قال الشعبي: كنت بواسط (1) ، وكان يوم أضحى، فحضرت صلاه العيد مع الحجاج (2) ، فخطب خطبهً بليغه، فلما انصرف جائني رسوله فأتيته، فوجدته جالساً مستوفزاً، قال: يا شعبي هذا يوم أضحى، وقد أردت أن أضحي برجل من أهل العراق، وأحببت أن تسمع قوله، فتعلم أني قد أصبت الرأي فيما أفعل به. فقلت: أيها الاَمير، لو ترى أن تستن بسنه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وتضحي بما أمر أن يضحي به، وتفعل فعله، وتدع ما أردت أن تفعله به في هذا اليوم العظيم إلى غيره. فقال: يا شعبي، إنك إذا سمعت ما يقول صوبت رأيي فيه، لكذبه على الله وعلى رسوله، وإدخاله الشبهه في الاسلام . قلت: أفيرى الاَمير أن يعفيني من ذلك ؟ قال : لا بدّ منه . ثم أمر بنطع فبسط، وبالسيَّاف فأُحضر، وقال: أحضروا الشيخ، فأتوه به، فإذا هو يحيى بن يعمر (3) ، فأغممت غماً شديداً، فقلت في نفسي: وأي شيء يقوله يحيى مما يوجب قتله؟ فقال له الحجاج: أنت تزعم أنك زعيم أهل العراق ؟ قال يحيى: أنا فقيه من فقهاء أهل العراق. قال: فمن أي فقهك زعمت أن الحسـن والحسـين عليهما السلام من ذريه رسول الله صلى الله عليه وآله . قال: ما أنا زاعم ذلك، بل قائل بحق. قال: وبأي حق قلت؟ قال: بكتاب الله عز وجل. فنظر إليَّ الحجاج، وقال: اسمع ما يقول، فإن هذا مما لم أكن سمعته عنه، أتعرف أنت في كتاب الله عز وجل أن الحسن والحسين من ذريه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ فجعلت أفكر في ذلك، فلم أجد في القرآن شيئاً يدل على ذلك. وفكر الحجاج ملياً ثم قال ليحيى: لعلك تريد قول الله عز وجل: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِمَا جَاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أَبناءَنا وَأَبْنَاءَكم وَنِساءَنا ونِساءَكُم وأنفُسَنا وأنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهل فَنَجعَل لَعنهَ اللهِ على الكاذبينَ ) (4) وأن رسول الله صلى الله عليه وآله خرج للمباهله ومهه علي وفاطمه والحسن والحسين (5) عليهم السلام . قال الشعبي: فكأنما أهدى لقلبي سروراً، وقلت في نفسي: قد خلص يحيى، وكان الحجاج حافظاً للقرآن . فقال له يحيى: والله، إنها لحجه في ذلك بليغه، ولكن ليس منها أحتج لما قلت. فاصفرَّ وجه الحجاج، وأطرق ملياً ثم رفع رأسه إلى يحيى وقال: إن جئت من كتاب الله بغيرها في ذلك، فلك عشره آلاف درهم، وإن لم تأت بها فأنا في حلٍ من دمك . قال: نعم . قال الشعبي: فغمني قوله فقلت: أما كان في الذي نزع به الحجاج ما يحتج به يحيى ويرضيه بأنه قد عرفه وسبقه إليه، ويتخلص منه حتى رد عليه وأفحمه، فإن جاءه بعد هذا بشيء لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل حجته لئلا يدعي أنه قد علم ما جهله هو . فقال يحيى للحجاج: قول الله عزّ وجلّ ( وَمِن ذُرِّيتهِ دَاوُدَ وَسليمانَ ) (6) من عنى بذلك ؟ قال الحجاج: إبراهيم عليه السلام . قال: فداود وسليمان من ذريته ؟ قال: نعم . قال يحيى: ومن نص الله عليه بعد هذا أنه من ذريته ؟ فقرأ يحيى: ( وَأيّوب وَيوسفَ وَموسى وَهارونَ وَكذلِكَ نَجزي المُحسنينَ ) (7) . قال يحيى: ومن ؟ قال: ( وَزكريا وَيَحيى وَعِيسى ) (8) . قال يحيى: ومن أين كان عيسى من ذريه إبراهيم عليه السلام ، ولا أب له ؟ قال: مِن قِبَل أُمّه مريم عليها السلام . قال يحيى : فمن أقرب : مريم من إبراهيم عليه السلام أم فاطمه عليها السلام من محمد صلى الله عليه وآله؟ وعيسى من إبراهيم، أم الحسن والحسين عليهما السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله؟ قال الشعبي: فكأنّما ألقمه حجراً . فقال: أطلقوه قبّحه الله ، وادفعوا إليه عشره الآف درهم لا بارك الله له فيها . ثمّ أقبل عليَّ فقال: قد كان رأيك صواباً ولكنّا أبيناه، ودعا بجزور فنحره وقام فدعا بالطعام فأكل وأكلنا معه، وما تكلّم بكلمه حتى افترقنا ولم يزل ممّا احتجّ به يحيى بن يعمر واجماً (9). ____________ (1) مدينه بناها الحجاج في العراق عام 83 | 84 هـ ، وسميت واسطاً لتوسطها بين البصره والكوفه والاَهواز وبغداد، فإن بينها وبين كل واحده من هذه المدن مقداراً واحداً وهو خمسون فرسخاً . التنبيه والاَشراف: ص311 ، وفيات الاَعيان لابن خلكان: ج2 ص50. (2) هو : الحجّاج بن يوسف الثقفي ، اشتهر بولائه للبيت الاَموي ، وبعدائه ونصبه للبيت العلوي، ولد في الطائف سنه 40 هـ ونشأ فيها ، كان والياً من قبل عبد الملك بن مروان وقد أولع في قتل شيعه أمير المؤمنين عليه السلام وأخذهم بكل ظنّه وتهمه أمثال قنبر غلام أمير المؤمنين عليه السلام وكميل بن زياد وسعيد بن جبير وأمثالهم ، قال ابن خلكان عنه : وكان للحجاج في القتل وسفك الدماء والعقوبات غرائب لم يُسمع بمثلها ، وكان الحجاج يخبر عن نفسه أن أكبر لذاته سفك الدماء وارتكاب أمور لا يُقدم عليها غيره . وكان مرضه بالاَكله وقعت في بطنه ، ودعا الطبيب لينظر إليها ، فأخذ لحماً وعلقه في خيط وسرحه في حلقه وتركه ساعه ثم أخرجه وقد لصق به دود كثير ، وسلّط الله عليه الزمهرير ، فكانت الكوانين تجعل حوله مملؤه ناراً وتدنى منه حتى تحرق جلده وهو لا يحس بها ، وشكى ما يجده إلى الحسن البصري فقال له : قد كنت نهيتك ألا تتعرّض إلى الصالحين فلحجت ، فقال له : يا حسن ، لا أسألك أن تسأل ان يفرّج عنّي ، ولكني أسألك أن تسأله أن يعجل قبض روحي ولا يطيل عذابي ، واقام الحجاج على هذه الحاله بهذه العله خمسه عشر يوماً ، توفي في شهر رمضان سنه 95 هـ في مدينه واسط ودفن بها وعُفي قبره . راجع : وفيات الاَعيان لابن خلكان : ج 2 ص 29 ترجمه رقم : 149 ، سفينه البحار : ج 1 ص 221 ـ 222 . (3) هو : أبو سليمان يحيى بن يعمر العامري البصري ، ولد في البصره ، وهو أحد قرّائها وفقهائها ، كان عالماً بالقرآن الكريم والفقه والحديث والنحو ولغات العرب ، وكان من أوعيه العلم وحمله الحجه ، أخذ النحو عن أبي الاَسود الدؤلي ، وحدَّث عن أبي ذر الغفاري ، وعمّار بن ياسر ، وابن عبّاس وغيرهم ، كما حدث عنه جماعه أيضاً ، وكان من الشيعه الاَولى القائلين بتفضيل أهل البيت ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ ، وقيل : هو أول من نقّط القرآن قبل أن توجد تشكيل الكتابه بمده طويله ، وكان ينطق بالعربيه المحضه واللغه الفصحى طبيعه فيه غير متكلّف ، طلبه الحجّاج من والي خراسان قتيبه بن مسلم فجيء به إليه ، لاَنّه يقول أن الحسن والحسين عليهما السلام ذرّيه رسول الله صلى الله عليه وآله ، وقد أذهل الحجّاج بصراحته وجرأته في إقامه الحق وازهاق الباطل حتى نصره الله عليه ، كما نفاه الحجاج في سنه 84 هـ لاَنّه قال له : هل اُلحِنْ ؟ فقال: تلحن لحناً خفياً ، فقال : أجلتك ثلاثاً ، فإن وجدتك بعدُ بأرض العراق قتلتك ؟ ! فخرج ، وأخباره ونوادره كثيره ، توفي ـ رحمه الله عليه ـ سنه 129 هـ . راجع ترجمته في: وفيات الاَعيان لابن خلكان : ج 6 ص 173 ـ 176 ، ترجمه رقم : 797 ، معجم الاَدباء للحموي : ج 20 ص 42 ـ 43 ، ترجمه رقم : 23، سير أعلام النبلاء للذهبي : ج 4 ص 441 ـ 443 ، الاَعلام للزركلي : ج 9 ص 225 ، مستدركات علم رجال الحديث للشاهرودي : ج 8 ص 242 ترجمه رقم : 16298 . (4) سوره آل عمران: الآيه 61 . (5) تقدمت تخريجاته . (6) سوره الاَنعام: الآيه 84 . (7) سوره الاَنعام: الآيه 84 . (8) سوره الاَنعام: الآيه 85 . (9) كنز الفوائد للكراجكي: ج1 ص 357 ـ 360 ، بحار الاَنوار للمجلسي : ج 10 ص 147 ـ 149 ح 1 ، وج 25 ص 243 ـ 246 ح 26 ، وفيات الاَعيان لابن خلكان : ج 6 ص174، العقد الفريد للاَندلسي : ج 2 ص 48 ـ 49 ، وج 5 ص 281 ، بتفاوت.