قال عبدالله بن عباس : لما خرجت الحروريه اعتزلوا في دارهم وكانوا سته آلاف . فقلت لعلي ـ عليه السلام ـ : يا أمير المؤمنين أبرد بالظهر ، لعَليّ آتي هؤلاء القوم فأكلمهم . قال : إني أخاف عليك . قلت : كلا . قال : فقمت وخرجت ودخلت عليهم في نصف النهار وهم قائلون ، فسلمت عليهم . فقالوا : مرحبا بك يابن عباس ، فما جاء بك ؟ قلت لهم : أتيتكم من عند أصحاب النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وصهره ، وعليهم نزل القرآن ، وهم أعلم بتأويله منكم ، وليس فيكم منهم أحد ، لابلّغكم ما يقولون ، وأخبرهم بما تقولون . قلت : أخبروني ماذا نقمتم على أصحاب رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ وابن عمه ؟ قالوا : ثلاث . قلت : ما هن ؟ قالوا : أما إحداهن ، فإنه حَكَّم الرجال في أمر الله ، وقال الله تعالى : ( إن الحكم إلا لله )(2) ، ما شأن الرجال والحكم ؟ ! فقلت : هذه واحده . قالوا : وأما الثانيه ، فإنه قاتل ولم يَسبِ ولم يغنم ، فإن كانوا كفارا سلبهم ، وإن كانوا مؤمنين ما أحل قتالهم(3). قلت : هذه اثنتان ، فما الثالثه ؟ قالوا : إنه محى نفسه عن أمير المؤمنين ، فهو أمير الكافرين . قلت : هل عندكم شيء غير هذا ؟ قالوا : حسبنا هذا . قلت : أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله ومن سنه نبيه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ما يردّ قولكم، أترضون؟ قالوا : نعم . قلت : أما قولكم حَكَّم الرجال في أمر الله ، فأنا أقرأ عليكم في كتاب الله أن قد صيَّر الله حكمه إلى الرجال في ثَمَن ربع درهم ، فأمر الله الرجال أن يحكّموا فيه ، قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم )(4) الايه ، فأنشدتكم بالله تعالى : أحكمُ الرجال في أرنب ونحوها من الصيد أفضل ؟ أم حكمهم في دمائهم وصلاح ذات بينهم ، وأنت تعلمون أن الله تعالى لو شاء لحكم ولم يصيّر ذلك إلى الرجال ؟ قالوا : بل هذا أفضل . وفي المرأه وزوجها قال الله عزوجل : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما )(5) الايه ، فنشدتكم بالله حكم الرجال في صلاح ذات بينهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في امرأه ؟ أخرجتُ من هذه ؟ قالوا : نعم . قلت : وأما قولكم : قاتل ولم يسَبِ ولم يغنم ، أفَتسْبوُن أمَّكم عائشه ، وتستحلون منها ما تستحلون من غيرها ، وهي أمُكم ؟ فإن قلتم: إنا نستحل منها ما نستحل من غيرها ، فقد كفرتم ، ولان قلتم: ليست بأمنا، فقد كفرتم ، لان الله تعالى يقول : ( النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم ) (6). فأنتم تدورون بين ضلالتين ، فأتوا منهما بمخرج ؟ قلت : فخرجتُ من هذه ؟ قالوا : نعم . وأما قولكم : محى اسمه من أمير المؤمنين ، فأنا آتيكم بمن ترضون ، وأراكم قد سمعتم أن النبي ـ صلّى عليه وآله وسلّم ـ يوم الحديبيه صالح المشركين ، فقال لعلي ـ عليه السلام ـ : اكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ، فقال المشركون : لا و ، ما نعلم أنك رسول و الله ، لو نعلم أنك رسول الله لاطعناك ، فاكتب محمد بن عبدالله ، فقال رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ : امح يا عليّ « رسول الله » اللّهم إنك تعلم أني رسولك ، امح يا عليّ واكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله . فوالله لرسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ خير من علي ، وقد محا نفسه ، ولم يكن محوه ذلك يمحاه من النبوه ؟(7). خرجتُ من هذه ؟ قالوا : نعم . فرجع منهم ألفان ، وخرج سائرهم ، فَقُتِلوا على ضلالتهم ، فقتلهم المهاجرون والانصار(8). ____________ (1) الحروريه : جماعه من الخوارج النواصب ، والنسبه لبلد قرب الكوفه على ميلين منها تسمى حرُوراء ، نزل بها هؤلاء بعد خروجهم على أمير المؤمنين علي ـ عليه السلام ـ حينما قبل بالتحكيم بينه وبين معاويه ، قيل لهم حينئذاك : أنتم الحروريه لاجتماعكم بحروراء ، وقال شاعرهم : اذا الحروريه الحرى ركبوا * لا يستطيع لهم أمثالك الطلبا وقالوا يومها : لا حكم إلا لله ، فقال علي ـ عليه السلام ـ: كلمه حق أريد بها باطل . وسُموا ايضاً بالخوارج والمحكمه ، والسبب الذي له سُمّوا خوارج : خروجهم على أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، والذي له سُمّوا محكمه : إنكارهم الحكمين ، وقولهم لا حكم الا لله . راجع : معجم الفرق الاسلاميه لشريف الامين ص 94 ، مقالات الاسلامين للاشعري ص 127 ـ 128 . (2) سوره الانعام : الايه 57 . (3) المقصود من كانوا في حرب الجمل ، فان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ نهى عن قتل جريحهم وسبيهم وسلبهم واتباع مدبرهم . (4) سوره المائده : الايه 95 . (5) سوره النساء : الايه 35 . (6) سوره الاحزاب : الايه 6 . (7) خصائص امير المؤمنين للنسائي ص150 ـ 152 ح185 ، دلائل النبوه للبيهقي ج 4 ص 147 ، المناقب للخوارزمي ص192 ح231 ، الكامل في التاريخ ج2 ص204 ، شرح نهج البلاغه ج2 ص232 وج10 ص258 ، الارشاد للمفيد ص63 ، مجمع البيان ج 5 ص 119 . (8) المصنف لعبد الرزاق ج10 ص157 ـ 160 ، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ج2 ص103 ـ 104 ، الحاكم في المستدرك ج2 ص150 ، مناقب ابن المغازلي ص406 ح460.