عن الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد النعمان ـ رضى الله عنه ـ قال : رأيت في المنام سنه من السنين كأني قد اجتزت في بعض الطرق فرأيت حلقه دائره فيها أناس كثيره ، فقلت : ما هذا ؟ فقالوا : هذه حلقه فيها رجل يعظ. قلت : ومن هو ؟ قالوا : عمر بن الخطاب ، ففرقت الناس ودخلت الحلقه فإذا أنا برجل يتكلم على الناس بشيء لم أحصله فقطعت عليه الكلام. وقلت : أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلاله على فضل صاحبك أبي بكر عتيق بن ابي قحافه من قول الله تعالى : ( ثاني اثنيـن إذ همـا فى الغار ) (2). فقال : وجه الدلاله على فضل أبي بكر في هذه الايه على سته مواضع : الاول : أن الله تعالى ذكر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وذكر أبابكر وجعله ثانيه ، فقال : ( ثاني اثنين اذ هما في الغار ). والثاني : وصفهما بالاجتماع في مكان واحد لتأليفه بينهما فقال : ( اذ هما في الغار ). والثالث : أنه اضافه إليه بذكر الصحبه فجمع بينهما بما تقتضي الرتبه فقال : ( اذ يقول لصاحبه ). والرابع : أنه أخبر عن شفقه النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ ورفقه به لموضعه عنده فقال : ( لا تحزن ). والخامس : أخبر أن الله معهما على حد سواء ، ناصراً لهما ودافعاً عنهما فقال : ( ان الله معنا ). والسادس : أنه أخبر عن نزول السكينه على أبي بكر لان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ لم تفارقه سكينته قط ، قال : ( فأنزل الله سكينته عليه ) (3). فهذه سته مواضع تدل على فضل أبي بكر من آيه الغار ، حيث لا يمكنك ولا غيرك الطعن فيها. فقلت له : خبرتك بكلامك في الاحتجاج لصاحبك عنه وإني بعون الله سأجعل ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف. اما قولك : إن الله تعالى ذكر النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ وجعل ابا بكر معه ثانيه ، فهو إخبار عن العدد ، ولعمري لقد كانا اثنين ، فما في ذلك من الفضل ؟! فنحن نعلم ضروره أن مؤمنا ومؤمنا ، أو مؤمنا وكافراً ، اثنان فما أرى لك في ذلك العد طائلاً تعتمده. وأما قولك : إنه وصفهما بالاجتماع في المكان ، فإنه كالاول لان المكان يجمع الكافر والمؤمن كما يجمع العدد المؤمنين والكفار ، وأيضاً : فإن مسجد النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ أشرف من الغار ، وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار ، وفي ذلك يقول الله عز وجل : ( فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين ) (4) ، وأيضا : فإن سفينه نوح ـ عليه السلام ـ قد جمعت النبي ، والشيطان ، والبهيمه ، والكلب ، والمكان لا يدل على ما أوجبت من الفضيله ، فبطل فضلان. وأما قولك : إنه أضافه إليه بذكر الصحبه ، فإنه أضعف من الفضلين الاولين لان اسم الصحبه تجمع المؤمن والكافر ، والدليل على ذلك قوله تعالى : ( قال له صاحبه وهو يحاوره اكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفه ثم سواك رجلاً ) (5) وأيضا : فإن اسم الصحبه يطلق على العاقل والبهيمه ، والدليل على ذلك من كلام العرب الذي نزل بلسانهم ، فقال الله عـز وجـل : ( ومـا أرسلنـا مـن رسـول إلا بلسان قومه ) (6) أنه قد سموا الحمار صاحبا فقال الشاعر (7) : إن الحمار مع الحمير * فإذا خلوت به فبئس الصاحب مطيه وأيضا : قد سمّوا الجماد مع الحي صاحبا ، فقالوا ذلك في السيف وقالوا شعرا : زرت هنداً وكان غير اختيان * ومعي صاحب كتوم اللسان (8) يعني : السيف ، فإذا كان اسم الصحبه يقع بين المؤمن والكافر ، وبين العاقل والبهيمه ، وبين الحيوان والجماد ، فأي حجه لصاحبك فيه ؟! وأما قولك : إنه قال : ( لا تحزن ) فإنه وبال عليه ومنقصه له ، ودليل على خطئه لان قوله : ( لا تحزن ) ، نهي وصوره النهي قول القائل : لا تفعل فلا يخلو أن يكون الحزن قد وقع من أبي بكر طاعه أو معصيه ، فإن كان طاعه فالنبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ لا ينهى عن الطاعات بل يأمر بها ويدعو إليها ، وإن كانت معصيه فقد نهاه النبي عنها ، وقد شهدت الايه بعصيانه بدليل أنه نهاه. واما قولك : إنه قال : ( ان الله معنا ) فإن النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ قد أخبر أن الله معه ، وعبر عن نفسه بلفظ الجمع ، كقوله تعالى : ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) (9) وقد قيل أيضا إن أبا بكر ، قال : يا رسول الله حزني على علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ ما كان منه ، فقال له النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ( لا تحزن فإن الله معنا ) أي معي ومع أخي علي بن أبي طالب ـ عليه السلام. وأما قولك : إن السكينه نزلت على أبي بكر ، فإنه ترك للظاهر ، لان الذي نزلت عليه السكينه هو الذي أيّده الله بالجنود ، وكذا يشهد ظاهر القرآن في قوله : ( فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ) (10). فإن كان أبو بكر هو صاحب السكينه فهو صاحب الجنود ، وفي هذا اخراج للنبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من النبوه على أن هذا الموضع لو كتمته عن صاحبك كان خيراً ، لان الله تعالى انزل السكينه على النبي في موضعين كان معه قوم مؤمنون فشركهم فيها ، فقال في أحد الموضعين : ( فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمه التقوى ) (11) وقال في الموضع الاخر : ( ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ) (12) ولما كان في هذا الموضع خصه وحده بالسكينه ، فقال : ( فانزل الله سكينته عليه ) فلو كان معه مؤمن لشركه معه في السكينه كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين ، فدل إخراجه من السكينه على خروجه من الايمان ، فلم يحر جوابا وتفرق الناس واستيقظت من نومي (13). ____________ (1) هو : محمد بن محمد بن النعمان ، البغدادي ، يعرف بابن المعلم ، من اعاظم علماء الاماميّه وأكبر شخصيه شيعيه ظهرت في القرن الرابع ، انتهت اليه رئاسه متكلمي الشيعه في عصره ، كان كثير التقشف والتخشّع والاكباب على العلم ، وكان فقيها متقدما فيه ، حَسن الخاطر دقيق الفطنه ، حاضر الجواب ، ونعم ما قاله فيه الخطيب البغدادي : إنه لو أراد ان يبرهن للخصم أن الاسطوانه من ذهب وهي من خشب لاستطاع ، وله قريب من مائتي مصنف ، ولد سنه 338 هـ وتوفي سنه 413 هـ وكان يوم وفاته يوما لم ير اعظم منه من كثره الناس للصلاه عليه وكثره البكاء من المخالف والموافق وقيل شيعه ثمانون الفاً من الناس وصلّى عليه الشريف المرتضى ، ودفن بجوار الامامين « الكاظم والجواد ـ عليهما السلام ـ » وحكي انه وجد مكتوبا على قبره بخط القائم ـ عليه السلام ـ : لا صوت الناعي بفقدك انــه * يوم على آل الرسول عظيــم ان كنت غيبت في جدث الثرى * فالعدل والتوحيد فيـك مقيــم والقائم المهدي يفـرح كلمــا * تليت عليك من الدروس علـوم تجد ترجمته في : اوائل المقالات في المذاهب والمختارات للشيخ المفيد المقدمه ص16 ، سير أعلام النبلاء ج17 ص344 رقم : 213. تاريخ بغداد ج3 ص231 ، الذريعه ج2 ص209 ، ميزان الاعتدال ج4 ص30 ، لسان الميزان ج5 ص 368 ، رجال النجاشي ص283 ، الفهرست للشيخ الطوسي ص157. (2) سوره التوبه : الايه 40. (3) سوره التوبه : الايه 27. (4) سوره المعارج : الايه 37. (5) سوره الكهف : الايه 35. (6) سوره ابراهيم : الايه 4. (7) هو اميه : بن أبي الصلت ، راجع : كنز الفوائد ج2 ص50. (8) قد ورد في كنز الفوائد ج2 ص50 للكراجكي هكذا : زرت هنداً وذاك بعد * ومعي صاحب كتوم اللســان اجتناب ) سوره الحجر : الايه 9. (10) سوره التوبه : الايه 41. (11) سوره الفتح : الايه 26. (12) سوره التوبه : الايه 27. (13) الاحتجاج ج2 ص499 ـ 501 ، كنز الفوائد للكراجي ج2 ص48 ، بحار الانوار ج21 ص327 ح1 ، والكشكول للبحراني ج2 ص5.