دعانا الشريف شاهين ـ أحد شرفاء المدينه المنوّره آنذاك ـ إلى داره لتناول طعام الغذاء في اليوم السابع أو الثامن من شهر محرم الحرام ، وعندما كنّا متهيئين للصلاه جماعه في بستان الصفا كعادتنا ، إذ جاء رجل من قبل مدير الشرطه ، بأن أرسلْ شخصاً ـ من قبلي إلى دائره الشرطه ـ فأرسلت الشيخ صادق الطريحي البزّاز ـ الذي هو ساكن في كربلاء ـ وشخصاً آخر مع الموظف واشتغلنا بالصلاه. وبعد الفراغ من الفريضه ذهبنا إلى دار الشريف ، ورجعا من دائره الشرطه ، وقالا : قد أخذوا الالتزام منّا في الشرطه بالنيابه عنك أن تترك المجلس وتأمر الشيعه بترك مجالس عزاء الحسين عليه السلام التي كانت تنعقد في تلك الاَيام ـ في المدينه المنوره ـ ، بمناسبه أيام عاشوراء ، سواء في ذلك مجلسنا ومجلس سائر العراقيين والاِيرانيين في الاَمكنه المتعدده . وكان من بين المدعوّين رجل عظيم الشأن يحترمه الشريف صاحب الدار وغيره ، وعرّفه الشريف لنا بأنه من أقرباء جلاله الملك ابن سعود ، وكان رجلاً من أصحاب الفضيله وأهل العلم ، فجرى الكلام بيننا حول مطالب متعدده حتى وصل الكلام إلى الحديث السابق ذكره في شفاعه فاطمه سيده النساء عليها السلام للباكين على ولدها الحسين عليه السلام ، وذكرت له سماعي الحديث(1)مرّتين من علماء أبناء أهل السنّه والجماعه مرّه في بغداد قبل عشرين سنه ، ومرّه قبل ليالي قليله في الحرم الشريف . قال : نعم ، إنّ هذا الحديث صحيح لا ننكره . قلت له : من المسلّم في التواريخ والاَحاديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله لما رجع من اُحد ، ورأى أنّ لكل واحدٍ من الشهداء نائحات وباكيات فأمر صلى الله عليه وآله نساء بني هاشم أن يجتمعن لحمزه سيد الشهداء(2)عليه السلام. قال : نعم صحيح ، بل سمعت أن المتداول في المدينه المنوّره إلى الآن في الرثاء والنياح على الاَموات ، أوّلاً ينحن ويبكين على حمزه سيد الشهداء عليه السلام ثم ينحن ويبكين على موتاهنّ(3). قلت : أسأل منكم ، هل كان الحسين بن علي عليهما السلام أحبّ وأعزّ عند رسول الله صلى الله عليه وآله أم حمزه ؟ قال : الحسين عليه السلام يقيناً . قلت : فهل لو كان رسول الله صلى الله عليه وآله حيّاً بعد شهاده الحسين عليه السلام وقتله كان يقيم مجلس العزاء والبكاء عليه ؟ قال : بلى . هنا قال الشيخ صادق الطريحي البزّاز وقد كان جالساً وسط المجلس : فَلِمَ منعتمونا من مجالسنا ، ومن القراءه والبكاء على الحسين عليه السلام ؟ قال : من منعكم ؟ قال : الساعه رجعنا من دائره الشرطه ، وأخذوا منّا الالتزام من طرف سماحه السيّد بأن يترك الشيعه جميع مجالس العزاء والقراءه على الحسين عليه السلام . قال : إنّ هذا المنع من غير مبرّر ، ثم قال : أذهبُ عصراً إلى الوالي ، وأقول له أن يرفع المنع ، وأرسلْ الشريف شاهين إليكم يبلغكم المطلب ، فجاء الشريف عصراً ليبلغنا بإلغاء المنع ، وأصبحت الشيعه هناك ـ بحمد الله ـ في سعه من جهه إقامه مجالس عزاء الحسين(4)عليه السلام. (1) وهو حديث جواز فاطمه عليها السلام في يوم المحشر ، وعلى رأسها ثوب للحسين عليه السلام مخضب بالدم ، وشفاعتها للباكين على ولدها الحسين عليه السلام وسوف يأتي مع مصادره . (2) روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله) لما رجع من غزوه أحد بعدما دفن القتلى مر بدور بني الاَشهل وبني ظفر فسمع بكاء النوائح على قتلاهن ، فترقرقت عيناه صلى الله عليه وآله وبكى ، ثمّ قال : لكن حمزه لا بواكي له اليوم ، فلما سمع صلى الله عليه وآله الواعيه على حمزه وهو عند فاطمه عليها السلام على باب المسجد قال : ارجعنَّ رحمكنّ الله ، فقد آسَيتنَّ بأنفُسكنَّ . وقيل : فرجع سعد بن معاذ واسيد بن خضير إلى دار بني عبد الاَشهل وأمرا نساءهم أن يتحزمنَّ ثم يذهبنَّ ويبكين على عم رسول الله صلى الله عليه وآله). راجع : السيره النبويه لابن هشام : ج3ص104 ـ 105 ، السيره النبويه لابن كثير : ج 3 ص 95 ، إعلام الورى للطبرسي : ص94 ـ 95 ، بحار الاَنوار للمجلسي : ج 20 ص 98 ـ 99 ، سيره المصطفى لهاشم معروف : ص429 . (3) وهذه السيره الجاريه عندهم بلا شكّ تُعدُ امتثالاً لاَمر رسول الله صلى الله عليه وآله) وتحقيقاً لرغبته في البكاء على حمزه سيد الشهداء عليه السلام (ولكن حمزه لا بواكي له اليوم) ، وتأسّياً بنساء الاَنصار إذ يبدئن بالبكاء على حمزه قبل البكاء على موتاهن ـ كما ورد في الاَخبار والسير ـ فليس من الغريب أن تكون هذه العاده باقيه إلى اليوم في المدينه المنوره منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وآله فقد جاء في ذخائر العقبى : ص 183 عن الواقدي : أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما قال : انّ حمزه لا بواكي له ، لم تبك امرأه من الاَنصار على ميّت بعد قول النبي صلى الله عليه وآله ذلك إلى اليوم إلاّ بدأت بالبكاء على حمزه ، ثمّ بكت على ميّتها ، والذي يؤيد هذه السنه الحسنه أيضاً ما جاء في وسائل الشيعه (ب 88 من أبواب الدفن ح 3) عن محمد بن علي بن الحسين عليه السلام قال : لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وآله) من وقعه أحد إلى المدينه سمع من كلّ دار قتل من أهلها قتيل نوحاً وبكاءاً ، ولم يسمع من دار حمزه عمّه ، فقال صلى الله عليه وآله : لكن حمزه لا بواكي عليه ، فألى أهل المدينه أن لا ينوحوا على ميّت ، ولا يبكون حتى يبدؤا بحمزه فينوحوا عليه ويبكوه ، فهم إلى اليوم على ذلك . (4) الاَحتجاجات العشره للسيد عبدالله الشيرازي قدس سره : ص 43 ـ 45 .