يقول السيد محمد جواد المهري في معرض حديثه عن أيّام دراسته في مدرسه الدعيه بالكويت في عام 1968 م : في الصف الاَول الثانوي كانت لي نقاشات مع معلم مادّه الدين، ولكن بما أنني كنت قد دخلت ذلك الجو توّاً إضافه إلى كون المعلم شيخاً حاد الطباع لم تتمخّض عن نقاشاتنا المتفرقه أيه نتيجه إيجابيه ناهيك عن امتناعه عن الخوض في المواضيع المثيره للاختلاف بعد التفاته إلى وجودي، ومع هذا كانت لي معه أحياناً نقاشات غلبته فيها. مثلاً سأله أحد التلاميذ يوماً: لماذا تأخذ الماء في كفك عند الوضوء وتسكبه من الرسغ إلى المرفق بينما يسكبه أتباع أحد المذاهب الاِسلاميه من المرفق إلى الاَسفل؟ نفخ الاَستاذ لغديه متظاهراً أنه صاحب الحق وقال: الاَيدي عاده مليئه بالشعر ، وإذا سكب الماء من الاَعلى إلى الاَسفل قد لا يصل إلى ما تحت الشعر، ولكن إذا سكب من الرسغ إلى الاَعلى فالماء يصل إلى ما تحت الشعر قطعاً، وهذا أقرب إلى الاحتياط. نهضت على الفور وقلت: اسمح لي يا سيدي! إذن إذا أردت الغسل وجب وضع الرأس على الاَرض ورفع الاَرجل في الهواء لاَن جسم الاِنسان مليء بالشعر، واستناداً إلى الرأي الذي عرضته يجب أن يصل الماء إلى تحت الشعر!! إرتفع فجأه صوت ضحكات الطلاب، فقال الاَستاذ الذي وجد نفسه في وضع محرج للغايه بلهجه عنيفه: لا تناقش عبثاً!! فأنت لا زلت أصغر من أن تعطي رأيك في القضايا الفقهيه!! وأجلسني بكلامه هذا! إلاّ أن الطلاب لم يقنعوا اَبداً. وعلى كل حال انقضت السنه الاَولى من الثانويه ودخلت في السنه الثانيه، كان سني قد ازداد ومطالعتي قد كثرت في هذا المجال خلال العطله الصيفيه، فأصبحت أكثر استعداداً للمواجهه. ومن حسن الصدف أن مدرّس مادّه الدين كان شاباً إلى حد ما وحسن الاَخلاق، كنّا في أول درس من مادّه الدين حين دخل الاَستاذ وكان شاباً يدعى « عمر الشريف ». وبدأ الحديث عن موضوع الهدايه في الاسلام، وضمن حديثه تفسير الآيه الشريفه: ( إنك لا تهدي من أحببت ) (1) ، قال : إن هذه الآيه نزلت في أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وآله حيث حضر عند رأسه وهو في اللحظات الاِخيره من حياته وكلّما طلب منه التلفّظ بالشهادتين، أبى حتّى مات كافراً!! فتأثر النبي صلى الله عليه وآله لاَن عمّه الذي يحبّه يموت كافراً، لكن الله تعالى أوحى إليه هذه الآيه. الهدايه هبه إلهيه يمنحها الله لمن يشاء ويسلبها ممّن يشاء، فلا تحاول هدايه عمّك! اضطرم الغضب في نفسي وما عادت لي طاقه على الصبر، فنهضت بغضب وبدون استئذان وصحت: أستاذ! لابد وأنكم تعتبرون أبا طالب، هذا الرجل المؤمن، كافراً وتأولون بشأنه هذه الآيه لانّه والد علي عليه السلام ، ليس من الاِنصاف اتهام شخص قضى عمره في خدمه الاِسلام وقدّم كل هذا العون للنبي صلى الله عليه وآله وللمسلمين بمثل هذه التهمه ، واعتباره كافراً مع كونه موحّداً حقيقياً وانساناً كاملاً، فمن ذا الذي دافع عن النبي صلى الله عليه وآله يوم هب جميع كفار قريش لمحاربته ومحاصرته اقتصادياً، غير أبي طالب عليه السلام ؟ ابتسم الاَستاذ قائلاً: أولاً: ليس من الصحيح اتهامنا بمثل هذه التهمه، فنحن نرى علياً من أفضل الناس وأخلصهم ، ونعتبره على كل حال أحد خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله ، فنحن إذن لاعداوه لنا معه حتّى نعتبر أباه كافراً، ثم إنه كان شخصاً عطوفاً وكثير المحّبه لمحمد صلى الله عليه وآله ، ولهذا السبب كان يدافع عنه حتّى وإن لم يؤمن بدينه، وهذا الطرح لا ينطوي على أيه مشكله. قلت: بل ينطوي على مشكله كبرى، فالرسول صلى الله عليه وآله أساساً لا يمكنه التعويل على كافر، أو أن يحظى بحمايته على ذلك النطاق الواسع، ألم تقرأوا قوله تعالى في القرآن الكريم: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولّهم منكم فإنَّه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين ) (2) . قال: هذه الآيه تعني اليهود والنصارى. قلت: الواقع أن اليهود والنصارى أهل كتاب، فإن لم يكن تعالى قد أباح له موالاه أهل الكتاب والاستعانه بهم، فهو لايجيز قطعاً اتخاذ مشركي قريش حماه لنا، فضلاً عن هذا فقد جاءت في القرآن آيه اخرى تنهى عن هذه العلاقات العائليه، وتحذر من موالاه الآباء والاِخوه ـ فما بالك بالاَعمام ـ إذا كانوا كفاراً، أو إيجاد صلات وثيقه معهم: ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الاِيمان ومن يتولّهم منكم فأولئك هم الظالمون ) (3) . بل إن الله عزّ وجلّ قد نهى المسلمين في ما يربو على الثلاثين موضع عن إيجاد علاقات مع الكفار، فما بالك باتخاذهم حماه وأنصاراً، هل يجوز أن يعصي الرسول ـ وهو مبلغ آيات الله ـ أوضح أحكام الله ويعصي ربه جهاراً؟ إيمان أبي طالب واذا ما تجاوزنا هذا فثمّه أدلّه جمّه على إيمان إبي طالب، ولعلّي لا أستطيع الآن إحصاءها بإجمعها ، ولكن حسبنا ما جاء في الكثير من أشعاره ، التي يقرّ فيها برسول الله ونبّوته، ويصّرح بإيمانه بالله على الرغم من أنه كان يعيش في وضع لا يسمح له بالتجاهر برأيه إلى هذا الحد. دهش الاَستاذ من هذه الآيات القرآنيه التي بدا وكأنها لم تطرق سمعه من قبل وتقلّب لون وجهه من حال إلى حال وقال: إذا كنت تبغي النقاش فالصف ليس موضعاً للنقاش، والصف لا يختص بك حتّى تكون أنت المتحدّث الوحيد فيه وتستحوذ على وقت نيّف وثلاثين من الطلاب! تعال إلى غرفتنا (غرفه المعلمين) للمناظره في وقت الفرصه. قلت: لا ينبغي هذا! فإمّا أنّك لا تتحدّث في القضايا التي تثير الاِختلاف، وإمّا أنك إذا تحدّثت بها ينبغي أن تتوقّع ردّاً عليها، فأنا اليوم إن لم اُدافع عن أبي طالب، هذا الاِنسان الموحّد الطاهر فسيعتقد هؤلاء الطلاب فيه كعقيدتك فيه، وسأخزى يوم القيامه أمام الله ورسوله. إنني مستعد لمناظرتك حيثما شئت وفي أي موضوع من المواضيع العقائديه ، ولكن إذا سمح لي الطلاب اليوم بقراءه بيتين من الشعر لاَبي طالب عليه السلام لكي لا تهتز عقيدتهم فيه. وفي الحال أيدني الطلاب ، وقالوا: يا أستاذ! الحق معه، دعه يدافع عما يعتقد به. اضطر الاَستاذ للصمت وبقي ينتظر. كنت متجهاً بكل مشاعري إلى أبي طالب ، فاستعنت به وبربّه لاَكون قادراً على أداء حق سيّد مكّه ومولاها في أول اجتماع عام وبحضور الكثير من المستمعين، وليتسنّى لي الدفاع عن هذه الشخصيه المفترى عليها في تاريخ الرساله. فقلت: يا أستاذي! ويا أصدقائي! لم يكن أبو طالب بالذي يعتريه أدنى شك بنبوّه الرسول صلى الله عليه وآله ؛ إذ أن له قصائد كثيره يمدح فيها الرسول ويشهد برسالته فهو بعد أن أخبر قريش بأنَّ صحيفتكم قد أكلتها الديدان ولم يبق منها سوى اسم الله، وهذا ما أخبرني به ابن أخي محمد، وإذا لم تصدقوا فاذهبوا واستخرجوها من داخل الكعبه ، فإن كان قول محمد هذا صحيحاً عودوا إلى رشدكم وآمنوا له، وإن يك كاذباً أسلمته لكم فان شئتم عاقبتموه أو قتلتموه. قالوا: رضينا بهذا! فذهبوا وجاءوا بالصحيفه ووجدوا كلام رسول الله صلى الله عليه وآله صدقاً. لكن من ختم الله على قلبه وألقى على بصره وعلى سمعه غشاوه لايعي الحق، ومن الطبيعي أن يتجاهل هذه المعجزه الكبرى، ومن هنا قالوا لاِبي طالب: هذا أيضاً سحر آخر مما يأتيه ابن أخيك، وهكذا انغمسوا في ضلالهم. دنا أبو طالب من بيت الله وتعلّق باستار الكعبه وقال: « اللهم انصرنا على القوم الظالمين فقد قطعوا رحمنا وانتهكوا حرمتنا ». ثم أنشد قصيده طويله غراء لا أستظهر منها حالياً ـ وللاَسف ـ سوى بيتين، وأنصح الاَخوه بالذهاب إلى مكتبه المدرسه بعد انتهاء هذا الدرس واستخراجها من كتب التاريخ ومطالعتها. نهض أحدهم قائلاً: في أي كتاب وردت مثل هذه القصّه؟ قلت: قصّه الصحيفه معروفه وذكرتها كل كتب التاريخ ويمكنك مراجعه تاريخ اليعقوبي، وسيره ابن هشام، وتاريخ ابن كثير، وطبقات ابن سعد، وعيون الاَخبار لابن قتيبه ، وهي بأجمعها من الكتب المعتبره عند أبناء السنه، وعلى كل حال فقد قال أبو طالب في تلك القصيده الغرّاء: ألا أنّ خير الناس نفساً إذا عُـدَّ سـادات البريه ووالداً أحمد نبيّ الاِله والكريم أخلاقه وهو الـرشـيد بـأصـله المؤيّد ألا يكفي أن أبا طالب يعتبر الرسول « نبي الاِله »؟ اَليست هذه شهاده برساله ونبوّه محمد صلى الله عليه وآله ؟ هذا فضلاً عن بيتين من الشعر يصرّح فيهما بنبوه محمد صلى الله عليه وآله وقد أوردهما البخاري في « التاريخ الصغير »، وابن عساكر في تاريخه، وابن حجر في « الاِصابه » وفيهما يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله بالقول: لقد أكرم الله النبي فأكرم خـلـق الله في الناس محمداً أحمد وشقّ لـه من اسمه ليجلّه فذو العرش محمود وهذا أحمد (1) ظاهر هذين البيتين وباطنهما واضح وصريح، وفيهما دلاله على عظمه شأن أبي طالب ووفره علمه وعلو منزلته. قال الاَستاذ: هذا البيت يُنسب لحسان بن ثابت. قلت: إنه أخذ هذا البيت عن أبي طالب وضمّنه في قصيدته في مدح الرسول، وإذا ما تجاوزنا كل هذا، هناك أيضاً قصه استسقاء أبي طالب وعبدالمطلب واستعانتهما بالرسول وهو لا زال طفلاً، وهي قصه مشهوره، وهذا دليل واضح على إيمانهما له بالنبوّه والرساله الخاتمه من قبل أن تُعرض قضيه رسالته، فهما كانا يعلمان منذ اليوم الاَول ما لهذا الطفل من منزله وقرب عندالله.