني عشر) رزقه الله الصوت الحسن في الترتيل) (2)
(1) نجم الدين الغزي: الكواكب السائرة بأعيان المائة
العاشرة ج 2 ص 82
(2) محمد خليل المرادي: سلك الدرر في أعيان القرن الثاني
عشر ج 3 ص 35
34
الفصل الرابع
التغني بالقران في الفقه والاجتماع
- 1 - روى أن ابن عباس، وابن مسعود أجازا القراءة
بالألحان (1)
وروى عن ابن جريح أنه قال: سألت عطاء عن قراءة القرآن
على ألحان الغناء والحداء، فقال: وما بأس ذلك
يا بن أخي؟ (2)
وروى أن أبا حنيفة أباحها وجماعة (3)، أنه هو وأصحابه
(1) أنظر: ابن القيم: زاد المعاد ج 1 ص 135
(2) ابن عبد ربه: العقد الفرية ج 6 ص 9
(3) ساجقلي زاده: رسالة في التغني واللحن ص 29
35
كانوا يستمعون إليها (1)
وأن الشافعي رئي مع بعض أصحابه، يستمعون القراءة بالألحان (2)
وقال جمهور أصحابه ردا على من ذكروا أنه قال في
موضع: أكره القراءة بالألحان، وفى آخر: لا أكرهها:
(ليست القراءة بالألحان على قولين عند الشافعي، بل المكروه
أن يفرط في المد، وفي إشباع الحركات، حتى يتولد من
الفتحة ألف، ومن الضمة واو، ومن الكسرة ياء، أو يدغم
في غير موضع الإدغام، فإن ينته إلى هذا الحد فلا كراهة) (3)
وروى أن إجازة القراءة بالألحان هي اختيار ابن جرير
الطبري (4)
وعبيد الله بن أبي بكرة، وكنيته أبو حاتم من الطبقة الثالثة
من التابعين من أهل البصرة، والذي ولى قضاء البصر،
وأوفده الحجاج على الحليفة عبد الملك، فسأله أن يولى
(1) ابن القيم: زاد المعاد ج 1 ص 135
(2) نفس المرجع
(3) ساجقلي زاده: المرجع السابق ص 29
(4) ابن القيم: المرجع السابق
36
الحجاج خراسان وكسجتان (1).. هذا القاضي السياسي
هو أول من قرأ القرآن بالألحان، وكانت قراءته حزنا،
أي فيها رقة صوت (2)
وابن قدامة بجعل القراءة من غير تلحين مقابل القراءة
بتحسين الصوت، ولا يرى بأسا بقراءة القران من غير، تلحين
ويقول: (... وإذن حسن صوته فهو أفضل، فإن النبي
صلى الله عليه وسلم قال:) زينوا أصواتكم بالقران) (3)
ويقول النووي ما مؤداه أن اللحن إذا لم يخرج القران
عن لفظه وقراءته كان مباحا لأنه زاده على ألحانه في تحسينه (4)
وعبد الوهاب السبكي، يتحدث عن (القراء الذين
يقرأون بالألحان) فلا ينعي عليهم أنهم يقرءون بالألحان،
ولكنه ينبههم إلى ما يجب أن يوجهوا إليه همتهم، ويتحدث
(1) ابن تغرى بردى: النجوم الزهرة ج 1 ص 202
(2) أنظر: ابن قتيبة: المعارف ص 523 وأنظر تفاصيل
من تاريخ قراءته القران بالألحان في: لبيب السعيد: الجمع الصوتي
الأول للقران الكريم ص 322 وما بعدها
(3) المغنى ج 9 ص 179 وما بعدها
(4) التبيان ص 55 و 56
37
ويتحدث عن حكم الوقف عليهم، ويوضح ما يكره لهم (1)
وهو يقول: (ومن شكر نعمة الله تعالى ذوي الأصوات
الحسنة من القراء والمنشدين أن لا يستعملوا أصواتهم بالغناء
الحرم، ومجالس الخمور والمنكرات، وليتجنبوا مقت الرب
وغضبه تبارك وتعالى) (2)
ونقل عن التوربشتي - وهو من المتأخرين - إن القراءة
على الوجه الذي يهيج الوجد في قلوب السامعين ويورث
الحزن، وبحلب الدمع مستحب ما لم يخرج التغني عن التجويد،
فإذا انتهى إلى ذلك عاد الاستحباب كراهية (3)
ويقول مؤيد القراءة بالألحان في الرد على محرميها:
(إن المحرم لابد أن يشتمل على مفسدة راجعة
أو خالصة، وقراءة التطريب والألحان لا تتضمن شيئا من ذلك
فإنها لا تخرج الكلام عن وضعه. ولا تحول بين السامع
وبين فهمه) (4)
(1) بعيد النعم ومبيد النعم ص 110
(2) نفس المرجع
(3) ساجقلي زاده: المرجع السابق ص 43
(4) ابن القيم: المرجع السابق ج 1 ص 126
38
ويقول: إن التطريب بقراءة القران أوقع في النفوس،
وأدعى إلى الاسماع والاصغاء إليه، فقيه تنفيذ للفظه
إلى الأسماع، ومعانيه إلى القلوب، وذلك عون على المقصود
، وهو بمنزله الحلاوة إلى تجعل في الدواء لتنفذه إلى موضع
الداء، وبمنزلة الأفاوية والطيب الذي يجعل في الطعام، لتكون
الطبيعة أدعى له قبولا، وبمنزلة الطبيب والتحلي وتجمل المرأة
لبعلها ليكون أدعى إلى مقاصد النكاح) (1)
ويقول أيضا: (انه لابد للنفس من طرب، واشتياق
إلى الغناء، فعوضت عن طرب الغناء بطرب الغناء بطرب القران،
كما عوضت عن كل محرم ومكروه بما هو خير لها منه،
كما عوضت عن الاستقسام بالأزلام بالاستخارة إلى هي
محض التوحيد والتوكل، وعن السفاح بالنكاح، وعن القمار
بالمراهنة) (2)
ويقول أبو سعيد الأعرابي في تفسير حديث: (ليس
منا من لم يتغن بالقران) كانت العرب تولع بالغناء والنشيد
(1) نفس المرجع ص 193
(2) نفس المرجع
39
في أكثر أفعالها، فلما نزل القران أحبوا أن يكون هجيراهم
مكان الغناء، فقال: (ليس منا من لم يتغن بالقران (1)
وفى المرويات الإسلامية عن ابن جريح، عن عطاء
ابن عبيد بن عمير، قال: كانت لداود نبي الله صلى الله عليه
وسلم معزفة يتغنى عليها: يبكى ويبكى (2)
قال ابن عباس: إن داود كان يقرأ الزبور لسبعين لحنا
تكون فيهن ويقرأ قراءة يطرب منها الجموع (3)
وفى تفسير قوله تعالى: (واتينا داود زبورا) (4)
قالوا: (فان أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن
والطير والوحش، لحسن صوته) (5)، وهذا مما يؤيد
غالبا أن الترنم مطلوب عند قراءة الكتب الدينية بعامة
وفى التاريخ الحديث، وفى الثلاثينات من هذا القرن
(1) القرطبي: الجامع لأحكام القران ج 1 ص 11
(2) نفس المرجع (3)
نفس المرجع
(4) سورة النساء / 162 (5) القرطبي: المرجع السابق ج 6 ص 17
40
الميلادي بالذات، كان القارئ المشهور الشيخ محمد رفعت
يشد الناس جميعا إلى قراءته المنغمة. تقول إحدى المجلات
في عهده (1):
(لا تكاد تقرب الساعة التاسعة من مساء يومى الجمعة
والثلاثاء من كل أسبوع، حتى تغص المقارئ بروادها،
ويجتمع الناس حول جهاز الراد يوفى البيت والشارع، والكل
مرهف أدنيه في خشوع، لسماع تلاوة القران الكريم من المقرئ
النابغة محمد رفعت...)
- 2 - بيد أن في التاريخ الاسلامي أخبارا متناثرة تفيد أن بعض
المسلمين رفضوا منذ قديم قراءة القرآن بالألحان
ومما يحتج به هؤلاء (2): 1 - حديث: (اقرأ والقران بلحون العرب، وإياكم
(1) مجلة كل شئ والدنيا عدد 554 في 27 من ربيع الأول 255 ه
(2) انتفعنا هذا كثيرا من لبيب السعيد: المرجع السابق
الباب الثاني - الفصل الأول ص 309 - 350 وأنظر هناك تفاصيل
كثيرة في هذا الموضوع
41
ولحون أهل الفسق والكبائر، فإنه سيجئ أقوام من بعدي
يرجعون القران ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز
حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم) (1)
2 - وقد أنكر التطريب بالقران أنس بن مالك خادم
النبي صلى الله عليه وسلم، فقد جاء قارئ فقرأ وطرب،
وكان رفيع الصوت، فكشف أنس عن وجهه، وكان إلى وجهه
خرقه سوداء، فقال له: يا هذا! هكذا كانوا يفعلون
وكان إذا رأى شيئا ينكره كشف الحرقة عن وجهه (2)
3 - وتمنى الصحابي أبو هريرة الموت محافة أن تدركه
سنة عد منها أن يتخذ الناس القران مزامير (3)
(1) أنظر: مالك بن انس: الموطأ - كتاب ج 1 حديث 10
القرطبي: الجامع لأحكام القران ج 1 ص 71
علي بن سلطان القادي: مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة
المصابيح ج 2 ص 618
السيوطي: الافقان ج 1 ص 101 و 102
المسأوى: جمال القراء ص 68 (مخلوط رقم 29 بدار
الكتب والوثائق القومية بالقاهرة)
(2) ابن الحاج: المدخل ج 1 ص 74 و 75
(3) ابن سعيد: الطبقات الكبرى - القسم الثاني ص 61
42
4 - وفى سنن الدارمي: أنهم كانوا يرون هذه الألحان
في القراءة محدثة (1)، ومعلوم أنه في الإسلام: شر الأمور
محدثاها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة
في النار
5 - وممن كره القراءة بالألحان من التابعين: سعيد
ابن المسيب، وسعيد بن جبير، والحسن البصري، والقاسم
ابن محمد، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي (2)
6 - وممن كرهها أيضا من تابعي التابعين: سفيان
ابن عيينة ومالك بن أنس (3)
7 - ويذكر ابن سحنون في واجبات المعلم تلقاء تلاميذه
انه لا يرى أن يعلهم ألحان القران، لأن مالكا قال: لا بجور أن يقرأ القران بالألحان
ويقول ابن سحنون: (ولا أرى أن يعلمهم التجبير،
(1) ج 2 ص 474
(2) ابن القيم: زاد المعاد ج 1 ص 134
(3) ابن القيم: زاد العماد ج 1 ص 137
43
لأن ذلك داعية إلى الغناء، وهو مكروه، وأن ينهى عن ذلك
بأشد النهى)
ويقول: (لقد سئل مالك عن هذه المجالس التي يجتمع
فيها للقراءة. فقال: بدعة: وأرى للوالي أن ينهاهم عن
ذلك ويحسن أدبهم) (1)
8 - ويقول الزيلعي:) لا يحل الترجيع في قراءته،
ولا التطريب فيه، ولا يحل الاستماع إليه، لأن فيه تشبها
بفعل الفسقة في حال فسقهم، وهو التغني؟) (2)
9 - وذكر الربيع الجيزي عن الشافعي أن قراءة
القرآن بالألحان مكروهة (3)
10 - وذكر عبد الله بن أحمد بن حنبل أنه سأل أباه
عن القراءة بألحان، فكرهها، وقال: لا، إلا أن
(1) آداب المعلمين - ما يجب على المعلم من لزوم الصبيان
(2) أي التغني بغزلياتهم بالألحان المخترعة، وانظر: ساجقلي
زاده ص 31.
(3) السبلي: طبقات الشافعية ج 2 ص 132 (ط. الطناحي
والحلو)، وابن شبهة: الطبقات ص 3 (مخطوطة رقم 1568 ت
بدار الكتب والوثائق القومية بالقاهرة)
44
يكون طبع الرجل، مثل قراءة أبي موسى حدرا (1)
وقد سئل أحمد: ما نقول في القراءة بالألحان؟
فقال: ما أسمك؟
قال السائل: محمد
قال: يسرك ما يقال لك: موحمد (ممدودا)؟ (2)
11 - وقد اختم الماوردي كتاب: (أدب الوزير
المعروف بقوانين الوزارة وسياسة الملك) بتحذير بناه على
حديث نبوي هو - كما يقول الماوردي - (أوعظ نذير
وأبلغ تخويف) (3)، وهو حديث رواه عبد الله بن عبيد،
عن عمير الليثي، عن حذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله
عليه وآله وسلم، وفيه تحديد لأشراط الساعة، وإنذار بتوقع
نزول البلاء بالأمة، إذا وقع الناس في منكرات كبيرة،
كإمامة الصلاة، وإضاعة الأمانة، والاستخفاف بالدعاء،
(1) كتاب العلل ومعرفة الرجال، لأحمد بن حنبل ج 1
ص 373
(2) ابن قيم الجوزية: زاد المعاد ج 1 ص 138
(3) ص 58 (ط 1929 بنفقة مكتبة الخانجي)
45
وجاء بين هذه الأشراط أن يتخذ الناس القران مزامير (1)
12 - والحارث بن مسكين الذي تولى قضاء قضاة
مصرفي سنة 237 ه كان يضرب الذين يقرءون بالألحان (2)
13 - وابن بطة العكبري المتوفى العراق سنة 387 ه
يرى أن (من البدع قراءة القر ان والأذن بالألحان وتشبيهها
بالغناء) (3)
14 - والنوري من أعلام الشافعية، والمتوفى سنة
676 ه يصف تلك القراءة بأنها (مصيبة ابتلى بها بعض الجهلة
الطغام الغشمة الذين يقرءون على الجنائز وفي بعض المحافل) (4)
ويردد النوري قول الماوردي: (أن هذه بدعة محرمة ظاهرة
يأثم كل مستمع لها، كل قادر على إزالتها أو النهى
عنها إذا عنها إذا لم يفعل ذلك) (5) ثم يقول النووي عن محاربته لهذه
(1) نفس المرجع
(2) أنظر: ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة ج 2 ص 288 و 289
(3) أنظر: كتاب: الشرح والإبانة على أصول السنة والأمانة
ص 89
(4) التبيان في آداب حملة القران ص 56
(5) نفس المرجع
46
البدعة: (وقد بذلت فيها بعض قدرتي، وأرجو من الله
الكريم أن يوفق لازالتها من هو أهل لذلك، وأن يجعله
في عاقبة) (1)
15 - وابن خلدون المتوفى سنة 808 ه يرى (أن
صناعة الغناء مباينة للقران بكل وجه، ومن ثم لا يمكن
اجتماع التلحين والأداء المعتبر في القران) (2)
ويرى ابن خلدون (الأخذ بالتلحين البسيط الذي يهتدى
إليه صاحب المضمار، فيردد أصواته ترديدا، على نسب
يدركها العالم بالغناء وغيره) (3)
ويرى أن (القران محل الخشوع، يذكر الموت وما بعده
وليس مقام التذاذ بادراك الحسن من الأصوات) (4)
16 - والبزازي يقول في إطلاق: قراءة القرآن
بالألحان معصية، والتالي والسامع آثمان) (5)
(1) نفس المرجع
(2) المقدمة - فصل في صناعة الغناء ج 3 ص 968 (بتحقيق
على عبد الواحد واقى)
(4) نفس المرجع
(5) ساجقلي زاده ص 44
47
17 - بل إنه - في معرض كراهية تشبيه قارئ،
القران بأصحاب الغناء التلحيني - حكى عن ظهير الدين
المرغباني أنه قال: من قال لمقرئ زماننا: أحسنت، عند
قراءته، يكفر (1)!
بيد أن ساجقلي زاده يصف هذا القول بأنه مشكله
، (لأن القارئ، هو الأستاذ ومعلم القران، فإذا كان تحسين
قراءته كفرا فما ظنك بتحسين قراءة التلاميذ؟ وزمان المرغباني
إذا كان كذلك، فما ظنك بزماننا؟ فيلزم في هذا الزمان
إكفار من حسن قراءة أحد تلميذا أو مقرئا ماهرا في تجويد
القران) (2)
18 - والذين كرهوا قراءة القرآن بالألحان جعلوا
منع هذه القراءة واجبا من واجبات المحتسب
(1) نفس المرجع
(2) نفس المرجع ص 47 و 48
48
يحدد الشيزرى قواعد الحسبة على المؤذنين والأئمة
والقراء، فيذكر منها أن (يأمر المحتسب أهل القران بقراءته
مرتلا، كما أمر الله سبحان وتعالى، وينهاهم عن تلحين
القران وقراءته بالأصوات اللحنة) (1)
(1 نهاية الرتبة في طلب الحسبة ص 108
49
الفصل الخامس
أسلوب التغني الذي ينكره المسلمون
- 1 - أغلب الذين كرهوا أو حرموا التغني بالقران لم ينفوا ولم
يعارضوا حقيقة ملموسة منذ قديم هي أن المسلمين يستحلون
التغني بالقران والتطريب به، وأن النفوس بفطرتها تقبل هذا
أما الذي كرهه السلف وأنكروه على من قرأ به فهو،
على الحقيقة، (ما يعلم بأنواع الألحان البسيطة والمركبة،
على إيقاعات مخصوصة وأوزان مخترعة، ولا يحصل إلا
بالتعليم والتكليف (1)
- 2 - والقراء في مجموعهم، وعلى مدى تاريخهم، يلتزمون
(1) ابن القيم: زاد العماد ج 1 ص 127 و 128
50
بقواعد الأداء والتجويد، حين يتنغمون بآي القرآن والذي
يترخص منهم في هذا الالتزام ولو قليلا يسقط قدره بين
القراء والمستمعين على السواء والنكير في هذا كان وما برح
شديدا
وفى تراجم القراء إشارات تقدير إلى كثير منهم،
لأنهم يجمعون إلى الطرب تجويد ا حسنا وأداء دقيقا
- 3 - ويقول الماوردي:
(القراءة بالألحان الموضوعة إن أخرجت لفظ القرآن
من صبغته بادخال حركات فيه، أو إخراج حركات منه،
أو قصر ممدود أو مد مقصور، أو تمطيط يخفى به بعض
اللفظ، ويلتبس المعنى، فهو حرام، يفسق به القارئ،
ويأثم به المستمع، لأنه عدل به عن نهجه القويم إلى الاعوجاج
والله تعالى يقول: قراءنا عربيا غير ذي عوج) (1)
وان لم يخرجه اللحن عن لفظه وقراءته على ترتيله كان
(1) سورة الزمر / 28
51
مباحا، لأنه زاد على ألحانه في تحسينه) (1)
ويقول القرطبي: (...، ثم أن في الترجيع والتطريب
همز ما ليس بمهموز، ومد ما ليس بممدود، فترجع اللف
الواحدة ألفات، والواو الواحدة واوات......، فيؤدى
ذلك إلى زيادة في القرآن، وذلك ممنوع، وإن وافق ذلك
موضع نبر وهمز صيروها وهمزات... الخ (2)
ويقول على القارئ في شرح مقدمه الجزرية:
(المراد بلحون العرب القراءة بالطبع وبالأصوات
السليقة، وبلحون أهل الفسق الانعام المستفادة من الموسيقى
والامر محمول على الندب، والنهى محمول على الكراهية إن
حصل مع المنهى عنه المحافظة على صحنه ألفاظ الحروف،
وإلا فمحمول على التحريم) (3)
ويقول ابن حجر في (شرح الشمائل):
(قد كثر الخلاف في التطريب والتغني في القرآن،
(1) أنظر: النووي: التبيان ث 55 و 56
(2) المجامع لأحكام القرآن ج 1 ص 16
(3) نقلا عن ساجقلي زاده ص 5
52
والحق أن ما كان منه طبيعيا وسجيا (نسبة لسجية) كان
محمودا، وما كان منه بالتكلف والألحان المخترعة فهذا هو
الذي كرهه السلف) (1)
ويعقب على هذا ساجقلي زاده، فيقول: (الكراهية
هنا تحريمية دون علة الكراهية للتشبه بالفسقة، هذا إذا لم يؤد
التغني بالألحان المخترعة إلى اللحن الحلى. وأما إن أدى إليه
فذا حرام وكبيرة، يفسق به لقارئ، فيكفر مستحلة،
لما نقله عن (الحاوي) أن القراءة بالألحان الموضوعة إن
غيرت لفظ القرآن بإسكان المتحرك، أو قصر الممدود،
أو عكسهما، أو تحطيط نخفى به اللفظ، ويتيبس به المعنى
فهو حرام يفسق به القارئ ويأثم به المستمع...) (2)
والتهانوي - في حديثه عن الترنم - يقول:
(غير أن المترنم بالقرآن إذا مد في غير محل المد، أو
زاد عند المد مالا تجيزه العربية، وقع في بدعة آثمة هي
ما يسميه المتأخرون - اصطلاحا - التطريب) (3)
(1) نقلا عن المرجع السابق ص 42
(2) نفس المرجع ص 42 و 43
(3) كشاف اصطلاحات الفنون ج 2 ص 900
53
- 4 - ويظهر أن هذه البدعة: بدعة التمطيط الذي يخرج
القرآن إلى الغناء تتفشى أحيانا بين القراء فرادى، بينهم
مجتمعين، فتثير أصحاب الغيرة، وتوئسهم أحيانا من صلاح
الحال: في ترجمة أحد القراء أن أستاذه قال له: أحيا الله
قلبك كما أحبيت السنة والله لا يزال تمطيط قراء الحوق
ونحوه إلا عند نزول عيسى! (1)
- 5 -
وواضع أن هذا القارئ لا يشكو من قراءة الجماعة
في ذاتها، ولكن شكواه منصبة على التمطيط اما قراءة
الجوق أو الجماعة، في غير مخالفة لقوانين الأداء القرآني،
فمستحبة بالدلائل الظاهرة وأفعال الساف والخلف المتظاهرة) (2)
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من)
(1) السخاوي: الضوء اللامع ج 4 ص 256 - الترجمة 663
(2) النوري: التبيان ص 50
54
قوم يذكرون الله إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة،
ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) (1)
ولنا إن شاء الله عود إلى قراءة الجماعة
(1) قال الترمزي: حديث حسن صحيح، وأنظر المرجع
55
الفصل السادس
غنائيات القراء
- 1 -
للتغني بالقرآن كيفية مأثورة خاصة لا تستعمل لغيره
ولئن سميت هذه الكيفية - في بعض النصوص - بالقراءة
بالألحان، كما سوف نرى، إن الاسم الاصطلاحي الأكثر
شيوعا والأجدر القرآن هو (التجويد)، وهو - على
الحقيقة - التلحين المختص بالقرآن، وهو - فيما يحس
السامعون - حياة التلاوة وزينة القراءة
والتجويد من (جود)
وفي اللغة:
الجيد نقيض الردئ على فعيل...
56
وجاد الشئ جودة وجوده، أي صار جيدا، وأجدت
الشئ، فجاد (1)
وروض مجود: وأمتعة جياد
واستجدت الشئ، وتجودته: تخيرته، وطلبت أن
يكون جيدا
وتجود في صنعته: تنوق فيها
وأحسن فيما فعل وأجاد
وصانع مجيد ومجواد (2)
وفى الإصلاح:
(التجويد تلاوة القرآن باعطاء كل حرف من حروفه
حقه في مخرجه وطبقته اللازمة له من همس، وجهر،
وشدة، ورخاوة، ونحوها، وإعطاء كل حرف مستحقه
(1) أنظر: ابن منظور: لسان العرب - فصل الحمم حرف
الدال
(2) الزمخشري: أساس البلاغة - (جود)
57
من الصفات المذكورة كترقيق المستفل، وتفخيم المستعلى،
ونحوهما، ورد كل حرف إلى أصله من غير تكلف) (1)
والتجويد يعلم بالتلقين من أفواه المشايخ العارفين بطرق
أداء القرآن، وتسبق هذه المادة معرفة مخارج الحروف
وصفاتها، والوقف والابتداء والرسم (2)
- 2 -
ومراتب التجويد أربعة: التحقيق، والترتيل، والتدوير، والحدر..
والترتيل مأخوذ من (رتل) الثغر، فهو (رتيل)،
من باب تعب، إذا استوى بنانه، وحسن تنضيده، وكان
مفلجا لا يركب بعضه على بعض، ومن المجاز: (رتل
القرآن ترتيلا) إذا ترسل في تلاوته، وأحسن تأليف حروفه
وهو يترسل في كلامه، ويترتل (3)
(1) أنظر: التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون ج 1 ص 196
(2) أنظر: نفس المرجع
(3) أنظر: الزمخشري: أساس البلاغة (وت ل) وفخر
الدين الطريحي النجفي: مجمع البحرين في غريبي القرآن والأحاديث
ص 436
58
ومن تعاريف الترتيل:
(1) القراءة بتؤدة واطمئنان، وإخراج كل حرف
من مخرجه، مع إعطائه حقه ومستحقه، ومع تدبر المعاني
(ب) رعاية مخارج الحروف وحفظ الوقوف
(ح) خفض الصوت والتحزين بالقراءة (1)
والتحقيق، وهو أكثر المراتب اطمئنانا، ويؤخذ به
في مقام التعليم، يعطى كل حرف حقه من إشباع المد
وتحقيق، الهمزة وإتمام الحركات، واعتماد الإظهار والتشديدات
وبيان الحروف وتفكيكها، وإخراج بعضها من بعض،
بالسكت، والترتيل، والتؤدة، وملاحظة الحائز من الوقوف
بلا قصر، ولا اختلاس، ولا إسكان محرك ولا إدغام.. (1)
وهنا اعتبار لابد من مراعاته، وهو أن لا يمتد التحقيق
إلى حد الإفراط بتوليد الحروف من الحركات، وتكرير
الراءات، وتحريك السواكن وتطنين النونات بالمبالغة في
(1) أنظر: على الجرجاني: التعريفات ص 57
(2) أنظر: السيوطي: الاتقان ج 1 ص 99
59
الغنات. وقد قال حمزة لبعض من سمعه يبالغ في ذلك:
أما علمت أن ما فوق البياض برص، وما فوق الجعودة
قطط، وما فوق القراءة ليس بقراءة (1)
والتحقيق هو مذهب حمزة وورش (2)
أما الحدر، فهو سرعة القراءة وتخفيفها بالقصر والتسكين
والاختلاس والبدل والإدغام الكبير وتخفيف الهمزة ونحو
ذلك... غير أنه لا يجوز مد حروف المد، واختلاس أكثر
الحركات، وذهاب صوت الغنة، والتفريط إلى، غاية لا تصح
بها القراءة
وهذه المرتبة مذهب ابن كثير وأبى جعفر وأبى عمرو
ويعقوب (3)
وأما التدوير، فهو وسط بين الترتيل والحدر، وهو
مذهب أغلب القراء وبخاصة ابن عامر والكسائي (4)
(1) نفس المرجع ص 99 و 100
(2) نفس المرجع
(3) أنظر: السيوطي: المرجع السابق ص 100
(4) التهانوري: كشاف اصطلاحات الفنون ج 1 ص 196
60
- 2 - وكل قراءة قرآنية ولو كانت مرسلة، لابد أن تكون
مجودة، و (من لم يجود القرآن آثم) كما تقول الجزرية، وقد
صح - كما يقول برهان الدين القلقيلي، في شرحه على ذلك
المتن: (إن النبي صلى الله عليه وسلم سمى قارئ القران
بغير تجويد فاسقا) قال برهان الدين: (وهو مذهب إمامنا
الشافعي رضي الله عنه لأنه قال: إن صح الحيث فهو
مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط) (1) ولهذا، فإن
المصاحف الترنيمة التي سجلت بعد المصحف المرتل بأصوات
بعض المشاهير إذ تعرف بالمصاحف المجودة إنما تحمل تعريفا
غير جامع أو مانع. وربما كان الأدق والأنسب إذا أريد
إبراز خصيصة ذلك النوع من القراء أن يقال: قراءة مرنمة
أو ترنيمة، والمصحف المرنم أو الترنيمي
والترنيم هو تطريب الصوت
وفى الحديث: ما أذن الله لشئ أذنه لنبي حسن الترنم
(1) أنظر: محمد بكر نصر: نهاية القول المفيد في علم
التجويد ص 10
61
بالقرآن، وفى رواية: حسن الصوت يترنم بالقرآن
والترنم: التطريب والتغني وتحسين الصوت بالتلاوة (1)
- 3 -
والملحوظ الواقعي أن كل أوجه القراءة، ومنها الترتيل
الذي أوردنا عنه آنفا بعض التفاصيل، والذي هو أفضل
مراتب القراءة، والمأمور به أمرا مؤكدا في القران نفسه:
(ورتل القرآن ترتيلا) (2) لا يخلو عادة من ترنيم
- 4 -
ونعمد بعض الناس - عند قراءة القرآن - إلى طرح
الترنم المعتاد الذي يفرض نفسه، حتى في القراءة المرسلة،
مع إلزامهم بقواعد الأداء التجويرية، وهؤلاء تبدو قراءتهم
للقرآن، وكأنها الإلقاء المعهود في الدروس والخطب
وقد كانت وزارة المعارف في مصر، منذ عشرات
(1) لسان العرب - فصل الراء حرف الميم
(2) سورة ازمل / 4
62
قليلة من السنين، تدعو إلى اتباع هذا في مدارسها، ولكن،
الجمهور بقي على هذه الطريقة
والحق أن هذه الطريقة ليست حادثة، فأبو عبد الله
الأصبهاني المتوفى سنة 253 ه أو 242 ه، والإمام في
القراءات والنحو، صنف كتابا في جواز قراءة القرآن على
طريق المخاطية (1)
- 5 - وقراءة القرآن بمختلف القراءات والروايات والطرق
والأوجه، هي - في مصطلح القرآنين - فن:
يتحدث أن ابن الجزري عن أبي العباس المطوعي المتوفى
سنة 371 ه، فيقول إنه (اعتنى بالفن) (2)، ويقول عن
ابن الناقد المتوفى سنة 616 ه: (كان ثقة بصيرا بالفن) (3)،
(1) نفس المرجع ص 392
(2) أنظر: ابن الجزري: غاية النهاية ص 2 ص 223 و 224
(3) غاية النهاية ج 1 ص 214 و 215
63
ويقول عن قارئ اسمه أحمد بن إبراهيم الشيرجي المعروف
بالمعصرانى، والذي بقي إلى ستة 784: (ترك الفن) (1)
- 5 -
والقرآن نفسه يحتفل بالموسيقية يمكن لها، وربما كان
من الدلائل الواضحة لهذا أنه كثر فيه خم كلمة القطع من
الفاصلة بحروف المد واللين وإلحاق النون
قال سيبويه:
(... أما إذا ترنموا فإنهم يلحقون الألف والواو والياء
لأنهم أرادوا مد الصوت وإذا أنشدوا ولم يترنموا: فأهل
الحجاز يدعون القوافي على حالها في الترنم، وناس من نبي
تميم يبدلون مكان المدة النون) (2)
ويقول الزركشي هنا: (وجاء القرآن على أعذب مقطع
وأسهل موقف) (3)
وربما كان أيضا من هذه الدلائل أن فواصل القرآن
تبنى على الوقف، بحيث لا يفقد القارئ أسباب الموسيقى،
(1) نفس المرجع ص 35
(2) أنظر: الزركشي: البرهان ج 1 ص 68 و 69
(3) نفس المرجع
64
فشاع - كما يقول الزركشي (1) - (مقابلة المرفوع
بالمجرور (وبالعكس، وكذا المفتوح والمنصوب غير
المنون، ومنه قوله تعالى: (إنا خلقناهم من طين لازب (2)
مع تقدم قوله: (عذاب واصب) (3)، (شهاب ثاقب) (4)
وكذا (بماء منهمر) (5)، و (قد قدر) (6)، وكذا
(من دونه من وال) (7)، مع (وينشئ السحاب
الثقال) (8)
والقران بطبيعته وأسلوبه ذو سطوة قاهرة على العقول
والنفوس، وهي سطوة لا تحتاج البتة إلى موسيقى خارجية
(1) نفس المرجع ص 69 و 70
(2) سورة الصافات، 11
(3) نفس السورة، 9
(4) نفس السورة 10
(5) سورة القمر، 11
(6) نفس السورة، 12
(7) سورة الرعد، 11
(8) نفس السورة 12
65
تقويها. يقول الزركشي، في أسلوب القرآن، والحمال
في عبارة الزركشي لا يخل بالموضوعية ولا بالعلمية:
(... إذا كان سياق الكلام ترجية بسط، وإن كان
تخويفا قبض، كان وعدا أبهج، وأن كان وعيدا
أزعج، وإن كان دعوة حدب، وإن كان زجرة أرعب،
وإن كان موعظة أقلق، وإن كان زجرة أرعب
وإن كان ترغيبا شوق... الخ) (1)
ويقول إن الله سمى القران روحا، فقال: (يلقى
الروح من أمره على من يشاء من عباده) (2) (لأنه يؤدى
إلى سببا للاقتدار، وعلما على الاعتبار) (3)
وقد سبق إن أوضحا في كتاب آخر (4) أن القرآن
موسيقاه الخاصة التي لا يفوت إدراكها أحدا من قرائه،
(1) البرهان - المقدمة ج 1 ص 4 و 5
(2) سورة غافر / 15
(3) البرهان: المرجع السابق
(4) الجمع الصوفي الأول للقران الكريم أو المصحف المرتل
براعته ومخططاته
66
وذكرنا هناك من أنواع بدائعه ما يمكن أن نرى فيه ضمنا
دلائل موسيقية نابغة منه، وليست مستجلبة إليه وذكرنا
أن من هذه الأنواع: الانسجام الذي إذا قوى في النثر
جاءت قراءته موزونة بلا قصد، وائتلاف اللفظ مع اللفظ،
وائتلاف اللفظ مع المعنى، والإبدال، والتفويف،
والتعديد، والمضارع، وحسن النسق، والمشاكلة،
والتجنيس، والترديد، والتعطف، والتسميط، والمماثلة،
ثم توفير الانسجام بين الألفاظ والأصوات من طرق كثيرة
أخرى (1)
- 6 - ومن الناحية الواقعية، يأخذ قراء المحافل بفن المغنين
والملحنين، ويقلدونهم. ويستعملون مصطلحاتهم. يقول
عبد العزيز البشرى عن قارئ معروف هو الشيخ حنفي
أبو العلا إنه بفن عبده الحمولي، وكان يقلده في جميع
(1) أنظر ص 309 - 350
67
تناغيمه) (1)
ويقول البشرى، مستعملا عبارت ملحني
الغناء: (الذوق المصري لا يستريح إلا إذا انتهت النغمة
بتكريس الصوت، والزر على الحلق، أو ما يدعوه أصحاب
الغناء بالعفق) (2)
وكان الغنيمي التفتازاني يقول إن أحمد ندا القارئ
المشهور (كان على عرق عظيم من العلم بفن الموسيقى) (3)
، ولكن البشر في غير نفى جاسم لهذه الدعوى، يقول:
(إن ندا لم يزد على إدراك أو لبات النغم بما تلتف في صدر
نشأته من لدانه: هذا صبا، وهذا سيكاه، وهذا عراق،
وهذا جركاه) (4)
وحتى غير القراء حين يدرسون الانسجام الصوتي في
القرآن يسمون هذا الانسجام (موسيقا) (5)، ويستعملون
في دراستهم المصطلحات الموسيقية
(1) أنظر المختار ج 2 ص 34 - 37
(2) نفس المرجع
(3) نفس المرجع ص 110 و 111
(4) نفس المرجع
(5) أنظر: عبد الوهاب حمودة: موسيقا القرآن - بحث في
مجلة لواء الاسلام جمادى الاخر 1367 ه
68
يتحدث عبد الوهاب حموده عن الموسيقى الوصفية
في القرآن، وهي التي تصور المعنى، وتدل على الفكرة من
طريق إيحاء النغم وتشابه الصوت الانسجام الذي يكون بين
الموسيقى والمعنى الذي توحى به، فيتكلم عن قوله تعالى:
(فكبكبوا فيها هم والغاوون) (1)
فيقول: إن هذا الفعل يتكون موسيقيا من نقطتين متماثلين
متكررتين في سرعة وتوال، وفي لغة الموسيقى يسمى هذا:
(2 نوار)، ليكون ذلك التمثيل أدل عل يتخيل المعنى،
وأحكم في تصور الحالة، وأميز في تأثر النفس بها (2)
ويتحدث أيضا عن فواتح السور من حروف المعجم،
فيقول: (... فإن بعض العلماء يرى فيها أنهار موز صوتية
وإشارات موسيقية، لأن القرآن نزل ليرتل ويتلى، وقد كانت
الموسيقى القديمة بسيطة يشار إلى ألحانها بحرف أو حرفين
أو ثلاثة تقابل في عصرنا الحاضر ما يعرف في (النوتة) بمفتاح
(صول) (3)
(1) سورة الشعراء، 94
(2) نفس المرجع
(3) نفس المرجع
69
وقد يستحدث القارئ في طريقة ترنمة بالقرآن، يقول
البشرى عن أحمد ندا: (جعل في أول نشأته يحاكي الشيخ
حنفي برعي، ويستن سبيله، وينهج نهجه، وكذلك كان
في عمة ترتيله، الهم إلا ما كان يستحدثه ذوقه الخالص،
وكان هذا قليلا بالإضافة إلى سائر شأنه...، وكانت تأبى
عليه كرامته ألفية إلا أن يحدث كل يوم حدثا في الصنعة من
مبتكره هو ومن بدع ذوقه، يطرح بإزائه شيئا مما أخذ عن
أستاذه الشيخ حنفي، حتى، استوت شخصيته، وأدركت،
وتمت له صنعة جديدة فاخرة في فن القراءة والترتيل) (1)
وقيد قيل إن القارئ الشهير محمد رفعت يستمع إلى
تسجيلات عباقرة الفن الموسيقى الرفيع، (وعندما مات
خلف ثروة كبيرة من أسطوانات بأخ، وموزارت،
وبيتهوفن، ولست، وعدة أسطوانات أخرى للعازف
الكبير باجنينى) (2)
(1) المختار ص 2 ص 111 - 113
(2) محمود السعدني: دولة المقرئين ص 29
70
والقارئ يوسف المنيلاوي المتوفى سنة 1911 (كان
يلحن ويغنى ويقرأ القرآن (1)
وفى أزمنة سابقة أيضا، كان لبعض القراء علاقة
موصلة بالألحان والغناء:
فالقارئ البغدادي محمد بن فضالة المتوفى سنة 348 ه
هو (صاحب الألحان والصوت الطيب) (2)
والفقيه المقرئ عبد الرحمن بن النفيس الذي يعرف
بالأعز البغدادي (كان في ابتداء أمره يغنى، وله صوت،
حسن، ثم تاب، وحسنت توبته) (3)
وعبد الله المارداني القاهري المحاسب، والذي حفظ
القرآن، وكان له صوت شجى مطرب (نشأ مع قراء
الجوق، وكان أبوه ممن يدق الطبلخانة) (4)
(1) نفس المرجع ص 13
(2) أنظر: الصفدي: الوافي بالوفيات ص 291 (ط
استانبول 1949) وأبن الجوزي: المنتظم ج 6 ص 392
(3) ابن رجب: الذيل على طبقات الحنابلة ج 1 ص 330
(4) السخاوي: الضوء اللامع ج 5 ص 19 - الترجمة 65
71
- 7 - على أن الجو الإسلامي بتنفس دائما بالرضى عمن لا يستعمل
صوته الحسن في الغناء الحرم ومما ذكره السبكي في هذا
الشأن: (.. من شكر نعمة الله تعالى على ذوي الأصوات
الحسنة من القراء والمنشدين أن لا يستعملوا أصواتهم في الغناء
المحرم ومجالس الخمور والمنكرات، وليتنجبوا مقت الرب و
غضبه تبارك وتعالى) (1)
ومما يشير إلى أن الغناء كان يثقل على الضمائر، ويدعى
بالتوبة منه أن مغنيا هو فيصد بن الخضر أبو الحارث الأولاسي
المتوفى سنة 297 ه كان يغنى في صباه، فمر بمريض على
وقارعة الطريق، فقال له: ما تشتهي؟ قال: الرمان
فجاء به، فقال له: تاب الله عليك! فما أمسى حتى تغير
عما كان عليه (2)
(1) معيد النعم ومبيد النقم ص 111
(2) ابن الجوزي: المنتظم ج 6 ص 93
72
- 8 - والقراء يشركون مع بعض المغنين في بعض العادات
(فالمغني الشعبي حين والقارئ حين يتلو القرآن،
كلاهما يضع يديه غالبا على خده، وهذه عادة وردت لها
عشرات الرسوم في الآثار المصرية القديمة) (1)
والمشاهد أن لأغلب القراء - عند القراءة - حركات
واهتزازات مثل التي للمغنين - 9 - ويعمد بعض القراء إلى الجميع بين الروايات المتعددة
في المجلس الواحد، وربما كان قصد بعضهم من هذا تلوين
النغم والتأثير به على السامعين
وقد اختلف علماء القرآن في جواز هذا الجمع وعدمه:
1 - فالصحابة لم يكونوا يجمعون (2)
(1) محرم كمال: آثار حضارة الفراعنة وحياتنا الحالية -
مجلة الكاتب المصري ع 10 يوليه 1946 ص 301 وما بعدها
(2) أنظر: محمد بخيت المطيعي: تقرير في تقريظ كتاب
(الآيات البينات) لأبي بكر بن خلف الحسيني ص 21 وما بعدها
73
2 - والحنفية يتشددون في منع الجمع:
يقول صاحب (الحادي القدسي): (وقراءة القرآن
بقراءات معروفة أو شاذة دفعة واحدة بترجيع الكلمات
مكروهة (1)
وفى (الفتاوى النتارخانية) ما نصه:
وفى فتاوى الحجة:
(وقراءة القرآن بالقراءات السبعة والروايات كلها
جائزه، ولكني أرى الصواب أن لا تقرأ بالقراءات العجيبة
بالإمالات، والروايات الغريبة، لأن بعض الناس يتعجبون،
وبعضهم يتفكرون، وبعضهم يخطئون، وبعض السفهاء
يقولون ما لا يعملون، ولعلهم لا يرغبون، فيقعون في الإثم
والشقاء
ولا ينبغي للأئمة أن يحملوا العوام إلى ما فيه نقصان دينهم
ودنيا هم، وحرمان ثوابهم في عقباهم
ولا يقرأ على رأس العوام والجهال وأهل القرى والجبال،
(1) نقلا عن: محمد بخيت المطيعي: المرجع السابق
74
مثلا: قراءة أبى جعفر المدني، وابن عامر، وعلي بن حمزة
الكسائي، صيانة لدينهم، فلعلهم يستخفون أو يضحكون،
وإن كان كل القراءات والروايات صحيحة فصيحة طيبة،
ومشايخنا اختاروا قراءة أبى عمرو وحفص عن عاصم) (1)
3 - أما الشافعية:
فعند بعضهم أن المنع من هذا الجمع هو من الأولوية
لا على الحتم، وأن إطلاق المنع غير جائز (2)
وعند بعضهم الأخر: (القارئ متى خلط رواية بأخرى
كان كاذبا على القارئ الذي يشرع في إقراء روايته،
فمن قرأ رواية لم يحسن أن ينتقل عنها إلى رواية أخرى) (3)
ويقول النوري: إذا ابتدأ بقراءة أحد القراء، فينبغي
أن يستمر على القراءة بها، ما دام الكلام مرتبطا، فإذا
انقضى ارتباطه فله أن يقرأ بقراءة أحد من السبعة، والأولى
دوامه على الأولى في هذا المجلس) (4)
(1) نفس المرجع
(2) أنظر: ابن العسقلاني: فتح الباري ج 9 ص 31
(3) المرجع نفسه
(4) التبيان ص 48
75
وقد استنبط زكريا الأنصاري المتوفى سنة 926 ه من
لفظ (فينبغي) آنفا أن عدم الاستمرار في قراءة واحدة حرام،
ودليل التحريم عنده (أن القراءة بذلك تستلزم فوات ارتباط
إحدى القراءتين بالأخرى، والإتيان بهيئة لم يقرأ بها أحد) (1)
4 - وأما الحنابلة:
فقد قالوا إن معرفة القراءة وحفظها سنة متبعة تأخذها
الآخر عن الأول، فمعرفة القراءات التي كان النبي صلى الله
عليه وسلم يقرأ بها أو يقرهم على القراءة بها سنة والعارف
في القراءات الحافظ لها له مزية على من لم يعرف ذلك،
ولا يعرف إلا قراءة واحدة
وأما جمعها في الصلاة أوفى التلاوة فهو بدعة مكروهة
وأما جمعها لأجل الحفظ والدرس فهو من الاجتهاد
الذي نقلته طوائف في القراءة (2)
(1) الاعلام والاهتمام بجمع فتاوى شيخ الاسلام أبى يحيى
زكريا الأنصاري ص 423 ج 424
(2) بخيت المطيعي: المرجع السابق
76
5 - وعند المتأخرين:
حدث منذ أكثر من نصف قرن أن محمد بن خلف
الحسيني الحداد شيخ المقارئ غير مرة بعدم
جواز المجمع، (وأنه بدعة وضلالة أحدثه الجهال، وهم
لا يعول عليهم، ولا يلتفت إليهم) فارتضى بعض الناس
هذا الحكم ورفضه آخرون
فعقد شيخ الأزهر آنئذ في رابع ذي القعدة سنة 1340 ه
جمعا علميا للفصل في الأمر، فأيد الجمع رأى شيخ المقارئ،
وقرروا (منع جمع قراءة أو رواية مع أخرى، بأي طريقة
من طريقه في أي مجلس كان) (1)
فكتب أحد القراء المقرئين، واسمه: خليل محمد غنيم
الجنايني رسالة سماها: (هداية القراء والمقرئين) أجاز فيها
جمع القراءات
فانبرى له أبو بكر الحداد، وهو ابن شيخ المقارئ
في ذلك الوقت، وأصدر كتابه (الآيات البينات في حكم
جمع القراءات)
(1) مقدمة كتاب لآيات البينات في حكم جمع القراءات لأبي
بكر الحداد ص 9
77
فرد الجنايني بكتاب سماه: البرهان الوقاد في الرد على
ابن الحداد:
ودخل في النقاش المستعر - في صف الحداد - مقرئ
اسمه محمد سعودي إبراهيم، فأصدر كتابه: (إفحام أهل
العناد بتأييد ابن الحداد)
ودخل المعركة مقرئ آخر اسمه عبد الفتاح هنيدي
بكتابه: (الأدلة الفعلية في حكم جمع القراءات النقلية)،
وفيه يحل الجمع ويحبذه
والعجيب أنه مع هذه المناظرة الطريفة النشطة المفيدة
ما برح الخلاف حول جمع القراءات قائما
وقد اقترح أخيرا سن تشريع لمعاقبة القراء الذين يتلون
الآية الواحدة بقراءتها المختلفة في المجلس الواحد، فأجبنا بأنا
نؤثر فعلا الإفراد في القراءة في المجلس الواحد، منعا من
اختلاط الروايات بعضها ببعض، ومنعا من التلفيق بينها،
وقد كنا أوضحنا هذا في كتاب (الجمع الصوتي الأول
للقرآن الكريم) عند حديثنا عن مخططات المشروع، وعند
اختيارنا للروايات والطرق والأوجه التي تسجل بها المصاحف (*)
78
المرتلة، ولكننا - مع ذلك - لم نستطع أن نقر فكرة سن التشريع المقترح!
1 - لأن بعض المذهب تجيز الجمع، حسبما توضح
آنفا، ولأن الجمع يستوفى مذاهب القراء، فضلا عن أن فيه
تذكيرا وإعانة على استحضار المعاني
2 - ولأن القراء كانوا يجمعون القراءات في عصر
أبى عمرو الداني، وهو من أعلام علماء القرآن والمؤلفين
في علومه، ولم يتكلم أحد في منع هذا الجمع، وصار
معمولا به في كل عصر، وكأنه إجماع سكوتي، وربما
كان قوليا
3 - ولأن القراءة قد تفسر بقراءة أخرى، كما في:
(1) كلمة (لمستم) (1)، فقد نبي الفقهاء نقض وضوء
الملموس وعدمه على الاختلاف القراءة في (لمستم)، و (لامستم)
(ب) كلمة (يظهرن) (2): مرة بسكون الطاء المخففة وضم
الهاء ومرة أخرى مشددة، مع تشديد الهاء مفتوحة،
(1) سورة النساء /، ضمن الآية 43
(2) سورة البقرة /، ضمن الآية 222
79
والقراءتان متواترتان عن النبي صلى الله عليه وسلم،
ويقرأ بالأولى نافع، وابن كثير، وأبو عمرو،
وابن عامر، وعاصم، وهي تعنى أن ينقطع عنهن الدم
، والثانية قراءة حمزة، والكسائي، وعاصم في رواية
أبى بكر، المفضل، وهي تعن أن يغتسلن بالماء
(ح) وكلمة (ألا) في آية
(الا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السماوات
والأرض) (1)
والتخفيف في (ألا) هو قراءة الكسائي ورويس وأبى جعفر
ووجه بأن (ألا) مخففة للاستفتاح، أما التشديد فهو
قراءة الباقين
(د) وكلمة (أمرنا) في قوله تعالى:
(وإذا أردنا نهلك قرية أمرنا مترفيها) (2)
ومع الفتح المخفف مرة أخرى، وهي في حالة التشديد
بمعنى: جعلنا لهم إمرة وسلطانا
(1) سورة النمل / 25
(2) سورة الإسراء / 16
80
4 - ولأن بعضهم يرون الجمع واجبا وعبادة، إذا
طلبه قوم ليعرفوا وجه القراءات، ليسهل عليهم النطق
بالقران كقراءة
(اهدنا الصراط المستقيم (1)
بالصاد والسين في كثيرا من الناس يعسر
عليهم النطق بالصاد ومعرفتها تصح الصلاة وتعتر من
أمور الدين المحتاج إليها
5 - ولأن الجمع يكفل أن يتعهد القارئ ما حفظه
وهكذا وجدنا القواعد الأصولية للتشريع تمنع من
سن القانون الذي اقترح، كما رأينا أن يكون توجيه الخالفين
بالتعليم، وبالحكمة والموعظة الحسنة
- 10 -
ويتغنى بعض القراء بالمدائح النبوية، وبقصص المولد
الشريف والملاحظة في هذا لمدائح والقصص أنها مصوغة
في أساليب غنائية، وأنها - وخاصة القصص - مسجوعة
غالبا، وحافلة بالمحسنات البديعية
(1) سورة الفاتحة / 6
81
ومن هذه القصص قصة ألفها (البرزنجي) وأخرى
ألفها (المناوي) وثالثه حديثه ألفها عبد الله عفيفي في
الثلاثيات من هذا القول
وقد التزم هؤلاء المؤلفون في قصصهم الباء والهاء في الفواصل
ويمارس بعض القراء الإنشاد والابتهالات وقد حدد
المجتمع الإسلامي، منذ قديم، واجبات المنشد تفصيلا
يقول السبكي في هذا الشأن: (وينبغي أن يذكر من الأشعار
ما هو واضح اللفظ صحيح المغنى مشتملا على مدائح سيدنا
ومولانا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى ذكر الله
تعالى وآلائه وعظمته وخشية مقته وذكر الموت وما بعده..) (1)
ولا يقر البسكى اختصار المنشد على ذكر أبيات غزلية
أو حماسية، وخاصية في مجامع العلم (2)
(1) معيد النعم ومبيد النقم ص 109
(2) نفس المرجع
82
وقد يطلق على المنشد (ابن الليالي) إذا كان يحفظ وينشد
على حلقات الذكر القصائد الغزلية الصوفية كقصائد ابن
الفارض (1)
(1) أنظر: أحمد أمين: قاموس العادات والتقاليد والتعابير
المصرية ص 4 ط 1953
83
الفصل السابع
من قواعد تلاوة القرآن وآدابها
- 1 - الظاهر الملموس أن قراءة القرآن بترتيل مرسل أو بترنيم
منغم يزيدها تأثيرا، ويزيدها وضوحا أن يعرف القارئ
مواضع الوقف والابتداء وهذا ما يقتضيه معرفة علوم
كثيرة
يقول أبو بكر بن مجاهد: (لا يقوم بالتمام في الوقف
إلا نحوي عالم بالقراءات، وعالم بالتفسير والقصص،
وتخليص بعضها من بعض، عالم باللغة التي نزل بها القرآن) (1)
وأضاف كثيرون إلى هذه العلوم علم الفقه (2) ونحن نقر
هذا وذاك، ونستحسنها
(1) أنظر: الزركشي: البرهان ج 1 ص 343
(2) نفس المرجع
84
وقد يؤدى عدم الوقف في مكانه إلى تغيير المعنى تغييرا
كبيرا: قرأ قارئ قوله تعالى:
(فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما
يعلنون) (1)
من غير أن يقف عند كلمة (قولهم)، وهو وقف
لازم، فبدت جملة (إنا نعلم....) كأنها مقول القول
الذي يطلب الله تعالى إلى نبيه أن لا يحزنه
وفى كتاب (أوقاف الكفر) لأبي منصور الماتريدي (2)
بيان مفصل لوقوف غير جائزة، بل هل تفضى إلى كفر
من يقرأ بها عامدا
- 2 - ويستحب أن يقرأ القرآن بالتفخيم، فإن زيد بن ثابت
روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (نزل القرآن
(1) سورة يس / 72
(2) مخطوطة رقم و 354 مجاميع بدار الكتب والوثائق القومية
بالقاهرة
85
بالتفخيم) (1)، ولعل المقصود بذلك أن تكون قراءته
بنبرات رجولية بعيدة عن السمات الصوتية الأنثوية التي فيها
عادة الخضوع والضعف
- 3 - وقد كتب النووي فصلا في استحباب قراءة الجماعة
مجتمعين، وفضل القارئين من الجماعة والسامعين، وبيان
فضل من جمعهم عليها، وحرضهم وندبهم إليها (2)
واستند النووي إلى حديثه: (ما من قوم يذكرون الله
إلا حفت بهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم
السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده) (3)، كما استند
النووي إلى ما روى ابن داود من أن أبا الدرداء كان
يدرس القرآن، ومعه نفر يقرأون جميعا، ومن أن
جماعات من أفاضل السلف والخلف وقضاة المتقدمين كانوا
(1) القرطبي: التذكار في أفضل الأذكار - 125
(2) التبيان ص 50 وما بعدها
(3) رواه أبو هريرة، وأبو سعيد الخدري، وقال الترمزي:
حديث حسن صحيح، وأنظر: نفس المرجع
86
يفعلون ذلك (1)
ونظرا لأن التجويد قد يلحقه نقص إذا قرأ فريق من
الناس جماعة أو بصوت واحد، فيقع منهم مثلا مد
ما لا يمد، أو تحريك ساكن، أو إسكان متحرك، لتستقيم
لهم النغمة التي اختاروها، فإننا لا نميل إلى هذه الطريقة،
وسبق أن نبهنا إلى فسادها في كتاب (الجمع الصوتي الأول
للقرآن الكريم أو المصحف المرتل: بواعثه ومخططاته) (2)
وقد أورد النووي نفسه ما رواه ابن أبي داود عن الضحاك
ابن عبد الرحمن بن عرزب من أنه أنكر هذه القراءة،
وقرر أنه لم ير أحدا فعلها من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم (3)
وكذلك أورد النووي ما ورد من أنه قيل لمالك، أرأيت
القوم يجتمعون فيقرأون جميعا سورة واحدة يختمونها؟
فأنكر ذلك وعابه، قال: ليس هكذا تصنع الناس،
* (هامش *)
(1) نفس المرجع ص 51 (2) ص 346
(3) التبيان ص 51 (*)
87
إنما كان يقرأ الرجل الآخر يعرضه (1)
والنووي نفسه أيضا يشرط للقراءة الجماعية شروطا
يوجب استيفاءها (2)
وعندنا أنه ربما كان ترك هذا الأسلوب في قراءة القرآن
أولى وأحوط
وقد تناولنا بالتفصيل في كتاب (الجمع الصوتي الأول...)
مبتدعات صوتية أخرى تنافى أيضا جلال القرآن، وتخرج
عن قواعد أدائه، وتناله بشئ من التحريف، وتعوق حسن
فهمه والتأثر به، وذكرنا هناك أن هذه المبتدعات كانت
من بواعث تفكيرنا في الجمع الصوتي الأول للقرآن، ومن
موجهات تسجيل المصاحف المرتلة الأئمة (3)
- 4 - والقراءة المؤثرة هي التي يقرؤها القارئ على نشاط
قلبي حاضر، واجتماع حقيقي للخواطر، واستعداد نفسي
(1) نفس المرجع
(2) نفس المرجع
(3) أنظر ص 344 - 348
88
غير فاتر، ولعل حديث (اقرأوا القرآن ما ائتلفت عليه
قلوبكم، فإذا اختلفتم فقوموا عنه) (1) أن يكون آمرا
بهذه القراءة، فهو يدعو إلى القراءة ما دام القلب مقبلا،
والذهن واعيا، والنفس مستجيبة، فإذا لم يكن هذا كان
تأجيل القراءة أفضل
- 5 -
ومن التوجيهات الصوتية في شأن تلاوة القرآن قول
إبراهيم النخعي العالم الزاهد المشهور والمتوفى سنة 92 وقيل
95: ينبغي للقارئ إذا قرأ نحو قوله تعالى:
(وقالت اليهود عزيز ابن الله، وقالت النصارى
المسيح ابن الله) (2)
ونحو ذلك من الآيات أن نخفض بها صوته (3)
(1) عن جندب، رواه البخاري، ومسلم، وأحمد في مسنده
والنسائي وأنظر: المناوي: فيض القدير ج 2 ص 63 (3) ابن الجزري: غاية النهاية ج 1 ص 30
89
وبعض القراء يقتصرون في قراءتهم بالمحافل على أرباع
أو سور معينة عرفوا جيدا قراءاتها وأساليب التغني بها
ومرجع هذا غالبا هو قلة محفوظهم من القرآن، وهذا أمر
نأسف له، وننكره على فاعليه وقد استجدت في السنوات
الأخيرة في وزارة الأوقاف فكرة ترمى إلى إصدار قرار
رسمي يوجب على القارئ المضي في قراءته من موضع
واحد، من راية القراءة إلى منتهاها، ولكننا رفضنا هذه
الفكرة، لاعتبارات فنية وقانونية، وإيثارا لأهون الضررين:
قلة المقروء ولو أنه سليم، وحفظ المقروء لو أنه كثير
- 7 - وعندنا أن سلامة الوقف والابتداء في قراءة القرآن،
وصحة التفخيم في تلاوته، والنشاط القلبي للقارئ،
وفقهه للمواقف، ومسايرة صوته للمعاني القرآنية... كل
ذلك هو من أهم وسائل (التلحين الخاص) التي تجلو المعاني
القرآنية، وتكفل بلوغها إلى العقول والقلوب
90
على أننا لا نسيغ التعبير عن الأداء المنغم المؤثر الدقيق
للقرآن بلفظ (التلحين)، تنزيها لكلام الله عن أن يتصل بلفظ
اصطلاحي منصرف الآن - في مفهوم الكافة - إلى الأغاني،
وإن من الأغاني كما هو غير باعث، وإن منها لما هو غير
نظيف
وليس يثنينا عن رأينا أن يكون بعض القدامى قد استعملوا
مادة (لحن) في التعبير عن القراءة القرآنية المرنمة، كالذي
ورد عن أن أبا موسى الأشعري كان يقرأ القرآن تلبية لطلب
عمر بن الخطاب و (يتلاحن) (1)، وكالذي ورد عن أن
القراء الذين يقرأون القرآن بالألحان عليهم كذا وكذا من
الواجبات... (2)، فالناس في عصرنا الحاضر يخصون
بلفظ (لحن) وما اشتق منه الغناء العادي
- 8 - وفى ظننا أن استعمال لفظ (التلحين) في هذا المقام كان
(1) زاد المعاد، وسبق الشارة إلى هدا في موضع آخر
(2) أنظر: عبد الوهاب السبكي: معيد النعم ومبيد لنقم
ص 110
91
مما جرأ الموسيقيين على الدعوة إلى تلحين القرآن على
الآلات الموسيقية (1)
وهنا نذكر أن المفتين المسلمين يعدون هذا التلحين
كفرا، ينقل ابن حجر الهيتمي في كتابه (الإعلام بقواطع
الإسلام) (2) أن الرافعي قال: (قالوا: ولو قرأ القرآن
على ضرب الدف والقضيب فهو كفر)
وفي الرد على الداعين إلى استعمال الآلات الموسيقية مع
قراءة القرآن، نذكر أنه حتى في الكنيسة المسيحية التي يعد
الإنشاد الموسيقى من شعائرها، والتي يتعدد فيها المرتلون،
وهم
الأرشيدياكون، أي رئيس الشمامسة الذي يساعد الكهنة
في الخدمة، ومنها إلقاء الترانيم
والدياكون أو الشماس
والأبو ذياكون وهو معاونه
(1) راجع معلومات كثيرة عن هذه الدعوة وردنا عليها في
كتابنا: الجمع الصوفي الأول للقرآن الكريم ص 338 وما بعدها
(2) ص 42 ط 1293 ه
92
والأغنستس، أو القارئ، وعمله: تلاوة فصول
الكنيسة المسيحية، وهذه أهمية الإنشاد الموسيقى فيها
تقرر أن (الذين يرتلون على الذبح لا يرتلون بلذة بل بحكمة (1)
ويقول أحد رجال الكنيسة المصرية: (ما زالت إلى
اليوم موسيقى كنائس كثيرة منها القبطية واليونانية والسريانية
صوتية بحتة، وتوقيعها على الآلات الوترية يعطى أداء
هزيلا مبتورا، لا يصور اللحن تصويرا صحيحا أو حقيقيا،
كما يصوره الصوت، وتوقيعها على الأرغن أو البيانو
يستلزم إضافة الأرمونى إليها، وهي بطبيعتها لا تقبل بتاتا
إضافة الأرمونى وإذا حاولنا فلا بد من تمزيق أوصالها
وهذا معناه القضاء على طقسنا الكنسى
والكنيسة اليونانية لا تستعمل آلات موسيقية قط،
ولا حتى الدف والمثلث) (2)
(1) أنظر: الصفوي العسال: المجموع ص 134 دمرقس داود: تفسير قداس الكنيسة القبطية
الأرثوذكسية ص 19 و 20
(2) راغب مفتاح: الألحان مقال بمجلة مدارس الاحد ع
ابريل 1960 ص 29 و 30
93
هذا مع بعد ما بين طبيعة النص القرآني الذي هو القمة
في البلاغة، والذي هو معجز بيقين، وبين طبيعة الترانيم
المسيحية التي هي من إنشاء أناس عاديين، والتي تحتاج فعلا
إلى وسائل تقويها عند الإنشاد
- 9 -
وعندنا أنه ليس إخضاع قراءة القرآن لقواعد الموسيقى
هو الذي بالتمام بايصاله إلى أعماق القلوب والأفهام،
وإنما الذي يكفل هذا هو أن يكون القارئ - فوق حسن
صوته والتزامه قواعد التجويد والأداء - عالما بالقراءات،
والتفسير، ولسنة، والفقه، والتاريخ، والقصص،
والبلاغة، والنحو، والاجتماع، والنفس،
وعجيب أن لا تنبعث دعوة واحدة إلى تعليم القراء هذه
العلوم، بينما الدعوات - بسوء نية غالبا وبحسن نية
أحيانا - إلى الإفادة - في قراءة القرآن - من الفنون الموسيقية،
مع أن موسيقى القرآن، كما قلنا قبلا - نابعة منه، ولا حاجة
بالمسلمين إلى استجلابها إليه (1)
(1) أنظر: لبيب السعيد: الجمع الصوتي الأول للقرآن
الكريم ص 324 - 333
94
وإذا كان التلحين الموسيقى ينفع في بعض مشتملات
القرآن كالوعد والوعيد، ووصف الجنة والنار، والبيان عن
الرغبة والرهبة... الخ، فكيف تفيد الموسيقى في إبراز
المعاني في بعض آيات الأحكام من مثل ما يتصل بالنكاح،
والإيلاء، والطهار واللعان، والخلع، والطلاق،
والعدة، والاستبراء، والنفقة، والرضاعة، والوكالة،
والإجارة، والمواريث وأحكام الصيد... الخ؟
ولقد رسم الزركشي الوسائل الطبيعية إلى أكمل الترتيل،
فقال صمنا: (فمن أراد أن يقرأ القران بحال الترتيل،
فليقرأه على منازله: فإن كان يقرأ تهديدا لفظ به لفظ
المتهدد، وإن كان يقرأ لفظ تعظيم لفظ به على التعظيم) (1)
ومن تلك الوسائل (أن يشتغل قلبه في التفكير في معنى
ما يلفظه بلسانه) (2)، وأن يتجاوب مع كل نداء أو أمر
أو نهى معه، ويجب أن يقرأ قراءة المتذكر المذكر
(3)
(1) البرهان ج 1 ص 450 - 452
(2) نفس المرجع (3) نفس المرجع
95
وكما يقول الزركشي أيضا: (ولحصول القارئ على
الفتح عند الفتاح العليم)، يجب الاستعانة (بأن
تكون تلاوته على معاني الكلام وشهادة وصف المتكلم من
الوعد بالتشويق والوعيد بالتخويف والانذار بالتشديد،
فهذا القارئ أحسن الناس صوتا بالقرآن) (1)
ومن وسائل تحصيل حلاوة القران ما نقله الشعراني عن
مسلم بن ميمون الخواص، فقد كان يقول:
كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة
فقلت لنفسي: إقرئيه كأنك تسمعينه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم فجاءت حلاوته
ثم أردت زيادة، فقلت: أقرئيه كأنك تسمعينه من
جبريل عليه السلام ينزل به على النبي صلى الله عليه وسلم،
فزادت حلاوته
ثم قلت: إقرئيه كأنك تسمعينه من رب العالمين،
فجاءت الحلاوة كلها (2)
(1) نفس المرجع ج 2 180 و 181
(2) الشعراني: الطبقات الكبرى ج 1 ص 2 (ط الحلبي
سنة 1954)
96
الفصل الثامن
حوك سماع القرآن
قال تعالى:
(وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم
ترحمون) (1) عن أبي هريرة: كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت (2)
وقال سعيد بن المسيب: كان المشركون يأتون رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى، فيقول بعضهم لبعض
(لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) (3) فأنزل الله جل وعز جوابا لهم:
(1) الاعراب / 204
(2) أنظر: الحسن النيسابوري: غرائب القرآن ورغائب
الفرقان ج 9 ص 111
(3) سورة فصلت / 36
97
(وإذا قرى القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) (1)
والصحيح القول بعموم السنة في الاسماع للقران والإنصات
له، لقوله (لعلكم ترحمون)، والتخصيص يحتاج إلى
دليل (2)
(قال العلماء: ظاهرا الأمر للوجوب، فمقتضاه أن
يكون الاسماع والسكوت واجبا وقت قراءة القرآن في صلاة
وغير صلاة وهو قول الحسن وأهل الظاهر (3)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يسمع القرآن
من غيره، وأمر عبد الله بن مسعود، فقرأ عليه وهو يسمع،
وخشع صلى الله عليه وسلم لسماع القرآن منه حتى ذرفت
عيناه (4)
والمسلمون يرون أن حسن الإسماع هو بالضرورة طريق
الانتفاع بالقرآن، فهو لابد منه، وهو في الدرجة الثانية
(1) الانصات: السكوت للاستماع والاصغاء والمراعاة أنظر:
القرطبي: الجامع لأحكام القرآن ج 7 ص 354)
(2) أنظر: القرطبي: المرجع السابق
(3) الحسن النيسابوري: المرجع السابق
(4) ابن القيم: زاد المعاد ج 1 ص 189
98
بعد حسن الأداء الذي هو طبعا في المرتبة الأولى (1)
- 2 - ومن أدب الإسلام قوله تعالى:
(يا أيها الذين آمنوا ترفعوا أصواتكم فوق
صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم
لبعض النبي أن تحبط أعملكم وأنتم لا تشعرون) (2)
(فرفع أصواتهم على صوت القارئ لكلامه عز وجل أولى
بأن ينهى عنه، والأدب معه فوق الأدب مع كلام النبي
صلى الله عليه وسلم بالضرورة (3))
(1) أنظر: أحمد بن محمد بن عزت شاه الحنفي: فاكهة
الخلفاء ومفاكهة الظرفاء ص 16 - نصائح الحكيم للسلطان ط
الموصل سنة 1869 م.
(2) سورة الحجرات / 2
(3) عبد الوهاب حمودة: تلاوة القرآن واستماعه - بحث في
((لواء الاسلام) ع، رمضان 1367 ه
99
ومن الحقائق الواقعية التي لا نناقشها هنا محبذين
أو ناقدين، وإنما نسجلها فحسب أن الناس فوق تأثرهم بمعاني
القرآن، يتأثرون بالنغم، فأحمد ندا مثلا الذي كان (لا يأخذ
في قراءته سمتا واحدا، بل لا يبرح يترجع بين فنون النغم) (1)
كان (يقيم الناس ويقعدهم، ويطويهم وينشرهم، ويذيقهم
المهول الرائع من الطرب والانبهار) (2)
والقراء مثل المغنين يسرهم أن يتلقوا عبارات الثناء
والإعجاب، وبعضهم في المحافل يتحرى المعجين، وقد
يدبر هو نفسه لوجودهم، ويظهر المعجون الطرب،
فيسمع لهم ضجيج حتى في المساجد وفي المآتم
وقد ذكروا أن يوسف المنيلاوى الذي ورد له ذكر
في فصل سابق، كان يسأل المستعين عن رأيهم في قراءته
التماسا لصيحات الإعجاب. وقيل في تعليل هذا إنه (كان
(1) البشرى: المرجع السابق
(2) نفس المرجع
100
يعاني عقدا نفسه ربما كانت راجعة إلى ضآلة حفظه في
الحياة) (1)
- 4 -
وسلك كثير من هؤلاء المعجبين منافر للأدب الواجب
للقرآن، ولعل صاحب (تفسير المنار) أن يكون قد وصفهم
وصفا دقيقا، عند تفسيره للآية الكريمة:)
(ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا وأسمع وانظرنا
لكان خيرا لهم وأقوم، ولكن لعنهم الله بكفرهم
فلا يؤمنون إلا قليلا) (1)
يقول، في شأن من يقابلون هذا التأديب القرآني باللغط
والضجيج: (إنهم يلغطون في مجلس القرآن فلا يستمعون
ولا ينصتوا، ومن أنصت واستمع فإنما ينصت طربا
بالصوت، واستلذاذا بتوقيع نغمات القارئ (وإنهم ليقولون
(1) محمود السعدني: دولة المقرئين ص 44
(2) سورة النساء / 46
101
في استحسان ذلك واستجادته وما يقولون في مجالس الغناء،
ويهتزون للتلاوة، ويصوتون بأصوات مخصوصة، كما
يفعلون عند سماع الغناء بلا فرق، ولا يلتفتون إلى شئ من
معانيه إلا ما يرونه مدعاة لسرورهم في مثل قصة يوسف عليه
السلام، مع الغفلة فيها من العبرة وإعلاء شأن الفضيلة،
ولا سيما العفة والأمانة) (1)
ثم يقول:
(أليس هذا أقرب إلى الاستهانة بالقرآن منه بالأدب
اللائق الذي ترشد إليه هذه الآية الكريمة وأمثالها، وتتوعد
على تركه بجعله مجاورا للكفر الذي يسوق صاحبه إلى العذاب
الأليم؟
(أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم
الأولين أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون) (2)
وثمة قصة من حي المذبح بالقاهرة تشهد بإسراف بعض
(1) تفسير المنار ج 1 ص 411 و 412
(2) سورة المؤمنون / 68 69
102
المعاصرين في مجافاة الأدب الواجب للقرآن، ومتابعتهم للنغم
لا للمعاني القرآنية، ومؤدى هذه القصة أن طائفتين من
المستمعين إلى القارئ الشيخ محمد القهاوي، في أحدا لما تم
اقتتلا، لأن إحداهما عابت صوت القارئ، فأثر ذلك
الأخرى: فمات أربعة، ونقلت عربات الإسعاف أكثر
من عشرة إلى المستشفيات) (1)
- 5 - وقد وردت أخبار عن ترديد القارئ آية واحدة مرات
كثيرة استحضارا لعظمه المتكلم، وتدبرا لكلامه، واستجلاء
لمحاسنها، واستطابة لفنون الجمال فيها عللا بعد نهل:
روى أبو ذر عن النبي نفسه صلى الله عليه وسلم، أنه
قام ليلة بآية يرددها)
(إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك
أنت العزيز الحكيم) (2)
(1) أنظر: محمود السعدني: دولة المقرئين 26 و 27
(2) سورة المائدة / 118
103
وقام تميم الدارمي بآية هي قوله سبحانه:
(أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم
كالذين آمنوا وعملوا الصالحات) (1)
وكذلك قام بها الربيع بن خيثم ليلة (2)
وفى التاريخ الحديث أن الشيخ محمود البربري القارئ
الخاص لسعد زغلول ((كان مغرما بالإعادة، ولذلك كان
يظل أحيانا ساعة كاملة لا يقرأ سوى آيات قليلة) (3)
- 6 - ويتصل بسوء الأدب مع القرآن ما يحكمه ابن الجوزي
نوع من القراء الذين يتغنون بالقرآن، وهم (المقابريون)
في أيامه، (فإنهم يهيجون الأحزان ليكثر بكاء لنساء،
(1) سورة الجاثية / 21
(2) أنظر: مختصر منهاج القاصدين لابن الجوزي (اختصار
ابن قدامة الأندلسي)
(3) أنظر: محمود السعدني: دولة المقرئين ص 48
104
فيعطون على ذلك الأجرة، ولو أنهم أمروا بالصبر ولم ترد
النسوة ذلك) (1)
يقولون ابن الجوزي: وهذه أضداد الشرع
ويروى عن ابن عقيل أنه قال: حضرنا عزاء رجل
قد مات له ولد، فقرأ المقرئ: يا أسفى على يوسف) (2)
فقلت له: هذه نياحة بالقرآن (3)
- 7 -
ونحن - مع مشاركتنا لتفسير المنار آنفا - في النعمى على
اللاغطين في مجلس القرآن، والمنصرفين إلى الاستلذاذ
بالألحان من دون المعاني، ومع تمسكنا الأشد بالكيفية المأثورة
للتلاوة، والأدب الكامل لهذا الكتاب الديني العظيم، لا نرى
(1) صيد الخاطر ج 1 ص 147 (ط.. دار الفكر بدمشق)
(2) سورة يوسف /
84 (3) نفس المرجع
105
إهدار الفطرة، واستنكار أن يستعيد السامع الآيات التي يريد
أن يمكن في قلبه في قلبه لمعارفها ولطائفها وإعجازها، وأن يزداد بها
اعتبار وعلما واستذكارا، وأن يشبع من الاستمتاع بحسن
بياتها وجمال لفظها وفصيح أسلوبها، وعظمة معانيها،
وجلال توجيهها
هذا، والنفس مجبولة على التأثر بالتناسب والتناسق
والحركة المنتظمة المتكررة والنغمات ذات النسب المتعارفة
وواضح أن آي القرآن شاملة غالبا لهذا كله، وواضح
أيضا أن الصوت الحسن بالقراء الواعية يزيد هذا الكتاب
جلاء فلا حرج - في رأينا - إذا طرب الناس بسماع
القرآن. وأبدوا تأثرهم الروحاني به، وانسياقهم الوجداني
معه، وعيروا عن شغلهم به، وخفيهم المتكرر إليه
- 8 - ومن صور التأثر بالقرآن البكاء عن سماعه وعن قراءته
وهذا البكاء هو - فيما عبر النووي - صفة العارفين. وشعار
106
عباد الله الصالحين (1)
يقول تعالى مثنيا على قوم:
(وإذا سمعوا ما انزل إلى الرسول ترى أعينهم
تفيض من مما عرفوا من الحق) (2)
ويقول سبحانه:
(وقرآنا فرقناه لنقرأه على مكث ونزلناه تنزيلا
قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله
إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون
سبحن ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا) (3)
ويقول:
(وإذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا
وبكيا) (4)
(1) التبيان ص 43
(2) سورة المائدة / 83
(3) سورة الإسراء / 107 و 108
(4) سورة مريم / 58
107
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(اقرأوا القرآن وابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا (1))
ومن المأثورات الإسلامية:
أن ابن عباس قال: إذا قرأتم سجدة (سبحن) (2)،
فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم
فليبك قلبه (3)
وقالت عائشة عن أبيها أبى بكر، في قصة إجارة ابن
الدغنة له:
(... وكان (تريد أباها) رجلا رقيقا، إذا قرأ
القرآن استبكى، فيقف عليه الصيبان والعبيد من النساء) إذا قرأ
القرآن استبكى، فيقف عليه الصيبان والعبيد من النساء) (4)
ولما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم المرض، قبل له في
الصلاة، فقال: مروا أبا بكر، فليصل بالناس، قالت
(1) الجمل: المفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين
للدقائق الخليفة ج 3 ص 67 (ط. مصطفى الحلبي 959
(2) سورة الإسراء / من الآية 108
(3) الجمل: المرجع السابق
(4) ابن هشام: سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم ج 1 ص 396
108
عائشة (رضي الله عنها): إن أبا بكر رجل رقيق القلب،
وأنه إذا قام مقامك، لا يكاد يسمع الناس بكاءه.. فلو
أمرت عمرا!... الخ (1)
وصلى عمر بن الخطاب الجماعة الصبح، فقرأ سورة
يوسف، حتى سالت دموعه، على ترقوته (2)
وعن أبي رجاء، وقال: رأيت ابن عباس، وتحت
عينيه مثل الشراك البالي من الدموع (3)
وعن أبي صالح، قال: قدم ناس من أهل اليمن على
أبى بكر الصديق، فجعلوا يقرأون القرآن ويبكون، فقال
أبو بكر الصديق: هكذا كنا (4)
وقد رووا أن قارئا صالحا المرني، قال:
قرأت القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام،
(1) رواه النجدي في صحيحه عن ابن عمر، وأنظر: ابن
هشام: سيرة النبي (ص) ج 2 ص 259
(2) أنظر: النووي: المرجع السابق
(3) نفس المرجع
(4) نفس المرجع
109
فقال: يا صالح! هذه القراءة، فأين البكاء (1)؟
والطريقة في تحصيل البكاء فيما يقول الغزالي: (أن يتأمل
ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود، ثم يتأمل
تقصيره في أو امره وزواجره، فيخزنه لا محالة، ويبكي) (2)
- 9 - وقد وعى تاريخ القراءة أخبار جماعات من السلف
صعقوا عند القراءة، وجماعات منهم ماتت!
ذكر هذا التاريخ أن زرارة بن أو في التابعي قرأ في
الصلاة حتى بلغ (فإذا نقر في الناقور فذلك يومئذ يوم
عسير) (3) خر ميتا (4)
وكذلك ورد أن أحمد بن أبي الحوارى - وكان
أبو القاسم الجنيد يدعوه (ريحانة الشام) - إذا قرئ عنده
القرآن يصيح ويصعق (5)
(1) الجمل: المرجع السابق
(2) احياء علوم الدين ج 1 ص 219 (3) سورة المدثر / 8 و 9
(4) النووي: التبيان ص 14
(5) نفس المرجع
110
وقد أنكر بعض علماء المسلمين ذلك على فاعليه، ولكن
النووي يقول: (والصواب عدم الإنكار إلا على من اعترف
أنه يفعل تصنعا، والله أعلم (1)
(1) نفس المرجع ص 41 و 42
111
الفصل التاسع
إحياء رمضان بتلاوة القرآن
- 1 - في مناسبة صدور هذا البحث في رمضان، نذكر أن
هذا الشهر هو عيد القرآن
(شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس
وبينات من الهدى والفرقان) (1)
(إنا أنزلناه في ليلة القدر) (2)
(إنا أنزلناه في ليلة مباركة) (3)
(1) سورة البقرة / 185
(2) سورة القدر / 1
(3) سورة الدخان / 2
112
وكأنما كانت فريضة صوم هذا الشهر إحياء عمليا
لذكرى نزول هذا الكتاب العظيم
- 2 - وقد جرى المجتمع الإسلام على تقليد صالح هو إحياء
ليالي رمضان بتلاوة القرآن الكريم ولئن أصاب هذا التقليد
بعض الوهن في بعض العواصم إنه لذاك جدا في الريف
وعندنا في مصر تقيم الدولة بنفسها احتفالات القرآن في
رمضان، وتعهد بالقراءة فيها إلى المتفوقين من القراء حفظا
وأداء وصوتا
ووفاء بحق القرآن، وشعورا بالواجب نحو المسلمين
في البلاد الشقيقة والصديقة، تبعث جمهوريتنا بأحسن قرائها
إلى هذه البلاد لتحيي رمضان هناك أيضا
- 3 -
ويصف ابن جبير احتفال المسلمين في المسجد الحرام
بشهر رمضان في القرآن السادس الهجري، فيشير إلى تأثر
الناس بأصوات القراء بالقرآن، حيث يقول:
113
(... وأما المالكية، فاجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون
القراءة......
وكاد لا يبقى في المسجد زاوية ولا ناحية إلا وفيها
يصلى بجماعة خلفه، فيرتج المسجد لأصوات القراءة من
كل ناحية فتعاين الأبصار وتشاهد الإسماع من ذلك مرأى
ومستمعا تنخلع له النفوس خشية ورقة (1)
ويصف ابن بطوطة بعد قرابة قرنين نفس هذا الاحتفال،
فيقول:
(... وأما المالكية، فيجتمعون على أربعة من القراء
يتناوبون القراءة، ويوقدون الشمع، ولا تبقى في الحرم
زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلى بجماعته، فيرتج
المسجد لأصوات القراء، وترق النفوس، وتحضر القلوب، وتمهل الأعين...) (2)
(1) رحلة ابن جبير، أو نذكره بالاخبار من اتفاقات الاسفار
ص 111 (ط الشعب)
(2) رحلة ابن بطوطة، أو تحفة النظار في غرائب الأمصار
وعجائب الاسفار ص 112 (ط الشعب)
114
- 4 - والقرآن مأمور بالإكثار من تلاوته، وقد أثنى الله تعالى
على التالين للقرآن، فقال:
(إن الذين يتلون كتب الله وأقاموا الصلاة
وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن
تبور) (1)
وطول القيام بالقرآن في غير الفرائض هو - فقها -
الفضيلة فوق الواجب والمسنون:
من حديث ابن عباس قال: (... فقام رسول الله عليه
الصلاة والسلام، فاستفتح بسورة البقرة ثم آل عمران
ثم النساء، ثم المائدة، حتى سمعت هذا في ركعة واحدة،
والله أعلم حيث ركع) (2)
(1) سورة فاطر / 29
(2) ابن الحاج: المدخل ج 1 ص 175
115
وعن حذيفة قال، (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم
ذات يوم، فافتتح البقرة، فقلت، يركع عند المائة،
ثم مضى، فقلت: يصلى بها في ركعة، فمضى، فقلت:
يركع بها، ثم افتتح النساء فقرأ هم، ثم افتتح آل عمران
فقرأها، يقرأ مترسلا... الخ) (1)
وروى أن بن عفان كان يقرأ في ركعة الوتر
الختمة كلها (2)
- 5 -
ولعله من أفضل مناسبات قراءة القرآن في رمضان
صلاة التراويح، وقد حثت السنة عليها، يقول النبي
صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر
له ما تقدم من ذنبه) (3)
(1) أنظر: النووي: رياض الصالحين ص 448 (ط عيسى
البابي الحلبي)
(2) ابن الحاج، المرجع السابق
(3) عن أبي هريرة، ومتفق عليه، وأنظر: النووي: رياض
الصالحين ص 450
116
وقد قالوا في تفسير ها الحديث، إن المراد بهذا القيام
هو صلاة التراويح (1)
ومع أن مالكا، وأبا يوسف، وبعض الشافعية كانوا
يرون الأفضل أداء التراويح فرادى في البيت، فإن الشافعي،
وجمهور أصحابه، وأبا حنيفة، وأحمد، وبعض المالكية
وغير هم يرون الأفضل صلاتها جماعة، كما فعله عمر ابن
الخطاب، واستمر عمل المسلمين عليه، لأنه من الشعائر
الظاهرة، فأشبه صلاة العيد (2)
- 6 -
وقد جرى المسلمون على التماس الانتفاع والاستمتاع
بالصوت الحسن بالقرآن في هذه الصلاة بصفة خاصة:
1 - كان عبد الرحمن بن الأسود بن أبي يزيد يتتبع
الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان (3)
(1) صحيح سلم بشرح النووي ج 6 ص 29
(2) نفس المرجع
(3) ابن القيم: زاد المعاد ج 1 ص 135
117
2 - وفي ترجمة موسى بن الحسن المتوفى سنة 287 ه
أنه (كان حسن الصوت بالقرآن في الفجر وفي صلاة
التراويح، فلقب بذى الصوت الجيد) (1)
3 - ومحمد بن سعد بن سعيد العسال (كان من
القراء المجودين الموصوفين بحسن الأداء، يقصد في رمضان
لسماع قراءته في صلاة التراويح من الأماكن البعيدة) (2)
4 - وأبو محمد سبط الخياط المتوفى سنة 541 ه
(والأستاذ البارع الكامل الصالح الثقة شيخ الإقراء ببغداد
في عصره... وأحد الذين انتهت إليهم رياسة القراءة علما
وعملا والتجويد علما وعملا وطربا...) (3) كان حسن
القراءة في المحراب، (سيما ليالي رمضان، وكان يحضر
عنده الناس لاسماع قراءته)، (وكان يحضر
صوتا بالقرآن على كبر السن) (4)
(1) أنظر: ابن الجوزي: المنتظم ج 6 ص 22
(2) ابن رجب: الذيل على طبقات الحنابلة ج 1 ص 113
(3) أين الجزري: غاية النهاية ج 1 ص 434 و 35
(4) نفس المرجع، وأنظر: ابن رجب: المرجع السابق
ج 1 ص 209 و 210
118
5 - وأحمد بن محمد البلقيني الولود سنة ه
(... كان حسن الصوت بالقران جدا، فكان الناس
يهرعون إلى سماعه، سيما في قيام رمضان، في الأماكن
التائية، بحيث يضيق الشارع بهم) (1)
وهذا الذي نذكره ليس إلا مجرد أمثله يشير قليلها
إلى الكثير
- 5 - ثم نستطرد، فنذكر أنه أصبح من التقاليد الثابتة أن تبدأ
الأحفال الرسمية السياسية الكبرى بتلاوة القران، وكذلك
أحفال عيد العلم. ولعله أن يكون لهذا أصول قديمة في
الاجتماعيات الإسلامية، فابن الغوطى، إذا يحكى قصة
مدرسة افتتحت في شوال سنة - 628 - ه، يقول:
.. فحضر جميع المدرسين والفقهاء على اختلاف
المذاهب، وقاضي القضاة...، وقرئت الختمة...) (2)
(1) السخاوي: الضوء اللامع ج 2 ص 102 - الترجمة 39
(2) الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة
ص 25 (ط الفرات ببغداد) 1351 ه
119
وفي القرن الرابع الهجري، كانت الدروس تبدأ بسماع
القرآن من قارئ حسن الصوت وقد نقل (متز)،
عند حديثه عن طريقة التعليم وقتئذ أن (العالم كان يبتدئ
درسه بحمد الله والصلاة على نبيه بعد قراءة قارئ حسن
الصوت شيئا من القران... الخ) (1)
والرحالة ابن جبير في حديثة عن مجلس الوعظ الذي
كان يعقده بن الجوزي ببغداد، في ساحة قصر الخليفة،
يقول: (... وقعدنا إلى أن وصل هذا الحبر المتكلم، فصعد
المنبر، وأرخى طيلسانه عن رأسه، متواضعا لحرمة المكان،
وقد تسطر القراء أمامه (أي اصطفوا) على كراسي
موضوعة، فابتدروا القراءة على الترتيب، وشوقوا
ما شاءوا، وأطربوا ما أرادوا، وبادرت العيون بارسال
الدموع، فلما فرغوا من القراءة - وقد أحصينا لهم تسع
الدموع، فلما فرغوا من القراءة - وقد أحصينا لهم تسع
آيات من سور مختلفات - صدع بخطبته الزهراء..) (2)
(1) الحضارة الاسلامية في القرن الرابع الهجري - الترجمة
المربية ج 1 ص 319 (الطبعة الثالثة)
(2) رحلة ابن جبير ص 160 (ط الشعب)
120
وكذلك كان من الشعائر التي تصحب الختان ختم
القرآن (1)
غير أنه - في الوقت الحاضر - أصبحت المآتم أهم
المناسبات التي يدعى إليها القراء وبعد أن كان إحياء
الأفراح بقراءة القرآن تقليدا متبعا في البلاد العربية والإسلامية،
عدل جمهور هذا البلاد عن ذلك، فيما هو مشاهد، عدولا واضحا
وكذلك، بعد أن كان الناس في هذه البلاد - في مناسبة
استقبال العائدين من الحج - يقيمون السرادقات، ويدعون
إليها القراء الصيتية لتلاوة القرآن، أصبح هذا الآن كالنادر
وهكذا - ونقول هذا بمرارة - بعد أن كان سهر
القارئ الصييت عند أسرة ما أمينة تهش لها القلوب،
ويتصاعد بها دعاء الأحباب للأحباب، بات هذا السهر -
عند أغلب مجتمعنا - شيئا لا يحب ولا يكره، بل بات عن
بعض الناس شيئا مكروها يسير في ركاب المصيبة المرهوبة:
مصيبة الموت
(1) أنظر دائرة المعارف الاسلامية - الترجمة العربية ص 214 و 222
121
خاتمة
أما بعد، فهذا القرآن هو أساس الإسلام وقاعدته،
وهو بيقين سبيل المسلمين إلى السلطان والنصر في الدنيا،
وإلى الفوز والسعادة في الآخرة، وهو الكتاب الذي حرر
والإنسان من ذلة الخضوع لغير الله أعلى سلطان العلم
وسلطان العقل، والذي بث الإيمان وقرر العدل
وهذه الشعوب في كل الدنيا مسؤوله لطالحها هي أن
تسير في هذا النور المبين، وأن تعتصم بهذا الحبل المتين،
وأن تقرأ القرآن وتستمعه وتتدبره، مصبحة وممسية،
مسترشدة ومستهدية
وهذه الشعوب في كل الدنيا مسؤولة أن تهب للدراسات
القرآنية من مختلف نواحيها كل جهدها وكل عنايتها
ولعل من الحوافز في هذا الشأن أن بحر هذه الدراسات
122
عميق، وخيراته غير ذات حدود فالنفع محقق، والمجال
ذو سعة
(إن هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم، ويبشر
المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم اجرا كبيرا) (1)
(1) سورة الإسراء / 9.
123