بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: تحفة الفقهاء المؤلف: السمرقندي الجزء: 2 الوفاة: 539 المجموعة: فقه المذهب الحنفي تحقيق: الطبعة: الثانية سنة الطبع: 1414 - 1993 م المطبعة: الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان ردمك: ملاحظات: تحفة الفقهاء لعلاء الدين السمرقندي وهي أصل "بدائع الصنائع" للكاساني - قال اللكنوي : " ملك العلماء الكاساني ، صاحب البدائع شرح تحفه الفقهاء : أخذ العلم عن علاء الدين محمد السمرقندي ، صحاب التحفة " تحفة الفقهاء
1 تحفة الفقهاء لعلاء الدين السمرقندي 535 ه وهي أصل " بدائع الصنائع " للكاساني - قال اللكنوي: " ملك العلماء الكاساني، صاحب البدائع شرح تحفة الفقهاء: أخذ العلم عن علاء الدين محمد السمرقندي، صاحب التحفة ". الجزء الثاني دار الكتب العلمية بيروت لبنان
3 جميع الحقوق محفوظة لدار الكتاب العلمية بيروت لبنان الطبعة الثانية دار الكتاب العلمية بيروت - لبنان ص - ب: 9424 / 11 - تلكس: - le nasher 41245 هاتف: 366135 - 602133 - 868051 - 815573 فاكس: 4781373 / 1212 / 00 - 602133 / 9611 / 00
4 كتاب البيوع اعلم أن البيع مشروع. عرفت شرعيته بالكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: * (وأحل الله البيع) * (1)، وقال تعالى: * (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) * (2). وأما السنة فما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: يا معشر التجار! إن بيعكم هذا يحضره اللغو والكذب، فشوبوه بالصدقة وكذلك بعث النبي عليه السلام والناس يتبايعون، فقررهم على ذلك، والتقرير أحد وجوه السنة. وعليه إجماع الأمة.
(1) سورة البقرة: الآية 257. (2) سورة النساء: الآية 29. 5 باب السلم البيع أنواع أربعة: أحدها: بيع العين بالعين، كبيع السلع بأمثالها نحو بيع الثوب بالعبد وغيره، ويسمى هذا بيع المقايضة. والثاني: بيع العين بالدين، نحو بيع السلع بالأثمان المطلقة، وبيعها بالفلوس الرائجة، والمكيل والموزون والعددي المتقارب دينا. والثالث: بيع الدين بالدين، وهو بيع الثمن المطلق بالثمن المطلق، وهو الدراهم والدنانير، وإنه يسمى عقد الصرف، ويعرف في كتابه إن شاء الله تعالى. والرابع: بيع الدين بالعين، وهو السلم، فإن المسلم فيه مبيع وهو دين، ورأس المال قد يكون عينا وقد يكون دينا، ولكن قبضه شرط قبل افتراق العاقدين بأنفسهما، فيصير عينا. والكلام في السلم في خمسة مواضع: في بيان مشروعيته، وفي بيان تفسيره لغة وشريعة، وفي بيان ركنه، وفي بيان شرطه، وفي بيان حكمه شرعا.
7 أما الأول: فالقياس أن لا يجوز السلم، لأنه بيع المعدوم. وفي الاستحسان جائز بالحديث، بخلاف القياس، لحاجة الناس إليه، وهو قوله عليه السلام: من أسلم منكم فليسلم في كل معلوم ووزن معلوم، إلى أجل معلوم، وروي عنه عليه السلام أنه نهى عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في السلم. وأما تفسيره لغة: فهو عقد يثبت به الملك في الثمن عاجلا - وفي المثمن آجلا، يسمى سلما وإسلاما وسلفا وإسلافا لما فيه من تسليم رأس المال للحال. وفي عرف الشرع عبارة عن هذا أيضا مع زيادة شرائط ورد بها الشرع لم يعرفها أهل اللغة. وأما ركنه: فهو الايجاب والقبول. والايجاب هو لفظ السلم والسلف بأن يقول رب السلم لآخر: أسلمت إليك عشرة دراهم في كر حنطة أو أسلفت وقال الآخر: قبلت. ويسمى هذا رب السلم ويسمى المسلم أيضا. والآخر يسمى المسلم إليه. وتسمى الحنطة المسلم فيه. ولو قال المسلم إليه لآخر: بعت منك كر حنطة بكذا وذكر شرائط السلم، فإنه ينعقد أيضا، لأنه بيع، على ما روينا أن النبي عليه السلام نهى عن بيع ما ليس عند الانسان ورخص في السلم. وأما شرائط جواز السلم فسبعة عشر: ستة في رأس المال، وأحد عشر في المسلم فيه.
8 أما الستة التي في رأس المال فهي: أحدها: بيان الجنس أنه دراهم أو دنانير، أو من المكيل حنطة أو شعير، أو من الموزون قطن أو حديد، ونحو ذلك. والثاني: بيان النوع أنه دراهم غطريفية (1) أو عدلية، أو دنانير محمودية أو هروية أو مروية. وهذا إذا كان في البلد نقود مختلفة، فأما إذا كان في البلد نقد واحد، فذكر الجنس كاف، وينصرف إليه لتعينه عرفا. والثالث: بيان الصفة أنه جيد، أو ردئ، أو وسط. والرابع: إعلام قدر رأس المال فهو شرط جواز السلم فيما يتعلق العقد فيه بالقدر، كالمكيل والموزون والعددي المتقارب. وهذا قول أبي حنيفة، وهو قول سفيان الثوري وأحد قولي الشافعي. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس بشرط، وهو أحد قولي الشافعي. وصورة المسألة إذا قال رب السلم: أسلمت إليك هذه الدراهم، وأشار إليها، أو هذه الدنانير، وأشار إليها، ولم يعرف وزنها. وكذا إذا قال: أسلمت هذه الحنطة في كذا، ولم يعرف مقدار كيل رأس المال. وعلى هذا الخلاف: إذا قال: أسلمت إليك عشرة دراهم في كر حنطة وكر شعير، ولم يبين
(1) وهي من أعز النقود ببخارى، وهي منسوبة إلى غطريف بن عطاء الكندي أمير خراسان أيام الرشيد. 9 حصة كل واحد منهما من العشرة. وكذلك إذا أسلم عشرة دراهم في ثوبين مختلفين في القيمة. هذا إذا أسلم فيما يتعلق العقد فيه بالقدر. فأما إذا أسلم فيما لا يتعلق العقد فيه بالقدر، كالذرعيات والعدديات المتفاوتة، فإنه لا يشترط بيان الذرع في الذرعيات، ولا بيان القيمة فيها، ويكتفي بالإشارة والتعيين في قولهم جميعا. وأجمعوا في بيع العين أن إعلام قدر الثمن ليس بشرط إذا كان مشارا إليه، ودلائل المسألة تعرف في المبسوط إن شاء الله. والخامس: كون الدراهم والدنانير منتقدة، فهو شرط الجواز عند أبي حنيفة أيضا مع إعلام القدر. وعندهما ليس بشرط. والسادس: تعجيل رأس المال وقبضه قبل افتراق العاقدين بأنفسهما، فهو شرط الجواز عند عامة العلماء، سواء كان رأس المال عينا أو دينا. وقال مالك: إن كان رأس المال عينا لا يشترط تعجيله، وإن كان دينا يشترط في قول، وفي قول قال: يجوز التأخير يوما أو يومين. وأجمعوا أن في الصرف يشترط قبض البدلين قبل الافتراق بأبدانهما، سواء كان عينا كالتبر والمصوغ، أو دينا كالدراهم والدنانير . وأما الشرائط التي في المسلم فيه فهي أحد عشر: أحدها: بيان جنس المسلم فيه، حنطة أو شعير أو نحوهما. والثاني: بيان نوعه، حنطة سقية أو بخسية (1)، سهلية أو جبلية.
(1) السقيفة ما يسقى سيحا. والبخسية ما يسقى بالمطر وقد نسبت إلى البخس لأنها مبخوسة الحظ من الماء بالنسبة إلى السيح غالبا. 10 والثالث: بيان الصفة، حنطة جيدة أو رديئة أو وسط. والرابع: إعلام قدر المسلم فيه، أنه كر أو قفيز، بكيل معروف عند الناس - لان ترك بيان هذه الأشياء يوجب جهالة مفضية إلى المنازعة، وهي مفسدة، بالاجماع. والخامس: أن لا يشمل البدلين أحد وصفي علة ربا الفضل، وهو القدر المتفق، أو الجنس، لأنه يتضمن ربا النساء، والعقد الذي فيه ربا فاسد. والسادس: أن يكون المسلم فيه مما يتعين بالتعيين، حتى لا يجوز السلم في الدراهم والدنانير. فأما في التبر هل يجوز السلم فيه؟ على قياس رواية كتاب الصرف: لا يجوز، لأنه ألحقه بالمضروب، وعلى قياس رواية كتاب الشركة جاز، لأنه ألحقه بالعروض، وهو رواية عن أبي يوسف أيضا: أنه كالعروض. وأما السلم في الفلوس فقد ذكر في الأصل وقال: إنه يجوز، ولم يذكر الاختلاف، ويجب أن يكون ذلك على قول أبي حنيفة وأبي يوسف، لان عندهما ليس بثمن مطلق بل يحتمل التعيين في الجملة. وعلى قول محمد لا يجوز، لأنه ثمن مطلق، على ما عرف في بيع الفلس بالفلسين بأعيانهما. والسابع: الأجل في المسلم فيه شرط الجواز، وهذا عندنا. وقال الشافعي: ليس بشرط. ولقب المسألة أن السلم الحال لا يجوز عندنا، وعنده يجوز. ثم لا رواية عن أصحابنا، في المبسوط، في مقدار الأجل، واختلفت الروايات عنهم، والأصح ما روي عن محمد أنه مقدر بالشهر،
11 لأنه أدنى الآجل وأقصى العاجل. والثامن: أن يكون جنس المسلم فيه موجودا من وقت العقد إلى وقت محل الأجل، ولا يتوهم انقطاعه عن أيدي الناس، كالحبوب. فأما إذا كان منقطعا وقت العقد، أو وقت حلول الأجل، أو فيما بين ذلك، فإنه لا يجوز عندنا. وقال الشافعي: إن كان موجودا وقت محل الأجل يجوز وإن كان منقطعا في غيره من الأحوال. ولقب المسألة أن السلم في المنقطع: هل يجوز أم لا؟ وهي مسألة معروفة. وكذلك المسلم فيه إذا كان منسوبا إلى موضع معلوم يحتمل انقطاعه عليه بالآفة، كحنطة قرية كذا أو أرض كذا، لا يجوز، لأنه يحتمل الانقطاع بالآفة. وذكر في الأصل: إذا أسلم في حنطة هراة لا يجوز. وقاس عليه بعض مشايخنا أنه لو أسلم في حنطة سمرقند أو بخارى: لا يجوز، وإنما يجوز إذا ذكر الولاية نحو خراسان وفرغانة. والصحيح أن في حنطة البلدة الكبيرة يجوز، لأنها لا تحتمل الانقطاع غالبا. وما ذكره محمد في الأصل من حنطة هراة أراد به اسم قرية من قرى عراق دون البلدة المعروفة التي تسمى هراة. والتاسع: أن يكون العقد باتا، ليس فيه خيار الشرط، لهما أو لأحدهما، حتى لو أسلم عشرة دراهم في كر حنطة على أنه بالخيار ثلاثة أيام وقبض المسلم إليه رأس المال، وتفرقا بأبدانهما، ويبطل عقد السلم، لان البيع بشرط الخيار ثبت، بخلاف القياس لحاجة الناس، فلا حاجة إليه في السلم.
12 ولو أبطلا الخيار قبل التفرق، ورأس المال قائم في يد المسلم إليه، ينقلب جائزا عندنا، خلافا لزفر، ولو كان رأس المال هالكا لا ينقلب إلى الجواز بالاجماع. والعاشر: بيان مكان الايفاء فيما له حمل ومؤونة، كالحنطة والشعير وغيرهما، فإنه شرط لجواز السلم، حتى لو ترك لم يجز السلم في قول أبي حنيفة الآخر. وكذا الخلاف في الإجارة، إذا آجر داره سنة، بأجر له حمل ومؤونة، ولم يعين مكانا للايفاء، لم تجز الإجارة، في قوله الآخر. وعلى قولهما جاز. وحاصل الخلاف راجع إلى أن مكان العقد هل يتعين مكانا للايفاء فيما له حمل ومؤونة؟ مع اتفاقهم على أن مكان الايفاء إذا كان مجهولا لا يجوز السلم، لأنه جهالة مفضية إلى المنازعة. وإذا لم يتعين مكان العقد مكانا للايفاء، عند أبي حنيفة، ولم يعينا مكانا آخر للايفاء، صار مكان الايفاء مجهولا، فيفسد السلم. وعندهما: يتعين مكان العقد مكانا للايفاء، فلا يؤدي إلى الجهالة، فيصح السلم. وفي الإجارة عندهما يتعين بتعين مكان إيفاء المعقود عليه، مكان إيفاء الأجرة، فإن كان لمستأجر دارا أو أرضا، فتسلم عند الدار والأرض، وإن كانت دابة: فعند المرحلة، وإن كان ثوبا دفع إلى قصار ونحوه، يدفعها في الموضع الذي يسلم فيه الثوب إليه. وإنما يتعين مكان العقد مكان التسليم عندهما إذا أمكن التسليم في مكان العقد، فأما إذا لم يمكن، بأن كان في البحر أو على رأس الجبل، فإنه لا يتعين مكان العقد للتسليم، ولكن يسلم في أقرب الأماكن، الذي
13 يمكن التسليم فيه، من مكان العقد. فأما المسلم فيه إذا كان شيئا ليس له حمل ومؤونة، كالمسك والكافور، والجواهر واللآلئ ونحوها، فعن أصحابنا روايتان: في رواية: يتعين مكان العقد. وفي رواية: يسلم حيثما لقيه، ولا يتعين مكان العقد. ولو شرطا مكانا آخر للايفاء سوى مكان العقد، فإن كان فيما له حمل و مئونة: يتعين. وإن كان فيما ليس له حمل ومؤونة ففيه روايتان: في رواية: لا يتعين، وله أن يوفيه في أي مكان شاء. وفي رواية: يتعين، وهو الأصح. والحادي عشر: أن يكون المسلم فيه مما يضبط بالوصف، وهو أن يكون من الأجناس الأربعة: المكيل، والموزون، والذرعي والعددي المتقارب. فأما إذا كان مما لا يضبط بالوصف، كالعدديات المتفاوتة والذرعيات المتفاوتة، مثل الدور والعقار والجواهر واللآلئ والأدم (1) والجلود والخشب والروس والأكارع (2) والرمان والسفرجل والبطاطيخ ونحوها، لا يجوز، لان المسلم فيه ما يثبت دينا في الذمة، وسوى هذه الأجناس الأربعة لا يثبت دينا في الذمة، في عقود المعاوضات، إلا إذا كان شيئا من جنس الجلود والأدم والخشب والجذوع إذا بين شيئا معلوما من هذه الأشياء، وطولا معلوما، وغلظا معلوما، وأن تجتمع فيه شرائط السلم والتحق بالمتقارب يجوز.
(1) جمع أديم وهو الجلد المدبوغ. (2) جمع كراع وهو ما دون الركبة في الدواب. 14 وكذلك السلم في الجوالق والمسوح والفرش. وأما السلم في الحيوان: فجائز عند الشافعي إذا بين جنسه، ونوعه وسنه، وصفته، وأنه في نجارى فلان أو إبل فلان أو غنم فلان. وعندنا: لا يجوز كيفما كان. ويجوز السلم في الأليات والشحوم، وزنا، بلا خلاف. وأما السلم في اللحم مع العظم الذي فيه: فلا يجوز، عند أبي حنيفة أصلا. وقال أبو يوسف ومحمد و الشافعي: يجوز إذا بين جنس اللحم بأن قال: لحم شاة أو بقر، وبين السن بأن قال: لحم شاة ثني أو جذعة، وبين النوع بأن قال لحم شاة ذكر أو أنثى، خصي أو فحل، معلوفة أو سائمة، وبين صفة اللحم بأن قال: سمين أو مهزول أو وسط، وبين الموضع بأن قال: من الكتف أو من الجنب، وبين المقدار بأن قال: عشرة أمناء. وأما منزوع العظم: فقد اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة، ذكر الكرخي وقال: يجوز. وذكر الجصاص وقال: لا يجوز، لاختلاف السمن والهزال. وأما السلم في السمك: فقد اضطربت عبارة الروايات، عن أصحابنا، في الأصل والنوادر. والصحيح من المذهب أن السلم يجوز في السمك الصغار، كيلا أو وزنا، ويستوي فيه المالح والطري في حينه، وأما الكبار ففيه روايتان عن أبي حنيفة، في ظاهر الرواية: يجوز كيفما كان وزنا.
15 وفي رواية أبي يوسف في الأمالي عنه أنه لا يجوز. وعلى قول أبي يوسف ومحمد: يجوز في ظاهر الرواية كما في اللحم. وفي رواية أخرى عنهما: لا يجوز، بخلاف اللحم. وأما السلم في الثياب: فإذا بين جنسه، ونوعه وصفته، ورقعته، وذرعه، يجوز استحسانا، والقياس أن لا يجوز. وهل يشترط بيان الوزن في الثوب الحرير؟ اختلف المشايخ فيه: قال بعضهم: هو شرط. وقال بعضهم: ليس بشرط، لان الحرير ذرعي كالكتان والكرباس. وعلى هذا، السلم في الاعداد المتقاربة مثل الجوز والبيض ونحوهما: جائز كيلا ووزنا وعددا في قول علمائنا الثلاثة. وقال زفر: يجوز كيلا ووزنا، ولا يجوز عددا. وقال الشافعي: يجوز كيلا ووزنا في الجوز واللوز، ولا يجوز عددا. وفي البيض يجوز كيلا ووزنا وعددا. ولو أسلم في الفلوس عددا، يجوز في ظاهر الرواية. وعن محمد أنه لا يجوز، لأنها من جملة الأثمان. ولو أسلم في التبن أوقارا (1) لا يجوز، لتفاوت فاحش بين الوقرين، إلا إذا كان في فيمان (2) معلوم من فيامين الناس لم يختلف فيجوز. ولو أسلم في الخبز هل يجوز؟ لم يذكر محمد في ظاهر الرواية. وذكر في نوادر ابن رستم على قول أبي حنيفة ومحمد لا يجوز، وعلى قول أبي
(1) الوقر حمل البغل أو الحمار ويستعمل في البعير. (2) تعريب بيمان - ومنه: اشترى كذا فيمانا من صبرة. 16 يوسف يجوز إذا شرط ضربا معلوما، ووزنا معلوما، وأجلا معلوما. وأما استقراض الخبز هل يجوز؟ على قول أبي حنيفة لا يجوز لا وزنا ولا عددا كالسلم. وأبو يوسف جوز القرض فيه وزنا لا عددا، كالسلم. ومحمد لم يجوز السلم فيه، لا وزنا ولا عددا، وجوز استقراضه عددا، لا وزنا، لحاجة الناس، فكأنه ترك القياس في جواز استقراضه عددا، لعرف الناس، وإن لم يكن من ذوات الأمثال. وأما بيان حكم السلم شرعا فثبوت الملك، لرب السلم، في المسلم فيه، مؤجلا بمقابلة ثبوت الملك في رأس المال. المعين أو الموصوف، معجلا للمسلم إليه، بطريق الرخصة، دفعا لحاجة الناس بشرائط مخصوصة لم تكن مشروطة في بيع العين. ولا بد أن يختلف البيع والسلم في بعض الأحكام، ونذكر بعض ذلك: منها - أن الاستبدال برأس مال السلم قبل القبض لا يجوز، والاستبدال بالثمن جائز إذا كان دينا لان قبض رأس المال شرط والاستبدال يفوت القبض حقيقة، وإن وجد من حيث المعنى، كما لا يجوز الاستبدال ببدلي الصرف، لان قبضهما شرط حقيقة، فأما قبض الثمن فليس بشرط، والبدل يقوم مقامه معنى. وأما الاستبدال بالمسلم فيه فلا يجوز، قبل القبض، كالاستبدال بالمبيع المعين، لان المسلم فيه مبيع وإن كان دينا، فيكون بيع المبيع المنقول قبل القبض، وإنه لا يجوز، بخلاف سائر الديون.
17 وأما الاستبدال برأس المال، بعد الإقالة أو بعد انفساخ السلم، بأي طريق كان: فلا يجوز في قول علمائنا الثلاثة استحسانا، والقياس أن يجوز، وهو قول زفر، سواء كان رأس المال عينا أو دينا. وأجمعوا على أن الاستبدال ببدلي الصرف، بعد الإقالة، قبل القبض جائز. وأجمعوا أن قبض رأس المال بعد الإقالة في باب السلم في مجلس الإقالة ليس بشرط لصحة الإقالة، وفي الصرف شرط لصحة الإقالة. وأجمعوا على أن السلم إذا كان فاسدا في الأصل، فلا بأس بالاستبدال فيه قبل القبض، ولا يكون له حكم السلم، كسائر الديون. ومنها - أن رب السلم لو أخذ بعض رأس المال وبعض المسلم فيه، بعد محل الأجل أو قبله، برضا صاحبه، فإنه يجوز، ويكون إقالة للسلم فيما أخذ من رأس المال، ويبقى السلم في الباقي، وهو قول عامة العلماء. وقال مالك وابن أبي ليلى: ليس له ذلك، فهو إما أن يأخذ جميع رأس المال، أو يأخذ جميع المسلم فيه. وفي بيع العين إذا أقال في البعض دون البعض، جاز بالاجماع. وأجمعوا أنه لو أخذ جميع رأس المال، برضا صاحبه، أو أقال جميع السلم، أو تصالحا على رأس المال، فإنه يكون إقالة صحيحة، وينفسخ السلم. ولو أخذ بعض رأس المال، قبل محل الأجل، ليعجل باقي السلم، فإنه لا يجوز كذا ذكر في الكتاب، ومعناه أنه لا يجوز هذا الشرط،
18 وتصح الإقالة، لأنه يصير في معنى الاعتياض عن الأجل، فيكون شرطا فاسدا، إلا أن الإقالة لا تبطل بالشروط الفاسدة، وهذا على قياس قول أبي حنيفة ومحمد. فأما على قياس قول أبي يوسف: فتبطل الإقالة، والسلم كله باق، إلى أجله، لان عنده الإقالة بيع جديد، والبيع يبطل بالشروط الفاسدة. ومنها: أن المسلم إليه إذا أبرأ رب السلم عن رأس المال، لا يصح، بدون قبول رب السلم، وإذا قبل يصح الابراء، ويبطل السلم، لأنه فات قبض رأس المال، لأنه لا يتصور قبضه بعد صحة الابراء. ولو رده أو لم يقبله بقي عقد السلم صحيحا، فله أن يسلم رأس المال قبل الافتراق، حتى لا يفسد. ولو أبرأ عن ثمن المبيع، صح من غير قبول، إلا أنه يرتد بالرد. والفرق هو أن قبض رأس المال، في المجلس شرط صحة عقد السلم، فلو صح الابراء، من غير قبول الآخر، لانفسخ السلم من غير رضا صاحبه، وهذا لا يجوز، بخلاف الثمن، لان قبضه ليس بشرط. ولو أبرأ عن المسلم فيه جاز، لان قبضه ليس بشرط، والابراء عن دين، لا يجب قبضه شرعا، إسقاط لحقه لا غير فيملك ذلك. ولو أبرأ عن المبيع، لا يصح، لان الابراء، عن الأعيان، لا يصح. ومنها: أن الحوالة برأس مال السلم، والكفالة به، والرهن به، وبالمسلم فيه أيضا جائز عندنا. وعند زفر: يجوز بالمسلم فيه، ولا يجوز برأس المال. وعن الحسن البصري أنه لا يجوز ذلك كله، لا برأس المال، ولا بالمسلم فيه.
19 وعلى هذا الخلاف: الحوالة، والكفالة، والرهن بأحد بدلي الصرف. ثم متى جاز ذلك عندنا يجب أن يقبض المسلم إليه رأس المال من الحويل والكفيل أو من رب السلم، أو يهلك الرهن قبل أن يتفرقا عن المجلس، وقيمة الرهن مثل رأس المال أو أكثر، حتى يحصل الافتراق عن قبض رأس المال، فيجوز، ولا يبطل العقد. وأما إذا تفرق رب السلم والمسلم إليه، قبل القبض، يبطل السلم، وإن بقي الحويل والكفيل مع رب السلم. ولو ذهب الحويل والكفيل، وبقي المسلم إليه مع رب السلم، لا يبطل السلم، والعبرة لبقاء العاقدين وافتراقهما. وكذلك في باب الصرف، العبرة لبقاء العاقدين. وكذلك في الرهن، إذا لم يهلك حتى تفرقا، يبطل السلم، لانعدام قبض رأس المال. هذا في جانب رأس المال. فأما في جانب المسلم فيه، فالمحيل يبرأ بنفس عقد الحوالة، ويبقى تسليم المسلم فيه واجبا على المحتال عليه إذا حل الأجل، فإذا حل الأجل يطالب رب السلم المحتال، عليه ولا سبيل له على المحيل. وفي الكفالة رب السلم بالخيار إن شاء طالب الأصيل، وإن شاء طالب الكفيل، وله أن يحبس الرهن حتى يأخذ المسلم فيه. ومنها: أن المسلم إليه إذا قال بعد قبض رأس المال إنه زيوف أو نبهرجة أو مستحق أو ستوقة أو معيب، فلا يخلو إما إن صدقه رب السلم أو كذبه.
20 أما إذا صدقه، فله حق الرد، ثم لا يخلو إما إن كان رأس المال عينا أو دينا: فإن كان عينا فاستحق في المجلس أو رد بالعيب بعد الافتراق، ولم يجز لمستحق، ولم يرض المسلم إليه بالعيب فإنه يبطل السلم، لأن العقد وقع على العين. فإذا لم يجز، فقد فات البدل، فصار كما لو هلك المبيع قبل القبض. ولو أجاز المستحق أو رضي المسلم إليه بالعيب، جاز، لأنه سلم له البدل من الأصل. فأما إذا كان رأس المال دينا فقبضه ثم وجده ستوقة أو رصاصا أو مستحقا أو زيوفا أو نبهرجة فلا يخلو إما إن وجد ذلك في مجلس السلم أو بعد الافتراق، ولا يخلو إما إن تجوز بذلك المسلم إليه أو لم يتجوز. أما إذا وجد ستوقة أو رصاصا في المجلس، فتجوز به فلا يجوز، لان هذا ليس من جنس حقه، فيكون استبدالا برأس المال قبل القبض، فصار كما لو استبدل ثوبا من رب السلم مكان الدرهم. فأما إذا رده وقبض شيئا آخر مكانه، جاز، لأنه لما رده وانتقض قبضه، جعل كأن لم يكن، وأخر القبض إلى آخر المجلس، فإن ذلك جائز كذلك هذا. وأما إذا وجد ذلك مستحقا، فإن صحة القبض موقوفة على إجازة المستحق إن أجاز جاز، وإن لم يجز بطل. فأما إذا وجد زيوفا أو نبهرجة فإن تجوز بها جاز، لأنها من جنس حقه، فيصير مستوفيا مع النقصان. وإن رده واستبدل مكانه في مجلس العقد جاز، لأنه وجد مثله في
21 المجلس، فكان القبض متأخرا. هذا الذي ذكرنا إذا كان ذلك في مجلس السلم. فأما إذا كان بعد تفرقهما، فإن وجد شيئا من رأس المال ستوقة أو رصاصا، بطل السلم بقدره، قل أو كثر، كيفما كان، لأنها ليست من جنس حق المسلم إليه فظهر أن الافتراق حصل من غير قبض رأس المال، بقدر الستوقة، فيبطل بقدره ولا يعود جائزا بالقبض بعد المجلس، كما لو لم يقبض أصلا ثم قبض بعد الافتراق. وإن وجد ذلك مستحقا: إن أجاز المستحق، جاز، لان القبض موقوف على إجازته، إذا كان رأس المال قائما، نص على ذلك في الجامع الكبير، وإن رد، بطل السلم بقدره، لما ذكرنا أن القبض موقوف. وأما إذا وجد ذلك زيوفا أو نبهرجة إن تجوز به جاز، وإن لم يتجوز به ورده: أجمعوا على أنه إن لم يستبدل في مجلس الرد، بطل السلم بقدر ما رد. فأما إذا استبدل مكانه جيادا في مجلس الرد فالقياس أن يبطل السلم بقدره، قال المردود أو كثر، وبه أخذ زفر. وفي الاستحسان لا يبطل، قل أو كثر، وهو قول أبي يوسف ومحمد. وأبو حنيفة أخذ في الكثير بالقياس، وفي القليل بالاستحسان. وكذلك على هذا الخلاف أحد المتصارفين إذا وجد شيئا مما قبض زيوفا ورده بعد المجلس. ثم اتفقت الروايات عن أبي حنيفة أن ما زاد على النصف كثير، وما دونه فهو قليل.
22 وأما في النصف فذكر في الأصل وجعله في حكم القليل في موضع، وحكم الكثير في موضع. وروي في النوادر أنه قدره بالثلث فصاعدا وهو الأصح. هذا الذي ذكرنا حكم رأس المال فأما حكم المسلم فيه إذا وجد رب السلم بالمسلم فيه عيبا بعد ما قبضه فإن له خيار العيب، إن شاء تجوز به، وإن شاء رده، ويأخذ منه السلم غير معيب، لان حقه في السليم دون المعيب. إلا أن خيار الشرط والرؤية لا يثبت في السلم، على ما ذكرنا في جانب رأس المال. هذا إذا صدقه رب السلم، فأما إذا كذبه وأنكر أن تكون الدراهم التي جاء بها من دراهمه التي أعطاها، وادعى المسلم إليه أنها من دراهمه، فهذا لا يخلو من ستة أوجه: إما إن كان المسلم إليه أقر ذلك، قبل ذلك، فقال: قبضت الجياد، أو: قبضت حقي، أو: قبضت رأس المال، أو: استوفيت الدراهم، أو: قبضت الدراهم، أو: قال قبضت، ولم يقل شيئا آخر. ففي الفصول الأربعة الأولى لا تسمع دعواه بعد ذلك أني وجدته زيوفا، ولم يكن له حق استحلاف رب السلم بالله: إنها ليست من دراهمك التي قبضتها منك، لأنه بإقراره بقبض الجياد، يصير مناقضا في دعواه، لأنه أقر بقبض الجياد، ثم قال: لم أقبض الجياد بل هي زيوف، والمناقضة تمنع صحة الدعوى، والحلف بناء على الدعوى الصحيحة. وأما إذا قال المسلم إليه: قبضت الدراهم، ثم قال: هي زيوف فالقياس أن يكون القول قول رب السلم: إنها ليست من دراهمه مع يمينه
23 على ذلك، وعلى المسلم إليه البينة أنها من الدراهم التي قبضها منه، لان المسلم إليه يدعي أنها مقبوضة مع العيب، ورب السلم ينكر أنها مقبوضة، أو أنها التي قبضها منه، ويكون القول قول المنكر مع يمينه. وفي الاستحسان: القول قول المسلم إليه مع يمينه، وعلى رب السلم البينة أنه أعطاه الجياد، لان رب السلم بإنكاره أنها ليست من دراهمه يدعي إيفاء حقه، وهو الجياد، والمسلم إليه بدعواه أن هذه الدراهم: قبضتها منك وإنها زيوف، ينكر قبض حقه، فيكون القول قوله مع يمينه أنه لم يقبض حقه، وعلى المدعي البينة أنه أوفاه حقه. وهذا هو القياس في الفصول الاخر إلا أن ثمة سبق منه ما يناقض دعواه، وهو الاقرار بالجياد، وههنا لم يسبق، لان ذكر قبض الدراهم يقع على الزيوف والجياد جميعا، بخلاف الفصول الأولى. وأما إذا قال: قبضت لا غير، ثم قال: وجدته زيوفا، يكون القول قوله، كما قلنا في الفصل الأول، إلا أن ههنا إذا قال: وجدته ستوقة أو رصاصا، فإنه يصدق، بخلاف ما إذا قال: قبضت الدراهم، ثم قال: وجدتها ستوقة أو رصاصا، فإنه لا يقبل قوله، لان في قوله قبضت إقرارا بمطلق القبض، والستوقة تقبض، فبقوله: ما قبضته ستوقة، لا يكون مناقضا، وفي قوله: قبضت الدراهم، يصير مناقضا لقوله: قبضت الستوقة والرصاص، لأنه خلاف جنس الدراهم.
24 باب الربا الربا (1) نوعان: ربا الفضل وربا النساء. فالأول: هو فضل عين مال على المعيار الشرعي، وهو الكيل والوزن، عند اتحاد الجنس. والثاني: هو فضل الحلول على الأجل، وفضل العين على الدين، في المكيلين والموزونين عند اختلاف الجنس، أو في غير المكيلين وغير الموزونين عند اتحاد الجنس. وعلة ربا الفضل هي القدر المتفق مع الجنس، أعني الكيل في المكيلات، والوزن في الأثمان والمثمنات. وعلة ربا النساء هي وجود أحد وصفي علة ربا الفضل، وهي الكيل في المكيلات أو الوزن المتفق، أعني أن يكونا ثمنين أو مثمنين، لان وزن الثمن يخالف وزن المثمن. وهذا عندنا، وعند الشافعي: ربا الفضل هو الفضل المطلق من حيث الذات، أو حرمة بيع المطعوم بجنسه، ثم التساوي، في المعيار الشرعي مع اليد، مخلص عن هذه الحرمة، بطريق الرخصة. وربا النساء هو فضل الحلول في المطعومات والأثمان.
(1) من ربا المال أي زاد وينسب إلى الربا فيقال ربوي بكسر الراء والفتح خطا فيقال الأشياء الربوية. 25 وعلة ربا الفضل هي الطعم في المطعومات، والثمنية في الأثمان المطلقة، وهي الذهب والفضة والجنس شرط. وعلة ربا النساء هي علة ربا الفضل، دون الجنس، وهي الطعم أو الثمنية. ودلائل هذه الجملة تعرف في الخلافيات. وفائدة الخلاف في ربا الفضل تظهر في فصلين: أحدهما: في بيع مطعوم بجنسه غير مقدر، كبيع الحفنة بالحفنتين والسفرجلة بالسفرجلتين والبطيخة بالبطيختين ونحوها، يجوز عندنا لعدم القدر، ولا يجوز عنده لوجود العلة وهي الطعم. والثاني: في بيع مقدر بمقدر غير مطعوم، كبيع قفيز جص بقفيزي جص، أو من من حديد بمنوي حديد، ونحوهما، لا يجوز عندنا في الجص، لوجود علة ربا الفضل، وهي الكيل والجنس، وعنده يجوز لعدم العلة وهي الطعم. وفي الحديد لا يجوز عندنا لوجود الوزن والجنس، وعنده يجوز لعدم الثمنية والطعم. وأجمعوا أنه لو باع قفيز أرز بقفيزي أرز، لا يجوز، لوجود الكيل والجنس عندنا، ولوجود الجنس والطعم عنده. وأجمعوا أنه إذا باع من زعفران، أو من سكر بمنوي سكر، لا يجوز لوجود الوزن والجنس عندنا، ولوجود الطعم والجنس عنده. وأما فروع ربا النساء وفائدة الخلاف بيننا وبين الشافعي أنه إذا باع قفيز حنطة بقفيزي شعير نسيئة مؤجلة، أو دينا موصوفا في الذمة غير مؤجل، لا يجوز بالاجماع، لوجود علة ربا النساء، وهي أحد وصفي علة ربا الفضل، وهي الكيل عندنا، والطعم عنده.
26 وإذا باع قفيز جص بقفيزي نورة، مؤجلا بأن أسلم، أو غير مؤجل بأن باع دينا في الخدمة، ولا يجوز عندنا لوجود الكيل وعنده يجوز لعدم الطعم. ولو أسلم من حديد في مني حديد، لا يجوز عندنا، لوجود الوزن المتفق، لكونهما موزونين، وعنده يجوز لعدم الطعم والثمنية. ولو باع من سكر بمن زعفران، دينا في الذمة لا يجوز بالاجماع، لوجود أحد وصفي علة ربا الفضل، وهو الوزن المتفق عندنا، لأنهما مثمنان، ولوجود الطعم عنده. ولو أسلم دراهم في زعفران أو في قطن أو حديد، فإنه يجوز بالاجماع، أما عندنا فلانه لم يوجد الوزن المتفق، فإن الدراهم توزن بالمثاقيل، والقطن والحديد والزعفران يوزن بالقبان. ولو أسلم نقرة فضة في نقرة ذهب لا يجوز بالاجماع، لوجود الوزن المتفق عندنا، فإنهما يوزنان بالمثاقيل، وعنده لوجود الثمنية. ولو أسلم الحنطة في الزيت، جاز عندنا، لان أحدهما مكيل والآخر موزون، فكانا مختلفين قدرا، على قوله لا يجوز لوجود الطعم. فأما تفسير الجنس بانفراده، إذا أسلم ثوبا هرويا (1) في ثوب هروي، لا يجوز عندنا، لان الجنس أحد وصفي علة ربا الفضل، فيحرم النساء، وعند الشافعي يجوز، لان الجنس عنده شرط. ولو أسلم ثوبا هرويا في ثوب مروي (2) جاز، بالاجماع، لأنه لم يوجد
(1 و 2) ثوب هروي بالتحريك ومروي بالسكون منسوب إلى هراة ومرو - وهما قريتان بخراسان. وقيل: على شط الفرات. 27 الجنس، ولا الوزن المتفق، ولا الطعم، ولا الثمنية. ولو أسلم جوزة في جوزة أو سفرجلة في سفرجلة، لا يجوز بالاجماع لوجود الجنس عندنا ولوجود الطعم عنده. ثم فرق بين المكيل والموزون وبين الثوب والثوب من وجه، وهو أن ربا النساء لا يتحقق في الثوب إلا بطريق السلم، لان الثياب لا تثبت دينا في الذمة، إلا سلما، فأما في المكيل والموزون فيتحقق ربا النساء مؤجلا وحالا دينا موصوفا في الذمة. بيانه: لو أسلم ثوبا هرويا في ثوب هروي، لا يجوز لأنه مؤجل. ولو باع ثوبا هرويا، بثوب هروي موصوف في الذمة حالا، لا يجوز، لأنه لا يجوز أن يكون ثمنا إلا باعتبار ربا النساء. ولو باع قفيز حنطة بعينها، بقفيزي، شعير موصوف في الذمة دينا غير مؤجل، لا يجوز، لأن العين خير من الدين وإن كان حالا.
28 باب الشراء والبيع يحتاج في هذا الباب إلى: بيان ركن البيع والشراء، وبيان شروطه، وبيان أقسامه، وبيان حكمه شرعا. أما بيان الركن فهو الايجاب من البائع، والقبول من المشتري، إلا أن ذلك قد يكون بلفظين، وقد لا يتحقق إلا بثلاثة ألفاظ . أما ما يتحقق بلفظين فقد يكون بدون النية، وقد يكون مع النية. أما من غير النية، فبأن يكون اللفظان بصيغة الماضي، نحو أن يقول البائع: بعت منك هذا العبد بكذا " فقال المشتري " ابتعت، أو " اشتريت " أو ما يؤدي معناه كقوله أخذت وقبلت ورضيت وفعلت ونحو ذلك لان هذا في عرف أهل اللغة والشرع مستعمل لايجاب الملك للحال بعوض، وإن كان بصيغة الماضي. وكذلك إذا بدأ المشتري فقال: اشتريت منك هذا العبد بكذا، فقال البائع: بعته منك أو أعطيته أو بذلته أو رضيت أو " هو لك ".
29 وأما الذي لا ينعقد بدون النية فأن يخبر عن نفسه في المستقبل، بلفظة الاستقبال وهو أن يقول البائع: أبيع منك هذا العبد بألف، أو أبذله أو أعطيكه. فقال المشتري اشتريه بذلك، أو آخذه ونويا الايجاب للحال، أو كان أحدهما بلفظ الماضي والآخر بلفظ المستقبل، مع نية الايجاب للحال، فإنه ينعقد البيع، لان صيغة الاستقبال تحتمل الحال فصحت النية. وإن كان أحدهما بلفظ الاستفهام، بأن قال: أتبيع مني هذا الشئ؟ فقال: بعت، ونوى، لا ينعقد البيع، لان لفظ الاستفهام لا يستعمل للحال إذا أمكن العمل بحقيقة الاستفهام. فأما إذا كان بلفظين يعبر بهما عن المستقبل، إما على سبيل الامر، أو الخبر أو بأحدهما من غير نية الحال، فإنه لا ينعقد البيع عندنا، وذلك أن يقول البائع: اشتر مني هذا العبد بألف درهم، فقال المشتري: اشتريت، أو قال المشتري: بع مني هذا العبد، فقال " بعت "، أو قال البائع: أبيع هذا العبد منك بألف درهم، فقال المشتري: اشتريت. وفي باب النكاح إذا كان أحد اللفظين يعبر به عن الامر أو الخبر في المستقبل، بأن قال: زوجيني نفسك بألف درهم فقالت: زوجت، أو قال الزوج: أتزوجك على ألف درهم، فقالت: زوجت نفسي منك بذلك، ينعقد النكاح. وقال الشافعي: البيع والنكاح سواء: ينعقدان بلفظين يعبر بأحدهما عن الماضي والآخر عن الحال من غير نية. فأما إذا كان أحد اللفظين بطريق الاستفهام، فإنه لا ينعقد النكاح والبيع بالاجماع.
30 والصحيح مذهبنا، فإن البيع في العرف غالبا لا يكون بناء على مقدمات، ولفظ المستقبل للعدة في الأصل، ولفظ الامر للمساومة، فيحمل على حقيقته إلا بدليل. ولم يوجد، بخلاف النكاح فإنه بناء على مقدمة الخطبة، فلا يحمل على المساومة بدلالة العادة. وأما إذا وجد ثلاثة ألفاظ: بأن قال المشتري: بع عبدك هذا مني بألف درهم، فقال البائع: بعت فقال المشتري: اشتريت، فإنه ينعقد بالاجماع. فأما إذا تبايعا وهما يمشيان أو يسيران على دابة واحدة أو دابتين، فإن كان الايجاب والقبول متصلين وخرج الكلامان من غير فصل بينهما، فإنه يصح البيع، فأما إذا كان بينهما فصل وسكوت، وإن قل، فإنه لا يصح، لان المجلس يتبدل بالمشي والسير، هكذا قال عامة مشايخنا، وقاسوا على آية السجدة (1)، وخيار المخيرة. وقال بعض مشايخنا: إذا تبايعا في حال السير والمشي، فوجد الايجاب منفصلا عن القبول فإنه ينعقد ما لم يفترقا بأبدانهما، وإن وجد القبول بعد الافتراق لا يجوز، لان القيام عن المجلس دليل الاعراض عن الجواب، فأما السير بلا افتراق فليس بدليل الاعراض، فصح القبول، ويكون جوابا، وهكذا قالوا في خيار المخيرة. أما في تلاوة السجدة فبخلافه، لان الأصل أن تجب السجدة لكل تلاوة، لكن جعلت التلاوات كتلاوة واحدة، عند اتحاد المجلس، والمجلس يختلف بالسير حقيقة.
(1) بمعنى " انه لو قرأ آية سجدة وهو يمشى على الأرض أو يسير على دابة لا يصلى عليها مرارا يلزمه لكل قراءة سجدة - وكذا لو خير امرأته وهي تمشى على الأرض أو تسير على دابة لا يصلى عليها فمشيت أو سارت يبطل خيارها لتبدل المجلس وان اختارت نفسها متصلا بتخيير الزوج صح اختيارها لان المجلس لم يتبدل ". (الكاساني)، 5: 137: 19). 31 ولو وقفا وتبايعا، جاز، وإن وجد القبول بعد الايجاب بسكتة، لاتحاد المجلس. فأما إذا وقفا فأوجب أحدهما البيع، فسار الآخر ولم يقبل، ثم قبل بعد ذلك لا يصح ويجعل سيره دليل الاعراض. وكذا لو سار البائع قبل أن يقبل المشتري، لأنه دليل الاعراض أيضا، وإنه يملك الرجوع في إيجاب البيع. ولو خير امرأته بعد ما وقفا، ثم سار الرجل، وبقيت المرأة واقفة، فلها الخيار، لان العبرة بجانبها، فما دامت في مجلسها، فلم يوجد منها دليل الاعراض، وكلام الزوج لا يبطل بالاعراض. هذا إذا كان العاقدان حاضرين في المجلس. فأما إذا كان أحدهما غائبا، فوجد من أحدها البيع أو الشراء، فإنه لا يتوقف. بيانه: أن من قال: بعت عبدي هذا من فلان الغائب بألف درهم، فبلغه الخبر، فقبل، لا يصح، لان شطر البيع لا يتوقف بالاجماع. ولو قال: بعت عبدي هذا بألف درهم من فلان، بين يدي رجل وقال له: اذهب إلى فلان وقل له: إن فلانا باع عبده فلانا منك بألف درهم، فجاء الرسول وأخبره بما قال، فقال المشتري في مجلسه ذلك: اشتريت أو قبلت، تم البيع بينهما، لان الرسول معبر وسفير، فينقل كلامه إليه، فإذا اتصل به الجواب، ينعقد. وكذا الكتاب على هذا بأن كتب إلى رجل وقال أما بعد، فقد بعت عبدي فلانا منك بألف درهم فلما بلغه الكتاب وقرأ وفهم ما فيه، قال في مجلسه ذلك: اشتريت أو قبلت ينعقد البيع لان الخطاب والجواب، من الغائب بالكتاب يكون.
32 وعلى هذا الجواب في الإجارة والهبة والكتابة فأما في الخلع، والعتق على مال، فإنه يتوقف شطر العقد من الزوج والمولى على قبول الآخر وراء المجلس، بالاجماع، فإن من قال: خلعت امرأتي فلانة الغائبة على ألف درهم، فبلغها الخبر، فأجازت، أو قبلت، صح. وكذا إذا قال: أعتقت عبدي فلانا الغائب بألف درهم فإنه يتوقف على إجازة العبد. فأما في جانب المرأة والعبد: فلا يتوقف إذا كان الزوج و المولى غائبين. فأما في النكاح فلا يتوقف الشطر عند أبي حنيفة ومحمد. وعلى قول أبي يوسف: يتوقف. ثم في كل موضع لا يتوقف شطر العقد، فإنه يجوز من العاقد الرجوع عنه، ولا يجوز تعليقه بالشروط والاخطار، لأنه عقد معاوضة. وفي كل موضع يتوقف شطر العقد، كالخلع والعتق على مال، لا يصح الرجوع عنه، ويصح التعليق بالشروط، لأنه في جانب الزوج والمولى بمنزلة التعليق، وفي جانبها بمنزلة المعاوضة. وأما بيان الشروط فللبيع شروط: منها: شرط الأهلية، من العقل والبلوغ، حتى لا ينعقد البيع من الطفل، والمجنون. فأما الصبي العاقل والمعتوه فمن أهل البيع، حتى لو وكلا بالبيع
33 والشراء وباعا جاز ونفذ عندنا، خلافا للشافعي. ومنها: شرط الانعقاد، وهو المحل، وهو أن يكون مالا متقوما، حتى لو باع الخمر والخنزير والميتة والدم وجلد الميتة، فإنه لا يجوز أصلا، حتى لا يملك بالقبض، بخلاف ما إذا كانت هذه الأشياء ثمنا فإنه ينعقد البيع بالقيمة. ومنها: شرط النفاذ، وهو الملك أو الولاية، حتى إذا باع ملك نفسه نفذ، ولو باع الوكيل نفذ لوجود الولاية. وأما أقسام البيع، فنقول: هو في الأصل قسمان: بيع نافذ، وبيع موقوف. فأما البيع النافذ فهو أن يوجد الركن مع وجود شرط الانعقاد والنفاذ جميعا. وأما البيع الموقوف فهو أن يوجد الركن مع وجود شرط الانعقاد والأهلية، لكن لم يوجد شرط النفاذ، وهو الملك والولاية. بيانه: أن الفضولي إذا باع مال غيره من إنسان، أو اشترى لغيره شيئا معينا، فإنه يتوقف على إجازته عندنا. وقال الشافعي: لا يتوقف. ولقب المسألة أن العقود والفسوخ من الفضولي تتوقف على إجازة المالك. وإنما ينعقد عندنا على التوقف، كل عقد له مجيز حالة العقد، فأما إذا لم يكن له مجيز، فإنه لا يتوقف، حتى إن الطلاق والعتاق، في حق البالغ، من الفضولي فهو على الخلاف، لان له مجيزا في الحال. فأما إذا وجد الطلاق العتاق والتبرعات من الفضولي البالغ في امرأة
34 الصبي والمجنون ومالهما، فإنه لا يتوقف، لأنه ليس له مجيز في حالة العقد، لأنهما ليسا من أهل الطلاق والعتاق والتبرعات، وكذلك وليهما، وكذلك الأب والوصي إذا أعتقا أو طلقا عبد الصبي أو امرأته. ثم إنما يجوز العقد الموقوف إذا كان المحل قابلا لانشاء البيع حالة الإجازة. فأما إذا لم يكن قابلا فلا، بأن هلك المحل، بالإجازة ينفذ للحال، مستندا إلى ما قبله، فلا بد من المحل في الحال. وكذا الجواب لو كان العاقدان فضوليين، فإنه يتوقف أيضا على إجازة المالكين. وكذلك الجواب في النكاح. ولو كان الفضولي الواحد باع عبد إنسان من إنسان، وهما غائبان، وقبل عن المشتري أيضا فإنه لا يتوقف. وفي النكاح إذا قبل عنهما لا يتوقف أيضا. وبعض مشايخنا قالوا: ينبغي أن يتوقف عند أبي حنيفة ومحمد، وإنما الخلاف فيما إذا زوج رجل امرأة ولم يقبل منه، لان الواحد يجوز أن يكون وكيلا من الجانبين ولا يتوقف في النكاح، ويجوز أن يكون وليا من الجانبين. بأن زوج ابنة أخته من ابن أخيه، والإجازة اللاحقة بمنزلة الوكالة السابقة، بخلاف البيع، فإن الواحد لا يجوز أن يكون وكيلا من الجانبين، فلا يتوقف من رجل واحد، وإن وجد منه الايجاب والقبول جميعا. ثم إنما جاز أن يكون الرجل وليا ووكيلا من الجانبين في النكاح، وفي البيع لا يجوز أن يكون وكيلا من الجانبين، وإما يجوز أن يكون وليا من الجانبين، فإن الأب إذا اشترى مال الصبي لنفسه، أو باع ماله من
35 الصبي، بمثل قيمته أو بغبن يسير يتغابن الناس في مثله: فإنه يجوز. وكذلك الوصي: إذا اشترى مال الصبي لنفسه، أو باع مال نفسه من الصبي، وفيه نفع ظاهر للصبي، جاز، بلا خلاف. فأما إذا كان بمثل القيمة جاز عند أبي حنيفة، وعند محمد لا يجوز. وأما إذا كان بدون القيمة فلا يجوز، بلا خلاف. والفرق بين الفصول أن الولي والوكيل في باب النكاح بمنزلة الرسول، لأنه لا يرجع إليه حقوق العقد، فأما الوكيل في باب البيع فأصل في حق الحقوق، وللبيع حقوق متضادة، من التسليم والتسلم، فلا يجوز أن يكون الواحد، في شئ واحد، في زمان واحد مسلما ومتسلما، بخلاف الأب الوصي، لان ثم جعلناهما كشخصين لاختلاف الولايتين. ولو باع العبد المحجور مال مولاه من إنسان بثمن معلوم، فإنه يتوقف على إجازة مولاه، لأنه بمنزلة الأجنبي. ولو أذن له بالتصرف في البيع والشراء وأجاز ذلك، لا ينفذ إلا بإجازة المولى، لان العبد المأذون لا يملك بيع مال المولى وإنما يملك الشراء. ولو اشترى عبدا لمولاه، بغير إذنه، فإنه يتوقف على إجازته، ولو أذن له بالتصرف نفذ الشراء على مولاه، من غير إجازة مبتدأة لذلك، لأنه بالاذن ملك إنشاء الشراء في حقه، فيملك الإجازة. وعلى هذا: الصبي العاقل إذا باع ماله وهو محجور فإنه ينعقد تصرفه موقوفا على إجازة وليه، وعلى إذن وليه بالتصرف أيضا، وعلى بلوغه أيضا، لان في انعقاده فائدة، لوجود المجيز للحال، وهو الولي
36 . وهذا في التصرفات الدائرة بين الضرر والنفع كالبيع والإجارة، فأما التصرفات الضارة، كالطلاق، والعتاق، والهبة، والصدقة، والاقرار، فإنه لا تصح ولا تتوقف، لان الولي لا يملك هذه التصرفات فلا مجيز لها الحال. وأما التصرفات النافعة، كالاحتطاب، والاحتشاش، والاصطياد وقبول الهبة والصدقة، فتصح منهما من غير إذن. وأما حكم البيع فهو ثبوت الملك في المبيع للمشتري، وثبوت الملك في الثمن للبائع، إذا كان البيع باتا من غير خيار. فأما إذا كان فيه خيار الرؤية، أو العيب، أو خيار الشرط، فالجواب على ما نذكر. ثم إذا كان البيع باتا فلا يملك أحدهما الفسخ بدون رضا صاحبه، وإن لم يتفرقا عن المجلس، وهذا عندنا. وقال الشافعي: لهما خيار الفسخ ما لم يتفرقا عن المجلس. ولقب المسألة أن خيار المجلس هل هو ثابت شرعا؟ فعندنا غير ثابت، وعنده ثابت والمسألة معروفة. فإذا ثبت الملك في الطرفين، أعني في المبيع والثمن جميعا، وحكم المبيع يخالف، حكم الثمن، فيما سوى ثبوت الملك، فلا بد من بيان الثمن والمبيع فنقول: إن المبيع، في الأصل، ما يتعين بالتعيين، والثمن في الأصل ما لا يتعين بالتعيين، وإن كان قد يتعين بعارض فيصير المبيع دينا، كما في
37 السلم، ويصير الثمن عينا، كبيع العين بالعين. لكن الثمن المطلق هو الدراهم والدنانير، وإنما لا يتعينان في عقود المعاوضات، في حق الاستحقاق، وإن عينت، وتتعين في حق بيان القدر والجنس والصفة، وهذا عندنا، وقال زفر والشافعي: تتعين. وأجمعوا أنهما إذا كانتا في الذمة لا يتعينان، وإذا عينتا فعندهما حكمهما كحكم المبيع. وأجمعوا أنهما يتعينان في الغصوب، والأمانات، والوكالات. وبيان ذلك: أن من باع عبدا بألف درهم، وعينها في المجلس، فإن البائع لا يستحق عينها، حتى لو أراد المشتري أن يمنعها ويرد غيرها له ذلك، ولكن تتعين في حق الجنس، حتى تجب عليه الدراهم، وتتعين في حق القدر حتى تجب عليه ألف درهم، وتتعين في حق الصفة، حتى إن الدراهم المعينة في العقد إذا كانت جيدة يجب عليه مثلها جيدة، وإن كانت رديئة فكذلك. والصحيح قولنا، لأنه لا فائدة في استحقاق عينها في المعاوضات، لان المثل يقوم مقامها في كل عوض يكون في عقود المعاوضات، فكان التعيين وتركه سواء في حق استحقاق العين. فأما في تعيين الجنس، والقدر، والصفة، ففيه فائدة، فتتعين. ثم الدراهم والدنانير أثمان أبدا، سواء كانت في مقابلتها أمثالها أو أعيان أخر، صحبتها حرف الباء أو لا حتى إن في الأثمان يصير صرفا، وإذا كانت في مقابلتها السلعة تصير ثمنا، والسلعة مبيع على كل حال، لأنها أثمان مطلقة على كل حال، فلا تتعين بالتعيين.
38 وأما الأعيان التي ليست من ذوات الأمثال، كالثياب، والدور، والعقار، والعبيد، والعدديات المتقاربة كالبطاطيخ والثمار، فهي مبيعة وتتعين بالتعيين، ولا يجوز البيع فيها إلا عينا، إلا فيما يجوز فيه السلم، كالثياب ونحوها، فيكون مبيعا دينا إذا وجد شرائط السلم بالنص لحاجة الناس، بخلاف القياس. ثم الثياب، كما تثبت في الذمة، دينا، مبيعا بطريق السلم، تثبت دينا في الذمة مؤجلا بطريق الثمن، والأجل شرط في الثياب، لا لأنه شرط في الأثمان، ولكن شرط لتصير ملحقة بالثمن في كونها دينا في الذمة. وأما المكيل والموزون، والعددي المتقارب: إن كانت في مقابلتها الأثمان، فهي مبيعة. وإن كانت في مقابلتها أمثالها، أعني المكيل والموزون والعددي المتقارب، فكل ما كان موصوفا في الذمة يكون ثمنا وكل ما كان معينا يكون مبيعا. وإن كان كل واحد منهما موصوفا في الذمة فما صحبه حرف الباء يكون ثمنا، والآخر يكون مبيعا، لان هذا مما يتعين بالتعيين، ويثبت دينا في الذمة أيضا، فيتعين أحد الوجهين بالدليل. فإذا ثبت تفسير المبيع والثمن فنذكر أحكامهما فنقول: منها: إذا هلك المبيع قبل القبض ينفسخ البيع. وإذا هلك الثمن في المجلس قبل القبض، فإن كان عينا مثليا، لا ينفسخ، لأنه يمكن تسليم مثله، بخلاف المبيع، لأنه عين، وللناس أغراض في الأعيان. أما إذا هلك، وليس له مثل في الحال، بأن كان شيئا مما ينقطع عن أيدي الناس، وهو كان موجودا وقت العقد، ثم انقطع قبل القبض:
39 فقد اختلف المشايخ فيه. وأما إذا كسد الثمن، بأن كان الثمن فلوسا فكسدت، أو كسد بعض الدراهم الرائجة، وهو كان ثمنا قبل القبض، فعلى قول أبي حنيفة ينفسخ العقد، وجعل الكساد كالهلاك، لان قيام الثمن من حيث المعنى بالرواج. وعلى قولهما: لا ينفسخ، لكن يخير، إن شاء أخذ قيمته، وإن شاء فسخ وجعلاه كالعيب، ثم اختلفا فيما بينهما، فقال أبو يوسف: يعتبر قيمته يوم العقد، لان الثمن يجب عند العقد، فيضمن قيمته حينئذ. وقال محمد: تعتبر قيمته في آخر ما ترك الناس المعاملة بذلك، لأنه عجز عن التسليم يومئذ. ومنها: أنه لا يجوز التصرف في المبيع المنقول قبل القبض بلا خلاف، وفي العقار المبيع يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد والشافعي لا يجوز. وأما الأثمان، فيجوز التصرف فيها قبل القبض لأنها ديون، وكذلك التصرف في سائر الديون من المهر، والأجرة، وضمان المتلفات، ونحوها، يجوز قبل القبض. ومنها: إذا باع عينا بعين، فإنه يجب عليهما التسليم معا، تحقيقا للمساواة، في المعاوضة المقتضية للمساواة عادة. فأما إذا كان بيع العين بالدين، فإنه يجب تسليم الدين أولا حتى يتعين، ثم يجب تسليم العين ليتساويا، فإذا سلم المشتري الثمن، يجب على البائع تسليم المبيع.
40 ولو هلك المبيع قبل التسليم، فالهلاك يكون على البائع، يعني يسقط الثمن وينفسخ العقد. ولو كان الثمن مؤجلا، يجب تسليم المبيع للحال، لأنه هو الذي أسقط حق نفسه في التأجيل، فلا يسقط حق الآخر. وإن أجل الثمن إلا درهما له أن يحبس كل المبيع، لان حق الحبس مما لا يتجزأ. وكذلك لو أوفى جميع الثمن إلا درهما، أو أبرأه عن جميع الثمن إلا درهما. وكذا في الرهن إذا قبض الدين كله، أو أبرأه إلا درهما، فإنه يحبس كل الرهن حتى يصل إليه الباقي. ولو دفع المشتري إلى البائع بالثمن رهنا، أو كفل به كفيلا، لا يسقط حق الحبس، لان هذا وثيقة بالثمن، فلا يبطل حقه عن حبس المبيع، لاستيفاء الثمن. ولو أحال البائع رجلا على المشتري بالثمن وقبل، سقط حق الحبس. وكذلك إذا أحال المشتري البائع على رجل. وهذا عند أبي يوسف، وعن محمد روايتان، في رواية كما قال أبو يوسف، وقال في رواية: إذا أحال البائع رجلا على المشتري يسقط حق الحبس، وإن أحال المشتري البائع على رجل، لم يسقط حق الحبس، وهي مسألة كتاب الحوالة. ولو أتلف المشتري المبيع في يد البائع، صار قابضا للمبيع، وتقرر عليه الثمن.
41 وكذلك إذا قطع يده أو شج رأسه وكل تصرف نقص منه شيئا. وكذلك لو فعله البائع بإذن المشتري، لان أمره بالاتلاف في ملكه صحيح، وصار فعله منقولا إليه حكما، كأنه فعل بنفسه. ولو أعتق المشتري العبد، وهو في يد البائع، يكون قبضا منه لأنه إتلاف. ولو زوج الأمة المبيعة قبل القبض، فالقياس أن يصير قابضا، لان التزويج عيب في الجواري، وهو قول أبي يوسف. وفي الاستحسان لا يكون قبضا، لأنه ليس بعيب حقيقة. وإن أقر المشتري بالدين على العبد المبيع قبل القبض، لا يكون قبضا، لأنه ليس بتعييب حكمي. ولو زوجها المشتري ووطئها الزوج في يد البائع، يكون قبضا في قولهم، لان وطئ الزوج بإذن المشتري بمنزلة وطئ المشتري. ولو أودع البائع المبيع عند المشتري أو أعاره منه، ففي المشهور من الرواية أنه يسقط حق الحبس وليس له أن يسترده، لان الايداع والإعارة من المالك لا تصح، فيكون هذا تسليما بحكم البيع فيسقط حق الحبس. ولو أودع المشتري من البائع أو أعاره منه، لم يكن ذلك قبضا، لان للبائع حق الحبس بطريق الأصالة، فلا يصح أن يصير نائبا عن غيره. ولو أودع المشتري عند أجنبي وأمر بالتسليم إليه، أو أعاره، يصير قابضا، لان يد أمينه كيده. ولو جنى رجل على المبيع، فاتبع المشتري الجاني، وأخذ الأرش، سقط حق الحبس، ويصير قابضا، حتى لو هلك يكون الهلاك على المشتري، ويصير كأن الجاني فعله بأمره، وهذا قول أبي يوسف.
42 وقال محمد: لا يصير قابضا، ويبقى في ضمان البائع، ويؤمر البائع بالتسليم إليه. هذا الذي ذكرنا إذا كان المبيع في يد البائع، فأما إذا كان في يد المشتري، فباعه المالك منه فنقول: إن كان في يده غصبا، يصير قابضا بنفس الشراء ولا يحتاج إلى تجديد القبض، حتى لو هلك قبل أن يتمكن من قبضه حقيقة، فإنه يهلك على المشتري، لان ضمان الغصب ضمان العين، نظير ضمان البيع فيكون من جنسه، فينوب قبض الغصب عن قبض البيع. ولو باع الراهن المرهون من المرتهن، وهو في حبسه، لا يصير قابضا بنفس الشراء، ما لم يجدد القبض، بأن يمكن من قبضه حقيقة، بأن كان حاضرا في مجلس الشراء أو يذهب إلى بيته ويتمكن من قبضه، لان قبض الرهن قبض أمانة، وإنما يسقط الدين بهلاكه، لا بكونه مضمونا، ولكن بمعنى آخر عرف في موضعه، وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الشراء. وكذلك إذا كان في يده أمانة، مثل الوديعة والعارية والإجارة ونحوها، لم يدخل في ضمان المشتري إلا أن يتمكن من قبض جديد، لان قبض الأمانة لا ينوب عن قبض الضمان. ولو أن المشتري قبض المبيع بغير إذن البائع قبل نقد الثمن، فللبائع أن يسترده حتى يعطيه الثمن، لان للبائع حق الحبس حتى يستوفي الثمن، وقد أبطل حقه بالاخذ، فعليه الإعادة، كالراهن إذا أخذ المرهون من يد المرتهن، له أن يعيده إلى يده كما قلنا. ولو قبض بغير إذن البائع بعد نقد الثمن، ليس له أن يسترده لأنه بطل حق الحبس بإيفاء الثمن، فيكون قبضا بحق. ولو أن المشتري قبضه، بغير إذن البائع قبل إيفاء الثمن، ثم
43 تصرف في المبيع بغير إذن البائع. إن كان تصرفا يحتمل الفسخ، كالبيع، والهبة، والإجارة، والرهن ونحوها فللبائع أن يسترده، لان حق الحبس قائم. فأما إذا تصرف تصرفا لا يحتمل الفسخ، كالاعتاق والتدبير والاستيلاد، فإنه لا يسترده، لأنه لا يبقى حق الحبس، لان المشتري تصرف في ملكه تصرفا لا يحتمل الرد، فنفذ كالراهن إذا أعتق وحبس الحر، أو الحرة من وجه لا يجوز، لأنه لا فائدة في بقاء الحبس.
44 باب البيع الفاسد وما يملك به وما لا يملك في الباب فصلان: أحدهما: في بيان أنواع البيوع الفاسدة. والثاني: في بيان حكمهما. أما الأول فنقول: البيوع الفاسدة أنواع: منها: أن يكون المبيع مجهولا أو الثمن مجهولا جهالة توجب المنازعة، لأنها مانعة عن التسليم والتسلم، وبدونهما يكون البيع فاسدا، لأنه لا يفيد مقصوده. بيانه: إذا اشترى شاة من قطيع، أو اشترى أحد الأشياء الأربعة بكذا، على أنه بالخيار بين أن يأخذ واحدا منها ويرد الباقي، أو اشترى أحد الأشياء الثلاثة، أو أحد الشيئين ولم يذكر فيه الخيار، فأما إذا ذكر الثلاثة أو الاثنين وشرط الخيار لنفسه بين أن يأخذ واحدا ويرد الباقي فهذا جائز استحسانا، اعتبارا بشرط الخيار ثلاثة أيام. وهل يشترط فيه ذكر مدة خيار الشرط؟ اختلف المشايخ فيه، والأصح أنه لا يشترط. وكذا إذا باع العبد بمائة شاة من هذا القطيع ونحوه، لا يجوز، لجهالة الثمن.
45 فأما الجهالة التي تفضي إلى المنازعة فلا تمنع الجواز، فإنه إذا باع قفيزا من صبرة معينة بدراهم، أو باع هذا العدل من الثياب بكذا ولا يعرف عددها، أو باع هذه الصبرة بكذا ولا يعلم عدد القفزان، جاز لما ذكرنا. وعلى هذا: إذا اشترى شيئا لم يره، بأن اشترى فرسا مجللا، أو جارية منتقبة، أو كرى حنطة في هذا البيت، أو عبدا تركيا في هذا البيت، فإنه يجوز إذا وجد كذلك وللمشتري الخيار إذا رآه. وعند الشافعي: فاسد. ولو باع هذا العبد بقيمته فهو فاسد، لان القيمة تعرف بالحز والظن. وكذا لو اشترى عدل زطي أو جراب هروي، بقيمته، لما قلنا. ولو اشترى بحكم البائع أو المشتري، أو بحكم فلان فهو فاسد لان الثمن مجهول. وكذلك لو اشترى شيئا بألف درهم إلا دينار، أو بمائة دينار إلا درهما، لان معناه: إلا قدر قيمة الدينار وهذه جهالة مفضية إلى المنازعة. ولو باع وقال: هو بالنسيئة كذا وبالنقد كذا، فهو فاسد لان الثمن مجهول. وكذا لو قال: بعت إلى أجل كذا أو كذا فهو فاسد لان الأجل مجهول. ولو باع إلى الحصاد والدياس، أو إلى رجوع الحاج وقدومهم، فالبيع
46 فاسد لما ذكرنا. ولو باع عدل زطي برأس ماله، أو برقمه، ولا يعلم المشتري رقمه ولا رأس ماله، فهو فاسد لان الثمن مجهول. فإن علم رأس ماله أو رقمه في المجلس فإنه يعود البيع جائزا استحسانا، خلافا لزفر، كما في الحصاد والدياس، أو بشرط الخيار إلى شهر، إلا أن الفرق أن هناك إذا رفع المفسد قبل مجئ الحصاد والدياس، وقبل مجئ اليوم الرابع، يعود إلى الجواز، سواء كان في مجلس العقد أو بعد المجلس، وفي الرقم يشترط لانقلاب البيع جائزا ارتفاع المفسد في المجلس. ومنها: أن يكون المبيع محرما أو ثمنه، بأن باع الخمر، أو الخنزير، أو باع بهما، فإنه لا يجوز. وكذا المحرم إذا باع صيدا مملوكا، أو اشترى بصيد مملوك، لان الحرام لا يصلح مبيعا وثمنا، غير أنه إذا كان مبيعا، يكون البيع باطلا، وإذا كان ثمنا ينعقد البيع بالقيمة عندنا بيعا فاسدا. وأما إذا ذكر الميتة والدم ثمنا فقد اختلف المشايخ فيه. ومنها: إذا تعلق بالمبين حق محترم للغير لا يملك البائع إبطاله، يكون البيع فاسدا نحو أن يبيع الراهن المرهون، أو المؤاجر المستأجر. واختلفت العبارة في هذه المسألة في الكتب ذكر في بعضها أن البيع فاسد. وفي بعضها أنه موقوف، على إجازة المرتهن والمستأجر، وهو الصحيح حتى إن الراهن لا يقدر على فسخه، وكذلك المؤاجر، وكذا المرتهن والمستأجر لا يملكان الفسخ، ويملكان الإجازة. وإذا انقضت هذه الإجارة، أو أفتك الراهن الرهن يثبت الملك للمشتري. ومنها: أن المبيع إذا كان لا يقدر على تسليمه وقت العقد، مثل الطير
47 الذي طار عن يده، أو العبد الآبق، واللقطة، والمغصوب، يكون البيع فاسدا. ولو قدر على التسليم في المجلس، لا يعود إلى الجواز لأنه وقع فاسدا. وكذلك إذا جعله ثمنا، لان الثمن إذا كان عينا فهو مبيع في حق صاحبه. وعن الطحاوي أنه يعود جائزا. ومنها: أن يكون في المبيع أو في ثمنه غرر، مثل بيع السمك في الماء، وهو لا يقدر على تسليمه بدون الاصطياد والحيلة، وبيع الطير في الهواء، أو بيع مال الغير على أن يشتريه، فيسلمه إليه لأنه باع ما ليس بمملوك له للحال، وفي ثبوته غرر وخطر. ومنها: بيع ما هو مملو ك له، لكن قبل القبض وقد ذكرنا تفصيله. ومنها: إدخال الشرطين في بيع واحد، وذلك أن يقول إن أعطيتني حالا فبألف، وإن أجلت شهرا فبألفين، أو قال أبيعك بقفيز حنطة أو بقفيزي شعير فهو فاسد، لما روي عن النبي عليه السلام، أنه نهى عن الشرطين في بيع. ومنها: بيع الاتباع والأوصاف مقصودا، وذلك نحو بيع الألية من الشاة الحية والذراع والرأس ونحوها، وكذا بيع ذراع من الثوب لأنه تبع، ولا يمكن تسليمه إلا بضرر، وهو ذبح الشاة، وقطع الثوب. وكذلك بيع جذع من سقف، ولكن إذا نزع من السقف وسلم، جاز. فأما بيع قفيز من صبرة، أو بيع عشرة دراهم من نقرة ونحوها،
48 فجائز، لأنه ليس في التبعيض ضرر، وهو ليس بتبع أيضا، لان القدر أصل في المقدرات، بخلاف الذرع في الذرعيات. ومنها: بيع المعدوم إلى انعقد سبب وجوده، أو ما هو على خطر الوجود كبيع المضامين، والملاقيح، ونتاج الفرس لما روي عن النبي عليه السلام، أنه نهى عن بيع المضامين، والملاقيح، وبيع حبل الحبلة. ومنها: أن يشترط الأجل في المبيع العين أو الثمن العين، لان الأجل في الأعيان لا يفيد، فلا يصح، فيكون شرطا لا يقتضيه العقد، فيفسد البيع. وأما في الثمن الدين، فإن كان الأجل معلوما جاز، وإن كان مجهولا لا يجوز على ما مر. ومنها: البيع بشرط، وهو أنواع، إن شرطا شرطا يقتضيه العقد، بأن اشترى شيئا بشرط أن يسلم البائع المبيع أو يسلم المشتري الثمن، أو بشرط أن يملك المبيع أو الثمن، فالبيع جائز، لان هذا شرط مقرر موجب العقد، فإن ثبوت الملك، والتسليم والتسلم، من مقتضى المعاوضات. وإن شرطا شرطا لا يقتضيه العقد ولكن ورد الشرع بجوازه كالأجل والخيار رخصة وتيسيرا، فإنه لا يفسد العقد، لأنه لما ورد الشرع به ذلك أنه من باب المصلحة دون المفسدة، وهذا جواب الاستحسان. والقياس أن يفسد، لكونه شرطا مخالفا لموجب العقد، وهو ثبوت الملك، في الحال، في العوضين معا.
49 ولكنا أخذنا بالاستحسان، للحديث الوارد في باب الخيار. وإن شرطا شرطا لا يقتضيه العقد ولم يرد الشرع به أيضا لكنه يلائم العقد ويوافقه، وذلك نحو أن يشتري شيئا بشرط أن يعطي للبائع، كفيلا بالثمن أو رهنا بالثمن، فهذا على وجهين: إما أن يكون الكفيل أو الرهن معلوما بالإشارة والتسمية أو لم يكن معلوما بالإشارة والتسمية. فإن لم يكن معلوما بأن قال: أبيعك بشرط أن تعطيني رهنا بالثمن، ولم يسم رهنا ولا أشار إليه، أو قال: بشرط أن تعطيني كفيلا بالثمن ولم يسم إنسانا ولا أشار إلى إنسان، كان البيع فاسدا، لأن هذه جهالة تفضي إلى منازعة مانعة عن التسليم والتسلم. وأما إذا كان معلوما بالإشارة أو بالتسمية فالقياس أن لا يجوز البيع، وبه أخذ زفر. وفي الاستحسان يجوز، وهو قول علمائنا وهو الصحيح، لان الرهن والكفالة بالثمن شرعا توثيقا للثمن، فيكون بمنزلة اشتراط الجودة في الثمن، فيكون شرطا مقررا لما يقتضيه العقد معنى. ثم إنما يجوز البيع استحسانا في اشتراط الكفالة، إذا كان الكفيل حاضرا في المجلس وقبل. فأما إذا كان غائبا فإنه لا يجوز، وإن بلغه الخبر فقبل، لان وجوب الثمن في ذمة الكفيل مضاف إلى البيع، فيصير الكفيل بمنزلة المشتري إذا كانت الكفالة مشروطة في البيع، وحضرة المشتري في المجلس شرط لصحة الايجاب من البائع ولا يتوقف إلى ما وراء المجلس، فكذلك حضرة الكفيل، بخلاف الرهن فإن حضرته ليست بشرط في المجلس، لان الرهن من المشتري، وهو حاضر والتزم الرهن، فالرهن صحيح. ثم في الرهن ما لم يسلم المشتري الرهن إلى البائع لا يثبت فيه حكم الرهن،
50 وإن انعقد عقد الرهن بذلك الكلام، لان الرهن لا يثبت في حق الحكم إلا بالقبض، على ما عرف، فإن سلم الرهن مضى العقد على ما عقدا، وإن امتنع عن التسليم لا يجبر على التسليم عندنا، وعند زفر يجبر، لكن عندنا يقال للمشتري: إما أن تدفع الرهن أو قيمته، أو تدفع الثمن، أو تفسخ البيع، لان البائع ما رضي بوجوب الثمن في ذمة المشتري، إلا بوثيقة الرهن، وفي هذه الوجوه وثيقة، فإن لم يفعل المشتري شيئا من ذلك فللبائع أن يفسخ البيع، لأنه فات غرضه، فلا يكون العقد لازما، فله أن يفسخ. وقالوا في البيع: إذا شرط فيه رهن مجهول حتى فسد البيع، ثم اتفقا على تعيين رهن في المجلس، إنه يجوز العقد، وإن افترقا عن المجلس، تقرر الفساد، لان تمام القبول توقف على الرهن المشروط في العقد ألا ترى أن البائع لو قال للمشتري: قبلت الثمن بغير رهن فإنه لا يصح البيع، فإذا لم يوجد الرهن لم يوجد القبول معنى، فإذا عينا في المجلس جاز، لان المجلس بمنزلة حالة واحدة، فصار كأنه قبل العقد في آخر المجلس، وإن افترقا بطل. وعلى هذا إذا قال المشتري في الرهن المجهول: أنا أعطي الثمن، لم يفسد العقد، لان الغرض من الرهن هو الوصول إلى الثمن، وهو حاصل، فسقط اعتبار الوثيقة. ولو شرط البائع في البيع أن يحيله المشتري بالثمن، على غريم من غرمائه، فهذا على وجهين: إن أحال بجميع الثمن، فالبيع فاسد، لأنه يصير بائعا بشرط أن يكون الثمن على غير المشتري، وهو باطل. وإن باع بشرط أن يحيل نصف الثمن على فلان، فجائز
51 إذا كان حاضرا وقبل الحوالة، كما إذا باع عبدا من رجل بألف درهم على أن يكون نصفه على فلان وهو حاضر، فقبل جاز، كذا هذا. ثم إذا كان الكفيل والمحتال عليه غائبين عن المجلس، فلم يحضرا حتى افترق العاقدان فلا يصح البيع إلا بإيجاب مبتد، لان تمام العقد يقف على قبول الكفيل والمحتال عليه، فجعل كأن القبول لم يوجد من المشتري في المجلس. ولو حضرا في المجلس وقبلا جاز، كما لو قبلا عند العقد، لان المجلس له حكم ساعة واحدة. ولو شرط المشتري في البيع على أن يحيل البائع على غريم من غرمائه بالثمن ليدفع إليه، أو باع بشرط أن يضمن المشتري لغريم من غرمائه الثمن فالبيع فاسد، لان شرط الضمان والحوالة ثمة صار بمنزلة اشتراط صفة الجودة في الثمن، لكونه توكيدا للثمن، وتوثيقا له، وشرط الضمان ههنا ليس بصفة للثمن، بل هو شرط فيه منفعة العاقد، والعقد لا يقتضيه، فيفسد البيع. وإن شرطا شرطا لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولأحدهما فيه منفعة إلا أنه متعارف، بأن اشترى نعلا وشراكا على أن يحذوه البائع، جاز استحسانا، والقياس أن لا يجوز، وهو قول زفر. ولكن أخذنا بالاستحسان، لتعارف الناس، كما في الاستصناع. ولو شرطا شرطا لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا يتعارفه الناس وفيه منفعة لاحد العاقدين، بأن اشترى حنطة على أن يطحنها البائع أو ثوبا على أن يخيطه البائع، أو اشترى حنطة على أن يتركها في دار البائع شهرا، ونحو ذلك فالبيع فاسد. وهذا كله مذهب علمائنا.
52 وقال ابن أبي ليلى بأن البيع جائز، والشرط باطل. وقال ابن شبرمة (1)، بأن البيع جائز، والشرط جائز. والصحيح قولنا، اشتراط المنفعة الزائدة، في عقد المعاوضة، لاحد العاقدين من باب الربا، أو شبهة الربا وإنها ملحقة بحقيقة الربا في باب البيع احتياطا. ولو شرطا شرطا فيه ضرر لاحد العاقدين بأن باع ثوبا أو حيوانا، سوى الرقيق، بشرط أن لا يبيعه ولا يهبه، ذكر في المزارعة الكبيرة ما يدل على أن البيع بهذا الشرط لا يفسد فإنه ذكر أن أحد المزارعين لو شرط في المزارعة أن لا يبيع الآخر نصيبه أو لا يهبه، قال: المزارعة جائزة والشرط باطل، لأنه ليس لأحد المتعاملين فيه منفعة، هكذا ذكر الحسن في المجرد. وروى أبو يوسف في الأمالي خلافه، وهو قوله: إن البيع بمثل هذا الشرط فاسد. والصحيح هو الأول. ولو باع جارية بشرط أن يطأها أو لا يطأها، لم يذكر في ظاهر الرواية. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: البيع فاسد في الموضعين وروي عن محمد أنه قال: لا تفسد في الموضعين. وعن أبي يوسف أنه قال: إن باع بشرط أن يطأها فالبيع جائز، وإن باع بشرط أن لا يطأها فالبيع فاسد. فالحاصل ان البيع بشرط أن يطأها، فاسد عند أبي حنيفة
(1) هو عبد الله بن شبرمة المحدث الثقة، وفقيه أهل الكوفة وقاضي أبى جعفر المنصور على سوادها، وقد توفى سنة 244 ه. 53 وعندهما جائز، لان إباحة الوطئ حكم يقتضيه العقد، فصار كما لو اشترى طعاما بشرط أن يأكله، ونحو ذلك. وأبو حنيفة يقول: هذا شرط لا يقتضيه العقد، فإنه لو صح الشرط كان حكمه وجوب الوطئ، والبيع لا يقتضيه، وفيه نفع للمعقود عليه، وهو من أهل استحقاق الحق على مولاه في الجملة، فإنه يستحق النفقة عليه، بخلاف ما إذا باع حيوانا بشرط أن يعلفه، لأنه ليس من أهل استحقاق الحق على مالكه. وأما البيع بشرط أن لا يطأها: فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف: البيع فاسد. وعلى قول محمد: جائز. وهو قياس ما روى أبو يوسف عنه في الأمالي: إذا باع طعاما بشرط أن لا يأكل أو لا يبيع، فإن البيع فاسد. فأما على قياس ما ذكر في المزارعة الكبيرة، فيجب أن يكون الجواب على قول أبي حنيفة في هذه المسألة مثل قول محمد. ولو اشترى عبدا بشرط أن يعتقه المشتري، قال علماؤنا: البيع فاسد حتى لو أعتقه المشتري قبل القبض لم ينفذ عتقه، وإن أعتقه بعد القبض عتق، فانقلب العقد جائزا استحسانا في قول أبي حنيفة، حتى يجب عليه الثمن. وقال أبو يوسف ومحمد: لا ينقلب العقد جائزا إذا أعتقه، حتى يجب عليه قيمة العبد. وروي عن أبي حنيفة مثل قولهما. وقال الشافعي، في أحد قوليه: إن البيع بهذا الشرط جائز. وقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة مثله. والصحيح قول أبي حنيفة، لان هذا شرط يلائم العقد من
54 وجه دون وجه، فمن حيث إن الاعتاق إزالة الملك، يكون تغييرا لحكم العقد ومن حيث إنه إنهاء للملك، يكون ملائما له، لان فيه تقريرا، فقلنا بفساد البيع في الابتداء وبالجواز في الانتهاء، عملا بالدليلين، وبالعكس لا يكون عملا بهما، لأنا نجد فاسدا ينقلب جائزا، كما في بيع الرقم، ولكن لم نجد جائزا ينقلب فاسدا، فكان الوجه الأول أولى. ولو باع بشرط التدبير والكتابة، وفي الأمة بشرط الاستيلاد، فالبيع فاسد، ولا ينقلب إلى الجواز عند وجود الشرط، لان هذا شرط لا يلائم البيع لأنه لا يثبت إنهاء الملك ههنا بيقين، لاحتمال أن القاضي يقضي بالجواز في التدبير والاستيلاد فلا يتقرر حكمه. ولو باع الثمار على الأشجار والزروع الموجودة هل يكون البيع فاسدا؟ فهذا لا يخلو من وجوه، إما إن كان قبل الادراك أو بعده، بشرط القطع أو بشرط الترك. فإن كان قبل الادراك: فإن كان بشرط القطع جاز، وإن اشترى مطلقا جاز. وقال الشافعي: إن اشترى بشرط القطع جاز. وإن اشترى مطلقا لا يجوز، لأنه صار شارطا للترك دلالة. ولكن الصحيح قولنا، لأنه اشترى ما هو مال، وإن كان لا يتكامل الانتفاع به بمنزلة شراء الجحش، والكلام المطلق لا يحمل على المقيد خصوصا إذا كان في ذلك فساد العقد. وأما إذا باع بشرط الترك فهو فاسد، بلا خلاف بين أصحابنا، لأنه شرط فيه منفعة للمشتري، فصار كما لو اشترى حنطة بشرط أن يتركها في دار البائع شهرا. هذا إذا باع قبل أن يبدو صلاحها. وإما إذا باع بعد بدو صلاحها
55 مطلقا أو بشرط القطع جاز. ولو باع بشرط الترك، لا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: إن تناهى عظمها جاز، وإن لم يتناه عظمها لا يجوز، لان الناس تعاملوا ذلك من غير نكير. والصحيح قولهما، لان هذا شرط فيه منفعة للمشتري، والعقد لا يقتضيه، والتعامل لم يكن بشرط الترك، ولكن الاذن معتاد بلا شرط في العقد. ولو اشترى مطلقا، وتركها على النخل، من غير شرط الترك، ولم يتناه عظمها: فإن كان ذلك بإذن البائع جاز، وطلب له الفضل. وإن ترك بغير إذن البائع، تصدق بما زاد على ما كان عند العقد، لأنه حصل موجه بسبب محظور. وإن أخرج النخل والشجر في مدة الترك، ثمرة أخرى، فذلك كله للبائع سواء كان الترك بإذنه أو بغير إذنه. وإن جللها منه البائع، جاز، لان هذا الحادث لم يقع عليه العقد، وإنما هو نماء ملك البائع، فيكون له، فإن اختلط الحادث بالموجود وقت العقد، بحيث لا يمكن التمييز بينهما، فإن كان قبل أن يخلي البائع بين المشتري والثمار، فسد البيع لأن المبيع صار مجهولا بحيث يتعذر تسليمه حال وجوب التسليم، والعجز عن التسليم مفسد للبيع، وإن كان ذلك بعد التخلية، لم يفسد البيع، وكانت الثمرة بينهما، والقول في الزيادة قول المشتري، لان البيع قد تم بعد القبض. فأما إذا اشترى ثمرة قد تناهى عظمها، وتركها على الشجرة بغير إذن البائع، لم يتصدق بشئ، لأنها لا تزيد بعد التناهي، بل تنقص فلم يحصل لها زيادة بسبب محظور.
56 فأما في الزرع، فالنماء يكون للمشتري طيبا، وإن تركه بغير إذنه، لأنه نماء ملك المشتري، لان الساق ملكه حتى يكون التبن له، بخلاف الشجرة. وأما الزروع التي يوجد بعضها بعد وجود بعض، كالباذنجان و البطيخ والكراث ونحوها فقد قال أصحابنا: يجوز بيع ما ظهر منها من الخارج الأول، ولا يجوز بيع ما لم يظهر، لأنه بيع معدوم. وقال مالك: إذا ظهر الخارج الأول، جاز بيع الكل، لأجل الضرورة، إلا أنا نقول: لا ضرورة فإنه يمكنه بيع الأصل، بما فيه من الثمر، فيصير الأصل ملكا له، فبعد ذلك ما تولد من الأصل، يحدث على ملكه. ومنها: أن يشتري شيئا بثمن معلوم، ثم يبيعه من البائع بأقل مما باعه قبل نقد الثمن. فإن باعه بجنس الثمن الأول بأن اشتراه بألف درهم، ثم باعه منه بخمسمائة درهم، قبل نقد الثمن، فهو فاسد عندنا. وعند الشافعي صحيح وإن كان بخلاف جنس الثمن الأول جاز. والأصل في ذلك حديث عائشة رضي الله عنها، في قصة زيد بن أرقم (1) وهو معروف (2).
(1) خزرجي مدني من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد غزا معه صلى الله عليه وسلم سبع غزوة، وقد روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونزل الكوفة وتوفى بها سنة 56 ه. (أو سنة 68 ه). (2) وهو " ان امرأة سالت عائشة رضي الله عنها، فقالت: ان زيد بن أرقم باعني جارية بثمانمائة درهم نسيئة، واشتراها منى بستمائة - فقالت عائشة: أبلغني زيد بن أرقم رضي الله عنه ان الله تعالى قد أبطل جهاده ان لم يتب ". 57 ثم ما ذكرنا من الشروط التي إذا أدخلها في نفس العقد يكون مفسدا للعقد إذا اعترضت على العقد الصحيح هل يفسد العقد؟ عند أبي حنيفة يفسد ويلتحق بأصل العقد، بمنزلة اشتراط الخيار في العقد البات، والزيادة والحط في الثمن وعندهما: لا يلتحق، ويبطل الشرط، والمسألة معروفة. وأما حكم البيع الفاسد فنقول: هذا على وجهين: إن كان الفساد من قبل المبيع، بأن كان محرما، نحو الخمر والخنزير وصيد الحرم والاحرام، فالبيع باطل لا يفيد الملك أصلا وإن قبض، لأنه لا يثبت الملك في الخمر، والخنزير للمسلم بالبيع، والبيع لا ينعقد بلا مبيع. وكذلك إذا باع الميتة والدم وكل ما ليس بمال متقوم. وكذلك: إذا باع المدبر وأم الولد، والمكاتب، والمستسعي، ونحو ذلك . وكذلك الصيد الذي ذبحه المحرم، أو صيد الحرم إذا ذبح، فإنه يكون ميتة، فلا يجوز بيعه. وإن كان الفساد يرجع لثمن، فإن ذكر ما هو مال في الجملة شرعا، أو ما هو مرغوب عند الناس لا يوجد مجانا بغير شئ، كما إذا باع بالخمر، والخنزير، وصيد الحرم، و الاحرام، فإن البيع ينعقد بقيمة المبيع، ويفيد الملك فالمبيع، بالقبض، لان ذكر الثمن المرغوب دليل على أن غرضهما البيع، فينعقد بيعا، بقيمة المبيع.
58 وكذلك إذا جعلا الثمن مدبرا، أو مكاتبا، أو أم ولد، لأنه مرغوب فيه. وإذا جعلا الميتة والدم ثمنا، فقد اختلف المشايخ. وكذلك لو باعه بما يرعى به إبله في أرضه من الكلأ، أو بما يشرب دابته من ماء بئره، لأنه ذكر شيئا مرغوبا فيه. وكذلك إذا كان الفساد بإدخال شرط فاسد، أو باعتبار الجهالة، ونحو ذلك. وإن ذكر المبيع والثمن، فهو على هذا يفيد الملك، بالقيمة، عند القبض. وهذا كله عندنا. وعند الشافعي: البيع فاسد، لا يفيد الملك أصلا، والمسألة معروفة. وعلى هذا لو قال: بعت منك هذا العبد، ولم يذكر الثمن، ينعقد البيع بالقيمة، ولو قال: بعت منك هذا العبد بقيمته فكذلك. ثم في البيع الفاسد، إنما يملك بالقبض إذا كان بإذن البائع، فأما إذا كان بغير إذنه فهو كما لو لم يقبض، هذا هو المشهور من الروايات عن أصحابنا. وذكر محمد في الزيادات إذا قبضه بحضرة البائع فلم ينهه وسكت، إنه يكون قبضا ويصير ملكا له، ولم يحك خلافا. وقد قال أصحابنا فيمن وهب هبة: والقياس أن لا يملكها الموهوب له حتى يقبضها بإذن الواهب أو بتسليمها إليه. إلا أنهم استحسنوا وقالوا: إذا قبضها في مجلس العقد، بحضرة الواهب ولم ينهه وسكت،
59 جازت ويفيد الملك، وإذا قبض بعد الافتراق عن المجلس بحضرته، لا يصح القبض وإن سكت، لان الملك من الموهوب إنما يقع بالعقد والقبض فيكون الاقدام على إيجاب الهبة إذنا بالقبض، كما يكون إذنا بالقبول، وبعد الافتراق عن المجلس لا يكون إذنا بالقبول، وكذلك لا يكون إذنا بالقبض، فعلى هذا يجب أن يكون في البيع الفاسد في مجلس العقد يكون إذنا بالقبض، وبعد الافتراق لا يكون إذنا. ثم المشتري شراء فاسدا هل يملك التصرف في المشترى وهل يكره ذلك؟ فنقول: لا شك أنه قبل القبض لا يملك تصرفا ما لعدم الملك، فأما بعد القبض، فيملك التصرفات المزيلة للملك من كل وجه أو من وجه، نحو الاعتاق، والبيع، والهبة، والتسليم، والتدبير، والاستيلاد، والكتابة، لأن هذه التصرفات تزيل حق الانتفاع بالحرام. ولكن هل يباح له التصرفات التي فيها انتفاع بالمبيع مع قيام الملك؟ اختلف المشايخ. قال بعضهم: لا يباح الانتفاع به حتى لا يباح له الوطء إن كانت جارية، ولا الاكل إن كان طعاما، ولا الانتفاع به إن كان دارا أو دابة أو ثوبا. وبعض مشايخنا قالوا: لا يباح له الوطئ لا غير، ويباح له سائر أنواع الانتفاعات. فالأولون قالوا: إن هذا ملك خبيث، فلا يظهر الملك في حق حل الوطئ والانتفاع احتياطا. والآخرون قالوا: إن المالك سلطه على التصرف، وأباح له التصرف فكل تصرف يباح بالاذن يباح بهذا البيع، والوطئ لا يباح بإذن المالك فلا يباح بالتسليط، بخلاف سائر الانتفاعات.
60 وأما الكراهة فنقول: ذكر الكرخي وقال: يكره التصرفات كلها، لأنه يجب عليه الفسخ لحق الشرع، وفي هذه التصرفات إبطال حق الفسخ، أو تأخيره فيكره. وقال بعض مشايخنا: لا يكره التصرفات المزيلة للملك، لأنه يزول الفساد بسببها. فأما التصرفات التي توجب تقرير الملك الفاسد، فإنه يكره. والصحيح هو الأول. ثم المشتري شراء فاسدا إذا تصرف في المشتري بعض القبض: فإن كان تصرفا مزيلا للملك من كل وجه، كالاعتاق والبيع والهبة فإنه يجوز، ولا يفسخ، لان الفساد قد زال بزوال الملك. وإن كان تصرفا مزيلا للملك من وجه أو لا يكون مزيلا للملك، فإن كان تصرفا لا يحتمل الفسخ، كالتدبير، والاستيلاد، والكتابة، فإنه يبطل حق الفسخ. وإن كان يحتمل الفسخ، إن كان يفسخ بالعذر، كالإجارة، فإنه يفسخ الإجارة، ثم يفسخ البيع بسبب الفساد، ويجعل حق الفسخ بسبب الفساد عذرا في فسخ الإجارة. ولو زوجها من إنسان بعد القبض فإن النكاح لا يمنع الفسخ، والنكاح بحاله لأنه زوجها وهي مملوكة له، فصح نكاحها، والنكاح مما لا يحتمل الفسخ فبقي النكاح. ولو أوصى بالعبد المبيع بيعا فاسدا، فإنه يفسخ لان الوصية مما يحتمل الرجوع.
61 ولو مات الموصي قبل الفسخ سقط الفسخ، لان الملك انتقل إلى الموصى له، فصار كالبيع. ولو مات المشتري شراء فاسدا، فورثه الورثة، فللبائع حق الفسخ وكذلك للورثة، لان الوارث يقوم مقام الميت في حق الفسخ، ولهذا يرد بالعيب، ويرد عليه، بخلاف الموصى له. ولو حصل في المبيع، بيعا فاسدا، زيادة منفصلة، كالولد، والثمر، واللبن، أو الأرش بسبب تفويت بعضه، فإنه لا يمنع الفسخ، بل للبائع أن يأخذ المبيع مع الزوائد ويفسخ البيع، لان قبض المشتري شراء فاسدا بمنزلة قبض الغصب. ثم إذا أخذ الولد فإن كانت الولادة نقصت الجارية، نظر في قيمة الولد فإن كان فيه وفاء بالنقصان، فلا شئ على المشتري، وإن لم يكن فيه وفاء، غرم تمام النقصان. وإن وطئ المشتري المبيعة بيعا فاسدا فهذا على وجهين: إن لم يعلقها، فللبائع أن يسترد الجارية، ويضمن المشتري عقرها للبائع، باتفاق الروايات، بخلاف الجارية الموهوبة إذا وطئها الموهوب له ثم رجع الواهب: فإنه لا يضمن للواهب عقرها، لأنه وطئ ملك نفسه، ملكا مطلقا، في حق حل الوطئ وغيره، وبالرجوع لم يظهر أن الملك لم يكن أما في البيع الفاسد، فلم يظهر الملك في حق حل الوطئ، لكن لم يحد للشبهة، فيجب العقر. وإن أعلقها وادعى الولد، يثبت نسب الولد منه، وتصير الجارية أم ولد له، وللبائع أن يضمن المشتري قيمة الجارية ويبطل حقه في الجارية. وإذا وجبت القيمة هل يجب العقر؟ ذكر في كتاب البيوع وقال: لا عقر عليه.
62 وذكر في كتاب الشرب وقال: عليه العقر. ولو أحدث المشتري في المبيع، بيعا فاسدا صنعا لو فعله الغاصب في المغصوب يصير ملكا له بالقيمة، كما إذا طحن الحنطة أو خاط الثوب قميصا ونحو ذلك، ينقطع حق البائع في الفسخ، ويلزمه قيمته يوم القبض كما في الغصب. وكذلك لو كان المبيع ساجة (1)، فأدخلها في بنائه. وإن كان المبيع أرضا، فبنى فيها المشتري، فليس للبائع أن ينقض البيع عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: للبائع أن ينقض كما في الغصب، فإن الغاصب إذا بنى على الأرض المغصوبة لا ينقطع حق المالك، فكذا هذا. وأبو حنيفة يقول: إن المبيع صار ملكا له، وفي النقض ضرر كثير، فلا ينقض، بخلاف الغاصب.
(1) الساج شجر عظيم صلب الخشب. الواحدة ساجة. 63 باب خيار الشرط الكلام في خيار الشرط في مواضع: أحدها: في بيان شرط الخيار المفسد، والذي ليس بمفسد، والثاني: في بيان مقدار مدة الخيار. والثالث: في بيان ما يسقط الخيار، والرابع: في بيان عمل الخيار وحكمه، والخامس: في بيان كيفية الفسخ والإجازة. أما الأول فنقول: إن الخيار المفسد ثلاثة أنواع: بأن ذكر الخيار مؤبدا بأن قال: بعت، أو اشتريت، على أني بالخيار أبدا، أو ذكر الخيار مطلقا ولم يبين وقتا أصلا، بأن قال: على أني بالخيار، أو ذكر وقتا مجهولا، بأن قال: على أني بالخيار أياما، ولم يبين وقتا معلوما. والجواب في هذه الفصول الثلاثة أن البيع فاسد. وأما الخيار المشروع فنوع واحد: وهو أن يذكر وقتا معلوما، ولم يجاوز عن الثلاثة، بأن قال: على أني بالخيار يوما أو يومين أو ثلاثة أيام. وهذا قول عامة العلماء، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري.
65 وقال سفيان الثوري وابن شبرمة: إن كان الخيار للمشتري يجوز، وإلا فلا. وأصل هذا أن اشتراط الخيار، كيفما كان، شرط ينافي موجب العقد، وهو ثبوت الملك عند العقد وإنما عرفنا جوازه بحديث حبان بن منقذ (1)، بخلاف القياس، والحديث ورد بالخيار في مدة معلومة، وهي ثلاثة أيام، فبقي مورد ذلك على أصل القياس، إلا إذا كان ذلك في معناه. وأما إذا شرط الخيار أربعة أيام أو شهرا، فقال أبو حنيفة وزفر رحمهما الله بأن البيع فاسد، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله بأنه جائز. والصحيح ما قاله أبو حنيفة، لما قلنا إنه شرط مخالف لمقتضى العقد، والشرع ورد في ثلاثة أيام، فبقي ما زاد عليها على أصل القياس. وأما بيان ما يسقط الخيار فنقول: إن الخيار بعد ثبوته يسقط بمعان ثلاثة: إما بالاسقاط صريحا، أو بالاسقاط بطريق الدلالة، أو بطريق الضرورة. أما بالاسقاط صريحا فبأن يقول: أسقطت الخيار، أو: أبطلته، أو أجزت البيع، أو: رضيت به، فيبطل الخيار، لان الخيار شرع للفسخ، فإذا سقط يبطل الخيار، والأصل هو لزوم العقد ونفاذه، فإذا بطل عاد الأصل. وكذلك إذا قال: فسخت العقد. أو: نقضته، أو: أبطلته، يسقط
(1) صحابي مشهور شهد أحدا وما بعدها وتوفى في خلافة عثمان (النووي) والحديث هو ما روى أن حبان بن منقذ كان يغبن في التجارات فشكا أهله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: " إذا بايعت فقل: لا خلا به ولي الخيار ثلاثة أيام ". 66 الخيار، لان الخيار هو التخيير بين الفسخ والإجازة، فأيهما وجد سقط. وأما الاسقاط بطريق الدلالة فهو أن يوجد ممن له الخيار تصرف يدل على إبقاء الملك وإثباته، فالاقدام عليه يبطل خياره تحقيقا لغرضه. إذا ثبت هذا فنقول: إذا كان الخيار للمشتري، والمبيع في يده، فعرضه على البيع يبطل خياره، لان عرض المشتري المبيع على البيع لاختياره الثمن، ولا يصير الثمن ملكا له إلا بعد ثبوت الملك في المبدل فيصير مختارا للملك، ولا يكون ذلك إلا بإبطال الخيار، فيبطل بطريق الدلالة. وأما الخيار إذا كان للبائع فعرضه على البيع، فلم يذكر في ظاهر الرواية، وعن أبي حنيفة روايتان. والأصح أنه يكون إسقاطا لخياره، لأنه دليل إبقاء الملك، لأنه لا يصل إلى الثمن من غيره إلا بالتمليك منه، وذلك لا يكون إلا بإسقاط الخيار وفسخ العقد الأول. ولو أن المشتري إذا كان له الخيار في عبد فباعه أو أعتقه، أو دبره، أو كاتبه، أو رهنه، أو وهبه، سلم أو لم يسلم، أو آجره، فإن هذا كله منه اختيار للإجازة، لان نفاذ هذه التصرفات مختصة بالملك، فيكون الاقدام عليها دليل قصد إبقاء الملك، وذلك بالإجازة. ولو وجدت هذه التصرفات من البائع الذي له الخيار، يسقط خياره أيضا، لأنه لا يصح هذه التصرفات إلا بعد نقض التصرف الأول، إلا أن الهبة، والرهن لا يسقط الخيار إلا بعد التسليم، بخلاف ما إذا كان الخيار للمشتري، ووجد منه الرهن والهبة بلا تسليم، لان الهبة والرهن بلا تسليم لا يكون دون العرض على البيع، وذلك يسقط خيار المشتري دون البائع في رواية، فكذلك هذا.
67 وأما الإجازة، فذكر في البيوع: الأصل أنه يكون اختيارا من البائع والمشتري من غير شرط القبض. وذكر في بعض الروايات، وشرط قبض المستأجر. والأصح أنه لا يشترط، لان الإجارة عقد لازم، بخلاف الهبة، والرهن، قبل القبض: فإنه غير لازم. ولو كان المبيع جارية فوطئها البائع أو المشتري إذا كان له الخيار يسقط الخيار، أما في البائع فلانه وإن كان الملك قائما للحال ولكن لو لم يسقط الخيار بالوطئ فإذا أجاز تبين أنه وطئ جارية الغير من وجه، لأنه يثبت الملك للمشتري بطريق الاسناد، وأما في المشتري فلهذا المعنى أيضا، ولمعنى آخر عند أبي حنيفة خاصة، لان الجارية المبيعة لا تدخل في ملك المشتري إذا كان الخيار له، والوطئ لا يحل بدون الملك، فالاقدام على الوطئ دليل اختيار الملك. ولو لمسها المشتري لشهوة وله الخيار، سقط، لأنه لا يحل بدون الملك. وإن لمس لا عن شهوة، لا يسقط، لأنه يحتاج إلى ذلك في الجملة للاختبار، لتعرف لينها وخشونتها. ولو نظر إلى فرجها بشهوة: سقط لما قلنا. ولو نظر بغير شهوة لا يسقط، لان النظر إلى الفرج لا عن شهوة قد يباح عند الحاجة والضرورة، كما في حق القابلة والطبيب، وللمشتري حاجة في الجملة. ولو نظر إلى سائر أعضائها عن شهوة لا يسقط، لأنه يحتاج إليه للامتحان، في الجملة.
68 وكذلك الجواب في حق البائع في اللمس عن شهوة، النظر إلى فرجها عن شهوة، فأما النظر إلى فرجها لا عن شهوة، أو النظر إلى سائر أعضائها لا عن شهوة، أو لمس سائر أعضائها، لا عن شهوة، فإنه يجب أن يسقط به الخيار بخف المشتري، لان ثم في الجملة له حاجة إلى ذلك، ولا حاجة في حق البائع وهذه التصرفات حرام من غير ملك. ولو نظرت الجارية المشتراة إلى فرج المشتري لشهوة أو لمسته، فإن فعلت ذلك بتمكين المشتري، بأن علم المشتري ذلك منها فتركها حتى فعلت، يسقط خياره. فأما إذا اختلست اختلاسا، فلمست، من غير تمكين المشتري بذلك، فقال أبو يوسف: يسقط خياره، وقال محمد: لا يسقط، وقول أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف ذكره بشر بن الوليد أنه يثبت الرجعة بها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ولا يثبت في قول محمد. وأجمعوا أنها لو أدخلت فرج الرجل في فرجها، والزوج نائم، فإنه يسقط الخيار وتثبت الرجعة. والصحيح قولهما، لان الخيار لو لم يسقط ربما يفسخ الشراء، فيتبين أن اللمس وجد من غير ملك، ومس العورة بلا ملك حرام، فيسقط صيانة عن مباشرة الحرام، وكذلك في الرجعة لهذا المعنى. وأما الاستخدام منها فلا يجعل اختيارا لأنه تصرف لا يختص بالملك، فإنه يباح بإذن المالك. ثم إنما يعرف الشهوة من غير الشهوة بإقرار الواطئ والمتصرف، وفي الجارية المختلسة بإقرار المشتري. وأما الأجنبي إذا وطئ الجارية المبيعة، فإن كانت في يد المشتري والخيار له، سقط الخيار، لأنه: إن كان عن شبهة يجب العقر، وإنه
69 زيادة منفصلة حدثت بعد القبض فتمنع الرد. وإن كان زنا، فهو عيب في الجوار، وحدوث العيب في يد المشتري يسقط خياره، فكذلك إذا ولدت الجارية في يد المشتري يسقط خياره، لأنه لو كان الولد حيا وفيه وفاء بنقصان الولادة فينجبر، لكن الولد زيادة منفصلة، فيمنع الفسخ ويسقط الخيار، وإن مات الولد، فالنقصان قائم لم ينجبر، وحدوث النقصان عند المشتري يمنع الرد. وإن كان في يد البائع والخيار له، لا يسقط الخيار في وطئ الأجنبي، لان الزنا لا يوجب نقصا في عين الجارية، ولكن للمشتري حق بسبب العيب، وإن كان الوطئ عن شبهة والعقر زيادة منفصلة قبل القبض، فلا يمنع الفسخ وفي فصل الولد إن كان حيا ينجبر النقصان، وإنه زيادة قبل القبض، فلا يمنع الفسخ، لكن ثبت الخيار للمشتري بسبب العيب، لان صورة النقصان قائمة، وإن انجبر معنى. وإن مات الولد فالنقصان قائم، ولكن لم يفت شئ من المعقود عليه حتى ينفسخ العقد فيه، فتتفرق الصفقة على المشتري، فيسقط الخيار، ولكن للمشتري حق الفسخ بسبب العيب، وهو نقصان الولادة. وكذلك المشتري لو أسكن الدار المبيعة رجلا، بأجر أو بغير أجر، أو رم (1) شيئا منها، بالتطيين والتجصيص، أو أحدث فيها بناء، أو هدم شيئا منها، فإنه يسقط الخيار، لأن هذه التصرفات دليل اختيار الملك، ولو سقط حائط منها بغير صنع أحد يسقط الخيار، لأنه نقص في المعقود عليه. ولو كان المبيع أرضا فيها زروع وثمار، قد دخلت تحت البيع بالشرط فسقاه، أو حصده، أو قصل منه (2) شيئا لدوابه، أو جد (3) شيئا من
(1) رم البناء أصله. (2) قصل قطع. ومنه القصيل، وهو الشعير يجز اخضر لعلف الدواب. والفقهاء يسمون الزرع قبل ادراكه قصيلا، وهو مجاز. (3) جد قطع ومنه جد النخل صرمه أي قطع ثمره جدادا. 70 الثمار، فهذا إجازة منه لما ذكرنا . ولو ركب المشتري الدابة ليسقيها، أو ليردها على البائع، فالقياس أن يكون إجازة، لما ذكرنا. وفي الاستحسان لا يسقط الخيار، لان الدابة قد لا يمكن تسييرها إلا بالركوب. ولو ركبها لينظر إلى سيرها وقوتها: فهو على الخيار. وكذا لو لبس الثوب لينظر إلى طوله وعرضه، لأنه يحتاج إليه للامتحان. ولو ركبها مرة أخرى لمعرفة العدو، أو ركبها لمعرفة شئ آخر، بأن ركب مرة لمعرفة أنها هملاج، ثم ركب ثانيا لمعرفة العدو، لا يسقط خياره لأنه يحتاج إليه أيضا. وإن ركبها لمعرفة السير الأول مرة أخرى، ذكر في ظاهر الروايات أنه يسقط الخيار. وفي الثوب إذا لبس ثانيا، لمعرفة الطول والعرض، يسقط الخيار. وفي استخدام الرقيق: إذا استخدم مرة، ثم استخدم ثانيا لنوع آخر، لا يسقط الخيار. وبعض مشايخنا قالوا في الاستخدام، والركوب: لا يبطل الخيار بالمرة الثانية، وإن كان من نوع واحد، لان الاختيار لا يحصل بالفعل مرة، لاحتمال أن ذلك وقع اتفاقا، وإنما الحاجة إلى معرفة ذلك عادة لها، وذلك لا يحصل إلا بالمرة الثانية، لان العادة مشتقة من العود، بخلاف الثوب فإن الغرض يحصل بالمرة الواحدة.
(1) مشى الهملاج مشى سهل. 71 وأما سقوط الخيار بطريق الضرورة فأنواع: منها: إذا مضت المدة، لان الخيار مؤقت بها، فينتهي الخيار ضرورة، فيبقى العقد بلا خيار، فيلزم العقد. ومنها: إذا مات المشروط له الخيار، فإنه يسقط الخيار ولا يورث، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري أو لهما. وقال الشافعي: يورث، ويقوم الوارث مقامه. وأجمعوا أن خيار العيب، وخيار التعيين، يورث، وأجمعوا أن خيار القبول: لا يورث. وكذلك خيار الإجازة في بيع الفضولي: لا يورث. وأما خيار الرؤية فهل يورث؟ لم يذكر في البيوع، وذكر في كتاب الحيل أنه لا يورث، وكذا روى ابن سماعة عن محمد. وأجمعوا أن الأجل لا يورث. ولقب المسألة أن خيار الشرط هل يورث أم لا؟ والمسألة معروفة. وإذا لم يورث الخيار عندنا يسقط ضرورة، فيصير العقد لازما، لأنه وقع العجز عن الفسخ، فيلزم ضرورة. وكذا الجواب فيما هو في معنى الموت، بأن ذهب عقل صاحب الخيار. بالجنون أو بالاغماء، في مدة الخيار، ومضت المدة، وهو كذلك، صار العقد لازما، لأنه عجز عن الفسخ، فلا فائدة في بقاء الخيار. فإذا أفاق في مدة الخيار، كان على خياره، لامكان الفسخ والإجازة. وكذا لو بقي نائما في آخر مدة الخيار، حتى مضت: سقط الخيار. ولو سكر بحيث لا يعلم حتى مضت مدة الخيار: لم يذكر في
72 الكتاب. وقالوا: الصحيح أنه يسقط الخيار، لما قلنا. ولو ارتد من له الخيار في مدة الخيار إن مات أو قتل على الرد، صار البيع لازما. وكذلك إن لحق بدار الحرب، وقضى القاضي بلحاقه، لان الردة بمنزلة الموت، بعد الالتحاق بدار الحرب. وإن أسلم في مدة الخيار كان على خياره، وجعل العارض كأن لم يكن. هذا إذا مات أو قتل على الردة، أو أسلم قبل أن يتصرف بحكم الخيار فسخا أو إجازة. فأما إذا تصرف في مدة الخيار بعد الردة: فإن أجاز جازت إجازته، ولا يتوقف، بالاتفاق. ولو فسخ فعند أبي حنيفة: يتوقف، فإن أسلم نفذ، وإن مات أو قتل على الردة، بطل الفسخ، على ما يعرف في مسائل السير تصرفات المرتد موقوفة عنده، خلافا لهما. وعلى هذا إذا هلكت السلعة المبيعة، في مدة الخيار، فلا يخلو إما أن تهلك في يد البائع، أو في يد المشتري والخيار للبائع، أو للمشتري. فإن هلكت في يد البائع فإنه يسقط الخيار، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري، لأنه ينفسخ العقد، لأنه هلك لا إلى خلف، ولا يمكنه مطالبة المشتري بالثمن، بدون تسليم المبيع وقد عجز عن التسليم، فلا فائدة في بقائه فيفسخ، فيبطل الخيار ضرورة. وإن هلكت في يد المشتري، فإن كان الخيار للبائع، تهلك بالقيمة، ويسقط الخيار في قول عامة العلماء.
73 وقال ابن أبي ليلى: تهلك أمانة. والصحيح قول العامة، لان القبض بسبب هذا العقد، لا يكون دون القبض على سوم الشراء، وذلك مضمون بالقيمة فهذا أولى. وإن كان الخيار للمشتري فإنه يهلك عليه بالثمن عندنا. وعند الشافعي يهلك عليه بالقيمة. والصحيح قولنا، لأن المبيع يصير معيبا، قبل الهلاك، متصلا به، لان الموت يكون بناء على سبب مؤثر فيه عادة، والسبب المفضي إلى الهلاك يكون عيبا، وحدوث العيب في يد المشتري يسقط خياره، لأنه يعجز عن الرد، على الوجه الذي أخذه سليما، كما إذا حدث به عيب حسا. وأما إذا تعيب المبيع، فإن كان الخيار للبائع، وهو عيب يوجب نقصانا في عين المبيع، فإنه يبطل خياره، سواء كان المبيع في يده أو في يد المشتري، إذا تعيب بآفة سماوية، أو بفعل البائع، لأنه هلك بعضه بلا خلف، لأنه لا يجب الضمان على البائع، لأنه ملكه فينفسخ البيع فيه لفواته، ولا يمكن بقاء العقد في القائم لما فيه من تفريق للصفقة على المشتري قبل التمام. وأما إذا تعيب بفعل المشتري أو بفعل الأجنبي، كان البائع على خياره، لأنه يمكنه إجازة البيع في الفائت والقائم، لأنه فات إلى خلف مضمون على المشتري، والأجنبي بالقيمة، لأنهما أتلفا ملك الغير بغير إذنه. فأما إذا كان عيبا، لا يوجب نقصانا في عين المبيع، كالوطئ من الأجنبي، وولادة الولد، ونحو ذلك فلا يسقط خياره إذا تعيب بفعل البائع، حتى لو أراد أن يرد على البائع بغير رضاه فليس له ذلك،
74 ولكن للمشتري حق الرد بسبب العيب، لأنه لم يفت شئ من المبيع، فينفسخ العقد فيه، فتتفرق الصفقة على المشتري، وكذا إذا تعيب بفعل المشتري، لأنه مضمون عليه. وأما إذا كان الخيار للمشتري، والعبد في يده، يبطل خياره، سواء حصل بآفة سماوية، أو بفعل البائع، أو بفعل المشتري، أو بفعل الأجنبي، حتى لو أراد أن يرد على البائع بغير رضاه ليس له ذلك، أما في الآفة السماوية، وفعل البائع، فلما ذكرنا في خيار البائع، وأما في فعل المشتري والأجنبي، فلانه فات شرط الرد، لأنه لا يمكنه أن يرد جميع ما قبض كما قبض سليما، وفي رد البعض تفريق الصفقة على البائع قبل التمام، وفي الأجنبي علة أخرى وهي أنه أوجب الأرض، والأرش زيادة منفصلة حدثت بعد القبض، وإنها تمنع الفسخ عندنا، كسائر أسباب الفسخ، فكذا حكم الخيار. ثم في خيار البائع إذا تعيب بفعل المشتري أو بفعل الأجنبي، وهو في يد المشتري، لم يسقط الخيار، وبقي على خياره، فلا يخلو إما أن يجيز أو يفسخ، والعيب حصل بفعل المشتري أو الأجنبي، فإن أجاز البيع، وجب على المشتري جميع الثمن، لان البيع جاز في الكل، ولم يكن للمشتري حق الرد والفسخ، بسبب التغيير الذي حصل في المبيع، لأنه حدث في يده وفي ضمانه، إلا أن المشتري إن كان هو القاطع فلا سبيل له على أحد، لأنه ضمن بفعل نفسه، وإن كان القاطع أجنبيا، فللمشتري أن يتبع الجاني بالأرض، لأنه بالإجازة ملك العبد من وقت البيع، فحصلت الجناية على ملكه. وإذا اختار الفسخ، فإن كان القاطع هو المشتري، فإنه يأخذ الباقي، ويضمن المشتري نصف قيمة العبد للبائع، لان العبد كان
75 مضمونا على المشتري بالقيمة، وقد عجز عن رد ما أتلفه بالجناية، فعليه رد قيمته. وإن كان القاطع أجنبيا، فالبائع بالخيار إن شاء اتبع الجاني، لان الجناية حصلت على ملكه، وإن شاء اتبع المشتري لان الجناية حدثت في ضمان المشتري، فإن اختار اتباع الأجنبي فلا يرجع على أحد، لأنه ضمن بفعل نفسه، وإن اختار اتباع المشتري، فالمشتري يرجع بذلك على الجاني، لان المشتري بأداء الضمان قام مقام البائع في حق ملك البدل وإن لم يقم مقامه في حق ملك نفس الفائت، كما في غاصب المدبر إذا قتل المدبر في يده وضمنه المالك، كان له أن يرجع على القاتل، وإن لم يملك المدبر، لما قلنا كذلك ههنا. وأما معرفة عمل خيار الشرط وحكمه فنقول: قال علماؤنا رحمهم الله: إن البيع بشرط الخيار لا ينعقد في حق الحكم، بل هو موقوف إلى وقت سقوط الخيار، فينعقد حينئذ. و قال الشافعي في قول مثل قولنا، وفي قول: ينعقد مفيدا للملك، لكن يثبت له خيار الفسخ، بتسليط صاحبه، كما في خيار الرؤية، وخيار العيب. والصحيح قولنا، لان خيار الشرط، شرع لدفع الغبن، لحديث حبان بن منقذ، وذلك لا يحصل إلا بما ذكرنا، فإن المبيع إذا كان قريبه يعتق عليه، لو ثبت الملك، فلا يحصل الغرض. ثم الخيار إذا كان للعاقدين جميعا لا يكون العقد منعقدا، في حق الحكم، في حقهما جميعا. وإن كان الخيار لاحد العاقدين فلا شك أن العقد لا ينعقد في حق الحكم في حق من له الخيار. وأما في حق الآخر فهل ينعقد في حق
76 الحكم، وهو الحكم الذي يثبت بفعله، أعني ثبوت الملك في المبيع بتمليك البائع، وثبوت الملك في الثمن بتمليك المشتري؟ قال أبو حنيفة: لا ينعقد. وقال أبو يوسف ومحمد: ينعقد، حتى إن الخيار إذا كان للبائع لا يزول المبيع عن ملكه، ولا يدخل في ملك المشتري. وأما الثمن فهل يدخل في ملك البائع؟ فعند أبي حنيفة لا يدخل، بأن كان الثمن عينا، ولا يستحق عليه الثمن للبائع إن كان دينا. وعندهما: يدخل، ويجب الثمن للبائع. وإن كان الخيار للمشتري لا يستحق عليه الثمن، ولا يخرج عن ملكه إذا كان عينا. وهل يدخل المبيع في ملك المشتري؟ عند أبي حنيفة: يزول عن ملك البائع، ولا يدخل في ملك المشتري. وعندهما: يدخل. والصحيح قول أبي حنيفة، لان خيار المشتري يمنع زوال الثمن عن ملكه، ويمنع من استحقاق الثمن عليه، ولو قلنا إنه يملك المبيع كان فيه جمع بين البدل والمبدل في ملك رجل واحد، في عقد المبادلة، وهذا لا يجوز، بخلاف خيار الرؤية والعيب لان هناك لا يمنع زوال الثمن عن ملك المشتري فجاز أن لا يمنع دخول السلعة في ملكه. وفوائد هذا الأصل تظهر في مسائل كثيرة مذكورة في الكتب فنذكر بعضها. منها - إذا اشترى الرجل أباه، أو ذا رحم محرم منه، على أنه بالخيار
77 ثلاثة أيام، لم يعتق عند أبي حنيفة، لأنه لم يدخل في ملكه، وعندهما يعتق. وأجمعوا أنه إذا قال لعبد الغير: إذا اشتريتك فأنت حر، فاشتراه على أنه بالخيار، ثلاثة أيام، يعتق عليه ويبطل خياره. أما عندهما فلانه يدخل في ملكه، وأما عند أبي حنيفة فلان المعلق بالشرط كالمنجز عند وجود الشرط، ولو نجز عتقه بعد شرائه بشرط الخيار ينفذ عتقه ويبطل الخيار لاختياره الملك، كذا هذا. ومنها - إذا اشترى زوجته، على أنه بالخيار ثلاثة أيام لا يبطل نكاحه عند أبي حنيفة، لأنها لم تدخل في ملكه. وعندهما: يبطل لأنها دخلت في ملكه. ولو وطئها الزوج في مدة الخيار، ينظر إن كانت بكرا يبطل خياره، بالاتفاق لوجود التعيب، وإن كانت ثيبا ولم ينقصها الوطئ، لا يبطل خياره عند أبي حنيفة، لأنه وطئها بملك النكاح، ولا بملك اليمين، فلا يصير مختارا ضرورة في حل الوطئ. وعندهما يبطل خياره، لأنه وطئها بحكم الشراء. ومنها: أن المبيع إذا كان دارا، إن كان للبائع فيها خيار لم يكن للشفيع الشفعة، بالاجماع، لان خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه. وإن كان الخيار للمشتري تثبت الشفعة للشفيع بالاجماع أما عندهما فلان خياره لا يمنع دخول السلعة في ملك المشتري، فتثبت الشفعة للشفيع، وعلى قول أبي حنيفة: خيار المشتري، وإن منع دخول السلعة في ملك المشتري، لم يمنع زوالها عن ملك البائع وحق الشفيع في الشفعة يعتمد زوال حق البائع، لا ملك المشتري.
78 وأما كيفية الفسخ والإجازة فهو على ضربين: أحدهما: بطريق الضرورة، والآخر: بطريق القصد والاختيار. أما الفسخ والإجازة بطريق الضرورة، فيصح من غير حضرة خصمه وعلمه، كمضي مدة الخيار وهلاك المبيع ونقصانه، على ما ذكرنا. وأما الفسخ والإجازة بطريق القصد، فقد أجمع أصحابنا أن المشروط له الخيار، ملك إجازة العقد بغير محضر من صاحبه، بغير علم منه، لان صاحبه الذي لا خيار له رضي بحكم العقد، وأما من له الخيار فلم يرض حكمه، ولزومه، فإذا رضي - ورضا الآخر قد وجد، يجب القول بنفاذ البيع علم الآخر أو لم يعلم. لكن يشترط الرضا باللسان، بأن قال: أجزت هذا العقد، أو: رضيت به، فأما إذا رضي بقلبه، وما أجازه صريحا، فإنه لا يسقط خياره، لان الأحكام الشرعية تتعلق بالأقوال والافعال الظاهرة الدالة على الضمائر. وأما الفسخ والرد، إن وجد بالقلب دون اللسان، فهو باطل لما ذكرنا. وأما إذا فسخ بلسانه، فإن كان بمحضر من صاحبه، فإنه يصح، بالاجماع، سواء رضي به أو أبى. وأما إذا كان بغير محضر من صاحبه، فقد قال أبو حنيفة ومحمد: لا يصح، وهو قول أبي يوسف الأول، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري، ثم رجع وقال: يصح. وروي عنه أنه قال: إن كان الخيار للبائع، ملك فسخه بغير محضر من المشتري، وإن كان الخيار للمشتري، لا يملك فسخه بغير محضر من البائع، ونعني بالحضرة
79 العلم حتى لو كان الآخر حاضرا ولم يكن عالما بفسخه، لا يصح، ولو كان غائبا، وعلم بفسخه في مدة الخيار، ينبغي أن يصح. وذكر الكرخي أن خيار الرؤية على هذا الخلاف. وأجمعوا أن المشتري في خيار العيب إذا فسخ بغير محضر من البائع، لا يصح وإن كان قبل القبض والمسألة معروفة. ولو اشترى رجلان على أنهما بالخيار ثلاثة أيام، أو اشتريا شيئا ولم يرياه، أو اشتريا شيئا فوجدا به عيبا، هل يملك أحدهما أن ينفرد بالفسخ؟ على قول أبي حنيفة: لا يملك، ولو رد لا يصح. وعلى قولهما: يصح. وإنما يصح عند أبي حنيفة إذا اتفقا على الرد أو اتفقا على الإجازة. أما إذا رد أحدهما وأجاز الآخر فهو على الاختلاف. وكذا لو اختارا رد البيع في النصف وإجازة البيع في النصف فهو على الاختلاف، والمسألة معروفة.
80 باب خيار الرؤية يحتاج إلى بيان مشروعية خيار الرؤية، وإلى بيان أنه في أي وقت يثبت ، وفي بيان أنه يثبت مؤقتا أو مطلقا. وفي بيان حكمه، وفي بيان ما يسقطه. أما الأول فنقول: قال أصحابنا رحمهم الله: إن خيار الرؤية مشروع في شراء ما لم يره المشتري، فيجوز الشراء ويثبت له الخيار. وقال الشافعي: شراء ما لم يره المشتري لا يصح، فلا يكون الخيار فيه مشروعا. ولو باع شيئا لم يره البائع، ورآه المشتري يجوز عندنا. وعند الشافعي: فيه قولان. وهل يثبت للبائع فيه خيار الرؤية؟ لم يذكر في ظاهر الرواية، وذكر الطحاوي في اختلاف العلماء أن أبا حنيفة كان يقول بأنه يثبت
81 له الخيار، ثم رجع وقال: لا يثبت. وأما بيان وقت ثبوت الخيار فنقول: يثبت الخيار عند رؤية المشتري، لا قبلها، حتى لو أجاز البيع قبل الرؤية لا يلزم البيع، ولا يسقط الخيار. وهل يملك الفسخ قبل الرؤية؟ لا رواية في ذا. واختلف المشايخ: قال بعضهم: لا يملك، لأنه لا يملك الإجازة قبل الرؤية، فلا يملك الفسخ، لان الخيار لم يثبت. وبعضهم قالوا: يملك الفسخ لا لسبب الخيار، لأنه غير ثابت، ولكن لان شراء ما لم يره المشتري غير لازم، والعقد الذي ليس بلازم يجوز فسخه، كالعارية والوديعة. وأما بيان أن الخيار مطلق أو مؤقت فنقول: اختلف المشايخ فيه بعضهم قالوا: يثبت مطلقا، فيكون له الخيار في جميع العمر، إلا إذا وجد ما يسقطه. وبعضهم قالوا بأنه مؤقت بوقت إمكان الفسخ بعد الرؤية، حتى لو تمكن من الفسخ بعد الرؤية ولم يفسخ يسقط خيار الرؤية، وإن لم يوجد منه الإجازة والرضا صريحا ولا دلالة. وأما حكمه فهو التخيير بين الفسخ والإجازة إذا رأى المبيع، ولا يمنع ثبوت الملك في البدلين، ولكن يمنع اللزوم بخلاف خيار الشرط. وإنما يثبت الخيار في بيع العين بالعين لكل واحد منهما.
82 وفي بيع العين بالدين تثبت للمشتري. ولا يثبت في بيع الدين بالدين، وهو الصرف، لأنه لا فائدة فيه. فأما إذا كان الحق عينا، فللناس أغراض في الأعيان، فكان ثبوت الخيار فيه لينظر أنه هل يصلح له، فإن شاء أجاز إن صلح، وإن شاء فسخ إن لم يصلح. وهذا إذا رأى جميع المبيع. فأما إذا رأى البعض ورضي به، ولم ير البعض، هل يكون على خياره، أم لا، إذا رأى المبيع فنقول: الأصل في هذا النوع من المسائل هو أن غير المرئي إذا كان تبعا للمرئي فلا خيار له في غير المرئي، وإن كان رؤية ما رأى لا تعرف حال ما لم يره، لان حكم التبع حكم الأصل. وإن لم يكن غير المرئي تبعا للمرئي، فإن كان مقصودا بنفسه، كالمرئي، ينظر إن كان رؤية ما قد رأى لم تعرف حال غير المرئي، كان على خياره، فيما لم يره، لان المقصود من الرؤية فيما لم يره، لم يحصل برؤيته ما رأى. وإن كان رؤية ما رأى تعرف حال غير المرئي، فإنه لا خيار له أصلا في غير المرئي إذا كان غير المرئي مثل المرئي أو فوقه، لأنه حصل برؤية البعض رؤية الباقي من حيث المعنى. إذا ثبت هذا الأصل، تخرج عليه المسائل الآتية: - إذا اشترى جارية أو عبدا، فرأى الوجه دون سائر الأعضاء، لا خيار له، وإن كان رؤية الوجه لا تعرف حال سائر الأعضاء، لان سائر
83 الأعضاء تبع للوجه في شراء العبد والجارية في العادة، ولو رأى سائر الأعضاء دون الوجه، فهو على خياره، لأنه لم ير المتبوع. هذا في بني آدم. - فأما في سائر الحيوان مثل الفرس والحمار ونحوهما، ذكر محمد بن سماعة (1) عن محمد أنه قال: إن نظر إلى عجزه، يسقط خياره. وإن لم ير عجزه فهو على خياره، فجعل العجز في الحيوانات بمنزلة الوجه في بني آدم. وعن أبي يوسف أنه قال: هو على خياره ما لم ير وجهه ومؤخره فجعل الأصل هذين العضوين وغيرهما تبعا. - وأما الشاة إذا اشتراها للحم، فقد روي عن أبي يوسف أنه قال: لا بد من الجس بعد الرؤية حتى يعرف سمنها، لأنه هو المقصود. وإن اشتراها للدر والنسل، فلا بد من رؤية سائر جسدها، ومن النظر إلى ضرعها أيضا، لأنها تختلف باختلاف الضرع. - فأما في غير الحيوان: فإن كان شيئا واحدا، ينظر إن كان شئ منه مقصودا عند الناس في العادة كالوجه في المغافر (2) والطنافس (3)، فإنه إذا رأى الوجه سقط الخيار، كما في بني آدم، وإذا رأى
(1) ولد سنة 130 ه. وحدث عن الليث بن سعد وعن أبي يوسف ومحمد واخذ الفقه عن أبي يوسف ومحمد والحسن بن زياد. وكتب النوادر عن أبي يوسف ومحمد. وولى القضاء للمأمون ببغداد بعد موت يوسف ابن الإمام أبى يونس سنة 92 ه. له كتاب أدب القاضي وكتاب المحاضر والسجلات والنوادر وغيرها. وممن تفقه عليه: أبو جعفر أحمد بن أبي عمران البغدادي شيخ الطحاوي. ومات سنة 233 (2) هو نوع من الثياب واصله " ثوب مغافري " نسبه إلى مغافر بن مراخي تميم بن مرثم سمي " مغافر " بغير نسبة (المغرب والقاموس). (3) الطنافس البسط. 84 الظهر لا يسقط، هكذا ذكر الحسن في المجرد عن أبي حنيفة. وإن لم يكن شئ منه مقصودا كالكرباس (1)، فإن رؤية بعضه، أي بعض كان، كرؤية الكل، لان برؤية بعضه يعرف الباقي، لان تفاوت الأطراف في ثوب واحد يسير، فإن وجد الباقي مثل المرئي أو فوقه فلا خيار له، وإن وجده دونه كان على خياره، على ما ذكرنا. وإن كان المعقود عليه دارا أو بستانا، ذكر في كتاب القسمة وقال: إذا رأى خارج الدار وظاهرها يسقط خياره، وإن لم ير داخلها لأنها شئ واحد، وفي البستان إذا رأى الخارج ورؤوس الأشجار، يسقط خياره. وعلى قول زفر: لا يسقط الخيار، بدون رؤية الداخل. ولكن مشايخنا قالوا: تأويل ما ذكر في كتاب القسمة أنه إذا لم يكن في داخل الدار أبنية. فأما إذا كان فيها أبنية: فلا يسقط الخيار ما لم ير داخل الدار كله أو بعضه، لان الداخل هو المقصود، والخارج كالتبع له. وذكر القدوري أن أصحابنا قالوا: إن أبا حنيفة أجاب على عادة أهل الكوفة في زمانه، فإن دورهم وبساتينهم لا تختلف من حيث التقطيع والهيئة، وإنما تختلف من حيث الصغر والكبر، وكذا من حيث صغر الأشجار وكبرها، وذلك يحصل برؤية الخارج، ورؤية رؤوس الأشجار، وعادة سائر البلدان بخلاف. هذا إذا كان المعقود عليه شيئا واحدا. فأما إذا كان أشياء، فإن كان من العدديات المتفاوتة، كالثياب التي اشتراها في جراب،
(1) الكرباس الثوب الخشن، وهو فارسي معرب - والجمع كرابيس. 85 أو البطاطيخ في الشريجة (1)، أو الرمان أو السفرجل في القفة والكوارة، فإذا رأى البعض فإنه يكون على خير في الباقي، لان الكل مقصود، ورؤية ما رأى لا تعرف حال الباقي، لأنها متفاوتة. وإن كان مكيلا، أو موزونا، أو عدديا متقاربا، فإنه إذا رأى البعض ورضي به، لا خيار له في الذي لم ير، إذا كان ما لم ير مثل الذي رأى، لان رؤية البعض من هذه الأشياء تعرف حال الباقي. وهذا إذا كان في وعاء واحد، فأما إذا كان في وعاءين، فقد اختلف المشايخ. قال مشايخ بلخ: لا يكون رؤية أحدهما كرؤية الآخر، لأنهما شيئان مختلفان إذا كانا في وعاءين، فكانا كالثوبين. وقال مشايخ العراق بأن رؤية أحدهما كرؤيتهما جميعا، إذا كان ما لم ير مثل المرئي. وهكذا روي عن أبي يوسف، وهو الأصح. وهذا إذا كان المشترى مغيبا في الوعاء، فأما إذا كان مغيبا في الأرض كالجزر، والبصل، والثوم، والفجل، والسلجم، وبصل الزعفران ونحو ذلك، ففي أي وقت يسقط الخيار؟ لم يذكر هذا في ظاهر الرواية. وروى بشر عن أبي يوسف أنه قال: إذا كان شيئا يكال أو يوزن بعد القلع، كالثوم، والبصل، والجزر، فإنه إذا قلع المشتري شيئا بإذن البائع أو قلع البائع برضى المشتري، سقط خياره في الباقي، لان رؤية بعض المكيل كرؤية الكل.
(1) الشريجة جواليق كالخراج ينسج من سعف النخل يحمل فيه البطيخ ونحوه. 86 فأما إذا حصل القلع من المشتري بغير إذن البائع، لم يكن له أن يرد سواء رضي بالمقلوع أو لم يرض، إذا كان المقلوع شيئا له قيمة عند الناس، لأنه بالقلع صار معيبا، لأنه كان ينمو ويزيد وبعد القلع لا ينمو ولا يزيد ويتسارع إليه الفساد، وحدوث العيب في المبيع في يد المشتري بغير صنعه يمنع الرد، فمع صنعه أولى. وإن كان المغيب في الأرض مما يباع عددا كالفجل، والسلق، ونحوهما فرؤية البعض لا تكون كرؤية الكل، لان هذا من باب العدديات المتفاوتة، فرؤية البعض لا تكفي كما في الثياب. وإن قلع المشتري بغير إذنه سقط خياره، لأجل العيب، إذا كان المقلوع شيئا له قيمة، فأما إذا لم يكن له قيمة فلا يسقط خياره، لأنه لا يحصل به العيب. وذكر الكرخي ههنا مطلقا، من غير هذا التفصيل، وقال: إذا اشترى شيئا مغيبا في الأرض مثل الجزر، والبصل، والثوم، وبصل الزعفران وما أشبه ذلك، فله الخيار إذا رأى جميعه، فلا يكون رؤية بعضه مبطلا خياره، وإن رضي بذلك البعض فخياره باق إلى أن يرى جميعه. وروى عمرو (1) عن محمد أنه قال: قال أبو حنيفة: المشتري بالخيار إذا قلع. قلت: فإن قلع البعض؟ قال: لم يزيد أبو حنيفة على ما قلت لك، فأما في قول أبي يوسف وقولي إذا قلع شيئا يستدل به على ما بقي، في سمنه وعظمه فرضي المشتري، فهو لازم له، فهما يقولان إن التفاوت في هذه الأشياء ليس بغالب، فصار كالصبرة (2)، وأبو حنيفة يقول: إنها تختلف من حيث الصغر والكبر، والجودة والرداءة، فلم يسقط الخيار
(1) لعله عمرو بن أبي عمرو من أصحاب محمد بن الحسن الشيباني. (2) والصيرة الناحية من الشئ وطرفه. 87 برؤيته البعض كالثياب. ولو اشترى دهن سمسم في قارورة فرأى، من خارج القارورة الدهن في القارورة، روى ابن سماعة عن محمد أنه قال: يكفي، ويسقط خياره، لان رؤيته من الخارج تعرفه حالة الدهن، فكأنه رآه خارج القارورة، في قصعة ونحوها، ثم اشتراه. وروي عن محمد في رواية أخرى أنه لا يبطل ما لم ينظر إلى الدهن، بعدما يخرج من القارورة، لان لون الدهن مما يتغير بلون القارورة. ولو نظر إلى المرآة فرأى المبيع، قالوا: لا يسقط خياره، لأنه ما رأى عين المبيع، وإنما رأى مثاله. قال: هكذا قال بعضهم، والأصح أنه يرى عين المبيع، لكن يعرف به أصله، وقد تتفاوت هيئاته بتفاوت المرآة. وعلى هذا قالوا: من نظر في المرآة فرأى فرج أم امرأته عن شهوة، لا تثبت حرمة المصاهرة. ولو نظر إلى فرج امرأته المطلقة طلاقا رجعيا عن شهوة في المرآة لا يصير مراجعا، لما قلنا. ولو اشترى سمكا في الماء يمكن أخذه، من غير اصطياد، فرآه في الماء: قال بعضهم: يسقط خياره، لأنه رأى عين المبيع. وقال بعضهم: لا يسقط، وهو الصحيح لان الشئ لا يرى في الماء كما هو، بل يرى أكثر مما هو فبهذه الرؤية لا تعرف حاله حقيقة. ولو وكل رجلا بالنظر إلى ما اشتراه ولم يره، فيلزم العقد إن رضي، ويفسخ العقد إن شاء، وقال: ويصح التوكيل، ويقوم نظره مقام نظره، لأنه جعل الرأي إليه. ولو وكل بقبضه فقبضه فرآه، هل يسقط خيار الموكل؟
88 عند أبي حنيفة: يسقط، لأنه من تمام القبض، وعندهما: لا يسقط. وأجمعوا أنه إذا أرسل رسولا بقبضه فرآه الرسول ورضي به، كان المرسل على خياره. وأجمعوا في خيار العيب أنه إذا وكل رجلا بقبض المبيع، فقبض الوكيل، وعلم بالعيب، ورضي به: لا يسقط خيار الموكل. وأما خيار الشرط، فلا رواية عن أبي حنيفة، واختلف المشايخ، قال بعضهم: على هذا الاختلاف، وقال بعضهم: لا يسقط بالاتفاق. وأما بيان ما يسقط به الخيار فنقول: إن خيار الرؤية لا يسقط بالاسقاط صريحا، بأن قال المشتري: أسقطت خياري. كذا روى ابن رستم عن محمد: لا قبل الرؤية ولا بعدها، بخلاف خيار الشرط وخيار العيب. والفرق أن هذا الخيار ثبت شرعا، لحكمة فيه، فلا يملك العبد إسقاطه، كما في خيار الرجعة: فإنه لو قال: أسقطت الرجعة وأبطلت لا تبطل، ولكن إن شاء راجع، وإن شاء تركها حتى تنقضي العدة، فتبطل الرجعة، حكما، بخلاف خيار الشرط، فإنه يثبت شرطهما، فجاز أن يسقط بإسقاطهما وكذلك خيار العيب: فإن السلامة مشروطة من المشتري، عادة، فهو كالمشروط صريحا. ثم خيار الرؤية إنما يسقط بصريح الرضا، ودلالة الرضا، بعد الرؤية، لا قبل الرؤية، ويسقط بتعذر الفسخ، وبلزوم العقد،
(1) هو إبراهيم بن رستم أبو بكر المروزي. 89 حكما وضرورة، قبل الرؤية، وبعدها، لما ذكرنا أنه لا يثبت في الأصل إلا بعد الرؤية، فلا يجوز أن يسقط بالرضا، صريحا ودلالة، إلا بعد ثبوته، حتى إنه إذا رأى وصلح له يجيزه، وإن لم يصلح له يرده، لأنه شرع نظرا له، ولكن إذا تعذر الفسخ بأي سبب كان، أو لزم العقد بطريق الضرورة، سقط قبل الرؤية خياره أو بعدها، لأنه لا فائدة في ثبوت حق الفسخ، فالتزم العقد ضرورة ويجوز أن يثبت الشئ ضرورة، وإن كان لا يثبت قصدا، كالموكل: لا يملك عزل الوكيل، بدون علمه، قصدا، ويملك ضرورة: بأن باع الموكل، بنفسه ليعزل الوكيل. إذا ثبت هذا تخرج عليه المسائل، إذا ذهب المبيع من غيره، ولم يسلمه، أو عرضه على البيع ونحوهما قبل الرؤية لا يسقط، لأنه لا يسقط بصريح الرضا في هذه الحالة، فكذا لا يسقط بدلالة الرضا. ولو أعتق المشتري العبد أو دبره، أو استولد الجارية، فإنه يسقط الخيار قبل الرؤية وبعدها، لأنه تعذر الفسخ، لأن هذه حقوق لازمة أثبتها للعبد، ومن ضرورة ثبوت الحق اللازم من المالك لغيره لزوم الملك له فثبت اللزوم شرعا، ضرورة ثبوت الحق اللازم، شرعا، ومتى ثبت اللزوم تعذر الفسخ. ولو رهنه المشتري ولم يسلمه، أو أجره من رجل، أو باعه على أن المشتري بالخيار سقط خياره قبل الرؤية وبعدها، حتى لو أفتك الرهن، أو مضت المدة في الإجازة، أو رده على المشتري بخيار الشرط ثم رآه، لا يكون له الرد بخيار الرؤية، لأنه أثبت حقا لازما لغيره بهذه التصرفات، فيكون من ضرورته لزوم الملك له، وذلك بامتناع ثبوت الخيار فيبطل ضرورة لأنه لا فائدة فيه. وفي خيار العيب لا يسقط بهذه التصرفات، لان ثمة العقد لازم،
90 مع العيب بعد القبض، حتى لا يمكنه الرد إلا بقضاء أو رضا، وإذا كان لازما فلا يسقط الخيار لضرورة اللزوم، وإنه لازم. وعلى هذا فالمشتري إذا كاتب، ثم عجز العبد ورد في الرق ثم رآه، لا يثبت له خيار الرؤية لان الكتابة عقد لازم. وكذلك لو وهب، وسلم قبل الرؤية، لأنه بالتسليم أثبت حقا لازما، فإنه لا يقدر على الرجوع إلا بقضاء أو رضا. هذا إذا كان المشتري بصيرا، أما إذا كان المشتري أعمى حتى ثبت له الخيار، بسبب جهالة الأوصاف، لعدم الرؤية فبماذا يسقط خياره؟ اختلفت الروايات عن أصحابنا فيه، والحاصل أن ما يمكن جسه وذوقه وشمه يكتفي بذلك، لسقوط خياره، في أشهر الروايات، ولا يشترط بيان الوصف له، ويكون بمنزلة نظر البصير، وفي رواية هشام عن محمد أنه يعتبر الوصف، مع ذلك، لان التعريف الكامل في حقه يثبت بهذا. أما ما لا يمكن جسه، بأن اشترى ثمارا على رؤوس الأشجار، فإنه يعتبر فيه الوصف، لا غير في أشهر الروايات، وفي رواية: يوقف في مكان لو كان بصيرا لرأى ذلك. وأما إذا كان المبيع دارا أو عقارا، فالأصح من الروايات أنه يكتفي بالوصف، فإذا رضي به كان بمنزلة النظر من البصير. وقالوا في الأعمى: إذا اشترى فوصف له ورضي بذلك، ثم زال العمى، فلا خيار له لان الوصف خلف عن الرؤية في حقه، والقدرة على الأصل، بعد حصول المقصود بالبدل، لا تسقط حكم البدل. ولو اشترى البصير شيئا لم يره، فوصف له فرضي به لم يسقط خياره، لأنه لا عبرة للخلف مع القدرة على الأصل.
91 ولو اختلف البائع والمشتري فقال البائع: بعتك هذا الشئ، وقد رأيته، وقال المشتري: لم أره، فالقول قول المشتري، لان البائع يدعي عليه إلزام العقد، وهو منكر فيكون القول قوله، ويستحلف المشتري، لان البائع يدعي عليه سقوط حق الفسخ، ولزوم العقد، وهذا مما يصح بذله والاقرار به، فيجري فيه الاستحلاف. ولو رأى عبدا أو دابة، ثم اشترى بعد ذلك، بشهر أو نحوه، فلا خيار له، لأنه اشترى شيئا قد رآه، وثبوت هذا الخيار معلق بشراء شئ لم يره، ولان ما هو المقصود من الخيار قد ثبت، فكان الاقدام على الشراء دلالة الرضا. ولو اختلفا فقال المشتري: قد تغير عن الحالة التي رأيته، والبائع ينكر فالقول قول البائع مع يمينه، لان دعوى التغيير إما أن تكون دعوى العيب أو دعوى تبدل هيئته فيما يحتمل التبدل، وهذا دعوى أمر عارض فيكون القول قول من تمسك بالأصل.
92 باب خيار العيب الكلام فيه في مواضع: في بيان شرعية خيار العيب، وفي بيان العيوب التي توجب الخيار: جملة، وتفصيلا وفي بيان كيفية الرد، وفي بيان ما يمنع الرد ويسقط الخيار، وفي بيان ما يمنع الرجوع بنقصان العيب وما لا يمنع، وفي بيان الابراء عن العيوب. أما الأول فلان سلامة البدلين، في عقد المبادلة مطلوبة عادة، فتكون بمنزلة المشروط صريحا، ولو اشترى جارية على أنها بكر أو خبازة ولم توجد، ثبت الخيار، لفوات غرضه، كذا هذا. وأما بيان العيوب الموجبة للخيار في الجملة فنقول: كل ما أوجب نقصان القيمة والثمن في عادة التجار فهو عيب يوجب الخيار. وما لا يوجب نقصان القيمة والثمن فليس بعيب. وأما تفصيل العيوب، فهي على نوعين:
93 أحدهما: ما يوجب فوات جزء من المبيع، أو تغييره، من حيث الظاهر، دون الباطن. والثاني: ما يوجب النقصان، من حيث المعنى دون الصورة. أما الأول فكثير، نحو: العمى، والعور، والشلل، والزمانة (1)، والإصبع الناقصة، والسن السوداء، والسن الساقطة، والسن الشاغية (2)، والظفر الأسود، والصمم، والخرس، والبكم، والقروح، والشجاج، وأثر الجراح، والأمراض كلها التي تكون في سائر البدن، والحميات، وهذا كله ظاهر. وأما الثاني فنحو: السعال القديم، وارتفاع الحيض في زمان طويل، أدناه شهران فصاعدا في الجواري. ومنها: صهوبة (3) الشعر، والشمط (4)، والشيب في العبيد والجواري، والبخر (5) عيب في الجواري، دون العبيد، إلا أن يكون فاحشا، أو يكون عن داء، وكذلك الدفر (6). ومنها: الزنا: عيب في الجواري، دون الغلمان، إلا إذا كثر ذلك منهم، وصار عادة لهم فيكون عيبا. وكذا كونه ولد الزنا يكون عيبا في الجواري دون العبيد.
(1) يقال زمن الشخص زمانة إذا مرض مرضا يدوم زمانا طويلا. (2) والسن الشاغية هي التي تزد على الأسنان ويخالف منبتها منبت غيرها. وقيل الشغي ان تتقدم الأسنان العليا على السفلى. وقيل إن للسن الشاغية معنيين: أحدهما أن تكون زائدة، والثاني أن تكون أطول أو أكبر أو مخالفة لمنبت التي تليها. (3) أي احمراره. (4) الشمط بياض شعر الرأس يخالط سواده (مختار الصحاح). (5) البخر نتن ريح الفم - يقال هو ابخر وهي بخراء (المصالح) (6) الدفر نتن الريح (المصباح). 94 والحبل عيب في الجارية، لا في البهائم. والنكاح في الغلام والجارية عيب. والكفر عيب في الجارية والغلام. ومن هذه الجملة: الإباق (1)، والسرقة، والبول في الفراش، والجنون. وحاصل الجواب فيها أنها في الصغير الذي لا يعقل ولا يأكل وحده لا تكون عيبا، لأنه لا يعرف الامتناع من هذه الأشياء، فلا يثبت به وجود العيب بالاحتمال، فأما إذا كان صبيا عاقلا، فإنه يكون عيبا، ولكن عند اتحاد الحالة يثبت حق الرد، لا عند الاختلاف، بأن ثبت أنه أبق عند البائع، ثم يأبق عند المشتري كلاهما في حالة الصغر، أو كلاهما في حالة الكبر، لان سبب وجود هذه الأشياء في حالة الصغر عيب، وهو قلة المبالاة، وقصور العقل، وضعف المثانة، وفي حال الكبر يكون السبب سوء اختياره، وداء في الباطن، فإذا اتفق الحالان علم أن السبب واحد، فيكون هذا العيب ثابتا عند البائع، فأما إذا اختلف، فلا يعرف، لأنه يجوز أن يزول الذي كان عند البائع ثم يحدث النوع الآخر عند المشتري، فلا يكون له حق الرد، كالعبد إذا حم عند البائع ثم حم عند المشتري، فإن كان هذا الثاني غير ذلك النوع لا يثبت حق الرد، وإن كان من نوعه ثبت حق الرد، كذا هذا. فأما الجنون: إذا ثبت وجوده عند البائع فهل يشترط وجوده ثانيا عند المشتري؟ ليس فيه رواية نصا، واختلف المشايخ، فبعضهم قالوا: لا يشترط، لان محمدا قال: الجنون عيب لازم أبدا، فلا يشترط وجوده ثانيا عند المشتري، بخلاف السرقة والإباق
(1) أي في الإباق والسرقة والبول في الفراش. أما الجنون فسيأتي الكلام عليه وحده عقب الكلام على الأولى. 95 والبول في الفراش، فإنه ما لم يوجد عند المشتري، لا يثبت حق الرد. وقال بعضهم: لا يكون له حق الرد ما لم يوجد ثانيا عند المشتري، كما في الإباق ونظائره، إلا أن الفرق أن في الجنون، لا يشترط اتحاد الحالة، فإن جن عند البائع، وهو صغير ثم جن عند المشتري بعد البلوغ فإنه يثبت حق الرد، وفي الإباق ونظيره لا يثبت حق الرد، إلا عند اتحاد الحالة، على ما ذكرنا. وأما كيفية الرد فنقول: إن المشتري إذا ادعى عيبا بالمبيع، فلا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون عيبا ظاهرا، مشاهدا، كالإصبع الزائدة، والسن الشاغية الزائدة، والعمى، ونحوها. أو كان عيبا باطنا، في نفس الحيوان، لا يعرفه إلا الأطباء. أو يكون في موضع لا يطلع عليه الرجال، ويطلع عليه النساء. أو يكون عيبا لا يعرف بالمشاهدة، ولا بالتجربة والامتحان عند الخصومة، وذلك كالإباق، والسرقة، والبول على الفراش، والجنون. أما إذا كان عيبا مشاهدا، فإن القاضي لا يكلف المشتري بإقامة البينة على إثبات العيب عنده، لكون العيب ثابتا عنده بالعيان والمشاهدة، ويكون للمشتري حق الخصومة مع البائع، بسبب هذا العيب فبعد هذا القاضي ينظر في العيب الذي يدعي، فإن كان عيبا لا يحدث مثله في يدي المشتري، كالإصبع الزائدة ونحوها، فإنه يرد على البائع، ولا يكلف المشتري بإقامة البينة على ثبوت العيب عند البائع، لأنه تيقن ثبوته عنده، إلا أن يدعي البائع الرضا والابراء، فيطلب منه البينة، فإن أقام البينة عليه، وإلا فحينئذ يستحلف المشتري على دعواه،
96 فإن نكل لم يرد عليه، وإن حلف رد على البائع، فإن كان عيبا يجوز أن يحدث مثله في يد المشتري، فإن القاضي يقول للبائع: هل حدث هذا عندك؟ فإن قال: نعم قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا والابراء، وإن أنكر الحدوث عنده، فإنه يقول للمشتري: ألك بينة؟ فإن أقامها قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا والابراء، وإن لم يكن له بينة ذكر في الأصل وقال: يستحلف البائع على البتات (1) بالله: لقد بعته وسلمته، وما به هذا العيب لان هذا أمر لو أقر به لزمه، فإذا أنكر يحلف لصدق قوله، وإنما يحلف على هذا الوجه لان العيب قد يحدث بعد البيع قبل القبض، فيثبت له حق الرد، فلا بد من ذكر البيع والتسليم. ثم من المشايخ من قال: لا يجب أن يستحلف هكذا، لأنه يبطل حق المشتري، في الرد في بعض الأحوال، لأنه يكون للمشتري حق الرد بعيب حادث بعد البيع قبل القبض، فمتى حلف على هذا الوجه لم يحنث، إذا حدث العيب قبل القبض، لان شرط الحنث وجود العيب عند البيع والقبض جميعا، ولكن الاحتياط للمشتري أن يحلف البائع بالله: وما للمشتري رد السلعة بهذا العيب الذي يدعي، وقيل: يحلف بالله: لقد سلمته وما به هذا العيب الذي يدعي. ومنهم من قال بأن ما ذكر محمد صحيح مع إضمار زيادة في كلامه، فيحلف البائع بالله: لقد بعته وسلمته وما به هذا العيب لا عند البيع ولا عند التسليم، إلا أن محمدا اختصر كلامه، والاختصار ثابت في اللغة، فيحمل كلامه عليه. وأما إذا كان العيب باطنا لا يعرفه إلا الخواص من الناس، كالأطباء والنخاسين، فإنه يعرف ذلك ممن له بصارة في ذلك الباب، فإن اجتمع
(1) أي على القطع والجزم لا على مجرد نفى العلم. 97 على ذلك العيب رجلان مسلمان، أو قال ذلك رجل مسلم عدل، فإنه يقبل قوله، ويثبت العيب في حق إثبات الخصومة، ثم بعد هذا يقول القاضي للبائع: هل حدث عندك العيب الذي يدعي؟ فإن قال " نعم " قضى عليه بالرد، وإن أنكر يقيم المشتري البينة، فإن لم يكن له بينة استحلف البائع على الوجه الذي ذكرنا، فإن حلف لم يرد عليه، وإن نكل قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا أو الابراء. وإن كان العيب مما لا يطلع عليه الرجال، ويطلع عليه النساء، فإنه يرجع إلى قول النساء، فترى امرأة مسلمة عدلة، والثنتان أحوط. فإذا شهدت على العيب، ففي هذه المسألة عن أبي يوسف روايتان، وكذا عن محمد روايتان: في رواية فرق أبو يوسف بين ما إذا كان المبيع في يد البائع أو في يد المشتري فقال: إن كان في يد البائع، رد المبيع بشهادتها، لان ما لا يطلع عليه الرجال فقول المرأة الواحدة بمنزلة البينة، فيثبت العيب بقولها، والعيب الموجود عند البائع يفسخ به البيع. وإن كان بعد القبض أقبل قولها في حق إثبات الخصومة، ولا أقبل في حق الرد على البائع، لأن المبيع وجد معيبا في ضمان المشتري فلا أنقل الضمان إلى البائع بقول النساء، ولكن أثبت حق الخصومة ليثبت الاستحقاق. وفي رواية قال: إن كان العيب مما لا يحدث مثله يفسخ بقولهن، لان العيب قد ثبت بشهادتهن، وقد علمنا كون العيب عند البائع بيقين، فيثبت حق الفسخ، وإن كان عيبا يحدث مثله لم يثبت حق الفسخ بقولهن، لان هذا مما يعلم من جهة غيرهن. وأما عن محمد ففي رواية قال: لا يفسخ بقولهن بحال، وفي رواية: يفسخ قبل القبض وبعده بقولهن، لان قولها فيما لا يطلع عليه
98 الرجال كالبينة، كما في النسب وأما العيب الذي ليس بمشاهد عند الخصومة ولا يعرف بقول الناس، كالإباق والجنون والسرقة والبول على الفراش، فقد ذكرنا أنه لا بد من ثبوت العيب عند المشتري وعند البائع، عند اتحاد الحالة، إلا في الجنون إن اتحاد الحال ليس بشرط في الجنون. فإن أقام المشتري البينة على حدوث العيب عنده، فإنه يقول القاضي للبائع: هل أبق عندك؟ فإن قال: نعم، قضى عليه بالرد، إلا أن يدعي الرضا أو الابراء، وإن أنكر الإباق أصلا، وادعى اختلاف الحالة، يقول القاضي للمشتري: ألك بينة؟ فإن قال: نعم وأقام البينة على ما يدعى، قضى عليه بالرد، وإن قال: لا، يستحلف البائع بالله: ما أبق عندك قط منذ بلغ، ولا جن عندك قط، فإن حلف انقطعت الخصومة بينهما، وإن نكل عن اليمين قضى عليه بالرد. وإن لم يجد المشتري بينة على إثبات أصل العيب عند نفسه، هل يستحلف القاضي البائع على ذلك أم لا؟ لم يذكر في بيوع الأصل، وذكر في الجامع وقال: يستحلفه على قول أبي يوسف ومحمد، ولم يذكر قول أبي حنيفة، فمن المشايخ من قال: يستحلف بلا خلاف، ومنهم من قال: هذه المسألة على الاختلاف، فقول أبي حنيفة: لا يستحلف، نص عليه في كتاب التزكية، على ما يعرف في الجامع، والله أعلم. ثم كيف يستحلف؟ قالوا: يستحلف على العلم، لأنها يمين، على غير فعله بالله ما يعلم أن هذا العيب موجود في هذا العبد الآن، فإن نكل عن اليمين ثبت العيب عند المشتري، فيثبت له حق الخصومة، وإن حلف برئ.
99 وأما ما يبطل حق الرد ويمنع وجوب الأرش، وما لا يمنع فنقول: أصل الباب أن الرد بالعيب يمتنع بأسباب: منها: حدوث العيب عند المشتري عندنا، خلافا لمالك، والشافعي في أحد قوليه. والصحيح قولنا، لأن المبيع خرج عن ملكه معيبا بعيب واحد، فلو رد يرد بعيبين، وشرط الرد أن يرد على الوجه الذي أخذ ولم يوجد. ومنها: الزوائد المنفصلة المتولدة من العين بعد القبض، كالولد والثمرة، أو المستفادة، بسبب العين، كالأرض والعقر تمنع الرد بالعيب، وسائر أسباب الفسخ، كالإقالة، والرد بخيار الرؤية، والشرط، في قول علمائنا. وقال الشافعي: لا تمنع. وأجمعوا أن الكسب أو الغلة، التي تحدث بعد القبض لا تمنع فسخ العقد. وأجمعوا أن الزوائد المنفصلة قبل القبض: لا تمنع الفسخ، بل يفسخ على الأصل والزوائد جميعا. فأما في الزوائد المتصلة، كالسمن، والجمال ونحوها، وقد حدثت بعد القبض فإنه لا يمنع الرد بالعيب إذا رضي المشتري، لكونها تابعة للأصل حقيقة وقت الفسخ، فإذا انفسخ العقد على الأصل، يفسخ فيها تبعا. فأما إذا أبى المشتري أن يرد، وأراد الرجوع بنقصان العيب وقال البائع: لا أعطيك نقصان العيب ولكن رد علي المبيع: حتى أرد عليك الثمن، هل للبائع ذلك؟
100 على قول أبي حنيفة وأبي يوسف ليس له ذلك. وعلى قول محمد له ذلك. وهذا لان الزيادة المتصلة، بعد القبض تمنع فسخ العقد على الأصل، إذا لم يوجد الرضى ممن له الحق في الزيادة عندهما، وعند محمد لا تمنع، كما في مسألة المهر إذا ازداد زيادة متصلة بعد القبض ثم طلقها الزوج قبل الدخول بها، على ما نذكر في كتاب النكاح. ومنها: تعذر الفسخ بأسباب مانعة من الفسخ على ما عرف. ومنها: الرضى بالعيب صريحا أو دلالة، على ما ذكرنا في خيار الشرط، أو وصول عوض الفائت إليه، حقيقة أو اعتبارا، وكان للمشتري حق الرجوع بنقصان العيب في المواضع التي امتنع الرد، إلا إذا وجد الرضا صريحا أو دلالة، أو وصل إليه العوض حقيقة أو اعتبارا، لان ضمان النقصان بدل الجزء الفائت، فإذا رضي بالعيب فقد رضي بالمبيع القائم، بجميع الثمن، بدون الجزء الفائت، فلا يجب شئ، وإذا حصل العوض، فكأن الجزء الفائت صار قائما معنى بقيام خلفه. هذا الذي ذكرنا إذا كان المشتري عاقدا لنفسه، فأما إذا كان عاقدا لغيره: فإن كان ممن يجوز أن يلزمه الخصومة، كالوكيل، والشريك، والمضارب، والمأذون، والمكاتب، فالخصومة تلزمه، ويرد عليه بالعيب بالحجة، لأنها من حقوق العقد، وحقوق العقد ترجع إلى العاقد إذا كان ممن يلزمه الخصومة، كالعاقد لنفسه فما قضى به على العاقد رجع به على من وقع له العقد، لكونه قائما مقامه، إلا المكاتب والمأذون، فإنهما لا يرجعان على المولى، ولكن الدين يلزم المكاتب، ويباع فيه المأذون، لأنهما يتصرفان لأنفسهما فلا يرجعان على غيرهما.
101 فأما القاضي والامام إذا عقدا بحكم الولاية، أو أمينهما بأمرهما، لم يلزمهم الخصومة، ولم يصيروا خصما في الباب، إلا أنه ينصب خصما يخاصم في ذلك فما قضى به عليه رجع في مال من وقع التصرف له، وإن كان التصرف للمسلمين رجع في بيت مالهم. فأما العاقد إن كان صبيا محجورا، أو عبدا محجورا بإذن إنسان، في بيع أو شراء، فلا خصومة عليهما ولا ضمان، وإنما الخصومة على من وكلهما في ذلك التصرف، لان حكم العقد وقع للموكل، والعاقد ليس من أهل لزوم العهدة، فيقوم مقامه في مباشرة التصرف لا غير، بمنزلة الرسول والوكيل في النكاح. وأما البراءة عن العيوب فنقول: جملة هذا أنه إذا باع شيئا على أن البائع برئ عن كل عيب، فعم ولم يخص شيئا من العيوب، فإن البيع جائز، والشرط جائز، في قول علمائنا، حتى لو وجد المشتري به عيبا فأراد أن يرده، فليس له ذلك. وقال الشافعي: البراءة عن كل عيب لا يصح ما لم يسم العيب فيقول: عن عيب كذا. وكذلك على هذا الخلاف والبراءة، والصلح عن الديون المجهولة. وإذا لم يصح البراءة عن كل عيب عنده، هل يفسد العقد به أم لا؟ فله فيه قولان: في قول: يبطل العقد أيضا. وفي قول: يصح العقد، ويبطل الشرط. وقال ابن أبي ليلى: ما لم يعين العيب ويضع يده على العيب، ويقول: أبرأتك عن هذا العيب، فإنه لا يصح الابراء.
102 ثم إذا صح هذا الشرط - عندنا - يبرأ عن كل عيب من العيوب، الظاهرة والباطنة، لان اسم العيب يقع على الكل. فأما إذا قال: أبرأتك عن كل داء روي عن أبي يوسف أنه يقع على كل عيب ظاهر، دون الباطن. وروى الحسن عن أبي حنيفة على عكسه أنه يقع على كل عيب باطن، والعيب الظاهر يسمى مرضا. ولو أبرأ البائع عن كل غائلة، روي عن أبي يوسف أنه يقع على السرقة، والإباق، والفجور، وما كان من فعل الانسان مما يعد عيبا عند التجار. ثم اتفق علماؤنا على أنه يدخل تحت البراءة المطلقة، العيب الموجود وقت البيع. واختلفوا في العيب الحادث بعد البيع قبل القبض؟ قال أبو يوسف: يدخل تحت البراءة، حتى لا يملك المشتري الرد بالعيب الحادث. وقال محمد: لا يدخل حتى يملك الرد بذلك العيب. وهذا فرع مسألة أخرى، وهي أنه إذا باع بشرط البراءة عن كل عيب يحدث بعد البيع قبل القبض، هل يصح هذا الشرط أم لا؟ عند أبي يوسف: يصح. وعند محمد: لا يصح. فلما صحت البراءة عن العيب الحادث حالة التنصيص، فكذا في حالة الاطلاق عن كل عيب فيدخل تحته الحادث بعد البيع قبل القبض، فلما كانت البراءة عن العيب الحادث بعد البيع قبل القبض، لا تصح عند محمد حالة التنصيص، فحالة الاطلاق أولى.
103 ثم ما ذكرنا من الجواب، فيما إذا قال: أبرأتك عن كل عيب مطلقا. فأما إذا قال: أبيعك على أني برئ من كل عيب به، لم يدخل في ذلك العيب الحادث في قولهم جميعا، لأنه لم يعم البراءة وإنما خصها بالموجود القائم عند العقد، دون غيره. ولو قال: على أني برئ من كل عيب كذا، وسمى ضربا من العيوب أو ضربين، لم يبرأ من غير ذلك النوع، مثل أن يبرأ من القروح أو الكي، ونحو ذلك لأنه أسقط الحق من نوع خاص. ولو كانت البراءة عامة، فاختلفا في عيب، فقال البائع: كان به يوم العقد، وقال المشتري: بل حدث قبل القبض، فالقول قول البائع عند أبي يوسف وعند محمد، لان البراءة عامة، فإذا ادعى المشتري حدوث عيب فيريد إبطال العموم، فلا يبطل قوله إلا ببينة. وقال زفر والحسن: القول قول المشتري، لان الأصل هو ثبوت الحق، والمشتري هو المبرئ، فيكون القول قوله في مقدار البراءة. ولو كانت البراءة من عيب خاص سماه المشتري ثم اختلفا فقال البائع: كان بها، وقال المشتري: حدث قبل القبض،، فالقول قول المشتري عند محمد، ولم يثبت عن أبي يوسف قول، لأن هذه البراءة خاصة، فالقول فيها قول المشتري، كما في البراءة عن دين خاص.
104 باب الإقالة والمرابحة وغير ذلك في الباب فصول: بيان المرابحة، وبيان الإقالة، وبيان حكم الاستبراء، وبيان جواز التفريق بين ذوي الرحم المحرم، وتحريمه في البيع. أما الأول فنقول: البيع في حق البدل ينقسم خمسة أقسام: بيع المساومة: وهو البيع بأي ثمن اتفق، وهو المعتاد. والثاني: بيع المرابحة: وهو تمليك المبيع بمثل الثمن الأول وزيادة ربح. والثالث: بيع التولية: وهو تمليك المبيع بمثل الثمن الأول من غير زيادة ولا نقصان. والرابع: الاشراك: وهو بيع التولية في بعض المبيع، من النصف والثلث وغير ذلك. والخامس: بيع الوضيعة: وهو تمليك المبيع بمثل الثمن الأول مع نقصان شئ منه.
105 ثم الأصل في بيع المرابحة أنه مبني على الأمانة فإنه بيع بالثمن الأول، بقول البائع، من غير بينة ولا استحلاف، فيجب صيانته عن حقيقة الخيانة وشبهها، فإذا ظهرت الخيانة يجب رده، كالشاهد: يجب قبول قوله، فإذا ظهرت الخيانة يرد قوله، كذا هذا. إذا ثبت هذا فنقول: إذ باع شيئا مرابحة على الثمن الأول، فلا يخلو إما أن يكون الثمن من ذوات الأمثال، كالدراهم والدنانير، والمكيل، والموزون، والمعدود المتقارب، أو يكون من الاعداد المتفاوتة، مثل العبيد والدور والثياب والرمان والبطاطيخ ونحوها. أما إذا كان الثمن الأول مثليا فباعه مرابحة على الثمن الأول وزيادة ربح: فيجوز، سواء كان الربح من جنس الثمن الأول أو لم يكن، بعد أن يكون شيئا مقدرا معلوما، نحو الدرهم، والخمسة، وثوب مشار إليه، أو دينار، لان الثمن الأول معلوم، والربح معلوم. فأما إذا كان الثمن الأول لا مثل له، فإن أراد أن يبيعه مرابحة عليه، فهذا على وجهين: إما أن يبيعه مرابحة ممن كان العرض في يده وملكه أو من غيره. فإن باعه ممن ليس في ملكه ويده لا يجوز، لأنه لا يخلو إما أن يبيعه مرابحة بذلك العرض أو بقيمته، ولا وجه للأول، لان العرض ليس في ملك من يبيعه منه، ولا وجه أن يبيعه مرابحة، بقيمته، لان القيمة تعرف بالحزر، والظن، فيتمكن فيه شبهة الخيانة. وأما إذا أراد أن يبيعه مرابحة، ممن كان العرض في يده، وملكه، فهذا على وجهين: إن قال: أبيعك مرابحة، بالثوب الذي في يدك وبربح عشرة
106 دراهم، جاز لأنه جعل الربح على الثوب عشرة دراهم، وهي معلومة. وإن قال: " أبيعك بذلك الثوب بربح ده يازده " (1)، فإنه لا يجوز، لان تسمية ربح ده يازده أو أحد عشر يقتضي أن يكون الربح من جنس رأس المال، لأنه لا يكون أحد عشر إلا وأن يكون الحادي عشر من جنس العشرة فصار كأنه باع بالثمن الأول وهو الثوب، وبجزء من جنس الأول، والثوب لا مثل له من جنسه. ثم في بيع المرابحة يعتبر رأس المال وهو الثمن الأول، أي ما ملك المبيع به، ووجب بالعقد، دون ما نقده بدلا عن الأول بيانه: إذا اشترى ثوبا بعشرة دراهم، ثم أعطى عنها دينارا، أو ثوبا قيمته عشرة دراهم، أو أقل أو أكثر، فإن رأس المال هو العشرة المسماة في العقد، دون الدينار والثوب، لان هذا يجب بعقد آخر، وهو الاستبدال. وكذلك من اشترى ثوبا بعشرة، وهي خلاف نقد البلد، ثم قال لآخر: أبيعك هذا الثوب بربح درهم، لزمه عشرة مثل التي وجبت بالعقد. وإن كان يخالف نقد البلد، والربح يكون من نقد البلد، لأنه أطلق الربح، فيقع على نقد البلد. ولو نسب الربح إلى رأس المال فقال: أبيعك بربح العشرة، أو: ده يا زده، أو: بربح أحد عشر، فالربح من جنس الثمن الأول، لأنه جعله جزءا منه، فكان على صفته. ولو اشترى ثوبا، بعشرة دراهم جياد، ثم إنه دفع إلى البائع عشرة دراهم، بعضها جياد وبعضها زيوف، وتجوز بذلك البائع، ثم أراد أن
معنى ده يازده كل عشرة أحد عشر، أي كل عشرة ربحها واحد. 107 يبيعه مرابحة، جاز له أن يبيعه مرابحة على العشرة الجياد من غير بيان، لان المسمى المضمون بالعقد هو الجياد، لكن جعل الرديئة بدلا عن الأول، بعقد آخر. ولو اشترى ثوبا بعشرة، نسيئة، فباعه مرابحة على العشرة، وبين أنه اشتراه بها نسيئة، لا يكره، لأنه لم يوجد الخيانة، حيث أعلم المشتري بذلك ورضي به، فأما إذا باع مرابحة على العشرة من غير بيان النسيئة فإنه يكره والبيع جائز، وللمشتري الخيار إذا علم لأنه وجد الغرور والخيانة، لان المشتري إنما اشتراه مرابحة على العشرة على تقدير أن الثمن في البيع الأول عشرة بطريق النقد، ويختلف ثمن المبيع بين النسيئة والنقد، فيثبت له الخيار، كما لو اشترى برقمه، ثم علم في المجلس يثبت له الخيار، كذا هذا، بخلاف ما إذا باعه مساومة، بأكثر من قيمته، ثم علم المشتري، بأنه اشترى بأقل من ذلك، لا يكون له الخيار، لان المشتري لم يصر مغرورا من جهته. ولو قال: إن قيمته كذا وهو أكثر من قيمته، والمشتري لا يعرف قيمة الأشياء، واشتراه بناء على قول البائع، فإنه يكون له الخيار، لأنه يصير غارا، أما إذا كان عالما بالقيمة، واشتراه بأكثر من ذلك، لغرض له في ذلك، فلا بأس به، وأصحابنا يفتون في المغبون أنه لا يرد، ولكن هذا في مغبون لم يغر، أما في مغبون غر فيكون له حق الرد، استدلالا بمسألة المرابحة في النسيئة. ولو اشترى بدين له على رجل، فله أن يبيعه مرابحة من غير بيان، لأنه اشترى بثمن في ذمته، لان الدين لا يتعين ثمنا. وإن أخذ ثوبا صالحا من دين له على رجل، ليس له أن يبيعه مرابحة على ذلك الدين، لان مبنى الصلح على الحط.
108 ولو اشترى ثوبا بعشرة، ثم رقمه بأكثر من الثمن، وهو قيمته فإن كان قيمته أكثر من ذلك ثم باعه مرابحة على الرقم جاز ولا يكون خيانة، لأنه باع المبيع من غير خيانة، حيث ذكر الرقم، ولكن هذا إذا كان عند البائع، أن المشتري يعلم أن الرقم غير والثمن غير، وأما إذا كان عنده أن المشتري يعلم أن الرقم والثمن سواء: فإنه يكون خيانة، وله الخيار. وكذا لو ملك شيئا بالميراث، أو الهبة، فقومه رجل عدل بقيمة عدل، ثم باعه مرابحة على قيمته، وهي كذا، لا بأس به، لأنه صادق في مقالته. ولو اشترى شيئا بعشرة دراهم، فقال لرجل آخر: اشتريت هذا باثني عشر وأبيعك مرابحة بربح درهم، ثم ظهر أن الثمن الأول كان عشرة إما بإقرار البائع أو بالبينة، قال أبو حنيفة ومحمد رحمة الله عليهما: لا يحط قدر الخيانة من الثمن، ولكن يتخير المشتري: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء رضي ربه بجميع الثمن. وقال أبو يوسف بأنه يحط قدر الخيانة، وحصته من الربح، ويكون العقد لازما بالباقي من الثمن فيحط عنه درهمان، وحصتهما من الربح، وذلك سدس درهم. هذا في بيع المرابحة. فأما إذا خان في بيع التولية، فقد قال أبو حنيفة وأبو يوسف: يحط قدر الخيانة، ويلزم البيع بالثمن الباقي، بلا خيار. وقال محمد بأنه لا يحط قدر الخيانة، لكن يتخير المشتري ما دام المبيع قائما، فإذا هلك سقط خياره.
109 فأبو يوسف سوى بين التولية والمرابحة، وقال: يحط قدر الخيانة فيهما، ويلزم العقد بالباقي فيهما. ومحمد سوى بينهما وقال: لا يحط قدر الخيانة فيهما، ويثبت له الخيار. وأبو حنيفة فرق فقال: يحط قدر الخيانة في التولية، ولا يحط في المرابحة. ثم الأصل أن كل نفقة ومؤونة حصلت في السلعة، وأوجبت زيادة في المعقود عليه، إما من حيث العين أو من حيث القيمة وكان ذلك معتادا إلحاقا برأس المال عند التجارة، فإنه يلحق برأس المال، كأجرة القصارة، والخياطة، والكراء، وطعام الرقيق وكسوتهم، وعلف الدواب وثيابهم، ونحو ذلك، فبيعه مرابحة عليه، ولا يقول عند البيع: إن ثمنه كذا، ولكن يقول: يقوم علي بكذا فأبيعك على هذا مع ربح كذا، حتى لا يكون كاذبا في كلامه. أما أجرة تعليم القرآن والأدب والشعر والحرف، فإنها لا تلحق برأس المال وإن أوجبت زيادة في القيمة، لأنها ليست بمتعارفة عند التجار. وكذا أجرة الطبيب، وثمن الدواء، وأجرة الفصاد، والحجام، وأجرة الختان، والبزاغ، وأجرة الرائض والراعي، وجعل الآبق، لان عادة التجار هكذا. وأما أجرة السمسار ففي ظاهر الرواية يلحق برأس المال، وفي البرامكة قال: لا يلحق. وأما الإقالة فمشروعة، لقوله عليه الصلاة والسلام: من أقال نادما بيعته، أقال الله عثرته يوم القيامة. ثم اختلفوا فيها، قال أبو حنيفة: هي فسخ في حق المتعاقدين، بيع جديد في حق
110 الثالث، حتى إن من اشترى دارا ولها شفيع، فسلم الشفعة، ثم أقالا البيع فيها، فإنه يثبت للشفيع الشفعة ثانيا، لأنها عقد جديد، في حق الشفيع. وقال محمد: الإقالة فسخ، إلا إذا كان لا يمكن أن تجعل فسخا، فتجعل بيعا جديدا. وقال أبو يوسف: هي بيع جديد ما أمكن، فإن لم يمكن تجعل فسخا بأن كانت الإقالة قبل قبض المبيع، وهو منقول: فإنها تجعل فسخا، لان بيع المنقول قبل القبض لا يجوز، حتى إذا كان المبيع دارا، وأقالا قبل القبض، يكون بيعا، لان بيع العقار المبيع قبل القبض جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال زفر: هي فسخ في حق المتعاقدين وغيرهما، حتى لا يقول بثبوت الشفعة كما قال أبو حنيفة. ويبنى على هذا أنهما إذا تقابلا بأكثر من الثمن الأول، أو بأقل أو بجنس آخر، أو أجل الثمن في الإقالة، فعلى قول أبي حنيفة: تصح الإقالة بالثمن الأول، ويبطل ما شرطاه، لأنها فسخ في حق المتعاقدين، والفسخ يكون بالثمن الأول، ويبطل الشرط الفاسد. وهو قول زفر، لأنها فسخ محض، في حق الناس كافة. وعلى قول الشافعي: الإقالة باطلة ههنا، لأنهما أدخلا فيها شرطا فاسدا، فهي كالبيع. وقال محمد: إن كانت الإقالة بغير الثمن الأول، أو بأكثر منه، فهي بيع. وإن كانت بمثل الثمن الأول، أو أقل، فهي فسخ بالثمن، ويبطل شرط النقصان، وكذلك إن أجل يبطل الأجل.
111 وعلى قول أبي يوسف يصح بما ذكرا من الثمن، وشرطا به من الزيادة والنقصان والأجل، لأنها بيع جديد ما أمكن وهو ممكن. وأما بيان حكم الاستبراء فنقول: الاستبراء مشروع. وهو نوعان: مندوب وواجب. فالاستبراء المندوب إليه: هو أن الرجل إذا وطئ جاريته ثم أراد بيعها، يستحب له أن يستبرئها بحيضة ثم يبيعها، عند عامة العلماء. وقال مالك: واجب، لان احتمال العلوق منه قائم، فيجب عليه صيانة مائه عن الضياع. ولكن عندنا: لا يجب، لان سبب الوجوب لم يوجد، على ما نذكر. وأما الاستبراء الواجب: فهو الاستبراء على من يحدث له ملك الاستمتاع بملك اليمين، بأي سبب كان من السبي، والشراء، والهبة، والوصية، والميراث، ونحوها. وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال في سبايا أوطاس (1) ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن حملهن، ولا الحيالى (2) حتى يستبرئن بحيضة، أوجب الاستبراء على السابي، والسبي سبب حدوث ملك الاستمتاع بملك اليمين، فيكون نصا في كل ما هو سبب حل الاستمتاع بملك اليمين، دلالة.
(1) أوطاس موضع على ثلاث مراحل من مكة كانت به وقعة للنبي (ص). (2) الحيالى " جمع الحائل وهي التي لا حبل لها. وقيل: إنما قيل الحيالى لتزويج الحيالى، والقياس ان يقال: الحوائل، لأنها جمع حائل، ونظيره الغدايا والعشايا والقياس الغداوات ". 112 ثم مقدار مدة الاستبراء، هي في الحيضة حق ذوات الأقراء، وفي حق ذوات الأشهر شهر واحد. لان الاستبراء إنما يجب صيانة للماء كي لا يختلط ماؤه بماء غيره، فلا بد له من المدة، وأقل المدة هذا. وإن كانت الجارية ممتدة الطهر، بأن كانت شابة لا تحيض، فإن استبراءها لا يكون بشهر واحد كما في الآيسة، واختلف العلماء في مدة استبرائها حتى يباح للمشتري وطؤها عند مضيها، قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يطأها حتى يمضي عليها مدة لو كانت حاملا لظهر آثار الحمل، من انتفاخ البطن وغيره وذلك ثلاثة أشهر وما زاد عليه. وقال محمد أولا بأنه لا يطأها حتى يمضي عليها أربعة أشهر وعشرة أيام، ثم رجع وقال: شهران وخمسة أيام. وقال زفر: لا يطأها حتى تمضي سنتان. ثم ما لم تمض مدة الاستبراء لا يحل للمالك أن يطأها، وأن يقبلها ويمسها لشهوة، وأن ينظر إلى عورتها، بالنص الذي روينا. وبالمعنى الذي ذكرنا من صيانة الماء، وسواء وطئها أولا، أو كان بائعها ممن لا يطؤها، كالمرأة والصبي، لان احتمال الوطئ من غيره قائم. ثم إنما يعتبر الاستبراء بعد القبض، حتى لو مضت مدة الاستبراء بعد البيع، قبل القبض، ثم قبضها يجب الاستبراء. هذا هو المشهور من مذهب أصحابنا جميعا. وروي عن أبي يوسف أنه يجزيه الاستبراء قبل القبض. ولو اشترى جارية حاملا، فوضعت الحمل بعد القبض يباح الوطئ، لان وضع الحمل كونه دليلا على براءة الرحم، فوق القرء.
113 وإن كان الوضع قبل القبض فلا عبرة، لما ذكرنا أنه إنما يجب سبب حدوث حل الاستمتاع بملك اليمين، وإنما يحل الوطئ بعد القبض، فلا يجب قبل وجود سبب الوجوب. وعلى هذا إذا اشترى جارية لها زوج وقبضها وطلقها زوجها قبل الدخول بها، فلا استبراء عليه، لان السبب غير موجب الاستبراء عند القبض، بسبب كونها حلالا لزوج، فلا يجب بعد ذلك. وعلى هذا إذا اشتراها، وهي معتدة من زوج، فانقضت عدتها بعد القبض لأنها لا تجب حال وجود السبب لمانع، فلا يجب بعد ذلك. ولو انقضت العدة قبل القبض، يجب الاستبراء بعد القبض، لما قلنا. ولو حرم فرج الأمة على مولاها على وجه لا يخرج عن ملكه لمانع، بعدما كان حلالا، واستبرأها بعد القبض، ثم زال ذلك المانع بعد الشراء، حل الوطئ ولا استبراء عليه، كما إذا كاتبها فتعجز، أو زوجها فيطلقها الزوج قبل الدخول، أو ترتد عن الاسلام ثم تسلم، أو أحرمت بالحج بإذن سيدها ثم حلت، لان هذا تحريم عارض، مع بقاء الملك المبيح، فلا يمنع صحة الاستبراء، فصار كما لو حاضت ثم طهرت. ولو اشترى أمة مجوسية أو مسلمة فكاتبها قبل أن يستبرئها، أو اشترى جارية محرمة، فحاضت في حال كتابتها ومجوسيتها، وحال إحرامها بعد القبض، ثم عجزت المكاتبة، وأسلمت المجوسية، وحلت المحرمة عن الاحرام: فإنه يجتزئ تلك الحيضة من الاستبراء، لأنها وجدت بعد وجود سبب الاستبراء وهو حدوث ملك اليمين الموجب لملك الاستمتاع إلا أنه لا يحل الاستيفاء لمانع، وهذا لا يمنع من الاعتداد كالحيض، بخلاف ما إذا اشترى جارية بيعا فاسدا وقبضها، ثم حاضت حيضة، ثم اشتراها بعد ذلك، شراء صحيحا، حيث لا يعتد
114 بتلك الحيضة عن الاستبراء، لأن الشراء الفاسد لا يوجب ملك الاستمتاع، وإن اتصل به القبض. وأما التفريق بين الصغير وبين ذوي الأرحام المجتمعة في الملك فنقول: لا خلاف أن التفريق في الولاد مكروه، كالتفريق بين الأب وابنه، ونحو ذلك. وأما فيمن سواهم من ذوي الرحم المحرم، كالاخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات، فإنه يكره التفريق أيضا عندنا، خلافا للشافعي. وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين الجنة وذوو الأرحام ملحقة بالولاد، في باب المحرمات، احتياطا لحرمة النكاح. وقال الشافعي: لا يلحق ذو الأرحام بالولاد، كما في العتق والنفقة. وإنما يباح التفريق بعد البلوغ. وقال الشافعي: إذا بلغ سبع سنين جاز التفريق. والصحيح قولنا، لما روى الدارقطني بإسناده عن النبي عليه السلام أنه قال: لا يجمع عليهم السبي والتفريق حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية ". ثم متى فرق بينهما بالبيع، جاز مع الكراهة عندنا. وقال الشافعي: البيع باطل. وروي عن أبي يوسف أنه قال في الولاد: البيع باطل، وفي غيرهم: جائز مع الكراهة.
115 وهذا بناء على أن النهي عن المشروع يقتضي بطلان التصرف عند الشافعي، وعندنا بخلافه، لكن هذا نهي لمعنى في غيره، بمنزلة البيع وقت النداء. وإذا اجتمع مع الصغير عدد من أقربائه، من الرحم المحرم في ملك واحد، فعن أبي يوسف روايتان، في رواية بشر أنه لا يفرق بينه وبين واحد منهم، اختلفت جهات قرابتهم كالعمة والخالة، أو اتفقت كالعمين والخالين والأخوين، وكذا لا يفرق بينه وبين الابعد، وإن وجد الأقرب، حتى إذا اجتمع مع الصغير أبواه وجداه لم يفرق بينه وبين الجدين لان لكل شخص شفقة على حدة. وفي رواية ابن سماعة عنه أنه يجوز التفريق بين الصغير وبين الابعد إذا وجد من هو أقرب منه. وذكر محمد في الزيادات: إذا اجتمع مع الصغير أبواه: لم يفرق بينه وبين واحد منهما، وجاز أن يفرق بينه وبين من سواهما معهما. وإذا اجتمعت القرابات غير الأب والام، فإن كانت من جهات مختلفة، كأم الأب وأم الام، والخالة والعمة، لم يفرق بينه وبين واحد منهم. وإن كانوا من جهة واحدة، كالاخوة، أو العمات، أو الخالات، جاز بيعهم من غير كراهة، إلا بيع واحد منهم. ويجوز بيع البعيد إذا وجد من هو أقرب منه لان في الجنس الواحد الشفقة من جنس واحد، فيكتفي بواحد. وعند اختلاف الجهات يختلف الشفقة، فلكل نوع شفقة تخالف النوع الآخر، فلا بد من اجتماع الكل.
116 كتاب النكاح يحتاج إلى: بيان صفة النكاح المشروعة، وإلى بيان تفسير النكاح لغة، وإلى تفسيره في عرف الشرع. أما الأول فقد اختلف العلماء فيه: قال داود بن علي الأصفهاني ومن تابعه من أصحاب الظواهر: إن النكاح فرض عين حتى إن من تركه مع القدرة على الوطئ والانفاق فإنه يأثم. وقال الشافعي: إنه مباح. واختلف أصحابنا، فقال بعضهم: إنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. وقال بعضهم: إنه مندوب ومستحب. وقال بعضهم: إنه واجب لكن بعضهم قالوا: يجب على سبيل
(1) الأصفهاني وهو داود بن خلف امام أهل الظاهر أبو سليمان، وقد قيل إن أصله من أصبهان، ومولده بالكوفة، ونشأته ببغداد. وقد ولد سنة 202 ه وتوفى ببغداد سنة 270 ه. وقد اخذ العلم عن إسحاق بن راهويه، وأبى ثور، وروى عنه ابنه أبو بكر محمد ابن داود وآخرون. 117 التعيين، بمنزلة الوتر والأضحية. وقال بعضهم: هو واجب على سبيل الكفاية. ويبتنى على هذا الخلاف مسألة التخلي، فعندنا الاشتغال بالنكاح مع أداء الفرائض والسنن أولى من التخلي (1) لنوافل العبادة مع ترك النكاح، خلافا للشافعي، وهي مسألة معروفة. وأما تفسير النكاح لغة، فهو الجمع المطلق، يقال: أنكحنا الفرا فسرى (2) أي جمعنا بينهما. وأما في الشرع فعبارة عن وجود ركن العقد مع شروطه. أما ركنه فهو الايجاب والقبول من الزوجين، وهما لفظان يعبر بهما عن الماضي، أو يعبر بأحدهما عن الماضي، والآخر عن المستقبل، وفي البيع: لا يصح ما لم يكن اللفظان يعبر بهما عن الماضي، على ما ذكرنا في البيوع. ثم لا خلاف بين العلماء بأن النكاح ينعقد بلفظ التزويج والنكاح. واختلفوا فيما سواهما من الألفاظ، نحو لفظ البيع، والهبة، والتمليك ونحوها. وقال الشافعي: لا ينعقد إلا بهذين اللفظين.
(1) أي التخلي للعبادة بعدم الزواج. (2) " أنكحنا الفرا فسرى: مثل، واصله ان رجلا خطب ابنته إليه رجل فأبى ان يزوجه إياها، ورضيت أمها بتزويجه وغلبت الأب حتى زوجها على كره منه وقال: " أنكحنا الفرا " ثم أساء الزوج العشرة فطلقها. وهذا المثل يضرب في التحذير من العاقبة: الفرا في الأصل الحمار الوحشي، استعاره للرجل استخفافا به ". 118 وعند أصحابنا: لا ينعقد إلا بلفظ موضوع للتمليك. ثم اختلف المشايخ، قال عامتهم: لا ينعقد إلا بلفظ موضوع لتمليك الأعيان، كالبيع والهبة، ولا ينعقد بلفظ موضوع لتمليك المنافع كالإجارة والإعارة. وقال الكرخي: ينعقد بلفظ وضع للتمليك مطلقا، سواء كان لتمليك الأعيان أو لتمليك المنافع، حتى ينعقد بلفظ الإجارة، والإعارة عنده. وأما لفظ الوصية فإن ذكر مطلقا بأن قال: أوصيتك بابنتي هذه بألف درهم، لا يصح، لان الوصية تمليك بعد الموت، والنكاح المضاف إلى وقت لا يجوز، بأن قالت المرأة: زوجت نفسي منك شهر رمضان بألف درهم. وأما إذا قال: أوصيتك بابنتي هذه الآن بألف درهم، أو لم يذكر المهر، وقبل الزوج، فإنه ينعقد النكاح. وأما بلفظة الاحلال، والتحليل والإباحة فلا ينعقد، لأنها لا تقتضي التمليك. وكذا بلفظة المتعة، بأن قال الزوج: أتمتع بك بكذا، فرضيت أو قالت نعم، لا ينعقد، لأنها لم توضع للتمليك، ولان المتعة صارت منسوخة، وهي عبارة عن النكاح المؤقت. و كذا لو قال: زوجي نفسك مني إلى شهر كذا، فقالت: نعم! زوجت، لا ينعقد النكاح عندنا. وعند زفر: ينعقد النكاح، ويلغو ذكر الوقت. وعندنا هو تفسير نكاح المتعة، وإنه منسوخ. وأما النكاح المضاف إلى وقت، أو المعلق بشرط فلا يصح بالاجماع، بأن قالت: زوجت نفسي منك غدا أو شهر رمضان الآتي، أو: زوجت نفسي منك إن خلت الدار فقال الزوج قبلت.
119 ولو قال: أتزوجك على أن أطلقك إلى عشرة أيام، فرضيت، أو قالت: نعم أو قالت: زوجت نفسي منك على هذا، فإنه ينعقد النكاح، ويبطل الشرط. هذا الذي ذكرنا هو الحكم في الزوجين، فأما إذا كان أحد العاقدين مالكا، والآخر وليا، أو وكيلا، أو رسولا، فكذلك الجواب، لأنه لا بد من وجود لفظين، وهو الايجاب من أحدهما والقبول من الآخر. وأما إذا كان الواحد وليا من الجانبين أو وكيلا، أو رسولا، من الجانبين، أو وكيلا من جانب ووليا من جانب، فإنه يكتفي فيه بكلام واحد، بأن يقول: زوجت فلانة من فلان بكذا، فينعقد العقد، ولا يحتاج إلى أن يقول: قبلت عن فلان، لان كلامه يقوم مقام كلامين. وهذا عندنا وقال زفر والشافعي: لا يجوز أن يكون الواحد في النكاح عاقدا من الجانبين، كما في البيع، لا يجوز أن يكون الواحد وكيلا من الجانبين. وعندنا: في البيع يجوز أن ينعقد بكلام واحد من الجانبين، كالأب والوصي، لكن في الوكيل لا يجوز على ما عرف في البيوع. وأما شروطه فأنواع: منها - ما يرجع إلى الأهلية من وجود العقل، والبلوغ، وهو شرط عام في تنفيذ كل تصرف دائر بين الضرر والنفع. ومنها: الحرية، فإن العبد والأمة إذا تزوجا بدون إذن المولى، فإنه لا ينعقد النكاح، في حق الحكم، على ما روي عن النبي عليه السلام، أنه قال: أيما عبد تزوج بغير إذن سيده، فهو عاهر. وكذلك الجواب في المدبر، وأم الولد، والمكاتب.
120 فأما إذا أذن المولى، فهو جائز. وإذا نفذ بإذن المولى، يجب المهر في رقبته، وكسبه في القن (1). وفي غيره: يكون في الكسب، لا في الرقبة، إلا في المكاتب إذا عجز فيكون المهر في رقبته وكسبه: فإما أن يباع فيه أو يؤدي المولى ويستخلص الرقبة لنفسه. ومنها: كون المرأة محللة: فإن المحرمة لا تكون محلا لحكم النكاح، قال الله تعالى: * (حرمت عليكم أمهاتكم) * إلى أن قال: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) (2). ثم تحريم النكاح يتنوع إلى تسعة أنواع: تحريم بسبب القرابة، وتحريم بالصهرية، وتحريم بالرضاع، وتحريم الجمع، وتحريم تقديم الأمة على الحرة، وتحريم بسبب حق الغير، وتحريم بسبب الملك، وتحريم بسبب الشرك، وتحريم بالطلقات الثلاث. أما التحريم بسبب القرابة فنقول: المحرمات بالقرابة سبع فرق: الأمهات، والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ، وبنات الأخت. ويثبت في حق هؤلاء حرمة النكاح وحرمة الوطئ، ودواعيه بطريق التأبيد. عرفنا ذلك بقوله: (حرمت عليكم أمهاتكم). أما الأمهات: فأم الرجل، وجداته، من قبل أبيه وأمه، وإن علون.
(1) القن من العبيد الذي ملك هو وأبوه. وعن ابن الاعرابي: عبد قن أي خالص العبودة. وعلى هذا (2) سورة النساء: الآية 23 - 24. 121 وأما البنات: فبنت الرجل من صلبه، وبنات الابن وإن سفلن. وأما الأخوات: فثلاثة أنواع: الأخوات لأب وأم، والأخوات لأب، والأخوات لام. وأما العمات فثلاثة أنواع: عمة لأب وأم، وعمة لأب، وعمة لام. وكذا عمات أبيه وعمات أجداده، وعمات أمه، وعمات جداته وإن سفلن. وأما الخالات: فخالة الرجل لأب وأم، وخالته لأب، وخالته لام، وخالات آبائه وأمهاته. وأما بنات الأخ، وبنات الأخت، وبنات بنات الأخ، والأخت، وبنات أبناء الأخ، وبنات أبناء الأخت، وإن سفلن. وأما التحريم بالصهرية فنقول: المحرمات بالصهرية أربع فرق: إحداها: أم الزوجة، وجداتها، من قبل الأب والام، وإن علون. ثم أم الزوجة تحرم بنفس العقد على البنت، ولا يشترط الدخول بالبنت، حتى إن من تزوج امرأة، تحرم عليه أمها، دخل بها أو لم يدخل، وهذا قول عامة العلماء، وعامة الصحابة. وقال مالك، وداود الأصفهاني، ومحمد بن شجاع وبشر المريسي: إنها لا تحرم بنفس العقد على البنت، ما لم يوجد الدخول بالبنت، وحكوا هذا المذهب عن علي رضي الله عنه. والصحيح قول العامة، لقوله تعالى: (وأمهات نسائكم) من غير فصل. ومنها: بنت المرأة، لكن يشترط الدخول بالأم. ولا تحرم بنفس
122 العقد على الام، لقوله تعالى: (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) (1): شرط الدخول بالأم لحرمة الربيبة. وكذا بنات بنت المرأة، وبنات ابنها أيضا. ويستوي الجواب بين ما إذا كانت بنت المرأة في حجر الزوج أو لا، خلافا لبعض الناس. ومنها: حليلة الابن: حرام على أبيه. دخل بها الابن أو لا. وكذا حليلة ابن الابن، وابن البنت. وإن سفلن، لقوله تعالى: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) *. وأما حليلة الابن المتبنى فلا تحرم على الأب المتبني لقوله: * (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) *. ومنها: حليلة الأب، وحليلة الأجداد، من قبل الأب، والام، وإن علوا، لقوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم). ثم حرمة المصاهرة، تثبت بطريق التأييد، بسبب النكاح الصحيح دون الفاسد. وكذا تثبت بالوطئ الحلال بملك اليمين، وكذا تثبت بوطئ عن شبهة. وتثبت أيضا بالنظر إلى الفرج عن شهوة، دون النظر إلى سائر الأعضاء، وتثبت باللمس عن شهوة في سائر الأعضاء، وهذا عندنا. وعند الشافعي: لا تثبت بالمس والنظر. ويعني بالمس عن شهوة أن يشتهي بقلبه، وهو أمر لا يقف عليه
(1) سورة النساء: الآية 23. (2) سورة النساء: الآية 22. 123 إلا اللامس والناظر فيعرف بإقراره، أما تحريك الآلة والانتشار فليس بشرط، وهذا هو الأصح، فإن اللمس عن شهوة يتحقق من العنين ولا ينتشر، وكذا المجبوب لا آلة له ويتحقق منه المس والنظر عن شهوة. ونعني بالنظر إلى الفرج: النظر إلى عين الفرج، لا إلى حواليه، وهو الأصح. وكذا تثبت حرمة المصاهرة بالزنا والمس، والنظر إلى الفرج بدون الملك وشبهته، عندنا. وعند الشافعي لا يثبت حرمة المصاهرة بالزنا، والمسألة معروفة. وأما التحريم بسبب الرضاع فنقول: كل من يحرم من الفرق السبع، بسبب القرابة: يحرم بسبب الرضاع قال الله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) * (1) وقال عليه السلام: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. وكذا كل من يحرم بالصهرية من الفرق الأربع، بالنسب: يحرم بالرضاع، حتى يحرم على الواطئ: أم الموطوءة، وبنتها من جهة الرضاع. وتحرم الموطوءة على أب الواطئ وابنه، من جهة الرضاع، ويحرم موطوءة أب الرضاع على ابنه من الرضاع، ويحرم موطوءة ابن الرضاع على أب الرضاع، لما روينا من الحديث. وأما تحريم الجمع: فنوعان: أحدهما: تحريم الجمع بين الأجنبيات. والثاني: تحريم الجمع بين ذوات الأرحام. وكل واحد منهما على وجهين: الجمع في النكاح والثاني الجمع في الوطئ ودواعيه.
(1) سورة النساء: الآية 23. 124 أما تحريم الجمع بين الأجنبيات في النكاح، فإنه تحريم الجمع بين خمس نسوة، فصاعدا ويباح الجمع بين الأربع وما دونها، وهذا عند عامة العلماء. وقال بعضهم: يحل الجمع بين تسع نسوة. وقال بعضهم: يحل الجمع بين ثماني عشرة. فأما الجمع في ملك اليمين: فحلال، عقدا، ووطئا، وإن كثرن، لقوله تعالى: * (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم (1)) *. وأما تحريم الجمع بين ذوات الأرحام، فنوعان أيضا: الجمع في عقد النكاح، والجمع في الوطئ بملك اليمين. أما الأول، وهو تحريم الجمع نكاحا فنقول: لا خلاف بين العلماء في تحريم الجمع بين الأختين، نكاحا وتحريم الجمع بين الام وبنتها. فأما الجمع بين ذواتي رحم محرم نكاحا غير الجمع في الولاد. وغير الجمع بين الأختين مما سواهما. كالجمع بين امرأتين لو كانت إحداهما ذكرا، لا يجوز نكاح الأخرى له، من الجانبين، أيتهما كانت غير عين، كالجمع بين عمة المرأة وبين بنت أخيها، وبين خالة المرأة وبين بنت أختها، ونحو ذلك، فحرام عند عامة العلماء. وقال عثمان البتي (2): الجمع فيما سوى الأختين من ذوات الأرحام، ليس بحرام. وإذا ثبت أن الجمع بينهما نكاحا حرام، فإذا تزوج إحداهما قبل
(1) سور المعارج: الآية 30 والآيات 29 - 30. (2) عثمان البتي فقيه البصرة زمن أبي حنيفة. رأى انس بن مالك. وروى الحسن البصري. 125 الأخرى، فنكاح الأولى جائز، ونكاح الثانية باطل، ولو تزوجهما معا، بطل نكاحهما، لان الجمع حصل بهما، فيجب على كل واحد منهما أن يعتزل عن صاحبه ويترك النكاح، ولو علم القاضي بذلك يفرق بينهما. وإن كان قبل الدخول فلا مهر لها ولا عدة عليها، وإن كان بعد الدخول يجب مهر المثل مقدرا بالمسمى، ولا يجب الحد، وإن قال الزوج: علمت أنها علي حرام، ولا يدعي شبهة الاشتباه، لان شبهة النكاح قائم، ولو وطئها مرارا قبل التفريق والمتاركة، لا يجب إلا مهر واحد، لأن العقد الفاسد منعقد من وجه. ولو وطئها بعد المتاركة مرة أخرى: لا يجب مهر آخر، ويجب الحد، لان هذا زنا. ولو تزوج أخت جاريته التي وطئها، أو أخت أم ولده: جاز النكاح، ولكن لا يطأها، ما لم يحرم عليه وطئ إحداهما، بأن زوج أم ولده من إنسان، أو زوج الأمة، أو باعها، لأنه لا فراش للأمة عندنا، خلافا للشافعي، وفراش أم الولد ضعيف ينتفي بمجرد النفي، ولا يحتاج إلى اللعان. فأما إذا تزوج أخت امرأة تعتد منه: فلا يجوز عندنا، سواء كانت مطلقة طلاقا رجعيا أو بائنا أو ثلاثا، أو بالمحرمية الطارئة، وسواء كانت العدة عن النكاح، أو عن الوطئ بالشبهة. وقال الشافعي: يجوز، إلا في الطلاق الرجعي، لان النكاح قائم من وجه عندنا، في حالة العدة، والثابت من وجه، في باب التحريم، كالثابت من كل وجه. وكذلك: لا يجوز له أن يتزوج أربعا أخرى سواها، عندنا خلافا له.
126 وأما إذا تزوج أخت أم ولده، وهي تعتد منه، بأن أعتقها، ووجبت عليها العدة، فإنه لا يجوز، ويجوز أن يتزوج أربعا سواها، وهذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقال أبو يوسف ومحمد رحمة الله عليهما: يجوز ذلك كله. وقال زفر: لا يجوز ذلك كله. وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين: فجائز عندنا خلافا لمالك. وأما الجمع بينهما وطئا فلا يجوز. لكن يطأ إحداهما، لا غير. ولا يجمع بينهما في المس عن شهوة، والنظر إلى الفرج. وإن أزال الموطوءة عن ملكه، أو زوجها من إنسان: يباح له الاستمتاع بالأخرى. وهذا قول عامة الصحابة وعامة العلماء. وروي عن عثمان بن عفان أنه قال: يحل الجمع بينهما وطئا، ولكن أنا لا أفعل. وأما تحريم تقديم الأمة على الحرة فنقول: من كانت تحته حرة، لا يجوز له أن يتزوج الأمة. ومن كانت تحته أمة، جاز له أن يتزوج الحرة. ولو جمع بين نكاح الأمة والحرة لا يجوز نكاح الأمة، ويجوز نكاح الحرة. وأصله قوله عليه السلام: " لا تنكح الأمة على الحرة، وتنكح الحرة على الأمة ". وإذا كان قادرا على مهر الحرة ونفقتها جاز له أن يتزوج الأمة عندنا. وعند الشافعي: لا يجوز.
127 ولو كانت الحرة في عدته، فتزوج الأمة، لا يجوز عند أبي حنيفة وعندهما: يجوز. والصحيح قول أبي حنيفة رحمه الله، لان النكاح من وجه، كالثابت من كل وجه، في باب التحريم. وأما التحريم بسبب حق الغير: فنكاح منكوحة الغير حرام قال الله تعالى: * (والمحصنات من النساء (1)) *. وكذلك نكاح معتدة الغير، لان النكاح قائم من وجه، وحقه محترم. وكذلك منكوحة الذمي ومعتدته، لان حقه محترم. فأما المسبيات المنكوحات فبعد الاحراز بدار الاسلام تقع الفرقة، وتحل للسابي، وغيره، فلا عدة عليهن. وعند الشافعي: تحل في دار الحرب. وعلة الفرقة عنده هو السبي، وعندنا تباين الدارين، حتى لو سبي الزوجان معا، لا تقع الفرقة عندنا لعدم تباين الدارين. فأما المهاجرة، وهي المرأة التي دخلت دار الاسلام، مراغمة لزوجها، مسلمة أو ذمية جاز نكاحها، ولا عدة عليها عند أبي حنيفة، وقالا: عليها العدة. وأما إذا كانت حاملا، فعن أبي حنيفة روايتان: في رواية محمد: لا يتزوجها. وفي رواية أبي يوسف، يتزوج ولكن لا يطأها حتى تضع حملها.
(1) سورة النساء: الآية 24. 128 ولو تزوج امرأة حاملا، من زنا جاز، ولا يطأها حتى تضع حملها عندهما. وعند أبي يوسف لا يصح النكاح. والصحيح قولهما، لأنه لا حرمة لماء الزاني، ولكن لا يطأها لقوله عليه السلام: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره. وروي عنه صلى عليه واله وسلم أنه قال: لا يحل لرجلين يؤمنان بالله واليوم الآخر أن يجتمعا على امرأة في طهر واحد وحرمة الوطئ بعارض طارئ على المحل لا ينافي النكاح، لا بقاء ولا ابتداء، كالحيض والنفاس. وأما التحريم بسبب الشرك فنقول: لا يحل وطئ المشركات، بنكاح، ولا بملك يمين. وتحل الكتابيات لقوله تعالى: * (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) (1) *، وقال تعالى: * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) * (2). ويجوز نكاح الأمة الكتابية كالحرة عندنا، خلافا للشافعي. وأما نكاح المجوسيات: فلا يجوز، ولا يحل وطؤهن بملك اليمين، لأنه لا كتاب لهم. فأما الصابئات: فقال أبو حنيفة: يحل بالنكاح وبملك اليمين، خلافا لهما، وهو ليس باختلاف في الحقيقة، وإنما الخلاف لاشتباه مذهبهم، فعند أبي حنيفة أنهم من أهل الكتاب، فإنهم يقرؤون الزبور ولا يعبدون الكواكب، لكن يعظمونها كتعظيم المسلمين الكعبة في
(1) سورة البقرة: الآية 221. (2) سورة المائدة: الآية 5. 129 الاستقبال إليها، وعندهما أنهم يعبدون الكواكب فحكمهم حكم عباد الوثن. وأما نكاح الكفار فيما بينهم فجائز. وقال مالك: أنكحتهم فاسدة. والصحيح قول العامة، لان النكاح سنة آدم عليه السلام، فهم على شريعته في ذلك، وقال عليه السلام: ولدت في نكاح ولم أولد في سفاح، وإن كان آباؤه كفارا. وأما المرتدة فلا يجوز لمسلم ولا لكافر ولا لمرتد نكاحها، لأنه لا ملة لها للحال، لأنها تركت ملة الاسلام، فلا تقر على ما صارت إليه من الملة. ولو ارتد أحد الزوجين: يبطل النكاح. ولو ارتدا، معا يبقى النكاح بينهما، عندنا خلافا لزفر لاجماع الصحابة على ذلك. وأما التحريم بسبب ملك اليمين: فهو أنه لا يجوز نكاح جاريته، ولا مكاتبته، ولا جارية مديونه دينا مستغرقا، ولا جارية مشتركة بينه وبين غيره، ولا جارية له فيها حق الملك، كجاريته من أكساب عبده المأذون المديون وأكساب مكاتبه. وكذا المرأة لا يجوز لها أن تتزوج مملوكها، لان في النكاح حقوقا لا يجوز أن تثبت بين العبد والمولى، لما بينهما من التنافي. وكذلك إذا اعترض ملك اليمين، يبطل النكاح، بأن ملك كل واحد من الزوجين صاحبه، أو شقصا منه.
130 وقالوا في العبد والمدبر المأذونين: إذا اشتريا زوجتيهما لا يفسد النكاح، لأنه لا يثبت ملك المنفعة، بملك اليمين، في حقهما. وكذا المكاتب إذا اشترى زوجته، لم يفسد النكاح، لأنه لا يملكها، وإنما يثبت له فيها حق الملك، وإنه يمنع ابتداء النكاح، ولا يفسد كالعدة. وقالوا فيمن زوج ابنته من مكاتبه ثم مات: لم يفسد النكاح بينهما، حتى يعجز لان المكاتب لا يورث. وعند الشافعي: يفسد. وأما المعتق: فهو في حكم المكاتب عند أبي حنيفة، وعندهما حر. وأما التحريم بالطلاق الثلاث: فقد ثبت بكتاب الله عز وجل: * (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) * (1). وأحكام المطلقة ثلاثا تذكر في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. ومنها: الولي والمهر وفيهما خلاف، على ما نذكر في بابهما إن شاء الله تعالى. ومنها: الشهادة وهي شرط عند عامة العلماء. وقال مالك: الاعلان شرط، حتى إذا وجد الاعلان بدون حضرة الشهود، نحو ضرب الدف والطبل ونحوه، ينعقد ولو حضر شاهدان سرا عن الناس وشرطوا عليهما الكتمان فإنه لا ينعقد. والصحيح قول عامة العلماء، لقوله عليه السلام: لا نكاح إلا بشهود.
(1) سورة البقرة: الآية 230. 131 ثم الشهود الذين ينعقد النكاح بهم فيهم شرائط: منها: العقل، والبلوغ، والحرية، حتى لا ينعقد بحضرة الصبيان، والمجانين، والعبيد. وكذا الاسلام في حق نكاح المسلم والمسلمة، حتى لا يجوز إلا بحضرة المسلمين. فأما المسلم إذا تزوج ذمية بشهادة ذميين، جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا يجوز. وكذا القاضي لا يقضي بنكاح المسلمة على المسلم إلا بشهادة المسلمين. وهل يقضي بنكاح المسلم على الذمية بشهادة الذميين؟ إن ادعت الذمية النكاح على المسلم لا يقبل، لأنه شهادة على المسلم. وإن جحدت الذمية وادعى المسلم النكاح هل يقضي بشهادة الذميين؟ فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في الانعقاد. وأما نكاح أهل الذمة فيما بينهم فإنه ينعقد بشهادتهم عندنا، سواء كانت مللهم متفقة، كشهادة اليهود لليهود، والنصارى للنصارى، أو مختلفة كشهادة اليهود للنصارى. وقال ابن أبي ليلى: يجوز عند اتفاق الملل، دون اختلافها. وعند الشافعي: لا يجوز أصلا. ثم عندنا إنما يجوز إذا كانوا من أهل دار واحدة، بأن كانوا في دار الاسلام أو في دار الحرب. وأما إذا اختلفت الدور، بأن كانت الشهود من أهل دار الحرب، كشهادة المستأمنين في نكاح الذمي، فلا يصح. وإن كان على العكس يصح كنكاح الذمي ينعقد بشهادة المسلمين، ولا ينعقد نكاح المسلم بشهادة أهل الذمة.
132 ومنها: العدد فهو شرط، وهو شهادة رجلين، أو رجل وامرأتين وهذا عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا يصح إلا بشهادة الرجلين. وكذا الخلاف في قضاء النكاح بشهادتهم. وهذا إذا لم يتعلق به وجوب الحد فأما إذا تعلق، بأن قام الشهود على الزنا، فأنكر الزاني الاحصان، فشهد رجل وامرأتان على النكاح، يقبل أيضا عند أصحابنا، وعند زفر لا يقبل. وأما العدالة: فليست بشرط لانعقاد النكاح عندنا، حتى ينعقد بشهادة الفاسقين. وعند الشافعي رحمه الله: شرط. وهل يقضي القاضي بالنكاح بشهادتهم؟ فعنده: لا يقضي على كل حال. وعندنا، إن كان القاضي تحرى الصدق في شهادتهم، جاز، وإلا فلا، فكان للفساق شهادة عندنا في انعقاد النكاح على كل حال. وفي صحة القضاء عند رجحان الصدق، عند القاضي، بالتحري والتأمل في أحواله أن مثل هذا الفاسق لا يكذب في العادة. وأما المحدود في القذف فإن كان قبل التوبة وقبل إقامة الحد فإنه ينعقد النكاح بشهادته عندنا، خلافا للشافعي رحمه الله. وإن كان بعد التوبة، فإن كان قبل إقامة الحد عليه، فإنه ينعقد النكاح، ويقبل شهادته بلا خلاف. وإن كان بعد إقامة الحد، فإنه ينعقد النكاح بشهادته، ولا تقبل شهادته عندنا.
133 وعند الشافعي: ينعقد، وتقبل. وكذا ينعقد النكاح بشهادة الاثنين منهما عندنا، خلافا للشافعي. وأما الأعمى: فينعقد النكاح بحضرتهم، لأنهم من أهل الشهادة. وهل تقبل شهادتهم؟ عند أبي حنيفة ومحمد رحمة الله عليهما لا تقبل. وقال أبو يوسف: إن كان بصيرا وقت التحمل تقبل شهادته، وإلا فلا.
134 باب المهر الكلام في هذا الباب في مواضع: في بيان كون المهر شرط جواز النكاح، وفي بيان تقدير المهر، وفي بيان ما يصلح مهرا وما لا يصلح، وفي بيان ما يفسد به التسمية وما يصح معه التسمية، وفي بيان ما يستحق به جميع المهر، وما يسقط به نصف المهر، وفي بيان ما يجب عليها من التسليم عند قبض المهر أو تأجيله، وفي بيان حكم الاختلاف بين الزوجين في المهر، وفي بيان ذكر المهر على طريق الرياء (1)، والسمعة، والتلجئة. أما الأول فنقول: إن المهر شرط جواز النكاح، حتى لا يجوز النكاح بدون المهر، حتى إن من تزوج امرأة بغير مهر، أو بشرط أن لا مهر لها، وأجازت المرأة، فإن النكاح ينعقد، ويجب مهر المثل عند أصحابنا. وعند الشافعي: النكاح جائز بغير مهر. والصحيح قولنا: لقوله تعالى: * (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم) * (2)، الله تعالى أحل النكاح بشرط المال، فلا يكون مشروعا
(1) في القاموس المحيط: " رايته مراءة ورئاء أريته على خلاف ما انا عليه... وعمل رئاء وسمعة ". (2) سورة النساء: الآية 24. 135 بدونه، فإذا نفي المهر، وشرط خلو النكاح عن المهر، فقد شرط شرطا فاسدا، والنكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة، فيصح النكاح، ويبطل الشرط، فيجب العوض الأصلي، وهو مهر المثل. وحكم كيفية وجوب مهر المثل، والمتعة، نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما بيان تقرير المهر فعندنا المهر مقدر، وأدناه عشرة دراهم فضة، أو دينار ذهب خالص. وقال الشافعي: المهر غير مقدر، والقليل والكثير فيه سواء. والصحيح قولنا، لقوله تعالى: * (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) * (1) أي قدرنا. وإذا ثبت أن أقل مقدار المهر عشرة، فإذا سمي أقل من عشرة هل يصح التسمية؟ فعند أصحابنا الثلاث تصح التسمية، ويكمل المهر عشرة دراهم. وعلى قول زفر: يجب مهر المثل، ولا تصح التسمية. والصحيح قولنا: وهو أن التقدير حق الشرع، فمتى قدر بأقل من عشرة، فقد أسقطا حق أنفسهما، ورضيا بالأقل، فلا يصح في حق الشرع، فيجب أدنى المقادير، وهو العشرة. وأما بيان ما يصلح مهرا وما لا يصلح فنقول: المهر ما يكون مالا متقوما عند الناس، فإذا سميا ما هو مال يصح التسمية، وما لا فلا.
(1) سورة الأحزاب: الآية 50. 136 فإذا تزوج امرأة على ما هو مال مطلق، كالنقود والأعيان صحت التسمية. وإذا تزوج على منافع الأعيان، كالدور، والحيوان، والعقار جاز، لأنها مال متقوم عند الناس. وإذا تزوج على منافع الحر لا يجوز، بأن زوجت نفسها من رجل على أن يخدمها سنة، أو يرعى إبلها أو غنمها سنة، لان منافع الحر ليست بمال، وإنما يجوز عقد الإجارة عليها، ويتقوم باتفاق العاقدين، بطريق الضرورة، ولا ضرورة في النكاح. وعن ابن سماعة عن محمد أنه إذا تزوجها على أن يرعى غنمها سنة جاز، فيكون في المسألة روايتان. وإذا لم تصح التسمية ما حكمها؟ قال أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله: لها مهر مثلها، لان التسمية لم تصح. وقال محمد رحمه الله: لها قيمة خدمته سنة، لان التسمية قد صحت، لكن تعذر التسليم عليه، لأنه لا يجوز لها استخدامه، بل عليها خدمة الزوج، فيجب قيمة الخدمة، كما لو تزوج على عبد فاستحق تجب قيمته لا مهر المثل، كذا هذا، حتى إن رعي الغنم والعمل خارج البيت، لما لم يكن من باب الاستخدام صحت التسمية. ولو تزوج امرأة على خمر أو خنزير، أو على طلاق ضرتها، أو على العفو عن القصاص، أو على أن لا يخرجها من بلدها، ونحو ذلك فالنكاح صحيح، وبطلت التسمية، ويجب مهر المثل، لأن هذه الأشياء ليست بمال. ولو جمع بين ما هو مال وبين ما ليس بمال، لكن لها فيه منفعة إن
137 كان شيئا يباح لها الانتفاع به، كطلاق الضرة والامساك في بلدها ونحو ذلك: فإن وفى بالمنفعة وأوصل إليها، فإنه لا يجب إلا المسمى، إذا كان عشرة فصاعدا، لأنها أسقطت حقها عن مهر المثل لغرض صحيح، وقد حصل وإن لم يف بما وعد لها إن كان ما سمي لها من المال مثل مهر المثل أو أكثر، فلا شئ لها إلا ذلك المسمى، وإن كان ما سمي لها أقل من مهر مثله يكمل لها مهر مثلها عندنا. وعند زفر: إن كان ما وعد لها، سوى المسمى، شيئا هو مال، كما إذا شرط أن يهدي لها هدية فلم يف، يكمل مهر المثل، وإن كان شيئا ليس بمال فلم يف، فلا يجب إلا المسمى. والصحيح قولنا، لأنها لم ترض بإسقاط حقها عن كمال مهر المثل إلا بغرض مرغوب فيه عند الناس وحلال شرعا، فإذا لم يحصل الغرض يعود حقها إلى المعوض، وهو مهر المثل. وأما إذا كان وعد لها شيئا لا يباح الانتفاع به، كالخمر والخنزير، فإن كان المهر المسمى عشرة فصاعدا، يجب ذلك ويبطل الحرام، ولا يجب على الزوج تكميل مهر المثل، لان الخمر لا منفعة للمسلم فيها، فلا يجب لفواتها عوض. وأما بيان ما يصح معه التسمية، وما لا يصح فنقول: التسمية لا تصح مع الجهالة الفاحشة، وتصح مع الجهالة المستدركة. وبيان ذلك أن المهر أنواع ثلاثة: نوع هو مجهول الجنس، وهذه الجهالة تبطل التسمية، ويجب مهر المثل، بالغا ما بلغ. وذلك نحو أن يتزوج على ثوب أو دابة أو حيوان أو دار، لان الثوب
138 مجهول الجنس: يقع على الخز والبز (1)، وكل ذلك ينقسم أنواعا مختلفة. وكذلك الدار فإنها تختلف باختلاف البلدان والمحال، والسكك وتختلف في أنفسها من حيث الصغر والكبر ونحو ذلك. ونوع هو معلوم الجنس والنوع، مختلف الوصف والقدر كما إذا تزوج امرأة على عبد أو أمة أو تزوج على فرس أو على جمل أو على بقر ونحو ذلك وهذا معلوم النوع مختلف الأوصاف. وحكمه أن الزوج بالخيار إن شاء أعطاها الوسط من ذلك، وإن شاء أعطاها القيمة، وتجبر المرأة على القبول، بخلاف البيع فإن هذا لا يصلح ثمنا في باب البيع، لان النكاح يحتمل ضربا من الجهالة، فإنه يجوز بمهر المثل مع جهالته، فكل جهالة هي نظير جهالة مهر المثل لا تمنع صحة التسمية، وجهالة الوصف والقدر نظير ذلك، فأما البيع فلا يصح مع الجهالة أصلا. ونوع هو معلوم الجنس، والنوع، والقدر، والصفة، كما إذا تزوج على مكيل أو موزون موصوف في الذمة فإنه يجوز، ولا خيار للزوج في ذلك، بل يجبر الزوج على دفعه إليها، ولا يجوز أن يدفع قيمة ذلك، إلا برضاها، لان هذا يثبت دينا في الذمة صحيحا ولهذا جاز البيع به. فأما إذا تزوج على كر حنطة مطلقة ولم يصفها ذكر ههنا وقال: إن شاء الزوج أعطاها كرا وسطا، وإن شاء أعطاها قيمته. وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمة الله عليه أنه قال: يجبر الزوج على تسليم الكر، ولا يجوز له أن يدفع القيمة بدون رضاها، وعلى هذا مسائل.
(1) البز نوع من الثياب. وقيل: الثياب خاصة من أمتعة البيت. وقيل: أمتعة التاجر من الثياب. 139 وأما بيان ما يستحق به جميع المهر، وما يسقط به النصف فنقول: المهر يستحق بالعقد. ويتأكد بالوطئ، والخلوة الصحيحة، وموت أحد الزوجين. وهو نوعان: المسمى، ومهر المثل. فإن كان المهر مسمى، وطلق بعد الوطئ، أو الخلوة الصحيحة، أو وجد موت أحد الزوجين فإنه يجب كمال المهر المسمى، وهذا عندنا. وعلى قول الشافعي لا يتأكد بالخلوة. ثم الخلوة الصحيحة أن لا يكون ثم مانع من حيث الحس، ولا من حيث الشرع. أما من حيث الحس فكالمرض الذي يمنع الوطئ، ووجود ثالث في الدار معهما، وكون المرأة رتقاء (1). وأما الجب (2) فلا يمنع صحة الخلوة عند أبي حنيفة، خلافا لهما. والعنة (3) لا تمنع بالاجماع. وأما من حيث الشرع فبأن كانت المرأة حائضا، أو نفساء، أو كان أحدهما صائما صوم شهر رمضان، أو محرما بحجة فريضة أو نفلا، وفي غير صوم شهر رمضان روايتان. وإن طلقها قبل الدخول بها يجب نصف المهر المسمى، سواء كان المهر عينا أو دينا.
(1) امرأة رتقاء بينه الرتق: إذا لم يكن لها خرق الا المبال (المغرب). وفى المصباح: رتقت الفتق رتقا من باب قتل سددته. (2) أي استئصال الذكر والخصيتين - من الجب بمعنى القطع. والمحجوب هو الخصي. (3) " اللعنة على زعمهم اسم من العنين وهو الذي لا يقدر على اتيان النساء " المغرب. 140 ولو زاد الزوج على المهر المسمى، ثم طلقها قبل الدخول بها، فإنه يتنصف المسمى في العقد، ولا تتنصف الزيادة في أشهر الروايات. وعن أبي يوسف أنه تتنصف الزيادة. وإن فرض المهر هو أو القاضي في موضع لا تسمية فيه، ثم طلق قبل الدخول، فإنه لا يتنصف المفروض بعد العقد أيضا. وروي عن أبي يوسف أنه يتنصف. وأما مهر المثل فإنه يتأكد أيضا، بما يتأكد به المسمى، من الموت والدخول والخلوة. وإذا طلقها قبل الدخول فإنه لا يتنصف مهر المثل، عندنا، خلافا للشافعي، ولكن تجب المتعة، وهي ثلاثة أثواب: درع، وخمار وملحفة، ويعتبر فيها حال الرجل، كما في النفقة، وهو الصحيح، و في مهر المثل يعتبر حالها. والمتعة نوعان: واجبة ومستحبة: فالواجبة لا تكون إلا لمطلقة واحدة: وهي التي طلقها قبل الدخول بها في نكاح، لا تسمية فيه. وأما المستحبة: فهي ثابتة لكل مطلقة لم تستحق بالطلاق جميع المهر ولا نصفه، إلا أن تكون الفرقة من قبل المرأة فإنه لا يستحب فيها المتعة، مدخولا بها، أو لم يكن، لأنها جانية، فكيف يستحب الاحسان في حقها؟ وأما بيان ما يجب عليها من تسليم النفس، وما لها من حق المنع فنقول: إن تسليم النفس بمقابلة تسليم المهر.
141 فقبل تسليم المهر إليها لها أن تمنع نفسها من الزوج، ولها أن تسافر وتذهب حيث شاءت، بغير إذن الزوج. وإن سلم المهر إليها، فله أن يطالبها بتسليم النفس إليه، والدخول في بيته، والتمكين من الاستمتاع بها، ولا يجوز لها أن تخرج من بيت الزوج إلا بإذنه لا إلى سفر ولا إلى زيارة الأبوين، ولا إلى قضاء حاجة ما، إلا سفر الحج إذا كان عليها حجة الاسلام، ووجدت محرما. وإن بقي درهم من المهر على الزوج: فلها حق المنع، وأن تخرج من مصرها. هذا إذا كان المهر حالا، فأما إذا كان المهر مؤجلا إلى أجل معلوم فيجب عليها تسليم النفس، للحال، عند أبي حنيفة ومحمد رحمة الله عليهما، لأنها رضيت بإسقاط حقها، فلم يسقط حق الزوج بدون رضاه. وقال أبو يوسف آخرا لها أن تمنع نفسها بالمؤجل، لان حق الاستمتاع بها بمقابلة تسليم المهر فمتى طلب تأجيل المهر، فقد رضي بتأخير حقه في الاستمتاع. ولو كان مؤجلا إلى أجل غير معلوم، كما إذا أجل إلى الميسرة أو قال: أتزوجك على ألف مؤجلة، فإنه يثبت المهر حالا، ويبطل الأجل. ولو كان بعضه حالا، وبعضه مؤجلا معلوما، فليس لها أن تمنع نفسها بالاجماع، أما عندهما، فلان الزوج ما رضي بإسقاط حقه. وأما عند أبي يوسف: فلانه لما عجل البعض، لم يرض بتأخير حقه في الاستمتاع.
142 ولو لم يدخل بها الزوج حتى حل أجل الباقي، فكذلك الجواب، لما قلنا. فأما إذا كان الكل مؤجلا، وشرط أن يدخل بها، قبل أن يعطيها فله ذلك، عند أبي يوسف أيضا، لأنه لما شرط الدخول، لم يرض بتأخير حقه في الاستمتاع. ولو مكنت المرأة، برضاها حتى وطئها، قبل تسليم المهر إليها، وقد تزوجها من غير أجل، ثم أرادت أن تمنع نفسها بعد ذلك فلها ذلك عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس لها ذلك. فهما يقولان: إن التسليم الصحيح قد وجد حتى يتأكد المهر، فلا يكون لها حق الامتناع، كما في البيع إذا سلم المبيع قبل قبض الثمن صح، وليس له حق الرجوع كذا هذا. وأبو حنيفة يقول: إن المهر مقابل بالاستمتاع في جميع العمر، لا بمجرد تسليم النفس، بدليل أنها لو انتقلت إلى بيت الزوج، كان لها حق المنع، ما لم تقبض المهر، وقد وجد تسليم بعض المنفعة، فكان لها حق في منع الباقي كما لو باع عبدين، فسلم أحدهما قبل قبض الثمن: كان له أن يحبس الآخر، حتى يستوفي الثمن. وأما بيان اختلاف الزوجين في المهر فنقول: إذا اختلف الزوجان في مقدار المهر فقال الزوج: تزوجتها على ألف درهم، وقالت المرأة: على ألفين ": فإن كان لأحدهما بينة تقبل بينته، ولا يقبل قول الآخر. وإن كان لهما بينة فبينة المرأة أولى، لأنها أكثر إثباتا. وإن لم يكن لهما بينة تحالفا، ويبدأ بيمين الزوج، فإن نكل يقضى
143 عليه بما تدعيه المرأة، وإن حلف تحلف المرأة: فإن نكلت، يقضي عليها بما يدعيه الزوج، وإن حلفت سقط اعتبار التسمية بالحلف، ويحكم بمهر المثل الذي هو العوض الأصلي، فإن كان مهر مثلها مثل ما قال الزوج أو أقل، فلها ما قال الزوج، لأن الظاهر شاهد له، وإن كان مثل ما ادعت المرأة أو أكثر فلها ما ادعت، وإن كان مهر مثلها فوق ما قال الزوج ودون ما ادعت فلها مهر مثلها. وقال أبو يوسف: القول قول الزوج، إلا أن يأتي بشئ مستنكر جدا، لأنه منكر، إلا إذا خالفه الظاهر، وتفسير المنكر في رواية أن يكون أقل من عشرة دراهم، وفي رواية: أن يذكر شيئا لا تتزوج مثل تلك المرأة عليه، وهو الأصح، لان المهر في الشرع لا يكون أقل من عشرة دراهم. وذكر أبو الحسن (1) التحالف في الفصول الثلاثة. وعن أبي بكر الرازي أن التحالف يكون في فصل واحد، وهو ما إذا لم يشهد مهر المثل لدعواهما، فأما إذا كان مهر المثل مثل ما يدعيه أحدهما، فالظاهر شاهد له، فلا حاجة إلى التحالف. والصحيح ما قاله أبو الحسن، لان مهر المثل لا يعتبر عند وجود التسمية، فلا يسقط اعتبار التسمية إلا بالحلف، لأن الظاهر لا يكون حجة على الغير. وعلى هذا الخلاف: إذا قال الزوج: تزوجتك على هذا العبد، وقالت المرأة: على هذه الجارية، إلا في فصل واحد وهو أنه إذا كان مهر مثلها مثل قيمة الجارية أو أكثر، فلها قيمة الجارية لا عينها، لان
(1) أي الكرخي. 144 تمليك الجارية لا يكون إلا بالتراضي، ولم يتفقا عليه، فوجب القضاء بقيمتها. وعلى هذا الأصل إذا اختلفا في طعام بعينه فقال الزوج: إنه كر، وقالت المرأة: شرطت أنه كران، لان القدر معقود عليه في الطعام المعين، بخلاف القدر في الثوب المعين، فإنه بمنزلة الصفة، والاختلاف في مقدار ما يتعلق العقد على قدره يوجب التحالف، فأما الاختلاف في الصفة في المبيع المعين فلا، فأما الذرع والكيل والصفة إذا كان في الذمة، فهو معقود عليها، فإذا اختلفا فيها تحالفا. وعلى هذا أيضا إذا ادعى أحدهما ألف درهم، والآخر مائة دينار، فهو مثل الألف والألفين، يعني أن مهر مثلها إن كان مثل مائة دينار أو أكثر، فلها مائة دينار، لان مهر المثل يقضي به من جنس الدراهم والدنانير، فجاز أن يستحق المائة دينار من غير تراض، بخلاف العبد والجارية. لما ذكرنا. ولو طلقها قبل الدخول بها فلها نصف الألف في مسألة الألف والألفين بالاتفاق، لان مهر المثل لا يجب في الطلاق قبل الدخول، ولا يمكن التحكيم به، فيجب المتيقن، وهو نصف الألف وفي مسألة الجارية والعبد، لها المتعة، إلا أن ترضى أن يأخذ نصف العبد، لأنهما لم يتفقا على تسمية أحدهما، فلم يمكن القضاء بنصف الأقل، إلا باختيارهما، بخلاف الألف والألفين. وإما إذا كان المهر دينا، فاختلفا في جنسه أو نوعه أو صفته فهو كالاختلاف في العبدين، لان كل واحد من الجنسين لا يملك إلا بالتراضي، فهو كالاختلاف في العبدين.
145 وأما بيان التلجئة في المهر فنقول: التلجئة والهزل إما أن يكون في نفس النكاح، أو في مقدار المهر، أو في جنس المهر. أما في نفس النكاح، فلا تصح التلجئة، ويصح النكاح. وصورته إذا تواضعا في السر على أن يظهر النكاح، رياء وسمعة، ولا يكون نكاح بينهما حقيقة، فأظهرا عقد النكاح بشرائطه عند الناس، فإن النكاح صحيح، وإن ثبتا على المواضعة، لان النكاح لا يفسد مع الهزل، لقوله عليه السلام: ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: العتاق، والطلاق، والنكاح. أما إذا كان الهزل في مقدار المهر بأن اتفقا في السر على أن يكون المهر مائة، ويظهرا مائتي درهم، فتزوجا على مائتين ظاهرا فعن أبي حنيفة روايتان. وفي رواية: المهر ما أظهراه، وما ذكرا في الباطن لا يعتبر، لان المهر تابع للنكاح، وأنه يصح مع الهزل فكذا المهر. وفي رواية: المهر مائة، ولا يصح مع الهزل، وهو قول أبي يوسف ومحمد. وأما إذا كان الهزل في الجنس، بأن تواضعا على أن يكون المهر ألف درهم، ولكن أظهرا مائة دينار، سمعة ورياء، وعقدا على مائة دينار، ففي رواية: لها مهر المثل. وفي رواية: لها مائة دينار. ولو تزوجا تزويجا باتا قاطعا في السر، على مهر مسمى، ثم أظهرا غير ذلك في العلانية، لم يعتبر الظاهر، لان النكاح قد انعقد في السر حقيقة فلا يكون الظاهر معتبرا. ولو تواضعا أن يقرا بالنكاح وأقرا بذلك ولم يكن بينهما نكاح، لم
146 يلزمهما لان الاقرار إخبار، فلا يصح مع الهزل، كما لا يصح مع الاكراه.
147 باب الولي الولاية في باب النكاح نوعان: أحدهما: في حق الصغار، والصغائر، ومن كان في معناهم، من البالغين وهم المجانين. والثاني: في حق البالغات العاقلات. أما الأول فلا خلاف أن ولاية النكاح ثابتة للوالدين والمولودين في حقهم، ولاية الاستبداد، حتى يجوز نكاحهم في حق جميع الأحكام، ولا يثبت الخيار، بعد البلوغ استحسانا. ثم إنما يجوز النكاح من الأب والجد إذا زوجا من كفء، بمهر المثل. فأما إذا زوجا من غير كفء، أو بمهر قاصر فيجوز عند أبي حنيفة. وقالا: لا يجوز. ثم إذا اجتمع الأب والابن في حق الكبيرة المجنونة، قال أبو حنيفة: الابن أولى، لان الابن أقرب العصبات. وقال محمد: الأب أولى، لأنه أولى بالتصرف في مالها، فكذا في نفسها.
149 وعن أبي يوسف روايتان، في رواية محمد عنه أن الابن أولى، وفي رواية المعلى عنه: أيهما زوج جاز، فإن اجتمعا، فينبغي للابن أن يفوض التزويج إلى الأب تعظيما له. ثم بعد الوالدين والمولودين، تثبت الولاية للعصبات: الأقرب فالأقرب عندنا. وقال الشافعي: لا تثبت لغير الأب والجد، ولكن تثبت للامام والقاضي. وإذا جاز النكاح عندنا، يثبت الخيار للصغير والصغيرة بعد البلوغ، عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف لا يثبت الخيار. وإذا ثبت لهما الخيار فإن اختارا الفرقة، يكون فسخا حتى لا يجب المهر قبل الدخول، ولا يصح ذلك، إلا بقضاء القاضي، بخلاف خيار المعتقة، حيث يكون فسخا، بغير قضاء القاضي. وأما القاضي والسلطان إذا زوج الصغير والصغيرة في حال الولاية، فلهما الخيار، على قياس ظاهر الرواية فإنه قال: إذا زوجهما غير الأب والجد، فلهما الخيار. وروى خالد بن صبيح المروزي عن أبي حنيفة أنه لا خيار لهما. وقال أبو يوسف: لا خيار لهما. وإن اختارا النكاح بطل الخيار، فأما إذا سكتا فإن كانت صغيرة بكرا فسكوتها عقيب بلوغها يكون رضا ويسقط خيارها، علمت الخيار أو لم تعلم، بخلاف خيار المعتقة: إنه لا يسقط بدون العلم، وإن كانت ثيبا، لا يبطل خيارها، إلا بالقول أو الفعل الذي يدل على الرضا، وهو التمكين من الاستمتاع بها، أو مطالبة المهر، أو النفقة، ونحو ذلك.
150 وأما في الغلام فالبكر والثيب سواء لا يبطل خيارهما بالسكوت، بل يشترط الرضا به صريحا، أو دلالة الفعل، كما في الصغيرة الثيب. هذا الذي ذكرنا إذا كان الأقرب حاضرا، أو غائبا غيبة غير منقطعة، فأما إذا كان غائبا غيبة منقطعة تنتقل الولاية إلى الابعد عندنا، خلافا لزفر. وعند الشافعي أنها تنتقل إلى السلطان. واختلفت الروايات في تفسير الغيبة المنقطعة، روي عن محمد: ما بين الكوفة والري. وعن أبي يوسف: ما بين بغداد والري. وقال محمد بن شجاع: إن كان غائبا في موضع لا تصل إليه القوافل والرسل في السنة إلا مرة واحدة، فهو غيبة منقطعة، وإلا فلا. وعن الشيخ الامام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه قال: إن كان في موضع لا ينتظر الخاطب حضوره وبلوغ إذنه، تكون منقطعة، وإلا فلا. ثم إذا لم يكن واحد من العصبات، ولكن من ذوي الأرحام الذين يرثون من الرجال والنساء، فإن لهم ولاية التزويج، الأقرب فالأقرب أولى، كالأم والعمة والخال والخالة، وهو المشهور من الرواية عن أبي حنيفة، رواها أبو يوسف ومحمد. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يزوج الصغير والصغيرة إلا العصبة وهو قول أبي يوسف ومحمد. ثم إذا عدم الأولياء على القولين، فتنتقل الولاية إلى السلطان، ونائبه القاضي.
151 ثم مولى العتاقة آخر العصبات، وهو أولى من ذوي الأرحام، بلا خلاف. وأما مولى الموالاة فيزوج عند أبي حنيفة، عند عدم العصبة وعدم الورثة، لأنه آخر الورثة. وعلى قولهما: لا يزوج، لأنه ليس بعصبة. والنوع الثاني وهو في حق الكبيرة العاقلة قال أبو حنيفة وزفر: ليس لأحد عليها ولاية بطريق الحتم، وإنما تثبت عليها الولاية، بطريق الندب، والاستحباب، وهو قول أبي يوسف الأول، حتى إن المرأة العاقلة إذا زوجت نفسها من كفء بمهر وافر فإنه يجوز، وليس للأولياء حق الفسخ، وإذا زوجت من غير كفء فلهم حق الفسخ. وإذا قصرت عن مهر مثلها كان للأولياء حق الفسخ عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: ليس لهم ولاية الفسخ، وإنما يتصور الخلاف عندهما إذا أذن الولي لها بالتزويج، وعند الشافعي إذا أذن الولي رجلا بأن يزوجها، فزوجها بمهر قاصر. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي بأن لهم ولاية التزويج في حق الكبيرة العاقلة، لكن اختلفوا فيما بينهم فيما إذا زوجت نفسها من غير إذن الولي: قال الشافعي: لا يجوز أصلا، ولا يتوقف على إجازة الولي. وقال محمد: يتوقف على إجازة الولي، ولا نفاذ له لحال - حتى لو وطئها يكون وطئا حراما وليس فيه طلاق ولا ظهار ولو ماتا لم يتوارثا. وعن أبي يوسف روايتان، في رواية: إذا مات أحدهما قبل أن يجيزه الولي، والزوج كفء: يتوارثان. وفي رواية الحسن عنه: أنهما لا يتوارثان، كفئا كان أو غير كفء.
152 وأما بيان أن الولاية ثابتة على الكبيرة العاقلة بطريق الندب عند أبي حنيفة فنقول: إنها إذا زوجت من غير كفء فللأولياء حق الاعتراض. وكذلك المرأة إذا طلبت من الولي التزويج من كفء، فامتنع الولي فإنه يصير عاضلا (1) وتثبت الولاية للسلطان. وكذلك إذا زوجها الولي بغير رضاها وبلغها الخبر وسكتت، أو في الابتداء استأمرها الولي فسكتت، يكون سكوتها رضا. وفي تزويج الأجنبي إذا بلغها الخبر، فسكتت، لا يكون إجازة، إلا بالقول صريحا أو دلالة. وإذا زوج المرأة ولي فقالت: لم أرض ولم آذن، وقال الزوج : قد أذنت، فالقول قول المرأة، لان الزوج يدعي عليها الاذن والرضا وهي تنكر، فيكون القول قولها، ولا يمين عليها عند أبي حنيفة. وعلى قولهما القول قولها مع اليمين، والتحالف لا يجري في الأشياء الثمانية وهذا الفصل من جملتها. وقد قال أصحابنا: إذا زوجت البكر، فقال الزوج: بلغك الخبر فسكت، وقالت: رددت، فالقول قولها خلافا لزفر، لأنها منكرة في الحقيقة، وإن كانت مدعية الرد ظاهرا. ثم اختلفت الأحكام بين البكر والثيب فلا بد من تفسيرهما فنقول: كل من زالت عذرتها بوثبة أو طفرة أو حيضة أو طول التعنيس، فهي في حكم الابكار في قولهم.
(1) العضل: لغة هو المنع. وشرعا هو منع الأيم (وهي الأنثى التي لا زوج لها كبيرة أو صغيرة، من التزويج، ومنع الزوج امرأته من حسن الصحبة لتفتدي منه - وكلاهما محرم بنص القران العزيز. 153 ومن زالت عذرتها بوطئ يتعلق به ثبوت النسب فهي في حكم الثيب بالاجماع. وأما إذا زالت بكارتها بالزنا، فقال أبو حنيفة: تزوج كما تزوج الابكار، وقال الشافعي: تزوج الثيب، وهي مسألة معروفة. ثم لا خلاف بين أصحابنا أن الكفاءة معتبرة في النكاح، وقال مالك وسفيان الثوري، وهو اختيار أبي الحسن الكرخي: لا اعتبار للكفاءة، لقوله تعالى: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) * (1). والصحيح قول العامة، لقوله عليه السلام: لا يزوج النساء إلا الأولياء، ولا يزوجن إلا من الأكفاء. ثم اختلف أصحابنا في شرائطها، قال أبو حنيفة: الكفاءة تعتبر في خمسة أشياء: الحرية، والنسب، والمال، والدين، وإسلام الآباء. قال محمد: الكفاءة في الدين والتقوى ليس بشرط، إلا أن يكون فسقا هو شين في العرف، نحو أن يصفع، أو يسكر ويمشي في الأسواق فسخر منه. وأما الحرية فشرط حتى لا يكون العبد، والمكاتب والمدبر كفئا للحرة بحال، لان الرق نقص وشين فوق النقص في النسب. وأما النسب فالعرب بعضهم أكفاء لبعض، ولا يكونون أكفاء لقريش، وقريش بعضهم أكفاء لبعض، الاعلى والأدنى سواء حتى لا يفضل الهاشمي على قرشي ليس بهاشمي، قال محمد: إلا أن يكون أمرا مشهورا فيها، مثل البيت الذي فيه الخلافة، ولا يكون العجم والموالي
(1) سورة الحجرات: الآية 13. 154 أكفاء للعرب، والموالي بعضهم أكفاء لبعض، ويكون موالي العرب أكفاء لموالي قريش، وأصله الحديث: قريش بعضها أكفاء لبعض، والعرب بعضها أكفاء لبعض، والموالي بعضها أكفاء لبعض: حي بحي وقبيلة بقبيلة. وأما المال فالمعتبر فيه القدرة على المهر والنفقة، حتى إن من لا يقدر على المهر والنفقة ليس بكفء. وقال بعض المشايخ: إنه يعتبر الكفاءة في المال، فيما سوى المهر والنفقة، لان الغنى سبب الشرف، في العادة بمنزلة النسب. وأما إسلام الآباء فكل من كان له أب واحد في الاسلام، لا يكون كفئا لمن كان له آباء في الاسلام. وكل من كان له أبوان في الاسلام فصاعدا يكون كفئا لمن كان له آباء كثيرة في الاسلام. وفي الحرية يجب أن يكون هكذا، لان الشرف يقع بحرية الآباء. وأما الكفاءة في الحرف والصناعة فعلى قول أبي حنيفة، لا يعتبر وعلى قول أبي يوسف: يعتبر، حتى لا يكون الحائك كفئا للصيرفي والصائغ. وبعض مشايخنا قالوا: هذا اختلاف عصر وزمان، فأبو حنيفة بنى الامر على عادة العرب أن مواليهم يعملون هذه الاعمال لحاجتهم، وحاجة مواليهم، ولا يقصدون بها الحرفة، ولا يعيرون بها. وأبو يوسف أجاب على عادة أهل العجم أنهم اتخذوا هذه الصناعات حرفة، ويعيرون بالدنئ من ذلك فلم يكن بينهم خلاف في الحقيقة ففي كل بلد عادتهم التعيير والتفاخر في الحرف، يعتبر فيه الكفاءة. والله أعلم.
155 باب النفقات الكلام في النفقة من وجوه: في بيان أنواعها، ويتضمن ذلك بيان الأسباب. وفي بيان المقدار. وفي بيان أن النفقة معتبرة بحال المرأة أو بحال الرجل، ونحو ذلك. أما الأول فنقول: النفقة الواجبة أنواع ثلاثة: نفقة الزوجات، ونفقة المحارم من الرحم ونفقة الرقيق. أما نفقة الزوجات فتجب بسبب استحقاق الحبس للزوج عليها، بسبب النكاح عندنا. وعند الشافعي: تجب بسبب الزوجية، حتى إن عنده تجب النفقة للصغيرة والكبيرة والمريضة وغيرها، وإنما تسقط بسبب النشوز من جهتها. وأما عندنا فأقسام: إن كانت امرأة حرة، بالغة، لم تمتنع عن المقام مع الزوج، وعن الدخول في بيته، بعد استيفاء المهر كله، إذا لم يكن مؤجلا، أو كان المهر مؤجلا، فإنه يجب عليه نفقتها إذا طالبته بها، سواء انتقلت إلى بيت الزوج أم لا، لان النفقة حق المرأة عليه، والانتقال إلى بيت
157 الزوج حقه عليها بعد إيفاء المهر، فإن لم يطالبها الزوج بالانتقال، فقد ترك حقه، فلا يسقط حقها. وأما إذا امتنعت عن الانتقال إلى بيته، فإن كان بحق لا تسقط النفقة، بأن امتنعت لتستوفي المهر. فأما إذا كان الامتناع بغير حق، بأن أوفاها الزوج المهر أو كان مؤجلا: فإنه تسقط النفقة، لأنه وجد النشوز منها، وإنه يسقط النفقة. فأما إذا كانت المرأة صغيرة فإن كانت تجامع مثلها، فكذلك الجواب. وأما إذا لم تجامع مثلها، فسلمت إلى بيت الزوج، فإنه لا نفقة له، لأنه لا يمكن الاستمتاع بها. وكذلك المريضة التي لا يمكن وطئها، وله أن يردها إلى بيت أهلها إن شاء. وإن كانت الصغيرة مما ينتفع بها، بالخدمة أو يستأنس بها، وكذلك المريضة إذا كانت ممن يستأنس بها الزوج، فأمسكها في بيته فلها النفقة، لأنه رضي بالحبس القاصر. وأما إذا كانت محبوسة بالدين قبل النقلة فإن كانت تقدر على أن تخلي بينه وبين نفسها فلها النفقة وإلا فلا، لان هذا حبس بحق. وهذا إذا كانت لا تقدر على أداء الدين، فأما إذا كانت تقدر ولا تؤدي، تسقط لتقصير منها. فأما إذا طلبت النفقة، وليست بمريضة، ولا محبوسة، وهي بالغة، ففرض لها النفقة، ثم مرضت أو حبست لم تبطل نفقتها، لان النفقة قد وجبت بتسليم النفس، من غير مانع عن الوطئ، فاعتراض المانع لا
(1) نشزت المرأة من زوجها نشوزا: عصمت زوجها وامتنعت عليه، ونشز الرجل من امرأته نشوزا: تركها وجفاها (المصباح). 158 يسقط النفقة، كالحيض. وذكر محمد في الأصل وقال في الرتقاء والمريضة: إذا طلبتا النفقة قبل النقلة فرض لهما القاضي، ولم يحك خلافا. وما ذكرنا في المريضة من التفصيل، قبل الانتقال أو بعده، قول أبي يوسف. وأما الزوجة إذا كانت أمة، فإن بوأها (1) المولى بيت الزوج تجب النفقة وإلا فلا، والتبوئة أن يخلى بينها وبين زوجها في منزل الزوج، ولا يستخدمها. فإن فعل ذلك: تجب على الزوج النفقة، لان الحبس المستحق بالنكاح، قد وجد. فإذا لم توجد التبوئة، لم يوجد الحبس المستحق بالنكاح. فإن بوأها المولى، ثم بدا له أن يستخدمها، فله ذلك، لان منافع سائر الأعضاء بقيت على ملكه، وإن استحق عليه منافع بعضها بالنكاح، إلا أنه أعارها منه بالتبوئة، فله أن يستردها، وتسقط النفقة، فإن بوأها ثانيا، عادت النفقة، كالحرة إذا نشزت، ثم عادت. وكل من وجبت لها النفقة وجبت لها السكنى، وإلا فلا، لقوله تعالى: * (أسكنوهن) (الآية) * (2). واما مقدار النفقة: فيعتبر فيه حال الرجال من اليسار والاعسار، دون حال المرأة.
(1) أي اسكنها. (2) سورة الطلاق: الآية 6. 159 وذكر الخصاف أنه يعتبر بحالهما، جميعا. والصحيح ما ذكرنا، لقوله تعالى: * (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله) * (1). ثم الزوج إن كان موسرا لا تفرض عليه نفقة أكثر من خادم واحد عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: إن كان لها خادمان يفرض لها. وأما إذا كان الزوج معسرا، فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يفرض عليه نفقة الخادم، وإن كان لها خادم. وقال محمد: إن كان لها خادم: فرض عليه نفقته، وإن لم يكن لها خادم: لا يفرض. وإن اختلف الزوجان في اليسار والاعسار، فالقول قول الزوج، لأنه يدعي الفقر، وهو أصل. وإن أقاما البينة، فالبينة بينة المرأة على أنه موسر، لأنها تثبت أمرا زائدا عارضا، فكانت أولى. ثم النفقة غير مقدرة بالدراهم والدنانير عندنا، لان السعر قد يغلو وقد يرخص، ولكنها مقدرة بكفايتها إن كان الرجل موسرا يوسع في النفقة والكسوة، وإن كان معسرا ينفق عليها أدنى الكفاية من الطعام والإدام والدهن، على حسب العرف والعادة، في الموسر والمعسر. فإذا طلبت الفرض من القاضي فإنه يقوم عليه مقدار الكفاية، بالدراهم أو الدنانير، ويفرض عليه بذلك. ثم نفقة الزوجات لا تصير دينا إلا بقضاء القاضي أو بتراضي الزوجين. فإذا يوجد أحد هذين، فإنها تسقط بمضي الزمان لأنها وجبت
(1) سورة الطلاق: الآية 7. 160 صلة، جزاء الحبس لا عوضا عن الوطئ. وهذا عندنا، وعند الشافعي: لا تسقط كسائر الديون لأنها وجبت عوضا كالمهر سواء، إلا أنها تسقط بعد الفرض بالموت، وإن لم تسقط بمضي الزمان، لأنها صلة لم تتأكد بالقبض فتسقط بالموت، كسائر الصلات. وإنما يفرض القاضي النفقة إذا كان الزوج حاضرا، والمرأة تطلب الفرض. فأما إذا كان غائبا، وطلبت فرض النفقة من القاضي، وسماع البينة منها على الزوجية، وعلى قيام المال في يد إنسان أمانة، من الوديعة أو المضاربة أو نحو ذلك، أو ثبوت الدين له على إنسان، ولا علم للقاضي بالزوجية ولا بالمال، فإن القاضي لا يجيبها إلى ذلك، ولا يحكم عليه. وهذا قول أبي حنيفة الآخر، وهو قول شريح (1)، وقد كان قوله الأول أن القاضي يقضي لها، وهو قول إبراهيم، والصحيح قول شريح، لان هذا قضاء على الغائب من غير أن يكون له خصم حاضر وإنه لا يجوز، عندنا. فأما إذا كان القاضي عالما بالزوجية، ويكون ماله في يد إنسان أمانة، أو بثبوت دينه على إنسان لمعاينة وجود السبب، أو الاقرار في النكاح، أو أقر صاحب اليد بكون المال للزوج أو أقر من عليه الدين وأقر بالزوجية، فإن القاضي يأمر من عليه الدين والمودع، بدفع النفقة
(1) هو شريح القاضي: أدرك النبي (ص) ولم يلقه، وقيل لقيه: والمشهور الأول، وقيل: كان في زمن النبي (ص) ولم يسمع منه. وقال الأكثرون: استقضاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الكوفة، وأقره من جاء بعده فبقي على قضائها ستين سنة، وقضى بالبصرة سنة. وروى ميسرة عن شريح قال: وليت القضاء لعمر وعثمان وعلى ومعاوية ويزيد بن معاوية ولعبد الملك إلى أيام الحجاج، فاستعفيت الحجاج . وكان له يوم استعفائه مائة وعشرون سنة، وعاش بعد استعفائه سنة. وقال علي بن أبي طالب لشريح: " أنت اقضي العرب " وقيل: توفى سنة 77 ه، وقيل سنة 78 ه، وقيل سنة 79 ه، وقيل سنة 80 ه. 161 إليها، ويفرض النفقة لها، لأنه لا يحتاج إلى القضاء، لان هذا واجب شرعا، على ما قال عليه السلام لهند امرأة أبي سفيان: خذي من مال أبي سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف، فكان هذا من باب النظر للغائب بإحياء زوجته، وللقاضي ولاية النظر في مال الغائب، ولهذا يبيع القاضي ما يتسارع إليه الفساد من مال الغائب، نظرا له، لان هذا من باب الحكم. وإذا طلبت المرأة من القاضي أن يأذن لها بالاستدانة على الزوج، ففي الفصل الأول لا يأذن بالاستدانة عليه، لأنه لم يفرض النفقة، لكونه قضاء على الغائب، فكذا هذا. فأما إذا علم القاضي بالزوجية أو كان قد فرض النفقة في حال حضور الزوج، ثم طلبت المرأة بعد الغيبة الاستدانة عليه، فإنه يأذن لها بالاستدانة عليه. وفائدة الاذن بالاستدانة ليس هو رجوعها على الزوج بالنفقة، لان النفقة إذا كانت مفروضة كان لها أن ترجع بغير الاذن بالاستدانة عليه، ولكن فائدته أن بعد الاذن بالاستدانة، لصاحب الدين أن يأخذ من الزوج، كما له أن يأخذ من المستدينة، لأنه لا يجب على الانسان أداء مال إلا بالتزامه أو بإلزام من له ولاية الالزام عليه فأما إذا استدانت عليه من غير إذن القاضي، فإن كان قبل فرض القاضي، تكون متطوعة في الانفاق، وتسقط بمضي الوقت، إذا لم يفرض القاضي، ولم يتراضيا عليه، وإن كان بعد فرض القاضي، فإن له أن يرجع عليها، لا على الزوج، لما ذكرنا، أنه لم يلتزم، ولم يلزم عليه القاضي بالاذن بالاستدانة. وإذا طلبت المرأة من القاضي، فرض النفقة على زوجها المعسر: فإن القاضي يقضي، لان نفقة الزوجة تجب على الفقير، ويؤخر إلى وقت
162 اليسار، لأنه لو لم يفرض تسقط بمضي الوقت. ولو طلبت من القاضي أن يستدين عليه، فإنه يفرض النفقة، ويأذن لها بالاستدانة، للفائدة التي ذكرنا. ولو طلبت الفرقة، لعجز الزوج عن الانفاق عليها فإن القاضي لا يفرق بينهما، وليس لها حق الفسخ، وهذا عندنا، وعند الشافعي يكون لها حق الفسخ إن شاءت، وهذه مسألة معروفة. ولو قبضت المرأة نفقة لسنة، بفرض القاضي أو بالتراضي، ثم مات الزوج قبل مضي السنة، لم يكن لورثته الرجوع عليها بشئ عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وكذلك إذا ماتت المرأة لم يرجع الزوج في تركتها بشئ. وقال محمد: أرفع لها من النفقة حصة ما مضى، وأقضي عليها برد الباقي. وكذلك الكسوة يسقط عنها حصة ما مضى من المدة ويرد الباقي. والصحيح قولهما، لان النفقة صلة، وقد تأكدت بالقبض، فلا يثبت فيها الرجوع بعد الموت، كما في الهبة. وأما نفقة ذوي الأرحام، فنقول: الأرحام ثلاثة أقسام: رحم الولادة، ورحم محرم النكاح، ورحم غير محرم. ولا خلاف أنه لا تجب النفقة لرحم غير محرم، كقرابة بني الأعمام ونحوهم، ولا خلاف أنها تجب بقرابة الولادة.
163 واختلفوا في رحم محرم، كالاخوة والعمومة والخؤولة، فعندنا تجب، وعند الشافعي لا تجب. وحاصل الخلاف أن هذه القرابة هل هي واجبة الوصل أم لا؟ فعندنا كذلك وعنده بخلافه. وينبني على هذا هذه المسألة. وكذلك إذا ملك أخاه أو عمه أو خاله: لا يعتق عليه عنده، وعندنا يعتق. وكذلك الخلاف في قطع السرقة الموجودة من هؤلاء. وهي مسألة معروفة، تذكر في العتاق، إن شاء الله تعالى. ثم الكلام في تفصيل هذه الجملة، فنقول: الرجل الموسر إذا كان له أبوان وأولاد صغار، وأولاد كبار غير الأصحاء، كالزمني والعميان والمجانين، والإناث وهم فقراء، فإنه يجب عليه نفقتهم، صلة للرحم. فأما الأولاد الكبار الأصحاء فلا يجب عليه نفقتهم. وجعل القدرة على الكسب بمنزلة الغنى في حق هؤلاء، إلا في حق الأبوين، فإن إلزام الوالد التكسب مع غنى الولد سبب للتأذي من الولد، والله تعالى حرم التأفيف، لما فيه من نوع أذى وهذا فوق ذلك. وأما الأولاد الصغار، فإذا كان لهم مال فنفقتهم من مالهم، لا على الأب. وإن كان المال حاضرا في يد الأب ينفق منه إن شاء، ولكن ينبغي أن يشهد على ذلك رجلين عدلين حتى يصدقه القاضي إذا أنكر الولد بعد الكبر إنفاقه عليهم، لأنه خلاف الظاهر والغالب، لان
164 الموسر ينفق على ولده من مال نفسه، وإن كان لهم مال. وكذلك إن كان المال غائبا ينفق من مال نفسه، ويشهد على ذلك ليمكنه الرجوع. فأما فيما بينهم وبين الله فلا حاجة إلى الاشهاد، ولكن لا بد أن ينوي عند الانفاق أنه يكون قرضا عليه، إذ له ولاية الاقراض للصبي، فيشترط البينة، فيحل له الرجوع. وإن كان الرجل فقيرا صحيحا مكتسبا، فإنه يجب عليه نفقة الوالدين والأولاد الصغار، والإناث، والكبار الزمني. ويشاركونه في نفقته التي اكتسبها لنفسه، وإن لم يكن في ذلك كفاية لهم، لأنه لا يشارك الرجل أحد في نفقة والديه، وكذلك في نفقة الولد المحتاج، لقيام البعضية بينهم. أما إذا كان الأب فقيرا زمنا: فإنه تجب نفقة هؤلاء على من كان موسرا من ذوي الرحم المحرم، فإنه روي عن أبي يوسف أنه قال: إذا كان للفقير الصحيح أولاد صغار، ولهم جد موسر، لم أفرض النفقة على الجد، وإن كان الأب زمنا، أفرض النفقة على الجد، لان الأب الفقير الزمن لا يكون من أهل وجوب النفقة عليه، فجعل كأن لم يكن. وقالوا في حق هؤلاء: إذا كان الرجل الموسر غائبا، وماله حاضر في يد إنسان أمانة، فأقر بالقرابة والمال، أو كان القاضي له علم بذلك، فإنه يفرض القاضي نفقة هؤلاء في مال الغائب، إذا كان ماله دراهم أو دنانير، أو طعاما، فأما إذا كان عروضا، فإن القاضي لا يبيع عروضه للنفقة على هؤلاء، كما لا يبيع العقار، ولكن الأبوان يبيعان عروضه ويصرفان إلى نفقتهما بقدر المعروف، ولا يتعرض لهما القاضي ويجوز ذلك البيع. وهذا قول أبي حنيفة وهو استحسان، والقياس أن لا يجوز بيع
165 الأبوين عروض ولدهما، كما لا يجوز بيع العقار. وما عرفت من الجواب في حق الوالدين، فهو الجواب في حق الجد والجدة، عند عدم الوالدين، فأما في حال قيامهما فحكمهما كحكم سائر ذوي الأرحام. ثم من سوى هؤلاء الذين ذكرناهم من ذوي الأرحام المحرم، فإنه تجب النفقة على الموسرين للمعسرين، على قدر المواريث. ولا يجب على الفقراء قليل ولا كثير، ولا يشاركونهم في نفقاتهم، لأنها وجبت بطريق الصلة، والصلات تجب على الأغنياء، دون الفقراء، للتعارض. ثم الكلام في كيفية وجوب نفقة المحارم فنقول: الأصل أنه إذا اجتمع الأقرب والأبعد في الوالدين والمولودين، وفي غيرهما من ذوي الرحم المحرم، فإنه تجب النفقة على الأقرب دون الابعد. وإذا استويا في القرب، فإنه يجب على من له نوع رجحان في الوالدين والمولودين. وفي غير الوالدين والمولودين من ذوي الرحم إذا وجد الاستواء في القرابة، رجح بكونه وارثا حتى إن كل من ورث يجب عليه دون من حجب. فإذا استويا في الميراث، يجب عليهما بقدر الميراث لوجود الاستواء في سبب الاستحقاق وسبب الترجيح، فتكون النفقة بينهم على قدر المواريث. إذا ثبت هذا الأصل يخرج عليه المسائل، فنقول: إن الفقير إذا كان له والد وابن ابن موسر تجب النفقة على الوالد لأنه أقرب.
166 وإن كان له والد وابن موسر تجب على الابن، لأنهما استويا في القرب، ويرجح الابن، لأنه كسبه فيكون له حق في كسبه. ولو كان له جد وابن موسر: تجب عليهما النفقة، على قدر الميراث، على الجد السدس، والباقي على ابن الابن. وكذلك إذا كان له أم وعم، أو أم وأخ، لأب وأم، أو لأب: فعلى الام الثلث، وعلى العم أو الأخ الثلثان على قدر الميراث. ولو كان له عم وخال، فالنفقة على العم، لأنهما تساويا في القرابة، والعم هو الوارث فيجب عليه. ولو كان له خال وابن عم فالنفقة على الخال دون ابن العم، لأنهما لم يستويا في الرحم المحرم، بل الخال هو ذو الرحم المحرم، فيجب عليه واستحقاق الميراث للترجيح وذلك عند الاستواء في سبب الاستحقاق. ولو كان له عمة وخالة وابن عم، فعلى الخالة الثلث، وعلى العمة الثلثان، ولا شئ على ابن العم، لأنه لم يوجد في حق ابن العم سبب الاستحقاق، والعمة والخالة استويا في سبب الاستحقاق وفي استحقاق الميراث فيكون بينهما على قدر الميراث. ولو كان له عم وعمة وخالة، فالنفقة على العم لا غير، لأنه ساواهما في الرحم والتحريم، وهو الوارث، دونهما، فتكون النفقة عليه. وعلى هذا الأصل مسائل. ثم النفقة لا تجب مع اختلاف الدين إلا للوالدين والمولودين والزوجة، والجد والجدة، في حال عدم الأبوين، ومن سوى هؤلاء تجب نفقته عند اتفاق الدين لا غير، لان نفقة الولادة تجب باعتبار البعضية
167 وصيانة نفسه عن الهلاك واجب فكذلك صيانة بعضه، فأما نفقة ذي الرحم المحرم فتجب باعتبار الصلة، وإنها تجب عند اتفاق الدين. فشرط وجوب نفقة المحارم: اليسار، واتفاق الدين، بخلاف نفقة الزوجات والوالدين والمولودين. ثم ما حد اليسار الذي يتعلق به وجوب النفقة؟ ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف أنه اعتبر نصاب الزكاة. وروى هشام عن محمد أنه إذا كان له فضل عن نفقة شهر له ولعياله، فإنه يجب عليه نفقة ذي الرحم المحرم، وإلا فلا. وروي عن محمد أنه من لا شئ له من المال، وهو يكتسب كل يوم درهما، ويكفي له أربعة دوانيق، فإنه يرفع لنفسه وعياله ما يتسع فيه وينفق فضله على من يجبر على نفقته. وقول محمد أوفق. وأما نفقة الرقيق فسبب وجوبها الملك. ولهذا لا يجب على العبد نفقة ولده الحر، لان كسبه مال مولاه. وكذا لا يجب على الحر نفقة ولده الرقيق، لأنه ملك غيره، فتكون نفقته عليه. وقالوا في الجارية المشتركة إذا جاءت بولد وادعاه الموليان: فنفقة هذا الولد عليهما. وعلى الولد إذا كبر نفقة كل واحد منهما، لأنه أب كامل في حقه. وقالوا في المفقود: إن القاضي يفرض في ماله لأبويه، ولامرأته، والصغار من ولده، والبنات، والذكور الزمني، فينصب عنه خصما، ويقضي عليه بنفقة هؤلاء.
168 وقالوا: يقضي في مال المفقود للجد، وولد الولد، في حال عدم الأب والولد. فأما في حال قيامهما فلا يقضي، لأنهم حينئذ في حكم ذوي الأرحام ولا يقضي بنفقة ذوي الأرحام في مال المفقود، والله تعالى أعلم.
169 كتاب الطلاق يحتاج إلى بيان أنواع الطلاق، وإلى بيان أحكامها فنقول: الطلاق في الأصل نوعان: طلاق سنة وطلاق بدعة. والسنة نوعان: نوع يرجع إلى العدد، ونوع يرجع إلى الوقت. وكذلك طلاق البدعة نوعان أيضا: يرجع إلى العدد، والوقت. ثم السنة في العدد والوقت نوعان عندنا: حسن وأحسن. فالأحسن أن يطلق الرجل امرأته واحدة رجعية في طهر لم يجامعها فيه، ثم يتركها حتى تنقضي عدتها، أو كانت حاملا قد استبان حملها. وأما الحسن، فأن يطلقها واحدة في طهر لم يواقعها فيه، ثم يطلق في الطهر الآخر واحدة ثم في الطهر الثالث واحدة فتبين. وأما طلاق البدعة في الوقت: فأن يطلقها في حالة الحيض، أو في طهر جامعها فيه. وأما طلاق البدعة في العدد: فأن يطلقها ثلاثا، بكلمة واحدة. ثم السنة التي ترجع إلى العدد: تستوي فيها المدخول بها وغير المدخول بها، لأنه إيقاع الطلاق من غير حاجة. فأما السنة في الوقت، فيختلف فيها المدخول بها وغير المدخول بها،
171 فإن الطلاق في حالة الحيض يكره عليها إذا كان مدخولا بها لا غير، لان فيه تطويل العدة، فأما في غير المدخلة فلا يكره، لأنه لا يؤدي إلى تطويل العدة فإنه لا عدة عليها. وهذا الذي ذكرنا من السنة والبدعة قول أصحابنا، وقال الشافعي: لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وإنما السنة والبدعة في الوقت، على ما ذكرنا. وأصل ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر أنه طلق امرأته في حالة الحيض، فسأل رسول الله (ص) عن ذلك، فقال: أخطأت السنة، ما هكذا أمرك الله، إن من السنة أن يستقبل الطهر فيطلقها، لكل قرء تطليقة. هذا الذي ذكرنا في حق ذوات الأقراء. فأما في حق الآيسة و الصغيرة، فطلاق السنة أن يفصل بين كل تطليقة بشهر، بالاجماع. وفي حق الممتد طهرها، لا يطلق للسنة، إلا واحدة. وأما في الحامل، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يطلق ثلاثا، للسنة، ويفصل بين كل تطليقة بشهر. وقال محمد وزفر: لا يطلق للسنة إلا واحدة، وهي مسألة معروفة. ثم في حق الآيسة والصغيرة إذا دخل بهما، لا يكره الطلاق، وإن طلقهما في طهر جامعهما فيه، بل يباح له الطلاق في أي وقت شاء، لان احتمال الحبل معدوم، وفي ذات الأقراء يكره لهذا. وكذلك في حق الحامل لان الكراهة للندامة بسبب الحمل، فمتى طلقها مع قيام الحمل، علم أنه لم يندم. هذا الذي ذكرنا في حق الحرة، فأما في حق الأمة المسلمة والكتابية
172 فلا يختلف الجواب في حق السنة والبدعة، إلا أن في حق الأمة طلاق السنة واحدة، لان طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان. ولو طلق امرأته واحدة ثم راجعها في ذلك الطهر فله أن يطلقها ثانيا للسنة، عند أبي حنيفة وزفر. وقال أبو يوسف: لا يطلق. وعن محمد روايتان. وأجمعوا أنه لو أبانها في طهر لم يجامعها فيه ثم تزوجها، له أن يطلقها ثانيا للسنة. فأبو حنيفة ألحق المراجعة بالتزويج والمعنى الجامع بينهما أن بالمراجعة بطل حكم الطلاق، فجعل كأن لم يكن. وعلى هذا قالوا: لو راجعها بالقبلة واللمس، له أن يطلقها ثانيا في ذلك الطهر عند أبي حنيفة، فأما إذا راجعها بالوطئ فلا يطلق ثانيا، لان الوطئ دليل المراجعة، فيصير كما لو راجع ثم جامعها، ليس له أن يطلقها. فأما إذا جامعها، فحبلت، جاز له أن يطلق أخرى، في ذلك الطهر، في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر، وقال أبو يوسف: لا يطلقها، والصحيح قولهم، لان الكراهة لمكان احتمال الحبل، فإذا علم بالحبل وطلق، فالظاهر أنه لا يندم، كما إذا ظهر الحبل فجامعها ثم طلقها لا يكره لما قلنا. وإذا طلق امرأته في حالة الحيض ثم راجعها ثم أراد طلاقها للسنة، ذكر في الأصل أنها إذا طهرت ثم حاضت، ثم طهرت، طلقها إن شاء.
173 وذكر الطحاوي أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة. وذكر الكرخي وقال: ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة، وما ذكر في الأصل قولهما. وما قال أبو حنيفة هو القياس، لأنه طهر لم يجامعها فيه، وما ذكر في الأصل لحديث ابن عمر أن النبي عليه السلام قال لعمر: مر ابنك فليراجعها، ثم يدعها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر ثم يطلقها إن شاء طاهرا من غير جماع. إذا ثبت هذا فنقول: إذا قال لامرأته: أنت طالق للسنة، فإن كانت من ذوات الأقراء. وهي طاهرة من غير جماع، يقع الطلاق للحال، وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه، لم يقع الساعة، فإذا حاضت، وطهرت وقعت بها تطليقة. وإذا قال: أنت طالق ثنتين للسنة، أو ثلاثا للسنة، وقع عند كل طهر لم يواقعها فيه، طلقة. ولو قال: أنت طالق ثلاثا للسنة، ونوى الوقوع للحال، يقع عندنا، خلافا لزفر لان السنة نوعان، سنة إيقاع، وسنة وقوع، فإن وقوع الثلاث عرفناه جائزا مشروعا بالسنة، وسنة الايقاع ما ذكرنا، فإذا نوى صحت نيته. - ولو قال: أنت طالق للسنة، ونوى الثلاث صح، لما ذكرنا أن سنة الايقاع نوعان: حسن وأحسن، فإذا لم يكن له نية، يقع على الأحسن، وهو الطلاق الواحد في طهر لم يجامعها فيه، وإذا نوى الثلاث فقد نوى إيقاعه في ثلاثة أطهار فيقع عند كل طهر واحدة، كأنه قال: أنت طالق ثلاثا في ثلاثة أطهار. ولو قال: أنت طالق للبدعة، ونوى الثلاث، صح، لان
174 إيقاعه الثلاث جملة في طهر واحد بدعة والطلاق في حالة الحيض بدعة، فإذا نوى الثلاث، فقد نوى ما يحتمله كلامه، فصحت نيته. فأما في حق الآيسة والصغيرة والحامل، فإنه إذا قال: أنت طالق ثلاثا للسنة، يقع للحال واحدة وعند كل شهر أخرى لقيامه مقام الطهر. وعلى هذا إذا قال: أنت طالق طلاق العدة، أو طلاق العدل، أو طلاق الاسلام، أو طلاق الحق، أو طلاق القرآن، أو أجمل الطلاق، أو أعدل الطلاق، أو أحسن الطلاق، فالجواب فيه مثل قوله: أنت طالق للسنة. ثم يتنوع الطلاق أيضا إلى نوعين آخرين: رجعي وبائن. أما الرجعي: فهو صريح الطلاق إذا كان واحدا أو اثنتين. والصريح ما اشتق من لفظ الطلاق نحو قولك: أنت طالق وأنت مطلقة وطلقتك، ونحو ذلك، وكذلك إذا قال: أنت الطلاق، لان المصدر قد يراد به المفعول، كأنه قال: أنت مطلقة وقد يراد به الفاعل فكأنه قال: أنت طالق. وكذلك الألفاظ الثلاثة التي تسمى كناية، نحو قولك: اعتدي و استبري رحمك وأنت واحدة فإنه يكون رجعيا، لان قوله اعتدي إن كان بعد الدخول يقع الطلاق به، بطريق الاقتضاء، لان الامر بالاعتداد يكون بعد الطلاق، فيصير الطلاق ثابتا مقتضى صحة الامر، كأنه قال: طلقتك فاعتدي، وإن كان قبل الدخول بها: يجعل مجازا عن الطلاق. وكذا قوله استبري رحمك، وقوله أنت واحدة أي أنت طالق طلقة واحدة.
175 ثم ما كان من الصريح لا يحتاج فيه إلى النية. وأما في هذه الألفاظ الثلاثة فيحتاج إلى النية. فإن نوى بقوله: أنت طالق، ونظائره، ثلاث تطليقات أو طلقتين، لا يصح عندنا، وعند زفر والشافعي يصح. فأما إذا ذكر بلفظة الامر، بأن قال طلقي نفسك، أو قال لرجل: طلق امرأتي، ونوى الثلاث صح. وكذلك إذا قرن به المصدر، بأن قال: أنت طالق طلاقا، وكذا إذا ذكر المصدر وحده، بأن قال: أنت الطلاق ونوى الثلاث، صح بالاجماع. ولا خلاف في الكنايات المنبئة عن البينونة والحرمة، نحو قولك: أنت بائن، أنت علي حرام ونوى الثلاث، فإنه يقع الثلاث، والمسألة معروفة. ولو قال: أنت طالق، وقال: أردت طلاقا عن وثاق، يصدق فيما بينه وبين الله، دون القضاء، لأنه صرف الكلام عن ظاهره شرعا. ولو قال: أنت طالق، وقال: أردت الطلاق عن العمل، لا يصدق أصلا، كذا قال أصحابنا. وروى الحسن على أبي حنيفة أنه قال: يصدق فيما بينه وبين الله في الفصلين. ولو قال: أنت مطلقة رجعية، لا يقع بدون النية. ولو قال: أنت أطلق من امرأة فلان، وهي مطلقة، فإنه يقف على النية، إلا إذا كان في حال سؤال الطلاق منها، فإنه يقع من غير نية. ولو قال: يا مطلقة، أو: يا طالق، وقال: أردت به الشتم، يصدق فيما بينه وبين الله، دون القضاء إن لم يكن لها زوج قبله، فأما إذا كان لها
176 زوج قبله، فإنه يصدق في القضاء. ولو قال: أنت طالق طالق، أو: طلقتك طلقتك، وعنى بالثاني الاخبار: يصدق فيما بينه وبين الله، دون القضاء. ولو قال أنت طالق، فقال رجل ما قلت؟ فقال: قلت: هي طالق، أو قال: قد طلقتها، فهي واحدة في القضاء، لأن الظاهر يدل عليه. وأما حكم الطلاق الرجعي فنقول: إنه يوجب الحرمة وزوال الملك عند انقضاء العدة، وفي الحال ينعقد سببا لزوال الملك، ويتم عليه عند انقضاء العدة. وكذا ينعقد سببا لزوال حل المحلية، عند انضمام الطلقة الثانية والثالثة إليه. فأما في الحال فلا يزول شئ من الحل والملك. وهذا عندنا. وعلى قول الشافعي: حكمه للحال زوال حل الوطئ وزوال الملك من وجه. وعلى هذا ينبني حل الوطئ عندنا، لقيام ملك النكاح من كل وجه، وإنما يزول عند انقضاء العدة، فيكون الحل قائما قبل انقضاء العدة، وتكون الرجعة استدامة الملك، وعنده الرجعة إنشاء النكاح من وجه، واستبقاء من وجه، فيقول بالحرمة احتياطا. وعلى هذا ينبني أن الاشهاد ليس بشرط في الرجعة عندنا، وعنده شرط، لما كان إنشاء النكاح من وجه. وأجمعوا أنه يملك المراجعة من غير رضا المرأة، ومن غير مهر، ومن غير تجديد العقد، وهو أن يقول لامرأته: راجعتك، أو عبارة تقوم مقامها في هذا المعنى، والأفضل أن يشهد على رجعتها، وأن يعلمها بذلك.
177 وعلى هذا إن الرجعة لا تثبت بالفعل عنده، لان إنشاء النكاح من كل وجه يكون بالقول، والرجعة إنشاء من وجه، فيجب أن تكون بالقول أيضا، لكنا نقول: عندنا تثبت الرجعة والإعادة إلى الحالة الأولى بطريق الدلالة، لان الطلاق الرجعي متى زال الملك به عند انقضاء العدة، يثبت من وقت التكلم من وجه، لان الإبانة قول الزوج، قوله هو الطلاق السابق، فلو لم تصح الرجعة بالوطئ، لصار الوطئ واقعا في ملك الغير من وجه، فكان الاقدام على الوطئ دلالة الرجعة والرد إلى الحالة الأولى، احترازا عن الحرمة من وجه. وكذا إذا لمسها بشهوة، أو نظر إلى فرجها بشهوة، لان ذلك حرام أيضا في غير الملك من وجه. فأما النظر إلى فرجها، لا عن شهوة والنظر إلى سائر أعضائها عن شهوة فلا يوجب المراجعة، لان هذا مما يباح في الجملة. ولو جامعت الزوج، وهو نائم، أو مجنون: تثبت الرجعة. ولو لمسته المرأة بشهوة مختلسة، أو كان نائما، واعترف أنه كان بشهوة، فهو رجعة عند أبي حنيفة. وهو رواية عن أبي يوسف. وقال محمد: ليس برجعة. وقد ذكرنا المسألة في كتاب البيوع، في الجارية المشتراة بشرط الخيار للمشتري إذا لمست المشتري بشهوة، على الاختلاس، فلا نعتد به. ثم إنما تصح الرجعة إذا راجعها في العدة. فلا تصح بعد انقضاء العدة، لأنه زال الملك، فلا بد من تجديد العقد. ولو أنها إذا طهرت من الحيضة الثالثة فقال: راجعتك لا يخلو إما أن تكون أيامها عشرة، أو ما دون العشرة، فإن كانت أيامها عشرة فإنه لا تصح الرجعة وتحل للأزواج،
178 لان عدتها تنقضي بمجرد مضي العشرة. فأما إذا كانت ما دون العشرة، فإن اغتسلت لا تصح الرجعة وتحل للأزواج، وإن كان قبل الاغتسال فلا تحل للأزواج، وتصح الرجعة، لان مدة الاغتسال من الحيض، بإجماع الصحابة. ولو اغتسلت بسؤر حمار فلا تصح الرجعة، ولا تحل للأزواج، لان سؤر الحمار مشكوك فيه، فكان الاحتياط في باب الحرمة أن لا تصح الرجعة، ولا تحل للأزواج. ولو اغتسلت وبقي في بدنها عضو، كانت له الرجعة، وإن كان أقل من عضو، فلا رجعة وهذا استحسان، والقياس أنه إذا بقي أقل من عضو أن تبقى الرجعة، لان الحدث باق، حتى لا تحل لها الصلاة، هكذا روي عن أبي يوسف، وقال محمد: الاستحسان في العضو أنه لا تنقطع الرجعة، والقياس أنه تنقطع كما في المضمضة والاستنشاق، إلا أنهم استحسنوا وقالوا: لا تنقطع الرجعة، لان وجوب غسل العضو مجمع عليه، فلا يكون الاغتسال معتبرا معه، كما لو زاد على العضو. فأما إذا بقي المضمضة أو الاستنشاق، فقد روي عن محمد أنه قال: تنقطع الرجعة، ولا تحل للأزواج، لان المضمضة مختلف في وجوبها، فكان الاحتياط أن تنقطع الرجعة ولا تحل للأزواج. هذا الذي ذكرنا حكم الاغتسال. ولو مضى وقت صلاة كامل قبل أن تغتسل، فإنه تنقطع الرجعة. لان الصلاة صارت دينا، فيكون لها حكم الطاهرات مطلقا. فأما إذا تيممت، بأن كانت مسافرة فإن صلت تنقطع الرجعة أيضا، فأما بنفس التيمم فعند أبي حنيفة وأبي يوسف: لا تنقطع. وعند محمد وزفر: تنقطع، والمسألة معروفة.
179 ولو قال الزوج: قد كنت راجعتك أمس، وكذبته المرأة فإن كانت في العدة فالقول قوله، لأنه أخبر بما يملك إنشاءه للحال. وإن قال بعد انقضاء العدة، وكذبته المرأة، فالقول قولها، لأنه أخبر بما لا يملك للحال إنشاءه، ولا يمين عليها عند أبي حنيفة، خلافا لهما، وهذه من جملة المسائل السبعة التي لا يستحلف فيها عنده. فإن قال: قد راجعتك، فقالت مجيبة: قد انقضت عدتي، فالقول قولها عند أبي حنيفة، وقالا: القول قول الزوج، والمسألة معروفة. ومن حكم الطلاق الرجعي، أن تكون الأقراء محسوبة من العدة، لان الطلاق واقع في حق أحد الحكمين، وهو انعقاده سببا لزوال حل التزوج. وأما الطلاق البائن فنذكر أقسامه وأحكامه فنقول: الطلاق البائن أقسام ثلاثة: أحدها: أن يقترن بصريح الطلاق ما يدل على البينونة، والثاني: أن يكون اللفظ منبئا عن البينونة، والثالث: ما يقع به البينونة من طريق الحكم. أما الأول، فنقول: إذا اقترن بالصريح العدد الثلاث بأن قال: أنت طالق ثلاثا، أو اقترن باللفظ المنبئ عن البينونة صفة للمرأة، من غير حرف العطف كقوله: أنت طالق بائن، أو: طالق البتة، أو: أنت طالق حرام. وعن أبي يوسف أنه إذا قال أنت طالق للبدعة، ونوى واحدة
180 بائنة: تكون بائنة، وروى هشام عن محمد في هذه المسألة أنه واحدة رجعية. ولو قال: أنت طالق أقبح الطلاق، روي عن أبي يوسف أنه رجعي، وقال محمد: أنه بائن. والقسم الثاني: أن يوقع بألفاظ دالة على البينونة والقطع والحرمة وهي تسمى كنايات الطلاق. وهي في الجملة أقسام ثلاثة، منها ما يصلح للشتم، والتبعيد، والطلاق، ومنها ما يصلح للطلاق والتبعيد، ولا يصلح للشتم، ومنها ما لا يصلح للطلاق. والأحوال ثلاثة: حال ذكر الطلاق، وحال الغضب، وحال ابتداء الزوج بالطلاق ليس بحال سؤال الطلاق ولا حال الغضب. وههنا حكمان: أحدهما: أن وقوع الطلاق بهذه الألفاظ يفتقر إلى نية الطلاق أم لا؟ والثاني: إذا قال المتكلم: ما عنيت بهذا اللفظ الطلاق، هل يصدق أم لا؟ فنقول: أما بيان الحكم الأول: إذا ذكر لفظا يصلح للطلاق في غير حال مذاكرة الطلاق، وحال الغضب، كيفما كان، فإذا نوى به الطلاق، يقع، وإن لم يكن له نية، لا يقع، لأنه كما يصلح للفرقة لأمر آخر، فإن قوله بائن يحتمل بينونة الطلاق، ويحتمل البينونة عن الخير أو عن الشر. وكذلك قوله: اذهبي واغربي والحقي بأهلك فإنه كما
181 يصلح للطلاق، يصلح للابعاد عن نفسه، والتغريب من غير طلاق محتمل، والمحتمل لا يقع بدون النية. وإن كان لفظا لا يصلح للطلاق، فإنه لا يقع به الطلاق وإن نوى، لان الطلاق يقع باللفظ لا بالنية، كقوله: اسقني واقعدي وأعرضت عن طلاقك وصفحت عن فراقك وتركت طلاقك وخليت سبيل طلاقك ونحو ذلك. وأما في حال ذكر الطلاق وحال الغضب، ففي تسعة ألفاظ من الكنايات يقع الطلاق، بلا نية، وهي قوله: أنت بائن وأنت علي حرام وخلية وبريئة وبتة وأمرك بيدك واختاري و اعتدي واستبري رحمك، لأن هذه الألفاظ كما تصلح للطلاق تصلح لغيره، والحال يدل على الطلاق ظاهرا، لأنه حال سؤال الطلاق، وحال الغضب والخصومة، فكان الظاهر أنه قصد الطلاق بذلك فرجح جانب الطلاق على غيره. وأما في سائر الألفاظ، نحو قولك: لا سبيل لي عليك و فارقتك وخليت سبيلك ولا ملك لي عليك والحقي بأهلك ووهبتك لأهلك واغربي واخرجي واذهبي و قومي واستتري وتقنعي وتزوجي ولا نكاح عليك ونحو ذلك، فلا يقع إلا بالنية، لأنه كما تصلح للطلاق تصلح للتبعيد عن نفسه، والانسان قد يبعد امرأته من غير طلاق، فلا بد من النية. وأما الحكم الثاني: وهو أنه إذا قال: ما عنيت به الطلاق، هل يصدق؟ فنقول: في كل لفظ يصلح للطلاق، يصدق فيما بينه وبين الله، لكونه محتملا، فأما في القضاء فهل يصدق؟ فهو على أقسام ثلاثة:
182 - قسم منه لا يدين، في الأحوال كلها، وهو أربعة ألفاظ: قوله: أمرك بيدك واختاري واعتدي واستبري رحمك، لأن هذه الألفاظ لا تصلح للشتم ولا للتبعيد، فالظاهر منها الطلاق، والحال يدل عليه، فلا يصدق في القضاء. وقسم منه يدين في حال الغضب، ولا يدين في حال ذكر الطلاق، وذلك في كل لفظ يصلح للشتم، وهي خمسة ألفاظ: أنت خلية برية بتة باين أنت علي حرام، لأن هذه الألفاظ تصلح للشتم، وتصلح للطلاق، وحال الغضب يصلح للامرين جميعا، فكان الحال محتملا، واللفظ محتملا، للطلاق وغيره، فلا يكون قوله خلاف الظاهر فيصدق، وأما في حال ذكر الطلاق فذكر هذه الألفاظ مع الرضى لا يصلح إلا للطلاق، فحمل عليه، دون الشتم. - وقسم منه يدين في حال الغضب، وحال ذكر الطلاق، وهي الألفاظ التي تصلح للتبعيد والطلاق دون الشتم، لأن هذه الألفاظ تصلح للتبعيد وتصلح للطلاق، فلا يترجح أحد الامرين بالحال، وقد نوى ما يحتمله كلامه، والظاهر لا يخالفه، فيصدق في القضاء. والقسم الثالث: وأما البائن الذي يقع حكما فكثير، كاعتراض حرمة المصاهرة، والرضاع، واللعان، والردة ونحوها، لان الغرض هو المفارقة بينهما، فلا بد من ثبوت البينونة، لكن بعضها يكون طلاقا بالاجماع بين أصحابنا، وبعضها يكون فسخا بالاجماع، وبعضها مختلف فيه. أما الأول: فكالفرقة بالايلاء (1)، فإذا مضت مدة الايلاء، بانت بتطليقة بائنة عندنا، لأنه حصل بقول الزوج، وكتفريق القاضي بسبب العنة،
(1) الايلاء في اللغة عبارة عن اليمين، وفى الشريعة عبارة عن منع النفس عن قربان المنكوحة أربعة أشهر فصاعدا منعا مؤكدا باليمين. 183 فإن القاضي نائب عن الزوج في التفريق الواجب عليه. وأما ما يكون فسخا بالاجماع فكالفرقة التي تقع بحرمة مؤبدة، مثل حرمة المصاهرة، وحرمة الرضاع، لأنها خلاف حكم الطلاق. وكذلك كل فرقة حصلت بفعل المرأة، أو حصلت لا بفعل الزوجين فهي فسخ، لأن المرأة لا تملك الطلاق، والطلاق لا بد له من قول الزوج، وذلك نحو اختيار الأمة المعتقة نفسها، أو اختيار الصغيرة إذا أدركت، وردة المرأة، وإباؤها الاسلام بعد إسلام زوجها، والفرقة الواقعة باختلاف الدارين، لأنه ليس فعل أحد، وكذا إذا ملك أحد الزوجين صاحبه، لأنه تقع الفرقة بلا فعل، وكذا إذا أسلم الحربي، وتحته أكثر من أربع نسوة، فاختار أربعا منهن، تقع الفرقة على الباقيات بغير طلاق لان الحرمة تثبت شرعا، واختيار الزوج للبيان لا أنه طلاق، وكذا اختيار الصغير نفسه بعد البلوغ، وإن كان فعله لأنه رفع النكاح من وجه، والفسخ يثبت بطريق الضرورة. وأما المختلف فيه فنحو الفرقة بسبب اللعان عند أبي حنيفة، ومحمد تكون طلاقا، وعند أبي يوسف تكون فسخا، لأنه يثبت به حرمة مؤبدة عنده خلافا لهما. وكذا ردة الزوج عند أبي حنيفة، وأبي يوسف فرقة بائنة بغير طلاق. وقال محمد: هي طلاق بائن. وإباء الزوج الاسلام إذا أسلمت امرأته الذمية، فهو طلاق بائن عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: فرقة بائنة بغير طلاق. فمحمد سوى بينهما وجعلهما طلاقا بائنا. وأبو يوسف جعلهما فسخا. وأبو حنيفة فرق بينهما فقال: ردة الزوج فسخ، وإباؤه الاسلام طلاق.
184 وأما بيان أحكام الطلاق البائن فنقول: منها: إن كان واحدا يزول به ملك النكاح، وتبقى المرأة محلا للنكاح بطلاقين، حتى لا يحل له الاستمتاع بها، ولا يصح الظهار والايلاء، ولا يجري التوارث، ولا تحل إلا بتجديد النكاح، ولو وطئها لا يجب الحد، لاختلاف الصحابة في الكنايات إنها بوائن أو رواجع، وأصحابنا أخذوا بقول من قال: إنها بوائن. والشافعي أخذ بقول من قال إنها رواجع. وإن كانت البينونة بالثلاث يزول الملك، وحل المحلية جميعا، حتى لا يحل له وطئها إلا بعد إصابة الزوج الثاني. وإن وجد عقد النكاح أو ملك اليمين، فإن النكاح لا يصح لعدم حل المحلية، وبسبب ملك اليمين، يصح، ولا يفيد الحل. ومنها: أن المبانة والمختلعة يلحقها صريح الطلاق، ما دامت في العدة، عندنا، خلافا للشافعي. وأجمعوا أنه لا تلحقها الكنايات المزيلة للنكاح، والمسألة معروفة. ومنها: أن الطلاق البائن هل يكره إذا خلا عن العدد والعوض؟ فيه روايتان: في ظاهر الرواية: لا يكره. وفي رواية الزيادات: يكره. وإذا اقترن به العدد: يكره بالاجماع. وإذا اقترن به العوض وهو الخلع، لا يكره على ما نذكر. ثم وقوع الطلاق بما ذكرنا من الألفاظ يستوي فيه الجواب بين أن وجد من الزوج، أو من نائبه، وهو الوكيل والرسول. وكذلك إذا كتب وهو أنواع: إن لم يكن مستبين الحروف كما إذا كتب على الماء والهواء، فهذا ليس بشئ، لأنه لا يسمى كتابة.
185 وإن كان مستبين الخط، ولكن لا يكون على رسم الكتابة، بأن كانت على لوح أو حائط أو أرض، فهو في حكم الكتابة، ولان الانسان قد يكتب لتجربة الخط ولتجربة الحبر والقلم، فإن نوى الطلاق: يقع، وإلا فلا. فأما إذا كان على رسم الكتابة والرسالة، بأن يكتب: أما بعد، يا فلانة إذا وصل إليك كتابي، فأنت طالق فإنه يقع الطلاق به، ولا يصدق إذا قال: لم أرد به الطلاق، لان الكتاب من الغائب بمنزلة الخطاب من الحاضر. ثم إذا كتب مطلقا، وقال أنت طالق، على رسم الكتابة، يقع الطلاق، كما كتب، ولا يتوقف على الوصول إليها. وإن علقه بشرط الوصول، بأن قال: إذا وصل إليك كتابي، فإنه لا يقع الطلاق، ما لم يصل الكتاب إليها، لان المعلق بالشرط لا ينزل قبل وجوده. هذا الذي ذكرنا في حكم الصحيح فأما المريض إذا طلق، وهو صاحب الفراش، طلاقا رجعيا أو بائنا أو ثلاثا، ثم مات من ذلك المرض وهي في العدة، فإنها ترث عندنا خلافا للشافعي. والقياس معه لكنا استحسنا بإجماع الصحابة. ولو زال المرض ثم نكس المريض ومات وهي في العدة، لم يرثه، لأنه تبين أنه ما طلق في مرض الموت.
186 باب تفويض الطلاق ههنا فصول أربعة: أحدها: أن يقول لامرأته: أمرك بيدك، والثاني: أن يقول لها: اختاري، والثالث: أن يقول: أنت طالق إن شئت، والرابع: أن يقول: طلقي نفسك. أما الأول فهو نوعان: إما أن يكون مطلقا، أو مؤقتا. أما إذا قال أمرك بيدك مطلقا، ولم يوقته بوقت، ويريد به الطلاق، فإنه يصير أمرها بيدها، ويصير الطلاق مفوضا إليها، وتصير مالكة للتطليق، ما دامت في مجلسها ذلك وإن طال. وهذا إذا كانت حاضرة وسمعت الامر من الزوج، وعلمت به. فأما إذا كانت غائبة، أو حاضرة ولم تسمع، فلها الخيار في مجلس بلغ إليها الخبر فيه، وعلمت بذلك، لان هذا تمليك الطلاق، والتمليك يقتصر جوابه على المجلس، ويكون مؤقتا به، كما في قبول البيع. وإذا صار الامر في يدها، فإن اختارت نفسها في المجلس، تقع واحدة بائنة، إذا أراد الزوج به طلاقا واحدا أو اثنين. فإن أراد الزوج
187 ثلاثا، فهي ثلاث، لان هذا اللفظ من الكنايات، فيحتمل الثلاث، فلا بد من نية الطلاق، على التفصيل الذي ذكرنا. وكذلك إذا قالت: طلقت نفسي أو أبنت أو أنا منك بائن أو طالق أو قالت أنت علي حرام أو أنت مني بائن، فإنه يكون جوابا، لأن هذه الألفاظ للطلاق. فأما إذا وجد منها كلام، أو فعل يدل على الاعراض عن اختيار النفس فإنه يبطل خيارها، ويخرج الامر من يدها، وذلك نحو أن تقوم من مجلسها ذلك، إذا سمعت بالخيار، إن كانت قاعدة، أو كانت قائمة فركبت، وإن كانت سائرة فإن أجابت على الفور أو وقفت للتأمل في ذلك وإلا فيبطل خيارها، لان ذلك دليل الاعراض. وكذلك إذا اشتغلت بافتتاح الصلاة، أو بالأكل والشرب، حتى يكون ذلك مجلس الأكل والشرب. فأما إذا أكلت شيئا يسيرا، أو شربت شربة فلا يعتبر. فإن قالت: ادعوا لي أبواي حتى أستشيرهما، أو: ادعوا لي شهودا أشهدهم عليه، لم يبطل خيارها، لأنها تحتاج إلى ذلك، فلا يكون دليل الاعراض. ثم إذا اختارت نفسها مرة ليس لها أن تختار ثانيا، ويبطل الخيار، لأنه فوض إليها الخيار مرة واحدة. وكذلك لو قال لها: أمرك بيدك إن شئت. فأما إذا قال: أمرك بيدك كلما شئت، فيكون الامر في يدها، في ذلك المجلس، وغيره، حتى تبين بثلاث، لان كلمة كلما تقتضي التكرار، لكنها لا تطلق نفسها في المجلس إلا مرة واحدة، كأنه قال لها في كل مجلس أمرك بيدك، فما لم يتجدد المجلس لا يتجدد الخيار.
188 وكذلك إذا قال لها أمرك بيدك إذا شئت أو متى شئت أو ما شئت أو متى ما شئت، فلها الخيار في المجلس، وغيره، كأنه قال لها اختاري في أي وقت شئت، إلا أنه يكون لها الخيار مرة، لأن هذه الألفاظ لا توجب التكرار. فأما إذا كان الامر باليد موقتا، بأن قال: أمرك بيدك يوما، أو شهرا، أو سنة، أو هذا اليوم، أو هذا الشهر، أو هذه السنة، فلها الامر في جميع ذلك الوقت، وإعراضها عن الجواب في ذلك المجلس، وغيره، واشتغالها بغير الجواب من الاعمال والأقوال، لا يبطل خيارها، ما بقي شئ من ذلك الوقت، لأنه فوض الطلاق إليها في جميع ذلك الوقت، غير أنه إذا كان الوقت منكرا، كقوله يوما أو شهرا، فلها الخيار من ساعته التي تكلم، إلى أن يتم الوقت ويكون الشهر بالأيام. فأما إذا عين فقال: هذا اليوم أو هذا الشهر أو هذه السنة، فلها الخيار في بقية اليوم والشهر والسنة. ولو لم تعلم بالوقت حتى مضى، يبطل خيارها، ولا يتوقف ثبوت الخيار على الوقت الذي علمت به، لأنه أثبت الخيار في زمان مقدر، فينتهي بانتهاء الوقت، إذ لو بقي، لزاد على مقدار الوقت، وفي الامر باليد مطلقا يتوقف على مجلس العلم، فيشترط علمها بذلك، لأنه ما قيده بالوقت. ولو اختارت زوجها في أول الشهر، أو في أول السنة، ثم أرادت أن تختار نفسها بعد ذلك فلها في ذلك قول أبي حنيفة ومحمد، لأنه جعل إليها الخيار في جميع المدة، واختيارها للزوج في اليوم إبطال للخيار فيه، فلا يوجب بطلان الخيار في يوم آخر، في ذلك الوقت، كما إذا أعرضت عن الجواب في يوم إذا اشتغلت بأمور كثيرة، فيبطل خيارها في ذلك اليوم، لا في باقي المدة، كذا هذا. وقال أبو يوسف: يخرج الامر من يدها، في الشهر كله، لان هذا
189 تمليك واحد في أشهر، فيبطل برد واحد كتمليك البيع. وكذلك الخلاف في قوله: أمرك بيدك كلما شئت وإذا شئت و " متى شئت "، وقالوا أيضا: إن الخلاف على عكس هذا. وأما الفصل الثاني: إذا قال لها اختاري فنقول: الجواب في هذا وفي قوله: أمرك بيدك سواء في جميع الأحكام إلا في موضعين: أحدهما: أن الزوج إذا أراد به الثلاث لا يقع، وفي قوله: أمرك بيدك يقع، لان ذلك من كنايات الطلاق، وأما قوله: اختاري فليس من ألفاظ الطلاق، وإنما هو تفويض الطلاق بلفظ لا يقتضي التكرار. والثاني: أنه لا بد من ذكر النفس، ههنا، في أحد الكلامين، بأن يقول الزوج: اختاري نفسك أو قالت: اخترت نفسي إذا قال الزوج: اختاري لا غير. وأما إذا قال: اختاري فقالت: اخترت لا يكون شيئا. وكذلك إذا قرن بالخيار ما يوجب الاختصاص باختيار الطلاق، فهو كاف، بأن قال: اختاري الطلاق أو اختاري اختياره. ثم المرأة إذا قالت: اخترت نفسي أو طلقت نفسي يكون جوابا. ولو قالت: اخترت أمي أو أبي أو أهلي أو الأزواج فالقياس أن لا يقع به شئ، وفي الاستحسان: يقع، لأن المرأة عند الطلاق تلحق بهؤلاء، فصار اختيارها لذلك دلالة اختيار الطلاق، كأنها قالت: اخترت الطلاق.
190 والفصل الثالث: إذا قال: أنت طالق إن شئت فالجواب فيه مثل الجواب في أمرك بيدك في جميع الأحكام، إن كان مطلقا فعلى المجلس، وإن كان مؤقتا فثابت في جميع الوقت كما ذكرنا في الخيار. إلا أن هنا يقع الطلاق الرجعي، وثم يقع بائنا، إلا إذا قال لها: أمرك بيدك في تطليقة أو اختاري تطليقة واختارت نفسها، يقع رجعيا لأنه فوض إليها الرجعي. وكذلك إذا قال: أنت طالق إن أردت، أو رضيت، أو هويت، أو أحببت فإذا قالت: شئت أو أردت، في المجلس، يقع الطلاق، وإن كان لا يعرف مشيئتها حقيقة، لان الحكم متعلق بالاخبار عن المشيئة والإرادة، ولهذا إذا قال لها: إن كنت تحبيني أو تبغضيني فأنت طالق فقالت أحبك وفي قلبها بخلافه، يقع، ويعتبر الخبر، لا حقيقة المحبة. وكذلك إذا قال لها: إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار، أو تكرهين دخول الجنة فأنت طالق، فقالت: إني أحب العذاب بالنار وأكره الجنة، وقع الطلاق، لوجود الخبر. ولو قال: إن كنت تحبيني بقلبك فأنت طالق، فقالت: أحبك وفي قلبها بخلافه يقع الطلاق عند أبي حنيفة وأبي يوسف، لما ذكرنا، وعند محمد: لا يقع، لأنه علقه بحقيقة فعل القلب، ولم يوجد. وأما الفصل الرابع: إذا قال: طلقي نفسك: فالجواب فيه مثل الأول، لان هذا تمليك الطلاق منها، بخلاف ما إذا قال لأجنبية طلقي امرأتي حيث لا يقتصر على المجلس، وفي قوله: طلقي نفسك يقتصر على المجلس، لان ذلك توكيل، وفي حق
191 المرأة تمليك، إلا أن الفرق أن في قوله طلقي نفسك إذا أراد الزوج الثلاث يقع ثلاث وفي قوله أنت طالق إن شئت فقالت: شئت إذا أراد الثلاث، لا يقع. ولو قال: اختاري، فقالت: طلقت يقع. ولو قال: طلقي نفسك، فقالت: اخترت، لا يقع لان قولها: اخترت ليس من ألفاظ الطلاق، ألا ترى أنها لو قالت: اخترت نفسي، فبلغ الزوج، وأجاز، لا يقع به شئ. ولو قالت: طلقت نفسي، فأجاز الزوج يقع، وإنما صار جوابا لقوله: اختاري وأمرك بيدك بالنص، والاجماع، بخلاف القياس، فاقتصر عليه. ثم في هذه الفصول إذا أراد الزوج أن يعزلها، ويخرج الامر من يدها، ويرجع عن ذلك، لا يصح، وكذلك لو نهاها عن ذلك، لان هذا تفويض الطلاق، وتمليك له، والطلاق لا يحتمل الفسخ، فإيجابه كذلك. وكذلك إذا قال: طلقي نفسك أو طلقي نفسك إن شئت، فقالت: شئت، لا يقع شئ. ولو قال: أنت طالق إن شئت فقالت: شئت، يقع، لان ثمة أمرها بالتطليق، ولم يوقع، وهنا علق الطلاق بمشيئتها، وقد أتت بالشرط.
192 باب الاستثناء وغيره في الباب فصول مختلفة: الأول: فصل الاستثناء إذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله، فإن كان موصولا لا يقع الطلاق، وإن كان مفصولا يقع، سواء قدم الاستثناء على لفظ الطلاق أو أخر، لان قوله إن شاء الله تعليق الطلاق بمشيئة الله، وإنها لا تعرف. ثم الاستثناء المفصول أن يفصل المتكلم بين الاستثناء وما قبله، بسكوت، أو بكلام آخر. فإذا انقطع الكلام بالتنفس فلا عبرة به، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه. ولو حرك لسانه بالاستثناء وأتى بحروفه على الوجه، لكنه لم يسمع، يكون استثناء، لان هذا كلام، وليس الشرط هو السماع، ألا ترى أن الأصم يصح استثناؤه، وإن لم يسمع هو. ولو قدم الاستثناء، فقال: إن شاء الله فأنت طالق يصح استثناؤه بالاجماع. فأما إذا قال: إن شاء الله أنت طالق يصح على قول أبي حنيفة
193 وأبي يوسف، وعند محمد: لا يصح، هو يقول: هذا استثناء منقطع، وهما يقولان: إن الفاء ههنا مضمر، بدلالة الاستثناء. ولو قال: أنت طالق إن شاء فلان فهو معلق بمشيئته، فإن شاء في مجلس العلم يقع. وإن علق بمشيئة من لا تعلم مشيئته من العباد مثل الملائكة والجن والشياطين، فإنه يصح الاستثناء، حتى لا يقع الطلاق، كما إذا قال: أنت طالق إن شاء الله، لأنه لا يعلم. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة أو اثنتين يصح الاستثناء، لان هذا استثناء البعض من الجملة، فيكون تكلما بالباقي. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا يقع الثلاث، ويبطل الاستثناء، لأنه استثنى الكل. ولو قال: أنت طالق عشرة إلا تسعا يقع واحدة، وإن قال: إلا ثمانية تقع ثنتان. وإن قال: إلا سبعا، يقع ثلاثا، وكذا لو نقص عن السبع، يكون ثلاثا، لأنه تكلم بالباقي، كأنه قال: أنت طالق واحدة فتقع واحدة، أو قال: أنت طالق ستا فيقع ثلاثا. والفصل الآخر إذا قال: أنت طالق نصف تطليقة أو ربع تطليقة تقع واحدة، لان الطلاق لا يتجزأ، فيتكامل. ولو قال: أنت طالق نصفا وربع تطليقة يقع ثنتان. ولو قال: نصف تطليقة وربعها يقع واحدة، لأنه أضاف إلى الأول. ولو قال: نصفك طالق أو ربعك طالق يصح، لان الإضافة
194 إلى الجزء الشائع، كالإضافة إلى الكل. والحاصل أنه إذا أضاف الطلاق إلى جزء شائع أو إلى جزء جامع يقع، بأن كان ذلك الجزء يعبر به عن جميع البدن، في الاستعمال، نحو أن يقول: رأسك طالق أو فرجك أو رقبتك أو وجهك. فأما إذا أضاف الطلاق إلى جزء لا يعبر به عن جميع البدن، بأن قال: يدك، أو رجلك، أو ظهرك، أو بطنك طالق فإنه لا يقع عندنا، وعند الشافعي: يقع، والمسألة معروفة. والفصل الآخر طلاق المكره صحيح عندنا خلافا للشافعي. وكذلك طلاق السكران واقع، سواء سكر بالخمر أو بالنبيذ. وعلى أحد قولي الشافعي لا يقع، وهو اختيار الطحاوي. وأجمعوا أنه إذا شرب البنج (1) أو الدواء، فسكر وزال عقله، فطلق لا يقع. والصحيح قولنا، لأنه زال العقل بسبب هو معصية، لتلذذه بذلك، فيجعل قائما، عقوبة عليه، بخلاف شرب الدواء ولهذا قالوا: إن المكره على شرب الخمر، أو المضطر إذا شرب فسكر فإن طلاقه لا يقع، لان هذا ليس بمعصية، وبعض المشايخ قالوا: يقع لأنه حصل بسبب له فيه لذة. وعن محمد أن من شرب النبيذ، فلم يزل عقله، فصدع، وزال عقله بسبب الصداع، فطلق امرأته قال: لا يقع.
(1) البنج تعريب بنك، وهو نبت له حب يسكر، وقيل يسبت (أي يقطع) ورقه وقشره وبزره، وفي القانون: هو سم يخلط العقل ويبطل الذكر، ويحدث جنونا وخناقا. 195 وعلى هذا طلاق الهازل، وطلاق الخاطئ واقع، وهو أن يريد الرجل غير الطلاق، فسبق على لسانه الطلاق والعتاق. وذكر الكرخي أن في العتاق عن أبي حنيفة روايتين. فصل آخر لا خلاف أن تنجيز الطلاق لا يصح إلا في الملك. فأما التعليق في الملك فصحيح بالاجماع، بأن قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق. وأما التعليق بالملك، بأن قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق فإنه يصح عندنا، وعند الشافعي لا يصح، وكذلك إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. وقال مالك: إن عم لا يجوز، وإن خص جاز. والصحيح قولنا، لان تعليق الطلاق ليس بطلاق للحال، وإنما هو إيقاع الطلاق عند وجود الشرط، وملك النكاح قائم، في ذلك الوقت فيصح. ثم إذا علق الطلاق في النكاح، ثم وجد الشرط، فإن كانت منكوحة يقع الطلاق، وتنحل اليمين. وإن كانت مبانة، وهي في العدة عند الشرط، يقع الطلاق أيضا عندنا، لان المبانة والمختلعة يلحقها صريح الطلاق عندنا. وإذا انقضت عدتها، فوجد الشرط تنحل اليمين، لا إلى الجزاء. ولو علق ثلاث تطليقات في الملك ثم طلقها ثلاثا يبطل التعليق، إلى الجزاء. عند أصحابنا الثلاثة. وعند زفر لا يبطل، حتى لو تزوجت بزوج آخر، وعادت إليه، بعد إصابة الزوج الثاني وطلاقه، ثم وجد الشرط، لا يقع شئ عندنا خلافا له.
196 ولو طلقها واحدة أو اثنتين، فتزوجت بزوج آخر، فوطئها وعادت إليه، فوجد الشرط: فإنه يقع ثلاث تطليقات عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد: يقع، بقدر ما بقي من الطلاق المملوك بالنكاح الأول، ولقب المسألة أن إصابة الزوج الثاني هل تهدم الطلقة والطلقتين أم لا، والمسألة معروفة. فصل آخر إذا قال لامرأته: أنت علي حرام أو قال: حرمتك على نفسي أو أنت محرمة علي: يرجع إلى نيته: فإن أراد به الطلاق يقع بائنا، على ما ذكرنا. وإن نوى التحريم ولم ينو الطلاق، أو لم يكن له نية فهو يمين، ويصير موليا. وإن قال: أردت به الكذب، فليس بيمين، فيما بينه وبين الله تعالى، ويصدق في ذلك، لان الخبر محتمل، ولكن لا يصدق في إبطال اليمين، في القضاء، لان هذا اللفظ صريح، في اليمين، شرعا. ولو نوى بالحرام الظهار، فهو ظهار عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد هو إيلاء، وليس بظهار. وأما إذا قال ذلك في غير المرأة، من الطعام والشراب وكلام فلان، فإنه يكون يمينا عندنا، خلافا للشافعي. ولقب المسألة أن تحريم الحلال يمين أم لا؟ فإذا فعل شيئا مما حرمه، قليلا كان أو كثيرا، يحنث في يمينه. فأما إذا قال: كل حل علي حرام أو قال: حل الله علي حرام ولا نية له، فإنه يقع على الطعام والشراب خاصة، لان هذا لا يمكن العمل بعمومه، لأنه لا يراد به في العرف التنفس وفتح العينين والتحرك، فيقع
197 على الحلال المعتاد، وهو الأكل والشرب. فإن نوى مع ذلك اللباس أو امرأته، يقع على الأكل والشرب واللباس والمرأة، فأي شئ فعل من ذلك وحده، يحنث في يمينه ويلزمه الكفارة، لان الطعام والشراب دخلا بحكم العادة، واللباس والمرأة بنيته، واللفظ صالح له فيصح. فإن نوى بقوله: كل حل عليه شيئا بعينه دون غيره، فإن نوى به الطعام خاصة، أو الشراب خاصة، أو اللباس خاصة، أو امرأته خاصة، فهو على ما نوى فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء، لان هذا يقع على أخص الخصوص، لتعذر العمل بعمومه، فإذا عين ذلك صح، إذ التخصيص ترك العمل بالعموم، وهذا متروك. ثم في الموضع الذي يدخل امرأته والطعام والشراب في قوله: كل حل علي حرام ونوى الطلاق في امرأته، فإنه لا يحنث، لأنه لا يمكن العمل بعمومه، لان هذا كلام واحد لا يتناول اليمين والطلاق جميعا. ولو قال: أنت علي كالميتة والدم أو كلحم الخنزير أو كالخمر: فإن أراد به الكذب صدق، لأنه ليس بصريح في اليمين، بخلاف قوله: أنت علي حرام. وإن أراد به التحريم فهو إيلاء. وإن نوى الطلاق فهو كقوله: أنت علي حرام، لأنه شبهها بالمحرم، فكأنه قال: أنت علي حرام، وبمثله لو قال: أنت علي كمال فلان ونوى به الطلاق، لا يصح، لان عين المال ليس بحرام.
198 باب الخلع الخلع طلاق عندنا. وقال الشافعي: هو فسخ، في أحد القولين. ولهذا قلنا: إن من قال لامرأته: خالعتك، ولم يذكر العوض، ونوى الطلاق: كان طلاقا بائنا. ولو نوى الثلاث صح لأنه من كنايات الطلاق، إلا أنه في عرف الشرع، عند الناس، صار عبارة عن الطلاق بعوض، فيصير حقيقة عرفية، حتى ينصرف إليه مطلق الكلام، حتى إن الرجل إذا قال لغيره: اخلع امرأتي فخلعها، بغير عوض لا يصح، ويكون موقوفا على إجازة الزوج، فإن أجاز يكون طلاقا بائنا. وقالوا: لو قال لامرأته: اخلعي نفسك، فقالت: خلعت نفسي بألف درهم، وقف على إجازة الزوج. ولهذا قالوا: إن من قال لامرأته: خالعتك على ألف درهم، فقبلت، وقال الزوج: لم أنو به الطلاق: لم يصدق، لأنه إنما يكون كناية عند خلوه عن المال، فلا بد من النية، فأما إذا كان على مال، فلا حاجة إلى النية. ثم الخلع على المال يفتقر إلى الايجاب والقبول، حتى تقع به الفرقة، ويستحق به الزوج العوض عليها، إلا أنه في جانب الزوج، في معنى اليمين، وفي جانبها في معنى المعاوضة، حتى إن الزوج إذا قال:
199 خالعتك على ألف درهم، لم يصح رجوعه عن ذلك، ولم يبطل بقيامه عن المجلس، قبل قبولها، ولم يقف على حضرتها المجلس، بل يجوز وإن كانت غائبة، فإذا بلغها الخبر، فلها القبول في مجلسها. ويجوز أن يعلق ذلك بشرط أو بوقت، فيقول: إذا جاء غد فقد خالعتك على ألف درهم، وإذا قدم زيد فقد خالعتك على ألف درهم، والقبول إليها بعد مجئ الوقت، وقدوم زيد، فإن قبلت قبل ذلك لم يجز. فأما إذا ابتدأت المرأة، فقالت: خالعت نفسي منك بألف درهم، فهو بمنزلة البيع في جانبها، حتى يصح منها الرجوع عنه، قبل قبول الزوج، ويبطل بقيامها عن المجلس، وبقيامه أيضا، ولا يقف على غائب، ولا يجوز تعليقه بشرط، ولا بوقت، كالبيع سواء. وعلى هذا الأصل قال أبو حنيفة: إذا خالعها وشرطت لنفسها الخيار جاز، خلافا لهما. وإذا ثبت تفسير الخلع شرعا، فنقول: لا يخلو: إما أن يخالعها على مثل العوض الذي أخذت، أو أقل أو أكثر، والنشوز والكراهة من قبل الزوج أو من قبل المرأة فنقول: إن كان النشوز من جهة الزوج، فلا يحل له أن يأخذ شيئا منها، بل له أن يطلقها، بلا عوض، لقوله تعالى: * (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) * (1). وإن كان النشوز من جهتها، يجوز له أن يأخذ منها جميع ما استحقت عليه بالعقد، ولا تحل له الزيادة على ذلك في
(1) سورة النساء: الآية 20 - 21. 200 ظاهر الرواية. وفي رواية: يحل له أخذ الزيادة، وهذا في حق الديانة والتنزه، فأما في الحكم فإذا تخالعا على الزيادة من المهر، فإنه يلزم وتؤمر بالأداء إليه. ثم الخلع جائز بكل بدل يصلح مهرا، ويلزم المرأة أداؤه إلى الزوج. وما ذكرنا في المهر أن الزوج فيه بالخيار بين أن يعطي عينه أو قيمته، ففي الخلع المرأة بالخيار، كما في العبد الوسط ونحوه. وكل ما لا يجوز أن يكون مهرا لحرمته، كالخمر والخنزير والميتة والدم والحر، لا يجوز أن يكون بدلا في الخلع. لكن إذا قبل الزوج ذلك في الخلع: تقع الفرقة بينهما، ولا شئ على المرأة من الخلع، ولا يجب عليها أن ترد من مهرها شيئا، لأن هذه الأشياء لا تصلح عوضا في حق المسلمين، والزوج رضي بما لا قيمة له، والبضع في حال الخروج عن ملكه لا قيمة له حتى تجب القيمة، فلا يرجع عليها بشئ، بخلاف النكاح فإن ثمة يجب مهر المثل، لان البضع متقوم في حال الدخول في ملك الزوج. ثم الطلاق على المال والخلع في الأحكام سواء، إلا في فصل واحد، وهو أن الخلع متى وقع على عوض، لا قيمة له لا يجب العوض، ولا قيمة البضع، ويكون الطلاق بائنا، لأن الخلع من كنايات الطلاق، وأما الطلاق بعوض لا قيمة له إذا بطل العوض، فالطلاق يكون رجعيا، لان صريح الطلاق يكون رجعيا. وإنما ثبتت البينونة لأجل العوض، فإذا بطل العوض، بقي مجرد صريح الطلاق، فيكون رجعيا. ولو خلعها على حكمها، أو حكمه، أو حكم أجنبي، فنقول: إن الخلع على الحكم، خلع بتسمية فاسدة، لما فيه من الجهالة
201 الفاحشة، والخطر، فيجب الرجوع إلى مهرها المستحق بالعقد. ثم إن كان الخلع على حكم الزوج، فإن حكم بمقدار المهر أو أقل، أجبرت على التسليم إلى الزوج، لأنه حكم بالمستحق، أو حط بعضه، وهو يملك حط بعضه، لكونه حقا له، وإن حكم بأكثر من المهر لم يلزمها الزيادة، لأنه أوجب لنفسه أكثر من المستحق بالعقد، فلا يصح إلا برضاها. وأما إذا كان الحكم إليها، فإن حكمت بمهر المثل أو أكثر، جاز وأجبر الزوج على القبول، لأنها قضت بالمستحق، أو زادت عليه، وهي تملك إيفاء الزيادة. وإن حكمت بأقل من المهر: لم يجز، إلا برضا الزوج، لأنها حطت بعض ما عليها حقا لزوج، وهي لا تملك حط حق الغير. فأما إذا كان الحكم إلى أجنبي، فإن حكم بمهر المثل، جاز، وإن حكم بزيادة أو نقصان، لم تجز الزيادة إلا برضا المرأة، ولا يجوز النقصان إلا برضا الزوج، لان الأجنبي لا يملك إسقاط حق واحد منهما.
202 باب الايلاء يحتاج في الباب إلى: تفسير الايلاء لغة وشرعا، وإلى بيان حكم البر في الايلاء، وإلى بيان الفئ، وحكم الحنث. أما الأول فالايلاء في اللغة: اليمين، وفي الشرع عبارة عن اليمين على ترك الوطئ في الزوجة مدة مخصوصة بحيث لا يمكنه الوطئ إلا بحنث يلزمه بسبب اليمين. وقد كان الايلاء طلاقا في الجاهلية، فجعله الشرع طلاقا معلقا بترك وطئ الزوجة مدة مخصوصة، كأن الزوج قال لامرأته الحرة: إن لم أقربك أربعة أشهر فأنت طالق بائن ولامرأته الأمة: إن لم أقربك شهرين فأنت طالق بائن. وركن الايلاء شرعا هو اللفظ الدال على ترك الوطئ، في عرف الشرع، مؤكدا باليمين، وهو قوله: والله لا أقربك أو لا أطأك أو لفظة المباضعة والمناكحة والاتيان والإصابة ونحوها. فإن كان اللفظ مستعملا في الوطئ، فلا يحتاج إلى النية. ولو أتى بلفظ محتمل، يحتاج فيه إلى نية الزوج ترك الوطئ بذلك.
203 فأما المدة فهي أربعة أشهر في حق الحرة، وشهران في حق الأمة عندنا. وعند الشافعي: المدة في حقهما سواء، وهي زيادة على أربعة أشهر. والصحيح قولنا، لقوله تعالى: * (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر) * (1)، فلا تجوز الزيادة على المدة المنصوصة. وأما تفسير اليمين فهي اليمين بالله، وبصفاته، على ما نذكر في كتاب الايمان، أو اليمين بالشرط والجزاء، وذلك نوعان: ما يكون به موليا، وما لا يكون به موليا. أما الذي يكون به موليا فأن يقول: إن قربتك فعبدي حر، أو امرأتي طالق، أو هي علي كظهر أمي، أو علي صدقة، أو حج البيت، أو صيام سنة، ونحو ذلك لأنه لا يتوصل إلى الوطئ في هذه المدة إلا بشئ يلزمه بحكم اليمين، كما يلزمه الكفارة بسبب اليمين بالله. ولو قال: إن قربتك فعلي أن أصلي ركعتين أو علي أن أغزو لم يكن موليا عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويكون موليا عند محمد وزفر. ولو قال الرجل لامرأته: أنا منك مولى فإن عنى به الخبر كذبا فليس بمولى، فيما بينه وبين الله، لأنه لفظ لفظة الخبر، ولا يصدق في القضاء، لأنه خلاف الظاهر، لان هذا إيجاب في الشرع، وإن عنى به الايجاب فهو مولي في القضاء وفيما بينه وبين الله، لأنه أوجب الايلاء بهذا اللفظ. ولو قال لامرأته: أنت علي مثل امرأة فلان، وقد كان فلان آلى من امرأته، فإن نوى به الايلاء، كان موليا، لأنه شبهها بها في باب اليمين،
(1) سورة البقرة: الآيتان: 266 - 227. 204 والتشبيه يقتضي المساواة فيما شبه به، وإن لم ينو اليمين ولا التحريم: لا يكون موليا، لأنه قصد التشبيه من وجه. وأما بيان حكم البر فهو وقوع الطلاق البائن بسبب الاصرار على موجب هذا اليمين، وهو الامتناع عن الوطئ أربعة أشهر، بحيث لا يتوصل إليه إلا بحنث يلزمه، فيكون مؤكدا له في الامتناع، خوفا عن لزوم الحنث. وفي الوطئ حق المرأة، فصار الزوج ظالما لمنع حقها المستحق، فالشرع جعل الامتناع عن إيفاء حقها المستحق لها، في هذه المدة، سببا للبينونة، تخليصا لها من حبالته، لتتوصل إلى حقها، من جهة غيره، وهذا معنى قوله تعالى: * (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) * (1) فسماه عزيمة الطلاق، وهو فعل الزوج، فيصير الزوج، بالاصرار على موجب هذا اليمين، معلقا طلاقا بائنا، بترك الوطئ أربعة أشهر بعد اليمين أبدا، كأنه قال: أنت طالق بائن عند مضي كل أربعة أشهر، لا أقربك فيها أو إن لم أقربك كل أربعة أشهر، ما بقي اليمين، فأنت طالق بائن. إذا ثبت هذا، فإذا مضت أربعة أشهر من وقت اليمين، ولم يقربها: تقع تطليقة بائنة عندنا. وعند الشافعي يخير الزوج بين أن يطأها وبين أن يطلقها، فإن لم يفعل يفرق القاضي بينهما. فإذا وقعت تطليقة بائنة بمضي أربعة أشهر ثم مضت أربعة أشهر أخرى، وهي في العدة، لم يقع الطلاق، لأنها بائنة، فلا تستحق الوطئ على الزوج، فلا يكون الامتناع عن الوطئ في هذه الحالة ظلما، وبهذا الوصف صار الاصرار على موجب البر، وهو ترك الوطئ سببا للفرقة،
(1) سورة البقرة: الآية 227. 205 فإن تزوجها عند مضي الأربعة الأشهر، ثم مضت أربعة أشهر منذ تزوج ولم يقربها بانت بأخرى. وكذلك إذا تزوجها ثالثة، لان بالتزويج عاد حقها في الوطئ، واليمين باقية، لأنها تنحل بالحنث، وهو الوطئ. أما زوال الملك فلا يبطل اليمين، فيكون ترك الفئ ظلما، فيكون سببا للفرقة، فإن تزوجها بعد وقوع ثلاث تطليقات، فمضت أربعة أشهر لم يطأها، لم يقع عليها شئ، عندنا، خلافا لزفر، لأنه زال حل المحلية فيبطل اليمين. ولو آلى منها ثم أبانها، فمضت أربعة أشهر لم يطأها، وهي في العدة، وقعت أخرى بالايلاء، لان ابتداء الايلاء قد انعقد موجبا للطلاق، لوجوده في الملك، فإذا أبانها، فالبينونة تلحقها بعقد سابق، وإن كان لا يلحقها ابتداء - عندنا خلافا لزفر - فإن من قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق بائن ثم أبانها، ثم دخلت الدار، وهي في العدة، فإنه يقع بائنا، لما قلنا. وأما تفسير الفئ وحكم الحنث فنقول الفئ هو الوطئ، في مدة الايلاء، مع القدرة عندنا. وعند الشافعي: الوطئ بعد المدة. والصحيح قولنا لان الله تعالى قال: * (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فآءوا (الآية)) * (1) وفي قراءة عبد الله بن مسعود فإن فاؤوا فيهن، وإنما سمى الوطئ فيئا لان الفئ في اللغة هو الرجوع، يقال: فاء الظل إذا رجع، والمولي قصد بالايلاء منع حقها في الوطئ، فيكون الوطئ رجوعا عما قصده فسمي فيئا.
(1) سورة البقرة: الآية 226. 206 ثم الفئ على ضربين: أحدهما هو الأصل، وهو الفئ بالوطئ، مع القدرة. والآخر، بدل عن الأول، وهو الفئ بالقول، عند العجز عن الوطئ. ففي حق القادر لا يكون فيئا إلا بالوطئ، لأنه هو الأصل، وفي الحقيقة هو الرجوع، لان به يندفع الظلم، ويصل الحق إلى المستحق، فما لم يوف حقها لا يسقط حكم الايلاء، وفي حق العاجز صار الفئ بالقول قائما مقام الوطئ، وهو أن يقول للمرأة: إني فئت إليك أو راجعتك أو أبطلت الايلاء ويحسن إليها بالقول بدلا عن الاحسان بالفعل، فيكون رجوعا، عما عزم عليه، بالقول ثم العجز نوعان: أحدهما: من طريق المشاهدة كالمرض الذي لا يمكن معه الجماع، من الجانبين، أو تكون المرأة صغيرة، أو يكون بينهما مسافة لا يقدر على قطعها في مدة الايلاء، أو تكون المرأة ناشزة محتجبة عنه في مكان لا يعرفه، أو تكون محبوسة لا يمكنه أن يدخل عليها ويمنع عن ذلك، ونحو ذلك. وأما العجز من طريق الحكم فمثل أن يكون محرما أو صائما في رمضان. لكن العجز المعتبر في حق نقل الفئ من الوطئ إلى القول، هو العجز الحسي، دون الحكمي عندنا. وعند زفر هو معتبر أيضا، وقاس على الخلوة أن ثم يعتبر المانع الحسي والحكمي جميعا.
207 ولكنا نقول: هو قادر على الوطئ، حقيقة، فيصير ظالما بمنع الحق، وحق العباد لا يسقط لأجل حق الله في الجملة. فإذا أتى بالفئ، من حيث القول سقط حكم الايلاء، إلى وقت القدرة. ثم من شرط صحة الفئ، بالقول، عند العجز عن الوطئ، حسا ومشاهدة شيئان: أحدهما: أن يكون العجز مستداما، من وقت الايلاء إلى تمام المدة، وهو أربعة أشهر، حتى إنه إذا قدر على الوطئ قبل تمام المدة، بطل الفئ بالقول، وانتقل إلى الفئ بالجماع، حتى لو ترك الوطئ إلى تمام المدة، فإنها تبين، وأما إذا تمت المدة ثم قدر، فإن الفئ بالقول صحيح، في حق المدة الماضية، وهذا لما ذكرنا أنه بدل، والقدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل تبطل حكمه، وبعد حصول المقصود لا يبطل، كالمصلي بالتيمم إذا رأى الماء في وسط الصلاة تبطل صلاته، ولو كان رأى بعد الفراغ لا تبطل الصلاة المؤداة، كذا هذا. والشرط الثاني: أن يوجد الفئ، بالقول، في حال يحل له الوطئ بأن كانت زوجة له. فأما إذا أبانها ثم فاء إليها باللسان فإنه لا يصح، لأنه بدل، فيصح في حال يصح الأصل. ولهذا قالوا: إن من آلى وهو صحيح، مقدار ما يمكن الجماع فيه، ثم مرض: ففيئه بالجماع، لأنه هو الذي فرط في إيفاء حقها، فلا يعذر، بخلاف المريض إذا آلى من امرأته. ولو آلى وهو مريض فلم يفئ بالقول حتى مضت المدة، فبانت ثم صح ثم تزوجها وهو مريض ففاء إليها بلسانه، فإنه
208 يصح عند أبي يوسف، وعند محمد: لا يصح، وما قاله أبو يوسف أصح، لان الايلاء حصل وهو مريض وعاد حكمه وهو مريض، وفي زمان الصحة بين المدتين هي بائنة، لا تستحق الوطئ، فلا يعود حكم الايلاء. وأما حكم الحنث في اليمين بالله تعالى فهو الكفارة. وفي اليمين بالشرط والجزاء يلزمه ما هو جزاؤه من الطلاق والعتاق والظهار ونحوها. هذا الذي ذكرنا في حق المسلم، وأما الذمي إذا آلى من امرأته، فإن حلف بطلاق أو عتاق، يكون موليا، بالاتفاق. وإذا حلف بما هو قربة كالصدقة والصيام، فليس بمول بالاتفاق. فأما إذا حلف باسم من أسماء الله أو بصفاته فهو مول عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد لا يكون موليا. وإذا صح إيلاء الذمي فهو في أحكامه كالمسلم، إلا أنه إذا وطئ في اليمين بالله لا يلزمه الكفارة، لأنها عبادة وهو ليس من أهلها. فأما إذا آلى أو ظاهر، ثم رجع عن الاسلام، ولحق بدار الحرب، ثم رجع مسلما وتزوجها، فهو مول، ومظاهر، عند أبي حنيفة في رواية محمد، وقال أبو يوسف: يسقط الظهار والايلاء، وهذا يعرف في الخلافيات، واختلفت رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة.
209 باب الظهار يحتاج في هذا الباب إلى: بيان ركن الظهار شرعا، وإلى بيان شرائطه، وإلى بيان حكمه، وإلى تفسير الكفارة. أما ركن الظهار شرعا فنقول: أن يقول الرجل لزوجته: أنت علي كظهر أمي، فيقع به الظهار، نوى أو لم ينو، لأنه صريح في بابه. وكذا إذا نوى به تحريم الطلاق أو تحريم اليمين لا يصح، لما قلنا إنه صريح في الظهار، فإذا نوى غيره: لا يصح. ولو قال أردت به الخبر عن الماضي، كاذبا، لا يصدق في القضاء، ويصدق فيما بينه وبين الله. وكذا إذا أضاف الظهار إلى جزء شائع، أو جامع، من امرأته. ولو أضاف إلى جزء معين، غير جامع، ولا شائع: لا يجوز، كالطلاق. ولو شبه امرأته بعضو من أمه، غير الظهر: فإن كان لا يجوز النظر إليه: فهو ظهار، نحو البطن والفخذ والفرج.
211 ولو شبه امرأته بذوات المحارم غير الام: إن كانت الحرمة على التأبيد بنسب أو رضاع أو مصاهرة: فإنه يكون ظهارا. ولو شبه امرأته بامرأة محرمة عليه، في الحال، وهي ممن تحل له في حالة أخرى، مثل أخت امرأته، ومثل امرأة لها زوج، أو مجوسية، أو مرتدة: لم يكن مظاهرا، لان النص ورد في الام، وهي محرمة على التأبيد. وأما شرائط صحة الظهار فنقول: منها أن يكون المظاهر، مسلما، عندنا. وعند الشافعي: ليس بشرط. والصحيح قولنا، لان حكمه هو الحرمة المؤقتة بالكفارة، وهي عبادة، والكافر ليس من أهلها، وهي مسألة معروفة. ومنها: أن تكون المرأة محللة بالنكاح، لا بملك اليمين، حتى لو ظاهر من أمته أو مدبرته أو أم ولده: لا يصح لأنه حكم ثبت، بخلاف القياس بالنص، وقد ورد في حق الزوجة، بقوله تعالى: * (والذين يظاهرون من نسائهم) * (1) فلا يقاس عليها غيرها. ولو ظاهر من المختلعة والمبانة، لا يصح وإن كان يلحقها صريح الطلاق، لأنها ليست بمحللة بالنكاح. وإن بقي النكاح من وجه. وأما حكمه فهو تحريم الاستمتاع بها من الوطئ ودواعيه، مؤقتا، إلى وجود التكفير مع بقاء ملك النكاح، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال للمظاهر الذي واقع امرأته: استغفر الله، ولا تعد حتى تكفر.
(1) سورة المجادلة: الآية 3. 212 ويجب على المرأة أن تمنع الزوج عن الاستمتاع بها، حتى يكفر. وللمرأة أن تطالب الزوج بالوطئ عند الحاكم، وعلى الحاكم أن يجبره حتى يكفر، ويطأ، لأنه أضر بها في الامتناع عن الوطئ مع قيام الملك وفي وسعه إزالته بالتكفير. ثم هذه الحرمة لا تزول بسبب من أسباب الإباحة، ما لم توجد الكفارة، لا بالنكاح ولا بملك اليمين ولا بإصابة الزوج الثاني، حتى أن المظاهر إذا طلقها طلاقا بائنا وانقضت عدتها، ثم تزوجها، لا يحل له وطؤها ما لم يكفر. وكذلك لو كانت الزوجة أمة الغير فظاهر منها، ثم اشتراها حتى بطل النكاح، لم يحل له أن يطأها بملك اليمين، حتى يكفر. وكذلك لو كانت حرة، فارتدت عن الاسلام ولحقت بدار الحرب، فسبيت واشتراها. وكذلك لو طلقها ثلاثا، وتزوجت بزوج آخر ثم عادت إليه بالنكاح لا تحل له حتى يكفر، وإن صح النكاح. ولو كفر بعد ما أبانها أو طلقها ثلاثا صح التكفير حتى لو تزوجها حل له وطؤها، لان صحة التكفير لا تعتمد قيام الملك. وإن كان الظهار مؤقتا إلى وقت، بأن قال: أنت علي كظهر أمي يوما أو شهر أو سنة ثم مضى الوقت، سقط الظهار عندنا، خلافا للشافعي، لان الشرع جعل التكفير مزيلا للظهار المؤبد أو المطلق، حتى تنتهي الحرمة، والمؤقت ينتهي بمضي الوقت. ولو قال: أنت علي كأمي، فإنه يرجع إلى نيته عند أبي حنيفة إن أراد الاكرام لا يكون ظهارا، وإن أراد الطلاق أو الظهار فهو كما نوى، وإن أراد التحريم فهو إيلاء. وقال محمد: هو ظهار. وقال أبو
213 يوسف: هو إيلاء. ولو قال: أنت عليه حرام كأمي، حمل على نيته، فإن لم يكن له نية، كان ظهارا، لان حرف التشبيه يختص بالظهار. وأما بيان الكفارة فنقول: الكفارة لا تجب إلا عند وجود الظهار، والعود قال الله تعالى: * (والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) * (1) وفيه كلام أن سبب الوجوب كلاهما أو أحدهما أو غيرهما. والعود عندنا هو العزم على وطئها بعد الظهار. وقال الشافعي: العود أن يسكت المظاهر عن طلاقها، عقيب الظهار. وقال أصحاب الظواهر: العود أن يكرر لفظ الظهار. والصحيح قولنا، لأنه بالظهار حرم وطأها على نفسه، فمتى عزم على وطئها فقد قصد الرجوع عن الأول والعود هو الرجوع، فيسمى عودا. ثم الكفارة تجب على الترتيب: الاعتاق عند القدرة، ثم صيام شهرين متتابعين عند العجز عن الاعتاق، ثم إطعام ستين مسكينا عند العجز عن الصوم. عرف ذلك بالنص، وهو قوله: (والذين يظاهرون من نسائهم). وإنما يكفر قبل الوطئ، لقوله تعالى: (من قبل أن يتماسا)
214 فإن وطئ قبل أن يكفر فقد باشر وطئا حراما، فعليه أن يستغفر الله تعالى ولا يطأ حتى يكفر. ولو أعتق بعض رقبة عن كفارته ثم وطئ، ثم أعتق ما بقي منها لم يجزه، وعليه أن يستقبل إعتاق رقبة عند أبي حنيفة، لان الاعتاق عنده مما يتجزأ، فيكون معتقا بعضه بعد الوطئ وبعضه قبل الوطئ، والله تعالى أمر بإعتاق رقبة كاملة، قبل المسيس. وعلى قولهما: صح، لان عندهما الاعتاق لا يتجزأ فإعتاق البعض إعتاق الكل. ولو جامع المظاهر في خلال الصوم جماعا يفسد الصوم، فإنه يستقبل الصوم بالاجماع، لان الواجب عليه صيام شهرين متتابعين قبل المسيس، مع الامكان، ولم يوجد. ولو جامع في الشهرين ليلا، أو نهارا ناسيا لصومه، استقبل عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يمضي على صيامه وهي مسألة معروفة. ولو جامع في خلال الاطعام لم يلزمه الاستقبال بالاجماع، لان الله تعالى لم يذكر في الاطعام ترك المسيس، لكن يمنع عن الوطئ قبل الفراغ من الاطعام، لجواز أن يقدر على الصوم أو العتق، فتبين أن الوطئ كان حراما. ولو كفر بالاعتاق يعتق رقبة كاملة للذات والرق، على ما نبين في كتاب الايمان. ولو كفر بالاطعام أطعم ستين مسكينا كل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق، أو صاعا من تمر أو شعير، كما ذكرنا في صدقة الفطر، وحكمه حكم ذلك.
215 باب اللعان يحتاج في هذا الباب إلى: بيان مشروعية اللعان وماهيته، وإلى بيان سبب وجوب اللعان، وإلى بيان شرائط الوجوب، وإلى بيان كيفية اللعان، وإلى بيان حكمه. أما الأول فنقول: اللعان مشروع بين الزوجين. وهو شهادات مؤكدات بالايمان عندنا، وعند الشافعي أيمان مؤكدات بالشهادة. ويكون قائما مقام حد القذف في جانب الرجل، وقائما مقام حد الزنا في جانب المرأة، ولهذا قلنا لا يثبت بالشهادة على الشهادة، ولا بشهادة النساء مع الرجال، ولا بكتاب القاضي إلى القاضي. وكذلك إذا وطئت، محصنة بالشبهة، فقذفها زوجها، لم يجب اللعان، كما لو قذفها أجنبي: لا يجب حد القذف، فسقط اللعان، بالشبهة، كالحد.
217 وأصل ذلك قوله تعالى: * (والذين يرمون أزواجهم) * (1). وأما بيان سبب الوجوب فنقول: سبب وجوب اللعان بين الزوجين هو القذف الصحيح عند وجود شرائطه، من الزوج. ونعني بالقذف الصحيح ما يكون موجبا للحد في حق الأجنبي بأن كان عاقلا، بالغا، والمرأة عاقلة بالغة، لان القذف من الصغير والمجنون ليس بموجب للحد، لعدم الجناية. وكذلك قذف الصغيرة والمجنونة بالزنا كذب، لأنه لا يتصور الزنا منها، فلا يكون قذفا صحيحا. وكذلك إحصان المقذوف شرط. وذلك نوعان: أحدهما: أن يقول: يا زانية أو زنيت بفلان أو ولدك من الزنا، فأنكرت المرأة وخاصمته إلى الحاكم، فعجز الزوج عن إقامة البينة على الزنا. والثاني: أن ينفي ولدا أقر أن امرأته ولدته، أو شهدت امرأة على الولادة، فقال: هذا ليس بابني وذلك قبل الاقرار بالولد، وقبل مضي مدة تهنئة الولد، التي هي قائمة مقام الاقرار على ما يعرف في كتاب الدعوى. ولو قال لامرأته وهي حامل: هذا الحمل ليس مني فهو ليس بقاذف، ولا لعان بينهما عند أبي حنيفة وزفر. وقال أبو يوسف ومحمد: إن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر لا عنها، وإن جاءت به لأكثر فلا لعان. واتفق أصحابنا أنه لا ينفي نسب الحمل قبل الولادة.
(1) سورة النور: الآية 6. 218 وأما شرائط الوجوب فنقول: هو أن يكونا زوجين، حرين، مسلمين، عاقلين، بالغين، غير محدودين في القذف، والمرأة عفيفة. أما اعتبار الزوجية فلان الله تعالى خص اللعان بالأزواج وجعله حد للزوج قائما مقام حد القذف. ولهذا قال أصحابنا: إن من تزوج امرأة نكاحا فاسدا، ثم قذفها، لا يجب اللعان. ولو قذفها الزوج، فلم يلتعنا حتى طلقها ثلاثا أو بائنا فلا حد ولا لعان، لأنه انقطعت الزوجية وحصل الفراق، وحكم اللعان التفريق والتحريم، فلا يصح اللعان بدون حكمه. ولو كان الطلاق رجعيا يلاعن، لقيام الزوجية. وأما الحرية فلان العبد والأمة ليستا من أهل الشهادة، واللعان شهادات فيها معنى الايمان. وكذلك الحرية في جانبها من شرائط الاحصان، وإحصان المقذوف شرط. وأما اعتبار العقل والبلوغ فلما قلنا إنه لا يصح القذف بدون العقل والبلوغ. وأما اعتبار نفي حد القذف فلان المحدود في القذف لا شهادة له. وأما اعتبار الاسلام: أما في جانبها فمن باب الاحصان، فإن المرأة الكافرة لا يجب بقذفها الحد، وكذلك اللعان. وأما الزوج الكافر إذا قذف الزوجة المسلمة، فلا لعان عليه، لأنه ليس من أهل الشهادة على المسلمين. وصورة المسألة في الكافر إذا أسلمت امرأته فلم يعرض عليه الاسلام حتى قذفها فيحد و لا يلاعن.
219 فما لم يوجد هذه الشرائط لا يجب اللعان، لكن بعضها شرط وجوب اللعان، وبعضها شرط تحقق القذف وصحته. ثم متى سقط اللعان وبطل هل يسقط الحد عن الرجل؟ قال مشايخنا: إن بطل بمعنى من جهة الزوج، يجب الحد. ولا يجب اللعان وهذا صحيح إذا كان القذف صحيحا، كقذف العاقل البالغ، فأكذب نفسه، يجب الحد ولا يجب اللعان. فأما إذا لم يكن القذف صحيحا، كقذف الصبي والمجنون، فإنه لا يجب الحد ولا اللعان، وإن سقط بمعنى من جهة الزوج. وقالوا: إن بطل تعني من جهة المرأة لم يجب على الزوج حد ولا لعان، كما إذا صدقته، وكما إذا كانت حرة عفيفة مسلمة إلا أنها محدودة في القذف فلا حد ولا لعان، لان المعنى من جهتها، وهو أنها ليست من أهل الشهادة، مع كون القذف صحيحا. فإذا كان المعنى من جهتها، والقذف ليس بصحيح: لا يجب الحد واللعان جميعا أيضا حتى إذا كانت الزوجة كافرة، أو أمة، أو صغيرة أو مجهولة أو زانية: فلا حد ولا لعان، لان القذف ليس بصحيح، لأن المرأة ليست بمحصنة. وإذا كان كل واحد من الزوجين محدودا في القذف، يجب الحد ولا يجب اللعان لان القذف صحيح، والمانع من جهة الزوج، ولا عبرة بجانبها. وعلى هذا تدور المسائل. وأما تفسير اللعان فإن كان القذف بصريح الزنا، فأنكرت المرأة وخاصمته إلى القاضي، فأمره بإقامة البينة على صدق مقالته، فعجز عن إقامة البينة،
220 فإنه يبتدئ من جهة الزوج، ويأمره باللعان فيقوم الزوج ويقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، فيقول ذلك أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: إن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا، ويقبل بوجهه على المرأة في كل ذلك. ثم يأمرها باللعان، فتقوم وتواجه زوجها، وتقول: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا أربع مرات ثم تقول في الخامسة: إن غضب الله علي إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا. فإذا قالت ذلك تم اللعان بينهما. وإن كان القذف بنفي الولد، وكذبته المرأة وخاصمته إلى الحاكم: فإنه يأمر الحاكم الزوج باللعان، وهو أن يقوم الرجل فيقول: أشهد بالله إنني لمن الصادقين فيما رميتها به من نفي ولدها هذا أربع مرات، ويقول في الخامسة: إن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من نفي ولدها هذا ثم يأمر المرأة أن تقول: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني به من نفي ولدي هذا، أربع مرات، ثم تقول في الخامسة: إن غضب الله علي إن كان من الصادقين فيما رماني به من نفي ولدي هذا. والقيام ليس بشرط، ولا يضره قال ذلك قائما أو قاعدا كذا رواه الحسن عن أبي حنيفة. فإذا قالا ذلك تم اللعان بينهما. وإذا تم اللعان بينهما لا تقع الفرقة ما لم يفرق القاضي بينهما. فينبغي أن يفرق القاضي بينهما في الفصل الأول. وفي الفصل الثاني: يفرق بينهما ويقضي بنفي الولد وقطع النسب من الأب ويلحقه بالأم، لان التفريق وقطع النسب كلاهما حكم اللعان إذا كان اللعان بالقذف بنفي الولد، فلا بد من قضاء القاضي بقطع النسب.
221 وأما حكم اللعان فهو ثبوت حق التفريق. فإذا تم اللعان يفرق القاضي بينهما، ولا تقع الفرقة بنفس اللعان وهذا مذهب علمائنا. وقال زفر: تقع الفرقة بلعانهما. وقال الشافعي: بلعان الزوج. ثم اختلف أصحابنا فيما بينهم: قال أبو حنيفة ومحمد: هي تطليقة بائنة، فيزول ملك النكاح، وتثبت حرمة الاجتماع والتزوج إلى وقت الاكذاب وإقامة الحد. وقال أبو يوسف وزفر: هي فرقة بغير طلاق توجب تحريما مؤبدا. وأصله قوله عليه السلام: المتلاعنان لا يجتمعان أبدا. فأخذ أبو يوسف وزفر بظاهر الحديث، وأبو حنيفة ومحمد أخذا بمعناه وهو أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدا ما داما متلاعنين، فإن حقيقة المتفاعل هو المتشاغل بالفعل، حقيقة أو حكما، فإذا زال اللعان حقيقة وحكما لا يبقى حكمه. ثم إذا وقعت الفرقة بتفريق القاضي وثبت حرمة الاجتماع، فإذا أكذب الزوج نفسه وضرب الحد، يباح له أن يتزوجها، لأنه بطل القذف وخرج من أن يكون من أهل اللعان بصيرورته محدودا في القذف فلا يبقى اللعان. وكذلك إذا صدقته المرأة بعد الفرقة، لأنها صارت معترفة، وبطل القذف فبطل حكم اللعان. وكذا إذا حدت في قذف. فإن أخطأ القاضي فبدأ بالمرأة ثم بالرجل، فإنه ينبغي له أن يعيد
222 اللعان على المرأة، لأنها شهادة، وإنما يبدأ بشهادة المدعي، ثم بشهادة المدعى عليه بطريق الدفع، فلهذا يبدأ بالرجل، فإن أخطأ يجب الاستدراك بالإعادة، فإن لم يعد جاز، لأنه قضاء في موضع الاجتهاد، فإن عند بعضهم اللعان إيمان، وفي التحالف يجوز تقديم يمين أيهما كان. ولو أخطأ القاضي، وفرق قبل تمام اللعان، فإن كان كل واحد منهما قد التعن أكثر اللعان، وقعت الفرقة. وإن لم يلتعنا أكثر اللعان أو كان أحدهما لم يلتعن أكثر اللعان، لم تقع الفرقة لأنه قضاء بطريق الاجتهاد، في موضع يسوغ فيه الاجتهاد لأنه للأكثر حكم الكل، في كثير من الأحكام. وفي الفصل الثاني قضاء في موضع لا يسوغ فيه الاجتهاد، فلا ينفذ. وإذا امتنع أحد الزوجين عن الالتعان، فإن القاضي يحبسه حتى يلتعن. وعند الشافعي: لا يحبس، ولكن يحد حد القذف.
223 باب فرقة العنين لا خلاف بين العلماء أن الجب (1) والعنة (2) عيب يثبت بهما الخيار للمرأة في التفريق، والبقاء على النكاح. واختلف أصحابنا في عيوب أخر بالزوج تخل بالوطئ مثل الجنون، والجذام، والبرص. قال أبو حنيفة: لا يثبت الخيار، وقال محمد والشافعي: يثبت. وأجمع أصحابنا أن لا يفسخ النكاح بعيوب في المرأة. وقال الشافعي: يفسخ بعيوب خمسة: الجنون، والجذام، والبرص، والرتق (3)، والقرن (4) وهي مسألة معروفة. إذا ثبت هذا فنقول: إذا ادعت المرأة أن زوجها مجبوب أو عنين ورفعت الامر إلى القاضي، فإنه يسأل الزوج عن ذلك أنه هل وصل إليها أم لا؟ فإن
(1) الجب القطع، ومنه المجبوب الخصي الذي استوصل ذكره وخصياه. (2) العنة على زعمهم اسم من العنين وهو الذي لا يقدر على إتيان النساء. (3) امرأة رتقاء بينة الرتق إذا لم يكن لها خرق إلا المبال. (4) القرن في الفرج مانع يمنع من سلوك الذكر فيه إما غدة غليظة أو لحمة مؤتنفة أو عظم - وامرأة قرناء: بها ذلك. 225 أنكر، ففي المجبوب يعرف بالمس من وراء الإزار. وإن أقر، يثبت لها الخيار في المجبوب، لأنه لا فائدة في التأجيل. وفي العنين: إذا أقر وصدقها في ذلك يؤجله القاضي سنة. وإن أنكر أنه عنين وقال: وصلت إليها فإن القاضي يسأل المرأة أهي بكر أو ثيب. فإن قالت: ثيب: فإنه يجعل القول قول الزوج، لأن الظاهر شاهد له، لان من خلا بالثيب فالظاهر أنه يطأها. وإن قالت إني بكر نظر إليها النساء، والمرأة الواحدة كافية والأكثر أوثق فإن قلن: إنها بكر فالقول قولها، لان قيام البكارة يدل عليه، وقول النساء فيما لا يطلع عليه الرجال مقبول. وإذا ثبت أنه لم يصل إليها، إما بإقراره أو بظهور البكارة، فإن القاضي يؤجله حولا، وإنما يعتبر الأجل سنة، لان الامتناع من الوطئ قد يكون للعجز و قد يكون لبغضه إياها، فإذا أجل فيقدم على الوطئ دفعا للعارض عن نفسه إن كان قادرا. وأول الأجل من حين الاقرار وظهور البكارة، ولا يحتسب على الزوج ما قبل التأجيل. والتأجيل إنما يكون بسنة شمسية، لان الفصول تكمل فيها، فيحتمل أن يزول الداء في المدة التي بين الشمسية والقمرية. فإذا حال الحول فرفعت الامر إلى القاضي وادعت أنه لم يصل إليها، فإنه يسأل الزوج عن ذلك، فإن قال: قد وطئتها، وهي ثيب، فالقول قوله. وإن كانت بكرا نظر إليها النساء فإن قلن: إنها بكر فالقول قولها، وإن قلن: إنها ثيب فالقول قول الزوج. وإذا ثبت عدم الوصول إليها، إما باعترافه أو بظهور البكارة، فإن القاضي يخيرها، لان العيب قد استقر، فإن اختارت المقام، بطل حقها، ولم يكن لها خصومة أبدا، في هذا النكاح، لأنها رضيت
226 بالعيب. وإن اختارت الفرقة، يفرق القاضي بينهما، وتكون تطليقة بائنة، على ما مر. ولو وصل إليها مرة ثم عجز، وعرف ذلك بإقرارها، فإن القاضي لا يخيرها، لأنه وصل حقها إليها، لأنه يجب كمال المهر، فلا يعتبر ما زاد عليه. وإذا خيرها الحاكم فوجد منها ما يدل على الاعراض، يبطل خيارها، كما في خيار المخيرة. وقال أصحابنا: إن العنين إذا أجل سنة، فشهر رمضان وأيام الحيض محسوبة من الأجل، لان التأجيل سنة، عرفنا ذلك بإجماع الصحابة من غير استثناء من هذه الأيام، مع علمهم بذلك. فأما إذا مرضا في المدة، مرضا لا يمكن الجماع معه، فإن كان أقل من نصف شهر، احتسب عليه، وإن كان أكثر من نصف شهر لم يحتسب عليه، وكذلك الغيبة. وروي عن محمد أنه قدر ذلك بالشهر، وفيه روايات، وهذا أوثق، لان الشهر في حكم الأجل. هذا إذا لم تكن المرأة رتقاء، فإن كانت رتقاء وكان زوجها عنينا، فلا يؤجله القاضي، لأنه لا حق لها في الوطئ، وإنما حقها في الاستمتاع والمساس. ولو علمت المرأة بالعنة، عند العقد ورضيت بالعقد، فإنه لا خيار لها، كمن اشترى عبدا وهو عالم بعيبه. فإن كان زوج الأمة عنينا فالخيار في ذلك إلى المولى عند أبي يوسف. وقال زفر: الخيار للأمة. وروى الحسن، عن أبي حنيفة، مثل قول أبي يوسف.
227 باب الحضانة الولاية إلى العصبات في الجملة، والحضانة إلى ذوات الرحم المحرم لان الحضانة تبتنى على الشفقة والرفق بالصغار، وذلك من جانب النساء أوفر، وهن بالتربية أعلم. ويكون الأقرب فالأقرب أولى. ثم الأقرب ههنا هي الام، ثم الجدة أم الام، ثم الجدة أم الأب، ثم الأخوات، فأولاهن الأخت لأب وأم، ثم الأخت لام، ثم الأخت لأب، ثم بنات الأخت، على هذا الترتيب، ثم بنات الأخ، وعلى هذا الترتيب، وهذا على الرواية التي تقدم الأخت لأب على الخالة وهي رواية محمد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة، ورواية الحسن عن أبي يوسف. وفي رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن الخالة أولى من الأخت لأب، وهو قول محمد وزفر. ثم بعد الأخوات، وأولادهن من الإناث، الخالات على الترتيب: الخالة لأب وأم، ثم الخالة لام، ثم الخالة لأب. ثم العمات على الترتيب، العمة لأب وأم، ثم العمة لام، ثم العمة لأب. فأما بنات العم والخال والعمة والخالة، فلا حق لهن في الحضانة، لان لهن رحما غير محرم. ثم الام والجدات أحق بالغلام إلى أن يأكل وحده، ويشرب وحده،
229 ويلبس وحده. وفي رواية عن محمد: ويتوضأ وحده أو يستنجي وحده. فأما الجارية فهي أحق بها حتى تحيض. والقياس أن يكون لهن حق الحضانة في الغلام إلى وقت البلوغ، لحاجة الصغار إلى التربية في الجملة إلى وقت البلوغ، إلا أنا استحسنا في الغلام، لأنه يحتاج إلى التأديب، والأب أقدر. ثم عندنا: ليس للصغير العاقل اختيار أحد الأبوين في الحضانة. وعن الشافعي: يخير الصبي. والصحيح قولنا، لأنه لا يعرف الا نظر منهما. وأما من لا أولاد لها من النساء، فلا حق لهن في الجارية والغلام، بعد الاستغناء بأنفسهما، فيما ذكرنا. وينتقل الحق إلى العصبات من ذوي الرحم المحرم، الأقرب فالأقرب، على الترتيب، إلا بني الأعمام، لان الحاجة إلى الحفظ، وخوف الصغير من العصبة أشد من خوفه من غير الأمهات من ذوات الرحم المحرم. فأما بنو الأعمام: فلا حق لهم في الحضانة، لان لهم رحما غير محرم، ويحل لهم نكاحها، فلا يؤمن عليها. ثم من كان من عصباتها، ممن لا يؤمن عليها من ذوي الرحم المحرم لفسقه ومجانته، لم يكن له فيها حق، لان في كفالته لها ضررا عليها. فإن لم يكن للجارية من عصباتها غير ابن العم، فالاختيار إلى القاضي، إن رآه أصلح ضم إليه، وإلا فيضع عند أمينه. وهذا الذي ذكرنا من ثبوت حق الحضانة لذوات الرحم المحرم إذا لم يكن لهن أزواج فأما من لها زوج فلا حق لها في الحضانة، إلا إذا كان زوجها ذا رحم محرم من الصغير، لأنه يلحقه الجفا والمذلة من زوج الام
230 إذا كان أجنبيا. ويضعه القاضي حيث يشاء، بمنزلة من لا قرابة له. وأم الولد والزوجة، في الحضانة، على السواء، إذا أعتقت. فأما الرقيقة، فلا حق لها في حضانة الولد الحر، لأنه ضرب من الولاية، والرق ينافي الولايات. وأهل الذمة في هذا بمنزلة أهل الاسلام، لان هذا أمر يبتنى على الشفقة. ولو كانت الام كافرة والولد مسلم، ذكر في الأصل أنها في الحضانة كالمسلمة. وكان أبو بكر الرازي يقول: إنها أحق بالصغير والصغيرة حتى يعقلا، فإذا عقلا، سقط حقها، لأنها تعودهم أخلاق الكفرة. ولا حق للمرتدة في الولد، لأنها تحبس، وفي الحبس ضرر بالصبي. وإذا ثبت أن حق الحضانة للام، فإذا أرادت أن تخرج بالولد إلى بلد آخر هل للأب حق المنع؟ فلا يخلو إما أن تكون الام زوجته أو مطلقة بائنة. فإن كانت زوجته فللزوج حق المنع من الخروج، بنفسها وبولدها. فأما إذا كانت مبتوتة فإما أن تخرج بولدها إلى بلدها أو إلى بلد آخر، وقد وقع النكاح في ذلك البلد أم لا، ويكون بعيدا أو قريبا يقدر الأب على مشاهدة الولد والعود إلى بيته قبل الليل. أما إذا أرادت الخروج إلى بلدها وكان البلد بعيدا فإن وقع النكاح فيه ليس للأب حق المنع، لأنه لما عقد النكاح ثم، فالظاهر أنه التزم المقام فيه. لأن الظاهر أن الزوج يقيم في البلد الذي تزوج فيه، إلا أنه
231 يلزمها اتباع الزوج إذا أعطى جميع المهر، حيث شاء أو رضيت بذلك فإذا زالت الزوجية لم تجب المتابعة، فيعود الأمر الأول. فإن لم يقع عقد النكاح في بلدها فليس لها أن تنقل ولدها إلى ذلك البلد، لان فيه التفريق بين الأب وبين ولده الصغير، وفيه ضرر بالأب، ولم يلتزم الضرر حيث لم يتزوج ثم. وإذا أرادت أن تنقل الولد إلى البلد الذي وقع فيه النكاح، وليس ذلك بلدها فليس لها ذلك، لأنه ليس بوطن لها، فهي دار غربة لها، كما أن البلد الذي فيه الزوج دار غربة، فتساويا، وليس لها أن تلحق الضرر بالأب. وأما إذا كان البلد قريبا، بحيث يقدر الأب أن يجئ إلى الولد ويراه ويعود إلى منزله قبل الليل، فلها ذلك، ويكون ذلك بمنزلة أطراف المصر، لأنه ليس فيه كثير ضرر. وأما أهل القرى إن أرادت المبتوتة أن تنتقل بالصبي إلى قريتها من قرية الأب إن وقع النكاح فيها، فلها ذلك. وإن وقع النكاح في غيرها، فليس لها أن تنقل الصبي إلى قريتها، ولا إلى القرية التي وقع النكاح فيها إذا كانت بعيدة، كما في البلدين. وإن كانت قريبة بحيث يمكن الأب رؤية الصبي والعود إلى منزله قبل الليل، فلها ذلك، لأنه ليس فيه ضرر معتبر. وإن كان الأب متوطنا في المصر، فأرادت نقل ولدها إلى قريتها، والنكاح وقع فيه فلها ذلك، لان الأب التزم المقام في مكان النكاح، إذا كان وطن الزوجة. وإذا أرادت النقل إلى قرية قريبة من المصر، بحيث يمكن النظر إلى ولده والعود قبل الليل، فإن وقع النكاح فيها فلها ذلك، لأنه رضي
232 بغربة الولد، وإن لم يقع النكاح فيه فليس لها ذلك، لان أخلاق أهل القرى لا تساوي أخلاق أهل المصر، فيلحق الصبي بذلك ضرر، وفيه ضرر بالوالد فلم يجز، إذا لم يلتزمه الأب. وقد ذكر محمد هذه المسألة في الجامع الصغير مبهمة فقال: إنما أنظر في هذا إلى الموضع الذي وقع فيه عقد النكاح والصحيح ما ذكرنا من التفصيل. ثم الام وإن كانت أحق بالحضانة، فإنه لا يجب عليها إرضاع الصبي، لان ذلك بمنزلة النفقة، ونفقة الولد يختص بها الوالد، إلا أن لا يوجد من يرضعه، فتجبر على إرضاعه. وقال مالك: إن كانت شريفة لم تجبر، وإن كانت دنية تجبر. فإن كانت لا ترضع إلا بأجر فإن كان في حال قيام النكاح فليس لها ذلك، لان الاجر لحفظ الصبي وغسله، وذلك من باب نظافة البيت، وهي منفعة تحصل لها بذلك، فلا تستحق الاجر. ولو استأجر الأب ظئرا، وأرادت الام أن ترضع فهي أولى، لأنها أشفق عليه. وإن كانت المرأة مبانة وهي في العدة، ففي إحدى الروايتين لا يجوز لها أن تأخذ الاجر، لأنها تستحق النفقة، كالزوجة. وفي رواية يجوز، لأنها صارت أجنبية. فأما إذا انقضت العدة فيجوز أن تأخذ الاجر، لأنها بمنزلة الأجنبية، وهي أولى من الأجنبية. وتجب الأجرة على الزوج بمثل ما تأخذ الأجنبية. وإن قال الأب: أنا أجد من ترضعه بغير أجر أو بأقل من ذلك
233 الاجر فليس لها أن تمنع الزوج من ذلك، لان في ذلك ضررا بالأب، ولكن ترضع الظئر في بيت الام ما لم تتزوج، لان حق الحضانة لها.
234 باب الرضاع قد ذكرنا أن الرضاع سبب للتحريم بطريق التأبيد، فيحرم به ما يحرم بالنسب والصهرية، وإنما يخالف النسب في مسألتين. إحداهما: أنه لا يجوز أن يتزوج الرجل أخت ابنه من النسب، ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع، لان أخت ابنه من النسب بنت امرأته الموطوءة، وبنت موطوءته حرام عليه، وهذا لا يوجد في الرضاع. والثانية: أنه لا يجوز أن يتزوج الرجل أم أخته من النسب، ويجوز أن يتزوج أم أخته من الرضاع، لان أم أخته من النسب موطوءة أبيه، وحليلة الأب حرام على الابن، وهذا لا يوجد في الرضاع. وتعرف ذلك بالتأمل. وجملة ذلك أن الرضاع يتعلق به التحريم في جانب المرضعة، وفي جانب الواطئ الذي ينزل اللبن من وطئه. والتحريم في جانب المرضعة مجمع عليه، وفي جانب الزوج مختلف فيه فعندنا يثبت، وعند الشافعي: لا يثبت. ولقب المسألة أن لبن الفحل هل يحرم أم لا؟ وبيانه أن المرأة إذا أرضعت طفلا، فإنها تحرم عليه، وصارت أما له، وصاحب اللبن صار أبا له، فإن كان المرضع أنثى، تحرم على صاحب اللبن، لكونها بنتا له، وإن كان ذكرا تحرم المرضعة عليه، لكونه ابنا له.
235 وأولاد المرضعة، من صاحب اللبن، إخوة وأخوات المرضع لأب. وأم وأولاد المرضعة من غير صاحب اللبن إخوة وأخوات له لام، وأولاده من غير المرضعة إخوة وأخوات له لأب. وكذلك الحكم في أولاد الأولاد من الجانبين. وأمهات المرضعة جداته من قبل الام، وأمهات صاحب اللبن جداته من قبل الأب. وإخوة المرضعة وأخواتها أخواله وخالاته، وإخوة صاحب اللبن وأخواته أعمامه وعماته، وبنات الأخوال والخالات والأعمام والعمات من الرضاع حلال، كما في النسب. ولا يجوز للمرضع أن يتزوج بمن أرضعته المرضعة من الإناث. لأنهن أخواته، لكونهن بنات لها من جهة الرضاع. وأصل ذلك أن كل اثنين اجتمعا على ثدي واحد فهما أخوان أو أختان، أو أخ وأخت. وعلى هذا لو كان لرجل امرأتان فحبلتا منه، وأرضعت كل واحدة منهما، صغيرا أجنبيا، فقد صارا أخوين لأب، فإن كانت إحداهما أنثى، لم يجز لها أن تتزوج بالآخر، لأنه أخوها من أبيها، وإن كانا اثنين لم يجز لرجل واحد أن يجمع بينهما في النكاح، لأنهما أختان لأب. وقد ذكرنا تفسير حرمة الرضاع بسبب الصهرية في كتاب النكاح فلا نعيده. ثم الرضاع المحرم ما كان في حال الصغر. فأما رضاع الكبير: فلا يتعلق به التحريم. وأصله قوله عليه السلام: الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم.
236 واختلف أصحابنا في الحد الفاصل، قال أبو حنيفة: يثبت حكم الرضاع في الصغير إلى ثلاثين شهرا، فما ارتضع بعد ذلك لم يتعلق به التحريم. وقال أبو يوسف ومحمد إلى الحولين وهو قول الشافعي. وقال زفر: إلى ثلاث سنين والمسألة معروفة. ولو فطم الصبي، في مدة الرضاع، ثم أرضع بعد الفصال، في المدة اختلفت الروايات فيه عن أصحابنا: روى محمد عن أبي حنيفة أن ما كان من الرضاع إلى ثلاثين شهرا، قبل الفطام أو بعده: فهو رضاع محرم. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: إذا فطم في السنتين حتى استغنى بالطعام ثم ارتضع بعد ذلك في السنتين أو الثلاثين شهرا لم يكن ذلك رضاعا، لأنه لا رضاع بعد فطام تام. وإن هي فطمته، فأكل أكلا ضعيفا لا يستغني به عن الرضاع، ثم عاد فأرضع في الثلاثين فهو رضاع يحرم، كرضاع الصغير الذي لم يفطم. وروى محمد وأصحاب الاملاء عن أبي يوسف أنه إذا فطم قبل الحولين، ثم ارتضع في بقية الحولين فهو رضاع محرم، وهو مذهب محمد، وكان لا يعتد بالفطام قبل الحولين. وروى الحسن عن أبي يوسف أنه إذا أرضع بعد الفطام في الحولين لم يكن رضاعا. ثم عندنا: قليل الرضاع وكثيره سواء في حال الصغر، في التحريم. وقال الشافعي: لا يثبت التحريم إلا بخمس رضعات. والصحيح قولنا، لقوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) *
237 (1) من غير فصل. وكذا عندنا: تثبت حرمة الرضاع بلبن الميتة. وعند الشافعي: لا يقع به التحريم، لكونه نجسا. وإذا وصل اللبن إلى جوف الصبي، لا من الثدي، بأن أوجر (2) أو أسعط (3) تثبت الحرمة، لان الوجور يصل إلى الجوف، والسعوط يصل إلى الجوف أيضا. ولو حقن الصبي باللبن ذكر الكرخي وقال: لم يحرم، ولم يحك خلافا. وروي عن محمد أنه يحرم، كما يقع به الافطار. أما إذا أقطر في الاذن لم يثبت التحريم، لأنه لم يعلم وصوله إلى الجوف. وكذا إذا أقطر في إحليله، لهذا المعنى. وكذلك لو أقطر في جائفة (4) أو آمة (5)، لما ذكرنا. ولو اختلط اللبن بغيره فهذا على وجوه: إن اختلط بالطعام، ومسته النار، حتى نضج وطبخ لم يتعلق به الحرمة، في قولهم جميعا، لأنه تغير، بالطبخ مع غيره، عن طبعه وصفته.
(1) سورة النساء: الآية 23. (2) الوجور: الدواء يصب في الحلق: وأوجرت المريض إيجارا، فعلت به ذلك. (3) السعوط: دواء يصب في الانف. (4) الجائفة هي الجراحة التي تصل إلى بطن من الصدر أو الظهر أو البطن. (5) الأمة هي الشجة التي تصل إلى أم الدماغ وهي جلدة تحت العظم فوق الدماغ. 238 وإن اختلط به الطعام، ولم تمسه النار فإن كان الطعام هو الغالب لم يثبت به التحريم، لأنه زال اللبن وصار اللبن كالعدم. وإن كان اللبن غالبا للطعام، وهو طعام ظاهر يعتد به قال أبو حنيفة: لا يقع به التحريم. وقال أبو يوسف ومحمد: يحرم اعتبارا للغالب فأبو حنيفة يقول إنه يضعف معنى اللبن، ويزول قوته، حتى يصير اللبن رقيقا ضعيفا يعرف بالمشاهدة. وإن اختلط اللبن بالدواء أو الدهن أو النبيذ فإن كان اللبن غالبا يحرم، وإن كان الدواء غالبا لا يحرم، ويعتبر الغلبة بالاجماع، لان قوة اللبن باقية. وإن اختلط اللبن بالماء فإن كان اللبن غالبا يقع به التحريم. وإن كان الماء غالبا لا يقع به التحريم، اعتبارا للغالب. وقال الشافعي: إذا أقطر من اللبن خمس رضعات، في جب ماء، فشرب منه الصبي تثبت الحرمة. وإن اختلط اللبن بلبن شاة تعتبر الغلبة أيضا، لان لبن الشاة لا يؤثر في زوال قوة لبن الآدمية. وأما إذا اختلط لبن امرأتين فروي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أن الحكم للأغلب، فثبت به التحريم، دون الآخر. وقال محمد وزفر: يثبت التحريم منهما، احتياطا في باب الحرمة. وهما يقولان: إن المغلوب لا عبرة به في الشرع. ولو طلق امرأته طلاقا بائنا، ولها منه لبن فما دامت في العدة، أو بعد التزوج بغيره قبل ظهور الحبل، لو أرضعت صبيا، فإن التحريم يثبت من الزوج الأول، لان اللبن له. فأما إذا حبلت من الزوج الثاني، فأرضعت صبيا قال أبو حنيفة: التحريم للأول دون الثاني، حتى
239 تضع، فإذا وضعت يكون التحريم للثاني، دون الأول. وقال أبو يوسف: إذا نزل لها اللبن من الثاني، فالتحريم للثاني، وبطل الأول. وروى الحسن عنه أنها إذا حبلت فاللبن للثاني. وقال محمد: إذا نزل لها لبن، فالتحريم للزوجين، فإذا وضعت، فالتحريم للثاني لا غير وهي مسألة المبسوط. هذا الذي ذكرنا حكم الرضاع المقارن للنكاح، فأما الرضاع الطارئ على النكاح فإنه يبطله، لأنه يوجب حرمة مؤبدة بيانه: - إذا تزوج الرجل صغيرة، فأرضعتها أمه حرمت عليه، لأنها صارت أختا له بالرضاع. - ولو تزوج رجل صغيرتين رضيعتين، فجاءت امرأة وأرضعتهما معا، أو واحدة بعد الأخرى، صارتا أختين من الرضاعة، وحرمتا عليه، وبطل نكاحهما، لان الجمع بين الأختين يستوي فيه الابتداء والبقاء، ويجب على الزوج لكل واحدة من الصغيرتين نصف المهر، لان الفرقة وقعت قبل الدخول بهما من غير فعلهما. ثم ينظر فإن كانت المرضعة تعمدت الفساد يرجع عليها الزوج بما غرم من نصف المهر، وإن كانت لم تتعمد لم يرجع. وقال الشافعي: يضمن مهر المثل في الوجهين جميعا. والصحيح قولنا، لان فعلها سبب الحرمة لاعتدائها، وإنما يكون السبب تعديا بقصد الفساد، أما بدون قصد الفساد فليس بتعد، كحفر البئر على قارعة الطريق، وحفر البئر في ملك نفسه. وإذا ثبت أن الرضاع محرم، فإنما يعرف بالاقرار، أو بشهادة رجلين
240 أو رجل وامرأتين. أما لا يثبت بشهادة الرجل الواحد، ولا بشهادة النساء وحدهن، لان هذا مما يطلع عليه الرجال، فإن النظر إلى ثدي المرأة جائز في الجملة.
241 باب العدة العدة أنواع ثلاثة: عدة الوفاة، وعدة الطلاق، وعدة الوطئ. أما عدة الوفاة: ففي حق الحرة أربعة أشهر وعشرا، صغيرة كانت أو كبيرة، دخل بها زوجها أو لم يدخل، حرا كان زوجها أو عبدا. وهذه العدة لا تجب إلا في نكاح صحيح، لقوله تعالى: * (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) * (1) من غير فصل، ومطلق اسم الزوج لا يقع على المتزوج نكاحا فاسدا. وأما في حق الزوجة الأمة فشهران وخمسة أيام، كان زوجها حرا أو عبدا، لأن العدة تتنصف بالرق وتتكامل بالحرية، ويعتبر فيها جانب النساء دون الرجال، بالاجماع. وإن كانت الزوجة حاملا فانقضاء عدتها بوضع حملها، إذا كان تاما أو سقطا مستبين الخلق، كله أو بعضه، قصرت المدة أو طالت. وعند علي رضي الله عنه: عدتها أبعد الأجلين. والصحيح قول عامة العلماء، لظاهر قوله تعالى: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * (2)، والنص مطلق، وهو آخرهما نزولا، على ما
(1) سورة البقرة: الآية 234. (2) سورة الطلاق: الآية 4. 243 روي عن ابن مسعود أنه قال: من شاء باهلته (1) أن سورة النساء القصرى نزلت بعد التي في سورة البقرة. وأما عدة الطلاق: فثلاثة قروء (2) في حق ذوات الأقراء، إذا كانت حرة. وفي حق الآيسة، والصغيرة، والتي لا تحيض بعد ثلاثين سنة: ثلاثة أشهر إذا كان بعد الدخول بها، أو بعد الخلوة الصحيحة، في النكاح الصحيح، لأنها توجب كمال المهر، فتوجب كمال العدة بطريق الأولى، احتياطا. وأما الخلوة الصحيحة في النكاح الفاسد فلا توجب العدة، ولا كمال المهر، لان التسليم لا يجب عليها، فلا تقام الخلوة مقامه. وأما الخلوة الفاسدة في النكاح الصحيح فإن كان يمكنه الوطئ مع المانع، كالحيض والاحرام ونحو ذلك، يجب كمال العدة، دون كمال المهر، لأنهما يتهمان في العدة التي هي حق الشرع. وإن كان لا يمكنه الوطئ مع المانع حسا، كالمريض أو المريضة التي لا يقدر الوطئ منهما، أو الصغير أو الصغيرة التي لا يتصور الجماع منهما، فلا عدة، لأنهما لا يتهمان، ولم يوجد التسليم الذي أوجب العدة. وإن كانت الزوجة مملوكة للغير، فعدتها حيضتان إن كانت من ذوات الأقراء، وإن لم تحض فشهر ونصف. ولا تجب عدة الطلاق قبل الدخول.
(1) أي لاعنه - من البهلة وهي اللعنة. وباهل بعضهم بعضا. وتبهلوا وتباهلوا: تلاعنوا. (2) القرء بالضم والفتح. ويجمع على أقراء وقروء. من الأضداد: يقع على الحيض واليه ذهب أبو حنيفة وأهل العراق، وعلى الطهر واليه ذهب الشافعي وأهل الحجاز. وهو في الأصل للوقت، وإنما قيل للحيض والطهر قرء لأنهما يجيئان في الوقت - يقال: هبت الريح لقرئها أي لوقتها. 244 والحكم في الخلوة الصحيحة ما ذكرنا. وأما أم الولد إذا أعتقت، أو مات سيدها فعدتها ثلاث حيض، عندنا. وعند الشافعي: بقرء واحد. وأصله قوله تعالى: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) * (1). وقال الله تعالى: * (واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللاتي لم يحضن) * (2). وقال: * (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) * (3). وأما في حق الحامل فعدتها وضع الحمل، لا خلاف في المطلقة، لظاهر قوله: * (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) * (4) وقال عليه السلام: طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان. وقال عمر رضي الله عنه: طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان، ولو استطعت لجعلتها حيضة ونصف. وأما عدة الموطوءة: وهي التي وطئت بالنكاح الفاسد أو شبهة عقد أو شبهة ملك أو كانت أم ولد فأعتقها مولاها، أو مات عنها فثلاث حيض، أو ثلاثة أشهر، أو وضع الحمل، لأنها ملحقة بالمنكوحة شرعا. ولو طلق الرجل امرأته في مرضه الذي مات فيه، ثلاثا أو طلاقا
(1) سورة البقرة: الآية 228. (2) سورة الطلاق: الآية 4. (3) سورة الأحزاب: الآية 49. (4) سورة الطلاق: الآية 4. 245 بائنا، ثم مات قبل أن تنقضي عدتها، فورثت: اعتدت بأربعة أشهر وعشرا، فيها ثلاث حيض عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: عدتها ثلاث حيض. وكذلك امرأة المرتد: يجب عليها العدة، وترث من المرتد، على هذا الخلاف، في إحدى الروايتين. وإن كان الطلاق رجعيا، في صحة أو مرض، فعدتها أربعة أشهر وعشرا، وبطل عنها الحيض في قولهم، لان الزوجية باقية. وموت الزوج يوجب عدة الوفاة. وإذا مات الصبي عن امرأته وهي حامل، فعدتها أن تضع حملها، عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: عدتها أربعة أشهر وعشرا. والصحيح قولهما، لظاهر قوله تعالى: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن). وذكر الكرخي: فإن مات وهي غير حامل، ثم حملت بعد موته، قبل انقضاء العدة فعدتها الشهور، في قولهم. ثم في حق من كانت عدته بالشهور، كيف يعتبر الشهر؟ بالأيام أو بالأهلة؟ فنقول: جملة هذا أن الوفاة أو الطلاق إذا اتفق في غرة الشهر اعتبرت الشهور بالأهلة، وإن نقصت عن العدد في قول أصحابنا جميعا. فأما إذا حصل في بعض الشهر، فقال أبو حنيفة: تعتبر بالأيام، فتعتد في الطلاق تسعين يوما، وفي الوفاة مائة وثلاثين يوما. وقال محمد: تعتد بقية الشهر بالأيام، ثم تعتد شهرين بالأهلة، وتكمل الشهر الأول من الشهر الثالث بالأيام.
246 وعن أبي يوسف روايتان: في رواية مثل قول أبي حنيفة. وفي رواية مثل قول محمد وهو قوله الأخير. وأصله قوله عليه السلام: الشهر هكذا وهكذا وأشار بأصابع يديه ثلاثا وخنس (1) إبهامه في الثالث، فكان الأصل هو الأهلة عند الامكان، وعند التعذر يصار إلى الأيام. ثم العدتان يتداخلان عندنا، سواء كانتا من جنس واحد، أو من جنسين مختلفين. وقال الشافعي: لا يتداخلان، بل يجب أن تمضي في العدة الأولى، فإذا انقضت استأنفت الأخرى. وصورة المسألة أن المطلقة إذا مضى بعض عدتها، وتزوجت في عدتها، فوطئها الزوج، ثم تاركها، فإنه يجب عليها عدة أخرى ويتداخلان. وكذا إذا كانتا من جنسين، بأن كان المتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة تداخلت أيضا. ويعتبر ما ترى من الحيض في الأشهر من عدة الوطئ وهي مسألة معروفة. ثم العدة معتبرة بالنساء: تتنصف برقها، وتتكامل بحريتها، بالاجماع وإنما الخلاف في الطلاق. ثم ما عرفت من الجواب في حق المسلمة، فهو الجواب في حق الكتابية إذا كانت تحت مسلم، لأن العدة فيها حق الشرع وحق الزوج والولد، فإن لم تكن مخاطبة بحق الشرع، فمخاطبة بإيفاء حق الزوج والولد.
(1) خنس ابهامه قبضها. 247 وأما الذمية تحت ذمي، فلا عدة عليها في موت ولا فرقة عند أبي حنيفة إذا كان في دينهم كذلك، إلا أن تكون حاملا، فلا يجوز نكاحها. وقال أبو يوسف: عليها العدة، لجريان أحكام الاسلام عليهما، بسبب الذمة. وأبو حنيفة يقول: إنها غير مخاطبة بحق الشرع، والزوج لا يعتقد العدة حقا لنفسه، فلم تجب لحقه. أما إذا كانت حاملا فتمنع من التزويج، حقا للولد، حتى لا يختلط النسب، فيضيع الولد. ثم في النكاح الفاسد إذا وقعت الفرقة بعد الوطئ بتفريق القاضي، أو بمتاركتها فإنه تعتبر العدة من وقت التفريق، لا من وقت الوطئ، عندنا، خلافا لزفر: فإنه يعتبر من آخر وطئة وطئها. والصحيح قولنا، لان النكاح الفاسد موجود من وجه، وهو ملحق بالثابت من كل وجه، في حق الأحكام، فلا بد من التفريق حتى تجب العدة. وإذا كان الزوج غائبا، فطلق امرأته أو مات عنها، والمرأة لا تعلم بذلك، حتى مضت مدة العدة، فإنه تنقضي العدة، وتعتبر من وقت الطلاق. والعلم ليس بشرط لمضي العدة، فإنها أجل وضع لبراءة الرحم، وإنه يحصل بلا علم. وأما الممتد طهرها، فعدتها بالأقراء، ولا تنقضي بالشهور، ما لم تدخل في حد الإياس، لأنها من ذوات الأقراء في الجملة.
248 باب ما يجب على المعتدة المعتدة إما إن كانت عن طلاق، أو عن وفاة. فإن كانت عن طلاق ينبغي لها أن لا تخرج من بيتها، ليلا ولا نهارا، بل يجب عليها السكنى في البيت الذي تسكن فيه، وأجر السكنى والنفقة على الزوج. وأصله قوله تعالى: و * (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) * (1). وأما المتوفى عنها زوجها، فلا بأس بأن تخرج بالنهار في حوائجها، ولا تبيت في غير منزلها، الذي تعتد فيه، لان نفقتها عليها، فتحتاج إلى الخروج، لاصلاح أمرها. وعن محمد: لا بأس بأن تبيت في غير بيتها، أقل من نصف الليل، لان البيتوتة عبارة عن السكون في المكان أكثر الليل في العرف. ثم منزلها الذي تؤمر بالسكنى، والاعتداد فيه، هو الموضع الذي كانت تسكنه، قبل مفارقة الزوج، وقبل موته، سواء كان الزوج ساكنا فيه أو لم يكن، لان الله تعالى أضاف البيت إليها، والبيت المضاف إليها هو الذي تسكنه. ولهذا قال أصحابنا: إنها إذا زارت أهلها، فطلقها زوجها، كان
(1) سورة الطلاق: الآية 1. 249 عليها أن تعود إلى منزلها الذي كانت تسكن فيه، فتعتد هنالك. فإن اضطرت إلى الخروج، فلا بأس بذلك، مثل أن تخاف سقوط البيت وانهدامه، أو تخاف أن يغار على متاعها، أو أن يكون بأجرة ولا تجد ما تؤديه في أجرته في عدة الوفاة، فإن كانت تقدر على الأجرة، فلا تنتقل. وإن كان المنزل لزوجها، وقد مات عنها، فلها أن تسكن في نصيبها إن كان نصيبها يكفيها في السكنى، ولكن تستتر عن سائر الورثة ممن ليس بمحرم لها. فأما إذا كان نصيبها لا يكفيها، أو خافت على متاعها منهم فلها أن تنتقل، ويكون ذلك عذرا، والسكنى وجبت حقا لله تعالى عليها، فيسقط بالعذر، كسائر العبادات. وكذلك المسافرة حرام أيضا للمطلقة، سواء كان سفر حج، فرض أو غيره. مع زوجها أو محرم، حتى تنقضي عدتها، لان السفر خروج مديد، إلا أن في المطلقة طلاقا رجعيا للزوج أن يسافر بها إذا راجعها. وقال زفر: لزوجها أن يسافر بها، وهذا بناء على أن المسافرة بها مراجعة عند زفر، وعندنا ليس بمراجعة. فأما لا خلاف أن الخروج في حال العدة حرام عليها. ولو خرجت المرأة مع زوجها في سفر غير سفر الحج، ثم طلقها في بعض الطريق إن كان بينها وبين مصرها الذي خرجت منه أقل من ثلاثة أيام، وبينها وبين مقصدها ثلاثة أيام، فإنها ترجع إلى منزلها، لأنه ليس فيها إنشاء السفر، وفي ذلك إنشاء السفر. وإن كان في كل جانب أقل من مدة السفر: كان لها الخيار، لما ذكرنا. وإن كان من كل جانب مدة السفر ينظر: إن كانت هي في موضع يمكنها المقام فيه، أقامت في ذلك الموضع، واعتدت، ولا تمضي عند أبي
250 حنيفة رضي الله عنه، وإن وجدت محرما. وعلى قولهما: إن لم يكن معها محرم، فكذلك. وإن كان معها محرم، مضت على سفرها. وإن كانت في موضع لا يصلح للإقامة، وتخاف على نفسها ومالها فإن شاءت مضت، وإن شاءت رجعت، لاستواء الامرين، لكن إذا بلغت إلى أدنى الموضع الذي يصلح للإقامة فهو على هذا الخلاف الذي ذكرنا. فإن أحرمت للحج، وخرجت إلى سفر الحج مع محرم لها غير الزوج، ثم طلقها الزوج، أو مات، فبلغها الخبر، وبينها وبين مصرها أقل من ثلاثة أيام فإنها ترجع، وتصير بمنزلة المحصر، فإن راجعها زوجها، بطلت العدة، وتعود الزوجية، فجاز لها السفر. وأما الحداد فيجب على كل معتدة، بالغة، عاقلة، مسلمة، حرة، بانت من زوجها، بواحدة أو ثلاث، أو مات عنها زوجها. فإن كانت معتدة عن وفاة يجب الاحداد، بالاجماع. وإن كانت عن طلاق، بائن أو ثلاث، فكذلك، عندنا. وعند الشافعي: لا يجب الاحداد. وأجمعوا أنه لا يجب الاحداد على المطلقة، طلاقا رجعيا. وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام، إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا، والمباينة نظير المتوفى عنها زوجها في التحسر على ما فات، في الغالب، فيجب الاحداد عليها. ثم تفسير الاحداد هو الاجتناب عن جميع ما يتزين به النساء من
251 الطيب، ولبس الثوب المصبوغ، والمطيب بالعصفر والزعفران، والاكتحال، والادهان، والامتشاط، ولبس الحلي، والخضاب، ونحو ذلك، إلا إذا لم يكن لها إلا ثوب مصبوغ، فلا بأس بأن تلبسه ولا تقصد الزينة. وقال في الأصل: ولا تلبس قصبا ولا خزا تتزين به، لان هذا مما يلبس للحاجة، فيعتبر فيه القصد، فإن قصدت الزينة يكره، وإن لم تقصد فلا بأس. هذا الذي ذكرنا حكم المعتدة، البالغة، العاقلة، المسلمة، الحرة، في النكاح الصحيح. فأما الصغيرة، والكتابية، والأمة، والمدبرة، وأم الولد، والمكاتبة، والموطوءة عن شبهة أو نكاح فاسد، فليس عليهن السكنى، ويباح لهن الخروج، لان السكنى حق الله تعالى، والكافرة لا تخاطب به. فأما الرقيقة، فلا يلزمها المقام في منزل زوجها، لقيام حق المولى في الخدمة، إلا إذا بوأها مولاها منزلا، فحينئذ لا تخرج، لأنه أسقط حق نفسه في الخدمة. فإن أراد المولى أن يخرجها فله ذلك، لأنه أعار منفعة خدمته للزوج، وللمعير أن يسترد العارية. وأما الكتابية، فلها أن تخرج إلا أن يحبسها الزوج، لحقه في عدتها لصيانة الماء، فتكون السكنى حق الزوج، لأجل الولد. وأما الصغيرة، فلها الخروج، وليس للزوج منعها، لأنه لا يلزمها حق الشرع، ولا حق الزوج، لان حقه في حفظها لصيانة الولد، ولا يتصور الولد في حقها. وأما أم الولد إذا أعتقت، أو مات سيدها فلها أن تخرج، لان عدتها عدة الوطئ.
252 وكذلك في الوطئ لشبهة، أو نكاح فاسد لها أن تخرج، لان ذلك واجب في النكاح الصحيح، لا غير. فأما الحداد، فلا يجب على الصغيرة والكافرة، لأنه ليس عليهما حق الله تعالى. فأما على الأمة، والمدبرة، وأم الولد، والمكاتبة إذا كانت زوجته فيجب الحداد، لأنه عبادة بدنية، وإنها لا تسقط بسبب الرق. وفي عدة أم الولد بعد العتق والموت، وفي العدة من نكاح فاسد لا حداد أيضا، لأنه يجب لحرمة الزوجية، ولم توجد. ثم المعتدة إذا قالت: انقضت عدتي في مدة تنقضي بها العدة، غالبا، فإنها تصدق، لأنها أمينة، والقول قول الأمين، فيما لا يخالفه الظاهر، بالاجماع. ولو لم تعترف بانقضاء العدة لا تنقضي، لاحتمال أنها تصير ممتدة الطهر. فأما إذا أخبرت بانقضاء العدة في مدة أقل من شهرين، قال أبو حنيفة: لا يصدق في أقل من شهرين. وقال أبو يوسف ومحمد: يصدق في تسعة وثلاثين يوما. ولتخريج قول أبي حنيفة رحمه الله وجهان: أحدهما رواه محمد، والثاني رواه الحسن. وإن طلقها في نفاسها وهي حرة: فقال أبو حنيفة في رواية محمد: لا تصدق، في أقل من خمسة و ثمانين يوما. وفي رواية الحسن: مائة يوم.
253 وقال أبو يوسف: لا تصدق في أقل من خمسة وستين يوما. وقال محمد: لا تصدق في أقل من أربعة وخمسين يوما وساعة. ووجه تخريج المسألة يعرف في كتاب الحيض والله أعلم.
254 كتاب العتاق الاعتاق أنواع: قد يكون قربة وطاعة لله تعالى، بأن أعتق لوجه الله تعالى أو نوى عن كفارة عليه. وقد يقع مباحا غير قربة بأن أعتق من غير نية، أو أعتق لوجه فلان. وقد يقع معصية بأن قال: أنت حر لوجه الشيطان، ويقع العتق أيضا. ثم الألفاظ تذكر في العتق نوعان: نوع يثبت به العتق في الجملة إما بالنية، أو بغير النية. نوع لا يثبت به العتق أصلا، وإن نوى. وأما الذي يثبت به العتق فثلاثة أنواع: صريح، وملحق بالصريح، وكناية. أما الصريح: فما اشتق من لفظ الحرية، والعتق، والولاء بأن قال: أنت حرة أو حررتك أو أنت عتيق أو معتق أو أعتقتك أو أنت مولاي.
255 وقد يكون بصيغة النداء بأن قال: يا حر، يا عتيق، يا مولاي. ففي هذه الألفاظ لا يحتاج إلى النية، لكونه صريحا. ولو نوى به الخبر عن الكذب، في هذه الألفاظ يصدق فيما بينه وبين الله تعالى، دون القضاء، لان صيغته صيغة الخبر، والخبر قد يكون كذبا. وإن نوى أنه كان حرا فإن كان مسبيا يصدق في الديانة، لا في القضاء. وإن كان مولدا لا يصدق أصلا. وإن قال: أنت حر ونوى أنه حر من العمل أي لا أستعمله في عمل ما لا يصدق، في القضاء، ويعتق، ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى. وكذا إذا قال: أنت مولاي ونوى الموالاة في الدين لا يصدق في القضاء، ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى. ولو قال: أنت حر من هذا العمل وسمى عملا معينا، أو قال: أنت حر من عمل اليوم فإنه يعتق في القضاء، لان العتق لا يتجزأ، فإذا جعله حرا في بعض الاعمال، أو جعله حرا عن الاعمال كلها في بعض الأزمان يثبت في الكل، ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى أنه أراد به البعض. وأما اللفظ الملحق بالصريح: كقوله لعبده: وهبت لك نفسك أو وهبت نفسك منك فإنه يعتق العبد، قبل العبد أو لم يقبل، نوى أو لم ينو. وكذلك إذا قال: بعت نفسك منك إلا أنه إذا باع نفسه من
256 العبد، بثمن معلوم يشترط القبول لأجل ثبوت العوض. وروي عن أبي يوسف أنه قال: إذا قال لعبده: أنت مولى فلان أو عتيق فلان: يعتق في القضاء، لأنه أقر بالحرية، وهو مالك العبد. ولو قال: أعتقك فلان لا يعتق، لأنه يحتمل أنه أراد به أنه قال لك: أنت حر الآن، ويحتمل الخبر، فلا يثبت العتق بالشك، لكن يجوز أن يقال: يعتق في الحالين. وأما ألفاظ الكناية: فأن يقول لعبده: لا سبيل لي عليك أو لا ملك لي عليك أو خليت سبيلك أو خرجت عن ملكي، فإن نوى العتق يعتق، وإن لم ينو يصدق في القضاء لأنه لفظ مشترك إلا إذا قال: لا سبيل لي عليك إلا سبيل الولاء فهو حر في القضاء، ولا يصدق أنه أراد به غير العتق. ولو قال: إلا سبيل الموالاة يصدق في القضاء، لأنه قد يراد به الموالاة في الدين، بخلاف لفظ الولاء فإنه مستعمل في ولاء العتق. وأما الألفاظ التي لا يعتق بها، وإن نوى بأن قال لعبده: لا سلطان لي عليك، أو قال لعبده: اذهب حيث شئت، أو توجه أين شئت من بلاد الله، أو قال لعبده: أنت طالق أو طلقتك أو أنت بائن أو أنت علي حرام أو قال ذلك لامته، وكذلك سائر كنايات الطلاق ونوى العتق في هذه الفصول لا يعتق، لأنها عبارة عن زوال اليد، وإنه لا يقتضي العتق، كما في الكناية. ولو قال: يدك أو رجلك حر ونوى العتق لا يعتق، وإنما يعتق إذا أضيف إلى جزء شائع، أو جزء جامع، بأن قال: رأسك حر أو
257 وجهك حر كما في الطلاق. ولو نوى فقال: رأسك رأس حر أو بدنك بدن حر أو وجهك وجه حر، يعتق. ولو قال على الإضافة: وجهك وجه حر أو رأسك رأس حر أو بدنك بدن حر لا يعتق، لان هذا تشبيه. ولو قال: ما أنت إلا مثل الحر أو أنت مثل الحر ونوى العتق، لا يعتق، لأنه تشبيه. وقد قالوا: إذا نوى العتق يعتق فإنه ذكر في كتاب الطلاق إذا قال لامرأته: أنت مثل امرأة فلان وفلان آلى من امرأته، ونوى الايلاء يصدق، ويصير مولى. ومن الألفاظ التي يثبت بها العتق ألفاظ النسب. والأصل فيه أن من وصف مملوكه بصفة شخص يعتق عليه، إذا ملكه فهو على وجهين أحدهما أن يذكره بطريق الصفة، والآخر أن يذكره بطريق النداء. أما الصفة فنحو أن يقول: هذا ابني أو هذه ابنتي. والنداء أن يقول: يا بني، يا بنتي، ولا يخلو إما إن كان العبد مجهول النسب، أو معروف النسب من غيره. ولا يخلو: إما إن كان يصلح ولدا له أو لا يصلح، وكذلك في سائر القرابات المحرمة للنكاح. أما في الصفة بأن قال: هذا أخي أو عمي أو خالي: فقد ذكر في ظاهر الرواية أنه يعتق، وسوى بين الكل، إلا في الأخت والأخ، فإنه لا يعتق، إلا بالنية، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه سوى بين الكل وقال: يعتق. وأما النداء إذا قال: يا بني، يا بنتي، يا أمي، يا أبي فإنه لا يعتق إلا إذا نوى، لان النداء لا يراد به ما وضع له
258 اللفظ، وإنما يراد به استحضار المنادى، إلا إذا ذكر اللفظ الموضوع للحرية كقوله، يا حر، يا مولاي: فيعتق لان في الموضوع لا يعتبر المعنى. ثم ينظر: إن كان مجهول النسب، وهو يصلح ولدا له أو والدا فإنه يثبت النسب، ويعتق. وإن كان معروف النسب من غيره فإنه لا يثبت النسب، ولكن يعتق، لاحتمال النسب منه، بالنكاح، أو الوطئ عن شبهة، والاشتهار من غيره، أو بسبب الزنا. وعند الشافعي: ما لم يثبت النسب منه لا يثبت العتق. وإن كان لا يصلح ولدا ولا والدا ولا عما، قال أبو حنيفة: يعتق. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: لا يعتق. ولو قال: هذه بنتي أو أمي وهي تصلح لذلك، فإن كانت مجهولة النسب، وليس للمدعي أم معروفة يثبت النسب والعتق، والحرمة. وإن كانت معروفة النسب، أو كانت للمدعي أم معروفة لا يثبت النسب، ولكن يثبت العتق، والحرمة. وإن كانت لا تصلح بنتا له أو أما له: يثبت العتق عند أبي حنيفة، ولكن لا تثبت الحرمة. وهذا إذا لم تكن زوجة له. فإن كانت زوجة له، فقال: هذه بنتي أو أمي فإن كانت معروفة النسب لا تثبت الحرمة أيضا. وكذلك إذا كانت البنت أكبر سنا منه والام أصغر سنا منه، لا تقع الفرقة.
259 وعلى هذا قالوا في الزوجة إذا قال: هذه بنتي وهي تصلح بنتا له، ثم قال: أوهمت أو أخطأت لم تقع الفرقة، وإنما تقع إذا دام على ذلك وثبت. ولو قال لعبده: هذا ابني أو لامته هذه بنتي ثم قال أخطأت يعتق، ولا يصدق. لو قال لامته وهي مجهولة النسب، وهي أصغر سنا منه: هذه بنتي ثم تزوجها: جاز، سواء أصر على ذلك أم لا كذلك ذكر في كتاب النكاح. ولكن قالوا: هذا الجواب في معروفة النسب فأما في المجهولة إن دام على ذلك ثم تزوجها لم يجز، وإن لم يدم عليه جاز. ولو قال لعبده: هذه بنتي أو لامته: هذا ابني اختلف المشايخ فيه. ثم في معروف النسب من الغير إذا أعتق هل تصير أمه أم ولد له إذا كانت في ملكه؟ بعضهم قالوا: لا يثبت الاستيلاد، سواء كان الولد معروف النسب أو مجهول النسب. وقال بعضهم: يثبت في الحالين. وبعضهم فرق: إن كان معروف النسب لا يثبت، وفي مجهول النسب يثبت.
260 باب آخر من العتق في هذا الباب فصول: أحدها الاعتاق بين الشريكين أو الشركاء والأصل فيه أن الاعتاق يتجزأ عند أبي حنيفة رحمه الله. وعند أبي يوسف ومحمد: لا يتجزأ. وقال الشافعي: في حالة اليسار لا يتجزأ. وفي حالة الاعسار يتجزأ. فيخرج المسائل على هذا: - إذا أعتق الرجل عبدا بينه وبين شريكه أعتق نصيبه لا غير، سواء كان موسرا أو معسرا، ولشريك المعتق خمس خيارات، إن شاء أعتق نصيبه، وإن شاء دبره، وإن شاء كاتبه، وإن شاء استسعاه، وإن شاء ضمن المعتق إن كان موسرا. غير أنه إذا دبره يصير مدبرا نصيبه، ويجب عليه السعاية، للحال، فيعتق، ولا يجوز له أن يؤخر عتقه إلى ما بعد الموت. ثم إذا أعتق العبد بإعتاق الشريك نصيبه أو بالاستسعاء واستيفاء بدل الكتابة، يكون الولاء بينهما، لوجود الاعتاق منهما. وإن ضمن المعتق فللمعتق أن يعتقه إن شاء، وإن شاء استسعاه، وإن شاء كاتبه
261 أو دبره، لان نصيبه انتقل إليه في حق الاعتاق، والمدبر يحتمل النقل في حق الاعتاق لا غير، فكان له الخيار، كما في الشريك قبل التضمين، ويكون الولاء كله له. وقال أبو يوسف ومحمد: يعتق كله. ثم إن كان المعتق موسرا، فللشريك أن يضمنه إن شاء، وإن شاء ترك، وليس له أن يستسعي العبد، وإن كان معسرا له أن يستسعي. وقال الشافعي: إن كان المعتق موسرا يعتق كله، وله أن يضمنه، وإن كان معسرا يعتق ما أعتق، ويبقى الباقي رقيقا، ويجوز فيه جميع التصرفات المزيلة للملك في نصيبه. - ولو كان العبد كله لرجل واحد، فأعتق نصفه، أو شيئا معلوما منه، فإنه يعتق بقدره، وله الخيار في الباقي بين أن يعتق أو يدبر أو يكاتب أو يستسعي، ويكون الولاء كله له إذا أعتق بالاعتاق أو بالسعاية. وعندهما: يعتق كله، وليس له أن يستسعيه. - وكذا لو أعتق نصيبه بإذن شريكه، فللشريك أن يستسعي، وليس له حق التضمين، لأنه سقط بالاذن، وهذا قول أبي حنيفة. وعندهما: يسقط الضمان، وليس له حق الاستسعاء. - وكذلك لو أعتق نصيب شريكه بإذنه: يعتق عند أبي حنيفة، وليس أن يضمن شريكه الذي يقع الاعتاق من جهته، لأنه راض بفساد نصيب نفسه، بالاقدام على إعتاق نصيب شريكه، وله أن يستسعي العبد. وعلى قولهما: ليس له أن يستسعي، وقيل إن على قولهما: ينبغي أن يكون له حق التضمين، لأنه ضمان تملك. ولو أعتق نصيب شريكه، بغير إذنه لا ينفذ عتقه، لأنه أضاف عتقه إلى ما ليس بمملوك له، فلا ينفذ، ويتوقف على إجازته. ثم تفسير اليسار الذي يتعلق به وجوب الضمان هو أن يكون المعتق
262 مالكا لمقدار قيمة ما بقي من العبد، قلت أو كثرت. وتفسير الاعسار أن لا يقدر على هذا. ثم إنما تعتبر القيمة في الضمان والسعاية، يوم الاعتاق، لأنه سبب الضمان. وكذا يعتبر حال المعتق في يساره وإعساره يوم الاعتاق، حتى إذا كان موسرا يثبت للشريك حق التضمين، فإذا أعسر المعتق لا يبطل حق التضمين، وإن كان معسرا حتى يثبت حق الاستسعاء للشريك ثم إذا أيسر المعتق ليس للشريك حق التضمين. ولو اختلفا في قيمة العبد لا يخلو إما إن كان العبد قائما أو هالكا فإن كان قائما، إن كانت الخصومة وقعت في حال الاعتاق، تعتبر قيمة العبد، للحال، ويحكم عليه بذلك، ويسقط اعتبار البينة والتحالف. وإن اتفقا أن الاعتاق سابق على حال الخصومة فلا يمكن الرجوع إلى قيمة العبد، للحال، لان قيمة العبد قد تزيد وتنقص في هذه المدة، ويكون القول قول المعتق، لأنه ينكر الزيادة. وإن كان العبد هالكا فالقول قول المعتق، لانكاره الزيادة. وإن اختلفا في حال المعتق من اليسار والاعسار، والعتق متقدم على حال الخصومة إن كانت مدة يختلف فيها اليسار والاعسار فالقول قول المعتق، لأنه ينكر اليسار، وإن كان لا يختلف يعتبر الحال. والفصل الثاني إذا قال لعبديه: أحدكما حر، أو قال: هذا حر أو هذا حر، أو سماهما فقال: سالم حر أو بزيع حر فالمولى بالخيار بين أن يعين العتق
263 في أيهما شاء. وكذلك في إعتاق إحدى أمتيه، فإنه أثبت العتق في أحدهما فهو المبهم فكان البيان إليه. فإذا خاصمه العبدان إلى الحاكم أجبره الحاكم على أن يعين أحدهما، لأنه تعلق به حق العتق لأحدهما. فإن لم يخاصما عند الحاكم واختار إيقاع العتق على أحدهما وقع العتق عليه حين اختار عتقه وهما قبل ذلك بمنزلة العبدين، ما دام خيار المولى قائما فيهما. فأما إذا انقطع خيار المولى، وأحدهما في ملكه تعين للعتق بأن مات أحد العبدين. وإذا مات المولى يعتق من كل واحد منهما نصفه، لان الخيار فات بموت المولى، ولا يعرف الحر من العبد، فيشيع فيهما. فإن أخرج المولى أحدهما عن ملكه بوجه من الوجوه، بأن باعه أو رهنه أو آجره أو كاتبه أو دبره، أو كانتا أمتين فاستولد إحداهما، أو باع أحدهما على أنه بالخيار، أو على أن المشتري بالخيار، أو باع أحدهما بيعا فاسدا وقبضه المشتري، أو حلف على أحدهما بالاعتاق إن فعل شيئا فذلك كله اختيار لايقاع العتق في الآخر، لان المخير بين الشيئين إذا فعل ما يستدل به على الاختيار، قام مقام قوله اخترت وفي هذه المواضع وجد ما يستدل به على الاختيار، لأنه إما أن يزيل الملك، أو هو سبب لانشاء زوال الملك أو العتق، أو تصرف لا يجوز إلا بالملك. فأما إذا وطئ إحدى أمتيه التي أبهم العتق فيهما لا يكون اختيارا للعتق عند أبي حنيفة رحمه الله إلا أن تعلق منه، وعندهما يكون اختيارا. وكذلك الخلاف إذا لمسها لشهوة. وأجمعوا أنه لو استخدم إحداهما لا يكون بيانا والمسألة معروفة.
264 والفصل الثالث، إعتاق الحمل والأصل فيه أن الحمل يعتق بإعتاق الام تبعا، ويعتق بإضافة العتق إليه مقصودا أيضا، لأنه أصل من وجه، تبع من وجه. إذا ثبت هذا نقول: - إذا قال لامته: ما في بطنك حر فجاءت بولد لأقل من ستة أشهر، منذ قال ذلك يعتق، وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر منذ قال ذلك لم يعتق، لأنا تيقنا بالعلوق في الفصل الأول، ووقع الشك في الثاني، فلا يعتق مع الشك. فإن ولدته ميتا بعد القول، بيوم لم يعتق، لأنا لم نعلم حياته عند الايقاع. فإن كانت الأمة في عدة من زوج عتق الولد إذا ولدته ما بينها وبين السنتين، منذ وجبت العدة، وإن كان لأكثر من ستة أشهر منذ قال المولى، لأنا نحكم بثبوت نسب هذا الولد من الزوج، فلا بد أن يحكم بوجوده قبل الطلاق. والعتاق متأخر عن ذلك. - ولو قال: ما في بطنك حر ثم ضرب رجل بطنها بعد يوم، فألقت جنينا ميتا: ففيه ما في جنين الحرة، عبدا أو أمة، لأنه لما وجب الضمان على الضارب شرعا، فقد حكم بكونه حيا يوم الاعتاق. ولو ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر، والآخر لأكثر منه، بيوم عتقا لأنه تيقنا بعتق الذي ولدت لأقل من ستة أشهر، والآخر يجب أن يكون موجودا وهو حمل واحد، فمتى ثبت حكم الحياة في أحدهما، فكذا في الآخر. - ولو قال لعبده أو لامته: أنت حر إن شئت أو خيرتك في إعتاقك أو جعلت عتقك في يديك فإنه يصح تفويض العتق إلى
265 الرقيق، ويكون الخيار إليه في المجلس، والجواب في العتق في هذا الفصل والطلاق سواء وقد بيناه في كتاب الطلاق. - ولو قال لعبده: أنت حر إن شاء الله فإنه لا يعتق. وما عرفت من الجواب في استثناء الطلاق، فهو الجواب في العتاق وقد ذكرناه في كتاب الطلاق. فصل قال عامة العلماء: إن من ملك ذا رحم محرم منه عتق عليه، صغيرا كان المالك أو كبيرا، صحيح العقل أو مجنونا. وقال مالك وأصحاب الظواهر: لم يعتقوا إلا بإعتاق المالك. وقال الشافعي: لا يعتق بالملك إلا من له ولاد. وأجمعوا أنه لا يعتق من كان له رحم غير محرم للنكاح. وأهل الذمة وأهل الاسلام في ذلك سواء بخلاف النفقة فإنها تختلف في الوالدين والمولودين تجب، وفي غيرهم من الرحم المحرم لا تجب والمسألة معروفة. ولو ملك سهما من الرحم المحرم عتق، بقدر ما ملك، عند أبي حنيفة رحمه الله. وعند أبي يوسف ومحمد وزفر: عتق كله، لان العتق يتجزأ عنده، خلافا لهم. ولو ملك رجلان عبدا، وهو ابن أحدهما أو ذو رحم محرم منه، بعقد عقداه جميعا أو قبلاه جميعا من الشراء والهبة والصدقة لم يضمن من عتق عليه لشريكه شيئا، ويسعى العبد له في نصيبه عند أبي حنيفة. وقال
266 أبو يوسف ومحمد: يضمن الذي عتق عليه نصيبه إن كان موسرا. وأجمعوا أنهما لو ملكاه، بسبب الإرث لم يضمن لشريكه شيئا في قولهم جميعا. وعلى هذا إذا باع رجل نصف عبده من ذي رحم محرم من عبده حتى عتق عليه نصيب المشتري، لم يضمن للبائع شيئا عند أبي حنيفة، خلافا لهما. ويستوي الجواب بين ما إذا لم يعلم أن الشريك أو المشتري قريب العبد، وبين ما إذا علم في جواب ظاهر الرواية. وروى بشر عن أبي يوسف: إن كان الأجنبي يعرف ذلك فإن العبد يعتق، ويسعى للأجنبي في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وإن كان لا يعلم فهو بالخيار إن شاء نقض البيع، وإن شاء أتم عليه. وعلى هذا الخلاف إذا حلف رجل بعتق عبد إذا ملكه ثم اشتراه هو وآخر لا ضمان عليه لشريكه عند أبي حنيفة، وعندهما: له أن يضمن، ذكر الخلاف أبو بكر الرازي، وأبو الحسن الكرخي يقول: لا أعرف الرواية في هذه المسألة. ومن أصحابنا من فرق بين المسألتين وهذه المسألة تعرف في الخلافيات. فصل أصل هذا أن العتق المضاف إلى الملك كالمعلق في الملك عندنا، خلافا للشافعي وهي مسألة معروفة. إذا ثبت هذا نقول: - إذا قال: كل مملوك لي فهو حر فإنه يقع على ما هو مملوكه للحال. - وكذا إذا قال: كل مملوك أملكه فهو حر ولا نية له فهو على
267 مملوك له يوم حلف، ولا يقع على ما يحدث فيه الملك، لان قوله: أملك صار عبارة عن الحال، باعتبار العرف، فإن من قال: أشهد أن لا إله إلا الله يكون مسلما. وحكم المسألة أن كل من كان من ملكه من ذكر أو أنثى، قن أو مدبر ومدبرة، أو أم ولد وأولادها إنه يعتق من غير نية لأنه مملوكه. فأما المكاتب: فلا يعتق بالنية، لأنه غير مضاف إليه مطلقا. ويدخل العبد المرهون، والعبد المستأجر، والعبد الذي عليه دين مستغرق. فأما عبيد عبده المأذون فإذا لم يكن على العبد المأذون دين فلا يدخلون عند أبي حنيفة وأبي يوسف، إلا بالنية، لأنهم لا يضافون إلى المولى مطلقا. وقال محمد يعتقون، لأنهم ملكه على الحقيقة. وإن كان على المأذون دين مستغرق لم يعتق عند أبي حنيفة، وإن نواهم لأنه لا يملك أكسابه عنده. وقال أبو يوسف: إن نواهم، عتقوا، لأنهم ملكه، لكن لا يضافون إليه مطلقا. وقال محمد: يعتقون بلا نية، لأنهم ملكه، والمعتبر عنده الملك، دون الإضافة. ولا يدخل في هذا الكلام الحمل نحو أن يكون موصى له بالحمل. وكذلك لو قال: إن اشتريت مملوكين فهما حران فاشترى أمة حاملا لم يعتقا. - وكذلك لو قال لامته: كل مملوك لي حر لم يعتق حملها، لأنه لا يسمى مملوكا على الاطلاق، فإن كانت الأمة في ملكه يعتق الام والولد جميعا، لكن الولد يعتق بحكم التبعية، لا بحكم اليمين. فإن عنى به الذكور دون الإناث لم يدين في القضاء، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى،
268 لأنه نوى تخصيص كلامه. - ولو نوى في قوله: كل مملوك أملكه الاستقبال دون الحال، فإنه يقع على ما في ملكه، وما يملك في المستقبل جميعا، لان اللفظ ظاهره في العرف للحال، فلا يصدق في صرف الكلام عنه، ويقع العتق على ما سيملكه، بإقراره بالعتق فيما هو ملكه في المستقبل. - ولو قال: كل مملوك أملكه اليوم وله مملوك، فاستفاد في ذلك اليوم مماليك عتق الكل. - وكذلك إذا قال: هذا الشهر وهذه السنة، لان التوقيت دلالة على اشتمال اليمين على من يملكه في المدة، فعتقوا جميعا. فإن قال: عنيت أحد الصنفين دون الآخر دين فيما بينه وبين الله تعالى، دون القضاء، لأنه ادعى تخصيص العموم. - ولو قال: كل مملوك أملكه الساعة فهو حر فهذا على ما ملكه تلك الساعة، دون غيرها، ولا يعتق ما يستفيد الملك فيه في ساعته تلك، لان المراد بقوله الساعة هو الحال في العرف، دون الساعة التي عند المنجمين، فكان المراد به ما كان في ملكه في الحال التي حلف. فإن قال: أردت من أستفيد الملك فيه في هذه الساعة فقد نوى ما يحتمله كلامه، وهو الساعة الزمانية، وفيه تشديد على نفسه، فيصدق في دخوله ذلك في يمينه، ولا يصدق في صرف العتق عمن كان في ملكه. - ولو قال: كل مملوك أملكه غدا فهو حر ولا نية له قال محمد رحمه الله في الجامع: إنه يدخل فيه من كان ملكه في اليوم ودام إلى الغد، ومن استفاد ملكه في الغد أيضا، وهو قول محمد، واعتبر جانب الحال كأنه قال: كل مملوك أنا مالكه غدا فهو حر. وقال أبو يوسف رحمه الله: يعتق ما يملكه في الغد، دون ما جاء الغد وهو في ملكه، واعتبر
269 جانب الاستقبال، لوجود الإضافة إلى زمان مستقبل. - وعلى هذا الخلاف إذا قال: كل مملوك أملكه رأس الشهر. - وأجمعوا أنه إذا قال: كل مملوك أملكه إذا جاء غد فهو حر أنه على ما هو في ملكه غدا، لان مجئ الغد شرط، ومن أضاف العتق إلى شرط، يدخل في العتق ما كان مملوكه يوم الحلف دون ما يستفيده. - ولو قال: كل مملوك أملكه إلى سنة أو إلى ثلاثين سنة: فإنه يقع على ما يستقبل، بلا خلاف، وأولها من حين حلف بعد سكوته، لأنه خاص للاستقبال، بدلالة العادة. - وكذلك لو قال: كل مملوك أملكه ثلاثين سنة أو أملكه سنة أو أملكه أبدا أو إلى أن أموت فإنه يدخل فيه ما استأنف فيه الملك، دون ما كان في ملكه. فإن قال: أردت بقولي أملكه سنة أن يكون في ملكي سنة من يوم حلفت دين فيما بينه وبين الله تعالى، ولم يدين في القضاء، لأن الظاهر أن هذا الكلام يراد به الاستقبال، فلا يصدق على خلاف الظاهر في القضاء. - ولو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، فباعه، فدخل الدار، ثم اشتراه، فدخل الدار ثانيا: لم يعتق، وإن لم يدخل الدار بعد البيع عتق، لان بالبيع لا يزول اليمين، لان بقاء الملك ليس بشرط لبقاء اليمين، فإذا بقيت اليمين فإذا اشتراه ودخل، فوجد الشرط، والعبد في ملكه، فعتق. فأما إذا دخل بعد البيع ينحل اليمين، لا إلى جزاء لوجود شرط الحنث، فإذا دخل بعد ما ملكه ثانيا، فقد وجد الشرط، ولا يمين، فلا يثبت به العتق. - ولو قال لعبده: إن دخلت هاتين الدارين فأنت حر، فباعه فدخل إحداهما ثم اشتراه، فدخل الأخرى عتق، لان العتق معلق
270 بدخول الدارين، فإنما ينزل عند دخول الأخرى، فيشترط قيام الملك، عنده، لأنه حال نزول الجزاء، والملك كان موجودا عند اليمين، وحال دخول الدار الأولى ليست حال انعقاد اليمين ولا حال نزول الجزاء، فلا يشترط فيه الملك.
271 باب أم الولد يحتاج في الباب إلى تفسير الاستيلاد، وإلى بيان حكم أم الولد. أما الأول فنقول: أم الولد كل مملوكة ثبت نسب ولدها من مالك لها أو من مالك لبعضها فإن المملوكة إذا جاءت بولد، وادعاه المالك، يثبت نسبه، وتصير الجارية أم ولد له. وإذا كانت مشتركة، فجاءت بولد، فادعاه أحدهما يثبت النسب منه، وتصير الجارية كلها أم ولد له، ويضمن قيمة نصيب شريكه، ويضمن نصف العقر، ويكون الولد حرا. فإن ادعاه الآخر، يثبت النسب منهما، جميعا، وتصير الجارية أم ولد لهما. وكذلك لو ثبت نسب ولد مملوكة، من غير سيدها بنكاح أو وطئ شبهة ثم ملكها، فهي أم ولد له، من حين ملكها لا من وقت العلوق، وهذا عندنا. وعند الشافعي: لا تصير الجارية أم ولد له. وأجمعوا أنه إذا ملك الولد يعتق عليه وهي من مسائل الخلاف. ثم الولد، سواء كان ميتا أو حيا، أو سقطا قد استبان خلقه أو بعض خلقه، إذا أقر به، فهو بمنزلة الولد الكامل الحي، في صيرورة الجارية أم ولد له، لان الولد الميت يسمى ولدا له، وتعلق به أحكام كثيرة.
273 وإن لم يستبن خلقه، وادعاه المولى لا تكون أم ولد له، لان هذا لا يسمى ولدا، ويجوز أن يكون لحما أو دما عبيطا (1). وروي عن أبي يوسف أن المولى إذا قال: حمل هذه الجارية مني أو هي حبلى مني أو ما في بطنها من ولد فهو مني ثبت النسب، وتصير أم ولد له. ولو قال هكذا، ثم قال بعد ذلك: لم تكن حاملا وإنما كان ريحا. فصدقته الأمة فهي أم ولد له، لان هذا إقرار بكون الولد منه، فلا يصح رجوعه، ولا يعتبر تصديقها في حق الولد. وأما حكم أم الولد فنقول: إنه لا يجوز إخراجها عن ملكه بوجه من الوجوه. ولا يجوز فيها تصرف يفضي إلى بطلان حقها في حق الحرية. ويجوز إعتاقها وتدبيرها وكتابتها لما فيه من إيصال حقها إليها معجلا. ويجوز استخدامها ووطؤها وإجارتها لأنها باقية على ملكه. وهذا قول عامة العلماء، خلافا لأصحاب الظواهر. وإذا جاءت أم الولد بولد، فإنه يثبت نسبه من غير دعوة، لأنها صارت فراشا للمولى، إلا أنه ينتفي بمجرد النفي، بخلاف فراش النكاح فإنه لا ينتفي إلا باللعان. وإذا زوج أم الولد، فجاءت بولد لستة أشهر فصاعدا، فهو ابن الزوج، لان فراش المولى زال بالتزويج. فإن ادعى المولى نسب هذا الولد لم يثبت نسبه منه، لان الفراش الظاهر لغيره، ولكن يعتق عليه، لأنه أقر به على نفسه، وهو محتمل.
(1) الدم العبيط هو الدم الطري. 274 ويستوي الجواب بين ما إذا كان النكاح فاسدا ووطئها الزوج، أو جائزا، لأن المرأة تصير فراشا بالنكاح الفاسد. ولو زال ملك المولى عنها بموته حقيقة أو حكما بالردة للحوق بدار الحرب، وهي حية يعتق من جميع المال، ولا تسعى للوارث ولا للغريم، بخلاف المدبر فإنه يعتق من الثلث. ويجب على أم الولد بعد الموت أن تعتد بثلاثة أقراء. وكذلك لو أعتقها في حال الحياة على ما مر. وحكم ولد أم الولد حكم الام، لأنه تابع للام حالة الولادة. ثم أم الولد لا تضمن عند أبي حنيفة بالغصب، ولا بالقبض في البيع الفاسد، ولا بالاعتاق بأن كانت أم ولد بين رجلين، فأعتقها أحدهما لم يضمن المعتق لشريكه، ولم تسع أيضا في شئ. وقال أبو يوسف ومحمد: يضمن في ذلك كله، كالمدبرة والأمة ولقب المسألة أن أم الولد غير متقومة من حيث إنها مال عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما. وأجمعوا أن المدبر متقوم. وروي عن محمد في الاملاء أنه قال: إن أم الولد تضمن في الغصب عند أبي حنيفة بما يضمن به الصبي الحر إذا غصب أراد بهذا أنها إذا ماتت من سبب حادث من جهة الغاصب، بأن ذهب بها إلى طريق فيه سباع فأتلفها ونحو ذلك. وأجمعوا أنها تضمن بالقتل، لان دمها متقوم، وضمان القتل ضمان دم، وهي من مسائل الخلاف والله أعلم.
275 باب المدبر في الباب فصلان: بيان المدبر، وبيان حكمه. أما الأول فنقول: المدبر نوعان: مطلق، ومقيد. فالمطلق من تعلق عتقه بموت المولى مطلقا، من غير قيد الموت بصفة ولا بشرط آخر سوى الموت. والمقيد نوعان: أحدهما: أن يكون عتقه معلقا بموت موصوف بصفة، بأن قال: إن مت من مرضي هذا أو من سفري هذا. والثاني: أن يكون عتقه معلقا بموته وبشرط آخر سواه. ثم التدبير المطلق له ثلاثة أنواع من الألفاظ: أحدها: صريح اللفظ مثل أن يقول: دبرتك أو أنت مدبر. وروى هشام عن محمد رحمة الله عليهما: إذا قال لعبده: أنت مدبر بعد موتي فإنه يصير مدبرا للحال، لان المدبر اسم لمن يعتق عليه عن دبر موته، فقوله: أنت مدبر بعد موتي وأنت حر بعد موتي سواء. وكذلك إذا قال: أعتقتك بعد موتي أو أنت حر بعد موتي، أو أنت حر عن دبر موتي.
277 والثاني: بلفظة اليمين: بأن قال: إن مت فأنت حر أو إن حدث لي حدث فأنت حر، ونحو ذلك. والثالث: لفظة الوصية بأن قال: أوصيت لك برقبتك أو أوصي له بثلث ماله فيدخل فيه رقبته أو بعض رقبته، لان الايصاء للعبد برقبته إزالة ملكه عن رقبته، لأنه لا يثبت له الملك في رقبته فبيع نفس العبد منه إعتاق، فيصير كأنه قال: أنت حر بعد موتي. وأما حكم المدبر المطلق فنقول: إنه يعتق في آخر جزء من أجزاء حياته إن كان يخرج من الثلث، وإن لم يخرج يعتق ثلثه، ويسعى في ثلثيه. وكذلك الجواب في المدبر المقيد إنه يعتق من الثلث. وأما حكمه في حالة الحياة فإنه يثبت له حق الحرية، أو الحرية من وجه، فلا يجوز إخراجه عن ملكه إلا بالاعتاق أو بالكتابة، ولا يجوز فيه تصرف يبطل حقه، أما ما لا يبطل حقه فيجوز. ولهذا لا يجوز رهن المدبر، لان فيه نقل الملك في حق الحبس. ولو زوج المدبرة جاز. وكذلك لو أجره، لان هذا تصرف في المنفعة. وكذا أكساب المدبر، والمدبرة، ومهرها، وأرشها، للمولى، لان المدبر باق على ملكه. وولد المدبر المطلق حكمه حكم أمه يعتق بموت المولى. وهذا كله مذهبنا، وقال الشافعي: يجوز بيع المدبر المطلق والمسألة معروفة.
278 وأما حكم المدبر المقيد فنقول: في حال الحياة إنه لا يكون مدبرا حقيقة، للحال، حتى يجوز جميع التصرفات فيه. وأما حكمه بعد الموت فالذي علق عتقه بموت موصوف بصفة بأنه قال: إن مت من مرضي هذا أو إن مت من سفري هذا أو إن قتلت أو غرقت فإنه إذا مات من غير ذلك الوجه لا يعتق، لأنه لم يوجد الشرط، وهو الموت بصفة. وإن مات من مرضه أو سفره فإنه يعتق في آخر جزء من أجزاء حياته، ولا يحتاج إلى إعتاق الورثة، لأنه لم يتأخر عتقه عن الموت. فأما إذا أخر عتقه عن الموت، بأن قال: أنت حر بعد موتي بساعة أو بيوم أو بشهر ونحوه فإنه لا يعتق بالموت، لأنه أخر عتقه عن الموت إلى وقت، فيكون مضافا إلى الوقت، فإذا جاء الوقت لا يعتق، ولكن يعتقه الوصي أو الوارث أو القاضي، لان هذا وصية بالاعتاق، لان الميت لا يكون من أهل الاعتاق. وكذلك الجواب في المدبر الذي علق بموته وبشرط آخر بأن قال: أنت حر بعد موتي وموت فلان أو إن مت أنا وفلان فأنت حر أو قال: إن مت ودخلت الدار أو إن كلمت فلانا فأنت حر بعد موتي فإن وجد الشرط قبل الموت، بأن مات فلان أو كلم فلانا صار مدبرا مطلقا، لأنه بقي عتقه معلقا بالموت، لا غير. وأما إذا مات هو أولا ثم مات فلان فإنه لا يعتق. وكذلك إذا مات ثم دخل العبد الدار فإنه لا يعتق، لأنه لم يوجد الشرطان. وأما إذا وجد موت فلان أو دخول الدار، فكذلك، لان المولى خرج
279 من أن يكون من أهل الاعتاق بالموت، ولكن يجعل هذا وصية بالاعتاق، فينبغي للوصي أن يعتقه. وما عرفت من الجواب في الموت الحقيقي، فهو الجواب في الموت الحكمي، وذلك نحو أن يرتد المولى، ويلحق بدار الحرب، ويقضي القاضي بلحاقه، لان المرتد حكمه حكم الميت في الأحكام، والله أعلم.
280 باب الكتابة يحتاج في الباب إلى: تفسير الكتابة، وإلى بيان حكمها. أما الأول فنقول: الكتابة عقد مشروع، مندوب إليه، لأنه سبب العتق: قال الله تعالى: * (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) * (1). ثم الكتابة نوعان: حالة ومؤجلة. أما الكتابة الحالة فجائزة عندنا وعند الشافعي: لا تجوز، على عكس السلم فالسلم الحال لا يجوز عندنا، وعند الشافعي: السلم الحال جائز. وأما الكتابة المؤجلة فجائزة، بلا خلاف. وتفسيرها أن يقول الرجل لعبده: كاتبتك على ألف درهم على أن تؤدي إلي كل شهر كذا على أنك إذا أديت فأنت حر. وكذلك إذا قال: إذا أديت إلي ألف درهم كل شهر منه كذا فأنت حر وقبل العبد فإنه يكون كتابة، لان معنى الكتابة ليس إلا الاعتاق على مال مؤجل منجم بنجوم معلومة ولكن إنما يجوز إذا قبل بدل الكتابة، لأنه عقد معاوضة، فلا بد من الايجاب والقبول.
(1) سورة النور: الآية 33. 281 وكذلك لو قال: كاتبتك على ألف درهم ونجمه، وسمى النجوم، وقبل العبد فإنه يكون كتابة، وإن لم يعلق العتق بالأداء، ولم يقل: على أنك إن أديت إلي ألفا فأنت حر، لأنه عقد معاوضة، فيعتق بحكم المعاوضة، لا بحكم الشرط. وعلى قول الشافعي: لا بد من ذكر التعليق بشرط الأداء. ولهذا إنه لو أبرأ المكاتب عن بدل الكتابة يعتق، ولو كان معلقا بالأداء لا يعتق، بدون الشرط. وأما حكم الكتابة فنقول: أما حكمها قبل أداء الكتابة: فأن يكون أحق بمنافعه ومكاسبه، ويبقى على ملك المولى حتى لو أعتق عن كفارة يمينه، جاز عندنا خلافا للشافعي وهي مسألة كتاب الايمان. وأجمعوا أنه لو أدي بعض بدل الكتابة، فأعتقه عن الكفارة لا يجوز، لأنه يصير في معنى الاعتاق على عوض من وجه. ولو أراد المولى أن يمنعه من الكسب ليس له ذلك، لان الكسب حق المكاتب. ولو تزوج لا يجوز، لأنه ليس من باب الكسب، وفيه ضرر بالمولى بلزوم المهر في رقبته. ولا يجوز فيه تصرف يفضي إلى إبطال حق المكاتب، من البيع والشراء والإجارة والرهن ونحوها فلا يجوز فيه إلا الاعتاق، والتدبير، لان فيه منفعة له. ثم عقد الكتابة لازم في حق المولى، حتى لا يملك فسخه إلا برضا
282 المكاتب، وغير لازم في حق المكاتب حتى أن له أن يعجز نفسه، فيفسخ عقد الكتابة بدون رضى المولى، إلا أنه إذا أخل بنجم فلم يؤد وعجز عنه، للمولى أن يفسخ العقد، وروي عن أبي يوسف أنه لا يفسخ، ما لم يخل بنجمين لأنه لو لم يثبت حق الفسخ عند الامتناع عن الأداء، يتضرر به المولى. فأما حكم الأداء: فإنه إذا أدى البدل بتمامه يثبت العتق، لأنه عقد معاوضة، فمتى سلم البدل يسلم المبدل، ويكون أكسابه وأولاده سالمة له، فيعتق أولاده بعتقه. وكذلك إذا أبرأه المولى عن البدل، لأنه حق المولى، فيقدر على إسقاطه عنه، كما في سائر الديون. وإذا مات الكاتب: فإن مات عاجزا فإنه ينفسخ عقد الكتابة، لأنه لا فائدة في بقائه. فأما إذا مات عن وفاء فإنه يؤدي بدل كتابته من تركته، فيأخذ المولى، فيعتق عن آخر جزء من أجزاء حياته فيعتق أولاده، وما فضل من التركة، يكون ميراثا لورثته الأحرار. وكذلك إذا لم يترك وفاء، ولكن ترك ولدا مولودا في الكتابة، فإن الولد يقوم مقامه في أداء البدل، لكونه مكاتبا تبعا له، فإذا عجز الأصل قام التبع مقامه، وإذا أدى يعتق المكاتب وولده. وبين الفصلين فرق في حق بعض الأحكام على ما يعرف في الزيادات إن شاء الله تعالى. ولو قال لعبده: إذا أديت إلي ألف درهم فأنت حر أو إذا أديت إلي قيمتك فأنت حر فأداه، يعتق، لان العتق معلق بالأداء، فإذن
283 وجد شرطه قال الكرخي: ولا يكون هذا كتابة، وإن كان فيه معنى الكتابة من وجه، حتى أن العبد إذا جاء بالبدل، فإنه يجبر على قبوله، أي يصير المولى قابضا له كما في الكتابة. وبيان التفرقة بينهما في مسائل: - فإنه إذا مات العبد ههنا قبل الأداء، وترك مالا، فالمال كله للمولى، ولا يؤدي عن، فيعتق، بخلاف الكتابة. - وكذا لو مات المولى، وفي يد العبد كسب، فالعبد رقيق يورث عنه مع أكسابه، بخلاف الكتابة. ولو كانت هذه أمة، فولدت ثم أدت لم يعتق ولدها، بخلاف المكاتبة إذا ولدت ثم أدت، فعتقت يعتق ولدها. - ولو قال العبد للمولى: حط عني مائة فحط المولي عنه، فأدى تسعمائة فإنه لا يعتق بخلاف الكتابة. - ولو أبرأ المولى العبد عن الألف لم يعتق. ولو أبرأ المكاتب عن بدل الكتابة يعتق. - ولو باع هذا العبد ثم اشتراه وأدى إليه يجبر على القبول عند أبي يوسف. وقال محمد في الزيادات: لا يجبر على قبولها، فإن قبلها عتق. وكذلك لو رد إليه، بخيار أو بعيب. ولو باع المكاتب لا يجوز إلا برضاه، ومتى رضي ينفسخ الكتابة. وذكر في الأصل: إذا قال لعبده: إن أديت إلي ألفا فأنت حر فإن ذلك على المجلس، لان العتق معلق باختيار العبد، فكأنه قال: أنت حر إن شئت. وروي عن أبي يوسف أنه لا يقف على المجلس، لان
284 العتق معلق بالشرط، فلا يقف على المجلس، كقوله: إن دخلت الدار. وأما الاعتاق على مال فهو خلاف الكتابة، وخلاف تعليق العتق بالأداء، فإنه إذا قال لعبده: أنت حر على ألف درهم فقبل العبد، فإنه يعتق من ساعته، ويكون البدل واجبا في ذمته، لأنه أعتقه بعوض، فمتى قبل يزول العوض عن صاحبه كما في البيع. وكذا إذا قال لعبده: أنت حر على قيمة رقبتك، فقبل ذلك: فإنه يعتق. وكذا لو أع تقه على مكيل أو موزون، موصوف في الذمة، معلوم الجنس يجوز، فإن هذا يصلح عوضا في البيع. ولو أعتق على عوض بعينه، وهو ملك غيره فإنه يعتق فإن أجاز المالك يستحق عينه، وإن لم يجز يجب على العبد قيمة رقبته. وكذلك لو أعتق على عوض، بغير عينه، معلوم الجنس جاز فإن كان موصوفا فعليه تسليمه، وإن لم يكن موصوفا فعليه الوسط من ذلك، فإن جاء بالقيمة أجبر المولى على القبول كما في المهر. ولو أعتقه المولى على مجهول الجنس بأن قال: أنت حر على ثوب يعتق، ويلزمه قيمة نفسه، لان جهالة الجنس تمنع صحة البدل، كما في المهر. فلو أدى إليه العوض، فاستحق من يد المولي فإن كان بغير عينه في العقد فعلى العبد مثله، لأنه لم يعجز عن الذي هو موجب العقد. وإن كان عينا في العقد، وهو عوض أو حيوان فإنه يرجع على العبد بقيمة نفسه عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يرجع بقيمة المستحق.
285 وعلى هذا الخلاف إذا باع نفس العبد منه، بجارية، ثم استحقت الجارية أو هلكت، قبل التسليم فعندهما يرجع بقيمة العبد، وعنده يرجع بقيمة الجارية، وهي مذكورة في الخلافيات.
286 باب ولاء العتاقة الولاء يثبت للمعتق بالاعتاق شرعا، دون المعتق. وأصله ما روي أن رجلا سأل النبي عليه السلام فقال: إني اشتريت عبدا فأعتقه فقال عليه السلام: إن شكرك فهو خير له وشر لك، وإن كفرك فهو شر له وخير لك. هو أخوك ومولاك، وإن مات ولم يترك وارثا كنت أنت عصبته. ثم الولاء يثبت به الإرث، والعقل، وولاية النكاح قال عليه السلام: الولاء لحمة كلحمة النسب: لا يباع، ولا يوهب، ولا يورث. ثم الولاء كما يثبت بحقيقة الاعتاق، يثبت أيضا بحق العتق، فإن ولاء المدبر يثبت بالتدبير لمدبره، ولا ينتقل عنه، وإن عتق من جهة غيره، لان الولاء قد ثبت بحق الحرية للمدبر، والولاء لا يحتمل الفسخ، ولا يتحول عنه. وصورة المسألة أن مدبرة بين شريكين جاءت بولد، فادعاه أحدهما، ثبت نسبه منه، وعتق عليه، وغرم نصيب شريكه منه، والولاء بينهما. وكذلك مدبر بين شريكين أعتقه أحدهما وهو موسر فضمن، عتق بالضمان، ولم يتغير الولاء عن الشركة عند أبي حنيفة، وعندهما إذا أعتق أحدهما نصيبه، عتق جميعه، والولاء بينهما.
287 ثم الولاء يثبت لكل معتق، بأي وجه حصل العتق، سواء كان المعتق رجلا أو امرأة، مسلما أو كافرا، إلا أن الكافر لا يرث المسلم لكفره، حتى لو أسلم يرث بالولاء الذي يثبت له بالاعتاق. قال عليه السلام: ليس للنساء من الولاء إلا ما أعتقن أو أعتق من أعتقن (الحديث). لكن المعتق يرث بالولاء بطريق التعصيب، وهو آخر العصبات عند عامة الصحابة، وهو قول عامة العلماء فإن لم يكن سواه، وارث فالكل له، وإن كان معه أصحاب الفرائض يعطي أصحاب الفرائض فرائضهم، والباقي له. وقال ابن مسعود: هو آخر ذوي الأرحام، حتى إذا لم يكن للمعتق أحد من الأقرباء يكون له. وإذا مات المعتق فإنه لا يورث الولاء، حتى يكون لأصحاب الفرائض فرائضهم والباقي للعصبة لما روينا أنه لا يورث، ولكن يكون الولاء للذكور من عصبة المعتق الأقرب فالأقرب على ما يعرف في كتاب الفرائض.
288 باب ولاء الموالاة الأصل في شرعية عقد الموالاة قوله تعالى: * (والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم) * (1). وتفسير عقد الموالاة أن من أسلم على يدي رجل وقال له: أنت مولاي ترثني إذا مت، وتعقل عني إذا جنيت وقال الآخر: قبلت فينعقد بينهما عقد الموالاة. وكذا إذا قال: واليتك، وقال الآخر: قبلت. وكذلك إذا عقد مع رجل غير الذي أسلم على يديه. وكذلك اللقيط إذا عقد مع غيره عقد موالاة. وشرط صحة عقد الموالاة أن لا يكون للعاقد وارث مسلم. وإذا انعقد عقد الموالاة، يصير مولى له حتى لو مات ولم يترك وارثا، يكون ميراثه لمولاه، ولو جنى يكون عقله عليه، ويلي عليه في الجملة. وللمولى الأسفل أن يتحول بولائه إلى غيره ما لم يعقل المولي الاعلى عنه، فإذا عقل عنه لا يقدر أن يتحول بالولاء إلى غيره، وصار العقد لازما، إلا إذا اتفقا على النقض.
(1) سورة البقرة: الآية 33. 289 ولو أراد أحدهما نقض الموالاة، بغير محضر من صاحبه لم ينتقض. ولو كان رجلان ليس لهما وارث مسلم، وهما مسلمان في دار الاسلام فوالى أحدهما صاحبه ثم والاه الآخر: فعند أبي حنيفة يصير الثاني مولى للأول ويبطل ولاء الأول، وعندهما: كل واحد منهما مولى لصاحبه. فهما يقولان إن الجمع بين الولائين ممكن، فإنه يجوز أن يكون شخصان كل واحد منهما يرث من صاحبه ويعقل عنه، كالأخوين وابني العم، فلا يتضمن صحة أحدهما انتقاض الآخر، بل يثبتان جميعا وأبو حنيفة يقول: إن المولى الأسفل تابع للمولى الاعلى، وهو فوقه، كالمعتق تابع للمعتق، ولهذا يلي الاعلى على الأسفل ويعقل عنه، ولا يجوز أن يكون التبع متبوعا لمتبوعه، والمتبوع تبعا لتبعه، وإذا لم يجز الجمع بينهما فيتضمن صحة الثاني انتقاض الأول. ثم مولى الموالاة آخر الورثة حتى إذا لم يكن للميت أحد من الورثة، قريب أو بعيد، يرث، وإلا فلا وهذا عندنا. وقال الشافعي: إنه لا يورث بولاء الموالاة، ويكون ماله لبيت المال، وعلى هذا الخلاف: لو أوصى بجميع ماله لانسان، ولا وارث له يصح عندنا وعند الشافعي: لا يصح، وهي مسألة كتاب الفرائض.
290 كتاب الايمان ذكر محمد في الأصل وقال: الايمان ثلاثة يمين تكفر، ويمين لا تكفر، ويمين نرجو أن لا يؤاخذ الله تعالى بها صاحبها. أما اليمين التي تكفر فهي اليمين على أمر في المستقبل. وهي أنواع، إما أن يعقد على ما هو متصور الوجود عادة، أو على ما هو مستحيل غير متصور الوجود أصلا، أو على ما هو متصور الوجود في نفسه لكن لا يوجد على مجرى العادة وهذه الجملة قد تكون في الاثبات وقد تكون في النفي، وتكون مطلقة وموقوتة. أما النوع الأول: فإن كان في الاثبات مطلقا بأن قال: والله لآكلن هذا الرغيف أو لآتين البصرة فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين، فهو على يمينه، لتصور البر، وهو الفعل مرة في العمر، فإذا هلك أحدهما صار تاركا للبر، فيحنث في يمينه. وإن كان في موضع النفي مطلقا بأن قال: والله لا آكل هذا الرغيف أو لا أدخل هذه الدار فإن فعل مرة حنث، لأنه فات البر. وإذا هلك الحالف أو المحلوف عليه قبل الفعل لا يحنث، لان شرط بره هو
291 الامتناع عن الفعل، ولا يتصور ذلك الفعل بعد هلاك الحالف أو هلاك المحلوف عليه. وأما الموقتة صريحا في الاثبات، كقوله: والله لآكلن هذا الرغيف اليوم فإن مضى اليوم، والحالف والمحلوف عليه قائمان، يحنث في يمينه، لأنه فات البر، لفوات وقته المعين. أما إذا هلك أحدهما في اليوم فإن هلك الحالف قبل مضي اليوم: لا يحنث بالاجماع. وإن هلك المحلوف عليه وهو الرغيف قبل مضي اليوم أجمعوا أنه لا يحنث في الحال ما لم يمض اليوم، ولا تجب الكفارة، حتى لو عجل الكفارة لا يجوز. واختلفوا فيما إذا مضى اليوم قال أبو حنيفة ومحمد: لا يحنث في يمينه. وقال أبو يوسف: يحنث وتجب الكفارة. وعلى هذا الخلاف إذا قال: والله لأقضين دين فلان غدا، فقضاه اليوم، أو أبرأه صاحب الدين، اليوم ثم جاء الغد. وكذلك على هذا في اليمين بالطلاق والعتاق، بأن قال: إن لم أشرب هذا الماء اليوم فامرأته طالق أو عبده حر ثم أهريق الماء قبل مضي اليوم لا يحنث عندهما، حتى لا يقع الطلاق والعتاق عند مضي اليوم، وعنده يحنث عند مضي اليوم. وحاصل الخلاف أن تصور البر شرط لانعقاد اليمين عندهما، وعند أبي يوسف: ليس بشرط، إنما الشرط أن يكون اليمين على أمر في المستقبل على ما نذكر، فلما كان تصور البر شرطا عندهما لانعقاد اليمين، فيكون شرطا لبقائها، فإذا هلك المحلوف عليه، خرج البر من أن يكون متصورا، فتبطل اليمين، فإذا مضى الوقت، فوجد شرط الحنث، ولا يمين، فلا يحنث، كما إذا هلك الحالف، وعنده لما لم يكن تصور البر
292 شرط الانعقاد، لا يكون شرط البقاء، فتكون باقية، فوجد الحنث في آخر اليوم، والحالف من أهل وجوب الكفارة، فيلزمه بخلاف ما إذا مات الحالف، لأنه وجد شرط الحنث، لكن الحالف ليس من أهل وجوب الكفارة بعد الموت فلا يجب. وأما إذا حلف على النفي بأن قال: والله لا آكل هذا الرغيف اليوم فإن مضى اليوم قبل الاكل، بر في يمينه، لأنه وجد ترك الأكل في اليوم كله. وإن هلك الحالف أو المحلوف عليه بر في يمينه أيضا، لان شرط البر عدم الاكل، وقد تحقق. وأما إذا عقد اليمين على فعل لا يتصور وجوده أصلا: بأن قال: والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز وليس في الكوز ماء، فلا ينعقد اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمة الله عليهما، وعند أبي يوسف: ينعقد، ويحنث للحال فهما يقولان: إن اليمين يعقد للبر، ثم تجب الكفارة، لرفع حكم الحنث، وهو الاثم، فإذا لم يكن البر متصورا، فلا يتصور الحنث، فلا فائدة في انعقاد اليمين. وعلى هذا الخلاف إذا قال: والله لأقتلن فلانا وهو لا يعلم بموته، لان يمينه تنصرف إلى الحياة التي كانت، وقد فاتت بحيث لا يتصور عودها. فأما إذا كان عالما بموته فإنه تنعقد اليمين بالاجماع، لان يمينه تنصرف إلى الحياة التي تحدث فيه، فيكون البر متصورا، لكنه خلاف المعتاد، فيكون من القسم الثالث، هكذا فصل في الجامع الصغير، وهو الصحيح. ونظير القسم الثالث أيضا: إذا قال: والله لأصعدن السماء أو لأحولن هذا الحجر ذهبا أو لأشربن ماء دجلة كله لان البر متصور على خلاف العادة فباعتبار
293 التصور تنعقد اليمين في الجملة، وباعتبار العجز من حيث العادة يحنث في الحال. فأما إذا وقت اليمين فقال: والله لأصعدن السماء اليوم، فعند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله: يحنث في آخر اليوم، لان البر يجب في الموقتة في آخر اليوم، ويكون الوقت ظرفا، لأنه يفضل عنه. وعند أبي يوسف يحنث، للحال، لتحقق العجز للحال وهو الصحيح من مذهبه. وإنما يتأخر الحنث إلى آخر الوقت عنده فيما إذا كان الفعل متصورا من حيث العادة ثم فات بسبب هلاك المحلوف عليه كما ذكرنا. ونوع آخر من اليمين في المستقبل: ما تكون موقتة دلالة، وهي تسمى يمين الفور، وهي كل يمين خرجت جوابا لكلام، أو بناء على أمر، فتتقيد بذلك، بدلالة الحال. كمن قال لآخر: تعال تغد معي فقال: والله لا أتغدى ولم يتغد معه، وذهب إلى بيته وتغدى، لا يحنث في يمينه، استحسانا، خلافا لزفر. وكذلك إذا أرادت امرأة إنسان أن تخرج من الدار فقال لها: إن خرجت فأنت طالق فتركت الخروج ساعة ثم خرجت، لا يحنث، ويتقيد بتلك الحال ولهذا نظائر. وأما اليمين التي لا تكفر فهي يمين الغموس، وهي اليمين الكاذبة، قصدا في الماضي كقوله: والله لقد دخلت هذه الدار وهو يعلم أنه ما دخلها. وفي الحال: نحو قوله لرجل: والله إنه عمرو مع علمه أنه زيد ونحوها. وحكمها وجوب التوبة والاستغفار، دون الكفارة بالمال، عندنا.
294 وعند الشافعي: تجب الكفارة بالمال، وهي مسألة معروفة. وأما اليمين التي يرجى فيها عدم المؤاخذة فهي اليمين الكاذبة خطأ، وهي تسمى يمين اللغو، كمن قال: والله ما دخلت هذه الدار، وعنده كذلك، والامر بخلافه. أو رأى طيرا من بعيد، فظن أنه غراب فقال: والله إنه لغراب فإذا هو حمام. ولا حكم لهذه اليمين أصلا. وقال الشافعي: يمين اللغو هي اليمين التي تجري على لسان الحالف، من غير قصد: لا والله وبلى والله أو كان يقرأ القرآن فجرى على لسانه اليمين.
295 باب ألفاظ اليمين اليمين خمسة أنواع: يمين بالله تعالى صريحا، وهي نوعان يمين بأسمائه، ويمين بصفاته. والثالث: يمين بالله تعالى بطريق الكناية. والرابع: اليمين بغير الله تعالى صورة، ومعنى. والخامس: اليمين بغير الله تعالى صورة، ومعنى. أما اليمين بأسماء الله تعالى فالحلف بكل اسم من أسمائه بأن قال: بالله أو والله أو تالله أو الله أو الرحمن أو الرحيم أو بالعالم أو القادر ونحو ذلك، لان من أسماء الله تعالى ما يكون خاصا لا يجوز إطلاقه على غير الله تعالى، ومنها ما يجوز، لكن متى ذكر في موضع القسم، والقسم لا يجوز بغير الله، فكان المراد به اسم الله تعالى. وأما الحلف بصفاته فأقسام ثلاثة: أحدها: أن يذكر صفة لا تستعمل إلا في الصفة، في عرف الناس، كقولهم: وعزة الله، وعظمته، وجلاله، وكبريائه. وإن كان يستعمل
297 صفة لغيره، لكن تعين كون صفة الله تعالى مرادا به، بالإضافة إلى الله تعالى تنصيصا. والقسم الثاني: أن يحلف بصفة تستعمل صفة لله، ولغيره، وتستعمل في غير الصفة، لكن لا يكون استعماله في غير الصفة، غالبا، بحيث تسبق الافهام إليه عند الذكر، نحو قولهم: وقدرة الله وقوته وإرادته ومشيئته ونحو ذلك، فيتعين صفة لله تعالى، مقسما به، بدلالة ذكر القسم. ومن هذا القسم وأمانة الله في ظاهر الرواية، خلافا لما ذكره الطحاوي: أنه لا يكون يمينا وإن نوى، وخلافا لما روي عن أبي يوسف: أنه لا يكون يمينا. والقسم الثالث: أن يحلف بصفة تستعمل صفة لله تعالى ولغيره، وتستعمل في غير الصفة لكن على وجه غلب استعماله فيه بحيث لا تسبق الافهام إلا إليه عند الذكر مطلقا. وذلك نحو قولهم: وعلم الله، ورحمة الله، وكلام الله وكذا الرضا والغضب والسخط، فإنه يذكر العلم ويراد به المعلوم غالبا، وكذا الرحمة: تذكر ويراد بها الجنة وآثار الرحمة من النعمة والسعة. فعندنا: إن نوى به اليمين يكون يمينا، وإن لم ينو لا يكون يمينا. وقال الشافعي: يكون يمينا، كسائر صفاته، بدلالة القسم. وعلى هذا قال في ظاهر الرواية: وحق الله لا أفعل، كذا لا يكون يمينا ما لم ينو، لأنه يستعمل في العرف في الحق المستحق لله تعالى على عباده. ولو قال: والحق لا أفعل كذا يكون يمينا، لأنه اسم من أسماء الله
298 تعالى، قال الله تعالى: * (ويعلمون أن الله هو الحق المبين) * (1). ولو قال: حقا بالفارسية، اختلف المشايخ فيه. ثم في اليمين بأسماء الله تعالى وصفاته إذا ذكر القسم والمقسم به والخبر، باللفظ المستعمل في الحال بأن قال: حلفت بالله أو أقسمت بالله لأفعلن كذا يكون يمينا بلا خلاف. فأما إذا ذكر القسم باللفظ المستقبل بأن قال: أحلف بالله أو أقسم بالله لأفعلن كذا أو أشهد بعزة الله تعالى لأفعلن كذا يكون يمينا عندنا. وعند الشافعي: لا يكون يمينا إلا بالنية. والصحيح قولنا، لان هذا في العرف يراد به الحال، كقولهم: أشهد أن لا إله إلا الله ونحو ذلك. وأما إذا ذكر القسم، والخبر، ولم يذكر المقسم به، بأن قال: أشهد أو أحلف أو أقسم لأفعلن كذا يكون يمينا عند علمائنا الثلاثة، نوى أو لم ينو. وقال زفر: إن نوى يكون يمينا. وقال الشافعي: لا يكون يمينا، وإن نوى. والصحيح قولنا، لان ذكر القسم والخبر دليل على مقسم محذوف، وهو اسم الله تعالى. هذا إذا ذكر المقسم به مرة واحدة، فأما إذا ذكر مكررا، بأن قال: والله والله أو والله الرحمن الرحيم إن فعلت كذا ذكر في الجامع الكبير إن لم يدخل بين الاسمين حرف عطف يكون يمينا واحدة، وإن دخل بينهما حرف عطف يكون يمينين. وفيه اختلاف الروايات. .
(1) سورة النور: الآية 25 299 والصحيح ما ذكر في الجامع، ولهذا يستعمل على باب القضاة هذه اليمين: والله الرحمن الرحيم الطالب الغالب المدرك. فأما إذا ذكر الخبر معه مكررا بأن قال: والله لا أفعل كذا، لا أفعل أو والله لا أكلم فلانا، والله لا أكلمه فإنه يكون يمينين لأنه وجد تكرار صيغة اليمين إلا إذا أراد بالكلام الثاني الخبر عن الأول، فإنه يكون يمينا واحدة. وكذا في اليمين بالطلاق والعتاق على هذا. وأما اليمين بالله تعالى من حيث الكناية نحو قول الرجل: هو يهودي أو نصراني أو مجوسي أو برئ من الاسلام أو كافر بالله ونحو ذلك إن فعل كذا يكون يمينا، وإن فعل يلزمه الكفارة، استحسانا. وقال الشافعي: لا يكون يمينا، قياسا. وجه قولنا أن الناس تعارفوا الحلف بهذه الألفاظ من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير. مع أن اليمين بغير الله معصية دل أنها كناية عن اليمين بالله في العرف، وإن لم يعقل معنى كقولهم لله علي أن أضرب ثوبي حطيم الكعبة كناية عن النذر بالصدقة في عرفهم، وإن لم يعقل وجه الكناية كذا هذا. وأما إذا قال: هو يهودي أو نصراني إن كنت فعلت كذا في الماضي كاذبا قصدا، لا يلزمه الكفارة عندنا. ولكن هل يكفر؟ اختلف المشايخ فيه. والصحيح أنه لا يكفر، كذا روى الحاكم الشهيد عن أبي يوسف، لان قصده ترويج كلامه دون الكفر.
300 وكذا إذا قال: يعلم الله أنه فعل كذا وهو يعلم أنه لم يفعل: لا رواية له، واختلف المشايخ فيه، والصحيح أنه لا يكفر. وقيل هذا إذا كان عنده أنه لا يكفر، فأما إذا كان عنده أنه يكفر إذا حلف به في الماضي أو في المستقبل وحنث في يمينه إنه يكفر، لأنه بالاقدام عليه صار مختارا للكفر، واختيار الكفر كفر. وأما اليمين بغير الله تعالى صورة ومعنى بأن حلف بالاسلام أو بأنبياء الله تعالى أو بملائكته أو بالكعبة أو بالصلاة والصوم والحج أو قال: عليه سخط الله وعذابه، لا يكون يمينا، ولا يجب عليه الكفارة. وأما اليمين بغير الله تعالى صورة وهي يمين بالله تعالى معنى: فهو الحلف بذكر الشرط والجزاء، لأنه مانع عن تحصيل الشرط وحامل على البر، بمنزلة ذكر اسم الله تعالى وذلك نحو قولهم: إذا دخلت هذه الدار فأنت طالق أو إن دخلت أو متى دخلت أو إذا ما دخلت أو متى ما دخلت إذا وجد الدخول طلقت لأن هذه حروف الشرط، وقد وجد الشرط فيحنث في يمينه. ولو دخلت ثانيا لا تطلق، لأن هذه الحروف لا تقتضي التكرار. ولو قال: كلما دخلت هذه الدار فأنت طالق فدخلت الدار، تطلق. ولو دخلت ثانيا وثالثا تطلق عند كل دخلة طلقة واحدة، لان كلمة كلما توجب تكرار الافعال. وإذا طلقت ثلاثا فتزوجت بزوج آخر، وعادت إليه، ثم دخلت الدار في المرة الرابعة، لا تطلق، لان محل الجزاء قد فات. ولو قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة تطلق، لوجود الشرط، ولو تزوجها ثانيا لا تطلق.
301 ولو تزوج امرأة أخرى تطلق، لان كلمة كل توجب عموم الأسماء، ولا توجب عموم الافعال وتكرارها. ولو جمع بين الشرطين لا يقع الطلاق إلا بوجودهما فإن جمع بحرف العطف بأن قال: إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فلا يقع إلا بدخول الدارين، سواء قدم الشرط أو أخر، أو كان متوسطا. ويستوي الجواب بين أن يدخل الدار المذكورة أولا أو الثانية، لان حرف الواو لمطلق الجمع، ولعطف الشئ على جنسه، فيكون الشرط معطوفا على الشرط لا على الجزاء. وإن عطف بحرف الفاء فقال: إن دخلت هذه الدار فهذه الدار فأنت طالق فما لم تدخل الدارين على الترتيب بأن تدخل الأولى ثم الثانية لا حنث، لان حرف الفاء للجمع على سبيل الترتيب والتعقيب بلا فصل. ويستوي الجواب بين تقدم الشرط وتقدم الجزاء وتوسطه. ولو عطف بحرف ثم فقال: إن دخلت هذه الدار ثم هذه الدار فما لم يدخل الدارين، الأولى ثم الأخرى، بعد ساعة أو أكثر من ذلك: لا يحنث، لان حرف ثم للترتيب على طريق التأخير. وكذلك إذا أعاد حرف العطف مع الفعل في هذه الفصول بأن قال: إن دخلت هذه الدار ودخلت هذه الدار: فالجواب لا يختلف. وكذلك في حرف الفاء وحرف ثم. ولو قال: والله لا أكلم فلانا ثم قال في ذلك المجلس أو في مجلس آخر والله لا أكلم فلانا أو قال لامرأته: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثم قال بعد ذلك: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق أو قال: والله لا أدخل هذه الدار ثم قال بعد ذلك: علي حجة إن دخلت هذه الدار وعبدي حر إن دخلت هذه الدار فهذا على ثلاثة أوجه إما أن
302 لا يكون له نية، أو نوى بالثانية التغليظ والتشديد، أو نوى بالثانية الأولى: فإن لم يكن له نية، فهما يمينان، حتى لو دخل الدار مرة يلزمه كفارتان في اليمين بالله تعالى، وفي اليمين بالطلاق يقع طلقتان، ويكون الدخول شرطا في اليمينين. وإن نوى به التغليظ، فكذلك، لان التغليظ في أن يكون يمينين، حتى يلزمه كفارتان، ويقع طلاقان. وإن نوى بالثانية الأولى، كانت يمينا واحدة، لأنه نوى التكرار، وهو مستعمل في العرف للتأكيد إلا أن في مسألة الطلاق لا يصدق في القضاء.
303 باب الخروج والدخول رجل قال لامرأته: أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني أو برضاي أو بعلمي أو بأمري أو بغير إذني أو بغير رضاي فهذا كله سواء إذا خرجت بغير إذنه، أو بغير رضاه، أو علمه، أو أمره حنث. وهنا ثلاث فصول: أحدها هذا. والثاني: أن يقول إلا أن آذن لك أو حتى أرضى. والثالث: أن يقول: إلا أن آذن لك أو إلا أن أرضى. أما في الأول: فيشترط الاذن في كل مرة، لأنه حرم عليها الخروج عاما، واستثنى خروجا موصوفا بصفة وهو أن يكون مأذونا فيه من جهته. فإذا وجد خروج بإذن فهو خروج مستثنى عن يمينه، فلا يكون داخلا تحت اليمين، فلا يحنث. وإذا خرجت بعد ذلك بغير إذن، يحنث، لان هذا ليس بخروج مستثنى، واليمين باقية، فيحنث، نظيره: إذا قال لامرأته: إن خرجت إلا بملحفة أو إلا راكبة فأنت طالق فإن وجد الخروج المستثنى، لا يحنث، وإن وجد لا على ذلك الوصف، يحنث، لان المستثنى غير داخل في اليمين، وغير المستثنى داخل، فيحنث، لوجود الشرط.
305 وأما الثاني، بكلمة وحتى: فيكتفي فيه بالاذن مرة، وتسقط اليمين. وإذا خرجت بغير إذن، يحنث، لأنه جعل الاذن غاية ليمينه، لان كلمة حتى كلمة غاية، فلا تبقى اليمين بعد وجود الغاية، فوجد الخروج الذي هو شرط الحنث، ولا يمين، فلا يحنث. وقبل الاذن: اليمين باقية، فيحنث بالخروج. وأما الثالث، إلا أن آذن لك: فعند عامة العلماء هذا بمنزلة قوله حتى. وقال ا لفراء (1) من أهل النحو هذا وقوله: إلا بإذني سواء. وتجئ هذه الفصول بالفارسية: ترا طلاق اكر بيرون آي أزين سرائي مكر بدستوري من (2). يا كويد: بيرون آي أزين سرائي بي دستوري من (3). أو يقول: ترا طلاق اكر بيرون آي أزين سرائي تا من دستوري دهم ترا (4). أو يقول: ترا سه طلاق أكر أزين سرائي بيرون آئي مكر من دستوري دهم ترا (5).
(1) هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور المعروف بالفراء. ولد بالكوفة سنة 144 ه. وأقام ببغداد. وتوفى سنة 207 ه. وكان امام الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة وفنون الأدب. وكان مع ذلك فقيها متكلما. (2) ترجمتها: أنت طالق ان ذهبت خارج هذا الدار الا باذني. (3) ترجمتها: أو يقول ذهبت خارج هذا الدار بغير اذني. (4) ترجمتها: أو يقول أنت طالق ان خرجت من هذه الدار حتى أمنحك الاذن. (5) ترجمتها: أو يقول أنت طالق ثلاثا ان ذهبت خارج هذه الدار الا ان أعطيك الاذن. 306 ولو أراد بقوله: إلا بإذني حتى آذن لك يصح نيته، حتى لو أذن لها مرة سقطت يمينه، لان بين الغاية والاستثناء مشابهة ولكن قيل: يدين فيما بينه وبين الله تعالى، دون القضاء، لأنه خلاف الظاهر. ولو أراد بقوله: حتى آذن لك إلا بإذني صحت نيته، ويصدق في القضاء، لأنه نوى ما يحتمله كلامه، وفيه تشديد على نفسه. ولو أذن لها مرة، في قوله: إلا بإذني، ثم نهاها عن الخروج، قبل أن تخرج من الدار بإذنه، يصح نهيه، حتى لو خرجت بعد ذلك، بغير إذنه، يحنث في يمينه، لأنه صح رجوعه عن الاذن، واليمين باقية، فجعل كأنه لم يأذن. وفي مسألة حتى إذا أذن ثم نهاها قبل الخروج، فخرجت بغير إذنه ثانيا لا يحنث، لان اليمين سقطت بالاذن، فلا يعتبر النهي بعد ذلك. ثم الحيلة في قوله: إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني حتى لا يقع الطلاق متى لم يأذن لها عند كل خروج، أن يقول لها: كلما شئت الخروج فقد أذنت لك حتى يثبت الاذن في كل خرجة وجدت، لان كلمة كلما توجب التعميم والتكرار. وروى المعلى عن محمد رحمه الله أنه قال في قوله: إلا بإذني: إذا قال الزوج: قد أذنت لك عشرة أيام فخرجت مرارا في العشرة فإنه لا يحنث. وكذلك لو قال: قد أذنت لك أبدا أو الدهر كله فهذا إذن منه في كل مرة. ولو أنه إذا أذن لها إذنا عاما، ثم نهاها عن الخروج بعد ذلك نهيا عاما، عن الخرجات كلها هل يعمل نهيه؟ روي عن محمد أنه يعمل،
307 لان النهي في الاذن الخاص يعمل، فكذلك في الاذن العام. وروي عن أبي يوسف أنه قال: لا يعمل نهيه، لأنه بالإذن العام صارت الخرجات كلها مأذونا فيها والشرط هو الخروج الحرام، فصار الشرط بحال لا يتصور وجوده، فلا تبقى اليمين، فلا يصح النهي بعد ذلك، بخلاف الاذن الخاص. ولو قال: إن خرجت إلا بإذن فلان فمات فلان قبل الاذن تبطل اليمين عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف رحمه الله: اليمين باقية، حتى لو خرجت بعد ذلك يحنث، كما ذكرنا في مسألة الكوز. ولو أذن لها بالخروج من حيث لا يسمع في المسألة الأولى، فخرجت بعد الاذن فإنه يحنث عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله، وعند أبي يوسف رحمه الله لا يحنث. فأبو يوسف يقول: إن هذا إذن من وجه دون وجه، فإنه لا يحصل ما هو المقصود بالاذن، وهو العلم المسموع، وشرط الحنث هو الخروج من غير إذن مطلقا، فلا يحنث بالشك. وهما يقولان: إنه حرم عليها الخروج عاما، واستثنى خروجا مأذونا فيه مطلقا، وهذا مأذون من وجه، فلم يكن هذا خروجا مستثنى، فبقي داخلا تحت الحرمة. ولو حلف رجل على زوجته أو على عبده، أو سلطان حلف رجلا أن لا يخرج من الدار أو الكورة (1) إلا بإذنه، فبانت المرأة، أو زال العبد عن ملكه، أو عزل السلطان عن عمله، ثم خرجوا، بغير الاذن لم يحنث، وسقطت اليمين وتتوقت اليمين ببقاء الولاية، بدلالة الحال، فإذا زالت الولاية، انتهت اليمين.
(1) الكورة: الصقع ويطلق على المدينة. 308 وعلى هذا الغريم إذا حلف المطلوب أن لا يخرج من بلده إلا بإذنه، فإن خرج وعليه دين يحنث. وإن خرج بعد القضاء والابراء لا يحنث وتقيدت اليمين ببقاء الدين، وهذا من جملة يمين الفور على ما مر. ولو قال لامرأته: إن خرجت من البيت فأنت طالق، فخرجت من البيت إلى صحن الدار، يحنث، لان البيت غير الدار، لان البيت اسم لمسقف واحد، والدار اسم لمحدود يجمع البيوت والمنازل. وعلى هذا إذا قال: إن دخل فلان بيتك فدخل صحن دارها، دون بيتها، لم يحنث ولكن هذا في عرفهم، فأما في عرفنا فإن اسم البيت بالفارسية مطلقا يطلق على الدار والمنزل، فيحنث. وإن قال: إن خرجت من هذه الدار، فخرجت من هذه الدار من أي باب كان، ومن أي موضع كان من فوق حائط أو سطح أو نقب، حنث، لان المراد الخروج من الدار وقد وجد، وهو الانفصال من الباطن إلى الظاهر. ولو قال: إن خرجت من باب هذه الدار، فأنت طالق فخرجت من أي باب كان، حنث في يمينه، سواء كان من الباب القديم أو الذي يحدث بعد اليمين، لأنه ذكر الباب مطلقا. ولو خرجت من السطح أو من فوق حائط أو نقب، لا يحنث، لأنه ليس بباب. ولو عين الباب فقال: إن خرجت من هذا الباب لا يحنث ما لم تخرج من ذلك الباب المعين، وإن خرجت من باب آخر، لا يحنث، لان في التعيين فائدة في الجملة، لأنه ربما يكون لذلك الباب المعين منفذ إلى الطريق الأعظم دون الثاني. ولو قال: إن خرجت من هذه الدار إلا في أمر كذا فخرجت في
309 ذلك الامر مرة، ثم خرجت لأمر آخر، يحنث، لأنه حرم عليها جميع الخرجات إلا خروجا موصوفا بصفة، فإذا وجد منها الخروج المستثنى لا يحنث، وإن وجد خروج آخر، يحنث، وإن عنى به الخروج مرة يصح ويصير إلا عبارة عن حتى مجازا، كأنه قال: إن خرجت من هذه الدار، حتى تخرج في أمر كذا فإذا خرجت في ذلك الامر يسقط اليمين، لوجود الغاية، لكن لا يدين في القضاء، لأنه خلاف الحقيقة. ولو قال: إن خرجت من الدار مع فلان فأنت طالق فخرجت وحدها أو مع غير فلان، ثم خرج فلان ولحقها لم يحنث، لان حرف مع للصحبة والقران، ولم يوجد عند الخروج، والدوام على الخروج ليس بخروج، وإن وجد بقاء الخروج مع فلان. ولو قال: إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق فدخلت في صحن الدار أو في بيت علو أو كنيف شارع إلى الطريق الأعظم، فإنه لا يحنث، لان هذا لا يسمى خروجا من الدار. ولو قال لها وهي خارجة من الدار: إن خرجت من الدار لا يحنث. وكذلك إذا كانت في الدار فقال: إن دخلت هذه الدار لا يحنث ويقع على خروج ودخول مستأنف. وبمثله لو قال: إن قمت، أو قعدت، أو لبست، أو ركبت وهي قاعدة، أو قائمة، أو راكبة، أو لابسة فدامت على ذلك ساعة يحنث. وهذا كله مذهبنا وقال الشافعي في الدخول والخروج: إنه يقع على الدوام. والصحيح قولنا، لان الخروج هو الانتقال من الباطن إلى الظاهر والدخول على عكسه، وهذا مما لا دوام له، وأما الركوب ونظائره: ففعل
310 له دوام، فيكون له حكم الابتداء. وكذا إذا قال لها، وهي في الاكل والضرب: إذا أكلت أو ضربت فأنت طالق، فدامت على ذلك: يقع، لان كل جزء من هذا الفعل يسمى أكلا وضربا. ولو قال لامرأته، وهي حائض أو مريضة، إن حضت أو مرضت فأنت طالق فإنه يقع على الحادث، في العرف. ولو نوى ما يحدث من الحيض في هذه المدة، أو يزداد من المرض: يصح، لان الحيض ذو أجزاء يحدث حالا فحالا، فتصح نيته. ولو قال: إن حضت غدا، وهو لا يعلم أنها حائض، فإنه يقع على الحيض الحادث. وإن كان يعلم فإنه يقع على هذه الحيضة إذا دام الحيض منها إلى أن يطلع الفجر، واستمر ثلاثة أيام، لأنه لما علم أنها حائض وقد حلف، فقد أراد استمرار الحيض، وما لم يكن ثلاثة أيام لا يكون حيضا. ولو حلف أن لا يدخل دارا أو بيتا أو مسجدا أو حماما، فالدخول هو الانفصال من خارج ذلك الشئ إلى داخله، فعلى أي وجه دخل من الباب أو غيره، حنث، لوجود الدخول، فإن نزل إلى سطحها حنث، لأنه منها. وكذا إذا قام على حائطها، لان الدار اسم لما تدور عليه الدائرة، وفي عرفنا لا يحنث. ولو قام على ظلة (1) لها شارعة، أو كنيف شارع إن كان مفتحه في الدار، حنث. لأنه ينسب إليها. وإن قام على أسكفة (2) الباب إن كان الباب إذا غلق كانت الأسكفة خارجة منه، لم يحنث، وإن بقيت من
(1) الظلة: شئ كالصفة يستتر به من الحر والبرد. (2) الأسكفة خشبة الباب التي يوطأ عليها. 311 داخل الدار حنث. ولو دخل دهليز الدار، حنث، لأنه من داخل الدار. ولو دخل ظلة باب الدار، لا يحنث، لأنها اسم للخارج. وإن أدخل الحالف إحدى رجليه في الدار لا غير، لا يحنث، لأنه لم يوجد الدخول مطلقا. وكذا إذا أدخل رأسه دون قدميه. ولو حلف لا يدخل دارا، فدخل دارا بعد انهدامها، ولا بناء لها لا يحنث. ولو قال: والله لا أدخل هذه الدار ثم دخلها بعد ذهاب البناء يحنث، لان البناء وصف مرغوب معتاد للدار، فمتى ذكر منكرا يقع على الدار المتعارف، وفي المعين لا يعتبر الصفة، ويعتبر المعين، واسم الدار يقع عليه بعد الانهدام. ولو قال: لا أدخل هذا المسجد فدخل بعد ذهاب البناء يحنث، لأنه مسجد، وإن لم يكن مبنيا وقالوا: إذا صعد سطح المسجد يحنث، لأنه مسجد. ولو حلف لا يدخل بيتا، أو هذا البيت، فدخله بعد ذهاب بنائه، لا يحنث، لأنه اسم للمبنى المسقف. وإن حلف أن لا يدخل بيتا، فدخل مسجدا، أو الكعبة، أو بيعة، أو كنيسة، أو بيت نار، أو حماما، أو دهليزا، أو ظلة باب دار لا يحنث، لأن هذه الأشياء لا تسمى بيتا في العرف. وإن دخل صفة: يحنث وهذا في عرف أهل الكوفة، لان الصفة عندهم بيت له أربع حوائط، أما التي هي صفة في عرفنا: فلا يحنث. ولو حلف لا يدخل من باب هذه الدار لا يحنث، ما لم يدخل من الباب القديم. ولو حلف لا يدخل من باب الدار، فمن أي باب دخل حنث،
312 إلا إذا أراد به الباب المعروف فيدين فيما بينه وبين الله تعالى، دون القضاء. ولو حلف لا يدخل دار فلان، فدخل دارا بين رجل وبين فلان فإن كان فلان ساكنا فيها حنث، لأنه لو كان ساكنا فيها بالإجارة يحنث وههنا أولى. وإن لم يكن ساكنا: لا يحنث، لان الدار مضافة إليهما، لان بعض الدار لا يسمى دارا. ولو حلف لا يزرع أرض فلان، فزرع أرضا بين فلان وبين آخر حنث، لان كل جزء من الأرض يسمى أرضا. ولو حلف لا يدخل بيت فلان، ولا نية له، فدخل صحن داره، وفلان ساكن فيها، لا يحنث، حتى يدخل البيت. وإن نوى بقوله لا يدخل بيت فلان، مسكنه، يحنث، وهذا على عرفهم. ولو حلف لا يدخل هذه الدار إلا مجتازا أو عابر سبيل: فإن دخل وهو لا يريد الجلوس، لا يحنث، لأنه استثنى الدخول بصفة الاجتياز. وإن دخل يعود مريضا ومن رأيه الجلوس عنده، يحنث، لان هذا غير مستثنى، وإن دخل لا يريد الجلوس، ثم بدا له بعدما دخل فجلس لم يحنث، لأنه لم يحنث بدخوله، والبقاء على الدخول ليس بدخول. وإن نوى بقوله: لا يدخلها إلا مجتازا النزول فيها والدوام، لا يحنث بالجلوس، لأنه يقال دخلت عابر سبيل بمعنى أنه لم يدم على الدخول ولم يستقر. ولو حلف لا يسكن هذه الدار وهو خارج منها، فالسكنى أن يسكنها بنفسه، وينقل إليها من متاعه ما يتأثث به ويستعمله في منزله، فإن كان له أهل ينقله أيضا، فإذا فعل ذلك فهو ساكن، وهو حانث في يمينه، لان السكنى هو الكون في المكان على طريق الاستقرار والمداومة، وذلك يكون بما يسكن به عادة ألا ترى أن من جلس في المسجد وبات فيه، لم
313 يكن ساكنا للمسجد، ولو أقام بما يتأثث به، يوصف بكونه ساكن المسجد، فكان معتبرا في اليمين. ولو كان الرجل ساكنا في دار، وحلف لا يسكنها، فإنه لا يبر في يمينه، ما لم ينتقل بنفسه وأهله وولده ومتاعه، ومن يأويها لخدمته، وللقيام بأمره في منزله، لان السكنى في الدار بهذه الأشياء، فكان ترك السكنى فيها بضدها، فإذا لم يأخذ في النقلة من ساعته مع الامكان، يحنث في يمينه، ولو أخذ في النقلة من ساعته لا يحنث، وإن كان فيه من السكنى قليل، لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، فكان مستثنى دلالة وهذا عندنا، خلافا لزفر. ولو انتقل بنفسه، ولم ينتقل بمتاعه وأهله، قال أصحابنا: يحنث. وقال الشافعي: لا يحنث. والصحيح قولنا، لما قلنا إن السكنى في المكان بما يسكن به عادة، وبأهله إن كان له أهل، فكان ترك السكنى بترك الكل بخلاف ما إذا حلف لا يسكن في بلد كذا، فخرج منه وترك أهله فيه، لم يحنث لان في العادة لا يقال لمن بالبصرة وأهله بالكوفة إنه ساكن بالكوفة، فأما إذا انتقل بنفسه وأهله ومتاعه وترك من أثاثه شيئا قليلا، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه قال: يحنث، وقال أبو يوسف: إذا كان المتاع المتروك لا يشغل بيتا أو بعض الدار على ما يتعارف الناس، لا يحنث. وكان أصحابنا رحمهم الله يقولون: معنى قول أبي حنيفة: إذا ترك شيئا يسيرا، عنى به ما يسكن به، ويعتد به في التأثث، فأما لو خلف فيها وتدا أو مكنسة، لم يحنث. فإن منع من التحول ومنعوا متاعه وأوتقوه وقهروه، فإنه لا يحنث، وإن أقام على ذلك أياما، لأنه ليس بساكن، إنما هو مسكن عن إكراه. وقال محمد رحمه الله: إذا خرج من ساعته، وخلف متاعه كله في
314 المسكن، ومكث في طلب المنزل أياما ثلاثة. فلم يجد ما يستأجر، وكان يمكنه أن يخرج من المنزل ويضع متاعه خارجا من الدار لا يحنث، لان هذا من عمل النقلة عادة، لان المعتاد أن ينتقل من منزل إلى قصده منزل، لا أن يلقى متاعه على الطريق. وقال محمد: لو كان الساكن موسرا وله متاع كثير، وهو يقدر على أن يستأجر من ينقل متاعه في يوم، فلم يفعل، وجعل ينقل بنفسه الأول فالأول، ومكث في ذلك سنة، وهو لا يترك الاشتغال بالنقل فإنه لا يحنث، لأنه لا يلزمه الانتقال بأسرع الوجوه. ولو قال: عنيت به أن لا أسكن بنفسي ففي المسألة الأولى فيما لم يكن ساكنا فيها، يصدق في القضاء، لأنه شدد على نفسه. وفي المسألة الثانية فيما إذا كان ساكنا فيها، يصدق فيما بينه وبين الله تعالى، دون القضاء، لأنه نوى خلاف الظاهر والعادة. ولو حلف لا يدخل علي فلان، ولم يسم شيئا فإنه يحنث إذا كان يقصده بالدخول. وإن لم يقصده، بالدخول لا يحنث ولهذا قلنا: إذا دخل عليه في بيت رجل آخر ولم يقصده بالدخول، لا يحنث، لان بهذا الاستخفاف به وترك إكرامه، وذلك لا يكون إلا مع القصد. وذكر ابن سماعة في نوادره ضد هذا، فقال في رجل قال: والله لا أدخل على فلان بيتا فدخل بيتا وعلى قوم وفيهم فلان ولا يعلم به الحالف فإنه حانث بدخوله، لان الشرط وجد، والعلم بشرط الحنث ليس بشرط في الحنث، كمن حلف لا يكلم زيدا، فكلمه، وهو لا يعرفه إلا أن ظاهر المذهب ما ذكرنا. ولو دخل عليه في مسجد أو ظلة أو سقيفة أو دهليز دار لم يحنث، لان الدخول المعتاد على الانسان للزيارة في البيوت خاصة. وفي عرف
315 بخاري: يحنث في المسجد، لأنهم يجلسون فيه للزيارة. ولو دخل عليه في خيمة أو فسطاط أو بيت شعر لم يحنث، إلا أن يكون المحلوف عليه من أهل البادية، لان الدخول على غير البدوي في البيوت، وفي حق البدوي ما هو بيوتهم من الشعر. ولو دخل في داره، والرجل في البيت، لم يحنث، لأنه ليس بدخول عليه. ولو كان في صحن الدار، حنث، لأنه دخول عليه عادة. ولو دخل الحالف دارا ليس فيها فلان، فدخل فلان تلك الدار لا يحنث، لأنه ما دخل على فلان، بل فلان دخل عليه، فلا يحنث.
316 باب الأكل والشرب أصل الباب أن الاكل إيصال ما يتأتى فيه المضغ بفمه إلى جوفه، مضغه أو لم يمضغه. والشرب إيصال ما لا يتأتى فيه المضغ إلى جوفه حال وصوله، مثل الماء، والنبيذ، واللبن، والعسل الممزوج. والذوق هو معرفة طعم الشئ المذوق، بفمه، بإيصال الشئ إليه، سواء ابتلعه أو مجه من فمه، فكل أكل فيه ذوق، لكن الذوق ليس بأكل. إذا ثبت هذا فنقول: إذا حلف لا يأكل أو لا يشرب، فذاق لم يحنث. وإذا حلف لا يذوق طعاما أو شرابا، فأكل أو شرب، أو أدخله في فمه، وعرف طعمه، ثم مجه، حنث، لوجود الذوق. ولو حلف لا يذوق شيئا وعنى به أكله أو شربه، فإنه تصح نيته، ولا يحنث، بالذوق، لان اسم الذوق قد يقع عليهما في العرف يقول الرجل: ما ذقت اليوم شيئا، وما ذقت إلا الماء يريد به الأكل والشرب. ولو حلف لا يذوق ماء، فتمضمض في الوضوء، لا يحنث في يمينه، لان قصده التطهير، دون معرفة الطعم. ولو حلف لا يأكل طعاما، فإنه يقع على الخبز، واللحم، والفاكهة، وما يؤكل على سبيل الادام مع الخبز، لان الطعام اسم لما
317 يطعم في اللغة، وفي العرف صار اسما لما يؤكل بنفسه أو مع غيره عادة. وكذا إذا حلف لا يأكل من طعام فلان، فأكل شيئا مما ذكرنا من طعام فلان يحنث. ولو أخذ نبيذ فلان أو ماءه فأكل بخبز نفسه لا يحنث، لان هذا يسمى آكلا طعام نفسه عادة. ولو حلف لا يأكل هذا اللبن، فأكله مع الخبز حنث، لان اللبن هكذا يؤكل عادة. ولو شربه لا يحنث، لان هذا ليس بأكل. ولو حلف لا يأكل الرمان أو العنب، فمصه ورمى تفله وابتلع ماءه لا يحنث. ولو ابتلع العنب أو الرمانة، من غير مضغ يحنث، لان الأول شرب، والثاني أكل. ولو حلف لا يأكل هذا اللبن، فأكل مما يتخذ منه، من الجبن والأقط (1) ونحوهما لا يحنث، لأنه قد تغير، فلا يبقى له اسم العين. وكذا إذا حلف لا يأكل هذا الكفري (2) فصار بسرا (3)، أو من هذا البسر فصار رطبا، أو رطبا فصار تمرا، لأنه تغير الأول. ولو حلف لا يأكل هذه البيضة فأكل من فرخ خرج منها، أو حلف لا يشرب من هذا الخمر، فصار خلا، فشرب لا يحنث، لأنه تغير عن أصله. ولو حلف لا يأكل من لحم هذا الجمل أو هذا الجدي، فصار كبشا أو تيسا فإنه يحنث، لأن العين قائمة لم تتغير، واليمين وقعت على الذات المعينة. .
(1) الاقط بفتح الهمزة وكسر القاف، وقد تسكن القاف للتخفيف مع فتح الهمزة وكسرها - يتخذ من اللبن المخيض: يطبخ ثم يترك حتى يمصل. (2) بضم الكاف وفتح الفاء وتشديد الراء - كم النخل الذي يستر ما في جوفه. (3) البسر التمر إذا لون ولم ينضج. والرطب ما نضج من البسر قبل ان يصير تمرا. والتمر اليابس من ثمر النخل 318 وكذا في غير هذا، إذا حلف لا يكلم هذا الشاب، فكلمه بعد ما شاخ، حنث، لأن العين لم تتغير. ولو حلف لا يكلم شابا، فكلم شيخا لا يحنث، لان اليمين تقع على موصوف منكر، فيكون الصفة بمنزلة الشرط. ولو حلف لا يذوق من هذا اللبن شيئا، فصب فيه ماء، فذاقه روي عن أبي يوسف أنه إن بقي لون اللبن وطعمه يحنث، وإن كان اللبن أقل. ولو ذهب طعمه ولونه لا يحنث، وإن كان اللبن أكثر فاعتبر في الغلبة ظهور اللون والطعم، دون كثرة الاجزاء. وذكر محمد رحمه الله في الأصل هذه المسألة وقال: إذا كان اللبن مغلوبا لا يحنث وظاهره يقتضي غلبة الاجزاء. فأما إذا اختلط المحلوف عليه بجنسه، أن اختلط اللبن المحلوف عليه بلبن آخر من جنسه فقال أبو يوسف: إذا كان اللبن المحلوف عليه مغلوبا لا يحنث، لأنه في معنى المستهلك. وقال محمد: يحنث، وإن كان مغلوبا، لان الشئ لا يصير مستهلكا بجنسه، وإنما يصير مستهلكا بخلاف جنسه. وذكر في الأصل: رجل حلف لا يأكل سمنا فأكل سويقا لته بسمن، ولا نية له إن كان يستبين السمن في السويق، فيوجد طعمه، يحنث، وإلا فلا لما قلنا. ومحمد إنما لم يجعل خلط الجنسين استهلاكا إذا كان الجنس، والنوع، والصفة، واحدا، وأما إذا اختلف النوع، كلبن الضأن ولبن المعز. أو اختلفت الصفة، كالماء العذب بالماء المالح، فإنه يجعله استهلاكا، ويعتبر فيه الغلبة، كما في الجنسين. وإذا حلف لا يأكل لحما، فأي لحم يأكل، حنث، سوى لحم السمك، لأنه ناقص في معنى اللحمية، ولو أكل شحم الظهر، يحنث،
319 لأنه لحم سمين. ولو أكل شحم البطن والألية، لا يحنث، لأنه لا يسمى لحما، ولو نوى، يحنث، لان فيه معنى اللحم من وجه، وهو الدسومة. وفي لحم السمك إذا نوى، يحنث، لأنه لحم ناقص. ولو أكل ما في البطون، سوى شحم البطن يحنث وهذا في عرفهم، لان يباع مع اللحم، وأما في الموضع الذي لا يباع مع اللحم، لا ينصرف يمينه إليه، فلا يحنث. ولو أكل لحم خنزير أو لحم إنسان أو ميتة، يحنث، لأنه لحم حقيقة، وإن كان حراما. ولو أكل لحم الرأس من الحيوانات، سوى السمك، يحنث، لأنه لحم عضو من الحيوان. ولو حلف لا يأكل شحما، فأكل شحم الظهر لا يحنث عند أبي حنيفة، خلافا لهما، لأنه لحم سمين، ولكن يقع اليمين على شحم البطن. ولو حلف لا يأكل رأسا أو لا يشتري إن نوى الرؤوس كلها انصرف إليها، لأنه نوى حقيقة كلامه، وشدد على نفسه. وإن لم يكن له نية قال أبو حنيفة: يقع على رأس الغنم والبقر، وعند زفر: على رأس الإبل أيضا، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يقع على رأس الغنم خاصة وقيل: هذا اختلاف عصر وزمان، ويعتبر العرف والعادة، في كل بلد. وإذا حلف لا يأكل بيضا فإن نوى بيض كل شئ يقع عليه، لأنه نوى حقيقة كلامه، وفيه تشديد. وإن لم يكن له نية ينصرف إلى بيض الطير والدجاج والإوز، بدلالة العرف. ولو حلف لا يأكل فاكهة فهذه المسألة على ثلاثة أوجه:
320 - في وجه يحنث بالاتفاق، وهو أنه يقع على ثمرة كل شجر، سوى العنب والرطب والرمان، ويستوي في ذلك الرطب واليابس، لأنها اسم لما يتفكه به ويؤكل قبل المائدة وبعدها. - وفي وجه لا يحنث بالاتفاق، وهو أن يأكل القثاء والخيار والخوخ والجزر، لأنها تؤكل مع البقول. - وفي وجه اختلفوا فيه، وهو العنب والرطب والرمان فإذا لم يكن له نية فعند أبي حنيفة: لا يحنث، وعندهما: يحنث. وإن نوى هذه الأشياء عند الحلف يحنث، بالاجماع ومشايخنا قالوا: هذا اختلاف عرف وزمان، وكان في زمن أبي حنيفة لا يعدونها من جملة الفواكه فأفتى على عرف زمانه، وتغير العرف في زمانهما وفي عرفنا ينبغي أن يحنث في يمينه أيضا. ولو حلف لا يأكل فاكهة يابسة، فأكل الجوز واللوز والتين ونحوها يحنث. وفي عرفنا في الجوز لا يحنث، لأنه لا يتفكه بالجوز اليابس. وإذا حلف لا يأكل حلواء أو حلوا أو حلاوة، فأكل السكر والفانيذ، وكل شئ فيه حلاوة، وليس من جنسه حامض يحنث، المتخذ وغير المتخذ سواء، كالفالوذج والخبيص والناطف. ولو أكل شيئا حلوا، من جنسه حامض، مثل العنب والرمان الحلو، والتفاح الحلو، لا يحنث وهذا في عرفهم، وفي عرفنا إذا كان اليمين على الحلاوة والحلو فكذلك، فأما في الحلواء فيقع على المصنوع من الحلاوة وحدها، أو مع غيرها كالخبيص والناطف، فلا يقع على السكر والفانيذ على الانفراد. ولو حلف لا يأكل الحنطة، يقع على أكل عينها، مقلية ومطبوخة، ولا يقع على الخبز، وما يتخذ من الدقيق. وعلى قولهما: يقع على ما
(1) الفانيذ نوع من الحلوى يعمل من القند والنشا، وهي كلمة أعجمية والقند ما يعمل منه السكر. 321 يتخذ منها. ولو أكل من عينها ففيها روايتان وأصل المسألة أن الكلام إذا كان له حقيقة مستعملة، ومجاز متعارف، فالعمل بالحقيقة أولى عند أبي حنيفة، وعندهما: العمل بعموم المجاز أولى، وهذا مما يعرف في الجامع الكبير فيمن حلف لا يشرب من الفرات أو من هذا النهر فعند أبي حنيفة: يقع على الشرب كرعا (1) حتى لو اغترف بإناء أو بيده لا يحنث، وعندهما: يقع عليهما، لعموم المجاز. ولو حلف لا يشرب من الجب، أو البئر، وهو غير ملآن، فشرب بيده أو بإنائه، يحنث، لأنه لا يمكن الشرب منه كرعا. ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق، فأكل مما يتخذ منه يحنث، لان عينه لا يؤكل. وعلى هذا الأصل إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة، فأكل من ثمرتها يحنث، لان عينها لا تؤكل. ولو حلف لا يأكل، ولا يشرب، ولا يلبس، ونوى طعاما خاصا، وشرابا خاصا، وثوبا خاصا فإنه لا يصدق، لأنه نوى خلاف مقتضى كلامه، ولا عموم له. ولو قال: لا آكل طعاما، ولا ألبس ثوبا، ونوى طعاما بعينه، وثوبا بعينه يصدق، لأنه نوى تخصيص الملفوظ. ولو حلف لا يأكل إداما فهذا على ثلاثة أوجه: - إن أكل ما يصطبغ به ويلتزق بالخبز، كالزيت والخل يحنث، بالاتفاق، لأن هذه الأشياء تصير تبعا للخبز، ولا تؤكل مقصودة، بنفسها، والإدام اسم لهذا.
(1) كرع في الماء أو الإناء: مد عنقه وتناول الماء بفيه من موضعه. 322 - وإن أكل مع الخبز عنبا وسائر الفواكه أو البقول، لا يحنث، بالاتفاق لأنها لا تؤكل إداما مقصودا، بل هي تبع للاكل مع الادام. - وإن أكل مع الخبز الجبن واللحم والبيض فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يحنث، ولا يكون ذلك إداما. ولو أكل الخبز مع اللحم يحنث، لأنه تبع. ولو أكل الأرز والعصائد لا يحنث، لأنه يؤكل مقصودا في العرف. وإن كان في موضع يؤكل تبعا للخبز، يكون إداما عند محمد والمسألة معروفة. ولو حلف لا يأكل شواء، ونوى أكل كل مشوي يحنث، لأنه نوى حقيقة كلامه. وإن لم يكن له نية ينصرف إلى اللحم المشوي، لان الاسم له عادة. ولو حلف لا يأكل طبيخا، ولا نية له، ينصرف إلى اللحم المطبوخ، وإلى المرقة المتخذة منه، لما فيها من أجزاء اللحم، لان الطبيخ في العرف اسم لهذا، والعبرة للعرف في الباب.
323 باب من اليمين على أشياء مختلفة في الباب فصول مختلفة، ومسائل متفرقة: إذا قال الرجل: عبده حر إن وهبت لفلان شيئا أو تصدقت عليه أو أعرته أو أعطيته أو نحلته أو أقرضته ثم فعل ذلك، ولم يقبل المحلوف عليه فإنه يحنث. وإن حلف على عقد فيه بدل، مثل البيع والإجارة والصرف والسلم ونحوها، ففعل الحالف، ولم يقبل الآخر لا يحنث لان الأول تمليك من أحد الجانبين، إلا أن القبول شرط لثبوت الحكم في حقه، فقد وجد ما ينطلق عليه الاسم، فيحنث. والفصل الثاني تمليك من الجانبين لغة وشرعا، فلا يتحقق الاسم إلا بوجود الايجاب من أحدهما والقبول من الآخر. ولو باع بيعا فاسدا يملك به إذا قبض، أو صحيحا، وقبل يحنث، لان اسم البيع لغة يقع على الفاسد والصحيح جميعا. ولو باع بيعا فيه خيار البائع أو المشتري حنث عند محمد، وعند أبي يوسف: لا يحنث، لأنه مع الخيار لا ينعقد سببا. ومحمد يقول إنه انعقد سببا لكن تأخر حكمه، فهو كالبيع الفاسد. ولو قال: والله لا أتزوج اليوم ولا نية له، فتزوج نكاحا فاسدا لا يحنث، استحسانا، لان المقصود هو الحل في العقد المضاف إلى
325 المستقبل، فيقيد بالصحيح، بخلاف البيع، لان المقصود ثم هو الملك. وكذلك إذا حلف لا يصلي يقع على الصحيح، لان المقصود هو التقرب، ولا يحصل في الفاسد. أما إذا حلف في الماضي بأن قال: والله ما تزوجت أو ما صليت، فإنه يقع على الفاسد أيضا، لان الغرض هو الاخبار، والاسم يقع عليهما. ولو حلف لا يصلي فكبر ودخل في الصلاة، لا يحنث، ما لم يقيد بالسجدة، استحسانا، لأنه أفعال مختلفة، فما لم يوجد الكل لا يسمى مصليا. ولو حلف لا أصلي صلاة لا يحنث، ما لم يصل ركعتين، لان أدنى الصلاة ركعتان. ولو حلف لا يصلي الظهر لا يحنث، ما لم يقعد القعدة الأخيرة، لان صلاة الظهر مقدرة بالأربع. ولو حلف لا يصوم فأصبح صائما يحنث، لأنه يسمى صائما. ولو حلف لا يصوم صوما لم يحنث، ما لم يصم اليوم، لان أقل الصوم الشرعي يوم كامل. ولو حلف لا يحج أو لا يحج حجة لا يحنث حتى يطوف طواف الزيارة، لان الحج عبارة عن أجناس أفعال، فيكون اسم الحج واقعا على الكل حقيقة، لا على البعض، وللأكثر حكم الكل. ولو حلف لا يعتمر وأحرم فطاف أربعة أشواط، حنث، لأنه وجد الأكثر. ولو جامع حتى فسد الحج، لا يحنث، لان اليمين انعقدت على الحج الذي هو قربة، والفاسد ليس بقربة.
326 وكذلك إذا حلف لا يصوم صوما ثم أفطر، لا يحنث، لأنه لم يوجد الصوم التام. ولو حلف لا يصوم فصام ساعة ثم أفطر، يحنث، لان الحنث قد حصل بصوم ساعة، فبالافطار لا يبطل الحنث، وإن فسد الصوم من الأصل. ولو حلف ليفطرن عند فلان، فأفطر بالماء في منزله، ثم تعشى عند فلان حنث، لان شرط بره الافطار عند فلان، وهو اسم لما يضاد الصوم، وذلك حصل في منزله بالماء. وإن نوى به العشاء عند فلان، لا يحنث، لأنه نوى به المتعارف يقال: فلان يفطر عند فلان إذا كان يتعشى عنده وإن كان أصل الفطر يقع في منزله. وإذا حلف لا يلبس من غزل فلانة شيئا، ولا نية له، فلبس ثوبا قد غزلته فلانة يحنث في يمينه، لان الغزل عينه لا يلبس، فيقع على ما يصنع منه، وهو الثوب. ولو نوى الغزل بعينه لا يحنث، إذا لبس ذلك الثوب، لأنه نوى حقيقة كلامه. ولو حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة يقع على الثوب. ولو نوى الغزل لا يصدق. ولو حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها لا يحنث، لان الثوب اسم لشئ مقدر، فلا يقع على بعضه. ولو حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها حنث، لان البعض يسمى غزلا. ولو حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا دخاريصه أو تلابيبه (1)
(1) دخاريص جمع والمفرد دخريص ودخرص و دخرصة وهو أعجمي معرب. والتخريص لغة فيه. ودخريص القميص ما يوسع به من الشعب أي ما يوصل به البدن ليوسعه. وقد أنشد الأعشى: " كما زدت في عرض القميص الخارص " كما يقال للدخرصة أيضا: البنيقة واللبينة. والتلابيب جمع تلبيب وهو ما في موضع اللبب من الثياب واللبب واللبة هو موضع القلادة من الصدر. 327 من غزل فلانة: يحنث، لان هذا القدر صار ملبوسا من غزلها بلبس الثوب. ولو لبس زرا وعروة من غزلها لا يحنث، لان الزر لا يصير ملبوسا بلبس القميص. ولو لبس تكة من غزلها لا يحنث، عند أبي يوسف، لأنه يقال شد التكة، ولا يقال: لبس. وعند محمد: يحنث. ولو حلف لا يلبس مما يشتريه فلان فاشتراه فلان مع غيره لم يحنث، لأنه لبس بعض ثوب اشتراه فلان لا كله. ولو حلف لا يأكل مما يشتريه فلان فاشتراه فلان مع غيره، فأكل منه حنث، لأنه قد أكل ما اشتراه فلان، لأنه يقع مع البعض. ولو حلف لا يلبس من نسج فلان، فنسجه فلان مع غيره يحنث. ولو قال: لا يلبس من ثوب نسجه فلان لا يحنث إذا نسجه مع غيره، لما قلنا. ولو حلف لا يأكل من طبيخ فلان، فأكل مما طبخ فلان وغيره حنث، لان كل جزء من الطبيخ طبيخ. ولو قال: لا آكل من قدر طبخها فلان، فأكل مما طبخ فلان مع غيره لا يحنث، لان كل جزء من القدر ليس بقدر. ولو قال: لا آكل خبز فلان، فأكل خبزا مشتركا بينه وبين غيره
328 حنث، لان كل جزء يسمى خبزا. ولو حلف لا يأكل لفلان رغيفا فأكل رغيفا مشتركا لا يحنث، لان بعضه لا يسمى رغيفا. ولو حلف لا يأكل مما خبز فلان، ومما طبخ، فالخباز هو الذي يضرب الخبز في التنور، دون من عجنه وبسطه، والطابخ هو الذي يوقد النار دون الذي ينصب القدر ويصب الماء واللحم فيه، وإنما ذلك مقدماته، لان الطبخ ما ينضج به اللحم، وذلك يحصل بالايقاد. ولو حلف لا يأكل من كسب فلان، فالكسب ما يصير ملكا للانسان بفعله، أو بقوله، مثل الاستيلاء، والاصطياد، والبيع، وغيرها، لأنه لا بد من القبول في حق الحكم، في الأسباب الشرعية التي يثبت بها الملك، فأما الميراث فليس بكسب، لأنه يثبت به الملك من غير صنعه. ولو مات المحلوف عليه، وترك أكسابه، فورثه الحالف، فأكل حنث، لأنه أكل من أكساب المحلوف عليه، لأنه لا يصير كسبا للوارث، فلم تنقطع الإضافة عن الأول. ولو باع المحلوف عليه كسبه من رجل، فأكل منه الحالف لا يحنث، لأنه صار كسبا للمشتري، فانقطعت الإضافة عن الأول. وإن حلف لا يجلس على الأرض. فجلس على شئ حائل بينه وبين الأرض، كالبوري (1) والبساط فإنه لا يحنث، لأنه يقال جلس على البساط، دون الأرض. ولو جلس على ثيابه: حنث، لأنها تبع للجالس سمي جالسا على
(1) البورية والبورياء الحصير المنسوج من القصب. 329 الأرض، لا على ثيابه. ولو حلف لا يجلس على هذا الفراش فجعل فوقه بساطا آخر، فجلس عليه لا يحنث، لأنه انقطعت الإضافة عن الأول. ولو حلف لا يجلس على هذا الفراش أو لا ينام فجعل فوقه فراشا آخر، فنام عليه لا يحنث عند محمد، لما قلنا. وقال أبو يوسف: يحنث، لأنه يحصل به زيادة توطئة ولين، فيكونان مقصودين بالنوم عليهما. وأجمعوا أنه إذا حلف لا يجلس على الفراش فجعل فوقه محبسا (1) أو قراما (2) حنث، لأنه تبع للفراش. ولو حلف لا يجلس على هذا السرير أو الدكان أو السطح فجعل فوقه مصلى أو فراشا أو بساطا، ثم جلس عليه حنث، لان السرير يجلس عليه هكذا غالبا. ولو جعل فوق السرير سريرا أو فوق السطح سطحا آخر لا يحنث، لان الجلوس يضاف إلى الثاني دون الأول. ولو نوى الجلوس على اللوح والأرض والسطح، يصدق فيما بينه وبين الله تعالى، دون القضاء، لأنه خلاف المعتاد، وإن كان حقيقة. ولو حلف لا يجلس على ألواح هذا السرير فجلس على بساط فوقه لا يحنث، لأنه لم يجلس على اللوح. ولو حلف لا يجلس على الأرض، فجلس على صحن السطح يحنث، لان ذلك يسمى أرض السطح. ولو حلف لا يفعل كذا فأمر غيره ففعل، ينظر:
(1) المحبس ثوب يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه. (2) القرام الستر الرقيق: وبعضهم يزيد: وفيه رقم ونقوش. 330 إن كان فعلا له حقوق تتعلق بالفاعل، فإنه يشترط وجود الفعل من الفاعل حقيقة، ولا يقوم فعل المأمور مقام فعل الآمر، كالبيع والشراء والإجارة والقسمة، لان حقوق هذه العقود تختص بالعاقد المباشر، دون الآمر ولهذا قالوا: إن الوكيل إذا كان هو الحالف يحنث، لان حقوق العقد راجعة إليه، إلا إذا كان الحالف ممن لا يلي هذه الأفعال بنفسه، كالقاضي والسلطان ونحوهما. وإن كان فعلا لا يتعلق حقوقه بالعاقد، وإنما يتعلق بالآمر، أوليس له حقوق، كالنكاح والطلاق والكتابة والضرب والذبح والقتل والهبة والصدقة والكسوة والقضاء والاقتضاء والخصومة والشركة، بأن قال: لا أشارك فلانا فأمر إنسانا بأن يشارك مع فلان ويعقد معه عقد الشركة نيابة عنه إذا فعل هذه الأفعال بنفسه، أو أمر غيره ففعل يحنث. وروي عن أبي يوسف، في الصلح، روايتان: فإن قال: فيما لا يتعلق حقوقه بالمباشر نويت أن أباشر ذلك بنفسي قال في الجامع الصغير: يدين فيما بينه وبين الله تعالى، دون القضاء، لأنه نوى غير الظاهر. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا حلف لا يضرب عبده أو لا يذبح شاته، فأمر إنسانا أن يفعل ذلك ففعل، وقال: عنيت أن أباشر ذلك بنفسي فإنه يصدق في القضاء، لأنه نوى حقيقة كلامه. ولو حلف لا يشتري دابة أو لا يركب دابة فهي على ما يركبه الناس في حوائجهم، وهو الفرس والحمار والبغل، دون البقر والإبل، لأنها في حقيقة اللغة اسم لما يدب على وجه الأرض، وإنه غير مراد، فكان المراد ما هو المعتاد عند الناس. ولو حلف لا يركب فرسا، فهو على العربي لا غير، والبرذون
331 يقع على الأعجمي، والخيل اسم جنس يقع عليهما. ولو حلف لا يركب مركبا ولا نية له، فهو على كل ما يركب من السفينة، والدواب، وغيرها. وهذا في عرفهم، وأما في عرفنا فيقع على الفرس. ولو حلف لا يكلم فلانا فناداه من بعيد، وهو حاضر في مكان بعيد فإن كان في موضع لو أصغى إليه أذنه يسمعه فإنه يحنث في يمينه، وإن لم يسمعه لاشتغاله بأمر آخر، وإن كان في موضع لا يسمعه، لبعده فإنه لا يحنث. وكذا إذا كان أصم بحيث لو أصغى إليه أذنه لا يسمع لا يحنث، لان تكليم فلان عبارة عن إسماع كلامه إياه، إلا أن الاسماع أمر باطن، فأقيم السبب الظاهر مقامه، وهو ما ذكرنا. ولو كان نائما فناداه حتى أيقظه حنث في يمينه، لأنه أسمعه كلامه. وإن لم يوقظه لا يحنث، وهو الصحيح، لان الانسان لا يعد مكلما للنائم إذا لم يتيقظ بكلامه، كما لا يعد متكلما مع الغائب. ولو سلم على قوم والمحلوف عليه فيهم حنث في يمينه، لأنه كلمه، وكلم غيره أيضا، فإن قصد بالسلام عليهم دونه، تصح نيته فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه نوى تخصيص كلامه. ولو سلم في الصلاة والمحلوف عليه معه في الصلاة فإن كان الحالف إماما ينظر إن كان المحلوف عليه على يمينه لا يحنث، لان التسليمة الأولى كلام في الصلاة، لأنه بها يخرج عن الصلاة، ولا تفسد الصلاة، فلا يكون من كلام الناس. وإن كان على يساره فقد اختلف المشايخ فيه. وإن كان الحالف مقتديا فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف كذلك،
332 لان المقتدي لا يصير خارجا عن الصلاة بسلام الامام عندهما، وعلى قول محمد: يحنث، كيفما كان، لأنه صار خارجا عن صلاته بسلام الامام، فوجد كلامه خارج الصلاة مع فلان، فيحنث. ولو كاتب فلانا أو أشار إليه بالإصبع فإنه لا يحنث، لان هذا ليس بكلام. ولو حلف لا يتكلم اليوم، ولا نية له، فصلى وكبر وقرأ وسبح لا يحنث، استحسانا، لان هذا لا يسمى كلام الناس في العرف. ولو قرأ خارج الصلاة. أو سبح أو هلل أو كبر يحنث عندنا، خلافا للشافعي، لان هذا كلام حقيقة، لكن حالة الصلاة مستثناة بدلالة الحال، وقيل هذا في عرفهم. وأما في عرفنا: فلا يحنث، لان هذا لا يسمى متكلما، كما في الصلاة. ولو حلف لا يكلم فلانا عاجلا أو آجلا، فالعاجل يقع على أقل من الشهر، والأجل يقع على الشهر فصاعدا. ولو حلف لا يكلمه إلى بعيد، ولا نية له فإنه يقع على أكثر من الشهر. ولو قال: إلى قريب يقع على الشهر فما دونه. ولو حلف لا يكلم فلانا أياما كثيرة فعلى قول أبي حنيفة رضي الله عنه: يقع على العشرة، وعلى قولهما: يقع على سبعة أيام. وعلى هذا الخلاف لو حلف لا يكلم فلانا لأيام عند أبي حنيفة: يقع على العشرة، وعندهما: على سبعة. ولو حلف لا يكلمه أياما: ففي رواية الجامع: يقع على ثلاثة أيام.
333 وفي رواية كتاب الايمان يقع على العشرة عنده، وعندهما: على سبعة. وعلى هذا الخلاف إذا حلف أن لا يكلمه الشهور أو السنين، (بالألف واللام) فعند أبي حنيفة يقع على عشرة. وعندهما: في الشهور يقع على اثني عشر شهرا، وفي السنين يقع على الأبد. ولو حلف لا يكلمه شهورا أو أشهر فعلى ثلاثة أشهر بالاتفاق. ولو حلف لا يكلمه جمعا أو الجمع ففي المنكر يقع على ثلاثة بالاتفاق، وفي المعرف عند أبي حنيفة: على عشرة جمع، وعندهما: على جمع الأبد. والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله أن المعرف يقع على الجنس، وعندهما على المعهود إن كان، وإلا فيقع على الكل، وفي المنكر يقع على أقل الجمع بالاجماع، وهو ثلاثة. ولو حلف لا يكلمه دهرا أو الدهر فعندهما: يقع في المنكر على ستة أشهر، وفي المعرف يقع على العمر، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن كان له نية فعلى ما نوى، وإن لم يكن له نية فما أدري ما الدهر. ومن أصحابنا من قال: لا خلاف في الدهر أنه على الأبد، وإنما قال أبو حنيفة: لا أدري ما الدهر إذا قال دهرا. ولو حلف لا يكلم فلانا حينا أو زمانا أو الحين أو الزمان فإنه يقع على ستة أشهر، لأنه يستعمل في أربعين سنة، وفي الزمان القليل أيضا يستعمل، ويستعمل في ستة أشهر فحمل على ستة أشهر، لأنا لا نعلم أنه لا يريد به القليل والكثير، فحمل على الوسط. ولو حلف ليضربن عبده عشرة أسواط، فجمع عشرة أسواط وضربه مرة واحدة. وأصاب الجميع جلده لا يحنث، لأنه ضربه عشرة
334 أسواط. فأما إذا لم يصب كل سوط جلده، فإنه يحنث، لأنه لا يسمى ضاربا عشرة أسواط. ولو حلف لا يقتل فلانا في المسجد أو يضربه أو لا يرمي إليه أو لا يشتمه فكل فعل له أثر في المفعول يعتبر وجود الأثر، ويتعلق بمكان المفعول، وإن لم يكن له أثر، يعتبر مكان الفاعل ففي القتل والضرب والرمي يعتبر مكان المفعول، حتى لو كان الفاعل خارج المسجد والمفعول في المسجد يحنث، ولو كان على عكسه لا يحنث. وفي الشتم لو كان الشاتم خارج المسجد، والمشتوم في المسجد لا يحنث، وعلى عكسه يحنث. ولو قال لا أتزوج في مكان كذا أو في يوم كذا فزوجه الفضولي امرأة في مكان آخر أو في يوم آخر، فبلغه الخبر، فأجازه في المكان الذي حلف وفي اليوم الذي حلف يحنث، ويعتبر مكان الإجازة، لان له أثرا وهو الحكم. وكذا في البيع والشراء يعتبر مكان الإجازة ويوم الإجازة. وقال محمد: في العقد الشرعي يعتبر مكان الفاعل وزمانه، وفي القتل كما قال أبو يوسف، لان الحكم يثبت من وقت العقد. ولو حلف لا يدخل هذا الفسطاط، وهو مضروب في مكان، فقلع وضرب في مكان آخر، فدخله حنث، لان اليمين يقع على العين، والعين باق. ولو حلف لا يجلس إلى هذه الأسطوانة وهي مبنية أو إلى هذا الحائط، فهدما، ثم بنيا بنقضهما، فجلس إليه: لا يحنث، لان العائد غير الأول. ولو حلف لا يكتب بهذا القلم، فكسر القلم، بحيث لم يبق له
335 صورته، ثم براه، فكتب به: لم يحنث، لان بعد الكسر هو أنبوبة، فإذا براه، فهو غير الأول. وكذا إذا حلف على مقص أو سكين أو سيف، فكسر، ثم أعاده ثانيا لا يحنث، لأنه غير الأول. ولو نزع مسمار المقص، ونصاب السكين، وجعل مكانه مسمارا آخر أو نصابا آخر يحنث، لان الأول باق، إنما فات وصف التركيب. ولو حلف لا يدخل هذه الدار فجعلها بستانا أو حماما أو مسجدا لا يحنث، لأنه صارت شيئا آخر من حيث الانتفاع والغرض. ولو حلف لا يدخل هذا البيت فهدمه ثم بناه ثانيا، فدخل لا يحنث، لان البيت اسم للمبنى، وهذا غير بناء الأول، بخلاف الدار إذا هدمها، ثم بناها ثانيا، فدخلها، أو دخل وهي مهدومة يحنث، لان الدار اسم للعرصة، والبناء تابع. ولو كان اليمين على خف أو قميص أو جبة، ففتقها، ثم أعادها حنث، لان العائد عين الأول. ولو فتق القميص فجعله جبة محشوة، لم يحنث، لان الجبة غير القميص. ولو حلفت المرأة لا تلبس هذه الملحفة فخيط جانباها، فجعلت درعا، وجعلت لها جيبا، فلبستها لم تحنث، لان الدرع غير الملحفة. ولو حلف لا أكلم عبد فلان أو لا أدخل دار فلان أو لا أركب دابة فلان أو لا ألبس ثوب فلان ولم يعين، ثم زال الملك، فكلم العبد، أو دخل الدار، أو ركب الدابة، أو لبس ذلك الثوب لا يحنث، بالاجماع. بخلاف الزوجة والصديق، لأنه يحتمل أن يكون الحلف لمعنى فيهما. فأما إذا عين فقال: لا أكلم عبد فلان هذا أو لا
336 أدخل دار فلأن هذه أو لا أركب دابة فلأن هذه أو لا ألبس ثوب فلان هذا قال أبو حنيفة وأبو يوسف: تبقى اليمين ببقاء الإضافة، فإذا زالت بزوال الملك، تبطل اليمين، إلا أن يعين سكنى هذه الدار خاصة. وقال محمد: يحنث، وإن زال ملك فلان، إلا أن يعني ما دام ملكا لفلان. ولو حلف لا يكلم زوجة فلأن هذه أو صديق فلان هذا، وزال النكاح والصداقة فكلم: حنث، بالاجماع. ولو حلف لا أكلم هذا العبد أو لا أدخل هذه الدار أو لا أركب هذه الدابة يعتبر العين بالاجماع. فأبو حنيفة رحمه الله اعتبر الإضافة شرطا لليمين، لأن الظاهر بهذه الإضافة الامتناع من الكلام لمعنى في المالك، كما إذا لم يكن معينا، ومحمد رحمه الله جعل الإضافة للتعريف بمنزلة الاسم إذا وجد التعيين حتى لا يلغو التعيين، كما في الزوجة والصديق عند التعيين. ولو حلف لا يدخل دار فلان ولا يلبس ثوب فلان ولا يركب دابة فلان ولا يكلم عبد فلان ولا يأكل عند فلان ولا يأكل طعام فلان ولا يشرب شراب فلان فهذا على ما في ملكه يوم فعل الذي حلف عليه، ولا يشترط قيام الملك يوم حلف هذا جواب ظاهر الروايات عن أصحابنا. وروى ابن سماعة عن محمد أنه يقع على ما في ملكه يوم حلف ولا يحمل على ما يحدث فيه الملك. وروي عن أبي يوسف أنه قال: فيما يستدام فيه الملك ولا يتجدد ساعة فساعة فاليمين على ما في ملكه، كالدار والعبد والثوب، وما يتجدد فيه الملك حالا فحالا في العادة فإنه يقع على ما في ملكه يوم فعل، كالطعام والشراب. والصحيح جواب ظاهر الروايات، لأن هذه اليمين عقدت على المنع
337 من الفعل في ملك فلان، فيعتبر يوم الفعل. ولو حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا هو ساكنها، بالملك أو بالإجارة أو بالإعارة، فهو سواء، ويحنث، لان الدار تضاف إلى المستأجر والمستعير في العرف. ولو حلف من بشرني من عبيدي بقدوم فلان فهو حر فبشره جماعة من عبيده فإن كانوا معا عتقوا، وإن سبقهم واحد منه ثم الباقون يعتق السابق. وإن حصل له العلم بقدوم فلان، بخبر غيرهم، أو بالمشاهدة منه ثم أخبره من العبيد الذين حلف بعتقهم، فإنه لا يعتق واحد منهم، لان البشارة خبر سار ليس عند المخبر به خبره، وهذا لا يحصل إذا كان له علم قبل خبره. وإذا لم يكن عالما، حصل العلم بخبر الجماعة معا، فيحنث.
338 باب النذر إذا نذر لله سبحانه وتعالى بما هو قربة وطاعة، يجب عليه الوفاء به، ولم يجب عليه غير ذلك. وإن كان مباحا لا يجب عليه شئ. وإن كان معصية لم يجب عليه الوفاء به، وعليه كفارة اليمين إذا فعله. وأصله قوله عليه السلام: من نذر نذرا أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه، وقال عليه السلام: النذر يمين، وكفارته كفارة يمين. وهذا على الرواية المشهورة عن أصحابنا فيمن قال: لله علي أن أصوم سنة ونحوها يلزمه الوفاء بها، ولا يجزئه كفارة اليمين. وفي رواية تجزئه كفارة اليمين. وقالوا: رجع أبو حنيفة رحمه الله عن الجواب الأول، إليه وهو قول الشافعي. والمسألة معروفة. ولو قال: لله علي أن أحج ماشيا يلزمه الحج ماشيا، فلو حج راكبا يجزئه، وعليه إراقة الدم، لان النذر ملحق بالامر، والحج الواجب راكبا لا ماشيا، فخرج عن نذره لكن يلزمه الدم، لأنه أدخل نقصا وفيه ورد الحديث هكذا. ولو قال: لله على أن أصلي ركعتين يوم كذا أو في موضع كذا فصلى قبل ذلك اليوم، أو في موضع آخر أجزأه، عنه.
339 ولو قال: لله علي أن أتصدق يوم كذا أو علي مساكين بلد كذا فإنه لا يتقيد بذلك. ولو قال: لله علي أن أصوم رجب فصام شهرا قبل ذلك، جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعلى قول محمد: لا يجزئه. أما الصلاة فلا تتقيد بالمكان واليوم، لان معنى القربة في نفس الفعل، وكذا الصدقة، وأما الصوم فأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان: إن ذكر الوقت لتقدير لا لتعين الواجب، لان الأوقات، في معنى العبادة، سواء. ولو قال: علي طعام مساكين ولم يكن له نية فعليه أن يطعم عشرة مساكين كل مسكين نصف صاع من بر. ولو قال لله علي صدقة ولم يكن له نية فعليه نصف صاع. ولو قال: لله علي صوم فعليه صوم يوم. ولو قال لله علي أن أصلي صلاة فعليه ركعتان، لان النذر معتبر بالامر، فإذا لم يذكر فيه التقدير، اعتبر أدنى ما ورد في الامر، وهو ما ذكرنا.
340 باب كفارة اليمين الحانث لا يخلو: إما إن كان موسرا، أو معسرا. فإن كان موسرا فهو مخير بين ثلاثة أشياء: بين الاطعام، والكسوة، والاعتاق لقوله تعالى: * (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) * (1). فإن اختار الطعام: يعطي كل مسكين نصف صاع من حنطة، أو صاعا من شعير أو دقيقهما أو صاعا من تمر، أو قيمة هذه الأشياء، دراهم ودنانير أو عروضا، كما في صدقة الفطر على ما ذكرنا. ولو دعا عشرة مساكين، فغداهم وعشاهم مشبعا خبزا مع الادام أو بغير الادام أو سويقا، أو تمرا كان جائرا، لان الله تعالى أمر بالاطعام، وهو اسم للفعل، إلا أن التمليك عرفناه بدلالة النص، والاطعام في حق الأهل قد يكون مع الادام، وقد يكون بغيره. ولو أطعم مسكينا واحدا عشرة أيام، غداء وعشاء، أو أعطى مسكينا واحدا، عشرة أيام، كل يوم نصف صاع، جاز، لان المقصود سد خلة
(1) سورة المائدة: الآية 89. 341 عشرة مساكين، عشرة أيام، وقد حصل. ولو أطعم عشرة مساكين في يوم غداء، وأعطى كل واحد مدا من الطعام، جاز، لأنه جمع بين التمليك وطعام الإباحة. وكذا لو غدى رجلا واحدا، عشرين يوما، أو عشى رجلا في رمضان عشرين يوما، جاز، لان المقصود قد حصل. ولو أعطى مسكينا واحدا، طعام عشرة في يوم واحد لم يجز، لان الله تعالى أمر بسد جوعة عشرة مساكين، جملة أو متفرقا على الأيام ولم يوجد. ولو أطعم فقراء أهل الذمة، جاز، وفقراء المسلمين أفضل، كما ذكرنا في صدقة الفطر، خلافا لأبي يوسف. وإن اختار الكسوة: كسا كل مسكين ثوبين. وإن كساهم ثوبا جامعا نحو القميص والقباء والملحفة والكساء جاز، لان الله تعالى أمر بالاكساء، فكل ثوب يصير به كاسيا دخل تحت النص. ولو كساه قلنسوة أو عمامة لا يجوز، لأنه لا يسمى به كاسيا. ولو كسا سراويل، قال: لا يجوز. ولو كساه إزار جاز، ولكن أراد به أن يكون من الرأس إلى القدم. وأما إذا كان يستر به العورة لا يستر البدن لا يجوز وهذا جواب ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: إذا كان مما يستر به العورة، وتجوز فيه الصلاة: يجوز. والمعتبر في ظاهر الرواية ما يسمى لابسا، ولابس السراويل يسمى عريانا. ولو أن قيمة العمامة والسراويل بلغت قيمة الطعام، هل يقع عن
342 الطعام؟ عند محمد: يقع بغير نية، إذا وجدت منه نية الكفارة. وعند أبي يوسف: لا يقع ما لم ينو الكسوة عن الطعام. وأما إذا اختار التحرير: فإن أعتق رقبة مطلقة كاملة الذات وكاملة الرق بنية الكفارة، بأي صفة كانت جاز، صغيرا كان أو كبيرا، مسلما كان أو ذميا، لان الله تعالى أمر بإعتاق رقبة مطلقة، بقوله: (أو تحرير رقبة) وكذا في كفارة الظهار، وهذا عندنا. وعند الشافعي: لا يجوز إلا المؤمنة، كما في كفارة القتل. ولو أعتق رقبة معيبة فالأصل فيه أن كل عيب يوجب فوات جنس المنفعة، يمنع عن الكفارة، وإلا فلا. إذا ثبت هذا نقول: إذا أعتق عبدا أعور، أو مقطوع إحدى اليدين أو الرجلين أو اليد والرجل من خلاف أجزأه، لان منفعة الجنس باقية. ولو أعتق الأعمى أو المقطوع اليدين أو الرجلين، أو المقطوع اليد والرجل من جانب واحد، لا يجوز، لان منفعة الجنس معدومة. وأما المجنون المغلوب، فلا يجوز، لان منفعة الأجناس معدومة. ولو أعتق مفلوجا يابس الشق لا يجوز، لأنه فات منفعة الجنس. ولو أعتق الحمل لا يجوز، وإن ولد حيا بعد يوم، لأنه في معنى الاجزاء من وجه. وأما الأصم فالقياس أن لا يجوز. وفي الاستحسان يجوز، لأنه إذا بولغ في الصياح، يسمع، فلا يفوت جنس المنفعة.
343 وأما الأخرس فلا يجوز، لما قلنا. ولو أعتق حلال الدم، جاز، لأنه رقبة كاملة لوجود الملك، واسم الرقبة ووجوب القصاص، لا يمنع جواز التكفير به، وإنما وجب عليه حق. ولو أعتق عبدا مديونا، جاز، وللغرماء حق الاستسعاء. ولو أعتق ذا رحم محرم منه عن الكفارة جاز، عندنا خلافا للشافعي. ولو أعتق المكاتب، جاز عندنا خلافا له. ولو أدى بعض بدل الكتابة لا يجوز بالاجماع. ولو أعتق عبدا مشتركا بينه وبين شريكه، وهو موسر، واختار الشريك الضمان حتى عتق كله عن المعتق، لا يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما: يجوز، لان الاعتاق لا يتجزأ عندهما، فيقع الكل عن الكفارة، وثبت الملك بالضمان سابقا، وعند أبي حنيفة الاعتاق يتجزأ فإذا أعتق النصف جاز، وينتقص، فإذا ضمن ملك النصف الناقص، وإعتاق الناقص لا يجوز. وبمثله لو أعتق نصف عبده عن الكفارة ثم أعتق النصف الباقي جاز، وبين الامرين فرق بعيد. وإن كان معسرا حتى وجبت السعاية على العبد، لا يجوز، لأنه يجب عليه السعاية فيصير كالعتق بعوض وهذه مسألة معروفة. ولو قال لعبده: إن اشتريتك فأنت حر، ثم اشتراه بنية الكفارة لا يجوز، لأنه لم توجد النية منه عند اليمين وإنه يصير معتقا بذلك الكلام، حتى لو قال له: إن اشتريتك عن يمين فأنت حر عن كفارة يميني جاز.
344 ولو أعتق المدبر أو أم ولد عن الكفارة، لا يجوز، لأنه ناقص الرق. أما إذا كان الحالف معسرا فعليه صوم ثلاثة أيام متتابعة، عندنا وعند الشافعي: يجوز متفرقا، وقد ذكرنا هذا ولو أفطر لمرض، أو المرأة تحيض، استقبلا لأنهما يجدان ثلاثة أيام لا تحيض فيها ولا مرض في الغالب، فيبطل التتابع، بخلاف صومه شهرين متتابعين فإن ثم لا ينقطع التتابع، لأجل العذر، وينقطع بالمرض لان الغالب أن الشهرين لا يخلوان عن الحيض أو عن المرض. ولو أن المعسر إذا أيسر في خلال الصوم، يجب عليه الاطعام أو الاعتاق أو الكسوة، ويبطل الصوم، لأنه قدر على الأصيل قبل حصول المقصود بالبدل. ولو أيسر بعد الصيام، لا يبطل الصوم، بخلاف الشيخ الفاني إذا أطعم مكان الصوم ثم قدر، يبطل، لان ذلك بدل ضروري. ولو أعتق رجل بأمر رجل أو أطعم عنه أو كسا جاز، وإن لم يعطه الدراهم والدنانير. وإن فعل بغير أمره ثم أجازه: لم يجز، لان الاعتاق بأمره كإعتاقه، ويكون مليكا للعبد منه، وأمره بذلك قبول منه، فجاز. فأما إذا فعل بغير أمره، لا يتوقف على إجازته، لأنه وجد نفاذا على مالكه، وهو التقرب إلى الله، فلا يتوقف. ولو صرف قيمة الطعام والثياب، بنية الكفارة، إلى بناء المساجد أو أكفان الموتى أو قضاء دين رجل فقير، فإنه لا يقع عن الكفارة، لان الواجب هو التمليك، ولم يوجد.
345 ولو كان الحانث له مال، وعليه دين مستغرق، أجزأه الصوم، لأنه مستحق الصرف إلى الدين. ولو كان له عبد وعليه دين، لم يجزئه الصوم، لأنه قادر على إعتاقه عن الكفارة، وقيل: من أصحابنا من قال: يجوز، لكونه فقيرا.
346 كتاب الإجارة الإجارة نوعان: إجارة على المنافع، وإجارة على الاعمال. ولكل نوع شروط، وأحكام. أما الإجارة على المنافع فكإجارة الدور والمنازل، والحوانيت والضياع، وعبيد الخدمة، والدواب للركوب والحمل، والثياب والحلي للبس، والأواني والظروف للاستعمال. والعقد جائز في ذلك كله. وشرط جوازه أن تكون العين المستأجرة معلومة، والأجرة معلومة، والمدة معلومة بيوم أو شهر أو سنة، لأنه عقد معاوضة كالبيع، وإعلام المبيع والثمن شرط في البيع فكذلك ههنا، إلا أن المعقود عليه ههنا هو المنافع، فلا بد من إعلامها بالمدة والعين والذي عقدت الإجارة على منافعه. وأما أحكام هذا النوع من الإجارة، فكثيرة: منها: أنه يجب على الآجر تسليم المستأجر عقيب العقد. وليس له أن يحبس المستأجر لاستيفاء الأجرة كما في باب البيع، لان الأجرة لا تجب بنفس العقد، عندنا، لكون المعقود عليه، وهو المنافع، معدومة، وإذا لم يجب الاجر فليس له حق حبس المستأجر لاخذ الاجر، وأما في البيع فالثمن واجب.
347 وإنما يجب الاجر ويملك بأحد معان ثلاثة: إما بأن يشترط تعجيله في نفس العقد، وإما أن يعجل بغير شرط، وإما باستيفاء المنافع شيئا فشيئا أو بالتمكين من الاستيفاء بتسليم المستأجر إليه وبتسليم المفتاح إليه أيضا. وعند الشافعي: تجب الأجرة كلها بنفس العقد والمسألة معروفة. ثم إن وقع الشرط في عقد الإجارة أن لا يجب الاجر إلا بعد انقضاء مدة الإجارة فذلك جائز، فيكون تأجيلا للأجرة، بمنزلة تأجيل الثمن. وأما إذا لم يشترط في العقد شيئا فقال أبو حنيفة أولا، وهو قول زفر: لا تجب الأجرة إلا في آخر المدة، ثم رجع وقال: تجب حالا فحالا، كلما مضى يوم يسلم أجرته، وهو قول أبي يوسف ومحمد، لان الأجرة تملك على حسب ملك المنافع ساعة فساعة، والاستيفاء على هذا الوجه متعذر، فقدره باليوم. وذكر الكرخي في الإجارة على قطع المسافة أنه يسلم أجرة كل مرحلة. ومنها: أنه يعتبر ابتداء المدة من حين وقع العقد، فإذا أجر شهرا أو شهورا أو سنين معلومة فإن وقعت الإجارة في أول الشهر يعتبر بالأهلة، وإن وقعت في بعض الشهر يعتبر بالأيام كل شهر ثلاثون يوما. وكذلك في الشهور والسنين. وذكر في الأصل إذا استأجر دارا سنة مستقبلة في بعض الشهر، فإنه يسكن بقية هذا الشهر وأحد عشر شهرا بالأهلة ويتم الشهر الأول بالشهر الثاني فيكون في المسألة روايتان. ولو أضاف الإجارة إلى زمان في المستقبل، بأن قال في رمضان أجرتك هذه الدار سنة أولها غرة المحرم يجوز.
348 وقال الشافعي: لا تجوز الإجارة ما لم يكن أول المدة عقيب العقد. ولهذا قلنا: إن المؤاجر لو باع هذه الدار لا يصح في حق المستأجر، وإن لم يجئ الوقت الذي أضيف إليه الإجارة، لكن لا يجب عليه تسليم الدار ما لم يأت ذلك الوقت. ومنها: أنه إذا استأجر دارا أو حانوتا أو غير ذلك من العقار غير المزارع، فله الانتفاع بها كيف شاء من السكنى، وله أن يسكن فيها من أحب، بالإجارة والإعارة، وله أن يعمل فيها أي عمل شاء، غير أنه لا يجعل فيها حدادا ولا قصارا ولا ما يضر بالبناء ويوهنه. ولا تفسد الإجارة وإن لم يسم ما يعمل فيها، لان منافع السكنى غير متفاوتة إذا لم يكن فيها ما يوهن البناء، وذلك مستثنى فصارت المنافع معلومة بخلاف ما إذا استأجر أرضا للزراعة حيث لم يجز العقد حتى يبين ما يزرع فيها، أو يجعل له أن يزرع فيها ما شاء، لان منافع الزراعة مختلفة. ولو استأجر دابة ولم يسم ما يحمل عليها، أو عبدا ولم يبين العمل لا يجوز، لان ذلك مما يتفاوت، وإن اختصما يفسخ العقد، وإن مضت المدة، أو حمل عليها، أو استعمل العبد فالقياس أن يجب أجر المثل، لأنه استوفى المنفعة بعقد فاسد، وفي الاستحسان يجب المسمى، لأنه يتعين المعقود عليه ويصير معلوما بالعمل والحمل، فيعود العقد جائزا. ومنها: أنه يجب على المؤاجر تسليم المستأجر سليما عن العيب الذي يضر بالانتفاع، خاليا عن الموانع التي تمنع من الانتفاع في جميع المدة حتى يجب عليه جميع الاجر. فإن كان به عيب يضر بالانتفاع، فالمستأجر بالخيار إن شاء فسخ الإجارة، وإن شاء مضى عليها
349 فإن مضى عليها مع العيب، يجب عليه جميع المسمى، لأنه رضي بالمعقود عليه مع العيب. وإن زال ذلك العيب أو سقط حائط فبناه المؤاجر، فلا خيار للمستأجر، لان العيب زال. فإن كان المؤاجر غائبا فليس له أن يفسخه، لان الفسخ لا يجوز إلا بحضور العاقدين أو من قام مقامهما. وإن سقطت الدار كلها أو انهدمت، فله أن يخرج من الدار، كان المؤاجر حاضرا أو غائبا. واختلفت إشارة الروايات في أن العقد ينفسخ أو يثبت له حق الفسخ؟ والصحيح أنه ينفسخ، لأنه فات جنس الانتفاع المعهود، بالدار، وإنما يمكنه أن ينتفع بضرب الخيمة ونحوها، والعقد ينفسخ بهلاك المعقود عليه. وأما إذا استأجر دارين صفقة واحدة، فسقطت إحداهما أو منعه مانع من إحداهما، أو كانت الدار المستأجرة واحدة وامتنع رب الدار عن تسليم بيت منها، فله أن يفسخ العقد، لان الصفقة تفرقت في المنافع، وتفريق الصفقة يثبت الخيار. أما إذا حدث مانع يمنع من الانتفاع بعد التسليم في المدة كما إذا غصبه غاصب، أو حدث الإباق أو المرض المعجز عن الانتفاع، أو انقطاع الماء في الرحا أو الشرب في الأرض، فإنه تسقط الأجرة، في المستقبل، ما لم يسلم إليه ويلزمه أجر ما مضى، لان الاجر يجب شيئا فشيئا بمقابلة استيفاء المنافع. ثم تطيين الدار وإصلاح ميازيبها، وما وهي من بنائها على رب الدار دون المستأجر، حتى تكون صالحة للانتفاع، ولكن لا يجبر على ذلك،
350 لان المالك لا يجبر على إصلاح ملكه، لكن يثبت الخيار للمستأجر، لان هذا في معنى العيب. وكذا إصلاح بئر الماء، والبالوعة، والمخرج على رب الدار، وإن امتلأ من فعل المستأجر، لكن لا يجبر عليه، لما ذكرنا. وإذا انقضت مدة الإجارة، وفي الدار تراب من كنس المستأجر، فعليه أن يرفعه لأنه حدث بفعله. والقياس في امتلاء المخرج والبالوعة كذلك، وفي الاستحسان لا يلزمه، لان العادة جرت أن كل ما كان مغيبا في الأرض فنقله على صاحب الدار. وإن أصلح المستأجر شيئا من ذلك، يكون متبرعا إلا إذا فعل ذلك بأمر رب الدار أو بأمر من هو نائب عنه. وعلى المستأجر، في إجارة الدار والحانوت تسليم المفتاح إلى المؤاجر بعد انتهاء المدة. فأما في الدابة التي استأجرها للركوب في حوائجه في المصر وقتا معلوما فليس عليه أن يسلمها إلى صاحبها، بأن يذهب بها إلى منزله، وعلى المؤاجر أن يقبضها من منزل المستأجر، لأنه حصل له المنفعة بالتسليم إلى المستأجر، وهو الاجر، فلم يكن عليه الرد كما في الوديعة، حتى لو أمسكها أياما ولم ينتفع بها فهلكت في يده لم يضمنها، وفي العارية والغصب يجب الرد على المستعير والغاصب. ولو استأجر من موضع مسمى في المصر إلى مكان معلوم ذاهبا وجائيا فإن على المستأجر أن يأتي بها إلى ذلك الموضع الذي قبضها منه، لان انتهاء الإجارة إلى هذا الموضع، فعليه أن يأتي بها إليه، لان الرد واجب على المستأجر، فإن حملها إلى منزله فأمسكها حتى عطبت يضمن لأنه
351 تعدى في حملها إلى غير موضع العقد حتى لو قال المستأجر اركبها من هذا الموضع إلى موضع كذا، وارجع إلى منزلي فليس على المستأجر أن يردها إلى منزل المؤاجر، لان الإجارة انتهت، فبقيت أمانة في يده، فلا يجب عليها الرد كما في الوديعة. وأما الإجارة على الاعمال فكاستئجار القصار والإسكاف والصباغ وسائر من يشترط عليه العمل في سائر الأعمال، من حمل الأشياء من موضع إلى موضع ونحوها. وهو نوعان: استئجار الأجير المشترك، والأجير الخاص الذي يسمى أجير الوحد، فالأجير المشترك، كاسمه، الذي يتقبل الاعمال من الناس كالصباغ والقصار ونحوهما. وأجير الوحد كاسمه الذي يعمل للواحد مدة معلومة، وللأول أن يعمل لهم جميعا، وليس لمن استأجره أن يمنعه عن العمل لغيره. وفي أجير الوحد ليس له ذلك، وللمستأجر أن يمنعه. ثم أحكامهما تختلف في بعض الأشياء وتتفق في البعض: فأجير الوحد لا يكون ضامنا للعين التي تسلم إليه للعمل فيها، كما إذا استأجر يوما أو شهرا قصارا أو خياطا ليعمل له لا غير، حتى لو هلك في يده لا بصنعه لا يضمن بالاجماع. وكذلك لو تخرق بصنعه الذي هو من العمل المأذون فيه. فأما الأجير المشترك فلا يكون ضامنا وتكون العين التي في يده أمانة عند أبي حنيفة وزفر. وفي قول أبي يوسف ومحمد: يكون مضمونا لو هلك بغير صنعه يضمن إلا إذا هلك بحرق غالب أو بغرق غالب ونحو ذلك. ولو تخرق بصنع معتاد بأن دق مثله، أو ألقاه في النورة فاحترق، أو الملاح إذا غرقت السفينة من عمله، والحمار إذا سقط وفسد الحمل، أو الراعي المشترك إذا ساق الدواب فضرب بعضها بعضا في حال
352 سياقه حتى هلك: يكون مضمونا عندنا، وقال زفر والشافعي: لا يضمن والمسألة معروفة. ولو استأجر البزاغ والفصاد والختان فعملوا عملهم ثم سرى إلى النفس ومات فلا ضمان عليهم، لأنه ليس في وسعهم الاحتراز من ذلك. ولو تخرق بدق أجير القصار، لا ضمان عليه، ولكن يجب الضمان على الأستاذ، لان عمله ينتقل إليه كأنه فعل بنفسه. ولو وطئ على ثوب من ثياب القصارة فخرقه، يضمن، لان هذا ليس من توابع العمل. ولو وقع من يده سراج فأحرق ثوبا من ثياب القصارة، فالضمان على الأستاذ، لا عليه، لان الذهاب والمجئ بالسراج عمل مأذون فيه. وكذلك لو وقع الكذينق (1) من يده فخرق ثوبا من ثياب القصارة، فالضمان على الأستاذ، لان هذا من عمل القصارة. ولو وقع على ثوب وديعة عند الأستاذ فخرقه، ضمنه الأجير وكذا في السراج إذا حرقه. ولو هلك العين المعمول فيه هل يسقط الاجر؟ فهذا لا يخلو إما إن كان العين المعمول فيه في يد الأجير أو في المستأجر. فإن كان في يد الأجير فهو على وجهين: إما إن كان لعمله أثر في العين، كالقصارة والصباغة، فإنما يجب الاجر بتسليم ذلك الأثر، فإذا هلك قبل التسليم في يده سقط الاجر، لأنه لم يسلم المعقود عليه.
(1) الكذينق الذي يدق به القصار. ليس بعربي. 353 وإن لم يكن لعمله أثر في العين، كالحمال والملاح، فكما فرغ من العمل يجب الاجر، وإن لم يسلم العين إلى صاحبه، لان المعقود عليه المنفعة ونفس العمل، فإذا انتهت المدة فقد فرغ من العمل وصار مسلما في العين التي هي ملك صاحبها فلا يسقط الاجر بالهلاك بعده، ولهذا قالوا: إن كل عمل له أثر في العين هو الذي ملك صاحبه: كان له حق حبس العين، حتى يستوفي الاجر، لان البدل مستحق بمقابلة ذلك الأثر، وما لا أثر له: لا يثبت فيه حق الحبس، لان العمل المعقود عليه ليس في العين ولهذا قالوا إن الحمال إذا حبس المتاع الذي في يده ليستوفي الاجر، فهلك يضمن، لأن العين أمانة في يده، فإذا حبس صار غاصبا، فيضمن. وأما إذا كان العين المعمول فيه في يد المستأجر، بأن عمل الأجير في ملك المستأجر أو فيما في يده من فناء ملكه ونحو ذلك فإذا فرغ من العمل يستحق كل الاجر وإن لم يفرغ وعمل بعضه يستحق الاجر بقدره ويصير ذلك مسلما إلى صاحبه حتى إنه إذا استأجر إنسانا ليبني له بناء في داره أو فيما في يده، أو يعمل له ساباطا أو جناحا، أو يحفر له بئرا أو قناة أو نهرا في ملكه أو فيما في يده، فانهدم البناء أو انهارت البئر أو سقط الساباط لم يسقط شئ من الاجر إن كان بعد الفراغ، وإن كان قبل الفراغ يجب بقدر حصة العمل. وأما إذا كان الحفر أو البناء في غير ملكه ويده فلم يصر مسلما إليه بالعمل، فما لم توجد التخلية من الأجير، بين المستأجر وبينه، لا يصير قابضا للمعقود عليه، فإذا فسد قبل ذلك أو هلك سقط الاجر. وعلى هذا إذا استأجره ليضرب له لبنا في ملكه، فرب اللبن لا يصير قابضا حتى يجف اللبن وينصبه في قول أبي حنيفة، وعندهما حتى
(1) الساباط سقيفة بين حائطين. 354 يشرجه (1)، وإن كان ذلك في غير ملكه أو في غير يده لم يكن له الاجر حتى يسلمه إليه منصوبا عنده، وعندهما مشرجا، لأنه لم يكن في يده حتى يصير العمل مسلما إليه، فلا بد من التخلية بعد الفراغ من العمل. وعلى هذا الخياط يخيط له في منزله قميصا، فإن خاط بعضه لم يكن له أجر، لان هذا العمل لا ينتفع ببعضه، فإذا فرغ منه ثم هلك فله الاجر، لأنه صار مسلما للعمل عنده.
(1) شرج اللبن نضد بعضه إلى بعض وكل ما ضم بعضه إلى فقد شرج. 355 باب الإجارة الفاسدة وما يكون به مخالفا المستأجر إذا كان مجهولا، أو الاجر مجهولا، أو العمل، أو المدة، فالإجارة فاسدة، لأنها جهالة تفضي إلى المنازعة، كما في البيع. وإجارة المشاع، فيما يقسم أو لا يقسم، فاسدة عند أبي حنيفة وزفر. وعلى قولهما: جائزة وهو قول الشافعي. وأجمعوا أنها من الشريك جائزة. وأجمعوا أنه لو أجر من رجلين جاز، ولو مات أحدهما حتى بطلت الإجارة في حصته وصارت ملكا للوارث فيصير شيوعا طارئا، فإنه لا تبطل الإجارة، فالشيوع المقارن مفسد والطارئ غير مفسد، هذا هو المشهور من الرواية، والمسألة تعرف في الخلافيات. والإجارة على القرب والطاعات، كالحج والإمامة والآذان ونحوها فاسدة عندنا خلافا للشافعي. والإجارة على المعاصي، كما إذا استأجر مغنيا أو نائحة فهي فاسدة. ولا يجوز إجارة النهر والبئر والقناة مع الماء، ولا إجارة المراعي والآجام، لأن هذه إجارة على استهلاك العين، والإجارة لاستيفاء المنافع مع بقاء العين.
357 ولو أستجر نهرا يابسا أو موضعا من الأرض معلوما، ليسيل فيه ماء المطر أو ماء الزراعة، لا يجوز، لتفاوت في قلة الماء وكثرته، وذلك مما يضر بالنهر، وروي عن محمد أنه يجوز. ولو استأجر طريقا في دار غيره ليمر فيها وقتا معلوما لم يجز في قياس قول أبي حنيفة، ويجوز في قياس قولهما بناء على أن إجارة المشاع فاسدة عنده، خلافا لهما. وإذا استأجر رجلا للبيع والشراء لا يجوز، لأنه لا يقدر على ذلك إلا بفعل غيره، وأما إذا استأجره شهرا ليبيع له ويشتري جاز، لان الإجارة وقعت على منفعة المدة، وهي معلومة. ولو استأجر أرضا، فيها رطبة، سنة لا يجوز، لأنه لا يمكن تسليمها إلا بضرر، وهو قلع الرطبة، فإن قلع رب الأرض الرطبة، وسلم أرضا بيضاء جاز ويجبر على القبول، كما إذا اشترى جذوعا في سقف. ولو استأجر عبدا للخدمة أو دابة للحمل وشرط المستأجر نفقتها، فهي فاسدة، لان قدر النفقة مجهول. ثم في الإجارة الفاسدة، إذا استوفى المنفعة يجب أجر المثل، مقدرا بالمسمى عندنا، وعند زفر: يجب أجر المثل تاما على ما مر. وأما بيان ما يصير به مخالفا، وما لا يصير به مخالفا فنقول: إذا استأجر دابة ليحمل عليها شيئا، فحمل عليها غيره ينظر: إن كان ضرر الدابة من حيث الخفة والثقل فإن كان ذلك الشئ مثل المأمور به أو أخف فلا شئ عليه، لان التعيين لا فائدة فيه. وإن كان أثقل فإن كان بخلاف جنسه، بأن حمل مكان الشعير الحنطة، فعطبت الدابة، فهو مخالف وضامن ولا أجر عليه لأنها هلكت بفعل غير
358 مأذون فيه، فوجب الضمان دون الاجر، لأنهما لا يجتمعان. وإن كان من جنسه، فحمل المسمى وزاد عليه، بأن حمل أحد عشر قفيزا مكان العشرة فإن سلمت الدابة فله ما سمى من الاجر، وإن عطبت فهو ضامن لجزء من أحد عشر جزءا من أجزاء الدابة، وعليه الاجر الذي سمي، لأنها ماتت بفعل مأذون وغير مأذون، فيقسم على قدر ذلك. فأما إذا كان ضرر الدابة لا من حيث الخفة والثقل، بأن يستأجر دابة ليحمل عليها مائة من قطن، فحمل عليها مثل وزنه حديدا أو أقل، ضمن، لان ثقل القطن يكون على جميع العضو لأنه ينبسط على الموضع الذي حمل عليه، فأما ثقل الحديد فيكون في موضوع واحد، فيكون أثره أقوى في الضرر. وعلى هذا إذا استأجرها ليركبها، فأركب من هو مثله في الثقل أو أخف، ضمن، لان ذلك يختلف بالحذق والخرق، ولو ركبها، وأركب مع نفسه غيره، فعطبت فإن كانت الدابة مما يمكن أن يركبها اثنان يضمن نصف قيمتها، لان التلف حصل بركوبهما، فصار كما لو تلفت بجراحتهما وأحدهما غير مأذون، وإن كان لا يمكن فعليه جميع قيمتها، لان هذا إتلاف منه. وعلى هذا إذا استأجر دابة بإكاف (1) فأسرجها لا ضمان عليه، لان الضرر أقل، لأنه يأخذ من الظهر أقل. وإن استأجر حمارا بسرج فأسرجه سرجا آخر فإن كان مثل الأول بأن يسرج به الحمار، لا يضمن، وإن أسرجه بسرج الفرس يضمن. فإن أوكفه ذكر في الأصل أنه يضمن بقدر ما زاد الإكاف على السرج وفي
(1) إكاف الحمار برذعته. 359 الجامع الصغير على قول أبي حنيفة: يضمن الكل. وعندهما: بقدر ذلك. وإن استأجر حمارا عريانا فأسرجه فإن استأجر ليركب خارج المصر لا يضمن. وإن استأجر ليركبه في المصر فإن كان رجلا من الاشراف أو الأوساط لا يضمن، لان مثله لا يركب من غير سرج، فيكون إذنا دلالة، وإن كان من الأسافل يضمن، لان مثله يركب بغير سرج، بالجل (1) ونحوه، والسرج أثقل فيضمن. ثم الإجارة تفسخ بالاعذار المخصوصة عندنا، وإن وقعت الإجارة صحيحة لازمة، بأن لم يكن ثمة عيب ولا مانع من الانتفاع. وقال الشافعي: لا تفسخ والمسألة معروفة. ثم العذر ما يكون عارضا يتضرر به العاقد مع بقاء العقد، ولا يندفع بدون الفسخ بيان ذلك: إذا أراد المستأجر أن ينتقل عن البلد أو يسافر، فله أن ينقض الإجارة، في العقار وغيره. وكذا مستأجر الحانوت: إذا ترك ذلك العمل أو التجارة وانتقل إلى غيره. وكذا إذا أفلس. وليس للمؤاجر عند السفر والنقلة عن البلد عذر، لأنه لا ضرر عليه في تبقيه العقد. ومرض الحمال والجمال بحيث يضره الحمل عذر في رواية أبي يوسف، لان غيره لا يقوم مقامه إلا بضرر وذكر محمد في الأصل وقال:
(1) جل الدابة وجلها الذي تلبسه لتصان به. 360 مرض الجمال لا يكون عذرا، لان خروجه مع الإبل ليس بمستحق. وكذا الدين الذي لا طريق للمؤاجر في قضائه إلا بيع المستأجر يكون عذرا. وكذا المستأجر إذا كان لا يحصل له النفع مما استأجر، إلا بضرر يدخله في ملكه أو بدنه، فبدا له ذلك فله فسخه كمن استأجر رجلا ليقصر له ثيابا أو يقطعها أو يخيطها أو ينقض دارا له أو يقطع شجرا أو يحدث في ملكه شيئا من بناء أو حفر أو ليحتجم أو يفتصد، أو يقلع ضرسا له، أو ليزرع أرضا له ببذره ونحو ذلك لأنه إذا بدا له من ذلك ظهر أنه له فيه ضررا. ثم الإجارة تبطل بموت المستأجر أو المؤاجر عندنا، خلافا للشافعي ونعني به موت من وقع له عقد الإجارة، دون العاقد، حتى إذا كان وكيلا لا تبطل. فأما هلاك المستأجر، فإن كان شيئا بعينه يبطل. وإن كان بغير عينه، بأن وقعت الإجارة على دواب بغير عينها للحمل أو الركوب، وسلم إليه الدواب، فهلكت فعلى المؤاجر أن يأتي بغيرها ليحمل المتاع، وليس له أن يفسخ، لأنه لم يعجز عن وفاء ما التزمه بالعقد وهو حمل متاعه إلى موضع كذا. ثم إجارة الظئر مثل إجارة عبد الخدمة لا بد من بيان الوقت، وبيان الاجر، ونحو ذلك، إلا أن في الظئر إذا استأجرها بكسوتها ونفقتها جاز، من غير بيان عند أبي حنيفة استحسانا وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي: لا يجوز، لأن هذه جهالة تفضي إلى المنازعة غالبا. وإنها بمنزلة أجير الوحد لا يجوز لها أن ترضع غيره. وعليها الرضاع، والقيام بأمر الصبي فيما يحتاج إليه من غسله وغسل
361 ثيابه وطبخ طعامه، وتهيئة ذلك والطعام على الأب. وذكر وما يعالج به الصبيان من الريحان والدهن فعلى الظئر، وهذا من عادة بلدهم، فأما في بلادنا بخلافه فعلى الأب. ثم الإجارة (1) تتوقف على إجازة المالك، ثم ينظر: إن أجاز العقد قبل استيفاء المنفعة جاز، وتكون الأجرة للمالك. وإن أجازه بعد استيفاء المنفعة، لم يجز بإجازته، وكانت الأجرة للعاقد، لان المنفعة الماضية تلاشت، فلا يبقى العقد بعد فوات محله، فلا يلحقه الإجازة، ويصير العاقد غاصبا بالتسليم فصار كالغاصب إذا آجر، وقالوا في الغاصب إذا آجر وسلم ثم قال المالك أجزت ما آجرت إذا انقضت المدة فالاجر للغاصب، وإن أجاز في نصف المدة فالاجر كله للمالك في قول أبي يوسف، وقال محمد: أجر ما مضى للغاصب، وأجر الباقي للمالك. وكذا قال محمد فيمن غصب أرضا، فأجرها للزراعة، فأجاز رب الأرض، قال: إن أعطاها مزارعة وأجازها صاحب الأرض جازت، وإن كان الزرع قد سنبل، ما لم ييبس، فلا شئ للغاصب من الزرع لان المزارعة كالشئ الواحد لا ينفصل بعض عملها عن بعض، فإذا أجازها قبل الفراغ، فجعل كالابتداء، وأما إذا يبس الزرع فقد انقضى عمل المزارعة، فلا تلحقه الإجازة فيكون للغاصب. ثم تفسير الاستصناع هو عقد على مبيع في الذمة وشرط عمله على الصانع. والقياس أن لا يجوز.
(1) أي من غير المالك ونائبه. وبعبارة أخرى ممن له حق التأجير - كالغاصب. 362 وفي الاستحسان جائز، لتعامل الناس، فلا جرم اختص جوازه بما فيه تعامل، كما في الخف والقلنسوة والأواني ونحوها، بعد بيان القدر، والصفة، والنوع. وهو عقد غير لازم ولكل واحد منهما الخيار في الامتناع قبل العمل، وبعد الفراغ من العمل: لهما الخيار، حتى إن الصانع لو باعه قبل أن يراه المستصنع جاز لأنه ليس بعقد لازم، فأما إذا جاء به إلى المستصنع فقط سقط خياره لأنه رضي بكونه للمستصنع حيث جاء به إليه. فإذا رآه المستصنع فله الخيار إن شاء أجاز، وإن شاء فسخ عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا خيار له، لأنه مبيع في الذمة بمنزلة السلم. وهما يقولان: إنه بمنزلة العين المبيع الغائب. فإذا ضرب الأجل في الاستصناع ينقلب سلما عند أبي حنيفة، خلافا لهما، لأنه إذا ذكر فيه الأجل يكون فيه جميع معاني السلم، والعبرة للمعنى لا للفظ ولهذا لو استصنع ما لا يجوز استصناعه حتى يكون استصناعا فاسدا، وشرط فيه الأجل ينقلب سلما، بلا خلاف، كذا هذا والله أعلم.