تحفة الفقهاء (جزء 3) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تحفة الفقهاء (جزء 3) - نسخه متنی

علاء الدین محمد بن احمد سمرقندی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: تحفة الفقهاء
المؤلف: السمرقندي
الجزء: 3
الوفاة: 539
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق:
الطبعة: الثانية
سنة الطبع: 1414 - 1993 م
المطبعة:
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: تحفة الفقهاء لعلاء الدين السمرقندي وهي أصل "بدائع الصنائع" للكاساني - قال اللكنوي : " ملك العلماء الكاساني ، صاحب البدائع شرح تحفه الفقهاء : أخذ العلم عن علاء الدين محمد السمرقندي ، صحاب التحفة "
تحفة الفقهاء

1
تحفة الفقهاء
لعلاء الدين السمرقندي
535 ه‍
وهي أصل " بدائع الصنائع " للكاساني - قال اللكنوي:
" ملك العلماء الكاساني، صاحب البدائع شرح تحفة الفقهاء:
أخذ العلم عن علاء الدين محمد السمرقندي، صاحب التحفة ".
الجزء الثالث
دار الكتب العلمية
بيروت لبنان

3
جميع الحقوق محفوظة
لدار الكتاب العلمية
بيروت لبنان
الطبعة الثانية
دار الكتاب العلمية بيروت - لبنان
ص - ب: 9424 / 11 - تلكس: - le nasher 41245
هاتف: 366135 - 602133 - 868051 - 815573
فاكس: 4781373 / 1212 / 00 - 602133 / 9611 / 00

4
كتاب
الشركة
الشركة نوعان: شركة أملاك، وشركة عقود.
فشركة الاملاك
على ضربين.
أحدهما - ما كان بفعلهما، مثل أن يشتريا أو يوهب لهما أو يوصى لهما
فيقبلا.
والاخر - بغير فعلهما، وهو أن يرثا.
والحكم في الفصلين واحد، وهو الملك مشترك بينما. وكل واحد
منهما في نصيب شريكه كالأجنبي: لا يجوز له التصرف فيه إلا بإذنه.
وأما شركة العقود
فعلى ثلاثة أوجه: شركة بالأموال، وشركة بالأعمال، وشركة
بالوجوه، ويدخل في كل واحد منها شركة العنان وشركة المفاوضة - فنذكر
في كل نوع: كيفيته، وشرائطه وأحكامه.
وأما شركة العقود
فعلى ثلاثة أوجه: شركة بالأموال، وشركة بالأعمال، وشركة
بالوجوه، ويدخل في كل واحد منها شركة العنان وشركة المفاوضة - فنذكر
وأما الشركة بالأموال
فهلا شروط، عنانا كانت الشركة أو مفاوضة:
منها - أن يكون مال الشركة حاضرا، إما عند العقد أو عند الشراء،

5
ولا يجوز بمال غائب أو دين في الحالين - ولهذا قالوا فيمن دفع إلى رجل
ألف درهم وقال " اخرج مثلها، واشتر بها، وبع فما ربحت كان
بيننا " فأخرج ألفا واشترى بها: جاز، وإن لم يوجد المال المعين عند
العقد، وإنما وجد عند الشراء. وإنما كان كذلك لان الشركة لا تتم إلا
بالشراء. فوجود المال عنده كوجوده في الابتداء.
ومنها - أن يكون رأس مال الشركة أثمانا مطلقة، من الدارهم
والدنانير، عند أكثر العلماء، ويصح عقد الشركة فيهما بالاجماع ولو كان
من أحدهما دراهم ومن الاخر دنانير: جازت الشركة عندنا. وعند زفر:
لا يجوز.
وأما التبر فلا تصح الشركة به، وجعله كالعروض في هذا الكتاب،
وفي كتاب الصرف جعله ثمنا.
وخلط المالين ليس بشرط عندنا، وعند زفر شرط.
وأما المكيل والموزون والعدديات المتقاربة: فلا تصح الشركة بها،
قبل الخلط، بالاجماع، لأنها ليست بأثمان عند التعيين، والشركة لا
تصح فيها إلا وهي ثمن، وإنما هي أثمان في الذمة أما بعد الخلط: فقال
صحت الشركة بالخلط.
وإنما يظهر الخلاف فيما إذا كان المكيل نصفين، وقد شرطا أن يكون
الربح أثلاثا، فخلطاه واشتريا به: قال أبو يوسف: الربح على قدر
المالين، وقال محمد: على ما شرطا.
وأما الشركة بالعروض: فلا تجوز عندنا، خلافا لمالك، لان الشركة
تقتضي الوكالة والتوكيل على الوجه الذي تضمنه الشركة لا يصح
بالعروض، فإنه لو قال لغيره " بع عرضك على أن ثمنه بيننا ": لم

6
بصح. ولو قال لرجل " اشتر بألف من مالك على أن ما اشتريته بيننا وأنا
أشتري بألف من مالي على أن أشتري بيننا ": جاز - فلهذا افترقا.
وأما شركة العنان:
فتفسيرها أن يشارك صاحبه في بعض الأموال التي ذكرنا، لا في جميع
الأموال، ويكون كل واحد منها وكيلا عن صاحبه في التصرف في النوع
الذي عينا من أنواع التجارة أو في جميع أنواع التجارة إذا عينا ذلك أو أطلقا
ويبينان قدر الربح.
وهذه الشركة جائزة بالاخلاف، لأنها تقتضي الوكالة في التصرف،
عن كل واحد منهما، لصاحبه، والتوكيل صحيح.
ولهذا تجوز هذه الشركة بين كل من كان من أهل التجارة مأذونا
فيها، كالعبد المأذون والصبي المأذون والمكاتب والذمي، كما تجوز بين
الأحرار البالغين المسلمين، لان قبو الوكالة صحيح منهم.
ويجوز أن يشترط العمل عليهما، بان اشتركا على أن " يبيعا ويشتريا
على أن ما رزق الله من ذلك فهو بينهما على كذا "، ويجوز أن يشترطا
العمل على أحدهما دون الاخر.
ثم لا شك أنهما إذا شرطا الربح بينهما نصفين. جاز بالاجماع، إذا
كان رأس مالهما على السواء، سواء شرط العمل عليهما أو على أحدهما،
لان استحقاق الربح بالمال أو بالعمل، وقد وجد التساوي في المال.
وإن شرطا الربح بينهما أثلاثا: فإن كان العمل عليهما، جاز سواء
كان فضل الربح لمن كان رأس ماله أكثر أو أقل، لأنه يجوز أن يكون له
زيادة حذاقة، فيكون الربح بزيادة العمل.
وإن شرطا العمل على أحدهما: فإن شرطا العمل على الذي شرط له
فضل الربح، جاز، لأنه عامل في ماله، وربحه له، وعامل في مال

7
شريكة، ببعض ربحه، والربح يستحق بالعمل. وإن شرطا العلم على
أقلهما ربحا خاصة: لا يجوز، لأنه شرط للاخر فضل ربح بغير عمل ولا
ضمان، والربح لا يستحق إلا بمال أو عمل أو ضمان، ولا نعني بقولنا
العمل وجوده بل نعني به شرط العمل.
وإذا اشترك الرجلان بمالي على أن يشتريا ويبيعا، فما كان من
الربح فهو بينهما، ولم يخلطا المال، فضاع مال أحدهما قبل الشراء، فقد
انتقضت الشركة، لان الشركة تعينت في المالين، فإذا هلك أحدهما قبل
الشراء بطلت الشركة فيه، وبطلت في المال الاخر، لان صاحبه لم يرض
بمشاركة شريكة فيه إلا بشرط الشركة في مال، وإذا بطلت الشركة فما
يشتريه بماله يكون له خاصة.
ولو اشترى بأحد المالين، ثم هلك المال الاخر، فما اشتراه فهو
بينهما، لأنه اشتراه مع بقاء الشركة، فملكا المشترى، فهلاك المال بعده
لا يغير حكم الملك.
ثم لكل واحد من شريكي العنان، بعد ما اشتريا برأس المال أعيانا،
أن يبيع مال الشركة بالنقد والنسيئة، ويشتري بالنقد والنسيئة، وإنما أراد
بالشراء بالنسيئة فيما إذا كان في يده دراهم أو دنانير أو مكيل أو موزون
فاشترى بذلك الجنس شيئا، لان الشريك وكيل بالشراء، والوكيل
بالشراء يملك الشراء بالنسيئة.
فإذا لم يكن في يده ما ذكرنا وصار مال الشركة كله أعيانا وأمتعة،
فاشترى بدراهم أو بدنانير نسيئة فالمشتري له خاصة، دون شريكه، لأنه
لو صح في حق شريكه صار مستدينا على مال الشركة.
والشريك شركة عنان والمضارب لا يملكان الاستدانة إلا أن يؤذن لهما
في ذلك.

8
وكذا لكل واحد منهما أن يبضع، ويودع، ويوكل بالبيع، ويحتال
بالثمن، ويستأجر، ويسافر بمال الشركة عند أبي حنيفة في أصح
الروايات.
وكذا يقبض ما باع بنفسه، ويخاصم فيه، ولا يقبض ما باع
صاحبه، ولا يخاصم فيه، إلا إذا قال كل واحد منهما لصاحبه " اعمل فيه
برأيك " فلهما أن يعملا في ذلك ما كان من التجارة وتوابعها، من
الرهن، والارتهان، ودفع المال مضاربة، والسفر بالمال في قولهم
إلا القرض والهبة، والكتابة، والتزويج، ونحو ذلك، لان هذا من باب
التبرع وليس من جنس التجارة.
وأما شركة المفاوضة:
فشرط صحتها أن تكون في جميع التجارات، ولا يختص أحدهما
بتجارة دون شريكه، وأن يكون ما يلزم أحدهما من حقوق ما يتجران فيه
لازما للاخر، وما يجب لكل واحد منهما يجب للاخر.
ويكون كل واحد منهما، فيما وجب لصاحبه، بمنزلة الوكيل، وفيما
وجب عليه بمنزلة الكفيل عنه، ويتساويان مع ذلك في رؤوس الأموال:
في قدرها وقيمتها، ويتساويان في الربح، فإن تفاوتا في شئ من ذلك لم
تكن مفاوضة وكانت عنانا - فصارت المفاوضة مشتملة على الوكالة والكفالة
والتساوي في الربح والمال الذي يقع به الشركة، ولهذا لا تجوز إلا بين
المسلمين الحرين البالغين العاقلين لتساويهما في أهلية الكفالة وأهلية سائر
التصرفات، بخلاف العبد والصبي والمكاتب والذمي والمجنون.
ثم كل ما يجوز لشريك العنان أن يفعله يجوز للمفاوض أن يفعل
أيضا، لان شركة المفاوضة أعم.
ثم كل ما هو شرط في صحة شركة العنان، فهو شرط في صحة

9
المفاوضة، وكل ما فسدت به شركة العنان فهو مفسد لشركة المفاوضة.
ويجوز للمفاوض أيضا ما لا يجوز لشريك شركة عنان، فمها يختص
به المفاوضة أن يجوز إقراره بالدين على نفسه وعلى شريكه، ويطالب المقر
له أيهما شاء ليكون كل واحد منهما كفيلا عن صاحبه، وكذلك كل ما وجب
على كل واحد منهما من دين سائر العقود التي تكون في التجارة، من الشراء
والبيع والاستئجار وغير ذلك من سائر ما يضمنه أحدهما من الأموال:
بالغصوب، والبيوع الفاسدة، والخلاف في الودائع والعواري،
والاستهلاكات، والإجارات، والرهن والارتهان والكفالة بالمال عند أبي
حنيفة خلافا لما، والقبض والخصومة، وإقامة البينة، والاستحلاف على
العلم، والكتابة، والاذن في التجارة لعبد الشركة، وتزويج الأمة،
ونحو ذلك.
ولا يجوز أن يعتق شيئا من عبيد التجارة، ولا أن يزوجهم.
وإذا اشترى أحدهما طعاما لأهله أو كسوة أو ما لا يتهم فيه فذلك
جائز، وهو له خاصة دون صاحبه، وللبائع أن يطالب بثمن ذلك أيهما
شاء، إلا أنهم قالوا إن الشريك يرجع على شريكه بنصف ثمن ذلك،
لأنه قضى دينه، من ماله، باذنه، دلالة.
وليس له أن يشتري جارية للوطئ أو للخدمة بغير إذن الشريك، وإذا
اشترى أحدهما جارية ليطأه بإذن شريكه، فهي له خاصة، ولا يرجع
عليه بشئ من الثمن - ولم يذكر الخلاف في كتاب الشركة، وذكر في
الجامع الصغير فقال: عند أبي حنيفة لا يرجع عليه بشئ من الثمن.
وعندهما: يرجع عليه بنصيبه على ما عرف ثم.
وأما الشركة بالوجوه
فأن يشترك الرجلان ولا مال لهما على أن يشتريا ويبيعا بوجودهما،

10
على أن ما اشتريا أو اشترى أحدهما، فهو بينهما نصفان، وسميت " شركة
الوجوه " لأنه لا يشتري بالنسيئة إلا من له وجه عند الناس.
وهي عقد جائز عندنا، خلافا للشافعي، لتعامل الناس في
الاعصار، من غير نكير.
ثم كيفما شرطا وقوع الملك في المشتري بينهما، إما نصفان أو كان
لأحدهما أكثر، فهو جائز، ويقع الملك بينهما كذلك، ويكون الربح على
قدر ملكهما، ولا يجوز أن يفضل أحدهما على ربح حصته شيئا، لان
الربح يستحق في هذه الشركة بالضمان، لا بالمال والعمل، والضمان
على قدر الحصة، فيكون الربح كذلك، إذ لو شرط زيادة الربح فإنه
يشترط من غير عمل ومال وضمان، وهذا لا يجوز.
ثم هما في جميع ما يجب لهما وما يجب عليهما ما يجوز فيه فضل أحدهما
على شريكه وما لا يجوز، بمنزلة شريكي العنان، لأنهما أطلقا الشركة،
والشركة المطلقة تقتضي العنان، فإذا اشتركا بوجوههما شركة مفاوضة
فذلك جائز، لأنهما ضما إلى الوكالة المطلقة الكفالة، وذلك جائز إلا أنه لا
بد من التساوي فيما يتبايعانه، لان المفاوضة تمنع من التفاضل.
وأما الشركة بالأعمال
فهي تسمى " شركة الصنائع "، وتسمى " شركة الأبدان " لان العمل
بالبدن يكون، وهو أن يشترك اثنان في عمل القصارة والصباغة، على أن
يتقبلا الاعمال ويعملا، فما أخذا من الاجر فهو بينهما.
وهذه الشركة جائزة عندنا، خلافا للشافعي، وهي مما جرى به
التعامل في جميع الأعصار.
ثم هي قد تكون مفاوضة وقد تكون عنانا.

11
فالمفاوضة ما ذكرا فيه لفظة المفاوضة أو ذكرا ما هو في معنى
المفاوضة، بأن اشترط الصانعان على أن يتقبلا جميعا الاعمال وأن يضمنا
جميعا العلم على التساوي، وأن يتساويا في الربح والوضيعة، وأن يكون
كل واحد منهما كفيلا عن صاحبه فيما لحقه بسبب هذه الشركة، فهي
مفاوضة.
وإن شرطا على أن ما قبلا من الاعمال وضمنا العمل فعلى أحدهما
الثلثان من العمل، وعلى الاخر الثلث، والاجر والوضيعة بينهما على قدر
ذلك، فهذا شركة عنان لوجود معنى شركة العنان.
وكذا إذا ذكرا لفظة لعنان.
وكذا لو أطلقا فهي شركة عنا أيضا، استحسانا، لا نهما جميعا قبلا
الاعمال وضمنا تسليم ذلك إلى صاحبه، فيكون ذلك جاريا مجرى
المفاوضة في أن العمل عليهما، ولصاحب العمل أن يطالب بالعمل أيهما
شاء، ول واحد منهما أن يطالب بأجرة العمل، وإلى أيهما دفع صاحب
العمل برئ وعلى أيهما وجب ضمان العمل: فكان لصاحب العمل أن
يطالب الاخر، ولكن لا تكون مفاوضة حقيقة ما لم تذكر لفظة المفاوضة أو
يوجد معناها وهو ما ذكرنا، حتى قالوا في الدين إذا أقر به أحدهما، من ثمن
صابون أو اشنان أو أجر أجير أو حانوت قد مضى - فإنه لا يصدق على صاحبه
إلا باقراره أو ببينة قامت عليه، ويستوي أن تكون الشركة في نوع عمل،
فيعملان ذلك أو يعمل أحدهما عملا والاخر غير ذلك، أو لم يعمل بعد أن
ضمنا جميعا العملين جميعا، لان الانسان قد يعمل ينفسه وأجيره.
فإن عمل أحدهما دون الاخر، والشركة عنان أو مفاوضة، فالاجر
بينهما إن شرطا العمل عليهما والتزما ذلك، فيكون أحدهما معينا للاخر،
كالقصار إذا استعان برجل في القصارة.

12
وكذلك إذا شرطا لأحدهما زيادة أجر، أو شرطا العمل على قدر
الاجر، والوضيعة كذلك: فهو جائز، وإن كان عمل الذي شرط له
الاجر القليل أكثر، لان الربح بقدر ضمان العمل، لا بحقيق العمل.
وإن شرطا الوضيعة نصفين، لا يصح، ويبطل، وتكون الوضيعة
على ما شرطا من ضمان العمل والاجر كذلك.
ولو جنت يد أحدهما فالضمان عليهما جميعا، لان ذلك بناء على ضمان
العمل، وقد ضمنا جميعا.

13
باب
الشركة الفاسدة
وهي أنواع:
منها - الاشتراك في جميع المباحات التي تملك بالاخذ، مثل
الاصطياد. والاحتطاب، والاحتشاش، والاستقاء، واجتناء الثمار،
وحفر المعادن.
فإن اشتركا على أن ما أصابا من ذلك فهو بينهما، فالشركة فاسدة،
ولكل واحد منهما ما أخذه، لان الشركة تقتضي الوكالة، والوكالة في
الاصطياد ونحوه لا تصح، وإذا فسدت، فالأخذ سبب الملك، فيكون
ملكا له: ثم ينظر: إن اخذا جميعا معا: فهو بينهما، لاستوائهما في سبب
الملك، وإن أخذ كل واحد منهما شيئا بانفراده وخلطاه، وباعاه: فإن كان
مما يكال ويوزن: يقسم الثمن على قدر الكيل والوزن الذي لكل واحد
منهما، وإن كان مما لا يكال ولا يوزن، يقسم الثمن بينهما، بالقيمة،
فيأخذ كل واحد منهما بقيمة الذي له، وإن لم يعرف الكيل والوزن والقيمة، يصدق كل واحد منهما، فيما يدعي، إلى النصف، وإن ادعى
أكثر من النصف فعليه البينة.
وإن عمل أحدهما وأعانه الاخر في عمله فله أجر المثل، بالغا ما بلغ
عند محمد، وعند أبي يوسف: له أجر مثله، لا يجاوز به نصف المسمى أو
قيمته، أي نصف ذلك الشئ الذي أعانه فيه أو قيمته، كمن قال

15
لآخر: " بع هذا الثوب على أن نصف ثمنه لك ": فإنه يجب أجر المثل
مقدرا بنصف ذلك الثمن.
ومنها - أن يكون لأحدهما بغل، وللآخر حمار، فاشتركا على أن
يؤاجرا ذلك، فما رزق الله من شئ فبينهما، فاجراهما جميعا، بأجر
معلوم، في عمل معلوم، وحمل معلوم: فإن هذه الشركة فاسدة، لان
الوكالة على هذا الوجه لا تصح بأن قال لآخر: " أجر بعيرك على أن أجره
بيننا " فإنه فاسد - فكذا الشركة.
وإذا فسدت الشركة، فالإجارة صحيحة، لوقوعها على منافع معلومة
ببدل معلوم، فيقسمان ما أخذا من الاجر: على قدر أجر مثل البغل
والحمار.
ومنها - أنه لو دفع إلى رجل دابة، ليؤاجرها على أن الاجر بينهما،
كان ذلك فاسدا، والاجر لصاحب الدابة، وكذلك السفينة والدار، لأنه
عقد على ملك الغير بإذنه ويجب أجر المثل، لأنه استوفى منفعة بعقد
فاسد.
ونوع آخر - رجل اشترى شيئا، فقال له الاخر: " اشركني فيه " -
فهذا بمنزلة البيع والشراء، بمثل ما اشترى، في النصف، والتولية أن
يجعل كله له بمثل ما اشترى، على ما مر في كتاب البيوع، فإن كان قبل
أن يقبض الأول: لم يجز، لأنه بيع المبيع المنقول قبل القبض، وإن كان
بعده، جاز، ويلزمه نصف الثمن، فإن كان لا يعلم بمقدار الثمن، فهو
بالخيار إذا علم: إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
ولو اشترى رجلان عبدا، فاشتركا فيه رجلا بعد القبض: فالقياس
أن يكون للشريك النصف، لان كل واحد منها لو أشركه في نصيبه، على
الانفراد استحق نصفه، فكذا إذا أشركاه جميعا معا، وفي

16
الاستحسان: يكون له الثلث، لان الشركة تقتضي المساواة، فإذا قالا
له " أشر كناك فيه " فكأنهما قالا " شاركناك ".
فإن أشركه أحدهما في نصيبه ونصيب صاحبه، فأجاز شريكه ذلك،
كان للداخل النصف وللأولين النصف، لأنه لما أجاز شريكه في نصيبه
صار نصف نصيبه له، وقد أشركه في نصيب نفسه هذا فيكون للثاني
النصف، وبقي لكل واحد منهما الربع.

17
كتاب
المضاربة
يحتاج إلى معرفة: تفسير المضاربة، والألفاظ التي بها تنعقد
المضاربة، وإلى بيان شروط صحتها والشروط المفسدة، وإلى بيان
أحكامها.
وأما تفسير المضاربة
فهو دفع المال إلى غيره، ليتصرف فيه، ويكون الربح بينهما على ما
شرطا: فيكون الربح لرب المال بسبب ماله لأنه نماء ماله، وللمضارب
باعتبار عمله الذي هو سبب وجود الربح.
وأما ألفاظ المضاربة
فأن يقول: " دفعت هذا المال إليك مضاربة، أو مقارضة، أو معاملة "
أو: " خذ هذا المال اعمل فيه على أن ما رزق الله من شئ فهو بيننا
نصفان أو على أن لك ربعه أو خمسه أو عشره " ولم يزد على هذا - فهو
مضاربة.
ثم هي نوعان: مطلقة وخاصة.
أما المطلقة - فأن يدفع المال إلى رجل ويقول " دفعت هذا المال إليك
مضاربة، على أن الربح بيننا نصفان ".
وأما الخاصة - فأن يدفع إليه ألف درهم مضاربة على أن يعمل بها في

19
الكوفة أو أن يعمل بها في البز أو الخز، أو قال: " خذ هذا المال مضاربة
بالنصف على أن تشتري به الطعام " ونحو ذلك.
وأما شرائط صحتها
فمنها - أن يكون رأس المال من الأثمان المطلقة، فكل ما يصلح
رأس مال الشركة ويصح به عقد الشركة، تصح به المضاربة، وإلا فلا، وقد ذكرنا هذا في كتاب الشركة.
وأما المضاربة برأس مال الدين فهو على وجهين:
أحدهما: أن يكون الدين لرب المال على رجل فيقول له: " اعمل
بديني الذي في ذمتك مضاربة بالنصف " - فإن اشترى بها وباع، فجميع
ما اشترى وباع يملكه وله ربحه وعليه وضيعته، والدين في ذمته بحاله عند
أبي حنيفة، بناء على أصله، فيمن وكل رجلا ليشتري بالدين الذي في
ذمته، لم يجز. وعلى أصلهما: يجوز هذا التوكيل ويبرأ من الدين، فيكون
ما اشترى وباع لرب المال: له ربحه وعليه وضيعته، والمضاربة فاسدة،
لأن الشراء وقع للموكل، فيكون مضاربة بالعروض.
وأما إذا قال له: " اقبض مالي على فلان من الدين واعمل به
مضاربة ": فقد جاز، لأنه أضاف المضاربة إلى المقبوض الذي هو أمانه في
يده.
ومن شرط صحتها - أن يكون الربح جزءا مشاعا من الجملة.
أما إذا عين بأن قال: " على أن لك من الربح مائة درهم أو
نحوها " - فلا يصح، لاحتمال أن الربح لا يكون إلا هذا القدر، فلا
يحصل الربح لرب المال.
وكذا الوصي - لو دفع مال الصبي مضاربة، وشرط عمل الصغير:
فالمضاربة فاسدة لبقاء يد المالك على المال.

20
ومنها - انقطاع يد رب المال عن رأس المال: شرط صحتها - حتى
قالوا في المضارب إذا دفع المال إلى رب المال مضاربة بالثلث، فالمضاربة
الثانية فاسدة.
ومنها - إعلام قدر الربح، لان الربح هو المقصود، فجهالته توجب
فساد العقد.
فكل شرط يؤدي إلى جهالة الربح: يفسد المضاربة:
وإن كان لا يؤدي إلى جهالة الربح: يبطل الشرط، ويصح العقد -
مثل أن يشترط أن تكون الوضيعة، على المضارب أو عليهما: فالشرط
يبطل، ويبقي العقد صحيحا، والوضيعة في مال المضاربة، وكذا دفع
ألفا مضاربة، على أن الربح بينهما نصفان وعلى أن يدفع إليه رب المال
أرضه ليزرعها سنة، أو على أن يسكنه داره سنة: فالشرط باطل،
والمضاربة جائزة.
وأما الأحكام فنقول: المضاربة تشتمل على أحكام مختلفة:
إذا دفع المال إلى المضارب: فهو أمانة في يده، في حكم الوديعة،
لأنه قبضه بأمر المالك لا على طريق البدل والوثيقة.
فإذا اشترى به: فهو وكالة، لأنه تصرف في مال الغير بإذنه.
فإذا ربح: صار شركة لأنه ملك جزءا من المال بشرط العمل،
والباقي نماء مال المالك فهو له فكان مشتركا بينهما.
فإذا فسدت المضاربة، بوجه من الوجوه: صارت إجارة، لان
الواجب فيها أجر المثل وذلك يجب في الإجارات.
فإن خالف المضارب: صار غاصبا، والمال مضمون عليه لأنه

21
تعدى في ملك غيره.
ثم من حكم المضاربة المطلقة العامة أن يتصرف المضارب في مال
المضاربة ما بدا له من أنواع التجارات، وله أن يدفع بضاعة (1) ووديعة،
ويستأجر الأجير والدواب والبيوت، وأن يبيعه بالنقد والنسيئة، ويوكل
وكيلا في الشراء والبيع، وله أن يرهن ويرتهن في المضاربة، وله أن يسافر
بالمال في الطريق الذي يسافر فيه التجار.
وليس له أن يقرض وأن يستدين على المضاربة، وإن يأخذ سفتجة (2)،
حتى يأمره بذلك، وليس له أن يدفع المال إلى غيره مضاربة، وأن يشارك
به، وأن يخلطه، بماله ولا بمال غيره في قولهم جميعا.
وفي الرواية المشهورة: له أن يأذن لعبد المضاربة في التجارة، لأنه
عادة التجار.
وأما المضاربة الخاصة - فهي، فيما ذكرنا من الأحكام، مثل المضاربة
العامة، وإنما تفارقها في قدر الخصوص، وهو أن يتقيد بالمصر الذي قيده
بها، بأن دفع المال مضاربة ليعمل بها في الكوفة، فليس له أن يخرج المال
من الكوفة بنفسه، ولا يعطيها أيضا بضاعة لمن يخرج بها عن الكوفة،
فإن أخرجها من الكوفة ضمن، فإن اشترى بها وباع فما اشترى فهو لنفسه
وإن لم يشتر بها شيئا حتى يرده إلى الكوفة برئ من الضمان ورجع المال
مضاربة على حالها، كالمودع إذا خالف في الوديعة ثم عاد إلى الوفاق.



(1) الايضاع استعمال شخص في المال بغير عوض أي أن يدفع المال لشخص ليتجر به لصاحب المال
ويكون كل الربح لصاحب المال فيكون المستبضع وكيلا متبرعا.
(2) السفاتج جمع سفتجة بضم السين وفتح التاء: فارسي معرب - أصله سفته: يقال للشئ
المحكم - وسمي هذا القرض به لأحكام أمره. وصورتها أن يدفع إلى تاجر مالا قرضا ليدفعه إلى
صديقه. وقيل: هو أن يقرض انسانا مالا ليقضيه المستقرض في بلد يريده المقرض وإنما يدفعه إلى
سبيل القرض لا على سبيل الأمانة ليستفيد به سقوط خطر الطريق، وهو نوع نفع استفيد
بالقرض. وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قرض جر نفعا. وقيل: هذا إذا كانت المنفعة مشروطة،
وأما إذا لم تكن فلا بأس بذلك.
22
ولو دفع إليه على أن يعمل في سوق الكوفة فعمل بالكوفة في غير
سوقها، فهو جائز على المضاربة، استحسانا - لأنه لا يفيد غالبا.
ولو قال له: " تعمل إلا في سوق الكوفة " - فعمل في غير
السوق، فباع واشترى، فهو ضامن، لان هذا حجر، والأول
تخصيص، وإنما يصح التخصيص إذا كان مفيدا، والحجر عن التصرف
في ملك نفسه جائز، ولا يصح التصرف بدون إذنه.
ثم في المضاربة المطلقة إذا نهى رب المال أن يخرج المال من المصر
الذي اشتراه منه وعلم بالنهي، فليس له أن يخرجه، وحاصل هذا أن في
المضاربة المطلقة إن خصصها رب المال بعد العقد:
فإن كان رأس المال بحاله أو اشترى به متاعا ثم باعه وقبض ثمنه
دراهم ودنانير: فإن تخصيصه جائز، كما لو خصص المضاربة في
الابتداء، لأنه يملك التخصيص إذا كان فيه فائدة.
أما إذا كان مال المضاربة عروضا: فليس يصح نهي رب المال حتى
يصير نقدا، وذلك نحو أن يقول: " لا تبع بالنسيئة "، لان المضاربة تمت
بالشراء، ولو أراد العزل عن البيع، لم يصح عزله، فكذلك عن صفته.
ومنها - أن المضارب ليس له أن ينفق من مال المضاربة ما دام في
مصره، وإذا سافر أنفق من مال المضاربة لنفقته، وكسوته، ومركوبه،
وعلف دوابه، ونفقة أجيره، ومؤونته وما لا بد في السفر منه عادة إلا
مؤونة الحجامة والخضاب والنورة (1): فهو من ماله.
وروى الحسن أن كل ما يثبت فيه نفقة الانسان، كان فيه الدواء
والحجامة، في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وكذلك الدهن، وقال
محمد: الدهن في ماله.



(1) النورة حجر الكلس ثم غلبت على أخلاط تضاف إلى الكلس من زرنيخ وغيره وتستعمل لإزالة
الشعر.
23
ولو أقام في مصر من الأمصار، للبيع والشراء، ونوى الإقامة خمسة
عشر يوما فنفقته من مال المضاربة، ما لم يتخذ من المصر دارا للتوطين.
ثم إذا دخل مصره فما فضل من نفقته وكسوته يرده إلى مال
المضاربة.
ثم مقدار النفقة التي أنفق يحتسب كله من الربح إن كان ربح، وإن
لم يكن فهو من رأس المال.
وما أنفقه من ماله، فيما له أن ينفقه من مال المضاربة، على نفسه:
فهو دين في المضاربة، كالوصي إذا أنفق على الصغير من مال نفسه
لان تدبير ذلك مفوض إليه.
ومنها - أن قسمة الربح قبل قبض رأس المال لا تصح، حتى أنهما لو
اقتسما الربح، ورأس المال في يد المضارب، فهلك فما أخذ رب المال
من الربح يكون محسوبا من رأس المال، ويرجع على المضارب فيما قبضه
حتى يتم رأس المال، فإن فضل فهو ربح بينهما.
ولو هلك رأس المال في يد المضارب، قبل أن يشتري به شيئا،
يهلك أمانة، وتنفسخ المضاربة، لان المال يتعين في المضاربة.
والقول في المضاربة الصحيحة قول المضارب، وفي الفاسدة قول رب
المال.
فأما إذا اشترى بالمال رقيقا، فهلك الرقيق، فهو على المضاربة.
ولو كان رأس المال ألفا، فاشترى به شيئا، فهلك الألف، قبل
التسليم - فإنه يرجع هو بالألف على رب المال ثانيا وثالثا ورابعا، وذلك
كله رأس المال، لان المضاربة قد تمت.
لو مات المضارب، ينفسخ عقد المضاربة، لعجزه عن العمل به،

24
فصار كلما لو عزله، إلا أن في العزل لا بد من العلم وفي الموت ينفسخ
وإن لم يعلم، لأنه فسخ حكمي.
كذلك إذا مات رب المال: ينفسخ، سواء علم المضارب بموته
أولا، لأنه فسخ حكمي.
وهذا إذا كان المال نقدا، فأما إذا كان المال عروضا: فإن بيع
المضارب جائز، حتى يصير نقدا فيؤدي رأس المال، ولا ينعزل بالعزل
صريحا - وكذلك بالموت.
ثم المضاربة متى فسدت، وقد ربح فيها، فالربح لرب المال،
وللمضارب أجر المثل، لان استحقاق رب المال الربح لكونه نماء ماله،
والمضارب إنما يستحق بالشرط، وقد فسد العقد، لكن عمل له بحكم
عقد فاسد، فيلزمه أجر المثل.
وكذا إذا لم يربح لأنه استعمله مدة في عمله فكان عليه أجر العمل.
وفي المضاربة الصحيحة، إن لم يكن ربح، فلا شئ للمضارب،
لأنه عامل لنفسه، فلا يستحق الاجر - والله أعلم.

25
كتاب
الصرف
الصرف اسم لبيع الذهب والفضة، والتبر، والمضروب والمصوغ في
ذلك سواء، وكذلك الجنس وخلاف الجنس، والمفرد والمجموع مع
غيره.
يسمى هذا العقد " صرفا " لاختصاصه بالتقابض والصرف من يد إلى
يد.
وحكمه - حكم سائر الموزونات والمكيلات في جريان ربا الفضل
والنسا، وذلك عند اتحاد الجنس والقدر. إنما اختص من سائر البياعات
بثلاثة أشياء:
أحدها - أنه لا يصح بدون تقابض البدلين، قبل افتراق العاقدين
بأنفسهما، فإذا عقدا عقد الصرف، بأن باع دينارا بدينار أو دينارا بعشرة
دراهم، سواء كانا حاضرين وقت العقد أولا: فإنه ينعقد العقد وينفذ
إذا وجد التقابض قبل افتراق العاقدين.
وكذلك إذا كان مجموعا مع غيره، بأن باع ذهبا وثوبا، بفضة أو
ذهب - فالفضة تنقسم على الذهب والثوب: فما يكون بمقابلة الذهب
يكون صرفا وما يقابل الثوب يكون بيعا، فإذا قبض حصة الذهب من
الفضة، وقبض الآخر الذهب بحصة الفضة - جاز، وإن لم يقبض حصة
الثوب، لكن الشرط افتراق العاقدين، سواء كانا مالكين أو نائبين

27
كالوكيل والأب والوصي، لان القبض من تمام عقد الصرف فيعتبر
بالعاقدين، فإن وجد أحد البدلين زيوفا أو نبهرجة فحكم المسألة مع
فروعها قد ذكرناه في كتاب البيوع.
والثاني - أن لا يكون فيه خيار شرط، لهما أو لأحدهما.
الثالث - أن لا يكون لهما، أو لأحدهما، أجل في الصرف.
فإذا أبطلا الخيار، أو مات من له الخيار، قبل افتراق العاقدين:
يجوز الصرف استحسانا، عندنا - خلافا لزفر.
وكذا إذا أبطلا الأجل في المجلس عند أبي حنيفة ومحمد، وعن أبي
يوسف روايتان.
وإن افترقا ولأحدهما خيار رؤية بأن كان مصوغا - أما في المضروب
فلا يثبت خيار الرؤية، لأنه لا فائدة فيه، كما في المسلم فيه - فلا يفسد
العقد (1)، لأنه خيار حكمي (2).
وكذا خيار العيب.
وكذا خيار الإجازة بأن وجد الصرف من الفضوليين على غيرهما، فإذا
بلغه كان له خيار الإجازة وإنه لا يفسد لأنه خيار يثبت حكما.
والمفسد خيار الشرط لا غير.
ولو تصارفا دينارا بدينار، وسلم أحدهما الدينار، وأبرأ صاحبه عن
الدينار أو وهب منه:



(1) المعنى أنه لو افترقا وفي الصرف خيار رؤية: جاز - ولكن لا يتصور في النقد وسائر الديون خيار
الرؤية، لأن العقد ينعقد على مثلها، لا على عينها، فلا يكون هناك فائدة في الخيار، لان قيام
العقد يقتضي ولاية المطالبة بالمثل، فإذا قبض يرده ويطالبه بآخر وهكذا.
(2) أي يثبت بدون اشتراطه كما سيتبين في المتن فيما يلي.
28
فإن قبل الذي عليه الدين ما أبرأه أو وهب له: بطل الدين عنه،
وانتقض الصرف لان البراءة توجب سقوط القبض، الذي هو مستحق حقا
للشرع في الصرف، فإذا اتفقا على إسقاطه: بطل العقد، بفواته.
وإن لم يقبل عليه الدين البراءة: لا تصح، لأنها سبب للفسخ، فلا
يثبت بقول أحد المتعاقدين بعد صحة العقد، ولو استبدل عن ذلك
الدينار شيئا بخلاف جنسه، فالبيع فاسد، لان فيه تفويت القبض الذي
هو حق الشرع - وإذا لم يصح هذا، بقي عقد الصرف وقد وجد قبض
أحد البدلين، فعليه أن يقبض الآخر، ويتم العقد الأول بينهما.
وإن أخذ عن الدينار الذي عليه دينار أردأ مما سمى أو زيوفا: فإنه
يجوز، ولا يكون استبدالا، لأنه من جنس حقه، إلا أنه ناقص
الوصف، والجيد والردئ سواء ههنا.
فإن امتنع الواهب والمبرئ أن يأخذ ما وهب له أو أبرأ فإنه يجبر على
ذلك، لان في ترك قبض ذلك فساد عقد الغير.
ولو باع دينارا بعشرة دراهم، وسلم الدينار، ولم يقبض العشرة،
وكان لمشتري الدينار على بائعه عشرة دراهم، فأراد المقاصة - فههنا ثلاث
مسائل:
أحدها - أن العشرة التي على البائع وجبت عليه قبل الصرف،
بقرض أو غصب أو من ثمن مبيع، فأراد أن يجعلا ثمن الدينار، وهو
العشرة، قصاصا بذلك الدين: فإن أجمعا على ذلك: جاز وكان
قصاصا، وإن لم يجمعا على ذلك: لم يكن قصاصا - وهذا جواب
الاستحسان، والقياس أن لا يجوز وهو قول زفر.
والثانية - أن يصير قصاصا وإن لم يتقاصا، وهو أن تكون العشر
دينا، على بائع الدينار، بقبض مضمون، بعد عقد الصرف - بأن غصب

29
منه عشرة أو أقرضه عشرة، وسلمها إليه، فيصير قصاصا بثمن الصرف
وإن لم يتقاصا.
والثالثة - وهو أن تجب العشرة، على بائع الدينار، بعقد متأخر عن
عقد الصرف: فلا يصير قصاصا بثمن الصرف وإن تقاصا.
وهذه المسائل ذكرناها في البيوع.

30
باب آخر
منه
أصل الباب أن ما يجوز البيع فيه متفاضلا، يجوز فيه البيع مجازفة،
وما لا يجوز فيه البيع متفاضلا، لا يجوز فيه البيع مجازفة.
- إذا باع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، مجازفة لا يجوز، لأنه
لا يجوز البيع فيه متفاضلا، فكذلك المجازفة، لاحتمال الزيادة في
أحدهما.
ويستوي الجواب بين أن لا يعرف المتبايعان وزن كل واحد منهما، أو
كانا يعرفان وزن واحد دون الآخر، أو كان أحدهما يعرف والآخر لا
يعرف.
فإن وزنا في المجلس، فكانا، سواء في الوزن: فالبيع جائز،
استحسانا، وإن تفرقا قبل الوزن، ثم وزنا، واستويا في الوزن،
فالبيع فاسد.
وقال زفر: إذا استويا في الوزن، جاز في الحالين.
والقياس ما قاله: لان الفساد لأجل احتمال الفضل، وقد تبين أنه
لا فضل ولكنا نقول: إن علم المتعاقدين بالتساوي بين البدلين شرط جواز
العقد، فيعتبر عند العقد، إلا أن للمجلس حكم حالة واحدة، فكان
كالعلم عند العقد.
- وأما إذا كان بخلاف الجنس، بأن باع الذهب بالفضة مجازفة:

31
جاز، لأنه جاز البيع فيهما متفاضلا - ولهذا قالوا: إذا باع قلب فضة
محشوا، بدرهم، ولا يعلم قدر وزن القلب: فالبيع باطل، وقال زفر:
جائز، إلا أن يعلم التفاضل.
وعلى هذا:
- القسمة إذا وقعت فيما يجري فيه الربا: لا تجوز مجازفة في الجنس
الواحد، وتجوز في مختلفي الجنس.
ولو باع السيف بالسيف، وأواني الصفر بجنسها، مجازفة: جاز،
لأنه جاز التفاضل.
- ولو باع فضة فيها غش بفضة مثلها، والفضة غالبة، فحكمها
حكم الفضة لا يجوز بيعها بالفضة الخالصة إلا سواء بسواء يدا بيد.
وإن كان الغش هو الغالب: فحكمها حكم النحاس الخالص لا
يباع بالنحاس إلا مثلا بمثل، يدا بيد.
وإن كان الغش مع الفضة سواء: فيكون حكمه حكم الفضة في أنه
لا يجوز أن يباع إلا وزنا، ولا يجوز بيعه مجازفة وعددا، وإذا قوبل بالفضة
الخالصة في البيع، يراعى فيه طريق الاعتبار: إن علم أن الفضة
الخالصة، أكثر، حتى تكون الفضة بإزاء الفضة وزنا، والزيادة بإزاء
الغش: جاز البيع. وإن كانت الفضة الخالصة أقل من الفضة التي في
المغشوش، أو مثلها، أو لا يدري: لا يجوز، لما فيه من الربا.
- ولو باع سيفا محلى بذهب أو فضة: إن باع بجنس الحلية والثمن
أكثر من الحلية: جاز، وتكون الحلية بيعا، بمثل وزنها، والفضل بإزاء
الجفن والحمائل، لان الأصل عندنا في تقسيم الثمن على المبيع، إذا كان
أشياء بعضها من جنس الثمن والبعض لا، صرف الثمن إلى جنسه بمثل
وجه فيه تصحيح العقد ما أمكن، وذلك في صرف بعض الثمن

32
إلى جنسه بمثل وزنه والبعض إلى خلاف الجنس على طريق الاعتبار وذلك
ما قلنا.
وأما إذا كان الثمن مثل الحلية أو أقل: فلا يجوز، لأنه يبقى الجفن
والحمائل فضلا في بيع الربا.
وكذلك إذا كان لا يعلم أو اختلف التجار في ذلك: فإن علم أن
الحلية أقل في المجلس: يكون جائزا عندنا، وإن علم بعد الافتراق: لا
يجوز عندنا - خلافا لزفر، كما في بيع المجازفة.
وهذا إذا قبض حصة الحلية في المجلس، فأما إذا تفرقا قبل أن
يتقابضا، أو قبض أحدهما دون الآخر - فإنه ينظر:
إن كانت الحلية مما لا يتخلص عن السيف إلا بضرر: فسد البيع
كله.
وإن كانت تتخلص بغير ضرر: جاز في السيف، وفسد في
الحلية، لأن العقد بقدر الحلية يكون صرفا، وفي حق السيف يكون
بيعا مطلقا، والتقابض شرط صحة الصرف لا غير - فإذا كانت تتخلص
الحلية من غير ضرر، فكأنهما شيئان منفصلان، ولهذا جاز العقد في
أحدهما دون الآخر، ولذا جاز أن يبقى. فأما إذا كانت لا تتخلص إلا
بضرر فاسد كله، في حصة الحلية: لعدم التقابض، وفي حصة السيف،
لأنه بيع شئ لا يمكن تسليمه إلا بضرر يلحق البائع، وابتداء البيع على
هذا الوجه مفسد للبيع، فكذا في حالة البقاء، كما إذا باع جذعا في
سقف، حتى لو فصل الحلية عن السيف، وسلم: جاز، ويجبر المشتري
لتغير صفة المبيع.
- ولو باع السيف المحلى بجنس الحلية أو بخلاف جنسها من الذهب
والفضة، والثمن أكثر من الحلية، ولأحدهما خيار الشرط في البيع، أو

33
كان شرط تأجيل الثمن في العقد، ثم تفرقا عن قبض:
فإن كانت الحلية مما لا يتميز إلا بضرر: فسد البيع في الحلية،
بالتأجيل والخيار المفسدين للصرف، وفسد في السيف، لأنه لا يجوز
إفراده بالعقد، لما فيه من إلحاق الضرر بالبائع، بالتسليم منفصلا.
وإن كانت تتميز من غير ضرر: فسد العقد فيهما عند أبي حنيفة وأبي
يوسف، لان الصفقة اشتملت على الصحيح والفاسد، والفساد في نفس
المعقود عليه، وفي مثل هذا يشيع الفساد في الكل عندهما، وعند محمد:
يجوز البيع في السيف ويبطل في الحلية، لان الصفقة اشتملت على الصحيح
والفاسد، وللفاسد قيمته، فيصح في الصحيح، ويفسد في الفاسد.
وإذا اشترى من الرجل قلب فضة وزنه عشرة بعشرة، وافترقا عن
قبض، ثم حط البائع عنه درهما أو زاده المشتري درهما، وقبل الآخر
ذلك، فالبيع، فاسد عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: الحط والزيادة
فاسدان، والعقد الأول صحيح. وقال محمد: الحط جائز، والزيادة
فاسدة، والعقد الأول صحيح - وهذا فرع اختلافهم في الشرط الفاسد:
يلتحق بالعقد ويفسده عند أبي حنيفة، فإذا وجدت الزيادة والحط والتحقا
بالعقد يجعل كأن العقد في الابتداء على هذا الوجه، فيفسد، للتفاضل،
في مال الربا! وإنما شرط القبول في الحط ههنا عنده، لأنه يتعلق به فسخ
العقد، فلا يملكه أحد العاقدين إلا برضا الآخر، ومن أصل أبي يوسف
أن الشرط الفاسد لا يلتحق بالعقد، فيسقط اعتبار الزيادة والحط جميعا،
وأما محمد فقوله مثل قول أبي يوسف إلا أنه يقول: الزيادة فاسدة، فلا
نلتحق بالعقد، والحط صحيح، لأنه يمكن أن يجعل هبة مبتدأة كحط
جميع الثمن.
فأما إذا كان بخلاف الجنس بأن باع قلب فضة وزنه عشرة بدينار،
والمسألة بحالها: صح الحط والزيادة، بالاجماع، ويلتحقان بأصل العقد

34
فيشترط قبض هذه الزيادة، في المجلس - حتى لو افترقا قبل قبض الزيادة
في مجلس الزيادة: يفسد العقد في حصة الزيادة، لان الزيادة صارت ثمن
الصرف. وفي الحط: تفرقا أول لم يتفرقا، فهو صحيح، لان الفضل في
خلاف الجنس جائز، ويجب عليه رد ما حط.
ولو باع دينارا ودرهما، بدرهمين ودينارين - جاز عندنا، ويصرف
الجنس إلى خلاف الجنس، خلافا لزفر والشافعي.
وعلى هذا الخلاف إذا قوبل أبدال من جنسين مختلفين، بأبدال من
جنسين مختلفين، في أموال الربا، في المكيل والموزون: فإنه يصرف
الجنس إلى خلاف الجنس، والمسألة معروفة.
ولو كسر حلية سيف، أو سوارا: فإنه يضمن قيمة الصياغة -
بخلاف جنسه، لأن هذه جودة متقومة، لحصولها بصنع العباد، ولكن لا
يمكن تضمينه من جنسه، لأنه يؤدي إلى الربا فيجب التضمين بخلاف
الجنس.
فصل القرض: جائز فيما له مثل من جنسه لأنه يجب عليه رد المثل.
والأجل في القرض باطل، شرط في الأصل، أو طرأ عليه، لان
أخذ مثل القرض كعين القرض فيكون فاضلا في العين وهو باطل.
ولو استقرض فلوسا أو دراهم، ثم كسدت: فعند أبي حنيفة يجب
عليه رد مثلها، عند أبي يوسف ومحمد: رد قيمتها، لكن عند أبي
يوسف تعتبر القيمة يوم القرض، وعند محمد في آخر وقت نفاقها قبل أن
تكسد، وهذا كالاختلاف بينهما فيمن غصب مثليا وانقطع: قال أبو
يوسف: تجب قيمته يوم الغصب، وعند محمد: يوم الانقطاع.
فإذا باع الفلوس بخلاف جنسها: فإنها لا تتعين إن كان ما يقابلها
من العروض بمنزلة الدراهم، وإن كان ما يقابلها من الدراهم والدنانير لا

35
تتعين أيضا - لكن إذا افترقا من غير قبض أحدهما، يفسد العقد، لأنه
افتراق عن دين بدين، وإن قبض أحدهما: جاز، ولا يشترط قبضهما،
لأنه ليس بصرف.
وأما إذا باع الفلوس بعضها ببعض.
فإن كان عينا بعين، فإنه يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، متفاضلة
أو متساوية، لأنها إنما لا تتعين لعدم الفائدة، وفي التعيين فائدة، وهو
جواز العقد، وعند محمد: لا يجوز متفاضلة، لأنها ثمن فيكون كبيع
الدرهم بالدرهمين.
فأما إذا كان الكل دينا أو أحدهما: فالمشهور من الرواية عنهم أنه لا
يجوز. وعن أبي يوسف: يجوز والمسألة تذكر في الخلافيات.

36
كتاب
الرهن
يحتاج إلى:
بيان شرعية عقد الرهن،
وإلى بيان ركنه،
وإلى بيان شرائط جوازه،
وإلى بيان ما يصلح مرهونا،
وإلى بيان ما يكون مرهونا به،
وإلى بيان حكم الرهن، وما يتعلق به من الأحكام.
أما الأول - فنقول:
الرهن عقد شرع وثيقة بمال.
عرفت مشروعيته بالنص، وهو قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا)
إلى أن قال: (فرهان مقبوضة) (1).
وروي عن النبي عليه السلام أنه اشترى من يهودي طعاما، نسيئة،
ورهن به درعه.
وأما بيان ركنه
فهو الايجاب والقبول - فالايجاب قوله: " رهنتك هذا بمالك علي من



(1) البقرة 282 - 283.
37
الدين "، أو قوله: " خذ هذا الشئ رهنا بدينك " ونحو ذلك.
وأما شرائط جوازه
فمنها - القبض، وهو عندنا.
وقال مالك: يصح بالايجاب والقبول.
وهو خلاف النص: قال الله تعالى: " فرهان مقبوضة ".
ومنها: دوام القبض، بأن يكون محوزا في يده، لان مقصود الرهن هو
الاستيثاق، وذلك لا يحصل إلا بهذا.
ومنها - أن يكون منفصلا عن غيره، غير متعلق بما لم يقع عليه عقد
الرهن.
وعلى هذا قلنا: إن رهن المشاع لا يصح. وقال الشافعي: يصح.
والصحيح ما قلناه، لأنه لا يقدر على تسليمه إلا بالتهايؤ، وذلك يوجب
فوات القبض على الدوام.
ويستوي الجواب في المشاع الذي ينقسم والذي لا ينقسم، ومن
الشريك وغيره.
وأما الشيوع الطارئ: فيبطل الرهن في رواية الأصل. وروى ابن
سماعة عن أبي يوسف أنه لا يبطل.
وأما إذا رهن بيتا بعينه، من دار بعينها: جاز، لأنه ليس بشائع -
ولهذا قلنا إنه لا يجوز رهن ثمرة في شجرة بدون الشجرة، ولا الشجرة
بدون الكرم، حتى يحوزه ويسلمه إلى المرتهن، وكذا رهن شجر في أرض
بدون الأرض، وكذا إذا رهن زرعا دون الأرض، أو الأرض دون
الزرع، لان الرهن متصل بما ليس برهن، فلا يصح التسليم، وإن رهن
النخل والشجر والكرم بمواضعها من الأرض: جاز، لأنه لا يمكن

38
قبضها، بما فيها، بالتخلية.
ولو قال: " رهنتك هذه الدار أو هذه الأرض أو هذه القرية " -
يدخل في الرهن كل ما كان متصلا بالمرهون: من البناء في الدار،
والشجر مع الثمر والزرع والرطب في الأرض - لان الرهن لا يجوز بدون ما
يتصل به، فكان إطلاق العقد ينصرف إلى ما فيه تصحيحه.
ولو رهن دارا، وفيها متاع قليل أو كثير، أو حبوب، أو شئ مما
ينتفع به، دون هذه الأشياء: لم يصح الرهن، حتى يسلم الدار فارغة
عنها.
ولو رهن الدار بما فيها، صح إذا سلم الدار إليه، وخلى بينه وبين
الدار بما فيها، ويصير الكل رهنا.
ولو رهن دارا، والراهن والمرتهن في جوفها، فقال: " رهنتها منك
وسلمتها إليك " وقال المرتهن: " قبلت " - لم يتم الرهن حتى يخرج
الراهن من الدار ثم يقول الراهن: " قد سلمتها إليك " - لأنه لا يصح
التسليم إلى المرتهن، وهو في الدار، فإذا خرج فلا بد من تسليم جديد.
ثم قبض الأب: والوصي ووكيل المرتهن كقبضه.
وكذا قبض العدل: كقبضه، لأنه يمسك الرهن للمرتهن، ولكن لا
يملك نقض يده، والرد إلى يد الراهن. وليس له أن يقبضه المرتهن إلا
بإذن الراهن، لأنه لم يرض بإمساك المرتهن، حيث جعلاه في يد العدل،
وشرطا في عقد الرهن أو بعد الرهن.
فأما إذا شرطا أن يكون في يد العدل، وأن يبيعه بدينه ويقضي به
دينه - فيصح، ولكن لا يملك الراهن نقض هذه الوكالة إلا برضا المرتهن،
لان البيع صار حقا من حقوق الرهن، زيادة وثيقة في حق المرتهن بطلبه.
ولو لم يكن مشروطا في الرهن، ثم أمر العدل بعد ذلك ببيعه - فهذا

39
توكيل بالبيع: فيملك الراهن عزله والنهي عن البيع، وإذا مات الراهن،
ينعزل هذا الوكيل - وفي الفصل الأول لا يملك الراهن عزله ولو مات لا
ينعزل الوكيل عن البيع.
وأما بيان ما يصلح مرهونا
فكل مال، متقوم، يجوز أن يكون مبيعا - لان حكمه ملك الحبس
بالدين، ليقضي منه الدين، إذا عجز عن القضاء إلا به فلا بد من أن
يكون ما لا متقوما.
ولهذا لا يجوز أن يكون المدبر، وأم الولد، والمكاتب، والحر -
رهنا، لأنه لا يمكن استيفاء الدين من هؤلاء.
وكذلك لا يجوز أن يكون الخمر، والخنزير - رهنا، سواء كان
العاقدان مسلمين، أو أحدهما مسلما والآخر ذميا، لان الرهن للايفاء
والاستيفاء، وإيفاء الدين من الخمر والخنزير لا يجوز من المسلم، وكذا
الاستيفاء من المرتهن المسلم.
ثم في حق أهل الذمة يجوز الرهن والارتهان بالخمر والخنزير، لأنهما
مال عندهم، ولا يجوز بالميتة والدم، لأنهما ليسا بمال أصلا.
وكذا المشاع، والثمرة المعلقة من الشجرة، والزرع النابت في
الأرض - لا يصح رهنا، لأنه لا يتحقق فيه التسليم.
وأما بيان ما يجوز أن يكون مرهونا به - فنقول: الدين يصلح أن يكون مرهونا به على كل حال، سواء كان ثمة
بيع، أو ضمان إتلاف، ونحو ذلك، لان الرهن للاستيفاء، واستيفاء
الدين من ثمن الرهن متحقق.
وأما الأعيان المضمونة فعلى وجهين:
ما كان مضمونا بنفسه، كالمغصوب - فيجوز الرهن به، والمضمون

40
بنفسه ما يجب، عند هلاكه، مثله إن كان مثليا وقيمته إن لم يكن له
مثل.
وأما الأعيان المضمونة بغيرها - فلا يجوز الرهن بها، كالمبيع في يد
البائع: مضمون بالثمن، لا بنفسه، على معنى أن المبيع إذا هلك يسقط
الثمن، إذ لا يجب بهلاكه شئ على الضامن ويصير به مستوفيا للدين.
وأما الأعيان التي ليست بمضمونة: كالودائع، والعواري، والمستأجر
ومال المضاربة، والشركة: فلا يجوز الرهن بها، لان ما ليس بمضمون لا
يصير المرتهن مستوفيا بهلاكه.
ويجوز الرهن ببدل الصلح عن دم العمد، وببدل الخلع، والمهر،
لأنها مضمونة بأنفسها فإنها إذا هلكت يجب مثلها إن كان لها مثل،
وقيمتها إن لم يكن لها مثل.
ثم إذا هلك الرهن، والعين المضمونة قائمة في يد الراهن، يقال
له: " سلم العين التي في يدك، وخذ من المرتهن الأقل من الدين ومن
قيمة الرهن - " لان المرهون مضمون عندنا كذلك.
وإن هلكت العين المضمونة قبل هلاك الرهن، فيصير الرهن رهنا
بقيمة العين المضمونة، فإذا هلك الرهن، بعد ذلك، هلك بالأقل من
قيمته ومن قيمة العين التي كانت رهنا بها.
ولا يجوز الرهن بقصاص، في نفس، أو فيما دونها، لأنه لا يمكن
استيفاء القصاص من الرهن.
وإن كانت الجناية خطأ، جاز الرهن بأروشها، لأنه يمكن الاستيفاء
من الرهن.

41
وأما حكم الرهن
فعندنا ملك العين في حق الحبس، حتى يكون المرتهن أحق
بإمساكه، إلى وقت إيفاء الدين.
وإذا مات الراهن فهو أحق به من سائر الغرماء، فيستوفي منه دينه،
فما فضل يكون لسائر الغرماء والورثة.
ولهذا لا يجوز للراهن أن يتصرف فيه تصرفا يبطل حق المرتهن من
البيع والإجارة والهبة وغيرها.
ولهذا لا يجوز له أن ينتفع بالمرهون، نوع انتفاع، من الاستخدام
والركوب، ونحو ذلك.
وكذلك زوائد الرهن: تكون رهنا عندنا وهو أحق بالامساك.
ويكون أحق به، بعد وفاته، كما في حق الأصل - إلا أن الزوائد غير
مضمونة عليه، حتى لا يسقط الدين بهلاكها.
وليس للمرتهن أن يبيع الرهن بدينه، إلا إذا سلطه الراهن على
بيعه، أو سلط العدل على ذلك.
فإن أعار المرتهن الرهن من الراهن، أو الراهن من المرتهن: فإنه
يجوز، ويخرج الرهن من ضمان المرتهن، وعقد الرهن على حاله،
ولكل واحد منهما أن يبطل العارية، ويرده إلى الرهن لان العارية غير
لازمة.
وعلى هذا: إذا غصبه غاصب: يخرج عن ضمان المرتهن، ولكن
الرهن قائم - حتى إن للمرتهن أن يأخذه من الغاصب ويرده إلى الرهن.
وأما إذا آجره الراهن من المرتهن: فيخرج من الرهن، ولا يعود
أبدا، لان الإجارة عقد لازم، فالاقدام عليه يكون فسخا للرهن.

42
وكذلك لو آجر الراهن، من غير المرتهن، فأجازه المرتهن - أو المرتهن
من غيره فأجازه الراهن جازت الإجارة ويخرج من الرهن، لما قلنا.
ولو باع الراهن أو المرتهن، وأجاز صاحبه: فإنه يجوز البيع، ويصير
الثمن رهنا مكانه، قبض من المشتري أو لم يقبض، لان الثمن قائم مقام
الرهن، وإن كان الثمن في ذمة المشتري، ولا يجوز رهن الدين ابتداء،
ولكن يجوز البقاء، كالعبد الرهن: إذا قتل، تكون قيمته رهنا، حتى لو
توى الثمن في ذمته، أو هلك المقبوض: فإنه يهلك من مال المرتهن،
ويسقط الدين بقدره، كما لو كان في يده.
وللمرتهن أن يطالب الراهن بإيفاء الدين مع عقد الراهن، إذا لم
يكن مؤجلا، لان الرهن شرع لتوثيق الدين، فلا يسقط حق المطالبة إلا
بالأداء.
ويجوز للراهن أن يوكل المرتهن ببيعه، واستيفاء لدين منه.
ولو قال الراهن " إن جئتك بحقك إلى وقت كذا وإلا فهو لك ": لم
يجز، وهو رهن على حاله، لان التمليك لا يتعلق بالشرط.
ولا يجوز للحاكم أن يبيع الرهن بدينه، بعد حلول الأجل، إذا كان
مفلسا، عن أبي حنيفة، ولكن يحبس الراهن حتى يبيعه، وعند أبي
يوسف ومحمد: يبيعه - وهذا فرع مسألة الحجر على الحر.
وأما نفقة الرهن فعلى وجهين:
فكل نفقة ومؤونة كانت لمصلحة الرهن وتبقيته: فعلى الراهن.
وكل ما كان لحفظه أو لرده إلى يد المرتهن أو لرد جزء منه فات
بسبب حادث: فعلى المرتهن.
بيانه أن الرهن - إذا كان حيوانا: فنفقته وكسوته على الراهن.

43
وإن كان الرهن أمة، فولدت: فأجر الظئر على الراهن.
وإن كان الرهن بستانا فيه أشجار وكرم: فسقيه، وتلقيح نخله،
وجداده (1)، والقيام بمصلحته على الراهن وكذا الخراج، فأما العشر:
ففي الغلة، والزرع يأخذ الامام والباقي رهن عنده.
وكذا أجر الراعي: عليه، لأنه يحتاج إليه لعلف الحيوان، فهو
كالطعام والشراب.
ويستوي الجواب فيه بين أن يكون الرهن مضمونا أو أمانة، كزوائد
الرهن أو ما فضل من قيمة الرهن على الدين، لان كله ملكه: فعليه
كفايته ومؤونته.
وأما ما يحتاج إليه للحفظ - كأجرة المسكن، وأجرة الحافظ، ومأوى
البقر والغنم: فعلى المرتهن.
وكذا ما يحتاج لرد العين إلى يد المرتهن كجعل الآبق: فعليه، إن
كان قيمة الرهن والدين سواء، وأن كان بعضه أمانة: فعليهما على قدر
الأمانة والضمان.
وأما ما يجب لرد جزء من العين إلى يد المرتهن الذي فات بسبب
عارض - كمداواة الجراح والقروح والأمراض: فهو منقسم عليهما: فما
كان من حصة المضمون: فعلى المرتهن، وما كان من حصة الأمانة: فعلى
الراهن.
وما وجب على الراهن، ففعله المرتهن، بغير أمر الحاكم - فهو متبرع
فيه. وإن كان بأمره: يرجع به على الراهن.
وكذا ما وجب على المرتهن، فأداه الراهن، بغير أمره - فهو متبرع.



(1) جد النخل جوادا صرمه أي قطع ثمره.
44
ثم للراهن أن يمتنع من إيفاء الدين عند محل الأجل، حتى يحضر
المرتهن الرهن، أنه ربما يكون هالكا أو غائبا. فإذا أحضر الرهن يقال
للراهن: " سلم الدين إليه أولا ثم اقبض الرهن ". حتى يتعين حقه،
فيكون عينا بعين كما في البيع.
ولو جنى المرتهن، على الرهن، أو غيره جناية: يجب عليه قيمته،
أو مثله إن كان الرهن مثليا، ثم إن لم يكن الدين حالا: يكون رهنا
مكانه، وإن كان الدين حالا أو حل: فإن كان مثل دينه في الجنس
والصفة، يصير المرتهن مستوفيا لدينه. وإن كان هو المتلف: يصير
قصاصا بقدر الدين ويترادان الفضل.
وإن كان الرهن عبدا، فجنى على إنسان، خطأ - فإن ضمان الجناية
على المرتهن، ويقال للمرتهن أولا: " أفد العبد عن أرش الجناية " - وإنما
يخاطب هو بذلك أولا، لما أن فيه إبقاء حقه، وهو الرهن، لأنه إذا فدى
طهر العبد عن الجناية، فجعل كأن الجناية لم تكن، فيبقى الدين والرهن
على حاله، ولا يرجع على الراهن بشئ من الفداء، لأنه أصلح الرهن
باختياره. وليس للمرتهن أن يدفع العبد بحال، لان الدفع تمليك الرقبة، وهو لا يملك تمليك مال الغير بغير إذنه.
وإن لم يفد وأبى ذلك، يقال للراهن: " ادفع أو أفده " - فأيهما
اختار: بطل الرهن، والدين، لان عين العبد، أو بدله، وهو الفداء،
صار مستحقا بسبب كان عند المرتهن، فجعل كأنه هلك الرهن.
ولو استهلك العبد المرهون مال إنسان، وذلك يستغرق الرقبة: فإن
أدى المرتهن الدين، الذي لزم العبد المرهون: بقي الرهن والدين على
حاله، وفرغ عن الدين، وإن أبى أن يؤدي الدين: قيل للراهن: " بعه في دينه أو اقض دينه " - فإن قضى دينه: بطل دين المرتهن على الراهن،
ويخرج العبد عن الرهن، لأنه استحق بسبب كان عند المرتهن، فيكون

45
عليه، وإن لم يقض دين العبد: يباع العبد في الدين الذي لحقه، فيأخذ
صاحب دين العبد دينه، ويبطل بمقدار ذلك من دين المرتهن: فإن كان
دين المرتهن أقل: كان ما بقي من ثمن العبد للراهن، وإن كان دين
المرتهن أكثر من دين الغريم: استوفى المرتهن ما بقي من دينه، وما فضل
من ثمن العبد للمرتهن إن كان الدين حل، وإلا أمسك ما فضل رهنا في
يده إلى أن يحل الدين فيأخذه قصاصا بدينه.
ولو رهن عبدين أو ثوبين بألف درهم، كل واحد منهما بخمسمائة،
فأدى خمسمائة لم يكن له أخذ واحد منهما، حتى يؤدي كل الدين.
وكذلك في العبد الواحد - لان كل جزء من الرهن محبوس بكل الدين، فما
لم يقبض الكل، يكون له حق حبس الكل.
وإن كان الرهن شيئين أو أكثر، فإنه ينقسم الدين عليهما، على قدر
قيمتهما يوم القبض، لأنه صار مضمونا بالقبض.
ولو زاد في الرهن شئ، بأن ولدت الأمة المرهونة ولدا، أو نحو
ذلك، فإنه ينقسم الدين على الأصل يوم القبض، وعلى الزيادة يوم
الفكاك، لان الزوائد تكون مضمونة، وإن كانت محبوسة إلى يوم
الفكاك.
ثم الزيادة في الرهن جائزة عندنا: خلافا لزفر، كالزيادة في المبيع،
وينقسم الدين عليهما جميعا، ويعتبر قيمة الأصل يوم قبضه ويعتبر قيمة
الزيادة يوم الزيادة.
فأما الزيادة في الدين: فلا تجوز عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله.
وعند أبي يوسف: تجوز - وهذه المسألة من مسائل الخلافيات.
ولو استعار من رجل شيئا ليرهنه بدينه، فأعاره منه، مطلقا
ليرهنه: فله أن يرهنه، بأي صنف من الدين، وبأي قدر: قليلا أو

46
كثيرا، لان هذا بمنزلة الاذن له بقضاء الدين من مال هو عنده وديعة، قد أذن مطلقا فيجب العمل بإطلاقه.
وإن سمي له قدرا أو إنسانا، بعينه أو في بلد بعينه - فليس له أن
يفعل بخلافه، ولو فعل كان لصاحبه أن يأخذ الرهن، لأنه لم يأت بما أمر
به، فلم يصح الرهن، فإن عجز الراهن عن قضاء الدين، فقضاه
المعير: فله أن يرجع، لا يكون متبرعا، لأنه مضطر في ذلك لوصوله إلى
ماله - بمنزلة الوارث: إذا قضى دين الميت لتسلم له التركة: يرجع في
التركة، لما قلنا.
ولو رهن عبدا من إنسان، ثم جاء برهن آخر حتى يكون مكان
الأول، وقبل المرتهن الرهن الثاني - جاز، ويصير الثاني هو الرهن إذا
قبض الراهن الأول، لأنه ما رضي بالجمع بينهما رهنا، ولا يصير الثاني
رهنا إلا بعد انفساخ الأول، ضرورة عدم الجمع. وإنما تقع الضرورة إذا
قبض الأول، فأما إذا لم يقبض: بقي الأول رهنا دون الثاني، حتى لو
هلكا: يكون الثاني أمانة والأول هلك بدينه.
ولو أعتق الراهن العبد المرهون: ينفذ عتقه عندنا، خلافا للشافعي - وهي مسألة معروفة.

47
كتاب
الشفعة
يحتاج فيه إلى:
بيان ما تجب به الشفعة،
وإلى بيان شرائط الوجوب،
وإلى بيان كيفية الوجوب،
وإلى بيان الأحكام المتعلقة بالشفعة.
أما الأول - فنقول:
سبب استحقاق الشفعة أحد الأشياء الثلاثة: الشركة في البقعة،
والشركة في الحقوق، والجوار على سبيل الملاصقة - وهذا عندنا.
وعند الشافعي: لا يستحق إلا بالشركة في البقعة - وهي مسألة
معروفة.
ثم إنما تستحق الشفعة بها على الترتيب: فالشريك في البقعة أولا،
ثم الشريك، في الحقوق، ثم الجار الملاصق - لان الشفعة إنما تجب لدفع
ضرر الدخيل عن الأصيل، والضرر على هذا الترتيب في العرف.
فإن سلم الشريك في البقعة: ثبتت للشريك في الحقوق، وإن سلم
هو: تثبت للجار الملاصق.
ولا يثبت للجار المقابل لان ضرره دون ضرر هؤلاء، والشرع ورد
بالشفعة في حق هؤلاء، فلا يقاس عليهم غيرهم مع التفاوت في
الضرر.

49
وأما شرائط الوجوب
فمنها - عقد المعاوضة عن المال بالمال: فإنها لا تجب بهذه الأسباب إلا
عند عقد البيع أو ما هو في معناه من: الصلح والهبة بشرط العوض إذا وجد قبض البدلين، فأما إذا قبض أحدهما دون الآخر فلا شفعة - وهذا
عندنا، خلافا لزفر: إنها تجب بنفس العقد - وهذا فرع مسألة بينهم: أن
الهبة بشرط العوض: عقده عقد هبة، وجوازه جواز البيع، فما لم يتقابضا
لا يكون في معنى البيع، وعنده: عقده عقد بيع - وهي مسألة كتاب
الهبة.
ولو وهب ثم عوض بعد العقد: فلا يجب الشفعة فيه، ولا فيما هو
عوض عنه، بأن جعل العوض دارا، لان هذا ليس في معنى البيع، لأنه
ليس بمشروط في العقد.
ولهذا لا يجب في المملوك بمقابلة المنافع، بأن جعل الدار مهرا أو
أجرة.
ولهذا لا يجب في الدار المملوكة بغير بدل كالهبة، والصدقة والوصية،
أو ببدل ليس بمال، كبدل الخلع والصلح عن دم العمد.
ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: إن من تزوج امرأة على دار على أن
ترد عليه ألفا، فلا شفعة في شئ من الدار. وقال أبو يوسف ومحمد
رحمهما الله: تجب الشفعة.
واستحقاق الشفعة في البيع بشرط الخيار قد ذكر في البيوع.
وفي البيع الفاسد: إذا ملك عند القبض لا يستحق الشفعة ما لم
يبطل حق الفسخ، إما لاتصال المبيع بزيادة، أو بزوال ملك المشتري،
لان حق الفسخ ثبت لحق الشرع.

50
وإذا أخذ الشفيع المشتري شراء فاسدا بالشفعة: يأخذه بقيمته يوم
قبض لان القيمة فيه بمنزلة الثمن في الشراء الصحيح.
ومنها - أن يكون المبيع عقارا أو في معناه:
وقال مالك: يثبت في المنقول الذي هو نظيره، وهو السفن، ولهذا
قال: إذا بيعت الضيعة ببقرها ومماليك يعملون فيها - يجب الشفعة في
الكل.
وعندنا: لا يستحق فيما ليس بعقار من البقر والعبيد.
وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " لا شفعة إلا في
ربع (1) أو حائط.
ويستوي الجواب عندنا في العقار الذي تجوز قسمته والذي لا تجوز
قسمته، كالحمام والرحى والبئر والنهر والدور الصغائر.
وعند الشافعي: لا يجب فيما لا يقسم.
وإذا بيع سفل عقار دون علوه، أو علوه دون سفله: تجب الشعفة - أما في بيع السفل: فلا يشكل، لأنه عقار. وأما في بيع العلو وحده:
فقياس واستحسان، لأنه ليس بعقار ولكن في معناه لان حق التعلي
يتعلق بالبقعة، على التأييد، فهو بمنزلة البقعة.
وأما بيان كيفية الوجوب - فنقول:
إن حق الشفعة يجب على طريق الفور، عندنا نظرا من الجانبين.
وعند الشافعي: يجب وجوبا مؤبدا.
واختلف الرواية في تفسير الفور: في بعضها: أنه إذا علم بالبيع



(1) الربع هو الدار حيث - وجمعه رباع وربوع.
51
ينبغي أن يطلب الشفعة ساعتئذ، فإذا سكت ولم يطلب، بطلت شفعته،
وفي بعضها: أنه على المجلس - فإن محمدا ذكر في " الأصل ": " إذا بلغ
الشفيع البيع: إن لم يطلب الشفعة مكانه: بطلت الشفعة ". وذكر الكرخي أن هذا ليس باختلاف رواية، وإنما هو على المجلس، كخيار المخيرة والقبول.
ثم الطالب نوعان:
أحدهما: طلب مواثبة - وهو ما ذكرنا: فكما علم ببيع الدار يطلب
الشفعة فيقول: " طلبت الشفعة وأنا طالبها " أو قال: " ادعيت الشفعة
وأنا على شفعتي "، ويشهد على ذلك، حتى يتأكد الوجوب، بالطلب
على الفور - ويعلم أنه ليس بمعرض، حتى يحصل المطالبة من الخصم بعد
ذلك - من غير اشتغال بشئ مع القدرة على المطالبة.
وليس الاشهاد بشرط لصحة الطلب، ولكن للتوثيق - حتى إذا أنكر
المشتري طلب الشفعة حين علم فيقول: " لم تطلب الشفعة حين علمت
بل تركت الشفعة وقمت عن المجلس " والشفيع يقول: " طلبت " - فالقول قول المشتري، فلا بد من الاشهاد وقت الطلب، توثيقا لحقه.
ولو لم يكن الشهود حاضرين، فبعث في طلبهم، ومكث في
المجلس، لا تبطل شفعته، كما في خيار المخيرة.
وعن أبي بكر الرازي أنه قال: إذا طلب الشفعة ثم قام عن المجلس
إلى الشهود، وأشهدهم على ذلك جاز، لان الطلب يحتاج إليه، لثبوت
الشفعة، فيما بينه وبين ربه، والشهود يحتاج إليها، للتوثيق الذي ذكرنا.
والطلب الثاني: المطالبة من الخصم - لان المطالبة لا بد لها من
مطالب ومطلوب.
فإن كان المبيع لم يقبض بعد: فالشفيع بالخيار بين مطالبة البائع أو

52
المشتري أو الطلب عند المبيع والاشهاد عليه - لان المشتري مالك، والبائع
صاحب يد، فيصح من الشفيع المخاصمة معهما لنقل الملك واليد. فأما
المبيع. فيتعلق الشفعة به، فيقوم الطلب عنده مقام الطلب منهما باعتبار
الحاجة.
فأما إذا كان المبيع في يد المشتري: لم يصح الاشهاد على البائع لأنه
خرج من أن يكون خصما، لزوال يده وملكه، ولكن له الخيار في الاشهاد على
المشتري أو عند العقار.
ثم ما ذكرنا من الاختيار إذا كان الشفيع حاضرا عند وقوع البيع،
بحضرة الدار والبائع والمشتري.
وأما إذا عقد البيع في غير الموضع الذي فيه الدار، والشفيع حاضر،
فلم يطالبهما بالشفعة، وحضر موضع الدار وأشهد ثم: بطلت،
شفعته، حيث ترك المطالبة مع القدرة عليها.
وإن كان الشفيع غائبا عن مجلس البيع، فعلم فحضر موضع الدار،
ولم يطلب الشفعة، وذهب حتى يجد البائع أو المشتري: تبطل شفعته،
لأنه ترك الطلب مع القدرة عليه.
فأما إذا بيعت الدار في المصر الذي هي فيه، والشفيع في مصر آخر،
فعلم بذلك: فالجواب في حقه والجواب في حق الحاضر سواء: في أنه
يطلب على الفور، ويشهد، ثم يشتغل بالطلب من البائع أو المشتري،
أو الاشهاد عند الدار إلا أن له الأجل بمقدار المسافة التي بينه وبين المصر
الذي وقع فيه البيع من المتعاقدين، حتى يذهب إليه بنفسه فيطلب
الشفعة، أو يبعث وكيلا لطلب الشفعة والاشهاد عليه، وذلك الأجل من
وقت العلم بالبيع وطلب المواثبة، فإذا مضى الأجل، ولم يذهب بنفسه،
ولا بعث وكيلا لمطالبته الشفعة - تبطل شفعته.

53
وإذا وجد كلا الطلبين وصح الاشهاد على الوجه الذي ذكرنا،
فبعد ذلك له أن يشتغل بالمرافعة إلى باب القاضي والخصومة، لاخذ الدار
بالشفعة.
فإن كان المبيع في يد البائع: فالقاضي يحضر البائع والمشتري جميعا،
ولا يقضي له بالشفعة حتى يحضرا، لكونهما خصمين: أحدهما بيده،
والآخر بملكه، لان القضاء لا يجوز بدون حضرة الخصم.
وإن كان المبيع في يد المشتري: فالقاضي يحضره لا غير، ويقضي
عليه، لان البائع خرج من أن يكون خصما لزوال يده.
فإذا قضى القاضي بالشفعة، والدار في يد البائع: انتقض البيع
الذي بينه وبين المشتري، وينعقد البيع بينهما في المشهور من الرواية،
وينتقل الصفقة إليه.
وروي عن أبي يوسف أن البيع لا ينتقض.
فعلى الرواية المشهورة: يسلم الشفيع الثمن إلى البائع، ويكون
عهدة الشفيع على البائع، وهي الرجوع بالثمن عند الاستحقاق ويرجع
المشتري على البائع بالثمن إن نقده.
ثم الشفيع يأخذ الدار بالثمن الذي وقع عليه البيع، من الدراهم
والدنانير والمكيل والموزون في الذمة، لان تلك الصفقة انتقلت إليه. وإن
كان الثمن من العروض فيأخذ بقيمته.
ثم القاضي يقضي بالشفعة سواء أحضر الشفيع الثمن أو لا، في
المشهور من الرواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، ويأمر الشفيع
بتسليم الثمن إليه للحال، فإن لم يسلم: يحبسه، ولا ينقض الاخذ
بالشفعة - لأنه بمنزلة الشراء، فإن طلب منه: حتى يذهب ويحضر الثمن -
فالقاضي لا يحبسه، لأنه لم يوجد منه المطل. وإن طلب الأجل يوما أو

54
يومين فالقاضي يؤجله، إن رضي الخصم، وإلا فيحبسه.
وقل محمد: لا ينبغي للقاضي أن يقضي بالشفعة حتى يحضر
الثمن. فإذا أحضر الثمن يقضي بالشفعة، ويأمر الشفيع بتسليم الثمن
إلى المشتري. فإن قضي القاضي له بالشفعة، قبل إحضار الثمن وأمر
الشفيع بدفع الثمن إليه من ساعته فقال: " لا أنقده إلى يوم أو يومين " أو
" إلى شهر "، وأبى المشتري أن يقبل ذلك، لا يفسخ قضاؤه ولا ينقض
الاخذ بالشفعة، ولكن يحبسه.
والاحتياط من القاضي أن لا يقضي بالشفعة ما لم يؤجل للشفيع
أجلا ويقول له: " إن لم تأت بالثمن إلى هذا الأجل فلا شفعة لك " -
حتى إذا امتنع وفرط في الأداء: تبطل شفعته، فأما، بدون ذلك، إذا
قضي بالشفعة: لا تبطل شفعته، بالتأخير.
ولو أن الشفيع بعد وجود الطلبين والاشهاد، إذا أخر المرافعة إلى
باب القاضي ولم يخاصم هل تبطل شفعته؟ فقد اختلفت الروايات عن
أصحابنا والحاصل أن عند أبي حنيفة رحمه الله: لم تسقط الشفعة،
بالتأخير بعد الاشهادين، إلا أن يسقطها بلسانه فيقول: " تركت
الشفعة ".
وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف، وفي رواية أخرى عنه: إذا
ترك المخاصمة إلى القاضي في زمان يقدر على المخاصمة فيه: بطلت
شفعته - ولم يوقت.
وقال محمد وزفر: إذا أخر المطالبة بعد الاشهاد شهرا من غير عذر:
بطلت شفعته.
وعن الحسن أنه قال: وهذا قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر -
وبه نأخذ.

55
وذكر الكرخي أنه إذا حال بين الشفيع وبين الاشهاد، عند الدار أو
على البائع أو المشتري، حائل لا يستطيع الشفيع أن يصل إلى ذلك معه
ولا أن يبعث وكيلا: فهو على شفعته إلى أن يزول الحائل المانع له، ثم
يعود الامر بينهم على ما ذكرنا، لان ترك المطالبة، مع المانع، لا يدل
على الاعراض - ولهذا قالوا: إن حق الشفعة يجب عند البيع. ويتأكد
بالطلب، ويثبت الملك به بقضاء القاضي أو بالتراضي من الخصمين.
وأما الأحكام
فكثيرة - نذكر بعض المشهور منها:
فمن ذلك - بيان ما تبطل به الشفعة وما لا تبطل مما يحدث من
الشفيع.
بيان ذلك:
إذا اشترى الرجل دارا لها شفيع فساوم الشفيع المشتري في الدار،
لنفسه أو لغيره، أو سأله أن يوليه إياها، أو يشركه فيها، أو يؤاجرها
منه، أو كانت أرضا فطلب منه المزارعة، أو نخلا أو كرما فسأله المعاملة -
وذلك كله بعدما علم بالشراء: فذلك كله تسليم للشفعة، لان ذا دلالة
الاعراض عن طلب الشفعة لان حكمها ينافي حكم أخذ الدار
بالشفعة.
- ولو باع الشفيع داره التي يشفع بها، بعد الشراء، للمشتري:
تبطل شفعته، سواء علم بالشراء أو لم يعلم، لأنه بطل الجوار، الذي
هو سبب الاستحقاق، قبل أخذ الدار بالشفعة.
- ولو سلم الشفعة قبل البيع، لا يكون تسليما، لان الشفعة لم تثبت
بعد، فلا يصح إبطاله.
ولو سلم بعد الشراء: تبطل الشفعة، سواء علم أو لم يعلم،

56
بخلاف المساومة والاستئجار.
- ولو أخبر الشفيع أن الشراء بألف درهم، فسلم الشفعة، ثم ظهر
أن الثمن أكثر أو أقل، أو على خلاف جنسه - فالأصل في هذه المسائل أنه
إذا لم يحصل غرض الشفيع على الوجه الذي سلم: لم يصح التسليم،
وإن حصل - صح:
فإذا ظهر أن الثمن أكثر مما أخبر به: لم يبطل التسليم، لان الشفيع
إذا لم يصلح له الشراء بالألف، فأولى أن لا يصلح بأكثر منه، فلا يفوت
غرضه بما ظهر بخلاف ما أخبر.
ولو ظهر أن الثمن أقل: لا تبطل الشفعة، لان التسليم يكون لكثرة
الثمن عنده، وأنها لا تساوي بها، ويصلح له الدار بالأقل.
ولو أخبر أن الثمن ألف درهم فإذا هو مائة دينار: فإن كان قيمتها
ألف درهم أو أكثر: صح التسليم، وإن كان أقل: فله الشفعة،
عندنا، خلافا لزفر، لما قلنا.
- ولو أخبر أن الثمن ألف درهم أو مائة دينار ثم ظهر أنها بيعت
بمكيل أو موزون قيمته مثل ذلك أو أقل: فتسليمه باطل، لأنه يجوز أن
يكون سلم، لأنه لا يقدر على ذلك الجنس الذي أخبر، وهو يقدر على
الجنس الذي بيعت به.
- وكذا إذا أخبر أنها بيعت بالحنطة ثم ظهر أنها بيعت بشعير قيمته
مثل الحنطة أو أقل: فله الشفعة لما ذكرنا.
- ولو أخبر أن الثمن دراهم أو دنانير، ثم ظهر أن الثمن عرض من
العروض الذي تجب الشفعة بقيمته: فإن كان مثله أو أكثر: فالتسليم
صحيح، وإن كان أقل: فلا يصلح، لان القيمة دراهم أو دنانير.

57
- وإن أخبر أنها بيعت بعرض ثم ظهر أنها بيعت بجنس آخر من
العروض: فهو على شفعته لما ذكرنا.
- ولو بلغه أنها بيعت نصفها فسلم، ثم ظهر أنه باع الكل فله
الشفعة.
وإن كان على عكس هذا: فلا شفعة له، لان الانسان ربما لا يرضى
مع الشريك، فكان التسليم بناء عليه، ويرضى بالدار كلها.
وفي رواية: الجواب على ضد ما ذكرنا.
- ولو أخبر أن المشتري زيد، فسلم، ثم ظهر أنه عمرو: فله
الشفعة. وإن كانا قد اشترياها جميعا، أخذ نصيب الذي لم يسلم الشفعة
فيه، لان الانسان قد يرضى بشركة واحد ولا يرضى بشركة غيره.
- ولو اشترى الرجل دارا صفقة واحدة، فأراد الشفيع أن يأخذ
بعضها دون بعض، أو يأخذ ما يليه من الدار - ليس له ذلك، وإنما له
أن يأخذ الكل أو يدع، لان فيه تفريق الصفقة على المشتري.
- ولو اشترى دارين، صفقة واحدة، فأراد شفيعهما أن يأخذ
إحداهما ويترك الأخرى: فليس له ذلك، سواء كانت الداران
متلاصقتين أو لا، وسواء كانتا في مصر واحد أو في مصرين، لان فيه
تفريق الصفقة على المشتري.
وقال زفر: له الخيار بين أن يأخذهما أو يأخذ إحداهما.
- ولو كان الشفيع شفيعا لإحداهما دون الأخرى، وقد وقع البيع
صفقة واحدة: فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف: له أن يأخذهما، وليس
له أن يأخذ التي تجاوره بالحصة، وقال محمد: يأخذ التي تليه بالشفعة،
ولا شفعة له في الأخرى لما ذكرنا.

58
- ولو أن الشفيع وجد الدار المبيعة منقوضة بعد الشراء أو مهدومة،
فإنه ينظر: إن كان بفعل المشتري أو الأجنبي فهو بالخيار: إن شاء أخذ
العرصة بالحصة، وإن شاء ترك. وإن انتقضت أو انهدمت بنفسها: فله
الخيار: إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء ترك، لان أخذ الدار
بالشفعة بمنزلة الشراء، فيثبت الملك بالشفعة في العرصة والبناء جميعا،
لكونه تبعا لها، والاتباع لا حصة لها من الثمن إذا فاتت لا بصنع أحد،
فأما إذا فاتت بصنع المشتري أو الأجنبي، فصار مقصودا بالاتلاف
والقبض فيصير لها حصة، من الثمن، وقد تغير المبيع فكان له الخيار على
الوجه الذي ذكرنا.
- وإن كان المشترى كرما وفيه أشجار وثمار، فقطع المشتري شجرها
أو جد ثمرها، أخذ بحصة الكرم، ويحط قيمة ما أخذ منه.
وإن ذهبت بآفة سماوية: أخذها بجميع الثمن أو ترك، لما قلنا.
فإن لم يكن، في وقت الشراء، فيه ثمر، ثم أثمرت، فجدها
المشتري، فإن الشفيع يأخذها بجميع الثمن إن شاء أو يترك، ولا يدفع
له بحصة الثمر، لأنه لم يكن في أصل البيع، فإن كان الثمر في أصل
البيع: فهو كما ذكرنا، من البناء والنخل.
- وإن كان المشتري أرضا، فيها زرع: فإنه يأخذها الشفيع،
بزرعها، بقلا كان أو مستحصدا، لأنه تبع الأرض فإن حصد المشتري
الزرع ثم جاء الشفيع فإنه أقسم الثمن على قيمة الأرض وعلى قيمة
الزرع، وهو بقل، يوم وقع عليه العقد، فيأخذ الشفيع الأرض بما
أصابها من الثمن، ولا يقسم الثمن على قيمة الزرع وهو مستحصد -
هذه رواية عن أبي يوسف.
وروي عن محمد أنه قال: أقوم الأرض وفيها الزرع، وأقومها ليس

59
فيها ذلك الزرع، فما كان بين ذلك فهو قيمة الزرع ولا أقوم الزرع، وهو
بقل محصود.
ولو كان للدار شفعاء بسبب الشركة، فحضروا: فهي بينهم على
عد الرؤوس عندنا.
وعند الشافعي: على قدر الأنصباء - وهي مسألة معروفة.
فإن سلم الشركاء إلا واحد: فله أن يأخذ الدار كلها.
وإن سلم البعض دون البعض فالدار كلها بين من لم يسلم، على
قدر عددهم.
فإن سلم الشركاء كلهم: فللجيران الشفعة، على عددهم.
وعلى هذا: إذا بيعت دار في زقاق غير نافذ: فأهله جميعا شركاء في
الشفعة، وهم أولى من الجيران المتلاصقين الذين لا طريق لهم في
الزقاق، لان الشريك في الطريق أولى. فإن سلم الشركاء في الطريق،
فالشفعة للجوار المتلاصقين.
ولو اختلف الشفيع والمشتري في الثمن فقال المشتري: " اشتريتها
بألفين "، وقال الشفيع: " بألف " - فالقول للمشتري في الثمن مع
يمينه، وعلى الشفيع البينة، فإن أقام الشفيع البينة: يقضي ببينته، وإن
أقاما جميعا البينة: فالبينة بينة الشفيع عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو
يوسف: البينة بينة المشتري - وهي تعرف في الخلافيات.
ولو اشترى الرجل ساحة، فبناها، ثم جاء شفيعها وطلب الشفعة،
فإنه يقضي له بالعرصة، ويقال للمشتري " اقلع بناءك وسلم الساحة إلى
الشفيع " عندنا، وروي في رواية عن أبي يوسف أنه يقال للشفيع: " خذ
الدار بالثمن وبقيمة البناء أو اترك " - وهو قول الشافعي وهي مسألة
معروفة.

60
ولو أخذ الشفيع الدار بالشفعة، فبناها، ثم استحقت الدار، فإن
المستحق يأخذ الدار، ويقال للشفيع " اهدم بناءك " ولا يرجع على
المشتري بقيمة البناء إن كان أخذ الدار من يده، ولا على البائع إن كان
أخذها منه، لأنه ليس بمغرور، ولكن يرجع على المشتري بالثمن، لأنه لم
يسلم له المبيع.
ولو اشترى الرجل دارا بثمن مؤجل - فالشفيع بالخيار: إن شاء
أخذها بثمن حال، وإن شاء انتظر إلى مضي الأجل، فإذا مضى الأجل
أخذها، وليس له أن يأخذ بثمن مؤجل، لان الأجل إنما يثبت بالشرط،
ولم يوجد بين المشتري والشفيع.
ولو مات الشفيع بعد طلب الشفعة والاشهاد على المشتري، قبل أن
يقضى له بالشفعة، تبطل الشفعة عندنا، ولا تثبت للورثة.
وعند الشافعي: يثبت للورثة.
فحق الشفعة لا يورث، عندنا، كالخيار، وعنده يورث.
ولو اشترى رجل دارا لم يرها، فبيعت بجنبها دار، فأخذا بالشفعة:
لم يبطل خياره، ولو كان له فيها خيار الشرط: يبطل خياره - لأنه لو قال
" أبطلت خياري قبل الرؤية ": لم يبطل خيار الرؤية، فلا يبطل بدلالة
الابطال، ولو قال " أبطلت خيار الشرط ": يبطل - فكذا بالدلالة.
ثم الحيلة في إبطال الشفعة هل هي مكروهة؟
روي عن أبي يوسف أنها لا تكره.
وعن محمد أنه قال: أكره ذلك أشد الكراهة.
وعلى هذا: الخلاف في إسقاط الزكاة، قبل مضي الحول - والله
أعلم.

61
كتاب
الذبائح
يحتاج إلى بيان:
ما يباح أكله من الحيوان وما لا يباح، وما يكره،
وإلى بيان شرائط الإباحة.
وإلى بيان محل الذبح وكيفيته،
وإلى بيان ما يذبح به،
وإلى بيان أهلية الذبح.
أما الأول - فنقول:
إن الحيوان على ضربين: ما لا يعيش إلا في الماء، وما لا يعيش إلا
في البر.
أما الذي لا يعيش إلا في الماء:
فكله محرم الاكل، إلا السمك خاصة بجميع أنواعه، سوى الطافي
منه: فإنه مكروه، لقوله عليه السلام: " أحلت لنا ميتتان ودمان:
السمك والجراد، والكبد والطحال " - وهذا عندنا.
وقال الشافعي: السمك الطافي، وجميع ما في البحر، حلال.
ثم عندنا - الطافي على وجهين: إن مات بسبب حادث: يؤكل، وإن
مات حتف أنفه: لا يؤكل.

63
وأصله ما روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري (1) أن النبي عليه السلام
نهى عن أكل الطافي.
فأما الذي مات من الحر أو البرد أو كدر الماء: ففيه روايتان.
وقالوا في سمكة ابتلعت سمكة: إنها تؤكل، لأنها ماتت بسبب
حادث.
وهو حلال في حق المحرم والحلال جميعا.
وكذلك اصطياد ما في البحر: حلال في حق المحرم والحلال.
أما ما لا يعيش إلا في البر:
فعلى نوعين: منه ما ليس له دم سائل، ومنه ما له دم سائل.
أما ما ليس له دم سائل - فكله حرام إلا الجراد، مثل الذباب،
والزنبور وسائر هوام الأرض وما يدب عليها وما يكون تحت الأرض من
الفأرة واليربوع والحيات والعقارب، لأنها من جملة الخبائث، إلا أن
الجراد يحل بالحديث الذي كذكرنا.
وأما ما له دم سائل - فعلى ضربين: مستوحش ومستأنس.
فالمستأنس منه - لا يحل أكله من البهائم سوى الانعام، وهو الإبل
والبقر والغنم لقوله تعالى: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) (2) واسم
" الانعام " خاص فيما ذكرنا عند أهل اللغة.
فأما ما لا يحل فالحمير والبغال والخيل - وهذا قول أبي حنيفة.



(1) هو أحد المكثرين الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وممن روى عنهم أبو بكر وعمر وعلي وأبو عبيدة
ومعاذ. وروى عنه جماعات من أئمة النابعين منهم سعيد بن المسيب وعطاء وعمرو بن دينار وقد
توفي بالمدينة سنة ثلاث وسبعين وقيل ثمان وسبعين وقيل ثماني وستين وهو ابن أربع وتسعين سنة.
(2) المائدة: 1.
64
وقال أبو يوسف ومحمد كذلك إلا أنهما قالا: يحل الفرس خاصة -
وهي مسألة معروفة.
وأما المستأنس من الطيور، كالدجاج والبط والإوز: فيحل بإجماع
الأمة.
وأما المستوحش منه - فيحرم كل ذي ناب من السباع، وكل ذي
مخلب من الطيور، إلا الأرنب خاصة، لحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - رواه ابن
عباس: أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من
الطير - وخص منه الأرنب لحديث عمر.
فذو الناب من السباع: الأسد والذنب والنمر والفهد والثعلب
والضبع والكلب والسنور البري والأهلي. وكذلك الفيل وابن عرس من
جملة ذي الناب - ونحوها.
وذو المخلب من الطيور: الصقر والبازي والنسر والعقاب والشاهين
ونحوها.
وما سوى ذلك من المستوحش من البهائم والطيور: فهو حلال -
كالظبي وبقر الوحش وحمر الوحش والإبل ونحوها. ومن الطيور: الحمام
والعصفور والعقعق وغراب الزرع الذي يأكل الزرع ولا يأكل الجيف
ونحوها - إلا أنه يكره أكل الغراب الأبقع والغراب الأسود الذي يأكل
الجيف.
ويكره الجلالة من الإبل والبقر والغنم، لان الغالب من أكلها
النجاسة.
فأما الدجاجة المخلاة التي تأكل النجاسة أيضا - قالوا: لا يكره،
لأنها تخلطها بغيرها، ولان الجلالة ينتن لحمها ويتغير ولحم الدجاجة لا

65
ينتن ولا يتغير.
ثم الجلالة إذا حبست أياما حتى تعتلف ولا تأكل النجاسة: تحل.
وعن أبي حنيفة روايتان: في رواية محمد: لم يوقت الحبس بل يحبس حتى
يطيب لحمها ويذهب نتنه، وفي رواية أبي يوسف: مقدر بثلاثة أيام.
فأما الدجاجة فقد روي عن أبي يوسف أنها لا تحبس، لأنه لا ينتن
لحمها، ولكن المستحب أن تحبس يوما أو يومين.
أما جنين ما يؤكل لحمه إذا خرج ميتا: لا يحل عند أبي حنيفة وزفر
والحسن.
وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: يحل - والمسألة معروفة.
وأما شرائط الحل
فمنها - الذبح، أو النحر في جميع ما يشترط فيه الذبح - لكن النحر في
الإبل، والذبح في الشاة: أحب.
وأصله قوله تعالى: (إلا ما ذكيتم) (1)، واسم الذكاة يقع عليهما
جميعا.
ومنها - التسمية: حتى لو تركها، عامدا: لا يحل عندنا - وعند
الشافعي: يحل.
وأجمعوا أنه لو تركها، ناسيا: يحل - والمسألة معروفة.
ثم في ذكاة الاختيار: تجب التسمية لكل ذبيحة عند الحز والقطع.
وفي ذكاة الاضطرار: يشترط عند الرمي والارسال لا عند الإصابة. ولا
يشترط التعيين لكل صيد، بخلاف الأهلية. بيانه أنه:



(1) سورة المائدة: 3.
66
- لو أضجع شاة ليذبحها، فسمى، ثم بدا له أن لا يذبحها
فأرسلها، وأضجع أخرى فذبحها بتلك التسمية لم يحل.
- ولو رمى صيدا، وسمى فأخطأه وأصاب آخر فقتله: فلا بأس
بأكله، لان التسمية، عند الذبح، تشترط عند القدرة، وعند العجز
أقيم الارسال والرمي مقام الذبح إذا اتصلت به الآلة.
وكذا لو أرسل كلبا على صيد بعينه، وسمى، فأخذ غير الذي هو
سمى عليه من غير أن مال عن سنن الأولى: يحل.
- ولو ذبح شاة وسمى، ثم ذبح أخرى فظن أن التسمية الأولي تجزي
عنهما: لم يؤكل، فيجب أن يحدث لكل ذبيحة تسمية.
- ولو رمي سهما وسمى: فقتل به من الصيد اثنين، أو أرسل كلبا
وسمى فقتل صيدين: يحل كله، لما قلنا.
ولو سمى وتكلم بكلام قليل، أو فعل فعلا قليلا، ثم ذبح، فلا
بأس به، ويجعل كالمتصل للضرورة، أما إذا تكلم بكلام طويل، أو فعل
فعلا كثيرا، بين التسمية والحز لا يحل.
ومنها - تجريد اسم الله عند الذبح عن اسم غيره - حتى لو قرن باسم
الله اسم غيره، وإن كان اسم النبي عليه السلام: فإنه لا يحل.
وتجريده عن الدعاء مستحب، وليس بشرط، بأن قال " باسم الله!
اللهم تقبل عني أو عن فلان "، ولكن ينبغي أن يدعو بهذا وبمثله قبل
التسمية أو بعد الفراغ عن التسمية منفصلا عنها، ولكن لا يوجب
الحرمة.
ولو سبح أو هلل أو كبر وأراد به التسمية على الذبيحة: يحل أما لو
أراد به الحمد على سبيل الشكر: لا يحل.

67
وكذا لو سمى: ينبغي أن يريد به التسمية على الذبيحة. أما لو أراد
به التسمية عند افتتاح العمل: لا يحل.
وأما محل الذبح، وكيفيته - فنقول:
الذكاة نوعان: ذكاة اختيار، وذكاة اضطرار.
أما ذكاة الاضطرار - فمحله جميع البدن
فيحل بوجود الجرح أينما
أصاب على ما نذكره.
وأما ذكاة الاختيار - فمحله ما بين اللبة واللحيين، لقوله عليه
السلام: " الذكاة ما بين اللبة واللحيين ".
ثم الذكاة هي فري الأوداج، والأوداج أربعة: الحلقوم، المرئ،
والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمرئ: فالحلقوم مجرى النفس، والمرئ
مجرى الطعام والشراب، والعرقان مجرى الدم.
فإذا قطع الأوداج الأربعة: فقد أتى بالذكاة المأمور بها بتمامها.
فأما إذا نقص من ذلك - فقد اختلفوا فيه:
روي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه إذا قطع أكثر الأوداج:
حل، وفسر ذلك بأن قطع ثلاثة منها من أي جانب كان - وبه أخذ، ثم
رجع فقال: لا يحل ما لم يقطع الحلقوم والمرئ وأحد الودجين.
وروي عن محمد عن أبي حنيفة أنه قال: ما لم يقطع الأوداج الأربعة
أو الأكثر من كل واحد منها: لا يحل، حتى إنه إذا قطع الثلاثة أو الأكثر
منها وقطع نصف الرابع أو أقل: لا يحل - وبه أخذ محمد.
فصار الحاصل - أن عند أبي حنيفة: الأكثر على رواية أبي يوسف
يرجع إلى الثلاثة منها، وعلى رواية محمد: الأكثر يرجع إلى كل واحد من
الأربعة، وقال محمد: إنه لا يحل ما لم يقطع الكل أو الأكثر من كل

68
واحد منها. وقال أبو يوسف: يحل إذا قطع ثلاثة منها: الحلقوم والمرئ
وأحد الودجين.
وقال الشافعي: إذا قطع الحلقوم والمرئ يحل.
ولو أبان رأس البعير أو الشاة بالسيف: فإن كان من قبل الحلقوم:
أكل، وإن كان من قبل القفا: فإن صار بحال لا يعيش قبل قطع
الأوداج: لا يحل، وإن كان بحال يعيش: يحل.
ويكره في حال الذبح أن يجرها برجلها إلى المذبح، أو يضجعها ويحد
الشفرة بين يديها.
ويكره أن يذبحها على وجه يبلغ النخاع، وهو العرق الأبيض الذي
في عظم لرقبة.
ويكره أن يسلخ قبل أن تموت، لان هذا زيادة ألم لا يحتاج إليه.
فإن نخع (1) أو سلخ قبل أن تبرد فلا بأس بذلك، لأنه لم يوجد فيه
ألم: ذكره الكرخي. و بعض المشايخ قالوا: يكره النخاع بعد الموت قبل
ان يبرد ويكره السلخ.
وعن مجاهد (2) أنه قال: كره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبعة من الشاة المذبوحة:
الذكر، والأنثيين، والقبل، والغدد، والمثانة، والمرارة، والدم.
ثم أبو حنيفة فسر هذا وقال: الدم حرام للنص القاطع، وأما الحكم
في السبعة: فمكروه، لأنه مما لا تستحسنه الأنفس، وإنه أراد به الدم
المسفوح، فأما دم الكبد والطحال ودم اللحم: فليس بحرام.



(1) نخع الذبيحة جاوز بالسكين منتهى الذبح فأصاب نخاعها.
(2) مجاهد بن جبير: تابعي. وهو إمام في الفقه والتفسير والحديث. سمع من الصحابة ابن عمر وابن
عباس وأبا هريرة وعائشة وغيرهم، ومن التابعين طاوسا وابن أبي ليلى وآخرين. توفي، وهو ابن
ثلاث وثمانين سنة، سنة 101 ه‍، وقيل سنة 100 وقيل سنة 7102
69
وأما بيان ما يذكى به - وهو الآلة:
فعلى ضربين: آلة تقطع وآلة تفسخ.
فالآلة التي تقطع - على ضربين: حادة، وكليلة:
فالحادة: يجوز الذبح بها، حديدا كان أو غير حديد، من غير
كراهة.
والكليلة التي تقطع: يجوز الذبح بها، مع الكراهة، حديدا كانت
أو غير حديد.
وأصله قوله عليه السلام: " كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فهو
ذكاة ".
وقال أصحابنا: إذا ذبح بظفر منزوع أو بسن منزوع: جاز، مع
الكراهة.
وقال الشافعي: لا يجوز.
وأما الآلة التي تفسخ - فهو نحو الظفر القائم والسن القائم: إذا ذبح
به: لا يحل، لأنه يعتمد على المذبوح من وجه، فيختنق ويتفسخ - حتى
قالوا: إذا كان الظفر طويلا، فأخذ إنسان آخر بيده، وذبح بظفره،
وأمر عليه كما يمر السكين: يحل، لأنه لم يعتمد عليه حتى يكون فيه معنى
التخنيق.
وأما بيان أهلية الذبح - فنقول:
يشترط أن يكون من أهل الملة التي يقر عليها، ويعقل الذبح،
ويضبطه، ويقدر عليه - لأنه إذا كان من أهل الملة، وهو عاقل، فالظاهر
أنه يأتي باسم الله تعالى عند الذبح، وإذا لم يكن عاقلا، فإجراء اسم الله
تعالى على لسانه وعدمه سواء، ولهذا لا يصح الاسلام منه. والقدرة

70
على الذبح لا بد منها حتى يتحقق فعل الذبح على وجهه.
فيصح الذكاة من المسلم والكتابي إذا عقلا الذبح، ولا يتركان
التسمية عمدا، سواء كان ذكرا أو أنثى، صغيرا أو بالغا.
ولا يجوز ذبح المجوسي ولا المرتد. ولا ذبح الصبي والسكران
والمجنون إذا لم يعلقوا ولم يضبطوا الذبح.
هذا الذي ذكرنا في غير الصيد - فأما في الصيد: فيشترط أن لا يكون
محرما، ولا الذبح بأمر المحرم، ولا في الحرم - حتى لا يؤكل ما يذبح
المحرم من الصيد، أو يأمر به، ولا ما يذبحه الحلال في الحرم من
الصيد، ويكون ذلك كالميتة.
فأما ذبح المحرم لغير الصيد: فسبب
الحل، في الحل والحرم.

71
كتاب
الصيد
الاصطياد مباح في البحر في حق كافة الناس، وفي البر في حق غير
المحرم على كل حال إلا في الحرم، وفي حق المحرم لا يباح في الحل ولا
في الحرام.
وأصله قوله تعالى: (أحل لكم صيد البحر (الآلة)) (1)، ولان
الكسب مباح في الأصل، وما يصيده قد يؤكل، وقد ينتفع بجلده
وبشعره، ونحو ذلك.
ثم ما يباح أكله من الصيد المأكول، بأخذ الجوارح والرمي وغير ذلك
من فعل العباد - إذا مات قبل أن يقدر عليه، له شرائط:
أحدها - أن تكون الآلة، التي بها يصطاد جارحة، تجرح الصيد،
وهو السهم والسيف والرمح والحيوان الذي له ناب أو مخلب فيجرح به،
فيموت - هذا هو الرواية المشهورة. أما إذا لم يجرح الكلب أو البازي:
فلا يحل.
وروي عن أبي حنيفة أن الكلب إذا خنق: يحل. ولو لم يخنقه ولم
يجرحه ولكنه كسره فمات، ففيه روايتان.
ولو أصاب السهم ظلف الصيد أو قرنه، فإن وصل إلى اللحم
فأدماه: أكل، وإلا فلا.



(1) المائدة: 96.
73
واختلف المشايخ في الشاة إذا اعتلفت بالعناب فذبحت ولم يسل منها
الدم: فقال أبو القاسم الصفار (1): لا يحل. وقال أبو بكر الإسكاف:
يحل.
وهذا إذا مات بجرحه غالبا. فأما إذا وقع الشك: فلا يحل إذا كان
يمكن الاحتراز عنه، بأن رمي صيدا في الهواء فسقط على جبل، أو سطح
أو شجر، أو على سنان رمح مركوز في الأرض، أو على حرف آجرة أو
صخرة، أو في الماء، ثم سقط على الأرض - لا يحل، احتياطا لجانب
الحرمة.
وإذا وقع على آجرة مطبوخة على الأرض، أو على أرض صلبة -
فالقياس أن لا يحل، وفي الاستحسان: يحل، لأنه لا يمكن الاحتراز عن
الأرض.
والثاني - أن يكون الحيوان الجارح معلما، لقوله تعالى: (وما علمتم
من الجوارح مكلبين) (2).
وتعليم ذي الناب أنه إذا أرسل يتبع الصيد، وإذا أخذه أمسكه على
صاحبه ولم يأكل منه شيئا.
وتعليم ذي المخلب أن يستجيب إذا دعي، ويتبع الصيد إذا أرسل،
وإن أكل منه فلا بأس به.
ثم أبو حنيفة، في ظاهر الرواية، لا يوقت في التعليم ولكن ينبغي
أن يقول أهل العلم بذلك إنه معلم.



(1) هو أحمد بن عصمة - أخذ عن نصير بن يحيى عن محمد بن سماعة عن أبي يوسف وكان إماما
كبيرا - إليه الرحلة ببلخ. تفقه عليه أبو حامد أحمد بن الحسين المروزي. ومات سنة 336 ه‍ في
السنة التي توفي فيها أبو بكر الإسكاف. وقيل مات سنة 326 ه‍.
(2) المائدة: 4.
74
وروى الحسن عنه أنه قال: لا يأكل أول ما يصيد ولا الثاني ثم
يؤكل الثالث وما بعده.
وقال أبو يوسف ومحمد: إذا صاد ثلاث مرات ولم يأكل فهو معلم.
ثم إذا صار معلما، من حيث الظاهر، وصاد به صاحبه، ثم أكل
بعد ذلك من صيد يأخذه، فقد بطل تعليمه، ولا يؤكل بعد ذلك
صيده، حتى يعلم تعليما ثانيا بلا خلاف.
فأما ما صاده قبل ذلك هل يؤكل جديده وقديمه؟ عند أبي حنيفة:
لا يؤكل لأنه ظهر أنه صار معلما. وعندهما: يحل، لان العالم قد ينسى.
والثالث - أن لا يكون الحيوان الجارح الذي يصطاد به محرم العين،
كالخنزير، فإنه - وإن كان معلما - لا يحل صيده.
فأما ما سواه من الجوارح، إذا علم يحل صيده، كالفهد والأسد والذئب
والنمر وابن عرس.
الرابع - أن يكون الارسال ممن هو أهل للذبح، لان الارسال
والرمي بمنزلة الذبح، فلا بد من أن يكون المرسل أهلا، من مسلم أو
كتابي، مع سائر الشرائط.
والخامس - أن يكون الارسال على ما هو صيد مشاهد معاين، بأن
رأى صيدا أو جماعة فرمى إليهم.
فأما التعيين فليس بشرط، حتى أنه لو أصاب صيدا آخر سوى ما
عاين، يحل، لان الارسال وجد إلى الصيد، وفي التعيين حرج.
- ولو أرسل إلى ما ليس بصيد من الإبل والبقر والغنم أو الآدمي،
فأصاب صيدا، لا يحل، لأنه لم يوجد الارسال إلى الصيد.
- ولو سمع حس صيد، فظنه صيدا، فأرسل عليه كلبه أو رمى

75
سهمه إليه، فأصاب صيدا، وبان له أن ما ظنه صيدا فهو غنم أو
آدمي، لا يحل، لأنه ما أرسل إلى الصيد، لكنه ظنه كذلك.
- ولو سمع حسا، ولا يعلم أنه حس صيد أو آدمي، فأرسل،
فأصاب صيدا، لا يحل.
- ولو سمع حسا فظنه آدميا، فرماه، وأصاب الذي سمع حسه،
فإذا هو صيد - قالوا: يحل لأنه رمى إلى محسوس معين، لكنه ظن أنه
آدمي، وقصد الآدمي، فظهر أنه بطل قصده، ولكن الرمي صادف
محله، وهو الارسال إلى محسوس معين، وهو الصيد، فصح إرساله،
وتسميته - كمن أشار إلى امرأته وقال: " هذه الكلبة طالق ": تطلق،
وإن أخطأ الاسم.
- ولو ظن حسن صيد، فرماه أو أرسل، فإذا هو حس صيد، غير
مأكول أو مأكول، وأصاب صيدا آخر: يحل. وقال زفر: إن كان صيدا
لا يؤكل لحمه: ولا يحل. وروي عن أبي يوسف أنه قال: إن كان
خنزيرا لا يحل خاصة. والصحيح قولنا، لان الصيد اسم للمأكول
وغيره.
والسادس - أن يكون، فور الارسال، باقيا، ولا ينقطع إلى وقت
الاخذ والإصابة، حتى إنه إذا أرسل إلى صيد وسمى، فما أخذ في ذلك
الفور من الصيد فقتله، يحل، فإذا انقطع الفور، بأن جثم على صيد
طويلا ثم مر به صيد آخر، فقتله لا يحل الثاني.
- وكذلك في الرمي إذا تغير، بأن رمى إلى الصيد، فذهب به الريح
يمنه أو يسرة، فأصاب صيدا: لا يحل.
- ولو أصاب السهم حائطا أو صخرة، فرجع السهم، وأصاب
الصيد: فإنه لا يؤكل، وهذا لان الارسال انقطع فاحتمل أنه حصل بقوة

76
غيره، ولا يحل مع الشك.
فأما إذا مر على سننه (1): فإن أصاب الحائط، فلا بأس به.
- ولو أرسل رجلان كلبين، أو رميا سهمين، فأصابا معا صيدا،
فقتلاه، فهو بينهما، ولوجود السبب منهما جميعا. ولو سبق أحدهما، فهو
له، لان سبب الملك والذبح وجد منه سابقا، وهو الارسال بأثره، فكان
أولى.
والسابع - التسمية في حال الارسال، إذا كان ذاكرا لها، لان
الارسال والرمي ذبح من الفاعل، تقديرا، فيشترط التسمية عنده، كما في
الذبح، ألا أنه لا يشترط على كل صيد بعينه، بخلاف الذبح - على ما مر.
والثامن - أن يلحقه المرسل، والرامي، أو من يقوم مقامهما، قبل
انقطاع الطلب أو التواري عنه - وهذا استحسان، والقياس أن لا يحل،
لاحتمال أنه مات بسبب آخر، لكن ترك القياس بالأثر والضرورة، لأنه لا
يمكن الاحتراز عنه.
فأما إذا قعد عن طلبه ثم وجده بعد ذلك ميتا: فلا يؤكل، لأنه لا
ضرورة.
وأصله ما روي عن ابن عباس أنه سئل عن ذلك فقال: " كل ما
أصميت ودع ما أنميت " - وقال أبو يوسف: الاصماء ما عاينه، والانماء ما
توارى عنه.
والتاسع - أن لا يدرك ذبحة الاختيار بأن كان ميتا. فإن كان بحال
لا يعيش، ولم يذبحه: ففيه اختلاف، بناء على مسألة المتردية والنطيحة



(1) أي مر في طريقة مستقيما كما هو لم يتغير أي لم يرجع عن وجهه.
77
والموقوذة: إذا ذبحت هل تحل أم لا؟ - وهي على وجهين: إن كان فيها
حياة مستقرة: حلت بالذبح في قولهم جميعا. وإن كانت فيها حياة ولكنها
غير مستقرة تحل بالذبح عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: إن كان فيها
من الحياة ما يعيش مثلها: تحل، وإن كان لا يعيش مثلها: لا تحل.
وقال محمد: إن بقي حيا أكثر من بقاء المذبوح بعد الذبح: يحل.
إذا ثبت هذا ففي هذه المسألة: إذا وجد حيا: تبطل الذكاة
الاضطرارية عند أبي حنيفة وإن لم يكن فيه حياة مستقرة، وعندهما: على
الوجه الذي قلنا.
ولو أبان رأس الصيد وسمي، يحل كله.
ولو قطع عضوا منه سوى
الرأس، فمات: لم يؤكل العضو المبان. ويحل الباقي - لان الأوداج
تنقطع بإبانة الرأس، فيكون ذبحا. وإذا قطع عضوا غيره، لا يؤكل
الجزء المبان، لان الموت حصل والجزء مبان - قال عليه السلام: " ما أبين
من الحي فهو ميت ".
ولو قطع نصفين طولا أو عرضا: يحل أكله، لان الموت يحصل بهذا
الفعل، فيكون الكل مذكى ذكاة اضطرار.
وإن كان أحد النصفين أكثر: فإن كان مما يلي الرأس أقل: يؤكل
كله، وإن كان أكثر: أكل مما يلي الرأس ولا يؤكل ما سواه، لان
الأوداج متصلة من القلب إلى الدماغ، فمتى كان النصف الذي يلي
الرأس أقل، يكون ذكاة بقطع الأوداج، ومتى كان أكثر كان ذكاة
الاضطرار فيكون ذلك عند الموت، فيكون الجزء الذي بان، فات حياته
قبل الذكاة، فيكون ميتة.
ولو قطع أقل الرأس: لا يحل المبان، ويحل الباقي - لان هذا ذكاة
الاضطرار، فلا يحل المبان قبل الموت.

78
ولو بقي أقل الرأس وقطع الأكثر: يحل كله، لأنه صار ذكاة بقطع
العروق.
ولو قطع الرأس نصفين: فعلى قول أبي حنيفة ومحمد: يحل كله وهو
قول أبي يوسف الأول ثم رجع وقال: لا يحل المبان، فكان عنده أن
العروق متصلة بالنصف الذي يلي البدن، وعندهما: متصلة بالدماغ، فتصير مقطوعة بقطع النصف.

79
كتاب
الأضحية
يحتاج إلى:
بيان أن الأضحية واجبة أم لا؟
وإلى بيان شرائط الوجوب،
وبيان شرائط الأداء، وإلى بيان كيفية القضاء،
وإلى بيان ما يجوز في الأضحية وما لا يجوز، وإلى بيان ما يكره.
أما الأول - فنقول:
قال أصحابنا: إن الأضحية واجبة على المقيمين، من أهل الأمصار
والقرى والبوادي، من الاعراب والتركمان.
وقال الشافعي: سنة - وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف.
وأجمعوا أنها لا تجب على المسافرين.
والصحيح قولنا، لقوله تعالى: " فصل لربك وانحر " (1) - قال أهل
التفسير: المراد منه صلاة العيد ونحر الأضحية، والامر للوجوب،
والنص ورد في حق المقيم، لان الخطاب للرسول عليه السلام، وهو
حكم لا يعرف بالقياس، فلا يتعدى إلى المسافر، كما في الجمعة
والعيدين.



(1) الكوثر: 2.
81
وأما شرائط الوجوب
فمنها - اليسار: وهو اليسار، الذي تعلق به وجوب صدقة الفطر،
دون اليسار الذي تعلق به وجوب الزكاة على ما ذكرنا في كتاب الزكاة.
ومنها - الاسلام: لأنها عبادة وقربة.
ومنها - الوقت: فإنها لا تجب قبل أيام النحر. ولهذا لو ولدت المرأة
ولدا بعد أيام النحر لا تجب الأضحية لأجله، ولو مات الولد في وسط أيام
النحر لا تجب الأضحية، لان الوجوب يتأكد في آخر الوقت. وكذا كل
من مات من أهل وجوب الأضحية، لما ذكرنا.
وأما البلوغ والعقل - هل يشترط؟ فعند أبي حنيفة وأبي يوسف:
ليس بشرط، حتى تجب على الصغير، إذا كان غنيا، في ماله - حتى لو
ضحى الأب أو الوصي من ماله: لا يضمن.
وعند محمد وزفر: لا يجب على الصغير - حتى يضمن الأب
والوصي.
ولو كان مجنونا موسرا: تجب في ماله، ويضحي عنه الولي - هذا هو
المشهور، كما في صدقة الفطر. وفي رواية فرق بين صدقة الفطر وبين
الأضحية وقال: لا تجب الأضحية في ماله.
ولا خلاف بين أصحابنا أنه تجب الأضحية على الموسر بسبب أولاده
الصغار، دون الكبار، بمنزلة صدقة الفطر، إذا لم يكن للصغار مال،
لكن إذا ضحى من مال الصغير لا يتصدق به، لان الواجب هو الإراقة،
فأما التصدق باللحم فتطوع، ومال الصغير لا يحتمل التبرع، فينبغي أن
يطعم الصغير، ويدخر له، أو يستبدل لحومه بالأشياء التي ينتفع بها
الصغير، مع بقاء أعيانها، كما في جلد الأضحية.

82
وأما شرائط الأداء وكيفية القضاء
فمنها - وقت الفجر: فإنه لا يصح التضحية إلا في أيام النحر، ولو
ذهب الوقت تسقط التضحية. إلا أن في حق المقيمين في الأمصار يشترط
شرط آخر: وهو أن يكون بعد صلاة العيد، بالحديث، حتى إن في حق
أهل القرى تجوز التضحية في أول الوقت.
وإن دخل الرستاقي (1) المصر لصلاة العيد، وأمر أهله بأن يضحوا
عنه: لهم أن يضحوا عنه قبل صلاة العيد.
والمعتبر مكان الذبيحة لامكان المذبوح عنه، في ظاهر الرواية. وفي
رواية: مكان المذبوح عنه، وهو قول الحسن.
وكذلك إذا ترك الصلاة يوم النحر، لعذر أو لغير عذر: يجوز أن
يضحي بعد انتصاف النهار.
وفي اليوم الثاني والثالث، سواء صلوا صلاة العيد أو لم يصلوا: لهم
أن يضحوا قبل صلاة العيد، لان الترتيب في اليوم الأول ثبت،
بالحديث، غير معقول المعنى فاقتصر عليه إذا صلى أو مضى وقت
الصلاة.
ثم أيام النحر ثلاثة: يوم الأضحى وهو العاشر من ذي الحجة،
والحادي عشر، والثاني عشر - يجوز التضحية في نهار هذه الأيام ولياليها،
بعد طلوع الفجر من اليوم الأول إلى غروب الشمس من اليوم الثاني
عشر، غير أنه يكره الذبح بالليل - وهذا عندنا.
وعند الشافعي: أربعة أيام وزاد اليوم الثالث عشر.



(1) الرستاقي نسبة إلى الرستاق معرب ويستعمل في الناحية التي هي طرف الإقليم والجمع
رساتيق.
83
والصحيح قولنا - لما روي عن عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وأنس
رضي الله عنهم، وغيرهم، أنهم قالوا: " أيام النحر ثلاثة، أفضلها
أولها " - فإذا مضت هذه الأيام، فقد فات الذبح في حق من لم يذبح -
حتى لا يجوز له أن يذبح.
ثم إن كان أوجب شاة بعينها، أو اشتراها ليضحي بها، فمضت أيام
النحر، قبل أن يذبحها، تصدق بها حية، ولا ينقص منها شيئا من
الشعر واللبن، ولا يأكل من لحمها، لأنه انتقل الواجب من إراقة الدم
إلى التصدق.
وإن لم يوجب، أو لم يشتر، والرجل موسر، وقد مضت أيام النحر،
فإن عليه أن يتصدق بقيمة الشاة، التي تجوز في الأضحية لما قلنا.
وأما بيان ما يجوز في الأضحية، وما لا يجوز وما يكره:
وذلك أنواع:
منها:
أنه لا يجوز في الضحايا والهدايا إلا الثني من الإبل البقر والغنم،
والجذع من الضأن خاصة إذا كان عظيما.
ثم الثني من الإبل عند الفقهاء ابن خمس سنين، ومن البقر ابن
سنتين ومن الغنم ابن سنة، والجذع من الإبل ابن أربع سنين، ومن
البقر ابن سنة، ومن الغنم ابن ستة أشهر - هكذا حكى القدوري.
وذكر الزعفراني في " الأضاحي " وقال: الجذع ابن سبعة أشهر أو
ثمانية، فأما ابن ستة أشهر فهو حمل.
ولا يجوز الحمل والجدي والعجل والفصيل في الأضحية.
ولا يجوز في الأضاحي شئ من الوحش، لعدم ورود الشرع، وإن

84
كان متولدا، من الوحش والانسي: فالمعتبر فيه جانب الام.
والإبل والبقر يجوز من سبعة نفر على ما روى جابر أنه قال: نحرنا
مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة.
ولا تجوز الشاة عن أكثر من الواحد، وإن كانت عظيمة قيمتها قيمة
شاتين، لان القربة إراقة الدم وذلك لا يتفاوت.
ولكن إنما يجوز بشرط أن يكون قصدهم من التضحية التقرب إلى الله
تعالى، سواء كان من نوع واحد، كما إذا كانوا شركاء في الأضحية أو في
الهدي، أو من أنواع مختلفة بأن كان نوى أحدهم الأضحية والآخر الهدي
والآخر دم الكفارة ونحو ذلك، ولكن الأفضل أن تكون الشركة في نوع
واحد. فأما إذا كان أحد الشركاء أراد بالذبح اللحم لا التقرب، أو كان
أحدهم ذميا - لم يقع عن الأضحية، لأنها مما لا يتجزأ، فإذا لم يكن
البعض قربة بطل الكل.
والنوع الثاني: ما لا يجوز بسبب العيب، وما يكره - فنقول:
العيب القليل لا يمنع والكثير يمنع: فذاهبة العين الواحدة، وهي
العوراء، ومقطوعة الاذن الواحدة، ومقطوعة الألية والذنب - كلها لا
تجوز.
فأما إذا كان الذاهب بعض بصر العين، أو بعض الاذن الألية
والذنب - ففيه ثلاث روايات:
في ظاهر الرواية: الثلث وما دونه قليل، وما زاد عليه فهو كثير.
وفي رواية: الثلث وما زاد فهو كثير، وما دون الثلث قليل.
وفي رواية أبي يوسف - وهو قوله: النصف وما زاد فهو كثير، وما
دون النصف قليل.

85
ولا يجوز السكاء التي لا أذن لها في الخلقة، وإن كانت صغيرة:
يجوز.
والهتماء التي لا أسنان لها: لا يجوز، فإذا كان لها بعض الأسنان:
فإن كانت لا تعتلف ويصب في حلقها: لا يجوز، وإن كانت تعتلف:
يجوز.
والعجفاء التي لا تنقي: لا يجوز.
وكذلك العرجاء التي لا تمشي إلى المنسك، وإن كانت تقدر على
المشي مع العرج: جاز.
والثولاء وهي المجنونة: جاز.
وكذا الجرباء السمينة: جاز.
وكذلك الخصي: جاز، وعن أبي حنيفة: إنه أحب إلي، لأنه
أطيب لحما.
وما جاز مع العيب: فهو مع الكراهة، وإنما المستحب هو السليمة
عن العيوب الظاهرة.
ولو اشترى سليمة للأضحية، أو أوجب على نفسه ذبح شاة بعينها،
ثم ظهر بها عيب يمنع عن الجواز، يوم النحر، فإنه لا يجوز، لان العبرة
لوقت الذبح، لكن إذا اعترضت آفة عند الذبح، بإصابة السكين عينها
ونحو ذلك: فلا بأس به، لأنه من ضرورات الذبح - وهذا في حق
الموسر، لأنه وجب عليه أضحية كاملة بإيجاب الله تعالى.
فأما إذا كان معسرا اشتراها للأضحية، أو أوجبها بعينها، ثم
اعترضت آفة مانعة عن الجواز: يجوز له أن يضحي بها، لأنها معينة في
حقه، ففوات بعضها كفوات كلها، حتى لا يجب عليه شئ، لكونها

86
معنية - حتى لو أوجب الفقير أضحية بغير عينها، فاشترى صحيحة ثم
تعيبت قبل الذبح بعيب مانع، فضحى، لا يسقط عنه الواجب، لما
قلنا.
ولو ذبح إنسان أضحية صاحبه، بغير أمر، جاز، من صاحبه
استحسانا.
وكذلك لو غلطا، فضحى كل واحد منهما أضحية صاحبه، لان
الاذن ثابت من حيث العادة، دلالة، ويترادان اللحم، فإن جواز ذلك
لصاحبه بالاذن، فإن لم يرض كل واحد منهما بفعل صاحبه، صريحا،
يكون أضحية كل واحد ما ضحى بنفسه، وجاز عنه، ويضمن لصاحبه،
وصار غاصبا له بالاخذ ويصير مالكا سابقا على الذبح، فيصير مضحيا
ملك نفسه، فجاز.
وكذا من غصب شاة إنسان، وضحى بها: يضمن قيمتها، وتجوز
عن أضحيته، في الرواية المشهورة، لما ذكرنا - بخلاف المودع: إذا ذبح
الشاة الوديعة وضمن، لا يجوز، لأنها لم تكن مضمونة وقت الذبح - لهذا
افترقا.
ويكره له أن يحلب لبن الأضحية، وأن يجز صوفها قبل التضحية،
لأنها من أجزاء الأضحية، ولو فعل يتصدق بها. ولو باع شيئا منها
يتصدق بثمنها.
وأما بعد الذبح فلا بأس بذلك.
ولو ولدت - قالوا يذبح ولدها معها. وقال بعضهم بأنه لا يذبح،
ولكن يتصدق بالولد، لأنه ليس بمحل للأضحية.
وللمضحي أن يأكل من أضحيته: إن شاء كلها، وإن شاء أطعم
الكل، والاحب أن يتصدق بالثلثين ويأكل الثلث إن كان موسرا. وإن

87
كان ذا عيال، وهو وسط الحال في اليسار، فله أن يتوسع بها على عياله،
ويدخر منها ما شاء وينتفع بجلدها وشعرها، وله أن يستبدلها بشئ
ينتفع بعينه، كالجراب والمنخل والثوب.
ولو باع ذلك أو باع لحمها: فإنه يجوز بيعه، ولا ينقض البيع في
جواب ظاهر الرواية، لكن يتصدق بالثمن، وعلى قول أبي يوسف: له
أن ينقض البيع، لأنه بمنزلة الوقف عنده في قول.

88
كتاب
الغصب
مسائل الغصب تبتنى على: معرفة حد الغصب، وبيان حكمه.
أما حد الغصب الموجب للضمان - فنقول:
هو إزالة يد المالك، أو صاحب اليد، عن المال، بفعل في العين،
فأما إثبات اليد على مال الغير، على وجه التعدي، بدون إزالة اليد:
فيكون غصبا موجبا للرد، لا موجبا للضمان - وهما عندنا.
وقال الشافعي: حده إثبات اليد، على وجه التعدي.
ولهذا قلنا: إن من سكن دار غيره، بغير إذنه، وأخرج صاحبها
عنها لو كان فيها، أو زرع أرض غيره، بغير إذنه: يكون غصبا موجبا
للرد، ولا يكون موجبا للضمان عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وعلى قول محمد والشافعي: يجب الضمان لو خربت الدار، أو غرق
العقار - والمسألة معروفة.
ولو استخدم مملوك رجل بغير إذنه، أو بعثه في حاجة، أو ركب
دابته، أو حمل عليها شيئا، فهلكت: فهو ضامن - لما قلنا.
وإن لم ينقل شيئا مما يحتمل النقل، كما إذا جلس على بساط الغير:
لا يضمن.
ولهذا قلنا: إن زوائد الغصب، متصلة كانت أو منفصلة، من الولد

89
واللبن والصوف والسمن: لا تكون مغصوبة، خلافا للشافعي، لعدم
إزالة اليد.
ولو جاء المالك وطلب الزوائد، فمنعها: يضمن بالاجماع.
فأما لو باعها وسلمها إلى المشتري:
ففي المنفصل: المالك بالخيار: إن شاء ضمن البائع، وإن شاء
ضمن المشتري، قيمته، يوم البيع والتسليم.
فأما في الزوائد المتصلة: فللمالك أن يضمن الغاصب قيمة المغصوب
يوم الغصب، وليس له أن يضمنه قيمة الزوائد يوم البيع - إنما له أن
يضمن المشتري قيمة الغصوب مع الزوائد المتصلة يوم القبض بالشراء -
وهذا قول أبي حنيفة، وعلى قولهما: له أن يضمن البائع أو المشتري،
قيمته، يوم البيع والتسليم، مع الزوائد.
وكذلك الخلاف في إتلاف الزوائد المتصلة في غير الآدمي - هذا هو
الصحيح.
وأما في القتل: فله الخيار بين أن يضمنه بالغصب يوم الغصب،
وبين أن يضمنه بالقتل - والمسألة معروفة.
ولهذا قلنا: إن المنافع لا تضمن بالغصب والاتلاف، خلافا
للشافعي.
وصورة الغصب أن يحبس عبد إنسان، بغير إذن مالكه، شهرا، ولم
ينتفع به، وكذا الدواب.
وصورة الاتلاف أن يغصب عبدا أو دابة وانتفع بها - والمسألة
معروفة.
ولهذا - لو أجر المغصوب من إنسان شهرا وأخذ الأجرة فإن الأجرة

90
ملك الغاصب دون المالك، لان المنافع تحدث في يد الغاصب.
وأما حكم الغصب.
فمن حكمه - وجوب رد العين المغصوبة - ما دامت قائمة من غير
نقصان - لقوله عليه السلام: " على اليد ما أخذت حتى ترد ".
ومن حكمه أيضا - وجوب ضمان النقصان إذا انتقص.
ثم لا يخلو: إما أن يكون النقصان بسبب تراجع السعر، أو بفوات
جزء من العين، أو بفوات وصف أو معنى مرغوب في العبد تزداد قيمته
به.
أما النقصان بسبب السعر - فغير مضمون في الغصب، لأنه فتور
يحدثه الله تعالى في قلوب العباد، لا معنى يرجع إلى العين. ولهذا لا يعتبر
في الرهن، والمبيع إذا كان في يد البائع: حتى لا يسقط الدين بقدره،
ولا يثبت الخيار للمشتري، لما قلنا.
وأما النقصان الذي يرجع إلى العين أو الوصف - فلا يخلو: إما إن
كان في أموال الربا كالمكيل والموزون الذي لا يجوز بيع البعض بجنسه
متفاضلا، أو في غير ذلك.
فإن كان في أموال الربا - بأن غصب حنطة ونحوها فصب فيها ماء،
أو غصب دراهم أو دنانير فانكسرت في يده وصارت قراضة (1): فصاحبه
بالخيار: إن شاء أخذه ولا شئ له غير ذلك، وإن شاء تركه وضمنه مثله
وزنا ولا يضمن نقصان الضرب.
- وإن كان إناء فضة فهو بالخيار أيضا: إن شاء أخذه ولا شئ له
غير ذلك، وإن شاء ضمنه قيمته من الذهب.



(1) قرضه يقرضه قطعه. والقراضة بالضم ما سقط بالقرض.
91
- وإن كان الاناء من الذهب: إن شاء أخذه مهشوما، وإن شاء
ضمنه قيمته من الفضة، لان الصياغة متقومة، ولحصولها بصنع العباد،
ولا يمكن تضمينه بجنسه، لأنه يؤدي إلى الربا، فيضمن بخلاف
جنسه، حتى لا يفوت حقه.
- وكذلك آنية الصفر والنحاس والشبه، إن كان يباع وزنا، لأنه
يدخلها الربا. فأما إذا كان يباع عددا لم يكن من مال الربا.
فأما إذا كان التآلف ليس من أموال الربا - فنقصان الجزء من العور
والشلل، ونقصان الوصف كذهاب البصر والسمع، أو ما يفوت به من
معنى من العين كنسيان الحرفة ونحوه، أو حدث به عيب ينقص قيمته
كالإباق والجنون والكبر في العبد والجارية: فمضمون عليه.
أما نبات اللحية في الغلام الامر فليس بنقص - فيقوم العبد صحيحا
لا عيب فيه ولا نقص، يقوم وبه العيب والنقص فيضمن قدر ذلك
لصاحبه، لأنه فات حقه.
وعلى هذا - إذا غصب عصيرا فصار خلا، أو عنبا فصار زبيبا، أو
لبنا فصار رائبا، ورطبا فصار تمرا - فصاحبه بالخيار: إن شاء إخذه عينه
ولا شئ له، وإن شاء ضمنه مثله وسلم له ذلك كله لأنه من أموال
الربا.
- وإن كان تبر ذهب أو فضة، فصاغ منه إناء أو حليا أو دارهم أو
دنانير: فإنه يأخذ ذلك كله في قول أبي حنيفة ولا يعطيه لعمله شيئا.
وعندهما: لا سبيل له على المصوغ. وعليه مثله - فعند أبي حنيفة: هذا
الوصف لا قيمة له في مالية العين، لأنه لا يزيد في العين، بخلاف الصنعة
في غير أموال الربا.
- ولو غصب ثوبا فقطعه ولم يخطه فهو بالخيار: إن شاء أخذه ناقصا

92
مقطوعا وضمنه ما نقص بالقطع، وإن شاء تركه وضمنه قيمة الثوب،
يوم غصبه، لأنه فوت عليه منفعة معتبرة، وهو ليس من أموال الربا.
- وكذلك إذا غصب شاة، فذبحها، ولم يشوها: فله الخيار بين أن
يأخذ الشاة وأخذ قيمة ما نقصها، وإن شاء تركها وأخذ قيمتها منه.
وروي عن أبي حنيفة أن المالك بالخيار: إن شاء أخذها ولا شئ له
غيرها، وإن شاء تركها وضمنه قيمتها يوم غصبها، لان الذبح زيادة.
فأما إذا زاد المغصوب سمنا، فنفقة الغاصب، أو كان مريضا فداواه
حتى صح، أو كان زرعا أو أشجارا فسقاها حتى نما وانتهى فإنه يأخذه،
ولا شئ عليه بسبب الزيادة، لان ذلك لم يحصل بفعله.
أما إذا كان زيادة حصلت بفعله ظاهرا - فهي أنواع: نوع منه ما
يكون استهلاكا للعين معنى، ونوع هو استهلاك من وجه.
والجواب في الفصلين واحد: في أنه ينقطع حق المالك عن العين،
ويصير ملكا للغاصب، ويضمن الغاصب مثله أو قيمته. ولكن يختلفان
في أحكام أخر حتى إن الزيادة في الثمن والمثمن لا تجوز في الفصل الأول،
لصيرورة المبيع هالكا، وتجوز في الفصل الثاني - وهذا عندنا.
وعند الشافعي: تكون الزيادة ملكا للمالك، ولا ينقطع حقه عن
العين بالضمان.
أما نظير الاستهلاك فبأن كان حنطة فطحنها الغاصب، أو بيضا
فخضبه، أو دقيقا فخبزه، أو قطنا فغزلها، أو غزلا فنسجه، أو سمسما
فعصره، أو حنطة فزرعها.
ونظير الفصل الثاني - أن قطع الثوب قميصا أو قباء فخاطبه، أو كان

93
لحما فشواه أو غصب ساجة (1) فأدخلها في بنائه، أو لبنا أو آجرا فجعلها في
أساس حائطه، أو غصب فسيلا (2) فكبر، ونحو ذلك.
ثم هذه الزوائد التي صارت ملكا للغاصب: لا يباح له الانتفاع به،
وعليه أن يتصدق لأنه حصل بسبب خبيث.
ولو باع أو وهب: يجوز، لكونها ملكا له.
وروي عن أبي يوسف وزفر أنه يباح له الانتفاع بها إلا أن عند أبي
يوسف بعد إرضاء صاحبه بأداء الضمان، وعند زفر كيفما كان.
وما قالا قياس، وجواب ظاهر الرواية استحسان.
ونوع آخر: ما هو زيادة في العين وليس بإتلاف من وجه، وهو
الصبغ: إذا صبغه أصفر أو أحمر أو أخضر ونحوها، فأما إذا صبغه
أسود: فهو نقصان عند أبي حنيفة، وعندهما زيادة.
ثم الجواب في الصبغ الذي هو زيادة أن صاحب الثواب بالخيار: إن
شاء ترك الثوب عليه وضمنه قيمته أبيض، وإن شاء أخذه مصبوغا
وضمن له ما زاد الصبغ فيه.
- ولو غصب صبغ إنسان فصبغ به ثوبه: فعليه مثله، والثوب
المصبوغ له.
- ولو وقع ثوب رجل في صبغ إنسان، فانصبغ: فصاحب الثوب
بالخيار: إن شاء أخذه وأعطى ما زاد فيه الصبغ. وإن شاء يبيع الثوب
فيأخذ رب الثوب من الثمن قيمة ثوب أبيض، ويأخذ صاحب الصبغ



(1) الساجة مفرد ساج وهو ضرب عظيم من الشجر لا ينبت إلا بالهند ويجلب منها، وقال الزمخشري:
الساج خشب أسود رزين يجلب من الهند ولا تكاد الأرض تبليه. وقال بعضهم: الساج يشبه
الأبنوس وهو أقل سوادا منه.
(2) الفسيل صغار النخل.
94
قيمة صبغة في الثوب للحال، لان الصبغ ينقص ولا صبغ له فيه.
- فأما إذا قصر الثوب المغصوب: فيأخذه صاحبه، ولا شئ عليه
لأنه ليس فيه زيادة في ثوب.
- ولو غصب خمر مسلم، فخلله: لا ينقطع حق المالك، وله أن
يأخذه، لأنه ليس فيه مال قائم.
- ولو استهلك الغاصب الخل فإنه يضمن خلا مثله.
- ولو غصب عصير مسلم فتخمر عنده: يضمن قيمة العصير، لأنه
صار مستهلكا في حق المسلم معنى.
- ولو غصب خمر مسلم، فاستهلكه: لا ضمان عليه، لأنه لا قيمة
لها.
- ولو استهلك خمر ذمي أو غصب، فهلكت عنده: يضمن قيمتها.
ولو أتلفها الذمي: يضمن مثلها - وهذا عندنا. وعند الشافعي: لا
يضمن.
- وكذا إذا أتلف الخنزير: فهو على هذا الاختلاف - والمسألة
معروفة.
- ولو غصب جلدا فدبغه: فإن كان جلدا لمذكى ودبغه بما لا قيمة
له، مثل الماء والتراب: فلصاحبه أن يأخذه ولا شئ عليه، لأنه ليس
فيه عين مال من جهة الغاصب بل هو بمنزلة الغسل.
وإن دبغه بما له قيمة، مثل العفص والقرظ: فصاحبه بالخيار: إن
شاء ضمنه قيمته غير مدبوغ، وإن شاء أخذه وأعطاه ما زاد الدباغ فيه،
لان له فيه عين مال قائم، فصار كالصبغ في الثوب.
وإن كان جلد ميتة، أخذه من بيت صاحبه. فدبغه بما ليس له

95
قيمة: فلصاحبه أخذه بلا شئ. وإن دبغه بما له قيمة: فلصاحبه أن
يأخذه، ويغرم له ما زاد الدباغ فيه، لان الجلد صار مالا، بمال
الغاصب، وهو عين قائم.
ولو هلك عند الغاصب: لا ضمان عليه، بالاجماع، لان الدباغ
ليس بإتلاف.
فأما إذا استهلكه: فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف
ومحمد: يضمن قيمة الجلد مدبوغا، وبنقص عنه ما زاد الدباغ فيه -
والمسألة تذكر في الخلافيات.
وأما إذا أتلف الغاصب المغصوب على وجه يبقى منتفعا به، أو
هلك على وجه لا ينتفع به، بأن احترق ونحوه، ينظر: إن كان مثليا:
يضمن مثله، وإن لم يكن مثليا: يلزمه قيمته يوم الغصب، لأنه صار
متلفا من ذلك الوقت. ومتى ضمن واختار المالك الضمان، فإنه يملك
المغصوب من وقت الغصب بطريق الظهور، أو بطريق الاسناد على حسب
ما قيل فيه - وهذا عندنا.
وعند الشافعي: لا يملك.
- وكذلك إذا أبق العبد لم يعرف قيامه بتصادقهما، أو قامت البينة على
الموت: فهو على هذا الخلاف.
ولو ظهر حيا: لا يعود: ملك المالك فيه، عندنا - خلافا
للشافعي.
ولقب المسألة: المضمونات هل تملك بأداء الضمان أم لا - وهي
مسألة معروفة.
ولو أنه هلك المغصوب المثلي أو انقطع المثلي عن أيدي الناس،
واختصما في حال انقطاعه، فإن القاضي يقول له: إن شئت تتربص حتى

96
تأخذ مثل حقك في أوانه، وإن شئت تأخذ القيمة، فإن اختار أخذ
القيمة كيف يحكم بذلك؟ قال أبو حنيفة يحكم على الغاصب بقيمته يوم
الخصومة. وقال أبو يوسف: يوم الغصب. وقال محمد: يحكم بقيمته
عند آخر انقطاعه.
والصحيح قول أبي حنيفة، لأنه حقه عن العين إنما ينقطع يوم
الخصومة، حيث اختار القيمة فيجب اعتبار القيمة، فيجب اعتبار القيمة في هذا الوقت.
ولو غصب جارية، فولدت عند الغاصب ولدا، وانتقصت
بالولادة، فردها على المالك - هل يضمن نقصان الولادة؟
إن كان في الولد وفاء به، أو قيمته أكثر: فإنه ينجبر النقصان به،
وعليه أن يرد الجارية مع الولد، ولا يضمن النقصان عند أصحابنا
الثلاثة، وعند زفر: يضمن.
وإن لم يكن في الولد وفاء به: أو قيمته أكثر: فإنه ينجبر النقصان
به، وعليه أن يرد الجارية مع الولد، ولا يضمن النقصان عند أصحابنا
الثلاثة، وعند زفر: يضمن.
وإن لم يكن في الولد وفاء به: فإنه ينجبر بقدره، ويضمن الباقي.
ولو ماتت من الولادة، وبقي ولدها: فإنه يضمن قيمتها يوم
الغصب، ولا ينجبر النقصان، بالولد، في ظاهر الرواية. وفي رواية
أخرى: ينجبر.
ولو هلك الولد قبل الرد: يجب عليه نقصان الولادة، وجعل كأن
الولد لم يكن.
هذا إذا كان الحبل عند الغاصب من الزنا. فأما إذا كان الحبل من
المولى أو من الزوج: فإنه لا يضمن الغاصب، وإن ماتت الجارية، لان

97
التلف حصل بسبب من جهة المولى، فصار كما لو قتلها المولى في يد
الغاصب. والله أعلم.

98
كتاب
الديات
يحتاج إلى:
بيان القتل الموجب للقصاص، والقتل الموجب للدية.
وإلى بيان مقدار الدية، وكيفيتها: في النفس، وما دون النفس، وعلى
من تجب.
أما بيان الأول - فنقول:
إن الجناية على الآدمي نوعان: في النفس، وما دون النفس. وكل
واحد منهما على نوعين: موجب للقصاص، وموجب للمال.
أما الجناية في النفس الموجبة للقصاص:
فنوع واحد، وهو القتل العمد، الخالي عن الشبهة - لقوله تعالى:
(كتب عليكم القصاص في القتلى) (1) وقوله عليه السلام: " العمد قود " (2)
وهذا عندنا.
وقال الشافعي: في قول: يجب به أحدهما: إما القتل أو الدية،
والخيار إلى الولي، وفي قول: الواجب هو القصاص عينا، لكن للولي
حق العدول إلى المال، من غير رضا القاتل.



(1) البقرة: 178.
(2) القود القصاص يقال: استقدمت الأمير من القاتل فأقادني منه أي طلبت منه أن يقتله ففعل.
وأقاد فلانا بفلان قتله به.
99
ولا خلاف أنه إذا لم يقدر على استيفاء القصاص من كل وجه، فإن
له حق العدول إلى المال - فإن من قطع يد إنسان ويد القاطع شلاء أو
منقوصة بإصبع، أو شج رأس إنسان ورأس الشاج أصغر أو أكبر، فإنه
لا يجب القصاص عينا، بل الولي بالخيار في ذلك - والمسألة معروفة.
وكذلك إذا تعذر استيفاء القصاص لمعنى: فإنه يجب المال - حتى إن
القصاص إذا كان مشتركا بين رجلين فعفا أحدهما: فإنه ينقلب نصيب
الآخر مالا.
وكذلك الخاطئ مع العامد، أو الصغير الكبير، أو المجنون
والعاقل - إذا اشتركا في القتل وتعذر استيفاء القصاص في حق أحد
الشريكين: فإنه يجب المال عليهما، نصفين.
وأما الأب والأجنبي إذا اشتركا في قتل ابن: فلا يجب القصاص
على الأب بالاجماع، ولا يجب على الشريك عندنا - ولكن يجب المال،
وعند الشافعي: يجب القصاص على الأجنبي - والمسألة معروفة.
ولو وجد القتل العمد من الجماعة في حق الواحد: فإنهم يقتلون
به، بالاجماع - قال عمر رضي الله عنه: " لو اجتمع أهل صنعاء على قتله
لقتلتهم به ".
وأما الواحد إذا قتل جماعة: فإنه يقتل ولا يجب شئ من الدية.
وعند الشافعي: يجمع بين القتل والدية، فيكون القتل بمقابلة
الواحد، وتجب الدية في حق كل واحد من الباقين - والمسألة معروفة.
ولو قطع جماعة يد واحد: لا تقطع أيديهم بها، ولكن يجب عليهم
دية اليد.
وأما الواحد إذا قطع يد جماعة: فإنه تقطع يده، يجب عليه الدية في
الباقين.

100
وعند الشافعي: الأيدي تقطع بيد واحدة - والمسألة معروفة.
ولهذا قلنا: إن الحر يقتل بالعبد، خلافا للشافعي. والعبد يقتل
بالحر، بالاجماع، ويجري القصاص بين الصغير والكبير والذكر والأنثى،
والمسلم والذمي، في النفس، لما تلونا من النص - خلافا للشافعي.
وأجمعوا أن المسلم لا يقتل بالمستأمن. وكذلك الذمي.
وأما المستأمن هل يقتل بالمستأمن؟ فيه روايتان.
ولو قتل إنسان رجلا عمدا، فحق استيفاء القود إلى الولي الكبير إن
كان واحدا، ولو كانوا أكثر: فللكل.
فأما إذا كان الكل صغارا: فقد اختلف المشايخ فيه: بعضهم
قالوا: الاستيفاء إلى السلطان، وبعضهم قالوا: ينتظر إلى بلوغهم أو
بلوغ أحدهم.
أما إذا كان البعض كبارا والبعض صغارا: فقد قال أبو حنيفة:
للكبير ولاية الاستيفاء - وعلى قولهم: يؤخر إلى وقت بلوغ الصغار -
والمسألة معروفة.
وأما اللقيط إذا قتل عمدا: فولاية استيفاء القصاص إلى السلطان
عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: لا يستوفي، ولكن تجب الدية
وهي مسألة كتاب اللقيط.
وأما القتل الموجب للمال:
فأنواع: عمد محض فيه شبهة، وشبه العمد، وقتل الخطأ، والقتل
بطريق التسبيب.
أما الأول:
فما ذكرنا من قتل المستأمن ونحوه.

101
وعلى هذا قال أبو حنيفة، من له القصاص في الطرف إذا استوفى
الطرف، وسرى إلى النفس، ومات - لا يجب القصاص، لأجل
الشبهة، وتجب الدية، وعلى قولهم: لا يجب شئ.
وأجمعوا أن الامام إذا قطع يد السارق، أو البزاغ (1)، أو الختان،
والفصاد، والمأمور بقطع اليد: إذا سرى فعلهم، لا يجب عليهم شئ -
وهي تعرف في الخلافيات.
ولهذا قال أبو حنيفة: من له القصاص في النفس إذا استوفى في
الطرف، ثم عفا عن النفس، وبرأ (2)، لا يقطع طرفه، ولكن يجب أرش
اليد عند أبي حنيفة، وعندهم: لا يجب شئ.
ولو سرى إلى النفس: لا يجب شئ.
وعلى هذا قال أبو حنيفة: من شج رأس إنسان، فعفى عنها، ثم
سرى إلى النفس: تجب الدية دون القود. وقالوا: لا يجب شئ. ومن قال لغيره: " اقتلني " - فقتله عمدا أم خطأ، تجب الدية دون
القود، في ظاهر الرواية. وروي عن أبي حنيفة أنه لا يجب شئ.
ولو قال: " اقتل عبدي " - فقتله، لا يجب شئ لأنه أمره فيما هو
حقه.
ولو قال له: " اقتل ولدي " ولا وارث له سوى الأب، فقتله: يقتل
القاتل لأنه لا حق له في دم ولده، بخلاف نفسه، وروى الحسن عن أبي
حنيفة أنه قال: تجب الدية، استحسانا.



(1) البزاغ الحاجم وهو من يشرط ويسيل الدم.
(2) أي طرف المقتص.
102
ولو عفا المجروح عن الجراحة، ثم مات منه - صح عفوه،
استحسانا.
وكذلك الوارث: إذا عفا قبل موت المجروح، يصح العفو،
استحسانا، لان له حقا.
ولو قال الرجل: " اقتل أخي " وهو وارثه، فقتل، لا يجب
القود، استحسانا، وتجب الدية، وعند زفر: يقتل - ولهذا نظائر.
وأما الثاني:
فهو القتل بآلة لم توضع له، ولم يحصل به الموت غالبا، مثل السوط
الصغير، والعصا الصغيرة: فإنه يوجب المال، دون القصاص -
بالاجماع.
فأما القتل بالعصا الكبيرة، وبكل آلة يحصل بها الموت غالبا، لكنها
لا تجرح: فعند أبي حنيفة: هو شبه العمد، لا يوجب القود.
وعندهما: يوجب القود - وهو قول الشافعي.
وعلى هذا: إذا ضرب بالسوط الصغير، ووالى في الضربات، حتى
مات: لا يجب القود عند أبي حنيفة، وعندهم: يجب - والمسألة
معروفة.
وأما القتل الخطأ:
فهو أن يرمي سهما إلى صيد فأصاب آدميا، أو أراد أن يطعن قاتل
أبيه فتقدمه رجل، فوقع فيه، ونحو ذلك.
وهو موجب للمال، دون القصاص، بالاجماع - لقوله تعالى: " ومن
قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله " (1).



(1) سورة النساء: 92.
103
وأما القتل بطريق التسبيب:
فنحو من حفر بئرا على قارعة الطريق، فوقع فيه إنسان، ومات -
فإنه يجب عليه الدية، دون القصاص، بالاجماع، لأنه مسبب للقتل،
وليس بمباشر لان الحفر ليس بقتل.
وعلى هذا - شهود القصاص إذا رجعوا: لا يجب عليهم القصاص،
ولكن تجب عليهم الدية، عندنا، خلافا للشافعي، لأنه لم يوجد منهم
القتل مباشرة، وإنما وجد منهم سبب القتل.
وأما بيان حكم ما دون النفس - فنقول:
كل ما يمكن فيه القصاص، وهو الفعل العمد الخالي عن الشبهة،
فإنه يوجب القصاص. وكل ما لا يمكن القصاص، وهو الفعل الخطأ
وما فيه شبهة: ففي بعض الأعضاء تجب دية كاملة، وفي بعض الأعضاء
يجب أرش مقدر، وفي البعض تجب حكومة العدل - فنقول:
لا خلاف بين أصحابنا أنه لا يجري القصاص فيما دون النفس بين
العبيد، ولا بين الأحرار والعبيد، ولا بين الذكر والأنثى - لان القصاص
فيها مبني على التساوي في المنافع والأروش، ولا مساواة بين هؤلاء في
منافع الأطراف والأروش، ولهذا لا تقطع اليد الصحيحة بالشلاء ولا
بمنقوصة الأصابع. وكذا لا تقطع اليمنى إلا باليمنى، ولا اليسرى إلا
باليسرى.
وكذلك في أصابع اليدين والرجلين: يؤخذ إبهام اليمنى بإبهام
اليمنى، والسبابة بالسبابة، والوسطى بالوسطى، ولا يقطع الأصابع إلا
بمثلها من القاطع.
وكذلك لا تؤخذ العين اليمنى باليسرى، ولا العين اليسرى باليمنى.

104
وكذلك في الأسنان: الثنية بالثنية، والناب بالناب، والضرس
بالضرس، ولا يؤخذ الاعلى بالأسفل، ولا الأسفل بالأعلى، لما ذكرنا من
التفاوت في المنافع: وإنما يجري القصاص فيما يمكن فيه التساوي لا فيما
لا يمكن.
ولهذا - لو قطع الكف من المفصل أو من المرفق أو من الكتف يجب
القصاص. ولو قطع من الساعد أو من العضد: لا يجب، لأنه لا يعرف
التساوي. وكذلك كل ما كان في غير المفاصل.
وكذلك في الأسنان: إذا قلع أو كسر: يجب القصاص: فيقلع سن
القالع، ويكسر، بقدره بالمبرد.
وأما العين إن قورت: فلا يمكن القصاص فيها: فإن كانت العين
قائمة وذهب ضوءها: فالقصاص ممكن، بأن يجعل على وجه القطن
المبلول وتحمى مرآة وتقرب من عينه حتى يذهب ضوءها.
وروي عن أبي يوسف أنه لا يجب القصاص في الأحول، لان الحول
نقص في العين والمماثلة شرط.
وفي الاذن إذا قطعت كلها، أو بعضها معروفا - يقتص.
وأجمع أصحابنا على القصاص في الحشفة والمارن (1). واختلف أبو يوسف ومحمد في الانف والذكر واللسان إذا استوعب
كل واحد منهما: فعند أبي يوسف: يجب القصاص، وعند محمد: لا
يجب. وإنما يريد بقطع الانف كل المارن، فأما قصبة الانف فعظم
وأجمعوا أنه لا يجب القصاص في العظم، لعدم الامكان.
وفي حلق اللحية، والرأس، والحاجب، والشارب إذا لم ينبت: لا



(1) المارن ما دون قصبة وهو ما لان منه.
105
يجب القصاص، وروي في النوادر أنه يجب القصاص.
وأما في الشجاج فلا خلاف أنه يجب القصاص في الموضحة، بأن
ينتهي السكين إلى العظم، ولا خلاف أنه لا يجب القصاص فيما بعد
الموضحة من الهاشمة وغيرها.
وأما فيما قبل الموضحة: فقد ذكر في " الأصل " أنه يجب القصاص،
لأنه يمكن تقدير غور الجراحة بمسمار ثم يعمل حديدة على قدرها، فتغمد
في اللحم إلى آخرها، فيستوفى، مثل ما فعل.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجب به القصاص.
وأما بيان وجوب الدية، ومقدارها، وكيفيتها فنقول:
الجناية الموجبة للدية إما إن كانت في النفس، أو فيما دونها.
أما إذا كانت في النفس:
ففيما بين الأحرار تجب دية كاملة، يستوي فيها الصغير والكبير،
والوضيع والشريف، والمسلم والذمي.
وقال الشافعي: في دية اليهود والنصارى أربعة آلاف درهم فضة،
وفي المجوس ثمانمائة درهم.
ثم مقدار الدية في الأحرار ألف دينار، أو عشرة آلاف درهم فضة،
أو مائة من الإبل - كل واحدة أصل: وهو الظاهر في قول أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد كذلك، وقالا من البقر مائتا بقرة، ومن
الغنم ألفا شاة، ومن الحلل مائتا حلة: كل حلة ثوبان: إزار ورداء.
وروي عن أبي حنيفة في كتاب المعاقل ما يدل على مثل قولهما، فإنه
قال: إذا صالح الولي على أكثر من مائتي بقرة أو مائتي حلة: لم يجز في
قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، ولو لم تكن هذه الأشياء أصولا لجاز

106
الصلح على أكثر منها، كما لو صالح على عروض أخر تزداد قيمتها على
الدية - وهذا عندنا.
وقال الشافعي: من الإبل والدنانير مثل قولنا، وفي الدراهم قال:
اثني عشر ألفا.
وأصله ما روى عبيدة السلماني (1) عن عمر أنه قضى في الدية من
الدراهم بعشرة آلاف، ومن الدنانير بألف، ومن الإبل بمائة، ومن البقر
بمائتين، ومن الشياه بألفين، ومن الحلل بمائتين.
وأما كيفية الأسنان في الإبل:
فقال أصحابنا في دية الخطأ: إنها خمسة أنواع: عشرون بنت
مخاض، وعشرون ابن مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة،
وعشرون جذعة - وهو قول ابن مسعود.
وقال الشافعي: عشرون ابن لبون مكان ابن مخاض.
وأما دية شبه العمد - فقال أبو حنيفة وأبو يوسف أرباعا: خمس
وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون
حقة، وخمس وعشرون جذعة - وهو قول ابن مسعود.
وقال محمد: في شبه العمد: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة،
وأربعون ما بين ثنية إلى بازل عامها، كلها خلقة - وهو قول عمر وأبي
موسى الأشعري والمغيرة رضي الله عنهم.



(1) هو أبو مسلم ويقال أبو عمرو عبيدة بن قيس وقيل عبيدة بن عمرو وقيل عبيدة بن قيس بن عمرو
ويقال له السلماني نسبة إلى بني سلمان بطن من مراد. أسلم قبل وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنتين ولم يره.
وسمع عمر بن الخطاب وعليا وابن مسعود وابن الزبير. وهو مشهور بصحبة علي. وروى عنه
الشعبي والنخعي وابن سيرين وغيرهم. نزل الكوفة وورود المدينة وحضر مع علي قتال الخوارج.
وكن أحد أصحاب ابن مسعود الذين يقرؤون ويفتنون. وكان رابع أربعة بالكوفة أما الثلاثة
الآخرون فهم الحارث وعلقمة وشريح. وتوفي سنة 72 وقيل سنة 73 وقيل سنة 74 ه‍.
107
وذكر في " الأصل ": وعن علي رضي الله عنه أنه قال في شبه
العمد أثلاث: ثلاثة وثلاثون حقة، وثلاثة وثلاثون جذعة، وأربعة
وثلاثون خلفة في بطونها أولادها.
وأما حكم الجناية فيما دون النفس خطأ - فنقول:
قد تجب دية كاملة بتفويت العضو، وقد تجب الدية بتفويت معنى في
النفس تفوت به النفس حكما في حق جنس المنفعة، قد يجب أرش
مقدر، وقد تجب حكومة العدل.
فأما العضو الذي يجب كمال الدية بتفويته:
فهو العضو الذي لا نظير له في البدن يفوت به جمال كامل، أو منفعة
بها قوام النفس، وذلك نحو اللسان كله، والانف كله والذكر كله.
وتجب أيضا بقطع الحشفة والمارن، وبعض اللسان إذا كان يمنعه من
الكلام، وكذا الافضاء بين السبيلين بحيث لا يستمسك البول والغائط.
وكذا حلق شعر رأس الرجل والمرأة وحلق لحية الرجل بحيث لا
ينبت - وهذا عندنا. وعند الشافعي: تجب حكومة العدل.
وأما حلق لحية العبد: ذكر في " الأصل ": تجب فيه حكومة العدل،
وفي رواية الحسن: تجب قيمة العبد.
وقال أبو جعفر الهندواني: إنما تجب الدية بحلق اللحية إذا كانت
كاملة يتجمل بها، فإن كانت طاقات لا يتجمل بها: فلا شئ فيها.
وكذلك في لحية تشين ولا تزين، بأن كانت على ذقنه شعرات.
وإن كانت لحية يقع بها الجمال في الجملة، ولا يقع بها الشين: تجب
فيها حكومة العدل.

108
وأما فوات المعنى:
فهو ذهاب العقل، والبصر، والسمع، والشم، والذوق، والكلام، والجماع، مع قيام الآلة التي قوم بها هذه المنافع صورة - فتجب بكل واحد منها الدية. وإنما يعرف فوات البصر بأن يلقى بين يديه
حية، فإن هرب يعلم أن بصره باق. وفي السمع يتغفل ثم ينادي، فإن
أجاب يعلم أنه لم يفت سمعه.
وأما العضو الذي في البدن منه اثنان - العينين، والاذنين،
والشفتين، والحاجبين إذا حلقا على وجه لا ينبتان، واليدين،
والرجلين، وثديي المرأة وحلمتيهما - ففيها الدية، وفي واحد من ذلك
نصف الدية
وفي الأنثيين: إن قطعهما مع الذكر جملة، من جانب واحد، في
حالة واحدة، فإنه يجب عليه ديتان: دية بإزاء الذكر، ودية بإزاء
الأنثيين.
وإن قطع الذكر أولا، ثم الأنثيين: يجب ديتان أيضا، لان بعد قطع
الذكر منفعة الأنثيين قائمة، وهي إمساك المني.
وأما إذا قطع الأنثيين أولا، ثم الذكر: تجب الدية بقطع الأنثيين،
لزوال منفعة مخصوصة، وتجب بقطع الذكر حكومة العدل، لان منفعة
الايلاد بطلت فوات الأنثيين.
وفي أشفار العينين كلها الدية، وفي كل واحد منهما ربع الدية إذا لم
ينبت.
وكذا في قطع الأجفان مع الأشفار: تجب دية كاملة وتصير الأجفان تابعة للأشفار.
فأما إذا قطع الأجفان التي لا أشفار لها: تجب حكومة العدل - وصار

109
كقطع الأصابع وحدها: يوجب دية كاملة، لان الكف تبع.
ولو قطع الكف بدون الأصابع تجب حكومة العدل. ولو قطع الكف
مع الأصابع تجب دية واحدة، لان الكف تبع - كذا هذا.
وفي أصابع اليدين
أو، والرجلين، كلها الدية الكاملة.
وفي كل إصبع عشر الدية - لا فضل للكبيرة على الصغيرة.
ثم ما كان من الأصابع فيه ثلاثة مفاصل ففي كل مفصل ثلث دية
الإصبع، وما كان فيه مفصلان ففي كل واحد منهما نصف دية الإصبع.
وإصبع اليد والرجل في الأرش سواء.
وفي الأسنان - في كل سن إذا سقطت خمسمائة درهم، استوى فيه
الأضراس والثنايا وغيرها.
فإذا اسودت السن من الضربة أو احمرت أو اصفرت: ففيه الأرش
تاما عند أبي حنيفة.
وقد روى أبو يوسف عنه أنه قال: فيها حكومة العدل.
وروى محمد عنه أنه قال: إن كان حرا فلا شئ عليه، وإن كان
عبدا ففيه حكومة العدل.
وقال: فيها حكومة العدل.
ثم هذا الحكم في الأسنان بعد أن يستأنى بها سنة فإن نبتت بيضاء
مستقيمة: فلا شئ عليه. وإن نبتت سوداء أو حمراء أو صفراء أو
خضراء: جعلت كأن لم تكن، لأنه لم يحصل بها الجمال والمنفعة.
وأما الشجاج (1) - فقد ذكر المشايخ أن الشجاج إحدى عشرة شجة:



(1) يلاحظ أن الشجاع تخصص بالوجه والرأس أما الجراح ففي سائر البدن (أي غير الوجه والرأس).
110
أولها الخادشة - وهي التي تخدش الجلد.
وبعدها الدامعة - وهي التي يخرج منها ما يشبه الدمع.
وبعدها الدامية وهي التي يخرج منها الدم.
وبعدها الباضعة - وهي التي تبضع اللحم.
وبعدها المتلاحمة - وهي التي تذهب في اللحم أكثر مما تذهب
الباضعة - هكذا روي عن أبي يوسف.
وقال محمد: المتلاحمة قبل الباضعة وهي التي يتلاحم فيها الدم
ويسود.
وبعدها السمحاق - وهي التي تصل إلى جلدة رقيقة فوق العظم:
تلك الجلدة تسمى السمحاق.
ثم الموضحة - وهي التي توضح العظم.
ثم الهاشمة - وهي التي تهشم العظم.
ثم المنقلة - وهي التي يخرج منها العظم على وجه النقل.
- ثم الآمة - وهي التي تصل إلى أم الدماغ، وهي جلدة تحت العظم
فوق الدماغ.
ثم الدامغة - وهي التي تخرق الجلدة وتصل إلى الدماغ.
فهذه إحدى عشرة شجة. ولم يذكر محمد الخادشة، ولا الدامغة،
لأنه لا يتصل بهما الحكم غالبا لان الخادشة لا يبقي لها أثر ولا حكم
للشجة التي لا يبقى لها أثر، والدامغة لا يعيش معها الانسان فيكون
حكمه حكم القتل.
ثم في الشجاج التي قبل الموضحة تجب حكومة العدل.
وفي الموضحة تجب خمس من الإبل.

111
وفي الهاشمة عشر من الإبل.
وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل.
وفي الآمة ثلث الدية.
ثم مواضع الشجاج عندنا هو الرأس، والوجه في مواضع العظم
مثل: الجبهة، والوجنتين، والصدغين، والذقن، دون الخدين ولا
تكون الآمة إلا في الرأس، وفي الوجه في الموضع الذي يخلص منه إلى
الدماغ.
والصغيرة والكبيرة في ذلك سواء، لقوله عليه السلام: " في الموضحة
خمس من الإبل من غير فصل.
ثم الجراح في سائر البدن - ليس في شئ منها أرش معلوم، سوى
الجائفة، وهي الجراحة النافذة إلى الجوف، والمواضع التي تنفذ الجراحة
منها إلى الجوف هي: الصدر، والظهر، والبطن، والجنبان دون الرقبة،
والحلق، واليدين والرجلين - وفيها ثلث الدية. فإذا نفذت إلى الجانب
الآخر، فهي جائفتان، وفي كل واحدة منهما ثلث الدية، فإنه روي عن
أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه حكم في جائفة نفذت إلى الجانب
الآخر بثلثي الدية، وذلك بحضرة الصحابة، من غير خلاف.
وأما ما يجب حكومة العدل فيه - فقد ذكرنا بعضه.
ومن ذلك: كسر الضلع، وكسر قصبة الانف، وكسر كل عظم من
البدن، سوى السن: فيه حكومة العدل.
وكذا في ثدي الرجل، وفي حلمة ثدييه حكومة عدل دون ذلك، وفي
أحدهما نصف ذلك.
وفي لسان الأخرس، وذكر الخصي، والعنين، والعين القائمة
الذاهب نورها، والسن السوداء، واليد الشلاء، والذكر المقطوع

112
الحشفة، والكف المقطوع الأصابع، وكسر الظفر وقلعه بحيث لا ينبت أو
نبت مع العيب.
وأما الصبي الطفل: ففي لسانه حكومة عدل، ما لم يتكلم. وفي
يده ورجله، وذكره إذا كان يتحرك، مثل الكبير: وفي المارن والاذن: المقصود هو الجمال، فحكمه حكم الكبير، وفي المعين إذا وجد ما
يستدل به على البصر كالكبير.
وفي حلق رأس إنسان إذا نبت أبيض: على قول أبي حنيفة: لا يجب
شئ إذا كان حرا، لان الشيب ليس بعيب، وإن كان عبدا يجب
ما نقصه، وقال أبو يوسف: تجب حكومة العدل فيهما.
وفي ثدي المرأة المقطوعة الحلمة والانف المقطوع الأرنبة، والجفن
الذي لا أشفار له - حكومة العدل.
ثم الشجة إذا التحمت ونبت الشعر - لا يجب فيها شئ على الشاج
عند أبي حنيفة، لان الشين الذي لحقه بسببه قد زال. وقال أبو يوسف:
تجب عليه حكومة عدل في الألم. وقال محمد: يلزمه أجرة الطبيب.
واختلف المتأخرون من أصحابنا في كيفية الحكومة:
فقال الطحاوي: يقوم المجني عليه، لو كان عبدا، صحيحا،
ويقوم وبه الشجة - فما نقص بين القيمتين كانت أرشا في شجة الحر.
وكان أبو الحسن الكرخي يقول: يقرب من الشجة التي لها أرش
مقدر، بالحزر والظن: يحكم بذلك أهل العلم بالجراحات.
وأما حكم النساء - فنقول:
إن دية المرأة على النصف من دية الرجل بإجماع الصحابة، مثل عمر

113
وعلي وابن مسعود (1) وزيد بن ثابت (2) رضي الله عنهم وغيرهم: فإنهم قالوا:
دية المرأة على النصف من دية الرجل، إلا أن ابن مسعود قال: إلا في
الموضحة والسن: فإنها كالرجل.
وأما فيما دون النفس من المرأة: فإنه يعتبر بديتها: فيتنصف
كديتها، لأن المرأة في ميراثها وشهادتها بمنزلة النصف من الرجل - فكذا في
الدية.
وقال ابن مسعود: تعاقل (3) المرأة الرجل فيما كان أرشه نصف عشر
الدية، يعني ما كان أقل من ذلك فالرجل والمرأة في ذلك سواء، واستدل
بالغرة.
وقال سعيد بن المسيب (4): تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث ديتها: يعني ما
كان أقل من ثلث الدية فالرجل والمرأة فيه سواء.
وروي أن ربيعة الرأت (5) سأل سعيد بن المسيب عن رجل قطع إصبع

114
امرأة، فقال: فيها عشر من الإبل، قال: فإن قطع ثلاثا قال: فيها
ثلاثون من الإبل، قال: فإن قطع أربعة، قال: فيها عشرون من الإبل،
فقال ربيعة: لما عظم ألمها وزادت مصيبتها، قل أرشها - فقال له:
أعراقي أنت؟ قال: لا! بل جاهل متعلم، أو عالم متبين، فقال:
هكذا السنة يا ابن أخ! - أراد بذلك سنة زيد بن ثابت.
وما قال ربيعة فهو حجتنا في المسألة: أن ما قالوا يؤدي إلى أن يقل
الأرش عند كثرة الجناية - وهذا لا يصح، لان ما دون النفس معتبر بدية
النفس، بدلالة ما زاد على ثلث الدية.
وأما في العبد:
إذا قتله حر خطأ: فإن كان قليل القيمة: فإنه يجب قيمته بالاجماع،
فأما إذا كان كبير القيمة، بأن زادت قيمته عن دية الحر: قال أبو حنيفة
ومحمد: يجب عشرة آلاف إلا عشرة، وقال أبو يوسف والشافعي: تجب
قيمته بالغة ما بلغت، إلا أن عند الشافعي تجب بمقابلة المالية، وعند أبي
يوسف تجب بمقابلة الدم، ولهذا قال: مقدار الدية يجب على العاقلة،
ويجب مؤجلا في ثلاث سنين، ويدخل فيه الإبل كما قالا - والمسألة
معروفة.
وأما إذا قتله عبد، خطأ: فإنه يجب الدفع أو الفداء.
وأما إذا جنى العبد على حر، أو على عبد غير المولي: فإن كان عمدا،
يجب القصاص، وإن كان خطأ، في نفس، أو فيما دونها، قل أرشها،
أو كثر، فذلك في رقبة الجاني وليس في ذمة المولى منه شئ، ويكون

115
المولى بالخيار: إن شاء دفع العبد بالجناية، وإن شاء فدى عنه، بجميع
الأرش، لاجماع الصحابة على ذلك.
فإن مات العبد قبل أن يختار الفداء، فلا شئ على لمولى، لان
الحق متعلق بالعين، فيزول بزواله، وإن كان بعد اختيار الفداء، لم
يبطل، لأنه انتقل الحق إلى ذمة المولى بالتزامه.
وإن جنى العبد على جماعة: فالمولى بالخيار: بين أن يدفع العبد إليهم
وكان مقسوما بينهم، على قدر ما لكل واحد منهم من أرش الجناية، وبين
أن يمسك العبد، ويفدى بأرش الجنايات كلها، لما ذكرنا.
ولو تصرف المولى في العبد الجاني، بعد العلم بالجناية، تصرفا يخرجه
عن ملكه، نحو البيع والهبة والاعتاق، أو أقر به لرجل أو كانت أمة
فاستولدها - فإنه يصير مختارا للفداء: بالدية إن كانت الجناية في النفس،
وبالأرش إن كانت الجناية فيما دون النفس، لان المخير بين الشيئين إذا
فعل ما يدل على اختيار أحدهما، أو منع من اختيار أحدهما تعين الآخر
للاختيار ومع هذه التصرفات تعذر الدفع.
وإن كان لا يعلم بالجناية يلزمه قيمة عبده، إذا كانت أقل
من الأرش لأنه لا يصير مختارا بلا علم، ولكن امتنع التسليم إلى الولي
بفعله، مع تعلق حق الولي به فيصير متلفا عليه هذا القدر، فليزمه
ذلك القدر ولا حق لولي الجناية فيما زاد عليه.
وأما جناية المدبر وأم الولد:
ففي مال المولى دون عاقلته يعتبر الأقل من أرش الجناية ومن
قيمته لان الأصل في جناية العبد هو دفع الرقبة، إلا أنه بالتدبير والاستيلاد
صار مانعا من التسليم من غير اختيار فكأنه دبره وهو لا يعلم
بالجناية فيلزمه الأقل من ذلك لما ذكرنا.

116
ولا يلزم المولى بجنايتهما أكثر من قيمة واحدة، وإن كثرت الأروش:
يستوي فيه من تقدم أو تأخر في الجناية، لان المنع منع واحد، والضمان
يتعلق به، فجعل كأن الجنايات اجتمعت ثم دبره وهو لا يعلم بها.
ويعتبر قيمة المدبر لكل واحد منهم يوم جنى عليه، ولا يعتبر القيمة يوم
التدبير، لأنه صار مانعا بالتدبير السابق عن تسليمه في حال الجناية.
وأما جناية المكاتب:
فعلية دون سيده، ودون عاقلته يحكم عليه بالأقل من قيمته ومن
أرش جنايته. وهذا لان الواجب الأصلي هو دفع الرقبة، وتسليم رقبته
ممكن، في الجملة، بأن عجز نفسه، فيكون متعلقا برقبته على طريق
التوقف: فلا ينتقل الحق من رقبته إلى ذمته، ليؤدي من كسبه، إلا
بأحد معان ثلاثة: إما بحكم الحاكم بأرشها عليه، أو يصطلحوا على
الأرش، أو يموت ويترك مالا أو ولدا وهذا الذي ذكرنا مذهبنا.
وقال زفر: إن جنايته تجب في ذمته بمنزلة الحر.
وثمرة الخلاف تظهر في مواضع:
من ذلك أن المكاتب إذا عجز، قبل انتقال الجناية من رقبته يقال
للمولى: ادفعه أو افده وعند زفر: يباع في الأرش.
ومن ذلك أيضا أن المكاتب إذا جنى ثم جنى قبل القضاء بالجناية
الأولى عليه، يقضي عليه بقيمة واحدة، لان الجناية تتعلق بالرقبة،
والرقبة الواحدة تتضايق عنهما، كجنايتي العبد. وعند زفر: يحكم في كل
جناية بقيمته، لأنها تجب عنده في الذمة ولا تضايق فيها.
وأما جناية العبد والمدبر وأم الولد على مولاهم أو على ماله، خطأ:
فتكون هدرا، لأنه لو وجب الضمان، يجب على العبد للمولى، والمولى
لا يجب له مال على عبده.

117
وكذا الجناية من المولى، عليهم: تكون هدرا أيضا، إلا أن في المدبر
يجب عليه أن يسعى في قيمته إذا قتل المولى خطأ لان العتق وصية فلا يجوز أن يسلم للقاتل.
وأما جناية المكاتب على مولاه، وجناية مولاه عليه: خطأ
فلازمة لان المكاتب أحق، بمنافعه وأكسابه فيكون كالحر سواء.
وأما الجنين - فنقول:
إذا ضرب الرجل بطن امرأة حرة فألقت جنينا ميتا فعليه
الغرة وهي عبد أو أمة تعدل خمسمائة درهم، ذكرا كان الجنين أو
أنثى.
وكان القياس فيه أن لا يجب شئ، لأنه يحتمل أنه لم يكن فيه
حياة، وقت الضرب، ولهذا لو ضرب بطن دابة، فألقت جنينا ميتا
لا يجب الضمان، وفي الاستحسان: يجب لاجماع الصحابة على ذلك
. ويكون على العاقلة.
ولو ألقته حيا فمات من ساعته فعليه الدية كاملة على
العاقلة لان صارت نفسا من كل وجه.
ولو ماتت الام بالضرب ثم خرج الجنين ميتا: لا يلزمه الغرة
لاحتمال أنه مات بسبب الخنق، فزاد هاهنا احتمال آخر.
وأصل الوجوب ثبت بخلاف القياس فلا يقاس عليه ما ليس
نظيره.
ولو ضرب بطن أمة فألقت جنينا ميتا: يغرم نصف عشر قيمته

118
إن كان ذكرا، وعشر قيمتها إذا كان أنثى، وقال الشافعي: فيه عشر
قيمة الام.
وهذا لما ذكرنا أن الواجب في الجنين الغرة، بالنص، وهو خمسمائة
درهم وذلك عشر دية الأنثى، ونصف عشر دية الذكر، والقيمة في الأمة
كالدية في الحرة، فوجب عشر قيمتها، إن كانت أنثى، ونصف عشر
قيمته إن كان ذكرا، بناء على الحر، إلا أن ما وجب في جنين الأمة، فهو
في مال الضارب، حالا، لان ما دون النفس من الرقيق ضمانه ضمان
الأموال، وذلك مما لا تتحمله العاقلة بخلاف جنين الحرة.
وأما بيان من تجب عليه الدية - فنقول:
كل دية وجبت بنفس القتل في خطأ أو شبة عمد، أو في عمد
دخلته شبهه تجب في ثلاث سنين، على من وجبت عليه في كل سنة
الثلث.
فالخطأ وشبه العمد على العاقلة.
وأما العمد الذي تدخله الشبهة فيتحول مالا فهو في مال الجاني،
في ثلاث سنين، وذلك مثل قتل الأب ابنه والمولى عبده.
وكذلك إذا صولح من الجناية على مال: لا يجب على العاقلة،
ويجب على القاتل، في ماله حالا لأنه ما وجب بنفس القتل وإنما
وجب بعقد الصلح، فإن جعلاه مؤجلا، يكون مؤجلا وإلا فيكون
حالا كثمن المبيع.
وكذا من أقر على نفسه، بالقتل، خطأ: فالدية في ماله في ثلاث
سنين لا على العاقلة.
وكذلك ما وجب بجناية العبد: فإنه لا يكون على العاقلة.

119
وأصل ذلك حديث عمر رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا:
لا تعقل العاقلة عمدا، ولا عبدا، ولا صلحا، ولا اعترافا، ولا ما
دون أرش الموضحة إلا أن في الصلح تجب حالا وفي الاقرار،
والعمد الذي فيه شبهة، تجب عليه، ولكن مؤجلا في ثلاث سنين،
لاجماع الصحابة أن الدية تجب مؤجلة في ثلاث سنين في كل سنة
الثلث، عند انقضائها.
وكذلك الحكم في الحر من بدل النفس فهو في ثلاث سنين،
كالعشرة إذا قتلوا واحدا، خطأ فعلى عاقلة كل واحد منهم عشر الدية
في ثلاث سنين.
ولا يغرم كل رجل من العاقلة إلا ثلاثة دراهم أو أربعة في ثلاث سنين،
فإن قلت العاقلة حتى صار نصيب كل واحد منهم أكثر من ذلك
يضم إليهم أقرب القبائل منهم في النسب، من أهل الديوان كانوا أو
من غيرهم حتى لا يلزم الرجل منهم أكثر من ذلك، لأنه يجب عليهم،
بطريق الإعانة، تخفيفا على قريبهم، فلا يجوز أن يجب عليهم على وجه
فيه تعسير عليهم.
وأما أرش ما دون النفس، خطأ، إذا بلغ نصف عشر الدية، فهو
على العاقلة في سنة. وكذا في المرأة إذا بلغ نصف عشرة ديتها: يكون
على العاقلة، في سنة، لان ما دون النفس معتبر بالدية.
ثم ما زاد في نصف العشر إلى أن يبلغ ثلث الدية ففي سنة
قياسا على ما يجب على العاقلة في السنة الأولى.
فإن زاد على الثلث: فالزيادة تجب في سنة أخرى إلى الثلثين.
فإن زاد على الثلثين: فهي في السنة الثالثة.

120
ثم العاقلة من هم؟
فعندنا العاقلة هم أهل الديوان في حق من له الديوان وهم
المقاتلة، ومن لا ديوان له فعاقلته من كان من عصبته في النسب.
وعند الشافعي: لا يلزم أهل الديوان إلا أن يكونوا من النسب.
والصحيح قولنا لما روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: كانت
الدية على القبائل، فلما وضع عمر رضي الله عنه الدواوين جعلها على
أهل الديوان، وذلك بحضرة الصحابة، رضي الله عنهم من غير
خلاف.
وتبين أنه إنما كان على أهل القبائل للتناصر، فلما صار التناصر
بالديوان اعتبر الديوان، لوجود المعنى، ولهذا لا تكون المرأة، والصبي،
والعبد، والمدبر، والمكاتب من جملة العاقلة، لأنهم ليسوا من أهل
التناصر، ولا من أهل الإعانة بالشرع والله أعلم.

121
باب
ضمان الراكب، ومن كان في معناه
أصل الباب: أن السير في ملك نفسه مباح مطلق، والسير في طريق
المسلمين مأذون، بشرط السلامة: فما تولد من سير تلف، مما يمكن
الاحتراز عنه، فهو مضمون، وما لا يمكن الاحتراز عنه، فليس
بمضمون، إذ لو جعلناه مضمونا لصار ممنوعا عن السير وهو مأذون.
ولهذا قال أصحابنا رضوان الله عليهم إن ما أثار من الغبار، بالمشي
أو بسير الدابة، لا يضمن ما تولد منه لأنه لا يمكن الاحتراز عنه.
وكذا ما أثارت الدابة بسنابكها، من الحصى الصغار، وأما
الحصى الكبار فإن الراكب يضمن ما تولد منه، لأنه لا يكون سببا إلا
بالعنف في السير فيمكن الاحتراز عنه.
وإذا ثبت هذا فنقول:
من سارت دابته في طريق المسلمين، وهو راكب عليها أو قائد
أو سائق فوطأت دابته رجلا بيدها أو برجلها أو كدمت أو صدمت
بصدرها أو خبطت بيدها: فهو ضامن لأنه يمكن الاحتراز عنه.
وكذلك السائق والقائد لأنه مقرب للدابة إلى الجناية.
والرديف كالراكب: إلا أن الفرق أن الراكب قاتل بوطئ الدابة
بثقله وفعله هو ليس بمسبب، والسائق مسبب حتى تجب الكفارة على

123
الراكب دون السائق والقائد.
ولو نفحت الدابة برجلها وهي تسير أو بذنبها فلا ضمان في
ذلك على راكب، ولا رديف ولا سائق ولا قائد لان الاحتراز عنه
غير ممكن.
ولو أوقف الدابة في الطريق فهو ضامن لما تولد من وقوف
الدابة من الوطئ، والنفحة بالرجل والذنب وما عطب بروثها
وبولها ولعابها.
وكذا إذا أوقفها على باب مسجد من مساجد المسلمين، فهو بمنزلة
الطريق لأنه من جملته، والسير مأذون في الطريق دون الوقوف
والايقاف.
فإن جعل الامام للمسلمين عند باب المسجد موقفا لوقوف
الدواب فما حدث من الوقوف غير مضمون لان مأذون فيه.
ولكن ساق الدابة فيه أو قاد أو سار فيه، على الدابة يضمن لان
الاذن في حق الوقوف لا غير، فبقي السير على ما كان بشرط
السلامة.
وعلى هذا وقوف الدواب في سوق الخيل والدواب لان ذلك
مأذون من جهة السلطان.
وعلى هذا الفلاة وطريق مكة، إذا كان وقوف الدابة في غير
المحجة، في ناحية منه، لان هذا مما لا يضر بالناس، فلا يحتاج فيه إلى
الاذن وأما الوقوف في المحجة فهو كالوقوف في طريق المسلمين.
فأما إذا كان الطريق ملكا خاصا، له فساق فيه دابته، أو سار بها
وهو راكب أو في ملكه في الجملة فما تولد من سيره فهو غير مضمون
عليه، إلا وطئ الدابة، لأنه تصرف في ملكه، فلا يتقيد بشرط

124
السلامة، لكن الوطئ بمنزلة فعله، لحصول الهلاك بثقله، ومن تعدى
على الغير في دار نفسه يضمن.
ولو نفرت الدابة أو انفلتت منه: فما أصابت في فورها ذلك، لا
ضمان عليه، وسواء كان الانفلات في ملك صاحبها أو في الطريق، أو
في ملك الغير، لأنه لا صنع له فيه، ولا يمكن الاحتراز عنه.
وقد قالوا فيمن أرسل دابته: فما أصابت في فورها ضمن، وإن
مالت يمينا أو شمالا، ثم أصابت فهو على وجهين: إن لم يكن لها طريق
آخر يجب الضمان على المرسل، لأنها باقية على الارسال وإن كان لها
طريق آخر، فانعراجها باختيارها يقطع حكم الارسال، فتصير كالمنفلتة.
ولو حفر بئرا في طريق المسلمين، أو أخرج جناحا، أو نصب فيه
ميزابا، أو بنى دكانا، أو وضع حجرا، أو خشبة أو متاعا، أو صب
ماء في الطريق، أو قعد ليستريح، أو لمرض أصابه فعثر بشئ من ذلك
عابر، فوقع فمات، أو وقع على غيره، فقتله، أو على مال إنسان،
فهلك: فهو ضامن، لأنه متعد، لان الطريق مأذون فيه للسير لا غير،
فما تولد منه يكون مضمونا.
ثم ما كان من الجناية، على بني آدم فهو على العاقلة، على ما
ذكرنا وما كان على المال فهو عليه في ماله حالا.
ولو كان الرجل سائرا على دابته، أو واقفا عليها، في ملكه أو في
طريق العامة فنخس دابته رجل فضربت ذنبها أو برجلها، أو نفرت
فصدمت إنسانا في فور النخسة فالناخس ضامن، دون الراكب، إذا
فعل ذلك بغير أمره، لأنه متعد في النخس، فما تولد منه مضمون عليه
والراكب ليس بمتعد.

125
فأما إذا انقطع الفور، فذاك مضاف إلى اختيار الدابة لا إلى
الناخس.
وكذلك لو ضربها رجل بغير أمره.
فأما إذا نخس بأمر الراكب أو ضرب - فنفحت برجلها إنسانا
فقتلته فإن كان الراكب يسير في الطريق أو كان واقفا في ملكه، أو في
موضع قد أذن فيه بالوقوف، من هذه الأسواق ونحوها، فلا ضمان في
هذا على راكب، ولا سائق، ولا ضارب، ولا ناخس، لأنه فعل
بأمر الراكب فعلا يملكه الراكب، فصار فعله كفعله، ولو فعل الراكب
لا يضمن ما أصابت الدابة بالرجل فكذا هذا.
ولو كان الراكب واقفا في بعض طرق المسلمين، التي لم يؤذن
بالوقوف فيها، فأمر رجلا أن يضرب دابته فضربها فنفحت رجلا
فقتلته فالدية عليهما نصفان هكذا ذكر الكرخي.
وروى ابن سماعة عن أبي يوسف، في هذا أن الضمان على الراكب
لا غير، لان ضربه له، بأمر الراكب كضرب الراكب ولو فعل الراكب،
فتولد منه شئ برجلها يضمن فكذا هذا.
ووجه ما ذكر الكرخي أن كل واحد منهما متعد بطريق التسبيب
فصارا شريكين.
ولو كان الرجل يسير على دابته، فأمر رجلا حتى ينخسها أو
يضربها فوطئت إنسانا، فمات فالضمان عليهما.
وكذلك لو فعل، بغير أمر الراكب، فوطئت إنسانا، فمات:
فالضمان عليهما، لان الموت حصل بسبب فعل الناخس، وثقل
الراكب فيكون الضمان عليهما.

126
ولو قاد الرجل قطارا، فما أوطأه أوله، أو أوسطه، أو آخره فهو
ضامن له.
وكذلك إن صدم إنسانا، فقتله، لان القائد مقرب للبهيمة إلى
الجناية، وهذا مما يمكن الاحتراز عنه في الجملة بأن يذود الناس عن
الطريق.
فإن كان معه سائق فالضمان عليهما كيفما كان السائق في وسط
القطار، أوفي آخره لأنه قد يكون سائقا وقائدا، وقد يكون سائقا لا غير
والأول قائد، فهما مسببان في هذه الجناية.
ولو كان على القطار محامل فيها أناس نيام أو غير نيام فإن كان
منهم القود والسوق فهم شركاء السائق والقائد وعلى الركبان الكفارة
لا غير.
فأما إذا لم يكن منهم فعل في القود فهم كالمتاع، فلا شئ
عليهم.
ولو أن حائطا من دار إنسان مال إلى نافذ أو إلى دار رجل
فهذا على وجهين.
إن بني الحائط مائلا إلى ملك غيره، أو إلى الطريق فهو ضامن لما
عطب، بسقوطه، وإن لم يطالب بنقضه، لأنه متعد بالبناء في هواء
غيره، وهواء طريق المسلمين حقهم أيضا، فما تولد منه وهو ممكن
الاحتراز عنه، يؤاخذ به.
فأما إذا بنى في ملكه وحقه، ثم مال البناء إلى الطريق، أو إلى دار
إنسان، فلم يطالب بنقضه، ولم يشهد عليه فيه، حتى سقط على رجل
فقتله، أو على مال إنسان فأتلفه فلا يضمن، لأنه شغل هواء غيره،
ووقع في يده بغير صنعه، وهو ميلان الجدار، فيكون في يده أمان

127
كثوب ألقته الريح في يده، فما تولد منه لا يؤخذ به، وإن طولب
بنقضه وأشهد عليه، ثم سقط بعد ذلك في مدة أمكنه، نقضه فيها،
فهو ضامن، لان بعد المطالبة يجب عليه التفريغ، فإذا لم يفعل، مع
الامكان، صار متعديا كما في الثوب الذي هبت به الريح إذا طلبه
صاحبه، فامتنع عن الرد، يجب الضمان عليه إذا هلك. أما إذا لم
يفرط في نقضه، وذهب حتى يستأجر من يهدمه، فسقط فأفسد شيئا،
فلا شئ عليه، لأنه يجب عليه إزالة يده بقدر الممكن.
والاشهاد أن يقول الرجل: اشهدوا أني قد تقدمت إلى هذا الرجل
في هدم حائطه هذا. والمعتبر عندنا المطالبة بالهدم، وإنما يحتاج إلى
الاشهاد ليثبت به المطالبة، عند الانكار، كما قلنا في الشفعة إن المعتبر
هو الطلب، وإنما الاشهاد ليثبت الطلب بالشهادة، عند الانكار حتى لو
اعترف صاحب الدار أنه طولب بنقضه وجب عليه الضمان، وإن لم
يشهد عليه.
ثم إن كان الميلان إلى دار إنسان، فالاشهاد إلى صاحب الدار إن
كان فيها، أو لم يكن فيها ساكن، وإن كان فيها سكان، فالاشهاد إلى
السكان. وإن كان الميلان إلى طريق العامة، فالاشهاد إلى كل من له حق
المرور فيه المسلم والذمي فيه سواء.
ولكن أنما يصح الاشهاد على مالك الحائط أو الذي له ولاية النقض:
مثل الأب والوصي: ولا يصح الاشهاد على المرتهن، والمستأجر،
والمستعير، والمودع لأنه ليس لهم ولاية النقض، فكان الاشهاد عليهم
وعدمه سواء.
ولو أشهد من له حق الاشهاد، على صاحب الحائط المائل، أو على
من يصح عليه الاشهاد، فطلب منه التأجيل أو الابراء، فأجل وأبرأ
فإن كان أميل إلى الدار صح، لأنه أبطل حقه. فأما إذا كان الميل إلى

128
الطريق، فأبرأ أو أجل الذي أشهد عليه، ممن له حق المرور أو
القاضي، فإنه لا يصح، لأنه هذا حق العامة فإبراء الواحد وتأجيله
يصح في حقه لا في حق الناس.
ولو باع صاحب الدار، بعد الاشهاد فسقط الحائط بعدما قبضه
المشتري أو بعدما ملكه، في زمان لا يتمكن من نقضه، فلا ضمان على
البائع، فيما هلك بسقوطه، لأنه لا يملك النقض فسقط حكم
الاشهاد وإن كان بعد التفريط لا يسقط الضمان.

129
باب
القسامة
يحتاج في هذا الباب إلى:
بيان مشروعية القسامة،
وإلى تفسيرها،
وإلى بيان من تجب عليه.
أما الأول
فالقسامة مشروعة في القتيل الذي يوجد وبه علامة القتل، من
الجراح وغيرها، ولم يعرف له قاتل بالأحاديث، وقضاء عمر رضي الله
عنه، وإجماع الصحابة في خلافة عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه.
وأما تفسير القسامة، وبيان من تجب عليه:
فهو ما روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمة الله عليهما أنه قال
في القتيل يوجد في المحلة أو في دار رجل في المصر إن كانت به جراحة، أو أثر ضرب، أو
أثر خنق فإن هذا قتيل، وفيه القسامة على عاقلة رب
الدار إذا وجد في الدار وعلى عاقلة أهل المحلة إذا وجد في المحلة يقسم
خمسون رجلا: كل رجل منهم بالله: ما قتلته، ولا علمت له قاتلا

131
ثم يغرمون الدية في ثلاث سنين، على أهل الديوان في كل سنة
الثلث، مقدار ما يصيب كل واحد منهم ثلاثة دراهم أو أربعة في ثلاث
سنين، فإن زاد ضموا إليهم أقربهم منهم من القبائل نسبا، لا جوارا
فإن نقصوا عن خمسين كررت عليهم الايمان
. ثم لا يدخل في القسامة إلا العاقل البالغ الحر، فأما المرأة: فهل
تدخل؟ ذكر الطحاوي أنه لا يدخل في القسامة إلا رجل عاقل بالغ حر.
وذكر محمد عن أبي حنيفة في القتيل يوجد في قرية امرأة لا يكون بها
غيرها، وليس لها عاقلة قريبة - قال: تستحلف، ويكرر عليها الايمان،
وعلى عاقلتها التي هي أقرب القبائل إليها في النسب.
وقال أبو يوسف: ينظر إلى أقرب القبائل إليها، وتكون القسامة
عليهم، ولا قسامة على المرأة لأنها ليست من أهل النصرة كالصبي
والجنون والعبد.
وهما يقولان: إن المرأة من أهل الاستحلاف في الحقوق ومن أهل
المشاركة في الدية: فإنها إذا قتلت رجلا خطأ تشارك العاقلة في الدية.
ويدخل في القسامة: الأعمى والمحدود في القذف والذمي
لأنهم من أهل الاستحلاف والنصرة.
ويكون الاختيار في رجال القسامة إلى أولياء القتيل، لان ذلك
حقهم ولهم في الاختيار فائدة.
هذا الذي ذكرنا مذهب علمائنا رحمهم الله.
وقال مالك والشافعي رحمهما الله: إذا كان هناك لوث، أي علامة
القتل من واحد بعينه، أو بينهما عداوة ظاهرة فإنه يستحلف الأولياء
خمسين يمينا.

132
ثم يقتص من المدعي عليه عند مالك.
وعند الشافعي: يقضي لهم على المدعي عليه بالدية.
ولكن هذا خلاف الأحاديث المشهورة وإجماع الصحابة.
ثم إذا وجد القتيل في دار رجل، فالقسامة على رب الدار، وعلى
جيرانه إن كانوا عاقلته، وإن لم يكونوا: فعلى عاقلته من أهل المصر،
وعليهم الدية كذا ذكر محمد في الأصل ولم يذكر إذا كانت العاقلة
غيبا.
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن القسامة عليه وعلى عاقلته غيبا
كانوا أو حضورا.
وعلى قول أبي يوسف: لا قسامة على العاقلة.
وذكر الكرخي: إن كانت العاقلة حاضرة في المصر دخلوا في
القسامة وإن كانت غائبة، فالقسامة على صاحب الدار يكرر عليه
الايمان والدية عليه وعلى العاقلة.
ثم القسامة والدية على الأقرب فالأقرب من عاقلة من وجد فيهم
القتيل رب الدار وقومه أخص ثم أهل المحلة، ثم أهل المصر.
وكذلك القبائل الأقرب فالأقرب، وإن كانت المحلة فيها من قبائل
شتى، فإن الدية والقسامة على أهل الخطة وليس على المشتري شئ عند
أبي حنيفة ومحمد لا قسامة ولا دية، ما بقي واحد من أهل الخطة.
وعلى قول أبي يوسف: على أهل الخطة والمشترين جميعا. وقيل: إنما
أجاب أبو حنيفة على عادة أهل الكوفة فإن أهل الخطة هم الذين
يدبرون أمر المحلة، وأبو يوسف بني على عادة أهل زمانه أن التدبير إلى
الاشراف، من أهل الخطة كانوا أولا. وأما إذا لم يكن في المحلة أحد،
من أهل الخطة، وفيها ملاك وسكان فعند أبي حنيفة ومحمد:

133
على الملاك دون السكان.
وقال أبو يوسف: عليهم جميعا.
ولو وجد القتيل في السوق: فعند أبي حنيفة ومحمد: على أربابها
وعند أبي يوسف: على سكانها. وإن كنت السوق للعامة أو للسلطان:
فالدية في بيت المال
ولو وجد في المسجد الجامع، أو الجسور العامة، أو النهر العام
كدجلة والفرات، فالدية في بيت المال ولا قسامة على أحد.
فأما في النهر الخاص الذي يقضي فيه بالشفعة للشريك فعلى
عاقلة أرباب النهر.
ولو وجد في السجن، ولا يعرف من قتله: فعند أبي حنيفة ومحمد:
على بيت المال، وعند أبي يوسف تجب القسامة، والدية، على أهل
السجن.
وإن وجد في السفينة: فالدية والقسامة على من في السفينة، من
ركبها أو يمدها، من المالك وغيره بخلاف الدار، لأنها مما ينقل من موضع إلى موضع فيعتبر فيه اليد دون الملك.
وكذلك العجلة أو الدابة: إذا وجد عليها قتيل ومعها رجل يحملها
وهو قائد، أو سائق، أو راكب فإنه يكون القسامة عليه.
وإن اجتمع رجال: بعضهم قائد، وبعضهم سائق. وبعضهم
راكب فيكون عليهم، لأنه في أيديهم فصار كوجوده في دارهم.
وإن وجد في فلاة من الأرض ينظر إن كانت ملكا لانسان
فالقسامة والدية على المالك وعلى قبيلته. وإن كان ذلك الموضع لا
مالك له، وكان موضعا يسمع فيه الصوت من مصر من الأمصار أو

134
قرية من القرى فعليهم، وإن كان لا يسمع فيه الصوت، وليس بملك
لاحد فهو هدر لأنه لا يد لاحد عليه.
وكذلك في الدجلة والفرات أراد في حق القسامة، فأما الدية ففي
بيت المال إذا ظهر أولياؤه.
فأما إذا وجد على شط نهر عظيم، مثل دجلة والفرات، فعلى أقرب
القرى، من ذلك الموضع من حيث يسمع الصوت القسامة والدية.
ولو وجد القتيل في عسكر في الفلاة: فإن كانت ملكا، فعلى أرباب
الفلاة، وإن لم يكن لها مالك: فإن وجد في خباء أو فسطاط، فعلى من
يسكن الخباء والفسطاط، وعلى عواقلهم، وإن وجد خارجا من الفسطاط
والخباء فعلى أقرب الأخبية والفساطيط.
وإن كان العسكر لقوا قتالا فقاتلوا، فلا قسامة، ولا دية، في قتيل
وجد بين أظهرهم، لأن الظاهر أنه قتيل العدو.
ولو وجد قتيل في دار نفسه فديته على ورثته وعلى عاقلتهم
وتكون ميراثا لهم لو فضل من ديته عند أبي حنيفة رضي الله عنه،
وعندهما: لا شئ فيه وهو هدر وبه أخذ زفر. وروى أبو يوسف عن
أبي حنيفة مثله لان وجود القتيل في الدار، بمنزلة مباشرة القتل من
صاحبها، فإذا وجد القتيل في دار نفسه، فيصير كأنه قتل نفسه، وأبو
حنيفة يقول: إن المعتبر، في القسامة والدية، حال ظهور القتيل، بدليل
أن مات قبل ذلك، لا يدخل في الدية، وحال ظهور القتيل، الدار
للورثة، فيكون عليهم وعلى عاقلتهم، كمن وجد قتيلا في دار ابنه، أو
بئر حفرها ابنه أليس أن القسامة والدية على ابنه وعواقله كذا هذا.
ثم يثبت الميراث له بعدما صار للمقتول، حتى يقضي دينه، فما
فضل يكون للورثة، بسبب القرابة والله أعلم.

135
هذا الذي ذكرنا إذا لم يدع الأولياء على رجل بعينه من أهل
المحلة.
فأما إذا ادعوا على رجل بعينه فالقسامة، والدية بحالهما في
جواب ظاهر لرواية
. وروى عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة ومحمد أنه يسقط.
وقال أبو يوسف: ا لقياس أنه يسقط وفي الاستحسان أنه لا يسقط
للأثر.
وجه ظاهر الرواية أن الظاهر أن القاتل أحد أهل المحلة والولي
يدعي إلا أنه عين وهو متهم في التعيين فلا يعتبر.
فأما إذا ادعى الولي القتل على رجل من غيرهم فيكون إبراء لهم عن
القسامة والدية لأنه نفي القتل عنهم بدعواه على غيرهم.
ولو شهد اثنان، من أهل المحلة، للولي، بهذه الدعوى لم تقبل
شهادتهما في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: تقبل وإنما قال أبو
حنيفة هذا لان أهل المحلة صاروا خصما في هذه الدعوى، فلا تقبل
شهادتهم، وإن خرجوا عن الخصومة، بالابراء كالوكيل إذا خاصم ثم
عزل فشهد لا تقبل شهادته كذا هذا.
وكذا لو ادعى الأولياء القتل، على واحد من أهل المحلة، بعينه،
فشهد شاهدان من أهل المحلة عليه لم تقبل شهادتهما، بالاتفاق لان
الخصومة قائمة عليهم بعد هذه الدعوى على ما بينا فتكون هذه
شهادة لأنفسهم فلا تقبل.

136
كتاب
الحدود
جمع في هذا الكتاب بين حد الزنا وحد القذف، وبين التعزير
فيحتاج إلى:
بيان سبب وجوب كل واحد منها،
وإلى بيان شرائط الوجوب.
وإلى بيان كيفية الحد، ومقداره.
أما حد الزنا
فنوعان: الرجم والجلد مائة.
وسبب وجوبهما جميعا هو الزنا، إلا أن لوجوب الرجم شرائط إذا
وجد الكل يجب، وإلا فيجب الجلد.
ولو أسقط الجلد للشبهة، يجب العقر، إذ الزنا، في دار الاسلام
لا يخلو عن عقوبة أو غرامة.
فنذكر:
الزنا الموجب للحد.
وشرائط وجوب الرجم.
وطريق ثبوته عند القاضي.

137
أما الزنا
فهو: الوطئ الحرام الخالي عن حقيقة الملك، وحقيقة النكاح
وعن شبهة الملك وعن شبهة النكاح وعن شبهة الاشتباه أيضا.
أما الوطئ ففعل معلوم، وهو إيلاج فرج الرجل في فرج المرأة.
وإنما شرطنا كونه حراما فإن وطئ المجنون ووطئ الصبي العاقل لا
يكون زنا لان فعلهما لا يوصف بالحرمة.
وكذلك الوطئ في الملك والنكاح، وإن كان حراما، لا يكون زنا
كوطئ الحائض، والنفاس، ووطئ الجارية المجوسية والأخت من
الرضاع والجارية المشتركة ونحوه.
وقوله الخالي عن شبهة الملك، فإن وطئ جارية ابنه، وجارية
مكاتبه، وجارية عبده المأذون المديون، والجارية من المغنم في دار
الحرب، أو بعد الاحراز قبل القسمة، فليس بزنا، فإن شبهة الملك،
وهو الملك من وجه، ثابت في هذه المواضع حتى لا يجب الحد، وإن
قال علمت أنها علي حرام.
وقولنا عن شبهة العقد: فإن وطئ امرأة تزوجها بغير شهود أو أمة
تزوجت بغير إذن مولاها أو عبد تزوج بغير إذن مولاه لا يكون زنا.
وكذا من تزوج أمة على حرة أو تزوج مجوسية، أو خمسا في عقد أو
جمع بين أختين، أو تزوج من محارمه فوطئها، وقال: علمت أنها علي
حرام لا حد عليه عند أبي حنيفة، وعندهما يجب الحد في كل وطئ،
حرام على التأبيد، فوجود التزوج فيه لا يوجب شبهة، وما ليس بحرام
على التأبيد فالعقد يوجب شبهة كالنكاح بغير شهود ونحوه والمسألة
معروفة.
وأما شبهة الاشتباه: وهي أنه إذا وطئ فقال ظننت أنها تحل لي

138
لا يجب الحد. وإذا قال: علمت أنها علي حرام فإنه يحد.
وجملة هذا أن دعوى الاشتباه معتبرة في سبعة مواضع: جارية
الأب، وجارية الام، وجارية الزوجة، والمطلقة ثلاثا ما دامت في
العدة، وأم الولد ما دامت تعتد منه، والعبد إذا وطئ جارية مولاه،
والجارية المرهونة في رواية كتاب الرهن. وفي أربعة مواضع لا يحد، وإن
قال علمت أنها علي حرام جارية الابن وإن سفل، والجارية المبيعة
إذا وطئها البائع قبل القبض، والجارية المتزوج عليها إذا كانت في يد
الزوج والمطلقة طلاقا بائنا والجارية بين الشريكين.
وفيما سوى ما ذكرنا يجب الحد، ولا يعتبر شبهة الاشتباه.
ومن وجد على فراشه، أو في بيته، امرأة. فوطئها، وقال: ظننت
أنها جاريتي أو امرأتي يحد لأنه لا يحل له الوطئ مع الاشتباه
فأما الأعمى إذا وجد على فراشه امرأة، فوطئها فكذلك الجواب عند
أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال زفر: لا يجب عليه الحد، كما في المرأة
المزفوفة إلى بيت زوجها. وقال محمد: إذا دعا الزوج الأعمى امرأته،
فأجابته امرأة فقالت: أنا فلانة امرأتك فوطئها، لا حد عليه فأما إذا
أجابته ولم تقل أنا فلانة يجب الحد لأنه في وسعه أن يتحفظ أكثر
من هذا فلا يصير شبهة فيجب الحد.
وأما شرائط وجوب الرجم:
فأن يكونا محصنين.
والاحصان: عندنا عبارة عن استجماع سبعة أشياء: البلوغ،
والعقل، والاسلام، والحرية، والنكاح الصحيح، والدخول على وجه
يوجب الغسل، من غير إنزال وهما على صفة الاحصان.

139
وروي عن أبي يوسف إن الاسلام ليس بشرط وهو قول الشافعي.
وكذا روي عن: أنه لا يعتبر الدخول بها وهما على صفة الاحصان
حتى قال: إن المسلم إذا وطئ الكافرة صار بها محصنا.
وإذا وجد الوطئ قبل الحرية، ثم أعتقا صارا محصنين بالوطئ المتقدم
والمسألة معروفة.
فإذا فات شرط من شرائط الاحصان، يجب الجلد لا الرجم، لقوله
تعالى: * (فاجلدوا كل واحد منهما مئة جلدة) *.
ولا يجمع بين الجلد والرجم بالاتفاق.
واختلفوا في الجمع بين الجلد والتغريب فقال أصحابنا رحمهم الله:
لا يجمع. وقال الشافعي: يجمع والمسألة معروفة.
فأما طريق ثبوته عند القاضي:
فشيئان: البينة والاقرار.
أما مشاهدة القاضي الزنا، في حالة القضاء أو قبل القضاء، فلا
يعتبر في حق الحدود، الاجماع، وإن كان بين العلماء اختلاف في غيرهما
من الأحكام.
أما البينة - فشهادة: أربعة رجال عدول أحرار مسلمين على
الزنا. ولا تقبل فيها شهادة النساء مع الرجال بلا خلاف.
وأما الاحصان: فيثبت بشهادة الرجال مع النساء عندنا خلافا
لزفر.
وأما الاقرار - فهو أن يقر المقر أربع مرات بالزنا، عند الامام
في أربعة مواطن، عندنا خلافا للشافعي.

140
وينبغي للامام، إذا جاء الرجل وأقر بالزنا، أن يزجره عن الاقرار،
ويظهر الكراهية من ذلك ويأمر بتنحيته عن المجلس - فإن عاد ثانيا،
فعل به مثل ذلك. وإن عاد ثالثا، فعل به مثل ذلك.
فإذا أقر، أربع مرات، نظر في حاله: هل هو صحيح العقل، وأنه
ممن يجوز إقراره على نفسه؟ فإذا عرف ذلك، سأله عن الزنا: ما هو؟
وكيف زنى؟ وبمن زنى، ومتى زنى؟ وأين زنى؟ لاحتيال الشبهة في
ذلك.
فإذا بين ذلك، سأله: هل هو محصن؟ فإن قال: هو محصن
سأله عن الاحصان ما هو؟ فإن فسره ووصفه بشرائطه حكم عليه
بالرجم وأمر بإقامته عليه.
ويعتبر اختلاف مجلس المقر، لا اختلاف مجلس القاضي، حتى إن
القاضي إذا كان في مجلسه فأقر الزاني أربع مرات في أربعة مجالس من
مجلس المقر يقام عليه الحد، وسواء تقادم العهد أو لا.
وإنما يعتبر التقادم مانعا في لشهادة: إذا شهدوا بعد تقادم العهد لا
تقبل لأجل التهمة ولا تهمة في الاقرار.
ولو أقر، بالزنا، عند غير الامام أو عند من ليس له ولاية إقامة
الحد، أربع مرات فإنه لا يعتبر حتى إنه لو شهد الشهود، على إقراره،
أربع مرات، في مجالس مختلفة في حضرة من ليس له ولاية إقامة الحد
فالقاضي لا يقبل هذه الشهادة، لان الزاني إن كان منكرا، فقد رجع
عن الاقرار وإن كان مقرا فلا عبرة لشهادة مع الاقرار
. ولو أنه إذا أقر أربع مرات، عند القاضي، ثم رجع، بعد الحكم
بالرجم، أو قبله، أو رجع، بعدما رجم قبل الموت إن كان محصنا،
أو بعد ما ضرب بعض الجلد إذا لم يكن محصنا، أو هرب فإنه يدرأ

141
الحد عنه، لان النبي عليه السلام لقن ماعزا الرجوع حين أقر بين يديه
بالزنا: لعلك مسستها لعلك قبلتها فلو لم يصح الرجوع، لم يكن
لهذا التلقين فائدة.
ثم إذا ثبت وجوب الرجم، بالشهادة، فالقاضي أمر الشهود أولا
بالرجم، فإذا رجموا رجم الامام بعدهم ثم الناس.
وقال الشافعي: البداءة بالشهود ليس بشرط.
فإن امتنع الشهود أو بعضهم عن الرجم سقط الرجم في قول أبي
حنيفة ومحمد، وفي إحدى الروايتين عن أبي يوسف، لان امتناعهم عن
لرجم أورث شبهة الكذب في شهادتهم.
وفي الجلد لا يؤمر الشهود به لان كل واحد لا يعرف الجلد على
وجهه.
ولو جن الشهود أو خرسوا أو عموا أو ارتدوا أو ماتوا سقط
الحد لما قلنا.
ثم ينصب الرجل قائما ولا يربط بشئ، ولا يحفر له حفيرة. لأنه
ربما يفر، فيكون دلالة الرجوع. وفي المرأة يحفر لها حفيرة للستر
وفي رواية لا بأس بترك الحفر.
فأما في الجلد فإنه يقام الرجل، وتضرب المرأة قاعدة، وينزع عن
الرجل ثيابه، إلا الإزار في الزاني، وفي التعزيز ولا ينزع في القاذف إلا
الفرو والحشو وفي الشارب روايتان وأشهرهما أنه يجرد.

142
فالحاصل أن أشد الضرب هو التعزير، ثم الجلد في الزنا، ثم في
الشرب، ثم في القذف.
وفي المرأة لا ينزع الثياب، إلا الفرو والحشو، لان كشف العورة
حرام والزجر واجب.
ويضرب الحد في الأعضاء كلها متفرقا إلا في العضو الذي هو مقتل
وهو الرأس والوجه والصدر والبطن المذاكير وهذا في حق الصحيح.
فأما المريض فلا يجلد حتى يبرأ، وكذا الحامل حتى تضع حملها وتخرج
عن النفاس لان النفاس مرض بخلاف الحيض.
فأما الرجم فيقام في الأحوال كلها، إلا في الحامل لأنه لا جناية
من الحمل.
ولا تقام الحدود في المسجد، وإنما تقام في موضع يشاهده الامام أو
يبعث أمينه حتى يقام بين يديه.
وإذا مات المرجوم، يدفع إلى أهله حتى يغسلوه، ويكفنوه، ويصلوا
عليه هكذا قال النبي عليه السلام في ماعز: اصنعوا به ما تصنعون
بموتاكم.
وأما حد القذف
فيحتاج إلى
بيان كيفيته، وبيان مقداره،
وإلى تفسير القذف الموجب للحد،
وإلى بيان شرائطه.
وإلى بيان أحكامه.

143
أما الأول:
فحد القذف مقدر بثمانين سوطا، لقوله تعالى: * (فاجلدوهم ثمانين
جلدة) *.
وأما تفسير القذف:
فهو نوعان:
أحدهما: أن يقذفه بصريح الزنا، الخالي عن شبهة الزنا الذي لو
أقام عليه أربعة من الشهود أو أقربه المقذوف يجب عليه حد الزنا، فإذا
عجز القاذف عن إثباته بالحجة، فينعقد سببا لوجوب حد القذف
. الثاني: أن ينفي نسب إنسان، من أبيه المعروف، فيقول: لست
بابن فلان أو هو ليس بأبيك فهو قاذف لامه، كأنه قال: أمك
زانية أو زنت أمك.
ولو قال: يا ابن الزاني أويا ابن الزانية يكون قاذفا.
ولو قال: لست لأمك لا يكون قذفا.
ولو قال: أنت ابن فلان لعمه، أو خاله أو لزوج أمه، في غير
حال الغضب لا يكون قذفا، لأنه ينسب إليه في العرف. وإن كان في
حال الغضب على سبيل الشتم يكون قذفا.
ولو قال لرجل: يا زانية لا يجب الحد عن أبي حنيفة وأبي
يوسف خلافا ل محمد.
ولا قال لامرأته: يا زاني يحد بالاجماع.
لو قال: يا زانئ بالهمزة، وعنى به الصعود يحد لان العامة لا

144
تعرف هذا.
ولو قال: زنأت في الجبل وعنى به الصعود: فعند أبي حنيفة وأبي
يوسف: يحد، لما قلنا خلافا لمحمد.
ولو قال: زنأت على الجبل يحد بالاجماع لأنه لا يستعمل
لفظه على الصعود.
وأما الشرائط:
فشروط وجوب الحد أن يكون المقذوف محصنا.
وشرائط إحصان حد القذف خمسة: العقل والبلوغ والحرية
والاسلام والعفة عن الزنا.
وأما شرط ظهور حد القذف عند القاضي، بالبينة أو بالاقرار فهو
خصومة المقذوف، ومطالبته وحضرته عند الإقامة لان فيه حق العبد،
وحق العبد لا يثبت إلا بمطالبته وخصومته.
ثم حق الخصومة والطلب، للمقذوف، إذا كان حيا، سواء كان
حاضرا أو غائبا، وليس لأحد حق الخصومة إلا بإنابته عند أبي حنيفة
ومحمد. وعند أبي يوسف: لا تصح وكالة في حد ولا قصاص.
وأجمعوا أنه لا يصح الوكالة في استيفاء الحدو والقصاص، وعنوا
بهذا أنه لا بد من حضرة المقذوف، وحضرة ولي القصاص للاستيفاء.
فأما إذا حضر ففي حد القذف الاستيفاء إلى الامام، وفي
القصاص إلى الولي. لكن إذا وكل إنسانا بالاستيفاء بين يديه،
لعجزه وضعف قلبه جاز بالاجماع.
ولو أنه طلب المقذوف الحد وخاصم بين يدي القاضي وحكم
القاضي به ثم مات، أو مات قبل أن يطالب، أو مات بعدما ضرب

145
بعض الحد بطل وبطل ما بقي، وإن كان سوطا واحدا ولا تبطل
شهادة المقذوف وهذا عندنا.
وعند الشافعي: يقول الوارث مقامه في لخصومة والحضرة.
فالحاصل أن المغلب في حد القذف حق الله تعالى عندنا. وعنده
المغلب حق العبد فلا يورث عندنا خلافا له
. وعلى هذا: لا يصح الصلح والعفو من لمقذوف، عندنا خلافا
له والمسألة معروفة.
هذا إذا قذفه في حال الحياة، فأما إذا قذفه بعد الموت بالزنا، فإن
حق الخصومة فيه للوالد وإن علا، وللولد وإن سفل، ولا حق للأخ
والعم والمولى وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف حتى يدخل فيه أولاد
البنات عندهما وعند محمد: لا يدخل إلا من يرث بالعصوبة.
وأما بيان الأحكام - فنقول:
إذا رفع المقذوف الامر إلى القاضي، والقذف صحيح، فلا يخلو إما
أن ينكر القاذف أو يقر.
فإن أنكر وطلب المقذوف من القاضي أن يؤجله حتى يقيم البينة،
وادعى أن له بينة، حاضرة في المصر فإنه يؤجله إلى أن يقوم من
المجلس، ويحبس المدعى عليه القذف، فإن أقامها، إلى آخر المجلس،
وإلا خلى سبيله، ولا يأخذ منه كفيلا بنفسه وهذا قول أبي حنيفة، وقال
أبو يوسف: يأخذ منه كفيلا بنفسه، حتى يحضر الشهود ولا يحبسه.
وعن محمد أنه قال: أكفله ثلاثة أيام ولا أحبسه فإن أقام شاهدا
واحدا عدلا فإنه يحبس حتى يحضر الشاهد الآخر، وإن أقام شاهدا
غير عدل، فإنه يؤجله إلى آخر المجلس.

146
وإن قال المقذوف: بينتي خارج المصر أو غائبون فإن القاضي
يخلي سبيل القاذف على ما ذكرنا.
وإن أقام رجلا وامرأتين: أو لشهادة على الشهادة، أو كتاب القاضي
في إثبات القذف فلا يقبل لان الذكورة شرط في الحد.
ولو أقام القاذف رجلا وامرأتين، على أن المقذوف صدقة في قذفه له
يقبل لأنها قامت على درء الحد.
وإن طلب المقذوف من القاضي، أن يستحلف القاذف فإنه لا
يحلفه عندنا، خلافا للشافعي بناء على أن حد القذف حق العباد عنده.
فإذا أقام البينة على القذف، أو أقر القاذف فإن القاضي يقول
للقاذف أقم البينة على صحة قولك.
فإن أقام أربعة من الشهود، على معاينة الزنا، أو على إقراره بالزنا،
على الوجه الذي ذكرنا - يقيم حد الزنا، على المقذوف، ولا يقيم حد
القذف على القاذف، لأنه ظهر أنه صادق في مقالته.
فإن عجز عن إقامة البينة للحال، وقال للقاضي أجلني حتى أحضر
البينة، ولي بينة في المصر فإنه يؤجله إلى قيام المجلس: فإن أقام البينة
إلى آخر المجلس وإلا أقام عليه حد القذف، ولا يأخذ منه كفيلا، حتى
يذهب، فيطلب شهوده ولكن يحبسه ويقول له ابعث إلى
شهودك. وعلى قول أبي يوسف: يؤجل إلى المجلس الثاني.
وعن محمد أنه قال: إن لم يجد أحدا يبعثه إلى الشهود، أتركه حتى
يذهب ويحضر الشهود، وأبعث معه شرطا حتى يحفظوه ولا أدعه حتى
يفر فإن عجز أقيم عليه الحد.
فإن ضرب بعض الحد فحضر الشهود وشهدوا بطل الحد

147
الباقي وأقبل شهادتهم.
وإن شهدوا بعد إقامة الحد، على صدق مقالته - تقبل شهادتهم
ويظهر في حق الشهادة حتى لا يرد شهادته بعد ذلك.
وأما التعزير
فيجب في جناية ليست بموجبة للحد، بأن قال يا كافر أو يا
فاسق أو يا فاجر ونحو ذلك.
ويكون التعزير على قدر الجناية، وعلى قدر مراتب الجاني: قد يكون
بالتغليظ في القول وقد يكون بالحبس وقد يكون بالضرب.
وأقل التعزير ثلاثة أسواط فصاعدا، ولا يبلغ أربعين، بل ينقص منه
سوط وهذا عند أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: في العبد ينقص من أربعين أسواط، وفي الحر
لا يبلغ ثمانين، وينقص منه خمسة أسواط.
وأصله قوله عليه السلام: من بلغ حدا، في غير حد فهو من
المعتدين.
ولا يؤخذ فيه الكفالة.
ولا يثبت بشهادة النساء مع الرجال ولا بالشهادة على الشهادة.
وعند محمد: يؤخذ فيه الكفيل، وتقبل فيه الشهادة على الشهادة،
وشهادة النساء مع الرجال وروي عنه أنها تقبل في حق الحبس أياما ثم
يخرج ولا تقبل في حق الضرب.

148
كتاب
السرقة
قال رحمه الله:
جمع في الكتاب بين السرقة وقطع ا لطريق وتفسير البغاة
وأحكامهم.
أما الأول - فنقول:
يحتاج إلى:
تفسير السرقة الموجبة للقطع في الشرع،
وإلى بيان حكمها.
أما الأول:
فهو أخذ مال الغير، على سبيل الخفية، مع شرائطها:
منها: أن يكون السارق عاقلا بالغا.
ومنها: أن يكون المسروق مالا، متقوما - حتى لو سرق الخمر
والخنزير وجلد الميتة فإنه لا قطع عليه.
ولو سرق حرا، صغيرا، فمات في يده أو
مرض فلا شئ عليه
ولو أصابته آفة من الوقوع في البئر أو افتراس السبع يضمن لأنه
تضييع له.
ومنها: أن يكون المال المسروق مقدرا عندنا بعشرة دراهم.

149
وعند مالك بثلاثين درهما. وعند الشافعي بربع دينار.
وتكلم العلماء في صفة الدراهم العشرة:
ذكر أبو الحسن الكرخي أنه يعتبر عشرة دراهم مضروبة. وكذا روي
عن أبي يوسف ومحمد: أنه لا يقطع في عشرة دراهم تبرا ما لم تكن
مضروبة.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا سرق عشرة مما يروج بين
الناس: قطع فهذا يدل على أن التبر إذا كان رائجا يقطع فيه.
ويجب أن يكون وزن الدراهم العشرة وزن سبعة مثاقيل، كما في
نصاب الزكاة.
ويجب أن يكون قيمة المسروق عشرة، من وقت السرقة، إلى وقت
القطع، ولا ينتقص من حيث السعر.
وروي عن محمد أنه لا يعتبر نقصان السعر بعد لاخذ.
ولو سرق في بلد وأخذ في بلد أخرى، لا يقطع، ما لم تكن
القيمة في البلدين عشرة.
فأما نقصان القيمة، بانتقاص العين بعد الاخذ، فلا عبرة به،
فيقطع، لأنه لو هلك كله لقطع فكذا إذا انتقص.
وهذا الذي ذكرنا شرط في سرقة عشر من حرز واحد فإن أخذ
عشرة، من حرز واحد، يقطع سواء كانت العشرة لواحد أو لجماعة
لأنها سرقة واحدة من حرز واحد.
ولو أخرج عشرة لرجل بعضها من دار، وبعضها من دار أخرى لا
يجب القطع، لأنه سرقتان بلا نصاب.
ولو أخرج من دار واحدة عشرة مرة خمسة ومرة خمسة لا

150
يقطع ما لم يوجد إخراج العشرة جملة مرة واحدة.
ولو حمل اللصوص جملة متاعا من الحرز دفعة واحدة فإن بلغ قيمة المتاع مقدار ما تكون حصة كل واحد منهم نصابا كاملا، يجب
القطع، وإلا فلا.
ومنها: أن يكون المال المسروق محفوظا محرزا على الكمال. وإنما
يكون محرزا بأحد أمرين إما أن يكون في مكان معد للاحراز عادة
الدور والبيوت والحوانيت والصناديق. وإما أن يكون محرزا
بالحافظ.
وفي القسم الأول: يكون المكان حرزا بنفسه سواء كان ثمة حافظ
أو لا، وذلك أن يكون في الأمصار والقرى والخيام والأخبية في
المفاوز مع جماعة ممتنعة إلا إذا كان الباب مفتوحا، في الليل والنهار
وليس ثمة حافظ فهذا لا يكون حرزا في العادة.
وأما القسم الثاني: فأن لا يكون المكان حرزا بنفسه، وإنما يكون
حرزا بالحافظ وذلك نحو قارعة الطريق، والمفازة، والمساجد فإن كان
ثمة حافظ قريب من المال يكون حرزا، سواء كان نائما أو يقظانا.
ولو كان العدل والجوالق على الدابة في حال السير، فسرق رجل من
العدل يقطع. ولو سرق والعدل نفسه، والجوالق لا يقع، لان هذا
غير محفوظ بالسائق.
ولو دخل السارق الحرز، وأخذ منه متاعا فقبل أن يخرجه، علم
به صاحب الحرز، فأخذه - لا يقطع، لأنه لم يوجد منه الاخراج من
الحرز.
ولو أخذه السارق ورمى به إلى خارج الحرز، فأخذه صاحبه، ثم إن
صاحب الحرز أخذ السارق من الحرز لا يقطع، لأنه لم تثبت يده عليه،

151
عند الخروج، لثبوت يد غيره.
ولو رماه من الحرز ثم خرج وأخذه يجب القطع عندنا، خلافا
لزفر، لان هذا في حكم ده، إذا لم يأخذه غيره.
ولو أخذ المتاع من الحرز، وناول صاحبا له خارج الحرز فلا قطع
عليهما عند أبي حنيفة كيفما كان، وقال محمد: إن أخرج الداخل يده
من الحرز ونال الخارج يقطع الداخل دون الخارج وإن أدخل
الخارج يده في الحرز وأخذ فلا قطع عليهما.
وقال أبو يوسف إذا أخرج الداخل يده: لا قطع عليه فأما الخارج
لان عنده دخول الحرز
ليس بشرط، إذا أمكن السارق أخذ المال المحرز.
وعلى هذا: إن السارق إذا نقب الجدار وأدخل يده وأخذ متاعا
يساوي عشرة دراهم لا قطع عليه عند أبي حنيفة ومحمد.
وقال أبو يوسف: يقطع.
وكذا لو دخل الحرز، وجمع المتع عند النقب، ثم خرج وأدخل
يده، وأخرج فهو على هذا الخلاف.
وكذا لو دخلوا الحرز، وحملوا الأمتعة على ظهر رجل منهم، أو
رجلين حتى أخرجا الأمتعة، وخرج الباقون من غير حمل شئ القياس
أن لا يقطع غير الحامل، وفي الاستحسان: يقطعون لان السرقة من
الجماعة هكذا تكون عادة.
وكذا لو حملوا على دابة، حتى خرجت بها من الحرز يجب القطع.
وإن كان معهم صبي أو مجنون: لا قطع على الكل عند أبي حنيفة
ومحمد، وقال أبو يوسف: إن باشرا الاخراج دون الكبار العاقلين لا

152
قطع على الكل، وإن باشر الاخراج غيرهما: يجب القطع على الكبار.
ومنها: أن يكون المسروق أعيانا قابلة للادخار والامساك ولا
يتسارع إليها الفساد حتى لو سرق ثمارا مجدودة، محرزة في حظيرة عليها
باب مغلق أو كان ثمة حافظ، ولكن يتسارع إليها الفساد، نحو العنب
والتين، والسفرجل، والرطب، والبقول لا يقطع.
ولو كانت مما يبقى، مثل الجوز، واللوز، والتمر اليابس، والفواكه
اليابسة يجب القطع.
ولو كانت الثمرة الباقية على الشجر، والحنطة في السنبلة لم تحصد
في حائط موثق أو ثمة حافظ لا يجب القطع، لأنه لم تستحكم ماليته
بعد.
وعلى هذا لو سرق اللحم الطري أو اليابس لا يجب القطع،
لأنه مما يتسارع إليه الفساد.
وعلى هذا. النبيذ الحلال والعصير واللبن بخلاف الخل
والدبس.
ومنها: أن لا يكون المسروق شيئا يوجد مباح الأصل، كالطيور
والخشب والقصب، والنورة واللبن، إلا إذا كان شيئا له خطر عند
الناس، كالذهب والفضة واللعل والفيروزج والساج والعاج ونحوها، أو
يحدث فيه صنع كالسرير ونحوه.
ومنها: أن لا يكون مأذونا بالدخول في الحرز، أو فيه شبهة الاذن،
كالسرقة من ذوي الرحم المحرم.
وكذلك عبد الرجل، ومدبره، ومكاتبه، وخادمه، وخادم امرأته،

153
وأجيرهما، وضيفهما، ونحو ذلك.
وكذلك لو سرق العبد من ابن مولاه، وأبويه لأنه يدخل عليهم
عادة.
وإن سرق من غريمه فإن كان من جنس دينه، وهو حال لا يقطع
وإن كان الدين مؤجلا لا يقطع استحسانا. وإن كان المسروق أكثر
من الدين، وتلك الزيادة تكون نصبا فكذلك لان حقه ثابت في
الجملة شائعا.
وإن كان من خلاف جنسه يقطع خلافا للشافعي. وبعض
أصحابنا قالوا: لا يقطع لاختلاف العلماء فيه من السلف.
ومنها: أن لا يكون المسروق شيئا له تأويل الاخذ أو الاتلاف، كما
إذا سرق مصحفا، أو صليبا، أو نردا أو شطرنجا من ذهب أو فضة.
ومنها: أن لا يكون النصاب تبعا لما لا يقطع بسرقته، كما إذا سرق
كلبا أو سنورا وفي عنقه طوق ذهب أو فضة، أو مصحفا مرصعا بالذهب
والياقوت، أو سرق صبيا حرا عليه حلي أو ثياب ديباج لا يجب القطع.
وكذلك لو سرق إناء فضة فيه طعام، وأخرجه من الحرز كذلك لا
يجب القطع. ولو صب الطعام وأخرج الاناء يقطع.
ومنها: شرط ظهور السرقة، الموجب للقطع، عند القاضي، وهو
خصومة المسروق منه حتى لو شهدوا على السرقة من غير خصومة، أو
أقر السارق فإن القاضي لا يقطع.
ولو جاء السارق ثانيا إلى المالك، ورد إليه، قبل المرافعة إلى
الحاكم سقط الحد، في المشهور، عندنا.
وأما إذا ردها بعد المرافعة، وسماع البينة لا يسقط القطع، سواء

154
كان قبل القضاء أو بعده.
وأما إذا وهبها من السارق، أو ملكها السارق، بوجه ما سقط
القطع قبل القضاء وبعده عندنا خلافا للشافعي.
ثم الشرط خصومة المسروق منه بأن كان صاحب ملك أو
صاحب يد أمانة، أو يد ضمان، ويثبت السرقة في حق الاسترداد، أما
في حق القطع فعندنا كذلك وعند زفر: لا يثبت. والشافعي
يقول: لا يعتبر خصومة غير المالك أصلا.
وأما السارق من السارق، فإن خصومته لا تعتبر، في حق القطع
بالاجماع. وهل تعتبر في حق الاسترداد؟ فيه روايتان.
وإنما تعتبر الخصومة إذا لم يتقادم العهد. فأما إذا تقادم عهد السرقة،
فلا يسمع الخصومة كما في حد الزنا على ما ذكرنا.
وأما قطاع الطريق والبغاة فنقول:
إن قطاع الطريق، الذين لهم أحكام مخصوصة لهم شرائط:
أحدها: أن يكون لهم منعة وشوكة بحيث لا تمكن للمارة المقاومة
معهم وقطعوا الطريق عليهم، سواء كان بالسلاح أو بالعصا
الكبيرة والحجر، وغيرها.
والثاني: أن يكون ذلك خارج المصر بعيدا عنه. فأما في المصر
وقريبا منه، أو بين مصرين فلا يكون قطع الطريق وهو قول أبي حنيفة
ومحمد، وخلافا لأبي يوسف.
والثالث: أن يكون ذلك في دار الاسلام، على أهل دار الاسلام.
والرابع: أن يوجد فيه جميع ما شرط في السرقة الصغرى، حتى إن
ما أخذوا لو قسم على القطاع، فأصاب كل واحد منهم عشرة دراهم

155
يجب القطع وإلا فلا.
ويشترط أن يكون القطاع كلهم أجانب في حق أصحاب
الأموال، وأن يكون كلهم من أهل وجوب القطع، حتى إذا كان أحدهم
ذا رحم محرم أو صبيا أو مجنونا لا يجب عليهم القطع عند أبي حنيفة
ومحمد، خلافا لأبي يوسف. وإذا كان معهم امرأة ففيه روايتان
والأصح أنه لا يقطع.
الخامس: أن يظفر بهم الامام قبل التوبة ورد الأموال إلى
أربابها.
أما أحكامهم - فنقول:
إن قطع الطريق على أربعة أنواع:
إن أخذوا المال لا غير: تقطع أيديهم وأرجلهم، خلاف، إذا
كانوا صحيحي الأطراف.
وإن قتلوا ولم يأخذوا المال: قتلوا.
وإن أخذوا المال وقتلوا: فالامام بالخيار إن شاء قطع وقتل
وإن شاء قتل لا غير ثم هو مخير بين أن يقتله صلبا وبين أن يقتله بلا
صلب.
ثم الكرخي يقول: يصلب حيا ثم يقتل والطحاوي يقول:
يصلب مقتولا.
وإن خوفوا بقطع الطريق لا غير: يحبسون ويعزرون حتى يتوبوا
وهو تفسير النفي لقوله تعالى: * (أو ينفوا من الأرض) *.

156
ثم إذا أقيم الحدان القطع والقتل فلا شئ عليهم من ضمان
ما هلك من الأموال وضمان الجراحات والقتل لان الحد مع الضمان
لا يجتمعان.
وأما إذا فات شئ من الشرائط حتى لا يقام الحد عليهم فإنه يحكم
القاضي بما هو حكم ذلك الفعل، بدون قطع الطريق، حتى إذا أخذوا
المال لا غير يجب الرد أو الضمان، فإن قتلوا لا غير يجب القصاص
لا الحد حتى إذا قتلوا بالسلاح يقتلوا ولا يقتلوا إذا قتلوا بغير
السلاح.
ولا يقتل الردء والمعين.
وإن خرجوا إن أمكن استيفاء القصاص يقتص منهم وإلا
فيجب الضمان.
وأما البغاة:
فقوم لهم شوكة ومنعة، وخالفوا المسلمين في بعض الأحكام،
بالتأويل، كالخوارج وغيرهم، وظهروا على بلدة من البلاد، وكانوا في
عسكر وأجروا أحكامهم.
فإذا قطعوا الطريق على أهل العدل من المسافرين فلا يجب عليهم
الحد لأنهم يدعون إباحة أموالهم عن تأويل ولهم منعة.
ولو جاء رجل من أهل البغي تائبا وأتى بسارق قد سرق ماله من
أهل البغي لا يقطعه الإمام العدل.
ولو كان رجل منهم في دار أهل العدل فسرق مال أهل العدل
يقطع وإن استحله لأنه لا منعة له والله تعالى أعلم.

157
كتاب
الهبة
يحتاج إلى:
بيان مشروعية عقد الهبة.
وإلى بيان ركنه،
وإلى بيان شرائط صحته،
وإلى بيان حكمه.
أما الأول فنقول:
الهبة عقد، مشروع، مندوب إليه بالكتاب والسنة
والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى: * (فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا
فكلوه هنيئا مريئا) *.
وأما السنة فقوله عليه السلام: تحابوا وقال عليه السلام:
العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه.
وعليه الاجماع.

159
وأما ركن الهبة:
فهو الايجاب والقبول:
فالايجاب قوله وهبت هذا الشئ منك أو جعلته لك أو هذا
لك أو نحلته لك أو قال جعلت هذه الدار لك عمري أو عمرك أو
حياتي أو حياتك، فإذا مت فهو رد علي فهذا كله هبة، وهي له حياته
وموته، والشرط الذي شرطه باطل، على ما روي عن النبي عليه السلام
أنه قال: أمسكوا عليكم أموالكم، لا تعمروها، فإن من أعمر شيئا
كان لمن أعمره.
ولو قال هذه الدار لك رقبي أو حبيسة ودفعها إليه فهي عارية في
يده ويأخذها منه متى شاء وقال أبو يوسف: إذا قبضها فهي هبة،
وقوله: رقبي وحبيسة باطل.
ولو قال هذه الدار لك سكنى أو هذه الشاة أو هذه الأرض لك
منحة فهي عارية في قولهم جميعا، لان المنحة عبارة عن بذل المنافع،
فإذا أضاف إلى عين ينتفع بها مع قيامها، عمل بحقيقته فأما إذا أضاف
إلى شئ لا ينتفع به، إلا باستهلاكه، كما إذا منحه طعاما، أو لبنا، أو
دراهم، أو دنانير فإنه يكون هبة لأنه لا منفعة له مع قيام عينه. وعلى
هذا قالوا: إن عارية الأعيان تمليك المنافع، وعارية المكيل والموزون
قرض ويكون تمليك العين.
وكذا لو قال هذه الدار لك سكنى عمري أو عمري سكنى
فهي عارية. وكذا إذا قال هبة سكنى أو سكنى هبة فهي عارية.

160
وإن قال هذه الدار لك عمري تسكنها أو صدقة تسكنها فهي
هبة وصدقة وقوله: تسكنها أو تؤاجرها أو تعيرها يكون مشورة،
فيكون شرطا فاسدا، والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة.
كذا لو قال: هي لك هبة تسكنها فهي هبة جائزة لما ذكرنا.
ولو وهب الرجل أمة، على أن لا يبيعها فالهبة جائزة، والشرط
باطل عند أبي حنيفة ومحمد وهو قول أبي يوسف أيضا.
وكذا لو شرط أن يتخذها أم ولد أو أن يبيعها من فلان أو يردها
عليه بعد شهر كانت الهبة جائزة، والشرط باطل وكان ينبغي أن لا
يكون الشرط الفاسد مفسدا للعقد، وإنما جاء الفساد لأجل النهي والنهي
ورد في البيع وما ورد في غيره، فبقي غيره على الأصل إلا إذا كان
في معناه وأصله ما روي عن النبي عليه السلام أنه أجاز العمرى وأبطل
شرط المعمر.
أما شرائط الصحة:
فمنها القبض حتى لا يثبت الملك للموهوب له قبل القبض وهذا
عندنا.
وقال مالك: القبض ليس بشرط.
وأصله ما روي عن جماعة من الصحابة رضوان الله عليهم أنهم
قالوا: لا تجوز الهبة إلا مقبوضة محوزة.
ومنها: أن تكون الهبة مقسومة إذا كان يحتمل القسمة وتجوز إذا كان
مشاعا لا يحتمل القسمة، سواء كانت الهبة للشريك أو غيره.
وقال الشافعي: هبة المشاع جائزة.
وكذلك الخلاف في التصدق بالمشاع.

161
وأصله ما روينا عن الصحابة أنهم قالوا: لا تجوز الهبة إلا مقبوضة
محوزة، والحيازة يراد بها القسمة هاهنا، بالاجماع.
ومنها: أن تكون الهبة متميزة عن غير الموهوب وغير متصلة به، ولا
مشغولة بغير الموهوب، حتى لو وهب أرضا فيها زرع للواهب دون
الزرع، أو نخلا فيها ثمرة للواهب معلقة به دون الثمرة، لا يجوز،
وكذلك لو وهب ثمرة النخل دون النخل، أو الزرع دون الأرض وقبض
النخيل والثمرة والأرض والزرع لا يجوز.
وكذا لو وهب دارا فيها متاع للواهب، أو ظرفا فيه متاع للواهب
دون المتاع، أو وهب دابة عليها حمل للواهب دون الحمل وقبضها فإنه
لا يجوز، ولا يزول الملك عن الواهب إلى الموهوب له، لان الموهوب غير
متميز عما ليس بموهوب فيكون بمنزلة هبة المشاع.
ولو قسم المشاع وسلم ما وهب جاز.
وكذا في هذه الفصول، إذا سلم الدار فارغة عن المتاع.
وكذا إذا حصد الزرع وجز الثمر، ثم سلم النخل والأرض
جاز، لان الملك يثبت عند القبض، فيعتبر حالة القبض وتكون الهبة
موقوفة في حق ثبوت الملك إلى وقت الافراز، وفي كون الهبة، في الحال
فاسدة أو لا خلاف بين المشايخ ولكن لا خلاف أنه إذا وجد التسليم
بعد القسمة والافراز جاز.
ولو وهب دارا من رجلين، أو كرا من طعام أو ألف درهم أو
شيئا مما يقسم فإنه لا يجوز عند أبي جنيفة وعندهما جائز.
والحاصل أن عند أبي حنيفة: الشيوع متى حصل عند القبض فإنه
يمنع صحة الهبة، وإن حصل القبض في غير مشاع جاز فجوز هبة
الاثنين من الواحد ولم يجوز هبة الواحد من الاثنين. واعتبر أبو يوسف

162
ومحمد في فساد العقد حصول الشيوع في الطرفين جميعا فجوزا هبة
الواحد من اثنين وهبة الاثنين من الواحد.
ولو وهب عبدا من رجلين، أو شيئا مما لا يقسم جاز، بالاجماع،
لأنه لا عبرة للشيوع فيما لا يحتمل القسمة في باب الهبة.
ولو وهب رجل لرجلين وقال: وهبت لكما هذه الدار: لهذا نصفها
ولهذا نصفها فهو على الخلاف الذي ذكرناه.
ولو قال: وهبت لك نصفها ولهذا نصفها: لم يجز، بالاجماع،
لأن العقد وقع في المشاع في كل نصف.
ولو قال: وهبت لكما هذا الدار: لهذا ثلثها ولهذا ثلثاها جاز
عند محمد، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف لا يجوز فهما مرا على
أصلهما، وأبو يوسف فرق عند مخالفة النصيبين كما لو رهن عينا واحدة
من اثنين لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان فكذلك هذا.
ثم إن عند أبي حنيفة: إذا قسم وسلم إلى كل واحد منهما حصته
مفرزة جاز لما قلنا.
ولو تصدق بعشرة دراهم على مسكينين جاز، ولو تصدق على غنيين
لم يجز عند أبي حنيفة، كالهبة من اثنين لان الصدقة تقع من المتصدق لله
تعالى، لا للفقير فلا يتحقق الشيوع، والصدقة من الغنيين هبة فلم
تجز، وقيل على قوله: تجوز الصدقة من الغنيين لأنه يحل لهما صدقة
التطوع.
ولو وهب رجل لرجل ما في بطن جاريته أو غنمه أو ما في ضروعها،
أو وهب له سمنا في لبن، أو زبدا قبل أن يمخض. أو دهنا في سمسم
قبل أن يعصر، أو زيتا في زيتون، أو دقيقا في حنطة وسلطه على قبضه
عند الولادة وعند استخراج ذلك فإنه لا يجوز، لان بعض هذه

163
الأشياء معدوم عند العقد، أو معجوز التسليم لمعنى في المحل،
أو مجهول حتى لا يكون محلا للبيع، وإذا كان هكذا فيكون فاسدا، لا
موقوفا، بخلاف ما ذكرنا من هبة المشاع، والموهوب المتصل بغيره
حيث يجوز إذا سلم بعد الافراز والفصل، لان المشاع قابل لحكمه، لكن
المانع هو العجز عن التسليم، لمعنى في غيره، فإذا زال المانع فينقلب
جائزا.
ولو وهب جارية أو حيوانا، واستثنى الحمل: جازت الهبة في الام
والحمل جميعا، وبطل الاستثناء. وجملة هذا أن العقود على ثلاثة
أضرب:
أحدها: إذا عقد على الام دون الحمل: فسد العقد، وبطل
الاستثناء، وهو كالبيع والإجازة والرهن، لان الحمل تبع للام في هذه
العقود، فكان موجبه ثبوت الحكم في الكل، فإذا استثنى الحمل فقد نفى
بعض موجب العقد ففسد العقد.
والثاني: أن يصح فيه العقد ويبطل الاستثناء، وذلك مثل النكاح
والخلع والصلح عن دم العمد والهبة لان موجبه أن يثبت الحكم في
الكل. وقد نفى بعض الموجب بالاستثناء فيكون شرطا فاسدا
والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة.
الثالث: يجوز العقد والاستثناء وهو الوصية: إذا أوصى بجارية
إلا حملها صحت الوصية في الجارية، وبقي الحمل للورثة، لان الحمل
أصل في حق هذا التصرف، حتى تجوز الوصية بالحمل فجاز
الاستثناء.
ولو أعتق ما في بطن جاريته ثم وهبها جازت الهبة في الام.
ولو دبر ما في بطن جاريته ثم وهبها لم يجز فمن أصحابنا من

164
قال في المسألة روايتان، ومنهم من فرق بين التدبير والاعتاق.
ولو وهب عبدا أو ثوبا، أو عينا من الأعيان، مفرزا مقسوما،
لم يأذن له في قبضه، فقبضه، الموهوب له فإن كان بحضرة الواهب يجوز
استحسانا، والقياس أن لا يجوز ذكرنا في الزيادات. وإذا قام من
المجلس، ثم قبض لا يصح، لان القبض في الهبة بمنزلة القبول في حق
إثبات الحكم، وذلك يصح في المجلس لا بعده كذلك هذا.
ولو وهب دينا له على رجل، لرجل وأذن له بقبضه ممن عليه
جازت الهبة، إذا قبض ذلك، استحسانا، والقياس أن لا يجوز وهو
قول زفر، ولو لم يأذن له في قبض الدين لم تجز الهبة، وإن قبضه
الموهوب له بحضرة الواهب.
ولو وهب العارية أو الوديعة وكل أمانة في يد إنسان من صاحب
اليد فإنه يجوز، ويثبت الملك للموهوب له وينوب قبض الأمانة عن
قبض الهبة وهذا استحسان، والقياس أن لا يكون قابضا حتى يتمكن
من قبضه بالخلية ووجه الاستحسان أن الهبة تبرع، وقبض الأمانة
ينوب عنه بخلاف ما إذا باع من المودع، لان البيع عقد ضمان،
وقبض الأمانة لا ينوب عن قبض الضمان.
ولو كانت العين مضمونة في يد إنسان، بالمثل أو بالقيمة كما في
الغصب والمقبوض على سوم الشراء، فوهبها من صاحب اليد
تصح الهبة ويبرأ عن الضمان، فيكون قبضا غير مضمون.
ولو كانت مضمونة بغيرها كالرهن والمبيع، فوهبها المالك، لمن
هي في يده فإنه لا يكون قابضا بذلك، ما لم يقبضها قبضا مستأنفا بعد
عقد الهبة، لأنها إذا كانت مضمونة بغيرها لم تصح البراءة عنها بالهبة فلا
يصير قبض أمانة، ولا بد من تجانس القبضين حتى يتساويا.

165
ثم إذا صحت الهبة عند وجود شرائطها واحتجنا إلى
بيان الحكم فنقول:
حكم الهبة ثبوت الملك للموهوب له، غير لازم، حتى يصح الرجوع
والفسخ عندنا.
وعند الشافعي: يقع الملك لازما إلا في هبة الولد لولده.
لكن يكره الرجوع في الهبة، لان من باب الدناءة.
وللموهوب له أن يمتنع عن الرد.
ولا يصح الرجوع إلا بتراض أو بقضاء القاضي لأنه فسخ بعد تمام
العقد، فصار كالفسخ بسبب العيب بعد القبض.
وإنما يمتنع الرجوع بأسباب
منها: العوض للحديث: الواهب أحق بهبته ما لم يثبت منها
أي يعوض.
ولكن العوض نوعان: عوض مشروط في العقد، وعوض متأخر عن
العقد.
أما المشروط في العقد بأن قال وهبت لك هذا العبد على أن
تعوضني هذا الثوب فحكمه أن لكل واحد أن يرجع في السلعتين
جميعا، ما لم يتقابضا. وإن قبض أحدهما دون الآخر: كان للقابض وغير
القابض الرجوع. فإذا تقابضا جميعا انقطع الرجوع، وصار بمنزلة
البيع، وإن كان عقده عقد هبة، حتى يرد كل واحد منهما بالعيب،
ويرجع في الاستحقاق، وتثبت الشفعة - وهذا عندنا، وعند زفر عقده
عقد بيع - حتى يشترط القبض عندنا، لثبوت الملك في هذه الهبة، ولا
يصح في الشيوع وعنده بخلافه.

166
فأما العوض المتأخر عن العقد فهو لاسقاط الرجوع فلا يصير في
معنى المعاوضة لا ابتداء ولا انتهاء، وإنما يكون المال الثاني عوضا عن
الأول بالإضافة إليه نصا، بأن أعطى للواهب شيئا، وقال هذا عوض
عن هبتك أو قد نحلتك هذا عن هبتك أو كافأتك أو
جازيتك أو أثبتك أو قال هذا بدل هبتك أو مكان هبتك أو
قد تصدقت بهذا عليك بدلا من هبتك فإن هذا عوض في هذه الوجوه
إذا وجد قبض العوض ويكون العوض هبة تصح بما تصح به الهبة
وتبطل بما تبطل به الهبة.
فأما إذا لم يضف العوض إلى الهبة الأولى: فإنها تكون هبة
مبتدأة، ويثبت حق الرجوع في الهبتين جميعا.
ومنها: العوض من حيث المعنى، وهو ليس بعوض مالي، كالثواب
في الصدقة: فإنه يكون عوضا مانعا من الرجوع، وكصلة الرحم
المحرم، وصلة الزوجية، حتى لا يصح الرجوع في هبة ذوي الأرحام
المحارم، وهبة الزوجين لأنه قد حصل العوض معنى.
ومنها: إذا زادت في الهبة زيادة متصلة: بفعل الموهوب له أو بفعل
غيره، بأن كانت جارية مهزولة فسمنت، أو كانت دارا فبنى الموهوب له
فيها بناء، أو كانت أرضا فغرس فيها أشجارا أو نصب فيها دولابا، وهو
مثبت في الأرض مبني فيها، أو كان ثوبا فصبغه بعصفر، أو قطعه قميصا
وخاطه، لان الموهوب اختلط بغيره، والرجوع لا يمكن في غير الموهوب
فامتنع أصلا.
أما الزيادة المنفصلة، كالأرش والولد والعقر فلا تمنع الرجوع،
لأنه يمكن الفسخ في الام والأصل، دونها، بخلاف زوائد المبيع، لان ثم
يؤدي إلى الربا، لأنها عقد معوضة بخلاف الهبة.

167
وأما نقصان الموهوب فلا يمنع الرجوع لأنه فات بعضه، ولو كان
الكل قائما فرجع في البعض دون البعض جاز فكذا هذا.
ومنها: خروج الموهوب عن ملك الموهوب له، بأن باع أو وهب
لان اختلاف الملكين كاختلاف العينين.
وكذا إذا مات الموهوب له، لان الملك ينتقل إلى ورثته.
وكذا إذا مات الواهب، لأنه ينتقل إلى ورثته.
وكذا لو هلك الموهوب، لأنه زال الملك فلا يحتمل الفسخ.
ثم الرجوع في الهبة بغير القضاء فسخ عندنا حتى يجوز في
المشاع ولا يشترط القبض خلافا لزفر والمسألة معروفة.
ولو وهب رجل لابنه الصغير شيئا صحت الهبة، لان قبض الأب
كقبضه، وكذا قبض جده بعده، وقبض وصي الأب والجد بعدهما، حتى
لو وهب هؤلاء من الصغير، والمال في أيديهم صحت الهبة، ويصيرون
قابضين للصغير، وعلى هذا قالوا: إذا باع الأب ماله، من ابنه الصغير،
ثم هلك المبيع عقيب البيع، كان الهلاك على الصغير لأنه صار قابضا
بقبض الأب.
وكذلك لو وهب أجنبي للصغير شيئا، فقبض ذلك أحد هؤلاء
الأربعة، لان لهم ولاية التصرف في ماله.
ومن غاب منهم غيبة منقطعة، فالولاية تنتقل إلى الابعد كما في
ولاية النكاح.
ولا يجوز قبض غير هؤلاء عنه، أجنبيا كان أو ذا رحم منه، لأنه لا
ولاية لهم عليه، إلا إذا كان الصغير في حجره وعياله فيكون قبضه
للهبة بمنزلة إيصال النفع إليه ويكون من باب الحفظ.

168
ولو قبض الصغير العاقل ما وهب له واحد من هؤلاء الأربعة
جاز قبضه، استحسانا، والقياس أن لا يجوز، لان هذا من باب
النفع وقبض هؤلاء عليه أيضا، وإن كان عاقلا، لان النظر
الكامل في هذا أن يملك كل واحد منهما ذلك.
ولو وهب الأب مال الصغير لا يجوز، لأنه تبرع ولو وهب بشرط
العوض، وقبل الآخر العوض لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة وأبي
يوسف، وقال محمد: يجوز ف أبو حنيفة اعتبر نفس الهبة وهي من
باب التبرع، ولا يملك الأب ذلك، ومحمد يقول هذا بمعنى البيع.
وعلى هذا الخلاف: المأذون والمكاتب، إذا وهبا بشرط العوض لم
يجز عندهما خلافا له.
ولو وهب رجل، لعبد رجل فإن القبول والقبض إلى العبد، دون
مولاه، ويكون الملك لمولى بحكم أنه كسب عبده لان الغرض هو وجه
العبد فيكون هبة له، ولا يجوز قبض المولى وقبوله عنه، سواء كان على
العبد دين أو لم يكن، لأنه هبة للعبد.
وكذلك الجواب في المكاتب أن قبول الهبة وقبضها إليه دون
مولاه لأنه أحق بكسبه.
ويكون للواهب الرجوع إذا كان العبد أجنبيا في حقه وإن كان
انتقل الملك إلى مولاه، لان ملك العبد غير مستقر فيه فكأن الملك وقع
للمولى ابتداء.
وكذلك في المكاتب إن عتق فظاهر، لأنه استقر ملكه وإن
عجز وصار كسبه للمولى، فله حق الرجوع في قول أبي يوسف ولم يجز
الرجوع في قول محمد - بناء على أن عند أبي يوسف: كأن الملك وقع
للمولى من الابتداء، وعند محمد: كأنه ثبت من وقت العجز.

169
ولو وهب الرجل لعبد رجل هبة، والواهب ذو رحم محرم من
العبد، دون المولى، فإنه يرجع بالاتفاق. وأما إذا كان المولى ذا رحم
محرم من الواهب دون العبد فعند أبي حنيفة: يرجع أيضا، وعندهما لا
يرجع وهذا بناء على أن الملك في الهبة يقع للمولى، فيكون هبة من
المولى عندهما، وإن كان ذا رحم محرم لا يرجع، وإن كان أجنبيا
يرجع، ولا عبرة لجانب العبد، وعند أبي حنيفة: هذا هبة للمولى من
وجه، وللعبد من وجه، فلا تكون صلة كاملة في حق كل واحد على
الانفراد، والصلة الكاملة مانعة للرجوع، فلا تتعدى إلى الصلة من
وجه.
فأما إذا كانا جميعا ذوي رحم محرم من الواهب: ذكر أبو الحسن
الكرخي عن محمد أن قياس قول أبي حنيفة: أن يرجع لأنه لم يكن لكل
واحد منهما صلة كاملة.
وقال أبو جعفر الهندواني: ليس له أن يرجع في قولهم جميعا لان
الهبة لأيهما كانت تمنع الرجوع.
وعلى هذا التفريع لو وهب للمكاتب وهو ذو رحم محرم من الواهب
أو مولاه ذو رحم محرم من الواهب
فإن أدى المكاتب اعتبر حاله، لأنه استقر ملكه بالعتق.
فإن عجز ففي قياس قول أبي حنيفة: يعتبر حال المولى، كأن الهبة
وقعت له من الابتداء. وعند محمد: لا يرجع، لان الكسب كان
للمكاتب، وعند العجز ينتقل إلى المولى.
ولو وهب الرجل أولاده، فسلم إلى الكبار حصتهم، وقبض هو
حصة الصغار جاز لما قلنا. ولكن ينبغي أن يسوي بين أولاده في
الهبة، في قول أبي يوسف، وفي قول محمد: يجزيه إن أعطاهم على قدر
مواريثهم والله أعلم بالصواب.

170
كتاب
الوديعة
اعلم أن عقد الوديعة مشروع ومندوب إليه لان فيه إعانة
لصاحبها لحفظ ماله، والله تعالى يقول: * (وتعاونوا على البر
والتقوى) *.
ثم عقد الوديعة استحفاظ من المودع، وائتمان له، فتكون الوديعة
أمانة في يد المودع، الوجود الائتمان من المودع، يلزمه حفظها، إذا قبل
الوديعة، لأنه التزم الحفظ، فيجب عليه أن يحفظ على الوجه الذي يحفظ
ماله، بحرزه، وبيده، وبيد من كان ماله في يده نعني بحرزه الذي
هو ملكه، أو يستأجره، أو يستعيره، وليس الشرط أن يحفظه في الحرز
الذي يحفظ فيه ماله، ونعني بيد من كان ماله في يده كل من كان في
عياله، حتى المستأجر الذي استأجره مشاهرة بنفقته وكسوته، دون الذي
استأجره بالدراهم أو المستأجر مياومة، ويدخل فيه العبد المأذون الذي في
يده ماله، شريك المفاوضة والعنان وإن لم يكونوا في عياله.
ثم إذا أخرجه من يده ودفعه إلى غيره وديعة يصير ضامنا، لأنه
رضي بحفظه، دون حفظ غيره من غير ضرورة، حتى إذا وقع الحريق
ونحوه في داره فأودع غيره لا يضمن.
وأما مودع المودع: هل يضمن لو هلكت الوديعة؟ فعند أبي حنيفة:

171
لا يضمن، وعند أبي يوسف ومحمد: يضمن، والمالك بالخيار: إن شاء
ضمن المودع الأول، وإن شاء ضمن الثاني، فإن ضمن الأول لا يرجع
على الثاني، وإن ضمن الثاني يرجع على الأول.
ولو استهلك الثاني الوديعة فلصاحب الوديعة الخيار في تضمينها
فإن ضمن الأول يرجع الأول على الثاني، لأنه يصير ملكا له،
بالضمان، فكأنه أودع ماله عنده، وإن ضمن الثاني: لا يرجع على
الأول المسألة معروفة.
فإن استرد المودع الأول من الثاني وحفظه بنفسه يبرأ عن
الضمان عندنا خلافا للشافعي.
وعلى هذا: إذا استعمل الوديعة بأن ركب الدابة، ولبس الثوب
ثم نزل ونزع يعود أمينا عندنا خلافا للشافعي والمسألة
معروفة.
وفي المستأجر والمستعير إذا خالفا ثم تركا الخلاف بقي الضمان
وعند بعضهم هذا بمنزلة المودع.
ولو سافر بالوديعة لا يضمن عند أبي حنيفة ولو أودع إنسانا
ضمن وعندهما يضمن والمسألة معروفة.
ولو رد الوديعة إلى بيت المودع، من غير حضرة المودع يضمن.
وكذا إذا رد إلى يد من في عيال المالك، لأنه لم يرض بيدهم حيث
أودع، وفي الإجارة والعارية: لا يضمن، لعادة الناس، حتى إن العارية
إذا كانت شيئا نفيسا - قالوا: يضمن، وقيل أيضا في الثياب كذلك،
وإنما العادة في بعض آلات البيت.
ولو بعث الوديعة مع من كان في عياله لا يضمن.

172
ولو قال له: احفظ في هذه الدار ولا تحفظ في هذا البيت، وإنه
مثل غيره في الحرز فلو حفظ في غيره لا يضمن، بخلاف الدارين.
ولو قال: احفظ في هذا المصر ولا يخرج يجب عليه الحفظ في
ذلك المصر، إلا إذا كان ثمة عذر ظاهر بأن قصد السلطان أخذه
فأخرجه مع نفسه.
ولو قال المودع: هلكت الوديعة عندي أو رددتها إليك،
وأنكر المودع وقال: لا بل أتلفتها فالقول قول المودع لأنه أمين
في ذلك ولكن مع اليمين، لأنه لو أقر بذلك يلزمه، فإن أقام المودع
البينة على الاتلاف: يضمن المودع، وكذا إذا حلف المودع على الاتلاف،
فنكل. فلو أقام المودع البينة على أنه أتلفها المودع، وأقام المودع البينة على
أنها هلكت، فبينة المودع أولى، لأنها أكثر إثباتا. ولو أقام على إقرار المودع
أنها هلكت: يقبل، ويكون إكذابا لبينته.
ولو طلب المودع يمين المودع: بالله ما يعلم أنها هلكت فالقاضي
يحلفه فإن حلف: يقضي بالضمان، وإن نكل يقضي بالبراءة.
وعلى هذا إذا جحد الوديعة فالقول قوله.
ولو أقام المودع البينة على الوديعة يضمن المودع فإن أقر بالوديعة
وأقام المودع البينة على أنها هلكت قبل جحوده الوديعة لا يقبل، لأنه
بالجحود أكذب بينته وإن أقام على إقرار المودع بذلك يقبل.
ولو طلب من القاضي أن يحلف المودع بالله ما يعلم أن الوديعة
هلكت قبل جحوده إياها يحلفه فإن حلف يقضي بالضمان، وإن
نكل يقضي بالبراءة.
ولو أودع رجلان عند رجل وديعة، وغابا ثم حضر أحدهما
فليس له أن يدفع إليه حصته. ما لم يجتمعا وإن طلب منه عند أبي

173
حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: له أن يقسم، ويدفع إليه حصته، ولا تصح
القسمة في حق الغائب، حتى لو هلك النصف الباقي في يده
يكون للغائب في أن يأخذ المودع نصفه الآخر.
ولو أودع رجل عند رجلين وديعة مما يقسم فلهما أن يقسماه ويأخذ
كل واحد نصفه للحفظ، لأنه رضي بحفظهما وأمكن من هذا الوجه.
ولو دفع أحدهما إلى صاحبه ضمن النصف عند أبي حنيفة لأنه
رضي بحفظهما، لا بحفظ أحدهما وعندهما لا يضمن.
وأجمعوا أنها إذا كانت لا تقسم لا يضمن لأنه لا يمكن حفظهما في
مكان واحد، فكان راضيا بحفظ أحدهما.
وعلى هذا الخلاف في المرتهنين والوكيلين بالقبض.
ولو خلط الودية بمال نفسه إن كان يمكن التمييز لا شئ عليه
ويميز وإن كان لا يمكن التمييز يضمن الحافظ عند أبي حنيفة مثله
لصاحبه.
وكذلك إذا كانت وديعتان، فخلط إحداهما بالأخرى يضمن مثل
ذلك لصاحبهما، وإذا أدى الضمان حل له ذلك وعندهما في
الدراهم والدنانير إن شاء المالك ضمنه مثله، وإن شاء أخذ نصف
المخلوط.
وكذا في الوديعتين، وفي سائر المكيلات والموزونات إن شاء ضمنه
كل واحد مثل حقه، وإن شاء باعا المخلوط وقبضا الثمن ويأخذ صاحب
الحنطة ثمن الحنطة، غير مخلوط بالشعير، ويأخذ صاحب
الشعير ثمن الشعير غير مخلوط بالحنطة.
ولو مات المودع، ولم يبين الوديعة، فإن كانت معروفة، وهي

174
قائمة: ترد إلى صاحبها. وإن لم تعرف يضمن، ويكون صاحبها
شريكا للغرماء والله تعالى أعلم.

175
كتاب
العارية
أعلم أن إطلاق اسم العارية في العرف بطريقتين: بطريق الحقيقة
وبطريق المجاز.
أما بطريق الحقيقة:
فهو إعارة الأعيان التي ينتفع بها، مع قيامها، كالدور والعبيد
والدواب ونحوها، وهو تمليك منافع الأعيان عند عامة المشايخ.
وقال الكرخي: إنه عقد إباحة فإنه ليس للمستعير أن يؤاجر، ولو
كان تمليكا لملك الإجارة كالمستأجر يملك أن يؤاجر.
لكن هذا ليس بصحيح، فإنه يملك أن يعير، ولو كان إباحة لكان لا
يملك، كالمباح له الطعام لا يملك الدفع إلى غيره إلا أنه لا يملك
الإجارة، لأنه عقد لازم، والعارية تبرع، فكيف يملك به ما هو لازم
فيؤدي إلى تغيير المشروع؟
ثم العارية أمانة عندنا وعند الشافعي: مضمونة وهي مسألة
معروفة.
ولو شرط الضمان في العارية هل يصح؟ المشايخ مختلفون فيه
وأما بطريق المجاز:
فهو إعارة المكيل والموزون، وكل ما لا يمكن الانتفاع به إلا

177
باستهلاكه، فهو قرض حقيقة، ولكن يسمى عارية مجازا، لأنه لما رضي
بالانتفاع به باستهلاكه ببدل، كان تمليكا له ببدل، وهو تفسير القرض
ولا يلزم الأجل فيه كما في العارية.
ثم العارية قد تكون مطلقة وقد تكون مقيدة:
فالمطلقة.
أن يستعير شيئا، ولم يبين أنه يستعمله بنفسه أو بغيره ولم يبين كيفية
الاستعمال.
وحكمها أنه ينزل منزلة المالك، فكل ما ينتفع به
المالك، ينتفع به المستعير من الركوب والحمل، وله أن يركب غيره ولكن يحمل بقدر
المعتاد، لا زيادة عليه، لان الزيادة تكون إتلافا.
فأما إذا بين أنه يستعمل بنفسه فهذا على وجهين:
إن كان مما يتفاوت الناس في استعماله، كالركوب واللبس فإنه
يختص به، ولا يجوز له أن يركب غيره وأن يلبس غيره.
وإن كان شيئا لا يتفاوت كسكنى الدار فله أن يعير غيره.
وكذا إذا سمي وقتا أو مكانا، فجاوز ذلك المكان أو زاد على
الوقت: يضمن، لان التخصيص مفيد.
فأما إذا بين مقدار الحمل والجنس: فإن حمله عليه أو زاد يضمن
بقدر الزيادة. ولو حمل عليه شيئا بخلاف جنسه فإن كان مثله في الخفة
أو أخف منه: لا يضمن، وإن كان أثقل منه يضمن، إلا إذا كان
شيئا فيه زيادة ضرر بالدابة: فيضمن، وإن كان مثله في الوزن والثقل
بأن استعار دابة ليحمل عليها مائة منه من القطن فحمل عليها مائة من
من الحديد: فإنه يضمن، لان ثقل الحديد يكون في موضع واحد، وثقل

178
القطن يتفرق على جميع ظهرها وبدنها. وإن كان أثقل منه فإن كان من
الجنس المذكور: يضمن بقدر الزيادة، وإن كان من خلاف الجنس
يضمن كل القيمة
وليس للمستعير أن يؤاجر لما ذكرنا فإن فعل فهو ضامن من حين
سلمه إلى. المستأجر، ويكون المعير بالخيار إن شاء ضمن المستعير وإن
شاء ضمن المستأجر، لوجود التعدي منهما فإن ضمن المستعير لم يرجع
على المستأجر لأنه ملك العين بالضمان، فكأنه آجر ملك نفسه، فهلك
وإن ضمن المستأجر فإن كان لا يعلم أنه عارية، يرجع على المستعير،
لأنه ضمن الدرك، بإيجاب عقد فيه بدل فيكون غرور فأما إذا كان
يعلم فلا يرجع لأنه لا غرور فيه والرجوع بحكم الغرور.
ولو استعار أرضا على أن يبني فيها بناء، أو يغرس فيها غرسا فإما
إن كان مطلقا أو مؤقتا إلى عشر سنين ونحوه.
فإن كان مطلقا فبنى فيها أو غرس فلصاحب الأرض أن يستردها
في أي وقت شاء، لان العارية غير لازمة، وعلى المستعير أن يأخذ غرسه
وبناءه، لأنه شغل أرض غيره ولم يرض صاحبه بذلك، وليس للمستعير
أن يضمن المعير قيمة غرسه وبنائه ويترك ذلك عليه، لأنه لم يوجد منه
الغرور لان العارية تسترد على كل حال.
وعلى قول مالك: له أن يرجع عليه.
وإن كان مؤقتا فله أن يسترد أيضا لكن المستعير بالخيار إن شاء
ضمن المعير قيمة غرسه وبنائه ويترك ذلك عليه، لأنه غره حيث وقت
وقتا طويلا، ثم استرد قبل مضيه، وإن شاء أخذ غرسه وبناءه إن لم يضر

179
القلع بأرض المعير، فأما إذا كان يضر به، فالخيار للمعير: إن شاء
أخذ الغرس والبناء، بالضمان، وإن شاء رضي الله بالقطع،
فأما إذا أعار الأرض، ليزرع فزرع ثم أراد أن يسترد والزرع
غير مدرك فليس له ذلك، وتبقى الأرض في يده، بطريق الإجارة،
إلى أن يأخذ الغلة، لأن هذه مدة يسيرة معلومة فيه، وفيه نظر من
الجانبين، بخلاف الغرس والبناء فإنه لو انقلبت إجارة، يتضرر به
المعير لطول المدة.
وإن اختلف المعير والمستعير في عدد الأيام، أو
في مقدار الحمل، أو
في المكان فالقول قول المعير لان المستعير قابض لنفسه فيكون سقوط
الضمان بناء على الاذن له.

180
كتاب
الدعوى والبينات
الدعوى نوعان: صحيحة، وفاسدة.
أما الصحيحة: فأن يوجد فيها شرائط الصحة، بأن يدعى على
خصم حاضر، وأن يكون المدعى به شيئا، معلوما، معينا، وأن يتعلق
به حكم على المطلوب منه.
والفاسدة: أن لا يكون الخصم حاضرا، وأن يكون المدعى به
مجهولا، لأنه لا يمكن للشهود الشهادة، ولا للقاضي القضاء به، وأن لا
تلزم المطلوب منه ذلك بأن ادعى أنه وكيل فلان. والقاضي لا يسمع
دعواه، إذا أنكر الآخر لان يمكنه عزله للحال.
ثم إنما يصير المدعى به معلوما: إما بالإشارة إليه عند القاضي، بأن
كان منقولا في الدعوى، وبالشهادة، وإن لم يكن منقولا، نحو العقار
والرحى ونحوهما مما يمكن معرفته بالتحديد فإعلامه بذلك وهو في
العقار.
وما لا يمكن معرفته بالتحديد كحجر الرحى فينصب القاضي
أمينا حتى يسمع الدعوى والبينة عند ذلك بالإشارة.
ثم المدعي: من يلتمس بدعواه إثبات ملك على غيره، في العين
أو في الدين، أو يثبت حقا. والمدعى عليه من يدفع ذلك عن نفسه
وينفيه.

181
وقيل: المدعى من إذا ترك الدعوى يترك، والمدعي عليه من إذا ترك
الدعوى لم يترك.
وذكر محمد أن المدعى عليه وهو المنكر.
إذا ثبت هذا فنقول:
إذا جاء المدعي إلى القاضي مع خصمه فالقاضي يسأله: ماذا
يدعي عليه؟ فإذا ادعى المدعي دعوى صحيحة، على خصم حاضر
سأل المدعى عليه عن جواب المدعي وقال: أجب خصمك بلا أو
نعم وما ذكرنا استحسان والقياس ما ذكر في الزيادات أن المدعي
إذا جاء إلى القاضي مع خصمه فإنه لا يسأل المدعي: ماذا يدعي؟
حتى يبدأ المدعي بدعواه، ثم إذا ادعى دعوى صحيحة، وسمعها، لا
يسأل المدعى عليه عن جواب ما لم يسأل المدعي منه، أن يسأل المدعى
عليه، عن جوابه، لأنه إنشاء الخصومة. لكن الصحيح هو
الاستحسان لان الخصمين ربما يعجزان عن ذلك لمهابة مجلس القاضي.
فإذا سأل المدعى عليه عن الجواب: فإذا أقربه أمره بتسليم المدعى
به إلى المدعي، وإن أنكر سأل المدعي عن البينة عند أبي حنيفة،
وعندهما يحلف المدعى عليه، إذا طلب المدعي منه الحلف لان عنده
إذا قال المدعي: لي بينة حاضرة في المصر، فالقاضي لا يحلفه
وعندهما يحلفه فلذلك يسأل.
فإذا قال: لا بينة لي أوليس لي بينة حاضرة فإنه يحلف
المدعى عليه، إذا طلب المدعي اليمين، لان اليمين حقه، فلا بد من
طلبه. فإذا حلفه فإن حلف تنقطع الخصومة إلى وقت إقامة البينة،
وإن نكل يقضي عليه بالنكول عندنا، في الأموال، وعند الشافعي:
يرد اليمين إلى المدعي: فإذا حلف يقضي له. وفي القصاص في

182
الطرف: يقضي بالنكول، أيضا عند أبي حنيفة وعندهما يقضي
بالدية وأما في النفس فعندهما يقضي بالدية أيضا. وعنده لا
يقضي بالقصاص ولا بالدية، ولكن يحبس حتى يقر أو يحلف، وكذا لا
يقضي بالنكول في الأشياء السبعة عند أبي حنيفة، وعندهما يقضي
وأجمعوا أنه لا يقضي بالنكول في الحدود.
وعلى هذا الاستحلاف عنده لا يستحلف في الأشياء السبعة
وهي النكاح، والرق والولاء والنسب والرجعة، والفئ في
الايلاء، والاستيلاد لان الاستحلاف لأجل النكول، وهو بذل وإباحة
عند أبي حنيفة، ولا يجري ذلك في هذه الأشياء. وعندهما هو بمعنى
الاقرار الذي فيه شبهة، وهذه الأشياء مما يثبت بدليل فيه شبهة - وهذا مما
يعرف في الخلافيات.
ثم الدعوى إما أن تكون في ملك مطلق أو بسبب مع التاريخ أو
بدون، ولا يخلو إما إن كانت من الخارج على ذي اليد، أو من
الخارجين على ذي اليد أو من صاحبي اليد أحدهما على صاحبه.
أما إذا كان الدعوى في ملك مطلق فنقول:
إن كانت من الخارج على ذي اليد، بلا تاريخ فبينة الخارج أولى،
عندنا وعند الشافعي: بينة اليد أولى - وهي مسألة معروفة.
وعلى هذا الخلاف إذا أرخا، وتاريخهما سواء، لأنه لم يثبت سبق
أحدهما، فبقيت دعوى ملك مطلق.
فأما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق فهو أولى عند أبي حنيفة وأبي
يوسف، وهو قول محمد أولا ثم رجع بعد رجوعه من الرقة وقال لا
تقبل بينة ذي اليد على وقت ولا غيره إلا في التاج كذا ذكر ابن
سماعة. وذكر محمد هذه المسألة في كتاب الدعوى وقال: عند أبي

183
حنيفة: يقضي بها للخارج، ثم رجع وقال: يقضي بها لصاحب اليد
وهو قول محمد أي قوله الأول لان بينة صاحب اليد أثبتت أنه أول
المالكين.
وأما إذا وقت أحدهما. ولم يوقت الآخر فعند محمد: لا عبرة
لتاريخ صاحب اليد. فالخارج أولى. وعند أبي يوسف: بينة صاحب
الوقت أولى، وعن أبي حنيفة روايتان: في رواية مع محمد وفي رواية مع
أبي يوسف.
وأما إذا كانت الدعوى من الخارجين في ملك مطلق، بلا تاريخ، أو
تاريخهما واء، والشئ في يد الثالث فهو بينهما نصفان عندنا.
وللشافعي فيه قولان: في قول تهاترت البينتان وتبقى في يد صاحب
اليد قضاء ترك، وفي رواية: يقرع بينهما ويقضي للذي خرجت له
القرعة والمسألة معروفة.
وأما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق فهو أولى بالاتفاق، لان بينة
الخارجين مسموعة، فيترجح أحدهما بالتاريخ.
وأما إذا وقت أحدهما دون الآخر فهما سواء عند أبي حنيفة، ولا
عبرة بالتاريخ لجواز أن يكون الآخر لو وقت كان تاريخه أسبق. وعند أبي
يوسف: صاحب الوقت أولى. وعند محمد: الذي أطلق أولى، لان
الملك المطلق ملك من الأصل حكما حتى يستحق الزوائد به.
وأما إذا كان الشئ في أيديهما، فأقام كل واحد منهما البينة أنه له
فإنه يقضي لكل واحد منهما بنصف ما في يد صاحبه لأنه خارج في ذلك
النصف.
ولو أقام أحدهما البينة: يقضي له بنصف ما في يد صاحبه وما في
يده يترك في يده قضاء ترك.

184
ولو لم يكن لهما بينة قضى بينهما نصفين، قضاء ترك حتى لو أقام
أحدهما البينة على صاحبه بعد ذلك، تقبل.
وكذا إذا أرخا وتاريخهما سواء.
وأما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق فعند أبي حنيفة وأبي يوسف
صاحب الوقت الأول، أولى. وقال محمد: لا يعتبر الوقت في حق
صاحب اليد فكان بينهما.
وأما إذا كان لأحدهما وقت دون الآخر فعند أبي حنيفة ومحمد: لا
عبرة للوقت، فيكون بينهما. وقال أبو يوسف: هو لصاحب الوقت
في حق صاحب اليد فكان بينهما.
وأما إذا كان لأحدهما وقت دون الآخر فعند أبي حنيفة ومحمد: لا
عبرة للوقت، فيكون بينهما وقال أبو يوسف: هو لصاحب الوقت.
وأما إذا كان دعوى الملك بسبب:
فإن كان السبب هو الإرث فإن كان أحدهما خارجا، والآخر
صاحب اليد، وأقام كل واحد منهما البينة أنه ملكه: مات أبوه وتركه
ميراثا له: فهو للخارج، في قول أصحابنا جميعا، لان كل واحد منهما
يثبت الملك للميت مطلقا فصار كما لو حضر المالكان وادعيا ملكا
مطلقا: يكون للخارج كذا هذا.
وكذا إذا أرخا وتاريخهما سواء أو ذكر أحدهما الوقت دون الآخر.
وأما إذا كان تاريخ أحدهما أسبق فهو لصاحب الوقت الأول عند
أبي حنيفة وأبي يوسف. وفي قول محمد الآخر للخارج.
وأما إذا كانا خارجين، في دعوى الميراث على ثالث ووقت
أحدهما أسبق فهو له في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد

185
روايتان في ظاهر الرواية قال في الميراث ذلك كله سواء وهو بينهما
نصفان. وفي نوادر هشام: إن لم يؤرخا ملك الميتين فهو بينهما
نصفان، وإن أرخا ملك الميتين: فهو لصاحب التاريخ الأول.
وكان أبو بكر الرازي يفرق لمحمد بين الميراث من اثنين، وبين
الشراء من اثنين قال في الميراث بينهما نصفان، وفي شراء الخارجين من
رجل واحد: إنه لصاحب الوقت الأول، لان المشتري يثبت الملك
لنفسه، والوارث ثبت الملك للميت.
لكن روي عن محمد في الاملاء في الخارجين إذا أقاما البينة على
الشراء من واحد وأرخا أن التاريخ لا يقبل إلا أن يؤرخا ملك
البائع - وسوى بينه وبين الميراث.
وأما إذا كان السبب هو الشراء - بأن ادعى الخارج الشراء من
صاحب اليد، وهو منكر يقبل.
ولو ادعى صاحب اليد الشراء من خارج: يقبل أيضا لأنه يصح
تلقي الملك من جهته.
فأما إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من صاحبه، من غير تاريخ
فلا يقضي بالبينتين عند أبي حنيفة وأبي يوسف وترك المدعى به في يد
صاحب اليد.
وعند محمد: يقضي بالبينتين جميعا، لأنه يمكن تصحيحهما، ويجعل
كأن الخارج باع من صاحب اليد، وسلم إليه، ثم باع صاحب اليد منه،
ولم يسلم إليه، فيؤمر بالتسليم إليه، ولا يمكن على العكس، لان بيع
العقار قبل القبض، عنده لا يجوز.
وأما إذا أرخا، وتاريخ أحدهما أسبق: فإنه يقضي لآخرهما وقتا:
أيهما كان، والبيع الثاني ينقض البيع الأول عندهما وقال محمد: يقضي

186
بها للخارج وفي المسألة تفصيل لم يذكره الكرخي.
وأما إذا أقاما البينة على الشراء القبض فعندهما: تهاترت البينتان،
والمدعي لمن هو في يده، وعند محمد: يقضي بها للذي في يده، والثمن
بالثمن قصاصا كأن الخارج اشتراها من الداخل، فقبضها ثم اشتراها
الداخل منه، وقبض لان المذهب عنده أن القبض الموجود مهما أمكن أن
يجعل قبض بيع، يجعل حملا لأمر العاقل على الصحة.
وأما الخارجان إذا ادعيا الشراء على صاحب اليد: فإن كان واحدا
وأقاما البينة على الشراء منه بثمن معلوم، ولم يذكرا التاريخ ولا
القبض - فإنه يجعل بينهما نصفين، عندنا.
وعند الشافعي في قول: تهاترت البينتان. وفي قول: يقرع
بينهما.
فأما إذا أرخا وتاريخ أحدهما أسبق فهو له.
وكذا إذا وقت أحدهما، دون الآخر فهو لصاحب الوقت، لأنه
ثبت سبق بيع أحدهما، وبيع الآخر معنى حادث، ولا يعلم تاريخه
فيحكم به للحال.
وأما إذا لم يكن لواحد منهما تاريخ، ولكن له قبض، بأن كان في يد
أحدهما: فهو أولى، لأنه يحمل على قبض البيع، والبيع الثاني حادث،
ولم يعرف تاريخهما، فجعل كأن بيع صاحب القبض أسبق.
فإن ذكر الآخر تاريخا، ولأحدهما تاريخ، وللآخر قبض لم يعتبر
التاريخ إلا أن يشهدوا أن بيعه كان قبل بيع الذي الشئ في يده،
فيقضي له به، ويرجع الآخر بالثمن على البائع.
فأما إذا ادعى كل واحد منهما الشراء من رجل غير الذي ادعى

187
عليه صاحبه، وأقاما البينة فهو بينهما نصفان، لان المشتريين قاما مقام
البائعين، كأنهما حضرا وأقاما البينة، والمال بينهما نصفان.
ولو أرخا وتاريخ أحدهما أسبق يكون له عند أبي حنيفة وأبي يوسف
ومحمد وهذه رواية الأصول. وقد ذكرنا فرق أبي بكر الرازق ورواية
الاملاء عن محمد، في هذا الفصل فلا نعيده.
ثم في هذه المسائل في الشراء يثبت الخيار لكل واحد من مدعي
الشراء لأنه يدعي شراء الكل، فلا يرضى بالنصف، مع الشركة،
وهي عيب فإن اختار أخذ النصف يرجع على البائع بنصف الثمن،
لاستحقاق نصف المبيع، وإن اختار الرد رجع بجميع الثمن لانفساخ
البيع. وإن اختار أحدهما الرد والآخر الاخذ فإن كان قبل تخيير الحاكم
لهما والحكم لهما نصفين فإنه يأخذ جميع المبيع، بجميع الثمن، لأنه
استحقه، بحكم العقد، وإنما امتنع لأجل المزاحمة، فإذا ترك الآخر
الخصومة، فله ذلك، بحكم العقد. فأما إذا كان بعد حكم الحاكم
بينهما: فيأخذ النصف، بنصف الثمن، لأنه، بحكمه، ينفسخ العقد،
في النصف، ولا يعود إلا بالتجديد.
وأما دعوى النتاج:
فإن ادعى الخارج وذو اليد النتاج في دابة، فهي لصاحب اليد،
لأنهما ادعيا أولية الملك، فاستويا في الدعوى، فيرجح باليد - وفي عين
هذه المسألة ورد حديث جابر عن النبي عليه السلام.
وإن دعى أحدهما النتاج: فهو لصحب اليد، أيهما كان، لما
ذكرنا.

188
وإن كان خارجان ادعيا النتاج، وهو في يد ثالث يدعي ملكا
مطلقا: فهي بين الخارجين نصفان لاستوائهما.
ثم ظاهر مذهبنا أنه يقضي لصاحب اليد، لا أن يترك في يده بلا
قضاء.
وروي عيسى بن أبان أنه تتهاتر البينتان، ويترك في يده صاحب اليد
قضاء ترك وهذا خلاف مذهبنا فإن الخارجين يقضي بينهما، ولو كان
ترك في يد صاحب اليد، لا بطريق القضاء ينبغي أن يكون لصاحب
اليد إذا تهاترت البينتان.
فإن أرخا، فإنه ينظر:
إن كان سن النتاج يوافق أحد التاريخين فهو له.
وإن أشكل الامر: سقط حكم التاريخ، وجعل كأنهما لم يذكرا
التاريخ.
وإن خالف الوقتين: ذكر في ظاهر الرواية أنه لا عبرة للتاريخ
والحكم فيه ما ذكرنا من غير تاريخ. وذكر الحاكم أن في رواية أبي الليث
تهاترت البينتان، ويبقى النتاج في يد صاحب اليد قضاء ترك وهو
الأصح.
كذا الجواب في كل ما لا يتكرر فيه سبب الملك، ولا يعاد، ولا
يصنع مرتين فهو كالنتاج.

189
وما يتكرر فيه سبب الملك، ويصنع مرتين فهو على التفصيل الذي
ذكرنا من دعوى الملك المطلق وبالسبب.
وإذا كان حائط بين دارين، وليس لواحد منهما عليه جذوع، ولا
له اتصال بالبناء فإنه يكون بينهما لاستوائهما في الاستظلال.
وإن كان لأحدهما عليه جذوع فالحائط له لأنه مستعمل له.
وإن كان لهما جذوع، على السواء: فهو لهما لاستوائهما.
وإن كان لأحدهما أكثر ذكر الكرخي أنه إذا كان لأحدهما ثلاثة
فصاعدا، وللآخر كثير فهما سواء. أما إذا كان لأحدهما ما دون
الثلاثة، وللآخر أكثر فهو لصاحب الكثير وكذا ذكر محمد في كتاب
الاقرار وذكر في كتاب الدعوى أن لكل واحد منهما ما تحت خشبته
ولا يكون له كل الحائط.
وإن لم يكن لهما جذوع ولأحدهما اتصال بالبناء من جانب واحد.
أي يكون بعض ألبان الحائط المدعى به في حائط مملوك له قال: صاحب
الاتصال أولى.
وذكر في الأصل أنه إذا كان اتصال تربيع فهو أولى من صاحب
الجذوع.
وروي عن أبي يوسف أنه إذا كان الاتصال من الطرفين: كان أولى
من صاحب الجذوع.
والمراد من اتصال التربيع أن يكون بعض الألبان متداخلا في
البعض كالأزج والطاقات، وأبو يوسف اعتبر هذا في جانبي الحائط

190
المدعى به متصلا بحائطي المدعي، لان هذا دليل على أن باني الحائط
هو، ثم لصاحب الجذوع حق وضع الجذوع في هذه المسألة.
وكذا إذا كان له جذع واحد فالحائط لصاحب الأكثر، وله حق
الوضع، وليس لصاحبه أن يرفع إلا إذا أقام البينة أن الحائط له فحينئذ
يرفع لان البينة دليل مطلق.
وإن كان خصا بين شخصين، والقمط إلى أحدهما، وادعى كل
واحد الخص فهو بينهما عند أبي حنيفة ولا يرجح بكون القمط في
جانبه. وقالا بأن صاحب القمط أولى.
ولو كان وجه البناء أو الطاقات على الحائط في أحد الجانبين: فلا
يرجع هذا، بالاجماع لان هذا لا يختص بالملك.
ولو كان لأحدهما سفل وللآخر علو فليس لصاحب السفل أن
يتصرف تصرفا لم يكن في القديم، وإن كان لا يتضرر به صاحبه عند أبي
حنيفة. وعندهما لا بأس به إذا لم يكن فيه ضرر وكذا صاحب العلو.
ولو انهدما، فامتنع صاحب السفل عن البناء لا يجبر عليه لان
الانسان لا يجبر على عمارة بيته، لكن يقال لصاحب العلو: ابن بمالك
السفل، وضع عليه علوك، وارجع عليه بقيمته مبنيا، وامنع الآخر عن
السكن حتى يدفع القيمة.
وكذا الجواب في الحائط بين الدارين.
ولو هدمه أحدهما: يجبر على العمارة والله تعالى أعلم.

191
كتاب
الاقرار
قال رحمه الله:
يحتاج في هذا الكتاب إلى:
بيان كون الاقرار حجة،
وإلى بيان ألفاظ الاقرار،
وإلى بيان شرائط صحته،
وإلى بيان المقر به،
وما يتصل بذلك من الفرق بين حالة الصحة وحالة المرض.
أما بيان كون الاقرار حجة:
فإنه خبر صدق أو راجح صدقه على كذبه، فإن المال محبوب
المرء طبعا فلا يقر به لغيره كاذبا.
وأما بيان ألفاظ الاقرار - فنقول:
إذا قال: لفلان علي كذا أو لفلان قبلي كذا فهو إقرار، لان
علي كلمة إيجاب لغة، والقبالة والكفالة اسم للضمان.
وكذا إذا قال: لفلان في مالي ألف درهم فهو إقرار له بذلك في
مال. لكن لم يبين محمد في الأصل أنه يكون مضمونا أو لا، وذكر
أبو بكر الرازي، أنه إقرار بالشركة، فيكون لك القدر المقر به عنده أمانة

193
وقال بعض مشايخ العراق: إن كان ماله محصورا فهو إقرار بالشركة
وإن كان غير محصور فهو إقرار في ذمته.
وإن قال: له من مالي ألف درهم فهو هبة: لا تصير ملكا له
إلا بقبوله والتسليم من المقر.
ولو قال: له عندي ألف درهم فهو وديعة.
وكذا لو قال: معي أو في منزلي أو في بيتي أو في
صندوقي أو في كيسي لأنها لا تختص بالايجاب فيحمل على
الأدنى.
هذا الذي ذكرنا إذا ذكر هذه الألفاظ مطلقا.
فأما إذا قرن بها لفظا آخر، مخالفا للأول في المعنى، بأن قال:
لفلان علي أو قبلي ألف درهم وديعة يكون وديعة لأنه بيان
معتبر فيصح بشرط الوصل، كالاستثناء.
أما إذا ذكر مطلقا وقال: عنيت به الوديعة - لا يصدق، لأنه
خلاف الظاهر، فلا يصدق على الغير.
وإن قال لفلان عندي أو: معي ألف درهم قرضا فهو
إقرار، لأنه بيان معتبر.
ولو قال: عندي كذا، وأعني به الاقرار صدق، وإن فصل،
لان هذا إقرار على نفسه، فلا يتهم.
ولو قال: له من مالي ألف درهم لا حق لي فيها فهو إقرار.
ولو قال: لفلان عندي ألف درهم وديعة قرضا أو وديعة دينا أو
مضاربة قرضا أو دينا، أو بضاعة قرضا أو دينا فهو إقرار إذا ادعى المقر
له الدين، لأن الضمان قد يطرأ على الأمانة.

194
ولو قال: لفلان عندي ألف درهم عارية فهو قرض.
وكذا في كل ما يكال أو يوزن لان إعارة ما لا ينتفع بأعيانها إلا
بالاستهلاك: يكون قرضا في العرف.
وأما بيان الشرائط:
فالعقل والبلوغ: شرط بلا خلاف لأنه لا يصح بدونهما التصرف
الضار.
وأما الحرية: فهي شرط في بعض الأشياء دون بعض على ما
نذكر.
وكذا الرضا والطوع: شرط حتى لا يصح إقرار المكره بشئ على
ما يعرف في كتاب الاكراه.
وأما بيان أنواع المقر به:
فهو نوعان في الأصل: حقوق الله تعالى والثاني حقوق العباد.
أما حقوق الله تعالى فنوعان:
أحدهما أن يكون خالصا لله كحد الشرب، والزنا، والسرقة
والاقرار به صحيح، من الحر والعبد.
ولو رجع المقر عن ذلك، قبل الاستيفاء بطل الحد، لاحتمال
الصدق في الرجوع، فأورث شبهة.
ويكتفي في ذلك بالاقرار مرة، إلا في الزنا فإنه يشترط العدد أربع
مرات، لحديث ماعز، بخلاف القياس.
وروي عن أبي يوسف أنه اعتبر عدد الاقرار بعدد الشهادة فشرط في
السرقة والشرب الاقرار مرتين لكن روي عنه أنه رجع.

195
ويستوي الجواب، في الاقرار بالحدود بين تقادم العهد وعدمه، إلا
في شرب الخمر فإنه لا يؤخذ به عند أبي حنيفة وأبي يوسف بعد ذهاب
رائحة الخمر استحسانا لحديث ابن مسعود وعند محمد: يؤخذ به
وهو القياس.
فأما حد القذف: فقد ذكرناه في كتاب الحدود.
وأما حقوق العباد فأنواع:
منها - القصاص والدية.
ومنها - الأموال.
ومنها - الطلاق والعتاق وحق الشفعة ونحو ذلك.
والمال قد يكون عينا وقد يكون دينا وقد يكون معلوما وقد يكون
مجهولا، وقد يكون الاقرار في الصحة وقد يكون في المرض فنذكر جملة
ذلك إن شاء الله تعالى.
أما إقرار العبد فنذكره في كتاب المأذون إن شاء الله تعالى.
وأما الحر فإقراره بالمال صحيح كيفما كان سواء كان بالمال
المقر به عينا أو دينا، وسواء كان معلوما أو مجهولا، وعليه البيان. فجهالة
المقر به لا تمنع صحة الاقرار وجهالة المشهود به تمنع صحة الشهادة
والقضاء لأنه لا يمكن القضاء بالمجهول، فأما في الاقرار فيؤمر بالبيان
والقول قوله بيانه.
إذا أقر أنه غصب من فلان مالا أو لفلان عليه شئ أو
حق فإنه يؤمر بالبيان: فإذا بين شيئا له قيمة ويجري فيه المنع
والشح يصدق. وإن كان بخلافه يجبر على بيان شئ له قيمة.
- في الغصب إذا قال: غصبت منه شيئا فبين ما لا قيمة له،

196
بأن قال: غصبت منه صبيا حرا صغيرا أو خمرا لمسلم أو جلد
ميتة يصدق، لان هذا مما يغصب عادة.
- ولو قال: غصبت شاة أو عبدا أو جارية فبين سليما أو
مع العيب أو قال: غصبت دارا فبين في بلدة قريبة أو في بلدة بعيدة
يصدق لأن الغصب يكون على ما يتفق فيكون القول قوله إلا أن في
غصب الدار إن أمكنه تسليمها إليه يسلم ولا ضمان عليه
إن خرجت أو عجز عن التسليم إلا عند محمد: فإنه يجب عليه القيمة عند
العجز وهي مسألة معروفة.
- ولو قال: علي قفيز حنطة فهو بقفيز البلد الذي أقر فيه
فكذلك الرطل والأمنان والصنجات فذلك كله على وزن البلد.
- ولو قال: علي ألف درهم فهو على ما يتعارفه أهل البلد من
الأوزان أو العدد، وإن لم يكن شيئا متعارفا، فيحمل على وزن سبعة،
فإنه الوزن المعتبر في الشرع وكذلك في الدينار يعتبر وزن المثاقيل إلا
في موضع يتعارف فيه بخلافه.
- ولو قال: لفلان علي دريهم أو دنينير فعليه التام لان
التصغير قد يذكر لصغر الحجم وقد
يكون لاستحقار الدرهم، وقد يكون لخفة الوزن فلا ينتقص الوزن بالشك.
- ولو قال: لفلان علي دراهم أو دنانير يقع على ثلاثة لأنها
أقل الجمع.
- ولو قال: علي دراهم كثيرة يقع على عشرة عند أبي حنيفة
وعندهما على النصاب وهو مائتا درهم.
- ولو قال: علي مال عظيم أو كثير أو كبير فعليه مائتا

197
درهم بلا خلاف، عند بعضهم. وقيل على قول أبي حنيفة: يقع
على العشرة. وقيل: يعتبر حال المقر إن كان غنيا يقع على ما يستعظم
عند الأغنياء وإن كان فقيرا يقع على النصاب.
- ولو قال: غصبت إبلا كثيرة أو شياها كثيرة يقع على أقل النصاب من جنسه.
- وإن قال: علي حنطة كثيرة يقع عندهما على خمسة أوسق
وعند أبي حنيفة: البيان إليه.
- وإن قال: علي أموال عظام روي عن أبي يوسف أنه يقع على
ستمائة لان أقل الجمع ثلاثة.
ولو قال: علي ثلاثة دراهم غير درهم يلزمه درهمان، لان كلمة
غير بالنصب للاستثناء.
- وكذا إذا قال: علي ثلاثة آلاف درهم غير ألف يلزمه ألفان لما
قلنا.
- وكذا لو قال: علي ثلاثة دراهم إلا درهما فعليه درهمان.
- ولو قال: علي عشرة إلا ثلاثة يلزمه سبعة.
- ولو قال: إلا سبعة يلزمه ثلاثة لان الاستثناء تكلم
بالباقي.
وفي الاستثناء من الاستثناء يكون الاستثناء من المستثنى لا من
المستثنى منه، ويلحق ذلك بالمستثنى منه.
- إذا قال: علي عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهما يلزمه ثمانية،
لان ثلاثة صارت مستثناة من العشرة، ثم الاستثناء الثاني من الثلاثة،

198
لأنه أقرب إليه، فيخرج درهم ويلتحق بالمستثنى منه وهو سبعة فصار
ثمانية.
- ولو قال: لفلان عليه عشرة دراهم إلا ثوبا لا يصح الاستثناء
عندنا. وعند الشافعي: يصح، ويخرج قدر قيمة الثوب.
- ولو استثنى شيئا من المكيل والموزون بأن قال: علي عشرة دراهم
إلا قفيز حنطة أو علي مائة دينار إلا عشرة دراهم يصح الاستثناء
عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ويخرج من المستثنى منه قدر قيمة
القفيز والعشرة، لان الجنس واحد وهو القدر وقال محمد وزفر رحمهما
الله: لا يصح الاستثناء كما في الثوب.
- ولو قال لفلان: علي ألف درهم إلا قليلا يلزمه أكثر من
النصف، والقول قوله في الزيادة مع يمينه.
- وكذا إذا قال: عليه قريب من ألف أو زهاء ألف أو عظم
الألف لان هذا أكثر من النصف بيقين وفي الزيادة القول قوله.
ولو قال: علي ألف ونيف فعليه الألف عليه بيان النيف
لأنه عبارة عن الزيادة.
ولو قال: عليه ألف ودرهم أو عليه مائة ودينار يكون
المعطوف عليه من جنس المعطوف بالاتفاق.
وكذلك في جميع المكيل والموزون والعددي المتقارب.
- وأما في العروض والعددي المفاوات، بأن قال: علي عشرة
وثوب أو عشرة وعبد أو عشرة ودابة فعلى قول محمد: يلزمه
المعطوف المسمى، والقول قوله في بيان المعطوف عليه: وعلى قول أبي
يوسف: يكون المعطوف عليه من جنس المعطوف، لان العرف على
هذا.

199
ولو قال: لفلان علي ألف لا بل ألفان فجملة هذا إن
الاستدراك في الاقرارات ثلاثة أنواع: إما أن يكون في خلاف جنس
الأول، أو يكون في جنس الأول واستدرك الغلط في القدر من الكثرة
والقلة أو في الصفة من الجودة والرداءة.
فأما الأول - فبأن يقول: علي ألف درهم لا بل مائة دينار أو
كر حنطة لا بل كر شعير. وحكمه أنه يلزمهما جميعا، لان الغلط
فيه نادر والنادر ملحق بالعدم.
وأما الثاني: بأن قال: علي ألف درهم لا بل ألفان أو قال:
علي دينار لا بل ديناران فيلزمه الأكثر استحسانا والقياس أن
يلزمهما جميعا، كما في خلاف الجنس، وكما في الطلاق إذا قال: أنت
طالق واحدة لا بل ثنتين يقع الثلاث، وهو قول أبي يوسف
ومحمد وفي الاستحسان أنه إخبار ويجري فيه الغلط فيصح التدارك
بخلاف إنشاء الطلاق حتى إن في الاخبار كذلك، بأن قال: كنت
طلقت امرأتي أمس واحدة لا بل ثنتين يقع على الأكثر.
وأما الثالث: بأن قال: علي ألف درهم سود لا بل بيض. أو
قال: علي قفيز حنطة جيدة لا بل وسط فيلزمه الأجود
. ولو قال: لفلان علي ألف ثمن مبيع إلا أنه زيوف فعند أبي
حنيفة رحمة الله عليه: يلزمه الجيد ولا يصدق، سواء وصل أو فصل،
كما لو قال: بعتك هذا العبد على أنه معيب: لم يصدق، وإن
وصل وعندهما: إن وصل يصدق، وإن فصل لا يصدق.
وفي القرض روايتان عنه.
- وإذا قال: علي ألف درهم مطلقا، ثم قال زيوف يصدق
بشرط الوصل في قولهم.

200
وفي الغصب والوديعة يصدق وصل أو فصل.
- ولو قال: علي من ثمن بيع ألف درهم ستوقة أو رصاصا
لا يصدق عند أبي حنيفة، وعن أبي يوسف أنه يصدق إذا وصل.
وفي البيع الفاسد وفي الغصب والوديعة يصدق في الستوقة بشرط
الوصل في قولهم جميعا.
- ولو قال: له علي ألف درهم ثم قال: هو ثمن عبد لم أقبضه
منه لم يصدق في قول أبي حنيفة، إلا أن يقول موصولا، والعبد قائم
بعينه، في يد المقر له، وعندهما: إن صدقه المقر له كان القول قوله،
وإن لم يصدقه كان الألف له، لازما عليه.
- ولو قال: اقتضيت من فلان ألف درهم التي لي عليه أو قال:
استوفيت أو قبضت أو أخذت وقال المقر له: لم يكن لك
علي شئ يؤمر بردها إليه، مع يمينه على ما يدعيه المقر.
- ولو قال: أخذت من فلان ألف درهم وديعة، فقال فلان:
بل أخذت غصبا فالقول قول المقر له لما قلنا.
- ولو قال: أودعني فلان ألف درهم أو قال: أعطاني وديعة،
فقال: لا بل أخذتها غصبا فالقول قول المقر لأنه ما أقر بسبب
الضمان وهو الاخذ.
ثم الاقرار في حالة الصحة يصح للأجنبي والوارث جميعا من
جميع المال ولا يكون الدين المتقدم أولى ويكون الغرماء أسوة إذا صار
مريضا ليس له أن يؤثر البعض في القضاء، وفي الأداء في حالة الصحة
له أن يؤثر البعض، لان الدين يثبت في الذمة حالة الصحة، وإنما ينتقل

201
إلى المال بالمرض فكذلك على هذا.
أما الاقرار في المرض فيصح للأجنبي من جميع المال، ولا يصح
للوارث إلا إذا أجاز الورثة، لكن دين الصحة مقدم على دين المرض
الثابت بإقراره. أما إذا ثبت بالبينة، أو بمشاهدة القاضي فهما سواء.
وإقرار المريض باستيفاء الدين في حالة المرض يصح، سواء كان
دين الصحة أو دين المرض في الجملة وهذا في حق الأجنبي وله
تفاصيل كثيرة.
وإما الاقرار بالوارث من المريض أو من الصحيح فنوعان: في حق
النسب، وفي حق الميراث.
أما في النسب فمن الرجل يصح بخمسة نفر بالوالدين،
وبالولد، وبالزوجة، وبكونه مولى لفلان لأنه ليس فيه تحميل النسب
على غيره.
من المرأة يصح بأربعة: بالوالدين، وبالزوج، وبالولاء، دون
الولد، لان فيه تحميل النسب على الغير.
ولا يصح الاقرار بالأخ والعم والخال في حق النسب ونحو ذلك، لما
فيه من تحميل النسب فلا بد من البينة.
فأما في حق الميراث فإن لم يكن للمقر وارث ظاهر صح إقراره في
حق الإرث، لأنه إقرار على نفسه. فأما إذا كان له وارث ظاهر فلا
يصح في حقه وإن كان الذي أقر به، مقدما عليه، بأن أقر بالأخ
وله خال وعمة، لان فيه إبطال حق القريب. وكذلك لو كان له مولى
الموالاة لأنه آخر الورثة فلا يصح إقراره في حقه.
ولو أوصى بجميع ماله ثم أقر بأخ صح إقراره، وتنفذ الوصية
من الثلث.

202
وكذا لو أقر بأخ، ثم أوصى بجميع ماله يصح من الثلث، لان
إقراره بالأخ صحيح في حقه إن لم يصح في حق غيره.
ولو أقر بالأخ، ثم رجع صح لأنه ثبت بقوله.
وعلى هذا - الوارث إذا أقر بوارث آخر: يصح في حق نصيبه، حتى
إن الأخ إذا أقر بأخ آخر فإن ما في يده يكون بينهما نصفين.
وهذا كله إذا صدقه المقر له في ذلك فأما إذا لم يصدقه لم يثبت.

203
كتاب
الوصايا
في هذا الكتاب فصلان:
فصل في الوصية،
وفصل في الايصاء.
نبدأ بالوصية فنقول:
نحتاج إلى:
بيان الوصية،
وإلى بيان صفة المشروعية،
وإلى بيان شرائط الصحة،
وإلى بيان الموصى به،
وإلى بيان الموصى له،
وما يتصل بهذه الجملة.
أما الوصية:
فهي تمليك، مضاف إلى ما بعد الموت، بطريق التبرع إذ التمليك
أنواع ثلاثة، فلا بد لكل نوع من اسم خاص ليتميز عن صاحبه فالبيع
اسم لتمليك عين المال بعوض في حالة الحياة، والهبة والصدقة تمليك عين
المال بغير عوض في حالة الحياة بطريق التبرع، والعارية تمليك المنفعة
بطريق التبرع في حالة الحياة فيكون الوصية اسما لتمليك المال، بعد

205
الموت، بطريق التبرع في العين والمنافع جميعا.
فأما الاعتاق في معرض الموت تنجيزا وكذا الهبة والمحاباة
فليست من جملة الوصية: فإنها نافذة للحال. وكذلك الكفالة، وضمان
الدرك - لكن في معنى الوصية على معنى أنه يعتبر من ثلث المال لتعلق
حق الغرماء بالتركة في مرض الموت.
ولو كان عليه حجة الاسلام، أو الزكاة، أو الكفارات، وجبت
في الصحة أو في المرض فيبطل بالموت عندنا. ولو أوصى بها تصح من
الثلث، بمنزلة التبرع في المرض.
وعلى هذا قلنا: إن القبول من الموصى له والرد يعتبر بعد
الموت، لان الايجاب ينزل بعد الموت، والقبول يشترط عند الايجاب، كما
في البيع وغيره وهذا عندنا.
وعند زفر: القبول ليس بشرط، ولا ترتد بالرد كالميراث.
ولو رد أو قبل في حياة الموصي لا يصح حتى لو مات الموصى
له بعد القبول قبل موت الموصي فإن الوصية لا يكون ملكا لورثة
الموصى له.
ولو مات الموصى له بعد موت الموصي، قبل القبول والرد
فالقياس أن لا يكون لورثة الموصى له شئ، لان القبول لم يوجد من
الموصى له فيبطل وفي الاستحسان يصير لورثته إما لأنه وجد
القبول منه دلالة، أو لان الايجاب قد تم بنفسه، وتوقف على قبوله، فإذا
مات ثبت الملك له، كأنه قبل دلالة كالمشتري بالخيار إذا مات يلزم
العبد. فلو رد ورثته بعد موته هل يصح ردهم؟ اختلف المشايخ فيه
قيل: يجوز الرد لأنه صح لوجود القبول منهم دلالة، فإذا وجد الرد

206
صريحا يبطل. وقيل: لا يجوز، لأنه صار ميراثا، للورثة عن
الموصى له لصيرورته ملكا له بالموت ولا يصح رد الميراث.
وأما بيان المشروعية فنقول.
قال بعضهم: مشروعة بصفة الوجوب في حق الكل.
وقال بعضهم: واجبة في حق الوالد ين، لقوله تعالى: * (الوصية
للوالدين والأقربين) *.
والصحيح أنها مشروعة بطريقة الندب، لقوله عليه السلام: إن
الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم، في آخر أعماركم زيادة في
أعمالكم.
وأما شرائط الصحة
فمنها: أهلية التبرع: حتى لا يصح من الصبي والعبد والمكاتب في
حق المولى.
ومنها: عدم الدين: لقوله تعالى: * (من بعد وصية يوصى بها أو *)
دين
. ومنها: التقدير بثلث التركة: حتى أنها لا تصح، فيما زاد على
الثلث، إلا أن يجيز الورثة، وإجازتهم وردهم يصح بعد الموت. أما قبل
الموت: فلا يصح، لما قلنا: إن الملك بالوصية يثبت بعد الموت.
ومنها: أن يكون الموصى له أجنبيا: حتى أن الوصية للوارث لا تجوز
إلا بإجازة الورثة، لقوله عليه السلام: لا وصية لوارث إلا أن يجيز
الورثة فإن أجاز بعض الورثة: تنفذ بقدر حصته من الميراث لا غير.

207
ومنها: أن لا يكون قائلا، لقوله عليه السلام: لا وصية
لقاتل. ولو أجاز الورثة يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، لأنه لا يجوز لحق
الورثة فيجوز بإجازتهم، كما في وصية الوارث. وعند أبي يوسف: لا
يجوز لان المانع حق الله تعالى فصار كالميراث.
ومنها: أن يكون الموصى له موجودا، حيا حتى لو أوصى للجنين
إن كان موجودا حيا عند الايصاء يصح وإلا فلا. وإنما يعرف بأن
ولد قبل ستة أشهر حيا.
وأما بيان الموصى به:
فالموصى به يجب أن يكون مالا.
ثم المال نوعان: المنافع، والأعيان.
وأما الوصية بالمنافع:
فجائزة بأن أوصى بخدمة عبد بعينه لفلان يكون وصية بالخدمة
له وعين العبد تكون للورثة، ما دام الموصى له حيا، وإذا مات فيسلم
العبد إلى الورثة، فإنها في معنى العارية المؤبدة، فينتهي بموت الموصى
له.
وكذا لو أوصى بالعبد لانسان وبخدمته لآخر جاز لما قلنا.
وكذا لو أوصى بسكنى داره، أو بغلة بستانه، ولم يوقت في ذلك
وقتا - فيكون للموصى له مدة حياته، ويعود البستان والدار إلى الورثة،
وما كان من الثمرة والغلة حاصلا قبل موت الموصى له فيكون لورثته،
وما يحصل بعد موته يكون لورثة الموصي. وإنما يجوز إذا خرج من
الثلث، وإنما يعتبر خروج قيمة الأعيان التي أوصى بغلتها وخدمتها
وثمرتها من الثلث دون أن يضم الغلة وقيمة الثمرة والخدمة إلى رقبة
الأعيان.

208
ولو أوصى بالثمرة بالغلة للمساكين جاز بالاجماع.
ولو أوصى بسكنى داره، أو بخدمة عبده، أو بظهر فرسه
للمساكين لا يجوز عند أبي حنيفة وعندهما: يجوز.
ولو أوصى لفقير واحد بعينه: جاز وهي مسألة معروفة.
وأما الوصية بأعيان الأموال:
فإنه يجوز، سواء كان الموصى به موجودا معينا، أو بربع المال أو ثلثه
أو خمسه وله مال، أو أوصى بالمعدوم، بأن يوصي بما يثمر نخله أو ما
يخرج من بستانه أو بثلث ماله ولا مال له: فإن الوصية جائزة من
الثلث. ويعتبر الثلث وقت موت الموصي، لا قبله، لما ذكرنا أنها إيجاب
الملك عند الموت حتى إنه لو أوصى بثلث ماله وله ثلاثة آلاف درهم،
ثم مات وله ألف: فإن الوصية تصح في ثلث الألف، لما قلنا.
ولو أوصى بلبن غنمه وأصوافها وأولادها ثم مات الموصي
فإنه يقع على ما هو الموجود يوم الموت، دون ما يحدث من بعد الموت،
وإن لم يكن شيئا موجودا وقت الموت، بخلاف الوصية بثمرة النخلة
فإنه يقع على الموجود وقت الموت إن كان، وإن لم يكن يقع على ما
يحدث بعد موت الموصي.
وأما الوصية بالموجود فإن كان شيئا معينا فإنه يصح فيه، حتى
إذا خرج من الثلث يكون للموصى له، وإن لم يكن يخرج يكون له
بقدر الثلث. وإذا هلك ثلثاه وبقي الثلث يكون كل الثلث له إن خرج
من ثلث المال.
وأما إذا كانت الوصية بثلث المال أو بربعه ونحو ذلك: فإن خرج
يكون له، وإن لم يخرج يكون له بقدر الثلث.
وأما إذا اجتمعت الوصايا: لأحدهم بالثلث، ولآخر بالربع ولآخر

209
بالخمس فإن أجاز الورثة جاز في الكل. وإلا يصرف إلى كل واحد
منهم من الثلث بقدر وصيته، ويتضاربون في ذلك: فيكون ثلث الثلث
لهذا وربع الثلث وخمس الثلث للآخرين كما في المواريث.
وإن كان وصية أحدهم أكثر من الثلث، بأن أوصى له بالنصف أو
بالثلثين:
فعند أبي حنيفة يضرب من زاد نصيبه على الثلث بالثلث دون
الزيادة، ومن كان نصيبه دون الثلث فيما سمي له.
وعندهما يضرب صاحب الزيادة بجميع ما سمي له كما في
الميراث.
وأجمعوا في خمس وصايا أنه يضرب بما سمي وإن جاوز عن الثلث
في العتق الموقع في المرض وفي العتق المعلق بموت الموصي وهو التدبير
وبالمحاباة في المرض، وبالوصية بالاعتاق بعد الموت، وبالوصية المرسلة
وهي الوصية بشئ بغير عينه ولا يكون منسوبا إلى جزء من المال نحو
الوصية لفلان بمائة درهم ونحوها.
وهل يقدم بعض أصحاب الوصية معلى البعض؟ فلا يخلو إما إن
كانت الوصايا للعباد أو تقع الله تعالى.
أما إذا كانت الوصايا للعباد فإنه يقدم العتق الموقع في المرض،
والعتق المعلق بمطلق لموت، وهو التدبير الصحيح، والمحاباة في البيع
الواقع في المرض. وما سوى هذه الوصايا يتضارب فيها أهل الوصايا على
السواء لا يقدم بعضهم على بعض. وإن ضاق الثلث عن العتق
والمحاباة: يبدأ بما بدأ به الموصي منهما، لاستوائهما في القوة، فترجح
بالبداءة - وهو قول أبي حنيفة، وقالا: يبدأ بالعتق لا محالة لأنه لا
يحتمل الفسخ.

210
وأما إذا كانت الوصايا بما هو من حقوق الله تعالى، نحو الحج
والزكاة والكفارات والصدقات ونحوها من أعمال البر ينظر:
إن كان كله تطوعا بدأ بما بدأ به الموصي، لاستواء الكل في
نفسه، في القوة، فيترجح بالبداءة، لأنه هو الأهم عنده ظاهرا، ولا
يقدم الوصية بالاعتاق لأنه يحتمل الفسخ كسائر الوصايا فإذا بلغ
الثلث للكل فبها ونعمت، وإن فني الثلث بالبعض، يبطل الباقي.
وإن كانت كلها فرائض متساوية، بأن كان وجوبها ثبت بدليل
مقطوع به، يرجح بالبداءة، لتساويها في القوة، وقالوا: في الحج والزكاة
عند أبي يوسف، يقدم الحج في رواية، وإن أخره جاز. وفي رواية:
يقدم الزكاة وهو قول محمد رحمه الله.
ثم ما أوجبه الله تعالى ابتداء، أولى مما أوجبه عند فعل من المكلف،
فقالوا: يقدم الحج والزكاة على الكفارات المذكورة في القرآن. ثم هذه
الكفارات مقدمة على صدقة الفطر والفطرة مقدمة على كفارة الفطر،
لأنها ثبتت بخبر الواحد، وهي مقدمة على المنذور، هو مقدم على
الأضحية.
والواجبات كلها مقدمة على النوافل.
وأما إذا كان مع الوصايا الثابتة لحق الله تعالى الوصية للآدمي
فإن الموصى له يضرب مع الوصايا بالقرب، ويجعل كل جهة من جهات
القرب مفردة بالضرب، ولا يجعل كلها جهة واحدة، بأن قال ثلث مالي
في الحج والزكاة والكفارات ولزيد يقسم على أربعة أسهم، لان كل
جهة غير الأخرى، ولا يقدم الفرض على حق الادمي، لحاجة العبد إلى
حقه.
ثم إنما يصرف إلى الحج الفرض، والزكاة، والكفارات إذا أوصى

211
بها، فأما بدون الوصية فلا يصرف الثلث إليها، بل يسقط عندنا،
خلافا للشافعي، على ما ذكرنا في الزكاة.
وإذا أوصى يعتبر من الثلث لتعلق حق الورثة بماله في مرض
الموت.
وأما بيان الموصى له وأحكامه فنقول:
الموصى له يجب أن يكون حيا وأن يكون أجنبيا لا وارث له، ولا
قائلا إياه وقد ذكرنا هذا، حتى لو أوصى لرجلين أحدهما ميت تكون
الوصية كلها للحي.
ولو أوصى لأجنبي ولوارثه يكون النصف للأجنبي، لان الوارث
من أهل الوصية، حتى لو أجاز باقي الورثة جاز.
ولو أوصى لذوي قرابته أو لأقربائه، أو لذي قراباته، أو
لأرحامه، أو لذوي رحم منه فإن عند أبي حنيفة يعتبر في هذه الوصية
أشياء ذو الرحم المحرم، والأقرب فالأقرب، وأن لا يكون فيهم
والد ولا ولد، وأن يكون اثنين فصاعدا إن كان بلفظ الجمع، أو يقول:
لذوي قرابته. ولو قال: لذي قرابته يقع على الواحد فصاعدا.
وعند أبي يوسف ومحمد: الوصية لجميع قرابته، من جهة الرجال
والنساء إلى أقصى أب له في الاسلام، القريب والبعيد فيه سواء - كما إذا
أوصى للعلوية والعباسية: يصرف إلى من يتصل بعلي وعباس رضي الله
عنهما، دون من فوقهما من الآباء.
بيانه:
إذا ترك عمين وخالين فعنده الوصية للعمين للقرب،
وعندهما: بين الكل أرباعا.
- ولو ترك عما وخالين فللعم النصف، والنصف للخالين عنده،

212
لان اسم الجمع، في الوصية، ينصرف إلى اثنين، فيستحق كل واحد
النصف، فيكون للأقرب النصف والنصف للأبعدين بينهما سواء.
وإن ترك عما واحدا، ولم يكن له غيره من ذوي الرحم المحرم
فالنصف للعم، والنصف رد على الورثة عنده. وعندهما يصرف إلى
ذي الرحم الذي ليس بمحرم.
وإن كان أوصى لذي قرابته فجميع الثلث للعم، لما بينا.
ولو أوصى لأهل بيت فلان، أو لحسبه، أو نسبه، أو لانسبائه:
فهذا يقع على قرابة أبيه الذين ينسبون إليه، إلى أقصى أب له في
الاسلام، دون قرابة أمه، لان النسب والحسب والبيت يختص بالأب
دون الام.
وكذا لو أوصى لآل فلان: فهو بمنزلة أهل بيت فلان.
ولو أوصى لأهل فلان: فالقياس أن يقع على زوجة فلان خاصة
وهو قول أبي حنيفة: وعندهما: يصرف إلى جميع من كان في عياله من
الأحرار ولا يدخل فيه المماليك، وأما الابن الكبير الذي اعتزل عنه
والبنت التي في بيت الزوج فلا تدخل.
ولو أوصى لبني فلان فإن كانوا لا يحصى عددهم، كبني تميم وبني
العباس فإنه يصرف إلى جميع القبيلة. ويدخل فيهم الحليف والموالي
بسبب الولاء والعتاقة، لان هذا بمنزلة الصدقة، وله أن يصرف إلى واحد
وأكثر عند أبي يوسف، لأنه اسم جنس، وعند محمد: يصرف إلى اثنين
وأكثر دون الواحد، لان اسم الجمع في الوصية يقع على الاثنين، والذكر
والأنثى فيه سواء لأنه اسم للقبيلة.
ولو كانوا يحصون، وأبوهم من العرب فإنه يدخل فيه بنو فلان من
العرب، دون الحلفاء والموالي.

213
ثم عند أبي حنيفة يدخل فيه الذكور من أولاد الصلب دون
الإناث. وقال أبو يوسف ومحمد: يدخل فيه الكل وهو قول أبي حنيفة
الأول.
وأجمعوا أنه إذا كان الكل إناثا لا يدخلون.
وأما إذا لم يكن لفلان ولد الصلب فإن الوصية للذكور من أولاد
البنين عند أبي حنيفة، وعندهما: يدخل الكل. وهل يدخل بنو
البنات؟ فروى الحسن عن أبي حنيفة أنهم يدخلون، وذكر في السير الكبير
أنهم لا يدخلون.
ولو كان له ابن واحد، وبنو بنين فللابن النصف والباقي
للورثة دون بني البنين، وعندهما: للابن النصف والباقي لبني
البنين.
ولو كان له ابنان، وبنو ابن فالكل للابنين، لان الابنين في الوصية
بمنزلة الجمع.
ولو كان له ابن واحد، وبنات فالنصف للابن، والباقي للورثة
عند أبي حنيفة. وعندهما: للابن النصف والباقي للبنات.
ولو كان له بنات، وبنو ابن فلا شئ لهم، بل للورثة، عنده
وعندهما: للكل على السواء.
ولو أوصى لولد فلان فإنه يدخل فيه الذكر والأنثى، على
السواء، ويدخل فيه الجنين الذي يولد لأقل من ستة أشهر، ولا يدخل
ولد الولد ما دام الصلبي حيا. ولو كان له بنات وبنو الابن: فهي للبنات
لا غير. ولو كان ولد واحد: فالكل له، لان اسم الولد يقع له.
ولو أوصى لعقب فلان - فعقب الرجل هو ولده من الذكور
والإناث. فإن لم يكن فولد ولده من الذكور دون الإناث، ودون ولد

214
الإناث. ويكون هذا الاسم بعد موت الأب، لا قبله، حتى إن الموصي
إذا مات، وفلان حي فلا شئ لهم، لأنهم لا يكونون عقبا حال
حياته.
وكذا لو أوصى لورثة فلان فهو مثل عقب فلان، إلا أن في
العقب سهم الذكر والأنثى سواء في الورثة يكون بينهم على قدر
المواريث.
ولو أوصى لعصبة فلان فإنه يصح الوصية، وإن لم يمت فلان،
حتى إذا مات الموصي: تصرف الوصية إلى عصبته فإن كان له أب
وابن: فالعصبة هو الابن دون الأب، ويكون للأقرب فالأقرب على
ترتيب العصبات.
ولو أوصى لأختانه فالختن زوج كل ذات رحم محرم منه، وكل
ذي رحم محرم من أزواجهن، من الذكر والأنثى وهم في الوصية
سواء.
ولو أوصى للأصهار فالصهر كل ذي رحم محرم من زوجته
الذكر والأنثى.
ولو أوصى لأيتام بني فلان فإنه يقع على من لا أب له.
ولو أوصى لأيامى بني فلان فالأيم كل امرأة لا زوج لها، بكرا
كانت أو ثيبا، وعند محمد: يقع على الثيب الأيم، والأرملة كل امرأة
محتاجة أرملت من زوجها ومالها.
ثم هذه الوصايا نوعان:
فالوصية لقوم يحصون: تقع على عدد رؤوسهم، على السواء
ذكرهم وأنثاهم، غنيهم وفقيرهم صغيرهم وكبيرهم.
فأما إذا كانوا لا يحصى عددهم فهو على ثلاثة أوجه

215
إن أوصى لأهل الحاجة نصا، بأن قال: لفقراء بني تميم أو
لمساكينهم وأراملهم فإنه يصح لان الحق فيه لله تعالى، والفقراء
مصارف فصاحب الحق معلوم فصحت.
والثاني: أن يذكر اسما لا يدل على الحاجة، لا عرفا ولا لغة،
كقوله: أوصيت لبني فلان أو لأيامى بني فلان ولشبانهم أو
لكهولهم أو لشيوخهم فإنه لا يجوز، لان الوصية تقع لهم وهم
مجهولون.
والثالث: أن يكون الاسم قد يقع على الفقراء، إما في عرف اللغة أو
في عرف الشرع، كما إذا أوصى لأيتام بني فلان أو لعميانهم أو
لزمناهم لقوله تعالى: * (واليتامى ؤ والمساكين) * فمتى كانوا لا يحصون
يستدل به أنه أراد به الفقراء منهم، تصحيحا للوصية، بخلاف ما إذا
كانوا يحصون: فإنه يقع على الأغنياء والفقراء جميعا لأنه يمكن العمل
بحقيقة الاسم لان الوصية تصح لهم.
ولو أوصى لغلمان بني فلان ولصبيانهم يقع على من لم يحتلم.
ولو قال: لشبانهم أو لفتيانهم يقع على من بلغ منهم إلى أن
يصير كهلا ودخل في الثلاثين، إلا إذا غلبه الشمط قبل ذلك. والكهل
يقع على من دخل في الثلاثين إلى خمسين، إلا إذا غلب البياض. والشيخ
يقع على الخمسين إلى آخر العمر، إلا إذا غلب البياض قبله هذا هو
الأشبه من الأقوال.

216
فصل
في
الايصاء
نقول:
الايصاء جائز.
ولا بد له من القبول من الموصي لأنه متبرع بالعمل فيه، فلا بد
من قبوله.
وكان ينبغي أن يعتبر القبول بعد الموت، كما في الوصية بالمال، لأنه
إيجاب بعد الموت لكن جاز هاهنا القبول في حال الحياة، بخلاف الوصية
بالمال، لضرورة أن الميت إنما يوصي إلى من يعتمد عليه من الأصدقاء
والامناء، فلو اعتبر القبول بعد الموت، فربما لا يقبل، فلا يحصل
غرضه، وهو الموصي الذي اختاره.
وإذا صح فلا يخلو إما أن كان الموصي حاضرا أو غائبا.
فإن كان حاضرا وقبل مواجهة صح. ولو أراد أن يرد الوصاية
ويرجع لا يصح، بدون محضر الموصي، أو علمه، لما فيه من الغرور
به. وإذا رد في المواجهة صح.
فأما إذا كان غائبا فبلغه الخبر فقبل فلا يصح رده إلا بحضرة
الموصي.
وإذا بلغه، ولم يقبل ورده صح، بغير محضره لأنه ليس بغرور.
وأما إذا بلغه بعد الموت فإذا قبل، أو تصرف في التركة تصرفا يدل

217
على قبوله: فلا يصح رده، إلا عند الحاكم، لأنه قائم مقام الموصي،
كالوكيل لا يملك عزل نفسه، في حال غيبة الموكل، ويملك في حال
حضرته.
فأما إذا لم يقبل ورد كما علم يصح وله الخيار بين أن يقبل
ويرد لأنه متبرع في العمل فلا يجبر عليه.
ولو لم يعلم القاضي بأن للميت وصيا والوصي غائب، فأوصى إلى
رجل فالوصي هو وصي الميت دون وصي القاضي لأنه اتصل به
اختيار الميت كما إذا كان القاضي عالما.
ثم للقاضي أن يعزل وصي الميت، إذا كان فاسقا، غير مأمون على
التركة. وإن كان ثقة، لكنه ضعيف، لا يقدر على التصرف، وحفظ
التركة بنفسه فإن القاضي يضم إليه غيره ولا يعزله لاعتماد الموصي
عليه لأمانته فيحصل الغرض بهما.
ولو أوصى الميت إلى رجل، ثم أوصى إلى آخر، كان هذا اشتراكا
في الوصاية، ما لم ينص على عزل الأول وإخراجه. وكذلك هذا من
القاضي.
ولو أنه أوصى إلى رجل بقضاء دينه، وأوصى إلى آخر بأن يعتق
عنه فهو وصيان فيهما جميعا عند أبي حنيفة وأبي يوسف.
وكذلك إذا أوصى بنصيب بعض ولده إلى رجل وبنصيب من بقي
إلى آخر.
وعلى هذا: لو أوصى بميراثه في بلد إلى رجل وفي بلد آخر إلى
آخر.
وكذلك لو أوصى بتقاضي الدين إلى رجل، وبنفقة الورثة إلى آخر،

218
وبحفظ المال إلى آخر.
وكذا إذا أوصى إنسان للحال، وإلى آخر إن قدم، فإذا قدم
فلان فهو وصي دون الأول فهما وصيان في ذلك كله عند أبي حنيفة وأبي
يوسف، خلافا لمحمد، لان الوصاية لا تتجزأ عندهما: متى ثبتت في
البعض، تثبت في الكل. وروي عن أبي حنيفة فيمن أوصى إلى فلان
حتى يقدم فلان، فإذا قدم، فهو الوصي، دون الأول فهو كما قال،
فيكون عن أبي حنيفة روايتان في هذا. ويجوز أن يكون الأول قول أبي
يوسف خاصة.
وعند ومحمد: كل واحد منهما وصي، فيما جعل إليه هذا هو المشهور
من الخلاف.
ولو أوصى إلى رجل، وهو وصي لرجل آخر فإنه يكون وصيا في
تركته، وتركة الأول عندنا خلافا لابن أبي ليلى.
ولو أوصى إلى رجلين فإن أحدهما لا ينفرد بتصرف يحتاج فيه إلى
الرأي عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف: ينفرد.
ثم إن عندهما: ينفرد في أشياء مخصوصة، بأن يكون في تأخير
التصرف، ضرر، إلى حضرة صاحبه، أو لا يحتاج فيه إلى الرأي،
وذلك نحو شراء الكفن، وجهاز الميت، وكذا جمع الأموال المتفرقة، من
قبض الديون والودائع والمغصوب. وكذلك في أداء ما على الميت من رد
الودائع والمغصوب، وقضاء الدين، وتنفيذ الوصية بألفين أو بألف
مرسلة، أو بإعتاق عبد بعينه، بخلاف الوصية بأعمال البر أو إعتاق عبد
غير معين، لأنه يحتاج فيه إلى الرأي.
وكذا شراء ما لا بد لليتيم منه، نحو الانفاق والكسوة، وكذا قبول

219
الهبة، وبيع ما يتسارع إليه الفساد لان فيه منفعة للصبي.
وهكذا ينفرد بالخصومة للميت وعليه.
ولو مات أحد الوصيين، وأوصى إلى رجل آخر جاز، ويكون
قائما مقامة.
وإن لم يوص إلى آخر فللقاضي أن ينصب وصيا آخر، حتى ينفذ
تصرفهما عندهما خلافا لأبي يوسف.
ثم وصي الأب أولى من الجد. فإن لم يكن فالجد ثم وصي
الجد. فإن لم يكن، فالقاضي ووصي القاضي.
ثم ينظر:
إن كان في التركة دين يملك الوصي بيع كل شئ لقضاء
الدين من العقار والمنقول.
وإن لم يكن دين - والورثة كلهم صغار: يملك بيع كل شئ
وإمساك ثمنه والتصرف فيه.
وإن كان كلهم كبارا، وهم حضور ليس له ولاية بيع شئ إلا
إذا كان فيه وصايا.
وإن كانوا غيبا: يملك بيع المنقول، لان حفظ الثمن أيسر، وله ولاية
حفظ مال الغائب، ولا يملك بيع العقار.
وإن كان بعضهم صغارا وبعضهم كبارا غيبا يملك بيع العقار عند
أبي حنيفة: وعندهما: لا يصح في حصة الكبار.
وأما وصي الام والأخ والعم - فهؤلاء بأنفسهم يملكون
حفظ مال الصبي، وبيع المنقول، لأنه من باب الحفظ.

220
ولو قال لرجل: إن مت من مرضي هذا أو في سفري هذا: فأنت
وصيي في مالي فبرأ ولم يمت حتى رجع من السفر، ثم مات لا
يكون وصيا، لأنه تعلق بشرط خاص، ولم يوجد.
ولو أوصى إلى عبد إنسان، أو إلى ذمي أو إلى صبي عاقل فإنه لا
ينفذ ويخرجه القاضي. ولو عتق العبد، وأسلم الذمي، قبل إخراج
القاضي: تنفذ الوصايا. وإذا بلغ الصبي لا تنفذ عند أبي حنيفة،
وعندهما: تنفذ. ولو تصرف العبد أو الذمي، قبل الاخراج يصح في
رواية، ولا يصح في رواية وفي الصبي لا يصح بالاجماع.
ولو أوصى إلى عبد نفسه، فإن لم يكن في الورثة كبير جاز عند أبي
حنيفة، خلافا لهما. ولو كان في الورثة كبير لا يصح بالاجماع.

221
باب
الرجوع عن الوصية
أصل الباب: أن الرجوع في الوصية صحيح، لأنه تبرع لم يتم،
لان القبول فيه بعد الموت، فيملك الرجوع، كالرجوع عن الايجاب في
البيع قبيل القبول.
وإذا ثبت أنه يصح الرجوع فيه فكل فعل، يوجد من الموصي، فيه
دلالة على تبقية الملك لنفسه يكون رجوعا. وكل فعل يدل على إبقاء
العقد وتنفيذ الوصية لا يدل على الرجوع كما إذا وجد منه فعل لو فعل
في ملك غيره ينقطع حق الملك للمالك ويصير ملكا له.
فإذا فعل بعد الوصية في الموصى به، ما يدل على إبقاء الملك فيه
لنفسه فيكون رجوعا كما إذا أوصى بثوب ثم قطعه وخاطه ونظائره
كثيرة.
وكذا إذا اتصلت بعين الموصى به زيادة، لا يمكن تمييزها ولا
يستحق عليه نقضها فإنه يكون رجوعا، لأنه لا يمكن تسليمها إلا
بتسليم لك الزيادة، ولا يجب عليه ذلك، فيدل على الرجوع وذلك
كالسويق إذا لته بالسمن، أو بني بناء في الدار الموصى بها، وكذلك لو
أوصى بقطن ثم حشا به قباء وضربه أو بثوب فجعله ظهارة أو بطانة،
لأنه لا يجب عليه نقض ذلك لكونه تصرفا في ملكه.
وكذلك لو أزال الموصى به عن ملكه بأن باعها، ثم اشتراها

223
بطلت الوصية.
ولو ذبح الشاة تبطل الوصية، بنفس الذبح، لأنه يدل على
الرجوع، لان لذبيحة لا تبقى إلى ما بعد الموت.
ولو أوصى بقميص ثم نقضه، وجعله قباء يكون رجوعا. ولو لم
يخطه قباء لكن نقض القميص فيه اختلاف المشايخ.
ولو أوصى بدار، ثم جصصها أو هدمها لا يكون رجوعا لان
البناء تبع والتجصيص زينة.
وكذلك لو غسل الثوب الموصى به لإزالة الوسخ.
ولو قال: أوصيت بهذا العبد لفلان ثم قال: أوصيت بهذا
لفلان آخر يكون شركة.
ولو قال: العبد الذي أوصيت به لفلان، هو لفلان يكون
للثاني، ولا يكون شركة.
ولو قال: العبد الذي أوصيت به لفلان فقد أوصيت به
لفلان يكون شركة.
ولو أوصى، ثم أنكر الوصية، وجحدها فالجحود لا يكون رجوعا
عند أبي يوسف وعند محمد: يكون رجوعا.
ولو أوصى بعبد لانسان ثم قال: ما أوصيت لفلان فهو
لعمرو وهو حي، ثم مات عمرو قبل موت الموصي: يكون ميراثا،
لان الوصية انتقلت إلى عمرو، فإذا مات قبل موت الموصي بطلت
الوصية، فيكون ميراثا.
ولو قال: ما أوصيت لفلان، فهو لعقب عمرو - وعمرو حي،
فإن مات عمرو قبل موت الموصي: فهو لورثة عمرو، لأنهم صاروا عقبا

224
له، قبل نفاذ الوصية بالموت: ولو مات الموصي، وعمرو حي فتكون
الوصية لفلان، لأنه لم تنتقل الوصية إليهم، لان العقب لا يكون قبل
موت عمرو.
ولو أوصى بسيف لانسان، فهو له بغمده وحمائله عند أبي حنيفة
وزفر. وقال أبو يوسف: له السيف لا غير.
وكذا لو أوصى بالميزان والقبان والسرج فعند زفر: يدخل كل ما
كان توابع ذلك الشئ. وعند أبي يوسف: يدخل ما كان متصلا به.
وفي المصحف الذي له غلاف: عند أبي حنيفة وأبي يوسف: لا
يدخل الغلاف. وعند زفر: يدخل فأبو يوسف مر على أصله، وكذا
زفر. وأبو حنيفة إما أن يفرق بين المصحف وسائر المسائل أو يكون عنه
روايتان.
ولو أوصى بشئ في الظرف، فإن المعتبر فيه العادة: إن كان مما يباع
مع الظرف يدخل وإلا فلا.

225
كتاب
الوكالة
يحتاج إلى:
بيان الوكالة لغة وشرعا،
وإلى بيان أنواعها.
أما الوكالة:
في اللغة: فهي الحفظ: قال الله تعالى: * (حسبنا الله ونعم
الوكيل) * أي ونعم الحافظ.
وقد يراد بها التفويض يقال: توكلت على الله أي فوضت أمري
إليه.
وفي الشرع كذلك هي: تفويض التصرف، والحفظ، إلى
الوكيل. ولهذا قال أصحابنا: من قال: وكلت فلانا في مالي يصير
وكيلا في الحفظ، لأنه أدنى.
ثم الوكالة نوعان: أحدهما في حقوق الله تعالى، والثاني في حقوق العباد
أما الوكالة في حقوق الله تعالى.
فنوعان: في الاثبات، والاستيفاء.

227
الأول: التوكيل في إثبات الحدود:
وهو الذي يحتاج فيه إلى الخصومة: من حد السرقة، وحد القذف
وفيه خلاف قال أبو حنيفة ومحمد: يجوز، وقال أبو يوسف: لا يجوز.
وكذا الخلاف في إثبات القصاص أيضا. أما في غيرهما: فلا يحتاج فيه إلى
الخصومة، فلا يصح فيه التوكيل في الاثبات، بل يثبت ذلك عند
القاضي: بالشهود والاقرار.
وأما في الاستيفاء:
فإن كان المسروق منه حاضرا والمقذوف: يجوز التوكيل
بالاستيفاء، لان ذلك إلى الامام وهو لا يقدر أن يباشر بنفسه على كل
حال.
وإن كان غائبا اختلف المشايخ قيل: يجوز لأنه لا يصح العفو
والصلح عنهما. وقيل: لا يجوز لأنه يحتمل الاقرار والتصديق.
وأما في القصاص: فإن كان الولي حاضرا: يجوز وإن كان غائبا:
لا يجوز لاحتمال العفو.
وأما الوكالة في حقوق العباد
فأنواع منها:
الوكالة في الخصومة في إثبات الدين، والعين، والحقوق.
واختلفوا فيها: قال أبو حنيفة: لا يصح من غير رضا الخصم إلا
من عذر السفر، أو المرض، أو كانت امرأة مخدرة.
وقال أبو بكر الرازي: جواب أصحابنا في الرجل والمرأة سواء، وإنما
هذا شئ استحسنه المتأخرون. وعلى قول أبي يوسف ومحمد: يصح من
غير رضا الخصم في الأحوال كلها، وهي مسألة معروفة

228
وإذا صح التوكيل بالخصومة فإذا أقر الوكيل على موكله فعند أبي
حنيفة ومحمد: يصح في مجلس القضاء، ولا يصح في غير مجلسه.
وقال أبو يوسف: يصح فيهما جميعا.
وقال زفر والشافعي: لا يصح أصلا.
وأجمعوا أنه إذا استثنى الاقرار وتزكية الشهود في عقد التوكيل
يصح ويكون وكيلا بالانكار لا غير.
وأما إذا وكل بالخصومة مطلقا، ثم استثنى الاقرار في كلام منفصل:
فعند محمد: لا يجوز وعند أبي يوسف: يصح.
وأجمعوا أن إقرار الأب والوصي وأمين القاضي على الصغير
لا يصح.
وأما التوكيل بالاقرار إن ثبت عنده ذكر الطحاوي أنه لا يجوز
وذكر في الوكالة أنه يجوز.
والوكيل بالخصومة في مال إذا قضى القاضي بالمال هل يملك
القبض؟ فعندنا: يملك، وعند زفر: لا يملك.
أما الوكيل بتقاضي الدين: فيملك القبض أيضا في ظاهر الرواية
ولكن أصحابنا المتأخرون قالوا: لا يملك بحكم العرف كالوكلاء في
باب القضاء.
وأما الوكيل بقبض الدين فهل يملك الخصومة في إثبات الدين إذا
أنكر الغريم؟ عند أبي حنيفة: يملك و عندهما: لا يملك.
وأجمعوا أن الوكيل بقبض العين، إذا أنكر الغريم، لا يملك
الخصومة.

229
وأجمعوا أن الوكيل بالملازمة لا يملك القبض.
وقالوا في الوكيل بطلب الشفعة وبالرد بالعيب وبالقسمة إنه
يملك الخصومة.
ثم لكل واحد من الخصمين أن يعزل وكيله، من غير محضر من
خصمه، إلا إذا كان وكيلا بالتماس الخصم فلا بد من حضرة الخصم
حتى يصح عزله، ولكن لا بد من علم الوكيل، أو حضرته حتى يصح
عزله حتى لا يؤدي إلى الغرور في حقه.
وكذا الجواب في كل وكالة.
وإذا بلغ الوكيل الخبر بالعزل، بالكتابة أو بالرسالة ينعزل بلا
خلاف. وأما إذا جاءه على وجه الخبر: لم ينعزل عند أبي حنيفة، حتى
يخبره رجل عدل، أو رجلان على أي صفة كانا فالشرط عنده أحد
شطري الشهادة إما العدالة أو العدد. وعندهما: خبر الواحد
مقبول ولا يشترط العدالة، لان هذا من باب المعاملة.
ومنها الوكالة بقبض الدين:
صحيحة، لحاجة صاحبه إلى قبض الوكيل، لعجزه عن قبض ديونه
بنفسه كلها إلا أن في قبض رأس مال السلم، وثمن الصرف يصح
التوكيل في المجلس، لا خارج المجلس، لان الموكل يملك القبض في
المجلس لا غير.
وإذا قبض الوكيل يبرأ المديون، وصار المقبوض ملكا لصاحب
الدين، ويكون أمانة في يد الوكيل، ويكون حكمه حكم المودع في أن
يقبل قوله إنه دفعه إلى صاحب الدين، وفي كل ما يبرأ به المودع من
الوديعة.

230
وليس للوكيل بالقبض أن يوكل غيره لأنه رضي برأيه وأمانته
وحده. فإن فعل ذلك، وقبض الوكيل الثاني لم يبرأ الغريم من
الدين، لان التوكيل لم يصح، فهو كالأجنبي، إلا إذا وصل ما قبض إلى
الوكيل الأول، لأنه وصل إلى يد من هو نائب المالك، فإن هلك في يد
القابض، قبل ذلك ضمنه الذي قبضه، ولم يبرأ الدافع من الدين
الذي عليه، وكان للطالب أن يأخذ الغريم بدينه. فإذا أخذه منه، رجع
الغريم على من دفعه إليه، فيرجع الوكيل الثاني على الأول إن هلك، ما
قبض، في يده إلا إذا قال الموكل للوكيل بالقبض اصنع ما شئت
فله أن يوكل غيره بالقبض.
وليس للوكيل بقبض الدين أن يأخذ عينا مكانه، لان هذا عقد
معاوضة، وقد وكله بقبض حقه لا غير لا بالاستبدال ولا بالاعتياض.
ولو وكل رجلين بقبض دينه، فليس لأحدهما أن يقبض دون صاحبه،
لأنه رضي برأيهما لا برأي أحدهما فإن قبض أحدهما لم يبرأ الغريم،
حتى يصل ما قبض أحدهما إلى صاحبه، فيقع ذلك في أيديهما جميعا، أو
يصل إلى الموكل، لان المقصود بالقبض قد حصل فكأنهما قد قبضاه
ابتداء.
ولو أن الوكيل بقبض الدين قبضه، فوجده معيبا، فما كان للموكل
رده فللوكيل رده وأخذ بدله لأنه قائم مقامه.
ولو كان لرجل على رجل دين فجاءه رجل وقال له: إن الطالب
أمرني بقبضه منك، فدفعه إليه، ثم جاء الطالب وأنكر أن يكون أمره
بذلك، فهذا على ثلاثة أوجه:
أحدها: إن صدق الوكيل بالوكالة، ودفعه إليه، فإنه يقال له:
ادفع الدين إلى الطالب ولا حق لك على الوكيل، لأنه أقر بالوكالة

231
وإقراره صحيح في حق نفسه، فكأنه يقول: إن الطالب ظلمني
بالقبض، فلا أظلم الوكيل القابض بحق.
والثاني: إن صدقه وضمنه ما دفعه إليه، ثم حضر الموكل ورجع
عليه: رجع هو على القابض - لأنه، وإن اعترف أنه قبض بحق وأن
الطالب ظالم فيما قبض، ولكنه ضمنه ما يطلبه الطالب بغير حق فيصح
الضمان كما لو قال: ما غصبك فلان فهو علي.
والثالث: إن كان المطلوب يقول: كذب الوكيل في الوكالة، أو لم
يصدق ولم يكذب، ودفعه إليه، ثم حضر الطالب، وأخذ منه: رجع
على الوكيل، لأنه لما كذبه أو لم يكذبه ولم يصدقه ثم طالبه عاد إلى
التكذيب وله ذلك فلم يقر بكونه قابضا بحق فله أن يرجع.
وأما التوكيل بالشراء فنقول:
جملة هذا أن الوكالة على ضربين: وكالة عامة، ووكالة خاصة.
أما الوكالة العامة:
فإنها تصح مع الجهالة الكثيرة، كما إذا قال: اشتر لي ما شئت أو
ما رأيت، لأنه فوض الرأي إليه، فصار بمنزلة البضاعة والمضاربة.
وأما الوكالة الخاصة:
فالقياس أن لا تجوز ما لم يذكر الجنس وقدر الثمن والصفة، كما في
البيع. وفي الاستحسان أن الجهالة اليسيرة لا تمنع.
وإنما تقل الجهالة إذا كان اسم ما وكل بشرائه لا يتناول إلا نوعا
واحدا، وذكر فيه أحد أمرين إما الصفة أو مقدار الثمن. فإذا كان
الاسم يتناول أنواعا مختلفة أو في حكم الأنواع المختلفة فإن الجهالة
كثيرة، فلا تجوز الوكالة، وإن بين مقدار الثمن أو الصفة، أو

232
كلاهما، ما لم يبين مع ذلك نوعا منه.
أما بيان الأول:
- إذا قال الموكل للوكيل: اشتر لي عبدا أو جارية: إن بين الثمن
أو الصفة، بأن قال تركيا أو روميا أو هنديا جاز لأنه تقل الجهالة بذكر
أحدهما وبحال الموكل.
- ولو قال: اشتر لي حمارا أو بغلا أو فرسا، ولم يبين له صفة ولا
ثمنا قالوا: يجوز، لان النوع لم يختلف، والصفة تكون معلومة بحال
الموكل.
- ولو قال: اشتر شاة أو بقرة، ولم يبين له صفة ولا ثمنا - لم
يجز، لأنها لا تصير معلومة الصفة بحال الموكل، وقد ذكرنا أنه لا بد من
أن تكون الصفة أو الثمن معلوما.
وأما بيان الثاني:
- إذا قال: اشتر لي حيوانا، أو مملوكا، أو دابة، أو ثوبا: لا
يجوز، وإن بين الثمن، لان الاسم يقع على أنواع مختلفة.
- وكذا إذا قال: اشتر لي جوهرا لما قلناه.
وكذا إذا قال: اشتر لي حنطة: لا تجوز الوكالة، ما لم يبين
الثمن أو عدد القفزان.
ولو وكله بشراء عبد أو جارية، وسمى الثمن أو الصفة، فاشترى
أعمى أو مقطوع اليدين أو الرجلين فإنه يجوز ذلك عند أبي حنيفة إذا
اشترى ما يسمى عبدا أو جارية وعندهما: يجوز الأعور أو مقطوع أحد
الطرفين فأما فائت جنس المنفعة فلا يجوز.
ولو وكله بأن يشتري له طعاما ولم يبين له فإن كان الثمن قليلا

233
يصرف إلى الخبز، وإن كثيرا انصرف إلى الحنطة والدقيق.
ولو قال: اشتر لي بدرهم لحما انصرف إلى ما يباع في السوق
في الأغلب، دون لحم الوحش والطير والسمك والشواء والمطبوخ. وفي
الرأس ينصرف إلى المشوي دون النئ، ويقع على رأس الغنم دون البقر
وهو أمر مبني على العادة.
ولو قال: اشتر لي جارية بعينها بمائة دينار فاشتراها بدراهم،
تكون قدر قيمة مائة دينار، أو أقل - جاز على الآمر، في قياس قول أبي
حنيفة وأبي يوسف. وقال زفر: لا يلزم الآمر وهذا رواية الحسن بن
زياد. وقال الكرخي: المشهور من قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أنه
لا يجوز أن يشتريها بالدراهم، كما قال زفر لأنهما جنسان مختلفان.
ثم الوكيل بالشراء إذا خالف يصير مشتريا لنفسه. فأما الوكيل
بالبيع إذا خالف، يكون موقوفا على إجازة صاحبه والفرق ظاهر.
وأما التوكيل بالبيع فنقول:
عند أبي حنيفة: الوكيل بالبيع مطلقا له أن يبيع بما عز وهان، بأي
ثمن كان، وإن كان غبنا فاحشا، وسواء كان الثمن عينا
أو دينا. وعندهما: لا يجوز إلا أن يبيع بالأثمان بمثل قيمته.
وأما إذا باع الوكيل بعض ما وكل ببيعه فهو على وجهين:
إن كان ذلك مما لا ضرر في تبعيضه: جاز، وبالاتفاق، مثل المكيل
والموزون، أو يبيع شيئين.
وإن كان في تبعيضه ضرر، بأن كان التوكيل ببيع عبد. فباع نصفه
جاز عند أبي حنيفة، وعندهما: لا يجوز إلا أن يجيزه الموكل.

234
ثم الوكالة نوعان:
منها: ما لا حقوق له إلا ما أمر به، كالوكالة بتقاضي الدين،
والوكالة بالملازمة، ونحوهما.
ومنها: ما يكون حقوقه للوكيل وعليه.
ومنها: ما يكون حقوقه للموكل وعليه.
فكل ما لا يحتاج فيه إلى إضافة العقد إلى الموكل، ويكتفي فيه
بالإضافة إلى نفسه: كالبياعات، والأشربة، والإجارات، والصلح عن
إقرار، ونحوها فإن الحقوق ترجع إلى الوكيل، حتى يجب عليه تسليم
المبيع، وقبض الثمن، ويخاصم المشتري الوكيل في العيب، ويجب عليه
الضمان عند الاستحقاق، إلا إذا كان العقد ليس من أهل لزوم
العهد، كالصبي المحجور والعبد المحجور والقاضي وأمين
القاضي ونحو ذلك.
وللوكيل أن يوكل غيره في الحقوق. وليس للموكل أن يباشر ذلك
بنفسه، ما دام الوكيل قائما، فإن مات الوكيل أو جن جنونا مطبقا، وهو
شهر عند أبي يوسف، وحول عند محمد: يخرج الوكيل من الوكالة،
وترجع العهدة إلى الموكل.
وأما ما يحتاج فيه إلى الإضافة إلى الموكل كالنكاح، والخلع،
والطلاق على مال، والصلح عن دم العمد، والعتق على مال،
والكتابة، والصلح عن إنكار، ونحوها: فالحقوق ترجع إلى الموكل.
ثم الوكيل بالبيع إذا رد عليه المبيع بالعيب، يملك أن يبيعه مرة
أخرى. وكذلك في كل ما يكون هو الخصم فيه.
ولو أن الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري من الثمن أو أجله أو أخذ
بالثمن عوضا غيره، أو صالحه من الثمن على شئ، فذلك كله جائز

235
على الوكيل عند أبي حنيفة، ويضمن للموكل وعلى قولهما: لا يجوز
شئ من ذلك.
وإن ارتد الوكيل، توقفت الوكالة فإن أسلم جاز وإن قتل
على ردته، أو لحق بدار الحرب مرتدا وحكم بالحاقه تبطل وعندهما:
جائزة وأصل المسألة أن تصرفات المرتد موقوفة عنده وعندهما: نافذة.
وتصرفات المرتدة نافذة بلا خلاف. فإن رجع مسلما: عاد إلى وكالته عند
محمد، وعند أبي يوسف: لا يعود.

236
كتاب
الكفالة
قال:
يحتاج إلى
بيان الكفالة لغة وشرعا،
وإلى بيان ألفاظ الكفالة،
وإلى بيان شرائط صحتها،
وإلى بيان أنواع المكفول به،
وإلى بيان أحكامها.
أما الأول:
فالكفالة لغة هي الضم قال الله تعالى: * (وكفلها زكريا) *، أي
ضمها إلى نفسه.
وفي الشرع ضم ذمة، إلى ذمة، في حق المطالبة، أو في حق أصل
الدين على حسب ما اختلف المشايخ فيه.
وأما ألفاظ الكفالة
فأن يقول الكفيل للطالب: دعه فأنا ضامن ما عليه أو كفيل
بذلك أو قبيل أو زعيم أو هو إلي أو علي أو هو لك

237
عندي أو هو لك قبلي.
وقد ذكرنا في كتاب الاقرار: إذا قال لفلان عندي كذا، يكون
إقرارا بالوديعة، وهاهنا يكون ضمانا لان قوله عندي يحتمل هو
في يدي ويحتمل هو في ذمتي، فيقع على الأدنى، وهو الوديعة، فأما
الدين فلا يكون إلا في الذمة ولا يكون في اليد، فحمل على الوجوب
هاهنا.
وأما شرائطها:
فمن ذلك: أن يكون الكفيل من أهل التبرع، لان الكفالة تبرع
بالتزام المال. فلا يصح في الصبي، والعبد المحجور عليه. وكذا لا
تصح كفالة المكاتب. وكذا كفالة المريض لا تصح إلا من الثلث
كتبرعه.
ومن شرطها أيضا: أن يكون الدين صحيحا، سواء كان على
الصغير أو العبد المحجور لأنه يطالب بعد العتق.
أما الكفالة ببدل الكتابة فإنه لا تجوز، لأنه ليس بدين صحيح،
لأنه لا يجب للمولى على عبده شئ، وإنما وجب مخالفا للقياس، لصحة
الكتابة، نظرا للعبد، حتى يصل إلى العتق.
وأما المكفول به:
فنوعان الديون والأعيان.
وما الكفالة بالديون:
فصحيحة بلا خلاف، وصاحب الدين بالخيار: إن شاء طالب
الأصيل، وإن شاء طالب الكفيل ولا يوجب براءة الأصيل عندنا.

238
وعند ابن أبي ليلى: يوجب البراءة وهذا فاسد، لأنه يصير الكفالة
والحوالة سواء.
وأيهما واختار مطالبته لا يبرأ الآخر بخلاف غاصب الغاصب مع
الغاصب: فإن للمالك أن يضمن أيهما شاء، وإذا اختار تضمين
أحدهما، لم يكن له اختيار الآخر. وكذا في إعتاق أحد الشريكين:
الشريك الساكت بالخيار بين أن يضمن المعتق إن كان موسرا، وبين أن
يستسعي العبد، فإذا اختار أحدهما ليس له أن يختار الآخر.
وجملة هذا أن الكفيل ليس له أن يطالب المكفول عنه بالمال قبل أن
يؤدي عنه شيئا إلا أنه إذا طولب طالب المكفول عنه بالخلاص. فإن
حبس كان له أن يحبس المكفول عنه. أما إذا أدى فينظر إن كان
كفل، بغير أمره فلا يرجع عندنا، خلافا لمالك، لأنه تبرع بقضاء دين
غيره، وإن كفل عنه بأمره، وهو ممن يجوز إقراره على نفسه بالدين ويملك
التبرع يرجع عليه لان الكفالة في حق المكفول عنه استقراض وهو
طلب القرض، والكفيل بالأداء مقرض للمكفول عنه ونائب عنه في الأداء
إلى المكفول له وفي حق المكفول له تمليك ما في ذمة المكفول عنه من
الكفيل بما أخذه من المال، فيرجع عليه بما أقرضه حتى إن الصبي
المحجور إذا أمر رجلا بأن يكفل عنه، فكفل، وأدى لا يرجع عليه،
لان استقراض الصبي لا يتعلق به الضمان وأما العبد المحجور فلا
يرجع عليه إلا بعد العتق لما قلنا.
ولو وهب صاحب الدين، المال لأحدهما جاز، وذلك بمنزلة أداء
المال.
وكذا لو مات الطالب، فورثه أحدهما، لان بالهبة والميراث يملك ما
في ذمته فإن كان الموهوب له أو الوارث هو الكفيل، فقد ملك ما في
ذمته، فيرجع على الأصيل، كما لو ملك ذلك بالأداء. وإن كان الموهوب

239
له أو الوارث هو المكفول عنه، برئ الكفيل، كأنه أدى.
ولو أبرأ الطالب الأصيل، فقد برئا جميعا. وإن أبرأ الكفيل،
برئ، دون الأصيل، سواء كان ذلك بأمر المكفول عنه أو لا.
ولو قال لأحدهما: برئت إلي من المال فهو إقرار بالقبض،
بالاتفاق، لان هذا اللفظ يستعمل في الأداء.
ولو قال لأحدهما: برئت من المال - فهو إقرار بالقبض عند أبي
يوسف، كأنه قال: برئت إليه من المال. وعند محمد بمنزلة قوله:
أبرأتك من المال.
ثم الكفيل يرجع بما ضمن، لا بما أدى، لأنه ملك ما في ذمة
الأصيل، حتى أنه إذا كان عليه دراهم صحاح جيدة، فأدى زيوفا،
وتجوز به صاحب الدين، فإنه يرجع بالجياد.
وكذا لو أدى عنها من المكيل والموزون أو العروض: فإنه يرجع
بالدراهم بخلاف الوكيل بقضاء الدين فإنه يرجع بما أدى، لا بما على
الغريم، وبخلاف الصلح إذا صالح من الألف على خمسمائة فإنه يرجع
بخمسمائة لا بالألف، لأنه إسقاط البعض.
ولو كفل لرجل بمال إلى القطاف أو إلى الحصاد أو إلى الدياس أو
إلى النيروز أو إلى المهرجان، ونحوها من الآجال المجهولة: يصح،
عندنا، خلافا للشافعي بخلاف البيع إلى هذه الآجال فلا يجوز
بالاجماع.
ولو كان عليه ثمن بيع، أو دين حال، فأجله إلى هذه الآجال
يصح أيضا - بمنزلة الكفالة.
ولا خلاف في جواز الكفالة إلى أجل معلوم من الشهر والسنة
ونحوها.

240
أما إذا كفل إلى أجل مجهول لا يشبه آجال الناس، مثل مجئ المطر
وهبوب الريح فالاجل باطل، والكفالة جائزة لان الكفالة وردت
منجزة لكن الأجل باطل فلم يصح التأجيل فتبقى الكفالة حالة.
أما إذا علق الكفالة بشرط: فإن كان ذلك سبب الوجوب الحق أو
وسيلة إلى الأداء في الجملة مثل أن يقول: إذا قدم زيد أو استحق
المبيع - فالكفالة جائزة، لأنه سبب للوصول إلى الأداء لان زيدا ربما
يكون مضاربا.
فأما إذا قال: إذا جاء المطر، أو هبت الريح، أو دخل زيد
دارنا فأنا كفيل عندك بكذا فإنه لا يجوز، لان الأموال لا يجوز أن
يتعلق وجوبها بالشروط.
ولو كان على رجل دين مؤجل فكفل به رجل مطلقا فإنه
يكون مؤجلا، لأنه التزم مثل ما على الأصيل، فإن سمي الكفيل أجلا
زائدا عليه، أو ناقصا، أو مثله يلزمه كذلك، لأنه متبرع، فيلزمه على
حسب ما تبرع به.
ولو كان المال حالا، فكفل إنسان مؤجلا، بأمر المكفول له فإنه
يجوز، فيكون تأجيلا في حقهما، في ظاهر الرواية. وفي رواية ابن سماعة
عن محمد أنه حال على الأصيل مؤجل في حق الكفيل.
ولو كفل عن رجل لرجل والمكفول له غائب، فبلغه الخبر فأجاز
لا يصح، ولا تتوقف الكفالة على قبوله وهذا عند أبي حنيفة ومحمد:
وقال أبو يوسف: يجوز - وهذا بناء على أن شطر العقد يتوقف في النكاح
عند أبي يوسف، خلافا لهما: فهذا كذلك إلا أنهما استحسنا في المريض
إذا قال عند موته لورثته: اضمنوا ما علي من الدين لغرمائي، وهم
غيب، ففعلوا فهو جائز، ويلزمهم نظرا للغرماء.

241
ولو كفل رجلان رجلا، بألف درهم بأمره، ولم يكفل كل واحد
عن صاحبه فإن على كل واحد منهما خمسمائة، لاستوائهما في الكفالة.
ولو أدى أحدهما: لا يرجع على صاحبه، لأنه يؤدي عن نفسه، لا عن
صاحبه لكن يرجع على الأصيل بما أدى.
ولو لقي المكفول له الكفيلين يعد ذلك، فكفل أحدهما عن صاحبه
صح، لان الكفالة عن الكفيل صحيحة، ثم ما أدى فالقول قوله: إنه
أدى من كفالة الكفيل الآخر أو من كفالة نفسه لأنه لزمه المال من
وجهين. ولو لقي المكفول له الكفيل الآخر الذي لم يكفل، فطلب منه
أن يكفل عن صاحبه، وكفل صح، والجواب فيه وفيما إذا كان في
الابتداء كفل كل واحد من الكفيلين عن صاحبه سواء، وهو أن كل ما
يؤدي كل واحد منهما إلى المكفول له، فذلك عن نفسه إلى خمسمائة. ولو
قال: أؤدي عن شريكي، لا عن نفسي لا يقبل، ويكون عن
نفسه. فأما إذا زاد على خمسمائة، فيرجع بالزيادة على شريكه إن شاء
وإن شاء على المكفول عنه.
وعلى هذا إذا اشترى رجلان من رجل عبدا بألف درهم على أن
كل واحد منهما كفيل عن صاحبه ثمن حصته. وكذا الجواب في
المفاوضين بعد فسخ الشركة إذا كان عليهما دين: لصاحبه أن يطالب به
كل واحد منهما، وإذا أدى أحدهما النصف لا يرجع، فإذا أدى زيادة على
النصف، له أن يرجع على صاحبه، لان كل واحد منهما كفيل عن
صاحبه.
و أما الكفالة بالأعيان:
فهي أنواع ثلاثة:
أحدهما: كفالة بعين هي أمانة غير واجبة التسليم، كالوديعة، وكمال
المضاربة، والشركة وهي لا تصح أصلا.

242
والثاني: الكفالة بعين هي أمانة، ولكنها واجبة التسليم، كالعارية،
والمستأجر في يد المستأجر، وكذا العين المضمونة بغيرها، كالمبيع، قبل
القبض: مضمون بالثمن، وكالرهن مضمون بالدين والجواب في
الكل واحد، وهو أنه تصح الكفالة بتسليم العين، فمتى هلكت العين
لا يجب على الكفيل قيمة العين.
والثالث: العين المضمونة بقيمتها كالمغصوب، والمبيع بيعا
فاسدا، والمقبوض على سوم الشراء تصح الكفالة بها، ويجب عليه
تسليم العين ما دامت باقية، وإذا هلكت يجب عليه تسليم قيمتها متى ثبت الغصب بالبينة أو الاقرار.
ثم الكفالة بالنفس بعد الدعوى من قبيل القسم الثاني: فإنه
مضمون بالتسليم، وإنه يجب عليه تسليم النفس، والحضور إلى باب
القاضي، حتى يقيم الخصم البينة، فتصح الكفالة به عندنا، خلافا
للشافعي، ولكن لو هلك الكفيل، لا شئ عليه من المال المدعى به
حتى لا يؤخذ من تركته والمسألة معروفة.
وكذا لو كفل بنفس من عليه التعزير.
أما لو كفل بنفس من عليه حد القذف أو حد السرقة أو القصاص
هل يجوز؟ ذكر أبو الحسن أن الكفالة بالنفس في الحدود والقصاص جائزة
في قولهم إذا بذلها المطلوب بنفسه، ولكن هل للقاضي أن يأمره بالتكفيل
إذا طلب الخصم؟ قال أبو حنيفة: لا يأخذ القاضي منه كفيلا، ولكن
يحبسه حتى تقام عليه البينة أو يستوفي.
ثم الكفيل بالنفس يؤخذ بإحضار المكفول عنه، ما دام إحضاره ممكنا
مقدورا. فإن صار بحال لا يقدر على إحضاره بوجه من الوجوه، بأن
مات بطلت الكفالة، ولا شئ على الكفيل، فأما إذا كان يرجى
حضور المكفول عنه، بأن غاب فإنه يتأخر المطالبة بالاحضار عن

243
الكفيل، للحال، ويؤجل إلى مدة يمكنه الاحضار في تلك المدة، فإن لم
يحضره وظهرت مماطلته، فإنه يحبس الكفيل، فإذا ظهر للقاضي أنه لا
يقدر على الاحضار، بدلالة الحال، أو شهد الشهود بذلك فإنه يخرج
من الحبس، وينظر إلى وقت القدرة، كما في الاعسار في حق الدين،
وإذا أخرجه القاضي فإن الغرماء يلازمونه، ولا يحول القاضي بينه وبين
الغرماء، ولكن ليس للغرماء أن يمنعوه من اشتغاله، كما في الافلاس
سواء.
هذا إذا كفل بالنفس مطلقا.
فأما إذا ادعى عليه ألف درهم فكفل بنفسه على أن يوافيه به
غدا، فإن لم يوافه به غدا فعليه المال الذي ادعى فإن أقر المطلوب
بالألف، أو ثبت بالبينة، وقضى القاضي، وكفل على هذا الوجه
صحت الكفالة بالنفس، وتصح الكفالة بالمال معلقا بشرط ترك الموافاة
غدا، والكفالة بالشرط صحيحة فإذا لم يواف به غدا: يؤخذ منه المال
بسبب الكفالة بالمال، وبقيت الكفالة بالنفس، لان من حجته أن يقول:
لي عليه مال آخر.
ولو قال: كفلت بنفسه على أني إن لم أواف به غدا فعلي الألف
ولم يقل الألف الذين ادعيت فعلى قول محمد: لا تصح الكفالة،
وعلى قولهما: تصح كأنه قال فعلي الألف الذي تدعي لأنه هي
المعهودة.
فأما إذا أنكر المطلوب المال، ثم كفل بنفسه على أن يوافيه به غدا
وإن لم يواف به فعليه المال فلم يوافه به لا يلزمه المال، لان وجوب
المال لا يتعلق بالخطر، أما الكفالة بالمال الثابت فيتعلق بالخطر.
ولو كفل بالنفس والمال، وسماه، ثم قال: إن وافيتك به غدا فأنا

244
برئ منه، فوافاه به من الغد يبرأ من المال في إحدى الروايتين، وفي
رواية لا يبرأ، لان هذا تعليق البراءة بالشرط، وفي البراءة معنى
التمليك، فلا يصح تعليقه بالشرط.
ولو كفل بالنفس على أن يوافي به عند القاضي، غدا فسلمه إليه
في السوق فإنه يبرأ. والأصل أنه إذا سلمه في مكان يقدر على أن
يحضره فيه إلى القاضي فهو كتسليمه في مجلس القاضي. وكذا إذا سلمه
في أطراف هذا المصر. ولو سلمه في قرية هذا المصر التي ليس فيها
قاض لا يبرأ.
ولو كفل على أن يدفع في مصر معين فدفع في مصر آخر يبرأ
عند أبي حنيفة، وفي كل موضع فيه قاض وعندهما لا يبرأ ما لم يسلم
في ذلك المصر بعينه.

245
كتاب
الحوالة
الحوالة مشروعة، لقوله عليه السلام: من أحيل على ملئ
فليتبعه.
ثم الحوالة مبرئة عندنا حتى يبرأ المحيل، من الدين الذي عليه،
بالحوالة إلى المحتال عليه. وللمحتال له أن يطالب المحتال عليه لا غير.
وقال زفر: لا يبرأ وله أن يطالبهما كما في الكفالة.
وكذا الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة أيضا عندنا لأنها
حوالة معنى.
ثم ليس للمحتال له أن يرجع على المحيل إلا إذا توى ما على المحتال
عليه وذلك بطريقين عند أبي حنيفة: بأن يموت المحتال عليه مفلسا
أو يجحد المحتال عليه الحوالة ويحلف. وعندهما: بهذين الطريقين
وبطريق ثالث وهو أن يقضي القاضي بإفلاسه في حال الحياة، لان
القضاء بالافلاس صحيح عندهما في حالة الحياة وعند أبي حنيفة: لا
يصح.
وعلى قول الشافعي: لا يعود الدين إلى المحيل أبدا والمسألة
معروفة.

247
ثم الحوالة نوعان: مطلقة ومقيدة
أما المطلقة: فأن يحيل صاحب الدين على رجل، له مال عليه أو لم
يكن وقبل ذلك الرجل.
فإن لم يكن عليه مال: يجب عليه أن يؤدي.
وإن كان عليه مال، ولم يقيد الحوالة به، بأن لم يقل: أحيله
عليك بمالي عليك أو على أن تعطيه مما عليك وقبل المحتال عليه:
فعليه أداء الألفين: ألف إلى المحيل وألف إلى المحتال له، وللمحيل أن
يطالبه بذلك الألف، لأنه لم تتقيد الحوالة به، كما إذا كان عند رجل ألف
درهم وديعة، فأحال غريمه عليه بألف درهم، ولم يقيده بالألف الوديعة،
فقبله: له أن يأخذ الوديعة، وعلى المحتال عليه أداء الألف بالحوالة.
فأما إذا قيد الأداء بالمال الذي عليه: فليس للمحيل أن يطالبه بالأداء
إليه، لأنه تعلق به حق المحتال له، فإذا أدى تقع المقاصة بينهما.
ثم في الحوالة المطلقة: إذا لم يكن على المحتال عليه دين، فأدى إلى
المحتال له، أو وهب له، المحتال له، أو تصدق عليه، أو ورث من
المحتال له، أو أدى المحتال عليه دنانير أو عروضا بدل الدراهم: فإنه
يرجع على المحيل بالمال، بمنزلة الكفيل، على ما مر. وإن أبرأه عن
الدين، وقبل منه، ولم يرد الابراء فإنه يبرأ. ولا يرجع على المحيل
بشئ كما في الكفالة.
هذا إذا كانت الحوالة بأمر المحيل، فإن كانت بغير أمره، فأدى
المحتال عليه فإنه لا يرجع وإن كان عليه دين: فهو بحاله.

248
كتاب
الصلح
الصلح مشروع بالكتاب، والسنة، والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالي: * (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو
إعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) *.
وأما السنة فما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: الصلح جائز
بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا.
وعليه الاجماع.
ثم الصلح أنواع ثلاثة:
أحدها: الصلح عن إقرار المدعى عليه: وهو جائز، بالاجماع.
والثاني: الصلح عن إنكاره: وهو جائز، عندنا. وقال ابن أبي
ليلى: لا يجوز، وهو قول الشافعي.
والثالث: الصلح عن سكوت المدعى عليه: وهو جائز أيضا،
عندنا، وهو قول ابن أبي ليلى. وقال الشافعي: لا يجوز والمسألة
معروفة.
ثم لا يخلو: إما إن كان الصلح بين المدعي والمدعى عليه أو بين
المدعي والأجنبي.

249
أما الأول:
فلا يخلو إما أن تكون الدعوى في العين القائمة أو في الدين، ولا
يخلو: إما إن كان الصلح عن إنكار أو عن إقرار
أما إذا كانت الدعوى في الأعيان القائمة، والصلح عن إقرار: فإن
هذا الصلح في معنى البيع، من الجانبين، فما يجوز في البيع يجوز في
الصلح، وما لا فلا. فإن كان المدعى به عروضا أو عقارا أو حيوانا من
العبيد والدواب: يجوز الصلح إذا كان بدل الصلح عينا قائما معينا مملوكا
له، سواء كان كيليا أو وزنيا أو غير ذلك من الحيوان والعروض.
أما إذا كان دينا: فإن كان شيئا من المكيل والموزون معلوم القدر
والصفة يجوز، كما في البيع، لأن هذه الأشياء تصلح ثمنا عينا كان
أو دينا.
وإن كان البدل ثيابا موصوفة في الذمة لا يجوز، ما لم يوجد فيه
جميع شرائط السلم، بخلاف الكيلي والوزني فإنه يثبت دينا في الذمة
مطلقا في المعاوضة المطلقة، فيصلح ثمنا من غير أجل.
وإن كان البدل حيوانا موصوفا في الذمة لا يجوز، لأنه لا يصير دينا
في مقابلة مال بمال فلا يصلح ثمنا.
وإن كان الصلح عن إنكار
فكذلك الجواب في جانب المدعي.
فأما في جانب المدعى عليه: فهو إسقاط وبدل عما ليس بمال.
وعلى هذا يثبت حق الشفعة، في الجانبين، في الصلح عن إقرار،
حتى أن البدل إذا كان دارا والمدعى به دارا يثبت للشفيع الشفعة في
الدارين وفي الصلح عن إنكار، والمسألة بحالها ثبت للشفيع الشفعة في
الدار التي هي بدل الصلح، وكذا حق الرد بالعيب، وحكم دون الدار التي هي مدعى بها لما قلنا.

250
وكذا حق الرد بالعيب، وحكم الاستحقاق على هذا في الصلح
عن إقرار يثبت من الجانبين، وفي الصلح عن إنكار يثبت في جانب
المدعي لا غير.
أما إذا كان المدعى به ذهبا أو فضة
فإن كان البدل غير الذهب والفضة: فإنه يجوز الصلح، كيفما كان
وإن كان البدل ذهبا أو فضة.
فإن كان الصلح عن إقرار، والبدل من جنس المدعى به فلا
يصح إلا سواء بسواء ويشترط التقابض.
إن كان بخلاف جنسه، كالذهب مع الفضة يجوز مع التفاضل،
ولكن يشترط القبض في المجلس، لان هذا صرف، فيشترط فيه شرائط
الصرف.
وكذلك الجواب في الصلح، عن إنكار، في حق المدعي.
هذا كله إذا كان المدعى به عينا فأما إذا كان دينا:
فإن كان دراهم أو دنانير، وبدل الصلح عين مال معلوم من غير
الكيلي والوزني فإنه يجوز، ويكون ذلك بمنزلة بيع العين بالدين إن كان
عن إقرار. وإن كان عن إنكار ففي حق المدعي كذلك، إلا أنه إذا كان
البدل من الذهب والفضة التي تتعين، كالتبر والأواني منهما يكون
صرفا، فيشترط التساوي والتقابض في الجنس، والتقابض، في خلاف
الجنس، دون التساوي.
وإن كان البدل من الدراهم والدنانير فإن كان من جنسه، كما إذا
كان عليه ألف درهم جيدة، فصالح من ذلك على ألف درهم جيدة أو
رديئة جاز، ويكون هذا استيفاء عين حقه وإبراء عن صفته.
وإن صالح على خمسمائة جيدة أو رديئة جاز، ويكون استيفاء

251
للبعض وإبراء عن البعض.
وإن صالح على ألف درهم لا يجوز، لأنه لا يمكن أن يجعل
استيفاء، فيجعل صرفا، والتساوي شرط لصحة الصرف عند اتحاد
الجنس.
وأصل هذا أن الصلح متى وقع على جنس ما هو المستحق بعقد
المداينة، يجعل استيفاء، وإن لم يمكن أن يجعل استيفاء، يكون صرفا،
فيشترط فيه شرائط الصرف.
وعلى هذا إذا صالح من ألف درهم ردئ، على خمسمائة جيدة
لا يجوز، لان مستحق الردئ لا يستحق الجيد، فلا يمكن أن يجعل
استيفاء، فيكون صرفا، وبيع ألف درهم ردئ بخمسمائة جيدة لا
يجوز، لأنه ربا.
ولو صالح من ألف سود، على ألف بيض، وسلمها في المجلس
جاز، لأنه ليس باستيفاء وهو صرف فإذا وجد التقابض وهما في
مجلس واحد جاز، لان الجودة لا قيمة لها، عند مقابلتها بجنسها. وإن
افترقا بطل.
ولو صالح عن ألف بيض، على خمسمائة سود جاز، ويكون هذا
حطا عن القدر والصفة واستيفاء لبعض الأصل.
ولو صالح من الدين الحال على المؤجل، وهما في القدر سواء
جاز، ويكون هذا تأجيلا للدين. ولو كان على العكس: يجوز أيضا،
ويكون استيفاء، ويصير الآخر تاركا حقه، وهو الأجل.
ولو كان الدين مؤجلا، وصالح على بعضه معجلا لا يجوز، لان
صاحب الدين المؤجل لا يستحق المعجل، فلا يمكن أن يجعل استيفاء،
فصار عوضا، وبيع خمسمائة بألف لا يجوز.

252
ولو كان البدل بخلاف جنسه، بأن صالح من الدراهم على
الدنانير فإن وجد التقابض يجوز، وإلا فلا، لأنه لا يمكن أن يجعل
استيفاء، لاختلاف الجنس، فيصير صرفا فيشترط شرائط الصرف.
وكذا في سائر الوزنيات إذا كانت موصوفة في الذمة لأنه افترق عن
دين بدين.
وعلى هذا إذا كان الدين كيليا، فصالح على جنسه، أو على خلاف
جنسه، على الفصول التي ذكرنا من غير تفاوت.
وأما إذا كان بدل الصلح المنافع بأن كان على رجل عشرة دراهم،
فصالح من ذلك على منفعة الدار سنة أو ركوب الدابة سنة ونحو ذلك
فإنه يجوز، ويكون إجارة إن كان الصلح عن إقرار من الجانبين. وإن
كان عن إنكار من جانب المدعي فكل حكم عرف في الإجارة، فهو
الحكم ههنا في موت العاقدين، وهلاك المستأجر، والاستحقاق من غير
تفاوت، وقد ذكرنا في الإجارة إلا أن في الصلح عن إقرار يرجع إلى
المدعى به، وفي الصلح عن إنكار يرجع إلى أصل الدعوى.
وإن كان الدين المدعى به حيوانا بأن وجب في الذمة عن قتل
الخطأ، أو في المهر وبدل الخلع، فصالح على دراهم في الذمة، وافترقا
من غير قبض جاز، وإن كان هذا دينا بدين، لان هذا ليس
بمعاوضة، بل استيفاء عين حقه، لان الحيوان الذي وجب في الذمة لم
يكن وجوبه لازما، حتى إن من عليه إذا جاء بقيمته يجبر من له على
القبول بخلاف سائر الديون.
هذا الذي ذكرنا إذا كان المدعى به مالا فأما إذا كان حقوقا ليست
بمال، فصالح منها على بدل هو مال فهذا على ضربين ضرب يجوز
وضرب لا يجوز.

253
أما الضرب الذي يجوز: فنحو الصلح عن موجب العمد في النفس
وما دون النفس على أي بدل كان، دينا كان أو عينا، أقل من الدية
وأرش الجناية أو أكثر، لان هذا بدل القصاص، لا بدل الدية إلا أن
البدل إذا كان دينا لا بد من القبض في المجلس، حتى لا يكون افتراقا
عن دين بدين. وبمثله لو كان الصلح في قتل الخطأ وجراح الخطأ، فيما
ذكرنا من جواز الصلح واشتراط القبض في الدين، إلا أن الفرق بين
العمد والخطأ أن في العمد الصلح على أكثر من الدية والأرض جائز، وفي
الخطأ على أكثر من الدية والأرش لا يجوز، لان ها هنا الأرش والدية
مقدران شرعا والزيادة عليه ربا فلا يجوز فهو الفرق.
ثم ينظر: إن كان البدل مما يصلح مهرا في النكاح، وتصح
تسميته يجب ذلك. وإن كان مما لا يصلح مهرا ولا تصح تسميته،
ويجب في ذلك مهر المثل تجب هاهنا دية النفس في القتل، وأرش الجناية
فيما دون النفس إلا في فصل واحد وهو أنه إذا صالح على خمر أو خنزير في
العمد فإن كان في النكاح يجب مهر المثل، وهاهنا يسقط
القصاص، ولا يجب شئ ويكون ذلك عفوا منه.
وما عرفت من الجواب في الصلح عن دم العمد، فهو الجواب في
الخلع، والعتق على مال والكتابة فيما ذكرنا.
وأما الضرب الثاني: فأنواع كثيرة:
منها: أن المشتري إذا صالح مع الشفيع عن حق الشفعة على مال
معلوم لا يجوز.
ومنها: أن الكفيل بالنفس إذا صالح المكفول له، بمال معلوم على
أن يبرأ من الكفالة: فالصلح باطل والكفالة لازمة.
ولو كان لرجل ظلة على طريق نافذة أو كنيف شارع، فخاصمه رجل

254
فيه وأراد طرحه، فصالحه على دراهم فالصلح باطل، لان هذا حق
لجماعة المسلمين، ولم يكن له حق معتبر حتى يكون إسقاطا لحقه.
بمثله لو كان الطريق غير نافذ، فخاصمه رجل من أهل الطريق
فصالحه على دراهم مسماة فالصلح جائز لأنه مشترك بين جماعة
محصورة، فيكون جزء منه ملكا لهذا الواحد، فيكون صلحا عن حقه،
وفيه فائدة لاحتمال أن يصالح البقية بخلاف الأول، لأنه لا يتصور
الصلح من جميع الناس.
ولو ادعى رجل على رجل مائة درهم، فأنكرها المدعى عليه،
فصالح المدعي على أنه إن حلف المدعى عليه، فهو برئ، فحلف
المدعى عليه ما لهذا المدعي قليل ولا كثير: فإن الصلح باطل،
والمدعي على دعواه، فإن أقام بينة أخذه بها، وإن لم يكن له بينة وأراد
استحلافه له ذلك وإنما بطل ذلك، لأنه إبراء معلق بالشرط، وهو
فاسد، لان فيه معنى التمليك. وأما الاستحلاف فهو على وجهين إن
حلف في غير مجلس القاضي: فله أن يحلفه ثانيا، لان الحلف في غير
مجلس القاضي لا عبرة به، فيحلفه ثانيا. وأما إذا حلف في مجلس
القاضي فلا يحلفه ثانيا، لان حق المدعي في الحلف صار مستوفي مرة،
فلا يجب عليه الايفاء ثانيا.
ولو اصطلحا على أن يحلف المدعي، فمتى حلف فالدعوى لازمة
للمدعى عليه فحلف المدعي على ذلك فإن الصلح باطل، ولا يلزم
المدعى عليه شئ بهذا لان هذا إيجاب المال بشرط وهو فاسد.
ولو ادعى على امرأة نكاحها، فصالحها، على مائة درهم، على أن
تقر له بالنكاح فهو جائز، وتكون المائة زيادة في مهرها، لان إقرارها
بالنكاح محمول على الصحة.

255
وكذا لو قال لها: أعطيتك مائة درهم، على أن تكوني امرأتي
فهو جائز إذا قبلت ذلك بمحضر من الشهود ويكون هذا كناية عن
النكاح ابتداء.
وكذا لو قال: تزوجتك أمس على ألف درهم فقالت: لا،
فقال: أزيدك مائة على أن تقري لي بالنكاح، فأقرت: كان لها ألف
ومائة، والنكاح جائز، ويحمل إقرارها على الصحة.
وكذا لو ادعي على رجل مجهول النسب أنه عبده، فأنكر وقال: إني
حر الأصل، فصالح المدعي عليه، مع المدعي، على بدل معلوم:
جاز حتى لو أقام المدعي البينة بعد ذلك: لا تقبل، ويصير ذلك بمنزلة
العتق ببدل، ولكن تقبل البينة في حق إثبات الولاء.
ولو ادعى على رجل ألف درهم، فأنكر، فقال: أقر لي بها عليك
على أن أعطيك مائة درهم كان باطلا، لان هذا إيجاب الألف على
نفسه بمائة درهم.
وكذلك لو صالح القاذف مع المقذوف، بشئ، على أن يعفو عنه،
ولا يخاصمه - فهو باطل.
وكذلك لو صالح الشاهد، بمال على أن لا يشهد عليه أو أراد
أن يشهد على الزاني أو السارق أو القاذف، فصالحوه على مال فالصلح
باطل، ولا تقبل شهادته في هذه الحادثة، وفي غيرها، إلا أن يتوب
ويسترد المال منه في جميع ذلك.
ولو ادعى رجل قبل رجل، وديعة، أو عارية، أو مالا مضاربة أو
إجارة فقال الأمين: قد رددتها عليك أو هلكت، ثم صالحه على
مال فإن الصلح باطل عند أبي يوسف، وعند محمد: جائز وهي من
الخلافيات.

256
وأما إذا كان الصلح بين المدعي والأجنبي:
فلا يخلو إما إن كان بإذن المدعى عليه أو بغير إذنه.
أما إذا كان بإذنه:
فإنه يصح الصلح، ويكون وكيلا عنه في الصلح، ويجب المال على
المدعى عليه، دون الوكيل، سواء كان الصلح عن إقرار أو عن إنكار،
لان الوكيل في الصلح لا ترجع إليه الحقوق - وهذا إذا لم يضمن بدل
الصلح عن المدعى عليه، فأما إذا ضمن فإنه يجب عليه بحكم
الكفالة والضمان لا بحكم العقد.
فأما إذا كان بغير إذنه:
فهذا صلح الفضولي. وهو على أربعة أوجه:
في ثلاثة منها: يصح الصلح، ويجب المال على المصالح الفضولي،
ولا يجب على المدعى عليه شئ - بأن يقول الفضولي للمدعي
أصالحك من دعواك هذه على فلان بألف درهم على أن ضامن لك هذه
الألف أو عليه هذه الألف أو قال علي ألفي هذه أو على عبدي
هذا أضاف المال إلى نفسه، أو عين البدل فقال: عليه هذه الألف
أو علي هذا العبد، وإنما كان هكذا، لان التبرع بإسقاط الدين، بأن
يقضي دين غيره بغير إذنه، صحيح، والتبرع بإسقاط الخصومة عن غيره
صحيح، والصلح عن إقرار إسقاط للدين، والصلح عن إنكار إسقاط
للخصومة، فيجوز كيفما كان.
وفي فصل واحد لا يصح، بأن قال: أصالحك من دعواك هذا
مع فلان على ألف درهم، أو على عبد وسط فإن هذا الصلح موقوف
على إجازة المدعى عليه فإن أجاز يصح، ويجب المال عليه دون
المصالح، لان الإجازة بمنزلة ابتداء التوكيل، والحكم في التوكيل كذلك،
وإن لم يجز يبطل الصلح، لأنه لا يجب المال، والمدعى به لا يسقط.

257
وعلى هذا الخلع من الأجنبي: على هذه الفصول:
إن كان بإذن الزوج: يكون وكيلا عنه، ويجب المال على المرأة للزوج
دون الوكيل، لأنه معبر وسفير، فلا يرجع إليه بالحقوق.
وإن كان بغير إذنه فإن وجد من الفضولي ضمان بدل الخلع أو
قال: خالع امرأتك على كذا درهم علي أو على عبدي هذا أو على هذا
الألف أو على هذا العبد فإن الخلع صحيح، ويجب المال على
الفضولي، وليس له أن يرجع، لأنه متبرع.
وإن قال: اخلع امرأتك على كذا، فقال: خلعت فإنه موقوف
على إجازة المرأة فإن أجازت صح الخلع، ويجب البدل عليها دون
الفضولي. وإن لم تجز بطل الخلع ولا يقع الطلاق.
وعلى هذه الفصول: العفو عن دم العمد من الأجنبي.
وعلى هذه الفصول: الزيادة في الثمن من الأجنبي إن كانت
بإذنه يكون وكيلا، وتجب على المشتري. لا وإن كانت بغير إذن
المشتري: فهو على الفصول التي ذكرنا.

258
باب آخر
من الصلح
جمع في الباب مسائل متفرقة:
منها:
- أن من كان له على آخر ألف درهم، فقال للمديون: أصالحك
على أن أحط عنك منها خمسمائة على أن تعطيني اليوم خمسمائة فصالحه
على ذلك قال أبو حنيفة ومحمد: إن أعطاه خمسمائة في ذلك اليوم:
برئ من الخمسمائة الأخرى، وإن لم يعطه حتى مضى اليوم انتقض
الصلح، وعادت الألف عليه كما كانت. وقال أبو يوسف بأنه يبرأ من
الخمسمائة، ويبقى عليه خمسمائة.
- وأجمعوا أنه إذا قال: أصالحك عن الألف على خمسمائة تعجلها
اليوم فإن لم تعجلها فالألف عليك ولم يعجل اليوم بطل الصلح
وعليه الألف.
وحاصل هذا - أن عندهما هذا الكلام، في موضع الاجماع، وهو
الفصل الثاني، ليس تعليق البراءة عن خمسمائة بشرط تعجيل خمسمائة،
لان الألف كلها معجلة بحكم عقد المداينة، فلا معنى لاشتراطه وهو
ثابت، ولان تعليق البراءة بالشرط لا يجوز، لأنه تمليك من وجه حتى
يرتد بالرد، وهذا الكلام صحيح بالاجماع، ولكنه حط وإبراء عن
الخمسمائة للحال، وتعليق فسخ البراءة بترك التعجيل في اليوم، وتعليق
الفسخ بالشرط جائز فإن من قال لغيره: أبيعك هذا العبد بألف

259
درهم على أن تعجلها اليوم، فإن لم تعجلها فلا بيع بيننا فإن البيع
جائز، وجعل ترك التعجيل شرطا في الفسخ، فكذا هذا وهذا المعنى
موجود في فصل الخلاف.
وعند أبي يوسف: هذا تعليق البراءة بشرط التعجيل، والبراءة لا
يصح تعليقها بالشروط وجه قول أبي يوسف أنه صالح على عوض
بشرط تعجيله، فإذا لم يوجد الوفاء، بالتعجيل، لم ينفسخ العقد بدون
شرط الفسخ صريحا، ولم يوجد، فبقي الحط صحيحا، كما إذا قال:
بعتك هذا العبد بألف على أن تعجلها اليوم. بخلاف الفصل المجمع
عليه لان ذلك صلح على خمسمائة للحال، وجعل ترك التعجيل شرطا
للفسخ عرفنا ذلك بالتنصيص على ذلك الشرط.
- ولو صالح على أن يعطيه خمسمائة إلى شهر على أن يحط عنه
خمسمائة الساعة، فإن لم يعطه إلى شهر، فعليه الألف فهو صحيح،
لان هذا إبراء للحال، وتعليق لفسخ الابراء بالشرط.
وعلى هذا الكفالة: إذا أخذ منه كفيلا بألف درهم، فصالح معه على
أن يحط خمسمائة وشرط على الكفيل ذلك إن أوفاه خمسمائة إلى شهر،
فإن لم يوفه خمسمائة إلى رأس الشهر، فعليه الألف فهو جائز والألف
على الكفيل إن لم يوفه، لما قلنا.
ولو ضمن الكفيل الألف مطلقا، ثم قال: عنك حططت خمسمائة
على أن توفيني رأس الشهر خمسمائة، فإن لم توفني فالألف عليك فهذا
صحيح، وهو أوثق من الأول.
ولو قال لمن عليه الألف: متى ما أديت إلي خمسمائة فأنت تبرأ عن
الباقي فإن هذا لا يصح، ويبقى عليه الألف، لان هذا تعليق البراءة
بالشرط.

260
- وكذلك إذا قال: صالحتك على أنك متى ما أديت إلي خمسمائة
فأنت برئ من خمسمائة لا يصح لما قلنا.
- وكذا من قال هذه المقالة لمكاتبه: إذا أديت إلي خمسمائة فأنت
برئ من باقي الكتابة، لما قلنا.
ولو قال له: إن أديت إلي خمسمائة فأنت حر والبدل ألف
يصح ويبرأ لان هذا تعليق العتق وتثبت البراءة حكما.
ومنها:
المشتري إذا وجد بالمبيع عيبا فصالحه البائع من العيب على شئ
دفعه إليه أو حط عنه من ثمنه شيئا فإن كان المبيع مما يجوز رده على
البائع، أو كان له حق المطالبة بأرشه دون رده: فالصلح جائز، لان هذا
صلح عن حقه، وإن لم يكن له حق الرد ولا أخذ الأرش لا يجوز
الصلح، لان هذا أخذ مال لا بمقابلة شئ فلا يجوز.
وهذا إذا كان بيعا يجوز فيه التفاضل.
وأما إذا كان في بيع الربا فلا يجوز لأنه يؤدي إلى الزيادة وهو
ربا فلا يجوز.
وفي الموضع الذي جاز إذا زال العيب، بأن انجلى البياض يبطل
الصلح ويأخذ البائع ما أدى لأنه زال حقه.
ولو صالح عن عيب قائم وعن كل عيب يجوز.
ولو لم يجد به عيبا وصالح، مع هذا عن كل عيب جاز
لوجود سبب الحق.
ولو صالح عن عيب خاص كالعمى ونحوه يجوز، لأنه لما جاز
عن كل عيب، جاز عن الواحد.

261
كتاب
المزارعة
في الكتاب فصلان: فصل في المزارعة، وفصل في المعاملات.
ونحتاج إلى:
تفسيرهما في عرف اللغو الشرع.
وإلى بيان مشروعيتهما،
وإلى بيان أنواع المزارعة،
وإلى بيان شرائط المزارعة: المصححة منها والمفسدة،
وإلى بيان المعاني التي تجعل عذرا في فسخ المزارعة، والامتناع منها
بعد الشروع فيها.
أما الأول فنقول:
المزارعة: عبارة عن عقد الزراعة، ببعض الخارج. وهو إجارة
الأرض، أو العامل، ببعض الخارج.
وأما إجارتهما بالدراهم والدنانير في الذمة، أو معينة، فلا يكون عقد
مزارعة بل سمي إجارة، وقد ذكرنا في كتاب الإجارة.
وكذا المعاملة: هو إجارة العامل، ليعمل في كرمه وأشجاره، من
السقي والحفظ، ببعض الخارج.
وأما بيان المشروعية:
فقال أبو حنيفة: كلتاهما فاسدتان غير مشروعتين.

263
وقال أبو يوسف ومحمد: كلتاهما مشروعتان.
وقال الشافعي: المعاملة مشروعة، دون المزارعة وهي معروفة في
الخلافيات.
وأما بيان أنواع المزارعة:
ذكر في الكتاب وقال: المزارعة أنواع أربعة. وهي كذلك في
الظاهر، لكن يتفرع منها أنواع أخر، ومعرفة ذلك مبنية على معرفة
أصول:
منها: أن المزارعة فيها معنى الإجارة والشركة لأنها إما إجارة
الأرض أو العامل ببعض الخارج إن كان بالبذر من قبل صاحب
الأرض فهو مستأجر العامل ليعمل له في أرضه، بما يعطيه من
العوض، وهو بعض الخارج الذي هو نماء ملكه وهو البذر. وإن كان
البذر من العامل فهو مستأجر الأرض، ليزرعها، ببعض الخارج،
الذي هو نماء ملكه وهو البذر.
ومنها أيضا: معنى الشركة بين المتعاقدين، لكون الخارج مشتركا
بينهما، على قدر ما سميا في العقد.
إذا ثبت هذا فنقول:
قد جاء الشرع بجواز المزارعة ببعض الخارج إذا كان عوضا عن منفعة
الأرض، أو عن منفعة العامل، بخلاف القياس، لحاجة الناس، لان
الأجرة معدومة مجهولة، فمتى كان العقد على هذا الوجه يكون مزارعة
صحيحة وإلا فيكون مزارعة فاسدة.
وأصل آخر: وهو أن صاحب البذر يستحق الخارج بسبب أنه نماء
ملكه لا بالإجارة، والذي ليس بصاحب البذر يستحق الخارج
بالشرط، وهو عقد المزارعة فإن العقد إذا كان صحيحا يجب البدل

264
المسمى، وإذا كان فاسدا لا يستحق البدل المسمى ولكن يجب أجر المثل
بمقابلة منفعة الأرض، أو منفعة العامل، لأنه لم يرض ببذل المنفعة من
غير عوض. لكن عند محمد يجب أجر المثل بالغا ما بلغ، وعند أبي
يوسف: مقدرا بقيمة الخارج المسمى ذكر الخلاف في كتاب الشركة
ويكون الخارج كله لصاحب البذر لأنه نماء ملكه. ثم إذا كان البذر من
صاحب الأرض، يكون الزرع كله له، طيبا، ولا يتصدق بشئ، لأنه
نماء ملكه، وقد حصل في أرضه. وإن كان البذر من العامل فإن
الخارج، بقدر بذره وبقدر ما غرم من أجر مثل الأرض والمؤن، يطيب
له، لأنه أدى عوضه، ويتصدق بالفضل على ذلك، لأنه - وإن تولد من
بذره - لكن في أرض غيره بعقد فاسد فأورث شبهة الخبث.
وعلى هذا قالوا في المزارعة الصحيحة: إذا لم تخرج الأرض شيئا لا
يجب على واحد منهما لا أجر العمل ولا أجر الأرض، لان الواجب هو
الخارج، لكون التسمية صحيحة، فتقومت المنافع بهذا البدل، فمتى لم
يوجد بقيت المنافع على الأصل، وهي غير متقومة.
وفي المزارعة الفاسدة: يجب أجر المثل وإن لم تخرج الأرض شيئا،
لان المنافع تتقوم هاهنا بأجر المثل ففوات الخارج لا يمنع من وجوبه.
إذا ثبت هذا فنقول:
ذكر في الكتاب وقال:
المزارعة أنواع أربعة، وهي في الظاهر
كذلك، ولكن يتفرع منهما أنواع أخر.
أما بيان الأربعة:
أن يكون الأرض والبذر من رب الأرض، والبقر والعمل وآلاته من
العامل.
- أو يكون الأرض والبقر والبذر من رب الأرض، والعمل من
العامل لا غير.

265
- أو تكون الأرض وحدها من صاحب الأرض، والباقي كله من
العامل.
- أو تكون الأرض والبقر من صاحب الأرض، والبذر والعمل من
العامل.
ففي الثلاثة الأولى: المزارعة صحيحة، لان في الفصل الأول
صاحب الأرض مستأجر للعمل، والبقر آلة العمل، فيكون تبعا له، فلا
تكون الأجرة بمقابلة البقر، كمن استأجر خياطا ليخيط بآلته يجوز.
وفي الفصل الثاني: صاحب الأرض مستأجر للعامل أيضا وحده.
وفي الفصل الثالث: يكون العامل مستأجرا للأرض وحدها.
وقد ذكرنا أن استئجار الأرض وحدها، واستئجار العامل ببعض
الخارج وحده يكون مزارعة صحيحة، لورود الحديث فيه مخالفا
للقياس.
وفي الفصل الرابع: لا يجوز، لأنه يصير صاحب البذر، وهو
العامل مستأجرا للأرض والبقر، ببعض الخارج، فيكون البعض بمقابلة
البقر مقصودا، ولم يرد الشرع به، فبقي على أصل القياس.
وروي عن أبي يوسف في الأمالي أنها جائزة.
وأما ما يتفرع منها:
- الاستئجار البذر: وهو أن يدفع الرجل بذرا إلى رجل، ليزرعه في
أرضه ببقره بنصف أو بثلث فالمزارعة فاسدة، لما قلنا إنه يصير
مستأجرا الأرض والعامل جميعا، ولم يرد الشرع به.
وروي عن أبي يوسف أنها جائزة.
ومنها: أن يشترك أربعة من أحدهم الأرض، ومن الآخر
البذر ومن الثالث البقر، ومن الرابع العمل فهي فاسدة. وفي عين

266
هذه الحادثة ورد الأثر بالفساد.
- ولو شرط عمل صاحب الأرض مع العامل لا يجوز، لأنه
لم يوجد تخلية الأرض، ويجب أجر المثل فيما إذا كان البذر من العامل،
ويجب أجر مثل عمل العامل إذا كان البذر من صاحب الأرض.
ولو شرط عمل عبد صاحب الأرض على أن يكون الخارج أثلاثا
ثلثه لصاحب الأرض، وثلثه لعبده، وثلثه للعامل إن كان البذر من
صاحب الأرض جاز، لأنه مستأجر للعامل، فيكون العبد معينا له،
ويكون نصيب العبد لصاحبه. وإن كان البذر من العامل لا يجوز،
ويكون الخارج لصاحب البذر، وعليه أجر مثل الأرض والعبد، وكذا
أجر البقر إن كان من صاحب الأرض أيضا.
ولو شرط عمل رجل أجنبي مع العامل. على أن الخارج يكون
أثلاثا فإن كان البذر من العامل لا يجوز في حق العامل الثاني، ويجوز
فيما بين صاحب الأرض والعامل الأول فيكون الثلث لصاحب الأرض،
والثلثان للعامل الأول، وللعامل الثاني أجر المثل.
وإن كان البذر من صاحب الأرض: جاز ويكون الثلث له، ولكل
عامل الثلث، لأنه يصير مستأجرا للعاملين وهذا جائز.
وأما شرائط الصحة والفساد:
فمن شرائط الصحة: بيان المدة: سنة أو أكثر وهذا جواب ظاهر
الرواية.
وعن محمد بن سلمة أنه قال: هذا في بلادهم، لان وقت الزراعة

267
متفاوت، فيصير ابتداء الزراعة مجهولا، أما في بلادنا فيجب أن يجوز،
لان وقته معلوم، فصار المعاملة، ويقع على أول زرع يخرج.
وأما في المعاملة فالقياس أن يشترط بيان المدة، وفي الاستحسان أنه
يقع على أول ثمر يخرج، فإذا انتهى الثمر انتهى العقد.
فأما في الرطاب فإذا دفع الأرض ليزرع الرطاب ودفع بذرها، أو
دفع أرضا فيها أصول رطبة ثابتة، ولم يسم المدة فإن كان شيئا ليس
لابتداء نباته، ولا لانتهاء جزه، وقت معلوم لا يجوز، فأما إذا كان
وقت جزه معلوما فإنه يجوز ويقع على وقت جزه واحدة كما في
الشجرة المثمرة.
ولو دفع إليه نخلا فيها طلع وبسر أحمر أو أصفر أو أخضر
فإنه يجوز، وإن لم يبين الوقت لأنه وقت إدراكه معلوم.
ولو دفع إليه البسر وقد تناهى عظمه، لكن لم يصر رطبا بعد لا
يجوز، لأنه لم يبق للعامل عمل يحصل به الثمر.
وكذا الجواب في دفع الزرع مزارعة إن كان بقلا لم يستحصد
جاز، وإن استحصد لا يجوز لما قلنا.
ومنها: إذا شرط على العامل شرطا يبقى منفعته إلى السنة الثانية،
وقد دفع الأرض مزارعة سنة، كحفر الأنهار الصغار والآبار ووضع
المسناة: تفسد المزارعة، وإن كان في موضع لا يبقى يجوز.
وعلى هذا إذا شرط الكراب لا تفسد لأنه لا تبقى منفعته في

268
السنة الثانية، وإن شرط الثنيان تفسد وبعضهم قالوا: أراد به تثنية
الكراب مرتين ومرارا، وهذا تبقى منفعته في السنة الثانية. ومنهم من
قال: أراد به أن تثنى الكراب بعد انقضاء مدة المزارعة، حتى يرد الأرض
مكروبة إلى صاحبها، وهو شرط مفسد.
ثم شرط الكراب إذا لم يكن مفسدا - هل يلزم المزارع؟ فنقول:
يلزم بالشرط، لأنه سبب لزيادة الغلة، فصار كمن اشترى جارية على أنها
خبازة أو كاتبة فيجبر على الكراب لو امتنع.
ولو عقد المزارعة مطلقا، هل يجب الكراب على العامل؟ إن كان
بحال يخرج الأرض زرعا معتادا من غير كراب لا يلزمه، وإن كان لا
يخرج زرعا معتادا: فإنه يجبر عليه، وإن كان يخرج شيئا قليلا، لأنه
وجب عليه مطلق عمل الزراعة، فيقع على أدنى عمل معتاد، فأما غير
المعتاد من الزرع القليل فلا عبرة به.
وكذا السقي يجب عليه إذا كان لا يخرج زرعا، معتادا بماء
السماء وحده.
ولو دفع على أنه: إن زرع بكراب، فله كذا. إن ثنى فله كذا.
وإن زرع بغير كراب وثنيان، وكذا صح العقد في ظاهر الرواية.
وكذا إذا قال: إن زرع حنطة فله كذا، وإن زرع شعيرا فله
كذا فهو على هذا أيضا.
ومنها: أن يشترط الحصاد، والدياس، التذرية، والحمل إلى
موضع البيدر فهو شرط مفسد للعقد، في ظاهر الرواية، وروي عن أبي
يوسف أنه شرط صحيح وهو قول مشايخ خراسان.

269
وأما شرط الحمل، بعد القسمة، إلى منزل صاحب الأرض فهو
مفسد بالاتفاق.
ومنها: التخلية بين الأرض والمزارع شرط الصحة وقد ذكرنا.
وأما المعاني التي تجعل عذرا للفسخ، أو تجعل عذرا في الامتناع عن
العمل أو حق أخذ الأرض فنقول:
إذا عقد عقد المزارعة، ثم أراد أحدهما الامتناع:
فإن كان صاحب البذر: له ذلك، لأنه لا يمكنه الشروع، إلا بعد
إتلاف ملكه. وهو البذر.
وإذ لم يكن صاحب البذر ليس له ذلك، إلا بعذر يفسخ به
العقد.
ولو مات أحدهما: فللآخر أن يمتنع إن كان قبل الشروع. وبعد
الشروع ينفسخ العقد، عندنا خلافا للشافعي، على التفصيل الذي
نذكر.
والاعذار الموجبة حق الفسخ في جانب صاحب الأرض هو الدين
الذي لا وجه لقضائه إلا بثمن الأرض، أو كون العامل جانيا.
وفي جانب العامل هو المرض الذي يعجزه عن العمل والسفر
ونحو ذلك.
ثم إذا فسخ أو ترك العقد، وقد عمل فيها العامل من الكراب،
وكرى السواقي، ونحوها: فإنه لا يأخذ شيئا من صاحب الأرض، لأنه
لا قيمة للمنافع، وهما قوماها بالخارج، وقد بطل سبب الاستحقاق،
بالفسخ لكن هذا في الحكم، أما يما بينه وبين الله تعالى: فعليه أن
يرضي العامل بإعطاء عوض عمله.

270
ثم بيان كيفية الفسخ بموت أحد العاقدين فنقول:
إن مات رب الأرض والزرع بقل، وقد عقد المزارعة ثلاث سنين
فإنه يبقى العقد في هذه السنة، لهذا الزرع، وليس لورثة رب الأرض
أخذ الأرض، ولكن تترك الأرض في يد المزارع حتى يستحصد، فإذا
استحصد قسموه على شرطهم، وتنتقض المزارعة، فيما بقي من السنين،
وإنما يبقى العقد نظرا للجانبين شرعا.
ولو مات المزارع، والزرع بقل فإن كان ورثة المزارع قالوا:
نحن نعمل فليس لصاحب الأرض أن يقلع. وتبقى المزارعة
حكما. فأما إذا قال ورثة المزارع نحن لا نعمل، ولكن نقلع الزرع،
والبقل بيننا لا يجبرون على العمل، ويقال لصاحب الأرض اقلع
فيكون بينكم، أو أعطهم قيمة حصتهم والزرع كله لك، أو أنفق على
حصتهم وتكون نفقتك في حصتهم.
فأما إذا انقضت المدة من غير موت المزارعين، والزرع بقل انتهى
عقد المزارعة، ولكن الزرع مشترك بينهما، فيكون العمل عليهما إلى أن
يستحصد، وعلى المزارع أجر مثل نصف الأرض.
وعلى هذا في مدة الإجارة والعارية إذا انقضت، والزرع بقل،
فإنه يجب أجر مثل الأرض، ويترك الزرع حتى يستحصد، نظرا لهما
بخلاف الموت فإنه ثمة لا يجب أجر مثل الأرض، لان ثمة يبقى العقد
حكما، ويكون العمل على العامل لا عليهما.
وعلى هذا قالوا: إن الجمال إذا مات في بعض طريق مكة فإن
المستأجر يمضي إلى مكة بالمسمى لأنا بقينا العقد حكما كذا هذا.
وكذا إذا كان على صاحب الأرض دين فادح، وفي الأرض الزرع

271
بقل ليس له أن يبيع الأرض، بل يبقى العقد إلى أن يستحصد لما
قلنا.

272
كتاب
الاكراه
الاكراه نوعان:
نوع يوجب الالجاء والاضرار: كالتخويف بالقتل، وقطع العضو،
والضرب المبرح المتوالي الذي يخاف منه التلف.
ونوع لا يوجب: كالتخويف بالحبس، والقيد، والضرب اليسير.
والذي يقع عليه الاكراه، من الفعل والترك، إما إن كان من الأمور
الحسية أو من الأمور الشرعية.
أما إذا وقع الاكراه على الفعل الحسي:
فهو أقسام ثلاثة، في حق الإباحة والرخصة والحرمة.
أما الذي يحتمل الإباحة كشرب الخمر وأكل الميتة والخنزير فإن
كان الاكراه بما يوجب الاضطرار، وهو القتل وقطع العضو ونحوه.
فإن كان غالب حال المكره أنه يقتله لو لم يشرب فإنه يباح له شربه
وتناوله، لان هذا مما يباح عند الضرورة، كما في حال المخمصة. وإن كان غالب حاله أنه لا يقتله، ولا يحقق ما أوعده، أو كان
التخويف بما ليس فيه خوف تلف النفس كالحبس والقيد والضرب
اليسير فإنه لا يباح الاقدام عليه ولا يرخص حتى يأثم بالاقدام عليه،
لأنه يجب تقديم حق الله تعالى على حق نفسه.

273
وفي الفصل الأول: يباح حتى لو أقدم لا إثم عليه. ولو لم يقدم
حتى هلك يأثم، لأنه صار مهلكا نفسه عن اختيار.
وأما الفصل الذي يرخص فيه ولا يسقط الحرمة كما إذا أكره
بالقتل على أن يجري كلمة الكفر على لسانه، أو على أن يشتم محمدا
أو على أن يصلي إلى الصليب فإنه لا يباح له ذلك، ولكن يرخص
له الفعل، وإن امتنع حتى قتل كان مثابا ثواب الجهاد، لان الحرمة لم
تسقط بخلاف الفصل الأول.
وعلى هذا لو أكره على إتلاف مال إنسان، بما فيه خوف التلف،
وغالب ظنه أن يفعل فإنه يرخص، ولا يباح لان حرمة مال الغير لا
تسقط لحقه ولكن يرخص بالضمان كما في حال المخمصة.
وأما الفصل الثالث: فلا يباح ولا يرخص، وإن كان يخالف القتل
على نفسه، كما إذا أكره بالقتل على أن يقتل فلانا المسلم، أو يقطع
عضوه أو يضربه ضربا يخاف فيه التلف، وكذا في ضرب الوالدين على
وجه يخاف منه التلف لان القتل حرام محض، وضرب الوالدين
كذلك، فلا يسقط، لأجل حقه. ولو فعل فإنه يأثم في الآخرة.
وأما أحكام الدنيا من القود والضمان فنقول:
في الاكراه على إتلاف مال الغير يجب الضمان، على المكره بلا
خلاف.
وأما في القتل خطأ، وعمدا فيكون الحكم على المكره عند أبي
حنيفة ومحمد، ويصير المكره آلة، ويصير قاتلا، فيكون الحكم عليه.
وعند أبي يوسف: تجب الدية على المكره، ولا يجب القود أصلا. وعند
الشافعي: يجب على المكره والمكره جميعا القود. وعند زفر: على المكره
والمسألة معروفة.

274
وكذا في الاكراه على القطع على هذا الخلاف.
هذا إذا لم يأذن المكره عليه للمكره على ما أكره.
أما إذا أذن له بقطع اليد، والقتل: فلا يباح للمكره ذلك، لأنه لا
يباح بالإباحة والاذن ولكن في القطع: لا يجب الضمان على أحد،
لوجود الاذن من جهته، وفي القتل: لا عبرة لاذنه، بل تجب الدية على
المكره، كما لو لم يوجد الاذن هذا جواب ظاهر الرواية وفي رواية لا
يجب.
ولو أكره على الزنا، بالقتل لا يباح، ولا يرخص للرجل
ويرخص للمرأة.
وكان أبو حنيفة يقول أولا إنه لا يجب الحد، ثم رجع وقال: فإن
كان الاكراه من السلطان: لا يجب الحد، ويجب العقر. وإن كان
من غيره يجب الحد.
وعندهما: لا يجب الحد، ويجب العقر كيفما كان.
وأما الاكراه على الأمور الشرعية:
فنوعان في الأصل: إما إن ورد الاكراه على إنشاء التصرف أو على
الاقرار به.
أما إذا ورد على الانشاء:
فهو على وجهين:
إن كان تصرفا يحتمل الفسخ، ويشترط فيه الرضا، كالبيع والشراء
والإجارة ونحوها، والاكراه بأي طريق كان فإنه يكون التصرف فاسدا:
إن اتصل به التسليم يفيد الملك، وإلا فلا.
وعلى قول زفر: يكون موقوفا على إجازة المكره والمسألة معروفة.

275
وهذا إذا باع أو اشترى بالثمن الذي أكره عليه.
فأما إذا باع بخلاف جنسه ينفذ، ويخرج عن الاكراه، لأنه أتى
بغير ما أكره عليه. وإن باع بأقل من ذلك الثمن فالقياس أن ينفذ،
ولا يكون مكرها، وفي الاستحسان يكون كرها. وإن باعه بأكثر من
ذلك الثمن يكون طائعا.
وإن كان تصرفا لا يحتمل الفسخ، كالطلاق، والعتاق، والنكاح،
واليمين، والنذر، ونحوها فإنه ينفذ التصرف، عندنا خلافا
للشافعي والمسألة معروفة.
ثم الطلاق إن كان قبل الدخول بها يلزمه نصف المهر المسمى.
والمتعة في غير المسمى: على المكره، لأنه وجب عليه بسبب إكراهه. وإن
كان بعد الدخول يجب على الزوج المكره، لأنه استوفى منفعة البضع.
وأما في العتاق فيجب الضمان على المكره، سواء كان موسرا أو
معسرا، ولا يسعى العبد في ذلك، ويكون الولاء للمعتق المكره، لان
العتق حصل بفعل المكره، لكن جعل ذلك إتلافا من المكره فعليه
قيمته.
وفي النكاح إذا أكرهت المرأة على التزويج بألف، ومهر مثلها عشرة
آلاف فالنكاح صحيح، ويقول القاضي للزوج إن شئت تمم لها
مهر مثلها، وإلا فرقت بينكما وإن لم ترض المرأة إن كان الزوج كفوا لها.
وتخير المرأة إن كان غير كفء، وإن تمم لها مهر مثلها. وإن رضيت المرأة
بنقصان المهر، وعدم الكفاءة يثبت الخيار للأولياء في عدم الكفاءة
بالاتفاق، وفي نقصان المهر عند أبي حنيفة، خلافا لهما هذا إذا كان قبل
الدخول. فإن كان بعد الدخول، وهي غير مكرهة في التمكين يجوز
النكاح، لوجود الرضا، دلالة، ويسقط الخيار للمرأة، ويبقى الخيار
للأولياء. وإن فرق القاضي بينهما: فلا شئ عليه قبل الدخول، لان

276
الفرقة جاءت من قبلها.
وأما إذا أكره على الأقارير:
فلا يصح، سواء كان بالمال، أو الطلاق، أو العتاق، ونحو ذلك،
لان الاقرار إخبار والخبر الذي ترجح كذبه لا يكون حجة والاكراه
دليل رجحان الكذب.
ولكن هذا إذا كان الاكراه بوعيد شئ معتبر عند الناس، حتى يكون
نافيا للضرر. ويختلف باختلاف حال المكره من الشرف والدناءة،
والضعف والقوة، حتى قال أصحابنا بأن السوط الواحد، والقيد والحبس في
اليوم الواحد إكراه في حق بعض الناس، وليس بإكراه في حق البعض
فيكون مفوضا إلى رأي القاضي المجتهد، لاختلاف أحوال الناس فيه.
ولو أكره رجل على قتل وارثه، بإكراه يوجب الالجاء، فإنه لا يحرم
عن الميراث، وإن كان لا يباح له الاقدام على قتله لأنه مضطر فيه.
ولو أكره رجل على شراء ذي رحم محرم منه، حتى عتق لا يجب
على المكره شئ، لأن الشراء يصح بمثل القيمة، والزيادة عليه لا
تجب والاعتاق وشراء القريب سواء في ثبوت العتق، إلا أنه لا تجب
القيمة هاهنا لأنه حصل له عوض وهو صلة الرحم.
ولو أكره على شراء عبد قال له: إن ملكتك فأنت حر،
فاشتراه، وقبضه حتى عتق عليه لا يضمن المكره، لأنه مباشر الشرط،
فإن العتق باليمين يقع.
وكذا لو قال لعبده: إن دخلت هذه الدار فأنت حر فأكره على
أن يدخل الدار، فدخل فعتق لا يضمن لأنه مباشر للشرط دون
العلة.

277
ثم الاكراه عند أبي حنيفة إنما يصح من السلطان لا غير.
وعندهما: يصح من كل مسلط له قدرة تحقيق ما وعد.
وقيل: إن هذا اختلاف زمان، لان في زمن أبي حنيفة كان لا يقدر
على الاكراه إلا السلطان، وفي زمانهما تغيرت الأمور فأجاب كل واحد على
حسب زمانه.
وبعضهم حققوا الاختلاف من حيث المعنى.
ولو أن صبيا مسلطا، بأن كان سلطانا، أكره رجلا، بالقتل، على
القتل، ونحوه فالجواب فيه وفي البالغ سواء لأنه تحقق منه الاكراه
له.
وكذا إذا كان رجل به مرة يختلط به وهو مسلط يجوز
إكراهه كالعاقل سواء.

278
كتاب
القسمة
القسمة في الاملاك المشتركة نوعان: قسمة الأعيان، وقسمة المنافع
وهي المهايأة.
أما قسمة الأعيان المشتركة
فمشروعة عرفنا شرعيتها بحديث رسول الله ص أنه قسم خيبر
بين الغانمين. وعليه توارث الأمة.
والأعيان المشتركة قد تكون أمثالا متساوية فقسمتها تكون تمييز
الأنصباء لا غير مثل المكيل والموزون والعددي المتقارب.
وقد تكون أشياء مختلفة، مثل الدور والعقار والعروض والحيوان
وقسمتها تكون في معنى البيع.
ثم القسمة قد تكون من القاضي وأمينه بإذنه وقد تكون من
الشركاء عند التراضي.
فإن كانت القسمة من القاضي عند المرافعة إليه:
فإن كان في ذلك منفعة لهم: فإنه يقسم. وإن كان فيه ضرر أو لا
حاجة لهم إلى ذلك: فإنه لا يفعل، وإن تراضيا عليه، ولكن يفوض
الامر إليهم حتى يقسموا بأنفسهم فإن الحمام المشترك بين اثنين إذا طلبا
من القاضي القسمة لا يقسم لان في القسمة ضررا، لأنهما يتضرران
بذلك، لأنه لا يمكن الانتفاع ببعض الحمام دون البعض ولو قسما

279
بأنفسهما جاز، لولايتهما على أنفسهما.
وكذا في البيت الواحد، والثوب الواحد، والجوهرة الواحدة لا
تجوز القسمة من القاضي. ولو طلبا منه القسمة لا يفعل، ولو قسما
بأنفسهما جاز.
وكذا دار بين اثنين، لأحدهما فيها شقص قليل: إن طلب صاحب
القليل: لا يقسم، لأنه لا فائدة له فيه، فيكون متعنتا. وإن طلب
صاحب الكثير: يقسم، لان له حاجة في ذلك ويدفع الضرر عن نفسه،
ولو قسما بأنفسهما: جاز، لما قلنا.
ثم المقسوم لا يخلو: إما إن كان دورا أو عقارا، أو منقولا:
فإن كان عقارا، وهي في يد الجماعة، وطلبوا القسمة من
القاضي فإن قالوا: هي بيننا ميراث عن فلان فإن عند أبي
حنيفة لا يقسم حتى يقيموا البينة على موت فلان، وعلى عدد الورثة
وعندهما يقسم بإقرارهم، ويشهد أنه قسمها بإقرارهم.
ولو كان ذلك في عروض أو شئ منقول فإنه يقسم بإقرارهم
بالاتفاق.
وكذا إذا أقروا بكون العقار بينهم ملكا مطلقا، ولم يدعوا انتقال
الملك فيها من واحد: فإنه يقسم بينهم، بإقرارهم بالاجماع.
وإن ادعوا أنهم اشتروا من فلان الغائب ففي رواية الأصل لا
يقسم حتى يثبتوا الانتقال من الغائب وفي رواية يقسم بإقرارهم.
وهذا إذا لم يكن في الورثة غائب كبير أو صغير لا ولي له، فأما إذا
كان في الورثة كبير غائب أو صغير فعند أبي حنيفة: لا يقسم على كل
حال. وعندهما ينظر: إن كانت الدار في يد الكبار الحضور فإنه
يقسم بينهم، ويضع حق الغائب في يد أمين يحفظه، ويوكل عن الصغير

280
رجلا حتى يحفظه. وإن كانت الدار في يد الغائب أو في يد الصغير أو في
أيديهما منها شئ فإنه لا يقسم حتى تقوم البينة على الميراث وعدد
الورثة بالاتفاق.
ثم إذا قامت البينة على الميراث ينظر إن كان الحضر اثنين فصاعدا
والغائب واحد أو أكثر، وفيهم صغير فإن القاضي يقسم بينهم
ويعزل نصيب كل صغير وغائب ويجعل في يد أمين يحفظه.
ولو كان هذا في ملك مطلق وشريكان حاضران، وشريك غائب
فالقاضي لا يقسم، لان القاضي له ولاية في الجملة، في مال مشترك بين
الورثة فيكون قضاء على الحاضر، ولا ولاية له على مال الغائب
مقصودا فلا يقسم من غير أن يحضر من يقوم مقامه.
ولو حضر وارث واحد، وغاب الباقون وطلب القسمة: فإن
القاضي لا يقسم، لان القسمة لا تصح إلا بين المتقاسمين الحاضرين.
ولو كان وارث كبير حاضر، وهناك وارث صغير نصب القاضي له
وصيا وقسم لأنه حضر المتقاسمان وطلب أحدهما القسمة، فإنه يحكم
بالقسمة على أحدهما للطالب.
ولو قسم دارا بين شريكين، وفيها مسيل الماء والطريق ونحوهما:
فإن قسم مطلقا وأمكن أن يجعل في نصيب كل واحد منهما طريقا ومسيل
ماء فإنه تصح القسمة في الكل. وإن كان لا يمكن جعل الطريق في
ملك أحدهما، بل يحتاج إلى تسييل الماء والاستطراق في نصيب شريكه
فإن ذكر القاسم في القسمة: إني قسمت الدار بينهما بحقوقها - فإنه
يبقى مشتركا بينهما، فيكون له حق تسييل الماء والاستطراق في نصيب
شريكه.
وإن لم يذكر الحقوق: تنقض القسمة، ويكون ذلك غلطا من

281
القاسم، لأنه لا يتمكن كل واحد منهما من الانتفاع به بدون الطريق.
ولو قسم دورا بينهم، وجعل لكل واحد نصيبه في دار واحدة، سواء
كانت متلاصقة أو في بلدة أو في بلاد لا يجوز عند أبي حنيفة،
وعندهما: إن كان يمكن التعديل في القسمة في ذلك فلا بأس به.
وعلى هذا قسمة الرقيق، بأن جعل نصيب كل واحد في عبد لا
يجوز عند أبي حنيفة، وعندهما جائز.
فأما في المنقول سوى الرقيق إذا كان جنسا واحدا، مثل الإبل
والبقر والغنم والمكيل والموزون فإنه جائز بلا خلاف لان
التفاوت يسير.
فأما إذا جعل لأحدهم الإبل، وللآخر الغنم، وللآخر البقر لم
يجز، لاختلاف الأنواع.
وكذا في الثياب من جنس واحد تجوز القسمة، وفي الأجناس
المختلفة لا تجوز. وفي الثوب الواحد لا تجوز لأنه يحتاج إلى
القطع وهو ضرر.
ثم إذا قسم الدار فإنه يقسم العرصة بالذراع، ويقسم البناء
بالقيمة، ويجوز أن يجعل لأحدهما أكثر ذراعا من الآخر لان قيمته
أكثر.
ثم ذكر أبو الحسن أن أبا حنيفة قال: يحتسب في القسمة كل ذراع
من السفل الذي لا علو له، بذراعين من العلو الذي لا سفل له.
وقال أبو يوسف: ذراع من السفل بذراع من العلو.
وقال محمد: يقسم على القيمة دون الذراع.
ومشايخنا قالوا: إنما أجاب أبو حنيفة على عادة أهل الكوفة

282
لاختيارهم السفل على العلو.
العمل في هذه المسألة على قول محمد، لاختلاف حال البلاد في
ذلك، فتعتبر القيمة.
ثم ما كان في البيع من خيار الرؤية، وخيار الشرط، والرد بالعيب
ففي القسمة كذلك: لا يختلفان، لأنها في معنى البيع وهذا إذا قسما
بالتراضي.
فأما إذا قسم القاضي فكذلك في العيب، ولا يثبت خيار الرؤية،
ولا خيار الشرط فيه، لأنه لو فسخ كان للقاضي أن يقسم ثانيا، فلا
فائدة فيه.
ولأحد الشريكين أن يحفر في نصيبه بئرا أو بالوعة، وإن كان يضر
بقسم شريكه وكذا هذا في الجارين.
وإذا ظهر للميت دين بعد القسمة، أو وارث غائب، أو طفل أدرك
ولم يكن له وصي: فلهم نقض القسمة، لان القاسم غلط فيها فإن
كان للميت مال سوى ما قسم يقضي منه الدين ولا ينقض القسمة.
وكذلك إذا قضى بعض الورثة الدين، أو كفل رجل عن صاحب
الدين. وكذا لو ظهر الدين للوارث الذي قسم ولا تكون القسمة منه
إبراء للدين الذي عليه لأنه ربما لا يعلم ذلك.
وكذلك إذا ظهرت الوصية لأجنبي، أو ظهر ولد وارث: فإنه تنقض
القسمة لان الموصى له كواحد من الورثة.
وأما المهايأة
فنوعان: من حيث المكان، أو من حيث الزمان.

283
أما من حيث المكان بأن كانت دارا كبيرة، يسكن أحدهما ناحية
والآخر ناحية: جاز، وهي قسمة المنافع، ولا يشترط فيها بيان المدة.
ولو استغل أحدهما نصيبه: جاز بخلاف العارية: فإنها لا تؤاجر.
وقال بعضهم: لا يجوز، كما في العارية إلا إذا اشترطا الاستغلال لمن
شاء منهما.
وأما من حيث الزمان بأن كانت دارا صغيرة، يسكن أحدهما شهرا
والآخر شهرا: جاز، وهذا في معنى العارية ولهذا يشترط المدة.
ولو آجر أحدهما: لا يجوز كما في العارية.
ولو تهايأ في الرقيق المشترك فأخذ أحدهما عبدا والآخر عبدا: جاز
عندهما بلا شك، لان قسمة الرقيق جائزة عندهما. وعند أبي حنيفة:
تجوز هاهنا لأنها قسمة المنافع وهي من جنس واحد.
وفي النخيل والشجر المشترك إذا أخذ أحدهما طائفة يستثمرها وينتفع
بثمرها خاصة، والآخر طائفة لا يجوز لأنها استحقاق العين بالإجارة.
وفي الأراضي يزرع أحدهما البعض، والآخر البعض جائز،
لأنها قسمة المنافع.

284
كتاب
المأذون
قال:
يحتاج إلى
بيان مشروعية الاذن، للعبد، في التجارة،
وإلى تفسير الاذن.
وإلى بيان حكم الاذن، وما يملك به العبد من التصرف وما لا
يملك.
وإلى بيان صحة الحجر،
وإلى بيان حكم المأذون بعد الحجر.
أما الأول:
فلما روي عن النبي عليه السلام أنه كان يجيب دعوة المملوك. وعليه
توارث الأمة.
وأما إذن العبد الصغير العاقل، أو الصبي الحر العاقل - فصحيح،
عندنا. وعند الشافعي: لا يصح - والمسألة معروفة.
وأما تفسير الاذن فنقول:
الاذن نوعان: خاص، وعام.
فأما الاذن الخاص فأن يقول لعبده: اشتر بدرهم لحما لنفسك
أو: اشتر كسوة لنفسك أو لفلان، فاشتراه - فإنه يجوز، ويكون

285
مأذونا، في ذلك، خاصة، والقياس أن يكون مأذونا في الأنواع كلها،
لان الاذن بالتصرف لا يتجزأ، وفي الاستحسان يقتصر على ما أذن
فيه، لان هذا من باب الاستخدام، فلو نفذ الاذن إلى غيره، ولم يكن
قصد المولى أن يكون مأذونا في التجارات لا يقدر على الاستخدام.
وأما الاذن العام فأن يقول: أذنت لك في التجارات أو في
التجارة يصير مأذونا في الأنواع كلها، بلا خلاف.
أما إذا أذن في نوع، بأن قال: اتجر في البز، أو في بيع الطعام أو
غير ذلك - يصير مأذونا في أنواع التجارات، عندنا. وعند زفر
والشافعي: يقتصر على ما سمي.
وكذا إذا قال: اقعد في التجارة أو في الصناعة يصير مأذونا
في جميع أنواع الحرف.
وكذا إذا قال: أذنت لك أن تتجر شهرا أو سنة يصير مأذونا،
في جميع الأوقات، ما لم يحجر عليه حجرا عاما.
وكذا لو قال: اتجر في البز، ولا تتجر في الخز لا يصح نهيه،
ويعم الاذن في النوعين، وغيرهما والمسألة معروفة: أن الاذن تمليك
التصرف أو إسقاط الحق وفك الحجر
ثم الاذن قد يثبت صريحا وقد يثبت بطريق الدلالة.
فالصريح ما ذكرنا.
وأما الدلالة بأن رأى المولى عبده، يبيع ويشتري، فسكت ولم ينهه
عن ذلك يصير مأذونا في التجارات، ولا يصير مأذونا في بيع ذلك
الشئ بعينه وفي الشراء يصير مأذونا وهذا عندنا.
وعند الشافعي: لا يصير مأذونا.
والسكوت يكون إذنا في مواضع فإن من باع عبدا من إنسان

286
بحضرته، والعبد ساكت يكون إقرارا منه بالرق دلالة.
- وكذا المشتري: إذا قبض السلعة بحضرة البائع، وسكت البائع
يكون إذنا بالقبض.
- وكذا إذا سمع الشفيع بالبيع، فلم يطلب الشفعة، وسكت
يكون تسليما للشفعة.
- وكذا البكر: إذا زوجها وليها، فسمعت من الولي، وسكتت
يكون إذنا.
وله نظائر.
وفي بعض المواضع لا يكون السكوت رضا، على ما عرف في
موضعه.
وكذلك إذا قال لعبده: أد إلي ألفا فأنت حر فإنه يصير مأذونا،
لأنه لا يقدر على الأداء إلا بالكسب فيكون إذنا له دلالة.
وكذلك إذا كاتب عبده: يصير مأذونا، لأنه جعله أحق بكسبه.
ثم الاذن بالتجارة يصح، معلقا بشرط، ومضافا إلى وقت بأن
قال: أذنت لك إلى رأس الشهر أو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد
أذنت لك - جاز، لان الاذن إسقاط لحق نفسه، والاسقاط يصح تعليقه
بالاخطار.
وبمثله لو علق الحجر بالشرط: لا يصح، لان الحجر فيه معنى
الاثبات، وإعادة الحق، ولا يصح تعليق الاثبات بالشرط.
وأما بيان حكم الاذن، وما يملك المأذون وما لا يملكه فنقول:
كل ما كان من التجارة، وتوابع التجارة، وضروراتها فإنه يملكه
المأذون، وما لا فلا.

287
وله أن يستأجر إنسانا ليعمل معه، أو مكانا ليحفظ فيه أمواله، أو
دوابا ليحمل عليها أمتعته.
وله أن يؤاجر ما اشترى من الدواب والرقيق.
وله أن يؤاجر نفسه أيضا.
ويصح منه الشراء بالنقد والنسيئة، وبالعروض لان ذلك معتاد
للتجار.
ويملك البيع والشراء، بغبن يسير بالاجماع. وأما بالغبن
الفاحش فيملك أيضا عند أبي حنيفة، خلافا لهما، كما اختلفوا في
الوكيل بالبيع المطلق إذا باع بغبن فاحش إلا أن في الوكيل بالشراء بغبن
فاحش لا يجوز عند أبي حنيفة. وعندهما يجوز. وفي المأذون: الشراء
والبيع سواء يجوز بغبن فاحش عند أبي حنيفة لان الوكيل متهم، ولا
تهمة هاهنا.
ويملك تأخير الدين من ثمن مبيع، أو إقرار له بإتلاف كسبه ونحو
ذلك.
والقرض لا يصح تأجيله منه، كما لا يصح من الحر.
وأما الحط فلا يصح منه، لكونه تبرعا.
وكذلك الابراء، والكفالة لأنه تبرع.
ويملك التصدق باليسير، والضيافة اليسيرة لأنها من ضرورات
التجارة عادة.
ولا يملك التصدق بالدرهم الكامل ولا الهبة ولا الهدية ولا
القرض.
وكذا لا يملك الكفالة بالنفس ولا بالمال لأنها تبرع.
ولا يملك أن يكاتب، وأن يعتق على مال لأنه ليس من التجارة.
ويملك أن يوكل بالبيع والشراء، لأنه هذا من عادة التجارة، فإنه لا

288
يقدر أن يفعل ذلك كله بنفسه.
ويجوز له أن يتوكل عن غيره بالبيع بالاتفاق.
وهل يجوز أن يتوكل بالشراء عن غيره؟ إن وكله بالشراء، نقدا،
ودفع الثمن إليه أو لم يدفع فالقياس أن لا يجوز، لأنه يصير في معنى
الكفيل بالثمن. وفي الاستحسان يجوز.
وإذا توكل بشراء عبد نسيئة لا يجوز الشراء عن الآمر ويصير
مشتريا لنفسه، لأنه يصير الثمن عليه، والملك يقع لغيره، وعليه التسليم
إليه، لان الثمن مؤجل، فيكون بمعنى الكفالة. فأما إذا كان الشراء
بالنقد، فلا يجب عليه التسليم إلى الآمر، بل له أن يحبسه حتى يستوفي
الثمن من الموكل، فلا يكون في معنى الكفالة بل في معنى البيع.
ويملك أن يأذن لعبيده في التجارة.
وله أن يعير دوابه.
وله أن يودع، ويقبل الوديعة لان هذا من صنيع التجار.
وله أن يدفع المال مضاربة، ويأخذ المال من غيره وضاربه ويشارك
مع غيره شركه عنان. ولا يجوز أن يشارك شركة مفاوضة، لأنها تتضمن
الكفالة، ولا تصح منه الكفالة. وإذا شارك شركه مفاوضة تنقلب
شركة عنان.
وهل يملك أن يكاتب عبدا من أكسابه؟ إن لم يكن عليه دين، وأجاز
المولى جاز، ويكون العبد مكاتبا لمولاه، ويدفع بدل الكتابة إلى المولى،
ويعتق، إلا إذا أذن المولى إياه بقبض بدل الكتابة. وإن كان عليه دين
لا يصح، لأنه تعلق به حق الغرماء، فيكون موقوفا على إجازة المولى
فإن لم يجز المولى، ورد الكتابة ينفسخ، وما اكتسبه يصرف إلى دينه.
وإن أجاز المولى الكتابة، وأمر العبد بقبض بدل الكتابة إن كان عليه
دين مستغرق لا تصح الكتابة، لان هذا إعتاق بشرط الأداء، والمولى

289
لا يملك كسب عبده المأذون إذا كان عليه دين مستغرق فكذا هذا،
ويباع المكاتب في الدين. وإن كان الدين غير مستغرق يعتق العبد،
ويضمن المولى قيمة العبد للغرماء، لتعلق حقهم به، كما لو أعتقه
ابتداء. وعندهما: تصح الكتابة، كيفما كان، كما يصح الاعتاق، كيفما
كان، والكسب الذي أداه المكاتب، إلى العبد المأذون، يدفع إلى
الغرماء، وإن فضل شئ فعلى مولاه، لاتلاف حقهم بالاعتاق.
ولا يملك التسري بجارية من أكسابه، لأنه لا يملك حقيقة.
وليس له أن يتزوج، لأنه ليس من التجارة، فإن أذن المولى، جاز
وعليه المهر بعد العتاق إن كان النكاح بغير إذن المولى. وإن كان بالاذن
منه يتعلق برقبته وكسبه، لكن بعدما فضل من دين التجارة إن ثبت
بإقرار المولى. فإن ثبت بالبينة تحاص المرأة الغرماء بمهرها.
وليس له أن يزوج عبده، لأنه ليس من التجارة وفيه ضرر
بالمولى.
وكذا ليس له أن يزوج أمته عندهما. وعند أبي يوسف: يملك لأنه
تصرف نافع.
ويصح منه الاقرار، على نفسه بالثمن والأجرة.
ولو أقر بالغصب فإن كان معاينة، فالضمان يتعلق برقبته، لأنه
من التجارة معنى، فإنه يملك به المغصوب.
وكذلك إذا جحد المضاربة، والوديعة لأنه بمعنى الغصب.
ثم إذا ثبت تعلق الدين برقبة العبد، وكسبه فإن الدين يقضي من
الكسب أولا. فإن فضل من الدين شئ، أو لم يكن له كسب أصلا
فإن القاضي يبيع الرقبة إذا طلبه الغرماء، إلا إذا قضى المولى دينه.
ولا يجوز من المولى بيع العبد إلا بإذن الغرماء، أو

290
بإذن القاضي، أو بأن يقضي دينهم، لان ملكه قائم لكنه مشغول بحق الغرماء.
ولو أعتقه المولى: صح إعتاقه لأنه ملكه غير أنه إن كان عليه
دين أقل من قيمته يقضي ديونه، وإن كانت ديونه أكثر من قيمته، غرم
قيمته، وإن كثرت فإن فضل شئ عن قيمته، يؤاخذ العبد بعد
العتاق.
وإن كان المأذون مدبرا، أو أم ولد، ثم أعتقه جاز عتقه، ولا
ضمان للغرماء، لأنه حقهم غير متعلق بهما، لأنه لا يجوز بيعهما.
ولو أعتق عبد عبده المأذون: إن كان عليه دين مستغرق لا يصح
إعتاقه، عند أبي حنيفة خلافا لهما. وإن كان غير مستغرق يصح
بالاجماع، والمولى ضامن لقيمته، إن كان موسرا، وإن كان معسرا،
فللغرماء أن يضمنوا العبد، ويرجع هو على المولى، كما إذا أعتق العبد
المرهون.
فأما حكم الحجر - فنقول:
إن المولى يملك حجر العبد المأذون، إذا كان حجرا مشهورا، بأن
يشتهر ذلك في السوق.
فأما إذا حجر في بيته فلا يصح لان فيه ضررا بالناس وغرورا.
ولو باعه ولا دين عليه يصير محجورا لأنه صار ملك الغير،
فلا تبقى ولاية الأول عليه.
وكذا إذا كانت جارية، فاستولدها المولى صارت ومحجورا عليها،
دلالة منع المولى أم الولد عن الخروج إلى الأسواق.
وإن أغمي عليه لم يصر محجورا استحسانا.
وفي الجنون: يصير محجورا.

291
وإذا أبق أو ارتد: صار محجورا. وقال أبو يوسف: لا يصير
محجورا.
إذا دبر المأذون: لا يصير محجورا، لأنه يمكنه التصرف مع التدبير.
وإذا صح الحجر: فلا يملك التصرف بعده في حق المولى.
ولو أقر بشئ من حقوق الأموال: فإنه لا يلزم مولاه، ولا يتعلق
برقبته، لكن يؤاخذ بعد العتاق.
وإذا كان في يده شئ من الاكساب، وعليه دين فإنه لا يصح
حجره في حقها. وليس للمولى أن يستردها، لتعلق حق الغرماء به.
ولو جنى المأذون جنايات: فإنه يقتص فيما يجب فيه القصاص،
والدفع أو الفداء فيما لا يجب فيه القصاص. والمأذون وغير المأذون في ذلك
سواء وقد ذكرنا هذا في كتاب الديات فلا نعيده.

292
كتاب
السير
قال:
يحتاج إلى:
تفسير الجهاد،
وإلى بيان كيفية فرض الجهاد،
وإلى بيان من يفترض عليه،
وإلى بيان ما يجب حال شهود الوقعة،
وإلى بيان أحكام الأنفال والغنائم،
وإلى بيان حكم الجزية،
وإلى بيان أحكام أهل الردة،
وإلى بيان أحكام البغاة، ونحو ذلك.
أما تفسير الجهاد.
فهو الدعاء إلى الدين الحق، والقتال، مع من امتنع عن القبول،
بالمال والنفس قال الله تعالى: * (انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم
وأنفسكم) * وقال: * (إن الله اشترى من المؤمنين) *.
الآية.

293
وأما بيان كيفية فرضه فنقول:
إنه فرض كفاية، لا فرض عين. ونعني به أنه إذا لم يقم به البعض
من أهل الثغور وغيرهم ممن هو يقرب منهم، فإنه يفرض على جميع
الناس، ممن له قدرة عليه، إما بالنفس أو بالمال. فإذا قام به البعض،
سقط عن الباقين، لان المقصود وهو دفع شر الكفرة، والدعاء إلى دين
الاسلام يحصل بالبعض، فما لم يتعين البعض، يجب على الكل، وإذا
تعين البعض سقط عن الباقين.
ولهذا قلنا: إذا كان النفير عاما يجب على العبد أن يخرج بغير إذن
المولى، وعلى المرأة القادرة عليه أن تخرج بغير إذن زوجها، وعلى الولد أن
يخرج بغير إذن الوالدين، أو أحدهما، إذا كان الآخر ميتا. فأما إذا قام
به البعض فلا يجوز لهؤلاء أن يخرجوا إلا بالاذن.
وأما بيان ما يجب حال شهود الوقعة فنقول:
إذا لقي الغزاة قوما من الكفار فإن لم تبلغهم الدعوة أصلا، ينبغي
أن يدعوهم إلى الاسلام أولا. فإن أبوا فإلى الذمة. فإن أبوا فحينئذ
يقاتلونهم.
فأما إذا بلغتهم الدعوة، فالأولى البداءة بالدعاء إلى الاسلام. فإن
بدأوا بالقتال والإغارة والبينات عليهم، فلا بأس بذلك، لأنه قد توجه
عليهم الخطاب بالايمان، باتفاق الأمة.
فإن سمع رجلا قال: لا إله إلا الله أو قال: أشهد أن محمدا
رسول الله فإن كان من عبدة الأوثان أو من الثنوية أو من الدهرية:
فإنه لا يباح قتله لأنه أتى بالتوحيد. وإن كان من أهل الكتاب فإتيان
الشهادتين لا يكفي، ما لم يتبرأ من دين اليهودية والنصرانية.
وكذا إذا قال: أنا مسلم أو مؤمن أو أنا مصل لأنهم

294
يعتقدون أن دينهم إسلام وأن لهم شرائع وصلاة.
وإذا قال: أنا صليت مع المسلمين بجماعة أ وأنا على دين
محمد، لا يباح قتله، لان ذلك دلالة الاسلام.
ثم الغزاة لهم أن يقتلوا: كل من كان من أهل القتال، وكل من
قاتل، وإن لم يكن من أهل القتال في الجملة، نحو الصبيان، والمجانين،
والرهابين، والشيوخ الهرمى. فأما إذا لم يقاتلوا فلا يباح قتل هؤلاء.
وأما الرهابين: فإن كانوا لا يخالطون الناس فكذلك. وإن كانوا
يخالطون الناس أو يدلون على عورات المسلمين فيباح قتلهم.
ولا بأس أن يحرقوا حصونهم بالنار، ويغرقوها بالماء، وينصبوا
، المجانيق على حصونهم، ويهدموها عليهم، وأن يرموها بالنبال، وإن
علموا أن فيهم أسارى المسلمين والتجار لان فيه ضرورة.
وكذا إذا تترسوا بأطفال المسلمين وبأسا رآهم، لكن ينبغي أن يقصدوا
به قتل الكفار دون المسلمين، لما فيه من ضرورة إقامة الفرض عليهم.
ثم إذا ظفر الغزاة بهم، فلا بأس بأن يقتل المقاتلة منهم من كان
مقاتلا، سوى الصبي والمجنون: فإنه لا يباح قتلهما بعد الفراغ من
القتال، لأنهما ليس من أهل القتل ليكون جزاء على قتالهما، إلا إذا كان
الصبي أو المعتوه ملكا، فلا بأس بقتلهما كسرا لشوكتهما، ويباح، في
حالة القتال لدفع الشر.
وأما الشيوخ، والرهابين، والنسوان إذا قاتلوا فيباح قتلهم بعد
الفراغ أيضا، جزاء على قتالهم، إلا إذا كانت المرأة ملكة فيباح قتلها
وإن لم تقاتل.
وينبغي لهم أن يخرجوا إلى دار الاسلام نساءهم، وصبيانهم،
ويسترقوهم، لما فيه من منفعة المسلمين، ولا ينبغي أن يتركوهم في دار

295
الحرب، لما فيه من ضرر بالمسلمين.
وأما الشيخ الفاني الذي لا قتال عنده، ولا يقدر أن يلقح لكن يمكن
أن يفادى به فإن شاؤوا تركوه، وإن شاؤوا أخرجوه، على قول من
يرى مفاداة الأسير بالأسير، وعلى قول من لا يرى يتركونه في دارهم
لأنه لا فائدة فيه.
وكذا في العجوز الكبيرة التي لا تلد.
ولا ينبغي للغزاة أن يفر واحد من اثنين منهم. والحاصل أن الامر
مبني على غالب الظن: فإن غلب في ظن المقاتل أنه يغلب ويقتل فلا
بأس بأن يفر منهم، ولا عبرة بالعدد، حتى إن الواحد، إذا لم يكن معه
سلاح، فلا بأس بأن يفر من اثنين معهما السلاح أو من الواحد الذي معه
سلاح.
ثم الغزاة هل لهم أن يؤمنوا الكفرة؟ إن كان عندهم أن القوة
للكفرة: يجب أن يؤمنوا حتى يتقووا، ثم يخبروهم بنقض الأمان،
ويشتغلوا بالقتال، لان الأمان في هذه الحالة في معنى القتال.
ثم أمان الواحد الحر، أو العبد المقاتل أو المرأة صحيح بلا
خلاف.
فأما أمان العبد المحجور فلا يصح عندهما، وعند محمد
والشافعي: يصح والمسألة معروفة.
وأما أمان الصبي المراهق فلا يصح عندهم. وعند محمد: يصح.
وأجمعوا أنه لا يجوز أمان التاجر في دار الحرب، ولا الأسير فيها، ولا
أمان المسلم الذي لم يهاجر إلينا، ولا أمان الذمي المقاتل معهم، لأنهم
متهمون في ذلك.

296
فأما المسلم الحر فيستوي فيه الأعمى والمريض والشيخ الكبير لان
هؤلاء من أهل الرأي.
ثم بعد صحة الأمان، للامام أن ينقض، إذا رأى المصلحة فيه،
لكن يخبرهم بذلك، ثم يقاتلهم حتى لا يكون تغريرا لهم.
وكذا الجواب في الموادعة، وهو الصلح على ترك القتال، مدة،
بمال أو بغير مال: تجوز من الامام إن رأى المصلحة، ثم يخبرهم
بالنقض، وينقض حتى لا يكون تغريرا. وما أخذ من المال، إن لم يتم
المدة يرد إليهم بقدره.
وكذلك الموادعة في حق المرتدين، وأهل البغي جائزة إذا كان فيه
مصلحة، لان هذا بمنزلة الأمان.
وهذا إذا كان الصلح على أن يكونوا على حكم الكفر.
ولو صالحوا، على أن يكونوا على أحكام المسلمين، فإنهم يصيرون
ذمة، ولا يجوز لنا نقض ذلك كعقد الذمة.
وأما أحكام الأنفال والغنائم فنقول:
هنا ثلاثة أشياء: النفل، الغنيمة، والفئ.
أما النفل: فما خصه الامام، لبعض الغزاة، تحريضا لهم على
القتال، لزيادة قوة وجرأة منهم بأن قال: من قتل قتيلا فله سلبه،
أو قال لسرية: ما أصبتم فهو لكم، أو قال لاحد معين: ما أصبت
فهو لك فإنه مختص به، ويثبت الملك له في النفل، ولا يشارك فيه
غيره من الغزاة. والسلب عبارة عن ثياب المقتول، وسلاحه، التي
معه، ودابته التي عليها سرجها، وآلاتها، وما عليها من الحقيبة التي فيها
الأموال، وما على المقتول من الكيس الذي فيه الدراهم. فأما ما يكون
مع غلامه على فرس آخر، وأمواله التي على دابة أخرى فذلك من

297
الغنيمة: يشترك فيه الغزاة كلهم وهذا عندنا.
وعند الشافعي: السلب للقاتل، وإن لم ينص عليه الامام وهي
مسألة معروفة.
وأما الفئ: فما حصل من غير مقاتلة فهو خاص لرسول عليه
السلام، فيتصرف فيه رسول الله آ كيف شاء قال الله تعالى: * (وما
أفاء الله على ؤ رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله
يسلط رسله على من يشاء) *.
وأما الغنائم: فهو اسم لما يؤخذ، من أموال الكفرة، بقوة
الغزاة وقهر الكفرة، بسبب القتال بإذن الإمام.
ويتعلق بالغنائم أحكام:
منها: حكم ثبوت الحق والملك فيها فنقول:
هذا أقسام ثلاثة:
أحدها أن يتعلق حق التملك، أو حق الملك، للغزاة، بنفس
الاخذ والاستيلاء، ولا يثبت به الملك بل الاحراز بدار الاسلام عندنا
خلافا للشافعي: فإن عنده، في قول: يثبت الملك بنفس الاخذ. وفي
قوله: بعد الفراغ من القتال، وانهزام العدو.
ويبتنى على هذا الأصل فروع
منها: أن الامام إذا باع شيئا من الغنائم، لا لحاجة الغزاة، أو باع
واحد من الغزاة، فإنه لا يصح عندنا لعدم الملك.
وكذا لو أتلف واحد من الغزاة في دار الحرب فإنه لا يضمن.
ولو مات واحد من الغزاة لا يورث سهمه.

298
ولو لحق المدد الجيش، قبل القسمة، في دار الحرب يشاركونهم في
القسمة.
ولو قسم الامام في دار الحرب، لا مجتهدا ولا باعتبار حاجة الغزاة
فإنه لا يصح القسمة عندنا.
وعند الشافعي: يصح بخلاف ذلك في الفصول والمسألة معروفة.
وأما بيان ثبوت الحق - فإن الأسير إذا أسلم قبل الاحراز بدار
الاسلام فإنه لا يكون حرا. ولو أسلم قبل الاخذ: يكون حرا، لما أنه
يتعلق به حق الغزاة بالاخذ.
وكذلك لو أسلم أرباب الأموال قبل الاحراز، بدار الاسلام فإنهم
لا يختصون بأموالهم، بل هم من جملة الغزاة في الاستحقاق، بسبب
الشركة في الاحراز بدار الاسلام، بمنزلة المدد.
وكذا ليس لواحد من الغزاة، أن يأخذ شيئا من الغنائم، من غير
حاجة ولو لم يثبت الحق كان بمنزلة المباح.
والقسم الثاني: بعد الاحراز، بدار الاسلام، قبل القسمة فإن
حق الملك يتأكد ويستقر، ولكن لا يثبت الملك أيضا.
ولهذا قالوا: لو مات أحد منهم، يورث نصيبه. ولو قسم الامام،
أو باع جاز. ولو لحقهم مدد لا يشاركونهم، ويضمن المتلف، ولكن
الملك لا يثبت، حتى لو أعتق واحد من الغزاة عبدا من عبيد الغنيمة لا
يعتق، لأنه لا يثبت الملك الخاص إلا بالقسمة.
والقسم الثالث: بعد القسمة يثبت الملك الخاص، لكل واحد
فيما هو نصيبه.
فأما حكم الطعام والعلف في دار الحرب فنقول:
لا بأس بتناول الطعام والعلف، لعموم الحاجة، سواء كان المتناول

299
غنيا أو فقيرا، من غير ضمان، لان في إلزام الغني حمل الطعام والعلف،
مع نفسه، مدة ذهابه وإيابه ومقامه، في دار الحرب حرجا عظيما.
وإذا كان محرزا بدار الاسلام: لا يباح التناول بغير ضمان.
وما فضل من الطعام والعلف، بعد الاحراز، قبل القسمة فإنه يرد
إلى الغنيمة إن كان غينا، وإن كان فقيرا يأكل بالضمان. وإن كان بعد
القسمة، فإنه يرد ثمنه إلى الفقراء.
وإن باع شيئا منه، يرد ثمنه إلى المغنم، إن كان غنيا، قبل
القسمة، وإن كان بعد القسمة: يتصدق على الفقراء. وإن كان فقيرا
يأكل إن كان بعد القسمة.
وأما ما سوى الطعام والعلف من الأموال فلا يباح للغزاة أن
يأخذوا شيئا منها، لتعلق حق الكل بها، إلا في السلاح والكراع
والثياب، عند الحاجة، وإذا استغنى يرده إلى المغنم، أو يدفع إليه
بحصته من الغنيمة - فلا يباح للغني أن يفعل ذلك بخلاف الطعام
والعلف
ومنها حكم كيفية قسمة الغنائم فنقول:
يقسم على خمسة أسهم: فأربعة أسهم. للغزاة، والخمس لأربابه،
وإنما يصرف إلى المقاتلة، يعني به أهل القتال، سواء كان شابا أو شيخا،
عبدا مأذونا أو حرا، بعد أن كان رجلا مسلما مأذونا للقتال، وسواء كان
صحيحا أو مريضا.
أما الصبي العاقل، والمرأة، والذمي، والعبد المحجور عن القتل
إذا قاتلوا، فإنه يرضخ لهم الامام شيئا، لا سهما كاملا، لأنه لا يجب
القتال على هؤلاء، إلا عند الضرورة.
ثم ينظر: إن كان راجلا فله سهم واحد، وإن كان فارسا فله

300
سهمان عند أبي حنيفة: سهم له، وسهم لفرسه. وعندهما: له ثلاث
أسهم سهم له وسهمان لفرسه.
ثم يسهم للفارس لفرس واحد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر. وعند أبي
يوسف: يسهم لفرسين، ولا يسهم لما زاد على ذلك وهذه المقادير تعرف
بالأخبار الواردة في الباب
ومنها: أنه يعتبر حال المقاتل، في كونه فارسا أو راجلا، في حال
دخوله دار الحرب، في ظاهر الرواية، إذا كان قصده الدخول للجهاد،
حتى إذا كان يدخل تاجرا، فإنه لا يستحق. ولو دخل فارسا، لقصد
الجهاد، يستحق سهم الفرسان وإن مات فرسه.
وعند الشافعي: يعتبر وصف المقاتل حال شهود الوقعة والمسألة
معروفة.
ولو دخل راجلا، ثم اشترى فرسا، أو وهب له، أو ورث، أو
استعار أو استأجر وقاتل فارسا فله سهم راجل، لاعتبار حال
الدخول.
وروى الحسن عنه أنه له سهم فارس.
ولو دخل فارسا، ثم باع فرسه، أو آجره، أو أعاره، أو رهنه أو
وهبه وسلم روى الحسن عن أبي حنيفة أن له سهم فارس، لاعتبار
الدخول. وذكر في السير الكبير أن له سهم راجل، لأنه لم يكن دخوله
لقصد الجهاد فاعتبر الحسن حالة الدخول بناء على الظاهر، واعتبر حال
شهود الوقعة أيضا، لأجل حقيقة القتال.
ومنها حكم الأسرى فنقول:
الامام بالخيار: إن شاء قتل المقاتلة منهم، سواء كانوا من المشركين
أو من أهل الكتاب، من العرب أو من العجم، لأنه قد يكون مصلحة

301
المسلمين في قتلهم، وإن شاء استرقهم وقسمهم بين الغانمين، إلا في حق
مشركي العرب: فإنهم لا يسترقون ولكن يقتلون إن لم يسلموا قال
الله تعالى: * (تقاتلونهم أو يسلمون) *.
فأما النساء والذراري: فيسترقون كلهم، العرب والعجم فيه
سواء، ولا يباح قتلهم، لأنه فيه منفعة للمسلمين.
وليس للامام أن يمن على الأسرى، فيترك قتلهم، لان فيه إبطال
حق الغزاة من غير نفع يرجع إليهم.
وهل يجوز أن يترك قتلهم بالمفاداة، بأن يفادى بهم أسرى المسلمين؟
عند أبي حنيفة: لا تجوز المفاداة، وعند أبي يوسف ومحمد: تجوز المفاداة
بهم.
ولا يجوز مفاداة أسر الكفار بمال يؤخذ منهم والمسألة معروفة.
ثم للامام خيار آخر في حق أهل الكتاب، وعبدة الأوثان من
العجم: أن يعقد معهم عقد الذمة على أن يقبلوا الجزية، ويترك
الأراضي في أيديهم بالخراج كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق
في حق مشركي العجم.
فأما في حق مشركي العرب فلا يجوز أخذ الجزية منهم، كما لا
يجوز الاسترقاق، فيقسم أراضيهم بين الغزاة، لقوله عليه السلام: لا
يجتمع دينار في جزيرة العرب.
ومنها: حكم الخمس، فنقول:
إن الخمس في زماننا يقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى، وسهم

302
للمساكين، وسهم لأبناء السبيل. ولم يكن ذكر هؤلاء الأصناف على
طريق الاستحقاق، حتى لو صرف إلى صنف منهم جاز كما في
الصدقة.
واختلف مشايخنا: قال بعضهم بأن في زمن النبي عليه السلام كان
يقسم على خمسة أسهم سهم للرسول آ، وسهم لأقرباء الرسول عليه
السلام للفقراء دون الأغنياء. وقال بعضهم: يصرف إلى الفقراء
والأغنياء من الأقرباء، وثلاثة أسهم إلى ما ذكر الله تعالى في الكتاب
وهذا عندنا.
وعند الشافعي: يقسم على خمسة أسهم فسهم الرسول يصرف إلى
كل خليفة في زمانه، وسهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم من أولاد
فاطمة وغيرها، وثلاثة أسهم أخرى إلى ما نص الله عليهم.
وعندنا على الوجه الذي كان، وقد بقي ثابتا، وهم فقراء القرابة،
سوى سهم الرسول عليه السلام: فإنه سقط بوفاته والمسألة معروفة.
ثم الخمس إنما يجب فيما يؤخذ من أموال أهل الحرب، إذا أخذ إما
بإذن الإمام، أو بقوة قوم لهم منعة وشوكة، فإن الغنيمة اسم لمال يؤخذ
على طريق القهر والغلبة أما في المنعة فظاهر. وكذا إذا أذن الامام لسرية
أو لواحد، حتى يدخل للإغارة، بخمس ما أصابه، لأنه أخذ بقوة الامام
ومعونته والامداد عند الحاجة.
فأما إذا دخل قوم لا منعة لهم، بغير إذن الإمام، وأخذوا شيئا
لا يجب فيه الخمس، عندنا خلافا للشافعي، وهم بمنزلة اللصوص
والتجار: ظفروا بمال أهل الحرب، خفية، وأخرجوه يكون ملكا لهم
خاصة ولا خمس فيه لأنه ليس بغنيمة.
هذا الذي ذكرنا حكم أموال الكفار التي أخذت منهم.

303
وأما حكم أموالنا التي أخذوا من المسلمين، بالقهر والغلبة في دار
الاسلام فقبل أن يحرزوا بدار الحرب: لا يثبت الملك لهم. وإن
أحرزوا يثبت الملك لهم عندنا، خلافا له.
وكذا الجواب في عبيدنا إذا أخذوا في دار الاسلام.
فأما إذا أبق العبد منا ودخل دار الحرب، ثم أخذوه وأسروه لا
يصير ملكا لهم عند أبي حنيفة وعندهما: يملكونه.
وأجمعوا أنهم إذا أخذوا مدبرينا ومكاتبينا، وأمهات أولادنا - أنهم
لا يملكون، حتى لو وجد الملك القديم، يأخذه من غير شئ: قبل
القسمة وبعد القسمة وفي يد التاجر.
فأما كل مال ملكوه: فإن وجد قبل القسمة يؤخذ بغير شئ. وإن
كان بعد القسمة، يؤخذ بالقيمة. وإن وجد في يد تاجر أخرجه إلى دار
الاسلام، فإنه يأخذ بالثمن إن شاء، لان للمالك القديم حق التملك
بالبدل كالشفيع وهذا في غير المكيل والموزون فأما في المثليات، فلا
يأخذ، لأنه لا فائدة في أن يأخذ شيئا ويعطي مثله.
ولو أن حربيا، دخل دار الاسلام، بغير أمان يصير فيئا لجماعة
المسلمين حتى لو أسلم قبل أن يأخذه واحد من المسلمين فإنه لا
يعتق وهذا عند أبي حنيفة. فأما عندهما: فيصير ملكا للآخذ حتى لو
أسلم قبل الاخذ يكون حرا.
وأجمعوا أنه إذا عاد، إلى دار الحرب، قبل الاخذ، ثم أسلم يكون
حرا، لان حق أهل دار الاسلام لم يتأكد عند أبي حنيفة، وعندهما لم
يثبت.
فإن دخل بأمان، ثم أخذ يصح الأمان، ولا يصير ملكا للآخذ،
لكن يقول له الامام: إن رجعت قبل سنة: فلا شئ عليك، وإن

304
مضت سنة وضعت عليك الجزية وصرت ذميا - فإن ذهب قبل مضي
السن وإلا صار راضيا بالذمة ويصير ذميا.

305
باب
أخذ الجزية، وحكم المرتدين
أما حكم الجزية فنقول:
إن أخذ الجزية، وعقد الذمة - مشروع في حق جميع الكفار، إلا في
حق مشركي العرب، والمرتدين فإنه لا يقبل منهم الجزية، كما لم يشرع
فيهم الاسترقاق.
فأما في حق أهل الكتاب، فلقوله تعالى: * (حتى يعطوا الجزية عن
يد وهم صاغرون) *.
وأما في حق العجم فبحديث عمر رضي الله عنه: أنه فتح سواد
العراق، وضرب الجزية على جماعتهم، ووضع الخراج على أراضيهم.
ثم الجزية إنما تشرع في حق المقاتلين، من الرجال، العقلاء،
الأحرار، الأصحاء دون النساء والصبيان والمجانين والأرقاء
لأنها تجب على من يجب عليه القتل.
ثم الجزية على التفاوت - في حق الموسر المكثر في كل سنة، ثمانية
وأربعون درهما. وفي حق المتوسط أربعة وعشرون. وفي حق الفقير
المعتمل، أعني القادر على العمل والكسب: اثنا عشر درهما حتى لا
يجب على الزمن، والأعمى، والشيخ الفاني، إذا لم يكونوا أغنياء، وإذا

307
كانوا أغنياء فكذلك، في ظاهر الرواية لان هؤلاء ليسوا من
القتل. وعن أبي يوسف في رواية أنه يجب على الأغنياء منهم.
وعلى هذا - في التغلبي الفقير الذي لا يقدر على العمل: لا شئ
عليه، لان الصدقة المضاعفة جزية حقيقة.
وكذلك إن مرض الذمي أكثر السنة لا تجب الجزية لان الصحة
شرط.
وكذلك أهل الصوامع، والرهابين، والسياحون يؤخذ منهم
الخراج، إذا كانوا ممن يقدرون على العمل. وعن محمد أنه لا خراج
عليهم، لأنهم لا يقتلون إذا لم يكن منهم شر ظاهر فلا تؤخذ منهم
الجزية:
ثم الجزية تجب زجرا لهم عن الكفر في المستقبل عند أبي حنيفة حتى
تؤخذ منهم الجزية في السنة التي يعقد فيها الذمة. وإذا مضت السنة لا
يؤخذ، لما مضى. وعندهما: تؤخذ، ما دام ذميا لما مضى.
ولقب المسألة أن الموانيد هل تؤخذ أم لا؟ فعنده: لا تؤخذ
خلافا لصاحبيه.
وأما إذا أسلم الذمي، أو مات تسقط الجزية عندنا، خلافا
للشافعي والمسألة معروفة.
وأما حكم أهل الردة فنقول:
لهم أحكام:
من ذلك - أن الرجل المرتد يقتل، لا محالة، إذا لم يسلم، ولا
يسترق لكن المستحب أن يعرض عليه والاسلام أولا، فإن أسلم، وإلا

308
فيقتل من ساعته إذا لم يطلب التأجيل.
فأما إذا طلب التأجيل، إلى ثلاثة أيام، لينظر في أمره فإنه يؤجل،
ولا يزاد عليه.
ولكن مشايخنا قالوا: الأولى أن يؤجل ثلاثة أيام ويحبس ويعرض
عليه الاسلام، فإذا وقع اليأس فحينئذ يقتل.
فأما المرأة: فلا تقتل عندنا. خلافا للشافعي، ولكنها تحبس وتجبر
على الاسلام وتضرب في كل ثلاثة أيام إلى أن تسلم.
وكذا الجواب في الأمة، إلا أن الأمة تحبس في بيت المولى، لان ملكه
قائم، بخلاف المرتدة المنكوحة فإن النكاح قد بطل بالردة.
ولو لحقت بدار الحرب، ثم ظهر المسلمون عليهم، لهم أن يسترقوا
المرتدة دون المرتد.
فأما الصبي العاقل إذا ارتد: فردته صحيحة عند أبي حنيفة
ومحمد، كإسلامه. وعند أبي يوسف: إسلام صحيح دون ارتداده.
وعند الشافعي: لا يصح كلاهما والمسألة معروفة. لكن لا يقتل
ويعرض عليه الاسلام، ولكن لا يحبس، ولا يضرب، وإذا بلغ الآن
يعرض عليه الاسلام، جبرا، ويحبس ويضرب لكن لا يقتل لأنه
لا يجب القتل بهذه الردة.
وعلى هذا الصبي إذا حكم بإسلامه تبعا لأبويه، ثم بلغ كافرا، ولم
يسمع منه الاقرار بعد البلوغ: فإنه يجبر على الاسلام، ولكن لا يقتل
أيضا فأما إذا سمع منه الاقرار بعد البلوغ: يقتل إذا ارتد.
والسكران إذا ارتد في حال ذهاب عقله: فالقياس أن تصح ردته في
حق الأحكام، وفي الاستحسان لا تصح. وإن ذهب عقله بسبب

309
البرسام والاغماء، فارتد في تلك الحالة: لا تصح ردته، قياسا،
واستحسانا لان الكفر لا يصح بدون القصد.
ومنها حكم مال المرتد وتصرفاته:
قال أبو حنيفة: إنه موقوف فإن مات، أو قتل على ردته، أو لحق
بدار الحرب بطل جميع ذلك، إلا أن يدعي ولد جارية له فيثبت نسبه،
وتصير الجارية أم ولد له. وإن أسلم، صح ذلك كله، لان ماله
موقوف، عنده، بين أن يصير لورثته من وقت الردة، وبين أن يبقى له
إذا أسلم، فالتصرفات المبنية عليه كذلك.
وعند أبي يوسف: تصرفاته صحيحة مثل تصرف الصحيح.
وعند محمد: تصرفاته مثل تصرف المريض لا تصح تبرعاته إلا من
الثلث، لان عندهما ملكه باق بعد الردة، وإنما يزول بالموت والقتل
وإلحاق بدار الحرب.
وأما حكم مال المرتدة وتصرفاتها فمثل قولهما في المرتد عند أبي
حنيفة، لأنها لا تقتل.
ومنها حكم ميراث المرتد:
وإذا مات، أو قتل، أو لحق بدار الحرب وترك ماله في دار
الاسلام قال أبو حنيفة: فما اكتسبه في حال الاسلام. فهو ميراث
لورثته المسلمين، وما اكتسبه في حال الردة، فهو فئ. وعندهما: الكل
ميراث.
ثم عندهما: يعتبر حال الوارث، وقت الموت والقتل دون
الردة فإن كان مسلما حرا يرث وإلا فلا.
وعن أبي حنيفة روايتان في رواية: يعتبر حال الردة لا غير. وفي
رواية: يعتبر حال الردة والدوام إلى وقت الموت والقتل.

310
وكذلك إذا لحق بدار الحرب فإنه يورث ماله، لان اللحاق بدار
الحرب بمنزلة الموت.
لكن هل يشترط قضاء القاضي بلحاقه؟ ففيه روايتان.
ولكن القاضي يحكم بعتق أمهات أولاده، ومدبريه.
وأما المكاتب فإذا أدى بدل الكتابة إلى ورثته: عتق، ويكون الولاء
للمرتد، ويقوم الورثة مقامه في حق قبض بدل الكتابة، كما إذا مات
المولى وترك مكاتبا.
ولو أن المرتد، بعدما لحق بدار الحرب عاد إلى دار الاسلام مسلما
فإن كان قبل قضاء القاضي بلحاقه فما له على حاله، ولم يعتق مدبروه
ومكاتبوه وأمهات أولاده. وإن كان بعد القضاء فما وجد من ماله، في
يد وارثه، بحاله فهو أحق به، كأنه وهب منه، وله أن يرجع. وما
زال عن ملكه، بالتمليك أو بالاكل، فلا رجوع فيه.
ولا سبيل له على أمهات الأولاد، والمدبرين، ولا يفسخ عتقهم،
لأنه لا يحتمل الفسخ، وإن وجد بدل الكتابة في يد الورثة يأخذه وإلا
فلا شئ على الورثة.

311
باب
أحكام البغاة
قال:
إذا خرج طائفة على الامام على التأويل، وخالفوا الجماعة:
فإن لم يكن لهم منعة: فللامام أن يأخذهم ويحبسهم، حتى يحدثوا
توبة.
وإن كانت لهم منعة: فإنه يجب على الذين لهم قوة وشوكة، أن
يعينوا إمام أهل العدل، ويقاتلوهم حتى يهزموهم، ويقتلوهم. وبعد
الانهزام يقتلون مدبريهم، وأسرائهم، يجهزون على جريحهم.
وأصله قوله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا
بينهما فإن بغت إحداهما على والأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر
الله) *.
وإن عفا الامام عن أسرائهم فلا بأس به أيضا.
وإن لم يكن لهم منعة ينحازون إليها: فليس للامام أن يقتل أسراهم
ولا مدبريهم، ولكن يحبسهم حتى يحدثوا توبة. ثم يخلى سبيلهم. ثم بعد
التوبة ما أخذ الامام من أموالهم وسلاحهم، وهو قائم يرد إليهم.
وما استهلكوه فلا ضمان عليهم.
وكذا في جانب أهل البغي: إذا أتلفوا أموال أهل العدل.

313
وأصله حديث الزهري أنه قال: وقعت الفتنة، فاجتمع أصحاب
رسول الله آ، وهم متوافرون، على أن كل دم أريق بتأويل القرآن فهو
هدر، وكل ما أتلف بتأويل القرآن فلا ضمان فيه، وكل فرج استبيح
بتأويل القرآن فلا حد فيه، وما كان قائما يرد.
وهذا إذا أتلفوا في حال التجبر والمنعة.
فأما إذا أتلفوا مالهم ونفوسهم قبل ظهور المنعة، أو بعد الانهزام
فإنهم يضمنون، لأنهم من أهل دار الاسلام.
وهذا جواب الحكم، وإنما نعني به أن يضمن كل واحد من الفريقين
للآخر ما أتلف من الأنفس والأموال، لكونها معصومة في هذه الحالة
إلا بطريق الدفع.
ثم كل من لا يباح قتله من أهل الحرب، لا يباح قتله من أهل
البغي، إلا إذا وجد القتال من العبيد والنسوان والشيوخ فيحنئذ يقتلون
في حالة القتال. وبعد الانهزام لا يباح.
ويكره أن يبعث برؤوس البغاة أو الحربي إلى الآفاق إلا إذا كان في
ذلك وهن لهم فلا بأس به.
ثم قتلى أهل العدل شهداء: يفعل بهم مثل ما يفعل بالشهداء
يكفنون في ثيابهم ولا يغسلون، ويصلى عليهم.
فأما قتلى أهل البغي: فلا يصلى عليهم، سواء كان لهم منعة أو لم
يكن وهو الصحيح. ولكن يغسلون، ويكفنون، ويدفنون، لان هذا
من شيمة الموتى.
وأما قضاء قاضي أهل البغي بشهادة أهل البغي فلا يصح،
لاحتمال أنه قضى بما هو باطل عندنا، لأنهم يستحلون أموالنا ودماءنا،
ولا يقبل قاضي أهل العدل كتاب قاضيهم، لما ذكرنا من الاحتمال.

314
وإذا تابوا، ورجعوا، ينظر الامام في قضاياه فإن قضى بما هو الحق
بشهادة أهل العدل ينفذ وإلا فيرد الكل.
وأما إذا نصبوا قاضيا من أهل العدل فإن قضاءه نافذ، لان لهم
شوكة وقوة وأمكن للقاضي تنفيذ قضاياه بقواهم والله أعلم.

315
كتاب
الشرب
في هذا الكتاب فصلان:
أحدهما في أحكام الشرب.
الثاني في أحكام الأراضي.
أما الأول فنقول:
إن المياه أنواع أربعة:
ماء مملوك:
وهو ما أحرز في الأواني. وحكمه حكم سائر الاملاك ليس لأحد
فيه حق، ولا يحل لاحد أن يأخذه، ولا أن يشربه إلا عند الضرورة
القاتلة، بأن أصابه العطش على وجه يهلك فيباح له الاخذ والشرب،
ولو منع صاحبه له أن يقاتله بالسلاح حتى يتمكن من تناوله بقدر ما
يدفع به عطشه، إذا كان معه فضل ماء عن حاجته الماسة. وفي الطعام:
يباح له أن يأخذ جبرا وقهرا، ولكن لا يقاتل بالسلاح، كما قال بعض
المشايخ.
وقال بعضهم: هذا في البئر الخاص والنهر الخاص فإن حق
الشفة ثابت لكل الناس، فمن منع حقه: له أن يقاتل معه. فأما في الماء
المملوك فعند الضرورة القاتلة يباح له الاخذ قهرا لكن لا يقاتل
كما في الطعام.

317
والثاني:
الماء الذي يكون في البئر والحوض والعين المملوكة له فهو حق
خاص له، كالمملوك، لكن لعامة الناس حق الشفة من هذا الماء، حتى
يشرب بنفسه، ويأخذ الماء لنفسه ولمواشيه، وليس لصاحب الماء حق
المنع، وهو معنى قوله عليه السلام: الناس شركاء في الثلاث: في
الماء والكلأ والنار.
ولكن لو أراد أحد أن يسقي زرعه من ذلك الماء، لا يجوز له ذلك،
ويمنعه السلطان عنه. لان هذا يبطل حقه، لأنه لو أطلق هذا، لشاركه
فيه كل من يمكنه سقي أرضه منه، فيبطل حقه أصلا.
والثالث:
أن يكون نهرا مشتركا بين جماعة محصورة، حتى يثبت الشفعة بسبب
الشركة فيه كان لهؤلاء الشركاء حق السقي بقد شركتهم في النهر،
وليس لغيرهم حق السقي للمزارع والأشجار، إنما لهم حق الشفة.
ولو أراد واحد من الشركاء أن يكري نهرا صغيرا، ويأخذ الماء من
النهر المشترك، فيسوق إلى أرض أحياها، ليس لها منه شرب ليس له
ذلك، إلا برضا الشركاء.
وكذلك إذا أراد أن ينصب عليه رحى ليس له ذلك، إلا برضا
الشركاء، لان بقعة الرحى حق وملك لجماعتهم، فإذا بنى اختص بتلك
البقعة، وانقطع حق الشركاء عنها، فيمنع. أما إذا كان موضع الرحى
ملكه، وليس فيه ضرر بالشركاء، بأن كان الماء يدير الرحى ويجري الماء
على سننه في النهر - فليس لهم حق المنع، لأن الماء مشترك بينهم، ولكل
واحد منهم أن ينتفع بحقه على وجه لا يتضرر به شركاؤه.
فأما إذا كرى نهرا من هذا النهر، وعرج الماء، حتى يصل إلى الرحى

318
المملوكة له في أرضه، فيدير رحاه، ثم يجري النهر من أسفله ليس له
ذلك، لان فيه ضررا بالشركاء بقطع الماء عن سننه فيتأخر وصول
حقهم إليهم وينتقص في الجملة أيضا.
وكذا الجواب في نصب الدالية والسانية.
والرابع:
الأنهار العظام، كالفرات والدجلة والجيحون وغيرها فلا حق لاحد
فيها، على الخصوص، بل هو حق العامة فكل من يقدر على سقي
أراضيه، منها فله ذلك.
وكذا نصب الرحى والدالية ونحو ذلك.
وهذا إذ لم يكن فيه ضرب بالنهر العظيم أما إذا كان فيه ضرب فيمنع
عن ذلك.
ثم كري الأنهار العظام، على السلطان، من مال بيت المال، لان
منفعتها ترجع إلى عامة الناس، فيكون مؤونة ذلك في مال العامة، وهو
مال بيت المال.
وأما كري النهر المشترك بين أقوام معلومين فعليهم واختلفوا في
كيفية ذلك:
قال أبو حنيفة: عليهم جميعا أن يكروا من أعلاه، فإذا جاوز أرض
رجل واحد، دفع عنه حصته، ويكون الكرى على من بقي.
وقال أبو يوسف ومحمد: الكري عليهم جميعا، من أوله إلى آخره
بحصص الشرب والأرض.

319
وبيان ذلك أن النهر إذا كان بين عشرة، ولكل واحد منهم، عليه،
أراض على السواء، فإن الكري، من فوهة النهر إلى أن يجاوز شرب
أولهم بينهم على عشرة أسهم: على كل واحد منهم العشر، فإذا
تجاوز شرب الأول خرج هو من الكري، ويكون الكري على الباقين،
على تسعة أسهم، فإذا تجاوز شرب الثاني سقطت عنه النفقة، ويكون
الكري على الباقين على ثمانية أسهم: على هذا الترتيب. وقالا: إن
المؤونة بينهم على عشرة أسهم، من أول النهر إلى آخره.
فهما يقولان: إن لصاحب الاعلى منفعة في حفر الأسفل، فإنه مسيل
مائة، كما أن لصاحب الأسفل منفعة في الأعلى، ثم حفر الاعلى مشترك
فكذلك الأسفل.
وأبو حنيفة يقول: إن فوهة النهر مشتركة، لا يتوصل أحدهم إلى
الانتفاع بشربه إلا بحفرها. وكذا حفر ما بعدها، فإذا تجاوز شرب
أحدهم، فلا حق له فيحفر ما بعد أرضه، لان ذلك ملك الباقي لا
ملكه، إنما له حق تسييل الماء فيه، فتكون المؤونة على المالك، لا على
صاحب الحق، كما في مسيل الماء على سطع مملوك لغيره.
وإذا كان نهر لرجل بين أراض، فاختلفوا في المسناة قال صاحب
الأرض: هي ملكي، وقال صاحب النهر: هي ملكي، ولا يعرف أن
المسناة في يد من هي، وفي تصرف من هي قال أبو حنيفة: هي ملك
صاحب الأرض، حتى إن له أن يغرس فيها ويزرع، ويمنع صاحب النهر
عن إلقاء الطين فيها، وعن المرور فيها إلا أنه ليس له أن يحفر المسناة،
فيسيل ماء النهر في غير موضعه، فيكون حق صاحب النهر في إمساك الماء
لا غير. وعلى قولهما: إنما هي ملك صاحب النهر.
ومن مشايخنا من قال: إن هذا الخلاف مبني على أن النهر هل له
حريم أم لا؟ فإن كرى رجل نهرا في أرض موات بإذن السلطان فعند

320
أبي حنيفة: ليس له حريم. وعندهما: له حريم فكان الظاهر شاهدا
لصاحب النهر عندهما وليس بشاهد له عند أبي حنيفة.
لكن أهل التحقيق من مشايخنا قالوا: لا خلاف أن للنهر حريما في
أرض موات، فإن النبي عليه السلام جعل للبئر حريما، فيكون جعله
ذاك، جعلا للنهر حريما، بطريق الأولى، لشدة حاجة النهر إلى الحريم.
ولكن الخلاف هاهنا فيما إذا لم يعرف أن المسناة في يد صاحب النهر،
بأن كانت متصلة بالأراضي، مساوية لها ولم تكن أعلى منها: فالظاهر
شاهد أنها من جملة أراضيه، إذ لو لم تكن هكذا، لكانت أعلى، لالقاء
الطين فيها ونحو ذلك. وعندهما: الظاهر شاهد لصاحب النهر، لكونه
حريما له فوقع الكلام بينهم في الترجيح.
ثم الشرب، الخاص أو المشترك، لا يجوز بيعه وهبته ونحو ذلك،
إلا الوصية. ويجري فيه الإرث، لأنه ليس بعين مال، بل هو حق
مالي.
فأما إذا باع تبعا لأرضه، جاز، ويصير الشرب لصاحب الأرض،
وإنما يدخل الشرب إذا ذكره صريحا في البيع أو يذكر: إني بعت الأرض
بحقوقها أو بمرافقها أو بكل قليل وكثير هو لها، داخل فيها وخارج منها،
من حقوقها فحينئذ يدخل. فأما في الإجارة فيدخل الشرب من غير
ذكر، لان الانتفاع بالأرض المستأجرة لا يكون إلا بالماء، بخلاف البيع.
أما أحكام الأراضي.
فهي أنواع:
وأرض مملوكة عامرة: لا يجوز لاحد التصرف فيها، والانتفاع بها،
إلا برضا صاحبها.
والثانية: أرض خراب انقطع ماؤها وهي ملك صاحبها لا تزول

321
عنه إلا بإزالته، وتورث عنه إذا مات. وهذا إذا عرف صاحبها. وإن لم
يعرف فحكمها حكم اللقطة.
الثالثة: الأرض المباحة، وتسمى الموات وهي نوعان:
أحدهما: ما يكون تبعا لبعض القرى: مرعى لمواشيهم، ومحتطبا
لهم فهي حقهم، لا يجوز للامام أن يقطعها من أحد، لان في ذلك
ضررا بهؤلاء. ولكن ينتفع بالحطب والقصب، التي فيها، هؤلاء
وغيرهم، وليس لهم أن يمنعوها عن غيرهم، لأنها ليست بملك لهم.
والحد الفاصل أن يسمع صوت الرجل من أدنى الأرض المملوكة إليه، فما
لم يسمع صوته فيه فهي ليست بتابعة لقريتهم.
والنوع الثاني: ما لا يكون تبعا لقرية من القرى فهي على
الإباحة: من أحياها بإذن الإمام: فعند أبي حنيفة تكون ملكا له،
وعندهما: بغير إذن الإمام تصير ملكا له، ويصير هو أحق بها من غيره
ملكا.
والاحياء أن يبني ثمة بناء. أو يحفر نهرا، أو يجعل للأراضي مسناة
ونحو ذلك. أما إذا وضع أحجارا حولها وجعل ذلك حدا، فإنه لا تصير
ملكا له، ولكن يكون هو أحق بالانتفاع بها، بسبق يده على ما روي:
مني مناخ من سبق.
ثم في الأراضي المملوكة: لا شركة لاحد في الحطب والقصب منها،
وإنما لهم حق في الكلأ، وليس لأربابها منع الغير عن ذلك، للحديث
الذي روينا. ولو منع عن الدخول، يقول له: أخرج الكلأ إلى
الطالب، وإلا فاتركه حتى يدخل فيحصد بنفسه.
وهكذا المروج المملوكة والأجمة المملوكة في حق الكلأ والسمك، لا
في الحطب والقصب.

322
ثم إذا حفر نهرا هل له حريم؟ عند بعض المشايخ على الخلاف
الذي ذكرنا في المسناة. وعند بعضهم: له حريم، بقدر ما يحتاج إليه
بالاتفاق لالقاء الطين ونحوه.
واختلف أبو يوسف ومحمد في مقداره: قال أبو يوسف: قدر عرض
نصف النهر من هذا الجانب، وقدر النصف من الجانب الآخر. وقال
محمد: قدر عرض جميع النهر من كل جانب.
وكذا الاختلاف في الحوض.
فأما حريم بئر العطن فأربعون ذراعا، بالاجماع.
وحريم العين خمسمائة ذراع، من كل جانب، بالاجماع.
واختلفوا في بئر الناضح قال أبو حنيفة: أربعون من كل جانب.
وقالا: ستون ذراعا.

323
كتاب
الأشربة
قال:
يحتاج إلى: تفسير أسماء الأشربة المحرمة في الجملة،
وإلى بيان أحكامها.
أما الأسماء
فثمانية: الخمر والسكر ونقيع الزبيب ونبيذ التمر
والفضيخ والباذق والطلاء ويسمى المثلث والجمهوري ويسمى أبو
يوسفي.
أما الخمر فهو اسم للنئ من ماء العنب بعدما غلي واشتد وقذف
بالزبد وسكن عن الغليان وصار صافيا وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو
يوسف ومحمد: إذا غلي واشتد فهو خمر، وإن لم يسكن عن الغليان.
وأما السكر فهو النئ من ماء الرطب بعدما غلي، واشتد، وقذف
بالزبد وسكن غليانه عنده، وعندهما: إذا غلي ولم يسكن غليانه.
وأما نقيع الزبيب فهو الزبيب إذا نقع في الماء حتى خرجت حلاوته
إلى الماء من غير طبخ.
وأما نبيذ التمر فيقع على الماء الذي نقع فيه التمر، فخرجت
حلاوته، ثم اشتد وغلي وقذف بالزبد - وهذا الاسم يقع على المطبوخ
والنئ منه.

325
وأما الفضيخ فهو البسر إذا خرج منه الماء، وغلي، واشتد،
وقذف بالزبد - وذلك بأن يكسر ويدق: يسمى فضيخا لأنه يفضخ أي
يكسر ويرض.
وأما الباذق فهو اسم لما طبخ أدنى من ماء العنب حتى ذهب
أقل من الثلثين، سواء كان أقل من الثلث أو النصف، أو طبخ أدنى
طبخه بعدما صار مسكرا وسكن عن الغليان.
وأما الطلاء فهو اسم للمثلث، وهو المطبوخ من ماء العنب،
بعدما ذهب ثلثاه، وبقي الثلث، وصار مسكرا.
وأما الجمهوري فهو الطلاء الذي يلقى فيه الماء حتى يرق ويعود
إلى المقدار الذي كان في الأصل، ثم طبخ أدنى طبخه وصار مسكرا وهذا
بيان الأسماء.
أما بيان الأحكام فنقول:
أما الخمر فلها أحكام ستة:
الأول: تحريم شرب قليلها وكثيرها.
ويحرم الانتفاع بها للتداوي وغيره. لكن عند أبي حنيفة: ما لم تسكن
من الغليان يباح شربها، وعندهما: إذا صار مسكرا يحرم شربه وإن لم
يسكن من الغليان قال عليه السلام: حرمت الخمر لعينها: قليلها
وكثيرها والسكر من كل شراب.
والثاني: تكثير جاحد حرمتها لان حرمتها ثبتت بنص الكتاب.
والثالث: يحرم تمليكها، وتملكها، بسبب الملك، من البيع والهبة
وغيرهما مما للعباد فيه صنع.
والرابع: هي نجسه نجاسة غليظة، حتى إذا أصاب الثوب أكثر

326
من قدر الدرهم، يمنع جواز الصلاة لقوله تعالى: * (رجس من عمل
الشيطان) *.
والخامس: يجب الحد بشرب قليلها وكثيرها، بإجماع الصحابة
عليه.
والسادس: يجب فيه الحد، مقدرا بثمانين سوطا في حق الأحرار،
وفي حق العبيد نصف ذلك.
وأما حكم السكر ونقيع الزبيب، والتمر من غير طبخ، والفضيخ
والباذق فواحد، وهو أنه يحرم شرب قليلها وكثيرها، لكن هذه الحرمة
دون حرمة الخمر، حتى إن من جحد حرمة هذه الأشربة لا يكفر
بخلاف الخمر.
وكذا لا يجب الحد بشرب قليلها وإنما يجب الحد بالسكر.
وقال بعض الناس بإباحة هذه الأشربة، مثل بشر المريسي، وغيره
لورود الاخبار في إباحة شربها.
واختلفت الروايات في النجاسة: ففي رواية عن أبي حنيفة أنه نجس
العين كالخمر، ويمنع من جواز الصلاة ما كان مقدرا بأكثر من قدر
الدرهم، وفي رواية ظاهر. وعن أبي يوسف أنه اعتبر فيه الكثير
الفاحش.
أو ما بيع هذه الأشربة وتمليكها فجائز عند أبي حنيفة. وعند أبي
يوسف ومحمد: لا يجوز ذلك فهما يقولان إن المال ما يباح الانتفاع به،

327
حقيقة وشرعا، وهذه الأشربة لا يباح شربها ولا الانتفاع بها شرعا، فلا
تكون مالا، كالخمر. أبو حنيفة يقول: إن الاخبار تعارضت في هذه
الأشربة، في الحل والحرمة، فقلنا بحرمة الشرب احتياطا ولا تبطل
المالية الثابتة في الحالة الأولى، احتياطا، لان الاحتياط لا يجري في إبطال
حقوق الناس.
وأما حكم الطلاء وحكم مطبوخ التمر، والزبيب، أدنى طبخ،
على السواء فالقليل منه حلال ظاهر، والمسكر حرام، وهو القدح
الذي يسكر. فإذا سكر يجب عليه الحد. ويجوز بيعه، وتمليكه
ويضمن متلفه وهذا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
وعن محمد روايتان: في رواية أنه حرام شربه، لكن لا يجب الحد ما
لم يسكر وهو قول الشافعي.
وفي رواية قال: لا أحرمه، ولكن لا أشرب منه، والصحيح
قولهما، باتفاق عامة الصحابة على إباحة شربه، حتى إن عند أبي حنيفة
هذا من علامة مذهب السنة والجماعة، حتى سئل عنها، فقال: السنة
أن تفضل الشيخين وتحب الختنين إلى أن قال: ولا تحرم نبيذ الجر.
ثم ما سوى هذه الأشربة مما يتخذ من الحنطة والشعير والذرة
والسكر، والفانيذ، والعسل، والتين فهي مباحة، وإن سكر منها،
ولا حد على من سكر منها هذا هو الصحيح من الرواية، لأن هذه من
جملة الأطعمة، ولا عبرة بالسكر، فإن في بعض البلاد قد يسكر المرء من
الخبز ونحوه، والبنج يسكر ولبن الرمكة يسكر.

328
وروى الحسن عن أبي حنيفة أن المسكر منه حرام، كما في المثلث
ولكن إذا سكر منه، لا حد فيه بخلاف المثلث.
ثم حد السكر الذي تعلق به وجوب الحد، والحرمة، عند أبي
حنيفة أن يزول عقله بحيث لا يفهم شيئا.
وعندهما: إذا كان غالب كلامه الهذيان.
فما قاله أبو حنيفة غاية السكر، فاعتبر الكمال في درء الحد، ولو كان
الخمر فيها حموضة غالبة، وفيها طعم المرارة، لكنه مغلوب فإنه لا يحل
ما لم يزل من كل وجه.
وهما اعتبرا الغالب، فيحل عندهما.
ويحرم على الأب أن يسقي الصبيان خمرا وعليه الاثم في الشرب.
وكذلك لو سقى الدواب حتى سكرت، ثم ذبحها لا يحرم أكل
لحمها.
ولو نقعت فيها الحنطة، ثم غسلت، حتى زال طعمها ورائحتها
يحل أكلها.
ولو ألقى في الخمر علاجا من الملح، والمسك والبيض والخل
حتى صارت حامضا: يحل شربها عندنا، وصارت خلا. وعند
الشافعي: لا يحل. ولقب المسألة أن تحليل الخمر بالعلاج هل يباح أم
لا؟
ولو نقل الخمر من الظل إلى الشمس، ومن الشمس إلى الظل، حتى
تصير حامضا تحل عندنا، وللشافعي، فيه قولان والمسألة معروفة. والله
أعلم.

329
كتاب
الحظر والإباحة
سمى محمد بن الحسن رحمه الله ومشايخنا هذا الكتاب: كتاب
الاستحسان، لما فيه من المسائل التي استحسنها العقل والشرع.
والشيخ أبو الحسن الكرخي سماه: كتاب الحظر والإباحة، لما
فيه من بيان أحكام الحظر والإباحة والكراهة والندب على الخصوص.
وبدأ الكتاب بإباحة المس والنظر إلى الرجال والنساء فنقول:
النسوان على أربعة أنواع:
نوع منها الزوجات، والمملوكات بملك اليمين.
ونوع منها الأجنبيات، وذوات الرحم التي لا يحرم نكاحهن.
ونوع آخر ذوات الرحم المحرم، والمحارم التي لا رحم لها كالمحرمة
بالرضاع والصهرية.
ونوع آخر مملوكات الغير.
أما النوع الأول:
فيحل للزوج وللمالك النظر والمس من قرنها إلى قدمها عن شهوة،
ويحل الاستمتاع في الفرج، وما دون الفرج، إلا في حالة الحيض فإنه
لا يباح الوطئ في هذه الحالة ما لم تطهر.
وهل يباح الجماع فيما دون الفرج؟ قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا

331
يباح الاستمتاع إلا فوق الإزار. وقال محمد: يجتنب شعار الدم ويحل
له ما وراء ذلك من غير إزار.
واختلف المشايخ في تفسير قول أبي حنيفة وأبي يوسف: ما فوق
الإزار بعضهم قالوا: أراد ما فوق السرة من البطن ونحوه، ولا يباح
ما دون السرة إلى الركبة. وقال بعضهم: أراد به أنه يحل الاستمتاع مع
الإزار لا مكشوفا.
وكذا لا يحل الاستمتاع بالدبر عند عامة العلماء. وقال بعض
أصحاب الظواهر يباح.
والأصل في ذلك قوله تعالى: * (والذين هم لفروجهم حافظون) * * (إلا
على ؤ أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) *. من غير فصل، إلا أن حالة الحيض
صارت مستثناة لقوله تعالى: * (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) *.
وصار الاستمتاع بالدبر مستثنى بإجماع الصحابة، وبحديث
علي رضي الله عنه أن النبي عليه السلام قال: من أتى حائضا أو امرأة
في دبرها، أو أتى كاهنا فصدقه فيما يقول فهو كافر بما أنزل على محمد.
وأما النظر إلى عين الفرج: فمباح أيضا لان الاستمتاع مباح،
فالنظر أولى، لكن ليس من الأدب النظر إلى فرج نفسه أو إلى فرجها.
وأصل ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قبض
رسول الله آ وما نظرت إلى ما منه وما نظر إلى ما مني.
وأما النوع الثاني وهو المحارم من ذوات الرحم، والمحارم التي لا
رحم لها من الأجنبيات فنقول:

332
النظر حرام، إلى هؤلاء: إلى ما بين السرة والركبة، وإلى البطن
والظهر، ويباح النظر إلى ما سوى ذلك من الشعر، والصدر،
والساعدين، والساقين، ونحوها لقوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن إلا
لبعولتهن) *. ولكن هذا إذا كان غالب رأيه أنه لا يشتهي. فأما
إذا كان غالب حاله أنه يشتهي: فلا يباح له النظر.
وما عرفت من الجواب في حق النظر، فهو الجواب في حق المس
أنه لا يباح له مس الأعضاء التي لا يباح له النظر إليها، ويباح مس
الأعضاء التي يباح له النظر إليها.
وهذا إذا كانت الأعضاء مكشوفة.
فأما إذا كانت مع الثياب، واحتاج ذو الرحم المحرم إلى مس هذه
الأعضاء الأربعة، وراء الثوب، للاركاب، والانزال، والوضع في القبر
واللحد فلا بأس بذلك إذا كان لا يشتهي، لأجل الحاجة.
وأما النوع الثالث وهو مملوكات الغير:
فحكمها وحكم ذوات الرحم المحرم في حرمة النظر والمس سواء.
وأما النوع الرابع وهو الأجنبيات، وذوات الرحم بلا محرم:
فإنه يحرم النظر إليها أصلا من رأسها إلى قدمها، سوى الوجه
والكفين، فإنه لا بأس بالنظر إليهما من غير شهوة، فإن كان غالب رأيه
أنه يشتهي يحرم أصلا.
وأما المس فيحرم سواء عن شهوة، أو عن غير شهوة وهذا إذا
كانت شابة.
فإن كانت عجوزا، فلا بأس بالمصافحة إن كان غالب رأيه أنه لا

333
يشتهي. ولا تحل المصافحة إن كانت تشتهي وإن كان الرجل لا
يشتهي.
فإن كان عند الضرورة: فلا بأس بالنظر، وإن كان يشتهي،
كالقاضي والشاهد: ينظر إلى وجهها، عند القضاء، وتحمل الشهادة،
أو كان يريد تزوجها، لان الغرض ليس هو اقتضاء الشهوة، على ما روي
عن النبي عليه السلام أنه قال للمغيرة بن شعبة: لو نظرت إليها
لأحرى أن يؤدم بينكما.
وأما النظر إلى القدمين هل يحرم ذكر في كتاب الاستحسان:
هي عورة في حق النظر، وليس بعورة في حق الصلاة. وكذا ذكر في
الزيادات إشارة إلى أنها ليست بعورة في حق الصلاة.
وذكر ابن شجاع عن الحسن عن أبي حنيفة أنها ليست بعورة، في
حق النظر كالوجه والكفين.
وأما الرجال في حق الرجال: فيباح لكل واحد النظر إلى الآخر،
سوى ما بين الركبة إلى السرة. والركبة عورة عندنا، خلافا للشافعي
والسرة ليست بعورة عندنا وعنده عورة.
وكذلك النساء في حق النساء: يباح النظر إلى جميع الأعضاء سوى ما
بين الركبة إلى السرة.
وما يباح النظر يباح المس من غير شهوة. ولا يباح المس والنظر إلى ما
بين السرة والركبة، إلا في حالة الضرورة، بأن كانت المرأة ختانة تختن
النساء، أو كانت تنظر إلى الفرج لمعرفة البكارة، أو كان في موضع العورة
قرح أو جرح يحتاج إلى التداوي، وإن كان لا يعرف ذلك إلا الرجل،
يكشف ذلك الموضع الذي فيه جرح وقرح، فينظر إليه، ويغض البصر
ما استطاع.

334
وكذا يباح للنساء النظر إلى الرجال، إلا فيما بين السرة إلى الركبة
لان هذا ليس بعورة، فإن الرجال قد يكونون في إزار واحد في الأسواق
ولم ينكر عليهم أحد.

335
باب آخر
قال:
رجل رأى إنسانا قتل أباه، عمدا بالسلاح أو أقر عنده، ثم قال
القاتل: إنما قتلته لأنه قتل وليي عمدا، أو أنه ارتد عن الاسلام،
ولم يعرف الابن ذلك إلا بدعواه: فإنه يباح له أن يقتص منه، لا يقبل
قوله، لان القصاص ثبت عنده لوجود القتل العمد ظاهرا، بالعيان أو
بالاقرار، فإن الاقرار حجة بنفسه، وقول القائل يحتمل الصدق والكذب
فلا يعتبر إلا بحجة.
ولو شهد، عنده، رجلان، عدلان: إن هذا الرجل قتل أباك،
عمدا، بالسلاح فإنه لا يباح له أن يقتله، لان قول الشاهدين لا
يصير حجة، بدون قضاء القاضي، بخلاف الاقرار والعيان.
ولو شهد عند الابن شاهدان على دعوى القاتل: أنه قتله بحق،
ينظر: إن كان بحال لو شهدا عند القاضي، فالقاضي يقضي
بشهادتهما: فإنه لا يتعجل بالقتل، بل يتوقف إلى أن يشهدا عند
القاضي. وإن كان بحال لا يقبل القاضي قولهما: يباح له أن يقتله
للحال بيانه:
- إذا كان الشاهدان محدودين في القذف، أو فاسقين، أو النساء
وحدهن فالقاضي لا يقضي بقولهم، ويباح له أن يقتله للحال. وإن
كانا رجلين عدلين يتوقف.

337
- وكذلك في الشاهد الواحد يتوقف.
- وروي عن محمد: في المحدودين أحب إلي أن يتوقف، لان
القاضي ربما يقبل شهادتهما، على رأي الشافعي، ويكون اجتهاده يفضي
إليه، ويراه حقا وصوابا، وقضاء القاضي، في فصل مختلف فيه
جائز.
- وكذلك في الفاسقين، والنساء وحدهن: يجب أن يكون الجواب
كذلك عنده لان ذلك فصل مختلف فيه أيضا.
- وكذلك الجواب فيما إذا رأى إنسانا أخذ مال أبيه، أو أقر عنده،
ثم قال: كان ذلك عنده وديعة لي فأخذته أو: كان لي عليه دين
فاقتضيته فله أن يأخذه.
- ولو شهد رجلان عنده بذلك: ليس له أن يأخذ لما قلنا.
- ولو أن القاضي إنما قضى في فصل مجتهد فيه، وهو من أهل
الاجتهاد برأيه، والمقضى عليه فقيه مجتهد يرى بخلاف ما يقضي به
القاضي فإنه يجب عليه أن يترك رأيه برأي القاضي، سواء كان ذلك
من باب الحل أو الحرمة أو الملك أو الطلاق أو العتاق ونحوه، لان قضاء
القاضي في فصل مجتهد فيه ينفذ بإجماع الأمة، لان رأيه ترجح بولاية
القاضي - وهذا قول محمد. وكذا قال أبو يوسف فيما ليس من باب
الحرمة، فأما إذا كان من باب الحرمة: فيتبع رأي نفسه، احتياطا في
باب الحرمة بيانه:
- رجل قال لامرأته: أنت طالق البتة وهو رجل فقيه في
زعمه واجتهاده أنه طلاق ثلاث أو بائن، فرفعت المرأة الامر إلى
القاضي، ورأيه أنه طلاق واحد، يملك الرجعة، فقضى بالحل للمرأة
عليه، يحل للزوج وطؤها، ويصير رأيه متروكا برأي القاضي عند
محمد، وعند أبي يوسف بخلافه.

338
- ولو كان رأي الزوج أن هذا طلاق رجعي، ورأي القاضي أنه
طلاق بائن أو ثلاث، فقضى بالحرمة، يحرم عليه وطؤها في القولين.
ولو كان الرجل المطلق ليس بفقيه، فأفتى له الفقهاء بأن هذا طلاق
محرم، ورفعت الامر إلى القاضي وقضى القاضي بالحل يحل له
وطؤها، لان فتوى الفقهاء للمطلق بمنزلة الاجتهاد منها، فيجب عليه ترك
الفتوى برأي القاضي عند محمد خلافا لأبي يوسف.
- وإذا كانت المسألة على العكس فالجواب كذلك أنه يتبع رأي
القاضي من القولين.
- ولو أن فقيها مجتهدا قال لامرأته: أنت طالق البتة ورأيه أنه
ثلاث، وعزم على الحرمة وأمضى رأيه فيما بينه وبينها، وأجنب عنها، ثم
تحول رأيه إلى أنه طلاق يملك الرجعة - يجب العمل بالرأي الأول في حق
هذه المرأة، حتى لا يحل له وطؤها، إلا بنكاح جديد، أو بعد الزوج
الثاني، وبالرأي الثاني في المستقبل في حقها وفي حق غيرها، لان ما أمضى
بالاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله.
ولو لم يعزم على الحرمة، ولم يمض اجتهاده بينه وبينها، حتى تحول
رأيه إلى الحل وأنه طلاق رجعي له أن يطأها، ولا تقع الفرقة لأنه لم
يوجد إمضاء الاجتهاد الأول، فصار كالقاضي إذا كان رأيه التحريم فقيل
أن يقضي تحول رأيه إلى الحل، يعمل بالرأي الثاني، ويقضي بالحل في
حق هذه المرأة فكذا هذا.

339
باب آخر منه
لا خلاف بين الأمة في إباحة استعمال الحرير، للنساء، لبسا،
واستفراشا، وجلوسا عليه، ونحو ذلك.
فأما في حق الرجال: فاللبس حرام بالاجماع، بأن جعله قباء، أو
قميصا، أو قلنسوة، وهو حرير خالص، في غير حالة الحرب. فأما في
حال الحرب فكذلك عند أبي حنيفة، وعندهما: يباح اللبس في حال
الحرب.
وهذا إذا كان كله حريرا. فأما إذا كان لحمته حريرا، فلا يكره في الحرب،
بالاجماع ويكره في
غيره. وإذا كان السدى حريرا لا غير لا يكره بالاجماع.
وأصله قوله عليه السلام على ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه
أن النبي عليه السلام أخذ حريرا بشماله وذهبا بيمينه ورفع بهما يديه
وقال: إن هذين حرام على ذكور أمتي، حل لإناثها ف أبو حنيفة أخذ
بعموم الحديث ولم يفصل بين الحرب وغيره. وهما قالا بالإباحة في حق
أهل الحرب، لان لباس الحرير أهيب للعدو وأثبت للسلاح، فخصا أهل
الحرب من عموم الحديث، ولكن أبا حنيفة قال: هذا المعنى يحصل بما
إذا كان لحمته حريرا، فلا ضرورة في الحرير الخالص.
وأما لباس الصبيان والمجانين: فحرام على الأولياء، ويأثمون

341
بذلك. أما لا حرمة في حقهم فلانه لا خطاب عليهم.
وأما النوم على الحرير، واستعماله في الجلوس عليه والاتكاء عليه
فجائز عند أبي حنيفة، لأنه ليس فيه تعظيم، بخلاف اللباس.
وعندهما: لا يجوز للرجال أيضا، لأنه لباس الكفرة من الأعاجم.
ولكن القليل من الحرير عفو في حق اللبس، وذلك مقدار ثلاث
أصابع أو أربع، فإن النبي عليه السلام لبس فروة أطرافها من حرير،
وكذلك العلم في الثياب معتاد من غير نكير من أحد، فيكون إجماعا.
وأما استعمال الذهب والفضة بطريق التحلي: فمباح في حق
النساء، وفي حق الرجال حرام، سوى التختم بالفضة. لما روينا من
الحديث، وجاءت الرخصة في الخاتم.
وأما استعمال الأواني من الذهب والفضة، في الشرب والاكل
والادهان، ونحو ذلك مما يستعمل في البدن فحرام في حق الرجال
والنساء جميعا، حتى المكحلة والمرآة والمجمر، ونحوها، وكذلك الركاب
واللجام والثفر والكرسي والسرير ونحوها. أما إذا كان مفضضا أو مضببا
فلا بأس باستعماله عند أبي حنيفة، وكذلك إذا كان على السيف.
وعندهما: يكره ذلك كله، لان الذهب والفضة صارا من أجزاء
ذلك الشئ.
وأبو حنيفة يقول إنه تبع لما ليس بذهب وفضة، والعبر للأصل
وهذا في إحدى الروايتين. وفي رواية: إذا كان فمه عند الشرب يقع على
العود لا يكره، وإن كان يقع على الفضة يكره
. وكذا إذا كان الجلوس على الكرسي المفضض والمذهب، على هاتين
الروايتين إن كان الجلوس على موضع العود: لا يكره، وإن كان على
الفضة يكره. وفي رواية لا يكره أصلا.

342
وهما رخصا في المصحف في رواية. وفي رواية يكره في المصحف
أيضا.
وهذا إذا كان الذهب مما يخلص بالإذابة.
فأما إذا كان مموها بماء الذهب والفضة، فلا بأس به، لأنه لا يخلص
عند الإذابة.
وكذا كتابة الذهب والفضة على الثياب فعلى هذا الاختلاف.
وإذا جدع أنفه، فجعل أنفا من فضة، لإزالة الشين، لا يكره
ولو جعل من الذهب لا يكره أيضا، لأنه إذا كان من الفضة ينتن فرخص
في ذلك، وفي عين هذا ورد الأثر.
ولو تحرك سنه فشدها بذهب أو فضة: فلا بأس به، عند أبي
حنيفة. وفي الجامع الصغير: لا يشدها بالذهب. وعند محمد لا بأس
به. وكان أبو حنيفة لا يرى بأسا بشدها بالفضة، لأنه لا حاجة إلى
الذهب.
ولو خيف سقوط الفص من خاتم الفضة فشد بمسمار من ذهب فلا
بأس به، بالاتفاق، لأجل الضرورة.
ولو سقطت سن إنسان، وأراد أن يعيدها ويشدها بالذهب والفضة،
يكره، عند أبي حنيفة، كما لو وضع سن ميت آخر يكره. وقال أبو
يوسف: لا بأس بإعادة سنه مكانها، ولا يشبه سنه سن ميت آخر،
وبينهما فصل عندي، وإن لم يحضرني ذلك.
ثم ذكر في الكتاب مسائل: ذكرها متفرقة في الكتب، وقد جمعها
هاهنا، وقد ذكرناها في مواضعها، فلا نعيدها ونذكر بعض ما لم نذكره.
ومنها: أنه يكره شرب لبن الأتان، للتداوي، بالاتفاق أما عند
أبي حنيفة فلا يشكل، كما في بول ما يؤكد لحمه. وأبو يوسف فرق

343
وقال: الأصل هو الكراهة لقوله عليه السلام: إن الله تعالى لم يجعل
شفاءكم فيما حرم عليكم، ولكن في البول ورد حديث خاص، فبقي
الباقي على الأصل.
وقال: لا بأس بعيادة اليهودي والنصراني، للحديث الوارد فيه،
ولأجل إلف أهل الذمة، خصوصا في حال المرض مما يدعوهم
إلى الدين الحق.
أما السلام فقالوا: يكره لما فيه من التعظيم وتعظيمهم مكروه.
وأما رد السلام: فلا بأس به، لان الامتناع من ذلك يؤذيهم،
والاحسان في حقهم مندوب، لكن ينبغي أن لا يزيد على قوله:
وعليكم، لأنه قيل إنهم يقولون السام عليكم فيجابون بقوله
وعليكم بطريق المجازاة.
وهل يكره منع هؤلاء من الدخول في المساجد قال مالك: يمنعون
عن دخول المسجد الحرام، وعن كل مسجد.
وقال الشافعي: يمنعون عن دخول المسجد الحرام لا غير.
وعندنا: لا يمنعون عن دخول شئ من المساجد، وذلك لان
المشركين كانوا يدخلون المسجد الحرام عند رسول الله آ، لعرض
الاسلام عليهم ونحو ذلك.
ويكره للمرأة أن تصل شعرها المقطوع بشعرها، وكذا بشعر
غيرها، لقوله عليه السلام: لعن الله الواصلة والمستوصلة.
ولا بأس بأن تصل شعرها بشعر البهيمة، لان ذلك من باب الزينة،
وهي غير ممنوعة عنها للزوج.
ويكره اللعب بالنرد، والشطرنج. والأربعة عشر، وكل لهو لقوله

344
عليه السلام: ما أنا من دد ولا الدد مني. وبعض أصحاب الحديث
أباحوا اللعب بالشطرنج، لما فيه من تشحيذ الخاطر. ولكن الصحيح هو
الكراهة، على ما روينا: كل لعب حرام إلا ثلاثة.
وهذا إذا لم يكن فيه قمار. فأما إذا كان فيه قمار، فهو حرام محض
لثبوت حرمته بنص الكتاب، وهو قوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) *.
ولو أن حاملا ماتت وفي بطنها ولد يضطرب: فإن كان غالب الظن
أنه ولد حي، وهو في مدة يعيش غالبا، فإنه يشق بطنها، لان فيه إحياء
الآدمي، بترك تعظيم الآدمي، وترك التعظيم أهون من مباشرة سبب
الموت.
ولو ابتلع إنسان درة رجل، فمات - لم يشق بطنه، لاخراج الدرة،
لان حرمة النفس فوق حرمة المال. وإن كان الذي ابتلع غنيا، يضمن
قيمة الدرة لصاحبها. وإن كان فقيرا، فيكون له ثواب التصدق بها والله
تعالى أعلم.

345
كتاب
السبق
قال:
لا بأس بالمسابقة في أربعة أشياء: في النصل، والحافر، والخف،
والقدم لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: كل لعب حرام إلا
ثلاث: ملاعبة الرجل أهله، ورميه عن قوسه، وتأديبه فرسه.
وتفسير المسابقة في النصل هو الرمي بالسهام، والرماح، وكل سلاح
يمكن أن يرمى به. فكانت المسابقة بذلك من باب تعلم أسباب
الجهاد، فكان مرخصا، وإن كان في الأصل من اللعب.
وتفسير المسابقة بالحافر هو عدو الفرس والحمار والبغل.
والمراد بالخف هو الإبل والبقر، لأنه قد يركب عليها، في باب
الجهاد، بعض الناس.
والمراد بالمسابقة بالقدم هو المشي بالقدم، وهذا مما يحتاج إليه للكر
وللفر في الجهاد. فكان من رياضة النفس. وأصله ما روي عن عائشة
رضي الله عنها أنها قالت: سابقت النبي عليه السلام فسبقته، فلما
حملت اللحم سابقته، سبقني، فقلت: هذه بتلك.
ثم المسابقة على أربعة أوجه: فثلاثة أوجه منها حلال والرابع
حرام.
أما أحد الأوجه الحلال بأن كان السلطان أو أحد من الرؤساء إذا

347
قال لجماعة من الفرسان أو لاثنين: من سبق منكم، فله كذا أو:
إن سبق فلا شئ عليه فمن سبق جعل له خطر.
وكذا إذا قال لجماعة من الرماة إلى الهدف: من أصاب منكم
الهدف، فله كذا لان هذا تحريض لهم على فعل هو سبب الجهاد في
الجملة.
والترجيح من الامام في الغنيمة لبعض الغزاة، تحريضا لهم على
الجهاد، جائز، بأن قال: من قتل قتيلا فله سلبه، ومن دخل
الحصن أولا فله من النفل كذا مع أن الغنيمة حق الغزاة في الجملة
فهذا يعطي من ماله فأحق بالجواز.
والثاني: أن يسابق رجلان أو يسابق جماعة، في السهام أو في الفرس
أو المشي بالقدم، وقال لصاحبه: إن سبقتني فلك كذا وإن سبقتك فلا
شئ عليك فهذا مباح، لان الخطر فيه من أحد الجانبين.
والثالث: إن كان الخطر من الاثنين أو من الجماعة، ومعهم محلل
يأخذ خطرهم إن سبق، ولا يغرم وإنه سبق فهذا جائز.
الرابع: أن يكون الخطر من كل واحد: على أنه إن سبق فله
الخطر، وإن سبق فيغرم لصاحبه مثله فهذا لا يجوز، لان هذا من باب
القمار، وإن حرام.
ثم إنما يجوز الرهان والمسابقة فيما يجوز أن يسبق أحدهما، ويسبق
الآخر. فأما إذا كان في موضع يعلم من حيث الغالب أنه يسبق أحدهما،
فإن ذلك لا يجوز، لان هذا إيجاب المال للغير على نفسه، بشرط لا منفعة
له فيه، وإنما جوزنا ذلك في الفصل الأول لأنه تحريض على مباشرة سبب
الجهاد في الجملة.

348
كتاب
المفقود
قال:
يحتاج إلى:
تفسير المفقود،
وإلى بيان أحكامه على الخصوص.
أما الأول:
فالمفقود هو الذي غاب عن بلده، بحيث لا يعرف أثره، ومضى
على ذلك زمان، ولم يظهر أثره.
وأما حكمه
فنوعان: أحدهما في الحال، والثاني في المآل.
أما حكم المآل:
إذا تطاول الزمان بعدما فقد من وقت ولادته بحيث لا يعيش مثله إلى
ذلك الزمان بيقين، أو من حيث الغالب يحكم بموته. وتقع الفرقة بينه
وبين نسائه. ويعتق أمهات أولاده ومدبروه. ويقسم ماله بين ورثته. ولا
يرث هو من أحد.
ولم يقدر في ظاهر الرواية تقديرا في ذلك.
وروى ابن زياد عن أبي حنيفة أنه قدر ذلك بمائة وعشرين سنة من
وقت الولادة.

349
وأما حكم الحال:
فهو أن القاضي هو الحافظ لماله، والمتصرف فيه فيما يرجع إلى
الحفظ. فإن كان شيئا مما يتسارع إليه الفساد، فإنه يبيعه ويحفظ ثمنه.
وكذا إذا كان عروضا، وحفظ الثمن أيسر - فلا بأس ببيعه. ولا يبيع
العقار أصلا.
وإن كان له ودائع يترك في أيديهم، لكونهم أمناء، ما دام المفقود في
حكم الاحياء.
ثم إن له أن ينفق من ماله على نسائه إن كان يعلم ببقاء النكاح
بينهما. وكذا على أولاده الصغار، والذكور الكبار الزمني والإناث.
وإن لم يكن له مال، وله ودائع: فإنه ينفق من ذلك إذا كان من
جنس الطعام، والثياب، والدراهم، والدنانير.
ولا يبيع العروض للنفقة على هؤلاء، ولكن للأب أن يبيع العروض
في نفقته، لان للأب ولاية التصرف في مال الابن في الجملة، وإن لم يكن
من باب الحفظ بخلاف القاضي.
وهذا إذا كان المودع مقرا بالوديعة وبالنكاح وبالنسب. فأما إذا كان
منكرا، فإنه لا يسمع عليه الخصومة في إثبات المال، ولا في إثبات النكاح
والنسب، لان هذا قضاء على الغائب من غير أن يكون عنه خصم
حاضر، وإنه غير جائز عندنا.
ولو مات واحد من أقربائه، فإنه لا يرث، حتى لا يأخذ القاضي
حصته من تركة الميت فيحفظ على المفقود، ولكن يوقف حتى يظهر أمره،
لأنه حي من حيث الظاهر، والظاهر لا يصلح حجة لاستحقاق أمر لم
يكن، ولكن لما كانت الحياة ثابته ظاهرا اعتبر في حق التوقف.

350
كتاب
اللقيط واللقطة وجعل الآبق
قال:
يحتاج إلى:
تفسير اللقيط، واللقطة، والآبق، والضالة، وإلى بيان أحكامها
على الخصوص.
أما الأول: فنقول:
أما اللقيط: فما يلتقط ويؤخذ مما طرح على الأرض من صغار بني
آدم.
واللقطة: ما يلتقط مما يوجد مطروحا على الأرض من الأموال من
غير الحيوان.
والآبق: هو المملوك الذي فر من صاحبه قصدا.
والضالة: هي الدابة التي ندت وضلت الطريق إلى مربطها.
وأما الثاني فنقول:
أما حكم اللقيط فنقول:
إن اللقيط يساوي الصبي، الذي ليس بلقيط، في عامة الأحكام.
وله أحكام على الخصوص:

351
منها: أن التقاطه واجب على كل من وجده، لان في تركه ضياعه،
فيجب عليه صيانته.
ومنها: أنه إذا التقطه فإن شاء تبرع بتربيته والانفاق عليه، وإن شاء
رفع الامر إلى السلطان، ليأمر بتربيته، أحدا، من مال بيت المال،
والانفاق عليه، لان بيت المال معد لحوائج جميع المسلمين. وهذا إذا لم
يكن له مال. فإن كان له مال، بأن وجد الملتقط معه مالا، فيكون مال
اللقيط فنفقته من ذلك المال، لأنه غير محتاج فلا يثبت حقه في بيت
المال.
ولو أنفق عليه الملتقط، ليرجع عليه بعد بلوغه: فإن كان بإذن
القاضي، له أن يرجع، وإلا فيكون متبرعا.
ومنها: أن الولاية عليه للسلطان في حق الحفظ، وفي حق
التزويج، لقوله عليه السلام: السلطان ولي من لا ولي له، وليس
للملتقط ولاية التزويج.
وإذا زوجه السلطان، فالمهر في بيت المال، إلا إذا كان للقيط مال،
فيكون في ماله.
ومنها: الولا: فيكون ولاؤه لبيت المال، حتى إنه إذا جنى على
إنسان، خطأ، فإن ذلك يكون في بيت المال، لان عاقلته جميع
المسلمين، فيكون عقله من مالهم، وهو مال بيت المال. وكذلك ميراثه:
لبيت المال إذا لم يظهر له وارث.
ومنها: حكم الحرية: فهو حر من حيث الظاهر، لان دار الاسلام
دار حرية فيبني على الظاهر.
ولو ادعى الملتقط أنه عبده: فإن لم يقر بأنه لقيط، فالقول قوله،
لان الصغير لا يد له، فهو وسائر الأموال سواء، فإذا كان في يده فهو

352
ملكه ظاهرا فيكون القول قوله.
فأما إذا أقر أنه لقيط فلا يصح دعواه، لأنه ثبتت حريته ظاهرا.
ولو بلغ اللقيط وأقر أنه عبد فلان: إن لم يجز عليه حكم الأحرار،
من قبول شهادته وضرب قاذفه ونحو ذلك، يصح إقراره. وإن أجرى
عليه من أحكام الحرية شئ، لا يصح.
ومنها: حكم النسب إذا ادعى الملتقط، أو غيره، أنه ابنه،
والمدعي مسلم أو ذمي، فالقياس أن لا يصح دعواه، إلا بالبينة. وفي
الاستحسان: يصح، لان في هذا نفع للصغير.
ولو ادعاه رجلان: أحدهما مسلم، والآخر ذمي فإنه يثبت نسبه من
المسلم.
ولو ادعى المسلم أنه عبده، والذمي أنه ابنه فإنه يثبت نسبه من
الذمي، حتى يثبت له الحرية، ويكون مسلما، لان حكمه حكم دار
الاسلام.
ولو كانا مسلمين وأحدهما عبد مأذون أو مكاتب فالنسب يثبت من
الحر.
ولو كانا حرين مسلمين: فإن لم يكن لهما بينة ولم يذكر أحدهما
علامة، أو ذكرا جميعا العلامة، أو أقاما جميعا البينة فهو بينهما.
وإن كان لأحدهما بينة، أو ذكر العلامة، ولم يكن للآخر ذلك
فالأول أولى، لأنه ترجح جانبه بمرجح.
وإن ادعت امرأة اللقيط أنه ابنها فإن لم يكن لها زوج: لا يصح
لان في ذلك حمل النسب على الغير وإن كان لها زوج فصدقها أو
شهدت لها القابلة أو شاهدان يثبت النسب بينهما.

353
ولو ادعت امرأتان: فإن لم يكن لهما بينة لا تقبل. وإن أقاما البينة
على أنه ابنها من فلان فعن أبي حنيفة أنه يقبل منهما، ومن الرجل.
وعن محمد روايتان: في رواية أبي حفص: يجعل ابنهما، وفي رواية أبي
سليمان: لا يجعل ابنهما.
وأما حكم الاسلام فقد اختلفت الرواية عن أصحابنا: ففي ظاهر
الروايات: اعتبر المكان دون الواجد فإن وجد في دار الاسلام: يكون
مسلما. وإن وجد في كنيسة اليهود، أو في بيعة النصارى، أو في قرية
كلهم أهل الذمة: فهو تبع لهم.
وفي رواية: اعتبر الواجد، كيفما كان، دون المكان.
وفي رواية: اعتبر جانب الاسلام: إما الواجد أو المكان.
وأما حكم اللقطة على الخصوص:
فمنها: أن من ظفر على لقطة، فالأخذ أولى. أما الترك فقالوا:
إن كان يأمن على نفسه أنه يعرفها ويردها على صاحبها، ولا محالة أو
غالبا، فالأخذ أولى، لأنه ربما يأخذه فاسق لو تركه. وأما إذا كان لا
يأمن على نفسه فالترك أولى، لان صيانة نفسه عن الوقوع في الفساد
أولى، مع احتمال أن يأخذه مصلح فيصل إلى صاحبه أيضا.
وإذا أخذ وأراد أن يضعها مكانها، وندم على الاخذ، فوضعها - هل
يضمن؟ في ظاهر الرواية: لا يضمن، وفي بعض الروايات: يضمن
وهو قول الشافعي.
ولو دفعها، إلى غيره، بغير إذن القاضي فإنه يضمن، لأنه يجب
عليه حفظها، بنفسه، بالتزامه الحفظ، بالالتقاط.
ولو هلكت في يده فإن أشهد على اللقطة، بأن قال للناس: إني

354
وجدت لقطة فمن طلبها فدلوه علي: فإنه لا يضمن. ولو لم يشهد
فعند أبي حنيفة: يضمن، وعندهما: لا يضمن إذا كان أخذه ليرده إلى
صاحبه ويحلف على ذلك إن لم يصدقه صاحبه.
ثم الملتقط إذا أخذه ليرده إلى صاحبه، وأشهد ينبغي أن يرفع الامر
إلى القاضي فإن كانت اللقطة حيوانا، فالقاضي يأمره حتى يؤاجرها،
فتكون نفقتها ومؤونتها من الأجرة، إن رأى المصلحة في ذلك. وإن لم ير
المصلحة في الإجارة: فإن رأى أن يأمره بأن ينفق عليها بما لنفسه،
ليرجع على صاحبه، فعل، وإن رأى أن يبيعها ويأمره بإمساك ثمنها
فعل.
ويعرف ذلك سنة في جواب ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن على
قدر حال اللقطة: في النفيس سنة، وفي الدني الذي قيمته زائدة على
عشرة دراهم لا ينقص من شهر على هذا الاعتبار.
فإذا مضى وقت التعريف ولم يظهر صاحبها فإن كان الرجل
موسرا لا يحل له أن ينفق على نفسه، ولكن يتصدق بها على الفقراء.
وقال الشافعي: يحل. وإن كان معسرا له أن يتصدق على نفسه، وإن
شاء: يتصدق بها على الفقراء.
فإن ظهر صاحبها: فإن شاء أمضى الصدقة وله ثوابها، وإن شاء
أخذ من المتصدق عليه، وإن شاء ضمن الملتقط.
وإن كان شيئا يتسارع إليه الفساد، فإنه يعرفها، بقدر ما لا يفسد،
ثم يتصدق، أو ينفق على نفسه على ما ذكرنا.
وإنما يدفع إلى من يدعي اللقطة إذا أقام البينة. فإن ذكر علامات

355
هي فيها فإن شاء الملتقط صدقه ودفع إليه، وإن شاء امتنع حتى يقيم
البينة.
وكذا الجواب في الدابة الضالة، من الغنم والإبل وغيرهما: فأما إذا
لم تكن ضالة، ولكنها نفرت في المراعي، فإنه لا يأخذها، لان ذلك أمر
معتاد، إذا كان قريبا من البلدة أو القرية أو الخيام.
فأما إذا كان غالب ظنه أنها ضالة، فإنه يأخذها.
وأما العبد إذا لم يكن ضالا للطريق، ولكنه آبق، من صاحبه
فالجواب ما ذكرنا. لا ولكن هاهنا متى رده إلى المالك: إن كان من مسيرة
سفر، يستحق الجعل على صاحبه: أربعين درهما عندنا، وعند
الشافعي: لا يجب شئ.
وإن كان الرد في أقل من مدة السفر يستحق الرضخ بقدره.
ولو كان الراد اثنين، فيكون الجعل بينهما.
وهذا إذا كانت قيمته أكثر من أربعين درهما.
فأما إذا كانت أربعين، أو دون ذلك، فإنه ينقص من الجعل درهما
عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا ينقص منه شئ.
ولو كان الراد من كان في عياله، لا يستحق الجعل. فأما من لم يكن
في عياله، فإنه يستحق، سواء كان أجنبيا أو ذا رحم محرم منه، إلا
الوالدين والمولودين: ففيه اختلاف بين أبي يوسف ومحمد.

356
كتاب
الخنثى
قال:
الخنثى من يكون له آلة الرجال وآلة النساء. والشخص الواحد لا
يكون ذكرا وأنثى، ولكن يحتمل أن يكون ذكرا، وآلة النساء في حقه
نقصان، بمنزلة موضع شجة لم تلتئم، ويحتمل أن يكون أنثى، وآلة
الرجال في حقها زيادة، بمنزلة الإصبع الزائدة.
والشرع جعل العلامة الفاصلة بينهما، قبل البلوغ، هو المبال، على
ما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: الخنثى يورث من حيث
يبول فلما جعل الامارة هذا في حق الإرث، فكذا في حق الأحكام التي
تختص بالخنثى يجب أن يكون هو العلامة.
فإن كان يبول من مبال الرجال، فهو ذكر. وإن كان يبول من مبال
النساء، فهو أنثى، وإن كان يبول منهما جميعا، فالحكم للأسبق منهما.
وإذا استويا في السبق: قال أبو حنيفة: أتوقف فيه. وقالا: يعتبر الأكثر
في ذلك، ثم إذا استويا في الكثرة والقلة، توقفا فيه أيضا كما توقف أبو
حنيفة. والتوقف في موضع عدم الدليل واجب وهو الخنثى المشكل.
وإنما يظهر الحال، ويزول الاشكال، بالبلوغ: بظهور الحيض،
والحبل، ونهود الثديين، ونبات اللحية، والاحتلام، ونحوها فيجري
عليه أحكام الذكر أو الأنثى.

357
فأما في حال كونه مشكلا فله أحكام مخصوصة منها:
الختان: ينبغي أن يشترى له جارية، ختانة، من ماله إن كان له
مال، ومن مال الأبوين إن كان، وإلا فالقاضي يشتري له من مال بيت
المال جارية ختانة فختنته: فإن كان ذكرا فهي جاريته، وإن كان أنثى،
فالأنثى قد تختن الأنثى عن الحاجة إليه.
ولا يلبس الحرير احتياطا.
وموقفه في الصلاة خلف صف الذكور، قبل صف النساء.
وكذا في ترتيب الجنائز عند الاجتماع: تقدم جنازته على جنازة
الإناث.
وتغسله زوجته إن كانت، وإلا فلا يغسل، ولكن ييمم: إن كان
له ذو رحم محرم ييممه بلا خرقة وإن كان أجنبيا فمع الخرقة.
وأما حكم الميراث: فعند أصحابنا: يكون له أقل الأنصباء، وهو
نصيب الأنثى إن كان أقل. وأن كان أكثر في بعض الأحوال يكون له
نصيب الذكور.
وعلى قول الشعبي: يكون له نصف ميراث الرجال، ونصف ميراث
النساء.
بيانه.
- إذا ترك ابنا معروفا وخنثى: للابن الثلثان، وللخنثى الثلث، لأنه
أقل.
- وإذا ترك خنثى وعصبة: فللخنثى النصف، وهو ميراث البنت،
والباقي للعصبة.
- ولو ترك أختا لأب وأم، وخنثى لأب، وعصبة يجعل أنثى، أنه
ترك: أختا لأب وأم، وأختا لأب، وعصبة: فللأخت للأب والام

358
النصف، وللخنثى السدس، والباقي للعصبة.
- وإن تركت زوجا، وأختا لأب وأم، وخنثى لأب: فللزوج
النصف، وللأخت لأب وأم النصف، ولا شئ للخنثى، ويجعل ذكرا،
لان هذا أسوأ حالة، لأنا لو جعلناه أنثى يكون نصيبه، السدس، وتعول
المسألة، ولو جعلناه ذكرا لا يرث شيئا - كما إذا تركت زوجا، وأختا لأب
وأم، وأخا لأب على هذا القياس.
وبيان قول الشعبي، وتفسير قول أبي يوسف، وتخريجه له، وتخريج
محمد، على وجه آخر، يذكر في الفرائض إن شاء الله تعالى ونشير إليه
هاهنا:
إذا ترك ابنا وخنثى: فعلى تخريج أبي يوسف يجعل المال بينهما على
سبعة أسهم للابن المعروف أربعة، وله ثلاثة.
وعلى تخريج محمد: الميراث بينهما على اثني عشر سهما، بطريق تنزيل
الأحوال، فيكون للابن المعروف سبعة، وللخنثى خمسة والله تعالى أعلم
بالصواب.

359
كتاب
الشهادات
يحتاج إلى ثلاثة فصول:
إلى بيان تحمل الشهادة.
وإلى بيان حضور الشهود عند النكاح،
وإلى بيان جواز أداء الشهادة عند القاضي.
أما الأول: فنقول:
تحمل الشهادة إنما يجوز عند المعاينة، أو عن سماع الاقرار وإنشاء
القول، من النكاح، والطلاق، والبيع، ونحوها، من الخصم.
فأما التسامع من الناس فلا عبرة به، إلا في مواضع مخصوصة: في
النكاح، والنسب، والموت، وفي الولاء اختلاف عند أبي حنيفة
ومحمد: لا يقبل، وعند أبي يوسف: يقبل.
وإنما يصح التحمل ممن له عقل وتمييز، ليفهم كلام الخصمين، أو
يعلم ما يفعله، سواء كان حرا أو عبدا، أو فاسقا أو كافرا، أو صغيرا
عاقلا أو بالغا، حتى إذا زالت هذه المعاني وحدثت ضدها تقبل شهادته.
وكذا العبد إذا تحمل الشهادة لمولاه، أو المرأة لزوجها تقبل بعد
العتق والبينونة. لكن لو شهد لمولاه وردت شهادته، أو شهدت المرأة
لزوجها وردت، ثم شهد بعد العتق والبينونة، في تلك الحادثة لا
تقبل بخلاف الكافر إذا شهد على مسلم في حادثة، فردت شهادته، ثم

361
أعاد تلك الشهادة بعد الاسلام تقبل والفرق مذكور في الخلافيات.
وأما حضور الشهود عند عقد النكاح
فقد بينا ذلك في كتاب النكاح. فلا نعيده.
وأما جواز الشهادة عند القاضي فنقول:
شهادة رجلين عدلين مقبولة في جميع الأحكام في أسباب
العقوبات وغيرها إلا في الزنى فإنه لا تقبل إلا شهادة أربعة رجال
عدول.
وشهادة رجل وامرأتين مقبولة في جميع الأحكام، عندنا، إلا في
الحدود والقصاص. وعند الشافعي: لا تقبل إلا في الأموال وتوابعها.
وكذا حكم الشهادة على الشهادة: مثل حكم شهادة رجلين أو رجل
وامرأتين.
وتجوز شهادة الأقارب، مثل شهادة الأجانب، إلا شهادة الوالدين
والمولودين، وشهادة أحد الزوجين لصاحبه. وعند الشافعي تقبل شهادة
الأزواج.
ولا تجوز شهادة المحدود في القذف إذا تاب عندنا خلافا
للشافعي.
ولا تجوز شهادة الأعمى، وإن كان بصيرا عند التحمل، عند أبي
حنيفة. وقال أبو يوسف: تقبل إذا كان بصيرا عند التحمل.
ولا تجوز شهادة العبد، والأخرس. والصبي العاقل، والمعتوه، ولا
شهادة الأخير له في تجارته التي استأجره فيها، ولا شهادة أحد الشريكين
في مال الشركة والتصرف فيها، وتقبل فيما سوى ذلك.

362
وأما شهادة الفاسق فإن تحرى القاضي الصدق في شهادته: تقبل،
وإلا فلا. وعند الشافعي لا تقبل أصلا، ولا تقبل في العقوبات.
ولو طعن المشهود عليه في الشاهد: أنه رقيق أو فاسق لم تمض
الشهادة، ما لم يقم البينة على الحرية إن كان مجهول النسب.
وكذا ما لم يسل عن عدالتهم في السر والعلانية
. ولا يجوز القضاء بظاهر العدالة بالاتفاق. وقبل الطعن يجوز عند
أبي حنيفة، خلافا لهما.
ولو اختلف الشاهدان في الوقت، والمكان، والعبارة، مع استواء
العبارتين في المعنى فإن كان ذلك في الاقرار: تقبل شهادتهما، ولا
يوجب اختلاف الشهادة. وإن كان في الفعل. من الغصب، والقتل،
والقطع وإنشاء البيع والطلاق ونحوها. فإنه يوجب اختلاف
الشهادة، فما لم يوجد على كل واحد شاهدان: لا يقبل.
وإذا اختلف الشاهدان في جنس المشهود به لا يقبل.
ولو اختلفا في المقدار، وأحدهما يدخل في الآخر والمدعي يدعي
الأكثر، كما إذا شهد أحدهما على ألف والآخر على ألفين: لا تقبل عند
أبي حنيفة وعندهما: تقبل على الأقل.
وكذا إذا شهد أحدهما على طلقة، والآخر على طلقتين أو ثلاث لا يقبل عند
أبي حنيفة، وعندهما: يقبل على الأقل.
وأجمعوا أنه إذا شهد أحدهما على ألف، والآخر على ألف وخمسمائة،
والمدعي يدعي لأكثر: يقبل على ألف، وقد ذكرنا في الطلاق. وأكثر
مسائل الشهادة ذكرنا في الكتب السابقة، فلا نعيدها.

363
كتاب
الرجوع عن الشهادات
الرجوع عن الشهادة لا يصح بعد قضاء القاضي، ويصح قبله،
لأنه إخبار يحتمل الغلط. وإنما يصير حجة، ضرورة صحة القضاء، فم
لم يتصل به قضاء القاضي، يصح الرجوع. ولا يلزم الشهود بذلك
شئ لأنه لم يثبت به الحكم.
وبعد الحكم لا يصح الرجوع في حق الخصم، ولكن يصيب متلفا في
حق المشهود عليه، فيلزمه ضمانه، إلا إذا حصل العوض، للمشهود
عليه فبذلك لا يضمن، لأنه يكون إتلافا بعوض، فلا يكون إتلافا
معنى. والعبرة في الرجوع بقاء من بقي من الشهود، لا رجوع من
رجع، ويبقى الحق بقدر بقاء الشهود، ويتلف بقدر ما رجع
. إذا ثبت هذا الأصل تخرج عليه المسائل.
- إذا شهد شاهدان لي رجل بمال، وقضى القاضي بذلك، وسلم
المال إلى المدعي، ثم رجع أحدهما: غرم نصف المال، لأنه بقي النصف
ببقاء شاهد واحد. ولو رجعا جميعا غرما المال، بينهما، نصفين
. - ولو كانوا أربعة، فرجع اثنان أو واحد منهم فلا شئ عليه،
لبقاء المال ببقاء الشاهدين. ولو رجع ثلاثة يلزمهم نصف المال لبقاء
النصف، ببقاء شاهد واحد. - ولو شهد رجل وامرأتان، على مال، فرجعت امرأة غرمت ربع

365
المال. ولو رجعتا غرمتا نصف المال لبقاء النصف ببقاء رجل لان
المرأتين بمنزلة رجل واحد.
- ولو شهد رجل واحد وعشر نسوة، على رجل بمال ثم رجعوا
جميعا بعد الحكم: فقال أبو حنيفة: على الرجل سدس المال، وعلى
النساء خمسة أسداسه، لان كل امرأتين بمنزلة رجل واحد. وعند أبي
يوسف ومحمد: على الرجل النصف، وعلى النساء النصف، لأن النساء
وإن كثرن لهن شطر الشهادة.
- ولو شهدا على رجل: أنه باع عبده من فلان بألف، وقبض
الثمن ثم رجعا لم يضمنا، لان هذا إتلاف بعوض.
- وكذا لو شهدا على رجل أنه تزوج امرأة بألف درهم، وهو مهر
مثلها، وقضى القاضي النكاح ثم رجعا لم يضمنا لأنهما أثبتا له
البضع بمقابلة المال.
- ولو شهدا على رجل أنه طلق امرأته ثلاثا، وقد دخل بها، وقضى
القاضي، ثم رجعا لم يضمنا، إلا ما زاد على مهر المثل، لأنه، بقدر
مهر المثل إتلاف بعوض وهو استيفاء منافع البضع.
ولو كان قبل الدخول: فإن كان المهر مسمى، ضمنا النصف، وإن
لم يكن المهر مسمى يضمنان المتعة، لان ذلك تلف بشهادتهما، ولم يحصل
له بمقابلته عوض.
- وكذلك لو شهدا على رجل، بإجارة داره سنة، ثم رجعا بعد
استيفاء السكنى فإنهما يغرمان للمستأجر ما زاد على أجر المثل، لأنه،
بقدر أجر المثل حصل العوض، والباقي بغير عوض فيكون إتلافا.
- وكذا لو شهدا على رجل أنه أعتق عبده بألف درهم وسلم إليه
أولا، ثم رجعا لم يضمنا لان هذا إتلاف بعوض.

366
- ولو شهدا أنه أعتق بغير مال ثم رجعا يضمنان للاتلاف بغير
عوض.
- ولو شهدا على أنه قال لعبده: إن دخلت هذه الدار فأنت حر،
وقد دخل، وقضى القاضي بالعتق، ثم رجعا ضمنا لأن هذه شهادة
على الاعتاق وهو إتلاف بغير عوض، فيضمنان.
- ولو شهدا أنه حلف بعتق عبده بدخول الدار، وشهد آخران على
الدخول، وقضى القاضي بالعتق، ثم رجعوا: فإن الضمان يجب على
شهود اليمين، لا على شهود الدخول، لان الدخول شرط، وكلام
اليمين صار إعتاقا، والتلف يضاف إلى العلة دون الشرط ويكون،
المتلف هو شاهد ليمين.
- ولو شهدا على رجل بسرقة عشرة دراهم، وقضى القاضي، عند
خصومة المالك، وقطعت يده، ثم رجعا يغرمان دية اليد.
- وكذلك لو شهدا على رجل بقتل الخطأ أو بجراحه خطأ ثم
رجعا.
- ولو شهدا على القتل العمد، وقضى القاضي، واقتص، ثم
رجعا: لا يجب القصاص على الشهود عندنا. وعند الشافعي: يجب،
ولكن عندنا يجب المال، لأنه لا يمكن إيجاب القصاص بالتسبيب، ويمكن
إيجاب المال كما في حفر البئر.
- ولو شهد أربعة على رجل بالزنا، وشهد آخران على
الاحصان ثم رجعوا بعد إقامة الرجم لا يجب على شهود الاحصان
شئ، وتجب الدية على شهود الزنى، لان الزنا علة، والاحصان شرط.
ولو رجع أحد الشهود بالزنا، بعد الرجم: فإنه يجد حد القذف،

367
لان شهادته صارت قذفا، بإقراره، ويغرم ربع الدية، لبقاء ثلاثة أرباع
بثلاثة شهود. وإن رجع آخر فكذلك.
ولو أنه إذا رجع واحد منهم، بعد القضاء، قبل إقامة الحد عليهم
يحدون جميعا، عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يحد الراجع
وحده استحسانا.
وأجمعوا أنه إذا رجع واحد قبل القضاء بالرجم: فإنهم يحدون جميعا
وهي من مسائل الخلافيات.

368
كتاب
أدب القاض
القضاء فريضة محكمة، يجب على من وجد في حقه شرائط القضاء،
من الولاية على المقضي عليه، بتسليم المقضي به، إلى المقضي له، وهو
السلطان، أو من يقوم مقامه - لان هذا من باب إنصاف المظلوم من
الظالم، وهذا مفوض إلى الخلفاء والسلاطين، غير أنهم إذا عجزوا
بأنفسهم، إما لعدم العلم أو لاشتغالهم بأمور أخر، يجب عليهم أن
يقلدوه من كان يصلح له، ممن هو من أفقه الناس بحضرتهم
وأورعهم.
فإن وجدوا اثنين: أحدهما أفقه، والآخر أورع فالأورع أولى
لأنه يمكنه أن يقضي م غيره، ولا بد من الورع، حتى لا يتجاوز حد
الشرع، ولا يصور الباطل بصورة الحق، طمعا في الرشوة.
ويجب على من استجمع فيه شرائط القضاء، أن يقبله إذا قلدوه،
حتى لو امتنع يأثم، إلا إذا كان في العلماء بحضرتهم ممن يصلح له
كثرة، فلا بأس بأن يعتذر بعذر، فيدفع عن نفسه إلى غيره، لأنه ليس
بمتعين لذلك، والذي تعين لا يحل له الامتناع إذا قلد، ولكن لا ينبغي
أن يطلب لأنه ربما لا يقلد، يذهب ماؤه وحرمة علمه.

369
ثم القضاء له واجبات وآداب:
فأما الواجبات:
فمنها: أنه يجب على القاضي أن يقضي، في كل حادثة، بما يثبت
عنده أنه حكم الله تعالى، إما بدليل قطعي نحو نص الكتاب مفسرا لا
شبهة في معناه، أو السنة المتواترة أو المشهورة، أو الاجماع وإما بدليل
ظاهر موجب للعمل، كظاهر النص، من الكتاب، والسنة، والقياس،
وذلك في موضع لا إجماع فيه بين الفقهاء.
وإن كان مختلفا فيه، أو لم تكن واقعة، أو كانت واقعة، ولا رواية
في جوابها عن لسلف، يجب عليه أن يعمل برأي نفسه إن كان من أهل
الاجتهاد، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد، يختار قول من هو أفقههم
وأورعهم.
ولو كان القاضي من أهل الاجتهاد، لكن لم ينظر في دليل المسألة،
واعتمد على اجتهاد من هو أفقه منه - هل يجوز له القضاء به؟ على قول
أبي حنيفة: جاز، وعلى قولهما: لا يجوز، إلا وأن يعمل باجتهاد نفسه
ذكر الاختلاف في كتاب الحدود.
ومما يجب عليه أيضا: أن يقضي بما ثبت عنده بالبينة أو الاقرار، أو
يكون المدعى به مما يدخل فيه النكول، لان الشرع جعل هذه الجملة
حجة في حقه، ولكن لا بد من أن يثبت عدالة الشهود عنده، بالسؤال
عنهم، ممن له علم بأحوالهم في السر والعلانية، فعدلوه وقالوا: هو جائز
الشهادة.
وأما القضاء بعلم نفسه، بالمعاينة أو بسماع الاقرار أو بمشاهدة
الأحوال: فإن قضى بعلم حادث له في زمان القضاء، وفي مكانه، في
الاملاك المرسلة، والحقوق، من الطلاق والعتاق ونحوهما، وفي

370
القصاص وفي حد القذف جاز. وإن كان في سائر الحدود: لا يجوز
وهذا عندنا.
وعن الشافعي قولان: في قول: لا يجوز في الكل وفي قول: يجوز
في الكل.
وأما إذا قضى بعلم كان قبل أن يقلد القضاء، أو بعلم بعد التقليد
لكن قبل أن يصل إلى البلد الذي ولي قضاءه: فقد أجمع أصحابنا أنه لا
يجوز في الحدود غير حد القذف. فأما في سائر الأحكام وفي حد القذف و
القصاص فقد اختلفوا: قال أبو حنيفة: لا يجوز. وعلى قول أبي
يوسف ومحمد: يجوز وفروع هذا الفصل ودلائله تعرف في المبسوط إن
شاء الله تعالى
. ولا يجوز للقاضي أن يقضي لنفسه، ولا لأبويه وإن علوا، ولا
لزوجته، ولا لأولاده، وإن سفلوا ولا لكل من لا تجوز شهادته لهم.
وهل يقضي بكتاب قاضي ورد إليه من قضاة البلدان؟ ليس له أن
يقضي في الحدود والقصاص، وأما في الديون والعروض والعقار فقد جاز
القضاء به.
ولا يجوز في الحدود والقصاص القضاء بالشهادة على الشهادة. وفي
الغلام والجارية: عند أبي حنيفة ومحمد: لا يكتب إلى القضاء، ولا
يقبل. وعن أبي يوسف: يقبل وهو قول ابن أبي ليلى وعمل القضاة
على هذا، لأجل الضرورة العامة.
ثم فيما يقبل فيها الكتاب إذا ورد الكتاب إلى القاضي المكتوب
إليه، ينبغي أن لا يفك الكتاب ولا يقرأه إلا بحضرة الخصم كي لا
يتهم في ذلك.

371
وأما آداب القضاة
فللقاضي أن يجلس مع نفسه قوما من الفقهاء ليشاور معهم إذا
احتاج إليه. فإن اتفقوا عليه، والحادثة معروفة في السلف، يقضي به.
وإن اختلفوا فعلى ما ذكرنا.
فإن بدا له أن يرجع فيما اعتمد على قول بعضهم، ورأي الصواب في
قول الآخر فله ذلك، لان له أن يقضي في المجتهد فيه، بما لاح له من
دليل الاجتهاد إن كان مجتهدا.
فأما بعد الحكم فليس له أن يبطل ذلك القضاء، لان صار بالقضاء
كالمتفق عليه، ولكن يعمل في المستقبل بخلافه إذا رأى ذلك صوابا.
وينبغي أن يعدل بين الخصمين في مجلسهما منه: لا يقرب أحدهما
دون الآخر، وإن كان له شرف العلم والنسب. وإن كان يريد تعظيم
ذلك في المجلس، ينبغي أن يجلس خصمه معه، أينما أجلس الأول.
وكذلك يعدل بينهما النظر والمنطق ولا يشير إلى أحد الخصمين
دون الآخر.
وكذلك لا يخلو بأحدهما، دفعا للتهمة.
ولا يرفع صوته على أحدهما ما لم يرفع على الآخر، عند الشغب
والمنازعة. فأما إذا وجد من أحدهما، فإنه يرفع صوته عليه تأديبا له.
ولا ينبغي أن يلقن أحد الخصمين حجته. ولا بأس بأن يلقن
الشاهد، إذا كان يستحي ويهاب مجلس القاضي بشئ هو حق.
وإذا تكلم أحدهما أسكت الآخر، حتى يسمع كلامه ويفهم ثم
يستنطق الآخر حتى يكون أقرب إلى الفهم.
ولا ينبغي أن يجلس للقضاء وبه ما يشغله عنه، نحو الهم،

372
والغصب، والنعاس، وغيرها، على ما قال عليه السلام: لا يقضي
القاضي وهو غضبان.
وينبغي أن يقدم الرجال على حدة، والنساء على حدة، الأول فالأول. ولا يخلط النساء بالرجال لأنه سبب للفتنة.
وينبغي أن يتخذ كاتبا من أهل العفاف والصلاح، وهو فقيه عالم
بصنعة الكتابة، ثم
يقعده حيث يرى ما يكتب وما يصنع. وفي عادة
السلف أن القاضي هو الذي يكتب خصومة كلا الخصمين، على كاغذ
السؤال والجواب، ثم يكتب شهادة الشهود على حسب ما شهدوا بعد
كتابة جواب الخصم، ثم يطوي الكتاب، ثم يختمه، ثم يكتب على
ظهره خصومة فلان وفلان، في شهر كذا، في سنة كذا ويضعه في
قمطرة على حدة. وفي زماننا: العادة أن الكاتب هو الذي يكتب كتاب
الدعوى، ويترك موضع التاريخ، ولا يكتب جواب الخصم ويكتب
أسماء الشهود بعد ذلك ويترك فيما بين الخطين فرجة فإذا رفع الدعوى
عند القاضي، فيكتب التاريخ بنفسه، ويكتب جواب الخصم على الوجه
الذي تقرر. وإذا شهد الشهود في المجلس على ما يدعيه المدعي يكتب
شهادة كل واحد تحت اسمه على الوجه الذي تقرر ويختم الكتاب، ثم
يكتب بنفسه في ذلك اليوم أسماء الشهود، أو يأمر الكاتب حتى يكتبه بين
يديه، ويختم، ويبعث بذلك على يد رجل من أهل الثقة، في السر، إلى
أهل الثقة والسلاح عنده حتى يعدلوا الشهود. فإذا اتفق اثنان أو أكثر
على تزكية رجل قبل قوله وعمل به.
وإن اجتمع جماعة على أنه ثقة، واثنان على جرحه يأخذ بالجرح.
والعدد شرط عندهما في المزكين. وأما عند أبي حنيفة: فالواحد
كاف.

373
وكذا الخلاف في الذي يبعث المستورة: يشترط فيه العدد عند هما
خلافا له.
ثم يسأل عن التزكية علانية بعدما يسأل في السر حتى لا يقع فيه
ريبة على القاضي، فيتهم بذلك.
ولا ينبغي للقاضي أن يقبل الهدية إلا من ذي رحم محرم منه أو من
صديق، قديم الصحبة، قد كان بينهما التهادي قبل زمان القضاء، فأما
من غير هذين: فلا يقبل الهدية، ويكون ذلك في معنى الرشوة.
وأما الدعوة فإن كان دعوة عامة، مثل دعوة العرس، والختان:
فلا بأس بذلك. فأما الدعوة الخاصة: فإن كانت من ذي الرحم
المحرم، أو الصديق القديم الذي كان يضيفه قبل القضاء فلا بأس
بالإجابة. وفي غيرهما: لا ينبغي أن يحضر، لان ذلك يوجب تهمة فيه.
ولا بأس للقاضي أن يبعث الخصمين إلى المصالحة إن طمع منهما
المصالحة.
وإن لم يطمع ولم يرضيا بذلك فلا يردهما إلى الصلح ويتركهما
على الخصومة، وينفذ القضاء في حق من قامت الحجة له والله تعالى
أ لعلم.

374
كتاب
الوقف والصدقة
في الكتاب فصلان: فصل في الوقف، وفصل في الصدقة.
أما الأول:
فقد أجمع العلماء أن من وقف أرضه أو داره، مسجدا، بأن قال:
جعلت هذه الأرض مسجدا يصلي فيه الناس أنه جائز، لان هذا
إبطال ملكه عنه، وجعله لله تعالى خالصا، كمن أعتق عبده.
لكن التسلم شرط عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف: ليس
بشرط.
وتسليمه عندهما أن يأذن للناس بصلاة الجماعة فيه، فيصلي فيه
جماعة من الناس بجماعة: فإنه يصير مسلما إلى الناس كذا ذكر هلال
الرأي في كتاب الوقف الذي صنفه.
وقال بعض المشايخ: إذا جعل له متوليا قيما يتصرف في مصالحه،
ويأذن له بقبضه، بطريق النيابة عن الناس. ويأمرهم بالصلاة فيه
فيكون التسليم صحيحا، ولا يمكنه الرجوع بعد ذلك عندهما.

375
وأما إذا جعل أرضه أو داره وقفا على الفقراء، أو على وجوه الخير
فعند أبي حنيفة: إن جعله وقفا في حال حياته، ولم يقل وصية بعد
وفاته، فإنه يكون هذا الوقف صحيحا، في حق التصديق بالغلة وبالسكنى
في الدار إلى وقت وفاته، ويكون نذرا بالتصدق بذلك، وتكون رقبة
الأرض على ملكه: يجوز له بيعه والتصرفات فيه. وإذا مات يصير ميراثا
للورثة وهذا معنى قول بعض المشايخ: إن الوقف لا يجوز عند أبي
حنيفة: أن الوقف لا حكم له عنده، بل يكون نذرا بالتصدق بغلته
ومنافعه.
وأما إذا وقف في حال حياته وأوصى بذلك بعد وفاته فإنه يجوز
بلا خلاف، لكن ينظر: إن خرج من الثلث: يجوز في الكل، وإن لم
يخرج من الثلث: يجوز الوقف فيه بقدر الثلث، ويبقى الباقي إلى أن
يظهر له مال آخر، أو يجيزه الورثة. فإن لم يظهر له مال، ولم يجز
الورثة، تقسم الغلة بينهم أثلاثا: الثلث للوقف والثلثان بين الورثة على
قدر أنصبائهم. وإن أجازه الورثة يصير جائزا، ويتأبد الوقف بحيث لا
يبطل بعد ذلك.
ولو رفع الامر إلى القاضي، فأمضى القاضي الوقف، بناء على
دعوى صحيحة، وشهادة قائمة على ذلك، وأنكر الواقف ذلك صح.
ولو شهد الشهود على الوقف، من غير دعوى قالوا: إن القاضي
يقبل، لان الوقف حكمه التصدق بالغلة، وهو حق الله تعالى، وفي
حقوق الله تعالى لا يشترط الدعوى.
وهذا إذا كان من رأي القاضي أن الوقف صحيح، لازم، لا يجوز
نقضه بحال، كما قال أبو يوسف ومحمد، حتى يكون قضاء في فصل
مجتهد فيه، فينفذ قضاؤه، ولا يمكن نقضه بعد ذلك، ولا يجوز بيعه،
ولا يورث بالاتفاق، لان قضاء القاضي في فصل مجتهد فيه على أحد

376
الوجهين برأيه، وهو من أهل الاجتهاد، ينفذ بالاجماع.
هذا الذي ذكرنا على مذهب أبي حنيفة. أما عند أبي يوسف ومحمد
والشافعي وعامة الفقهاء: فإن الوقف صحيح، في حق الرقبة ويزول
عن ملكه كما في المسجد.
لكن اختلف أبو يوسف ومحمد فيما بينهما:
قال محمد: إنما يجوز بأربع شرائط:
أحدها: أن يخرجه من يده، ويسلمه إلى المتولي، حتى يتصرف فيه
فيصرف أولا إلى مصالح الوقف، ويصرف الباقي إلى المستحقين.
والثاني: أن يكون في المفروز دون المشاع.
والثالث: أن لا يشترط لنفسه شيئا من منافع الوقف.
والرابع: أن يكون مؤبدا، بأن يجعل آخره إلى فقراء المسلمين.
وعلى قول أبي يوسف: لا يشترط شئ من هذه الأشياء.
وهذا الذي ذكرنا إذا وقف في حالة الصحة.
فأما إذا وقف في حالة المرض: فإن وقف وأوصى بها بعد وفاته:
فهذا وحالة الصحة مع الوصية سواء: يعتبر خروجه من الثلث، ولا
يكون ميراثا للورثة. وإن لم يجعله وصية بعد وفاته: ففي جواب ظاهر
الرواية: هذا والوقف في حالة الصحة سواء.
وذكر الطحاوي: هو بمنزلة الوقف بعد وفاته.
والتوفيق بين الروايتين أو مراد محمد: أن وقف المريض نافذ
للحال، غير مضاف إلى ما بعد الموت، كالوصية: فإن المريض إذا أعتق
في حالة المرض ينفذ عتقه، وإن كان لا يخرج من الثلث عندهما، ويسعى
وهو حر. وعند أبي حنيفة: ينفذ بقدر الثلث دون الثلثين، ويسعى،

377
وهو رقيق، فيعتق الباقي. ومراد الطحاوي أنه لا يصح من جميع المال بل
من الثلث، بمنزلة الوصية. وبمنزلة الوقف والوصية بعد الموت هذا هو
الصحيح.
هذا الذي ذكرنا في العقار.
فأما في المنقول هل يجوز وقفه؟
إن كان تبعا للعقار كالثيران، وآلات الحراثة، والعبيد فإنه يجوز،
ويعجل وقفا، ويكون ملكا لعامة الفقراء كعبيد الخمس في الغنائم.
وأما إذا كان مقصودا فإن كان مما يجري فيه التعامل، وهو معتاد فيما
بين الناس: يجوز عندهما، خلافا لأبي حنيفة وذلك نحو الكراع،
والسلاح في سبيل الله، ولا نحو المر والقدوم لحفر القبور، وكثياب الجنازة ونحوها.
وأما وقف الكتب - فقد اختلف المشايخ فيه، على قولهما وعن نصير
بن يحيى أنه وقف كتبه على الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة.
ولو جعل أرضه أو داره رباطا، أو مقبرة، أو سقاية - فعند أبي
حنيفة: لا يجوز. وعندهما: يجوز غير أن محمدا يشترط الشرائط التي
ذكرنا، والتسليم عنده هو أن ينزل في الرباط بعض المارة، وأن يدفن فيها
الموتى، وأن يسقى منها الناس، وسقي الواحد كاف، أو يسلم إلى المتولي
ويأمره أن يأذن للمارة بالنزول فيها، والدفن في المقبرة، والشرب
من السقاية، بعدما صب الماء فيها.
ولو وقف أرضا على عمارة المساجد ومرمة الرباط، والمقابر: جاز
عندهما.

378
فأما الوقف على مسجد بعينه هل يجوز؟ اختلف المشايخ فيه:
قال بعضهم: على الخلاف على قول محمد: لا يجوز، لان هذا لا
يتأبد عنده، فإن المسجد إذا خرب واستغنى الناس عن الصلاة فيه، يعود
ملكا لصاحبه إن كان حيا، ويصير ميراثا لورثة الواقف بعد وفاته. وعلى
قول أبي يوسف: يجوز، لان عنده لا يصير ميراثا بالخراب، فإنه يبقى
مسجدا أبدا.
وقال أبو بكر الأعمش: ينبغي أن يجوز بالاتفاق.
وقال أبو بكر الإسكاف: ينبغي أن لا يجوز بالاتفاق.
وأما حكم الصدقة
إذا قال: داري هذه صدقة في المساكين فإنه يجب عليه أن
يتصدق: إن شاء بعين الدار، وإن شاء باعها، وتصدق بثمنها على
الفقراء، لان الصدقة عند الاطلاق تقع على تمليك الرقبة، دون التصدق
بالسكنى والغلة - بخلاف ما إذا قال: داري هذه صدقة موقوفة على
المساكين أنه ينصرف عند أبي حنيفة إلى التصدق بالغلة لوجود
التعارف.
ولو قال: جميع ما أملك فهو صدقة - فإنه ينصرف إلى أموال
الزكاة، من السوائم، وأموال التجارة، والصامت، دون العقار
والرقيق، وعليه أن يتصدق بالكل، ويمسك نفقة نفسه وعياله.
ثم إذا ملك مالا، يتصدق بمثل ما أنفق من المال الذي نذر بالتصدق
به.

379
ولو قال: ما لي صدقة في المساكين، فإنه لا يدخل فيه السوائم
والعقار والرقيق، ويدخل أموال التجارة والصامت - وقد ذكرنا فيما سبق
نظائره وبينا الفرق فلا نعيده. والله تعالى أعلم.
انتهى بحمد الله تعالى

380
/ 1