سأل سائل الشيخ المفيد رحمه الله فقال : ما الدليل على وجود الاِمام صاحب الغيبه عليه السلام ، فقد اختلف الناس في وجوده اختلافاً ظاهراً ؟ فقال له الشيخ : الدليل على ذلك إنّا وجدنا الشيعه الاِماميه فرقه قد طبقت الاَرض شرقاً وغرباً ، مختلفي الآراء والهمم ، متباعدي الديار لا يتعارفون ، متدينين بتحريم الكذب ، عالمين بقبحه ، ينقلون نقلاً متواتراً عن أئمتهم عليهم السلام عن أمير المؤمنين صلوات الله عليه : إنّ الثاني عشر يغيب غيبه يرتاب فيها المبطلون(1) ويحكون أنّ الغيبه تقع على ما هي عليه ، فليس تخلوا هذه الاَخبار أن تكون صدقاً أو كذباً ، فإن كانت صدقاً فقد صحّ ما نقول ، وإن كانت كذباً استحال ذلك ، لاَنّه لو جاز على الاِماميه وهم على ما هم عليه ، لجاز على سائر المسلمين في نقلهم معجزات النبي صلى الله عليه وآله مثل ذلك ، ولجاز على سائر الاُمم والفرق مثله ، حتى لا يصحّ خبر في الدنيا ، وكان ذلك إبطال الشرائع كلها . قال السائل : فلعل قوماً تواطئوا في الاَصل فوضعوا هذه الاَخبار ونقلتها الشيعه وتدينت بها ، وهي غير عالمه بالاَصل كيف كان . قال له الشيخ رضي الله عنه : أوّل ما في هذا إنّه طعن في جميع الاَخبار ، لاَنّ قائلاً لو قال للمسلمين في نقلهم لمعجزات النبي صلى الله عليه وآله : لعلها في الاَصل موضوعه ، ولعل قوماً تواطئوا عليها فنقلها من لا يعلم حالها في الاَصل ، وهذا طريق إلى إبطال الشرائع ، وأيضاً فلو كان الاَمر على ما ذكره السائل لظهر وانتشر على ألسن المخالفين ـ مع طلبهم لعيوبهم وطلب الحيله في كسر مذاهبهم ـ وكان ذلك أظهر وأشهر مما يخفى ، وفي عدم العلم بذلك ما يدل على بطلان هذه المعارضه . قال : فأرنا طرق هذه الاَخبار ، وما وجهها ووجه دلالتها ؟ قال : الاَول ما في هذا الخبر الذي روته العامّه والخاصه ، وهو خبر كميل ابن زياد قال : دخلت على أمير المؤمنين صلوات الله عليه وهو ينكث في الاَرض فقلت له : يا مولاي مالك تنكث الاَرض أرغبه فيها ؟ فقال : والله ما رغبت فيها ساعه قط ، ولكني أفكر في التاسع من ولد الحسين عليه السلام ، هو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً ، كما ملأت ظلماً وجوراً ، تكون له غيبه يرتاب فيها المبطلون ، يا كميل بن زياد ، لا بدّ لله في أرضه من حجه، إما ظاهر مشهور شخصه ، وإما باطن مغمور لكيلا تبطل حجج الله (2) . والخبر طويل وإنما اقتصرنا على موضع الدلاله . وما روى عن الباقر عليه السلام : إن الشيعه قالت له يوماً : أنت صاحبنا الذي يقوم بالسيف؟ قال : لست بصاحبكم ، انظروا من خفيت ولادته فيقول قوم : ولد ، ويقول قوم : ما ولد ، فهو صاحبكم(3). وما روي عن الصادق عليه السلام إنه قال : كيف بكم إذا التفتم يميناً فلم تروا أحداً ، والتفتم شمالاً فلم تروا أحداً ، واستولت أقوام بني عبد المطلب ، ورجع عن هذا الاَمر كثير ممّن يعتقده ، يمسي أحدكم مؤمناً ويصبح كافراً ، فالله الله في أديانكم هناك فانتظروا الفرج . وما روي عن موسى بن جعفر عليهما السلام ، إنه قال : أذا توالت ثلاثه أسماء محمد وعلي والحسن فالرابع هو القائم صلوات الله عليه وعليهم(4). ولو ذهبنا إلى ما روي في هذا المعنى لطال به الشرح ، وهذا السيد ابن محمد الحميري يقول في قصيده له قبل الغيبه بخمسين ومائه سنه : وكذا روينا عن وصي محمد * وما كان فيما قالـه بالمتكذب بأن ولـيالاَمر يُفقد لا * ستيراً كفعل يُرى الخائفالمترقـب فيقسم أمـوال الفقيـد * تغيبه تحت الصفيح كأنما المنصـب فيمكث حيناً ثمّ * كنبعه درى من الاَرض ينبــعنبعه يوهب له غيبه لا بد من أن * فصلّى عليه الله من يغيبها متغيّب(5) فانظروا رحمكم الله قول السيد هذا القول وهو (الغَيبه) كيف وقع له أن يقوله لولا أن سمعه من أئمته ، وأئمته سمعوه من النبي صلى الله عليه وآله ، وإلاّ فهل يجوز لقائل أن يقول قولاً فيقع كما قال ما يخرم منه حرف ؟ ! عصمنا الله وإياكم من الهوى ، وبه نستعين ، وعليه نتوكّل(6). قال السائل : فقد كان يجب أن ينقل هذه الاَخبار مع الشيعه غيرهم . فقال له : هذا غير لازم ولا واجب ، ولو وجب وجب أن لا يصحّ خبر لا ينقله المؤالف والمخالف وبطلت الاَخبار كلها . فقال السائل : فإذا كان الاِمام عليه السلام غائباً طول هذه المده لا يُنتفع به ، فما الفرق بين جوده وعدمه(7). قال له : إن الله سبحانه إذا نصب دليلاً وحجه على سائر خلقه فأخافه الظالمون كانت الحجه على من أخافه لا على الله سبحانه ، ولو أعدمه الله كانت الحجه على الله لا على الظالمين ، وهذا الفرق بين جوده وعدمه . قال السائل : ألا رفعه الله إلى السماء فإذا آن قيامه أنزله ؟ فقال له : ليس هو حجه على أهل السماء ، إنّما هو حجه على أهل الاَرض، والحجه لا تكون إلا بين المحجوجين به ، وأيضاً فقد كان هذا لا يمتنع في العقل لولا الاَخبار الوارده أن الاَرض لا تخلو من حجه ، فلهذا لم يجز كونه في السماء وأوجبنا كونه في الاَرض وبالله التوفيق . فقام إنسان من المعتزله وقال للشيخ المفيد : كيف يجوز ذلك منك وأنت نظار منهم قائل بالعدل والتوحيد ، وقائل بأحكام العقول ، تعتقد إمامه رجل ما صحت ولادته دون إمامته ، ولا وجوده دون عدمه ، وقد تطاولت السنون حتى أن المعتقد منكم يقول إن له عند ولد خمساً وأربعين ومائه سنه(8)، فهل يجوز هذا في عقل أو سمع ؟ قال له الشيخ : قد قلت فافهم ، اعلم : إن الدلاله عندنا قامت على أن الاَرض لا تخلو من حجه.(9) قال السائل : مسلّم لك ذلك ثمّ آيش ؟ قال له الشيخ : ثمّ إن الحجه على صفات ، ومن لا يكون عليها لم تكن فيه . قال له السائل : هذا عندي ، ولم أر في ولد العباس ، ولا في ولد عليّ ، ولا في قريش قاطبه من هو بتلك الصفات ، فعلمت بدليل العقل أن الحجه غيرهم ، ولو غاب ألف سنه ، وهذا كلام جيد في معناه إذا تفكرت فيه ، لاَنّه إذا قامت الدلاله بإن الاَرض لا تخلو من حجه ، وإن الحجه لا يكون إلاّ معصوماً من الخطأ والزلل، لا يجوز عليه ما يجوز على الاُمّه ، وكانت المنازعه فيه لا في الغيبه ، فإذا سلّم ذلك كانت الحجه لازمه في الغيبه(10). ____________ (1) راجع : اصول الكافي : ج 1 ص 338 ح 7 ، كمال الدين وتمام النعمه للصدوق : ج 1 ص288 ح 1 وص 302 ح9وص 303 ح 14 ـ 16 ، عيون أخبار الرضا للصدوق : ج 2 ص 69 ح 36 ، بحار الاَنوار : ج 51 ص 146 ح 14 وص 160 ح 6 (بما مضمون الخبر). (2) كمال الدين وتمام النعمه للصدوق : ج 1 ص 289 ح 1 ، الاَصول من الكافي : ج 1 ص 338 ح7 (ب في الغيبه) ، كتاب الغيبه للطوسي : ص 104 و 204 ، وفي الاَخيرين : عن الاَصبغ بن نباته بدلاً من كميل بن زياد . (3) كمال الدين وتمام النعمه للصدوق : ج 1 ص 325 ح 2 ، كتاب الغيبه للنعماني : ص 179 ح126 ( وفيهما عن أبي عبد الله عليه السلام ) . (4) كمال الدين وتمام النعمه للصدوق : ج 1 ص 334 ح 3 . (5) راجع : الغدير للاَميني : ج 2 ص 246 ـ 247 ، ديوان السيد الحميري لشاكر هادي: ص116 ـ 117 رقم القصيده : 20 . (6) كمال الدين وتمام النعمه للصدوق : ج 1 ص 34 ـ 35 ، الغدير للاَميني : ج 2 ص 246 ـ 247 . (7) روي عن الاَعمش عن الصادق عليه السلام قال : لم تخلو الاَرض منذ خلق الله آدم من حجه لله فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولا تخلو إلى أن تقوم الساعه من حجه لله فيها ولو لم يعبد الله ، قال سليمان : فقلت للصادق عليه السلام : فكيف ينتفع الناس بالحجه الغائب المستور؟ قال : كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب . (بحار الاَنوار : ج 52 ص 92 ح 6 وراجع: ح 7 و 8) . (8) الذى يبدو أن هذه المناظره وقعت في سنه 400 هـ . (9) راجع : بحار الاَنوار : ج 23 ص 37 ح 65 وح 67 . (10) مصنفات الشيخ المفيد عليه الرحمه المجلد السابع (ص 11 ـ 16) (الرساله الثانيه).