ولقد كلمني بعض الملحدين في مجلس الاَمير السعيد ركن الدوله رضي الله عنه فقال لي : وجب على إمامكم أن يخرج فقد كاد أهل الرُّوم يغلبون المسلمين. فقلت له : إنّ أهل الكفر كانوا في أيّام نبيّنا صلى الله عليه وآله أكثر عدداً منهم اليوم ، وقد أسرَّ صلى الله عليه وآله أمره وكتمه أربعين سنه بأمر الله جلَّ ذكره ، وبعد ذلك أظهره لمن وثق به وكتمه ثلاث سنين عمّن لم يثق به، ثمَّ آل الاَمر إلى أن تعاقدوا على هجرانه وهجران جميع بني هاشم والمحامين عليه لاَجله، فخرجوا إلى الشعب وبقوا فيه ثلاث سنين فلو أنَّ قائلاً قال في تلك السنين : لم لا يخرج محمد صلى الله عليه وآله فإنَّه واجب عليه الخروج لغلبه المشركين على المسلمين ؟ ما كان يكون جوابنا له إلاّ أنّه صلى الله عنه وآله بأمر الله تعالى ذكره خرج إلى الشعب حين خرج وبإذنه غاب ومتى أمره بالظهور والخروج خرج وظهر . لاَنَّ النبي صلى الله عليه وآله بقي في الشعب هذه المدَّه حتى أوحى عزَّ وجلَّ إليه أنّه قد بعث أرضهً على الصحيفه المكتوبه بين قريش في هجران النبي صلى الله عليه وآله وجميع بني هاشم، المختومه بأربعين خاتماً ، المعدله عند زمعه بن الاَسود فأكلت ما كان فيها من قطيعه رحم وتركت ما كان فيها اسم الله عزّ وجلّ ، فقام أبو طالب فدخل مكّه، فلمّا رأته قريش قدروا أنّه قد جاء ليسلم إليهم النبي صلى الله عليه وآله حتى يقتلوه أو يرجعوه عن نبوَّته، فاستقبلوه وعظّموه فلمّا جلس قال لهم : يا معشر قريش إنَّ ابن أخي محمد لم أجرب عليه كذباً قطُّ ، وإنّه قد أخبرني أنَّ ربّه أوحى إليه أنّه قد بعث على الصحيفه المكتوبه بينكم الاَرضه ، فأكلت ما كان فيها من قطيعه رحم وتركت ما كان فيها من أسماء الله عزّ وجلّ ، فأخرجوا الصحيفه وفكّوها فوجدوها كما قال، فآمن بعضٌ وبقي بعض على كفره، ورجع النبي صلى الله عليه وآله وبنو هاشم إلى مكّه(2)، هكذا الاِمام عليه السلام إذا أذن الله له في الخروج خرج . وشيء آخر وهو أن الله تعالى ذكره أقدر على أعدائه الكفار من الاِمام ، فلو أن قائلاً قال : لِمَ يمهل الله أعداءه ولا يبيدهم وهم يكفرون به ويشركون ؟ لكان جوابنا له أنَّ الله تعالى ذكره لا يخاف الفوت فيعاجلهم بالعقوبه، و ( لا يسأل عمّا يفعل وهم يسألون )(3) ولا يقال له : لِمَ ولا وكيف ، وهكذا إظهار الاِمام إلى الله الذي غيّبه فمتى أراده أذن فيه فظهر. فقال الملحد : لست أؤمن بإمام لا أراه ، ولا تلزمني حجّته ما لم أره . فقلت له : يجب أن تقول : إنّه لا تلزمك حجّه الله تعالى ذكره لاَنّك لا تراه، ولا تلزمك حجّه الرسول صلى الله عليه وآله لاَنّك لم تره . فقال للاَمير السعيد ركن الدوله رضي الله عنه : أيّها الاَمير راع ما يقول هذا الشيخ فإنّه يقول : إنَّ الاِمام إنّما غاب ولا يُرى لاَنّ الله عزّ وجلّ لا يُرى . فقال له الاَمير رحمه الله : لقد وضعت كلامه غير موضعه وتقوَّلت عليه ، وهذا انقطاع منك وإقرار بالعجز. وهذا سبيل جميع المجادلين لنا في أمر صاحب زماننا عليه السلام ما يلفظون في دفع ذلك وجحوده إلاّ بالهذيان والوساوس والخرافات المموَّهه(4). ____________ (1) هو : الشيخ الاَجل أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن موسى بن بابويه القمّي المشتهر بالصدوق ـ رضي الله تعالى عنه وأعلى مقامه ـ شيخ من مشائخ الشيعه، وركن من أركان الشريعه، رئيس المحدثين، ولد في قم حدود سنه 306 هـ بدعاء الاِمام الثاني عشر الحجه بن الحسن ـ عجل الله تعالى فرجه الشريف ـ ، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر، ووصفه الاِمام عليه السلام في التوقيع الخارج من ناحيته المقدسه بأنه : فقيهٌ خيّر مبارك ينفع الله به، فعمّت بركته ببركه الاِمام عليه السلام وانتفع به الخاص والعام، وبقيت آثاره ومصنفاته مدى الاَيّام، وعمّ الانتفاع بفقهه وحديثه الفقهاء الاَعلام ، وكان جليلاً حافظاً للاَحاديث بصيراً بالرجال ناقلاً للاَخبار لم يُرَ في القمّيين مثله في حفظه وكثره علمه، له نحو ثلاثمائه مصنّف في شتى فنون العلم وأنواعه، وأشهرها : كتاب من لا يحضره الفقيه، عيون أخبار الرضا عليه السلام ، علل الشرائع ، إكمال الدين وإتمام النعمه ، أمالي الصدوق، معاني الاَخبار، توفي ـ عليه الرحمه ـ في بلده الري سنه 381 هـ ، وقبره بالقرب من قبر السيد عبد العظيم بن عبدالله الحسني رضي الله عنه . راجع ترجمته في : تنقيح المقال للعلامه المامقاني : ج3 ص154 ترجمه رقم : 11104، الفهرست للشيخ الطوسي : ص156 ترجمه رقم : 695، روضات الجنات : ج6 ص132 ترجمه رقم : 574 ، وفي أكثر كتبه في المقدمه وفي العديد من الكتب الرجاليه. (2) راجع قصه الصحيفه في : البدايه والنهايه لابن كثير : ج 2 ص 95 ـ 97 ، دلائل النبوه لاَبي نعيم : ج 1 ص 272 ـ 275 ح 205 ، الكامل في التأريخ لابن الاَثير : ج 2 ص 87 ـ 90 ، بحار الاَنوار : ج 19 ص 1 ـ 4 ح 1 . (3) سوره الاَنبياء : الآيه 23 . (4) كمال الدين وتمام النعمه للصدوق : ج1 ص87 ـ 88 .