بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: روضة الطالبين المؤلف: محيى الدين النووي الجزء: 1 الوفاة: 676 المجموعة: فقه المذهب الشافعي تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، الشيخ علي محمد معوض الطبعة: سنة الطبع: المطبعة: الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان ردمك: ملاحظات: روضة الطالبين للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المتوفى سنة 676 ومعه المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للحافظ جلال الدين السيوطي تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معرض الجزء الأول دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
1 جميع الحقوق محفوظة الدار الكتب العلمية بيروت - لبنان يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان صرب: 9424 / 11 تلكس: 41245 هائف: 366135 - 810073
2 بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد الله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) * (1) * (يا أيها الذين اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، أن الله كان عليكم رقيبا) * (2). * (يا الذين آمنوا اتقوا الله قولا سديدا. يصلح لكم أعمالكم، ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) * (3) أما بعد: فنستهل تقدمتنا على روضة الطالبين ببيان فضل العلم وأهله وشروط تعلمه فنقول والله الحمد والمنة. اعلم هدانا الله وإياك إلى سبيل والرشاد ورزقنا الحرص على تحصيل مرضاته فلا بد للعبد حتى يستقيم مع منهج الله سبحانه وتعالى من أربعة أشياء: العلم والعمل والاخلاص والخوف - فمن لم يعلم فهو أعمى ومن لم يعمل بما
3 علم فهو محجوب ومن لم يخلص العمل فهو مغبون ومن لم يلازم الخوف فهو مغرور كما هو معلوم ومشهور. فأما فضائل العلم وأهله فأكثر من أن تحصى وأعظم من أن تستقصى من الآيات والأحاديث النبوية ولنتبرك بذكر شئ منها. فأما الكتاب. قال الله تعالى: * (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) * (1) وقال تعالى: * (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) * (2) وقال تعالى: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط) * (3) بدأ الله سبحانه وتعالى بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بالعلماء دون سائر خلقه فيكون من عداهم دونهم وهو المطلوب. وقال تعالى: * (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما) * (4) وعادة العرب في سياق الامتنان تأخير الأفضل وتقديم المفضول على الأفضل فتكون موهبته عليه السلام من العلم أفضل من موهبته من الانزال المتضمن للبنوة والرسالة وهذا أشرف. وقال تعالى حكاية عن سليمان عليه السلام في أمر الهدهد: * (لأعذبنه عذابا شديدا) * فلما جاء الهدهد قال: * (أحطت بما لم تحط به) * (5) اشتدت نفسه واستعلت بما عليه على سيد أهل الزمان ورسول الملك الديان مع عظم ملكه وهيبة مجلسه وعلم الهدهد بحقارة نفسه. فلولا أن العلم يرفع من
4 الثرى إلى الثريا لما عظم الهدهد بعد أن كان نسيا منسيا. فلا جرم أبدل له العقوبة الاكرام النفيس وأسبع عليه خلع الرسالة إلى بلقيس. وقال تعالى: * (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري عن تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه) * (1) فنقول إن خير البرية من يخشى الله وكل من يخشى الله تعالى فهو عالم فخير البرية عالم فأثبت الخشية لخير البرية وهو المطلوب. وقال الله تعالى: * (إنما يخشى الله من عبادة العلماء) (2). أضاف الخشية إلى كل عالم على وجه الحصر فيكون كل من يخشى الله تعالى فهو عالم وهو المطلوب. وأما السنة: - فعن معاوية رضي الله عنه قال: رسول صلى الله عليه وآله من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي ولا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك (3) والقاعدة أن المبتدأ مخصور في الخير والشرط اللغوي محصور في مشروطه لأنه سبب فيكون المراد: الخير محصور في المتفقة فمن ليس بمتفقه لا خير فيه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له به طريقا إلى الجنة وما اجتمع قوم في مسجد من مساجد الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وخفت بهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده (4)
5 فالطريق الذي يسلك به فيها إلى الجنة فمعناه أن هذه الحالة سبب موصل إلى الجنة. وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسوله الله صلى الله عليه وآله من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا جوف الماء وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر (1) وأما وضع الملائكة أجنحتها فقيل تكف عن الطيران لتجلس فتسمع منه وقيل تكف عن الطيران توقيرا له وقيل ستكف عن الطيران لتبسط أجنحتها له بالدعاء ولو لم تعلم الملائكة أن منزلته عند الله تستحق ذلك له فعلته. وأما استغفار هم فهو طلب ودعاء له بالمغفرة ظنك بدعاء قوم لا يعصون الله ما أمر هم ويفعلون بالبدر ففيه أمور: منها: أن العالم يكمل بقدر اتباعه للنبي صلى الله عليه وآله لان النبي صلى الله عليه وآله هو الشمس لقوله تعالى: * (إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا) * (2). والسراج الشمس لقوله تعالى: * (وجعلنا سراجا وهاجا) * (3) ولما كان القمر يستفيد من الشمس وكلما كثر توجهه إليها كثر ضوءه حتى يصير بدرا
6 فكذلك العالم كلما كثر توجهه للنبي صلى الله عليه وآله وإقباله عليه توفر كماله. ومنها: أن العالم إذا أعرض عن فهم النبي صلى الله عليه وآله فسد حاله كما أن القمر إذا حيل بينه وبين الشمس كسف. ومنها: ان الكوكب مع البدر كالمطموس الذي لا أثر له وضوء البدر عظيم المنفعة منتشر الأضواء منبعث الأشعة في الأقطار برا وبحرا وهذا هو شأن العالم، وأما العابد فكالكوب حينئذ لا يتعدى نوره محله ولا يصل نفعه إلى غيره. وعن أبي أمامة الباهلي قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وآله رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الله وملائكة وأهل السماوات والأرض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير (1) وهذا الحديث أبلغ من الحديث السابق فإن فضله عليه السلام على أدنا هم أعظم من فضل القمر على الكواكب أضعافا مضاعفة. أولا: إن العلم معتبر في الإلهية وكفى بذلك شرفا عند كل عاقل على العبادات وغيرها. ثانيا: إن كل خير مكتسب في العالم بسبب العلم وكل شر يكتسب في العالم فهو بسبب الجهل. ثالثا: إن الله تعالى لما أراد بيان فضل آدم على الملائكة وإقامة الحجة عليهم علمه أسماء الأشياء كلها ثم سألهم فلم يعلموا وسأله فعلم فاعترفوا حينئذ بفضيلته وأمرهم بالسجود له في لعنته وهذا حال العلم بأسماء الأشياء أو علامتها على الخلاف في من الله تعالى بقبيح لعنته وهذا حال العلم بأسماء أو علامتها على الخلاف في ذلك فكيف العلم بحدود الدين وما يتوصل به إلى رب العالمين. فإن العالم ينقل عن الحق للخلق فيقول: إن الله تعالى حرم عليكم كذا
7 وأوجب عليكم كذا وأذن لكم في كذا فهو القائم بأمر الله تعالى في خلقه وموصله إلى مستحقه والدافع عن تحريف المحرفين وتبديل المبدلين وشبه المبطلين. وكفى بذلك شهيدا على فضل العلم والعلماء. شروط تعلمه فأما عن شروط تعلم العلوم وتعليمها فكثيرة: أحد ها: أن يقصد بها ما وضع ذلك العلم له فلا يقصد غير ذلك كاكتساب مال أو جاه أو مغالبة خصم أو مكابرة. ثانيا: أن يقصد العلم الذي تقبله طباعه إذ ليس كل أحد يصلح لتعلم العلوم ولا كل من يصلح لتعلمها يصلح لجميعها لجميعها بل كل ميسر لما خلق له. ثالثا: أن يعلم غاية العلم ليكون على ثقة من أمره. رابعا: أن يستوعب ذلك العلم من أوله إلى آخره تصورا وتصديقا. خامسا: أن يقصد فيها الكتب الجيدة المستوعبة لجميع مسائل العلم. سادسا: أن يقرأ على شيخ مرشد وأمنى ناصح ولا يستبد بنفسه وذكائه. والله در القائل: - من يأخذ العلم عن شيخ مشافهة * يكن عن الزيغ والتحريف في حرم من يكن آخذا للعلم عن صحت * فعلمه عند أهل العلم كالعدم وقال آخر: أمدعيا علما وليس بقاري * كتابا على شيخ به يسهل الحزن أتزعم أن الذين يوضح مشكلا * بلا مخبر تالله قد كذب الذهن وإن ابتغاء العلم دون معلم * كموقد مصباح وليس له دهن سابعها: أن يذاكر الاقران والانظار طالبا للتحقيق لا المغالبة بل للمعاونة على الفائدة بل للاستفادة.
8 ثامنا: أنه إذا علم ذلك العلم لا يضيعه بإهماله ولا يمنعه مستحقه ولا يؤتيه غير مستحقه. تاسعا: أن لا يعتقد في علم أنه حصل مقدارا لا تمكنه الزيادة عليه فذلك نقص وحرمان. عاشرا: أن يعلم أن لكل علم حدا فلا يتجاوزه ولا ينقص عنه. وبهذا يتضح لنا أن العلم حياة للقلوب وبه يعرف الحلال والحرام فمن تحلى به فقد ساد. الفقه وتطوره إن المقصد الأسنى من علم الفقه تطبيق الأحكام الشرعية على أفعال الناس وأقوالهم فالفقه هو مرجع القاضي في قضائه والمفتي في فتواه ومرجع لكل مكلف لمعرفة الحكم الشرعي فيما يصدر عنه من أقوال وأفعال وهذه الغاية منه. فيطلق الفقه في اللغة على الفهم مطلقا سواء كان المفهوم دقيقا أم غيره وسواء كان غرضا لمتكلم أم غيره (1). وفي الاصطلاح: هو العلم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية (2). وقيل الفقه علم مستنبط يعرف منه أحكام الدين. وقال النسفي: الفقه هو الوقوف على المعنى الخفي الذي يحتاج في حكمه إلى النظر والاستدلال. يقول ابن خلدون (3) رحمه الله. الفقه معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصه الشارع لمعرفته من الأدلة فإذا استخرجت الاحكام من تلك الأدلة قيل لها فقه.
9 ومن تتبع تاريخ النظم والشرائع يستبين أن أي نظام في الحياة منذ بدأت وكان لها تاريخ لم يقم طفرة ولم يتكون جملة على نحو متماسك بل لابد أن يمر بجميع الأدوار التي يمر بها كل كائن ذي حياة حتى يصل إلى غايته من النضج وهكذا شأن تحت ظل قواعد كلية وأصول عامة بوحي من الله تعالى وتلك القواعد والأصول قد احتواها القرآن الكريم وسنة وسوله صلى الله عليه وآله التشريعية قولا وعملا و تقريرا. ثم جاء دور البناء على تلك الأصول والأسس ثم جاء دور النضج واستكمال مقوماته والارتفاع به على يد طائفة من الأئمة المجتهدين المخلصين الذين كان لهم صدق في القول والفعل فوصلوا به إلى غايته. وتنحصر هذه الأدوار فيما يأتي: - أولا: التشريع في عهد النبي الخاتم صلى الله عليه وآله لقد جاء الاسلام إلى كافة لكنه بدأ بإصلاح شأن العرب الذين اختارهم. الله لنصرة دينه ودعاء إليه وكان حال العرب آنذاك قائما على الوثنية في الدين والفوضى في نظام المجتمع فكان لابد من خلاصهم من هذه الفوضى واستخلاصهم لنصرة سبحانه وتعالى ويوجههم نحو إخلاص العبادة له تعالى ويمحو من بينهم العادات المستخبثة ويطبعهم على غرار حسن من الأخلاق الفاضلة والنوايا الكريمة، وبأن يصح لهم نظاما حكما يتناول كل شؤونهم ليسيروا على هدية في نواحي الحياة المختلفة ولقد اتجه الاسلام في أول أمره إلى إصلاح العقيدة فإنها القاعدة التي بنى عليها ما عداه حتى إذا تم له الغرض الأول أخذ فيما يليه من وضع نظم الحياة فشرع لهم الاحكام التي تتناول شؤونهم وتفصل بحياة الفرد والجماعة في كل ناحية من نواحيها في العبادات والمعاملات والجهاد والجنايات والمواريث والوصايا والزواج والطلاق والايمان النذور والقضاء ومتعلقاته وكل مسائل الفقه الاسلامي. وطريقة التشريع في هذا العصر كانت سائرة على نهج واحد لان السلطة التشريعية كانت للنبي صلى الله عليه وآله وحده دون أن يتدخل فيها أحد سواه وأن المرجع الأساسي له صلى الله عليه وآله كان الوحي بقسميه المتلو وهو القرآن وغيره المتلو وغير المتلو وهو السنة.
10 قال الله تعالى * (وما ينطق عن الهوى طن هو إلا وحى يوحى) *. فلم يكن ثمة خلاف لان المصدر الإلهي قد أفاض بالنور على الأمة البشرية. ثم يأتي الدور الثاني وهو بعد التقاء النبي صلى الله عليه وآله بالرفيق الاعلى وهو ما يسمى عند الباحثين بالتشريع في عهد الخلفاء الراشدين فلما توفى الحبيب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله تاركا وراءه أصحابه رضي الله عنهم الذين رأوه وحفظوا كلامه وشاهدوا أفعاله فلم يترك لهم فقها مدونا إنما ترك لهم جملة من الأصول والتشريعات كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله سواء كانت أقوال أو أفعال أو تقريرات وكان هذا كفاية لهم في شؤونهم آنذاك ولكن لما استعت رقعة الاسلام وامتد سلطانه إلى أمم إلى تنظيم ذلك وتقعيده سواء في هذا أمور الدين أو أمور الدنيا فبدأ الفقه حينئذ يتطور وأخذ يخطو الصحابة للأحكام في ذلك العصر. قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصوم نظر في كتاب الله فإن وجد فيه ما يقضي به بينهم قضى وإن لم يجد في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة قضى بها فإن أعياه خرج فسأل المسلمين أتاني كذا وكذا فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء فربما اجتمع عليه النفر كلهم يذكر فيه عن رسول الله صلى عليه وسلم فضاء فإن أعياه أن يجد فيه سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم فاستشار هم فإن أجمع رأيهم على شئ قضى به. وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فكان اعتماد هم في فتاواهم على الكتاب والسنة والاجماع والقياس (1). وبعد عصر الخلفاء الراشدين وكبار أصحاب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أوائل القرن الثاني من هجرة سيد الأنام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11 وكان التشريع في هذا الدور يسير على سنن ما كان عليه في الدور السابق من حيث الاعتماد على الكتاب والسنة والاجماع والقياس ويضاف إلى ذلك فتاوى أصحاب الصدر الأولى فالخطة التشريعية في هذا العصر هي بعينها في العصر الأول غير أن مبدأ الشورى لم يعدله من المنزلة وما كان له في العصر السابق لاختلاف المسلمين وتفرقهم بعد مقتل عثمان رضي الله عنه وانقسموا بسبب ذلك إلى خوارج وشيعة وأهل السنة والجماعة وهو جمهور الأمة وأنتج هذا الخلاف تشعب الخلافات الفقهية وظهور المدارس الكثيرة وانقسام العلماء في ذلك العصر إلى أهل حديث وأهل رأي ولكل منهما مدرسته إلى الخاصة التي أنشأها وكان لها دور كبير في نشأة الفقه الاسلامي وتطوره ثم بدأ الفقه إلى نمو آخر في أول القرن الثاني من هجرة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وينتهي في منتصف القرن الرابع من الهجرة وهذا العصر كما يقول عنه الباحثون هو العصر الذهبي للتشريع الاسلامي فقد نضج وأثمر ثروة تشريعية أغنت الدولة الاسلامية بالقوانين والأحكام على سعة أرجائها واختلاف شؤونها وتعدد مصالحها واتجه المسلمون في هذا العصر إلى ما لم يتسع له زمن أسلافهم ولم تتهيأ لهم أسبابه فأفرغوا كثيرا من جهود هم في التدوين والتصنيف وتنظيم المسائل وفي تتهيأ لهم أسبابه فأفرغوا كثيرا من جهودهم في التدوين والتصنيف وتنظيم المسائل وفي هذا العهد نشأ أعلام الهم مواهبهم واستعداداتهم وساعدتهم البيئة التي عاشوا فيها على استثمار هذه المواهب والاستعدادات فتكونت الملكات التشريعية لكثير من أفذاذ هم أمثال أبي حنيفة ومالك وبهذا فقد تضخم الفقه الاسلامي ونما وعلا وأصبح شاملا لما تجدد مع الحضارة الحديثة من الوقائع ومقتضيات العمران. في ذكر شئ من كتب المذهب وبيان المعتمد منها اعلم أن كتب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى صنفها في صنفها في الفقه أربعة: الام - الاملاء - البويطي ومختصر المزني. هذا في الجديد وأما القديم فالأمالي ومجمع الكافي وعيون المسائل والبجر المحيط. فاختصر الأربعة الأولى المتحدثة بلسان الجديد من مذهب الإمام الشافعي إمام
12 الحرمين في كتابه النهاية وقيل غير ذلك واختصر الغزالي رحمه الله النهاية إلى البسيط ثم اختصر البسيط إلى الوسيط وهو إلى الوجيز ثم اختصر الوجيز إلى الخلاصة واختصر المصنف رحمه الله المحرر للرافعي إلى المنهاج ثم اختصر الشيخ زكريا الأنصاري المنهاج إلى المنهج ثم اختصر الجوهري المنهج إلى النهج وشرح الرافعي الوجيز بشرحين صغير لم يسمه وكبير سماه العزيز فاختصر المصنف رحمه الله العزيز إلى الروضة وهو الكتاب الذي نحن بصدده ثم اختصر ابن مقري الروضة إلى الروض وشرحه شيخ الاسلام زكريا الأنصاري في كتاب سماه أسنى المطالب ثم اختصر ابن حجر الروض في كتاب سماه النعيم واختصر الروضة أيضا المزجد في كتاب سماه العباب فشرحه ابن حجر شرحا جمع فيه فأوعى سماه الايعاب واختصر الروضة الحافظ السيوطي مختصرا سماه الغيثية ونظمها نظما سماه الخلاصة واختصر القزويني العزيز شرح الوجيز إلى الحاوي الصغير فنظمه ابن الوردي في بهجته فشرحه شيخ الاسلام بشرحين فأتى ابن المقري فاختصر الحاوي الصغير إلى الارشاد فشرحه ابن حجر في شرحين. قال ابن حجر الهيثمي رحمه الله: في أثناء كلام من ذيل تحرير المقال بعد أن تكلم عن المختصرات قال: ثم جاء النووي واختصر هذا الشرح يريد العزيز - ونقحه وحرره واستدرك على كثير من كلامه مما وجده محلا للاستدراك وسمى هذا المختصر روضه الطالبين - وهو الذين نحن بصدد تحقيقه - قال: ثم جاء المتأخرون بعده فاختلفت أغراضهم فمنهم المحشون وهم كثيرون أطالوا النفس في ذلك حتى بلغت حاشية الامام الأذرعي وهي التوسط والفتح بين الروضة والشرح إلى فوق الثلاثين سفرا وكذلك الأسنوي حشي في كتاب سماه المهمات وكذلك ابن العماد والبلقيني فجمع الزركشي حواشيهم في كتابه المشهور الخادم وقد مرت الإشارة إليه. قال العلامة ابن حجر وغيره من المتأخرين. قد أجمع المحققون على أن الكتب المتقدمة على الشيخين لا يعتد بشئ منها إلا بعد كمال البحث والتحرير حتى يغلب على الظن أنه راجح في مذهب الشافعي ثم قالوا هذا في حكم لم يتعرض له الشيخان أو أحدهما تعرضا له فالذي أطبق عليه المحققون أن المعتمد ما اتفقا عليه فإن اختلفا ولم يوجد لهما مرجح أو وجد ولكن على السواء فالمعتمد ما قاله
13 النووي وإن وجد لأحدهما دون الآخر فالمعتمد ذو الترجيح. قال الكردي رحمه الله تعالى في المسلك العدل والفوائد المدنية: فإن تحالفت كتب النووي فالغالب أن المعتمد التحقيق فالمجموع فالتنقيح فالروضة والمنهاج ونحو فتواه معتمدا لكنه نادر حدا وقد تتبع من جاء بعدهما كلامهما وبينوا المتعمد من غيره بحسب ما ظهر لهم ثم إن لم يكن للشيخ ترجيح فإن كان المفتى من أهل الترجيح في المذهب أفتى بما ظهر له ترجيحه مما اعتمد أئمة مذهبة ولا تجوز له الفتوى بالضعيف عندهم وإن ترجح عنده لأنه إنما يسأل عن الراجح في المذهب لا عن الراجح عنده إلا إن نبه على ضعفه وأنه لا يجوز تقليده للعمل به حيث كان كذلك فلا بأس وإن لم يكن من أهل الترجيح. المخطوطات التي استعنا بها في كتابة الحاشية 1 - البيان. تأليف الامام أبي الخير يحيى بن سالم بن سعيد بن عبد الله بن محمد بن موسى به عمران الشهير بالعمراني اليمني المولود سنة 558. - نسخة تحت رقم (1543). 2 - التاج في زوائد الروضة على المنهاج: تأليف نجم الدين محمد بن عبد الله ابن قاضي عجلون المتوفي سنة 786. نسخة تحت رقم (17017). 3 - التدريب: لشيخ الاسلام سراج الدين أبي حفص عمر بن رسلان بن نصير بن صالح الكناني البلقيني المولود الثاني عشر من رمضان سنة 724 المتوفى عاشر ذي القعدة سنة 805. نسخة (527). 4 - التعقيبات على المهمات: تأليف العلامة شهاب الدين أمحمد بن العماد ابن يوسف الأقفهيسي المتوفي سنة 808. - نسخة تحت رقم (1584). 5 - مختصر الروضة: اختصار العلامة الأصفوني من علماء القرن الثامن.
14 - نسخة تحت رقم (16790) 6 - المهمات في شرح الرافعي والروضة صاحب جواهر البحرين. - نسخة تحت رقم (1684). 7 - فتح العزيز على كتاب الوجيز: للامام أبي القاسم عبد الريم الرافعي القسم المخطوط منه. - نسخة تحت رقم (1681) 8 - قوت المحتاج شرح المنهاج: للأذرعي صاحب التوسط ذكره. - نسخة (1723)، (17825). 9 - زوائد روضة الطالبين: جمعها الصدر الكبير شرف الدين أبي عمر عثمان بن حمزة بن عثمان الرومي من علماء القرن السابع. - نسخة تحت رقم (1652). 10 - الشامل: تأليف العلامة أبي نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد بن أحمد بن جعفر المعروف بابن الصباغ المولود ببغداد سنة 400 المتوفى يوم الثلاثاء ثالث عشر جمادى الأولى سنة 477 ببغداد. - نسخة تحت رقم (1658). 11 - الحاوي: تأليف الامام أبي الحسن علي بن محمد بن حبيب البصري المعروف بالماوردي المتوفي يوم الثلاثاء من شهر ربيع الأول سنة 50 4 وعمره ست وثمانون سنة - نسخ رقم (1600)، (19303). 12 - جواهر البحرين في تناقض الحبرين: تأليف جمال الدين أبي محمد عبد الرحيم بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن إبراهيم الأمولي الأسنوي المولود بإسنا من صعيد مصر في العشر الأخير من ذي الحجة سنة 704 المتوفي سنة 772. - نسخة تحت رقم (6 159). 13 - تعليقة الفوائد على شرح الرافعي والروضة. تأليف أبي عبد الرحمن بن زهرة الشافعي.
15 - نسخة تحت رقم (6985). 14 - التوسط والفتح بين الروضة والشرح تأليف الامام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن حجر بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الغني بن محمد بن أحمد بن سالم بن داود بن يوسف بن خالد الأذرعي المولود بأذرعات في وسط سنة 807 المتوفي في خامس عشر جمادى الآخرة سنة 783. - نسخ 1576، (1718)، (19259). 15 - ارشاد المحتاج إلى شرح المنهاج: تأليف قاضي القضاة بدر الدين أبي الفضل محمد بن أبي بكر المعروف بقاضي شهبة الأسدي المتوفي سنة 874. - نسخة دار الكتب المصرية تحت رقم (1528). 16 - الاعتناء في الفرق والاستثناء تأليف الشيخ الامام بدر الدين محمد بن أبي بكر بن سليمان البكري وهو بتحقيقنا (فمنا بتحقيقه على ثلاث نسخ). 17 - البحر المحيط في الشرح الوسيط: تأليف الامام نجم الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي الحرم مكي المخزومي المشهور بالقمولي المتوفى في سنة 727 وهو في الثمانين. - نسخة دار الكتب تقع تحت رقم (19258). 19 - المعاياة في العقل لأبي العباس أحمد بن محمد الجرجاني الشافعي المتوفى سنة 482. - نسخة تحت رقم (915) فقه شافعي. 20 - خادم الرافعي والروضة في الفروع. قال ابن حجر عنه ثم جمع الخادم طريق المهمات فاستمد من التوسط للأذرعي كثيرا وهي كثيرا وهي تقع في أثني عشر جزءا وهي خزانة دار الكتب المصرية.
16 21 - حاشية الكبري: وهي نكت على روضة الطالبين وهي نسخة محفوظة بمكتبة مسجد بدمياط بمصر ونسخة أخرى بمكتبة البلدية بالإسكندرية (1). المصنف وزوائده قال لفيف من أهل العلم: إن الشارح إذا زاد على الأصل فالزائد لا يخلوا إما أن يكون بحثا أو اعتراضا إن كان بصيغة البحث والاعتراض أو تفضيلا لما أجمله أو تكميلا لما نقصه وأهمله والتكميل إن كان له مأخذ من كلام سابقة أو لا حقه فابراز وإلا فاعتراض وصيغ الاعتراض ويتوجه وما اشتق منه أعم منه من غيره ونحو إن قيل له لما لا يندفع له يزعم المتعرض ويتوجه وما اشتق منه أعم منه من غيره ونحو إن قيل له مع ضعف فيه وقد يقال ونحوه لما فيه من ضعف شديد ونحوه لقائل لما فيه ضعف ضعيف وفيه بحث ونحوه لما فيه قوة سواء تحقق الجواب أولا وصيغة المجهول ماضيا أو مضارعا ولا يبعد. ويمكن كلها صيغ التمريض تدل على ضعف مدخولها بحثان كان أو جوابا. وأقول وقلت لما هو خاصة القائل. وإذا قيل حاصله أو محصله أو تحريره أو تنقيحه أو نحو ذلك فذلك إشارة إلى قصور في الأصل أو اشتماله على حشو. وتراهم يقولون في مقام إقامة شئ مقام آخر مرة تنزل منزلة وأخرى أنيب منابه وأخرى أقيم مقامه فالأول في إقامة الاعلى مقام الأدنى والثاني بالعكس والثالث في المساواة وإذا رأيت واحد منها مقام آخر فهناك نكته. يقول السبكي في طبقاته (2): ولا يخفي على ذي بصيرة أن لله تبارك وتعالى عناية بالنووي ومصنفاته ويستدل على ذلك بما يقع في ضمنه من فوائد حتى لا تخلو ترجمته عن الفوائد. فنقول: ربما غير لفظا من ألفاظ الرافعي إذا تأمله المتأمل استدركه عليه وقال: لم يف بالاختصار ولا جاء بالمراد نجده عند التنقيب قد وافق الصواب ونطق بفصل
17 الخطاب وما يكون من ذلك عن قصد منه لا يعجب من فإن المختصر ربما غير كلام من يختصر كلامه لمثل ذلك وإنما العجب من تغيير يشهد العقل بأنه لم يقصد إليه ثم وقع فيه على الصواب وله أمثله: منها قال الرافعي رحمه الله في كتاب الشهادات في فصل التوبة عن المعاصي الفعلية في التائب أنه يختبر مدة يغلب على الظن فيها أنه أصلح عمله وسريرته وأنه صادق في توبته. وهل تتقدر تلك المدة؟ قال قائلون: لا، إنما المعتبر حصول غلبة الظن بصدقه ويختلف الامر فيه بالاشخاص وأمارات الصدق هذا ما اختاره الامام والعبادي واليه أشار صاحب الكتاب بقوله حتى يستبرئ مدة فيعلم إلى آخره، وذهب آخرون إلى تقديرها وفيه وجهان قال أكثر هم يستبرأ سنة، انتهى بلفظه فإذا تأملت قوله قال أكثر هم وجدت الضمير فيه مستحق العود على الآخرين الذاهبين إلى تقديرها، لا إلى مطلق الأصحاب، فلا يلزم أن يكون أكثر الأصحاب على التقدير، فضلا عن التقدير بستة، فهذا ما يعطيه لفظ الرافعي، في الشرح الكبير وصرح النووي في الروضة بأن الأكثرين على تقدير المدة بسنة فمن عارض بينها وبين الرافعي بتأمل قضى بمخالفتها له لان عبارة الشرح لا تنقضي أن أكثر الأصحاب على التقدير، وأنه سنة، بل إن أكثر المقدرين الذين هم من الأصحاب على ذلك، ثم يتأيد هذا القاضي بالمخالفة بأن عبارة الشافعي رضي الله عنه ليس فيها تقدير بسنة، ولا بستة أشهر، وإنما قال: أشهر، وأطلق الأشهر رضي الله عنه إطلاقا، إلا أن هذا إذا عاود كتب المذهب وجد الصواب ما فعله النووي، فقد عزا التقدير، وإن مقداره سنة إلى أصحابنا قاطبة، فضلا عن أكثر هم، الشيخ أبو حامد الأسفراييني في تعليقة وهذه عبارته: قال الشافعي: ويختبر مدة أشهر ينتقل فيها من السيئة إلى الحسنة، ويعف عن المعاصي. وقال أصحابنا: يختبر سنة انتهى. وكذلك قال القاضي الحسين في تعليقته ولفظه قال الشافعي: مدة من المدد. قال أصحابنا: سنة انتهى. وكذلك الماوردي، ولفظه: وصلاح عمله معتبر بزمان اختلف الفقهاء في
18 حده، فاعتبر بعضهم بستة أشهر، واعتبره أصحابنا بسنة كاملة) انتهى. وكذلك الشيخ أبو إسحاق، فإنه قال في المهذب: وقدر أصحابنا المدة بسنة وكذلك البغوي في (التهذيب)، وجماعات كلهم عزوا التقدير بالسنة إلى الأصحاب، فضلا عن أكثر هم، ولم يقل: بعض الأصحاب إلا القاضي أبو الطيب، والامام، ومن تبعهما، فإنهم قالوا: قال بعض أصحابنا تقدر بسنة، وقال بعضهم، زاد الامام أن المحققين على عدم التقدير. ومن تأمل ما نقلناه، أيقن بأن الأكثرين على التقدير بسنة، وبه صرح الرافعي في (المحرر) ولوح إليه تلويحا في الشرح العصير)، فظهر حسن صنع النووي، وإن لم يقصد، عناية من الله تعالى به. وصف مخطوطات الكتب وهي تنقسم إلى قسمين: أولا: النسخ التي اعتمدنا عليها في ضبط النص. الأولى: وهي النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية مكتوبة بخطوط مختلفة بخط جيد واضح وهي كاملة لا نقص فيه وقع آخرها قوله: فرغ من نسخ هذه المجلدة يوم الجمعة قبل الزوال خامس عشرين جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين وسبعمائة بمدينة السلام بغداد حماها الله وصانها مع سائر المسلمين اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. وقد جعلنا تلك النسخة أصلا للكتاب ورمزنا له بالرمز (أ). الثانية: وهي النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية مكتوبة نسخ غير أنها تنتهي إلى نهاية كتاب الطلاق وقد أشرنا إلى ذلك في حاشيتنا على الكتاب ورمزنا لها بالرمز (ب). الثالثة: وهي النسخة المطبوعة التي قام المكتب الاسلامي فيها بجهد مشكور ورمزنا لها بالرمز (ط). وقد قمنا بمقابلة هذه النسخ فأثبتنا فروقها وبذلنا جل جهدنا حتى خرج النص سليما خاليا من التصحيف والتخريف وقد تكلمنا عن طريقة الامام النووي - رضي الله
19 عنه - من خلال تقدمتنا على الكتاب ووضعنا في أسف الكتاب حاشية استعنا فيها بما سبق ذكره من المخطوطات فضلا عن المطبوعات وسميناها (هداية الراغبين بتحقيق روضة الطالبين) ولله الحمد والمنة. ثانيا: النسخ التي ألحقنا بالكتاب. الأول: المنتقى من الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع للحافظ السيوطي وهي نسخة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (521) مجاميع (5066) ميكروفيلم مكتوبة بحظ جيد واضح، وقد ألحقتها بالكتاب تتميما للفائدة بعد بند نصها وتحقيقها. الثانية: المنهج السوي في ترجمة الامام النووي للحافظ جلال الدين السيوطي وهي النسخة المحفوظة بدار الكتب المصرية تحت رقم (3943) تاريخ (35323) ميكروفيلم مكتوبة بحظ جيد واضح وقد ألحقتها في بداية الكتاب تكميلا لتقدمتنا على هذا الكتاب. نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون عملنا خالصا لوجهه الكريم وأن ينفع به المسلمين. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
20 صور مخطوطات كتاب الروضة وبعض الكتب الأخرى التي استفيد منها في كتاب الحاشية
21 بداية كتاب روضة الطالبين
23 باب تارك الصلاة من الروضة
24 كتاب الزكاة من الروضة
25 بداية كتاب الجنايات من الروضة
26 آخر ربع النكاح من الروضة
27 التحقيق للنووي
28 مسائل الخلاف للصيمري
29 طريقة القاضي حسين
30 أول ورقة من طريقة القاضي حسين
31 آخر المجلد الأول من طريقة القاضي حسين
32 تعليقة القاضي حسين
33 أول روقة من التعليقة للقاضي حسين
34 آخر ورقة من التعليقة
35 كتاب الفروق للجرجاني
36 أول ورقة من الفروق
37 آخر ورقة من الفروق
38 كتاب الحدود والاحكام الفقهية
39 أول ورقة من كتاب الحدود والاحكام الفقهية
40 آخر ورقة من كتاب الحدود والاحكام الفقيهة
41 منحة الراغبين للبكري
42 الشرح الكبير للرافعي
43 التاج في زوائد المنهاج لابن قاضي عجلون
44 خادم الرافعي والروضة
45 كتاب المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي
47 صورة الورقة الأولى من المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي
49 صورة الورقة الأخيرة من المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي
50 بسم الله الرحمن الرحيم المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي الحمد لله العزيز الحكيم، الرؤوف الرحيم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رب السماوات والأرض وما بينهما، ورب العرش الكريم.. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، المخصوص بالاصطفاء والتكريم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولى الفضل الجسيم. هذه أوراق ترجمت (1) فيها الشيخ الامام، شيخ، الاسلام، ولي الله تعالى: محيي الدين، أبا زكريا النووي، رحمه الله ذكرت فيها بعض مناقبه الكريمة، وسميتها: المنهاج السوي، في ترجمة الامام النووي، فأقول: هو الإمام أبو زكريا محيي الدين، يحيى بن شرف بن مري بضم الميم، وكسر الراء، كما رأيته مضبوطا بخطه - ان حسن بن حسين بن محمد بن جمعة بن حرام - بكسر الحاء المهملة، وبالزاي المعجمة - الحزامي، النووي، ثم الدمشقي.
51 محرر المذهب ومهذبه، ومحققه ومرتبه، إمام أهل عصره علما وعبارة، وسيد أوانه ورعا وسيادة، العلم الفرد، فدونه واسطة الدر والجوهر، السراج الوهاج فعنده يخفي الكوكب الأزهر، عابد العلماء وعالم العبادة، وزاهد المحققين ومحقق الزهاد. لم تسمع بعد التابعين بمثله أذن، ولم ما يدانيه عين، وجمع له في العلم والعبادة محكم النوعين. راقب الله في سره وجهره، ولم يبرح طرفة عين عن امتثال أمره، ولم يضيع من عمره ساعة في غير طاعة مولاه، إلى أن صار قطب عصره، وحوى من الفضل ما حواه، وبلغ ما نواه، فتشرفت به نواه، ولم يلف له من ناواه. وإذا الفتى الله أخلص سره * فعليه منه رداء طيب يظهر وإذا الفتى جعل الاله مراده * فلذكره عرف ذكي ينشر أثنى عليه الموافق والمخالف وقبل، النائي والآلف، وشاع ثناؤه الحسن بين المذاهب، ونشرت له راية مجد تخفق في المشارق والمغارب من سلك منهاجه أيقن بروضة قطوفها دانية، ومن تتبع آثاره فهو مع الصالحين في رياض عيونها جارية ومن لزم أذكاره ومهذب أخلافه، فالخير فيه مجموع، ومن استقى من بحره ظفر بأروى وأصفى ينبوع، فيه ثبت الله أركان المذهب والقواعد، وبين مهمات وليس على الله بمستنكر * أن يجمع العالم في واحد وقال فيه الشيخ تاج الدين السبكي في طبقاته: أستاذ المتأخرين، وحجة الله على اللاحقين، ما رأت الأعين أزهد منه في يقظة ولا منام، ولا عاينت أكثر اتباعا منه لطرق السالفين من أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، له التصانيف المفيدة، والمناقب الحميدة، والخصال التي جمعت طارف كل فضل وتليده، والورع الذي به خرب دنياه وجعل دينه معمورا، والزهد الذي كان به يحيا سيدا وحصورا، هذا إلى قدر في العلم لو أطل على المجرة لما ارتضى شربا في أعطانها، أو جاور الجوزاء لما استطاب مقاما في أوطانها، أو حل في دارة الشمس لأنف من مجاورة سلطانها، وطالما فاه بالحق لا تأخذه لومة لائم، ونادى بحضرة الأسود الضراغم، وصدع بدين الله تعالى مقال ذي سريرة، يخاف يوم تبلى السرائر، ونطلق معتصما بالباطن والظاهر، غير ملتفت إلى الملك الظاهر، وقبض على دينه والجمر
52 ملتهب، وصمم على مقاله والصارم للأرواح منتهب، لم يزل - رحمه الله، طول عمره على طريق أهل السنة الجماعة، مواظبا على الخير لا يصرف ساعة في غير طاعة. وقال ابن فضل الله في المسالك: شيخ الاسلام، وعلم الأولياء، قدوة الزهاد ورجل علم وعمل، ونجاح سؤل وأمل، وكامل مثله في الناس من كمل، وفق للعلم وسهل عليه، ويسر له ويسر إليه، من أهل بيت من نوى من كرام القرى، وكرامة أهل القرى، لهم بها بيت مضيف لا تخمد ناره، ودار قرى لا يخمل مناره، طلع من أمم سادات، وجمع لكرمهم عادات، وجمع لهممهم أطراف السعادات، ونبت فيهم نباتا حسنا، ونبغ ذكاء ولسنا، ونبغ ذكاء ولسنا، وأتى دمشق متلقيا للأخذ من علمائها متقللا من عيشها، حتى كاد يعف فلا يشرب من مائها، فنبه ذكره، ونهب مدى الآفاق شكره، وحلا اسمه، وذكر تصنيفه وعلمه. فلما توسد الملك الظاهر أمانيه وحدثته نفسه من الظلم بما كاد يأتي قواعده من مبانيه، وكتب له من الفقهاء، من كتب، وحمله من الظلم بما كاد يأتي قواعده من مبانيه، وكتب له ن الفقهاء من كتب، وحمله سوء رأيه على بيع آخرته بشئ من الذهب ولم يبق سواه فلما حضر هابه، وألقى إليه الفتيا، فألقاها وقال لقد أفتوك بالباطل، ليس لك أخذتم معونة، حتى تنفد أموال بيت المال، وتعيد أنت ونساؤك ومماليكك وأمراؤك ما أخذتم زائد عن حقكم، وتردوا فواضل بيت المال إليه. وأغلظ له في القول، فلما خرج قال: فمن أين يأكل؟ قالوا مما يبعث إليه أبوه فقال: والله لقد هممت بقتله، فرأيت كأن أسدا فتحا فاه بيني وبينه، لو عرضت له لالتقمني ثم وقر له في صدره ما وقر، ومد له يد المسالمة يسأله وما افتقر. ثم كانت سمعة النواوي التي شرفت وغربت، وبعدت وقربت، وعظم شأن تصانيفه، وبان البيان في مطاوي تآليفه، ثم هي اليوم محجة الفتوى، وعليها العمل، وما ثم سوى سببها الأقوى. وقال تلميذه الشيخ علاء الدين بن العطار في ترجمة التي جمعها له: أوحد عصره، وفريد دهره. الصوام القوام، الزاهد في الدنيا، الراغب في الآخرة، صاحب الأخلاق الرضية، والمحاسن النسبة، العالم الرباني المتفق على علمه
53 وإمامته وجلالته، وزهده، وورعه وعبادته، وصيانته في أقواله وأفعاله وحالاته له الكرامات الواضحة، والمؤثر نفسه وماله للمسلمين، والقائم بحقوقهم وحقوق ولاة أمورهم بالنصح والدعاء في العالمين. ولد في العشر الأوسط من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، بنوى قال ابن العطار: وذكر لي بعض الصالحين الكبار، أنه ولد وكتب من الصادقين، ونشأ بها وقرأ القرآن، فلما بلغ سبع سنين، وكانت ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان. قال ولده: وكان نائما إلى جنبي، فانتبه نحو نصف الليل وأيقظني وقال: يا أبت، ما هذا النور الذي قد ملا الدار؟ فاستيقظ أهله جميعا، ولم نر شيئا فعرفت أنها ليلة القدر. ولما بلغ عشر سنين، وكان بنوي الشيخ وياسين ين يوسف المراكشي من أولياء الله تعالى، قرأه والصبيان يكرهونه على اللعب معهم، وهو يهرب منهم ويبكي لاكراههم، ويقرأ القرآن في تلك الحال، قال: فوقع في قلبي محبته وجعله أبوه في دكان، فجعل لا يشغل بالبيع والشراء عن القرآن. قال الشيخ ياسين: فأتيت الذي يقرئه القرآن، فوصيت به، وقلت له هذا الصبي يرجى أن يكون أعلم أهل زمانه وأزهدهم، وينتفع الناس به، فقال أمنجم أنت؟ فقال لا، وإنما أنطقني الله بذلك فذكر ذلك الوالدة، فحرص عليه إلى أن ختم القرآن وقد ناهز الاحتلام. قال ابن العطار: قال الشيخ، فلما كان عمري تسع عشرة سنة، قدم بي والدي إلى دمشق سنة تسع وأربعين، فسكنت المدرسة الرواحية، وبقيت نحو سنتين لم أضع جنبي إلى الأرض وكان قوتي فيها جراية المدرسة لا غير: قال: وحفظت التنبيه في أربعة أشهر ونصف وحفظت ربع المهذب في باقي السنة قال. ولما قرأت مدة اغتسل منها بالماء البارد، حتى تشقق ظهري قال: وجعلت أشرح وأصحح على شيخنا الامام البارد، حتى ظهري قال: وجعلت أشرح وأصحح على شيخنا الامام العالم، الزاهد الورع، أبي إبراهيم إسحاق بن أحمد بن عثمان، المغربي الشافعي، ولازمته فأعجب بي لما رأى من اشتغال وملازمتي وعدم اختلاطي بالناس، وأجبني محبة شديدة، وجعلني أعيد الدرس في حلقته الأكثر الجماعة.
54 قال: فلما كانت سنة إحدى وخمسين، حججت مع والدي، وكانت وقفة الجمعة، وكانت رحلتنا من أول رجب، فأقمت بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم نحو من شهر ونصف. قال والده: ولما توجهنا للرحيل من نوى، أخذته الحمى، إلى يوم عرفة قال ولم يتأوه قط. فلما عدنا إلى نوى، ونزل إلى دمشق صب الله عليه العلم صبا فلم يزل يشتغل بالعلم، ويقتفي آثار أبي إبراهيم إسحاق في العبادة، من الصلاة وصيام الدهر والزهد والورع، فلما توفي شيخه ازداد اشتغاله بالعلم والعمل. وحج مرة أخرى، قال ابن العطار. وقال لي شيخنا القاضي أبو المفاخر محمد بن عبد القادر الأنصاري، لو أدرك القشيري صاحب الرسالة شيخكم وشيخه، لما قدم عليهما في ذكره لمشائخها أحدا، لما جمع فيهما من العلم والعمل، والزهد الورع، والنطق بالحكمة، وغير ذلك. قال: وذكر لي الشيخ قال: كنت أقرأ كل يوم اثني عشر درسا على المشايخ شرحا، درسين في الوسيط ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسا في اللمع لابن جنى، ودرسا في إصلاح المنطلق لابن السكيت في اللغة ودرسا في التصريف، ودرسا في أصول الفقه، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في أصول الدين. وقال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل ووضوح، عبارة، وضبط لغة. قال: وبارك الله لي في وقتي واشتغالي وأعانني عليه و.. قال وخطر لي الاشتغال بعلم الطب، فاشتريت القانون وعزمت على الاشتغال بشئ، ففكرت في أمري، ومن أين علي الداخل فألهمني الله تعالى الاشتغال بشئ، ففكرت في أمري، ومن أين دخل على الداخل فألهمني الله تعالى أن سببه اشتغالي بالطب، فبعت في الحال الكتاب المذكور، وأخرجت من بيتي كل ما يتعلق بالطب، فاستنار قلبي، ورجع إلى حالي، وعدت إلى ما كنت عليه أولا. قال: وكنت مريضا بالمدرسة الرواحية، فبينما، أنا في بعض الليالي، في الصفة الشرقية منها، ووالدي وإخوتي وجماعة من أقاربي نائمون إلى جنبي، إذ نشطني الله تعالى وعافاني من الحمى، فاشتاقت نفسي، إلى الذكر، فجعلت أسبح، فبينا أنا كذلك بين الجهر والاسرار، إذا شيخ حسن الصورة جميل المنظر، يتوضأ على حافة
55 البركة وقت نصف الليل أو قريب منه، فلما فرغ من وضوئه أتاني وقال لي يا ولدي، لا تذكر الله تعالى تشوش على والدك وأخوتك وأهلك ومن في هذه المدرسة، فقلت: يا شيخ، من أنت؟ فقال، أنا ناصح لك، ودعني أكون من كنت، فوقع بالتسبيح، فأعرض عني ومشى إلى ناحية باب المدرسة، فأنبهت والدي والجماعة على صوتي فقمت إلى باب المدرسة فوجدته مقفلا، وفتشتها فلم أجد فيها أحد غير من كان فيها، فقال لي ولدي: يا يحيى، ما خبرك؟ فأخبرته الخبر، فجعلوا يتعجبون، وقعدنا كلنا نسبح ونذكر. قال ابن العطار: نقلت من خط الشيخ - رحمه الله - أنه قرأ على: * القاضي أبي الفتح عمر بن بندار التفليسي * القاضي أبي الفتح عمر بن بندار التفليسي المنتخب للرازي، وقطعة من المستصفى وغير ذلك. * وعلى فخر المالكي اللمع لابن جني. * وعلى أبي العباس أحمد بن سالم المصري، النحوي إصلاح المنطق في اللغة، بحثا، وكتابا في التصريف قال: وكان عليه درس، اما في سيبويه أو غيره - الشك مني. * وعلى الامام جمال الدين بن مالك، كتابا من تصانيفه، وعلق عليه أشياء كثيرة. * وعلى أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى المرادي صحيح مسلم شرحا، ومعظم البخار 0، وقطعة من الجمع بين الصحيحين للحميدي. * وقرأ على جماعة من أصحاب ابن الصلاح علوم الحديث له. * وعلى أبي البقاء خالدين يوسف النابلسي الكمال في أسماء الرجال للحافظ عبد الغني وعلق عليه حواشي، وضبط عنه أشياء حسنة. * وأخذ النفقة عن شيخة إسحاق المغربي، وكان يتأدى معه كثيرا، ويملأ الإبريق ويحمله معه إلى الطهارة. * أخذ عن اكمال سلار بن الحسن الأربلي.
56 * وعن الامام عبد الرحمن بن نوح المقدس. * وأبي حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الربعي الأربلي، * وإسماعيل بن عبد الدائم. * وخالد النابلسي. * وعبد العزيز بن محمد بن عبد الحسن الأنصاري. * والضياء ابن تمام الحنفي. * والحافظ أبي الفضل البكري. * وأبي الفضائل عبد الكريم بن عبد الصمد، خطيب دمشق. * وعبد الرحمن بن سالم الأنباري. * وأبي زكريا يحيى بن أبي الفتح الصيرفي. * إبراهيم بن علي الواسطي: وغيرهم. ومن مسموعاته. الكتب الستة، والموطأ، ومسانيد. الشافعي: وأحمد، والدارمي، وأبي عوانة، وأبي يعلى وسنن الدارقطني، والبيهقي، وشرح السنة للبغوي، وتفسيره، والأنساب للزبيري، والخطب النباتية، ورسالة القشيري، وعمل اليوم والليلية لابن السني، وأدب السامع والراوي للخطيب، وغير ذلك. وسمع منه خلق من العلماء الحفاظ، والصدور الرؤساء، وتخرج به خلق كثير من الفقهاء، وسار علمه وفتاويه في الآفاق وانتفع الناس في سائر البلاد الاسلامية بتصانيفه، وأكبوا على تحصيلها. قال ابن العطار: وذكر لي أنه كان لا يضيع وقتا ليل ولا نهار إلا في وظيفة من الاشتغال بالعلم، حتى في ذهابه في الطريق ومجيئه، يشتغل في تكرار ومطالعة، أنه بقي على التحصيل على هذا الوجه نحو ست، سنين، ثم اشتغل بالتصنيف والاشتغال والإفادة، والمناصحة للمسلمين وولاتهم، مع ما هو عليه من المجاهدة النفسية والعمل بدقائق الفقه والاجتهاد على الخروج من خلاف العلماء وإن
57 كان بعيدا، والمراقبة لأعمال القلوب وتصفيها من الشوائب، يحاسب نفسه على الخطوة بع الخطوة. وكان محققا في علمه وفنونه مدققا، حافظا لحديث رسوله الله صلى الله عليه وسلم، عارفا بأنواعه كلها، وغريبه، ومعانيه، واستنباط فقهه، حافظا، الشافعي وقواعد، وأصوله وفروعه، ومذاهب الصحابة والتابعين، واختلاف العلماء ووفاقهم وإجماعهم، سالكا طريق السلف، قد صرف أقاته كلها في الخير، فبعضها للتأليف وبعضها للتعليم وبعضها للصلاة، وبعضها للتدبير وبعضها للامر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الكمال الأدفوي في البدر السافر ونوزع مرة في النقل عن الوسيط فقال: أتنازعوني وقد طالعته أربعمائة مرة؟ قال: وواقف الملك الظاهر بيبرس لما ورد دمشق في أمور، فظن أنه من أصحاب الوظائف يعزله فذكر له حاله فقال: وكان بعد ذلك يقول إني أفزع منه. قال ابن العطار: وذكر أبو عبد الله بن أبي الفتح البعلي: الحنبلي، العلامة، قال كنت ليلة في جامع دمشق الشيخ واقف يصلي إلى سارية في ظلمة، وهو يردد قوله تعالى: وقفوهم انهم مسؤولون مرارا. بحزن وخشوع، حتى حصل عندي من ذلك ما الله به عليم. وكان إذا ذكر الصالحين ذكرهم بتعظيم وتوقير واحترام، وذكر مناقبهم. قال: وأخبرني الشيخ القدرة المسلك، ولي الدين أبو الحسن، المقيم بجامع بيت لهيا، قال مرضت بالنقرس في رجلي فعادني الشيخ محيي الدين، فلما جلس، عندي، جعل يتكلم في الصبر، فكلما تكلم جعل الألم يذهب قيلا، حتى زال، فعرفت أنه من بركته. وكان لا يدخل الحمام، ولا يأكل في اليوم والليلة إلا أكله واحدة بعد العشاء، ولا يشرب إلا شربة واحدة عند السحر، ولا يشرب المبرد، أي الملقى فيه الثلج ولم يتروج.
58 قال ابن العطار: وأخبرني العلامة رشيد الدين الحنفي، قال عذلت الشيخ في تضييق عيشة، وقلت له أخشى عليك مرضا يعطلك عن أشياء أفضل مما تقصده، فقال: إن فلانا صام وعبد الله حتى عظمه قال: فعرفت أنه ليس له غرض في المقام في هذه الدار، ولا يلتفت إلى ما نحن فيه. قال: ورأيت رجلا من أصحاب قشر خيارة ليطعمه إياها، فامتنع من أكلها وقال أخشى ان ترطب جسمي وتجلب النوم قال الأدفوي في البدر السافر: حكى لي قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة، أنه سأله عن نومه فقال، إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة أنتبه. قال: وحكى لي أيضا أنه كان إذا أتى إليه ليزوره يضع بعض الكتب على بعض، ليوسع له موضعا يجلس فيه قال: وكان لا يجمع بين أدمين، ولا يأكل اللحم إلا عندما يتوجه إلى نوى. قال: وحكى عنه قاضي القضاة جمال الدين الزرعي: أنه كان يتردد إليه وهو شاب قال: فجئت إليه في يوم عبد، فوجدته يأكل حريرة مدخنة فقال سليمان. كل، فلم يطلب له، فقام أخوه وتوجه إلى السوق واحضر شويا، وحلوى، وقال له: كل فلم يأكل، فقال: يا أخي أهذا حرام؟ فقال: لا، ولكنه طعام الجبابرة. قال ابن العطار: وكان لا يأكل فاكهة دمشق، فسألته عن ذلك فقال: دمشق الغبطة، والمعاملة فيها على وجه المساقاة، وفيها خلاف بين العلماء، وفيها خلاف بين العلماء، ومن جوزها شرط الغبطة، والناس لا يفعلونها إلا على جزء من ألف جزء من الثمرة للمالك، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك؟ قال: وقال لي الشيخ العارف المحقق، أبو عبد الرحيم محمد الأخميمي: كان الشيخ محيي الدين سالكا منهاج الصحابة ولا أعلم أحدا في عصرنا سالكا منها جهم غيره. قال: وكتب شيخنا أبو عبد الله محمد بن الأربلي، الحنفي، شيخ الأدب في وقته تصحيح التنبيه، ليكون له عنه رواية، فلما فرع من قال لي ما وصل
59 ابن الصلاح إلى ما وصل إليه الشيخ من الفقه والحديث واللغة وعذوبة الفظ والعبارة وقال الأسنوي: كان يلبس ثوبا قطنا وعمامة سختيانية، وكان في لحيته شعرات بيض، وعليه سكينة ووقار، في حال البحث وغيره. قال الشيخ تقي السبكي، ما اجتمع بعد التابعين المجموع الذي اجتمع في النووي ورأيت في مجموع بخط الشيخ شمس الدين العيزري الشافعي، أو بواب الرواحية حكى قال: خرج الشيخ في الليل فتبعته، فانفتح له الباب من غير مفتاح، فخرج، مشيت معه خطوات، فإذا نحن مكة، فأحرم الشيخ وطاف وسعى ثم طاف إلى أثناه الليل، ورجع، فمشيت خلفه، فإذا نحن بالرواحية. قال الذهبي: تولى مشيخة دار الحديث الأشرفية بعد موت أبي شامة، سنة خمس وستين، وفي البلد من هو أسن منه وأعلى سندا، فلم يأخذ من معلومها شيئا إلى أن مات. قال ابن العطار: وأقرأ بها بحثا وشرحا. صحيح البخاري، ومسلم، وقطعة من أبي داود، ورسالة القشيري وصفوة، والحجة على تارك المحجة لنصر المقدسي، وغير ذلك. قال: وذكر لي تلميذه أبو العباس بن فرج قال: كان الشيخ محيي الدين قد صار إليه ثلاث مراتب، كل مرتبة منها لو كانت لشخص لشدت إليه آباط الإبل من أقطار الأرض. المرتبة الأولى: العلم والقيام بوظائفه، الثانية: الزهد في الدنيا. الثالثة: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال: وأخبرني الشيخ الصدوق أبو القاسم المزي - وكان من الاخبار - أن رأى في النوم بالمزة رايات كثيرة، وطبلا يضرب قال فقلت: ما هذا؟ فقيل لي: الليلة قطب يحيى النووي، فاستيقظت من منامي، ولم أكن أعرف الشيخ ولا سمعت به قيل ذلك، فدخلت دمشق، في حاجة، فذكرت ذلك لشخص فقال: هو شيخ دار الحديث، وهو الآن جالس فيها، فدخلتها، فلما وقع بصره علي نهض إلى جهتي، الحديث، وهو الآن جالس فيها، فدخلتها، فلما وقع بصره علي نهض إلى جهتي، وقال: اكتم ما معك ولا تحدث به أحدا، ثم رجع إلى موضعه.
60 ورأيت في الدار الكامنة لشيخ الاسلام، حافظ العصر أبي الفضل، بن حجر، قال الشيخ، محيي الدين لتلميذه الشيخ الدين بن النقيب. يا شيخ شمس الدين، لا بد أن تلي الشامية البرانية، فما مات حتى وليها. ورأيت فيها عن بعضهم قال، توجهت لزيارة الشيخ فرج الصفدي الزاهد، فجرت مسألة النظر إلى الأمرد، وأن الرافعي حرمه بشرط الشهوة، والنووي يقول: يحرم مطلقا، فقال الشيخ فرج، رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: الحق في هذه المسألة مع النووي. وكان الشيخ محيي الدين إذا جاءه أمرد ليقرأ عليه، امتنع، وبعث به إلى الشيخ أمين الدين الحلبي، لعلمه بدينه وصيانته. وقال الشيخ تاج الدين السبكي، في الترشيح: وافق الوالد مرة وهو راكب على بغلته شيخا عاميا ماشيا، فتحادثا، فوقع في كلام ذلك الشيخ أنه رأى النووي ففي الحال نزل عن بغلته وقبل يد ذلك الشيخ العامي، وسأله الدعاء، وقال له: اركب خلفي فلا اركب وعين رأت وجه النووي تمشي بين يدي. قال وكان الوالد سكن دار الحديث الأشرفية، وكان يخرج في الليل يتهجد، ويمرغ خديه على الأرض فوق البساط الذي يقال: إنه من زمن الواقف، ويقال إن النووي كان يدرس عليه، وينشد: وفي دار الحديث لطيف معنى * على بسط لها أصبو وآوي عسى اني أمس بحر وجهي * مكانا مسه قدم النواوي
61 * والعلامة رشيد الدين الحنفي. * والمحدث أبو العباس الإشبيلي. وخلائق غيرهم. قال الشيخ الدين - رحمه الله - لما تأهل للنظر والتحصيل، رأى من المسارعة إلى الخيرات أن جعل ما يحصله ويقف عليه، تصنيفا ينتفع به النظار فيه، فجعل تصنيفه تحصيلا، وتحصيله تصنيفا، وهو غرض صحيح جميل، ولولا ذلك لم يتيسر له من التصانيف ما تيسر له. وأما الرافعي فإنه سلك الطريقة العالية، فلم يتصد للتأليف إلا بعد كمال انتهائه، وكذا ابن الرفعة، رحمة الله عليهم أجمعين، ونفعنا بهم. وقال الشيخ جمال الدين الأسنوي في أوائل المهمات: اعلم أن الشيخ محيي الدين - رحمه الله - لما تأهل للنظر والتحصيل، رأى من المسارعة إلى الخيرات أن جعل ما يحصله ويقف عليه، تصنيفا ينتفع به الناظر فيه، فجعل تصنيفه تحصيلا، وتحصيله تصنيفا، وهو غرض صحيح، وقصد جميل، ولولا ذلك لم يتيسر له من التصانيف ما تيسر له وأما الرافعي فإنه سلك الطريقة العالية، فلم يتصد للتأليف إلا بعد كمال انتهائه، انتهائه، وكذا ابن الرفعة، رحمة الله عليهم أجمعين، ونفعنا بهم، وقال الأذرعي في أول التوسط والفتح بلغني أن الشيخ محيي الدين كان يكتب إلى أن يعي فيضع القلم يستريح وينشد: تشوقت ليلى حين فارقت أرضها * فقلت، وعيني عند ذلك تدمع لئن كان هذا الدمع يجري صبابة * على غير سعدى، فهو دمع مضيع وذكر ابن العطار في تأليف له في الشعر: أن الشيخ لم ينظم شعرا قط، فمن تصانيفه: الروضة: مختصر الشرح الكبير للرافعي، وهو بخطه، في أربع مجلدات ضخمات، مائة كراس، وتقع غالبا في ستة مجلدات وثمانية لا ورأيت بخطه فيها أنه ابتداء في تأليفها يوم الخميس، الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة ست وستين وستمائة، وختمها يوم الأحد خامس والعشرين من شهر رمضان سنة ست وستين وستمائة، وختمها يوم الأحد خامس عشر ربيع الأول سنة تسع وستين هي عمدة المذهب الآن، وفيها يقول الأسنوي، في المهمات: وكانت أنفس ما تأثر من تصانيفه ببركات أنفاسه، وثمرة من ثمرات غراسه، غرس فيها أحكام الشرع ولقحها، وضم إليها فروعا كانت منتشرة فهذبها ونقحها، فلذلك حلا ينبوعها، وبسقت فروعها، وطابت أصولها، ودنت قطوفها، إلى أن قال: وتلك منقبة قد أطاب الله ذكرها وسناها، وموهبة قد رفها سمكها وبناها، ومن أسر سريرة حسنة، ألبسه الله رداها. وفي الجواهر: فإن الروضة لما جمعت أشتات المذهب، وقطت أسباب غلق
62 المطلب لاشتمالها على أحكام الشرح واختصاصها بزيادات يحجم عنها الكثير، وردت من قبول الكافة موردا لا صدر منه لبعض، وعقدت لوقوفهم عند حكمها موثقا فلن تبرح الأرض، فلذلك تمسكوا بفروعها وأغصانها، وتعلقوا بأصولها وأقيالها، حتى صارت منزل قاصد هم، ومنهل واردهم وقد استدرك فيها على الامام الرافعي في التصحيح مواضع جمة، وزاد عليه مسائل وقيودا وشروطا، وقد أفرد بعضهم زياداتها في مجلدين لطيفين. وقد ذكر الأذرعي في التوسط أنه هم قبل موته بغسلها، فقيل له سارت بها الركبان، فقال: في نفسي منها أشياء وقد أكثر الناس من الكتابة عليها، والكلام على مواضع وتصحيحات فيها ظاهرها التناقض، ومواضع فيها مخالفة لما في الشرح كالأسنوي، والأذرعي، والبلقيني، والزركشي، وغيرهم. وقد ذكر أن سبب ما وقع مخالفا للشرح. أنه اختصرها من نسخة منه سقيمة، مع أنه بحمد الله أجيب عن كثير مما زيفوه وجمع بين غالب ما زعموا تناقضه. وقد شرعت في تلخيص أحكامها من غير ذكر الخلاف، وضممت إليها زيادات شرح المهذب وبقية تصانيفه من بعده، كابن الرفعة، والسبكي، والأسنوي، ووصلت فيه الآن إلى... أعان الله على إتمامه. ومنها شرح صحيح مسلم، سماه - ب المنهاج قريب من حجم الروضة. وشرح المهذب، سماه ب المجموع وقد وصل فيه - قال ابن العطار - إلى باب المصراة، وقال الأسنوي: إلى أثناء الربا وهو قدر الروضة مرة ونصف أو هو أكثر، وقد ذكر في خطبة: أنه كتب قبل ذلك شرحا مبسوطا جدا وصل فيه إلى أثناء الحيض، في ثلاث مجلدات ضخمات، ثم رأى أن ذلك يكون سبب قلة الانتفاع في الخطبة إلا هذا الشرح. قال الأسنوي: وهذا الشرح من أجل كتبه وأنفسها، وكلامه فيه يدل على أنه اطلع على أنه يموت قبل إتمامه، فإنه يجمع النظائر في موضع ويقول فعلنا ذلك فلعلنا لا نصل إلى محله. وقال ابن العطار. كتب لي ورقة فيها أسماء الكتب التي كان يجمعه منها،
63 وقال إذا انتقلت إلى الله فأتمه من هذه الكتب وقد شرع في تكميله جماعة ولم ينهوه، فكتب الشيخ تقي الدين السبكي من الموضوع الذي انتهى إليه إلي أثناء التفليس، وفي خطبة تكملته يقول واصفا هذا الشرح: وبعد: فقد رغب إلي بعض الأصحاب في أن أكمل شرح المذهب للشيخ الامام العلامة علم الزهاد، إلي بعض الأصحاب في أن أكمل شرح المذهب للشيخ الامام العلامة علم الزهاد، وقدوة العباد، واحد عصره، وفريد رهره، محيي علوم الأولين، ومهذب سنن الصالحين، أبي زكريا النووي وطالب رغبة إلى، وكثر إلحاحه علي، أنا في ذلك أقدم رجلا وأؤخر أخرى، واستهون الخطب فرآه شيئا أمرا، وهو في ذلك لا يقبل عذرا وأقول: قد يكون في تعرضي لذلك مع قصوري عن مقام هذا الشارح إساءة إليه، وجناية مني عليه، فأنى لي أن أنهض بها نهض به وقد أسعف بالتأييد، وساعدته المقادير فقربت منه كل بعيد؟ ولا شك أن ذلك يحتاج بعد الأهلية إلى ثلاثة أشياء: فراغ البال، واتساع الزمان، وقد كان - رحمه الله - قد أوتي من ذلك الحظ الأوفر، بحيث لم يكن له شاغل عن ذلك من نفس ولا أهل. الثاني: جمع الكتب التي استعان بها على النظر والاطلاع على كلام العلماء، وكان رحمه الله قد حصل له من ذلك وافر، لسهولة ذلك في بلده في ذلك الوقت. الثالث: حسن النية، وكثرة الورع والزهد، والأعمال الصالحة التي أشرقت أنوارها، وكان قد اكتال من ذلك بالمكيال الأوفى. فمن يكون قد اجتمعت فيه هذه الخلال الثلاث، أني يضاهيه، أو يدانيه من ليس من واحدة منها، فنسأل الله أن يحسن نياتنا وأن يمدنا بمعونته وعونه، وقد نفسي لعل ببركة صاحبه ونيته يعينني الله، انه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فإن من الله تعالى بإكماله، فلا شك من فضل الله ببركة صاحبه ونيته، إذ كان مقصوده النفع للناس ممن كان، انتهى. ومنها المنهاج مختصر المحرر. مجلد لطيف. ودقائقه، نحو ثلاث كراريس، ورأيت، بخطه أنه فرع منه تاسع عشر شهر
64 رمضان سنة تسع وستين وهو الآن عمدة الطالبين والمدرسين والمفتين. قال ابن العطار: وقال لي العلامة جمال الدين ابن مالك: والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت، لحفظته. وأثنى على حسن اختصاره، وعذوبة ألفاظه. قال: ووقف عليه في حياته العلامة رشيد الدين الفارقي، شيخ الأدب فامتدحه بأبيات وقف عليها الشيخ وهي هذه: اعتنى بالفضل يحيى فاغتنى * عن بسيط بوجيز نافع وتحلى بتقاه فضله * فتحلى بالطيف جامع ناصيا أعلام علم، جازما * بمقال، رافعا للرافعي فكأن ابن الصلاح حاضر * وكأن ما غاب عنا الشافعي وقال فيه الشيخ جمال الدين الأسنوي: يا ناهجا منهاج حبر ناسك * دقت دقائق فكره وحقائقه بادر ل محي الدين فيما رمته * يا حبذا منهاجه ودقائقه وينسب للشيخ تقي الدين السبكي: ما صنف العلماء كالمنهاج * في شرعة سلفت، ولا منهاج فاجهد على تحصيله متيقنا * أن الكفاية فيه للمحتاج ولبعضهم: الشيخ محيي الدين هو القطب الذي * طلعت شموس العلم من أبراجه لا يرتقي أحد إلى شرف العلا * إلا فتى يمشي على منهاجه وقلت أنا: للناس سبل في الهداية والهوى * ما بين اصباح وليل داج فإذا أردت سلوك سبل المصطفى * حقا، فلا تعدل عن المنهاج قلت: ومن جلالة هذا الكتاب، أن الشيخ تاج الدين الفركاح، كتب عليه تصحيحا، وهو في مرتبة، شيوخ الشيخ محيي الدين، فإنه لما جاء إلى دمشق، واحضر إليه ليقرأ عليه، فبعث به إلى الرواحية، وأيضا فإنه كان بينهما أخيرا مقاطعة، كما ذكر ذلك الصفدي في تذكرته، وأنه لما توفي الشيخ
65 محيي الدين، لم يحضر الشيخ تاج الدين الصلاة عليه. ومن العجب أن الشيخ علاء الدين الباجي شيخ السبكي اختصر المحرر، وسماه: التحرير، ومولده سنة مولد محيي الدين. وانظر ما بين المختصرين شهرة واعتمادا. وقد كنت في أول اشتغالي رأيت الشيخ في النوم، وكأني حضرت درسه، فقلت له في شأن المنهاج والاعتراضات التي أوردت عليه، فأخذ يصلح العبارة، إلى أن خرج عن هيئته، فقلت له: يا سيدي، اجعل هذا كتابا على حدة غير المنهاج لأنه شرح وحفظ على تلك الهيئة، ثم إنه ركب حمارا عاليا، ومشيت خلفه مسافة يسيرة، فأعطاني عمامته، وفارقته، فانتبهت. ورأيته مرة أخرى فأنشدني: من شاحح العالم في كلامه ليذهبن رونق انتظامه فاستيقظت وأنا أحفظه: ومنها: تهذيب الأسماء واللغات مجلدان ضخمان، ويقع غالبا في أربعة قال الأسنوي: وقد مات عنه مسودة، وبيضه الحافظ جمال الدين، المزي. وفي هذا شئ، فقد وقفت على المجلد الأول بخطه مبيضا بالخزانة المحمودية، لكن فيه بياضات يسيرة. ورياض الصالحين مجلد. والأفكار مجلد. ونكت التنبيه، مجلد، وتسمى: التعليقة، وقال الأسنوي: وهي من أوائل ما صنف، ولا ينبغي الاعتماد على ما فيها من التصحيحات المخالفة لكتبه المشهورة، ولعله جمعها من كلام شيوخه. وما استفدته منها في قص الأظفار، أنه يسن البداءة بمسبحة اليد اليمنى، ثم بالوسطى، ثم البنصر، ثم الخنصر ثم خنصر أليس ولاء الابهام، ثم يختم بإبهام اليمنى. وفي الرجل يبدأ بخنصر اليمنى، ويختم بخنصر اليسرى ولاء، وذكر لذلك حديثا ومعنى لطيفا ذكرته في دقائق مختصر الروضة.
66 ولايضاح مناسك الحج، مجلد الطيف. والايجاز فيه. والمناسك الثالث والرابع والخامس. والتبيان في أدب حملة القرآن، مجلد ومختصره. وشرح التنبيه مطول، سماه تحفة الطالب النبيه، وصل فيه إلى أثناه الصلاة. وشرح الوسيط، المسمى ب التنقيح قال الأسنوي: وصل فيه إلى شروط الصلاة. قال: وهو كتاب جليل، من أواخر ما صنف، جعله مشتملا على أنواع متعلقة به ضرورية، كافية لمن يريد كثرة المسائل المأخوذة والمرور على الفقه كله في زمن قليل، لتصحيح مسائله، وتوضيح أدلته، وذكر غير ذلك من الأنواع التي أكثر منها ولم يتعرض فيه لفروع الوسيط، قال وهي طريقة يتيسر معها اقراء الوسيط في كل عام مرة. ونكت على الوسيط، في نحو مجلدين. والتحقيق، وصل فيه إلى صلاة المسافر، ذكر فيه غالب ما في شرح المهذب ما الاحكام والخلاف، على سبيل الاختصار. ومهمات الاحكام، قال الأسنوي: وهو قريب من التحقيق من كثرة الاحكام إلا أنه لم يذكر فيه خلافا، وقد وصل فيه إلى اثنا طهارة الثوب والبدن. وشرح البخاري، كتب منه مجلدة. والعمدة في تصحيح التنبيه. والتحرير في لغات التنبيه. ونكت المهذب. ومختصر التذنيب للرافعي، سماه المنتخب قال الأسنوي: وقد أسقط من آخر الفصل السادس أوراقا، فلم يختصرها، ومن هنا تعلم أن قول من قال: إن الشيخ محيي وقف على النووي، نعم قول من الرافعي ذكره في خطبة التذنيب، وقد وقف عليه النووي: نعم، من قال يقف عليه ممكن. ودقائق الروضة. كتب منها إلى أثناه الاذان.
67 وطبقات الشافعية، مجلد، قال الأسنوي: ومات عنها مسودة، فبيضها المزي. ومختصر الترمذي، مجلد وقفت عليه بخطه مسودة، وبيض منه أوراقا. وقسمه الغنائم، ومختصره، قال الأسنوي: وهذا الكتاب من أواخر ما صنف، وهو مشتمل على نفائس. وجزء في القيام لأهل الفضل. قال الأسنوي: وهما من أواخر تصانيفه وأمتعها. ومختصر تأليف الدارمي في المحيرة. ومختصر تصنيف أبي شامة في البسملة. ومناقب الشافعي. وهذه الكتب الثلاثة أحال عليها هو في شرح المهذب. والتقريب في علوم الحديث. والارشاد فيه. والخلاصة في الحديث. ومختصر مبهمات الخطيب. والاملاء على حديث: إنما الأعمال بالنيات، لم يتمه. وشرح سنن أبي داود، كتب منه يسيرا. وبستان العارفين. ورؤوس المسائل، والأصول والضوابط، كتب منه أوراقا. ومختصر التنبيه، كتب منه روقة واحدة. والمسائل المنثورة، وهي المعروفة بالفتاوى، وضعها غير مرتبة فرتبها تلميذه. ابن العطار، وزاد عليها أشياء سمعها منه. والأربعين، وشرح ألفاظها. هذا ما يحضرني من مصنفاته بعد الفحص. وقد قال في شرح المهذب في رفع اليدين في الركوع: أرجو أن أجمع فيه كتابا مستقلا، فلا أدري أفعل أولا؟
68 قال الأسنوي: وينسب له تصنيفان، ليسا له، النهاية اختصار الغاية الثاني: أغاليط على الوسيط، مشتملة على خمسين موضعا، بعضها فقهية، وبعضها حديثية. وممن نسبه له هذا ابن الرفعة في المطلب، فاحذره، فإنه لبعض الحمويين، ولهذا لم يذكره ابن العطار حين عدد تصانيفه واستوعبها، انتهى. وقوله: إن ابن العطار: وله شرح ألفاظ، ومسودات كثيرة، ولقد أمرني مرة بجمع نحو ألف كراس بخطه، وأمرني أن أقف على غسلها في الوراقة، وخوفني ان خالفته في ذلك، فما أمكنني إلا طاعته وإلى الآن في قلبي منها حسرات. ذكر شئ من مكاتباته: قال ابن العطار: كتب ورقة إلى الملك الظاهر تتضمن العدل في الرعية وإزالة المكوس، وكتب معه فيها جماعة، ووضعها في ورقة كتبها إلى الأمير بدر الدين بيلبك الخزندار بإيصال ورقة العلماء إلى السلطان، وصورتها. بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله يحيى النووي، سلام الله تعالى ورحمته وبركاته على المولى الحسن، ملك الامراء بدر الدين، أدام الله الكريم له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلغه من أقصى الآخرة والأولى كل آماله، وبارك له قي جميع أحواله، آمين. وينهى إلى العلوم الشريفة أن أهل الشام في هذه السنة في ضيق عيش، وضعف حال، بسبب قلة الأمطار، وغلاء الأسعار، وقلة الغلات والنبات، وهلاك المواشي، وغير ذلك، وأنتم تعلمون أنه يجب الشفقة على الرعية، ونصيحته في مصلحته ومصلحتهم، فإن الدين النصيحة. وقد كتب خدمة الشرع الناصحون للسلطان، المحبون له، كتابا يذكره النصيحة. وقد كتب خدمه الشرع الناصحون للسلطان، المحبون له، كتابا يذكره النظر في أحوال الرعية والرفق بهم، وليس فيه ضرر، بل هو نصيحة محضة، وشفقة، وذكرى لأولي الألباب. المسؤول من الأمير - أيده الله تعالى - تقديمه إلى السلطان أدام الله له الخيرات، ويتكلم عنده من الإشارة بالرفق بالرعية بما يجده مدخرا له عند الله تعالى * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا ومات عملت من سوء تود لو أن بينها
69 وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه) * وهذا الكتاب العلماء أمانة ونصيحة للسلطان، أعز الله أنصاره، والمسلمين كلهم في الدنيا والآخرة فيجب عليكم إيصاله للسلطان أعز الله أنصاره، وأنتم مسؤولون عن هذه الأمانة، ولا عذر لكم في التأخر عنها ولا حجة لكم في التقصير فيها عند الله تعالى، وتسألون عنها يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم يفر المرء من أخيه، وأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه، وأنتم بحمد الله تحبون الخير وتحرصون عليه، وتسارعون إليه، وهذا من أهم الخيرات، وأفضل الطاعات، وقد أهلتم له وساقه الله إليكم، وهو فضل من الله ونحن خائفون أن يزداد الامر شدة، إن لم يحصل النظر في الرفق بهم، قال الله تعالى: * (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) *، وقال تعالى: * (وما تفعلوا من خير فإن الله به عليهم) *. والجماعة الكاتبون منتظرون ثمرة هذا، فإذا فعلتموه فأجركم عند الله * (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فلما وصلت الورقتان إليه، أوقف عليهما السلطان، فرد جوابهما ردا عنيفا مؤلفا، فتنكدت خواطر الجماعة الكاتبين، فكتب - رضي الله عنه - جوابا لذلك الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آل محمد من عبد الله يحيي النووي، ينهي أن خدمة الشرع كانوا كتبوا ما بلغ السلطان أعز الله أنصاره، فجاء الجواب بالانكار والتوبيخ والتهديد، وفهمنا منه أن الجهاد ذكر في الجواب على خلاف حكم الشرع، وقد أوجب الله إيضاح الاحكام عند الحكام عند الحاجة إليها، فقال تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * فوجب علينا حينئذ بيانه، وحرم علينا السكوت وقال تعالى: * (ليس على الضعفاء ولا المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله، ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم) *. وذكر في الجواب أن الجهاد ليس مختصا بالأجناد، وهذا أمر لم ندعه، ولكن الجهاد فرض كفاية، فإذا قرر السلطان له أجنادا مخصوصين، ولهم اخباز معلومة من بيت المال، كما هو
70 الواقع، تفرغ باقي الرعية لمصالحهم ومصالح السلطان والأجناد وغيرهم، من الزراعة والصنائع وغيرها، مما يحتاج الناس كلهم إليها، فجهاد الأجناد مقابل بالاخبار المقدرة لهم، ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شئ ما دام في بيت المال شئ من نقد أو متاع أو أرض أو ضياع تباع، أو غير ذلك. وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان - أعز الله أنصاره - متفقون على هذا، وبيت المال بحمد الله تعالى معمور، زاده الله عمارة وسعة وخيرا وبركة في حياة السلطان المقرونة بكمال السعادة والتوفيق والتسديد، والظهور على أعداء الدين، وما النصر إلا من عند الله، وإنما يستعان في الجهاد وغيره بالافتقار إلى الله تعالى، واتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم وملازمة أحكام الشرع. وجميع ما كتبناه أولا وثانيا، هو النصيحة التي نعتقدها وندين الله بها، ونسأله الدوام عليها حتى نلقاه، والسلطان يعلم أنها نصيحة له وللرعية، وليس فيها ما يلام عليه، ولم نكتب هذا للسلطان إلا لعلمنا أنه يجب الشرع ومتابعة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق بالرعية، والشفقة عليهم، وإكرامه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم. ول ناصح للسلطان موافق على هذا الذي كتباه. وأما ما ذكر في الجواب من كوننا لم ننكر على الكفار كيف كانوا في البلاد، فكيف يقاس ملوك الاسلام وأهل الايمان وأهل الايمان والقرآن بطغاة الكفار؟ وبأي شئ كنا نذكر طغاة الكفارة وهم لا يعتقدون شيئا من ديننا؟ وأما تهديد الرعية بسبب نصيحتنا، تهديد طائفة العلماء، فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين الناصحين نصيحة للسلطان ولهم، ولا علم لهم به؟ وكيف يؤاخذون به ولو كان فيه ما يلام عليه؟ وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان، فإني أعتقد أن هذا واجب علي وعلى غيري، وما ترتب على الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى، * (إنما هذه الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار) * وأفوض أمري إلى الله، ان الله بصير بالعباد وقد أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول بالحق حيثما كنا، وأن لا نخاف في الله لائم، ونحن نحب للسلطان أكمل الأحوال، وما ينفعه في آخرته ودنياه، ويكون سببا لدوام الخيرات له، ويبقى ذكره على ممر الأيام، ويخلد به في الجنة، ويجد نفعه * (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا) *
71 وأما ما ذكر من تمهد السلطان البلاد، وإدامة الجهاد، وفتح الحصون، وقهر الأعداء، فهذا بحمد الله من الأمور الشائعة التي اشترك في العلم بها الخاصة والعامة وطارت في أقطار الأرض، فلله الحمد، وثواب ذلك مدخر للسلطان إلى * (يوم تجد كل نفس من خير محضرا) *، ولا حجة لنا عند الله تعالى إذا تركنا هذه النصيحة الواجبة علينا. وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته. وكتب للملك الظاهر لما احتيط على أملاك دمشق: بسم الله الرحمن الرحيم. قال الله تعالى: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * وقال تعالى: * (وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه) * وقال تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) * وقد أوجب الله على المكلفين نصيحة السلطان - أعز الله أنصاره - ونصيحة عامة المسلمين، ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: الدين النصيحة لله وكتابه وأئمة الدين وعامتهم. ومن نصيحة السلطان - وفقه الله تعالى لطاعته وتولاه بكرامته - أن ننهي إليه الاحكام، إذا جرت على غير قواعد الاسلام، وأوجب الله تعالى الشفقة على الرعية، والاهتمام بالضعفة، إزالة الضرر عنهم. قال الله تعالى: * (واخفض جناحك للمؤمنين) *. وفي الحديث الصحيح. (إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم). وقال صلى الله عليه وسلم: (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا، كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه) وقال صلى الله عليه وسلم: (من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق اللهم به، ومن شق عليهم فاشقق اللهم عليه). وقال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور، عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا). وقد أنعم الله علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان، أعزه الله وأعز أنصاره، وأذل له الأعداء من جميع الطوائف، وفتح أعداء الدين، وسائر الماردين، ومهد له البلاد والعباد، وقمع بسيفه أهل الزيغ والفساد، وأمده بالإعانة واللطف والسعادة، فلله الحمد على هذه النعم الظاهرة، والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها له
72 وللمسلمين، وزيادتها في خير وعافية، آمين. وقد أوجب الله شكر نعمه، ووعد للشاكرين، فقال تعالى: * (لئن شكر تم لأزيدنكم) *. وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواع من الضرر لا يمكن التعبير عنها، وطلب منهم إثبات لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين بل من في يده شئ فهو ملكه، لا يحل الاعتراض عليه، ولا يكلف بإثبات. وقد اشتهر من سيرة السلطان أنه يجب العمل بالشرع فيوصي نوابه فهو أول من عمل به، والمسؤول إطلاق الناس من هذه الحوطة، والافراج عن جميعهم، فأطلقهم أطلقك الله من كل مكروه، فهم ضعفه، وفيهم الأيتام والأرامل، والمساكين والضعفة، والصالحون، وبهم تنصر وتغاث وترزق، وهم سكان الشام المبارك، جيران الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وسكان ديارهم، فلهم حرمات من جهات. ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد لاشتد حزنه عليهم وأطلقهم في الحال ولم يؤخرهم ولكن لا تنهى إليه الأمور على جهتها. فبالله أغث المسلمين يغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجل لهم الافراج قبل وقوع الأمطار وتلف غلاتهم، فإن أكثر هم ورثوا هذه الأملاك من أسلافهم، ولا يمكنهم تحصيل كتب شراء وقد نهبت كتبهم. وإذا رفق السلطان بهم حصل له دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم لمن رفق بأمته، ونصره على أعدائه، فقد قال تعالى: * (إن تنصروا الله ينصر كم) *. ويتوفر له من رعيته الدعوات، وتظهر في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم لا قيامة). واسأل الله الكريم أن يوفق السلطان للسنن الحسنة التي يذكر بها إلى يوم القيامة، ويحميه من السنن السيئة. فهذه نصيحتنا الواجبة علينا للسلطان، ونرجو من فضل الله تعالى أن يلهمه فيها القبول. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكتب إليه لما رسم، بأن الفقيه لا يكون منزلا في أكثر من مدرسة واحدة:
73 بسم الله الرحمن الرحيم. خدمة الشرع ينهون أن الله أمرنا بالتعاون على البر والتقوى، ونصيحة ولاة الأمور وعامة المسلمين، وأخذ على العلماء العهد بتبليغ أحكام الدين، ومناصحة المسلمين، وحيث على تعظيم حرماته، وإعظام شعائر الدين وإكرام العلماء واتباعهم. وقد بلغ الفقهاء أنه رسم في حقهم بأن يغيروا عن وظائفهم، ويقطعوا عن بعض مدارسهم، فتنكدت بذلك أحوالهم، وتضرروا بهذا التضييق عليهم، وهم محتاجون ولهم عيال، وفيهم الصالحون والمشتغلون بالعلوم، وإن كان فيهم أفراد لا يلتحقون بمراتب غيرهم، منتسبون إلى العلم ومشاركون فيه، ولا يخفى مراتب أهل العلم وفضلهم، وثناء الله عليهم وبيانه مرتبتهم على غيرهم، وأنهم ورثة الأنبياء صلوات الله عليهم، فإن الملائكة عليهم السلام تضع أجنحتها لهم ويستغفر لهم كل شئ، حتى الحوت في الماء. واللائق بالجناب العالي إكرام هذه الطائفة، والاحسان إليهم ومعاضدتهم، ورفع المكروهات عنهم، والنظر في في أحوالهم، بما فيه من الرفق بهم، فقد ثبت في صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (اللهم من ولى أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به) وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه كان يقول لطلبة العلم: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن رجالا يأتونك يتفقهون، فاستوصوا بهم خيرا) والمسؤول أن لا يغير هذه الطائفة شئ، وتستجلب دعوتهم لهذه الدولة القاهرة. وقد ثبت في صحيح البخاري، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم) قود أحاطت العلوم بما أجاب به الوزير نظام الملك، حين أنكر عليه السلطان صرفه الأموال الكثيرة في جهة طلب العلم، فقال، أقمت لك بها جندا لا ترد سهامه بالأسحار. فاستصوب فعله وساعده عليه. والله الكريم يوفق الجناب دائما لمرضاته والمسارعة إلى طاعته، والحمد الله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. ذكر وفاته رحمه الله. قال ابن العطار: كان الشيخ لا يأخذ من أحد شيئا إلا ممن تحقق دينه
74 ومعرفته، ولا له به علقة من اقراء أو انتفاع به. قال: وكنت جالسا بين يديه، قبل انتقاله بشهرين، وإذا بفقير قد دخل عليه، وقال: الشيخ فلان من بلاد صرخد يسلم وأمرني بوضعه في بيت حوائجه، فتعجبت منه لقبوله، فشعر بتعجبي فقال، أرسل، إلي بعض الفقراء زربولا، وهذا إبريق، فهذه آلة السفر. قال الذهبي، وعزم عليه شخص في رمضان ليفطر عنده فقال: أحضر طعامك هنا نفطر جملة. قال ابن العطار: ثم بعد أيام يسيرة كنت عنده، فقال لي: قد أذن لي في السفر، فقلت: كيف أذن لك؟ قال: أنا جالس هاهنا يعني بيته بالمدرسة الرواحية، وقدامه طاقة مشرفة عليها مستقبل القبلة، إذ مر علي شخص في الهواء من هنا، ومن كذا يشير من غربي المدرسة إلى شرقيها - وقال: قم، سافر إلى بيت المقدس. ثم قال: قم حتى نودع أصحابنا وأحبابنا، فخرجت معه إلى القبور التي دفن فيها بعض شيوخه، فزارهم وبكى، ثم زار أصحابه الاحياء، ثم سافر صبيحة ذلك اليوم. قال: وجري لي معه وقائع، ورأيت منه أمورا تحتمل مجلدات. فسار إلى نوى، وزار القدس، والخليل عليه السلام ثم عاد إلى نوى، ومرض بها في بيت ولده، فبلغني مرضه، فذهبت من دمشق لعيادته، ففرح بي وقال: ارجع إلى أهلك، وودعته وقد أشرف على العافية، يوم السبت العشرين من رجب، سنة ست وسبعين وستمائة، ثم توفي ليلة، الأربعاء، الرابع، والعشرين، من رجب، ودفن صبيحتها، بنوى. قال: فبينا أنا نائم تلك الليلة، إذ مناد ينادي بجامع دمشق: الصلاة على الشيخ ركن الدين الموقع، فساح الناس لذلك، فاستيقظت، فبلغنا ليلة الجمعة موته، وصلي عليه بجامع دمشق، وتأسف المسلمون عليه تأسفا بليغا، الخاص والعام والمادح والذام.
75 ورأيت في تاريخ الذهبي، أن بعض الكبار قتل الشيخ بالحال لأمر، ثم ندم على ذلك، وأنه قال الوالدة: أتحب أن يموت عندكم أو في دمشق؟ فقال: عندنا. قلت: فهو رضي الله عنه شهيد، جمع بين مرتبتي العلم والشهادة، نفعا الله به. قال ابن العطار: وذكر لي جماعة من أقاربه، أنهم سألوه أن لا ينساهم في عرصات القيامة، فقال لهم: إن كان ثم جاه والله لا دخلت الجنة وأحد ممن أعرفه عرصات القيامة، فقال لهم: إن كان ثم جاه والله لا دخلت الجنة واحد ممن أعرفه ورائي، ولا أدخلها إلا بعد هم. ولما دفن أراد أهله أن يبنوا عليه قبة، فجاء في النوم طلى عمته وقال لها: قولي لأخي أو للجماعة، لا يفعلوا هذا الذي عزموا من البينان، فإنهم كلما بنوا شيئا ينهدم فامتنعوا وحوطوا على قبره بحجارة. وقال ابن فضل الله: حكى لنا أخوه الشيخ عبد الرحمن، أنه لما مرض مرض موته، اشتهى أكرم نزلي، وتقبل عملي، وأول قراي جاءني الفتاح. وأخبرني بعض الطلبة أن شخصا جاء إلى قبره وجعل يقول: أنت الذي تخالف الرفعي وتقول: قلت.. قلت، ويشير إليه بيده، فما قام حتى لدغته عقرب. ورأيت في (إنباه الغمر) الشيخ الاسلام ابن حجر في ترجمة الجمال الريمي شارح التنبيه أنه كان كثير الازدراء، بالشيخ محيي الدين فلما مات جاءت هرة وهو على المغتسل، فانتزعت لسانه قال: فكان ذلك عبرة للناس. ذكر شئ مما رثي به: قال الشيخ الأدب أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمر بن أبي شاكر الحنفي الأربلي: عز العزاء، وعم الحادث الجلل * وخاب بالموت في تعميرك الامل واستوحشت بعدما كنت الأنيس بها * وساءها فقدك: الأسحار والأصل أسلى قوامك عن قوم مضوا بدلا * وعن قوامك لا مثل ولا بدل فمثل فقدك ترتاع العقول به * وفقد مثلك جرح ليس يندمل
76 وكنت تتلو كتاب الله معتبرا * لا يعتريك على تكراره ملل قد كنت للدين نورا يستضاء به * مسدد منك فيه القول والعمل وكنت في سنة المختار مجتهدا * وأنت بالمن والتوفيق مشتمل وكنت زينا لأهل العلم مفتخرا * على جديد كساهم ثوبك السمل وهذت في باطل الدنيا وزخرفها * عزما وحزما، فمضروب بك المثل أعرضت عنها احتقارا غير محتفل * وأنت بالسعي في أخراك محتفل عزفت عن شهوات ما لعزم فتى * بها - سواك - إذا عنت له قبل عزفت عن شهوات ما لعزم فتى * بها - سواك - عنت له قبل أسهرت في العلم عينا لم تذق سنة * إلا وأنت به في الحكم مشتغل ترى ذرى تربة من غيبوه به * أو نعشه من على أعواده حملوا يا محيي الدين، كم غادرت من كبد * حرى عليك، وعين دمعها هطل وكم مقام كحد السف، لا جلد * يقوى على صولة فيه ولا جدل أمرت فيه بأمر الله منتضيا * سيفا من العزم لم يصفع له خلل وكم تواضعت عن فضل، وعن شرف * وهمة هامة الجوزاء تنتعل فجعت بالأمس ليلا كنت ساهره * لله، والنوم قد خيطت به المقل رجاك نور نهار كنت صائمة * إذا الهجير بنار الشمس تشتعل * * * يا لاهيا لاهيا عن هول مصرعه * وضاحك السن منه يضحك الأجل لا تخل نفسك من زاد، فإنك من * حين الولاد مع الأنفاس مرتحل وما مقام يديم اليسر يتبعه * إلى محل تلاة سابق عجل وقال أيضا: نبأ أصم به واصمى الناعي * فجنى على الابصار والاسماع غدت النفوس به شعاعا إذ بدت * شمس الضحى حزنا بغير شعاع أودى بها خوف التفرق قبله * ما أشبه الأوجال بالأوجاع حل المصاب برب كل فضيلة * وبباب كل ثنية طلاع هاد إلى السنن القويم وسنة الهادي * جميل مناقب ومساع يحيى الذي أحيا الفضائل سعيه * وهدى ببارق ذهنه اللماع القانت، القوام، والصوام، * والساعي بخطو في العلوم وساع
77 ما زال وأحد عصره في دهره * إلى سبيل الحق أفضل داع حبر جليل، جل في تأبينه * عن رتبة الاشعار والأشجاع وقال قاضي القضاة نجم الدين أحمد بن محمد بن سالم بن الحسن بن صصري: أعيني جودا بالدموع الهوامل * وجودا بها كالساريات الهواطل على الشيخ محيي الدين ذي والتقي * ورب الهدى والزهد، حاوي الفضائل على قانت، بر، طهور، موفق على عالم بالنسك والدين عامل وسيلا دما، فالدمع ليس بناقع * غليلي، ولا مطف أوام مفاصلي لقدم كان فردا في الزمان مكفلا * عديم نظير أو شبيه مساجل لقد كان عن دين الاله مناضلا * فأكرم به من دين ومناضل لقد كان في الدنيا الدنية زاهدا * فلم يله منها فظ يوما بطائل لقد كان في الأخرى العلية جاهدا * فنوله منها رب أشرف نائل لقد كان بالمعروف للناس آمرا * وناهيهم عن منكرات وباطل فكم قام في الاسلام حق قيامه * وما عاقه عن قصده عذل عاذل وكم لذوي الجاهات واجه معلنا * بانكاره عند الصحي والأصائل وكم بالهدى والحق شافه منكرا * إذا لم يكن يصغي لأقوال قائل فإن هو عن رؤياه أصبح عاجزا * يبلغه إنكاره في الرسائل وقال الشيخ أبو الحسن علي بن المظفر بن إبراهيم الكندي: لهفي عليه سيدا وحصورا * سندا لاعلام الهدى، وظهيرا ومجاهدا ومجاهرا في الله لا * يخشى مليكا قاهرا، وأميرا ومشيدا ركن الشريعة، ناصحا، * بالباقيات الصالحات مشيرا عف من الدنيا، وكم عرضت له * جلا فأولاها قلى ونفورا هجر الكرى والطيبات تورعا، * إذ قام ديجورا، وصام هجيرا أحيى شريعة أحمد، وأفاضها * فأفادنا نشرا لها ونشروا
78 يفتي، فيفتن كل حبر علمه * مع أنه يهدي الهدى والنورا ما مات يحيى، إنما جبل هوى * فأخاف ذلك يذبلا وثبيرا إن المدارس وحشة لفراقه * أضحت دوارس لا تبين، دثورا وكذا المساجد بالمصابيح انثنت * تبدي عليه حرقة وزفيرا تلك الزوايات والثياب الخشن قد * عادت عليه جنة وحريرا آها على الأواه والأواب من * صدق المقال لنفسه، هجيرا والطاهر الاعراض والاعراض لا * يبدي رياء للأنام وزورا وزر به عند الحوادث تتقى * عند الملوك به الورى المحذورا ضمن توى الجولان من أخلاقه * نورا إذا ظن السحاب غديرا وتقدست بقدومه من قدسه * فيها قبورك طاهرا وطهورا وقال أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن مصعب، قال ابن فضل الله - وكان قرأ عليه قطعة من الروضة: أأكتم حزني والمدامع تبديه * لفقد امرئ كل البرية تبكيه رأى الناس منه زهد يحيى سميه * وتقواه، فيما كان يبدي ويخفيه ولم يرض بالدنيا، ولا مال لحظة * إلى عيشها، فالله لا شك يرضيه تحلى بأوصاف النبي وصحبه * وأتباعه هديا فمن ذا يدنيه؟ حديث رسول الله والفقه دأبه * يصنفه في ذا، وهذاك يرويه يرى الموت يحيى في إماتة بدعة * وكم سنة أحيى بحسن مساعيه شكا فقده علم الحديث وحفظه * وأهلوه، والكتب الصحاح، وقاريه ولاح على وجه العلوم كآبة * تخبر أن الدين قد مات محييه إذا عدم الاسلام أشرف أهله * فلا غرو أنا في المصاب نعزيه وقال الفقيه سليمان بن أبي الحارث الأنصاري الحنفي: مصاب أصاب القلب للجفن أرقا * وخطب أتى بالحزن للصبر فرقا ورزء تغشى المسلمين بأسرهم * وسهم إلى عين الشريعة فوقا ولم يعد قبل الشافعية فضله * وإن كان قد عم الطوائف مطلقا وضاق القضاء الرحب، حتى لقد غدا * كسم حياط، أو من السم أضيقا
79 بمن كان حليا للزمان وأهله * وعقد نظام العلم والحلم والتقى إذا ما اقتضاه الشرع من أجل حادث * فرى هامة الخطب الجسيم، وفرقا فأصبحت الأقطار والكون كله * لفقدك محيي الدين بيدا سملقا فأرثيك لا أني ظننتك ميتا * وكيف وإحياء العلوم هو البقا أبا زكريا للمرء ملجا * يرد الردى عنه، ولو جر فيلقا أحيى ولو أن الموت يثنيه عن فتى * ثبات جنان، لانثنى عنه أخرقا وما مد صرف الدهر نحوك باعه * ولا ضم جنبيك الصفيح مطبقا وكيف يواري المرء علما غدا به * على سعة - صدر البسيطة ضيقا فطوبى لقبر ضمه، فلقد غدا * يباهي به دار المقامة والبقا وقال الفقيه أبو عبد الله محمد المنبجي، أحد فقهاء الناصرية بدمشق: سبل العلوم تقطعت أسبابها * وتعطلت من حليها طلابها لمصيبة عز العزاء لها، كما * في الناس قد جلت وجل مصابها يا أيها الحبر الذي من بعده كل الفضائل غلقت أبوابها أضحى على الدنيا لفقدك وحشه * ما اعتادها من قبل ذا أربابها مسودة أيامها، متغير * أحوالها، مستوحش محرابها لله أي بحار فضل غيضت * من بعد ما زخرت، وعب عبابها من للمسائل أعضلت؟ من للفتاوى * أشكلت عن أن يرد جوابها؟ من للتقى؟ من للحجى * طويت - لفقد أليفها - أثوابها وقال أبو الفضل يوسف بن محمد بن عبد الله الكاتب، قارئ دار الحديث، من قصيدة يرثي بها أشياخه، بعد ذكر ابن الصلاح، والسخاوي، وأبي شامة، وغير هم. وكذاك محيي الدين فاق بزهده * وبفقهه الفقها مع الزهاد القانت الأواب، والحبر الذي * نصر الشريعة دائما بجهاد تبكيه دار للحديث وأهلها * لخلوها من فضله المعتاد لم يبق بعدك للصحيح معرف * قد كنت فيه جهبذ النقاد من ذا يبين مسندا من مرسل * أو من حديث عد في الافراد
80 أو كان مقطوعا ضعيفا معضلا * أو كان موضوعا لذي الحساد أو من يبين منكرا في متنه * أو من يعرف علة الاسناد؟ من ذا لرفع المنكرات وقد غدت * بين الأنام كثيرة الترداد؟ ونصرت دين الله وحدك جاهدا * ودفعت عنه شبهة المراد وقال العفيف التلمساني: نعم بعد يحيى معهد الفضل دارس * فما أنصفت إن لم تنحه المدارس فيا صبر مت عندي، ويا حزن فلتعش * فإن النواوي قد حوته الروامس بكته مساعيه التي بذت الألى * سعوا للعلى في أرضهم وهو جالس وناحت عليه ورق أوراقه، وما * لها من سوى الأقلام قصب بوائس وأقسم ما نفس بكته نفيسة * إذا لم تساعدها الدموع النفائس تلهب قلب البرق، والرعد صارخ * أسى، ودموع الغاديات بواجس وظل وبات اللؤلؤ الرطب حاسدا * مدامع فيه تقول المجالس ومثوى الربى فيه حسد الثرى * فماذا عسى فيه تقول المجالس لقد كان يحيي الليل يحيى ساهدا * وجفن سمير النجم في الأفق ناعس ويطوي على الداء الدفين من الطوى * أضالع ما فيها سوى الذكر هاجس ويرضى جليس الخير ممتع بحثه * فينقاد للحق المماري الممارس فان تضحك الأخرى سرورا بمثله * فوجهك يا دنيا من الفقد عابس وكنت به مثل العروس فأصبحت * لديه من الحور الحسان عرائس فلله غصن عندما تم زهره * وأينع: أضحى رطبه وهو يابس وبدر تمام، والبدور متى تغب * تراح، وهذا منه قلبي آيس فأقسم ما النعمى بها القلب ناعم * عليه ولا البؤسى بها القلب بائس وهيهات لو اني صديق ومات لم * أعش بعده لما حوته الروامس فيا دهر هل كانت مناياه أكؤسا * ملئت بها سكرا، فرأسك ناكس؟ لقد أجفلت غر المسائل بعده * وعهدي بها من قبل وهي أوانس نطار منهن الشرود كأنها * مها تدريها بالقسي الفوارس ولو أنه فينا لعدن وكنس * الجواري لدينا، لا الظباء الكوانس
81 له في رسول الله والآل أسوة * وأصحابه، عنهم تقول الفرادس أبوا أن يؤوبوا نحو دنيا دنية * ملابسه تعرى بها وهو لابس وكيف نبكيه ونعلم أنه * على ما إليه صار كان ينافس خاتمة الأولى: روى الحاكم في المستدرك، وأبو داود، وغيرهما، عن أبي هريرة، قال الإمام أحمد: فكان على رأس المائة الأولى عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس الثانية الإمام الشافعي. قالوا: وعلى رأس الثالثة أبو العباس بن سريج، وقيل: الأشعري، والرابعة أبو الطيب سهل الصعلوكي، وقيل الشيخ أبو حامد إمام العراقيين والسادسة الفخر الرازي، وقيل: الرافعي، والسابعة ابن دقيق العيد. وهكذا ذكره ابن السبكي في الطبقات. قلت: وقد ذكر شيخ شيوخنا حافظ العصر زين الدين العراقي في ترجمة جمعها للشيخ جمال الدين الأسنوي، أنه المبعوث على رأس المائة الثامنة. والشيخ محيي الدين أحق بأن يكون على رأس المائة السابعة، بل هو أقرب إلى القرن من الأسنوي، فإن وفاته - كما تقدم - سنة 676، ووفاة الأسنوي سنة 673 وفي ظني أن الشيخ زين الدين العراقي نقل في ترجمته المذكورة، أن بعضهم ذكر ذلك في شأن النووي، وأنه قاس الأسنوي عليه من حيث تأخر زمنه عن رأس القرن. وقيل: إن المبعوث على رأس المائة الثامنة شيخ الاسلام سراج الدين البلقيني. وقد نظم فيمن تقدم أبيات مفرقة، فقال بعضهم يخاطب ابن سريج. اثنان قد مضيا، فبورك فيهما * عمر الخليفة، ثم حلف السودد الشافعي، الألمعي محمد * ارث النبوة، وابن عم محمد ابشر أبا العباس، أنك ثالث * من بعدهم، سقيا لتربة أحمد وقال بعضهم مذيلا: والرابع المشهور سهل محمد * أضحى إماما عند كل موحد يأوي إليه المسلمون بأسرهم * في العلم إن جاؤوا لخطب مؤيد
82 لا زلت فيما بيننا خير الورى * للمذهب المختار خير مجدد وقال الشيخ تاج الدين السبكي مذيلا: ويقال: إن الأشعري الثالث * المبعوث للدين القويم الأيد والحق ليس بمنكر هذا، ولا * هذا وعلهما أمران فعدد هذا لنصرة أصل دين محمد * كنظير ذلك في فروع محمد وضرورة الاسلام داعية إلى * هذا وذاك ليهتدي من يهتدي وقضى أناس أن أحمد * الأسفراييني رابعهم، ولا تستبعد فكلا هما فرد الورى المعدود من * حزب الإمام الشافعي محمد الخامس الحبر الإمام محمد * هو حجة الاسلام دون تردد وابن الخطيب السادس المبعوث إذ * هو للشريعة كان أي مؤيد السابع ابن دقيق عيد فاستمع * فالقوم بين محمد أو أحمد وانظر لسر الله أن الكل من * أصحابنا، فافهم، وانصف ترشد هذا على أن المصيب أمامنا * أجلى دليل واضح لمهتدي يا أيها الرجل المريد نجابة * دع ذا التعصب والمراء، وقلد هذا ابن عن المصطفى وسميه * والعالم المبعوث، خير مجدد وضح الهدى بكلامه وبهديه * يا أيها المسكين لم لا تقتدي؟ وقلت أنا مذيلا: ويقال: إن السادس الشيخ الامام * م الرافعي، وليس بالمستبعد فهو المجدد للفروع وذلك * المحيي حقيقا أصل دين محمد والسابع الشيخ النواوي الذي، قد حرر الدين الرضى للمقتدي والثامن الشيخ الجمال الأسنوي * منقح الاحكام للمسترشد والعالم الأسمى سراج الدين ذو * بلقينة، نقلوا، ولا تستبعد فكلاهما شيخ لذلك العصر قد * كانا لأهل الدين أفضل مرشد والحق أن البعث لا * يختص فردا عنده عن مفرد بل كل حبر كان موجودا فهو * ما قد أراد به حديث المرشد ودليله أن الغموس لمن يرى * فمفادها للجمع أظهر فاهتد
83 الثانية: في سلسلة الفقه للشيخ قال الشيخ في تهذيب الأسماء واللغات: هذ من المطلوبات المهمات، والنفائس الجليلات، التي للمتفقه والفقيه معرفتها، ويقبح بهما جهالتها، فإن شيوخه في العالم آباء له في الدين، ووصله بينه وبين وبين رب العالمين. وكيف لا يقبح جهله الأنساب والوصلة بينه وبين ربه الكريم الوهاب، مع أه مأمور بالدعاء لهم، وبرهم، وذكر مآثر هم، والثناء عليهم، وشكر هم فأذكر هم مني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحينئذ يعرف من كان في عصرنا وبعده طريقة، باجتماعها هي وطريقي قريبا. وحينئذ يعرف من كان في عصرنا وبعده طريقة، باجتماعها هي وطريقي قريبا. قال: فأما أنا فأخذت الفقه قراءة وتصحيحا، ذ وسماعا، وشرحا وتعليقا، عن جماعات: أولهم: شيخي الإمام أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد المغربي: ثم شيخنا: عبد الرحمن بن نوح المقدسي. ثم شيخنا: أبو حفص عمر بن أسعد بن أبي غالب الربعي الأربلي: ثم شيخنا: أبو الحسن سلار بن الحسن الأربلي: وتفقه شيوخنا الثلاثة الأولون على الامام أبي عمرو بن الصلاح، وتفقه هو على والده في طريق العراقيين على أبي سعد بن أبي عصرون، وأبو سعد على أبي علي الفارقي، والفارقي علي الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، والشيخ على القاضي أبي الطيب الطبري، والقاضي على أبي الحسين الماسرجي، وهو على أبي إسحاق المروزي، وهو على أبي العباس بن سريج، وهو على أبي القاسم الأنماطي، وهو على المزني، وهو على الشافعي، وهو على مالك وهو على ربيعية، ونافع، وهما على ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: وأما طريق الخراسانيين فأخذتها عن شيوخنا المذكورين عن ابن الصلاح، عن والده، عن أبي القاسم بن البزري، عن الكيال، عن أبي المعالي إمام الحرمين، عن والده، عن أبي عبد الله بن أحمد القفان الصغيرة، عن أبي زيد المروزي، عن أبي إسحاق المروزي، عن ابن سريج بسنده السابق.
84 قال: وتفقه شيخنا سلار على الامام أبي بكر الماهاني، وهو عن ابن البزري بطريقه السابق. قلت: وأنا أخذت الفقه عن جماعة أجلهم: والده شيخ الاسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقيني، وهو عن جماعة منهم الشيخ شمس الدين بن علان، وهو عن الوجيه عن الوهاب بن حسن البهنسي، وهو عن البهاء الجميزي، وهو عن عبد الوهاب بن حسن البهنسي، وهو عن البهاء الجميزي، وهو عن ابن أبي عصرون بطريقه السابق، فباعتبار طريقنا هذا كان شيخي أخذه عن النووي. الثالثة: في نسبة الشيخ الحزامي قال ابن العطار: ذكر لي الشيخ - قدس الله روحه -: ان بعض أجداده كان يزعم أنها نسبة إلى حكيم بن حزام. قال الشيخ: وهو غلط، بل إلى حزام، جد لنا نزل الجولان، بقرية نوى، على عادة العرب، فأقام بها، الله ذرية، إلى أن صار منهم خلق كثير. الرابعة: نوى وفيها يقول بعضهم: لقيت خيرا يا نوى * وكفيت من شر النوى فلقد نشأ بك عالم * لله أخلص ما نوى وعلى عداه فضله * فضل الحبوب على النوى والنسبة إليها نووي، بحذف الألف بين الواوين على الأصل، وقلب الألف الأصلية واوا. ويقال: نواوي، بتخفيف الياء والألف بدلا عن إحدى ياءي النسب، كما يقال: يمني ويماني بتخفيف الياء في الثانية. ورأيت كلا الامرين بخطه رحمه الله تعالى. ورأيت في تعليقة للقاضي عز الدين ابن جماعة بخطه. قال ابن العطار: لما ودعت الشيخ محيي الدين النووي بنوى حين أردت حين أردت السفر للحج، حملني السلام إلى الامام أبي اليمن عساكر، فلما بلغته سلامه، رد علي وسألني: أين تركته؟ قلت: ببلدة نوى، فأنشدني بديها: أمجمعين على نوى اشتاقكم * شوقا يجدد لي الصبابة والجوى
85 فأروم قربكم لأبي مرتج * يا سادتي قرب المقيم على نوى الخامسة: والد الشيخ شرف ذكره الصلاح الصفدي في تاريخه، وقال: توفي (1). إسناد حديث الشيخ رحمه الله تعالى أخبرني (1) شيخ الاسلام علم الدين البلقيني إجازة عن والده، عن الحافظ أبي الحجاج المزي، أخبرنا الإمام أبو زكريا النووي، أخبرنا الإمام ابن قدامة المقدسي، حدثنا أبو حفص بن طبرزد. وكتب لي عاليا بدرجتين أبو عبد الله الحلبي، عبد الصلاح بن أبي عمرو عن أبي الحسن بن البخاري، أخبرنا ابن طبرزد، أخبرنا أبو الفتح الكرخي، أخبرنا أبو عامر الأزدي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، أخبرنا أبو العباس المحبوبي، أخبرنا أبو عيسى الترمذي، أخبرنا عبد الله بن أبي زياد، أخبرنا سيار، أخبرنا عبد الواحد بن زياد، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقيت إبراهيم حين أسري، بي، فقال: اقرئ أمتك مني السلام، وأخبر هم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها فيعان، وان غراسها سبحان الله، والحمد الله ولا إله إلا الله، والله أكبر. قال الترمذي: حديث حسن: قال الشيخ في التهذيب: قد من الله علينا، ان جعل لنا رواية متصلة، وسببا متعلقا، بخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. أخبرني أبو الفضل محمد بن عمر، أخبرنا أبو إسحاق التنوخي، أخبرنا الحافظ أبو الفضل محمد بن عمر، أخبرنا أبو إسحاق التنوخي، أخبرنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي، أخبرنا علي بن إبراهيم بن العطار، أخبرنا يحيى بن شرف الفقيه، أخبرنا خالد بن يوسف. وكبت إلى عاليا بثلاث درجات، أبو عبد الله الحلبي، عن ابن الصلاح أبي عمرو، عن أبي الحسن بن البخاري قالا: أخبرنا أبو اليمن الكندي، أخبرنا
86 المبارك بن الحسين، أخبرنا علي بن أحمد، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، أخبرنا عبد الله بن شيبان، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من طلب الشهادة صادقا من قلبه أعطيها ولو لم تصبه... أخرجه مسلم. وقد ختمنا بهذا الحديث كتابا، رجاء أن يختم الله لنا بالشهادة، وأن يجعلنا من الدين لهم الحسنى وزيادة. وهذا آخرة والله أعلم. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم.
87 الامام السيوطي نسبه (1) هو الامام المتأخرين، علم أعلام الدين، خاتمة الحفاظ أبو الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن سابق الدين بن الفخر عثمان الصلاح أيوب بن ناصر الدين محمد بن الشيخ همام الدين الهمام الخضيري الأسيوطي، ولقب رحمه الله بجلال الدين. وكنيته أبو الفضل: وكان سبب كنيته أنه عرض على العز الكناني الحنبلي فقال له ما كنيتك. قال: كنية لي. أبو الفضل وأما نسبه بالخضيري. فقد تحدث عنها رحمه الله في ترجمة لنفسه في حسن المخاضرة فقال: وأما نسبتنا بالخضيري فلا أعلم ما تكون إليه هذه النسبة إلا الخضيرية محلة ببغداد وقال أيضا. وقد حدثني من أثق به أنه سمع والدي رحمه الله تعالى يذكر أن جده الاعلى كان أعجميا أو من الشرق فالظاهر أن النسبة إلى المحلة المذكورة. مولده ولد رحمه الله بعد المغرب ليلة الأحد مستهل رجب سنة وأربعين وثمانمائة
89 هجرية، فقد ولد رحمه الله في بيت عرف بالعلم والأدب وسمو المكانة وعلو المنزلة، ولا عجب فقد كان أبوه، علما من الاعلام وفقيها من فقهاء الشافعية المرموقين، فقد ولي رحمه الله في مستهل حياته منصب القضاء في أسيوط ثم انتقل إلى مصر حيث أسند إليه بها منصب الافتاء على مذهب الإمام الشافعي. وتوقي ولده وله من العمر خمس سنوات وسبعة أشهر وقد وصل من حفظ القرآن إذا ذاك إلى سورة التحريم ولكن الله تعالى قد كلأه بعنايته وأحاطه برعايته فقيض له العلامة الكمال ابن الهمام، فكان رحمه الله يرعاه ويتابعه في تحفيظ القرآن وذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم. نشأته نشأ رحمه الله نشأة علمية منذ نعومة أظفاره، فقد كان ولده رحمه الله شديد الحرص على توجيهه الوجهة الصالحة إذ كان يحفظ القرآن الكريم في صغره ويستصحبه إلى دور العلم ومجالس القضاء ودروس الفقهاء وسماع الحديث. ويذكر المؤرخون الذين ترجموا له رحمه الله أن أباه قد طلب من الشيخ شهاب الدين بن حجر العسقلاني صاحب الفتح أن يدعو له بالبركة والتوفيق، وكان رحمه الله يرى في الحافظ ابن حجر مثله الاعلى وكان يترسم خطاه ويحذو حذوه فيما بعد حتى قيل إنه شرب من ماء زمزم بنية أن يجعله الله مثل ابن حجر فاستجاب الله سبحانه وتعالى له فكان من أكبر الحفاظ. طلبه للعلم كان السيوطي رحمه الله شديد الذكاء، قوي الذاكرة، حفظ القرآن وهو دون ثماني سنين حفظ عمدة الاحكام وشرحه لابن دقيق العيد ثم حفظ منهاج الامام النووي في فقه الشافعية ثم منهاج البيضاوي في الأصول ثم ألفية ابن مالك في النحو ثم تفسير البيضاوي. وعرض ذلك رحمه الله على طائفة من مشايخ الاسلام مثل البلقيني وعز الدين الحنبلي وشيخ الأقصراني فأجازه هؤلاء وغيرهم. ولم يدع رحمه الله من فروع المعرفة ولا نوعا من أنواع العلم إلا وقد أدلى
90 فيه بدلو وتلقاه عند أهله، فأخذ الفقه عن شيخ الشيوخ سراج الدين البلقيني وقد لازمه إلى أن توفي فلازم من بعده ولده علم الدين. أخذ الفرائض عن فرضي زمانه الشيخ شهاب الدين الشارمساحي، ولازم الشرف المناوي أبا زكريا محمد بن عبد الرؤوف شارح الجامع الصغير. وأخذ العلوم العربية عن الامام العلامة تقي الدين الشبلي الحنفي وكتب له تقريظا على شرح ألفية ابن مالك. ولزم العلامة محيي الدين الكافيجي أربع عشرة سنة فأخذه عنه التفسير والأصول والعربية والمعاني وأخذ عن جلال الدين المحلي وعن المعز الكناني أحمد بن إبراهيم الحنبلي، وحضر على الشيخ سيف الدين الحنفي دروسا عديدة في الكشاف والتوضيح وحاشية عليه وتلخيص المفتاح في البلاغة، وقد أجيز بتدريس في مستهل سنة ست وستين وثمانمائة، أي في سن الخامسة عشرة وأخذ أيضا عن المجد بن السباع وعبد العزيز الوقائي الميقات، وأخذ الطب عن محمد بن إبراهيم الدواني الرومي. والمتتبع لنشأة السيوطي يجد أنه قد أخذ الكثير من العلوم عن الكثير من المشايخ. وقد ذكر بعض أهل العلم ممن ترجعوا له أن شيوخه قد وصلوا نحو ستمائة ولا غرابة في ذلك ولا عجب فإن السيوطي قد عاش حياته يأخذ العلم حيث وجده وعن كل من يلقاه وأنه أكثر من السفر والترحال في سبيل تحصيل العلم ورواية الحديث. وذكر أيضا في بعض الروايات أنهم مائة وخمسون شيخا وشيخة وفي بعضها قارب عدد هم الستمائة على ما ذكر آنفا. قيامه بالتدريس كان الامام السيوطي رحمه الله خير مؤدبي عصره وأفضل مدرسيه إذ اشتهر بالبراعة في الشرح والروعة في الاملاء ومن ثم شدت إليه الرحال من كل مكان فكان رحمه الله يدرس العربية في سن مبكرة إذ كان عمره وقت إجازته بالتدريس خمسه عشر عاما فقط وهي قصيرة من أعمار العلماء الأعلام ثم شرع أيضا في تدريس الفقه وإملاء الحديث سنة اثنتين وسبعين وثمانمائة أي بعد مباشرته تدريس العربية بنحو
91 ست سنوات ثم شرع بعد ذلك يزاول التدريس والاملاء، في مختلف العلوم وشتى الفنون فقال متحدثا عن نفسه متحدثا بنعمة الله أنه رزق التبحر في سبعة علوم: التفسير والفقه والحديث والنحو والمعاني والبيان والبديع على طريقة العرب البلغاء لا على طريقة العجم وأهل الفلسفة. وكان رحمه الله يقول أيضا إنه بلغ الاجتهاد إذ قال: وقد كملت عندي الآن آلات الاجتهاد وبحمد الله تعالى أقول ذلك متحدثا بنعمة الله تعالى لا فخر، ولو شئت أن أكتب في كل مسألة مصنفا بأقوالها وأدلتها النقلية والقياسية ومداركها ونقوحها وأجوبتها والموازنة بين اختلاف المذاهب فيها لقدرت على ذلك من فضل الله مصنفاته لم يدع السيوطي فنا إلا وكتب فيه، وبدأ في التأليف في سن مبكرة إذ ذكر المترجمون له أنه شرع في التصنيف سنة ست وستين وثمانمائة هجرية وكان أول شئ ألفه في التفسير وهو تفسير للاستعاذة والبسملة وقد عرضه على شيخ الاسلام علم الدين البلقيني فأجازه وكتب له تقريظا حسنا، ثم توالى بعد ذلك تأليفه. وقد اختلف الباحثون في عدد المصنفات التي أثرى بها الحافظ الجلال السيوطي المكتبة اختلف الباحثون في عدد المصنفات التي أثرى بها الحافظ الجلال السيوطي المكتبة الاسلامية فمنهم من يرى أنها تبلغ إحدى وستين وخمسمائة وهو ما ذهب إليه فلوجل وأما ما ذهب إليه بروكلمان فقد عدله خمسة عشر وأربعمائة كتاب. ولقد حدثنا رجل فاضل أنه ألف كتابا للحافظ السيوطي تكلم عنه وترجم له وعد مصنفاته حتى بلغت ستا وألف كتاب وهذا إن دل إنما يدل على سعة تبحره كما ذكرنا. وهنا أورد بعض مصنفات هذا الامام الجليل. فمن أهم تصانيفه على سبيل المثال لا الحصر: 1 - الاخبار المروية في سبب وضع العربية. 2 - الأشباه والنظائر في النحو. 3 - الاقتراح في علم أصول النحو.
92 4 - الألفاظ المعربة. 5 - البهجة المرضية في شرح الألفية. 6 - الفريدة. وهي ألفية وله شرح عليها. 7 - التاج في إعراب شكل المنهاج. 8 - المصاعد العلية في القواعد النحوية. 9 - النكت على الألفية والشافية والشذور والنزهة. 10 - المزهر في علوم اللغة. 11 - السيف الصقيل في حواشي ابن عقيل. 12 - الشمعة المضيئة شرح كافية ابن مالك. 13 - تعريف الأعجم بحروف المعجم. 14 - جمع الجوامع في النحو. 15 - رفع السنة في نصب الزنة. 16 - شرح جمع الجوامع. 17 - شرح القصيدة الكافية في التعريف. 18 - شرح تصريف العزى. 19 - شرح لمعة الاشراف في الاشتقاق. 20 - شذا العرف في إثبات المعنى للحرب. 21 - شرح شواهد المغني. 22 - شرح أبيات تلخيص المفتاح. 23 - عقود الجمان في علم المعاني والبيان. 24 - فجر الثمد في إعراب أكمل الحمد. 25 - قطر الندى في ورود الهمزة للندى. 26 - نكت على التلخيص يسمى الافصاح. 28 - نكت على شرح الشواهد للعيني. 29 - نظم البديع في مدح خير شفيع. 30 - الدر المنثور في التفسير بالمأثور.
93 31 - تناسق الدرر في تناسب السور. 32 - المعاني الدقيقة في إدراك الحقيقة. 33 - إتمام النعمة في اختصاص الاسلام بهذه الأمة. 34 - الديباح على صحيح مسلم بن الحجاج. 35 - كشف الغطاء على موطأ مالك. 36 - تنوير السافرة عن أمور الآخرة. 37 - البدور السافرة عن أمور الآخرة. 38 - نتيجة الفكر في الجهر بالذكر. 39 - مسالك الحنفا في إسلام والدي المصطفى. 40 - نشر العلمين في إحياء الأبوين الشريفين. 41 - ذم القضاء. 42 - ذم زيادة الامراء. 43 - التنفيس عن ترك الافتاء والتدريس. 44 - الأحاديث الحسان في فضل الطيلسان. 45 - طي اللسان عن ذم الطيلسان. 46 - التضلع في معنى المتقنع. 47 - عين الإصابة في ما استدركته عائشة على الصحابة. 48 - الاحتفال بالأطفال. 49 - الأوج في خبر عوج. 50 - الوديك في الديك. 51 - الطرثوث في فوائد البرغوث. 52 - مختصر النهاية لابن الأثير. 53 - الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع. 54 - مختصر الخادم. 55 - شرح الروض لابن المقرئ. وغير ذلك مما حوته كتب التراجم.
94 ثناء العلماء عليه لم أجد ترجم لهذا الامام إلا وقد شهد له بالبراعة والتبحر، ولقد أثنى عليه شيوخه وأقرانه وتلاميذه والعلماء من بعده ممن قرأ كتبه. فيقول أبو الحسنات محمد محمد عبد الحلي اللكنوي في حواشيه على الموطأ بعد أن ذكر السيوطي: وتصانيفه كلها مشتملة على فوائد لطيفة وفرائد شريفة تشهد كلها بتبحره وسعة نظره ودقة فكره وأنه حقيق بأن يعد من مجددي الملة المحمدية في بدء المائة العاشرة وآخر التاسعة كما ادعاه بنفسه وشهد بكونه حفيا به ممن جاء بعده كعلي القارئ المكي في المرآة. انقطاعه عن التدريس والقضاء والافتاء انقطع الشيخ رحمه الله عن التدريس والافتاء لما بلغ أربعين سنة من عمره وأخذ في التجرد والانقطاع لله تعالى والاشتغال والاعراض عن الدنيا وأهلها كأنه لم يعرف أحدا منهم وشرع في تحرير مؤلفاته التي سبقت الإشارة إليها وألف رسالة يعتذر فيها عن التدريس سماها (التنفيس في الاعتذار عمن ترك الافتاء والتدريس). وأقام رحمه الله في روضه المقياس فلم يتحول منها إلى أن مات. فيردها، وفي ذات يوم من الأيام أرسل له السلطان الغوري خصيا وألف دينار، فرد الألف وأخذ الخصي وأعتقه وجعله خادما في الحجرة النبوية وقال لقاصده لا تعد تأتينا قط بهدية فإن الله تعالى أغنانا عن مثل ذلك، وقيل له مرة إن بعض الأولياء كان يتردد أسلم لدين المسلم. وقد طلبه السلطان مرارا يحضر إليه وألف كتابا سماه (ما رواه الأساطين في عدم التردد إلى السلاطين.). وفاته توفي رضي الله عنه في سحر ليلة الجمعة تاسع جمادى الأولى سنة إحدى وعشرة
95 وتسعمائة في منزله بروضة المقياس عن عمر بلغ اثنين وستين عاما وكان له مشهد عظيم، ودفن في حوش قوصون خارج باب القرافة، وصلي عليه بدمشق بالجامع الأموي يوم الجمعة، وقيل أخذ الناس قميصه وقبعته فاشترى بعض الناس قميصه من الناس بخمسة دنانير للتبرك به وباع قبعته بثلاثة دنانير لذلك أيضا. وقد رثاه عبد الباسط بن خليل الحنفي بقوله: مات جلال الدين غيث الورى * مجتهد العصر إمام الوجود وحافظ السنة مهدي الهدى * ومرشد الضال بنفع يعود فيا عيون انهملي بعده * ويا قلوب انفطري بالوقود وأظلمي يا دنيا إذ حق ذا * بل حق أن ترعد فيك الرعود وحق للضوء بأن ينطفي * وحق للقائم فيك القعود وحق للنور بأن يختفي * ولليالي البيض أن تبقى سود وحق للناس بأن يحزنوا * بل حق أن كل بنفس يجود وحق للأجيال خسرا وأن * تطوى السماء طيا كيوم الوعود وأن يفور الماء والأرض ان * تميد وعم المصاب الوجود مصيبة حلت فحلت بنا * وأرثت نار اشتعال الوجود صبرنا الله عليها وأولاده * نعيما حل دار الخلود والله يقول الحق ويهدي السبيل
96 كتاب منتقى الينبوع فيما زاد على الروضة من الفروع تأليف الحافظ جلال الدين السيوطي
97 بسم الله الرحمن الرحيم فرع: قال في شرح المهذب: من البدع المنكرة ما يفعل في كثير من البلدان من إيقاد العظيمة السرف في ليالي معروفة من السنة كليلة نصف شعبان فيحصل بسبب ذلك مفاسد كثيرة. منها: مضاهاة جلوس المجوسي في الاعتناء بالنار والاكثار منها. ومنها: إضاعة المال في غير وجهه. ومنها: ما يترتب على ذلك في كثير من المساجد من اجتماع الصبيان وأهل البطالة ولعبهم ورفع أصواتهم ولقربانهم المساجد وانتهاك حرمتها وحصول أوساخ فيها وغير ذلك من المفاسد التي يجب صيانة المسجد من أفادها (1). انتهى. قال ابن العماد: ومن المفاسد أيضا ما يفعل في الجوامع من إيقاد القناديل وتركها إلى أن تطلع الشمس وترتفع، وهو من فعل اليهود في كنائسهم كما نبه على ذلك الشيخ زين الدين الكناني وأكثر ما يفعل ذلك في يوم العيد وهو حرام. قال: ويشبه ذلك وقود الشمع الكثير ليلة عرفة، وقد ذكر النووي في شرح المهذب أنه حرام شديد التحريم. وقال ابن الحاج في المدخل: ليس للانسان في المسجد إلا موضع قيامه
99 وسجوده وجلوسه وما زاد على ذلك فلسائر المسلمين (1) فإذا بسط لنفسه شيئا ليصلي عليه احتاج لأجل سعة ثوبه أن يبسط شيئا كثيرا ليعم ثوبه على سجادته فيكون في سجادته اتساع فيمسك بسبب ذلك موضع رجلين أو نحوهما إن سلم من الكبر من أنه لا يضم إلى سجادته أحدا. قال فإن لم يسلم من ذلك وولى الناس عنه وتباعدوا منه هيبة لكمه وثوبه وتركهم وهو لم بالقرب إليه فيمسك ما هو أكثر من ذلك فيكون غاصبا لذلك القدر من المسجد فيقع بسبب ذلك في المحرم المتفق عليه المنصوص عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم حيث قال: (من غصب شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة إلى سبع أرضين) (2) وذلك الموضع الذي أمسكه بسبب قماشه وسجادته ليس للمسلمين به حاجة في الغالب إلا وقت الصلاة وهو في وقت الصلاة وهو في وقت الصلاة غاصب له فيقع في هذا الوعيد بسبب قماشه وسجادته وزيه، فإن بعث بسجادته إلى المسجد في أول الوقت أو قبله ففرشت له هناك وقعد هو إلى أن يمتلئ المسجد بالناس ثم يأتي كان غاصبا لذلك الموضع الذي عملت السجادة فيه لأنه ليس له أن يحجره وليس لاحد فيه إلا موضع صلاته انتهى. فرع: قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في القواعد (3): وأما فضيلة المساجد فليست راجعة إلى أجرامها ولا إلى اعراض قامت بأجرامها وإنما ترجع فضيلتها إلى مقصودها من إقامة الجماعات والجمعات فيها وذلك الاعتكاف فيها، ولذلك منع من البيع والشراء فيها، وإيداع الامكان والأزمان لهذه الفضائل كإيداع الأنبياء والرسل النبوة والرسالة ليست إلا جودا من الله ولذلك قالت الرسل لقومهم (إن نحن إلا بشر مثلهم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده)
100 وكذلك سائر الأوصاف الشراف لم يضعها الرب سبحانه في من شاء من عباده لمعنى اقتضاها واستدعاها بل ذلك من فضل الله يؤتيه من يشاء، كذلك من من به من المعارف والأحوال وحسن الأخلاق، ولم يكن ذلك إلا فضلا من فضله وجودا من جوده على من يشاء من عباده. وكذلك الامكان والأزمان أودع الله في بعضها فضلا لا جود له في غيرها مع القطع بالتماثل والمساواة. وكذلك الأجسام التي فضلت بأعراضها كالذهب والفضة وسائر الجواهر النفيسة. فرع: قال ابن العماد: قال بعض مشايخنا: الأبخر ومن به صنان مستحكم حكمه حكم من أكل الثوم والبصل (1) في منع دخول المسجد وأولى، وفي فتاوى ابن تيمية وبه صرح المالكية أن من بالجذام والبرص وهو من سكان المدارس والرباطات أزعج وأخرج لقوله صلى الله عليه وسلم لا يورد عاهة على مصح) (2). قال ابن العماد: وعلى هذا فيمنع من به برض أو جذام أو صنان مستحكم أو
101 يخر من الجماعات والجمعات ولا يمنع وحده خلف الصفوف ولا يمنع الغير من الصلاة معه وللغير من الوقوف معه ويمنع المجذوم والأبرص من الشرب من السقايا المسبلة في المساجد وغيرها للحديث السابق، وحكم من رائحة ثيابه كريهة كثياب الزياتين والدباغين ونحو هم حكم آكل الثوم (1). وقد نقل الخصوصي مسألة الأبخر ومن به صنان عن شيخه البلقيني فهو الذي أشار به ابن العماد قال: ويستحب لقاصد المسجد أن يتوضأ في بيته لحديث: قال الله تعالى إن بيوتي في أرضى المساجد وإن زواري فيها عمارها وطوبى لعبد تطهر في بيته زارني في بيتي انتهى. قال الزركشي: يجوز دخول الذمي المسجد بلا إذن لحاجة إلى مسلم أو حاجة مسلم إليه. ذكره الروياني وفيه نظر (2). انتهى. قال في شرح المهذب: جاء في دخول الحمام عن السلف آثار متعارضة في الإباحة والكراهة. وأما أصحابنا فكلا مهم فيه قليل وممن تكلم فيه من أصحابنا الامام الفقيه الحافظ أبو بكر السمعاني: جملة القول في دخول الحمام أنه مباح للرجال بشرط الستر (3) وغض البصر ومكروه للنساء إلا لعذر من نفاس أو مرض.
102 وللداخل آداب: منها أن يتذكر بحره حر النار ويستعيذ بالله من حرها ويسأله الجنة وأن يكون قصده التنظيف والتطهير دون التنعيم والترفه. وأن لا يدخله إذا رأى فيها عاريا، ويستغفر الله إذا خرج ويصلي ركعتين. وقال الغزالي في الاحياء: لا بأس بدخول الحمام، دخل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حمامات الشام، وعلى داخله واجبات وسنن فعليه واجبات في عورته صونها عن نظر غيره ومسه فلا يتعاطى أمرها وإزالة وسخها إلا بيده، وواجبات في عورة غيره أن يغض بصره عنها وأن ينهاه عن كشفها، لان النهى عن النكرات واجب فعليه ذلك وليس عليه القبول (1).
103 قال: ولا يسقط الانكار إلا لخوف ضرر أشتم أو نحوه، ولا يسقط عنه بظنه أنه لا يفيد. قال: ولهذا صار الحزم في هذه الأزمان ترك دخول الحمام إذ لا يخلو عن عورات مكشوفة لا سيما ما فوق العانة وتحت السرة، ولهذا يستحب إخلاء الحمام. قال: والسنن عشرة: النية بأن لا يدخل عبثا ولا لغرض من الدنيا بل بقصد التنظيف المحبوب، وأن يعطي الحمام أجرة قبل دخوله، ويقدم رجله اليسرى في دخوله قائلا بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الرجس النجس الخبث المخبث الشيطان الرجيم، وأن يدخل وقت الخلوة أو يتكلف إخلاء الحمام، فإنه وإن لم يكن في الحمام إلا أهل الدين والمحتاطون في العورات، ثم لا يخلو الناس في الحركات عن اكتشاف العورات فيقع عليها البصر. وأن لا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الأول، وأن لا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر الحاجة فهو المأذون فيه، وأن يذكر بحرارته نار جهنم لشبهه بها، وأن لا يكثر الله إذا فرع على هذه النعمة وهي النظافة، ويكره من جهة الطب صب الماء البارد على الرأس عند الخروج من الحمام وشربه، ولا بأس بقوله لغيره عافاك الله، ولا بالمصافحة ولا بأن يدلكه غيره يعني في غير العورة. انتهى. قال ابن عبد السلام: وليس له أن يقيم به أكثر مما جرت به العادة (1). قلت: وروى أبو نعيم في الطب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل القدمين بالماء البارد بعد الخروج من الحمام أمان من الصداع (2). فرع: سئل الشيخ عز الدين بن عبد السلام عن الرجل يدخل الحمام فيجلس بمعزل عن الناس إلا أنه يعرف بالعادة أن يكون معه في الحمام من هو كاشف عروته فهل يجوز له حضوره على هذه الحالة أم لا؟
104 فأجاب: يجوز حضور الحمام، فإن قدر عن الانكار أنكر فيكون مأجورا على إنكاره وإن عجز على الانكار أنكر بقلبه فيكون مأجورا على كراهته، ويحفظ بصره عن العورات ما استطاع ولا يلزمه الانكار، إلا في السوأتين لان العلماء اختلفوا في قدر العورة فقال بعضهم: لا عورة إلا في السوء تين (1) إلا أن يكون فاعل ذلك معتقدا لتحريمه فينكر عليه حينئذ، وما زال الناس يقلدون (2) العلماء في مسائل الخلاف ولا ينكر عليهم ولا يجوز للشافعي أن ينكر على المالكي فيما يعتقد الشافعي تحريمه والمالكي تخليله (3)، وكذلك سائر مذاهب العلماء (4) اللهم إلا أن يكون
105 ذلك المذهب بعيد المأخوذ بحيث يجب نفضه فينكر حينئذ على الذاهب إليه وعلى من يقلده (1). انتهى. وسئل عما يعتاده الوعاظ من قص بعض الشعر لمن تاب من ذنوبه على أيديهم، ومن حلق جميع الرأس هل لهم مستند في ذلك أو هو بدعة؟ فأجاب: أما خلق الرأس من غير النسك فإن كان لمرض فهو ضرب من التداوي المأمور به، وإن كان لغير عذر فهو مباح والمساعدة عليه محبوبة إذا كان تداويا، وجائزة إن كان مباحا، وقد كان الغالب على الصحابة قصا الشعر، ولذلك كان الحلق من شعار الخوارج وليس تعاطي ذلك بمحرم.
106 أما القص فهو على وفق كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، فإنه فعله الشيخ بالتائب كان مساعدا له علي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وليس ذلك ركنا من أركان التوبة ولا شرطا من شروطها. والبدع (1) أضرب (2) منها: أحدها: ما دلت الشريعة على أنه مندوب أو واجب ولم يفعل مثله في العصر الأول فهذا بدعة حسنة. الثانية: ما دلت الشريعة على أنه مندوب أو واجب ولم يفعل مثله في العصر الأول فهذا بدعة قبيحة. الثالث: ما دلت الشريعة على إباحته مع كونه لم يعهد في العصر الأول، فهذا من البدع المباحة، وقص الشعر على وفق السنة ليس بمكروه ولا من البدع. وأما الحلق الذي تمس الحاجة إليه فلا بأس به أيضا (3).
107 وقد أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بغلام قد حلق بعض رأسه فقال: احلقوه كله أو اتركوه كله (1). انتهى. تم الكتاب بحمد الله تعالى وحسن توفيقه، والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبح وسلم.
108 روضة الطالبين للامام أبى زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي المتوفى سنة 676
109 بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر وأعن الحمد (1) لله ذي الجلال والاكرام، والفضل والطول والمنن الجسام، الذي هدانا للاسلام، وأسبغ علينا جزيل نعمه ألطافه العظام، وأفاض علينا من خزائن ملكه أنواعا من الانعام وكرم الآدميين وفضلهم على غيرهم من الأنام، وجعل فيهم قادة يدعون بأمره إلى دار السلام، واجتبى من لطف به منهم فجعلهم من الأماثل والاعلام، فطهر هم من أنواع الكدر (2) ووضر (3) الآثام، وصيرهم بفضله من أولي النهى والاحكام، ووفقهم للدوام على مراقبته ولزوم طاعته على تكرر السنين والأيام، واختار من جميعهم حبيبه وخليله وعبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، فمحا به عبادة الأصنام، وأدحض (4) به آثار الكفر ومعالم الأنصاب والأزلام، واختصه بالقرآن العزيز المعجز وجوامع الكلام. فبين صلى الله عليه وسلم للناس ما أرس به من أصول الديانات والآداب، وفروع الاحكام،
111 وغير ذلك مما يحتاجون إليه على تعاقب الأحوال والأعوام، صلى الله وسلم عليه وعلى جميع الأنبياء والملائكة وآله كل وأتباعهم الكرام، صلوات متضاعفات دائمات بلا انفصام. أحمده أبلغ الحمد وأكمله وأعظمه وأتمه وأشمله، وأشهد أن لا إله إلا الله اعتقادا لربوبيته، إذعانا لجلاله وعظمته وصمديته، وأشهد أن محمدا، عبده ورسوله المصطفى من خليقته، والمختار المجتبى من بريته، صلى الله عليه وسلم وزاده شرفا وفضلا لديه وكرم. أما بعد: فإن الاشتغال بالعلم من أفضل القرب وأجل الطاعات، وأهم أنواع الخير وآكد العبادات، وأولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات، وشمر في إدراكه والتمكن فيه أصحاب الأنفس الزكيات، وبادر إلى الاهتمام به المسارعون إلى المكرمات، وسارع إلى التحلي به مستبقو الخيرات، وقد تظاهر على ما ذكرته جمل ما آيات القرآن الكريمات (1)، والأحاديث الصحيحة النبوية المشهورات (2)، ولا ضرورة إلى الاطناب بذكرها هنا لكونها من الواضحات الجليات. وأهم أنواع العلم في هذه الأزمان الفروع الفقهيات، لافتقار جميع الناس إليها في جميع الحالات، مع أنها تكاليف محضة فكانت من أهم المهمات. وقد أكثر العلماء من أصحابنا الشافعيين وغيرهم من العلماء من التصنيف في الفروع من المبسوطات والمختصرات (3)، وأودعوا فيها من الاحكام والقواعد والأدلة وغيرها من النفائس الجليلات، ما هو معلوم مشهور عند أهل العنايات. وكانت مصنفات أصحابنا رحمهم الله في نهاية من الكثرة فصارت منتشرات، مع ما هي عليه من الاختلاف في الاختبارات، فصار لا يحقق المذهب من أجل ذلك إلا أفراد من
112 الموفقين الغواصين المطلعين أصحاب الهمم العاليات، فوفق الله سبحانه وتعالى، وله الحمد - من متأخري أصحابنا من جمع هذه الطرق المختلفات، ونقح المذهب أحسن تنقيح، وجمع منتشره بعبارات وجيزات، وحوى جميع ما وقع له من الكتب المشهورات، وهو الامام الجليل المبرز المتضلع من علم المذهب أبو القاسم الرافعي (1) ذو التحقيقات (2)، فأتى في كتاب (شرح الوجيز) بما لا كبير مزيد عليه من الاستيعاب مع الايجاز والاتقان وإيضاح العبارات، فشكر الله الكريم له سعيه وأعظم له المثوبات، وجمع بيني وبينه مع أحبابنا في دار كرامته مع أولى الدرجات وقد عظم انتفاع أهل عصرنا بكتابه لما جمعة من جميل الصفات، ولكنه كبير الحجم لا يقدر على تحصيله أكثر الناس في معظم الأوقات. فألهمني الله سبحانه - وله الحمد - أن أختصره في قليل من المجلدات، فشرعت فيه قاصدا تسهيل الطريق إلى الانتفاع به لأولي الرغبات، أسلك فيه - إن شاء الله - طريقة متوسطة بين المبالغة في الاختصار والايضاح فإنها من المطلوبات، وأحذف الأدلة في معظمه وأشير إلى الخفي منها إشارات، وأستوعب جميع فقه الكتاب حتى الوجوه الغربية المنكرات، وأقتصر على الاحكام دون المؤاخذات اللفظيات، وأضم إليه في أكثر المواطن تفريعات، وتتمات، وأذكر مواضع يسيرة على الامام الرافعي فيها استدراكات (3)، منبها على ذلك - قائلا في أوله: قلت: وفي آخره: والله أعلم - في جميع الحالات. وألتزم ترتيب الكتاب - إلا نادرا - لغرض من المقاصد الصالحات، وأرجو - إن تم هذا الكتاب - أن من حصله أحاط بالمذهب
113 وحصل له أكمل الوثوق به أدرك حكم جميع ما يحتاج إليه من المسائل الواقعات. وما أكره غريبا من الزيادات، غير مضاف إلى قائله، قصدت به الاختصار، وقد بينتها في (شرح المهذب) وذكرتها فيه مضافات. وحيث أقول: على الجديد، فالقديم خلافه، أو: القديم، فالجديد خلافه، أو: على قول أو وجه، فالصحيح خلافه. وحيث أقول: على الصحيح أو الأصح، فهو من الوجهين. وحيث أقول: على الأظهر، أو: المشهور، فهو من القولين. وحيث أقول: على المذهب، فهو من الطريقين أو الطرق. وإذا ضعف الخلاف، قلت: على الصحيح، أو المشهور. وإذا قوي، قلت: الأصح، أو الأظهر، وقد أصرح ببيان الخلاف في بعض المذكورات. واستمدادي المعونة والهداية والتوفيق والصيانة في جميع أموري من رب الأرضين والسماوات. أسأله التوفيق لحسن النيات، الإعانة على جميع أنواع الطاعات. وتيسيرها والهداية لها دائما في ازدياد حتى الممات. وأن يفعل ذلك بوالدي ومشايخي وأقربائي وإخواني وسائر من أحبه ويحبني فيه وجميع المسلمين والمسلمات، وأن يجود علينا برضاه ومحبته ودوام طاعته وغير ذلك من وجوه المسرات وأن لا ينزع منا ما وهبه لنا ومن به علينا من الموهوبات، من وجوه أجمعين، وكل من يقرأ هذا الكتاب به، وأن يجزل لنا العطيات، وأن يطهر قلوبنا والاعراض عما سواه في جميع اللحظات. اعتصمت بالله، توكلت على الله، ما شاء الله، لا حول ولا قوة إلا بالله. وحسبي الله ونعم الوكيل، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة.
114 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب (1) الطهارة (2) باب الماء الطاهر قال الله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (3). المطهر للحدث والخبث من المائعات، الماء المطلق خاصة، وهو العاري عن الإضافة اللازمة. وقيل: الباقي على وصف خلقته. وأما المستعمل في رفع حدث (4)، فطاهر، وليس بطهور على المذهب. وقيل: طهور في القديم. والمستعمل في نقل الطهارة، كتجديد الوضوء، والأغسال المسنونة (5)،
115 والغسلة الثانية، والثالثة، وماء المضمضة، طهور على الأصح. وأما ما اغتسلت به كتابية عن حيض لتحل لمسلم (1)، فإن قلنا: لا يجب إعادة الغسل إذا أسلمت، فليس بطهور. وإن أوجبناها - وهو الأصح - فوجهان، الأصح أنه ليس بطهور، وما تطهر به لصلاة النفل، فمستعمل، وكذا ما تطهر به الصبي على الصحيح. والمستعمل الذي لا يرفع الحدث، لا يزيل النجس على الصحيح. والمستعمل في النجس إذا قلنا: إنه طاهر، لا يرفع الحدث على الصحيح. ولو جمع المستعمل فبلغ قلتين، عاد طهورا في الأصح، كما لو انغمس جنب في قلتين، فإنه طهور بلا خلاف (2). ولو انغمس جنب فيما دون قلتين حتى عم جميع بدنه، ثم نوى (3)، ارتفعت جنابته بلا خلاف، وصار الماء في الحال مستعملا بالنسبة إلى غيره على
116 الصحيح. ومقتضى كلام الأصحاب أنه لا يصير مستعملا بالنسبة إلى المنغمس حتى يخرج منه، وهو مشكل. وينبغي أن يصير مستعملا لارتفاع الحدث. ولو انغمس فيه جنبان، ونويا معا بعد تمام الانغماس، ارتفعت جنابتهما بلا خلاف، ولو نوى الجنب قبل تمام الانغماس، إما في أول الملاقاة، وإما بعد غمس بعض البدن، ارتفعت جنابة الجزء الملاقي بلا خلاف، ولا يصير الماء مستعملا، بل له أن يتم الانغماس ويرتفع عن الباقي (1) على الصحيح المنصوص. وقال الخضري (2): يصير مستعملا، (3) فلا ترتفع عن الباقي. قلت: ولو انغمس جنبان، ونوى أحدهما قبل صاحبه، ارتفعت جنابة الناوي، وصار مستعملا بالنسبة إلى الآخر على الصحيح. وإن (4) نويا معا بعد غمس جزء منهما، ارتفع عن جزءيهما، وصار مستعملا بالنسبة إلى باقيهما على الصحيح. والله أعلم. وما دام الماء مترددا على العضو، لا يثبت له حكم الاستعمال. قلت: وإذا جرى الماء من عضو المتوضئ إلى عضو، صار مستعملا، حتى لو انتقل من إحدى اليدين إلى الأخرى، صار مستعملا، وفي هذه الصورة وجه شاذ محكي في باب التيمم. من (البيان) أنه لا يصير، لان اليدين كعضو. ولو انفصل من بعض أعضاء الجنب إلى بعضها، فوجهان، الأصح عند صاحبي (الحاوي) و (البحر): لا يصير. والراجح عند الخراسانيين (5) يصير، وبه قطع جماعة منهم. وقال إمام الحرمين (6): إن نقله قصدا، صار، وإلا،
117 فلا (1). ولو غمس المتوضئ يده في الاناء قبل الفراغ من غسل الوجه، لم يصر مستعملا. وإن غمسها بعد فراغه من الوجه بنية رفع الحدث، صار مستعملا. وإن نوى الاغتراف، لم يصر، وإن لم ينو شيئا، فالصحيح أنه يصير، وقطع البغوي (2) بأنه لا يصير. والجنب بعد النية، كالمحدث (3) بعد غسل الوجه. وأما الماء الذي يتوضأ به الحنفي وغيره ممن لا يعتقد وجوب نية الوضوء، فالأصح أنه يصير (4). والثاني: لا يصير. والثالث: إن نوى، صار، وإلا، فلا، ولو [نوى] (5) غسل رأسه بدل مسحه، فالأصح أنه مستعمل، كما لو استعمل في طهارته أكثر من قدر حاجته (6)، والله أعلم.
118 فصل فيما يطرأ على الماء 6 وضابط الفصل: أن ما يسلب اسم الماء المطلق، يمنع الطهارة به، وما لا، فلا. فمن ذلك المتغير تغيرا يسيرا بما يستغنى عنه، كالزعفران، فالأصح أنه طهور، والمتغير كثيرا بما يجاوره ولا يختلط به، كعود، ودهن، وشمع (1)، طهور على الأظهر. والكافور نوعان. أحدهما: يذوب في الماء ويختلط به. والثاني: لا يذوب. فالأول يمنع، والثاني كالعود. وأما المتغير بما لا يمكن صون الماء عنه، كالطين، والطحلب (2)، والكبريت، والنورة (3)، والزرنيخ (4)، في مقر الماء وممره، والتراب الذي يثور وينبث في الماء، والمتغير بطول المكث، والمسخن، فطهور. قلت: ولا كراهة في استعمال شئ من هذه المتغيرات بما لا يصان عنه، ولا في ماء البحر وماء زمزم (5)، ولا في المسخن ولو بالنجاسة. ويكره شديد الحرارة والبرودة. والله أعلم. والمشمس في الحياض والبرك غير مكروه بالاتفاق، وفي الأواني مكروه على الأصح، بشرط أن يكون في البلاد الحارة، والأواني المنطبعة كالنحاس إلا الذهب والفضة على الأصح. وعلى الثاني (6) يكره مطلقا (7).
119 قلت: الراجح من حيث الدليل أنه لا يكره مطلقا، وهو مذهب أكثر العلماء، وليس للكراهة دليل يعتمد. وإذا قلنا بالكراهة، فهي كراهة تنزيه، لا تمنع صحة الطهارة، وتختص باستعماله في البدن، وتزول بتبريده على أصح الوجوه (1)، وفي الثالث: يراجع الأطباء، والله أعلم. وأما المتغير بما يستغنى عنه، كالزعفران، والجص، تغيرا كثيرا، بحيث يسلب اسم الماء المطلق، فليس بطهور. ولو حلف لا يشرب ماء، لم يحنث بشربه. ويكفي تغير الطعم أو اللون أو الرائحة على المشهور، وعلى القول الغريب الضعيف يشترط اجتماعها، وعلى قول ثالث اللون وحده يسلب، وكذا الطعم مع الرائحة. وفي الجص، والنورة، وغيرهما من أجزاء الأرض وجه شاذ أنها لا تضر. وأما المتغير بالتراب المطروح قصدا، فطهور على الصحيح، وقيل: على المشهور. والمتغير بالملح فيه أوجه، أصحها يسلب الجبلي منه دون المائي. والثاني: يسلبان. والثالث: لا يسلبان. والمتغير بورق الأشجار المتناثرة بنفسها إن لم تتفتت في الماء، فهي كالعود، فيكون طهورا على الأظهر، وإن تفتتت واختلطت، فثلاثة أوجه. الأصح: لا يضر. والثاني: يضر. والثالث: يضر الربيعي دون الخريفي. قاله الشيخ أبو زيد (2). وإن طرحت الأوراق قصدا، ضر.
120 وقيل: على الأوجه (1). فرع إذا اختلط بالماء الكثير أو القليل مائع يوافقه في الصفات، كماء الورد المنقطع الرائحة، وماء الشجر، والماء المستعمل، فوجهان. أصحهما: إن كان المائع قدرا لو خالف الماء في طعم أو لون أو ريح لتغير التغير المؤثر، سلب (2) الطهورية، وإن كان لا يؤثر مع تقدير المخالفة، لم يسلب (3). والثاني: إن كان المائع أقل من الماء، لم يسلب. وإن كان أكثر منه أو مثله، سلب. وحيث لم يسلب، فالصحيح أنه يستعمل الجميع. وقيل: يجب أن يبقى قدر المائع. وقيل: إن كان الماء وحده يكفي لواجب الطهارة، فله استعمال الجميع، وإلا بقي. فإن جوزنا الجميع، ومعه من الماء ما لا يكفيه وحده، ولو كمله بمائع يهلك فيه لكفاه - لزمه ذلك، إذا لم يزيد قيمة المائع (4) على ثمن ماء الطهارة (5). ويجري الخلاف في
121 استعمال الجميع فيما إذا استهلكت النجاسة المائعة في الماء الكثير. وفيما إذا استهلك الخليط الطاهر في الماء، لقلته مع مخالفة أوصافه أوصاف الماء. قال الأصحاب: فإن لم يتغير الماء الكثير، لموافقة النجاسة له في الأوصاف، فالاعتبار بتقدير المخالفة بلا خلاف، لغلظ النجاسة، واعتبروا في النجاسة بالمخالف أشده صفة، وفي الطاهر اعتبروا الوسط المعتدل، فلا يعتبر في الطعم حدة الخل، ولا في الرائحة ذكاء المسك. قلت: المتغير بالمني ليس بطهور على الأصح. ولو تطهر بالماء الذي ينعقد منه الملح قبل أن يجمد، جاز على المذهب (1). ولا فرق في جميع مسائل الفصل بين القلتين، وفوقهما، ودونهما. ولو أغلي الماء، فارتفع من غليانه بخار، وتولد منه رشح، فوجهان. المختار منهما عند صاحب (البحر) أنه طهور (2). والثاني: طاهر ليس بطهور. ولو رشح من مائع آخر، فليس بطهور بلا خلاف، كالعرق. والله أعلم. باب بيان النجاسات (3) والماء النجس الأعيان (4): جماد، وحيوان. فالجماد: ما ليس بحيوان، ولا كان حيوانا، ولا جزءا من حيوان، ولا خرج من حيوان، وكله (5) طاهر، إلا الخمر، وكل نبيذ مسكر. وفي النبيذ وجه شاذ
122 مذكور في (البيان) أنه طاهر، لاختلاف العلماء في إباحته (1). وفي الخمر المحترمة وجه شاذ، وكذا في باطن العنقود المستحيل خمرا وجه أنه طاهر. وأما الحيوانات، فطاهرة، إلا الكلب، والخنزير، وما تولد من أحدهما. ولنا وجه شاذ، أن الدود المتولد من الميتة نجس العين، كولد الكلب، وهذا الوجه غلط، والصواب: الجزم بطهارته. وأما الميتات، فكلها نجسة، إلا السمك والجراد، فإنهما طاهران بالاجماع، وإلا الآدمي، فإنه طاهر على الأظهر، وإلا الجنين الذي يوجد ميتا بعد ذكاة أمه، والصيد الذي لا تدرك ذكاته، فإنهما طاهران بلا خلاف. وأما الميتة التي لا نفس لها سائلة، كالذباب وغيره. فهل تنجس الماء وغيره من المائعات إذا ماتت فيها؟ فيه قولان. الأظهر لا تنجسه، وهذا في حيوان الأجنبي (2) من المائع، أما ما منشؤه فيه، فلا ينجسه بلا خلاف. فلو أخرج منه وطرح في غيره، أو رد إليه، عاد القولان. فإن قلنا: تنجس المائع، فهي [أيضا] (3) نجسة، وإن قلنا: لا تنجسه (4)، فهي أيضا نجسة على قول الجمهور وهو المذهب. وقال القفال (5): ليست بنجسة. ثم لا فرق في الحكم بنجاسة هذا الحيوان بين ما تولد من الطعام، كدود الخل، والتفاح، وما [لا] (6) يتولد منه، كالذباب، والخنفساء، لكن يختلفان في
123 تنجيس ما ماتا فيه، وفي جواز أكله، فإن غير المتولد، لا يحل أكله، وفي المتولد أوجه. الأصح: يحل أكله مع ما تولد منه، ولا يحل منفردا. والثاني: يحل مطلقا. والثالث: يحرم مطلقا (1). والأوجه جارية، سواء قلنا بطهارة هذا الحيوان على قول القفال (2)، أو بنجاسته على قول الجمهور. قلت: ولو كثرت الميتة التي لا نفس لها سائلة، فغيرت الماء أو المائع، وقلنا: لا تنجسه من غير تغير، فوجهان مشهوران. الأصح تنجسه، لأنه متغير بالنجاسة. والثاني: لا تنجسه، ويكون الماء طاهرا غير مطهر، كالمتغير بالزعفران. وقال إمام الحرمين: هو كالمتغير بورق الشجر (3). والله أعلم. فرع في أجزاء الحيوان: الأصل أن ما انفصل من حي فهو نجس، ويستثنى الشعر المجزوز من مأكول اللحم في الحياة، والصوف، والوبر، والريش، فكلها طاهرة بالاجماع (4). والمتناثر والمنتوف طاهر على الصحيح، ويستثنى أيضا شعر الآدمي، والعضو المبان منه، ومن السمك، والجراد، ومشيمة (5) الآدمي، فهذه كلها طاهرة على المذهب وهذا الذي ذكرناه في الشعور
124 تفريع على المذهب في نجاسة الشعر بالموت. فرع في المنفصل عن باطن الحيوان: هو قسمان: أحدهما: ليس له اجتماع، واستحالة في الباطن، وإنما يرشح رشحا. والثاني: يستحيل ويجتمع في الباطن ثم يخرج. فالأول، كاللعاب، والدمع، والعرق، والمخاط، فله حكم الحيوان المترشح منه، إن كان نجسا فنجس، وإلا، فطاهر. والثاني: كالدم (1)، والبول، والعذرة (2)، والروث (3)، والقئ (4). وهذه كلها نجسة من جميع الحيوان (5)، أي (6) مأكول اللحم وغيره. ولنا وجه: أن بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهران. وهو أحد قولي أبي سعيد الإصطخري (7) من أصحابنا، واختاره الروياني (8) وهو مذهب مالك (9) وأحمد (10).
125 والمعروف من المذهب النجاسة. وهل يحكم بنجاسة هذه الفضلات من رسول الله (ص)؟ وجهان. قال الجمهور: نعم (1). وفي بول السمك، والجراد، ودمهما وروثهما، وروث ما ليس له نفس سائلة، والدم المتحلب من الكبد، والطحال، وجهان. الأصح: النجاسة (2). وأما اللبن، فطاهر من مأكول اللحم (3) بالاجماع، ونجس من الحيوان النجس، وطاهر من الآدمي على الصحيح، وقيل: نجس (4). ولكن يربى (5) به
126 الصبي للضرورة. وأما غير الآدمي مما لا يؤكل، فلبنه نجس على الصحيح. وقال الإصطخري: طاهر. وأما الإنفحة، فإن أخذت من السخلة بعد موتها، أو بعد أكلها غير اللبن، فنجسة بلا خلاف (1) وإن أخذت من السخلة المذبوحة قبل أن يأكل غير اللبن، فوجهان، الصحيح الذي قطع به كثيرون طهارتها. وأما المني، فمن الآدمي طاهر، وقيل: فيه قولان. وقيل: القولان في مني المرأة خاصة (2)، والمذهب الأول. لكن إن قلنا: رطوبة فرج المرأة نجسة، نجس منيها بملاقاتها، كما لو بال (3) الرجل ولم يغسل ذكره بالماء، فإن منيه ينجس بملاقاة (4) المحل النجس. وأما مني غير الآدمي، فمن الكلب والخنزير وفرع أحدهما نجس،
127 ومن غيرهما فيه أوجه، أصحها نجس. والثاني: طاهر. والثالث: طاهر من مأكول اللحم، نجس من غيره، كاللبن. قلت: الأصح عند المحققين والأكثرين، الوجه الثاني، والله أعلم. وأما البيض، فطاهر من المأكول، وفي غيره الوجهان في منيه، ويجريان في بزر القز، فإنه أصل الدود، كالبيض. وأما دود القز، فطاهر بلا خلاف، كسائر الحيوان، وأما المسك فطاهر، وفي فأرته المنفصلة في حياة الظبية وجهان. الأصح: الطهارة، كالجنين. فإن انفصلت بعد موتها، فنجسة على الصحيح، كاللبن. وطاهرة في وجه، كالبيض المتصلب، وأما الزرع النابت على السرجين. فقال الأصحاب: ليس هو نجس العين، لكن ينجس بملاقاة النجاسة. فإذا غسل، طهر، وإذا سنبل، فحباته الخارجة طاهرة. قلت: القيح نجس، وكذا ماء القروح إن كان متغيرا، وإلا فلا على المذهب. ودخان النجاسة نجس في الأصح، وهو مذكور في باب: ما يكره لبسه. وليست رطوبة فرج المرأة، والعلقة، بنجس في الأصح (1)، ولا المضغة على الصحيح، والمرة نجسة، وكذا جرة البعير. وأما الماء الذي يسيل من فم النائم، فقال المتولي (2): إن كان متغيرا، فنجس. وإلا فطاهر. وقال غيره: إن كان من اللهوات، فطاهر، أو من المعدة، فنجس. ويعرف كونه من اللهوات بأن ينقطع إذا طال نومه. وإذا شك، فالأصل عدم النجاسة، والاحتياط غسله. وإذا حكم بنجاسته، وعمت بلوى شخص به، لكثرته منه، فالظاهر أنه يلتحق بدم البراغيث، وسلس البول، ونظائره.
128 قال القاضي حسين (1) والمتولي والبغوي وآخرون: لو أكلت بهيمة حبا ثم ألقته صحيحا، فإن كانت صلابته باقية، بحيث لو زرع نبت، فعينه طاهرة، ويجب غسل ظاهره، لأنه وإن صار غذاء لها فما تغير إلى فساد، فصار كما لو ابتلع نواة. وإن زالت صلابته، بحيث لا ينبت، فنجس العين. قال المتولي: والوسخ المنفصل من الآدمي في حمام وغيره، له حكم ميتته، وكذا الوسخ المنفصل عن سائر الحيوان له حكم ميتته. وفيما قاله نظر. وينبغي أن يكون طاهرا قطعا، كالعرق. والله أعلم. فصل في الماء الراكد: إعلم أن الراكد: قليل، وكثير، فالكثير: قلتان، والقليل: دونه. والقلتان: خمس قرب. وفي قدرها بالأرطال أوجه. الصحيح المنصوص: خمسمائة رطل بالبغدادي (2). والثاني: ستمائة. قاله أبو عبد الله الزبيري (3). واختاره القفال، والغزالي (4). والثالث: ألف رطل. قاله أبو زيد. والأصح أن هذا التقدير تقريب، فلا يضر نقصان القدر الذي لا يظهر بنقصانه
129 تفاوت في التغير بالقدر المعين من الأشياء المغيرة (1). والثاني: أنه تحديد: فيضر أي شئ نقص. قلت: الأشهر (2) - تفريعا على التقريب - أنه يعفى عن نقص رطلين، وقيل: ثلاثة ونحوها، وقيل: مائة رطل (3). وإذا وقعت في الماء القليل نجاسة وشك: هل هو قلتان، أم لا؟ فالذي جزم به صاحب (الحاوي) وآخرون: أنه نجس (4)، لتحقق النجاسة. ولامام الحرمين فيه احتمالان، والمختار، بل الصواب: الجزم بطهارته، لان الأصل طهارته، وشككنا في نجاسة (5) منجسة، ولا يلزم من النجاسة التنجيس (6). وقدر القلتين بالمساحة: ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا (7). والله أعلم. ثم الماء القليل ينجس بملاقاة النجاسة المؤثرة، تغير أم لا. وأما غير المؤثرة، كالميتة التي لا نفس لها سائلة، ونجاسة لا يدركها طرف، وولوغ هرة تنجس فمها ثم غابت واحتمل طهارته، فلا ينجس على المذهب، كما سبق في الصورة الأولى، وسيأتي الاخريان إن شاء الله تعالى. واختار الروياني من أصحابنا: أنه لا ينجس إلا بالتغير، والصحيح المعروف، الأول. وأما الكثير، فينجس بالتغير بالنجاسة للاجماع (8)، سواء قل التغير أم كثر،
130 وسواء تغير الطعم أو اللون أو الرائحة، وكل هذا متفق عليه ها هنا، بخلاف ما تقدم في الطاهر. وسواء كانت النجاسة الملاقية مخالطة أم مجاورة، وفي المجاورة وجه شاذ: أنها لا تنجسه. وأما إذا تروح الماء بجيفة ملقاة على شط النهر، فلا ينجس، لعدم الملاقاة، وإن لاقى الكثير النجاسة ولم يتغير لقلة النجاسة واستهلاكها، لم ينجس، ويستعمل جميعه على الصحيح. وعلى وجه يبقى قدر النجاسة. وإن لم يتغير لموافقتها الماء في الأوصاف، قدر بما يخالف، كما سبق في (باب الطاهر). وأما إذا تغير بعضه، فالأصح نجاسة جميع الماء، وهو المذكور في (المهذب) وغيره. وفي وجه لا ينجس إلا المتغير. قلت: الأصح ما قاله القفال، وصاحب التتمة وآخرون: أن المتغير، كنجاسة جامدة. فإن كان الباقي دون قلتين، فنجس وإلا، فطاهر. والله أعلم. ثم إن زال تغير المتغير بالنجاسة (1) بنفسه، طهر على الصحيح. وقال الإصطخري: لا يطهر. وهو شاذ. وإن لم يوجد رائحة النجاسة، لطرح المسك فيه، أو طعمها، لطرح الخل، أو لونها، لطرح الزعفران، لم يطهر بالاتفاق (2). وإن ذهب التغير بطرح التراب، فقولان: أظهرهما لا يطهر، للشك في زوال التغير. وإن ذهب بالجص والنورة وغيرهما مما لا يغلب وصف التغير، فهو كالتراب على الصحيح، وقيل: كالمسك. ثم قال بعضهم: الخلاف في مسألة التراب إذا كان التغير بالرائحة. وأما تغير اللون، فلا يؤثر فيه التراب قطعا. والأصول المعتمدة ساكتة عن هذا التفصيل. قلت: بل قد صرح المحاملي (3)، والفوراني (4)، وآخرون: بجريان
131 الخلاف في التغير بالصفات الثلاث، وقد أوضحت ذلك في شرح المهذب) (1). والله أعلم. فرع النجاسة التي لا يدركها الطرف (2)، كنقطة خمر، وبول يسيرة، لا تبصر لقلتها وكذبابة تقع على نجاسة، ثم تطير عنها، هل ينجس الماء والثوب كالنجاسة المدركة، أم يعفى عنها؟ فيه سبع طرق: أحدها: يعفى عنها فيهما. والثاني: لا. والثالث: فيهما قولان. والرابع: تنجس الماء، وفي الثوب قولان، والخامس: ينجس الثوب، وفي الماء قولان، والسادس: ينجس الماء دون الثوب. والسابع: عكسه. واختار الغزالي العفو فيهما، وظاهر المذهب - عند المعظم - خلافه. قلت: المختار عن جماعة من المحققين ما اختاره الغزالي، وهو الأصح، والله أعلم. فرع الماء القليل النجس إذا كوثر فبلغ قلتين، نظر، إن كوثر بغير الماء، لم يطهر، بل لو كمل الطاهر الناقص عن قلتين بماء ورد بلغهما به وصار مستهلكا، ثم وقع فيه نجاسة، نجس، وإن لم يتغير. وإنما لا تقبل النجاسة قلتان من الماء المحض. وإن كوثر بالماء المستعمل، عاد مطهرا على الأصح. وعلى الثاني: هو كماء الورد. وإن كوثر بماء غير مستعمل، طاهر أو نجس، عاد مطهرا بلا خلاف، وهل يشترط أن لا يكون فيه نجاسة جامدة؟ فيه خلاف التباعد، هذا كله إذا بلغ قلتين ولا تغير فيه. أما إذا كوثر فلم يبلغهما، فالأصح أنه باق على نجاسته.
132 والثاني: أنه طاهر غير طهور، بشرط أن يكون المكاثر به مطهرا، وأن يكون أكثر من المورود عليه، وأن يورده على النجس، وأن لا يكون فيه نجاسة جامدة فإن اختل أحد هذه (1) الشروط، فنجس بلا خلاف. ولا يشترط شئ من هذه الشروط الأربعة فيما إذا كوثر فبلغ قلتين. قلت: هذا الذي صححه هو الأصح، وعند الخراسانيين: وهو الأصح. والأصح عند العراقيين: الثاني. والله أعلم. والمعتبر في المكاثرة الضم والجمع، دون الخلط، حتى لو كان أحد البعضين صافيا، والآخر كدرا، وانضما، زالت النجاسة من غير توقف على الاختلاط المانع من التمييز. ومتى حكمنا بالطهارة في هذه الصور ففرق، لم يضر، وهو باق على طهوريته. فرع: إذا وقع في الماء الكثير الراكد نجاسة جامدة، فقولان: أظهرهما وهو القديم، أنه يجوز الاغتراف من أي موضع شاء، ولا يجب التباعد لأنه طاهر كله. والثاني: الجديد: يجب أن يبعد عن النجاسة بقدر قلتين، فعلى هذا لا يكفي في البحر التباعد بشبر نظرا إلى العمق، بل يتباعد قدرا لو حسب مثله في العمق وسائر الجوانب لبلغ قلتين. فلو كان الماء منبسطا بلا عمق، تباعد طولا وعرضا قدرا يبلغ قلتين في ذلك العمق. وقال محمد بن يحيى (2): في هذه الصورة يجب أن يبعد إلى موضع يعلم أن النجاسة لم تنتشر إليه. أما إذا كان الماء قلتين فقط، فعلى الجديد: لا يجوز الاغتراف منه. وعلى القديم: يجوز على الأصح. ثم في المسألة الأولى يحتمل أن يكون الخلاف في جواز استعمال الماء عن (3) غير تباعد، مع القطع بطهارة الجميع، ويحتمل أن يكون في الاستعمال مبنيا على خلاف في نجاسته، وقد نقل
133 عن الشيخ أبي محمد (1)، نقل الاتفاق على الاحتمال الأول (2). قلت: هذا التوقف من الامام الرافعي عجب، فقد جزم وصرح بالاحتمال الأول جماعات من كبار أصحابنا، منهم الشيخ أبو حامد الأسفراييني (3)، والقاضي أبو الطيب (4)، وصاحب (الحاوي) والمحاملي، وصاحبا (الشامل) و (البيان) وآخرون من العراقيين والخراسانيين. وقطع جماعة من الخراسانيين على قول التباعد بأن يكون المجتنب نجسا، كذا قاله القاضي حسين، وإمام الحرمين، والبغوي، وغيرهم. حتى قال هؤلاء الثلاثة: لو كان قلتين فقط، كان نجسا على هذا القول. والصواب: الأول. والله أعلم. إذا غمس كوز ممتلئ ماء نجسا في ماء كثير طاهر، فإن كان واسع الرأس، فالأصح أنه يعود طهورا، وإن كان ضيقه، فالأصح أنه لا يطهر. وإذا حكمنا بأنه
134 طهور في الصورتين، فهل يصلح ذلك على الفور، أم لا بد من زمان يزول فيه التغير لو كان متغيرا؟ فيه وجهان. الأصح: الثاني. ويكون الزمان في الضيق أكثر منه في الواسع. فإن كان ماء الكوز متغيرا، فلا بد من زوال تغيره، ولو كان الكوز غير ممتلئ، فما دام يدخل فيه الماء، فلا اتصال، وهو على نجاسته. قلت: إلا أن يدخل فيه أكثر من الذي فيه، فيكون حكمه ما سبق في المكاثرة. قال القاضي حسين، وصاحب (التتمة): ولو كان ماء الكوز طاهرا، فغمسه في ماء (1) نجس ينقص عن القلتين بقدر ماء الكوز، فهل يحكم بطهارة النجس؟ فيه الوجهان (2). والله أعلم. فرع: ماء البئر كغيره في قبول النجاسة وزوالها، فإن كان قليلا وتنجس بوقوع نجاسة، فلا ينبغي أن ينزح لينبع الماء الطهور بعده، لأنه وإن نزح، فقعر البئر يبقى نجسا، وقد تنجس جدران البئر أيضا، بالنزح، بل ينبغي أن يترك ليزداد (3) فيبلغ حد الكثرة. وإن كان نبعها قليلا لا تتوقع كثرته، صب فيها ماء ليبلغ الكثرة، ويزول التغير إن كان تغير. وطريق زواله على ما تقدم من الاتفاق والخلاف. وإن كان الماء كثيرا طاهرا، وتفتت فيه شئ نجس، كفأرة تمعط شعرها، فقد يبقى على طهوريته لكثرته، وعدم التغير، لكن يتعذر استعماله، لأنه لا ينزح دلوا إلا وفيه شئ من النجاسة، فينبغي أن يستقى الماء كله، ليخرج الشعر منه. فإن كانت العين فوارة، وتعذر نزح الجميع، نزح ما يغلب على الظن أن الشعر [خرج كله] (4) معه، فما بقي بعد ذلك في البئر وما يحدث، طهور، لأنه غير مستيقن النجاسة، ولا مظنونها، ولا يضر احتمال بقاء الشعر. فان تحقق شعرا بعد ذلك، حكم به. فأما قبل النزح إلى الحد المذكور، إذا غلب على ظنه أنه لا يخلو كل دلو عن شئ من النجاسة، لكن لم يتيقنه، ففي جواز
135 استعماله القولان في تقابل الأصل والظاهر. وهذا الذي ذكرناه في الشعر تفريع على نجاسته بالموت. فإن لم تنجسه، فرضت المسألة في غيره من الاجزاء. فصل في الماء الجاري: هو ضربان: ماء الأنهار المعتدلة، وماء الأنهار العظيمة، أما الأول: فالنجاسة الواقعة فيه مائعة وجامدة، والمائعة: مغيرة وغيرها. فالمغيرة: تنجس المتغير. وحكم غيره معه كحكمه مع النجاسة الجامدة. وغير المغيرة: إن كان عدم التغير للموافقة في الأوصاف، فحكمه ما سبق في الراكد. إن كان لقلة النجاسة وإمحاقها فيه، فظاهر المذهب، وقول الجمهور: أنه كالراكد. وإن كان قليلا ينجس. وإن كان كثيرا فلا. وقال الغزالي: هو طاهر (1) مطلقا، وفي القديم: لا ينجس الجاري إلا بالتغير. [قلت: واختار جماعة الطهارة، منهم إمام الحرمين وصاحب (التهذيب)] (2). والله أعلم. وأما النجاسة الجامدة، كالميتة، فإن غيرت الماء، نجسته، وإن لم تغيره، فتارة تقف، وتارة تجري مع الماء، فان جرت جرية (3)، فما قبلها وما بعدها طاهران. وما على يمينها وشمالها وفوقها وتحتها، إن وإن كان قليلا، فنجس، وإن كان قلتين، فقيل: طاهر، وقيل: على قولي التباعد. وإن وقفت النجاسة، وجرى الماء عليها، فحكمه حكم الجارية، ويزيد ها هنا أن الجاري على النجاسة وهو قليل، ينجس بملاقاتها، ولا يجوز استعماله إلا أن يجتمع في موضع قلتان منه، وفيه وجه أنه إذا تباعد واغترف من موضع بينه وبين النجاسة قلتان، جاز استعماله، والصحيح الأول. وعليه يقال: ماء هو ألف قلة، نجس بلا تغير، فهذه صورته. أما النهر العظيم، فلا يجتنب فيه شئ، ولا حريم النجاسة، ولا يجئ فيه
136 الخلاف في التباعد عما حوالي النجاسة. وفيه وجه شاذ أنه يجزئ، ووجه أنه يجب اجتناب الحريم خاصة، وبه قطع الغزالي، وطرده في حريم الراكد أيضا. والمذهب: القطع بأنه لا يجب اجتناب الحريم في الجاري، ولا في الراكد. ثم العظيم: ما أمكن التباعد فيه عن جوانب النجاسة كلها بقلتين. والمعتدل: ما لا يمكن ذلك فيه. ومن المعتدل: النهر الذي بين حافتيه قلتان فقط. وقال إمام الحرمين: المعتدل: ما يمكن تغيره بالنجاسات المعتادة. والعظيم: ما لا يمكن تغيره بها. وأما الحريم: فما ينسب إلى النجاسة بتحريكه إياها، وانعطافه عليها، والتفافه بها. قلت: غير الماء من المائعات ينجس بملاقاة النجاسة وإن كثر. وإنما لا ينجس الماء لقوته (1). ولو توضأ من بئر، ثم أخرج منها دجاجة منتفخة، لم يلزمه أن يعيد من صلاته إلا ما تيقن أنه صلاها بالماء النجس. ذكره صاحب (العدة) (2). والله أعلم. باب إزالة النجاسة النجس ضربان: نجس العين، وغيره، فنجس العين: لا يطهر بحال، إلا الخمر، فتطهر بالتخلل، وجلد الميتة بالدباغ. والعلقة والمضغة والدم الذي هو حشو البيضة، إذا نجسنا الثلاثة فاستحالت حيوانات (3). وأما غير نجس العين، فضربان: نجاسة عينية، وحكمية، فالحكمية: هي التي تيقن وجودها ولا تحس، كالبول إذا جف على المحل ولم يوجد له رائحة ولا أثر، فيكفي إجراء الماء على محلها مرة، ويسن ثانية،
137 وثالثة. وأما العينية: فلا بد من محاولة إزالة ما وجد منها من طعم، ولون، وريح، فان فعل ذلك فبقي (1) طعم، لم يطهر، وإن بقي اللون وحده وهو سهل الإزالة، لم يطهر. وإن كان عسرها، كدم الحيض يصيب الثوب، وربما لا يزول بعد المبالغة، والاستعانة بالحت والقرص، طهر. وفيه وجه شاذ أنه لا يطهر، والحت والقرص ليسا بشرط، بل مستحبان عند الجمهور، وقيل: هما شرط، وإن بقيت الرائحة وحدها وهي عسرة الإزالة، كرائحة الخمر، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما يطهر. وإن بقي اللون والرائحة معا، لم يطهر على الصحيح، ثم الصحيح الذي قاله الجمهور، إن ما (2) حكمنا بطهارته مع بقاء لون أو رائحة، فهو طاهر حقيقة، ويحتمل أنه نجس معفو عنه. وقد أشار إليه في (التتمة) ثم بعد زوال العين يسن غسله، ثانية، وثالثة، ولا يشترط في حصول الطهارة عصر الثوب على الأصح، بناء على طهارة الغسالة. وإن قلنا بالضعيف: إن العصر شرط، قام مقامه الجفاف على الأصح، لأنه أبلغ في زوال الماء. فرع: ما ذكرناه من طهارة المحل بالعصر أو دونه: هو فيما إذا ورد الماء على المحل، أما إذا ورد الماء المحل النجس، كالثوب يغمس في إجانة فيها ماء ويغسل فيها، ففيه وجهان: الصحيح الذي قاله الأكثرون: لا يطهر، وقال ابن سريج (3): يطهر، ولو ألقته الريح فيه والماء دون قلتين، نجس الماء أيضا بلا خلاف. فرع: إذا أصاب الأرض بول فصب عليها ماء غمره واستهلك فيه، طهرت بعد نضوب الماء، وقبله وجهان. إن قلنا: العصر لا يجب، طهرت. وإن قلنا:
138 واجب، لم يطهر. فعلى هذا لا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف، بل يكفي أن يغيض الماء كالثوب المعصور. ويكفي أن يكون الماء المصبوب غامرا للنجاسة على الصحيح، وقيل: يشترط أن يكون سبعة أضعاف البول، وقيل: يشترط أن يصب على بول الواحد ذنوب، وعلى بول الاثنين ذنوبان، وعلى هذا أبدا، ثم الخمر، وسائر النجاسات المائعة كالبول، يطهر الأرض عنها بغمر الماء بلا تقدير على المذهب. فرع: اللبن النجس: ضربان. مختلط بنجاسة جامدة، كالروث وعظام الميتة، وغير مختلط. فالأول: نجس لا طريق إلى تطهيره، لعين النجاسة. فان طبخ، فالمذهب - وهو الجديد - أنه على نجاسته. وفي القديم قول: أن الأرض النجسة تطهر بزوال أكثر (1) النجاسة، بالشمس، والريح، ومرور الزمن. فخرج أبو زيد، والخضري، وآخرون منه قولا: ان النار تؤثر، فيطهر ظاهره بالطبخ. فعلى الجديد: لو غسل، لم يطهر على الصحيح المنصوص. وقال ابن المرزبان (2) والقفال: يطهر ظاهره. وأما غير المختلط كالمعجون بماء نجس، أو بول، فيطهر ظاهره بإفاضة الماء عليه، ويطهر باطنه بأن ينقع في الماء حتى يصل إلى جميع أجزائه، كالعجين بمائع نجس. هذا إن لم يطبخ، فإن طبخ، طهر - على تخريج أبي زيد - ظاهره، وكذا باطنه، على الأظهر، وأما على الجديد، فهو على نجاسته، ويطهر بالغسل ظاهره دون باطنه، وإنما يطهر باطنه بأن يدق حتى يصير ترابا، ثم يفاض الماء عليه، فلو كان بعد الطبخ رخوا لا يمنع نفوذ الماء، فهو كما قبل الطبخ. قلت: إذا أصابت النجاسة شيئا صقيلا، كسيف، وسكين، ومرآة، لم يطهر
139 بالمسح عندنا، بل لابد من غسلها. ولو سقيت سكين ماء نجسا، ثم غسلها، طهر ظاهرها. وهل يطهر باطنها بمجرد الغسل، أم لا يطهر حتى يسقيها مرة ثانية بماء طهور؟ وجهان. ولو طبخ لحم بماء نجس، صار ظاهره وباطنه نجسا، وفي كيفية طهارته وجهان. أحدهما: يغسل ثم يعصر (1)، كالبساط. والثاني: يشترط أن يغلى بماء طهور. وقطع القاضي حسين (2)، والمتولي، في مسألتي السكين واللحم: بأنه يجب سقيها مرة ثانية وإغلاؤه. واختار الشاشي الاكتفاء بالغسل، وهو المنصوص. قال الشافعي (3) رحمه الله (4) في (الام) في (باب صلاة الخوف): لو أحمى حديدة ثم صب عليها سما نجسا، أو غمسها فيه فشربته، ثم غسلت بالماء، طهرت، لان الطهارات كلها إنما جعلت ما يظهر، ليس على الأجواف. هذا نصه بحروفه. قال المتولي: وإذا شرطنا سقي السكين، جاز أن يقطع بها الأشياء الرطبة قبل السقي، كما يقطع اليابسة (5). ولو أصابت الزئبق نجاسة، فإن لم يتقطع، طهر
140 بصب الماء عليه، وإن تقطع، كالدهن، لا يمكن تطهيره على الأصح، ذكره المحاملي، والبغوي. وإزالة النجاسة التي لم يعص بالتلطخ بها في بدنه، ليست على الفور، وإنما يجب عند إرادة الصلاة ونحوها. ويستحب المبادرة بها. قال المتولي، وغيره: للماء قوة عند الورود على النجاسة، فلا ينجس بملاقاتها، بل يبقى مطهرا، فلو صبه على موضع النجاسة من ثوب فانتشرت الرطوبة في الثوب، لا يحكم بنجاسة موضع الرطوبة، ولو صب الماء في إناء نجس، ولم يتغير بالنجاسة، فهو طهور. فإذا أداره على جوانبه، طهرت الجوانب كلها. قال: ولو غسل ثوب عن نجاسة، فوقعت عليه نجاسة عقب عصره. هل يجب غسل جميع الثوب، أم يكفي غسل موضع النجاسة؟ وجهان: الصحيح: الثاني (1). والله أعلم. فرع: الواجب في إزالة النجاسة الغسل، إلا في بول صبي لم يطعم، ولم يشرب سوى اللبن، فيكفي فيه الرش (2)، ولا بد فيه من إصابة الماء جميع موضع البول. ثم لإيراده ثلاث درجات، الأولى: النضج المجرد. الثانية: النضح مع الغلبة والمكاثرة. الثالثة: أن ينضم إلى ذلك السيلان، فلا حاجة في الرش إلى الثالثة قطعا، ويكفي الأولى على وجه، ويحتاج إلى الثانية على الأصح. ولا يلحق ببول الصبي، بول الصبية؟ بل يتعين غسله على الصحيح. قلت: وفي (التتمة) وجه شاذ: أن الصبي، كالصبية، فيجب الغسل. قال البغوي: وبول الخنثى كالأنثى من أي فرجيه خرج. والله أعلم. فصل: طهارة ما ولغ فيه الكلب أو تنجس بدمه، أو بوله، أو عرقه، أو شعره، أو غيرها من أجزائه وفضلاته، أن يغسل سبع مرات، إحداهن بتراب، وفيما سوى الولوغ وجه شاذ أنه يكفي غسله مرة، كسائر النجاسات. والخنزير،
141 كالكلب على الجديد، وفي القديم: يكفي مرة كغيره، وقيل: القديم كالنجاسات (1)، ولا يقوم الصابون والإشنان ونحوهما مقام التراب على الأظهر (2)، كالتيمم. ويقوم في الثاني: كالدباغ والاستنجاء. والثالث: إن وجد ترابا، لم يقم. وإلا، قام. وقيل: يقوم فيما يفسده التراب، كالثياب، دون الأواني. أما إذا اقتصر على الماء وغسله ثماني مرات، ففيه أوجه. الأصح: لا يطهر. والثاني: يطهر. والثالث: يطهر عند عدم التراب دون وجوده. ولا يكفي غمس الاناء والثوب في الماء الكثير (3) على الأصح. ولا يكفي التراب النجس على الأصح، كالتيمم (4). ولو تنجست أرض ترابية بنجاسة الكلب، كفى الماء وحده على الأصح، إذ لا معنى لتعفير التراب، ولا يكفي في استعمال التراب ذره على المحل، بل لا بد من مائع يمزجه (5) به، ليصل التراب بواسطته إلى جميع أجزاء المحل. فإن كان المائع ماء، حصل الغرض، وإن كان غيره، كالخل وماء الورد، وغسله ستا بالماء (6)، لم يكف على الصحيح، كما لو غسل السبع بالخل والتراب.
142 قلت: لو ولغ في الاناء كلاب، أو كلب مرات، فثلاثة أوجه. الصحيح يكفيه للجميع سبع. والثاني: يجب لكل ولغة سبع. والثالث: يكفي لولغات الكلب الواحد سبع، ويجب لكل كلب سبع. ولو وقعت نجاسة أخرى في الاناء الذي ولغ فيه الكلب (1)، كفى سبع، ولو كانت نجاسة الكلب عينية، كدمه، فلم تزل إلا بست غسلات مثلا، فهل يحسب ذلك ستا أم واحدة، أم لا يحسب شيئا؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: واحدة (2). ويستحب أن يكون التراب في غير السابعة. والأولى أولى. ولو ولغ في ماء لم ينقص بولوغه عن قلتين، فهو باق على طهوريته، ولا يجب غسل الإناء. ولو ولغ في شئ نجسه، فأصاب ذلك الشئ آخر، وجب غسله سبعا. ولو ولغ في طعام جامد، ألقى ما أصابه وما حوله، وبقي الباقي على طهارته، وإذا لم يرد استعمال الاناء الذي ولغ فيه، لا يجب إراقته على الصحيح التي قطع به الجمهور. وفي (الحاوي) وجه أنه يجب إراقته على الفور، للحديث الصحيح (3) بالامر بإراقته. ولو ولغ في ماء كثير متغير بالنجاسة، ثم أصاب ذلك الماء ثوبا، قال الروياني: قال القاضي حسين: يجب غسله سبعا إحداهن بالتراب، لأن الماء المتغير بالنجاسة، كخل تنجس. ولو ولغ حيوان تولد من كلب، أو خنزير وغيره، أو من كلب وخنزير، فقد نقل فيه صاحب (العدة) الخلاف في الخنزير لأنه ليس كلبا. والله أعلم. فرع: سؤر الهرة طاهر، لطهارة عينها، ولا يكره، فلو تنجس فمها، ثم
143 ولغت في ماء قليل فثلاثة أوجه. الأصح أنها إن غابت واحتمل ولوغها في ماء يطهر فمها، ثم ولغت، لم تنجسه، وإلا نجسته. والثاني: تنجسه مطلقا. والثالث: عكسه. قلت: وغير الماء من المائعات، كالماء. والله أعلم. فصل في غسالة النجاسة إن تغير بعض أوصافها بالنجاسة، فنجسة. وإلا فإن كان قلتين، فطاهرة بلا خلاف. قلت: ومطهرة على المذهب (1). والله أعلم. وإن كان (2) دونهما، فثلاثة أقوال. وقيل: أوجه. أظهرها: وهو الجديد، أن حكمها حكم المحل بعد الغسل، إن كان نجسا بعد، فنجسة. وإلا، فطاهرة غير مطهرة. والثاني: - وهو القديم - حكمها حكمها قبل الغسل، فيكون مطهرة. والثالث: وهو مخرج من رفع الحدث، حكمها حكم المحل قبل الغسل، فيكون نجسة. ويخرج على هذا الخلاف غسالة ولوغ الكلب، فإذا وقع من الغسلة الأولى شئ على ثوب، أو غيره، لم يحتج إلى غسله على القديم. ويغسل لحصول المرة وطهورية الباقي ستا على الجديد، وسبعا على المخرج. ولو وقع من السابعة، لم يغسل على الأول والثاني. ويغسل على الثالث مرة. ومتى وجب الغسل عنها، فإن سبق التعفير، لم يجب لطهوريته، وإلا وجب. وفي وجه، لكل غسلة سبع، حكم المحل، فيغسل منها مرة، وهذا يتضمن التسوية بين غسلة التعفير وغيرها.
144 فرع: إذا لم تتغير الغسالة، ولكن زاد وزنها، فطريقان. أصحهما القطع بالنجاسة. والثاني على الأقوال (1)، واعلم أن الخلاف المذكور هو في المستعمل، في واجب الطهارة. أما المستعمل في مندوبها، كالغسلة الثانية، فطهور على المذهب. وقيل: على القولين الأولين دون الثالث. باب الاجتهاد (2) في الماء المشتبه إذا اشتبه إناءان: طاهر، ونجس، فثلاثة أوجه. الصحيح: أنه لا يجوز استعمال أحدهما إلا بالاجتهاد، وظهور علامة تغلب على الظن طهارته، ونجاسة المتروك. والثاني: يكفي ظن الطهارة بلا علامة. والثالث: يستعمل أحدهما بلا اجتهاد ولا ظن، وسواء علم نجاسة أحدهما بمشاهدتها، أو ظنها بإخبار من تقبل روايته من حر، أو عبد، أو امرأة. وفي الصبي المميز وجهان. قلت: الأصح عند الجمهور لا يقبل قول المميز، ويقبل قول (3) الأعمى بلا خلاف (4). والله أعلم. ويشترط أن يعلم من حال المخبر، أنه لا يخبر (5) عن حقيقة (6)، وسواء أخبره
145 بنجاسة أحدهما على الابهام، أم بعينه، ثم اشتبه، فيجتهد في الجميع. ولو انصب أحدهما، أو صبه، فثلاثة أوجه. أصحها: يجتهد في الباقي. والثاني: لا يجوز الاجتهاد، بل يتيمم. والثالث: يستعمله بلا اجتهاد عملا بالأصل. قلت: الأصح عند المحققين والأكثرين - أو الكثيرين -: أنه لا يجوز الاجتهاد، بل يتيمم ويصلي ولا يعيد وإن لم يرقه. والله أعلم. وللاجتهاد شروط. الأول: أن يكون للعلامة مجال، كالأواني، والثياب. أما إذا اختلط بعض محارمه بأجنبية، أو أجنبيات محصورات، فلا يجوز نكاح واحدة منهن بالاجتهاد. الثاني: أن يتأيد الاجتهاد باستصحاب الطهارة. فلو اشتبه ماء ببول، أو بماء ورد، أو ميتة بمذكاة، أو لبن بقر بلبن أتان. لم يجتهد على الصحيح، بل يتيمم في مسألة البول. وفي مسألة ماء الورد، يتوضأ بكل واحدة مرة. وقيل: يجتهد. ولا بد من ظهور علامة بلا خلاف، ولا يجئ فيه الوجه الثاني في أول الباب. الثالث: مختلف فيه، وهو العجز عن اليقين، فلو تمكن منه، جاز الاجتهاد على الأصح، فيجوز في المشتبهين، وإن كان معه ثالث طاهر بيقين، أو كان على شط نهر أو اشتبه ثوبان ومعه ثالث طاهر بيقين، أو قلتان: طاهرة، ونجسة، وأمكن خلطهما بلا تغير، أو اشتبه ماء مطلق بمستعمل، أو بماء ورد، قلنا: يجوز الاجتهاد فيه على الأصح في الجميع. الرابع: أن تظهر علامة، وقد تقدم أن الصحيح، اشتراط العلامة، فلو لم تظهر، تيمم بعد إراقة الماءين، أو صب أحدهما في الآخر، فلا إعادة عليه. فإن تيمم قبل ذلك، وجبت إعادة الصلاة. وأما الأعمى، فيجتهد على الأظهر. فإن لم يغلب على ظنه شئ، قلد على الأصح. قلت: فان قلنا: لا يقلد، أو لم يجد من يقلده، فوجهان. الصحيح أنه يتيمم، ويصلي، وتجب الإعادة. والثاني: يخمن ويتوضأ على أكثر ما يقدر عليه، وهو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه، واختاره القاضي أبو الطيب قال: ويعيد. والله أعلم.
146 فرع إذا غلب على ظنه طهارة إناء، استحب أن يريق الآخر، فلو لم يفعل وصلى بالأول الصبح، فحضرت الظهر، فإن لم يبق من الأول شئ، لم يجب الاجتهاد للظهر. فلو اجتهد فظن طهارة الباقي، فالصحيح المنصوص أنه يتيمم ولا يستعمله، وخرج ابن سريج أنه يستعمله، ولا يتيمم فيغسل جميع ما أصابه الماء الأول، ثم يتوضأ، وعلى هذا لا يعيد واحدة من الصلاتين. وعلى المنصوص: لا يعيد الأولى، ولا الثانية أيضا على الأصح. أما إذا بقي من الأول شئ، فإن كان يكفي طهارته، فهو كما إذا لم يبق شئ، إلا أنه يجب الاجتهاد للصلاة الثانية. وإذا صلاها بالتيمم، وجب قضاؤها على الصحيح المنصوص. وإن كان الباقي لا يكفي، فإن قلنا: يجب استعماله، كان كالكافي، وإلا كان كما إذا لم يبق من الأول شئ. ولو صب الماء الباقي مع بقية الأول، أو الباقي إذا كان وحده، ثم صلى بالتيمم، فلا إعادة عليه بلا خلاف. فرع الشئ الذي لا يتيقن نجاسته ولا طهارته، والغالب في مثله النجاسة، فيه قولان، لتعارض الأصل (1). والظاهر: أظهرهما: الطهارة، عملا بالأصل، فمن ذلك ثياب مدمني الخمر وأوانيهم، وثياب القصابين، والصبيان
147 الذين لا يتوقون النجاسة، وطين الشوارع حيث لا يستيقن، ومقبرة شك في نبشها، وأواني الكفار المتدينين باستعمال النجاسة كالمجوس، وثياب المنهمكين في الخمر، والتلوث بالخنزير من اليهود والنصارى. ولا يلحق بهؤلاء الذين لا يتدينون باستعمال النجاسة، كاليهود، والنصارى. فإن ألحقنا غلبة الظن باليقين، واشتبه إناء طاهر بإناء الغالب في مثله النجاسة، اجتهد فيهما. وإن رجحنا الأصل، فهما طاهران، وربما أطلق الأصحاب القولين فيما إذا غلب على الظن النجاسة، لكن له شرط، وهو أن تكون غلبة الظن مستندة إلى كون الغالب في مثله النجاسة. فإن لم يكن كذلك، لم يلزم طرد القولين، حتى لو رأى ظبية تبول في ماء كثير وهو بعيد منه، فجاءه، فوجده متغيرا، وشك، هل تغير بالبول، أم بغيره؟، فهو نجس، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، والأصحاب رحمهم الله. قلت: الجمهور حكموا بالنجاسة مطلقا، وبعضهم قال: إن كان عهده عن قرب غير متغير، فهو النجس. وإن لم يعهده أصلا، أو طال عهده، فهو طاهر، لاحتمال التغير بطول المكث. واعلم أن الامام الرافعي اختصر هذا الباب جدا، وترك أكثر مسائله. وأنا إن شاء الله تعالى (1) أشير إلى معظم ما تركه. قال أصحابنا: يجوز الاجتهاد في المشتبهين من الطعامين، والدهنين، ونحوهما، في الجنس، والجنسين، كلبن وخل تنجس أحدهما، وثوب وتراب، وطعام وماء، ولنا وجه منكر أنه لا يجوز في الجنسين. حكاه الشيخ أبو حامد وغلطه، ولو اشتبه لبنان ومعه ثالث متيقن الطهارة، إن لم يكن مضطرا إلى شربه، جاز الاجتهاد فيهما، وإن اضطر، فعلى الوجهين في الماءين ومعه ثالث. ولو أخبره بنجاسة أحد المشتبهين بعينه من يقبل خبره، عمل به، ولم يجز الاجتهاد، فإن كان معه إناءان، فقال عدل: ولغ الكلب في هذا دون ذاك، وقال آخر: في ذاك دون هذا، حكم بنجاستهما، لاحتمال الولوغ في وقتين، فإن عينا وقتا بعينه، عمل بقول أوثقهما عنده على المختار الذي قطع به إمام الحرمين. فإن استويا، فالمذهب
148 أنه يسقط خبرهما، وتجوز الطهارة بهما (1)، وفيه طرق للأصحاب، وتفريعات طويلة أوضحتها في شرحي (المهذب) (2) و (التنبيه) ولو قال عدل: ولغ في هذا الاناء، هذا الكلب في وقت كذا، فقال آخر: كان هذا الكلب في ذلك الوقت ببلد آخر، فالأصح طهارة الاناء، للتعارض، والثاني: النجاسة لاشتباه الكلاب. ولو أدخل الكلب رأسه في الاناء، وأخرجه ولم يعلم ولوغه، فإن كان فمه يابسا، فالماء على طهارته، وإن كان رطبا، فالأصح، الطهارة للأصل. والثاني: النجاسة، للظاهر. وإذا توضأ بالمظنون طهارته، ثم تيقن أنه كان نجسا، أو أخبره عدل، لزمه إعادة الصلاة، وغسل ما أصابه الماء من بدنه وثوبه. ويكفيه الغسلة الواحدة عن النجاسة والحدث جميعا إذا نوى الحدث، على أصح الوجهين عند العراقيين، وهو المختار، خلاف ما جزم به الرافعي وجماعة من الخراسانيين: أنه لا بد من غسلتين. ولنا قول شاذ في (الوسيط) وغيره: أنه لا تجب إعادة هذه الصلاة، كنظيره من القبلة. ولو توضأ بأحد المشتبهين من غير اجتهاد، وصلى، وقلنا بالصحيح: أنه لا يجوز، فبان أن الذي توضأ به هو الطاهر، لم تصح صلاته قطعا، ولا وضوؤه على الأصح، لتلاعبه، وكنظيره في القبلة والوقت. ولو اشتبه الإناءان على رجلين، فظن كل واحد طهارة إناء باجتهاده، لم يقتد أحدهما بالآخر. فلو كانت الآنية ثلاثة، نجس، وطاهران، فاجتهد فيها ثلاثة رجال، وتوضأ كل باناء، وأمهما واحد في الصبح، وآخر في الظهر، وآخر في العصر، فثلاثة أوجه. الصحيح الأشهر: قول ابن الحداد (3): يصح لكل واحد التي أم فيها. والاقتداء
149 الأول، ويتعين الثاني للبطلان. والثاني: قول ابن القاص (1): لا يصح له إلا التي أم فيها. والثالث: قول أبي إسحاق المروزي (2): تصح التي أم فيها. والاقتداء الأول إن اقتصر عليه. فان اقتدى ثانيا، بطلا جميعا. وإن زادت الآنية والمجتهدون، أو سمع من الرجال صوت حدث، فتناكروه، فحكم كله خارج على ما ذكرته، وقد أوضحت كل هذا بأمثلته وأدلته في شرحي (المهذب) و (التنبيه). وقد ذكر الرافعي رحمه الله المسألة في باب (صفة الأئمة) وهذا الموضع أنسب. ولو وجد قطعة لحم ملقاة، فإن كان في البلد مجوس ومسلمون، فنجسة، فإن تمحض المسلمون، فان كانت في خرقة، أو مكتل، فطاهرة، وإن كانت ملقاة مكشوفة، فنجسة. ولو اشتبهت ميتة بمذكيات بلد، أو إناء بول بأواني بلد، فله أخذ بعضها بالاجتهاد بلا خلاف، وإلى أي حد ينتهي؟ فيه وجهان مذكوران في (البحر) أصحهما إلى أن يبقى واحد. والثاني: إلى أن يبقى قدر لو كان الاختلاط به ابتداء، منع الجواز (3). ولو كان له دنان فيهما مائع، فاغترف منهما في إناء، فرأى فيه فأرة لا يدرى من أيهما هي، تحرى، فان ظهر له أنها من أحدهما بعينه، فإن كان اغترف بمغرفتين، فالآخر طاهر، وإن كان بمغرفة، فإن ظهر بالاجتهاد أن الفأرة في الثاني، فالأول على طهارته، وإلا، فهما نجسان. وقد أكثرت الزيادة في هذا الباب لمسيس الحاجة إليها، فبقيت منه بقايا حذفتها كراهة كثرة الإطالة. والله أعلم.
150 باب الأواني هي ثلاثة أقسام. الأول: المتخذ من جلد والجلد يحكم بطهارته في حالين. أحدهما: إذا ذكي مأكول اللحم، فجلده باق على طهارته كلحمه، ولو ذكي غير مأكول، فجلده نجس كلحمه. قلت: ولو ذبح حمارا زمنا، أو غيره مما لا يؤكل، للتوصل إلى دبغ جلده، لم يجز عندنا. والله أعلم. والثاني: أن يدبغ جلد الميتة، فيطهر بالدباغ من مأكول اللحم وغيره، إلا جلد كلب، أو خنزير، وفرعهما، فإنه لا يطهر قطعا، وإذا قلنا بالقديم: إن الآدمي ينجس بالموت، طهر جلده بالدباغ على الأصح، ولنا وجه شاذ منكر في (التتمة) أن جلد الميتة لا ينجس، وإنما أمر بالدبغ لإزالة الزهومة (1)، ثم قال الأصحاب: يعتبر في الدباغ ثلاثة أشياء نزع الفضول، وتطييب الجلد، وصيرورته بحيث لو وقع (2) في الماء، لم يعد الفساد والنتن. ومن الأصحاب من يقتصر على نزع الفضول، لاستلزامه الطيب والصيرورة. قالوا: ويكون الدباغ بالأشياء الحريفة، كالشب (3)، والقرظ (4)، وقشور الرمان، والعفص. وفي وجه: لا يحصل إلا بشب أو قرظ، وهو غلط، ويحصل بمتنجس، وبنجس العين، كذرق حمام على الأصح فيها، ولا يكفي التجميد بالتراب، أو الشمس على الصحيح. ولا يجب استعمال الماء في أثناء الدباغ على الأصح، ويجب الغسل بعده إن دبغ بنجس قطعا، وكذا إن دبغ بطاهر على الأصح، فعلى هذا إذا لم يغسله، يكون طاهر العين، كثوب نجس، بخلاف ما إذا أوجبنا الماء في
151 أثناء الدباغ فلم يستعمله، فإنه يكون نجس العين، وهل يطهر بمجرد نقعه في الماء، أم لا بد من استعمال الأدوية ثانيا؟ وجهان. قلت: أصحهما الثاني. وبه قطع الشيخ أبو محمد، والآخر: احتمال لإمام الحرمين ، والمراد نقعه في ماء كثير. والله أعلم. وإذا أوجبنا الغسل بعد الدباغ، اشترط سلامته من التغير بأدوية الدباغ، ولا يشترط ذلك إذا أوجبنا استعمال الماء في أثناء الدباغ. فرع: يطهر بالدباغ ظاهر الجلد قطعا، وباطنه على المشهور الجديد. فيجوز بيعه، ويستعمل في المائعات، ويصلى فيه. ومنع القديم: طهارة الباطن، والصلاة، والبيع، واستعماله في المائع. قلت: أنكر جماهير العراقيين، وكثيرون من الخراسانيين هذا القديم، وقطعوا بطهارة الباطن، وما يترتب عليه (1). وهذا هو الصواب. والله أعلم. ويجوز أكل المدبوغ على الجديد، إن كان مأكول اللحم، وإلا، فلا، على المذهب. قلت: الأظهر عند الأكثرين، تحريم أكل جلد المأكول (2)، وقد بقي من هذا القسم مسائل منها: الدباغ بالملح. نص الشافعي رحمه الله: أنه لا يحصل، وبه قطع أبو علي الطبري (3)،
152 وصاحب (الشامل) وقطع إمام الحرمين بالحصول، ولا يفتقر الدباغ إلى فعل. فلو ألقت الريح الجلد في مدبغة، فاندبغ، طهر، ويجوز استعمال جلد الميتة قبل الدباغ في اليابسات، لكن يكره، ويجوز هبته (2)، كما تجوز الوصية. وإذا قلنا: لا يجوز بيعه بعد الدباغ، ففي إجارته وجهان. الصحيح: المنع. والله أعلم. القسم الثاني: الشعر والعظم، أما الشعر، والصوف، والوبر، والريش، فينجس بالموت على الأظهر، وكذا العظم على المذهب، وقيل: كالشعر. فإن نجسنا الشعر، ففي شعر الآدمي قولان. أو وجهان. بناء على نجاسته بالموت. والأصح أنه لا ينجس شعره بالموت، ولا بالإبانة. فإن نجسنا، عفي عن شعرة وشعرتين. فإن كثر، لم يعف. قلت: قال أصحابنا: يعفى عن اليسير من الشعر النجس في الماء، والثوب الذي يصلى فيه، وضبط اليسير: العرف. وقال إمام الحرمين: لعل القليل ما يغلب انتتافه مع اعتدال الحال. واختلف أصحابنا في هذا العفو، هل يختص بشعر الآدمي، أم يعم الجميع؟ والأصح: التعميم (3). والله أعلم.
153 وإذا نجسنا شعر الآدمي، فالصحيح: طهارة شعر رسول الله (ص). وإذا نجسنا شعر غير الآدمي، فدبغ الجلد وعليه شعر، لم يطهر الشعر على الأظهر، وإذا لم تنجس الشعور، ففي شعر الكلب والخنزير وفرعهما وجهان. الصحيح: النجاسة. سواء انفصل في حياته أو بعد موته. وأما الاناء من العظم، فإن كان طاهرا، جاز استعماله، وإلا فلا. وطهارته لا تحصل إلا بالذكاة في مأكول اللحم، إلا إذا قلنا (بالضعيف): إن عظام الميتة طاهرة. قلت: قال أصحابنا: ويجوز استعمال الاناء من العظم النجس في الأشياء اليابسة، لكن يكره (1)، كما قلنا في جلد الميتة قبل الدباغ، ويجوز إيقاد عظام الميتة. ولو رأى شعرا لم يعلم طهارته، فإن علم أنه من مأكول اللحم، فطاهر، أو من غيره، فنجس. أو لم يعلم، فوجهان. أصحهما: الطهارة، ولو باع جلد ميتة بعد دباغه وعليه شعر، وقلنا: يجوز بيع الجلد، ولا يطهر الشعر بالدباغ، فإن قال: بعتك الجلد دون شعره، صح، ولو قال: الجلد مع شعره، ففي صحة بيع الجلد القولان في تفريق الصفقة. وإن قال: بعتك هذا وأطلق صح. وقيل: وجهان. والله أعلم. القسم الثالث: إناء الذهب والفضة، يكره استعماله كراهة تنزيه في (القديم) وكراهة تحريم في (الجديد) وهو المشهور (2)، وقطع به جماعة. وعليه التفريع، ويستوي في التحريم الرجال والنساء، وسواء استعماله في الاكل، والشرب، والوضوء، والاكل بملعقة الفضة، والتطيب بماء الورد من قارورة
154 الفضة، والتجمر بمجمرة الفضة إذا احتوى عليها. ولا حرج في إتيان الرائحة من بعد، ويحرم اتخاذ الاناء من غير استعمال على الأصح، فلا يستحق صانعه أجرة، ولا أرش على كاسره. وعلى الثاني: لا يحرم، فتجب الأجرة والأرش، ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت والمجالس بها على الصحيح. ويحرم الاناء الصغير، كالمكحلة، وظرف الغالية من الفضة على الصحيح، ولا يحرم الأواني من الجواهر النفيسة، كالفيروزج، والياقوت، والزبرجد، ونحوها على الأظهر (1). ولا خلاف أنه: لا يحرم ما نفاسته لصنعته، ولا يكره لو اتخذ إناء من حديد، أو غيره، وموهه بذهب، أو فضة، إن كان يحصل منه شئ بالعرض على النار، حرم استعماله، وإلا، فوجهان. ولو اتخذه من ذهب، أو فضة، وموهه بنحاس أو غيره، فعلى الوجهين. ولو غشي ظاهره وباطنه بالنحاس، فطريقان. قال إمام الحرمين: لا يحرم. وقال غيره: على الوجهين. قلت: الأصح من الوجهين: لا يحرم. والله أعلم. فرع المضبب بالفضة، فيه أوجه. أحدها: إن كانت الضبة صغيرة وعلى قدر الحاجة، لا يحرم استعماله، ولا يكره. وإن كانت كبيرة فوق الحاجة، حرم. وإن كانت صغيرة فوق الحاجة أو كبيرة قدر الحاجة، فوجهان. الأصح: يكره. والثاني: يحرم. والوجه الثاني: إن كانت الضبة تلقى فم الشارب، حرم، وإلا، فلا. والثالث: يكره، ولا يحرم بحال. والرابع: يحرم في جميع الأحوال. قلت: أصح الأوجه وأشهرها، الأول، وبه قطع أكثر العراقيين. والله أعلم. ومعنى الحاجة: غرض إصلاح موضع الكسر، ولا يعتبر العجز عن التضبيب بغير الفضة، فان الاضطرار يبيح استعمال أصل إناء الذهب والفضة، وفي ضبط الصغر والكبر أوجه. أحدها: يرجع فيه إلى العرف. والثاني: ما يلمع على بعد كبير، وما لا،
155 فصغير. والثالث: ما استوعب جزءا من الاناء، كأسفله، أو عروته، أو شفته، كبير، وما لا، فصغير. قلت: الثالث: أشهر. والأول: أصح. والله أعلم. وأما المضبب بذهب، فقطع الشيخ أبو إسحاق (1) بتحريمه بكل حال. وقال الجمهور: هو كالفضة. قلت: قد قطع بتحريم المضبب بالذهب - بكل حال - جماعات غير الشيخ أبي إسحاق، منهم صاحب (الحاوي) وأبو العباس الجرجاني (2) والشيخ أبو الفتح نصر المقدسي (3) والعبدري (4) ونقله صاحب (التهذيب) عن العراقيين مطلقا. وهذا
156 هو الصحيح. والله أعلم. وهل يسوى بين الذهب والفضة في الصغر والكبر؟ قياس الباب: نعم. وعن الشيخ أبي محمد: لا، فإن قليل الذهب، ككثير الفضة، فيقوم ضبة الفضة المباحة، ويباح قدرها من الذهب، ولو اتخذ للاناء حلقة فضة، أو سلسلة، أو رأسا. قال في (التهذيب): يجوز، وفيه نظر واحتمال. قلت: قد وافق صاحب (التهذيب) جماعة، ولا نعلم فيه خلافا. قال أصحابنا: لو شرب بكفيه وفي أصبعه خاتم، أو في فمه دراهم، أو في الاناء الذي شرب منه، لم يكره. ولو أثبت الدراهم في الاناء بالمسامير، فهو كالضبة. وقطع القاضي حسين بجوازه. ولو باع إناء الذهب أو الفضة، صح بيعه. ولو توضأ منه، صح وضوؤه، وعصى بالفعل. ولو أكل، أو شرب، عصى بالفعل، وكان الطعام والشراب حلالا. وطريقه في اجتناب المعصية، أن يصب الطعام وغيره في إناء آخر، ويستعمل المصبوب فيه. والله أعلم. باب صفة الوضوء (1) له فروض وسنن. فالفروض ستة. الأول: النية (2): وهي فرض في طهارات الاحداث (3)، ولا تجب في إزالة النجاسة على الصحيح. ولا يصح وضوء كافر أصلي، ولا غسله على الصحيح، ويصحان على وجه. ويصح الغسل دون الوضوء على وجه فيصلي به إذا أسلم.
157 والكتابية المغتسلة من الحيض لحل وطئها لزوج مسلم، كغيرها على الصحيح (1)، ولا يصح طهارة المرتد بلا خلاف (2). ولو توضأ مسلم أو تيمم، ثم ارتد، فثلاثة أوجه. الصحيح: يبطل تيممه دون الوضوء. والثاني: يبطلان. والثالث: لا يبطلان. ولا يبطل الغسل بالردة، وقيل: هو كالوضوء، وليس بشئ. أما وقت النية: فلا يجوز أن يتأخر عن غسل أول جزء من الوجه (3). فإن قارنت الجزء المذكور ولم يتقدم ولم تبق بعده، صح وضوؤه، لكن لا يثاب على سنن الوضوء المتقدمة. قلت: وفي (الحاوي) وجه أنه يثاب عليها. والله أعلم. وإن تقدمت النية من أول الوضوء واستصحبها إلى غسل جزء من الوجه، صح، وحصل ثواب السنن، وإن اقترنت بسنة من سننه المتقدمة، وهي التسمية، والسواك، وغسل الكف، والمضمضة، والاستنشاق، ثم عزبت قبل الوجه، فثلاثة أوجه. أصحها: لا يصح وضوؤه. والثاني: يصح. والثالث: يصح إن اقترنت بالمضمضة أو الاستنشاق دون ما قبلهما. ولنا وجه ضعيف أن ما قبلهما ليس من سنن الوضوء، بل مندوبة في أوله، لا منه. والصواب: أنها من سننه. قلت: هذا (4) المذكور في المضمضة والاستنشاق، هو فيما إذا لم ينغسل معهما شئ من الوجه، فإن انغسل بنية الوجه، أجزأه ولا يضر العزوب بعده. وإن
158 لم ينو بالمغسول الوجه، أجزأه أيضا على الصحيح، وقول الجمهور، فعلى هذا يحتاج إلى إعادة غسل ذلك الجزء مع الوجه، على الأصح. والله أعلم. أما كيفية النية، فالوضوء ضربان: وضوء رفاهية، ووضوء ضرورة. أما الأول: فينوي أحد ثلاثة أمور. أحدها: رفع الحدث، أو الطهارة عن الحدث. ويجزئه ذلك. وفيه وجه: أنه إن كان ماسح خف، لم يجزئه نية رفع الحدث، بل تتعين نية الاستباحة، ولو نوى رفع بعض الاحداث، فأوجه. أصحها: يصح وضوؤه مطلقا. والثاني: لا. والثالث: إن لم ينف ما عداه صح، وإلا، فلا، والرابع: إن نوى رفع الأول، صح، وإلا، فلا. والخامس: إن نوى الأخير، صح، وإلا، فلا. هذا إذا كان الحدث المنوي واقعا منه. فإن لم يكن، بأن بال ولم ينم، فنوى حدث النوم، فإن كان غالطا، صح وضوؤه قطعا. وإن تعمد، لم يصح على الأصح. الأمر الثاني: استباحة الصلاة، أو غيرها مما لا تباح إلا بالطهارة، كالطواف، وسجود التلاوة، والشكر. فإذا نوى أحدها، ارتفع حدثه، ولنا وجه: أنه لا يصح الوضوء بنية الاستباحة، وهو غلط. وإن نوى استباحة صلاة بعينها، ولم ينف غيرها، صح الوضوء لها ولغيرها. وإن نفى أيضا، صح، على الأصح. ولا يصح في الثاني، ويصح في الثالث، لما نوى فقط، ولو نوى ما يستحب له الوضوء، كقراءة القرآن، والجلوس في المسجد، وسماع الحديث وروايته، لم يصح على الأصح. ولو نوى تجديد الوضوء. فعلى الوجهين. وقيل: لا يصح قطعا. ولو شك في الحدث فتوضأ محتاطا فتيقن الحدث، لم يعتد به على الأصح، لأنه توضأ مترددا وقد زالت الضرورة بالتيقن. ولو تيقن الحدث، وشك في الطهارة فتوضأ، ثم بان محدثا، أجزأه قطعا، لان الأصل بقاء الحدث فلا يضر التردد معه. ولو نوى ما لا يستحب له الوضوء، كدخول السوق، لم يصح. الأمر الثالث : فرض الوضوء، أو أداء الوضوء، وذلك كاف قطعا وإن كان الناوي صبيا. فرع: إذا نوى أحد الأمور الثلاثة، وقصد ما يحصل معه بلا قصد، بأن نوى رفع الحدث والتبرد، أو رفع الجنابة والتبرد، فالصحيح: صحة طهارته. ولو اغتسل جنب يوم الجمعة بنية الجمعة والجنابة، حصلا على الصحيح. ولو اقتصر على نية الجنابة، حصلت الجمعة أيضا في الأظهر.
159 قلت: الأظهر عند الأكثرين: لا تحصل. والله أعلم. ولو نوى بصلاته الفرض، وتحية المسجد، حصلا قطعا، ولو نوى رفع الحدث، ثم نوى في أثناء طهارته التبرد. فإن كان ذاكر النية، رفع الحدث، فهو كمن نواهما ابتداء، فيصح على الصحيح. وإن كان غافلا، لم يصح ما أتى به بعد ذلك على الصحيح. أما وضوء الضرورة، فهو وضوء المستحاضة، وسلس البول ونحوهما ممن به حدث دائم، والأفضل: أن ينوي رفع الحدث واستباحة الصلاة. وفي الواجب أوجه. الصحيح: أنه يجب نية الاستباحة دون رفع الحدث (1). والثاني: يجب الجمع بينهما. والثالث: يجوز الاقتصار على أيهما شاءت. ثم إن نوت فريضة واحدة، صح قطعا، لأنه مقتضى طهارتها. وإن نوت نافلة معينة ونفت غيرها، فعلى الأوجه الثلاثة المتقدمة في غيرها. فرع: لو كان يتوضأ ثلاثا، فنسي لمعة في المرة الأولى، فانغسلت في الثانية أو الثالثة، وهو يقصد التنفل، أو انغسلت في تجديد الوضوء، فوجهان. الأصح: في الصورة الأولى يجزئه، وفي مسألة التجديد لا يجزئه. قلت: ولو نسي اللمعة في وضوئه أو غسله، ثم نسي أنه توضأ، أو اغتسل، فأعاد الوضوء أو الغسل بنية الحدث، أجزأه، وتكمل طهارته بلا خلاف. والله أعلم. ولو فرق النية على أعضائه، فنوى عند الوجه رفع الحدث عنه، وعند اليد والرأس والرجل كذلك، صح وضوؤه على الأصح. والخلاف في مطلق التفريق على الصحيح المعروف. وقيل: هو فيمن نوى رفع الحدث عن كل عضو، ونفى غيره، دون من اقتصر عليه، وإذا قلنا في مسألة اللمعة: لا يعتد بالمغسول في
160 الثانية، فهل يبطل ما مضى، أم يبني عليه؟ فيه وجها تفريق النية، إن جوزنا التفريق، جاز البناء، وإلا، فلا. ولا يشترط إضافة الوضوء إلى الله تعالى على الأصح. قلت: قال أصحابنا: يستحب أن ينوي بقلبه، ويتلفظ بلسانه، كما سيأتي في سنن الوضوء. فإن اقتصر على القلب، أجزأه، أو اللسان، فلا. وإن جرى على لسانه حدث، أو تبرد، وفي قلبه خلافه، فالاعتبار بالقلب، ولو نوى الطهارة ولم يقل: عن الحدث، لم يجزئه على الصحيح المنصوص (1). ولو نوت المغتسلة عن الحيض تمكين زوج من وطئها، فأوجه. الأصح: تستبيح الوطئ والصلاة وكل شئ يقف على الغسل. والثاني: لا تستبيح شيئا. والثالث: تستبيح الوطئ وحده. ولو نوى أن يصلي بوضوئه صلاة، وأن لا يصليها، لم يصح، لتلاعبه وتناقضه. ولو ألقي انسان في نهر مكرها فنوى فيه رفع الحدث، صح وضوؤه. ولو غسل المتوضئ أعضاءه إلا رجليه، ثم سقط في نهر فانغسلتا وهو ذاكر النية، صح، وإلا، لم يحصل غسل رجليه على الأصح. ولو أحرم بالصلاة، ونوى الصلاة ودفع غريمه، صحت صلاته. قاله في (الشامل) ولو نوى قطع الوضوء بعد الفراغ منه، لم يبطل على الصحيح. وكذا في أثنائه على الأصح. ويستأنف النية لما بقي إن جوزنا تفريقها وإلا استأنف الوضوء. والله أعلم. الفرض الثاني: غسل الوجه، ويجب استيعابه بالغسل وحده، من مبدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الاذن إلى الاذن عرضا، وتدخل الغايتان في حد الطول، ولا تدخلان في العرض، فليست النزعتان من الوجه، وهما: البياضان المكتنفان للناصية أعلى الجبينين، ولا موضع الصلع، وهو: ما انحسر عنه
161 الشعر فوق ابتداء التسطيح. وأما الصدغان وهما: في جانبي الاذن يتصلان بالعذارين (1) من فوق، فالأصح (2): أنهما ليسا من الوجه. ولو نزل الشعر فعم الجبهة أو بعضها، وجب غسل ما دخل في الحد المذكور، وفي وجه ضعيف: لا (3) يجب إلا إذا عمها. وموضع التحذيف: من الرأس، لا من الوجه على الأصح. وهو الذي ينبت عليه الشعر الخفيف بين ابتداء العذار والنزعة (4). وأما شعور الوجه فقسمان: حاصلة في حد الوجه، وخارجة عنه. والحاصلة نادرة الكثافة وغيرها. فالنادرة: كالحاجبين، والأهداب، والشاربين، والعذارين، وهما: المحاذيان للأذنين بين الصدغ والعارض، فيجب غسل ظاهر هذه الشعور وباطنها مع البشرة تحتها وإن كثفت. ولنا وجه شاذ: أنه لا يجب غسل منبت كثيفها، وغير النادرة، شعر الذقن والعارضين، وهما: الشعران المنحطان عن محاذاة الاذنين. فإن كان خفيفا، وجب غسل ظاهره وباطنه مع البشرة، وإن كان كثيفا، وجب غسل ظاهر الشعر فقط، وحكي قول قديم، وقيل وجه: إنه يجب غسل البشرة أيضا، وليس بشئ. ولو خف بعضه وكثف بعضه، فالأصح أن للخفيف حكم الخفيف المتمحض، وللكثيف حكم الكثيف المتمحض. والثاني: للجميع حكم الخفيف. وأما ضبط الخفيف والكثيف، فالصحيح الذي عليه الأكثرون، وهو ظاهر النص، أن الخفيف: ما تتراءى البشرة تحته في مجلس التخاطب. والكثيف: ما يمنع الرؤية. والثاني: أن الخفيف: ما يصل الماء إلى منبته من غير مبالغة. والكثيف: ما لا يصله إلا بمبالغة، ويلحق بالنادر في حكمه المذكور، لحية امرأة، وخنثى مشكل، وكذا عنفقة الرجل الكثيفة على الأصح. وعلى الثاني: هي كشعر الذقن.
162 القسم الثاني: الخارجة عن حد الوجه من اللحية، والعارض، والعذار، والسبال طولا وعرضا، والأظهر وجوب إفاضة الماء عليها، وهو غسل ظاهرها (1). والثاني: لا يجب شئ. وقيل: يجب غسل الوجه الباطن من الطبقة العليا، وقيل: يجب غسل السبال قطعا. والمذهب الأول. قلت: قال أصحابنا: يجب غسل جزء من رأسه، ورقبته، وما تحت ذقنه مع الوجه، ليتحقق استيعابه. ولو قطع أنفه، أو شفته، لزمه غسل ما ظهر بالقطع في الوضوء، والغسل على الأصح. ولو خرج من وجهه سلعة (2) ونزلت عن حد الوجه، لزمه غسل جميعها على المذهب. وقيل: في النازل قولان. ويجب غسل ما ظهر من حمرة الشفتين، ويستحب غسل النزعتين. ولو خلق له وجهان، وجب غسلهما، ويستحب أن يأخذ الماء بيديه جميعا. والله أعلم. الفرض الثالث: غسل اليدين مع المرفقين، فإن قطع من فوق المرفق، فلا فرض عليه، ويستحب غسل باقي العضد، لئلا يخلو العضو من طهارة. وإن قطع من تحت المرفق، وجب غسل باقي محل الفرض. وإن قطع من مفصل المرفق، وجب غسل رأس العظم الباقي على المذهب، وقيل: فيه قولان. ولو كان له يدان من جانب، فتارة تتميز الزائدة عن الأصلية، وتارة لا. فإن تميزت وخرجت من محل الفرض، إما من الساعد، وإما من المرفق، وجب غسلها مع الأصلية، كالإصبع الزائدة، والسلعة، سواء جاوز طولها الأصلية، أم لا. وإن خرجت من فوق محل الفرض ولم تحاذ محل الفرض، لم يجب غسل شئ منها. وإن حاذته، وجب غسل المحاذي وحده على الصحيح المنصوص. وإن لم تتميز، وجب غسلهما
163 معا. سواء خرجتا من المنكب، أو الكوع، أو الذراع. ومن أمارات الزائدة، أن تكون فاحشة القصر، والأخرى معتدلة. ومنها نقص الأصابع، ومنها فقد البطش وضعفه. قلت: ولو طالت أظفاره وخرجت عن رؤوس الأصابع، وجب غسل الخارج على المذهب. وقيل: قولان، كالشعر النازل من اللحية. ولو نبت على ذراعه، أو رجله، شعر كثيف، وجب غسل ظاهره وباطنه مع البشرة تحته، لندوره. ولو توضأ، ثم قطعت يده، أو رجله، أو حلق رأسه، لم يلزمه تطهير ما انكشف. فإن توضأ، لزمه غسل ما ظهر. وإن حصل في يده ثقب، لزمه غسل باطنه، لأنه صار ظاهرا. وإن لم يقدر الأقطع والمريض على الوضوء، لزمه تحصيل من يوضئه، إما متبرعا، وإما بأجرة المثل إذا وجدها. فإن لم يجد من يوضئه، أو وجده ولم يجد الأجرة، أو وجدها فطلب أكثر من أجرة المثل، لزمه أن يصلي بالتيمم، ويعيد، لندوره. فإن لم يقدر على التيمم، صلى على حاله وأعاد. والله أعلم. الفرض الرابع: مسح الرأس، والواجب منه: ما ينطلق عليه الاسم، ولو بعض شعرة، أو قدره من البشرة (1). وفي وجه شاذ: يشترط ثلاث شعرات. وعلى هذا الشاذ: لا يشترط قدرها من البشرة إذا اقتصر عليها. وقيل: يشترط. وحيث اقتصر على البشرة يجوز، وإن كانت مستورة بالشعر على الصحيح. وشرط الشعر الممسوح، أن لا يخرج عن حد الرأس لو مد، سبطا كان أو جعدا، ولا يضر مجاوزته منبته على الصحيح. ولو غسل رأسه بدل مسحه، أو ألقى عليه قطرة ولم تسل عليه، أو وضع يده التي عليها الماء، على رأسه ولم يمرها، أجزأه على الصحيح. ولا يستحب غسل الرأس قطعا، ولا يكره على الأصح، بخلاف الخف، فإن غسله تعييب. قلت: ولا تتعين اليد للمسح، بل يجوز بأصبع، أو خشبة، أو خرقة، أو
164 غيرها. ويجزئه مسح غيره له. والمرأة كالرجل في المسح. ولو كان له رأسان أجزأه مسح أحدهما. وقيل: يجب مسح جزء من كل رأس. والله أعلم. الفرض الخامس: غسل الرجلين مع الكعبين. وهما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم. وحكي وجه: أنه الذي فوق مشط القدم. قلت: هذا الوجه شاذ منكر، بل غلط. والله أعلم. وحكم الرجل الزائدة ما سبق في اليد. ومراد الأصحاب بقولهم: غسل الرجلين فرض، إذا لم يمسح على الخف، أو أن الأصل الغسل والمسح بدل. فرع: من اجتمع عليه حدثان: أصغر. وأكبر. فيه أوجه. الصحيح: يكفيه غسل جميع البدن بنية الغسل وحده، ولا ترتيب عليه. والثاني: يجب نية الحدثين إن اقتصر على الغسل. والثالث: يجب وضوء مرتب، وغسل جميع البدن. فإن شاء قدم الوضوء، وإن شاء أخره. والرابع: يجب وضوء مرتب، وغسل باقي البدن (1). هذا كله إذا وقع الحدثان معا، أو سبق الأصغر، وإما إذا سبق الأكبر، فطريقان. أصحهما: طرد الخلاف. والثاني: القطع بالاكتفاء بالغسل. ولو غسل جميع بدنه إلا رجليه، ثم أحدث، فإن قلنا بالوجه الثالث، وجب وضوء كامل للحدث، وغسل الرجلين للجنابة، يقدم أيهما شاء، فتكون الرجل مغسولة مرتين. وإن قلنا بالرابع، وجب غسل الرجلين بعد أعضاء الوضوء، ويكون غسلهما واقعا عن الحدث والجنابة جميعا. وإن قلنا بالصحيح الأول، فعليه غسل الرجلين عن الجنابة، وغسل سائر أعضاء الوضوء عن الحدث، فان شاء قدم الرجلين، وإن شاء أخرهما، أو وسطهما. وعلى هذا يكون المأتي به وضوء خاليا عن غسل الرجلين، فإنهما يغسلان عن الجنابة خاصة، ولا يختص هذا بالرجلين،
165 بل لو غسل الجنب من بدنه ما سوى الرأس والرجلين، أو اليدين والرأس والرجلين، كان حكمه ما ذكرنا. قلت: الصحيح في الصورة المذكورة، أنه يجب الترتيب في أعضاء الوضوء الثلاثة. وهو مخير في الرجلين، كما ذكرنا. وقيل: هو مخير في الجميع، وقيل: يجب الترتيب في الجميع، فيجب غسل الرجلين بعد الأعضاء الثلاثة. والله أعلم. الفرض السادس: الترتيب (1): فلو تركه عمدا لم يصح وضوؤه، لكن يعتد بالوجه وما غسله بعده على الترتيب. ولو تركه ناسيا، فقولان: المشهور الجديد لا يجزئه. ولو غسل أربعة أنفس أعضاءه دفعة باذنه، لم يحصل إلا الوجه على الأصح (2). وعلى الثاني يحصل الجميع. أما إذا غسل المحدث جميع بدنه، فإن أمكن حصول الترتيب، بأن انغمس في الماء ومكث زمانا يتأتى فيه الترتيب أجزأه على الصحيح. وإن لم يتأت، بأن انغمس ولم يمكث، أو غسل أسافله قبل أعاليه، لم يجزه على الأصح. ولا خلاف في الاعتداد بغسل الوجه في الصورتين إذا قارنته النية، هذا كله إذا نوى رفع الحدث. فان نوى الجنابة، فالأصح أنه كنية رفع الحدث. والثاني لا يجزئه بحال إلا الوجه. قلت: الأصح عند المحققين في مسألة الانغماس بلا مكث الاجزاء (3). والله أعلم. فرع: إذا خرج منه بلل يجوز أن يكون منيا ومذيا، واشتبه، ففيه أوجه. أحدها: يجب الوضوء فقط، فلو عدل إلى الغسل، كان كمحدث يغتسل. والثاني: يجب الوضوء، وغسل سائر البدن، وغسل ما أصابه البلل. والثالث، وهو الأصح: يتخير بين التزام حكم المني، وحكم المذي. فإن اختار الوضوء وجب الترتيب فيه، وغسل ما أصابه. وقيل: لا يجبان وليس بشئ، ويجري هذا
166 الخلاف فيما إذا أولج خنثى مشكل في دبر رجل، فهما بتقدير ذكورة الخنثى جنبان، وإلا فمحدثان. وإذا توضئا، وجب عليهما الترتيب، وفيه الوجه المتقدم، وليس بشئ. فصل: وأما سنن الوضوء، فكثيرة: إحداها: السواك. وهو: سنة مطلقا (1)، ولا يكره إلا بعد الزوال لصائم (2). وفي غير هذه الحالة مستحب في كل وقت. ويتأكد استحبابه في أحوال عند الصلاة وإن لم يكن متغير الفم، وعند الوضوء وإن لم يصل، وعند قراءة القرآن، وعند اصفرار الأسنان وإن لم يتغير الفم، وعند تغير الفم بنوم، أو طول سكوت، أو ترك أكل، أو أكل ما له رائحة كريهة، أو غير ذلك. ويحصل السواك بخرقة، وكل خشن مزيل، لكن العود أولى، والأراك منه أولى، والأفضل أن يكون بيابس ندي بالماء، ولا يحصل بأصبع خشنة على أصح الأوجه. والثالث: يحصل عند عدم العود، ونحوه. ويستحب أن يستاك عرضا. قلت: كره جماعة من أصحابنا الاستياك طولا. ولنا قول غريب: أنه لا يكره السواك لصائم بعد الزوال. ويستحب أن يبدأ بجانب فمه الأيمن، وأن يعود الصبي السواك ليألفه. ولا بأس أن يستاك بسواك غيره بإذنه. ويستحب أن يمر السواك على سقف حلقه إمرارا لطيفا، وعلى كراسي أضراسه. وينوي بالسواك السنة. ويسن السواك أيضا عند دخوله بيته، واستيقاظه من نومه، للحديث الصحيح فيهما (3). والله أعلم.
167 والثانية: أن يقول في ابتداء وضوئه: بسم الله (1)، فلو نسيها في الابتداء، أتى بها متى ذكرها قبل الفراغ، كما في الطعام. فان تركها عمدا فهل يشرع التدارك؟ فيه احتمال. قلت: قول الإمام الرافعي فيه احتمال عجيب، فقد صرح أصحابنا بأنه يتدارك في العمد، وممن صرح به المحاملي في (المجموع) والجرجاني في (التحرير) وغيرهما، وقد أوضحته في (شرح المهذب) (2) قال أصحابنا: ويستحب التسمية في ابتداء كل أمر ذي بال من العبادات وغيرها حتى عند الجماع. والله أعلم. الثالثة: غسل الكفين قبل الوجه. سواء قام من النوم وشك في نجاسة اليد وأراد غمس يده في الاناء، أم لم يكن شئ من ذلك، لكن إن أراد غمس يديه في إناء قبل غسلهما، كره إن لم يتيقن طهارتهما (3). فإن تيقنها، فوجهان. الأصح لا يكره الغمس. قلت: ولا تزول الكراهة إلا بغسلهما ثلاثا قبل الغمس. نص عليه البويطي (4)، وصرح به الأصحاب للحديث الصحيح (5). وقال أصحابنا: إذا كان
168 الماء في إناء كبير، أو صخرة مجوفة، بحيث لا يمكن أن يصب منه على يده، وليس معه ما يغترف به، استعان بغيره، أو أخذ الماء بفمه، أو طرف ثوب نظيف ونحوه. والله أعلم. الرابعة: المضمضة، والاستنشاق، ثم أصل هذه السنة يحصل بوصول الماء إلى الفم، والأنف. سواء كان بغرفة، أو أكثر. وفي الأفضل طريقان. الصحيح: أن فيه قولين: أظهرهما: الفصل بين المضمضة والاستنشاق أفضل. والثاني: الجمع بينهما أفضل، والطريق الثاني: الفصل أفضل قطعا. وفي كيفيته وجهان. أصحهما: يتمضمض من غرفة ثلاثا، ويستنشق من أخرى ثلاثا. والثاني: بست غرفات، وتقديم المضمضة على الاستنشاق شرط على الأصح. وقيل: مستحب. وفي كيفية الجمع وجهان، الأصح: بثلاث غرفات، يتمضمض من كل غرفة، ويستنشق. والثاني: بغرفة يتمضمض منها ثلاثا، ثم يستنشق منها ثلاثا، وقيل (1): يتمضمض منها ثم يستنشق مرة، ثم كذلك ثانية وثالثة. قلت: المذهب من هذا الخلاف، أن الجمع بثلاث أفضل، كذا قاله جماعة من المحققين، والأحاديث الصحيحة مصرحة به (2) وقد أوضحته في (شرح المهذب) (3). والله أعلم. الخامسة: المبالغة في المضمضة والاستنشاق، فيبلغ ماء المضمضة أقصى الحنك، ووجهي الأسنان، وتمر الإصبع عليها، ويصعد ماء الاستنشاق بنفسه إلى الخيشوم مع إدخال الإصبع اليسرى، وإزالة ما هناك من أذى. فإن كان صائما لم يبالغ فيهما. قلت: ولو جعل الماء في فيه ولم يدره، حصلت المضمضة على الصحيح. والله أعلم.
169 السادسة: التكرار ثلاثا في المغسول (1) والممسوح المفروض والمسنون (2)، ولنا قول شاذ: أنه لا يكرر مسح الرأس، ووجه أشذ منه: أنه لا يكرره، ولا مسح الاذنين. ولو شك هل غسل أو مسح مرة، أو مرتين، أم ثلاثا؟ أخذ بالأقل على الصحيح، وقيل: بالأكثر. قلت: تكره الزيادة على ثلاث، وقيل: تحرم، وقيل: هي خلاف الأولى، والصحيح: الأول، وإنما تجب الغسلة مرة، وإذا استوعبت العضو. والله أعلم. السابعة: تخليل ما لا يجب إيصال الماء إلى منابته (3)، من شعور الوجه، بالأصابع. ولنا وجه شاذ: أنه يجب التخليل. قلت: مراد قائله، وجوب إيصال الماء إلى المنبت، وليس بشئ، وقد نقلوا الاجماع على خلافه. والله أعلم. الثامنة: تقديم اليمين على اليسار في يديه ورجليه. وأما الأذنان والخدان، فيطهران دفعة. فإن كان أقطع، قدم اليمين. قلت: والكفان، كالاذنين وفي البحر وجه شاذ: أنه يستحب تقديم الاذن اليمنى. ولو قدم مسح الاذن على مسح الرأس، لم يحصل على الصحيح. والله أعلم.
170 التاسعة: تطويل الغرة (1) والتحجيل. فالغرة: غسل مقدمات الرأس وصفحة العنق مع الوجه. والتحجيل: غسل بعض العضدين مع الذراعين، وبعض الساقين مع الرجلين. وغايته: استيعاب العضد والساق (2)، وقال كثيرون: الغرة: غسل بعض العضد والساق فقط. والصحيح: الأول. العاشرة: استيعاب الرأس بالمسح. والسنة في كيفيته: أن يضع يديه على مقدم رأسه، ويلصق سبابته بالأخرى، وإبهاميه على صدغيه، ثم يذهب بهما إلى قفاه، ثم يردهما إلى المبتدأ، فالذهاب والرد مسحة واحدة. وهذا الاستحباب لمن له شعر ينقلب بالذهاب والرد، ويصله البلل. أما من لا شعر له أو له شعر لا ينقلب، لصغره (3)، أو طوله، فيقتصر على الذهاب. فلو رد، لم يحسب ثانية، ولو لم يرد نزع ما على رأسه من عمامة أو غيرها، مسح ما يجب من الرأس. ويسن تتميم المسح على العمامة، والأفضل أن لا يقتصر على أقل من الناصية. ولا يكفي الاقتصار على العمامة قطعا. الحادية عشرة: مسح الاذنين ظاهرهما وباطنهما بماء جديد. ولو أخذ بأصابعه ماء لرأسه، ثم أمسك بعض أصابعه فلم يمسحه بها، فمسح الاذن بمائها، كفى لأنه جديد، ويمسح الصماخين بماء جديد على المشهور. وفي قول شاذ: يكفي مسحهما ببقية بلل الاذن. قلت: ويمسح الصماخين ثلاثا، ونقلوا: أن ابن سريج رحمه الله، كان يغسل أذنيه مع وجهه، ويمسحهما مع رأسه ومنفردتين احتياطا في العمل بمذاهب
171 العلماء فيهما، وفعله هذا حسن. وقد غلط من غلطه فيه زاعما أن الجمع بينهما لم يقل به أحد. ودليل ابن سريج، نص الشافعي والأصحاب على استحباب غسل النزعتين مع الوجه، مع أنهما يمسحان في الرأس. والله أعلم. الثانية عشرة: مسح الرقبة. وهل هو سنة، أم أدب؟ فيه وجهان. والسنة والأدب يشتركان في أصل الاستحباب، لكن السنة يتأكد شأنها، والأدب دون ذلك. ثم الأكثرون، على أنه يمسح بباقي بلل الرأس، أو الاذن، وقيل: بماء جديد. قلت: وذهب كثيرون من أصحابنا، إلى أنها لا تمسح، لأنه لم يثبت فيها شئ أصلا، ولهذا لم يذكره الشافعي ومتقدمو الأصحاب. وهذا هو الصواب. والله أعلم. الثالثة عشرة: تخليل أصابع الرجلين بخنصر يده اليسرى من أسفل الرجل، مبتدئا بخنصر الرجل اليمنى، خاتما بخنصر اليسرى (1). وقيل: يخلل ما بين كل إصبعين من أصابع رجليه بأصبع من أصابع يده، ولم يذكر الجمهور تخليل أصابع اليدين، واستحبه القاضي ابن كج (2) من أصحابنا، وورد فيه حديث. قال الترمذي (3): إنه حسن. فعلى هذا تخليلها بالتشبيك بينها. ولو كانت أصابع رجليه ملتفة لا يصل الماء ما بينهما إلا بالتخليل، وجب الايصال. وإن كانت ملتحمة، لم يجب فتقها، ولا يستحب. قلت: بل لا يجوز. والله أعلم.
172 الرابعة عشرة: الدعوات على أعضاء الوضوء، فيقول عند الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. وعند اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني، وحاسبني حسابا يسيرا. وعند اليسرى: اللهم لا تعطني كتابي بشمالي، ولا من وراء ظهري. وعند الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار. وعند الاذنين: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وعند الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الاقدام. قلت: هذا الدعاء، لا أصل له، ولم يذكره الشافعي، والجمهور (1). والله أعلم. الخامسة عشرة: ترك الاستعانة، وهل تكره الاستعانة؟ وجهان. قلت: الوجهان فيما إذا استعان بمن يصب عليه الماء، وأصحهما: لا يكره. أما إذا استعان بمن يغسل له الأعضاء، فمكروه قطعا. وإن استعان به في إحضار الماء، فلا بأس به، ولا يقال: إنه خلاف الأولى، وحيث كان له عذر، فلا بأس بالاستعانة مطلقا. والله أعلم. السادسة عشرة: الأصح أنه يستحب ترك التنشيف. والثاني: لا يستحب، ولا يكره. والثالث: يكره (2) والرابع: يكره في الصيف دون الشتاء. والخامس: يستحب. السابعة عشرة: أن لا ينفض يده والنفض: مكروه. قلت: في النفض أوجه. الأرجح: أنه مباح، تركه وفعله سواء. والثاني: مكروه. والثالث: تركه أولى. والله أعلم. الثامنة عشرة: في مندوبات أخر، منها: أن يقول بعد التسمية: الحمد لله
173 الذي جعل الماء طهورا، وأن يستصحب النية في جميع الأفعال، وأن يجمع في النية بين القلب واللسان، وأن يتعهد الموقين (1) بالسبابتين (2)، ويحرك الخاتم، ويتعهد ما يحتاج إلى الاحتياط، ويبدأ في الوجه بأعلاه، وفي الرأس بمقدمه، وفي اليد والرجل بأطراف الأصابع، إن صبه على نفسه. وإن صب عليه غيره، بدأ بالمرفق والكعب. وأن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وأن لا يسرف، ولا يزيد على ثلاث مرات، ولا يتكلم في أثناء الوضوء، ولا يلطم وجهه بالماء، ولا يتوضأ في موضع يرجع إليه رشاش الماء، وأن يمر يده على الأعضاء، وأن يقول بعد الفراغ: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التوابين، واجعلني من المتطهرين (3) سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك. واعلم أن معظم هذه السنن يجئ مثلها في الغسل، وفي التسمية وجه: أنها لا تستحب في الغسل. فرع: التفريق اليسير بين أعضاء الوضوء، لا يضر بلا خلاف، وكذا الكثير، على الجديد المشهور. والكثير: هو أن يمضي زمن يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص. والقليل: دون ذلك. وقيل: تؤخذ القلة والكثرة من العرف. وقيل: الكثير: مضي زمن يمكن فيه إتمام الطهارة. ومدة التفريق تعتبر من آخر المأتي به من أفعال الوضوء. ولو فرق بعذر، كنفاد الماء، لم يضر على المذهب، وقيل: فيه القولان. والنسيان عذر على الأصح. وحيث جاز التفريق، فبنى، لا يحتاج إلى تجديد النية في الأصح. والموالاة في الغسل، كهي في الوضوء على المذهب. وقيل: لا يجب مطلقا بلا خلاف. قلت: بقيت مسائل مهمة من صفة الوضوء. منها: غسل العينين. فيه
174 أوجه. أحدها: سنة. والثاني: مستحب. والثالث: لا يفعل، وهو الأصح عند الأصحاب. ولو لم يكن لرجله كعب، أو ليده مرفق، اعتبر قدره، ولو تشققت رجله، فجعل في شقوقها شمعا أو حناء، وجب إزالة عينه، فإن بقي لون الحناء، لم يضر، وإن كان على العضو دهن مائع، فجرى، الماء على العضو، ولم يثبت، صح وضوؤه، ولو كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء، لم يصح وضوؤه على الأصح. ولو قدم المضمضة والاستنشاق على غسل الكف، لم يحسب الكف على الأصح. ولو شك في غسل بعض أعضائه في أثناء الطهارة، لم يحسب له، وبعد الفراغ لا يضره الشك على الأصح. ويشترط في غسل الأعضاء: جريان الماء على العضو بلا خلاف. ويرتفع الحدث عن كل عضو بمجرد غسله. وقال إمام الحرمين: يتوقف على فراغ الأعضاء، والصواب: الأول. وبه قطع الأصحاب. ويستحب لمن يتوضأ أن يصلي عقبه ركعتين في أي وقت كان. والله أعلم (1). باب الاستنجاء (2) الاستنجاء واجب. ولقضاء الحاجة آداب. منها: أن يستر عورته عن العيون بشجرة، أو بقية جدار، ونحوهما، فإن كان في بناء يمكن تسقيفه، كفى، ولو جلس في وسط عرصة دار واسعة، أو بستان، فليستر بقدر مؤخرة الرحل، وليكن بينه وبينها ثلاثة أذرع فما دونها. ولو أناخ راحلته وتستر بها، أو جلس في وهدة، أو نهر، أو أرخى ذيله، حصل الغرض. ومنها: أن لا يستقبل الشمس، ولا القمر بفرجه، لا في الصحراء ولا في البنيان. وهو نهي تنزيه (3).
175 قال جماعة: ويجتنب الاستدبار أيضا. والجمهور: اقتصروا على النهي عن الاستقبال. ومنها: إن كان في بناء، أو بين يديه ساتر، فالأدب أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها. فإن كان في صحراء ولم يستتر بشئ، حرم استقبالها واستدبارها، ولا يحرم ذلك في البناء (1). ومنها: أن لا يتخلى في متحدث الناس (2)، وأن لا يبول في الماء الراكد الكثير، والنهي عن القليل أشد (3)، وفي الليل أشد. وأن لا يبول في ثقب (4)، وأن لا يجلس تحت شجرة مثمرة لغائط، ولا بول، ولا يبول في مهب ريح. وأن يعتمد في جلوسه على رجله اليسرى، وأن يعد أحجار الاستنجاء عنده قبل جلوسه، وأن لا يستنجي بالماء، موضع قضاء الحاجة، بل ينتقل عنه. فإن كان يستنجي بالحجر، لم ينتقل. قلت: هذا في غير الأخلية المتخذة لذلك. أما الأخلية، فلا ينتقل منها للمشقة، ولأنه لا يناله رشاش. والله أعلم. وأن لا يستصحب (5) ما فيه شئ من القرآن، أو ذكر الله سبحانه وتعالى، أو
176 رسوله (ص)، كخاتم ودرهم ونحوهما، ولا يختص هذا الأدب بالبنيان، بل يعم الصحراء على الصحيح. فلو غفل عن نزع الخاتم حتى اشتغل بقضاء الحاجة، ضم كفه عليه. وأن يقدم في الدخول رجله اليسرى، وفي الخروج اليمنى (1)، وسواء في هذا الأدب، الصحراء والبنيان على الصحيح، فيقدم اليسرى إذا بلغ مقعده في الصحراء، ويقدم اليمنى في انصرافه، وقيل: يختص بالبنيان. وأن يستبرئ بتنحنح، ونتر ذكره عند انقطاع البول، ويكره حشو الإحليل بقطن ونحوه. قلت: يكره استقبال بيت المقدس، واستدباره، ببول أو غائط، ولا يحرم، ولا يكره الجماع مستقبل القبلة، ولا مستدبرها، لا في بناء ولا في صحراء عندنا. واستصحاب ما عليه ذكر الله تعالى. على الخلاء مكروه، لا حرام. والسنة أن يقول عند دخول الخلاء: (باسم الله (2)، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (3). ويقول إذا خرج: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني) (4). وسواء في هذا البنيان والصحراء، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض، ويسبله عليه إذا قام قبل انتصابه. ويكره أن يذكر الله تعالى، أو يتكلم بشئ قبل خروجه، إلا لضرورة. فإن عطس حمد الله تعالى بقلبه، ولا يحرك لسانه، وكذا يفعل في حال الجماع، والسنة أن يبعد عن الناس، وأن يبول في مكان لين لا يرتد عليه فيه بوله. ويكره في قارعة الطريق، (5) وعند القبور، ويحرم البول على القبر. وفي المسجد
177 فلو بال في إناء في المسجد فهو حرام على الأصح. ويستحب أن لا يدخل الخلاء حافيا ولا مكشوف الرأس، وأن لا ينظر إلى ما يخرج منه، ولا إلى فرجه، ولا إلى السماء، ولا يعبث بيده، ولا يكره البول في الاناء، ويكره قائما بلا عذر، ويكره إطالة القعود على الخلاء. والله أعلم (1). فصل فيما يستنجى منه إذا خرج من البدن نجس لا ينقض الطهر، لم يجزئ فيه الحجر. وأما الخارج الذي ينقض الطهر، فإن كان ريحا، لم يجب الاستنجاء. وإن كان غيره، وخرج من منفتح غير السبيلين، ففي إجزاء الحجر فيه خلاف، يأتي في الباب الآتي إن شاء الله تعالى وإن كان خارجا من السبيلين، يوجب الطهارة الكبرى، كالمني، والحيض، وجب الغسل، ولا يمكن الاقتصار على الحجر. قلت: قد صرح (2) صاحب (الحاوي) وغيره: بجواز الاستنجاء بالحجر من دم الحيض. وفائدته فيمن انقطع حيضها واستنجت بالحجر، ثم تيممت لسفر أو مرض، صلت ولا إعادة. والله أعلم. وإن أوجب الصغرى، فإن لم يكن ملوثا كدود، وحصاة بلا رطوبة، لم يجب الاستنجاء على الأظهر. قلت: والبعرة اليابسة، كالحصاة، وصرح به صاحب (الشامل) وآخرون. والله أعلم.
178 وإن كان ملوثا نادرا، كالدم، والقيح، والمذي، فثلاثة طرق (1). الصحيح قولان. أظهرهما: يجزئه الحجر. والثاني: يتعين الماء. والثاني: يجزئ الحجر قطعا. والثالث: إن خرج النادر مختلطا بالمعتاد، كفى الحجر. وإن تمحض النادر، تعين الماء. وإن كان الخارج ملوثا معتادا ولم يجاوز المخرج، فله الاقتصار على الحجر قطعا. وكذا إن جاوز المخرج، ولم يجاوز المعتاد على المذهب، وشذ بل غلط من قال: فيه قول آخر: أنه يتعين الماء. فإن جاوز المعتاد، ولم يخرج الغائط عن الأليتين، أجزأ الحجر أيضا على الأظهر. وقيل: قطعا. وقيل: يتعين الماء قطعا. والبول: كالغائط، والحشفة: كالأليتين. وقال أبو إسحاق المروزي: إذا جاوز البول الثقب، تعين الماء قطعا. والمذهب: الأول. ولو جاوز الغائط الأليتين، والبول الحشفة، تعين الماء قطعا لندوره، سواء المجاوز، وغيره. وقيل في غير المجاوز: الخلاف، وليس بشئ. وحيث اقتصر على الحجر فشرطه: أن لا تنتقل النجاسة عن الموضع الذي أصابته عند الخروج، وأن لا يجف ما على المخرج. فإن فقد أحدهما، تعين الماء قطعا (2). وقيل: إن كان الجاف بحيث يقلعه الحجر، أجزأ الحجر. فصل فيما يستنجى به غير الماء وله شروط. أحدها: أن يكون طاهرا، فلو استنجى بنجس، تعين بعده الماء، على الصحيح. وعلى الثاني: يجزئه الحجر إن كان النجس جامدا. الشرط الثاني: أن يكون منشفا قالعا للنجاسة، فلا يجزئ زجاج، وقصب، وحديد أملس، وفحم رخو، وتراب متناثر، ويجزئ فحم وتراب صلبان. وقيل في التراب والفحم: قولان مطلقا، وليس بشئ. وإن استنجى بما لا يقلع، لم يجزئه وإن أنقى. فإن نقل النجاسة، تعين الماء، وإلا أجزأ الحجر. ولو استنجى برطب من
179 حجر، أو غيره، لم يجزئه على الصحيح. الشرط الثالث: أن لا يكون محترما، فلا يجوز الاستنجاء بمطعوم، كالخبز، والعظم. ولا بما كتب عليه علم، كحديث، وفقه، وفي جزء الحيوان المتصل به، كاليد والعقب، وذنب حمار، وجهان. الصحيح: لا يجوز. وقيل: يجوز بيد نفسه، دون يد غيره. وقيل: عكسه. ويجوز بقطعة ذهب، وفضة، وجوهر نفيس خشنة على الصحيح، كما يجوز بالديباج قطعا (1). وإن استنجى بمحترم، عصى، ولا يجزئه على الصحيح، لكن يجزئه الحجر بعده، إلا أن ينقل النجاسة، وأما الجلد الطاهر، فالأظهر: أنه إن كان مدبوغا، جاز الاستنجاء به. وإلا، فلا. والثاني: يجوز مطلقا. والثالث: لا يجوز مطلقا. ولو استنجى بحجر، ثم غسله ويبس، جاز الاستنجاء به، وإن استنجى بحجر، فلم يبق على المحل شئ، فاستعمل الثاني والثالث ولم يتلوثا، جاز استعمالهما من غير غسل على الصحيح. فصل في كيفية الاستنجاء: إذا استنجى بجامد، وجب الانقاء، واستيفاء بثلاث مسحات بأحرف حجر، أو ما في معناه، أو بأحجار. ولو حصل الانقاء بدون الثلاث، وجب ثلاث. وفي وجه: يكفي الانقاء، وهو شاذ، أو غلط. وإذا لم يحصل الانقاء بثلاث، وجبت الزيادة. فإن حصل برابع، استحب الاتيان بخامس ولا يجب. وفي كيفية الاستنجاء أوجه، أصحها: يمسح بكل حجر جميع المحل، فيضعه على مقدم الصفحة اليمنى، ويديره على الصفحتين إلى أن يصل موضع ابتدائه، ويضع الثاني على مقدم الصفحة اليسرى، ويفعل مثل ذلك، ويمسح بالثالث الصفحتين والمسربة. والوجه الثاني: يمسح بحجر الصفحة اليمنى، وبالثاني اليسرى، وبالثالث الوسط. والوجه الثالث أن يمسح بالأول من مقدم المسربة إلى آخرها. وبالثاني، من آخرها إلى أولها، ويحلق بالثالث، وهذا الخلاف في الأفضل على الصحيح. فيجوز عند كل قائل العدول إلى الكيفية الأخرى، وقيل: لا يجوز. قلت: وقيل: يجوز العدول من الكيفية الثانية إلى الأولى دون عكسه. والله أعلم.
180 وينبغي أن يضع الحجر على موضع طاهر بقرب النجاسة، ثم يمره على المحل، ويديره قليلا قليلا. فإن أمره ونقل النجاسة من موضع إلى موضع، تعين الماء، فإن أمر ولم يدره ولم ينقل، فالصحيح: أنه يجزئه. والثاني: لا بد من الإدارة. فرع: المستحب أن يستنجي باليسار. فإن استنجى بماء، صبه باليمنى، ومسح باليسرى. وإن استنجت امرأة من بول، أو غائط، أو رجل من غائط بالحجر، مسح بيساره، ولم يستعن بيمينه في شئ. وإذا استنجى الرجل من البول بجدار أو صخرة عظيمة ونحو ذلك، أمسك الذكر بيساره ومسحه على ثلاث مواضع (1). وإذا استنجى بحجر صغير، أمسكه بين عقبيه، أو إبهامي رجليه، أو تحامل عليه إن أمكنه، والذكر في يساره. فإن لم يتمكن واضطر إلى إمساك الحجر بيده، أمسكه باليمنى، وأخذ الذكر باليسرى، وحرك اليسار وحدها. فإن حرك اليمنى، أو حركهما جميعا، كان مستنجيا باليمين. وقيل: يأخذ الذكر باليمين، والحجر باليسار ويحركها، وليس بشئ. فرع: الأفضل: أن يجمع في الاستنجاء بين الماء والجامد، ويقدم الجامد. فإن اقتصر، فالماء أفضل. فرع: الخنثى المشكل في الاستنجاء من الغائط، كغيره، وليس له الاقتصار على الحجر في البول، إلا إذا قلنا: من انفتح له دون المعدة مخرج، مع انفتاح الأصلي، ينتقض وضوؤه بالخارج منه، ويجوز له الاقتصار على الحجر. أما الرجل، فمخير في فرجيه، بين الماء والحجر، وكذا المرأة البكر، وكذا الثيب (2). فإن مخرج بولها، فوق مدخل الذكر. والغالب أنها إذا بالت، نزل البول
181 إلى مدخل الذكر. فإن تحققت ذلك، تعين الماء، وإلا، جاز الحجر على الصحيح. والواجب على المرأة، غسل ما يظهر إذا جلست على القدمين. وفي وجه ضعيف: يجب على الثيب غسل باطن فرجها. قلت: ينبغي أن يستنجي قبل الوضوء والتيمم، فإن قدمهما على الاستنجاء، صح الوضوء، دون التيمم، على أظهر الأقوال. والثاني: يصحان. والثالث: لا يصحان. ولو تيمم وعلى يديه نجاسة، فهو كالتيمم قبل الاستنجاء، وقيل: يصح قطعا، كما لو تيمم مكشوف العورة (1). وإذا أوجبناه في الدودة، والحصاة، والبعرة، أجزأه الحجر على المذهب. وقيل: فيه القولان في الدم وغيره من النادر ، وهذا أشهر، وقول الجمهور، ولكن الصواب: الأول. ولو وقع الخارج من الانسان على الأرض، ثم ترشش منه شئ فارتفع إلى المحل، أو أصابته نجاسة أخرى، تعين الماء، لخروجه عما يعم به البلوى. ويستحب أن يبدأ المستنجي بالماء (2) بقبله، ويدلك يده بعد غسل الدبر، وينضح فرجه، أو سراويله بعد الاستنجاء دفعا للوسواس. ويعتمد في غسل الدبر على أصبعه الوسطى، ويستعمل من الماء ما يغلب على الظن زوال النجاسة به، ولا يتعرض للباطن، ولو غلب على ظنه زوال النجاسة، ثم شم من يده ريحها، فهل يدل على بقاء النجاسة في المحل كما هي في اليد، أم لا؟ فيه وجهان، أصحهما: لا (3). والله أعلم. باب الاحداث (4) الحدث (5) يطلق على ما يوجب الوضوء، وعلى ما يوجب الغسل. فيقال:
182 حدث أكبر، وحدث أصغر، وإذا أطلق، كان المراد الأصغر غالبا، وهو مرادنا هنا (1). ولا ينتقض الوضوء عندنا بخارج من غير السبيلين، ولا بقهقهة المصلي، ولا بأكل لحم الجزور، ولا بأكل ما مسته النار، وفي لحم الجزور قول قديم شاذ. قلت: هذا القديم وإن كان شاذا في المذهب، فهو قوي في الدليل، فإن فيه حديثين صحيحين ليس عنهما جواب شاف. وقد اختاره جماعة من محققي أصحابنا المحدثين، وقد أوضحت كل ذلك مبسوطا في شرح (المهذب) (2) وهذا القديم مما اعتقد رجحانه. والله أعلم. وإنما ينتقض بأحد أربعة (3) أمور. الأول: الخارج من أحد السبيلين، عينا كان، أو ريحا، من قبل الرجل والمرأة، أو دبرهما، نادرا كان، كالدم والحصى، أو معتادا نجس العين، أو طاهرها، كالدود والحصى، إلا المني (4)، فلا ينقض الوضوء بخروجه، وإنما
183 يوجب الغسل. ولنا وجه شاذ: أنه يوجب الوضوء أيضا، ودبر الخنثى المشكل، كغيره. فإن خرج (1) شئ من قبليه (2)، نقض. وإن خرج من أحدهما، فله حكم المنفتح تحت المعدة. فرع: إذا انسد السبيل المعتاد وانفتح ثقبه تحت المعدة، وخرج منه المعتاد، وهو البول والغائط، نقض قطعا، وإن خرج نادر، كدم ودود وريح، نقض على الأظهر. وإن انفتح فوق المعدة مع انسداد المعتاد، أو تحتها مع انفتاحه، لم ينقض الخارج المعتاد منه، على الأظهر فإن نقض، ففي النادر القولان، وإن انفتح فوقها مع انفتاح الأصلي، لم ينقض قطعا. قلت: ذهب كثيرون من الأصحاب إلى أن فيه طريقين. الثاني: على قولين. والمذهب: أن الريح، من الخارج المعتاد، ومرادهم بتحت المعدة: ما تحت السرة، وبفوقها: السرة، ومحاذاتها، وما فوقها. والله أعلم. وحيث نقضنا، فهل يجوز الاقتصار في الخارج منه على الحجر؟ فيه ثلاثة أقوال. وقيل: أوجه، الأظهر: لا. والثالث: يجوز في المعتاد دون النادر، والأصح: أنه لا يجب الوضوء بمسه، ولا الغسل بالايلاج فيه، ولا يحرم النظر إليه إذا كان فوق السرة، أو محاذيا لها، ولا يثبت بالايلاج فيه شئ من أحكام الوطئ قطعا، سوى الغسل على وجه. وقيل: يثبت المهر وسائر أحكام الوطئ. قلت: لو أخرجت دودة رأسها من فرجه، ثم رجعت، انتقض على الأصح (3)، والخنثى الواضح: إذا خرج من فرجه الزائد شئ، فله حكم منفتح تحت المعدة. ولو خرج من أحد قبلي مشكل، فكذلك على المذهب. و: ينتقض قطعا وقيل: عكسه. ومن له ذكران، ينتقض بكل منهما. والله أعلم. الناقض الثاني: زوال العقل، فإن كان بالجنون والاغماء والسكر، نقض بكل
184 حال. والسكر الناقض: ما لا شعور معه دون أوائل النشوة. وحكي وجه: أن السكر لا ينقض بحال، وهو غلط. وأما النوم، فحقيقته: استرخاء البدن، وزوال الاستشعار، وخفاء كلام من عنده. وليس في معناه النعاس، وحديث النفس، فإنهما لا ينقضان بحال، فإن نام ممكنا مقعده من مقره، لم ينقض. وقيل: إن استند إلى ما يسقط بسقوطه، نقض، وليس بشئ، وإن نام غير ممكن مقعده، نقض. وفي قول: لا ينقض النوم على هيئة من هيئات الصلاة، وإن لم يكن في صلاة. وفي قول: لا ينقض في الصلاة كيف كان. وفي قول: لا ينقض النوم قائما. وفي قول: ينقض وإن كان ممكنا مقعده. وهذه أقوال شاذة. قلت: لا فرق عندنا بين قليل النوم وكثيره. ولو نام محتبيا، فثلاثة أوجه. أصحها: لا ينتقض. والثالث: ينتقض وضوء نحيف الأليين دون غيره. ولو نام ممكنا مقعدته (1) فزالت إحدى أليتيه عن الأرض، فإن كان قبل الانتباه، انتقض، وإن كان بعده، أو معه، أو شك، لم ينتقض. ولو شك، هل نام أم نعس؟ أو هل نام ممكنا أم لا؟ لم ينتقض. ولو نام على قفاه ملصقا مقعده بالأرض، انتقض، ولو كان مستثفرا بشئ، انتقض أيضا على المذهب. قال الشافعي، والأصحاب: يستحب الوضوء من النوم ممكنا للخروج من الخلاف (2). والله أعلم. الناقض الثالث: لمس بشرة امرأة مشتهاة، فإن لمس شعرا، أو سنا، أو ظفرا، أو عضوا مبانا من امرأة، أو بشرة صغيرة لم تبلغ حد الشهوة، لم ينتقض وضوؤه، على الأصح. وإن لمس محرما بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة، لم ينتقض على الأظهر. وإن لمس ميتة، أو عجوزا لا تشتهى، أو عضوا أشل، أو
185 زائدا، أو لمس بغير شهوة، أو عن غير قصد، انتقض على الصحيح (1) في جميع ذلك، وينتقض وضوء الملموس على الأظهر. والمرأة كالرجل في انتقاض طهرها بلمسها من الرجل ما ينقضه منها. ولنا وجه شاذ: أنها لا تزال ملموسة، فإذا لمست رجلا، كان في انتقاضها القولان، وليس بشئ. قلت: ولو التقت بشرتا رجل وامرأة بحركة منهما، انتقضتا قطعا وليس فيهما ملموس. ولو لمس الشيخ الفاقد للشهوة شابة، أو لمست الفاقدة للشهوة شابا، أو الشابة شيخا لا يشتهي، انتقض على الأصح. والمراهق، والخصي، والعنين، ينقضون وينتقضون. ولو لمس الرجل أمرد حسن الصورة بشهوة، لم ينتقض على الصحيح. ولو شك هل هو لامس أو ملموس؟ فهو ملموس، أو هل لمس محرما، أو أجنبية؟ فمحرم. ولو لمس محرما بشهوة، فكلمسها بغير شهوة. ولمس اللسان، ولحم الأسنان، واللمس به، ينتقض قطعا. والله أعلم. الناقض الرابع: مس فرج الآدمي، فينتقض الوضوء إذا مس ببطن كفه فرج آدمي، من نفسه، أو غيره، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير، حي أو ميت، قبلا كان الممسوس، أو دبرا. وفي فرج الصغير، والميت، وجه ضعيف، وفي الدبر قول شاذ: أنه لا ينتقض. والمراد بالدبر: ملتقى المنفذ، ومس محل الجب ينقض قطعا إن بقي شئ شاخص، فإن لم يبق شئ، نقض أيضا على الصحيح، ومس الذكر المقطوع (2) والأشل، والمس باليد الشلاء، وناسيا، ناقض على الصحيح. ولو مس بباطن أصبع زائدة، إن كانت على استواء الأصابع، نقضت على الأصح، وإلا، فلا، على الأصح. ولو كان له كفان عاملتان، نقض كل واحدة منهما (3). وإن كانت إحداهما عاملة، نقضت، دون الأخرى. وقيل: في الزائدة خلاف مطلقا. ولا ينقض مس دبر البهيمة قطعا، ولا قبلها، على الجديد المشهور. قلت: أطلق الأصحاب الخلاف في فرج البهيمة، ولم يخصوا به القبل. فإن
186 قلنا: لا ينقض مسه، فأدخل يده في فرجها، لم ينقض على الأصح. والله أعلم. هذا كله في المس ببطن كفه، فإن مس برؤوس الأصابع، أو بما بينها، أو بحرفها، أو حرف الكف، لم ينتقض على الأصح. ومن نقض برؤوس الأصابع قال: باطن الكف: ما بين الأظفار والزند طولا. ومن لم ينقض به يقول: هو القدر المنطبق إذا وضعت إحدى اليدين على الأخرى، مع تحامل يسير. وأما الممسوس فرجه، فلا ينتقض قطعا. قلت: وقيل: فيه قولان، كالملموس. والله أعلم. فرع: إذا مس الخنثى المشكل فرج واضح، فحكمه ما سبق، وإن مس فرجي نفسه، انتقض، أو أحدهما، فلا. وإن مس أحدهما، ثم صلى الصبح، ثم توضأ، ثم مس الآخر، ثم صلى الظهر، فالأصح: أنه لا يجب قضاء واحدة منهما. والثاني: يجب قضاؤهما، ولو مس أحدهما وصلى الصبح، ثم مس الآخر، وصلى الظهر من غير وضوء، أعاد الظهر قطعا فقط، أما إذا مس الواضح خنثى، فإن مس منه ما له مثله، انتقض، وإلا، فلا ينتقض (1) وضوء الرجل بمس ذكر الخنثى والمرأة بفرجه، ولا عكس. هذا إذا لم يكن بين الماس والخنثى محرمية، أو غيرها مما يمنع النقض، وحيث نقضنا الواضح، فالخنثى ممسوس لا ملموس، ولو مس المشكل فرجي مشكل، أو فرج نفسه، وذكر مشكل، انتقض. ولو مس أحد فرجي مشكل، لم ينتقض. ولو مس أحد المشكلين فرج صاحبه، ومس الآخر ذكر الأول، انتقض أحدهما لا بعينه، لكن لكل واحد منهما أن يصلي، لان الأصل: الطهارة. من القواعد التي يبنى عليها كثير من الاحكام، استصحاب حكم اليقين، والاعراض عن الشك (2)، فلو تيقن الطهارة، وشك في الحدث، أو
187 عكسه، عمل باليقين فيهما. ولو ظن الحدث بعد يقين الطهارة، فكالشك، فله الصلاة. ولنا وجه: أنه إذا شك في الحدث خارج الصلاة، وجب الوضوء، وهذا شاذ، بل غلط. ومن هذا الباب ما إذا مس الخنثى فرجه مرتين، وشك، هل الممسوس ثانيا الأول، أم الآخر؟ أو شك من نام قاعدا، ثم تمايل وانتبه، أيهما كان أسبق؟ أو شك هل ما رآه، رؤيا، أم حديث نفس؟ أو هل لمس البشرة، أم الشعر؟ فلا يلزمه الوضوء في جميع هذا. وكذا الشك في الحدث الأكبر. ولو تيقن بعد طلوع الشمس حدثا، وطهارة، ولم يعلم أسبقهما، فثلاثة أوجه. أصحها، وقول الأكثرين: أنه إن كان قبل طلوع الشمس محدثا، فهو الآن متطهرا، وإن كان متطهر فالآن محدث إن كان ممن يعتاد تجديد الوضوء، وإلا فمتطهر أيضا، وإن لم يعلم ما كان قبل طلوع الشمس، وجب الوضوء. والوجه الثاني: أنه على ما كان قبل طلوع الشمس، ولا نظر إلى ما بعده، فإن لم يعلم ما كان قبله، وجب الوضوء. والثالث: لا نظر إلى ما قبل الطلوع، بل يجب الوضوء بكل حال. قلت: الوجه الثاني: غلط صريح، وكيف يؤمر بالعمل بما تيقن بطلانه؟! والوجه الثالث: هو الصحيح عند جماعات من محققي أصحابنا. وفيه وجه رابع: يعمل بغلبة الظن، وقد أوضحت دلائله في شرح (المهذب) (1). والله أعلم. فرع في بيان الخنثى المشكل لزوال إشكاله صور. منها: خروج البول. فإن بال بفرج الرجال وحده، فهو رجل، أو بفرج النساء، فامرأة. فإن بال بهما، فوجهان. أحدهما: لا دلالة فيه. وأصحهما: يدل للسابق إن اتفق انقطاعهما، وللمتأخر إن اتفق ابتداؤهما، فإن سبق واحد وتأخر آخر، فللسابق، فإن اتفقا فيهما وزاد أحدهما، أو زرق بهما، أو
188 رشش، فلا دلالة على الأصح، وعلى الثاني: يعمل بالكثرة، ويجعل بالتزريق رجلا، وبالترشيش امرأة. فإن استوى قدرهما، أو زرق بواحد ورشش بآخر، فلا دلالة. ومنها خروج المني والحيض في وقتهما. فإن أمنى بفرج الرجال، فرجل، أو بفرج النساء، أو حاض، فامرأة بشرط تكرره. فإن أمنى منهما، فوجهان: أحدهما: لا دلالة. والأصح أنه إن أمنى منهما بصفة مني الرجال، فرجل، أو بصفة مني النساء، فامرأة. فإن أمنى من أحدهما بصفة، ومن الآخر بالصفة الأخرى، فلا دلالة. وحكي وجه: أنه لا دلالة في المني (1) مطلقا وهو شاذ. ومنها خروج الولد، وهو يفيد القطع بالأنوثة، فيقدم على جميع العلامات. ولو تعارض البول بالحيض، أو المني، فالأصح: لا دلالة. والثاني يقدم البول. ومنها نبات اللحية، ونهود الثدي، وتفاوت الأضلاع. والصحيح أنه لا دلالة فيها. والثاني: تدل اللحية (2)، أو نقصان ضلع من الجانب الأيسر للذكورة، والنهود وتساوي الأضلاع للأنوثة. ولا يدل عدم اللحية والنهود في وقتهما على الأنوثة والذكورة بلا خلاف. ومنها الميل. فإذا قال: أميل إلى النساء، فرجل، أو إلى الرجال، فامرأة، بشرط العجز عن الأمارات السابقة، فإنها مقدمة على الميل. ولا يرجع إليه إلا بعد بلوغه وعقله. وفي وجه: يقبل قول المميز ثم يتعلق باختياره. فروع أحدها: إذا بلغ ووجد من نفسه أحد الميلين، لزمه أن يخبر به. فإن أخر، عصى.
189 الثاني: يحرم عليه أن يخبر بالتشهي، وإنما يخبر عما يجده. الثالث: إذا قال: أميل إليهما، أو لا أميل إلى واحد منهما، استمر الاشكال. الرابع: إذا أخبر بميل، لزمه، ولا يقبل رجوعه إلا أن يخبر بالذكورة، ثم يلد، أو يظهر به حمل، فيبطل قوله، كما لو حكم بشئ من العلامات الظاهرة، ثم ظهر الحمل، فإن ذلك يبطل. الخامس: لو حكمنا بقوله، ثم ظهرت علامة غير الحمل، فيحتمل أن يرجع إليها، ويحتمل أن يبقى على قوله. قلت: الاحتمال الثاني، هو الصواب، وظاهر كلام الأصحاب. قال أصحابنا: وإذا أخبر بميله، عملنا به فيما له وعليه، ولا نرده لتهمة، كما لو أخبر صبي ببلوغه للامكان. والله أعلم. فصل يحرم على المحدث جميع أنواع الصلاة، والسجود، والطواف، ومس المصحف، وحمله، ويحرم مس حاشية المصحف، وما بين سطوره، وحمله بالعلاقة قطعا ويحرم مس الجلد على الصحيح، [والغلاف، والصندوق] (1) والخريطة، إذا كان فيهن المصحف، على الأصح. ولو قلب أوراقه بعود، حرم على الأصح. قلت: قطع العراقيون بالجواز، وهو: الراجح، فإنه غير حامل ولا ماس (2). ولو لف كمه على يده، وقلب به الورق، حرم عند الجمهور، وهو الصواب. وقيل: وجهان. والله أعلم.
190 ولا يحرم حمل المصحف في جملة متاع، على الأصح. وكتابة القرآن على شئ بين يديه من غير مس، ولا حمل جائزة على الأصح، ويجوز مس التوراة، والإنجيل، وما نسخت (1) تلاوته من القرآن، وحملها على الصحيح. ولا يحرم مس حديث رسول الله (ص)، وحمله، ولكن الأولى، التطهر له. وأما ما كتب عليه شئ من القرآن، لا للدراسة، كالدراهم الأحدية، والثياب، والعمامة، والطعام، والحيطان، وكتب الفقه، والأصول، فلا يحرم مسه، ولا حمله على الصحيح. وكذا لا يحرم كتب التفسير على الأصح. وقيل: إن كان القرآن أكثر، حرم قطعا. وقيل: إن كان القرآن بخط متميز، حرم الحمل قطعا. قلت: مقتضى هذا الكلام، أن الأصح: أنه لا يحرم إذا كان القرآن أكثر، وهذا منكر. بل الصواب: القطع بالتحريم، لأنه، وإن لم يسم مصحفا، ففي معناه. وقد صرح بهذا صاحب (الحاوي) وآخرون. ونقله صاحب (البحر) عن
191 الأصحاب. والله أعلم. ويحرم على البالغ مس، وحمل اللوح المكتوب فيه قرآن، للدراسة على الصحيح، ولا يجب على الولي والمعلم منع الصبي المميز من مس المصحف واللوح اللذين يتعلم منهما، وحملهما على الأصح. ولا يحرم أكل الطعام، وهدم الحائط المنقوش بالقرآن. قلت: ويكره إحراق الخشبة المنقوشة به (1). ويكره كتابته على الحيطان، سواء المسجد وغيره، وعلى الثياب، ويحرم كتابته بشئ نجس. ولو كان على بعض بدن المتطهر نجاسة، حرم مس المصحف بموضعها، ولا يحرم بغيره على المذهب. ومن لم يجد ماء، ولا ترابا، يصلي لحرمة الوقت، ويحرم عليه مس المصحف وحمله. ولو خاف على المصحف من غرق، أو حرق، أو نجاسة، أو كافر، ولم يتمكن من الطهارة، أخذه مع الحدث للضرورة (2). والله أعلم (3). باب الغسل (4) موجباته أربعة.
192 الأول: الموت. ويأتي في الجنائز إن شاء الله تعالى (1). والثاني: الحيض. ثم وجوبه بخروج الدم، أم بانقطاعه؟ أم الخروج موجب عند الانقطاع؟ فيه أوجه. أصحها: الثالث (2). والنفاس، كالحيض في الغسل ومعظم الاحكام. والثالث: إذا ألقت الحامل ولدا، أو علقة، أو مضغة، ولم تر دما، ولا بللا، لزمها الغسل على الأصح. والرابع: الجنابة، وهي بأمرين: الجماع، والانزال. أما الجماع، فتغييب قدر الحشفة في أي فرج كان، سواء غيب في قبل (3) امرأة، أو بهيمة، أو دبرهما، أو دبر رجل، أو خنثى صغير، أو كبير حي، أو ميت. ويجب على المرأة بأي ذكر دخل فرجها، حتى ذكر البهيمة، والميت، والصبي. وعلى الرجل المولج في دبره. ولا يجب إعادة غسل الميت المولج فيه على الأصح. قلت: ويصير الصبي والمجنون المولجان، [و] (4) المولج فيهما، جنبين بلا
193 خلاف. فإن اغتسل الصبي وهو مميز، صح غسله، ولا يجب إعادته إذا بلغ. ومن كمل منهما قبل الاغتسال، وجب عليه الغسل. وعلى الولي أن يأمر الصبي المميز بالغسل في الحال، كما يأمره بالوضوء. والله أعلم. هذا كله إذا غيب قدر الحشفة، فإن غيب دونها، لم يتعلق به حكم على الصحيح. ولنا وجه: أن تغييب قدر الحشفة من مقطوعها لا يوجب الغسل، وإنما يوجبه تغييب جميع الباقي، إن كان قدر الحشفة فصاعدا. قلت: هذا الوجه مشهور، وهو الراجح عند كثير من العراقيين، ونقله صاحب (الحاوي) عن نص الشافعي رحمه الله، ولكن الأول: أصح. والله أعلم. ولو لف على ذكره خرقة فأولجه، وجب الغسل على أصح الأوجه، ولا يجب في الثاني. والثالث إن كانت الخرقة خشنة، وهي التي تمنع وصول بلل الفرج إلى الذكر، وتمنع وصول الحرارة من أحدهما إلى الآخر، لم يجب، وإلا، وجب. قلت: قال صاحب (البحر): وتجري هذه الأوجه في إفساد الحج به، وينبغي أن تجري في جميع الأحكام. والله أعلم. فرع: ولو أولج خنثى في فرج خنثى أو دبره، أو أولج كل واحد منهما في فرج صاحبه، أو دبره، فلا غسل، ولا وضوء على أحد، إلا من نزع الذكر من دبره، فعليه الوضوء، لخروج خارج من دبره. قلت: وكذا إذا نزع من قبله. وقلنا: المنفتح تحت المعدة ينتقض الخارج منه مع انفتاح الأصلي. والله أعلم. ولو أولج الخنثى في بهيمة، أو امرأة، أو دبر رجل، فلا غسل على أحد. وعلى المرأة الوضوء بالنزع منها. وكذلك الوضوء على الخنثى، والرجل المولج فيه (1). ولو أولج رجل في فرج خنثى، فلا غسل، ولا وضوء عليهما، لاحتمال أنه
194 رجل. ولو أولج رجل في فرج خنثى، والخنثى في فرج امرأة، فالخنثى جنب، والرجل والمرأة غير جنبين، وعلى المرأة الوضوء بالنزع (1). قلت: إذا أولج ذكرا أشل، وجب عليهما الغسل على المذهب. ولو استدخلت ذكرا مقطوعا، فوجهان، كمسه. ولو كان لرجل ذكران يبول بهما، فأولج أحدهما، وجب الغسل، ولو كان يبول بأحدهما، وجب الغسل لو كان بإيلاجه، ولا يتعلق بالآخر حكم في نقض الطهارة (2). والله أعلم. الأمر الثاني: الجنابة بإنزال المني. وسواء خرج من المخرج المعتاد، أو ثقبة في الصلب، أو الخصية على المذهب. وقيل: الخارج من غير المعتاد، له حكم المنفتح المذكور في باب الاحداث (3)، فيعود فيه الخلاف والتفصيل. والصلب هنا كالمعدة هناك. ثم للمني خواص ثلاث. أحدها: رائحة، كرائحة العجين، والطلع رطبا، وكرائحة بياض البيض يابسا. الثانية: التدفق بدفعات. الثالثة: التلذذ بخروجه، واستعقابه فتور الذكر، وانكسار الشهوة. ولا يشترط اجتماع الخواص، بل واحدة منهن تكفي في كونه منيا بلا خلاف. وله صفات أخر، كالبياض والثخانة في مني الرجل، والرقة والاصفرار في مني المرأة في حال الاعتدال. وليست هذه الصفات من خواصه، فعدمها لا ينفيه، ووجودها لا يقتضيه. فلو زالت الثخانة والبياض لمرض، أو خرج على لون الدم لكثرة الجماع،
195 وجب الغسل اعتمادا على بعض الخواص. وحكي وجه: أنه لا يجب بها على لون الدم، وهو شاذ. ولو تنبه من نومه، فلم ير إلا الثخانة والبياض، فلا غسل، لان الودي يشارك المني فيهما، بل يتخير بين جعله منيا ومذيا على ظاهر المذهب، وفيه الخلاف السابق في آخر صفة الوضوء. فإن قلنا بالمذهب، فغلب على ظنه المني، لكون المذي لا يليق بحاله، أو لتذكر جماع، قال إمام الحرمين: يحتمل أن تستصحب الطهارة، وأن يحمل على الظن. والاحتمال الأول مقتضى كلام معظم الأصحاب. ولو أنزل فاغتسل، ثم خرجت بقية المني، وجب الغسل ثانيا قطعا. سواء خرجت قبل البول، أو بعده. فرع: المرأة، كالرجل في وجوب الغسل بخروج منيها. قال إمام الحرمين والغزالي: لا تعرف منيها إلا بالتلذذ. وقال الأكثرون تصريحا وتعريضا: يطرد في معرفة منيها الخواص الثلاث، كالرجل. ولو اغتسلت من جماع، ثم خرج منها مني الرجل، لزمها الغسل على المذهب بشرطين. أحدهما: أن تكون ذات شهوة دون الصغيرة. والثاني: أن تقضي شهوتها بذلك الجماع، كنائمة ومكرهة. فإن اختل شرط، لم يجب الغسل قطعا. فرع: إذا استدخلت منيا في قبلها أو دبرها، لم يلزمها الغسل على المذهب. فرع: لا يجب الغسل من غسل الميت على الجديد المشهور، ولا بجنون وإغماء على المذهب. قلت: لو رأى المني في ثوبه، أو فراش لا ينام فيه غيره، ولم يذكر احتلاما، لزمه الغسل، على الصحيح المنصوص، وبه قطع الجمهور. قال أصحابنا: ويجب إعادة كل صلاة لا يحتمل حدوث المني بعدها. ويستحب إعادة كل صلاة يحتمل كونه فيها. ثم إن الشافعي والأصحاب أطلقوا المسألة. وقال الماوردي (1):
196 هذا إذا رأى المني في باطن الثوب، فإن رآه في ظاهره، فلا غسل، لاحتمال إصابته من غيره. وإن كان ينام معه في الفراش من يجوز كون المني منه، لم يلزمه الغسل، ويستحب أن يغتسلا، ولو أحس بانتقال المني ونزوله، فأمسك ذكره، فلم يخرج منه شئ في الحال، ولا علم خروجه بعده، فلا غسل عندنا. والله أعلم. فصل: يحرم على الجنب ما يحرم على المحدث (1)، وشيئان: قراءة القرآن، واللبث في المسجد. فأما القرآن، فيحرم، وإن كان بعض آية على قصد القرآن (2)، فلو لم يجد الجنب ماء ولا ترابا، فهل يباح له قراءة الفاتحة في صلاته؟ وجهان. الأصح: يحرم كما يحرم ما زاد عليها قطعا، ويأتي بالتسبيح الذي يأتي به من لا يحسن القراءة، لأنه عاجز شرعا. قلت: الأصح (3) الذي قطع به جماهير العراقيين: أنه يجب عليه قراءة الفاتحة، لأنه مضطر إليها. والله أعلم. ولو قرأ شيئا منه ولم يقصد القرآن، جاز، كقوله: بسم الله، والحمد لله، أو قال: * (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) (4) * على قصد سنة الركوب. ولو جرى هذا على لسانه ولم يقصد قرآنا ولا ذكرا، جاز. ويحرم على الحائض والنفساء ما يحرم على الجنب من القراءة على المذهب، وأثبت جماعة من المحققين قولا قديما أنها لا تحرم. قلت: ولو كان فم غير الجنب والحائض نجسا، ففي تحريم القراءة عليه
197 وجهان، الأصح يكره ولا يحرم. ولا تكره القراءة في الحمام. ويجوز للحائض والجنب قراءة ما يستحب تلاوته. والله أعلم. وأما اللبث في المسجد، فحرام على الجنب، ولا يحرم عليه العبور، لكن يكره إلا لغرض (1)، بأن يكون المسجد طريقه إلى مقصده، أو أقرب الطريقين إليه، وفي وجه: إنما يجوز العبور إذا لم يكن طريق سواه، وليس بشئ. ويحرم التردد في جوانبه، فإنه كالمكث. ويجوز المكث للضرورة، بأن نام في المسجد، فاحتلم ولم يمكن الخروج، لاغلاق الباب، أو خوف العسس، أو غيره على النفس، أو المال. ويجب أن يتيمم إن وجد غير تراب المسجد، ولا يتيمم بترابه (2). قلت: يجوز لغير الجنب (3) والحائض النوم في المسجد (4)، نص عليه الشافعي في (الام) والأصحاب رحمهم الله. ولو احتلم في مسجد له بابان، أحدهما أقرب، فالأولى أن يخرج منه، فإن عدل إلى آخر لغرض، لم يكره، وإن لم يكن غرض، لم يكره على الأصح. والله أعلم. فرع: فضل ماء الجنب والحائض طهور لا كراهة في استعماله. ويجوز للجنب أن يجامع، وأن ينام، ويأكل، ويشرب، لكن يسن أن لا يفعل شيئا من ذلك إلا بعد غسل فرجه والوضوء. قلت: قال أصحابنا: لا يستحب هذا الوضوء، و (كذا) غسل الفرض للحائض والنفساء، لأنه لا يفيد، فإذا انقطع دمها، صارت كالجنب. والله أعلم. فصل في كيفية الغسل: أقله شيئان: أحدهما: النية، وهي واجبة، وتقدم ذكر فروعها في صفة الوضوء. ولا يجوز أن يتأخر عن أول الغسل المفروض، فإن اقترنت به، كفى، ولا ثواب له في
198 السنن المتقدمة. وإن تقدمت على المفروض وعزبت قبله، فوجهان، كما في الوضوء، ثم إن نوى رفع الجنابة، أو رفع الحدث عن جميع البدن، أو نوت الحائض رفع حدث الحيض، صح الغسل (1). وإن نوى رفع الحدث، ولم يتعرض للجنابة ولا غيرها، صح غسله على الأصح (2)، ولو نوى رفع الحدث الأصغر متعمدا، لم يصح غسله على الأصح، وإن غلط، فظن حدثه الأصغر، لم ترتفع الجنابة عن غير أعضاء الوضوء. وفي أعضاء الوضوء وجهان، أحدهما: لا يرتفع، وأصحهما: يرتفع عن الوجه واليدين والرجلين، دون الرأس على الأصح، ولو نوى استباحة ما يتوقف عن الغسل، كالصلاة، والطواف، وقراءة القرآن، أجزأه. ولو نوت الحائض استباحة الوطئ، صح على الأصح. وإن نوى ما لا يستحب له الغسل، لم يصح. وإن نوى ما يستحب له، كالعبور في المسجد، والاذان، وغسل الجمعة، والعيد، لم يجزه على الأصح، كما سبق في الوضوء. ولو نوى الغسل المفروض، أو فريضة الغسل، أجزأه قطعا. الثاني: استيعاب جميع البدن بالغسل، ومن ذلك ما ظهر من صماخي الاذنين، والشقوق في البدن، وكذا ما تحت القلفة (3) من الأقلف، وما ظهر من أنف المجدوع على الأصح فيهما، وكذا ما يبدو، من الثيب إذا قعدت لقضاء الحاجة، على أصح الأوجه، وعلى الثاني: لا يجب غسل ما وراء ملتقى الشفرين، وعلى الثالث: يجب في غسل الحيض والنفاس خاصة، لإزالة دمهما، ولا يجب ما وراء ما ذكرناه قطعا، ولا المضمضة، والاستنشاق. ويجب إيصال الماء (4) جميع الشعور التي (5) على البشرة، وإلى منابتها، وإن كثفت، ولا يجب غسل شعر نبت في
199 العين، ويسامح ببطن العقد التي على الشعرات على الأصح، وعلى وجه، يجب قطعها. [قلت: هذا الذي صححه، هو الذي صححه صاحب (البحر) والصحيح: أنه لا يعفى عنه، لأنه يمكن قطعها بلا خلاف، وهو ظاهر نص الشافعي والجمهور، وقد أوضحته في شرح (المهذب). والله أعلم] (1). ويجب نقض الظفائر إن لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض، ولا يجب إن وصل. أما أكمل الغسل فيحصل بأمور. الأول: أن يغسل ما على بدنه من أذى أولا، كالمني ونحوه من القذر الطاهر، وكذا النجس. وتقديم إزالة النجاسة شرط لصحة الغسل. فلو غسل غسلة واحدة بنية الحدث والنجس، طهر عن النجس. ولا يطهر عن الحدث على المذهب (2).
200 قلت: الأصح أنه يطهر عن الحدث أيضا، وقد تقدم. والله أعلم. وإذا قلنا: الغسلة الواحدة تكفي عن الحدث والنجس، كان تقديم إزالة النجاسة من الكمال. وإن قلنا: لا يكفي، لم تكن الإزالة من الكمال، ولا من الأركان، بل تكون شرطا، خلافا لكثير من أصحابنا، حيث قالوا: واجبات الغسل ثلاثة: غسل النجاسة إن كانت، والنية، والاستيعاب. الثاني: أن يتوضأ، كما يتوضأ للصلاة. وتحصل سنة الوضوء سواء أخر غسل القدمين إلى الفراغ، أو فعله بعد مسح الرأس والاذن. وأيهما أفضل، قولان. المشهور أنه لا يؤخر. ثم إن تجردت الجنابة عن الحدث، فالوضوء مندوب. وإن اجتمعا، فقد قدمنا في آخر باب صفة الوضوء الخلاف في اندراجه في الغسل، فإن قلنا بالمذهب: أنه يندرج، فالوضوء مندوب، ويعد من سنن الغسل. وإن أوجبنا الوضوء، امتنع عده من سنن الغسل، فإنه لا صائر إلى أن (1) يأتي بوضوءين، بل يقتصر على وضوء. فإن شاء قدمه على الغسل، وإن شاء أخره. وعلى هذا لا بد من إفراد الوضوء بالنية. وإذا قلنا بالاندراج، لا يحتاج إلى إفراده بنية. قلت: المختار أنه إن تجردت الجنابة، نوى بوضوئه سنة الغسل، وإن اجتمعا، نوى به رفع الحدث الأصغر. والله أعلم. واعلم أنه يتصور تجرد الجنابة في صور. منها أن يولج في بهيمة أو دبر رجل. ومنها أن يلف على ذكره خرقة ويولجه، وإذا قلنا: إنه يجب الغسل. ومنها إذا أنزل المتوضئ المني بنظر، أو فكر، أو في النوم قاعدا. وأما جماع المرأة بلا حائل، فيقع به الحدثان على الصحيح، وقيل: تقتضي الجنابة فقط، ويكون اللمس مغمورا.
201 الثالث: أن تتعهد مواضع الانعطاف، والالتواء، كالاذنين، وغضون البطن، ومنابت الشعر. ويخلل أصول الشعر بالماء قبل إفاضته. الرابع: يفيض الماء على رأسه، ثم على شقه الأيمن، ثم الأيسر، ويكون غسل جميع البدن ثلاثا، كالوضوء، فإن اغتسل في نهر ونحوه، انغمس ثلاث مرات، ويدلك في كل مرة ما يصل يده. ولا يستحب تجديد الغسل على الصحيح. الخامس: إذا اغتسلت عن حيض، أو نفاس، يسن لها أن تأخذ طيبا وتجعله في قطنة، أو نحوها، وتدخلها فرجها (1)، والمسك أولى من غيره. فإن لم تجده، فطيبا آخر، فإن لم تجد، فطينا، فإن لم تفعل، فالماء كاف (2). السادس: ماء الوضوء والغسل غير مقدر، ويستحب أن لا ينقص ماء الوضوء عن مد، وماء الغسل عن صاع تقريبا. قلت: الأصح المد هنا: رطل وثلث بالبغدادي على المذهب. وقيل: رطلان. والصاع أربعة أمداد. والله أعلم. السابع: يستحب أن يستصحب النية إلى آخر الغسل، وأن لا يغتسل في الماء الراكد، وأن يقول بعد الفراغ: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) وقد تقدم في باب صفة الوضوء سنن كثيرة تدخل هنا. قلت: لا يجوز الغسل بحضرة الناس إلا مستور العورة (3). ويجوز في الخلوة
202 مكشوفها، والستر أفضل. ولو ترك المغتسل المضمضة والاستنشاق، أو الوضوء، قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله: فقد أساء، ويستحب أن يتدارك ذلك، ولا يجب ترتيب في أعضاء المغتسل، لكن يستحب البداءة بأعضاء الوضوء ثم بالرأس وأعالي البدن. ولو أحدث في أثناء غسله، جاز أن يتمه، ولا يمنع الحدث صحته، لكن لا يصلي حتى يتوضأ (1). ويجوز الغسل من إنزال المني قبل البول، والأفضل بعده لئلا يخرج بعده مني. ولا يجب غسل داخل العين، وحكم استحبابه على ما سبق في الوضوء. ولو غسل بدنه إلا شعرة أو شعرات ثم نتفها، قال الماوردي: إن كان الماء وصل أصلها، أجزأه، وإلا لزمه إيصاله إليه. وفي فتاوى ابن الصباغ: يجب غسل ما ظهر، وهو الأصح. وفي (البيان) وجهان (2). أحدهما: يجب. والثاني: لا لفوات ما يجب غسله، كمن توضأ وترك رجله فقطعت. والله أعلم.
203 كتاب التيمم (1) وفيه ثلاثة أبواب. الأول: فيما يبيحه. وإنما يباح بالعجز عن استعمال الماء بتعذره، أو بعسره، لخوف ضرر ظاهر. وأسباب العجز سبعة. أحدها: فقد الماء. وللمسافر فيه أربعة أحوال. أحدها: أن يتيقن عدم الماء حوله، كبعض رمال البوادي، فيتيمم ولا يحتاج إلى طلب الماء على الأصح (2). الثاني: أن يجوز وجوده تجويزا بعيدا، أو قريبا، فيجب تقديم الطلب قطعا. ويشترط في الطلب أن يكون بعد دخول وقت الصلاة (3). وله أن يطلب بنفسه،
205 ويكفيه طلب من أذن له على الصحيح (1)، ولا يكفيه طلب من لم يأذن له قطعا (2). والطلب: أن يفتش رحله، فإذا لم يجد، نظر يمينا، وشمالا، وقداما، وخلفا، إن استوى موضعه، ويخص مواضع الخضرة، واجتماع الطير بمزيد احتياط. وإن لم يستو الموضع، نظر، إن خاف على نفسه، أو ماله، لو تردد، لم يجب التردد، وإن لم يخف، وجب التردد إلى حد يلحقه غوث الرفاق مع ما هم عليه من التشاغل بشغلهم، والتفاوض في أقوالهم. ويختلف ذلك باستواء الأرض واختلافها صعودا وهبوطا، فإن كان معه رفقة، وجب سؤالهم إلى أن يستوعبهم، أو يضيق الوقت فلا يبقى إلا ما يسع تلك الصلاة في الأصح. وفي وجه: إلى أن يبقى ما يسع ركعة. وفي وجه: يستوعبهم وإن خرج الوقت (3). قلت: قال أصحابنا: ولا يجب أن يطلب من كل واحد من الرفقة بعينه، بل ينادي فيهم: من معه ماء؟ من يجود بالماء؟ ونحوه. حتى قال البغوي وغيره: لو قلت الرفقة، لم يطلب من كل واحد بعينه، ولو بعث النازلون ثقة يطلب لهم، كفاهم كلهم. والله أعلم. ومتى عرف معهم ماء، وجب استيهابه على الأصح. هذا كله إذا لم يسبق منه تيمم وطلب. فإن سبق، نظر، إن جرى أمر يحتمل بسببه حصول ماء، بأن انتقل من موضعه، أو طلع ركب، أو سحابة، وجب الطلب أيضا. لكن كل موضع تيقن بالطلب الأول (4) أن لا ماء فيه، ولم يحتمل حدوثه فيه، لم يجب الطلب منه على
206 المذهب. وإن لم يجر الامر المذكور، نظر، فإن كان تيقن عدم الماء، لم يجب على الأصح، وإن كان ظنه، وجب على الأصح، لكنه أخف طلبا من الأول. وسواء في هذا كله تخلل بين التيممين زمن طويل، أو قصير، أو لم يتخلل. الحالة الثالثة: أن يتيقن وجود الماء حواليه. وله ثلاث مراتب. الأولى: أن يكون على مسافة ينتشر إليها النازلون للحطب والحشيش والرعي، فيجب السعي إليه (1)، ولا يجوز التيمم. وهذا فوق حد الغوث الذي يقصده عند التوهم. قال محمد بن يحيى: لعله يقرب من نصف فرسخ. المرتبة الثانية: أن يكون بعيدا، بحيث لو سعى إليه فاته فرض الوقت، فيتيمم على المذهب، بخلاف ما لو (2) كان واجدا للماء، وخاف فوت الوقت لو توضأ، فإنه لا يجوز التيمم على المذهب. وفي (التهذيب) وجه شاذ: أنه يتيمم ويصلي في الوقت، ثم يتوضأ ويعيد، وليس بشئ. ثم الأشبه بكلام الأئمة، أن الاعتبار في هذه المسافة من أول وقت الصلاة الحاضرة لو كان نازلا في ذلك الموضع. ولا بأس باختلاف المواقيت في الطول والقصر، ولا باختلاف المسافة في السهولة والصعوبة. فإن كان التيمم لفائتة أو نافلة، اعتبر بوقت الفريضة الحاضرة، وعلى هذا لو انتهى إلى المنزل في آخر الوقت، والماء في حد القرب، وجب قصده والوضوء وإن فات الوقت، كما لو كان الماء في رحله، فإنه يتوضأ وإن فات الوقت. قلت: هذ الذي ذكره الامام الرافعي، ونقله عن مقتضى كلام الأصحاب، من اعتبار أول الوقت، ليس كما قاله، بل الظاهر من عباراتهم، أن الاعتبار بوقت الطلب. هذا هو المفهوم من [عباراتهم في] (3) كتبهم المشهورة والمهجورة، وهو
207 ظاهر نص الشافعي رحمه الله في (الام) وغيره، فإن عبارته وعبارتهم: وإن دل على ماء، ولم يخف فوت الوقت، ولا ضررا، لزمه طلبه. هذا نصه ونصهم، وهو صريح، أو كالصريح فيما قلته، وقد تتبعت ذلك وأتقنته. والله أعلم. المرتبة الثالثة: أن يكون بين المرتبتين، فيزيد على ما ينتشر إليه النازلون، ويقصر عن خروج الوقت. فهل يجب قصده، أم يجوز التيمم؟ نص الشافعي رحمه الله، أنه إن كان على يمين المنزل أو يساره، وجب. وإن كان صوب مقصده، لم يجب، فقيل بظاهر النصين، وقيل: فيهما قولان. والمذهب جواز التيمم وإن علم وصوله إلى الماء في آخر الوقت. وإذا جاز ذلك للسائر إلى جهة الماء، فالنازل الذي عن يمينه أو يساره أولى. والسائر وهو على يمينه أو يساره أولى، هذا في المسافر. أما المقيم، فلا يجوز له التيمم وإن خاف فوت الوقت لو سعى إلى الماء، لأنه لا بد له من القضاء. ثم إذا قلنا في المسافر بالمذهب: وهو جواز التيمم مطلقا، فإن تيقن وجود الماء آخر الوقت، فالأفضل تأخير الصلاة ليؤديها بالوضوء. وفي (التتمة) وجه شاذ: أن تقديمها بالتيمم أفضل، لفضيلة أول الوقت. وإن لم يتيقن الماء، ولكن رجا، فقولان. أظهرهما: التقديم أفضل. وموضع القولين إذا اقتصر على صلاة واحدة. أما إذا صلى بالتيمم أول الوقت، وبالوضوء مرة أخرى آخره، فهو النهاية في إحراز الفضيلة (1). وإن ظن عدم الماء، أو تساوى احتمال وجوده وعدمه، فالتقديم أفضل قطعا. وربما وقع في كلام بعضهم نقل القولين، فيما إذا لم يظن الوجود. ولا وثوق بهذا النقل. قلت: قد صرح الشيخ أبو حامد، وصاحب (الحاوي) و (المحاملي) وآخرون بجريان القولين فيما إذا تساوى الاحتمال. والله أعلم. أما تعجيل المتوضئ وغيره الصلاة في أول الوقت منفردا، وتأخيرها لانتظار
208 الجماعة، ففيه ثلاثة طرق. قيل: التقديم أفضل، وقيل: التأخير، وقيل: وجهان. قلت: قطع معظم العراقيين، بأن التأخير للجماعة أفضل. ومعظم الخراسانيين، بأن التقديم منفردا أفضل. وقال جماعة: هو كالتيمم. فإن تيقن الجماعة آخر الوقت، فالتأخير أفضل. وإن ظن عدمها، فالتقديم أفضل. وإن رجاها، فقولان. وينبغي أن يتوسط فيقال: إن فحش التأخير، فالتقديم أفضل. وإن خف، فالتأخير أفضل. وموضع الخلاف، إذا اقتصر على صلاة. فأما إذا صلى أول الوقت منفردا، وآخره مع الجماعة، فهو النهاية في الفضيلة، وقد جاء به الحديث، في صحيح مسلم) (1) وغيره. قال صاحب (البيان): قال أصحابنا: والقولان في التيمم، يجريان في مريض عجز عن القيام، ورجاه آخر الوقت، أو رجا العريان السترة آخره، هل الأفضل تقديم الصلاة على حالهما، أم التأخير؟ قال: ولا يترك الترخص بالقصر في السفر. وإن علم إقامته آخر الوقت بلا خلاف. قال: قال صاحب (الفروع): إن خاف فوت الجماعة، لو أكمل الوضوء، فإدراكها أولى من الانحباس، لاكماله. وفي هذا نظر. والله أعلم. الحالة الرابعة: أن يكون الماء حاضرا، بأن يزدحم مسافرون على بئر لا يمكن أن يستقي منها إلا واحد بعد واحد، لضيق الموقف، أو اتحاد الآلة، فإن توقع حصول نوبته قبل خروج الوقت، لم يجز التيمم. وإن علم أنها لا تحصل إلا بعد الوقت، فنص الشافعي رحمه الله، أنه يجب الصبر ليتوضأ. ونص في عراة معهم ثوب واحد يتناوبونه، أنه يصبر ليستر عورته، ويصلي بعد الوقت. ونص في جماعة في موضع ضيق لا يمكن أن يصلي فيه قائما إلا واحد، أنه يصلي في الوقت
209 قاعدا، إذا علم أن نوبته لا تحصل إلا بعد الوقت. وهذا يخالف النصين في المسألتين السابقتين، فالأصح ما قاله أبو زيد وغيره: أن في الجميع قولين. أحدهما: يصلي في الوقت بالتيمم، وعاريا، وقاعدا، لحرمة الوقت. والثاني: يصبر، للقدرة. والطريق الثاني: تقرير النصين، فيصبر للوضوء واللبس، دون القيام، لسهولة أمره. وقال كثيرون: لا نص في مسألة البئر، ونص في الأخريين على ما سبق، وألحقوا الوضوء بالقيام لحصول بدلهما. فقالوا: يتيمم في الوقت ويصلي. وأجرى إمام الحرمين، والغزالي، هذا الخلاف فيما إذا لاح للمسافر الماء، ولا عائق دونه، ولكن ضاق الوقت، وعلم أنه لو اشتغل به، فاته الوقت. وهذا يقتضي إثبات الخلاف في المرتبة الثانية، من الحالة الثالثة، وقد أشرنا إليه هناك. قلت: الأصح من الطريقين، إجراء القولين في الجميع. وأظهرهما: يصلي في الوقت بالتيمم، وعاريا، وقاعدا، ولا إعادة على المذهب. وفي (التهذيب) في وجوب الإعادة، قولان. والله أعلم. فرع (1): إذا وجد الجنب، أو المحدث، ما لا يكفيه لطهارته، وجب استعماله على الأظهر، ثم يجب التيمم بعده للباقي، فيغسل المحدث وجهه، ثم يديه على الترتيب، ويغسل الجنب من جسده ما شاء. والأولى: أعضاء الوضوء. فإن كان محدثا جنبا، ووجد ما يكفي الوضوء وحده، فإن قلنا بالمذهب: أنه يدخل الأصغر في الأكبر، فهو كالجنب المحض. وإن قلنا: لا يدخل، توضأ به عن الأصغر، وتيمم عن الجنابة، يقدم أيهما شاء. هذا كله إذا صلح الموجود للغسل، فإن لم يجد المحدث إلا ثلجا، أو بردا لا يقدر على إذابته، لم يجب استعماله على المذهب. وقيل: فيه القولان. فإن أوجبنا، تيمم عن الوجه واليدين، ثم مسح به الرأس، ثم تيمم للرجلين. هذا كله إذا وجد ترابا. فإن لم يجده، وجب استعمال الناقص على المذهب. وقيل: فيه القولان. قلت: ولو لم يجد إلا ترابا لا يكفيه للوجه واليدين، وجب استعماله على
210 المذهب. وقيل: فيه القولان. ولو لم يجد ماء، ووجد ما يشتري به بعض ما يكفيه من الماء، ففي وجوبه القولان. فإن لم يجد ماء، ولا ترابا، ففي وجوب شراء بعض ما يكفي من الماء، الطريقان. ولو تيمم، ثم رأى ما لا يكفيه، فإن احتمل عنده أنه يكفيه، بطل تيممه، وإن علم بمجرد رؤيته، أنه لا يكفيه، فعلى القولين في استعماله. إن أوجبناه، بطل. وإلا، فلا. ولو كان عليه نجاسات، ووجد ما يغسل بعضها، وجب على المذهب، ولو كان جنبا، أو محدثا، أو حائضا، وعلى بدنه نجاسة، ووجد ما يكفي أحدهما، تعين للنجاسة، فيغسلها ثم يتيمم. فلو تيمم ثم غسلها، جاز على الأصح (1)، وبقيت لهذه المسألة فروع، استقصيتها في شرحي (المهذب) و (التنبيه). والله أعلم. فصل (2): إذا كان معه ماء يصلح لطهارته، فأتلفه بإراقة، أو شرب، أو تنجيس، تيمم قطعا. ثم إن كان الاتلاف قبل الوقت مطلقا، أو بعده لغرض، كشرب للحاجة، أو غسل ثوب للنظافة، أو تبرد، أو اشتبه الإناءان واجتهد، ولم يظهر له شئ، فأراقهما، أو صب أحدهما في الآخر، فلا إعادة عليه. وإن كان بعد الوقت لغير غرض، فلا إعادة أيضا، على الأصح، لفقده. وقيل: يجب لعصيانه قطعا. ولو اجتاز بماء في الوقت، فلم يتوضأ، فلما بعد منه، صلى بالتيمم، لم يعد على المذهب. وقيل: فيه الوجهان. وهو شاذ. ولو وهب الماء في الوقت، أو باعه من غير حاجة للمتهب والمشتري، كعطش ونحوه، ولا حاجة للبائع إلى ثمنه، ففي صحة البيع والهبة، وجهان. الأصح: لا يصحان. فإن صح، فحكمه في القضاء، حكم الإراقة. وإن لم يصح، لم يصح تيممه، ما دام الماء في يد المبتاع والموهوب له، وعليه الاسترداد. فإن لم يقدر وتيمم، وجب القضاء. وإن أتلف في يده، فهو كالإراقة. ثم في المقضي في الصور، ثلاثة
211 أوجه. الأصح: تقضى الصلاة التي فوت الماء في وقتها. والثاني: تقضى أغلب ما يؤديه بوضوء واحد. والثالث: تقضى كل صلاة صلاها بالتيمم. قلت: وإذا وجب القضاء، لا يصح في الوقت بالتيمم، بل يؤخره إلى وجود الماء، أو حالة يسقط الفرض فيها بالتيمم. قال أصحابنا: وإذا قلنا: لا يصح هبة هذا الماء، وتلف في يد الموهوب له، فلا ضمان عليه على المذهب (1). والله أعلم. السبب الثاني: الخوف على نفسه، أو ماله، فإذا كان بقربه ما يخاف من قصده على نفسه، أو عضوه، من سبع، أو عدو. أو على ماله الذي معه، أو المخلف في رحله، من غاصب، أو سارق. أو كان في سفينة، وخاف لو استقى من البحر، فله التيمم. ولو خاف من قصده الانقطاع عن رفقته، تيمم إن كان عليه منه ضرر، وكذا إن لم يكن ضرر على الأصح. ولو وهب الماء لخادمه، وجب قبوله على الصحيح. ولو أعير الدلو والرشاء، وجب قبوله قطعا. وقيل: إن زادت قيمة المستعار على ثمن الماء، لم يجب قبوله. ولو أقرض الماء، وجب قبوله على الصحيح. ولو وهب له أجنبي ثمن الماء، أو آلة الاستقاء، لم يجب قبوله. وكذا لو وهبه الأب، أو الابن، على الصحيح. ولو أقرض ثمن الماء وهو معسر، لم يجب قبوله. وكذا إن كان موسرا بمال غائب على الأصح. ولو بيع الماء بنسيئة وهو معسر، لم يجب قبوله. وإن كان موسرا، وجب على الصحيح. قلت: وصورة المسألة، أن يكون الاجل ممتدا إلى أن يصل إلى بلد ماله. والله أعلم. ولو وجد ثمن الماء، واحتاج إليه لدين مستغرق، أو نفقة حيوان محترم معه، أو لمؤنة من مؤن سفره، في ذهابه وإيابه، لم يجب شراؤه. وإن فضل عن هذا
212 كله، وجب الشراء إن بيع بثمن المثل، ويصرف إليه أي نوع كان معه من المال. وإن بيع بزيادة، لم يجب الشراء وإن قلت الزيادة. وقيل: إن كانت مما يتغابن بمثلها، وجب، وهو ضعيف. ولو (1) بيع نسيئة، وزيد بسبب الاجل ما يليق به، فهو ثمن مثله على الصحيح. وفي ضبط ثمن المثل أوجه. الأصح: أنه ثمنه في ذلك الموضع وتلك الحالة. والثاني: ثمن مثله في ذلك الموضع، في غالب الأوقات. والثالث: أنه قدر أجرة نقله إلى ذلك الموضع، وهو ضعيف. ولم يتقدم الغزالي أحد باختياره إياه. ولو بيع آلة الاستقاء، أو أجرها بثمن المثل وأجرته، وجب القبول. فإن زاد، لم يجب. كذا قاله الأصحاب. ولو قيل: يجب التحصيل ما لم يجاوز الزيادة ثمن مثل الماء، لكان حسنا. ولو لم يجد إلا ثوبا وقدر على شده في الدلو ليستقي، لزمه ذلك. فلو لم يكن دلو وأمكن إدلاؤه في البئر ليبتل، ويعصر ما يوضئه، لزمه، فلو لم يصل الماء وأمكن شقه، وشد بعضه ببعض، لزمه. هذا كله إذا لم يحصل في الثوب نقص يزيد على أكثر الامرين: ثمن الماء، وأجرة الحبل. السبب الثالث: الحاجة إلى الماء، لعطش ونحوه. فيه مسائل. أحدها: إذا وجد ماء واحتاج إليه لعطشه، أو عطش رفيقه، أو حيوان محترم في الحال، أو في المآل بعوض، أو بغيره، جاز التيمم (2). وذكر إمام الحرمين، والغزالي: ترددا في التزود لعطش رفيقه. والمذهب: القطع بجوازه. وضبط الحاجة يقاس بما سيأتي في (المرض المبيح) إن شاء الله تعالى. وللعطشان أن يأخذه من صاحبه قهرا (3)، إذا لم يبذله. وغير المحترم من الحيوان، هو الحربي، والمرتد، والخنزير، والكلب العقور، وسائر الفواسق الخمس، وما في معناها. ولا يكلف أن يتوضأ بالماء، ثم
213 يجمعه ويشربه على المذهب. قال أبو علي الزجاجي (1) - بضم الزاي - والماوردي وآخرون: من كان معه ماءان: طاهر، ونجس، وعطش، توضأ بالطاهر، وشرب النجس. قلت: ذكر الشاشي كلام الماوردي هذا، ثم أنكره، واختار: أنه يشرب الطاهر ويتيمم، وهذا هو الصحيح، وهذا الخلاف فيما بعد دخول الوقت، أما قبله، فيشرب الطاهر بلا خلاف. صرح به الماوردي وغيره. قال المتولي: ولو كان يرجو وجود الماء في غده ولا يتحققه، فهل له التزود (2)؟ وجهان. الأصح: جوازه. والله أعلم. المسألة الثانية: قال الشافعي رحمه الله: إذا مات رجل له ماء ورفقته عطاش، شربوه ويمموه وأدوا ثمنه في ميراثه. وصورة المسألة: أنهم رجعوا إلى البلد، وأراد بالثمن القيمة، موضع الاتلاف ووقته. وقيل: أراد مثل القيمة (3). الثالثة: إذا أوصى، أو وكل بصرف ماء إلى أولى الناس به، فحضر ميت، وجنب، وحائض، ومن على بدنه نجاسة، ومحدث، فالميت وصاحب النجاسة أولاهم، والميت أولاهما على الأصح. فلو كان على الميت أيضا نجاسة، فهو أولى قطعا. ولا يشترط لاستحقاق الميت قبول وارث، كما لو تطوع انسان بكفنه، وفيه وجه شاذ: أنه يشترط. ولو مات اثنان، أحدهما قبل الآخر، وكان قبل موتهما ماء يكفي أحدهما، فالأول أولى. فإن ماتا معا، أو وجد الماء بعد موتهما، فأفضلهما أولى، فإن استويا أقرع بينهما. أما إذا اجتمع الجنب والحائض، فثلاثة أوجه.
214 الأصح: الحائض أولى. والثاني: الجنب. والثالث: سواء. فعلى هذا، إن طلب أحدهما القسمة، والآخر القرعة، فإن لم نوجب استعمال الناقص، أقرع. وإن أوجبناه، أقرع على الأصح. وعلى الثاني: يقسم. وإن اتفقا على القسمة، جاز إن أوجبنا استعمال الناقص، وإلا فلا. ولو اجتمع جنب ومحدث، فإن كان الماء يكفي للوضوء دون الغسل، فالمحدث أولى إن لم نوجب استعمال الناقص، وإن أوجبناه، فأوجه. الأصح: المحدث أولى. والثاني: الجنب. والثالث: سواء. وإن لم يكف واحدا منهما، فالجنب أولى إن أوجبنا استعماله، وإلا فهو كالمعدوم. وإن كفى وفضل عن الوضوء شئ دون الغسل، فالجنب أولى إن لم نوجب استعمال الناقص، وإن أوجبناه. فعلى الأوجه الثلاثة. أصحها: الجنب أولى. ولو (1) فضل عن كل واحد، أو لم يفضل عن واحد، أو كفى الجنب دون المحدث، فالجنب أولى قطعا. ولو انتهى هؤلاء المحتاجون إلى ماء مباح، واستووا في إحرازه وإثبات اليد عليه، ملكوه بالسوية، ولا يجوز لاحد أن يبذل نصيبه لغيره، وإن كان أحوج منه وإن كان ناقصا، إلا إذا قلنا: لا يجب استعمال الناقص. كذا قاله إمام الحرمين، والغزالي. وقال أكثر الأصحاب: إن المستحب تقديم الأحوج فالأحوج كالوصية، ولا منافاة بين الكلامين. وأراد الأصحاب: أن المستحب تقديم الأحوج، وأنهم لو تنازعوا، كان كما قاله إمام الحرمين. ويمكن أن ينازعهم في الاستحباب ويقول: لا يجوز العدول عن ماء يتمكن منه للطهارة (2).
215 السبب الرابع: العجز بسبب الجهل، هذا قد جعله الغزالي سببا. ولقائل أن يقول: ليس هو سببا، فإن السبب هو ظن العدم، وذلك موجود. وأما قضاء الصلاة، فأمر آخر. واللائق ذكره في آخر سبب الفقد، أو فيما يقضى من الصلوات. قلت: بل له هنا وجه ظاهر، فإن من جملة صوره، إذا أضل راحلته أو ماءه، فهذا من وجه كالواجد، فيتوهم أنه لا يجوز له التيمم، ومن وجه عادم، فلهذا ذكره الغزالي في (الأسباب المبيحة) للاقدام على التيمم. والله أعلم. وفيه مسائل: الأولى: لو نسي الماء في رحله، أو علم موضع نزوله بئرا، فنسيها، وصلى بالتيمم، فطريقان. أحدهما: تجب الإعادة قطعا. وأصحهما: على القولين. الجديد المشهور وجوبها، كنسيان عضو الطهارة، وساتر العورة. ولو نسي ثمن الماء، فكنسيان الماء. وقيل: يحتمل غيره. الثانية: لو أدرج في رحله ماء لم يعلم به، فتيمم وصلى، ثم علم، أو تيمم، ثم علم بقربه بئرا لم يكن علمها، فطريقان. أحدهما: لا إعادة. وأصحهما على قولين. أظهرهما: لا إعادة (1). الثالثة: لو أضل الماء في رحله، وصلى بالتيمم، إن لم يمعن في الطلب، وجبت الإعادة. وإن أمعن حتى ظن العدم، وجبت أيضا على الأظهر. وقيل: الأصح (2).
216 الرابعة: أضل رحله في الرحال، إن لم يمعن في الطلب، أعاد، وإن أمعن، فالمذهب أنه لا إعادة. وقيل: قولان. وقيل: وجهان. وقيل: إن وجده قريبا، أعاد، وإلا، فلا. السبب الخامس: المرض، وهو ثلاثة أقسام. الأول: ما يخاف معه من الوضوء فوت الروح، أو فوت عضو، أو منفعة عضو، فبيح التيمم. ولو خاف مرضا مخوفا، تيمم على المذهب. الثاني: أن يخاف زيادة العلة، وهو كثرة ألم، وإن لم تزد المدة، أو يخاف بطء البرء، وهو طول مدة المرض. وإن لم يزد الألم، أو يخاف شدة الضنا، وهو المرض المدنف الذي يجعله زمنا، أو يخاف حصول شين قبيح، كالسواد على عضو ظاهر، كالوجه وغيره، مما يبدو في حال المهنة، ففي الجميع ثلاث طرق. أصحها: في المسألة قولان. أظهرهما: جواز التيمم. والثاني: لا يجوز قطعا. والثالث: يجوز قطعا. الثالث: أن يخاف شيئا يسيرا، كأثر الجدري، وسواد قليل. أو شينا قبيحا على غير الأعضاء الظاهرة (1)، أو يكون به مرض لا يخاف من استعمال الماء معه محذورا في العاقبة. وإن كان يتألم في الحال بجراحة، أو برد، أو حر، فلا يجوز التيمم لشئ من هذا بلا خلاف. فرع يجوز أن يعتمد في كون المرض مرخصا. على معرفة نفسه إن كان عارفا. ويجوز اعتماد طبيب حاذق، بشرط الاسلام (2)، والبلوغ، والعدالة،
217 ويعتمد العبد والمرأة. ولنا وجه شاذ: أنه يعتمد الصبي المراهق، أو الفاسق. ووجه شاذ: أنه لا بد من طبيبين. فرع: إذا عمت العلة أعضاء الطهارة، اقتصر على التيمم. وإن كانت في البعض، غسل الصحيح. وفي العليل، كلام مذكور في (الجريح). قلت: وإذا لم يوجد طبيب بشرطه. قال أبو علي السبخي: لا يتيمم (1). ولا فرق في هذا السبب، بين الحاضر، والمسافر، والحدث الأصغر، والأكبر، ولا إعادة فيه. والله أعلم. السبب السادس: إلقاء الجبيرة. وهي تكون لكسر، أو انخلاع. فتارة (2) يحتاج إلى الجبيرة على الكسر أو الانخلاع، وتارة لا يحتاج، ويعتبر في الحاجة ما تقدم في المرض. فالحالة الأولى: إذا احتاج، ووضع الجبيرة، فإما أن يقدر على نزعها عند الطهارة من غير ضرر من الأمور المتقدمة في المرض، وإما أن لا يقدر، فإن لم يقدر، لم يكلف النزع. ويراعي في طهارته أمورا. الأول: غسل الصحيح. وهو واجب على المذهب. وقيل: قولان. فعلى المذهب: يجب غسل ما يمكن حتى ما تحت أطراف الجبيرة من الصحيح، بأن يضع خرقة مبلولة عليها، ويعصرها لتغسل تلك المواضع بالمتقاطر (3). الثاني: مسح الجبيرة بالماء، وهو واجب على الصحيح المشهور. وحكي قول ووجه: أنه لا يجب، بل يكفي الغسل مع التيمم. فعلى الصحيح: إن كان جنبا، مسح متى شاء، وإن كان محدثا، مسح إذا وصل إلى غسل العضو الذي عليه الجبيرة. ويجب استيعاب الجبيرة بالمسح على الأصح، كالوجه في التيمم. وعلى
218 الثاني: يكفي ما يقع عليه الاسم: كمسح الرأس، والخف، ولا تتقدر مدة المسح على الصحيح. وعلى الثاني: تتقدر ثلاثة أيام للمسافر، وبيوم وليلة للحاضر. والخلاف فيما إذا تأتى النزع بعد المدة المقدرة بلا ضرر. فإن حصل ضرر، لم يجب قطعا. وإن تأتى في كل طهارة، وجب (1) قطعا. الثالث: التيمم في الوجه واليدين. ففيه طريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما: يجب. والثاني: لا. والطريق الثاني: إن كان ما تحت الجبيرة عليلا، بحيث لا يجب غسله لو ظهر، لم يجب التيمم، وإلا وجب. وإذا وجب، فلو كانت الجبيرة على موضع التيمم، لم يجب مسحها بالتراب على الأصح. ثم إن كان جنبا، فالأصح أنه مخير، إن شاء قدم غسل الصحيح على التيمم، وإن شاء أخره (2). وعلى الثاني: يتعين تقديم الغسل. وإن كان محدثا، فثلاثة أوجه. هذان الوجهان في الجنب. والثالث: وهو الصحيح (3)، أنه لا ينتقل من عضو حتى يتم طهارته. فعلى هذا، إن كانت الجبيرة على الوجه، وجب تقديم التيمم على غسل اليدين. فإن شاء غسل صحيح الوجه، ثم تيمم عن عليله، وإن شاء عكس. وإن كانت على اليدين، وجب تقديم التيمم على مسح الرأس، وتأخيره عن غسل الوجه. ولو كان على عضوين أو ثلاثة جبائر، تعدد التيمم. فإن كانت على الوجه جبيرة، وعلى اليد جبيرة، غسل صحيح، الوجه، وتيمم عن عليله. ثم اليد كذلك. وعلى الوجه الأول والثاني، يكفي تيمم واحد وإن تعددت الجبائر. قلت: ولو عمت الجراحات أعضاءه الأربعة. قال القاضي أبو الطيب والأصحاب: يكفيه تيمم واحد عن الجميع، لأنه سقط الترتيب لسقوط الغسل. قالوا: ولو عمت الرأس، ولم تعم الأعضاء الثلاثة، وجب غسل صحيح الأعضاء، وأربع تيممات على ما ذكرنا. قال صاحب (البحر): فإذا تيمم في هذه الصورة أربع تيممات، وصلى، ثم حضرت فريضة أخرى، أعاد التيممات الأربعة، ولا يلزمه غسل صحيح الوجه، ويعيد ما بعده. وهذا الذي ذكره في الغسل، فيه خلاف
219 سيأتي قريبا، إن شاء الله تعالى. قال صاحب (البيان): وإذا كانت الجراحة في يديه، استحب أن تجعل كل يد كعضو، فيغسل وجهه، ثم صحيح اليمنى، وتيمم عن جريحها، ثم يطهر اليسرى غسلا وتيمما، وكذا الرجلان. وهذا حسن، لان تقديم اليمنى سنة، فإذا اقتصر على تيمم، فقد طهرهما دفعة. والله أعلم. ثم ما ذكرناه الأمور الثلاثة، إنما يكفي بشرطين. أحدهما: أن لا يأخذ تحت الجبيرة من الصحيح، إلا ما لا بد منه للاستمساك. والثاني: أن يضعها على طهر. وفي وجه: لا يشترط الوضع على طهر، والصحيح اشتراطه. فيجب النزع، واستئناف الوضع على طهر إن أمكن، وإلا فيترك، ويجب القضاء بعد البرء على المذهب، بخلاف الوضع على طهر على الأظهر، هذا كله إذا لم يقدر على نزع الجبيرة عند الطهر، فإن قدر بلا ضرر، وجب النزع، وغسل الصحيح إن أمكن، ومسحه بالتيمم إن كان في موضع التيمم ولم يمكن غسله. الحالة الثانية: أن لا يحتاج إلى الجبيرة، ويخاف من إيصال الماء، فيغسل الصحيح بقدر الامكان، ويتلطف بوضع خرقة مبلولة، ويتحامل عليها، ليغسل بالمتقاطر باقي الصحيح. ويلزمه ذلك بنفسه، أو بأجرة، كالأقطع. وفي افتقاره إلى التيمم الخلاف السابق في الحالة الأولى. ولا يجب مسح موضع العلة بالماء وإن كان لا يخاف منه. كذا قاله الأصحاب. وللشافعي رضي الله عنه: نص سياقه يقتضي الوجوب. وإذا أوجبنا التيمم، والعلة في محل التيمم، أمر التراب عليه. وكذا لو كان للجراحة أفواه منفتحة، وأمكن إمرار التراب عليها، وجب. قلت: هذا الذي ذكره الرافعي من ثبوت خلاف في وجوب التيمم، غلط. ولم أره لاحد من أصحابنا، فكأنه (1) اشتبه عليه. فالصواب: الجزم بوجوب التيمم في هذه الصورة، لئلا يبقى موضع الكسر بلا طهارة. والله أعلم. السبب السابع: الجراحة. اعلم أن الجراحة قد تحتاج إلى لصوق، من خرقة، وقطنة، ونحوهما، فيكون لها حكم الجبيرة في كل ما سبق. وقد لا
220 تحتاج، فيجب غسل الصحيح، والتيمم عن الجريح. ولا يجب مسح الجريح بالماء، ولا يجب وضع اللصوق، أو الجبيرة عليه، ليمسح عليها على الصحيح. وقول الجمهور: وأوجبه الشيخ أبو محمد. ويقرب منه من هو متطهر وأرهقه حدث، ومعه ماء يكفيه لما عدا رجليه، ومعه خف، فالصحيح الذي عليه الأصحاب، أنه لا يلزمه لبس الخف. وفيه احتمال لإمام الحرمين. فرع: إذا غسل الصحيح، وتيمم لمرض، أو كسر، أو جرح، مع المسح على حائل، أو دونه إذا لم يكن، وصلى فريضة بطهارته، فله أن يصلي بها ما شاء من النوافل، ولا بد من إعادة التيمم للفريضة الأخرى. وهل يجب إعادة الوضوء إن كان محدثا، أو الغسل إن كان جنبا؟ فيه طريقان. أصحهما: لا يجب. والثاني: على قولين. فإن قلنا بالأصح، فليس على الجنب غير التيمم إلى أن يحدث، وفي المحدث وجهان. أحدهما: كالجنب. وأصحهما: يجب أن يعيد مع التيمم كل عضو يجب ترتيبه على العضو المجروح. قلت: بل الأصح عند المحققين: أنه كالجنب. قال البغوي وغيره: وإذا كان جنبا، والجراحة في غير أعضاء الوضوء، فغسل الصحيح، وتيمم للجريح، ثم أحدث قبل أن يصلي فريضة، لزمه الوضوء، ولا يلزمه التيمم، لان تيممه عن غير أعضاء الوضوء، فلا يؤثر فيه الحدث. ولو صلى فريضة، ثم أحدث، توضأ للنافلة، ولا يتيمم. وكذا حكم الفرائض كلها. والله أعلم. ولو تطهر العليل كما ذكرنا فبرأ، وهو على طهارته، غسل موضع العذر، جنبا كان أو محدثا، ويغسل المحدث ما بعد العليل بلا خلاف. وفي استئنافهما الوضوء والغسل، القولان في نازع الخف. ولو تحقق البرء بعد الطهارة، بطل تيممه، ووجب غسل الموضع. وحكم الاستئناف ما ذكرنا. ولو توهم الاندمال، فرفع اللصوق، فرآه لم يندمل، لم يبطل تيممه على الأصح، بخلاف توهم وجود الماء، فإنه يبطل التيمم، لان توهم الماء يوجب طلبه. وتوهم الاندمال، لا يوجب البحث عنه. كذا قاله الأصحاب. وتوقف إمام الحرمين في قولهم: لا يجب البحث. وبالله التوفيق (1)
221 الباب الثاني في كيفية التيمم له سبعة أركان. الركن الأول (1): التراب (2). وشرطه أن يكون طاهرا خالصا، غير مستعمل. فالتراب متعين، ويدخل فيه جميع أنواعه، من الأحمر، والأسود، والأصفر، والأغبر، وطين الدواة (3)، وطين الأرمني الذي يؤكل تداويا وسفها. والبطحاء، وهو التراب الذي في مسيل الماء. والسبخ: الذي لا ينبت دون الذي يعلوه ملح. ولو ضرب يده على ثوب، أو جدار، ونحوهما، وارتفع غبار، كفى. والتراب الذي أخرجته الأرضة من مدر، يجوز التيمم به، كالتراب المعجون بالخل إذا جف، يجوز التيمم به، ولا يصح التيمم بالنورة، والجص، والزرنيخ، وسائر المعادن، والذريرة، والأحجار المدقوقة، والقوارير المسحوقة، وشبهها. وقيل: يجوز في وجه بجميع ذلك وهو غلط، ولو أحرق التراب حتى صار رمادا، أو سحق الخزف، فصار ناعما، لم يجز التيمم به. ولو شوى الطين وسحقه، ففي التيمم به وجهان. وكذا لو أصاب التراب نار، فاسود، ولم يحترق، فعلى الوجهين. قلت: الأصح في الأولى، الجواز. والصحيح في الأخيرة (4) القطع بالجواز. والله أعلم. وأما الرمل، فالمذهب: أنه إن كان خشنا لا يرتفع منه غبار، لم يكف ضرب اليد عليه. وإن ارتفع، كفى. وقيل: قولان مطلقا (5). وأما كونه طاهرا، فلا بد
222 منه، فلا يصح بنجس مطلقا. فإن كان على ظهر كلب تراب، فإن علم التصاقه برطوبة عليه، من ماء، أو عرق، أو غيره، لم يجز التيمم به. وإن علم انتفاء ذلك جاز، وإن لم يعلم واحد منهما، فعلى القولين في اجتماع الأصل والظاهر. قلت: كذا قاله جماعة من أصحابنا: فيما إذا لم يعلم، أنه على القولين، وهو مشكل، وينبغي أن يقطع بجواز التيمم به (1) عملا بالأصل، وليس هنا ظاهر يعارضه. والله أعلم. وأما كونه خالصا، فيخرج منه المشوب بزعفران، ودقيق، ونحوهما. وإن كثر المخالط، لم يجز بلا خلاف. وكذا إن قل على الصحيح. قال إمام الحرمين: الكثير: ما يظهر في التراب. والقليل: ما لا يظهر. ولم أر لغيره فيه ضبطا. ولو اعتبرت الأوصاف الثلاثة كما في الماء، لكان مسلكا (2). وأما كونه غير مستعمل، فلا بد منه على الصحيح. والمستعمل: ما لصق بالعضو. وكذا ما تناثر عنه، على الأصح. الركن الثاني: قصد التراب. فلا بد منه. فلو وقف في مهب ريح، فسفت عليه ترابا، فأمر يده عليه بنية التيمم، إن كان وقف بغير نية، لم يجزئه. وإن قصد تحصيل التراب، لم يجزئه أيضا، على الأصح، أو الأظهر. ولو يممه غيره. إن كان بغير إذنه، فكالوقوف في مهب الريح. وإن كان بإذنه لعذر، كقطع، وغيره، جاز. وإن كان بغير عذر، جاز أيضا على الصحيح. الركن الثالث: نقل التراب الممسوح به إلى العضو. فإن كان على الوجه تراب، فردده عليه، لم يجزئه. وإن نقله منه إلى اليد، أو من اليد إليه، أو أخذه من الوجه، ثم رده إليه، أو سفت الريح ترابا على كمه، فمسح به وجهه، أو أخذ التراب من الهواء، بإثارة الريح، جاز في كل ذلك على الأصح. وإن نقله من عضو غير أعضاء التيمم إليها، جاز بلا خلاف. وإن تمعك في التراب لعذر، جاز. وكذا لغير عذر على الأصح.
223 الركن الرابع: النية. فلا بد منها، فإن نوى رفع الحدث، أو نوى الجنب رفع الجنابة، لم يصح تيممه على الصحيح. وإن نوى استباحة الصلاة، فله أربعة أحوال. أحدها: أن ينوي استباحة الفرض والنفل معا، فيستبيحهما، وله التنفل قبل الفريضة وبعدها، في الوقت وبعده، وفي وجه ضعيف: لا يتنفل بعد الوقت إن كانت الفريضة معينة. ولا يشترط تعيين الفريضة على الأصح. فعلى هذا لو نوى الفرض مطلقا، صلى أية فريضة شاء. ولو نوى معينة، فله أن يصلي غيرها. الحال الثاني: أن ينوي الفريضة، سواء كانت إحدى الخمس، أو منذورة ولا تخطر له النافلة، فتباح الفريضة. وكذا النافلة قبلها على الأظهر، وبعدها على المذهب في الوقت، وكذا بعده على الأصح. ولو تيمم لفائتتين، أو منذورتين، استباح إحداهما على الأصح. وعلى الثاني: لا يستبيح شيئا. ولو تيمم لفائتة فلم يكن عليه شئ. أو لفائتة الظهر، فكانت العصر، لم تصح. قلت: ولو (1) ظن عليه فائتة، ولم يجزم بها، فتيمم لها، ثم ذكرها، قال المتولي والبغوي والروياني: لا يصح. وصححه الشاشي (2)، وهو ضعيف. والله أعلم. الحال الثالث: أن ينوي النفل، فلا يستبيح به الفرض على المشهور. وقيل: قطعا. فإن أبحناه، فالنفل أولى، وإلا استباح النفل على الصحيح. ولو نوى مس المصحف، أو سجود التلاوة، أو الشكر، أو نوى الجنب الاعتكاف، أو قراءة القرآن، فهو كنية النفل، فلا يستبيح الفرض على المذهب. ويستبيح ما نوى على الصحيح. وعلى الآخر يستبيح الجميع. ولو تيمم لصلاة الجنازة، فهو كنية النفل على الأصح. ولو تيممت منقطعة الحيض لاستباحة الوطئ، صح على
224 الأصح، ويكون كالتيمم للنافلة. الحال الرابع: أن ينوي الصلاة فحسب، فله حكم التيمم للنفل على الأصح. وعلى الثاني: هو كمن نوى النفل والفرض معا. أما إذا نوى فرض التيمم، أو إقامة التيمم المفروض، فلا يصح على الأصح. قلت: ولو نوى التيمم وحده، لم يصح قطعا. ذكره الماوردي. ولو تيمم بنية استباحة الصلاة، ظانا أن حدثه أصغر، فكان أكبر، أو عكسه، صح قطعا، لان موجبهما واحد. ولو تعمد ذلك، لم يصح في الأصح. ذكره المتولي (1). ولو أجنب في سفره ونسي، وكان يتيمم وقتا، ويتوضأ وقتا، أعاد صلوات الوضوء فقط، لما ذكرنا. والله أعلم (2). واعلم أنه لا يجوز أن تتأخر النية عن أول فعل مفروض في التيمم. وأول أفعاله المفروضة نقل التراب. ولو قارنته وعزبت قبل مسح شئ من الوجه، لم يجزئه على الأصح. ولو تقدمت على أول فعل مفروض، فهو كمثله في الوضوء. الركن الخامس: مسح الوجه. ويجب استيعابه. ولا يجب إيصال التراب إلى منابت الشعور التي يجب إيصال الماء إليها في الوضوء على المذهب (3). ويجب إيصاله إلى ظاهر ما استرسل من اللحية على الأظهر، كما في الوضوء. الركن السادس: مسح اليدين. ويجب استيعابهما إلى المرفقين على المذهب. وقيل: قولان. أظهرهما هذا، والقديم يمسحهما إلى الكوعين. واعلم أنه تكرر لفظ الضربتين في الاخبار، فجرت طائفة من الأصحاب على
225 الظاهر، فقالوا: لا يجوز النقص من ضربتين، ويجوز الزيادة. والأصح ما قاله آخرون: أن الواجب إيصال التراب، سواء حصل بضربة أو أكثر، لكن يستحب أن لا يزيد على ضربتين، ولا ينقص. وقيل: يستحب ثلاث ضربات. ضربة للوجه، وضربتان لليدين، وهو ضعيف. قلت: الأصح: وجوب الضربتين. نص عليه. وقطع به العراقيون، وجماعة من الخراسانيين. وصورة الاقتصار على ضربة بخرقة ونحوها. والله أعلم. وصورة الضرب ليست متعينة. فلو وضع اليد على تراب ناعم وعلق بها غبار، كفى. ويستحب أن يبدأ بأعلى الوجه. وأما اليدان، فيضع أصابع اليسرى سوى الابهام، على ظهور أصابع اليمنى سوى الابهام، بحيث لا تخرج أنامل اليمنى عن مسبحة اليسرى، ويمرها على ظهر كفه اليمنى، فإذا بلغت الكوع، ضم أطراف أصابعه إلى حرف الذراع. ويمرها إلى المرفق، ثم يدير كفه إلى بطن الذراع فيمرها عليه وإبهامه مرفوعة، فإذا بلغ الكوع، مسح ببطن إبهام اليسرى ظهر إبهام اليمنى، ثم يضع أصابع اليمنى على اليسرى فيمسحها كذلك. وهذه الكيفية ليست واجبة، لكنها مستحبة على المذهب. وقيل: غير مستحبة. وأما تفريق الأصابع، فيفعله في الضربة الثانية. وأما الأولى، فالأصح، وظاهر المذهب، والذي نص عليه الشافعي، وقاله الأكثرون: أنه يستحب التفريق فيها. وقال آخرون: لا يستحب. ثم قال الأكثرون من هؤلاء: هو جائز، حتى لو لم يفرق في الثانية، كفاه التفريق في الأولى بين الأصابع. وقال قليلون، منهم القفال: لا يجوز: ولو فعله، لم يصح تيممه. ثم إذا فرق في الضربتين وجوزناه، أو في الثانية وحدها، يستحب تخليل الأصابع بعد مسح اليدين على الهيئة المذكورة، ولو لم يفرق فيهما (1)، وفرق في الأولى وحدها، وجب التخليل، ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى. وهو مستحب على الأصح، وواجب على الآخر. والواجب إيصال التراب إلى الوجه واليدين كيف كان، سواء حصل بيد، أو خرقة، أو خشبة. ولا يشترط إمرار اليد على العضو على الأصح. ولو كان يمسح بيده فرفعها في أثناء العضو، ثم ردها، جاز، ولا يفتقر إلى
226 أخذ تراب جديد في الأصح. الركن السابع: الترتيب. فيجب تقديم الوجه على اليدين. فلو تركه ناسيا لم يصح على المذهب، كما في الوضوء. ولا يشترط الترتيب في أخذ التراب للعضوين على الأصح. فلو ضرب يديه على الأرض، وأمكنه مسح الوجه بيمينه، ويمينه بيساره، جاز. فرع: لو أحدث بعد أخذ التراب قبل مسح وجهه، بطل أخذه، وعليه النقل ثانية. ولو يممه غيره حيث يجوز، فأحدث أحدهما بعد أخذ التراب قبل المسح، قال القاضي حسين: لا يضر. وينبغي أن يبطل الأخذ بحدث الآمر. ولو ضرب يده على بشرة امرأة ينقض وعليها تراب، فإن كان كثيرا يمنع التقاء البشرتين صح تيممه. وإن لم يمنع، لم يصح. وقيل: يصح أخذه للوجه. فإن ضرب بعده لليد، بطل. والصواب: الأول. فرع: للتيمم سنن سبق بعضها في كيفية مسح الوجه واليدين، وبقي منها التسمية، وتقديم اليمنى على اليسرى، وإمرار التراب على العضد على الأصح، والموالاة على المذهب، وتخفيف التراب المأخوذ إذا كان كثيرا، وأن لا يكرر المسح على المذهب، وأن لا يرفع اليد عن العضو الممسوح حتى يتم مسحه على الأصح. وعلى الثاني: هو واجب. وقد سبق. وأن ينزع خاتمه في الضربة الأولى. قلت: وأما الضربة الثانية، فيجب نزعه فيها، ولا يكفي تحريكه، بخلاف الوضوء، لان التراب لا يدخل تحته. ذكره صاحب (العدة) وغيره. ومن مندوباته: استقبال القبلة. وينبغي استحباب الشهادتين بعده، كالوضوء والغسل. ولو كانت يده نجسة، وضرب بها على تراب ومسح وجهه، جاز في الأصح. ولا يجوز مسح النجسة قطعا، كما لا يصح غسلها عن الوضوء مع بقاء النجاسة. ولو تيمم، ثم وقع عليه نجاسة، لم يبطل على المذهب، وبه قطع الامام. وقال المتولي: هو كردة المتيمم. ولو تيمم قبل الاجتهاد في القبلة، ففي صحته وجهان، حكاهما الروياني، كما لو كان عليه نجاسة. والله أعلم.
227 الباب الثالث في أحكام التيمم هي ثلاثة. الأول (1): أنه يبطل بما يبطل به الوضوء (2). ثم هو قسمان. أحدهما: يجوز مع وجود الماء، كتيمم المريض. والثاني: لا يجوز إلا مع عدمه، أو الخوف في تحصيله، أو الحاجة إليه، وما أشبه هذا. فالأول: لا تؤثر فيه رؤية الماء. وأما الثاني: فيبطل بتوهم القدرة على الماء قبل الدخول في الصلاة، كما إذا رأى سرابا فتوهمه ماء، أو أطبقت بقربه غمامة، أو طلع عليه جماعة يجوز أن يكون معهم ماء، هذا إذا لم يقارن التوهم مانع من القدرة، فإن قارنه، لم يبطل تيممه، كما إذا رأى ما يحتاج إليه للعطش، أو دونه حائل، من سبع، أو عدو، أو قعر بئر يعلم حال رؤيته تعذر تحصيله، أو سمع انسانا يقول: أودعني فلان ماء وهو يعلم غيبة فلان، وما أشبه هذا. أما إذا رأى الماء في الصلاة، فإن لم تكن مغنية عن القضاء، كصلاة الحاضر بالتيمم، بطلت على الصحيح. وعلى الثاني: يتمها (3) ويعيد. وإن كانت مغنية كصلاة المسافر، فالمذهب المنصوص: أنه لا تبطل صلاته ولا تيممه. فلو نوى في أثناء الصلاة الإقامة بعد وجدان الماء، أو نوى القصر ثم وجد الماء، ثم نوى الائتمام، بطلت صلاته على الأصح فيهما. وحيث لم تبطل وكانت فريضة، هل يجوز الخروج منها ليتوضأ؟ فيه أوجه. أصحها: الخروج أفضل. والثاني: يجوز الخروج، لكن الاستمرار أفضل. والثالث: إن قلبها نفلا وسلم من ركعتين،
228 فهو أفضل. وإن أراد إبطالها مطلقا، فالاستمرار أفضل. والرابع: يحرم قطعها مطلقا. والخامس: إن ضاق الوقت، حرم الخروج، وإلا لم يحرم. قاله إمام الحرمين (1)، وطرده في كل مصل، سواء المتيمم وغيره. قلت: هذا الذي حكاه عن (2) إمام الحرمين اختيار له لم يتقدمه به أحد، واعترف إمام الحرمين بهذا، وهو خلاف المذهب، وخلاف نص الشافعي رحمه الله، فقد نص في (الام) ونقله صاحب (التتمة) والغزالي في (البسيط) عن الأصحاب: أنه يحرم على من تلبس بالفريضة في أول وقتها، قطعها بغير عذر، وقد أوضحت نقله، ودلائله في شرح (المهذب).... والله أعلم. وإذا أتم الفريضة بالتيمم، وبقي الماء الذي رآه إلى أن سلم، بطل تيممه، فلا يستبيح به نافلة، حتى حكى الروياني عن والده: أنه لا يسلم التسليمة الثانية. قلت: وفيما حكاه الروياني نظر، وينبغي أن يسلم الثانية، لأنها من جملة الصلاة. والله أعلم. وأما إذا فني الماء قبل سلامه، ولم يعلم حتى يستبيح النافلة أيضا (3)، وإن علم بفنائه قبل سلامه، ففي بطلان تيممه ومنعه النافلة وجهان. قلت: الأصح: منعه النافلة، وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين.. والله أعلم. أما إذا رأى الماء وهو في نافلة، فأوجه. أصحها: إن كان نوى عددا، أتمه ولم يزد، وإلا اقتصر على ركعتين. والثاني: لا يزيد على ركعتين وإن نواه. والثالث: له أن يزيد ما شاء وإن لم ينوه. والرابع: تبطل صلاته. الحكم الثاني - فيما يؤدى بالتيمم - لا يصلي بالتيمم الواحد إلا فريضة
229 واحدة، وسواء كانت الفريضتان متفقتين أو مختلفتين، كصلاتين، وطوافين، أو صلاة وطواف. أو مقضيتين، كظهرين، أو مكتوبة ومنذورة، أو منذورتين، فلا يجوز الجمع بينهما بتيمم. وفي قول أو وجه ضعيف: يجوز في منذورتين، وفي منذورة ومكتوبة، وفي وجه شاذ: يجوز في فوائت وفائتة ومؤداة. والصبي كالبالغ على المذهب. وقيل: وجهان. الثاني: يجمع بين مكتوبتين بتيمم. ويجوز أن يجمع بتيمم بين فريضة ونوافل. وأما ركعتا الطواف، فإن قلنا بالأصح: إنهما سنة، فلهما حكم النوافل. وإن قلنا: واجبتان، لم يجز أن يجمع بينهما وبين الطواف الواجب على الأصح. وكذا لا يجمع بين خطبة الجمعة وصلاتها على الأصح. إذا شرطنا الطهارة في الخطبة. وأما صلاة الجنازة، ففيها ثلاثة طرق. أحدها: في المسألة قولان. أحدهما: لها حكم النافلة مطلقا، فيجوز الجمع بين صلوات الجنائز، وبين جنائز ومكتوبة بتيمم واحد. ويجوز صلاتها قاعدا مع القدرة على القيام، ويجوز على الراحلة. والثاني: لها حكم الفرائض. فلا يجوز شئ من هذا. والطريق الثاني: إن تعينت، فكالفرائض، وإلا، فكالنوافل. والثالث: لها حكم النوافل مطلقا، إلا أنه لا يجوز القعود فيها، والمذهب: أنه يجوز الجمع بتيمم بكل حال. ولو صلى على جنازتين صلاة واحدة، فقيل: يجوز قطعا، وقيل: على الخلاف. فرع: إذا نسي صلاة من صلوات، نظر، إن كانت متفقة، كظهر من أسبوع، لزمه ظهر واحدة بتيمم. وإن نسي صلاة من الخمس، لزمه الخمس، وكفاه تيمم واحد للجميع على الصحيح. وعلى الثاني: يجب خمسة تيممات. ثم قال الشيخ أبو علي: الخلاف تفريع على أن تعيين الفريضة التي تيمم لها غير واجب، فإن أوجبناه، لزمه خمس تيممات قطعا. ويحتمل خلاف ما قال أبو علي. قلت: هذا المحكي عن أبي علي، قد حكاه الدارمي (1) عن ابن المرزبان،
230 واختار الدارمي طرد الخلاف وإن أوجبنا التعيين. وهذا أصح. والله أعلم. ولو نسي صلاتين مختلفتين من الخمس، لزمه الخمس. فإن قلنا: في الواحدة يلزمه خمس تيممات. فكذا هنا (1). وإن قلنا يكفيه تيمم واحد، فقال ابن القاص: يتيمم لكل واحدة، ويقتصر على الخمس. وقال ابن الحداد: يقتصر على تيممين، ويزيد في الصلوات، فيصلي بالأول الصبح والظهر والعصر والمغرب. وبالثاني: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. قال الأكثرون: وهو مخير، إن شاء عمل بقول ابن القاص، وإن شاء [عمل] بقول ابن الحداد. فظاهر كلام ابن القاص في التلخيص: أنه لا يجوز ما ذكره ابن الحداد. وحكي وجه: أنه يتيمم تيممين، ويصلي بكل واحد الخمس، وهو شاذ. والمستحسن عند الأصحاب: طريقة ابن الحداد. وعليها يفرعون ما زاد من المنسي. ولها ضابط، وشرط. فضابطها: أن تزيد على قدر المنسي فيه عددا لا ينقص عما تبقى من المنسي فيه بعد إسقاط المنسي، وينقسم المجموع صحيحا على المنسي. مثاله: مسألتنا، المنسي صلاتان، والمنسي فيه خمس، تزيده ثلاثة، لأنه لا تنقص عما يبقى من الخمس بعد إسقاط الاثنين بل تساويه. والمجموع: وهو ثمانية، ينقسم على الاثنين صحيحا. ولو صلى عشرا كما قاله الوجه الشاذ، أجزأه، وكان قد زاد خيرا لدخوله في الضابط. وأما شرطها: فأن يبتدئ من المنسي فيه بأية صلاة شاء، ويصلي بكل تيمم ما تقتضيه القسمة، ويترك في كل مرة ما ابتدأ به في التي قبلها، ويأتي في المرة الأخيرة بما بقي من الصلوات. ولو نسي ثلاث صلوات من يوم وليلة، فعلى طريقة ابن القاص، يصلي كل واحدة من الخمس بتيمم، وعلى الوجه الشاذ: يتيمم ثلاث مرات، يصلي بكل واحد الخمس، وعلى طريقة ابن الحداد، يقتصر على ثلاث تيممات، ويصلي بالأول: الصبح والظهر والعصر. وبالثاني: الظهر والعصر والمغرب. وبالثالث: العصر والمغرب والعشاء. وله مخالفة هذا الترتيب إذا وفى بالشرط.
231 أما إذا نسي صلاتين متفقتين، فعليه أن يصلي كل واحدة من الخمس مرتين، فعلى الوجه الضعيف في أول المسألة: يجب لكل صلاة تيمم، فيتيمم عشر تيممات. وعلى الصحيح: يكفيه تيممان يصلي بكل واحد الخمس، ولا يكتفي بثمان صلوات لاحتمال كون المنسيين، صبحين أو عشاءين، وما صلاهما إلا مرة مرة. أما إذا لم يعلم، هل الفائتتان مختلفتان، أم متفقتان؟ فيلزمه الأحوط، وهو أنهما متفقتان. إما إذا ترك صلاة مفروضة، أو طوافا مفروضا، واشتبه عليه، فيأتي بطواف، وبالصلوات الخمس بتيمم واحد على الصحيح. وعلى الضعيف: بست تيممات، ولو صلى منفردا بتيمم، ثم أراد إعادتها مع جماعة بذلك التيمم، جاز إن قلنا: الثانية سنة. وكذا إن قلنا: الفرض (1) إحداهما لا بعينها على الصحيح، كالمنسية. ولو صلى الفرض بالتيمم على وجه، يجب معه القضاء، وأراد القضاء بذلك التيمم. فإن قلنا: الفرض الأول جاز. وإن قلنا: الثاني أو كلاهما فرض، لم يجز، وإن قلنا: أحدهما لا بعينه، جاز على الصحيح. قلت: ينبغي إذا قلنا: الثانية فرض أن يجوز، لأنه جمع بين فرض ونافلة. والله أعلم. فصل: لا يجوز التيمم لفريضة قبل وقتها، فلو فعل، لم يصح للفرض، ولا للنفل أيضا على المذهب، ولو جمع بين الصلاتين بالتيمم، جاز على الصحيح. ويكون وقت الأولى، وقتا للثانية. ولو تيمم للظهر فصلاها، ثم تيمم للعصر ليجمعها، فدخل وقت العصر قبل فعلها، بطل الجمع والتيمم. ووقت الفائتة بتذكرها. ولو تيمم لمؤداة في أول وقتها، وصلاها به في آخره، جاز قطعا. نص عليه. قلت: وفيه وجه مشهور في (الحاوي) وغيره: أنه لا يجوز التأخير إلا بقدر الحاجة، كالمستحاضة. والفرق ظاهر. والله أعلم. ولو تيمم لفائتة ضحوة، فلم يصلها حتى دخلت الظهر، فله أن يصلي به الظهر على الأصح، ولو تيمم للظهر، ثم تذكر فائتة، قيل: يستبيحها به قطعا.
232 وقيل: على الوجهين، وهو الأصح. هذا كله تفريع على الأصح أن تعيين الفريضة، ليس بشرط. فإن شرطناه، لم يصح غير ما نواه. أما النوافل: فمؤقتة وغيرها. أما المؤقتة: فكالرواتب مع الفرائض، وصلاة العيد، والكسوف. وأوقاتها معروفة. ووقت الاستسقاء، الاجتماع لها في الصحراء. ووقت الجنازة: انقضاء الغسل على الأصح، والموت، على الثاني، فإن تيمم لمؤقتة قبل وقتها، لم يصح على المذهب. وقيل: وجهان. وإن تيمم لها في وقتها، استباحها، وفي (1) استباحة الفرض، القولان المتقدمان. فإن استباحه، فله ذلك إن كان تيممه في وقت الفريضة، وإن كان قبله، فعلى الوجهين في التيمم لفائتة ضحوة. وأما غير المؤقتة، فيتيمم لها كل وقت، إلا وقت الكراهة، فلا يصح فيه على الأصح. هذا كله تفريع على المذهب، في أن التيمم للنافلة وحدها، صحيح. وفيه الوجه المتقدم في الركن الرابع من الباب الثاني. قلت: ولو تيمم لنافلة لا سبب لها قبل وقت الكراهة، لم تبطل بدخول وقت الكراهة، بل يستبيحها بعده بلا خلاف. ولو أخذ التراب قبل وقت الفريضة، ثم مسح الوجه في الوقت، لم يصح، لان أخذ التراب من واجبات التيمم، فلا يصح قبل الوقت، ولو تيمم شاكا في الوقت، وصادفه، لم يصح. وكذا لو طلب شاكا في دخول الوقت، وصادفه، لم يصح الطلب (2). وكذا لو طلب شاكا في دخول الوقت، فصادفه (3)، لم يصح الطلب. الله أعلم. الحكم الثالث: قضاء الصلاة لعذر ضربان: عام، ونادر. فالعام: لا قضاء معه، كصلاة مسافر محدث، أو جنب، بالتيمم - لعدم ما يجب استعماله، إذا لم يكن سفر معصية. وفي سفر المعصية أوجه. الأصح: يجب التيمم والقضاء. والثاني: يتيمم ولا يقضي. والثالث: لا يجوز التيمم (4).
233 وقصير السفر كطويله على المذهب. وقيل: في وجوب القضاء معه قولان - وكصلاة المريض بالتيمم، أو قاعدا، أو مضطجعا، والصلاة بالايماء في شدة الخوف. وأما النادر: فقسمان. قسم يدوم غالبا، وقسم لا يدوم. فما يدوم يمنع القضاء، كالاستحاضة، وسلس البول، والمذي، والجرح السائل، واسترخاء المقعد، ودوام خروج الحدث، سواء كان له بدل، أم لا. وما لا يدوم نوعان. نوع معه بدل، ونوع لا بدل معه، فما لا بدل معه يوجب القضاء، وذلك صور. منها: من لم يجد ماء، ولا ترابا. وفيه أقوال. المشهور: وجوب الصلاة بحسب حاله، ووجوب القضاء. والثاني: تحرم الصلاة. والثالث: تستحب، ويجب القضاء على هذين. والرابع: تجب الصلاة بلا قضاء، وإذا قلنا: يصلي، لا يجوز مس المصحف، ولا قراءة القرآن للجنب والحائض، ولا وطئ الحائض، وإذا قدر على ماء أو تراب في الصلاة، بطلت. ومنها: المربوط على خشبة، ومن شد وثاقه بالأرض، يصلي بالايماء ويعيد. وقال الصيدلاني (1). إن صلى مستقبل القبلة، لم يعد، وإلا عاد. قال: وكذا الغريق يصلي على خشبة بالايماء. وذكر البغوي نحوه. ومنها: من على جرحه نجاسة يخاف التلف من غسلها، أو حبس في موضع وصلى فيه على النجاسة للضرورة، فتجب الإعادة على المشهور. وفي القديم: لا
234 يجب إعادة صلاة وجبت في الوقت، وإن كانت مختلة. وأما ما معه بدل فصور: منها: المقيم إذا تيمم لعدم الماء، فيجب عليه الإعادة على المشهور، لان فقد الماء في الإقامة نادر، وإنما لا يجب القضاء على المسافر، لان فقد الماء فيه (1) يعم. هذا هو الضابط عند الأصحاب، وليس مخصوصا بالسفر، أو الإقامة، حتى لو أقام في مفازة، أو موضع يعدم فيه الماء غالبا، وطالت إقامته وصلاته بالتيمم، فلا إعادة. ولو دخل المسافر في طريقه قرية، وعدم الماء وصلى بالتيمم، وجبت الإعادة على الأصح، وإن كان حكم السفر باقيا. وأما قول الأصحاب: المقيم يقضي، والمسافر لا يقضي، فمرادهم: الغالب من حال المسافر والمقيم، وحقيقته ما ذكرناه. ومنها: التيمم لعذر في بعض الأعضاء، فإن لم يكن على العضو ساتر من جبيرة، أو لصوق، فلا إعادة. وإن كان ساتر من جبيرة ونحوها، فثلاثة أقوال. الأظهر: أنه إن وضعها على طهر، فلا إعادة، وإلا وجبت. والثاني: لا يعيد مطلقا. والثالث: يعيد. وقال ابن الوكيل (2) من أصحابنا: الخلاف إذا لم يتيمم. أما إذا قلنا: يجب التيمم، فتيمم، فلا إعادة قطعا. والمذهب طرد الخلاف مطلقا. هذا كله إذا لم تكن الجبيرة على محل التيمم، فإن كانت عليه، أعاد بلا خلاف. ومنها: التيمم لشدة البرد، والأظهر: أنه يوجب الإعادة. والثاني: لا. والثالث: يجب على الحاضر دون المسافر. أما العاجز عن ستر العورة، ففيه قولان ووجه. وقيل: ثلاثة أوجه. أصحها: يصلي قائما ويتم الركوع والسجود (3)، والثاني: يصلي قاعدا. وهل يتم
235 الركوع والسجود أم يومئ؟ فيه قولان: والثالث: يتخير بين الامرين. ويجري هذا الخلاف فيما لو حبس في موضع نجس، لو سجد لسجد على نجاسة. وفيما لو وجد ثوبا طاهرا لو فرشه على النجاسة، لبقي عاريا. وفيما لو وجد العاري ثوبا نجسا، هل يصلي فيه، أم عاريا؟ ثم إن قلنا: العريان لا يتم الأركان، أعاد على المذهب، وفيه خلاف من لم يجد ماء ولا ترابا. وإن قلنا: يتمها، فلا إعادة على المذهب. سواء كان في السفر أو الحضر ممن يعتاد العري، أو ممن لا يعتاد العري. وقيل: يجب على من لا يعتاد العري. قلت: ولو لم يجد المريض من يحوله للقبلة، لزمه الصلاة بحسب حاله، وتجب الإعادة على المذهب. قال الروياني: وقيل: قولان. وهو شاذ. قال إمام الحرمين وغيره: ثم ما حكمنا من الأعذار: بأنه دائم، وأسقطنا به الفرض فزال بسرعة، فهو كدائم، وما حكمنا أنه (1) لا يدوم فدام، فله حكم ما لم يدم إلحاقا لشاذ الجنس بالجنس. ثم كل صلاة أوجبناها في الوقت، وأوجبنا إعادتها، فهل الفرض الأولى، أم الثانية، أم كلاهما، أم إحداهما لا بعينها؟ فيه أربعة أقوال. أظهرها: عند الجمهور: الثانية. وعند القفال والفوراني وابن الصباغ: كلاهما، وهو أفقه، فإنه مكلف بهما - وهذه مسائل منثورة لا يستحب (فيها) تجديد التيمم على المذهب - وبه قطع الجمهور. وفي المستظهري: وجهان. ويتصور في مريض وجريح ونحوهما ممن تيمم مع وجود الماء، إذا تيمم وصلى فرضا ثم أراد نفلا، ويتصور في متيمم، لعدم الماء إذا صلى فرضا ولم يفارق موضعه، ولم نوجب طلبا لتحققه العدم أو لم نوجبه ثانيا (2). وحكم اليد المقطوعة كهو في الوضوء، حتى إذا
236 لم يبق شئ من محل الفرض، استحب مسح العضد. قال الدارمي: وإذا لم يكن مرفق، استطهر حتى يعلم. ولو وجد المسافر على الطريق خابية ماء مسبلة، تيمم، ولا يجوز الوضوء منها، لأنها إنما توضع للشرب. ذكره المتولي، ونقله الروياني عن الأصحاب. ولو منع من (1) الوضوء إلا منكوسا، فهل له الاقتصار على التيمم، أم عليه غسل الوجه لتمكنه منه؟ فيه القولان فيمن وجد بعض ما يكفيه، حكاه الروياني عن والده. قال: ولا يلزمه قضاء الصلاة إذا امتثل المأمور على القولين. وفي القضاء نظر، لندوره، لكن الراجح ما ذكره، لأنه في معنى من غصب ماؤه فلا (2) قضاء. قال صاحب (الحاوي) و (البحر): لو مات رجل معه ماء لنفسه لا يكفيه لبدنه، فإن أوجبنا استعمال الناقص، لزم رفقته غسله به، وإلا يمموه. فإن غسلوه به، ضمنوا قيمته لوارثه. ولو تيمم لمرض فبرأ في أثناء الصلاة، فكرؤية الماء في صلاة المسافر. ولو تيمم عن جنابة أو حيض، ثم أحدث، حرم ما يحرم على محدث. ولا يحرم قراءة القرآن، واللبث في المسجد. ولو تيمم جنب فرأى ماء، حرمت القراءة، وكل ما كان حراما، حتى يغتسل. قال الجرجاني: ليس أحد يصح إحرامه بصلاة فرض دون نفل، إلا من عدم ماء وترابا، أو سترة طاهرة، أو كان على بدنه نجاسة عجز عن إزالتها. والله أعلم. باب مسح الخف (3) وهو جائز بشرطين: أحدهما: لبسه على طهارة كاملة. فلو غسل رجلا فلبس خفها، ثم غسل الأخرى، لم يجز المسح، فلو نزع الأولى ثم لبسها، كفاه، وجاز المسح بعده
237 على الصحيح (1). وعلى الثاني: لا بد من نزعهما. ولو أدخل الرجلين ساقي الخفين بلا غسل، ثم غسلهما، ثم أدخلهما قرار الخف، صح لبسه، وجاز المسح. ولو لبس متطهرا، ثم أحدث قبل وصول الرجل قدم الخف، أو مسح بشرطه، ثم أزال القدم من مقرها ولم يظهر من محل الفرض شئ، ففي الصورتين ثلاثة أوجه. الصحيح: جواز المسح في الثانية، ومنعه في الأولى. والثاني: يجوز فيهما. والثالث: لا يجوز فيهما. ولو لبست المستحاضة على وضوئها، ثم أحدثت بغير الاستحاضة، فوجهان. أحدهما: لا يصح مسحها لضعف طهارة لبسها. والصحيح: المنصوص جوازه. فعلى هذا لو انقطع دمها، وشفيت قبل المسح، لم يجز المسح على المذهب، وقيل: فيه الوجهان. وحيث جوزنا، فإنما يستبيح بلبسها المسح لما شاءت من النوافل، ولفريضة إن لم تكن صلت بوضوء اللبس فريضة، بأن أحدثت بعد وضوئها ولبسها قبل أن تصلي تلك الفريضة ولا غيرها من الفرائض، فإن أحدثت بعد فعل الفريضة، مسحت، واستباحت النوافل، ولا تستبيح فريضة مقضية، ولا مؤداة تحضر. فإن أرادت فريضة، وجب نزع الخف، واستئناف اللبس بطهارة. ولنا وجه شاذ أنها تستوفي مدة المسح يوما وليلة حضرا، وثلاثة سفرا، ولكن تعيد الوضوء والمسح لكل فريضة. وفي معنى طهارة المستحاضة، طهارة سلس البول، وكل من به حدث دائم، وكذا الوضوء المضموم إليه التيمم لجراحة أو كسر، فحكمهم حكمها بلا فرق. وأما من محض التيمم بلا وضوء، فإن كان بسبب غير إعواز الماء، فهو كالمستحاضة. وإن كان للاعواز، فقال ابن سريج: هو كهي. والصحيح: أنه لا يستبيح المسح أصلا. الشرط الثاني: أن يكون الملبوس صالحا للمسح، وصلاحيته بأمور:
238 الأول: أن يستر محل فرض غسل الرجلين، فلو قصر عن محل الفرض، لم يجز قطعا، وفي المخروق قولان. القديم: جواز المسح ما لم يتفاحش الخرق، بأن لا يتماسك في الرجل، ولا يتأتى المشي عليه، وقيل: التفاحش: أن يبطل اسم الخف. والجديد: الأظهر لا يجوز إذا ظهر شئ من محل الفرض وإن قل. ولو تخرقت البطانة أو الظاهرة، جاز المسح إن كان الباقي، صفيقا، وإلا فلا على الصحيح. ويقاس على هذا ما إذا تخرق من الظهارة موضع، ومن البطانة موضع آخر لا يحاذيه. أما الخف المشقوق القدم إذا شد محل الشق بالشرج، فإن ظهر شئ مع الشد، لم يجز المسح. وإلا جاز على الصحيح المنصوص. فلو فتح الشرج، بطل المسح في الحال وإن لم يظهر شئ. الأمر الثاني: أن يكون قويا، بحيث يمكن متابعة المشي عليه بقدر ما يحتاج إليه المسافر في حوائجه عند الحط والترحال (1)، فلا يجوز المسح على اللفائف والجوارب المتخذة من صوف ولبد، وكذا الجوارب المتخذة من الجلد الذي يلبس مع المكعب، وهي جوارب الصوفية، لا يجوز المسح عليها حتى يكون بحيث يمكن متابعة المشي عليها، ويمنع نفوذ الماء إن شرطناه، إما لصفاقتها، وإما لتجليد القدمين والنعل على الأسفل، أو الالصاق على المكعب. وقيل: في اشتراط تجليد القدم مع صفاقتها قولان. ولو تعذر المشي فيه لسعته المفرطة، أو ضيقه، لم يجز المسح على الأصح. ولو تعذر لغلظه، أو ثقله، كالخشب والحديد، أو لتحديد رأسه بحيث لا يستقر على الأرض، لم يجز. ولو اتخذ لطيفا من خشب، أو حديد يتأتى المشي فيه، جاز قطعا. ولو لم يقع عليه اسم الخف، بأن لف على رجله قطعة أدم وشدها، لم يجز المسح. الأمر الثالث: - في أوصاف مختلف فيها - فالخف المغصوب، والمسروق، وخف الذهب أو الفضة، يصح المسح عليه على الأصح. والخف من جلد كلب أو ميتة قبل الدباغ، لا يجوز المسح عليه قطعا، لا لمس مصحف ولا لغيره. ولو وجدت في الخف شرائطه، إلا أنه لا يمنع نفوذ الماء، لم يجز المسح على الأصح.
239 واختار إمام الحرمين والغزالي: الجواز. قلت: ولو لبس واسع الرأس يرى من رأسه القدم، جاز المسح عليه على الصحيح. ويجوز على خف زجاج قطعا (1) إذا أمكن متابعة المشي عليه. والله أعلم. فرع: الجرموق: هو الذي يلبس فوق الخف لشدة البرد غالبا. فإذا لبس خفا فوق خف، فله أربعة أحوال. أحدها: أن يكون الاعلى صالحا للمسح عليه دون الأسفل، لضعفه، أو لخرقه، فالمسح على الاعلى خاصة. الثاني: عكسه، فالمسح على الأسفل خاصة. فلو مسح الاعلى فوصل البلل إلى الأسفل، فإن قصد مسح الأسفل، أجزأه. وكذا إن قصدهما على الصحيح. وإن قصد الاعلى، لم يجز. وإن لم يقصد واحدا، بل قصد المسح في الجملة، أجزأه على الأصح، لقصده إسقاط فرض الرجل بالمسح. الثالث: أن لا يصلح واحد منهما فيتعذر المسح. الرابع: أن يصلحا كلاهما، ففي المسح على الاعلى وحده قولان: القديم والاملاء (2) جوازه، والجديد: منعه. قلت: الأظهر عند الجمهور الجديد، وصحح القاضي أبو الطيب في شرح (الفروع) القديم. والله أعلم. فإن جوزنا المسح على الجرموق، فقد ذكر ابن سريج فيه ثلاثة معان. أظهرها: أن الجرموق بدل عن الخف، والخف بدل عن الرجل. والثاني: الأسفل كلفافة، والأعلى هو الخف. والثالث: أنهما كخف واحد، فالأعلى ظهارة، والأسفل بطانة. وتتفرع على المعاني مسائل. منها: لو لبسهما معا على طهارة فأراد
240 الاقتصار على مسح الأسفل، جاز على المعنى الأول دون الآخرين. ومنها: لو لبس الأسفل على طهارة، والأعلى على حدث، ففي جواز المسح على الاعلى طريقان. أحدهما: لا يجوز. وأصحهما فيه وجهان. إن قلنا بالمعنى الأول أو الثاني (1): لم يجز. وبالثالث: يجوز. فلو لبس الأسفل بطهارة، ثم أحدث ومسحه، ثم لبس الجرموق، فهل يجوز مسحه؟ فيه طريقان. أحدهما: يبنى على المعاني إن قلنا بالأول أو الثالث جاز. وبالثاني: لا يجوز. وقيل: يبنى الجواز على هذا الثاني، على أن مسح الخف يرفع الحدث، أم لا؟ إن قلنا: يرفع، جاز، وإلا فلا. الطريق الثاني: القطع بالبناء على رفع الحدث. وإذا جوزنا مسح الاعلى في هذه المسألة، قال الشيخ أبو علي: ابتداء المدة من حين إحداث أول لبسه الأسفل، وفي جواز الاقتصار على الأسفل الخلاف السابق. ومنها: لو لبس الأسفل على حدث، وغسل رجله فيه، ثم لبس الاعلى على طهارة كاملة، فلا يجوز مسح الأسفل قطعا، ولا مسح الاعلى إن قلنا بالمعنى الأول، أو الثالث. وبالثاني يجوز. ومنها: لو تخرق الاعلى من الرجلين جميعا، أو نزعه منهما بعد مسحه وبقي الأسفل بحاله، فإن قلنا بالمعنى الأول، لم يجب نزع الأسفل، بل يجب مسحه، وهل يكفيه مسحه أم يجب استئناف الوضوء؟ فيه القولان في نازع الخفين. وإن قلنا بالمعنى الثالث، فلا شئ عليه. وإن قلنا بالثاني، وجب نزع الأسفل أيضا وغسل القدمين. وفي استئناف الوضوء القولان، فحصل من الخلاف في المسألة خمسة أقوال. أحدها: لا يجب شئ. والثاني: يجب مسح الأسفل فقط. والثالث: يجب المسح واستئناف الوضوء. والرابع: يجب نزع الخفين وغسل الرجلين. والخامس: يجب ذلك مع استئناف الوضوء. ومنها: لو (2) تخرق الاعلى من إحدى الرجلين أو نزعه. فإن قلنا بالمعنى الثالث، فلا شئ عليه. وإن قلنا بالثاني، وجب نزع الأسفل أيضا من هذه الرجل، ووجب نزعهما من الرجل الأخرى، وغسل القدمين. وفي استئناف الوضوء القولان. وإن قلنا بالمعنى الأول، فهل يلزمه نزع
241 الاعلى من الرجل الأخرى؟ وجهان: أصحهما نعم، كمن نزع إحدى الخفين. فإذا نزعه، عاد القولان: في أنه (هل) يجب استئناف الوضوء، أم يكفيه مسح الأسفل؟ والثاني: لا يلزمه نزع الثاني. وفي واجبه القولان. أحدهما: مسح الأسفل الذي نزع أعلاه. والثاني استئناف الوضوء، ومسح هذا الأسفل، والأعلى من الرجل الأخرى. ومنها: لو تخرق الأسفل منهما، لم يضر على المعاني كلها. فلو (1) تخرق من إحداهما، فإن قلنا بالمعنى الثاني أو الثالث، فلا شئ عليه. وإن قلنا بالأول، وجب نزع واحد من الرجل الأخرى، لئلا يجمع بين البدل والمبدل، قاله في (التهذيب) وغيره. ولك أن تقول: هذا المعنى موجود فيما إذا تخرق الاعلى من إحدى الرجلين، وقد حكوا وجهين في وجوب نزعه من الأخرى، فليحكم بطردهما هنا. ثم إذا نزع، ففي واجبه القولان. أحدهما: مسح الخف الذي نزع الاعلى من فوقه. والثاني: استئناف الوضوء والمسح عليه وعلى الاعلى الذي تخرق الأسفل تحته. ومنها: لو تخرق الأسفل والأعلى من الرجلين، أو من إحداهما، لزم (2) نزع الجميع على المعاني كلها، لكن إن قلنا بالمعنى الثالث، وكان الخرقان في موضعين غير متحاذيين، لم يضر كما تقدم بيانه. ومنها: لو تخرق الاعلى من رجل، والأسفل من الأخرى، فإن قلنا بالثالث، فلا شئ عليه. وإن قلنا بالأول، نزع الاعلى المتخرق، وأعاد مسح ما تحته. وهل يكفيه ذلك، أم يحتاج إلى استئناف الوضوء ماسحا عليه وعلى الاعلى من الرجل الأخرى؟ فيه القولان. هذا كله تفريع على جواز مسح الجرموق. فإن منعناه، فأدخل يده بينهما ومسح الخف الأسفل، جاز على الأصح. ولو تخرق الأسفلان، فإن كان عند التخرق على طهارة لبسه الأسفل، مسح الاعلى، لأنه صار أصلا لخروج الأسفل عن صلاحيته للمسح. وإن كان محدثا، لم يجز مسح الاعلى، كاللبس على حدث. وإن كان على طهارة مسح، فوجهان، كما ذكرنا في التفريع على القديم. أما إذا لبس جرموقا في رجل، واقتصر على الخف في الأخرى، فعلى الجديد: لا يجوز مسح الجرموق. وعلى القديم: يبنى على المعاني الثلاثة، فعلى الأول لا يجوز، كما لا
242 يجوز المسح في خف، وغسل الرجل الأخرى. وعلى الثالث يجوز، وكذا على الثاني على الأصح. قلت: وإذا جوزنا المسح على الجرموق، فكذا إذا لبس ثانيا وثالثا. ولو لبس الخف فوق الجبيرة، لم يجز المسح عليه على الأصح. والله أعلم. فصل في كيفية المسح أما أقله، فما ينطبق عليه اسم المسح من محل فرض الغسل في الرجل، إلا أسفلها، فلا يجوز الاقتصار عليه على الأظهر، وقيل: يجوز قطعا، وقيل: لا يجوز. وإلا العقب، فلا يجزئ على المذهب. وقيل: هو أولى بالجواز من الأسفل، وقيل: أولى بالمنع. قلت: وحرف الخف كأسفله. قاله في (التهذيب). والله أعلم. وأما الأكمل: فمسح أعلاه وأسفله، ولكن ليس استيعاب جميعه سنة على الأصح. ويستحب مسح العقب على الأظهر، وقيل: الأصح، وقيل: قطعا. ولو كان عند المسح على أسفله نجاسة، لم يجز المسح عليه. ويجزئ غسل الخف عن مسحه على الصحيح، لكن يكره. ويكره أيضا تكرار المسح على الصحيح. وعلى الثاني: يستحب تكراره ثلاثا كالرأس. قلت: قال أصحابنا: لا تتعين اليد للمسح، بل يجوز بخرقة وخشبة وغيرهما. ولو وضع يده المبتلة ولم يمرها، أو قطر الماء عليه، أجزأه على الصحيح كما تقدم في الرأس. والله أعلم. فصل في حكم المسح: يباح المسح على الخف للصلاة، وسائر ما يفتقر إلى الوضوء. وله المسح إلى إحدى غايات أربع: الأولى: مضي يوم وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليهن (1) للمسافر على
243 المشهور الجديد. وفي القديم: يجوز غير مؤقت. والتفريع على الجديد. وابتداء المدة من الحدث بعد اللبس. وأكثر ما يمكن المقيم أن يصلي من الفرائض المؤداة، ست صلوات إن لم يجمع. فإن جمع لمطر، فسبع، والمسافر ست عشرة، وبالجمع سبع عشرة. وأما المقضيات فلا تنحصر. واعلم أن المسافر إنما يمسح ثلاثة أيام إذا كان سفره طويلا، وغير معصية، فإن قصر سفره، مسح يوما وليلة، وإن كان معصية، مسح يوما وليلة على الأصح. وعلى الثاني: لا يمسح شيئا. ويجزئ الوجهان في العاصي بالإقامة، كالعبد المأمور بالسفر إذا أقام. فرع: إذا لبس الخف في الحضر، ثم سافر، ومسح في السفر، مسح مسح مسافر، سواء كان أحدث في الحضر، أم لا، وسواء سافر بعد الحدث وخروج وقت الصلاة، أم لا، وقال المزني (1): إن أحدث في الحضر، مسح مسح مقيم. وقال أبو إسحاق المروزي: إن خرج الوقت في الحضر ولم يصل، ثم سافر، مسح مسح مقيم. أما إذا مسح في الحضر ثم سافر، فيتم مسح مقيم. والاعتبار في المسح بتمامه، فلو مسح إحدى الخفين في الحضر، ثم سافر ومسح الآخر في السفر، فله مسح مسافر، لأنه تم مسحه في السفر. قلت: هذا الذي جزم به الامام الرافعي رحمه الله في مسألة المسح على أحد الخفين في الحضر، هو الذي ذكره القاضي حسين وصاحب (التهذيب). لكن الصحيح المختار، ما جزم به صاحب (التتمة) واختاره الشاشي: أنه يمسح مسح مقيم، لتلبسه بالعبادة في الحضر. والله أعلم. أما إذا مسح في السفر ثم أقام، فإن كان بعد مضي يوم وليلة فأكثر، فقد انقضت مدته، ويجزئه ما مضى. وإن كان قبل يوم وليلة، تممها. وقال المزني:
244 يمسح ثلث ما بقي من ثلاثة أيام ولياليهن مطلقا. ولو شك الماسح في السفر أو الحضر في انقضاء مدته، وجب الاخذ بانقضائها. ولو شك المسافر هل ابتدأ المسح في الحضر، أم السفر؟ أخذ بالحضر، فيقتصر على يوم وليلة، فلو مسح في اليوم الثاني شاكا، وصلى به، ثم علم في اليوم الثالث أنه كان ابتدأ في السفر، لزمه إعادة ما صلى في اليوم الثاني. وله المسح في اليوم الثالث، فإن كان مسح في اليوم الأول، واستمر على الطهارة فلم يحدث في اليوم الثاني، فله أن يصلي في الثالث بذلك المسح، لأنه صحيح. فإن كان أحدث في الثاني، ومسح شاكا، وبقي على تلك الطهارة، لم يصح مسحه، فيجب إعادة المسح. وفي وجوب استئناف الوضوء القولان في الموالاة. وقال صاحب (الشامل) يجزئه المسح مع الشك. والصحيح الأول. الغاية الثانية: نزع الخفين أو أحدهما، فإن وجد ذلك وهو على طهارة مسح، لزمه غسل الرجلين، ولا يلزمه استئناف الوضوء على الأظهر. واختلف في أصل القولين (1)، فقيل: بنفسيهما، وقيل: مبنيان على تفريق الوضوء، وضعفه الأصحاب. وقيل: على أن بعض الطهارة هل يختص بالانتقاض، أم يلزمه من انتقاض بعضها انتقاض جميعها؟ وقيل: مبنيان على أن مسح الخف يرفع الحدث عن الرجل، أم لا؟ فإن قلنا: لا يرفع، اقتصر على غسل الرجلين، وإلا استأنف الوضوء. قلت: الأصح عند الأصحاب أن مسح الخف يرفع الحدث عن الرجل، كمسح الرأس. ولو خرج الخف عن صلاحية المسح، لضعفه، أو تخرقه (2)، أو غير ذلك، فهو كنزعه. ولو انقضت المدة، أو ظهرت الرجل وهو في صلاة، بطلت. فلو لم يبق من المدة إلا ما يسع ركعة، فافتتح ركعتين، فهل يصح الافتتاح وتبطل صلاته عند انقضاء المدة، أم لا تنعقد؟ وجهان في (البحر) أصحهما: الانعقاد. وفائدتهما: أنه لو اقتدى به إنسان عالم بحاله، ثم فارقه عند انقضاء
245 المدة، هل تصح صلاته، أم لا تنعقد؟ فيه الوجهان، وفيما لو أراد الاقتصار على ركعة. والله أعلم. الغاية الثالثة: أن يلزم الماسح غسل جنابة، أو حيض، أو نفاس، فيجب استئناف اللبس بعده. الغاية الرابعة: إذا نجست رجله في الخف ولم يمكن غسلها فيه، وجب النزع لغسلها. فإن أمكن غسلها فيه فغسلها، لم يبطل المسح. فرع: سليم الرجلين إذا لبس خفا في إحداهما، لا يصح مسحه. فلو لم يكن له إلا رجل، جاز المسح على خفها، ولو بقيت من الرجل الأخرى بقية، لم يجز المسح حتى يواريها بما يجوز المسح عليه. قلت: لو كان إحدى رجليه عليلة، بحيث لا يجب غسلها، فلبس الخف في الصحيحة، قطع الدارمي بصحة المسح عليه. وصاحب (البيان) بالمنع. وهو الأصح، لأنه يجب التيمم عن الرجل العليلة، فهي كالصحيحة. والله أعلم.
246 كتاب الحيض (1) فيه خمسة أبواب. الأول: في حكم الحيض والاستحاضة. أما سن الحيض، فأقله استكمال تسع سنين على الصحيح، وما رأته قبله: دم فساد. والثاني: بالطعن في أول التاسعة. والثالث: مضي نصف التاسعة. والمراد: السنون القمرية على الأوجه كلها. وهذا الضبط للتقريب على الأصح. فلو كان بين رؤية الدم واستكمال التسع على الصحيح ما لا يسع حيضا وطهرا، كان ذلك الدم حيضا، وإلا فلا. وسواء في سن الحيض، البلاد الحارة، وغيرها على الصحيح. وقال الشيخ أبو محمد: في الباردة وجهان. قلت: الوجه الذي حكاه أبو محمد: هو أنه إذا وجد ذلك في البلاد الباردة (2) التي لا يعهد ذلك في مثلها، فليس بحيض. والله أعلم. وأقل الحيض يوم وليلة على المذهب، وعليه التفريع. وأكثره: خمسة عشر
247 يوما. وغالبه: ست أو سبع. وأقل الطهر بين حيضتين: خمسة عشر يوما، وغالبه: تمام الشهر بعد الحيض، ولا حد لأكثره. ولو وجدنا امرأة تحيض على الاطراد أقل من يوم وليلة، أو أكثر من خمسة عشر، أو بطهر أقل من خمسة عشر، فثلاثة أوجه. الأصح: لا عبرة به. والثاني: يتبعه. والثالث: إن وافق ذلك مذهب بعض السلف، أتبعناه. وإلا فلا. والأول: هو المعتمد: وعليه تفريع مسائل الحيض، ويدل عليه الاجماع على أنها لو رأت النقاء يوما، والدم يوما على الاستمرار، لا نجعل كل نقاء طهرا كاملا. فصل: يحرم على الحائض ما يحرم على الجنب، ولا يجب عليها قضاء الصلاة (1). ولو أرادت العبور في المسجد، فإن خافت تلويثه لعدم إحكامها الشد، أو لغلبة الدم، حرم العبور عليها، ولا يختص هذا بها، بل المستحاضة، والسلس، ومن به جراحة نضاخة، يحرم عليهم العبور إذا خافوا التلويث. فإن أمنت الحائض التلويث، جاز العبور على الصحيح، كالجنب ومن عليه نجاسة لا يخاف تلويثها. ويحرم عليها الصوم، ويجب قضاؤه. وهل يقال: إنه واجب حال الحيض؟ وجهان. قلت: الصحيح الذي عليه المحققون والجماهير: أنه ليس واجبا، بل يجب القضاء بأمر جديد. والله أعلم. وأما الاستمتاع بالحائض، فضربان. أحدهما: الجماع في الفرج، فيحرم ويبقى تحريمه إلى أن ينقطع الحيض، وتغتسل، أو تتيمم عند عجزها عن الغسل. فلو لم تجد ماء ولا ترابا، صلت الفريضة، وحرم وطؤها على الصحيح. ومتى جامع في الحيض متعمدا عالما بالتحريم، فقولان. المشهور الجديد: لا غرم عليه، بل يستغفر الله ويتوب، لكن يستحب أن يتصدق بدينار إن جامع في إقبال الدم، أو بنصف دينار إن جامع في
248 إدباره والقول (1) والقديم: يلزمه غرامة. وفيها قولان. المشهور منهما ما قدمنا استحبابه في الجديد. والثاني: عتق رقبة بكل حال. ثم الدينار الواجب، أو المستحب، مثقال الاسلام من الذهب الخالص، يصرف إلى الفقراء والمساكين. ويجوز صرفه إلى واحد. وعلى قول الوجوب: يجب على الزوج دون الزوجة. وفي المراد بإقبال الدم وإدباره: وجهان. الصحيح المعروف: أن إقباله: أوله وشدته. وإدباره: ضعفه وقربه من الانقطاع. والثاني: قول الأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني: إقباله: ما لم ينقطع، وإدباره: إذا انقطع ولم تغتسل. أما إذا وطئها ناسيا، أو جاهلا التحريم، أو الحيض، فلا شئ عليه قطعا. وقيل: يجئ وجه على القول (2) القديم: أنه يجب الغرم. الضرب الثاني: الاستمتاع بغير الجماع. وهو نوعان. أحدهما: الاستمتاع بما بين السرة والركبة، والأصح المنصوص: أنه حرام (3)، والثاني: لا يحرم. والثالث: إن أمن على نفسه التعدي إلى الفرج لورع، أو لقلة (4) شهوة، لم يحرم، وإلا حرم. وحكي الثاني (5) قولا قديما. النوع الثاني: ما فوق السرة وتحت الركبة، وهو جائز، أصابه دم الحيض، أم لم يصبه. وفي وجه شاذ: يحرم الاستمتاع بالموضع المتلطخ بالدم. ومن أحكام الحيض: أنه يجب الغسل (6) عند انقطاعه، وأنه يمنع صحة الطهارة ما دام الدم مستمرا، إلا الأغسال المشروعة، لما لا يفتقر إلى طهارة، كالاحرام، والوقوف، فإنها تستحب للحائض، وإذا قلنا بالضعيف: إن الحائض تقرأ القرآن، فلها أن
249 تغتسل إذا أجنبت لتقرأ. ومن أحكام الحيض: أنه يوجب البلوغ، وتتعلق به العدة والاستبراء، ويكون الطلاق فيه بدعيا، وحكم النفاس حكم الحيض إلا في إيجاب البلوغ وما بعده. قلت: ومن أحكامه: منع وجوب طواف الوداع، ومنع قطع التتابع في صوم الكفارة، وقول الإمام (1) الرافعي: وحكم النفاس حكم الحيض إلا في إيجاب البلوغ، وما بعده، يقتضي أن لا يكون الطلاق فيه بدعيا، وليس كذلك، بل هو بدعي، لان المعنى المقتضي بدعيته في الحيض موجود فيه، وقد صرح الرافعي أيضا في كتاب (الطلاق) بكونه بدعيا. والله أعلم. وإذا انقطع الحيض، ارتفع تحريم الصوم وإن لم تغتسل، وكذا الطلاق، وسقوط قضاء الصلاة، بخلاف الاستمتاع وما يفتقر إلى الطهارة. قلت: ومما يزول بانقطاع الحيض، تحريم العبور في المسجد إذا قلنا بتحريمه في زمن الحيض، ولنا وجه شاذ في (الحاوي) و (النهاية) أنه لا يزول تحريمه وليس بشئ. والله أعلم. فصل في الاستحاضة (2): الاستحاضة ضربان (3) قد تطلق على كل دم تراه المرأة، غير دم الحيض والنفاس. سواء اتصل بالحيض المجاوز أكثره أم لم يتصل، كالذي تراه لسبع سنين مثلا. وقد تطلق على المتصل به خاصة، ويسمى غيره: دم فساد، ولا تختلف الاحكام في جميع ذلك، والخارج حدث دائم،
250 كسلس البول، فلا يمنع الصلاة والصوم، ويجوز وطؤها، وإنما أثر الحدث الدائم: الاحتياط في الطهارة، وإزالة النجاسة، فتغسل المستحاضة فرجها قبل الوضوء أو التيمم (1)، وتحشوه بقطنة أو خرقة دفعا للنجاسة وتقليلا. فإن اندفع به الدم، وإلا شدت مع ذلك خرقة في وسطها، وتلجمت بأخرى مشقوقة الطرفين، فكل هذا واجب، إلا أن تتأذى بالشد أو تكون صائمة فتترك الحشو وتقتصر على الشد. وسلس البول (2) يدخل قطنة في إحليله، فإن انقطع، وإلا عصب (2) مع ذلك رأس الذكر. ثم تتوضأ المستحاضة بعد الاحتياط الذي ذكرناه. ويلزمها تقديم هذا الاحتياط على الوضوء (3)، ويجب الوضوء لكل فريضة، ولها ما شاءت من النوافل بعد الفريضة، ويجب أن تكون طهارتها بعد الوقت على الصحيح. وفي وجه شاذ: تجزئها الطهارة قبل الوقت إذا انطبق آخرها على أول الوقت. وينبغي لها أن تبادر بالصلاة عقب طهارتها. فإن تطهرت في أول الوقت، وصلت في آخره أو بعده. فإن كان تأخيرها لسبب الصلاة، كالاذان، والاجتهاد في القبلة، وستر العورة، وانتظار الجمعة والجماعة ونحوها، لم يضر، وإلا فثلاثة أوجه. الصحيح: المنع. والثاني: الجواز. والثالث: الجواز ما لم يخرج الوقت. أما تجديد غسل الفرج، وحشوه، وشده لكل فريضة، فإن زالت العصابة عن موضعها زوالا له وقع، أو ظهر الدم في جوانبها، وجب التجديد. وإن لم تزل، ولا ظهر الدم، أو زالت زوالا يسيرا، وجب التجديد على الأصح. وقيل: الأظهر. كما يجب تجديد الوضوء،
251 ويجري الخلاف فيما لو أحدثت بريح ونحوه قبل أن تصلي، فلو بالت، وجب التجديد قطعا. ولو خرج منها الدم بعد الشد لغلبة الدم، لم يبطل وضوؤها. وإن كان لتقصيرها في الشد، بطل، وكذا لو زالت العصابة عن موضعها لضعف الشد، وزاد خروج الدم بسببه. ولو (1) اتفق ذلك في صلاة، بطلت، وإن كان بعد فريضة، حرم النفل بعدها. فرع: طهارة المستحاضة تبطل بالشفاء، وفي وجه شاذ: لو اتصل الشفاء بآخر الوضوء، لم يبطل، وليس بشئ. ولو شفيت في صلاة، بطلت على المذهب. ومتى انقطع دمها وهي تعتاد الانقطاع والعود، أو لا تعتاده، لكن أخبرها به من يعتمد من أهل البصر، نظر، إن كانت مدة الانقطاع يسيرة لا تسع الطهارة والصلاة التي تطهرت لها، فلها الشروع في الصلاة. فلو امتد الانقطاع، بان بطلان الطهارة، ووجب قضاء الصلاة. وإن كانت مدة الانقطاع تسع الطهارة والصلاة، لزمها إعادة الوضوء بعد الانقطاع. فلو عاد الدم على خلاف العادة، قبل الامكان، لم يجب إعادة الوضوء على الأصح. لكن لو شرعت في الصلاة بعد هذا الانقطاع، ولم تعد الوضوء، فعاد الدم قبل الفراغ، وجب إعادة الصلاة على الأصح. أما إذا انقطع دمها وهي لا تعتاد الانقطاع والعود، ولم يخبرها أهل البصر بالعود، فيجب إعادة الوضوء. فلو عاد الدم قبل إمكان الوضوء والصلاة، فالأصح أن وضوءها السابق يبقى على صحته. والثاني: يجب إعادته. ولو خالفت أمرنا، وشرعت في الصلاة من غير إعادة الوضوء بعد الانقطاع، فإن لم يعد الدم، لم تصح صلاتها، لظهور الشفاء. وكذا إن عاد بعد مضي إمكان الطهارة والصلاة، لتمكنها من الصلاة بلا حدث، وكذا إن عاد قبل الامكان على الأصح، لترددها عند الشروع. ولو توضأت عند انقطاع دمها وهي لا تدري أنه شفاء، أم لا؟ فسبيلها أن تنظر هل تعتاد الانقطاع، وتجري على مقتضى الحالين كما بينا. قلت: ولنا وجه شاذ: أن المستحاضة لا تستبيح النفل بحال. وإنما استباحت الفريضة مع الحدث الدائم للضرورة. والصواب المعروف أنها تستبيح النوافل مستقلة، وتبعا للفريضة ما دام الوقت باقيا، وبعده أيضا على الأصح. والمذهب:
252 أن طهارتها تبيح الصلاة ولا ترفع الحدث. والثاني: ترفعه. والثالث: (1) ترفع الماضي دون المقارن والمستقبل. وإذا كان دمها ينقطع في وقت، ويسيل في وقت، لم يجز أن تصلي وقت سيلانه، بل عليها أن تتوضأ وتصلي في وقت انقطاعه، إلا أن تخاف فوت الوقت، فتتوضأ وتصلي في سيلانه. فإن كانت ترجو انقطاعه في آخر الوقت، فهل الأفضل أن تعجل الصلاة في أول الوقت، أم تؤخرها إلى آخره؟ فيه وجهان مذكوران في (التتمة)، بناء على القولين في مثله في التيمم. قال صاحب (التهذيب) لو كان سلس البول، بحيث لو صلى قائما سال بوله، ولو صلى قاعدا، استمسك، فهل يصلي قائما، أم قاعدا؟ وجهان. الأصح: قاعدا حفظا للطهارة، ولا إعادة عليه على الوجهين. والله أعلم. الباب الثاني في المستحاضات هن أربع: الأولى: المبتدأة المميزة وهي: التي ترى الدم على نوعين، أو أنواع، أحدها أقوى، فترد إلى التمييز، فتكون حائضا في أيام القوي، مستحاضة في أيام الضعيف. وإنما يعمل بالتمييز بثلاثة شروط. أحدها: أن لا يزيد القوي على خمسة عشر يوما، والثاني: أن لا ينقص عن يوم وليلة ليمكن جعله حيضا. والثالث: أن لا ينقص الضعيف عن خمسة عشر يوما ليمكن جعله طهرا بين حيضتين، والمراد بخمسة عشر الضعيف، أن لا (2) تكون متصلة فلو رأت يوما أسود، ويومين أحمر (3)، وهكذا أبدا، فجملة الضعيف في الشهر تزيد على خمسة
253 عشر، لكن لا يعد هذا تمييزا لعدم إتصاله. هذا الذي ذكرناه من أن (1) الشروط ثلاثة هو الصحيح المعروف في المذهب. ولنا وجهان شاذان باشتراط شرط رابع. أحدهما قاله صاحب (التتمة): أنه يشترط أننا يزيد القوي والضعيف، على ثلاثين يوما. فإن زاد، سقط التمييز. والثاني: مذكور في (النهاية): أن الدمين إن كانا تسعين يوما فما دونها، عملنا بالتمييز، فإن جاوز تسعين، ابتدأت حيضة أخرى بعد التسعين. وجعل دورها تسعين أبدا. وفي المعتبر في القوة والضعف وجهان. أصحهما هو قول العراقيين وغيرهم، أن القوة تحصل بإحدى ثلاث خصال: اللون، والرائحة، والثخانة. فالأسود أقوى من الأشقر. والأشقر أقوى من الأصفر ومن الأكدر إذا جعلناهما حيضا. وما له رائحة أقوى مما لا رائحة له. والثخين أقوى من الرقيق. ولو كان دمها بعضه موصوفا بصفة من الثلاث، وبعضه خاليا عن جميعها، فالقوي هو الموصوف بالصفة. ولو كان للبعض صفة، وللبعض صفتان، فالقوي ما له صفتان. فإن (2) كان للبعض صفتان، وللبعض ثلاث، فالقوي ما له الثلاث. وإن وجد لبعضه صفة، ولبعضه أخرى، فالقوي: السابق منهما. كذا ذكره في (التتمة) وهو موضع تأمل. والوجه الثاني: أن المعتبر في القوة اللون وحده، وادعى إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على هذا الوجه، واقتصر عليه أيضا الغزالي. والصحيح عند الأصحاب: الوجه الأول. فرع إذا وجدت شروط التمييز، فتارة يتقدم الدم القوي، وتارة الضعيف. فإن تقدم القوي، نظر. فإن استمر بعده ضعيف واحد، بأن رأت خمسة سوادا، ثم حمرة مستمرة، فحيضها السواد. والحمرة طهر وإن طال زمانها، وفيه الوجهان الشاذان المتقدمان عن (التتمة) و (النهاية) وإن وجد بعده ضعيفان، وأمكن جعل أولهما مع القوي حيضا (3)، بأن رأت خمسة سوادا، ثم خمسة حمرة، ثم صفرة مطبقة،
254 فطريقان. أحدهما: القطع بأن القوي مع الضعيف الأول حيض. والثاني: وجهان، أحدهما: هذا. والثاني: حيضها القوي وحده، فإن لم يمكن جعلهما، بأن رأت خمسة سوادا، ثم أحد عشر حمرة، ثم صفرة مطبقة، فالمذهب: أن حيضها السواد. وقيل: فاقدة التمييز، فكأنها رأت ستة عشر أسود. أما إذا تقدم بعد القوي أضعف الضعيفين، فرأت سوادا، ثم صفرة، ثم حمرة، فإنه يبنى على ما إذا توسطت الحمرة. فإن ألحقناها بما بعده، وقلنا: الحيض هو السواد وحده، فهنا أولى. وإن ألحقناها بالسواد، فحكمها كما إذا رأت سوادا، ثم حمرة، ثم عاد السواد. وذلك يعلم بما ذكرناه من شروط التمييز. أما إذا تقدم الضعيف أولا، فإن أمكن الجمع بين القوي وما تقدمه، بأن رأت خمسة حمرة، ثم خمسة سوادا، ثم حمرة مطبقة، فثلاثة أوجه. الصحيح: أن الحكم للون، فحيضها السواد، وأما ما قبله وبعده، فطهر والثاني: يجمع بينهما، فحيضها السواد وما قبله. والثالث: أنها فاقدة للتمييز. وإن لم يمكن الجمع، بأن رأت خمسة حمرة، ثم أحد عشر سوادا، فإن قلنا في حالة الامكان، حيضها السواد، فهنا أولى. وإن قلنا بالآخرين، ففاقدة للتمييز على الصحيح المعروف. وقيل: حيضها الحمرة المتقدمة مراعاة للأولية. فلو صار السواد ستة عشر، ففاقدة للتمييز بالاتفاق، إلا على الشاذ فإنه يقدم الأولية. وإذا فرعنا على الصحيح وهو تقديم اللون، فرأت المبتدأة خمسة عشر حمرة، ثم خمسة عشر سوادا، تركت الصوم والصلاة في جميع الشهر. فإن زاد السواد على خمسة عشر، فقد فات التمييز، فيرد إلى يوم وليلة في قول، وإلى ست أو سبع في القول الآخر، فتترك الصلاة والصوم أيضا بعد الشهر يوما وليلة، أو ستا، أو سبعا. ولا يتصور مستحاضة تؤمر بترك الصلاة أحدا وثلاثين يوما أو ستة أو سبعة وثلاثين، إلا هذه. فرع: وإذا بلغت المرأة سن الحيض، فرأت دما، لزمها ترك الصوم والصلاة والوطئ بمجرد رؤية الدم على الصحيح. وقيل: لا يترك الصوم والصلاة حتى ترى الدم يوما وليلة. فعلى الصحيح لو انقطع لدون يوم وليلة، بان أنه ليس حيضا، فتقضي الصلاة. واعلم أن المبتدئة المميزة لا تشتغل بالصوم والصلاة عند انقلاب الدم من القوة إلى الضعف، لاحتمال انقطاع الضعيف قبل مجاوزة خمسة عشر، فيكون الجميع
255 حيضا، فتتربص إلى انقضاء الخمسة عشر. فإن انقضت والدم مستمر، عرفنا أنها مستحاضة، فتقضي صلوات ما زاد على الدم القوي. هذا حكم الشهر الأول. وأما الثاني وما بعده، فبانقلاب الدم تغتسل وتصلي وتصوم، ولا يخرج ذلك على الخلاف في ثبوت العادة بمرة، فلو اتفق الشفاء في بعض الأدوار، فانقطع الدم قبل مجاوزة الخمسة عشر، فالضعيف حيض مع القوي، كالشهر الأول. وسواء في كون جميعه حيضا إذا لم يجاوز، وتقدم الضعيف أو القوي على الصحيح المعروف. وعلى الشاذ إن تقدم القوي، فالجميع حيض، وإن تقدم الضعيف، وبعده قوي وحده، أو قوي، ثم ضعيف آخر، كمن رأت خمسة حمرة، ثم خمسة سوادا، ثم خمسة حمرة، فحيضها في الصورة الأولى: السواد. وفي الثانية: السواد وما بعده. فرع: مفهوم كلام الأصحاب وما صرح به إمام الحرمين: أن المراد بانقلاب الدم القوي ضعيفا، أن تتمحض ضعيفا، حتى لو بقيت خطوط من السواد، وظهرت خطوط من الحمرة، لا ينقطع حكم الحيض، وإنما ينقطع إذا لم يبق شئ من السواد أصلا. المستحاضة الثانية: مبتدأة لا تمييز لها بأن يكون جميع دمها بصفة واحدة، أو يكون قويا وضعيفا، وفقد شرط من شروط التمييز، فينظر فيها، فإن لم تعرف وقت ابتداء الدم، فحكمها حكم المتحيرة - ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى - وإن عرفته، فقولان. أظهرهما: تحيض يوما وليلة، والثاني: ستا أو سبعا وعلى هذا في الست أو السبع وجهان. أحدهما: للتخيير، فتحيض إن شاءت ستا وإن شاءت سبعا، وأصحهما ليس للتخيير، بل إن كانت عادة النساء ستا، تحيضت ستا، وإن كانت سبعا، فسبعا. وفي النساء المعتبرات أوجه. أصحها: نساء عشيرتها من الأبوين. فإن لم يكن عشيرة، فنساء بلدها. والثاني: نساء العصبات خاصة. والثالث: نساء بلدها وناحيتها، فإن كانت المعتبرات يحضن كلهن ستا أو سبعا، أخذت به. وإن نقصت عادتهن كلهن عن ست، أو زادت على سبع، فوجهان. أصحهما: ترد إلى ست في صورة النقص، وسبع في الزيادة. والثاني: ترد إلى عادتهن. ولو اختلفت عادتهن، فحاض بعضهن ستا، وبعضهن سبعا، ردت إلى الأغلب. فإن استوى البعضان، أو حاض بعضهن دون ست، وبعضهن فوق سبع، ردت إلى الست.
256 هذا بيان مردها في الحيض. أما الطهر: فإن قلنا: ترد في الحيض إلى غالبه، فكذا في الطهر، فترد إلى ثلاث وعشرين أو أربع وعشرين. وإن رددناها في الحيض إلى الأقل، فالصحيح أن طهرها تسع وعشرون تتمة الشهر. والثاني: أنه ثلاث وعشرون، أو أربع وعشرون، وقيل: على هذا يتعين الأربع والعشرون. والصواب المعروف ترديده بين الأربع والعشرين والثلاث والعشرين كما ذكرنا. والثالث: وهو نص غريب للشافعي رحمه الله: أنه أقل الطهر. فعلى هذا دورها ستة عشر، وهو شاذ ضعيف. واعلم أن ابتداء مردها في الحيض في حين رأت الدم، سواء كان بصفة واحدة، أم متميزا لفقد (1) منه شرط التمييز. ولنا وجه ضعيف عن ابن سريج رحمه الله: أنه إذا ابتدأ الضعيف، وجاوز القوي بعده أكثر الحيض، فابتداء حيضها من أول القوي. فرع: غير المميزة كالمميزة في ترك الصوم والصلاة في الشهر الأول إلى تمام خمسة عشر يوما، فإن جاوزها الدم، تبينا الاستحاضة، فإن رددناها إلى أقل الحيض، قضت صلوات أربعة عشر يوما، وإن رددناها إلى الست أو السبع، قضت صلوات تسعة أيام أو ثمانية. وأما الشهر الثاني وما بعده، فإن وجدت فيه تمييزا بشرطه قبل تمام المرد أو بعده، فهي في ذلك الدور: مبتدأة مميزة. وإن استمر فقد التمييز، وجب عند مجاوزة المرد، الغسل، والصوم، والصلاة. فإن شفيت في بعض الشهور، قبل مجاوزة خمسة عشر، بان أنها غير مستحاضة في ذلك الشهر، وجميع دمها فيه حيض، فتقضي ما صامته في أيام الدم. وتبينا أن غسلها لم يصح، ولا تأثم بالصوم والصلاة والوطئ، فيما وراء المرد، وإن كان قد وقع في الحيض لجهلها. وإن لم تشف، فهل يلزمها الاحتياط فيما وراء المرد إلى تمام خمسة عشر، أم تكون طاهرا كسائر المستحاضات الطاهرات؟ قولان. أظهرهما: الثاني. فإن قلنا: تحتاط، لم تحل للزوج، إلا بعد خمسة عشر، ولا تقضي في هذه المدة فوائت الصوم والصلاة والطواف. ويلزمها أداء الصوم والصلاة والغسل لكل صلاة، وتقضي الصوم كله، ولا تقضي الصلاة. وإذا قلنا: لا تحتاط، صامت وصلت، ولا تقضيهما، ولا غسل عليها، ولها قضاء الفوائت. ويباح وطؤها.
257 المستحاضة الثالثة: المعتادة غير المميزة، فترد إلى عادتها. ولها حالان. أحدهما: أن لا تختلف عادتها، فإن تكررت عادت حيضها وطهرها مرارا، ردت إليها في قدر الحيض، والطهر، ووقتها. والصحيح: أنه لا فرق بين أن تكون عادتها، أن تحيض أياما من كل شهر، أو من كل سنة، وأكثر. وقيل: لا يجوز أن يزيد الدور على تسعين يوما، وسنعيد المسألة في النفاس إن شاء الله تعالى. وإن لم تتكرر. فالأصح: أن العادة تثبت بمرة. والثاني: لا بد من مرتين. والثالث: لا بد من ثلاث مرات. فلو كانت تحيض خمسا، فحاضت في شهر ستا، ثم استحيضت بعده، فإن أثبتنا العادة بمرة، ردت إلى الست، وإلا، فإلى الخمس. ثم المعتادة في الشهر الأول من شهور استحاضتها، تتربص كالمبتدأة، لجواز انقطاع دمها على خمسة عشر، فإن جاوزها، قضت صلوات ما وراء العادة. وأما الشهر الثاني وما بعده، فتغتسل وتصلي وتصوم عند مضي العادة. ولا يجئ هنا قول الاحتياط المتقدم في المبتدأة، لقوة العادة. الحال الثانية: أن تختلف عادتها، ولها صور. منها: أن تستمر لها عادات مختلفة منتظمة بأن كانت تحيض في شهر ثلاثة، ثم في شهر خمسة، وفي شهر سبعة، ثم في الرابع ثلاثة، ثم في الخامس خمسة، وفي السادس سبعة، وهكذا أبدا، فهل ترد بعد الاستحاضة إلى هذه العادة؟ وجهان. أصحهما: ترد، ويجري الوجهان، سواء كانت عادتها منتظمة على هذا الترتيب، أم على ترتيب آخر، بأن كانت ترى خمسة، ثم ثلاثة، ثم سبعا، ثم تعود الخمسة. وسواء رأت كل قدر مرة، كما ذكرنا، أم مرتين، بأن ترى في شهرين ثلاثة ثلاثة. وفي شهرين بعدهما خمسة خمسة، وفي شهرين بعدهما سبعة سبعة. ثم محل الوجهين إذا تكررت العادة الدائرة. فأما إذا رأت الاقدار الثلاثة، في ثلاثة أدوار، ثم استحيضت في الرابع، فلا خلاف أنها لا ترد إلى الاقدار، لأنا إن أثبتنا العادة بمرة، فالأخير ينسخ ما قبله، وإن لم نثبتها بمرة، فلأنه لم تتكرر الاقدار لتصير عادة، ولهذا قال الأئمة: أقل ما تستقيم فيه العادة في المثال المذكور ستة أشهر، فإن رأت هذه الاقدار مرتين، فأقله سنة. ثم إذا قلنا: ترد إلى هذه العادة، فاستحضيت عقب شهر الثلاثة، ردت في أول شهور الاستحاضة إلى الخمسة. وفي
258 الثاني: إلى السبعة. وفي الثالث: إلى الثلاثة. وإن استحيضت بعد شهر الخمسة، ردت إلى السبعة، ثم الثلاثة، ثم الخمسة. وإن استحيضت بعد شهر السبعة، ردت إلى الثلاثة، ثم الخمسة، ثم السبعة. وإن قلنا: لا ترد إليها، فقد ذكر الغزالي ثلاثة أوجه. أحدها: ترد إلى ما قبل الاستحاضة أبدا. والثاني: إلى القدر المشترك بين الحيضتين السابقتين للاستحاضة. فإن استحيضت بعد شهر الخمسة، ردت إلى الثلاثة. والثالث: أنها كالمبتدأة. ولم أر هذه الأوجه بعد البحث لغيره، ولا لشيخه، بل المذهب والذي عليه الأصحاب في كل الطرق، أنها ترد إلى القدر المتقدم على الاستحاضة. وعلى هذا، هل يجب عليها الاحتياط فيما بين أقل العادات وأكثرها؟ وجهان. أصحهما: لا. كصاحبة العادة الواحدة، فإنها لا تحتاط بعد المرد. والثاني: يجب. فعلى هذا، يجتنبها الزوج في المثال المذكور إلى انقضاء السبعة. ثم إن استحيضت بعد شهر الثلاثة، تحيضت من كل شهر ثلاثة أيام، ثم تغتسل، وتصلي، وتصوم. وتغتسل مرة أخرى في آخر الخمسة، ومرة أخرى في آخر السبعة. وتقضي صوم السبعة دون صلاتها. وإن استحيضت بعد شهر الخمسة، تحيضت من كل شهر خمسة. ثم تغتسل، وتصلي، وتصوم، وتغتسل مرة أخرى في آخر السابع، وتقضي صوم السبعة، وتقضي صلوات اليوم الرابع، والخامس، لاحتمال عدم الحيض فيهما، ولم تصل فيهما. وإن استحيضت بعد شهر السبعة، تحيضت من كل شهر سبعة، واغتسلت في آخر السابع، وقضت صيام السبعة، وصلوات الرابع، والخامس، والسادس، والسابع. هذا كله إذا ذكرت العادة المتقدمة. فإن نسيتها، تحيضت من كل شهر ثلاثة أيام، ثم تغتسل، وتصلي، وتصوم، ثم تغتسل في آخر الخامس، وآخر السابع. وتتوضأ فيما بينهما لكل فريضة. سواء قلنا: ترد إلى العادة الدائرة، أم لا؟ هذا مقتضى كلام الأصحاب. وقال امام الحرمين: هذا مخصوص بقولنا: ترد إلى الدائرة. فأما إن قلنا: ترد إلى ما قبل الاستحاضة، فقيل: هنا ترد إلى أقل العادات. وقيل: هي كمبتدأة. وقد تقدم قولان في أمرها بالاحتياط إلى آخر الخمسة عشر. الصورة الثانية. أن لا تكون تلك العادات منتظمة. بل تتقدم هذه مرة، وهذه مرة. فقال إمام الحرمين والغزالي إن لم نردها في حال الانتظام إلى العادة الدائرة، فهنا أولى، وترد إلى ما تقدم على الاستحاضة. وإن رددنا المنتظمة
259 إلى الدائرة، فغير المنتظمة كناسية النوبة المتقدمة، فتحتاط كما سبق. وذكر غيرهما أوجها، أصحها: الرد إلى ما تقدم في الاستحاضة، بناء على ثبوت العادة بمرة. والثاني: ترد إلى المتقدم إن تكرر مرتين، أو ثلاثة، وإلا فإلى الأقل. والثالث، أنها كالمبتدأة. فإن قلنا بالأصح، أو الثاني، احتاطت إلى آخر أكثر العادات. وإن قلنا: كالمبتدأة، ففي الاحتياط إلى آخر الخامس عشر الخلاف المذكور في المبتدأة. هذا إذا عرفت القدر المتقدم على الاستحاضة، فإن نسيته، فوجهان. قال الأكثرون: ترد إلى أكثر (1) العادات. وقيل: كالمبتدأة، فعلى الثاني في الاحتياط، الخلاف المذكور في المبتدأة، فعلى الأول يجب الاحتياط إلى آخر أكثر العادات. وقيل: يستحب ولا يجب، فحصل من المجموع خلاف في أنها: هل تحتاط في الحال الثاني، سواء عرفت القدر المتقدم، أم نسيته؟ وإذا احتاطت، فإلى آخر الخمسة عشر، أو آخر المقادير فيه. وفي حالة الانتظام، سواء نسيت، أو علمت، الخلاف. لكن الصحيح عند العلم في حالة الانتظام، أنها لا تحتاط. والصحيح: عند النسيان. وفي حالة عدم الانتظام، أنها تحتاط لكن إلى آخر الاقدار، لا إلى تمام الخمسة عشر. هذا كله حكم العادة المختلفة الدائرة. ومن المختلفة، أن يكون في المتقدم من عادتها، اختلاف قدر أو وقت. وتسمى: المتنقلة. فمن صورها، لو كانت تحيض أول كل شهر خمسة وتطهر باقيه، فحاضت في دور أربعة من الخمسة، ثم استحيضت، فإن أثبتنا العادة بمرة، رددناها إلى ما قبل الاستحاضة، وإلا فإلى العادة القديمة. ولو كانت المسألة بحالها، فرأت في دور ستة، وفي دور بعده سبعة، ثم استحيضت، فإن أثبتنا العادة بمرة، رددناها إلى السبعة. وإن لم نثبتها إلا بثلاث مرات، رددناها إلى الخمسة. وإن أثبتناها بمرتين، فالأصح: ترد إلى الستة. والثاني: إلى الخمسة. ولو كانت بحالها، فحاضت في دور الخمسة الثانية، فقد تغير وقت حيضها، وصار دورها المتقدم على هذه الخمسة خمسة وثلاثين، خمسة حيض، والباقي طهر. فإن تكرر هذا، بأن حاضت في الدور الآخر الخمسة الثالثة هكذا مرارا، ثم استحيضت، ردت إليه، فتحيض من أول الدم الدائم الخمسة، وتطهر ثلاثين، وهكذا أبدا. وإن لم يتكرر،
260 بل استمر الدم في الدور الأول من الخمسة الثانية، فوجهان. قال أبو إسحاق: لا تحيض (1) في هذا الشهر، فإذا جاء الشهر الثاني، ابتدأت منه دورها القديم حيضا وطهرا. والصحيح، قول الجمهور: أنا نحيضها خمسة من ابتداء الدم المبتدئ من الخمسة الثانية، ثم إن أثبتنا العادة بمرة، حكمنا بالطهر ثلاثين، وأقمنا عليه الدور أبدا. وإن لم نثبتها بمرة، فوجهان. أصحهما: أن خمسة وعشرين بعدها طهر، لأنه المتكرر. والثاني: أن طهرها باقي الشهر لا غير، وتحيض الخمسة الأولى من الشهر الثاني، وتراعي عادتها القديمة قدرا ووقتا. ولو رأت الخمسة الثانية دما، وانقطع، وطهرت بقية الشهر، وعاد الدم في أول الشهر، فقد صار دورها خمسة وعشرين، فإن تكرر ذلك، بأن رأت الخمسة الأولى من الشهر بعده دما وطهرت عشرين، وهكذا مرارا، ثم استحيضت، ردت إليه. وإن لم يتكرر، بأن رأت الخمسة الأولى، فاستمر، فالخمسة الأولى حيض بلا خلاف. وأما الطهر، فإن أثبتنا العادة بمرة، فهو عشرون، وإلا فخمسة وعشرون. ولو كانت بحالها، فطهرت بعد خمستها المعهودة عشرين، وعاد الدم في الخمسة الأخيرة، فقد تغير وقت حيضها بالتقدم، وصار دورها خمسة وعشرين، فإن تكرر الدور، بأن رأت الخمسة الأخيرة دما، وانقطع، وطهرت عشرين، وهكذا مرارا، ثم استحيضت، ردت إليه. وإن لم يتكرر، بل استمر الدم العائد، فأربعة أوجه في هذا ونظائره. أصحها: تحيض خمسة من أوله، وتطهر عشرين، وهكذا أبدا. والثاني: تحيض خمسة، وتطهر خمسة وعشرين. والثالث: تحيض عشرة منه، وتطهر خمسة وعشرين، ثم تحافظ على الدور القديم، والرابع: أن الخمسة الأخيرة استحاضة. وتحيض من أول الشهر خمسة، وتطهر خمسة وعشرين على عادتها القديمة. ولو كانت بحالها، وحاضت خمستها، وطهرت أربعة عشر يوما، ثم عاد الدم، واستمر، فأربعة أوجه. أصحها: أن يوما من أول الدم العائد، استحاضة، تكميلا للطهر. وخمسة بعده حيض، وخمسة عشر طهر، وصار دورها عشرين. والثاني: أن اليوم الأول استحاضة، والعشرة الباقية من الشهر مع خمسة من الشهر بعده حيض، ثم تطهر خمسة وعشرين، وتحافظ على دورها القديم. والثالث: أن اليوم
261 الأول استحاضة، وبعده خمسة حيض وخمسة (1) وعشرون طهر، وهكذا أبدا. والرابع: جميع الدم العائد إلى آخر الشهر، استحاضة. وتفتتح من أول الشهر دورها القديم. المستحاضة الرابعة: المعتادة الذاكرة المميزة. إن اتفقت عادتها، والتمييز، بأن كانت تحيض خمسة من أول الشهر، وتطهر باقيه، فاستحيضت، ورأت خمسها سوادا، وباقي الشهر حمرة، فحيضها تلك الخمسة. وإن لم تتوافق العادة والتمييز، ولم يتخلل بينهما أقل الطهر، بأن كانت تحيض خمسة، فرأت في دور عشرة سوادا، ثم حمرة مستمرة، فثلاثة أوجه. أصحها: تعمل بالتمييز، فحيضها العشرة. والثاني: بالعادة، فحيضها خمسة من أوله. والثالث: إن أمكن الجمع بينهما، عمل بالدلالتين، وإلا سقطتا، وكانت كمبتدأة لا تمييز لها، وفيها القولان. مثال إمكان الجمع ما ذكرنا من عشرة السواد. وعدم إمكانه، بأن ترى خمستها حمرة، وأحد عشر عقبها سوادا. أما إذا تخلل بينهما أقل الطهر، بأن رأت عشرين فصاعدا دما ضعيفا، ثم خمسة قويا، ثم ضعيفا، وعادتها القديمة خمسة، فقدر العادة حيض للعادة، والقوي حيض آخر، لان بينهما طهرا كاملا. هذا هو الصحيح. ومنهم من بنى هذه الصورة على السابقة، فقال: إن قدمنا التمييز، فحيضها خمسة السواد، وطهرها المتقدم عليه خمسة وأربعون، وصار دورها خمسين. وإن قدمنا العادة فحيضها من (2) أول الشهر، خمسة. وبعدها، عشرون طهرا. وإن جمعنا، فحيضها الخمسة الأولى بالعادة، وخمسة السواد بالتمييز. فرع: العادة التي ترد إليها المعتادة، ليس من شرطها أن تكون عادة حيض وطهر صحيحين بلا استحاضة، بل قد تكون كذلك، وقد تكون مستفادة من التمييز، بأن ترى المبتدأة خمسة سوادا، ثم خمسة وعشرين حمرة، وهكذا مرارا، ثم يستمر السواد والحمرة في بعض الشهور، فقد عرفنا، أن عادتها خمسة من أول كل شهر، فترد إليه (3) على الصحيح المعروف. وعلى الشاذ: هي كمبتدأة غير
262 مميزة. ولو كانت بحالها، فرأت في بعض الأدوار عشرة سوادا، وباقي الشهر حمرة، ثم استمر السواد في الذي بعده، فقال الأئمة: فحيضها عشرة السواد، ومردها بعد ذلك عشرة. ولو اعتادت خمسة سوادا، ثم استمر الدم، ثم رأت في بعض الأدوار عشرة، ردت في ذلك الدور إلى العشرة. وفي هاتين الصورتين إشكالان. أحدهما: أن الصورة الثانية، ينبغي أن تخرج على الخلاف في اجتماع العادة والتمييز. والثاني: أن ردها إلى العشرة في الصورة الأولى، طاهر إذا أثبتنا العادة بمرة، وإلا فينبغي ألا تكتفي بسبق العشرة مرة. قال الغزالي في الجواب عن هذا: هذه عادة تمييزية، فتنسخها مرة، فلا يجري فيها الخلاف كغير المستحاضة، إذا تغيرت عادتها القديمة مرة، فإنا نحكم بالحالة الناجزة. وللمعترض أن يقول: لم اختص الخلاف بغير التمييزية؟ قلت: قد نقل الخلاف في هذه الصورة وتخريجها على الخلاف في ثبوت العادة بمرة، جماعة كثيرة. منهم، القاضي أبو الطيب، والمحاملي، والسرخسي (1)، والشيخ أبو الفتح المقدسي وصاحب (البيان) وغيرهم. وقد أوضحت ذلك في (شرح المهذب) ونقلت فيه عباراتهم. وعجب من الامام الرافعي، كونه لم يذكر هذا الخلاف. والله أعلم. فصل في الصفرة والكدرة الصفرة: شئ كالصديد، تعلوه صفرة. والكدرة: شئ كدر. وليسا على لون الدماء، وهما حيض في أيام العادة بلا خلاف (2). وفي غيرها أوجه. الصحيح: أن لها حكم السواد. والثاني: ليس لها حكمه. والثالث: إن سبق دم قوي.
263 من سواد، أو حمرة، فالصفرة، والكدرة بعده حيض، وإلا فلا. والرابع: إن سبقهما دم قوي وتعقبهما قوي، فهما حيض، وإلا فلا. وعلى الثالث والرابع: يكفي في تقدم القوي وتأخره أي قدر مكان، ولو لحظة على الأصح. وقيل: لا بد من يوم وليلة. والمبتدأة في مردها على القولين: الأقل، والغالب، إذا رأت الصفرة، والكدرة، كالمعتادة فيما وراء العادة على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقيل: كأيام العادة. الباب الثالث في المستحاضة المعتادة الناسية الناسية ضربان: مميزة، وغيرها. فالمميزة: ترد إلى التمييز على الصحيح. وعلى الثاني: هي كغير مميزة، أما غير المميزة، فلها أحوال. الأول: أن تنسى عادتها قدرا ووقتا، لغفلة، أو علة، أو جنون، ونحو ذلك، وتسمى: المتحيرة (1)، والمحيرة، وفي حكمها طريقان. جحدهما: أنها مأمورة بالاحتياط. والثاني: على قولين. المشهور: الاحتياط. والثاني: أنها كالمبتدأة، فيكون فيما ترد إليها القولان، إلى يوم وليلة (2). والثاني: ست، أو سبع. وقيل: ترد على هذا القول إلى يوم وليلة قطعا. وعلى هذا القول ابتداء حيضها أول الهلال، حتى لو أفاقت المجنونة في أثناء الشهر الهلالي، كان باقي الشهر استحاضة. هذا هو المعروف وقول الجمهور تفريعا على هذا القول. وقال القفال: ابتداء حيضها، من وقت الإفاقة. قال الأئمة: قول القفال: ضعيف، لاحتمال الإفاقة في الحيض. وكذا قول الجمهور ضعيف، لان تعيين أول الهلال تحكم. وهذا مما ضعف به أصل هذا القول. وعلى هذا القول: في أمرها بالاحتياط، في انقضاء المرد إلى آخر الخمسة عشر، القولان في المبتدأة. ومتى أطلقنا الشهر في مسائل المستحاضات، أردنا به ثلاثين يوما. سواء كان ابتداؤه من أول الهلال، أم لا. ولا نعني به الشهر الهلالي، إلا في هذا الموضع. وأما قول
264 الاحتياط وهو المعمول به، وعليه التفريع، فيجب الاحتياط في ستة أشياء. الأول: يحرم وطؤها أبدا على الصحيح. وقيل: يباح للضرورة. فعلى الصحيح، لو وطئ فلا كفارة قطعا. والاستمتاع بغير الوطئ لها فيه حكم الحائض. الثاني: يحرم عليها، مس المصحف، والقراءة خارج الصلاة إذا حرمناها على الحائض. ولا تحرم في الصلاة الفاتحة، ولا تحرم السورة أيضا على الأصح. وحكمها في دخول المسجد، حكم الحائض. الثالث: يجب عليها الصلوات الخمس أبدا، ولا تحرم النوافل على الأصح وقيل تحرم. وقيل: يحرم غير الراتبة. ويجري الخلاف في نفل الصوم، والطواف. ويجب الغسل لكل فريضة، ويشترط وقوعه في الوقت. وفي وجه شاذ: يجوز غسلها قبل الوقت، إذا انطبق أول الصلاة على أول الوقت وآخر الغسل، ويلزمها المبادرة بالصلاة عقب الغسل على وجه. والأصح أنها لا تلزم. لكن إن أخرت، لزمها لتلك الصلاة وضوء آخر إذا لم نجوز للمستحاضة تأخير الصلاة عن الطهارة. الرابع: يجب عليها صوم جميع شهر رمضان، ويحسب لها منه خمسة عشر يوما على المنصوص وقول طائفة من الأصحاب. وأربعة عشر على قول أكثرهم. وتأولوا النص، على ما إذا علمت أن دمها كان ينقطع في الليل، فإن نقص الشهر، حصل على الأول أربعة عشر، وعلى الثاني ثلاثة عشر، وقال صاحب (المهذب): تحصل أربعة عشر، ووافقه صاحب (البيان) وهو غلط. قلت: لم يغلط صاحب (المهذب)، بل كلامه محمول على شهر تام. وقد أوضحته في شرح (المهذب). والله أعلم. أما الصلوات الخمس، إذا أدتها، فوجهان. أحدهما: لا يجب قضاؤها، والصحيح عند الجمهور، وجوب القضاء (1). وقطع به بعضهم، فعلى هذا تغتسل في أول وقت الصبح، وتصليها، ثم بعد طلوع الشمس تغتسل، وتعيدها. ولا يشترط البدار بالإعادة بعد خروج الوقت، بل متى أعادتها، قبل انقضاء خمسة عشر
265 يوما من أول الصبح، أجزأها، ولا يشترط تأخير جميع الصلاة الثانية عن الوقت. بل لو وقع بعضها في آخر الوقت، جاز بشرط أن يكون دون تكبيرة، إذا قلنا: تلزم الصلاة بإدراك تكبيرة. أو دون ركعة، إذا قلنا: لا تلزم إلا بإدراك ركعة، لأنه إن فرض الانقطاع قبل الثانية، فقد اغتسلت، وصلتها، والانقطاع لا يتكرر وإن فرض في أثنائها. فلا (1) شئ عليها، كذا قاله إمام الحرمين فلك (2) أن تقول أشكالا. المرة الثانية، يتقدمها الغسل، فإذا وقع بعضها في الوقت، والغسل سابق، جاز أن يقع الانقطاع في أثناء الغسل، ويكون الباقي من وقت الصلاة من حينئذ قدر ركعة أو تكبيرة، فيجب أن ينظر إلى زمن الغسل سوى الجزء الأول منه. وإلى الجزء الواقع من الصلاة في الوقت. ويقال: إن كان ذاك دون ما يلزم به الصلاة، جاز، وإلا، فلا، ولا يقتصر النظر على جزء الصلاة. ومعلوم أنه لا يمكن أن يكون ذلك دون تكبيرة، ويبعد أن يكون دون ركعة. هذا الكلام في الصبح. وأما العصر، والعشاء، فيصليهما مرتين كذلك. وأما الظهر، فلا يكفي وقوعها المرة الثانية في أول وقت العصر، ولا وقوع المغرب في أول وقت العشاء، لاحتمال انقطاع الحيض في الوقت المفروض، فيلزم الظهر مع العصر، أو المغرب مع العشاء، فيجب إعادة الظهر في الوقت الذي يجوز إعادة العصر فيه. وهو بعد ذهاب وقت العصر، وتعيد المغرب بعد ذهاب وقت العشاء. ثم إذا أعادت الظهر والعصر بعد المغرب (3)، نظر، إن قدمتهما على أداء المغرب، فعليها أن تغتسل للظهر، وتتوضأ للعصر، وتغتسل للمغرب. وإنما كفى للظهر والعصر غسل، لان دمها إن انقطع قبل الغروب، فقد اغتسلت بعده. وإن انقطع بعد الغروب، فليس عليها ظهر، ولا عصر. وإنما لزمها إعادة الغسل للمغرب، لاحتمال الانقطاع في خلال الظهر، أو العصر، أو عقبيهما. وهكذا الحكم إذا قضت المغرب، والعشاء، قبل أداء الصبح بعد طلوع الفجر. وحينئذ، تكون مصلية الصلوات الخمس مرتين بثمانية أغسال، ووضوءين. وإن أخرت الظهر، والعصر، عن أداء المغرب، اغتسلت للمغرب، وكفاها ذلك للظهر والعصر، لأنه إن انقطع حيضها قبل الغروب، لم تعد إلى إتمام
266 مدة الطهر. وإن انقطع بعده، لم يكن عليها ظهر ولا عصر، لكن تتوضأ لكل واحدة منهما كسائر المستحاضات. وكذا القول في المغرب والعشاء، إذا أخرتهما عن الصبح. وحينئذ، تكون مصلية الخمس مرتين. بالغسل ستا، وبالوضوء أربعا. ثم بالطريق الثاني، تخرج عن عهدة الصلوات الخمس. وأما بالطريق الأول، فقد أخرت المغرب والصبح، عن أول وقتهما، لتقديمها القضاء عليهما، فتخرج عن عهدة ما عداهما، وأما هما، فقد قال في (النهاية): إذا أخرت الصلوات عن أول الوقت، حتى مضى ما يسع الغسل، فتلك الصلاة لم يكف فعلها مرة أخرى، في آخر الوقت، أو بعده، على التصوير السابق. لاحتمال طهرها في أول الوقت، ثم حدوث الحيض، فتجب الصلاة، وتكون المرتان واقعتين في الحيض. بل تحتاج إلى فعلها مرتين أخريين بغسلين. ويشترط أن تكون إحداهما بعد انقضاء وقت الرفاهية. والضرورة، قبل تمام خمسة عشر يوما من افتتاح الصلاة، المرة الأولى. وتكون الثانية، في أول السادس عشر، من آخر الصلاة، المرة الأولى، فتخرج عن العهدة بيقين. ومع هذا كله، لو اقتصرت على أداء الصلوات في أوائل أوقاتها، ولم تقض شيئا، حتى مضت خمسة عشر يوما، أو مضى شهر، لم يجب عليها لكل خمسة عشر، وإلا قضاء صلوات يوم وليلة. لان القضاء لا يجب إلا لاحتمال الانقطاع، ولا يتصور الانقطاع في الخمسة عشر، إلا مرة. ويجوز أن يجب به قضاء صلاتي جمع، وهما الظهر، والعصر، أو المغرب والعشاء. فإذا أشكل الحال، أوجبنا قضاء يوم وليلة، كمن نسي صلاة أو صلاتين من خمس. ولو كانت تصلي في أوساط الأوقات، لزمها أن تقضي للخمسة عشر صلوات، يومين وليلتين، لجواز أن يطرأ الحيض في وسط صلاة، فيبطل، وينقطع في وسط أخرى، فيجب. ويجوز أن يكونا مثلين. ومن فاتته صلاتان متماثلتان، لم تعرف عينهما، لزمه صلوات يومين وليلتين، بخلاف ما إذا كانت تصلي في أول الوقت، فإنه لو فرض ابتداء الحيض في أثناء الصلاة، لم يجب، لأنها لم تدرك من الوقت ما يسعها. الخامس: إذا أرادت قضاء صوم يوم، فأقل ما يحصل بصيام ثلاثة، فتصوم يوما، وتفطر يوما، وتصوم الثالث، ثم السابع عشر. ولا يتعين الثالث، للصوم الثاني. ولا السابع عشر، للصوم الثالث. بل لها أن تصوم بدل الثالث، يوما بعده إلى آخر
267 الخامس عشر. وبدل السابع عشر، يوما بعده، إلى آخر تسعة وعشرين يوما. ولكن الشرط، أن يكون المخلف، من أول السادس عشر، مثل ما بين صومها الأول، والثاني، أو أقل منه. فلو صامت الأول، والثالث، والثامن عشر، لم يجز، لان المخلف من أول السادس عشر، يومان. وليس بين الصومين الأولين إلا يوم. فلو صامت الأول، والرابع، والثامن عشر، أو السابع عشر، جاز. ولو صامت الأول، والخامس عشر، فقد تخلل بين الصومين ثلاثة عشر، فلها أن تصوم التاسع والعشرين، ولها أن تصوم يوما قبله، غير السادس عشر. ولنا وجه شاذ: أن يكفيها في صوم اليوم، أن تصوم يومين، بينهما أربعة عشر. وحكي هذا عن نص الشافعي رحمه الله، وهو قول من قال: يحسب لها من رمضان، خمسة عشر. وقطع الجماهير: بأنه لا يكفي اليومان، لاحتمال ابتداء الحيض في اليوم الأول، وانقطاعه في السادس عشر. وتأولوا النص، على ما إذا علمت الابتداء والانقطاع في الليل. أما إذا أرادت قضاء أكثر من يوم فتضعف ما عليها، وتزيد يومين، فتصوم نصف الجموع متواليا متى شاءت، وتصوم النصف الآخر من أول السادس عشر. فإذا أرادت يومين، صامت ثلاثة متوالية متى شاءت. ثم أفطرت تمام خمسة عشر، ثم صامت السادس عشر، والسابع عشر، والثامن عشر. وإن أرادت ثلاثة، صامت أربعة، ثم أربعة، أولها السادس عشر. وإن أرادت أربعة عشر، صامت الشهر كله. ولو أنها صامت ما عليها على الولاء متى شاءت من غير زيادة، وأعادته من أول السابع عشر، وصامت بينهما يومين مجتمعين، أو متفرقين، إما متصلين بالصوم الأول أو الثاني، وإما غير متصلين، لخرجت عن (1) العهدة. هذا كله في قضاء الصوم الذي لا تتابع فيه، وأما المتتابع، بنذر، أو غيره. فإن كان قدرا يقع في شهر، صامته (2) على الولاء، ثم صامته (3) مرة أخرى من السابع عشر. مثاله: عليها يومان متتابعان. تصوم يومين، وتصوم السابع عشر، والثامن عشر، وتصوم بينهما يومين متتابعين. فإن كان عليها شهران متتابعان، صامت مائة وأربعين يوما متوالية. أما إذا أرادت تحصيل صلاة فائتة، أو منذورة، فإن كانت
268 واحدة، صلتها بغسل متى شاءت ثم أمهلت زمانا يسع الغسل، وتلك الصلاة، ثم تعيدها بغسل آخر، بحيث تقع في خمسة عشر، من أول الصلاة الأولى. وتمهل من أول السادس عشر قدر الامهال الأول، ثم تعيدها بغسل آخر قبل تمام شهر من المرة الأولى. ويشترط أن لا يؤخر الثالثة عن أول السادس عشر أكثر من الزمان المتخلل بين آخر المرة الأولى، وأول الثانية، كما ذكرنا في الصوم. وإن أرادت صلوات. فلها طريقان. أحدهما: أن تنزلها منزلة الصلاة الواحدة فتصليها متوالية ثلاث مرات كما ذكرنا في الواحدة. وتغتسل في كل مرة للصلاة الأولى، وتتوضأ لكل واحدة بعدها. وسواء اتفقت الصلوات، أو اختلفت. والطريق الثاني: ينظر ما عليها، إن لم تختلف، ضعفته وزادت صلاتين، وصلت نصف الجملة متواليا. ثم النصف الآخر من أول السادس عشر من أول الشروع في النصف الأول. مثاله: عليها خمس صلوات صبح، تضعفها، وتزيد صلاتين، فتصلي ستا متى شاءت، وستا أول السادس عشر. وإن كان العدد مختلفا، صلت ما عليها بأنواعه متواليا متى شاءت، ثم صلت صلاتين، من كل نوع مما عليها، بشرط أن يقعا في خمسة عشر يوما من أول الشروع. وتمهل من أول السادس عشر زمانا يسع الصلاة المفتتح بها، ثم تعيد ما عليها، على ترتيب فعلها في المرة الأولى. مثاله: عليها ظهران، وثلاث أصباح، تصلي الخمس متى شاءت، ثم تصلي بعدها في الخمسة عشر صبحين وظهرين، وتمهل من السادس عشر ما يسع صبحا، ثم تعيد الخمس كما فعلت أولا. وفي هذا الطريق، تفتقر لكل صلاة إلى غسل، بخلاف الطريق الأول. وأما الطواف، فكالصلاة، واحدا كان، أو عددا، ويصلي مع كل طواف ركعتيه ويكفي غسل واحد للطواف وركعتيه إن لم نوجب الركعتين. فإن أوجبناهما، فالأصح، أنه يجب وضوء للركعتين بعد الطواف. والثاني: يجب غسل آخر لهما. والثالث: لا يجب شئ. السادس: في عدة المتحيرة. الصواب: الذي عليه الجماهير، أن عدتها، ثلاثة أشهر في الحال (1). وفي وجه شاذ: تقعد إلى سن اليأس، ثم تعتد بالأشهر.
269 فرع: اعلم أن إمام الحرمين مال إلى رد المتحيرة إلى مرد المبتدأة في قدر الحيض، وإن لم نجعل الهلال، ابتداء دورها. ومما استشهد به، مسألة عدتها، فإنها تدل على تقريب أمرها من المبتدأة في عدد الحيض، والطهر. وهذا توسط بين القول الضعيف، والاحتياط التام. وفيه تخفيف أمرها، في المحسوب من رمضان، فإن غاية حيضها على هذا، سبعة، يفسد به ثمانية، فيحصل لها من شهر رمضان الكامل، اثنان وعشرون يوما. وكذا قضاء الصوم، والصلاة، فيكفيها على هذا، إذا أرادت صوم يوم، أن تصوم يومين، بينهما سبعة. لكن الذي عليه الجمهور، ما تقدم. قلت: قد أتقن الامام الرافعي رحمه الله، باب المتحيرة ولخص مقاصده في أوراق قليلة. وقد بسطت أنا في شرح (المهذب) جميع مسائله. وذكرت في عدتها طريقة أخرى، اختارها الدارمي، فيها إنكار على الأصحاب في المذكور هنا. وكذا في صومها المتتابع، وكذا في غير المتتابع. ومن جملة ذلك، أن من عليها صوم يومين، يحصل لها ذلك بصيام خمسة أيام. فتصوم الأول، والثالث، والسابع عشر، والتاسع عشر. وتخلي الرابع، والسادس عشر، يبقى بينهما أحد عشر يوما. تصوم منها يوما، أيها شاءت. ثم بسط تفريع ذلك، وتقسيمه. وعلى زوج المتحيرة، نفقتها. ولا خيار له في فسخ نكاحها، لان جماعها متوقع. بخلاف الرتقاء. ولا تصح صلاة طاهرة خلف متحيرة، ولا صلاة متحيرة خلف متحيرة على الصحيح. ولا يلزمها الكفارة بالجماع، في نهار شهر رمضان على الصحيح، إن قلنا: يجب على المرأة، ولا فدية عليها إذا أفطرت لارضاع على الصحيح، إن أوجبناها على غيرها. ولا يصح جمعها بين الصلاتين بالسفر أو المطر في وقت الأولى (2). وإذا وجب عليها صوم يوم، فشرعت في الصيام على التفصيل المتقدم، فصامت يوما شكت بعد فراغها منه، هل نوت صومه، أم لا؟ حكم بصحته على الصحيح، لأنه شك بعد الفراغ. وعلى الثاني: لا يصح. لان هذا
270 الصيام، كيوم واحد. فصار كالشك في أثنائه. والله أعلم. الحال الثاني: للناسية أن تحفظ زمن عادتها. وضابطه، أن كل زمن تيقن فيه الحيض، ثبت فيه أحكام الحيض كلها. وكل زمن تيقن فيه الطهر، ثبت في حكم الطهر. لكن بها حدث دائم، وكل زمن يحتمل الحيض والطهر، فهي في الاستمتاع، كالحائض. وفي لزوم العبادات، كالطاهر. ثم إن كان ذلك الزمن محتملا للانقطاع، وجب الغسل لكل فريضة، ووجب الاحتياط على ما يقتضيه الحال. فإذا عينت ثلاثين يوما، وقالت: كان حيضي يبتدئ لأولها، وكذا كل ثلاثين بعدها، فيوم وليلة من أول الثلاثين حيض بيقين. وبعده، يحتمل الحيض والطهر. والانقطاع إلى آخر الخمسة عشر، وبعده إلى آخر الشهر، طهر بيقين. وكذا الحكم في كل ثلاثين، والمراد بالشهر، في هذه المسائل، الأيام التي تعينها هي، لا الشهر الهلالي. ولو عينت ثلاثين، وقالت: أعلم أن الدم كان ينقطع آخر كل شهر، فالنصف الأول، طهر بيقين. وبعده، يحتمل الحيض والطهر، دون الانقطاع. وليلة الثلاثين ويومها حيض بيقين. ولو قالت: كنت أخلط شهرا بشهر، أي كنت في آخر كل شهر، [وأول ما بعده حائضا فلحظة من أول كل شهر] (1) ولحظة من آخره، حيض بيقين. ولحظة من آخر الخامس عشر، ولحظة من أول ليلة السادس عشر، طهر بيقين. وما بين اللحظة من أول الشهر، واللحظة من آخر الخامس عشر، يحتمل الحيض، والطهر، والانقطاع. وما بين اللحظة من أول ليلة السادس عشر، واللحظة من آخر الشهر، يحتملهما دون الانقطاع. ولو قالت: كنت أخلط شهرا بشهر طهرا، فليس لها حيض بيقين، ولها لحظتا طهر بيقين في أول كل شهر، وآخره. ثم قدر أقل الحيض بعد اللحظتين، لا يمكن فيه الانقطاع، وبعده يحتمل. ولو قالت: كنت أخلط شهرا بشهر حيضا، أو كنت اليوم الخامس حائضا، فلحظة من كل آخر شهر، إلى آخر خمسة أيام من الذي بعده، حيض بيقين، ولحظة من آخر الخامس عشر، إلى آخر العشرين، طهر بيقين، وما بينهما، كما سبق. الحال الثالث: أن تحفظ قدر عادتها. وإنما تخرج الحافظة (2) عن التحير
271 بحفظ قدر الدور وابتدائه، وقدر الحيض. إذ لو قالت: حيضي خمسة وأضللتها في دوري، ولا أعرف سوى هذا، فلا فائدة في حفظها، لاحتمال الحيض، والطهر، والانقطاع كل زمان. وكذا لو قالت: حيضي خمسة، ودوري ثلاثون، لا أعرف ابتداءه. وكذا لو قالت: حيضي خمسة وابتداؤه يوم كذا، ولا أعرف قدره. فإن حفظتهما مع قدر الحيض، فإضلالها بعد ذلك يكون لاضلال الحيض. والاضلال، قد يكون في كل الدور، وقد يكون في بعضه. فإن كان في كله، فكله يحتمل الحيض والطهر. وقدر الحيض، من أول الدور، لا يحتمل الانقطاع [وبعده يحتمله] (1). مثاله: قالت: دوري ثلاثون، أولها كذا، وحيضي عشرة. فعشرة في أولها، لا يحتمل الانقطاع، والباقي يحتمله، والجميع، يحتمل الحيض والطهر. فلو قالت: حيضي إحدى عشرات الشهر، فهذه كالأولى، إلا أن احتمال الانقطاع هنا، لا يكون إلا في آخر كل عشرة. ومثال الاضلال في بعض الدور أن تقول: أضللت عشرة، في عشرين من أول الشهر، فالعشرة الأخيرة، طهر بيقين، والعشرون، تحتمل الحيض والطهر. ولا يمكن الانقطاع في الأولى، ويمكن في الثانية. ولو قالت: أضللت خمسة عشر، في عشرين من الأول، فالعشرة الأخيرة، طهر بيقين. والخمسة الثانية، والثالثة، حيض بيقين. فالأولى، تحتمل الحيض والطهر، دون الانقطاع. والرابعة، تحتمل الجميع، ولو قالت: حيضي خمسة. وكنت اليوم الثالث عشر طاهرا، فخمسة من أول الدور، تحتمل الحيض والطهر، دون الانقطاع. وما بعده، تحتمل الجميع، إلى آخر الثاني عشر. ثم الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر، طهر بيقين. ومن أول السادس عشر، إلى آخر العشرين، تحتمل الحيض والطهر دون الانقطاع. ومنه إلى آخر الشهر، تحتمل الجميع. ومتى كان القدر الذي أضلته، زائدا على نصف المضل فيه، حصل حيض بيقين، من وسطه، وهو الزائد على النصف مع مثله. فهذا ضابطه وقد ذكرنا مثاله في قولها: أضللت خمسة عشر، في عشرين.
272 الباب الرابع في التلفيق إذا انقطع دمها، فرأت يوما دما، ويوما نقاء. أو يومين، ويومين. فتارة، يجاوز التقطع خمسة عشر، وتارة لا يجاوزها. فإن لم يجاوزها، فقولان. أظهرهما عند الأكثرين: أن الجميع، حيض. ويسمى: قول السحب. والثاني: حيضها الدماء خاصة. وأما النقاء، فطهر. ويسمى: قول التلفيق. وعلى هذا القول: إنما نجعل النقاء طهرا، في الصوم، والصلاة، والغسل ونحوها دون العدة. والطلاق فيه بدعي. ثم القولان: إنما هما في النقاء الزائد على الفترة المعتادة. فأما الفترة المعتادة بين دفعتي الدم، فحيض بلا خلاف. قال إمام الحرمين في الفرق بين الفترة والنقاء: دم الحيض يجتمع في الرحم، ثم الرحم يقطره شيئا فشيئا، فالفترة: ما بين ظهور دفعة، وانتهاء أخرى من الرحم إلى المنفذ. فما زاد على ذلك، فهو النقاء. قال الرافعي: وربما تردد الناظر، في أن مطلق الزائد، هل يخرج عن الفترة، لان تلك مدة يسيرة؟ قلت: الصحيح المعتمد في الفرق، أن الفترة: هي الحالة التي ينقطع فيها جريان الدم، ويبقى أثر، بحيث لو أدخلت فرجها قطنة، لخرج عليها أثر الدم من حمرة، أو صفرة، أو كدرة، فهذه حالة حيض قطعا، طالت، أم قصرت. والنقاء: أن يصير فرجها بحيث لو أدخلت القطنة، لخرجت بيضاء، فهذا الضبط، هو الذي ضبطه الإمام الشافعي رضي الله عنه (1) في (الام) والشيوخ الثلاثة: أبو حامد الأسفراييني، وصاحبه القاضي أبو الطيب، وصاحبه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في تعاليقهم. فلا مزيد عليه، ولا محيد عنه. والله أعلم. ولا فرق في جريان القولين بين أن يستوي قدر الدم والنقاء، أو يزيد أحدهما لو رأت صفرة، أو كدرة بين سوادين، وقلنا: إنها في غير أيام العادة، ليست حيضا، فهي كالنقاء. وإذا قلنا بالسحب، فشرطه كون النقاء محتوشا بدمين في الخمسة عشر. فإن لم يقع بينهما، فهو طهر بلا خلاف.
273 مثاله: رأت (الدم) يوما، ويوما، إلى الثالث عشر، ولم يعد الدم في الخامس عشر، فالرابع عشر، والخامس عشر، طهر قطعا، لان النقاء فيهما لم يتعقبه دم في الخمسة عشر. فرع: الدماء المتفرقة، إن بلغ مجموعها أقل الحيض، نظر، إن بلغ الأول، والآخر، كل منهما أقل الحيض، فعلى القولين. وقيل: النقاء هنا حيض قطعا (1). وإنما القولان، إذا لم يبلغ كل طرف الأقل. وإن لم يبلغ واحد منهما الأقل، بأن رأت نصف يوم دما، ونصفه نقاء، إلى آخر الخمسة عشر، فثلاثة طرق. أصحها: طرد القولين. فعلى قول التلفيق: حيضها أنصاف الدم سبعة ونصف. وعلى السحب، حيضها أربعة عشر ونصف، فإن النصف الأخير لم يحتوشه دمان. والثاني: القطع بأن لا حيض أصلا، وكله دم فساد. والثالث: أن توسطهما قدر أقل الحيض متصلا، فعلى القولين، وإلا فالجميع دم فساد. وإن بلغ أحدهما الأقل، دون الآخر، فثلاثة طرق. أصحها: طرد القولين. والثاني: ما بلغه حيض، وما سواه، دم فساد. والثالث: إن بلغ الأول أقل الحيض، فالجميع حيض. وإن بلغ الآخر، فهو حيض دون ما سواه. هذا كله إذا بلغ مجموع الدماء أقل الحيض. فإن لم يبلغه، فطريقان. أصحهما: طرد القولين. فإن لفقنا، فلا حيض، وكذا إن سحبنا، على الأصح. وعلى الضعيف: الدم والنقاء كله حيض. والطريق الثاني: القطع بأن لا حيض. فحصل في المعتبر من الدمين لنجعل ما بينهما حيضا على قول السحب أوجه. أصحهما: يشترط بلوغ مجموع الدماء قدر أقل الحيض. والثاني: يشترط أن يكون كل واحد من الدمين قدر أقل الحيض، حتى لو رأت دما ناقصا عن الأقل، ودمين آخرين غير ناقصين، فالأول: دم فساد، والآخران، وما بينهما من النقاء، حيض. والثالث: لا يشترط، بل لو كان مجموع الدماء، نصف يوم، أو أقل، فهي وما بينهما من النقاء حيض، على قول التلفيق (2). قاله الأنماطي (3).
274 والرابع: يشترط بلوغ أولهما، وحده أقل الحيض. والخامس: يشترط أن يكون أحدهما أقل الحيض. والسادس: يشترط الأقل في الأول، أو الأخير، أو الوسط. فرع: إذا انقطع دم المبتدأة، فعند انقطاعه وهو بالغ أقل الحيض، يلزمها على القولين الغسل، والصلاة، والصوم، ولها الطواف، والجماع. وفي وجه: لا يحل الجماع إذا قلنا بالسحب. ثم إذا عاد الدم، تركت الصوم، والصلاة، والجماع، وغيرها. وبينا على قول السحب وقوع العبادات، والجماع في الحيض. لكن لا تأثم، وتقضي الصوم، والطواف، دون الصلاة. وعلى قول التلفيق: ما مضى، صحيح، ولا قضاء. وهكذا حكم الانقطاع الثاني، والثالث، وما بعدهما في الخمسة عشر. وفيه وجه شاذ ضعيف: أن ما سوى الانقطاع الأول، يبنى على أن العادة بماذا ثبتت. فإذا ثبتت، توقفنا في الغسل، وسائر العبادات ارتقابا للعود. وأما الشهر الثاني، وما بعده، فعلى قول التلفيق: لا يختلف الحكم. وعلى السحب، في الدور الثاني، طريقان. أصحهما: يبنى على الخلاف في العادة، إن أثبتناها بمرة، فقد عرفنا التقطع بالشهر الأول، فلا تغتسل، ولا تصلي ولا تصوم، حملا على عود الدم. فإن لم يعد، بان أنها كانت طاهرة، فتقضي الصوم، والصلاة. وإن لم نثبتها بمرة، فحكمها كما مضى في [الشهر الأول وفي] (1) الشهر الثالث. وما بعده، تثبت العادة بالمرتين السابقتين. فلا تغتسل عند الانقطاع، ولا تصلي. وإذا قلنا: لا تثبت العادة إلا بثلاث مرات، لم يخف قياسه. والطريق الثاني: أن التقطع وإن تكرر مرات كثيرة، فحكم المرة الأخيرة، حكم الأولى. قاله أبو زيد. قلت: قطع بالطريق الثاني، الشيخ أبو حامد، وصاحب (الشامل)
275 وغيرهما. وهو ظاهر نصه في (الام) وهو الأصح. والله أعلم. هذا كله إذا كان الانقطاع بعد بلوغ الدم أقل الحيض، فإن رأت المبتدأة نصف يوم دما، وانقطع، وقلنا بطرد القولين، فعلى قول السحب، لا غسل عليها عند الانقطاع الأول، وتتوضأ وتصلي. وفي سائر الانقطاعات إذا بلغ مجموع ما سبق دما ونقاء أقل الحيض، صار حكمها ما سبق في الحالة الأولى. وعلى قول التلفيق: لا غسل في الانقطاع الأول أيضا على الأصح، لشكنا في الحيض، وفي سائر الانقطاعات إذا بلغ ما سبق من الدم وحده أقل الحيض، يلزمها الغسل، وقضاء الصوم، والصلاة. وحكم الدور الثاني، والثالث، على القولين جميعا. كما ذكرنا في الحالة الأولى. فصل إذا جاوز الدم بصفة التلفيق، الخمسة عشر، صارت مستحاضة. كغيرها إذا جاوز دمها، ولا صائر إلى الالتقاط من جميع الشهر وإن لم يزد مبلغ الدم على أكثر الحيض. وإذا صارت مستحاضة، فالفرق بين حيضها، واستحاضتها، بالرجوع إلى العادة، أو التمييز، كغير ذات التلفيق. وقال محمد (1) بن بنت الشافعي رحمهم الله تعالى: إن اتصل الدم المجاوز، بدم الخمسة عشر، فالحكم كذلك. وإن انفصل بتخلل نقاء، فالمجاوز استحاضة. وجميع ما في الخمسة عشر من الدماء، حيض. وفي نقائها، القولان. مثال المتصل: رأت ستة دما، ثم ستة نقاء، ثم ستة دما. ومثال غير المتصل: رأت يوما، ويوما، فالسادس عشر نقاء، هذا قول ابن بنت الشافعي. وبه قال أبو بكر المحمودي (2)، وغيره. والصحيح: أنها مستحاضة
276 في الجميع، وعليه التفريع. فالمستحاضات، خمس. الأولى: المعتادة الحافظة عادتها. وهي ضربان: (الضرب الأول) عادة لا ينقطع فيها. والثاني عادة منقطعة. فالتي لا ينقطع لها كل عادة، ترد إليها عند الاطباق. والمجاوزة، ترد إليها عند التقطع والمجاوزة. ثم على قول السحب: كل دم يقع في أيام العادة، وكل نقاء يتخلل دمين فيها، فهو حيض. والنقاء الذي لا يتخلل، ليس بحيض. وأيام العادة، كالخمسة عشر عند عدم المجاوزة، فلا معدل عنه. وعلى قول التلفيق: فيما يجعل حيضا، وجهان. أصحهما: قدر عادتها من الدماء الواقعة في الخمسة عشر. فإن لم تبلغ الدماء في خمسة عشر قدر عادتها، جعل الموجود فيها حيضا. والثاني: حيضها الدماء الواقعة في أيام العادة لا غير. مثاله: كانت تحيض خمسة متوالية من أول الشهر، فيقطع دمها يوما يوما، فعلى السحب: حيضها خمسة من أول الدور. وعلى التلفيق: من الخمسة عشر، حيضها الأول، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع. وعلى التلفيق من العادة: حيضها الأول، والثالث، والخامس. ولو كانت تحيض ستة، فعلى السحب: حيضها خمسة، وسقط السادس، لأنه ليس محتوشا بدمي حيض في أيام العادة. وعلى التلفيق من الخمسة عشر: حيضها أيام الدماء، آخرها الحادي عشر. وعلى التلفيق من العادة: حيضها الأول، والثالث، والخامس. ولو انتقلت عادتها بتقدم، أو تأخر، ثم استحيضت، عاد الخلاف كما ذكرنا في حالة الاطباق. وكذا الخلاف فيما تثبت به العادة. مثال التقدم: كان عادتها خمسة من ثلاثين، فرأت في بعض الأشهر يوم الثلاثين دما، واليوم الذي بعده نقاء، وهكذا إلى أن انقطع دمها، وجاوز الخمسة عشر، قال أبو إسحاق: حيضها، أيامها القديمة، وما قبلها استحاضة. فإن سحبنا، فحيضها، اليوم الثاني، والثالث، والرابع (1). قال الجمهور - وهو المذهب -: تنتقل العادة بمرة. فإن سحبنا، فحيضها
277 خمسة متوالية. أولها: الثلاثون. وإن لفقنا من العادة، فحيضها الثلاثون. والثاني، والرابع، إن لفقنا من الخمسة عشر، ضممنا إليها السادس، والثامن. ومثال التأخر: أن ترى في بعض الأشهر، اليوم الأول: نقاء. والثاني: دما، واستمر التقطع. فعند أبي إسحاق: الحكم كما سبق في الصورة السابقة. وعلى المذهب: إن سحبنا، فحيضها خمسة متوالية، أولها الثاني. وإن لفقنا من العادة، فالثاني، والرابع، والسادس. وهو: إن خرج عن (1) العادة القديمة، فبالتأخر انتقلت عادتها، وصار الثاني: أولها. والسادس: آخرها. وإن لفقنا من الخمسة عشر، ضممنا إليها الثامن، والعاشر. وقد صار طهرها السابق على الاستحاضة في هذه الصورة، ستة وعشرين. وفي صورة التقدم، أربعة وعشرين. ولو لم يتقدم الدم في المثال المذكور، ولا تأخر، لكن تقطع، هو والنقاء يومين يومين، لم يعد خلاف أبي إسحاق، بل مبني على القولين. فإن سحبنا، فحيضها خمسة متوالية. والسادس استحاضة، كالدماء بعده. وإن لفقنا من العادة، فحيضها الأول، والثاني، والخامس. وإن لفقنا من الخمس عشر، ضممنا إليها السادس، والتاسع. وحكي وجه شاذ: أن الخامس لا يجعل حيضا، إذا لفقنا من العادة، ولا التاسع، إذا لفقنا من الخمسة عشر، لأنهما ضعفا باتصالهما بدم الاستحاضة. ويجرى هذا الوجه في كل نوبة دم يخرج بعضها عن أيام العادة، إن اقتصرنا عليها، أو عن الخمسة عشر، إن اعتبرناها. هذا بيان حيضها. فأما قدر طهرها بعده، إلى استئناف حيضة أخرى، فينظر، إن كان التقطع، بحيث ينطبق الدم على أول الدور، فهو ابتداء الحيضة الأخرى. وإن لم ينطبق، فابتداؤها أقرب نوب الدماء إلى الدور، تقدمت أو تأخرت، فإن استويا في التقدم، والتأخر، فابتداء حيضها النوبة المتأخرة، ثم قد يتفق التقدم والتأخر في بعض أدوار الاستحاضة، دون بعض. وطرائق معرفة ذلك، أن تأخذ نوبة دم ونقاء، وتطلب عددا صحيحا يحصل من مضروب مجموع النوبتين فيه مقدار دورها، فإن وجدته، فاعلم انطباق الدم على أول الدور، وإلا، فاضربه في عدد يكون الحاصل منه، أقرب إلى دورها، زائدا كان، أو ناقصا. واجعل حيضها الثاني، أقرب الدماء إلى أول الدور، فإن استوى
278 طرف الزيادة والنقص، فالاعتبار بالزائد. مثاله: عادتها خمسة من ثلاثين، وتقطعا يوما يوما، وجاوز، فنوبة الدم، يوم، ونوبة النقاء، مثله. وتجد عددا إذا ضربت الاثنين فيه، بلغ ثلاثين، وهو خمسة عشر، فيعلم انطباق الدم، على أول دورها أبدا، ما دام التقطع بهذه الصفة. ولو كانت المسألة بحالها، وانقطع يومين يومين، فلا تجد عددا يحصل من ضرب أربعة، فيه ثلاثون. فاطلب ما يقرب الحاصل فيه من الضرب فيه، من ثلاثين، وهنا عددان، سبعة وثمانية. أحدهما: يحصل منه ثمانية وعشرون. والآخر: اثنان وثلاثون. فاستوى طرفا الزيادة والنقص، فخذ بالزيادة، واجعل أول الحيضة الأخرى، الثالث والثلاثين. وحينئذ، يعود خلاف أبي إسحاق، لتأخر الحيض، فحيضها عنده في الدور الثاني، هو اليوم الثالث، والرابع، فقط على القولين. وأما على المذهب، فإن سحبنا، فحيضها خمسة متوالية. أولها: الثالث. وإن لفقنا من العادة، فحيضها الثالث، والرابع، والسابع. وإن لفقنا من الخمسة عشر، ضممنا إليها الثامن، والحادي عشر. ثم في الدور الثالث، ينطبق الدم على أول الدور، فلا يبقى خلاف أبي إسحاق، ويكون الحكم كما ذكرنا في الدور الأول. وفي الدور الرابع، يتأخر الحيض، ويعود الخلاف. وعلى هذا أبدا. ولو كانت المسألة بحالها، ورأت ثلاثة أيام دما، وأربعة نقاء، فمجموع النوبتين، سبعة. ولا تجد عددا إذا ضربت السبعة فيه، بلغ ثلاثين، فاضربه في أربعة، لتبلغ ثمانية وعشرين. واجعل أول الحيضة الثانية، التاسع والعشرين. وقد تقدم الحيض على أول الدور. فعلى قياس أبي إسحاق ما قبل الدور، استحاضة، وحيضها اليوم الأول فقط على القولين. وقياس المذهب، لا يخفى. ولو كانت عادتها ستة من ثلاثين، ويقطع الدم في بعض الأدوار، ستة ستة، وجاوز، ففي الدور الأول حيضها، الستة الأولى بلا خلاف. وأما الدور الثاني، فإنها ترى ستة من أوله نقاء، وهي أيام العادة. فعند أبي إسحاق: لا حيض لها في هذا الدور أصلا، وعلى المذهب، وجهان. أصحهما: تحيضها الستة الثانية، على قولي السحب والتلفيق جميعا. والثاني: حيضها الستة الأخيرة من الدور الأول. ويجئ هذا الوجه، حيث خلا جميع أيام العادة عن الحيض. هذا كله، إذا لم ينقص الدم الموجود في زمن العادة عن أقل الحيض. فإن نقص، بأن كانت عادتها يوما وليلة، فرأت في بعض الأدوار يوما دما، وليلة
279 نقاء. واستحيضت، فثلاثة أوجه، على قول السحب: الأصح، لا حيض لها في هذه الصورة. والثاني، تعود إلى قول التلفيق. والثالث: حيضها الأول، والثاني، والليلة بينهما. وأما على قول التلفيق، فلا حيض لها إن لفقنا على العادة. فإن لفقنا من الخمسة عشر: حيضها الأول، والثاني، وجعلنا الليلة بينهما طهرا. قلت: قوله: لا حيض لها إن لفقنا من العادة، هو الأصح. وذكر الامام وجها آخر عن المحمودي: أنه تلفق من الخمسة عشر. وادعى في (الوسيط) أنه لا طريق غيره. والله أعلم. الضرب الثاني: العادة المتقطعة. فإذا استمرت لها عادة متقطعة قبل الاستحاضة، ثم استحيضت مع التقطع، نظر، إن كان التقطع بعد الاستحاضة كالتقطع قبلها، فمردها قدر حيضها على اختلاف القولين. مثاله: كانت ترى ثلاثة دما، وأربعة نقاء، وثلاثة دما، وتطهر عشرين، ثم استحيضت، والتقطع على هذه الصفة، فإن سحبنا، كان حيضها قبل الاستحاضة عشرة، وكذا بعدها. وإن لفقنا، كان حيضها ستة، بتوسط بين نصفيها أربعة، وكذا الآن. فإن اختلف التقطع، بأن تقطع في المثال المذكور في بعض الأدوار يوما يوما، ثم استحيضت، فإن سحبنا، فحيضها الآن تسعة أيام. وإن لفقنا من العادة، فحيضها الأول، والثالث، والتاسع، إذ ليس لها (1) في أيام حيضها القديم على هذا القول دم، إلا في هذه الثلاثة. وإن لفقنا من الخمسة عشر، ضممنا إليها الخامس، والسابع، والحادي عشر. المستحاضة الثانية: المبتدأة: قد تقدم أنها تصلي وتصوم عند الانقطاع الأول. وكذا في سائر الانقطاع الواقع في خمسة عشر. فإذا جاوز دمها الخمسة عشر المنقطعة، علمت استحاضتها. فإن قلنا: ترد المبتدأة، إلى يوم وليلة، وكان التقطع يوما يوما فحيضها يوم وليلة، والباقي طهر. وإن قلنا: ترد إلى ست أو سبع، فإن سحبنا، ورددناها إلى ست، فحيضها خمسة متوالية، لان السادس نقاء لم يحتوشه دمان في المرد. وإن رددناها إلى سبع، فحيضها سبع متوالية. وإن لفقناها من العادة،
280 ورددناها إلى ست، فحيضها الأول، والثالث، والخامس. وإن رددناها إلى سبع، ضممنا إليها السابع. وإن لفقنا من الخمسة عشر، ورددناها إلى ست، فحيضها ستة من أيام الدماء. وإن رددناها إلى سبع، فحيضها سبعة من أيام الدماء. وكل هذا على ما تقدم في المعتادة. وابتداء الحيضة الثانية، طريقه ما ذكرناه في المعتادة. ثم إن صامت، وصلت في أيام النقاء حتى جاوز الدم الخمسة عشر، وتركتها في أيام الدم كما أمرناها، قضت صيام أيام الدم بعد المرد، وصلواتها بلا خلاف. وأما صلوات أيام النقاء، فلا تقضيها، ولا تقضي صيامها أيضا إن لفقنا. وكذا إن سحبنا على الأظهر. ويجري القولان في الأدوار كلها. خرج من هذا، أنا إن حكمنا بالتلفيق، لم تقض من الخمسة عشر، إلا صلوات سبعة أيام، وصيامها. وإن رددنا المبتدأة إلى يوم وليلة، وهي أيام الدم سوى الأولى. وإن رددناها إلى ست، أو سبع فإن لفقنا من العادة، وكان الرد إلى ست، قضت صيام خمسة أيام وصلواتها. وإن ردت إلى سبع، قضت الصوم والصلاة عن أربعة أيام. وإن لفقنا من الخمسة عشر، وردت إلى ست، قضتهما عن يومين. وإن ردت إلى سبع، فعن يوم واحد. وأما إذا سحبنا، فإن رددناها إلى يوم، قضت صلوات سبعة أيام، وهي أيام الدماء سوى الأول. وفي الصوم، قولان. الأظهر: تقضي ثمانية فقط. وهي أيام الدماء. والثاني: تقضي الخمسة عشر. وإن رددناها إلى ست، أو سبع. فإن ردت إلى ست، قضت صلوات خمسة أيام. وهي أيام الدماء التي لم تصل فيها بعد المرد. فإن ردت إلى سبع، قضت صلوات أربعة أيام. وأما الصوم، فعلى أحد القولين: تقضي الخمسة عشر. وعلى أظهرهما: إن ردت إلى ست، قضت صيام عشرة أيام، ثمانية منها أيام الدماء في الخمسة عشر، ويومان نقاء وقعا في المرد لتبين الحيض فيهما. وإن ردت إلى سبع، قضت صيام أحد عشر يوما. المستحاضة الثالثة: المبتدأة المميزة. تمييزها تارة يكون مع وجود شروط التمييز كلها، وتارة بفقد بعضها. فإن فقد بأن رأت يوما دما أسود، ويوما أحمر، وهكذا إلى آخر الشهر، فقد فات أحد الشروط. وهو عدم مجاوزة القوي خمسة عشر، فلها حكم المبتدأة غير مميزة، وقد تقدم. وإن وجدت شروط التمييز كلها، فإن سحبنا، فحيضها الدماء القوية في الخمسة عشر، مع النقاء المتخلل، أو الضعيف المتخلل. وإن لفقنا، فحيضها القوي دون ما تخلله.
281 مثاله: رأت يوما سوادا، ويوما حمرة، إلى آخر الخمسة عشر، ثم استمرت الحمرة وحدها، متصلة، أو منقطعة، فإن سحبنا، فحيضها جميع الخمسة عشر. وإن لفقنا، فأيام السواد الثمانية. المستحاضة الرابعة: المميزة المعتادة. وقد تقدم الخلاف في المميزة المعتادة التي لا تقطع في دمها، بل يرجح التمييز، أو العادة. وحكم هذه، حكم تلك بلا فرق، فأي الامرين قلنا به، صارت كالمنفردة به. المستحاضة الخامسة: الناسية. قد تنسى عادتها من كل وجه، وهي المتحيرة، وقد تنساها من وجه دون وجه، كما في حالة الاطباق، فالمتحيرة يعود فيها القولان في حالة الاطباق، وإن قلنا: هي كالمبتدأة، فحكمها ما تقدم في المبتدأة. وإن قلنا بالمشهور: إنها تحتاط، بنينا أمرها على قولي التلفيق. فإن سحبنا، احتاطت في أزمنة الدم، من الوجوه المذكورة في حالة الاطباق بلا فرق. وتحتاط في زمن النقاء أيضا، لان كل زمن منه يحتمل الحيض. لكن لا تؤمر بالغسل زمن النقاء، ولا تؤمر أيضا فيه بتجديد الوضوء، بل يكفيها لكل نقاء الغسل في أوله. وإن لفقنا، فعليها أن تحتاط في أيام الدم، وعند كل انقطاع. وأما أزمنة النقاء، فهي طاهر فيها، في الجماع، وسائر الأحكام. وأما الناسية من وجه دون وجه، فتحتاط على قول التلفيق، مع رعاية ما تذكره. مثاله: قالت: أضللت خمسة في العشرة الأولى من الشهر وتقطع الدم والنقاء يوما يوما، واستحيضت، فإن سحبنا، فالعاشر طهر، لأنه نقاء لم يحتوشه دما حيض. ولا غسل في الخمسة الأولى، لتعذر الانقطاع. فإذا انقضت، اغتسلت. ولا تغتسل بعدها في أيام النقاء. وتغتسل في آخر السابع، والتاسع. ولا تغتسل في أثنائهما على الصحيح، وقول الجمهور. وإن لفقنا من العادة، فالحكم ما ذكرنا على قول السحب. إلا أنها طاهر في أيام النقاء في كل حكم. وإنها تغتسل عقب كل نوبة من نوب الدم في جميع المدة. وإن لفقنا من الخمسة عشر، فحيضها خمسة أيام. وهي: الأول، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع، على تقدير انطباق الحيض على الخمسة الأولى. وعلى تقدير تأخره إلى الخمسة الثانية، فليس لها في
282 الخمسة الثانية، إلا يوما دم. وهما: السابع، والتاسع، فتضم إليها الحادي عشر، والثالث عشر، والخامس عشر. فهي إذا حائض في السابع، والتاسع، لتيقن دخولهما في كل تقدير. الباب الخامس في النفاس أكثره، ستون يوما على المشهور. وحكى أبو عيسى الترمذي، عن الشافعي (1): أنه أربعون. وغالبه: أربعون. ولا حد لأقله، بل يثبت حكم النفاس لما وجدته، وإن قل. وقال المزني: أقله: أربعة أيام. وسواء في حكم النفاس، كان الولد كامل الخلقة، أو ناقصها، أو حيا أو ميتا ولو ألقت مضغة، أو علقة. وقال القوابل: إنه مبتدأ خلق آدمي، فالدم الموجود بعده، نفاس. فصل: ما تراه الحامل من الدم على ترتيب أدوارها، فيه قولان. القديم: أنه دم فساد. والجديد الأظهر: أنه (2) حيض. وسواء ما تراه قبل حركة الحمل وبعدها، على المذهب. وقيل: القولان فيما بعد الحركة، فأما قبلها، فحيض قطعا. ثم على القديم: هو حدث دائم، كسلس البول. وعلى الجديد: يحرم فيه الصوم، والصلاة. وتثبت جميع أحكام الحيض، إلا أنه لا تنقضي به العدة (3). ولا يحرم فيه الطلاق. قلت: عدم انقضاء العدة به، متفق عليه إذا كان عليها عدة واحدة لصاحب الحمل. فإن كان (لها) عدتان، ففي انقضاء إحداهما بالحيض على الحمل، خلاف. وتفصيله يأتي في كتاب (العدة) إن شاء الله تعالى. وقد نبهت عليه هنا في شرحي (المهذب) و (التنبيه). والله أعلم.
283 وعلى الجديد، إذا رأت الدم، ثم ولدت بعد خمسة عشر يوما، فهو حيض قطعا. وكذا إن ولدت قبل الخمسة عشر، أو متصلا بآخر الدم على الأصح فيهما. وعلى الثاني: يكون دم فساد، وليس بنفاس بلا خلاف، لان النفاس، لا يسبق الولادة، بل هو عند الفقهاء: الدم الخارج عقب الولادة. وقطع معظم الأصحاب، بأن ما يبدو عند الطلق، ليس بنفاس. وقالوا: ابتداء النفاس يحسب من وقت انفصال الولد، وليس هو حيضا أيضا على الصحيح. وفي وجه شاذ: أنه نفاس. وفي وجه: حيض. وأما الدم الخارج مع الولد، ففيه أوجه. أصحها: أنه كالخارج قبل الولادة. والثاني: أنه نفاس. والثالث: أنه كالخارج بين التوأمين. فإن قلنا: إنه نفاس، وجب به الغسل، وبطل به الصوم، وإن لم تر بعده دما أصلا. وإذا قلنا: ليس بنفاس، لم يجب به الغسل، ولم يبطل الصوم. فحصل من الخلاف المذكور في هذه المسائل، أن في ابتداء مدة النفاس، أوجها. أحدها: من وقت الدم البادئ عند الطلق. والثاني: من الخارج مع ظهور الولد. والثالث وهو الأصح: من انفصال الولد. وحكى إمام الحرمين وجها: أنها لو ولدت ولم تر الدم أياما، ثم ظهر الدم، فابتداء مدة النفاس، تحسب من وقت خروج الدم، لا من وقت الولادة. فهذا وجه رابع. وموضعه، إذا كانت الأيام المتخللة، دون أقل الطهر. فصل: في الدم الذي تراه بين التوأمين، وجهان. أصحهما: ليس بنفاس. والثاني: نفاس. فإن قلنا: ليس بنفاس، فقال الأكثرون: يبنى على دم الحامل. فإن جعلناه حيضا، فهذا أولى، وإلا، فقولان. وفي كلام بعض الأصحاب: ما يقتضي كونه دم فساد، مع قولنا: الحامل تحيض. وإذا قلنا: هو نفاس، فما بعد الولد الثاني معه، نفاس واحد، أم نفاسان؟ وجهان. الأصح: نفاسان. ولا تبالي مجاوزة الدم ستين من الولادة الأولى. الثاني: نفاس واحد. فعلى هذا إذا زاد الدم على ستين من الولد الأول، فهي مستحاضة. قال الصيدلاني: موضع الوجهين، إذا كانت المدة المتخللة بين الدمين دون الستين، فإن بلغت ستين، فالثاني: نفاس آخر قطعا. وقال الشيخ أبو محمد: لا فرق. قلت: الأصح، قول الصيدلاني. ولم يحكه الامام الرافعي على وجهه. قال إمام الحرمين: قال الصيدلاني: اتفق أئمتنا في هذه الصورة، أنها تستأنف بعد الولد
284 الثاني نفاسا. إذا كان بينهما ستون. واختار إمام الحرمين هذا. وضعف قول والده أبي محمد. والله أعلم. وإذا ولدت الثاني بعد الستين، وقلنا باتخاذ النفاس، فما بعده استحاضة. ولو سقط عضو من الولد، وباقيه مجتن، ورأت بينهما دما، ففي كونه نفاسا، الوجهان في الدم بين التوأمين. فصل: إذا جاوز دم النفساء ستين، فقد اختلط نفاسها باستحاضتها. وطريق التمييز بينهما، ما تقدم في الحيض. هذا هو الصحيح المعروف. وفي وجه: نفاسها ستون. وما بعدها استحاضة إلى تمام طهرها المعتاد، أو المردود إليه إن كانت مبتدأة، وما بعده حيض. في وجه ثالث: نفاسها، ستون. وما بعدها حيض متصل به. واتفق الجمهور على تضعيف هذين الوجهين، والتفريع على الصحيح. والمستحاضات: خمس. الأولى: المعتادة. فإن كانت معتادة أربعين مثلا، كان نفاسها الآن أربعين. ولها في الحيض حالان. أحدهما: أن تكون معتادة فيه، فطهرها بعد الأربعين، قدر عادتها في الطهر، ثم تحيض قدر عادتها في الحيض. الحال الثاني: أن تكون مبتدأة فيه، فتجعل القدر الذي ترد إليه المبتدأة في الطهر، طهرا لها بعد الأربعين. والذي ترد إليه في الحيض، حيضا لها بعده. ثم الخلاف فيما تثبت به العادة، وفيما تقدم من العادة والتمييز إذا اجتمعا يجري هنا كما في الحيض. ولو ولدت مرارا ولم تر دما، ثم ولدت، واستحيضت، لم يكن عدم النفاس عادة، بل هي مبتدأة فيه، كالتي لم تلد أصلا. المستحاضة الثانية والثالثة: المبتدأة المميزة، وغير المميزة. أما غير المميزة، فترد إلى لحظة على الأظهر. وإلى أربعين على الثاني. هذا هو المذهب. وفي قول غريب: ترد إلى ستين. وفي وجه: إلى اللحظة جزما. ثم إن كانت هذه النفساء معتادة في الحيض حسب لها بعد مرد النفاس طهرها ثم حيضها المعتادان. وإن كانت مبتدأة فيه، أقمنا طهرها ثم حيضها على ما تقتضيه حال المبتدأة. وأما المميزة، فترد إلى التمييز بشرطه. كالحائض، وشرط تمييز
285 النفساء، أن لا يزيد القوي على ستين يوما. ولا ضبط في أقله، ولا أقل الضعيف. المستحاضة الرابعة: المعتادة المميزة. تقدم حكمها هنا في المعتادة. المستحاضة الخامسة: الناسية لعادة نفاسها، فيها القولان، كناسية الحيض. فعلى قول ترد إلى مرد المبتدأة. ورجحه إمام الحرمين هنا. وعلى قول: تؤمر بالاحتياط. وعلى هذا، إن كانت مبتدأة في الحيض أيضا، وجب الاحتياط أبدا. وكذا، إن كانت معتادة في الحيض ناسية عادتها. وإن كانت ذاكرة لعادة الحيض، فهي كناسية وقت الحيض، العارفة بقدره. وقد سبق بيانها. فرع: إذا انقطع دم النفساء، فله حالان. أحدهما: أن لا يجاوز ستين، فينظر، إن لم تبلغ مدة النقاء بين الدمين أقل الطهر، بأن رأت يوما دما، ويوما نقاء، فأزمنة الدم نفاس قطعا. وفي النقاء، القولان، كالحيض. وإن بلغته، بأن رأت عقب الولادة دما أياما، ثم رأت النقاء خمسة عشر فصاعدا، ثم عاد الدم، فالأصح، أن العائد دم حيض. والثاني: أنه نفاس. ولو ولدت ولم تر الدم خمسة عشر يوما فصاعدا، ثم رأته، فعلى هذين الوجهين. فإن جعلناه حيضا، فلا نفاس لها أصلا. وفي هذه الصورة الأخيرة: لو نقص العائد في الصورتين عن أقل الحيض، فالأصح، أنه دم فساد. والثاني: أنه نفاس، لتعذر جعله حيضا. ولو زاد العائد على أكثر الحيض، فهي مستحاضة. فينظر، أهي معتادة، أم مبتدأة؟ ويحكم بما تقتضيه الحال. وإن جعلنا العائد نفاسا، فمدة النقاء على القولين في التلفيق. إن سحبنا، فنفاس. وإن لفقنا، فطهر. هذا هو المذهب. وقيل: هو طهر على القولين. الحال الثاني: أن تجاوز ستين. فإن بلغ زمن النقاء في الستين أقل الطهر، ثم جاوز العائد، فالعائد حيض قطعا (1)، ولا يجئ فيه الخلاف المذكور في الحال الأول. وإن لم تبلغه، فإن كانت مبتدأة مميزة، ردت إلى التمييز. وإن لم تكن مميزة، فعلى القولين في المبتدأة. وإن كانت معتادة، ردت إلى العادة. وفي
286 الأحوال يراعى قولا التلفيق. فإن سحبنا، فالدماء في أيام المرد مع النقاء، نفاس. وإن لفقنا، فتلفق من أيام المرد، أم من أيام الستين؟ فيه الخلاف المذكور في الحيض. قلت: والصفرة، والكدرة، في النفاس، كهي في الحيض وفاقا وخلافا، هذا هو المذهب. وبه صرح الفوراني، والبغوي، وصاحب (العدة)، وغيرهم. وقطع الماوردي: بأنها نفاس قطعا، لان الولادة شاهد للنفاس، بخلاف الحيض. وإذا انقطع دم النفساء، واغتسلت، أو تيممت حيث يجوز، فللزوج وطؤها في الحال بلا كراهة. حتى قال صاحب (الشامل) و (البحر): لو رأت الدم بعد الولادة ساعة، وانقطع، لزمه الغسل، وحل الوطئ. فإن خافت عود الدم، استحب له التوقف احتياطا. والله أعلم.
287 كتاب الصلاة (1) فيه سبعة أبواب. الباب الأول في المواقيت (2) أما وقت الظهر، فيدخل بالزوال. وهو زيادة في الظل بعد استواء الشمس، أو حدوثه، إن لم يكن عند الاستواء (3) ظل. وذلك يتصور في بعض البلاد، كمكة،
289 وصنعاء اليمن، في أطول أيام السنة. ويخرج وقتها إذا صار ظل الشخص مثله سوى الظل الذي كان عند الزوال، إن كان ظل، وما بين الطرفين وقت اختيار. وأما العصر، فيدخل وقتها، بخروج وقت الظهر بلا خلاف، ويمتد إلى غروب الشمس. وفي وجه ضعيف قاله الإصطخري: يخرج وقتها، إذا صار ظل الشئ مثليه. وعلى الصحيح: لها أربعة أوقات (1)، وقت فضيلة، وهو الأول. ووقت اختيار، إلى أن يصير ظله مثليه. وبعده جواز بلا كراهة، إلى اصفرار الشمس. ومن الاصفرار، إلى الغروب: وقت كراهة، يكره تأخيرها إليه. وأما المغرب، فيدخل وقتها بغروب الشمس بلا خلاف (2). والاعتبار بسقوط قرصها، وهو ظاهر في الصحاري. وأما في العمران، وقلل (3) الجبال، فالاعتبار، بأن لا يرى شئ من شعاعها على الجدران، ويقبل الظلام من المشرق. وفي آخر وقتها قولان. القديم: أنه يمتد إلى مغيب الشفق. والجديد: أنه إذا مضى قدر وضوء وستر عورة (4)، وأذان، وإقامة، وخمس ركعات (5)، انقضى الوقت. وما
290 لا بد منه من شرائط الصلاة، لا يجب تقديمه على الوقت، فيجوز التأخير بعد الغروب بقدر اشتغاله بها. والاعتبار في جميع ذلك، بالوسط المعتدل (1). ويحتمل أيضا أكل لقم يكسر بها حدة الجوع (2). وفي وجه: ما يمكن تقديمه على الوقت، كالطهارة، والسترة، يسقط من الاعتبار. وفي وجه: يعتبر ثلاث ركعات، لا خمس. وهما شاذان، والصواب الأول. ثم على الجديد: لو شرع في المغرب في الوقت المضبوط، فهل له استدامتها إلى انقضاء الوقت؟ إن قلنا: الصلاة التي يقع بعضها في الوقت، وبعضها بعده أداء وأنه يجوز تأخيرها إلى أن يخرج عن الوقت بعضها، فله ذلك قطعا. وإن لم نجوز ذلك في سائر الصلوات، ففي المغرب وجهان. أصحهما: يجوز مدها إلى مغيب الشفق. والثاني: منعه كغيرها (3). ثم الأظهر من القولين، الجديد. واختار طائفة من الأصحاب، القديم، ورجحوه، وعندهم المسألة مما يفتى فيه على القديم.
291 قلت: الأحاديث الصحيحة (1)، مصرحة بما قاله في القديم، وتأويل بعضها متعذر، فهو الصواب. وممن اختاره من أصحابنا، ابن خزيمة (2)، والخطابي، والبيهقي (3)، والغزالي في (الاحياء) والبغوي في (التهذيب) وغيرهم (4). والله أعلم. وأما العشاء، فيدخل وقتها بمغيب الشفق. وهو الحمرة. وقال المزني: البياض. وقال إمام الحرمين: يدخل وقتها بزوال الحمرة، والصفرة. قال: والشمس إذا غربت، تعقبها حمرة، ثم ترق حتى تنقلب صفرة، ثم يبقى البياض. قال: وبين غروب الشمس، إلى زوال الصفرة، كما بين الصبح الصادق، وطلوع قرن الشمس. وبين زوال الصفرة، إلى انمحاق البياض، قريب مما بين الصبح الصادق، والكاذب. هذا قول إمام الحرمين. والذي عليه المعظم، ويدل عليه، نص الشافعي رضي الله عنه: أنه الحمرة. ثم غروب الشفق، ظاهر، في معظم النواحي. أما الساكنون بناحية تقصر لياليهم، ولا يغيب عنهم الشفق، فيصلون
292 العشاء إذا مضى من الزمان قدر ما يغيب فيه الشفق في أقرب البلاد إليهم. وأما وقت الاختيار للعشاء، فيمتد إلى ثلث الليل على الأظهر. وإلى نصفه، على الثاني (1). ويبقى وقت الجواز إلى طلوع الفجر الثاني على الصحيح. وقال الإصطخري: يخرج الوقت بذهاب وقت الاختيار. وأما وقت الصبح، فيدخل بطلوع الفجر الصادق. ويتمادى وقت الاختيار، إلى أن يسفر. والجواز إلى طلوع الشمس على الصحيح. وعند الإصطخري يخرج وقت الجواز بالاسفار. فعلى الصحيح، للصبح أربعة أوقات، فضيلة أوله، ثم اختيار إلى الاسفار، ثم جواز بلا كراهة إلى طلوع الحمرة، ثم كراهة وقت طلوع الحمرة إذا لم يكن عذر. قلت: مذهبنا، ومذهب جماهير العلماء أن صلاة الصبح من صلوات النهار. ويكره أن يقال للمغرب: عشاء، وأن يقال للعشاء: عتمة (2). والاختيار. أن يقال للصبح: الفجر، أو الصبح. وهما أولى من الغداة. ولا تقول: الغداة مكروه. ويكره النوم قبل العشاء (3)، والحديث بعدها لغير عذر، إلا في خير (4). واختلف العلماء في الصلاة الوسطى. فنص الشافعي رضي الله عنه (5): أنها الصبح (6). وقال صاحب (الحاوي): نص الشافعي أنها الصبح. وصحت الأحاديث، أنها
293 العصر (1). ومذهبه، اتباع الحديث، فصار مذهبه: أنها العصر. قال: ولا يكون في المسألة قولان. كما وهم بعض أصحابنا. والله أعلم. فصل: تجب الصلاة بأول الوقت وجوبا موسعا (2)، بمعنى أنه لا يأثم
294 بتأخيرها إلى آخره. فلو أخرها من غير عذر، فمات في أثناء الوقت، لم يأثم بتأخيرها على الأصح، بخلاف الحج (1). ولو وقع بعض الصلاة في الوقت، وبعضها خارج الوقت، نظر، إن كان الواقع في الوقت ركعة فصاعدا، فالأصح: أن جميع الصلاة أداء. والثاني: جميعها قضاء. والثالث: ما في الوقت أداء، وما بعده قضاء. وإن كان الواقع في الوقت أقل من ركعة، فالمذهب الجزم بأن الجميع قضاء. وقيل: هو كالركعة. وحيث قلنا: الجميع قضاء، أو الخارج، لم يجز للمسافر قصر تلك الصلاة على قولنا: لا يجوز قصر المقضية. ولو أراد تأخير الصلاة إلى حد يخرج بعضها عن الوقت، إن قلنا: كلها قضاء، أو البعض، لم يجز قطعا. وإن قلنا: الجميع أداء، لم يجز أيضا على المذهب. وفيه ترديد جواب للشيخ أبي محمد. ولو شرع فيها وقد بقي من الوقت ما يسع جميعها، فمدها بتطويل القراءة حتى خرج الوقت، لم يأثم قطعا. ولا يكره على الأصح. قلت: وفي تعليق القاضي حسين، وجه: أنه يأثم. والله أعلم. فصل: تعجيل الصلاة في أول الوقت أفضل، وفيما يحصل به فضيلة أوله، أوجه. أصحها: يحصل بأن يشتغل أول دخول الوقت بأسباب الصلاة، كالطهارة، والاذان، وغيرهما، ثم يصلي. ولا يشترط على هذا تقديم ستر العورة، على الأصح. وشرطه أبو محمد. ولا يضر الشغل الخفيف، كأكل لقم، وكلام قصير. ولا يكلف العجلة على خلاف العادة. والوجه الثاني: يبقى وقت الفضيلة إلى نصف الوقت. كذا أطلقه جماعة. وقال آخرون: إلى نصف وقت الاختيار. والثالث: لا يحصل إلا إذا قدم قبل الوقت ما يمكنه تقديمه من الأسباب، لتنطبق الصلاة على أول
295 الوقت. وعلى هذا قيل: لا ينال المتيمم فضيلة الأولية. قلت: هذا الوجه الثالث، غلط صريح. مخالف للسنة المستفيضة عن رسول الله (ص). والصواب: الأول. والله أعلم. وهذا المذكور من فضيلة التعجيل، هو في الصبح، والعصر، والمغرب، على الاطلاق. وأما العشاء، فتعجيلها أيضا أفضل على الأظهر. وعلى الثاني: تأخيرها أفضل، ما لم يجاوز وقت الاختيار، وأما الظهر، فيستحب فيها التعجيل، في غير شدة الحر بلا خلاف (1). وفي شدة الحر، يستحب الابراد على الصحيح المعروف. وفيه وجه شاذ: أن الابراد رخصة. وأنه لو تحمل المشقة، وصلى في أول الوقت، كان أفضل. والصواب: أن الابراد سنة. وهو: أن يؤخر إقامة الجماعة عن أول الوقت في المسجد (2) الذي يأتيه الناس من بعد، بقدر ما يقطع للحيطان ظل يمشي فيه طالب الجماعة. ولا يؤخر عن النصف الأول من الوقت. فلو قربت منازلهم من المسجد، أو حضر جماعة في موضع لا يأتيهم غيرهم، لا يبردون على الأظهر. وكذا لو أمكنه المشي إلى المسجد في ظل، أو صلى في بيته منفردا فلا إبراد على الأصح. ويختص باستحباب الابراد بالبلاد الحارة على الأصح المنصوص، ولا تلحق الجمعة بالظهر، في الابراد على الأصح. فصل: إذا اشتبه عليه وقت صلاة، لغيم، أو حبس في مظلم، أو غيرهما، اجتهد فيه، واستدل بالدرس، والأعمال، والأوراد، وشبهها. ومن الامارات، صياح الديك المجرب إصابة صياحه الوقت. وكذا أذان المؤذنين في يوم الغيم إذا كثروا، وغلب على الظن - لكثرتهم - أنهم لا يخطؤون. والأعمى يجتهد في الوقت كالبصير. وإنما يجتهدان، إذا لم يخبرهما ثقة بدخول الوقت عن
296 مشاهدة. فلو قال: رأيت الفجر طالعا، أو الشفق غاربا، لم يجز الاجتهاد، ووجب قبول قوله. فإن أخبر عن اجتهاد، لم يجز للبصير القادر على الاجتهاد تقليده. ويجوز للأعمى على الأصح. والمؤذن الثقة العالم بالمواقيت في يوم الصحو، كالمخبر عن مشاهدة. وفي الغيم، كالمجتهد. وحكى في (التهذيب) وجهين في تقليد المؤذن، من غير فرق بين البصير، والأعمى. وقال: الأصح: الجواز. وذهب إليه ابن سريج. والتفصيل المتقدم، أقرب. واختاره الروياني، وغيره. قلت: الأصح، ما صححه صاحب (التهذيب). وقد نقله عن نص الشافعي، وبه قال الشيخ أبو حامد. وصححه البندنيجي (1)، وصاحب (العدة) وغيرهم. والله أعلم. وحيث لزم الاجتهاد، فصلى بلا اجتهاد، وجبت الإعادة وإن صادف الوقت. وإذا لم تكن دلالة، أو كانت، فلم يغلب على ظنه شئ، صبر إلى أن يغلب على قلبه دخول الوقت. والاحتياط: أن يؤخر إلى أن يغلب على ظنه أنه لو أخر، خرج الوقت. ولو قدر على الصبر إلى استيقان دخول الوقت، جاز الاجتهاد على الصحيح، كالأواني. قلت: لو علم المنجم دخول الوقت بالحساب. حكى صاحب (البيان): أن المذهب: أنه يعمل به بنفسه، ولا يعمل به غيره. والله أعلم. فرع: حيث جاز الاجتهاد، فصلى به، إن لم يتبين الحال، فلا شئ عليه. وإن بان وقوع صلاته في الوقت أو بعده، فلا قضاء عليه. لكن الواقعة بعده، قضاء على الأصح. فلو كان مسافرا، وقصرها، وجب إعادتها تامة. إذا قلنا: لا يجوز قصر القضاء. وإن بان وقوعها قبل الوقت، وأدركه، وجبت الإعادة. وإلا، فقولان. المشهور: وجوبها، ومثل هذا الخلاف، والتفصيل، يجري فيمن اشتبه عليه شهر رمضان.
297 قلت: قال أصحابنا: لو أخبره ثقة، أن صلاته وقعت قبل الوقت، إن أخبره عن علم ومشاهدة، وجبت الإعادة، وإن أخبره عن اجتهاد، فلا. والله أعلم. فصل في وقت أصحاب الأسباب المانعة من وجوب الصلاة: وهي: الصبا، والكفر، والجنون، والاغماء، والحيض، والنفاس. ولها ثلاثة أحوال. الأول: أن توجد في أول الوقت، ويخلو عنها آخره، بأن تطهر عن حيض، أو نفاس في آخر الوقت، فينظر، إن بقي من الوقت قدر ركعة، لزمها فرض الوقت. والمعتبر في الركعة، أخف ما يقدر عليه أحد. وشرط الوجوب: أن تمتد السلامة من المانع قدر إمكان الطهارة، وتلك الصلاة. فإن عاد مانع قبل ذلك، لم يجب. مثاله: بلغ الصبي في آخر وقت العصر، ثم جن، أو أفاق المجنون، ثم عاد جنونه، أو طهرت. ثم جنت، أو أفاقت مجنونة، ثم حاضت، فإن مضى في حال السلامة ما يسع طهارة وأربع ركعات، وجبت العصر، وإلا، فلا. هذا إذا كان الباقي من الوقت قدر ركعة. فإن كان قدر تكبيرة، أو فوقها دون ركعة، ففي وجوب الفرض، قولان. الأظهر: الوجوب بالشرط المتقدم في الركعة. ويستوي في الوجوب، بإدراك الركعة، أو ما دونها، جميع الصلوات. فإن كانت المدركة صبحا، أو ظهرا، أو مغربا، قصر الوجوب عليها. وإن كانت عصرا، أو عشاء، وجب مع العصر الظهر، ومع العشاء المغرب. وبماذا يجب الظهر؟ قولان. أظهرهما: يجب بما يجب به العصر. وهو ركعة قبل الغروب على قول، وتكبيرة على قول. والثاني: لا يجب إلا بإدراك أربع ركعات زائدة على ما يجب به العصر، وتكون الأربع للظهر، والركعة أو التكبيرة للعصر، على الصحيح. وقيل: الأربع للعصر. والركعة، أو التكبيرة، للظهر. وتظهر فائدة الوجهين، في المغرب مع العشاء، فإن المغرب معها، كالظهر مع العصر. فإن قلنا: بالأظهر، وجبت المغرب بما تجب العشاء. وإن قلنا: بالثاني. وقلنا: الركعات الأربع الزائدة للظهر، اعتبرنا هنا ثلاث ركعات للمغرب، مع ما تلزم به العشاء. وإن قلنا: الأربع للعصر، اعتبرنا أربعا للعشاء. وهل يعتبر مع القدر المذكور للزوم الصلاة الواحدة، أو صلاتي الظهر
298 والعصر والمغرب، والعشاء، إدراك زمن الطهارة؟ قولان. أظهرهما: لا. وإذا جمعت (1) الأقوال، حصل فيما يلزم به كل صلاة من إدراك آخر وقتها، أربعة أقوال. أظهرها: قدر تكبيرة. والثاني: تكبيرة، وطهارة. والثالث: ركعة. والرابع: ركعة وطهارة. وفيما يلزم به الظهر، مع العصر، ثمانية أقوال. هذه الأربعة. والخامس: قدر أربع ركعات وتكبيرة. والسادس: هذا، وزمن طهارة. والسابع: قدر خمس ركعات. والثامن: هذا، وزمن طهارة. وفيما يلزم المغرب، مع العشاء، اثنا عشر قولا، هذه الثمانية. والتاسع: ثلاث ركعات وتكبيرة. والعاشر: هذا وزمن طهارة. والحادي عشر: أربع ركعات. والثاني عشر: هذا وزمن طهارة. فرع: جميع ما ذكرناه، هو فيما إذا كان زوال العذر قبل أداء صلاة الوقت. وهذا يكون حال من سوى الصبي، من أصحاب الأسباب، فإنها كما تمنع الوجوب، تمنع الصحة. وأما الصبي إذا صلى وظيفة الوقت، ثم بلغ قبل خروج الوقت، فيستحب له أن يعيدها. ولا تجب الإعادة على الصحيح. والثاني: تجب. قاله ابن سريج: سواء قل الباقي من الوقت، أم كثر. والثالث: قاله الإصطخري: إن بلغ، وقد بقي من الوقت ما يسع تلك الصلاة، وجبت الإعادة. وإلا، فلا. أما إذا بلغ بالسن في أثنائها، فالصحيح، وظاهر النص، وما عليه الجمهور: أنه يجب إتمامها، ويستحب الإعادة. والثاني: يستحب الاتمام، وتجب الإعادة. والثالث قاله الإصطخري: إن بقي ما يسع الصلاة، وجبت الإعادة. وإلا، فلا. هذا كله في غير الجمعة. أما إذا صلى الظهر يوم الجمعة، ثم بلغ، وأمكنته الجمعة. فإن قلنا: في سائر الصلوات، تجب الإعادة (2)، وجبت الجمعة. وإلا، فالصحيح: أنها لا تجب، كالمسافر، والعبد إذا صليا الظهر، ثم زال عذرهما، وأمكنتهما الجمعة، لا تلزمهما قطعا. الحال الثاني: أن يخلو أول الوقت من الاعذار المذكورة، ثم يطرأ ما يمكن أن يطرأ، وهو الحيض، والنفاس، والجنون، والاغماء، ولا يتصور طريان الكفر المسقط للإعادة. فإذا حاضت في أثناء الوقت، قبل أن تصلي، نظر في القدر
299 الماضي من الوقت. إن كان قدرا يسع تلك الصلاة، وجب القضاء، إذا طهرت على المذهب. وخرج ابن سريج قولا: أنه لا يجب إلا إذا أدركت جميع الوقت. ثم على المذهب المعتبر: أخف ما يمكن من الصلاة. حتى لو طولت صلاتها، فحاضت فيها، وقد مضى من الوقت ما يسعها لو خفقها، وجب القضاء. ولو كان الرجل مسافرا، فطرأ عليه جنون، أو إغماء، بعد ما مضى من وقت الصلاة المقصورة ما يسع ركعتين، لزمه قضاؤها، لأنه لو قصر، يمكنه أداؤها. ولا يعتبر مع إمكان فعلها، إمكان الطهارة، لأنه يمكن تقديمها قبل الوقت، إلا إذا لم يجز تقديم طهارة صاحب الواقعة. كالمتيمم، والمستحاضة. قلت: ذكر في (التتمة) في اشتراط زمن الطهارة، لمن يمكنه تقديمها، وجهين، وهما كالخلاف في آخر الوقت. ولا فرق، فإنه وإن أمكن التقديم، فلا يجب. والله أعلم. أما إذا كان الماضي من الوقت لا يسع تلك الصلاة، فلا يجب على المذهب. وبه قطع الجماهير. وقال أبو يحيى البلخي، وغيره من أصحابنا: حكم أول الوقت، حكم آخره. فيجب القضاء بإدراك ركعة، أو تكبيرة على الأظهر. وغلطه الأصحاب. أما العصر، فلا يجب بإدراك الظهر، ولا العشاء، بإدراك المغرب. ولو أدرك جميع وقتها على الصحيح الذي عليه الجماهير. وقال البلخي (1) إذا أدرك من وقت الظهر ثماني ركعات، ثم طرأ العذر، لزمه الظهر والعصر جميعا. كما يلزم الأولى، بإدراك الثانية، وهو غلط، لان وقت الظهر، لا يصلح للعصر، إلا إذا صليت الظهر جمعا. واعلم أن الحكم بوجوب الصلاة، إذا أدرك من وقتها ما يسعها، لا يختص بأوله. بل لو كان المدرك من وسطه، لزمت الصلاة. مثل أن أفاق المجنون في أثناء الوقت، وعاد جنونه في الوقت، أو بلغ صبي، ثم جن، أو أفاقت مجنونة، ثم
300 حاضت. وقد تلزم الظهر بإدراك أول وقت العصر، كما تلزم بآخره، بأن أفاق مغمى عليه، بعد أن مضى من وقت العصر ما يسع الظهر والعصر. فإن كان مقيما، فالمعتبر قدر ثمان ركعات. وإن كان مسافرا يقصر، كفاه قدر أربع. وتقاس المغرب مع العشاء في جميع ما ذكرناه، بالظهر مع العصر. الحال الثالث: أن يعم السبب جميع وقت الرفاهية، ووقت الضرورة، وهو الوقت الذي يجوز فيه الجمع. أما الحيض، والنفاس. فإنه يمنع وجوب الصلاة، وجوازها، ولا قضاء. وأما الكافر الأصلي، فهو مخاطب بالصلاة وغيرها من فروع الشرع على الصحيح. لكن إذا أسلم، لا يجب عليه قضاء صلاة أيام الكفر بلا خلاف. وأما المرتد، فيجب عليه قضاء صلوات أيام الردة. وأما الصبي، فلا تجب عليه الصلاة، أداء (1)، ولا قضاء. ولا يؤمر أحد ممن لا تجب عليه الصلاة بفعلها، إلا الصبي، والصبية، فإنه يؤمر بها إذا بلغ سبع سنين، ويضرب على تركها، إذا بلغ عشرا. قال الأئمة: فيجب على الآباء، والأمهات، تعليم الأولاد، الطهارة، والصلاة، والشرائع، بعد السبع. والضرب على تركها بعد العشر. ويؤمر بالصوم إن أطاقه، كما يؤمر بالصلاة. وأجرة تعليم الفرائض في مال الصبي. فإن لم يكن له مال، فعلى الأب. فإن لم يكن، فعلى الام. وهل يجوز أن يعطي الأجرة من مال الصبي، على تعليم ما سوى الفاتحة، والفرائض، من القرآن، والأدب؟ وجهان. قلت: الأصح، في مال الصبي. وهذا كله إذا كان الصبي، والصبية، مميزين. والله أعلم. وأما من زال عقله، بجنون، أو أغمي عليه، فلا تجب عليه الصلاة، ولا قضاؤها، سواء قل الجنون والاغماء، أو كثر، إذا استغرق الوقت. ولو زال عقله بسبب محرم، كشرب مسكر، أو دواء مزيل للعقل، وجب القضاء. هذا إذا تناول الدواء لغير حاجة، وعلم أنه يزيل العقل، وعلم أن الشراب مسكر. فإن لم يعلم
301 كون الشراب مسكرا أو كون الدواء مزيلا، فلا قضاء، كالاغماء. ولو علم أن جنسه مسكر، وظن أن ذلك القدر لا يسكر، وجب القضاء، لتقصيره. ولو وثب من موضع، لحاجة، فزال عقله، فلا قضاء. وإن فعله عبثا، وجب القضاء. فرع: لو ارتد، ثم جن، ثم أفاق وأسلم، وجب قضاء أيام الجنون، وما قبلها، تغليظا عليه. ولو سكر، ثم جن، وجب قضاء المدة التي ينتهي إليها السكر. وفيما بعدها من مدة الجنون، وجهان. الأصح: لا يجب القضاء، ولو ارتدت، ثم حاضت. أو سكرت، ثم حاضت، لم تقض أيام الحيض. ولو شربت دواء حتى حاضت، لم يلزمها القضاء. وكذلك لو شربت دواء حتى ألقت جنينا، ونفست، لم يجب القضاء على الصحيح، لان ترك الصلاة في حق الحائض والنفساء عزيمة. والحاصل، أن من لم يؤمر بالترك، لا يستحيل أن يؤمر بالقضاء. فإذا لم يؤمر، كان تخفيفا. ومن أمر بالترك، فامتثل الامر، لا يتوجه أمره بالقضاء، إلا الحائض، فإنها مأمورة بترك الصوم، وبقضائه. وهو خارج عن القياس، للنص. فصل في الأوقات المكروهة وهي خمسة (1) (2): أحدها: عند طلوع الشمس حتى ترتفع قدر رمح (3) على الصحيح. وعلى الشاذ: تزول الكراهة، بطلوع قرص الشمس بتمامه. والثاني: استواء الشمس. والثالث: عند الاصفرار حتى يتم غروبها. والرابع: بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس.
302 والخامس: بعد العصر حتى تغرب. وفي هذين الوقتين إذا قدم الصبح والعصر في أول الوقت، طال وقت الكراهة، وإذا أخرهما، قصر. هذا هو المعروف لأكثر الأصحاب: أن الأوقات خمسة كما ذكرنا. وفي الصبح، وجهان آخران. أحدهما: تكره الصلاة بعد طلوع الفجر، سوى ركعتي سنة الصبح. سواء صلى الصبح، وسنتها، أم لا. قال صاحب (الشامل) هذا الوجه: هو ظاهر المذهب. وقطع به صاحب (التتمة) والثاني: يكره ذلك لمن صلى السنة، وإن لم يصل الفريضة. والصحيح: ما سبق. وهو الموافق لكلام الجمهور. فرع: النهي والكراهة في هذه الأوقات، إنما هو في صلاة ليس لها سبب (1)، فأما ما لها سبب، فلا كراهة. والمراد بقولهم: صلاة لها سبب، أي: سبب متقدم على هذه الأوقات، أو مقارن لها، والتي لا سبب لها، هي التي ليس لها سبب متقدم، ولا مقارن. وقد يفسر قولهم: لا سبب لها، بأن الشارع لم يخصها بوضع وشرعية، بل هي التي يأتي بها الانسان ابتداء. فمن ذوات الأسباب، الفائتة، فإنه يجوز في هذه الأوقات، قضاء الفرائض، والسنن، والنوافل التي اتخذها الانسان وردا له. وتجوز صلاة الجنازة، وسجود التلاوة، وسجود الشكر، وركعتا الطواف، وصلاة الكسوف. ولو تطهر في هذه الأوقات، صلى ركعتين. ولا تكره صلاة الاستسقاء فيها على الأصح (2). وعلى الثاني: تكره، كصلاة الاستخارة. وقد يمنع الأول الكراهة في صلاة الاستخارة. ويكره ركعتا الاحرام على الأصح. وأما تحية المسجد، فإن اتفق دخوله لغرض، كإعتكاف، أو درس علم، أو انتظار صلاة، ونحو ذلك، لم تكره. وإن دخل لا لحاجة، بل ليصلي التحية فقط، فوجهان، أقيسهما: الكراهة. كما لو أخر الفائتة ليقضيها في هذه الأوقات (3). ومن الأصحاب، من لم يفصل، ويجعل في التحية وجهين على
303 الاطلاق. وينسب القول بالكراهة إلى أبي عبد الله الزبيري (1). قلت: هذه الطريقة غلط. والله أعلم. ولو فاتته راتبة، أو نافلة اتخذها وردا، فقضاها في هذه الأوقات، فهل له المداومة على مثلها في وقت الكراهة؟ وجهان. أحدهما: نعم، للحديث الصحيح أن رسول الله (ص) فاته ركعتا الظهر، فقضاهما بعد العصر، وداوم عليهما بعد العصر (2). وأصحهما: لا. وتلك الصلاة من خصائص رسول الله (ص). فرع (3): الصلاة المنهي عنها في هذه الأوقات، يستثنى منها زمان، ومكان. أما الزمان، فعند الاستواء يوم الجمعة، ولا يلحق به باقي الأوقات يوم الجمعة على الأصح. فإن ألحقنا، جاز التنفل يوم الجمعة في الأوقات الخمسة لكل أحد. وإن قلنا بالأصح، فهل يجوز التنفل لكل أحد عند الاستواء؟ وجهان. أصحهما: نعم. والثاني، لا يجوز لمن ليس في الجامع. وأما من في الجامع، ففيه وجهان. أحدهما: يجوز مطلقا والثاني: يجوز بشرط أن يبكر، ثم يغلبه النعاس. وقيل: يكفي النعاس بلا تبكير. وأما المكان، فمكة - زادها الله شرفا - لا تكره الصلاة فيها في شئ في هذه الأوقات، سواء صلاة الطواف، وغيرها. وقيل: إنما يباح ركعتا الطواف. والصواب، الأول. والمراد بمكة، جميع الحرم. وقيل: إنما يستثنى نفس المسجد الحرام. والصواب المعروف هو الأول.
304 فرع: متى ثبتت الكراهة فتحرم بالصلاة المكروهة (1) لم تنعقد على الأصح. كصوم العيد. وتنعقد على الثاني. كالصلاة في الحمام. ولو نذر أن يصلي في هذه الأوقات، فإن قلنا: تنعقد الصلاة، صح نذره، وإلا فلا. وإذا صح نذره، فالأولى أن يصلي في وقت آخر، كمن نذر أن يضحي بشاة يذبحها بسكين مغصوب، يصح نذره، ويذبحها بغير مغصوب. ولو نذر صلاة مطلقة، فله فعلها في هذه الأوقات قطعا، فإن لها سببا. قلت: النهي عن الصلاة في هذه الأوقات حيث أثبتناه مكروها (2)، كراهة تحريم على الأصح. وبه قطع الماوردي في (الاقناع) وصاحب (الذخائر) وآخرون: وهو مقتضى النهي في الأحاديث الصحيحة (3). والثاني: كراهة تنزيه وبه قطع أبو علي البندنيجي. والله أعلم. [وقول بعض المتأخرين: أنه لا يحرم، شاذ متروك، علته أنه مخالف لما صرح به كثيرون، واقتضاه كلام الباقين] (4). الباب الثاني في الاذان (5) الأذان والإقامة سنتان على أصح الأوجه، وفرضا كفاية على الثاني. والثالث:
305 هما سنة في غير الجمعة، وفرضا كفاية فيها. فإذا قلنا: سنة، فاتفق أهل بلد على تركها، لم يقاتلوا على الأصح، كسائر السنن. وإذا قلنا: فرض كفاية، قوتلوا على تركها بلا خلاف. وإنما يسقط الاثم عنهم، بإظهارها في البلدة، أو القرية، بحيث يعلم جميع أهلها، أنه قد أذن فيها لو أصغوا. ففي القرية الصغيرة، يكفي في موضع، وفي البلد الكبير، لا بد منه في مواضع. وإذا قلنا: الاذان فرض كفاية في الجمعة، فقيل: الواجب، هو الذي بين يدي الخطيب. وقيل: يسقط الوجوب بالاذان المأتي به لصلاة الجمعة، وإن لم يكن بين يدي الخطيب. أما ما يؤذن له فلا خلاف أنه يؤذن للجماعة الأولى من صلوات الرجال في كل مكتوبة مؤداة. فإن فقد بعض هذه القيود، ففيه تفصيل. أما المنفرد في الصحراء، أو بلد، فيؤذن على المذهب والمنصوص في الجديد. وقيل: لا يؤذن في القديم. وفي وجه: إن رجا حضور جماعة، أذن، وإلا فلا. هذا إذا لم يبلغ المنفرد أذان المؤذنين، فإن بلغه، فالخلاف مرتب، وأولى بأن لا يؤذن. فإن قلنا: لا يؤذن، فهل يقيم؟ وجهان. أصحهما: نعم. وإن قلنا: يؤذن، فهل يرفع صوته؟ نظر، إن صلى في مسجد أقيمت فيه جماعة، وانصرفوا، لم يرفع، لئلا يوهم دخول وقت صلاة أخرى. وإلا فوجهان. الأصح: يرفع. والثاني: إن رجا جماعة، رفع، وإلا، فلا. أما إذا أقيمت جماعة في مسجد، فحضر قوم، فإن لم يكن له إمام راتب، لم يكره لهم إقامة الجماعة فيه، وإن كان، كرهت على الأصح (1). وإذا أقاموا جماعة مكروهة،
306 أو غير مكروهة، فقولان. أحدهما: لا يسن لهم الاذان. وأظهرهما: يسن، ولا يرفع فيه الصوت، لخوف اللبس. وسواء كان المسجد مطروقا، أو غير مطروق. قال إمام الحرمين: حيث قلنا في الجماعة الثانية، في المسجد الذي أقيم فيه جماعة، وأذان الراتب: لا يرفع الصوت، لا نعني به أنه يحرم الرفع، بل نعني به أن الأولى أن لا يرفع. وإذا قلنا: المنفرد لا يرفع صوته، فلا نعني به أن الأولى أن لا يرفع، فإن الرفع أولى في حقه. ولكن نعني، أنه يعتد بأذانه دون الرفع (1). أما جماعة النساء، ففيها أقوال: المشهور المنصوص في (الام) و (المختصر): يستحب لهن الإقامة، دون الاذان. فلو أذنت على هذا، ولم ترفع صوتها، لم يكره. وكان ذكرا لله تعالى. والثاني: لا أذان، ولا إقامة. والثالث: يستحبان معا. ولو صلت امرأة منفردة. إن قلنا: الرجل المنفرد. لا يؤذن، فهي أولى. وإلا، فعلى هذه الأقوال لا ترفع صوتها بحال، فوق ما تسمع صواحبها. ويحرم عليها الزيادة على ذلك (2). أما غير الفرائض الخمس، فلا أذان لها، ولا إقامة. سواء كانت منذورة، أو سنة، سواء سن لها الجماعة، كالعيدين، والكسوفين، والاستسقاء، أم لم يسن، كالضحى. لكن ينادى للعيد، والكسوف، والاستسقاء: الصلاة جامعة. وكذا ينادى للتراويح، إذا صليت جماعة. وفي استحباب هذا النداء في الجنازة، وجهان. قلت: الأصح، لا يستحب. وبه قطع كثيرون، وهو المنصوص في (الام). والله أعلم. أما الفريضة الفائتة، فيقيم لها بلا خلاف. وفي الاذان ثلاثة أقوال: الجديد الأظهر: لا يؤذن، والقديم: يؤذن، والثالث: نصه في (الاملاء) إن رجا اجتماع
307 جماعة يصلون معه، أذن. وإلا، فلا. قال الأئمة: الاذان في الجديد، حق الوقت. وفي القديم، حق الفريضة. وفي (الاملاء) حق الجماعة. قلت: الأظهر: أنه يؤذن للفائتة. وقد ثبت ذلك في الصحيح (1) عن فعل رسول الله (ص). وصححه كثير من أصحابنا. والله أعلم. وإذا أقيمت الفائتة جماعة، سقط القول الثالث. ولو قضى فوائت، فعلى التوالي أقام لكل واحدة قطعا بلا خلاف. ولا يؤذن لغير الأولى قطعا. وفي الأولى هذه الأقوال. ولو والى بين فريضة الوقت، ومقضية، فإن قدم فريضة الوقت، أذن لها، وأقام للمقضية. وإن قدم المقضية، أقام لها. وفي الاذان لها، الأقوال. وأما فريضة الوقت، فقال إمام الحرمين: إن قلنا: يؤذن للمقضية، لم يؤذن لفريضة الوقت، وإلا أذن. والأصح: أنه لا يؤذن لفريضة الوقت بعد المقضية بكل حال. قلت: إلا أن يؤخرها عن المقضية، بحيث يطول الفصل بينهما، فإنه يؤذن للحاضرة قطعا بكل حال. كذا قاله أصحابنا. والله أعلم. أما إذا جمع بين صلاتي الجمع، بسفر، أو مطر، فإن قدم الثانية إلى وقت الأولى، أذن للأولى، وأقام للثانية. وإن أخر الأولى إلى وقت الثانية، أقام لكل واحدة، ولا يؤذن للثانية. وفي الاذان للأولى، الأقوال في الفائتة. والأظهر: لا يؤذن. قال إمام الحرمين: وينقدح أن يقال: يؤذن لها، وإن لم يؤذن للفائتة. قلت: بل الأظهر، أنه يؤذن. ففي (صحيح مسلم) (2) عن جابر رضي الله عنه، أن رسول الله (ص): جمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة في وقت الثانية. بأذان، وإقامتين، وهو مقدم عند العلماء على رواية أسامة، وابن عمر: أنه صلاهما
308 بإقامتين، لأنه زيادة (1) ثقة حفظ ما لم يحفظ غيره. والله أعلم. وخرج أبو الحسين بن القطان من أصحابنا وجها: أنه يؤذن لكل واحدة من صلاتي الجمع، قدم، أو أخر. قلت: قال إمام الحرمين: لا سبيل إلى توالي أذانين، إلا في صورة على قول. وهي إذا صلى فائتة قبيل الزوال، وأذن لها على قول، فلما فرغ منها، زالت الشمس، فأراد إقامة الظهر، أذن لا محالة. هذا كلام الامام. ويتصور التوالي قطعا فيما لو أخروا المؤداة إلى آخر الوقت، فأذنوا لها، وصلوها، ثم دخلت فريضة أخرى. والله أعلم. فصل في صفة الاذان فيه مسائل: الأولى: الاذان، مثنى، والإقامة فرادى. والمراد: معظم الاذان مثنى. وإلا، فقول: لا إله إلا الله، في آخره مرة، والتكبير في أوله، أربع مرات. فكذا المراد، معظم الإقامة، فإن التكبير في أولها، وآخرها، ولفظ الإقامة بالتثنية على المذهب والمنصوص في الجديد. وقال: في القديم يقول هذه الكلمات مرة. وقيل: إنما أفرد في القديم الإقامة دون التكبير. وللشافعي قول: أنه إن رجع في الاذان، ثنى جميع كلمات الإقامة، وإلا، أفردها. واختاره محمد بن إسحاق بن خزيمة من أصحابنا.
309 الثانية: يستحب ترتيل الاذان، وإدراج الإقامة. فالترتيل: تبيين كلماته بلا بطء يجاوز الحد. والادراج: أن يحدرها بلا فصل. الثالثة: يرجع في أذانه. وهو أن يأتي بالشهادتين مرتين مرتين، بصوت مخفوض، ثم يرفعه، ويأتي بهما مرتين مرتين. والترجيع، سنة. لو تركه لم يفسد أذانه على الصحيح. وقيل: المشهور. الرابعة: التثويب: أن يقول في أذان الصبح بعد الحيعلتين: الصلاة خير من النوم، مرتين، وهو سنة على المذهب الذي قطع به الأكثرون. وقيل: قولان: القديم الذي يفتى به: أنه سنة. والجديد: ليس سنة. ثم ظاهر إطلاق الغزالي، وغيره، أن التثويب، يشمل الاذان الذي قبل الفجر، والذي بعده. وصرح في (التهذيب) بأنه إذا ثوب في الاذان الأول، لا يثوب في الثاني على الأصح. (1). ثم إن التثويب ليس بشرط. هكذا صرح به الأصحاب. وقال إمام الحرمين: في اشتراطه احتمال. وهو بالخلاف، أولى من الترجيع. الخامسة: ينبغي أن يؤذن ويقيم قائما مستقبل القبلة. فلو ترك القيام والاستقبال مع القدرة، صح أذانه وإقامته، على الأصح، لكن يكره، إلا إذا كان مسافرا، فلا بأس بأذانه راكبا، وعلى الثاني: لا يعتد بهما. قلت: أذان المضطجع، كالقاعد. إلا أنه أشد كراهة. وفي وجه شاذ: لا يصح وإن صح أذان القاعد. والله أعلم. السادسة: يسن (2) الالتفات في الحيعلتين، يمينا، وشمالا، فيلوي رأسه، وعنقه، ولا يحول صدره عن القبلة، ولا يزيل قدمه عن مكانها. وفي كيفية الالتواء، ثلاثة أوجه. أصحها، يلتفت عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة. ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي على الفلاح، حي على الفلاح. والثاني: يلتفت عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، ثم يعود إلى القبلة، ثم يلتفت عن يمينه، فيقول: حي على الصلاة، ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي
310 على الفلاح، ثم يستقبل القبلة، ثم يلتفت عن يساره، فيقول: حي على الفلاح، والثالث، قول القفال: يقسم كل حيعلة على الجهتين، فيقول: حي على الصلاة، مرة عن يمينه، ثم مرة عن يساره. ثم حي على الفلاح، مرة عن يمينه، ثم مرة عن يساره. ويستحب الالتفات في الإقامة على الأصح، ولا يستحب على الثاني، إلا أن يكبر المسجد، ويحتاج إليه. قلت: وإذا شرع في الإقامة في موضع، تممها فيه، ولا يمشي في أثنائها قاله أصحابنا. والله أعلم. السابعة: ينبغي أن يبالغ في رفع الصوت ما لم يجهده. وأما الاجزاء، فإن كان يؤذن لنفسه، أجزأه أن يسمع نفسه على قول الجمهور. وقال إمام الحرمين: الاقتصار على إسماع النفس، يمنع كون المأتي به أذانا وإقامة، فليزد عليه قدر ما يسمع من عنده. والخلاف المتقدم في المنفرد، أنه هل يرفع صوته؟ هو على قول الجمهور، في أنه هل يستحب الرفع؟ وعلى قول إمام الحرمين: هل يعتد به بلا رفع؟. أما إذا أذن لجماعة، فثلاثة أوجه. أصحها: لا يجزئ الاسرار بشئ منه، لفوات الاعلام. والثاني: لا بأس بالاسرار. كالاسرار بقراءة صلاة جهرية. والثالث: لا بأس بالاسرار بالكلمة، والكلمتين، ولا يجزئ الاسرار بالجميع. وأما الإقامة، فلا يكفي فيها إسماع النفس على الأصح أيضا. لكن الرفع فيها أخفض من الاذان. الثامنة: ترتيب كلمات الاذان شرط. فلو عكس، لم يصح أذانه. لكن يبنى على المنتظم منه. ولو ترك بعض الكلمات في خلاله، أتى بالمتروك. وأعاد ما بعده. التاسعة: الموالاة بين كلماته، مأمور بها، فإن سكت بينهما يسيرا، لم يضر. وإن طال، ففي بطلان أذانه قولان. ولو تكلم بينها كلاما يسيرا، لم يضر على المذهب. وتردد الشيخ أبو محمد في تنزيل الكلام اليسير - إذا رفع به الصوت - منزلة السكوت الطويل. وإن تكلم طويلا، فقولان مرتبان على السكوت الطويل. وأولى بالبطلان. ولو خرج في أثناء الاذان عن أهليته، بإغماء أو نوم، فإن زال عن قرب، لم يضر. وإن طال، فعلى القولين. واعلم أن العراقيين جوزوا البناء في
311 جميع هذه الصور، مع طول الفصل. وحكوه عن نص الشافعي رحمه الله (1). لكن الأشبه، وجوب الاستئناف عند الفصل الطويل، وحمل النص على الفصل اليسير، ومع الطول على أحد القولين يستحب الاستئناف. وكذا يستحب في السكوت والكلام الكثيرين إذا لم نوجبه، ولا يستحب إذا كانا يسيرين، ويستحب أن لا يتكلم في أذانه بشئ أصلا فلو عطس، حمد الله تعالى في نفسه، ويبني. ولو سلم عليه إنسان، أو عطس، لم يجبه، ولم يشمته حتى يفرغ. فإن أجابه، أو شمته، أو تكلم بمصلحة، لم يكره. وكان تاركا للمستحب. ولو رأى أعمى يخاف وقوعه في بئر، وجب إنذاره. فرع: إذا لم نحكم ببطلان الاذان بالفصل المتخلل، فله أن يبني عليه بنفسه. ولا يجوز لغيره على المذهب أو المشهور. فرع: لو ارتد بعد فراغه من الاذان، ثم أسلم، وأقام، جاز. لكن المستحب، أن لا يصلي بأذانه، وإقامته، بل يعيدهما غيره، لان ردته تورث شبهة في حاله. ولو ارتد في خلال الاذان، لم يصح بناؤه عليه في الردة. فإن أسلم وبنى عليه، فالمذهب: أنه إن لم يطل الفصل، جاز البناء. وإلا فقولان. وقيل: قولان مطلقا. وقيل: وجهان. وإذا جوزنا له البناء، ففي بناء غيره الخلاف المتقدم في الفرع الذي قبله. وكذا لو مات في خلال الاذان. فصل في صفة المؤذن وآدابه: وشرطه أن يكون، مسلما، عاقلا، ذكرا. وإذا نطق بالشهادتين في الاذان، إن كان عيسويا (2)، لم يحكم بإسلامه. وإن كان غيره، حكم بإسلامه على الصحيح الذي قطع به الأكثرون. ولا يصح أذان السكران على الصحيح، ويصح أذان من هو في أول النشوة. ولا يصح أذان المرأة، والخنثى المشكل، للرجال على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وأما
312 أذانها لنفسها، أو جماعة نساء، فتقدم حكمه. ويصح أذان الصبي المميز على الصحيح المعروف في المذهب. قلت: قال صاحب (الشامل) و (العدة) وغيرهما: يكره أذان الصبي، ما لم يبلغ. كما يكره أذان الفاسق، والله أعلم. وأما آدابه: فيستحب أن يكون متطهرا، فإن أذن، أو أقام محدثا، أو جنبا، كره. وصح أذانه. والكراهة في الجنب أشد، وفي الإقامة أشد. ويستحب أن يكون صيتا، حسن الصوت، وأن يؤذن على موضع عال. من منارة أو سطح، ونحوهما. وأن يجعل أصبعيه في صماخي أذنيه. وأن يكون عدلا وهو: الثقة، وأن يكون من أولاد من جعل رسول الله (ص) أو بعض أصحابه الاذان فيهم، إذا وجد، وكان عدلا صالحا له. وأن يصلي المؤذن. ومن سمع الاذان على رسول الله (ص) بعد الاذان. ثم يقول: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة، والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته (1). وأن يجيب كل من سمع الاذان. وإن كان جنبا، أو حائضا، فيقول: مثل قول المؤذن في جميع الاذان، والإقامة، إلا في الحيعلتين، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله. وإلا في كلمتي الإقامة. فيقول: أقامها الله، وأدامها، وجعلني من صالحي أهلها. وإلا في التثويب، فيقول: صدقت وبررت. وفي وجه، يقول: صدق رسول الله (ص)، الصلاة خير من النوم. فإن كان في قراءة، أو ذكر، استحب قطعهما ليجيب. ولو كان في صلاة، لم يجب حتى يفرغ، فإن أجاب، كره على الأظهر ، لكن لا تبطل صلاته إن أجاب بما استحببناه، لأنها أذكار. فلو قال: حي على الصلاة، أو الصلاة خير من النوم، بطلت صلاته، لأنه كلام. قلت: وكذا لو قال: صدقت وبررت (2)، تبطل. صرح به القاضي حسين، وغيره. والله أعلم. ولو أجاب في خلال الفاتحة، وجب استئنافها، لان الإجابة في الصلاة غير محبوبة.
313 قلت: ويستحب للمجيب، أن يجيب في كل كلمة عقبها. والله أعلم. ويستحب أن يقول من سمع أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك، وإدبار نهارك، وأصوات دعاتك: فاغفر لي (1). ويستحب الدعاء بين الأذان والإقامة. وأن يتحول المؤذن إلى موضع آخر للإقامة. فرع: الاذان، والإمامة، كلاهما فيه فضل، وأيهما أفضل، فيه أوجه. أصحها وهو المنصوص: الإمامة أفضل. والثاني: الاذان. والثالث: هما سواء. والرابع: إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة، وجمع خصالها، فهي أفضل، وإلا، فالاذان. قاله أبو علي الطبري، والقاضي ابن كج، والقاضي حسين، والمسعودي (2). قلت: كذا رجح الرافعي أيضا في كتابه (المحرر) الإمامة، والأصح: ترجيح الاذان، وهو قول أكثر أصحابنا. وقد نص الشافعي رحمه الله في (الام) على كراهة الإمامة، فقال: أحب الاذان، لقول رسول الله (ص): (اللهم اغفر للمؤذنين) وأكره الإمامة للضمان وما على الامام فيها، هذا نصه. والله أعلم. وأما الجمع بين الاذان، والإمامة، فليس بمستحب. وأغرب ابن كج، فقال: الأفضل لمن صلح لهما، الجمع بينهما. ولعله أراد الاذان لقوم، والإمامة لآخرين. قلت: صرح بكراهة الجمع بينهما، الشيخ أبو محمد، والبغوي. وصرح باستحباب جمعهما، أبو علي الطبري، والماوردي، والقاضي أبو الطيب، وادعى الاجماع عليه، فحصل ثلاثة أوجه. الأصح: استحبابه، وفيه حديث حسن في الترمذي (3). والله أعلم.
314 فرع: يستحب للمؤذن، التطوع بالاذان، فإن لم يتطوع، رزقة الامام من مال المصالح. وهو خمس خمس الفئ، والغنيمة. وكذا أربعة أخماس الفئ، إذا قلنا: إنها للمصالح. وإنما يرزقه عند الحاجة، وعلى قدرها. ولو وجد فاسقا يتطوع، وأمينا لا يتطوع، فله أن يرزق الأمين على الصحيح. ولو وجد أمينا يتطوع، وأمينا أحسن منه صوتا لا يتطوع، فهل يجز أن يرزقه؟ وجهان. قال ابن سريج: نعم. والقفال: لا. قلت: قول ابن سريج أصح إن رآه الامام مصلحة، لظهور تفاوتهما. والله أعلم. وإذا كان في البلد مساجد، فإن لم يمكن جمع الناس في مسجد واحد، رزق عددا من المؤذنين، يحصل بهم الكفاية. ويتأدى الشعار. وإن أمكن، فوجهان. أحدهما: يجمع ويرزق واحدا. والثاني، يرزق الجميع، لئلا تتعطل المساجد. قلت: هذا الثاني، أصح. والله أعلم. فلو لم يكن في بيت المال سعة، بدأ بالأهم. وهو رزق مؤذن الجامع. وأذان صلاة الجمعة، أهم من غيره. وللامام أن يرزق من مال نفسه. ويجوز للواحد من الرعية. وحينئذ، لا حجر فيرزق كم شاء، ومتى شاء. وأما الاستئجار على الاذان، ففيه أوجه. أصحها: يجوز للامام من بيت المال، ومن مال نفسه، ولآحاد الناس من أهل المحلة وغيرهم، من مال نفسه. والثاني: لا يصح الاستئجار مطلقا. والثالث: يجوز للامام، ومن أذن له: ولا يجوز لآحاد الناس: وإذا جوزنا للامام الاستئجار من بيت المال، فإنما يجوز حيث يجوز الرزق، خلافا، ووفاقا. قال في (التهذيب) وإذا استأجر، من بيت المال، لم (1) يفتقر إلى بيان المدة، بل يكفي أن يقول: استأجرتك لتؤذن في هذا المسجد في أوقات الصلاة، كل شهر بكذا. ولو استأجر من مال نفسه، أو استأجر واحد من الرعية، ففي اشتراط بيان المدة، وجهان. قلت: أصحهما: الاشتراط. والله أعلم. والإقامة تدخل في الاستئجار للاذان. ولا يجوز الاستئجار للإقامة إذ لا كلفة
315 فيها، بخلاف الاذان. وليست هذه الصور بصافية عن الاشكال. فرع: يستحب أن يكون للمسجد مؤذنان. ومن فوائدهما: أن يؤذن أحدهما للصبح قبل الفجر، والآخر بعده. وتجوز الزيادة على اثنين. والمستحب أن لا يزاد على أربعة. قلت: هذا الذي ذكره من استحباب عدم الزيادة على أربعة، قاله أبو علي الطبري. وأنكره كثيرون من أصحابنا. وقالوا: إنما الضبط بالحاجة، ورؤية المصلحة. فإن رأى الامام المصلحة في الزيادة على أربعة، فعله. وإن رأى الاقتصار على اثنين، لم يزد. وهذا هو الأصح المنصوص. والله أعلم. وإذا ترتب للاذان اثنان فصاعدا، فالمستحب: أن لا يتراسلوا. بل إن اتسع الوقت، تجبوا فيه. فإن تنازعوا الابتداء، أقرع بينهم، وإن ضاق الوقت. فإن كان المسجد كبيرا، أذنوا متفرقين في أقطاره. وإن كان صغيرا وقفوا معا، وأذنوا. وهذا إذا لم يؤد اختلاف الأصوات إلى تهويش. فإن أدى، لم يؤذن إلا واحد. فإن تنازعوا، أقرع. وأما الإقامة، فإن أذنوا على الترتيب، فالأول: أولى بها، إن كان هو المؤذن الراتب، أو لم يكن هناك مؤذن راتب. إن كان الأول غير الراتب، فالأصح: أن الراتب أولى، والثاني: الأول أولى. ولو أقام في هذه الصورة، غير من له ولاية الإقامة، اعتد به، على الصحيح المعروف. وعلى الشاذ: لا يعتد بالإقامة من غير السابق بالاذان. تخريجا من قول الشافعي رحمه الله: لا يجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر. أما إذا أذنوا معا، فإن اتفقوا على إقامة واحد، وإلا أقرع. ولا يقيم في المسجد الواحد إلا واحد، إلا إذا لم تحصل الكفاية بواحد. وقيل: لا بأس أن يقيموا معا إذا لم يؤد إلى التهويش. فرع: وقت الاذان منوط بنظر المؤذن، لا يحتاج فيه إلى مراجعة الامام. ووقت الإقامة، منوط بالامام، وإنما يقيم المؤذن بإشارته. فرع ذكره الامام الرافعي في أوقات الصلاة وأشار إلى أنه هنا أنسب قال: صلاة الصبح تختص بالاذان بأمور. منها: أنه يجوز تقديم أذانها على دخول الوقت. وذكر في (البيان) وجها: أنه إن جرت عادة أهل بلد بتأخير
316 بالاذان، بعد طلوع الفجر، لم يقدم أذانها، [على دخول الوقت] (1) لئلا يلتبس. وهذا غريب. ثم في وقت جواز التقديم أوجه. أصحها: يقدم في الشتاء لسبع بقي من الليل. وفي الصيف: لنصف سبع. وهذا الضبط، تقريب لا تحديد. والثاني: يدخل بذهاب وقت الاختيار، للعشاء. وهو ثلث الليل، أو نصفه. والثالث: وقته: النصف الأخير من الليل، ولا يجوز قبله. والرابع: جميع الليل وقت له. ولم يفرق صاحب (التهذيب) بين الشتاء، والصيف. واعتبر السبع مطلقا تقريبا. قلت: الأصح: الوجه الثالث. واعتمد من رجح الأول: حديثا باطلا محرفا. والله أعلم. أما الإقامة للصبح، فلا يجوز قبل الفجر بلا خلاف. ويسن أن يؤذن للصبح مرتين (2). فيؤذن أحد المؤذنين قبل الفجر، والآخر بعده. ويجوز أن يقتصر على مرة قبل الصبح، أو بعده، أو بعض الكلمات قبل الصبح، وبعضها بعده. وإذا اقتصر على مرة، فالأولى أن يكون بعد الصبح على المعهود في سائر الصلوات. قلت: بقيت فروع تتعلق بالاذان. يكره التثويب في غير الصبح. قال في (التهذيب): لو زاد في الاذان ذكرا، أو زاد في عدده، لم يفسد أذانه. قال غيره: يستحب أن يجمع المؤذن، كل تكبيرتين بنفس واحد. وأما باقي الألفاظ، فيفرد كل كلمة بصوت، لطول لفظها، بخلاف التكبير. قال صاحب (العدة): وإذا كانت ليلة مطيرة، أو ذات ريح وظلمة، يستحب أن يقول: إذا فرغ من أذانه: ألا صلوا في رحالكم. فإن قاله في أثناء الاذان بعد الحيعلة، فلا بأس. وكذا قاله الصيدلاني، والبندنيجي، والشاشي، وغيرهم. واستبعد إمام الحرمين، قوله في أثناء الاذان، وليس هو ببعيد، بل هو الحق، والسنة. فقد نص عليه الشافعي رضي
317 الله عنه في آخر أبواب الاذان، في (الام): وقد ثبت في (الصحيحين) (1) عن ابن عباس (2) رضي الله عنهما، أنه قال لمؤذنه في يوم مطير. إذا قلت: أشهد أن محمدا رسول الله، فلا تقل: حي على الصلاة. وقل: صلوا في بيوتكم. وكأن الناس استنكروا ذلك. فقال: أتعجبون من ذا؟! قد (3) فعل ذا، من هو خير مني - يعني النبي (ص) - ويكره أن يكون الأعمى مؤذنا وحده، فإن كان معه بصير، لم يكره. ويسن أن يكون الاذان بقرب المسجد. ويكره قوله: حي على خير العمل. ولو لقن الاذان، صح. ولو أذن بالعجمية وهناك من يحسن بالعربية، لم يصح، وإلا، فيصح. ولو قال: الله الأكبر، صح. وتركه في السفر أخف من الحضر. وترك المرأة الإقامة أخف من ترك الرجل. والله أعلم. الباب الثالث في استقبال القبلة (4) وهو شرط لصحة الفريضة، إلا في شدة خوف القتال المباح، وسائر وجوه الخوف. وشرط لصحة النافلة، إلا في الخوف، والسفر المباح. والعاجز، كالمريض لا يجد من يوجهه. والمربوط على خشبة، يصلي حيث توجه. ولا يجوز فعل الفريضة على الراحلة، من غير ضرورة، فإن خاف انقطاعا عن رفقته لو نزل لها، أو خاف على نفسه، أو ماله، فله أن يصليها على الراحلة، وتجب الإعادة، ولا تصح المنذورة، ولا الجنازة، على الراحلة، على المذهب فيهما. وتقدم
318 بيانهما في التيمم (1). فرع: شرط الفريضة أن يكون مصليها مستقرا. فلا تصح من الماشي المستقبل، ولا من الراكب المخل بقيام، أو استقبال. فإن استقبل، وأتم الأركان في هودج، أو سرير، أو نحوهما على دابة واقفة، صحت الفريضة، على الأصح الذي قطع به الأكثرون. منهم: صاحبا (المعتمد) و (التهذيب)، وصاحبا (التتمة)، و (البحر)، وغيرهم. والثاني: لا يصح. وبه قطع إمام الحرمين، والغزالي. فإن كانت الدابة سائرة، لم تصح الفريضة على الأصح المنصوص. وتصح الفريضة في السفينة الجارية، والزورق المشدود على الساحل قطعا. وكذا في السرير الذي يحمله رجال (2)، وفي الأرجوحة المشدودة بالحبال، والزورق الجاري، للمقيم ببغداد ونحوه، على الأصح في الثلاثة. فصل: يجوز التنفل ماشيا، وعلى الراحلة سائرة إلى جهة مقصده في السفر الطويل (3). وكذا القصير، على المذهب. ولا يجوز في الحضر على الصحيح، بل لها فيه حكم الفريضة في كل شئ، إلا القيام. وقال الإصطخري: يجوز للراكب، والماشي في الحضر، مترددا في جهة مقصده. واختار القفال: الجواز، بشرط الاستقبال في جميع الصلاة، وحيث جازت النافلة على الراحلة، فجميع النوافل سواء على الصحيح الذي عليه الأكثرون. وعلى الضعيف: لا تجوز صلاة العيد، والكسوف، والاستسقاء. أما راكب السفينة، فلا يجوز تنفله فيها إلى غير القبلة، لتمكنه. نص عليه الشافعي رضي الله عنه. وكذا من تمكن في هودج على دابة، على الصحيح. واستثنى صاحب (العدة) ملاح السفينة التي يسيرها. وجوز تنفله، حيث توجه لحاجة.
319 قلت: واستثناه أيضا صاحب (الحاوي) وغيره، ولا بد منه. والله أعلم. فرع: إذا لم يتمكن المتنفل راكبا، من إتمام الركوع، والسجود، والاستقبال في جميع صلاته، ففي وجوب الاستقبال عند الاحرام، أوجه. أصحها: إن سهل، وجب، وإلا، فلا. فالسهل: بأن تكون الدابة واقفة، وأمكن انحرافه عليها (1)، أو تحريفها، أو كانت سائرة وبيده زمامها، وهي سهلة. وغير السهل: أن تكون مقطورة، أو صعبة. والثاني: لا يجب أصلا. والثالث: يجب مطلقا. فإن تعذر، لم تصح صلاته. والرابع: إن كانت الدابة عند الاحرام متوجهة إلى القبلة، أو إلى طريقه، أحرم كما هو. وإن كانت إلى غيرهما، لم يجز الاحرام إلا إلى القبلة. والاعتبار باستقبال الراكب دون الدابة، فلو استقبل عند التحرم، أجزأه بلا خلاف وإن كانت الدابة منحرفة عن القبلة، واقفة أو سائرة. وإذا شرطنا الاستقبال عند الاحرام، لم نشترطه عند السلام على الأصح، ولا يشترط فيما سواهما من أركان الصلاة، ولكن يشترط لزوم جهة المقصد في جميعها، إذا لم يستقبل القبلة. وتتبع ما يعرض في الطريق من معاطف. ولا يشترط سلوكه في نفس الطريق، بل الشرط جهة المقصد. فرع: ليس لراكب التعاسيف (3)، ترك الاستقبال في شئ من نافلته. وهو الهائم الذي يستقبل تارة، ويستدبر تارة، وليس له مقصد معلوم. فلو كان له مقصد معلوم (4)، لكن لم يسر في طريق معين، فله التنفل مستقبلا جهة مقصده على
320 الأظهر. وعلى الثاني: لا، لأنه لم يسلك طريقا مضبوطا، فقد لا يؤدي سيره إلى مقصده. فرع: إذا انحرف المصلي على الأرض، عن القبلة، نظر، إن استدبرها، أو تحول إلى جهة أخرى عمدا، بطلت صلاته. وإن فعله ناسيا، أو عاد إلى الاستقبال على قرب، لم تبطل. وإن عاد بعد طول الفصل، بطلت على الأصح. ككلام الناسي. وإن أماله غيره عن القبلة قهرا، فعاد إلى الاستقبال بعد الطول، بطلت. وكذا على القرب، على الأصح، لندوره. كما لو أكره على الكلام، فإنها تبطل على الصحيح، لندوره. ولو انحرف المتنفل ماشيا عن مقصده، أو حرف دابته، فإن كان إلى جهة القبلة، لم يضره. وإن كان إلى غيرها عمدا، بطلت صلاته (1)، وإن كان ناسيا، أو غالطا ظن أن الذي توجه إليه طريقه، وعاد على قرب، لم تبطل. وإن طال، بطلت على الأصح. ولو انحرف بجماح الدابة، وطال الزمان، بطلت على الصحيح، كالإمالة قهرا. وإن قصر، لم تبطل على المذهب. وبه قطع الجمهور، لعموم الجماح. وإذا لم تبطل في صورة النسيان، فإن طال الزمان، سجد للسهو. وإن قصر، فوجهان. المنصوص: لا يسجد. وفي صورة الجماح أوجه. أصحها: يسجد. والثاني: لا. والثالث: إن طال، سجد، وإلا فلا. وهذا تفريع على المشهور أن النفل يدخله سجود السهو. فرع: هذا الذي قدمناه، هو في استقبال الراكب على سرج، ونحوه، وليس عليه وضع الجبهة على عرف الدابة، ولا على السرج، والإكاف، بل ينحني للركوع، والسجود، إلى طريقه. والسجود، أخفض من الركوع. قال إمام
321 الحرمين: الفصل بينهما عند التمكن محتوم. والظاهر: أنه لا يجب مع ذلك أن تبلغ غاية وسعه في الانحناء. وأما سائر الأركان، فكيفيتها ظاهرة. وأما الراكب في مرقد ونحوه، مما يسهل فيه الاستقبال، وإتمام الأركان، فعليه الاستقبال في جميع الصلاة، وإتمام الأركان في جميع الصلاة (1) على الأصح، كراكب السفينة. والثاني: لا يشترط. وهو منصوص. وأما الماشي، ففيه أقوال. أظهرها: أنه يشترط أن يركع، ويسجد على الأرض، وله التشهد ماشيا. والثاني: يشترط التشهد أيضا قاعدا، ولا يمشي إلا حالة القيام. والثالث: لا يشترط اللبث بالأرض في شئ، ويومئ بالركوع والسجود، كالراكب. وأما استقباله، فإن قلنا بالقول الثاني، وجب عند الاحرام، وفي جميع الصلاة غير القيام. وإن قلنا بالأول، استقبل في الاحرام، والركوع، والسجود، ولا يجب عند السلام على الأصح. وإن قلنا بالثالث، لم يشترط الاستقبال في غير حالة الاحرام، والسلام. وحكمه فيهما حكم راكب بيده الزمام. وإذا لم نوجب استقبال القبلة، شرطنا ملازمة جهة مقصده. فرع: يشترط أن يكون ما يلاقي بدن المصلي على الراحلة، وثيابه، من السرج، وغيره، طاهرا. ولو بالت الدابة، أو وطئت نجاسة، أو كان على السرج نجاسة، فسترها، وصلى عليه، لم يضر. ولو أوطأها الراكب نجاسة، لم يضر أيضا على الأصح. ولو وطئ مصل ماشيا، نجاسة عمدا، بطلت صلاته، ولا يكلف التحفظ والاحتياط في المشي. ولو انتهى إلى نجاسة يابسة، ولم يجد عنها معدلا، قال إمام الحرمين: هذا فيه احتمال. فإن كانت رطبة، فمشى عليها، بطلت صلاته. فرع: يشترط في جواز النفل راكبا وماشيا دوام السفر، فلو بلغ المنزل في خلال الصلاة، اشترط إتمامها إلى القبلة متمكنا. وينزل إن كان راكبا. ولو دخل بلد إقامته، فعليه النزول، وإتمام الصلاة مستقبلا بأول دخوله البنيان (2)، إلا إذا
322 جوزنا للمقيم التنفل على الراحلة، وكذا لو نوى الإقامة بقرية. ولو مر بقرية مجتازا، فله إتمام الصلاة راكبا، فإن كان له بها أهل، فهل يصير مقيما بدخولها؟ قولان. إن قلنا: يصير، وجب النزول والاتمام مستقبلا. قلت: الأظهر، لا يصير. والله أعلم. وحيث أمرناه بالنزول، فذلك عند تعذر البناء على الدابة، فلو أمكن الاستقبال، وإتمام الأركان عليها وهي واقفة، جاز. ويشترط الاحتراز عن الأفعال التي لا يحتاج إليها. فلو ركض الدابة للحاجة، فلا بأس. ولو أجراها بلا عذر، أو كان ماشيا، فعدا بلا عذر، بطلت صلاته على الأصح. فصل في استقبال المصلي على الأرض: وله أحوال. أحدها: أن يصلي في جوف الكعبة، فتصح الفريضة، والنافلة. قلت: قال أصحابنا: والنفل فيها أفضل منه خارجها. وكذا الفرض إن لم يرج جماعة، فإن رجاها، فخارجها أفضل (1). والله أعلم. ثم له أن يستقبل أي جدار شاء. وله استقبال الباب، إن كان مردودا، أو مفتوحا، وله عتبة قدر ثلثي ذراع تقريبا. هذا هو الصحيح. ولنا وجه: أنه يشترط في العتبة، أن تكون بقدر قامة المصلي طولا وعرضا. ووجه: أنه يكفي شخوصها بأي قدر كان. الحال الثاني: لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - وبقي موضعها عرصة، فوقف
323 خارجها، وصلى إليها، جاز. فإن صلى فيها، فله حكم السطح. الحال الثالث: وهو أن يقف على سطحها، فإن لم يكن بين يديه شئ شاخص، لم يصح على الصحيح. وإن كان شاخص من نفس الكعبة، فله حكم العتبة. إن كان ثلثي ذراع، جاز. وإلا، فلا، على الصحيح. وفيه الوجهان الآخران. ولو وضع بين يديه متاعا، واستقبله، لم يكف. ولو استقبل بقية حائط ، أو شجرة ثابتة، جاز. ولو جمع تراب العرصة، واستقبله، أو حفر حفرة ووقف فيها، أو وقف في آخر السطح، أو العرصة، وتوجه إلى الجانب الآخر وهو مرتفع عن موقفه، جاز. ولو استقبل حشيشا نابتا عليها، أو خشبة، أو عصا مغروزة غير مسمرة، لم يكف على الأصح. وإن كانت العصا مثبتة، أو مسمرة، كفت قطعا. لكن قال إمام الحرمين: إن خرج بعض بدنه عن محاذاتها، كان على الخلاف الآتي، فيمن خرج بعض بدنه عن محاذاة الكعبة. قلت: لم يجزم إمام الحرمين بأنه يكون على ذلك الخلاف. بل قال: في هذا، تردد ظاهر عندي. وظاهر كلام الأصحاب: القطع بالصحة في مسألة العصا، لأنه يعد مستقبلا، بخلاف مسألة طرف الركن. والله أعلم. الحال الرابع: أن يصلي عند طرف ركن الكعبة، وبعض بدنه يحاذيه، وبعضه يخرج عنه، فلا تصح صلاته على الأصح. ولو وقف الامام بقرب الكعبة عند المقام، أو غيره، ووقف القوم خلفه مستديرين بالبيت، جاز. ولو وقفوا في أخريات المسجد، وامتد صف طويل، جاز. وإن وقفوا بقربه، وامتد الصف، فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة. الحال الخامس: أن يصلي بمكة خارج المسجد. فإن عاين الكعبة، كمن يصلي على جبل أبي قبيس (1)، صلى إليها. ولو بنى محرابه على العيان، صلى إليه أبدا، ولا يحتاج في كل صلاة إلى المعاينة. وفي معنى المعاين: من نشأ بمكة، وتيقن إصابة الكعبة وإن لم يشاهدها حال الصلاة، فإن لم يعاين، ولا تيقن
324 الإصابة، فله اعتماد الأدلة، والعمل بالاجتهاد، إن حال بينه وبين الكعبة حائل أصلي، كالجبل. وكذا إن كان الحائل طارئا، كالبناء، على الأصح، للمشقة في تكليف المعاينة. الحال السادس: أن يصلي بالمدينة، فمحراب رسول الله (ص) (1)، نازل منزلة الكعبة. فمن يعاينه، يستقبله، ويسوي محرابه عليه، بناء على العيان، أو الاستدلال، كما ذكرنا في الكعبة. ولا يجوز العدول عنه بالاجتهاد بحال. وفي معنى المدينة، سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله (ص)، إذا ضبط المحراب. وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين، وفي الطريق التي هي جادتهم، يتعين استقبالها، ولا يجوز الاجتهاد. وكذا القرية الصغيرة، إذا نشأ فيها قرون من المسلمين. ولا اعتماد على علامة بطريق يندر مرور الناس به، أو يستوي مرور المسلمين والكفار به، أو بقرية خربة، لا يدرى، بناها المسلمون، أو الكفار؟ بل يجتهد. ثم هذه المواضع التي منعنا الاجتهاد فيها في الجهة، هل يجوز في التيامن، والتياسر. إن كان محراب رسول الله (ص)؟ لا يجوز بحال. ولو تخيل حاذق، في معرفة القبلة فيه، تيامنا، أو تياسرا، فليس له ذلك، وخياله باطل. وأما سائر البلاد، فيجوز على الأصح الذي قطع به الأكثرون، والثاني: لا يجوز. والثالث: لا يجوز في الكوفة خاصة. والرابع: لا يجوز في الكوفة والبصرة، لكثرة من دخلهما من الصحابة رضي الله عنهم. الحال السابع: إذا كان بموضع لا يقين فيه. اعلم أن القادر على يقين القبلة، لا يجوز له الاجتهاد. وفيمن استقبل حجر الكعبة مع تمكنه منها، وجهان. الأصح: المنع، لان كونه من البيت، غير مقطوع به. بل هو مظنون. ثم اليقين، قد يحصل بالمعاينة، وبغيرها. كالناشئ بمكة، العارف يقينا بأمارات. وكما لا يجوز الاجتهاد مع القدرة على اليقين، لا يجوز اعتماد قول غيره. وأما غير القادر على اليقين، فإن وجد من يخبره بالقبلة عن علم، اعتمده، ولم
325 يجتهد، بشرط عدالة المخبر، يستوي فيه الرجل والمرأة والعبد. ولا يقبل كافر قطعا، ولا فاسق، ولا صبي، ولا مميز على الصحيح فيهما. ثم قد يكون الخبر صحيح (1) صرح لفظ، وقد يكون دلالة، كالمحراب المعتمد. وسواء في العمل بالخبر، أهل الاجتهاد وغيرهم. حتى الأعمى، يعتمد المحراب إذا عرفه باللمس حيث يعتمده البصير، وكذا البصير في الظلمة. وقال صاحب (العدة): إنما يعتمد الأعمى على المس، في محراب رآه قبل العمى. فإن لم يكن شاهده، لم يعتمده. ولو اشتبه عليه مواضع لمسها، فلا شك أنه يصبر، حتى يخبره غيره صريحا. فإن خاف فوت الوقت، صلى على حسب حاله، وأعاد. هذا كله، إذا وجد من يخبره عن علم، وهو ممن يعتمد قوله. أما إذا لم يجد العاجز من يخبره، فتارة يقدر على الاجتهاد، وتارة لا يقدر. فإن قدر، لزمه، واستقبل ما ظنه القبلة. ولا يصح الاجتهاد إلا بأدلة القبلة. وهي كثيرة فيها كتب مصنفة. وأضعفها، الرياح، لاختلافها. وأقواها، القطب، وهو نجم صغير في بنات نعش الصغرى، بين الفرقدين والجدي، إذا جعله الواقف خلف أذنه اليمنى، كان مستقبلا القبلة، إن كان بناحية الكوفة (2)، وبغداد (3)، وهمدان، وقزوين (4)، وطبرستان، وجرجان، وما والاها (5). وليس للقادر على الاجتهاد، تقليد غيره. فإن فعل، وجب قضاء الصلاة. وسواء خاف خروج الوقت، أم لم يخفه. لكن إن ضاق الوقت، صلى كيف كان،
326 وتجب الإعادة. هذا هو الصحيح، وفيه وجه لابن سريج: أنه يقلد عند خوف الفوات. وفي وجه ثالث: يصبر إلى أن تظهر القبلة، وإن فات الوقت. ولو خفيت الدلائل على المجتهد، لغيم، أو ظلمة، أو تعارض أدلة، فثلاثة طرق. أصحها: قولان. أظهرهما: لا يقلد. والثاني: يقلد. والطريق الثاني: يقلد. والثالث: يصلي بلا تقليد كيف كان، ويقضي. فإن قلنا: يقلد، لم يلزمه الإعادة على الصحيح، وقول الجمهور. قال إمام الحرمين: هذه الطرق إذا ضاق الوقت، وقبل ضيقه، يصبر، ولا يقلد قطعا، لعدم الحاجة. قال: وفيه احتمال من التيمم أول الوقت. أما إذا لم يقدر على الاجتهاد، فإن عجز عن تعلم أدلة القبلة، كالأعمى، والبصير الذي لا يعرف الأدلة، ولا له أهلية معرفتها، وجب عليه تقليد مكلف، مسلم، عدل، عارف بالأدلة، سواء فيه، الرجل، والمرأة، والعبد. وفي وجه شاذ: له تقليد صبي مميز. والتقليد: قبول قوله المستند إلى الاجتهاد. فلو قال بصير: رأيت القطب، أو رأيت الخلق العظيم من المسلمين يصلون إلى هنا، كان الاخذ به، قبول خبر، لا تقليدا. ولو اختلف عليه اجتهاد مجتهدين، قلد من شاء منهما على الصحيح. والأولى تقليد الأوثق والأعلم. وقيل: يجب ذلك. وقيل: يصلي مرتين إلى الجهتين، وأما المتمكن من تعلم أدلة القبلة فيبنى على أن تعلمها فرض كفاية، أم عين؟ والأصح: فرض عين. قلت: المختار ما قاله غيره، أنه إن أراد سفرا، ففرض عين، لعموم حاجة المسافر إليها، وكثرة الاشتباه عليه، وإلا ففرض كفاية، إذا لم ينقل أن النبي (ص) ثم السلف، ألزموا آحاد الناس بذلك، بخلاف أركان الصلاة وشروطها. والله أعلم. فإن قلنا: ليس بفرض عين، صلى بالتقليد، ولا يقضي كالأعمى. وإن قلنا: فرض عين، لم يجز التقليد. فإن قلد، قضى لتقصيره. وإن ضاق الوقت عن التعلم، فهو كالعالم إذا تحير. وتقدم الخلاف فيه. فرع: المصلي بالاجتهاد، إذا ظهر له الخطأ في الاجتهاد، له أحوال. أحدها: أن يظهر قبل الشروع في الصلاة، فإن تيقن الخطأ في اجتهاده، أعرض عنه، واعتمد الجهة التي يعلمها، أو يظنها الآن. وإن لم يتيقن، بل ظن أن الصواب جهة أخرى. فإن كان دليل الاجتهاد الثاني عنده أوضح من الأول الآن،
327 اعتمد الثاني. وإن كان الأول أوضح، اعتمده. وإن تساويا، فله الخيار فيهما، على الأصح. وقيل: يصلي إلى الجهتين مرتين. الحال الثاني: أن يظهر الخطأ بعد الفراغ من الصلاة. فإن تيقنه، وجبت الإعادة على الأظهر، سواء تيقن الصواب أيضا، أم لا. وقيل: القولان إذا تيقن الخطأ، وتيقن الصواب. أما إذا لم يتيقن الصواب، فلا إعادة قطعا. والمذهب: الأول. ولو تيقن الخطأ الذي قلده الأعمى، فهو كتيقن خطأ المجتهد. وأما إذا لم يتيقن الخطأ، بل ظنه، فلا إعادة عليه. فلو صلى أربع صلوات، إلى أربع جهات، باجتهادات، فلا إعادة على الصحيح. وعلى وجه شاذ: يجب إعادة الأربع. وقيل: يجب إعادة غير الأخيرة. ويجري هذا الخلاف، سواء أوجبنا تجديد الاجتهاد، أم لم نوجبه ففعله. الحال الثالث: أن يظهر الخطأ في أثناء الصلاة. وهو ضربان. أحدهما: يظهر الصواب مقترنا بظهور الخطأ. فإن كان الخطأ متيقنا، بنيناه على القولين في تيقن الخطأ بعد الفراغ. فإن قلنا بوجوب الإعادة، بطلت صلاته، وإلا فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: ينحرف إلى جهة الصواب، ويتم صلاته. والثاني: تبطل. وإن لم يكن الخطأ متيقنا، بل مظنونا، فعلى هذين الوجهين، أو القولين، الأصح: ينحرف، ويبني. وعلى هذا: الأصح لو صلى أربع ركعات، إلى أربع جهات، باجتهادات، فلا إعادة كالصلوات، وخص صاحب (التهذيب) الوجهين بما إذا كان الدليل الثاني أوضح من الأول. قال: فإن استويا، تمم صلاته إلى الجهة الأولى، ولا إعادة. الضرب الثاني: أن لا يظهر الصواب مع الخطأ، فإن عجز عن الصواب بالاجتهاد على القرب، بطلت صلاته. إن قدر عليه على القرب، فهل ينحرف ويبني، أم يستأنف؟ فيه خلاف مرتب على الضرب الأول، وأولى بالاستئناف. قلت: الصواب هنا، وجوب الاستئناف. والله أعلم. مثاله، عرف أن قبلته يسار المشرق، فذهب الغيم، وظهر كوكب قريب من الأفق، هو مستقبله، فعلم الخطأ يقينا، ولم يعلم الصواب، إذ يحتمل كون
328 الكوكب في المشرق، ويحتمل المغرب. لكن يعرف الصواب على قرب، فإنه يرتفع، فيعلم أنه مشرق، أو ينحط، فيعلم أنه مغرب، ويعرف به القبلة. وقد يعجز عن ذلك بأن يطبق الغيم عقب الكوكب. فرع في المطلوب بالاجتهاد: قولان. أحدهما: جهة الكعبة. وأظهرهما: عينها. اتفق العراقيون والقفال على تصحيحه. ولو ظهر الخطأ في التيامن، أو التياسر، فإن كان ظهوره بالاجتهاد، وظهر بعد الفراغ، لم يؤثر قطعا. وإن كان في أثنائها، انحرف، وأتمها قطعا. وإن كان ظهور باليقين، وقلنا: الفرض جهة الكعبة، فكذلك. وإن قلنا: عينها، ففي وجوب الإعادة بعد الفراغ، والاستئناف في الأثناء، القولان. قال صاحب (التهذيب) وغيره: ولا يستيقن الخطأ في الانحراف مع البعد عن مكة، وإنما يظن. ومع القرب يمكن التيقن، والظن. وهذا كله كالتوسط بين اختلاف أطلقه أصحابنا العراقيون: أنه هل يتيقن الخطأ في الانحراف من غير معاينة الكعبة، من غير فرق بين القرب من مكة والبعد؟ فقالوا: قال الشافعي رحمه الله: لا يتصور إلا بالمعاينة. وقال بعض الأصحاب: يتصور. فرع: إذا صلى باجتهاد، ثم أراد فريضة أخرى، حاضرة، أو فائتة، وجب إعادة الاجتهاد على الأصح (1). ثم قيل الوجهان، إذا لم يفارق موضعه. فإن فارقه وجب إعادته قطعا، كالتيمم. ولكن الفرق ظاهر، ولا يحتاج إلى تجديد الاجتهاد للنافلة قطعا ولو رأى اجتهاد رجلين إلى جهتين، عمل كل باجتهاده، ولا يقتدي بصاحبه. ولو اجتهد جماعة، واتفق اجتهادهم فأمهم أحدهم، ثم تغير اجتهاد مأموم، لزمه المفارقة، وينحرف إلى الجهة الثانية. وهل له البناء، أم عليه الاستئناف؟ فيه الخلاف المتقدم في تغير الاجتهاد في أثناء الصلاة، وهل هو مفارق بعذر، أو بغير عذر لتركه كمال البحث؟ وجهان. قلت: الأصح: الأول. والله أعلم. ولو تغير اجتهاد الامام، انحرف إلى الجهة الثانية، بانيا أو مستأنفا، على
329 الخلاف. ويفارقه المأمومون. ولو اختلف اجتهاد رجلين في التيامن، والتياسر، والجهة الواحدة، فإن أوجبنا على المجتهد رعاية ذلك، فهو كالاختلاف في الجهة، فلا يقتدي أحدهما بالآخر، وإلا فلا بأس. ولو شرع المقلد في الصلاة بالتقليد، فقال له عدل: أخطأ بك فلان، فله حالان. أحدهما: أن يكون قوله عن اجتهاد. فإن كان قول الأول أرجح عنده، لزيادة عدالته، أو هدايته للأدلة، أو مثله، أو لم يعرف هل هو مثله، أم لا؟ لم يجب العمل بقول الثاني. وهل تجوز العمل به؟ يبني على أن المقلد إذا وجد مجتهدين، هل يجب الاخذ بأعلمهما، أم يتخير؟ فإن قلنا: بالأول، لم يجز، وإلا، ففيه خلاف. قلت: الصحيح: أنه لا يجوز. والله أعلم. وإن كان الثاني أرجح، فهو كتغير اجتهاد البصير، فينحرف. ويجئ الخلاف في أنه يبني، أم يستأنف؟ ولو قال له المجتهد الثاني بعد الفراغ من الصلاة، لم يلزم الإعادة قطعا وإن كان الثاني أرجح، كما لو تغير اجتهاده بعد الفراغ. الحال الثاني: أن يخبر عن علم، ومعاينة، فيجب الرجوع إلى قوله وإن كان قول الأول أقوى عنده. ومن هذا القبيل، أن يقول للأعمى: أنت مصل إلى الشمس، والأعمى يعلم أن قبلته إلى غير الشمس، فيلزم الاستئناف على الأظهر. ولو قال الثاني: أنت على الخطأ قطعا، وجب قبوله قطعا. وسواء أخبره هذا القاطع بالخطأ عن الصواب، متيقنا أو مجتهدا، يجب قبوله (1)، لان تقليد الأول بطل بقطع هذا. وكل المذكور في الحالين، مفروض فيما إذا أخبر الثاني بالخطأ والصواب: جميعا. فإن أخبره عن الخطأ وحده، على صورة يجب قبولها، ولم يخبر هو، ولا
330 غيره بالصواب، فهو كاختلاف المجتهدين عليه في أثناء الصلاة. وقد سبق في الفرع (1). الباب الرابع في صفة الصلاة (2) الصلاة تشتمل على أركان وسنن تسمى: أبعاضا، وسنن لا تسمى أبعاضا. فالأركان المتفق عليها، سبعة عشر (3). النية، والتكبير، والقيام، والقراءة، والركوع. والطمأنينة فيه، والاعتدال، والطمأنينة فيه، والسجود، والطمأنينة فيه والجلوس بين السجدتين، والطمأنينة
331 فيه، والقعود في آخر الصلاة، والتشهد فيه، والصلاة على النبي (ص) فيه والسلام، وترتيبها هكذا. ومن فرض فيها الموالاة، ونية الخروج الحقهما بالأركان. وضم صاحب (التلخيص) والقفال، إلى الأركان استقبال القبلة. ومن الأصحاب، من جعل نية الصلاة شرطا. والأكثرون على أنها ركن، وهو الصحيح. وأما الابعاض، فستة. أحدها: القنوت في الصبح، وفي الوتر في النصف الثاني من شهر رمضان. والثاني: القيام للقنوت. والثالث: التشهد الأول. والرابع: الجلوس له. والخامس: الصلاة على النبي (ص) في التشهد الأول، إذا قلنا: تسن. والسادس (1): والصلاة على آل النبي (ص) في التشهد الأول، والآخر، إذا قلنا: هي سنة فيهما. وأما السنن التي ليست أبعاضا، فما يشرع سوى ما قدمناه. فصل في النية: يجب مقارنتها التكبير. وفي كيفية المقارنة، وجهان. أحدهما: يجب أن يبتدئ النية بالقلب، مع ابتداء التكبير باللسان، ويفرغ منها، مع فراغه منه. وأصحهما: لا يجب هذا، بل لا يجوز لئلا يخلو أول التكبير عن تمام النية. فعلى هذا قيل: يجب أن تقدم النية على التكبير، ولو بشئ يسير. والصحيح الذي قاله الأكثرون: لا يجب ذلك، بل الاعتبار بالمقارنة. وسواء قدم، أم لم يقدم، يجب استصحاب النية إلى انقضاء التكبير على الأصح وعلى الثاني، لا يجب. والنية: هي القصد، فيحضر المصلي في ذهنه ذات الصلاة، وما يجب التعرض له من صفاتها، كالظهرية، والفرضية، وغيرهما. ثم يقصد هذه العلوم، قصدا مقارنا لأول التكبير (2). ولا يجب استصحاب النية بعد التكبير، ولكن يشترط
332 أن لا يأتي بمناقض لها. ولو نوى في أثناء الصلاة، الخروج منها، بطلت. وإن تردد في أن يخرج، أو يستمر، بطلت. والمراد بالتردد: أن يطرأ شك مناقض للجزم. ولا عبرة بما يجري في الفكر، أنه لو تردد في الصلاة، كيف يكون الحال، فإن ذلك مما يبتلى به الموسوس. وقد يقع ذلك في الايمان بالله تعالى، فلا مبالاة بذلك، قاله امام الحرمين. ولو نوى في الركعة الأولى، الخروج في الثانية، أو علق الخروج بشئ يوجد في صلاته قطعا، بطلت في الحال على الصحيح، وعلى الشاذ: لا تبطل في الحال، بل لو رفض هذا التردد قبل الانتهاء إلى الغاية المنوية، صحت صلاته. ولو علق الخروج بدخول شخص ونحوه، مما يحتمل حصوله في الصلاة. وعدمه، بطلت في الحال على الأصح، كما لو دخل في الصلاة هكذا، فإنه لا ينعقد بلا خلاف، وكما لو علق به الخروج من الاسلام، فإنه يكفر في الحال قطعا. والثاني: لا تبطل في الحال. وهل تبطل بوجود الصفة إذا وجدت وهو ذاهل عن التعليق؟ وجهان. أحدهما: لا، وأصحهما، وقول الأكثرين: تبطل. قال إمام الحرمين: ويظهر على هذا، أن يقال: تبين بالصفة بطلانها من حين التعليق. أما إذا وجدت، وهو ذاكر للتعليق،. فتبطل قطعا. ولو نوى فريضة، أو سنة راتبة، ثم نوى فيها فريضة أخرى، أو راتبة، بطلت التي كان فيها، ولم تحصل المنوية. وفي بقاء أصل الصلاة نافلة قولان نذكرهما إن شاء الله تعالى. ولو تردد الصائم في الخروج من صومه، أو علقة على دخول شخص ونحوه، لم يبطل على المذهب الذي قطع به الجماهير. وقيل: وجهان. ولو جزم نية الخروج منه، لم يبطل على الأصح، كالحج، فإنه لا يبطل قطعا. ولو شك في صلاته، هل أتى بكمال النية، أم تركها، أو ترك بعض شروطها؟ نظر إن تذكر أنه أتى بكمالها قبل أن يحدث شيئا على الشك وقصر الزمان، لم تبطل صلاته وإن طال، بطلت على الأصح لانقطاع نظمها. وإن تذكر بعد أن أتى على الشك بركن فعلي، كالركوع، أو السجود، بطلت. وإن أتى بقولي، كالقراءة، والتشهد ، بطلت أيضا على الأصح المنصوص، والذي قطع به العراقيون. قلت: قال الماوردي: لو شك، هل نوى ظهرا، أو عصرا؟ لم يجزئه عن واحدة، فإن تيقنها، فعلى التفصيل المذكور. والله أعلم. فرع في كيفية النية أما الفريضة، فيجب فيها قصد أمرين بلا خلاف.
333 أحدهما: فعل الصلاة، لتمتاز عن سائر الأفعال. ولا يكفي إحضار نفس الصلاة بالبال، غافلا عن الفعل. والثاني: تعيين الصلاة المأتي بها، ولا تجزئه نية فريضة الوقت عن نية الظهر، أو العصر على الأصح، لان الفائتة التي يتذكرها تشاركها في كونها فريضة الوقت. ولا تصح الظهر بنية الجمعة على الصحيح الصواب. ولا تصح الجمعة بنية مطلق الظهر، ولا تصح بنية الظهر المقصورة إن قلنا: إنها صلاة بحيالها. وإن قلنا: ظهر مقصورة، صحت. واختلفوا في اعتبار أمور سوى هذين الامرين. أحدها: الفرضية، وهو شرط على الأصح عند الأكثرين، سواء كان الناوي بالغا، أو صبيا. وسواء كانت الصلاة قضاء، أم أداء. الثاني: الإضافة إلى الله تعالى، بأن يقول: لله، أو فريضة الله. والأصح: أنه لا يشترط. الثالث: القضاء، والأداء، الأصح: أنه لا يشترط، بل تصح أداء بنية القضاء، وعكسه. ولك أن تقول: الخلاف في اشتراط نية الأداء في الأداء، ونية القضاء في القضاء، ظاهر. أما الخلاف في صحة الأداء بنية القضاء وعكسه، فليس بظاهر، لأنه إن جرت هذه النية على لسانه، أو في قلبه، ولم يقصد حقيقة معناها، فينبغي أن تصح قطعا. وإن قصد حقيقة معناه، فينبغي أن لا يصح قطعا، لتلاعبه. قلت: مراد الأصحاب بقولهم: يصح القضاء بنية الأداء، (1) وعكسه، من
334 نوى ذلك جاهل الوقت لغيم، ونحوه. والالزام الذي ذكره الرافعي، حكمه صحيح، ولكن ليس هو مرادهم. والله أعلم. الرابع: التعرض لاستقبال القبلة، وعدد الركعات. المذهب: أنه لا يشترط. وقيل: يشترط، وهو غلط. لكن لو نوى الظهر ثلاثا، أو خمسة، لم تنعقد. وأما النافلة، فضربان أحدهما: ما لها وقت، أو سبب، فيشترط فيها نية فعل الصلاة، والتعيين. فينوي صلاة الاستسقاء، أو الخسوف، أو عيد الفطر، أو النحر، أو الضحى، وغيرها. وفي الرواتب، يعين بالإضافة. فيقول: سنة الفجر، أو راتبة الظهر، أو سنة العشاء، وفي وجه ضعيف: يكفي فيما عدا ركعتي الفجر من الرواتب، نية أصل الصلاة، لتأكد ركعتي الفجر، فألحقت بالفرائض. وأما الوتر، فينوي سنة الوتر، ولا يضيفها إلى العشاء، لأنها مستقلة. فإن أوتر بأكثر من واحدة، نوى بالجميع الوتر، كما ينوي في جميع ركعات التراويح. وفي وجه: ينوي بما قبل الواحدة، صلاة الليل. وفي وجه: ينوي به سنة الوتر. وفي وجه: مقدمة الوتر. والظاهر: أن هذه الأوجه في الأولوية، دون الاشتراط. وفي اشتراط نية النفلية في هذا الضرب، والأداء، والقضاء، والإضافة إلى الله تعالى، الخلاف المتقدم في الفريضة (1). الضرب الثاني: النوافل (2) المطلقة. فيكفي فيها نية فعل الصلاة. ولم يذكروا هنا خلافا في اشتراط التعرض للنفلية. ويمكن أن يقال: مقتضى اشتراط الفرضية في الفرض، اشتراط النفلية هنا. قلت: الصواب، الجزم بعدم اشتراط النفلية في الضربين. ولا وجه للاشتراط في الأول. والله أعلم.
335 فرع: النية في جميع العبادات معتبرة بالقلب. ولا يكفي فيها نطق اللسان مع غفلة القلب، ولا يشترط ولا يضر مخالفته القلب. كمن قصد بقلبه الظهر، وجرى لسانه بالعصر، انعقد ظهره. ولنا وجه شاذ: أنه يشترط نطق اللسان، وهو غلط. ولو عقب النية بقوله: إن شاء الله تعالى، بالقلب، أو باللسان، فإن قصد به التبرك، ووقوع الفعل بمشيئة الله تعالى، لم يضر. وإن قصد الشك، لم تصح صلاته (1). فرع: من أتى بما ينافي الفريضة، دون النفلية في أول صلاته، أو في أثنائها، وبطل فرضه، هل تبقى صلاته نافلة، أم تبطل؟ قولان. اختلف في الأصح منهما الأصحاب بحسب الصور. فمنها: إذا تحرم بالظهر قبل الزوال، فإن كان عالما بحقيقة الحال، فالأظهر: البطلان. وإن جهل، فالأظهر: انعقادها نافلة. ومثله: لو وجد المسبوق الامام راكعا، فأتى ببعض تكبيرة الاحرام في الركوع، لا ينعقد الفرض. فإن كان عالما بتحريمه، فالأظهر: البطلان، وإلا فالأظهر: انعقادها نفلا. ومنها: لو أحرم بفريضة منفردا، ثم أقيمت جماعة، فسلم من ركعتين ليدركها، فالأظهر: صحتها نفلا. ومنها: لو وجد المصلي قاعدا خفة في صلاته، فلم يقم، أو أحرم القادر على القيام بالفرض قاعدا، أو قلب المصلي فرضه نفلا بلا سبب، فالأظهر: البطلان في الثلاثة. فصل في تكبيرة الاحرام أما القادر عليها، فيتعين عليه كلمة التكبير. ولا يجزئ ما قرب منها، ك: الرحمن أجل، والرب أعظم، أو: الرحمن الرحيم أكبر. وفي وجه شاذ: يجزئه: الرحمن أكبر، أو: الرحيم أكبر. ولو قال: الله الأكبر، أجزأه على المشهور. كما لو قال: الله أكبر من كل شئ، أو: الله أكبر
336 وأجل وأعظم. ولو قال: الله الجليل أكبر، أجزأه على الصحيح. ويجري الخلاف، فيما إذا أدخل بين كلمتي التكبير لفظا آخر من صفات الله تعالى، بشرط أن يقل لفظه، كقوله: الله عز وجل أكبر. فإن طال، كقوله: الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس أكبر، لم يجزئه قطعا، لخروجه عن اسم التكبير، ولو قال: أكبر الله، أو: الأكبر الله، لم تنعقد صلاته على المذهب. وقيل: قولان. وقيل: لا ينعقد الأول. وفي الثاني الطريقان. ويجب الاحتراز في لفظ التكبير، عن وقفة بين كلمتيه، وعن زيادة تغير المعنى، بأن يقول: الله أكبر، بمد همزة الله. أو: الله أكبار، أو يزيد واوا ساكنة، أو متحركة بين الكلمتين. ولا يضر المد في موضعه، ويجب أن يكبر بحيث يسمع نفسه، ويجب أن يكبر قائما حيث يجب القيام. ولا يجزئه ترجمة التكبير بغير لسان العرب مع القدرة عليه. أما العاجز عن كلمة التكبير، أو بعضها، فله حالان. أحدهما: أن لا يمكنه كسب القدرة. فإن كان بخرس، أو نحوه، حرك لسانه، وشفتيه، ولهاته بالتكبير قدر إمكانه، وإن كان ناطقا لا يطاوعه لسانه، أتى بترجمة التكبير، ولا يعدل إلى ذكر آخر. ثم جميع اللغات في الترجمة سواء، فيتخير بينها على الصحيح. وقيل: إن أحسن السريانية، أو العبرانية، تعينت، لشرفها بإنزال الكتاب بها. والفارسية بعدهما أولى من التركية، والهندية. الحال الثاني: أن يمكنه القدرة بتعلم، أو نظر في موضع كتب عليه لفظ التكبير، فيلزمه ذلك. ولو كان ببادية، أو موضع لا يجد فيه من يعلمه، لزمه السير إلى قرية يتعلم بها على الأصح. والثاني: يكفيه الترجمة. ولا يجوز في أول الوقت لمن أمكنه التعلم في آخره. وإذا صلى بالترجمة في الحال الأول، فلا إعادة. وأما الحال الثاني، فإن ضاق الوقت عن التعلم لبلادة ذهنه، أو قلة ما أدركه من الوقت، فلا إعادة أيضا. وإن أخر التعلم مع التمكن، وضاق الوقت، صلى بالترجمة، وتجب الإعادة على الصحيح والصواب. قلت: ومن فروع الفصل، ما ذكره صاحب (التلخيص) والبغوي، والأصحاب. أنه لو كبر للاحرام أربع تكبيرات، أو أكثر، دخل في الصلاة بالأوتار، وبطلت بالاشفاع. وصورته، أن ينوي بكل تكبيرة، افتتاح الصلاة، ولم ينو
337 الخروج عن الصلاة بين كل تكبيرتين. فبالأولى: دخل في الصلاة. وبالثانية: خرج. وبالثالثة: دخل. وبالرابعة: خرج. وبالخامسة: دخل. وبالسادسة: خرج. وهكذا أبدا. لان من افتتح صلاة، ثم نوى افتتاح صلاة، بطلت صلاته. ولو نوى افتتاح الصلاتين بين كل تكبيرتين، فبالنية يخرج، وبالتكبير يدخل، ولو لم ينو بالتكبيرة الثانية وما بعدها افتتاحا، ولا خروجا، صح دخوله بالأولى، وباقي التكبيرات ذكر لا تبطل به الصلاة. والله أعلم. فرع: رفع اليدين عند تكبيرة الاحرام سنة. والمذهب: أنه يرفعهما بحيث تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه، وإبهاماه شحمتي أذنيه، وكفاه منكبيه، وهذا معنى قول الشافعي والأصحاب رحمهم الله (1) عنهم: يرفعهما حذو منكبيه. وأما حكاية الغزالي: فيه ثلاثة أقوال، فمنكرة. ولو كان أقطع اليدين، أو واحدة من المعصم، رفع الساعد. وإن قطع من المرفق، رفع العضد على الأصح. ولو لم يمكنه الرفع إلا بزيادة على المشروع، أو نقص، أتى بالممكن. فإن قدر عليهما، أتى بالزيادة. قلت: يستحب أن يكون كفه إلى القبلة عند الرفع، قاله في (التتمة) ويستحب الرفع لكل مصل، قائم، وقاعد، مفترض، ومتنفل، إمام، ومأموم. والله أعلم. وفي وقت الرفع، أوجه. أحدها: يرفع غير مكبر، ثم يبتدئ التكبير مع إرسال اليدين، وينهيه مع انتهائه. والثاني: يرفع غير مكبر، ثم يكبر، ويداه قارتان، ثم يرسلهما. وصححه البغوي. والثالث: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير، وينهيهما معا. والرابع: يبتدئهما معا، وينهي التكبير مع انتهاء الارسال. والخامس وهو الأصح: يبتدئ الرفع مع ابتداء التكبير ولا استحباب في الانتهاء (2)، فإن فرغ من التكبير قبل تمام الرفع، أو بالعكس، أتم الباقي. وإن فرغ منهما، حط يديه ولم يستدم الرفع. ولو ترك رفع اليدين، حتى أتى ببعض التكبير، رفعهما في الباقي، فإن أتمه، لم يرفع بعده. ويستحب كشف اليدين عند الرفع، وأن يفرق
338 أصابعهما تفريقا وسطا، وأن لا يقصر التكبير بحيث لا يفهم، ولا يمططه بأن يبالغ في مده، بل يأتي به مبينا. والأولى فيه: الحذف على الصحيح. وعلى الشاذ: المد أولى. فرع: السنة بعد التكبير، حط اليدين، ووضع اليمنى على اليسرى، فيقبض بكفه اليمنى، كوع اليسرى، وبعض رسغها، وساعدها. قال القفال: ويتخير بين بسط أصابع اليمنى في عرض المفصل، وبين نشرها في صوب الساعد. ثم يضع يديه كما ذكرنا تحت صدره، وفوق سرته، على الصحيح. وعلى الشاذ: تحت سرته. واختلفوا في أنه إذا أرسل يديه، هل يرسلهما إرسالا بليغا ثم يستأنف رفعهما إلى تحت صدره ووضع اليمنى على اليسرى، أم يرسلهما إرسالا خفيفا إلى تحت صدره فحسب، ثم يضع؟. قلت: الأصح: الثاني. والله أعلم. فصل في القيام: اعلم أن القيام، أو ما يقوم مقامه، ركن في الصلاة، ويقوم القعود مقامه في النافلة، وفي الفريضة عند العجز. ويشترط في القيام، الانتصاب. وهل يشترط الاستقلال، بحيث لا يستند؟ فيه أوجه. أصحها: وهو المذكور في (التهذيب) وغيره: لا يشترط. فلو استند إلى جدار، أو انسان، بحيث لو رفع السناد لسقط، صحت صلاته مع الكراهة. والثاني: يشترط، ولا يصح مع الاسناد عند القدرة بحال. والثالث: يجوز إن كان بحيث لو رفع السناد لم يسقط، وإلا، فلا. هذا في استناد لا يسلب اسم القيام. فإن استند متكئا، بحيث لو رفع قدميه عن الأرض لأمكنه البقاء، فهذا معلق نفسه بشئ وليس بقائم. أما إذا لم يقدر على الاستقلال، فيجب أن ينتصب متكئا على الصحيح. وفي وجه شاذ: لا يلزمه القيام في هذا الحال، بل له الصلاة قاعدا. وأما الانتصاب المشروط، فلا يخل به إطراق الرأس، وإنما المعتبر، نصب فقار الظهر، فليس للقادر أن يقف مائلا إلى اليمين، أو اليسار، زائلا عن سنن القيام، ولا أن يقف منحنيا في حد الراكعين. فإن لم يبلغ انحناؤه حد الركوع، لكن كان إليه أقرب منه إلى الانتصاب، لم يصح على الأصح. قلت: ولو لم يقدر على النهوض للقيام إلا بمعين، ثم لا يتأذى بالقيام، لزمه
339 أن يستعين بمن يقيمه. فإن لم يجد متبرعا، لزمه الاستئجار بأجرة المثل إن وجدها. والله أعلم. هذا في القادر على الانتصاب. فأما العاجز، كمن تقوس ظهره لزمانة، أو كبر، وصار في حد الراكعين، فيلزمه القيام. فإذا أراد الركوع، زاد في الانحناء إن قدر عليه. هذا هو الصحيح الذي قطع به العراقيون، وصاحب (التتمة) و (التهذيب) ونص عليه الشافعي (1). وقال إمام الحرمين، والغزالي: يلزمه أن يصلي قاعدا. قالا: فإن قدر عند الركوع على الارتفاع إلى حد الراكعين، لزمه. ولو عجز عن الركوع والسجود، دون القيام، لعلة بظهره تمنع الانحناء، لزمه القيام. ويأتي بالركوع والسجود بحسب الطاقة، فيحني صلبه قدر الامكان. فإن لم يطق، حنى رقبته، ورأسه، فإن احتاج فيه إلى شئ يعتمد عليه، أو إلى أن يميل إلى جنبه، لزمه ذلك. فإن لم يطق الانحناء أصلا، أومأ إليهما. قلت: وإذا أمكنه القيام، والاضطجاع، ولم يمكنه القعود، قال صاحب (التهذيب) يأتي بالقعود قائما، لأنه قعود وزيادة. واعلم بأنه (2) يكره للصحيح أن يقوم على إحدى رجليه، ويصح. ويكره أن يلصق القدمين، بل يستحب التفريق بينهما، وتطويل القيام عندنا، أفضل من تطويل الركوع والسجود، وتطويل السجود أفضل من تطويل الركوع. وإذا طول الثلاثة زيادة على ما يجوز الاقتصار عليه، فالأصح: أن الجميع يكون واجبا. والثاني: يقع ما زاد سنة، ومثله الخلاف في مسح جميع الرأس، وفي البعير المخرج في الزكاة عن خمس، وفي البدنة المضحي بها بدلا عن شاة منذورة (3). والله أعلم. فرع: إذا عجز عن القيام في صلاة الفرض، عدل إلى القعود، ولا ينقص ثوابه، لأنه معذور. ولا نعني بالعجز، عدم تأتي القيام، بل خوف الهلاك، أو
340 زيادة المرض، أو لحوق مشقة شديدة، أو خوف الغرق، ودوران الرأس، في حق راكب السفينة. قلت: الذي اختاره إمام الحرمين في ضبط العجز: أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه. والله أعلم. ولو جلس للغزاة رقيب يرقب العدو، فأدركته الصلاة، ولو قام لرآه العدو، أو جلس الغزاة في مكمن، ولو قاموا رآهم العدو وفسد التدبير، فلهم الصلاة قعودا. وتجب الإعادة لندوره. قلت: قال صاحب (التتمة) في غير الرقيب: إن خاف لو قام أن يقصده العدو، وصلى قاعدا، أجزأته على الصحيح. ولو صلى الكمين في وهدة قعودا، ففي صحتها قولان. والله أعلم. ثم إذا قعد المعذور، لا يتعين لقعوده هيئة، بل يجزئه جميع هيئات القعود. لكن يكره الاقعاء في هذا القعود، وفي جميع قعدات الصلاة. وفي المراد بالاقعاء ثلاثة أوجه. أصحها: أنه الجلوس على الوركين، ونصب الفخذين، والركبتين، وضم إليه أبو عبيد: أن يضع يديه على الأرض. والثاني: أن يفرش رجليه، ويضع إليه على عقبيه، والثالث: أن يضع يديه على الأرض، ويقعد على أطراف أصابعه. قلت: الصواب، هو الأول. وأما الثاني: فغلط. فقد ثبت في (صحيح مسلم) (1): أن الاقعاء سنة نبينا (ص) وفسره العلماء بما قاله الثاني. ونص على استحبابه الشافعي رحمه الله في (البويطي) و (الاملاء) في الجلوس بين السجدتين. قال العلماء: فالاقعاء ضربان. مكروه، وغيره. فالمكروه: المذكور في الوجه الأول، وغيره: الثاني. والله أعلم. وفي الأفضل من هيئات القعود، قولان، ووجهان. أحد القولين: وهو أصح
341 الجميع: يقعد مفترشا. وثانيهما: متربعا. وأحد الوجهين: متوركا. وثانيهما: ناصبا ركبته اليمنى، جالسا على رجله اليسرى. ويجري الخلاف في قعود النافلة. وأما ركوع القاعد، فأقله أن ينحني قدر ما يحاذي وجهه ما قدام ركبتيه من الأرض (1). وأكمله، أن ينحني بحيث تحاذي جبهته موضع سجوده. وأما سجوده، فكسجود القائم. هذا إذا قدر القاعد على الركوع والسجود، فإن عجز لعلة بظهره، أو غيرها، فعل الممكن من الانحناء. ولو قدر القاعد على الركوع، وعجز عن وضع الجبهة على الأرض نظر، إن قدر على أقل ركوع القاعد وأكمله، من غير زيادة، أتى بالممكن، مرة عن الركوع، ومرة عن السجود، ولا يضر استواؤهما. وإن قدر على زيادة على كمال الركوع، وجب الاقتصار في الانحناء للركوع على قدر الكمال، ليتميز عن السجود. ويلزمه أن يقرب جبهته من الأرض للسجود، أكثر ما يقدر عليه. حتى قال الأصحاب: لو قدر أن يسجد على صدغه، أو عظم رأسه الذي فوق الجبهة، وعلم أنه إذا فعل ذلك كانت جبهته أقرب إلى الأرض، لزمه ذلك. قلت: قال الشافعي رحمه الله في (الام) والأصحاب: لو قدر أن يصلي قائما منفردا، وإذا صلى مع الجماعة احتاج أن يصلي بعضها من قعود، فالأفضل: أن يصلي منفردا. فإن صلى مع الجماعة، وقعد في بعضها، صحت. ولو كان بحيث لو اقتصر على قراءة الفاتحة، أمكنه القيام، وإذا زاد، عجز، صلى بالفاتحة. فلو شرع في السورة، فعجز، قعد. ولا يلزمه قطع السورة ليركع. والله أعلم. فرع فيما إذا عجز عن القعود قد ذكرنا أن العجز عن القيام، يتحقق بتعذره، أو لحوق مشقة شديدة، أو غيرهما مما قدمناه. قال الجمهور: والعجز عن القعود، يحصل بما يحصل به العجز عن القيام. وقال إمام الحرمين: لا يكفي ذلك، بل يشترط فيه عدم تصور القعود، أو خيفة الهلاك، أو المرض الطويل، إلحاقا له بالمرض المبيح للتيمم. وفي كيفية صلاته، وجهان. وقيل: قولان.
342 أصحهما: يضطجع (1) على جنبه الأيمن، مستقبلا بوجهه ومقدم بدنه القبلة، كالميت في لحده. فلو خالف، واضطجع على جنبه الأيسر، صح، إلا أنه ترك السنة. والثاني: أنه يستلقي على ظهره، ويجعل رجليه إلى القبلة، ويرفع وسادته قليلا. وهذا الخلاف في القادر على الاضطجاع والاستلقاء. فإن لم يقدر إلا على أحدهما، أتى به. قال إمام الحرمين: هذا الخلاف في الكيفية الواجبة، بخلاف الخلاف السابق في كيفية القعود، فإنه في الأفضل، لاختلاف استقبال بهذا دون ذاك. وفي المسألة، وجه ثالث: أنه يضطجع على جنبه، وأخمصاه إلى القبلة. ثم إذا صلى على هيئة من هذه الهيئات، وقدر على الركوع والسجود، أتى بهما، وإلا أومأ بهما منحنيا، وقرب جبهته من الأرض بحسب الامكان، وجعل السجود أخفض من الركوع. فإن عجز عن الإشارة بالرأس أومأ بطرفه. فإن عجز عن تحريك الأجفان، أجرى أفعال الصلاة على قلبه. فإن اعتقل لسانه، أجرى القرآن والأذكار على قلبه. وما دام عاقلا، لا تسقط عنه الصلاة. ولنا وجه: أنه تسقط الصلاة، إذا عجز عن الايماء بالرأس. وهو مذهب أبي حنيفة (2) (3) رحمه الله. وهو شاذ. والمعروف في المذهب: ما قدمناه. فرع: القادر على القيام، إذا أصابه رمد، وقال له طبيب موثوق به: إن
343 صليت مستلقيا، أو مضطجعا، أمكن مداواتك، وإلا خيف عليك العمى، جاز له الاضطجاع والاستلقاء على الأصح. ولو قال: إن صليت قاعدا، أمكنت. فقال إمام الحرمين: يجوز القعود قطعا. ومفهوم كلام غيره: أنه على الوجهين. فرع: لو عجز في أثناء صلاته عن القيام، قعد وبنى. ولو صلى قاعدا، فقدر على القيام في أثنائها، قام وبنى. وكذا لو صلى مضطجعا، فقدر على القيام، أو القعود، أتى بالمقدور، وبنى. ثم إذا تبدل الحال بالنقص إلى الكمال، بأن قدر القاعد على القيام لخفة المرض، نظر، إذا اتفق ذلك قبل القراءة، قام وقرأ قائما. وكذا إن كان في أثناء القراءة، قام وقرأ بقية الفاتحة في حال القيام. ويجب ترك القراءة في النهوض إلى أن ينتصب معتدلا. فلو قرأ في نهوضه بعض الفاتحة، فعليه إعادته. وإن قدر بعد الفاتحة (1) قبل الركوع، لزمه القيام ليهوي منه إلى الركوع. ولا يلزمه الطمأنينة في هذا القيام، لأنه ليس مقصودا لنفسه. ويستحب في هذه الأحوال، أن يعيد الفاتحة ليقع في حال الكمال. ولو وجد الخفة في ركوعه قاعدا، فإن كان قبل الطمأنينة، لزمه الارتفاع إلى حد الراكعين عن قيام. ولا يجوز أن يرتفع قائما، ثم يركع، لئلا يزيد ركوعا. ولو فعله، بطلت صلاته. وإن كان بعد الطمأنينة، فقد تم ركوعه، ولا يلزمه الانتقال إلى ركوع القائمين. ولو وجد الخفة في الاعتدال عن الركوع قاعدا، فإن كان قبل الطمأنينة، لزمه أن يقوم، ليعتدل ويطمئن. وإن كان بعدها، فوجهان. أحدهما: يلزمه أن يقوم ليسجد عن قيام. وأصحهما: لا يلزمه لئلا يطول الاعتدال، وهو ركن قصير. فإن اتفق ذلك في الركعة الثانية من الصبح قبل القنوت، لم يقنت قاعدا. فإن فعل، بطلت صلاته. بل يقوم، ويقنت. أما إذا تبدل الحال من الكمال إلى النقص، بأن عجز في أثناء الصلاة، فينتقل إلى الممكن. فإن اتفق العجز في أثناء الفاتحة، وجب إدامة القراءة في هويه. فرع: يجوز فعل النافلة قاعدا مع القدرة على القيام. لكن ثوابها يكون نصف ثواب القائم. ولو تنفل مضطجعا، مع القدرة على القيام، والقعود، جاز على الأصح. ثم المضطجع في الفريضة، يأتي بالركوع والسجود، إذا قدر
344 عليهما. وهنا الخلاف في جواز الاضطجاع يجري في الاقتصار على الايماء. لكن الأصح منع الاقتصار على الايماء. قال إمام الحرمين: ما عندي أن من جوز الاضطجاع، يجوز الاقتصار في الأركان الذكرية، كالتشهد، والتكبير، وغيرهما على ذكر القلب. ثم يستوي فيما ذكرناه، النوافل كلها، الراتبة، وغيرها، على الصحيح. وفي وجه شاذ: لا تجوز صلاة العيد، والكسوف، والاستسقاء قاعدا مع القدرة، كالجنازة. فصل: يستحب للمصلي إذا كبر، أن يقول دعاء الاستفتاح (1)، وهو (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين. إن صلاتي، ونسكي، ومحياي، ومماتي، لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين (2)). ولا يزيد الامام على هذا، إذا لم يعلم رضى المأمومين بالزيادة. فإن علم رضاهم، أو كان المصلي منفردا، استحب أن يقول بعده: (اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك (3)) وقال جماعة من أصحابنا، منهم: أبو إسحاق المروزي، والقاضي أبو حامد: السنة أن يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك) (4). ثم يقول: (وجهت وجهي...) إلى آخره. ومن ترك دعاء الاستفتاح
345 عمدا، أو سهوا، حتى شرع في التعوذ، لم يعد إليه، ولا يتداركه في باقي الركعات. ولو أدرك مسبوق الامام في التشهد الأخير، وكبر، وقعد، فسلم الامام لأول قعوده، قام، ولا يأتي بدعاء الاستفتاح، لفوات محله. ولو سلم الامام قبل قعوده، لا يقعد، ويأتي بدعاء الاستفتاح. وسواء في دعاء الاستفتاح الفريضة، وجميع النوافل. قلت: ذكر الشيخ أبو حامد في تعليقه: أنه إذا ترك دعاء الاستفتاح، وتعوذ، عاد إليه من التعوذ. والمعرف في المذهب: أنه لا يأتي به كما تقدم. لكن لو خالف فأتى به، لم تبطل صلاته، لأنه ذكر، قال صاحب (التهذيب) ولو أحرم مسبوق، فأمن عقيب إحرامه، أمن معه، وأتى بدعاء الاستفتاح، لان التأمين يسير. والله أعلم. فصل: يستحب بعد دعاء الاستفتاح، أن يتعوذ (1) فيقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (2). وقال بعض أصحابنا: يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم). ويحصل التعوذ، بكل ما اشتمل على الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم. ولا يجهر به في الصلاة السرية، ولا في الجهرية أيضا على الأظهر. وعلى الثاني: يستحب الجهر فيها، كالتسمية، والتأمين. والثالث: أنه يتخير بين الجهر، والاسرار، ولا ترجيح. وقيل: يستحب الاسرار قطعا. ثم المذهب: أنه يستحب تعوذ في كل ركعة، وهو في الركعة الأولى آكد. وهذا نص الشافعي (3). رضي الله عنه. واختاره القاضي أبو الطيب، وإمام الحرمين، والروياني، وغيرهم. وقيل: قولان. أحدهما: هذا. والثاني: يتعوذ في الأولى فقط. فإن تركه فيها عمدا، أو سهوا، أتى به في الثانية. فصل: ثم بعد التعوذ يقرأ. وللمصلي حالان:
346 أحدهما: أن يقدر على قراءة الفاتحة. والثاني: لا يقدر. فأما القادر، فيتعين عليه قراءتها في القيام، أو ما يقع بدلا عنه. ولا يقوم مقامها ترجمتها. ولا غيرها من القرآن. ويستوي في تعين الفاتحة، الامام، والمأموم، والمنفرد، في السرية، والجهرية. ولنا قول (1). ضعيف. أنها لا تجب على المأموم في الجهرية. [ووجه شاذ: أنها لا تجب عليه في السرية أيضا. فإذا قلنا: لا يقرأ المأموم في الجهرية]، (2) فلو كان أصم، أو بعيدا لا يسمع قراءة الإمام، لزمته القراءة على الأصح. ولو جهر الامام في السرية، أو عكس، فالأصح وظاهر النص: أن الاعتبار بفعل الامام. والثاني: بصفة أصل الصلاة. وإذا لم يقرأ المأموم، هل يستحب له التعوذ؟ وجهان، لأنه ذكر سري. قلت: الأصح: لا يستحب، لعدم القراءة. والله أعلم. وإذا قلنا: يقرأ المأموم في الجهرية، فلا يجهر بحيث يغلب جهره، بل يسر بحيث يسمع نفسه لو كان سميعا، فإن هذا أدنى القراءة. ويستحب للامام على هذا القول: أن يسكت بعد الفاتحة قدر قراءة المأموم لها. واعلم أن الفاتحة واجبة في كل ركعة إلا في ركعة المسبوق إذا أدرك الامام راكعا، فإنه لا يقرأ في ركعته، وتصح. وهل يقال: يحملها عنه الامام، أم لم تجب أصلا؟ وجهان (3). قلت: أصحهما: الأول. والله أعلم. فرع: (بسم الله الرحمن الرحيم) آية كاملة من أول الفاتحة بلا خلاف. وأما باقي السور، سوى (براءة) فالمذهب: أنها آية كاملة من أول كل سورة أيضا. وفي
347 قول: أنها بعض آية. وقيل: قولان. أحدهما: ليست بقرآن في أوائلها. وأظهرهما: أنها قرآن. والسنة: أن تجهر بالتسمية في الصلاة الجهرية في الفاتحة، وفي السورة بعدها. فرع: تجب قراءة الفاتحة بجميع حروفها وتشديداتها. فلو أسقط منها حرفا، أو خفف مشددا، أو أبدل حرفا بحرف، لم تصح قراءته. وسواء فيه الضاد، وغيره. وفي وجه: لا يضر إبدال الضاد بالظاء (1). واللحن فيها لحنا يحيل المعنى، كضم تاء (أنعمت) أو كسرها، أو كسر كاف (إياك) لم يجزئه، وتبطل صلاته إن تعمد. ويجب إعادة القراءة، إن لم يتعمد. وتجزئ بالقراءات السبع. وتصح بالقراءة الشاذة، إن لم يكن فيها تغيير معنى، ولا زيادة حرف، ولا نقصانه (2). فرع: يجب ترتيب في قراءة الفاتحة. فلو قدم مؤخرا، إن تعمد، بطلت قراءته، وعليه استئنافها. وإن سها، لم يعتد بالمؤخر، ويبني على المرتب. إلا أن
348 يطول، فيستأنف القراءة. ولو أخل بترتيب التشهد، نظر. إن غير تغييرا مبطلا للمعنى، لم يحسب ما جاء به. وإن تعمده، بطلت صلاته، وإن لم يبطل المعنى، أجزأه على المذهب. وقيل: فيه قولان. وينبغي أن يقال في الفاتحة أيضا: إن غير الترتيب تغييرا يبطل المعنى، بطلت صلاته كالتشهد. فرع: تجب الموالاة بين كلمات الفاتحة. فإن أخل بها، فله حالان. أحدهما: أن يكون عامدا، فينظر. إن سكت في أثناء الفاتحة، أو طالت (1) مدة السكوت، بأن يشعر بقطعه القراءة أو إعراضه عنها مختارا، أو لعائق، بطلت قراءته، ولزم استئنافها على الصحيح. وعلى الشاذ المنقول عن العراقيين: لا تبطل (2). فإن قصرت مدة السكوت، لم يؤثر قطعها. وإن نوى قطع القراءة، ولم يسكت، لم تبطل قطعا. ولو (3) نوى قطعها، وسكت يسيرا، بطلت قراءته على الصحيح الذي قطع به الأكثرون. ولو أتى بتسبيح، أو تهليل في أثنائها، أو قرأ آية أخرى، بطلت قراءته، قل ذلك، أم كثر. هذا فيما لا يؤمر به المصلي. فأما ما أمر به في الصلاة، ويتعلق (4) بمصلحتها، كتأمين المأموم لتأمين الامام، وسجوده للتلاوة، وفتحه عليه القراءة، وسؤاله الرحمة عند قراءته آيتها، والاستعاذة من العذاب عند قراءة آيته، فإذا وقع في أثناء الفاتحة، لم تبطل الموالاة على الأصح. وهذا تفريع على الصحيح في استحباب هذه الأمور للمأموم، وعلى وجه: لا يستحب. ولا يطرد الخلاف في كل مندوب، فإن الحمد عند العطاس مندوب وإن كان في الصلاة، ولو فعله، قطع الموالاة. ولكن يختص بالمندوبات المختصة بالصلاة لمصلحتها. الحال الثاني: أن يخل بالموالاة ناسيا. وتقدم عليه، أن من ترك الفاتحة ناسيا، فيه قولان. المشهور الجديد: أنه لا يجزئه، ولا يعتد له بتلك الركعة. بل إن تذكر بعد ما ركع، عاد إلى القيام وقرأ. وإن تذكر بعد قيامه إلى الركعة الثانية،
349 صارت (الثانية) أولاه، ولغت الأولى. والقديم: أنه تجزئه صلاته. وأما ترك الموالاة ناسيا، فالصحيح الذي اتفق عليه الجمهور، ونقلوه عن نص الشافعي رحمه الله (1): أنه لا يضر. وله البناء، سواء قلنا: يعذر بترك الفاتحة ناسيا، أم لا. ومال إمام الحرمين، والغزالي، إلى أن الموالاة تنقطع بالنسيان إذا قلنا: لا يعذر به في ترك الفاتحة. فرع: من لا يقدر على قراءة الفاتحة، يلزمه كسب القدرة بتعلم، أو توسل إلى مصحف، يقرؤها منه، بشراء، أو إجارة، أو استعارة (2). فإن كان في ليل، أو ظلمة، لزمه تحصيل السراج عند الامكان. فلو امتنع من ذلك عند الامكان، لزمه إعادة كل صلاة صلاها قبل أن يقرأها. فإن تعذرت الفاتحة لتعذر التعلم، لضيق الوقت، أو بلادته، أو عدم المعلم والمصحف، أو غير ذلك لم يجز ترجمة الفاتحة، بل ينظر إن (3) أحسن قرآنا غير الفاتحة، لزمه قراءة سبع آيات، ولا يجزئه دون سبع وإن كانت آيات طوالا. وهل يشترط مع ذلك أن لا ينقص حروف كل الآيات عن حروف الفاتحة؟ فيه أوجه. أصحها: يشترط أن يكون جملة الآيات السبع، بقدر حروف الفاتحة. ولا يمتنع أن يجعل آيتين مقام آية. والثاني: أنه يجب أن يعدل حروف كل آية من حروف آية من الفاتحة على الترتيب، فتكون مثلها، أو أطول. والثالث: يكفي سبع آيات ناقصات الحروف، كما يكفي صوم يوم قصير عن طويل. ثم إن أحسن سبع آيات متوالية بالشرط المذكور، لم يجز
350 العدول إلى المتفرقة. وإن لم يحسن الا متفرقة، أتى بها. واستدرك إمام الحرمين، فقال: لو كانت الآية المفردة لا تفيد معنى منظوما إذا قرئت وحدها، كقوله تعالى: * (ثم نظر) * (1). فيظهر أن لا نأمره بقراءة هذه الآيات المتفرقة، ونجعله كمن لا يحسن قراءة أصلا. قلت: قد قطع جماعة بأن تجزئه الآيات المتفرقة وإن كان يحسن المتوالية، سواء فرقها من سورة، أو سور. منهم: القاضي أبو الطيب، وأبو علي البندنيجي، وصاحب (البيان) وهو المنصوص في (الام) وهو الأصح. والله أعلم. أما لو كان الذي يحسنه دون السبع، كآية أو آيتين، فوجهان. أصحهما: يقرأ ما يحسنه، ويأتي بالذكر عن الباقي. والثاني: يكرر ما يحفظه حتى يبلغ قدر الفاتحة. أما الذي لا يحسن شيئا من القرآن، فيجب عليه أن يأتي بالذكر، كالتسبيح، والتهليل. وفي الذكر الواجب أوجه. أحدها: يتعين أن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله (2). ويكفيه هذه الكلمات الخمس. والثاني: أنها تتعين، ويجب معها كلمتان من الذكر، ليصير سبعة أنواع مقام سبع آيات. والمراد بالكلمات، أنواع الذكر، لا ألفاظ مفردة. والثالث: وهو الأصح: أنه لا يتعين شئ من الذكر. ولكن هل يشترط أن لا ينقص حروف ما أتى به من حروف الفاتحة؟ وجهان. الأصح: يشترط. قال إمام الحرمين: ولا يراعي هنا إلا الحروف، بخلاف ما إذا أحسن قراءة غير الفاتحة، فإنه يراعي الآيات. وفي الحروف، الخلاف. وقال في (التهذيب): يجب سبعة أنواع من الذكر. يقام كل نوع مقام آية، وهذا أقرب. وهل الدعاء المحض، كالذكر؟ فيه تردد للشيخ أبي محمد. قال إمام الحرمين: والأشبه أن ما يتعلق بأمور الآخرة، يقوم دون ما يتعلق بالدنيا (3). ويشترط أن لا يقصد بالذكر المأتي به شيئا آخر سوى البدلية، كمن استفتح، أو تعوذ على قصد تحصيل سنتهما. ولكن لا يشترط قصد
351 البدلية فيهما، ولا في غيرهما من الأذكار على الأصح. أما إذا لم يحسن شيئا من القرآن، ولا الذكر، فعليه أن يقوم بقدر الفاتحة، ثم يركع. ولو أحسن بعض الفاتحة، ولم يحسن بدلا، وجب تكرير ما أحسن قدر الفاتحة. وإن أحسن لباقيها بدلا، فوجهان. وقيل: قولان. أحدهما: يكرره. وأصحهما: يأتي به، وببدل الباقي. فعلى هذا، لو أحسن النصف الثاني من الفاتحة دون الأول، أتى بالذكر بدلا عن النصف الأول، ثم يأتي بالنصف الثاني. فلو عكس، لم يجز على الصحيح. وأما إذا قلنا: يكرر ما يحسنه، فيكرر المحفوظ مرة بدلا، ومرة أصلا. ولو كان يحسن النصف الأول، كرره على الوجه الأول، وأما على الأصح: فيأتي به، ثم بالذكر بدلا. هذا كله إذا استمر العجز، فلو تمكن من قراءة الفاتحة في أثناء الصلاة، بتلقين، أو مصحف، أو غيرهما، فإن كان قبل الشروع في البدل، لزمه قراءة الفاتحة. وكذا إن كان في أثناء البدل على الصحيح. وعلى الضعيف: يلزمه أن يقرأ الفاتحة، بقدر ما بقي. وإن كان بعد الركوع، فقد مضت تلك الركعة على الصحة، ولا يجوز الرجوع. وإن كان بعد الفراغ من البدل، وقبل الركوع، فالمذهب: أنه لا يلزمه قراءة الفاتحة، كما إذا قدر المكفر على الاعتاق، بعد فراغه من الصوم. وقيل: وجهان. فرع: يستحب لكل من قرأ الفاتحة في الصلاة، أو خارج الصلاة، أن يقول: عقب فراغه منها: آمين، بالمد، أو القصر، بلا تشديد فيهما. ويستحب أن يفصل بينهما، وبين (ولا الضالين) بسكته لطيفة، ليميزها عن القرآن. ويستوي في استحبابها، الامام، والمأموم، والمنفرد. ويجهر بها الامام، والمنفرد، في الصلاة الجهرية، تبعا للقراءة. وأما المأموم، فالمذهب: أنه يجهر. وقيل: قولان. وقيل: إن لم يجهر الامام، جهر لينبهه. وإلا، فقولان. وقيل: إن كثر القوم، جهروا، وإلا، فلا. ويستحب أن يكون تأمين المأموم، مع تأمين الامام، لا قبله، ولا بعده. فإن فاته، أمن عقب تأمينه. قلت: قال أصحابنا: لو ترك التأمين، حتى اشتغل بغيره، فات، ولم يعد إليه. وفي (الحاوي) وغيره وجه ضعيف: أنه يأتي به ما لم يركع. قال في (الام): فإن قال: آمين رب العالمين، كان حسنا. والله أعلم. فرع: يسن للامام، والمنفرد، قراءة شئ بعد الفاتحة في صلاة الصبح،
352 والأوليين من سائر الصلوات. ويحصل أصل الاستحباب، بقراءة شئ من القرآن (1)، ولكن سورة كاملة، أفضل. حتى أن السورة القصيرة، أولى من قدرها من طويلة (2). وهل تسن السورة في الركعة الثالثة، والرابعة؟ قولان. القديم وبه أفتى الأكثرون: لا تسن. والجديد: تسن، لكنها تكون أقصر. ولا يفضل الركعة الأولى على الثانية بزيادة القراءة، ولا الثالثة على الرابعة، على الأصح فيهما. قلت: هذا الذي صححه، هو الراجع عند جماهير الأصحاب. لكن الأصح: التفضيل. فقد صح فيه الحديث، واختاره القاضي أبو الطيب، والمحققون، ونقله القاضي أبو الطيب، عن عامة أصحابنا الخراسانيين. لكن القاضي أبو الطيب. خص الخلاف، بتفضيل الأولى على الثانية، ونقل الاتفاق، على استواء الثالثة والرابعة. والله أعلم. ويستحب أن يقرأ في الصبح، بطوال المفصل، ك (الحجرات) وفي الظهر، بقريب من الصبح. وفي العصر والعشاء بأوساط المفصل. وفي المغرب، بقصاره (3)، ويسن في صبح يوم الجمعة، أن يقرأ في الأولى: (آلم تنزيل) وفي الثانية: (هل أتى) بكمالهما (4). وأما المأموم، فلا يقرأ السورة فيما يجهر في الامام إذا سمعه، بل يستمعه، وإن كانت الصلاة سرية، أو جهرية، ولم يسمع المأموم قراءته لبعده، أو صممه، قرأها على الأصح. قلت: لو قرأ السورة، ثم قرأ الفاتحة، لم تحسب السورة، على المذهب
353 والمنصوص. وذكر إمام الحرمين، والشيخ نصر المقدسي في الاعتداد بها، وجهين. قال أصحابنا: والمرأة لا تجهر بالقراءة في موضع فيه رجال أجانب. فإن كانت خالية، أو عندها نساء، أو رجال محارم، جهرت.. وفي وجه: تسر مطلقا. وحيث قلنا: تسر، فجهرت، لا تبطل صلاتها على الصحيح. والخنثى، كالمرأة (1). وأما نوافل النهار المطلقة، فيسر فيها قطعا. وأما نوافل الليل، فقال صاحب (التتمة) يجهر. وقال القاضي حسين، وصاحب (التهذيب): يتوسط بين الجهر والاسرار (2)، وهو الأصح. ويستثنى ما إذا كان عنده مصلون، أو نيام يهوش عليهم، فيسر. ويستثنى التراويح، فيجهر فيها. والله أعلم. فصل (3): يستحب للقارئ في الصلاة، وخارجها، إذا مر بآية رحمة، أن يسأل الرحمة: أو بآية عذاب، أن يستعيذ منه. أو بآية تسبيح، أن يسبح. أو بآية مثل أن يتفكر. وإذا قرأ * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * (4). قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين. وإذا قرأ * (فبأي حديث بعده يؤمنون) * (5). قال: آمنا بالله. والمأموم، يفعل ذلك لقراءة الامام على الصحيح. فصل في الركوع أقله، أن ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه، ولو أراد
354 وضعهما عليهما، وهذا عند اعتدال الخلقة، وسلامة اليدين والركبتين. ولو انخنس، وأخرج ركبتيه، وهو مائل منتصب، وصار بحيث لو مد يديه لنالت راحتاه ركبتيه، لم يكن ذلك ركوعا، لان نيلهما لم يحصل بالانحناء. قال إمام الحرمين: ولو مزج الانحناء بهذه الهيئة المذكورة، وكان التمكن من وضع الراحتين على الركبتين بهما جميعا، لم يكن ركوعا أيضا. ثم إن لم يقدر على الانحناء إلى الحد المذكور إلا بمعين، أو باعتماد على شئ، أو بأن ينحني على شقه، لزمه ذلك، فإن لم يقدر، انحنى القدر الممكن، فإن عجز، أومأ بطرفه من (1) قيام. هذا بيان ركوع القائم، وأما ركوع القاعد، فقد تقدم بيان أقله، وأكمله في فصل القيام. وتجب الطمأنينة في الركوع. وأقلها: أن يصبر حتى تستقر أعضاؤه في هيئة الركوع، وينفصل هويه عن ارتفاعه منه. فلو جاوز حد أقل الركوع، فزاد في الهوي، ثم ارتفع، والحركات متصلة، لم تحصل الطمأنينة، ولا يقوم زيادة الهوي مقام الطمأنينة، ويشترط أن لا يقصد بهويه غير الركوع. فلو قرأ في صلاته آية سجدة، فهوى ليسجد للتلاوة، ثم بدا له بعد ما بلغ حد الراكعين أن يركع، لم يعتد بذلك عن الركوع، بل يجب عليه أن يعود إلى القيام، ثم يركع. وأما أكمل الركوع، فأمران. أحدهما: في الهيئة. والثاني: في الذكر. أما الهيئة: فأن ينحني بحيث يستوي ظهره، وعنقه ويمدهما كالصفيحة، وينصب ساقيه إلى الحقو، ولا يثني ركبتيه، ويضع يديه على ركبتيه، ويأخذهما بهما، ويفرق بين أصابعه حينئذ، ويوجهها نحو القبلة، فإن كانت إحدى يديه مقطوعة، أو عليلة، فعل بالأخرى ما ذكرنا، فإن لم يمكنه وضعهما على ركبتيه، أرسلهما. ويجافي الرجل مرفقيه عن جنبيه، ولا تجافي المرأة، ولا الخنثى. الأمر الثاني: الذكر: فيستحب أن يكبر للركوع، ويبتدئ به في ابتداء الهوي. وهل يمد التكبير؟ قولان. القديم: لا يمده، بل يحذفه. والجديد
355 الصحيح: يستحب مده إلى تمام الهوي، حتى لا يخلو جزء من صلاته عن ذكر. ويجري القولان في جميع تكبيرات الانتقالات، هل يمدها إلى الركن المنتقل إليه، أم لا؟. ويستحب أن يرفع يديه إذا ابتدأ التكبير، وتقدمت صفة الرفع. ويستحب أن يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاث مرات. قال بعضهم: ويضيف إليه: وبحمده (1). والأفضل، أن يقول بعده: اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، خشع (لك) سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي، وشعري، وبشري، وما استقلت به قدمي لله رب العالمين (2). وهذا أتم الكمال. ثم الزيادة على ثلاث تسبيحات، إنما تستحب للمنفرد. وأما الامام، فلا يزيد على ثلاث. وقيل: خمس، إلا أن يرضى المأمومون بالتطويل، فيستوفي الكمال. وتكره قراءة القرآن في الركوع، والسجود. قلت: قال أصحابنا: يستحب أن لا يصل تكبيرة الركوع، بآخر السورة. بل يسكت بينهما سكتة لطيفة، ويبتدئ التكبير قائما مع ابتداء رفع اليدين. فإن ترك رفع اليدين حتى فرغ من التكبير، لم يرفعهما، وإن ذكر قبل فراغه، رفع، ولو كان أقطع الكفين، لم يبلغ بيديه ركبتيه، لئلا يغير هيئة الركوع. ذكره الماوردي، وغيره. قالوا: ويستحب رفع اليدين في تكبيرة الاحرام، والركوع، والرفع منه، لكل مصل قائم، وقاعد، ومضطجع، وموم. ونص عليه في (الام) قال أصحابنا: وأقل ما يحصل به الذكر في الركوع، تسبيحة واحدة. والله أعلم. فصل في الاعتدال عن الركوع: وهو ركن، لكنه غير مقصود لنفسه، والاعتدال الواجب: أن يعود بعد ركوعه إلى الهيئة التي كان عليها قبل الركوع، سواء صلى قائما، أو قاعدا (3). فلو ركع عن قيام، فسقط في ركوعه، نظر، إن لم
356 يطمئن في ركوعه، لزمه أن يعود إلى الركوع، ويطمئن، ثم يعتدل منه. وإن كان اطمأن، فيعتدل قائما ويسجد. ولو رفع الراكع رأسه، ثم سجد، وشك هل تم اعتداله؟ وجب أن يعتدل قائما، ويعيد السجود. واعلم أنه تجب الطمأنينة في الاعتدال، كالركوع. وقال إمام الحرمين: في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شئ، وفي كلام غيره ما يقتضي ترددا فيها. والمعروف الصواب وجوبها. ويجب أن لا يقصد بارتفاعه شيئا آخر. فلو رأى في ركوعه حية، فرفع فزعا منها، لم يعتد به. ويجب أن لا يطول الاعتدال، فإن طوله، ففي بطلان صلاته خلاف يذكر في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى. ويستحب عند الاعتدال، رفع اليدين حذو المنكبين، على ما تقدم من صفة الرفع، ويكون ابتداء رفعهما، مع ابتداء رفع الرأس. فإذا اعتدل قائما، حطهما. ويستحب أن يقول في ارتفاعه للاعتدال: سمع الله لمن حمده. فإذا استوى قائما، قال: ربنا لك الحمد، أو: ربنا ولك الحمد ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شئ بعد. يستوي في استحباب هذين الذكرين، الامام، والمأموم، والمنفرد. ويستحب لغير الامام وله إذا رضي القوم أن يزيد، فيقول: أهل الثناء والمجد، حق ما قال العبد، كلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد (1). ويكره للامام هذه الزيادة، إلا برضاهم. قلت: هكذا يقوله أصحابنا في كتب المذهب: حق ما قال العبد، كلنا لك عبد. والذي في (صحيح مسلم) وغيره من كتب الحديث، أن رسول الله (ص)، كان يقول: أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد. بزيادة ألف في (أحق) وواو في (وكلنا) (2) وكلاهما حسن. لكن ما ثبت في الحديث، أولى. قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله (3): ولو قال من حمد الله: سمع له،
357 بدل: سمع الله لمن حمده، أجزأه، ولكن الأولى: سمع الله لمن حمده. قال الشافعي والأصحاب: يقول في الرفع: ربنا لك الحمد. وإن شاء قال: اللهم ربنا لك الحمد، أو: لك الحمد ربنا. والأول: أولى. قال صاحب (الحاوي): يجهر الامام ب: سمع الله لمن حمده، ويسر ب: ربنا لك الحمد. ويسر المأموم بهما جميعا. ولو أتى بالركوع الواجب، فعرضت علة منعته الانتصاب، سجد من ركوعه، وسقط الاعتدال، لتعذره. فلو زالت العلة قبل بلوغ جبهته للأرض، وجب أن يرتفع، وينتصب قائما، ويعتدل، ثم يسجد، وإن زالت بعد وضع جبهته على الأرض، لم يرجع إلى الاعتدال، بل سقط عنه، فإن خالف، فعاد إليه قبل تمام سجوده، فإن كان عالما بتحريمه، بطلت صلاته، وإن كان جاهلا، لم تبطل. ويعود إلى السجود. قال صاحب (التتمة): ولو ترك الاعتدال عن الركوع، والسجود، في النافلة، ففي صحتها وجهان، بناء على صلاتها مضطجعا مع قدرته على القيام. والله أعلم. فصل في القنوت: وهو مستحب بعد الرفع من الركوع، في الركعة الثانية من الصبح. وكذلك الركعة الأخيرة من الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان. ولفظه: (اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، فإنك تقضي، ولا يقضى عليه، وإنه لا يذل من واليت، تباركت ربنا وتعاليت) هذا هو المروي عن النبي (ص) (1). وزاد العلماء فيه: (ولا يعز من عاديت) قبل (تباركت وتعاليت) وبعده: (فلك الحمد على ما قضيت، أستغفرك، وأتوب إليك). قلت: قال جمهور (2) أصحابنا: لا بأس بهذه الزيادة. وقال أبو حامد، والبندنيجي، وآخرون: مستحبة. واتفقوا على تغليط القاضي أبو الطيب، في إنكار (لا يعز من عاديت) وقد جاءت في رواية البيهقي (3). والله أعلم.
358 فإن كان إماما، لم يخص نفسه، بل يذكر بلفظ الجمع. وهل تسن الصلاة على النبي (ص) بعده؟ وجهان. الأصح: تسن (1). وهل تتعين هذه الكلمات في القنوت؟ وجهان. أحدهما: تتعين، ككلمات التشهد. والصحيح الذي قطع به الجماهير: لا تتعين. وعلى هذا، لو قنت بما جاء عن عمر (2) رضي الله عنه، كان حسنا (3). وحكي وجه عن أبي علي بن أبي هريرة (4): أنه لا يقنت في الصبح، وهذا غريب، وغلط. أما غير الصبح من الفرائض ففيها ثلاثة أقوال. المشهور:
359 أنه إن نزل - والعياذ بالله - بالمسلمين نازلة (1)، كالوباء والقحط، قنتوا. وإلا فلا، والثاني: يقنتون مطلقا. والثالث: لا يقنتون مطلقا (2). ثم مقتضى كلام الأكثرين، أن الكلام، والخلاف، في غير الصبح، إنما هو في الجواز. ومنهم من يشعر إيراده بالاستحباب. قلت: الأصح، استحبابه. وصرح به صاحب (العدة) ونقله نص الشافعي في (الاملاء). والله أعلم. ثم الامام في صلاة الصبح، هل يجهر بالقنوت؟ وجهان. أصحهما: الجهر. والثاني: لا، كالتشهد، والدعوات وأما المنفرد، فيسر به قطعا. ذكره البغوي. وأما المأموم، فإن قلنا: لا يجهر الامام، قنت. وإن قلنا: يجهر، فالأصح أنه يؤمن، ولا يقنت. والثاني: يتخير بين التأمين، والقنوت. فعلى الأصح: هل يؤمن في الجميع؟ وجهان. الأصح، يؤمن في القدر الذي هو دعاء. وأما الثناء، فيشاركه فيه، أو يسكت. والثاني: يؤمن في الجميع. فإن كان لا يسمع الامام لبعد، أو غيره وقلنا: لو سمع لأمن، فهنا وجهان. أحدهما: يقنت، والثاني: يؤمن كالوجهين في قراءة السورة إذا لم يسمع الامام. وأما غير الصبح إذا قنت فيها، فالراجح أنها كلها كالصبح سرية كانت، أو جهرية. ومقتضى إيراده في (الوسيط) أنه يسر في السرية، وفي الجهرية الخلاف. وهل يسن رفع اليدين في القنوت، ومسح الوجه بهما إذا فرغ؟ فيه أوجه. أصحها: يستحب الرفع، دون المسح (3). والثاني: يستحبان. والثالث: لا يستحبان. قلت: لا يستحب مسح غير وجهه قطعا. بل نص جماعة على كراهته. ولو
360 قنت بآية من القرآن ينوي بها القنوت. وقلنا: لا يتعين له لفظ، فإن تضمنت الآية دعاء، أو شبهه، كان قنوتا. وإن لم تتضمنه كآية الدين، و (تبت) فوجهان. حكاهما في (الحاوي) الصحيح: لا يكون قنوتا. ولو قنت قبل الركوع، فإن كان مالكيا يرى ذلك، أجزأه. وإن كان شافعيا لا يراه، لم يحسب على الصحيح، بل يعيده بعد الرفع من الركوع. وهل يسجد للسهو؟ وجهان. الأصح المنصوص في (الام): يسجد. والله أعلم. فصل في السجود (1): وهو ركن، وله أقل، وأكمل. أما أقله، ففيه مسائل. إحداها: يجب أن يضع على الأرض من الجبهة، ما يقع عليه الاسم. وفي وجه: لا يكفي بعض الجبهة. وهو شاذ منكر. ولا يجزئ عن الجبهة، الجبينان، وهما جانبا الجبهة. والصحيح، أنه لا يكفي في وضع الجبهة الامساس، بل يجب أن يتحامل على موضع سجوده بثقل رأسه وعنقه، حتى تستقر جبهته. فلو سجد على قطن، أو حشيش، أو شئ محشو بهما، وجب أن يتحامل حتى ينكبس، ويظهر أثره على يد لو فرضت تحت ذلك المحشو، فإن لم يفعل، لم يجزئه. وقال إمام الحرمين: عندي أنه يكفي إرخاء رأسه، ولا يقله. ولا حاجة إلى التحامل كيف فرض محل السجود. وهل يجب وضع اليدين والركبتين والقدمين على موضع السجود؟ قولان. أظهرهما: لا يجب (2). فإن أوجبناه، كفى وضع جزء من كل واحد منها. والاعتبار في اليد، بباطن الكف، وفي الرجلين، ببطون الأصابع. وإن قلنا: لا يجب، اعتمد على ما شاء منهما، ويرفع ما شاء. ولا يمكنه أن يسجد
361 مع رفع الجميع. هذا هو الغالب، أو المقطوع به. قلت: الأظهر: وجوب الوضع. قال الشيخ أبو حامد في تعليقه: إذا قلنا: لا يجب وضعها، فلو أمكنه أن يسجد على الجبهة وحدها، أجزأه، وكذا قال صاحب (العدة): لو لم يضع شيئا منها، أجزأه. ومن صور رفعها كلها إذا رفع الركبتين، والقدمين، ووضع ظهر الكفين، أو حرفهما، فإنه في حكم رفعهما. والله أعلم. ولا يجب وضع الأنف على الأرض. قلت: وحكى صاحب (البيان) قولا غريبا أنه يجب وضع الأنف مع الجبهة مكشوفا. والله أعلم. ويجب أن يكشف من الجبهة ما يقع عليه الاسم، فيباشر به موضع السجود. وإنما يحصل الكشف إذا لم يحل بينه وبين موضع السجود حائل متصل به يرتفع بارتفاعه، فلو سجد على طرف عمامته، أو ذيله المتحرك بحركته، لم يصح. وإن لم يتحرك بحركته قياما وقعودا، أجزأه. قلت: لو كان على جبهته جراحة، فعصبها، وسجد على العصابة، أجزأه، ولا إعادة عليه على المذهب. لأنه إذا سقطت الإعادة مع الايماء للعذر، فهنا أولى. والله أعلم. وإذا أوجبنا وضع الركبتين والقدمين، لم يجب كشفهما قطعا، وإذا أوجبنا وضع الكفين، لم يجب كشفهما أيضا على الأظهر. فإذا أوجبناه، كفى كشف بعض من كل واحد منهما. المسألة الثانية: إذا وضع الجبهة، وسائر الأعضاء على الأرض، فله ثلاث صور. إحداها: أن يكون أعاليه أعلى من أسافله (1)، بأن يضع رأسه على ارتفاع،
362 فيصير رأسه أعلى من حقوه، فلا يجزئه، لعدم اسم السجود، كما لو أكب، ومد رجليه، الثاني: أن تكون الأسافل أعلى من الأعالي (1)، فهذه هيئة التنكيس، وهي المطلوبة، ومهما كان المكان مستويا، كان الحقو أعلى. ولو كان موضع الرأس مرتفعا، قليلا، فقد ترتفع أسافله، وتحصل هذه الهيئة أيضا. الثالثة: أن تتساوى أعاليه وأسافله، لارتفاع موضع الجبهة، وعدم رفعه الأسافل، فالأصح: أنها لا تجزئ. وإذا تعذرت الهيئة المطلوبة لمرض، أو غيره، فهل يلزمه وضع وسادة ونحوها، ليضع الجبهة عليها، أم يكفي إنهاء الرأس إلى الحد الممكن من غير وضع الجبهة على شئ؟ وجهان. أصحهما: عند الغزالي: الوجوب. والأشبه بكلام الأكثرين: الاكتفاء بإنهاء الرأس. ولو عجز عن وضع الجبهة على الأرض، وقدر على وضعها، على وسادة مع النكس، لزمه ذلك بلا خلاف. ولو عجز عن الانحناء، أشار بالرأس، ثم بالطرف، على ما تقدم نظيره. المسألة الثالثة: تجب الطمأنينة في السجود، ويجب أن لا يقصد بهويه غير السجود، فلو سقط إلى الأرض من الاعتدال قبل قصد الهوي، لم يحسب، بل يعود إلى الاعتدال، ويسجد منه. ولو هوى ليسجد، فسقط على الأرض بجبهته، نظر، إن وضع جبهته على الأرض بنية الاعتماد، لم يحسب عن السجود، وإن لم تحدث هذه النية، حسب. ولو هوى ليسجد، فسقط على جنبه، فانقلب وأتى بصورة السجود، فإن قصد السجود، اعتد به، وإن قصد الاستقامة، لم يعتد به.
363 قلت: إذا قصد الاستقامة، له حالان. أحدهما: أن يقصدها، قاصدا صرف ذلك عن السجود، فلا يجزئه قطعا، وتبطل صلاته، لأنه زاد فعلا لا يزاد مثله في الصلاة عامدا. قاله إمام الحرمين، وغيره. والثاني: أن يقصد الاستقامة، ولا يقصد صرفه عن السجود، بل يغفل عنه، فلا يجزئه أيضا على الصحيح المنصوص، ولكن لا تبطل صلاته، بل يكفيه أن يعتدل جالسا، ثم يسجد. ولا يلزمه أن يقوم ليسجد من قيام على الظاهر، فلو قام، كان زائدا قياما متعمدا، فتبطل صلاته. هذا بيان الحالتين. ولو لم يقصد السجود، ولا الاستقامة، أجزأه ذلك عن السجود قطعا. والعجب من الامام الرافعي، في كونه ترك استيفاء هذه الزيادة التي ألحقتها. والله أعلم. فرع: وأما أكمل السجود، فالسنة أن يكون أول ما يقع على الأرض من الساجد ركبتيه، ثم يديه، ثم أنفه، وجبهته، ويبتدئ التكبير، مع ابتداء الهوي، وهل يمده، أو يحذفه؟ فيه القولان المتقدمان. ولا يرفع اليد مع التكبير هنا. ويستحب أن يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) ثلاثا وهذا أدنى الكمال. والأفضل أن يقول بعده: (اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته، تبارك الله أحسن الخالقين) (1) والامام يقتصر على التسبيح، إلا أن يرضوا. ويستحب للمفرد، أن يجتهد في الدعاء في سجوده، وأن يضع كل ساجد، الانف مع الجبهة مكشوفا، وأن يفرق بين ركبتيه. ويرفع الرجل مرفقيه عن جنبيه، وبطنه عن فخذيه، والمرأة تضم بعها إلى بعض. وأن يضع الساجد يديه على الأرض، بإزالة منكبيه، وأصابعه ملتصق بعضها إلى بعض، مستطيلة إلى جهة القبلة، وسنة أصابع اليدين، إذا كانت منشورة في جميع الصلاة، التفريج المقتصد، إلا في حالة السجود، فإنه يلصقها. قلت: وإلا في التشهد، فإن الصحيح: أن أصابع اليسرى، تكون كهيئاتها في السجود. وكذا أصابعهما في الجلوس بين السجدتين. والله أعلم.
364 ويرفع الساجد ذراعيه عن الأرض، ولا يفترشهما، وينصب القدمين، ويوجه أصابعهما إلى القبلة، وإنما يحصل توجيهها، بالتحامل عليها، والاعتماد على بطونها. وقال في (النهاية) الذي صححه الأئمة: أن يضع أطراف الأصابع على الأرض من غير تحامل. والأول: أصح. قلت: قال أصحابنا: ويستحب أن يفرق بين القدمين. قال القاضي أبو الطيب: قال أصحابنا: يكون بينهما شبر. ويستحب أن يقول في سجوده: (سبوح، قدوس رب الملائكة والروح) (1) وأن يبرز قدميه من ذيله في السجود، ويكشفهما إذا لم يكن عليهما خف. ويكره أن يجمع في سجود، أو غيره من أحوال الصلاة، شعره، أو ثيابه، لغير حاجة. والله أعلم. فصل: فإذا فرغ من السجود، رفع فاعتدل جالسا بين السجدتين. وهذا الاعتدال، واجب. ويجب الطمأنينة فيه، ويجب أن لا يقصد بالرفع شيئا آخر. وينبغي أن لا يطول الجلوس، ويستحب أن يرفع رأسه مكبرا. والسنة: أن يجلس مفترشا، على المشهور. وفي قول شاذ ضعيف: يضجع قدميه، ويجلس على صدورهما. ويستحب أن يضع يديه على فخذيه، قريبا من ركبتيه، منشورتي الأصابع. ولو انعطفت أطرافها على الركبة، فلا بأس. ولو تركهما على الأرض من جانبي فخذيه، كان كإرسالهما في القيام. ويستحب أن يقول في جلوسه: (اللهم اغفر لي، وارحمني واجبرني، وعافني، وارزقني، واهدني) (2). فصل: ثم يسجد السجدة الثانية، مثل الأولى، في واجباتها (3)، ومندوباتها. وإذا رفع من السجدة الثانية، كبر. فإن كانت سجدة لا يعقبها تشهد، فالمذهب: أنه يسن أن يجلس عقبها جلسة لطيفة، تسمى: جلسة الاستراحة. وفي قول: لا تسن هذه الجلسة، بل يقوم من السجود. وقيل: إن كان بالمصلي
365 ضعف لكبر، أو غيره، جلس، وإلا فلا. فإن قلنا: لا يجلس، ابتدأ التكبير مع ابتداء الرفع، وفرغ منه مع استوائه قائما. وإن قلنا: يجلس، ففي التكبير، أوجه. أصحها عند جمهور الأصحاب: أنه يرفع مكبرا، ويمده إلى أن يستوي قائما. ويخفف الجلسة حتى لا يخلو جزء من صلاته عن ذكر. والثاني: يرفع غير مكبر، ويبتدئ بالتكبير جالسا، ويمده إلى أن يقوم. والثالث: يرفع مكبرا، وإذا جلس، قطعه، وقام بلا تكبير. ولا يجمع بين تكبيرتين، بلا خلاف. والسنة في هذه الجلسة: الافتراش. وسواء قام من الجلسة، أو من السجدة، يسن أن يقوم معتمدا بيديه من الأرض. قلت: اختلف أصحابنا في جلسة الاستراحة على وجهين. الصحيح: أنها جلسة مستقلة يفصل بين الركعتين كالتشهد. والثاني: أنها من الركعة الثانية. قال القاضي أبو الطيب، وغيره: يكره أن يقدم إحدى رجليه حال القيام، ويعتمد عليها. والله أعلم. فصل في التشهد (1) والجلوس له: هما ضربان. أحدهما: أن يقعا في آخر الصلاة. وهما فرضان. والثاني: في أثنائها، وهما سنتان، ثم لا يتعين للقعود هيئة للاجزاء، بل كيف قعد، أجزأه. لكن السنة في قعود آخر الصلاة، التورك. وفي أثنائها، الافتراش. والافتراش: أن يضع رجله اليسرى، بحيث يلي ظهرها الأرض، ويجلس عليها، وينصب اليمنى، ويضع أطراف أصابعها على الأرض متوجهة إلى القبلة. والتورك: أن يخرج رجليه وهما على هيئة الافتراش، من جهة يمينه، ويمكن وركه من الأرض. وإذا جلس المسبوق في آخر صلاة الامام، فثلاثة أوجه. الصحيح (2) المنصوص الذي قطع به الجماهير: يفترش. والثاني: يتورك. والثالث: إن كان جلوسه محل تشهد للمسبوق، افترش، وإلا تورك، لان جلوسه بمجرد المتابعة، فيتابع في الهيئة. وإذا جلس من عليه سجود سهو في آخر صلاته، افترش على الصحيح، وتورك على الثاني. والسنة في التشهدين جميعا: أن يضع يده اليسرى، على فخذه اليسرى، واليمنى، على فخذه اليمنى، وينشر أصابع
366 اليسرى، ويجعلها قريبة من طرف الركبة، بحيث يساوي رؤوسها الركبة. وهل يفرجها، أو يضمها؟ وجهان. الأشهر: يفرج تفريجا مقتصدا، ولا يؤمر بالتفريج الفاحش في موضع ما. والثاني: يضمها ليتوجه إلى القبلة. قلت: هذا الثاني، أصح (1). وقد نقل الشيخ أبو حامد في تعليقه اتفاق الأصحاب عليه. والله أعلم. وأما اليد اليمنى، فيضعها على طرف الركبة اليمنى، ويقبض خنصرها، وبنصرها، ويرسل المسبحة. (2) وفيما يفعل بالإبهام والوسطى ثلاثة أقوال. أحدها: يقبض الوسطى مع الخنصر والبنصر، ويرسل الابهام (3) مع المسبحة. والثاني: يحلق بين الابهام والوسطى. وفي كيفية التحليق، وجهان. أصحهما: يحلق بينهما برأسيهما. والثاني: يضع أنملة الوسطى بين عقدتي الابهام. والقول الثالث، وهو الأظهر: أنه يقبضهما أيضا. وفي كيفية وضع الابهام على هذا، وجهان. أصحهما: يضعها بجنب المسبحة، كأنه عاقد ثلاثة وخمسين. والثاني: يضعها على أصبعه الوسطى، كأنه عاقد ثلاثة وعشرين. وكيف فعل من هذه الهيئات، فقد أتى بالسنة. قاله ابن الصباغ، وغيره: وعلى الأقوال كلها، يستحب أن يرفع مسبحته في كلمة الشهادة، إذا بلغ همزة: (إلا الله) وهل يحركها عند الرفع؟ وجهان. الأصح: لا يحركها. ولنا وجه شاذ: أنه يشير بها في جميع التشهد. قلت: وإذا قلنا بالأصح: إنه لا يحركها فحركها، لم تبطل صلاته على الصحيح. وتكره الإشارة بمسبحة اليسرى، حتى لو كان أقطع اليمنى، لم يشر
367 بمسبحة اليسرى، لان سنتها، البسط دائما. والله أعلم. فرع: التشهد الذي يعقبه السلام، واجب، كما تقدم (1)، وتجب فيه الصلاة على النبي (ص). وفي الصلاة على آل النبي (ص) قولان. وقيل: وجهان. الصحيح المشهور: أنها سنة والثاني: واجبة. وهل تسن الصلاة على النبي (ص) في التشهد الأول؟ قولان. أظهرهما: تسن وأما الصلاة على الآل فيه، فإن لم نوجبها في التشهد الأخير لم تسن وإلا، فعلى القولين في الصلاة على آل النبي (ص). وإذا قلنا: لا تسن الصلاة على النبي (ص) في الأول، ولا في القنوت، فأتى بها في أحدهما، أو أوجبنا الصلاة على الآل في الأخيرة، ولم نسنها في الأول، فأتى بها فيه، فقد نقل ركنا إلى غير موضعه. وفي بطلان الصلاة بذلك، كلام يأتي في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى. وآل النبي (ص): بنو هاشم، وبنو المطلب. نص عليه الشافعي رحمه الله (2). وفي وجه: أنهم كل المسلمين. فرع في أكمل التشهد، وأقله أما أكمله، فما رواه ابن عباس رضي الله عنهما (التحيات، المباركات، الصلوات، الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله. هكذا رواه الشافعي (3)، ورواه غيره (4) (السلام عليك أيها النبي السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين) بالألف واللام. ولو تشهد بما رواه ابن مسعود (5)، أو (6) بتشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه (7)، جاز. لكن
368 الأول أفضل. وتشهد ابن مسعود (التحيات لله، والصلوات، والطيبات، السلام عليك...) وذكره كما تقدم. إلا أن في آخره (وأشهد أن محمدا عبده ورسوله). وتشهد عمر (التحيات لله، الزاكيات لله، الطيبات لله، الصلوات لله، السلام عليك... وذكره كابن مسعود. ولنا وجه: أن الأفضل: أن يقول: (التحيات المباركات الزاكيات، والصلوات والطيبات لله، السلام عليك....) ذكره ليكون جامعا لها كلها. وقال جماعة من أصحابنا: يستحب أن يقول قبل التحيات: (باسم الله، وبالله، التحيات لله). ويروى (بسم الله خير الأسماء) والصحيح الذي عليه جماهيرهم: أنه لا يقدم التسمية. وأما أقله، فنص الشافعي رحمه الله، وأكثر الأصحاب (1)، أنه: (التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسوله). هكذا نقله العراقيون (2)، والروياني، وكذا نقله البغوي. إلا أنه قال: (وأشهد أن محمدا رسوله). ونقله ابن كج، والصيدلاني، وأسقطا كلمة: (وبركاته) وقالا: (وأشهد أن محمدا رسول الله). وقال ابن سريج رحمه الله: أقله: (التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، سلام على عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسوله). وأسقط بعضهم: السلام الثاني. وقال بعضهم: (سلام عليك أيها النبي، وعلى عباد الله الصالحين). وأسقط بعضهم: (الصالحين). وقال بعضهم:
369 واختاره الحليمي (1). قلت: وروي: (سلام عليك) و (سلام علينا) وروي: (السلام) بالألف واللام فيهما، وهذا أكثر في روايات الحديث، وفي كلام الشافعي: واتفق أصحابنا على جواز الامرين هنا، بخلاف سلام التحلل. قالوا: والأفضل هنا، الألف واللام، لكثرته، وزيادته، وموافقته سلام التحلل. والله أعلم. فرع: أقل الصلاة على النبي (ص)، أن يقول: (اللهم صل على محمد) أو (صلى الله على محمد) أو (صلى الله على رسوله). وفي وجه: يكفي (صلى الله عليه (2)). وأقل الصلاة على الآل: أن يقول: (وآله) وأكملها أن يقول: (اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد). ويستحب الدعاء بعد ذلك. وله أن يدعو بما شاء من أمر الدنيا، والآخرة، وأمور الآخرة أفضل. وعن الشيخ أبي محمد: أنه كان يتردد في مثل: اللهم ارزقني جارية صفتها كذا، ويميل إلى المنع، وأنه يبطل الصلاة. والصواب الذي عليه الجماهير جواز الجميع. لكن ما ورد في الاخبار أحب من غيره. ومنه: (اللهم اغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت وما أسرفت - وفيه أيضا (وما أعلنت) مقدم على (ما أسررت) - وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم، وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت). وأيضا: (اللهم (إني) أعوذ بك من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا، والممات، وفتنة المسيح الدجال) (3). وأيضا: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم). وأيضا: (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا، لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من
370 عندك، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم) (1). ثم الصحيح الذي عليه الجمهور، أن الدعاء مستحب للامام، وغيره. لكن الأفضل، أن يكون الدعاء أقل من التشهد والصلاة على النبي (ص)، لأنه تبع لهما. فإن زاد، لم يضر. إلا أن يكون إماما، فيكره التطويل. والوجه الثاني: المستحب للامام، أن لا يدعو، ويستحب للمنفرد الدعاء. ولا بأس بتطويله، هذا كله في التشهد الأخير. أما الأول: فيكره فيه الدعاء، بل لا يزيد على لفظ التشهد، إلا الصلاة على النبي (ص) إذا قلنا: هي سنة فيه، وعلى الآل على وجه. قلت: إطالة التشهد الأول مكروهة، كما ذكر. فلو طوله، لم تبطل صلاته، ولم يسجد للسهو، سواء طوله عمدا، أم سهوا. والله أعلم. فرع: لا يجوز لمن عرف التشهد بالعربية، أن يعدل إلى ترجمته، فإن عجز، أتى بترجمته. والصلاة على النبي (ص)، وعلى الآل، إذا أوجبناها، كالتشهد. وأما ما عدا الواجبات من الألفاظ المشروعة في الصلاة، إذا عجز عنها بالعربية، فقسمان. دعاء، وغيره. فأما الدعاء المأثور، ففيه ثلاثة أوجه. أصحها: تجوز الترجمة عنه لمن لا يحسن العربية، ولا يجوز لمن يحسنها، فإن ترجم، بطلت صلاته. والثاني: يجوز لمن أحسنها، ولغيره. والثالث: لا يجوز لواحد منهما. ولا يجوز أن يخترع دعوة بالعجمية يدعو بها قطعا. وأما سائر الأذكار، كالتشهد الأول، والقنوت، وتكبيرات الانتقالات، والتسبيحات، فأوجه. أحدها: يجوز أن يأتي بترجمتها العاجز. والثاني: لا يجوز. والثالث: يترجم لما يجبر بالسجود، دون غيره. قلت: الأصح: الجواز للعاجز، ومنعه في القادر. ثم إذا قام من التشهد الأول، قام مكبرا. وهل يمده؟ فيه القولان السابقان في فصل الركوع. ثم قال جمهور أصحابنا: لا يرفع يديه في هذا القيام. ولنا وجه: أنه يستحب رفع اليدين
371 فيه، كما يستحب في الركوع، والرفع منه. وحكاه صاحب (المهذب) وغيره عن أبي بكر بن المنذر (1)، وأبي علي الطبري. وهذا الوجه، هو الصحيح، أو الصواب. فقد ثبت ذلك في صحيح البخاري) (2) وغيره، عن رسول الله (ص) ونص عليه الشافعي رحمه الله. وقد أطنبت في إيضاحه في شرح (المهذب) (3). واعلم أن في الصلاة الرباعية، اثنتين وعشرين تكبيرة. وفي الثلاثية، سبع عشرة. وفي الثنائية، إحدى عشرة. والله أعلم. فصل في السلام (4): قد تقدم أنه ركن. وأقله: السلام عليكم. ولو قال: سلام علكم، بالتنوين، أجزأه على الأصح. قلت: الأصح عند الجمهور: لا يجزئه وهو المنصوص. والله أعلم. ولو قال: عليكم السلام، أجزأه على المذهب. ولا يجزئ: سلام عليك، ولا: سلامي عليكم، ولا: سلام الله عليكم، ولا: سلام عليهم. وإن قال شيئا من ذلك متعمدا، بطلت صلاته. إلا قوله: السلام عليهم. لأنه دعاء لغائب. وهل يجب أن ينوي بسلامه الخروج من الصلاة؟ وجهان. أصحهما: لا يجب (5). فإن قلنا: يجب، لم يجب تعيين الصلاة في نية الخروج، ولو عين غير ما هو فيه عمدا، بطلت صلاته، وإن كان سهوا، سجد للسهو، وسلم ثانيا. وإذا قلنا: لا
372 تجب نية الخروج، لا يضر الخطأ في التعيين. وإذا قلنا: يجب، فيجب أن ينوي مقترنا بالتسليمة الأولى، فإن قدمها على السلام، أو سلم بلا نية، بطلت صلاته. ولو نوى قبل السلام الخروج عنده، لم تبطل صلاته، لكن لا يكفيه، بل تجب النية مع السلام. ويجب على المصلي، أن يوقع السلام في حالة القعود. أما أكمل السلام، فأن يقول: السلام عليكم ورحمة الله. ويسن تسليمه ثانية، على المشهور (1). وفي قول قديم: لا يزيد على واحدة. وفي قول قديم آخر: يسلم غير الامام واحدة. وكذا الامام إن قل القوم. ولا لغط عندهم، وإلا، فتسليمتين. فإذا قلنا: يسلم واحدة، جعلها تلقاء وجهه. وإن قلنا: تسليمتين، فاحداهما عن يمينه، والأخرى عن يساره. ويبتدئ بالسلام مستقبل القبلة، ثم يلتفت بحيث ينقضي (2) السلام مع تمام الالتفات، ويلتفت حتى يرى من كل جانب خده الواحد، على الصحيح. وقيل: خداه. ويستحب للامام، أن ينوي بالتسليمة الأولى، السلام على من على يمينه من الملائكة، ومسلمي الجن، والإنس. وبالثانية، من على يساره منهم. وينوي المأموم مثل ذلك. ويختص بشئ آخر، وهو أنه إن كان عن يمين الامام، نوى بالتسليمة الثانية، الرد على الامام، وإن كان عن يساره ينويه بالأولى. وإن كان محاذيا له، نواه بأيتهما شاء، وبالأولى أفضل. ويستحب أن ينوي بعض المأمومين، الرد على بعض. وأما المنفرد، فينوي بهما السلام، على من على جانبيه من الملائكة، ويستحب لكل منهم، أن ينوي بالتسليمة الأولى، الخروج من الصلاة، إذا لم نوجبها. قلت: السنة: أن يكثر من ذكر الله تعالى عقب الصلاة، وقد جاءت في بيان ما يستحب من الذكر، أحاديث كثيرة صحيحة (3). أوضحتها في كتاب (الأذكار)
373 ويسن الدعاء بعد السلام سرا (1)، إلا أن يكون إماما يريد تعليم الحاضرين الدعاء، فيجهر. قال أصحابنا ويستحب إذا أراد أن يتنفل عقب الفريضة، أن ينتقل إلى بيته، فإن لم يكن، فإلى موضع آخر (2). ويستحب إذا كان يصلي وراءه نساء، أن يمكث في مصلاه حتى ينصرفن. وإذا أراد الانصراف، فإن كان له حاجة عن يمينه، أو عن يساره، انصرف إلى جهة حاجته، وإن لم يكن حاجة، فجهة اليمين أفضل. وإذا سلم الامام التسليمة الأولى، فقد انقطعت متابعة المأموم، وهو بالخيار، إن شاء سلم في الحال، وإن شاء استدام الجلوس للتعوذ، والدعاء، وأطال ذلك. ولو اقتصر الامام على تسليمة، استحب للمأموم تسليمتان. ويستحب للمصلي، الخشوع في صلاته، وأن يديم نظره إلى موضع سجوده (3). قال بعض أصحابنا: يكره له تغميض عينيه. والمختار: أنه لا يكره إن لم يخف ضررا. وينبغي أن يدخل فيها بنشاط، وفراغ قلبه من الشواغل. والله أعلم.
374 فصل: من فاتته صلاة فريضة، وجب قضاؤها، وينبغي أن يقضيها على الفور، فإن أخرها، ففيه كلام نذكره في الحج، إن شاء الله تعالى. فإن قضى فائتة الليل بالليل، جهر، وإن قضى فائتة النهار بالنهار، أسر، وإن قضى فائتة النهار ليلا، أو عكس، فالاعتبار بوقت القضاء على الأصح. وعلى الثاني، بوقت الفوائت. قلت: صلاة الصبح، وإن كانت نهارية، فهي في القضاء جهرية، ولوقتها، حكم الليل (1) في الجهر، وإطلاقهم محمول على هذا. والله أعلم. ويستحب في قضاء الصلوات، الترتيب. ولا يجب في قضائها، ولا بين فريضة الوقت، والمقضية. فإن دخل وقت فريضة وتذكر فائتة، فإن اتسع وقت الحاضرة، استحب البداءة بالفائتة، وإن ضاق، وجب تقديم الحاضرة. ولو تذكر الفائتة بعد شروعه في الحاضرة، أتمها، ضاق الوقت، أم اتسع، ثم يقضي الفائتة. ويستحب أن يعيد الحاضرة بعدها. قلت: ولو شرع في الفائتة معتقدا أن في الوقت سعة، فبان ضيقه، وجب قطعها والشروع في الحاضرة على الصحيح، وعلى الشاذ: يجب إتمام الفائتة. ولو
375 تذكر فائتة وهناك جماعة يصلون في الحاضرة، والوقت متسع، فالأولى أن يصلي الفائتة أولا منفردا، لان الترتيب مختلف في وجوبه، والقضاء خلف الأداء مختلف في جوازه، فاستحب الخروج من الخلاف. ولو فاته صلوات لا يعرف قدرها، ويعلم أنها لا تنقص عن عشر صلوات، ولا تزيد على عشرين، فوجهان. أحدهما: يلزمه العشر. وأصحهما: العشرون. واعلم أن الصلاة تشتمل على فرائض، وسنن، كما سبق. ولها شروط سيأتي بيانها في بابها، إن شاء الله تعالى. قال صاحب (التهذيب): شروط الصلاة قبل الشروع فيها، خمسة: الطهارة عن الحدث والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، والعلم بدخول الوقت يقينا أو ظنا، بالاجتهاد ونحوه. والخامس: العلم بفرضية الصلاة ومعرفة أعمالها. قال: فإن جهل فرضية أصل الصلاة، أو علم أن بعض الصلوات فريضة، لكن لم يعلم فرضية الصلاة التي شرع فيها، لم تصح صلاته. وكذا إذا لم يعرف فرضية الوضوء. أما إذا علم فرضية الصلاة، ولم يعلم أركانها، فله ثلاثة أحوال. أحدها: أن يعتقد جميع أفعالها سنة. والثاني: أن يعتقد بعضها فرضا، وبعضها سنة، ولا يعرف تمييزها، فلا تصح صلاته قطعا. صرح به القاضي حسين، وصاحب (التتمة) و (التهذيب). الثالث: أن يعتقد جميع أفعالها فرضا، فوجهان حكاهما القاضي حسين، وصاحب (التهذيب) أحدهما: لا تصح صلاته، لأنه ترك معرفة ذلك، وهي واجبة وأصحهما: تصح. وبه قطع صاحب (التتمة) لأنه ليس فيه أكثر من أنه أدى سنة باعتقاد الفرض، وذلك لا يؤثر. قال في (التهذيب): فإن لم نصحح صلاته، ففي صحة وضوئه في هذه الصورة، وجهان. هكذا ذكروا هذه المسائل، ولم يفرقوا بين العامي وغيره. وقال الغزالي في (الفتاوى): العامي الذي لا يميز فرائض صلاته من سننها، تصح صلاته بشرط أن لا يقصد التنفل بما هو فرض. فإن نوى التنفل به، لم يعتد به، فإذا غفل عن التفصيل، فنية الجملة في الابتداء كافية. هذا كلام الغزالي، وهو الظاهر الذي يقتضيه ظواهر أحوال الصحابة رضي الله عنهم، فمن بعدهم. ولم ينقل عن النبي (ص) أنه ألزم الاعراب ذلك، ولا أمر بإعادة صلاة من لا يعلم هذا. والله أعلم.
376 الباب الخامس في شروط (1) الصلاة والمنهي عنه فيها وشروطها ثمانية (2). أحدها: استقبال القبلة. والثاني: العلم بدخول الوقت أو ظنه. وقد تقدم ذكرهما في بابيهما. الثالث: طهارة الحدث. وتقدم في كتاب (الطهارة) بيان حصولها. فلو لم يكن متطهرا عند إحرامه لم تنعقد صلاته، عامدا كان، أو ساهيا. وإن أحرم متطهرا، ثم أحدث باختياره، بطلت صلاته، عمدا كان حدثه، أو سهوا، علم بالصلاة، أم نسيها. وإن أحدث بغير اختياره، بأن سبقه الحدث، بطلت طهاراته بلا خلاف (3)، وبطلت صلاته أيضا على المشهور الجديد، ولا تبطل على القديم، سواء كان الحدث أصغر، أو أكبر، بل يتطهر، ويبني على صلاته. فإن كان حدثه في الركوع مثلا، فقال الصيدلاني: يجب أن يعود إلى الركوع. وقال إمام الحرمين: إن لم يكن اطمأن، وجب العود إلى الركوع. وإن كان اطمأن، فالظاهر: أنه لا يعود إليه. ثم إذا ذهب من سبقه الحدث ليتوضأ ويبني، لزمه أن يسعى في تقريب الزمان، وتقليل الأفعال بحسب الامكان، وليس له بعد تطهره أن يعود إلى الموضع الذي كان فيه، إن قدر على الصلاة في أقرب منه، إلا أن يكون إماما لم يستخلف، أو مأموما يقصد فضيلة الجماعة، فلهما العود. وما لا يستغنى عنه من الذهاب إلى الماء واستقائه ونحوه، فلا بأس به. ولا يشترط فيه العدو، والبدار الخارج عن الاقتصاد. ويشترط أن لا يتكلم إلا إذا احتاج إليه في تحصيل الماء، ولو أخرج تمام الحدث الأول متعمدا، لم يمنع البناء على المنصوص في
377 القديم، وبه قطع الجمهور. وقال إمام الحرمين، والغزالي: يمنع، ولو أحدث حدثا آخر، ففي منعه البناء، وجهان. هذا كله تفريع القديم، هذا كله في صاحب (طهارة الرفاهية). أما المستحاضة ومن في معناها، فلا يضر حدثها المقارن ولا الحادث على تفصيله السابق. فرع: ما سوى الحدث من الأسباب المناقضة للصلاة، إذا طرأ فيها، أبطلها قطعا إن كان باختياره، أو بغير اختياره، إذا نسب فيه إلى تقصير، كمن مسح خفه، فانقضت مدته في الصلاة، أو دخل فيها وهو يدافع الحدث، ويعلم أنه لا يقدر على التماسك إلى فراغها. ولو تخرق خف الماسح، فالأصح: أنه على قولي سبق الحدث. وقيل: تبطل قطعا. أما إذا طرأ مناقض، لا باختياره، ولا بتقصيره، فإن أزاله في الحال، كمن انكشفت عورته، فسترها في الحال، أو وقعت عليه نجاسة يابسة، فنفضها في الحال، أو ألقى الثوب الذي وقعت عليه في الحال، فصلاته صحيحة. وإن نحاها بيده، أو كمه، بطلت صلاته. وإن احتاج في إزالته إلى زمن، بأن ينجس ثوبه، أو بدنه نجاسة يجب غسلها. أو أبعدت الريح ثوبه، فعلى قولي سبق الحدث. ولو خرج من جرحه دم متدفق، ولم يلوث بشرته، لم تبطل صلاته. الشرط الرابع: طهارة النجس. النجاسة قسمان. واقعة في مظنة العفو، وغيرها. أما الواقعة في غير مظنة العفو، فيجب الاحتراز منها في الثوب، والبدن، والمكان (1). فإن أصاب ثوبه نجاسة وعرف موضعها، فطريق إزالتها، الغسل كما سبق. فلو قطع موضعها، أجزأه. ويلزمه ذلك إذا تعذر الغسل، وأمكن ستر العورة بالظاهر منه، ولم ينقص من قيمته بالقطع أكثر من أجرة الثوب. فإن (2) لم يعرف موضع النجاسة من البدن، أو الثوب، واحتمل وجودها في كل جزء، وجب غسل
378 الجميع، ولا يجزئه التحري. فلو شق الثوب نصفين، لم يجزئ التحري فيهما. ولو أصاب شئ رطب طرفا من هذا الثوب، لم ينجس الرطب، لأنا لا نتيقن نجاسة موضع الإصابة. ولو غسل إحدى نصفيه في حال اتصاله، ثم غسل النصف الآخر، فهو كما لو تيقن نجاسة الجميع، وغسله هكذا. وفيه وجهان. أحدهما: لا يطهر حتى يغسل النصفين دفعة واحدة. وأصحهما: أنه إن غسل مع النصف الثاني القدر الذي يجاوره من الأول، طهر الكل. وإن اقتصر على النصفين، فقد طهر الطرفان، وبقي المنتصف نجسا في صورة اليقين، ومجتنبا في الصورة الأولى. ولو نجس أحد موضعين منحصرين، أو مواضع، وأشكل عليه كأحد كميه، فأدى اجتهاده إلى نجاسة أحدهما، فغسله، وصلى فيه، لم تصح صلاته عل الأصح. فلو فصل أحد الكمين عن الثوب، صارا كالثوبين. فإن غسل ما ظنه نجسا، وصلى فيه، جاز. وإن صلى فيما ظنه طاهرا، جاز. ويجري الوجهان فيما إذا نجست إحدى يديه، أو أحد أصابعه، وغسل ما ظن نجاسته، وصلى. وفيما لو اجتهد في ثوبين، وغسل النجس، وصلى فيهما معا. لكن الأصح هنا، الجواز. بخلاف الكمين، لضعف أثر الاجتهاد في الثوب الواحد. ولو غسل أحد الكمين بالاجتهاد، وفصله عن الثوب، فجواز الصلاة فيما لم يغسله، على الخلاف. ولو غسل أحد الثوبين بالاجتهاد، جازت الصلاة في كل واحد منهما وحده بلا خلاف. ولو اشتبه ثوبان، أو أثواب بعضها طاهر، وبعضها نجس، اجتهد كما سبق في الأواني. فإن لم يظهر له شئ، وأمكنه غسل واحد ليصلي فيه، لزمه ذلك، وإلا فهو كمن لم يجد إلا ثوبا نجسا. ونذكره في الشرط الخامس إن شاء الله تعالى. قلت: ولنا وجه، أن يصلي الصلاة تلك في كل ثوب مرة. والصحيح المعروف: أنه يترك الثياب، ويصلي عريانا. وتجب الإعادة والله أعلم. ولو ظن طهارة أحد الثوبين، وصلى فيه، ثم تغير اجتهاده، عمل بمقتضى الاجتهاد الثاني على الأصح، كالقبلة. قلت: ولا يجب إعادة واحدة من الصلاتين - وكذا لو كثرت الثياب، والصلوات - بالاجتهاد المختلف، كما قلنا في القبلة. ولو تلف أحد الثوبين المشتبهين قبل الاجتهاد، لم يصل في الآخر على الأصح. والله أعلم.
379 فرع: ما لبسه المصلي، يجب أن يكون طاهرا، وأن لا يلاقي شيئا نجسا، سواء تحرك بحركته في قيامه وقعوده، أو لم يتحرك بعض أطرافه كذنابة العمامة. فلو أصاب طرف العمامة الذي لا يتحرك أرضا نجسة، بطلت صلاته. ولو قبض طرف حبل، أو ثوب، أو شده في يده، أو رجله، أو وسطه، وطرفه الآخر نجس، أو متصل بالنجاسة، فثلاثة أوجه. أصحها: تبطل صلاته. والثاني: لا تبطل. والثالث: إن كان الطرف نجسا، أو متصلا بعين النجاسة، بأن كان في عنق كلب، بطلت. وإن كان متصلا بطاهر، وذلك الطاهر متصلا بنجاسة، بأن شد في ساجور (1)، أو خرقة، وهما في عنق كلب، أو شده في عنق حمار عليه حمل نجس، لم تبطل. والأوجه جارية، سواء تحرك الطرف بحركته، أم لا، كذا قاله الجمهور. وقطع به إمام الحرمين، والغزالي، ومن تابعهما بالبطلان إذا تحرك، وخصوا الخلاف، بما لا يتحرك. وقطع البغوي بالبطلان في صورة الشد، وخص الخلاف بصورة القبض باليد. وقال أكثر الأصحاب: إن كان الكلب صغيرا، أو ميتا، وطرف الحبل مشدود به، بطلت الصلاة قطعا. وإن كان كبيرا حيا، بطلت على الأصح. وإن كان الحبل مشدودا في موضع طاهر من سفينة فيها نجاسة، فإن كانت صغيرة تنجر بجره، فهي كالكلب. وإن كانت كبيرة. لم تبطل على الصحيح. كما لو شد في باب دار فيها نجاسة، واتفقت الطوائف على أنه لو جعل رأس الحبل تحت رجله، صحت صلاته في جميع الصور. فرع: من انكسر عظمه، فجبره بعظم طاهر، فلا بأس (2). وإن جبره بعظم نجس، نظر، إن كان محتاجا إلى الجبر ولم يجد عظما طاهرا يقوم مقامه (3)، فهو معذور (4)، وليس عليه نزعه. وإن لم يحتج إليه، أو وجد طاهرا يقوم مقامه، وجب نزعه إن لم يخف الهلاك، ولا تلف عضو، ولا شيئا من المحذورات المذكورة في باب التيمم. فإن لم يفعل، أجبره السلطان، ولا تصح صلاته معه. ولا مبالاة
380 بالألم الذي يجده، ولا يخاف منه. ولا فرق بين أن يكتسي اللحم، أو لا يكتسيه. ومال إمام الحرمين، إلى أنه إذا اكتسى اللحم، لم يجب النزع، وإن كان لا يخاف الهلاك، وهو مذهب أبي حنيفة، ووجه شاذ لنا. وإن خاف من النزع الهلاك، أو ما في معناه، لم يجب النزع على الصحيح. وإذا أوجبنا النزع، فمات قبله، لم ينزع على الصحيح المنصوص، سواء استتر باللحم، أم لا. وقيل: إن استتر، لم ينزع قطعا. وعلى الشاذ: يجب النزع. وقيل: يستحب. ومداواة الجرح بالدواء النجس، وخياطته بخيط نجس، كالوصل بعظم نجس، فيجب النزع حيث يجب نزع العظم. وكذا لو شق موضعا من بدنه، وجعل فيه دما. وكذا لو وشم (1) يده بالعظام (2)، أو غيرها، فإنه ينجس عند الغرز. وفي تعليق الفراء (3)، أنه يزال الوشم بالعلاج. فإن لم يمكن إلا بالجرح، لا يجرح، ولا إثم عليه بعد التوبة. والوادي) (4) وصلى خارجه. والله أعلم. فرع: وصل المرأة شعرها بشعر نجس، أو بشعر آدمي، حرام قطعا، لأنه يحرم الانتفاع بشئ منه، لكرامته، بل يدفن شعره، وغيره. وسواء في هذين، المزوجة، وغيرها. وأما الشعر الطاهر لغير الآدمي، فإن لم تكن ذات زوج، ولا سيد، حرم الوصل به على الصحيح. وعلى الثاني: يكره (4). وإن كانت ذات زوج. أو سيد، فثلاثة أوجه. أصحها: إن وصلت بإذنه، جاز، وإلا حرم (5). والثاني: يحرم مطلقا. والثالث: لا يحرم، ولا يكره مطلقا. وأما تحمير الوجنة،
381 فإن كانت خلية من الزوج، أو السيد، أو كان أحدهما، وفعلته بغير إذنه، فهو حرام، وإن كان باذنه، فجائز على المذهب. وقيل: وجهان، كالوصل. وأما الخضاب بالسواد، وتطريف الأصابع، فألحقوه بالتحمير. قال إمام الحرمين: ويقرب منه تجعيد الشعر، ولا بأس بتصفيف الطرر، وتسوية الأصداغ. وأطلق الأصحاب القول باستحباب الخضاب بالحناء لها بكل حال. وينبغي أن تكون هذه الأمور، على تفصيل نذكره في (فصل سنن الاحرام) إن شاء الله تعالى. وأما الوشم، فحرام مطلقا. والوشر: وهو تحديد طرف الأسنان وترقيقها، كالوصل بشعر طاهر (1). فرع: يجب أن يكون ما يلاقي بدن المصلي، وثوبه، وتحته، وفوقه، وجوانبه، طاهرا. فلو وقف بحيث يمسه في صلاته جدار، أو سقف نجس، بطلت صلاته. ولو صلى على بساط تحته نجاسة، أو على طرف منه نجاسة، أو على سرير قوائمه على نجاسة، لم يضر، سواء تحرك ذلك الموضع بحركته، أم لا. ولو نجس أحد البيتين، واشتبه، تحرى، كالثوبين. وإن اشتبه مكان من بيت، أو بساط، لم يجز التحري على الأصح. وعلى الثاني: يجوز، كما لو اشتبه ذلك في الصحراء. ولو كان ما يلاقي بدنه وثيابه طاهرا، وما يحاذي صدره، أو بطنه، أو شيئا من بدنه في سجوده، أو غيره، نجسا، صحت صلاته على الأصح. ولو بسط على النجاسة ثوبا مهلهل النسج، وصلى عليه، فإن حصلت مماسة النجاسة من الفرج، بطلت صلاته. وإن لم تحصل، وحصلت المحاذاة، فعلى الوجهين. فرع في مواطن ورد الشرع بالنهي عن الصلاة فيها: أحدها: المزبلة (2)، والمجزرة (3). والنهي فيهما لنجاسة الموضع. فلو فرش ثوبا، أو بساطا طاهرا، صحت صلاته، ولكن تكره بسبب النجاسة تحته. الثاني: قارعة الطريق، للنهي عنها معنيان. أحدهما: غلبة النجاسة، والثاني: اشتغال القلب بسب مرور الناس. فإن قلنا بالمعنى الأول: جرى النهي
382 في جواد الطرق في البراري. وإن قلنا بالثاني: فلا. وفي صحة الصلاة في الشوارع مع غلبة النجاسة، القولان المتقدمان في باب الاجتهاد، لتعارض الأصل، والظاهر. فإن صححناها، فالنهي للتنزيه، وإلا، فللتحريم. فلو بسط شيئا طاهرا، صحت الصلاة قطعا، وتبقى الكراهة لشغل القلب. والثالث: بطن الوادي. والنهي عنه للخوف السالب للخشوع، بسبب سيل يتوقع. فإن لم يتوقع سيل، فيحتمل أن يقال: لا كراهة، ويحتمل الكراهة لمطلق النهي. قلت: اتبع الامام الرافعي الغزالي، وإمام الحرمين، في إثبات النهي عن الصلاة في بطون الأودية مطلقا، ولم يجئ في هذا نهي أصلا. والحديث الذي جاء فيه ذكر المواطن السبعة (1)، ليس فيه الوادي، بل فيه المقبرة بدلا منه. ولم يصب من ذكر الوادي (2)، وحذف المقبرة. والحديث من أصله ضعيف، ضعفه الترمذي وغيره. وإنما الصواب، ما ذكره الشافعي رحمه الله، فإنه يكره (3) الصلاة في واد خاص. هو الذي نام (فيه) رسول الله (ص) ومن معه عن الصبح حتى فاتت. وقال: (اخرجوا بنا من هذا الوادي (4)،) وصلى خارجه. والله أعلم. الرابع: الحمام. قيل: سبب النهي، كثرة النجاسة، والوسخ. وقيل: لأنه مأوى الشيطان. وفي المسلخ، وجهان. إن قلنا بالسبب الأول، لم يكره، وإلا كره، وهو الأصح. وتصح الصلاة بكل حال، في المسلخ، والحمام إذا حكم بطهارته.
383 الخامس: ظهر الكعبة وسبق تفصيله في باب الاستقبال. السادس: أعطان الإبل. وفسره الشافعي رحمه الله، بالمواضع التي تنحى إليها الإبل الشاربة، ليشرب غيرها. فإذا اجتمعت، سيقت، فتكره الصلاة في أعطان الإبل، ولا تكره في مراح الغنم، وهو: مأواها ليلا. وقد يتصور في الغنم مثل عطن الإبل. وحكمه حكم مراحها. وحكم مأوى الإبل ليلا، حكم عطنها. لكن الكراهية في العطن، أشد. ومتى صلى في العطن، أو المراح، ونجس بالبول، أو البعر، أو غيرهما، لم تصح صلاته، وإلا صحت مع افتراقهما في الكراهة. السابع: المقبرة. وتكره الصلاة فيها بكل حال. ثم إن كانت غير منبوشة، أو بسط عليها طاهرا، صحت صلاته. وإن علم أن موضع صلاته منبوش، لم تصح. وإن شك في نبشه، صحت على الأظهر. ويكره استقبال القبر في الصلاة (1). القسم الثاني: النجاسة الواقعة في مظنة العفو. وهو أضرب. الأول: الأثر الباقي على محل الاستنجاء بعد الحجر، يعفى عنه مع نجاسته. فلو لاقى ماء قليلا، نجسه. ولو حمله مصل بطلت صلاته على الأصح. ويجري الوجهان فيما إذا حمل من على ثوبه نجاسة معفو عنها (2). ويقرب منها، الوجهان فيما لو عرق، وتلوث بمحل النجو غيره. لكن الأصح هنا، العفو، لعسر الاحتراز (3). بخلاف حمل غيره. ولو حمل حيوانا لا نجاسة عليه، صحت صلاته. وإن تنجس منفذه بالخارج، فوجهان. الأصح عند إمام الحرمين، المقطوع به في (التتمة): لا تصح صلاته. والأصح عند الغزالي: صحتها. قلت: الأول: أصح. والله أعلم. ولو وقع هذا الحيوان في ماء قليل، أو مائع آخر، وخرج حيا، لم ينجسه على
384 الأصح، للمشقة في صيانة الماء والمائع. ولو حمل بيضة صار حشوها دما ، وظاهرها طاهر، أو حمل عنقودا استحال باطن حباته خمرا، ولا رشح على ظاهرها، لم تصح صلاته على الأصح. ويجري الوجهان في كل استتار خلقي. ولو حمل قارورة مصممة الرأس برصاص، أو نحوه، وفيها نجاسة، لم تصح صلاته على الصحيح. ولو صممها بخرقة، بطلت صلاته قطعا. ولو صممها بشمع، قيل: إنه كالرصاص. وقيل: كالخرقة. ولو حمل حيوانا مذبوحا بعد غسل الدم وغيره من موضع الذبح وغيره، لم تصح قطعا (1). الضرب الثاني: طين الشوارع. فتارة يعلم نجاسته، وتارة يظنها، وتارة لا قطعا يعلمها، ولا يظنها. فالثالث: لا يضر. والمظنون فيه، القولان السابقان في باب الاجتهاد. والنجس، يعفى قليله، دون كثيره. والقليل: ما يتعذر الاحتراز منه. والرجوع فيه إلى العادة. ويختلف بالوقت، وبموضعه في (2) البدن. وذكر الأئمة له تقريبا، فقالوا: القليل، ما لا ينسب صاحبه إلى سقطة، أو كبوة، أو قلة تحفظ. فإن نسب، فكثيرة. ولو أصاب أسفل الخف، أو النعل نجاسة، فدلكه بالأرض حتى ذهبت أجزاؤها، ففي صحة صلاته فيه قولان. الجديد الأظهر: لا يصح مطلقا. والقديم: يصح بشروط. أحدها: أن يكون للنجاسة جرم يلتصق به. أما البول ونحوه، فلا يكفي دلكه بحال. والثاني: أن يدلكه في حال الجفاف، وما دام رطبا لا يكفي الدلك قطعا، والثالث: أن يكون حصول النجاسة بالمشي من غير تعمد. فلو تعمد تلطيخ الخف بها، وجب الغسل قطعا. والقولان جاريان فيما أصاب أسفل الخف وأطرافه من طين الشوارع - المتيقن النجاسة - الكثير الذي لا يعفى عنه وسائر النجاسة الغالبة في الطرق، كالروث، وغيره. الضرب الثالث: دم البراغيث (3). يعفى عن قليله في الثوب، والبدن. وفي كثيره، وجهان. أصحهما: العفو (4). ويجري الوجهان، في دم القمل،
385 والبعوض، وما أشبه ذلك، وفي ونيم الذباب، وبول الخفاش. ولو كان قليلا فعرق، وانتشر اللطخ بسببه، فعلى الوجهين. وفي ضبط القليل، والكثير، خلاف. ففي قول قديم: القليل: قدر دينار. وفي قديم آخر: ما دون الكف. وعلى الجديد، وجهان. أحدهما: الكثير: ما يظهر للناظر من غير تأمل وإمعان طلب. والقليل، دونه. وأصحهما: الرجوع إلى العادة، فما يقع التلطخ به غالبا، ويعسر الاحتراز عنه، فقليل. فعلى الأول: لا يختلف ذلك باختلاف الأوقات، والبلاد. وعلى الثاني: وجهان. أحدهما: يعتبر الوسط المعتدل، ولا يعتبر من الأوقات، والبلاد ما يندر ذلك فيه، أو يتفاحش. وأصحهما: يختلف باختلاف الأوقات والبلاد ويجتهد المصلي هل هو قليل أم كثير؟ فإن شك ففيه احتمالان لإمام الحرمين. أرجحهما، وهو الذي قطع به الغزالي: أن له حكم القليل، والثاني: له حكم الكثير. الضرب الرابع: دم البثرات (1)، وقيحها، وصديدها (2)، كدم البراغيث.
386 فيعفى عن قليله قطعا، وعن كثيره على الأصح. ولو عصر بثرة، فخرج ما فيها، عفي عنه على الأصح. ولو أصابه دم غيره، من آدمي، أو بهيمة، أو غيرهما، فإن كان كثيرا فلا عفو. وإن كان قليلا، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: العفو. ولو أصابه شئ من دم نفسه، لا من البثرات، بل من الدماميل والقروح، وموضع الفصد والحجامة، فوجهان. أحدهما وهو. مقتضى كلام الأكثرين: أنه كدم البثرات. والثاني: وهو الأولى، واختاره القاضي ابن كج، والشيخ أبو محمد، وإمام الحرمين: أنه لا يلتحق بدم البثرات. بل إن كان مما يدوم مثلها غالبا، فهي كدم الاستحاضة. وسبق حكمه في باب الحيض. وإن كان مما لا يدوم غالبا، فهو كدم الأجنبي، لا يعفى عن كثيره وفي قليله الخلاف. قلت: الأصح: أنه كدم البثرات. والله أعلم. وحكم القيح، والصديد، حكم الدم في جميع ما ذكرناه. وأما القروح، والنفاطات فإن كان له رائحة كريهة، فهو نجس، وإلا فطريقان. أحدهما: القطع بالطهارة. والثاني: على قولين. قلت: المذهب، طهارته. والله أعلم. الضرب الخامس: إذا صلى وعلى ثوبه، أو بدنه، أو موضع صلاته نجاسة غير معفو عنها، وهو لا يدري، فإن لم يكن علمها، وجبت الإعادة على الأظهر (2). وإن علمها ثم نسيها، وجبت قطعا. وقيل: على القولين. وإذا أوجبنا الإعادة، وجبت إعادة كل صلاة تيقن أنه صلاها مع النجاسة. وإذا احتمل أنها حدثت بعد ما صلى، فلا شئ عليه.
387 الضرب السادس: في أنواع متفرقة، منها: النجاسة التي تستصحبها المستحاضة، وسلس البول. ومنها إذا كان على جرحه دم كثير يخاف من إزالته. ومنها، إذا تلطخ سلاحه بالدم في صلاة شدة الخوف. ومنها: الشعر الذي ينتف ولا يخلو عنه ثوبه وبدنه، وحكمه، حكم دم البراغيث. ومنها: القدر الذي لا يدركه الطرف من البول، والخمر، وغير الدم. وفيه خلاف تقدم في أول (كتاب الطهارة). قلت: إذا كان على جرحه دم كثير زائد على ما يعفى عنه، وخاف من غسله، صلى به، وجبت الإعادة على الجديد الأظهر (1). والله أعلم. الشرط الخامس: ستر العورة (2). ويجب في غير الصلاة في غير الخلوة، وفي الخلوة أيضا على الأصح (3). وهو شرط لصحة الصلاة في الخلوة، وغيرها. فإن تركه مع القدرة، بطلت. قلت: ولو صلى في سترة، ثم علم بعد الفراغ أنه كان فيها خرق تبين منه العورة، وجبت إعادة الصلاة على المذهب، سواء كان علمها، ثم نسيها، أم لم يكن علمها. وهو شبيه بمن علم النجاسة بعد الفراغ. ولو احتمل حدوث الخرق بعد السلام، فلا إعادة قطعا. ويجوز كشف العورة في الخلوة، في غير صلاة للحاجة. والله أعلم.
388 وعورة الرجل، حرا كان أو عبدا (1): ما بين السرة والركبة على الصحيح. وفي وجه: الركبة، والسرة، عورة. وفي وجه: الركبة عورة، دون السرة. وفي وجه شاذ منكر قاله الإصطخري: إن عورة الرجل، القبل والدبر فقط. قلت: لنا وجه ضعيف مشهور: أن السرة عورة دون الركبة. والله أعلم. وأما المرأة، فإن كانت حرة، فجميع بدنها عورة (2)، إلا الوجه والكفين. ظهرهما، وبطنهما، إلى الكوعين. ولنا قول، وقيل وجه: أن باطن قدمها ليس بعورة. وقال المزني: ليس القدمان بعورة. وإن كانت أمة، أو مكاتبة، أو مستولدة، أو مدبرة، أو بعضها رقيقا، ففيها ثلاثة أوجه. أصحها: عورتها كعورة الرجل. والثاني: كعورة الحرة، إلا رأسها، فإنه ليس بعورة، والثالث: ما ينكشف في حال خدمتها، وتصرفها، كالرأس، والرقبة، والساعد، وطرف الساق، فليس بعورة. وما عداه عورة. وأما الخنثى المشكل، فإن كان رقيقا، وقلنا: عورة الأمة كعورة الرجل، فلا يلزمه أن يستر إلا ما بين السرة، والركبة. وإن كان حرا أو رقيقا، وقلنا: عورة الأمة أكثر من عورة الرجل، وجب ستر الزيادة على عورة الرجل أيضا، لاحتمال الأنوثة. فلو خالف، فلم يستر إلا ما بين السرة والركبة، فهل تصح صلاته؟ وجهان. قلت: أصحهما: لا تصح. لان الستر شرط. وشككنا في حصوله. والله أعلم. فرع في صفة السترة والستر: ويجب ستر العورة، بما يحول بين الناظر ولون البشرة، فلا يكفي الثوب الرقيق الذي يشاهد من ورائه سواد البشرة وبياضها، ولا الغليظ المهلهل النسج الذي يظهر بعض العورة من فرجه. ولو ستر اللون، ووصف حجم البشرة، فلا بأس. ولا وقف في ماء صاف، لم تصح صلاته، إلا إذا
389 غلبت الخضرة لتراكم الماء. فإن انغمس إلى عنقه، ومنعت الخضرة رؤية لون البشرة، صحت صلاته. ولو صلى في ماء كدر، صحت على الأصح. وصورة الصلاة في الماء، أن يتمكن من الركوع والسجود، أو يصلي على جنازة. ولو طين عورته، فاستتر اللون، أجزأه على الصحيح الذي قطع به الجماهير، سواء وجد ثوبا أم لا. وعلى هذا، لو لم يجد ثوبا ونحوه، وأمكنه التطين، وجب على الأصح. وأما صفة الستر، فقال الأصحاب: الستر يعتبر من فوق، ومن الجوانب، ولا يعتبر من أسفل الذيل والإزار. حتى لو صلى في قميص متسع الذيل، وكان على طرف سطح يرى عورته من نظر إليه من أسفل، جاز، كذا قاله الأصحاب. وتوقف في صورة السطح إمام الحرمين، والشاشي. ولو صلى في قميص واسع الجيب، ترى عورته من الأعلى في الركوع، أو السجود، وغيرهما من أحوال الصلاة، لم تصح صلاته. وطريقه، أن يزر جيبه، أو يشد وسطه، أو يستر موضع الجيب بشئ يلقيه على عاتقيه، أو نحو ذلك. وكذا لو لم يكن واسع الجيب، لكن كان على صدر القميص أو ظهره خرق يبدو منه العورة، فلا بد من شئ مما ذكرناه. ولو كان الجيب بحيث ترى العورة منه في الركوع، والسجود، ولكن يمنع منها لحيته، أو شعر رأسه، صحت صلاته على الأصح. كما لو كان على إزاره ثقب، فجمع عليه الثوب بيده، فلو ستر الثقب بيده، فعلى الوجهين في اللحية. ولو كان القميص بحيث يظهر منه العورة عند الركوع، ولا يظهر في القيام، فهل تنعقد صلاته؟ ثم إذا ركع، تبطل، أم لا تنعقد أصلا؟ فيه هذان الوجهان. وفائدة الخلاف، فيما لو اقتدى به غيره قبل الركوع، وفيما لو ألقى ثوبا على عاتقه قبل الركوع. واعلم أنه يشترط في الساتر، أن يشمل المستور، إما باللبس كالثوب والجلد، وإما بغيره، كالتطين. فأما الفسطاط الضيق ونحوه، فلا عبرة به، لأنه لا يعد مشتملا عليه. ولو وقف في جب، وصلى على جنازة، فإن كان واسع الرأس تظهر منه العورة، لم تجز. وإن كان ضيق الرأس، فقال في (التتمة) (1): تجوز. ومنهم من قال: لا تجوز.
390 قلت: الأصح: الجواز. ولو حفر في الأرض حفرة، ووقف فيها لصلاة الجنازة، إذا رد التراب بحيث ستر العورة، جاز، وإلا فكالجب. ولو ستر بزجاج يرى منه لون البشرة، لم يصح. والله أعلم. فرع: إذا لم يجد المصلي ما يستر العورة، صلى عاريا وتقدم في آخر باب (التيمم) كيفية صلاته والقضاء. ولو حضر جمع من العراة، فلهم أن يصلوا جماعة. ويقف إمامهم وسطهم، كجماعة النساء. وهل يسن للعراة الجماعة، أم الأصح الأولى أن يصلوا فرادى؟ قولان: القديم: الانفراد أفضل. والجديد: الجماعة أفضل. قلت: هكذا حكى جماعة عن الجديد. والمختار ما حكاه المحققون عن الجديد: أن الجماعة والانفراد سواء. وصورة المسألة إذا كانوا بحيث يتأتى نظر بعضهم إلى بعض، فلو كانوا عميا، أو في ظلمة، استحبت لهم الجماعة بلا خلاف. والله أعلم. ولو كان فيهم لابس أمهم، ووقفوا خلفه صفا واحدا. فإن خالفوا، فأمهم عار، واقتدى به اللابس، جاز. ولو اجتمع رجال ونساء، لم يصلوا معا، لا في صف، ولا في صفين. بل يصلي الرجال، وتكون النساء جالسات خلفهم، مستدبرات القبلة. ثم يصلي النساء، ويجلس الرجال خلفهم مستدبرين. فرع: إذا وجد المصلي ما يستر بعض العورة، لزمه ستر الممكن بلا خلاف. فإن كان الموجود يكفي السوأتين، بدأ بهما، ولا يعدل إلى غيرهما. فإن كان يكفي إحداهما فقط، فثلاثة أوجه. الصحيح المنصوص: أنه يستر القبل، رجلا كان أو امرأة. والثاني: الدبر. والثالث: يتخير. قلت: ولنا وجه ذكره القاضي حسين: أن المرأة تستر القبل، والرجل الدبر. والله أعلم. أما الخنثى المشكل، فإن وجد ما يستر قبليه ودبره، ستر. فإن لم يجد إلا ما يستر واحدا، وقلنا: يستر القبل، ستر أي قبليه شاء. والأولى أن يستر آلة الرجال،
391 إن كان هناك امرأة. وآلة النساء، إن كان هناك رجل (1). ثم ما ذكرناه من تقديم السوأتين، أو إحداهما على الفخذ وغيره، ومن تقديم إحدى السوأتين على الأخرى: هل هو على الاستحباب؟ أم على الاشتراط. وجهان. أصحهما: الثاني. وهو مقتضى كلام الأكثرين. فرع: لو كانت أمة تصلي مكشوفة الرأس، فعتقت خلال الصلاة، فإن لم تقدر على السترة، مضت في صلاتها كالعاجز. فإن كانت قادرة على السترة، ولم تشعر بقدرتها عليها، أو لم تشعر بالعتق حتى فرغت من الصلاة، ففي وجوب الإعادة، القولان فيمن صلى بالنجاسة جاهلا. وقيل: يجب قطعا. وإن علمت السترة والعتق، فإن كان الخمار قريبا، فطرحته على رأسها، أو طرحه غيرها، مضت في صلاتها. وإن كان بعيدا، أو احتاجت في الستر إلى أفعال كثيرة، ومضى مدة في التكشف، ففيه القولان في سبق الحدث. فإن قلنا بالقديم: إنها تبني، فلها السعي في طلب الساتر، كما تسعى في طلب الماء. وإن وقفت حتى أتيت به، نظر، إن وصلها في المدة التي كانت تصله لو سعت، فلا بأس، وإن زادت، فوجهان. الأصح: لا يجوز، وتبطل صلاتها. وينبغي أن يطرد هذا الخلاف والتفصيل في طلب الماء عند سبق الحدث، وإن لم يذكروه هناك. ولو دخل العاري في الصلاة ثم وجد السترة في خلالها، فحكمه ما ذكرناه في (الأمة) تعتق وهي واجدة للسترة. قلت: إذا كانت السترة قريبة، إلا أنه لا يمكن تناولها إلا باستدبار القبلة، بطلت صلاتها إذا لم يناولها غيرها، قاله في (الشامل). ولو قال لامته: إن صليت صلاة صحيحة، فأنت حرة قبلها، فصلت كاشفة الرأس عاجزة، صحت، وعتقت. أو قادرة، صحت، ولا عتق للدور (2). والله أعلم. فرع في مسائل منثورة: ليس للعاري أخذ الثوب من مالكه قهرا (3). فلو
392 وهبه له، لم يلزمه قبوله (1) على الصحيح. وفي وجه: يلزمه قبوله للصلاة فيه. ثم له رده على الواهب قهرا. وفي وجه: يلزمه قبوله، وليس له الرد. ولو أعاره، لزمه قبوله. فإن لم يقبل، وصلى عاريا، لم تصح صلاته. قلت: ولنا وجه شاذ: أنه لا يجب قبول العارية. والله أعلم. ولو باعه، أو أجره، فهو كبيع الماء. وقد ذكرناه في التيمم. وإقراض الثوب، كإقراض الثمن. ولو احتاج إلى شراء الثوب، والماء، ولم يقدر إلا على أحدهما، اشترى الثوب. ولو أوصى بثوبه لأولى الناس به في ذلك الموضع، فالمرأة أولى من الخنثى، والخنثى أولى من الرجل. وإذا لم يجد إلا ثوبا نجسا، ولم يجد ما يغسله به، فقولان. أظهرهما: يصلي عاريا بلا إعادة. والثاني: يصلي فيه وتجب الإعادة. ولو لم يجد إلا ثوب حرير، فالأصح: أنه يصلي فيه، لأنه يباح للحاجة. قلت: ويجب لبسه لستر العورة عن الابصار بلا خلاف. وكذلك يجب لبس الثوب النجس، للستر عنها. وفي الخلوة، إذا أوجبنا الستر فيها. والله أعلم. ويستحب أن يصلي الرجل في أحسن ما يجده من ثيابه. ويتعمم. ويتقمص، ويرتدي. فإن اقتصر على ثوبين، فالأفضل قميص ورداء، أو قميص وسراويل. فإن اقتصر على واحد، فالقميص أولى. ثم الإزار، ثم السراويل، ثم الثوب الواحد إن كان واسعا، التحف به وخالف بين طرفيه. وإن كان ضيقا، عقده فوق سرته، ويجعل على عاتقه شيئا. ويستحب أن تصلي المرأة في قميص سابغ، وخمار، وتتخذ جلبابا كثيفا فوق ثيابها يتجافى عنها، ولا يبين حجم أعضائها. قلت: لو لم يجد العاري إلا ثوبا لغيره، حرم عليه لبسه، بل يصلي عاريا ولا يعيد. ولو لم يجد سترة، ووجد حشيشا يمكنه عمل سترة منه، لزمه ذلك. ولو كان
393 محبوسا في موضع نجس، ومعه ثوب لا يكفي العورة، وستر النجاسة، فقولان. أظهرهما: يبسطه على النجاسة، ويصلي عاريا، ولا إعادة. والثاني: يصلي فيه على النجاسة، ويعيد. ولو كان معه ثوب، فأتلفه، أو خرقه بعد دخول الوقت لغير حاجة، عصى، ويصلي عاريا. وفي الإعادة، الوجهان فيمن أراق الماء في الوقت سفها وصلى بالتيمم. ويكره أن يصلي في ثوب فيه صور، ويكره أن يصلي الرجل ملثما، والمرأة متنقبة، وأن يغطي فاه إلا أن يتثاءب، فإن السنة حينئذ، أن يضع يده على فمه. ويكره أن يشتمل الصماء، وأن يشتمل اشتمال اليهود، فالصماء: أن يجلل بدنه بالثوب، ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر، واشتمال اليهود كذلك، إلا أنه لا يرفع طرفيه. وقيل: هما بمعنى. والمراد بهما، الثاني. والله أعلم. فصل: الشرط السادس: السكوت عن الكلام. للمتكلم في الصلاة، حالان. أحدهما: بغير عذر. فينظر، إن نطق بحرف واحد، لم تبطل صلاته. إلا إذا كان مفهما، كقوله: (ق) (ش) فإنه تبطل. وإن نطق بحرفين، بطلت. أفهم، أم لا، لان الكلام مفهم، وغيره. ولو نطق بحرف، ومده بعده، فالأصح: البطلان. والثاني: لا. والثالث: قاله إمام الحرمين: إن أتبعه بصوت غفل لا يقع على صورة المد، لم تبطل. وإن أتبعه بحقيقة المد، بطلت. وفي التنحنح أوجه. أصحها وبه قطع الجمهور: إن بان منه حرفان، بطلت صلاته. وإلا، فلا. والثاني، لا تبطل وإن بان حرفان. وحكي هذا عن نص الشافعي رحمه الله. والثالث: إن كان فمه مطبقا، لم تبطل، وإن فتحه، وبان حرفان، بطلت، وإلا، فلا. وحيث أبطلنا، فذلك إذا كان بغير عذر. فإن كان مغلوبا، فلا بأس. ولو تعذرت القراءة، إلا بالتنحنح، تنحنح، وهو معذور (1). وإن أمكنت القراءة، وتعذر الجهر، إلا بالتنحنح، فليس بعذر على الأصح. ولو تنحنح الامام، وظهر منه حرفان، فهل للمأموم أن يدوم على متابعته؟ وجهان. أصحهما: نعم. لان الأصل بقاء العبادة، والظاهر أنه معذور. وأما الضحك، والبكاء، والنفخ،
394 والأنين، فإن بان منه حرفان، بطلت، وإلا، فلا. وسواء بكى؟ للدنيا، أو للآخرة. الحال الثاني: في الكلام بعذر. فمن سبق لسانه إلى الكلام من غير قصد، أو غلبه الضحك، أو السعال، فبان منه حرفان، أو تكلم ناسيا، أو جاهلا بتحريم الكلام، فإن كان ذلك يسيرا، لم تبطل صلاته، وإن كثرت، بطلت على الأصح. والرجوع في القلة والكثرة، إلى العرف. والجهل بتحريم الكلام، إنما هو عذر في حق قريب العهد بالاسلام. فإن طال عهده به، بطلت صلاته، لتقصيره في التعلم. ولو علم تحريم الكلام، ولم يعلم أنه يبطل الصلاة، لم يكن عذرا. ولو جهل كون التنحنح مبطلا، فهو معذور على الأصح، لخفاء حكمه على العوام. ولو علم أن جنس الكلام محرم، ولم يعلم أن ما أتى به محرم، فهو معذور على الأصح. ولو أكره على الكلام، فقولان. أظهرهما: تبطل، لندوره، وكما لو أكره أن يصلي بلا وضوء، أو قاعدا، فإنه تجب الإعادة قطعا. ولو تكلم لمصلحة الصلاة، بأن قام الامام في موضع القعود، فقال المأموم: اقعد، بطلت صلاته، وليس هو بعذر، فإن طريقه التسبيح، ولو أشرف انسان على الهلاك، فأراد انذاره وتنبيهه، ولم يحصل ذلك إلا بالكلام، وجب الكلام، وتبطل صلاته على الأصح. ولو خاطب النبي (ص) في عصره مصليا، لزمه الجواب بالنطق في الحال، ولا تبطل صلاته، ولو قال: آه، من خوف النار، بطلت صلاته على الصحيح. فرع: متى ناب الرجل المصلي شئ في صلاته، بأن رأى أعمى يقع في بئر، أو استأذنه انسان في الدخول، أو أراد إعلام غيره أمرا، فالسنة أن يسبح، والمرأة تصفق في جميع ذلك. والتصفيق: أن تضرب بطن كفها اليمنى، على ظهر كفها اليسرى. وقيل: تضرب أكثر أصابعها اليمنى على ظهر أصابعها اليسرى. وقيل: تضرب إصبعين على ظهر الكف. والمعاني متقاربة. والأول: أشهر. وينبغي أن لا تضرب بطن كف على بطن كف. فإن فعلت ذلك على وجه اللعب، بطلت صلاتها، لمنافاته. فرع: الكلام المبطل عند عدم العذر، هو ما سوى القرآن، والذكر، والدعاء، وما في معناها. فلو أتى بشئ من نظم القرآن قاصدا القراءة، أو القراءة مع شئ آخر، كتنبيه الامام، أو غيره، أو الفتح على من أرتج عليه، أو تفهيم
395 أمر كقوله لجماعة يستأذنون في الدخول: * (أدخلوها بسلام آمنين) (1) *. أو يقول: * (يا يحيى خذ الكتاب بقوة) * (2). وما أشبه ذلك، لم تبطل صلاته (3)، سواء كان قد انتهى في قراءته إلى تلك الآية، أو أنشأ قراءتها حينئذ. ولنا وجه شاذ: أنه إذا قصد مع القراءة شيئا آخر، بطلت صلاته، وليس بشئ. ولو قصد الافهام والاعلام فقط، بطلت صلاته بلا خلاف. ولو أتى بكلمات لا يوجد في القرآن على نظمها، وتوجد مفرداتها، كقوله: (يا إبراهيم) (سلام) (كن) بطلت صلاته، ولم يكن لها حكم القرآن بحال. وأما الأذكار، والتسبيحات، والأدعية بالعربية، فلا يضر، سواء المسنون، وغيره. لكن ما فيه خطاب مخلوق غير رسول الله (ص)، يجب اجتنابه. فلو سلم على إنسان، أو رد عليه السلام بلفظ الخطاب، بطلت صلاته. ويرد السلام بالإشارة بيده، أو رأسه ولو قال: عليه السلام، لم يضر. ولو قال للعاطس: يرحمه الله، لم يضر. ولو قال: يرحمك الله، بطلت على المشهور. فرع: السكوت اليسير في الصلاة، لا يضر بحال، وكذا الكثير عمدا، إن كان لعذر، بأن نسي شيئا، فسكت ليتذكره، على المذهب. وكذا إن سكت لغير عذر، على الأصح. وإن (4) سكت كثيرا ناسيا، وقلنا: عمده مبطل، فطريقان. أحدهما: القطع بأنه لا يضر. والثاني: على الوجهين. واعلم أن إشارة الأخرس المفهمة، كالنطق في البيع وغيره من العقود. ولا تبطل بها الصلاة على الصحيح. الشرط السابع: الكف عن الأفعال الكثيرة. اعلم أن ما ليس من أفعال الصلاة، ضربان. أحدهما: من جنسها. والثاني: ليس من جنسها. فالأول: إذا فعله ناسيا، لا تبطل صلاته، كمن زاد ركوعا، أو سجودا، أو ركعة. وإن تعمده، بطلت، سواء قل، أم كثر. وأما
396 الثاني: فاتفقوا على أن الكثير منه، يبطل الصلاة. والقليل: لا يبطل. وفي ضبط القليل والكثير، أوجه. أحدها: القليل: ما لا يسع زمانه فعل ركعة. والكثير: ما يسعها. والثاني: كل عمل لا يحتاج فيه إلى كلتا يديه، كرفع العمامة، وحل أنشوطة السراويل، فقليل. وما احتاج (1)، كتكوير العمامة، وعقد الإزار والسراويل، فكثير. والثالث: القليل: ما لا يظن النظر إليه أن فاعله ليس في الصلاة. والكثير: ما يظن أنه ليس فيها. وضعف هذا: بأن من رآه يحمل صبيا، أو يقتل حية، أو عقربا، يتخيل أنه ليس في صلاة، وهذا لا يضر قطعا. والرابع، وهو الأصح وقول الأكثرين: أن الرجوع فيه إلى العادة. فلا يضر ما يعده الناس قليلا، كالإشارة برد السلام، وخلع النعل، ولبس الثوب الخفيف، ونزعه، ونحو ذلك. ثم قالوا: الفعلة الواحدة (2)، كالخطوة والضربة، قليل قطعا. والثلاث: كثير قطعا. والاثنتان: من القليل على الأصح. ثم أجمعوا على أن الكثير، إنما يبطل إذا توالى. فإن تفرق، بأن خطا خطوة، ثم بعد زمن خطا أخرى، أو خطوتين ثم خطوتين بينهما زمن، وقلنا: إنهما قليل، وتكرر ذلك (3) مرات فهي كثيرة، لم يضر قطعا. وحد التفريق: أن يعد الثاني منقطعا عن الأول. وقال في (التهذيب): عندي أن يكون بينهما قدر ركعة. ثم المراد بالفعلة الواحدة التي لا تبطل، ما لم يتفاحش، فإن أفرطت كالوثبة الفاحشة، أبطلت قطعا. وكذا قولهم: الثلاث المتوالية، تبطل. أراد: والخطوات ونحوها. فأما الحركات الخفيفة، كتحريك الأصابع في سبحة، أو حكة، أو حل وعقد (4)، فالأصح: أنها
397 لا تضر وإن كثرت متوالية. والثاني: تبطل كغيرها. ونص الشافعي رحمه الله: أنه لو كان يعد الآيات في صلاته عقدا باليد، لم تبطل، ولكن الأولى تركه. وجميع ما ذكرنا إذا تعمد الفعل الكثير، فأما إذا فعله ناسيا، فالمذهب، والذي قطع به الجمهور: أن الناسي كالعامد. وقيل: فيه الوجهان في كلام الناسي. وقيل: أول حد الكثرة، لا يؤثر. وما زاد، وانتهى إلى السرف، فعلى الوجهين. هذا كله حكم الفعل في غير شدة الخوف. أما فيها، فيحتمل الركض والعدو، للحاجة. وفي غير الحاجة كلام يأتي في بابها إن شاء الله تعالى (1). وإن قرأ القرآن من المصحف في الصلاة، لم يضر، بل يجب ذلك إذا لم يحفظ الفاتحة كما سبق. ولو قلب الأوراق أحيانا، لم يضر. ولو نظر في مكتوب غير القرآن، وردد ما فيه في نفسه، لم تبطل صلاته. ولنا وجه: أن حديث النفس إذا كثر، أبطل الصلاة، وهو شاذ. فرع: يستحب للمصلي أن يكون بين يديه سترة، من جدار، أو سارية، أو غيرهما. ويدنو منها بحيث لا يزيد بينهما على ثلاثة أذرع وإن كان في صحراء، غرز عصا ونحوها، أو جمع شيئا من رحله، أو متاعه. وليكن قدر مؤخرة الرحل، فإن لم يجد شيئا شاخصا، خط بين يديه خطا، أو بسط مصلى. وقال إمام الحرمين، والغزالي: لا عبرة بالخط. والصواب، ما أطبق عليه الجمهور، وهو الاكتفاء بالخط كما إذا استقبل شيئا شاخصا. قلت: وقال جماعة: في الاكتفاء بالخط، قولان للشافعي. قال في (القديم) و (سنن) حرملة (2): يستحب. ونفاه في (البويطي) لاضطراب الحديث (3) الوارد فيه وضعفه (4).
398 واختلف في صفة الخط. فقيل: يجعل مثل الهلال. وقيل: يمد طولا إلى جهة القبلة. وقيل: يمده يمينا وشمالا. والمختار استحباب الخط، وأن يكون طولا. والله أعلم. ثم إذا صلى إلى سترة، منع غيره من المرور بينه وبين السترة. وكذا ليس لغيره أن يمر بينه وبين الخط على الصحيح. وقول الجمهور: كالعصا. وهل هو منع تحريم، أو تنزيه؟ وجهان. الصحيح: منع تحريم. وللمصلي أن يدفعه، ويضربه على المرور، وإن أدى إلى قتله. ولو لم يكن سترة، أو كانت، وتباعد منها، فالأصح: أنه ليس له الدفع لتقصيره. قلت: ولا يحرم حينئذ المرور بين يديه، لكن الأولى تركه. والله أعلم. ولو وجد الداخل فرجة في الصف الأول، فله أن يمر بين يدي الصف الثاني، ويقف فيها، لتقصير أصحاب الثاني بتركها. قال إمام الحرمين: والنهي عن المرور، والامر بالدفع، إذا وجد المار سبيلا سواه، فإن لم يجد وازدحم الناس، فلا نهي عن المرور، ولا يشرع الدفع. وتابع الغزالي إمام الحرمين على هذا، وهو مشكل. ففي الحديث الصحيح في (البخاري) (1) خلافه. وأكثر كتب الأصحاب،
399 للشافعي رحمه الله: أن الاعتبار في الفصل، بالمجلس. فإن لم يفارقه، سجد وإن طال الزمان. وإن فارقه، لم يسجد وإن قرب الزمان. لكن هذا القول شاذ. والذي اعتمده الأصحاب، العرف. قالوا: ولا تضر مفارقة المجلس، واستدبار القبلة. هذا كله تفريع على قولنا: سجود السهو قبل السلام. أما إذا قلنا: بعده. فينبغي أن يسجد على قرب، فإن طال الفصل، عاد الخلاف. وإذا سجد، فلا يحكم بالعود إلى الصلاة بلا خلاف. هل يتحرم للسجدتين، ويتشهد، ويسلم؟ قال إمام الحرمين: حكمة حكم سجود التلاوة. ثم إذا رأينا التشهد، فوجهان. وقيل: قولان الصحيح المشهور: أنه يتشهد بعد السجدتين كسجود التلاوة. والثاني: يتشهد قبلهما، ليليهما السلام. قلت: هذه مسائل منثورة من الباب. منها أن السهو في الصلاة النفل، كالفرض على المذهب. وقيل: طريقان. الجديد كذلك، وفي القديم، قولان. أحدهما: كذلك. والثاني: لا يسجد، حكاه القاضي أبو الطيب، وصاحبا (الشامل) و (المهذب). ولو سلم من الصلاة وأحرم بأخرى، ثم تيقن أنه ترك ركنا من الأولى، لم تنعقد الثانية. وأما الأولى، فإن قصر الفصل بني عليها. وإن طال، وجب استئنافها. ولو جلس للتشهد في الرباعية، وشك: هل هو التشهد الأول، أم الثاني، فتشهد شاكا، ثم قام، فبان الحال، سجد للسهو، سواء بان أنه الأول، أو الآخر، لأنه وإن بان الأول، فقد قام شاكا في زيادة هذا القيام. وأن بان الحال وهو بعد في التشهد الأول، فلا سجود. ولو نوى المسافر القصر، وصلى أربع ركعات ناسيا، ونسي في كل ركعة سجدة، حصلت له الركعتان، ويسجد للسهو، وقد تمت صلاته، فيسلم، ولا يلزمه الاتمام، لأنه لم ينوه. وكذا لو صلى الجمعة أربعا ناسيا، ونسي من كل ركعة سجدة، سجد للسهو، وسلم. ولو سها سهوين، أحدهما بزيادة، والآخر بنقص، وقلنا: يسجد للزيادة بعد السلام، وللنقص قبله، سجد هنا قبله على الأصح. وبه قطع المتولي. والثاني. بعده. وبه قطع البندنيجي قال: وكذا الزيادة المتوهمة، كمن شك في عدد الركعات. ولو أراد القنوت في غير الصبح لنازلة (1) وقلنا به، فنسيه لم يسجد للسهو على الأصح.
400 ذكره في (البحر). ولو دخل في صلاة ثم ظن أنه ما كبر للاحرام، فاستأنف التكبير والصلاة، ثم علم أنه كان كبر أولا، فإن علم بعد فراغه من الصلاة الثانية، لم يفسد الأولى، وتمت بالثانية. وإن علم قبل فراغ الثانية، عاد إلى الأولى، فأكملها، وسجد للسهو في الحالين. نقله في (البحر) عن نص الشافعي وغيره. والله أعلم. السجدة الثانية: سجدة التلاوة، وهي سنة، وعدد السجدات أربع عشرة على الجديد الصحيح. ليس منها (ص) ومنها: سجدتان في (الحج) (1). وثلاث في المفصل. وقال في القديم: إحدى عشرة، أسقط سجدات المفصل. ولنا وجه: أن السجدات خمس عشرة، ضم إليها سجدة (ص)، وهذا قول ابن سريج. والصحيح المنصوص المعروف: أنها ليست من عزائم السجود (2)، وإنما هي سجدة شكر، فإن سجد فيها خارج الصلاة فحسن. قلت: قال أصحابنا: يستحب أن يسجد في (ص) خارج الصلاة. وهو مراد الامام الرافعي بقوله: حسن والله أعلم. ولو سجد في (ص) في الصلاة جاهلا، أو ناسيا، لم تبطل صلاته. وإن كان عامدا، بطلت على الأصح. قلت: ويسجد للسهو الناسي والجاهل. والله أعلم. ولو سجد إمامه في (ص) لكونه يعتقدها (3)، لم يتابعه بل يفارقه أو ينتظره قائما. وإذا انتظره قائما، فهل يسجد للسهو؟ وجهان. قلت: الأصح لا يسجد، لان المأمون لا سجود لسهوه. ووجه السجود،
401 ساكتة عن تقييد المنع بما إذا وجد سواه سبيلا. قلت: الصواب، أنه لا فرق بين وجود السبيل وعدمه. فحديث البخاري، صريح في المنع. ولم يرد شئ يخالفه، ولا في كتب المذهب لغير الامام ما يخالفه. وقال أصحابنا: ولا تبطل الصلاة بمرور شئ بين يدي المصلي، سواء مر رجل، أو امرأة، أو كلب، أو حمار، أو غير ذلك. وإذا صلى إلى سترة، فالسنة أن يجعلها مقابلة ليمينه، أو شماله، ولا يصمد لها. والله أعلم. الشرط الثامن: الامساك عن الاكل. فلو أكل شيئا، وإن قل، بطلت صلاته. وفي وجه: لا تبطل بالقليل، وهو غلط. ولو كان بين أسنانه شئ فابتلعه، أو نزلت نخامة من رأسه فابتلعها عمدا، بطلت صلاته. فإن أكل مغلوبا، بأن جرى الريق بباقي الطعام، أو نزلت النخامة ولم يمكنه إمساكها، لم تبطل. وإن أكل ناسيا، أو جاهلا بالتحريم، فإن قل، لم تبطل. وإن كثر، بطلت على الأصح. وتعرف القلة والكثرة بالعرف. ولو وصل شئ إلى جوفه بغير مضغ، وابتلاع، بأن وضع في فمه سكرة فذابت (1)، ونزلت إلى جوفه، بطلت صلاته على الأصح. فعلى هذا، تبطل بكل ما يبطل الصوم. واعلم أن المضغ وحده، فعل يبطل الكثير منه. وإن لم يصل شئ إلى الجوف، حتى لو كان يمضغ علكا، بطلت صلاته. وإن لم يمضغه، وكان جديدا يذوب، فهو كالسكرة. وإن كان مستعملا، لم تبطل صلاته، كما لو أمسك في فمه إجاصة (2).
402 فصل: وللمحدث المكث في المسجد (1). قلت: وكذا النوم بلا كراهة. والله أعلم. وتقدم حكم مكث الجنب والحائض، وعبورهما. وهذا في حق المسلم، أما الكافر، فلا يمكن من دخول حرم مكة بحال، سواء مساجده، وغيرها. وله دخول مساجد غير الحرم، بإذن مسلم. وليس له دخولها، بغير إذن على الصحيح (2). فإن فعله، عزر. قال في (التهذيب): لو جلس فيه الحاكم للحكم، فللذمي دخوله للمحاكمة بغير إذن، وينزل جلوسه منزلة إذنه. وإذا استأذن لنوم، أو أكل، فينبغي أن لا يأذن له. وإن استأذن لسماع قرآن، أو علم، أذن له، رجاء إسلامه. هذا كله إذا لم يكن جنبا، فإن كان، فهل يمنع من المكث؟ وجهان. أصحهما: لا. والكافرة الحائضة، تمنع حيث تمنع المسلمة، وكذا الصبيان، والمجانين، يمنعون من دخوله. قلت: ولا يمنع الجنب، والحائض، من دخول المصلى الذي ليس بمسجد على المذهب. وذكر الدارمي في باب صلاة العيد، في تحريمه، وجهين. وأجراهما في منع الكافر منه بغير إذن. وقد ذكرت جملا من الفوائد المتعلقة بالمسجد في باب ما يوجب الغسل، من شرح (المهذب). وأنا أشير إلى أحرف من بعضها، فيكره نقش المسجد، واتخاذ الشرفات له. ولا بأس بإغلاقه في غير وقت الصلاة. والبصاق في المسجد خطيئة. فإن خالف فبصق، فقد ارتكب النهي، فكفارتها دفنه في رمل المسجد، وترابه. ولو مسحه بيده، أو غيرها، كان أفضل. ويكره لمن أكل ثوما، أو بصلا، أو غيرهما مما له رائحة كريهة، دخول المسجد بلا ضرورة، ما لم يذهب ريحه. ويكره غرس الشجر فيه. فإن غرس، قطعه الامام. قال الصيمري (3): ويكره حفر البئر فيه، ويكره عمل الصنائع، ولا
403 بأس بالاكل والشرب فيه، والوضوء إذا لم يتأذ به الناس (1). ويقدم في دخول المسجد رجله اليمنى، وفي الخروج، اليسرى، ويدعو بالدعوات المشهورة فيه. ولحائط المسجد من خارجه حرمة المسجد في كل شئ. والله أعلم. الباب السادس في السجدات التي ليست من صلب الصلاة هن ثلاث. الأولى: سجود السهو (2)، وهو سنة (3)، ليس بواجب، والذي يقتضيه، شيئان: ترك مأمور، وارتكاب منهي (4). أما ترك المأمور، فقسمان. ترك ركن وغيره. أما الركن، فلا يكفي عنه السجود، بل لابد من تداركه. ثم قد يقتضي
404 الحال، السجود بعد التدارك، وقد لا يقتضيه. كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما غير الركن، فأبعاض، وغيرها. فالأبعاض: تقدم بيانها في أول صفة الصلاة، وهي مجبورة بالسجود إن ترك واحدة منها سهوا قطعا. وكذلك إن تركه عمدا على الأصح (1). وأما غير الابعاض من السنن، فلا يسجد لتركها. هذا هو الصحيح المشهور المعروف. ولنا قول قديم شاذ: أنه يسجد لترك كل مسنون، ذكرا كان، أو (2) عملا. ووجهه: أن من نسي التسبيح في الركوع والسجود، سجد. وأما المنهي، فقسمان. أحدهما: لا تبطل الصلاة بعمده. كالالتفات، والخطوة، والخطوتين (3). والثاني: تبطل بعمده، كالكلام، والركوع الزائد، ونحو ذلك. فالأول: أن لا يقتضي سهوه السجود. والثاني: يقتضيه إذا لم تبطل الصلاة. وقولنا: إذا لم تبطل الصلاة، احتراز من كثير الفعل، والاكل، والكلام، فإنها تبطل الصلاة بعمدها. وكذلك بسهوها على الأصح، فلا سجود. واحتراز من الحدث أيضا، فإن عمده وسهوه يبطلان الصلاة ولا سجود. فرع: الاعتدال عن الركوع ركن قصير، أمر المصلي بتخفيفه. فلو أطاله عمدا بالسكوت، أو القنوت، أو بذكر آخر ليس بركن، فثلاثة أوجه. أصحها عند إمام الحرمين وقطع به صاحب (التهذيب): تبطل صلاته، إلا حيث ورد الشرع بالتطويل بالقنوت، أو في صلاة التسبيح. والثاني: لا تبطل. والثالث: إن قنت عمدا في اعتداله في غير موضعه، بطلت. وإن طول بذكر آخر لا يقصد القنوت، لم تبطل.
405 قلت: ثبت في (صحيح مسلم) (1) أن النبي (ص)، طول الاعتدال جدا. فالراجح دليلا (2)، جواز إطالته بالذكر. والله أعلم. ولو نقل ركنا ذكريا إلى ركن طويل، بأن قرأ الفاتحة، أو بعضها، في الركوع، أو الجلوس، آخر الصلاة، أو قرأ التشهد، أو بعضه في القيام عمدا، لم تبطل صلاته على الأصح. وقيل: لا تبطل قطعا. ويجري هذا الخلاف فيما لو نقله إلى الاعتدال، ولم يطل، بأن قرأ الفاتحة، أو بعض التشهد. فلو اجتمع المعنيان بطول الاعتدال بالفاتحة، أو التشهد، بطلت على الأصح. وقيل: قطعا. وأما الجلوس بين السجدتين، ففيه وجهان. أصحهما: أنه ركن قصير، وبه قطع الشيخ أبو محمد، وصاحب (التهذيب) وغيرهما. والثاني: طويل، قاله ابن سريج، والجمهور. فإن قلنا بهذا، فلا بأس بتطويله. وإن قلنا بالأول، ففي تطويله عمدا الخلاف المذكور في الاعتدال. وإذا قلنا في هذه الصور ببطلان الصلاة بعمده، فلو فرض ذلك سهوا، سجد للسهو. وإذا قلنا: لا تبطل، فهل يسجد للسهو؟ وجهان. أحدهما: لا، كسائر ما لا يبطل عمده. وأصحهما: يسجد. وتستثنى هذه الصورة عن قولنا: ما لا يبطل عمده، لا يسجد لسهوه (3).
406 فصل: الترتيب واجب في أركان الصلاة. فإن تركه عمدا، بطلت صلاته. وإن تركه سهوا، لم يعتد بما فعله بعد المتروك، حتى يأتي بما تركه. فإن تذكر السهو قبل فعل مثل المتروك، اشتغل عند التذكر بالمتروك، وإن تذكر بعد فعل مثله في ركعة أخرى، تمت الركعة السابقة به، ولغا ما بينهما. هذا إذا عرف عين المتروك، وموضعه. فإن لم يعرف، أخذ بأدنى الممكن، وأتى بالباقي. وفي الأحوال كلها يسجد للسهو، إلا إذا وجب الاستئناف، بأن ترك ركنا، وأشكل عينه، وجوز أن يكون النية، أو تكبيرة الاحرام. وإلا إذا كان المتروك، هو السلام، فإنه إذا تذكر قبل طول الفصل، سلم ولا حاجة إلى سجود السهو. ولو تذكر في قيام الركعة الثانية، أنه ترك سجدة من الأولى، فلا بد من الاتيان بها عند تذكره. ثم إن لم يكن جلس عقب السجدة المفعولة، فهل يكفيه أن يسجد عن قيام، أم لا بد أن يجلس مطمئنا، ثم يسجد؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فإن كان جلس عقب السجدة المفعولة - وقصد به الجلسة بين السجدتين - ثم غفل، فقام، فالمذهب أنه يكفيه السجود عن قيام. وقيل على الوجهين. وإن قصد بجلسته الاستراحة، فالأصح أنه يكفيه السجود عن قيام، ويجزئه جلسة الاستراحة عن الواجب. كما لو جلس في التشهد الأخير يظنه الأول، فإنه يجزئه عن الأخير. والثاني: يجب الجلوس مطمئنا. ولو شك، هل جلس؟ فهو كما إذا لم يجلس. أما إذا تذكر بعد سجوده في الركعة الثانية تركه سجدة من الأولى، فينظر، إن تذكر بعد السجدتين معا، أو في الثانية منهما، فقد تم بما فعله ركعته الأولى، ولغا ما بينهما. ثم إن كان جلس في الأولى بنية الجلسة بين السجدتين، أو بنية الاستراحة إذا قلنا: تجزئ عن الواجب، فتمامها بالسجدة الأولى. وإن لم يجلس، أو جلس للاستراحة، وقلنا: لا يجزئ، فإن قلنا: لو تذكر في القيام والحالة هذه، يجلس، ثم يسجد، فتمام الركعة الأولى هنا بالسجدة الثانية. وإن قلنا هناك: يسجد عن قيام، فتمامها بالسجدة الأولى. ويبنى على هذا الخلاف، ما إذا تذكر بعد السجدة الأولى في
407 الركعة الثانية. فإن قلنا بالأول، فركعته غير تامة، فيسجد سجدة، ثم يقوم إلى ركعة ثانية. وإن قلنا بالثاني، فركعته تامة، فيقوم إلى ثانية. فرع: لو تذكر في جلوس الركعة الرابعة، أنه ترك أربع سجدات، فله أربعة أحوال. حال: يحسب له ثلاث ركعات إلا سجدتين، وحال: ركعتان وحال: ركعتان إلا سجدة. فلو تيقن ثنتين من الثالثة، وثنتين من الرابعة، صحت الركعتان الأوليان، وحصلت الثالثة، لكن لا سجود فيها، ولا فيما بعدها. فيسجد سجدتين لتتم، ثم يقوم إلى ركعة رابعة. وهكذا الحكم، لو ترك سجدة من الأولى، وسجدة من الثانية، وسجدتين من الرابعة. وكذا لو ترك واحدة من الثانية، وواحدة من الثالثة، وثنتين من الرابعة. أما إذا ترك من كل ركعة سجدة، فيحصل ركعتان، فيتم الأولى بالثانية، والثالثة بالرابعة. ومثله لو ترك ثنتين من الثانية، وثنتين من الأولى أو الثالثة، أو ثنتين من الثانية، وواحدة من الأولى، وأخرى من الثالثة، أو ثنتين من الثانية، وواحدة من الثالثة، وأخرى من الرابعة، أو ثنتين من الأولى، وثنتين من ركعتين بعدهما غير متواليتين، أو واحدة من الأولى، وواحدة من الثانية، وثنتين من الثالثة، أو واحدة من الثانية، وثنتين من الثالثة، وواحدة من الرابعة، فيحصل في كل هذه الصور، ركعتان، ويقوم فيأتي بركعتين. أما إذا ترك من الأولى واحدة، ومن الثانية ثنتين، ومن الرابعة واحدة، أو من الأولى ثنتين، ومن الثانية واحدة، ومن الرابعة أخرى. وكذا كل صورة ترك ثنتين من ركعة، وثنتين من ركعتين غير متواليتين، فيحصل ركعتان إلا سجدة. فيسجدها ثم يأتي بركعتين. هذا كله إذا عرف مواضع السجدات. فإن لم يعرف، أخذ بالأشد، فيأتي بسجدة، ثم ركعتين. وقال الشيخ أبو محمد: يلزمه سجدتان، ثم ركعتان. وهو غلط شاذ. هذا كله إذا كان قد جلس عقب السجدات المفعولات كلهن، على قصد الجلوس بين السجدتين، أو على قصد جلسة الاستراحة، إذا قلنا: تجزئ عن الواجب، أو قلنا: إن القيام يقوم مقام الجلسة. فأما إذا لم يجلس في بعض الركعات، أو لم يجلس في غير الرابعة، وقلنا بالأصح: إن القيام لا يكفي عن الجلسة، فلا يحسب ما بعد السجدة المفعولة إلى أن يجلس. حتى لو تذكر أنه ترك من كل ركعة سجدة، ولم يجلس إلا في الأخيرة، أو جلس بنية الاستراحة، أو جلس في الثانية بنية التشهد الأول، وقلنا: الفرض لا يتأدى بالنفل، لم يحصل له مما فعل إلا ركعة ناقصة
408 سجدة. ثم هذا الجلوس الذي تذكر فيه، يقوم مقام الجلوس بين السجدتين. فيسجد، ثم يقوم فيأتي بثلاث ركعات. أما إذا تذكر أنه ترك سجدة من أربع ركعات، فإن علم أنها من الأخيرة، سجدها، واستأنف التشهد إن كان تشهد، وإن علمها من غير الأخيرة، أو شك، لزمه ركعة. وإن تذكر ترك سجدتين، فإن كانتا من الركعة الأخيرة، كفاه سجدتان وإن كانتا من غير الأخيرة. فإن كانتا من ركعة، لزمه ركعة. وإن كانتا من ركعتين، فقد يكفيه ركعة، بأن يكونا من ركعتين متواليتين. وقد يحتاج إلى ركعتين، بأن يكونا من ركعتين غير متواليتين. فإن أشكل الامر، لزمه ركعتان. وإن ترك ثلاث سجدات، فقد يقتضي الحال حصول ثلاث ركعات إلا سجدة، بأن تكون ثنتان من الأولى، أو الثانية، أو الثالثة، وواحدة من الرابعة. فيسجد سجدة، ثم يقوم فيأتي بركعة. وقد يقتضي حصول ثلاث إلا سجدتين، بأن تكون سجدة من الأولى، وثنتان من الرابعة. وقد يقتضي حصول ركعتين فقط، بأن يكون الثلاث، من الثلاث الأوليات. فإن أشكل، لزمه هذا الأشد (1). وإن ترك خمس سجدات، فقد تحصل ركعتان إلا سجدتين بأن تكون
409 واحدة من الأولى، وثنتان من الثانية، وثنتان من الرابعة. وقد يحصل ركعة فقط بأن يترك سجدة من الأولى، وثنتين من الثانية، وثنتين من الثالثة. فإن أشكل، لزمه ثلاث ركعات. وقال في (المهذب): يلزمه سجدتان، وركعتان، وهو غلط. ولو ترك ست سجدات، حصل ركعة فقط. وإن ترك سبعا، حصل ركعة إلا سجدة. وإن ترك ثمانيا، حصل ركعة إلا سجدتين. ثم هذا الحكم يطرد لو تذكر السهو في المسائل المذكورة بعد السلام، ولم يطل الفصل. فإن طال، وجب الاستئناف، ويسجد للسهو في جميع مسائل الفصل. ويمكن عدها من قسم ترك المأمور - لان الترتيب مأمور به، فتركه عمدا مبطل، فسهوه يقتضي السجود - ومن ارتكاب المنهي، لأنه إذا ترك الترتيب، فقد زاد في الأفعال، والأركان. فرع: تقدم أن فوات التشهد الأول يقتضي سجود السهو. فإذا نهض من الركعة الثانية ناسيا للتشهد، أو جلس، ولم يقرأ التشهد، ونهض ناسيا، ثم تذكر، فتارة يتذكر بعد الانتصاب قائما، وتارة قبله. فإن كان بعده، لم تجز العودة إلى القعود على الصحيح المعروف. وفي وجه: يجوز العود ما لم يشرع في القراءة. والأولى: أن لا يعود. وهذا الوجه: شاذ منكر. فعلى الصحيح: إن عاد متعمدا عالما بتحريمه، بطلت صلاته. وإن عاد ناسيا، لم تبطل، وعليه أن يقوم عند تذكره ويسجد للسهو. وإن عاد جاهلا بتحريمه، فالأصح: أنه كالناسي. والثاني: كالعامد. هذا حكم المنفرد. والامام في معناه، فلا يرجع بعد الانتصاب. ولا يجوز للمأموم أن يتخلف للتشهد. فإن فعل، بطلت صلاته. فإن نوى مفارقته ليتشهد، جاز وكان مفارقا بعذر. ولو انتصب مع الامام، فعاد الامام، لم يجز للمأموم العود، بل ينوي مفارقته. وهل يجوز أن ينتظره قائما حملا على أنه عاد ناسيا؟ وجهان سبق مثلهما في التنحنح. قلت: فإن عاد المأموم مع الامام، عالما بالتحريم، بطلت صلاته. وإن عاد ناسيا، أو جاهلا، لم تبطل. ولو قعد المأموم، فانتصب الامام ثم عاد، لزم المأموم القيام، لأنه توجه عليه بانتصاب الامام. والله أعلم.
410 ولو قعد الامام للتشهد الأول، وقام المأموم ناسيا، أو نهضا، فتذكر الامام، فعاد قبل الانتصاب وانتصب المأموم، فثلاثة أوجه. أصحها: يجب على المأموم العود إلى التشهد لمتابعة الامام. فإن لم يعد، بطلت صلاته، صححه الشيخ أبو حامد، ومتابعوه، وقطع به صاحب (التهذيب). والثاني: يحرم العود. والثالث: يجوز، ولا يجب. ولو قام المأموم قاصدا، فقد قطع إمام الحرمين: بأنه يحرم العود. كما لو ركع قبل الامام، أو رفع رأسه قبله عمدا، يحرم العود. فإن عاد، بطلت صلاته، لأنه زاد ركنا عمدا. فلو فعل ذلك سهوا، بأن سمع صوتا، فظن أن الامام ركع، فركع، فبان أنه لم يركع، فقال إمام الحرمين: في جواز الركوع، وجهان. وقال صاحب (التهذيب) وآخرون: في وجوب الرجوع، وجهان. أحدهما: يجب. فإن لم يرجع، بطلت صلاته. والأصح: أنه لا يجب، بل يتخير بين الرجوع وعدمه. وللنزاع في صورة قصد القيام، مجال ظاهر، لان أصحابنا العراقيين أطبقوا على أنه لو ركع قبل الامام عمدا، استحب له أن يرجع إلى القيام ليركع مع الامام، فجعلوه مستحبا. الحال الثاني: أن يتذكر قبل الانتصاب. فقال الشافعي، والأصحاب رحمهم الله: يرجع إلى التشهد. والمراد بالانتصاب، الاعتدال والاستواء، هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه: المراد به: أن يصير إلى حال هي أرفع من حد أقل الركوع. ثم إذا عاد قبل الانتصاب، هل يسجد للسهو؟ قولان. أظهرهما: لا يسجد. وقال كثير من الأصحاب، منهم القفال: إن صار إلى القيام أقرب منه إلى القعود، ثم عاد، سجد. وإن كان إلى القعود أقرب، أو كانت نسبته إليهما على السواء، لم يسجد، لأنه إذا صار إلى القيام أقرب فقد أتى بفعل يغير نظم الصلاة، (و) لو تعمده في غير موضعه، أبطل الصلاة. وقال الشيخ أبو محمد، وآخرون: إن عاد قبل أن ينتهي إلى حد الراكعين، لم يسجد. وإن عاد بعد الانتهاء إليه، سجد. والمراد بحد الركوع: أكمله، لا أقله. بل لو قرب في ارتفاعه من حد أكمل الركوع، ولم يبلغه، فهو في حد الراكعين، صرح به في (النهاية). وهذه العبارة، مع عبارة القفال ورفقته، متقاربتان، والأولى أوفى بالغرض، وهي أظهر من إطلاق القولين، وبها قطع في (التهذيب) وهي كالتوسط بين القولين، وحملهما على الحالين. ثم جميع ما ذكرناه في الحالتين، هو فيما إذا ترك التشهد الأول،
411 ونهض ناسيا. فأما إذا تعمد ذلك، ثم عاد قبل الانتصاب والاعتدال، فإن عاد بعد ما صار إلى القيام أقرب، بطلت صلاته. وإن عاد قبله، لم تبطل. ولو كان يصلي قاعدا، فافتتح القراءة بعد الركعتين، فإن كان على ظن أنه فرغ من التشهد، وجاء وقت الثالثة، لم يعد بعد ذلك إلى قراءة التشهد على الأصح. وإن سبق لسانه إلى القراءة وهو عالم بأنه لم يتشهد، فله العود إلى قراءة التشهد. وترك القنوت يقاس بما ذكرناه في التشهد، فإذا نسيه، ثم تذكر بعد وضع الجبهة على الأرض، لم يجز العود. وإن كان قبله، فله العود. ثم إن عاد بعد بلوغه حد الراكعين، سجد للسهو. وإن كان قبله، فلا. فرع: إذا جلس في الركعة الأخيرة عن قيام ظانا أنه أتى بالسجدتين، فتشهد، ثم ذكر الحال بعد التشهد، لزمه تدارك السجدتين، ثم إعادة التشهد، ويسجد للسهو. ولا يختص هذا الحكم بالركعة الأخيرة، بل لو اتفق ذلك في الركعة الثانية من صلاة رباعية، أو ثلاثية، فكذلك يتدارك السجدتين، ويعيد التشهد، ويسجد للسهو في موضعه، إلا أن إعادة التشهد هنا سنة. ولو اتفق ذلك في ركعة لا يعقبها تشهد، فإذا تذكر، تدارك السجدتين، وقام، ثم يسجد للسهو. أما إذا جلس بعد السجدتين في الركعة الأولى، أو الثالثة من الرباعية، وقرأ التشهد، أو بعضه، ثم تذكر، فيسجد للسهو، لأنه زاد قعودا طويلا. فلو لم يطل، لم يسجد. والتطويل: أن يزيد على جلسة الاستراحة (1). أما إذا ترك السجدة الثانية وتشهد، ثم تذكر، فيتدارك السجدة الثانية، ويعيد التشهد. وهل يسجد للسهو؟ وجهان. الصحيح: السجود. ولو لم يتشهد، لكن طول الجلوس بين السجدتين، سجد للسهو أيضا على الأصح. أما إذا جلس عن قيام، ولم يتشهد، ثم تذكر، فيشتغل بالسجدتين وما بعدهما، على ترتيب صلاته. ثم إن طال جلوسه، سجد للسهو. وإن لم يطل، بل كان في حد جلسة الاستراحة، لم يسجد، لان تعمده في غير موضعه لا يبطل الصلاة، بخلاف الركوع، والسجود، والقيام. فرع: إذا قام إلى خامسة في رباعية ناسيا، ثم تذكر قبل السلام، فعليه أن يعود إلى الجلوس، ويسجد للسهو، ويسلم، سواء تذكر في قيام الخامسة، أو
412 ركوعها، أو سجودها. وإن تذكر بعد الجلوس فيها، سجد للسهو، ثم سلم. وأما التشهد، فإن تذكر بعد الجلوس، والتشهد في الخامسة، لم يعده، وإن تذكر قبل التشهد في الخامسة، ولم يكن تشهد في الرابعة، فلا بد منه، وإن تشهد في الرابعة، كفاه، ولم يحتج إلى إعادته على الصحيح. هذا إن تشهد بنية التشهد الأخير، فإن كان بنية الأول، فإن قلنا: إذا كان بنية الأخير يحتاج إلى إعادته، فهنا أولى، وإلا، ففيه الخلاف في تأدي الفرض بنية النفل. قلت: الأصح: أنه لا يحتاج إلى إعادته، وبه قطع كثيرون، أو الأكثرون. والله أعلم. ولو ترك الركوع، ثم تذكره في السجود، فهل يجب الرجوع إلى القيام ليركع منه، أم يكفيه أن يقوم راكعا؟ وجهان لابن سريج. قلت: أصحهما: الأول. والله أعلم. فصل في قاعدة متكررة في أبواب الفقه وهي أنا إذا تيقنا وجود شئ أو عدمه، ثم شككنا في تغيره وزواله عما كان عليه، فإنا نستصحب اليقين الذي كان، ونطرح الشك، فإذا شك في ترك مأمور ينجبر تركه بالسجود، وهو الابعاض، فالأصل، أنه لم يفعله، فيسجد للسهو، قال في (التهذيب): هذا إذا كان الشك في ترك مأمور معين، فأما إذا شك، هل ترك مأمورا، أم لا؟ فلا يسجد كما لو شك: هل سها، أم لا؟ ولو شك في ارتكاب منهي، كالسلام والكلام ناسيا، فالأصل أنه لم يفعل، ولا سجود. ولو تيقن السهو، وشك هل سجد له، أم لا؟ فليسجد، لان الأصل عدم السجود. ولو شك، هل سجد للسهو سجدة، أم سجدتين؟ سجد أخرى. قلت: ولو تيقن السهو، وشك هل هو ترك مأمور، أو ارتكاب منهي؟ سجد. والله أعلم. ولو شك، هل صلى ثلاثا، أم أربعا، أخذ بالأقل، وأتى بالباقي، وسجد للسهو. ولا ينفعه الظن، ولا أثر للاجتهاد في هذا الباب. ولا يجوز العمل فيه بقول غيره. وفي وجه شاذ: أنه يجوز الرجوع إلى قول جمع كثير كانوا يرقبون صلاته.
413 وكذلك الامام إذا قام إلى ركعة ظنها رابعة، وعند القوم أنها خامسة، فنبهوه، لا يرجع إلى قولهم وفي وجه شاذ: يرجع إن كثر عددهم. واختلفوا في سبب السجود، إذا شك: هل صلى ثلاثا، أم أربعا؟ فقال الشيخ أبو محمد وطائفة: المعتمد فيه، الخبر، ولا يظهر معناه. واختاره إمام الحرمين، والغزالي. وقال القفال، والشيخ أبو علي، وصاحب (التهذيب) وآخرون: سببه: التردد في الركعة التي يأتي بها، هل هي رابعة، أم زائدة توجب السجود؟ وهذا التردد، يقتضي الجبر بالسجود. قلت: الثاني أصح. والله أعلم. فلو زال التردد قبل السلام، وعرف أن التي يأتي بها رابعة، لم يسجد على الأول. وعلى الثاني: يسجد. وضبط أصحاب هذا الوجه صورة الشك وزواله فقالوا: إن كان ما فعله من وقت عروض الشك إلى زواله، ما لا بد منه على كل احتمال، فلا يسجد للسهو. فإن كان زائدا على بعض الاحتمالات، سجد. مثاله: شك في قيامه في الظهر، أن تلك الركعة ثالثة، أم رابعة؟ فركع وسجد على هذا الشك، وهو على عزم القيام إلى ركعة أخرى أخذا باليقين، ثم تذكر قبل القيام أنها ثالثة، أو رابعة، فلا يسجد، لان ما فعله على الشك لا بد منه على التقديرين. فإن لم يتذكر حتى قام، سجد للسهو وإن تيقن أن التي قام إليها رابعة، لان احتمال الزيادة، وكونها خامسة، كان ثابتا حين قام. قلت: ولو شك المسبوق، هل أدرك ركوع الامام، أم لا؟ فسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، لأنه لا تحسب له هذه الركعة. قال الغزالي في (الفتاوى): فعلى هذا يسجد للسهو، كما لو شك، هل صلى ثلاثا، أم أربعا؟ هذا الذي قاله الغزالي ظاهر. ولا يقال: يتحمله عنه الامام، لان هذا الشخص بعد سلام الامام شاك في عدد ركعاته. والله أعلم. فرع: إذا شك في أثناء الصلاة في عدد الركعات، أو في فعل ركن، فالأصل: أنه لم يفعل، فيجب البناء على اليقين، كما تقدم. وإن وقع هذا الشك بعد السلام، فالمذهب: أنه لا شئ عليه، ولا أثر لهذا الشك. وقيل: فيه ثلاثة أقوال. أحدها: هذا. والثاني: يجب الاخذ باليقين. فإن كان الفصل قريبا، بنى. وإن طال، استأنف. والثالث: إن قرب الفصل، وجب البناء. وإن طال،
414 فلا شئ عليه. وأما ضبط طول الفصل، فيحتاج إليه هنا وفيما إذا تيقن أنه ترك ركنا، وذكره بعد السلام. وفي قدره قولان. أظهرهما، نصه في (الام): يرجع فيه إلى العرف. والثاني، نصه في (البويطي): أن الطويل ما يزيد على قدر ركعة. ولنا وجه: أن الطويل: قدر الصلاة التي هو فيها. ثم إذا جوزنا البناء، فلا فرق بين أن يتكلم بعد السلام، أو يخرج من المسجد ويستدبر القبلة، وبين أن لا يفعل ذلك. ولنا وجه ضعيف: أن القدر المنقول عن رسول الله (ص) في الفصل محتمل. فإن زاد، فلا. والمنقول: أنه (ص)، قام، ومضى إلى ناحية المسجد، وراجع ذا اليدين، وسأل الجماعة، فأجابوا. فصل: لا يتكرر السجود بتكرر السهو، بل يكفي سجدتان في آخر الصلاة، سواء تكرر نوع، أو أنواع. قال الأئمة: لا تتعدد حقيقة السجود. وقد تتعدد صورته في مواضع. منها: المسبوق إذا سجد مع الامام، يعيد في آخر صلاته على المشهور. ومنها: لو سها الامام في صلاة الجمعة، فسجد للسهو، ثم بان قبل السلام خروج وقت الظهر، فالمشهور: أنهم يتمونها ظهرا، ويعيدون سجود السهو، لان الأول، لم يقع في آخر الصلاة. ومنها: لو ظن أنه سها في صلاته، فسجد للسهو، ثم بان قبل السلام أنه لم يسه، فالأصح: أنه يسجد للسهو ثانيا، لأنه زاد سجدتين سهوا. والثاني: لا يسجد، ويكون السجود جابرا لنفسه ولغيره. ومنها: لو سها المسافر في الصلاة المقصورة، فسجد للسهو، ثم نوى الاتمام قبل السلام، أو صار مقيما بانتهاء السفينة إلى دار الإقامة، وجب إتمام الصلاة، ويعيد السجود قطعا. ومنها: لو سجد للسهو، ثم سها قبل السلام بكلام، أو غيره، ففي وجه: يعيد السجود. والأصح: لا يعيده كما لو تكلم، أو سلم ناسيا بين سجدتي السهو، أو فيهما، فإنه لا يعيده قطعا، لأنه لا يؤمن وقوع مثله في المعاد فيتسلسل. ولو سجد للسهو ثلاثا، لم يسجد لهذا السهو. وكذا لو شك، هل سجد للسهو سجدة،
415 أم سجدتين، فأخذ بالأقل، وسجد أخرى، ثم تحقق أنه كان سجد سجدتين، لم يعد السجود. ومنها: لو ظن سهوه بترك القنوت مثلا، فسجد له، فبان قبل السلام أن سهوه بغيره، أعاد السجود على وجه، لأنه لم يجبر ما يحتاج إلى الجبر. والأصح: أنه لا يعيده، لأنه قصد جبر الخلل. قلت: ولو شك، هل سها، أم لا؟ فجهل وسجد للسهو، أمر بالسجود ثانيا لهذه الزيادة. والله أعلم. فصل: إذا سها المأموم خلف الامام، لم يسجد، ويتحمل الامام سهوه. ولو سها بعد سلام الامام، لم يتحمل، لانقطاع القدوة، وكذا المأموم الموافق، إذا تكلم ساهيا عقب سلام الامام. وكذا المنفرد إذا سها في صلاته، ثم دخل في جماعة، وجوزنا ذلك، فلا يتحمل الامام سهوه ذلك. أما إذا ظن المأموم أن الامام سلم، فسلم، ثم بان أنه لم يسلم، فسلم معه، فلا سجود عليه، لأنه سها في حال القدوة. ولو تيقن في التشهد أنه ترك الركوع أو الفاتحة من ركعة ناسيا، فإذا سلم الامام، لزمه أن يأتي بركعة أخرى، ولا يسجد للسهو، لأنه سها في حال الاقتداء. ولو سلم الامام، فسلم المسبوق سهوا، ثم تذكر، بنى على صلاته، وسجد، لان سهوه بعد انقطاع القدوة. ولو ظن المسبوق أن الامام سلم، بأن سمع صوتا ظنه سلامه، فقام ليتدارك ما عليه، وكان ما عليه ركعة مثلا، فأتى بها وجلس، ثم علم أن الامام لم يسلم بعد تبين أن ظنه كان خطأ، فهذه الركعة غير معتد بها. لأنها مفعولة في غير موضعها، فإن وقت التدارك بعد انقطاع القدوة، فإذا سلم الامام، قام إلى التدارك، ولا يسجد للسهو لبقاء حكم القدوة. ولو كانت المسألة بحالها، فسلم الامام وهو قائم، فهل يجوز له أن يمضي في صلاته، أم يجب عليه أن يعود إلى القعود، ثم يقوم؟ وجهان. قلت: أصحهما: الثاني. والله أعلم. فإن جوزنا المضي، فلا بد من إعادة القراءة. فلو سلم الامام في قيامه، لكنه لم يعلم به حتى أتم الركعة. إن جوزنا المضي، فركعته محسوبة، ولا يسجد للسهو. وإن قلنا: عليه القعود، لم يحسب، ويسجد للسهو للزيادة بعد سلام
416 الامام. ولو كانت المسألة بحالها، وعلم في القيام أن الامام لم يسلم بعد، فقال إمام الحرمين: إن رجع، فهو الوجه، وإن أراد أن يتمادى وينوي الانفراد قبل سلام الامام، ففيه الخلاف في قطع القدوة. فإن منعناه، تعين الرجوع. وإن جوزناه، فوجهان. أحدهما: يجب الرجوع. لان نهوضه غير معتد به، فيرجع، ثم يقطع القدوة إن شاء. والثاني: لا يجب الرجوع، لان النهوض ليس مقصودا لعينه، وإنما المقصود، القيام فما بعده. هذا كلام الامام. فلو لم يرد قطع القدوة، فمقتضى كلام الامام: وجوب الرجوع. وقال الغزالي: هو مخير، إن شاء رجع، وإن شاء انتظر قائما سلام الامام. وجواز الانتظار قائما مشكل، للمخالفة الظاهرة. فإن كان قرأ قبل تبين الحال، لم يعتد بقراءته في جميع هذه الأحوال، بل عليه استئنافها. قلت: الصحيح: وجوب الرجوع في الحالتين. والله أعلم. فصل: إذا سها الامام في صلاته، لحق سهوه المأموم ويستثنى صورتان. إحداهما: إذا بان الامام محدثا، فلا يسجد لسهوه، ولا يتحمل عن المأموم أيضا. الثانية: أن يعلم سبب سجود الامام، ويتيقن غلطه في ظنه، كما إذا ظن الامام ترك بعض الابعاض، والمأموم يعلم أنه لم يترك، فلا يوافقه إذا سجد. ثم إذا سجد الإمام في غير الصورتين، لزم المأموم موافقته فيه. فإن تركه عمدا، بطلت صلاته. وسواء عرف المأموم سهو الامام، أم لم يعرفه. فمتى سجد الإمام في آخر صلاته سجدتين، وجب على المأموم متابعته، حملا على أنه سها، بخلاف ما لو قام وأتى بركعة خامسة، فإنه لا يتابعه، حملا على أنه ترك ركنا من ركعة، لأنه لو تحقق الحال هناك لم يجز متابعته، لان المأموم أتم صلاته يقينا. قلت: ولو كان المأموم مسبوقا بركعة، أو شاكا في ترك ركن كالفاتحة، فقام الامام إلى الخامسة، لم يجز للمأموم متابعته فيها. والله أعلم. ولو لم يسجد الامام إلا سجدة، سجد المأموم أخرى، حملا على أنه نسي. ولو ترك الامام السجود لسهوه، سجد المأموم على الصحيح المنصوص. وخرج قول: أنه لا يسجد. ولو سلم الامام، ثم عاد إلى السجود، نظر، فإن سلم المأموم معه ناسيا، وافقه في السجود. فإن لم يوافقه، ففي بطلان صلاته وجهان بناء على الوجهين فيمن سلم ناسيا للسجود فعاد إليه: هل يعود إلى حكم الصلاة؟ وإن
417 سلم المأموم عمدا مع علمه بالسهو، لم يلزمه متابعته. ولو لم يسلم المأموم، فعاد الامام ليسجد، فإن عاد بعد أن سجد المأموم للسهو، لم يتابعه، لأنه قطع صلاته عن صلاته بالسجود. وإن عاد قبل أن يسجد المأموم، فالأصح: أنه لا يجوز متابعته، بل يسجد منفردا. والثاني: يلزمه متابعته. فإن لم يفعل، بطلت صلاته. ولو سبق الامام حدث بعد ما سها، أتم المأموم صلاته، وسجد للسهو. تفريعا على الصحيح المنصوص. قلت: ولو سها المأموم، ثم سبق الامام حدث، لم يسجد المأموم، لان الامام حمله. وإن قام الامام إلى خامسة ساهيا، فنوى المأموم مفارقته بعد بلوغ الامام في ارتفاعه حد الراكعين، سجد المأموم للسهو. وإن نواها قبله، فلا سجود. والله أعلم. ولو كان الامام حنفيا، وجوزنا الاقتداء به، فسلم قبل أن يسجد للسهو، لم يسلم معه المأموم، بل يسجد قبل السلام، ولا ينتظر سجود الامام، لأنه فارقه بسلامه. ولو كان المأموم مسبوقا، وسها الامام بعد ما لحقه، وسجد في آخر صلاته، لزم المسبوق أن يسجد معه على الصحيح المنصوص المعروف. وعلى الشاذ: لا يسجد. فعلى الصحيح: إذا سجد معه، يعيد السجود في آخر صلاة نفسه على الأظهر. فإن لم يسجد الامام، لم يسجد المسبوق في آخر صلاة الامام. وهل يسجد في آخر صلاة نفسه؟ فيه الخلاف المتقدم في المأموم الموافق، إذا لم يسجد الامام: هل يسجد؟ أما إذا سها الامام قبل اقتداء المسبوق، فهل يلحق المسبوق حكم سهوه؟ وجهان. أحدهما: لا. فعلى هذا إن لم يسجد الامام، لم يسجد هو أصلا. وإن سجد، فالأصح: أنه لا يسجد معه. والثاني: يسجد معه، لكن لا يعيده في آخر صلاته. والوجه الثاني وهو الأصح: يلحقه حكم سهوه. فعلى هذا، إن سجد الإمام، سجد معه. وهل يعيده في آخر صلاته؟ فيه القولان. وإن لم يسجد الامام، سجد هو في آخر صلاته على الصحيح المنصوص. وإذا قلنا: المسبوق يعيد السجود في آخر صلاته، فاقتدى به بعد انفراده مسبوق آخر، وبالآخر آخر، فكل واحد منهم يسجد لمتابعته إمامه، ثم يسجد في آخر صلاة نفسه. ولو سها المسبوق في تداركه، فإن قلنا: لا يسجد لسهو الامام في آخر صلاة نفسه، سجد لسهوه سجدتين. وإن قلنا: يسجد لسهو الامام في آخرها، فكم
418 يسجد؟ وجهان. أصحهما: سجدتان. والثاني: أربع. ولو انفرد المصلي بركعة من رباعية، وسها فيها، ثم اقتدى بمسافر، وجوزنا الاقتداء في أثناء الصلاة، وسها إمامه، ثم قام إلى الرابعة، وسها فيها، فكم يسجد في آخر صلاته؟ فيه أوجه. الأصح. سجدتان. والثاني: أربع. والثالث: ست. فإن كان سجد الإمام، فلا بد أن يسجد معه، فيكون قد أتى في صلاته بثمان سجدات للسهو على الوجه الثالث. وكذا المسبوق إذا اقتدى بمسافر، وسها الامام، وسجد معه المسبوق، ثم صار الامام متما قبل أن يسلم، فأتم، وأعاد سجود السهو، وأعاد معه المسبوق، ثم قام إلى الرابعة، وسها فيها، وقلنا: يسجد أربع سجدات، فقد أتى بثماني سجدات. فإن سها بعدها بكلام، أو غيره، وفرعنا على أنه إذا سها بعد سجود السهو، يسجد، صارت السجدات عشرا. وقد يزيد عدد السجود على هذا تفريعا على الوجوه الضعيفة. قلت: إذا قلنا: يسجد سجدتين للجميع، فهل هما عن سهوه في انفراده، وسهو إمامه أم عن سهو إمامه فقط، أم عن سهوه فقط؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها صاحب (البيان). الصحيح المشهور: الأول، فإن قلنا: عن أحدهما فقط، فنوى الآخر عالما، بطلت صلاته. وإن قلنا: عنهما، فنوى أحدهما، لم تبطل، لكنه تارك لسجود الأخير. والله أعلم. فصل في كيفية سجود السهو ومحله: أما كيفيته، فهو سجدتان (1) بينهما جلسة، يسن في هيئتها الافتراش، وبعدهما إلى أن يسلم، يتورك. وكتب الأصحاب ساكتة عن الذكر فيهما (2)، وذلك يشعر بأن المحبوب فيها، هو المحبوب في سجدات صلب الصلاة، كسائر ما سكتوا عنه من واجبات السجود ومحبوباته.
419 وسمعت بعض الأئمة يحكي: أنه يستحب أن يقول فيهما: سبحان من لا ينام، ولا يسهو (1). وهذا لائق بالحال. وفي محله ثلاثة أقوال. أظهرها: قبل السلام. والثاني: إن سها بزيادة، سجد بعد السلام، وإن سها بنقص، سجد قبله. والثالث: أنه يتخير، إن شاء قبله، وإن شاء بعده (2). والأول: هو الجديد. والآخران: قديمان. ثم هذا الخلاف في الاجزاء على المذهب. وقيل: في الأفضل. ثم إذا قلنا: قبل السلام، فسلم قبل أن يسجد، نظر، فإن سلم عامدا، فوجهان. الأصح: أنه فوت السجود. والثاني: إن قصر الفصل سجد، وإلا، فلا. وإذا سجد، فلا يكون عائدا إلى الصلاة بلا خلاف (3)، بخلاف ما إذا سلم ناسيا وسجد، فإن فيه خلافا، وإن سلم ناسيا، وطال الزمان، فقولان. الجديد الأظهر: لا يسجد. والقديم: يسجد، وإن لم يطل، وتذكر على قرب، فإن بدا له أن لا يسجد، فذاك، والصلاة ماضية على الصحة، وحصل التحلل بالسلام على الصحيح. وفي وجه: يسلم مرة أخرى. وذلك السلام غير معتد به، وإن أراد أن يسجد (4)، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور: أنه يسجد. والثاني: لا يسجد. وإذا قلنا بالصحيح هنا، أو بالقديم عند طول الفصل، فسجد، فهل يكون عائدا إلى حكم الصلاة؟ وجهان. أرجحهما عند صاحب (التهذيب): لا يكون عائدا. وأرجحهما عند الأكثرين: يكون عائدا. وبه قال أبو زيد، وصححه القفال، وإمام الحرمين، والغزالي في (الفتاوى) والروياني، وغيرهم. ويتفرع على الوجهين، مسائل. منها: لو تكلم عامدا، أو أحدث في السجود، بطلت صلاته على الوجه
420 الثاني، ولا تبطل على الأول. ومنها: لو كان السهو في صلاة جمعة، وخرج الوقت وهو في السجود، فاتت الجمعة على الوجه الثاني، دون الأول. ومنها: لو كان مسافرا يقصر، ونوى الاتمام في السجود، لزمه الاتمام على الوجه الثاني، دون الأول. ومنها: هل يكبر للافتتاح؟ وهل يتشهد (1)؟ إن قلنا بالوجه الثاني: لم يكبر، ولم يتشهد، وإن قلنا بالأول، كبر، وفي التشهد، وجهان. أصحهما: لا يتشهد. وقال في (التهذيب): والصحيح: أنه يسلم، سواء قلنا بتشهد، أم لا. وأما حد طول الفصل، ففيه الخلاف المتقدم فيمن ترك ركنا ناسيا ثم تذكر بعد السلام أو شك فيه. والأصح: الرجوع إلى العرف. وحاول إمام الحرمين ضبط العرف، فقال: إذا مضى زمن يغلب على الظن، أنه أضرب عن السجود قصدا، أو نسيانا، فهذا طويل، وإلا فقصير. قال: وهذا إذا لم يفارق المجلس، فإن فارق، ثم تذكر على قرب الزمان، ففيه احتمال عندي، لان الزمان قريب، لكن مفارقته المجلس تغلب على الظن الاضراب عن السجود. قال: ولو سلم، وأحدث، ثم انغمس في ماء على قرب الزمان، فالظاهر أن الحدث فاصل وإن لم يطل الزمان. وقد نقل قول
421 أنه يعتقد أن إمامه زاد في صلاته جاهلا. وحكى صاحب (البحر) وجها: أنه يتابع الامام في سجود (ص). والله أعلم. ومواضع السجدات بينة لا خلاف فيها، إلا التي في (حم السجدة) فالأصح: أنها عقب * (لا يسأمون) (1) *. والثاني: عقب * (إن كنتم إياه تعبدون) (2) *. فرع: يسن السجود للقارئ (3)، والمستمع له (4)، سواء كان القارئ في الصلاة، أم لا. وفي وجه شاذ: لا يسجد المستمع لقراءة من في الصلاة. ويسن للمستمع إلى قراءة المحدث (5)، والصبي، والكافر، على الأصح. وسواء سجد القارئ، أم لم يسجد، يسن للمستمع السجود، لكنه إذا سجد كان آكد. هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقال الصيدلاني: لا يسن له السجود إذا لم يسجد القارئ، واختاره إمام الحرمين. وأما الذي لا يستمع، بل يسمع عن غير قصد، ففيه أوجه. الصحيح المنصوص: أنه يستحب له، ولا يتأكد في حقه تأكده في حق المستمع. والثاني: أنه كالمستمع. والثالث: لا يسن له السجود أصلا. أما المصلي، فإن كان منفردا سجد لقراءة نفسه. فلو لم يسجد فركع، ثم بدا له أن يسجد، لم يجز. فلو كان قبل بلوغه حد الراكعين، جاز. ولو هوى لسجود التلاوة، ثم بدا له فرجع، جاز، كما لو قرأ بعض التشهد الأول ولم يتممه، فإنه يجوز. ولو أصغى المنفرد بالصلاة لقراءة قارئ في الصلاة أو غيرها، لم يسجد، لأنه ممنوع من الاصغاء، فإن سجد، بطلت صلاته. وإن كان المصلي إماما، فهو كالمنفرد فيما ذكرناه. ولا يكره له قراءة آية لسجدة، لا في الصلاة الجهرية، ولا في
422 السرية. وإذا سجد الإمام، سجد المأموم. فلو لم يفعل، بطلت صلاته (1). وإذا لم يسجد الامام، لم يسجد المأموم. ولو فعل، بطلت صلاته. ويحسن القضاء (2) إذا فرغ ولا يتأكد. ولو سجد الإمام ولم يعلم المأموم حتى رفع الامام رأسه من السجود، لم يسجد. وإن علم وهو بعد في السجود، سجد. وإن كان المأموم في الهوي، ورفع الامام رأسه، رجع معه ولم يسجد، وكذا الضعيف الذي هوى مع الامام لسجود التلاوة، فرفع الامام رأسه، قبل انتهائه إلى الأرض لبطء حركته، يرجع معه، ولا يسجد. أما إذا كان المصلي مأموما، فلا يسجد لقراءة نفسه. بل يكره له قراءة السجدة. ولا يسجد لقراءة غير الامام، بل يكره له الاصغاء إليها. ولو سجد لقراءة نفسه، أو قراءة غير إمامه، بطلت صلاته. فرع: إذا قرأ آيات السجدات في مكان واحد، سجد لكل واحدة، فلو كرر الآية الواحدة في المجلس الواحد، نظر، إن لم يسجد للمرة الأولى، كفاه سجود واحد، وإن سجد للأولى، فثلاثة أوجه. الأصح: يسجد مرة أخرى، لتجدد السبب. والثاني: يكفيه الأولى. والثالث: إن طال الفصل، سجد أخرى، وإلا فتكفيه الأولى. ولو كرر الآية الواحدة في الصلاة، فإن كان في ركعة، فكالمجلس الواحد، وإن كان في ركعتين، فكالمجلسين. ولو قرأ مرة في الصلاة، ومرة خارجها في المجلس الواحد، وسجد للأولى، فلم أر فيه نصا للأصحاب، وإطلاقهم يقتضي طرد الخلاف فيه. فصل في شرائط سجود التلاوة وكيفيته أما شروطه، فيفتقر إلى شروط الصلاة، كطهارة الحدث، والنجس، وستر العورة، واستقبال القبلة، وغيرها بلا خلاف. وأما كيفيته، فله حالان. حال في غير الصلاة. وحال فيها. فالأول: ينوي ويكبر للافتتاح، ويرفع يديه في هذه التكبيرة حذو منكبيه، كما
423 يفعل في تكبيرة الافتتاح في الصلاة، ثم يكبر أخرى للهوي من غير رفع اليد. ثم تكبير الهوي مستحب ليس بشرط. وفي تكبيرة الافتتاح، أوجه. أصحها: أنها شرط. والثاني: مستحبة. والثالث: لا تشرع أصلا. قاله أبو جعفر الترمذي (1). وهو شاذ منكر. قلت: قد قاله أيضا صاحب (التهذيب) و (التتمة) وأنكره إمام الحرمين، وغيره. قال الامام: ولم أر لهذا ذكرا، ولا أصلا. وهذا الذي قاله الامام، هو الأصوب، فلم يذكر جمهور أصحابنا هذا القيام، ولا ثبت فيه شئ مما يحتج به. فالاختيار تركه. والله أعلم. ويستحب أن يقول في سجوده: (سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه وبصره، بحوله وقوته). وأن يقول: (اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، واجعلها لي عندك ذخرا، وضع عني بها وزرا، واقبلها مني، كما قبلتها من عبدك داود (ص) (2) (3) ولو قال ما يقول في سجود صلاته، جاز. ثم يرفع رأسه مكبرا، كما يرفع من سجود الصلاة. وهل يشترط السلام؟ فيه قولان. أظهرهما: يشترط، فعلى هذا في اشتراط التشهد وجهان. الأصح: لا يشترط. ومن الأصحاب من يقول: في اشتراط السلام والتشهد، ثلاثة أوجه. أصحها: يشترط السلام دون التشهد. وإذا قلنا: التشهد ليس بشرط، فهل يستحب؟ وجهان. حكاهما في (النهاية).
424 قلت: الأصح: لا يستحب. والله أعلم. الحال الثاني: أن يسجد للتلاوة في الصلاة، فلا يكبر للافتتاح، لكن يستحب التكبير للهوي إلى السجود، من غير رفع اليدين، فكذا يكبر عند رفع الرأس كما يفعل في سجدات الصلاة. ولنا وجه شاذ: أنه لا يكبر للهوي، ولا للرفع، قاله ابن أبي هريرة. ويستحب أن يقول في سجوده ما قدمناه. وإذا رفع رأسه قام، ولا يجلس للاستراحة. ويستحب أن يقرأ شيئا، ثم يركع. ولا بد من انتصابه قائما، ثم يركع. فإن الهوي من قيام، واجب. فصل: ينبغي أن يسجد عقب قراءة آية سجدة، أو استماعها. فإن أخر، وقصر الفصل، سجد. وإن طال، فاتت. وهل تقضى؟ قولان. حكاهما صاحب (التقريب) أظهرهما - وبه قطع الصيدلاني، وآخرون: لا تقضى، لأنها لعارض، فأشبهت صلاة الكسوف. وضبط طول الفصل، يؤخذ مما تقدم في سجود السهو. ولو كان القارئ، أو المستمع، محدثا عند التلاوة فإن تطهر على قرب، سجد. وإلا، فالقضاء على الخلاف. ولو كان يصلي، فقرأ قارئ آية سجدة، فإذا فرغ من صلاته، هل يقضي سجود التلاوة؟ المذهب: أنه لا يقضيه، وبه قطع الشاشي وغيره، واختاره إمام الحرمين، لان قراءة غير إمامه، لا تقتضي سجوده. وإذا لم نجز ما يقتضي السجود أداء، فالقضاء بعيد. وقال صاحب (التقريب): وفيه القولان المتقدمان. وقال صاحب (التهذيب): يحسن أن يقضي ولا يتأكد، كما يجيب المؤذن إذا فرغ من الصلاة. قلت: إذا قرأ السجدة في الصلاة قبل الفاتحة، سجد، بخلاف ما لو قرأها في الركوع، أو السجود، فإنه لا يسجد. ولو قرأ السجدة، فهوى ليسجد، فشك، هل قرأ الفاتحة؟ فإنه يسجد للتلاوة، ثم يعود إلى القيام، فيقرأ الفاتحة. ولو قرأ خارج الصلاة السجدة بالفارسية، لا يسجد عندنا. وإذا سجد المستمع مع القارئ، لا يرتبط به، ولا ينوي الاقتداء به، وله الرفع من السجود قبله. ولو أراد أن يقرأ آية، أو آيتين فيهما سجدة، ليسجد، فلم أر فيه كلاما لأصحابنا. وفي كراهته خلاف للسلف، أوضحته في كتاب (آداب القرآن) ومقتضى مذهبنا: أنه إن كان
425 في غير الوقت المنهي عن الصلاة فيه، وفي غير الصلاة، لم يكره. وإن كان في الصلاة، أو في وقت كراهتها، ففيه الوجهان فيمن دخل المسجد في هذه الأوقات لا لغرض سوى صلاة التحية. والأصح: أنه يكره له الصلاة. هذا إذا لم يتعلق بالقراءة المذكورة غرض سوى السجود، فإن تعلق، فلا كراهة مطلقا قطعا، ولو قرأ آية سجدة في الصلاة، فلم يسجد، وسلم، يستحب أن يسجد ما لم يطل الفصل. فإن طال، ففيه الخلاف المتقدم. ولو سجد للتلاوة قبل بلوغ السجدة ولو بحرف، لم يصح سجوده. ولو قرأ بعد السجدة آيات، ثم سجد جاز ما لم يطل الفصل. ولو قرأ سجدة، فسجد، فقرأ في سجوده سجدة أخرى، لا يسجد ثانيا على الصحيح المعروف. وفيه وجه شاذ: حكاه في (البحر) أنه يسجد. قال صاحب (البحر): إذا قرأ الامام السجدة في صلاة سرية، استحب تأخير السجود إلى فراغه من الصلاة. قال: وقد استحب أصحابنا للخطيب إذا قرأ سجدة، أن يترك السجود لما فيه من كلفة النزول عن المنبر والصعود (1). قال: ولو قرأ السجدة في صلاة الجنازة، لم يسجد فيها. وهل يسجد بعد الفراغ؟ وجهان. أصحهما: لا يسجد. وأصلهما أن القراءة التي لا تشرع، هل يسجد لتلاوتها؟ وجهان. والله أعلم. السجدة الثالثة: سجدة الشكر: سجود الشكر سنة عند مفاجأة نعمة (2)، أو
426 اندفاع نقمة (1)، من حيث لا يحتسب، وكذا إذا رأى مبتلى ببلية (2)، أو بمعصية (3). ولا يسن عند استمرار النعم. وإذا سجد لنعمة، أو اندفاع بلية لا تتعلق بغيره، استحب إظهار السجود. وإن سجد لبلية في غيره، وصاحب البلية غير معذور، كالفاسق، أظهر السجود بين يديه لعله يتوب. وإن كان معذورا، كصاحب الزمانة، أخفاه كيلا (4) يتأذى. ويفتقد سجود الشكر إلى شروط الصلاة. وكيفيته ككيفية سجود التلاوة خارج الصلاة. ولا يجوز سجود الشكر في الصلاة بحال. قلت: قال أصحابنا: لو سجد في الصلاة للشكر، بطلت صلاته. فلو قرأ آية سجدة ليسجد بها للشكر، ففي جواز السجود، وجهان. في (الشامل) و (البيان) أصحهما: يحرم، وتبطل صلاته. وهما كالوجهين، فيمن دخل المسجد في وقت النهي ليصلي التحية. والله أعلم. فرع: في جواز سجود الشكر على الراحلة بالايماء (5) وجهان. كالتنفل مضطجعا مع القدرة. ولو سجد للتلاوة على الراحلة، إن كان في صلاة نافلة، جاز قطعا تبعا لها، وإلا، فعلى الوجهين في سجدة الشكر. أصحهما: الجواز فيهما، وبه قطع صاحب (التهذيب) و (العدة) والخلاف فيمن اقتصر على الايماء، فإن كان في مرقد، وأتم السجود، جاز قطعا. وأما الماشي في السفر فيسجد على الأرض على الصحيح
427 قلت: قال في (التهذيب): لو تصدق صاحب هذه النعمة أو صلى شكرا، فحسن (1). والله أعلم. فرع: لو خضع إنسان لله تعالى، فتقرب بسجدة من غير سبب، فالأصح: أنه حرام، كالتقرب بركوع مفرد ونحوه. وصححه إمام الحرمين، والغزالي، وغيرهما، وقطع به الشيخ أبو محمد. والثاني: يجوز، قاله صاحب (التقريب) قال: وإذا فاتت سجدة الشكر، ففي قضائها الخلاف في قضاء النوافل الراتبة. وقطع غيره بعدم القضاء. قلت: وسواء في هذا الخلاف في تحريم السجدة، ما يفعل بعد صلاة وغيره. وليس من هذا ما يفعله كثيرون من الجهلة الظالمين (2)، من السجود بين يدي المشايخ، فإن ذلك حرام قطعا بكل حال، سواء كان إلى القبلة، أو غيرها. وسواء قصد السجود لله تعالى، أو غفل. وفي بعض صوره ما يقتضي الكفر عافانا الله تعالى. والله أعلم. الباب السابع في صلاة التطوع اختلف اصطلاح الأصحاب في تطوع الصلاة. فمنهم من يفسره بما لم يرد فيه نقل بخصوصيته، بل ينشؤه الانسان ابتداء. وهؤلاء قالوا: ما عدا الفرائض، ثلاثة أقسام، سنن، وهي التي واظب عليها رسول الله (ص). ومستحبات، وهي التي فعلها أحيانا، ولم يواظب عليها. وتطوعات، وهي التي ذكرنا. ومنهم من يرادف بين لفظي النافلة والتطوع، ويطلقهما على ما سوى الفرائض. قلت: ومن أصحابنا من يقول: السنة، والمستحب، والمندوب، والتطوع،
428 والنفل والمرغب فيه، والحسن، كلها بمعنى واحد. وهو ما رجح الشرع فعله على تركه، وجاز تركه (1). والله أعلم. واختلف أصحابنا في الرواتب ما هي؟ فقيل: هي النوافل الموقتة بوقت مخصوص، وعد منها التراويح، وصلاة العيدين، والضحى. وقيل: هي السنن التابعة للفرائض (2). واعلم أن ما سوى فرائض الصلاة، قسمان. ما يسن له الجماعة كالعيدين، والكسوفين، والاستسقاء. ولها أبواب معروفة، وما لا يسن فيه الجماعة، وهي رواتب مع الفرائض وغيرها، فأما الرواتب، فالوتر وغيره، وأما غير الوتر، فاختلف الأصحاب في عددها، فقال الأكثرون: عشر ركعات، ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء. ومنهم من نقص ركعتي العشاء. نص عليه في (البويطي) وبه قال الخضري. ومنهم من زاد على العشر ركعتين أخريين قبل الظهر. ومنهم من زاد على هذا أربعا قبل العصر. ومنهم من زاد على هذا آخريين بعد الظهر. فهذه خمسة أوجه لأصحابنا، وليس خلافهم في أصل الاستحباب، بل إن المؤكد من الرواتب ماذا؟ مع أن الاستحباب يشمل الجميع. ولهذا قال صاحب (المهذب) وجماعة: أدنى الكمال: عشر ركعات، وهو وجه الأول. وأتم الكمال: ثماني عشرة ركعة، وهو الوجه الخامس. وفي استحباب ركعتين قبل المغرب وجهان.
429 وبالاستحباب قال أبو إسحاق الطوسي (1)، وأبو زكريا السكري (2). قلت: الصحيح، استحبابهما، ففي مواضع من (صحيح البخاري) عن (3) عبد الله (4) بن مغفل (5) رضي الله عنه، عن النبي (ص) قال: (صلوا قبل صلاة المغرب) قال في الثالثة: لمن شاء. والله أعلم. فصل: الوتر سنة. ويحصل بركعة، وبثلاث، وبخمس، وبسبع، وبتسع، وبإحدى عشرة، فهذا أكثره على الأصح. وعلى الثاني: أكثره ثلاث عشرة. ولا يجوز الزيادة على أكثره على الأصح. فإن زاد، لم يصح وتره (6). وإذا زاد على ركعة، فأوتر بثلاث فأكثر موصولة، فالصحيح: أن له أن يتشهد تشهدا واحدا في الأخيرة، وله تشهد آخر في التي قبلها. وفي وجه: لا يجزئ الاقتصار على تشهد واحد. وفي وجه: لا يجوز لمن أوتر بثلاث، أن يتشهد تشهدين
430 بتسليمة. فإن فعل، بطلت صلاته، بل يقتصر على تشهد أو يسلم في التشهدين. وهذان الوجهان منكران، والصواب جواز ذلك كله. ولكن: هل الأفضل تشهد؟ أم تشهدان؟ فيه أوجه. أرجحها عند الروياني: تشهد. والثاني: تشهدان. والثالث: هما في الفضيلة سواء. أما إذا زاد على تشهدين، وجلس في كل ركعتين، واقتصر على تسليمة في الركعة الأخيرة، فالصحيح: أنه لا يجوز، لأنه خلاف المنقول. والثاني: يجوز كنافلة كثيرة الركعات. أما إذا أراد الايتار بثلاث ركعات، فهل الأفضل فصلها بسلامين، أم وصلها بسلام. فيه أوجه. أصحها: الفصل أفضل. والثاني: الوصل. والثالث: إن كان منفردا، فالفصل، وإن صلاها بجماعة، فالوصل. والرابع: عكسه. وهل الثلاث الموصولة أفضل من ركعة فردة؟ فيه أوجه. الصحيح: أن الثلاث أفضل. والثاني: الفردة. قال في (النهاية): وغلا هذا القائل فقال: الفردة أفضل من إحدى عشرة ركعة موصولة. والثالث: إن كان منفردا، فالفردة. وإن كان إماما، فالثلاث الموصولة. فرع في وقت الوتر: (في وقت الوتر) وجهان. الصحيح: أنه من حين يصلي العشاء، إلى طلوع الفجر. فإن أوتر قبل فعل العشاء، لم يصح وتره، سواء تعمد، أو سها وظن أنه صلى العشاء، أو صلاها ظانا أنه متطهر، ثم أحدث فتوضأ وصلى الوتر، ثم بان أنه كان محدثا في العشاء، فوتره باطل. والوجه الثاني: يدخل وقت الوتر بدخول وقت العشاء، وله أن يصليه قبلها. ولو صلى العشاء، ثم أوتر بركعة قبل أن يتنفل، صح وتره على الصحيح. وقيل: لا يصح حتى يتقدمه نافلة، فإذا لم يصح وترا، كان تطوعا. كذا قاله إمام الحرمين. وينبغي أن يكون على الخلاف فيمن صلى الظهر قبل الزوال غالطا، هل تبطل صلاته، أم تكون نفلا؟ والمستحب أن يكون الوتر آخر صلاة الليل. فإن كان لا تهجد له، فينبغي أن يوتر بعد فريضة العشاء وراتبتها، ويكون وتره آخر صلاة الليل، وإن كان له تهجد، فالأفضل أن يؤخر الوتر، كذا قاله العراقيون. وقال إمام الحرمين، والغزالي: اختار الشافعي رحمه الله، تقديم الوتر. فيجوز أن يحمل
431 نقلهما على من لا يعتاد قيام الليل. ويجوز أن يحمل على اختلاف قول، أو وجه. والامر فيه قريب، وكل شائع. وإذا أوتر قبل أن ينام، ثم قام وتهجد، لم يعد الوتر على الصحيح المعروف. وفي وجه شاذ: يصلي في أول قيامه ركعة يشفعه، ثم يتهجد ما شاء، ثم يوتر ثانيا، ويسمى هذا: نقض الوتر. والصحيح المنصوص في (الام) و (المختصر): أن الوتر يسمى: تهجدا: وقيل: الوتر غير التهجد. فرع: إذا استحببنا الجماعة في التراويح، يستحب الجماعة أيضا في الوتر بعدها. وأما في غير رمضان، فالمذهب: أنه لا يستحب فيه الجماعة. وقيل: في استحبابها، وجهان مطلقا. حكاه أبو الفضل بن عبدان. فرع: يستحب القنوت في الوتر في النصف الأخير من شهر رمضان، فإن أوتر بركعة، قنت فيها، وإن أوتر بأكثر، قنت في الأخيرة. ولنا وجه: أنه يقنت في جميع رمضان، ووجه: أنه يقنت في جميع السنة. قاله أربعة من أئمة أصحابنا: أبو عبد الله الزبيري، وأبو الوليد النيسابوري (1)، وأبو الفضل بن عبدان، (2) وأبو منصور بن مهران (3). والصحيح: اختصاص الاستحباب بالنصف الثاني من رمضان، وبه قال جمهور الأصحاب. وظاهر نص الشافعي رحمه الله، كراهة القنوت في غير هذا النصف. ولو ترك القنوت في موضع نستحبه، سجد للسهو، ولو قنت في غير النصف الأخير من رمضان - وقلنا: لا يستحب - سجد للسهو. وحكى الروياني وجها: أنه يجوز القنوت في جميع السنة بلا كراهة، ولا يسجد
432 للسهو بتركه في غير النصف. قال: وهذا اختيار مشايخ طبرستان، واستحسنه. وفي موضع القنوت في الوتر، أوجه، أصحها: بعد الركوع. ونص عليه في سنن حرملة (1). والثاني: قبل الركوع، قاله ابن سريج. والثالث: يتخير بينهما. وإذا قدمه، فالأصح أنه يقنت بلا تكبير. والثاني: يكبر بعد القراءة، ثم يقنت. ولفظ القنوت: هو ما تقدم في قنوت الصبح. واستحب الأصحاب أن يضم إليه قنوت عمر (2) رضي الله عنه: (اللهم إنا نستعينك، ونستغفرك، ونستهديك، ونؤمن بك، ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد (3)، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك بالكفار ملحق (4). اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الايمان والحكمة، وثبتهم على ملة رسولك، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق، واجعلنا منهم). وهل الأفضل أن يقدم قنوت عمر على قنوت الصبح، أم يؤخره؟ وجهان. قال الروياني: يقدمه، وعليه العمل ونقل القاضي أبو الطيب عن شيوخهم، تأخيره. قلت: الأصح: تأخيره، لان قنوت الصبح ثابت عن النبي (ص) في الوتر. وينبغي أن يقول: (اللهم عذب الكفرة) للحاجة إلى التعميم في أزماننا. والله أعلم. قال الروياني: قال ابن القاص: يزيد في القنوت (ربنا لا تؤاخذنا) إلى آخر
433 السورة (1) واستحسنه (2). وحكم الجهر بالقنوت، ورفع اليدين وغيرهما، على ما تقدم في الصبح. ويستحب لمن أوتر بثلاث، أن يقرأ بعد الفاتحة في الأولى: * (سبح) *. وفي الثانية: * (قل يا أيها الكافرون) *. وفي الثالثة: * (قل هو الله أحد) *. والمعوذتين (3). فصل في النوافل التي يسن فيها الجماعة: اعلم أن أفضل النوافل مطلقا، العيدان (4)، ثم الكسوفان، ثم الاستسقاء (5). وأما التراويح، فإن قلنا: لا يسن فيها الجماعة، فالرواتب أفضل منها، وإن قلنا: يسن فيها، فكذلك على الأصح. والثاني: التراويح أفضل (6). قلت: كسوف الشمس أفضل من خسوف القمر، ذكره الماوردي وغيره. والله أعلم. فصل: ومن التطوع الذي لا يسن له الجماعة، صلاة الضحى. وأقلها: ركعتان، وأفضلها: ثمان، وأكثرها: اثنا عشر، ويسلم من كل ركعتين. ووقتها من حين ترتفع الشمس إلى الاستواء. قلت: قال أصحابنا: وقت الضحى من طلوع الشمس. ويستحب تأخيرها إلى ارتفاعها. قال الماوردي: ووقتها المختار إذا مضى ربع النهار. والله أعلم. ومنه تحية المسجد بركعتين، ولو صلى الداخل فريضة، أو وردا، أو سنة،
434 ونوى التحية معها، حصلا جميعا. وكذا إن لم ينوها. ويجوز أن يطرد فيه الخلاف المذكور فيمن نوى غسل الجنابة: هل يحصل له الجمعة والعيد إذا لم ينوهما؟ (1) ولو صلى الداخل على جنازة، أو سجد لتلاوة، أو شكر، أو صلى ركعة واحدة، لم يحصل التحية على الصحيح. قلت: ومن تكرر دخوله المسجد في الساعة الواحدة مرارا. قال المحاملي في كتابه (اللباب): أرجو أن يجزئه التحية مرة. وقال صاحب (التتمة): لو تكرر دخوله، يستحب التحية كل مرة، وهو الأصح. قال المحاملي: وتكره التحية في حالين. أحدهما: إذا دخل والامام في المكتوبة. والثاني: إذا دخل المسجد الحرام، فلا يشتغل بها عن الطواف. ومما يحتاج إلى معرفته، أنه لو جلس في المسجد قبل التحية، وطال الفصل، لم يأت بها كما سيأتي: أنه لا يشرع قضاؤها. وإن لم يطل، فالذي قاله الأصحاب: أنها تفوت بالجلوس، فلا يفعلها. وذكر الإمام أبو الفضل بن عبدان في كتابه المصنف في العبادات: أنه لو نسي التحية وجلس، فذكر بعد ساعة، صلاها. وهذا غريب. وفي (صحيح البخاري) (2) و (مسلم) ما يؤيده في حديث الداخل يوم الجمعة. والله أعلم. ومنه ركعتا الاحرام، وركعتا الطواف، إذا لم نوجبهما. قلت: ومنه ركعتان عقب الوضوء، ينوي بهما سنة الوضوء. ومنه سنة الجمعة
435 قبلها أربع ركعات، وبعدها أربع. كذا قاله ابن القاص في (المفتاح) وآخرون. ويحصل أيضا بركعتين قبلها، وركعتين بعدها. والعمدة فيما بعدها، حديث (صحيح مسلم) (1) وإذا صليتم الجمعة فصلوا بعدها أربعا) وفي (الصحيحين) (2) أن النبي (ص) كان يصلي بعدها ركعتين. وأما قبلها، فالعمدة فيه، القياس على الظهر. ويستأنس فيه بحديث (سنن ابن ماجة) (3): أن النبي (ص)، كان يصلي قبلها أربعا. وإسناده ضعيف جدا. ومنه ركعتا الاستخارة. ثبت في (صحيح البخاري) (4). ومنه ركعتا صلاة الحاجة. والله أعلم. فصل: أوكد ما لا تسن له الجماعة: السنن الرواتب. وأفضل الرواتب: الوتر، وركعتا الفجر. وأفضلهما: الوتر على الجديد الصحيح (5). والقديم: سنة الفجر. وفي وجه: هما سواء. فإذا قلنا بالجديد، فالصحيح الذي عليه الجمهور: أن سنة الفجر تلي الوتر في الفضيلة. وفي وجه قاله أبو إسحاق: أن صلاة الليل تقدم على سنة الفجر. قلت: هذا الوجه قوي. ففي (صحيح مسلم) (6) أن رسول الله (ص)، قال:
436 (أفضل الصلاة بعد الفريضة، صلاة الليل) وفي رواية (الصلاة في جوف الليل). والله أعلم. ثم أفضل الصلوات بعد الرواتب المذكورة، الضحى. ثم ما يتعلق بفعل، كركعتي الطواف، وركعتي الاحرام، وتحية المسجد (1). فصل: التراويح، عشرون ركعة بعشر تسليمات. قلت: فلو صلى أربعا بتسليمة، لم يصح. ذكره القاضي حسين في (الفتاوى) لأنه خلاف المشروع (2). وينوي التراويح، أو قيام رمضان. ولا يصح بنية مطلقة، بل ينوي ركعتين من التراويح في كل تسليمة. والله أعلم. قال الشافعي رحمه الله: ورأيت أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين، منها ثلاث للوتر. قال أصحابنا: ليس لغير أهل المدينة ذلك. والأفضل في التراويح الجماعة على الأصح. وقيل: الأظهر، وبه قال الأكثرون. والثاني: الانفراد أفضل. ثم قال العراقيون، والصيدلاني، وغيرهم: الخلاف فيمن يحفظ القرآن، ولا يخاف الكسل عنها، ولا تختل الجماعة في المسجد بتخلفه. فإن فقد بعض هذا، فالجماعة أفضل قطعا. وأطلق جماعة ثلاثة أوجه، ثالثها: هذا الفرق. ويدخل وقت التراويح بالفراغ من صلاة العشاء. فصل: التطوعات التي لا تتعلق بسبب، ولا وقت، لا حصر لأعدادها، ولا لركعات الواحدة منها. فإذا شرع في تطوع، ولم ينو عددا، فله أن يسلم من
437 ركعة، وله أن يسلم من ركعتين فصاعدا. ولو صلى عددا لا يعلمه، ثم سلم، صح. نص عليه في (الاملاء). ولو نوى ركعة، أو عددا قليلا، أو كثيرا، فله ذلك. ولنا وجه شاذ: أنه لا يجوز أن يزيد على ثلاث عشرة بتسليمة واحدة، وهو غلط. ثم إذا نوى عددا، فله أن يزيد، وله أن ينقص. فمن أحرم بركعة، فله جعلها عشرا. أو بعشر، فله جعلها واحدة، بشرط تغيير النية قبل الزيادة، والنقصان. فلو زاد أو نقص قبل تغير النية عمدا، بطلت صلاته. مثاله: نوى ركعتين، فقام لثالثة بنية الزيادة، جاز. ولو قام قبلها عمدا، بطلت صلاته. وإن قام ناسيا، عاد وسجد للسهو وسلم. فلو بدا له في القيام أن يزيد. فهل يشترط العود إلى القعود ثم يقوم منه، أم له المضي؟ وجهان. أصحهما: الأول، ثم يسجد للسهو في آخر صلاته. ولو زاد ركعتين سهوا، ثم نوى إكمال أربع، صلى ركعتين أخريين. وما سها به لا يحسب. ولو نوى أربعا، ثم غير نيته، وسلم عن ركعتين، جاز. ولو سلم قبل تغيير النية عمدا، بطلت صلاته. وإن سلم ساهيا، أتم أربعا، وسجد للسهو. فلو أراد بعد السلام أن يقتصر على الركعتين، سجد للسهو وسلم ثانيا، فإن سلامه الأول غير محسوب. ثم إن تطوع بركعة، فلا بد من التشهد. وإن زاد على ركعة، فله أن يقتصر على تشهد في آخر صلاته. وهذا التشهد ركن. وله أن يتشهد في كل ركعتين، كما في الفرائض الرباعية. فإن كان العدد وترا، فلا بد من التشهد في الأخيرة أيضا. وهل له أن يتشهد في كل ركعة؟ قال إمام الحرمين: فيه احتمال، والظاهر جوازه. واعلم أن تجويز التشهد في كل ركعة، لم يذكره غير الامام، والغزالي. وفي كلام كثير من الأصحاب ما يقتضي منعه. قلت: (الصحيح المختار)، منعه، فإنه اختراع صورة في الصلاة لا عهد بها. والله أعلم. وأما الاقتصار على تشهد في آخر الصلاة، فلا خلاف في جوازه. وأما التشهد في كل ركعتين، فذكره العراقيون وغيرهم، وقالوا: هو الأفضل، وإن جاز الاقتصار على تشهد. وذكر صاحب (التتمة)، و (التهذيب) وجماعة: أنه لا يجوز الزيادة على تشهدين بحال. ولا يجوز أن يكون بين التشهدين أكثر من الركعتين، إن كان
438 العدد شفعا وإن كان وترا، لم يجز بينهما أكثر من ركعة. والمذهب: جواز الزيادة كما قدمناه. وحكى صاحب (البيان) وجها: أنه لا يجلس إلا في آخر الصلاة، وهو شاذ منكر. ثم إن صلى بتشهد، قرأ السورة في الركعات كلها، وإن صلى بتشهدين، فهل يقرأ فيما بعد التشهد الأول؟ فيه القولان في الفرائض، والأفضل: أن يسلم من كل ركعتين، سواء كان بالليل أو بالنهار (1). ولو نوى صلاة تطوع، ولم ينو ركعة، ولا ركعتان (2)، فهل يجوز الاقتصار على ركعة؟ قال صاحب (التتمة): فيه وجهان، بناء على ما لو نذر صلاة مطلقة، هل يخرج عن نذره بركعة، أم لا بد من ركعتين؟ وينبغي أن يقطع بالجواز. قلت: إنما ذكر صاحب (التتمة) الوجهين في أنه: هل يكره الاقتصار على ركعة، أم لا يكره؟ وجزم بالجواز، كما جزم به سائر الأصحاب. والله أعلم. فصل في أوقات النوافل الراتبة: وهي ضربان: أحدهما: راتبة تسبق الفريضة فيدخل وقتها بدخول وقت الفريضة، ويبقى جوازها ما بقي وقت الفريضة. ووقت اختيارها ما قبل الفريضة. ولنا وجه شاذ: أن سنة الصبح يبقى وقت أدائها إلى زوال الشمس. الضرب الثاني: الرواتب التي بعد الفريضة، ويدخل وقتها بفعل الفريضة، ويخرج بخروج وقتها. ولنا قول شاذ: أن الوتر يبقى أداء إلى أن يصلي الصبح. والمشهور: أنه يخرج بطلوع الفجر. فرع: النافلة قسمان. أحدهما: غير مؤقتة، وإنما تفعل لسبب عارض، كصلاة الكسوفين، والاستسقاء، وتحية المسجد. وهذا لا مدخل للقضاء فيه. والثاني: مؤقتة، كالعيد، والضحى، والرواتب التابعة للفرائض. وفي قضائها أقوال. وأظهرها: تقضى. والثاني: لا. والثالث: ما استقل، كالعيد،
439 والضحى، قضي. وما كان تبعا كالرواتب، فلا. وإذا قلنا: تقضى، فالمشهور أنها تقضى أبدا. والثاني: تقضى صلاة النهار. ما لم تغرب شمسه، وفائت الليل ما لم يطلع فجره. فيقضي ركعتي الفجر ما دام النهار باقيا. والثالث: يقضي كل تابع ما لم يصل فريضة مستقبلة، فيقضي الوتر ما لم يصل الصبح، ويقضي سنة الصبح ما لم يصل الظهر، والباقي على هذا المثال. وقيل: على هذا الاعتبار، بدخول وقت المستقبلة، لا بفعلها. قلت: يستحب عندنا فعل الرواتب، في السفر، كالحضر. والسنة: أن يضطجع بعد سنة الفجر قبل الفريضة. فإن لم يفعل، فصل بينهما، لحديث [عن عائشة رضي الله عنها] (1)، (أن النبي (ص)، كان إذا صلى سنة الفجر، فإن كنت مستيقظة، حدثني، وإلا اضطجع حتى يؤذن بالصلاة) رواه البخاري (2). والسنة، أن يخفف السورة فيهما. ففي (صحيح مسلم) (3) أن النبي (ص)، كان يقرأ في الأولى بعد الفاتحة ، * (قولوا آمنا بالله...) * (4). الآيات. وفي الثانية: * (قل يا أهل الكتاب تعالوا...) * (5).
440 وفي رواية (1): أنه قرأ في الأولى: * (قل يا أيها الكافرون) *. وفي الثانية: * (قل هو الله أحد) * فكلاهما سنة. ونص في (البويطي) على الثانية. وفي سنة المغرب: * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) *. وكذا في ركعتي الاستخارة، وتحية المسجد. وتطوع الليل، أفضل من تطوع النهار (2). فإن أراد أحد نصفي الليل، فالنصف الثاني أفضل، وإن أراد أحد الثلاثة، (3) فالأوسط وأفضل منه السدس الرابع، والخامس. ثبت ذلك في (الصحيحين) (4). ويكره قيام الليل كله دائما، وينبغي أن لا يخل بصلاة في الليل وإن قلت. والنفل في البيت أفضل من المسجد (5)، كما قدمناه.
441 ويستحب لمن قام لتهجد، أن يوقظ له من يطمع بتهجده إذا لم يخف ضررا. ويستحب المحافظة على الركعتين في المسجد، إذا قدم من سفر، للأحاديث الصحيحة في كل ذلك. والله أعلم.
442 كتاب صلاة الجماعة (1) اعلم أن أركان الصلاة وشروطها، لا تختلف بالجماعة، والانفراد، لكن الجماعة أفضل. فالجماعة فرض عين في الجمعة، وأما في غيرها من المكتوبات، ففيها أوجه. الأصح: أنها فرض كفاية (2). والثاني: سنة. والثالث: فرض عين قاله من أصحابنا، ابن المنذر، وابن خزيمة. وقيل: إنه قول للشافعي رحمه الله. فإن قلنا: فرض كفاية، فإن امتنع أهل قرية من إقامتها، قاتلهم الامام، ولم يسقط الحرج، إلا إذا أقاموها، بحيث يظهر هذا الشعار بينهم. ففي القرية الصغيرة يكفي إقامتها في موضع، وفي الكبيرة، والبلاد، تقام في المحال. فلو أطبقوا على إقامتها في البيوت، قال أبو إسحاق: لا يسقط الفرض. وخالفه بعضهم، إذا ظهرت في الأسواق (3). وإن قلنا: إنها سنة فتركوها، لم يقاتلوا على الأصح.
443 قلت: قول أبي إسحاق أصح. ولو أقام الجماعة طائفة يسيرة من أهل البلد، وأظهروها في كل البلد، ولم يحضرها جمهور المقيمين بالبلد، حصلت الجماعة، ولا إثم على المتخلفين. كما إذا صلى على الجنازة طائفة يسيرة. وأما أهل البوادي، فقال إمام الحرمين: عندي فيهم نظر، فيجوز أن يقال: لا يتعرضون لهذا الفرض، ويجوز أن يقال: يتعرضون له إذا كانوا ساكنين. قال: ولا شك أن المسافرين لا يتعرضون لهذا الفرض، وكذا إذا قل عدد ساكني قرية (1). هذا كلام الامام. والمختار أن أهل البوادي الساكنين، كأهل القرية، للحديث الصحيح (2) ما من ثلاثة في قرية، أو بدو، لا تقام فيهم الصلاة، إلا قد استحوذ عليهم الشيطان). والله أعلم. هذا حكم الرجال. وأما النساء، فلا تفرض عليهن الجماعة، لا فرض عين، ولا كفاية. ولكن يستحب لهن. ثم فيه وجهان. أحدهما: كاستحبابها للرجال. وأصحهما: لا يتأكد في حقهن، كتأكدها في حق الرجال. فلا يكره لهن تركها، ويكره تركها للرجال، مع قولنا: هي لهم سنة. والمستحب أن تقف إمامتهن (3) وسطهن، وجماعتهن في البيوت أفضل. فإن أردن حضور المسجد مع الرجال، كره للشواب، دون العجائز. وإمامة الرجال لهن، أفضل من إمامة النساء، لكن لا
444 يجوز أن يخلو بهن غير محرم (1). قلت: الخلاف في كون الجماعة فرض كفاية، أم عين، أم سنة، هو في المكتوبات المؤديات، أما المنذورة، فلا يشرع فيها الجماعة. وقد ذكره الرافعي في أثناء كلامه في باب الاذان، في مسألة، لا يؤذن لمنذورة. وأما المقضية، فليست الجماعة فيها فرض عين، ولا كفاية قطعا، ولكنها سنة قطعا. وفي الصحيح (2): أن رسول الله (ص) صلى بأصحابه الصبح جماعة حين فاتتهم بالوادي. وأما القضاء خلف الأداء وعكسه، فجائز عندنا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. لكن الأولى الانفراد للخروج من خلاف العلماء. وأما النوافل، فقد سبق في باب صلاة التطوع ما يشرع فيه الجماعة، منها، وما لا يشرع. ومعنى قولهم: لا يشرع، لا تستحب فلو صلى هذا النوع جماعة جاز، ولا يقال مكروه، فقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على ذلك. والله أعلم. فصل: إذا صلى الرجل في بيته برفيقه، أو زوجته، أو ولده، حاز فضيلة الجماعة، لكنها في المسجد أفضل. وحيث كان الجمع من المساجد أكثر، فهو أفضل. ولو كان بقربه مسجد قليل الجمع، وبالبعد مسجد كثير الجمع، فالبعيد أفضل، إلا في حالتين. إحداهما: أن تتعطل جماعة القريب بعدوله عنه، لكونه إماما، أو يحضر الناس بحضوره، فالقريب أفضل. والثاني: أن يكون إمام البعيد مبتدعا، كالمعتزلي (3) وغيره، قال المحاملي وغيره: وكذا لو كان الامام حنفيا (4)،
445 لأنه لا يعتقد وجوب بعض الأركان، بل قال أبو إسحاق: الصلاة منفردا أفضل من الصلاة خلف الحنفي وهذا تفريع على صحة الصلاة خلف الحنفي (1). ولنا وجه: أن رعاية مسجد الجوار، أفضل بكل حال. فرع: إذا أدرك المسبوق الامام قبل السلام، أدرك فضيلة الجماعة على الصحيح الذي قطع به الجمهور (2). وقال الغزالي: لا يدرك إلا بإدراك ركعة. وهو شاذ ضعيف. فرع: يستحب المحافظة على إدراك التكبيرة الأولى مع الامام. وفيما يدركها به، أوجه. أصحها: بأن يشهد تكبيرة الامام، ويشتغل عقبها بعقد صلاته. فإن أخر لم يدركها. والثاني: بأن يدرك الركوع الأول. والثالث: أن يدرك شيئا من القيام. والرابع: أن يشغله أمر دنيوي لم يدرك بالركوع. وإن منعه عذر، أو سبب
446 للصلاة، كالطهارة أدرك به. قلت: وذكر القاضي حسين وجها خامسا: أنه يدركها ما لم يشرع الامام في الفاتحة. قال الغزالي في (البسيط) في الوجه الثاني: والثالث، هما فيمن لم يحضر إحرام الامام، فأما من حضر وأخر، فقد فاتته فضيلة التكبيرة، وإن أدرك الركعة. والله أعلم. ولو خاف فوت هذه التكبيرة (1)، فقد قال أبو إسحاق: يستحب أن يسرع، ليدركها، والصحيح الذي قطع به الجماهير: أنه لا يسرع، بل يمشي بسكينة، كما لو لم يخف فوتها. فصل: يستحب للامام أن يخفف الصلاة من غير ترك الابعاض، والهيئات. فإن رضي القوم بالتطويل (2)، وكانوا منحصرين، لا يدخل فيهم غيرهم، فلا بأس بالتطويل. ولو طول الامام، فله أحوال. منها: أن يصلي في مسجد سوق، أو محلة، فيطول، ليلحق آخرون تكثر بهم الجماعة، فهذا مكروه. ومنها: أن يؤم في مسجد يحضره رجل شريف، فيطول ليلحق الشريف، فيكره أيضا. ومنها: أن يحس في صلاته بمجئ رجل يريد الاقتداء به. فإن كان الامام
447 راكعا، فهل ينتظره ليدرك الركوع؟ فيه قولان: أظهرهما عند إمام الحرمين، وآخرين: لا ينتظره، والثاني: ينتظره بشرط أن لا يفحش التطويل، وأن يكون المسبوق داخل المسجد حين الانتظار. فإن كان خارجه لم ينتظره قطعا وبشرط أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، فإن قصد التودد واستمالته، فلا ينتظره قطعا. وهذا معنى قولهم: لا يميز بين داخل وداخل. وقيل: إن عرف الداخل بعينه، لم ينتظره، وإلا انتظره. وقيل: إن كان ملازما للجماعة، انتظره، وإلا فلا. واختلفوا في كيفية القولين. فقال معظم الأصحاب: ليس القولان في استحباب الانتظار، بل أحدهما: يكره، وأظهرهما: لا يكره. وقيل: أحدهما، يستحب. والثاني: لا يستحب. وقيل: أحدهما يستحب. والثاني: يكره. وقيل: لا ينتظره قولا واحدا. وإنما القولان في الانتظار في القيام. وقيل: إن لم يضر الانتظار بالمأمومين، ولم يشق عليهم، انتظر قطعا، وإلا ففيه القولان. وحيث قلنا: لا ينتظر، فانتظر، لم تبطل صلاته على المذهب. وقيل: في بطلانها قولان. ولو أحس بالداخل في التشهد الأخير، فهو كالركوع. وإن أحس به في سائر الأركان كالقيام والسجود، وغيرهما، لم ينتظره على المذهب الذي قطع به الجمهور. وقيل: هو كالركوع. وقيل: القيام، كالركوع، دون غيره. وحيث قلنا: لا ينتظر، ففي البطلان ما سبق (1). قلت: المذهب أنه يستحب انتظاره في الركوع والتشهد الأخير بالشروط المذكورة، ويكره في غيرهما. والله أعلم. فصل: من صلى صلاة من الخمس منفردا ثم أدرك جماعة يصلونها، استحب أن يعيدها معهم. ولنا وجه شاذ منكر: أنه يعيد الظهر والعشاء فقط. ووجه: يعيدهما مع المغرب. ولو صلى جماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فالأصح
448 عند جماهير الأصحاب: يستحب الإعادة كالمنفرد. والثاني: لا. فعلى هذا تكره إعادة الصبح والعصر دون غيرهما. والثالث: إن كان في الجماعة الثانية زيادة فضيلة لكون الامام أعلم أو أورع، أو الجمع أكثر، أو المكان أشرف، استحب الإعادة وإلا فلا. والرابع: يستحب إعادة ما عدا الصبح والعصر. وإذا استحببنا الإعادة لمن صلى منفردا، أو جماعة، ففي فرضه قولان، ووجهان (1). أظهر القولين وهو الجديد: فرضه الأولى. والقديم: فرضه إحداهما لا بعينها. والله تعالى يحتسب بما شاء منهما، وربما قيل: يحتسب بأكملهما. وأحد الوجهين كلاهما فرض. والثاني: إن صلى منفردا، فالفرض الثانية لكمالها. ثم إن فرعنا على غير الجديد، نوى الفرض في المرة الثانية. وإن كانت الصلاة مغربا أعادها كالمرة الأولى. وإن فرعنا على الجديد، فوجهان. الأصح الذي قاله الأكثرون: ينوي بها الفرض أيضا. والثاني: اختاره إمام الحرمين: ينوي الظهر والعصر. ولا يتعرض للفرض فإن كانت الصلاة مغربا. فالصحيح: أنه يعيدها كالمرة الأولى (2). والثاني: يستحب أن يقوم إلى ركعة أخرى إذا سلم الامام. قلت: الراجح: اختيار إمام الحرمين. ويستحب لمن صلى إذا رأى من يصلي تلك الفريضة وحده، أن يصليها معه ليحصل له فضيلة الجماعة. والله أعلم. فصل: لا رخصة في ترك الجماعة، سواء قلنا سنة، أو فرض كفاية إلا من عذر عام، أو خاص، فمن العام: المطر ليلا كان أو نهارا (3). ومنه الريح العاصفة
449 في الليل دون النهار. وبعض الأصحاب يقول: الريح العاصفة في الليلة المظلمة، وليس ذلك على سبيل اشتراط الظلمة. ومنه الوحل الشديد وسيأتي في الجمعة إن شاء الله تعالى. ومنه، السموم، وشدة الحر في الظهر. فإن أقاموا الجماعة ولم يبردوا، أو أبردوا، أو بقي الحر الشديد، فله التخلف عن الجماعة. ومنه شدة البرد سواء في الليل والنهار. ومن الاعذار الخاصة: المرض، ولا يشترط بلوغه حدا يسقط القيام في الفريضة، بل يعتبر أن يلحقه مشقة كمشقة الماشي في المطر. ومنها: أن يكون ممرضا، ويأتي تفصيله في (الجمعة) إن شاء الله تعالى. ومنها: أن يخاف على نفسه، أو ماله، أو على من يلزمه الذب عنه من سلطان، أو غيره، ممن يظلمه، أو يخاف من غريم يحبسه، أو يلازمه وهو معسر، فله التخلف. ولا عبرة بالخوف ممن يطالبه بحق هو ظالم في منعه، بل عليه الحضور ويوفيه ذلك الحق. ويدخل في الخوف على المال، ما إذا كان خبزه في التنور، أو قدره على النار، وليس هناك من يتعهدهما. ومنها: أن يكون عليه قصاص لو ظفر به المستحق لقتله، وكان يرجو العفو مجانا، أو على مال لو غيب وجهه أياما، فله التخلف بذلك. وفي معناه حد القذف دون حد الزنا، وما لا يقبل العفو. واستشكل إمام الحرمين جواز التغيب لمن عليه قصاص. ومنها: أن يدافع أحد الأخبثين، أو الريح (1). وتكره الصلاة في هذه الحال، بل يستحب أن يفرغ نفسه، ثم يصلي وإن فاتت الجماعة. فلو خاف فوت الوقت، فوجهان. أصحهما: يقدم الصلاة. والثاني: الأولى أن يقضي حاجته، وإن فات الوقت، ثم يقضي. ولنا وجه شاذ: أنه إذا ضاق عليه الامر بالمدافعة، وسلبت خشوعه، بطلت صلاته. قاله الشيخ أبو زيد، والقاضي حسين.
450 ومنها: أن يكون به جوع، أو عطش شديد، وحضر الطعام والشراب، وتاقت نفسه إليه، فيبدأ بالاكل والشرب. قال الأصحاب: وليس المراد أن يستوفي الشبع، بل يأكل لقما يكسر حدة جوعه. إلا أن يكون الطعام مما يؤتى عليه مرة واحدة، كالسويق، واللبن. فإن خاف فوت الوقت لو اشتغل، فوجهان، كمدافعة الأخبثين. ومنها: أن يكون عاريا لا لباس (1) له، فيعذر في التخلف، سواء وجد ما يستر العورة، أم لا. ومنها: أن يريد السفر وترتحل الرفقة. ومنها: أن يكون ناشد ضالة يرجو الظفر، إن ترك الجماعة، أو وجد من غصب ماله، وأراد استرداده منه. ومنها: أن يكون أكل بصلا، أو كراثا (2)، أو نحوهما، ولم يمكنه إزالة الرائحة بغسل ومعالجة، فإن كان مطبوخا فلا. ومنها: غلبة النوم (3). قلت: أما الثلج، فإن بل الثوب فعذر، وإلا، فلا. قال في (الحاوي): والزلزلة عذر. والله أعلم.
451 باب صفة الأئمة صفة الأئمة ضربان، مشروطة، ومستحبة. فأما المشروطة، فصلاة الامام تارة تكون باطلة في اعتقاد الإمام والمأموم، وتارة تكون صحيحة. فالأول كصلاة المحدث، والجنب، ومن على ثوبه نجاسة، ونحو ذلك، فلا يجوز لمن علم حاله الاقتداء به، وكذلك الكافر لا يجوز الاقتداء به. ولو صلى، لم يصر بالصلاة مسلما على المشهور. والثاني: إذا صلى في دار الحرب، صار مسلما. هذا إذا لم يسمع منه كلمتا الشهادتين، فإن سمعتا، حكم بإسلامه على الصحيح (1). فأما إذا كانت صلاة الامام صحيحة في اعتقاده دون اعتقاد المأموم، أو بالعكس، فله صورتان. إحداهما: أن يكون ذلك لاختلافهما في الفروع الاجتهادية. بأن مس الحنفي فرجه، وصلى، ولم يتوضأ، أو ترك الاعتدال، أو الطمأنينة، أو قرأ غير الفاتحة، ففي صحة صلاة الشافعي خلفه، وجهان. قال القفال: يصح. وقال الشيخ أبو حامد: لا يصح. وهذا هو الأصح عند الأكثرين. وبه قطع الروياني في (الحلية) والغزالي في (الفتاوى). ولو صلى على وجه لا يصححه، والشافعي يصححه، بأن احتجم، وصلى، فعند القفال: لا يصح اقتداء الشافعي به. وعند أبي حامد: يصح، اعتبارا باعتقاد المأموم. وقال الأودني (2)، والحليمي من أصحابنا: إذا أم ولي الأمر، أو نائبه فترك البسملة. والمأموم يرى وجوبها، صحت صلاته خلفه عالما كان، أو عاميا، وليس له المفارقة لما فيه من الفتنة، وهذا حسن. أما إذا حافظ الحنفي على جميع ما يعتقد الشافعي وجوبه، واشتراطه، فيصح اقتداء الشافعي به على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني: لا يصح. ولو شك، هل أتى بالواجبات، أم لا؟ فالأصح: أنه كما
452 إذا علم إتيانه بها. والثاني: أنه كما إذا علم تركها، فالحاصل في اقتداء الشافعي بالحنفي، أربعة أوجه. أحدها: الصحة. والثاني: البطلان. والأصح: إن حافظ على الواجبات، أو شككنا، صح. وإلا، فلا. والرابع: إن حافظ، صح. وإلا، فلا. ولو اقتدى الحنفي بالشافعي، فصلى الشافعي على وجه يصح عنده، ولا يصح عند الحنفي، بأن احتجم، ففي صحة اقتدائه الخلاف. وإذا صححنا اقتداء أحدهما بالآخر، فصلى الشافعي الصبح خلف حنفي، ومكث الحنفي بعد الركوع قليلا، وأمكنه أن يقنت فيه، فعل، وإلا تابعه. ويسجد للسهو، إن اعتبرنا اعتقاد المأموم، وإن اعتبرنا اعتقاد الامام، فلا. ولو صلى الحنفي خلف الشافعي الصبح، فترك الامام القنوت ساهيا، وسجد للسهو، تابعه المأموم، وإن ترك الامام سجود السهو، سجد المأموم إن اعتبرنا اعتقاد الامام، وإلا، فلا. الصورة الثانية: أن لا يكون لاختلافهما في الفروع، فلا يجوز لمن يعتقد بطلان صلاة غيره أن يقتدي به، كرجلين اختلف اجتهادهما في القبلة، أو في إناءين: طاهر، ونجس، فلو كثرت الآنية والمجتهدون، واختلفوا بأن كانت ثلاثة: طاهران، ونجس، فظن كل رجل طهارة واحد فحسب، وأم كل واحد في صلاة فثلاثة أوجه، الصحيح: قول ابن الحداد والأكثرين: تصح لكل واحد ما أم فيه، والاقتداء الأول يبطل الثاني. والثاني: قول صاحب (التلخيص): لا يصح الاقتداء أصلا. والثالث: قول أبي إسحاق المروزي: يصح الاقتداء الأول إن اقتصر عليه. فإن اقتدى ثانيا، لزمه إعادتهما. أما إذا ظن طهارة اثنين، فيصح اقتداؤه مستعمل المظنون طهارته بلا خلاف. ولا يصح بالثالث بلا خلاف. ولو كانت الآنية خمسة، والنجس منها واحد، فظن كل واحد طهارة واحد، ولم يظن شيئا من الأربعة، وأم كل واحد في صلاة، فعند صاحب (التلخيص) والمروزي: يجب عليهم إعادة ما اقتدوا به. وعند ابن الحداد: يجب إعادة الاقتداء الأخير فقط. وقال بعض الأصحاب: هذه الأوجه إنما هي فيما إذا سمع صوت من خمسة أنفس وتناكروه. فأما الآنية: فلا تبطل إلا الاقتداء الأخير بلا خلاف. ولو كان النجس من الآنية الخمسة اثنين، صحت صلاة كل واحد منهم خلف اثنين، وبطلت خلف اثنين. ولو كان النجس ثلاثة، صحت خلف واحد فحسب. هذا قول ابن الحداد، ولا يخفى قول الآخرين.
453 الحال الثاني: أن تكون صلاة الامام صحيحة في اعتقاد الإمام والمأموم، فتارة يغني عن القضاء، وتارة لا يغني. فإن لم تغن كمن لم يجد ماء ولا ترابا، لم يجز الاقتداء به للمتوضئ ولا للمتيمم الذي لا يقضي. وهل يجوز لمن هو في مثل حاله؟ وجهان. الصحيح: لا. ومثله: المقيم المتيمم لعدم الماء، ومن أمكنه أن يتعلم الفاتحة فلم يتعلم ثم صلى لحرمة الوقت، والعاري، والمربوط على خشبة إذا أوجبنا عليهم الإعادة. وإن أغنت عن القضاء. فإن كان مأموما، لم يصح الاقتداء به. ولو رأى رجلين يصليان جماعة، وشك أيهما الامام، لم يجز الاقتداء بواحد منهما حتى يتبين الامام. ولو اعتقد كل واحد من المصلين أنه مأموم، لم تصح صلاتهما. وإن اعتقد أنه إمام، صحت. ولو شك كل واحد أنه إمام، أم مأموم، بطلت صلاتهما. وإن شك أحدهما، بطلت صلاته. وأما الآخر، فإن ظن أنه إمام صحت، وإلا، فلا. وإن كان غير مأموم، فتارة يخل بالقراءة، وتارة لا يخل، فإن أخل بأن كان أميا، ففي صحة اقتداء القارئ به، ثلاثة أقوال. الجديد الأظهر: لا تصح. والقديم: إن كانت سرية، صح، وإلا فلا. والثالث: مخرج أنه يصح مطلقا. هكذا نقل الجمهور. وأنكر بعضهم الثالث، وعكس الغزالي، فجعل الثاني ثالثا، والثالث ثانيا، والصواب: الأول. قلت: هذه الأقوال جارية سواء علم المأموم كون الامام أميا، أم لا هكذا قاله الشيخ أبو حامد، وغيره. وهو مقتضى اطلاق الجمهور. وقال صاحب (الحاوي): الأقوال إذا لم يعلم كونه أميا، فإن علم لم يصح قطعا، والصحيح أنه لا فرق. والله أعلم. والمراد بالأمي: من لا يحسن الفاتحة أو بعضها، لخرس أو غيره، فيدخل فيه الأرت (1). وهو الذي يدغم (2) حرفا بحرف في غير موضع الادغام (3). وقال في (التهذيب): هو الذي يبدل الراء بالتاء. والألثغ: وهو الذي يبدل حرفا بحرف،
454 كالسين بالثاء، والراء بالغين، ومن في لسانه رخاوة تمنعه التشديد. واعلم أن الخلاف المذكور في اقتداء القارئ بالأمي هو فيمن لم يطاوعه لسانه، أو طاوعه ولم يمض زمن يمكن التعلم فيه. فأما إذا مضى زمن وقصر بترك التعلم، فلا يصح الاقتداء به بلا خلاف، لان صلاته حينئذ مقضية، كصلاة من لم يجد ماء ولا ترابا. ويصح اقتداء أمي بأمي مثله. ولو حضر رجلان، كل واحد منهما يحسن بعض الفاتحة إن كان ما يحسنه ذا، يحسنه ذاك، جاز اقتداء كل واحد بصاحبه، وإن أحسن كل واحد غير ما يحسنه الآخر، فاقتداء أحدهما بالآخر، كاقتداء القارئ بالأمي. وعليه يخرج الأرت بالألثغ، وعكسه لان كل واحد قارئ ما لا يحسنه صاحبه. وتكره إمام التمتام، والفأفاء، والاقتداء يصح بهما. قلت: التمتام، من يكرر التاء (1)، والفأفاء (2)، من يكرر الفاء، ويتردد فيها، وهو بهمزتين بعد الفائين، بالمد في آخره. والله أعلم. وتكره إمامة من يلحن في القراءة ثم ينظر: إن كان لحنا لا يغير المعنى كرفع الهاء من الحمد لله، صحت صلاته، وصلاة من اقتدى به. وإن كان يغير، كضم تاء أنعمت عليهم، أو كسرها، تبطله. كقوله: الصراط المستقين. فإن كان يطاوعه لسانه، ويمكنه التعلم، لزمه ذلك. فإن قصر، وضاق الوقت، صلى وقضى، ولا يجوز الاقتداء به. وإن لم يطاوعه لسانه، أو لم يمض ما يمكن التعلم فيه، فإن كان في الفاتحة، فصلاة مثله خلفه صحيحة، وصلاة صحيح اللسان خلفه، صلاة قارئ خلف أمي. وإن كان في غير الفاتحة، صحت صلاته، وصلاة من خلفه قال إمام الحرمين: ولو قيل: ليس لهذا اللاحن قراءة غير الفاتحة مما يلحن فيه، لم يكن بعيدا، لأنه يتكلم بما ليس بقرآن بلا ضرورة، أما إذا لم يخل الامام بالقراءة فإن كان رجلا، صح اقتداء الرجال والنساء به، وإن كانت امرأة، صح اقتداء النساء بها، ولم يصح اقتداء الرجال، ولا الخنثى. وإن كان خنثى، جاز اقتداء المرأة به. ولا يجوز اقتداء الرجل ولا خنثى آخر به.
455 فرع: حيث حكمنا بصحة الاقتداء فلا بأس أن يكون الامام متيمما، أو ماسح خف، والمأموم متوضئا غاسلا رجله. ويجوز اقتداء السليم بسلس البول، والطاهرة بالمستحاضة غير المتحيرة على الأصح. كما يجوز قطعا بمن استنجى بالأحجار، ومن على ثوبه، أو بدنه نجاسة معفو عنها. ويصح صلاة القائم خلف القاعد، أو القائم والقاعد خلف المضطجع. فرع: جميع ما تقدم فيما إذا عرف المأموم حال الامام في الصفات المشروطة وجودا وعدما. فأما إذا ظن شيئا، فبان خلافه، فله صور. منها: إذا اقتدى رجل بخنثى مشكل، وجب القضاء، فلو لم يقض حتى بان الخنثى رجلا، لم يسقط القضاء على الأظهر. ويجري القولان فيما إذا اقتدى خنثى بامرأة، ولم يقض حتى بان امرأة، وفيما إذا اقتدى خنثى بخنثى، ولم يقض المأموم حتى بان امرأة والامام رجلا (1). ومنها: لو اقتدى بمن ظنه متطهرا، فبان بعد الصلاة محدثا أو جنبا، فلا قضاء على المأموم. ولنا قول: إن كان الامام عالما بحدثه، لزم المأموم القضاء وإلا، فلا. والمشهور المعروف الذي قطع به الأصحاب: أن لا قضاء مطلقا. قلت: هذا القول الشاذ نقله صاحب (التلخيص) قال القفال في شرح (التلخيص) قال أصحابنا: هذا النقل غلط. ولا يختلف مذهب الشافعي، أنه لا إعادة على المأموم مطلقا، وإنما حكى الشافعي مذهب مالك: أنه تجب الإعادة إن
456 تعمد الامام، وليس مذهبا له. والصواب: إثبات القول كما نقله صاحب (التلخيص) وقد نص عليه الشافعي في (البويطي). والله أعلم. هذا إذا لم يعرف المأموم حدث الامام أصلا. فإن علم ولم يتفرقا، ولم يتوضأ ثم اقتدى به ناسيا، وجبت الإعادة قطعا. وهذا كله في غير صلاة الجمعة. فإن كان فيها، ففيه كلام يأتي في بابها إن شاء الله تعالى. ومنها: لو اقتدى بمن ظنه قارئا فبان أميا، وقلنا: لا تصح صلاة القارئ خلف الأمي، ففي الإعادة وجهان. أصحهما: تجب. قطع به في (التهذيب)، وهو مقتضى كلام الأكثرين، سواء كانت الصلاة سرية، أو جهرية. ولو اقتدى بمن لا يعرف حاله في جهرية، فلم يجهر، وجبت الإعادة. نص عليه في (الام) وقاله العراقيون، لأن الظاهر أنه لو كان قارئا لجهر. فلو سلم وقال: أسررت ونسيت الجهر، لم تجب الإعادة، لكن تستحب (1). ولو بان في أثناء الصلاة ذكورة الخنثى، ففي بطلان صلاة المأموم الرجل، القولان، كما بعد الفراغ. ولو بان في أثنائها كونه جنبا، أو محدثا، فلا قضاء ويجب أن ينوي المفارقة في الحال، ويبني. ولو بان أميا، وقلنا: لا تجب الإعادة، فكالمحدث وإلا، فكالخنثى. ومنها لو اقتدى بمن ظنه رجلا، فبان امرأة، أو خنثى، وجبت الإعادة. وقيل: لا تجب إذا بان خنثى وهو شاذ. ولو ظنه مسلما، فبان كافرا يتظاهر بكفره كاليهودي، وجب القضاء. وإن كان يخفيه ويظهر الاسلام، كالزنديق، والمرتد، لم يجب القضاء على الأصح. قلت: هذا الذي صححه هو الأقوى دليلا. لكن الذي صححه الجمهور، وجوب القضاء. وممن صححه الشيخ أبو حامد، والمحاملي، والقاضي أبو الطيب، والشيخ نصر المقدسي، وصاحبا (الحاوي) و (العدة) وغيرهم ونقله الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي رضي الله عنه. قال صاحب (الحاوي): وهو مذهب الشافعي وعامة أصحابه. والله أعلم.
457 ولو بان على بدن الامام أو ثوبه نجاسة (1)، فإن كانت خفية، فهو كمن بان محدثا، وإن كانت ظاهرة، فقال إمام الحرمين: عندي فيه احتمال، لأنه من جنس ما يخفى. قلت: وقطع صاحب (التتمة) و (التهذيب) وغيرهما، بأن النجاسة كالحدث. ولم يفرقوا بين الخفية وغيرها، وأشار إمام الحرمين، إلى أنها إذا كانت ظاهرة، فهي كمسألة الزنديق (2). والله أعلم. وقال المزني: لا يجب القضاء إذا بان كافرا، أو امرأة. قلت: ولو بان مجنونا، وجبت الإعادة على المأموم. فلو كان له حالة جنون، وحالة إفاقة، أو حال إسلام، وحال ردة، واقتدى به ولم يدر في أي حاليه كان، فلا إعادة، لكن يستحب. ولو صلى خلف من يجهل إسلامه، فلا إعادة، لكن يستحب. ولو صلى خلف من أسلم، فقال بعد الفراغ: لم أكن أسلمت حقيقة، أو أسلمت ثم ارتددت، فلا إعادة. والله أعلم. فرع: يصح الاقتداء بالصبي المميز في الفرض والنفل، ولكن البالغ أولى منه. ويصح بالعبد بلا كراهة، لكن الحر أولى، هذا إذا أما في غير الجمعة. وإمامة الأعمى صحيحة، وهو والبصير سواء على الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور. والثاني: البصير أولى، واختاره أبو إسحاق الشيرازي. والثالث: الأعمى أولى، قاله أبو إسحاق المروزي، واختاره الغزالي (3).
458 فصل في الصفات المستحبة في الامام: الأسباب التي يترجح (1) بها الامام ستة: الفقه، والقراءة، والورع، والسن، والنسب، والهجرة. فأما الفقه والقراءة، فظاهران. وأما الورع، فليس المراد منه مجرد العدالة (2)، بل ما يزيد عليه من حسن السيرة والعفة. وأما السن، فالمعتبر سن مضى في الاسلام (3)، فلا يقدم شيخ أسلم اليوم، على شاب نشأ في الاسلام، ولا على شاب أسلم أمس. والصحيح: أنه لا تعتبر الشيخوخة، بل النظر إلى تفاوت السن، وأشار بعضهم إلى اعتبارها. وأما النسب، فنسب قريش معتبر بلا خلاف. وفي غيرهم وجهان. أصحهما: يعتبر كل نسب يعتبر في الكفاءة، كالعلماء، والصلحاء. فعلى هذا الهاشمي والمطلبي، يقدمان على سائر قريش، وسائر قريش يقدمون على سائر العرب، وسائر العرب يقدمون على العجم. والثاني: لا يعتبر ما عدا قريشا. وأما الهجرة، فيقدم من هاجر إلى رسول الله (ص) على من لم يهاجر. ومن تقدمت هجرته على من تأخرت. وكذلك الهجرة بعد رسول الله (ص) من دار الحرب إلى دار الاسلام، معتبرة وأولاد من هاجر، أو تقدمت هجرته، مقدمون على أولاد غيرهم. ويتفرع على هذه المقدمة مسائل. فإذا اجتمع عدل وفاسق، فالعدل أولى بالإمامة، وإن اختص الفاسق بزيادة الفقه والقراءة وسائر الخصال، بل تكره الصلاة خلف الفاسق وتكره أيضا خلف المبتدع الذي لا يكفر ببدعته. وأما الذي يكفر ببدعته، فلا يجوز الاقتداء به. وحكمه ما تقدم في غيره من الكفار. وعد صاحب
459 (الافصاح) من يقول بخلق القرآن، أو ينفي شيئا من صفات الله تعالى، كافرا. وكذا جعل الشيخ أبو حامد، ومتابعوه، والمعتزلة ممن يكفر. والخوارج، لا يكفرون. ويحكى القول بتكفير من يقول بخلق القرآن، عن الشافعي. وأطلق القفال، وكثيرون من الأصحاب، القول بجواز الاقتداء بأهل البدع، وأنهم لا يكفرون. قال صاحب (العدة): وهو ظاهر مذهب الشافعي. قلت: هذا الذي قاله القفال، وصاحب (العدة) هو الصحيح، أو الصواب. فقد قال الشافعي رحمه الله: أقبل شهادة أهل الأهواء، إلا الخطابية، لأنهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم. ولم يزل السلف والخلف على الصلاة خلف المعتزلة، وغيرهم، ومناكحتهم، وموارثتهم، وإجراء أحكام المسلمين عليهم. وقد تأول الامام الحافظ الفقيه، أبو بكر البيهقي، وغيره من أصحابنا المحققين، ما جاء عن الشافعي وغيره من العلماء، من تكفير القائل بخلق القرآن على كفران النعم، لا كفر الخروج من الملة، وحملهم على هذا التأويل، ما ذكرته من إجراء أحكام المسلمين عليهم. والله أعلم. وفي الأورع، مع الأفقه والأقرأ وجهان. قال الجمهور: هما مقدمان عليه. وقال الشيخ أبو محمد، وصاحب (التتمة) و (التهذيب): يقدم عليهما، والأول أصح. ولو اجتمع من لا يقرأ إلا ما يكفي الصلاة ولكنه صاحب فقه كثير، وآخر يحسن القرآن كله وهو قليل الفقه، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجماهير: أن الأفقه أولى، والثاني: هما سواء. فأما من جمع الفقه والقراءة، فهو مقدم على المنفرد بأحدهما قطعا. والفقه، والقراءة، يقدم كل واحد منهما على النسب، والسن، والهجرة. وعن بعض الأصحاب قول مخرج: أن السن يقدم على الفقه، وهو شاذ. وإذا استويا في الفقه والقراءة، ففيه طرق. قال الشيخ أبو حامد، وجماعة: لا خلاف في تقديم السن والنسب على الهجرة. فلو تعارض سن ونسب، كشاب قرشي، وشيخ غير قرشي، فالجديد: تقديم الشيخ، والقديم: الشاب. ورجح جماعة هذا القديم، وعكس صاحبا (التتمة) و (التهذيب) فقالا: الهجرة مقدمة على النسب والسن. وفيهما القولان. وقال آخرون، منهم صاحب (المهذب): الجديد: يقدم السن، ثم النسب، ثم الهجرة، والقديم: يقدم النسب، ثم الهجرة، ثم السن. أما إذا تساويا في جميع الصفات المذكورات، فيقدم بنظافة
460 الثوب والبدن عن الأوساخ، وبطيب الصنعة، وحسن الصوت، وما أشبهها من الفضائل. وحكى الأصحاب عن بعض متقدمي العلماء، أنهم قالوا: يقدم أحسنهم. واختلفوا في معناه. فقيل: أحسنهم وجها، وقيل: أحسنهم ذكرا بين الناس. قال في (التتمة): تقدم نظافة الثوب، ثم حسن الصوت، ثم حسن الصورة (1). فرع: الوالي في محل ولايته، أولى من غيره، وإن اختص ذلك الغير بالخصال الذي سبقت. ويقدم الوالي على إمام المسجد، ومالك الدار، ونحوهما، إذا أذن المالك في إقامة الجماعة في ملكه. فلو أذن الوالي في تقدم غيره، فلا بأس. ثم يراعى في الولاة تفاوت الدرجة، فالامام الأعظم، أولى من غيره، ثم الاعلى فالأعلى من الولاة والحكام. ولنا قول شاذ: أن المالك أولى من الوالي. والمشهور، تقديم الوالي. ولو اجتمع قوم في موضع مملوك ليس فيهم وال، فساكن الموضع بحق أولى بالتقديم، والتقدم من الأجانب، فإن لم يكن أهلا للتقدم، فهو أولى بالتقديم، سواء كان الساكن عبدا أسكنه سيده، أو حرا مالكا، أو مستعيرا، أو مستأجرا. ولو كانت الدار مشتركة بين شخصين وهما حاضران، أو أحدهما، والمستعير من الآخر، فلا يتقدم غيرهما إلا بإذنهما، ولا أحدهما إلا بإذن الآخر. فإن لم يحضر إلا أحدهما، فهو الأحق. ولو اجتمع مالك الدار والمستأجر، فالأصح: أن المستأجر أولى، والثاني: المالك. ولو اجتمع المعير والمستعير، فالأصح: أن المعير أولى، والثاني: المستعير. ولو حضر السيد وعبده الساكن، فالسيد أولى قطعا، سواء المأذون له في التجارة وغيره. ولو حضر السيد والمكاتب في دار المكاتب، فالمكاتب أولى. ولو حضر قوم في مسجد له إمام راتب، فهو أولى من غيره. فإن لم يحضر إمامه، استحب أن يبعث إليه ليحضر. فإن خيف فوات أول الوقت، استحب أن يتقدم غيره.
461 قلت: تقدم غيره مستحب إن لم يخف فتنة، فإن خيفت، صلوا فرادى. ويستحب لهم أن يعيدوا معه إن حضر بعد ذلك. والله أعلم. فصل في شروط الاقتداء وآدابه: فأما الشروط، فسبعة: أحدها: أن لا يتقدم المأموم على الامام في جهة القبلة (1). فإن تقدم، لم تنعقد صلاته على الجديد الأظهر. ولو تقدم في خلالها، بطلت. والقديم: أنها تنعقد. والمستحب للمأموم أن يتأخر عن موقف الامام قليلا (2) إن كان وحده. فإن ائتم اثنان فصاعدا، اصطفوا خلفه. ولو تساوى الإمام والمأموم، صحت صلاته. والاعتبار في التقدم، والمساواة بالعقب (3)، فلو استويا في العقب، وتقدمت أصابع المأموم، لم يضر. وإن تأخرت أصابع المأموم عن أصابع الامام، وتقدم عقبه، فعلى القولين. وقيل: تصح قطعا. وفي الوسيط: أن الاعتبار بالكعب. والصحيح: الأول. هذا فيمن بعد عن الكعبة. فإن صلوا في المسجد الحرام، فالمستحب أن يقف الامام خلف المقام، ويقف الناس مستديرين بالكعبة، فإن كان بعضهم أقرب إليها، نظر: إن كان متوجها إلى الجهة التي توجه إليها الامام، ففيه القولان القديم، والجديد، وإن كان متوجها إلى غيرها، فالمذهب صحة صلاة المأموم قطعا. وقيل: على القولين. ولو وقف الإمام والمأموم داخل الكعبة، فإن كان وجه المأموم إلى ظهر الامام، أو وجهه إلى وجهه، أو ظهره إلى ظهره، وليس المأموم أقرب إلى الجدار، صح اقتداؤه، وكذا إن كان أقرب إلى الجدار على المذهب. وقيل: على القولين. وإن كان ظهره إلى وجه الامام فعلى القولين. ولو وقف الامام في الكعبة، والمأموم خارجها، جاز وله التوجه إلى أي جهة شاء ولو وقفا
462 بالعكس، جاز أيضا، لكن إن توجه إلى الجهة التي توجه إليها الامام، عاد القولان. فرع: إذا لم يحضر مع الامام إلا ذكر، فليقف عن يمينه بالغا كان أو صبيا، ولو وقف عن يساره، أو خلفه، لم تبطل صلاته. فإن جاء مأموم آخر، وقف عن يساره وأحرم. ثم إن أمكن تقدم الامام، وتأخر المأمومين لسعة المكان من الجانبين، تقدم، أو تأخر، أو أيهما أولى؟ وجهان. الصحيح الذي قطع به الأكثرون: تأخرهما. والثاني: تقدمه. قاله القفال، لأنه يبصر ما بين يديه. فإن لم يمكن إلا التقدم، أو التأخر لضيق المكان من أحد الجانبين، فعل الممكن، وهذا في القيام. أما إذا لحق الثاني في التشهد، أو السجود، فلا تقدم ولا تأخر حتى يقوموا. ولو حضر معه في الابتداء رجلان، أو رجل وصبي، اصطفا خلفه (1). ولو لم يحضر معه إلا إناث، صفهن خلفه، سواء الواحدة، وجماعتهن. وإن حضر معه رجل وامرأة، قام الرجل عن يمينه، والمرأة خلف الرجل. وإن حضر معه امرأة ورجلان، أو رجل وصبي، قام الرجلان، أو الرجل والصبي خلف الامام صفا، وقامت هي خلفهما. وإن كان معه رجل، وامرأة، وخنثى، وقف الرجل عن يمينه، والخنثى خلفهما، والمرأة خلف الخنثى. وإن حضر رجال وصبيان، وقف الرجال خلف الامام في صف، أو صفوف. والصبيان خلفهم، وفي وجه: يقف بين كل رجلين صبي ليتعلموا أفعال الصلاة. ولو حضر معهم نساء، أخر صف النساء عن الصبيان. هذا كله إذا لم يكن الرجال عراة، فإن كانوا، وقف إمامهم وسطهم وصاروا صفا. وأما النساء الخلص، إذا أقمن جماعة، فقد قدمنا في باب ستر العورة كيف يقفن. وأن إمامتهن تقف وسطهن. قلت: ولو صلى خنثى بنساء، تقدم عليهن. والله أعلم. وكل هذا استحباب، ومخالفته لا تبطل الصلاة. فرع: إذا دخل رجل، والجماعة في الصلاة، كره أن يقف منفردا (2)، بل
463 إن وجد فرجة (1)، أو سعة (2) في الصف، دخلها. وله أن يخرق الصف إذا لم يكن فيه فرجة وكانت في صف قدامه، لتقصيرهم بتركها. فلو (3) لم يجد في الصف سعة، فوجهان. أحدهما: يقف منفردا، ولا يجذب إلى نفسه أحدا، نص عليه في (البويطي) والثاني - وهو قول أكثر الأصحاب -: يجر إلى نفسه واحدا. ويستحب للمجرور، أن يساعده. وإنما يجره بعد إحرامه. ولو وقف منفردا، صحت صلاته. الشرط الثاني: العلم بالأفعال الظاهرة من صلاة الامام. وهذا لا بد منه نص عليه الشافعي، واتفق عليه الأصحاب. ثم العلم قد يكون بمشاهدة الامام، أو مشاهدة بعض الصفوف، وقد يكون بسماع صوت الامام، أو صوت المترجم في حق الأعمى، والبصير: الذي لا يشاهد لظلمة أو غيرها، وقد يكون بهداية غيره إذا كان أعمى، أو أصم في ظلمة. الشرط الثالث: اجتماع الإمام والمأموم في الموقف. ولهما ثلاثة أحوال. الأول: إذا كانا في مسجد، صح الاقتداء، قربت المسافة بينهما أم بعدت لكبر المسجد، وسواء اتحد البناء أم اختلف، كصحن المسجد، وصفته، أو منارته وسرداب فيه، أو سطحه وساحته، بشرط أن يكون السطح من المسجد، فلو كان مملوكا، فهو كملك متصل بالمسجد، وقف أحدهما فيه، والآخر في المسجد. وسيأتي في القسم الثالث إن شاء الله تعالى. وشرط البناءين في المسجد، أن يكون باب أحدهما نافذا إلى الآخر. وإلا، فلا يعدان مسجدا واحدا. وإذا حصل هذا الشرط، فلا فرق بين أن يكون الباب بينهما مفتوحا، أو مردودا مغلقا، أو غير مغلق. وفي وجه ضعيف: إن كان مغلقا، لم يجز الاقتداء. ووجه مثله فيما إذا كان أحدهما على السطح، وباب المرقى مغلقا. ولو كانا في مسجدين، يحول بينهما
464 نهر، أو طريق، أو حائط المسجد من غير باب نافذ من أحدهما إلى الآخر، فهو كما إذا وقف أحدهما في مسجد، والآخر في ملك. وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن كان في المسجد نهر، فإن حفر النهر بعد المسجد، فهو مسجد فلا يضر، وإن حفر قبل مصيره مسجدا، فهما مسجدان غير متصلين. قال الشيخ أبو محمد: لو كان في جوار المسجد مسجد آخر منفرد بإمام، ومؤذن، وجماعة، فلكل واحد مع الآخر حكم الملك المتصل بالمسجد. وهذا كالضابط الفارق بين المسجد والمسجدين. فظاهره يقتضي تغاير الحكم، إذا انفرد بالأمور المذكورة، وإن كان باب أحدهما نافذا إلى الآخر. قلت: الذي صرح به كثيرون، منهم الشيخ أبو حامد، وصاحب (الشامل) و (التتمة)، وغيرهم: أن المساجد التي يفتح بعضها إلى بعض، لها حكم مسجد واحد وهو الصواب. والله أعلم. وأما رحبة المسجد، فعدها الأكثرون منه، ولم يذكروا فرقا بين أن يكون بينها وبين المسجد طريق أم لا. وقال ابن كج: إن انفصلت، فهي كمسجد آخر. الحال الثاني: أن يكون في غير مسجد، وهو ضربان: أحدهما: أن يكون في فضاء (1) فيجوز الاقتداء، بشرط أن لا يزيد ما بينهما على ثلاث مائة ذراع تقريبا (2) على الأصح. وعلى الثاني: تحديد (3). وهذا التقدير (4) مأخوذ من العرف (5) على الصحيح، وقول الجمهور. وعلى الثاني: مما بين الصفين في صلاة الخوف (6). ولو وقف خلف الامام صفان، أو شخصان، أحدهما وراء الآخر، فالمسافة المذكورة تعتبر بين الصف الأخير، أو الصف الأول،
465 أو الشخص الأخير والأول، ولو كثرت الصفوف، وبلغ ما بين الامام والأخير فرسخا، جاز. وفي وجه: يعتبر بين الامام والصف الأخير إذا لم تكن الصفوف القريبة من الامام متصلة على العادة. وهذا الوجه شاذ. ولو حال بين الإمام والمأموم ، أو الصفين نهر يمكن العبور من أحد طرفيه، إلى الآخر بلا سباحة، بالوثوب، أو الخوض، أو العبور على جسر، صح الاقتداء. وإن كان يحتاج إلى سباحة، أو كان بينهما شارع مطروق، لم يضر على الصحيح. وسواء في الحكم المذكور، كان الفضاء مواتا أو وقفا، أو ملكا، أو بعضه مواتا، وبعضه ملكا، أو بعضه (1) وقفا. وفي وجه شاذ: يشترط في الساحة المملوكة، اتصال الصفوف، وفي وجه: يشترط ذلك إن كانت لشخصين، والصحيح أنه لا يشترط مطلقا. وسواء في هذا كله كان الفضاء محوطا عليه أو مسقفا، كالبيوت الواسعة أو غير محوط. الضرب الثاني: أن يكونا في غير فضاء فإذا وقف أحدهما في صحن دار أو صفتها والآخر في بيت، فموقف المأموم، قد يكون عن يمين الامام أو يساره، وقد يكون خلفه. وفيه طريقتان. إحداهما: قالها القفال وأصحابه، وابن كج، وحكاها أبو علي في (الافصاح) عن بعض الأصحاب: أنه يشترط فيما إذا وقف من أحد الجانبين، أن يتصل الصف من البناء الذي فيه الامام، إلى البناء الذي فيه المأموم (2)، بحيث لا تبقى فرجة (3) تسع واقفا، فإن بقيت فرجة لا تسع واقفا (4)، لم يضر على الصحيح (5). ولو كان بينهما عتبة عريضة تسع واقفا، اشترط وقوف مصل فيها وإن لم يمكن الوقوف عليها، فعلى الوجهين في الفرجة اليسيرة. وأما إذا وقف خلف الامام، ففي صحة الاقتداء وجهان. أحدهما: البطلان. وأصحهما: الجواز إذا اتصلت المصفوف وتلاحقت. ومعنى اتصالها، أن يقف رجل، أو صف في آخر البناء الذي فيه الامام، ورجل، أو صف في أول البناء الذي فيه المأموم،
466 بحيث لا يكون بينهما أكثر من ثلاثة أذرع. والثلاث للتقريب. فلو زاد (1) مالا يتبين في الحس بلا ذرع، لم يضر. وهذا القدر، هو المشروع بين الصفين. وإذا وجد هذا الشرط، فلو كان في بناء المأموم بيت عن اليمين، أو الشمال، اعتبر الاتصال بتواصل المناكب. هذه طريقة. الطريقة الثانية: طريقة أصحاب أبي إسحاق المروزي، ومعظم العراقيين، واختارها أبو علي الطبري: أنه لا يشترط اتصال الصف في اليمين واليسار، ولا اتصال الصفوف في المواقف خلفه، بل المعتبر: القرب والبعد على الضبط المذكور في الصحراء. قلت: الطريقة الثانية: أصح. والله أعلم. هذا إذا كان بين البناءين باب نافذ، فوقف بحذائه صف، أو رجل، أو لم يكن جدار أصلا كالصحن مع الصفة، فلو حال حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، لم يصح الاقتداء باتفاق الطريقتين، وإن منع الاستطراق دون المشاهدة كالمشبك، لم يصح على الأصح. وإذا صح اقتداء الواقف في البناء الآخر، إما بشرط، وإما دونه، صحت صلاة الصفوف (2) خلفه تبعا له، وإن كان بينهم وبين البناء الذي فيه الامام جدار، وتكون الصفوف مع هذا الواقف كالمأمومين مع الامام، حتى لا تصح صلاة من بين يديه، إن تأخر عن سمت موقف الامام، إذا لم يجوز تقدم المأموم على الامام. قال القاضي حسين: ولا يجوز أن يتقدم تكبيرهم على تكبيره. أما إذا وقف الامام في صحن الدار، والمأموم في مكان عال من سطح، أو طرف صفة مرتفعة، أو بالعكس، فبماذا يحصل الاتصال؟ وجهان. أحدهما، قول الشيخ أبي محمد: إن كان رأس الواقف في السفل يحاذي ركبة الواقف في العلو، صح الاقتداء، وإلا، فلا. والثاني: وهو الصحيح الذي قطع به الجماهير، إن حاذى رأس الأسفل قدم الاعلى، صح، وإلا، فلا. قال إمام الحرمين: الأول مزيف لا وجه له، والاعتبار، بمعتدل القامة. حتى لو كان قصيرا، أو قاعدا فلم يحاذ، ولو قام فيه معتدل القامة، لحصلت المحاذاة، كفى. وحيث لا يمنع الانخفاض القدوة، وكان بعض الذين يحصل بهم الاتصال على سرير، أو متاع، وبعضهم
467 على الأرض، لم يضر. ولو كانا في البحر، والامام في سفينة، والمأموم في أخرى وهما مكشوفتان، فالصحيح، أنه يصح الاقتداء إذا لم يزد ما بينهما على ثلاث مائة ذراع، كالصحراء، وتكون السفينتان كدكتين في الصحراء، يقف الامام على إحداهما، والمأموم على الأخرى. وقال الإصطخري: يشترط أن تكون سفينة الامام مشدودة بسفينة المأموم. والجمهور على أنه ليس بشرط. وإن كانتا مسقفتين، فهما كالدارين، والسفينة التي فيها بيوت، كالدار ذات البيوت. وحكم المدارس، والرباطات، والخانات، حكم الدور. والسرادقات في الصحراء، كالسفينة المكشوفة، والخيام كالبيوت. الحال الثالث: أن يكون أحدهما في المسجد، والآخر خارجه فمن ذلك، أن يقف الامام في مسجد، والمأموم في موات متصل به. فإن لم يكن بينهما حائل، جاز، إذا لم تزد المسافة على ثلاث مائة ذراع، ويعتبر من آخر المسجد (1) على الأصح. وعلى الثاني، من آخر صف في المسجد (2). فإن لم يكن فيه إلا الامام، فمن موقفه (3). وعلى الثالث، من حريم المسجد بينه وبين الموات. وحريمه: الموضع المتصل به، المهيأ لمصلحته، كانصباب الماء إليه، وطرح القمامات فيه، ولو كان بينهما جدار المسجد، لكن الباب النافذ بينهما مفتوح، فوقف بحذائه، جاز، ولو اتصل صف بالواقف في المحاذاة، وخرجوا عن المحاذاة، جاز، ولو لم يكن في الجدار باب، أو كان، ولم يقف بحذائه بل عدل عنه، فالصحيح الذي عليه الجمهور: أنه يمنع صحة الاقتداء. وقال أبو إسحاق المروزي: لا يمنع. وأما الحائل غير جدار المسجد، فيمنع بلا خلاف. ولو كان بينهما باب مغلق، فهو كالجدار، لأنه يمنع الاستطراق والمشاهدة. وإن كان مردودا غير مغلق، فهو مانع من المشاهدة دون الاستطراق، أو كان بينهما مشبك، فهو مانع من الاستطراق دون المشاهدة. ففي الصورتين، وجهان. أصحهما عند الأكثرين: أنه مانع هذا كله في
468 الموات. فلو وقف المأموم في شارع متصل بالمسجد، فهو كالموات على الصحيح. وعلى الثاني يشترط اتصال الصف من المسجد بالطريق. ولو وقف في حريم المسجد، فقد ذكر في (1) (التهذيب) (2): أنه كالموات، وذكر أن الفضاء المتصل بالمسجد لو كان مملوكا، فوقف المأموم فيه، لم يصح اقتداؤه حتى يتصل الصف من المسجد بالفضاء. وكذلك يشترط اتصال الصف من سطح المسجد، بالسطح المملوك، وكذلك لو وقف في دار مملوكة متصلة بالمسجد، يشترط الاتصال بأن يقف واحد في آخر المسجد متصل بعتبة الدار، وآخر في الدار متصل بالعتبة بحيث لا يكون بينهما موقف رجل. وهذا الذي ذكره في الفضاء، مشكل. وينبغي أن يكون كالموات. وأما ما ذكره في مسألة الدار، فهو الصحيح. وقال أبو إسحاق المروزي: جدار المسجد لا يمنع، كما قال في الموات. وقال أبو علي الطبري: لا يشترط اتصال الصفوف إذا لم يكن حائل. ويجوز الاقتداء، إذا كان في حد القرب. الشرط الرابع: نية الاقتداء. فمن شروط الاقتداء، أن ينوي المأموم الجماعة، أو الاقتداء (3)، وإلا فلا تكون صلاته صلاة جماعة، وينبغي أن يقرن هذه النية بالتكبير كسائر ما ينويه (4)، فإن ترك نية الاقتداء، انعقدت صلاته على الأصح (5). وعلى هذا لو شك في أثناء صلاته في نية الاقتداء، نظر، إن تذكر قبل أن يحدث فعلا على متابعة الامام، لم يضر، وإن تذكر بعد أن أحدث فعلا على متابعته، بطلت صلاته (6)، لأنه في حال الشك، له حكم المنفرد، وليس له
469 المتابعة. حتى لو عرض هذا الشك في التشهد الأخير، لا يجوز أن يقف سلامه على سلام الامام (1). وهذا الذي ذكرنا من بطلان صلاته بالمتابعة، هو إذا انتظر ركوعه وسجوده ليركع ويسجد معه. فأما إذا اتفق انقضاء فعله، مع انقضاء فعله فهذا لا يبطل قطعا. لأنه لا يسمى متابعة. والمراد: الانتظار الكثير. فأما اليسير، فلا يضر. وهل تجب نية الاقتداء في الجمعة؟ وجهان. الصحيح: وجوبها. والثاني: لا، لأنها لا تصح إلا بجماعة، فلم يحتج إليها. فرع: لا يجب على المأموم أن يعين في نيته الامام (2)، بل يكفي نية الاقتداء بالامام الحاضر (3)، فلو عين فأخطأ، بأن نوى الاقتداء بزيد، فبان عمرا، لم تصح صلاته (4). كما لو عين الميت في صلاة الجنازة وأخطأ، لا تصح. ولو نوى الاقتداء بالحاضر، واعتقد زيدا فكان غيره، ففي صحته وجهان. كما لو قال: بعتك هذا الفرس، فكان بغلا. قلت: الأرجح صحة الاقتداء. والله أعلم. فرع: اختلاف نية الإمام والمأموم فيما يأتيان به من الصلاة، لا يمنع صحة الاقتداء، فيجوز أن يقتدي المؤدي بالقاضي، وعكسه، والمفترض، بالمتنفل وعكسه (5).
470 فرع: لا يشترط لصحة الاقتداء أن ينوي الامام الإمامة، سواء اقتدى به الرجال، أو النساء. وحكى أبو الحسن العبادي (1)، عن أبي حفص الباب شامي (2)، والقفال: أنه تجب نية الإمامة على الامام. وأشعر كلامه بأنهما يشترطانها في صحة الاقتداء، وهذا شاذ منكر، والصحيح المعروف الذي قطع به الجماهير، أنها: لا تجب. لكن هل تكون صلاته صلاة جماعة ينال بها فضيلة الجماعة إذا لم ينوها؟ وجهان. أصحهما: لا ينالها، لأنه لم ينوها. وقال القاضي حسين: فيمن صلى منفردا، واقتدى (3) به جمع ولم يعلم بهم، ينال فضيلة الجماعة، لأنهم نالوها بسببه، وهذا كالتوسط بين الوجهين. ومن فوائد الوجهين، أنه إذا لم ينو الإمامة في صلاة الجمعة، هل تصح جمعته. الأصح: أنها لا تصح. ولو نوى الإمامة وعين في نيته المقتدي، فبان خلافه، لم يضر، لان غلطه لا يزيد على تركها. الشرط الخامس: توافق نظم الصلاتين في الأفعال والأركان (4)، فلو اختلفت صلاتا الإمام والمأموم في الأفعال الظاهرة، بان اقتدى مفترض بمن يصلي جنازة، أو كسوفا، لم تصح على الصحيح (5). وتصح على الثاني، وهو قول القفال. فعلى هذا، إذا اقتدى بمصلي الجنازة، لا يتابعه في التكبيرات والأذكار بينها، بل إذا كبر الامام الثانية، يتخير بين إخراج نفسه من المتابعة، وبين انتظار سلام الامام. وإذا اقتدى بمصلي الكسوف، تابعه في الركوع الأول. ثم إن شاء رفع رأسه معه وفارقه، وإن شاء انتظره. قال إمام الحرمين: وإنما قلنا: ينتظره في الركوع إلى أن يعود إليه
471 الامام، ويعتدل معه عن ركوعه الثاني، ولا ينتظره بعد الرفع لما فيه من تطويل الركن القصير. أما إذا اتفقت الصلاتان في الأفعال الظاهرة، فينظر إن اتفق عددهما كالظهر، خلف العصر، أو العشاء، جاز الاقتداء. وإن كان عدد ركعات الامام أقل، كالظهر خلف الصبح، جاز. وإذا تمت صلاة الامام، قام المأموم وأتم صلاة نفسه كالمسبوق. ويتابع الامام في القنوت. ولو أراد مفارقته عند اشتغاله بالقنوت، جاز. وإذا اقتدى في الظهر بالمغرب، وانتهى الامام إلى الجلوس الأخير، تخير المأموم في المتابعة والمفارقة كالقنوت. وإن كان عدد ركعات المأموم أقل، كالصبح خلف الظهر، فالمذهب جوازه وقيل: قولان، أظهرهما: جوازه. والثاني: بطلانه. فإذا صححنا، وقام الامام إلى الثالثة، تخير المأموم، إن شاء فارقه وسلم، وإن شاء انتظره ليسلم معه. قلت: انتظاره أفضل. والله أعلم. وإن أمكنه أن يقنت في الثانية، بأن وقف الامام يسيرا، قنت. وإلا فلا شئ عليه. وله أن يخرج عن متابعته ليقنت. ولو صلى المغرب خلف الظهر، فإذا قام الامام إلى الرابعة، لم يتابعه بل يفارقه، ويتشهد ويسلم. وهل له أن يترك التشهد وينتظره؟ وجهان. أحدهما: له ذلك كما قلنا في المقتدي بالصبح خلف الظهر. والثاني: وهو المذهب عند إمام الحرمين، ليس له ذلك، لأنه يحدث تشهدا لم يفعله الامام. ولو صلى العشاء خلف التراويح، جاز. فإذا سلم الامام قام إلى باقي صلاته، والأولى أن يتمها منفردا. فلو قام الامام إلى ركعتين أخريين من التراويح، فنوى الاقتداء به ثانيا، ففي جوازه القولان، فيمن أحرم منفردا ثم اقتدى في أثنائهما. واختلف أصحابنا في المقتدي بمن يصلي العيد أو الاستسقاء، هل هو كمن يصلي الصبح؟ أم كمن يصلي الجنازة والكسوف؟ قلت: الصحيح: أنه كالصبح، وبه قطع صاحب (التتمة). وإذا كبر الامام التكبيرات الزائدة، لا يتابعه المأموم، فإن تابعه لم يضره، لان الأذكار لا تضر. ولو صلى العيد خلف الصبح المقضية، جاز، ويكبر التكبيرات الزائدة. والله أعلم. الشرط السادس: الموافقة (1). فإذا ترك الامام شيئا من أفعال الصلاة، نظر
472 إن ترك فرضا، فقام في موضع القعود، أو بالعكس ولم يرجع، لم يجز للمأموم متابعته، لأنه إن تعمد، فصلاته باطلة، وإن سها، ففعله غير معتد به وإن لم يبطلها. ولو ترك سنة وكان في الاشتغال بها تخلف فاحش، كسجود التلاوة، والتشهد الأول، لم يأت بها المأموم، فإن فعلها، بطلت صلاته، ولو ترك الامام سجود السهو، أتى به المأموم، لأنه يفعله بعد انقطاع القدوة، ولذلك يسلم التسليمة الثانية إذا تركها الامام. فأما إذا كان التخلف لها يسيرا، كجلسة الاستراحة، فلا بأس، كما لا بأس بزيادتها في غير موضعها. وكذا لا بأس بتخلفه للقنوت، إذا لحقه على قرب، بأن لحقه في السجدة الأولى (1). الشرط السابع: المتابعة، فيجب على المأموم متابعته، فلا يتقدم في الأفعال. والمراد من المتابعة: أن يجري على أثر الامام، بحيث يكون ابتداؤه بكل واحد منها، متأخرا عن ابتداء الامام به (2)، ومتقدما على فراغه منه. فلو خالف، فله أحوال. الأول: أن يقارنه، فإن قارنه في تكبيرة الاحرام، أو شك، هل قارنه، أو ظن أنه تأخر، فبان مقارنته، لم تنعقد. ويشترط تأخر جميع تكبيرة المأموم، عن جميع تكبيرة الامام. ويستحب للامام أن لا يكبر حتى يسووا الصفوف، ويأمرهم به ملتفتا يمينا وشمالا. وإذا فرغ المؤذن من الإقامة، قام الناس فاشتغلوا بتسوية الصفوف. وأما ما عدا التكبير، فغير السلام تجوز المقارنة فيه، ولكن تكره، وتفوت بها فضيلة الجماعة، وفي السلام وجهان. أصحهما: جوازها. الحال الثاني: أن يتخلف عن الامام، فإن تخلف بغير عذر، نظر، إن تخلف بركن واحد، لم تبطل صلاته على الأصح، وإن تخلف بركنين بطلت قطعا (3). ومن صور التخلف بغير عذر، أن يركع الامام وهو في قراءة السورة،
473 فيشتغل باتمامها، وكذا التخلف للاشتغال بتسبيحات الركوع والسجود. وأما بيان صور التخلف بركن، فيحتاج إلى معرفة الركن الطويل والقصير، فالقصير: الاعتدال عن الركوع، وكذا الجلوس بين السجدتين على الأصح. والطويل: ما عداهما. ثم الطويل، مقصود في نفسه. وفي القصير وجهان. أحدهما: مقصود في نفسه وبه قال الأكثرون، ومال الإمام إلى الجزم به. والثاني: لا بل تابع لغيره. وبه قطع في (التهذيب). فإذا ركع الامام، ثم ركع المأموم وأدركه في ركوعه فليس هذا تخلفا بركن، فلا تبطل به الصلاة قطعا. فلو اعتدل الامام، والمأموم بعد قائم، ففي بطلان صلاته وجهان، اختلفوا في مأخذهما، فقيل: مأخذهما: التردد في أن الاعتدال ركن مقصود أم لا؟ إن قلنا: مقصود فقد فارق الامام ركنا، واشتغل بركن آخر مقصود، فتبطل صلاة المتخلف. وإن قلنا: غير مقصود، فهو كما لو لم يفرغ من الركوع، لان الذي هو فيه تبع له، فلا تبطل صلاته. وقيل: مأخذهما الوجهان، في أن التخلف بركن يبطل أم لا؟ إن قلنا: يبطل فقد تخلف بركن الركوع تاما فتبطل صلاته، وإن قلنا: لا، فما دام في الاعتدال، لم يكمل الركن الثاني، فلا تبطل. قلت: الأصح لا تبطل. والله أعلم. وإذا هوى إلى السجود ولم يبلغه، والمأموم بعد قائم، فعلى المأخذ الأول لا تبطل صلاته، لأنه لم يشرع في ركن مقصود، وعلى الثاني: تبطل، لان ركن الاعتدال قد تم. هكذا ذكره إمام الحرمين، والغزالي. وقياسه، أن يقال: إذا ارتفع عن حد الركوع، والمأموم بعد في القيام، فقد حصل التخلف بركن، وإن لم يعتدل الامام، فتبطل الصلاة عند من يجعل التخلف بركن مبطلا. أما إذا انتهى الامام (1) إلى السجود، والمأموم بعد في القيام، فتبطل صلاته قطعا. ثم إذا اكتفينا بابتداء الهوي عن الاعتدال، وابتداء الارتفاع عن حد الركوع، فالتخلف بركنين: هو أن يتم للامام ركنان، والمأموم بعد فيما قبلهما، وبركن: هو أن يتم للامام الركن الذي سبق والمأموم بعد فيما قبله، وإن لم يكتف بذلك
474 فللتخلف شرط آخر، وهو أن لا يلابس مع تمامهما، أو تمامه ركنا آخر. ومقتضى كلام صاحب (التهذيب) ترجيح البطلان فيما إذا تخلف بركن كامل مقصود، كما إذا استمر في الركوع حتى اعتدل الامام وسجد. هذا كله في التخلف بغير عذر. أما الاعذار فأنواع. منها: الخوف، وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. ومنها: أن يكون المأموم بطئ القراءة (1)، والامام سريعها، فيركع قبل أن يتم المأموم الفاتحة، فوجهان. أحدهما: يتابعه ويسقط عن المأموم باقيها. فعلى هذا، لو اشتغل بإتمامها، كان متخلفا بلا عذر. والصحيح الذي قطع به صاحب (التهذيب) وغيره، أنه لا يسقط بل عليه أن يتمها، ويسعى خلف الامام على نظم صلاته ما لم يسبقه بأكثر من ثلاثة أركان مقصودة، فإن زاد على الثلاثة فوجهان. أحدهما: يخرج نفسه عن المتابعة لتعذر الموافقة. وأصحهما: له أن يدوم على متابعته. وعلى هذا وجهان. أحدهما: يراعي نظم صلاته، ويجري على أثره. وبهذا أفتى القفال. وأصحهما: يوافقه فيما هو فيه، ثم يقضي ما فاته بعد سلام الامام. وهذان الوجهان، كالقولين في مسألة الزحام (2). ومنها: أخذ التقدير بثلاثة أركان مقصودة، فإن القولين في مسألة الزحام، إنما هما إذا ركع الامام في الثانية. وقبل ذلك لا يوافقه، وإنما يكون التخلف قبله بالسجدتين والقيام. ولم يعتبر الجلوس بين السجدتين على مذهب من يقول: هو غير مقصود، ولا يجعل التخلف بغير المقصود مؤثرا. وأما من لا يفرق بين المقصود وغيره، أو يفرق ويجعل الجلوس مقصودا، أو ركنا طويلا، فالقياس على أصله، التقدير بأربعة أركان أخذا من مسألة الزحام. ولو اشتغل المأموم بدعاء الاستفتاح، فلم يتم الفاتحة لذلك، فركع الامام، فيتم الفاتحة كبطئ القراءة. وكان هذا في المأموم الموافق. أما المسبوق إذا أدرك الامام قائما وخاف ركوعه، فينبغي أن لا يقرأ الاستفتاح، بل يبادر إلى الفاتحة، فإن ركع الامام في أثناء الفاتحة فأوجه. أحدها: يركع معه وتسقط باقي الفاتحة، والثاني: يتمها. وأصحها: أنه إن لم يقرأ شيئا من
475 الاستفتاح، قطع الفاتحة وركع، ويكون مدركا للركعة. وإن قرأ شيئا منه، لزمه بقدره من الفاتحة لتقصيره. وهذا هو الأصح عند القفال، والمعتبرين، وبه قال أبو زيد. فإن قلنا: عليه إتمام الفاتحة، فتخلف ليقرأ كان تخلفا بعذر (1)، فإن لم يتمها وركع مع الامام، بطلت صلاته. وإن قلنا: يركع فاشتغل بإتمامها، كان متخلفا بلا عذر. وإن سبقه الامام بالركوع، وقرأ هذا المسبوق الفاتحة، ثم لحقه في الاعتدال، لم يكن مدركا للركعة. والأصح: أنه لا تبطل صلاته إذا قلنا: المتخلف (2) بركن لا يبطل كما في غير المسبوق. والثاني: يبطل، لأنه ترك متابعة الامام فيما فاتت به ركعة، فكان كالتخلف بركعة. ومنها: الزحام، وسيأتي في الجمعة، إن شاء الله تعالى. ومنها: النسيان. فلو ركع مع الامام، ثم تذكر أنه نسي الفاتحة، أو شك في قراءتها، لم يجز أن يعود، لأنه فات محل القراءة، فإذا سلم الامام، قام وتدارك ما فاته. ولو تذكر، أو شك بعد أن ركع الامام ولم يركع هو، لم تسقط القراءة بالنسيان. وماذا يفعل؟ وجهان. أحدهما: يركع معه، فإذا سلم الامام، قام فقضى ركعة، وأصحهما: يتمها، وبه أفتى القفال. وعلى هذا، تخلفه تخلف معذور على الأصح، وعلى الثاني: تخلف غير معذور لتقصيره بالنسيان. الحال الثالث: أن يتقدم على الامام بالركوع، أو غيره من الأفعال الظاهرة فينظر إن لم يسبق بركن كامل، بأن ركع قبل الامام، فلم يرفع حتى ركع الامام، لم تبطل صلاته، عمدا كان أو سهوا. وفي وجه شاذ: تبطل إن تعمد. فإذا قلنا: لا تبطل، فهل يعود؟ وجهان. المنصوص، وبه قال العراقيون: يستحب أن يعود إلى القيام ويركع معه. والثاني: وبه قطع صاحبا (النهاية) و (التهذيب): لا يجوز
476 العود، فإن عاد، بطلت صلاته، وإن فعله سهوا، فالأصح: أنه مخير بين العود والدوام. والثاني: يجب العود، فإن لم يعد، بطلت صلاته، وإن سبق بركنين فصاعدا، بطلت صلاته إن كان عامدا عالما بتحريمه. وإن كان ساهيا، أو جاهلا، لم تبطل، لكن لا يعتد بتلك الركعة، فيأتي بها بعد سلام الامام، ولا يخفى بيان التقدم بركنين من قياس ما ذكرناه (1) في التخلف. ومثل أئمتنا العراقيون ذلك، بما إذا ركع قبل الامام، فلما أراد الامام أن يركع، رفع، فلما أراد أن يرفع، سجد، فلم يجتمعا في الركوع، ولا في الاعتدال، وهذا يخالف ذلك القياس، فيجوز أن يقدر مثله في التخلف، ويجوز أن يخص ذلك بالتقدم، لان المخالفة فيه أفحش. وإن سبق بركن مقصود، بأن ركع قبل الامام، ورفع والامام في القيام ثم وقف حتى رفع الامام، واجتمعا في الاعتدال، فقال الصيدلاني، وجماعة: تبطل صلاته. قالوا: فإن سبق بركن غير مقصود كالاعتدال، بأن اعتدل وسجد، والامام بعد في الركوع، أو سبق بالجلوس بين السجدتين، بأن رفع رأسه من السجدة الأولى، وجلس وسجد الثانية والامام بعد في الأولى، فوجهان. وقال العراقيون، وآخرون: التقدم بركن لا يبطل كالتخلف به. وهذا أصح، وأشهر. وحكي عن نص الشافعي رضي الله عنه (2). هذا في الأفعال الظاهرة، فأما تكبيرة الاحرام، فالسبق بها مبطل كما تقدم، وأما الفاتحة والتشهد، ففي السبق بهما أوجه. الصحيح: لا يضر، بل يجزئان. والثاني: تبطل الصلاة. والثالث: لا تبطل. ويجب إعادتهما مع قراءة الإمام أو بعدها. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام راكعا (3)، يكبر للافتتاح، وليس له أن يشتغل بالفاتحة بل يهوي للركوع ويكبر له تكبيرة أخرى. وكذا لو أدركه قائما،
477 فكبر، فركع الامام بمجرد تكبيره، فلو اقتصر في الحالين على تكبيرة، فله أحوال. أحدها: أن ينوي بها تكبيرة الافتتاح، فتصح صلاته بشرط أن يوقعها في حال القيام (1). الثاني: ينوي تكبيرة الركوع فلا تنعقد صلاته (2). الثالث: ينويهما، فلا تنعقد فرضا ولا نفلا أيضا على الصحيح (3). الرابع: لا ينوي واحدا منهما، بل يطلق التكبيرة. فالصحيح المنصوص في (الام) وقطع به الجمهور: لا تنعقد. والثاني: تنعقد لقرينة الافتتاح، ومال إليه إمام الحرمين. فرع: إذا أخرج المأموم نفسه عن متابعة الامام، فالمذهب أنه لا تبطل صلاته، سواء فارق بعذر، أو بغيره، هذا جملته. وتفصيله: أن في بطلان الصلاة بالمفارقة طريقين. أحدهما: لا تبطل. والثاني: على قولين. أصحهما: لا تبطل. واختلفوا في موضع القولين، على طرق. أصحها: هما فيمن فارق بغير عذر. فأما المعذور، فيجوز قطعا. وقيل: هما في المعذور. فأما غيره، فتبطل صلاته قطعا. وقيل: هما فيهما، واختاره الحليمي. وقال إمام الحرمين: والاعذار كثيرة، وأقرب معتبرا، أن يقال: كل ما جوز ترك الجماعة ابتداء، جوز المفارقة. وألحقوا به، ما إذا ترك الامام سنة مقصودة، كالتشهد الأول، والقنوت. وأما إذا لم يصبر على طول القراءة لضعف، أو شغل، فالأصح: أنه عذر. هذا كله إذا قطع المأموم القدوة والامام بعد في الصلاة. أما إذا انقطعت بحدث الامام، ونحوه، فلا تبطل صلاة المأموم قطعا بكل حال.
478 فرع: إذا أقيمت الجماعة وهو في الصلاة منفردا، نظر، إن كان في فريضة الوقت، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: أحببت أن يكمل ركعتين، ويسلم، فتكون له نافلة، ويبتدئ الصلاة مع الامام. ومعناه: أن يقطع الفريضة ويقلبها نفلا. وفيه وفي نظائره خلاف قدمناه في مسائل النية في صفة الصلاة. ثم هذا فيما إذا كانت الصلاة ثلاثية، أو رباعية، ولم يصل بعد ركعتين. فإن كانت ذات ركعتين، أو ذات ثلاث، أو أربع، وقد قام إلى الثالثة، فإنه يتمها، ثم يدخل في الجماعة، وإن كان في فائتة، لم يستحب أن يقتصر على ركعتين ليصلي تلك الفائتة جماعة، لان الفائتة لا يشرع لها الجماعة، بخلاف ما لو شرع في فائتة في يوم غيم، فانكشف الغيم، وخاف فوت الحاضرة، فإنه يسلم عن ركعتين، ويشتغل بالحاضرة. قلت: قوله: لا يشرع لها الجماعة، يحمل على التفصيل الذي ذكرته في أول كتاب صلاة الجماعة. والله أعلم. وإن كان في نافلة، وأقيمت الجماعة، فإن لم يخش فوتها، أتمها. وإن خشيه، قطعها ودخل في الجماعة. فأما إذا لم يسلم من صلاته التي أحرم بها منفردا، بل اقتدى في خلالها، فالمذهب جوازه. وهذا جملته. فأما تفصيله، ففي صحة هذا الاقتداء، طريقان. أحدهما: القطع ببطلانه. وتبطل به الصلاة. وأصحهما، وأشهرهما: فيه قولان. أظهرهما: جوازه. ثم اختلفوا في موضع القولين على طرق، فقيل: هما فيما إذا لم يركع المنفرد في انفراده. فإن ركع، لم يجز قطعا. وقيل: هما بعد ركوعه. فأما قبله، فيجوز قطعا. وقيل: هما إذا اتفقا في الركعة، فإن اختلفا، فكان الامام في ركعة، والمأموم في أخرى متقدما، أو متأخرا، لم يجز قطعا. والطريق الرابع الصحيح: أن القولين في جميع الأحوال. وإذا صححنا الاقتداء على الاطلاق، فاختلفا في الركعة، قعد المأموم في موضع قعود الامام، وقام في موضع قيامه، فإن تمت صلاته أولا، لم يتابع الامام في الزيادة، بل إن شاء فارقه، وإن شاء انتظره في التشهد، وطول الدعاء، وسلم معه. فإن تمت صلاة الامام أولا، قام المأموم، وأتم صلاته كما يفعل المسبوق، وإذا سها المأموم قبل الاقتداء، لم يتحمل عنه الامام، بل إذا سلم الامام، سجد هو
479 لسهوه، وإن سها بعد الاقتداء، حمل عنه. وإن سها الامام قبل الاقتداء، أو بعده، لحق المأموم ويسجد معه، ويعيد في آخر صلاته على الأظهر كالمسبوق. فرع: من أدرك الامام في الركوع، كان مدركا للركعة. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأبو بكر الصبغي (1) - بكسر الصاد المهملة، وإسكان الباء الموحدة، وبالغين المعجمة، كلاهما من أصحابنا -: لا يدرك الركعة بادراك الركوع. وهذا شاذ منكر، والصحيح الذي عليه الناس، وأطبق عليه الأئمة: إدراكها، لكن يشترط أن يكون ذلك الركوع محسوبا للامام، فإن لم يكن، ففيه تفصيل نذكره في الجمعة، إن شاء الله تعالى. ثم المراد بإدراك الركوع، أن يلتقي هو وإمامه في حد أقل الركوع. حتى لو كان هو في الهوي، والامام في الارتفاع، وقد بلغ هويه حد الأقل قبل أن يرتفع الامام عنه، كان مدركا، وإن لم يلتقيا فيه، فلا. هكذا قاله جميع الأصحاب. ويشترط أن يطمئن قبل ارتفاع الامام عن الحد المعتبر. هكذا صرح به في (البيان) وبه أشعر كلام كثير من النقلة، وهو الوجه، وإن كان الأكثرون لم يتعرضوا له. ولو كبر، وانحنى، وشك، هل بلغ الحد المعتبر قبل ارتفاع الامام عنه؟ فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: لا يكون مدركا. والثاني: يكون. فأما إذا أدركه فيما بعد الركوع، فلا يكون مدركا للركعة قطعا، وعليه أن يتابعه في الركن الذي أدركه فيه وإن لم يحسب له. قلت: وإذا أدركه في التشهد الأخير، لزمه متابعته في الجلوس، ولا يلزمه أن يتشهد معه قطعا، ويسن (2) له ذلك على الصحيح المنصوص. والله أعلم. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام في الركوع. فقد ذكرنا أنه يكبر للركوع بعد تكبيرة الافتتاح، فلو أدركه في السجدة الأولى، أو الثانية، أو التشهد، فهل يكبر للانتقال إليه؟ وجهان. أصحهما: لا، لان هذا غير محسوب له، بخلاف
480 الركوع، ويخالف ما لو أدركه في الاعتدال فما بعده فإنه ينتقل معه من ركن إلى ركن مكبرا، وإن لم يكن محسوبا، لأنه لموافقة الامام. ولذلك نقول: يوافقه في قراءة التشهد، وفي التسبيحات، على الأصح. وإذا قام المسبوق بعد سلام الامام، فإن كان الجلوس الذي قام منه موضع جلوس المسبوق، بأن أدركه في الثالثة من رباعية، أو ثانية (1) المغرب، قام مكبرا. فإن لم يكن موضع جلوسه، بأن أدركه في الأخيرة، أو الثانية من الرباعية، قام بلا تكبير على الأصح. ثم إذا لم يكن موضع جلوسه، لم يجز المكث بعد سلام الامام. فإن مكث، بطلت صلاته. وإن كان موضع جلوسه، لم يضر المكث. والسنة للمسبوق: أن يقوم عقب تسليمتي الامام، فإن الثانية من الصلاة، ويجوز أن يقوم عقب الأولى. وإن قام قبل تمامها، بطلت صلاته إن تعمد القيام. وما يدركه المسبوق أول صلاته، وما يفعله بعد سلام الامام آخرها، حتى لو أدرك ركعة من المغرب، فإذا قام لاتمام الباقي، يجهر في الثانية ويتشهد، ويسر في الثالثة. ولو أدرك ركعة من الصبح، وقنت مع الامام، أعاد القنوت في الركعة التي يأتي بها. ونص الشافعي رحمه الله أنه لو أدرك ركعتين من رباعية، ثم قام للتدارك، يقرأ السورة في الركعتين، فقيل: هذا تفريع على قوله: يستحب قراءة السورة في جميع الركعات، وقيل: هو تفريع على القولين جميعا لئلا تخلو صلاته عن السورة. قلت: الثاني، أصح. وحكي قول غريب: أنه يجهر. والجماعة في الصبح، أفضل من غيرها، ثم العشاء، ثم العصر، للأحاديث الصحيحة. ولو كان للمسجد إمام راتب، كره لغيره إقامة الجماعة فيه، قبله أو بعده إلا بإذنه، فإن كان المسجد مطروقا، فلا بأس. وقد سبقت المسألة في باب الاذان. ويكره أن يؤم الرجل قوما وأكثرهم له كارهون، فإن كرهه الأقل، أو النصف، لم تكره إمامته. والمراد أن يكرهوه لمعنى مذموم في الشرع (2)، فإن لم يكن كذلك، فالعتب عليهم ولا كراهة. وقال القفال: إنما يكره إذا لم ينصبه الامام، فإن نصبه فلا يبالي بكراهة
481 أكثرهم. والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا فرق بين من نصبه الامام وغيره (1). وأما إذا كان بعض المأمومين يكره أهل المسجد حضوره، فلا يكره له الحضور، لان غيره لا يرتبط به، نص عليه الشافعي والأصحاب (2) ويكره أن يكون موقف الامام أعلى من موقف المأموم، وكذا عكسه (3)، فإن احتاج الامام إلى الاستعلاء ليعلمهم صفة الصلاة، أو المأموم ليبلغ القوم تكبير الامام، استحب (4). وأفضل صفوف الرجال (5)، أولها، ثم ما قرب منه، وكذلك النساء الخلص، فإن كان النساء مع الرجال، فأفضل صفوفهن آخرها (6). والله أعلم.
482 كتاب صلاة المسافر صلاة المسافر كغيره، إلا أن له الترخص بالقصر والجمع، فالقصر جائز بالاجماع. والسبب المجوز له، السفر الطويل (1) المباح (2). فأما السفر القصير، فلا بد فيه من ربط القصد بمقصد معلوم، فلا رخصة لهائم لا يدري أين يتوجه، وإن طال سفره. ولنا وجه: أن الهائم إذا بلغ مسافة القصر له القصر، وهو شاذ منكر. أما ابتداء السفر، فيعرف بتفصيل الموضع الذي منه الارتحال. فإن ارتحل من بلدة لها سور مختص بها (3)، فلا بد من مجاوزته وإن كان داخل السور مزارع، أو مواضع خربة، لان جميع داخل السور معدود من نفس البلد، محسوب من موضع الإقامة، فإذا فارق السور، ترخص إن لم يكن خارجه دور متلاصقة، أو مقابر، فإن كانت، فوجهان. الأصح: أنه يترخص بمفارقة السور، ولا يشترط مفارقة الدور والمقابر، وبهذا قطع الغزالي، وكثيرون. والثاني: يشترط مفارقتها، وهو موافق
483 لظاهر نص الشافعي. وأما إذا لم يكن للبلد سور، أو كان في غير صوب مقصده، فابتداء سفره بمفارقة العمران حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل. والخراب الذي يتخلل العمارات، معدود من البلد، كالنهر الحائل بين جانبي البلد، فلا يترخص بالعبور من جانب إلى جانب. فإن كانت أطراف البلدة خربة، ولا عمارة وراءها، فقال العراقيون، والشيخ أبو محمد: لا بد من مجاوزتها. وقال الغزالي، وصاحب (التهذيب): لا يشترط مجاوزتها، لأنه ليس موضع إقامة. وهذا الخلاف فيما إذا كانت بقايا الحيطان قائمة، ولم يتخذوا الخراب مزارع العمران، ولا هجروه بالتحويط على العامر والخراب، فإن لم يكن كذلك، لم يشترط مجاوزتها بلا خلاف. ولا يشترط مجاوزة البساتين، والمزارع المتصلة بالبلد، وإن كانت محوطة، إلا إذا كان فيها قصور أو دور يسكنها ملاكها (1) بعض فصول السنة، فلا بد من مجاوزتها حينئذ. ولنا وجه في (التتمة): أنه يشترط مجاوزة البساتين، والمزارع المضافة إلى البلدة مطلقا، وهو شاذ ضعيف. هذا حكم البلدة. وأما القرية، فلها حكم البلدة في جميع ما ذكرناه. ولا يشترط فيها مجاوزة البساتين، ولا المزارع المحوطة، هذا هو الصواب الذي قاله العراقيون. وشذ الغزالي عن الأصحاب فقال: إن كانت المزارع، أو البساتين محوطة، اشترط مجاوزتها. وقال إمام الحرمين: لا يشترط مجاوزة المزارع المحوطة، ولا البساتين غير المحوطة، ويشترط مجاوزة البساتين المحوطة. ولو كان قريتان ليس بينهما انفصال، فهما كمحلتين، فيجب مجاورتهما جميعا. قال الامام: وفيه احتمال، فلو كان بينهما انفصال فجاوز قريته، كفى وإن كانتا في غاية التقارب على الصحيح. وقال ابن سريج: إذا تقاربتا، اشترط مفارقتهما. ولو جمع سور قرى متفاصلة، لم يشترط مجاوزة السور. وكذا لو قدر ذلك في بلدتين متقاربتين. ولهذا قلنا أولا: إن ارتحل من بلدة لها سور مختص بها. وأما المقيم في الصحارى، فلا بد له من مفارقة البقعة التي فيها رحله وينسب إليه. فإن سكن واديا، وسافر في عرضه، فلا بد من مجاوزة عرض الوادي، نص عليه
484 الشافعي رحمه الله. قال الأصحاب: وهذا على الغالب في اتساع الوادي. فإن أفرطت السعة، لم يشترط إلا مجاوزة القدر الذي يعد موضع نزوله، أو موضع الحلة (1) التي هو فيها. كما لو سافر في طول الوادي. وقال القاضي أبو الطيب: كلام الشافعي مجرى على إطلاقه، وجانبا الوادي، كسور البلد. ولو كان نازلا في ربوة، فلا بد أن يهبط، وإن كان في وهدة، فلا بد أن يصعد، وهذا عند الاعتدال كما ذكرنا في الوادي. ولا فرق في اعتبار مجاوزة عرض الوادي، والصعود والهبوط، بين المنفرد في خيمة، ومن في أهل خيام على التفصيل المذكور. أما (2) إذا كان في أهل خيام كالأعراب والأكراد، فإنما يترخص إذا فارق الخيام، مجتمعة كانت، أو متفرقة، إذا كانت حلة واحدة وهي بمنزلة أبنية البلد. ولا يشترط مفارقته لحلة أخرى، بل الحلتان كالقريتين. وضبط الصيدلاني التفرق الذي لا يؤثر، بأن يكونوا بحيث يجتمعون للسمر في ناد واحد، ويستعين بعضهم من بعض. فإن كانوا بهذه الحالة، فهي حلة واحدة. ويعتبر مع مجاوزة الخيام مجاوزة مرافقها، كمطرح الرماد، وملعب الصبيان، والنادي، ومعاطن الإبل، فإنها (3) من جملة مواضع إقامتهم. ولنا وجه شاذ: أنه لا يعتبر مفارقه الخيام، بل يكفي مفارقة خيمته. فرع: إذا فارق المسافر بنيان البلدة، ثم رجع إليها لحاجة، فله أحوال. أحدها: أن لا يكون له بتلك البلدة إقامة أصلا، فلا يصير مقيما بالرجوع، ولا بالحصول فيها. الثاني: أن تكون وطنه، فليس له الترخص في رجوعه، وإنما يترخص إذا فارقها ثانيا. ولنا وجه: أنه يترخص ذاهبا، وهو شاذ منكر. الثالث: أن لا تكون وطنه، لكنه أقام بها مدة، فهل له الترخص في رجوعه؟
485 وجهان. أصحهما: نعم، صححه إمام الحرمين، والغزالي، وقطع به في (التتمة). والثاني: لا، وقطع به في (التهذيب) وحيث حكمنا بأنه لا يترخص إذا عاد، فلو نوى العود ولم يعد بعد، لم يترخص، وصار بالنية مقيما، ولا فرق بين حالتي الرجوع والحصول في البلدة، في الترخص وعدمه. هذا كله إذا لم يكن من موضع الرجوع إلى الوطن، مسافة القصر. فإن كانت، فهو مسافر مستأنف فيترخص. فصل في انتهاء السفر الذي يقطع الترخص ويحصل بأمور: الأول: العود إلى الوطن، والضبط فيه: أن يعود إلى الموضع الذي شرطنا مفارقته في إنشاء السفر منه. وفي معنى الوطن: الوصول إلى الموضع الذي يسافر إليه إذا عزم على الإقامة فيه القدر المانع من الترخص، فلو لم ينو الإقامة به ذلك القدر، لم ينته سفره بالوصول إليه على الأظهر. ولو حصل في طريقه في قرية، أو بلدة له بها أهل وعشيرة، فهل ينتهي سفره بدخولها؟ قولان. أظهرهما: لا. ولو مر في طريق سفره بوطنه، بأن خرج من مكة إلى مسافة القصر، ونوى أنه إذا رجع إلى مكة، خرج إلى موضع آخر من غير إقامة، فالمذهب الذي قطع به الجمهور: أنه يصير مقيما بدخولها. وقال الصيدلاني وغيره: فيه القولان، كبلد أهله. فعلى أحدهما: العود إلى الوطن لا يوجب انتهاء السفر، إلا إذا كان عازما على الإقامة. الأمر الثاني: نية الإقامة. فإذا نوى في طريقه الإقامة مطلقا، انقطع سفره، فلا يقصر. فلو أنشأ السير بعد ذلك، فهو سفر جديد، فلا يقصر إلا إذا توجه إلى مرحلتين. هذا إذا نوى الإقامة في موضع يصلح لها من بلدة، أو قرية، أو واد يمكن البدوي النزول فيه للإقامة. فأما المفازة ونحوها، ففي انقطاع السفر بنية الإقامة فيها قولان. أظهرهما عند الجمهور: انقطاعه. ولو نوى إقامة ثلاثة أيام فأقل، لم يصر مقيما قطعا وإن نوى أكثر من ثلاثة، قال الشافعي وجمهور الأصحاب: إن نوى إقامة أربعة أيام، صار مقيما. وذلك يقتضي أن نية دون الأربعة لا تقطع السفر وإن زاد على ثلاثة، وقد صرح به كثيرون، واختلفوا في أن الأربعة كيف تحسب؟ على وجهين في (التهذيب) وغيره، أحدهما: يحسب منها يوما الدخول والخروج، كما
486 يحسب يوم الحدث، ويوم نزع الخف من مدة المسح. وأصحهما (1): لا يحسبان (2)، فعلى الأول، لو دخل يوم السبت وقت الزوال بنية الخروج يوم الأربعاء وقت الزوال، صار مقيما. وعلى الثاني: لا يصير (مقيما)، وإن دخل ضحوة السبت، وخرج عشية الأربعاء. وقال إمام الحرمين، والغزالي: متى نوى إقامة زائدة على ثلاثة أيام، صار مقيما. وهذا الذي قالاه، موافق لما قاله الجمهور، لأنه لا يمكن زيادة على الثلاثة غير يومي الدخول والخروج، بحيث لا يبلغ الأربعة، ثم الأيام المحتملة معدودة مع لياليها. وإذا نوى ما لا يحتمل، صار مقيما في الحال. ولو دخل ليلا، لم يحسب بقية الليلة، ويحسب الغد. وجميع ما ذكرناه في غير المحارب، أما المحارب، إذا نوى إقامة قدر يصير غيره به مقيما، ففيه قولان. أظهرهما: أنه كغيره. والثاني: يقصر أبدا. قلت: ولو نوى العبد إقامة أربعة أيام، أو الزوجة، أو الجيش، ولم ينو السيد، ولا الزوج، ولا الأمير، ففي لزوم الاتمام في حقهم، وجهان. الأقوى: أن لهم القصر، لأنهم لا يستقلون، فنيتهم كالعدم (3). والله أعلم. الأمر الثالث: صورة الإقامة، فإذا عرض له شغل في بلدة، أو قرية، فأقام له، فله حالان. أحدهما (4): أن يرجو فراغ شغله ساعة فساعة، وهو على نية الارتحال عند فراغه. والثاني: يعلم أن شغله لا ينقضي في ثلاثة أيام، غير يومي الدخول
487 والخروج، كالتفقه، والتجارة الكثيرة، ونحوهما، فالأول: له القصر إلى أربعة أيام على ما سبق تفصيله. وفيما بعد ذلك طريقان. الصحيح منهما: فيه ثلاثة أقوال. أحدها: يجوز القصر أبدا، سواء فيه المقيم على القتال، أو الخوف من القتال، والمقيم لتجارة وغيرهما. والثاني: لا يجوز القصر أصلا. والثالث وهو الأظهر: يجوز ثمانية عشر (1) يوما فقط، وقيل: سبعة عشر، وقيل: تسعة عشر، وقيل: عشرين. والطريق الثاني: أن هذه الأقوال في (المحارب) ويقطع بالمنع في غيره. وأما الحال الثاني: فإن كان محاربا، وقلنا في الحال الأول: لا يقصر، فهنا أولى. وإلا فقولان. أحدهما: يترخص أبدا. والثاني: ثمانية عشر (2). وإن كان غير محارب، كالمتفقه، والتاجر، فالمذهب أنه لا يترخص أصلا. وقيل: هو كالمحارب، وهو غلط.
488 فصل: وأما كون السفر طويلا، فلا بد منه. والطويل: ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي (1)، وهي ستة عشر فرسخا، وهي أربعة برد (2)، وهي مسيرة يومين معتدلين. فالميل: أربعة آلاف خطوة، والخطوة: ثلاثة أقدام. وهل هذا الضبط تحديد، أم تقريب؟ وجهان. الأصح: تحديد. وحكي قول شاذ: أن القصر يجوز في السفر القصير، بشرط الخوف. والمعروف: الأول. واستحب الشافعي رحمه الله أن لا يقصر إلا في ثلاثة أيام، للخروج من خلاف أبي حنيفة (3) في ضبطه به. والمسافة في البحر مثل المسافة في البر وإن قطعها في لحظة. فإن شك فيها، اجتهد (4).
489 قلت: ولو حبستهم الريح فيه، قال الدارمي: هو كالإقامة في البر بغير نية الإقامة. والله أعلم. واعلم أن مسافة الرجوع لا تحسب، فلو قصد موضعا على مرحلة بنية أن لا يقيم فيه، فليس له القصر، لا ذاهبا، ولا راجعا، وإن كان يناله مشقة مرحلتين متواليتين، لأنه لا يسمى سفرا طويلا. وحكى الحناطي وجها: أنه يقصر إذا كان الذهاب والرجوع مرحلتين، وهو شاذ منكر. ويشترط عزمه في الابتداء على قطع مسافة القصر، فلو خرج لطلب آبق، أو غريم، وينصرف متى لقيه ولا يعرف موضعه، لم يترخص، وإن طال سفره كما قلنا في الهائم: فإذا وجده وعزم على الرجوع إلى بلده وبينهما مسافة القصر، يرخص إذا ارتحل عن ذلك الموضع. فلو كان في ابتداء السفر يعلم موضعه، وأنه لا يلقاه قبل مرحلتين، ترخص، فلو نوى مسافة القصر، ثم نوى أنه إن وجد الغريم رجع، نظر، إن نوى ذلك قبل مفارقة عمران البلد، لم يترخص، وبعد مفارقة العمران، فوجهان. أصحهما: يترخص ما لم يجده، فإذا وجده، صار مقيما. وكذا لو نوى قصد موضع في مسافة القصر، ثم نوى الإقامة في بلد وسط الطريق، فإن كان من مخرجه إلى المقصد الثاني مسافة القصر، يترخص، وإن كان أقل، ترخص أيضا على الأصح ما لم يدخله. قلت: هذا إذا نوى الإقامة أربعة أيام، فإن نوى دونها، فهو سفر واحد، فله القصر في جميع طريقه، وفي البلد الذي في الوسط. والله أعلم. فرع: إذا سافر العبد بسير المولى، والمرأة بسير الزوج، والجندي بسير الأمير، ولا يعرفون مقصدهم، لم يجز لهم الترخص (1). فلو نووا مسافة القصر (2)، فلا عبرة بنية العبد، والمرأة، وتعتبر نية الجندي، لأنه ليس تحت يد الأمير وقهره، فإن عرفوا مقصدهم فنووا، فلهم القصر. قلت: وإذا أسر الكفار رجلا، فساروا به ولم يعلم أين يذهبون به، لم
490 يقصر. وإن سار معهم يومين، قصر بعد ذلك. نص عليه الشافعي رحمه الله. فلو علم البلد الذي يذهبون به إليه، فإن كان نيته أنه إن تمكن من الهرب هرب، لم يقصر (1) قبل مرحلتين. وإن نوى قصد ذلك البلد، أو غيره - ولا معصية في قصده - قصر في الحال إن كان بينهما مرحلتان. والله أعلم. فرع: لو كان لمقصده (2) طريقان، يبلغ أحدهما مسافة القصر دون الآخر، فسلك الأبعد، نظر، إن كان لغرض كالامن، أو السهولة، أو زيادة، أو عيادة، ترخص (3). وكذا لو قصد التنزه على المذهب. وتردد الشيخ أبو محمد في اعتباره وإن لم يكن غرض سوى الترخص، فطريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما (4): لا يترخص. والطريق الثاني: لا يترخص قطعا. ولو بلغ بكل واحد المسافة، فسلك الأبعد لغير غرض، ترخص في جميعه قطعا. فرع: إذا خرج إلى بلد والمسافة طويلة، ثم بدا له في أثناء السفر أن يرجع، انقطع سفره (5)، فلا يجوز القصر ما دام في ذلك الموضع. فإذا فارقه، فهو سفر جديد. فإنما يقصر إذا توجه منه إلى مرحلتين، سواء رجع إلى وطنه، أو استمر إلى مقصده الأول، أو غيرهما. ولو خرج إلى بلد لا يقصر إليه الصلاة، ثم نوى مجاوزته إلى ما يقصر إليه الصلاة، فابتداء سفره، من حين غير النية، فإنما يترخص إذا كان من ذلك الموضع إلى المقصد الثاني مرحلتان. ولو خرج إلى سفر طويل بنية الإقامة في كل مرحلة أربعة أيام، لم يترخص. فصل: وأما كون السفر مباحا، فمعناه: أنه ليس بمعصية، سواء كان
491 طاعة، أو تجارة، ولا يترخص في سفر المعصية (1)، كهرب العبد من مولاه، والمرأة من الزوج، والغريم مع القدرة على الأداء، والمسافر لقطع الطريق، أو للزنى، أو قتل البرئ. وأما العاصي في سفره، وهو أن يكون السفر مباحا، ويرتكب المعاصي في طريقه، فله الترخص. ولو أنشأ سفرا مباحا، ثم جعله معصية، فالأصح أنه لا يترخص (2). ولو أنشأ سفر معصية، ثم تاب وغير قصده من غير تغيير صوب السفر، قال الأكثرون: ابتداء سفره من ذلك الموضع. إن كان منه إلى مقصده مسافة القصر، ترخص، وإلا فلا. وقيل: في الترخص وجهان، كما لو نوى مباحا، ثم جعله معصية. ثم العاصي بسفره، لا يقصر، ولا يفطر، ولا يتنفل على الراحلة، ولا يجمع بين الصلاتين، ولا يمسح ثلاثة أيام، وله أن يمسح يوما وليلة، على الصحيح. والثاني: لا يمسح أصلا. وليس له أكل الميتة عند الاضطرار على المذهب (3)، وبه قطع الجماهير من العراقيين وغيرهم. وقيل: وجهان. أصحهما: لا يجوز تغليظا عليه، لأنه قادر على استباحتها بالتوبة. والثاني: الجواز. كما يجوز للمقيم العاصي على الصحيح الذي عليه الجمهور. وفي وجه شاذ: لا يجوز للمقيم العاصي لقدرته على التوبة. قلت: ولا تسقط الجمعة عن العاصي بسفره، وفي تيممه خلاف تقدم في بابه. والله أعلم. ومما ألحق بسفر المعصية، أن يتعب الانسان نفسه، ويعذب دابته بالركض
492 من غير غرض. ذكر الصيدلاني أنه لا يحل له ذلك. ولو كان يتنقل من بلد إلى بلد من غير غرض صحيح، لم يترخص. قال الشيخ أبو محمد: السفر لمجرد رؤية البلاد والنظر إليها، ليس من الأغراض الصحيحة. فصل: القصر (1) جائز في كل صلاة رباعية مؤداة (2) في السفر أدرك وقتها فيه. فأما المغرب، والصبح، فلا قصر فيهما بالاجماع. وأما المقضية، فإن فاتت في الحضر وقضاها في السفر، لم يقصر، خلافا للمزني. وإن شك هل فاتت في السفر، أو الحضر؟ لم يقصر أيضا (3). وإن فاتت في السفر، فقضاها فيه، أو في الحضر، فأربعة أقوال. أظهرها: إن قضى في السفر، قصر، وإلا فلا. والثاني: يتم فيهما، والثالث: يقصر فيهما. والرابع: إن قضى ذلك في السفر، قصر، وإن قضى في الحضر، أو سفر آخر، أتم. فإن قلنا: يتم فيهما، فشرع في الصلاة بنية القصر، فخرج الوقت في أثنائها، فهو مبني على أن الصلاة التي يقع بعضها في الوقت أداء أم قضاء. والصحيح: أنه إن وقع في الوقت ركعة، فأداء، وإن كان دونها، فقضاء. فإن قلنا: قضاء، لم يقصر. وإن قلنا: أداء، قصر على الصحيح. وقال صاحب (التلخيص): يتم. فرع: إذا سافر في أثناء الوقت، وقد مضى منه ما يمكن فعل الصلاة فيه، فالنص أن له القصر. ونص فيما إذا أدركت من أول الوقت قدر الامكان، ثم حاضت، أنه يلزمها القضاء، وكذا سائر أصحاب العذر. فقال الأصحاب: في المسألتين طريقان. أحدهما وهو المذهب: العمل بظاهر النصين، والثاني: فيهما قولان. أحدهما: يلزم الحائض الصلاة، ويجب على المسافر الاتمام. والثاني: لا يلزمها الصلاة، ويجوز له القصر. وقال أبو الطيب بن سلمة (4): إن سافر وقد
493 بقي من الوقت أربع ركعات لم يقصر. وإن بقي أكثر، قصر. والجمهور: على أنه لا فرق. أما إذا سافر وقد بقي أقل من قدر الصلاة، فإن قلنا: كلها أداء، قصر، وإلا فلا. وإن مضى من الوقت دون ما يسع الصلاة وسافر، قال إمام الحرمين: ينبغي أن يمتنع القصر إن قلنا: تمتنع لو مضى ما يسع الصلاة، بخلاف ما لو حاضت بعد مضي القدر الناقص، فإنه لا يلزمها الصلاة على المذهب، لان عروض السفر لا ينافي إتمام الصلاة، وعروض الحيض ينافيه. قلت: هذا الذي ذكره الامام، شاذ مردود، فقد صرحوا بأنه يقصر هنا بلا خلاف. ونقل القاضي أبو الطيب: إجماع المسلمين: أنه يقصر. والله أعلم. فصل: للقصر أربع شروط: أحدها: أن لا يقتدي بمتم، فإن فعله ولو في لحظة، لزمه الاتمام. والاقتداء في لحظة يتصور من وجوه. منها أن يدرك الامام في آخر صلاته، أو يحدث الامام عقب اقتدائه وينصرف. ولو صلى الظهر خلف من يقضي الصبح، مسافرا كان أو مقيما، لم يجز القصر على الأصح. ولو صلى الظهر خلف من يصلي الجمعة، فالمذهب: أنه لا يجوز القصر مطلقا، وقيل: إن قلنا: الجمعة ظهر مقصورة، قصر، وإلا فهي كالصبح. قلت: وسواء كان إمام الجمعة، مسافرا، أو مقيما، فهذا حكمه. ولو نوى الظهر مقصورة خلف من يصلي العصر مقصورة، جاز. والله أعلم. ثم المقتدي تارة يعلم حال إمامه، وتارة يجهلها. فإن علم، نظر، إن علمه مقيما، أو ظنه، لزمه الاتمام. فلو اقتدى به ونوى القصر، انعقدت صلاته، ولغت نية القصر. بخلاف المقيم ينوي القصر، لا تنعقد صلاته، لأنه ليس من أهل القصر، والمسافر من أهله، فلم يضره نية القصر. كما لو شرع في الصلاة بنية القصر، ثم نوى الاتمام، أو صار مقيما. وإن علمه، أو ظنه مسافرا، أو علم أو
494 ظن أنه نوى القصر، فله أن يقصر خلفه، وكذا إن لم يدر أنه نوى القصر، ولا يلزم الاتمام بهذا التردد، لأن الظاهر من حال المسافر القصر. ولو عرض هذا التردد في أثناء الصلاة، لم يلزم الاتمام. ولو لم يعرف نيته فعلق عليها، فنوى إن قصر، قصرت، وإن أتم، أتممت، فوجهان: أصحهما: جواز التعليق، فإن أتم الامام، أتم، وإن قصر، قصر. فلو فسدت صلاة الامام، أو أفسدها ثم قال: كنت نويت القصر، فللمأموم القصر. وإن قال: كنت نويت الاتمام، لزمه الاتمام. وإن انصرف ولم يظهر للمأموم ما نواه، فالأصح: لزوم الاتمام. قاله أبو إسحاق. والثاني: جواز القصر، قاله ابن سريج. أما إذا لم يعلم، ولم يظن أنه مسافر، أو مقيم، بل شك، فيلزمه الاتمام وإن بان الامام مسافرا قاصرا. ولنا وجه: أنه إذا بان قاصرا، جاز القصر وهو شاذ. فرع: إذا اقتدى بمقيم، أو مسافر متم، ثم فسدت صلاة الامام، أو بان محدثا، أو فسدت صلاة المأموم، فاستأنفها، لزمه الاتمام. ولو اقتدى بمن ظنه مسافرا، فبان مقيما، لزمه الاتمام، لتقصيره، فإن شعار المسافر ظاهر. وإن بان أنه مقيم محدث، نظر، إن بان كونه مقيما أولا، لزم الاتمام. وإن بان كونه محدثا أولا أو بانا معا، فطريقان. أشهرهما: على وجهين. أصحهما: له القصر. والطريق الثاني: له القصر قطعا، إذ لا قدوة. ولو شرع في الصلاة مقيما، ثم بان أنه محدث، ثم سافر والوقت باق، فله القصر، لعدم الشروع الصحيح. بخلاف ما لو شرع فيها مقيما، ثم عرض سبب مفسد، فإنه يلزمه الاتمام، لالتزامه ذلك بالشروع الصحيح. ولو اقتدى بمقيم، ثم بان حدث المأموم، فله القصر. وكذا لو اقتدى بمن يعرفه محدثا ويظنه مقيما، فله القصر، لأنه لم يصح شروعه. فرع: المذهب الصحيح الجديد: أنه يجوز أن يستخلف الامام إذا فسدت صلاته بحدث أو غيره من يتم بالمأمومين. وسيأتي بيان هذا في باب الجمعة، إن شاء الله تعالى. فإذا أم مسافر مسافرين ومقيمين، ففسدت صلاته برعاف (1)، أو
495 سبق حدث، فاستخلف مقيما، لزم المسافرين المقتدين الاتمام. كذا قطع به الأصحاب. ويجئ فيه وجه، لأنا سنذكر وجها في مسائل الاستخلاف إن شاء الله تعالى: أنه يجب عليهم نية الاقتداء بالخليفة. فعلى هذا إنما يلزم الاتمام إذا نووا الاقتداء. وإنما فرع الأصحاب على الصحيح، أن نية الاقتداء بالخليفة لا تجب. وأما الامام الذي سبقه الحدث والرعاف، فظاهر نص الشافعي رحمه الله، يقتضي وجوب إتمامه. واختلفوا في معناه، فالصحيح ما قاله أبو إسحاق المروزي، والأكثرون: أن مراده، أن يعود بعد غسل الدم، ويقتدي بالخليفة، إما بناء على القول القديم، وإما استئنافا على الجديد، فيلزمه الاتمام، لأنه اقتدى بمقيم في بعض صلاته. فإن لم يقتد به، لم يلزمه الاتمام. وقيل: يجب الاتمام عاد أو لم يعد، عملا بظاهر النص، لان فرعه متم، فهو أولى، وغلطه الأصحاب. وقيل: إن هذا تفريع على القديم، إن سبق الحدث لا يبطلها، فيكون الراعف في انصرافه في حكم المؤتم بخليفته المقيم. وضعفه الأصحاب أيضا، فإن البناء إنما يجوز على القديم، والاستخلاف لا يجوز على القديم. وقيل: مراده أن يحس الامام بالرعاف قبل خروج الدم، فيستخلف، ثم يخرج فيلزمه الاتمام، لأنه صار مقتديا بمقيم في جزء من صلاته. وضعفه المحاملي وغيره، لأنه استخلاف قبل العذر، وليس بجائز. وقال الشيخ أبو محمد: الاحساس به عذر. ومتى حضر إمام حاله أكمل، جاز استخلافه. قلت: هذا كله إذا استخلف الامام مقيما. فلو لم يستخلف، ولا استخلف المأمومون، بنوا على صلاتهم فرادى. وجاز للمسافرين منهم، والراعف، القصر قطعا. وكذا لو استخلف الامام مسافرا، أو استخلفه القوم، قصر المسافرون والراعف. فلو لم يستخلف الامام الراعف، واستخلف القوم مقيما، فوجهان. حكاهما صاحب (الحاوي) أحدهما: أنه كاستخلاف الراعف على ما مضى. وأصحهما: يجوز للراعف هنا القصر بلا خلاف إذا لم يقتد به، لأنه ليس فرعا له. ولو استخلف المقيمون مقيما، والمسافرون مسافرا، جاز. وللمسافرين القصر خلف إمامهم، وكذا لو تفرقوا ثلاث فرق أو أكثر، وأم كل فرقة إمام. نص عليه الشافعي. والله أعلم. الشرط الثاني: نية القصر. فلا بد منها عند ابتداء الصلاة. ولا يجب استدامة
496 ذكرها، لكن يشترط الانفكاك عما يخالف الجزم بها. فلو نوى القصر أولا، ثم نوى الاتمام، أو تردد بين القصر والاتمام، أو شك هل نوى القصر، ثم ذكر في الحال أنه نواه، لزمه الاتمام. ولو اقتدى بمسافر علم أو ظن أنه نوى القصر، فصلى ركعتين، ثم قام الامام إلى ثالثة، نظر، إن علم أنه نوى الاتمام، لزمه الاتمام، وإن علم أنه ساه، بأن كان حنفيا لا يرى الاتمام، لم يلزمه الاتمام (1)، ويتخير، إن شاء خرج عن متابعته، وسجد للسهو، وسلم، وإن شاء انتظره حتى يعود. فلو أراد أن يتم أتم، لكن لا يجوز أن يقتدي بالامام في سهوه، لأنه غير محسوب له. ولا يجوز الاقتداء بمن علمنا أنه ما هو فيه غير محسوب له، كالمسبوق إذا أدرك من آخر الصلاة ركعة، فقام الامام سهوا إلى ركعة زائدة، لم يكن للمسبوق أن يقتدي به في تدارك ما عليه. فلو شك هل قام ساهيا أم متما، لزمه الاتمام. ولو نوى القصر وصلى ركعتين، ثم قام إلى ثالثة، نظر، إن حدث ما يوجب الاتمام كنية الاتمام، أو الإقامة، أو حصوله بدار الإقامة في السفينة، فقام لذلك، فقد فعل واجبه. فإن لم يحدث شئ من ذلك، وقام عمدا، بطلت صلاته. كما لو قام المقيم المذكور إلى ركعة خامسة، أو قام المتنفل إلى ركعة زائدة قبل تغيير النية. وإن قام سهوا، ثم ذكر، لزمه أن يعود، ويسجد للسهو، ويسلم. فلو بدا له بعد التذكر أن يتم، عاد إلى القعود، ثم نهض متما. وفي وجه ضعيف: له أن يمضي في قيامه. فلو صلى ثالثة، ورابعة، سهوا، وجلس للتشهد، فتذكر، سجد للسهو وهو قاصر، وركعتاه الزائدتان غير محسوبتين. فلو نوى الاتمام، لزمه أن يقوم ويصلي ركعتين أخريين، ويسجد للسهو في آخر صلاته. الشرط الثالث: أن يكون مسافرا من أول الصلاة إلى آخرها. فلو نوى الإقامة في أثنائها، أو انتهت به السفينة إلى دار الإقامة، أو سارت به من دار الإقامة في أثنائها، أو شك، هل نوى الإقامة، أم لا؟ أو دخل بلدا وشك هل هو مقصوده، أم لا؟ لزمه الاتمام. الشرط الرابع: العلم بجواز القصر. فلو جهل جوازه فقصر، لم يصح،
497 لتلاعبه، نص عليه في (الام). قلت: ويلزمه إعادة هذه الصلاة أربعا، لالزامه الاتمام. والصورة فيمن نوى الظهر مطلقا، ثم سلم من ركعتين عمدا. أما لو نوى جاهل القصر الظهر ركعتين متلاعبا، فيعيدها مقصورة إذا علم القصر بعد شروعه. والله أعلم] (1). باب الجمع بين الصلاتين يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، تقديما في وقت الأولى، أو تأخيرا في وقت الثانية، في السفر الطويل (2). ولا يجوز في القصير على الأظهر . والأفضل للسائر في وقت الأولى أن يؤخرها إلى الثانية، وللنازل في وقتها، تقديم الثانية. ولا يجوز الجمع في سفر المعصية، ولا جمع الصبح إلى غيرها، ولا العصر إلى المغرب. وأما (3) الحجاج من أهل الآفاق، فيجمعون بين الظهر والعصر (4) بعرفة في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء بمزدلفة في وقت العشاء،
498 وذلك الجمع بسبب السفر على المذهب الصحيح. وقيل: بسبب النسك. فإن قلنا بالأول، ففي جمع المكي القولان، لان سفره قصير، ولا يجمع العرفي بعرفة، ولا المزدلفي بمزدلفة، لأنه وطنه. وهل يجمع كل واحد منهما بالبقعة الأخرى، فيه القولان كالمكي. وإن قلنا بالثاني، جاز الجمع لجميعهم. ومن الأصحاب (1) يقول: في جمع المكي قولان. الجديد: منعه. والقديم: جوازه. وعلى القديم في العرفي والمزدلفي، وجهان. والمذهب: منع جميعهم على الاطلاق. وحكم الجمع في البقعتين، حكمه في سائر الاسفار. ويتخير في التقديم والتأخير، والاختيار: التقديم بعرفة، والتأخير بمزدلفة. فرع: إذا جمع المسافر في وقت الأولى، اشترط ثلاثة أمور. أحدها: الترتيب، فيبدأ بالأولى. فلو بدأ بالثانية، لم يصح. وتجب إعادتها بعد الأولى. ولو بدأ بالأولى، ثم صلى الثانية، فبان فساد الأولى، فالثانية فاسدة أيضا. الأمر الثاني: نية الجمع. والمذهب: أنها تشترط. ويكفي حصولها عند الاحرام بالأولى، أو في أثنائها، أو مع التحلل منها، ولا يكفي بعد التحلل. ولنا قول شاذ (2): أنها تشترط عند الاحرام بالأولى، ووجه: أنها تجوز في أثنائها. ولا تجوز مع التحلل، ووجه: أنها تجوز بعد (3) التحلل قبل الاحرام بالثانية. وهو قول خرجه المزني للشافعي. ووجه آخر لأصحابنا، وهو مذهب المزني: أن نية الجمع لا تشترط أصلا. قلت: قال الدارمي: لو نوى الجمع، ثم نوى تركه في أثناء الأولى، ثم نوى الجمع ثانيا، ففيه القولان. والله أعلم. الأمر الثالث: الموالاة. والصحيح المشهور: اشتراطها (4). وقال
499 الإصطخري، وأبو علي الثقفي: يجوز الجمع وإن طال الفصل بين الصلاتين ما لم يخرج وقت الأولى. وحكى عن نصه في (الام): أنه إذا صلى المغرب في بيته بنية الجمع، وأتى المسجد فصلى العشاء، جاز. والمعروف: اشتراط الموالاة، فلا يجوز الفصل الطويل، ولا يضر اليسير. قال الصيدلاني: حد أصحابنا اليسير بقدر الإقامة. والأصح ما قاله العراقيون: أن الرجوع في الفصل إلى العادة. وقد تقتضي العادة احتمال زيادة على قدر الإقامة، ويدل عليه أن جمهور الأصحاب، جوزوا الجمع بين الصلاتين بالتيمم، وقالوا: لا يضر الفصل بينهما بالطلب والتيمم، لكن يخفف الطلب. ومنع أبو إسحاق المروزي جمع المتيمم للفصل بالطلب. ومتى طال الفصل، امتنع ضم الثانية إلى الأولى، ويتعين تأخيرها إلى وقتها، سواء طال بعذر، كالسهو، والاغماء، أو بغيره. ولو جمع فتذكر بعد فراغه منهما أنه ترك ركنا من الأولى، بطلتا جميعا، وله إعادتهما جامعا. ولو تذكر تركه من الثانية، فإن قرب الفصل تدارك ومضت الصلاتان على الصحة. وإن طال، بطلت الثانية، وتعذر الجمع لطول الفصل بالثانية الباطلة، فيعيدها في وقتها. فلو لم يدر أنه ترك من الأولى، أم من الثانية، لزمه إعادتهما لاحتمال الترك من الأولى. ولا يجوز الجمع على المشهور. وفي قول شاذ: يجوز كما لو أقيمت جمعتان في بلد، ولم يعلم السابقة منهما، يجوز إعادة الجمعة في قول. هذا كله إذا جمع في وقت الأولى، فلو جمع في وقت الثانية، لم يشترط الترتيب ولا الموالاة، ولا نية الجمع حال الصلاة على الصحيح. وتشترط الثلاثة على الثاني، فعلى الاشتراط، لو أخل بواحد منها، صارت الأولى قضاء، فلا يجوز قصرها إن لم نجوز قصر القضاء. قال الأصحاب: ويجب أن ينوي في وقت الأولى كون التأخير بنية الجمع. فلو أخر بغير نية حتى خرج الوقت، أو ضاق بحيث لم يبق منه ما تكون الصلاة فيه أداء، عصى، وصارت الأولى قضاء. فرع: إذا جمع تقديما، فصار في أثناء الأولى أو قبل الشروع في الثانية مقيما بنية الإقامة، أو وصول السفينة دار الإقامة، بطل الجمع، فيتعين تأخير الثانية إلى وقتها، وأما الأولى فصحيحة. فلو صار مقيما في أثناء الثانية، فوجهان.
500 أحدهما: يبطل الجمع، كما يمتنع القصر بالإقامة في أثنائها. فعلى هذا، هل تكون الثانية نفلا، أم تبطل؟ فيه الخلاف كنظائره. وأصحهما: لا يبطل الجمع صيانة لها عن البطلان بعد الانعقاد، بخلاف القصر، فإن وجوب الاتمام، لا يبطل فرضية ما مضى من صلاته. أما إذا صار مقيما بعد الفراغ من الثانية، فإن قلنا: الإقامة في أثنائها لا تؤثر، فهنا أولى، وإلا فوجهان. الأصح: لا يبطل الجمع، كما لو قصر ثم أقام. ثم قال صاحب (التهذيب) وآخرون: الخلاف فيما إذا أقام بعد فراغه من الصلاتين، إما في وقت الأولى، وإما في وقت الثانية قبل مضي إمكان فعلها. فإن كان بعد إمكان فعلها، لم تجب إعادتها بلا خلاف. وصرح إمام الحرمين بجريان الخلاف مهما بقي من وقت الثانية شئ. هذا كله إذا جمع تقديما. فلو جمع في وقت الثانية، فصار مقيما بعد فراغه منهما، لم يضر. وإن كان قبل الفراغ، صارت الأولى قضاء. فصل: يجوز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، بعذر المطر. ولنا قول شاذ ضعيف، حكاه إمام الحرمين: أنه يجوز بين المغرب والعشاء في وقت المغرب دون الظهر والعصر، وهو مذهب مالك (1). وقال المزني: لا يجوز مطلقا، وسواء عندنا قوي المطر وضعيفه إذا بل الثوب، والشفان، مطر وزيادة. قلت: الشفان - بفتح الشين المعجمة، وتشديد الفاء، وآخره نون (2) - وهو برد ريح فيه ندوة، وكذا قاله أهل اللغة. وهو تصريح بأنه ليس بمطر، فضلا عن كونه مطرا وزيادة، فكأن الرافعي قلد صاحب (التهذيب) في إطلاق هذه العبارة المنكرة. وصوابه أن يقال: الشفان له حكم المطر، لتضمنه القدر المبيح من المطر، وهو ما يبل الثوب، وهو موجود في الشفان. والله أعلم. والثلج، والبرد، إن كانا يذوبان، فكالمطر، وإلا، فلا. وفي وجه شاذ: لا يرخصان بحال. ثم هذه الرخصة لمن يصلي جماعة في مسجد يأتيه من بعد، ويتأذى بالمطر في إتيانه. فأما من يصلي في بيته منفردا، أو في جماعة، أو مشى
501 إلى المسجد في كن، أو كان المسجد في باب داره، أو صلى النساء في بيوتهن جماعة، أو حضر جميع الرجال في المسجد، وصلوا أفرادا، فلا يجوز الجمع على الأصح. وقيل: على الأظهر. ثم إن أراد الجمع في وقت الأولى، فشروطه كما تقدمت في جمع السفر. وإن أراد تأخير الأولى إلى الثانية، كالسفر، لم يجز على الأظهر الجديد، ويجوز على القديم. فإذا جوزناه، قال العراقيون: يصلي الأولى مع الثانية، سواء اتصل المطر، أو انقطع. وقال في (التهذيب): إذا انقطع قبل دخول وقت الثانية، لم يجز الجمع، ويصلي الأولى في آخر وقتها، كالمسافر إذا أخر بنية الجمع، ثم أقام قبل دخول وقت الثانية، ومقتضى هذا أن يقال: لو انقطع في وقت الثانية قبل فعلها، امتنع الجمع، وصارت الأولى قضاء، كما لو صار مقيما. وعكس صاحب (الإبانة) ما قاله الأصحاب، واتفقوا عليه، فقال: يجوز الجمع في وقت الثانية. وفي جوازه في وقت الأولى، وجهان. وهذا نقل منكر. وأما إذا جمع في وقت الأولى، فلا بد من وجود المطر في أول الصلاتين، ويشترط وجوده أيضا عند التحلل من الأولى على الأصح الذي قاله أبو زيد، وقطع به العراقيون، وصاحب (التهذيب) وغيرهم. والثاني: لا يشترط. ونقله في (النهاية) عن معظم الأصحاب. ولا يضر انقطاعه فيما سوى هذه الأحوال الثلاث. هذا هو الصواب الذي نص عليه الشافعي، وقطع به الأصحاب في طرقهم. ونقل في (النهاية) عن بعض المصنفين أنه قال: في انقطاعه في أثناء الثانية، أو بعدها مع بقاء الوقت، الخلاف المتقدم في طريان الإقامة في جمع السفر. وضعفه، وأنكره، وقال: إذا لم يشترط دوام المطر في الأولى، فأولى أن لا يشترط في الثانية وما بعدها. وذكر القاضي ابن كج عن بعض الأصحاب: أنه لو افتتح الصلاة الأولى ولا مطر، ثم مطرت في أثنائها، ففي جواز الجمع، القولان في نية الجمع في أثناء الأولى. واختار ابن الصباغ هذه الطريقة، والصحيح المشهور ما قدمناه. فرع: يجوز الجمع بين صلاة الجمعة والعصر للمطر، فإذا قدم العصر، فلا بد من وجود المطر في الأحوال الثلاثة كما تقدم. قال صاحب (البيان): ولا يشترط وجوده في الخطبتين، وقد ينازع فيه ذهابا إلى جعلهما بدل الركعتين. قال: وإن أراد تأخير الجمعة إلى وقت العصر، جاز إذا جوزنا تأخير الظهر، فيخطب في وقت العصر ويصلي.
502 فرع: المعروف في المذهب: أنه لا يجوز الجمع بالمرض، ولا الخوف، ولا الوحل. وقال جماعة من أصحابنا: يجوز بالمرض، والوحل. ممن قاله من أصحابنا: أبو سليمان الخطابي، والقاضي حسين، واستحسنه الروياني. فعلى هذا، يستحب أن يراعي الأرفق بنفسه، فإن كان يحم مثلا في وقت الثانية، [قدمها إلى الأولى بالشرائط المتقدمة، وإن كان يحم في وقت الأولى، أخرها إلى الثانية] (1). قلت: القول: بجواز الجمع بالمرض ظاهر مختار (2). فقد ثبت في (صحيح مسلم) (3): أن النبي (ص)، (جمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر). وقد حكى الخطابي، عن القفا الكبير الشاشي، عن أبي إسحاق المروزي: جواز الجمع في الحضر للحاجة من غير اشتراط الخوف، والمطر، والمرض، وبه قال ابن المنذر من أصحابنا. والله أعلم. فرع: إذا جمع الظهر والعصر، صلى سنة الظهر، ثم سنة العصر، ثم يأتي بالفريضتين. وفي جمع العشاء والمغرب، يصلي الفريضتين، ثم سنة المغرب، ثم سنة العشاء، ثم الوتر. قلت: هذا الذي قاله الامام الرافعي في المغرب والعشاء، صحيح، وأما في الظهر والعصر، فشاذ ضعيف، والصواب الذي قاله المحققون: أنه يصلي سنة الظهر التي قبلها، ثم يصلي الظهر، ثم العصر، ثم سنة الظهر التي بعدها، ثم سنة العصر. وكيف يصح سنة الظهر التي بعدها، قبل فعلها، وقد تقدم أن وقتها يدخل بفعل الظهر؟! وكذا سنة العصر لا يدخل وقتها إلا بدخول وقت العصر، ولا يدخل وقت العصر المجموعة إلى الظهر، إلا بفعل الظهر الصحيحة. والله أعلم.
503 فصل: الرخص المتعلقة بالسفر الطويل، أربع: القصر، والفطر، والمسح على الخف ثلاثة أيام ولياليهن، والجمع على الأظهر. والتي تجوز في القصر أيضا أربع: ترك الجمعة، وأكل الميتة - وليس مختصا بالسفر - والتنفل على الراحلة على المشهور، والتيمم، وإسقاط الفرض به على الصحيح فيهما (1). فصل: القصر أفضل من الاتمام على الأظهر. وعلى الثاني: الاتمام. وفي وجه: هما سواء. واستثنى الأصحاب صورا من الخلاف. منها: إذا كان السفر دون ثلاثة أيام، فالاتمام أفضل قطعا. نص عليه، وقد تقدم. ومنها: أن يجد من نفسه كراهة القصر (2)، فيكاد يكون رغبة عن السنة، فالقصر لهذا أفضل قطعا، بل يكره له الاتمام إلى أن تزول تلك الكراهة. وكذلك القول في جميع الرخص في هذه الحالة. ومنها: الملاح الذي يسافر في البحر، ومعه أهله وأولاده في سفينة، فإن الأفضل له الاتمام. نص عليه في (الام). وفيه خروج من الخلاف، فإن أحمد، لا يجوز له القصر. قلت: ومنها ما حكاه صاحب (البيان) عن صاحب (الفروع): أن الرجل إذا كان لا وطن له، وعادته السير أبدا، فله القصر، ولكن الاتمام أفضل، والله أعلم.
504 واعلم: أن صوم رمضان في السفر لمن أطاقه، أفضل من الافطار على المذهب. قلت: وترك الجمع أفضل بلا خلاف، فيصلي كل صلاة في وقتها، للخروج من الخلاف، فإن أبا حنيفة، وجماعة من التابعين لا يجوزونه. وممن نص على أن تركه أفضل: الغزالي، وصاحب (التتمة). قال الغزالي في (البسيط): لا خلاف أن ترك الجمع أفضل. قال أصحابنا: وإذا جمع، كانت الصلاتان أداء، سواء جمع في وقت الأولى، أو الثانية. ولنا وجه شاذ في (الوسيط) وغيره: أن المؤخرة تكون قضاء. وغسل الرجل أفضل من مسح الخف، إلا إذا تركه رغبة عن السنة، أو شك في جوازه كما تقدم ومن فروع هذا الكتاب، لو نوى الكافر، أو الصبي السفر إلى مسافة القصر، ثم أسلم، وبلغ في أثناء الطريق، فلهما القصر في بقيته. ولو نوى مسافران إقامة أربعة أيام، وأحدهما يعتقد انقطاع القصر بها، كالشافعي، والآخر لا يعتقده كالحنفي، كره للأول أن يقتدي بالثاني. فإن اقتدى، صح. فإذا سلم الامام من ركعتين، قام المأموم لاتمام صلاته. ولا يجوز القصر في البلد للخوف، ولا يقصر الصلاة في الخوف إلى ركعة. وفي حديث ابن عباس في (مسلم): (فرضت الصلاة في السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة) معناه: ركعة مع الامام، وينفرد المأموم بأخرى. والله أعلم.
505 كتاب صلاة الجمعة (1) فيه ثلاثة أبواب: [الباب الأول] في شروطها اعلم أن صلاة الجمعة فرض عين. وحكى ابن كج وجها: أنها فرض كفاية. وحكي قولا، وغلطوا حاكيه (2)، قال الروياني: لا يجوز حكاية هذا عن الشافعي رحمه الله. واعلم أن الجمعة كالفرائض الخمس في الأركان والشروط، إلا أنها تختص بثلاثة أشياء. أحدها: اشتراط أمور زائدة لصحتها. والثاني: اشتراط أمور زائدة لوجوبها.
507 والثالث: آداب تشرع فيها. وهذا الباب لشروط الصحة. وهي ستة: الأول: الوقت: فلا تقضى الجمعة على صورتها (1) بالاتفاق، ووقتها: وقت الظهر (2). ولو خرج الوقت، أو شكوا في خروجه، لم يشرعوا فيها. ولو بقي من الوقت ما لا يسع خطبتين وركعتين يقتصر فيهما على ما لا بد منه، لم يشرعوا فيها، بل يصلون الظهر (3). نص عليه في (الام). ولو شرعوا فيها في الوقت، ووقع بعضها خارجه، فاتت الجمعة قطعا، ووجب عليهم إتمامها ظهرا على المذهب. وفيه قول مخرج: أنه يجب استئناف الظهر. فعلى المذهب، يسر بالقراءة من حينئذ، ولا يحتاج إلى تجديد نية الظهر على الأصح. وإن قلنا بالمخرج، فهل تبطل صلاته، أم تنقلب نفلا؟ قولان مذكوران في نظائره، تقدما في أول (صفة الصلاة) ولو شك هل خرج الوقت وهو في الصلاة؟ أتمها جمعة على الصحيح، وظهرا على الثاني. ولو قام المسبوق الذي أدرك ركعة ليأتي بالثانية، فخرج الوقت قبل سلامه، أتمها ظهرا على الأصح، وجمعة على الثاني. ولو سلم الامام والقوم التسليمة الأولى في الوقت، والثانية خارجه، صحت جمعتهم. ولو سلم الامام الأولى خارج الوقت، فاتت جمعة الجميع. ولو سلم الامام وبعض المأمومين الأولى في الوقت، وسلمها بعض المأمومين خارجه، فمن سلمها خارجه، فظاهر المذهب بطلان صلاتهم. وأما الامام ومن سلم معه في الوقت، فإن بلغوا عددا تصح بهم الجمعة، صحت لهم، وإلا فهو شبيه بمسألة الانفضاض (4). ثم سلامه وسلامهم خارج الوقت، إن كان مع العلم بالحال، تعذر بناء الظهر عليه قطعا، لبطلان الصلاة، إلا أن يغيروا النية إلى النفل ويسلموا، ففيه ما سبق. وإن
508 كان عن جهل منه، لم تبطل صلاته. وهل يبني، أم يستأنف؟ فيه الخلاف الذي ذكرناه. الشرط الثاني: دار الإقامة، فيشترط لصحة الجمعة دار الإقامة، وهي الأبنية التي يستوطنها العدد الذين يصلون الجمعة، سواء فيه البلاد، والقرى، والأسراب التي يتخذها وطنا (1)، وسواء فيه البناء من حجر، أو طين، أو خشب. وأما أهل الخيام النازلون في الصحراء، ويتنقلون في الشتاء (2) وغيره، فلا تصح جمعتهم فيها، فإن كانوا لا يفارقونها شتاء ولا صيفا، فالأظهر أنها لا تصح. والثاني: تصح وتجب. ولو انهدمت أبنية القرية، أو البلد، فأقام أهلها على العمارة، لزمهم الجمعة فيها، سواء كانوا في مظال، أو غيرها، لأنه محل الاستيطان. ولا يشترط إقامتها في مسجد، ولا في كن، بل يجوز في فضاء معدود من خطة البلد، فأما الموضع الخارج عن البلد الذي (3) انتهى إليه الخارج للسفر قصر، فلا يجوز إقامة الجمعة فيه. الشرط الثالث: أن لا يسبق الجمعة، ولا يقارنها أخرى (4). قال الشافعي
509 رحمه الله: ولا يجمع في مصر - وإن عظم، وكثرت مساجده - إلا في موضع واحد (1). وأما بغداد، فقد دخلها الشافعي رحمه الله وهم يقيمون الجمعة في موضعين. وقيل: في ثلاثة، فلم ينكر عليهم. واختلف أصحابنا في أمرها على أوجه. أصحها: أنه إنما جازت الزيادة فيها على جمعة، لأنها بلدة كبيرة يشق اجتماعهم في موضع واحد، فعلى هذا تجوز الزيادة على الجمعة الواحدة في جميع البلاد، إذا كثر الناس وعسر اجتماعهم، وبهذا قال أبو العباس، وأبو إسحاق، وهو الذي اختاره أكثر أصحابنا تصريحا وتعريضا. وممن رجحه: القاضي ابن كج، والحناطي (2) - بالحاء المهملة المفتوحة، وتشديد النون - والقاضي الروياني، والغزالي. والثاني: إنما جازت الزيادة فيها، لان نهرها يحول بين جانبيها فيجعلها كبلدتين. قاله أبو الطيب ابن سلمة. وعلى هذا لا يقام في كل جانب إلا جمعة. وكل (3) بلد حال بين جانبيه نهر يحوج إلى السباحة، فهو كبغداد. واعترض عليه، بأنه لو كان الجانبان كبلدين، لقصر من عبر من أحدهما إلى الآخر، والتزم ابن سلمة المسألة، وجوز القصر. والثالث: إنما جازت الزيادة، لأنها كانت قرى متفرقة، ثم اتصلت الأبنية، فأجري عليها حكمها القديم، فعلى هذا، يجوز تعدد الجمعة في كل بلد هذا شأنه. واعترض عليه أبو حامد بما اعترض على الثاني. ويجاب بما
510 أجيب في الثاني. وأشار إلى هذا الجواب صاحب (التقريب). والرابع: أن الزيادة لا تجوز بحال، وإنما لم ينكر الشافعي، لان المسألة اجتهادية، وليس لمجتهد أن ينكر على المجتهدين. وهذا ظاهر نص الشافعي رحمه الله المتقدم. واقتصر عليه الشيخ أبو حامد وطبقته، لكن المختار عند الأكثرين ما قدمناه. وحيث منعنا الزيادة على جمعة، فعقدوا جمعتين، فله صور. أحدها: أن تسبق إحداهما فهي الصحيحة. والثانية: باطلة. وبم يعرف السبق؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: بالاحرام (1). والثاني: بالسلام. والثالث: بالشروع في الخطبة، ولم يحك أكثر العراقيين هذا الثالث. فإذا قلنا بالأول، فالاعتبار بالفراغ من تكبيرة الاحرام. فلو سبقت إحداهما بهمزة التكبيرة، والأخرى بالراء منها، فالصحيحة هي السابقة (2) بالراء، على الأصح. وعلى الثاني: السابقة بالهمزة. ثم على اختلاف الأوجه، لو سبقت إحداهما، وكان السلطان مع الأخرى، فالأظهر أن السابقة هي الصحيحة، ولا أثر للسلطان. والثاني: أن التي معها السلطان، هي الصحيحة. ولو دخلت طائفة في الجمعة، فأخبروا أن طائفة سبقتهم (3) بما ذكرنا، استحب لهم استئناف الظهر. وهل لهم أن يتموها ظهرا؟ فيه الخلاف السابق، فيما إذا خرج الوقت وهم في الجمعة. الصورة الثانية: أن تقع الجمعتان معا، فباطلتان (4)، وتستأنف جمعة إن وسع الوقت. الثالثة: أن يشكل الحال، ولا يدري اقترنتا، أم سبقت إحداهما، فيعيدون
511 الجمعة أيضا، لان الأصل عدم جمعة مجزئة. قال إمام الحرمين (1): وقد حكم الأئمة بأنهم إذا أعادوا الجمعة، برئت ذمتهم. وفيه إشكال لاحتمال تقدم إحداهما، فلا تصح أخرى، ولا تبرأ ذمتهم بها. فسبيل اليقين: أن يقيموا جمعة، ثم يصلوا ظهرا. الرابعة: أن تسبق إحداهما بعينها، ثم تلتبس (2)، فلا تبرأ واحدة من الطائفتين عن العهدة، خلافا للمزني. ثم ماذا عليهم؟ فيه طريقان. المذهب: أن عليهم الظهر. والثاني: على القولين في الصورة الخامسة، وبه قطع العراقيون. الخامسة: أن تسبق إحداهما ولا يتعين، بأن سمع مريضان، أو مسافران، تكبيرتين متلاحقتين وهما خارج المسجدين، فأخبراهم بالحال ولم يعرفا المتقدمة، فلا تبرأ واحدة منهما عن العهدة، خلافا للمزني أيضا. وماذا عليهم؟ قولان. أظهرهما في (الوسيط): أنهم يستأنفون الجمعة، والثاني: يصلون الظهر. قال أصحابنا (3): وهو القياس. قلت: الثاني أصح، وصححه الأكثرون والله أعلم. قال أصحابنا العراقيون: لو كان الامام في إحدى الطائفتين في الصور الأربع الأخيرة، ترتب على الصورة الأولى. فإن قلنا: التي فيها الامام هي الصحيحة مع العلم بتأخرها، فهنا أولى، وإلا فلا أثر لحضوره. الشرط الرابع: العدد. فلا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين، هذا هو المذهب الصحيح المشهور. ونقل صاحب (التلخيص) قولا عن القديم: أنها تنعقد بثلاثة: إمام، ومأمومين. ولم يثبته عامة الأصحاب. ويشترط في الأربعين: الذكورة، والتكليف، والحرية (4)، والإقامة على سبيل التوطن. وصفة التوطن: أن لا يظعنوا
512 عن ذلك الموضع شتاء ولا صيفا، إلا لحاجة. فلو كانوا ينزلون في ذلك الموضع صيفا، ويرتحلون شتاء، أو عكسه، فليسوا مستوطنين، فلا تنعقد بهم. وفي انعقادها بالمقيم الذي لم يجعل الموضع وطنا له، خلاف نذكره في الباب الثاني إن شاء الله تعالى. وتنعقد بالمرضى على المشهور. وفي قول شاذ: لا تنعقد بهم، كالعبيد. فعلى هذا، صفة الصحة شرط خامس. ثم الصحيح، أن الامام من جملة الأربعين. والثاني أنه (1) يشترط أن يكون زائدا عن (2) الأربعين. وحكى الروياني هذا الخلاف قولين. الثاني، القديم (3). فرع: العدد المعتبر في الصلاة - وهو الأربعون - معتبر في الكلمات الواجبة من الخطبتين، واستماع القوم لها. فلو حضر العدد، ثم انفضوا كلهم، أو بعضهم، وبقي دون أربعين (4)، فتارة ينقصون قبل الخطبة، وتارة فيها، وتارة بعدها، وتارة في الصلاة، فإن انفضوا قبل افتتاح الخطبة، لم يبتدأ بها حتى يجتمع أربعون، وإن كان في أثنائها، فلا خلاف أن الركن المأتي به في غيبتهم غير محسوب، بخلاف ما إذا نقص العدد في الصلاة، فإن فيها خلافا، لان كلا يصلي لنفسه، فسومح بنقص العدد فيها. والخطيب لا يخطب لنفسه، إنما الغرض: استماع الناس، فما جرى ولا مستمع، فات فيه الغرض، فلم يحتمل. ثم إن عادوا قبل طول الفصل، بنى على خطبته، وبعد طوله، قولان يعبر عنهما بأن الموالاة في الخطبة واجبة، أم لا؟ والأظهر: أنها واجبة، فيجب الاستئناف. والثاني: غير واجبة فيبني. وبنى جماعة القولين، على أن الخطبتين بدل من الركعتين فيجب الاستئناف، أم لا، فلا ولا فرق بين فوات الموالاة بعذر أو بغيره. ولو لم يعد الأولون، واجتمع بدلهم أربعون،
513 وجب استئناف الخطبة، طال الفصل أم قصر. أما إذا انفضوا بعد فراغ الخطبة، فإن عادوا قبل طول الفصل، صلى الجمعة بتلك الخطبة. وإن عادوا بعد طوله، ففي اشتراط الموالاة بين الخطبة والصلاة، قولان. الأظهر: الاشتراط. فلا يمكن الصلاة بتلك الخطبة. وعلى الثاني: يصلي بها. ثم نقل المازني، أن الشافعي قال: أحببت أن تبتدئ الخطبة، ثم يصلي الجمعة، فإن لم يفعل، صلى بهم الظهر. واختلف الأصحاب في معناه، فقال ابن سريج، والقفال، والأكثرون: يجب أن يعيد الخطبة، ويصلي بهم الجمعة لتمكنه. قالوا: ولفظ الشافعي: أوجبت، ولكنه صحف. ومنهم من قال: أراد بأحببت: أوجبت. قالوا: وقوله: صلى بهم الظهر، محمول على ما إذا ضاق الوقت. وقال أبو إسحاق: لا يجب إعادة الخطبة، لكن يستحب، وتجب الجمعة للقدرة (1). وقال أبو علي في (الافصاح): لا تجب إعادة الخطبة، ولا الجمعة، ولكن يستحبان عملا بظاهر النص. ودليل الثاني والثالث في ترك الخطبة، خوف الانفضاض ثانيا، فسقطت بهذا العذر، وحصل خلاف في وجوب إقامة الجمعة، كما اختصره الغزالي، فقال: إن شرطنا الموالاة، ولم تعد الخطبة، أتم المنفضون. وهل يأثم الخطيب؟ قولان. قلت: الأصح قول ابن سريج، ومتابعيه، وأن الخطيب يأثم إذا لم يعد، والله أعلم. وسواء طال الفصل والخطيب ساكت، أو مستمر في الخطبة، ثم لما عادوا أعاد ما جرى من واجبها في حال الانفضاض. أما إذا أحرم بالعدد المعتبر، ثم حضر أربعون آخرون وأحرموا، ثم انفض الأولون، فلا يضر، بل يتم الجمعة، سواء كان اللاحقون سمعوا الخطبة، أم لا. قال إمام الحرمين: ولا يمتنع (2) عندي أن يقال: عندي (3) يشترط بقاء أربعين سمعوا الخطبة، فلا تستمر الجمعة إذا كان اللاحقون لم يسمعوها. فأما إذا انفضوا ولحق أربعون على الاتصال فقد قال في (الوسيط): تستمر الجمعة. لكن يشترط هنا أن يكون اللاحقون سمعوا الخطبة. أما إذا انفضوا فنقص العدد في باقي الصلاة، ففيه خمسة أقوال منصوصة ومخرجة. أظهرها:
514 تبطل الجمعة ويشترط العدد في جميعها. فعلى هذا، لو أحرم الامام، وتبطأ المقتدون (1)، ثم أحرموا، فإن تأخر تحرمهم عن ركوعه، فلا جمعة. وإن لم يتأخروا عن ركوعه (2)، فقال القفال: تصح الجمعة. وقال الشيخ أبو محمد: يشترط أن لا يطول الفصل بين إحرامه وإحرامهم. وقال إمام الحرمين: الشرط أن يتمكنوا من إتمام الفاتحة، فإذا حصل ذلك، لم يضر الفصل، وهذا هو الأصح عند الغزالي. والقول الثاني: إن بقي اثنان مع الامام، أتم الجمعة، وإلا بطلت. والثالث: إن بقي معه واحد، لم تبطل، وهذه الثلاثة منصوصة. الأولان في الجديد. والثالث: القديم. ويشترط في الواحد والاثنين: كونهما بصفة الكمال. وقال صاحب (التقريب): في اشتراط الكمال احتمال، لأنا اكتفينا باسم الجماعة. قلت: هذا الاحتمال حكاه صاحب (الحاوي) وجها محققا لأصحابنا، حتى لو بقي صبيان، أو صبي، كفى. والصحيح: اشتراط الكمال. قال في (النهاية): احتمال صاحب (التقريب) غير معتد به. والله أعلم. والرابع: لا تبطل وإن بقي واحدة (3). والخامس: إن كان الانفضاض في الركعة الأولى بطلت الجمعة. وإن كان بعدها، لم تبطل، ويتم الامام الجمعة وحده، وكذا من معه إن بقي معه أحد. الشرط الخامس: الجماعة (4). فلا تصح الجمعة بالعدد فرادى. وشروط الجماعة: على ما سبق في غير الجمعة (5). ولا يشترط حضور السلطان، ولا إذنه فيها. وحكى في (البيان) قولا قديما: إنها لا تصح إلا خلف الامام، أو من أذن له، وهو شاذ منكر. ثم لامام الجمعة أحوال. أحدها: أن يكون عبدا، أو مسافرا، فإن تم به العدد، لم تصح الجمعة،
515 وإن تم بغيره (1)، صحت على المذهب (2). وقيل: وجهان. أصحهما: الصحة. والثاني: البطلان. هذا إذا صليا الجمعة قبل أن يصليا الظهر. فإن كانا صليا ظهر يومهما، فهما متنفلان بالجمعة. وفي الجمعة خلفهما ما يأتي في المتنفل. الحال الثاني: أن يكون صبيا، أو متنفلا، فإن تم العدد به، لم تصح، وإن تم دونه، صحت على الأظهر (3) عند الأكثرين. واتفقوا على أن الجواز في المتنفل أظهر منه في الصبي، لأنه من أهل الفرض ولا نقص فيه. الحال الثالث: أن يصلوا الجمعة خلف من يصلي صبحا، أو عصرا، فكالمتنفل. وقيل: تصح قطعا، لأنه يصلي فرضا. ولو صلوها (4) خلف مسافر يقصر الظهر، جاز إن قلنا (5): الجمعة ظهر مقصورة. وإن قلنا: صلاة على حيالها، فكالصبح. الحال الرابع: إذا بان الامام بعد الصلاة جنبا أو محدثا، فإن تم العدد به، لم تصح. وإن تم دونه، فالأظهر: الصحة. نص عليه في (الام)، وصححه العراقيون، وأكثر أصحابنا. والثاني: لا تصح، لان الجماعة شرط، والامام غير مصل، بخلاف سائر الصلوات، فإن الجماعة فيها ليست شرطا. وغايته أنهم صلوها فرادى. والمنع هنا أقوى منه في مسألة الاقتداء بالصبي. وقال الأكثرون المرجحون للأول: لا نسلم أن حدث الامام يمنع صحة الجماعة، وثبوت حكمها في حق المأموم الجاهل بحاله. وقالوا: لا يمنع نيل فضيلة الجماعة في سائر الصلوات، ولا غيره من أحكام الجماعة. وعلى الأظهر، قال صاحب (البيان): لو صلى الجمعة بأربعين، فبان أن المأمومين محدثون، صحت صلاة الامام (6).
516 بخلاف ما لو بانوا عبيدا، أو نساء، فإن ذلك مما يسهل الاطلاع عليه. وقياس من يذهب إلى المنع 0 أن لا تصح جمعة الامام لبطلان الجماعة. الحال الخامس: إذا قام الامام في غير الجمعة إلى ركعة زائدة سهوا، فاقتدى به إنسان فيها، وأدرك جميع الركعة، فإن كان عالما بسهوه، لم تنعقد صلاته على الأصح. وإن كان جاهلا، حسبت له الركعة، ويبني عليها بعد سلام الامام وإن لم تكن تلك الركعة محسوبة للامام كالمحدث. بخلاف ما لو بان الامام كافرا، أو امرأة، لأنهما ليسا أهلا للإمامة بحال. وعلى الوجه الثاني (1): تنعقد الصلاة، ولا تحسب هذه الركعة للمأموم. فلو جرى هذا في الجمعة، فإن قلنا: في غير الجمعة لا يدرك به الركعة، لم يدرك به هنا الجمعة، ولا تحسب عن الظهر أيضا، وإن قلنا: يدركها في غير الجمعة، فهل تحسب هذه الركعة عن الجمعة؟ وجهان بناء على القولين في المحدث. واختار ابن الحداد: أنها لا تحسب. واعلم أن الأصحاب لم يذكروا في المحدث إذا لم تحصل الجمعة: أن صلاة المقتدي به منعقدة، وإن المأتي به يحسب عن الظهر، حتى لو تبين الحال قبل سلام الامام أو بعده على قرب، يتمها ظهرا إذا جوزنا بناء الظهر على الجمعة. ومقتضى التسوية بين الفصلين: الانعقاد والاحتساب عن الظهر. فرع: إذا أدرك المسبوق ركوع الامام في ثانية الجمعة، كان مدركا للجمعة. فإذا سلم الامام، أتى بثانية (2)، وإذا أدركه بعد ركوعها، لم يدرك الجمعة، ويقوم بعد سلام الامام إلى أربع للظهر (3)، وكيف ينوي هذا المدرك بعد
517 الركوع؟ وجهان. أصحهما: ينوي الجمعة موافقة للامام (1). والثاني: الظهر، لأنها الحاصلة (2). فلو صلى مع الامام ركعة، ثم قام فصلى أخرى، وعلم في التشهد أنه ترك سجدة من إحدى الركعتين، نظر، إن علمها من الثانية، فهو مدرك للجمعة، فيسجد سجدة، ويعيد التشهد، ويسجد للسهو ويسلم. وإن علمها من الأولى، أو شك، لم يكن مدركا للجمعة، وحصلت له ركعة من الظهر، ولو أدركه في الثانية، وشك هل سجد معه سجدة، أم سجدتين؟ فإن لم يسلم الامام، سجد بعد سجدة أخرى، وكان مدركا للجمعة. وإن سلم الامام، لم يدرك الجمعة، فيسجد ويتم الظهر. أما ذا أدرك في غير الجمعة الامام في ركوع غير محسوب، كركوع الامام المحدث، وركوع الامام (3) الساهي بزيادة ركعة، وقلنا: إنه لو أدركها كلها، حسبت، فوجهان. أصحهما: لا يكون مدركا للركعة. والثاني: يدركها. فلو أدرك ركوع ثانية الجمعة، فبان الامام محدثا، وقلنا: لو أدرك الركعة بكمالها مع المحدث في الجمعة حسبت، فعلى هذين الوجهين، الأصح: لا يدرك الجمعة. فصل: إذا خرج الامام عن الصلاة بحدث تعمده، أو سبقه، أو بسبب غيره، أو بلا سبب، فإن كان في غير الجمعة، ففي جواز الاستخلاف قولان. أظهرهما الجديد: يجوز (4). والقديم: لا يجوز. ولنا وجه: أنه يجوز بلا خلاف في غير الجمعة. وإنما القولان في الجمعة، والمذهب: طرد القولين في جميع الصلوات. فإن لم نجوز الاستخلاف، أتم القوم صلاتهم فرادى. وإن جوزناه، فيشترط كون الخليفة صالحا لامامة القوم. فلو استخلف لامامة الرجال امرأة، فهو
518 لغو، ولا تبطل صلاتهم إلا أن يقتدوا بها. قال إمام الحرمين: ويشترط حصول الاستخلاف على قرب. فلو فعلوا على الانفراد ركنا، امتنع الاستخلاف بعده. وهل يشترط كون الخليفة ممن اقتدى بالامام قبل حدثه؟ قال الأكثرون من العراقيين، وغيرهم: إن استخلف في الركعة الأولى أو الثالثة (1) من الرباعية من لم يقتد به، جاز، لأنه لا يخالفهم في الترتيب، وإن استخلفه في الثانية، أو الأخيرة، لم يجز، لأنه يحتاج إلى القيام، ويحتاجون إلى القعود. وأطلق جماعة اشتراط كون الخليفة ممن اقتدى به. وبه قطع إمام الحرمين، وزاد فقال: لو أمر الامام أجنبيا فتقدم، لم يكن خليفة، بل عاقد لنفسه صلاة، جاز على ترتيب نفسه فيها. فلو اقتدى به القوم، فهو اقتداء منفردين في أثناء الصلاة. وقد سبق الخلاف فيه في موضعه، لان قدوتهم انقطعت بخروج الامام عن الصلاة. ولا يشترط كون الخليفة مقتديا في الأولى، بل يجوز استخلاف المسبوق. ثم عليه مراعاة نظم صلاة الامام، فيقعد في موضع قعوده، ويقوم في موضع قيامه، كما كان يفعل لو لم يخرج عن الصلاة، حتى لو لحق الامام في ثانية الصبح، ثم أحدث الامام فيها، واستخلفه، قنت وقعد فيها للتشهد، ثم يقنت في الثانية لنفسه. ولو سها قبل اقتدائه، أو بعده، سجد في آخر صلاة الامام، وأعاد في آخر صلاة نفسه على الأظهر . وإذا تمت صلاة الامام، قام لتدارك ما عليه. وهم بالخيار، إن شاؤوا فارقوه وسلموا، وإن شاؤوا صبروا جلوسا ليسلموا معه. هذا كله إذا عرف المسبوق نظم صلاة الامام، فإن لم يعرف، فقولان. وقيل: وجهان. قلت: أرجحهما دليلا (2): أنه لا يصح. وقال الشيخ أبو علي السنجي: أصحهما: جوازه (3). والله أعلم. فإن جوزنا، راقب القوم إذا أتم الركعة، فإن هموا بالقيام، قام، وإلا قعد. وسهو الخليفة قبل حدث الامام، يحمله الامام. وسهوه بعده يقتضي السجود عليه
519 وعلى القوم. وسهو القوم قبل حدث الامام [يحمله الامام وسهوه بعده] (1) وبعد الاستخلاف، محمول، وبينهما غير محمول، بل يسجد الساهي بعد سلام الخليفة. هذا كله في غير الجمعة. أما الاستخلاف في الجمعة، ففيه القولان. فإن لم نجوزه: فالمذهب أنه إن أحدث في الأولى، أتم القوم صلاتهم ظهرا. وإن أحدث في الثانية، أتمها جمعة من أدرك معه ركعة. ولنا قول: أنهم يتمونها جمعة في الحالين. ووجه: أنهم يتمونها ظهرا في الحالين. وإن جوزنا الاستخلاف، نظر، إن استخلف من لم يقتد به، لم يصح، ولم يكن لذلك الخليفة أن يصلي الجمعة، لأنه لا يجوز ابتداء جمعة بعد جمعة. وفي صحة ظهر هذا الخليفة، خلاف مبني على أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة، أم لا؟ فإن قلنا: لا تصح، فهل تبقى نفلا؟ فيه القولان. فإن قلنا: لا تبقى فاقتدى به القوم، بطلت صلاتهم. وإن صححناها وكان ذلك في الركعة الأولى، فلا جمعة لهم. وفي صحة الظهر خلاف مبني على صحة الظهر بنية الجمعة. وإن كان في الركعة الثانية واقتدوا به، كان هذا اقتداء طارئا على الانفراد. وفيه الخلاف الجاري في سائر الصلوات. وفيه شئ آخر، وهو الاقتداء في الجمعة بمن يصلي الظهر، أو النافلة، وفيه الخلاف المتقدم. أما إذا استخلف من اقتدى به قبل الحدث، فينظر، إن لم يحضر الخطبة، فوجهان. أحدهما: لا يصح استخلافه، كما لو استخلف بعد الخطبة من لم يحضرها ليصلي بهم، فإنه لا يجوز. وأصحهما: الجواز. ونقل الصيدلاني في هذا الخلاف قولين: المنع عن البويطي، والجواز عن أكثر الكتب. والخلاف في مجرد حضور الخطبة. ولا يشترط سماعها (2) بلا خلاف، وصرح به الأصحاب. وإن كان حضر الخطبة، أو لم يحضرها، وجوزنا استخلافه، نظر، إن استخلف من أدرك معه الركعة الأولى، جاز وتمت لهم (3) الجمعة، سواء أحدث الامام في الأولى
520 أم الثانية. وفي وجه شاذ ضعيف: أن الخليفة يصلي الظهر، والقوم يصلون الجمعة. وإن استخلف من أدركه في الثانية، قال إمام الحرمين: إن قلنا: لا يجوز استخلاف من لم يحضر الخطبة، لم يجز استخلاف هذا المسبوق، وإلا، فقولان. أظهرهما: - وبه قطع الأكثرون - الجواز. فعلى هذا، يصلون الجمعة. وفي الخليفة وجهان (1). أحدهما: يتمها جمعة. والثاني، وهو الصحيح المنصوص: لا يتمها جمعة. فعلى هذا، يتمها ظهرا على المذهب. وقيل: قولان. أحدهما: يتمها ظهرا. والثاني: لا. فعلى هذا، هل تبطل، أم تنقلب نفلا؟ قولان. فإن أبطلناها، امتنع استخلاف المسبوق. وإذا جوزنا الاستخلاف، والخليفة مسبوق، يراعي نظم صلاة الامام، فيجلس إذا صلى ركعة ويتشهد، فإذا بلغ موضع السلام، أشار إلى القوم، وقام إلى ركعة أخرى إن قلنا: إنه مدرك للجمعة، وإلى ثلاث إن قلنا: صلاته ظهر. والقوم بالخيار إن شاؤوا فارقوه وسلموا، وإن شاؤوا ثبتوا جالسين حتى يسلم بهم. ولو دخل مسبوق واقتدى به في الركعة الثانية التي استخلف فيها، صحت له الجمعة وإن لم تصح للخليفة، نص عليه الشافعي رحمه الله. قال الأصحاب: هو تفريع على صحة الجمعة خلف مصلي الظهر. وتصح جمعة الذين أدركوا مع الامام الأول ركعة بكل حال، لأنهم لو انفردوا بالركعة الثانية، كانوا مدركين للجمعة، فلا يضر اقتداؤهم فيها بمصلي الظهر أو النفل. فرع: هل تشترط نية القدوة بالخليفة في الجمعة وغيرها من الصلوات؟ وجهان. الأصح: لا يشترط (2). والثاني: يشترط، لأنهم بحدث الأول صاروا منفردين. وإذا لم يستخلف الامام، قدم القوم واحدا بالإشارة. ولو تقدم واحد بنفسه، جاز، وتقديم القوم أولى من استخلاف الامام، لأنهم المصلون. قال إمام الحرمين: ولو قدم الامام واحدا، والقوم آخر، فأظهر الاحتمالين: أن من قدمه
521 القوم أولى. فلو لم يستخلف الامام، ولا القوم، ولا تقدم أحد، فالحكم ما ذكرناه تفريعا على منع الاستخلاف. قال الأصحاب: ويجب على القوم تقديم (1) واحد إن كان خروج الامام في الركعة الأولى ولم يستخلف. وإن كان في الثانية، لم يجب التقديم، ولهم الانفراد بها كالمسبوق (2). وقد حكينا في الصورتين خلافا، تفريعا على منع الاستخلاف، فيتجه عليه الخلاف في وجوب التقديم وعدمه. فرع: هذا كله إذا أحدث في أثناء الصلاة. فلو أحدث بين الخطبة والصلاة، فأراد أن يستخلف من يصلي، إن جوزنا الاستخلاف في الصلاة، جاز، وإلا، فلا يجوز، بل إن اتسع الوقت، خطب بهم آخر وصلى، وإلا صلوا الظهر. وقال بعض الأصحاب: إن جوزنا الاستخلاف في الصلاة، فهنا أولى، وإلا ففيه الخلاف. وعكس الشيخ أبو محمد فقال: إن لم نجوزه في الصلاة، فهنا أولى، وإلا ففيه الخلاف. والمذهب: استواؤهما. ثم إذا جوزنا، فشرطه أن يكون الخليفة سمع الخطبة، على المذهب، وبه قطع الجمهور، لان من لم يسمع، ليس من أهل الجمعة. ولهذا، لو بادر أربعون من السامعين بعد الخطبة، فعقدوا الجمعة، انعقدت لهم، بخلاف غيرهم. وإنما يصير غير السامع من أهل الجمعة، إذا دخل في الصلاة. وحكى صاحب (التتمة) وجهين في استخلاف من لم يسمع. ولو أحدث في أثناء الخطبة، وشرطنا الطهارة فيها، فهل يجوز الاستخلاف؟ إن منعناه في الصلاة، فهنا أولى، وإلا، فالصحيح جوازه كالصلاة. فرع: لو صلى مع الامام ركعة من الجمعة، ثم فارقه بعذر، أو بغيره، وقلنا: لا تبطل الصلاة بالمفارقة، أتمها جمعة كما لو أحدث الامام. فرع: إذا تمت صلاة الامام، ولم تتم صلاة المأمومين، فأرادوا استخلاف من يتم بهم، إن لم نجوز الاستخلاف للامام، لم يجز لهم، وإلا، فإن كان في الجمعة، بأن كانوا مسبوقين، لم يجز، لان الجمعة لا تنشأ بعد جمعة. وإن كان في غيرها، بأن كانوا مسبوقين، أو مقيمين، وهو مسافر، فالأصح: المنع، لان
522 الجماعة حصلت، وإذا أتموها (1) فرادى نالوا فضلها. فصل: إذا منعته الزحمة في الجمعة السجود على الأرض مع الامام في الركعة الأولى، نظر، إن أمكنه أن يسجد على ظهر إنسان (2)، أو رجله، لزمه ذلك (3)، على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفيه وجه شاذ: يتخير، إن شاء سجد على الظهر، وإن شاء صبر ليسجد على الأرض. ثم قال جماهير الأصحاب: إنما يسجد على ظهر غيره، إذا قدر على رعاية هيئة الساجدين، بأن يكون على موضع مرتفع. فإن لم يكن، فالمأتي به ليس بسجود. وفيه وجه ضعيف، أنه لا يضر ارتفاع الظهر، والخروج عن هيئة الساجدين للعذر. وإذا تمكن من السجود على ظهر غيره فلم يسجد، فهو تخلف بغير عذر على الأصح. وعلى الثاني: بعذر. ولو لم يتمكن من السجود على الأرض ولا على الظهر، فأراد أن يخرج عن المتابعة لهذا العذر، ويتمها ظهرا، ففي صحتها قولان، لأنها ظهر قبل فوات الجمعة. قال إمام الحرمين: ويظهر منعه من الانفراد، لان إقامة الجمعة واجبة، فالخروج منها عمدا مع توقع إدراكها لا (4) وجه له (5). فأما إذا دام على المتابعة،
523 فما يصنع؟ فيه أوجه. الصحيح: أنه ينتظر التمكن. والثاني، يومئ السجود أقصى ما يمكنه كالمريض. والثالث: يتخير بينهما (1). فإذا قلنا: بالصحيح، فله حالان. أحدهما: يتمكن من السجود قبل ركوع الامام في الثانية. والثاني: لا يتمكن إلى ركوعه. ففي الحال الأول يسجد عند تمكنه، فإذا فرغ من سجوده، فللامام أحوال أربعة. أحدها: أن يكون بعد في القيام، فيفتتح القراءة، فإن أتمها ركع معه، وجرى على متابعته، ولا بأس بهذا التخلف للعذر. وإن ركع الامام قبل إتمامها، فهل له حكم المسبوق؟ وجهان. وقد بينا حكم المسبوق في باب (صلاة الجماعة. قلت: أصحهما عند الجمهور: له حكمه. والله أعلم. الحال الثاني: للامام أن يكون في الركوع. فالأصح عند الجمهور: أنه يدع القراءة، ويركع معه، لأنه لم يدرك محلها، فسقطت عنه كالمسبوق. والثاني: يلزمه قراءتها، ويسعى وراء الامام، وهو متخلف بعذر. الحال الثالث: أن يكون فارغا من الركوع ولم يسلم، فإن قلنا في الحال الثاني: هو كالمسبوق، تابع الامام فيما هو فيه، ولا يكون محسوبا له، بل يقوم عند سلام الامام إلى ركعة ثانية. وإن قلنا: ليس هو كالمسبوق، اشتغل بترتيب صلاة نفسه. وقيل: يتعين متابعة الامام قطعا. الحال الرابع: أن يكون الامام متحللا من صلاته، فلا يكون مدركا للجمعة، لأنه لم يتم له ركعة قبل سلام الامام، بخلاف ما لو رفع رأسه من السجود، ثم سلم الامام في الحال. قال إمام الحرمين: وإذا جوزنا له التخلف، وأمرناه بالجريان على ترتيب صلاة (2) نفسه، فالوجه أن يقتصر على الفرائض، فعساه يدرك الامام، ويحتمل أن يجوز الاتيان بالسنن مع الاقتصار على الوسط منها. الحال الثاني للمأموم: أن لا يتمكن من السجود حتى ركع الامام في الثانية، وفيه قولان.
524 أظهرهما: يتابعه فيركع معه. والثاني: لا يركع معه بل يسجد، ويراعي ترتيب صلاة نفسه. فإن قلنا بالأول، فتارة يوافق ما أمرناه، وتارة يخالف. فإن وافق وركع معه، فأي الركوعين يحتسب؟ وجهان. وقيل: قولان. أصحهما عند الأصحاب: بالركوع الأول. والثاني: بالثاني. فإن قلنا: بالثاني، حصلت له الركعة الثانية بكمالها. فإذا سلم الامام، ضم إليها أخرى، وتمت جمعة بلا خلاف. وإن قلنا: بالأول، حصلت ركعة ملفقة من ركوع الأولى، وسجود الثانية. وفي إدراك الجمعة بالملفقة، وجهان. أصحهما: تدرك. أما إذا خالف ما أمرناه، فاشتغل بالسجود وترتيب نفسه، فإن فعل ذلك مع علمه بأن واجبه المتابعة، ولم ينو مفارقته، بطلت صلاته، ويلزمه الاحرام بالجمعة إن أمكنه إدراك الامام في الركوع. وإن نوى مفارقته، فقد أخرج نفسه عن المتابعة بغير عذر. وفي بطلان الصلاة به، قولان سبقا. فإن لم تبطل، لم تصح جمعته. وفي صحة ظهره، خلاف مبني على أن الجمعة إذا تعذر إتمامها، هل يجوز إتمامها ظهرا؟ وعلى أن الظهر هل تصح قبل فوات الجمعة؟ وإن فعل ذلك ناسيا أو جاهلا، فما أتى به من السجود، لا يعتد به، ولا تبطل صلاته. ثم إن فرغ والامام بعد في الركوع لزمه متابعته. فإن تابعه وركع معه، فالتفريع كما سبق لو لم يسجد، وإن لم يركع معه، أو كان الامام فرغ من الركوع، نظر، إن راعى ترتيب نفسه، بأن قام بعد السجدتين، وقرأ، وركع، وسجد، فالمفهوم من كلام الأكثرين أنه لا يعتد له بشئ مما يأتي به على غير المتابعة. وإذا سلم الامام، سجد سجدتين لتمام الركعة، ولا يكون مدركا للجمعة، لان على هذا القول الذي عليه التفريع، نأمره بالمتابعة بكل حال. وكما لا يحسب له السجود والامام راكع، لكون فرضه المتابعة، وجب أن لا يحسب والامام في ركن بعد الركوع. وقال الصيدلاني، وإمام الحرمين، والغزالي: إذا فعل هذا المذكور، تم له منهما جميعا ركعة، لكن فيها نقصانان. أحدهما: التلفيق، فإن ركوعها من الأولى، وسجودها من الثانية، وفي الملفقة الخلاف. والثاني: نقصها بالقدوة الحكمية، فإنه لم يتابع الامام في معظم ركعته متابعة حسية، بل حكمية. وفي إدراك الجمعة بالركعة الحكمية، وجهان، كالملفقة، أصحهما: الادراك، وليس الخلاف في مطلق القدوة الحكمية، فإن السجود في حال قيام الامام، ليس على حقيقة المتابعة، ولا خلاف أن الجمعة تدرك به. هذا
525 كله إذا جرى على ترتيب نفسه بعد فراغه من السجدتين اللتين لم يعتد بهما. فأما إذا فرغ منهما والامام ساجد، فتابعه في سجدتيه، فهذا هو الذي نأمره به في هذه الحالة على هذا القول، فتحسبان له، ويكون الحاصل ركعة ملفقة، وإن وجد الامام في التشهد، وافقه. فإذا سلم، سجد سجدتين وتمت له الركعة (1)، ولا جمعة له، لأنه لم يتم له ركعة والامام في الصلاة. وكذا يفعل لو وجده قد سلم. هذا كله إذا قلنا: يتابع الامام. أما إذا قلنا: لا يتابعه بل يسجد ويراعي ترتيب نفسه، فله حالان. أحدهما: أن يخالف ما أمرناه، فيركع مع الامام. فإن تعمد، بطلت صلاته، ويلزمه أن يحرم بالجمعة إن أمكنه إدراك الامام في الركوع، وإن كان (2) ناسيا، أو جاهلا يعتقد أن الواجب عليه الركوع مع الامام، لم تبطل صلاته، ولم يعتد بركوعه. فإذا سجد معه بعد الركوع، حسبت له السجدتان على الصحيح. وعلى الشاذ، لا يعتد بهما. فعلى الصحيح، تحصل ركعة ملفقة. وفي الادراك بها، الوجهان. الحال الثاني: أن يوافق ما أمرناه، فيسجد، فهذه قدوة حكمية. وفي الادراك بها، الوجهان. فإذا فرغ من السجود، فللامام حالان. أحدهما: أن يكون فارغا من الركوع، إما في السجود، وإما في التشهد، فوجهان. أحدهما: يجري على ترتيب نفسه، فيقوم، ويقرأ، ويركع. وأصحهما: يلزمه متابعة الامام فيما هو فيه، فإذا سلم الامام، اشتغل بتدارك ما عليه، وبهذا قطع كثير من أصحابنا العراقيين وغيرهم. فعلى هذا، لو كان الامام عند فراغه من السجود قد هوى للسجود فتابعه، فقد والى بين أربع سجدات: فهل المحسوب لاتمام الركعة الأولى، السجدتان الأوليان، أم الاخريان؟ وجهان. أصحهما: الأوليان. والثاني: الاخريان. فعلى هذا، يعود الخلاف في الملفقة. الحال الثاني: للامام أن يكون راكعا بعد. فهل عليه متابعته، وتسقط عنه
526 القراءة كالمسبوق؟ أو يشتغل بترتيب [صلاة] (1) نفسه فيقرأ؟ وجهان كما ذكرنا تفريعا على القول الأول. فعلى الأول، يسلم معه، وتتم جمعته. وعلى الثاني: يقرأ ويسعى ليلحقه، وهو مدرك للجمعة. فرع: إذا لم يتمكن المزحوم من السجود حتى سجد الإمام في الثانية، تابعه في السجود بلا خلاف. فإن قلنا: الواجب متابعة الامام، فالحاصل ركعة ملفقة (2)، وإلا فغير ملفقة، أما إذا لم يتمكن من السجود حتى تشهد الامام، فيسجد. ثم إن أدرك الامام قبل السلام، أدرك الجمعة، وإلا فلا. قلت: قال إمام الحرمين: لو رفع المزحوم رأسه من السجدة الثانية، فسلم الامام قبل أن يعتدل المزحوم، ففيه احتمال. قال: والظاهر: أنه مدرك للجمعة (3). والله أعلم. أما إذا كان الزحام في سجود الركعة الثانية، وقد صلى الأولى مع الامام، فيسجد متى تمكن قبل سلام الامام، أو بعده، وجمعته صحيحة. فإن كان مسبوقا، لحقه في الثانية. فإن تمكن قبل سلام الامام، سجد وأدرك ركعة من الجمعة، وإلا فلا جمعة له. أما إذا زحم عن ركوع الأولى حتى ركع الامام في الثانية، فيركع. قال الأكثرون: ويعتد له بالركعة الثانية، وتسقط الأولى. ومنهم من قال: الحاصل ركعة ملفقة. فرع: إذا عرضت حالة في الصلاة تمنع من وقوعها جمعة في صور الزحام وغيرها، فهل تتم صلاته ظهرا؟ قولان (4) يتعلقان بأصل. وهو: أن الجمعة ظهر
527 مقصورة، أم صلاة على حيالها؟ وفيه قولان اقتضاهما (1) كلام الشافعي (2). قلت: أظهرهما: صلاة بحيالها. والله أعلم. فإن قلنا: ظهر مقصورة، فإذا فات بعض شروط الجمعة، أتمها ظهرا كالمسافر إذا فات شرط قصره. وإن قلنا: فرض على حياله، فهل يتمها؟ وجهان. والصحيح مطلقا: أنه يتمها ظهرا. لكن هل يشترط أن يقصد قلبها ظهرا، أم تنقلب بنفسها ظهرا؟ وجهان في (النهاية). قلت: الأصح: لا يشترط، وهو مقتضى كلام الجمهور. والله أعلم. وإذا قلنا: لا يتمها ظهرا، فهل تبطل، أم تبقى نفلا؟ فيه القولان السابقان فيمن صلى الظهر قبل الزوال ونظائرها. قال إمام الحرمين: قول البطلان، لا ينتظم تفريعه إذا أمرناه في صورة الزحام بشئ فامتثل، فليكن ذلك مخصوصا بما إذا خالف. فرع: التخلف بالنسيان، هل هو كالتخلف بالزحام؟ قيل: فيه وجهان. أصحهما: نعم، لعذره. والثاني: لا لندوره وتفريطه. والمفهوم من كلام الأكثرين، أن فيه تفصيلا. فإن تأخر سجوده عن سجدتي الامام بالنسيان، ثم سجد في حال قيام الامام، فحكمه كالزحام، وكذا لو تأخر لمرض. وإن بقي ذاهلا حتى ركع الامام في الثانية، فطريقان. أحدهما: كالمزحوم، فيركع معه على قول، ويراعي ترتيب نفسه في قول. والطريق الثاني: يتبعه قولا واحدا، لأنه مقصر فلا يجوز ترك المتابعة. قال الروياني: هذا الطريق أظهر. فرع: الزحام يجري في جميع الصلوات، وإنما يذكرونه في الجمعة، لان الزحمة فيها أكثر، ولأنه يجتمع فيها وجوه من الاشكال لا يجري في غيرها، مثل
528 الخلاف في إدراك الجمعة بالملفقة، والحكمية وبنائها على أنها ظهر مقصورة، أم لا؟ ولان الجماعة فيها شرط، ولا يمكن المفارقة ما دام يتوقع إدراك الجمعة، بخلاف سائر الصلوات. إذا عرفت ذلك، فإذا زحم في سائر الصلوات، فلم يمكنه السجود حتى ركع الامام في الثانية، فالمذهب: أنه على القولين. وقيل: يركع معه قطعا. وقيل: يراعي ترتيب نفسه قطعا. الشرط السادس: الخطبة. فمن شرائط الجمعة: تقديم خطبتين (1). وأركان الخطبة خمسة. أحدها: حمد الله تعالى (2)، ويتعين لفظ الحمد. والثاني: الصلاة على رسول الله (ص) (3)، ويتعين لفظ الصلاة. وحكي في (النهاية) عن كلام بعض الأصحاب: ما يوهم أنهما لا يتعينان، ولم ينقله وجها مجزوما به. الثالث: الوصية بالتقوى، وهل يتعين لفظ الوصية؟ وجهان. الصحيح المنصوص: لا يتعين. قال إمام الحرمين: ولا خلاف أنه لا يكفي الاقتصار على التحذير من الاغترار بالدنيا وزخارفها، فإن ذلك قد يتواصى به منكرو الشرائع، بل لا بد من الحمل على طاعة الله تعالى، والمنع من المعاصي. ولا يجب في الموعظة كلام طويل، بل لو قال: أطيعوا الله كفى، وأبدى الامام فيه احتمالا، ولا تردد في أن كلمتي الحمد، والصلاة، كافيتان. ولو قال: والصلاة على محمد، أو على النبي، أو رسول الله، كفى. ولو قال: الحمد للرحمن، أو الرحيم، فمقتضى كلام الغزالي: أنه لا يكفيه، ولم أره مسطورا، وليس هو ببعيد كما في كلمة
529 التكبير (1). ثم هذه الأركان الثلاثة، لا بد منها في كل واحدة من الخطبتين. ولنا وجه: أن الصلاة على النبي (ص) في إحداهما كافية، وهو شاذ. الرابع: الدعاء للمؤمنين (2)، وهو ركن على الصحيح. والثاني: لا يجب، وحكي عن نصه في (الاملاء). وإذا قلنا بالصحيح، فهو مخصوص بالثانية. فلو دعا في الأولى لم يحسب، ويكفي ما يقع عليه الاسم. قال إمام الحرمين: وأرى أنه يجب أن يكون متعلقا بأمور الآخرة، وأنه لا بأس بتخصيصه بالسامعين، بأن (3) يقول: رحمكم الله. الخامس: قراءة القرآن. وهي ركن على المشهور. وقيل: على الصحيح. والثاني: ليست بركن، بل مستحبة. فعلى الأول أقلها آية، نص عليه الشافعي رحمه الله، سواء كانت وعدا، أو وعيدا، أو حكما، أو قصة. قال إمام الحرمين: ولا يبعد الاكتفاء بشطر آية طويلة. ولا شك أنه لو قال: (ثم نظر) (4) لم يكف، وإن عد آية، بل يشترط كونها مفهمة. واختلفوا في محل القراءة على ثلاثة أوجه. أصحها ونص عليه في (الام): تجب في إحداهما لا بعينها. والثاني: تجب فيهما. والثالث: تجب في الأول خاصة، وهو ظاهر نصه في (المختصر): ويستحب أن يقرأ في الخطبة سورة (ق). قلت: قال الدارمي: يستحب أن تكون قراءة (ق) (5) في الخطبة الأولى. والمراد، قراءتها بكمالها، لاشتمالها على أنواع المواعظ. والله أعلم. ولو قرأ آية سجدة، نزل وسجد. فلو كان المنبر عاليا، لو نزل لطال الفصل،
530 لم يتركه (1)، لكن يسجد عليه إن أمكنه، وإلا ترك السجود. فلو نزل وطال الفصل، ففيه الخلاف المتقدم في الموالاة. ولا تدخل القراءة في الأركان المذكورة. حتى لو قرأ آية فيها موعظة، وقصد إيقاعها عن الجهتين، لم يجزئ، ولا يجوز أن يأتي بآيات تشتمل على الأركان المطلوبة، لان ذلك لا يسمى خطبة. ولو أتى ببعضها في ضمن آية لم يمتنع. وهل يشترط كون الخطبة كلها (2) بالعربية؟ وجهان. الصحيح: اشتراطه، فإن لم يكن فيهم من يحسن العربية، خطب بغيرها. ويجب أن يتعلم كل واحد منهم الخطبة العربية (3) (4)، كالعاجز عن التكبير بالعربية. فإن مضت مدة إمكان التعلم ولم يتعلموا، عصوا كلهم، ولا جمعة لهم. فرع شروط الخطبة ستة أحدها: الوقت. وهو ما بعد الزوال (5)، فلا يصح تقديم شئ منها عليه. الثاني: تقديم الخطبتين على الصلاة. الثالث: القيام فيهما مع القدرة، فإن عجز عن القيام، فالأولى أن يستنيب. ولو خطب قاعدا أو مضطجعا للعجز، جاز كالصلاة. ويجوز الاقتداء به، سواء
531 قال: لا أستطيع، أو سكت، لأن الظاهر أنه إنما قعد لعجزه، فإن بان أنه كان قادرا، فهو كما لو بان الامام جنبا، ولنا وجه: أنه تصح الخطبة قاعدا مع القدرة على القيام وهو شاذ. الرابع: الجلوس بينهما، وتجب الطمأنينة فيه، فلو خطب قاعدا لعجزه، لم يضطجع بينهما للفصل، بل يفصل بينهما بسكتة (1)، والسكتة واجبة على الأصح. ولنا وجه شاذ: أن القائم أيضا يكفيه الفصل بينهما بسكتة. الخامس: هل يشترط في صحة الخطبة الطهارة عن الحدث، والنجس في البدن والثوب والمكان، وستر العورة؟ قولان. الجديد: اشتراط كل ذلك. ثم قيل: الخلاف مبني على أنهما بدل من الركعتين، أم لا؟ وقيل: على أن الموالاة في الخطبة شرط، أم لا؟ فإن شرطنا الموالاة، شرطنا الطهارة، وإلا، فلا. ثم قال صاحب (التتمة): يطرد الخلاف في اشتراط الطهارة عن الحدث الأصغر والجنابة، وخصه صاحب (التهذيب) بالحدث الأصغر، قال: فأما الجنب، فلا تحسب خطبته قولا واحدا، لان القراءة شرط، ولا تحسب قراءة الجنب، وهذا أوضح. قلت: الصحيح، أو الصواب، قول صاحب (التتمة) وقد جزم به الرافعي في (المحرر) وقطع الشيخ أبو حامد، والماوردي، وآخرون: بأنه لو بان لهم بعد فراغ الجمعة أن إمامهم (2) كان جنبا، أجزأتهم. ونقله أبو حامد، والماوردي، والأصحاب عن نصه في (الام). والله أعلم. ثم إذا شرطنا الطهارة، فسبقه حدث في الخطبة، لم يعتد بما يأتي به في حال الحدث. وفي بناء غيره عليه الخلاف الذي سبق. فلو تطهر وعاد، وجب الاستئناف، وإن طال الفصل وشرطنا الموالاة، فإن لم يطل، أو لم نشرط الموالاة، فوجهان. أصحهما: الاستئناف.
532 السادس: رفع الصوت، فلو خطب سرا بحيث لم يسمع غيره، لم تحسب على الصحيح المعروف. وفي وجه: تحسب وهو غلط. فعلى الصحيح، الشرط أن يسمع أربعين من أهل الكمال. فلو رفع صوته قدر ما يبلغ، ولكن كانوا كلهم أو بعضهم صما، فوجهان. الصحيح: لا تصح، كما لو بعدوا. والثاني: تصح، كما لو حلف لا يكلم فلانا، فكلمه بحيث يسمع، فلم يسمع لصممه، حنث (1)، وكما لو سمعوا الخطبة، ولم يفهموا معناها، فإنها تصح. وينبغي للقوم أن يقبلوا بوجوههم إلى الامام، وينصتوا، ويسمعوا (2). والانصات: هو السكوت. والاستماع: هو شغل السمع بالسماع. وهل الانصات فرض، والكلام حرام؟ فيه قولان. القديم و (الاملاء): وجوب الانصات، وتحريم الكلام. والجديد: أنه سنة، والكلام ليس بحرام. وقيل: يجب الانصات قطعا. والجمهور أثبتوا القولين. وهل يحرم الكلام على الخطيب؟ فيه طريقان. المذهب: لا يحرم قطعا. والثاني: على القولين. ثم جميع هذا الخلاف في الكلام الذي لا يتعلق به غرض مهم ناجز. فأما إذا رأى أعمى يقع في بئر، أو عقربا تدب على إنسان، فأنذره، أو علم إنسانا شيئا من الخير، أو نهاه عن منكر، فهذا ليس بحرام بلا خلاف. نص عليه الشافعي رحمه الله، واتفق الأصحاب على التصريح به. لكن يستحب أن يقتصر على الإشارة، ولا يتكلم ما أمكن الاستغناء عنه. هذا كله في الكلام في أثناء الخطبة. ويجوز الكلام قبل ابتداء الامام بالخطبة، وبعد الفراغ منهما. فأما في الجلوس بين الخطبتين، فطريقان، قطع صاحب (المهذب) والغزالي، بالجواز. وأجرى المحاملي، وابن الصباغ، وآخرون فيه الخلاف.
533 ويجوز للداخل في أثناء الخطبة، أن يتكلم ما لم يأخذ لنفسه مكانا. والقولان فيما بعد قعوده. فرع: إذا قلنا بالقديم، فينبغي للداخل في أثناء الخطبة، أن لا يسلم، فإن سلم، حرمت إجابته باللفظ، ويستحب بالإشارة كما في الصلاة. وفي تشميت العاطس ثلاثة أوجه، الصحيح المنصوص: تحريمه، كرد السلام. والثاني: استحبابه. والثالث: يجوز ولا يستحب. ولنا وجه: أنه يرد السلام، لأنه واجب، ولا يشمت العاطس، لأنه سنة. فلا يترك لها الانصات الواجب. وفي وجوب الانصات على من لا يسمع الخطبة، وجهان. أحدهما: لا يجب. ويستحب أن يشتغل بالذكر، والتلاوة. وأصحهما: يجب، نص عليه، وقطع به كثيرون. وقالوا: البعيد بالخيار بين الانصات، وبين الذكر والتلاوة. ويحرم عليه كلام الآدميين، كما يحرم على القريب. هذا تفريع على القديم. فأما إذا قلنا بالجديد، فيجوز رد السلام، والتشميت بلا خلاف. ثم رد في السلام ثلاثة أوجه. أصحها عند صاحب (التهذيب): وجوبه. والثاني: استحبابه. والثالث: جوازه بلا استحباب. وقطع إمام الحرمين، بأنه لا يجب الرد. والأصح: استحباب التشميت. وحيث حرمنا الكلام فتكلم، أثم، ولا تبطل جمعته بلا خلاف. فرع: قال الغزالي: هل يحرم الكلام على من عدا الأربعين؟ فيه القولان. وهذا التقدير بعيد في نفسه، ومخالف لما نقله الأصحاب. أما بعده في نفسه، فلان كلامه مفروض في السامعين للخطبة. وإذا حضر جماعة يزيدون على أربعين، فلا يمكن أن يقال: تنعقد الجمعة بأربعين منهم على التعيين، فيحرم الكلام عليهم قطعا. والخلاف في حق الباقين (1)، بل الوجه: الحكم بانعقاد الجمعة بهم، أو بأربعين منهم لا على التعيين. وأما مخالفته لنقل الأصحاب، فلأنك (2) لا تجد للأصحاب إلا إطلاق قولين في السامعين، ووجهين في حق غيرهم كما سبق. فرع: إذا صعد الخطيب المنبر، فينبغي (3) لمن ليس في صلاة (4) من
534 الحاضرين، ألا يفتتحها، سواء كان صلى السنة، أم لا، ومن كان في صلاة خففها، والفرق بين الكلام - حيث قلنا: لا بأس به وإن صعد المنبر ما لم تبتدئ الخطبة - وبين الصلاة انقطع الكلام، هين متى ابتدأ الخطيب الخطبة، بخلاف الصلاة، فإنه قد يفوت سماع أول الخطبة إلى أن يتمها. قلت: وسواء في المنع من افتتاح الصلاة في حال الخطبة من يسمعها، وغيره. والله أعلم. ولو دخل في أثناء الخطبة، استحب له أن يصلي التحية، ويخففها. فلو كان ما صلى السنة، صلاها وحصلت التحية. ولو دخل والامام في آخر الخطبة، لم يصل، لئلا يفوته أول الجمعة مع الامام، وسواء في استحباب التحية. قلنا: يجب الانصات، أم لا؟ فرع: في أمور اختلف في إيجابها في الخطبة. منها: كونها بالعربية، وتقدم بيانه. ومنها: نية الخطبة وفرضيتها، اشترطهما القاضي حسين. ومنها: الترتيب بين الكلمات الثلاث، فأوجب صاحب (التهذيب) وغيره، أن يبدأ بالحمد، ثم الصلاة، ثم الوصية. ولا ترتيب بين القراءة والدعاء، ولا بينهما وبين غيرهما. وقطع صاحب (العدة) وآخرون: بأنه لا يجب في شئ من الألفاظ أصلا. قالوا: لكن الأفضل الرعاية. قلت: قطع صاحب (الحاوي) وكثيرون من العراقيين، بأنه لا يجب الترتيب ونقله في (الحاوي) عن نص الشافعي رحمه الله، وهو الأصح. والله أعلم.
535 فرع في سنن الخطبة فمنها: أن يكون على منبر، والسنة أن يكون المنبر على يمين الموضع (1) الذي يصلي فيه الامام. ويكره المنبر الكبير الذي يضيق على المصلين، إذا لم يكن المسجد متسع الخطة، فإن لم يكن منبر، خطب على موضع مرتفع. ومنها: أن يسلم على من عند المنبر إذا انتهى إليه. ومنها: إذا بلغ في صعوده الدرجة التي تلي موضع القعود - ويسمى ذلك الموضع: المستراح - أقبل على الناس بوجهه، وسلم عليهم. ومنها: أن يجلس بعد السلام على المستراح. ومنها: أنه إذا جلس، اشتغل المؤذن بالآذان، ويديم الامام الجلوس إلى فراغ المؤذن. قال صاحب (الافصاح) والمحاملي: المستحب، أن يكون المؤذن للجمعة واحدا. وأشار إليه الغزالي، وفي كلام بعض الأصحاب (2)، إشعار باستحباب تعديد المؤذنين. ومنها: أن تكون الخطبة بليغة غير مؤلفة من الكلمات المبتذلة، ولا من الكلمات (3) الغريبة الوحشية، بل قريبة من الافهام. ومنها: أن لا يطولها ولا يخففها، بل تكون متوسطة. ومنها: أن يستدبر القبلة، ويستقبل الناس في خطبتيه، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا. ولو خطب مستدبر الناس، جاز على الصحيح. وعلى الثاني: لا يجزئه. قلت: وطرد الدارمي هذا الوجه، فيما إذا استدبروه، أو خالفوه، وهو الهيئة
536 المشروعة في ذلك. والله أعلم. ومنها: أنه يستحب أن يكون جلوسه بين الخطبتين قدر سورة (الاخلاص) نص عليه. وفيه وجه: أنه يجب هذا القدر وحكي عن نصه. ومنها: أن يعتمد على سيف، أو عصا، أو نحوهما. قال في (التهذيب): يقبضه بيده اليسرى. ولم يذكر الأكثرون بأيتهما يقبضه. قلت: قال القاضي حسين في تعليقه كما قال في (التهذيب). والله أعلم. ويشغل يده الأخرى بحرف المنبر، فإن لم يجد شيئا، سكن يده (1) وجسده، بأن يجعل اليمنى على اليسرى، أو يقرهما مرسلتين. والغرض، أن يخشع، ولا يعبث بهما. ومنها: أنه ينبغي للقوم أن يقبلوا على الخطيب مستمعين، لا يشتغلون بشئ آخر، حتى يكره الشرب للتلذذ، ولا بأس به للعطش، لا للخطيب، ولا للقوم. ومنها: أن يأخذ في النزول بعد الفراغ، ويأخذ المؤذن في الإقامة، ويبتدر ليبلغ المحراب مع فراغ المقيم. قلت: يكره في الخطبة أمور ابتدعها الجهلة. منها: التفاتهم في الخطبة الثانية (2)، والدق على درج المنبر في صعوده، والدعاء إذا انتهى (3) إلى صعوده قبل أن يجلس. وربما توهموا أنها ساعة الإجابة، وهذا
537 جهل، فإن ساعة الإجابة إنما هي بعد جلوسه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ومنها: المجازفة في أوصاف السلاطين في الدعاء لهم. وأما أصل الدعاء للسلطان، فقد ذكر صاحب (المهذب) وغيره: أنه مكروه. والاختيار: أنه لا بأس به إذا لم يكن فيه مجازفة في وصفه (1)، ولا نحو ذلك، فإنه يستحب الدعاء بصلاح ولاة الامر. ومنها: مبالغتهم في الاسراع في الخطبة الثانية. [وأما الاحتباء (2) والامام يخطب، فقال صاحب (البيان): لا يكره. والصحيح: أنه مكروه. فقد صح في (سنن أبي داود) (3) والترمذي، أن رسول الله (ص)، نهى عن الاحتباء والامام يخطب)، قال الترمذي (4): حديث حسن. وقال الخطابي من أصحابنا: نهى عنه، لأنه يجلب النوم فيعرض طهارته للنقض، ويمنعه استماع الخطبة] (5). ويستحب إذا كان المنبر واسعا، أن يقوم على يمينه، قاله القاضي حسين، وصاحب (التهذيب). ويكره للخطيب أن يشير بيده. فقال (6) في (التهذيب): يستحب أن يختم الخطبة بقوله: استغفر الله لي ولكم. وذكر صاحبا (العدة) و (البيان): أنه يستحب للخطيب إذا وصل إلى (7) المنبر، أن يصلي تحية المسجد، ثم يصعده. وهذا الذي قالاه، غريب، وشاذ، ومردود، فإنه خلاف ظاهر المنقول عن فعل رسول الله (ص)، والخلفاء الراشدين، فمن (8) بعدهم. ولو أغمي على الخطيب، قال في (التهذيب) في بناء غيره على خطبته، القولان في الاستخلاف في الصلاة، فإن لم نجوزه، استؤنفت الخطبة، وإن جوزناه، اشترط أن يكون الذي يبني سمع أول الخطبة. هذا كلامه في (التهذيب). والمختار، أنه لا يجوز البناء هنا. والله أعلم.
538 الباب الثاني فيمن تلزمه الجمعة لوجوبها خمسة شروط: أحدها: التكليف، فلا جمعة على صبي ولا مجنون. قلت: والمغمى عليه، كالمجنون، بخلاف السكران، فإنه يلزمه قضاؤها ظهرا كغيرها. والله أعلم. الثاني: الحرية، فلا جمعة على عبد قن، أو مدبر، أو مكاتب. [قلت: ويستحب إذا أذن السيد حضورها، ولا يجب. والله أعلم] (1). الثالث: الذكورة، فلا جمعة على امرأة ولا خنثى (2). الرابع: الإقامة، فلا جمعة على مسافر (3)، لكن يستحب له، وللعبد، وللصبي، حضورها إذا أمكن. الخامس: الصحة، فلا جمعة على مريض ولو فاتت بتخلفه لنقصان العدد، ثم من لا تجب عليه، لا تنعقد به إلا المريض. وفيه أيضا قول شاذ، قدمناه في الشرط الرابع للجمعة. وفي معنى المرض، أعذار تأتي قريبا إن شاء الله تعالى، ولكن تنعقد لجميعهم، ويجزيهم عن الظهر إلا المجنون، فلا يصح فعله. ثم إذا حضر الصبيان والنساء، والعبيد، والمسافرون، الجامع، فلهم الانصراف، ويصلون الظهر. وخرج صاحب (التلخيص) وجها في العبد، أنه تلزمه الجمعة إذا حضر. وقال في (النهاية): وهذا غلط باتفاق الأصحاب. فأما المريض، فقد أطلق كثيرون أنه لا يجوز له الانصراف بعد حضوره، بل تلزمه الجمعة. وقال إمام الحرمين: إن حضر قبل الوقت، فله الانصراف، وإن دخل الوقت وقامت الصلاة، لزمته الجمعة. فإن كان يتخلل زمن بين دخول الوقت، والصلاة، فإن لم يلحقه مزيد مشقة في الانتظار، لزمه، وإلا فلا، وهذا التفصيل حسن، ولا يبعد أن يكون كلام المطلقين منزلا عليه. وألحقوا بالمرضى، أصحاب الاعذار الملحقة
539 بالمرض، وقالوا: إذا حضروا، لزمتهم الجمعة. ولا يبعد أن يكونوا على التفصيل المذكور أيضا، إن لم يزد ضرر المعذور بالصبر إلى إقامة الجمعة، فالامر كذلك، وإلا فله الانصراف وإقامة الظهر في منزله. هذا كله إذا لم يشرعوا في الجمعة، فإن أحرم الذين لا تلزمهم الجمعة بالجمعة، ثم أرادوا الانصراف، قال في (البيان): لا يجوز ذلك للمسافر والمريض، وفي العبد والمرأة وجهان حكاهما الصيمري (1). قلت: الأصح، أنه لا يجوز لهما، لان صلاتهما انعقدت عن فرضهما، فيتعين إتمامها. وقد قدمنا أن من دخل في فرض لأول الوقت، لزمه إتمامه على المذهب والمنصوص، فهنا أولى. والله أعلم. فرع: كل ما أمكن تصوره في الجمعة من الاعذار المرخصة في ترك الجماعة، يرخص في ترك الجمعة. أما الوحل الشديد، ففيه ثلاثة أوجه. الصحيح: أنه عذر في ترك الجمعة والجماعة. والثاني: لا. والثالث: في الجماعة دون الجمعة. حكاه صاحب (العدة) وقال: به أفتى أئمة طبرستان. أما التمريض، فإن كان للمريض من يتعهده، ويقوم بأمره، نظر، إن كان قريبا وهو مشرف على الموت، أو غير مشرف لكن يستأنس به، فله التخلف عن الجمعة ويحضر عنده، وإن لم يكن استئناس، فليس له التخلف على الصحيح. وإن كان أجنبيا، لم يجز التخلف بحال. والمملوك، والزوجة، وكل من له مصاهرة، والصديق، كالقريب. وإن لم يكن للمريض متعهد، فقال إمام الحرمين: إن كان يخاف عليه الهلاك لو غاب عنه، فهو عذر، سواء كان المريض قريبا، أو أجنبيا، لان انقاذ المسلم من الهلاك، فرض كفاية، وإن كان يلحقه ضرر ظاهر لا يبلغ دفعه مبلغ فروض الكفايات، ففيه أوجه. أصحها: أنه عذر أيضا. والثاني: لا.
540 والثالث (1): أنه عذر في القريب دون الأجنبي. ولو كان له متعهد، لكن لم يفرغ لخدمته، لاشتغاله بشراء الأدوية، أو الكفن، وحفر القبر إذا كان منزولا به، فهو كما لو لم يكن متعهد. فرع: يجب على الزمن الجمعة إذا وجد مركوبا، ملكا أو بإجارة، أو إعارة ولم يشق عليه الركوب، وكذا الشيخ الضعيف. ويجب على الأعمى إذا وجد قائدا متبرعا، أو بأجرة، وله مال، وإلا فقد أطلق الأكثرون: أنها لا تجب عليه. وقال القاضي حسين: إن كان يحسن المشي بالعصا من غير قائد، لزمه. فرع: من بعضه حر، وبعضه عبد، لا جمعة عليه، وفيه وجه شاذ: أنه إذا كان بينه وبين سيده مهايأة، لزمه الجمعة الواقعة في نوبته، ولا تنعقد به بلا خلاف. فرع: الغريب إذا قام ببلد، واتخذه وطنا، صار له حكم أهله في وجوب الجمعة وانعقادها به، وإن لم يتخذه وطنا، بل عزمه الرجوع إلى بلده بعد مدة - يخرج بها من كونه مسافرا - قصيرة، أو طويلة، كالمتفقه، والتاجر (2) لزمه الجمعة، ولا تنعقد به على الأصح. فرع: القرية إذا كان فيها أربعون من أهل الكمال، لزمهم الجمعة. فإن أقاموها في قريتهم، فذاك. وإن دخلوا المصر فصلوها فيه، سقط الفرض عنهم (3)، وكانوا مسيئين، لتعطيلهم الجمعة في قريتهم. وفيه وجه (4): أنهم غير مسيئين (5)، لان أبا حنيفة (6) لا يجوز جمعة في قرية، ففيما فعلوه، خروج من
541 الخلاف، وهو ضعيف. وإن لم يكن فيها أربعون من أهل الكمال، فلهم حالان. أحدهما: يبلغهم النداء من موضع تقام فيه جمعة من بلد، أو قرية، فتجب عليهم الجمعة. والمعتبر نداء مؤذن عالي الصوت يقف على طرف البلد من الجانب الذي يلي تلك القرية، ويؤذن على عادته، والأصوات هادئة، والرياح راكدة. فإذا سمع صوته من القرية من أصغى إليه، ولم يكن أصم، ولا جاوز سمعه حد العادة، وجبت الجمعة على أهلها. وفي وجه: المعتبر أن يقف المؤذن في وسط البلد، ووجه يقف في الموضع الذي تقام فيه الجمعة. وهل يعتبر أن يقف على موضع عال كمنارة أو سور؟ وجهان. قال الأكثرون: لا يعتبر. وقال القاضي أبو الطيب: سمعت شيوخنا يقولون: لا يعتبر إلا بطبرستان، فإنها بين أشجار وغياض تمنع بلوغ الصوت. أما إذا كانت قرية على قلة جبل يسمع أهلها النداء لعلوها، بحيث لو كانت على استواء الأرض لما سمعوا، أو كانت قرية في وهدة من الأرض لا يسمع أهلها النداء لانخفاضها، بحيث لو كانت على استواء لسمعوا، فوجهان. أصحهما (1) وبه قال [القاضي أبو الطيب: لا تجب الجمعة في الصورة الأولى، وتجب في الثانية، اعتبارا بتقدير الاستواء (2). والثاني: وبه قال] (3) الشيخ أبو حامد: عكسه، اعتبارا بنفس السماع. أما إذا لم يبلغ النداء أهل القرية، فلا جمعة عليهم. وأما أهل الخيام إذا لزموا موضعا، ولم يفارقوه، وقلنا: لا يصلون الجمعة موضعهم، فهم
542 كأهل القرى. وإذ لم يبلغوا أربعين، إن سمعوا النداء، لزمتهم الجمعة، وإلا فلا. قلت: وإذا سمع أهل القرية الناقصون عن الأربعين النداء من بلدين، فأيهما حضروا جاز، والأولى حضور أكثرهما جماعة. والله أعلم. فرع: العذر المبيح ترك الجمعة يبيحه وإن طرأ بعد الزوال، إلا السفر، فإنه يحرم إنشاؤه بعد الزوال. وهل يجوز بعد الفجر وقبل الزوال؟ قولان. قال في القديم وحرملة: يجوز. وفي الجديد: لا يجوز، وهو الأظهر عند العراقيين. وقيل: يجوز قولا واحدا. هذا في السفر المباح. أما الطاعة واجبا كان كالحج، أو مندوبا، فلا يجوز بعد الزوال، وأما قبله، فقطع كثير من أئمتنا بجوازه. ومقتضى كلام العراقيين، أنه على الخلاف كالمباح. وحيث قلنا: يحرم، فله شرطان. أحدهما: أننا ينقطع عن الرفقة، ولا يناله ضرر في تخلفه للجمعة. فإن انقطع، وفات سفره بذلك، أو ناله ضرر، فله الخروج بعد الزوال بلا خلاف. كذا قاله الأصحاب. وقال الشيخ أبو حاتم القزويني (1): في جوازه بعد الزوال لخوف الانقطاع عن الرفقة، وجهان (2). الشرط الثاني: أن لا يمكنه (3) صلاة الجمعة في منزله، أو طريقه. فإن
543 أمكنت، فلا منع بحال. قلت: الأظهر (1) تحريم السفر المباح، والطاعة قبل الزوال، وحيث حرمناه بعد الزوال، فسافر، كان عاصيا، فلا يترخص ما لم تفت الجمعة. ثم حيث كان فواتها، يكون ابتداء سفره، قاله القاضي حسين، وصاحب (التهذيب) وهو ظاهر. والله أعلم. فرع: المعذورون في ترك الجمعة، ضربان. أحدهما: يتوقع زوال عذره، كالعبد، والمريض يتوقع الخفة، فيستحب له تأخير الظهر إلى اليأس من إدراك الجمعة، لاحتمال تمكنه منها. ويحصل اليأس برفع الامام رأسه من الركوع الثاني على الصحيح. وعلى الشاذ: يراعى تصور الادراك في حق كل واحد، فإذا كان منزله بعيدا، فانتهى الوقت إلى حد لو أخذ في السعي لم يدرك الجمعة، حصل الفوات في حقه. الضرب الثاني: من لا يرجو زوال عذره كالمرأة، والزمن، فالأولى أن يصلي الظهر في أول الوقت، لفضيلة الأولية. قلت: هذا اختيار أصحابنا الخراسانيين، وهو الأصح. وقال العراقيون: هذا الضرب كالأول، فيستحب لهم تأخير الظهر، لان الجمعة صلاة الكاملين فقدمت. والاختيار التوسط. فيقال: إن كان هذا الشخص جازما بأنه لا يحضر الجمعة وإن تمكن منها، استحب تقديم الظهر. وإن كان لو تمكن، أو نشط حضرها، استحب التأخير، كالضرب الأول. والله أعلم. وإذا اجتمع معذورون، استحب لهم الجماعة في ظهرهم على الأصح (2) قال
544 الشافعي رحمه الله: واستحب لهم إخفاء الجماعة لئلا يتهموا. قال الأصحاب: هذا إذا كان عذرهم خفيا، فإن كان ظاهرا، فلا تهمة. ومنهم من استحب الاخفاء مطلقا. ثم إذا صلى المعذور الظهر قبل فوات الجمعة، صحت ظهره. فلو زال عذره وتمكن من الجمعة، لم تلزمه، إلا في الخنثى إذا صلى الظهر، ثم بان رجلا، وتمكن من الجمعة، فتلزمه. والمستحب لهؤلاء، حضور الجمعة بعد فعلهم الظهر. فإن صلوا الجمعة، ففرضهم الظهر على الأظهر. وعلى الثاني: يحتسب الله تعالى بما شاء. أما إذا زال العذر في أثناء الظهر، فقال القفال: هو كرؤية المتيمم الماء في الصلاة. وهذا يقتضي خلافا في بطلان الظهر، كالخلاف في بطلان صلاة المتيمم. وذكر الشيخ أبو محمد وجهين هنا. والمذهب، استمرار صحة الظهر. وهذا الخلاف، تفريع على إبطال ظهر غير المعذور إذا صلاها قبل فوات وقت الجمعة. فإن لم نبطلها، فالمعذور أولى. فرع: من لا عذر له، إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة، لم تصح ظهره على الجديد، وهو الأظهر، وتصح على القديم (1)، قال الأصحاب: القولان مبنيان على أن الفرض الأصلي يوم الجمعة ماذا؟ فالجديد: أنه الجمعة. والقديم: أنه الظهر، وأن الجمعة بدل. ثم قال أبو إسحاق المروزي: لو ترك جميع أهل البلدة الجمعة، وصلوا الظهر، أثموا كلهم، وصحت ظهرهم على القولين. وإن الخلاف في ترك آحادهم الجمعة مع إقامتها بجماعة. والصحيح الذي قاله غيره: أنه لا فرق، وأن ظهرها لا تصح على الجديد، لأنهم صلوها وفرض الجمعة متوجه إليهم. فإذا فرعنا على الجديد في أصل المسألة، فالامر بحضور الجمعة قائم. فإن حضرها، فذاك، وإن فاتت، قضى الظهر. وهل يكون ما فعله أولا باطلا، أم تنقلب نفلا؟ فيه القولان في نظائره. وإن قلنا بالقديم، فالمذهب والذي قطع به الأكثرون: أن الامر بحضور الجمعة قائم أيضا. ومعنى صحة الظهر، الاعتداد بها
545 في الجمعة، بحيث لو فاتت الجمعة أجزأته. وقيل: في سقوط الامر بحضور الجمعة، قولان. وبهذا قطع إمام الحرمين، والغزالي. فإن قلنا: لا يسقط الامر، أو قلنا: يسقط، فصلى الجمعة، ففي الفرض منهما طريقان. أحدهما: الفرض أحدهما لا بعينه، ويحتسب الله تعالى بما شاء منهما. والطريق الثاني: فيه أربعة أقوال. أحدها: الفرض: الظهر. والثاني: الجمعة. والثالث: كلاهما فرض. والرابع: أحدهما لا بعينه، كالطريق الأول. هذا كله إذا صلى الظهر قبل فوات الجمعة. فإن صلاها بعد ركوع الامام في الثانية، وقبل سلامه، فقال ابن الصباغ: ظاهر كلام الشافعي بطلانها، يعني على الجديد. ومن أصحابنا من جوزها. وإذا امتنع أهل البلدة جميعا من الجمعة، وصلوا الظهر، فالفوات بخروج الوقت أو ضيقه، بحيث لا يسع إلا الركعتين. الباب الثالث في كيفية إقامة الجمعة بعد شرائطها الجمعة ركعتان كغيرها في الأركان، وتمتاز بأمور مندوبة. أحدها: الغسل يوم الجمعة سنة، ووقته بعد الفجر على المذهب (1). وانفرد في (النهاية) بحكاية وجه: أنه يجزئ قبل الفجر كغسل العيد، وهو شاذ منكر. ويستحب تقريب الغسل من الرواح إلى الجمعة. ثم الصحيح: إنما يستحب لمن يحضر الجمعة والثاني: يستحب لكل أحد كغسل العيد. فإذا قلنا بالصحيح، فهو مستحب لكل حاضر، سواء من تجب عليه، وغيره. قلت: وفيه وجه: أنه إنما يستحب لمن تجب عليه وحضرها، ووجه لمن تجب عليه وإن لم يحضرها لعذر. والله أعلم. ولو أحدث بعد الغسل، لم يبطل الغسل، فيتوضأ.
546 قلت: وكذا لو أجنب بجماع أو غيره، لا يبطل، فيغتسل للجنابة. والله أعلم. قال الصيدلاني، وعامة الأصحاب: إذا عجز عن الغسل لنفاد الماء بعد الوضوء، أو لقروح (1) في بدنه، تيمم وجاز الفضيلة. قال إمام الحرمين: هذا الذي قالوه، هو الظاهر، وفيه احتمال. ورجح الغزالي هذا الاحتمال. فرع: من الأغسال المسنونة، أغسال الحج، وغسل العيدين، ويأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى. وأما الغسل من غسل الميت، ففيه قولان. القديم: أنه واجب، وكذا الوضوء من مسه. والجديد: استحبابه، وهو المشهور. فعلى هذا، غسل الجمعة، والغسل من غسل الميت، آكد الأغسال المسنونة، وأيهما آكد؟ قولان. الجديد: الغسل من غسل الميت آكد. والقديم: غسل الجمعة وهو الراجح عند صاحب (التهذيب)، والروياني، والأكثرين. ورجح صاحب (المهذب) وآخرون الجديد. وفي وجه: هما سواء. قلت: الصواب، الجزم بترجيح غسل الجمعة، لكثرة الأخبار الصحيحة فيه. وفيها الحث العظيم عليه، كقوله (ص): (غسل الجمعة واجب) (2) وقوله (ص): (من جاء منكم إلى الجمعة فليغتسل) (3). وأما الغسل من غسل الميت، فلم يصح فيه شئ أصلا (4). ثم من فوائد الخلاف، ولو حضر إنسان معه ماء، يدفعه لأحوج
547 الناس وهناك رجلان، أحدهما يريده لغسل الجمعة، والآخر للغسل من غسل الميت. والله أعلم. وأما الكافر إذا أسلم، فإن كان وجب عليه غسل بجنابة، أو حيض، لزمه الغسل ولا يجزئه غسله في الكفر على الأصح، كما سبق في موضعه. وإلا، استحب له الغسل للاسلام. وقال ابن المنذر: يجب. ووقت الغسل، بعد الاسلام على الصحيح، وعلى الوجه الضعيف: يغتسل قبل الاسلام. قلت: هذا الوجه غلط صريح، والعجب ممن حكاه، فكيف بمن قاله، وقد أشبعت القول في إبطاله، والشناعة على قائله في (شرح المهذب) وكيف يؤمر بالبقاء على الكفر ليفعل غسلا لا يصح منه؟! والله أعلم. ومن الأغسال المسنونة، الغسل للإفاقة من الجنون والاغماء. وقد تقدم في باب الغسل حكاية وجه في وجوبهما. والصحيح: أنهما سنة. ومنها: الغسل من الحجامة، والخروج من الحمام. ذكر صاحب (التلخيص) عن القديم استحبابهما، والأكثرون لم يذكروهما. قال صاحب (التهذيب): قيل: المراد بغسل الحمام، إذا تنور. قال: وعندي أن المراد به أن يدخل الحمام فيعرق، فيستحب أن لا يخرج غير غسل.
549 قلت: وقيل: الغسل من الحمام، هو أن يصب عليه ماء عند إرادته الخروج تنظفا، كما اعتاده الخارجون منه. والمختار: الجزم باستحباب الغسل من الحجامة والحمام. فقد نقل صاحب (جمع الجوامع) في منصوصات الشافعي أنه قال: أحب الغسل من الحجامة والحمام، وكل أمر غير الجسد، وأشار الشافعي، إلى أن حكمته، أن ذلك يغير الجسد ويضعفه، والغسل يشده وينعشه. قال أصحابنا: يستحب الغسل لكل اجتماع، وفي كل حال تغير رائحة البدن (1). والله أعلم. الأمر الثاني: استحباب البكور إلى الجامع، والساعة الأولى أفضل من الثانية، ثم الثالثة فما بعدها. وتعتبر الساعات من طلوع الفجر على الأصح. وعلى الثاني: من طلوع الشمس. والثالث: من الزوال. ثم، ليس المراد على الأوجه بالساعات الأربع والعشرين، بل ترتيب الدرجات، وفضل السابق على الذي يليه، لئلا يستوي في الفضيلة رجلان جاءا في طرفي ساعة. والامر الثالث: التزين، فيستحب التزين للجمعة، بأخذ الشعر، والظفر، والسواك، وقطع الرائحة الكريهة، ويلبس أحسن الثياب، وأولاها البيض. فإن لبس مصبوغا، فما صبغ غزله، ثم نسج كالبرد، لا ما صبغ منسوجا. ويسحب أن يتطيب بأطيب ما عنده، ويستحب أن يزيد الامام في حسن الهيئة، ويتعمم، ويرتدي. ويستحب لكل من قصد الجمعة، المشي على سكينة ما لم يضق الوقت، ولا يسعى إليها، ولا إلى غيرها من الصلوات، ولا يركب في جمعة، ولا عيد، ولا جنازة، ولا عيادة مريض، إلا لعذر. وإذا ركب، سيرها على سكون. الأمر الرابع: يستحب أن يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الجمعة بعد (الفاتحة): سورة (الجمعة). وفي الثانية: (المنافقين) (2). وفي قول قديم: إنه يقرأ في الأولى: (سبح اسم ربك الاعلى). وفي الثانية: (هل أتاك حديث الغاشية).
550 قلت: عجب من الامام الرافعي رحمه الله، كيف جعل المسألة ذات قولين، قديم وجديد؟! والصواب: أنهما سنتان. فقد ثبت كل ذلك في (صحيح مسلم) (1) من فعل رسول الله (ص)، فكان يقرأ هاتين في وقت، وهاتين في وقت. ومما يؤيد ما ذكرته، أن الربيع رحمه الله، وهو راوي الكتب الجديدة قال: سألت الشافعي رحمه الله عن ذلك، فذكر أنه يختار (الجمعة) و (المنافقين) ولو قرأ (سبح) و (هل أتاك) كان حسنا. والله أعلم. فلو نسي سورة (الجمعة) في الأولى، قرأها مع (المنافقين) في الثانية، ولو قرأ (المنافقين) في الأولى، قرأ (الجمعة) في الثانية. قلت: ولا يعيد (المنافقين) في الثانية. وقوله: لو نسي (الجمعة) في الأولى، معناه: تركها، سواء كان ناسيا، أو عامدا، أو جاهلا. والله أعلم. فرع: ينبغي للداخل أن يحترز عن تخطي رقاب الناس (2) إلا إذا كان إماما، أو كان بين يديه فرجة لا يصلها بغير تخط. ولا يجوز أن يقيم أحدا ليجلس موضعه، ويجوز أن يبعث من يأخذ له موضعا، فإذا جاء ينحي المبعوث. وإن فرش لرجل ثوب، فجاء آخر، لم يجز أن يجلس عليه، وله أن ينحيه ويجلس مكانه. قال في (البيان): ولا يرفعه، لئلا يدخل في ضمانه. ويستحب لمن حضر قبل الخطبة أن يشتغل بذكر الله عز وجل. وقراءة القرآن، والصلاة على رسول الله (ص)، ويستحب الاكثار منها يوم الجمعة، وليلة الجمعة. ويكثر الدعاء يومها، رجاء أن يصادف ساعة الإجابة. قلت: اختلف في ساعة الإجابة على مذاهب كثيرة (3). والصواب منها: ما
551 ثبت في (صحيح مسلم) (1) أن النبي (ص) قال: هي ما بين أن يجلس الامام إلى أن تقضى الصلاة (2). والله أعلم. ويستحب قراءة سورة (الكهف) يومها وليلتها. ولا يصل صلاة الجمعة بصلاة، بل يفصل بالتحول إلى مكان، أو بكلام ونحوه. فرع: يكره البيع بعد الزوال (3)، وقبل الصلاة. فإذا ظهر الامام على المنبر، وشرع المؤذن في الاذان، حرم البيع. ولو تبايع اثنان أحدهما من أهل فرض الجمعة دون الآخر، أثما جميعا (4). ولا يكره البيع قبل الزوال. وإذا حرم فباع، صح بيعه.
552 قلت: غير البيع من الصنائع والعقود وغيرها في معنى البيع (1). ولو أذن قبل جلوس الامام على المنبر، لم يحرم البيع. وحيث حرمنا البيع، فهو في حق من جلس له في غير المسجد. أما إذا سمع النداء، فقام يقصد الجمعة، فبايع في طريقه وهو يمشي، أو قعد في الجامع وباع، فلا يحرم. صرح به صاحب (التتمة) وهو ظاهر، لان المقصود أن لا يتأخر عن السعي إلى الجمعة، لكن البيع في المسجد مكروه يوم الجمعة وغيره، على الأظهر. والله أعلم. فرع: لا بأس على العجائز حضور الجمعة (2) إذا أذن أزواجهن، ويحترزن عن الطيب والتزين. قلت: يكره أن يشبك بين أصابعه، أو يعبث حال ذهابه إلى الجمعة وانتظاره لها، وكذلك سائر الصلوات. قال الشافعي في (الام) والأصحاب: إذا قعد إنسان في الجامع في موضع الامام، أو في طريق الناس، أمر بالقيام. وكذا لو قعد ووجهه إلى الناس والمكان ضيق، أمر بالتحول (3)، وإلا فلا. قال في (البيان): وإذا قرأ الامام في الخطبة (إن الله وملائكته يصلون على النبي...) (4). جاز للمستمع أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويرفع بها صوته (5). والله أعلم.
553 كتاب صلاة الخوف (1) اعلم أن ليس المراد بهذه الترجمة أن الخوف يقتضي صلاة مستقلة، كقولنا: صلاة العيد، ولا أنه يؤثر في تغير قدر الصلاة، و (2) وقتها، كقولنا: صلاة السفر. وإنما المراد أنه يؤثر في كيفية إقامة الفرائض، [بل في إقامتها بالجماعة] (3)، واحتمال أمور فيها كانت لا تحتمل. ثم هو في الأكثر لا يؤثر في إقامة مطلق الفرائض، بل في إقامتها بالجماعة كما نفصله إن شاء الله تعالى. وقال المزني: صلاة الخوف منسوخة (4)، ومذهبنا: أنها باقية (5). وهي أربعة أنواع (6). الأول: صلاة بطن نخل (7).
555 وهي: أن يجعل الامام الناس فرقتين. فرقة في وجه العدو، وفرقة يصلي بها (1) جميع الصلاة، سواء كنت (2) ركعتين، أو ثلاثا، أو أربعا، فإذا سلم بهم، ذهبوا إلى وجه العدو، وجاءت الفرقة الأخرى فصلى بهم تلك الصلاة مرة ثانية، تكون له نافلة ولهم فريضة. وإنما يندب إلى هذه الصلاة بثلاثة شروط: أن يكون العدو في غير القبلة، وأن يكون في المسلمين كثرة والعدو قليل، وأن يخاف هجومهم على المسلمين في الصلاة. وهذه الأمور ليست شرطا للصحة، فإن الصلاة على هذا الوجه تجوز بغير خوف. وإنما المراد أن الصلاة هكذا إنما يندب إليها وتختار بهذه الشروط. النوع الثاني: صلاة عسفان (3). وهي: أن يرتبهم الامام صفين ويحرم بالجميع، فيصلوا معه إلى أن ينتهي إلى الاعتدال عن ركوع الأولى، فإذا سجد، سجد معه الصف الثاني، ولم يسجد الصف الأول، بل يحرسونهم (4) قياما، فإذا قام الامام والساجدون، سجد أهل الصف الأول ولحقوه، وقرأ الجميع معه وركعوا واعتدلوا، فإذا سجد، سجد معه الصف الحارسون في الركعة الأولى، وحرس الآخرون، فإذا جلس للتشهد، سجدوا، ولحقوه وتشهدوا كلهم معه وسلم بهم. هذه الكيفية ذكرها الشافعي رحمه الله في (المختصر). واختلف الأصحاب، فأخذ كثيرون بها، منهم أصحاب القفال، وتابعهم الغزالي، وقالوا: هي منقولة عن فعل النبي (ص) ومن معه بعسفان (5)، وقال الشيخ أبو حامد ومن تابعه: ما ذكره الشافعي خلاف الثابت في السنة، فإن الثابت أن الصف الأول سجدوا معه في الركعة الأولى، والصف الثاني سجدوا معه الثانية، والشافعي عكس ذلك. قالوا: والمذهب ما ثبت في
556 الخبر، لان الشافعي رحمه الله قال: إذا رأيتم قولي مخالفا للسنة فاطرحوه (1). واعلم أن الشافعي لم يقل: إن الكيفية التي ذكرها هي صلاة النبي (ص) بعسفان، بل قال: وهذا نحو صلاة النبي (ص) بعسفان، فأشبه تجويزه كل واحد منهما. وقد صرح به الروياني وصاحب (التهذيب) وغيرهما. قلت: الصحيح المختار: جواز الامرين، وهو مراد الشافعي، فإنه ذكر الحديث كما ثبت في الصحيح، ثم ذكر الكيفية المذكورة، فأشار إلى جوازهما. والله أعلم. ثم المذهب الصحيح المنصوص المشهور: أن الحراسة في السجود خاصة (2)، وأن الجميع يركعون معه، وفيه وجه: أنهم يحرسون في الركوع أيضا، وهو شاذ منكر. قال أصحابنا: لهذه الصلاة ثلاثة شروط. أن يكون العدو في جهة القبلة، وأن يكون على جبل، أو مستو (3) من الأرض لا يسترهم شئ عن أبصار المسلمين، وأن يكون في المسجد (4) كثرة، لتسجد طائفة وتحرس أخرى، ولا يمتنع أن يزيد على صفين، بل يجوز أن يرتبهم صفوفا كثيرة، ثم يحرس صفان كما سبق، ولا يشترط أن يحرس جميع من في الصف، بل لو حرست فرقتان من صف واحد على المناوبة في الركعتين، جاز. فلو تولى الحراسة في الركعتين طائفة واحدة، ففي
557 صلاة هذه الطائفة وجهان. أصحهما: الصحة، وبه قطع جماعة. فرع: لو تأخر الحارسون أولا إلى الصف الثاني في الركعة الثانية، وتقدمت الطائفة الثانية ليحرسوا، جاز إذا لم تكثر أفعالهم، وذلك بأن يتقدم كل واحد من الصف الثاني خطوتين، ويتأخر كل واحد من الصف الأول خطوتين وينفذ كل واحد بين رجلين. وهل هذا التقدم أفضل، أم ملازمة كل واحد مكانه؟ وجهان. قال الصيدلاني، والمسعودي، والغزالي، وآخرون: التقدم أفضل. وقال العراقيون: الملازمة أفضل. ولفظ الشافعي على هذا أدل، وهذا كله بناء على ما ذكره الشافعي: أن الصف الأول يحرس في الأول. فأما على اختيار أبي حامد: أن الصف الأول يسجدون في الأولى (1)، فإن في الركعة الثانية يتقدم الصف الثاني، ويتأخر الأول فتكون الحراسة في الركعتين ممن خلف الصف الأول، وكذلك ورد الخبر. قلت: ثبت في (صحيح مسلم) (2) تقدم الصف الثاني، وتأخر الأول. والله أعلم. النوع الثالث: صلاة ذات الرقاع (3). وهي: تارة تكون في صلاة ذات ركعتين، إما الصبح، وإما مقصورة، وتارة في ذات ثلاث، أو أربع. فأما ذات ركعتين (4)، فيفرق الامام الناس فرقتين، فرقة في وجه العدو، وينحاز بفرقة إلى حيث لا يبلغهم سهام العدو، فيفتح بهم الصلاة ويصلي بهم ركعة. هذا القدر اتفقت عليه الروايات. وفيما يفعل بعد ذلك روايتان. إحداهما: أنه إذا قام الامام إلى الثانية، خرج المقتدون عن متابعته، وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، وتشهدوا وسلموا وذهبوا إلى وجه العدو، وجاء (5) أولئك
558 فاقتدوا به في الثانية. ويطيل الامام القيام إلى لحوقهم، فإذا لحقوه، صلى بهم الثانية، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية وهو ينتظرهم، فإذا لحقوه، سلم بهم. هذه رواية سهل بن أبي خيثمة (1) عن صلاة رسول الله (ص) (2). وأما الثانية: فهي أن الامام إذا قام إلى الثانية، لا (3) يتم المقتدون به الصلاة، بل يذهبون إلى مكان إخوانهم وجاه العدو وهم في الصلاة فيقفون سكوتا، وتجئ تلك الطائفة فتصلي مع الامام ركعته الثانية. فإذا سلم، ذهبت إلى وجه العدو، وجاء الأولون إلى مكان الصلاة، وأتموا [لأنفسهم، وذهبوا إلى وجه العدو وجاءت الطائفة الأخرى إلى مكان الصلاة وأتموا] (4). وهذه رواية ابن عمر (5). ثم إن الشافعي رحمه الله، اختار الرواية الأولى لسلامتها من كثرة المخالفة، ولأنها أحوط لأمر الحرب. وللشافعي قول قديم: أنه إذا صلى الامام بالطائفة الثانية الركعة الثانية، تشهد بهم وسلم، ثم هم يقومون إلى تمام صلاتهم، كالمسبوق، وقول آخر: أنهم يقومون إذا بلغ الامام موضع السلام ولم يسلم بعد. وهل تصح الصلاة على صفة رواية ابن عمر؟ قولان. المشهور: الصحة، لصحة الحديث وعدم المعارض، ولا يصح قول الآخر: إنه منسوخ، فإن النسخ يحتاج إلى دليل. وإقامة الصلاة على الوجه المذكور ليست عزيمة لا بد منها، بل لو صلى بطائفة، وصلى غيره بالباقين، أو صلى بعضهم، أو كلهم منفردين، جاز قطعا، لكن كان أصحاب رسول الله (ص) لا يسمحون بترك فضيلة الجماعة، فأمر الله سبحانه وتعالى بترتبهم هكذا، لتحصل طائفة فضيلة التكبير معه، والأخرى فضيلة التسليم معه. وهذا النوع موضعه إذا كان العدو في غير جهة القبلة، أو فيها وبينهم وبين المسلمين حائل يمنع رؤيتهم لو هجموا.
559 فرع: الطائفة الأولى ينوون مفارقة الامام إذا قاموا معه إلى الثانية، وانتصبوا قياما. ولو فارقوه بعد رفع الرأس من السجود، جاز، والأول أولى. وأما الطائفة الثانية، فإذا قاموا إلى ركعتهم الثانية، لا ينفردون عن الامام، كذا قاله الجمهور. وفيه شئ يأتي إن شاء الله تعالى. فرع: إذا قام الامام إلى الثانية، هل يقرأ في انتظاره مجئ الطائفة الثانية، أم يؤخر ليقرأ معهم؟ فيه ثلاث طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: يقرأ الفاتحة والسورة بعدها، فإذا جاؤوا قرأ من السورة (1) قدر الفاتحة وسورة قصيرة، ثم ركع. والثاني: لا يقرأ شيئا، بل يشتغل بما شاء من التسبيح، وسائر الأذكار. والطريق الثاني: يقرأ، قولا واحدا. والثالث: إن أراد قراءة سورة طويلة بعد الفاتحة، قرأ ومدها، وإن أراد قصيرة، انتظرهم. ولو لم ينتظرهم وأدركوه في الركوع، أدركوا الركعة. وهل يتشهد في انتظاره فراغ الثانية من ركعتهم إذا قلنا: يفارقونه، قبل التشهد؟ فيه طرق. المذهب: أنه يتشهد، وقيل: فيه الطريقان الأولان في القراءة (2). قلت: قال أصحابنا: إذا قلنا: لا يتشهد، اشتغل في مدة الانتظار بالتسبيح وغيره من الأذكار، ويستحب للامام أن يخفف الأولى، ويستحب للطائفتين التخفيف فيما ينفردون به. والله أعلم. فرع: لو صلى الامام بهم هذه الصلاة في الأمن هل تصح؟ أما صلاة
560 الامام، ففيها طريقان. أحدهما: صحيحة قطعا، وقال الأكثرون: في صحتها قولان، لأنه ينتظرهم بغير عذر. وأما الطائفة الأولى ففي صحة صلاتها القولان فيمن فارق بغير عذر. وأما الطائفة الثانية: فإن قلنا: صلاة الامام تبطل، بطل اقتداؤهم، وإلا، انعقد، ثم تبنى صلاتهم إذا قاموا إلى الثانية على خلاف يأتي أنهم منفردون بها، أم في حكم الاقتداء؟ إن قلنا بالأول، ففيها قولان مبنيان على أصلين. أحدهما: الانفراد بغير عذر، والثاني: الاقتداء بعد الانفراد. وإن قلنا: بالثاني، بطلت صلاتهم، لأنهم انفردوا بركعة وهم في القدوة. ولو فرضت الصلاة في الامن على رواية ابن عمر، بطلت صلاة المأموين قطعا. فرع: إذا صلى المغرب في الخوف، جاز أن يصلي بالطائفة الأولى ركعة، وبالثانية ركعتين، وعكسه. وأيهما أفضل؟ فيه قولان، أظهرهما: بالأولى ركعتين (1)، ومنهم من قطع به. فإن قلنا: بالأولى ركعة، فارقته إذا قام إلى الثانية، وتتم لنفسها، كما ذكراه في ذات الركعتين. وإن قلنا: بالأولى ركعتين، جاز أن ينتظر الثانية في التشهد الأول، وجاز أن ينتظرهم في القيام الثالث. وأيهما أفضل؟ قولان. أظهرهما (2): الانتظار في القيام. وعلى هذا هل يقرأ الفاتحة، أم يصبر إلى لحوق الطائفة الثانية؟ فيه الخلاف المتقدم. فرع: إذا كانت صلاة الخوف رباعية، بأن كانت في الحضر، أو أرادوا الاتمام في السفر، فينبغي للامام أن يفرقهم فرقتين، ويصلي بكل طائفة ركعتين، ثم هل الأفضل أن ينتظر الثانية في التشهد الأول، أم في القيام الثالث؟ فيه الخلاف المتقدم في المغرب. ويتشهد بكل طائفة بلا خلاف. فلو فرقهم أربع فرق، وصلى بكل فرقة ركعة، بأن صلى بالأولى ركعة، ثم فارقته (3)، وصلت ثلاثا وسلمت، وانتظر قائما فراغها وذهابها ومجئ الثانية، ثم صلى بالثانية الثانية، وانتظر جالسا في التشهد الأول، أو قائما في الثالثة، وأتموا لأنفسهم، ثم صلى بالثالثة الثالثة،
561 وانتظروا في قيام الرابعة، وأتموا لأنفسهم، ثم صلى بالرابعة الرابعة، وانتظرهم في التشهد، فأتموا وسلم بهم، ففي جوازه قولان. أظهرهما: الجواز، فعلى هذا قال إمام الحرمين: شرطه الحاجة، فإن لم تكن حاجة، فهو كفعلهم في حال الاختيار. وعلى هذا القول تكون الطائفة الرابعة، كالثانية في ذات الركعتين، فيعود الخلاف في أنهم يفارقونه قبل التشهد، أو يتشهدون معه، أو يقومون بعد سلام الامام إلى ما عليهم، وتتشهد الطائفة الثانية معه على الأصح. وعلى الثاني تفارقه قبل التشهد، وعلى هذا القول تصح صلاة الامام والطائفة الرابعة، وفي الطوائف الثلاث القولان فيمن فارق الامام بغير عذر. وأما إذا قلنا: لا يجوز ذلك، فصلاة الامام باطلة. قال جمهور الأصحاب: تبطل بالانتظار الواقع في الركعة الثالثة، وهو ظاهر نص الشافعي رحمه الله، وقال ابن سريج: بالواقع في الرابعة. فعلى قول الجمهور: وجهان. أحدهما: تبطل بمعنى الطائفة الثانية. والثاني: بمعنى قدر ركعة من انتظاره الثاني. وأما صلاة المأمومين، فصلاة الطائفة الأولى والثانية صحيحة، لأنهم فارقوه قبل بطلان صلاته، وصلاة الرابعة باطلة، إن علمت بطلان صلاة الامام، وإلا فلا. والثالثة كالرابعة على قول الجمهور، وكالأولين على قول ابن سريج. قلت: جزم الامام الرافعي بصحة صلاة الطائفة الأولى والثانية على هذا القول، وليس هو كذلك، بل فيهما القولان فيمن فارق بغير عذر، كما قلنا في الطوائف الثلاث على قول صحة صلاة الامام. وهذا لا بد منه، وصرح به جماعة من أصحابنا. وحكى القاضي أبو الطيب وصاحب (الشامل) وآخرون وجها ضعيفا أن المبطل للطائفة الرابعة أن تعلم أنه انتظار رابع وإن جهلت كونه مبطلا. والله أعلم. ولو فرقهم في المغرب ثلاث فرق، وصلى بكل فرقة ركعة، وقلنا: لا يجوز ذلك، فصلاة جميع الطوائف صحيحة عند ابن سريج. وأما عند الجمهور، فتبطل الثالثة إن علموا بطلان صلاة الامام. وإذا اختصرت الرباعية، قلت (1): ففيها أربعة أقوال. أظهرها: صحة صلاة الامام والقوم جميعا. والثاني: صحة صلاة الامام، والطائفة الرابعة فقط. والثالث: بطلان صلاة الامام وصحة صلاة الطائفة الأولى
562 والثانية. والفرق في حق الثالثة والرابعة بين أن يعلموا بطلان صلاة الامام، أم لا. والرابع: صحة الثالثة لا محالة، والباقي، كالقول الثالث وهو قول ابن سريج. قلت: وقول خامس: وهو بطلان صلاة الجميع. ولو فرقهم فرقتين فصلى بفرقة ركعة، بالثانية ثلاثا، أو عكسه. قال أصحابنا: صحت صلاة الامام وجميعهم بلا خلاف، وكانت مكروهة، ويسجد الامام والطائفة الثانية سجود السهو، للمخالفة بالانتظار في غير موضعه. هكذا صرح به أصحابنا. ونقله صاحب (الشامل) عن نص الشافعي رحمه الله قال: وهذا يدل على أنه إذا فرقهم أربع فرق. وقلنا: لا تبطل صلاتهم، فعليهم سجود السهو. وقال صاحب (التتمة): لا خلاف في هذه الصورة أن الصلاة مكروهة، لان الشرع ورد بالتسوية بين الطائفتين قال: وهل تصح صلاة الامام، أم لا؟ إن قلنا: إذا فرقهم أربع فرق تصح، فهنا أولى، وإلا، فقد انتظر في غير موضعه، فيكون كمن قنت في غير موضعه. قال: وأما المأمومون، فعلى التفصيل فيما إذا فرقهم أربع فرق، وهذا الذي قاله شاذ، والصواب قدمناه عن نص الشافعي والأصحاب. والله أعلم. فرع: لو كان الخوف في بلد وحضرت صلاة الجمعة، فالمذهب والمنصوص: أن لهم يصلوها على هيئة صلاة ذات الرقاع، وقيل: في جوازها قولان. وقيل: وجهان. ثم للجواز شرطان. أحدهما: أن يخطب بجميعهم، ثم يفرقهم فرقتين، أو يخطب بفرقة، ويجعل منها مع كل واحد من الفرقتين أربعين فصاعدا. فأما لو خطب بفرقة وصلى بأخرى، فلا يجوز. والثاني أن تكون الفرقة الأولى أربعين فصاعدا، فلو نقصت عن الأربعين، لم تنعقد الجمعة. ولو نقصت الفرقة الثانية عن أربعين، فطريقان. أحدهما: لا يضر. والثاني: أنه كالخلاف في الانفضاض. قلت: الأصح: لا يضر، وبه قطع البندنيجي (1). والله أعلم. أما لو خطب بهم، ثم أراد أن يصلي بهم صلاة عسفان، فهي أولى بالجواز من صلاة ذات الرقاع. ولا تجوز كصلاة بطن نخل، إذ لا تقام جمعة بعد جمعة.
563 فرع: صلاة ذات الرقاع أفضل من صلاة بطن نخل على الأصح، لأنها أعدل بين الطائفتين، ولأنها صحيحة بالاتفاق. وتلك صلاة مفترض خلف متنفل، وفي صحته خلاف للعلماء (1). والثاني - وهو قول أبي إسحاق -: بطن النخل أفضل، لتحصل لكل طائفة فضيلة الجماعة بالتمام. فرع: إذا سها بعض المأمومين في صلاة ذات الرقاع على الرواية المختارة، نظر، إن سهت الطائفة الأولى في الركعة الأولى، فسهوها محمول، لأنها مقتدية، وسهوها في الثانية غير محمول، لانقطاعها عن الامام. وفي ابتداء الانقطاع وجهان. أحدهما: من الانتصاب قائما. والثاني: من رفع الامام رأسه من السجود الثاني، فعلى هذا لو رفع رأسه وهم بعد في السجود فسهوا، فغير محمول. ولك أن تقول: قد نصوا على أنهم ينوون المفارقة عند رفع الرأس، أو الانتصاب، فلا معنى للخلاف في ابتداء الانقطاع، بل ينبغي أن تقتصر على وقت نية المفارقة. وأما الطائفة الثانية، فسهوها في الركعة الأولى غير محمول، وفي الثانية محمول على الأصح، ويجري الوجهان في المزحوم في الجمعة إذا سها في وقت تخلفه، وأجروهما فيمن صلى منفردا، فسها ثم اقتدى وتممها مأموما وجوزناه، واستبعد الامام هذا، وقال: الوجه: القطع بأن حكم السهو لا يرتفع بالقدوة اللاحقة. هذا إذا قلنا: الطائفة الثانية يقومون للركعة الثانية إذا جلس الامام للتشهد، فأما إذا قلنا بالقديم: إنهم يقومون بعد سلامه، فسهوهم في الثانية غير محمول قطعا، كالمسبوق. أما إذا سها الامام، فينظر، إن سها في الركعة الأولى، لحق سهوه الطائفتين، فالأولى تسجد إذا تمت صلاتهم، فلو سها بعضهم في ركعته الثانية، فهل يقتصر على سجدتين، أم يسجد أربعا؟ فيه الخلاف المتقدم في بابه، والأصح سجدتان. والطائفة الثانية يسجدون مع الامام في آخر صلاته. وإن سها في الركعة
564 الثانية، لم يلحق سهوه الطائفة الأولى، وتسجد الثانية معه في آخر صلاته. ولو سها في انتظاره إياهم، فهل يلحقهم ذلك السهو؟ فيه الخلاف المتقدم في أنه هل يحمل سهوهم والحالة هذه؟ فرع: هل يجب حمل السلاح في صلاة ذات الرقاع، وعسفان، وبطن نخل؟ فيه طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: يستحب (1). والثاني: القطع بالاستحباب. والثالث: بالايجاب. والرابع: أن ما يدفع به عن نفسه، كالسيف والسكين يجب، وما يدفع به عن نفسه وغيره، كالرمح والقوس (2)، لا يجب. وللخلاف شروط. أحدها طهارة المحمول، فالنجس كالسيف الذي عليه دم، أو سقي سما نجسا، والنبل المريش بريش ما لا يؤكل لحمه، أو بريش ميتة، لا يجوز حمله. الثاني: أن لا يكون مانعا بعض أركان الصلاة، فإن كان كالبيضة المانعة من مباشرة الجبهة، لم يحمل بلا خلاف (3). الثالث: أن لا يتأذى به أحد، كالرمح في وسط القوم فيكره. الرابع: أن يخاف من وضع السلاح خطر على سبيل الاحتمال (4)، فأما إذا تعرض للهلاك ظاهرا لو تركه، فيجب الاخذ قطعا (5). واعلم أن الأصحاب ترجموا المسألة بحمل السلاح (6). قال إمام الحرمين: وليس الحمل متعينا، بل لو وضع
565 السيف عن يديه، وكان مد اليد إليه في السهولة، كمدها إليه وهو محمول، كان ذلك في حكم الحمل قطعا (1). قال ابن كج: يقع السلاح على السيف، والسكين، والقوس، والرمح، والنشاب ونحوها. فأما الترس والدرع، فليس بسلاح. وإذا أوجبنا حمل السلاح فتركه، لم تبطل صلاته قطعا (2). قلت: ويجوز ترك السلاح للعذر بمرض، أو أذى من مطر أو غيره (3). قال في (المختصر): أكره أن يصلي صلاة الخوف، يعني صلاة ذات الرقاع بأقل من ثلاثة، وفي وجه: العدو ثلاثة، والثلاثة أقل الطائفة. ولو صلى بواحد واحد، جاز. والله أعلم. النوع الرابع: صلاة شدة الخوف. فإذا التحم القتال ولم يتمكنوا من تركه بحال، لقلتهم، وكثرة العدو، أو اشتد الخوف وإن لم يلتحم القتال، فلم يأمنوا أن يركبوا أكتافهم، لو (4) ولوا عنهم، أو انقسموا، صلوا بحسب الامكان، وليس لهم التأخير عن الوقت. ويصلون ركبانا ومشاة، ولهم ترك استقبال القبلة إذا لم يقدروا عليها، ويجوز اقتداء (5) بعضهم ببعض مع اختلاف الجهة، كالمصلين حول الكعبة وفيها. قلت: قال أصحابنا: وصلاة الجماعة في هذه الحالة أفضل من الانفراد، كحالة الامن (6). والله أعلم.
566 وإنما يعفى عن ترك استقبال القبلة إذا كان بسبب العدو (1)، فلو انحرف عن القبلة بجماح الدابة، وطال الزمان، بطلت صلاته. وإذا لم يتمكن من إتمام الركوع والسجود، اقتصروا على الايماء بهما وجعلوا السجود أخفض من الركوع، ولا يجب على الماشي استقبال القبلة في الركوع ولا السجود، ولا التحرم، ولا وضع الجبهة على الأرض، فإنه يخاف الهلاك، بخلاف المتنفل في السفر، ويجب الاحتراز عن الصياح بكل حال بلا خلاف (2)، فإنه لا حاجة إليه، ولا بأس بالأعمال القليلة، فإنها محتملة في غير الخوف، ففيه أولى. وأما الأفعال الكثيرة، كالطعنات، والضربات المتوالية، فهي مبطلة إن لم يحتج إليها (3)، فإن احتاج، فثلاثة أوجه. أصحها عند الأكثرين وبه قال ابن سريج، والقفال: لا تبطل. والثاني: تبطل. حكاه العراقيون عن ظاهر النص. والثالث: تبطل إن كان في شخص واحد، ولا تبطل في أشخاص، وعبر بعضهم عن الأوجه بالأقوال. فرع: لو تلطخ سلاحه بالدم (4)، فينبغي أن يلقيه (5)، أو يجعله في قرابه تحت ركابه إلى أن يفرغ من صلاته إن احتمل الحال ذلك، فإن احتاج إلى إمساكه، فله إمساكه (6)، ثم هل يقضي نقل إمام الحرمين عن الأصحاب، أنه يقضي (7) لندور عذره ثم منعه، وقال: تلطخ السلاح بالدم من الاعذار العامة في حق المقاتل، ولا سبيل إلى تكليفه تنحية السلاح، فتلك النجاسة ضرورية في حقه كنجاسة
567 المستحاضة في حقها، ثم جعل المسألة على قولين مرتبين على القولين فيمن صلى في موضع تنجس، وهذه الصورة أولى بعدم القضاء لالحاق الشرع القتال بسائر مسقطات القضاء في سائر المحتملات، كاستدبار القبلة، والايماء بالركوع والسجود. فرع: تقام صلاة العيدين، والكسوفين في شدة الخوف، لأنه يخاف فوتهما، ولا تقام صلاة الاستسقاء (1). فرع: تجوز صلاة شدة الخوف في كل ما ليس بمعصية (2) من أنواع القتال، ولا تجوز في المعصية، فتجوز في قتال الكفار، ولأهل العدل في قتال البغاة، وللرفقة (3) في قطاع الطريق، ولا تجوز للبغاة والقطاع، ولو قصد نفس رجل، أو حريمه، أو نفس غيره، أو حريمه، وأشغل بالدفع، صلى هذه الصلاة. ولو قصد ماله، نظر، إن كان حيوانا، فكذلك، وإلا فقولان. أظهرهما: جوازها. والثاني: لا. أما إذا ولوا ظهورهم الكفار منهزمين، فننظر، إن كان يحل لهم ذلك بأن يكون في مقابلة كل مسلم أكثر من كافرين، أو كان متحرفا لقتال، أو متحيزا إلى فئة، جازت هذه الصلاة، وإلا فلا، لأنه معصية. ولو انهزم الكفار وتبعهم المسلمون، بحيث لو ثبتوا وأكملوا الصلاة، فاتهم العدو، لم تجز هذه الصلاة، وإن خافوا كمينا أو كرتهم، جازت. فرع: الرخصة في هذا النوع لا تختص بالقتال، بل يتعلق بالخوف مطلقا. فلو هرب في سيل (4)، أو حريق ولم يجد معدلا عنه، أو هرب من سبع، فله صلاة شدة الخوف. والمديون المعسر العاجز عن بينة الاعسار ولا يصدقه المستحق، ولو ظفر به حبسه، له أن يصليها هاربا، على المذهب. وحكي عن (الاملاء) أن من طلب لا ليقتل، بل ليحبس أو يؤخذ منه شئ: لا يصليها. ولو كان عليه قصاص
568 يرجو العفو عنه (1) إذا سكن الغضب، قال الأصحاب: له أن يهرب ويصلي صلاة شدة الخوف في هربه، واستبعد الامام جواز هربه بهذا التوقع. فرع: المحرم إذا ضاق وقت وقوفه (2)، وخاف فوت الحج، إن صلى متمكنا، فيه أوجه للقفال. أحدها: يؤخر الصلاة ويحصل الوقوف، لان قضاء الحج صعب. والثاني: يصلي صلاة شدة (3) الخوف فيحصل الصلاة والحج. والثالث: تجب الصلاة على الأرض مستقرا، ويفوت الحج، لعظم حرمة الصلاة، ولا يصلي صلاة الخوف، لأنه محصل لا هارب، ويشبه أن يكون هذا الوجه أوفق لكلام الأئمة. قلت: هذا الوجه ضعيف، والصواب الأول، فإنا جوزنا تأخير الصلاة لأمور لا تقارب المشقة فيها هذه المشقة، كالتأخير للجمع. والله أعلم. فرع: لو رأوا سوادا إبلا أو شجرا، فظنوه عدوا، فصلوا صلاة شدة الخوف، فبان الحال، وجب القضاء على الأظهر (4)، ثم قيل: القولان فيما إذا أخبرهم بالعدو ثقة وغلط. فإن لم يكن إلا ظنهم، وجب القضاء قطعا. وقيل: القولان فيما إذا كانوا في دار الحرب لغلبة الخوف، فإن كانوا في دار الاسلام، وجب القضاء قطعا. والمذهب جريان القولين في جميع الأحوال. ولو تحققوا العدو، فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنه كان دونهم حائل من خندق، أو ماء، أو نار (5)، أو بان أنه كان بقربهم حصن يمكنهم التحصن به، أو ظنوا أن بإزاء كل مسلم أكثر من مشركين، فصلوها منهزمين، ثم بان خلاف ذلك، فحيث أجرينا في الصورة السابقة القولين (6)، جريا في هذه ونظائرها، وقيل: يجب القضاء هنا
569 قطعا. قال صاحب (التهذيب): ولو صلوا في هذه الأحوال صلاة عسفان، اطرد القولان. ولو صلوا صلاة ذات الرقاع - فإن جوزناها في حال الامن - فهنا أولى، وإلا جرى القولان (1). فرع: لو كان يصلي متمكنا على الأرض مستقبل القبلة، فحدث خوف في أثناء الصلاة فركب، فطريقان. أحدهما: على قولين. أحدهما: تبطل صلاته فيستأنف. والثاني: لا تبطل فيبني. والطريق الثاني وهو المذهب (2): أنه إن لم يكن مضطرا إلى الركوب وكان يقدر على القتال وإتمام الصلاة راجلا، فركب احتياطا، وجب الاستئناف. وإن اضطر بنى. وعلى هذا: إن قل فعله في ركوبه، بنى بلا خلاف، وإن كثر، فعلى الوجهين في العمل الكثير للحاجة. أما إذا كان يصلي راكبا صلاة شدة الخوف، فأمن ونزل، فنص الشافعي أنه يبني وهو المذهب (3). وقيل: إن حصل في نزوله فعل قليل، بنى، وإن كثر، فعلى الوجهين. قال صاحب (الشامل) وغيره: يشترط في بناء النازل أن لا يستدبر القبلة في نزوله، فإن استدبر، بطلت صلاته. قلت: صرح أيضا القاضي أبو الطيب وصاحب (المهذب) وآخرون بأنه إذا استدبر القبلة في نزوله، بطلت صلاته. وهذا متفق عليه. واتفقوا على أنه إذا لم يستدبرها، بل انحرف يمينا وشمالا، فهو مكروه لا تبطل صلاته، وعلى أنه إذا أمن، وجب النزول في الحال، فإن أخر، بطلت (4). والله أعلم.
570 باب ما يجوز لبسه للمحارب وغيره وما لا يجوز يجوز للرجل لبس الحرير (1) في حال مفاجأة (2) القتال إذا لم يجد غيره (3)، وكذلك يجوز أن يلبس منه ما هو وقاية القتال، كالديباج (4) الصفيق الذي لا يقوم غيره مقامه (5)، وفي وجه: يجوز اتخاذ القباء ونحوه، مما يصلح في الحرب من الحرير، ولبسه فيها على الاطلاق، لما فيه من حسن الهيئة وزينة الاسلام، كتحلية السيف، والصحيح تخصيصه بحالة الضرورة. فرع: للشافعي رحمه الله (6) تعالى نصوص مختلفة في جواز استعمال الأعيان النجسة. فقيل في أنواع استعمالها كلها قولان. والمذهب: التفصيل، فلا يجوز في الثوب والبدن إلا للضرورة، ويجوز في غيرهما إن كانت نجاسة مخففة، فإن كانت مغلظة - وهي نجاسة الكلب والخنزير - فلا. وبهذا الطريق قال أبو بكر الفارسي (7) والقفال وأصحابه. فلا يجوز لبس جلد الكلب والخنزير في حال الاختيار، لان الخنزير لا يجوز الانتفاع به في حياته بحال، وكذا الكلب، إلا في أغراض مخصوصة، فبعد موتهما أولى. ويجوز الانتفاع بالثياب النجسة ولبسها في غير الصلاة ونحوها، فإن فاجأته حرب، أو خاف على نفسه لحر، أو برد، ولم يجد غير جلد الكلب والخنزير، جاز لبسهما. وهل يجوز لبس جلد الشاة الميتة، وسائر الميتات في حال الاختيار؟ وجهان. أصحهما: التحريم. ويجوز أن يلبس هذه الجلود فرسه وأداته، ولا يجوز استعمال جلد الكلب والخنزير في ذلك ولا غيره، ولو
571 جلل كلبا، أو خنزيرا. بجلد كلب، أو خنزير، جاز على الأصح، لاستوائهما في غلظ النجاسة (1). وأما تسميد الأرض بالزبل، فجائز. قال إمام الحرمين: ولم يمنع منه أحد. وفي كلام الصيدلاني ما يقتضي الخلاف فيه (2) ويجوز الاستصباح بالدهن النجس على المشهور (3)، وسواء نجس بعارض، أو كان نجس العين، كودك الميتة، ودخان النجاسة، نجس على الأصح (4)، فإن نجسناه عفي عن
572 قليله، والذي يصيبه في الاستصباح قليل، لا ينجس غالبا. فصل فيما يجوز لبسه في حال الاختيار وما لا يجوز؟ ويحرم على الرجل والخنثى لبس الحرير والديباج، ويجوز للنساء. وفي تحريمه على الخنثى احتمال. والقز كالحرير، على المذهب. ونقل الامام الاتفاق عليه. وحكي في إباحته وجهان. وفي المركب من الحرير وغيره طريقان. المذهب والذي قطع به الجمهور: أنه إن كان الحرير أكثر وزنا، حرم، وإن كان غيره أكثر، لم يحرم، وإن استويا، لم يحرم على الأصح. والطريق الثاني قاله القفال: إن ظهر الحرير، حرم وإن قل وزنه، وإن استتر، لم يحرم وإن كثر وزنه. فرع: يجوز لبس المطرف والمطرز بالديباج، بشرط الاقتصار على عادة التطريف، فإن جاوزها، حرم، ويشرط (1) أن لا يجاوز الطراز قدر أربع أصابع، فإن جاوز، حرم (2). الترقيع بالديباج، كالتطريز. ولو خاط ثوبا بإبريسم، جاز لبسه، بخلاف الدرع المنسوجة بقليل الذهب، فإنه حرام لكثرة الخيلاء فيه. ولو حشا القباء أو الجبة بالحرير، جاز على الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور (3). ولو كانت بطانة الجبة حريرا، حرم لبسها. فرع: تحريم الحرير على الرجال لا يختص باللبس، بل افتراشه، والتدثر به، واتخاذه سترا، وسائر وجوه الاستعمال، حرام. وفي وجه شاذ: يجوز للرجال الجلوس على الحرير، وهو منكر وغلط، ويحرم على النساء افتراش الحرير على الأصح.
573 قلت: الأصح، جواز افتراشهن، وبه قطع العراقيون، والمتولي، وغيره. والله أعلم. وهل للولي إلباس الصبي الحرير؟ فيه أوجه. أصحها: يجوز قبل سبع سنين، ويحرم بعدها، وبه قطع البغوي. والثاني: يجوز مطلقا. والثالث: يحرم مطلقا. قلت: الأصح الجواز مطلقا، كذا صححه المحققون، منهم الرافعي في (المحرر) وقطع به الفوراني. قال صاحب (البيان): هو المشهور. ونص الشافعي والأصحاب: على تزيين الصبيان يوم العيد بحلي الذهب، والمصبغ، ويلحق به الحرير (1). والله أعلم. فرع: يجوز لبس الحرير في موضع الضرورة - كما قلنا - إذا فاجأته الحرب، أو احتاج لحر، أو برد، ويجوز للحاجة كالجرب. وفيه وجه: أنه لا يجوز، وهو منكر. ويجوز لدفع القمل في السفر، وكذا في الحضر على الأصح. قلت: قال أصحابنا: يجوز لبس الكتان، والقطن، والصوف، والخز، وإن كانت نفيسة غالية الأثمان، لان نفاستها بالصنعة. قال صاحب (البيان): يحرم على الرجل لبس الثوب المزعفر. ونقل البيهقي وغيره عن الشافعي رحمه الله: أنه نهى الرجل عن [المزعفر، وأباح له المعصفر. قال البيهقي: والصواب إثبات نهي الرجل عن] (2) المعصفر أيضا، للأحاديث الصحيحة فيه. قال: وبه قال الحليمي. قال: ولو بلغت أحاديثه الشافعي، لقال بها، وقد أوصانا بالعمل
574 بالحديث الصحيح. قال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي (1): يحرم تنجيد البيوت بالثياب المصورة وبغير المصورة، سواء فيه الحرير وغيره، والصواب في غير الحرير والمصور الكراهة دون التحريم (2) (3). قال صاحب (التهذيب): ولو بسط فوق الديباج ثوب قطن وجلس عليه، أو جلس على جبة محشوة بالحرير، جاز، ولو حشا المخدة بإبريسم، جاز استعمالها على الصحيح، كما قلنا في الجبة. قال إمام الحرمين: وظاهر كلام الأئمة أن من لبس ثوبا ظهارته وبطانته قطن، وفي وسطه حرير منسوج، جاز. قال: وفيه نظر. ويكره أن يمشي في نعل واحدة، أو خف واحد، ويكره أن يتنعل قائما. والمستحب في لبس النعل وشبهه، أن يبدأ باليمين، ويبدأ بخلع اليسار، ولا يكره لبس خاتم الرصاص والحديد والنحاس على الصحيح، وبه قطع في (التتمة). ويجوز لبس خاتم الفضة للرجل في يمينه (4)، يساره، كلاهما سنة، لكن اليمين أفضل على الصحيح المختار. ويجوز للرجال والنساء لبس الثوب الأحمر والأخضر وغيرهما من المصبوغات بلا كراهة، إلا ما ذكرنا في المزعفر والمعصفر للرجال. قال صاحب (التتمة) و (البحر): يكره لبس الثياب الخشنة لغير غرض شرعي، ويحرم إطالة الثوب عن الكعبين للخيلاء، ويكره لغير الخيلاء، ولا فرق في ذلك بين حال الصلاة وغيرها، والسراويل والإزار في حكم الثوب. وله لبس العمامة بعذبة وبغيرها، وحكم إطالة عذبتها حكم إطالة
575 الثوب. فقد روينا في (سنن أبي داود) والنسائي وغيرهما بإسناد حسن (2)، أن النبي (ص) قال: (الاسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه (يوم القيامة). والله أعلم.
576 كتاب صلاة العيدين (1) هي سنة على الصحيح المنصوص (2). وعلى الثاني: فرض كفاية (3). فإن اتفق أهل بلد على تركها، قوتلوا إن قلنا: فرض كفاية. وإن قلنا: سنة، لم يقاتلوا على الأصح (4)، ويدخل وقتها بطلوع الشمس. والأفضل تأخيرها إلى أن ترتفع قدر رمح (5)، كذا صرح به كثير من الأصحاب، منهم صاحب (الشامل) و (المهذب) والروياني ومقتضى كلام جماعة، منهم: الصيدلاني، وصاحب (التهذيب) أنه يدخل بالارتفاع (6)، واتفقوا على خروج الوقت بالزوال. قلت: الصحيح، أو الأصح، دخول وقتها بالطلوع. والله أعلم. فرع: المذهب والمنصوص في الكتب الجديدة كلها، أن صلاة العيد تشرع
577 للمنفرد في بيته أو غيره، وللمسافر والعبد والمرأة (1)، وقيل: فيه قولان. الجديد: هذا. والقديم: أنه يشترط فيها شروط الجمعة من اعتبار الجماعة، والعدد بصفات الكمال، وغيرهما، إلا أنه يجوز فعلها خارج البلد، ومنهم من منعه، ومنهم من جوزها بدون الأربعين على هذا، وخطبتها بعدها. ولو تركت الخطبة، لم تبطل الصلاة. وإذا قلنا بالمذهب، فصلاها المنفرد، لم يخطب على الصحيح. وإن صلاها مسافرون، خطب إمامهم. فصل في صفة صلاة العيد هي: ركعتان. صفتها في الأركان والسنن والهيئات كغيرها، وينوي بها صلاة العيد. هذا أقلها، والأكمل أن يقرأ دعاء الاستفتاح عقب الاحرام، كغيرها، ثم يكبر في الأولى سبع تكبيرات سوى تكبيرة الاحرام والركوع. وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة القيام من السجود والهوي إلى الركوع. وقال المزني: التكبيرات في الأولى ست. ولنا قول شاذ منكر: أن دعاء الاستفتاح يكون بعد هذه التكبيرات، ويستحب أن يقف بين كل تكبيرتين من الزوائد قدر قراءة آية لا طويلة ولا قصيرة، يهلل الله تعالى ويكبره ويمجده. هذا لفظ الشافعي. قال الأكثرون: يقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) ولو زاد، جاز. قال الصيدلاني عن بعض الأصحاب: يقول: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد بيده الخير وهو على كل شئ قدير) (2). وقال ابن الصباغ: لو قال ما اعتاده الناس: (الله أكبر كبيرا. والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله على محمد وآله وسلم كثيرا) كان حسنا (3).
578 قلت: وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مسعود المسعودي (1) من أصحابنا يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، وجل ثناؤك، ولا إله غيرك). والله أعلم. ولا يأتي بهذا الذكر عقب السابعة والخامسة في الثانية، بل يتعوذ عقب السابعة، وكذا عقب الخامسة، إن قلنا: يتعوذ في كل ركعة، ولا يأتي به بين تكبيرة الاحرام والأولى من الزوائد. قلت: وأما في الركعة الثانية، فقال إمام الحرمين: يأتي به قبل الأولى من الخمس، والمختار الذي يقتضيه كلام الأصحاب أنه لا يأتي به كما في الأولى. والله أعلم. ثم يقرأ الفاتحة، ثم يقرأ بعدها في الأولى: (ق). وفي الثانية: (اقتربت الساعة). قلت: وثبت في (صحيح مسلم) (2) أن النبي (ص) قرأ فيهما (سبح اسم ربك الاعلى) و (وهل أتاك) فهو سنة أيضا. والله أعلم. فرع: يستحب رفع اليدين في التكبيرات الزوائد، ويضع اليمنى على اليسرى بين كل تكبيرتين. وفي (العدة) ما يشعر بخلاف فيه. ولو شك في عدد التكبيرات، أخذ بالأقل (3)، ولو كبر ثماني تكبيرات، وشك هل نوى التحريم (4) بواحدة منها؟ فعليه استئناف الصلاة (5)، ولو شك في التكبيرة التي نوى التحريم (6) بها، جعلها الأخيرة، وأعاد الزوائد (7). ولو صلى خلف من يكبر ثلاثا أو ستا،
579 تابعه، ولا يزيد عليه على الأظهر (1). ولو ترك الزوائد، لم يسجد للسهو. قلت: ويجهر بالقراءة والتكبيرات، ويسر بالذكر بينهما (2). والله أعلم. فرع: لو نسي التكبيرات الزوائد في ركعة، فتذكر في الركوع أو بعده، مضى في صلاته ولم يكبر، فإن عاد إلى القيام ليكبر، بطلت صلاته. فلو تذكرها قبل الركوع وبعد القراءة، فقولان. الجديد الأظهر: لا يكبر، لفوات محله. والقديم: يكبر، لبقاء القيام، وعلى القديم: لو تذكر في أثناء الفاتحة، قطعها وكبر، ثم استأنف القراءة. وإذا تدارك التكبير بعد الفاتحة، استحب استئنافها، وفيه وجه ضعيف: أنه يجب، ولو أدرك الامام في أثناء القراءة وقد كبر بعض التكبيرات، فعلى الجديد، لا يكبر ما فاته. وعلى القديم: يكبر، ولو أدركه راكعا، ركع معه، ولا يكبر بالاتفاق، ولو أدركه في الركعة الثانية، كبر معه خمسا على الجديد، فإذا قام إلى ثانيته، كبر أيضا خمسا. فصل في خطبة العيد: فإذا فرغ الامام من صلاة العيد، صعد المنبر، وأقبل على الناس بوجهه وسلم. وهل يجلس قبل الخطبة؟ وجهان. الصحيح المنصوص: يجلس كخطبة الجمعة (3). ثم يخطب خطبتين، أركانهما كأركانهما في الجمعة (4)، ويقوم فيهما، ويجلس بينهما، كالجمعة، لكن يجوز هنا القعود فيهما مع القدرة على القيام. ويستحب أن يعلمهم في عيد الفطر أحكام صدقة الفطر، وفي الأضحى أحكام الأضحية. ويستحب أن يفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات متواليات، والثانية بسبع. ولو أدخل بينهما الحمد والتهليل والثناء، جاز،
580 وذكر بعضهم: أن صفتها، كالتكبيرات المرسلة والمقيدة التي سنذكرها إن شاء الله تعالى. قلت: نص الشافعي وكثيرون من الأصحاب على أن هذه التكبيرات ليست من الخطبة، وإنما هي مقدمة لها، ومن قال منهم: تفتتح الخطبة بالتكبيرات، يحمل كلامه على موافقة النص الذي ذكرته، لان افتتاح الشئ قد يكون ببعض مقدماته التي ليست من نفسه، فاحفظ هذا فإنه مهم خفي. والله أعلم. يستحب للناس استماع الخطبة. ومن دخل والامام يخطب، فإن كان في المصلى، جلس واستمع، ولم يصل التحية، ثم إن شاء صلى صلاة العيد في الصحراء، وإن شاء صلاها إذا رجع إلى بيته (1)، وإن كان في المسجد، استحب له التحية، ثم قال أبو إسحاق: لو صلى العيد، كان أولى، وحصلت (2) التحية، كمن دخل المسجد وعليه مكتوبة ففعلها، ويحصل بها التحية، وقال ابن أبي هريرة: يصلي التحية، ويؤخر صلاة العيد إلى ما بعد الخطبة، والأول أصح عند الأكثرين. ولو خطب الامام قبل الصلاة، فقد أساء وفي الاعتداد بخطبته احتمال لإمام الحرمين. قلت: الصواب وظاهر نصه في (الام): أنه لا يعتد بها، كالسنة الراتبة بعد الفريضة إذا قدمها. والله أعلم. فصل: صلاة العيد تجوز في الصحراء، وفي الجامع، وأيهما أفضل؟ إن كان بمكة، فالمسجد أفضل قطعا. وألحق به الصيدلاني: بيت المقدس (3). وإن كان بغيرهما، فإن كان عذر، كمطر، أو ثلج، فالمسجد أولى، وإلا، فإن ضاق
581 المسجد، فالصحراء أفضل (1)، بل يكره فعلها في المسجد. فإن كان واسعا، فوجهان. أصحهما وبه قطع العراقيون، وصاحب (التهذيب) وغيره: المسجد أولى. والثاني: الصحراء. وإذا خرج الامام إلى الصحراء استخلف من يصلي بضعفة الناس (2). وإذا صلى في المسجد وحضر الحيض، وقفن بباب المسجد، وهذا الفصل تفريع على المذهب في جواز صلاة العيد في غير البلد، وجوازها من غير شروط الجمعة، وفيه الخلاف المتقدم. فصل في السنن المستحبة ليلة العيد ويومه: فيستحب التكبير المرسل بغروب الشمس في العيدين جميعا، كما سيأتي بيانه في فصل التكبيرات (3)، إن شاء الله تعالى. ويستحب استحبابا متأكدا، إحياء ليلتي العيد بالعبادة (4). قلت: وتحصل فضيلة الاحياء بمعظم الليل، وقيل: تحصل بساعة. وقد نقل الشافعي رحمه الله في (الام) (5) عن جماعة من خيار أهل المدينة ما يؤيده. ونقل القاضي حسين عن ابن عباس: أن إحياء ليلة العيد أن يصلي العشاء في جماعة، ويعزم أن يصلي الصبح في جماعة، والمختار ما قدمته. قال الشافعي رحمه الله: وبلغنا أن الدعاء يستجاب في خمس ليال. ليلة الجمعة، والعيدين، وأول رجب، ونصف شعبان. قال الشافعي: واستحب كل ما حكيته في هذه
582 الليالي. والله أعلم. فرع: يسن الغسل للعيدين، ويجوز بعد الفجر قطعا، وكذا قبله على الأظهر ، وعلى هذا هل يجوز في جميع الليل، أم يختص بالنصف الثاني؟ وجهان. قلت: الأصح: اختصاصه. والله أعلم. ويستحب التطيب يوم العيد، والتنظف بحلق الشعر، وقلم الظفر، وقطع الرائحة الكريهة، ويستحب أن يلبس أحسن ما يجده من الثياب، وأفضلها البيض، ويتعمم. فإن لم يجد إلا ثوبا، استحب أن يغسله للجمعة والعيد ويستوي في استحباب جميع ما ذكرناه، القاعد في بيته، والخارج إلى الصلاة، هذا حكم الرجال. وأما النساء، فيكره لذوات الجمال والهيئة الحضور، ويستحب للعجائز، ويتنظفن بالماء، ولا يتطيبن، ولا يلبسن ما يشهرهن من الثياب، بل يخرجن في بذلتهن. وفي وجه شاذ: لا يخرجن مطلقا. فرع: السنة لقاصد العيد المشي. فإن ضعف لكبر، أو مرض، فله الركوب، وللقادر الركوب في الرجوع (1) ويستحب للقوم أن يبكروا إلى صلاة العيد (2) إذا صلوا الصبح، ليأخذوا مجالسهم وينتظروا الصلاة. والسنة للامام أن لا يخرج إلا في الوقت الذي يصلي فيه، فإذا وصل (3) المصلى شرع في صلاة العيد، ويستحب للامام أن يؤخر الخروج في عيد الفطر قليلا، ويعجل في الأضحى. ويكره للامام التنفل (4) قبل صلاة العيد وبعدها، ولا يكره للمأموم قبلها ولا يكره (5) بعدها، ويستحب في عيد الفطر أن يأكل شيئا، قبل خروجه إلى الصلاة، ولا يأكل في الأضحى حتى يصلي ويرجع.
583 قلت: ويستحب أن يكون المأكول تمرا (1) إن أمكن، ويكون وترا. والله أعلم. وينادى لها: الصلاة جامعة، قال صاحب (العدة) ولو نودي لها: حي على الصلاة، جاز، بل هو مستحب. قلت: ليس كما قال، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ينادي: الصلاة جامعة، فإن قال: هلموا إلى الصلاة، فلا بأس، قال: وأحب أن يتوقى ألفاظ الاذان. وقال الدارمي: لو قال حي على الصلاة، كره، لأنه من الاذان. والله أعلم. فرع: صح أن النبي (ص) كان يذهب إلى العيد في طريق، ويرجع في آخر (2)، واختلف في سببه، فقيل: لتبرك أهل الطريقين، وقيل: ليستفتي منهما، وقيل: ليتصدق على فقرائهما، وقيل: ليزور قبور أقاربه فيهما، وقيل: ليشهد له الطريقان، وقيل: ليزداد غيظ المنافقين، وقيل: لئلا تكثر الزحمة، وقيل: يقصد أطول الطريقين في الذهاب، وأقصرهما في الرجوع، وهذا أظهرها، ثم من شارك في المعنى استحب ذلك له، وكذا من لم يشارك على الصحيح الذي اختاره الأكثرون، وسواء فيه الإمام والمأموم. قلت: وإذا لم يعلم السبب، استحب التأسي (3) قطعا. والله أعلم.
584 فصل: قد قدمنا في قضاء صلاة العيد وغيرها من النوافل الراتبة إذا فاتت، قولين. وتقدم الخلاف في اشتراط شرائط الجمعة فيها. فلو شهد عدلان يوم الثلاثين من رمضان قبل الزوال برؤية الهلال في الليلة الماضية، أفطروا. فإن بقي من الوقت ما يمكن جمع الناس والصلاة فيه، صلوها وكانت أداء (1). وإن شهدوا بعد غروب الشمس يوم الثلاثين، لم تقبل شهادتهم، إذ لا فائدة فيها إلا المنع من صلاة العيد، فلا يصغى إليها، ويصلون من الغد العيد أداء، هكذا قال الأئمة واتفقوا عليه. وفي قولهم: لا فائدة إلا ترك صلاة العيد إشكال، بل لثبوت الهلال فوائد أخر. كوقوع الطلاق والعتق المعلقين، وابتداء العدة منه، وغير ذلك، فوجب أن نقبل، لهذه الفوائد. ولعل مرادهم بعدم الاصغاء في صلاة العيد وجعلها فائتة، لا عدم القبول على الاطلاق (2). قلت: مرادهم فيما يرجع إلى الصلاة خاصة قطعا، فأما الحقوق والأحكام المتعلقة بالهلال، كأجل الدين، والعتق، والمولى، والعدة، وغيرها، فثبت قطعا. والله أعلم. فلو شهدوا قبل الغروب بعد الزوال، أو قبله بيسير، بحيث لا يمكن فيه الصلاة، قبلت الشهادة في الفطر قطعا، وصارت الصلاة فائتة على المذهب، وقيل: قولان. أحدهما: هذا. والثاني: يفعل من الغد أداء لعظم حرمتها. فإن قلنا بالمذهب، فقضاؤها مبني على قضاء النوافل. فإن قلنا: لا تقضى، لم يقض العيد. وإن قلنا: تقضى، بنى على أنها كالجمعة في الشرائط، أم لا. فإن قلنا: نعم، لم تقض، وإلا قضيت، وهو المذهب من حيث الجملة. وهل لهم أن
585 يصلوها في بقية يومهم؟ وجهان، بناء على أن فعلها في الحادي والثلاثين إداء أم قضاء. إن قلنا: أداء، فلا. وإن قلنا: قضاء وهو الصحيح، جاز. ثم هل هو أفضل، أم التأخير إلى ضحوة الغد. وجهان. أصحهما: التقديم أفضل، هذا إذا أمكن جمع الناس في يومهم لصغر البلدة. فإن عسر، فالتأخير أفضل قطعا (1). وإذا قلنا: يصلونها في الحادي والثلاثين قضاء، فهل يجوز تأخيرها؟ عنه قولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: جوازه أبدا. وقيل: إنما يجوز في بقية شهر العيد. ولو شهد اثنان قبل الغروب، وعدلا بعده، فقولان. وقيل: وجهان. أحدهما: الاعتبار بوقت الشهادة، وأظهرهما: بوقت التعديل، فيصلون من الغد بلا خلاف أداء. هذا كله إذا وقع الاشتباه وفوات العيد لجميع الناس. فإن وقع ذلك لافراد، لم يجز إلا قولان، منع القضاء وجوازه أبدا. فرع: إذا وافق يوم العيد يوم جمعة، وحضر أهل القرى الذين يبلغهم النداء لصلاة العيد، وعلموا أنهم لو انصرفوا لفاتتهم الجمعة، فلهم أن ينصرفوا، ويتركوا الجمعة في هذا اليوم على الصحيح المنصوص في القديم والجديد (2). وعلى الشاذ: عليهم الصبر للجمعة.
586 فصل في تكبير العيد: وهو قسمان. أحدهما: في الصلاة والخطبة وقد مضى. والثاني: في غيرهما، وهو ضربان. مرسل، ومقيد. فالمرسل لا يقيد بحال، بل يؤتى به في المساجد والمنازل والطرق ليلا ونهارا. والمقيد يؤتى به في أدبار الصلاة خاصة. فالمرسل مشروع في العيدين جميعا، وأول وقته في العيدين بغروب الشمس ليلة العيد، وفي آخر وقته طريقان. أصحهما: على ثلاثة أقوال. أظهرها: يكبرون إلى أن يحرم الامام بصلاة العيد. والثاني: إلى أن يخرج الامام إلى الصلاة. والثالث: إلى أن يفرغ منها. وقيل: إلى أن يفرغ من الخطبتين. والطريق الثاني: القطع بالقول الأول. ويرفع الناس أصواتهم بالمرسل في ليلتي العيدين ويوميهما إلى الغاية المذكورة في المنازل، والمساجد، والأسواق (1)، والطرق، في السفر والحضر، في طريق المصلى، وبالمصلى. ويستثنى منه الحاج، فلا يكبر ليلة الأضحى، بل ذكره (2) التلبية. وتكبير ليلة الفطر آكد من ليلة الأضحى على الجديد، وفي القديم عكسه، وأما المقيد، فيشرع في الأضحى، ولا يشرع في الفطر على الأصح عند الأكثرين (3). وقيل: على الجديد، وعلى الثاني: يستحب عقب المغرب والعشاء والصبح (4). وحكم الفوائت والنوافل في هذه المدة على هذا الوجه يقاس بما نذكره إن شاء الله تعالى في الأضحى. وأما الأضحى، فالناس فيه قسمان. حجاج، وغيرهم. فالحجاج يبتدؤون التكبير عقب ظهر يوم النحر، ويختمونه عقب الصبح آخر أيام التشريق (5). وأما غير الحجاج، ففيهم طريقان. أصحهما: على ثلاثة أقوال. أظهرها: أنهم كالحجاج. والثاني: يبتدؤون عقب المغرب ليلة النحر إلى صبح الثالث من
587 أيام التشريق. والثالث: عقب صبح (1) من يوم عرفة ويختمونه عقب العصر آخر أيام التشريق. قال الصيدلاني وغيره (2): وعليه العمل في الأمصار. قلت: وهو الأظهر عند المحققين، للحديث (3). والله أعلم. والطريق الثاني: القطع بالقول الأول. ولو فاتته فريضة في هذه الأيام، فقضاها [في غيرها، لم يكبر. ولو فاتته في غير هذه الأيام أو فيها فقضاها فيها] (4)، كبر على الأظهر. ويكبر عقب النوافل الراتبة، ومنها صلاة العيد، وعقب النافلة المطلقة، وعقب الجنازة على المذهب في الجميع. وإذا اختصرت فقيل: أربعة أوجه. أصحها: يكبر عقب كل صلاة مفعولة في هذه الأيام. والثاني: يختص بالفرائض المفعولة فيها، مؤداة كانت أو مقضية. والثالث: يختص بفرائضها مقضية كانت أو مؤداة. والرابع: لا يكبر إلا عقب مؤداتها والسنن الراتبة. ولو نسي التكبير خلف الصلاة فتذكر والفصل قريب، كبر وإن فارق مصلاه. فلو طال الفصل، كبر أيضا على الأصح. والمسبوق إنما يكبر إذا أتم صلاة نفسه. قال إمام الحرمين: وجميع ما ذكرناه هو في التكبير الذي يرفع به صوته ويجعله شعارا. أما لو استغرق عمره بالتكبير في نفسه، فلا منع منه. فرع: صفة هذا التكبير أن يكبر ثلاثا نسقا على المذهب. وحكي قول قديم أنه يكبر مرتين. قال الشافعي رحمه الله: وما زاد من ذكر الله، فحسن. واستحسن في (الام) أن تكون زيادته: (الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب (5) وحده، لا إله إلا الله
588 والله أكبر). وقال في القديم: بعد الثلاث: (الله أكبر كبيرا (1)، والحمد لله كثيرا (2)، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أبلانا وأولانا). قال صاحب (الشامل) والذي يقوله الناس لا بأس به أيضا، وهو: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد). قلت: هو (3) الذي ذكره صاحب (الشامل) نقله صاحب (البحر) عن نص الشافعي رحمه الله في (البويطي) وقال: والعمل عليه. والله أعلم. فرع: يستوي في التكبير المرسل والمقيد، المنفرد والمصلي جماعة، والرجل والمرأة، والمقيم والمسافر. قلت: لو كبر الامام على خلاف اعتقاد المأموم، فكبر من يوم عرفة والمأموم لا يرى التكبير فيه، أو عكسه، فهل يوافق في التكبير وتركه، أم يتبع اعتقاد نفسه؟ وجهان. الأصح: اعتقاد نفسه، بخلاف ما قدمناه في تكبير نفس الصلاة (4). والله أعلم.
589 كتاب صلاة الكسوف (1) يطلق الكسوف والخسوف على الشمس والقمر جميعا (2). وصلاة كسوف الشمس والقمر سنة مؤكدة، وتسن في أوقات الكراهة وغيرها. وأقلها أن يحرم بنية صلاة الكسوف، ويقرأ الفاتحة، ويركع ثم يرفع، فيقرأ الفاتحة ثم يركع ثانيا، ثم يرفع ويطمئن، ثم يسجد، فهذه ركعة، ثم يصلي ركعة ثانية كذلك (3)، فهي ركعتان، في كل ركعة قيامان وركوعان، ويقرأ الفاتحة في كل
591 قيام (1). فلو تمادى الكسوف، فهل يزيد ركوعا ثالثا؟ وجهان. أحدهما: يزيد ثالثا ورابعا وخامسا، حتى ينجلي الكسوف، قاله ابن خزيمة، والخطابي، وأبو بكر الضبعي من أصحابنا، للأحاديث الواردة: أن النبي (ص) صلى ركعتين، في كل ركعة أربع ركوعات، وروي خمس ركوعات، ولا محمل له إلا التمادي، وأصحهما: لا تجوز الزيادة، كسائر الصلوات. روايات الركوعين أشهر وأصح، فيؤخذ بها، كذا قاله الأئمة، ولو كان في القيام الأول، فانجلى الكسوف، لم تبطل صلاته. وهل له أن يقتصر على قومة واحدة، وركوع واحد في كل ركعة؟ وجهان بناء على الزيادة عند التمادي، إن جوزنا الزيادة، جاز النقصان بحسب مدة الكسوف، وإلا فلا. ولو سلم من الصلاة والكسوف باق، فهل له أن يستفتح صلاة الكسوف مرة أخرى؟ وجهان خرجوهما على جواز زيادة عدد الركوع، والمذهب المتبع. وأكملها أن يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة وسوابقها سورة (البقرة) أو مقدارها إن لم يحسنها، وفي الثاني: (آل عمران) أو مقدارها. وفي الثالث: (النساء) أو قدرها. وفي الرابع: (المائدة) أو قدرها. وكل ذلك بعد الفاتحة. هذه رواية البويطي، ونقل المزني في (المختصر): أنه يقرأ في الأول (البقرة) أو قدرها إن لم يحفظها. وفي الثاني قدر مائتي آية من سورة (البقرة). وفي الثالث: قدر مائة (2) آية وخمسين آية منها، وفي الرابع: قدر مائة آية منها، وهذه الرواية هي التي قطع بها الأكثرون، وليستا على الاختلاف المحقق،
592 بل الامر فيه على التقريب، وهما متقاربتان. قلت: وفي استحباب التعوذ في ابتداء القراءة في القومة الثانية، وجهان حكاهما في (الحاوي)، وهما الوجهان في الركعة الثانية. والله أعلم. وأما قدر مكثه في الركوع، فينبغي أن يسبح في الركوع الأول قدر مائة آية من (البقرة) وفي الثاني: قدر ثمانين منها، وفي الثالث: قدر سبعين. وفي الرابع: قدر خمسين (1)، والامر فيه على التقريب. ويقول في الاعتدال من (2) كل ركوع: (سمع الله لمن حمده) و (ربنا لك الحمد) (3) وهل يطول السجود في هذه
593 الصلاة؟ قولان. أظهرهما: لا يطوله كما لا يطول التشهد، ولا الجلوس بين السجدتين. والثاني: يطول. نقله البويطي، والترمذي، والمزني، عن الشافعي (1). قلت: الصحيح المختار (2)، أنه يطول السجود (3) وقد ثبت في إطالته أحاديث كثيرة في (الصحيحين) عن جماعة من الصحابة. ولو قيل: إنه يتعين الجزم به، لكان قولا صحيحا، لان الشافعي رضي الله عنه قال: ما صح فيه الحديث، فهو قولي ومذهبي. فإذا قلنا بإطالته، فالمختار فيها ما قاله صاحب (التهذيب) (4) أن السجود الأول كالركوع الأول، والسجود الثاني، كالركوع الثاني. وقال الشافعي رحمه الله في البويطي: إنه نحو الركوع الذي قبله. وأما الجلسة بين السجدتين، فقد قطع (5) الرافعي بأنه لا يطولها. ونقل الغزالي الاتفاق على أنه لا يطولها. وقد صح في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي (ص) سجد فلم يكد يرفع، ثم رفع فلم يكد يسجد، ثم سجد فلم يكد يرفع، ثم فعل في الركعة الأخرى مثل ذلك (6). وأما الاعتدال بعد الركوع الثاني،
594 فلا يطول بلا خلاف، وكذا التشهد. والله أعلم. فصل: يستحب الجماعة في صلاة الكسوفين. ولنا وجه: أن الجماعة فيها شرط، ووجه: أنها لا تقام إلا في جماعة واحدة كالجمعة، وهما شاذان (1). ويستحب أن ينادي لها: الصلاة جامعة. وأن يصلي في الجامع، وأن يخطب بعد الصلاة خطبتين كخطبتي الجمعة (2) في الأركان والشرائط (3)، سواء صلوها جماعة في مصر، أو صلاها المسافرون في الصحراء. ويحث الامام الناس في هذه الخطبة على التوبة من المعاصي وعلى فعل الخير. قلت: ويحرضهم على الاعتاق والصدقة، ويحذرهم الغفلة والاغترار. ففي (صحيح البخاري) (4) عن أسماء رضي الله عنها، أن النبي (ص) أمر بالعتاقة في كسوف الشمس. والله أعلم. ومن صلى منفردا، لم يخطب. ويستحب الجهر بالقراءة في كسوف القمر، والاسرار في الشمس، هذا هو المعروف. وقال الخطابي: الذي يجئ على مذهب الشافعي رحمه الله: أنه يجهر في الشمس. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام في الركوع الأول من الركعة الأولى، فقد أدرك الصلاة، وإن أدركه في الركوع الأول من الركعة الثانية، فقد أدرك الركعة، فإذا سلم الامام، قام فصلى ركعة بركوعين. ولو أدركه في الركوع الثاني من إحدى الركعتين، فالمذهب الذي نص عليه في البويطي، واتفق الأصحاب على تصحيحه، أنه لا يكون مدركا لشئ من الركعة. وحكى صاحب (التقريب) قولا آخر أنه بإدراك الركوع الثاني يكون مدركا للقومة التي قبله، فعلى هذا لو أدرك الركوع الثاني من الأول، وسلم الامام، قام وقرأ وركع واعتدل وجلس وتشهد
595 وسلم، ولا يسجد، لان إدراك الركوع إذا حصل القيام الذي قبله، كان السجود بعده محسوبا لا محالة. وعلى المذهب: لو أدركه في القيام الثاني لا يكون مدركا لشئ من الركعة أيضا. فصل: تفوت صلاة كسوف الشمس بأمرين. أحدهما: انجلاء جميعها، فإن انجلى البعض فله الشروع في الصلاة للباقي، كما لو لم ينكسف إلا ذلك القدر. ولو حال سحاب وشك في الانجلاء، صلى. ولو كانت الشمس تحت غمام، فظن الكسوف، لم يصل حتى يستيقن. قلت: قال الدارمي وغيره: ولا يعمل في كسوفها بقول المنجمين. والله أعلم. الثاني: أن تغرب كاسفة، فلا يصلي. وتفوت صلاة خسوف القمر بأمرين. أحدهما: الانجلاء كما سبق. والثاني: طلوع الشمس. فإذا طلعت وهو بعد خاسف، لم يصل. ولو غاب في الليل خاسفا، صلى كما لو استتر بغمام. ولو طلع الفجر وهو خاسف، أو خسف بعد الفجر، صلى على الجديد. وعلى هذا لو شرع في الصلاة بعد الفجر، فطلعت الشمس في أثنائها، لم تبطل صلاته، كما لو انجلى الكسوف في الأثناء (1). وقال القاضي ابن كج: هذان القولان فيما إذا غاب خاسفا بين الفجر وطلوع الشمس، فأما إذا لم يغب وبقي خاسفا، فيجوز الشروع في الصلاة بلا خلاف. قلت: صرح الدارمي وغيره بجريان القولين في الحالين. قال صاحب (البحر): ولو ابتدأ الخسوف بعد طلوع الشمس، لم يصل قطعا. والله أعلم. فصل: إذا اجتمعت صلاتان في وقت، قدم ما يخاف فوته (2)، ثم الأوكد.
596 فلو اجتمع عيد وكسوف، أو جمعة وكسوف، وخيف فوت العيد أو الجمعة لضيق وقتها، قدمت، وإن لم يخف، فالأظهر: يقدم الكسوف. والثاني: العيد والجمعة، لتأكدهما، وباقي الفرائض كالجمعة. ولو اجتمع كسوف ووتر أو تراويح، قدم الكسوف (1) مطلقا، لأنها أفضل. ولو اجتمع جنازة وكسوف أو عيد، قدم الجنازة (2)، ويشتغل الامام بعدها بغيرها، ولا يشيعها، فلو لم تحضر الجنازة، أو حضرت ولم يحضر الولي، أفرد الامام جماعة ينتظرون الجنازة واشتغل هو بغيرها. ولو حضرت جنازة وجمعة ولم يضق الوقت، قدمت الجنازة. وإن ضاق الوقت، قدمت الجمعة على المذهب. وقال الشيخ أبو محمد: تقدم الجنازة، لان الجمعة لها بدل. فرع: إذا اجتمع العيد والكسوف، خطب لهما بعد الصلاتين خطبتين يذكر فيهما العيد والكسوف (3). ولو اجتمع جمعة وكسوف، واقتضى الحال تقديم الجمعة، خطب لها، ثم صلى الجمعة، ثم الكسوف، ثم خطب لها. وإن اقتضى تقديم الكسوف، بدأ بها، ثم خطب للجمعة خطبتين يذكر فيهما شأن الكسوف، ولا تحتاج إلى أربع خطب، ويقصد بالخطبتين الجمعة خاصة. ولا يجوز أن يقصد الجمعة والكسوف، لأنه تشريك بين فرض ونفل، بخلاف العيد والكسوف، فإنه يقصدهما جميعا بالخطبتين، لأنهما سنتان (4).
597 فرع: اعترضت طائفة على قول الشافعي: اجتمع عيد وكسوف، وقالت: هذا محال، فإن الكسوف لا يقع إلا في الثامن والعشرين، أو التاسع والعشرين فأجاب الأصحاب بأجوبة. أحدها: أن هذا قول المنجمين، وأما نحن، فنجوز الكسوف في غيرهما، فإن الله تعالى على كل شئ قدير. وقد نقل مثل ذلك، فقد صح أن الشمس كسفت يوم مات إبراهيم ابن رسول الله (ص)، وروى الزبير بن بكار (2) في (الأنساب): أنه توفي في العاشر من شهر ربيع الأول. وروى البيهقي مثله عن الواقدي (3). وكذا اشتهر أن قتل الحسين رضي الله عنه كان يوم عاشوراء. وروى البيهقي عن أبي قبيل (4) أنه لما قتل الحسين، كسفت الشمس. الثاني: أن وقوع العيد في الثامن والعشرين يتصور بأن يشهد شاهدان على
598 نقصان رجب، وآخران على نقصان شعبان ورمضان، وكانت في الحقيقة كاملة، فيقع العيد في الثامن والعشرين. الثالث: لو لم يقع ذلك، لكان تصوير الفقيه له حسنا، ليتدرب باستخراج الفروع الدقيقة (1). فصل ما سوى الكسوفين من الآيات، كالزلازل والصواعق والرياح الشديدة، لا يصلى لها جماعة، لكن يستحب الدعاء والتضرع. ويستحب لكل أحد أن يصلي منفردا لئلا يكون غافلا. وروى الشافعي: أن عليا كرم الله وجهه، صلى في زلزلة جماعة، قال الشافعي: إن صح قلت به، فمن الأصحاب من قال: هذا قول آخر له، في الزلزلة وحدها، ومنهم من عممه في جميع الآيات. قلت: لم يصح ذلك عن علي رضي الله عنه، قال الشافعي والأصحاب: يستحب للنساء غير ذوات الهيئات صلاة الكسوف مع الامام، وأما ذوات الهيئات، فيصلين في البيوت منفردات. قال الشافعي: فإن اجتمعن، فلا بأس، إلا أنهن لا يخطبن، فإن قامت واحدة وعظتهن وذكرتهن، فلا بأس. والله أعلم.
599 كتاب صلاة الاستسقاء (1) المراد بالاستسقاء: سؤال الله تعالى أن يسقي عباده عند حاجتهم، وله أنواع. أدناها: الدعاء بلا صلاة ولا خلف صلاة، فرادى أو مجتمعين لذلك، وأوسطها: الدعاء خلف الصلوات، وفي خطبة الجمعة ونحو ذلك. وأفضلها: الاستسقاء بركعتين وخطبتين. ويستوي في استحباب الاستسقاء أهل القرى والأمصار والبوادي والمسافرون، ويسن لهم جميعا الصلاة والخطبة. ولو انقطعت المياه ولم يمس إليها حاجة في ذلك الوقت، لم يستسقوا، ولو انقطعت عن طائفة من المسلمين واحتاجت، استحب لغيرهم أن يصلوا ويستسقوا لهم، ويسألوا الزيادة لأنفسهم (2).
601 فرع: إذا استسقوا فسقوا، فذاك، وإن (1) تأخرت الإجابة، استسقوا وصلوا ثانيا وثالثا حتى يسقيهم الله تعالى (2). وهل يعودون من الغد، أم يصومون ثلاثة أيام قبل الخروج كما يفعلون في الخروج الأول؟ قال في (المختصر): من الغد. وفي القديم: يصومون، فقيل: قولان. أظهرهما: الأول. وقيل: على حالين. فإن لم يشق على الناس، ولم ينقطعوا عن مصالحهم عادوا غدا وبعد بغد، وإن اقتضى الحال التأخير أياما، صاموا. قلت: ونقل القاضي أبو الطيب عن عامة الأصحاب: أن المسألة على قول واحد، نقل المزني الجواز، والقديم الاستحباب (3). والله أعلم. ثم جماهير الأصحاب قطعوا باستحباب تكرير الاستسقاء كما ذكرنا، لكن الاستحباب في المرة الأولى آكد. وحكي وجه: أنهم لا يفعلون ذلك إلا مرة. فرع: لو تأهبوا للخروج للصلاة، فسقوا قبل موعد الخروج، خرجوا للوعظ والدعاء والشكر. وهل يصلون شكرا؟ فيه طريقان. قطع الأكثرون بالصلاة، وهو المنصوص في (الام) (4). وحكى إمام الحرمين والغزالي وجهين. أصحهما:
602 هذا. والثاني: لا يصلون. وأجري الوجهان فيما إذا لم تنقطع المياه وأرادوا أن يصلوا للاستزادة. فصل: في آداب هذه الصلاة: منها: أن يأمر الامام الناس بصوم ثلاثة أيام قبل يوم الخروج (1) وبالخروج عن المظالم في الدم والعرض والمال، وبالتقرب إلى الله تعالى بما يستطيعون من الخير، ثم يخرجون في اليوم الرابع صياما (2)، في ثياب بذلة، وتخشع بلا زينة ولا طيب، لكن يتنظفون بالماء والسواك وقطع الرائحة الكريهة. ويستحب إخراج الصبيان والمشايخ، ومن لا هيئة لها من النساء، ويستحب إخراج البهائم على الأصح (3). وعلى الثاني: لا يستحب، فلو أخرجت، فلا بأس. وأما خروج أهل الذمة، فنص الشافعي رحمه الله على كراهيته، والمنع منه إن حضروا مستسقى للمسلمين، وإن تميزوا ولم يختلطوا بالمسلمين، لم يمنعوا (4). وحكى الروياني وجها: أنهم يمنعون وإن تميزوا، إلا أن يخرجوا في غير يوم المسلمين. ومن الآداب أن يذكر كل واحد من القوم في نفسه ما فعل من
603 خير، فيجعله شافعا. ومنها: أن يستسقى بالأكابر وأهل الصلاح، لا سيما أقارب رسول الله (ص). فصل: السنة أن يصليها في الصحراء، (1) وينادي لها: الصلاة جامعة، ويصلي ركعتين، يكبر في الأولى سبع تكبيرات زائدة، وفي الثانية خمسا، ويجهر فيهما بالقراءة، ويقرأ في الأولى بعد (الفاتحة): (ق). وفي الثانية: (اقتربت). وقال بعض الأصحاب: يقرأ في إحداهما: (إنا أرسلنا نوحا) وليكن في الثانية وفي الأولى (ق). ونص الشافعي رحمه الله: أنه يقرأ فيهما ما يقرأ في العيد، وإن قرأ (إنا أرسلنا) كان حسنا. وهذا يقتضي أن لا خلاف في المسألة، وأن كلا سائغ، ومنهم من قال: في الأحب خلاف. والأصح: أنه يقرأ ما يقرأ في العيد. وأما وقت هذه الصلاة، فقطع الشيخ أبو علي وصاحب (التهذيب) بأنه وقت صلاة العيد، واستغرب إمام الحرمين هذا، وذكر الروياني وآخرون: أن وقتها يبقى بعد الزوال ما لم يصل العصر، وصرح صاحب (التتمة) بأن صلاة الاستسقاء لا تختص بوقت، بل أي وقت صلوها من ليل أو نهار، جاز، وقد قدمنا عن الأئمة وجهين في كراهة صلاة الاستسقاء في الأوقات المكروهة، ومعلوم أن الأوقات المكروهة غير داخلة في حكم (2) وقت صلاة العيدين (3)، ولا مع انضمام ما بين الزوال والعصر إليه، فيلزم أن لا يكون وقت الاستسقاء منحصرا (4) في ذلك، وليس لحامل أن يحمل الوجهين في الكراهة على قضائها، فإنها لا تقضى. قلت: ليس بلازم ما قاله، فقد تقدم أن الأصح: دخول وقت العيد بطلوع الشمس، وهو وقت كراهة، وممن قال بانحصار وقت الاستسقاء في وقت العيد، الشيخ أبو حامد، والمحاملي، ولكن الصحيح الذي نص عليه الشافعي، وقطع به
604 الأكثرون، وصححه الرافعي في (المحرر) والمحققون: أنها لا تختص بوقت، كما لا تختص بيوم. وممن قطع به صاحبا (الحاوي) و (الشامل) ونقله صاحب (الشامل) وصاحب (جمع الجوامع) عن نص الشافعي رضي الله عنه. وقال إمام الحرمين: لم أر التخصيص لغير الشيخ أبي علي. والله أعلم. فصل: يستحب أن يخطب خطبتين بعد الصلاة (1)، وأركانهما وشرائطهما كما تقدم في العيد (2). لكن تخالفها في أمور. منها: أنه يبدل التكبيرات المشروعة في أولهما بالاستغفار (3) فيقول: (أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه). ويختم كلامه بالاستغفار، ويكثر منه في الخطبة، ومن قوله: (استغفروا ربكم إنه كان غفارا...) الآية. نوح: 10. ولنا وجه حكاه في (البيان) عن المحاملي: أنه يكبر هنا في ابتداء الخطبة كالعيد، والمعروف الأول. ومنها: أن يستقبل القبلة في الخطبة الثانية، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ومنها: أنه يستحب أن يدعو في الأولى: (اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا مريعا غدقا مجللا سحا طبقا دائما، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد من اللاواء والجهد والضنك ما لا نشكو إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء، وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا، فأرسل السماء علينا مدرارا) ويكون في
605 الخطبة الأولى وصدر الثانية، مستقبل الناس، مستدبر القبلة، ثم يستقبل القبلة، ويبالغ في الدعاء سرا وجهرا، وإذا أسر دعا الناس سرا، ويرفعون أيديهم في الدعاء. وفي الحديث أن النبي (ص) استسقى وأشار بظهر كفيه إلى السماء. قال العلماء: السنة لكل من دعا لرفع بلاء، أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا سأل شيئا جعل بطن (1) كفيه إلى السماء. قلت: الحديث المذكور (2)، في (صحيح مسلم) (3). والله أعلم. قال الشافعي رحمه الله: وليكن من دعائهم في هذه الحالة (اللهم أنت أمرتنا بدعائك، ووعدتنا إجابتك، وقد دعوناك كما أمرتنا، فأجبنا كما وعدتنا، اللهم امنن علينا بمغفرة ما قارفنا، وإجابتك في سقيانا وسعة رزقنا). فإذا فرغ من الدعاء أقبل بوجهه على الناس وحثهم على طاعة الله، وصلى على النبي (ص)، ودعا للمؤمنين والمؤمنات، وقرأ آية أو آيتين، ويقول: (أستغفر الله لي ولكم). هذا لفظ الشافعي رضي الله عنه. ويستحب عند تحوله إلى القبلة، أن يحول رداءه. وهل ينكسه مع التحويل؟ قولان. الجديد: نعم. والقديم: لا. فالتحويل: أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر، وبالعكس. والتنكيس: أن يجعل أعلاه أسفله، ومتى جعل الطرف الأسفل الذي على شقه الأيسر على عاتقه الأيمن، والطرف الأسفل الذي على شقه الأيمن على عاتقه الأيسر، حصل التحويل والتنكيس جميعا، هذا في الرداء المربع، فأما المقور والمثلث، فليس فيه إلا التحويل. ويفعل الناس بأرديتهم كفعل الامام تفاؤلا بتغير الحال إلى الخصب، ويتركونها محولة إلى أن ينزعوا الثياب. قلت: قال الشافعي، والأصحاب رحمهم الله تعالى: إذا ترك الامام الاستسقاء، لم يتركوه (4) الناس (5). ولو خطب قبل الصلاة، قال صاحب
606 (التتمة): يجوز وتصح الخطبة والصلاة (1)، ويحتج لها بما ثبت في الحديث الصحيح الصريح في (سنن أبي داود) (2) وغيره أن رسول الله (ص) خطب ثم صلى. وفي صحيحي (البخاري) (3) و (مسلم) أن رسول الله (ص) خرج يستسقي فدعا، واستقبل القبلة وحول رداءه، ثم صلى ركعتين. قال أصحابنا: وإذا كثرت الأمطار وتضررت بها المساكن والزروع، فالسنة أن يسألوا الله تعالى دفعه (اللهم حوالينا ولا علينا). قال الشافعي والأصحاب: ولا يشرع لذلك صلاة، ويستحب أن يبرز لأول مطر يقع في السنة، ويكشف من (4) بدنه ما عدا عورته ليصيبه المطر، وأن يغتسل في الوادي إذا سال، أو يتوضأ (5)، ويسبح عند الرعد والبرق، ولا يتبع بصره البرق. والسنة أن يقول عند نزول المطر: (اللهم صيبا نافعا) رواه البخاري (6) في (صحيحه). وفي رواية ابن ماجة (7): (سيبا نافعا) مرتين أو ثلاثا، فيستحب الجمع بينهما. وقد أوضحت ذلك مع زوائد ونفائس تتعلق به في كتاب (الأذكار) الذي لا يستغني متدين عن معرفة مثله. ويكره سب الريح، فإن كرهها، سأل الله تعالى الخير، واستعاذ من الشر. وفي (صحيح مسلم) (8) أن النبي (ص) [كان] إذا عصفت الريح قال: (اللهم إني أسألك خيرها، وخير ما فيها، وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها، وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به) ويستحب أن يقول بعد
607 المطر: (مطرنا بفضل الله ورحمته). ويستحب الدعاء عند نزول المطر، ويشكر الله تعالى عليه. ويكره أن يقول: مطرنا بنوء (1) كذا، فإن اعتقد أن النوء هو الممطر الفاعل حقيقة، كفر فصار مرتدا. والله أعلم.
608 كتاب الجنائز (1) يستحب لكل واحد ذكر الموت. قلت: ويستحب الاكثار منه. والله أعلم. ويستعد له بالتوبة، ورد المظالم إلى أهلها، والمريض آكد. ويستحب له الصبر على المرض، وترك الأنين ما أطاق، ويستحب التداوي، ويستحب لغيره عيادته إن كان مسلما، فإن كان ذميا له قرابة أو جوار أو نحوهما، استحبت، وإلا جازت، فإن رأى العائد علامة البرء، دعا (2) وانصرف، وإن رأى خلاف ذلك، رغبه في التوبة والوصية. قلت: ويستحب للعائد أن يطيب نفس المريض ولا يطول القعود، ولا يواصل العيادة، بل تكون غبا (3)، ولا تكره العيادة في وقت إلا أن يشق على المريض. والله أعلم.
609 فصل في آداب المحتضر: يستقبل به القبلة. وفي كيفيته وجهان. أحدهما: يلقاه (1) على قفاه وأخمصاه إلى القبلة. والثاني وهو الصحيح المنصوص وبه قطع العراقيون (2) وصححه الأكثرون (3): يضجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة كالموضوع في اللحد، فإن لم يمكن لضيق الموضع، أو سبب آخر، فعلى قفاه (4)، ووجهه وأخمصاه إلى القبلة. ويستحب أن يلقن كلمة الشهادة (5)، ولا يلح الملقن ولا يواجهه بقول: قل: (لا إله إلا الله) بل يذكرها بين يديه ليذكر. أو يقول: ذكر الله تعالى مبارك، فنذكر الله تعالى جميعا [ويقول:] (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) فإذا (6) قالها مرة لا تعاد عليه ما لم يتكلم بعدها (7)، ويستحب أن يلقنه غير الورثة، فإن لم يحضر غيرهم، لقنه أشفقهم عليه. قلت: هكذا قال الجمهور، يلقنه كلمة الشهادة (لا إله إلا الله). وذهب جماعات من أصحابنا إلى أنه يلقن أيضا: محمدا رسول الله. ممن صرح به، القاضي أبو الطيب، والماوردي، وسليم الرازي (8)، ونصر المقدسي، وأبو العباس
610 الجرجاني، والشاشي في (المعتمد) والأول أصح. والله أعلم. ويستحب أن يقرأ عنده (1) (يس). واستحب بعض التابعين سورة (الرعد) أيضا. وينبغي له أن يحسن ظنه بالله تعالى، ويستحب لمن عنده، تحسين ظنه وتطميعه في رحمة الله تعالى. فإذا مات غمضت عيناه، وشد لحياه بعصابة عريضة، ويربطها فوق رأسه، ويلين مفاصله، فيمد ساعده إلى عضده ويرده، ويرد ساقه إلى فخذه، وفخذه إلى بطنه، ويردهما ويلين أصابعه، وينزع ثيابه التي مات فيها، ويستر جميع بدنه بثوب خفيف، ولا يجمع عليه أطباق الثياب، ويجعل أطراف الثوب الساتر تحت رأسه ورجليه لئلا ينكشف، ويوضع على بطنه شئ ثقيل، كسيف، أو مرآة، أو نحوهما. فإن لم يكن، فطين رطب، ويصان المصحف عنه، ويستقبل به القبلة كالمحتضر، ويوضع على شئ مرتفع، كسرير ونحوه، ويتولى هذه الأمور أرفق محارمه بأسهل ما يقدر عليه. قلت: يتولاه الرجال من الرجال، والنساء من النساء، فإن تولاه الرجال من النساء (2) المحارم، أو النساء من الرجال (3) المحارم، جاز. والله أعلم. ويبادر إلى قضاء دينه وتنفيذ وصيته إن تيسر في الحال. قلت: يكره تمني الموت لضر نزل به، فإن كان لا بد متمنيا، فليقل: (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي) (4). فإن
611 كان تمنيه مخافة فتنة في دينه فلا بأس. ويكره للمريض كثرة الشكوى، وتكره الكراهة (1) على تناول الدواء. ويستحب للناس أن يقولوا عند الميت خيرا. ويجوز لأهل الميت وأصدقائه تقبيل وجهه، ثبتت فيه الأحاديث (2)، وصرح به الدارمي. ويكره نعيه بنعي الجاهلية، ولا بأس بالأعلام بموته للصلاة عليه وغيرها. والله أعلم. باب غسل الميت يستحب المبادرة إلى غسله وتجهيزه إذا تحقق موته، بأن يموت بعلة، أو تظهر أمارات الموت، بأن يسترخي قدماه، فلا (3) ينتصبا، أو يميل أنفه، أو ينخسف صدغاه، أو تمتد جلدة وجهه، أو ينخلع كفاه من ذراعيه، أو تتقلص خصيتاه إلى فوق مع تدلي الجلدة، وإن (4) شك بأن لا يكون به علة، واحتمل أن يكون به سكتة، أو أظهرت أمارات فزع أو غيره، أخر إلى التيقين (5) بتغيير الرائحة أو غيره (6). فصل: غسل الميت فرض كفاية (7)، وكذا التكفين والصلاة عليه والدفن
612 بالاجماع. وأقل الغسل: استيعاب البدن مرة بعد إزالة النجاسة إن كانت (1). وفي اشتراط نية الغسل على الغاسل وجهان. أصحهما فيما ذكره الروياني وغيره: لا يشترط. قلت: صححه الأكثرون، وهو ظاهر نص الشافعي. والله أعلم. ولو غسل الكافر مسلما، فالصحيح المنصوص: أنه يكفي. ولو غرق إنسان، ثم ظفرنا به، لم يكف ما سبق، بل يجب غسله على الصحيح المنصوص (2). أما أكمل الغسل، فيستحب أن يحمل (3) الميت إلى موضع خال مستور لا يدخله إلا الغاسل، ومن لا بد من معونته عند الغسل. وذكر الروياني وغيره: أن للولي أن يدخل إن شاء، وإن لم يغسل ولم يعن، ويوضع على لوح أو سرير هيئ له، ويكون موضع رأسه أعلى لينحدر الماء، ويغسل في قميص يلبسه عند إرادته (4) غسله. ولنا وجه: أن الأولى أن يجرد. والصحيح المعروف: هو الأول. وليكن القميص باليا أو سخيفا. ثم إن كان القميص واسعا، أدخل يده في كمه، وغسل (5) من تحته، وإن كان ضيقا، فتق رأس الدخاريض (6) وأدخل يده فيه (7). ولو لم يوجد
613 قميص، أو لم يتأت غسله فيه، ستر منه ما بين السرة والركبة، وحرم النظر إليه. ويكره للغاسل أن ينظر إلى شئ من بدنه إلا لحاجة بأن يريد معرفة المغسول. وأما المعين، فلا ينظر إلا لضرورة، ويحضر ماء باردا في إناء كبير ليغسل به، وهو أولى من المسخن، إلا أن يحتاج إلى المسخن لشدة البرد (1)، أو لوسخ، أو غيره. وينبغي أن يبعد الاناء الذي فيه الماء عن المغتسل، بحيث لا يصيبه رشاش الماء عند الغسل. فرع: ويعد الغاسل قبل الغسل خرقتين نظيفتين، وأول ما يبدأ به بعد وضعه على المغتسل، أن يجلسه إجلاسا رفيقا، بحيث لا يعتدل، ويكون مائلا إلى ورائه، ويضع يده اليمنى على كتفه، وإبهامه في نقرة قفاه، لئلا يميل رأسه، ويسند ظهره إلى ركبته اليمنى، ويمر يده اليسرى على بطنه إمرارا بليغا لتخرج الفضلات، ويكون عنده مجمرة فائحة بالطيب، ويصب عليه المعين ماء كثيرا لئلا تظهر رائحة ما يخرج، ثم يرده إلى هيئة الاستلقاء، ويغسل بيساره - وهي ملفوفة بإحدى الخرقتين - دبره ومذاكره (2) (3) وعانته، كما يستنجي الحي، ثم يلقي تلك الخرقة، ويغسل يده بماء وإشنان. كذا قال الجمهور: إنه يغسل السوأتين معا بخرقة (4) واحدة. وفي (النهاية) و (الوسيط): أنه يغسل كل سوءة بخرقة، ولا شك
614 أنه أبلغ في النظافة، ثم يتعهد ما على بدنه من قذر ونحوه. فرع: فإذا فرغ مما قدمناه، لف الخرقة الأخرى على اليد، وأدخل أصبعه في فيه، وأمرها على أسنانه بشئ من الماء، ولا يفتح أسنانه، ويدخل أصبعه في منخريه بشئ من الماء ليزيل ما فيهما من أذى. ثم يوضئه كوضوء الحي ثلاثا ثلاثا مع المضمضة والاستنشاق، ولا يكفي ما قدمناه من إدخال الإصبعين عن المضمضة والاستنشاق، بل ذاك كالسواك. هذا مقتضى كلام الجمهور. وفي (الشامل) وغيره: ما يقتضي الاكتفاء. والأول أصح. ويميل رأسه في المضمضة والاستنشاق، لئلا يصل الماء باطنه. وهل يكفي وصول الماء مقاديم الشفتين (1) والمنخرين، أم يوصله إلى الداخل؟ حكى إمام الحرمين فيه ترددا، لخوف الفساد، وقطع بأن أسنانه لو كانت متراصة لا تفتح. فرع: فإذا فرغ من وضوئه، غسل رأسه، ثم لحيته، بالسدر والخطمي، وسرحهما بمشط واسع الأسنان إن كانا متلبدين، ويرفق لئلا ينتف شعر، فإن انتتف رده إليه (2). ثم يغسل شقه الأيمن المقبل من عنقه، وصدره، وفخذه، وساقه، وقدمه. ثم يغسل شقه الأيسر كذلك، ثم يحوله إلى جنبه الأيسر، فيغسل شقه الأيمن مما يلي القفا والظهر من الكتفين إلى القدم، ثم يحوله إلى جنبه الأيمن، فيغسل شقه الأيسر كذلك. هذا نص الشافعي في (المختصر). وبه قال أكثر الأصحاب، وحكى العراقيون وغيرهم قولا آخر: أنه يغسل جانبه الأيمن من مقدمه، ثم يحوله فيغسل جانب ظهره الأيمن، ثم يلقيه على ظهره فيغسل جانبه الأيسر من مقدمه، ثم يحوله فيغسل جانب ظهره الأيسر. قالوا: وكل واحد من هذين الطريقين سائغ، والأول أولى. وقال إمام الحرمين، والغزالي في آخرين: يضجع أولا على جنبه الأيسر، فيصب الماء على شقه الأيمن من رأسه إلى قدمه، ثم
615 يضجع على جنبه الأيمن، فيصب على شقه الأيسر. والجمهور على ما قدمناه، وعلى أن غسل الرأس لا يعاد، بل يبدأ بصفحة العنق فما تحتها، وقد حصل غسل الرأس أولا. ويجب الاحتراز عن كبه على الوجه. ثم جميع ما ذكرناه غسلة واحدة. وهذه الغسلة تكون بالماء والسدر والخطمي، ثم يصب عليه الماء القراح، من قرنه إلى قدمه. ويستحب أن يغسله ثلاثا، فإن لم تحصل النظافة، زاد حتى تحصل، فإن حصل بشفع، استحب الايتار، وهل يسقط الفرض بالغسلة المتغيرة بالسدر والخطمي؟ فيه وجهان. أصحهما: لا. فعلى هذا، لا تحسب هذه الغسلة من الثلاث قطعا. وهل تحسب الواقعة بعدها؟ وجهان. أصحهما: لا، لأن الماء إذا أصاب المحل اختلط بما عليه من السدر وتغير به. فعلى هذا، المحسوب ما يصب عليه من الماء القراح بعد زوال السدر، فيغسل بعد زوال السدر ثلاثا بالقراح. ويستحب أن يجعل في كل ماء قراح كافورا (1)، وهو في الغسلة الأخيرة آكد. وليكن قليلا لا يتفاحش التغير به، وقد يكون صلبا لا يقدح التغير به، وإن كان فاحشا على المشهور. ويعيد تليين مفاصله بعد الغسل. ونقل المزني إعادة التليين في أول وضعه على المغتسل. وأنكره أكثر الأصحاب، ثم ينشفه تنشيفا بليغا. فرع: يتعهد الغاسل مسح بطن الميت في كل مرة بأرفق مما قبلها، فإن خرجت منه نجاسة في آخر الغسلات، أو بعدها، وجب غسل النجاسة قطعا بكل حال. وهل يجب غيرها؟ فيه أوجه. أصحها: لا. والثاني: يجب إعادة غسله. والثالث: يجب وضوؤه. فعلى الأصح، لا فرق بين النجاسة الخارجة من السبيلين (2) وغيرهما. وإن أوجبنا الوضوء (3)، [اختص بالخارجة من السبيلين. وإن أوجبنا الغسل] (4)، ففي إعادة الغسل كسائر النجاسات احتمال، لإمام الحرمين. قلت: الصحيح، الجزم بأنه لا يجب إعادة الغسل كسائر النجاسات والله أعلم.
616 ولم يتعرض الجمهور للفرق بين أن تخرج النجاسة قبل الادراج في الكفن، أو بعده، وأشار صاحب (العدة) إلى تخصيص الخلاف في وجوب الغسل والوضوء بما قبل الادراج. قلت: قد توافق صاحب (العدة) والقاضي أبو الطيب، والمحاملي، والسرخسي صاحب (الأمالي): فجزموا بالاكتفاء بغسل النجاسة بعد الادراج. والله أعلم. ولو لمس رجل (1) امرأة ميتة بعد غسلها، فإن قلنا: يحب إعادة الغسل أو الوضوء بخروج النجاسة، وجبا هنا. كذا أطلقه في (التهذيب). وذكر غيره: أنه تفريع على نقض طهر الملموس (2). وأما إذا قلنا: لا يجب إلا غسل المحل، فلا يجب هنا شئ، ولو وطئت بعد الغسل، فإن قلنا بإعادة الغسل، أو الوضوء للنجاسة، وجب هنا الغسل. وإن قلنا بالأصح، لم يجب هنا شئ. قلت: كذا أطلقه الأصحاب، وينبغي أن يكون فيه خلاف مبني على نجاسة باطن فرجها، فإنها خرجت على الذكر، وتنجس بها ظاهر الفرج. والله أعلم. فصل فيمن يغسل الميت: الأصل أن يغسل الرجال الرجال، والنساء النساء. وأولى الرجال بالرجل (3)، أولاهم بالصلاة عليه. وسيأتي ترتيبهم إن شاء الله تعالى. والنساء أولى بغسل المرأة بكل حال، وليس للرجل غسل المرأة إلا لاحد أسباب ثلاثة. أحدها: الزوجية، فله غسل زوجته المسلمة والذمية (4)، ولها غسله وإن تزوج أختها أو أربعا سواها على الصحيح. الثاني: المحرمية، وظاهر كلام الغزالي، تجويز الغسل للرجال المحارم مع وجود النساء، لكن لم أر لعامة
617 الأصحاب تصريحا بذلك، وإنما يتكلمون في الترتيب، ويقولون: المحارم بعد النساء أولى (1). الثالث: ملك اليمين، فللسيد غسل أمته، ومدبرته، وأم ولده، ومكاتبته، لان كتابتها ترتفع بموتها. فإن كن مزوجات، أو معتدات، لم يكن له غسلهن. قلت: والمستبرأة كالمعتدة (2). والله أعلم. فرع: للمرأة غسل زوجها، فإن طلقها رجعيا ومات أحدهما في العدة، لم يكن للآخر غسله، لتحريم النظر في الحياة. وإلى متى تغسل زوجها؟ فيه أوجه. أصحها: أبدا. والثاني: ما لم تنقض عدتها بأن تضع حملا عقيب موته. والثالث: ما لم يتزوج. وإذا غسل أحد الزوجين صاحبه، لف على يده خرقة ولا يمسه، فإن خالف، قال القاضي حسين: يصح الغسل ولا يبنى على الخلاف في انتقاض طهر الملموس. قلت: وأما وضوء الغاسل، فينتقض، قاله القاضي حسين (3). والله أعلم.
618 فرع: هل للأمة، والمدبرة، وأم الولد، غسل السيد؟ وجهان. أصحهما: لا يجوز. وليس للمكاتبة غسله بلا خلاف، لأنها كانت محرمة عليه. قلت: والمزوجة، والمعتدة، والمستبرأة، كالمكاتبة. صرح به في (التهذيب) وغيره. والله أعلم. فرع: لو مات رجل وليس هناك إلا امرأة أجنبية، أو ماتت امرأة وليس هناك إلا رجل أجنبي، فوجهان. أصحهما عند العراقيين، والروياني، والأكثرين: لا يغسل، بل ييمم ويدفن. والثاني وهو قول القفال، ورجحه إمام الحرمين، والغزالي: يغسل في ثيابه، ويلف الغاسل خرقة على يده، ويغض طرفه ما أمكنه، فإن اضطر للنظر، نظر للضرورة. قلت: حكى صاحب (الحاوي) هذا الثاني عن نص الشافعي رضي الله عنه، وصححه. وحكى صاحب (البيان) وغيره وجها ثالثا: أنه يدفن، ولا يغسل، ولا ييمم، وهو ضعيف جدا. والله أعلم. فرع: إذا مات الخنثى المشكل وليس هناك محرم له من الرجال أو النساء، فإن كان صغيرا، جاز للرجال والنساء غسله، وكذا واضح الحال من الأطفال، يجوز للفريقين غسله، كما يجوز مسه والنظر إليه، وإن كان الخنثى كبيرا، فوجهان، كمسألة الأجنبي (1)، أحدهما: ييمم ويدفن. والثاني: يغسل. وفيمن يغسله أوجه. أصحها وبه قال أبو زيد: يجوز للرجال والنساء جميعا غسله للضرورة، واستصحابا لحكم الصغر. والثاني: أنه في حق الرجال كالمرأة، وفي حق النساء كالرجل، أخذا بالأحوط. والثالث: يشترى من تركته جارية لتغسله، فإن لم يكن تركة، اشتريت من بيت المال. قال الأئمة: وهذا ضعيف، لان إثبات الملك ابتداء لشخص بعد موته مستبعد، ولو ثبت، فالأصح أن الأمة لا تغسل سيدها. والمراد
619 بالصغير: من لم يبلغ حدا يشتهي مثله، وبالكبير من بلغه. فصل: إذا ازدحم الصالحون للغسل، فإن كان الميت رجلا، غسله أقاربه على ترتيب صلاتهم عليه. وهل تقدم الزوجة عليهم؟ (1) وجهان. قلت: وفيه ثلاثة أوجه. أصحها: يقدم رجال العصبات، ثم الرجال الأجانب، ثم الزوجة (2) (3)، والثاني: يقدم الرجال الأقارب، ثم الزوجة، ثم الرجال الأجانب، ثم النساء المحارم. والثالث: تقدم الزوجة على الجميع. والله أعلم. وإن كان الميت امرأة، قدم النساء في غسلها، وأولاهن نساء القرابة، والأولى منهن، ذات رحم محرم (4)، فإن استوت اثنتان في المحرمية، فالتي في محل العصوبة أولى، كالعمة مع الخالة، واللواتي لا محرمية لهن، يقدم منهن الأقرب فالأقرب، وبعد نساء القرابة، تقدم الأجنبيات، ثم رجال القرابة، وترتيبهم كالصلاة. وهل يقدم الزوج على نساء القرابة؟ وجهان. الأصح المنصوص: يقدمن عليه، لأنهن أليق. والثاني: يقدم، لأنه كان ينظر إلى ما لا ينظرن، ويقدم الزوج على الرجال الأقارب على الأصح، وكل من قدمناه، فشرطه الاسلام، فإن كان كافرا، فكالمعدوم، ويقدم من بعده حتى يقدم المسلم الأجنبي على القريب الكافر. ويشترط أيضا أن لا يكون قاتلا، فإن قتل بحق، بني على إرثه منه، ولو أن المقدم في الغسل سلمه لمن بعده، فله تعاطيه بشرط اتحاد الجنس، فليس للرجال
620 كلهم التفويض إلى النساء، ولا العكس. فصل: إذا مات المحرم لا يقرب طيبا، ولا يؤخذ شعره وظفره، ولا يلبس الرجل مخيطا، ولا يستر رأسه، ولا وجه المرأة. ولا بأس بالتخمير عند غسله، كما لا بأس بجلوس المحرم عند العطار (1)، ولو ماتت معتدة محدة، جاز تطييبها على الأصح. قلت: قال أصحابنا: فلو طيب المحرم إنسان، أو ألبسه مخيطا، عصى ولا فدية، كما لو قطع عضوا من ميت. والله أعلم. فصل: غير المحرم من الموتى، هل يقلم ظفره، ويؤخذ شعر إبطه، وعانته، وشاربه؟ قولان. القديم: لا يفعل، كما لا يختن. والجديد: يفعل. والقولان في الكراهة، ولا خلاف أن هذه الأمور لا تستحب. قلت: قلد الامام الرافعي الروياني في قوله: لا تستحب بلا خلاف، وإنما الخلاف في إثبات الكراهة وعدمها. وكذا قاله أيضا الشيخ أبو حامد، والمحاملي، ولكن صرح الأكثرون، أو الكثيرون بخلافه، فقالوا: الجديد: أنه يستحب. والقديم: يكره. ممن صرح بهذا، صاحب (الحاوي) والقاضي أبو الطيب، والغزالي في (الوسيط) وغيرهم. وقطع أبو العباس الجرجاني بالاستحباب، وقال صاحب (الحاوي): القول الجديد: أنه مستحب، وتركه مكروه. وعجب عن الرافعي كيف يقول ما قال، وهذه الكتب مشهورة، لا سيما (الوسيط). وأما الأصح من القولين، فقال جماعة: القديم هنا أصح، وهو المختار، فلم ينقل عن النبي (ص)، والصحابة فيه شئ معتمد، وأجزاء الميت محترمة، فلا تنتهك بهذا. وأما قوله: كما لا يختن، فهذا هو المذهب الذي قطع به الجمهور. وفيه وجه: أنه يختن. ووجه ثالث: يختن البالغ دون الصبي. والله أعلم. فإذا قلنا بالجديد، يخير الغاسل في شعر الإبطين والعانة [بين الاخذ بالموسى
621 أو بالنورة، وقيل: تتعين النورة في العانة] (1). قلت: المذهب: أنه مخير في الجميع، فأما الشارب فيقصه كالحياة. قال المحاملي وغيره: يكره حلقه في الحي والميت. قال أصحابنا: ويفعل هذه الأمور قبل الغسل. ممن صرح به المحاملي، وصاحب (الشامل) وغيرهما، ولم يتعرض الجمهور لدفن هذه الاجزاء معه. وقال صاحب (العدة): ما يأخذه منها، يصر في كفنه. ووافقه القاضي حسين، وصاحب (التهذيب) في الشعر المنتتف في تسريح الرأس واللحية كما تقدم، وقال به غيرهم. وقال صاحب (الحاوي): الاختيار عندنا: أنه لا يدفن معه، إذ لا أصل له. والله أعلم. ولا يحلق رأسه بحال، وقيل: إن كان له عادة بحلقه، ففيه الخلاف كالشارب، وجميع ما ذكرناه في صفة الغسل، هو في غير الشهيد، وسيأتي حكم الشهيد إن شاء الله تعالى. فرع: لو تحرق مسلم، بحيث لو غسل لتهرأ، لم يغسل، بل ييمم، ولو كان به قروح، وخيف (2) عليه من غسله تسارع البلى إليه بعد الدفن، غسل، فالجميع صائرون إلى البلى. قلت: يجوز للجنب والحائض غسل الميت بلا كراهة. ولو ماتا غسلا غسلا واحدا. وإذا رأى الغاسل من الميت ما يعجبه، استحب أن يتحدث به، وإن رأى ما يكره، حرم عليه ذكره إلا لمصلحة (3)، وإذا (4) كان للميتة شعر، فالسنة أن يجعل ثلاث ذوائب، وتلقى خلفها، وينبغي أن يكون الغاسل (5) مأمونا. ولو كان له زوجتان أو أكثر، وتنازعن في غسله، أقرع بينهن. ولو مات له (6) زوجات في وقت
622 بهدم، أو غرق، أو غيره، أقرع بينهن، فقدم من خرجت قرعتها. قال الدارمي: قال الشافعي رحمه الله: لو مات رجل وهناك نساء مسلمات، ورجال كفار، أمرت الكفار بغسله، وصلين عليه. وهذا تفريع على صحة غسل الكافر. قال الدارمي: وإذا نشف المغسول بثوب، قال أبو إسحاق: لا ينجس الثوب، سواء قلنا بنجاسة الميت، أم لا. قال الدارمي: وفيه نظر. والله أعلم. باب التكفين تقدم أنه فرض كفاية. ويستحب في لون الكفن البياض، وجنسه في حق كل ميت، ما يجوز له لبسه في الحياة، فيجوز تكفين المرأة في الحرير، لكن يكره، ويحرم تكفين الرجل به (1). قلت: ولنا وجه شاذ منكر: أنه يحرم تكفين المرأة في الحرير. وأما المزعفر، والمعصفر، فلا يحرم تكفينها فيه، لكن يكره على المذهب. وفي وجه: لا يكره. قال أصحابنا: يعتبر في الأكفان المباحة حال الميت، فإن كان مكثرا، فمن جياد الثياب، وإن كان متوسطا، فأوسطها، وإن كان مقلا، فخشنها. قالوا: وتكره المغالاة فيه (2). قال القاضي حسين، وصاحب (التهذيب): والمغسول أولى من الجديد. واتفقوا على استحباب تحسين الكفن في البياض، والنظافة، وسبوغه، وكثافته، لا في ارتفاعه. والله أعلم. فصل: أقل الكفن ثوب، وأكمله للرجال ثلاثة، وفي قدر الثوب الواجب، وجهان. أحدهما: ما يستر العورة، ويختلف باختلاف عورة المكفن في الذكورة والأنوثة. والثاني: ما يستر جميع بدنه إلا رأس المحرم، ووجه المحرمة.
623 قلت: أصحهما: الأول. وصححه الجمهور، وهو ظاهر النص (1). والله أعلم. وإذا كفن فيما لا يعم الرأس والرجلين، ستر الرأس. والثوب الواجب حق لله تعالى لا تنفذ (2) وصية الميت بإسقاطه. [والثاني والثالث حق للميت تنفذ وصيته بإسقاطهما] (3). ولو لم يوص فقال بعض الورثة: يكفن بثوب، وبعضهم: بثلاثة، فالمذهب يكفن بثلاثة. وقيل: وجهان. أحدهما: بثوب. وأصحهما: بثلاثة، ولو اتفقت الورثة على ثوب، قال في (التهذيب): يجوز. وفي (التتمة): انه على الخلاف. قلت: قول (التتمة) أقيس. والله أعلم. ولو كان عليه ديون مستغرقة، فقال الغرماء: ثوب، فثوب على الأصح. فرع: محل الكفن: رأس مال التركة، يقدم على الديون والوصايا والميراث، لكن لا يباع المرهون في الكفن، ولا الجاني، ولا ما وجبت فيه الزكاة. قلت: ويلحق بالثلاثة، المال الذي ثبت فيه حق الرجوع بإفلاس الميت. وقد ذكره الرافعي في أول الفرائض. والله أعلم. فإن لم يترك مالا، فكفنه على من هو في نفقته، فعلى القريب كفن قريبه، وعلى السيد كفن عبده، وأم ولده، ومكاتبه، وسواء في أولاده كانوا صغارا (4)، أو
624 كبارا، تجب عليه أكفانهم، لأنهم عاجزون بالموت، ونفقة عاجزهم واجبة. ويجب على الزوج كفنها، ومؤنة تجهيزها على الأصح (1). فعلى هذا، لو لم يكن للزوج مال، ففي مالها. أما إذا لم يترك الميت مالا، ولا كان له من تلزمه نفقته، فيجب كفنه ومؤنة تجهيزه في بيت المال، كنفقته. وهل يكفن منه بثوب واحد، أم بثلاثة؟ وجهان. أصحهما: بثوب. فإن قلنا: ثوب، فلو ترك ثوبا لم يزد من بيت مال، وإن قلنا: ثلاثة، كمت على الأصح. وإذا لم يكن في بيت المال مال، فعلى عامة المسلمين الكفن ومؤنة التجهيز (2). قلت: قال القاضي حسين: إذا مات وهو في نفقة غيره، هل يلزمه تكفينه بثلاثة أثواب، أم بثوب؟ وجهان. أصحهما: ثوب. وقطع هو وصاحب (التهذيب) بأنه إذا لم يكن في بيت المال مال، ولزم المسلمين تكفينه، لا يجب أكثر من ثوب. والله أعلم. فرع: قدمنا أن الأفضل في كفن الرجل ثلاثة أثواب. فلو زيد إلى خمسة (3)، جاز، ولا يستحب. ويستحب تكفين المرأة في خمسة، والخنثى
625 كالمرأة، والزيادة على الخمسة مكروهة على الاطلاق. قلت: قال إمام الحرمين: قال الشيخ أبو علي: وليست الخمسة في حق المرأة كالثلاثة للرجل، حتى (1): يجبر الورثة عليها، كما يجبرون على الثلاثة. قال الامام: وهذا متفق عليه. والله أعلم. ثم إن كفن الرجل والمرأة في ثلاثة، فالمستحب ثلاث لفائف. وإن كفن الرجل في خمسة، فثلاث لفائف، وقميص، وعمامة، وتجعلان تحت اللفائف. وإن كفنت المرأة في خمسة، فقولان. الجديد: إزار وخمار، وثلاث لفائف. والقديم وهو الأظهر عند الأكثرين: إزار وخمار وقميص ولفافتان. وهذه المسألة مما يفتى فيه على القديم. قلت: قال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: المعروف للشافعي في عامة كتبه، أنه يكون فيها قميص. قالا: والقول الآخر: لا يعرف إلا عن المزني، فعلى هذا الذي نقلا، لا يكون إثبات القميص مختصا بالقديم. والله أعلم. ثم قال الشافعي رحمه الله: يشد على صدرها ثوب، لئلا تنتشر أكفانها، واختلف فيه. فقال أبو إسحاق: هو ثوب سادس، ويحل عنها إذا وضعت في القبر. وقال ابن سريج: يشد عليها ثوب من الخمسة ويترك، والأول أصح عند الأصحاب. وأما ترتيب الخمسة، فقال المحاملي وغيره: على قول أبي إسحاق: إن قلنا: تقمص، شد عليها المئزر، ثم القميص، ثم الخمار، ثم تلف في ثوبين، ثم يشد السادس، وإن قلنا: لا تقمص، شد المئزر، ثم الخمار، ثم تلف في اللفائف، ثم يشد عليها خرقة. وعلى قول ابن سريج: إن قلنا: تقمص، شد المئزر، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم يشد عليها الخرقة، ثم تلف في ثوب. وإن قلنا: لا تقمص، شد المئزر، ثم الخمار، ثم تلف في ثوب، ثم يشد عليها آخر، ثم تلف في الخامس. وإذا وقع التكفين في اللفائف الثلاث، ففيها وجهان.
626 أحدهما: تكون متفاوتة فالأسفل (1)، يأخذ ما بين سرته وركبتيه. والثاني: من عنقه إلى كعبه. والثالث: يستر جميع بدنه. وأصحهما: تكون متساوية في الطول والعرض، يأخذ كل واحد منهما جميع بدنه. ولا فرق في التكفين في الثلاث، بين الرجل والمرأة، وإنما يفترقان في الخمسة كما تقدم. فرع: يستحب تبخير الكفن بالعود، إن لم يكن الميت محرما، فتنصب مبخرة، وتوضع الأكفان عليها ليصيبها دخان العود، ثم تبسط أحسن اللفائف وأوسعها، ويذر عليها حنوط (2)، وتبسط الثانية فوقها، ويذر عليها حنوط (3)، وتبسط الثالثة التي تلي الميت فوقها، ويذر عليها حنوط وكافور، ثم يوضع الميت فوقها مستلقيا، ويؤخذ قدر من القطن المحلوج، ويجعل عليه حنوط وكافور، ويدس بين أليتيه حتى يتصل بالحلقة ليرد شيئا يتعرض للخروج، ولا يدخله في باطنه، وفيه وجه ضعيف: أنه لا بأس به، ثم يسد أليتيه ويستوثق بأن يأخذ خرقة، ويشق رأسها، ويجعل وسطها عن أليتيه وعانته، ويشدها فوق السرة بأن يرد ما يلي ظهره إلى سرته، ويعطف الشقين الآخرين عليه. ولو شد شقا من كل رأس على فخذه، ومثله على الفخذ الثانية، جاز. وقيل: يشدها عليه بالخيط، ولا يشق طرفيها، ثم يأخذ شيئا من القطن ويضع عليه قدرا من الكافور والحنوط، ويجعل على منافذ البدن (4) من المنخرين، والأذنين، والعينين، والجراحات النافذة، دفعا للهوام، ويجعل الطيب على مساجده، وهي الجبهة، والأنف، وباطن الكفين، والركبتان، والقدمان، فيجعل الطيب على قطن، ويجعل على هذه المواضع. وقيل: يجعل عليها بلا قطن. ثم يلقى الكفن عليه بأن يثني من الثوب الذي يلي
627 الميت طرفه الذي يلي شقه الأيسر، على شقه الأيمن، والذي يلي الأيمن على الأيسر، كما يفعل الحي بالقباء، ثم يلف الثاني والثالث كذلك. وفيه قول آخر: أنه يبدأ بالطرف الذي يلي شقه الأيمن. والأول أصح عند الجمهور، ومنهم من قطع به. وإذا لف الكفن عليه، جمع الفاضل عند رأسه جمع العمامة، ورد على وجهه وصدره إلى حيث بلغ، وما فضل عند رجليه يجعل على القدمين والساقين. وينبغي أن يوضع الميت على الأكفان أولا، بحيث إذا (1) لف عليه كان الفاضل عند رأسه أكثر، ثم تشد الأكفان عليه بشداد، خيفة انتشارها عند الحمل، فإذا وضع في القبر. نزع. وفي كون الحنوط مستحبا، أو واجبا، وجهان. أصحهما: مستحب. قلت: مذهبنا أن الصبي الصغير كالكبير في استحباب تكفينه في ثلاثة أثواب. وقال الصيمري: لا يستحب أن يعد لنفسه كفنا لئلا يحاسب عليه. وهذا الذي قاله صحيح، إلا إذا كان من جهة يقطع بحلها، أو من أثر بعض أهل الخير من العلماء، أو العباد ونحو ذلك، فإن ادخاره حسن. وقد صح عن بعض الصحابة فعله (2). والله أعلم.
628 باب حمل الجنازة ليس في حملها (1) دناءة وسقوط مروءة، بل هو بر وإكرام للميت، ولا يتولاه إلا الرجال، ذكرا كان الميت، أو أنثى، ولا يجوز الحمل على الهيئات [المزرية، ولا على الهيئة] (2) التي يخشى منها السقوط. وللحمل كيفيتان. إحداهما: بين العمودين، وهو أن يتقدم رجل فيضع الخشبتين الشاخصتين، وهما العمودان على عاتقيه، والخشبة المعترضة بينهما على كتفه، ويحل مؤخر النعش رجلان، أحدهما من الجانب الأيمن، والآخر من الأيسر، ولا يتوسط الخشبتين المؤخرتين واحد، فإنه لا يرى موضع قدميه، فإن لم يستقل المقدم بالحمل، أعانه رجلان خارج العمودين، يضع كل واحد منهما واحدا على عاتقه، فتكون الجنازة محمولة على خمسة. والكيفية الثانية: التربيع، وهو أن يتقدم رجلان، فيضع أحدهما العمود الأيمن على عاتقه الأيسر، والآخر العمود الأيسر على عاتقه الأيمن، وكذلك يحمل العمودين من آخرهما رجلان، فتكون الجنازة محمولة بأربعة. قال الشافعي رضي الله عنه: من أراد التبرك بحمل الجنازة من جوانبها الأربعة، بدأ بالعمود الأيسر من مقدمها، فحمله على عاتقه الأيمن أيضا (3)، ثم يسلمه إلى غيره، ويأخذ العمود الأيسر من مؤخرها، فيحمله على عاتقه الأيمن أيضا، ثم يتقدم فيعرض بين يديها لئلا يكون ماشيا خلفها، فيأخذ العمود الأيمن من مقدمها على عاتقه الأيسر، ثم يأخذ العمود الأيمن من مؤخرها، ولا شك أن هذا إنما يتأتى إذا حمل الجنازة على هيئة التربيع. وكل واحدة من الكيفيتين جائزة. قال بعض الأصحاب: والأفضل أن يجمع بينهما، بأن يحمل تارة كذا، وتارة كذا، فإن اقتصر فأيهما أفضل؟ فيه ثلاثة أوجه. الصحيح المعروف: الحمل بين العمودين أفضل. والثاني: التربيع. والثالث: هما سواء. فصل: المشي أمام الجنازة أفضل للراكب (4)، والماشي، والأفضل أن
629 يكون قريبا منها، بحيث لو التفت رآها (1)، ولا يتقدمها إلى المقبرة، فلو تقدم لم يكره، وهو بالخيار، إن شاء قام منتظرا لها، وإن شاء قعد. والسنة الاسراع بالجنازة، إلا أن يخاف من الاسراع تغير الميت، فيتأنى. والمراد بالاسراع: فوق المشي المعتاد دون الخبب، فإن خيف عليه تغير، أو انفجار، أو انتفاخ، زيد في الاسراع. قلت: ينبغي أن لا يركب في ذهابه مع الجنازة إلا لعذر (2)، ولا بأس به في الرجوع. وقد تقدم بيانه في الجمعة. قال أصحابنا: وإن كان الميت امرأة، استحب أن يتخذ لها ما يسترها، كالخيمة، والقبة. قالوا: واتباع الجنائز سنة متأكدة في حق الرجال، وأما النساء فلا يتبعن. ثم قيل: الاتباع حرام عليهن، والصحيح أنه مكروه إذا لم يتضمن حراما. قال أصحابنا: ولا يكره للمسلم اتباع جنازة قريبه الكافر (3). قال الشافعي، وأصحابنا رحمهم الله: يكره أن تتبع الجنازة بنار في مجمرة أو غيرها، ونقل ابن المنذر وغيره الاجماع عليه. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز ذلك. والمذهب: الكراهة. وكذا يكره أن يكون عند القبر مجمرة. وأما النياحة والصياح وراء الجنازة، فحرام شديد التحريم. ويكره اللغط في المشي معها، والحديث في أمور الدنيا، بل المستحب الفكر في الموت وما بعده، وفناء الدنيا، ونحو ذلك. قال الشافعي وأصحابنا: وإذا مرت به جنازة ولم يرد الذهاب معها، لم يقم لها، بل نص أكثر أصحابنا على كراهة القيام. ونقل المحاملي إجماع الفقهاء عليه، وانفرد صاحب (التتمة) باستحباب القيام للأحاديث الصحيحة فيه، قال الجمهور: الأحاديث منسوخة. وقد أوضحت ذلك في (شرح المهذب) (4). والله أعلم.
630 باب الصلاة على الميت تقدم أنها فرض كفاية، ويشترط فيمن يصلى عليه ثلاثة أمور، أن يكون ميتا مسلما غير شهيد، فلو وجد بعض مسلم ولم يعلم موته، لم يصل عليه. وإن علم موته، صلي عليه وإن قل الموجود. هذا في غير الشعر والظفر ونحوهما، وفي هذه الاجزاء وجهان. أقربهما إلى إطلاق الأكثرين أنها كغيرها (1)، لكن قال في (العدة): إن لم يوجد إلا شعرة واحدة، لم يصل عليها في ظاهر المذهب. ومتى شرعت الصلاة، فلا بد من الغسل والمواراة بخرقة (2). وأما الدفن، فلا يختص بما إذا علم موت صاحبه، بل ما ينفصل من الحي من شعر وظفر وغيرهما يستحب له دفنه، وكذلك يوارى دم الفصد، والحجامة. والعلقة والمضغة تلقيهما المرأة. ولو وجد بعض ميت أو كله، ولم يعلم أنه مسلم، فإن كان في دار الاسلام، صلي عليه، لان الغالب فيها الاسلام. ثم متى صلى على العضو، ينوي الصلاة على جملة الميت، لا على العضو وحده. فرع: السقط (3) له حالان. أحدهما: أن يستهل أو يبكي ثم يموت، فهو
631 كالكبير. الثاني: أن لا تتيقن حياته باستهلال ولا غيره، فتارة يعرى عن أمارة، كالاختلاج ونحوه، وتارة لا يعرى، فإن عري، نظر، إن لم يبلغ حدا ينفخ فيه الروح، وهو أربعة أشهر فصاعدا، لم يصل عليه قطعا، ولا يغسل على المذهب. وقيل: في غسله قولان. وإن بلغ أربعة أشهر، صلي عليه في القديم، ولم يصل في الجديد، ويغسل على المذهب. وقيل: قولان. والفرق أن الغسل أوسع، فإن الذمي يغسل بلا صلاة. أما إن اختلج، أو تحرك، فيصلى عليه على الأظهر (1). وقيل: قطعا. ويغسل على المذهب، وقيل: فيه القولان. وما لم يظهر فيه خلقة آدمي يكفي فيه المواراة كيف كانت، وبعدها (2) حكم التكفين حكم الغسل. فصل لا تجوز الصلاة على كافر، حربيا كان، أو ذميا، ولا يجب على المسلمين غسلة، ذميا كان، أو حربيا، لكن يجوز، وأقاربه الكفار أولى بغسله من أقاربه المسلمين. وأما تكفينه ودفنه، فإن كان ذميا، وجب على المسلمين على الأصح (3)، وفاء بذمته، كما يجب إطعامه وكسوته في حياته، وإن كان حربيا، لم يجب تكفينه قطعا، ولا دفنه على المذهب (4). وقيل: وجهان. أحدهما: يجب. والثاني: لا، بل يجوز إغراء الكلب عليه، فإن دفن فلئلا يتأذى الناس بريحه، والمرتد كالحربي، ولو اختلط موتى المسلمين بالكفار ولم يتميزوا، وجب غسل جميعهم والصلاة عليهم، فإن صلى عليهم دفعة (5)، جاز، [ويقصد المسلمين منهم. وإن صلى عليهم واحدا واحدا، جاز] (6)، وينوي الصلاة عليه إن كان
632 مسلما ويقول: (اللهم اغفر له إن كان مسلما). قلت: الصلاة عليهم دفعة أفضل، واقتصر عليها الشافعي وجماعة من الأصحاب. واختلاط الشهداء بغيرهم كاختلاط الكفار. والله أعلم. فصل: الشهيد لا يغسل، ولا يصلى عليه (1). وقال المزني: يصلى عليه ولا فرق عندنا بين الرجل والمرأة، والحر والعبد، والبالغ والصبي. ثم المراد بترك الصلاة، أنها حرام على الصحيح. وعلى الثاني: لا تجب، لكن تجوز. وأما الغسل، فإن أدى إلى إزالة دم الشهادة، فحرام قطعا، وإلا فحرام على المذهب. وقيل كالصلاة. واسم الشهيد قد يخصص في الفقه بمن لا يغسل ولا يصلى عليه، وقد يسمى كل مقتول ظلما شهيدا وهو أظهر، وهو الذي (2) نص عليه الشافعي رحمه الله في (المختصر) وعلى هذا، الشهيد نوعان. أحدهما: من لا يغسل ولا يصلى عليه، وهو من مات بسبب قتال الكفار حال قيام القتال، سواء قتله كافر، أو أصابه سلاح مسلم خطأ، أو عاد إليه سلاحه، أو سقط عن فرسه، أو رمحته دابة فمات، أو وجد قتيلا عند انكشاف الحرب، ولم يعلم سبب موته، سواء كان عليه أثر دم، أم لا. أما إذا مات في معترك الكفار لا بسبب القتال، بل بمرض، أو فجأة، فالمذهب أنه ليس بشهيد، وقيل: على وجهين. ولو جرح في القتال ومات بعد انقضائه، فإن قطع بموته من تلك الجراحة وبقي فيه بعد انقضاء الحرب حياة مستقرة، فقولان. أظهرهما: ليس بشهيد، وسواء في جريان القولين أكل وتكلم وصلى، أم لا، طال الزمان أم قصر. وقيل: إن مات عن قرب، فقولان، وإن بقي أياما، فليس بشهيد قطعا. وأما إذا انقضت
633 الحرب وليس فيه إلا حركة مذبوح، فشهيد بلا خلاف. وإن انقضت وهو متوقع البقاء، فليس بشهيد بلا خلاف. ولو دخل الحربي دار الاسلام فقتل مسلما اغتيالا، فليس بشهيد على الصحيح. ولو قتل أهل البغي رجلا من أهل العدل، غسل وصلي عليه على الأظهر. ويغسل الباغي المقتول، ويصلى عليه قطعا. ومن قتله قطاع الطريق، قيل. ليس بشهيد قطعا. وقيل: كالعادل (1). النوع الثاني: الشهداء العارون عن جميع الأوصاف المذكورة، كالمبطون، والمطعون، والغريق، والغريب، والميت عشقا، والميتة في الطلق، ومن قتله مسلم، أو ذمي، أو باغ، في غير القتال، فهم كسائر الموت يغسلون ويصلى عليهم، وإن ورد فيهم لفظ الشهادة، وكذا المقتول قصاصا أو حدا ليس بشهيد. وإذا قتل تارك الصلاة، غسل وكفن وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين، ورفع قبره كغيره، كما يفعل بسائر أصحاب الكبائر، هذا هو الصحيح. وفي وجه: لا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يكفن، ويطمس قبره تغليظا عليه. وأما قاطع الطريق، فيبنى أمره على صفة قتله وصلبه، وفيه قولان. أظهرهما: يقتل، ثم يغسل ويصلى عليه، ثم يصلب مكفنا. والثاني: يصلب، ثم يقتل. وهل ينزل بعد ثلاثة أيام، أم يبقى حتى يتهرأ؟ وجهان. إن قلنا بالأول، أنزل فغسل وصلي عليه. وعلى الثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه. قال إمام الحرمين: وكان لا يمتنع أن يقتل مصلوبا، وينزل، فيغسل ويصلى عليه، ثم يرد، ولكن لم يذهب إليه أحد. وقال بعض أصحابنا: لا يغسل ولا يصلى عليه على كل قول. فرع: لو استشهد جنب، لم يغسل على الأصح (2)، ولا يصلى عليه قطعا.
634 قلت: ولو استشهدت حائض، فإن قلنا: الجنب لا يغسل، فهي أولى، وإلا فوجهان حكاهما صاحب (البحر) بناء على أن غسل الحائض يتعلق برؤية الدم، أم بانقطاعه، أم بهما؟ إن قلنا: برؤيته، فكالجنب. والله أعلم. ولو أصابته نجاسة لا بسبب الشهادة، فالأصح أنها تغسل. والثاني: لا. والثالث: إن أدى غسلها إلى إزالة أثر الشهادة، لم تغسل، وإلا غسلت. فرع: والأولى أن يكفن الشهيد في ثيابه الملطخة بالدم (1)، فإن لم يكن ما عليه سابغا، تمم، وإن أراد الورثة نزع ما عليه من الثياب وتكفينه في غيرها، جاز. أما الدرع، والجلد، والفراء، والخفاف، فتنزع. فصل فيمن هو أولى بالصلاة على الميت: وفي الولي والوالي قولان. القديم: الوالي أولى، كما في سائر الصلوات، ثم إمام المسجد، ثم الولي. والجديد: الولي أولى. قلت: وهو الأظهر. والله أعلم. والمراد بالولي: القريب، فلا يقدم غيره، إلا أن يكون القريب أنثى، وهناك ذكر أجنبي، فهو أولى، حتى يقدم الصبي المراهق على المرأة القريبة. وكذا الرجل أولى من المرأة بإمامة النساء في سائر الصلوات. وأولى الأقارب: الأب، ثم الجد أب الأب وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأخ. وهل يقدم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب؟ فيه طريقان. المذهب: تقديمه. والثاني: على قولين كولاية النكاح (2). أظهرهما: يقدم. والثاني: سواء، فعلى المذهب: المقدم
635 بعدهما ابن الأخ من الأبوين، ثم من الأب، ثم (1) من العم للأبوين، ثم للأب، ثم ابن العم للأبوين، ثم عم الأب، ثم بنوه (2)، ثم عم الجد، ثم بنوه على ترتيب الإرث. قلت: قال أصحابنا: لو اجتمع أبناء عم، أحدهما أخ لام، فعلى الطريقين. والله أعلم. فإن لم يكن عصبة، قدم المعتق. قال إمام الحرمين: ولعل الظاهر تقديمه على ذوي الأرحام (3). وله حق في هذا الباب، فإذا لم يكن هناك عصبة بالنسب، ولا بالولاء، قدم أبو الأم، ثم الأخ للأم، ثم الخال، ثم العم للام. ولو أوصى أن يصلي عليه أجنبي، فطريقان. المذهب، وبه قطع الجمهور: يقدم القريب. والثاني: وجهان. أحدهما: هذا. والثاني: يقدم الموصى له، كالوجهين فيمن أوصى أجنبيا على أولاده ولهم جد. فرع: إذا اجتمع اثنان في درجة، كابنين أو أخوين، وتنازعا، نص في (المختصر): أن الأسن أولى - وقال: في سائر الصلوات الأفقه أولى. قال الجمهور: المسألتان على ما نص عليه، وهذا هو المذهب. وقيل: فيهما قولان بالتخريج. والمراد بالأسن: الأكبر - وإن كانا شابين، وإنما يقدم الأسن إذا حمدت حاله. أما الفاسق والمبتدع، فلا. ويشترط بمضي السن في الاسلام كما سبق في سائر الصلوات. ولو استوى اثنان في درجة وأحدهما رقيق، والآخر حر، فالحر أولى، فإن كان أحدهما رقيقا فقيها، والآخر حرا غير فقيه، فوجهان. وقال في (الوسيط): لعل التسوية أولى (4).
636 قلت: الأصح، تقديم الحر. والله أعلم. ولو كان الأقرب رقيقا، والأبعد حرا، كأخ رقيق، وعم حر، فالأصح عند الجمهور: العم أولى. والثاني: الأخ. وقيل: سواء، ولو استووا في كل شئ، فإن رضوا بتقدم واحد، فذاك، وإلا أقرع (1). فصل: السنة أن يقف الامام عند عجيزة المرأة قطعا، وعند رأس الرجل على الصحيح الذي قطع به الجمهور. والثاني: عند صدره. ولو تقدم على الجنازة الحاضرة، أو القبر، لم يصح على المذهب. فرع: إذا حضرت جنائز، جاز أن يصلي على كل واحدة صلاة، وهو الأولى، وجاز أن يصلي على الجميع صلاة واحدة، سواء كانوا ذكورا وإناثا، فإن كانوا نوعا واحدا، ففي كيفية وضعهم وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: يوضع بين يدي الامام في جهة القبلة بعضها خلف بعض ليحاذي الامام الجميع. والثاني: يوضع الجميع صفا واحدا. رأس كل إنسان عند رجل الآخر، ويجعل الامام جميعهم عن يمينه، ويقف في محاذاة الآخر. [وإن اختلف النوع، تعين الوجه الأول. ومتى وضعوا كذلك، فمن يقدم إلى الامام؟ ينظر، إن جاؤوا دفعة واحدة، نظر] (2)، إن اختلف النوع، قدم إليه الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة. ولو حضر جماعة من الخناثى، وضعت صفا واحدا، لئلا تتقدم امرأة رجلا. وإن اتحد النوع، قدم إليه أفضلهم، والمعتبر فيه الورع، والخصال التي ترغب في الصلاة عليه، ويغلب على الظن كونه أقرب رحمة من الله تعالى، ولا يقدم بالحرية. وإن استووا في جميع الخصال، وتنازع الأولياء في التقديم، أقرع بينهم، وإن رضوا بتقديم واحد، فذاك. وأما إذا جاءت الجنائز متعاقبة، فيقدم إلى
637 الامام أسبقها وإن كان المتأخر أفضل، هذا إن اتحد النوع. فلو وضعت امرأة. ثم حضر رجل، أو صبي، نحيت ووضع الرجل أو الصبي بين يدي الامام، ولو وضع صبي، ثم حضر رجل، فالصحيح أنه لا ينحى الصبي، بل يقال لولي الرجل: إما أن تجعل جنازتك وراء الصبي، وإما أن تنقله إلى موضع آخر. وعلى الشاذ: الصبي كالمرأة. فإن قيل: ولي كل ميت أولى بالصلاة عليه، فمن يصلي على الجنائز صلاة واحدة، قلنا: من لم يرض بصلاة غيره، صلى على ميته، وإن رضوا جميعا بصلاة واحدة، صلى ولي السابقة، رجلا كان ميته أو امرأة، وإن حضروا معا، أقرع. فصل في كيفية الصلاة أما أقلها، فأركانها سبعة. أحدها (1): النية، ووقتها ما سبق في سائر الصلوات. وفي اشتراط الفرضية الخلاف المتقدم (2)، وهل يشترط التعرض لكونها فرض كفاية، أم يكفي مطلق الفرض؟ وجهان. أصحهما الثاني. ثم إن كان الميت واحدا، نوى الصلاة عليه، وإن حضر موتى، نوى الصلاة عليهم، ولا حاجة إلى تعيين الميت ومعرفته، بل لو نوى الصلاة على من يصلي عليه الامام، جاز، ولو عين الميت وأخطأ، لم تصح. قلت: هذا إذا لم يشر إلى الميت المعين، فإن أشار، صح في الأصح. والله أعلم. ويجب على المقتدي نية الاقتداء. الركن الثاني: القيام، ولا يجزئ عنه القعود مع القدرة على المذهب، كما سبق في التيمم.
638 الثالث: التكبيرات الأربع (1)، ولو كبر خمسا ساهيا، لم تبطل صلاته، ولا مدخل لسجود السهو في هذه الصلاة. وإن كان عامدا لم تبطل أيضا على الأصح الذي قاله الأكثرون. وقال ابن سريج: الأحاديث الواردة في تكبير الجنازة أربعا، وخمسا هي من الاختلاف المباح، والجميع سائغ. ولو كبر إمامه خمسا، فإن قلنا: الزيادة مبطلة، فارقه (2)، وإلا فلا، ولكن لا يتابعه فيها على الأظهر، وهل يسلم في الحال، أم له انتظاره ليسلم معه؟ وجهان. أصحهما الثاني. الرابع: السلام، وفي وجوب نية الخروج معه، ما سبق في سائر الصلوات، ولا يكفي: السلام عليك، على المذهب، وفيه تردد جواب عن الشيخ أبي علي. الخامس: قراءة الفاتحة بعد التكبيرة الأولى، فظاهر كلام الغزالي، أنه ينبغي أن تكون الفاتحة عقب الأولى متقدمة على الثانية، لكن حكى الروياني وغيره عن نصه: أنه لو أخر قراءتها إلى التكبيرة الثانية، جاز. السادس: الصلاة على النبي (ص) بعد الثانية، وفي وجوب الصلاة على الآل، قولان أو وجهان كسائر الصلوات، وهذه أولى بالمنع (3).
639 السابع: الدعاء للميت بعد التكبيرة الثالثة، وفيه وجه (1): أنه لا يجب تخصيص الميت بالدعاء، بل يكفي إرساله للمؤمنين (2) وقدر الواجب من الدعاء، ما ينطلق عليه الاسم. وأما الأفضل، فسيأتي إن شاء الله تعالى. وأما أكمل هذه الصلاة، فلها سنن. منها رفع اليدين في تكبيراتها الأربع، ويجمع يديه عقب كل تكبيرة، ويضعهما تحت صدره كباقي الصلوات، ويؤمن عقب الفاتحة، ولا يقرأ السورة على المذهب، ولا دعاء الاستفتاح على الصحيح، ويتعوذ على الأصح، ويسر بالقراءة في النهار قطعا، وكذا في الليل على الصحيح. ونقل المزني في (المختصر): أنه عقب التكبيرة الثانية يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي (ص)، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات، فهذه ثلاثة أشياء، أوسطها الصلاة على النبي (ص)، وهي ركن كما تقدم. وأولها، الحمد ولا خلاف أنه لا يجب، وفي استحبابه وجهان. أحدهما وهو مقتضى كلام الأكثرين: لا يستحب. والثاني: يستحب، وجزم به صاحبا (التتمة) و (التهذيب). قلت: نقل إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على الأول، وأن ما نقله المزني غير سديد، وكذا قال جمهور أصحابنا المصنفين، ولكن جزم جماعة بالاستحباب، وهو الأرجح. والله أعلم. وأما ثالثها، وهو الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، فمستحب عند الجمهور، وحكى إمام الحرمين فيه ترددا للأئمة. قلت: ولا يشترط ترتيب هذه الثلاثة، لكنه أولى. والله أعلم. ومن المسنونات: إكثار الدعاء للميت في الثالثة، ويقول: (اللهم هذا عبدك، وابن عبديك، خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحبائه فيها، إلى ظلمة
640 القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا (1) أنت، وأن محمدا عبدك ورسولك، وأنت أعلم به، اللهم أنه (2) نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك، شفعاء له، اللهم إن كان محسنا فزد في إحسانه، وإن كان مسيئا فتجاوز عنه، ولقه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره، وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الامن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين). هذا نص الشافعي في (المختصر) (3). وفيها دعاء آخر، وعليه أكثر أهل خراسان، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله (ص) إذا صلى على جنازة قال: (اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الاسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الايمان) (4) فإن كان الميت امرأة، قال: (اللهم هذه أمتك وبنت عبديك) ويؤنث الكنايات. قلت: ولو ذكرها على إرادة الشخص، لم يضر. قال البخاري، وسائر الحفاظ: أصح دعاء الجنازة، حديث عوف بن مالك في (صحيح مسلم) (5) وهو أن النبي (ص) صلى على جنازة فقال: (اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا
641 كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وأدخله الجنة، وأعذه من عذاب القبر وفتنته، ومن عذاب النار). والله أعلم. وإن كان طفلا، اقتصر على رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ويضم إليه: (اللهم اجعله فرطا لأبويه، وسلفا، وذخرا، وعظة، واعتبارا، وشفيعا، وثقل به موازينهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما، ولا تفتنهما بعده، ولا تحرمهما أجره) (1). وأما التكبيرة الرابعة، فلم يتعرض الشافعي في معظم كتبه لذكر عقبها، ونقل البويطي عنه أنه يقول بعدها (2): اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده) كذا نقل الجمهور عنه، وهذا الذكر ليس بواجب قطعا، وهو مستحب على المذهب. وقيل: في استحبابه وجهان. أحدهما: لا يستحب، بل إن شاء قاله، وإن شاء تركه. قلت: يسن تطويل الدعاء عقب الرابعة، وصح ذلك عن فعل النبي (ص) (3). والله أعلم. وأما السلام، فالأظهر أنه يستحب تسليمتان. وقال في (الاملاء): تسليمة يبدأ بها إلى يمينه، ويختمها ملتفتا إلى يساره، فيدير وجهه وهو فيها، هذا نصه. وقيل: يأتي بها تلقاء وجهه بغير التفات. قال إمام الحرمين: ولا شك أن هذا الخلاف في صفة الالتفات يجري في سائر الصلوات إذا قلنا: يقتصر على تسليمة.
642 ثم قيل: القولان هنا في الاقتصار على تسليمة، هما القولان في الاقتصار في سائر الصلوات. والأصح: أنهما مرتبان عليهما، إن قلنا هناك بالاقتصار، فهنا أولى، وإلا فقولان، فإن الاقتصار هناك قول قديم، وهنا هو قوله في (الاملاء)، وهو جديد. وإذا اقتصر على تسليمة، فهل يقتصر على (السلام عليكم) أم يزيد (ورحمة الله؟) فيه تردد حكاه أبو علي. فرع: المسبوق إذا أدرك الامام في أثناء هذه الصلاة، كبر ولم ينتظر تكبيرة الامام المستقبلة. ثم يشتغل عقب تكبيره بالفاتحة، ثم يراعي في الأذكار ترتيب نفسه، فلو كبر المسبوق، فكبر الامام الثانية مع فراغه من الأولى، كبر مع الثانية، وسقطت عنه القراءة، كما لو ركع الامام في سائر الصلوات عقب تكبيره (1). ولو كبر الامام الثانية والمسبوق في أثناء الفاتحة، فهل يقطع القراءة ويوافقه، أم يتمها؟ وجهان كالوجهين فيما إذا ركع الامام والمسبوق في أثناء الفاتحة، أصحهما عند الأكثرين: يقطع ويتابعه. وعلى هذا، هل يتم القراءة بعد التكبيرة لأنه محل القراءة بخلاف الركوع، أم لا يتم؟ فيه احتمالان لصاحب (الشامل). أصحهما: الثاني. ومن فاته بعض التكبيرات، تداركها بعد سلام الامام، وهل يقتصر على التكبيرات نسقا بلا ذكر، أم يأتي بالذكر والدعاء؟ قولان. أظهرهما: الثاني (2). قلت: القولان في الوجوب وعدمه، صرح به صاحب (البيان) وهو ظاهر. والله أعلم.
643 ويستحب أن لا ترفع الجنازة، حتى يتم المسبوقون ما عليهم، فلو رفعت، لم تبطل صلاتهم وإن حولت عن القبلة، بخلاف ابتداء عقد الصلاة، لا يحتمل فيه ذلك والجنازة حاضرة. فرع: لو تخلف المقتدي فلم يكبر مع الامام الثانية أو الثالثة حتى كبر الامام التكبيرة المستقبلة من غير عذر، بطلت صلاته كتخلفه بركعة. فصل: الشرائط المعتبرة في سائر الصلوات، كالطهارة، وستر العورة، والاستقبال، وغيرها، تعتبر في هذه الصلاة أيضا، ويشترط فيها تقديم غسل الميت، حتى لو مات في بئر، أو معدن انهدم عليه، وتعذر إخراجه وغسله، لم يصل عليه، ذكره في (التتمة). قلت: ويجوز قبل التكفين مع الكراهة. والله أعلم. ولا يشترط فيها الجماعة، لكن يستحب، وفي أقل ما يسقط فرض الكفاية في هذه الصلاة، قولان ووجهان. أحد القولين: بثلاثة. والثاني: بواحد. وأحد الوجهين باثنين. والثاني: بأربعة. والأظهر عند الروياني وغيره: سقوطه بواحد. ومن اعتبر العدد قال: سواء صلوا فرادى أو جماعة، وإن بان حدث الامام، أو بعض المأمومين. فإن بقي العدد المعتبر، سقط الفرض، وإلا، فلا. ويسقط بصلاة الصبيان المميزين على الأصح (1). ولا يسقط بالنساء على الصحيح. وقال كثيرون: لا يسقط بهن قطعا وإن كثرن. والخلاف فيما إذا كان هناك رجال، فإن لم يكن رجل، صلين منفردات وسقط الفرض بهن. قال في (العدة): وظاهر المذهب: أنه لا يستحب لهن الجماعة في جنازة الرجل والمرأة. وقيل: يستحب في جنازة المرأة.
644 قلت: إذا لم يحضر إلا النساء، توجه الفرض عليهن، وإذا حضرن مع الرجال، لم يتوجه الفرض عليهن، فلو لم يحضر إلا رجل ونساء، وقلنا: لا يسقط الفرض إلا بثلاثة، توجه التيمم عليهن، والظاهر أن الخنثى في هذا الفصل كالمرأة (1). والله أعلم. فصل: تجوز الصلاة على الغائب بالنية وإن كان في غير جهة القبلة والمصلي يستقبل القبلة، وسواء كان بينهما مسافة القصر، أم لا؟ بشرط أن يكون خارج البلد، فإن كان المصلي والميت في بلد، فهل يجوز أن يصلي إذا لم يكن بين يديه؟ وجهان. أصحهما: لا يجوز. قال الشيخ أبو محمد: وإذا شرطنا حضور الميت، اشترط أن لا يكون بينهما أكثر من ثلاثمائة ذراع تقريبا. فصل: إذا صلى على الجنازة جماعة، ثم حضر آخرون، فلهم أن يصلوا عليها جماعة وفرادى، وصلاتهم تقع فرضا. كالأولين. وأما من صلى منفردا، فلا يستحب له إعادتها في جماعة على الأصح (2)، وسواء حضر الذين لم يصلوا قبل الدفن، أو بعده، فإن الصلاة على القبر عندنا جائزة، ولو دفن بلا صلاة، أثم الدافنون، فإن تقديم الصلاة على الدفن واجب (3)، لكن لا ينبش، بل يصلون على قبره. وحكي أنه لا يسقط الفرض بالصلاة على القبر، وهو منكر، بل غلط. وإلى متى تجوز الصلاة عليه (4)؟ فيه أوجه. أصحها: يصلي عليه من كان من أهل فرض
645 الصلاة عليه يوم موته، ولا يصلي غيره. هذا قول الشيخ أبي زيد. وقال المحاملي وطائفة: هذا الوجه بعبارة أخرى، فقالوا: يصلي من كان من أهل الصلاة يوم موته. فعلى العبارة الأولى لا يصلي من كان صبيا مميزا، وعلى الثانية يصلي، والأولى أشهر، والثانية عند الروياني أصح. والوجه الثاني: يصلى عليه إلى ثلاثة أيام فقط. والثالث: إلى شهر فقط. والرابع: يصلى عليه ما بقي منه شئ في القبر. فإن انمحقت الاجزاء كلها، فلا. فإن شك في الانمحاق، فالأصل البقاء. وفيه احتمال لإمام الحرمين. والخامس: يصلي أبدا. هذا كله في غير قبر النبي (ص)، ولا تجوز الصلاة على قبره (ص) على الأوجه الأربعة قطعا، ولا على الخامس على الصحيح. وقال أبو الوليد النيسابوري (1): يجوز فرادى، لا جماعة. قلت: [بقي من الباب بقايا، منها: أنه] (2) لا تكره الصلاة على الميت في المسجد. قال أصحابنا: بل الصلاة فيه أفضل (3)، للحديث الصحيح في قصة سهل بن بيضاء في (صحيح مسلم) (4). وأما الحديث الذي رواه أبو داود (5) وغيره (من صلى على جنازة في المسجد، فلا شئ له) فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها: ضعفه (6). والثاني: الموجود في (سنن أبي داود) (فلا شئ عليه). هكذا هو في أصول سماعنا على كثرتها، وفي غيرها من الأصول المعتمدة (7). والثالث: حمله
646 على نقصان أجره إذا لم يتبعها للدفن (1). ويستحب أن تجعل صفوف الجنازة ثلاثة فأكثر، للحديث الصحيح فيه. واختلاف نية الإمام والمأموم لا تضر. فلو نوى الامام الصلاة على حاضر، والمأموم على غائب أو عكسه، جاز. ومن قتل نفسه غسل وصلي عليه، [وإذا صلى على الجنازة مرة] (2) لا تؤخر لزيادة المصلين، ولا لانتظار أحد غير الولي، ولا بأس بانتظار وليها إن لم يخف تغيرها. قال صاحب (البحر): لو صلى على الأموات الذين ماتوا في يومه، وغسلوا في البلد الفلاني، ولا يعرف عددهم، جاز. وقوله صحيح، لكن لا يختص ببلد. والله أعلم. باب الدفن قد تقدم أنه فرض كفاية. ويجوز في غير المقبرة، لكن فيها أفضل. فلو قال بعض الورثة: يدفن في ملكه، وبعضهم: في المقبرة المسبلة، دفن في المسبلة. ولو بادر بعضهم فدفنه في الملك، كان للباقين نقله إلى المسبلة، والأولى أن لا يفعلوا. ولو أراد بعضهم دفنه في ملك نفسه، لم يلزم الباقين قبوله. فلو بادر إليه، قال ابن الصباغ: لم يذكره الأصحاب، وعندي: أنه لا ينقل، فإنه هتك، وليس في بقائه إبطال حق الغير. قلت: وفي (التتمة) القطع بما قاله صاحب (الشامل). والله أعلم. ولو اتفقوا على دفنه في ملكه، ثم باعوه، لم يكن للمشتري نقله، وله الخيار في فسخ البيع إن كان جاهلا. ثم إذا بلي، أو اتفق نقله، فذلك الموضع للبائعين، أم للمشتري؟ فيه وجهان سيأتي نظائرهما في البيع إن شاء الله تعالى. فصل: أقل ما يجزئ في الدفن حفرة تكتم رائحة الميت، وتحرسه عن السباع لعسر نبش مثلها غالبا (3). أما الأكمل، فيستحب توسيع القبر، وتعميقه قدر
647 قامة وبسطة (1)، والمراد قامة رجل معتدل يقوم ويبسط يده مرفوعة. والقامة والبسطة: ثلاثة أذرع ونصف، وفيه وجه: أنه قامة فقط، وهي ثلاثة أذرع، والمعروف الأول. قلت: وكذا قال المحاملي (2): إن القامة والبسطة ثلاثة أذرع ونصف. وقال الجمهور: أربعة أذرع ونصف، وهو الصواب (3). والله أعلم. فرع: يجوز الدفن في الشق واللحد فاللحد: أن يحفر حائط القبر مائلا عن استوائه من أسفله قدر ما يوضع فيه الميت، وليكن من جهة القبلة. والشق: أن يحفر وسطه كالنهر، ويبنى جانباه باللبن أو غيره، ويجعل بينهما شق يوضع فيه الميت ويسقف. وأيهما أفضل؟ فإن كانت الأرض صلبة، فاللحد أفضل، وإلا، فالشق. فرع: السنة أن يوضع الميت عند أسفل القبر، بحيث يكون رأسه عند رجل القبر. ثم يسل من جهة رأسه سلا رفيقا. ولا يدخل القبر إلا الرجال متى وجدوا،
648 رجلا كان الميت أو امرأة (1). وأولاهم بالدفن أولاهم بالصلاة، إلا أن الزوج أحق بدفن زوجته، ثم بعده المحارم، الأب، ثم الجد (2)، ثم الابن، ثم ابن الابن ثم الأخ، ثم ابن الأخ، ثم العم، فإن لم يكن أحد منهم، فعبيدها وهم أحق من بني العم، لأنهم كالمحارم في جواز النظر ونحوه على الأصح (3). فإن قلنا: إنهم كالأجانب، لم يتوجه تقديمهم، فإن لم يكن عبيدها، فالخصيان أولى، لضعف شهوتهم (4). فإن لم يكونوا، فذوا الأرحام الذين لا محرمية لهم، فإن لم يكونوا، فأهل الصلاح من الأجانب. قال إمام الحرمين: وما رأى تقديم ذوي الأرحام محتوما، بخلاف المحارم، لأنهم كالأجانب في وجوب الاحتجاب عنهم. وقدم
649 صاحب (العدة) نساء القرابة على الرجال الأجانب، وهو خلاف النص، وخلاف المذهب المعروف. فرع: إن استقل بوضع الميت في القبر واحد، بأن كان طفلا، فذاك، وإلا، فالمستحب أن يكون عددهم وترا، ثلاثة، أو خمسة، على حسب الحاجة، وكذا عدد الغاسلين. ويستحب أن يستر القبر عند الدفن بثوب، رجلا كان أو امرأة، والمرأة آكد. واختار أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا: أن الاستحباب مختص بالمرأة، والمذهب الأول. ويستحب لمن يدخله القبر أن يقول: باسم الله، وعلى ملة رسول الله (ص). ثم يقول: اللهم أسلمه إليك الأشحاء من ولده وأهله وقرابته وإخوانه، وفارقه من كان يحب قربه، وخرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك وأنت خير منزول به، إن عاقبته فبذنبه، وإن عفوت عنه، فأهل العفو أنت، أنت غني عن عذابه، وهو فقير إلى رحمتك، اللهم تقبل حسنته، واغفر سيئته، وأعذه من عذاب القبر، واجمع له برحمتك الامن من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة، اللهم واخلفه في تركته في الغابرين، وارفعه في عليين، وعد عليه بفضل رحمتك يا أرحم الراحمين. وهذا الدعاء نص عليه الشافعي رحمه الله في (المختصر) (1). فرع: إذا وضع في اللحد، أضجع على جنبه الأيمن مستقبل القبلة (2)، بحيث لا ينكب ولا يستلقي، بأن يدنى من جدار اللحد، ويسند ظهره بلبنة ونحوها، ووضعه مستقبل القبلة واجب، كذا قطع به الجمهور. قالوا: فلو دفن مستدبرا أو مستلقيا، نبش ووجه إلى القبلة ما لم يتغير، فإن تغير، لم ينبش. وقال القاضي أبو الطيب في كتابه (المجرد): التوجيه إلى القبلة سنة، فلو ترك استحب أن ينبش ويوجه، ولا يجب (3). وأما الاضجاع على اليمين، فليس بواجب. فلو وضع على اليسار مستقبل القبلة، كره ولم ينبش، ولو ماتت ذمية في بطنها جنين
650 مسلم ميت، جعل ظهرها إلى القبلة ليتوجه الجنين إلى القبلة، لان وجه الجنين على ما ذكر إلى ظهر الام. ثم قيل: تدفن هذه المرأة بين مقابر المسلمين والكفار. قيل: في مقابر المسلمين، فتنزل منزلة صندوق الولد. وقيل: تدفن في مقابر الكفار. قلت: الصحيح من هذه الأوجه الأول، وبه قطع الأكثرون (1)، منهم صاحب (الشامل)، والمستظهري، وصاحب (البيان). ونقله صاحب (الحاوي) عن أصحابنا قال (2): وكذلك إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين. قال: وحكي عن الشافعي أنها تدفع إلى أهل دينها ليتولوا غسلها ودفنها. وقطع صاحب (التتمة) بأنها تدفن على طرف مقابر المسلمين، وهذا وجه رابع. والله أعلم. فرع: ويجعل تحت رأس الميت لبنة أو حجر، ويفضي بخده الأيمن إليه، أو إلى التراب، ولا يوضع تحت رأسه مخدة. ولا يفرش تحته فراش. حكى العراقيون (3) كراهة ذلك عن نص الشافعي رحمه الله، وقال في (التهذيب): لا بأس به (4)، ويكره أن يجعل في تابوت، إلا إذا كانت الأرض رخوة، أو ندية، ولا تنفذ
651 وصيته به إلا في مثل هذه الحالة، ثم يكون التابوت من رأس المال. فرع: إذا فرغ من وضعه في اللحد، نصب اللبن على فتح اللحد، وتسد الفرج بقطع اللبن مع الطين، أو بالآجر ونحوه (1)، ثم يحثي كل من دنا ثلاث حثيات من التراب (2) بيديه جميعا، ويستحب أن يقول مع الأولى: (منها خلقناكم) ومع الثانية (وفيها نعيدكم) ومع الثالثة (ومنها نخرجكم تارة أخرى) (3) ثم يهال بالمساحي. فرع: المستحب أن لا يزاد في القبر على ترابه الذي خرج منه، ولا يرفع إلا قدر شبر ليعرف فيزار ويحترم. قال في (التتمة): إلا إذا مات مسلم في بلاد الكفار، فلا يرفع قبره، بل يخفى لئلا يتعرضوا له إذا رجع المسلمون. ويكره تجصيص القبر، والكتابة، والبناء عليه (4). ولو بني عليه، هدم إن كانت المقبرة
652 مسبلة، وإن كان القبر في ملكه، فلا. وأما تطيين القبر، فقال إمام الحرمين، والغزالي: لا يطين، ولم يذكر ذلك جماهير الأصحاب. ونقل الترمذي عن الشافعي: أنه لا بأس بالتطيين ويستحب أن يرش الماء على القبر، ويوضع عليه حصى، وأن يوضع عند رأسه صخرة، أو خشبة ونحوها. قلت: قال صاحب (التهذيب): يكره أن يرش على القبر ماء الورد، ويكره أن يضرب عليه مظلة، ولا بأس بالمشي بالنعل بين القبور. والله أعلم. فرع: المذهب الصحيح الذي عليه جمهور أصحابنا: أن تسطيح القبر أفضل من تسنيمه. وقال ابن أبي هريرة: الأفضل الآن التسنيم، وتابعه الشيخ أبو محمد، والغزالي، والروياني، وهو شاذ ضعيف. فرع: الانصراف عن الجنازة أربعة أقسام. أحدها: ينصرف عقيب الصلاة، فله من الاجر قيراط. الثاني: أن يتبعها حتى توارى ويرجع قبل إهالة التراب. الثالث: يقف إلى الفراغ من القبر وينصرف من غير دعاء.
653 الرابع: يقف بعده عند القبر ويستغفر الله تعالى للميت، وهذا أقصى الدرجات في الفضيلة. وحيازة القيراط الثاني، تحصل لصاحب القسم الثالث، وهل تحصل للثاني؟ حكى الامام، فيه ترددا، واختار الحصول. قلت: وحكى صاحب (الحاوي) في هذا التردد وجهين (1)، وقال: أصحهما: لا تحصل إلا بالفراغ من دفنه، وهذا هو المختار، ويحتج له برواية البخاري (حتى يفرغ من دفنها). ويحتج للآخر برواية مسلم في (صحيحه): (حتى توضع في اللحد). والله أعلم. فرع: ويستحب أن يلقن الميت بعد الدفن، فيقال: يا عبد الله ابن أمة الله، أذكر ما خرجت عليه من الدنيا، شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد (ص) نبيا، وبالقرآن إماما، وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخوانا. ورد به الخبر عن النبي (ص) (2).
654 قلت: هذا التلقين استحبه جماعات من أصحابنا، منهم: القاضي حسين، وصاحب (التتمة) والشيخ نصر المقدسي في كتابه (التهذيب) وغيرهم، ونقله القاضي حسين عن أصحابنا مطلقا. والحديث الوارد فيه ضعيف (1)، لكن أحاديث الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم من المحدثين وغيرهم. وقد اعتضد هذا الحديث بشواهد من الأحاديث الصحيحة، كحديث (اسألوا الله (2) له التثبيت) ووصية عمرو بن العاص (أقيموا عند قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأعلم ماذا أراجع به رسل ربي) رواه مسلم في (صحيحه) ولم يزل أهل الشام على العمل بهذا التلقين من العصر الأول، وفي زمن من يقتدى به. قال أصحابنا: ويقعد الملقن عند رأس القبر، وأما الطفل ونحوه، فلا يلقن (3). والله أعلم. فرع: المستحب في حال الاختيار، أن يدفن كل ميت في قبر فإن كثر الموتى، وعثر إفراد كل ميت بقبر، دفن الاثنان والثلاثة في قبر (4)، ويقدم إلى
655 القبلة أفضلهم، ويقدم الأب على الابن وإن كان الابن (1) أفضل منه، لحرمة الأبوة، وكذا تقدم الام على البنت، ولا يجمع بين النساء والرجال إلا عند تأكد الضرورة، ويجعل بينهما حاجز من تراب، ويقدم الرجل وإن كان ابنا، فإن اجتمع رجل وامرأة وخنثى وصبي، قدم الرجل، ثم الصبي، ثم الخنثى، ثم المرأة. وهل يجعل حاجز التراب بين الرجلين، وكذا بين المرأتين، أم يختص باختلاف النوع؟ قال العراقيون: لا يختص، بل يعم الجميع، وأشار جماعة إلى الاختصاص. قلت: الصحيح قول العراقيين. وقد نص عليه الشافعي في (الام). والله أعلم. فصل: القبر محترم توقيرا للميت (2)، فيكره الجلوس عليه، والاتكاء، ووطؤه إلا لحاجة بأن لا يصل إلى قبر ميته إلا بوطئه. قلت: وكذا يكره الاستناد إليه، قال أصحابنا. والله أعلم. فرع: يستحب للرجال زيارة القبور (3)، وهل يكره للنساء؟ وجهان. أحدهما، وبه قطع الأكثرون: يكره (4). والثاني، وهو الأصح عند الروياني: لا
656 يكره إذا أمنت من الفتنة (1). والسنة أن يقول الزائر: سلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله (2) بكم لاحقون (3)، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم. وينبغي للزائر، أن يدنو من القبر بقدر ما كان يدنو من صاحبه في الحياة لو زاره. وسئل القاضي أبو الطيب عن قراءة القرآن في المقابر فقال: الثواب للقارئ، ويكون الميت كالحاضر، ترجى له الرحمة والبركة، فيستحب قراءة القرآن في المقابر لهذا المعنى، وأيضا فالدعاء عقيب القراءة أقرب إلى الإجابة (4)، والدعاء ينفع الميت.
657 فرع: لا يجوز نبش القبر إلا في مواضع. منها: أن يبلى الميت ويصير ترابا، فيجوز نبشه ودفن غيره، ويرجع في ذلك إلى أهل الخبرة، وتختلف باختلاف البلاد والأرض، وإذا بلي الميت، لم يجز عمارة قبره وتسوية التراب عليه في المقابر المسبلة، لئلا يتصور بصورة القبر الجديد فيمتنع الناس من الدفن فيه. ومنها: أن يدفن إلى غير القبلة، وقد سبق. ومنها: أن يدفن من يجب غسله بلا غسل. فالمذهب: أنه يجب النبش ليغسل، وحكي قول: أنه لا يجب، بل يكره لما فيه من الهتك، فعلى المذهب وجهان، الصحيح المقطوع به في (النهاية) و (التهذيب): ينبش ما لم يتغير الميت. والثاني: ينبش ما دام فيه جزء من عظم وغيره. ومنها: إذا دفن في أرض مغصوبة، يستحب لصاحبها تركه، فان أبى، فله إخراجه وإن تغير وكان فيه هتك (1). ومنها: لو كفن بثوب مغصوب أو مسروق، ففيه أوجه، أصحها (2): ينبش لرد الثوب، كما ينبش لرد الأرض. والثاني: لا يجوز نبشه، وينتقل صاحب الثوب إلى القيمة، لأنه كالتالف (3). والثالث: إن تغير الميت وكان في النبش هتك، لم ينبش، وإلا نبش (4). ولو دفن في ثوب حرير، ففي نبشه هذا الخلاف (5).
658 قلت: وفي هذا نظر، وينبغي أن يقطع بأنه لا ينبش. والله أعلم. ومنها: لو دفن بلا كفن، هل ينبش ليكفن، أم يترك حفظا لحرمته، واكتفاء بستر القبر؟ وجهان. أصحهما: يترك. ومنها: لو وقع في القبر خاتم، أو غيره، نبش ورد (1). ولو ابتلع في حياته مالا، ثم مات، وطلب صاحبه الرد، شق جوفه ويرد. قال في (العدة): إلا أن يضمن الورثة مثله أو قيمته، فلا ينبش على الأصح (2). وقال القاضي أبو الطيب: لا ينبش بكل حال، ويجب الغرم في تركته. ولو ابتلع مال نفسه ومات، فهل يخرج؟ وجهان. قال الجرجاني (3): الأصح يخرج. قلت: وصححه أيضا العبدري، وصحح الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب في كتابه (المجرد) عدم الاخراج، وقطع به المحاملي في (المقنع) وهو مفهوم كلام صاحب (التنبيه) وهو الأصح. والله أعلم. وحيث قلنا: يشق جوفه ويخرج، فلو دفن قبل الشق، نبش كذلك (4). قلت: قال (5) الماوردي في (الأحكام السلطانية): إذا لحق الأرض المدفون فيها سيل أو نداوة، فقد جوز الزبيري نقله منها، وأباه غيره، وقول الزبيري أصح. والله أعلم. فرع: إذا مات في سفينة، إن كان بقرب الساحل، أو بقرب جزيرة،
659 انتظروا ليدفنوه في البر، وإلا شدوه بين لوحين لئلا ينتفخ وألقوه في البحر ليلقيه البحر إلى الساحل لعله يع إلى قوم يدفنونه، فإن كان أهل الساحل كفارا، ثقل بشئ ليرسب. قلت: العجب من الامام الرافعي مع جلالته، كيف حكى هذه المسألة على هذا الوجه، وكأنه قلد فيه صاحبي (المهذب) و (المستظهري) في قولهما: إن كان أهل الساحل كفارا، ثقل ليرسب، وهذا خلاف نص الشافعي، وإنما هو مذهب المزني، لان الشافعي رحمه الله قال: يلقى بين لوحين ليقذفه البحر. قال المزني: هذا الذي قاله الشافعي، إذا كان أهل الساحل مسلمين، فإن كانوا كفارا، ثقل بشئ لينزل إلى القرار. قال أصحابنا: الذي قاله الشافعي أولى، لأنه يحتمل أن يجده مسلم فيدفنه إلى القبلة. وعلى قول المزني: يتيقن ترك الدفن. هذا الذي ذكرته هو المشهور في كتب الأصحاب، وذكر الشيخ أبو حامد، وصاحب (الشامل) وغيرهما: أن المزني ذكرها في (جامعه) الكبير، وأنكر القاضي أبو الطيب عليهم وقال: إنما ذكرها المزني في (جامعه) كما قالها الشافعي في (الام). قال الشافعي: فإن لم يجعلوه بين لوحتين ليقذفه الساحل، بل ثقلوه وألقوه في البحر، رجوت أن يسعهم، كذا رأيته في (الام). ونقل الأصحاب أنه قال: لم يأثموا، وهو بمعناه. وإذا ألقوه بين لوحين، أو في البحر، وجب عليهم قبل ذلك غسله وتكفينه، والصلاة عليه بلا خلاف، [وقد أوضحت المسألة في (شرح المهذب) (1)
660 بأبسط من هذا، وقد بقيت من باب الدفن بقايا] (1). قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله: يستحب أن يجمع الأقارب في موضع واحد من المقبرة. ومن سبق إلى موضع من المقبرة المسبلة ليحفره، فهو أحق من غيره. قال أصحابنا: ويحرم أن يدفن في موضع فيه ميت حتى يبلى ولا يبقى عظم ولا غيره. قالوا: فإن حفر فوجد عظامه، أعاد القبر ولم يتم الحفر. قال الشافعي رحمه الله: فان فرغ من القبر فظهر شئ من العظام، جاز أن تجعل في جانب القبر ويدفن الثاني معه. قال الشافعي والأصحاب: ولو مات له أقارب دفعة، وأمكنه دفن كل واحد في قبر، بدأ بمن يخشى تغيره، ثم الذي يليه في التغير. فإن لم يخش تغير، بدأ بأبيه، ثم أمه، ثم الأقرب فالأقرب. فإن كانا أخوين، فأكبرهما. فإن كانتا زوجتين، أقرع بينهما. ولا يدفن مسلم في مقبرة الكفار، ولا كافر في مقبرة المسلمين. قال أصحابنا: ولا يكره الدفن بالليل. قالوا: وهو مذهب العلماء كافة، إلا الحسن البصري. قالوا: لكن المستحب، أن يدفن نهارا (2). قال الشافعي في (الام) والأصحاب: ولا يكره الدفن في الأوقات التي نهي عن الصلاة فيها. ونقل الشيخ أبو حامد، وصاحب (الحاوي)، والشيخ نصر، وغيرهم، الاجماع عليه، وبه أجابوا عن حديث
661 عقبة بن عامر (1) في (صحيح مسلم) (2): (ثلاث ساعات نهانا رسول الله (ص) عن الصلاة فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا) وذكر وقت الاستواء، والطلوع، والغروب. وأجاب القاضي أبو الطيب، ثم صاحب (التتمة)، بأن الحديث محمول على تحري ذلك وقصده. ويكره المبيت في المقبرة. وأما نقل الميت من بلد إلى بلد قبل دفنه، فقال صاحب (الحاوي) قال الشافعي: لا أحبه إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة، أو بيت المقدس، فنختار أن ينقل إليها لفضل الدفن فيها. وقال صاحب (التهذيب)، والشيخ أبو نصر البندنيجي من العراقيين: يكره نقله. وقال القاضي حسين، وأبو الفرج الدارمي، وصاحب (التتمة): يحرم نقله. قال القاضي وصاحب (التتمة): ولو أوصى به، لم تنفذ وصيته، وهذا أصح، فإن في نقله تأخير دفنه وتعريضه لهتك حرمته من وجوه. ولو ماتت امرأة في جوفها جنين حي، قال أصحابنا: إن كان يرجى حياته، شق جوفها وأخرج ثم دفنت، وإلا فثلاثة أوجه. الصحيح: لا يشق جوفها، بل يترك حتى يموت الجنين ثم تدفن. والثاني: يشق. والثالث: يوضع عليه شئ ليموت ثم تدفن، وهذا غلط (3) وإن كان قد حكاه
662 جماعة، وإنما ذكرته لأبين بطلانه. قال صاحب (الحاوي): قال الشافعي رحمه الله: لو أن رفقة في سفر مات أحدهم فلم يدفنوه، نظر، إن كان بطريق يخترقه (1) المارة، أو بقرب قرية للمسلمين، فقد أساؤوا، وعلى من بقربه من المسلمين دفنه. وإن كان بصحراء، أو موضع لا يمر به أحد، أثموا وعلى السلطان معاقبتهم، إلا أن يخافوا - لو اشتغلوا به - عدوا، فيختار أن يواروه ما أمكنهم. فإن تركوه، لم يأثموا، لأنه موضع ضرورة. قال الشافعي: لو أن مجتازين مروا بميت في صحراء، لزمهم القيام به رجلا كان أو امرأة. فإن تركوه أثموا. ثم إن كان بثيابه ليس عليه أثر غسل ولا تكفين، وجب عليهم غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه. وإن كان عليه أثر الغسل والكفن والحنوط، دفنوه. فإن أرادوا الصلاة عليه، صلوا بعد دفنه على قبره، لأن الظاهر أنه صلي عليه [وقد ألحقت في هذا الباب أشياء كثيرة، وبقيت منها نفائس ومتممات استقصيتها في (شرح المهذب) تركتها لكثرة الإطالة] (2). والله أعلم. باب التعزية هي سنة، ويكره الجلوس لها (3). ويستحب أن يعزي جميع أهل الميت، الكبير والصغير، والرجل والمرأة، لكن لا يعزي الشابة إلا محارمها، وسواء في أصل شرعيتها، ما قبل الصلاة والدفن، وبعدهما، لكن تأخيرها إلى ما بعد الدفن أحسن، لاشتغال أهل الميت بتجهيزه. قلت: قال أصحابنا: إلا أن يرى من أهل الميت جزعا شديدا، فيختار تقديم
663 التعزية ليصبرهم. والله أعلم. ثم تمتد التعزية إلى ثلاثة أيام، ولا يعزى بعدها إلا أن يكون المعزي، أو المعزى غائبا. وفي وجه: يعزيه أبدا (1)، وهو شاذ. والصحيح المعروف، الأول. ثم الثانية للتقريب. فرع: معنى التعزية: الامر بالصبر والحمل عليه بوعد الاجر، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت بالمغفرة، وللمصاب بجبر المصيبة، فيقول في تعزية المسلم بالمسلم: أعظم الله أجرك (2)، وأحسن عزاءك، وغفر لميتك. وفي تعزية المسلم بالكافر: أعظم الله أجرك، وأخلف عليك، أو ألهمك الصبر، أو جبر مصيبتك ونحوه. وفي تعزية الكافر بالمسلم (3): غفر الله لميتك، وأحسن عزاك. ويجوز للمسلم أن يعزي الذمي بقريبه الذمي (4)، فيقول: أخلف الله عليك، ولا نقص عددك.
664 فصل: يستحب لجيران الميت، والأباعد من قرابته، تهيئة طعام لأهل الميت، يشبعهم في يومهم وليلتهم، ويستحب أن يلح عليهم في الاكل. قلت: قال صاحب (الشامل) وأما إصلاح أهل الميت طعاما، وجمعهم الناس عليه، فلم ينقل فيه شئ، قال: وهو بدعة غير مستحبة، وهو كما قال. قال غيره: ولو كان الميت في بلد، وأهله في غيره، يستحب لجيران أهله اتخاذ الطعام لهم. ولو قال الامام الرافعي: يستحب لجيران أهل الميت، لكان أحسن، لتدخل فيه هذه الصورة. والله أعلم. [ولو اجتمع نساء ينحن، لم يجز أن يتخذ لهن طعاما، فإنه إعانة على معصية] (1). فصل: البكاء على الميت جائز قبل الموت وبعده، وقبله أولى (2). والندب حرام، وهو أن يعد شمائل (3) الميت، فيقال: وا كهفاه، وا جبلاه، ونحو ذلك.
665 والنياحة حرام، والجزع (1)، بضرب الخد، وشق الثوب، ونشر الشعر، حرام، وإذا فعل أهل الميت شيئا من ذلك، لا يعذب الميت، والحديث فيه (2) متأول على من أوصى (3) بالنياحة عليه. باب تارك الصلاة (4) وهو ضربان. أحدهما: تركها جحدا لوجوبها (5)، فهو مرتد (6) تجري عليه أحكام
666 المرتدين، إلا أن يكون قريب عهد بالاسلام، يجوز أن يخفى عليه وجوبها، ويجري هذا الحكم في جحود كل حكم مجمع عليه. قلت: أطلق الامام الرافعي القول بتكفير جاحد المجمع عليه، وليس هو على إطلاقه، بل من جحد مجمعا عليه فيه نص (1)، وهو من أمور الاسلام الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخواص والعوام، كالصلاة، أو الزكاة، أو الحج، أو تحريم الخمر، أو الزنا، ونحو ذلك، فهو كافر. ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وتحريم نكاح المعتدة، وكما إذا أجمع أهل عصر على حكم حادثة، فليس بكافر، للعذر، بل يعرف الصواب ليعتقده. ومن جحد مجمعا عليه، ظاهرا، لا نص فيه. ففي الحكم بتكفيره خلاف يأتي إن شاء الله تعالى بيانه في باب الردة، وقد أوضح صاحب (التهذيب) القسمين الأولين في خطبة كتابه. والله أعلم. الضرب الثاني: من تركها غير جاحد، وهو قسمان. أحدهما: ترك لعذر، كالنوم، والنسيان، فعليه القضاء فقط، ووقته موسع. والثاني: ترك بلا عذر تكاسلا، فلا يكفر على الصحيح. وعلى الشاذ: يكون مرتدا كالأول، فعلى
667 الصحيح: يقتل حدا. وقال المزني: يحبس ويؤدب ولا يقتل. ومتى يقتل؟ فيه أوجه. الصحيح: بترك صلاة واحدة إذا ضاق وقتها، والثاني: إذا ضاق وقت الثانية. والثالث: إذا ضاق وقت الرابعة. والرابع: إذا ترك أربع صلوات. والخامس: إذا ترك من الصلوات قدرا يظهر لنا به اعتياده الترك وتهاونه بالصلاة. والمذهب: الأول. والاعتبار بإخراج الصلاة عن وقت الضرورة (1). فإذا ترك الظهر، لم يقتل حتى تغرب الشمس، وإذا ترك المغرب، لم يقتل حتى يطلع الفجر (2) (3)، حكاه الصيدلاني وتابعه الأئمة عليه. وعلى الأوجه كلها: لا يقتل حتى يستتاب (4). وهل يكفي الاستتابة في الحال، أم يمهل ثلاثة أيام؟ قولان. قال في (العدة): المذهب أنه لا يمهل. والقولان في الاستحباب: على المذهب. وقيل: في الايجاب. فرع: الصحيح: أنه يقتل بالسيف ضربا كالمرتد. وفي وجه: ينخس بحديدة ويقال: صل، فإن صلى، وإلا كرر عليه [النخس] حتى يموت. وفي وجه: يضرب بالخشب حتى يصلي أو يموت (5). وأما غسل المقتول لترك الصلاة ودفنه والصلاة عليه، فتقدم بيانها في الصلاة على الميت. فرع: إذا أراد السلطان قتله فقال: صليت في بيتي، ترك (6). فرع: تارك الوضوء يقتل على الصحيح (7). ولو امتنع من صلاة الجمعة وقال: أصليها ظهرا، بلا عذر، لم يقتل، قاله الغزالي في فتاويه، لأنه لا يقتل بترك الصوم، فالجمعة أولى، لان لها بدلا وتسقط بأعذار كثيرة.
668 قلت: قد جزم الامام الشاشي في فتاويه بأنه يقتل بترك الجمعة وإن كان يصليها ظهرا، لأنه لا يتصور قضاؤها، وليست الظهر قضاء عنها. وقد اختار هذا غير الشاشي (1)، واستقصيت الكلام عليه في أول كتاب الصلاة، من شرح (المهذب). ولو قتل إنسان تارك الصلاة في مدة الامهال، قال صاحب (البيان): بإثم ولا ضمان عليه كقاتل المرتد (2). وسيأتي كلام الرافعي فيه في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى. وإن ترك الصلاة وقال: تركتها ناسيا، أو للبرد، أو عدم الماء، أو لنجاسة كانت علي، ونحو ذلك من الاعذار، صحيحة كانت أو باطلة، قال صاحب (التتمة): يقال له: صل، فان امتنع، لم يقتل على المذهب، لان القتل بسبب تعمد تأخيرها عن الوقت، ولم يتحقق ذلك، وفي وجه: أنه يقتل لعناده. قال: ولو قال: تعمدت تركها، ولا أريد أن أصليها، قتل قطعا. وإن قال: تعمدت تركها بلا عذر،. ولم يقل: ولا أصليها، قتل أيضا على المذهب، لتحقق جنايته. وفيه وجه: أنه لا يقتل ما لم يصرح بالامتناع من القضاء. واعلم أن قضاء من ترك الصلاة بعذر، على التراخي على المذهب، ومن ترك بغير عذر، فيه وجهان: أصحهما عند العراقيين: على التراخي، والصواب ما قاله الخراسانيون: أنه على الفور. وستأتي المسألة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى كما قدمنا الوعد به في آخر صفة الصلاة (3). والله أعلم.