بحر الرائق (جزء 2) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

بحر الرائق (جزء 2) - نسخه متنی

زین العابدین بن ابراهیم ابن نجیم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: البحر الرائق
المؤلف: ابن نجيم المصري
الجزء: 2
الوفاة: 970
المجموعة: فقه المذهب الحنفي
تحقيق: ضبطه وخرج آياته وأحاديثه: الشيخ زكريا عميرات
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1418 - 1997 م
المطبعة:
الناشر: منشورات محمد علي بيضون - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:
البحر الرائق
شرح
كنز الدقائق
(في فروع الحنفية)
للشيخ الإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود المعروف بحافظ الدين النسفي
المتوفى سنة. 71 ه‍
والشرح (البحر الرائق)

1
بسم الله الرحمن الرحيم
باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها
يفسد الصلاة التكلم والدعاء بما يشبه كلامنا والأنين والتأوه وارتفاع بكائه من
باب ما يفسد الصلاة وما يكره فيها
لما كان سبق الحدث عارضا سماويا والمفسدات عارضا كسبيا قدم ذاك وآخر هذا،
والفساد والبطلان في العبادات سواء.
قوله: (يفسد الصلاة التكلم) لحديث مسلم إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شئ من
كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن (1). وفي رواية البيهقي إنما هي وما لا
يصلح فيها مباشرته يفسدها مطلقا كالأكل والشرب. والمكروه غير صالح من وجه دون وجه
والنص يقتضي انتفاء الصلاح مطلقا، أطلقه فشمل العمد والنسيان والخطأ والقليل والكثير لا
صلاح صلاته أو لا، عالما بالتحريم أو لا، ولهذا عبر بالتكلم دون الكلام ليشمل الكلمة
الواحدة كما عبر بها في المجمع لأن التكلم هو النطق. يقال تكلم بكلام وتكلم كلاما. كذا

3
في ضياء الحلوم. وسواء أسمع غيره أو لا، وإن لم يسمع نفسه وصحح الحروف فعلى قول
الكرخي تفسد، وحكي عن الإمام محمد بن الفضل عدمه والاختلاف فيه نظير الاختلاف فيما إذا
قرأ في صلاته ولم يسمع نفسه هل تجوز صلاته، وقد بيناه. كذا في الذخيرة. وفي المحيط: النفخ
المسموع المهجى مفسد عندهما خلافا لأبي يوسف. لهما أن الكلام اسم لحروف منظومة مسموعة
من مخرج الكلام لأن الافهام بهذا يقع وأدنى ما يقع به انتظام الحروف حرفان اه‍. وينبغي أن
يقال: إن أدناه حرفان أو حرف مفهم ك‍ " ع أمرا وكذا ق فإن فساد الصلاة بهما ظاهر. وشمل
الكلام في النوم وهو قول كثير من المشايخ وهو المختار، واختار فخر الاسلام وغيره أنها لا
تفسد، وأما ما رواه الحاكم وصححه إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه (1) فهو من باب المقتضى ولا عموم له لأنه ضروري فوجب تقديره على وجه يصح والاجماع
منعقد على أن رفع الاثم مراد فلا يراد غيره وإلا لزم تعميمه وهو في غير محل الضرورة. ولقائل أن
يقول: إن حديث ذي اليدين الثابت في صحيح مسلم فإنه تكلم في الصلاة حين سلم النبي صلى الله عليه وسلم
على رأس الركعتين ساهيا وتكلم بعض الصحابة والنبي صلى الله عليه وسلم فكان حجة للجمهور بأن كلام
الناسي ومن يظن أنه ليس فيها لا يفسدها. فإن أجيب بأن حديث ذي اليدين منسوخ كان في
الابتداء حين كان الكلام فيها مباحا فممنوع لأنه رواية أبي هريرة وهو متأخر الاسلام. وإن أجيب
بجواز أن يرويه عن غيره ولم يكن حاضرا فغير صحيح لما في صحيح مسلم عنه بينما أنا أصلي مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وساق الواقعة وهو صريح في حضوره ولم أر عنه جوابا شافيا. وأراد من التكلم
التكلم لغير ضرورة لما سيأتي أنه لو عطس أو تجشأ فحصل منه كلام لا تفسد لتعذر الاحتراز عنه
كما في المحيط. ودخل في التكلم المذكور قراءة التوراة والإنجيل والزبور فإنه يفسد كما في

4
المجتبي. وقال في الأصل: لم يجزه. وفي جامع الكرخي فسدت. وعن أبي يوسف إن أشبه
التسبيح جاز
. قوله: (والدعاء بما يشبه كلامنا) أفرده وإن دخل في التكلم لأن الشافعي لا يفسدها
بالدعاء. وينبغي أن يتعلق قوله بما يشبه كلامنا بالتكلم والدعاء. وقد قدمنا بأن الدعاء بما يشبه
كلامنا هو ما أمكن سؤاله من العباد كاللهم أطعمني أو اقض ديني وارزقني فلانة على الصحيح،
وما استحال طلبه من العباد فليس من كلامنا مثل العافية والمغفرة والرزق، سواء كان لنفسه أو
لغيره ولو لأخيه على الصحيح كما في المحيط. وفي الظهيرية: ولو قال أل ثم قال الحمد لله أو لم
يقل لا تفسد صلاته. وقال المرغيناني: إن أنصاف الكلمة مثل كل الكلمة تفسد صلاته، ثم ذكر
ضابطا للدعاء بما يشبه كلامنا فقال: الحاصل أنه إذا دعا بما جاء في الصلاة أو في القرآن أو في
المأثور لا تفسد صلاته، وإن لم يكن في القرآن أو في المأثور ولا يستحيل سؤاله تفسد، وإن كان
يستحيل سؤاله لا تفسد اه‍. ويشكل عليه اللهم اغفر لعمي أو خالي فإنه نقل أنها تفسد اتفاقا كما
قدمناه قوله: (والأنين والتأوه وارتفاع بكائه من وجع أو مصيبة لا من ذكر جنة أو نار) أي

5
يفسدها، أما الأنين فهو أن يقول أه كما في الكافي، والتأوه هو أن يقول أوه ويقال أوه الرجل
تأويها وتأوه تأوها إذا قال أوه. وقال في المغرب: وهي كلمة توجع. ورجل أواه كثير التأوه.
وذكر العلامة الحلبي في شرح المنية أن فيها ثلاث عشرة لغة فالهمزة مفتوحة في سائرها، ثم قد
تمد وقد لا تمد مع تشديد الواو المفتوحة وسكون الهاء فهاتان لغتان، ولا تمد مع تشديد الواو
المكسورة وسكون الهاء وكسرها فهاتان أخريان، ومع سكون الواو وكسر الهاء فهذه خامسة، ومع تشديد الواو مفتوحة ومكسورة بلا هاء فهاتان سادسة وسابعة، وأو على مثال أو
العاطفة فهذه ثامنة، وتمد لكن يليها هاء ساكنة ومكسورة بلا واو فهاتان تاسعة وعاشرة، والحادية عشرة
والثانية عشرة أو ياه بمد الهمزة وعدمه وفتح الواو المشدودة يليها ياء مثناة ثم ألف ثم هاء ساكنة،
والثالثة عشرة آو وه بمد الهمزة وضم الواو الأولى وسكون الثانية بعدها هاء ساكنة، وحينئذ فتسمية آه
أنينا وأوه تأوها اصطلاح اه‍. يعني لا لغة لأن من لغات التأوه آه وهي العاشرة، وأما ارتفاع
البكاء فهو أن يحصل به حروف وقوله من وجع أو مصيبة قيد للثلاثة، وقوله لامن ذكر جنة أو نار عائد إلى الكل أيضا. فالحاصل أنها إن كانت من ذكر الجنة أو
النار فهو دال على زيادة
الخشوع، ولو صرح بهما فقال اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار لم تفسد صلاته. وإن
كان من وجع أو مصيبة فهو دال على إظهارهما فكأنه قال إني مصاب والدلالة تعمل عمل الصريح
إذا لم يكن هناك صريح يخالفها. وهذا كله عندهما، وعن أبي يوسف أن قوله آه لا يفسد في
الحالين وأوه يفسد، وقيل الأصل عنده أن الكلمة إذا اشتملت على حرفين وهما زائدان أو
أحدهما لا تفسد، وإن كانتا أصليتين تفسد وحروف الزوائد مجموعة في قولنا أمان وتسهيل.
ونعني بالزوائد أن الكلمة لو زيد فيها حرف لكان من هذه الحروف لا أن هذه الحروف
زوائد أين ما وقعت. قال في الهداية: وقول أبي يوسف لا يقوى لأن كلام الناس في متفاهمهم أي

6
أهل العرف يتبع وجود حروف الهجاء وإفهام المعنى، ويتحقق ذلك في حروف كلها زوائد اه‍.
وتعقبه الشارحون بأن أبا يوسف إنما يجعل حروف الزوائد كأن لم تكن إذا قلت لا إذا كثرت.
وأجاب عنه في فتح القدير بأنه أراد بالجمع الاثنين فصاعدا. وجعل في الظهيرية محل الخلاف فيما
إذا أمكن الامتناع عنه أما ما لا يمكن الامتناع عنه فلا يفسد عند الكل كالمريض إذا لم يملك نفسه
من الأنين والتأوه لأنه حينئذ كالعطاس والجشأ إذا حصل بهما حروف قيد بالانين ونحوه فإنه لو
استعطف كلبا أو هرة أو ساق حمارا لم تفسد صلاته لأنه صوت لا هجاء له. وقيد بارتفاع بكائه
لأنه لو خرج دمعه من غير صوت لا تفسد صلاته بلا خلاف في كل حال. كذا في شرح الجامع
الصغير لقاضيخان. والتأفيف كالأنين كأف وتف. ثم أف اسم فعل لا تضجر، وقيل
لتضجرت، وسواء أراد به تنقية موضع سجوده أو أراد به التأفيف فإن الصلاة تفسد عندهما
مطلقا. وقال أبو يوسف بعدمه، لكن في المجتبى: الصحيح أن خلافه إنما هو في المخفف وفي
المشدد تفسد عندهم ويعارضه ما في الخلاصة أن الأصل عنده أن في الحرفين لا تفسد صلاته،
وفي أربعة أحرف تفسد، وفي ثلاثة أحرف اختلف المشايخ فيها والأصح أنها لا تفسد اه‍. وبما
فيها اندفع ما اعترض به الشارحون على الهداية في قوله ويتحقق ذلك في حروف كلها زوائد كما
لا يخفى. وفي الخانية: ولو لدغته عقرب أو أصابه وجع فقال بسم الله قال الشيخ الإمام أبو بكر
محمد بن الفضل: تفسد صلاته ويكون بمنزلة الأنين. وهكذا روي عن أبي حنيفة. وقيل لا تفسد
لأنه ليس من كلام الناس. وفي النصاب: وعليه الفتوى. وجزم به في الظهيرية، وكذا لو قال يا
رب كما في الذخيرة. وفي الظهيرية: ولو وسوسه الشيطان فقال لا حول ولا قوة إلا بالله إن كان
ذلك لأمر الآخرة لا تفسد وإن كان لأمر الدنيا تفسد خلافا لأبي يوسف. ولو عوذ نفسه بشئ من
القرآن للحمى ونحوها تفسد عندهم قوله: اه‍. بخلاف التعوذ لدفع الوسوسة لا تفسد مطلقا كما في
القنية (والتنحنح بلا عذر) وهو أن يقول أح بالفتح والضم والعذر وصف يطرأ على
المكلف يناسب التسهيل عليه، فإن كان التنحنح لعذر فإنه لا يبطل الصلاة بلا خلاف وإن حصل

7
به حروف لأنه جاء من قبل من له الحق فجعل عفوا، وإن كان من غير عذر ولا غرض
صحيح فهو مفسد عندهما خلافا لأبي يوسف في الحرفين، وإن كان بغير عذر لكن لغرض
صحيح كتحسين صوته للقراءة أو للاعلام أنه في الصلاة أو ليهدي إمامه عند خطائه ففيه
اختلاف، فظاهر الكتاب والظهيرية اختيار الفساد لكن الصحيح عدمه لأن ما للقراءة ملحق
بها كما في فتح القدير وغيره. فلو قال بلا عذر وغرض صحيح لكان أولى إلا أن يستعمل
العذر فيما هو أعم من المضطر إليه. قيدنا بأن يظهر له حروف لأنه لو لم يظهر له حروف
مهجاة فإنه لا يفسدها اتفاقا لكنه مكروه وهو محمل قول من قال إن التنحنح قصدا واختيارا
مكروه لأنه عبث لعروه عن الفائدة. وقيد بالتنحنح لأنه لو تثاءب فحصل منه صوت أو
عطس فحصل منه صوت مع الحروف لا تفسد صلاته. كذا في الظهيرية. ثم قال: التنحنح
في الصلاة إن لم يكن مسموعا لا تفسد، وإن كان مسموعا يفسد. ظن بعض مشايخنا أن
المسموع ما يكون مهجى. نحو أف وتف وغير المسموع ما لا يكون مهجى إلى هذا مال
شمس الأئمة الحلواني. وبعض مشايخنا لم يشترطوا وإليه مال الشيخ الإمام خواهر زاده حتى
قيل: إذا قال في صلاته ما يساق به الحمار لا تفسد إذا لم يحصل به الحروف اه‍. واختار
الأول صاحب الخلاصة وذكر أنه إذا لم يفسد فهو مكروه قوله: (وجواب عاطس بيرحمك الله)
أي يفسدها لأنه من كلام الناس ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لقائله وهو معاوية بن الحكم أن
صلاتنا هذه لا يصح فيها شئ من كلام الناس فجعل التشميت منه قيد بكونه جوابا لأنه لو
قال العاطس لنفسه يرحمك الله يا نفسي لا تفسد لأنه لما لم يكن خطابا لغيره لم يعتبر من كلام
الناس كما إذا قال يرحمني الله. وقيد بقوله يرحمك الله لأنه لو قال العاطس أو السامع الحمد
لله لا تفسد لأنه لم يتعارف جوابا وإن قصده وفيه اختلاف المشايخ، ومحله عند إرادة
الجواب، أما إذا لم يرده بل قاله رجاء الثواب لا تفسد بالاتفاق. كذا في غاية البيان. ومحله
أيضا عند عدم إرادة التفهيم فلو أراده تفسد صلاة السامع القائل الحمد لله لأنه تعليم للغير
من غير حاجة كما في منية المصلي وشرحها. وأشار المصنف بالجواب إلى أن المصلي لو عطس
فقال له رجل يرحمك الله فقال العاطس آمين تفسد صلاة. ولهذا قال في الظهيرية. رجلان
يصليان فعطس أحدهما فقال رجل خارج الصلاة يرحمك الله فقالا جميعا آمين تفسد صلاته

8
العاطس ولا تفسد صلاة الآخر لأنه لم يدع له اه‍. أي لم يجبه ويشكل عليه ما في الذخيرة إذا
أمن المصلي لدعاء رجل ليس في الصلاة تفسد صلاته اه‍. وهو يفيد فساد صلاة المؤمن الذي
ليس بعاطس وليس ببعيد كما لا يخفى. وأشار إلى أن المصلي إذا سمع الاذان فقال مثل ما
يقول المؤذن، إن أراد جوابه تفسد وإلا فلا. وإن لم تكن له نية تفسد لأن الظاهر أنه أراد به
الإجابة، وكذلك إذا سمع اسم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه فهذا إجابة فتفسد، وإن صلى عليه ولم
يسمع اسمه لا تفسد. ولو قال لبيك سيدي حين قرأ * (يا أيها الذين آمنوا) * ففيه قولان
والأحسن أن لا يفعل. كذا في المحيط وفي الذخيرة معزيا إلى نوادر بشر عن أبي يوسف أنه
إذا عطس الرجل في الصلاة حمد الله، فإن كان وحده فإن شاء أسر به وحرك لسانه،
وإن شاء أعلن، وإن كان خلف إمام أسر به وحرك لسانه، ثم رجع أبو يوسف وقال:
لا يحرك لسانه مطلقا اه‍. وهو متعين ولهذا قال في الخلاصة: وينبغي أن يقول في نفسه والأحسن هو
السكوت. وفي القنية: مسجد كبير يجهر المؤذن فيه بالتكبيرات فدخل فيه رجل نادى المؤذن
أن يجهر بالتكبير فرفع الإمام للحال وجهر المؤذن بالتكبير، فإن قصد جوابه فسدت صلاته،
وكذا لو قال عند ختم الإمام قراءته صدق الله وصدق الرسول، وكذا إذا ذكر في تشهده
الشهادتين عند ذكر المؤذن الشهادتين تفسد إن قصد الإجابة اه‍..

9
قوله: (وفتحه على غير إمامه) أي يفسدها لأنه تعليم وتعلم لغير حاجة. قيد به لأنه لو
فتح على إمامه فلا فساد لأنه تعلق به إصلاح صلاته، أما إن كان الإمام لم يقرأ الفرض
فظاهر، وأما إن كان قرأ ففيه اختلاف، والصحيح عدم الفساد لأنه لو لم يفتح ربما يجري على
لسانه ما يكون مفسدا فكان فيه إصلاح صلاته. ولاطلاق ما روي عن علي رضي الله عنه
إذا استطعمكم الإمام فأطعموه واستطعامه سكوته. ولهذا لو فتح على إمامه بعدما انتقل إلى
آية أخرى لا تفسد صلاته وهو قول عامة المشايخ لاطلاق المرخص. وفي المحيط ما يفيد أنه
المذهب فإن فيه وذكر في الأصل والجامع الصغير أنه إذا فتح على إمامه يجوز مطلقا لأن الفتح
وإن كان تعليما ولكن التعليم ليس بعمل كثير وأنه تلاوة حقيقة فلا يكون مفسدا وإن لم يكن
محتاجا إليه. وصحح في الظهيرية أنه لا تفسد صلاة الفاتح على كل حال وتفسد صلاة الإمام
إذا أخذ من الفاتح بعدما انتقل إلى آية أخرى. وصحح المصنف في الكافي أنه لا تفسد صلاة
الإمام أيضا، فصار الحاصل أن الصحيح من المذهب أن الفتح على إمامه لا يوجب فساد
صلاة أحد، لا الفاتح ولا الآخذ مطلقا في كل حال. ثم قيل: ينوي الفاتح بالفتح على إمامه
التلاوة، والصحيح أنه ينوي الفتح دون القراءة لأن قراءة المقتدي منهي عنها والفتح على إمامه
غير منهي عنه. قالوا: يكره للمقتدي أن يفتح على إمامه من ساعته، وكذا يكره للإمام أن
يلجئهم إليه بأن يقف ساكتا بعد الحصر أو يكرر الآية بل يركع إذا جاء أوانه أو ينتقل إلى آية
أخرى لم يلزم من وصلها ما يفسد الصلاة أو ينتقل إلى سورة أخرى كما في المحيط.
واختلفت الرواية في وقت أوان الركوع ففي بعضها اعتبر أوانه المستحب، وفي بعضها اعتبر
فرض القراءة يعني إذا قرأ مقدار ما تجوز به الصلاة ركع. كذا في السراج الوهاج. وأراد من
الفتح على غير إمامه تلقينه على قصد التعليم، أما إن قصد قراءة القرآن فلا تفسد عند الكل.
كذا في الخلاصة وغيرها. وأطلق في الفتح المذكور فشمل ما إذا تكرر منه أو كان مرة واحدة
وهو الأصح لأنه لما اعتبر كلاما جعل نفسه قاطعا من غير فصل بين القليل والكثير كما في
الجامع الصغير. وفصل في البدائع بأنه إن فتح بعد استفتاح فصلاته تفسد بمرة واحدة، وإن
كان من غير استفتاح فلا تفسد بمرة واحدة وإنما تفسد بالتكرار اه‍. وهو خلاف المذهب كما
سمعت، وشمل ما إذا كان المفتوح عليه مصليا أو لا. وأشار المصنف إلى أنه لو أخذ المصلي

10
غير الإمام بفتح من فتح عليه فإن صلاته تفسد كما في الخلاصة. ثم اعلم أن هذا كله على
قول أبي حنيفة ومحمد، وأما على قول أبي يوسف فلا تفسد صلاة الفاتح مطلقا لأنه قرآن فلا
يتغير بقصد القارئ عنده. وفي القنية: ارتج على الإمام ففتح عليه من ليس في صلاته
وتذكر فإذا أخذ في التلاوة قبل تمام الفتح لم تفسد وإلا فتفسد لأن تذكره يضاف إلى الفتح،
وفتح المراهق كالبالغ. ولو سمعه المؤتم ممن ليس في الصلاة ففتحه على إمامه يجب أن تبطل
صلاة الكل لأن التلقين من خارج اه‍.
قوله: (والجواب بلا إله إلا الله) أي يفسدها عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا
يكون مفسدا لأنه ثناء بصيغته فلا يتغير بعزيمته. ولهما أنه أخرج الكلام مخرج الجواب وهو
يحتمله فيجعل جوابا كتشميت العاطس. وليس مقصود المصنف خصوص الجواب بهذه الكلمة
بل كل كلمة هي ذكر أو قرآن قصد بها الجواب فهي على الخلاف كما إذا أخبر بخبر يسره فقال
الحمد لله، أو بأمر عجيب فقال سبحان الله. ثم نص المشايخ على أشياء موجبة للفساد باتفاقهم
وهو ما لو كان بين يدي المصلي كتاب موضوع وعنده رجل اسمه يحيى فقال * (يا يحيى خذ
الكتاب بقوة) * (مريم: 12) أو رجل اسمه موسى وبيده عصا فقال له * (وما تلك بيمينك يا
موسى) * (طه: 17) أو كان في السفينة وابنه خارجها فقال * (يا بني اركب معنا) * (هود: 42)
أو طرق عليه الباب أو نودي من خارجه فقال * (ومن دخله كان آمنا) * (آل عمران: 97) وأراد
بهذه الألفاظ الخطاب لأنه لا يشكل على أحد أنه متكلم لا قارئ وهي مؤيدة لما قالاه واردة على
أبي يوسف، ومما أورد على أبي يوسف الفتح على غير إمامه فإنه مفسد عنده وهو قرآن. كذا في
فتح القدير. وأجاب عنه في غاية البيان بأن الفساد عنده فيه لأمر آخر وهو التعليم والايراد
مدفوع من أصله لأن أبا يوسف لا يقول بالفساد بالفتح على غير إمامه كما ذكرها لزيلعي

11
وغيره. ثم اختلف المشايخ فيما إذا أخبر بخبر يسوءه فاسترجع لذلك بأن قال * (إنا لله وإنا إليه
راجعون) * مريدا بذلك الجواب، وصحح في الهداية والكافي الفساد عندهما خلافا لأبي يوسف.
وقال بعض المشايخ: إنه مفسد اتفاقا، ونسبه في غاية البيان إلى عامة المشايخ. وقال قاضيخان:
إنه الظاهر. ولعل الفرق على قوله أن الاسترجاع لاظهار المصيبة وما شرعت الصلاة لأجله
والتحميد لاظهار الشكر والصلاة شرعت لأجله. وحكم لا حول ولا قوة إلا بالله كالاسترجاع
كما هو في منية المصلي. وقدمنا أنه لو قالها لدفع الوسوسة لأمر الدنيا تفسد ولامر الآخرة لا
تفسد. ثم أطلق المصنف الجواب بلا إله إلا الله وقيده في الكافي بصورة بأن قيل بين يديه أمع الله إله اخر فقال لا إله إلا الله والظاهر عدم التقييد بهذه الصورة في فتاوى قاضيخان أنه لو
أخبر بخبر يهوله فقال لا إله إلا الله أو الله أكبر وأراد الجواب فسدت. ومما ألحق بالجواب ما في
المجتبي: لو سج أو هلل يريد زجرا عن فعل أو أمرا به فسدت عندهما. وقيد بالجواب لأنه لو
أراد به إعلامه أنه في الصلاة كما إذا استأذن على المصلي إنسان فسبح وأراد به إعلامه أنه في
الصلاة لم يقطع صلاته، وكذا لو عرض للإمام شئ فسبح المأموم لا بأس به لأن المقصود به
إصلاح الصلاة فسقط حكم الكلام عند الحاجة إلى الاصلاح. ولا يسبح للإمام إذا قام إلى
الأخريين لأنه لا يجوز له الرجوع إذا كان إلى القيام أقرب فلم يكن التسبيح مفيدا. كذا في
البدائع وينبغي فساد الصلاة به لأن القياس فسادها به عند قصد الاعلام، وإنما ترك للحديث
الصحيح من نابه شئ في صلاته فليسبح (1) فللحاجة لم يعمل بالقياس، فعند عدمها يبقى
الامر على أصل القياس. ثم رأيته في المجتبي قال: ولو قام إلى الثالثة في الظهر قبل أن يقعد
فقال المقتدي سبحان الله، قيل لا تفسد. وعن الكرخي: تفسد عندهما اه‍. وقد قدمنا حكم ما

12
إذا أجاب المؤذن أو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم. ولو لعن الشيطان في الصلاة عند قراءة ذكره
لا تفسد. وفي الخانية والظهيرية: ولو قرأ الإمام آية الترغيب أو الترهيب فقال المقتدي صدق الله
وبلغت رسله فقد أساء ولا تفسد صلاته اه‍. وهو مشكل لأنه جواب لإمامه، ولهذا قال في
المبتغى بالمعجمة: ولو سمع المصلي من مصل آخر * (ولا الضالين) * (الفاتحة: 7) فقال آمين لا
تفسد، وقيل تفسد وعليه المتأخرون. وكذا بقوله عند ختم الإمام قراءته صدق الله وصدق
الرسول اه‍. وفي المجتبى: ولو لبى الحاج تفسد صلاته. ولو قال المصلي في أيام التشريق الله
أكبر لا تفسد، ولو أذن في الصلاة وأراد به الاذان فسدت صلاته. وقال أبو يوسف: لا تفسد
حتى يقول حي على الصلاة حي على الفلاح ولو جرى على لسانه نعم إن كان هذا الرجل يعتاد
في كلامه نعم تفسد صلاته، وإن لم يكن عادة له لا تفسد لأن هذه الكلمة في القرآن فتجعل
منه. ثم اعلم أنه وقع في المجتبي وقيل لا تفسد في قولهم أي لا تفسد الصلاة بشئ من
الأذكار المتقدمة إذا قصد بها الجواب في قول أبي حنيفة وصاحبيه، ولا يخفى أنه خلاف المشهور
المنقول متونا وشروحا وفتاوي، لكن ذكر في الفتاوي الظهيرية في بعض المواضع أنه لو أجاب
بالقول بأن يخبر بخبر يسره فقال الحمد لله رب العالمين أو بخبر يسوءه فقال إنا لله وإنا إليه
راجعون تفسد صلاته والأصح أنه لا تفسد صلاته اه‍. وهو تصحيح مخالف للمشهور.
قوله: (والسلام ورده) لأنه من كلام الناس. أطلقه فشمل العمد والسهو كما صرح به في
الخلاصة. وشمل ما إذا قال السلام فقط من غير أن يقول عليكم كما في الخلاصة أيضا. وفي
الهداية ما يخالفه فإنه قال بخلاف السلام ساهيا لأنه من الأذكار فيعتبر ذكرا في حالة النسيان
وكلاما في حالة التعمد لما فيه من كاف الخطاب اه‍. وتبعه الشارحون. وهكذا قيد صدر الشريعة
السلام بالعمد ولم يقيد الرد به. قال الشمني: لأن رد السلام مفسد، عمدا كان أو سهوا، لأن رد

13
السلام ليس من الأذكار بل هو كلام وخطاب والكلام مفسد مطلقا اه‍. وهكذا قيد السلام بالعمد
في المجمع ولم أر من وفق بين العبارات، وقد ظهر لي أن المراد بالسلام المفسد مطلقا أن يكون
لمخاطب حاضر فهذا لا فرق فيه بين العمد والنسيان أي نسيان كونه في الصلاة، وأن المراد
بالسلام المفسد حالة العمد فقط أن لا يكون لمخاطب حاضر كما قالوا: لو سلم على رأس الركعتين
في الرباعية ساهيا، فإن صلاته لا تفسد. وكذا لو سلم المسبوق مع الإمام. ثم بعد ذلك رأيت
التصريح به في البدائع أن السلام على إنسان مبطل مطلقا، وأما السلام وهو الخروج من الصلاة
فإنه مفسد إن كان عمدا والله الموفق. وفي القنية سلم قائما على ظن أنه أتم الصلاة ثم علم أنه لم
يتم فسدت، وقيل يبنى لأنه سلم في غير محله بخلاف القعود وصلاه الجنازة اه‍. وهو مقيد
لاطلاقهم بما إذا كان السلام حالة القعود. وفيها: سلم المسبوق ساهيا ودعا بدعاء كان عادته
أعاد، ولو قال استغفر الله وهو عادته لا يعيد. ولو قال المسبوق بعد الترويحة سبحان الله إلى آخره
كما هو المعتاد ينبغي أن لا تفسد قرأ المسبوق الفاتحة بعد سلام الإمام على المحتاج ناسيا فسدت اه‍.
ثم هذا كله إذا سلم أورد بلسانه، أما إذا رد السلام بيده ففي الفتاوى الظهيرية والخلاصة وغيرهما ولو سلم إنسان على المصلي وأشار إلى رد السلام برأسه أو بيده أو بأصبعه لا تفسد صلاته، ولو
طلب إنسان من المصلي شيئا فأومأ برأسه أو قيل له أجيد هذا فأومأ برأسه بلا أو بنعم لا تفسد
صلاته اه‍. وفي المجمع: لو رد السلام بلسانه أو بيده فسدت، ومن العجب أن العلامة ابن أمير
حاج الحلبي مع سعة اطلاعه قال: إن بعض من ليس من أهل المذهب قد عزا إلى أبي حنيفة أن
الصلاة تفسد بالرد باليد وأنه لم يعرف أن أحدا من أهل المذهب نقل الفساد في رد السلام باليد
وإنما يذكرون عدم الفساد من غير حكاية خلاف في المذهب فيه، بل وصريح كلام الطحاوي في

14
شرح الآثار يفيد أن عدم الفساد قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وكأن هذا القائل فهم من نفي
الرد بالإشارة الفساد على تقديره كما هو كذلك في الرد بالنطق لكن الثبت ما ذكرنا اه‍. فإن
صاحب المجمع من أهل المذهب المتأخرين، والحق ما ذكره العلامة الحلبي أن الفساد ليس بثابت
في المذهب وإنما استنبطه بعض المشايخ في فرع نقله من الظهيرية والخلاصة وغيرهما أنه لو صافح
المصلي إنسانا بنية السلام فسدت صلاته. ونقل الزاهدي بعد نقله عن حسام الأئمة المودني أنه
قال: فعلى هذا تفسد أيضا إذا رد بالإشارة لأنه كالتسليم باليد. وكذا نكره البقالي وقال: عند أبي
يوسف لا تفسد اه‍. ويدل لعدم كونه مفسدا ما ثبت في سنن أبي داود وصححه الترمذي عن ابن
عمر قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء فصلى فيه قال فجاءته الأنصار فسلموا عليه وهو يصلي فقلت
لبلال: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يرد السلام عليهم حين كانوا يسلمون عليه وهو يصلي؟ قال: يقول
هكذا وبسط كفه وبسط جعفر بن عون كفه وجعل بطنه أسفل وجعل ظهره إلى فوق. وما عن
صهيب: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فسلمت عليه فرد علي إشارة ولا أعلمه قال الإشارة
بأصبعه. رواه أبو داود والترمذي وحسنه. فإن قلت: إنها تقضي عدم الكراهة وقد صرحوا كما
في منية المصلي وغيرها بكراهة السلام على المصلي ورده بالإشارة أجاب العلامة الحلبي بأنها كراهة
تنزيهة وفعله عليه السلام لها إنما كان تعليما للجواز فلا يوصف بالكراهة، وقد أطال رحمه الله
الكلام هنا إطالة حسنة كما هو دأبه. وحينئذ فيحتاج إلى الفرق بين المصافحة والرد باليد وقد علل

15
الولوالجي لفسادها بالمصافحة بأنها سلام وهو مفسد. وعلل الزيلعي بأنها كلام معنى ويرد عليه أن الرد
بالإشارة كلام معنى، فالظاهر استواء حكمهما وهو عدم الفساد للأحاديث الواردة في ذلك. ثم اعلم
أنه يكره السلام على المصلي والقارئ والجالس للقضاء أو البحث في الفقه أو التخلي، ولو سلم عليهم
لا يجب عليهم الرد لأنه في غير محله. كذا ذكر الشارح. وصرح في فتح القدير من باب الاذان أن
السلام على المتغوط حرام ولا يخفى ما فيه إذ الدليل ليس بقطعي والله سبحانه أعلم.
قوله: (وافتتاح العصر أو التطوع لا الظهر بعد ركعة الظهر) أي يفسدها انتقاله من
صلاة إلى أخرى مغايرة للأولى، فقوله بعد ركعة الظهر ظرف للافتتاح وصورتها: صلى
ركعة من الظهر ثم افتتح العصر أو التطوع بتكبيرة فقد أفسد الظهر. وتفسير المسألة أن لا
يكون صاحب ترتيب بأن بطل عنه بضيق الوقت أو بكثرة الفوائت، فإن كان صاحب ترتيب
فالمنتقل إلى العصر متطوع عند أبي حنيفة وأبي يوسف لأنه لا يلزم من بطلان الوصف بطلان
الأصل عندهما، وإن انتقل إلى عصر سابق على الظهر فقد انتقض وصف الفرضية قبل
الدخول في العصر للترتيب فإنما انتقل عن تطوع لا فرض. كذا في الكافي. وإنما بطل
ظهره لأنه صح شروعه في غيره لأنه نوى تحصيل ما ليس بحاصل فيخرج عنه ضرورة لمنافاة
بينهما، فمناط الخروج عن الأولى صحة الشروع في المغاير ولو من وجه، فلذا لو كان منفردا

16
في فرض فكبر ينوي الاقتداء أو النفل أو الواجب أو شرع في جنازة فجئ بأخرى فكبر
ينويهما أو الثانية يصير مستأنفا على الثانية فقط بخلاف ما إذا لم ينو شيئا، ولو كان مقتديا فكبر
للانفراد يفسد ما أدى قبله ويصير مفتتحا ما أداه ثانيا. وقوله لا الظهر يعني لو صلى ركعة من
الظهر فكبر ينوي الاستئناف للظهر بعينها فلا يفسد ما أداه فيحتسب بتلك الركعة حتى لو لم
يقعد فيما بقي القعدة الأخيرة باعتبارها فسدت الصلاة فلغت النية الثانية، وتفرع عليه ما ذكره
الولوالجي إذا صلى الظهر أربعا فلما سلم تذكر أنه ترك سجدة منها ساهيا ثم قام واستقبل
الصلاة وصلى أربعا وسلم وذهب فسد ظهره لأن نية دخوله في الظهر ثانيا وقع لغوا، فإذا صلى
ركعة فقد خلط المكتوبة بالنافلة قبل الفراغ من المكتوبة اه‍. ومعلوم أن هذا إذا لم يتلفظ بلسانه،
فإن قال نويت أن أصلي إلى آخره فسدت الأولى وصار مستأنفا للمنوي ثانيا مطلقا لأن الكلام
مفسد. وقيد بالصلاة لأنه لو صام قضاء رمضان وأمسك بعد الفجر ثم نوى بعده نفلا لم يخرج
عنه بنية النفل لأن الفرض والنفل في الصلاة جنسان مختلفان لا رجحان لأحدهما على الآخر في
التحريمة وهما في الصوم والزكاة جنس واحد. كذا في المحيط.
قوله: (وقراءته من مصحف) أي يفسدها عند أبي حنيفة. وقالا: هي تامة لأنها عبادة
انضافت إلى عبادة إلا أنه يكره لأنه تشبه بصنيع أهل الكتاب. ولأبي حنيفة وجهان: أحدهما
أن حمل المصحف والنظر فيه وتقليب الأوراق عمل كثير. الثاني أنه تلقن من المصحف فصار
كما إذا تلقن من غيره. وعلى هذا الثاني لا فرق بين الموضوع والمحمول عنده، وعلى الأول
يفترقان. وصحح المصنف في الكافي الثاني وقال: إنها تفسد بكل حال تبعا لما صححه شمس
وعلى الأئمة السرخسي. وربما يستدل لأبي حنيفة كما ذكره العلامة الحلبي بما أخرجه ابن أبي داود
عن ابن عباس قال: نهانا أمير المؤمنين أن نؤم الناس في المصحف فإن الأصل كون النهي
يقتضي الفساد، وأراد بالمصحف المكتوب فيه شئ من القرآن فإن الصحيح أنه لو قرأ من

17
المحراب فسدت كما هو مقتضى الوجه الثاني كما صرحوا به. وأطلقه فشمل القليل والكثير
وما إذا لم يكن حافظا أو حافظا للقرآن وهو إطلاق الجامع الصغير، وذهب بعضهم إلى أنه
إنما تفسد إذا قرأ آية وبعضهم إذا قرأ الفاتحة. وقال الرازي: قول أبي حنيفة محمول على من لم
يحفظ القرآن ولا يمكنه أن يقرأ إلا من مصحف، فأما الحافظ فلا تفسد صلاته في قولهم
جميعا وتبعه على ذلك السرخسي في جامعة الصغير على ما في النهاية وأبو نصر الصفار على
ما في الذخيرة معللا بأن هذه القراءة مضافة إلى حفظه لا إلى تلقنه من المصحف، وجزم به
في فتح القدير والنهاية والتبيين وهو أوجه كمالا يخفى. وفي الظهيرية: ثم لم يذكر في
الكتاب أنه إذا لم يكن قادرا إلا على القراءة من المصحف فصلى بغير قراءة هل تجوز والأصح
أنها لا تجوز ا ه‍. ويخالفه ما في النهاية نقلا عن مبسوط شيخ الاسلام وكان الشيخ الإمام أبو
بكر محمد بن الفضل يقول في التعليل لأبي حنيفة أجمعنا على أن الرجل إذا كان يمكنه أن يقرأ
من المصحف ولا يمكنه أن يقرأ على ظهر قلبه أنه لو صلى بغير قراءة أنه يجزئه، ولو كانت
القراءة من المصحف جائزة لما أبيحت الصلاة بغير قراءة ولكن الظاهر أنهما لا يسلمان هذه
المسألة وبه قال بعض المشايخ ا ه‍. والظاهر أن ما في الظهيرية متفرع على أن علة الفساد حمله
والعمل الكثير فإذا لم يحفظ شيئا على ظهر قلبه يمكنه أن يقرأ من المصحف وهو موضوع
فليس أميا لتجوز صلاته بغير قراءة، وما ذكره الإمام الفضلي متفرع على الصحيح من أن علة
الفساد تلقنه ولو كان موضوعا فحينئذ لا قدرة له على القراءة فكان أميا، وبهذا ظهر أن
تصحيح الظهيرية مفرع على الضعيف. وأطلق في المصلي فشمل الإمام والمنفرد، فما في
الهداية من تقييده بالإمام اتفاقي كما في غاية البيان. ثم اعلم أن التشبيه بأهل الكتاب لا
يكره في كل شئ فإنا نأكل ونشرب كما يفعلون، إنما الحرام هو التشبه فيما كان مذموما
وفيما يقصد به التشبيه. كذا ذكرهما قاضيخان في شرح الجامع الصغير فعلى هذا لو لم يقصد
التشبه لا يكره عندهما.

18
قوله: (والأكل والشرب) أي يفسدانها لأن كل واحد منهما عمل كثير وليس من
أعمال الصلاة ولا ضرورة إليه. وعلل قاضيخان وجه كونه كثيرا بقوله: لأنه عمل اليد والفم
واللسان. قال العلامة الحلبي: وهو مشكل بالنسبة إلى ما لو أخذ من خارج سمسمة فابتلعها
أو وقع في فيه قطرة مطر فابتلعها فإنهم نصوا على فساد الصلاة في كل من هذه الصور مطلقا
ا ه‍. أطلقه فشمل العمد والنسيان لأن حالة الصلاة مذكرة فلا يعفى النسيان بخلاف الصوم
فإنه لا مذكر فيه. وشمل القليل والكثير ولهذا فسره في الحاوي بقدر ما يصل إلى الحلق،
وقيده الشارح بما يفسد الصوم وما لا يفسد الصوم لا يبطل الصلاة ا ه‍. وهو ممنوع كليا
فإنه لو ابتلع شيئا بين أسنانه وكان قدر الحمصة لا تفسد صلاته وفي الصوم يفسد. وفرق
بينهما الولوالجي وصاحب المحيط بأن فساد الصلاة معلق بعمل كثير ولم يوجد بخلاف فساد
الصوم فإنه معلق بوصول المغذي إلى جوفه لكن في البدائع والخلاصة أنه لا فرق بين فساد
الصلاة والصوم في قدر الحمصة. وفي الظهيرية: لو ابتلع دما خرج من بين أسنانه لم تفسد
صلاته إذا لم يكن ملء الفم ا ه‍. وقالوا في باب الصوم: لو خرج من بين أسنانه دم ودخل
حلقه وهو صائم إن كان الغلبة للدم أو كانا سواء فطره لأن له حكم الخارج، وإن كانت
الغلبة للبراق لا يضره كما في الوضوء فقد فرقوا بين الصلاة والصوم. وفي الظهيرية: لو قاء
أقل من ملء الفم فعاد إلى جوفه وهو لا يملك إمساكه لم تفسد صلاته، وإن أعاده إلى جوفه
وهو قادر على أن يمجه يجب أن يكون على قياس الصوم عند أبي يوسف لا تفسد، وعند
محمد تفسد. وإن تقيأ في صلاته إن كان أقل من ملء الفم لا تفسد، وإن كان ملء الفم
تفسد صلاته ا ه‍. وفي المحيط وغيره: ولو مضغ العلك كثيرا فسدت، وكذا لو كان في فمه
إهليلجة فلاكها فإن دخل في حلقه منها شئ يسير من غير أن يلوكها لا تفسد وإن كثر ذلك
فسدت. وفي الخلاصة: ولو أكل شيئا من الحلاوة وابتلع عينها فدخل في الصلاة فوجد
حلاوتها في فيه وابتلعها لا تفسد صلاته. ولو دخل الفانيد أو السكر في فيه ولم يمضغه لكن
يصلي والحلاوة تصل إلى جوفه تفسد صلاته ا ه‍. وأشار بالأكل والشرب إلى أن كل عمل
كثير فهو مفسد، واتفقوا على أن الكثير مفسد والقليل لا لامكان الاحتراز عن الكثير دون
القليل فإن في الحي حركات من الطبع وليست من الصلاة، فلو اعتبر العمل مفسدا مطلقا
لزم الحرج في إقامة صحتها وهو مدفوع بالنص.

19
ثم اختلفوا فيما يعين الكثرة والقلة على أقوال: أحدها ما اختاره العامة كما في
الخلاصة والخانية أن كل عمل لا يشك الناظر أنه ليس في الصلاة فهو كثير، وكل عمل يشتبه
على الناظر أن عامله في الصلاة فهو قليل. قال في البدائع: وهذا أصح. وتابعه الشارح
والولوالجي. وقال في المحيط: إنه الأحسن. وقال الصدر الشهيد: إنه الصواب. وذكر
العلامة الحلبي أن الظاهر أن مرادهم بالناظر من ليس عنده علم بشروع المصلي في الصلاة
فحينئذ إذا رآه على هذا العمل وتيقن أنه ليس في الصلاة فهو عمل كثير، وإن شك فهو
قليل. ثانيها أن ما يقام باليدين عادة كثير وإن فعله بيد واحدة كالتعمم ولبس القميص وشد
السراويل والرمي عن القوس وما يقام بيد واحدة قليل، ولو فعله باليدين كنزع القميص
وحل السراويل ولبس القلنسوة ونزعها ونزع اللجام وما أشبه ذلك. كذا ذكره الشارح ولم
يقيد في الخلاصة والخانية ما يقام باليدين بالعرف، وقيد في الخانية ما يقام بيد واحدة بما إذا
لم يتكرر والمراد بالتكرر ثلاث متواليات لما في الخلاصة: وإن حك ثلاثا في ركن واحد تفسد
صلاته. هذا إذا رفع يده في كل مرة، أما إذا لم يرفع في كل مرة فلا تفسد لأنه حك واحد
ا ه‍. وهو تقييد غريب وتفصيل عجيب ينبغي حفظ لكن في الظهيرية معزيا إلى الصدر
الشهيد حسام الدين: لو حك موضعا من جسده ثلا ث مرات بدفعة واحدة تفسد صلاته
ا ه‍. ولم أر من صحح القول الثاني في تحديد العمل وقد يقال إنه غير صحيح وإنه لو مضغ
العلك في صلاته فسدت صلاته. كذا ذكره محمد كما في البدائع، لأن الناظر إليه من بعيد لا
يشك أنه في غير الصلاة وليس فيه استعمال اليد رأسا فضلا عن استعمال اليدين، وكذا
الأكل والشرب يعمل بيد واحدة وهو مبطل اتفاقا، وكذا قولهم لو دهن رأسه أو سرح شعره
سواء كان شعر رأسه أو لحيته تفسد صلاته، لا يتخرج على أن العمل الكثير ما يقام باليدين
لأن دهن الرأس وتسريح الشعر عادة يكون بيد واحدة إلا أن يريد بالدهن تناوله القارورة
وصب الدهن منها بيده الأخرى وهو كذلك فإن في المحيط قال: ولو صب الدهن على رأسه

20
بيد واحدة لا تفسد، وتعليل الولوالجي بأن تسريح الشعر يفعل باليدين ممنوع. وأما قولهم
ولو حملت صبيا فأرضعته تفسد فهو على سائر التفاسير لكن ما في الخلاصة والخانية: المرأة إذا
أرضعت ولدها تفسد صلاتها لأنها صارت مرضعة، فشمل ما إذا حمل إليها فدفعت إليه الثدي
فرضعها، وأما إذا ارتضع من ثديها وهي كارهة ففي الظهيرية والخلاصة والخانية إن مص
ثلاثا فسدت وإن لم ينزل اللبن، فإن كان مصة أو مصتين فإن نزل لبن فسدت وإلا فلا. وفي
المنية والمحيط: إن خرج اللبن فسدت وإلا فلا من غير تقييد بعدد. وصححه في معراج
الدراية. وأما قولهم لو ضرب إنسانا بيد واحدة أو بسوط تفسد كما في المحيط والخلاصة
والظهيرية والمنية فلا يتفرع على ما يقام باليدين على الصحيح لكن في الظهيرية لو ضرب دابته
مرة أو مرتين لا تفسد وإن ضربها ثلاثا في ركعة واحدة تفسد. قال رضي الله عنه: وعندي
إذا ضرب مرة واحدة وسكن ثم ضرب مرة أخرى وسكن ثم ضرب مرة أخرى لا تفسد
صلاته كما قلنا في المشي ا ه‍. وهذا يصلح أن يتفرع على القولين، وأما اعتبارهم المرات
الثلاث في الحك كما قدمناه عن الخلاصة فالظاهر تفريعه على قول من فسر العمل الكثير بما
تكرر ثلاثا وهو القول الثالث لا على القولين الأولين، وأما قولهم لو قتل القملة مرارا إن قتل
قتلا متداركا تفسد، وإن كان بين القتلات فرجة لا تفسد فيصلح تفريعه على الأقوال كلها.
وإما قولهم لو قبل المصلي امرأته بشهوة أو بغير شهوة أو مسها بشهوة فسدت ينبغي تفريعه
على القول الأصح، وكذا على قول من فسر العمل الكثير بما يستفحشه المصلي. وأما على
اعتبار ما يفعل باليدين أو بما تكرر ثلاثا فلا وهو مما يضعفهما كما لا يخفى. كذا لو جامعها
فيما دون الفرج من غير إنزال بخلاف النظر إلى فرجها بشهوة فإنه لا يفسد على المختار كما
في الخلاصة. وأما قولهم كما في الخانية والخلاصة لو كانت المرأة هي المصلية دونه فقبلها
فسدت بشهوة أو بغير شهوة ولو كان هو المصلي فقبلته ولم يشتهها فصلاته تامة فمشكل، إذ
ليس من المصلي فعل في الصورتين فمقتضاه عدم الفساد فيهما، فإن جعلنا تمكينه من الفعل
بمنزلة فعله اقتضى الفساد فيهما وهو الظاهر على اعتبار أن العمل الكثير ما لو نظر إليه الناظر
لتيقن أنه ليس في الصلاة أو ما استفحشه المصلي لكن في شرح الزاهدي: ولو قبل المصلية لا

21
تفسد صلاتها. وقال أبو جعفر: إن كان بشهوة فسدت ا ه‍. وهو مخالف لما في الخلاصة
والخانية فسدت لتقبيله وتقبيلها.
وفي منية المصلي: المشي في الصلاة إذا كان مستقبل القبلة لا يفسد إذا لم يكن متلاحقا
ولم يخرج من المسجد وفي الفضاء ما لم يخرج عن الصفوف. هذا كله إذا لم يستدبر القبلة،
وأما إذا استدبرها فسدت. وفي الظهيرية: المختار في المشي أنه إذا كثر أفسدها. وأما قولهم
كما في منية المصلي لو أخذ حجرا فرمى به تفسد ولو كان معه حجر فرمى به لا تفسد وقد
أساء، فظاهره التفريع على الصحيح لا على تفسيره بما يقام باليدين. وأما قولهم كما في
الخلاصة وغيرها لو كتب قدر ثلاث كلمات تفسد وإن كان أقل لا، فالظاهر تفريعه على أن
الكثير ما يستكثره المبتلي به أو أنه ما تكرر ثلاثا متواليات. وأما على الصحيح فالظاهر أن
الفساد لا يتوقف على كتابة ثلاث كلمات بل يحصل الفساد بكتابة كلمة واحدة مستبينة على
الأرض ونحوها، وقد يشهد بذلك إطلاق ما في المحيط قال محمد: لو كتب في صلاته على
شئ فسدت وإن كتب على شئ لا يرى لا تفسد لأنه لا يسمى كتابة. وأما قولهم كما في
الذخيرة لو حرك رجلا لا على الدوام لا تفسد وإن حرك رجليه تفسد فمشكل، لأن الظاهر
أن تحريك اليدين في الصلاة لا يبطلها حتى يلحق بهما تحريك الرجلين، فالأوجه قول
بعضهم أنه إن حرك رجليه قليلا لا تفسد وإن كان كثيرا فسدت كما في الذخيرة أيضا،
ولعله مفوض إلى ما يعده العرف قليلا أو كثيرا.
وفي الظهيرية: إذا تخمرت المرأة فسدت صلاتها، ولو أغلق الباب لا تفسد، وإن فتح

22
الباب المغلق تفسد، وإن نزع القميص لا تفسد وللبس تفسد، ولو شد السراويل تفسد ولو
فتح لا تفسد، ومن أخذ عنان دابته أو مقودها وهو نجس إن كان موضع قبضه نجسا لم يجز،
وإن كان النجس موضعا آخر جاز، وإن كان يتحرك بتحركه هو المختار وإن جذبته الدابة
حتى أزالته عن موضع سجوده تفسد. ولو آذاه حر الشمس فتحول إلى الظل خطوة أو
خطوتين لا تفسد وقيل في الثلاث كذلك والأول أصح. ولو رفع رجل المصلي عن مكانه ثم
وضعه من غير أن يحوله عن القبلة لا تفسد، ولو وضعه على الدابة تفسد. ولو زر قميصا أو
قباء فسدت لا إن حله، وإن ألجم دابة فسدت لا إن خلعه، ولو لبس خفية فسدت لا إن
تنعل أو خلع نعليه كما لو تقلد سيفا أو نزعه أو وضع الفتيلة في مسرجة أو تروح بمروحة
أو بكمه أو سوى من عمامته كورا أو كورين أو لبس قلنسوة أو بيضة. والحاصل أن فروعهم
في هذا الباب قد اختلفت ولم تتفرع كلها على قول واحد بل بعضها على قول وبعضها على
غير كما يظهر للمتأمل، والظاهر أن أكثرها تفريعات المشايخ لم تكن منقولة عن الإمام
الأعظم ولهذا جعل الاختلاف في حد العمل الكثير والقليل في التجنيس إنما هو بين
المشايخ، وقد ذكرنا من الأقوال أربعة وذكروا قولا خامسا وهو أن العمل الكثير ما يكون

23
مقصودا للفاعل بأن أفرد له مجلسا على حدة، ولقد صدق من قال كثرة المقالات تؤذن بكثرة
الجهالات، ولقد صدق صاحب الفتاوي الظهيرية حيث قال في الفصل الثالث في
قراءة القرآن: إن كل ما لم يرو عن أبي حنيفة فيه قول بقي كذلك مضطربا إلى يوم القيامة كما حكي
عن أبي يوسف أنه كان يضطرب في بعض المسائل وكان يقول: كل مسألة ليس لشيخنا فيها
قول فنحن فيها هكذا اه‍. وإلى هنا تبين أن المفسد للصلاة كلام الناس مطلقا والعمل الكثير،
ومن المفسد الموت والارتداد بالقلب والجنون والاغماء وكل حدث عمد، وما أوجب الغسل
كالاحتلام والحيض ومحاذاة المرأة بشروطه وترك ركن من غير قضاء أو شرط لغير عذر. وأما
استخلاف القارئ للامي والفتح على غير إمامه فداخل تحت العمل الكثير، وأما ترك القعدة
الأخيرة مع التقييد بالسجدة، وقدرة المومي على الركوع والسجود، وتذكر صاحب الترتيب
الفائتة فيها، وطلوع الشمس في الفجر، ودخول وقت العصر في الجمعة ونظائرها، فمما
يفسد وصف الفرضية لا أصل الصلاة، وأما فسادها بتقدم الإمام أمام المصلي أو طرحه في
صف النساء أو في مكان نجس أو سقوط الثوب عن عورته مع التعمد مطلقا ومع أداء ركن
إن لم يتعمد علم أو لم يعلم، ومع المكث قدره إن لم يؤد عند أبي حنيفة ومحمد كما في
الظهيرية فراجع إلى فوت الشرط كما لا يخفى.
قوله: (ولو نظر إلى مكتوب وفهمه أو أكل ما بين أسنانه أو مر مار في موضع سجوده
لا تفسد وإن أثم) أما الأول فلان الفساد إنما يتعلق في مثله بالقراءة وبالنظر مع الفهم
لم تحصل، وصحح المصنف في الكافي أنه متفق عليه بخلاف من حلف لا يقرأ كتاب فلان
فنظر إليه وفهمه فإنه يحنث عنه محمد لأن المقصود فيه الفهم والوقوف على سره. أطلق
المكتوب فشمل ما هو قرآن وغيره لكن في القرآن لا تفسد إجماعا بالاتفاق كما في النهاية،
وشمل ما إذا استفهم أو لا، لكن إذا لم يكن مستفهما لا تفسد بالاجماع، وإن كان مستفهما
ففي المنية تفسد عند محمد والصحيح عدمه اتفاقا لعدم الفعل منه ولشبهة الاختلاف قالوا:
ينبغي للفقيه أن لا يضع جز تعليقه بين يديه في الصلاة لأنه ربما يقع بصره على ما في الجزء
فيفهم ذلك فيدخل فيه شبهة الاختلاف ا ه‍. وعبر في النهاية بالوجوب على الفقيه أن لا
يضع لكن قد علمت أن شبهة الاختلاف فيما إذا كان مستفهما، وأما إذا لم يكن مستفهما فلا
يعلل بما ذكر لعدم الاختلاف فيه بل لاشتغال قلبه به إذا خاف من وضعه بين يديه اشتغاله
بالنظر إليه ولم يذكروا كراهة النظر إلى المكتوب متعمدا، وفي منية المصلي ما يقتضيها فإنه
قال: ولو أنشأ شعرا أو خطبة ولم يتكلم بلسانه لا تفسد وقد أساء، وعلل الإساءة شارحها

24
باشتغاله بما ليس من أعمال الصلاة من غير ضرورة قال ثم ينبغي أن يكون عليه سجود
السهو إذا أشغله ذلك عن أداء ركن أو واجب سهوا ا ه‍. وبهذا علم أن ترك الخشوع لا يخل
بالصحة بل بالكمال ولذا قال في الخلاصة والخانية إذا تفكر في صلاته فتذكر شعرا أو
خطبة فقرأهما بقلبه ولم يتكلم بلسانه لا تفسد صلاته اه‍. وأما الثاني وهو أكله ما بين أسنانه
فلانه عمل قليل، أطلقه فشمل ما إذا كان قدر الحمصة كما قدمناه عن المحيط والوالجية من
الفرق بين الصلاة والصوم. وفي البدائع: إن كان دون الحمصة لم يضره وإن كان قدر
الحمصة فصاعدا فسدت صلاته، وهكذا في شرح الطحاوي. وقال بعضهم: لا تفسد صلاته
بما دون ملء الفم وعليه مشي في الخلاصة حيث قال: وقال الإمام خواهر زاده: ولو أكل
بعض اللقمة وبقي البعض في فيه حتى شرع في الصلاة وابتلع الباقي لا تفسد صلاته ما لم
يكن ملء الفم. فهذه ثلاثة أقوال في هذه المسألة كما ترى والشأن فيما هو الراجح منها وهو
ينبني على معرفة العمل الكثير وفيه اختلاف كما سبق، وينبغي أن يكون محل الاختلاف فيما
إذا ابتلع ما بين أسنانه من غير مضغ، أما إذا مضغه كثيرا فلا خلاف في فسادها كما قدمناه في
مضغ العلك، وعلى هذا فلو عبر المصنف بالابتلاع كما في الخلاصة والمحيط والولوالجية
وكثير دون الاكل لكان أولى. ثم إذا كان ابتلاع ما بين أسنانه غير مفسد بشرطه على الخلاف

25
فهو مكروه كما صرح به في منية المصلي لأنه ليس من أعمال الصلاة ولا ضرورة فيه فكان
مكروها وإن كان قليلا. وأما الثالث وهو مرور المار في موضع سجود المصلي فإنما لا يفسدها
عند عامة العلماء، سواء كان المار امرأة أو حمارا أو كلبا أو غيرها لحديث الصحيحين عن عائشة
أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي وأنا معترضة بين يديه فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي فإذا قام بسطتهما
والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، ولقوله عليه السلام لا يقطع الصلاة مرور شئ وادرؤوا ما
استطعتم فإنما هو شيطان لكن ضعفه النووي. وفي فتح القدير: والذي يظهر أنه لا ينزل عن
الحسن لأنه يروي من عدة طرق. ثم الكلام في هذه المسألة في سبعة عشرة موضعا: الأول ما
ذكره في الكتاب من عدم الفساد. الثاني أن المار آثم للحديث لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا
عليه من الوزر لوقف أربعين خير له من أن يمر بين يديه (1) قال الراوي: لا أدري أربعين عاما
أو شهرا أو يوما. وأخرجه البزار وقال: أربعين خريفا. وروى ابن ماجة وصححه ابن حبان
عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو يعلم أحدكم ما له في أن يمر بين يد أخيه معترضا
في الصلاة كان لأن يقيم مائة عام خير له من الخطوة التي خطى.
وبهذا علم أن الكراهة تحريمية لتصريحهم بالاثم وهو المراد بقوله وإن أثم المار بين
يديه. الثالث في الموضع الذي يكره المرور فيه وفيه اختلاف، واختار المصنف أنه موضع
سجوده، وصححه في الكافي لأن هذا القدر من المكان حقه وفي تحريم ما وراءه تضييق على
المارة وهو يفيد أن المراد بموضع سجوده موضع صلاته وهو من قدمه إلى موضع سجوده كما
صرح به الشارح وهو مختار صاحب الهداية وشمس الأئمة السرخسي وقاضيخان، وفي المحيط
إنه الأحسن لأن ذلك القدر موضع صلاته دون ما وراءه. وذكر التمرتاشي أن الأصح أنه إن
كان بحال لو صلى صلاة خاشع لا يقع بصره على المار فلا يكره المرور نحو أن يكون منتهى
بصره في قيامه إلى موضع سجوده، وفي ركوعه إلى صدور قدميه. وفي سجوده إلى أرنبة أنفه،
وفي قعوده إلى حجره، وفي سلامه إلى منكبيه، واختاره فخر الاسلام فإنه قال: إذا صلى راميا

26
ببصره إلى موضع سجوده فلم يقع عليه بصره لم يكره وهذا حسن. وفي البدائع وقال بعضهم:
قدر ما يقع بصره على المار لو صلى بخشوع وفيما وراء ذلك لا يكره وهو الأصح، ورجحه في
النهاية بأنه أشبه إلى الصواب لأن المصلي إذا صلى بخشوع وفيما وراء ذلك لا يكره وهو
الأصح. ورجحه في النهاية بأنه أشبه إلى الصواب لأن المصلي إذا صلى على الدكان وحاذ
أعضاء المار أعضاءه فإن المرور أسفل الدكان مكروه وهو ليس بموضع سجود المصلي فهي واردة
على من اعتبر موضع السجود، فما اختاره فخر الاسلام يمشي في كل الصور كما هو دأبه في
اختياراته، وأقره عليه في فتح القدير. ووفق بينهما في العناية بأن المراد بموضع السجود
الموضع القريب من موضع السجود فيؤل إلى ما اختاره فخر الاسلام بدليل أن صاحب الهداية
بعد اعتباره موضع السجود شرط عدم الحائل كالأسطوانة، ولا يتصور أن يكون الحائل بينه
وبين موضع سجوده وبدليل أنه صرح بمسألة المرور أسفل الدكان ا ه‍. وهو تكلف. والذي
يظهر للعبد الضعيف أن الراجح ما في الهداية وأنه لا يرد عليه شئ مما ذكر لأن مسألة الدكان
إنما ترد عليه نقضا لو سكت عنها. وأما إذا صرح بها فلا فكأنه قال: العبرة بموضع السجود
إن لم يكن يصلي على دكان، فأما إذا كان يصلي عليها فالعبرة للمحاذاة كما هو ظاهر عبارته لمن
تأملها. وإنما شرط عدم الحائل لأنه يتصور وجود الحائل. في موضع السجود كأن يصلي قريبا
من جدار بالايماء للمرض بحيث لو لم يكن الجدار لكان موضعه موضع السجود فلا منافاة كما

27
في العناية، أو أن اشتراط عدم الحائل إنما هو بيان لمحل الخلاف فإن المرور وراء الحائل ليس
بمكروه اتفاقا كما هو ظاهر عبارتهم لاشرط في المرور في موضع السجود. ومما يضعف
تصحيح النهاية أنه يقتضي أن الموضع الذي يكره المرور فيه مختلف يكون في حالة القيام مخالفا
لحالة الركوع وفي حالة الجلوس مخالفا للكل فيقتضي أنه لو مر إنسان بين يديه في موضع
سجوده وهو جالس لا يكره لأن بصره لا يقع عليه حالة كونه خاشعا، ولو مر في ذلك لم يمر في ذلك الموضع
بعينه وهو قائم يكره لأن بصره يقع عليه حالة خشوعه، وأنه لو مر داخل موضع سجوده وهو
راكع لا يكره لأن بصره لا يقع عليه حالة خشوعه، وأنه لو مر عن يمينه وهو يسلم بحيث يقع
بصره عليه خاشعا يكره، وهذا كله بعيد عن المذهب لعدم انضباطه كما لا يخفى. والاختلاف
في موضع المرور إنما هو منشأ بين المشايخ لعدم ذكره في الكتاب لمحمد بن الحسن كما في
البدائع وحيث لم ينص صاحب المذهب على شئ فالترجيح لما في الهداية لانضباطه، وهو
بإطلاقه يشمل الصحراء والمسجد وفي المسجد اختلاف، ففي الخلاصة: وإذا كان في المسجد لا
ينبغي لاحد أن يمر بينه وبين حائط القبلة. وصحح في المحيط أنه لو مر عن بعد في المسجد
فالأصح أنه لا يكره، وكذا صححه فخر الاسلام كما في غاية البيان.
وذكر قاضيخان في شرحه أن المسجد إذا كان كبيرا فحكمه حكم الصحراء. وفي
الذخيرة من الفصل التاسع: إن كان المسجد صغيرا يكره في أي موضع يمر وإليه أشار محمد
في الأصل فإنه قال في الإمام إذا فرغ من صلاته: فإن كانت صلاة لا تطوع بعدها فهو
بالخيار إن شاء انحرف عن يمينه أو شماله وإن شاء قام وذهب وإن شاء استقبل الناس

28
بوجهه إذا لم يكن بحذائه رجل يصلي، ولم يفصل بين ما إذا كان المصلي في الصف الأول أو
في الصف الأخير وهذا هو ظاهر المذهب لأنه إذا كان وجهه مقابل وجه الإمام في حال
قيامه يكره ذلك وإن كان بينهما صفوف. ووجه الاستدلال بهذه المسألة أن محمدا جعل
جلوس الإمام في محرابه وهو مستقبل له بمنزلة جلوسه بين يديه وموضع سجوده، وكذا
مرور المار في أي موضع يكون من المسجد بمنزلة مروره بين يديه وفي موضع سجوده، وإن
كان المسجد كبيرا بمنزلة الجامع قال بعضهم: هو بمنزلة المسجد الصغير فيكره المرور في جميع
الأماكن. وقال بعضهم: هو بمنزلة الصحراء ا ه‍. وبهذا علم أن ما صححه في الذخيرة في
الفصل الرابع أن بقاع المسجد في ذلك كله على السواء إنما هو في المسجد الصغير، ورجح
في فتح القدير أنه لا فرق بين المسجد وغيره فإن المؤثم المرور بين يديه وكون ذلك البيت
برمته اعتبر بقعة واحدة في حق بعض الأحكام لا يستلزم تغيير الامر الحسي من المرور من
بعيد فيجعل البعيد قريبا ا ه‍. فحاصل المذهب على الصحيح أن الموضع الذي يكره المرور فيه
هو أمام المصلي في مسجد صغير وموضع سجوده في مسجد كبير أو في الصحراء أو أسفل
من الدكان أمام المصلي لو كان يصلي عليها بشرط محاذاة أعضاء المار أعضاءه. قال في النهاية:

29
إنما شرط هذا فإنه لو صلى على الدكان والدكان مثل قامة الرجل وهو سترة فلا يأثم المار
وكذا السطح والسرير وكل مرتفع، ومن مشايخنا من حده بقدر السترة وهو ذراع وهو غلط،
لأنه لو كان كذلك لما كره مرور الراكب. وإن استتر بظهر إنسان جالس كان سترة، وإن كان
قائما اختلفوا فيه، وإن استتر بدابة فلا بأس به وقالوا: حيلة الراكب إذا أراد أن يمر ينزل
فيصير وراء الدابة ويمر افتصير الدابة سترة ولا يأثم. وكذا لو مر رجلان متحاذيان فإن
كراهة المرور وإثمه يلحق الذي يلي المصلي ا ه‍. الرابع أنه ينبغي لمن يصلي في الصحراء أن
يتخذ أمامه سترة لما رواه الحاكم وأحمد وغيرهما عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله إذا
صلى أحدكم فليصل إلى سترة ولا يدع أحدا يمر بين يديه (1) وفي الصحيحين عن ابن عمر
أيضا: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه فيصلي إليها والناس
وراءه، وكان يفعل ذلك في السفر. وفي منية المصلي: وتكره الصلاة في الصحراء من غير
سترة إذا خاف المرور بين يديه. وينبغي أن تكون كراهة تحريم لمخالفة الامر المذكور لكن في
البدائع: والمستحب لمن يصلي في الصحراء أن ينصب شيئا ويستتر فأفاد أن الكراهة تنزيهية
فحينئذ كان الامر للندب لكنه يحتاج إلى صارف عن الحقيقة.
قال العلامة الحلبي في شرح المنية: إنما قيد بقوله في الصحراء لأنها المحل
الذي يقع فيه المرور غالبا وإلا فالظاهر كراهة ترك السترة فيما يخاف فيه المرور أي
موضع كان. الخامس أن المستحب أن يكون مقدارها ذراعا فصاعدا لحديث مسلم عن

30
عائشة سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سترة المصلي فقال: بقدر مؤخرة الرحل. ومؤخرة
بضم الميم وهمزة ساكنة وكسر الخاء المعجمة العود الذي في آخر الرحل من كور
البعير، وفسرها عطاء بأنها ذراع فما فوقه كما أخرجه أبو داود. السادس اختلفوا في
مقدار غلظها ففي الهداية: وينبغي أن تكون في غلظ الإصبع لأن ما دونه لا يبدو
للناظر وكأن مستنده ما رواه الحاكم مرفوعا استتروا في صلاتكم ولو بسهم ويشكل
عليه ما رواه الحاكم عن أبي هريرة مرفوعا يجزئ من السترة قدر مؤخرة الرحل ولو
بدقة شعرة ولهذا جعل بيان الغلظ في البدائع قولا ضعيفا وأنه لا اعتبار بالعرض
وظاهره أنه المذهب. السابع أن من السنة غرزها إن أمكن. الثامن أن في استنان
وضعها عند تعذر غرزها اختلافا فاختار في الهداية أنه لا عبرة بالالقاء، وعزاه في
غاية البيان إلى أبي حنيفة ومحمد وصححه جماعة منهم قاضيخان في شرح الجامع
الصغير معللا بأنه لا يفيد المقصود. وقيل: يسن الالقاء ونقله القدوري عن أبي
يوسف، ثم قيل يضعه طولا لا عرضا ليكون على مثال الغرز. التاسع أن السنة القرب
منها لحديث أبي داود مرفوعا إذا صلى أحدكم فليصل إلى سترة وليدن منها (1) وذكر
العلامة الحلبي أن السنة أن لا يزيد ما بينه وبينها على ثلاثة أذرع. العاشر أن السنة أن
يجعلها على أحد حاجبيه لحديث أبي داود عن المقداد بن الأسود قال: ما رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى عود أو شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر ولا
يصمد إليه صمدا. أي لا يقابله مستويا مستقيما بل كان يميل عنه. كذا في المغرب.
الحادي عشر أن سترة الإمام تجزئ عن أصحابه كما هو ظاهر الأحاديث الثابتة في
الصحيحين من الاقتصار على سترته صلى الله عليه وسلم. وقد اختلف العلماء في أن سترة الإمام هل
هي بنفسها سترة للقوم وله أو هي سترة له خاصة وهو سترة لمن خلفه، فظاهر كلام
أئمتنا الأول ولهذا قال في الهداية: وسترة الإمام سترة للقوم. الثاني عشر أنه لا بأس
بالمرور وراء السترة كما دل عليه حديث ابن عباس الثابت في الصحيحين من مروره
وراء السترة ولم ينكر عليه. الثالث عشر أنه إذا لم يجد ما يتخذه سترة فهل ينوب الخط
بين يديه منابها ففيه روايتان: الأولى أنه ليس بمسنون ومشى عليه كثير من المشايخ
واختاره في الهداية لأنه لا يحصل المقصود به إذ لا يظهر من بعيد، والثانية عن محمد
أنه يخط لحديث أبي داود فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا وأجاب عنه في البدائع
بأنه شاذ فيما تعم به البلوى وصرح النووي بضعفه وتعقب بتصحيح أحمد وابن حبان
وغيرهما له كما ذكره العلامة الحلبي وجزم به المحقق في فتح القدير وقال: إن السنة

31
أولى بالاتباع مع أنه يظهر في الجملة إذ المقصود جمع الخاطر بربط الخيال به كيلا ينتشر.
الرابع عشر في بيان كيفيته، فمنهم من قال يخط بين يديه عرضا مثل الهلال، ومنهم
من قال يخطه بين يديه طولا، وذكر النووي أنه المختار ليصير شبه ظل السترة. الخامس
عشر درء المار بين يديه قالوا: ويدرؤه إن لم يكن سترة أو مر بينه وبينها للأحاديث
الواردة، وهو بالإشارة باليد أو بالرأس أو بالعين أو بالتسبيح، وزاد الولوالجي أنه
يكون برفع الصوت بقراءة القرآن، وينبغي أن يكون محله في الصلاة الجهرية فيما يجهر
فيه منها. وفي الهداية: ويكره الجمع بين التسبيح والإشارة لأن بأحدهما كفاية. قالوا:
هذا في حق الرجال، أما النساء فإنهن يصفقن للحديث. وكيفيته أن تضرب بظهور
أصابع اليمنى على صفحة الكف من اليسرى ولان في صوتهن فتنة فكره لهن التسبيح.
كذا في غاية البيان. السادس عشر أن ترك الدرء أفضل لما في البدائع. ومن المشايخ
من قال: إن الدرء رخصة والأفضل أن لا يدرأ لأنه ليس من أعمال الصلاة، وكذا
رواه الماتريدي عن أبي حنيفة. والامر بالدرء في الحديث لبيان الرخصة كالأمر بقتل
الأسودين ا ه‍. وذكر الشارح عن السرخسي أن الامر بالمقاتلة محمول على الابتداء حين
كان العمل فيها مباحا، وفي غاية البيان معنى المقاتلة الدفع العنيف. السابع عشر أنه لا
بأس بترك السترة إذا أمن المرور ولم يواجه الطريق لأن اتخاذ السترة للحجاب عن المار
ولا حاجة بها عند عدم المار. روي عن محمد أنه تركه في طريق الحجاز غير مرة.
وقال العلامة الحلبي: ويظهر أن الأولى اتخاذها في هذا الحال وإن لم يكره الترك لمقصود
آخر وهو كف بصره عما وراءها وجمع خاطره بربط الخيال بها ا ه‍. وقيدوا بقولهم
ولم يواجه الطريق لأن الصلاة في الطريق أي في طريق العامة مكروهة، وعلله في

32
المحيط بما يفيد أنها كراهة تحريم بقوله: لأن فيه منع الناس عن المرور والطريق حق
الناس أعد للمرور فيه فلا يجوز شغله بما ليس له حق الشغل. وإذا ابتلي بين الصلاة
في الطريق وبين أرض غيره، فإن كانت مزروعة فالأفضل أن يصلي في الطريق لأن له
حقا في الطريق ولا حق له في الأرض، وإن تكن مزروعة وإن كانت لمسلم يصلي فيها
فإن الظاهر أنه يرضى به لأنه إذا بلغه يسر بذلك لأنه أحرز أجرا من غير اكتساب منه
وفي الطريق لا إذن لأن الطريق حق المسلم والكافر وإن كانت لكافر يصلي على الطريق
لأنه لا يرضى به ا ه‍.
قوله: (وكره عبثه بثوبه وبدنه) شروع في بيان المكروهات بعد بيان المفسدات لأن كلا
منهما من العوارض إلا أنه قدم المفسد لقوته. والمكروه في هذا الباب نوعان: أحدهما ما كره
تحريما وهو المحمل عند إطلاقهم الكراهة كما ذكره في فتح القدير من كتاب الزكاة وذكر أنه
في رتبة الواجب لا يثبت إلا بما يثبت به الواجب يعني بالنهي الظني الثبوت فإن الواجب
يثبت بالامر الظني الثبوت. ثانيهما المكروه تنزيها ومرجعه إلى ما تركه أولى وكثيرا ما يطلقونه
كما ذكره العلامة الحلبي في مسألة مسح العرق فحينئذ إذ ذكروا مكروها فلا بد من النظر في
دليله، فإن كان نهيا ظنيا يحكم بكراهة التحريم إلا لصارف للنهي عن التحريم إلى الندب،
فإن لم يكن الدليل نهيا بل كان مفيدا للترك الغير الجازم فهي تنزيهية. واختلف في تفسير
العبث فذكر الكردري أنه فعل فيه غرض ليس بشرعي والسفه ما لا غرض فيه أصلا،

33
والمذكور في شرح الهداية وغيرها أن العبث الفعل لغرض غير صحيح حتى قال في النهاية:
وحاصله أن كل عمل هو مفيد للمصلي فلا بأس بأن يأتي به، أصله ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عرق في
صلاة فسلت العرق عن جبينه أي مسحه لأنه كان يؤذيه فكان مفيدا. وفي زمن الصيف كان إذا
قام من السجود نفض ثوبه يمنة أو يسرة لأنه كان مفيدا كيلا يبقى صورة، فأما ما ليس بمفيد فهو
العبث اه‍. وتعقبه العلامة الحلبي بأنه إذا كان يكره رفع الثوب كيلا يتترب وأنه قد وقع الخلاف
في أنه يكره مسح التراب عن جبهته في الصلاة وأنه قد وقع الندب إلى تتريب الوجه في السجود
فضلا عن الثوب فكون نفض الثوب عن التراب عملا مفيدا وأنه لا بأس به مطلقا فيه نظر ظاهر،
وأما أنه لا بأس بسلت العرق في الصلاة فهو قول بعض المشايخ واختاره في الخانية وغيرها. وفي
منية المصلي: ويكره أن يمسح عرقه أو التراب عن جبهته في أثناء الصلاة أو في التشهد قبل
السلام، ووفق بينهما بأن المراد بالعرق الممسوح عرق لم تدعه حاجة إلى مسحه وبالكراهة الكراهة
التنزيهية فحينئذ لا منافاة بينها وبين قولهم لا بأس لأن تركه أولى، ويحمل فعله صلى الله عليه وسلم إن ثبت على أن
به حاجة إلى مسحه أو بيانا للجواز ا ه‍. وفي الخانية: ولا بأس بأن يمسح جبهته من التراب أو
الحشيش بعد الفراغ من الصلاة وقبله إذا كان يضره ذلك ويشغله عن الصلاة، وإذا كان لا يضره
ذلك يكره في وسط الصلاة ولا يكره قبل التشهد والسلام ا ه‍. وصححه في المحيط وهو مع ما
قدمناه من تعريف العبث يدل على أن الحك بيده في بدنه إنما يكون عبثا إذا كان لغير حاجة، أما
إذا أكله شئ في بدنه ضره وأشغله فلا بأس بحكه ولا يكون من العبث. ثم ذكر الشارحون
أنهم إنما قدموا مسألة العبث لأنها كلية وغيرها نوعية لأن تقليب الحصى والفرقعة والتخصر
من أنواع العبث والكلي مقدم على النوعي. وتعقبه في العناية بأن العبث بالثوب لا يشمل ما
بعده من تقليب الحصى وغيره بل إنما قدموه لأنه أكثر وقوعا ا ه‍. وقد يقال: إن الشامل
للتقليب وغيره العبث بالبدن ولا يتم ما قاله إلا لو اقتصروا على العبث بالثوب. ثم إن كراهة
العبث تحريمية لما أخرجه القضاعي في مسند الشهاب مرسلا عن يحيى بن أبي كثير عن
النبي صلى الله عليه وسلم إن الله كره لكم ثلاثا العبث في الصلاة والرفث في الصيام والضحك في المقابر
وعلله في الهداية بأن العبث خارج الصلاة حرام فما ظنك في الصلاة ا ه‍. وأراد به كراهة
التحريم وأورد عليه في غاية البيان بأنه إذا كان حراما ينبغي أن يكون مفسدا كالقهقهة،

34
وأجاب بأن فساد القهقهة لا باعتبار حرمتها بل باعتبار أنها تنقض الطهارة وهي شرط ولهذا
لا يفسدها النظر إلى الأجنبية وإن كان حراما إلا إذا كثر العبث فحينئذ يفسدها لكونه عملا
كثيرا. وفي الغاية للسروجي قوله ولان العبث خارج الصلاة حرام فيه نظر لأن العبث
خارجها بثوبه أو بدنه خلاف الأولى ولا يحرم والحديث قيد بكونه في الصلاة ا ه‍.
قوله: (وقلب الحصى إلا للسجود مرة) أي كره قلبه لغير ضرورة لما أخرج في
الكتب الستة عن معيقيب أنه صلى الله عليه وسلم قال لا تمسح الحصى وأنت تصلي فإن كنت لا بد فاعلا
فواحدة وعن أبي ذر أنه قال: سألت خليلي عن كل شئ حتى سألته عن تسوية الحصى
في الصلاة فقال: يا أبا ذر مرة أو ذر. ولأنه نوع عبث، أما إذا كان لا يمكنه السجود
عليه فيسويه مرة لأن فيه إصلاح صلاته. كذا في الهداية. يعني فيه تحصيل السجود على
الوجه المطلوب شرعا وهو يفيد أن تسويته مرة لهذا الغرض أولى من تركها. وصرح في
البدائع بأن التسوية مرة رخصة وأن الترك أولى لأنه أقرب إلى الخشوع. وفي النهاية
والخلاصة: إن الترك أحب إلي مستدلا في النهاية بما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض
الروايات وإن تركتها فهو خير لك من مائة ناقة سوداء الحدقة تكون لك (2) اه‍. فالحاصل
أن التسوية لغرض صحيح مرة هل هي رخصة أو عزيمة وقد تعارض فيها جهتان، فبالنظر
إلى أن التسوية مقتضية للسجود على الوجه المسنون كانت التسوية عزيمة، وبالنظر إلى أن
تركها أقرب إلى الخشوع كان تركها عزيمة، والظاهر من الأحاديث الثاني ويرجحه أن الحكم
إذا تردد بين سنة وبدعة كان ترك البدعة راجحا على فعل السنة مع أنه قد كان يمكنه
التسوية قبل الشروع في الصلاة وتقييد المصنف بالمرة هو ظاهر الرواية والزيادة عليها
مكروهة، وقيل يسويها مرتين. ذكره في منية المصلي قوله: (وفرقعة الأصابع) وهو غمزها
أو مدها حتى تصوت. ونقل في الدراية الاجماع على كراهتها فيها، ومن السنة ما رواه ابن
ماجة مرفوعا لا تفرقع أصابعك وأنت تصلي (3) لكنه معلول بالحارث. وروى أحمد
عن سهل بن معاذ رفعه الضاحك في الصلاة والملتفت والمفرقع أصابعه بمنزلة واحدة (4) ولعل

35
المراد التساوي في المعصية وإلا فالضحك مبطل لها. وينبغي أن تكون كراهة الفرقعة
تحريمية للنهي الوارد في ذلك ولأنها من أفراد العبث بخلاف الفرقعة خارج الصلاة لغير
حاجة ولو لإراحة المفاصل فإنها تنزيهية على القول بالكراهة كما في المجتبي أنه كرهها كثير
من الناس لأنها من الشيطان بالحديث اه‍. لكن لما لم يكن فيها خارجها نهي لم تكن تحريمية
كما أسلفناه قريبا، والحق في المجتبي المنتظر للصلاة والماشي إليها بمن في الصلاة في
كراهتها وروى في ذلك حديثا أنه نهى أن يفرقع الرجل أصابعه وهو جالس في المسجد
ينتظر الصلاة. وفي رواية وهو يمشي إليها. وأشار المصنف إلى كراهة تشبيك الأصابع وهو
أن يدخل إحدى أصابع يديه بين أصابع الأخرى في الصلاة كما صرح به في المحيط وغيره
لما روى أحمد وأبو داود وغيرهما مرفوعا إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه ثم خرج عامدا
إلى المسجد فلا يشبك بين يديه فإنه في الصلاة (1) ونقل في الدراية إجماع العلماء على
كراهته فيها. ثم يظهر أيضا أنها تحريمية للنهي المذكور وظاهره الكراهة أيضا حالة السعي
إلى الصلاة فإذا كان منتظرا لها بالأولى. وذكر العلامة الحلبي أنه لم يقف على حكمه خارج
الصلاة لمشايخنا، والظاهر أنه في غير هذين الموضعين لا للعبث ليس بمكروه ولو لإراحة
الأصابع وإن كان على سبيل العبث يكره تنزيها اه‍. وقد قدمنا عن الهداية أن العبث خارج
الصلاة حرام وحملناه على كراهة التحريم فينبغي أن يكون العبث خارجها لغير حاجة كذلك
قوله: (والتخصر) وهو وضع اليد على الخاصرة وهي ما فوق الطفطفة والشراسيف - كذا
في المغرب - لنهيه صلى الله عليه وسلم عنه كما في سنن أبي داود. وهذا التفسير هو الصحيح وبه قال
الجمهور من أهل اللغة والفقود الحديث ورد مفسرا هكذا عن ابن عمر كما في السنن.
وحكمته أنه في الصلاة راحة أهل النار كما رواه ابن حبان في صحيحه. قال ابن حبان:
يعني فعل اليهود والنصارى في صلاتهم وهم أهل النار لا أن لهم راحة في النار أو أنه
فعل المتكبرين ولا يليق بالصلاة، أو أنه فعل الشيطان حتى قيل إن إبليس اهبط من الجنة
لذلك فلهذا قال في المبسوط والمجتبى: ويكره التخصر خارج الصلاة أيضا. والذي يظهر
أنها تحريمية فيها للنهي المذكور. وقد فسر التخصر بغير هذا أيضا منها أن يتوكأ في الصلاة

36
على عصا، ومنها أن يختصر السورة فيقرأ من أولها آية أو آيتين، ومنها أن يختصرها فيقرأ
آخرها، ومنها أن يحذف آية السجدة، ومنها أن يختصر صلاته فلا يتم حدودها، ولا شك
في كراهة الاتكاء في الفرض لغير ضرورة كما صرحوا به لا في النفل على الأصح كما في
المجتبي، وأما الاختصار في القراءة فإن أخل بواجب بأن نقص عن ثلاث آيات مع الفاتحة
كان مكروها كراهة تحريم لترك بعض الواجب إلا فلا. وقد صرح أصحاب الفتاوى بأن
الصحيح أنه لا تكره القراءة من آخر السورة وقد صرحوا بكراهة قراءة السورة وترك آية
السجدة في بابها، وأما اختصار الصلاة بحيث لا يتم حدودها فإن لزم منه ترك واجب كره
تحريما وإن أخل بسنة كره تنزيها. هذا ما تقتضيه القواعد والله سبحانه الموفق للصواب.
قوله (والالتفات) لما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة فقال: هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد.
وروى الترمذي وصححه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم إياك والالتفات في الصلاة فإن الالتفات
في الصلاة هلكة، فإن كان لا بد ففي التطوع لا في الفريضة (2). ثم المذكور في عامة
الكتب إن الالتفات المكروه هو تحويل وجهه عن القبلة، وممن صرح به صاحب البدائع
والنهاية والغاية والتبيين وفتح القدير والمجتبي والكافي وشرح المجمع، وقيده في الغاية بأن
يكون لغير عذر، أما تحويل الوجه لعذر فغير مكروه. وينبغي أن تكون تحريمية كما هو ظاهر
الأحاديث قالوا: وإنما كره لغير عذر لأنه انحراف عن القبلة ببعض بدنه ولو انحرف عنها
بجميع بدنه فسدت، فإن انحرف ببعض بدنه كره كالعمل القليل فإنه مكروه لأن كثيره مفسد
ويدل لعدم فسادها بهذا الالتفات قوله في الحديث يختلسها الشيطان من صلاة العبد فإنه
سماها صلاة معه. وإنما لم يكره للعذر لحديث مسلم عن جابر: اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فصلينا وراءه وهو قاعد فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا. وقد صرحوا بأن التفات
البصر يمنة ويسرة من غير تحويل الوجه أصلا غير مكروه مطلقا والأولى تركه لغير حاجة،
والظاهر أن فعله عليه السلام إياه كان لحاجة تفقد أحوال المقتدين به مع ما فيه من بيان الجواز
وإلا فهو كان ينظر من خلفه كما ينظر أمامه كما في الصحيحين. وقد خالف صاحب

37
الخلاصة عامة الكتب في الالتفات المكروه فجعله مفسدا وعبارته: ولو حول المصلي وجهه
عن القبلة من غير عذر فسدت. وكذا في الخانية وجعل فيها الالتفات المكروه أن يحول بعض
وجهه عن القبلة والأشبه ما في عامة الكتب من أن الالتفات المكروه أعم من تحويل جميع
الوجه أو بعضه. وذكر في منية المصلي أن كراهة الالتفات بالوجه فيما إذا استقبل من ساعته
يعني فلو لم يستقبل من ساعته فسدت وكأنه جمع بين ما في الفتاوى وبين ما في عامة الكتب
بحمل ما في الفتاوى على ما إذا لم يستقبل من ساعته، وحمل ما في العامة على ما إذا استقبل
من ساعته وكأنه ناظر إلى أنه إذا لم يستقبل من ساعته صار عملا كثيرا فأفسدها، وإذا استقبل
من ساعته كان عملا قليلا فكره وهو بعيد فإن الاستدامة على هذا القليل لا يجعله كثيرا وإنما
كثيره تحويل صدره، وقد صرحوا بالفساد عند تحويل الصدر. ولا بد من تقييده بعدم العذر
كما في منية المصلي لتصريحهم كما سبق بأنه لو ظن أنه أحدث فاستدبر القبلة ثم علم أنه لم
يحدث قبل الخروج من المسجد لا تبطل، ومقتضى القواعد المذهبية اشتراط أن يؤدي ركنا
وهو مستدبر لما صرحوا به من أن انكشاف العورة إنما يفسدها إذا لم يستتر من ساعته حتى
أدى ركنا أما إذا سترها قبل أداء الركن فلا، فكذا استقبال القبلة بجامع الشرطية والمكث قدر
أداء الركن فيه خلاف بين أبي يوسف ومحمد، فأبو يوسف لا يجعله كأداء الركن، ومحمد
جعله كما عرف. وذكر الشارح أنه يكره رفع بصره إلى السماء لقوله عليه السلام ما بال
أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة، لينتهن أو لتخطفن أبصارهم (1) وفي
التجنيس: ويكره أن يميل أصابع يديه ورجليه عن القبلة لأنه مأمور بتوجيهها قال عليه
السلام فليوجه من أعضائه إلى القبلة ما استطاع.

38
قوله (والاقعاء) لنهيه صلى الله عليه وسلم عن عقبة الشيطان كما في الصحيحين وهو الاقعاء ولما في
مسند أحمد عن أبي هريرة: نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثلاثة: عن نقرة كنقرة الديك وإقعاء
كإقعاء الكلب والتفات كالتفات الثعلب. شبه من يسرع في الركوع والسجود ويخفف فيهما
بالديك الذي يلتقط الحبة كما في النهاية، وهي كراهة تحريم للنهي المذكور كما أسلفناه
من الأصل. ثم اختلفوا في الاقعاء المذكور في الحديث. فصحح صاحب الهداية وعامتهم أنه أن
يضع أليتيه على الأرض وينصب ركبتيه نصبا كما هو قول الطحاوي. وزاد كثير ويضع يديه
على الأرض، وزاد بعضهم أن يضم ركبتيه إلى صدره لأن إقعاء الكلب يكون بهذه الصفة إلا
أن إقعاء الكلب يكون في نصب اليدين وإقعاء الآدمي في نصب الركبتين إلى صدره. وذهب
الكرخي إلى أنه أن ينصب قدميه ويقعد على عقبيه واضعا يديه على الأرض وهو عقب
الشيطان الذي نهى عنه في الحديث والكل مكروه لأن فيه ترك الجلسة المسنونة. كذا في
البدائع وغاية البيان والمجتبي. زاد في فتح القدير أن قوله الصحيح أي كون هذا هو المراد في
الحديث لا أن ما قاله الكرخي غير مكروه بل يكره ذلك أيضا اه‍. والعقبة بضم العين
وسكون القاف، والعقب بفتح العين وكسر القاف بمعنى الاقعاء. كذا في المغرب. وفي فتح
القدير: وأما ما روى مسلم عن طاوس قلت لابن عباس في الاقعاء على القدمين فقال: هي
السنة. فقلت: إنا نراه جفاء بالرجل. فقال: بل هي سنة نبيك صلى الله عليه وسلم. وما روى البيهقي عن
ابن عمر وابن الزبير أنهم كانوا يقعون فالجواب المحقق عنه أن الاقعاء على ضربين: أحدهما
مستحب أن يضع أليتيه على عقبيه وركبتاه في الأرض وهو المروي عن العبادلة، والنهي أن
يضع أليتيه ويديه على الأرض وينصب ساقييه اه‍. وهو مخالف لما ذكره هو وغيره أن الاقعاء
بنوعيه مكروه، والحق أن هذا الجواب ليس لائمتنا وإنما هو جواب البيهقي والنووي وغيرهما
بناء على أن مستحب عند الشافعي لأنك قد علمت كراهته عندنا بنوعيه. ويمكن الجواب عنه

39
إما بحمله على حالة العذر إن ثبت في بعض رواياته أنه كان في الصلاة أو بحمله على كونه
خارج الصلاة إن لم يثبت، أو لأن المانع والمبيح إذا تعارضا ولم يعلم التاريخ كان الترجيح
للمانع. وقد فسر صاحب المغرب عقب الشيطان بالاقعاء عند الكرخي فكان مانعا، وينبغي
أن تكون كراهته تنزيهية بخلاف النوع المتفق على كراهته قوله (وافترش ذراعيه) لما في صحيح
مسلم عن عائشة رضي الله عنها: وكان - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ينهى أن يفترش الرجل ذراعيه
افتراش السبع. وافتراشهما إلقاؤهما على الأرض كما في المغرب. قيل: وإنما نهى عن ذلك
لأنها صفة الكسلان والتهاون بحاله مع ما فيه من التشبه بالسباع والكلاب، والظاهر أنها

40
تحريمية للنهي المذكور من غير صارف قوله (ورد السلام بيده) أي بالإشارة وقد قدمناه في
بيان المفسدات فراجعه.
قوله (والتربع بلا عذر) لأن فيه ترك سنة القعود في الصلاة. كذا علل به في الهداية
وغيرها، وما قيل في وجه الكراهة أنه جلوس الجبابرة ليس بصحيح لأنه عليه السلام كان جل
قعوده في غير الصلاة مع أصحابه التربع، وكذا عمر رضي الله عنه. كذا ذكره المصنف وغيره.
وتعليلهم بأن فيه ترك السنة يفيد أنه مكروه تنزيها إذ ليس فيه نهي خاص ليكون فيه تحريما. وقيد
بكونه بلا عذر لأنه ليس بمكروه تنزيها مع العذر لأن الواجب يترك مع العذر فالسنة أولى. وفي
صحيح البخاري عن عبد الله بن عبد الله أنه كان يرى عبد الله بن عمر يتربع في الصلاة إذا
جلس ففعلته وأنا يومئذ حديث السن فنهاني عبد الله بن عمر وقال: إنما سنة الصلاة أن تنصب
رجلك اليمنى وتثني اليسرى فقلت: إنك تفعل ذلك؟ فقال: إن رجلي لا يحملاني. وعليه يحمل
ما في صحيح ابن حبان عن عائشة: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي متربعا. أو تعليما للجواز. ثم
الجلوس متربعا معروف وإنما سمي بالتربع لأن صاحب هذه الجلسة قد ربع نفسه كما يربع الشئ
إذا جعل أربعا والأربع هنا الساقان والفخذان ربعها بمعنى أدخل بعضها تحت بعض قوله (وعقص
شعره) أي عقص شعر الرأس فيها بمعنى أن يفعل ذلك قبل الدخول فيها ثم يدخل كذلك لما روى
أصحاب الكتب الستة عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أمرت أن أسجد على سبعة وأن لا أكف شعرا ولا ثوبا (1)
وفي العقص كفه ما رواه مسلم عن كريب أن ابن عباس رأى عبد الله بن الحر ث يصلي ورأسه
معقوص من ورائه فجعل يحله فلما انصرف قال: مالك ولرأسي؟ قال: إني سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما مثل هذا مثل الذي يصلي وهو مكتوف (2) ولهذا قال العلماء: حكمة
النهي عنه أن الشعر يسجد معه. والظاهر أن الكراهة تحريمية للنهي المذكور بلا صارف، ولا فرق
فيه بين أن يتعمده للصلاة أولا وهو في اللغة جمع الشعر على الرأس، وقيل ليه وإدخال أطرافه في
أصواله. كذا في المغرب. واختلف الفقهاء فيه على أقوال: فقيل أن يجمعه وسط رأسه ثم يشده،
وقيل أن يلف ذوائبه حول رأسه كما يفعله النساء، وقيل أن يجمعه من قبل القفا ويمسكه بخيط أو

41
خرقة وكل ذلك مكروه. كذا في غاية البيان. وفي الظهيرية: ويكره الاعتجار وهو لف العمامة
حول رأسه وإبداء الهامة كما يفعله الشطار اه‍. وفي المحيط: ويكره الاعتجار لأنه عليه السلام
نهى عنه وهو أن يكور عمامته ويترك وسط رأسه مكشوفا كهيئة الأشرار. وقيل: أن يتنقب
بعمامته فيغطي أنفه كمعجز النساء إما لأجل الحر أو البرد أو للتكبر وهو مكروه لقول ابن عباس:
لا يغطي الرجل وهو يصلي اه‍. وفي المغرب: وتفسير من قال هو أن يلف العمامة على رأسه
ويبدي الهامة أقرب لأنه مأخوذ من معجر المرأة وهو ثوب كالعصابة تلفه المرأة على استدارة رأسها
اه‍. والمعجر على وزن منبر وعلل كراهة الاعتجار الإمام الولوالجي بأنه تشبه بأهل الكتاب قال:
وهو مكروه خارج الصلاة ففيها أولى قوله (وكف ثوبه) للحديث السابق سواء كان من بين يديه أو
من خلفه عند الانحطاط للسجود. والكف هو الضم والجمع ولان فيه ترك سنة اليد، وذكر في
المغرب عن بعضهم أن الائتزار فوق القميص من الكف اه‍. فعلى هذا يكره أن يصلي مشدود
الوسط فوق القميص ونحوه أيضا وقد صرح به في العتابية معللا بأنه صنيع أهل الكتاب لكن في
الخلاصة أنه لا يكره. كذا في شرح منية المصلي. ويدخل أيضا في كف الثوب تشمير كميه كما في
فتح القدير وظاهره الاطلاق وفي الخلاصة ومنية المصلي قيد الكراهة بأن يكون رافعا كميه إلى
المرفقين وظاهره أنه لا يكره إذا كان يرفعهما إلى ما دونهما والظاهر الاطلاق لصدق كف الثوب
على الكل. وذكر في المجتبى في كراهة تشمير الكمين قولين، وذكر في القنية أن القول بإمساك
الكمين أحوط ولا يخفي ما فيه. وفي مذهب مالك تفصيل قد كنت رأيته لائمتنا في بعض الفتاوى
ولم يحضرني تعيينها الآن وهو أنه يكره إن كان للصلاة لا إذا كان لأجل شغل ثم حضرته الصلاة
فصلى وهو على تلك الهيئة ومن كف الثوب رفعه كيلا يتترب كما في منية المصلي، وقيل لا بأس
بصونه عن التراب كما في المجتبى.
قوله (وسدله) لنهيه عليه السلام عنه كما أخرجه أبو داود والحاكم وصححه. يقال
سدل الثوب سدلا من باب طلب إذا أرسله من غير أن يضم جانبه. وقيل: هو أن يلقيه على
رأسه ويرخيه على منكبيه وأسدل خطأ. كذا في المغرب. وذكر في البدائع أن الكرخي فسره
بأن يجعل ثوبه على رأسه أو على كتفيه ويرسل أطرافه من جوانبه إذا لم يكن عليه سراويل.

42
وعن أبي حنيفة أنه يكره السدل على القميص وعلى الإزار وقال: لأنه صنيع أهل الكتاب. فإن كان
السدل بدون السراويل فكراهته لاحتمال كشف العورة عند الركوع، وإن كان مع الإزار فكراهته
لأجل التشبه بأهل الكتاب فهو مكروه مطلقا، سواء كان للخيلاء أو لغيره للنهي من غير فصل
اه‍. وفي فتح القدير أن السدل يصدق على أن يكون المنديل مرسلا من كتفيه كما يعتاده كثير
فينبغي لمن على عنقه منديل أن يضعه عند الصلاة، ويصدق أيضا على لبس القباء من غير إدخال
اليدين في كميه وقد صرح بالكراهة فيه اه‍. وكذا صرح في النهاية بإدخال القباء المذكور في
السدل وعزاه إلى مبسوط شيخ الاسلام والخلاصة لكن الذي في خلاصة الفتاوى: المصلي إذا كان
لابسا شقة أو فرجيه ولم يدخل يديه اختلف المتأخرون في الكراهة والمختار أنه لا يكره اه‍. وظاهر
ما في فتح القدير أن الشد الذي يعتاد وضعه على الكتفين إذا أرسل طرفا على صدره وطرفا على
ظهره لا يخرج عن الكراهية فإنه عين الوضع، وظاهر كلامهم يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون
الثوب محفوظا من الوقوع أو لا، فعلى هذا يكره في الطيلسان الذي يجعل على الرأس، وقد صرح
به في شرح الوقاية وصرح العلامة الحلبي بأن محل كراهة السدل عند عدم العذر، وأما عند العذر
فلا كراهة وأنه إن كان للتكبر فهو مكروه مطلقا. واختلف المشايخ في كراهة السدل خارج الصلاة
كما في الدراية وصحح في القنية من باب الكراهية أنه لا يكره. ومن المكروه اشتمال الصماء لما
رواه أبو داود عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان لاحدكم ثوبان فليصل فيهما فإن لم
يكن إلا ثوب فليتزر به ولا يشتمل اشتمال اليهود (1) اه‍. واشتمال اليهود هو الصماء وهو إدارة
الثوب على الجسد من غير إخراج اليد، سمي بها لعدم منفذ يخرج يده منها كالصخرة الصماء،
وفسرها في المحيط بأن يجمع طرفي ثوبه ويخرجهما تحت إحدى يديه على أحد كتفيه اه‍. وقيده في
البدائع بأن لا يكون عليه سراويل. وإنما كره لأنه لا يؤمن انكشاف العورة، ومحمد رحمه الله فصل
بين الاضطباع ولبسة الصماء فقال: إنما تكره الصماء إذا لم يكن عليه إزار فإن كان عليه إزار
فهو اضطباع لأن يدخل طرفي ثوبه تحت إحدى ضبعيه وهو مكروه لأنه لبس أهل الكبر اه‍.

43
وفي الخلاصة وغيرها: لا بأس أن يصلي الرجل في ثوب واحد متوشحا به جميع بدنه ويؤم
كذلك، والمستحب أن يصلي الرجل في ثلاثة أثواب: قميص وإزار وعمامة. أما لو صلى في
ثوب واحد متوشحا به جميع بدنه كإزار الميت تجوز صلاته من غير كراهة. وتفسيره ما يجعله
القصار في المقصرة. وإن صلى في إزار واحد يجوز ويكره، وكذا في السراويل فقط لغير
عذر، وكذا مكشوف الرأس للتهاون والتكاسل لا للخشوع. وفسر في الذخيرة التوشيح أن
يكون الثوب طويلا يتوشح به فيجعل بعضه على رأسه وبعضه على منكبيه وعلى كل موضع
من بدنه، وذكر في شرح منية المصلي أن ستر المنكبين في الصلاة مستحب يكره تركه تنزيها
عند أصحابنا، وفسره في المغرب بأن يدخله تحت يده اليمنى ويلقيه على منكبه الأيسر كما
يفعله المحرم اه‍. وفسره ابن السكيت بأن يأخذ طرف الثوب الذي ألقاه على منكبه الأيمن من
تحت يده اليسرى ويأخذ طرفه الذي ألقاه على الأيسر من تحت يده اليمنى ثم يعقدهما على
صدره، وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن أبي سلمة أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب
واحد في بيت أم سلمة قد ألقى طرفيه على عاتقه، وفي لفظ مشتملا به واضعا طرفيه على
عاتقيه، وفي لفظ مخالفا بين طرفيه، وفي حديث جابر متوشحا به، والألفاظ كلها بمعنى
واحد كما ذكره النووي في شرح مسلم. ومن المكروه التلثم وتغطية الانف والوجه في
الصلاة لأنه يشبه فعل المجوس حال عبادتهم النيران. كذا ذكره الشارح لكن التلثم هو تغطية
الانف والوجه كما في المحيط. وفي الخلاصة: ولو ستر قدميه في السجدة يكره.
قوله (والتثاؤب) وهو التنفس الذي ينفتح منه الفم لدفع البخارات وهو ينشأ من امتلاء
المعدة وثقل البدن لما في الصحيحين عن أبي هريرة إن النبي صلى الله عليه وسلم قال التثاؤب من الشيطان
فإذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع (1) والأدب أن يكظمه ما استطاع أي يرده ويحبسه لما
روينا، فإن لم يقد فليضع يده أو كمه على فيه، ووضع اليد ثابت في صحيح مسلم ووضع

44
الكم قياس عليه. وصرح في الخلاصة بأنه إن أمكنه عند التثاؤب أن يأخذ شفتيه بسنه فلم يفعل
وغطفاه بيده أو بثوبه يكره. كذا روي عن أبي حنيفة اه‍. ووجهه أن تغطية الفم منهي عنها في
الصلاة لما رواه أبو داود وغيره وإنما أبيحت للضرورة ولا ضرورة إذا أمكنه الدفع، ثم إذا وضع
يده على فيه يضع ظهر يده. كذا في مختارات النوازل. قال العلامة الحلبي: وهل يفعل ذلك بيده
اليمنى أو اليسرى لم أقف عليه مسطورا لمشايخنا أه‍. وهو عجيب مع كثرة مطالعته للمجتبى ونقله
عنه وقد صرح بأنه يغطي فاه بيمينه في القيام وفي غيره بيساره ومن المكروه التمطي لأنه من
التكاسل قوله (وتغميض عينيه) لما رواه ابن عدي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدكم في
الصلاة فلا يغمض عينيه إلا أن في سنده من ضعف. والكراهة مروية عن مجاهد وقتادة. وعلله
في البدائع بأن السنة أن يرمي بصره إلى موضع سجوده وفي التغميض ترك هذه السنة، ولان كل
عضو وطرف ذو حظ من هذه العبادة فكذا العين اه‍. وظاهر كلامهم أن لا يغمض في السجود
وقد قال جماعة من الصوفية نفعنا الله بهم: يفتح عينيه في السجود لأنهما يسجدان. وينبغي أن
تكون الكراهة تنزيهية إذا كالغير ضرورة ولا مصلحة، أما لو خاف فوات خشوع بسبب رؤية ما
يفرق الخاطر فلا يكره غمضهما بسبب ذلك بل ربما يكون أولى لأنه حينئذ لكمال الخشوع قوله
(وقيام الإمام لا سجوده في الطاق) أي المحراب لأن قيامه فيه يشبه صنيع أهل الكتاب بخلاف
سجوده فيه وقيامه خارجه. هكذا علل به في الهداية وهو أحد الطريقين للمشايخ، وأصله أن
محمدا صرح بالكراهة في الجامع الصغير ولم يفصل، فاختلف المشايخ في سببها فقيل كونه يصير
ممتازا عنهم في المكان لأنه في معنى بيت آخر وذلك صنيع أهل الكتاب. واقتصر عليه في الهداية
واختاره الإمام السرخسي وقال: إنه الأوجه. وقيل: اشتباه حاله على من على يمينه ويساره، فعلى
الطريقة الأولى يكره مطلقا، وعلى الثانية لا يكره عند عدم الاشتباه. وفي فتح القدير: ولا يخفي
أن امتياز الإمام مقرر مطلوب في الشرع في حق المكان حتى كان التقدم واجبا عليه وغاية ما هنا
كونه في خصوص مكان ولا أثر لذلك لأنه يحاذي وسط الصف وهو المطلوب إذ قيامه في غير
محاذاته مكروه وغايته اتفاق الملتين في بعض الأحكام، ولا بدع فيه على أن أهل الكتاب إنما

45
يخصون الإمام بالمكان المرتفع على ما قيل فلا تشبه اه‍. وقد يقال إن امتياز الإمام المطلوب في
الشرع حاصل بتقدمه من غير أن يقف في مكان آخر، فمتى أمكن تمييزه من غير تشبه بأهل
الكتاب تعين، فحينئذ وقوفه في المحراب تشبه بأهل الكتاب لغير حاجة فكره مطلقا ولهذا
قال الولوالجي في فتاواه وصاحب التجنيس: إذا ضاق المسجد بمن خلف الإمام على القوم لا
بأس بأن يقوم الإمام في الطاق لأنه تعذر الامر عليه، وإن لم يضق المسجد بمن خلف الإمام
لا ينبغي للإمام أن يقوم في الطاق لأنه يشبه تباين المكانين اه‍. يعني وحقيقة اختلاف المكان
تمنع الجواز فشبهة الاختلاف توجب الكراهة وهو وإن كان المحراب من المسجد كما هي
العادة المستمرة فصورته وهيئته اقتضت شبهة الاختلاف. فالحاصل أن مقتضى ظاهر الرواية
كراهة قيامه في المحراب مطلقا، سواء اشتبه حال الإمام أو لا، وسواء كان المحراب من
المسجد أم لا. وإنما لم يكره سجوده في المحراب إذا كان قدماه خارجه لأن العبرة للقدم في
مكان الصلاة حتى تشترط طهارته رواية واحدة بخلاف مكان السجود إذ فيه روايتان. وكذا
لو حلف لا يدخل دار فلان يحنث بوضع القدمين وإن كان باقي بدنه خارجها، والصيد إذا
كان رجلاه في الحرم ورأسه خارج منه فهو صيد الحرم ففيه الجزاء.
قوله (وانفراد الإمام على الدكان وعكسه) أما الأول فلحديث الحاكم مرفوعا: نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم الإمام فوق ويبقى الناس خلفه. وعللوه بأنه تشبه بأهل الكتاب فإنهم
يتخذون لإمامهم دكانا. أطلقه فشمل ما إذا كان الدكان قدر قامة الرجل أو دون ذلك وهو
ظاهر الرواية. وصححه في البدائع لاطلاق النهي وقيده الطحاوي بقدر القامة ونفى الكراهة
فيما دونه. وقال قاضيخان في شرح الجامع الصغير: إنه مقدر بذراع اعتبارا بالسترة وعليه

46
الاعتماد، وفي غاية البيان وهو الصحيح، وفي فتح القدير وهو المختار لكن قال: الأوجه
الاطلاق وهو ما يقع به الامتياز لأن الموجب وهو شبه الازدراء يتحقق فيه غير مقتصر على
قدر الذراع اه‍. فالحاصل أن التصحيح قد اختلف والأولى العمل بظاهر الرواية وإطلاق
الحديث، وأما عكسه وهو انفراد القوم على الدكان بأن يكون الإمام أسفل فهو مكروه أيضا
في ظاهر الرواية. وروى الطحاوي عن أصحابنا أنه لا يكره لأن الموجب للكراهة التشبه
بأهل الكتاب ولا تشبه هنا لأن مكان إمامهم لا يكون أسفل وجواب ظاهر الرواية أقرب إلى
الصواب لأن كراهة كون المكان أرفع كان معلولا بعلتين: التشبه بأهل الكتاب ووجود بعض
المفسد وهو اختلاف المكان، وههنا وجدت إحدى العلتين وهي وجود بعض المخالفة. كذا
في البدائع. ومن المشايخ من علل الكراهة في الثانية بما في ذلك من شبه الازدراء بالإمام
ولعله أولى، وعلى ما ذكره الطحاوي من عدم الكراهة مشى قاضيخان في فتاواه وعزاه إلى
النوادر وقال: وعليه عامة المشايخ اه‍. وهذا كله عند عدم العذر، أما عند العذر كما في
الجمعة والعيدين فإن القوم يقومون على الرفوف والإمام على الأرض ولم يكره ذلك لضيق
المكان. كذا في النهاية. وذكر في شرح منية المصلي: وهل يدخل في الحاجة في حق الإمام
إرادة تعليم المأمومين أعمال الصلاة وفي حق المأمومين إرادة تبليغ انتقالات الإمام عند اتساع
المكان وكثرة المصلين؟ فعند الشافعي نعم قيل وهو رواية عن أبي حنيفة اه‍. قيد بالانفراد لأنه
لو قام بعض القوم مع الإمام قيل يكره والأصح أنه لا يكره وبه جرت العادة في جوامع
المسلمين في أغلب الأمصار. كذا في المحيط. وذكر في البدائع أن من اعتبر معنى التشبه قال
لا يكره وهو قياس رواية الطحاوي لزوال معنى التشبه لأن أهل الكتاب لا يشاركون الإمام
في المكان، ومن اعتبر وجود بعض المفسد قال يكره وهو قياس ظاهر الرواية لوجود بعض
المخالفة في المكان اه‍. وفيه نظر لا يخفى قوله (ولبس ثوب فيه تصاوير) لأنه يشبه حامل
الصنم فيكره. وفي الخلاصة: وتكره التصاوير على الثوب صلى فيه أو لم يصل اه‍. وهذه

47
الكراهة تحريميه، وظاهر كلام النووي في شرح مسلم الاجماع على تحريم تصويره صورة الحيوان
فإنه قال قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: تصوير صور الحيوان حرام شديد التحريم وهو من
الكبائر لأنه متوعد عليه بهذا الوعيد الشديد المذكور في الأحاديث يعني مثل ما في الصحيحين
عنه صلى الله عليه وسلم أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون يقال لهم أحيوا ما خلقتم (1) ثم قال: وسواء
صنعه لما يمتهن أو لغيره فصنعته حرام على كل حال لأن فيه مضاهاة لخلق الله تعالى وسواء كان في
ثوب أو بساط أو درهم ودينار وفلس وإناء وحائط وغيرها اه‍. فينبغي أن يكون حراما لا مكروها
إن ثبت الاجماع أو قطعية الدليل لتواتره. قيد بالثوب لأنها لو كانت في يده وهو يصلي لا تكره لأنه
مستور بثياب، وكذا لو كان على خاتمه. كذا في الخلاصة. وفي المحيط: رجل في يديه تصاوير
وهو يؤم الناس لا تكره إمامته لأنها مستورة بالثياب فصار كصورة في نقش خاتم وهو غير مستبين
اه‍. وهو يفيد أن المستبين في الخاتم تكره الصلاة معه ويفيد أنه لا يكره أن يصلي ومعه صرة أو
كيس فيه دنانير أو دراهم فيها صور صغار لاستتارها، ويفيد أنه لو كان فوق الثوب الذي فيه
صورة ثوب ساتر له فإنه لا يكره أن يصلي فيه لاستتارها بالثوب الآخر والله سبحانه أعلم.
قوله (وأن يكون فوق رأسه أو بين يديه أو بحذائه صورة) لحديث الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم
لتدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة وفي المغرب: الصورة عام في كل ما يصور
مشبها بخلق الله تعالى من ذوات الروح وغيرها، وقولهم ويكره التصاوير المراد بها التماثيل
اه‍. فالحاصل أن الصورة عام والتماثيل خاص والمراد هنا الخاص فإن غير ذي الروح لا يكره
كالشجر لما سيأتي والمراد بحذائه يمينه ويساره ولم يذكر ما إذا كانت خلفه للاختلاف، ففي
رواية الأصل لا يكره لأنه لا يشبه العبادة، وصرح في الجامع الصغير بالكراهة ومشى عليه
في الخلاصة وبأنها إذا كانت في موضع قيامه أو جلوسه لا يكره لأنها استهانة بها، وكذلك
على الوسادة إن كانت قائمة يكره لأنه تعظيم لها إن كانت مفروشة لا تكره. كذا في المحيط.
قالوا: وأشدها كراهة ما يكون على القبلة أمام المصلي، والذي يليه ما يكون فوق رأسه،

48
والذي يليه ما يكون عن يمينه ويساره على الحائط، والذي يليه ما يكون خلفه على الحائط أو
الستر. وإنما لتكره الصلاة في بيت فيه صورة مهانة على بساط يوطأ أو مرفقة يتكأ عليها مع
عموم الحديث من أن الملائكة لا تدخله وهو علة الكراهة لأن شر البقاع بقعة لا تدخلها
الملائكة لوجود مخصص وهو ما في صحيح ابن حبان: استأذن جبريل عليه السلام على
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ادخل. فقال: كيف أدخل وفي بيتك ستر فيه تصاوير فإن كنت لا بد فاعلا
فاقطع رؤوسها أو قطعها وسائد أو اجعلها بسطا. وفي البخاري في كتاب المظالم عن عائشة
رضي الله عنها أنها اتخذت على سهوة لها سترا فيه تماثيل فهتكه النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فاتخذت منه
نمرقتين فكانتا في البيت نجلس عليهما، زاد أحمد في مسنده: ولقد رأيته متكئا على أحدهما
وفيه صورة. والسهوة كالصفة تكون بين البيت، وقيل بيت صغير كالخزانة. والنمرقة بكسر
النون وسادة صغيرة والوسادة المخدة لكنه يقتضي عدم كراهة الصلاة على بساط فيه صورة
وإن كانت في موضع السجود لأن ذلك ليس بمانع من دخول الملائكة كما أفادته النصوص
المخصصة وإن علل بالتشبه بعبادة الأصنام فممنوع فإنهم لا يسجدون عليها وإنما ينصبونها
ويتوجهون إليها إلا أن يقال: إن فيها صورة التشبه بعبادتها حال القيام والركوع وفيه تعظيم
لها إن سجد عليها، ولهذا أطلق الكراهة في الأصل فيما إذا كان على البساط المصلى عليه
صورة لأن الذي يصلي عليه معظم فوضع الصورة فيه تعظيم لها بخلاف البساط الذي ليس
بمصلى، وتقدم عن الجامع الصغير التقييد بموضع السجود فينبغي أن يحمل إطلاق الأصل
عليه، وإنها إذا كانت تحت قدميه لا يكره اتفاقا. وفي الخلاصة: ولا بأس بأن يصلي على
بساط فيه تصاوير لكن لا يسجد عليها ثم قال: ثم التمثال إن كان على وسادة أو بساط لا
بأس باستعمالهما وإن كان يكره اتخاذهما. ثم اعلم أن العلماء اختلفوا فيما إذا كانت

49
الصورة على الدراهم والدنانير هل تمنع الملائكة من دخول البيت بسببها، فذهب القاضي
عياض إلى أنهم لا يمتنعون وأن الأحاديث مخصصة، وذهب النووي إلى القول بالعموم. ثم
المراد بالملائكة المذكورين ملائكة الرحمة لا الحفظة لأنهم لا يفارقونه إلا في خلوته بأهله وعند
الخلاء.
قوله (إلا أن تكون صغيرة) لأن الصغار جدا لا تعبد فليس لها حكم الوثن فلا تكره
في البيت، والكراهة إنما كانت باعتبار شبه العبادة. كذا قالوا، وقد عرفت ما فيه. والمراد
بالصغيرة التي لا تبدو للناظر على بعد والكبيرة التي تبدو للناظر على بعد. كذا في فتح
القدير. ونقل في النهاية أنه كان على خاتم أبي موسى ذبابتان وأنه لما وجد خاتم دانيال عليه
السلام في عهد عمر رضي الله عنه وجد عليه أسد ولبوة بينهما صبي يلحسانه، وذلك أن
بختنصر قيل له يولد مولود يكون هلاكك على يديه فجعل يقتل من يولد، فلما ولدت أم
دانيال ألقته في غيضة رجاء أن يسلم فقيض الله له أسدا يحفظه ولبوة ترضعه فنقشه بمرأى منه
ليتذكر نعم الله عليه، ودفعه عمر إلى أبي موسى الأشعري وكان لابن عباس كانون محفوف
بصور صغار اه‍. وفي الخلاصة من كتاب الكراهة: رجل صلى ومعه دراهم وفيها تماثيل ملك
لا بأس به لصغرها اه‍. قوله (أو مقطوع الرأس) أي سواء كان من الأصل أو كان لها رأس
ومحي، وسواء كان القطع بخيط خيط على جميع الرأس حتى لم يبق لها أثر أو يطليه بمغرة
ونحوها أو بنحته أو بغسله. وإنما لم يكره لأنه لا تعبد بدون الرأس عادة ولما رواه أحمد
عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فقال: أيكم ينطلق إلى المدينة فلا يدع بها وثنا إلا
كسره ولا قبرا إلا سواه ولا صورة إلا لطخها اه‍. وأما ما قطع الرأس عن الجسد بخيط مع
بقاء الرأس على حاله فلا ينفي الكراهة لأن من الطيور ما هو مطوق فلا يتحقق القطع بذلك
ولهذا فسر في الهداية المقطوع بمحو الرأس. كذا في النهاية. قيد بالرأس لأنه لا اعتبار بإزالة
الحاجبين أو العينين لأنها تعبد بدونها، وكذا لا اعتبار بقطع اليدين أو الرجلين. وفي الخلاصة:
وكذا لو محى وجه الصورة فهو كقطع الرأس قوله (أو لغير ذي روح) لما تقدم أنه ليس بتمثال
ولما في الصحيحين عن سعيد بن أبي الحسن قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: إني رجل
أصور هذه الصور فأفتني فيها فقال له: ادن مني. فدنا ثم قال له: ادن مني. فدنا حتى وضع
يده على رأسه وقال: أنبئك بمسمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كل
مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفسا فتعذبه في جهنم (1) قال ابن عباس: فإن

50
كنت لا بد فاعلا فاصنع الشجر وما لا نفس له اه‍. ولا فرق في الشجر بين المثمر وغيره
وهو مذهب العلماء كافة إلا مجاهدا فإنه كره المثمر. وفي الخلاصة ولو رأى صورة في بيت
غيره يجوز له محوها وتغييرها. وفي النهاية عن محمد في الأجير لتصوير تماثيل الرجال أو
ليزخرفها والاصباغ من المستأجر قال: لا أجر له لأن عمله معصية. وفي التفاريق: هدم بيتا
مصورا بالاصباغ ضمن قيمة البيت والاصباغ غير مصور اه‍.
قوله: (وعد الآي والتسبيح) أي ويكره عد الآيات من القرآن والتسبيح وكذا السور
لأنه ليس من أعمال الصلاة. أطلقه فشمل العد في الفرائض والنوافل جميعا باتفاق أصحابنا
في ظاهر الرواية، وروي عنهما في غير ظاهر الرواية أن العد باليد لا بأس به، كذا في
العناية وغيرها لكن في الكافي: وقالا لا بأس به فجزم به عنهما وعلل لهما بأن المصلي
يضطر إلى ذلك لمراعاة سنة القراءة والعمل بما جاءت به السنة في صلاة التسبيح، وقال عليه
السلام لنسوة سألنه عن التسبيح: أعددنه بالأنامل فإنهن مسؤولات مستنطقات يوم القيامة.
وقوله في الهداية قلنا يمكنه أن يعد ذلك قبل الشروع إنما يأتي هذا في الآي دون التسبيحات
ا ه‍. قالوا: ومحل الاختلاف هو العد باليد كما وقع التقييد به في الهداية، سواء كان
بأصابعه أو بخيط يمسكه، أما الغمز برؤوس الأصابع أو الحفظ بالقلب فهو غير مكروه اتفاقا
والعد باللسان مفسد اتفاقا. وقيد بالآي والتسبيح لأن عد الناس وغيرهم مكروه اتفاقا. كذا
في غاية البيان. وقيد بالصلاة لأنا لعد خارج الصلاة لا يكره على الصحيح كما ذكره المصنف
في المستصفى لأنه أسكن للقلب وأجلب للنشاط ولما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن
حبان والحاكم قال صحيح الاسناد عن سعد بن أبي وقاص أنه دخل مع النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة
وبين يديها نوى أو حصى تسبح به فقال: أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل فقال:
سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله
عدد ما هو خالق، والحمد لله مثل ذلك، والله أكبر مثل
ذلك، ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك. فلم ينهها عن ذلك

51
وإنما أرشدها إلى ما هو أيسر وأفضل ولو كان مكروها لبين لها ذلك. ثم هذا الحديث
ونحوه مما يشهد بأنه لا بأس باتخاذ السبحة المعروفة لاحصاء عدد الأذكار إذ لا تزيد السبحة
على مضمون هذا الحديث إلا بضم النوى ونحوه في خيط، ومثل هذا لا يظهر تأثيره في المنع
فلا جرم أن نقل اتخاذها والعمل بها عن جماعة من الصوفية الأخيار وغيرهم اللهم إلا إذا
ترتب عليها رياء وسمعة فلا كلام لنا فيه. وهذا الحديث أيضا يشهد لأفضلية هذا الذكر
المخصوص على ذكر مجرد عن هذه الصيغة ولو تكرر يسيرا. ثم اعلم أن العلامة الحلبي
ذكر أن كراهة العد باليد في الصلاة تنزيهية وظاهر النهاية أنها تحريمية فإنه قال: والصحيح أنه لا
يباح العد أصلا لأنه ليس في الكتاب فصل بين الفرض والنفل وقد يصير العد عملا كثيرا
فيوجب فساد الصلاة وما روي في الأحاديث من قرأ في الصلاة كذا وكذا مرة قل هو الله
أحد وكذا كذا تسبيحة فتلك الأحاديث لم يصححها الثقات، أما صلاة التسبيح فقد أوردها
الثقات وهي صلاة مباركة فيها ثواب عظيم ومنافع كثيرة فإنه يقدر أن يحفظ بالقلب وإن
احتاج يعد بالأنامل حتى لا يصير عملا كثيرا ا ه‍. ثم صلاة التسبيح هذه ما رواها عكرمة
عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب: يا عباس يا عماه إلا أعطيك
ألا أمنحك ألا أحبوك ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله لك ذنبك أوله
وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته. عشر خصال أن
تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول
ركعة فقل وأنت قائم سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم
تركع فتقول وأنت راكع عشرا، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرا، ثم تهوي ساجدا
فتقولها وأنت ساجد عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا، ثم تسجد الثانية
فتقولها عشرا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرا فذلك خمس وسبعون في كل ركعة
تفعل ذلك في أربع ركعات، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تستطع
ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم

52
تفعل ففي عمرك مرة. رواه أبو داود وابن ماجة والطبراني وقال في آخره: فلو كانت ذنوبك
مثل زبد البحر أو رمل عالج غفر الله لك. قال الحافظ عبد العظيم المنذري: وقد روي هذا
الحديث من طرق كثيرة عن جماعة من الصحابة وأمثلها حديث عكرمة هذا وقد صححه جماعة
ا ه‍. وذكر فخر الاسلام في شرح الجامع الصغير قال مشايخنا: إن احتاج المرء إلى العد يعد
إشارة لا إفصاحا ويعمل بقولهما في المضطر ا ه‍.
قوله: (لا قتل الحية والعقرب) أي لا يكره قتلهما لحديث الصحيحين اقتلوا الأسودين
في الصلاة الحية والعقرب (1) وفي صحيح مسلم مرفوعا أمر عليه الصلاة والسلام بقتل
الكلب العقور والحية والعقرب في الصلاة. وأقل مراتب الامر الإباحة. وفي شرح منية
المصلي: ويستحب قتل العقرب بالنعل اليسرى إن أمكن لحديث أبي داود كذلك، ولا بأس
بقياس الحية على العقرب في هذا ا ه‍. أطلقه فشمل جميع أنواع الحيات وصححه في الهداية
لاطلاق الحديث وجميع المواضع. وفي المحيط قالوا: وينبغي أن لا تقتل الحية البيضاء التي
تمشي مستوية لأنها جان لقوله عليه السلام اقتلوا ذا الطفيتين والأبتر وإياكم والحية البيضاء
فإنها من الجن (2). وقال الطحاوي: لا بأس بقتل الكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم عهد مع الجن أن لا
يدخلوا بيوت أمته وإذا دخلوا لم يظهروا لهم فإذا دخلوا فقد نقضوا العهد فلا ذمة لهم.
والأولى هو الاعذار والانذار فيقال ارجع بإذن الله فإن أبى قتله ا ه‍. يعني الانذار في غير
الصلاة. وفي النهاية معزيا إلى صدر الاسلام: والصحيح من الجواب أن يحتاط في قتل
الحيات حتى لا يقتل جنيا فإنهم يؤذونه أذاء كثيرا بل إذا رأى حية وشك أنه جني يقول له
خل طريق المسلمين ومر، فإن مرت تركه فإن واحدا من إخواني هو أكبر سنا مني قتل حية

53
كبيرة بسيف في دار لنا فضربه الجن حتى جعلوه زمنا كان لا يتحرك رجلاه قريبا من الشهر
ثم عالجناه وداويناه بإرضاء الجن حتى تركوه فزال ما به وهذا مما عاينته بعيني ا ه‍. وأطلق
في القتل فشمل ما إذا كان بعمل كثير. قال السرخسي: وهو الأظهر لأن هذا عمل رخص
فيه للمصلي كالمشي بعد الحدث والاستقاء من البئر والتوضؤ ا ه‍. وتعقبه في النهاية بأنه
مخالف لما عليه عامة رواية شروح الجامع الصغير ورواية مبسوط شيخ الاسلام فإنهم لم يبيحوا
العمل الكثير في قتلها ا ه‍. وتعقبه أيضا في فتح القدير بأنه يقضي أن الاستقاء غير مفسد
في سبق الحدث وقد تقدم خلافه وبحثه بأنه لا يفسد للرخصة بالنص يستلزم مثله في علاج
المار إذا كثر فإنه أيضا مأمور به بالنص كما قدمناه لكنه مفسد عندهم، فما هو جوابه عن
علاج المار هو جوابنا في قتل الحية. ثم الحق فيما يظهر الفساد وقولهم الامر بالقتال لا
يستلزم بقاء الصحة على نهج ما قالوه من الفساد في صلاة الخوف إذا قاتلوا في الصلاة بل
أثره في رفع الاثم بمباشرة المفسد في الصلاة بعد أن كان حراما صحيح ا ه‍. وفي النهاية
معزيا إلى الجامع الصغير البرهاني: إنما يباح قتلها في الصلاة إذا مرت بين يديه وخاف أن
تؤذيه وإلا فيكره. وقيد بالحية والعقرب لأن في قتل القملة والبرغوث اختلافا قال في
الظهيرية: فإن أخذ قملة في الصلاة كره له أن يقتلها لكن يدفنها تحت الحصى وهو قول أبي
حنيفة، وروي عنه إذا أخذ قملة أو برغوثا فقتله أو دفنه فقد أساء، وعن محمد إنه يقتلها
وقتلها أحب إلى من دفنها وأي ذلك فعل فلا بأس به. وقال أبو يوسف: يكره كلاهما في
الصلاة ا ه‍. وذكر في شرح منية المصلي أن دفنهما مكروه في المسجد في غير الصلاة. وأن
الحاصل أنه يكره التعرض لكل منهما بالأخذ فضلا عن القتل أو الدفن عند عدم تعرضهما له
بالأذى، وأما عند تعرضهما له بالأذى فإن كان خارج المسجد فلا بأس حينئذ بالأخذ والقتل
أو الدفن بعد أن لا يكون ذلك بعمل كثير فإن كان خارج المسجد فلا بأس حينئذ بالأخذ
والقتل أو الدفن بعد أن لا يكون ذلك بعمل كثير فإنه كما روي عن ابن مسعود من دفنها
روي عن أنس أنهم كانوا يقتلون القمل والبراغيث في الصلاة، ولعل أبا حنيفة إنما اختار
الدفن على القتل لما فيه من النزاهة عن إصابة دمهما ليد القاتل أو ثوبه في هذه الحالة وإن كان
ذلك معفوا عنه، وأن ابن مسعود فعل أحسن الجائزين. وإن كان في المسجد فلا بأس بالقتل
بالشرط المذكور ولا يطرحها في المسجد بطريق الدفن ولا غيره إلا إذا غلب على ظنه أنه يظفر

54
بها بعد الفراغ من الصلاة، وبهذا التفصيل يحصل الجمع بين ما عن أبي حنيفة من أنه يدفنها
في الصلاة وبين ما عنه أنه لو دفنها في المسجد فقد أساء ا ه‍.
قوله: (والصلاة إلى ظهر قاعد يتحدث) أي لا تكره. كذا في الجامع الصغير. وفي
رواية الحسن عن أبي حنيفة: يكره له أن يصلي وقبله نيام أو قوم يتحدثون لما أخرجه البزار
عن ابن عباس مرفوعا: نهيت أن أصلي إلى النيام والمحدثين. وأجيب بأنه محمول في النائمين
على ما إذا خاف ظهور صوت منهم يضحكه ويخجل النائم إذا انتبه، وفي المحدثين على ما إذا
كان لهم أصوات يخاف منها التغليط أو شغل البال، ونحن نقول بالكراهة في هذا ثم يعارض
الحديث المذكور في النائمين ويقدم عليه لقوته ما في الصحيحين عن عائشة قالت: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الليل كلها وأنا معترضة بينه وبين القبلة، فإذا أراد أن يوتر
أيقظني فأوترت. وإنما قيد بقوله يتحدث ليفيد عدم الكراهة إلى ظهر من لا يتحدث
بالأولى ولعله متفق عليه وقد كان يفعله ابن عمر إذا لم يجد سارية يقول لنافع: ول ظهرك.
وأفاد كلامهم هنا أنه لا كراهة على المتحدث ولهذا نقل الشارح عن الصحابة رضي الله عنهم
أن بعضهم كانوا يقرؤون القرآن وبعضهم يتذاكرون العلم والمواعظ وبعضهم يصلون ولم
ينههم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولو كان مكروها لنهاهم ا ه‍. وقيد بالظهر لأن الصلاة إلى وجه
أحد مكروهة كما في الجامع الصغير. قال في المنية: والاستقبال إلى المصلي مكروه، سواء
كان المصلي في الصف الأول أو في الصف الأخير ولهذا قال في الذخيرة: يكره للإمام أن
يستقبل المصلي وإن كان بينهما صفوف، وهذا هو ظاهر المذهب ذكره في الفصل الرابع من
كتاب الصلاة. والحاصل أن استقبال المصلي إلى وجه الانسان مكروه واستقبال الانسان وجه
المصلي مكروه فالكراهة من الجانبين. قال العلامة الحلبي: وقد صرحوا بأنه لو صلى إلى وجه

55
إنسان وبينهما ثالث ظهره إلى وجه المصلي لم يكره قوله: (وإلى مصحف أو سيف معلق) أي لا
يكره أن يصلي وأمامه مصحف أو سيف، سواء كان معلقا أو بين يديه. أما المصحف فلان في
تقديمه تعظيمه وتعظيمه عبادة والاستخفاف به كفر فانضمت هذه العبادة إلى عبادة أخرى فلا
كراهة، ومن قال بالكراهة إذا كان معلقا معللا بأنه تشبه بأهل الكتاب مردود لأن أهل الكتاب
يفعلونه للقراءة منه وليس كلا منا فيه. وأما السيف فلانه سلاح ولا يكره التوجه إليه فقد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي للعنزة وهي سلاح قوله: (أو شمع أو سراج) لأنهما لا يعبدان والكراهة
باعتبارها وإنما يعبدها المجوس إذا كانت في الكانون وفيها الجمر أو في التنور فلا يكره التوجه
إليها على غير هذا الوجه، وذكر في غاية البيان اختلاف المشايخ في التوجه إلى الشمع أو السراج
والمختار أنه لا يكره ا ه‍. وينبغي أن يكون عدم الكراهة متفقا عليه فيما إذا كان الشمع على جانبيه
كما هو المعتاد في مصر المحروسة في ليالي رمضان للتراويح. قال ابن قتيبة في أدب الكاتب في
باب ما جاء فيه لغتان: استعمل الناس أضعفهما الشمع بالسكون والأوجه فتح الميم ا ه‍..
قوله: (وعلى بساط فيه تصاوير إن لم يسجد عليها) أي لا يكره. والتقييد المذكور بناء
على ما في الجامع الصغير وقد قدمنا مفهومه وما في الأصل فلا حاجة إلى إعادته. ثم اعلم
أن المصنف لم يستوف ذكر المكروهات في الصلاة فمنها أن كل سنة تركها فهو مكروه تنزيها
كما صرح به في منية المصلي من قوله: ويكره وضع اليدين على الأرض قبل الركبتين إذا
سجد ورفعهما قبلهما إذا قام إلا من عذر، وأن يرفع رأسه أو ينكسه في الركوع، وأن يجهر
بالتسمية والتأمين، وأن لا يضع يديه في موضعهما إلا من عذر، وأن يترك التسبيحات في
الركوع والسجود، وأن ينقص من ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود، وأن يأتي يأتي بالأذكار

56
المشروعة في الانتقالات بعد تمام الانتقال وفيه خللان: تركها في موضعها وتحصيلها في غير
موضعها. ذكره في مواضع متفرقة من مكروهات الصلاة. وحاصله أن السنة إذا كانت
مؤكدة قوية لا يبعد أن يكون تركها مكروها كراهة تحريم كترك الواجب فإنه كذلك، وإن
كانت غير مؤكدة فتركها مكروه تنزيها كما في هذه الأمثلة، وإن كان ذلك الشئ مستحبا أو
مندوبا وليس بسنة كما هو على اصطلاحنا فينبغي أن لا يكون تركه مكروها أصلا كما
صرحوا به من أنه يستحب يوم الأضحى أن لا يأكل أولا إلا من أضحيته. قالوا: ولو أكل
من غيرها فليس بمكروه فلم يلزم من ترك المستحب ثبوت كراهته إلا أنه يشكل عليه ما قالوه
من أن المكروه تنزيها مرجعه إلى خلاف الأولى، ولا شك أن ترك المستحب خلاف الأولى.
ومنها ما في الخلاصة والولوالجية: ولا ينبغي أن يقرأ في كل ركعة آخر سورة على حدة فإنه
مكروه عند الأكثر وينبغي أن يقرأ في الركعتين آخر سورة واحدة وهو أفضل من السورة إن
كان الآخر أكثر آية ا ه‍. وصحح قاضيخان في شرح الجامع الصغير عدم الكراهة وإن كان
الأفضل خلافه. ومنها الانتقال من آية من سورة إلى آية أخرى من سورة أخرى أو آية من
هذه السورة بينهما آيات، وكذا الجمع بين السورتين بينهما سور أو سورة واحدة في ركعة
واحدة مكروه وفي الركعتين إن كان بينهما سور لا يكره، وإن كان بينهما سورة واحدة قال
بعضهم يكره، وقال بعضهم إن كانت السورة طويلة لا يكره كما إذا كانت بينهما سورتان
قصيرتان. ومنها أن يقرأ في ركعة أخرى سورة وفي ركعة أخرى سورة فوق تلك السورة أو
فعل ذلك في ركعة فهو مكروه، وإن وقع هذا من غير قصد بأن قرأ في الركعة الأولى قل أعود
برب الناس يقرأ في الركعة الثانية هذه السورة أيضا. وهذا كله في الفرائض، أما في النوافل
لا يكره كذا في الخلاصة. ومنها ما إذا افتتح سورة وقصده سورة أخرى فلما قرأ آية أو آيتين
أراد أن يترك تلك السورة ويفتتح التي أرادها يكره، وكذا لو قرأ أقل من آية وإن كان حرفا.
ومنها أن يصلي في ثياب البذلة والمهنة واحتج له في الذخيرة بأنه روي عن عمر رضي الله

57
عنه أنه رأى رجلا فعل ذلك فقال: أرأيتك لو كنت أرسلتك إلى بعض الناس أكنت تمر في
ثيابك هذه؟ فقال لا. فقال عمر: الله أحق أن يتزين له. وروى البيهقي عنه صلى الله عليه وسلم إذا صلى
أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله أحق من أن يتزين له. والظاهر أنها تنزيهية. وفسر ثياب البذلة
في شرح الوقاية بما يلبسه في بيته ولا يذهب به إلى الأكابر. ومنها أن يحمل صبيا في
صلاته، وأما حمله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت زينب في الصلاة فأجيب عنه بوجوه. منها: أنه منسوخ
بقوله أن في الصلاة لشغلا. وقد أطال الكلام فيه العلامة الحلبي. ومنها أن يضع في فيه
دراهم أو دنانير بحيث لا تمنعه عن القراءة وإن منعه عن أداء الحروف لا يجوز كما في
الخلاصة وغيرها. ومنها أن يتم القراءة في الركوع كما في منية المصلي وفي موضع آخر أن
يقرأ في غير حالة القيام. ومنها أن يقوم خلف الصف وحده مقتديا بالإمام إلا إذا لم يجد
فرجة، وكذا يكره للمنفرد أن يقوم في خلال الصفوف فيصلي فيخالفهم في القيام والقعود.
ومنها أنه تكره الصلاة في معاطن الإبل والمزبلة والمجزرة والمغتسل والحمام والمقبرة وعلى
سطح الكعبة، وذكر في الفتاوي إذا غسل موضعا في الحمام ليس فيه تمثال وصلي فيه لا بأس
به، وكذا في المقبرة إذا كان فيها موضع آخر أعد للصلاة وليس فيه قبر ولا نجاسة. ومنها
أنه يكره للإمام أن يعجلهم عن إكمال السنة. ومنها ويكره أن يمكث في مكانه بعد ما سلم
في صلى بعدها سنة إلا قدر ما يقول اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال
والاكرام، به ورد الأثر كما في منية المصلي. ومنها أن يدخل في الصلاة وقد أخذه غائط أو
بول وإن كان الاهتمام يشغله يقطعها وإن مضى عليها أجزأه وقد أساء، وكذا إن أخذه بعد

58
الافتتاح والأصل فيه ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان (1) وجعل الشارح مدافعة الريح
كالأخبثين وأن الحديث محمول على الكراهية ونفي الفضيلة حتى لو ضاق الوقت بحيث لو
اشتغل بالوضوء يفوته يصلي لأن مع الأداء الكراهية أولى من القضاء. ومنها أن كل عمل قليل
لغير عذر فهو مكروه كما لو تروح على نفسه بمروحة أو كمه والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
لما فرغ من بيان الكراهة في الصلاة شرع في بيانها خارجها مما هو من توابعها قوله:
(كره استقبال القبلة بالفرج في الخلاء واستدبارها) والخلاء بالمد بيت التغوط وأما بالقصر فهو
النبت. والكراهة تحريمية لما أخرجه الستة عنه صلى الله عليه وسلم إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا
تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا (3) ولهذا كان الأصح من الروايتين كراهة الاستدبار
كالاستقبال، وهو بإطلاقه يتناول الفضاء والبنيان. وفي فتح القدير: ولو نسي فجلس
مستقبلا فذكر يستحب له الانحراف بقدر ما يمكنه لما أخرجه الطبري مرفوعا من جلس
يبول قبالة القبلة فذكر فانحرف عنها إجلالا لها لم يقم من مجلسه حتى يغفر له وكما يكره للبالغ
ذلك يكره له أن يمسك الصبي نحوها ليبول. وقالوا: يكره أن يمد رجليه في النوم وغيره
إلى القبلة أو المصحف أو كتب الفقه إلا أن تكون على مكان مرتفع عن المحاذاة ا ه‍. قوله:
(وغلق باب المسجد) لأنه يشبه المنع من الصلاة قال تعالى * (ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن
يذكر فيها اسمه) * (البقرة: 114) والاغلاق يشبه المنع فيكره. قال في الهداية: وقيل لا بأس
به إذا خيف على متاع المسجد ا ه‍. وهو أحسن من التقييد بزماننا كما في عبارة بعضهم
فالمدار خشية الضرر على المسجد، فإن ثبت في زماننا في جميع الأوقات ثبت كذلك إلا في

59
أوقات الصلاة أو لا فلا أو في بعضها ففي بعضها. كذا في فتح القدير. وفي العناية:
والتدبير في الغلق لأهل المحلة فإنهم إذا اجتمعوا على رجل وجعلوه متوليا بغير أمر القاضي
يكون متوليا اه‍. وفي النهاية: وكان المتقدمون يكرهون شد المصاحف واتخاذ المشدة لها كيلا
يكون ذلك في صورة المنع من قراءة القرآن، فهذا مثله أو فوقه لأن المصحف ملك لصاحبه
والمسجد ليس بملك لاحد ا ه‍. ومن هنا يعلم جهل بعض مدرسي زماننا من منعهم من
يدرس في مسجد تقرر في تدريسه أو كراهتهم لذلك زاعمين الاختصاص بها دون غيرهم
حتى سمعت من بعضهم أنه يضيفها إلى نفسه ويقول هذه مدرستي أو لا تدرس في
مدرستي، وأعجب من ذلك أنه إذا غضب على شخص يمنعه من دخول المسجد خصوصا
بسبب أمر دنيوي، وهذا كله جهل عظيم ولا يبعد أن يكون كبيرة فقد قال الله تعالى * (وإن
المساجد لله) * (الجن: 18) وما تلوناه من الآية السابقة فلا يجوز لاحد مطلقا أن يمنع مؤمنا
من عبادة يأتي بها في المسجد لأن المسجد ما بني إلا لها من صلاة واعتكاف وذكر شرعي
وتعليم علم وتعلمه وقراءة قرآن. ولا يتعين مكان مخصوص لاحد حتى لو كان للمدرس
موضع من المسجد يدرس فيه فسبقه غيره إليه ليس له إزعاجه وإقامته منه فقد قال الإمام
الزاهدي في فتاويه المسماة بالقنية معزيا إلى فتاوي العصر: له في المسجد موضع معين يواظب
عليه وقد شغله غيره قال الأوزاعي: له أن يزعجه وليس له ذلك عندنا ا ه‍. ومن الفروع
الدالة على أن مدرس المسجد كغيره ما قاله في القنية أيضا: ليس للمدرس في المسجد أن
يجعل من بيته بابا إلى المسجد وإن فعل أدى ضمان نقصان الجدار إن وقع فيه ا ه‍. وأعجب
من ذلك أن بعض مدرسي الأروام يعتقد في المسجد الذي له مدرس أنه مدرسة وليس
بمسجد حتى ينتهك حرمته بالمشي فيه بنعله المتنجس مع تصريح الواقف بجعله مسجدا،
وسيأتي شروط المسجد إن شاء الله تعالى في كتاب الوقف.
قوله: (والوطئ فوقه والبول والتخلي) أي وكره الوطئ فوق المسجد وكذا البول والتغوط
لأن سطح المسجد له حكم المسجد حتى يصح الاقتداء منه بمن تحته، ولا يبطل الاعتكاف
بالصعود إليه ولا يحل للجنب الوقوف عليه. والمراد بالكراهة كراهة التحريم وصرح الشارح بأن
الوطئ فيه حرام لقوله تعالى * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) * (البقرة: 187) وذكر
في فتح القدير أن الحق أنها كراهة تحريم لأن الآية ظنية الدلالة لأنها محتملة كون التحريم
للاعتكاف أو للمسجد وبمثلها لا يثبت التحريم ولان تطهيره واجب لقوله تعالى * (أن طهرا بيتي
للطائفين والعاكفين والركع السجود) * (البقرة: 125) ولما أخرجه المنذري مرفوعا جنبوا
مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وبيعكم وشراءكم ورفع أصواتكم وسل سيوفكم وإقامة حدودكم
وجمروها في الجمع واجعلوا على أبوابها المطاهر (1) ا ه‍. واختلف المشايخ في كراهية إخراج

60
الريح في المسجد. وأشار المصنف إلى أنه لا يجوز ادخال النجاسة المسجد وهو مصرح به فلذا
ذكر العلامة قاسم في بعض فتاويه أن قولهم إن الدهن المتنجس يجوز الاستصباح به مقيد بغير
المساجد فإنه لا يجوز الاستصباح به في المسجد لما ذكرنا، ولهذا قال في التجنيس: وينبغي لمن
أراد أن يدخل المسجد أن يتعاهد النعل والخف عن النجاسة ثم يدخل فيه احترازا عن تلويث
المسجد. وقد قيل: دخول المسجد متنعلا من سوء الأدب وكان إبراهيم النخعي يكره خلع
النعلين ويرى الصلاة معها أفضل لحديث خلع النعال. وعن علي رضي الله عنه أن كان له
زوجان من نعل إذا توضأ انتعل بأحدهما إلى باب المسجد ثم يخلعه وينتعل بالآخر ويدخل
المسجد إلى موضع صلاته ولهذا قالوا: إن الصلاة مع النعال والخفاف الطاهرة أقرب إلى حسن
الأدب ا ه‍. وفي الخلاصة وغيرها: ويكره الوضوء والمضمضة في المسجد إلا أن يكون موضع
فيه اتخذ للوضوء ولا يصلي فيه. زاد في التجنيس: لو سبقه الحدث وقت الخطبة يوم الجمعة فإن
وجد الطريق انصرف وتوضأ وإن لم يمكنه الخروج يجلس ولا يتخطى رقاب الناس، فإن وجد
ماء في المسجد وضع ثوبه بين يديه حتى يقع الماء عليه ويتوضأ بحيث لا ينجس المسجد
ويستعمل الماء على التقدير، ثم بعد خروجه من المسجد يغسل ثوبه وهذا حسن جدا. ويكره
مسح الرجل من الطين والردغة بإسطوانة المسجد أو بحائط من حيطان المسجد لأن حكمه حكم
المسجد، وإن مسح ببردي المسجد أو بقطعة حصير ملقاة فيه لا بأس به لأن حكمه ليس حكم
المسجد ولا له حرمة المسجد وهكذا قالوا: إن الأولى أن لا يفعل. وإن مسح بتراب في المسجد
فإن كان مجموعا لا بأس به، وإن كان التراب منبسطا يكره هو المختار وإليه ذهب أبو القاسم
الصفار لأن له حكم الأرض فكان من المسجد. وإن مسح بخشبة موضوعة في المسجد فلا بأس
به لأنه ليس لهذه الخشبة حكم المسجد فلا يكون لها حرمة المسجد، وكذا إذا مسح بحشيش
مجتمع أو حصير مخرق لا بأس به لأنه لا حرمة له إنما الحرمة للمسجد ا ه‍. ولكون المسجد
يصان عن القاذورات ولو كانت طاهرة يكره البصاق فيه ولا يلقى لا فوق البواري ولا تحتها
للحديث المعروف إن المسجد لينزوي من النخامة كما ينزوي الجلد من النار ويأخذ النخامة
بكمه أو بشئ من ثيابه، فإن اضطر إلى ذلك كان البصاق فوق البواري خيرا من البصاق تحتها
لأن البواري ليست من المسجد حقيقة ولها حكم المسجد، فإذا ابتلي ببليتين يختار أهونهما، فإن لم
يكن فيها بوار يدفنها في التراب ولا يدعها على وجه الأرض وقالوا: إذا نزح الماء النجس من
البئر كره له أن يبل به الطين فيطين به المسجد على قول من اعتبر نجاسة الطين. وفي الظهيرية

61
وغيرها: ويكره غر س الأشجار في المسجد لأنه يشبه البيعة إلا أن يكون به نفع للمسجد كأن
يكون ذا نز أو أسطوانية لا تستقر فيغرس ليجذب عروق الأشجار ذلك النزر فحينئذ يجوز وإلا
فلا وإنما جوز مشايخنا في المسجد الجامع ببخارى لما فيه من الحاجة. قالوا: ولا يتخذ في
المسجد بئر ماء لأنه يخل حرمة المسجد فإنه يدخله الجنب والحائض، وإن حفر فهو ضامن بما
حفر إلا أن ما كان قديما فيترك كبئر زمزم في المسجد الحرام. ولا بأس برمي عش الخفاش
والحمام لأن فيه تنقية المسجد من زرقها. وقالوا: ولا يجوز أن تعمل فيه الصنائع لأنه مخلص لله
تعالى فلا يكون محلا لغير العبادة غير أنهم قالوا في الخياط: إذا جلس فيه لمصلحته من دفع
الصبيان وصيانة المسجد لا بأس به للضرورة ولا يدق الثوب عند طيه دقا عنيفا. والذي يكتب
إن كان بأجر يكره وإن كان بغير أجر لا يكره. قال في فتح القدير: هذا إذا كتب القرآن والعلم
لأنه في عبادة، أما هؤلاء المكتبون الذين يجتمع عندهم الصبيان واللغط فلا، ولو لم يكن لغط
لأنهم في صناعة لا عبادة إذ هم يقصدون الإجارة ليس هو لله بل للارتزاق ومعلم الصبيان
القرآن كالكاتب إن كان لاجر لا وحسبة لا بأس به ا ه‍. وفي الخلاصة: رجل يمر في المسجد
ويتخذه طريقا إن كان لغير عذر لا يجوز وبعذر يجوز، ثم إذا جاز يصلي كل يوم تحية المسجد
مرة ا ه‍. وفي القنية: يعتاد المرور في الجامع يأثم ويفسق ولو دخل المسجد للمرور فلما توسطه
ندم، قيل يخرج من باب غير الذي قصده، وقيل يصلي ثم يتخير في الخروج، وقيل إن كان
محدثا يخرج من حيث دخل إعداما لما جنى ويكره تخصيص مكان في المسجد لنفسه لأنه يخل
بالخشوع.
أعظم المساجد حرمة المسجد الحرام ثم مسجد المدينة ثم مسجد بيت المقدس ثم الجوامع
ثم مساجد المحال ثم مساجد الشوارع فإنها أخف مرتبة حتى لا يعتكف فيها أحد إذا لم يكن
لها إمام معلوم ومؤذن، ثم مساجد البيوت فإنه لا يجوز حتى الاعتكاف فيها إلا للنساء. وإذا
قسم أهل المحلة المسجد وضربوا فيه حائطا ولكل منهم إمام على حدة ومؤذنهم واحد لا بأس
به، والأولى أن يكون لكل طائفة مؤذن كما يجوز لأهل المحلة أن يجعلوا المسجد الواحد
مسجدين فلهم أن يجعلوا المسجدين واحدا لإقامة الجماعات إما للتدريس أو للتذكير فلا،
لأنه ما بنى له وإن جاز فيه ولا يجوز التعليم في دكان في فناء المسجد عند أبي حنيفة وعندهما
يجوز إذا لم يضر بالعامة ا ه‍. ما في القنية. ولا يخفى أن المسجد الجامع تدبيره وعمارته
وإصلاحه للإمام أو نائبه كما صرحوا به في كتاب القسامة، فللإمام أو نائبه أن يجعل الجامع

62
مسجدين بضرب حائط ونحوه كالأهل المحلة. ولا بد أن نذكر أحكام تحية المسجد فنقول:
هي على حذف مضاف أي تحية رب المسجد لأن المقصود منها التقرب إلى الله تعالى لا إلى
المسجد لأن الانسان إذا دخل بيت الملك فإنما يحيي الملك لا بيته. كذا ذكره العلامة الحلبي.
وقد حكى الاجماع على سنيتها غير أن أصحابنا يكرهونها في الأوقات المكروهة تقديما لعموم
الحاضر على عموم المبيح، وقد قدمنا أنه إذا تكرر دخوله في كل يوم فإنه يكفيه ركعتان لها في
اليوم. وذكره في الغاية أنها لا تسقط بالجلوس عند أصحابنا فإنه قال في الحاكم إذا دخل
المسجد للحكم فهو بالخيار عندنا إن شاء صلى تحية المسجد عند دخوله وإن شاء صلاها عند
انصرافه فلم تسقط بالجلوس لأنها لتعظيم المسجد وحرمته ففي أي وقت صلاها حصل
المقصود من ذلك ا ه‍. وفي الظهيرية: ثم اختلفوا في صلاة التحية أنه يجلس ثم يقوم ويصلي
أو يصلي قبل أن يجلس. قال بعضهم: يجلس ثم يقوم. وعامة العلماء قالوا: يصلي كما
يدخل المسجد ا ه‍. قلت: ويشهد لقول العامة وهو الصحيح كما في القنية ما في
الصحيحين عن أبي قتادة الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل أحدكم المسجد فلا
يجلس حتى يصلي ركعتين (1) وإنما قلنا بعدم سقوطها بالجلوس لما أخرجه ابن حبان في
صحيحه عن أبي ذر قال: دخلت المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وحده فقال: يا أبا ذر
إن للمسجد تحية وإن تحيته ركعتان فقم فاركعهما فقمت فركعتهما ا ه‍. وقد قالوا: إن كل
صلاة صلاها عند دخوله فرضا أو سنة فإنها تقوم مقام التحية بلا نية كما في البدائع وغيره،
فلو نوى التحية الفرض فظاهر ما في المحيط وغيره أنه يصح عندهما، وعند محمد لا يكون
داخلا في الصلاة فإنهم قالوا: لو نوى الدخول في الظهر والتطوع فإنه يجوز عن الفرض عند
أبي يوسف وهو رواية عن أبي حنيفة، وعن محمد لا يكون داخلا. وصرح في الظهيرية
بكراهة الحديث أي كلام الناس في المسجد لكن قيده بأن يجلس لأجله. وفي فتح القدير:
الكلام المباح فيه مكروه يأكل الحسنات، وينبغي تقييده بما في الظهيرية. أما إن جلس للعبادة
ثم بعدها تكلم فلا. وأما النوم في المسجد فاختلف المشايخ فيه. وفي التجنيس: الأشبه بما
تقدم من المسائل أنه يكره لأنه ما أعد لذلك وإنما بني لإقامة الصلاة، وأما الجلوس في
المسجد للمصيبة فمكروه لأنه لم يبن له. وعن الفقيه أبي الليث أنه لا بأس به لأن النبي صلى الله عليه وسلم
حين بلغه قتل جعفر وزيد بن حارثة جلس في المسجد والناس يأتونه ويعزونه، والمفتي به أنه

63
لا يلازم غريمه في المسجد لأن المسجد بني لذكر الله تعالى. ويجوز الجلوس في المسجد لغير
الصلاة، ولا بأس به للقضاء كالتدريس والفتوى ا ه‍. وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية أحكام
المسجد في الوقف والكراهية والجنايات ومسألة الذهاب إلى الأقدم أو إلى مسجد حيه أو إلى
من كان إمامه أصلح مذكورة في الخلاصة وغيرها بتفاريعها.
قوله: (لا فوق بيت فيه مسجد) أي لا يكره ما ذكر في بيت فيه أو فوقه في ذلك
البيت مسجد وهو مكان في البيت أعد للصلاة فإنه لم يأخذ حكم المسجد وإن كان يستحب
للانسان، رجلا كان أو امرأة، أن يتخذ في داره مكانا خاليا لصلاته وبه أمر النبي صلى الله عليه وسلم
أصحابه. واختلفوا في مصلى الجنازة والعيد فصحح في المحيط في مصلى الجنائز أنه ليس له
حكم المسجد أصلا، وصحح في مصلى العيد كذلك إلا في حق جواز الاقتداء وإن لم تتصل
الصفوف. وفي النهاية وغيرها: والمختار للفتوى في المسجد الذي اتخذ لصلاة الجنازة والعيد
أنه مسجد في حق جواز الاقتداء وإن انفصل الصفوف رفقا بالناس، وفيما عدا ذلك ليس له
حكم المسجد ا ه‍. وظاهر ما في النهاية أنه يجوز الوطئ والبول والتخلي في مصلي الجنائز
والعيد، ولا يخفى ما فيه فإن الباني لم
يعده لذلك فينبغي أن لا، تجوز هذه الثلاثة وإن حكمنا بكونه غير مسجد، وإنما تظهر فائدته
في بقية الأحكام التي ذكرناها ومن حل دخوله للجنب والحائض.
قوله: (ولا نقشه بالجص وماء الذهب) أي ولا يكره نقش المسجد وهو المذكور في
الجامع الصغير بلفظ لا بأس به. وقيل يكره للحديث إن من اشراط الساعة تزيين المساجد
وقيل مستحب لأنه من عمارته وقد مدح الله فاعلها بقوله * (إنما يعمر مساجد الله) * (التوبة:

64
18) وأصحابنا قالوا بالجواز من غير كراهة ولا استحباب لأن مسجد رسول الله كان مسقفا
من جريد النخل وكان يكف إذا جاء المطر وكان كذلك إلى زمن عثمان ثم رفعه عثمان وبناه
وبسط فيه الحصى كما هو اليوم كذلك. ومحل الاختلاف في غير نقش المحراب، أما نقشه
فهو مكروه لأنه يلهي المصلي كما في فتح القدير وغيره. قال المصنف في الكافي: وهذا إذا
فعل من مال نفسه أما المتولي فإنما يفعل من مال الوقف ما يحكم البناء دون النقش، فلو فعل
ضمن حينئذ لما فيه من تضييع المال، فإن اجتمعت أموال المساجد وخاف الضياع بطمع الظلمة
فيها لا بأس به حينئذ ا ه‍. وصرح في الغاية أن جعل البياض فوق السواد للنقاء موجب
لضمان المتولي، ولا يخفى أن محله ما إذا لم يكن الواقف فعل مثل ذلك، أما إن كان كذلك فله
البياض لقولهم في عمارة الوقف أنه يعمر كما كان. وقيد بكونه للنقاء إذ لو قصد به أحكام
البناء فإنه لا يضمن، وقيدوا بالمسجد إذ نقش غيره موجب للضمان إلا إذا كان مكانا معدا
للاستغلال تزيد الأجرة به فلا بأس به. وأرادوا من المسجد داخله لقول صاحب النهاية: ولان
من تزيينه ترغيب الناس في الاعتكاف والجلوس في المسجد لانتظار الصلاة وذلك حسن ا ه‍.
فيفيد أن تزيين خارجه مكروه، وأما من مال الوقف فلا شك أنه لا يجوز للمتولي فعله مطلقا
لعدم الفائدة فيه خصوصا إذا قصد به حرمان أرباب الوظائف كما شاهدناه في زماننا من دهنهم
الحيطان الخارجة، وسيأتي إن شاء الله تعالى بأتم من هذا في كتاب الوقف. وفي النهاية: وليس
بمستحسن كتابة القرآن على المحاريب والجدران لما يخاف من سقوط الكتابة وأن توطأ. وفي
جامع النسفي: مصلى أو بساط فيه أسماء الله تعالى يكره بسطه واستعماله في شئ، وكذا لو
كان عليه الملك لا غير أو الألف واللام وحدها، وكذا يكره إخراجه عن ملكه إذا لم يأمن من
استعمال الغير فالواجب أن يوضع في أعلى موضع لا يوضع فوقه شئ، وكذا يكره كتابة
الرقاع وإلصاقها في الأبواب لما فيه من الإهانة ا ه‍. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب الوتر والنوافل
لا خفاء في حسن تأخيرهما عن الفرائض. والوتر في اللغة خلاف الشفع وأوتر صلى

65
الوتر. كذا في المغرب. وهو في الشرع صلاة مخصوصة وهي ثلاث ركعات بعد العشاء،
والنفل في اللغة الزيادة وفي الشريعة زيادة عبادة شرعت لنا لا علينا، ووجوه اشتقاقه يدل
على الزيادة ولهذا يسمى ولد الولد نافلة لأنه زيادة على الولد الصلبي وتسمى الغنيمة نفلا
لأنها زيادة على أصل المال قوله: (الوتر واجب) وهذا آخر أقوال أبي حنيفة وهو الصحيح.
كذا في المحيط. والأصح كما في الخانية وهو الظاهر من مذهبه كذا في المبسوط وروي عنه
أنه فرض وعنه أنه سنة. ووفق المشايخ بينهما بأنه فرض عملا، واجب اعتقادا، سنة ثبوتا
ودليلا. وأما عندهما فسنة عملا واعتقادا ودليلا لكن سنة مؤكدة آكد من سائر السنن المؤقتة
كما في البدائع لظهور أثر السنن فيه حيث لا يؤذن له ولم يثبت عندهما دليل الوجوب فنفياه.
وأما استدلاله في الهداية لهما بأنه لا يكفر جاحده لا يفيد إذ إثبات اللازم لا يستلزم إثبات
الملزوم المعين إلا إذا ساواه وهو هنا أعم، وإن عدم الاكفار بالجحد لازم الوجوب كما هو
لازم السنة والمدعي الوجوب لا الفرض، وأما الإمام فثبت عنده دليل الوجوب وهو الحديث
وأحسن ما يعين منه ما رواه أبو داود مرفوعا الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني، الوتر حق
فمن لم يوتر فليس مني، الوتر حق فمن لم يوتر فليس مني رواه الحاكم وصححه. وما
رواه مسلم مرفوعا أوتر وأقبل أن تصبحوا والامر للوجوب. وأما ما في الصحيحين
من أنه عليه السلام أو تر على بعيره فواقعة حال لا عموم لها فيجوز كونه كان للعذر
والاتفاق على أن الفرض يصلي على الدابة لعذر الطين والمرض ونحوه أو أنه كان قبل وجوبه
لأن وجوبه لم يقارن وجوب الخمس بل متأخر، وقد روي أنه عليه السلام كان ينزل للوتر.
وأما حديث الاعرابي حين قال له هل علي غيرها أي الصلوات الخمس فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا
إلا أن تطوع. فلا يدل على عدم وجوب الوتر كما زعمه النووي في شرح مسلم لأنه كان في

66
أول الاسلام ثم وجب الوتر بعده بدليل أنه سأله عن العبادة المالية فأخبره بالزكاة فقال هل
علي غيرها؟ فقال: لا. كما ذكر في الصلاة مع أن صدقة الفطر فرض عندهم بدليله فما هو
جوابهم عنها فهو جوابنا عنه، ولا يلزم من القول بوجوبه الزيادة على الفرائض الخمس
القطعية لأنه ليس بفرض قطعي.
وذكر في البدائع حكاية هي أن يوسف بن خالد السمي كان من أعيان فقهاء البصرة
فسأل أبا حنيفة عنه فقال: إنه واجب. فقال له: كفرت يا أبا حنيفة ظنا منه أنه يقول إنه
فريضة. فقال أبو حنيفة: أيهولني إكفارك إياي وأنا أعرف الفرق بين الفرض والواجب كفرق
ما بين السماء والأرض، ثم بين له الفرق بينهما فاعتذر إليه وجلس عنده للتعلم اه‍. وفي
المحيط: لا يجوز الوتر قاعدا مع القدرة على القيام ولا على راحلته من غير عذر لأن عنده
الوتر واجب وأداء الواجبات والفرائض على الراحلة من غير عذر لا يجوز، وعندهما وإن كان
سنة لكن صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتنفل على راحلته من غير عذر في الليل وإذا بلغ الوتر
نزل فيوتر على الأرض اه‍. فأفاد أنه لا يجوز قاعدا وراكبا من غير عذر باتفاق أبي حنيفة
وصاحبيه. وصرح في الهداية بأنه يجب قضاؤه إذا فاته بالاجماع وصححه في التجنيس،
وعلل له في المحيط بقوله: أما عنده فلانه واجب، وأما عندهما فلقوله عليه السلام من نام
عن وتر أو نسيه فليصله إذا ذكره (1) اه‍. وصرح في الكافي بأن وجوب قضائه ظاهر الرواية
عنهما، وروي عنهما عدمه وسيأتي أنه لا يصلي خلف النفل اتفاقا، فظهر بهذا أنه لا فرق بين
قوله بوجوبه وبين قولهما بسنيته من جهة الأحكام فإن السنة المؤكدة بمنزلة الواجب إلا في
فساد الصبح بتذكره وفي قضائه بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس. قال في التجنيس: عند
أبي حنيفة يقضيه بعد طلوع الفجر قبل طلوع الشمس وبعد صلاة العصر لأنه واجب عنده
فيجوز قضاؤه فيه كقضاء سائر الفرائض، وعندهما لا لأنه سنة عندهما ا ه‍. لكن تعقب
صاحب الهداية في فتح القدير بأنه سنة عندهما فوجوب القضاء محل النزاع، وقد علمت دفعه
بما في المحيط. وفي الظهيرية والولوالجية والتجنيس وغيرهما: أهل قرية اجتمعوا على ترك
الوتر أدبهم الإمام وحبسهم فإن لم يمتنعوا قاتلهم، وإن امتنعوا عن أداء السنن فجواب أئمة

67
بخارى بأن الإمام يقاتلهم كما يقاتلهم على ترك الفرائض لما روي عن عبد الله بن المبارك أنه
قال: لو أن أهل بلدة أنكروا سنة السواك لقاتلتهم كما نقاتل المرتدين اه‍. وفي العمدة:
اجتمع قوم على ترك الاذان يؤدبهم الإمام وعلى ترك السنن يقاتلهم. زاد في الخلاصة بأن هذا
إذا تركها جفاء لكن رآها حقا فإن لم يرها حقا يكفر. وذكر في التحقيق لصاحب الكشف أن
الواجب نوعان: واجب في قوة الفرض في العمل كالوتر عند أبي حنيفة حتى منع تذكره
صحة الفجر كتذكر العشاء، وواجب دون الفرض في العمل فوق السنة كتعيين الفاتحة حتى
وجب سجود السهو بتركه ولكن لا تفسد الصلاة اه‍. وفي البدائع أن وجوبه لا يختص
بالبعض دون البعض بل يعم الناس أجمع من الحر والعبد والذكر والأنثى إن كان أهلا
للوجوب لعموم الدلائل.
قوله (وهو ثلاث ركعات بتسليمة) أي الوتر لما رواه الحاكم وصححه وقال على
شرطهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يسلم إلا في
آخرهن. قيل للحسن: إن ابن عمر كان يسلم في الركعتين من الوتر فقال: كان عمر أفقه
منه وكان ينهض في الثانية بالتكبير اه‍. ونقله الطحاوي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما
قوله صلى الله عليه وسلم صلاة الليل مثنى مثنى وإذا خشي الصبح صلى واحدة فأوترت له ما صلى (2) فليس
فيه دلالة على أن الوتر واحدة بتحريمة مستأنفة ليحتاج إلى الاشتغال بجوابه إذا يحتمل كلا من
ذلك ومن كونه إذا خشي الصبح صلى واحدة متصلة ومع الاحتمال لا يقاوم الصرائح
الواردة، وقد روى الإمام أبو حنيفة بسنده أنه عليه السلام كان يقرأ في الأولى سبح اسم
ربك الاعلى، وفي الثانية قل يا أيها الكافرون، وفي الثالثة قل هو الله أحد. وما وقع
في السنن وغيرها من زياد المعوذتين أنكرها الإمام أحمد وابن معين ولم يخترها أكثر أهل العلم
كما ذكره الترمذي. كذا في شرح منية المصلي. وصحح الشارح الزيلعي أنه لا يجوز اقتداء
الحنفي بمن يسلم من الركعتين في الوتر وجوزه أبو بكر الرازي ويصلي معه بقية الوتر لأن

68
إمامه لم يخرج بسلامه عنده وهو مجتهد فيه كما لو اقتدى بإمام قد رعف. واشتراط المشايخ
لصحة اقتداء الحنفي في الوتر بالشافعي أن لا يفصله على الصحيح مفيد لصحته إذا لم يفصله
اتفاقا، ويخالفه ما ذكره في الارشاد من أنه لا يجوز الاقتداء في الوتر بالشافعي بإجماع أصحابنا
لأنه اقتداء المفترض بالمنتفل فإنه يفيد عدم الصحة فصل أو وصل فلذا قال بعده: والأول
أصح مشيرا إلى أن عدم الصحة إنما هو عند الفصل لا مطلقا معللا بأن اعتقاد الوجوب ليس
بواجب على الحنفي اه‍. فمراده من الأول هو قوله في شروط الاقتداء بالشافعي ولا يقطع
وتره بالسلام هو الصحيح، ويشهد للشارح ما في السراج الوهاج أن الاقتداء به في العيدين
صحيح ولم يرد فيه خلاف مع أنه سنة عند الشافعي وواجب عندنا، وما نقله أصحاب
الفتاوى عن ابن الفضل أن اقتداء الحنفي في الوتر بمن يرى أنه سنة كاليوسفي صحيح لأن
كلا يحتاج إلى نية الوتر فلم تختلف نيتهما فأهدر اختلاف الاعتقاد في صفة الصلاة واعتبر مجرد
اتحاد النية. واستشكله في فتح القدير بما ذكره في التجنيس وغيره من أن الفرض لا يتأدى
بنية النفل ويجوز عكسه، فعلى هذا ينبغي أن لا يجوز وتر الحنفي اقتداء وتر الشافعي بناء على
أنه لم يصح شروعه في الوتر لأنه بنيته إياه إنما نوى النفل الذي هو الوتر فلا يتأدى الواجب
بنية النفل، وحينئذ فالاقتداء به فيه بناء على المعدوم في زعم المقتدي. نعم يكن أن يقال: لو
لم يخطر بخاطره عند النية صفة من السنة أو غيرها بل مجرد الوتر ينتفي المانع فيجوز لكن
إطلاق مسألة التجنيس يقتضي أنه لا يجوز وإن لم يخطر بخاطره نفلية وفرضية بعد أن كان
المتقرر في اعتقاده نفليته وهو غير بعيد للمتأمل اه‍..

69
وحاصلة ترجيح ما في الارشاد وتضعيف تصحيح الزيلعي، وما في الفتاوى عن ابن
الفضل وليس فيما ذكره دليل عليه لأن ما في التجنيس وغيره إنما هو في الفرض القطعي والوتر
ليس بفرض قطعي إنما هو واجب ظني ثبت بالسنة فلا يلزم اعتقاد وجوبه للاختلاف فيه فلم يلزم
في صحته تعيين وجوبه بل تعيين كونه وترا، بل صرح في المحيط والبدائع بأنه ينوي صلاة الوتر
والعيدين فقط. وصرح بعض المشايخ كما في شرح منية المصلي بأنه لا ينوي في الوتر أنه واجب
للاختلاف في وجوبه، فظهر بهذا أن المذهب الصحيح صحة الاقتداء بالشافعي في الوتر إن لم
يسلم على رأس الركعتين وعدمها إن سلم والله الموفق للصواب. ثم اعلم أن قوله في فتح القدير
لكن إطلاق مسألة التجنيس يقتضي إلى آخره غفلة عما ذكره صاحب التجنيس في باب الوتر منه
ولفظه: إذا اقتدى في الوتر بمن يراه سنة وهو يراه واجبا ينظر إن كان نوى الوتر وهو يراه سنة أو
تطوعا جاز الاقتداء بمنزلة من صلى الظهر خلف آخر وهو يرى أن الركوع سنة أو تطوع، وإن كان
افتتح الوتر بنية التطوع أو بنية السنية لا يصح الاقتداء لأنه يصير اقتداء المفترض بالمنتفل. كذا ذكره
الإمام الرستغفني. هذا والذي ينبغي أن يفهم من قولهم إنه لا ينوي أنه واجب أنه لا يلزمه تعيين
الوجوب لا أن المراد منعه من أن ينوي وجوبه لأنه لا يخلو إما أن يكون حنفيا أو غيره، فإن كان
حنفيا فينبغي أن ينويه ليطابق اعتقاده، وإن كان غيره فلا تضره تلك النية فإن من المعلوم أن انتفاء
الوصف لا يوجب انتفاء الأصل فيبقى الأصل وهو صلاة الوتر هنا وقد كان يخرج به عن العهدة.
قوله (وقنت في ثالثته قبل الركوع ابدا) لما أخرجه النسائي عن أبي بن كعب أنه عليه
الصلاة والسلام كان يقنت قبل الركوع. وما في حديث أنس من أنه عليه السلام قنت بعد
الركوع فالمراد منه أن ذلك كان شهرا منه فقط بدليل ما في الصحيح عن عاصم الأحول

70
سألت أنسا عن القنوت في الصلاة قال: نعم. قلت: أكان قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله.
قلت: فإن فلانا أخبرني عنك أنك قلت بعده قال: كذب إنما قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد
الركوع شهرا. وظاهر الأحاديث يدل على القنوت في جميع السنة، وأما ما رواه أبو داود أن
عمر رضي الله عنه جمع الناس على أبي بن كعب فكان يصلي بهم عشرين ليلة من الشهر
- يعني رمضان - ولا يقنت بهم إلا في النصف الثاني فإذا كان العشر الأواخر تخلف فصلى في
بيته، فلا يدل على تخصيصه بالنصف الثاني من رمضان لأن القنوت فيه يحتمل أن يكون طول
القيام فإنه يقال عليه كما يقال على الدعاء وترجح الأول لتخصيص النصف الأخير بزيادة
الاجتهاد فليس هو المتنازع فيه. والكلام في القنوت في خمسة مواضع: في صفته ومحل أدائه
ومقداره ودعائه وحكمه إذا فات.
أما الأول فقد ذكره المصنف في باب صفة الصلاة من الواجبات وهو مذهب أبي حنيفة
وعندهما سنة كالوتر، ويشهد للوجوب قوله صلى الله عليه وسلم للحسن حين علمه القنوت، اجعل هذا في
وترك. والامر للوجوب لكنه تعقبه في فتح القدير بأنه لم يثبت، ومنهم من حاول الاستدلال

71
بالمواظبة المفادة من الأحاديث وهو متوقف على كونها غير مقرونة بالترك مرة لكن مطلق المواظبة
أعم من المقرونة به أحيانا وغير المقرونة ولا دلالة للأعم على الأخص وإلا لوجبت بهذه الكلمات
عينا أو كانت أولى من غيرها لكن المتقرر عندهم الدعاء المعروف اللهم إنا نستعينك كما سيأتي اه‍.
وأطلقه فشمل الأداء والقضاء فلذا قالوا: ومن يقضي الصلوات والأوتار يقنت في الأوتار
احتياطا. وعلله الولوالجي في فتاواه بأنه إن كان عليه الوتر كان عليه القنوت وإن لم يكن عليه
الوتر فالقنوت يكون في التطوع والقنوت في التطوع لا يضر اه‍. وهو يقتضي أن قضاءه ليس
لكونه لم يؤد حقيقة بل احتياطا وليس هو بمستحب. قال في مآل الفتاوى: ولما لم يفته شئ من
الصلوات وأحب أن يقضي جميع الصلوات التي صلاها متداركا لا يستحب لذلك إذا كان غالب
ظنه فساد ما صلى ورد النهي عنه صلى الله عليه وسلم. وما حكي عن أبي حنيفة أنه قضى صلاة عمره فإن صح
النقل فنقول كان يصلي المغرب والوتر أربع ركعات بثلاث قعدات اه‍. وفي التجنيس: شك في
الوتر وهو في حالة القيام أنفي الثانية أم في الثالثة يتم تلك الركعة ويقنت فيها لجواز أنها الثالثة،
ثم يقعد فيقوم فيضيف إليها ركعة أخرى ويقنت فيها أيضا، وهو المختار. فرق بين هذا وبين
المسبوق بركعتين في الوتر في شهر رمضان إذا قنت مع الإمام في الركعة الأخيرة من صلاة الإمام
حيث لا يقنت في الركعة الأخيرة إذا قام إلى القضاء في قولهم جميعا. والفرق أن تكرار القنوت في
موضعه ليس بمشروع وههنا أحدهما في موضعه والآخر ليس في موضعه فجاز، فأما المسبوق فهو
مأمور بأن يقنت مع الإمام فصار ذلك موضعا له، فلو أتى بالثاني كان ذلك تكرارا للقنوت في
موضعه اه‍. وفي المحيط معزيا إلى الأجناس: لو شك أنه في الأولى أو في الثانية أو في الثالثة فإنه

72
يقنت في الركعة التي هو فيها ثم يقعد ثم يقوم فيصلي ركعتين بقعدتين ويقنت فيهما احتياطا. وفي
قول آخر: لا يقنت في الكل أصلا لأن القنوت في الركعة الثانية والأولى بدعة وترك السنة أسهل
من الاتيان بالبدعة والأول أصح لأن القنوت واجب، وما تردد بين الواجب والبدعة يأتي به
احتياطا اه‍. وفي الذخيرة: إن قنت في الأولى أو في الثانية ساهيا لم يقنت في الثالثة لأنه لا يتكرر
في الصلاة الواحدة اه‍. وفيه نظر لأنه إذا كان مع الشك في كونه في محله يعيده ليقع في محله كما
قدمناه فمع اليقين بكونه في غير محله أولى أن يعيده كما لو قعد بعد الأولى ساهيا لا يمنعه أن يقعد
بعد الثانية، ولعل ما في الذخيرة مبني على القول الضعيف القائل بأنه لا يقنت في الكل أصلا كما
لا يخفي.
وأما الثاني فقد ذكرناه. وأما مقداره فقد ذكر الكرخي أن مقدار القيام في القنوت
مقدار سورة إذا السماء انشقت وكذا ذكر في الأصل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ
في القنوت اللهم إنا نستعينك اللهم اهدنا وكلاهما على مقدار هذه السورة. وروي أنه
عليه السلام كان لا يطول في دعاء القنوت. كذا في البدائع. وأما دعاؤه فليس فيه دعاء
مؤقت. كذا ذكر الكرخي في كتاب الصلاة لأنه روي عن الصحابة أدعية مختلفة في حال
القنوت، ولان المؤقت من الدعاء يذهب بالرقة كما روي عن محمد فيبعد عن الإجابة،
ولأنه لا يؤقت في القراءة لشئ من الصلوات ففي دعاء القنوت، أولى. وقال بعض
مشايخنا: المراد من قوله ليس فيه دعاء مؤقت ما سوى اللهم إنا نستعينك لأن الصحابة

73
اتفقوا عليه فالأولى أن يقرأه ولو قرأ غيره جاز، ولو قرأ معه غيره كان حسنا والأولى أن يقرأ
بعده ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي قنوته اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره. وقال
بعضهم: الأفضل من الوتر أن يكون فيه دعاء مؤقت لأن الإمام ربما يكون جاهلا فيأتي
بدعاء يشبه كلام الناس فتفسد صلاته، وما روي عن محمد من أن التوقيت في الدعاء يذهب
برقة القلب، محمول على أدعية المناسك دون الصلاة. كذا في البدائع. ورجح في شرح منية
المصلي قول الطائفة الثانية لما ذكروا وتبركا بالمأثور الوارد به الاخبار وتوارثه الخلف عن السلف
في سائر الأعصار اه‍. لكن ذكر الأسبيجابي أن ظاهر الرواية عدم توقيته. ثم إن الدعاء
المشهور عند أبي حنيفة: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك
الخير كله، نشكرك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي
ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك بالكفار ملحق. لكن
في المقدمة الغزنوية إن عذابك الجد. ولم يذكره في الحاوي القدسي إلا أنه أسقط الواو من
نخلع. والظاهر ثبوتهما. أما إثبات الجد ففي مراسيل أبي داود. وأما إثبات الواو في
ونخلع ففي رواية الطحاوي والبيهقي، وبه اندفع ما ذكره الشمني في شرح النقاية أنه لا
يقول الجد واتفقوا على أنه بكسر الجيم بمعنى الحق. واختلفوا في ملحق وصحح
الأسبيجابي كسر الحاء بمعنى لاحق بهم، وقيل بفتحها، ونص الجوهري على أنه صواب.
وأما نحفد فهو بفتح النون وكسر الفاء وبالدال المهملة من الحفد بمعنى السرعة ويجوز ضم
النون. يقال حفد بمعنى أسرع وأحفد لغة فيه حكاها ابن مالك في فعل وافعل. وصرح
قاضيخان في فتاواه بأنه لو قرأها بالذال المعجمة بطلت صلاته، ولعله لأنها كلمة مهملة لا
معنى لها. ثم اعلم أن المشايخ اختلفوا في حقيقة القنوت الذي هو واجب عنده فنقل في
المجتبى عن شرح المؤذني القنوت طول القيام دون الدعاء، وعن أبي عمرو لا أعرف من
القنوت إلا طول القيام وبه فسر قوله تعالى * (أمن هو قانت آناء الليل) * (الزمر: 9) وعن
الفتاوى الصغرى: القنوت في الوتر هو الدعاء دون القيام اه‍. وينبغي تصحيحه ومن لا
يحسن القنوت بالعربية أو لا يحفظه ففيه ثلاثة أقوال مختارة: قيل يقول يا رب ثلاث مرات ثم
يركع، وقيل يقول اللهم اغفر لي ثلاث مرات، وقيل اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي

74
الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. والظاهر أن الاختلاف في الأفضلية لا في الجواز وإن الأخير
أفضل لشموله، وإن التقييد بمن لا يحسن العربية ليس بشرط بل يجوز لمن يعرف الدعاء
المعروف أن يقتصر على واحد مما ذكر لما علمت أن ظاهر الرواية عدم توقيته.
وأما حكمه إذا فات محله فنقول: إذا نسي القنوت حتى ركع ثم تذكر، فإن كان بعد
رفع الرأس من الركوع لا يعود وسقط عنه القنوت، وإن تذكره في الركوع فكذلك في ظاهر
الرواية كما في البدائع وصححه في الخانية. وعن أبي يوسف أنه يعود إلى القنوت لشبهه
بالقرآن كما لو ترك الفاتحة أو السورة فتذكرها في الركوع أو بعد رفع الرأس منه فإنه يعود
وينتقض ركوعه. والفرق على ظاهر الرواية أن نقض الركوع في المقيس عليه لاكماله لأنه
يتكامل بقراءة الفاتحة والسورة لكونه لا يعتبر بدون القراءة أصلا، وفي المقيس ليس نقضه
لاكماله لأنه لا قنوت في سائر الصلوات والركوع معتبر بدونه، فلو نقض لكان نقض
الفرض للواجب كذا في البدائع. فإن عاد إلى القيام وقنت ولم يعد الركوع لم تفسد صلاته
لأن ركوعه قائم لم يرتفض بخلاف المقيس عليه لأن بعوده صارت قراءة الكل فرضا،
والترتيب بين القراءة والركوع فرض، فارتفض ركوعه فلو لم يركع بطلت، فلو ركع وأدركه
رجل في الركوع الثاني كان مدركا لتلك الركعة. وإنما لم يشرع القنوت في الركوع مثل
تكبيرات العيد إذا تذكرها في حال الركوع حيث يكبر فيه لأنه لم يشرع إلا في محض القيام
غير معقول ا لمعنى فلا يتعدى إلى ما هو قيام من وجه دون وجه وهو الركوع، وأما تكبيرات
العيد فلم تختص بمحض القيام لأن تكبيرة الركوع يؤتى بها في حال الانحطاط وهي محسوبة
من تكبيرات العيد بإجماع الصحابة، فإذا جاز أداء واحدة منها في غير محض القيام من غير
عذر جاز أداء الباقي مع قيام العذر بالأولى. ولم يقيد المصنف القنوت بالمخافتة للاختلاف

75
فيه. قال في الذخيرة: استحسنوا الجهر في بلاد العجم للإمام ليتعلموا كما جهر عمر رضي
الله عنه بالثناء حين قدم عليه وفد العراق. ونص في الهداية على أن المختار المخافتة، وفي
المحيط على أنه الأصح، وفي البدائع واختار مشايخنا بما وراء النهر الاخفاء في دعاء القنوت
في حق الإمام والقوم جميعا لقوله تعالى * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * (الأعراف: 55) وقول
النبي صلى الله عليه وسلم خير الدعاء الخفي وهو مروي في صحيح ابن حبان. وفصل بعضهم بين أن
يكون القوم لا يعلمونه فالأفضل للإمام الجهر ليتعلموا وإلا فالاخفاء أفضل كما في الذخيرة،
ومن اختار الجهر به اختار أن يكون دون جهر القراءة كما في منية المصلي.
قوله (وقرأ في كل ركعة منه فاتحة الكتاب وسورة) بيان لمخالفته للفرائض فيقرأ في كل ركعة
منه حتما، ونقل في الهداية أنه بالاجماع. وفي التجنيس: لو ترك القراءة في الركعة الثالثة منه لم
يجز في قولهم جميعا اه‍. أما عندهما فلانه نفل وفي النفل تجب القراءة في الكل، وكذا على قول أبي
حنيفة لأن الوتر عنده واجب يحتمل أنه نفل ولكن يترجح جهة الفرضية بدليل فيه شبهة فكان
الاحتياط فيه وجوب القراءة في الكل، وقد قدمنا من فعله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقرأ في الركعة الأولى
سبح اسم ربك الاعلى وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد. فالحاصل
أن قراءة آية في كل ركعة منه فرض وتعيين الفاتحة مع قراءة ثلاث آيات في كل ركعة واجب
والسور الثلاث فيه سنة لكن ذكر في النهاية أنه لا ينبغي أن يقرأ سورة متعينة على الدوام لأن
الفرض هو مطلق القراءة بقوله تعالى * (فاقرؤوا ما تيسر من القرآن) * (المزمل: 20) والتعيين على
الدوام يفضي إلى أن يعتقد بعض الناس أنه واجب وأنه لا يجوز غيره لكن لو قرأ بما ورد به الآثار

76
أحيانا يكون حسنا، ولكن لا يواظب لما ذكرنا اه‍. وقد يقال: إنهم رجحوا جهة النفلية فيه احتياطا
في القراءة فينبغي أن لا يقضي في الوقت المكروه كما بعد طلوع الفجر وبعد صلاة العصر احتياطا
لجهة النفلية لأن النفل فيه ممنوع، وقد قدمنا عن التجنيس خلافه وفيه: والوتر بمنزلة النفل في حق
القراءة إلا أنه يشبه المغرب من حيث إنه لو استتم قائما في الثالثة قبل القعود ثم تذكر لا يعود لأنها
صلاة واحدة، وفي النفل يعود لأنه كل شفع صلاة على حدة اه‍. وفي المجتبى: ولا تجب القعدة
الأولى في الوتر. وفي الامتحان: صلى الوتر ولم يقعد في الثانية ناسيا ثم تذكر في الركوع لا يعود
وإن عاد لا ينتقض ركوعه اه‍. ولا يخفى ما فيه لأن القعدة الأولى واجبة في الفرض والنفل والوتر
ذو شبه لهما فوجبت القعدة الأولى فيه، وقد تقدم أنه يرفع يديه عند تكبيرة القنوت كما يرفعهما
عند الافتتاح. وفي النهاية معزيا إلى محمد بن الحنفية قال: الدعاء أربعة: دعاء رغبة ودعاء رهبة
ودعاء تضرع ودعاء خفية. ففي دعاء الرغبة يجعل بطون كفيه نحو السماء، وفي دعاء الرهبة يجعل
ظهر كفيه إلى وجهه كالمستغيث من الشئ، وفي دعاء التضرع يعقد الخنصر والبنصر ويحلق
بالابهام والوسطى ويشير بالسبابة، ودعاء الخفية ما يفعله المرء في نفسه. ولم يذكر المصنف الصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت للاختلاف فيها، واختار الفقيه أبو الليث أن الأولى الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم
لأن القنوت دعاء والأولى في الدعاء أن يكون مشتملا عليها. وذهب أبو القاسم الصفار إلى أنه لا
يصلي فيه لأنه ليس موضعها ومشى عليه في الخلاصة، ولما رواه الطبراني عن علي كل دعاء

77
محجوب حتى يصلي على محمد وفي الواقعات: ويستحب في كل دعاء أن تكون فيه الصلاة على
النبي اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد اه‍. وهو يقتضي أنه يصلي عليه في القنوت بهذه الصيغة
وهو الأولى. ومن الغريب ما في المجتبي: لو صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت لا يصلي في القعدة
الأخيرة، وكذا لو صلى عليه في القعدة الأولى سهوا لا يصلي عليه في القعدة الأخيرة ولا يصلي في
القنوت اه‍..
قوله (ولا يقنت في غيره) أي في غير الوتر لما رواه الإمام أبو حنيفة عن ابن مسعود
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقنت في الفجر قط إلا شهرا واحدا لم ير قبل ذلك ولا
بعده، وإنما قنت في ذلك الشهر يدعو على أناس من المشركين، وكذا في الصحيحين أنه
عليه الصلاة والسلام قنت شهرا يدعو على قوم من العرب ثم تركه. وقد أطال المحقق ابن
الهمام هنا في الكلام مع الشافعي كما هو دأبه ولسنا بصدده. وفي شرح النقاية معزية إلى
الغاية: وإن نزل بالمسلمين نازلة قنت الإمام في صلاة الجهر. وهو قول الثوري وأحمد. وقال
جمهور أهل الحديث: القنوت عند النوازل مشروع في الصلوات كلها اه‍. قوله (ويتبع المؤتم
قانت الوتر) وقال محمد: لا يأتي به المأموم بل يؤمن لأن للقنوت شبهة القرآن لاختلاف
الصحابة في قوله اللهم إنا نستعينك أنه من القرآن أو لا فأورث شبهة وهو لا يقرأ، حقيقة
القرآن فكذا ما له شبهه، والمختار ما في الكتاب كما في المحيط وغيره وصححوه لأنه دعاء
حقيقة كسائر الأدعية والثناء والتشهد والتسبيحات، وظاهر الرواية أنه لا يكره قراءته للجنب
لأنه ليس بقرآن وعليه الفتوى كما في الولوالجية قوله (لا الفجر) أي لا يتبع المؤتم الإمام القانت

78
في صلاة الفجر، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: يتابعه لأنه تبع للإمام
والقنوت مجتهد فيه. ولهما أنه منسوخ فصار كما لو كبر خمسا في الجنازة حيث لا يتابعه في
الخامسة، وإذا لم يتابعه فيه فقيل يقعد تحقيقا للمخالفة لأن الساكت شريك الداعي بدليل مشاركة
الإمام في القراءة وإذا قعد فقد ت المشاركة. ولا يقال كيف يقعد تحقيقا للمخالفة وهي مفسدة
للصلاة لأن المخالفة فيما هو من الأركان والشرائط مفسدة لا في غيرها. قال في الهداية:
والأظهر وقوفه ساكت. وصححه قاضيخان وغيره لأن فعل الإمام يشتمل على مشروع وغيره،
فما كان مشروعا يتبعه فيه، وما كان غير مشروع لا يتبعه. كذا في العناية. وقد يقال: إن طول
القيام بعد رفع الرأس من الركوع ليس بمشروع فلا يتابعه فيه. قال في الهداية: ودلت المسألة
على جواز الاقتداء بالشفعوية. وإذا علم المقتدي منه ما يزعم به فساد صلاته كالفصد وغيره لا
يجزئه اه‍. ووجه دلالتها أنه لو لم يصح الاقتداء به لم يصح اختلاف علمائنا في أنه يسكت أو
يتابعه، ووقع في بعض نسخها بالشافعية وهو الصواب لما عرف من وجوب حذف ياء النسب
إذا نسب إلى ما هي فيه ووضع الياء الثانية مكانها حتى تتحد الصورة قبل النسبة الثانية وبعدها
والتمييز حينئذ من خارج، فالياء المشددة فيه ياء النسبة لا آخر الكلمة ككرسي. وذكر في النهاية
بنو شافع من بني المطلب ابن عبد مناف منهم الإمام الشافعي الفقيه رحمه الله، ومن قال في نسبته
الشفعوي فهو عامي وحقه أن يقال بالشافعي المذهب. فحاصله أن صاحب الهداية جوز
الاقتداء بالشافعي بشرط أن لا يعلم المقتدي منه ما يمنع صحة صلاته في رأي المقتدي كالفصد
ونحوه وعدد مواضع عدم صحة الاقتداء به في العناية وغاية البيان بقوله كما إذا لم يتوضأ من

79
الفصد والخارج من غير السبيلين، وكما إذا كان شاكا في إيمانه بقوله أنا مؤمن إن شاء الله أو
متوضئا من القلتين أو يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس من الركوع أو لم يغسل ثوبه من المني
ولم يفركه أو انحرف عن القبلة إلى اليسار أو صلى الوتر بتسليمتين أو اقتصر على ركعة أو لم يوتر
أصلا أو قهقه في الصلاة ولم يتوضأ أو صلى فرض الوقت مرة ثم أم القوم فيه. زاد في النهاية وأن
لا يراعي الترتيب في الفوائت وأن لا يمسح ربع رأسه. وزاد قاضيخان وأن يكون متعصبا.
والكل ظاهر ما عدا خمسة أشياء: الأول مسألة التوضؤ من القلتين فإنه صحيح عندنا إذا لم يقع في
الماء نجاسة ولم يختلط بمستعمل مساو له أو أكثر فلا بد أن يقيد قولهم بالقلتين المتنجس ماؤهما أو
المستعمل بالشرط المذكور لا مطلقا. الثاني مسألة رفع اليدين من وجهين: الأول أن الفساد برفع
اليدين عند الركوع وعند رفع الرأس منه رواية شاذة، رواها مكحول النسفي عن أبي حنيفة وليس
بصحيحة رواية ودراية، لأن المختار في العمل الكثير المفسد لها ما لو رآه شخص من بعيد ظنه
ليس في الصلاة لا ما يقام باليدين، ولان وضع هذه المسألة يدل على جواز الاقتداء بالشافعي
وبقائه إلى وقت القنوت حتى اختلفوا هل يتابعه فيه أو لا - كما في الهداية - مع وجود رفع اليدين
في الركعات الثلاث. الثاني أن الفساد عند الركوع لا يقتضي عدم صحة الاقتداء من الابتداء مع
أن عروض البطلان غير مقطوع به حتى يجعل كالمتحقق عند الشروع لأن الرفع جائز الترك عندهم
لسنيته. الثالث مسألة الانحراف عن القبلة إلى اليسار لأن الانحراف المانع عندنا أن يجاوز المشارق
إلى المغارب كما نقله في فتح القدير في استقبال القبلة، والشافعية لا ينحرفون هذا الانحراف.
الرابع مسألة التعصب وهو تعصب لأن التعصب على تقدير وجوده منهم إنما يوجب الفسق لا
الكفر والفسق لا يمنع صحة الاقتداء، والظاهر من الشارطين لعدمه أنه يوجب الكفر لكونه في
الدين وهو بعيد كما لا يخفى. الخامس مسألة الاستثناء في الايمان.
فاعلم أن عبارتهم قد اختلفت في هذه المسألة، فذهب طائفة من الحنفية إلى تكفير من قال
أنا مؤمن إن شاء الله ولم يقيدوه بأن يكون شاكا في إيمانه، ومنهم الأتقاني في غاية البيان.
وصرح في روضة العلماء بأن قوله إن شاء الله يرفع إيمانه فيبقى بلا إيمان فلا يجوز الاقتداء به.
وذكر في الفتاوى الظهيرية من المواعظ أن معاذ بن جبل سئل عمن يستثنى في الايمان فقال: إن
الله تبارك وتعالى ذكر في كتابه ثلاثة أصناف قال تعالى في موضع * (أولئك هم المؤمنون حقا)
* (الأنفال: 40) وقال في موضع آخر * (أولئك هم الكافرون حقا) * (النساء: 151) وقال في

80
موضع آخر * (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء) * (النساء: 143) فمن قال بالاستثناء
في الايمان فهو من جملة المذبذبين اه‍. وفي الخلاصة والبزازية من كتاب النكاح عن الإمام أبي بكر
محمد بن الفضل: من قال أنا مؤمن إن شاء الله فهو كافر لا تجوز المناكحة معه. قال الشيخ أبو
حفص في فوائده: لا ينبغي للحنفي أن يزوج بنته من رجل شفعوي المذهب. وهكذا قال بعض
مشايخنا ولكن يتزوج بنتهم. زاد في البزازية تنزيلا لهم منزلة أهل الكتاب اه‍. وذهب طائفة إلى
تكفير من شك منهم في إيمانه بقوله أنا مؤمن إن شاء الله على وجه الشك مطلقا وهو الحق لأنه
لا مسلم يشك في إيمانه. وقول الطائفة الأولى أنه يكفر غلط لأنه لا خلاف بين العلماء في أنه لا
يقال أنا مؤمن إن شاء الله للشك في ثبوته للحال بل ثبوته في الحال مجزوم به كما نقله المحقق ابن
الهمام في المسايرة، وإنما محل الاختلاف في جوازه لقصد إيمان الموافاة، فذهب أبو حنيفة
وأصحابه إلى منعه وعليه الأكثرون، وأجازه كثير من العلماء منهم الشافعي وأصحابه لأن بقاءه إلى
الوفاة عليه وهو المسمى بإيمان الموافاة غير معلوم، ولما كان ذلك هو المعتبر في النجاة كان هو
الملحوظ عند المتكلم في ربطه بالمشيئة وهو أمر مستقبل، فالاستثناء فيه اتباع لقوله تعالى * (ولا
تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) * (الكهف: 23) وقال أئمة الحنفية: لما كان ظاهر
التركيب الاخبار بقيام الايمان به في الحال مع اقتران كلمة الاستثناء به كان تركه أبعد عن التهمة
فكان تركه واجبا، وأما من علم قصده فربما تعتاد النفس التردد لكثرة إشعارها بترددها في ثبوت
الايمان واستمراره وهذه مفسدة إذ قد يجر إلى وجوده آخر الحياة الاعتياد خصوصا والشيطان
منقطع مجرد نفسه لسبيل لا شغل له سواك فيجب ترك المؤدي إلى هذه المفسدة اه‍. فالحاصل أنه لا
فائدة في هذا الشرط وهو قول الطائفة الثانية أن لا يكون شاكا في إيمانه إذ لا مسلم يشك فيه،
وأما التكفير بمطلق الاستثناء فقد علمت غلطه وأقبح من ذلك من منع مناكحتهم وليس هو إلا
محض تعصب نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، خصوصا قد نقل الإمام السبكي في
رسالة ألفها في هذه المسألة: أن القول بدخول الاستثناء في الايمان هو قول أكثر السلف من
الصحابة والتابعين ومن بعدهم والشافعية والمالكية والحنابلة ومن المتكلمين الأشعرية والكلابية
قال: وهو قول سفيان الثوري اه‍. فالقول بتكفير هؤلاء من أقبح الأشياء. ثم اعلم أنه قد صرح
في النهاية والعناية وغيرهما بكراهة الاقتداء بالشافعي إذا لم يعلم حاله حتى صرح في النهاية بأنه
إذا علم منه مرة عدم الوضوء من الحجامة ثم غاب عنه ثم رآه يصلي فالصحيح جواز الاقتداء به مع
الكراهة، فصار الحاصل أن الاقتداء بالشافعي على ثلاثة أقسام: الأول أن يعلم منه الاحتياط في

81
مذهب الحنفي فلا كراهة في الاقتداء به. الثاني أن يعلم منه عدمه فلا صحة لكن اختلفوا هل
يشترط أن يعلم منه عدمه في خصوص ما يقتدى به أو في الجملة، صحح في النهاية الأول وغيره
اختار الثاني. وفي فتاوى الزاهدي: إذا رآه احتجم ثم غاب فالأصح أنه يصح الاقتداء به لأنه
يجوز أن يتوضأ احتياطا وحسن الظن به أولى. الثالث أن لا يعلم شيئا فالكراهة ولا خصوصية

82
لمذهب الشافعي بل إذا صلى حنفي خلف مخالف لمذهبه فالحكم كذلك، وظاهر الهداية أن الاعتبار
لاعتقاد المقتدي ولا اعتبار لاعتقاد الإمام حتى لو شاهد الحنفي إمامه الشافعي مس امرأة ولم يتوضأ
ثم اقتدى به فإن أكثر مشايخنا قالوا يجوز وهو الأصح كما في فتح القدير وغيره. وقال الهندواني
وجماعة: لا يجوز ورجحه في النهاية بأنه أقيس لما أن زعم الإمام أن صلاته ليست بصلاة فكان
الاقتداء حينئذ بناء الموجود على المعدوم في زعم الإمام وهو الأصل فلا يصح الاقتداء اه‍. ورد
بأن المقتدي يرى جوازها والمعتبر في حقه رأى نفسه لا غيره. وأيضا ينبغي حمل حال الإمام على
التقليد لأبي حنيفة حملا لحال المسلم على الصلاح ما أمكن فيتحد اعتقادهما وإلا لزم منه تعمد
الدخول في الصلاة بغير طهارة على اعتقاده وهو حرام إلا أن تفرض المسألة أن المأموم علم به
والإمام لم يعلم بذلك كما ذكره الشارح فيقتصر على الجواب الأول.
قوله: (والسنة قبل الفجر وبعد الظهر والمغرب والعشاء ركعتان وقبل الظهر والجمعة
وبعدها أربع) شروع في بيان النوافل بعد ذكر الواجب فذكر أنها نوعان: سنة ومندوب.
فالأول في كل يوم ما عدا الجمعة ثنتا عشرة ركعة، وفي يوم الجمعة أربع عشرة ركعة،
والأصل فيه ما رواه الترمذي وغيره عن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من
ثابر على ثنتي عشرة ركعة من السنة بنى الله له بيتا في الجنة وذكرها كما في الكتاب. وروى
مسلم أنه عليه الصلاة والسلام كان يصليها، وبدأ المصنف بسنة الفجر لأنها أقوى السنن
باتفاق الروايات لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على
شئ من النوافل أشد تعاهدا منه على ركعتي الفجر. وفي لفظ لمسلم ركعتا الفجر خير من
الدنيا وما فيها (1) وفي أوسط الطبراني عنها أيضا: لم أره ترك الركعتين قبل صلاة الفجر في

83
سفر ولا حضر ولا صحة ولا سقم. وقد ذكروا ما يدل على وجوبها قال في الخلاصة:
أجمعوا أن ركعتي الفجر قاعدا من غير عذر لا يجوز. كذا روى الحسن عن أبي حنيفة ا ه‍.
وفي النهاية قال مشايخنا: العالم إذا صار مرجعا في الفتاوى يجوز له ترك سائر السنن لحاجة
الناس إلى فتواه إلا سنة الفجر ا ه‍. وفي المضمرات معزيا إلى العتابي: من أنكر سنة الفجر
يخشى عليه الكفر. وفي الخلاصة: الظاهر من الجواب أن السنة لا تقضي إلا سنة الفجر.
ومما يدل على وجوبها ما في سنن أبي داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدعوا
ركعتي الفجر ولو طردتكم الخيل (2) فقد وجدت المواظب عليها بما قدمناه والنهي عن تركها
لكن المنقول في أكثر الكتب أنها سنة مؤكدة، وإن قلنا إنها بمعنى الواجب هنا لم يصح لأنها
تتأدى بمطلق النية. قال في التجنيس: رجل صلى ركعتين تطوعا وهو يظن أن الفجر لم يطلع
فإذا الفجر طالع يجزئه عن ركعتي الفجر هو الصحيح لأن السنة تطوع فتتأدى بنية التطوع
ا ه‍. لكن في الخلاصة: الأصح أنها لا تنوب وهو يدل على الوجوب. وفيها أيضا عن

84
متفرقات شمس الأئمة الحلواني: رجل صلى أربع ركعات في الليل فتبين أن الركعتين
الآخرتين بعد طلوع الفجر تحتسب عن ركعتي الفجر عندهما وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة
قال وبه يفتي ا ه‍. ورده في التجنيس بأن الأصح أنها لا تنوب عن ركعتي الفجر كما إذا
صلى الظهر ستا وقد قعد على رأس الرابعة فإنه لا تنوب الركعتان عن ركعتي السنة في
الصحيح من الجواب كذا هذا. وهذا لأن السنة ما واظب النبي صلى الله عليه وسلم عليها ومواظبته عليه
السلام كانت بتحريمة مبتدأة. وفي الخلاصة: والسنة في ركعتي الفجر ثلاث: أحدها أن
يقرأ في الركعة الأولى قل يا أيها الكافرون وفي الثانية الاخلاص. والثانية أن يأتي بهما
أول الوقت. والثالثة أن يأتي بهما في بيته وإلا فعلى باب المسجد وإلا ففي المسجد الشتوي إن
كان الإمام في الصيفي أو عكسه إن كان يرجو إدراكه، وإن كان المسجد واحدا يأتي بهما في
ناحية من المسجد ولا يصليهما مخالطا للصف مخالفا للجماعة، فإن فعل ذلك يكره أشد
الكراهة ولا يطول القراءة فيهما، ولو تذكر في الفجر أنه لم يصل ركعتي الفجر لم يقطع ا ه‍.
وذكر الولوالجي: إمام يصلي الفجر في المسجد الداخل فجاء رجل يصلي الفجر في المسجد
الخارج اختلف المشايخ فيه، قال بعضهم يكره، وقال بعضهم لا يكره لأن ذلك كله كمكان
واحد بدليل جواز الاقتداء لمن كان في المسجد الخارج بمن كان في المسجد الداخل، وإذا
اختلف المشايخ فالاحتياط أن لا يفعل ا ه‍. وفي القنية: إذا لم يسع وقت الفجر إلا الوتر
والفجر أو السنة والفجر فإنه يوتر ويترك السنة عند أبي حنيفة، وعندهما السنة أولى من الوتر
ا ه‍. وفي المحيط: ولو صلى ركعتي الفجر مرتين بعد الطلوع فالسنة آخرهما لأنه أقرب إلى
المكتوبة ولم يتخلل بينهما صلاة والسنة ما تؤدي متصلا بالمكتوبة ا ه‍. وفي القنية: واختلف

85
في آكد السنن بعد سنة الفجر، فقيل الأربع قبل الظهر والركعتان بعده والركعتان بعد المغرب
كلها سواء، والأصح أن الأربع قبل الظهر آكد ا ه‍. وهكذا صححه في العناية والنهاية لأن
فيها وعيدا معروفا قال عليه الصلاة والسلام من ترك أربعا قبل الظهر لم تنله شفاعتي.
وفي التجنيس والنوازل والمحيط: رجل ترك سنن الصلوات الخمس إن لم ير السنن حقا
فقد كفر لأنه ترك استخفافا، وإن رأى حقا منهم من قال لا يأثم والصحيح أنه يأثم لأنه جاء
الوعيد بالترك ا ه‍. وتعقبه في فتح القدير بأن الاثم منوط بترك الواجب وقد قال صلى الله عليه وسلم للذي
قال والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك شيئا: أفلح أن صدق ا ه‍. ويجاب عنه بأن السنة
المؤكدة بمنزلة الواجب في الاثم بالترك كما صرحوا به كثيرا. وصرح به في المحيط هنا وأنه
لا يجوز ترك السنن المؤكدة ولصلى وحده وهو أحوط ا ه‍. وبأن حديث الاعرابي كان
متقدما وقد شرع بعده أشياء كالوتر فجاز أن تكون السنن المؤكدة كذلك لما قدمنا أنه لم يذكر
له صدقة الفطر، وقد اتفقوا على أنه يأثم بتركها. وفي النهاية: ذكر الحلواني أنه لا بأس بأن
يقرأ بين الفريضة والسنة الأوراد. وفي شرح الشهيد: القيام إلى السنة متصلا بالفرض
مسنون. وفي الشافي: كان عليه الصلاة والسلام إذا سلم يمكث قدر ما يقول اللهم أنت
السلام ومنك السلام وإليك يعود السلام تباركت يا ذا الجلال والاكرام. وكذلك عن البقالي
ولم يمر بي لو تكلم بعد الفريضة هل تسقط السنة، قيل تسقط وقيل لا تسقط ولكن ثوابه
أنقص من ثوابه قبل التكلم ا ه‍. وفي القنية: الكلام بعد الفرض لا يسقط السنة ولكن
ينقص ثوابه وكل عمل ينافي التحريمة أيضا وهو الأصح اه‍. وفي الخلاصة: لو صلى
ركعتي الفجر أو الأربع قبل الظهر واشتغل بالبيع والشراء أو الاكل فإنه يعيد السنة، أما بأكل
لقمة أو شربة لا تبطل السنة ا ه‍. وفي المجتبي وفي الأربع قبل الظهر والجمعة وبعدها لا
يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في القعدة الأولى ولا يستفتح إذا قام إلى الثالثة بخلاف سائر ذوات

86
الأربع من النوافل ا ه‍. وصحح في فتاواه أنه لا يأتي بهما في الكل لأنها صلاة واحدة ا ه‍.
ولا يخفى ما فيه فالظاهر الأول، والدليل على استنان الأربع قبل الجمعة ما رواه مسلم مرفوعا
من كان مصليا قبل الجمعة فليصل أربعا مع ما رواه ابن ماجة عن ابن عباس قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يركع من قبل الجمعة أربعا لا يفصل في شئ منهن. وعلى استنان الأربع
بعدها ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها
أربعا (1) وفي رواية إذا صليتم بعد الجمعة فصلوا أربعا وذكر في البدائع إنه ظاهر الرواية.
وعن أبي يوسف أنه ينبغي أن يصلي أربعا ثم ركعتين. وذكر محمد في كتاب الاعتكاف أن
المعتكف يمكث في المسجد الجامع مقدار ما يصلي أربعا أو ستا ا ه‍. وفي الذخيرة
والتجنيس: وكثير من مشايخنا على قول أبي يوسف. وفي منية المصلي: والأفضل عندنا أن
يصلي أربعا ثم ركعتين. وفي القنية: صلى الفريضة وجاء الطعام فإن ذهب حلاوة الطعام أو
بعضها يتناول ثم يأتي بالسنة، وإن خاف الوقت يأتي بالسنة ثم يتناول الطعام، ولو نذر
بالسنن وأتى بالمنذور به فهو السنة. وقال تاج الدين أبو صاحب المحيط: لا يكون آتيا بالسنة
لأنه لما التزمها صارت أخرى فلا تنوب مناب السنة، ولو أخر السنة بعد الفرض ثم أداها في
آخر الوقت لا تكون سنة وقيل تكون سنة ا ه‍. والأفضل في السنن أداؤها في المنزل إلا
التراويح، وقيل إن الفضيلة لا تختص بوجه دون وجه وهو الأصح لكن كل ما كان أبعد من
الرياء وأجمع للخشوع والاخلاص فهو أفضل. كذا في النهاية. وفي الخلاصة فسنة
المغرب: إن خاف لو رجع إلى بيته شغله شأن آخر يأتي بها في المسجد وإن كان لا يخاف
صلاها في المنزل، وكذا في سائر السنن حتى الجمعة والوتر في البيت أفضل ا ه‍.
قوله: (وندب الأربع قبل العصر والعشاء وبعدها والست بعد المغرب) بيان للمندوب

87
من النوافل. أما الأربع قبل العصر فلما رواه الترمذي وحسنه عن علي رضي الله عنه قال:
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين ومن
تبعهم من المسلمين والمؤمنين. وروى أبو داود عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل العصر
ركعتين، فلذا خيره في الأصل بين الأربع وبين الركعتين، والأفضل الأربع. وإنما لم تكن
الركعتان سنة راتبة لأنها ثابتة بيقين ويكون الأربع مستحبا لأنه لم يذكر في حديث عائشة
رضي الله عنها للعصر سنة راتبة أصلا كما في البدائع فلذا لم يجعل له سنة، وأما الأربع قبل
العشاء فذكروا في بيانه أنه لم يثبت أن التطوع بها من السنن الراتبة فكان حسنا لأن العشاء
نظير الظهر في أنه يجوز التطوع قبلها وبعدها كذا في البدائع. ولم ينقلوا حديثا فيه بخصوصه
لاستحبابه، وأما الأربع بعدها ففي سنن أبي داود عن شريح بن هاني قال: سألت عائشة عن
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما صلى العشاء قط فدخل بيتي إلا صلى فيه أربع ركعات أو
ست ركعات. قال في فتح القدير: الذي يقتضيه النظر كون الأربع بعد العشاء سنة لنقل

88
المواظبة عليها في أبي داود فإنه نص في مواظبته على الأربع دون الست للمتأمل ا ه‍. وقد
يقال: إنما لم تكن الأربع سنة لما في الصحيحين عن ابن عمر قال: صليت مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب وركعتين بعد العشاء
وركعتين بعد الجمعة. وحدثتني حفصة بنت عمران النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي ركعتين خفيفتين بعد
ما يطلع الفجر ا ه‍. فهو معارض لنقل المواظبة على الأربع فلذا لم تكن سنة. وأما الستة بعد
المغرب فلما روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال من صلى بعد المغرب ست ركعات
كتب من الأوابين وتلا قوله تعالى * (إنه كان للأوابين غفورا) * (الاسراء: 25) وذكر في
التجنيس أنه يستحب أن يصلي الست بثلاث تسليمات. ولم يذكر المصنف من المندوبات
الأربع بعد الظهر. وصرح باستحبابها جماعة من المشايخ لحديث أبي داود والترمذي والنسائي.
وحكى في فتح القدير اختلافا بين أهل عصره في مسألتين: الأولى هل السنة المؤكدة محسوبة
من المستحب في الأربع بعد الظهر وبعد العشاء وفي الست بعد المغرب أو لا. الثانية على
تقدير الأول هل يؤدي الكل بتسليمة واحدة أو بتسلمتين. واختار الأول فيهما وأطال الكلام

89
فيه إطالة حسنة كما هو دأبه، وظاهره أنه لم يطلع عليه في كلام من تقدمه. ولم يذكر المصنف
من المندوبات صلاة الضحى للاختلاف فيها فقيل لا تستحب لما في صحيح البخاري من
إنكار ابن عمر لها، وقيل مستحبة لما في صحيح مسلم عن عائشة أنه عليه السلام كان يصلي
الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء، وهذا هو الراجح ولا يخالفه ما في الصحيحين عنها ما
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط وإني لأسبحها لاحتمال أنها أخبرت في النفي
عن رؤيتها ومشاهدتها وفي الاثبات عن خبره عليه السلام أو خبر غيره عنه أو أنها أنكرتها
مواظبة وإعلانا. ويدل لذلك كله قولها وإني لأسبحها. وفي رواية الموطأ وإني لأستحبها
من الاستحباب وهو أظهر في المراد. وظاهر ما في المنية يدل على أن أقلها ركعتان وأكثرها
ثنتا عشرة ركعة لما رواه الطبراني في الكبير عن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلى
ركعتين لم يكتب من الغافلين، ومن صلى أربعا كتب من العابدين، ومن صلى ستا كفي ذلك
اليوم، ومن صلى ثمانيا كتبه الله من القانتين، ومن صلى اثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتا في
الجنة، وما من يوم وليلة إلا ولله من يمن به على عباده وصدقة. وما من الله على أحد من

90
عباده أفضل من أن يلهمه ذكره قال المنذري: ورواته ثقات. ولم أر بيان أول وقتها وآخره
لمشايخنا هنا ولعلهم تركوه للعلم به وهو أنه من ارتفاع الشمس إلى زوالها كما لا يخفى. ثم
رأيت صاحب البدائع صرح به في كتاب الايمان فيما إذا حلف ليكلمنه الضحى فقال إنه من
الساعة التي تحل فيها الصلاة إلى الزوال وهو وقت صلاة الضحى ا ه‍. ومن المندوبات تحية
المسجد وقد قدمناها في أحكام المسجد قبيل باب الوتر، وصرح في الخلاصة باستحبابها وأنها
ركعتان. ومن المندوبات ركعتان عقيب الوضوء كما في شرح النقاية والتبيين. ومن المندوبات
صلاة الاستخارة وقد أفصحت السنة ببيانها، فعن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا
الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالامر فليركع
ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك،
وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب.
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الامر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري
وآجله فقدر لي ويسره لي ثم بارك فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الامر شر لي في ديني ومعاشي
وعاقبة أمري أو قال عاجله فاصرفه عني واصرفني عنه وقدر لي الخير حيث كان ثم رضني

91
به. قال: ويسمى حاجته. رواه البخاري وغيره. ومن المندوبات صلاة الحاجة وهي ركعتان
كما ذكره في شرح منية المصلي مع ما قبله من الاستخارة والأحاديث بها مذكورة في الترغيب
والترهب. ومن المندوبات صلاة الليل حثت السنة الشريفة عليها كثيرا وأفادت أن لفاعلها
أجرا كبيرا فمنها ما في صحيح مسلم مرفوعا أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم،
وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل وروى ابن خزيمة مرفوعا عليكم بقيام الليل
فإنه دأب الصالحين قبلكم وقربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة عن الاثم (2) وروى
الطبراني مرفوعا لا بد من صلاة بليل ولو حلب شاة وما كان بعد صلاة العشاء فهو من
الليل ا ه‍. وهو يفيد أن هذه السنة تحصل بالتنفل بعد صلاة العشاء قبل النوم وقد تردد
في فتح القدير في صلاة التهجد أهي سنة في حقنا أم تطوع وأطال الكلام على وجه التحقيق
كما هو دأبه وأوسع منه ما ذكره في أواخر شرح منية المصلي. ومن المندوبات إحياء ليالي

92
العشر من رمضان وليلتي العيدين وليالي عشر ذي الحجة وليلة النصف من شعبان كما وردت
به الأحاديث، وذكرها في الترغيب والترهيب مفصلة. والمراد بإحياء الليل قيامه وظاهره
الاستيعاب ويجوز أن يراد غالبه. ويكره الاجتماع على إحياء ليلة من هذه الليالي في المساجد
قال في الحاوي القدسي: ولا يصلي تطوع بجماعة غير التراويح، وما روي من الصلوات في
الأوقات الشريفة كليلة القدر وليلة النصف من شعبان وليلتي العيد وعرفة والجمعة وغيرها
تصلى فرادى انتهى. ومن هنا يعلم كراهة الاجتماع على صلاة الرغائب التي تفعل في رجب
في أول ليلة جمعة منه وأنها بدعة، وما يحتاله أهل الروم من نذرها لتخرج عن النفل والكراهة
فباطل، وقد أوضحه العلامة الحلبي وأطال فيه إطالة حسنة كما هو دأبه وفي الفتاوي
البزازية.
قوله: (وكره الزيادة على أربع في نفل النهار وعلى ثمان ليلا) أي بتسليمة والأصل فيه
أن النوافل شرعت توابع للفرائض والتبع لا يخالف الأصل فلو زيدت على الأربع في النهاية
لخالفت الفرائض، وهذا هو القياس في الليل إلا أن الزيادة على الأربع إلى الثماني عرفناه
بالنص وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي بالليل خمس ركعات، سبع ركعات، تسع
ركعات، إحدى عشرة ركعة، ثلاث عشرة ركعة، والثلاث من كل واحد من هذه الاعداد
الوتر وركعتان سنة الفجر فيبقى ركعتان وأربع وست وثمان فيجوز إلى هذا القدر بتسليمة
واحدة من غير كراهة. واختلف المشايخ في الزيادة على الثماني بتسليمة واحدة مع اختلاف
التصحيح فصحح الإمام السرخسي عدم الكراهة معللا بأن فيه وصل العبادة بالعبادة وهو

93
أفضل. ورده في البدائع بأنه يشكل بالزيادة على الأربع في النهار قال: والصحيح أنه يكره
لأنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى. وفي منية المصلي أن الزيادة المذكورة مكروهة بالاجماع أي
بإجماع أبي حنيفة وصاحبيه وبه يضعف قول السرخسي، وصحح في الخلاصة ما ذهب إليه
السرخسي ويشهد له ما في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها في حديث طويل إنه
كان يصلي تسع ركعات لا يجلس فيهن إلا في الثامنة فيذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه، ثم
ينهض ولا يسلم فيصلي التاسعة ثم يقعد فيذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليما
يسمعنا إلا أن هذا يقتضي عدم جواز القعود فيها أصلا إلا بعد الثامنة وجواز التنفل بالوتر
من الركعات وكلمتهم على وجوب القعدة على رأس الركعتين من النفل مطلقا، وإنما الخلاف
في الفساد بتركها وعلى كراهة التنفل بالوتر من الركعات، ومن العجب ما ذكره الطحاوي من
رده استدلالهم على إباحة الثماني بتسليمة واحدة بما ثبت عن عائشة من رواية الزهري أنه
كان يسلم من كل اثنتين منهن ولم نجد عنه من فعله ولا من قوله أنه أباح أن يصلي في الليل
بتكبيرة أكثر من ركعتين وبذلك نأخذ وهو أصح القولين في ذلك انتهى. وذكر في غاية
البيان أن الحق ما قاله الطحاوي لأن استدلالهم استدلال بالمحتمل فلا يكون حجة، وهذا
لأنه يحتمل أنه عليه الصلاة والسلام كان يصلي أربع ركعات فرض العشاء وأربع ركعات سنة
العشاء وثلاث ركعات الوتر فيكون المجموع إحدى عشرة ركعة، وليس في حديث عائشة
قيد التطوع حتى يدل على إباحة الثماني على أن عائشة في رواية الزهري عن عروة فسرت
الاجمال وأزالت الاحتمال فلم يدل على إباحة ثماني ركعات بتسليمة انتهى. لأن ما ذكرناه عن

94
صحيح مسلم صريح فرد كلام الطحاوي ومن تبعه لأن الثماني كانت نفلا بتسليمة
واحدة.
قوله: (والأفضل فيهما الرباع) أي الأفضل في الليل والنهار أربع ركعات بتسليمة
واحدة عند أبي حنيفة. وقالا: في الليل ركعتان لحديث الصحيحين عن أبي عمر أن رجلا
قال: يا رسول الله كيف صلاة الليل؟ قال: مثنى مثنى، فإذا خفت الصبح فأوتر بواحدة.
ولأبي حنيفة ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: ما كان يزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم في
رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم
يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي ثلاثا. وما روي عن عائشة رضي الله
عنها أنها قالت: كان عليه الصلاة والسلام يصلي الضحى أربعا ولا يفصل بينهن بسلام. وما
تقدم من حديث أبي أيوب وغيره في سنة الظهر والجمعة. ثم الجواب عن دليلهما كما أفاده
المحقق في فتح القدير مختصرا أن مقتضى لفظ الحديث إما مثنى في حق الفضيلة بالنسبة إلى

95
الأربع أو في حق الإباحة بالنسبة إلى الفرد وترجيح أحدهما بمرجح وفعله صلى الله عليه وسلم ورد على كلا
النحوين لكن عقلنا زيادة فضيلة الأربع لأنها أكثر مشقة على النفس بسبب طول تقييدها في
مقام الخدمة، ورأيناه صلى الله عليه وسلم قال: إنما أجرك على قدر نصبك فحكمنا بأن المراد الثاني لا واحدة
أو ثلاث ولهذا ذكر في زيادات الزيارات أن من نذر أن يصلي أربعا بتسليمة فصلاها
بتسليمتين لم يجزه، ولو نذر أن يصلي أربعا بتسلمتين فصلاها بتسليمة واحدة جاز عن نذره،
وفي المحيط: وإنما اخترنا في التراويح مثنى مثنى لأنها تؤدى بالجماعة وأداؤها على الناس
مثنى مثنى أخف وأيسر. قوله: (وطول القيام أحب من كثرة السجود) أي أفضل من عدد
الركعات. وقد اختلف النقل عن محمد في هذه المسألة فنقل الطحاوي عنه في شرح الآثار
كما في الكتاب وصححه في البدائع ونسب ما قابله إلى الشافعي، ووجهه ما رواه مسلم عن
جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال أفضل الصلاة طول القنوت والمراد بالقنوت القيام
بدليل ما رواه أحمد وأبو داود مرفوعا أي الصلاة أفضل قال عليه الصلاة والسلام: طول
القيام. ولان ذكره القراءة وذكر الركوع والسجود التسبيح. ونقل عنه في المجتبي أن كثرة

96
الركوع والسجود أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام للسائل كما في صحيح مسلم عليك
بكثرة السجود ولآخر أعني على نفسك بكثرة السجود، وقوله عليه الصلاة والسلام
أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ولان السجود غاية التواضع والعبودية، ولتعارض
الأدلة توقف الإمام أحمد في هذه المسألة ولم يحكم فيها بشئ، وفصل الإمام أبو يوسف كما
في المجتبي والبدائع فقال: إذا كان له ورد في الليل بقراءة من القرآن فالأفضل أن يكثر عدد
الركعات وإلا فطول القيام أفضل لأن القيام في الأول لا يختلف ويضم إليه زيادة الركوع
والسجود انتهى. والذي ظهر للعبد الضعيف أن كثرة الركعات أفضل من طول القيام لأن
القيام إنما شرع وسيلة إلى الركوع والسجود كما صرحوا به في صلاة المريض من أنه لو قدر
على القيام ولم يقدر على الركوع والسجود سقط عنه القيام مع قدرته عليه لعجزه عما هو
المقصود فلا تكون الوسيلة أفضل من المقصود. وأما لزومه لكثرة القراءة فلا يفيد الأفضلية
أيضا لأن القراءة ركن زائد كما صرحوا به مع الاختلاف في أصل ركنيتها بخلاف الركوع
والسجود أجمعوا على ركنيتهما وأصالتهما كما قدمناه مع تخلف القيام عن القراءة في الفرض
فيما زاد على الركعتين، فترجح هذا القول بما ذكرنا بعد تعارض الدلائل المتقدمة.
قوله: (والقراءة فرض في ركعتي الفرض) أي فرض عملي كما في السراج الوهاج
للاختلاف فيه بين العلماء، ولم يقيد الركعتين بالأوليين لأن تعيينهما للقراءة ليس بفرض
وإنما هو واجب على المشهور في المذهب، وصرح به المصنف في عد الواجبات وصحح في
البدائع أن محلها الركعتان الأوليان عينا في الصلاة الرباعية. وقال بعضها: ركعتان منها غير

97
عين مع اتفاقهم على أنه لو قرأ في الأخريين فقط فإنها صحيحة وأنه يجب عليه سجود السهو
إن كان ساهيا على كلا القولين المذكورين، ففائدة الاختلاف إنما هو في سبب سجود السهو،
فعلى ما صححه سببه تغيير الفرض عن محله وتكون قراءته في الأخريين قضاء عن قراءته في
الأوليين، وعلى قول البعض سببه ترك الواجب وقراءته في الأخريين أداء لا قضاء والامر
سهل. وما في غاية البيان من أن تعيين القراءة في الأوليين أفضل إن شاء قرأ فيهما وإن شاء
قرأ في الأخريين أو في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين ضعيف لتصريح الجم الغفير
بالوجوب في الأوليين لا بالأفضلية. وإنما كانت فرضا في ركعتين لقوله تعالى * (فاقرؤوا ما
تيسر من القرآن) * (المزمل: 20) وهو لا يقتضي التكرار فكان مؤداه افتراضها في ركعة إلا أن

98
الثانية اعتبرت شرعا كالأولى، فإيجاب القراءة فيها إيجاب فيهما دلالة. وأما قوله عليه السلام
في حديث المسئ صلاته ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم قال في آخره ثم افعل ذلك
في صلاتك كلها فلا يثبت به الفرض لأن القطعي لا يثبت بالظني. وإنما لم تكن القراءة في
الأخريين واجبة في الفرض كما هو الصحيح من المذهب مع وجود الامر المذكور المقضي
للوجوب لوجود صارف له عنه وهو قول الصحابة على خلافه كما رواه ابن أبي شيبة عن علي
وابن مسعود قال: اقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين لكن ذكر المحقق في فتح القدير أنه
لا يصلح صارفا إلا إذا لم يرد عن غيرهما من الصحابة خلاف وإلا فاختلافهم في الوجوب لا
يصرف دليل الوجوب عنه، فالأحوط رواية الحسن رحمه الله بالوجوب في الأخريين انتهى.
وقد يقال: إن مقتضاه لزوم قراءة ما تيسر في الأخريين وجوبا لا تعيين الفاتحة كما هو رواية
الحسن فليس موافقا لكل من الروايتين. وفي القنية: لم يقرأ في الأوليين وقرأ في الأخريين
الفاتحة في الصلاة على قصد الثناء والدعاء لا يجزئه انتهى. مع أن المنقول في التجنيس أنه إذا
قرأ الفاتحة في الصلاة على قصد الثناء جازت صلاته لأنه وجدت القراءة في محلها فلا يتغير
حكمها بقصده، وهكذا في الظهيرية. ثم ذكر بعده ما في القنية عن شمس الأئمة الحلواني
ووجهه أن القراءة ليست في محلها فتغيرت بقصده كما يشير إليه تعليله في التجنيس قوله:
(وكل النفل والوتر) أي القراءة فرض في جميع ركعات النفل والوتر، أما النفل فلان كل شفع
منه صلاة على حدة والقيام إلى الثالثة كتحريمة مبتدأة ولهذا لا يجب بالتحريمة الأولى إلا
ركعتان في المشهور عن أصحابنا، ولهذا قالوا: يستفتح في الثالثة. وأما الوتر فللاحتياط كذا
في الهداية. وزاد في فتح القدير ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في كل قعدة، وقياسه أن يتعوذ في
كل شفع انتهى. إلا أنه لا يتم لأنه لا يشمل السنة الرباعية المؤكدة كسنة الظهر القبلية فإن
القراءة فرض في جميع ركعاتها مع أن القيام إلى الثالثة ليس كتحريمة مبتدأة بل هي صلاة
واحدة ولهذا لا يستفتح في الشفع الثاني ولا يصلي في القعدة الأولى ولا يبطل خيارها بقيامها

99
فيها إلى الشفع الثاني، وإن أريد بالنفل في كلامهم ما ليس سنة مؤكدة لم يتم أيضا لخلوه عن
إفادة حكم القراءة في السنة المؤكدة. وإنما لم تكن القعدة على رأس كل شفع فرضا كما هو
قول محمد وهو القياس لأنها فرض للخروج من الصلاة فإذا قام إلى الثالثة تبين أن ما قبلها لم
يكن أوان الخروج من الصلاة فلم تبق القعدة فريضة بخلاف القراءة فإنها ركن مقصود بنفسه
فإذا تركه تفسد صلاته.
قوله (ولزم النفل بالشروع ولو عند الغروب والطلوع) بيان لما وجب على العبد من
الصلاة بالتزامه وهو نوعان: ما وجب بالقول وهي النذر، وما وجب بالفعل وهو الشروع في
النفل فنبدأ به تبعا للكتاب فنقول: إن إبطال العمل حرام بالنص * (ولا تبطلوا أعمالكم)
* (محمد: 33) فيلزمه الاتمام لأن الاحتراز عن إبطال العمل فيما لا يحتمل الوصف بالتجزي لا
يكون إلا بالاتمام لا المؤدى وقع قربة بدليل أنه لو مات بعد القدر المؤدى يصير مثابا، وقد
اتفق أصحابنا على لزوم القضاء في إفساد الصلاة والصوم، سواء كان بعذر كالحيض في
خلالهما أو بغير عذر، وأنه يحل الافساد لعذر فيهما وأنه لا يحل الافساد في الصلاة لغير
عذر. واختلفوا في إباحته في الصوم لغير عذر ففي ظاهر الرواية لا يباح، وفي رواية
المنتقي يباح كما سيأتي في الصوم. وقوله ولو عند الغروب بيان لكونه لازما له إذا شرع
في وقت مكروه وهو ظاهر الرواية، فإذا أفسده لزمه قضاؤه بخلاف الصوم إذا شرع في
وقت مكروه فإنه لا قضاء عليه بالافساد، وسيأتي الفرق إن شاء الله تعالى في الصوم. وفي
البدائع: وعندنا الأفضل أن يقطعها وإن أتم فقد أساء ولا قضاء عليه لأنه أداها كما
وجبت، فإذا قطعها لزمه القضاء انتهى. وينبغي أن يكون القطع واجبا خروجا عن المكروه
تحريما وليس بإبطال للعمل لأنه إبطال ليؤديه على وجه أكمل فلا يعد إبطالا، ولو قضاه

100
في وقت مكروه آخر أجزأه لأنها وجبت ناقصة وأداها كما وجبت فيجوز كما لو أتمها في ذلك
الوقت. أطلق الشروع فانصرف إلى الصحيح فلو لم يكن صحيحا لا قضاء عليه كما لو شرع في
صلاة أمي متطوعا أو في صلاة امرأة أو جنب أو محدث كما في البدائع وانصرف إلى القصدي،
فالشروع في الصلاة المظنونة غير موجب والمراد بالشروع هو الدخول فيها بتكبيرة الافتتاح أو
بالقيام إلى الشفع الثاني بعد الفراغ من الأول صحيحا، فإذا أفسد الشفع الثاني لزمه قضاؤه فقط و
لا يسري إلى الأول لما تقدم أن كل شفع منه صلاة على حدة إلا إذا صلى ثلاث ركعات بقعدة
واحدة فإن الأصح أنه لا يجوز وفسد الشفع الأول لأن ما اتصل به القعدة وهي الركعة الأخيرة
فسدت لأن التنفل بالركعة الواحدة غير مشروع فيفسد ما قبلها. كذا في البدائع. ثم هذا النفل إذا
صار لازما بالشروع لا يخرج عن أصل النفلية ولهذا لو اقتدى متطوعا بإمام مفترض ثم قطعه ثم
اقتدى به ولم ينو القضاء فإنه يخرج عن العهدة، ولو نوى تطوعا آخر ذكر في الأصل أنه ينوب عما
لزمه بالافساد وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وذكر في زيادات الزيادات أنه لا ينوب كما في
البدائع أيضا. وأما ما يجب بالقول وهو النذر ففي القنية: أداء النفل بعد النذر أفضل من أدائه
بدون النذر. ثم نقل أنه لو أراد أن يصلي نوافل قيل ينذرها ثم يصليها، وقيل يصليها كما هي
انتهى. ويشكل عليه ما رواه مسلم في صحيحه من النهي عن النذر وهو مرجح لقول من قال لا
ينذرها لكن بعضهم حمل النهي على النذر المعلق على شرط لأنه يصير حصول الشرط كالعوض
للعبادة فلم يكن مخلصا. ووجه من قال بنذرها وإن كانت تصير واجبة بالشروع أن الشروع في
النذر يكون واجبا فيحصل له ثواب الواجب به بخلاف النفل، والأحسن عند العبد الضعيف أنه
لا ينذرها خروجا عن عهدة النهي بيقين.
ثم المنذور قسمان: منجز ومعلق. فالمنجز يلزم الوفاء به إن كان عبادة مقصودة بنفسها

101
ومن جنسها واجب فيحرم عليه الوفاء بنذر معصية، ولا يلزمه بنذر مباح من أكل وشرب
ولبس وجماع وطلاق ولا بنذر ما ليس بعبادة مقصودة كنذر الوضوء لكل صلاة، وكذا لو
نذر سجدة التلاوة خلافا لما في القنية من أنها تلزمه بخلاف ما إذا قال سجدة لا تلزمه، ولا
بنذر ما ليس من جنسه واجب كعيادة المريض وتشييع الجنازة. قال في البدائع: ومن شروطه
أن يكون قربة مقصودة فلا يصح النذر بعيادة المرضى وتشييع الجنائز والوضوء والاغتسال
ودخول المسجد ومس المصحف والاذان وبناء الرباطات والمساجد وغير ذلك وإن كانت قربا
لأنها غير مقصودة. فلو قال لله علي أن أصلي أو أصلي صلاة أو علي صلاة لزمه ركعتان،
وكذا لو قال لله علي أن أصلي يوما لزمه ركعتان كما في القنية، فلو نذر صلوات شهر فعليه
صلوات شهر كالمفروضات مع الوتر دون السنن لكنه يصلي الوتر والمغرب أربعا. ولو نذر أن
يصلي ركعة لزمه ركعتان أو ثلاثا فأربع لأن ذكر بعض ما لا يتجزأ كذكر كله كما عرف. ولو
نذر نصف ركعة لزمه ركعتان عند أبي يوسف وهو المختار كما في الخلاصة والتجنيس، ولو
نذر أن يصلي الظهر ثمانيا أو أن يزكي النصاب عشرا أو حجة الاسلام مرتين لا يلزمه الزائد
لأنه التزام غير المشروع فهو نذر بمعصية كما لو نذر صلاة بغير وضوء لأنها ليست بعبادة
بخلاف ما لو نذرها بغير قراءة أو عريانا فإنها تلزمه بقراءة مستورا على المختار لأنها بغير قراءة
عبادة كصلاة المأموم والامي وبغير ثوب لعادمه. والظاهر أن مرادهم بغير وضوء بغير طهارة
أصلا تجوزا بالخاص عن العام ليكون المشروع الأصلي في مثله هو الخاص وإلا فالصلاة بغير
وضوء مشروعة بالتيمم عند العجز عن استعمال الماء. وينبغي أن يلزم النذر بالصلاة بغير
طهارة على قول أبي يوسف كما قال به بغير وضوء لأنه يقول بمشروعيتها لفاقد الطهورين
كما عرف، وكأنه لنذرته لم يفرغ عليه. وفي شرح المجمع لمصنفه: لو قال صلاة بطهارة بلا
طهارة يلزمه بطهارة اتفاقا.

102
وأما المعلق فظاهر الرواية أنه يلزمه الوفاء به عند وجود الشرط كما في الظهيرية. واختار
المحققون أنه إن كان معلقا على شرط يريد كونه لجلب منفعة أو دفع مضرة كإن شفى الله
مريضي أو مات عدوي فلله علي صوم أو صدقة أو صلاة لا يجزئه إلا فعل عينه، وإن كان
معلقا على شرط لا يريد كونه كإن دخلت الدار أو كلمت فلانا كان مخيرا بين الوفاء به وبين
كفارة اليمين، وصححه في الهداية وقال: إن أبا حنيفة رجع عن غيره. وكذا في الظهيرية وبه
كان يفتى إسماعيل الزاهد. ثم في المعلق لا يجوز تعجيله قبل وجود الشرط بخلاف المضاف
كأن نذر أن يصلي في غد فصلى اليوم فإنه يجوز عندهما خلافا لمحمد، والفرق أن المعلق لا ينعقد
سببا في الحال بل عند الشرط والمضاف ينعقد في الحال كما عرف في الأصول وأوضحناه في
لب الأصول. ولو عين مكانا فصلى فيما هو أشرف منه أو دونه جاز خلافا لزفر في الثاني.
وذكر في المصفى أن أقوى الأماكن المسجد الحرام ثم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ثم مسجد بيت المقدس
ثم الجامع ثم مسجد الحي ثم البيت. وذكر في الغاية بعد مسجد بيت المقدس مسجد قباء ثم
الأقدم فالأقدم ثم الأعظم. وذكر النووي أن هذه الفضيلة مختصة بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان
في زمانه دون ما زيد فيه بعده، فعلى هذا تكون الصلاة في مسجد بيت المقدس أفضل من
الصلاة في تلك الزيادة إلا أن يكون فناء هذا المسجد في حكمه في الفضيلة تشريفا له وهي
كانت من فنائه قبل أن تجعل منه والله أعلم بالصواب. وفي عدة المفتي للصدر الشهيد: مريض
قال إن شفاني الله تعالى على أن أقدر فأصلي ركعة فلله علي أن أتصدق بدرهم هكذا إلى أربعة
دراهم، فقدر على أربع ركعات يجب عليه التصديق بعشرة دراهم انتهى. ووجهه أنه يلزمه
بالركعة الأولى درهم وبالثانية درهمان وبالثالثة ثلاثة وبالرابعة أربعة فالجملة عشرة دراهم. وفي
القنية: أوجب على نفسه صلاة في وقت بعينه يتعين ولو فات يقضيها كالصوم، ولو نذر أن
يصلي أربعا بتسليمة يصلي في التشهد ويستفتح إذا قام إلى الثالثة اه‍.

103
قوله (وقضى ركعتين لو نوى أربعا وأفسده بعد القعود الأول أو قبله) يعني فيلزمه الشفع
الثاني إن أفسده بعد القعود الأول والشروع في الثاني، والشفع الأول فقط إن أفسده قبل القعود
بناء على أنه لا يلزمه بتحريمة النفل أكثر من الركعتين وإن نوى أكثر بل منهما وهو ظاهر الرواية
عن أصحابنا إلا بعارض الاقتداء. وصحح في الخلاصة رجوع أبي يوسف إلى قولهما فهو
باتفاقهم لأن الوجوب بسبب الشروع لم يثبت وضعا بل لصيانة المؤدى وهو حاصل بتمام
الركعتين فلا تلزم الزيادة بلا ضرورة. قيد بقوله نوى أربعا لأنه لو شرع في النفل ولم ينو لا
يلزمه إلا ركعتان اتفاقا. وقيد بالشروع لأنه لنذر صلاة ونوى أربعا لزمه أربع بلا خلاف كما في
الخلاصة لأن سبب الوجوب فيه هو النذر بصيغته وضعا. وأطلق في النفل فشمل السنة المؤكدة
كسنة الظهر فلا يجب بالشروع فيها إلا ركعتان حتى لو قطعها قضى ركعتين في ظاهر الرواية
عن أصحابنا لأنها نفل، وعلى قول أبي يوسف يقضي أربعا في التطوع ففي السنة أولى. ومن
المشايخ من اختار قوله في السنة المؤكدة لأنها صلاة واحدة بدليل الأحكام من أنه لا يستفتح في
الشفع الثاني، ولو أخبر الشفيع بالبيع فانتقل إلى الشفع الثاني لا تبطل شفعته وكذا المخيرة وتمنع
صحة الخلوة. وظاهر ما في فتح القدير والتبيين والبدائع الاتفاق على هذه الأحكام، وينبغي أن
تختص بقول أبي يوسف وتنعكس على ما هو ظاهر الرواية لكن ذكر في شرح منية المصلي أن هذه الأحكام
مسلمة عند أهل المذهب فلذا اختار ابن الفضل قول أبي يوسف ونص صاحب النصاب
على أنه الأصح حيث قال: وإن قطع سنة الظهر على رأس الركعتين أو الثالثة وشرع في الفرض
لزمه قضاء الأربع وهو الأصح لأنه بالشروع صار بمنزلة الفرض انتهى. وقيدنا بقولنا إلا
بعارض الاقتداء لأن المتطوع لو اقتدى بمصلي الظهر ثم قطعها فإنه يقضي أربعا، سواء اقتدى
به في أولها أو في القعدة الأخيرة لأنه بالاقتداء التزم صلاة الإمام وهي أربع. كذا في البدائع.
وقيد بقوله بعد القعود لأنه لو صلى ثلاث ركعات ولم يقعد وأفسدها لزمه أربع ركعات على
الصحيح كما قدمناه، وقد ذكره في شرح منية المصلي بحثا وهو منقول في البدائع كما سلف.
فقولهم إن كل شفع في النفل صلاة على حدة مقيد بما إذا قعد على رأس الركعتين وإلا فالكل
صلاة واحدة بمنزلة الفرض فإذا أفسده لزمه الكل قوله (أو لم يقرأ فيهن شيئا أو قرأ في الأوليين

104
أو الأخريين) أي قضى ركعتين في هذه المسائل الثلاث وهي من المسائل المعروفة بالثمانية،
والأصل فيها أن الشفع الأول متى فسد بترك القراءة تبقى التحريمة عند أبي يوسف لأن القراءة
ركن زائد، ألا ترى أن للصلاة وجودا بدونها غير أنه لا صحة للأداء إلا بها وفساد الأداء لا يزيد
على تركه فلا تبطل التحريمة. وعند محمد متى فسد الشفع الأول لا تبقى التحريمة فلا يصح
الشروع في الشفع الثاني لأن القراءة فرض في كل من الركعتين، فكما يفسد الشفع بترك القراءة
فيهما يفسد بتركها في إحداهما، وإذا فسدت الافعال لم تبق التحريمة لأنها تعقد للأفعال وقد
فسدت. وعند الإمام أبي حنيفة إن فسد الشفع الأول بترك القراءة فيهما بطلت التحريمة فلا يصح
الشروع في الشفع الثاني، وإن فسد بترك القراءة في إحداهما بقيت التحريمة فصح الشروع في
الشفع الثاني إلا أن القياس ما قاله محمد لكن فسادها بترك القراءة في ركعة واحدة مجتهد فيه لأن
الحسن البصري كان يقول بجوازها بوجود القراءة في ركعة واحدة وقوله وإن كان فاسد الكن إنما عرفنا فساده بدليل اجتهادي غير موجب على اليقين، بل يجوز أن يكون الصحيح قوله غير
أنا عرفنا صحة ما ذهبنا إليه وفساد ما ذهب إليه بغالب الرأي فلم يحكم ببطلان التحريمة الثانية
بيقين بالشك. وإذا عرف هذا فنقول: إذا ترك القراءة في الأربع قضى الركعتين الأوليين فقط
عندهما لبطلان التحريمة خلافا لأبي يوسف لبقائها عنده فيقضي الشفعين، وإن ترك القراءة في
الأخريين فقد أفسدهما فقط فيلزمه قضاؤهما إجماعا. وإذا ترك القراءة في الأوليين فقط لزمه
قضاؤهما فقط إجماعا لفسادهما ولم يصح الشروع في الشفع الثاني عندهما حتى لو قهقه فيه لا
تنتقض طهارته، وعند أبي يوسف قد صح ولم يفسد لوجود القراءة فيه. وأشار المصنف بهذه
الثلاث إلى ثلاث أخرى أيضا فتصير المسائل ستا من الثمانية إحداها لو قرأ في الأوليين وإحدى
الأخريين فعليه قضاء الأخريين إجماعا. ثانيها لو قرأ في الأخريين وإحدى الأوليين فعليه قضاء
الأوليين اجماعا. ثالثها لو قرأ في إحدى الأخريين لا غير لزمه قضاء الأوليين عندهما، وعند أبي
يوسف يقضي أربعة، وقد قدمنا أن فساد الشفع الثاني يسري إلى الأول إذا لم يقعد بينهما، فقوله
أو قرأ في الأوليين مقيد بما إذا قعد على رأس الركعتين وإلا فعليه قضاء الأربع كما في العناية.
وفي البدائع: هذا كله إذا قعد بين الشفعين قدر التشهد، فأما إذا لم يقعد تفسد صلاته عند محمد

105
بترك القعدة فلا تتأتى هذه التفريعات عنده انتهى. ثم اعلم أن هذه المسائل الست تسع من حيث
التصوير لأن الرابعة صادقة بصورتين ما إذا ترك في الركعة الثالثة أو ترك في الركعة الرابعة،
والخامسة صادقة بصورتين أيضا ما ترك في الركعة الأولى أو ترك في الثانية، والسادسة صادقة
بصورتين أيضا ما إذا قرأ في الثالثة أو قرأ في الرابعة، فالمسائل التي يجب فيها ركعتان تسع في
التحقيق، فإن هذه المسائل وإن اشتهرت بالثمانية لكن هي في التحقيق خمسة عشر، تسع منها يلزم
فيها ركعتان، وست منها يلزم فيها أربع أشار إليها بقوله.
(وأربعا لو قرأ في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين) وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف على
رواية محمد لبقاء التحريمة عندهما لما عرف في الأصل السابق، وعند محمد عليه قضاء الأوليين لا
غير لأن التحريمة قد ارتفعت عنده. قال في الهداية: وقد أنكر أبو يوسف هذه الرواية عنه وقال:
رويت لك عن أبي حنيفة أنه يلزمه قضاء ركعتين ومحمد لم يرجع عن روايته عنه انتهى. وقال فخر
الاسلام: واعتمد مشايخنا رواية محمد، ويحتمل أن يكون ما حكى أبو يوسف من قول أبي حنيفة
قياسا، وما ذكره محمد استحسانا ذكر القياس والاستحسان في الأصل ولم يذكره في الجامع
الصغير انتهى. وذكر قاضيخان في شرح الجامع الصغير أن ما رواه محمد هو ظاهر الرواية عن أبي
حنيفة. وفي فتح القدير: واعتمد المشايخ رواية محمد مع تصريحهم في الأصول بأن تكذيب الفرع
الأصل يسقط الرواية إذا كان صريحا، والعبارة المذكورة في الكتاب وغيره عن أبي يوسف من مثل
الصريح على ما يعرف في ذلك الموضع فليكن لا بناء على أنه رواية بل تفريع صحيح على أصل أبي

106
حنيفة وإلا فهو مشكل انتهى. وبما ذكرناه عن قاضيخان ارتفع الاشكال لتصريحه بأنها ظاهر
الرواية كأنه لثبوتها بالسماع لمحمد من أبي حنيفة لا بواسطة أبي يوسف فلذا اعتمدها المشايخ.
وفي غاية البيان معزيا إلى فخر الاسلام: كان أبو يوسف يتوقع من محمد أن يروي كتابا عنه
فصنف محمد هذا الكتاب أي الجامع الصغير وأسنده عن أبي يوسف إلى أبي حنيفة، فلما
عرض على أبي يوسف استحسنه وقال: حفظ أبو عبد الله إلا مسائل خطأه في روايتها عنه
فلما بلغ ذلك محمدا قال: حفظتها ونسي وهي ست مسائل مذكورة في شرح الجامع الصغير
انتهى ولم يبينها. وذكر العلامة السراج الهندي في شرح المغني فقال: الأولى مسألة ترك
القراءة وقد علمتها. الثانية مستحاضة توضأت بعد طلوع الشمس تصلي حتى يخرج وقت
الظهر قال أبو يوسف: إنما رويت لك حتى يدخل وقت الظهر. الثالثة المشتري من الغاصب
إذا أعتق ثم أجاز المالك البيع نفذ العتق قال: إنما رويت لك أنه لا ينفد. الرابعة المهاجرة لا
عدة عليها ويجوز نكاحها إلا أن تكون حبلى فحينئذ لا يجوز نكاحها قال: إنما رويت لك أنه
يجوز نكاحها ولكن لا يقربها زوجها حتى تضع الحمل. الخامسة عبد بين اثنين قتل مولى لهما
فعفا أحدهما بطل الدم كله عند أبي حنيفة، وقالا يدفع ربعه إلى شريكه أو يفديه بربع الدية،

107
وقال أبو يوسف: إنما حكيت لك عن أبي حنيفة كقولنا إنما الاختلاف الذي رويته في عبد
قتل مولاه عمدا وله ابنان فعفا أحدهما إلا أن محمدا ذكر الاختلاف فيهما، وذكر قول نفسه
مع أبي يوسف في الأولى. السادسة رجل مات وترك ابنا له وعبدا لا غير فادعى العبد أن
الميت كان أعتقه في صحته وادعى رجل على الميت ألف دينار وقيمة العبد ألف، فقال الابن
صدقتما يسعى العبد في قيمته وهو حر ويأخذها الغريم بدينه. وقال أبو يوسف: إنما رويت
لك ما دام يسعى في قيمته أنه عبد انتهى.
وأشار المصنف بهذه المسألة إلى مسألة أخرى تمام الثمانية وهي ما إذا قرأ (في إحدى
الأوليين) لا غير فإنه يلزمه قضاء أربع عندهما، وعند محمد ركعتان. وفي التحقيق هي إشارة إلى
خمسة أخرى فمسائل لزوم الأربع ست تمام الخمسة عشر فإن مسألة الكتاب أعني ما إذا قرأ في
إحدى الأوليين وإحدى الأخريين صادقة بأربع صور، لأن إحدى الأوليين صادقة بصورتين ما
إذا قرأ في الأولى فقط أو في الثانية فقط، وإحدى الأخريين لا غير صادقة بصورتين ما إذا قرأ
في الثالثة فقط أو في الرابعة فقط. ومسألة ما إذا قرأ في إحدى الأوليين لا غير صادقة
بصورتين ما إذا قرأ في الأولى فقط أو في الثانية فقط، فصار الحاصل أن مسائل ترك القراءة
خمسة عشر كما قدمناه وقد ذكرها في العناية مجملة وقال: فعليك بتمييز المتداخلة بالتفتيش في
الأقسام قد يسر الله تعالى ذلك للعبد الضعيف مفصلة مميزة فلله الحمد والمنة. وفي البدائع: ولو
كان خلفه رجل اقتدى به فحكمه حكم إمامه يقضي ما يقضي إمامه لأن صلاة المقتدي متعلقة
بصلاة الإمام صحة وفسادا، ولو تكلم المقتدي وقد أتم الإمام الأربع فإن تكلم قبل قعود الإمام
فعليه قضاء الأوليين فقط لأنه لم يلتزم الشفع الأخير، وإن تكلم بعد قعوده قبل قيامه إلى الثالثة
لا شئ عليه، وأما إذا قام إلى الثالثة ثم تكلم المقتدي لم تذكر في الأصل، وذكر عصام أن عليه
قضاء أربع، وخصه أبو المعين بقولهما أما عند محمد فيلزمه قضاء الأخير لا غير انتهى. وفي
المحيط: ولو اقتدى به في الأخريين وصلاهما مع الإمام قضى الأوليين لأنه بالاقتداء التزم ما
لزم الإمام قوله (ولا يصلي بعد صلاة مثلها) هذا لفظ الحديث كما في كتب الفقه وجعله في فتح
القدير وغاية البيان أثرا عن عمر رضي الله عنه. وقال عبد الله بن مسعود: لا يصلي على إثر
صلاة مثلها. وهذا الحديث خص منه البعض لأنه يصلي سنة الفجر ثم الفرض وهما مثلان،
وكذا يصلي سنة الظهر أربعا ثم يصلي
الفرض أربعا، ثم يصلي الفرض أربعا، وكذا يصلي الظهر ركعتين في السفر ثم يصلي السنة ركعتين، فلما لم يمكن

108
إجراؤه على العموم وجب حمله على أخص الخصوص كما هو الحكم، في العام إذا لم يمكن العمل
بعمومه. فقال محمد في الجامع الصغير: المراد منه أن لا يصلي بعد أداء الظهر نافلة ركعتان بقراءة
وركعتان بغير قراءة يعني لا تصلي النافلة كذلك حتى لا تكون مثلا للفرض بل يقرأ في جميع
ركعات النفل. قال قاضيخان في شرح الجامع الصغير: ولو حمل على النهي عن تكرار الجماعة في
المسجد أو على النهي عن قضاء الفرائض مخافة الخلل في المؤدي كان حسنا فإن ذلك مكروه انتهى.
واستدل في فتح القدير للأول بما في أبي داود عن سليمان ابن يسار قال: أتيت ابن عمر على
البلاط وهم يصلون قلت: ألا تصلي معهم؟ قال: قد صليت إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
لا تصلوا صلاة في يوم مرتين. وروى مالك في الموطأ حدثنا نافع أن رجلا سأل ابن عمر فقال:
إني أصلي في بيتي ثم أدرك الصلاة مع الإمام أفأصلي معه؟ فقال ابن عمر: نعم. فقال: أيتهما
أجعل صلاتي؟ فقالا بن عمر: ليس ذلك إليك إنما ذلك إلى الله يجعل أيتهما شاء. فهذا من ابن
عمر دليل على أن الذي روي عن سليمان بن يسار عنه إنما أراد كلتاهما على وجه الفرض أو إذا
صلى في جماعة فلا يعيد وفيه نفي لقول الشافعية انتهى. فالحاصل أن تكرار الصلاة إن كان مع
الجماعة في المسجد على هيئته الأولى مكروه وإلا فإن كان في وقت يكره التنفل بعد الفرض
فمكروه كما بعد الصبح والعصر، وإلا فإن كان لخلل في المؤدى، فإن كان ذلك الخلل محققا إما
بترك واجب أو بارتكاب مكروه فغير مكروه بل واجب كما قدمناه مرارا. وصرح به في الذخيرة
وقال: إنه لا يتناوله النهي، وإن كان ذلك الخلل غير محقق بل نشأ عن وسوسة فهو مكروه. وفي
مآل الفتاوى: ولو لم يفته شئ من الصلوات وأحب أن يقضي جميع الصلوات التي صلاها
متداركا لا يستحب له ذلك إلا إذا كان غالب ظنه فساد ما صلى لورود النهي عنه صلى الله عليه وسلم، وما حكي
عن أبي حنيفة أنه قضى صلاة عمره فإن صح النقل فنقول: كان يصلي المغرب والوتر أربع ركعات
بثلاث قعدات انتهى. وذكر في النهاية أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صلى الفجر ضحى النهار بعد ليلة التعريس
قال له أصحابه من الغد: ألا نعيد صلاة الأمس؟ فقال: إن الله ينهاكم عن الربا أفيقبله منكم؟
كذا ذكره فخر الاسلام. وبما قررناه ظهر أن ذكر المصنف في المختصر لفظ الحديث مع أن عمومه
ليس بمراد مما لا ينبغي.

109
قوله (ويتنفل قاعدا مع قدرته على القيام ابتداء وبناء) بيان أيضا لما خلف فيه النفل
الفرائض والواجبات وهو جوازه بالقعود مع القدرة على القيام، وقد حكي فيه إجماع العلماء.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كان يصلي كثيرا من
صلاته وهو جالس. وروى البخاري عن عمران بن الحصين مرفوعا من صلى قائما فهو
أفضل ومن صلى قاعدا فله نصف أجر القائم (1) وقد ذكر الجمهور كما نقله النووي أنه
محمول على صلاة النفل قاعدا مع القدرة على القيام، وأما إذا صلاه مع عجزه فلا ينقص ثوابه
عن ثوابه قائما، وأما الفرض فلا يصح قاعدا مع القدرة على القيام ويأثم ويكفر إن استحله،
وإن صلى قاعدا لعجزه أو مضطجعا لعجزه فثوابه كثوابه اه‍. وتعقبه الأكمل في شرح
المشارق بأنه ورد في بعض رواياته ومن صلى نائما - أي مضطجعا - فله نصف أجر
القاعد (2) ولا يمكن حمله على النفل مع القدرة إذ لا يصح مضطجعا اللهم إلا أن يحكم
بشذوذ هذه الرواية. وفي النهاية: انعقد الاجماع على أن صلاة القاعد لعذر بعجزه عن القيام
مساوية لصلاة القائم في الفضيلة والاجر انتهى. وفيه نظر لما نقله النووي عن بعضهم أنه على

110
النصف من صلاة القائم مع العذر، وعليه حمل الحديث فلا إجماع إلا أن يريد به إجماع أئمتنا.
وذكر في المجتبي بعد ما نقل الحديث قالوا: وهذا في حق القادر، أما العاجز فصلاته بإيماء
أفضل من صلاة القائم الراكع الساجد لأنه جهد المقل انتهى. ولا يخفى ما فيه بل الظاهر
المساواة كما في النهاية وقد عد من خصائصه صلى الله عليه وسلم أن نافلته قاعدا مع القدرة على القيام كنافلته
قائما تشريفا له صلى الله عليه وسلم، ويشهد له ما في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر وقال: حدثت أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن صلاة الرجل قاعدا نصف الصلاة. قال: فأتيته فوجدته يصلي قاعدا
فوضعت يدي على رأسه فقال: ما لك يا عبد الله بن عمرو؟ قلت: حدثت يا رسول الله
أنك قلت صلاة الرجل قاعدا على نصف الصلاة وأنت تصلي قاعدا قال: أجل ولكني لست
كأحد منكم انتهى. أطلق في التنفل فشمل السنة المؤكدة والتراويح لكن ذكر قاضيخان في
فتاواه من باب التراويح الأصح أن سنة الفجر لا يجوز أداؤها قاعدا من غير عذر، والتراويح
يجوز أداؤها قاعدا من غير عذر، والفرق أن سنة الفجر مؤكدة لا خلاف فيها والتراويح في
التأكيد دونها انتهى. وقد نقلناه في سنة الفجر في موضعها من رواية الحسن وهكذا صححه
حسام الدين ثم قال: الصحيح أنه لا يستحب في التراويح لمخالفته للتوارث وعمل السلف
وهذا كله في الابتداء. وأما قوله وبناء بأن شرع فيه قائما ثم قعد من غير عذر فهو قول أبي
حنيفة. وهذا استحسان، وعندهما لا يجزئه وهو قياس لأن الشروع معتبر بالنذر، وله أنه لم
يباشر القيام فيما بقي ولما باشر صحة بدونه بخلاف النذر لأنه التزمه نصا حتى لو لم ينص
على القيام لا يلزمه القيام عند بعضهم كما لو نذر صلاة لأنه في النفل وصف زائد فلا يلزمه
إلا شرط. وعند البعض يلزمه القيام لأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله وأينما أوجبها الله
تعالى أوجبها قائما، والصحيح الأول كالتتابع في الصوم. كذا في المحيط وغاية البيان.

111
ورجح الثاني في فتح القدير بحثا بأن الصلاة عبارة عن القيام والقراءة إلى آخرها فهو الركن
الأصلي غير أنه يجوز تركه إلى القعود رخصة في النفل فلا ينصرف المطلق إلا إليه. قيدنا
بكونه شرع قائما ثم قعد لأنه لو كان على عكسه فإنه يجوز اتفاقا وهو فعله صلى الله عليه وسلم كما روت
عائشة أنه كان يفتتح التطوع قاعدا فيقرأ ورده حتى إذا بقي عشر آيات ونحوها قام إلى آخره،
وهكذا كان يفعل في الركعة الثانية.
وذكر في التجنيس أن الأفضل أن يقوم فيقرأ شيئا ثم يركع ليكون موافقا للسنة، ولو لم
يقرأ ولكنه استوى قائما ثم ركع جاز، وإن لم يستو قائما وركع لا يجزئه لأنه لا يكون ركوعا
قائما ولا ركوعا قاعدا انتهى. وليس هو بناء القوي على الضعيف لأن القعود والقيام في
النفل سواء، والفرق لمحمد بين هذا وبين قوله ببطلان صلاة المريض إذا قدر على القيام في
أثناء صلاته أن تحريمة المتطوع لم تنعقد للقعود البتة بل للقيام لأنه أصل هو قادر عليه، ثم
جاز له شرعا تركه بخلاف المريض لأنه لم يقدر على القيام فما انعقد إلا للمقدور وهو
القعود. ولم يذكر المصنف كيفية القعود في النفل للاختلاف فيه، ففي الذخيرة والنهاية أنه في
التشهد يقعد كما يقعد في سائر الصلوات إجماعا، سواء كان بعذر أو بغيره. أما حالة القراءة
فعن أبي حنيفة تخييره بين القعود والتربع والاحتباء، ونقله الكرخي عن محمد. وعن أبي
يوسف: يحتبي. وعنهما: يتربع. ثم قال أبو يوسف: محل القعدة عند السجود. وقال
محمد: عند الركوع. وعن زفر إنه يقعد في جميع الصلاة كما في التشهد. قال الفقيه أبو
الليث: وعليه الفتوى واختاره الإمام السرخسي لأنه المعهود شرعا في الصلاة، واختار الإمام
خواهر زاده الاحتباء لأن عامة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر العمر كان محتبيا ولأنه يكون
أكثر توجيها لأعضائه إلى القبلة لأن الساقين يكونان متوجهين كما يكون حالة القيام اه‍.
وتفسير الاحتباء أن ينصب ركبتيه ويجمع يديه عند ساقيه. كذا في غاية البيان. وذكر في
الخلاصة عن أبي حنيفة فيه ثلاث روايات فحينئذ فالافتاء على إحدى الروايات ولا حاجة إلى
أن تضاف إلى زفر كما يخفى. وقيد بالتنفل قاعدا لأن المتنفل مضطجعا لا يجوز عند عدم
العذر كما سبق، والشروع وهو منحن قريبا من الركوع لا يصح أيضا في التنفل كما يشير
إليه كلام التجنيس السابق وصرح به في موضع من شرح منية المصلي.

112
قوله (وراكبا خارج المصر موميا إلى أي جهة توجهت دابته) أي يتنفل راكبا لحديث
الصحيحين عن ابن عمر: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي النوافل على راحلته في كل وجه
يومئ إيماء ولكنه يخفض السجدة من الركعتين. أطلقه فشمل ما إذا كان مسافرا أو مقيما
خرج إلى بعض النواحي لحاجة وصححه في النهاية، وما إذا قدر على النزول أو لا. وقيد
بخارج المصر لأنه لا يجوز التنفل عليها في المصر. وقال أبو يوسف: لا بأس به. وقال
محمد: يجوز ويكره كذا في الخلاصة. واختلفوا في حد خارج المصر والأصح أنه تجوز في
كل موضع يجوز للمسافر أن يقصر فيه كما ذكره في الظهيرية وغيرها. وأشار بقوله توجهت
دابته دون أن يقول وجه دابته إليها إلى أن محل جوازها عليها ما إذا كانت واقفة أو سارت
بنفسها، أما إذا كانت تسير بتسيير صاحبها فلا تجوز الصلاة عليها لا فرضا ولا نفلا كما في
الخلاصة. وإلى أنه لا يشترط استقبال القبلة في الابتداء لأنه لما جاز الصلاة إلى غير جهة
الكعبة جاز الافتتاح إلى غير جهتها. كذا في غاية البيان. وإلى أنه إذا صلى إلى غير ما توجهت
به دابته لا يجوز لعدم الضرورة إلى ذلك. كذا في السراج الوهاج. ولم يشترط المصنف طهارة
الدابة لأنها ليست بشرط على قول الأكثر، سواء كانت على السراج أو على الركابين أو الدابة
لأن فيها ضرورة فيسقط اعتبارها. وصرح في المحيط والكافي بأنه الأصح، وفي الخلاصة
بأنه ظاهر المذهب من غير تفصيل، وعلله في البدائع بأنه لما سقط اعتبار الأركان الأصيلة
فلان يسقط شرط طهارة المكان أولى. وقيد بالنفل لأن الفرض والواجب بأنواعه لا يجوز على
الدابة من غير عذر من الوتر والمنذور وما لزمه بالمشروع والافساد وصلاة الجنازة والسجدة التي تليت على الأرض لعدم لزوم الحرج في النزول ولا بلزمه الإعادة إذا استطاع النزول كما في الظهيرية

113
وغيرها. ومن الاعذار أن يخاف اللص أو السبع على نفسه أو ماله ولم يقف له رفقاؤه،
وكذا إذا كانت الدابة جموحا لا يقدر على ركوبها إلا بمعين أو هو شيخ كبير لا يجد من
يركبه، ومن الاعذار الطين والمطر بشرط أن يكون بحال يغيب وجهه في الطين، أما إذا لم
يكن كذلك والأرض ندية فإنه يصلي هناك كما في الخلاصة. والظاهر أن اعتبار المعين هنا
إنما هو على قولهما لما عرف أن أبا حنيفة لا يعتبر قدرة الغير. وفي فتاوى قاضيخان
والظهيرية: الرجل إذا حمل امرأته من القرية إلى المصر كان لها أن تصلي على الدابة في
الطريق إذا كانت لا تقدر على الركوب والنزول انتهى. والظاهر منه أنها لا تقدر بنفسها من
غير معين حتى إذا قدرت على الركوب والنزول بمحرمها أو زوجها فإنه لا يجب عليها
ذلك، ويجوز لها صلاة الفرض على الدابة لأن أبا حنيفة يجعل قدرة الانسان بغيره
كقدرته بنفسه، لكن ذكر في منية المصلي أنه إذا لم يكن معها محرم فإنه تجوز صلاتها على
الدابة إذا لم تقدر على النزول، والظاهر أن اشتراط عدم المحرم معها مفرع على قولهما
فقط، ولم أر حكم ما إذا كان راكبا مع امرأته أو أمه كما وقع للفقير مع أمه في سفر الحج
ولم تقدر المرأة على النزول والركوب، أيجوز للرجل المعادل لها أن يصلي الفرض على الدابة
كما يجوز للمرأة إذا كان لا يتمكن من النزول وحده لميل المحمل بنزوله وحده، وينبغي أن
يكون له ذلك كما لا يخفى. وأطلق في الدابة فشمل جميع الدواب وقيد به لأنه لا تجوز
صلاة الماشي بالاجماع. كذا في المجتبى. وأطلق في النفل فشمل السنن المؤكدة. قال في
الهداية: وللسنن الرواتب نوافل. وعن أبي حنيفة أنه ينزل لسنة الفجر لأنها آكد من سائرها
انتهى. بل روي عنه أنها واجبة. وعلى هذا أداؤها قاعدا كما أسلفناه، وقد قدمنا أنه ينزل
للوتر اتفاقا بينه وبينهما. وأطلق في الركوب خارج المصر فشمل ما إذا كان خارجه ابتداء
وانتهاء إلى سلامه أو ابتداء فقط لما في الخلاصة ولو افتتحها خارج المصر ثم دخل المصر
أتم على الدابة. وقال كثير من أصحابنا: ينزل ويتمها على الأرض انتهى. وفي الظهيرية:

114
وإذا صلى على الدابة في محمل وهو يقد على النزول لا يجوز له أن يصلي على الدابة إذا
كانت الدابة واقفة إلا أن يكون المحمل على عيدان على الأرض، أما الصلاة على العجلة إن
كان طرف العجلة على الدابة وهي تسير أو لا تسير فهي صلاة على الدابة تجوز في حالة
العذر ولا تجوز في غير حالة العذر، وإن لم يكن طرف العجلة على الدابة جاز وهو بمنزلة
الصلاة على السرير انتهى. وهذا كله في الفرض، أما في النفل فيجوز على المحمل
والعجلة مطلقا كما لا يخفى. وفي الخلاصة: وكيفية الصلاة على الدابة أن يصلي بالايماء
ويجعل السجود أخفض من الركوع من غير أن يضع رأسه على شئ سائرة أو واقفة دابته
ويصلون فرادى، فإن صلوا بجماعة فصلاة الإمام تامة وصلاة القوم فاسدة. وعن محمد
يجوز إذا كان البعض بجنب البعض انتهى. وفي الظهيرية: رجلان في محمل واحد فاقتدى
أحدهما بالآخر في التطوع أجزأهما، وهذا لا يشكل إذا كانا في شق واحد، وإذا كانا في
شقين اختلف المشايخ، قال بعضهم: إذا كان أحد الشقين مربوطا بالآخر يجوز، وإذا لم
يكن مربوطا لا يجوز. وقال بعضهم: يجوز كيفما كان إذا كانا على دابة واحدة كما لو كانا
على الأرض اه‍. وفي منية المصلي: ولو سجد على شئ وضع عنده أو على سرجه لا يجوز
لأن الصلاة على الدابة شرعت بالايماء اه‍. وينبغي حمله على ما إذ لم يكن بحيث يخفض
رأسه وإلا فقد صرحوا في صلاة المريض أنه لا يرفع إلى وجهه شئ يسجد عليه، فإن فعل
وهم يخفض رأسه أجزأه لوجود الايماء وإن وضع ذلك على جبهت لا يجزئه لانعدامه. كذا في
الهداية وغيرها.
قوله (وبني بنزوله لا بعكسه) أي إذا افتتح النفل راكبا ثم نزل بنى، ولا يبنى إذا افتتحه
نازلا ثم ركب لأن إحرام الراكب العقد مجوزا للركوع والسجود لقدرته على النزول فإذا أتى
بهما صح، وإحرام النازل انعقد موجبا للركوع والسجود فلا يقدر على ترك ما لزمه من غير
عذر. وعن أبي يوسف أنه يستقبل إذا نزل أيضا، وكذا عند محمد إذا نزل بعدما صلى ركعة،

115
والأصح هو الظاهر. كذا في الهداية. وقوله من غير عذر بيان للواقع لا للاحتراز عن
العذر فإن المنقول في الخانية أن المصلي إذا ركب الدابة فسدت صلاته. ورد في غاية البيان
تعليل من فرق بينهما بأن النزول عمل قليل والركوب عمل كثير بأنه ممنوع لأنه لو رفع
المصلي ووضع على السرج لا يبني مع أن العمل لم يوجد فضلا عن العمل الكثير والفرق
الصحيح ما في الهداية اه‍. وأورد في النهاية أن القول بالبناء فيما إذا نزل يؤدي إلى بناء
القوي على الضعيف وذلك لا يجوز كالمريض إذا صلى بعض صلاته بالايماء ثم قدر على
الأركان لا يجوز له البناء تحرزا عما قلنا. وأجاب بأن الايماء من المريض دون الايماء من
الراكب لأن الايماء من المريض بدل عن الأركان والايماء من الراكب ليس ببدل عنها لأن
البدل في العبادات اسم لما يصار إليه عند عجز غيره والمريض أعجزه مرضه عن الأركان
فكان الايماء بدلا عنها والراكب لم يعجزه الركوب عن الأركان لأنه يملك الانتصاب على
الركابين فيكون ذلك منه قياما، وكذلك يمكنه أن يخر راكعا وساجدا، ومع هذا أطلق الشارع
في الايماء فلا يكون الايماء بدلا فكان قويا في نفسه فلا يؤدي إلى بناء القوي على الضعيف.
وفرق في المحيط بوجه آخر هو أن في المريض ليس له أن يفتتح الصلاة بالايماء مع القدرة
على الركوع والسجود فلذلك إذا قدر على ذلك في خلال صلاته لا يبني، أما الراكب هنا له
أن يفتتح الصلاة بالايماء على الدابة مع القدرة فالنزول لا يمنعه من البناء. قال في النهاية
قلت: وعلى هذا الفرق يجب أن لا يبنى في المكتوبة فيما إذا افتتحها راكبا ثم نزل لأنه ليس
له أن يفتتحها بالايماء على الدابة عند القدرة فلذلك قيد المسألة في الهداية بالتطوع. وذكر
الإمام الأسبيجابي أن استقبال المريض فيما إذا صح في خلال صلاته إنما كان في المكتوبة ولا
رواية عنهم في التطوع في حق المريض، فاحتمل أن المريض لا يستقبل أيضا في التطوع
فحينئذ لا يحتاج إلى الفرق، ويحتمل أنه يستقبل بخلاف الراكب والفرق ما بيناه اه‍..
قوله: (وسن في رمضان عشرون ركعة بعد العشاء قبل الوتر وبعده بجماعة والختم مرة
بجلسة بعد كل أربع بقدرها) بيان لصلاة التراويح وإنما لم يذكرها مع السنن المؤكدة قبل
النوافل المطلقة لكثرة شعبها ولاختصاصها بحكم من بين سائر السنن والنوافل وهو الأداء
بجماعة. والتراويح جمع ترويحة وهي في الأصل مصد بمعنى الاستراحة سميت به الأربع
ركعات المخصوصة لاستلزامها استراحة بعدها كما هي السنة فيها. وصرح المصنف بأنها سنة
وصححه صاحب الهداية والظهيرية، وذكر في الخلاصة أن المشايخ اختلفوا في كونها سنة
وانقطع الاختلاف برواية الحسن عن أبي حنيفة أنها سنة. وذكر في الاختيار أن أبا يوسف

116
سأل أبا حنيفة عنها وما فعله عمر فقال: التراويح سنة مؤكدة. ولم يتخرجه عمر من تلقاء
نفسه ولم يكن فيه مبتدعا ولم يأمر به إلا عن أصل لديه وعهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ولا
ينافيه قول القدوري أنها مستحبة كما فهمه في الهداية عنه لأنه إنما قال يستحب أن يجتمع
الناس وهو يدل على أن الاجتماع مستحب، وليس فيه دلالة على أن التراويح مستحبة. كذا
في العناية. وفي شرح منية المصلي: وحكى غير واحد الاجماع على سنيتها. وقد سنها
رسول الله صلى الله عليه وسلم وندبنا إليها وأقامها في بعض الليالي ثم تركها خشية أن تكتب على أمته كما
ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما، ثم وقعت المواظبة عليها في أثناء خلافة عمر رضي الله
عنه ووافقه على ذلك عامة الصحابة رضي الله عنهم كما ورد ذلك في السنن، ثم ما زال
الناس من ذلك الصدر إلى يومنا هذا على إقامتها من غير نكير وكيف لا وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم
عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ (1) كما رواه أبو داود.
وأطلقه فشمل الرجال والنساء كما صرح به في الخانية والظهيرية. وقوله عشرون ركعة بيان
لكميتها وهو قول الجمهور لما في الموطأ عن يزيد بن رومان قال: كان الناس يقومون في
زمن عمر بن الخطاب بثلاث وعشرين ركعة. وعليه عمل الناس شرقا وغربا لكن ذكر
المحقق في فتح القدير ما حاصله أن الدليل يقتضي أن تكون السنة من العشرين ما فعله صلى الله عليه وسلم
منها ثم تركه خشية أن تكتب علينا والباقي مستحب، وقد ثبت أن ذلك كان إحدى عشرة
ركعة بالوتر كما ثبت في الصحيحين من حديث عائشة، فإذن يكون المسنون على أصول
مشايخنا ثمانية منها والمستحب اثنا عشر انتهى. وذكر العلامة الحلبي أن الحكمة في كونها
عشرين أن السنن شرعت مكملات للواجبات وهي عشرون بالوتر فكانت التراويح كذلك
لتقع المساواة بين المكمل والمكمل انتهى. وأراد بالعشرين أن تكون بعشر تسليمات كما هو
المتوارث يسلم على رأس كل ركعتين، فلو صلى الإمام أربعا بتسليمة ولم يقعد في الثانية

117
فأظهر الروايتين عن أبي حنيفة وأبي يوسف عدم الفساد. ثم اختلفوا هل تنوب عن تسليمة أو
تسليمتين، قال أبو الليث: تنوب عن تسليمتين. وقال أبو جعفر وابن الفضل: تنوب عن
واحدة وهو الصحيح. كذا في الظهيرية والخانية، وفي المجتبي وعليه الفتوى. ولو قعد على
رأس الركعتين فالصحيح أنه يجوز عن تسليمتين وهو قول العامة.
وفي منية المصلي: إذا شكوا أنهم صلوا تسع تسليمات أو عشر تسليمات ففيه اختلاف
والصحيح أنهم يصلون بتسليمة أخرى فرادى. ولو سلم الإمام على رأس ركعة ساهيا في
الشفع الأول ثم صلى ما بقي على وجهها قال مشايخ بخاري: يقضي الشفع الأول لا غير.
وقال مشايخ سمرقند: عليه قضاء الكل. وهذا إذا لم يفعل بعد السلام المذكور شيئا مما يفسد
الصلاة من أكل أو شرب أو كلام، أما إذا فعل شيئا من ذلك فليس عليه إلا قضاء الشفع
الأول لا غير كما في الذخيرة والخلاصة وغيرهما. وفي المحيط: لو صلى التراويح كلها
بتسليمة واحدة وقد قعد على رأس كل ركعتين فالأصح أنه يجوز عن الكل لأنه قد أكمل
الصلاة ولم يخل بشئ من الأركان إلا أنه جمع المتفرق واستدام التحريمة فكان أولى بالجواز
لأنه أشق وأتعب للبدن انتهى. وظاهره أنه لا يكره، وقد صرح بعدم الكراهة في منية
المصلي، ولا يخفى ما فيه لمخالفته المتوارث مع تصريحهم بكراهة الزيادة على ثمان في مطلق
التطوع ليلا فلان يكره هنا أولى، فلهذا نقل العلامة الحلبي أن في النصاب وخزانة الفتاوي

118
الصحيح أنه لو تعمد ذلك يكره، فلو لم يقعد إلا في آخرها فقد علمت أن الصحيح أنه يجزئه عن
تسليمة واحدة فيما لو صلى أربعا بتسليمة فكذلك هنا. وقوله بعد العشاء قبل الوتر وبعده بيان
لوقتها وفيه ثلاثة أقوال: الأول ما اختاره إسماعيل الزاهدي وجماعة من بخاري أن الليل كله وقت
لها قبل العشاء وبعده وقبل الوتر وبعده لأنها قيام الليل ولم أر من صححه. الثاني ما قاله عامة
مشايخ بخاري: وقتها ما بين العشاء إلى الوتر. وصححه في الخلاصة ورجحه في غاية البيان بأن
الحديث ورد كذلك، وكان أبي رضي الله عنه يصلي بهم التراويح كذلك. الثالث ما اختاره
المصنف وعزاه في الكافي إلى الجمهور وصححه في الهداية والخانية والمحيط لأنها نوافل سنت بعد
العشاء. وثمرة الاختلاف تظهر فيما لو صلاها قبل العشاء، فعلى القول الأول هي صلاة
التراويح، وعلى الأخيرين لا. وفيما إذا صلاها بعد الوتر فعلى الثاني لا، وعلى الثالث نعم هي
صلاة التراويح، وتظهر فيما إذا فاتته ترويحة أو ترويحتان ولو اشتغل بها يفوته الوتر بالجماعة، فعلى
الأولى يشتغل بالوتر ثم يصلي ما فاته من التراويح، وعلى الثاني يشتغل بالترويحة الفائتة لأنه لا
يمكنه الاتيان بعد الوتر. كذا في الخلاصة. وينبغي أن يكون الثالث كالثاني كما لا يخفى ولو فاتته
ترويحة وخاف لو اشتغل بها تفوته متابعة الإمام فمتابعة الإمام أولى. وقد اختلفوا فيما لو تذكر
تسليمة بعد الوتر، فقيل لا يصلون بجماعة، وقيل يصلون بها كما في منية المصلي. وينبغي أن
يكون مفرعا على القول الثاني والثالث. وفى فتاوى قاضيخان: ويستحب تأخير التراويح إلى ثلث
الليل والأفضل استيعاب أكثر الليل بالتراويح، فإن أخروها إلى ما بعد نصف الليل فالصحيح أنه
لا بأس به. وإذا فاتت التراويح لا تقضى بجماعة والأصح أنها لا تقضى أصلا، فإن قضاها
وحده كان نفلا مستحبا لا تراويح كسنة المغرب والعشاء.

119
قوله بجماعة متعلق بسن بيان لكون الجماعة سنة فيها وفيها ثلاثة أقوال: الأول ما
اختاره المصنف أنه سنة على الأعيان حتى إن من صلى التراويح منفردا فقد أساء لتركه السنة،
وإن صليت في المساجد وبه كان يفتي ظهير الدين المرغيناني لصلاته عليه السلام إياها
بالجماعة وبيان العذر في تركها. الثاني ما اختاره الطحاوي في مختصره حيث قال: يستحب
أن يصلي التراويح في بيته إلا أن يكون فقيها عظيما يقتدي به فيكون في حضوره ترغيب
لغيره وفي امتناعه تقليل الجماعة مستدلا بحديث أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة (1)
وهو رواية عن أبي يوسف كما في الكافي. الثالث ما صححه في المحيط والخانية واختاره في
الهداية وهو قول أكثر المشايخ على ما في الذخيرة وقول الجمهور على ما في الكافي أن إقامتها
بالجماعة سنة على الكفاية حتى لو ترك أهل المسجد كلهم الجماعة فقد أساؤوا وأثموا. وإن
أقيمت التراويح بالجماعة في المسجد وتخلف عنها أفراد الناس وصلى في بيته لم يكن مسيئا
لأن أفراد الصحابة يروى عنهم التخلف كابن عمر على ما رواه الطحاوي. والجواب عن دليل
الطحاوي أن قيام رمضان مستثنى من الحديث لفعله صلى الله عليه وسلم إياه في المسجد ثم فعل الخلفاء
الراشدين بعده إذ لا يختار المفضول ويجمعون عليه. وأما من تخلف من الصحابة فإما لعذر أو
لأنه أفضل في اجتهاده وهو معارض بما هو أولى منه وهو اتفاق الجم الغفير على خلافه.
فالحاصل أن القول الأول والثالث اتفقا على أفضليتها وإنما الكلام في الإساءة بالترك من
البعض. وأطلق المصنف في الجماعة ولم يقيدها بالمسجد لما في الكافي والصحيح أن للجماعة
في بيته فضيلة وللجماعة في المسجد فضيلة أخرى فهو حاز إحدى الفضيلتين وترك الفضيلة
الأخرى انتهى. وفي الخلاصة: إذا صلى الترويحة الواحدة إمامان كل إمام ركعتين اختلف
المشايخ والصحيح أنه لا يستحب ولكن كل ترويحة يؤديها إمام واحد إمام يصلي التراويح في
مسجدين كل مسجد على وجه الكمال لا يجوز لأنه لا يتكرر، ولو اقتدى بالإمام في التراويح
وهو قد صلى مرة لا بأس به ويكون هذا اقتداء المتطوع بمن يصلي السنة، ولو صلوا التراويح
ثم أرادوا أن يصلوا ثانيا يصلون فرادى انتهى. وقوله والختم مرة معطوف على عشرون
بيان لسنة القراءة فيها وفيه اختلاف، والجمهور على أن السنة الختم مرة فلا يترك لكسل
القوم، ويختم في الليلة السابع والعشرين لكثرة الاخبار أنها ليلة القدر، ومرتين فضيلة،

120
وثلاث مرات في كل عشر مرة أفضل. كذا في الكافي. وذكر في المحيط والاختيار أن
الأفضل أن يقرأ فيها مقدار ما لا يؤدي إلى تنفير القوم في زماننا لأن تكثير الجمع أفضل من
تطويل القراءة. وفي المجتبي: والمتأخرون كانوا يفتون في زماننا بثلاث آيات قصار أو آية
طويلة حتى لا يمل القوم ولا يلزم تعطيلها وهذا حسن، فإن الحسن روى عن أبي حنيفة أنه
إن قرأ في المكتوبة بعد الفاتحة ثلاث آيات فقد أحسن ولم يسئ هذا في المكتوبة فما ظنك في
غيرها ا ه‍. وفي التجنيس: ثم بعضهم اعتادوا قراءة قل هو الله أحد في كل ركعة
وبعضهم اختاروا قراءة سورة الفيل إلى آخر القرآن وهذا حسن لأنه لا يشتبه عليه عدد
الركعات ولا يشتغل قلبه بحفظها فيتفرغ للتدبر والتفكر ا ه‍. وصرح في الهداية بأن أكثر
المشايخ على أن السنة فيها الختم. وفي مختارا ت النوازل أنه يقرأ في كل ركعة عشر آيات وهو
الصحيح لأن السنة فيها الختم لأن جميع عدد الركعات في جميع الشهر ستمائة ركعة وجميع
آيات القرآن ستة آلاف ا ه‍. ونص في الخانية على أنه الصحيح. وفي فتح القدير وغيره:
وإذا كان إمام مسجد حيه لا يختم فله أن يترك إلى غيره. فالحاصل أن المصحح في المذهب أن
الختم سنة لكن لا يلزم منه عدم تركه إذا لزم منه تنفير القوم وتعطيل كثير من المساجد
خصوصا في زماننا، فالظاهر اختيار الأخف على القوم كما تفعله الأئمة في زماننا من بداءتهم
بقراءة سورة التكاثر في الركعة الأولى وبقراءتهم سورة الاخلاص في الثانية إلى أن تكون
قراءتهم في الركعة التاسعة عشرة سورة تبت وفي العشرين سورة الاخلاص وليس فيه
كراهة في الشفع الأولى من الترويحة الأخيرة بسبب الفصل بين الركعتين بسورة واحدة لأنه
خاص بالفرائض كما هو ظاهر الخلاصة وغيرها إلا أنه قد زاد بعض الأئمة من فعلها على
هذا الوجه منكرات من هذرمة القراءة وعدم الطمأنينة في الركوع والسجود وفيما بينهما
وفيما بين السجدتين مع اشتمالها على ترك الثناء والتعوذ والبسملة في أول كل شفع وترك
الاستراحة فيما بين كل ترويحتين.
وفي الخلاصة: والأفضل التعديل في القراءة بين التسليمات كذا روي عن أبي حنيفة،
فإن فضل البعض على البعض في القراءة لا بأس به. أما التسليمة الواحدة إن فضل الثانية
على الأولى لا شك أنه لا يستحب، وإن فضل الأولى على الثانية على الخلاف في الفرض.
الإمام إذا فرغ من التشهد في التراويح إن علم أن الزيادة على قدر التشهد لا تثقل يأتي
بالدعوات، وإن علم أنها تثقل يقتصر على الصلاة لأن الصلاة فرض عند الشافعي فيحتاط
ا ه‍. وعلله في فتح القدير بأن الصلاة فرض أو سنة ولا تترك السنن للجماعات

121
كالتسبيحات ا ه‍. وقوله بجلسة متعلق بسن بيان لكونه سنة فيها، وتعقبه الشارح بأنه
مستحب لا سنة. وصرح في الهداية باستحبابه بين الترويحتين وبين الخامسة وبين الوتر لعادة
أهل الحرمين، واستحسن البعض الاستراحة على خمس تسليمات وليس بصحيح ا ه‍. وفي
الكافي: والاستراحة على خمس تسليمات تكره عند الجمهور لأنه خلاف عمل أهل الحرمين
ا ه‍. وذكر العلامة الحلبي: ويعرف من هذا كراهة ترك الاستراحة مقدار ترويحة على رأس
سائر الاشفاع كما هو شأن أكثر أئمة أهل زماننا في البلاد الشامية والمصرية بطريق أولى ا ه‍.
ولا يخفى ما فيه لأن الاستراحة لم توجد أصلا في مسألة الكافي إلا على خمس تسليمات مع
أنها ليست محل الاستراحة، ولهذا قال الإمام حسام الدين في تأليف له خاص بالتراويح:
الاستراحة على خمس تسليمات لا تستحب على قول الأكثر وهذا هو الصحيح فإن الصحيح
أنه لا يستحب إلا عند تمام كل ترويحة وهي خمس ترويحات ا ه‍. بخلاف فعل الأئمة فإن
الاستراحة قد وجدت وإن لم تكن تامة فكيف تكون مكروهة بالأولى وقد قالوا: إنهم مخيرون
في حالة الجلوس إن شاؤوا سبحوا وإن شاؤوا قرؤا القرآن وإن شاؤوا صلوا أربع ركعات فرادى
وإن شاؤوا قعدوا ساكتين، وأهل مكة يطوفون أسبوعا ويصلون ركعتين، وأهل المدينة يصلون
أربع ركعات فرادى. وبهذا علم أنه لو قال بانتظار بعد كل ترويحة بدل قوله بجلسة لكان
أولى. وفي الخانية: يكره للمقتدي أن يقعد في التراويح فإذا أراد الإمام أن يركع يقوم لأن
فيه إظهار التكاسل في الصلاة والتشبه بالمنافقين قال تعالى * (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا
كسالى) * (النساء: 142) ا ه‍. قوله: (ويوتر بجماعة في رمضان فقط) أي على وجه
الاستحباب وعليه إجماع المسلمين كما في الهداية. واختلفوا في الأفضل ففي الخانية الصحيح
أن أداء الوتر بجماعة في رمضان أفضل لأن عمر رضي الله عنه كان يؤمهم في الوتر. وفي

122
النهاية: اختار علماؤنا أن يوتر في منزله لا بجماعة لأن الصحابة لم يجتمعوا على الوتر
بجماعة في رمضان كما اجتمعوا على التراويح لأن عمر كان يؤمهم فيه في رمضان وأبي بن
كعب كان لا يؤمهم ا ه‍. ورجح الأول في فتح القدير بأنه صلى الله عليه وسلم كان أوتر بهم ثم بين العذر
في تأخره عن مثل ما صنع فيما مضى فالوتر كالتراويح، فكما أن الجماعة فيها سنة فكذلك
في الوتر، ولو صلوا الوتر بجماعة في غير رمضان فهو صحيح مكروه كالتطوع في غير
رمضان بجماعة، وقيده في الكافي بأن يكون على سبيل التداعي، أما لو اقتدى واحد بواحد
أو اثنان بواحد لا يكره، وإذا اقتدى ثلاثة بواحد اختلفوا فيه، وإن اقتدى أربعة بواحد كره
اتفاقا ه‍. وفي القنية: صلى العشاء وحده فله أن يصلي التراويح مع الإمام، ولو تركوا الجماعة
في الفرض ليس لهم أن يصلوا التراويح جماعة لأنها تبع للجماعة، ولو لم يصل التراويح
جماعة مع الإمام فله أن يصلي الوتر معه. ثم ذكر بعده أنه لو صلى التراويح مع غيره له أن
يصلي الوتر معه هو الصحيح ا ه‍. ومن رام الزيادة على ما ذكرناه من أحكام التراويح فعليه
بمؤلف خاص بها للإمام الاجل حسام الدين قد اطلعت عليه والله الموفق للصواب.
باب ادراك الفريضة
حقيقة هذا الباب مسائل شتى تتعلق بالفرائض في الأداء الكامل وكله مسائل الجامع
قوله: (صلي ركعة من الظهر فأقيم شفعا ويقتدي) لأن الأصل أن نقض العبادة قصدا بلا عذر

123
حرام لقوله تعالى * (ولا تبطلوا أعمالكم) * (محمد: 33) ولافضائه إلى السفه خصوصا إذا
كانت فرضا، وأن النقض للاكمال إكمال معنى فيجوز كنقض المسجد للاصلاح، وكنقض
الظهر للجمعة، وكمن أصاب جبهته شوك في سجوده فرفع ثم وضع لم يجعل سجدتين،
وللجماعة مزية على الصلاة منفردا بالحديث فجاز نقض الصلاة منفردا لاحراز الجماعة،
ولكن هذا إذا لتثبت شبهة الفراغ من صلاته منفردا فإن ثبتت شبهته لا ينقضها لأن العبادة
بعد ما فرغ منها لا تقبل البطلان إلا بالردة فنقول: إن صلى ركعة من الظهر يضم إليها أخرى
ثم يسلم ويدخل مع القوم لأنه يمكنه إحراز الجماعة مع إحراز النفل بإضافة ركعة أخرى
إليها إذ التطوع شرع شفعا لا وترا، ومتى أمكن إدراك العبادتين لا يصار إلى إبطال أحدهما،
وقد صرح الكل هنا بأنه إنما يضم ركعة أخرى صيانة للمؤدى عن البطلان وهو صريح فيمن
صلى ركعة فقط فهي باطلة لا أنها صحيحة مكروهة كما توهمه بعض حنفية عصرنا. فإن
قيل: لو ضم تفوته تكبيرة الافتتاح قلنا: ذلك أيسر من إبطال العمل إذ صيانته عن البطلان
واجبة وادراكها فضيلة وجاز الابطال لما هو سنة لأنه إكمال معنى كما قدمناه والمعاني أحق
بالاعتبار من الصور كمن تذكر في الركوع السورة فإنه يرفضه لأجلها مع أنها واجبة وهو
فرض لأن في رفضه إقامته على أكمل الوجوه فصار حسنا مع أنه إبطال للوصف فقط، وقول
محمد بطلان الوصف يستلزم بطلان الأصل هو فيما إذا لم يتمكن من إخراج نفسه عن العهدة
بالمضي كما إذا قيد خامسة الظهر بسجدة ولم يكن قعد الأخيرة، أما إذا كان متمكنا من المضي
لكن أذن له الشرع في عدمه فلا يبطل أصلها بل تبقى نفلا إذا ضم الثانية أراد بالظهر الفرض
الرباعي وأراد بالإقامة شروع الإمام في موضع هو فيه لا إقامة المؤذن لأنه لا يقطع صلاته إذا
أقام المؤذن وإن لم يقيد بالسجدة بل يتمها ركعتين كما في غاية البيان وغيره. ولو أقيمت في
المسجد وهو في البيت أو كان في مسجد فأقيمت في مسجد آخر لا يقطعها مطلقا كما ذكره
الشارح وغيره. وقيد بالركعة التي تتم بالسجدة لأنه لو لم يقيد الأولى بالسجدة فإنه يقطع
ويشرع مع الإمام وهو الصحيح لأنه بمحل الرفض والقطع للاكمال. كذا في الهداية. وفي
المحيط والكافي هو الأشبه. وقيد بالفرض لأنه لو كان في النفل لا يقطع مطلقا وإنما يتمه

124
ركعتين. واختلفوا في السنة قبل الظهر أو الجمعة إذا أقيمت أو خطب الإمام فالصحيح أنه
يتمها أربعا كما صرح به الولوالجي وصاحب المبتغى والمحيط ثم الشمني لأنها صلاة واحدة
وليس القطع للاكمال بل للابطال صورة ومعنى. وقيل يقطع على رأس الركعتين، ورجحه
في فتح القدير بحثا بأنه يتمكن من قضائها بعد الفرض ولا إبطال في التسليم على الركعتين
فلا يفوت فرض الاستماع والأداء على الوجه الأكمل بلا سبب ا ه‍. والظاهر ما صححه
المشايخ لأنه لا شك أن في التسليم على رأس الركعتين إبطال وصف السنية لا لاكمالها،
وتقدم أنه لا يجوز ويشهد لهم إثبات أحكام الصلاة الواحدة للأربع من عدم الاستفتاح
والتعوذ في الشفع الثاني إلى غير ذلك كما قدمناه، وأراد من الظهر الظهر المؤدى لأنه لو شرع
في قضاء الفوائت ثم أقيمت لا يقطع كالنفل والمنذورة كالفائتة. كذا في الخلاصة، وقيدنا
بكون الابطال حراما لغير عذر لأنه لو كان لعذر فإنه جائز كالمرأة إذا فار قدرها والمسافر إذا
ندت دابته أو خاف فوت درهم من ماله بل قد يكون واجبا كالقطع لانجاء غريق. وفي
فتاوى الولوالجي: المصلي إذا دعاه أحد أبويه فلا يجيبه ما لم يفرغ من صلاته إلا أن يستغيث به
لأن قطع الصلاة لا يجوز إلا لضرورة، وكذلك الأجنبي إذا خاف أن يسقط من سطح أو
تحرقه النار أو يغرقه الماء وجب عليه أن يقطع الصلاة. هذا إذا كان في الفرض، فأما في
النوافل إذا ناداه أحد أبويه إن علم أنه في الصلاة وناداه لا بأس به أن لا يجيبه، وإن لم يعلم
يجيبه ا ه‍. ومن العذر ما إذا شرع في نفل فحضرت جنازة خاف إن لم يقطعها تفوته فإنه

125
يقطعها ويصلي عليها لأنه لا يتمكن من المصلحتين معا، وقطع النفل معقب للقضاء بخلاف
الجنازة لو اختار تفويتها كان لا إلى خلف. كذا في فتح القدير.
قوله: (ولو صلى ثلاثا يتم ويقتدي متطوعا) لأن للأكثر حكم الكل فلا يحتمل النقض
وإنما يقتدي متطوعا لأن الفرض لا يتكرر في وقت واحد. وصرح في الحاوي القدسي أن
ما يؤدي مع الإمام نافلة يدرك بها فضيلة الجماعة ولا يرد عليه العصر فإنه لا يقتدي بعدها لما
علم من باب الأوقات المكروهة، ولهذا قيد بالظهر قيد بالثلاث لأنه لو كان في الثالثة ولم
يقيدها بالسجدة فإنه يقطعها لأنه بمحل الرفض ويتخير ان شاء عاد وقعد وسلم وإن شاء كبر
قائما ينوي الدخول في صلاة الإمام. كذا في الهداية. وفي المحيط: الأصح أنه يقطع قائما
بتسليمة واحدة لأن القعود مشروط للتحلل وهذا قطع وليس بتحلل فإن التحلل عن الظهر لا
يكون على رأس الركعتين وتكفيه تسليمة واحدة للقطع ا ه‍. وهكذا صححه في غاية البيان
معزيا إلى فخر الاسلام، واختلفوا فيما إذا عاد هل يعيد التشهد؟ قيل نعم لأن الأول لم يكن
قعود ختم، وقيل يكفيه ذلك التشهد لأنه لما قعد ارتفض ذلك القيام فكأنه لم يقم وأورد على
قوله ويقتدي متطوعا أن التطوع بجماعة مكروه خارج رمضان. وأجيب بنعم إذا كان
الإمام والقوم متطوعين، أما إذا أدى الإمام الفرض والقوم النفل فلا لقوله عليه الصلاة
والسلام للرجلين: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما صلاة قوم فصليا معهم واجعلا

126
صلاتكما معهم سبحة. أي نافلة كذا في الكافي قوله: (فإن صلى ركعة من الفجر أو المغرب
فأقيم يقطع ويقتدي) لأنه لو أضاف إليها أخرى لفاتته الجماعة لوجود الفراغ حقيقة في الفجر
أو شبهه في المغرب لأن للأكثر حكم الكل. وشمل كلامه ما إذا قام إلى الثانية ولم يقيدها
بالسجدة، وقيد بالركعة احترازا عما إذا قيد الثانية بسجدة فإنه لا يقطعها ويتمها ولا يشرع
مع الإمام لكراهة النفل بعد الفجر، وكذا بعد المغرب في ظاهر الرواية. علله في الكافي بأنه
إن وافق إمامه خالف السنة بالتنفل بالثلاث، وإن وافق السنة فجعلها أربعا خالف إمامه وكل
ذلك بدعة، فإن شرع أتمها أربعا لأنه أحوط إذ فيه زيادة الركعة وموافقة السنة أحق لأن
مخالفة الإمام مشروعة في الجملة كالمسبوق فيما يقضي والمقتدي إذا اقتدى بالمسافر ومخالفة
السنة لم تشرع أصلا. كذا في الكافي. وعلله في الهداية بأن التنفل بالثلاث مكروه، وفي
غاية البيان أنه بدعة، وفي شرح الجامع الصغير لقاضيخان أنه حرام، والظاهر ما في الهداية.
ويراد بالكراهة التحريمية لأن المشايخ يستدلون بأنه عليه السلام نهى عن البتيراء كما في غاية
البيان وهو من قبيل ظني الثبوت قطعي الدلالة فيفيد كراهة التحريم على أصولنا. ولو سلم
مع الإمام فعن بشر لا يلزمه شئ، وقيل فسدت ويقضي أربعا لأنه التزم بالاقتداء ثلاثا
فيلزمه أربع كما لو نذر ثلاثا، وإذا أتمها أربعا يصلي ركعة ويقعد لأن الأولى من الصلاة ثانية
صلاته ولو تركها جازت في الاستحسان لا القياس. ولو صلى الإمام أربعا ساهيا بعد ما قعد
على رأس الثلاث وقد اقتدى به الرجل متطوعا قال ابن الفضل: تفسد صلاة المقتدي لأن
الرابعة وجبت على المقتدي بالشروع، وعلى الإمام بالقيام إليها فصار كرجل أوجب على نفسه
أربع ركعات بالنذر فاقتدي فيهن بغيره لا تجوز صلاة المقتدي. كذا هذا كذا في فتح القدير.
قال في الخلاصة: المختار فساد صلاة المقتدي قعد الإمام على رأس الثالثة أو لم يقعد ا ه‍.
قوله: (وكره خروجه من مسجد أذن فيه حتى يصلي وإن صلى لا إلا في الظهر والعشاء
إن شرع في الإقامة) لحديث ابن ماجة من أدرك الاذان في المسجد ثم خرج لم يخرج لحاجة
وهو لا يريد الرجوع فهو منافق (1) وأخرجه الجماعة إلا البخاري عن أبي الشعثاء قال: كنا مع
أبي هريرة في المسجد فخرج رجل حين أذن المؤذن للعصر قال أبو هريرة: أما هذا فقد عصى
أبا القاسم. والموقوف في مثله كالمرفوع، وهذا لا يدل على أن الكراهة تحريمية وهي المحمل

127
عند إطلاقها كما قدمناه. واستثنى المشايخ منها ما إذا كان ينتظم به أمر جماعة أخرى بأن كان
مؤذنا أو إماما في مسجد تتفرق الجماعة بغيبته فإنه يخرج بعد النداء لأنه ترك صورة تكميل
معنى والعبرة للمعنى. زاد في النهاية أو يكون خرج ليصلي في مسجد حيه مع الجماعة فلا
بأس به مطلقا من غير قيد بالإمام والمؤذن ا ه‍. ولا يخفى ما فيه إذ خروجه مكروه تحريما
والصلاة في مسجد حيه مندوبة فلا يرتكب المكروه لأجل المندوب ولا دليل يدل على تقييدها
بما ذكره وأطلقه المصنف فشمل ما أذن فيه وهو داخله أو دخل بعد الاذان، والظاهر أن
مرادهم من الاذان فيه هو دخول الوقت وهو داخله، سواء أذن فيه أو في غيره كما أن
الظاهر من الخروج من غير صلاة عدم الصلاة مع الجماعة، وسواء خرج أو كان ماكثا في
المسجد من غير صلاة كما نشاهده في زماننا من بعض الفسقة حتى لو كانت الجماعة
يؤخرون لدخول الوقت المستحب كالصبح مثلا فخرج إنسان من المسجد بعد دخول الوقت
ثم رجع وصلى مع الجماعة ينبغي أن لا يكون مكروها، ولم أره كله منقولا. وقوله وإن
صلى لا أي وإن صلى الفرض وحده لا يكره خروجه قبل أن يصلي مع الجماعة لأنه قد
أجاب داعي الله مرة فلا يجب عليه ثانيا. والظاهر أن مرادهم عدم كراهة الخروج لا عدمها
مطلقا لأن من صلى وحده فقد ارتكب المكروه وهو ترك الجماعة لأنها على الصحيح إما سنة
مؤكدة أو واجبة، ولم أر من نبه عليه. واستثنى المصنف الظهر والعشاء عند الشروع في
الإقامة فإنه يكره لمن صلى وحده أن يخرج قبل الصلاة مع الجماعة لأنه يتهم بمخالفة الجماعة
عيانا والنفل بعد هاتين الصلاتين ليس بمكروه، وأما في الفجر والعصر فلا يكره له الخروج
لكراهة التنفل بعدهما، وأما في المغرب فلما فيه من التنفل بالثلاث أو مخالفة الإمام إن أتمها
أربعا وكل منهما مكروه كما سبق. ولم يذكر المصنف حكم المكث في المسجد بلا صلاة، أما
في موضع لا يكره التنفل فالكراهة ظاهرة، وأما في موضع يكره التنفل فذكر في المحيط أنه

128
في العصر والمغرب والفجر يخرج لكراهة التطوع بعدها، وإن مكث وإن لم يدخل معهم
يكره لأن مخالفة الجماعة وزر عظيم ا ه‍.
قوله: (ومن خاف فوت الفجر أن أدى سنته أيتم وتركها وإلا لا) لأن الأصل أن سنة
الفجر لها فضيلة عظيمة قال عليه الصلاة والسلام ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها (1)
وكذا ما قدمناه، وكذا للجماعة بالأحاديث المتقدمة، فإذا تعارضا عمل بها بقدر الامكان وإن
لم يمكن بأن خشي فوت الركعتين أحرز أحقهما وهي الجماعة لورود الوعد والوعيد في
الجماعات، والسنة وإن ورد الوعد فيها لم يرد الوعيد بتركها، ولان ثواب الجماعة أعظم لأنها
مكملة ذاتية والسنة مكملة خارجية والذاتية أقوى. وشمل كلامه ما إذا كان يرجوا إدراكه في
التشهد فإنه يأتي بالسنة، وظاهر ما في الجامع الصغير حيث قال: إن خاف أن تفوته الركعتان
دخل مع الإمام أن لا يأتي بالسنة. وفي الخلاصة ظاهر المذهب أنه يدخل مع الإمام، ورجحه
في البدائع بأن للأكثر حكم الكل فكأن الكل قد فاته فيقدم الجماعة. ونقل في الكافي
والمحيط أنه يأتي بها عندهما خلافا لمحمد لأن إدراك القعدة عندهما كإدراك ركعة في الجمعة
خلافا له، وقد جعل المصنف لسنة الفجر حكمين، أما الفعل إن لم يخف فوت الجماعة وهو
المراد بفوت الفجر بقرينة قوله أيتم، وأما الترك إن خاف فوت الجماعة فاندفع ما ذكره الفقيه

129
إسماعيل الزاهد من أنه ينبغي أن يفتتح ركعتي الفجر ثم يقطعهما ويدخل مع الإمام حتى
تلزمه بالشروع فيتمكن من القضاء بعد الفجر وهو مردود من وجهين: أحدهما ما ذكره الإمام
السرخسي أن ما وجب بالشروع لا يكون أقوى مما وجب بالنذر وقد نص محمد أن المنذورة
لا تؤدى بعد الفجر قبل طلوع الشمس. ثانيهما ما ذكره قاضيخان في شرح الجامع الصغير
أن المشايخ نكروا عليه ذلك لأن هذا أمر بافتتاح الصلاة على قصد أن يقطع ولا يتم وأنه غير
مستحسن. ثم إن هنا قيدا تركه المصنف في قوله وإلا لا وهو أن يجد مكانا عند باب
المسجد يصلي السنة فيه، فإن لم يجد فينبغي أن لا يصلي السنة لأن ترك المكروه مقدم على فعل
السنة. كذا في فتح القدير وهو متفرع على أحد القولين لما في المحيط: ولو صلاهما في
المسجد الخارج والإمام يصلي في المسجد الداخل قيل لا يكره لأنه لا يتصور بصورة المخالفة
للقوم لاختلاف المكان حقيقة، وقيل يكره لأن ذلك كله كمكان واحد فإذا اختلف المشايخ فيه
كان الأفضل أن لا يفعل ا ه‍. فالحاصل أن حكم المصلي نافلة أو سنة لا يخلوا ما أن يكون
قبل شروع الإمام في الفرض أو بعده، فإن كان الأول لا يخلوا ما أن يكون وقت إقامة المؤذن
أو قبله، فإن كان قبل إقامة المؤذن فله أن يأتي بهما في أي موضع أراد من المسجد أو غيره إلا
في الطريق كما قدمناه، وإن كان وقت إقامة المؤذن ففي البدائع إذا دخل المسجد للصلاة وقد
كان المؤذن أخذ في الإقامة يكره له التطوع، سواء كان ركعتي الفجر أو غيرهما، لأنه يتهم
بأنه لا يرى صلاة الجماعة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن
مواقف التهم ا ه‍. وبحث العلامة الحلبي بأن هذا الظن يزول عنه في ثاني الحال إذا شوهد
شروعه فيها بعد فراغه من السنة، وقد نص محمد في كتاب الصلاة من الأصل في المؤذن
يأخذ في الإقامة أيكره أن يتطوع؟ قال: نعم إلا ركعتي الفجر. واختلف المشايخ في فهمه،
فمنهم من قال موضوعها فيما إذا انتهى إلى الإمام وقد سبقه بالتكبير فيأتي بركعتي الفجر
وعامتهم على الاطلاق سواء وصل إلى الإمام بعد شروعه أو قبله في الإقامة كما ذكره فخر

130
الاسلام ا ه‍. يعني فما في البدائع من التعميم لركعتي الفجر ليس على قول العامة ويشهد له
ما في الحاوي القدسي والمحيط: ولا يتطوع إذا أخذ المؤذن في الإقامة إلا ركعتي الفجر ا ه‍.
إلا أنه قد يقال: إن ما يوقع في التهمة لا يرتكب وإن ارتفعت بعده كما ورد عن علي: إياك
وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره. وإن كان الثاني فيكره له أن يشتغل بنفل
أو سنة مؤكدة إلا سنة الفجر على التفصيل السابق. ثم السنة في السنن أن يأتي بها في بيته أو
عند باب المسجد وإن لم يمكن ففي المسجد الخارج وإن كان المسجد واحدا فخلف الأسطوانة
ونحو ذلك، أو في آخر المسجد بعيدا عن الصفوف في ناحية منه. وتكره في موضعين:
الأول أن يصليها مخالطا للصف مخالفا للجماعة. الثاني أن يكون خلف الصف من غير حائل
بينه وبين الصف، والأول أشد كراهة من الثاني. وأما السنن التي بعد الفرائض فالأفضل
فعلها في المنزل إلا إذا خاف الاشتغال عنها لو ذهب إلى البيت فيأتي بها في المسجد في أي
مكان منه ولو في مكان صلى فيه فرضه، والأولى أن يتنحى خطوة. ويكره للإمام أن يصلي
في مكان صلى فيه فرضه. كذا في الكافي وغيره.
قوله: (ولم تقض إلا تبعا) أي لم تقض سنة الفجر إلا إذا فاتت مع الفرض فتقضي تبعا
للفرض، سواء قضاها مع الجماعة أو وحده لأن الأصل في السنة أن لا تقضى لاختصاص
القضاء بالواجب. والحديث ورد في قضائها تبعا للفرض في غداة ليلة التعريس فبقي ما
وراءه على الأصل، فأفاد المصنف أنها لا تقضى قبل طلوع الشمس أصلا ولا بعد الطلوع إذا
كان قد أدى الفرض. وشمل كلامه ما إذا قضاهما بعد الزوال أو قبله ولا خلاف في الثاني.
واختلف المشايخ في الأول على قولهم والصحيح كما في غاية البيان أنها لا تقضى تبعا لأن

131
النص ورد بقضائها في الوقت المهمل بخلاف القياس، وما ورد على خلاف القياس فغيره
عليه لا يقاس وهي واردة على المصنف، فلو قال ولم تقض إلا تبعا قبل الزوال لكان أولى.
وقيد بسنة الفجر لأن سائر السنن لا تقضى بعد الوقت لا تبعا ولا مقصودا. واختلف المشايخ
في قضائها تبعا للفرض في الوقت والظاهر قضاؤها وأنها سنة لاختلاف الشيخين في قضاء
الأربع قبل الظهر قبل الركعتين أو بعدهما كما سيأتي قوله: (وقضى التي قبل الظهر في وقته
قبل شفعه) بيان لشيئين: أحدهما القضاء والثاني محله. أما الأول ففيه اختلاف والصحيح أنها
تقتضي كما ذكره قاضيخان في شرحه مستدلا بما عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم تعالى كان إذا فاتته الأربع
قبل الظهر قضاهن بعده. وظاهر كلام المصنف أنها سنة لا نفل مطلق، وذكر قاضيخان أنه إذا
قضاها فهي لا تكون سنة عند أبي حنيفة، وعندهما سنة، وتبعه الشارح، وتعقبه في فتح
القدير بأنه من تصرف المصنفين فإن المذكور من وضع المسألة الاتفاق على قضاء الأربع، وإنما
الاختلاف في تقديمها أو تأخيرها والاتفاق على أنها تقضى اتفاق على وقوعها سنة إلى آخر ما
ذكره. وأما الثاني فاختلف فيه النقل عن الشيخين فذكر في الجامع الصغير للحسامي أن أبا
يوسف يقدم الركعتين ومحمد يؤخرهما. وفي المنظومة وشروحها على العكس. وفي غاية
البيان: ويحتمل أن يكون عن كل واحد من الإمامين روايتان. ورجح في فتح القدير تقديم
الركعتين لأن الأربع فاتت عن الموضع المسنون فلا يفوت الركعتين عن موضعهما قصدا بلا
ضرورة ا ه‍. وحكم الأربع قبل الجمعة كالأربع قبل الظهر كما لا يخفى. قوله: (ولم يصل

132
الظهر جماعة بإدراك ركعة) لما في الجامع الكبير: إذا قال عبده حر إن صلى الظهر بجماعة
فسبق ببعضها لم يحنث. وهو شامل لما إذا سبق بركعة أو بأكثر. وذكر قاضيخان في شرحه أن
الظاهر الجواب أنه إذا فاتته ركعة مع الإمام وصلى الثلاث معه لا يحنث لأنه لم يصل الكل مع
الإمام، فلو قال المصنف بإدراك بعضها لكان أولى لكن ذكر الإمام السرخسي أنه يحنث لأن
للأكثر حكم الكل، ولا يحنث إذا صلى ركعتين فقط اتفاقا كما لا يخفى. أما على الأولى
فظاهر، وأما على قول السرخسي فلانه ليس بأكثر حتى يقام مقام الكل. ومما يضعف قول
السرخسي ما اتفقوا عليه في باب الايمان أنه لو حلف لا يأكل هذا الرغيف لا يحنث إلا
بأكل كله فإن الأكثر لا يقام مقام الكل لكن في الخلاصة من كتاب الايمان: لو حلف لا يقرأ
سورة فقرأها إلا حرفا حنث ولو قرأها إلا آية طويلة لا يحنث.
قوله: (بل أدرك فضلها) أي فضل الجماعة لأن من أدرك آخر الشئ فقد أدركه،
ولحديث الصحيح من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة (1) وهو مجمع عليه. وإنما

133
خص محمدا بالذكر في الهداية لأن الشبهة وردت على قوله إن مدرك الإمام في التشهد في
صلاة الجمعة لا يكون مدركا للجمعة، فكان مقتضى قوله أن لا يدرك فضيلة الجماعة في
هذه المسألة لأنه مدرك للأقل فأزال الوهم بذكر محمد. وذكر في الكافي وغيره أنه لو قال
عبده حر إن أدرك الظهر فإنه يحنث بإدراك ركعة لأن إدراك الشئ بإدراك آخره يقال أدركت
أيامه أي آخرها، وفي الخلاصة من كتاب الايمان من الفصل الحادي عشر: لو قال عبده حر
إن أدرك الظهر مع الإمام فأدرك الإمام في التشهد ودخل في صلاته فإنه يحنث ا ه‍. فعلم أن
إدراك الركعة ليس بشرط، فلو قال المصنف بل يكون مدركا لها لكان أولى ليشمل الثواب
والحنث في اليمين المذكورة. وفي غاية البيان: إن المسبوق يكون مدركا لثواب الجماعة لكن
لا يكون ثوابه مثل ثواب من أدرك أول الصلاة مع الإمام لفوات التكبيرة الأولى ا ه‍. وقد
صرح الأصوليون بأن فعل المسبوق أداء قاصر بخلاف المدرك فإنه أداء كامل، وأما اللاحق
فصرحوا بأن ما يقضيه بعد فراغ الإمام أداء شبيه بالقضاء، فظاهر كلام الشارح أن اللاحق
كالمدرك لكونه خلف الإمام حكما ولهذا لا يقرأ ا ه‍. فيقتضي أن يحنث في يمينه لو حلف لا
يصلي بجماعة ولو فاته مع الإمام الأكثر، فظاهر كلامهم أن من أدرك الإمام في التشهد فقد
أدرك فضلها قوله: (وتطوع قبل الفرض أن أمن فوت الوقت وإلا لا) أي وإن لم يأمن لا
يتطوع لأن صلاة التطوع عند ضيق الوقت حرام لتفويتها الفرض، وإن لم يضق الوقت فله أن
يتطوع. فإن كانت سنة مؤكدة ولم تفته الجماعة فإنه يسن في حقه الاتيان بها باتفاق المشايخ،
وإن فاتته الجماعة ففيه اختلاف والصحيح أنه يسن الاتيان بها كما ذكره قاضيخان في شرحه

134
لكونها مكملات للفرائض وإن لم تكن مؤكدة، فإن كان من المستحبات يستحب الاتيان بها
وإلا فهو مخير قوله: (وإن أدرك إمامه راكعا فكبر ووقف حتى رفع رأسه لم يدرك الركعة)
خلافا لزفر. هو يقول أدرك الإمام فيما له حكم القيام، ولنا أن الشرط هو المشاركة في أفعال
الصلاة ولم يوجد لا في القيام ولا في الركوع. وذكر قاضيخان أن ثمرة الخلاف تظهر في أن
هذا عنده لاحق في هذه الركعة حتى يأتي بها قبل فراغ الإمام، وعندنا هو مسبوق بها حتى
يأتي بها بعد فراغ الإمام، وأجمعوا أنه لو انتهى إلى الإمام وهو قائم فكبر ولم يركع مع الإمام
حتى ركع الإمام ثم ركع أنه يصير مدركا لتلك الركعة، وأجمعوا أنه لو اقتدى به في قومة
الركوع لم يصر مدركا لتلك الركعة ا ه‍. وفي المصفي: وهذا إذا أمكنه الركوع، أما إذا لم
يمكنه لا يعتد به عند زفر أيضا. وفي حيرة الفقهاء: إما افتتح الصلاة فلما ركع ورفع رأسه
من الركوع ظن أنه لم يقرأ السورة فرجع وقرأ. ثم علم أنه كان قرأ السورة فجاء رجل ودخل
معه في الصلاة ثم ركع ثانيا فإن هذا المسبوق يصير داخلا في الصلاة لكن عليه أن يقضي
ركعة لأن الركوع الأول كان فرضا تاما والآخر نفلا فصار كأن المسبوق لم يدرك الركوع من
هذه الركعة ا ه‍. وفي فتح القدير: ومدرك الإمام في الركوع لا يحتاج إلى تكبيرتين خلافا
لبعضهم، ولو نوى بتلك التكبيرة الواحدة الركوع لا الافتتاح جاز ولغت نيته ا ه‍. ثم اعلم
أنه إذا لم يكن مدركا للركعة فإنه يجب عليه أن يتابع الإمام في السجدتين وإن لم يحتسبا له كما
لو اقتدى بالإمام بعد ما رفع الإمام رأسه من الركوع. صرح قاضيخان في فتاواه بأن عليه
المتابعة في السجدتين وإن لم يحتسبا له، وصرح به في العمدة. وصرح في الذخيرة بأن المتابعة
فيهما واجبة ومقتضاه أنه لو تركهما لا تفسد صلاته، وقد توقفنا في ذلك مدة حتى رأيت في
التجنيس معزيا إلى فتاوى أئمة سمرقند أنه لا تفسد لو ترك وعبارته: رجل انتهى إلى الإمام
وقد سجد سجدة فكبر ونوى الاقتداء به ومكث قائما حتى قام الإمام ولم يتابعه في السجدة

135
ثم تابعه في بقية الصلاة، فلما فرغ الإمام قام وقضى ما سبق به تجوز الصلاة إلا أنه يصلي
تلك الركعة الفائتة بسجدتيها بعد فراغ الإمام وإن كانت المتابعة حين يشرع واجبة في تلك
السجدة ا ه‍.
قوله: (ولو ركع مقتد فأدركه إمامه فيه صح) وقال زفر: لا يجزئه لأن ما أتى به قبل
الإمام غير معتد به فكذا ما يبنيه عليه. ولنا أن الشرط هو المشاركة في جزء واحد كما في
الطرف الأول. قيد يكون إمامه شاركه فيه لأن المقتدي لو رفع رأسه قبل أن يركع الإمام فإنه
لا يصح اتفاقا لعدم المشاركة فيه والمتابعة، وأراد بالركوع كل ركن سبقه المأموم به. وقيده في
الذخيرة بأن يركع المقتدي بعد فراغ الإمام من القراءة، أما لو ركع قبل أن يأخذ الإمام في
القراءة ثم قرأ الإمام وركع والرجل راكع فأدركه في الركوع لا يجزئه عن الركوع لأنه ركع
قبل أوانه. ولو ركع بعد ما قرأ الإمام ثلاث آيات ثم أتم القراءة وأدركه جاء، ولو ركع
الإمام بعد ما قرأ الفاتحة ونسي السورة فرفع المقتدي معه ثم عاد الإمام إلى السورة ثم ركع
والمقتدي على ركوعه الأول أجزأه الركوع. ولو تذكر الإمام في ركوعه في الركعة الثالثة أنه
ترك سجدة من الركعة الثانية فاستوى الإمام فسجد للثانية وأعاد التشهد ثم قام وركع للثالثة
والرجل على حاله راكع لم يجز المقتدي ذلك الركوع والوجه ظاهر ا ه‍. وذكر المصنف في
الكافي في مسألة الكتاب أنه يصح، ويكره لقوله عليه الصلاة والسلام لا تبادروني بالركوع
والسجود (1) وقوله عليه السلام أما يخشى الذي يركع قبل الإمام ويرفع أن يحول الله رأسه
رأس حمار (2) ا ه‍. وهو يفيد أنها كراهة تحريم للنهي المذكور. وفي الخلاصة: المقتدي إذا

136
أتى بالركوع والسجود قبل الإمام هذه على خمسة أوجه: إما أن يأتي بهما قبله أو بعده أو
بالركوع قبله وسجد معه أو بالركوع معه وسجد قبله أو أتى بهما قبله ويدركه الإمام في آخر
الركعات، فإن أتى بالركوع والسجود قبل الإمام في كلها يجب عليه قضاء ركعة بلا قراءة
ويتم صلاته، وإذا ركع معه وسجد قبله يجب عليه قضاء ركعتين وإذا ركع قبله وسجد معه
يقضي أربعا بلا قراءة، وإذا ركع بعد الإمام وسجد بعده جازت صلاته ا ه‍. ووجهه في
فتح القدير بأن مدرك أول صلاة الإمام لاحق وهو يقضي قبل فراغ الإمام، ففي الصورة
الأولى فاتته الركعة الأولى فركوعه وسجوده في الثانية قضاء عن الأولى، وفي الثالثة عن
الثانية، وفي الرابعة عن الثالثة، ويقضي بعد الإمام ركعة بغير قراءة لأنه لاحق، وفي الثانية
تلتحق سجدتاه في الثانية بركوعه في الأولى لأنه كان معتبرا ويلغوا ركوعه في الثانية لوقوعه
عقب ركوعه الأول بلا سجود. بقي عليه ركعة ثم ركوعه في الثالثة مع الإمام معتبر ويلتحق
به سجوده في رابعة الإمام فيصير عليه الثانية والرابعة فيقضي ركعتين وقضاء الأربع في الثالثة
ظاهر ا ه‍. وفي الخلاصة: المقتدي إذا رفع رأسه من السجدة قبل الإمام وأطال الإمام
السجدة فظن المقتدي أن الإمام في السجدة الثانية فسجد ثانيا والإمام في السجدة الأولى إن
نوى متابعة الإمام أو نوى السجدة التي فيها الإمام أو نوى السجدة الأولى جاز وإن نوى

137
السجدة الثانية وكان الإمام في الأولى فرفع الإمام رأسه من السجدة وانحط للثانية فقبل أن
يضع الإمام جبهته على الأرض للسجدة رفع المقتدي من الثانية لا تجوز سجدة المقتدي وكان
عليه إعادة تلك السجدة ولو لم يعد تفسد صلاته ا ه‍. والله أعلم.
باب قضاء الفوائت
لما كان القضاء فرع الأداء أخره. وقد قسم الأصوليون المأمور به إلى أداء وإعادة
وقضاء، فالأداء ابتداء فعل الواجب في وقته المقيد به سواء كان ذلك الوقت العمر أو غيره.
وإنما لم نقل إنه فعل الواجب كما قال غيرنا لأنه لا يشترط فعله كله في وقته ليكون أداء لأن
وجود التحريمة في الوقت كاف لكون الفعل أداء. والإعادة فعل مثله في وقته لخلل غير

138
الفساد وعدم صحة الشروع وهو المراد بقولهم كل صلاة أديت مع كراهة التحريم فسبيلها
الإعادة فكانت واجبة فلذا دخلت في أقسام المأمور به. والقضاء له تعريفان: أحدهما على
المذهب الصحيح من أن القضاء يجب بما يجب به الأداء هو فعل الواجب بعد وقته وإن عرف
بما يشمل غير الواجب من السنن التي تقضى فيبدل الواجب بالعبادة، فيقال هو فعل العبادة
بعد وقتها ولا يكون خارجا عن المقسم لأن المندوب مأمور به أيضا بقوله تعالى * (وافعلوا

139
الخير) * (الحج: 77) لكنه مجاز فلهذا لم يدخله أكثرهم في تعريفه. وإطلاق القضاء في عبارة
الفقهاء على ما ليس بواجب مجاز كما وقع في عبارة المختصر حيث قال: وقضى التي قبل
الظهر. وكذا إطلاق الفقهاء القضاء للحج بعد فساده مجاز إذ ليس له وقت يصير بخروجه
قضاء. ثانيهما على القول المرجوح من أن القضاء يجب بسبب جديد فهو تسليم مثل الواجب
ومن زاد عليه بالامر كصاحب المنار فقد تناقض كلامه لأن المفعول بعد الوقت عين الواجب
بالامر لا مثله إذ المستفاد من الامر طلب شيئين: الفعل وكونه في وقته، فإذا عجز عن الثاني
لفواته بقي الامر مقتضيا للأول فتصريحه بالمثل مقتض لكونه بسبب جديد، وتصريحه بالامر
مقتض لكونه عينه. وتمام تحقيقه في كتابنا المسمى بلب الأصول مختصر تحرير الأصول: ولم
يظهر للاختلاف المذكور في سبب القضاء أثر كما يعلمه من طالع كتب الأصول. وفي كشف
الاسرار أن المثلية في القضاء في حق إزالة المأثم لا في إحراز الفضيلة ا ه‍. والظاهر أن المراد
بالمأثم ترك الصلاة فلا يعاقب عليها إذا قضاها، وأما إثم تأخيرها عن الوقت الذي هو كبيرة
فباق لا يزول بالقضاء المجرد عن التوبة بل لا بد منها هذا. ويجوز تأخير الصلاة عن وقتها
لعذر كما قال الولوالجي في فتاواه القائلة إذا اشتغلت بالصلاة تخاف أن يموت الولد لا بأس
بأن تؤخر الصلاة وتقبل على الولد لأن تأخير الصلاة عن الوقت يجوز بعذر ألا ترى أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الصلاة عن وقتها يوم الخندق، وكذا المسافر إذا خاف من اللصوص
وقطاع الطريق جاز لهم أن يؤخروا الوقتية لأنه بعذر ا ه‍. وفي المجتبي: الأصح أن تأخير
الفوائت لعذر السعي على العيال. وفي الحوائج: يجوز. قيل: وإن وجب على الفور يباح له
التأخير. وعن أبي جعفر: سجدة التلاوة والنذر المطلق وقضاء رمضان موسع. وضيق
الحلواني والعامري ا ه‍. وذكر الولوالجي من الصوم أن قضاء الصوم على التراخي وقضاء
الصلاة على الفور إلا لعذر.
قوله: (والترتيب بين الفائتة والوقتية وبين الفوائت مستحق) مفيد لشيئين: أحدهما
بالعبارة والآخر بالاقتضاء. أما الثاني فهو لزوم قضاء الفائتة فالأصل فيه أن كل صلاة فاتت

140
عن الوقت بعد ثبوت وجوبها فيه فإنه يلزم قضاؤها، سواء تركها عمدا أو سهوا أو بسبب
نوم، وسواء كانت الفوائت كثيرة أو قليلة فلا قضاء على مجنون حالة جنونه ما فاته في حالة
عقله كملا قضاء عليه في حالة عقله لما فاته حالة جنونه، ولا على مرتد ما فاته زمن ردته،
ولا على مسلم أسلم في دار الحرب ولم يصل مدة لجهله بوجوبها، ولا على مغمى عليه أو
مريض عجز عن الايماء ما فاته في تلك الحالة وزادت الفوائت على يوم وليلة. ومن حكمه
أن الفائتة تقضى على الصفة التي فاتت عنه إلا لعذر وضرورة فيقضي المسافر في السفر ما
فاته في الحضر من الفرض الرباعي أربعا والمقيم في الإقامة ما فاته في السفر منها ركعتين كما
سيأتي في آخر صلاة المسافر. وقد قالوا: إنما تقضى الصلوات الخمس والوتر على قول أبي
حنيفة وصلاة العيد إذا فاتت مع الناس على تفصيل يأتي في بابها. وسنة الفجر تبعا للفرض
قبل الزوال والقضاء فرض في الفرض واجب في الواجب سنة في السنة. ثم ليس للقضاء
وقت معين بل جميع أوقات العمر وقت له إلا ثلاثة: وقت طلوع الشمس ووقت الزوال
ووقت الغروب فإنه لا تجوز الصلاة في هذه الأوقات لما مر في محله. وأما الأول وهو
الترتيب بين الفائتة والوقتية وبين الفوائت فهو واجب عندنا يفوت الجواز بفوته فهو شرط كما
صرح به في المحيط لكنه ليس بشرط حقيقة لأن بتركه لا تفوت الصحة أصلا بل الامر
موقوف كما سيأتي، ولو كان شرطا لم يسقط بالنسيان كغيره من الشروط، ولما لم يكن واجبا
اصطلاحيا ولا فرضا لعدم قطعية الدليل ولا شرطا كذلك من كل وجه أبهم أمره فعبر
بالاستحقاق. والدليل على وجوبه ما في الصحيحين من حديث جابر أن عمر بن الخطاب
شغل بسبب كفار قريش يوم الخندق وقال: يا رسول الله ما كدت أصلي العصر حتى كادت
الشمس أن تغرب فقال عليه الصلاة والسلام: والله ما صليتها قال: فنزلنا بطحان فتوضأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم وتوضأنا فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر بعد ما غربت الشمس، وصلينا بعدها
المغرب. ولو كان الترتيب مستحبا لما أخر عليه الصلاة والسلام لأجله المغرب التي تأخيرها
مكروه بناء على أن الكراهة للتحريم فلا ترتكب لفعل مستحب. وبناء على أن التأخير قدر
أربع ركعات مكروه لكن لا دليل على كونه واجبا يفوت الجواز بفوته، وقد أطال فيه المحقق
في فتح القدير إطالة حسنة كما هو دأبه، وغرضنا في هذا الكتاب تحرير المذهب في الأحكام
لا تحرير الدلائل. وأما الترتيب بين الفوائت فلما رواه أحمد وغيره من أنه عليه الصلاة

141
والسلام شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فقضاهن مرتبة وقال في حديث آخر صلوا كما
رأيتموني أصلي فدل على الوجوب. قيد بالفائتة لأن غير الفائتة لا يقضى ولهذا قال في
الظهيرية والخلاصة: رجل يقضي صلوات عمره مع أنه لم يفته شئ منها احتياطا قال بعضهم
يكره، وقال بعضهم لا يكره لأنه أخذ بالاحتياط لكنه لا يقضي بعد صلاة الفجر ولا بعد
صلاة العصر ويقرأ في الركعات كلها الفاتحة مع السورة ا ه‍. وقد قدمنا عن مآل الفتاوي أنه
يصلي المغرب أربعا بثلاث قعدات وكذا الوتر، وذكر في القنية قولين فيها وأن الإعادة أحسن
إذا كان فيها اختلاف المجتهدين، وقد قدمنا أن الإعادة فعل مثله في وقته لخلل غير الفساد
وعدم صحة الشروع، وظاهره أن بخروج الوقت لا إعادة ويتمكن الخلل فيها مع أن قولهم
كل صلاة أديت مع الكراهة فسبيلها الإعادة وجوبا مطلق. وفي القنية ما يفيد التقييد
بالوقت فإنه قال: إذا لم يتم ركوعه ولا سجوده يؤمر بالإعادة في الوقت لا بعده ثم رقم
رقما آخر أن الإعادة أولى في الحالتين ا ه‍. فعلى القولين لا وجوب بعد الوقت.
فالحاصل أن من ترك واجبا من واجباتها أو ارتكب مكروها تحريميا لزمه وجوبا أن
يعيد في الوقت فإن خرج الوقت بلا إعادة أثم ولا يجب جبر النقصان بعد الوقت، فلو فعل

142
فهو أفضل ولهذا حمل صاحب القنية قولهم بكراهة قضاء صلاة عمره مرة ثانية على ما إذا لم
يكن فيها شبهة الخلاف ولم تكن مؤداة على وجه الكراهة. وفي التجنيس وغيره: رجل فاتته
صلاة من يوم واحد ولا يدري أي صلاة هي يعيد صلاة يوم وليلة لأن صلاة يوم كانت
واجبة بيقين فلا يخرج عن عهدة الواجب بالشك، وإذا شك في صلاة أنه صلاها أم لا، فإن
كان في الوقت فعليه أن يعيد لأن سبب الوجوب قائم وإنما لا يعمل هذا السبب بشرط
الأداء قبله وفيه شك، وإن خرج الوقت ثم شك فلا شئ عليه لأن سبب الوجوب قد
فات. وإنما يجب القضاء بشرط عدم الأداء قبله وفيه شك، وإن شك في نقصان الصلاة أنه
ترك ركعة فإن لم يفرغ من الصلاة فعليه إتمامها ويقعد في كل ركعة، وإن شك بعد ما فرغ
وسلم لا شئ عليه لما قلنا ا ه‍. وذكر في الخلاصة في مسألة الشك في الصلاة هل صلاها
أو لا وكان في الوقت لو كان الشك في صلاة العصر يقرأ في الركعة الأولى والثالثة ولا يقرأ
في الثانية والرابعة ا ه‍. وكان وجهه أن التنفل بعد صلاة العصر مكروه فإن قرأ في الكل أو

143
في الأوليين كان متنفلا بالأربع أو بالأوليين على تقدير أنه صلى الفرض أو لا. وإذا ترك
القراءة في ركعة من كل شفع تمحض للفرض على تقدير أنه لم يصل أو للفساد على تقدير أنه
صلى الفرض أو لا فلم يكن متنفلا على كل تقدير لكن مقتضاه أن يقول يقرأ في كل شفع من
الشفعين في ركعة ويترك القراءة في ركعة من كل شفع من غير تعيين الأولى والثانية للقراءة
لأن القراءة في الفرض في ركعتين غير عين كما سبق تقريره. وقد يقال: إن التنفل المكروه
هو القصدي وهذا ليس كذلك فلا يكون مكروها كما لا يخفى، فيقرأ في الأوليين أو في
الكل. وفي الحاوي القدسي: لو شك في إتمام صلاته فأخبره عدلان أنك لا تتم أعاد وبقول
الواحد لا تجب الإعادة ا ه‍. وفيه بحث لأن خبر الواحد العدل مقبول في الديانات اللهم إلا
أن يقال: إن فيه إلزاما من كل وجه فشابه حقوق العباد. وقيده في المحيط بالإمام وعلله بأنها
شهادة لأن حكمه يلزم الغير دون المخبر وشهادة الفرد لا تقبل ا ه‍. فيفيد أنه لو لم يكن إماما
فقول الواحد مقبول فإطلاق الحاوي ليس بالحاوي. وفي الحاوي أيضا: لو تذكر أنه ترك
القراءة في ركعة من صلاة يوم وليلة قضى الفجر والوتر ا ه‍. ووجهه أن ترك القراءة في
ركعة واحدة لا يبطلها في سائر الصلوات إلا الفجر والوتر، وينبغي تقييده بأن لا يكون
مسافرا، أما لو كان مسافرا فينبغي أن يعيد صلاة يوم وليلة كما لا يخفى. وفي المحيط: رجل
صلى شهرا ثم تذكر أنه ترك عشر سجدات من هذه الصلوات يقضي صلوا ت عشرة أيام
لجواز أنه ترك كل سجدة في يوم ا ه‍. وتوضيحه أن العشر سجدات تجعل مفرقة على عشر
صلوات احتياطا فصار كأنه ترك صلاة من صلوات كل يوم وإذا ترك صلاة ولم يدر تعينها
يقضي صلاة يوم كامل فلزمه قضاء عشرة الأيام. وفي القنية: صبي بلغ وقت الفجر ولم
يصل الفجر وصلى الظهر مع تذكره يجوز ولا يجب الترتيب بهذا القدر ا ه‍. وهو إن صح
يكون مخصصا للمتون وفي صحته نظر عندي لأنه بالبلوغ صار مكلفا اللهم إلا أن يكون
جاهلا به فيعذر لقرب عهده من زمن الصبا.
قوله: (ويسقط بضيق الوقت) أي يسقط الترتيب المستحق بضيق وقت المكتوبة لأنه
وقت للوقتين بالكتاب ووقت للفائتة بخبر الواحد وهو قوله عليه الصلاة والسلام من نام عن

144
صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها (1) والكتاب مقدم على خبر الواحد فلو قدم الفائتة في هذه
الحالة ولم يكن وقت كراهة فهي صحيحة لأن النهي عن تقديمها لمعنى في غيرها وهو لزوم
تفويت الوقتية وهو لا يعدم المشروعية. واختلف في المراد بالنهي هنا فقيل نهى الشارح لأن
الامر بالشئ نهي عن ضده، وقيل نهي الاجماع لاجماعهم على أنه لا يقدم الفائتة وهو الأصح.
كذا في المعراج. وإنما قلنا صحيحة ولم نقل جائزة لأن هذا الفعل حرام كما لو اشتغل بالنافلة
عند ضيق الوقت يحكم بصحتها مع الاثم، وتفسير ضيق الوقت أن يكون الباقي منه لا يسعهما
معا عند الشروع في نفس الامر لا بحسب ظنه حتى لو ظن ضيقه فصلى الوقتية فلما فرغ ظهر
أن فيه سعة بطل ما أداه. وفي المجتبي: ومن عليه العشاء فظن ضيق وقت الفجر فصلاها وفي
الوقت سعة يكررها إلى أن تطلع الشمس وفرضه ما يلي الطلوع وما قبله تطوع، ولو كان فيه
سعة عند الشروع فشرع في الوقتية وأطال القراءة فلما فرغ ضاق الوقت بطل ما أداه. واختلفوا
فيما إذا كان الباقي منه يسع بعض الفوائت فقط، فظاهر كلامهم ترجيح أنه لا تجوز الوقتية ما لم
يقض ذلك البعض. وفي المجتبى خلافه فإنه قال: ولو فاتته أربع والوقت لا يسع إلا الفائتتين
والوقتية فالأصح أنه تجوز الوقتية ا ه‍. وظاهر كلام المصنف اعتبار أصل الوقت في الضيق لا
الوقت المستحب، ولم يذكر في ظاهر الرواية ولذا وقع الاختلاف فيه بين المشايخ، ونسب
الطحاوي الأول إلى أبي حنيفة وأبي يوسف، والثاني إلى محمد كما في الذخيرة، وثمرته تظهر
فيما لو تذكر في وقت العصر أنه لم يصل الظهر وعلم أنه لو اشتغل بالظهر يقع قبل التغير
ويقل العصر أو بعضها فيه، فعلى الأول يصلي الظهر ثم العصر، وعلى الثاني يصلي العصر ثم الظهر
بعد الغروب. واختار الأول قاضيخان في شرح الجامع الصغير وذكره بصيغة عندنا. وفي
المبسوط: وأكثر مشايخنا على أنه يلزمه مراعاة الترتيب هاهنا عند علمائنا الثلاثة، وصحح في
المحيط الثاني فقال: والأصح أنه يسقط الترتيب لما فيه من تغيير حكم الكتاب وهو نقصان
الوقتية بخبر الواحد وذلك لا يجوز ا ه‍. فعلى هذا المراد يسقط بضيق الوقت المستحب ورجحه
في الظهيرية بما في المنتقى من أنه إذا افتتح العصر في أول وقتها وهو ناس للظهر ثم احمرت

145
الشمس ثم ذكر الظهر مضى في العصر قال: فهذا نص على أن العبرة للوقت المستحب ا ه‍.
فحينئذ انقطع اختلاف المشايخ لأن المسألة حيث لم تذكر في ظاهر الرواية وثبتت في رواية
أخرى تعين المصير إليها. وفي المجتبى: إن لم يمكنه أداء الوقتية إلا مع التخفيف في قصر
القراءة والافعال فيرتب ويقتصر على أقل ما تجوز به الصلاة.
قوله: (والنسيان) أي ويسقط الترتيب بالنسيان وهو عدم تذكر الشئ وقت حاجته
وهو عذر سماوي مسقط للتكليف لأنه ليس في وسعه، ولان الوقت وقت للفائتة بالتذكر
وما لم يتذكر لا يكون وقتا لها. ومما ألحق بالنسيان الظن فليس مسقطا رابعا كما قد يتوهم
فهو قسمان: معتبر وغير معتبر. واختلفت عباراتهم فيه ففي كشف الاسرار شرح أصول فخر
الاسلام أن الظن إنما يكون معتبرا إذا كان الرجل مجتهدا قد ظهر عنده أن مراعاة الترتيب

146
ليست بفرض فهو دليل شرعي كالنسيان، وأما إذا كان الرجل مجتهدا قد ظهر عنده أن مراعاة
الترتيب ليست بفرض فهو دليل شرعي كالنسيان، فأما إذا كان ذاكرا وهو غير مجتهد فمجرد ظنه
ليس بدليل شرعي فلا يعتبر ا ه‍. فجعل المعتبر ظن المجتهد لا غيره، وذكر شارحو الهداية
كصاحب النهاية وفتح القدير أن فساد الصلاة إن كان قويا كعدم الطهارة استتبع الصلاة التي
بعده، وإن كان ضعيفا كعدم الترتيب لا يستتبع وفرعوا على ذلك فرعين: أحدهما لو صلى الظهر
بغير طهارة ثم صلى العصر ذاكرا لها وجب عليه إعادة العصر لأن فساد الظهر قوي لعدم الطهارة
فأوجب فساد العصر وإن ظن عدم وجوب الترتيب. ثانيهما لو صلى هذه الظهر بعد هذه العصر
ولم يعد العصر حتى صلى المغرب ذاكرا لها فالمغرب صحيحة إذا ظن عدم وجوب الترتيب لأن
فساد العصر ضعيف لقول بعض الأئمة بعدمه فلا يستتبع فساد المغرب. وذكر الإمام الأسبيجابي
له أصلا فقال: إذا صلى وهو ذاكر للفائتة وهو يرى أنه يجزئه فإنه ينظر إن كانت الفائتة وجب
إعادتها بالاجماع أعاد التي صلى وهو ذاكر لها، وإن كان عليه الإعادة عندنا. وفي قول بعض
العلماء ليس عليه وهو يرى أن ذلك يجزئه فلا إعادة عليه وذكر الفرعين المذكورين. وعلل في
شرح المجمع للمصنف للفرع الثاني بأن المانع من الجواز كون الفائتة متروكة بيقين فلم يتناولها
النص المقتضى لمراعاة الترتيب لاختصاصه بالمتروك بيقين، والحق أن المجتهد لا كلام فيه أصلا وإن
ظنه معتبر مطلقا، سواء كانت تلك الفائتة وجب إعادتها بالاجماع أو لا، إذ لا يلزمه اجتهاد أبي
حنيفة ولا غيره وإن كان مقلدا فإن كان مقلدا لأبي حنيفة فلا عبرة برأيه المخالف لمذهب إمامه

147
فيلزمه إعادة المغرب أيضا، وإن كان مقلدا للشافعي فلا يلزمه إعادة العصر أيضا، وإن كان عاميا
ليس له مذهب معين فمذهبه فتوى مفتيه كما صرحوا به، فإن أفتاه حنفي أعاد العصر والمغرب،
وإن أفتاه شافعي فلا يعيدهما ولا عبرة برأيه، وإن لم يستفت أحدا وصادف الصحة على مذهب
مجتهد أجزأه ولا إعادة عليه، ويدل عليه ما ذكره في الخلاصة معزيا إلى الفتاوي الصغرى: رجل
يرى التيمم إلى الرسغ والوتر ركعة ثم رأى التيمم إلى المرفق والوتر ثلاثا لا يعيد ما صلى، وإن فعل
عن جهل من غير أن يسأل أحدا ثم سأل فأمر بالثلاث يعيد ما صلى شفعوي المذهب إذا صار حنفيا
وقد فاتته صلوات في وقت كان شفعويا، ثم أراد أن يقضيها في الوقت الذي صار حنفيا

148
يقضي على مذهب أبي حنيفة ا ه‍. وفي المجتبى: من جهل فرضية الترتيب لا يجب عليه
كالناسي وهو قول جماعة من أئمة بلخ. وفي القدوري الكبير: ترك الظهر وصلى العصر ذاكرا
حتى فسد ثم قضى الظهر وصلى المغرب قبل إعادة العصر صح مغربه، ولو علم أن عليه
إعادة العصر لم تجز مغربه، ولم يفصل في الأصل بين ما إذا كان عالما أو جاهلا. قال
رحمه الله: وهذا معنى قولهم الفاسد لا يوجب الترتيب. هذا ما ظهر للعبد الضعيف، هذا
وقد ذكر في المحيط معزيا إلى النوادر: لو صلى الظهر على ظن أنه متوضئ ثم توضأ وصلى
العصر ثم تبين يعيد الظهر خاصة لأنه بمنزلة الناسي في حق الظهر فلم يلزمه مراعاة الترتيب
ا ه‍. وليس بمخالف لما قدمناه عنهم لأن فيما قدمناه كان وقت العصر ذاكرا أنه صلى الظهر
بغير طهارة، وفي مسألة النوادر التذكر حصل بعد أداء العصر.
قوله (وصيرورتها ستا) أي ويسقط الترتيب بصيرورة الفوائت ست صلوات لدخولها في
حد الكثرة المفضية للحرج لو قلنا بوجوبه والكثرة بالدخول في حد التكرار وهو أن تكون الفوائت
ستا وهو الصحيح، وبه اندفع ما روي عن محمد أن المعتبر دخول السادسة، واندفع ما في السراج
الوهاج وغاية البيان وكثير أن المعتبر دخول وقت السابعة لتصير الفوائت ستا إذ لا يتوقف
صيرورتها ستا على دخول السابعة كما لو ترك صلاة يوم كامل وفجر اليوم الثاني فإن الفوائت
صارت ستة بطلوع الشمس في اليوم الثاني ولم يدخل وقت السابعة، وقد يقال لما كان فائدة
السقوط صحة الوقتية وهي لا تكون إلا بدخول وقت السابعة اعتبر وقت السابعة. وجوابه أن
فائدة السقوط لم تنحصر فيما ذكر لأنه بدخول وقت السابعة لا يجب عليه الترتيب فيما بين
الفوائت أيضا كما سيأتي، وعبارة المصنف أولى من عبارة الهداية والقدوري حيث قالا: إلا أن
نزيد الفوائت على ست صلوات استثناء من قوله رتبها في القضاء لما يلزم من ظاهرها من كون
الفوائت سبعا على ما في فتح القدير، أو تسعا على ما في النهاية. وإن أجاب عنه في غاية البيان
بأن المراد بالفوائت الأوقات مجازا للاشتباه مع ما قدمناه من عدم اشتراط دخول وقت السابعة.
وصرح في المحيط بأن ظاهر الرواية أن الترتيب يسقط بصيرورة الفوائت ستا موفقا لما في المختصر

149
وصححه في الكافي، وبه اندفع ما صححه الشارح الزيلعي من أن المعتبر في سقوط الترتيب أن
تبلغ الأقات المتخللة منذ فاتته ستة أوقات وإن أدما بعدها في أوقاتها، ولهذا ذكر في الفتاوى
الظهيرية: لو تذكر فائتة بعد شهر تجوز الوقتية مع تذكر الفائتة إلا إذا كانت الفوائت ستا. وقال
الصدر الشهيد حسام الدين في واقعاته: إنه يجوز أه‍. وفي التجنيس: إن الجواز مختار الطحاوي
والفقيه أبي الليث وبه نأخذ لأن المتخلل بينهما أكثر من ست صلوات اه‍. وفي الولواجية: وهو
المختار عند المشايخ وهو موافق لتصحيح الشارح. وحاصله أنهم اختلفوا هل المعتبر صيرورة
الفوائت ستا في نفسها لو كانت متفرقة أو كون الأوقات المتخللة ستا، وثمرته تظهر فيما ذكرنا من
الفروع. والظاهر اعتماد ما وافق المتون من اعتبار صيرورة الفوائت ستا حقيقة، وما ذكره الشارح
الزيلعي ثمرة للخلاف المذكور من أنه لو ترك ثلاث صلوات مثلا الظهر من يوم والعصر من يوم
والمغرب من يوم ولا يدري أيتها أولى، فعلى اعتبار الأوقات سقط الترتيب لأن المتخلل بين الفوائت
كثيرة فيصلي ثلاثا فقط، وعلى اعتبار الفوائت في نفسها لا يسقط فيصلي سبع صلوات والأول
أصح اه‍. فغير صحيح لوجهين: الأول أنه لا يتصور على قول أبي حنيفة كون المتخللات
ست فوائت لأن مذهبه أن الوقتية المؤداة مع تذكر الفائتة تفسد فسادا موقوفا إلى أن يصلي

150
كمال خمس وقتيات، فإن لم يعد شيئا منها حتى دخل وقت السادس صارت كلها صحيحة كما
سيأتي. فقوله وقيل يعتبر أن تبلغ الفوائت ستا ولو كانت متفرقة غير متصور على قوله فلا
يبنى عليه شئ. الثاني أن اختلاف المشايخ في لزوم السبع أو الثلاث ليس مبنيا على ما ذكر
وإنما هو مبني على أن العبرة في سقوط الترتيب لتحقق فوت الست حقيقة أو معنى، فمن
أوجب السبع نظر إلى الأول لأنه لم يفته إلا ثلاث فلم يسقط الترتيب فيعيد ما صلى أولا، ومن
اقتصر على الثلاث نظر إلى الثاني لأن بإيجاب السبع بإيجاب الترتيب تصير الفوائت كسبع معنى،
فإذا كان الترتيب يسقط بست فأولى أن يسقط بسبع. فالحاصل أنا لو قلنا بوجوب الترتيب للزمه
قضاء سبع وهي كسبع فوائت فلذا أسقطنا الترتيب، وقول من أسقطه أوجه لأن المعنى الذي لأجله
سقط الترتيب بالست وهو الدخول في حد الكثرة المقتضية للحرج موجود في إيجاب سبع
بعينه، واقتصر عليه في التجنيس من غير حكاية خلاف ثم ذكر بعده الخلاف وقال: إن
السقوط هو مختارنا وغيره لا يعتمد عليه. وذكر الولوالجي أن من أوجب الترتيب فيه لا اعتماد
عليه لأنه قد زاد على يوم وليلة فلا يبقى الترتيب واجبا اه‍. وصححه في الحقائق معللا بأن
إعادة ثلاث صلوات في وقت الوقتية لأجل الترتيب مستقيم، أما إيجاب سبع صلوات في وقت
واحد لا يستقيم لتضمنه تفويت الوقتية اه‍. يعني أنه مظنة تفويت الوقتية.
فالحاصل أنه لا يلزمه إلا قضاء ما تركه من غير إعادة شئ على المذهب الصحيح إذا
كانت الفوائت ثلاثا أو أكثر فيلزمه قضاء ثلاث في الفرع المذكور، ولو ترك مع ذلك عشاء
من يوم آخر لزمه أربع، ولو ترك صبحا آخر لزمه خمس ولا يعيد شيئا مما صلاه وعلى القول
الضعيف، ففي المسألة الأولى يصلي سبعا لأنه إما أن يصلي ظهرا بين عصرين أو عصرا بين
ظهرين لاحتمال أن يكون ما صلاه أولا هو الآخر فيعيده ثم يصلي المغرب ثم يعيد ما صلاه
أولا لاحتمال كون المغرب أولا، وفي المسألة الثانية يقضي خمس عشرة صلاة السبعة الأولى
كما ذكرنا ثم يصلي بعدها العشاء ثم يعيد السبعة الأولى لاحتمال أن تكون العشاء هي الأولى،
وفي المسألة الثالثة يقضي إحدى وثلاثين صلاة الخمسة عشر الأولى ثم يصلي الفجر ثم يعيد

151
الخمسة عشر لاحتمال أن يكون الفجر هي الأولى. وإنما قيدنا بكون الفائت ثلاثة فأكثر لأنه لو
فاتته صلاتان الظهر من يوم والعصر من يوم ولا يدري الأول فعند أبي حنيفة يلزمه قضاء ثلاث
صلوات وهو إما ظهر بين عصرين أو عصر بين ظهرين لأن المتروك أولا إن كان هو المؤدى أولا
فالأخير نفل وإلا فالأول نفل. وقالا: لا يلزمه إلا صلاتان إلحاقا له بالناسي فيسقط الترتيب.
وأبو حنيفة ألحقه بناسي التعيين وهو من فاته صلاة لم يدر ما هي ولم يقع تحريه على شي يعيد
صلاة يوم وليلة بجامع تحقق طريق يخرج بها عن العهدة بيقين فيجب سلوكها، وهذا الوجه
يصرح بإيجاب الترتيب في القضاء عنده فيجب الطريق التي يعينها إلا كما قيل إنه مستحب
عندهم فلا خلاف بينهم. وفي فتاوى قاضيخان أن الفتوى على قولهما كأنه تخفيفا على الناس
لكسلهم وإلا فدليلهما لا يترجح على دليله، وقد ذكر في آخر الحاوي القدسي أنه إذا اختلف
أبو حنيفة وصاحباه فالأصح أن الاعتبار لقوة الدليل. فالحاصل أن الأصح المفتى به أنه لا يلزمه
القضاء إلا بقدر ما ترك، سواء كان المتروك صلاتين أو أكثر، وقد أفاد كلام المصنف أن
الفوائت إذا كثرت سقط الترتيب فيما بين الفوائت نفسها كما سقط بينها وبين الوقتية، وقد
صرح به في الهداية وجزم به في المحيط، وعلله في غاية البيان بأن الكثرة إذا كانت مسقطة
للترتيب في غيرها كانت مسقطة له في نفسها بالطريق الأولى لأن العلة إذا كان لها أثر في غير
محلها فلان يكون لها أثر في محلها أولى اه‍. ونص الزاهدي على أنه الأصح وبهذا اندفع ما في
الظهيرية والخانية من أن الفوائت لو كثرت وأراد أن يقضيها فإنه يراعي الترتيب في القضاء،
وتفسير ذلك أنه إذا قضى فائتة ثم فائتة فإن كان بين الأولى والثانية فوائت ست يجوز له قضاء
الثانية، وإن كانت أقل من ست لا يجوز قضاء الثانية ما لم يقض ما قبلها. وقيل في الفوائت إذا
كثرت سقط الترتيب حتى لو قضى ثلاثين فجرا ثم قضى ثلاثين ظهرا ثم قضى ثلاثين عصرا
جاز اه‍. وأفاد كلامه أيضا أنه لا فرق بين الفوائت القديمة والحديثة حتى لو ترك صلاة شهر
فسقا ثم أقبل على الصلاة ثم ترك فائتة حادثة فإن الوقتية جائزة مع تذكر الفائتة الحادثة
لانضمامها إلى الفوائت القديمة وهي كثيرة فلم يجب الترتيب، ولان بالحديثة ازدادت الكثرة
فيتأكد السقوط، ولأنه لو اشتغل بهذه الفائتة لكان ترجيحا بلا مرجح، ولو اشتغل بالكل
تفوت الوقتية فتعين ما ذكرنا. وقال بعضهم: إن المسقط الفوائت الحديثة، وأما القديمة فلا
تسقط ويجعل الماضي كأن لم يكن زجرا له عن التهاون بالصلوات فلا تجوز الوقتية مع
تذكرها وصححه في معراج الدراية معزيا إلى المحيط للصدر الشهيد، وفي التجنيس وعليه
الفتوى، وذكر في المجتبى أن الأول أصح، وفي الكافي والمعراج وعليه الفتوى فقد اختلف

152
التصحيح والفتوى كما رأيت والعمل بما وافق إطلاق المتون أولى خصوصا أن على القول
الثاني يؤدي إلى التهاون لا إلى زجره عنه، فإن من اعتاد تفويت الصلوات لو أفتى بعدم الجواز
يفوت أخرى ثم وثم حتى تبلغ الحديثة حد الكثرة كما في الكافي.
قوله (ولم يعد بعودها إلى القلة) أي لم يعد وجوب الترتيب بعود الفوائت إلى القلة
بسبب القضاء بعد سقوطه بكثرتها كما إذا ترك رجل صلاة شهر مثلا ثم قضاها إلا صلاة ثم
صلى الوقتية ذاكرا لها فإنها صحيحة لأن الساقط قد تلاشى فلا يحتمل العود كالماء القليل إذا
تنجس فدخل عليه الماء الجاري حتى كثر وسال ثم عاد إلى القلة لا يعود نجسا. واختاره
الإمام السرخسي والإمام البزدوي حيث قالا: ومتى سقط الترتيب لم يعد في أصح
الروايتين. وصححه أيضا في الكافي والمحيط، وفي معراج الدراية وغيره وعليه الفتوى.
وقيل يعود الترتيب وليس هو من قبيل عود الساقط بل من قبيل زوال المانع كحق الحضانة إذا
ثبت للام ثم تزوجت ثم ارتفعت الزوجية فإنه يعود لها. واختاره في الهداية قال: إنه الأظهر
مستدلا بما روي عن محمد فيمن ترك صلاة يوم وليلة وجعل يقضي من الغد مع كل وقتية
فائتة فالفوائت جائزة على كل حال والوقتيات فاسدة إن قدمها لدخول الفوائت في حد القلة
وإن أخرها فكذلك إلا العشاء الأخيرة لأنه لا فائتة عليه في ظنه حال أدائها اه‍. ورده في
الكافي والتبيين بأنه لا دلالة فيه لأن الترتيب لو سقط لجازت الوقتية التي بدأ بها ولان
الترتيب إنما يسقط بخروج وقت السادسة ولم يخرج هنا ولا يمكن حمله على ما روي عن
محمد أن الترتيب يسقط بدخول وقت السادسة لأن حكمه بفساد الوقتية التي بدأ بها يمنع من
ذلك إذ لو كان مراده على تلك الرواية لما فسدت التي بدأ بها أول مرة لسقوط الترتيب عنده.
وذكره في فتح القدير وارتضاه ورده الشيخ قاسم في حاشيته على الزيلعي بأنه مبني على ما
روي عن محمد فقد نص جماعة من محققي المشايخ على أن من أصل محمد أنه إذا دخل وقت
السادسة سقط الترتيب إلا أن سقوطه يتقرر بخروج وقت السادسة فإذا أدى وقتية توقف
جوازها على قضاء الفائتة وعدمه، فإذا قضى دخلت الفوائت في حد القلة فبطلت الوقتية
لأنها أديت عند ذكر الفائتة ولذا صرح في رواية ابن سماعه عن محمد في تعليل ذلك بقوله لأنه كلما فائتة عادت الفوائت أربعا وفسدت الوقتية إلا العشاء فإنه صلاها. وعنده أن جميع ما

153
عليه قد قضاه فأشبه الناسي اه‍. وما أجيب به في المعراج من أن المسألة مفروضة فيمن مد
الوقتية التي شرع فيها إلى آخر الوقت ثم قضى الفائتة بعد خروج الوقت، ولا بد أن يكون
الشروع في سعة الوقت إذ لو كان عند الضيق لكانت الوقتية صحيحة رد بقوله في الكتاب
صلى مع كل فائتة وقتية ومع للقرآن. وذكر في فتح القدير: ولا يخفى أن إبطال الدليل
المعين لا يستلزم بطلان المدلول فكيف بالاستشهاد. وحاصله بطلان أن يكون ذلك نصا عن
محمد في المسألة فليكن كذلك فهو غير منصوص عليه من المتقدمين لكن الوجه يساعده بجعله
من قبيل انتهاء الحكم بانتهاء علته، وذلك أن سقوط الترتيب كان بعلة الكثرة المفضية إلى
الحرج أو أنها مظنة تفويب الوقتية، فلما قلت زالت العلة فعاد الحكم الذي كان قبل كحق
الحضانة اه‍. وفيه نظر لأنا قد نقلنا عن الإمامين السرخسي والبزدوي كما في غاية البيان أنه
متى سقط الترتيب لم يعد في أصح الروايتين. وفي المحيط: لم يعد في أصح الروايات فكيف
يقال إنه غير منصوص عليه من المتقدمين وهو أصح الروايات عن المتقدمين إذا الروايات إنما
هي منسوبة إليهم لا إلى المشايخ، وليس هو من قبيل زوال المانع في التحقيق لأن المقتضى

154
للترتيب مع كثرة الفوائت ليس بموجود أصلا ولذا اتفقت كلمتهم متونا وشروحا على أن
الترتيب يسقط بثلاثة أشياء، فصرح الكل بالسقوط والساقط لا يعود اتفاقا بخلاف حق
الحضانة فإن المقتضى لها موجود مع التزوج لأنه القرابة المحرمية مع صغر الولد وقد منع
التزوج من عمل المقتضى، فإذا زال التزوج زال المانع فعمل المقتضى عمله، فالفارق بين
البابين وجود المقتضى وعدمه، ولذا كان الأصح في مسألة المني إذا فرك من الثوب ثم أصابه
ماء وأخواتها عدم عود النجاسة كما ذكرنا. ولو قال المصنف ولم يعد بزوالها ليكون الضمير
راجعا إلى الثلاثة أعني ضيق الوقت والنسيان وصيرورتها ستا لكان أولى لأن الحكم كذلك
فيها.
قال في المجتبي: ولو سقط الترتيب لضيق الوقت ثم خرج الوقت لا يعود على الأصح
حتى لو خرج في خلال الوقتية لا تفسد على الأصح وهو مؤد على الأصح لا قاض، واقتداء
المسافر بعد غروب الشمس في العصر بمقيم شرع فيه في الوقت لا يصح، وكذا لو سقط مع
النسيان ثم تذكر لا يعود. ولو نسي الظهر وافتتح العصر ثم ذكره عند احمرار الشمس يمضي
لضيق الوقت، وكذا لو غربت، وكذا لو افتتحها عند الاصفرار ذاكرا ثم غربت اه‍. وقوله
واقتداء المسافر ينتجه كونه مؤديا كما لا يخفى. والذي ظهر للعبد الضعيف أن ما ذكره في
المجتبي من عدم عوده بالتذكر خطأ لأن كلمتهم اتفقت عند ذكر المسائل الاثني عشرية السابقة
أنه لو تذكر فائتة وهو يصلي فإن كان قبل القعود قدر التشهد بطلت صلاته اتفاقا، وإن كان بعد
القعود بطلت عنده، وعندهما لا تبطل. فقد حكموا بعوده بالتذكر ولهذا قال في معراج الدراية
والنهاية: إنه لو سقط بالنسيان وضيق الوقت فإنه يعود بالتذكر وسعة الوقت بالاتفاق اه‍. ولذا
والله أعلم اقتصر في المختصر على عدم العود بقلة الفوائت وإن حمل ما في المجتبي على تذكره
بعد الفراغ من الصلاة فيكون محل الخلاف الترتيب بين الفائتة والوقتية في المستقبل لا فيما صلاه

155
حالة النسيان وتذكر قبل الفراغ فبعيد مخالف لسياق كلامه في ضيق الوقت لتصريحه فيه بعدم
العود. ولو خرج في خلاله بقي ههنا كلام وهو أنه بعد أن حكم باستحقاق الترتيب بين
الفائتة والوقتية وبين الفوائت حكم بسقوطه بثلاثة أشياء فشمل النوعين، وقد قدمنا أن
سقوطه بكثرة الفوائت يشمل النوعين، وأما بالنسيان فالظاهر شموله لهما، وأما بضيق الوقت
فهو خاص بالترتيب بين الفائتة والوقتية، وأما الترتيب فيما بين الفوائت فلا يسقط به حتى لو
قدم المتأخرة من الفوائت عند ضيق الوقت لا يجوز لأنه ليس بمسقط حقيقة، وإنما قدمت
الوقتية عند العجز عن الجمع بينهما لقوتها مع بقاء الترتيب كما ذكره الشارح.
قوله (فلو صلى فرضا ذاكرا فائتة ولو وترا فسد فرضه موقوفا) أي فساد هذا الفرض
موقوف على قضاء الفائتة قبل أن تصير الفوائت كثيرة مع الفائتة فإن قضاها قبله فسد هذا
الفرض وما صلاه بعده متذكرا، وإن لم يقضها حتى صارت الفوائت مع الفائتة ست صلوات
فما صلاه متذكرا لها صحيح. قال في المبسوط: هذه المسألة هي التي يقال واحدة تصحح
خمسا وواحدة تفسد خمسا فالواحدة المصححة للخمس هي السادسة قبل قضاء المتروكة،
والواحدة المفسدة للخمس هي المتروكة تقضى قبل السادسة اه‍. وهذا عند أبي حنيفة،
وعندهما الفساد متحتم لا يزول وهو القياس لأن سقوط الترتيب حكم والكثرة علة له فإنما
يثبت الحكم إذا ثبتت العلة في حق ما بعدها فأما فحق نفسها فلا. وهذا لأن العلة ما
تحل بالمحل فيتغير لحلوله المحل فلا يجوز أن يكون نفس العلة محلا للعلة للاستحالة. ولأبي
حنيفة أن الحكم مع العلة يقترنان لما عرف في الأصول والكثرة صفة هذا المجموع وحكمها
سقوط الترتيب فإذا ثبت صفة الكثرة بوجود الأخيرة استندت الصفة إلى أولها بحكمها فيجوز

156
الكل كمرض الموت لما ثبت له هذا الوصف استند إليه بحكمه، ولهذا لو أعادها بلا ترتيب
جازت عندهما أيضا، وهذا لأن المانع من الجواز قلتها وقد زالت فيزول المنع. وفي العناية:
لا يقال كل واحدة من آحادها جزؤها متقدمة عليها فكيف يكون معلولا لها لأنها جزؤها من
حيث الوجود ولا كلام فيه وإنما الكلام من حيث الجواز وذلك متأخر لأنه لم يكن ثابتا لكل
واحدة منها قبل الكثرة ولا يمتنع أن يتوقف حكم على أمر حتى يتبين حاله كتعجيل الزكاة إلى
الفقير يتوقف كونها فرضا على تمام الحول والنصاب نام، فإن تم على نمائه كان فرضا وإلا
نفل. وكون المغرب في طريق مزدلفة فرضا على عدم إعادتها قبل الفجر فإن أعادها كانت
نفلا. والظهر يوم الجمعة على عدم شهودها فإن شهدها إ كانت نفلا. وصحة صلاة المعذور إذا
انقطع العذر فيها على عوده في الوقت الثاني فإن لم يعد فسدت وإلا صحت. وكون الزائد
على العادة حيضا على عدم مجاوزة العشرة فإن جاوزت فاستحاضة وإلا حيض. وصحة
الصلاة التي صلتها صاحبة العادة فيما إذا انقطع دمها دون العادة فاغتسلت وصلت على عدم
العود فإن عادت ففاسدة وإلا فصحيحة.
ثم اعلم أن المذكور في الهداية وشروحها كالنهاية والعناية وغاية البيان، وكذا في الكافي
والتبيين وأكثر الكتب أن انقلاب الكل جائزا موقوف على أداء ست صلوات. وعبارة الهداية:
ثم العصر تفسد فسادا موقوفا حتى لو صلى ست صلوات ولم يعد الظهر انقلب الكل جائزا.
والصواب أن يقال: حتى لو صلى خمس صلوات وخرج وقت الخامسة من غير قضاء الفائتة
انقلب الكل جائزا لأن الكثرة المسقطة بصيرورة الفوائت ستا فإذا صلى خمسا وخرج وقت
الخامسة صارت الصلوات ستا بالفائتة المتروكة أولا، وعلى ما صوره يقتضي أن تصير

157
الصلوات سبعا وليس بصحيح. وقد ذكره في فتح القدير بحثا ثم أطلعني الله عليه بفضله
منقولا في المجتبى وعبارته: ثم اعلم أن فساد الصلاة بترك الترتيب موقوف عند أبي حنيفة،
فإن كثرت وصارت الفواسد مع الفائتة ستا ظهر صحتها وإلا فلا اه‍. ولقد أحسن رحمه
الله وأجاد هنا كما هو دأبه في التحقيق ونقل الغرائب وعلى هذا، فقول صاحب المبسوط
أن الواحدة المصححة للخمس هي السادسة قبل قضاء المتروكة غير صحيح لأن المصحح
للخمس خروج وقت الخامسة كما علمت. وأطلق المصنف التوقف فشمل ما إذا ظن
وجوب الترتيب أو ظن عدمه وتعليلهم أيضا يرشد إليه فما في شرح المجمع المصنف معزيا
إلى المحيط أن عدم وجوب الإعادة عنده إذا لم يعلم من فاتته الصلاة وجوب الترتيب وفساد
صلاته بدونه، أما إذا علم فعليه إعادة الكل اتفاقا لأن العبد مكلف بما عنده ضعيف.
وعلله في فتح القدير بأن التعليل المذكور يقطع بإطلاق الجواب ظن عدم الوجوب أولا
وقيد بفساد الفرضية لأنه لا يبطل أصل الصلاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد
يبطل لأن التحريمة عقدت للفرض فإذا بطلت الفرضية بطلت التحريمة أصلا، ولهما أنها
عقدت لأصل الصلاة بوصف الفرضية فلم يكن من ضرورة بطلان الوصف بطلان
الأصل. كذا في الهداية، وفائدته تظهر في انتقاض الطهارة بالقهقهة. كذا في الغاية.
وأطلق في التذكر ولم يقيده بالعلم لما في الولوالجية: رجل دخل في صلاة الظهر ثم شك

158
في صلاة الفجر أنه صلاها أم لا، فلما فرغ من صلاته تيقن أنه لم يصل الفجر يصلي الفجر
ثم يعيد الظهر لأنه لما تحقق ظنه صار كأنه في الابتداء متيقن كالمسافر إذا تيمم وصلى ثم رأى
سرابا في صلاته ثم ظهر بعد فراغه من الصلاة أنه كان ماء يتوضأ ويعيد
الصلاة كذا ههنا اه‍. وفي المحيط: رجل لم يصل الفجر وصلى بعدها أربع صلوات من يوم
شهرا قيل لا تجزئه الصلوات الأربعة في اليوم الأول وتجزئه في اليوم الثاني لسقوط الترتيب
عنه لكثرة الفوائت، ولا تجزئه في اليوم الثالث لكثرة الترتيب، وهكذا يجري فمن كل عشرة
صلوات ستة صلوات فاسدة وأربعة منها جائزة. وكذا لو صلى الفجر شهرا ولم يصل سائر
الصلوات يجزئه خمس عشرة صلاة من الفجر لا يجزئه غيرها. وقيل: إنه يجزئه الصلوات
الأربعة في كل يوم إلا في اليوم الأول ويجزئه كل فجر إلا الفجر في اليوم الثاني لأنه صلى
الفجر الثاني وعليه أربع صلوا ت فلم يجزه لقلة الفوائت، وبعد ذلك كثرت الفوائت فسقط
الترتيب والترتيب متى سقط لا يعود اه‍. واقتصر على القول الأول في التجنيس وقال: إنه
يؤيد قول من لا يعتبر الفوائت القديمة في إسقاط الترتيب، وقد أجاب الإمام حسام الدين
في نظيره في الفصل الذي قبله بخلاف هذا اه‍. فالمفتي به هو القول الثاني كما لا يخفى.
وقوله ولو وترا بيان لقول أبي حنيفة لأن عنده الوتر فرض عملي فوجب الترتيب بينه وبين
الوقتية حتى لو صلى الفجر ذاكرا للوتر فسد فجره عنده موقوفا كما تقدم، وعندهما لا يفسد
لأن الوتر سنة ولا ترتيب بين الفرائض والسنن حتى لو تذكر فائتة في تطوعه لم يفسد تطوعه
لأنه عرف واجبا في الفرض بخلاف القياس فلا يلحق به غيره.
تتمة: ترك الصلاة عمدا كسلا يضرب ويحبس حتى يصليها ولا يقتل وإذا جحد
واستخف وجوبها يقتل. وفي الكافي: ومن قضى الفوائت ينوي أول ظهر لله عليه أو آخر
ظهر لله عليه احتياطا ولو لم يقل الأول والآخر وقال نويت الظهر الفائتة جاز. وفي
الخلاصة: غلام احتلم بعدما صلى العشاء ولم يستيقظ حتى طلع الفجر ليس عليه قضاء
العشاء، والمختار أن عليه قضاء العشاء. وإذا استيقظ قبل الطلوع عليه قضاء العشاء بالاجماع

159
وهي واقعة محمد بن الحسن سألها أبا حنيفة فأجابه بما ذكرنا فأعاد العشاء. إذا فاتت صلاة
عن وقتها ينبغي أن يقضيها في بيته ولا يقضيها في المسجد. إذا مات الرجل وعليه صلوات
فائتة وأوصى بأن يعطى كفارة صلاته يعطى لكل صلاة نصف صاع من بر، وللوتر نصف
صاع، ولصوم يوم نصف صاع وإنما يعطى من ثلث ماله، وإن لم يترك مالا تستقرض ورثته
نصف صاع ويدفع إلى المسكين ثم يتصدق المسكين على بعض ورثته ثم يتصدق ثم وثم حتى
يتم لكل صلاة ما ذكرنا، ولو قضاها ورثته بأمره لا يجوز وفي الحج يجوز اه‍. وفي الظهيرية
اتفق المشايخ على تنفيذ هذه الوصية من ثلث ماله، واختلفوا هل يقوم الاطعام مقام الصلاة،
قال محمد بن مقاتل ومحمد بن سملة: يقوم. وقال البلخي: لا يقوم. ولا رواية في سجدة
التلاوة أنه يجب أولا. ولو أعطى فقيرا واحدا جملة جاز بخلاف كفارة اليمين، ولو أعطى عن

160
خمس صلوات تسعة أمناء فقيرا ومنا فقيرا آخر قال أبو بكر الإسكاف: يجوز ذلك كله. وقال
أبو القاسم: وهو اختيار الفقيه أبي الليث يجوز عن أربع صلوات دون الخامسة لأنه متفرق،
ولا يجوز أن يعطى كل مسكين أقل من نصف صاع في كفارة اليمين فكذلك هذا. فالحاصل
أن كفارة الصلاة تفارق كفارة اليمين في حق أنه لا يشترط فيها العدد وتوافقها من حيث إنه
لو أدى أقل من نصف صاع إلى فقير واحد لا يجوز اه‍ والله أعلم.
باب سجود السهو
لما فرغ من ذكر الأداء والقضاء شرع في بيان ما يكون جابر النقصان يقع فيهما. كذا
في العناية. والأولى أن يقال: لما فرغ من ذكر الصلاة نفلها وفرضها أداء وقضاء شرع فيما
يكون جابرا لنقصان يقع فيها فإن سجود السهو في مطلق الصلاة ولا يختص بالفرائض.
وهذه الإضافة من باب إضافة الحكم إلى السبب وهي الأصل في الإضافات لأن الإضافة
للاختصاص وأقوى وجوه الاختصاص اختصاص المسبب بالسبب. وذكر في التحرير أنه لا
فرق في اللغة بين النسيان والسهو وهو عدم الاستحضار في وقت الحاجة. وفرق بينهما في
السراج الوهاج بأن النسيان عزوب الشئ عن النفس بعد حضوره، والسهو قد يكون عما
كان الانسان عالما به وعما لا يكون عالما به. وظاهر كلام الجم الغفير أنه لا يجب السجود في
العمد وإنما تجب الإعادة إذا ترك واجبا عمدا جبرا لنقصانه. وذكر الولوالجي في فتاواه أن
الواجب إذ تركه عمدا لا ينجبر بسجدتي السهو لأنهما عرفتا جابرتين بالشرع والشرع ورد
حالة السهو وجعلهما مثلا لهذا الفائت لا فوقه، لأن الشئ لا يجبر بما فوقه والنقصان
المتمكن بترك الواجب عامدا فوق النقصان المتمكن بتركه ساهيا، وهذا الجابر إذا كان مثلا
للفائت سهوا كان أدون من الفائت عمدا والشئ لا يجبر بما هو دونه اه‍. وحاصله أن
الملاءمة بين السبب والمسبب شرط والعمد جناية محضة والسجدة عبادة فلا تصلح سببا لها،
وهذا بإطلاقه يفيد أنه لا فرق بين واجب وواجب. فما في المجتبى من أنه لا سجود في

161
تركه عمدا إلا في مسألتين ذكره فخر الاسلام البديعي إذا ترك القعدة الأولى عمدا أو شك
في بعض أفعال صلاته فتفكر عمدا حتى شغله ذلك عن ركن قلت له: كيف يجب سجود
السهو بالعمد؟ قال: ذلك سجود العذر لا سجود السهو اه‍. وما في الينابيع عن الناطفي:
لا يجب سجود السهو في العمد إلا في موضعين: الا وتأخير إحدى سجدتي الركعة الأولى
إلى آخر الصلاة، والثاني ترك القعدة الأولى اه‍ فتحصل أنها ثلاثة مواضع مشكل.
ولعلهم نظروا إلى أن هذه الواجبات الثلاثة أدنى الواجبات فصلح أن يجيرها سجود السهو حالة
العمد، أما القعدة الأولى فللاختلاف في وجوبها بل قد أطلق أكثر مشايخنا عليها اسم السنة
كما قدمناه، وكذا الثاني والثالث لم يكن لهما دليل صريح في الوجوب.
قوله (يجب بعد السلام سجدتان بتشهد وتسليم بترك واجب وإن تكرر) بيان لأحكام:
الأول وجوب سجدتي السهو وهو ظاهر الرواية لأنه شرع لرفع نقص تمكن في الصلاة ورفع
ذلك واجب. وذكر القدوري أنه سنة كذا في المحيط. وصحح في الهداية وغيرها الوجوب
لأنها تجب لجبر نقصان تمكن في العبادة فتكون واجبة كالدماء في الحج، ويشهد له من السنة
ما ورد في الأحاديث الصحيحة من الامر بالسجود. والأصل في الامر أن يكون للوجوب
ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على ذلك. وفي معراج الدراية: إنما جبر النقصان في باب الحج
بالدم وفي باب الصلاة بالسجود لأن الأصل أن الجبر من جنس الكسر وللمال مدخل في
باب الحج فيجبر نقصانه بالدم ولا مدخل للمال في باب الصلاة فيجبر النقصان بالسجدة اه‍.

162
وظاهر كلامهم أنه إذا لم يسجد فإنه يأثم بترك الواجب ولترك سجود السهو. ثم اعلم أن
الوجوب مقيد بما إذا كان الوقت صالحا حتى إن من عليه السهو في صلاة الصبح إذا لم يسجد
حتى طلعت الشمس بعد السلام الأول سقط عنه السجود، وكذا إذا سها في قضاء الفائتة فلم
يسجد حتى احمرت، وكذا في الجمعة إذا خرج وقتها، وكل ما يمنع البناء إذا وجد بعد السلام
يسقط السهو. الثاني محله المسنون بعد السلام سواء كان السهو بإدخال زيادة في الصلاة أو
نقصان منها، وعند الشافعي قبله فيهما، وعند ما لك قبله في النقصان وبعده في الزيادة،
وألزمه أبو يوسف فيما إذا كان عنهما فتحير وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه سجد قبل السلام وصح أنه
سجد بعده فتعارضت روايتا فعله فرجعنا إلى قوله المروي في سنن أبي داود أنه عليه الصلاة
والسلام قال لكل سهو سجدتان بعد السلام. وفي صحيح البخاري في باب التوجه نحو
القبلة حيث كان في حديث قال فيه إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه ثم
ليسلم ثم ليسجد سجدتين فهذا تشريع عام قولي بعد السلام عن سهو الشك والتحري ولا
قائل بالفصل بينه وبين تحقق الزيادة والنقص، وهذا الخلاف في الأولوية حتى لو سجد قبل
السلام لا يعيده لأنه لو أعاد يتكرر وأنه خلاف الاجماع وذلك كان مجتهدا فيه. وروي عن
أصحابنا أنه لا يجزئه ويعيده. كذا في المحيط. وفي غاية البيان: إن الجواز ظاهر الرواية. وفي
التجنيس: لو كان الإمام يرى سجدتي السهو وقبل السلام والمأموم بعد السلام، قال بعضهم:
يتابع الإمام لأن حرمة الصلاة باقية فيترك رأيه برأي الإمام تحقيقا للمتابعة. وقال بعضهم: لا
يتابع ولو تابعه لا إعادة عليه اه‍. وكأن القول الأول مبني على ظاهر الرواية، والثاني على غيرها
كما لا يخفى. وذكر الفقيه أبو الليث في الخزانة أنه قبل السلام مكروه والظاهر أنها كراهة
تنزيه. وعلل في الهداية لكونه بعد السلام أن سجود السهو مما لا يتكرر فيؤخر عن السلام حتى

163
لو سها عن السلام ينجبر به. وصور في غاية البيان السهو عن السلام بأن قام إلى الخامسة
مثلا ساهيا يلزمه سجود السهو لتأخير السلام. وصوره الأسبيجابي وصاحب التجنيس بما إذا
بقي قاعدا على ظن أنه سلم ثم تبين أنه لم يسلم فإنه يسلم ويسجد للسهو ولكون سجود
السهو لا يتكرر لو شك في السهو فإنه يتحرى ولا يسجد لهذا السهو. وحكى أن محمد بن
الحسن قال للكسائي ابن خالته: لم لا تشتغل بالفقه؟ فقال: من أحكم علما فذلك يهديه إلى
سائر العلوم. فقال محمد رحمه الله: أنا ألقي عليك شيئا من مسائل الفقه فتخرج جوابه من
النحو فقال: هات. قال: فما تقول فيمن سها في سجود السهو فتفكر ساعة فقال: لا
سجود عليه. فقال: من أي باب من النحو خرجت هذا الجواب؟ فقال: من باب أن المصغر
لا يصغر، فتحير من فطنته.
وأطلق المصنف في السلام فانصرف إلى المعهود في الصلاة وهو تسليمتان كما هو في
الحديث، وصححه في الظهيرية والهداية، وذكر في التجنيس أنه المختار، وعلل علي البزدوي
فقال: لم يجن ملك الشمال حتى تترك السلام عليه. وعزاه في البدائع إلى عامتهم، واختار
فخر الاسلام أنه يسجد بعد التسليمة الأولى ويكون تلقاء وجهه لا ينحرف. وذكر في المحيط
أنه الأصوب لأن الأول للتحليل والثاني للتحية وهذا السلام للتحليل لا للتحية فكان ضم
الثاني إلى الأول عبثا. واختاره المصنف في الكافي وقال: إن عليه الجمهور وإليه أشار في
الأصل وهو الصواب، فقد تعارض النقل عن الجمهور. وهناك قولان آخران: أحدهما أنه
يسلم عن يمينه فقط وصححه في المجتبى. ثانيهما لو سلم التسليمتين سقط عنه سجود
السهو لأنه بمنزلة الكلام حكاه الشارح عن خواهر زاده فقد اختلف التصحيح فيها. والذي
ينبغي الاعتماد عليه تصحيح المجتبي أنه يسلم عن يمينه فقط لأن السلام عن اليمين معهود

164
وبه يحصل التحليل فلا حاجة إلى غيره. الثالث فيما يفعله بين السجدتين فذكر أنه التشهد
والسلام والظاهر وجوبهما كما صرح به في المجتبي ولما في الحاوي القدسي أن كل قعدة في
الصلاة غير الأخيرة فهي واجبة ولم يذكر تكبير السجود وتسبيحه ثلاثا للعلم به وكل منهما
مسنون كما في المحيط وغيره. وأشار بالتشهد والسلام إلى أن التشهد والسلام في القعود
الأخير قد ارتفعا بالسجود، وإنما لم يرفع السجود القعود لأنه أقوى من السجود لفرضيته
ولذا قال في التجنيس: ولو سجدهما ولم يقعد لم تفسد صلاته لأن القعود ليس بركن.
واتفقوا على أنه في السجدة الصلبية لو تذكرها بعد قعوده فسجدها فإن القعود قد ارتفض
فيقعد للفرض لأن السجدة الصلبية أقوى من القعدة، وفيما إذا تذكر سجدة تلاوة فسجدها
روايتان أصحهما أنها كالصلبية لأنها أثر القراءة وهي ركن فأخذت حكمها. وعليه تفريع ما
في عمدة الفتاوى: إذا سلم الإمام وتفرق القوم ثم تذكر في مكانه أن عليه سجدة التلاوة
يسجد ويقعد قدر التشهد، فإن لم يقعد فسدت صلاة الإمام وصلاة القوم تامة لأن ارتفاض
القعدة في حق الإمام ثبت بعد انقطاع المتابعة اه‍. ولم يذكر حكم الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
في القعدتين والأدعية للاختلاف، فصحح في البدائع والهداية أنه يأتي بالصلاة والدعاء في
قعدة السهو لأن الدعاء موضعه آخر الصلاة ونسبة الأول إلى عامة المشايخ بما وراء النهر.
وقال فخر الاسلام: إنه اختيار عامة أهل النظر من مشايخنا وهو المختار عندنا. واختار
الطحاوي أنه يأتي بهما فيهما، وذكر قاضيخان وظهير الدين أنه الأحوط وجزم به في منية
المصلي في الصلاة ونقل الاختلاف في الدعاء. وقيل: إنه يأتي بهما في الأول فقط وصححه
الشارح معزيا إلى المفيد لأنها للختم. الرابع سببه ترك واجب من واجبات الصلاة الأصلية
سهوا وهو المراد بقوله بترك واجب لا كل واجب بدليل ما سنذكره من أنه لو ترك ترتيب
السور لا يلزمه شئ مع كونه واجبا وهو أجمع ما قيل فيه، وصححه في الهداية وأكثر

165
الكتب. وما في القدوري من قوله أو ترك فعلا مسنونا أراد به فعلا واجبا ثبت وجوبه
بالسنة. وقد عدها المصنف في باب صفة الصلاة اثني عشر واجبا: الأول قراءة الفاتحة فإن
تركها في إحدى الأوليين أو أكثرها وجب عليه السجود، وإن ترك أقلها لا يجب لأن للأكثر
حكم الكل. كذا في المحيط. وسواء كان إماما أو منفردا. كذا في التجنيس.
وفي المجتبي: إذا ترك من الفاتحة آية وجب عليه السجود وإن تركها في الأخريين لا
يجب إن كان في الفرض، وإن كان في النفل أو الوتر وجب عليه لوجوبها في الكل، وقد
قدمنا أنه لو تركها في الأوليين لا يقضيها في الأخريين في ظاهر الرواية بخلاف السورة وبينا
الفرق. الثاني ضم سورة إلى الفاتحة وقد قدمنا أن المراد بها ثلاث آيات قصار أو آية طويلة فلو
لم يقرأ شيئا مع الفاتحة أو قرأ آية قصيرة لزمه السجود. كذا ذكره الشارح، وظاهره أنه لو ضم إلى الفاتحة آيتين قصيرتين وترك آية فإنه لا سهو عليه لأن للأكثر حكم الكل كما قالوا
في الفاتحة، بل أولى لأن وجوب الفاتحة آكد للاختلاف بين العلماء في ركنيتها لكن في
الظهيرية: لقرأ الفاتحة وآيتين فخر راكعا ساهيا ثم تذكر فعاد وأتم ثلاث آيات فعليه سجود
السهو، وفي المحيط: ولو ترك السورة فذكرها قبل السجود عاد وقرأها. وكذا لو ترك الفاتحة
فذكرها قبل السجود قرأها ويعيد السورة لأنها تقع فرضا بالقراءة بخلاف لو تذكر القنوت في
الركوع فإنه لا يعيد، ومتى عاد في الكل فإنه يعيد ركوعه لارتفاضه. وفي الخلاصة:
ويسجد للسهو فيما إذا عاد أو لم يعد إلى القراءة، وقد قدمنا في ذكر الواجبات أنه يجب
تقديم الفاتحة على السورة وأنه يجب أن لا يؤخر السورة عن قراءة الفاتحة فكذا لو بدأ بالسورة
ثم تذكر يبدأ بالفاتحة ثم يقرأ السورة ويسجد للسهو وإن قرأ من السورة حرفا. كذا في
المجتبي. وقيده في فتح القدير بأن يكون مقدار ما يتأدى به ركن عن قراءة الفاتحة، ولو قرأ
الفاتحة مرتين يجب عليه السجود لتأخير السورة. كذا في الذخيرة وغيرها. وذكر قاضيخان
وجماعة أنها إن قرأها مرتين على الولاء وجب السجود وإن فصل بينهما بالسورة لا يجب
وصححه الزاهدي للزوم تأخير السورة في الأول لا في الثاني إذ ليس الركوع واجبا بأثر
السورة فإنه لو جمع بين سورتين بعد الفاتحة لم يمتنع ولا يجب عليه شئ بفعل مثل ذلك في

166
الأخريين لأنهما محل القراءة وهي ليست بواجبة فيهما وقراءة أكثر الفاتحة ثم إعادتها كقراءتها مرتين
كما في الظهيرية. ولو ضم السورة إلى الفاتحة في الأخريين لا سهو عليه في الأصح. وفي
التجنيس: لو قرأ سورة ثم قرأ في الثانية سورة قبلها ساهيا لا يجب عليه السجود لأن مراعاة
ترتيب السور من واجبات نظم القرآن لا من واجبات الصلاة فتركها لا يوجب سجود السهو.
الثالث تعيين القراءة في الأوليين، فلو قرأ في الأخريين أو في إحدى الأوليين وإحدى الأخريين
ساهيا لزمه السجود وهو خاص بالفرض، أما في النفل والوتر فلا بد من القراءة في الكل،
واختلفوا في قراءته في الأخريين هل هي قضاء عن الأوليين أو أداء، فذكر القدوري أنها أداء لأن
الفرض هو القراءة في ركعتين غير عين. وقال غيره: إنه قضاء استدلالا بعدم صحة اقتداء المسافر
بالمقيم بعد خروج الوقت وإن لم يكن الإمام قرأ في الشفع الأول، ولو كانت في الأخريين أداء
لجاز لأنه يكون اقتداء المفترض بالمفترض في حق القراءة فلما لم يجز علم أنها قضاء وإن الأخريين
خلت عن القراءة وبوجوب القراءة على مسبوق أدرك إمامه في الأخريين ولم يكن قرأ في الأوليين.
كذا في البدائع. الرابع رعاية الترتيب في فعل مكرر فلو ترك سجدة من ركعة فتذكرها في آخر
صلاة سجدها وسجد للسهو لترك الترتيب فيه وليس عليه إعادة ما قبلها، وكذا لو قدم الركوع
على القراءة لزمه السجود لكن لا يعتد بالركوع فيفترض إعادته بعد القراءة. وفي المجتبي: وفي
تأخير سجدة التلاوة روايتان، وجزم في التجنيس بعدم الوجوب لأن سجدة التلاوة ليس بواجب
أصلي في الصلاة. الخامس تعديل الأركان وهو الطمأنينة في الركوع والسجود، وقد اختلف في

167
وجوب السجود بتركه بناء على أنه واجب أو سنة، والمذهب الوجوب ولزوم السجود بتركه
ساهيا، وصححه في البدائع.
قال في التجنيس: وهذا التفريع على قول أبي حنيفة ومحمد لأن تعديل الأركان فرض
عند أبي يوسف. السادس القعود الأول وكذا كل قعدة ليست أخيرة سواء كان في الفرض أو
في النفل فإنه يلزمه سجود السهو بتركها ساهيا. السابع التشهد فإنه يجب سجود السهو بتركه
ولو قليلا في ظاهر الرواية لأنه ذكر واحد منظوم فترك بعضه كترك كله ولا فرق بين القعدة
الأولى أو الثانية، ولهذا قال في الظهيرية: لو ترك قراءة التشهد ساهيا في القعدة الأولى أو
الثانية وتذكر بعد السلام يلزمه سجود السهو، وعن أبي يوسف لا يلزمه قالوا: إن كان المصلي
إماما يأخذ بقول أبي يوسف، وإن لم يكن إماما يأخذ بقول محمد. وفي فتح القدير: ثم قد لا
يتحقق ترك التشهد على وجه يوجب السجود إلا في الأول، أما في التشهد الثاني فإنه لو
تذكره بعد السلام يقرأ ثم يسلم ثم يسجد فإن تذكره بعد شئ يقطع البناء لم يتصور إيجاب
السجود، ومن فروع هذا أنه لو اشتغل بعد السلام والتذكر به فلما قرأ بعضه سلم قبل تمامه
فسدت صلاته عند أبي يوسف لأن بعوده إلى قراءة التشهد ارتفض قعوده، فإذا سلم قبل
إتمامه فقد سلم قبل قعوده قدر التشهد، وعند محمد تجوز صلاته لأن قعوده ما ارتفض أصلا
لأن محل قراءة التشهد القعدة فلا ضرورة إلى رفضها وعليه الفتوى ا ه‍. وظاهره أنه لو تذكره
بعد السلام ولم يقرأ لا يسجد للسهو وبتركه لأنه لما تذكره وأمكنه فعله ولم يفعله صار كأنه
تركه عمدا فلا يلزمه السجود وإنما يكون مسيئا، ولو وجب عليه السجود لتحقق وجوبه
بتركه. وعلى هذا تصير كلية أن من ترك واجبا سهوا وأمكنه فعله بعد تذكره فلم يفعله لا
سجود عليه كمن تركه عمدا وفي الهداية: ثم ذكر التشهد يحتمل القعدة الأولى والثانية

168
والقراءة فيهما وكل ذلك واجب وفيها سجدة هو الصحيح، واعترض عليه بالقعدة الأخيرة
فإنها فرض لا واجب. فأجاب في المعراج بأن المراد غيرها إذا لتخصيص شائع بقرينة ذكره
لها سابقا أنها فرض، وما أجاب به في غاية البيان من حمل الترك فيها على تأخيرها فاسد لأنه
أراد حقيقة الترك في غيرها، فلو أراد التأخير فيها لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذا لو
أراد بالواجب حينئذ الفرض فيها والواجب الاصطلاحي في غيرها وهو جمع كذلك. كذا في
الغاية. ورده في الكافي بأن الممنوع اجتماعهما مرادين بلفظ واحد وهو لم يتعرض للإرادة بل
قال: يحتمل هذا وذاك ولا فساد كاحتمال القرء الحيض والطهر كما في المجتبي وغيره. وما
في النهاية من أن الأوجه فيه أن يحمل على رواية الحسن عن أبي حنيفة بأنه تجوز الصلاة بدون
القعدة الأخيرة ليس بأوجه لأنها رواية ضعيفة جدا لأنهم نقلوا الاجماع على فرضيتها كما
قدمناه، والظاهر أنه سهو وقع من صاحب الهداية. الثامن لفظ السلام ولا يتصور إيجاب
السجود بتركه لأنه بعد القعود الأخير إذا لم يأت بمناف فإنه يسلم، وإن أتى بمناف فلا
سجود ولهذا قال في التجنيس: والسهو عن السلام يوجب سجودا السهو والسهو عنه أن
يطيل القعدة ويقع عنده أنه خرج من الصلاة ثم يعلم ذلك فيسلم ويسجد لأنه أخر واجبا أو
ركنا على اختلاف الأصلين ا ه‍.
وإنما يتصور إيجابه بتأخيره كما قدمناه وذكرنا في باب صفة الصلاة أن الواجب منه
التسليمة الأولى وهي السلام دون عليكم ورحمة الله. وفي البدائع: إنه لو سلم عن يساره
أولا لا سهو عليه لأنه ترك السنة. وفي الظهيرية: وإذا سلم الرجل عن يمينه وسها عن
التسليمة الأخرى فما دام في المسجد يأتي بالأخرى وإن استدبر القبلة، وعامة المشايخ على أنه
لا يأتي متى استدبر القبلة ا ه‍. التاسع قنوت الوتر وقدمنا أنه لا يختص بدعاء وأنه لا يعود
إليه لو ركع على الصحيح كما في المجتبي وغيره، فحينئذ يتحقق تركه بالركوع وأنه سنة
عندهما كالوتر فالوجوب بتركه إنما هو قوله فقط. وفي فتح القدير: ولو قرأ القنوت في
الثالثة ونسي قراءة الفاتحة أو السورة أو كليهما فتذكر بعد ما ركع قام وقرأ وأعاد القنوت
والركوع لأنه رجع إلى محله قبله ويسجد للسهو بخلاف ما لو نسي سجدة التلاوة ومحلها
فتذكرها في الركوع أو السجود أو القعود فإنه ينحط لها ثم يعود إلى ما كان فيه فيعيده
استحبابا ا ه‍. ومما ألحق به تكبيره وجزم الشارح بوجوب السجود بتركها. وذكر في الظهيرية
أنه لو ترك تكبيرة القنوت فإنه لا رواية لهذا، وقيل يجب سجود السهو اعتبارا بتكبيرات
العيد، وقيل لا يجب ا ه‍. وينبغي ترجيح عدم الوجوب لأنه الأصل ولا دليل عليه بخلاف
تكبيرات العيد فإن دليل الوجوب المواظبة مع قوله تعالى * (ويذكروا اسم الله في أيام

169
معلومات) * (الحج: 28) العاشر تكبيرات العيدين. قال في البدائع: إذا تركها أو نقص منها
أو زاد عليها أو أتى بها في غير موضعها فإنه يجب عليه السجود، وذكر في كشف الاسرار
أن الإمام إذا سها عن التكبيرات حتى ركع فإنه يعود إلى القيام لأنه قادر على حقيقة الأداء فلا
يعمل بشبهه بخلاف المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع فإنه يأتي بالتكبيرات في الركوع لأنه
عجز عن حقيقته فيعمل بشبهه ا ه‍. ومما ألحق بها تكبيرة الركوع الثاني من صلاة العيد فإنه
يجب سجود السهو بتركها لأنها واجبة تبع التكبيرات العيد بخلاف تكبيرة الركوع الأول لأنها
ليست ملحقة بها. ذكره الشارح وصاحب المجتبى. وفي البدائع: ولو نسي التكبير في أيام
التشريق لا سهو عليه لأنه لم يترك واجبا من واجبات الصلاة. الحادي عشر والثاني عشر
الجهر الإمام فيما يجهر فيه والمخافتة مطلقا فيما يخافت فيه، واختلفت الرواية في المقدار
والأصح قدر ما تجوز به الصلاة في الفصلين لأن اليسير من الجهر والاخفاء لا يمكن
الاحتراز عنه، وعن الكثير يمكن وما تصح به الصلاة كثير غير أن ذلك عنده آية واحدة،
وعندهم ثلاث آيات. وهذا في حق الإمام دون المنفرد لأن الجهر والمخافتة من خصائص
الجماعة. كذا في الهداية.
وذكر قاضيخان في فتاواه أن ظاهر الرواية وجوب السجود على الإمام إذا جهر فيما
يخافت أو خافت فيما يجهر قل ذلك أو كثر، وكذا في الظهيرية والذخيرة، زاد في الخلاصة
وعليه اعتماد شمس الأئمة الحلواني لا على رواية النوادر. وفي الظهيرية: وروى أبو سليمان
أن المنفرد إذا ظن إنه إمام فجهر كما يجهر الإمام يلزمه سجود السهو ا ه‍. وهو مبني على
وجوب المخافتة عليه وهو رواية الأصل وهو الصحيح كما في البدائع. وفي العناية: إن

170
ظاهر الرواية أن الاخفاء ليس بواجب عليه، وذكر الولوالجي أنه إذا جهر فيما يخافت فيه يجب
سجدة السهو قل أو كثر، وإذا خافت فيما يجهر به لا يجب ما لم يكن قدر ما يتعلق به وجوب
الصلاة على الاختلاف الذي مر وهذا أصح ا ه‍. فقد اختلف الترجيح على ثلاثة أقوال،
وينبغي عدم العدول عن ظاهر الرواية الذي نقله الثقات من أصحاب الفتاوي كما لا يخفى.
وذكر في الخلاصة أنه لو سمع رجلا أو رجلين لا يكون جهرا والجهر أن يسمع الكل ا ه‍.
وصرحوا بأنه إذا جهر سهوا بشئ من الأدعية والأثنية ولو تشهدا فإنه لا يجب عليه
السجود. قال العلامة الحلبي: ولا يعرى القول بذلك في التشهد من تأمل ا ه‍. وقد اقتصر

171
المصنف على هذه الواجبات في باب صفة الصلاة وبقي واجب آخر وهو عدم تأخير الفرض
والواجب وعدم تغييرهما وعليه تفرع مسائل منها: لو ركع ركوعين أو سجد ثلاثا في ركعة
لزمه السجود لتأخير الفرض وهو السجود في الأول والقيام في الثاني، وكذا لو قعد في محل
القيام أو قام في محل القعود المفروض. وإنما قيدنا بالمفروض لأنه لو قام في محل الواجب
فقد لزمه السجود لترك الواجب لا لتأخيره، وكذا لو قرأ آية في الركوع أو السجود أو القومة
فعليه السهو كما في الظهيرية وغيرها. وعلله في المحيط بتأخير ركن أو واجب عليه، وكذا
لو قرأها في القعود إن بدأ بالقراءة وإن بدأ بالتشهد ثم قرأها فلا سهو عليه كما في المحيط.
وفي البدائع: لو قرأ القرآن في ركوعه أو في سجوده لا سهو عليه لأنه ثناء وهذه الأركان
مواضع الثناء ا ه‍. ولا يخفى ما فيه فالظاهر الأول. ومنها لو كرر الفاتحة في الأوليين فعليه
السهو لتأخير السورة، ومنها لو تشهد في قيامه بعد الفاتحة لزمه السجود وقبلها لا على
الأصح لتأخير الواجب في الأول وهو السورة، وفي الثاني محل الثناء وهو منه. وفي
الظهيرية: لو تشهد في القيام إن كان في الركعة الأولى لا يلزمه شئ، وإن كان في الثانية
اختلف المشايخ فيه والصحيح أنه لا يجب ا ه‍. فقد اختلف التصحيح والظاهر الأول المنقول
في التبيين وغيره. ومنها لو كرر التشهد في القعدة الأولى فعليه السهو ولتأخير القيام وكذا لو
صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فيها لتأخيره. واختلفوا في قدره والأصح وجوبه باللهم صل على محمد
وإن لم يقل وعلى آله. وذكر في البدائع أنه يجب عليه السجود عنده، وعندهما لا يجب لأنه
لو وجب لوجب لجبر النقصان ولا يعقل نقصان في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو حنيفة
رحمه الله يقول: لا يجب عليه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بل بتأخير الفرض وهو القيام إلا أن
التأخير حصل بالصلاة فيجب عليه من حيث أنها تأخير لا من حيث أنها صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
ا ه‍. وقد حكي في المناقب أن أبا حنيفة رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: كيف أوجبت على
من صلى علي سجود السهو فأجابه بكونه صلى عليك ساهيا فاستحسنه منه. ولو كرر التشهد

172
في القعدة الأخيرة فلا سهو عليه. وفي شرح الطحاوي لم يفصل وقال: لا سهو عليه فيهما.
كذا في الخلاصة.
ومنها إذا شك في صلاته فتفكر حتى استيقن ولا يخلو إما أن يشك في شئ من هذه
الصلاة أو في صلاة قبلها وكل على وجهين: أما إن طال تفكره بأن كان مقدار ما يمكنه أن
يؤدي فيه ركنا من أركان الصلاة أو لم يطل، وإن لم يطل فلا سهو عليه سواء كان تفكره
بسبب شك في هذه الصلاة أو في غيرها لأن الفكر القليل لا يمكن الاحتراز عنه فكان عفوا
دفعا للحرج. وإن طال تفكره، فإن كان في غير هذه الصلاة فلا سهو عليه. وإن كان فيها
فعليه السهو استحسانا لتأخير الأركان عن أوقاتها فتمكن النقصان فيها بخلاف ما إذا شك في
صلاة أخرى وهو في هذه الصلاة لأن الموجب للسهو في هذه الصلاة سهو هذه الصلاة لا
سهو صلاة أخرى. كذا في البدائع. وفي الذخيرة: هذا إذا كان التفكر يمنعه عن التسبيح،
إما إذا كان يسبح أو يقرأ ويتفكر فلا سهو عليه. وفي الظهيرية: ولو سبقه الحدث فذهب
ليتوضأ فشك أنه صلى ثلاثا أو أربعا وشغله ذلك عن وضوئه ساعة ثم استيقن فأتم وضوءه
فعليه السهو لأنه في حرمة الصلاة، فكان الشك في هذه الحالة بمنزلة الشك في حالة
الأداء. وإذا قعد في صلاته قدر التشهد ثم شك في شئ من صلاته أنه صلى ثلاثا أو أربعا
حتى شغله ذلك عن التسليم ثم استيقن وأتم صلاته فعليه السهو ا ه‍. فالأحسن أن يفسر
طول التفكر بأن يشغله عن مقدار أداء ركن أو واجب ليدخل السلام كما في المحيط قيد بترك

173
الواجب لأنه لا يجب بترك سنة كالثناء والتعوذ والتسمية وتكبيرات الركوع والسجود وتسبيحاتها
ورفع اليدين في تكبيرة الافتتاح وتكبيرات العيدين والتأمين والتسميع والتحميد. كذا في المحيط
والخلاصة. وجزم الشارح بوجوب السجود بترك التسمية مصدرا به ثم قال: وقيل لا يجب. وكذا
في المجتبي، وصرح في القنية بأن الصحيح وجوب التسمية في كل ركعة، وتبعه العلامة ابن
وهبان في منظومته وكله مخالف لظاهر المذهب المذكور في المتون والشروح والفتاوي من أنها سنة
لا واجب فلا يجب بتركها شئ. ولو ترك فرضا فإنه لا ينجبر بالسجود بل تبطل الصلاة أصلا.
وفي البدائع: وأما بيان أن المتروك ساهيا هل يقضي أو لا فنقول: إنه يقضي إن أمكنه التدارك
بالقضاء، سواء كان من الافعال أو الأذكار. وإن لم يمكن فإن كان المتروك فرضا فسدت، وإن
كان واجبا لا تفسد ولكنه ينقص ويدخل في حد الكراهة، فإذا ترك سجدة صلبية من ركعة قضاها
في آخرها إذا تذكر ولا تلزمه إعادة ما بعدها، وإذا كانا سجدتين قضاهما ويبدأ بالأولى ثم بالثانية
لأن القضاء على حسب الأداء، ولو كانت إحداهما سجدة تلاوة وتركها من الأولى والأخرى
صلبية تركها من الثانية يراعى الترتيب أيضا فيبدأ بالتلاوية عند عامة العلماء. ولو كان المتروك
ركوعا فلا يتصور فيه القضاء، وكذا إذا ترك سجدتين من ركعة لأنه لا يعتد بالسجود قبل الركوع
لعدم مصادفته محله، فلو قرأ وسجد ولم يركع ثم قام فقرأ وركع وسجد فهذا قد صلى ركعة ولا
يكون هذا الركوع قضاء عن الأول، وكذا لو قرأ وركع ولم يسجد ثم رفع رأسه فقرأ ولم يركع ثم
سجد فهذا قد صلى ركعة ولا يكون هذا السجود قضاء عن الأول، وكذا إذا قرأ وركع ثم رفع
رأسه وقرأ وركع وسجد وإنما صلى ركعة، والصحيح أن المعتبر الركوع الأول لكونه صادف محله
فوقع الثاني مكررا. وكذا إذا قرأ ولم يركع وسجد ثم قام فقرأ وركع ولم يسجد ثم قام فقرأ ولم يركع
وسجد فإنما صلى ركعة، وأما الأذكار فإذا ترك القراءة في الأوليين قضاها في الأخريين، وقد
تقدم حكم ترك الفاتحة أو السورة في الأوليين. وإذا ترك التشهد في القعدة الأخيرة ثم قام فتذكر
عاد وتشهد إذا لم يقيد بالسجدة بخلافه في الأولى كما سيأتي مفصلا.
الخامس أنه لا يتكرر الوجوب بترك أكثر من واجب حتى لو ترك جميع واجبات الصلاة

174
ساهيا فإنه لا يلزمه أكثر من سجدتين لأنه تأخر عن زمان العلة وهو وقت وقوع السهو مع
أن الأحكام الشرعية لا تؤخر عن عللها، فعلم أنه لا يتكرر إذ الشرع لم يرد به، وسيأتي أن
المسبوق يتابع إمامه في سجود السهو، ثم إذا قام إلى القضاء وسها فإنه يسجد ثانيا فقد تكرر
سجود السهو. وأجاب عنه في البدائع بأن التكرار في صلاة واحدة غير مشروع وهما
صلاتان حكما وإن كانت التحريمة واحدة لأن المسبوق فيما يقضي كالمنفرد، ونظيره المقيم إذا
اقتدى بالمسافر فسها الإمام يتابعه المقيم في السهو وإن كان المقيم ربما يسهو في إتمام صلاته،
وعلى تقدير السهو يسجد في أصح الروايتين لكن لما كان منفردا في ذلك كان صلاتين حكما
ا ه‍. وعلله في المحيط بأن السجدة المتقدمة لا ترفع النقصان المتأخر، فأما السجدة المتأخرة
فإنها ترفع النقصان المتقدم، ولا يشكل عليه ما في عمدة الفتاوي للصدر الشهيد وخزانة الفقه
لأبي الليث من أن التشهد يقع في صلاة واحدة عشر مرات وصورته: رجل أدرك الإمام في
التشهد الأول من المغرب وتشهد معه ثم يتشهد معه في الثانية وكان على الإمام سهو فتشهد
معه في الثالثة، ثم ذكر الإمام أن عليه سجدة التلاوة فإنه يسجد معه ويتشهد معه الرابعة ثم
يسجد للسهو ويتشهد معه الخامسة، فإذا سلم الإمام فإنه يقوم إلى قضاء ما سبق به فيصلي
ركعة ويتشهد السادسة، فإذا صلى ركعة أخرى يتشهد السابعة وكان قد سها فيما يقضي
فيسجد ويتشهد الثامنة، ثم تذكر أنه قرأ آية السجدة في قضائه فإنه يسجد ويتشهد التاسعة ثم
يسجد للسهو ويتشهد للعاشرة ا ه‍. مع أنه قد تكرر السجود للسهو في صلاة واحدة حقيقة
وحكما وهي صلاة الإمام والمسبوق بسبب السجدة الخامسة فيهما، وأما التشهد الرابع فلكونه
بسبب سجود التلاوة ارتفع تشهد القعدة لا أن لسجود التلاوة تشهدا لأن سجود التلاوة رفع
ما كان قبله من التشهد والقعود وسجود السهو فكأنه لم يسجد للسهو، فلذا يسجد آخرا كما
لو سجد للسهو ثم نوى الإقامة حتى صار فرضه أربعا فإنه يعيد سجود السهو. وفي
الظهيرية: إذا سها الإمام ثم سها خليفته سجد الثاني سجدتين وكفاه.
قوله: (وبسهو إمامه لا بسهوه) معطوف على قوله بترك واجب فأفاد أن السجود له
سببان: إما ترك الواجب أو سهو إمامه فإنه يجب عليه متابعته إذا سجد لأنه عليه الصلاة
والسلام سجد له وتبعه القوم ولأنه تبع لإمامه فيلزمه حكم فعله كالمفسد ونية الإقامة. أطلقه
فشمل ما إذا كان مقتديا به وقت السهو أو لم يكن وما إذا سجد سجدة واحدة ثم اقتدى به
فإنه يتابعه في الأخرى ولا يقضي الأولى كما لا يقضيهما لو اقتدى به بعد ما سجدهما لأنه
حين دخل في تحريمة الإمام كان النقص قد انجبر بالسجدتين أو بإحداهما، ولا يعقل وجوب

175
جابر من غير نقص. وقيد بأن يكون الإمام سجد لأنه لو سقط عن الإمام بسبب من
الأسباب بأن تكلم أو أحدث متعمدا أو خرج من المسجد فإنه يسقط عن المقتدي بخلاف
تكبير التشريق حيث يأتي به المؤتم وإن تركه الإمام لكونه لا يؤدي في حرمتها. وشمل كلامه
المدرك والمسبوق واللاحق فإنه يلزمهم بسهو إمامهم لكن اللاحق لا يتابع الإمام في سجود
السهو إذا انتبه في حال اشتغال الإمام بسجود السهو أو جاء إليه من الوضوء في هذه الحالة،
وإنما يبدأ بقضاء ما فاته ثم يسجد في آخر صلاته، والمسبوق والمقيم خلف المسافر يتابعان
الإمام في سجود السهو ثم يشتغلان بالاتمام. والفرق أن اللاحق التزم متابعة الإمام فيما
اقتدى به على نحو ما يصلي الإمام وأنه اقتدى به في جميع الصلاة فيتابعه في جميعها على نحو
ما أدى الإمام والإمام أدى الأول فالأول وسجد لسهوه في آخر صلاته، فكذا اللاحق، فأما
المسبوق فقد التزم بالاقتداء متابعته بقدر ما هو صلاة الإمام وقد أدرك هذا القدر فيتابعه فيه
ثم ينفرد، وكذا المقيم المقتدي بالمسافر فلو كان مسبوقا بثلاث ولاحقا بركعة فسجد إمامه
للسهو فإنه يقضي ركعة بغير قراءة لأنه لاحق، ويتشهد ويسجد للسهو لأن ذلك موضع
سجود الإمام، ثم يصلي ركعة بقراءة ويقعد لأنها ثانية صلاته، ولو كان على العكس سجد
للسهو بعد الثالثة. كذا في المحيط. ولسجد اللاحق مع الإمام للسهو ولم يجزه لأنه في غير
أوانه في حقه فعليه أن يعيد إذا فرغ من قضاء ما عليه ولكن لا تفسد صلاته لأنه ما زاد إلا
سجدتين بخلاف المسبوق إذا تابع الإمام في سجود السهو ثم تبين أنه لم يكن على الإمام سهو
حيث تفسد صلاة المسبوق لكونه اقتدى في موضع الانفراد لا لزيادة السجدتين ولم يوجد في
اللاحق لأنه مقتد في جميع ما يؤدي. كذا في البدائع.
وفصل في المحيط بين أن يعلم أنه ليس على إمامه سهو فيفسد، وبين أن لا يعلم أنه لم
يكن عليه فلا يفسد لأن كثيرا ما يقع لجهلة الأئمة فسقط اعتبار المفسد هنا للضرورة ا ه‍.
ولو لم يتابع المسبوق إمامه وقام إلى قضاء ما سبق به فإنه يسجد في آخر صلاته استحسانا لأن
التحريمة متحدة فجعل كأنها صلاة واحدة. ولو سها فيما يقضي ولم يسجد لسهو إمامه كفاه
سجدتان، ولو سجد مع الإمام ثم سها فيما يقضي فعليه السهو ثانيا لما مر أن ذلك أداء
السهو في صلاتين حكما فلم يكن تكرارا. ثم المسبوق إنما يتابع الإمام في السهو لا في
السلام فيسجد معه ويتشهد، فإذا سلم الإمام قام إلى القضاء، فإن سلم فإن كان عامدا
فسدت وإلا فلا ولا سجود عليه إن سلم قبل الإمام أو معه، وإن سلم بعده لزمه لكونه
منفردا حينئذ. وعلى هذا لو أحدث الإمام بعد السلام قبل السجود فاستخلف مسبوقا
وارتكب خلاف الأولى وتقدم ينبغي أن يستخلف مدركا ليسجد بهم ويسجد هو معهم، وإن
لم يسجد مع خليفته سجد في آخر صلاته، فإن لم يجد المسبوق مدركا وكانوا كلهم مسبوقين
قاموا وقضوا ما سبقوا به فرادى، ثم إذا فرغوا يسجدون. ولو قام المسبوق إلى قضاء ما سبق

176
به بعد ما سلم الإمام ثم تذكر الإمام أن عليه سجود السهو قبل أن يقيد المسبوق ركعة بسجدة
فعليه أن يرفض ذلك ويعود إلى متابعة الإمام، ثم إذا سلم الإمام قام إلى قضاء ما سبق به ولا
يعتد بما فعل من القيام والقراءة والركوع، ولو لم يعد إلى الإمام ومضى على صلاته يجوز
ويسجد للسهو بعد ما فرغ من القضاء استحسانا. ولو تذكر الإمام أن عليه سجدتي السهو
بعد ما قيد المسبوق ركعته بسجدة فإنه لا يعود إلى الإمام ولا يتابعه في سجود السهو، ولو
تابعه فيها تفسد صلاته لزيادة ركعة، وقد ذكرنا بقية مسائل المسبوق في باب الحدث في
الصلاة. ولو سها الإمام في صلاة الخوف سجد للسهو وتابعه فيها الطائفة الثانية، وأما
الطائفة الأولى وإنما يسجدون بعد الفراغ من الاتمام لأن الثانية بمنزلة المسبوقين والأولى بمنزلة
اللاحقين. وإنما لم يلزم المأموم سهو نفسه لأنه لو سجد وحده كان مخالفا لإمامه إن سجد
قبل السلام وإن أخره إلى ما بعد سلام الإمام يخرج من الصلاة بسلام الإمام لأنه سلام عمد
ممن لا سهو عليه، ولو تابعه الإمام ينقلب التبع أصلا. وشمل كلامه المدرك واللاحق فإنه
مقتد في جميع صلاته بدليل أنه لا قراءة عليه فلا سجود لو سها فيما يقضيه مطلقا، وأما
المقيم إذا اقتدى بالمسافر ثم قام لاتمام صلاته وسها فذكر الكرخي أنه كاللاحق فلا سجود
عليه بدليل أنه لا يقرأ، وذكر في الأصل أنه يلزمه السجود وصححه في البدائع لأنه إنما
اقتدى بالإمام بقدر صلاة الإمام، فإذا انقضت صلاة الإمام صارت منفردا فيما وراء ذلك.
وإنما لا يقرأ فيما يتم لأن القراءة فرض في الأوليين وقد قرأ الإمام فيهما، وشمل المسبوق
فيما يؤديه مع الإمام، وأما فيما يقضيه فهو كالمنفرد كما تقدم. وعليه يفرع ما إذا سلم

177
ساهيا، فإن كان قبل الإمام أو معه فلا سهو، وإن كان بعده فعليه كما ذكرناه. وفي المحيط
وغيره: وينبغي للمسبوق أن يمكث ساعة بعد فراغ الإمام ثم يقوم لجواز أن يكون على الإمام
سهو.
قوله: (وإن سها عن القعود الأول وهو إليه أقرب عاد وإلا لا) أي إلى القعود لأن
الأصل أن ما يقرب من الشئ يأخذ حكمه كفناء المصر وحريم البئر، فإن كان أقرب إلى
القعود بأن رفع أليتيه من الأرض وركبتاه عليها أو ما لم ينتصب النصف الأسفل. وصححه
في الكافي فكأنه لم يقم أصلا، فإن كان إلى القيام أقرب فكأنه قد قام وهو فرض قد تلبس به
فلا يجوز رفضه لأجل واجب وهو القعدة. وهذا التفصيل مروي عن أبي يوسف واختاره
مشايخ بخارى وارتضاه أصحاب المتون. وفي الكافي: واستحسن مشايخنا روايته. وذكر في
المبسوط أن ظاهر الرواية إذا لم يستتم قائما يعود وإذا استتم قائما لا يعود لأنه جاء في
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قام من الثانية إلى الثالثة قبل أن يقعد فسبحوا به فعاد، روي أنه لم
يعد وكان بعد ما استتم قائما، وهذا لأنه لما استتم قائما اشتغل بفرض القيام فلا يترك ا ه‍.
وصححه الشارح. وفي فتح القدير أنه ظاهر المذهب. والتوفيق بين الفعلين المرويين بالحمل
على حالتي القرب من القيام وعدمه ليس بأولى منه بالحمل على الاستواء وعدمه. ثم لو عاد
في موضع وجوب عدمه اختلفوا في فساد صلاته، فصحح الشارح الفساد لتكامل الجنابة
برفض الفرض بعد الشروع فيه لأجل ما ليس بفرض. وفي المبتغى بالغين المعجمة: إنه غلط
لأنه ليس بترك وإنما هو تأخير كما لو سها عن السورة فركع فإنه يرفض الركوع ويعود إلى
القيام ويقرأ لأجل الواجب، وكما لو سها عن القنوت فركع فإنه لو عاد وقنت لا تفسد على
الأصح. وقد يقال: إنه لو عاد وقرأ السورة صارت السورة فرضا فقد عاد من فرض إلى
فرض، والقنوت له شبهة القرآنية على ما قيل إنه كان قرآنا فنسخ فقد عاد إلى ما فيه شبهة

178
القرآنية، أو عاد إلى فرض وهو القيام فإن كل ركن طوله فإنه يقع فرضا كله. وفي فتح
القدير: وفي النفس من التصحيح شئ وذلك أن غاية الأمر في الرجوع إلى القعدة الأولى أن
تكون زيادة قيام ما في الصلاة وهو وإن كان لا يحل فهو بالصحة لا يخل لما عرف أن زيادة ما
دون ركعة لا يفسد إلا أن يفرق باقتران هذه الزيادة بالرفض لكن قد يقال: المستحق لزوم
الاثم أيضا بالرفض، أما الفساد فلم يظهر وجه استلزامه إياه فترجح بهذا البحث القول المقابل
للمصحح ا ه‍. فظاهره أنه لم يطلع على تصحيح آخر، وقد ذكر في المجتبي ومعراج الدراية
أنه لو عاد بعد الانتصاب مخطئا قيل يتشهد لنقضه القيام والصحيح أنه لا يتشهد ويقوم ولا
ينتقض قيامه بقعود لم يؤمر به كمن نقص الركوع بسورة أخرى لا ينتقض ركوعه ا ه‍. فقد
اختلف التصحيح كما رأيت، والحق عدم الفساد ولا يلزم سجدة التلاوة فإنه يترك الفرض
لأجلها وهي واجبة لأن ذلك ثبت بالنص على خلاف القياس. وأراد بالقعود الأول القعود
في صلاة الفرض رباعيا كان أو ثلاثيا، وكذا في صلاة الوتر كما في المحيط. أما في النفل
إذا قام إلى الثالثة من غير قعدة فإنه يعود ولو استتم قائما ما لم يقيدها بسجدة. كذا في
السراج الوهاج. وحكى فيه خلافا في المحيط قيل لا يعود لأنه صار كالفرض، وقيل يعود
ما لم يقيدها بالسجدة لأن كل شفع صلاة على حدة في حق القراءة فأمرناه بالعود إلى القعدة
احتياطا، ومتى عاد تبين أن القعدة وقعت فرضا فيكون رفض الفرض لمكان الفرض فيجوز
ا ه‍. وهذا كله في حق الإمام والمنفرد، وأما المأموم إذا قام ساهيا فإنه يعود ويقعد لأن
القعود فرض عليه بحكم المتابعة. إليه أشار في السراج الوهاج فإنه قال: إذا تشهد الإمام
وقام من القعدة الأولى إلى الثالثة فنسي بعض من خلفه التشهد حتى قاموا جميعا، فعلى من لم
يتشهد أن يعود ويتشهد ثم يتبع إمامه وإن خاف أن تفوته الركعة الثالثة لأنه تبع لإمامه فيلزمه

179
أن يتشهد بطريق المتابعة. وهذا بخلاف المنفرد لأن التشهد الأول في حقه سنة، وبعد ما
اشتغل بفرض القيام لا يعود إلى السنة وههنا التشهد فرض عليه بحكم المتابعة ا ه‍. وكذا في
القنية: ففي القعود أولى وظاهره أنه لو لم يعد تبطل صلاته لترك الفرض. وفي المجمع: ولو
نام لاحق سها إمامه عن القعدة الأولى فاستيقظ بعد الفراغ أمرناه بترك القعدة ا ه‍. وفي آخر
فتاوى الولوالجي من مسائل متفرقة: مريض يصلي بالايماء فلما بلغ حالة التشهد فظن أنه
حالة القيام فاشتغل بالقراءة ثم تذكر أنه حالة التشهد، فلا يخلو إما إن كان التشهد الأول أو
التشهد الثاني، فإن كان التشهد الأول فحالة القراءة تنوب عن القيام فلا يعود إلى التشهد ويتم
الصلاة، وإن كان التشهد الثاني رجع إلى التشهد ويتم الصلاة، وكذلك الجواب في الصحيح
إذا قام قبل أن يتشهد ا ه‍.
قوله: (ويسجد للسهو) خاص بقوله وإلا لا كما صححه المصنف في الكافي تبعا
لصاحب الهداية لترك الواجب. وأما إذا كان إلى القعود أقرب وعاد فلا سجود عليه كما إذا
لم يقم لأن الشرع لم يعتبره قياما وإلا لم يطلق له القعود فكان معتبرا قعودا أو انتقالا
للضرورة، وهذا الاعتبار ينافيه اعتبار التأخير المستتبع لوجوب السجود. وفي الخلاصة: وفي
رواية إذا قام على ركبتيه لينهض يقعد وعليه السهو ويستوي فيه القعدة الأولى والثانية وعليه
الاعتماد، وإن رفع أليتيه عن الأرض وركبتاه على الأرض ولم يرفعهما لا سهو عليه. كذا
روي عن أبي يوسف. وفي الأجناس: عليه السهو ويستوي في ذلك القعدة الأولى والأخيرة
ا ه‍. فالحاصل على هذا المعتمد أنه إن كان إلى القعود أقرب فإنه يعود مطلقا، فإنه رفع ركبتيه
من الأرض لزمه السجود وإلا فلا وهو مخالف للتصحيح السابق في بعضه. وفي الولوالجية:

180
المختار وجوب السجود لأنه بقدر ما اشتغل بالقيام صار مؤخرا واجبا وجب وصله بما قبله
من الركن فصار تاركا للواجب فيجب عليه سجدتا السهو ا ه‍. فاختلف الترجيح على أقوال
ثلاثة والأكثر على الأول قوله: (وإن سها عن الأخير عاد ما لم يسجد) لأن فيه إصلاح صلاته
فأمكنه ذلك لأن ما دون الركعة بمحل الرفض. أراد بالأخير القعود المفروض ليشمل الفرض
الرباعي والثلاثي والثنائي فإن قعوده ليس متعددا إلا أن يقال إنه يسمى أخيرا باعتبار أنه آخر
الصلاة لا باعتبار أنه مسبوق بمثله. أطلقه فشمل ما إذا لم يقعد أصلا أو جلس جلسة خفيفة
أقل من قدر التشهد وإذا عاد احتسب له الجلسة الخفيفية حتى لو كان كلا الجلستين مقدار
التشهد ثم تكلم بعده جازت صلاته كما قدمناه في باب صفة الصلاة عن الولوالجية قوله:
(وسجد للسهو) لتأخيره فرضا وهو القعود الأخير. وعلله في الهداية بأنه أخر واجبا فقالوا:
أراد به الواجب القطعي وهو الفرض وهو أولى مما في العناية من تفسير بإصابة لفظ السلام
لأنه لم يؤخره عن محله لأن محله بعد القعود ولم يقعد وإنما أخر القعود والأولى أن يقال: أراد
به الواجب الذي يفوت الجواز بفوته إذ ليس دليلها قطعيا.
قوله (فإن سجد بطل فرضه برفعه) لأن استحكم شروعه في النافلة قبل إكمال أركان
المكتوبة ومن ضرورته خروجه عن الفرض، وهذا لأن الركعة بسجدة واحدة صلاة حقيقة
حتى بحنث في يمينه لا يصلي. وقوله برفعه أي برفع الوجه عن الأرض إشارة إلى أن

181
المختار الفتوى أنه لا يبطل بوضع الجهة كما هو مروي عن أبي يوسف لأن تمام الشئ بآخره
وآخر السجدة الرفع إذ الشئ إنما ينتهي بضده، ولهذا لو سجد قبل إمامه فأدركه إمامه فيه
جاز ولو تمت بالوضع لما جاز لأن كل ركن أداه قبل إمامه لا يجوز، ولأنه لو تم قبل الرفع لم
ينقضه الحدث لكن الاتفاق على لزوم إعادة كل ركن وجد فيه سبق الحد ث بقيد البناء. وثمرة
الاختلاف فيما إذا أحدث في السجود فانصرف وتوضأ ثم تذكر أنه لم يقعد في الرابعة. قال
أبو يوسف: لا يعود إلى القعود وبطل فرضه. وقال محمد: يعود ويتم فرضه. قالوا: أخبر
أبو يوسف بجواب محمد فقال: زه صلاة فسد ت يصلحها الحدث وهذا معنى ما يسأله العامة
أي صلاة يصلحها الحدث فهي هذه الصلاة على قول محمد. وزه كلمة استعجاب وإنما قالها
أبو يوسف تهكما. وقيل: الصواب بالضم والزاي ليست بخالصة. كذا في المغرب. وفي
فتح القدير: وهذا أعني صحة البناء بسبب سبق الحدث إذا لم يتذكر في ذلك السجود أنه ترك
سجدة صلبية من صلاته فإن تذكر ذلك فسدت اتفاقا اه‍. ولا يخفى ما فيه بل لا يصح هذا
التقييد لأنه إذا سبقه الحدث وهو ساجد لم يخلط النفل بالفرض قبل إكماله عند محمد، سواء
تذكر أن عليه سجدة صلبية أو لا، إذ لا فرق بين أن يكون عليه ركن واحد أو ركنان.
وعبارة الخلاصة أولى وهي: ولو قيد الخامسة بالسجدة فتذكر أنه ترك سجدة صلبية من
صلاته لا تنصرف هذه السجدة إليها لما أنه تشترط النية في السجدة وصلاته فاسدة اه‍. وإذا
بطل فرض الإمام برفعة بطل فرض المأموم سواء كان قعد أو لا، ولذا ذكر قاضيخان في
فتاواه: ولو أن الإمام لم يقعد على رأس الرابعة وقام إلى الخامسة ساهيا وتشهد المقتدي وسلم

182
قبل أن يقيد الإمام الخامسة بالسجدة ثم قيدها بالسجدة فسدت صلاتهم جميعا اه‍.
وسواء كان المأموم مسبوقا أو مدركا كما في الظهيرية. وإذا لم يبطل فرض الإمام بعوده قبل
السجود لم يبطل فرض المأموم وإن سجد لما في المحيط: لو صلى إمام ولم يقعد في الرابعة
من الظهر وقام إلى الخامسة فركع وتابعه القوم ثم عاد الإمام إلى القعدة ولم يعلم القوم حتى
سجد والسجدة لا تفسد صلاتهم لأنهم لما عاد الإمام إلى القعدة ارتفض ركوعه فيرتفض
ركوع القوم أيضا تبعا له لأنه بناء عليه فبقي لهم زيادة سجدة وذلك لا يفسد الصلاة اه‍.
وهذا مما يلغز به فيقال: مصل ترك القعدة الأخيرة وقيد الخامسة بسجدة ولم تبطل صلاته،
ومصل قعد ولم يعتبر قعودة وبطلت بتركه. وقيد بقوله ولم يعلم القوم لما في المجتبي أنه
لو عاد الإمام إلى القعود قبل السجود وسجد المقتدي عمدا تفسد وفي السهو خلاف،
والأحوط الإعادة اه‍. وفي فتح القدير: ولا يخفى عدم متابعتهم له فيما إذا قام قبل القعدة
وإذا عاد لا يعيد والتشهد.
قوله (فصارت نفلا فيضم إليها سادسة) لما سبق مرارا من أنه لا يلزم من بطلان
الوصف بطلان الأصل عندهما خلافا لمحمد فيضم سادسة لا التنفل بالوتر غير مشروع ولو
لم يضم فلا شئ عليه لأنه ظان وشروعه ليس بملزم. وإذا اقتدى به إنسان في الخامسة ثم
أفسدها فعلى قول محمد لا يتصور القضاء، وعندهما يقضي ستا لشروعه في تحريمة الست
بخلاف ما إذا عاد الإمام قبل السجدة فإنه يقضي أربعا. ثم صرح المصنف في الوافي بأن
ضم السادسة مندوب وتركه في المختصر للاختلاف. وفي عبارة القدوري تبعا لرواية الأصل
إشارة إلى الوجوب فإنه قال: وكان عليه أن يضم إليها ركعة سادسة. ووجهه في فتح القدير
بعدم جواز التنفل بالوتر. وفي المبسوط: وأحب إلي أن يشفع الخامسة لأن النفل شرع شفعا
لا وترا. كذا في البدائع. والأظهر الندب لأن عدم جواز التنفل بالوتر إنما هو عند القصد،
أما عند عدمه فلا ولهذا لا يلزمه شئ لو قطعه. وفي السراج الوهاج: إن ضم السادسة في
سائر الصلوات إلا في العصر فإنه لا يضم إليها لأنه يكون تطوعا قبل المغرب وذلك مكروه،
وفي قاضيخان إلا الفجر فإنه لا يضيف إليها لأن التنفل قبلها وبعدها مكروه اه‍. وسيأتي أن

183
الصحيح أنه لو قعد على رأس الرابعة وقام إلى الخامسة وقيدها بسجدة فإنه يضم سادسة ولو
كان في الأوقات المكروهة فينبغي أن لا يكره هنا أيضا على الصحيح إذ لا فرق بينهما، ولم
يذكر المصنف سجود السهود لأن الأصح عدمه لأن النقصان بالفساد لا ينجبر بالسجود. ثم
اعلم أنه لا فرق في عدم البطلان عند العود قبل السجود والبطلان إن قيد بالسجود بين
العمد والسهو ولذا قال في الخلاصة: فإن قام إلى الخامسة عمدا أيضا لا تفسد ما لم يقيد
الخامسة بالسجدة عندنا. ثم اعلم أيضا أن البطلان بالتقييد بالسجدة أعم من أن يكون قد قرأ
في الركعة الخامسة أو لا كما في الخلاصة، وقد يقال: إن المفسد خلط النفل بالفرض قبل
إكماله والركعة بلا قراءة في النفل غير صحيحة فلم يوجد الخلط فكان زيادة ما دون الركعة
وهو ليس بمفسد قوله: (وإن قعد في الرابعة ثم قام عاد وسلم) لأن التسليم في حالة القيام
غير مشروع وأمكنه الإقامة على وجهه بالقعود لأن ما دون الركعة بمحل الرفض، ثم إذا عاد
لا يعيد التشهد، وكذا لو نام قاعدا. وقال الناطفي: يعيد ثم قيل القوم يتبعونه فإن عاد عادوا
معه وإن مضى في النافلة اتبعوه لأن صلاتهم تمت بالقعدة، والصحيح أنهم لا يتبعونه لأنه لا
اتباع في البدعة فإن عاد قبل تقييد الخامسة بالسجدة اتبعوه بالسلام فإن قيد سلموا في الحال.
قوله: (وإن سجد للخامسة تم فرضه وضم إليه سادسة) أي لم يفسد فرضه بسجوده
كما فسد فيما إذا لم يقعد. هذا ا هو المراد بالتمام وإلا فصلاته ناقصة كما سيأتي. وإنما لم
يفسد لأن الباقي إصابة لفظ السلام وهي واجبة وإنما يضم إليها أخرى لتصير الركعتان له
نفلا للنهي عن الركعة الواحدة، وإذا ضم فإنه يتشهد ويسلم ثم يسجد للسهو كما سيأتي ثم
لا ينوبان عن سنة الظهر وهو الصحيح لأن المواظبة عليهما إنما كانت بتحريمة مبتدأه. أطلق
في الضم فشمل ما إذا كان في وقت مكروه كما بعد الفجر والعصر لأن التطوع إنما يكره

184
فيهما إذا كان عن اختيار أما إذا لم يكن عن اختيار فلا وعليه الاعتماد. وكذا في الخانية وهو
الصحيح. كذا في التبيين وعليه الفتوى. كذا في المجتبى لكن اختلف في الضم في غير
وقت الكراهة قيل بالوجوب وقيل بالاستحباب كما قدمناه. وأما في وقت الكراهة فقيل
بالكراهة والمعتمد المصحح أنه لا بأس به كما عبروا به بمعنى أن الأولى تركه فظاهره أنه لم
يقل أحد بوجوبه ولا باستحبابه. وفرق الشارح بين الفجر والعصر فصحح أنه لا يكره في
العصر وجزم بالكراهة في الصبح وفيه نظر، إذ لا فرق بين الفجر والعصر فكما صحح
عدمها في العصر لزمه تصحيح عدمها في الفجر ولذا سوى بينهما في فتح القدير وقال:
والنهي عن التنفل القصدي بعدهما ولذا إذا تطوع من آخر الليل فلما صلى ركعة طلع الفجر
الأول أن يتمها ثم يصلي ركعتي الفجر لأنه لم يتنفل بأكثر من ركعتي الفجر قصدا اه‍.
وصرح في التجنيس بأن الفتوى على رواية هشام من عدم الفرق بين الصبح والعصر في
عدم كراهة الضم وإن لم يتم الركعتين نفلا فلا شئ عليه كما قدمناه. وفي المحيط: وإن
شرع معه رجل في الخامسة يصلي ركعتين عند أبي يوسف وعند محمد ستا بناءا على أن إحرام
الفرض انقطع بالانتقال إلى النفل عند أبي يوسف لأن من ضرورة الانتقال إلى النفل انقطاع
الفرض فلم يصح شارعا إلا في هذا الشفع، وعند محمد لم ينقطع إحرام الفرض وهو الأصح
لأنه صار شارعا في النفل من غير تكبيرة جديدة، ولو انقطعت التحريمة لاحتاج إلى تكبيرة
جديدة لأن الاحرام الجديد لا ينعقد إلا بتكبيرة جديدة، ولما بقيت التحريمة صار شارعا في
الكل. ولو قطع المقتدي هذا النفل قال محمد: لا شئ عليه لأنها غير مضمونة على الإمام فلا
تصير مضمونة على المقتدي. وقال أبو يوسف: يلزمه قضاء ركعتين وهو الأصح لأن النفل
مضمون في الأصل وإنما لم يصر مضمونا على الإمام هنا لعارض وهو شروعه فيه ساهيا، وقد
انعدم هذا العارض في حق المقتدي فبقيت صلاة الإمام مضمونة في حق المقتدي بخلاف اقتداء
البالغ بالصبي في النوافل فلا يصح عند عامة المشايخ لأن التطوع إنما لم يصر مضمونا على الصبا
بأمر أصلي وهو الصبي فلا يمكن أن يجعل معدوما في حق المقتدي فبقي بمنزلة اقتداء المفترض
بالمتنفل اه‍. فالحاصل أن المصحح قول محمد في كونه يصلي ستا وقول أبي يوسف في لزوم

185
ركعتين لو أفسدها. وفي السراج الوهاج: وعليه الفتوى. وقد قدمنا أنه إذا اقتدى به في
الخامسة ولم يكن قعد الإمام قدر التشهد ولم يعد فإنه يلزمه الست، والفرق بين المسألتين أن
في المسألة الأولى التزم صلاة الإمام وهي ست ركعات نفلا والشروع في النفل لا يوجب أكثر
من ركعتين إلا بالاقتداء، وههنا الإمام لم يكن متنفلا إلا بركعتين فلزم المأموم ركعتان. وفي
السراج الوهاج: إذا قعد في الرابعة قدر التشهد وقام إلى الخامسة ساهيا واقتدى به رجل لا
يصح اقتداؤه ولو عاد إلى القعدة لأنه لما قام إلى الخامسة فقد شرع في النفل فكان اقتداء
المفترض بالمتنفل ولو لم يقعد مقدار التشهد صح الاقتداء لأنه لم يخرج من الفرض قبل أن
يقيدها بسجدة اه‍..
قوله (وسجد للسهو) الظاهر رجوعه إلى كل من المسألتين، فإن كانت الأولى وهي ما
إذا عاد وسلم فظاهر لأنه آخر الواجب وهو السلام، وكذا إذا شك في صلاته فلم يدر أثلاثا
صلى أم أربعا فاشتغل بفكره حتى آخر السلام لزمه السهو، وإن كانت الثانية وهي ما إذا لم
يعد حتى سجد ففيه ثلاثة أقوال، فعند أبي يوسف سبب سجوده النقصان المتمكن في النفل
بالدخول فيه لا على الوجه المسنون لأنه لا وجه لأن يجب لجبر نقصان في الفرض لأنه قد
انتقل منه إلى النفل، ومن سها في صلاة لا يجب عليه أن يسجد في أخرى، وعند محمد هو
لجبر نقصان تمكن بالدخول فيه في الفرض بترك الواجب وهو السلام. وصحح الماتريدي أنه
جابر للنقص المتمكن في الاحرام فينجبر النقص المتمكن في الفرض والنفل جميعا واختاره في
الهداية قوله ولو سجد للسهو في شفع التطوع لم يبن شفعا آخر عليه) لأن السجود يبطل
لوقوعه في وسط الصلاة وهو غير مشروع إلا على سبيل المتابعة، وظاهر كلامهم أنه يكره
البناء كراهة تحريم لتصريحهم بأنه غير مشروع. وفي فتح القدير: الحاصل أن نقض الواجب

186
وإبطاله لا يجوز لا إذا استلزم تصحيحه نقض ما هو فوقه اه‍. وإنما قال لم يبن ولم يقل لم
يصح البناء لأن البناء صحيح وإن كان مكروها لبقاء التحريمة. واختلفوا في إعادة سجود
السهو والمختار إعادته لأن ما أتى به من السجود وقع في وسط الصلاة فلا يعتد به كالمسافر
إذا نوى الإقامة بعدما سجد للسهو ويلزم الأربع ويعيد السجود. قيد بشفع التطوع لأنه لو
كان مسافرا فسجد للسهو وثم نوى الإقامة فله ذلك لأنه لو لم يبن وقد لزم الاتمام بنية الإقامة
بطلت صلاته، وفي البناء نقض الواجب ونقض الواجب أدنى فيتحمل دفعا للأعلى لكن يرد
على التقييد بشفع التطوع أنه لو صلى فرضا تاما وسجد للسهو وثم أراد أن يبني نفلا عليه
ليس له ذلك لما تقدم، فلو قال فلو سجد في صلاة لم يبن صلاة عليها إلا في المسافر لكان
أولى ولذا لم يقيد في الخلاصة بالتطوع وإنما قال:: وإذا صلى ركعتين وسها فيها فسجد
لسهوه بعد السلام ثم أراد أن يبني عليها ركعتين لم يكن له ذلك بخلاف المسافر إلا أن يقال:
إن الحكم في الفرض يكون بالأولى لأنه يكره البناء على تحريمته، سواء كان سجد للسهو أو
لا بخلاف شفع التطوع قوله (ولو سلم الساهي فاقتدى به غيره فإن سجد صح وإلا لا) وقال
محمد: هو صحيح، سجد الإمام أو لم يسجد، لأن عنده سلام من عليه السهو ولا يخرجه
عن الصلاة أصلا لأنها وجبت جبرا للنقصان فلا بد أن يكون في إحرام الصلاة. وعندهما
يخرجه على سبيل التوقف لأنه محلل في نفس وإنما لا يعمل لحاجته إلى أداء السجدة فلا تظهر
دونها ولا حاجة على اعتبار عدم العود. ويظهر الاختلاف في صحة الاقتداء وفي انتقاض

187
الطهارة بالقهقهة وتغيير الفرض بنية الإقامة في هذه الحالة. كذا في الهداية وغيرها. وظاهره
أن الطهارة تنتقض عنده بالقهقهة مطلقا، وعندهما إن عاد إلى السجود انتقضت وإلا فلا كما
صرح به في غاية البيان وهو غلط، فإنه لا تفصيل فيه بين السجود وعدمه عندهما لأن
القهقهة أوجبت سقوط سجود السهو عند الكل لفوات حرمة الصلاة لأنها كلام، وإنما
الحكم هو النقض عنده وعدمه عندهما كما صرح به في المحيط وشرح الطحاوي، وظاهره
أيضا أنه لو نوى الإقامة فالامر موقوف عندهما إن سجد لزمه الاتمام وإلا فلا، وعند محمد
يتم مطلقا وقد صرح به في غاية البيان وهو غلط أيضا فإن الحكم فيه إذا نوى الإقامة قبل

188
السجود أنه لا يتغير فرضه عندهما ويسقط عند سجود السهو لأنه لو سجد فقد عاد إلى حرمة
الصلاة فيتغير فرضه أربعا فيقع سجوده في خلال الصلاة فلا يعتد به فلا فائدة في الاشتغال
به، وعنده يتمها أربعا ويسجد في آخر صلاته. كذا في المحيط. وذكر في معراج الدراية أن
عندهما لا يتغير فرضه، سواء سجد للسهو أو لا، لأنه لو تغير قبل السجود لصحت النية
قبل السجود ولو صحت لوقعت السجدة في وسط الصلاة فصار كأنه لم يسجد أصلا، فلو
لصحت بلا سجود ولا وجه له عندهما لأنه يحصل بعد الخروج فلا يتغير فرضه اه‍. وقيدنا
بكونه نوى الإقامة قبل السجود لأنه لو نواها بعدما سجد سجدة أو سجدتين تغير فرضه اتفاقا
ويسجد في آخرها للسهو لأن النية صادفت حرمة الصلاة فصار مقيما. كذا في المحيط. وما
في غاية البيان من أن ثمرة الاختلاف تظهر في مسألة رابعة وهي ما إذا اقتدى به إنسان في
هذه الحالة ثم وجد منه ما ينافي الصلاة قصدا هل يقضي أم لا، فعند محمد يقضي سجد الإمام
أو لم يسجد لصحة الاقتداء، وعندهما لا يقضي لعدم صحة الاقتداء، فليست مسألة
رابعة بل متفرعة على مسألة المتن وهي صحة الاقتداء فإنه إن صح الاقتداء أو أفسدها لزمه
القضاء وإلا فلا. وجعل في الخلاصة ثمرة الاختلاف تظهر أيضا في الصلاة على
رسول الله صلى الله عليه وسلم والأدعية، فعند محمد يأتي بهما في القعدة الأخيرة وهي قعدة سجود السهو
لأنها قعدة الختم عنده، وعندهما يأتي بهما في قعدة الصلاة لأنه لما عاد إلى السجود تبين أنه لم
يكن خارجا فكان الأولى قعدة الختم.

189
قوله (وسجد للسهو وإن سلم للقطع) رفع لايهام التخيير بين السجود وعدمه من قوله
فإن سجد صح وإلا لا، فأفاد أن السجود واجب وإن قصد بسلامه قطع صلاته لأن هذا
السلام غير قاطع لحرمة الصلاة، أما عند محمد فظاهر لأنه لا يخرجه عن حرمتها أصلا عنده،
وأما عندهما فلا يخرجه خروجا باتا لا ينقطع الاحرام مطلقا، فلما نوى القطع تكون نيته
مبدلة للمشروع فلغت كنية الإبانة بصريح الطلاق، وكنية الظهر ستا بخلاف ما إذا نوى الكفر
فإنه يحكم بكفره لزوال الاعتقاد. قيد بسجود السهو لأنه لو سلم وهو ذاكر للسجدة الصلبية
تفسد صلاته، والفرق أن سجود السهو يؤتى به في حرمة الصلاة وهي باقية، والصلبية يؤتى
بها في حقيقتها وقد بطلت بالسلام العمد. وفي فتح القدير: واعلم أن ما قدمناه من قولنا أن
سلام من عليه السهو لا يخرجه عن حرمة الصلاة لا يستلزم وقوعه قاطعا وإلا لم يعد إلى
حرمتها، بل الحاصل من هذا أنه إذا وقع في محله كان محللا مخرجا وبعد ذلك فإن لم يكن
عليه شئ مما يجب وقوعه في حرمة الصلاة كان قاطعا مع ذلك، وإن كان فإن سلم ذاكرا له
وهو من الواجبات فقد قطع وتقرر النقص وتعذر جبره إلا أن يكون ذلك الواجب نفس
سجود السهو، وإن كان ركنا فسدت، وإن سلم غير ذاكر. أن عليه شيئا لم يصر خارجا
وعلى هذا تجري الفروع اه‍. وأما إذا سلم وعليه سجدة التلاوة فقد ذكر في الخلاصة
وغيرها: ولو سلم وعليه سجدة التلاوة وسجدتا السهو إن سلم وهو غير ذاكر لهما أو ذاكر
للسهو خاصة فإن سلامه لا يكون قاطعا للصلاة ويسجد للتلاوة أولا ثم يتشهد ويسلم ثم
يسجد للسهو وإن سلم وهو ذاكر لهما أو ذاكر للتلاوة خاصة فإن سلامه يكون قاطعا
وسقطت عنه التلاوة والسهو، وإن سلم وعليه سجدة صلبية وسجدتا السهو إن سلم وهو
غير ذاكر لهما أو ذاكر للسهو فإن سلامه لا يكون قاطعا وسجد للصلبية ويتشهد ويسلم ثم
يسجد للسهو، وإن سلم وهو ذاكر لهما أو ذاكر للصلبية خاصة فإن سلامه يكون قاطعا
وفسد ت صلاته، ولو سلم وعليه السجدة الصلبية والتلاوة والسهو إن سلم وهو غير ذاكر
للكل أو ذاكر للسهو لا يكون سلامه قاطعا ويسجد للأول فالأول إن كانت سجدة التلاوة

190
أولا فإنه يسجدها. وإن كانت الصلبية أولا فإنه يسجدها ثم يتشهد بعدها وسلم ثم
يسجد سجدتي السهو. وإن كان ذاكرا للصلبية أو التلاوة أو لهما فسدت صلاته وصار
سلامه قاطعا للصلاة لأنه سلام سهو في حق أحدهما وسلام عمد في حق الآخر وسلام
السهو لا يخرج وسلام العمد يخرج فترجح جانب الخروج احتياطا. ولو سلم وعليه السهو
والتكبير والتلبية بأن كان محرما وهو في أيام التشريق فإنه لا يسقط عنه ذلك كله سواء كان
ذاكرا للكل أو ساهيا للكل اه‍. وبهذا علم أن قوله وسجد للسهو وإن سلم للقطع مقيد
بما إذا لم يكن عليه سجدة صلبية أو سجدة تلاوة متذكرا لها، فإن كانت صلبية فسدت
الصلاة، وإن كانت تلاوة لم تفسد وسقط عنه سجود السهو كما سقط عنه سجود التلاوة،
وفي نفسي من سقوط سجود السهو شئ لأن التلاوة إنما سقطت لكون الصلاة خارجها
وقد صار خارجا. وأما سجود السهو شئ لأن التلاوة إنما سقطت لكون الصلاتية لا
تقضى خارجها وقد صار خارجا. وأما سجود السهو فإنه لا يؤدى في نفس الصلاة وإنما
يؤدي في حرمتها، وقد علل في فتح القدير لسقوطهما بامتناع البناء بسبب الانقطاع إلا إذا
تذكر أنه لم يتشهد فإنه يتشهد ويسجد للتلاوة وصلاته تامة اه‍. وعلل لسقوطها في البدائع
بأنه سلام عمد صار به خارجا من الصلاة اه‍. ولعله لما صار قاطعا بالنسبة إلى التلاوة صار
قاطعا لسجود السهو بطريق التبعية بخلاف ما إذا لم يكن عليه تلاوية ولا صلبية فإنه لم
يجعل قاطعا بالنسة إلى شئ. وفي الولوالجية: ولو سها فسلم ثم قام فكبر ودخل في
صلاة أخرى فرضا كان أو نفلا لا يجب عليه سجود السهو لأن التحريمة الأولى قد
انقطعت وهذه تحريمة قد استؤنفت، فالنقصان الذي حصل في التحريمة الأولى لا يمكن
جبره بفعله في التحريمة الأخرى.

191
قوله (وإن شك أنه كصلى أول مرة استأنف وإن كثر تحري وإلا أخذ بالأقل) لقوله
عليه الصلاة والسلام إذا شك أحدكم في صلاته فليستقبل بحمله على ما إذا كان أول شك
عرض له توفيقا بينه وبين ما في الصحيح مرفوعا إذا شك أحدكم فليتحر الصواب فليتم
عليه (1) بحمله على ما إذا كان الشك يعرض له كثيرا، وبين ما رواه الترمذي مرفوعا إذا
سها أحدكم في صلاته فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين فليبن علي واحدة، وإن لم يدر ثنتين
صلى أو ثلاثا فليبن علي ثنتين، فإن لم يدر ثلاثا صلى أو أربعا فليبن علي ثلاث وليسجد
سجدتين قبل أن يسلم (2) وصححه بحمله على ما إذا لم يكن له ظن فإنه يبني على الأقل،
ويساعد هذا الجمع المعنى وهو أنه قادر على إسقاط ما عليه دون حرج لأن الحرج بإلزام
الاستقبال إنما يلزم عند كثرة عروض الشك له وصار كما إذا شك أنه صلى أولا والوقت باق
يلزمه الصلاة لقدرته على حكم الظاهر، وحمل عدم الفساد الذي تظافر عليه الحديثان الآخران
على ما إذا كان يكثر منه للزوم الحرج بتقدير الالزام وهو منتف شرعا بالنافي فوجب أن
حكمه بالعمل بما يقع عليه التحري قيد بالشك في الصلاة لأنه لو شك في أركان الحج ذكر
الجصاص أنه يتحرى كما في الصلاة. وقال عامة مشايخنا: يؤدي ثانيا لأن تكرار الركن
والزيادة عليه لا تفسد الحج وزيادة الركعة تفسد الصلاة فكان التحري في باب الصلاة
أحوط. كذا في المحيط. وفي البدائع: إنه يبني في الحج على الأقل في ظاهر الرواية، وأفاد
كلامه أن الشك كان قبل الفراغ منها فلو شك بعد الفراغ منها أنه صلى ثلاثا أو أربعا لا شئ
عليه، ويجعل كأنه صلى أربعا حملا لامره على الصلاح. كذا في المحيط. والمراد بالفراغ منها
الفراغ من أركانها، سواء كان قبل السلام أو بعده. كذا في الخلاصة. واستثنى في فتح
القدير ما إذا وقع الشك في التعيين ليس غير بأن تذكر بعد الفراغ أنه ترك فرضا وشك في
تعيينه قالوا: يسجد سجدة واحدة ثم يقعد ثم يقوم فيصلي ركعة بسجدتين ثم يقعد ثم يسجد
للسهو وإلى آخره. ولا حاجة إلى هذا الاستثناء لأن كلامنا في الشك بعد الفراغ، وهذا قد
تذكر ترك ركن يقينا إنما وقع الشك في تعيينه. نعم يستثنى منه ما ذكره في الخلاصة من أنه

192
لو أخبره رجل عدل بعد السلام أنك صليت الظهر ثلاثا وشك في صدقه وكذبه فإنه يعيد احتياطا
لأن الشك في صدقة شك في الصلاة بخلاف من إذا كان عنده أنه صلى أربعا فإنه لا يلتفت إلى قول
المخبر، وكذا لو وقع الاختلاف بين الإمام والقوم إن كان الإمام على يقين لا يعيد وإلا أعاد
بقولهم. ولو اختلف القوم قال بعضهم صلى ثلاثا، وقال بعضهم صلى أربعا والإمام مع أحد
الفريقين يؤخذ بقول الإمام وإن كان معه واحد، فإن أعاد الإمام الصلاة وأعاد القوم معه مقتدين
به صح اقتداؤهم لأنه إن كان الإمام صادقا يكون هذا اقتداء المتنفل بالمتنفل، وإن كان كاذبا يكون
اقتداء المفترض بالمفترض إلى آخر ما في الخلاصة. وقيد بكون الشك في العدد بتعبيره بكلمة كم
لأن مصلي الظهر إذا صلى ركعة بنية الظهر ثم شك في الثانية أنه في العصر ثم شك في الثالثة أنه
في التطوع ثم شك في الرابعة أنه في الظهر قالوا: يكون في الظهر والشك ليس بشئ. ولو تذكر
مصلي العصر أنه ترك سجدة ولا يدري أنه تركها من صلاة الظهر أو من صلاة العصر الذي هو
فيها فإنه يتحرى فإن لم يقع تحريه على شئ يتم العصر ويسجد سجدة واحدة لاحتمال أنه تركها
من العصر ثم يعيد الظهر احتياطا ثم يعيد العصر، فإن لم يعد فلا شئ عليه. واختلفوا في معنى
قولهم أول مرة فأكثر مشايخنا كما في الخلاصة والخانية والظهيرية على أن معناه أول ما وقع له في
عمره يعني لم يكن سها في صلاة قط بعد بلوغه كما ذكره الشارح.
وذهب الإمام السرخسي إلى أن معناه أن السهو ليس بعادة له لا أنه لم يسه قط. وقال
فخر الاسلام: أي في هذه الصلاة. واختارها بن الفضل كما في الظهيرية وكلاهما قريب.
كذا في غاية البيان. وفائدة الخلاف بين العبارات أنه إذا سها في صلاته أول مرة واستقبله ثم
وقف سنين ثم سها على قول شمس الأئمة يستأنف لأنه لم يكن من عادته وإنما حصل له مرة
واحدة والعادة إنما هي من المعاودة، وعلى العبارتين الأخريين يجتهد في ذلك. كذا في السراج
الوهاج وفيه نظر، بل يستأنف على عبارة السرخسي وفخر الاسلام، ويتحرى على قول الأكثر
فقط لأنه أول سهو وقع له في تلك الصلاة فيستأنف على قول فخر الاسلام كما لا يخفى. وهذا
الاختلاف يفسر قولهم وإن كثر تحرى. فعلى قول الأكثر المراد بالكثرة مرتان بعد بلوغه،
وعلى قول فخر الاسلام مرتان في صلاة واحدة. وفي المجتبى: وقيل مرتين في سنته، ولعله

193
على قول السرخسي. وأشار المصنف إلى أنه لو شك في بعض وضوئه وهو أول ما عرض له
غسل ذلك الموضع وإن كان يعرض له كثيرا لا يلتفت إليه. كذا في معراج الدراية. وفي
المجتبى والمبتغي: ومن شك أنه كبر للافتتاح أولا، أو هل أحدث أو لا، أو هل أصابت
النجاسة ثوبه أو لا، أو مسح رأسه أم لا، استقبل إن كان أول مرة وإلا فلا اه‍. بخلاف ما لو
شك أن هذه تكبيرة الافتتاح أو القنوت فإنه لا يصير شارعا لأنه لا يثبت له شروع بعد الجعل
للقنوت ولا يعلم أنه نوى ليكون للافتتاح. والمراد بالاستقبال الخروج من الصلاة بعمل مناف
لها والدخول في صلاة أخرى والاستقبال بالسلام قاعدا أولى لأنه عرف محللا دون الكلام
ومجرد النية لغو لا يخرج بها من الصلاة. كذا قالوا وظاهره أنه لا بد من عمل فلو لم يأت بمناف
وأكملها على غالب ظنه لم تبطل إلا أنها تكون نفلا ولزمه أداء الفرض لو كانت الصلاة التي شك
فيها فرضا، فلو كانت نفلا ينبغي أن يلزمه قضاؤه وإن أكملها لوجوب الاستئناف، ولم أر هذا
التفريع منقولا إلا أن قول الشارح وغيره أن الاستقبال لا يتصور إلا بالخروج عن الأولى وذلك
بعمل مناف يدل على عدم بطلانها بمجرد الشك كما لا يخفى. والتحري طلب الأخرى وهو ما
يكون أكبر رأيه عليه، وعبروا عنه تارة بالظن وتارة بغالب الظن، وذكروا أن الشك تساوي
الامرين، والظن رجحان جهة الصواب، والوهم رجحان جهة الخطأ، فإن لم يترجح عنده
شئ بعد الطلب فإنه يبني على الأقل فيجعلها واحدة لو شك أنها ثانية، وثانية لو شك أنها
ثالثه، وثالثة لو شك أنها رابعة. وعند البناء على الأقل يقعد في كل موضع يتوهم أنه محل
قعود فرضا كان القعود أو واجبا كيلا يصير تاركا فرض القعدة أو واجبها، فإن وقع في
رباعي أنها الأولى أو الثانية يجعلها الأولى ثم يقعد ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى ويقعد ثم يقوم
فيصلي ركعة أخرى ويقعد ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى فيأتي بأربع قعدات، قعدتان مفروضتان
وهي الثالثة والرابعة، وقعدتان واجبتان لكن اقتصر في الهداية على قوله: يقعد في كل

194
موضع يتوهم أنه أخر صلاته كيلا يصير تاركا فرض القعدة. فنسبه في فتح القدير إلى
القصور والعذر له أن قعوده في موضع يتوهم أنه محل القعود الواجب ليس متفقا عليه بل فيه
اختلاف المشايخ كما نقله في المجتبي، فلعل ما في الهداية مبني على أحد القولين وإن كان
الظاهر خلافه وهو القعود مطلقا.
وظاهر كلامهم يدل على أن القعود في كل موضع يتوهم أنه آخر صلاته فرض، ولو
شك أنها الثانية أو الثالثة أتمها وقعد ثم قام فصلى أخرى وقعد ثم الرابعة وقعد، ولو شك في
صلاة الفجر وهو في القيام أنها الثالثة أو الأولى لا يتم ركعته بل يقعد قدر التشهد ويرفض
القيام ثم يقوم فيصلي ركعتين ويقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة ثم يتشهد ثم يسجد
للسهو. وإن شك وهو ساجد فإن شك أنها الأولى أو الثانية فإنه يمضي فيها سواء شك في
السجدة الأولى أو الثانية لأنها إن كانت الأولى لزمه المضي فيها، وإن كانت الثانية يلزمه
تكميلها. وإذا رفع رأسه من السجدة الثانية يقعد قدر التشهد ثم يقوم فيصلي ركعة، ولو شك
في صلاة الفجر في سجوده أنه صلى ركعتين أو ثلاثا إن كان في السجدة الأولى أمكنه
إصلاح صلاته لأنه إن كان صلى ركعتين كان عليه إتمام هذه الركعة لأنها ثانية فيجوز، وإن
كانت ثالثة من وجه لا تفسد صلاته عند محمد لأنه كما تذكر في السجدة الأولى ارتفعت تلك
السجدة وصارت كأنها لم تكن كما لو سبقه الحدث في السجدة الأولى في الركعة الخامسة
وهي مسألة زه، وإن كان هذا الشك في السجدة الثانية فسدت صلاته. ولو شك في الفجر
أنها ثانية أم ثالثة ولم يقع تحريه على شئ وكان قائما يقعد في الحال ثم يقوم ويصلي ركعة
ويقعد، وإن كان قاعدا والمسألة بحالها يتحرى إن وقع تحريه أنها ثانية مضى على صلاته،
وإن وقع تحريه أنها ثالثة يتحرى في القعدات، إن وقع تحريه أنه لم يقعد على رأس الركعتين
فسدت صلاته، وإن لم يقع تحريه على شئ فسدت صلاته أيضا. وكذا في ذوا ت الأربع إذا
شك أنها الرابعة أو الخامسة، ولو شك أنها ثالثة أو خامسة. فعلى ما ذكرنا في الفجر فيعود
إلى القعدة ثم يصلي ركعة أخرى ويتشهد ثم يقوم فيصلي ركعة أخرى ويقعد ويسجد للسهو.

195
ولو شك الوتر وهو قائم أنها ثانيته أم ثالثته يتم تلك الركعة ويقنت فيها ويقعد ثم يقوم فيصلي
ركعة أخرى ويقنت فيها أيضا هو المختار إلى هنا عبارة الخلاصة. ولم يذكر المصنف رحمه الله
سجود السهو في مسائل الشك تبعا لما في الهداية وهو مما لا ينبغي إغفاله فإنه يجب السجود في
جميع صور الشك، سواء عمل بالتحري أو بنى على الأقل. كذا في فتح القدير. وترك المحقق
قيدا لا بد منه مما لا ينبغي إغفاله وهو أن يشغله الشك قدر أداء ركن ولم يشتغل حالة الشك
بقراءة ولا تسبيح كما قدمناه أول الباب لكن ذكر في السراج الوهاج أن في فصل البناء على
الأقل يسجد للسهو، وفي فصل البناء على غلبة الظن إن شغله تفكره مقدار أداء الركن وجب
السهو وإلا فلا اه‍. وكأنه في فصل البناء على الأقل حصل النقص مطلقا باحتمال الزيادة فلا بد
من جابر، وفي الفصل الثاني النقصان بطول التفكر لا بمطلقه قوله (وإن توهم مصلى الظهر أنه
أتمها فسلم ثم علم أنه صلى ركعتين أتمها وسجد للسهو) لأنه عليه السلام فعل كذلك في حديث
ذي اليدين ولان السلام ساهيا لا يبطل الصلاة لكونه دعاء من وجه قيد به لأنه لو سلم على ظن
أنه مسافر أو على ظن أنها الجمعة أو كان قريب العهد بالاسلام فظن أن فرض الظهر ركعتان أو
كان في صلاة العشاء فظن أنها التراويح فسلم أو سلم ذاكرا أن عليه ركنا فإن صلاته تبطل لأنه
سلم عامدا. وفي المجتبي: ولو سلم المصلي عمدا قبل التمام قيل تفسد وقيل لا تفسد حتى
يقصد به خطاب آدمي اه‍. فينبغي أن لا تفسد في هذه المسائل على القول الثاني. ومراده من
قوله ثم علم أنه صلى ركعتين العلم بعدم تمامها ليدخل فيه ما إذا علم أنه ترك سجدة صلبية أو
تلاوية بعد السلام، وحكمه أنه إن كان في المسجد ولم يتكلم وجب أن يأتي به وإن انصرف عن
القبلة لأن سلامه لم يخرجه عن الصلاة حتى لو اقتدى به إنسان بعد هذا السلام صار داخلا فإن
سجد سجد معه وإن لم يسجد فسدت صلاته إذا كان المتروك صلبية، وفسدت صلاة الداخل
بفسادها بعد صحة الاقتداء ووجب القضاء على الداخل حتى لو دخل في فرض رباعي مثلا
يلزمه قضاء الأربع إن كان الإمام مقيما، وركعتين إن كان مسافرا وإن كان في الصحراء
فانصرف إن جاوز الصفوف خلفه أو يمنة أو يسرة فسدت في الصلبية وتقرر النقص وعدم الجبر
في التلاوة، وإن مشى إمامه لم يذكر في ظاهر الرواية، وحكمه إن كان له سترة بني ما لم
يجاوزها، وإن لم يكن له سترة فقيل إن مشى قدر الصفوف خلفه عاد أو أكثر امتنع وهو مروي
عن أبي يوسف اعتبارا لاحد الجانبين بالآخر. وقيل: إن جاوز موضع سجوده لا يعود وهو
الأصح لأن ذلك القدر في حكم خروجه من المسجد فكان مانعا من الاقتداء. كذا في فتح

196
القدير. وذكر في التجنيس: إذا سلم الرجل في صلاة الفجر وعليه سجود السهو فسجد ثم تكلم
ثم تذكر أنه ترك سجدة صلبية إن تركها من الركعة الأولى فسدت صلاته لأنها صارت دينا في ذمته
فصارت قضاء وانعدمت نية القضاء، وإن تركها من الركعة الثانية لا تفسد إلا رواية عن أبي
يوسف لأنها لم تصر دينا في ذمته فنابت سجدتا السهو عن الصلبية ولو كانت المسألة بحالها إلا أنه
لما سلم للفجر تذكر أن عليه سجدة التلاوة فسجد لها ثم تذكر أن عليه سجدة صلبية فصلاته
فاسدة في الوجهين لأن سجدة التلاوة دين عليه فانصرف نيته إلى قضاء الدين فلا تنصرف السجدة
إلى غير القضاء اه‍. وفي الظهيرية: وإذا سلم ساهيا وعليه سجدة فإن كان سجدة تلاوة يأتي بها
وفي ارتفاض القعدة روايتان، والأصح رواية الارتفاض، وإن كانت صلبية يأتي بها وترتفض
القعدة اه‍. وفي التجنيس: إذا صلى رجل من المغرب ركعتين وقعد قدر التشهد فزعم أنه أتمها
فسلم ثم قام فكبر ينوي الدخول في سنة المغرب ثم تذكر أنه لم يصل المغرب وقد سجد للسنة أولا
فصلاة المغرب فاسدة لأنه كبر ونوى الشروع في صلاة أخرى فيكون ناقلا من الفرض إلى النفل
قبل إتمامها، وأما إذا سلم ثم تذكر أنه لم يتم فحسب أن صلاته قد فسدت وقام وكبر للمغرب ثانيا
وصلى ثلاثا إن صلى ركعة وقعد قدر التشهد أجزأه المغرب الأول لأن نية المغرب ثانيا لا تصح،
بقي مجرد التكبير وذا لا يخرجه عن الصلاة اه‍. ومسائل السجدات معلومة في كتب الفتاوى
وغيرها فلا نطيل بذكرها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب صلاة المريض
ذكرها عقب سجود السهو لأنها من العوارض السماوية، والأول أعم موقعا لشموله
المريض والصحيح فكانت الحاجة إلى بيانه أمس فقدمه. وتصور مفهوم المرض ضروري إذ لا

197
شك أن فهم المراد من لفظ المرض أجلى من فهمه من قولنا معنى يزول بحلوله في بدن الحي
اعتدال الطبائع الأربع، بل ذلك يجري مجرى التعريف بالأخفى. وعرفه في كشف الاسرار
بأنه حالة للبدن خارجة عن المجرى الطبيعي، والإضافة فيه من باب إضافة الفعل إلى فاعله
كقيام زيد أو إلى محله كتحريك الخشب قوله: (تعذر عليه القيام أو خاف زيادة المرض صلى
قاعدا يركع ويسجد) لقوله تعالى * (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم) * (آل
عمران: 191) قال ابن مسعود وجابر وابن عمر: الآية نزلت في الصلاة أي قياما إن
قدروا، وقعودا إن عجزوا عنه، وعلى جنوبهم إن عجزوا عن القعود. ولحديث عمران بن
حصين أخرجه الجماعة إلا مسلما قال: كانت بي بواسير فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة
فقال صلى الله عليه وسلم: صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنبك. زاد النسائي: فإن لم
تستطع فمستلقيا * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) *. ثم المصنف رحمه الله أراد بالتعذر التعذر
الحقيقي بحيث لو قام سقط بدليل أنه عطف عليه التعذر الحكمي وهو خوف زيادة المرض.
واختلفوا في التعذر فقيل ما يبيح الافطار، وقيل التيمم، وقيل بحيث لو قام سقط، وقيل ما
يعجزه عن القيام بحوائجه، والأصح أن يلحقه ضرر بالقيام. كذا في النهاية والمجتبي
وغيرهما. وإذا كان التعذر أعم من الحقيقي والحكمي فلا حاجة إلى جعل التعذر بمعنى
التعسر وأنهم لا يريدون به عدم الامكان كما في الذخيرة. وفي المجتبى: حد المرض المسقط
للقيام والجمعة والمبيح للافطار والتيمم زيادة العلة أو امتداد المرض أو اشتداده أو يجد به
وجعا ا ه‍. قيد بتعذر القيام أي جميعه لأنه لو قدر عليه متكئا أو متعمدا على عصا أو حائط
لا يجزئه إلا كذلك خصوصا على قولهما فإنهما يجعلان قدرة الغير قدرة له. قال الهندواني:
إذا قدر على بعض القيا يقوم ذلك ولو قدر آية أو تكبيرة ثم يقعد وإن لم يفعل ذلك خفت
أن تفسد صلاته. هذا هو المذهب ولا يروى عن أصحابنا خلافه. وكذا إذا عجز عن القعود
وقدر على الاتكاء والاستناد إلى إنسان أو إلى حائط أو إلى وسادة لا يجزئه إلا كذلك، ولو

198
استلقى لا يجزئه. ودخل تحت العجز الحكمي ما لو صام رمضان صلى قاعدا وإن أفطر صلى
قائما يصوم ويصلي قاعدا، وما لو عجز عن السجود وقدر على القيام فإنه لا يجب عليه
القيام. وما لو صلى قائما سلس بوله ولو صلى قاعدا لا فإنه يصلي قاعدا بخلاف ما لو كان
لو قام أو قعد سال بوله ولو استلقى لا فإنه يصلي قاعدا ولا يستلقي لأنها مستلقيا لا تجوز
عند الاختيار بحال كما لا تجوز مع الحدث فاستويا، وتمامه في المحيط: وما لو كان في بطنها
ولد فأخرجت إحدى يديه وتخاف خروج الوقت تصلي بحيث لا يلحق الولد ضرر لأن الجمع
بين حق الله وحق الولد ممكن كما في التجنيس، وما لو خاف من العدوان صلى قائما أو
كان في خباء لا يستطيع أن يقيم صلبه فيه وإن خرج لم يستطع أن يصلي من الطين والمطر أنه
يصلي قاعدا ومن به أدنى علة وهو في طريق فخاف إن نزل عن المحمل للصلاة بقي في
الطريق فإنه يجوز أن يصلي الفرائض على محمله، وكذا المريض الراكب إذا لم يقدر على النزول
ولا على من ينزله بخلاف ما لو قدر على من ينزله. واختلف المشايخ فيما إذا كان يستطيع
القيام لو صلى فبيته ولو خرج إلى الجماعة يعجز عن القيام، والأصح أنه يخرج إلى الجماعة
ويصلن قاعدا. كذا في الولوالجية وقدمنا في باب صفة الصلاة أن الفتوى على خلافه.
قوله: (وموميا إن تعذر) أي يصلي موميا وهو قاعد إن تعذر الركوع والسجود لما
قدمناه، ولان الطاعة بحسب الطاقة. وفي المجتبى: وقد كان كيفية الايماء بالركوع والسجود
مشتبها على أنه يكفيه بعض الانحناء أم أقصى ما يمكنه إلى أن ظفرت بحمد الله على الرواية
وهو ما ذكره شمس الأئمة الحلواني أن المومي إذا خفض رأسه للركوع شيئا ثم للسجود جاز،
ولو وضع بين يديه وسائد وألصق جبهته عليها ووجد أدنى الانحناء جاز عن الايماء وإلا
فلا. ومثله في تحفة الفقهاء وذكر أبو بكر إذا كان بجبهته وأنفه عذر يصلي بالايماء ولا يلزمه
تقريب الجبهة إلى الأرض بأقصى ما يمكنه وهذا نص في بابه ا ه‍. ثم إذا صلى المريض قاعدا
بركوع وسجود أو بإيماء كيف يقعد، أما في حال التشهد فإنه يجلس كما يجلس للتشهد
بالاجماع، وأما في حالة القراءة وحال الركوع روي عن أبي حنيفة أنه يجلس كيف شاء من
غير كراهة إن شاء محتبيا وإن شاء متربعا وإن شاء على ركبتيه كما في التشهد. وقال زفر:
يفترش رجله اليسرى في جميع صلاته. والصحيح ما روي عن أبي حنيفة لأن عذر المرض
أسقط عنه الأركان فلان يسقط عن الهيئات أولى. كذا في البدائع. وفي الخلاصة والتجنيس
والولوالجية: الفتوى على قول زفر لأن ذلك أيسر على المريض ولا يخفى ما فيه، بل الأيسر

199
عدم التقييد بكيفية من الكيفيات والمذهب الأول. وفي الخلاصة: وإن لم يقدر على السجود من
جرح أو خوف أو مرض فالكل سواء. ومن صلى وبجبهته جرح لا يستطيع السجود عليه لم يجزه
الايماء وعليه أن يسجد على أنفه وإن لم يسجد على أنفه لم يجزه. ثم قال: وفي الزيادات: رجل
بحلقه جراح لا يقدر على السجود ويقدر على غيره من الافعال فإنه يصلي قاعدا بالايماء ا ه‍.
وبهذا ظهر أن تعذر أحدهما كاف للايماء بهما. وفي البدائع: إن الركوع يسقط عمن يسقط عنه
السجود وإن كان قادرا على الركوع ا ه‍. ولم أر حكم ما إذا تعذر الركوع دون السجود وكأنه غير
واقع وفي القنية: أخذته شقيقة لا يمكنه السجود يومئ قوله: (وجعل سجوده أخفض) أي
أخفض من ركوعه لأنه قائم مقامهما فأخذ حكمهما، وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
في صلاة المريض: إن لم يستطع أن يسجد أومأ وجعل سجوده أخفض من ركوعه. وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من لم يقدر على السجود فليجعل سجوده ركوعا وركوعه إيماء والركوع أخفض
من الايماء كذا في البدائع. وظاهره كغيره أنه يلزمه جعل السجود أخفض من الركوع حتى لو
سواهما لا يصح ويدل عليه أيضا ما سيأتي قوله: (ولا يرفع إلى وجهه شيئا يسجد عليه فإن فعل
وهو يخفض رأسه صح وإلا لا) أي وإن لم يخفض رأسه لم يجز لأن الفرض في حقه الايماء ولم
يوجد فإن لم يخفض فهو حرام لبطلان الصلاة المنهي عنه بقوله تعالى * (ولا تبطلوا أعمالكم)
* (محمد: 33) وأما نفس الرفع المذكور فمكروه، وصرح به في البدائع وغيره لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
دخل على مريض يعوده فوجده يصل كذلك فقال: إن قدرت أن تسجد على الأرض فاسجد وإلا
فأوم برأسك. وروي أن عبد الله بن مسعود دخل على أخيه يعوده فوجده يصلي ويرفع إليه عود
فيسجد عليه فنزع ذلك من يد من كان في يده وقال: هذا شئ عرض لكم الشيطان أوم
بسجودك. وروي أن ابن عمر رأى ذلك من مريض فقال: أتتخذون مع الله آلهة؟ ا ه‍. واستدل
للكراهة في المحيط بنهيه عليه السلام عنه وهو يدل على كراهة التحريم. وأراد بخفض الرأس
خفضها للركوع ثم للسجود أخفض من الركوع حتى لو سوى لم يصح كما ذكره الولوالجي في

200
فتاواه. ولو رفع المريض شيئا يسجد عليه ولم يقدر على الأرض لم يجز إلا أن يخفض برأسه
لسجوده أكثر من ركوعه ثم يلزقه بجبينه فيجوز لأنه لما عجز عن السجود وجب عليه الايماء
والسجود على الشئ المرفوع ليس بالايماء إلا إذا حرك رأسه فيجوز لوجود الايماء لا لوجود
السجود على ذلك الشئ ا ه‍. وصححه في الخلاصة. قيد بكون فرضه الايماء لعجزه عن
السجود إذ لو كان قادرا على الركوع والسجود فرفع إليه شئ فسجد عليه قالوا: إن كان إلى
السجود أقرب منه إلى القعود جاز وإلا فلا. كذا في المحيط. وفي السراج الوهاج: ثم إذا وجد
الايماء فهو مصل بالايماء على الأصح لا بالسجود حتى لا يجوز اقتداء من يركع ويسجد به.
قوله: (وإن تعذر القعود أومأ مستلقيا أو على جنبه) لأن الطاعة بحسب الاستطاعة.
والتخيير بين الاستلقاء على القفا والاضطجاع على الجنب جواب الكتب المشهورة كالهداية
وشروحها. وفي القنية: مريض اضطجع على جنبه وصلى وهو قادر على الاستلقاء، وقيل
يجوز والأظهر أنه لا يجوز. وإن تعذر الاستلقاء يضطجع على شقه الأيمن أو الأيسر ووجهه
إلى القبلة ا ه‍. وهذا الأظهر خفي والأظهر الجواز. وقدم المصنف الاستلقاء لبيان الأفضل
وهو جواب المشهور من الروايات. وعن أبي حنيفة أن الأفضل أن يصلي على شقه الأيمن.
وبه أخذ الشافعي لحديث عمران بن حصين السابق، وللتصريح به في الآية، ولان استقبال
القبلة يحصل به، ولهذا يوضع في اللحد هكذا ليكون مستقبلا للقبلة. فأما المستلقي يكون
مستقبل السماء وإنما يستقبل القبلة رجلاه فقط ولنا ما روي عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال

201
في المريض: إن لم يستطع قاعدا فعلى القفا يومئ إيماء، ولان التوجه إلى القبلة بالقدر الممكن
فرض وذلك في الاستلقاء لأن الايماء هو تحريك الرأس فإذا صلى مستلقيا يقع إيماؤه إلى
القبلة، وإذا صلى على الجنب يقع منحرفا عنها ولا يجوز الانحراف عنها من غير ضرورة.
وقيل: إن المرض الذي كان بعمران باسور فكان لا يستطيع أن يستلقي على قفاه. والمراد في
الآية الاضطجاع يقال فلان وضع جنبه إذا نام وإن كان مستلقيا بخلاف الوضع في اللحد
لأنه ليس على الميت فعل يجب توجيهه إلى القبلة ليوضع مستلقيا فكان الاستقبال في الوضع
على الجنب. وأطلق في تعذر العقود فشمل التعذر الحكمي كما لو قدر على القعود ولكن بزغ
الماء من عينيه فأمره الطبيب أن يستلقي أياما على ظهره ونهاه عن القعود والسجود أجزأه أن
يستلقي ويصلي بالايماء لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس. كذا في البدائع. وفي الخلاصة:
وإذا لم يقدر على القعود صلى مضطجعا على قفاه متوجها نحو القبلة ورأسه إلى المشرق ورجلاه
إلى المغرب. وفي المجتبى: وينبغي للمستلقي أينصب ركبتيه إن قدر حتى لا يمد رجليه إلى
القبلة. وفي العناية: يجعل وسادة تحت رأسه حتى يكون شبه القاعد ليتمكن من الايماء
بالركوع والسجود لأن حقيقة الاستلقاء تمنع الأصحاء عن الايماء فكيف بالمرضى؟ واقتصار
المصنف على بيان البدل للأركان الثلاثة أعني القيام والركوع والسجود إشارة إلى أن القراءة لا
بدل لها عند العجز عنها فيصلي بغير القراءة وفي المجتبى: قيل في الأمي والأخرس يجب
تحريك الشفة واللسان كتلبية الحج، وقيل لا يجب وإذا لم يعرف إلا قوله الحمد لله يأتي به
في كل ركعة ولا يكررها بخلاف التحيات في التشهد فإنه يكررها قدر التشهد لكون القعود
مقدرا ا ه‍. وأشار بسقوط الأركان عند العجز إلى سقوط الشرائط عند العجز عنها بالأولى،
فلو كان وجه المريض إلى غير القبلة ولم يقدر على التحويل إليها بنفسه ولا بغيره يصلي كذلك
لأنه ليس في وسعه إلا ذلك، ولا إعادة عليه بعد البرء في ظاهر الجواب لأن العجز عن
تحصيل الشرائط لا يكون فوق العجز عن تحصيل الأركان وثمة لا تجب الإعادة فههنا أولى.
كذا في البدائع. وفي الخلاصة: فإن وجد أحدا يحوله فلم يأمره وصلى إلى غير القبلة جاز
عند أبي حنيفة بناء على أن الاستطاعة بقوة الغير ليست بثابتة عنده، وعلى هذا لو صلى على
فراش نجس ووجد أحدا يحوله إلى مكان طاهر ثم قال مريض مجروح تحته ثياب نجسة، إن
كان بحال لا يبسط تحته شئ إلا تنجس من ساعته له أن يصلي على حاله، وكذا لو لم يتنجس
الثاني إلا أنه يزداد مرضه له أن يصلي فيه ا ه‍. وفي الولوالجية: المريض إذا كان لا يمكنه

202
الوضوء أو التيمم وله جارية فعليها أن توضئه لأنها مملوكة وطاعة المالك واجبة إذا عرى عن
المعصية، وإذا كان له امرأة لا يجب عليها أن توضئه لأن هذا ليس من حقوق النكاح إلا إذا
تبرعت فهو إعانة على البر. والعبد المريض إذا كان لا يستطيع أن يتوضأ يجب على مولاه أن
يوضئه بخلاف المرأة المريضة حيث لا يجب على الزوج أن يتعاهدها لأن المعاهدة إصلاح الملك
وإصلاح الملك على المالك، وأما المرأة حرة فكا إصلاحها عليها ا ه‍. وفي التجنيس: قال
أبو حنيفة في متوضئ لا يقدر على مكان طاهر وقد حضرت الصلاة صلى بالايماء ثم يعيد
ما صلى بالايماء قضاء لحق الوقت بالتشبه وإنما يعيد لأن العذر جاء من قبل العبد. وقال
محمد: لا يصلي الماشي وهو يمشي ولا السابح وهو يسبح في البحر ولا السائف وهو يضرب
بالسيف لأن هذه الأفعال منافية للصلاة، ولهذا شغل النبي صلى الله عليه وسلم عن صلاته يوم الخندق لأجل
القتال ثم قال: الغريق في البحر إذا حضرته الصلاة إن وجد ما يتعلق به أو كان ماهرا في
السباحة بحيث يمكنه الصلاة بالايماء من غير أن يحتاج فيه إلى عمل كثير افترض عليه أداء
الصلاة لأنه قادر، ولو لم يجد ما يتعلق به ولم يكن ماهرا في السباحة يعذر بالتأخير إلى أن
يخرج لأنه غير قادر على أداء الصلاة ا ه‍. وفي القنية: مريض لا يمكنه الصلاة إلا بأصوات
مثل أوه ونحوه يجب عليه أن يصلي ولو اعتقل لسانه يوما وليلة فصلى صلاة الأخرس ثم
انطلق لسانه لا تلزمه الإعادة.
قوله: (وإلا أخرت) أي وإن لم يقدر على الايماء برأسه أخرت الصلاة إلى القدرة. وفي
الهداية: وقوله أخرت عنه إشارة إلى أنه لا تسقط الصلاة عنه، وإن كان العجز أكثر من
يوم وليلة إذا كان مفيقا هو الصحيح لأنه يفهم مضمون الخطاب بخلاف المغمى عليه ا ه‍.
وذهب شيخ الاسلام وقاضيخان وقاضي غنى إلى أن الصحيح هو السقوط عند الكثرة لا
القلة. وفي الظهيرية: وهو ظاهر الرواية وعليه الفتوى. وفي الخلاصة: وهو المختار لأن
مجرد العقل لا يكفي لتوجه الخطاب. وصححه في البدائع وجزم به الولوالجي وصاحب
التجنيس مخالفا لما في الهداية، واختاره المصنف في الكافي وصححه في الينابيع ورجحه في
فتح القدير بالقياس على المغمى عليه ا ه‍. وعلى هذا فمعنى قوله عليه السلام فالله أحق
بقبول العذر أي عذر السقوط، وعلى ما اختاره صاحب الهداية معناه بقبول عذر التأخير.
كذا في معراج الدراية. واستشهد قاضيخان بما ذكره محمد فيمن قطعت يداه من المرفقين
ورجلاه من الساقين لا صلاة عليه، فثبت أن مجرد العقل لا يكفي لتوجه الخطاب. ورده في

203
التبيين بأنه لا دليل فيه على السقوط لأن هناك العجز متصل بالموت وكلامنا فيما إذا صح
المريض حتى لو مات المريض أيضا من ذلك الوجه ولم يقدر على الصلاة لا يجب عليه القضاء
حتى لا يلزمه الايصاء به فصار كالمسافر والمريض إذا أفطر في رمضان وماتا قبل الإقامة
والصحة ا ه‍. ثم اعلم أن ظاهر ما في بعض الكتب يوهم أن في المسألة ثلاثة أقوال: عدم
السقوط مطلقا والسقوط مطلقا والتفصيل وليس كذلك، فإن الفوائت إذا كانت صلاة يوم
وليلة أو أقل فعليه القضاء بالاجماع كما في البدائع. وغاية البيان إنما محل الاختلاف فيما إذا
كثرت وزادت على يوم وليلة فليس فيها إلا قولان، ولأن قاضيخان صحح التفصيل في
الفتاوى وصاحب الهداية صحح عدم السقوط مطلقا فيما إذا برأ من مرضه، أما إذا مات منه
فإنه يلقى الله ولا شئ عليه اتفاقا ينبغي أن يقال: إن محله إذا لم يقدر في مرضه على الايماء
بالرأس، إما إن قدر عليه بعد عجزه فإنه يلزمه القضاء، وإن كان القضاء يجب موسعا لتظهر
فائدته في الايصاء بالاطعام عنه. وفي السراج الوهاج: إن هذه المسألة على أربعة أوجه: إن
دام به المرض أكثر من يوم وليلة وهو لا يعقل لا يقضي إجماعا، وإن كان أقل من يوم وليلة
أو يوما وليلة وهو يعقل قضى إجماعا، وإن كان أكثر وهو يعقل أو أقل وهو لا يعقل فهو
محل الاختلاف، وفي القنية ولا فدية في الصلاة حالة الحياة بخلاف الصوم. ولو كان يشتبه

204
على المريض أعداد الركعات أو السجدات لنعاس يلحقه لا يلزمه الأداء، ولو أداها بتلقين
غيره ينبغي أن يجزئه ا ه‍.
قوله: (ولم يوم بعينه وقلبه وحاجبه) وقال زفر: يومئ بحاجبه فإن عجز فبعينيه فإن
عجز فبقلبه. وقال الشافعي: بعينيه وقلبه. وقال الحسن: بحاجبيه وقلبه ويعيد إذا صح.
والصحيح مذهبنا لحديث عمران وابن عمر فإن لم يستطع الايماء برأسه فالله أحق بقبول
العذر منه، ولان فرض السجود تعلق بالرأس دون العين والقلب والحاجب فلا ينقل إليها
كاليد واعتبارا بالصوم والحج حيث لا ينتقلان إلى القلب بالعجز. وفي فتاوى قاضيخان:
المريض إذا عجز عن الايماء فحرك رأسه عن أبي حنيفة أنه قال: تجوز صلاته. وقال الشيخ
الإمام أبو بكر محمد بن الفضل: لا يجوز لأنه لم يوجد منه الفعل ا ه‍. فعلى هذا حقيقة
الايماء إنما هي طأطأة الرأس قوله: (وإن تعذر الركوع والسجود لا القيام أومأ قاعدا) لأن
ركنية القيام للتوصل به إلى السجدة لما فيها من نهاية التعظيم وإذا كان لا يتعقبه السجود لا
يكون ركنا فيتخير، والأفضل هو الايماء قاعدا لأنه أشبه بالسجود، ولا ترد صلاة الجنازة
حيث لم يلزمه ثمة سقوط القيام بسبب سقوط السجود لأن صلاة الجنازة ليست بصلاة حقيقة
بل هي دعاء. وفي المجتبى: وإن أومأ بالسجود قائما لم يجزه وهذا أحسن وأقيس كما لو أومأ
بالركوع جالسا لا يصح على الأصح ا ه‍. والظاهر من المذهب جواز الايماء بهما قائما
وقاعدا كما لا يخفى. وذكر الولوالجي في فتاواه: رجل به جرح إن صلى بالايماء قائما لا
يسيل جرحه وإن ركع وسجد يسيل جرحه يصلي قائما ويومئ للركوع ثم يجلس ويومئ
للسجود ليكون أداء الصلاة مع الطهارة، فإن لم يفعل كذلك وصلى قائما هكذا يومئ إيماء

205
لا تجوز صلاته لأن الايماء للسجود جالسا أقرب إلى حقيقة السجود ا ه‍. وأومأ بالهمز كذا
في السراج الوهاج قوله: (ولو مرض في صلاته يتم بما قدر) يعني قاعدا يركع ويسجد أو
مومئا إن تعذر أو مستلقيا إن لم يقدر لأنه بناء الأدنى على الاعلى فصار كالاقتداء وهذا هو
المشهور. وعن أبي يوسف أنه إذا صار إلى حالة الايماء يستقبل الصلاة لأن تحريمته انعقدت
موجبة للركوع والسجود فلا تجوز بدونهما، ووجه المشهور أنه إذا بنى كان بعض الصلاة
كاملا وبعضها ناقصا وإذا استقبل كانت كلها ناقصة فلان يؤدي بعضها كاملا أولى وهو
الصحيح قوله: (ولو صلى قاعدا يركع ويسجد فصح بني ولو كان موميا لا أي لو كان يصلي
بالايماء فصح لا يبني لأنه لا يجوز اقتداء الراكع بالمومئ فكذا البناء، ويجوز اقتداء القائم
بالقاعد الذي يركع ويسجد خلافا لمحمد كما سبق. قيد بكونه صلى بالايماء لأنه لو كان
افتتحها بالايماء ثم قدر قبل أن يركع ويسجد بالايماء جاز له أن يتمها لأنه لم يؤد ركنا
بالايماء وإنما هو مجرد تحريمة فلا يكون بناء القوي على الضعيف. وأشار إلى أنه لو كان
يومئ مضطجعا ثم قدر على القعود ولم يقدر على الركوع والسجود فإنه يستأنف وهو المختار
لأن حالة القعود أقوى فلا يجوز بناؤه على الضعيف.
قوله: (وللمتطوع أن يتكئ على شئ إن أعيا) أي تعب لأنه عذر أطلق في الشئ فشمل
العصا والحائط. وأشار إلى أن له أن يقعد أيضا عند أبي حنيفة، وعندهما لا يجوز له القعود إلا إذا
عجز لما مر من قبل وقيد بقوله إن أعيا لأن الاتكاء مكروه بغير عذر لأنه إساءة في الأدب وفيه
اختلاف المشايخ والصحيح كراهته من غير عذر وعدم كراهة القعود من غير عذر عنده قوله: (ولو
صلى في فلك قاعدا بلا عذر صح) يعني صلى فرضا قاعدا بلا عذر صحت عند أبي حنيفة وقد أساء
كما في البدائع. وقالا: لا يجزئه إلا من علة لأن القيام مقدور عليه فلا يترك، وله أن الغالب فيها
دوران الرأس وهو كالمحقق الآن أن القيام أفضل لأنه أبعد عن شبهة الخلاف والخروج أفضل إن
أمكنه لأنه أمكن لقلبه والخلاف في غير المربوطة والمربوطة كالشط هو الصحيح. كذا في الهداية
وهو مقيد بالمربوطة بالشط، أما إذا كانت مربوطة في لجة البحر فالأصح إن كان الريح يحركها
شديدا فهي كالسائرة وإلا فكالواقفة. ثم ظاهر الهداية والنهاية والاختيار جواز الصلاة في
المربوطة في الشط مطلقا. وفي الايضاح: فإن كانت موقوفة في الشط وهي على قرار الأرض

206
فصلى قائما جاز لأنها إذا استقرت على الأرض فحكمها حكم الأرض، فإن كانت مربوطة ويمكنه
الخروج لم تجز الصلاة فيها لأنها إذا لم تستقر فهي كالدابة بخلاف ما إذا استقرت فإنها حينئذ
كالسرير. واختاره في المحيط والبدائع. وفي الخلاصة: وأجمعوا أنه لو كان بحالة يدور رأسه لو
قام تجوز الصلاة فيها قاعدا وأراد بالصلاة قاعدا أن تكون بركوع وسجود لأنها لو كانت بالايماء لا
تجوز اتفاقا لأنه لا عذر. وأطلقها فشمل ما إذا كان منفردا أو بجماعة فلو اقتدى به رجل في سفينة
أخرى، فإن كانت السفينتان مقرونتين جاز لأنهما بالاقتران صارتا كشئ واحد، وإن كانتا
منفصلتين لم يجز لأن تخلل ما بينهما بمنزلة النهر وذلك يمنع صحة الاقتداء. وإن كان الإمام في
سفينة والمقتدون على الجد والسفينة واقفة. فإن كان بينه وبينهم طريق أو مقدار نهر عظيم لم يصح
اقتداؤهم به لأن الطريق ومثل هذا النهر يمنعان صحة الاقتداء. ومن وقف على أطلال السفينة
يقتدي بالإمام في السفينة صح اقتداؤه إلا أن يكون أمام الإمام لأن السفينة كالبيت واقتداء الواقف
على السطح بمن هو في البيت صحيح إذا لم يكن أمام الإمام، ولا يخفى عليه حاله كذا ههنا. كذا
في البدائع. وقيد بترك القيام لأنه لو ترك استقبال وجهه إلى القبلة وهو قادر عليه لا يجزئه في
قولهم جميعا فعليهم أن يستقبلوا بوجههم القبلة كلما دارت السفينة يحول وجهه إليها. كذا في
الأسبيجابي.
قوله: (ومن جن أو أغمي عليه خمس صلوات قضى ولو أكثر لا) وهذا استحسان،
والقياس أن لا قضاء عليه إذا استوعب الاغماء وقت صلاة كاملة لتحقق العجز. وجه
الاستحسان أن المدة إذا طالت كثرت الفوائت فيحرج في الأداء وإذا قصرت قلت: فلا حرج
والكثير أن يزيد على يوم وليلة لأنه يدخل في حد التكرار والجنون كالاغماء على الصحيح.
وفي تحرير الأصول: الجنون ينافي شرط العبادات وهي النية فلا تجب مع الممتد منه مطلقا
للحرج وما لا يمتد طارئا جعل كالنوم من حيث إنه عارض يمنع فهم الخطاب زال قبل
الامتداد ولأنه لا ينفي أصل الوجوب إذ هو بالذمة وهي له حتى ورث وملك وكان أهلا
للثواب كأن نوى صوم الغد فجن فيه ممسكا كله صح فلا يقضي لو أفاق بعده ا ه‍. قيد
بالجنون والاغماء لأن النوم لا يسقط مطلقا حتى لو نام أكثر من يوم وليلة يقضي لأن النوم
مما لا يمتد يوما وليلة غالبا فلا يحرج في القضاء بخلاف الاغماء لأن مما يمتد عادة. وقيده

207
بدوام الاغماء لأنه إذا كان يفيق فيها فإنه ينظر، فإن كان لافاقته وقت معلوم مثل أن يخف
عنه المرض عند الصبح مثلا فيفيق قليلا ثم يعاوده فيغمى عليه تعتبر هذه الإفاقة فيبطل ما
قبلها محكم الاغماء إذا كان أقل من يوم وليلة، وإن لم يكن لافاقته وقت معلوم لكنه يفيق
بغتة فيتكلم بكلام الأصحاء ثم يغمى عليه فلا عبرة بهذه الإفاقة. أطلق في الاغماء والجنون
فشمل ما إذا كان بسبب فزع من سبع أو خوف من عدو فلا يجب القضاء إذا امتد إجماعا لأن
الخوف بسبب ضعف قلبه وهو مرض إلا أنه يرد عليه ما إذا زال عقله بالخمر أو أغمي عليه
بسبب شرب البنج أو الدواء فإنه لا يسقط عنه القضاء في الأول وإن طال اتفاقا لأنه حصل
بما هو معصية فلا يوجب التخفيف، ولهذا يقع طلاقه ولا يسقط أيضا في الثاني عند أبي
حنيفة لأن النص ورد في إغماء حصل بآفة سماوية فلا يكون واردا في إغماء حصل بصنع
العباد لأن العذر إذا جاء من جهة غير من له الحق لا يسقط الحق. وقال محمد: يسقط القضاء
إذا كثر لأنه إنما حصل بما هو مباح. كذا في المحيط. وشمل ما إذا كان الجنون أصليا كما
إذا بلغ مجنونا وزال وهو قول محمد، فالعارض والأصلي عنده سواء في سقوط القضاء إذا كثر
وعدمه إذا قل. وقال أبو يوسف: الأصلي كالصبا فلا قضاء مطلقا. كذا في السراج الوهاج.
وقيد بالصلاة في تسوية الجنون بالاغماء لأن بينهما فرقا في الصوم فإنه إذا أغمي عليه قبل
شهر رمضان حتى مضى رمضان كله ثم أفاق فإنه يلزمه قضاء شهر رمضان، فلو جن قبل
رمضان وأفاق بعد ما مضي شهر رمضان لا يلزمه قضاء الصوم كما سيأتي بيانه إن شاء الله
تعالى. وظاهر كلامه أن الأكثرية من حيث الصلوات فإن الأكثر من خمس صلوات ست فأكثر
وهو قول محمد ورواية عن أبي حنيفة وهو الأصح، وعند أبي يوسف وهو رواية عنه أيضا
العبرة للزيادة من حيث الساعات، وفائدته تظهر فيما إذا أغمي عليه قبل الزوال فأفاق من
الغد بعد الزوال، فعند أبي يوسف لا يجب القضاء، وعند محمد يجب إذا أفاق قبل خروج
وقت الظهر والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.

208
باب سجود التلاوة
كان من حق هذا الباب أن يقترن بسجود السهو لأن كلا منهما سجدة لكن لما كان
صلاة المريض بعارض سماوي كالسهو وألحقتها المناسبة به فتأخر سجود التلاوة ضرورة،
وهو من قبيل إضافة الحكم إلى سببه. وإنما لم يقل سجود التلاوة والسماع بيانا للسببين لأن
السماع سبب أيضا لما أن التلاوة لما كانت سببا للسماع أيضا كان ذكرها مشتملا على السماع
من وجه فاكتفي به. وفي إضافة السجود إلى التلاوة إشارة إلى أنه إذا كتبها أو تهجاها لا يجب
عليه سجود ولا تفسد الصلاة بالهجاء لأنه موجود في القرآن، وشرائطها شرائط الصلاة إلا
التحريمة لأنها لتوحيد الافعال المختلفة ولم يوجد. وركنها وضع الجبهة على الأرض أو ما
يقوم مقامه من الركوع كما سيأتي، أو من الايماء للمريض أو كان راكبا على الدابة في السفر
وتلاها أو سمعها، والقياس أن لا يجزئه الايماء على الراحلة لأنها واجبة فلا يجوز أداؤها على
الراحلة من غير عذر لكنهم استحسنوه لأن التلاوة أمر دائم بمنزلة التطوع فكان في اشتراط
النزول له حرج بخلاف الفرض والمنذور. وما وجب من السجدة على الأرض لا يجوز على
الدابة، وما وجب على الدابة يجوز على الأرض لأن ما وجب على الأرض وجبت تامة فلا
تسقط بالايماء، ولو تلاها على الدابة فنزل ثم ركب فأداها بالايماء جاز. ويفسدها ما يفسد
الصلاة من الحدث العمد والكلام والقهقهة وعليه إعادتها كما لو وجدت في سجدة الصلاة،
وقيل هذا على قول محمد لأن العبرة عنده لتمام الركن وهو الرفع ولم يحصل بعده، فأما عند
أبي يوسف فقد حصل قبل هذه العوارض والعبرة عنده للوضع فينبغي أن لا يفسدها. وفي

209
الخانية: إنها تفسد على ظاهر الجواب اتفاقا إلا أنه لا وضوء عليه في القهقهة، وكذا محاذاة
المرأة لا تفسدها كما في صلاة الجنازة، ولو نام فيها لا تنتقض طهارته كالصلبية على الصحيح
وسيأتي بقية أحكامها.
قوله: (تجب بأربع عشرة آية) أي تجب سجدة التلاوة بسبب تلاوة آية من أربع عشرة
آية في أربع عشرة سورة وهي الأعراف في آخرها، والرعد، والنحل، وبني إسرائيل،
ومريم، والأولى من الحج. والفرقان، والنمل، وألم تنزيل، وص، وحم السجدة، والنجم،
والانشقاق، والعلق. هكذا كتب في مصحف عثمان وهو المعتمد فهي أربع في النصف
الأول وعشر في النصف الآخر. وإنما كانت واجبة لقوله عليه الصلاة والسلام السجدة على
من سمعها (1) " وعلى " للإلزام. ولما رواه مسلم عن أبي هريرة في الايمان يرفعه إذا قرأ ابن
آدم السجدة اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة،
وأمرت بالسجود فامتنعت فلي النار (1) والأصل أن الحكيم إذا حكى عن غير الحكيم كلاما
ولم يعقبه بالانكار كان دليل صحته. فهذا ظاهر في الوجوب مع أن آي السجدة تفيده أيضا
لأنها ثلاثة أقسام: قسم فيه الامر الصريح به، وقسم تضمن حكاية استنكاف الكفرة حيث
وقسم فيه حكاية فعل الأنبياء السجود. وكل من الامتثال والاقتداء ومخالفة الكفرة واجب إلا
أن يدل دليل في معين على عدم لزومه لكن دلالتها فيه ظنية فكان الثابت الوجوب لا
الفرض، والاتفاق على أن ثبوتها على المكلفين مقيد بالتلاوة لا مطلقا فلزم كذلك. ثم هي
واجبة على التراخي إن لم تكن صلاتية لأن دلائل الوجوب مطلقة عن تعيين الوقت فيجب في

210
جزء من الوقت غير عين ويتعين ذلك بتعيينه فعلا. وإنما يتضيق عليه الوجوب في آخر عمره
كما في سائر الواجبات الموسعة، وأما المتلوة في الصلاة فإنها تجب على سبيل التضييق لقيام
دليل التضييق وهو أنها وجبت بما هو من أفعال الصلاة وهو القراءة فالتحقت بأقوالها
وصارت جزءا من أجزائها، ولهذا قلنا: إذا تلا آية السجدة ولم يسجد ولم يركع حتى طالت
القراءة ثم ركع ونوى السجدة لم تجز، وكذا إذا نواها في السجدة الصلبية لأنها صارت دينا
والدين يقضي بماله لا بما عليه. وأما بيان من تجب عليه فكل من كان أهلا لوجوب الصلاة
عليه إما أداء أو قضاء فهو من أهل وجوب السجدة عليه ومن لا فلا، لأن السجدة جزء من
أجزاء الصلاة فيشترط لوجوبها أهلية وجوب الصلاة من الاسلام والعقل والبلوغ والطهارة
من الحيض والنفاس حتى لا تجب على كافر وصبي ومجنون وحائض ونفساء، قرؤا أو
سمعوا. وتجب على المحدث والجنب، وكذا تجب على السامع بتلاوة هؤلاء إلا المجنون لعدم
أهليته لانعدام التمييز كالسماع من الصدى. كذا في البدائع. والصدى ما يعارض الصوت
في الأماكن الخالية، وفي القنية: ولا يجب على المحتضر الايصاء بسجدة التلاوة، وقيل يجب
ولا تجب نية التعيين في السجدات اه‍. وفي التجنيس: وهل يكره تأخيرها عن وقت القراءة
ذكر في بعض المواضع أنه إذا قرأها في الصلاة فتأخيرها مكروه، وإن قرأها خارج الصلاة لا
يكره تأخيرها، وذكر الطحاوي أن تأخيرها مكروه مطلقا وهو الأصح ا ه‍. وهي كراهة
تنزيهية في غير الصلاتية لأنها لو كانت تحريمية لكان وجوبها على الفور وليس كذلك.

211
قوله: (منها أولى الحج وص) ذكرهما للاختلاف فيهما فقد نفى الشافعي السجود في
ص ولم يخص الأولى من الحج بل قال: إن الثانية منها أيضا فهي عنده أيضا أربع عشرة
آية. ونفى مالك السجود في المفصل، وبيان الحجج معلوم في المطولات ولسنا إلا بصدد
تحرير المذهب غالبا. وفي التجنيس: التالي والسامع ينظر كل واحد منهما إلى اعتقاد نفسه
كالسجدة الثانية في سورة الحج ليس بموضع السجود عندنا، وعند الشافعي هو موضع
السجدة لأن السامع ليس بتابع للتالي تحقيقا حتى يلزمه العمل برأيه لأن لا شركة بينهما ا ه‍.
ثم في سورة حم السجدة عندنا السجدة عند قوله * (وهم لا يسأمون) * (فصلت: 38) وهو
مذهب عبد الله بن عباس ووائل بن حجر، وعند الشافعي عند قوله * (إن كنتم إياه
تعبدون) * (فصلت: 37) وهو مذهب علي ومروي عن ابن مسعود وابن عمر. ورجح أئمتنا
الأول أخذا بالاحتياط عند اختلاف مذاهب الصحابة فإن السجدة لو وجبت عند قوله
تعبدون فالتأخير إلى قوله لا يسأمون لا يضر ويخرج عن الواجب، ولو وجبت عند قوله
* (لا يسأمون) * لكانت السجدة المؤداة قبله حاصلة قبل وجوبها ووجود سبب وجوبها فيوجب
نقصانا في الصلاة لو كانت صلاتية ولا نقص فيما قلنا أصلا، وهذا هو أمارة التبحر في
الفقه. كذا في البدائع.
قوله: (على من تلا ولو إماما أو سمع ولو غير قاصد أو مؤتما لا بتلاوته) بيان لسببها
وهو أحد ثلاثة: التلاوة ولو لم يوجد السماع كتلاوة الأصم والسماع بتلاوة وغيره، والاقتداء
بإمام تلاها وإن لم يسمع المأموم تبعا لإمامه بأن قرأ الإمام سرا أو لم يكن حاضرا عند القراءة
واقتدى به قبل أن يسجد لها، ولذا قالوا: إن الابكم إذا رأى قوما يسجدون لا يجب عليه
السجود لأنه لم يقرأ ولم يسمع. والمصنف جعل المؤتم معطوفا على غير قاصد فأفاد أن المؤتم
يلزمه بسماعه وليس كذلك، وإنما يلزمه باقتدائه وإن لم يسمع، فلو قال المصنف أو اقتدى
معطوفا على تلا لكان أولى كما لا يخفي. فقد قال في المجتبى: الموجب لها أحد ثلاثة:
التلاوة والسماع والائتمام وإنما قال ولو إماما لما أن المنقول في البدائع أنه يكره للإمام أن
يتلو آية السجدة في صلاة يخافت فيها بالقراءة فإنه لا ينفك عن مكروه من ترك السجدة إن لم
يسجد أو التلبيس على القوم إن سجد ا ه‍. وكذا لا ينبغي أن لا يقرأها في الجمعة والعيدين
لما ذكرنا كما في السراج الوهاج فربما يتوهم من ذلك عدم وجوبها على الإمام فصرح به نفيا
له، وقد قدمنا شرائط الوجوب على التالي والسامع. وصحح المصنف في الكافي أن السبب

212
في حق السامع التلاوة والسماع شرط وسنحققه من بعد إن شاء الله تعالى. وأطلق في
التلاوة والسماع فشمل ما إذا كانت التلاوة بالعربية أو الفارسية وهو في التالي بالاتفاق فهم
أو لم يفهم، وفي السامع عند أبي حنيفة بعد أن أخبر أنها آية السجدة، وعندهما إن كان
السامع يعلم أنه يقرأ القرآن فعليه السجدة وإلا فلا. وفي البدائع: وهذا غير سديد لأنهما إن
جعلا الفارسية قرآنا لزم الوجوب مطلقا كالعربية، وإن لم يجعلاها قرآنا لم يجب وإن فهم.
وأطلق في السماع فشمل السامع ممن تجب عليه الصلاة أو لا إلا المجنون كما قدمناه، وكذا
الطير على المختار وإن سمعها من نائم اختلفوا فيه، والصحيح هو الوجوب. كذا في الخانية.
وفي شرح المجمع: لو قرأها السكران تجب عليه وعلى من سمعها منه لأن عقله اعتبر ثابتا
زجرا له. وأفاد بقوله لا بتلاوته أنه لا يجب على المأموم بتلاوته ولا على السامع منه،
وأطلقه فشمل عدم السجود في الصلاة وبعد الفراغ عندهما. وقال محمد: يسجدونها إذا
فرغوا لأن السبب قد تقرر ولا مانع بخلاف حالة الصلاة لأنه يؤدي إلى خلاف موضوع
الإمامة لو تابعه الإمام أو التلاوة لو تابعه المؤثم. ولهما: المقتدي محجور عن القراءة لنفاذ
تصرف الإمام عليه وتصرف المحجور لا حكم له بخلاف الجنب والحائض لأنهما منهيان عن
القراءة إلا أنه لا يجب على الحائض بتلاوتها كما لا يجب بسماعها لانعدام أهلية الصلاة
بخلاف الجنب. وشمل أيضا من سمعها من المؤتم وليس في الصلاة وهو قول البعض،
وصحح في الهداية الوجوب لأن الحجر ثبت في حقهم فلا يعدوهم. وتعقبه في غاية البيان
بأنه لما علم أن هذا الشخص محجور عليه وجب عليه أن يقول بعدم وجوب السجود على
السامع خارج الصلاة لأنه قد ثبت من أصولنا أن تصرف المحجور لا حكم له ا ه‍. وهو
مردود لأن تصرف المحجور لغيره صحيح كالصبي إذ حجر عليه يظهر في حقه لا في حق
غيره حتى يصح تصرفه لغيره. وذكر الشارح: ولو تلا آية السجدة في الركوع أو السجود أو

213
التشهد لا يلزم السجود للحجر عن القراءة فيه قال المرغيناني، وعندي أنها تجب وتتأدى فيه
ا ه‍. وذكر في المجتبى في الفرق بين الجنب والحائض وبين المقتدي أن القدر الذي يجب به
السجدة مباح لهما على الأصح دون المقتدي.
قوله (ولو سمعها المصلي من غيره سجد بعد الصلاة) لتحقق سببها وهو السماع. قيد
بقوله بعد الصلاة لأنه لا يسجدها فيها لأنها ليست بصلاتية لأن سماعه هذه السجدة ليس من
أفعال الصلاة فيكون إدخالها فيها منهيا عنه لأن المصلي عند اشتغاله بسجدة التلاوة كان
مأمورا بإتمام ركن هو فيه أو بانتقال إلى ركن آخر فيكون منهيا عن هذه السجدة. فإن قيل:
يجب أن يسجدها قبل الفراغ لأن سبب الوجوب السماع وهو وجد في الصلاة. قلنا: نعم
وجد فيها لكنه حصل بناء على التلاوة والتلاوة حصلت خارج الصلاة فتؤدى خارجها. قوله
(ولو سجد فيها أعادها لا الصلاة) أي أعاد السجدة ولا يلزمه إعادة الصلاة لأنها ناقصة
للنهي فلا يتأدى بها الكامل، وهذا لأن حكم هذه التلاوة مؤخر إلى ما بعد الفراغ عن الصلاة
فلا تصير سببا إلا بعده فلا يجوز تقديمه على سببه بخلاف ما لو تلاها في الأوقات المكروهة
حيث يجوز أداؤها فيها وإن كانت ناقصة لتحقق السبب للحال. ومحل إعادتها ما إذا لم يقرأها
المصلي السامع غير المؤتم، وأما إن قرأها وسجد لها فيها فإنه لا إعادة عليه، أما إن كانت
تلاوتها سابقة على سماعها فهو ظاهر الرواية لأن التلاوة الأولى من أفعال صلاته والثانية لا،
فحصلت الثانية تكرارا للأولى من حيث الأصل والأولى باقية فجعل وصف الأولى للثانية
فصارت من الصلاة فيكتفي بسجدة واحدة. وإن سمعها أولا من أجنبي ثم تلاها المصلي
وسجد لها فيها ففيه روايتان، وجزم في السراج الوهاج بأنه لا يعيدها. ولو تلاها وسجد لها

214
ثم أحدث فذهب وتوضأ ثم عاد إلى مكانه وبنى على صلاته ثم قرأ ذلك الأجنبي تلك الآية،
فعلى هذا المصلي أن يسجدها إذا فرغ من صلاته لأنه تحول عن مكانه فسمع الثانية بعدما تبدل
المجلس. فرق بين هذا وبين ما إذا قرأ آية سجدة ثم سبقه الحدث فذهب وتوضأ ثم جاء وقرأ
مرة أخرى لا تلزمه سجدة وإن قرأ الثانية بعدما تبدل المكان، والفرق أن في المسألة الأولى
المكان قد تبدل حقيقة وحكما، أما الحقيقة فظاهر، وأما الحكم فلان السماع ليس من أفعالها
بخلاف الثانية. وتمامه في البدائع. وإنما لم يعد الصلاة لأن زيادة ما دون الركعة لا يفسدها.
وقيده في التجنيس والمجتبى والولوالجية بأن لا يتابع المصلي السامع القارئ فإن سجد القارئ
فتابعه المصلي فيها فسدت صلاته للمتابعة ولا تجزئه السجدة عما سمع اه‍. وقد قدمنا أن زيادة
سجدة واحدة بنية المتابعة لغير إمامه مبطلة لصلاته. وفي النوادر: ولو قرأ الإمام السجدة فظن
القوم أنه ركع فبعضهم ركع وبعضهم ركع وسجد سجدة وبعضهم ركع وسجد سجدتين، فمن
ركع ولم يسجد يرفض ركوعه ويسجد للتلاوة، ومن ركع وسجد فصلاته تامة وسجدته تجزئه
عن سجدة التلاوة، ومن ركع وسجد سجدتين فصلاته فاسدة لأنه انفرد بركعة واحدة تامة اه‍.
وذكر في الخلاصة في مسألة الكتاب لا تفسد صلاته هو الصحيح بناء على أن زيادة سجدة
واحدة ساهيا أو سجدتين لا تفسد صلاته بالاجماع، وإن كان عمدا فكذلك. وإن ذكر في
الجامع الصغير أنه يفسد عند محمد وذلك ليس بصحيح. ذكره الصدر الشهيد في المبسوط اه‍.
قوله (ولو سمع من إمام فأتم به قبل أن يسجد سجد معه وبعده لا) أي لو ائتم به بعد
أن سجدها الإمام لا يسجدها لأنه في الأول تابع له فيسجد معه وإن لم يسمع، وفي الثاني
صار مدركا لها بإدراك تلك الركعة كمن أدرك الإمام في ركوع ثالثة الوتر فإنه لا يقنت فيما
يأتي به بعد فراغ الإمام. قيد بقوله سجد معه لأن الإمام لو لم يسجد لا يسجد المأموم وإن
سمعها لأنه إن سجدها في الصلاة وحده صار مخالف إمامه، وإن سجد بعد الفراغ وهي
صلاتية لا تقضى خارجها. وأطلق في قوله وبعده لا فشمل ما إذا دخل معه في الركعة
الثانية وفيه اختلاف، وظاهر الهداية يقتضي أن يسجد لها بعد الفراغ لأنه لما لم يدرك ركعه
التلاوة لم يصر مدركا لها وليست صلاتية فيقضي خارجها، وقيل هي صلاتية فلا تقضى
خارجها قوله (وإن لم يقتد سجدها) لتقرر السبب في حقه وعدم المانع.
قوله (ولم تقض الصلاتية خارجها) أي خارج الصلاة لأن السجد المتلوة في الصلاة
أفضل من غيرها لأن قراءة القرآن في الصلاة أفضل منها في غيرهما فلم يجز أداؤها خارج
الصلاة لأن الكامل لا يتأدى بالناقص. وهذا إذا لم تفسد الصلاة، أما إن تلاها في الصلاة ولم
يسجد ثم فسدت الصلاة فعليه السجدة خارجها لأنها لما فسدت بقي مجرد تلاوة فلم تكن
صلاتية، ولو أداها فيها ثم فسدت لا يعيد السجدة لأن بالمفسد لا يفسد جميع أجزاء الصلاة

215
وإنما يفسد الجزء المقارن فيمتنع البناء عليه. كذا في القنية. ويستثنى من فسادها ما إذا
فسدت بالحيض. قال في الخلاصة: المرأة إذا قرأت آية السجدة في صلاتها فلم تسجد حتى
حاضت تسقط عنها السجدة. وفي فتح القدير: ثم صواب النسبة فيه صلوية برد ألفه واوا
وحذف التاء وإذ كانوا قد حذفوها في نسبة المذكر إلى المؤنث كنسبة الرجل إلى بصرة مثلا
فقالوا بصري لا بصرتي كيلا يجتمع تاءان في نسبة المؤنث فيقولون بصرتية فكيف بنسبة المؤنث
إلى المؤنث اه‍. وفي العناية: إنه خطأ مستعمل وهو عند الفقهاء خير من صواب نادر انتهى.
ثم مقتضى قواعدهم أنه إذا لم يسجد في الصلاة حتى فرغ فإنه يأثم لأنه لم يؤد الواجب ولم
يمكن قضاؤها لما ذكرنا، وهذا متن الواجبات الذي إذا فات وقته تقرر الاثم على المكلف
والمخرج له عنه التوبة كسائر الذنوب، وإياك أن تفهم من قولهم بسقوطها عدم الاثم فإنه
خطأ فاحش كما رأيت بعضهم يقع فيه. ثم رأيت بعد ذلك التصريح به في البدائع قال: وإذا
لم يسجد لم يبق عليه إلا الاثم، ومحل سقوطها ما إذا لم يركع لصلاته ولم يسجد لها صلبية،
أما إن ركع أو سجد صلبية فإنه ينوب عنها إذا كان على الفور ولم يذكره المصنف رحمه الله.
وحاصله على ما ذهب إليه الأصوليون أن الركوع ينوب عن سجدة التلاوة قياسا لما فيه من
معنى الخضوع ولا ينوب استحسانا لأنه خلاف المأمور به. وقدم القياس هنا على الاستحسان
لقوة أثره الباطن وعكسه في المجتبى فقال: تلاها وركع للتلاوة مكان السجود يجزئه قياسا لا
استحسانا، والأصح أنه يجزئه استحسانا لا قياسا وبه قال علماؤنا اه‍. ووجه الأصح أن
القياس لا يقتضي عدم جوازه لأنه الامر الظاهر بالسجود والركوع خلاف السجود، ولكن
الحق الأول لتصريح محمد به فإنه قال في الكتاب: فإن أراد أن يركع بالسجدة نفسها هل
يجزئه ذلك قال: أما في القياس فالركوع في ذلك والسجدة سواء لأن كل ذلك صلاة، وأما
في الاستحسان فينبغي له أن يسجد وبالقياس نأخذ اه‍. وحاصله على ما ذكره الفقهاء كما
في البدائع ملخصا أن المتلوة خارج الصلاة تؤدى على نعت سجدات الصلاة والمتلوة في
الصلاة الأفضل أن يسجد لها ثم إذا سجد وقام يكره له أن يركع كما رفع رأسه، سواء كان
آية السجدة في وسط السورة أو عند ختمها. وبقي بعدها إلى الختم قدر آيتين أو ثلاث فينبغي
أن يقرأ ثم يركع فينظر إن كانت الآية في الوسط فإنه ينبغي أن يختمها ثم يركع، وإن كانت

216
عند الختم فينبغي أن يقرأ آيات من سورة أخرى ثم يركع، وإن كان بقي إلى الختم قدر آيتين
أو ثلاث كما في بني إسرائيل * (وإذا السماء انشقت) * ينبغي أن يقرأ بقية السورة ثم يركع،
فإن وصل إليها سورة أخرى فهو أفضل، ولو لم يسجد وإنما ركع ذكر في الأصل أن القياس
أنهما سواء، والاستحسان أنه لا يجزئه وبالقياس نأخذ. والتفاوت ما بينهما أن ما ظهر من
المعاني فقياس وما خفي فاستحسان ولا ترجيح في الخفي لخفائه ولا للظاهر لظهوره فيرجع
إلى طلب الرجحان إلى ما اقترن بهما من المعاني، فمتى قوي الخفي أخذوا به، ومتى قوي
الظاهر أخذوا به، وههنا قوي دليل القياس فأخذوا به لما روي عن ابن مسعود وابن عمر
أنهما أجازا أن يركع عن السجود في الصلاة ولم يرد عن غيرهما خلافه فكان كالاجماع.
ثم اختلفوا في محل القياس والاستحسان، فذكر العامة أنه في إقامة الركوع مقام
السجدة في الصلاة. وقال بعضهما: إنه خارج الصلاة بأن تلاها في غير الصلاة فركع وليس
هذا بسديد بل لا يجزئه ذلك قياسا واستحسانا، لأن الركوع خارج الصلاة لم يجعل قربة فلا
ينوب مناب القربة. وعن محمد بن سلمة أن السجدة الصلبية هي التي تقوم مقام سجدة
التلاوة لا الركوع. ويرده ما صرح به محمد في الكتاب كما أسلفناه. ولو لم يركع حتى طالت
القراءة لم يجز وإن نواه عن السجدة، وكذا السجدة الصلبية لا تنوب عنها إذا طالت القراءة
لأنها صارت دينا لوجوبها مضيقا والدين يقضي بما له لا بما عليه، والركوع والسجود عليه
فلا يتأدى به الدين. وإذا لم تطل القراءة لا يحتاج الركوع أو السجدة الصلبية في إقامتهما عن
سجود التلاوة إلى النية فالفرض ينوب عن تحية المسجد وإن لم ينو، ومن المشايخ من قال:
يحتاج إلى النية. وذكر الأسبيجابي أنه لو لم توجد النية منه عند الركوع لا يجزئه، ولو نوى في
الركوع فيه قولان، ولو نوى بعد رفع الرأس منه لا يجوز بالاجماع، وأكثر المشايخ لم يقدروا
لطول القراءة شيئا فكان الظاهر أنهم فوضوا ذلك إلى رأي المجتهد. وبعضهم قالوا: إن قرأ
آية أو آيتين لم تطل، وإن قرأ ثلاثا طالت وصارت بمحل القضاء، والظاهر أن الثلاثة لا تعدم
الفور اه‍. واختار قاضيخان أن الركوع خارج الصلاة ينوب عنها. وفي المجتبى: وإنما ينوب
الركوع عنها بشرطين: أحدهما النية، والثاني أن لا يتخلل بين التلاوة والركوع ثلاث آيات إلا
إذا كانت الآيات الثلاث من آخر السورة ك‍ " بني إسرائيل * (وإذا السماء انشقت) * اه‍.
واختلف فيما إذا ركع على الفور للصلاة وسجد هل المجزئ عن سجدة التلاوة الركوع أو

217
السجود؟ فقيل الركوع لأنه أقرب، وقيل السجود لأن الركوع بدون النية لا يجزئ وفي
السجود اختلاف، وفائدته تظهر فيما إذا تلا الفاتحة وعشرين آية مثلا آخرها آية السجدة وركع
عقبها ثم رفع رأسه وقرأ عشر آيات مثلا ثم سجد ولم يكن نواها في الركوع يجب عليه سجدة
التلاوة على حدة، أما إذا سجد عقب الركوع فإنه خرج عن العهدة لا محالة في ظاهر الرواية
نواها في الركوع أولم ينو اه‍. وفي القنية: ولو نواها في الركوع عقب التلاوة ولم ينوها
المقتدي لا ينوب عنه ويسجد إذا سلم الإمام ويعيد القعدة ولو تركها تفسد صلاته اه‍. ثم
قال: السجود أولى من الركوع لها في صلاة الجهر دون المخافتة. وقيد المصنف بكونها لا
تقضى خارجها لأنه لو أخرها من ركعة إلى ركعة فإنها تقضى ما دام في الصلاة لأن الصلاة
واحدة لكن لا يلزم جواز التأخير، بل المراد الاجزاء لما في البدائع من أنها واجبة على الفور
وأنه إذا أخرها حتى طالت القراءة تصير قضاء ويأثم لأن هذه السجدة صارت من أفعال
الصلاة ملحقة بنفس التلاوة، ولذا فعلت فيها مع أنها ليست من أصل الصلاة بل زائدة
بخلاف غير الصلاتية فإنها واجبة على التراخي على ما هو المختار اه‍.

218
قوله (ولو تلاها خارج الصلاة فسجد وأعادها فيها) أي أعاد تلاوتها في الصلاة (سجد
أخرى) لأن الصلاتية أقوى فلا تكون تبعا للأضعف قوله (وإن لم يسجد أولا كفته واحدة) وهي
صلاتية تنوب عنها وعن الخارجية لأن المجلس متحد والصلاتية أقوى فصارت الأولى تبعا لها،
فلو لم يسجد في الصلاة سقطتا لأن الخارجية أخذت حكم الصلاتية فسقطت تبعا لها. أراد
بالاكتفاء أن يكون بشرط اتحاد المجلس فإن تبدل مجلس التلاوة مع مجلس الصلاة فلكل سجدة.
وإنما أفردها بالذكر مع دخولها تحت قوله كمن كررها في مجلس لا في مجلسين لمخالفتها لها في أنه
إذا سجد للخارجية لا تكفي عن الصلاتية بخلاف ما إذا لم تكن صلاتية وسجد للأولى ثم أعادها
فإن السجدة السابقة تكفي. والحاصل أنه يجب التداخل في هذه على وجه تكون الثانية مستتبعة
للأولى إن لم يسجد للأولى لأن اتحاد المجلس يوجب التداخل، وكون الثانية قوية منع من جعل
الأولى مستتبعة إذ استتباع الضعيف للقوي عكس المعقول ونقض للأصول فوجب التداخل على
الوجه المذكور. وأشار إلى أنه لو تلاها المصلي بعدما سمعها من غيره مرة أو مرارا تكفيه سجدة
واحدة. وقيد بكون الأولى تلاها خارج الصلاة لأنه لو قرأها في الصلاة أولا ثم سلم فأعادها في
مكانه ذكر في كتاب الصلاة أنه يلزمه أخرى لأن المتلوة في الصلاة لا وجود لها لا حقيقة ولا
حكما، والموجود هو الذي يستتبع دون المعدوم بخلاف ما إذا كانت الأولى خارجة فإنها باقية بعد

219
التلاوة حكما. وذكر في النوادر أنه لا يلزمه. ووفق الزاهد السرخسي بينهما بحمل الأولى على ما
إذا أعادها بعد الكلام، وحمل الثاني على ما إذا كان قبله، فلو لم يسجدها في الصلاة حتى سجدها
الآن قال في الأصل: أجزأه ههنا وهو محمول على ما إذا أعادها بعد السلام قبل الكلام لأنه لم
يخرج عن حرمة الصلاة فكأنه كررها في الصلاة وسجد إذ لا يستقيم هذا الجواب فيما إذا أعادها
بعد الكلام لأن الصلاتية قد سقطت عنه بالكلام. كذا في البدائع وصحح التوفيق في المحيط،
وهذا يفيد أن الصلاتية تقضى بعد السلام قبل أن يتكلم وإن لم يأت بمناف لحرمتها فينبغي أن يقيد
قولهم الصلاتية لا تقضى خارجها بهذا وأن يراد بالخارج الخارج عن حرمتها.
قوله (كمن كررها في مجلس لا في مجلسين) فإنه يكفيه واحدة في الأول دون الثاني والأصل
فيه ما روي أن جبريل عليه السلام كان ينزل بالوحي فيقرأ آية السجدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورسول الله كان يسمع ويتلقن ثم يقرأ على أصحابه وكان لا يسجد إلا مرة واحدة، وهو مروي
عن عدة من الصحابة ولان المجلس جامع المتفرقات ولان في إيجاب السجدة لكل تلاوة حرجا
خصوصا للمعلمين والمتعلمين وهو منفي بالنص. قيد بسجدة التلاوة لأن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم
بأن سمعه أو ذكره في مجلس واحد مرارا فيها اختلاف، فبعضهم قاسها عليها، وبعضهم منعه
وأوجبها لكل مرة لأنه من حقوق العباد ولا تداخل فيها وهو جفاء له كما ورد في الحديث وقدمنا
ترجيحه. وأما تشميت من عطس في مجلس واحد مرارا فأوجبه بعضهم كل مرة والصحيح أنه إن
زاد على الثلاث لا يشمت لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال للعاطس في مجلسه بعد الثلاث قم
فانتثر فإنك مزكوم. وفي المجتبى: ولا خلاف في وجوب تعظيم اسمه تعالى عند ذكره في كل
مرة، وأطلقه فشمل ما إذا تلا مرارا ثم سجد وما إذا تلا وسجد ثم تلا بعده مرارا في مجلس واحد
وهو تداخل في السبب دون الحكم ومعناه أن يجعل التلاوة المتعددة كتلاوة واحدة تكون الواحدة
منها سببا والباقي تبع لها وهو أليق بالعبادات إذ السبب متى تحقق لا يجوز ترك حكمه، ولهذا
يحكم بوجوبها في موضع الاحتياط حتى تبرأ ذمته بيقين، والتداخل في الحكم أليق في العقوبات
لأنها شرعت للزجر فهو ينزجر بواحدة فيحصل المقصود فلا حاجة إلى الثانية. والفرق بينهما أن
التداخل في السبب ينوب فيه الواحدة عما قبلها وعما بعدها، وفي التداخل في الحكم لا تنوب
إلا عما قبلها حتى لو زنا ثم زنا في المجلس يحد ثانيا بخلاف حد القذف إذا أقيم مرة ثم قذفه مرارا

220
لم يحد لأن العار قد اندفع بالأول لظهور كذبه. وقيد بكون الآية واحدة لأن من قرأ القرآن كله في
مجلس واحد لزمه أربع عشرة سجدة لأن المجلس لا يجعل الكلمات المختلفة الجنس بمنزلة كلام
واحد كمن أقر لانسان بألف درهم ولآخر بمائه دينار ولعبده بالعتق لا يجعل المجلس الواحد الكل
إقرارا واحدا، وكذا الحرج منتف. وأطلق في المجلس فشمل ما إذا طال فإنه لا يتبدل به حتى لو
تلاها في الجامع في زاوية ثم تلاها في زاوية أخرى لا يجب عليه إلا سجدة واحدة، وكذلك حكم
السماع، وكذلك البيت والمحمل والسفينة في حكم التلاوة والسماع، سواء كانت السفينة واقفة
أو جارية، وكذلك لا يختلف بمجرد القيام ولا بخطوة وخطوتين وكلمة أو كلمتين ولا بلقمة أو
لقمتين بخلاف ما إذا كان كثيرا وبخلاف ما إذا نام مضطجعا أو باع ونحوه فإنه يتبدل المجلس،
وكذا لو أرضعت صبيا. وكل عمل يعلم أنه قطع للمجلس بخلاف التسبيح ونحوه فإنه ليس
بقاطع كالنوم قاعدا. وفي الدوس وتسدية الثوب ورحا الطحن والانتقال من غصن إلى غصن
والسبح في نهر أو حوض يتكرر على الأصح، ولو كررها راكبا على الدابة وهي تسير يتكرر إلا إذا
كان في الصلاة لأن الصلاة جامعة للأماكن إذ الحكم بصحة الصلاة دليل اتحاد المكان. قالوا:
إذا كان معه غلام يمشي وهو في الصلاة راكبا وكررها تكرر الوجوب على الغلام دون
الراكب. وهذا إذا كان في ركعة واحدة، وأما إذا كان كررها في ركعتين فالقياس أن تكفيه
واحدة وهو قول أبي يوسف الأخير، وفي الاستحسان أن يلزمه لكل تلاوة سجدة وهو قول
أبي يوسف الأول وهو قول محمد. وهذه المسائل الثلاث التي رجع فيها أبو يوسف عن
الاستحسان إلى القياس: إحداها هذه، والثانية أن الرهن بمهر المثل لا يكون رهنا بالمتعة قياسا
وهو قول أبي يوسف الأخير، وفي الاستحسان أن يكون رهنا بها وهو قوله الأول وقول

221
محمد. والثالثة إذا جنى العبد جناية فيما دون النفس واختار المولى الفداء ثم مات المجني
عليه، القياس أن يخير المولى ثانيا وهو قوله الأخير وفي الاستحسان لا يخير وهو قوله الأول
وقول محمد. وعلى هذا الخلاف إذا صلى على الأرض وقرأ آية السجدة في ركعتين لو سمعها
المصلي الراكب من رجل ثم سارت الدابة ثم سمعها ثانيا عليه سجدتان هو الصحيح لأنها
ليست بصلاتية، ولو سارت الدابة ثم نزل فتلاها أخرى يلزمه أخرى. كذا في المحيط.
وفي فتح القدير: واعلم أن تكرار الوجوب في التسدية بناء على المعتاد في بلادهم من
أنها أن يغرس الحائك خشبات يسوي فيها السدى ذاهبا وآيبا، أما على ما هي ببلاد الإسكندرية
وغيرها بأن يديرها على دائرة عظمي وهو جالس في مكان واحد فلا يتكرر الوجوب اه‍.
فالحاصل أن اختلاف المجلس حقيقي باختلاف المكان وحكمي باختلاف الفعل، ولو تبدل
مجلس السامع دون التالي تكرر الوجوب على السامع واختلفوا في عكسه والأصح أنه لا يتكرر
على السامع لأن السبب في حقه التلاوة والسماع شرط يتكرر الوجوب عليه لأن الحكم يضاف
إلى السبب لا الشرط. وإنما تكرر الوجوب عليه في المسألة الأولى مع اتحاد مجلس السبب لأن
الشرع أبطل تعدد التلاوة المتكررة في حق التالي حكما لاتحاد مجلسه لا حقيقة فلم يظهر ذلك في
حق السامع فاعتبرت حقيقة التعدد فتكرر الوجوب، فعلى هذا يتكرر على السامع، إما بتبدل
مجلسه أو بتبدل مجلس التالي. وفي القنية: تلا آية السجدة ويريد أن يكررها للتعليم في المجلس
فالأولى أن يبادر فيسجد ثم يكرر اه‍. وقد يقال: إن الأولى أن يكررها ثم يسجد آخرا لما أن
بعضهم قال: إن التداخل في الحكم لا في السبب حتى لو سجد للأولى ثم أعادها لزمته أخرى
كحد الشر ب والزنا. نقله في المجتبي. فالاحتياط على هذا التأخير كما لا يخفى. وفي القنية
أيضا: ولو صليا على الدابة فقرأ أحدهما آية السجدة في الصلاة مرة والآخر في صلاته مرتين
وسمع كلاهما من صاحبه، فعلى من تلاها مرتين سجدة واحدة خارج الصلاة وعلى صاحبه
سجدتان اه‍. وقد يقال: بل الواجب على من تلاها مرتين سجدتان أيضا صلاتية بتلاوته

222
وخارجية بتلاوة صاحبه. ثم رأيته بحمد الله تعالى في فتاوى قاضيخان أن على كل منهما
سجدتين صلاتية بتلاوته وخارجية بسماعه من صاحبه، وأطال الكلام في بيانه فراجعه.
قوله (وكيفيته أن يسجد بشرائط الصلاة بين تكبيرتين بلا رفع يد وتشهد وتسليم) أي
وكيفية السجود وقدمنا أنه يستثنى من شرائط الصلاة التحريمة. والمراد بالتكبيرتين تكبيرة الوضع
وتكبيرة الرفع وكل منهما سنة كما صححه في البدائع لحديث أبي داود في السنن من فعله عليه
الصلاة والسلام كذلك. وإنما لا يرفع يديه عند التكبيرة لأن هذا التكبير مفعول لأجل الانحطاط
لا للتحريمة كما في سجود الصلاة، وكذا التكبير للرفع كما في سجود الصلاة وهو المروي من
فعله عليه السلام وابن مسعود من بعده. وإنما لا يتشهد ولا يسلم لأنه للتحليل وهو يستدعي
سبق التحريمة وهي معدومة. واختلفوا فيما يقوله في هذه السجدة، والأصح أنه يقول سبحان ربي الأعلى
ثلاثا كسجدة الصلاة ولا ينقص منها. وينبغي أن لا يكون ما صحح على عمومه فإن
كانت السجدة في الصلاة، فإن كانت فريضة قال سبحان ربي الأعلى أو نفلا قال ما شاء مما ورد
كسجد وجهي للذي خلقه إلى آخره. وقوله اللهم اكتب لي بها عندك أجرا، وضع عني بها وزرا،
واجعلها لي عندك ذخرا، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود وإن كان خارج الصلاة قال:
كلما أثر من ذلك. كذا في فتح القدير. ومما يستحب لأدائها أن يقوم فيسجد لأن الخرور سقوط
من القيام والقرآن ورد به وهو مروي عن عائشة رضي الله عنها وإن لم يفعل لم يضره. وما وقع في
السراج الوهاج من أنه إذا كان قاعدا لا يقوم لها، فخلاف المذهب. وفي المضمرات: يستحب أن
يقوم ويسجد ويقوم بعد رفع الرأس من السجدة ولا يقعد اه‍. والثاني غريب. وأفاد في القنية أنه
يقوم لها وإن كانت كثيره وأراد أن يسجدها مترادفة، ومن المستحب أن يتقدم التالي ويصف القوم

223
خلفه فيسجدون، ويستحب أن لا يرفع القوم رؤوسهم قبله وليس هو اقتداء حقيقة لأنه لو فسدت
سجد: الإمام بسبب لا يتعدى إليهم. وفي المجتبى معزيا إلى شيخ الاسلام: لا يؤمر التالي
بالتقديم ولا بالصف ولكنه يسجد ويسجدون معه حيث كانوا وكيف كانوا. وذكر أبو بكر أن
المرأة تصلح إماما للرجل فيها اه‍. وفي السراج الوهاج: ثم إذا أراد السجود ينويها بقلبه ويقول
بلسانه أسجد لله سجدة التلاوة الله أكبر كما يقول أصلي لله تعالى صلاة كذا.
قوله (وكره أن يقرأ سورة ويدع آية السجدة لا عكسه) لأنه يشبه الاستنكاف عنها عمدا في
الأول وفي الثاني مبادرا لها. قال محمد: وأحب إلى أن يقرأ قبلها آية أو آيتين. وذكر قاضيخان إن قرأ
معها آية أو آيتين فهو أحب وهذا أعم من الأول لصدقه بما إذا قرأ بعدها آية أو آيتين بخلاف الأول،
وعلله بقوله دفعا لوهم التفضيل أي تفضيل آي السجدة على غيرها إذ الكل من حيث إنه كلام الله تعالى
في رتبة وإن كان لبعضها بسبب اشتماله على ذكر صفات الحق جل جلاله زيادة فضيلة باعتبار المذكور
لا باعتباره من حيث هو قرآن. وفى الكافي: قيل من قرأ آي السجدة كلها في مجلس واحد وسجد لكل
منها كفاه الله ما أهمه. وما ذكر في البدائع في كراهة ترك آية السجدة من سورة يقرأها لأن فيه قطعا
لنظم القرآن وتغييرا لتأليفه واتباع النظم والتأليف مأمور به قال الله تعالى * (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه)
* (القيامة: 18) أي تأليفه فكان التغيير مكروها يقتضي كراهة ذلك. كذا في فتح القدير. وأقول: وإن
كان ذلك مقتضاه لكن صرح بعده في البدائع بخلافه فقال: ولو قرأ آية السجدة من بين

224
السور لم يضره ذلك لأنها من القرآن، وقراءة ما هو من القرآن طاعة كقراءة سورة من بين
السور. وقيده قاضيخان بأن يكون في غير الصلاة فظاهر أنه لو كان في الصلاة كره فهو
مقيد لقوله لا عكسه. ثم قال في البدائع: ولو قرأ آية السجدة وعنده ناس فإن كانوا
متوضئين متأهبين للسجدة قرأها جهرا، وإن كانوا غير متأهبين ينبغي أن يخفض قراءته لأنه لو
جهر بها لصار موجبا عليهم شيئا ربما يتكاسلون عن أدائه فيقعون في المعصية اه‍. وذكر
الشارح: ولو قرأ آية السجدة إلا الحرف الذي في آخرها لا يسجد، ولو قرأ الحرف الذي
يسجد فيه وحده لا يسجد إلا أن يقرأ أكثر آية السجدة بحرف السجدة. وفي مختصر البحر:
لو قرأ وسجد وسكت ولم يقرأ واقترب تلزمه السجدة اه‍. وفي فتاوى قاضيخان: رجل سمع
آية السجدة من قوم من كل واحد منهم حرفا ليس عليه أن يسجد لأنه لم يسمعها من تال
والله سبحانه أعلم وبعباده أرحم.
باب المسافر
أي باب صلاة المسافر لأن الكلام في أبواب الصلاة، ولا شك أن السفر عارض
مكتسب كالتلاوة إلا أن التلاوة عارض هو عبادة في نفسه إلا بعارض بخلاف السفر إلا
بعارض فلذا أخر هذا الباب عن ذاك. والسفر لغة قطع المسافة من غير تقدير بمدة لأنه عبارة

225
عن الظهور، ولهذا حمل أصحابنا رحمهم الله قوله صلى الله عليه وسلم ليس على الفقير والمسافر أضحية على
الخروج من بلد أو قرية حتى سقط الأضحية بذلك القدر. كذا في المجتبى. وذكر في غاية البيان
والسراج الوهاج أن من الأحكام التي تغيرت بالسفر الشرعي سقوط الأضحية وجعله كالقصر،
وظاهره أنها لا تسقط إلا بالسفر الشرعي وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى في محله. والإضافة في
صلاة المسافر إضافة الشئ إلى شرطه والفعل إلى فاعله قوله (من جاوز بيوت مصره مريدا سيرا
وسطا ثلاثة أيام في بر أو بحر أو جبل قصر الفرض الرباعي) بيان للموضع الذي يبتدأ فيه القصر
ولشرط القصر ومدته وحكمه. أما الأول فهو مجاوزة بيوت المصر لما صح عنه عليه السلام أنه قصر
العصر بذي الخليفة. وعن علي أنه خرج من البصرة فصلى الظهر أربعا ثم قال: إنا لو جاوزنا هذا
الخص لصلينا ركعتين. والخص بالخاء المعجمة والصاد المهملة بيت من قصب. كذا ضبطه في
السراج الوهاج. ويدخل في بيوت المصر ربضه وهو ما حول المدينة من بيوت ومساكن، ويقال
لحرم المسجد ربض أيضا. وظاهر كلام المصنف أنه لا يشترط مجاوزة القرية المتصلة بربض المصر
وفيه اختلاف، وظاهر المجتبى ترجيح عدم الاشتراط وهو الذي يفيده كلام أصحاب المتون كالهداية
أيضا. وجزم في فتح القدير بالاشتراط واعترض به على الهداية وصحح قاضيخان في فتاواه أنه لا بد
من مجاوزة القرية المتصلة بربض المصر بخلاف القرية المتصلة بفناء المصر فإنه يعتبر مجاوزة الفناء لا
القرية. ولم يذكر المصنف مجاوزة الفناء للاختلاف، وفصل قاضيخان في فتاواه فقال: إن كان بينه وبين
المصر أقل من قدر غلوة ولم يكن بينهما مزرعة يعتبر مجاوزة الفناء أيضا، وإن كانت بينهما مزرعة أو
كانت المسافة بينه وبين المصر قدر غلوة يعتبر مجاوزة عمران المصر اه‍. وأطلق في المجاوزة فانصرفت
من الجانب الذي خرج منه ولا يعتبر مجاوزة محلة بحذائه من الجانب الآخر، فإن كانت في الجانب الذي
خرج منه محلة منفصلة عن المصر وفي القديم كانت متصلة بالمصر لا يقصر الصلاة حتى يجاوز تلك
المحلة. كذا في الخلاصة. وذكر في المجتبى أن قدر الغلوة ثلاثمائة ذراع إلى أربعمائة وهو الأصح. وفي
المحيط: وكذا إذا عاد من سفره إلى مصر لم يتم حتى يدخل العمران.
وأما الثاني فهو أن يقصد مسيرة ثلاثة أيام فلو طاف الدنيا من غير قصد إلى قطع مسيرة

226
ثلاثة أيام لا يترخص، وعلى هذا قالوا: أمير خرج مع جيشه في طلب العدو ولم يعلم أين
يدركهم فإنهم يصلون صلاة الإقامة في الذهاب وإن طالت المدة، وكذلك المكث في ذلك
الموضع، أما في الرجوع فإن كانت مدة سفر قصروا وعلى اعتبار القصد تفرع في صبي
ونصراني خرجا قاصدين مسيرة ثلاثة أيام ففي أثنائها بلغ الصبي وأسلم الكافر، يقصر الذي
أسلم فيما بقي ويتم الذي بلغ لعدم صحة القصد والنية من الصبي حين أنشأ السفر بخلاف
النصراني والباقي بعد صحة النية أقل من ثلاثة أيام وسيأتي أيضا. وإنما اكتفى بالنية في
الإقامة واشترط العمل معها في السفر لما أن في السفر الحاجة إلى الفعل وهو لا يكفيه مجرد
النية ما لم يقارنها عمل من ركوب أو مشي كالصائم إذا نوى الافطار لا يكون مفطرا ما لم
يفطر، وفي الإقامة الحاجة إلى ترك الفعل وفي الترك يكفي مجرد النية كعبد التجارة إذا نواه
للخدمة. وأشار المصنف إلى أن النية لا بد أن تكون قبل الصلاة ولذا قال في التجنيس: إذا
افتتح الصلاة في السفينة حال إقامته في طرف البحر فنقلها الريح وهو في السفينة ونوى
السفر يتم صلاة المقيم عند أبي يوسف خلافا لمحمد لأنه اجتمع في هذه الصلاة ما يوجب
الأربع وما يمنع فرجحنا ما يوجب الأربع احتياطا اه‍. وفيه أيضا: ومن حمل غيره ليذهب
معه والمحمول لا يدري أين يذهب معه فإنه يتم الصلاة حتى يسير ثلاثا لأنه لم يظهر المغير،
وإذا سار ثلاثا فحينئذ قصر لأنه وجب عليه القصر من حين حمله، ولو كان صلى ركعتين
من يوم حمل وسار به مسيرة ثلاثة أيام فإن صلاته تجزئه، وإن سار به أقل من مسيرة ثلاثة أيام
أعاد كل صلاة صلاها ركعتين لأنه تبين أنه صلى صلاة المسافرين وهو مقيم وفي الوجه الأول
تبين أنه مسافر اه‍. ففي هذه المسألة يكون مسافرا بغير قصد وهو غير مشكل لما سيأتي أن
الاعتبار بنية المتبوع لا التابع. وأما التقدير بثلاثة أيام فهو ظاهر المذهب وهو الصحيح لإشارة
قوله صلى الله عليه وسلم يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام (1) عم الرخصة الجنس ومن ضرورته
عموم التقدير وتمام تحقيقه في فتح القدير. والمراد باليوم النهار دون الليل لأن الليل

227
للاستراحة فلا يعتبر، والمراد ثلاثة أيام من أقصر أيام السنة. وهل يشترط سفر كل يوم إلى
الليل؟ اختلفوا فيه والصحيح أنه لا يشترط حتى لو بكر في اليوم الأول ومشى إلى الزوال ثم
في اليوم الثاني كذلك، ثم في اليوم الثالث كذلك فإنه يصير مسافرا لأن المسافر لا بد له من
النزول لاستراحة نفسه ودابته فلا يشترط أن يسافر من الفجر إلى الفجر لأن الآدمي لا يطيق
ذلك، وكذلك الدواب فألحقت مدة الاستراحة بمدة السفر لأجل الضرورة. كذا في السراج
الوهاج. وبه اندفع ما في فتح القدير لأن أقل اليوم إذا كان ملحقا بأكثره للضرورة لم يكن فيه
مخالفة للحديث المفيد للثلاثة كما أن الليل للاستراحة وهو مذكور في الحديث. وأشار المصنف
إلى أنه لا اعتبار بالفراسخ وهو الصحيح لأن الطريق لو كان وعرا بحيث يقطع في ثلاثة أيام أقل
من خمسة عشر فرسخا قصر بالنص، وعلى التقدير بها لا يقصر فيعارض النص فلا يعتبر سوى
سير الثلاثة. وفي النهاية: الفتوى على اعتبار ثمانية عشر فرسخا. وفي المجتبى: فتوى أكثر
أئمة خوارزم على خمسة عشر فرسخا اه‍. وأنا أتعجب من فتواهم في هذا وأمثاله بما يخالف
مذهب الإمام خصوصا المخالف للنص الصريح. وفي فتاوى قاضيخان: الرجل إذا قصد بلدة
وإلى مقصده طريقان أحدهما مسيرة ثلاثة أيام ولياليها والآخر دونها فسلك الطريق الابعد كان
مسافرا عندنا ا ه‍ وإن سلك الأقصر يتم وهذا جواب واقعة الملاحين بخوارزم فإن من
الجرجانية إلى مدانق اثني عشر فرسخا في البر، وفي جيحون أكثر من عشرين فرسخا، فجاز
لركاب السفينة والملاحين القصر والافطار فيه صاعدا ومنحدرا. كذا في المجتبى. وذكر
الأسبيجابي المقيم إذا قصد مصرا من الأمصار وهو ما دون مسيرة ثلاثة أيام لا يكون مسافرا،
ولو أنه خرج من ذلك المصر الذي قصد إلى مصر آخر وهو أيضا أقل من ثلاثة أيام فإنه لا يكون
مسافرا، وإن طاف آفاق الدنيا على هذا السبيل لا يكون مسافرا اه‍. وفي السراج الوهاج: إذا

228
كانت المسافة ثلاثة أيام بالسير المعتاد فسار إليها على البريد سيرا مسرعا أو على الفرس جريا
حثيثا فوصل في يومين قصر اه‍. والمراد بسير البر والجبل أن يكون بالإبل ومشي الاقدام،
والمراد بالإبل إبل القافلة دون البريد. وأما السير في البحر فيعتبر ما يليق بحاله وهو أن
يكون مسافة ثلاثة فيه إذا كانت تلك الرياح معتدلة، وإن كانت تلك المسافة بحيث تقطع في
البر في يوم كما في الجبل يعتبر كونها من طريق الجبل بالسير الوسط ثلاثة أيام، وإن كانت
تقطع من طريق السهل بيوم فالحاصل أن تعتبر المدة من أي طريق أخذ فيه، ولهذا عمم
المصنف رحمه الله. وخرج سير البقر بجر العجلة ونحوه لأنه أبطأ السير كما أن أسرعه سير
الفرس والبريد والوسط ما ذكرنا وفي البدائع: ثم يعتبر في كل ذلك السير المعتاد فيه وذلك
معلوم عند الناس فيرجع إليهم عند الاشتباه.
وأما الثالث أعني حكم السفر فهو تغيير بعض الأحكام فذكر المصنف منها قصر الصلاة
والمراد وجوب قصرها حتى لو أتم فإنه آثم عاص لأن الفرض عندنا من ذوات الأربع ركعتان
في حقه لا غير، ومن مشايخنا من لقب المسألة بأن القصر عندنا عزيمة والاكمال رخصة. قال
في البدائع: وهذا التلقيب على أصلنا خطأ لأن الركعتين في حقه ليستا قصرا حقيقة عندنا بل
هما تمام فرض المسافر والاكمال ليس رخصة في حقه بل إساءة ومخالفة للسنة، ولان الرخصة
اسم لما تغير عن الحكم الأصلي بعارض إلى تخفيف ويسر ولم يوجد معنى التغيير في حق المسافر
رأسا إذ الصلاة في الأصل فرضت ركعتين في حق المقيم والمسافر ثم زيدت ركعتين في حق
المقيم كما روته عائشة رضي الله عنها فانعدم معنى التغيير في حقه أصلا، وفي حق المقيم وجد
التغيير لكن إلى الغلظ والشدة لا إلى السهولة واليسر، والرخصة تنبئ عن ذلك فلم يكن
رخصة حقيقة في حق المقيم أيضا، ولو سمى فإنما هو مجاز لوجود بعض معاني الحقيقة وهو
التغيير اه‍. فعلى هذا لو قال في جواب الشرط صلى الفرض الرباعي ركعتين لكان أولى. وقيد
بالفرض لأنه لا قصر في الوتر والسنن. واختلفوا في ترك السنن في السفر، فقيل الأفضل هو
الترك ترخيصا، وقيل الفعل تقربا. وقال الهندواني: الفعل حال النزول والترك حال السير،

229
وقيل يصلي سنة الفجر خاصة، وقيل سنة المغرب أيضا. وفي التجنيس: والمختار أنه إن كان
حال أمن وقرار يأتي بها لأنها شرعت مكملات والمسافر إليه محتاج، وإن كان حال خوف لا يأتي
بها لأنه ترك بعذر اه‍. وقيد بالرباعي لأنه لا قصر في الفرض الثنائي والثلاثي فالركعات
المفروضة حال الإقامة سبعة عشر، وحال السفر إحدى عشر. وفي عمدة الفتاوى للصدر
الشهيد: إذا قال لنسائه من لم يدر منكن كم ركعة فرض يوم وليلة فهي طالق فقالت إحداهن
عشرون ركعة والأخرى سبع عشرة ركعة والأخرى خمسة عشرة والأخرى إحدى عشر، لا
تطلق واحدة منهن. أما السبع عشرة لا يشكل، ومن قالت عشرون ركعة فقد ضمت الوتر
إليها، ومن قالت خمس عشرة فيوم الجمعة، ومن قالت إحدى عشرة ففرض المسافر اه‍. أطلق
الإرادة فشملت إرادة الكافر. قال في الخلاصة: صبي ونصراني خرجا إلى سفر مسيرة ثلاثة أيام
ولياليها فلما سارا يومين أسلم النصراني وبلغ الصبي، فالنصراني يقصر الصلاة فيما بقي من
سفره، والصبي يتم الصلاة بناء على أن نية الكافر معتبرة وهو المختار، والإمام الجليل الفضلي
سوى بينهما يعني كلاهما يتمان الصلاة اه‍..
قوله: (فلو أتم وقعد في الثانية صح وإلا لا) أي وإن لم يقعد على رأس الركعتين لم
يصح فرضه لأنه إذا قعد فقد تم فرضه وصارت الاخريان له نفلا كالفجر وصار آثما لتأخير
السلام، وإن ليقعد فقد خلط النفل بالفرض قبل إكماله. وأشار إلى أنه لا بد أن يقرأ في
الأوليين فلو ترك فيهما أو في إحداهما وقرأ في الأخريين لم يصح فرضه. وهذا كله إن لم ينو
الإقامة، فإن نواها قال الأسبيجابي: لو صلى المسافر ركعتين وقرأ فيهما وتشهد ثم
نوى الإقامة قبل التسليم أو بعد ما قام إلى الثالثة قبل أن يقيدها بسجدة فإنه يتحول فرضه إلى
الأربع إلا أنه يعيد القيام والركوع لأنه فعله بنية التطوع فلا ينوب عن الفرض وهو مخير في
القراءة، فلو قيدها بسجدة ثم نواها لم يتحول فرضه ويضيف إليها أخرى، ولو أفسدها لا
شئ عليه. ولو لم يتشهد وقام إلى الثالثة ثم نوى الإقامة تحول فرضه أربعا اتفاقا، فإن لم يقم
صلبه عاد إلى التشهد، وإن أقامه يعود وهو مخير في القراءة. ولو قام إلى الثالثة ثم نوى
قبل السجدة تحول الفرض ويعيد القيام والركوع، ولو قيد بالسجدة فقد تأكد الفساد فيضيف
أخرى فتكون الأربع تطوعا على قولهما خلافا لمحمد، فعنده لا تنقلب بعد الفساد تطوعا.
ولو ترك القراءة وأتى بالتشهد ثم نوى الإقامة قبل أن يسلم أو قام إلى الثالثة ثم نوى الإقامة
قبل أن يقيدها بالسجدة فإنه يتحول إلى الأربع ويقرأ في الأخريين قضاء عن الأوليين، ولو
قيد الثالثة بسجدة ثم نوى فسدت اتفاقا ويضيف رابعة لتكون تطوعا عندهما ا ه‍. قوله:
(حتى يدخل مصره أو ينوي الإقامة نصف شهر في بلد أو قرية) متعلق بقوله قصر أي قصر
إلى غاية دخول المصر أو نية الإقامة في موضع صالح للمدة المذكورة فلا يقصر. أطلق في

230
دخول مصره فشمل ما إذا نوى الإقامة به أولا، وشمل ما إذا كان في الصلاة كما إذا سبقه
حدث وليس عنده ماء فدخله للماء إلا اللاحق إذا أحدث ودخل مصره ليتوضأ لا يلزمه
الاتمام ولا يصير مقيما بدخوله المصر. كذا في الفتاوى الظهيرية. وشمل ما إذا كان سار
ثلاثة أيام أو أقل لكن المذكور في الشرح أنه يتم إذا سار أقل بمجرد العزم على الرجوع وإن لم
يدخل مصره لأنه نقض للسفر قبل الاستحكام إذ هو يحتمل النقض. قال في فتح القدير:
وقياسه أن لا يحل فطره في رمضان إذا كان بينه وبين بلده يومان. وفي المجتبى: لا يبطل
السفر إلا بنية الإقامة أو دخول الوطن أو الرجوع قبل الثلاثة ا ه‍. والمذكور في الخانية
والظهيرية وغيرهما أنه إذا رجع لحاجة نسيها ثم تذكرها، فإن كان له وطن أصلي يصير مقيما
بمجرد العزم على الرجوع، وإن لم يكن له وطن أصلي يقصر ا ه‍. والذي يظهر أنه لا بد من
دخول المصر مطلقا لأن العلة مفارقة البيوت قاصدا مسيرة ثلاثة أيام لا استكمال سفر ثلاثة
أيام بدليل ثبوت حكم السفر بمجرد ذلك فقد تمت العلة لحكم السفر فيثبت حكمه ما لم تثبت
علة حكم الإقامة. وروى البخاري تعليقا أن عليا خرج فقصر وهو يرى البيوت فلما رجع
قيل له: هذه الكوفة قال: لا حتى ندخلها، يريد أنه صلى ركعتين والكوفة بمرأى منهم فقيل
له إلى آخره. وقيد بنية الإقامة لأنه لو دخل بلدا ولم ينو أنه يقيم فيها خمسة عشر يوما وإنما
يقول غدا أخرج أو بعد غد أخرج حتى بقي على ذلك سنين قصر. وفي المجتبى: والنية إنما
تؤثر بخمس شرائط: أحدها ترك السير حتى لو نوى الإقامة وهو يسير لم يصح. وثانيها
صلاحية الموضع حتى لو أقام في بحر أو جزيرة لم تصح. واتحاد الموضع والمدة والاستقلال
بالرأي ا ه‍.
وأطلق النية فشمل الحكمية كما لو وصل الحاج إلى الشام وعلم أن القافلة إنما تخرج
بعد خمسة عشر يوما وعزم أن لا يخرج إلا معهم لا يقصر لأنه كناوي الإقامة. كذا في
المحيط. وشمل ما إذا نواها في خلال الصلاة في الوقت فإنه يتم، سواء كان في أولها أو
وسطها أو في آخرها، وسواء كان منفردا أو مقتديا أو مدركا أو مسبوقا. أما اللاحق إذا
أدرك أول الصلاة والإمام مسافر فأحدث أو نام فانتبه بعد فراغ الإمام ونوى الإقامة لم يتم
لأن اللاحق في الحكم كأنه خلف الإمام، فإذا فرغ الإمام فقد استحكم الفرض فلا يتغير في

231
حق الإمام فكذا في حق اللاحق. ولو نواها بعد ما صلى ركعة ثم خرج الوقت فإنه يتحول
فرضه إلى الأربع، ولو خرج الوقت وهو في الصلاة فنوى الإقامة فإنه لا يتحول فرضه إلى
الأربع في حق تلك الصلاة. كذا في الخلاصة. وقيد بنصف شهر لأن نية إقامة ما دونها لا
توجب الاتمام لما روي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قدراها بذلك والأثر في المقدرات
كالخبر، وأقام صلى الله عليه وسلم بمكة مع أصحابه سبعة أيام وهو يقصر، وقيد بالبلد والقرية لأن نية
الإقامة لا تصح في غيرهما فلا تصح في مفازة ولا جزيرة ولا بحر ولا سفينة. وفي الخانية
والظهيرية والخلاصة: ثم نية الإقامة لا تصح إلا في موضع الإقامة ممن يتمكن من الإقامة،
وموضع الإقامة العمران والبيوت المتخذة من الحجر والمدر والخشب لا الخيام والأخبية والوبر
ا ه‍. وقيد الشارحون اشتراط صلاحية الموضع بأن يكون سار ثلاثة أيام فصاعدا، أما إذا لم
يسر ثلاثة أيام فلا يشترط أن تكون الإقامة في بلد أو قرية بل تصح ولو في المفازة وفيه من
البحث ما قدمناه. وقول المصنف حتى يدخل مصره أولى من قول صاحب المجمع إلى أن
يدخل وطنه لأن الوطن مكان الانسان ومحله كما في المغرب، وليس الاتمام متوقفا على
دخوله بل على دخول مصره، وإن لم يدخل وطنه ويصير المصر مصرا للانسان بكونه ولد
فيه. واختلفوا فيما إذا دخل المسافر مصرا وتزوج بها والظاهر أنه يصير مقيما لحديث عمر
رضي الله عنه ولقوله عليه الصلاة والسلام من تزوج في بلدة فهو منها والمسافرة تصير
مقيمة بنفس التزوج عندهم. كذا في القنية.
قوله: (لا بمكة ومنى) أي لو نوى الإقامة بمكة خمسة عشر يوما فإنه لا يتم الصلاة
لأن الإقامة لا تكون في مكانين إذ لو جازت في مكانين لجازت في أماكن فيؤدي إلى أن
السفر لا يتحقق لأن إقامة المسافر في المراحل لو جمعت كانت خمسة عشر يوما أو أكثر إلا إذا
نوى أن يقيم بالليل في أحدهما فيصير مقيما بدخوله فيه لأن إقامة المرء تضاف إلى مبيته. يقال
فلان يسكن في حارة، كذا وإن كان بالنهار في الأسواق ثم بالخروج إلى الموضع الآخر لا
يصير مسافرا. وذكر في كتاب المناسك أن الحاج إذا دخل مكة في أيام العشر ونوى الإقامة
نصف شهر لا يصح لأنه لا بد له من الخروج إلى عرفات فلا يتحقق الشرط. وقيل: كان

232
سبب تفقه عيسى بن أبان هذه المسألة وذلك أنه كان مشغولا بطلب الحديث قال: فدخلت
مكة في أول العشر من ذي الحجة مع صاحب لي وعزمت على الإقامة شهرا وجعلت أتم
الصلاة، فلقيني بعض أصحاب أبي حنيفة فقال: أخطأت فإنك تخرج إلى منى وعرفات، فلما
رجعت من منى بدا لصاحبي أن يخرج وعزمت على أن أصاحبه وجعلت أقصر الصلاة فقال
لي صاحب أبي حنيفة: أخطأت فإنك مقيم بمكة فما لم تخرج منها لا تصير مسافرا فقلت:
أخطأت في مسألة في موضعين فرحلت إلى مجلس محمد واشتغلت بالفقه. قال في البدائع:
وإنما أوردنا هذه الحكاية ليعلم مبلغ العلم فيصير مبعثة للطلبة على طلبه. قيد بالمصرين
ومراده موضعان صالحان للإقامة لا فرق بين المصرين أو القريتين أو المصر والقرية للاحتراز
عن نية الإقامة في موضعين من مصر واحد أو قرية واحدة فإنها صحيحة لأنهما متحدان
حكما، ألا ترى أنه لو خرج إليه مسافرا لم يقصر قوله: (وقصر إن نوى أقل منها أو لم ينو
وبقي سنين) أي أقل من نصف شهر وقد قدمنا تقريره قوله: (أو نوى عسكر ذلك بأرض

233
الحرب وإن حاصروا مصر أو حاصروا أهل البغي في دارنا في غيره) معطوف على قوله نوى
أقل منه أي وقصر إن نوى عسكر نصف شهر بأرض الحرب، ولا فرق بين أن يكون
العسكر مشغولين بالقتال أو المحاصرة، ولا فرق في المحاصرة بين أن تكون للمدينة أو
للحصن بعد أن دخلوا المدينة، ولا فرق بين أن يكون العسكر في أرض الحرب أو أرض
الاسلام مع أهل البغي في غير المصر لأن نية الإقامة في دار الحرب أو البغي لا تصح لأن
حالهم يخالف عزيمتهم للتردد بين القرار والفرار، ولهذا قال أصحابنا في تاجر دخل مدينة
لحاجة ونوى أن يقيم خمسة عشر يوما لقضاء تلك الحاجة لا يصير مقيما لأنه متردد بين أن
يقضي حاجته فيرجع، وبين أن لا يقضي فيقيم فلا تكون نيته مستقرة كنية العسكر في دار
الحرب. وهذا الفصل حجة على من يقول من أراد الخروج إلى مكان ويريد أن يترخص
ترخص السفر ينوي مكانا أبعد منه وهذا غلط. كذا ذكر التمرتاشي ا ه‍. كذا في معراج
الدراية. وعلى هذا واقعة الفتوى وهي أن إنسانا يحلف بالطلاق أنه يسافر في هذا الشهر
فينوي مسيرة ثلاثة أيام ويقصد مكانا قريبا فهذا لم يكن مخلصا له لتعارض نيته إذ الأولى
ليست بنية أصلا. وأطلق في العسكر فشمل ما إذا كانت الشوكة لهم وقيد به لأن من دخل
دار الحرب بأمان فنوى إقامة نصف شهر فيها فإنه يتم أربعا لأن أهل الحرب لا يتعرضون له
لأجل الأمان. كذا في النهاية. وأشار إلى أن الأسير لو انفلت من أيدي الكفار وتوطن في

234
غار ونوى الإقامة خمسة عشر يوما لم يصر مقيما كما لو علم أهل الحرب بإسلامه فهرب منهم
يريد السفر ثلاثة أيام ولياليها لم تعتبر نيته. كذا في الخلاصة. وفي فتاوى قاضيخان: وحكم
الأسير في دار الحرب حكم العبد لا تعتبر نيته والرجل الذي يبعث إليه الوالي أو الخليفة
ليؤتى به إليه فهو بمنزلة الأسير. وفي التجنيس: عسكر المسلمين إذا دخلوا دار الحرب
وغلبوا في مدينة إن اتخذوها دارا يتمون الصلاة، وإن لم يتخذوها دارا ولكن أرادوا والإقامة
بها شهرا أو أكثر فإنهم يقصرون لأنها في الوجه الثاني بقيت دار حرب وهم محاربون فيها وفي
الوجه الأول لا ا ه‍.
قوله: (بخلاف أهل الأخبية) حيث تصح منهم نية الإقامة في الأصح وإن كانوا في
المفازة لأن الإقامة أصل فلا تبطل بالانتقال من مرعى إلى آخر إلا إذا ارتحلوا عن موضع
إقامتهم في الصيف وقصدوا موضع إقامتهم في الشتاء وبينهما مسيرة ثلاثة أيام فإنهم يصيرون
مسافرين في الطريق. وظاهر كلام البدائع أن أهل الأخبية مقيمون لا يحتاجون إلى نية الإقامة
فإنه جعل المفاوز لهم كالأمصار والقرى لأهلها، ولان الإقامة للرجل أصل والسفر عارض
وهم لا ينوون السفر وإنما ينتقلون من ماء إلى ماء ومن مرعى إلى آخر ا ه‍. والأخبية جمع
خباء البيت من صوف أو وبر. فإن كان من الشعر فليس بخباء. كذا في ضياء الحلوم. وفي
المغرب: الخباء الخيمة من الصوف ا ه‍. والمراد هنا الأعم لما في البدائع من التسوية بين من
يسكن في بيت صوف أو بيت شعر. وقيد بأهل الأخبية لأن غيرهم من المسافرين لو نوى
الإقامة معهم فعن أبي يوسف روايتان، وعند أبي حنيفة لا يصيرون مقيمين وهو الصحيح،
كذا في البدائع. وفي المجتبى: والملاح مسافر إلا عند الحسن وسفينته أيضا ليست بوطن
قوله: (ولو اقتدى مسافر بمقيم في الوقت صح وأتم) لأنه يتغير فرضه إلى الأربع للتبعية كما

235
تتغير نية الإقامة لاتصال المغير بالسبب وهو الوقت وفرض المسافر قابل للتغير حال قيام
الوقت كنية الإقامة فيه، وإذا كان التغيير لضرورة الاقتداء فلو أفسده صلى ركعتين لزواله
بخلاف ما لو اقتدى بالمقيم في فرضه ينوي النفل حيث يصلي أربعا إذا أفسده لأنه التزم أداء
صلاة الإمام وهنا لم يقصد سوى إسقاط فرضه غير أنه تغير ضرورة متابعته. ويستثنى من
مسألة الكتاب ما لو اقتدى المقيم بالمسافر فأحدث الإمام فاستخلف المقيم فإنه لا يتغير فرضه
إلى الأربع مع أنه صار مقتديا بالخليفة المقيم لأنه لما كان المؤتم خليفة عن المسافر كان المسافر
كأنه الإمام فيأخذ الخليفة صفة الأول حتى لو لم يقعد على رأس الركعتين فسدت صلاة
الكل. ثم في اقتداء المسافر بالمقيم إذا لم يجلس الإمام قدر التشهد في الركعتين عامدا أو ساهيا
وتابعه المسافر فقد قيل تفسد صلاة المسافر، وقيل لا تفسد. كذا في السراج الوهاج.
والفتوى على عدم الفساد لأن صلاته صارت أربعا بالتبعية. كذا في التجنيس وصححه في
القنية. وأشار المصنف إلى أن الإمام المسافر لو نوى الإقامة لزم المأموم المسافر الاتمام وإن لم
ينو للتبعية، فلو أم المسافر مسافرين ومقيمين فلما صلى ركعتين وتشهد فقبل أن يسلم تكلم
واحد من المسافرين أو قام فذهب ثم نوى الإمام الإقامة فإنه يتحول فرضه وفرض المسافرين
الذين لم يتكلموا إلى الأربع وصلاة من تكلم تامة، فلو تكلم بعد نية الإمام الإقامة فسدت
صلاته ولزمه صلاة المسافر ركعتين. ذكره الأسبيجابي.
قوله: (وبعده لا) أي بعد خروج الوقت لا يصح اقتداء المسافر بالمقيم لأن فرضه لا
يتغير بعد الوقت لانقضاء السبب كما لا يتغير بنية الإقامة فيكون اقتداء المفترض بالتنفل في
حق القعدة أو القراءة أو التحريمة. كذا ذكر الشارح. والمذكور في الهداية وغيرها في حق
القعدة أو القراءة، ولم أر من ذكر التحريمة غير الشارح والحدادي، وتوضيحه أن المسافر إذا
اقتدى بالمقيم أول الصلاة فإن القعدة تصير فرضا في حق المأموم وغير فرض في حق الإمام
وهو المراد بالنفل في عبارتهم لأنه ما قابل الفرض فيدخل فيه الواجب فإن القعدة الأولى
واجبة. وإن اقتدى به في الشفع الثاني وكان الإمام قد قرأ في الشفع الأول فالقراءة في الشفع
الثاني نافلة في حق الإمام فرض في حق المأموم، فإن كان الإمام صلى الشفع الأول بغير قراءة
واقتدى به في الشفع الثاني ففيه روايتان كما في البدائع. ومقتضى المتون عدم الصحة مطلقا،

236
ومقتضى التعليل في هذه المسألة الصحة لأنه ليس اقتداء المفترض بالمتنفل لا في حق القعدة
ولا القراءة، وأما التحريمة فهي لا تكون إلا فرضا ولم يظهر قول الحدادي لأن تحريمة الإمام
اشتملت على الفرض لا غير. وأجاب في المحيط عما إذا لم يقرأ في الأوليين وقرأ في
الأخريين بأن القراءة في الأخريين قضاء عن الأوليين والقضاء يلتحق بمحله فلا يبقى
للأخريين قراءة ا ه‍. يعني فلا يصح مطلقا وقيد في السراج الوهاج عدم صحة الاقتداء بعد
الوقت بقيدين: الأول أن تكون فائتة في حق الإمام والمأموم. الثاني أن تكون الصلاة رباعية،
أما إذا كانت ثنائية أو ثلاثية أو كانت فائتة في حق الإمام مؤداة في حق المأموم كما إذا كان
المأموم يرى قول أبي حنيفة في الظهر والإمام يرى قولهما وقول الشافعي فإنه يجوز دخوله معه
في الظهر بعد المثل قبل المثلين فإنها صحيحة ا ه‍. وهو تقييد حسن لكن الأولى أن يكون
الشرط كونها فائتة في حق المأموم فقط، سواء كانت فائتة في حق الإمام أو لا بأن صلى ركعة
من الظهر مثلا أو ركعتين ثم خرج الوقت فاقتدى به مسافر لأن الظهر فائتة في حق المسافر
لا في حق المقيم. والقيد الأول مفهوم من قوله صح وأتم فإنه يفيد أن الكلام في الرباعية
الذي يظهر فيها القصر والاتمام بل لا حاجة إليه أصلا لأن السفر مؤثر في الرباعي فقط.
وقيد بكون الاقتداء بعد خروج الوقت لأنه لو اقتدى به في الوقت ثم خرج الوقت قبل
الفراغ من الصلاة تبطل صلاته ولا يبطل اقتداؤه به لأنه لما صح اقتداؤه به وصار تبعا له صار
حكمه حكم المقيمين، وإنما يتأكد وجوب الركعتين بخروج الوقت في حق المسافر. ولو نام
خلف الإمام حتى خرج الوقت ثم انتبه أتمها أربعا، ولو تكلم بعد خروج الوقت أو قبل
خروجه يصلي ركعتين عندنا. كذا في البدائع.
قوله: (وبعكسه صح فيهما) وهو اقتداء المقيم بالمسافر فهو صحيح في الوقت وبعده
لأن صلاة المسافر في الحالين واحدة والقعدة فرض في حقه غير فرض في حق المقتدي،
وبناء الضعيف على القوي جائز وقد أم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسافر أهل مكة وقال: أتموا صلاتكم

237
فإنا قوم سفر. وهو جمع سافر كركب جمع راكب. ويستحب أن يقول ذلك بعد السلام كل
مسافر صلى بمقيم لاحتمال أن خلفه لا يعرف حاله ولا يتيسر له الاجتماع بالإمام قبل ذهابه
فيحكم حينئذ بفساد صلاة نفسه بناء على ظن إقامة الإمام ثم إفساده بسلامه على رأس
الركعتين، وهذا محمل ما في الفتاوى إذا اقتدى بالإمام لا يدري أمسافر هو أم مقيم لا يصح
لأن العلم بحال الإمام شرط الأداء بجماعة ا ه‍. لا أنه شرط في الابتداء لما في المبسوط:
رجل صلى الظهر بالقوم بقرية أو مصر ركعتين وهم لا يدرون أمسافر هو أم مقيم فصلاتهم
فاسدة، سواء كانوا مقيمين أم مسافرين، لأن الظاهر من حال من في موضع الإقامة أنه مقيم
والبناء على الظاهر واجب حتى يتبين خلافه، فإن سألوه فأخبرهم أنه مسافر جازت صلاتهم
ا ه‍. وفي القنية: وإن كان خارج المصر لا تفسد ويجوز الاخذ بالظاهر في مثله. وإنما كان
قول الإمام ذلك مستحبا لأنه لم يتعين معرفا صحة سلامه لهم فإنه ينبغي أن يتموا ثم يسألوه
فتحصل المعرفة. واختلفوا هل يقوله بعد التسليمة الأولى أو بعد التسليمتين؟ الأصح الثاني
كذا في السراج الوهاج. ولو قام المقتدي المقيم قبل سلام الإمام فنوى الإمام الإقامة قبل
سجوده رفض ذلك وتابع الإمام، فإن لم يفعل وسجد فسدت لأنه ما لم يسجد لم يستحكم
خروجه عن صلاة الإمام قبل سلام الإمام وقد بقي ركعتان على الإمام بواسطة التغير فوجب
عليه الاقتداء فيهما، فإذا انفرد فسدت بخلاف ما لو نوى الإمام بعد ما سجد المقتدى فإنه
يتم منفردا، فلو رفض وتابع فسدت لاقتدائه حيث وجب الانفراد. كذا في فتح القدير. وفي
الخانية والخلاصة: مسافر أم قوما مقيمين فلما صلى ركعتين نوى الإقامة لا لتحقيق الإقامة بل
ليتم صلاة المقيمين لا يصير مقيما ولا ينقلب فرضه أربعا ا ه‍. وفي العمدة: مسافر سبقه
الحدث فقدم مقيما يتم صلاة الإمام ويتأخر ويقدم مسافرا يسلم ثم يتم المقيم صلاته. وفي
الخلاصة: مسافر أم مسافرين فأحدث فقدم مسافرا آخر فنوى الثاني الإقامة لا يجب على القوم
أن يصلوا أربعا ا ه‍. وفي الهداية: وإذا صلى المسافر بالمقيم ركعتين سلم وأتم المقيمون
صلاتهم لأن المقتدي التزم الموافقة في الركعتين فينفرد في الباقي كالمسبوق إلا أن أنه لا يقرأ
في الأصح لأنه مقتد تحريمة لا فعلا والفرض صار مؤدى فيتركها احتياطا بخلاف المسبوق
لأنه أدرك قراءة نافلة فلم يتأد الفرض فكان الاتيان أولى ا ه‍. وفي الخانية: لا قراءة عليهم

238
فيما يقضون ولا سهو عليهم إذا سهوا ولا يقتدي أحدهم بالآخر ا ه‍. فلو اقتدى أحدهم
بالآخر فسدت صلاة المقتدي لأنه اقتدى في موضع يجب عليهم الانفراد وصلاة الإمام تامة.
كذا في البدائع. وفي القنية: اقتدى مقيم بمسافر فترك القعدة مع إمامه فسدت فالقعدتان
فرض في حقه، وقيل لا تفسد وهي نفل في حق المقتدي ا ه‍.
قوله: (ويبطل الوطن الأصلي بمثله لا السفر ووطن الإقامة بمثله والسفر والأصلي) لأن
الشئ يبطل بما هو مثله لا بما هو دونه فلا يصلح مبطلا له: وروي أن عثمان رضي الله عنه
كان حاجا يصلي بعرفات أربعا فاتبعوه فاعتذر وقال: إني تأهلت بمكة وقال النبي صلى الله عليه وسلم من تأهل
ببلدة فهو منها والوطن الأصلي هو وطن الانسان في بلدته أو بلدة أخرى اتخذها دارا وتوطن
بها مع أهله وولده وليس من قصده الارتحال عنها بل التعيش بها، وهذا الوطن يبطل بمثله لا
غير وهو أن يتوطن في بلدة أخرى وينقل الأهل إليها فيخرج الأول من أن يكون وطنا أصليا
حتى لو دخله مسافرا لا يتم. قيدنا بكونه انتقل عن الأول بأهله لأنه لو لم ينتقل بهم ولكنه
استحدث أهلا في بلدة أخرى فإن الأول لم يبطل ويتم فيهما. وقيد بقوله بمثله لأنه لو باع
داره ونقل عياله وخرج يريد أن يتوطن بلدة أخرى ثم بدا له أن لا يتوطن ما قصده أولا ويتوطن
بلدة غيرها فمر ببلده الأول فإنه يصلي أربعا لأنه لم يتوطن غيره. وفي المحيط: ولو كان له أهل
بالكوفة وأهل بالبصرة فمات أهله بالبصرة وبقي له دور وعقار بالبصرة، قيل البصرة لا تبقى
وطنا له لأنها إنما كانت وطنا بالأهل لا بالعقار، ألا ترى أنه لو تأهل ببلدة لم يكن له فيها عقار
صارت وطنا له. وقيل: تبقى وطنا له لأنها كانت وطنا له بالأهل والدار جميعا، فبزوال أحدهما
لا يرتفع الوطن كوطن الإقامة تبقى ببقاء الثقل وإن أقام بموضع آخر ا ه‍. وفي المجتبى: نقل
القولين فيما إذا نقل أهله ومتاعه وبقي له دور وعقار ثم قال: وهذا جواب واقعة ابتلينا بها
وكثير من المسلمين المتوطنين في البلاد ولهم دور وعقار في القرى البعيدة منها يصيفون بها
بأهلهم ومتاعهم فلا بد من حفظها أنهما وطنان له لا يبطل أحدهما بالآخر. وقوله لا السفر
أي لا يبطل الأصلي بالسفر حتى يصير مقيما بالعود إليه من غير نية الإقامة، وكذا لا يبطل
بوطن الإقامة. وأما وطن الإقامة فهو الوطن الذي يقصد المسافر الإقامة فيه وهو صالح لها
نصف شهر وهو ينتقض بواحد من ثلاثة: بالأصلي لأنه فوقه، وبمثله وبالسفر لأنه ضده.

239
أطلقه فأفاد أن تقديم السفر ليس بشرط لثبوت الوطن الأصلي ووطن الإقامة فالأصلي بالاجماع
ووطن الإقامة فيه روايتان، ظاهر الرواية أنه ليس بشرط، وفي أخرى عن محمد إنما يصير
الوطن وطن إقامة بشرط أن يتقدمه سفر ويكون بينه وبين ما صار إليه منه مدة سفر حتى لو
خرج من مصره لا لقصد السفر فوصل إلى قرية ونوى الإقامة بها خمسة عشر يوما لا تصير
تلك القرية وطن الإقامة وإن كان بينهما مدة سفر لعدم تقدم السفر. وكذا إذا قصد مسيرة
سفر وخرج فلما وصل إلى قرية مسيرتها من وطنه دون مدة السفر نوى الإقامة بها خمسة عشر
يوما لا يصير مقيما ولا تصير تلك القرية وطن الإقامة مثاله: قاهري خرج إلي بلبيس فنوى
الإقامة بها نصف شهر ثم خرج منها، فإن قصد مسيرة ثلاثة أيام وسافر بطل وطنه ببلبيس
حتى لو مر به في العود لا يتم، وإن لم يقصد ذلك وخرج إلى الصالحية فإن نوى الإقامة بها
نصف شهر أتم بها وبطل وطنه ببلبيس حتى لو عاد إليه مسافرا لا يتم، وإن لم ينو الإقامة بها

240
لم يبطل وطنه ببلبيس حتى يتم إذا دخله، وإن عاد إلى مصر بطل الوطنان حتى لو عاد إليهما
في سفرة أخرى لا يتم إذا لم ينو الإقامة. ولم يذكر المصنف رحمه الله وطن السكنى وهو
المكان الذي ينوى أن يقيم فيه أقل من خمسة عشر يوما تبعا للمحققين قالوا: لأنه لا فائدة فيه
لأنه يبقى فيه مسافرا على حاله فصار وجوده كعدمه. وذكر الشارح أن عامتهم على أنه يفيد
في رجل خرج من مصره إلى قرية لحاجة ولم يقصد السفر ونوى أن يقيم فيها أقل من خمسة
عشر يوما فإنه يتم فيها لأنه مقيم ثم خرج من القرية لا للسفر ثم بدا له أن يسافر قبل أن
يدخل مصره وقبل أن يقيم ليلة في موضع آخر فسافر فإنه يقصر، ولو مر بتلك القرية
ودخلها أتم لأنه لم يوجد ما يبطله مما هو فوقه أو مثله ا ه‍. وصحح في السراج الوهاج
وشرح المجمع عدم اعتباره وقول الشارح لو مر بها أتم لا يصح لأن السفر باق لم يوجد ما
يبطله وهو مبطل لوطن السكنى على تقدير اعتباره لأن السفر يبطل وطن الإقامة فكيف لا
يبطل وطن السكنى، فقوله لأنه لم يوجد ما يبطله ممنوع.
قوله: (وفائتة السفر والحضر تقضي ركعتين وأربعا) لف ونشر مرتب أي فائتة السفر
تقضى ركعتين وفائتة الحضر تقضى أربعا لأن القضاء بحسب الأداء بخلاف ما لو فاتته في

241
المرض في حالة لا يقدر على الركوع والسجود حيث يقضيها في الصحة راكعا وساجدا أو فاتته
في الصحة حيث يقضيها في المرض بالايماء لأن الواجب هناك الركوع والسجود إلا أنهما
يسقطان عنه بالعجز، فإذا قدر أتى بهما بخلاف ما نحن فيه فإن الواجب على المسافر ركعتان
كصلاة الفجر وعلى المقيم أربع فلا يتغير بعد الاستقرار. قوله: (والمعتبر فيه آخر الوقت) أي
المعتبر في وجوب الأربع أو الركعتين عند عدم الأداء في أول الوقت الجزء الأخير من الوقت
وهو قدر ما يسع التحريمة، فإن كان فيه مقيما وجب عليه أربع، وإن كان مسافرا فركعتان لأنه
المعتبر في السببية عند عدم الأداء في أول الوقت، إن أدى آخره وإلا فكل الوقت هو السبب
ليثبت الواجب عليه بصفة الكمال. وفائدة إضافته إلى الجزء الأخير اعتبار حال المكلف فيه، فلو
بلغ صبي أو أسلم كافرا وأفاق مجنون أو طهرت الحائض أو النفساء في آخر الوقت بعد مضي
الأكثر تجب عليهم الصلاة، ولو كان الصبي قد صلاها في أوله، وبعكسه لو جن أو حاضت أو
نفست فيه لم يجب لفقد الأهلية عند وجود السبب. وفائدة إضافته إلى الكل عند خلوه عن الأداء
أنه لا يجوز قضاء عصر اليوم وقت التغير في اليوم الآتي، ولو كان السبب هو الجزء الأخير
لجاز. وتمام تحقيقه في كتابنا المسمى بلب الأصول مختصر تحرير الأصول، وسيأتي في الجمعة أن
المعتبر أول الوقت في وجوبها. واعتبر زفر رحمه الله تعالى في السببية الجزء الذي يلزمه الشروع
فيه، واختاره القدوري كما في البدائع لأن الوقت جعل سببا ليؤدي فيه فإذا تأخر عن أول
الوقت وبقي مقدار ما يسع الركعتين يجعل سببا فيتغير فرضه، وإن لم يبق مقدار ذلك كان
السبب أول الوقت وهو كان مقيما حينئذ إلا أنه يشكل عليه ما إذا أقام المسافر في آخر جزء من
الوقت فإن عليه أربع ركعات اتفاقا. كذا في المصفى. فيحتاج زفر إلى الفرق. قيدنا بعدم الأداء
أول الوقت لأنه لو صلى صلاة السفر أول الوقت ثم أقام في الوقت لا يتغير فرضه. كذا في
الخانية. وذكر في الخلاصة: رجل صلى الظهر في منزله وهو مقيم ثم خرج إلى السفر وصلى
العصر في سفره في ذلك اليوم ثم تذكر أنه ترك شيئا في منزله فرجع إلى منزله لأجل ذلك، ثم

242
تذكر أنه صلى الظهر والعصر بغير وضوء قالوا: يجب عليه أن يصلي الظهر ركعتين والعصر
أربعا، ولو صلى الظهر والعصر وهو مقيم ثم سافر قبل غروب الشمس والمسألة بحالها يصلي
الظهر أربعا والعصر ركعتين ا ه‍. قيد بالصلاة لأن المعتبر في الصوم أول جزء من اليوم حتى
لو أسلم بعد طلوع الفجر لا يلزمه صوم ذلك اليوم لكونه معيارا.
قوله: (والعاصي كغيره) أي في الترخص برخص المسافر لاطلاق النصوص ولان السفر
الموجب للرخص ليس بمعصية إنما هو فيما جاوره كخروجه عاقا لوالديه أو عاصيا على الإمام
أو آبقا من مولاه أو خرجت المرأة بلا محرم أو في العدة أو قاطعا للطريق وقد تكون بعده كما إذا
خرج للحج أو للجهاد ثم قطع الطريق. والقبح المجاور لا يعدم المشروعية أصلا كالصلاة في
الأرض المغصوبة والبيع وقت النداء فصلح السفر مناطا للرخصة قوله: (وتعتبر نية الإقامة
والسفر من الأصل دون التبع أي المرأة والعبد والجندي) تفسير للتبع لأن الأصل هو المتمكن من
الإقامة والسفر دون التبع لكن لا يلزم التبع الاتمام إلا بعد علمه بنية المتبوع كما في توجه
الخطاب الشرعي وعزل الوكيل. وقيل: يلزمه كالعزل الحكمي وهو أحوط كما في فتح القدير
وهو ظاهر الرواية كما في الخلاصة، والأول أصح لأن في لزوم الحكم قبل العلم حرجا
وضررا وهو مدفوع شرعا بخلاف الوكيل فإنه غير ملجأ إلى البيع فإن له أن لا يبيع فيمكنه دفع
الضرر بالامتناع عن البيع، فإذا باع بناء على ظاهر أمره ولحقه ضرر كان الضرر ناشئا من جهته
من وجه ومن جهة الموكل من وجه فيصح العزل حكما لا قصدا، وههنا التبع مأمور بقصر
صلاته منهي عن إتمامها فكان مضطرا، فلو صار فرضه أربعا بإقامة الأصل وهو لا يشعر به
لحقه ضرر عظيم من جهة غيره بكل وجه وأنه منفي. كذا في المحيط وشرح الطحاوي. وعلى
هذا فما في الخلاصة من أن العبد إذا أم مولاه في السفر فنوى المولى الإقامة صحت حتى لو
سلم العبد على رأس الركعتين كان عليهما إعادة تلك الصلاة ا ه‍. وكذا العبد إذا كان مع مولاه
في السفر فباعه من مقيم والعبد كان في الصلاة ينقلب فرضه أربعا حتى لو سلم على رأس
الركعتين كان عليه إعادة تلك الصلاة ا ه‍. مبني على غير الصحيح أن فرض عدم علم العبد أو
على الكل إن علم أطلق في تبعية المرأة والجندي، وقيدوه بأن تستوفي المرأة مهرها المعجل وإلا
فلا تكون تبعا فالعبرة بنيتها لأن لها أن تحبس نفسها عن الزوج للمعجل دون المؤجل ولا تسكن
حيث يسكن هو، وبأن يكون الجندي يرزق من بيت المال، فإن كان رزقه في ماله فالعبرة لنيته
لأن له أن يذهب حيث شاء لطلب الرزق. وأطلق في العبد فشمل القن والمدبر وأم الولد، وأما
المكاتب فينبغي أن لا يكون تبعا لأن له السفر بغير إذن المولى فلا يلزمه طاعته. وليس مراد

243
المصنف قصر التبع على هؤلاء الثلاثة بل هو كل من كان تبعا لانسان ويلزمه طاعته فيدخل
الأجير مع مستأجره، والمحمول مع حامله، والغريم مع صاحب الدين إن كان معسرا مفلسا
فإن كان مليا فالنية إليه لأنه يمكنه قضاء الدين فيقيم في أي موضع شاء. وأما الأعمى مع قائده
فإن كان القائد أجيرا فالعبرة لنية الأعمى. وإن كان متطوعا في قيادة تعتبر نيته. والعبد بين
شريكين إذا سافر معهما ثم نوى أحدهما الإقامة قيل لا يصير العبد مقيما لوقوع الشك في
صيرورته مقيما فيبقى مسافرا. وقيل يصير مقيما ترجيحا لنية الإقامة احتياطا لأمر العبادة. كذا
في المحيط. ومحله ما إذا لم يكن بينهما مهايأة، فإن كان بينهما مهايأة في الخدمة فإن العبد يصلي
صلاة الإقامة، وإذا خدم المولى الذي لم ينو الإقامة يصلي صلاة السفر. وفي نسخة القاضي
الإمام: العبد إذا خرج مع مولاه ولا يعلم سير المولى فإنه يسأله إن أخبره أن مسيره مدة السفر
صلى صلاة المسافرين، وإن كان دون ذلك صلى صلاة الإقامة، وإن لم يخبره بذلك إن كان مقيما
قيل ذلك صلى صلاة الإقامة، وإن كان مسافرا قبل صلى صلاة المسافرين. كذا في الخلاصة.
وفي القنية: مسافر ومقيم اشتريا عبدا الأصح أن العبد يصلي صلاة المقيم. ودخل تحت الجندي
الأمير مع الخليفة كما في الخلاصة وفيها: وعلى هذا الحجاج إذا وصلوا بغداد شهر رمضان ولم
ينو والإقامة صلوا صلاة المقيمين ا ه‍. وظاهره أن الحجاج تبع لأمير القافلة وليس كذلك، ولا
ينبغي إدخاله في هذا المبحث بل علته أنهم لما علموا أن القافلة لا تخرج إلا بعد خمسة عشر يوما
نزل ذلك منزلة نيتهم الإقامة نصف شهر كما علل به في التجنيس. وفي المحيط: مسلم أسره
العدو إن كان مسيرة العدو ثلاثة أيام يقصر، وإن كان دون ذلك يتم، وإن لم يعلم يسأل كما مر
في العبد، ولو دخل مسافر مصرا فأخذه غريمه فحبسه، فإن كان معسرا قصر لأنه لم ينو الإقامة
ولا يحل للطالب حبسه، وإن كان موسرا، إن عزم أن يقضي دينه أو لم يعزم شيئا قصر، وإن عزم
واعتقد أن لا يقضيه أتم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب صلاة الجمعة
مناسبته مع ما قبله تنصيف الصلاة لعارض إلا أن التنصيف هنا في خاص من الصلاة
وهو الظهر، وفيما قبله في كل رباعية وتقديم العام هو الوجه، ولسنا نعني أن الجمعة

244
تنصيف الظهر بعينه بل هي فرض ابتداء نسبته النصف منها. وهي فريضة محكمة بالكتاب
والسنة والاجماع يكفر جاحدها. وقد أطال المحقق في فتح القدير في بيان دلائلها ثم قال:
وإنما أكثرنا فيه نوعا من الاكثار لما نسمع عن بعض الجهلة أنهم ينسبون إلى مذهب الحنفية
عدم افتراضها، ومنشأ غلطهم ما سيأتي من قول القدوري: ومن صلى الظهر في منزله يوم
الجمعة ولا عذر له كره وجازت صلاته. وإنما أراد حرم عليه وصحت الظهر فالحرمة لترك
الفرض وصحه الظهر لما سنذكره، وقد صرح أصحابنا بأنها فرض آكد من الظهر وبإكفار
جاحدها ا ه‍. أقول: وقد كثر ذلك من جهلة زماننا أيضا ومنشأ جهلهم صلاة الأربع بعد
الجمعة بنية الظهر، وإنما وضعه بعض المتأخرين عند الشك في صحة الجمعة بسبب رواية
عدم تعددها في مصر واحد وليست هذه الرواية بالمختارة، وليس هذا القول - أعني اختيار
صلاة الأربع بعدها - مرويا عن أبي حنيفة وصاحبيه حتى وقع لي أني أفتيت مرارا بعدم
صلاتها خوفا على اعتقاد الجهلة بأنها الفرض وأن الجمعة ليست بفرض، وسنوضحه من بعد
إن شاء الله تعالى. وأما شرائطها فنوعان: شرائط صحة وشرائط وجوب، فالأول ستة كما
ذكره المصنف: المصر والسلطان والوقت والخطبة والجماعة والاذان العام. والثاني ستة أيضا
كما سيأتي وهي بضم الميم وإسكانها وفتحها حكى ذلك الفراء والواحدي من الاجتماع
كالفرقة من الافتراق أضيف إليها اليوم والصلاة ثم كثر الاستعمال حتى حذف منها المضاف
وجمعت فقيل جمعات وجمع. كذا في المغرب. وكان يوم الجمعة في الجاهلية يسمى عروبة
بفتح العين المهملة وضم الراء وبالباء الموحدة، وأول من سماها يوم الجمعة كعب بن لؤي،
ولما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أقام يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس في بني عمرو بن
عوف وأسس مسجدهم ثم خرج من عندهم فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف فصلاها
في المسجد الذي في بطن الوادي - وادي راتونا - فكانت أول جمعة صلاها عليه الصلاة
والسلام بالمدينة.
قوله (شرط أدائها المصر) أي شرط صحتها أن تؤدى في مصر حتى لا تصح في قرية
ولا مفازة لقول علي رضي الله عنه: لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في
مصر جامع أو في مدينة عظيمة. رواه ابن أبي شيبة وصححه ابن خرم، وكفى بقوله قدوة
وإماما. وإذا لم تصح في غير المصر فلا تجب على غير أهله. وفي الخلاصة: القروي إذا دخل
المصر يوم الجمعة إن نوى أن يمكث فيه يوم الجمعة لزمته الجمعة، وإن نوى الخروج من ذلك
المصر من يومه قبل دخول وقت الصلاة لا تلزمه وبعد دخول وقت الجمعة تلزمه. قال

245
الفقيه: إن نوى الخروج من يومه ذلك وإن كان بعد دخول وقت الجمعة لا تلزمه المصري إذا
أراد أن يسافر يوم الجمعة لا بأس به إذا خرج من العمران قبل خروج وقت الظهر لأن
الجمعة إنما تجب في آخر الوقت وهو مسافر في آخر الوقت، والمسافر إذا قدم المصر يوم
الجمعة على عزم أن لا يخرج يوم الجمعة لا تلزمه الجمعة ما لم ينو الإقامة خمسة عشر يوما اه‍.
قوله (وهو كل موضع له أمير وقاض ينفذ الأحكام ويقيم الحدود) أي حد المصر المذكور هو
ظاهر المذهب كما ذكره الإمام السرخسي. زاد في الخلاصة: ويشترط المفتي إذا لم يكن
القاضي أو الوالي مفتيا. وأسقط في الظهيرية الأمير فقال: المصر في ظاهر الرواية أن يكون
فيه مفت وقاض يقيم الحدود وينفذ الأحكام وبلغت أبنيته أبنية منى اه‍. واحترز المصنف
بقوله ويقيم الحدود عن المحكم والمرأة إذا كانت قاضية فإنهما لا يقيمان الحدود وإن نفذ
الأحكام، واكتفى بذكر الحدود عن القصاص لأن من ملك إقامتها ملكه. كذا في فتح القدير
وظاهره أن البلدة إذا كان قاضيها أو أميرها امرأة لا يكون مصرا فلا تصح إقامة الجمعة فيها
والظاهر خلافه. قال في البدائع: وأما المرأة والصبي العاقل فلا تصح منهما إقامة الجمعة
لأنهما لا يصلحان للإمامة في سائر الصلوات ففي الجمعة أولى إلا أن المرأة إذا كانت سلطانا
فأمرت رجلا صالحا للإمامة حتى يصلي بهم الجمعة جاز لأن المرأة تصلح سلطانا أو قاضية في
الجملة فتصح إنابتها اه‍. وفي حد المصر أقوال كثيرة اختاروا منها قولين: أحدهما ما في
المختصر. ثانيهما ما عزوه لأبي حنيفة أنه بلدة كبيرة فيها سكك وأسواق ولها رساتيق وفيها
وال يقدر على انصاف المظلوم من الظالم بحشمة وعلمه أو علم غيره والناس يرجعون إليه في
الحوادث. قال في البدائع: وهو الأصح وتبعه الشارح وهو أخص ما في المختصر. وفي

246
المجتبى وعن أبي يوسف أنه ما إذا اجتمعوا في أكبر مساجدهم للصلوات الخمس لم يسعهم
وعليه فتوى أكثر الفقهاء. وقال أبو شجاع: هذا أحسن ما قيل فيه. وفي الولوالجية: وهو
الصحيح. وفي الخلاصة: الخليفة إذا سافر وهو في القرى ليس له أن يجمع بالناس ولو مر
بمصر من أمصار ولايته فجمع بها وهو مسافر جاز.
قوله (أو مصلاه) أي مصلى المصر لأنه من توابعه فكان في حكمه والحكم غير مقصور على
المصلي بل يجوز في جميع أقنية المصر لأنها بمنزلة المصر في حوائج أهله. والفناء في اللغة سعة أمام
البيوت، وقيل ما امتد من جوانبه. كذا في المغرب. واختلفوا فيما يكون من توابع المصر في حق
وجوب الجمعة على أهله، فاختار في الخلاصة والخانية أنه الموضع المعد لمصالح المصر متصل به
ومن كان مقيما في عمران المصر وأطرافه وليس بين ذلك الموضع وبين عمران المصر فرجة فعليه
الجمعة، ولو كان بين ذلك الموضع وبين عمران المصر فرجة من مزارع أو مراع كالقلع ببخارى لا
جمعة على أهل ذلك الموضع وإن سمعوا النداء، والغلوة والميل والأميال ليس بشرط اه‍. واختار
في البدائع ما قاله بعضهم أنه إن أمكنه أن يحضر الجمعة ويبيت بأهله من غير تكلف تجب عليه
الجمعة وإلا فلا قال: وهذا أحسن اه‍. واختار في المحيط اعتبار الميلين فقال: وعن أبي يوسف في

247
المنتقى: لو خرج الإمام عن المصر مع أهله لحاجة مقدار ميل أو ميلين فحضرت الجمعة جاز أن
يصلي بهم الجمعة وعليه الفتوى، لأن فناء المصر بمنزلته فيما هو من حوائج أهله وأداء الجمعة
منها اه‍. وذكر الولوالجي في فتاواه أن المختار للفتوى قدر الفرسخ لأنه أسهل على العامة وهو
ثلاثة أميال اه‍. وذكر في المضمرات وقال الشيخ الإمام الاجل حسام الدين: يجب على أهل
المواضع القريبة إلى البلد التي هي توابع العمران الذين يسمعون الاذان على المنارة بأعلى الصوت
وهو الصحيح لزوما وإيجابا اه‍. فقد اختلف التصحيح والفتوى كما رأيت، ولعل الأحوط ما
في البدائع فكان أولى. وذكر في غاية البيان أن فناء المصر ملحق به في وجوب الجمعة لا في
إتمام الصلاة بدليل أنه يقصر الصلاة فيه ذهابا وإيابا. وفي المضمرات معزيا إلى فتاوى الحجة:
وجوب الجمعة على ثلاثة أقسام: فرض على البعض، وواجب على البعض، وسنة على البعض.
أما الفرض فعلى الأمصار، وأما الواجب فعلى نواحيها، وأما السنة فعلى القرى الكبيرة
والمستجمعة للشرائط اه‍. وفيه نظر لأنها فرض على من هو من توابع الأمصار لا يجوز التخلف
عنها، وأما القرى فإن أراد الصلاة فيها فغير صحيحة على المذهب، وإن أراد تكلفهم وذهابهم
إلى المصر فممكن لكنه بعيد، وأغرب من هذا ما في القنية من أنه يلزم حضور الجمعة في القرى
ويعمل بقول علي رضي الله عنه: إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره،
فليس كل سامع نكرا تطيق أن تسمعه عذرا اه‍. فالمذهب عدم صحتها في القرى فضلا عن
لزومها. وفي التجنيس: ولا تجب الجمعة على أهل القرى وإن كانوا قريبا من المصر لأن الجمعة
إنما تجب على أهل الأمصار اه‍. وفي فتح القدير: وقد وقع الشك في بعض قرى مصر مما ليس
فيها وال وقاض نازلان بها بل لها قاض يسمى قاضي الناحية وهو قاضي يولى الكورة بأسرها
فيأتي القرية أحيانا فيفصل ما اجتمع فيها من التعلقات وينصرف ووال كذلك هل هو مصر نظرا
إلى أن لها واليا أو لا نظرا إلى عدمهما بها، والذي يظهر اعتبار كونهما مقيمين بها وإلا لم تكن

248
قرية أصلا إذ كل قرية مشمولة بحكم. وقد يفرق بين قرية لا يأتيها حاكم يفصل بها الخصومات
حتى يحتاجون إلى دخول المصرفي كل حادثة يفصلها، وبين ما يأتيها فيفصل فيها، وإذا اشتبه
على الانسان ذلك فينبغي أن يصلي أربعا بعد الجمعة وينوي بها آخر فرض أدركت وقته ولم أؤد
بعد، فإن لم تصح الجمعة وقعت ظهره وإن صحت كانت نفلا اه‍. وفي القنية: مصلي الجمعة
في الرستاق لا ينوي الفرض بل ينوي صلاة الإمام ويصلي الظهر وأيهما قدم جاز اه‍.
قوله (ومنى مصر لا عرفات) فتجوز الجمعة بمنى ولا تجوز بعرفات: أما الأول فهو
قولهما. وقال محمد: لا تجوز بمنى كعرفات. واختلفوا في بناء الخلاف فقيل منى على أنها
من توابع مكة عندهما خلافا له وهذا غير سديد، لأن بينهما أربع فراسخ وتقدير التوابع
للمصرية غير صحيح، والصحيح أنه مبني على أنها تتمصر في أيام الموسم عندهما لأن لها بناء
وتنقل إليها الأسواق ويحضرها وال وقاض بخلاف عرفات لأنها مفازة فلا تتمصر باجتماع
الناس وحضرة السلطان. أطلق المصنف فشمل ما إذا كان المصلي بها الجمعة الخليفة أو أمير
الحجاز أو أمير العراق أو أمير مكة أو أمير الموسم مقيما كان أو مسافرا، وقد أخرجوا منه
أمير الموسم وهو الذي أمر بتسوية أمور الحجاج لا غير فإنه لا يجوز له إقامتها، سواء كان
مقيما أو مسافرا إلا إذا كان مأذونا من جهة أمير العراق أو أمير مكة. وقيل: إن كان مقيما
يجوز وإن كان مسافرا لا يجوز والصحيح هو الأول. كذا في البدائع. وشمل التجميع بها في
غير أيام الموسم. وفي المحيط: قيل إنما تجوز الجمعة عندهما بمنى في أيام الموسم لا في
غيرها، وقيل تجوز في جميع الأيام لأن منى من فناء مكة اه‍. وقد علمت فساد كونها من فناء
مكة فترجح تخصيص جوازها بأيام الموسم وأنها تصير مصرا في تلك الأيام وقرية في غيرها.
قال في فتح القدير: وهذا يفيد أن الأولى في قرى مصر أن لا تصح فيها إلا حال حضور
المتولي فإذا حضر صحت وإذا ظعن امتنعت اه‍. وفي التجنيس: ولو نزل الخليفة أو والي
العراق في المنازل التي في طريق مكة كالتغلبية ونحوها جمع لأنها قرى تتمصر بمكان الحج

249
فصار كمنى. وأطلق في عرفات فشمل ما إذا كان الخليفة حاضرا بالاجماع. كذا في البدائع.
وإنما لا تقام صلاة العيد بمنى اتفاقا للتخفيف لا لكونها ليست مصرا قوله (وتؤدى في مصر
في مواضع) أي يصح أداء الجمعة في مصر واحد بمواضع كثيرة وهو قول أبي حنيفة ومحمد
وهو الأصح، لأن في الاجتماع في موضع واحد في مدينة كبيرة حرجا بينا وهو مدفوع.
كذا ذكر الشارح. وذكر الإمام السرخسي أن الصحيح من مذهب أبي حنيفة جواز إقامتها في
مصر واحد في مسجدين وأكثر، وبه نأخذ لاطلاق لا جمعة إلا في مصر شرط المصر فقط.
وفي فتح القدير: الأصح الجواز مطلقا خصوصا إذا كان مصرا كبيرا كمصر فإن في إلزام
اتحاد الموضع حرجا بينا لاستدعائه تطويل المسافة على الأكثر. وذكر في باب الإمامة أن
الفتوى على جواز التعدد مطلقا. وبما ذكرناه اندفع ما في البدائع من أن ظاهر الرواية جوازها
في موضعين ولا يجوز في أكثر من ذلك وعليه الاعتماد اه‍. فإن المذهب الجواز مطلقا. وإذا
علمت ذلك فما في القنية: ولما ابتلي أهل مرو بإقامة الجمعتين بها مع اختلاف العلماء في
جوازهما، ففي قول أبي يوسف والشافعي ومن تابعهما باطلتان إن وقعتا معا وإلا فجمعة
المسبوقين باطلة أمر أئمتهم بأداء الأربع بعد الجمعة حتما احتياطا، ثم اختلفوا في نيتها
والأحسن أن ينوي آخر ظهر عليه، والأحوط أن يقول، نويت آخر ظهر أدركت وقته ولم
أصله بعد لأن ظهر يومه إنما يجب عليه بآخر الوقت في ظاهر المذهب. ثم اختلفوا في
القراءة فقيل يقرأ الفاتحة والسورة في الأربع، وقيل في الأوليين كالظهر وهو اختياري،
والمختار عندي أن يحكم فيها رأيه. واختلفوا أنه هل يجب مراعاة الترتيب في الأربع
بعد الجمعة بمرور العصر حسب اختلافهم في نيته، واختلفوا في سبق الجمعة بماذا يعتبر إذا
اجتمعا في مصر واحد فقيل بالشروع، وقيل بالفراغ وقيل بهما والأول أصح اه‍. مبني كله
على القول الضعيف المخالف للمذهب فليس الاحتياط في فعلها لأنه العمل بأقوى الدليلين،
وقد علمت أن مقتضى الدليل هو الاطلاق، وأما ما استدل به من يمنع التعدد من أنها

250
سميت جمعة لاستدعائها الجماعات فهي جامعة لها فلا يفيده لأنه حاصل مع التعدد، ولهذا
قال العلامة ابن جرباش في النجعة في تعداد الجمعة: لا يقال إن القول بالاجتماع المطلق قول
بالاحتياط وهو متعين في مثله ليخرج به المكلف عن عهدة ما كلف به بيقين لأن
الاجتماع أخص من مطلق الاجتماع، ووجود الأخص يستلزم وجود الأعم من غير عكس،
ولان الاحتياط هو العمل بأقوى الدليلين ولم يوجد دليل عدم جواز التعدد بل قضية الضرورة
عدم اشتراطه، وقد قال الله تعالى * (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) * (البقرة: 286) وقال
تعالى * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) اه‍. بلفظه مع ما لزم من فعلها

251
في زماننا من المفسدة العظيمة، وهو اعتقاد الجهلة أن الجمعة ليست بفرض لما يشاهدون من
صلاة الظهر فيظنون أنها الفرض، وأن الجمعة ليست بفرض فيتكاسلون عن أداء الجمعة فكان
الاحتياط في تركها، وعلى تقدير فعلها ممن لا يخاف عليه مفسدة منها فالأولى أن تكون في
بيته خفية خوفا من مفسدة فعلها والله سبحانه الموفق للصواب.
قوله (والسلطان أو نائبه) معطوف على المصر. والسلطان هو الوالي الذي لا والي فوقه.
وإنما كان شرطا للصحة لأنها تقام بجمع عظيم وقد تقع المنازعة في التقديم والتقدم وقد تقع في
غيره فلا بد منه تتميما لامره، ودخل تحت النائب العبد إذا قلد عمل ناحية فصلى بهم الجمعة جاز.
ولا تجوز إلا نكحة بتزويجه ولا قضائه، ودخل القاضي والشرطي لكن قال في الخلاصة: وليس
للقاضي أن يصلي الجمعة بالناس إذا لم يؤمر به، ويجوز لصاحب الشرط وإن لم يؤمر به وهذا في
عرفهم اه‍. وفيها: والي مصر مات ولم يبلغ الخليفة موته حتى مضت بهم جمع فإن صلى بهم خليفة
الميت أو صاحب الشرط أو القاضي أجزأهم، ولو اجتمعت العامة على تقديم رجل لم يأمره
القاضي ولا خليفة الميت لم يجز ولم تكن جمعة، ولو لم يكن ثمة قاض ولا خليفة الميت فاجتمع
العامة على تقديم رجل جاز للضرورة، ولو مات الخليفة وله ولاة وأمراء على أشياء من أمور
المسلمين كانوا على ولايتهم يقيمون الجمع اه‍. وأطلق في السلطان فشمل العادل والجائز والمتغلب
ولهذا قال في الخلاصة: والمتغلب الذي لا عهد له أي لا منشور له إن كان سيرته فيما بين الرعية
سيرة الامراء ويحكم فيما بينهم بحكم الولاية تجوز الجمعة بحضرته اه‍. والعبرة لأهلية النائب
وقت الصلاة لا وقت الاستنابة حتى لو أمر الصبي أو الذمي وفوض إليهما الجمعة قبل يوم الجمعة
فبلغ الصبي وأسلم الذمي كان لهما أن يصليا الجمعة، ولا ينافيه ما كره في الخلاصة قبله النصراني
إذا مر على مصر ثم أسلم ليس له أن يصلي الجمعة بالناس حتى يؤمر بعد الاسلام، وكذا الصبي
إذا أمر ثم أدرك، وكذا لو استقضي صبي أو نصراني ثم أدرك الصبي وأسلم النصراني لم يجز
حكمهما اه‍. لأنه في الأول فوض إليه أمر الجمعة صريحا، وفي الثاني لا، وظاهر ما في الخانية أن
الفرق إنما هو قول بعض المشايخ وأن الراجح عدم الفرق لأن التفويض وقع باطلا، فعلى هذا
المعتبر أهليته وقت الاستنابة ولا خفاء في أن من فوض إليه أمر العامة في مصر فإن له أن يقيم
الجمعة وإن لم يفوضها إليه السلطان صريحا كما في الخلاصة من أن من فوض إليه أمر العامة من

252
أصحاب السلطان فإن له إقامتها، ولا يخفى أن له الاستنابة كتولية خطيب في جامع كما هو الواقع
في الأمصار وهذا متفق عليه، وإنما وقع الاشتباه في أن الخطيب المقرر من جهة الحاكم هل له أن
يستنيب من غير ضرورة؟ فصرح منلا خسرو في شرح الدرر والغرر بأن الخطيب ليس له الاستنابة
إلا أن يفوض إليه ذلك، وهذا مما يجب حفظه والناس عنه غافلون اه‍. وقد عمل بذلك بعض
القضاة في زماننا حتى أخرج خطيبا من وظيفته بسبب استنابته من غير إذن.
وفي النجعة في تعداد الجمعة للعلامة ابن جرباش أحد شيوخ مشايخي: إن أذن السلطان
أو نائبه إنما هو شرط لاقامتها عند بناء المسجد، ثم بعد ذلك لا يشترط الاذن لكل خطيب، فإذا
قرر الناظر خطيبا في مسجد فله إقامتها بنفسه وبنائبه وأن الاذن منسحب لكل من خطب
وعبارته. والحاصل أن حق التقدم في إمامة الجمعة حق الخليفة إلا أنه لا يقدر على إقامة هذا الحق
ينفسه في كل الأمصار فيقيمها غيره بنيابته، فالسابق في هذه النيابة في كل بلدة الأمير الذي ولي
على تلك البلدة ثم الشرطي ثم القاضي ثم الذي ولاه قاضي القضاة. وفي العتابية عن ابن المبارك:
الشرطي أولى من القاضي. وفي الخانية: الإمام إذا أحدث بعدما صلى ركعة من الجمعة فتقدم
واحد من القوم لا بتقديم أحد لا تجوز صلاتهم خلفه، وإن قدمه واحد من جماعة السلطان ممن
فوض إليه أمر العامة يجوز. وإذ قد عرفت هذا فيتمشى عليه ما يقع في زماننا هذا من استئذان
السلطان في إقامة الجمعة فيما يستجد من الجوامع فإن أذنه بإقامتها في ذلك الموضع لربه مصحح
لاذن رب الجامع لمن يقيمه خطيبا ولإذن ذلك الخطيب لمن عساه أن يستنيبه، ولا يكون ذلك إذنا
لمجهول ليقع فاسدا على ما توهمه البعض لأنه لا بد أن يسأل السلطان في ذلك شخص معين

253
بالضرورة لنفسه أو لغيره، فبروز الاذن يكون على وجه التعيين لا محالة لأن الاذن إن كان للسائل
فظاهر، وإن كان لغيره، فكذلك لأن إذنه يقع إذنا للمسؤول له وهو معلوم عند السائل معين له،
بل للإمام أيضا لأن السائل يجري ذكره عنده بما يصحح السؤال له وهو كاف في صحة الاذن فإن
مثل ذلك كاف في تولية القضاة والولاة، ألا ترى أن شخصا نائبا عن الإمام أو قريبا غائبا عن
حضرته لو وصف له بأوصاف حميدة فولاه حال غيبته عنه صح ولا يشترط معرفة شخصه في
صحة توليته له، فما بالك بما نحن فيه؟ وإذا صح الاذن أعطي لمن أذن له حكم الوالي والقاضي
في صحة الإقامة منه وممن يأذن له لأن المصحح لصحتها ممن سوى الإمام من الإمام والشرطيين
والقضاة إنما هو إقامة الإمام لهم وإذنه المحصل لدفع الفتنة الذي هو السبب الداعي لاشتراط
الإمام في صحة إقامة الجمعة، وهو حاصل فيما ذكرنا فلا التفات لمتعنت والله سبحانه وتعالى أعلم
اه‍. كلامه. وهو كلام حسن لكنه لم يستند فيه إلى نقل عن المشايخ وظاهر كلامهم يدل عليه. قال
الولوالجي في فتاواه: الإمام إذا خطب فأمر من لم يشهد الخطبة أن يجمع بهم فأمر ذلك الرجل من
شهد الخطبة فجمع بهم، جاز لأن الذي لم يشهد الخطبة من أهل الصلاة فصح التفويض إليه لكنه
عجز لفقد شرط الصلاة وهو سماع الخطبة فملك التفويض إلى الغير، ولو جمع هو ولم يأمر لغيره
لا يجوز بخلاف ما لو شرع في الصلاة ثم استخلف من لم يشهد الخطبة فإنه يجوز، وكذلك إن
تكلم هذا المقدم فاستقبل بهم جاز لأنه إنما يؤدي الصلاة بالتحريمة الأولى اه‍. ووجه الدلالة أن
الإمام إن كان المراد به نائب الوالي وهو الخطيب فقد جوز له الاستنابة في إقامة الجمعة ولم يقيده
بالحدث ولا بالعذر، وجوز لنائبه أن يستنيب مع أنه لم يفوض إليه ذلك صريحا. وإن كان المراد
بالإمام الوالي فقد جوز لنائبه أن يستنيب وكل منهما يدل على جواز الاستنابة للخطيب من غير
إذن. وقال في الهداية من باب القضاء: وليس للقاضي أن يستخلف على القضاء إلا أن يفوض
إليه ذلك بخلاف المأمور بإقامة الجمعة حيث له أن يستخلف لأنه على شرف الفوات لتوقته فكان
الامر به إذنا بالاستخلاف دلالة ولا كذلك القضاء. اه‍. فقد جوز للمأمور بإقامتها الاستنابة ولم
يقيد بالعذر، فدل على جوازها مطلقا. وأما تقييد الشارح الزيلعي الاستخلاف بأن يكون أحدث
فلا دليل عليه، والظاهر من عباراتهم الاطلاق.
وذكر في البدائع أن كل من ملك إقامة صلاة الجمعة فإنه يملك إقامة غيره مقامه اه‍. وهو

254
صريح في جواز الاستنابة للخطيب مطلقا أو كالصريح فيه. وأيضا ليس الحدث قبل الصلاة من
الضروريات لامكان أن يذهب الخطيب للوضوء ثم يأتي فيصلي، وقد اتفقت كلمتهم على أن له
الاستخلاف بشرط أن يكون النائب شهد الخطبة ليكون كأن النائب خطب بنفسه، ولم يقيدوا
وبإذن الحاكم فدل على ما قلنا. وفي فتاوى الولوالجي: إذا أحدث الإمام فقال لواحد فيهم اخطب
ولا تصل بهم فذهب ولم يجئ أجزأه أن يخطب ويصلي بهم لأنه نهاه عن الصلاة لكي يأتي فيصلي
بهم، فإذا لم يأت كان هذا تفويض الصلاة إليه. وقد وقع لبعض قضاة العساكر في زماننا بالقاهرة
أنه كان يرى بأنه لا يصح تقريره في وظيفة الخطابة وإنما يقرر فيها الحاكم وهو المسمى بالباشا،
ولعله استند في ذلك إلى ما قدمناه عن الخلاصة من أن القاضي لا يقيمها إلا بإذن. لكن قال في
الظهيرية بعد نقل ما في الخلاصة: وعن أبي يوسف أنه قال: أما اليوم فالقاضي يصلي بهم الجمعة
لأن الخلفاء يأمرون القضاء أن يجمعوا بالناس لكن قيل أراد بهذا قاضي القضاة الذي يقال له قاضي
قضاة الشرق والغرب كأبي يوسف في وقته، أما في زماننا فالقاضي وصاحب الشرط لا يوليان
ذلك اه‍. فالحاصل أن السلطان إذا ولى إنسانا قاضي القضاة بمصر فإن له أن يولي الخطباء ولا
يتوقف على إذن كما أن له أن يستخلف للقضاء وإن لم يؤذن له مع أن القاضي ليس له الاستخلاف
إلا بإذن السلطان لأن توليته قاضي إذن بذلك دلالة كما صرح به في فتح القدير من باب القضاء،
لكن ذكر في التجنيس أن في إقامة الجمعة للقاضي روايتين، وبرواية المنع يفتي في ديارنا إذا لم
يؤمر به ولم يكتب في منشوره. وأشار المصنف رحمه الله تعالى إلى أن الإمام إذا منع أهل المصر أن
يجمعوا لم يجمعوا كما أن له أن يمصر موضعا كان له أن ينهاهم. قال الفقيه أبو جعفر: هذا إذا
نهاهم مجتهدا بسبب من الأسباب وأراد أن يخرج ذلك المصر من أن يكون مصرا، أما إذا نهاهم
متعنتا أو إضرارا بهم فلهم أن يجمعوا على رجل يصلي بهم الجمعة. ولو أن إماما مصر مصرا ثم نفر
الناس عنه لخوف عدو أو ما أشبه ذلك ثم عادوا إليه فإنهم لا يجمعوا إلا بإذن مستأنف من الإمام.
كذا في الخلاصة. ودل كلامهم أن النائب إذا عزل قبل الشروع في الصلاة ليس له إقامتها لأنه لم

255
يبق نائبا لكن شرطوا أن يأتيه الكتاب بعزله أو يقدم عليه الأمير الثاني، فإن وجد أحدهما فصلاته
باطلة، فإن صلى صاحب شرط جاز لأن عمالهم على حالهم حتى يعزلوا. كذا في الخلاصة. وبه
علم أن الباشا بمصر إذا عزل فالخطباء على حالهم ولا يحتاجون إلى إذن جديد من الثاني إلا إذا
عزلهم. وقيدنا بكونه علم العزل قبل الشروع لأنه لو شرع ثم حضر وال آخر فإنه يمضي في
صلاته كرجل أمره الإمام أن يصلي بالناس الجمعة ثم حجر عليه وهو في الصلاة لا يعمل حجره
لأن شروعه صح إن حجر عليه قبل الشروع عمل حجره.
قوله (ووقت الظهر) أي شرط صحتها أن تؤدى في وقت الظهر فلا تصح قبله ولا
بعده لأن شرعية الجمعة مقام الظهر على خلاف القياس لأنه سقوط أربع بركعتين فتراعى
الخصوصيات التي ورد الشرع بها مما لم يثبت دليل على نفي اشتراطها، ولم يصلها عليه السلام
خارج الوقت في عمره ولا بدون الخطبة فيه فيثبت اشتراطهما وكون الخطبة في الوقت
بخلاف ما قام الدليل على عدم اشتراطه ككونها خطبتين بينهما جلسة إلى غير ذلك مما هو
مسنون أو واجب كما سيأتي بيانه قوله (فتبطل بخروجه) أي صلاة الجمعة بخروج وقت الظهر
ولو بعد القعود قدر التشهد لفوات شرطها فلا يبني الظهر لاختلاف الصلاتين قدرا وحالا
واسما. أطلقه فشمل كل مصل لها ولهذا قال في المحيط: لو نام خلف الإمام في الجمعة ولم
ينتبه حتى خرج الوقت فسدت صلاته لأنه لو أتم لصار قاضيا وقضاء الجمعة في غير وقتها
لا يجوز، ولو انتبه في الوقت لم تفسد لأنه صار مؤديا للجمعة في وقتها اه‍. وفي تهذيب
القلانسي من باب المواقيت: وفي الجمعة لو خرج وقت الظهر تنقلب تطوعا عند أبي حنيفة
وعندهما يبطل أصلا اه‍. ولا يخفى مخالفة أبي يوسف أصله هنا فإنه موافق للإمام في أنه إذا
بطل الوصف لا تبطل الأصل. وفي السراج الوهاج معزيا إلى النوادر: إمام صلى بالناس
الجمعة فدخل معه رجل في الصلاة فزحمه الناس فلم يستطع الركوع والسجود حتى فرغ
الإمام ودخل وقت العصر، فإنه يتم الجمعة بغير قراءة بخلاف ما لو كان في الفجر والمسألة
بحالها ثم طلعت الشمس حيث تفسد صلاته لعدم مصادفة الوقت، وينبغي أن يكون ما في
النوادر ضعيفا لأن ما في المحيط يخالفه لأنه لا فرق في اللاحق بين أن يكون عذره النوم أو
الزحمة قوله (والخطبة قبلها) أي وشرط صحتها الخطبة وكونها قبل الصلاة لما قدمناه من أن
النبي صلى الله عليه وسلم ما صلاها دون الخطبة. ونقل في فتح القدير الاجماع على اشتراط نفس الخطبة
ولأنها شرط وشرط الشئ سابق عليه، ولو قال فيه أي في وقت الظهر لكان أولى لأنه شرط
حتى لو خطب قبله وصلى فيه لم تصح. وشرط الشارح أن يكون بحضرة جماعة تنعقد بهم

256
الجمعة وإن كانوا صما أو نياما، وظاهره أنه لا يكفي لوقوعها الشرط حضور واحد. وفي
الخلاصة ما يخالفه فإنه قال: لو خطب وحده ولم يحضره أحد لا يجوز. وفي الأصل قال: فيه
روايتان. ولو حضر واحد أو اثنان وخطب وصلى بالثلاثة جاز، ولو خطب بحضرة النساء لم
يجز إن كن وحدهن انتهى. وفي فتح القدير: المعتمد أنه لو خطب وحده فإنه يجوز أخذا من
قولهم يشترط عنده في التسبيحة والتحميدة أن يقال على قصد الخطبة، فلو حمد لعطاس لا
يجزئ عن الواجب انتهى. وفيه نظر ظاهر لأنه لا يدل على ما ذكره بشئ من أنواع الدلالات
كما لا يخفى. وصحح في الظهيرية أنه لو خطب وحده فإنه لا يجوز. وفي المضمرات معزيا
إلى الزاد: وهل تقوم الخطبة مقام الركعتين؟ اختلف المشايخ منهم من قال تقوم ولهذا لا تجوز
إلا بعد دخول الوقت، ومنهم من قال لا تقوم وهو الأصح لأنه لا يشترط لها سائر شروط
الصلاة من استقبال القبلة والطهارة وغير ذلك انتهى. وفي البدائع: ثم هي وإن كانت قائمة
مقام الركعتين شرط وليست بركن لأن صلاة الجمعة لا تقام بالخطبة فلم تكن من أركانها اه‍.
وفي فتح القدير: واعلم أن الخطبة شرط الانعقاد في حق من ينشئ التحريمة للجمعة لا في
حق كل من صلاها، واشتراط حضور الواحد أو الجمع ليتحقق معنى الخطبة لأنها من
النسبيات فعن هذا قالوا: لو أحدث الإمام فقدم من لم يشهدها جاز أن يصلي بهم الجمعة لأنه
بان تحريمته على تلك التحريمة المنشأة، فالخطبة شرط انعقاد الجمعة في حق من ينشئ
التحريمة فقط، ألا ترى إلى صحتها من المقتدين الذين لم يشهدوا الخطبة؟ فعلى هذا كان
القياس فيما لو أفسد هذا الخليفة أن لا يجوز أن يستقبل بهم الجمعة لكنهم استحسنوا جواز
استقباله لهم لأنه لما قام مقام الأول التحق به حكما، فلو فسد الأول استقبل بهم فكذلك
الثاني، فلو كان الأول أحدث قبل الشروع فقدم من لم يشهد الخطبة لا يجوز اه‍. ولم يشترط
المصنف أنه يصلي عقب الخطبة بلا تراخ، ففيه أشار إلى أنه ليس بشرط فلذا قالوا: إن الخطبة
تعاد على وجه الأولوية لو تذكر الإمام فائتة في صلاة الجمعة ولو كانت الوتر حتى فسدت

257
الجمعة لذلك فاشتغل بقضائها، وكذا لو كان أفسد الجمعة فاحتاج إلى إعادتها أو افتتح التطوع
بعد الخطبة وإن لم يعد الخطبة أجزأه، وكذا إذا خطب جنبا. كذا في فتح القدير. ولم يفرق
بين الفصل القليل والكثير، وفرق بينهما في الخلاصة فقال: ولو خطب محدثا أو جنبا ثم
توضأ أو اغتسل وصلى جاز، ولو خطب ثم رجع إلى بيته فتغدى أو جامع واغتسل ثم جاء
استقبل الخطبة، وكذا في المحيط معللا بأن الأول من أعمال الصلاة بخلاف الثاني فإن ظاهره
أن الاستقبال في الثاني لازم وإلا فلا فرق بين الكل. وقد صرح في السراج الوهاج بلزوم
الاستئناف وبطلان الخطبة وهذا هو الظاهر لأنه إذا طال الفصل لم يبق خطبة للجمعة بخلاف
ما إذا قل، وقد علم من تفاريعهم أنه لا يشترط في الإمام أن يكون هو الخطيب، وقد صرح
في الخلاصة بأنه لو خطب صبي بإذن السلطان وصلى الجمعة رجل بالغ يجوز.
قوله (وسن خطبتان بجلسة بينهما وطهارة قائما) كما روي عن أبي حنيفة أنه قال:
ينبغي أن يخطب خطبة خفيفة يفتتح بحمد الله تعالى ويثني عليه ويتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم
ويعظ ويذكر ويقرأ سورة ثم يجلس جلسة خفيفة، ثم يقوم فيخطب خطبة أخرى يحمد الله
تعالى ويثني عليه ويتشهد ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو للمؤمنين والمؤمنات كما في البدائع.
وقد علم من هذا أنه لا يعظ في الثانية ولهذا قال في التجنيس: إن الثانية كالأولى إلا أنه
يدعو للمسلمين مكان الوعظ، وظاهره أنه يسن قراءة آية في الثانية كالأولى. والحاصل كما
في المجتبي أن الكلام في الخطبة في أربعة مواضع: في الخطبة والخطيب والمستمع وشهود
الخطبة. أما الخطبة فتشتمل على فرض وسنة، فأما الفرض فشيئان: الوقت وذكر الله تعالى،
وأما سننها فخمس عشرة: أحدها الطهارة حتى كرهت للمحدث والجنب. وقال أبو
يوسف: لا يجوز. وثانيها القيام. وثالثها استقبال القوم بوجهه. ورابعها قال أبو يوسف في
الجوامع: التعوذ في نفسه قبل الخطبة. وخامسها أن يسمع القوم الخطبة فإن لم يسمع أجزأه.
وسادسها ما روى الحسن عن أبي عن أبي حنيفة أنه يخطب خطبة خفيفة وهي تشتمل على عشرة:
أحدها البداءة بحمد الله. وثانيها الثناء عليه بما هو أهله. وثالثها الشهادتان. ورابعها الصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم. وخامسها العظة والتذكير. وسادسها قراءة القرآن وتاركها مسئ وروي
أنه صلى الله عليه وسلم قرأ فيها سورة العصر ومرة أخرى * (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة

258
أصحاب الجنة هم الفائزون) * (الحشر: 20) وأخرى * (ونادوا يا مالك) * (الزخرف: 77)
وسابعها الجلوس بين الخطبتين. وثامنها أن يعيد في الخطبة الثانية الحمد لله والثناء والصلاة
على النبي صلى الله عليه وسلم. تاسعها أن يزيد فيها الدعاء للمؤمنين والمؤمنات. وعاشر ها تخفيف الخطبتين
بقدر سورة من طوال المفصل ويكره التطويل، وأما الخطيب فيشترط فيه أن يتأهل للإمامة في
الجمعة. والسنة في حقه الطهارة والقيام والاستقبال بوجهه للقوم وترك السلام من خروجه
إلى دخوله في الصلاة وترك الكلام. وقال الشافعي: إذا استوى على المنبر سلم على القوم،
وقوله صلى الله عليه وسلم إذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام يبطل ذلك. وأما المستمع فيستقبل الإمام إذا
بدأ بالخطبة وينصت ولا يتكلم ولا يرد السلام ولا يشمت ولا يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم. وقالا:
يصلي السامع في نفسه، وفي جواز قراءة القرآن وذكر الفقه والنظر فيه لمن يستمع الخطبة
اختلاف المشايخ. ويكره لمستمع الخطبة ما يكره في الصلاة كالأكل والشرب والعبث
والالتفات، وأما التخطي فمكروه عند أبي حنيفة. وقالا: إنما يكره بعد خروج الإمام. وقال
الرازي: إنما يجوز قبله إذا لم يؤذ أحدا فأما تخطي السؤال فمكروه في جميع الأحوال بالاجماع
وأما شهود الخطبة فشرط في حق الإمام دون المأموم اه‍. ما في المجتبي.
وأطلق المصنف في الجلسة ولم يبين قدرها للاختلاف، فعند الطحاوي مقدار ما يمس
موضع جلوسه من المنبر، وفي ظاهر الرواية مقدار ثلاث آيات كما في التجنيس وغيره، ومن
الغريب ما ذكره في السراج الوهاج أنه يستحب للإمام إذا صعد المنبر وأقبل على الناس أن
يسلم عليهم لأنه استدبرهم في صعوده اه‍. ومن المستحب أن يرفع الخطيب صوته كما في
السراج الوهاج، ومنه أن يكون الجهر في الثانية دون الأولى كما في شرح الطحاوي وفي
التجنيس: وينبغي أن تكون الخطبة الثانية الحمد لله نحمده ونستعينه إلى آخره. لأن هذا هو
الثانية التي كان يخطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الخلفاء الراشدين مستحسن، بذلك جرى
التوارث ويذكر العمين اه‍. ثم قولهم إن السنة في المستمع استقبال الإمام مخالف لما عليه
عمل الناس من استقبال المستمع للقبلة، ولهذا قال في التجنيس: والرسم في زماننا أن القوم
يستقبلون القبلة قال: لأنهم لو استقبلوا الإمام لخرجوا في تسوية الصفوف بعد فراغه لكثرة
الزحام. وجزم في الخلاصة بأنه يستحب استقباله إن كان أمام الإمام، فإن كان عن يمين
الإمام أو عن يساره قريبا من الإمام ينحرف إلى الإمام مستعدا للسماع. ومن السنة أن يكون
الخطيب على منبر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي المضمرات معزيا إلى روضة العلماء: الحكمة
في أن الخطيب يتقلد سيفا ما قد سمعت الفقيه أبا الحسن الرستغفني يقول: كل بلدة فتحت
عنوة بالسيف يخطب الخطيب على منبرها متقلدا بالسيف يريهم أنها فتحت بالسيف فإذا رجعتم
عن الاسلام فذلك السيف باق في أيدي المسلمين نقاتلك به حتى ترجعوا إلى الاسلام، وكل
بلدة أسلم أهلها طوعا يخطبون فيها بلا سيف ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم فتحت بالقرآن فيخطب

259
الخطيب بلا سيف وتكون تلك البلدة عشرية. ومكة فتحت بالسيف فيخطب مع السيف اه‍.
وهذا مفيد لكونه يتقلد بالسيف لا أنه يمسكه بيده كما هو المتعارف مع أن ظاهر ما في
الخلاصة كراهة ذلك فإنه قال: ويكره أن يخطب متكئا على قوس أو عصا لكن قال في الحاوي
القدسي: إذا فرغ المؤذنون قام الإمام والسيف بيساره وهو متكئ عليه اه‍. وهو صريح فيه إلا
أن يفرق بين السيف وغيره. وفي المجتبى: ويخطب بالسيف في البلدة التي فتحت بالسيف.
وفي السراج الوهاج: وأما الدعاء للسلطان في الخطبة فلا يستحب لما روي أن عطاء سئل عن
ذلك فقال: إنه محدث وإنما كانت الخطبة تذكيرا. وفي الخلاصة وغيرها: الدنو من الإمام
أفضل من التباعد على الصحيح، ومنهم من اختار التباعد حتى لا يسمع مدح الظلمة في
الخطبة، ولهذا اختار بعضهم أن الخطيب ما دام في الحمد والمواعظ فعليهم الاستماع فإذا أخذ
في مدح الظلمة والثناء عليهم فلا بأس بالكلام حينئذ. وحكى في الظهيرية والخانية عن إبراهيم
النخعي وإبراهيم بن مهاجر أنهما كانا يتكلمان وقت الخطبة، فقيل لإبراهيم النخعي في ذلك
فقال: إني صليت الظهر في داري ثم رحت إلى الجمعة ثقية ولذلك تأويلان: أحدهما أن الناس
كانوا في ذلك الزمان فريقين: فريق منهم لا يصلي الجمعة لأنه كان لا يرى الجائر سلطانا
وسلطانهم يومئذ كان جائرا فإنهم كانوا لا يصلون الجمعة من أجل ذلك، وكان فريق منهم يترك
الجمعة لأن السلطان كان يؤخر الجمعة عن وقتها في ذلك الزمان فكانوا يأتون الظهر في دارهم
ثم يصلون مع الإمام ويجعلونها سبحة أي نافلة اه‍. وقد سمعت في زماننا أن بعضهم يترك
الجمعة متأولا بالتأويل الأول وهو فاسد لأن فاعله مجتهد رأى ذلك. وأما المقلد لأبي حنيفة
فحرام عليه ذلك لأن مذهب إمامه أن الجائر سلطان كما قدمناه.
وفي أول التجنيس معزيا إلى الفقيه أبي الليث: ينبغي أيكون في مجلس الواعظ الخوف
والرجاء ولا يجعل كله خوفا ولا كله رجاء لأنه ورد النهي عن ذلك، ولان الأول يفضي إلى
القنوط، والثاني إلى الامن فيجمع بينهما. وقال الإمام أبو بكر الرستغفني: يجب أن يتكلم في
الرحمة والرجاء لقوله عليه الصلاة والسلام يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا (1) ولان من
رجع إلى الباب بالكرامة يكون أثبت اه‍. وفي القنية قال أبو يوسف في الجامع: ينبغي للخطيب إذا
صعد المنبر أن يتعوذ بالله في نفسه قبل الخطبة اه‍. وفي ضياء الحلوم مختصر شمس العلوم: خطب
على المنبر خطبة - بضم الخاء - وخطب المرأة خطبة بكسر الخاء. قال الله تعالى * (من خطبة النساء)

260
* (البقرة: 235) وفي الحديث لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه (2) اه‍. وفي الحاوي القدسي:
والسنة أن يكون جلوس الإمام في مخدعه عن يمين المنبر فإن لم يكن ففي جهته أو ناحيته، وتكره
صلاته في المحراب قبل الخطبة، وليلبسن السواد اقتداء بالخلفاء وللتوارث في الاعصار والأمصار
اه‍. ولم أر فيما عندي من كتب أئمتنا حكم المرقي الذي يخرج الخطيب من مخدعه ويقرأ الآية كما
هو المعهود هل هو مسنون أم لا. وفي البدائع: ويكره للخطيب أن يتكلم في حال خطبته إلا إذا
كان أمرا بمعروف فلا يكره لكونه منها. وفي خزانة الفقه لأبي الليث: الخطب ثمان: خطبة
الجمعة، وخطبة عيد الفطر، وخطبة عيد الأضحى، وخطبة النكاح، وخطبة الاستسقاء في قول
أبي يوسف ومحمد، وثلاث خطب في الحج واحدة منها بلا جلسة بمكة قبل يوم التروية بعد
الظهر، والثاني بعرفات قبل الظهر يجلس فيها جلسة خفيفة، والثالثة بعد يوم التحر بيوم في منى
يخطب خطبة واحدة بعد الظهر فيبدأ في ثلاث خطب منها بالتحميد وهي خطبة الجمعة
والاستسقاء وخطبة النكاح، وفي خمس يبدأ بالتكبير وهي خطبة عيد الفطر والأضحى وثلاث
خطب الحج إلا أن الخطبة التي بمكة وعرفة يبدأ فيها بالتكبير ثم بالتلبية ثم بالخطبة اه‍..
قوله: (وكفت تحميدة أو تم ليلة أو تسبيحة) أي وكفى في الخطبة المفروضة مطلق
ذكر الله تعالى على وجه القصد عند أبي حنيفة لاطلاقه في الآية الشريفة. وقالا: الشرط أن
يأتي بكلام يسمى خطبة في العرف. وأقله قدر التشهد إلى عبده ورسوله تقييدا له بالمتعارف
كما قالاه في القراءة. وأبو حنيفة عمل بالقاطع والظني فقال بافتراض مطلق الذكر للآية
وباستنان الخطبة المتعارفة لفعله عليه الصلاة والسلام تنزيلا للمشروعات على حسب أدلتها،
ويؤيده قصة عثمان المذكورة في كتب الفقه وهي أنه لما خطب في أول جمعة ولي الخلافة صعد
المنبر فقال: الحمد لله فارتج عليه فقال: إن أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالا وأنتم

261
إلى إمام فعال أحوج منكم إلى إمام قوال، وستأتيكم الخطب بعد وأستغفر الله لي ولكم ونزل
وصلى بهم. ولم ينكر عليه أحد منهم فكان إجماعا. وارتج بالتخفيف على الأصح أي استغلق
عليه الخطبة فلم يقدر على إتمامها كذا في المغرب. ومراد عثمان بقوله إنكم إلى إمام إلى آخره
أن الخلفاء الذين يأتون بعد الخلفاء الراشدين تكون على كثرة المقال مع قبح الفعال فأنا وإن لم
أكن قوالا مثلهم فأنا على الخير دون الشر، فأما أن يريد بهذا القول تفضيل نفسه على الشيخين
فلا. كذا في النهاية: قيدنا الخطبة بالمفروضة لأن المسنونة لا يكفي فيها مطلقه بل لا بد أن يأتي
بما قدمناه. وقيدنا بالقصد لأنه لو عطس على المنبر فقال الحمد لله على عطاسه لا ينوب عن
الخطبة عند أبي حنيفة أيضا كما في التسمية على الذبيحة، وعن أبي حنيفة في رواية أخرى أنه
يجزئه، والفرق على هذه الرواية وهو أن المأمور به في الخطبة الذكر مطلقا لقوله تعالى * (فاسعوا
إلى ذكر الله) * (الجمعة: 9) وقد وجد، وفي باب الذبيحة المأمور الذكر عليه وذلك بأن يقصده
والأول أصح. كذا في التجنيس قوله: (والجماعة وهم ثلاثة) أي شرط أن يصلي مع
الإمام ثلاثة فأكثر لاجماع العلماء على أنه لا بد فيها من الجماعة كما في البدائع. وإنما اختلفوا
في مقدارها فما ذكره المصنف قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: اثنان سوى الإمام
لأنهما مع الإمام ثلاثة وهي جمع مطلق ولهذا يتقدمهما الإمام ويصطفان خلفه. ولهما: إن
الجمع المطلق شرط انعقاد الجمعة في حق كل واحد منهم وشرط جواز صلاة كل واحد منهم
ينبغي أن يكون سواه، فيحصل هذا الشرط ثم يصلي ولا يحصل هذا الشرط إلا إذا كان سوى
الإمام ثلاثة إذ لو كان مع الإمام اثنان لم يوجد في حق كل واحد منهم بخلاف سائر الصلوات
لأن الجماعة فيها ليست بشرط. كذا في البدائع. أطلق الثلاثة فشمل العبيد والمسافرين والمرضى
والأميين والخرسي لصلاحيتهم للإمامة في الجمعة، أما لكل واحد أو لمن هو مثل حالهم في
الأمي والأخرس فصلحا أن يقتديا بمن فوقهما. كذا في المحيط. ولا يرد عليه النساء والصبيان
فإن الجمعة لا تصح بهم وحدهم لعدم صلاحيتهم للإمامة فيها بحال لأن النساء خرجن بالتاء
في ثلاثة أي ثلاثة رجال، وكذا الصبي لأنه ليس برجل كامل والمطلق ينصرف إلى الكامل.
وشمل ثلاثة غير الثلاثة الذين حضروا الخطبة لما في التجنيس وغيره: إذا خطب بحضره جماعة
ثم نفروا وجاء آخرون لم يشهدوا الخطبة فصلى بهم الجمعة أجزأهم.

262
قوله: (فإن نفروا قبل سجوده بطلت) بيان لكون الجماعة شرط انعقاد الأداء لا شرط
انعقاد التحريمة عند أبي حنيفة، وعندهما شرط انعقاد التحريمة. وفائدته أنهم لو نفروا بعد
التحريمة قبل تقييد الركعة بالسجدة فسدت الجمعة ويستقبل الظهر عنده، وعندهما يتم الجمعة
لأنها شرط انعقاد التحريمة في حق المقتدي فكذا في حق الإمام. والجامع أن تحريمة الجمعة.
إذا صحت صح بناء الجمعة عليها، ولهذا لو أدركه إنسان في التشهد صلى الجمعة عنده وهو
قول أبي يوسف إلا أن محمدا تركه هنا لما سيأتي، ولأبي حنيفة أن الجماعة في حق الإمام لو
جعلت شرط انعقاد التحريمة لأدى إلى الحرج لأن تحريمته حينئذ لا تنعقد بدون مشاركة
الجماعة إياه فيها، وذا لا يحصل إلا أن تقع تكبيراتهم مقارنة لتكبيرة الإمام وأنه مما يتعذر
مراعاته. وبالاجماع ليس بشرط فإنهم لو كانوا حضروا وكبر الإمام ثم كبروا صح تكبيره
وصار شارعا في الصلاة وصحت مشاركتهم إياه فلم يجعل شرط انعقاد التحريمة لعدم
الامكان فجعلت شرط انعقاد الأداء وهو بتقييد الركعة بالسجدة لأن الأداء فعل والحاجة إلى
كون الفعل أداء للصلاة وفعل الصلاة هو القيام والقراءة والركوع والسجود، ولهذا لو حلف
لا يصلي فما لم يقيد الركعة بسجدة لا يحنث، فإذا لم يقيدها لم يوجد الأداء فلم ينعقد فشرط
دوام مشاركة الجماعة الإمام إلى الفراغ عن الأداء، ولا معتبر ببقاء النسوان والصبيان ولا بما
دون الثلاث من الرجال لأن الجمعة لا تنعقد بهم. فلو قال فإن نفر واحد منهم لكان أولى.
قيد بقوله قبل سجوده أي الإمام لأنهم لو نفروا بعد سجوده فإنها لا تبطل عندنا خلافا
لزفر، بناء على أنها عنده شرط بقائها منعقدة إلى آخر الصلاة كالطهارة وستر العورة. وعندنا
ليست بشرط للبقاء لما عرف في البدائع ومن فروع المسألة ما لو أحرم الإمام ولم يحرموا حتى
قرأ وركع فأحرموا بعد ما ركع، فإن أدركوه في الركوع صحت الجمعة لوجود المشاركة في
الركعة الأولى وإلا فلا لعدمها، بخلاف المسبوق فإنه تبع للإمام فيكتفي بالانعقاد في حق
الأصل لكونه بانيا على صلاته. ولا يخفى أن مراد المصنف أنهم نفروا قبل سجوده ولم يعودوا
قبل سجوده وإلا فلو نفروا قبله وعادوا إليه قبله فلا فساد كما في الخلاصة. وفيها: وإذا كبر
الإمام ومعه قوم متوضئون فلم يكبروا معه حتى أحدثوا ثم جاء آخرون وذهب الأولون جاز
استحسانا، ولو كانوا محدثين فكبر ثم جاء آخرون استقبل التكبير ا ه‍. قوله: (والإذن العام)

263
أي شرط صحتها الأداء على سبيل الاشتهار حتى لو أن أميرا أغلق أبواب الحصن وصلى فيه
بأهله وعسكره صلاة الجمعة لا تجوز. كذا في الخلاصة. وفي المحيط: فإن فتح باب قصره
وأذن للناس بالدخول جاز ويكره لأنه لم يقض حق المسجد الجامع، وعللوا الأول بأنها من
شعائر الاسلام وخصائص الدين فيجب إقامتها على سبيل الاشتهار. وفي المجتبى: فانظر إلى
السلطان يحتاج إلى العامة في دينه ودنياه احتياج العامة إليه فلو أمر إنسانا يجمع بهم في الجامع
وهو في مسجد آخر جاز لأهل الجامع دون أهل المسجد إلا إذا علم الناس بذلك ا ه‍.
ولم يذكر صاحب الهداية هذا الشرط لأنه غير مذكور في ظاهر الرواية وإنما هو رواية النوادر
كما في البدائع.
قوله: (وشرط وجوبها الإقامة والذكورة والصحة والحرية وسلامة العينين والرجلين) فلا
تجب على مسافر ولا على امرأة ولا مريض ولا عبد ولا أعمى ولا مقعد، لأن المسافر يحرج
في الحضور وكذا المريض والأعمى والعبد مشغول بخدمة المولى والمرأة بخدمة الزوج فعذروا
دفعا للحرج والضرر. ولم أر حكم الأعمى إذا كان مقيما بالجامع الذي تصلى فيه الجمعة
وأقيمت وهو حاضر هي تجب عليه لعدم الحرج أو لا، وإنما لم يذكر العقل والبلوغ والاسلام
لأنها شرط كل تكليف فلا حاجة إلى ذكرها هنا كما في الخلاصة. وأما الشيخ الكبير الذي
ضعف فهو ملحق بالمريض فلا يجب عليه. وفي فتح القدير: والمطر الشديد والاختفاء من
السلطان الظالم مسقط. فلو قال المصنف وشرط وجوبها الإقامة والذكورة والصحة والحرية
ووجود البصر والقدرة على المشي وعدم الحبس والخوف والمطر الشديد لكان أشمل. وأشار
المصنف باشتراط الحرية إلى عدم وجوبها على المكاتب والمأذون والعبد الذي حضر مع مولاه
باب المسجد لحفظ الدابة ولم يخل بالحفظ، والعبد الذي يؤدي الضريبة لفقد الشرط لكن هل
له صلاتها بغير إذن المولى. قال في التجنيس: وإذا أراد العبد أن يخرج إلى الجمعة أو إلى
العيدين بغير إذن مولاه إن كان يعلم أن مولاه يرضى بذلك جاز وإلا فلا يحل له الخروج بغير
إذنه لأن الحق له في ذلك، ولو رآه فسكت حل له الخروج إليها لأن السكوت بمنزلة
الرضى. وعن محمد في العبد يسوق دابة مولاه إلى الجامع فإنه يشتغل بالحفظ ولا يصلي

264
الجمعة لأنه لم يوجد الرضا بأداء الجمعة، والأصح أن له ذلك إذا كان لا يخل بحق المولى في
إمساك دابته ا ه‍. وفي السراج الوهاج: فإن أذن للعبد مولاه وجب عليه الحضور. وقال
بعضهم: يتخير وصحح الوجوب على المكاتب ومعتق البعض ولا يخفى ما فيه. وجزم في
الظهيرية في العبد الذي أذن له مولاه بالتخيير وهو أليق بالقواعد فأشار باشتراط سلامة
العينين إلى عدم وجوبها على الأعمى مطلقا، أما إذا لم يجد قائدا فمجمع عليه وإن وجده إما
بطريق التبرع أو الإجارة أو معه مال يستأجره به فكذلك عند أبي حنيفة، وعندهما تجب عليه.
وأشار باقتصاره على هذه الشروط إلى أنها لا تسقط عن الأجير. وفي الخلاصة: وللمستأجر
منع الأجير عن حضور الجمعة وهذا قول الإمام أبي حفص. وقال الإمام أبو علي الدقاق:
ليس له أن يمنعه لكن تسقط عنه الأجرة بقدر اشتغاله بذلك إن كان بعيدا، وإن كان قريبا لا
يحط عنه شئ، وإن كان بعيدا واشتغل قدر ربع النهار حط عنه ربع الأجرة، فإن قال الأجير
حط عني الربع بمقدار اشتغالي بالصلاة لم يكن له ذلك ا ه‍. وظاهر المتون يشهد للدقاق،
ولا حاجة إلى ذكر سلامة العينين والرجلين لدخولهما تحت الصحة كما وقع في كثير من
الكتب مع أن ظاهر العبارة مشكل لأنه يقتضي أن إحداهما لو لم تسلم فإنه لا تجب عليه صلاة
الجمعة مع أن الامر بخلافه لأنه ليس بأعمى ولا بمقعد، فلو قال ووجود البصر والقدرة
على المشي لكان أولى إلا أن يقال: إن الألف واللام إذا دخلت على المثنى أبطلت معنى التثنية
كالجمع فصار بمعنى المفرد. وألحق بالمريض الممرض. وفي السراج الوهاج: الأصح أنه إن
بقي المريض ضائعا بخروجه لم يجب عليه. وفي التجنيس: الرجل إذا أراد السفر يوم الجمعة
لا بأس به إذا خرج من العمران قبل خروج وقت الظهر لأن الوجوب بآخر الوقت وآخر
الوقت هو مسافر فلم يجب عليه صلاة الجمعة. قال رضي الله عنه: وحكي عن شمس
الأئمة الحلواني أنه كان يقول لي: في هذه المسألة إشكال وهو أن اعتبار آخر الوقت إنما يكون
فيما ينفرد بأدائه وهو سائر الصلوات، فأما الجمعة لا ينفرد هو بأدائها وإنما يؤديها الإمام

265
والناس فينبغي أن يعتبر وقت أدائهم حتى إذا كان لا يخرج من المصر قبل أداء الناس ينبغي أن
يلزمه شهود الجمعة ا ه‍.
قوله: (ومن لا جمعة عليه أن أداها جاز عن فرض الوقت) لأنهم تحملوه فصاروا
كالمسافر إذا صام. وأشار بقوله جاز عن الفرض إلى أنهم أهل التكليف فلا يرد عليه الصبي
والمجنون وإن دخلا تحت قوله ومن لا جمعة عليه ولهذا فصل في البدائع فيمن لا جمعة عليه
فقال: إن كان صبيا وصلاها فهي تطوع له، وإن كان مجنونا فلا صلاة له أصلا. وأما من
كان أهلا للوجوب كالمريض والمسافر والمرأة والعبد يجزئهم ويسقط عنهم الظهر. قيد بالجمعة
لأن من لا حج عليه إذا أدى الحج فإن كان لفقد المال فإن الحج يسقط عنه حتى لو أيسر بعده
فإنه لا حج عليه لما ذكرنا، وإن كان لعدم أهليته كالعبد إن أدى الحج مع مولاه فإنه لا يحكم
بجوازه فرضا حتى يؤاخذ بحجة الاسلام بعد حريته. والفرق أن المنع من الجمعة كان نظرا
للمولى والنظر ههنا في الحكم بالجواز لأنا لو لم نجوز وقد تعطلت منافعه على المولى لوجب
عليه الظهر فتتعطل عليه منافعه ثانيا فينقلب النظر ضررا، وذا ليس بحكمة فتبين في الآخرة
أن النظر في الحكم بالجواز فصار مأذونا دلالة كالعبد المحجور عليه إذا أجر نفسه أنه لا
يجوز، ولو سلم من العمل يجوز ويجب عليه كمال الأجرة لما ذكرنا. كذا هذا بخلاف الحج
فإن هناك لا يتبين أن النظر للمولى في الحكم بالجواز لا يؤاخذ للحال بشئ آخر إذا لم يحكم
بجوازه بل يخاطب بحجة الاسلام بعد الحركة فلا يتعطل على المولى منافعه. كذا في البدائع.
ولم أر نفلا صريحا هل الأفضل لمن لا جمعة عليه صلاة الجمعة أو صلاة الظهر، لكن ظاهر
الهداية والعناية وغاية البيان أن الأفضل لهم صلاة الجمعة لأنهم ذكروا أن صلاة الظهر لهم
يوم الجمعة رخصة فدل أن العزيمة صلاة الجمعة، وينبغي أن يستثنى منه المرأة، فإن صلاتها
في بيتها أفضل والله سبحانه وتعالى أعلم. قوله: (وللمسافر والعبد والمريض أن يؤم فيها) أي
في الجمعة. وقال زفر: لا يجزئه لأنه لا فرض عليه فأشبه الصبي والمرأة. ولنا أن هذه رخصة
فإذا حضروا تقع فرضا على ما بينا، أما أداء الصبي فمسلوب الأهلية والمرأة لا تصلح لإمامه
الرجال قوله: (وتنعقد بهم) أي الجمعة بالمسافر والعبد والمريض للإشارة إلى رد قول الشافعي
أن هؤلاء تصح إمامتهم لكن لا يعتد بهم في العدد الذي تنعقد بهم الجمعة، وذلك لأنهم لما
صلحوا للإمامة فلان يصلحوا للاقتداء أولى. كذا في العناية.
قوله: (ومن لا عذر له لو صلى الظهر قبلها كره) أي حرم قطعا. وإنما ذكر الكراهة
اتباعا للقدوري مع أنه مما لا ينبغي فإنه أوقع بعض الجهلة في ضلالة من اعتقاد جواز تركها،

266
وقد قدمنا أن من أنكر فريضتها فهو كافر بالله تعالى. قال في فتح القدير: لا بد من كون
المراد حرم عليه ذلك وصحت الظهر لأن ترك الفرض القطعي باتفاقهم الذي هو آكد من
الظهر، فكيف لا يكون مرتكبا محرما غير أن الظهر تقع صحيحة ا ه‍. فالحاصل أن فرض
الوقت هو الظهر عندنا بدلالة الاجماع على أن بخروج الوقت يصلي الظهر بنية القضاء، فلو لم
يكن أصل فرض الوقت الظهر لما نوى القضاء. ثم هو مأمور بإسقاطه والآتيان بالجمعة.
وعند زفر: فرض الوقت هو الجمعة، وفائدة الاختلاف تظهر في ثلاثة: أحدها في هذه
المسألة. ثانيها لو نوى فرض الوقت يصير شارعا في الظهر عندنا، وعنده في الجمعة. ثالثها
لو تذكر فائتة عليه وكان لو اشتغل بالقضاء تفوته الجمعة دون الظهر فإنه يقضي ويصلي الظهر
بعده عندنا، وعنده يصلي الجمعة، ولو كان بحال تفوته الظهر والجمعة لا يقضيها اتفاقا. كذا
في أكثر الكتب. وفي المحيط ذكر ثلاثة أقوال عندهما فرض الوقت الظهر لكن العبد مأمور
بإسقاطه عنه بأداء الجمعة، وعند محمد: الفرض هو الجمعة وله أن يسقط بالظهر رخصة،
وروي عنه الفرض أحدهما لا بعينه ويتعين ذلك بأدائه، وعند زفر والشافعي: الفرض هو
الجمعة والظهر بدل عنها في حق المعذور ا ه‍. وقد ظهر للعبد الضعيف صحة كلاما لقدوري
ومن تبعه في التعبير بالكراهة لأن صلاة الظهر قبل أداء الجمعة من الإمام ليست مفوتة
للجمعة حتى تكون حراما إنما المفوت لها عدم سعيه، فإن سعيه بعد صلاة الظهر إليها فرض
كما صرحوا به، فإن لم يسع فقد فوتها فحرم عليه ذلك. وأما الصلاة فإنها مكروهة فقط
باعتبار أنها قد تكون سببا للتفويت باعتبار اعتماده عليها وهم إنما حكموا على صلاة الظهر
بالكراهة ولم يقل أحد أن ترك الجمعة بغير عذر مكروه حتى يلزم ما ذكر من الايقاع في
جهالة. فقوله في فتح القدير لأنه ترك الفرض القطعي ممنوع لما علمت أنه لا يلزم من
صلاة الظهر ترك الفرض والله سبحانه الموفق للصواب. قيد بقوله قبلها لأنه لو صلى الظهر
في منزله بعد ما صلى الإمام الجمعة يجوز اتفاقا بلا كراهة. كذا في غاية البيان. مع أنه قد
فوت الجمعة فنفس الصلاة غير مكروهة وتفويت الجمعة حرام وهو مؤيد لما قلنا. وقيد بقوله
لا عذر له لأن المعذور إذا صلى الظهر قبل الإمام فلا كراهة اتفاقا.
قوله: (فإن سعى إليها بطل) أي الظهر المؤدى عند أبي حنيفة بمجرد السعي إليها لأنه

267
مأمور بعد صلاة الظهر ينقضها بالذهاب إلى الجمعة، فالذهاب إليها شروع في طريق نقضها
المأمور به فيحكم بنقضها به احتياطا لترك المعصية. وقالا: لا تبطل حتى يدخل مع الإمام.
واختلفوا في معنى السعي إليها والمختار أنه الانفصال عن داره حتى لا يبطل قبله على المختار
لأن السعي الرافض لها هو السعي إليها على الخصوص، ومثل ذلك السعي إنما يكون بعد
خروجه من باب داره، والمراد من السعي المشي لا الاسراع فيه، وإنما عبروا به اتباعا للآية.
وقيد بقوله سعى لأنه لو كان جالسا في المسجد بعد ما صلى الظهر فإنه لا يبطل حتى يشرع
مع الإمام اتفاقا. كذا في الحقائق. وقيد بقوله إليها لأنه لو خرج لحاجة أو خرج لحاجة أو
خرج وقد فرغ الإمام لم يبطل ظهره إجماعا، فالبطلان به مقيد بما إذا كان يرجو إدراكها بأن
خرج والإمام فيها أو لم يكن شرع. وأطلق فشمل ما إذا لم يدركها لبعد المسافة مع كون الإمام
فيها وقت الخروج أو لم يكن شرع وهو قول البلخيين. قال في السراج الوهاج: وهو
الصحيح لأنه توجه إليها وهي لم تفت بعد حتى لو كان بيته قريبا من المسجد وسمع الجماعة
في الركعة الثانية وتوجه إليها وهي لم تفت بعد حتى لو كان بيته قريبا من المسجد وسمع
الجماعة في الركعة الثانية وتوجه بعد ما صلى الظهر في منزله بطل الظهر على الأصح أيضا لما
ذكرنا. وفي النهاية: إذا توجه إليها قبل أن يصليها الإمام ثم إن الإمام لم يصلها لعذر أو
لغيره اختلفوا في بطلان ظهره، والصحيح أنها لا تبطل، وكذا لو توجه إليها والإمام والناس
فيها إلا أنهم خرجوا منها قبل إتمامها لنائبة فالصحيح أنه لا يبطل ظهره. ثم اعلم أن الضمير
المستتر في قوله سعى يعود إلى مصلي الظهر لا إلى من عذر له ليكون أفود وأشمل فإنه لا
فرق بين المعذور وغيره في بطلان ظهره بسعيه كما في غاية البيان والسراج الوهاج، لكن
التعليل المذكور أولا لا يشمله لأن المعذور ليس بمأمور بالسعي إليها مطلقا، فكيف يبطل به؟
فينبغي أن لا يبطل الظهر بالسعي ولا بشروعه في صلاة الجمعة لأن الفرض قد سقط عنه ولم
يكن مأمورا بنقضه فتكون الجمعة نفلا منه كما قاله به زفر والشافعي، وظاهر ما في المحيط
أن ظهره إنما يبطل بحضوره الجمعة لا بمجرد سعيه كما في غير المعذور هو أخف إشكالا.

268
وأسند المصنف البطلان إلى الظهر ليفيد أن أصل الصلاة لم يبطل فينقلب نفلا كما في السراج
الوهاج. وذكر في الظهيرية والخلاصة الرستاقي إذا سعى يوم الجمعة إلى مصر يريد به إقامة
الجمعة وإقامة حوائج نفسه في المصر ومعظم مقصوده إقامة الجمعة ينال ثواب السعي إلى
الجمعة وإن كان قصده إقامة الحوائج لا غير أو كان معظم مقصوده إقامة الحوائج لا ينال
ثواب السعي إلى الجمعة ا ه‍. وبهذا يعلم أن من شرك في عبادته فإن العبرة للأغلب. وقيد
بسعي المصلي لأن المأموم لو لم يسع إليها وسعى إمامه فإنه لا يبطل ظهر المأموم وإن بطل ظهر
إمامه لأن بطلانه في حق الإمام بعد الفراغ فلا يضر المأموم كما صرح به في المحيط.
قوله: (وكره للمعذور والمسجون أداء الظهر بجماعة في العصر) لأن المعذور قد يقتدي به
غيره فيؤدي إلى تركها، وما علل به في الهداية أولا بقوله لما فيه من الاخلال بالجمعة إذ هي
جامعة للجماعات مبني على عدم جواز تعددها في مصر واحد وهو خلاف المنصوص عليه
رواية ودراية. قيد بالمصر لأن الجماعة غير مكروهة في حق أهل السواد لأنه لا جمعة عليهم،
وأفاد بالكراهة أن الصلاة صحيحة لاستجماع شرائطها، وفي فتاوي الولوالجي: قوم لا يجب
عليهم أن يحضروا الجمعة لبعد الموضع صلوا الظهر جماعة لأنه لا يؤدي إلى تقليل الجماعة في
الجمعة ا ه‍. فإن كانوا في السواد فظاهر، وإن كانوا في المصر فهي مستثناة من كلام المصنف،
ولو حذف المصنف المعذور والمسجون لكان أولى فإن أداء الظهر بجماعة مكروه يوم الجمعة
مطلقا. قال في الظهيرية: جماعة فاتتهم الجمعة في المصر فإنهم يصلون الظهر بغير آذان ولا
إقامة ولا جماعة ا ه‍. وذكر الولوالجي: ولا يصلي يوم الجمعة جماعة في مصر ولا يؤذن ولا
يقيم في سجن وغيره لصلاة، ولو زاد أداؤه منفردا قبل صلاة الإمام لكان أولى لما في الخلاصة:
ويستحب للمريض أن يؤخر الصلاة إلى أن يفرغ الإمام من صلاة الجمعة وإن لم يؤخره يكره هو
الصحيح ا ه‍. ولعله إما لاحتمال أن يقتدي به غيره فيؤدي إلى تركها أو يعافى فيحضرها. وقد
اقتصر في المجتبى على الثاني. وإنما صرح بالمسجون مدخوله في المعذور للاختلاف في أهل
السجن فإن السراج الوهاج أن المسجونين إن كانوا ظلمة قدروا على إرضاء الخصوم، وإن كانوا
مظلومين أمكنهم الاستغاثة وكان عليه حضور الجمعة. وقيد بالجماعة لما في التفاريق أن
المعذور يصلي الظهر بأذان، وإقامة وإن كان لا تستحب الجماعة، وقيد بالظهر لأن في غيرها لا
بأس أن يصلوا جماعة. وأشار المصنف إلى أن المساجد تغلق يوم الجمعة إلا الجامع لئلا يجتمع

269
فيها جماعة. كذا في السراج الوهاج. وظاهر كلامهم أن الكراهة في مسألة الكتاب تحريمية
لأن الجماعة مؤدية إلى الحرام وما أدى إليه فهو مكروه تحريما قوله: (ومن أدركها في التشهد
أو في سجود السهو أتم جمعة) يعني عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: إن أدرك معه
أكثر الركعة الثانية بني عليها الجمعة، وإن أدرك أقلها بنى عليها الظهر لأنه جمعة من وجه
ظهر من وجه لفوات بعض الشرائط في حقه فيصلي أربعا اعتبارا للظهر، ويقعد لا محالة على
رأس الركعتين اعتبارا للجمعة، ويقرأ في الأخريين لاحتمال النفلية. ولهما: إنه مدرك
للجمعة في هذه الحالة حتى تشترط نية الجمعة وهي ركعتان ولا وجه لما ذكر لأنهما مختلفان
لا ينبني أحدهما على تحريمة الآخر، ووجود الشرائط في حق الإمام يجعل موجودا في حق
المسبوق. وأشار المصنف رحمه الله إلى أنه لا بد أن ينوي الجمعة دون الظهر حتى لو نوى
الظهر لم يصح اقتداؤه. كذا في المبسوط. وفي المضمرات: إنه مجمع عليه. وأشار أيضا إلى
أن الإمام يسجد للسهو في الجمعة والعيدين، والمختار عند المتأخرين أن لا يسجد في الجمعة
والعيدين لتوهم الزيادة من الجهال. كذا في السراج الوهاج وغيره. ثم إذا قام هذا المسبوق
إلى قضائه كان مخيرا في القراءة إن شاء جهر وإن شاء خافت. كذا في السراج الوهاج أيضا.
وفي المجتبى: ولو زحمه الناس فلم يستطع السجود فوقف حتى سلم الإمام فهو لاحق يمضي
في صلاته بغير قراءة ا ه‍. وقيد بالجمعة لأن من أدرك الإمام في صلاة العيد في التشهد فإنه
يتم العيد اتفاقا. كذا في فتح القدير من صلاة العيد. وذكر في السراج أن عند محمد لم يصر
مدركا للعيد. وفي الظهيرية معزيا إلى المنتفى: مسافر أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد
يصلي أربعا بالتكبير الذي دخل فيه ا ه‍. وهو مخصص لما في المتون مقتض لحملها على ما إذا
كانت الجمعة واجبة على المسبوق أما إذا لم تكن واجبة فإنه يتم ظهرا.
قوله: (وإذا خرج الإمام فلا صلاة ولا كلام) لما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن علي
وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم: كانوا يكرهون الصلاة والكلام بعد خروج الإمام.
وقول الصحابي حجة ولان الكلام يمتد طبعا فيخل بالاستماع والصلاة قد تستلزمه أيضا.
وبه اندفع قولهما إنه لا بأس بالكلام إذا خرج قبل أن يخطب وإذا نزل قبل أن يكبر. وأجمعوا
أن الخروج قاطع للصلاة. وفي العيون: المراد إجابة المؤذن، أما غيره من الكلام فيكره
إجماعا. كذا في السراج الوهاج. وفسر الشارح الخروج بالصعود على المنبر وهكذا في
المضمرات. وذكر في السراج الوهاج يعني خرج من المقصورة وظهر عليهم، وقيل صعد
المنبر فإن لم يكن في المسجد مقصورة يخرج منها لم يتركوا القراءة والذكر إلا إذا قام الإمام إلى

270
الخطبة ا ه‍. وفي شرح المجمع: عبارة الخروج واردة على عادة العرب من أنهم يتخذون
للإمام مكانا خاليا تعظيما لشأنه، فيخرج منه حين أراد الصعود هكذا شاهدناه في ديارهم،
والقاطع في ديارنا يكون قيام الإمام للصعود ا ه‍. فالحاصل أن الإمام إن كان في خلوة
فالقاطع انفصاله عنها وظهوره للناس وإلا فقيامه للصعود. وأطلق في الصلاة فشمل السنة
وتحية المسجد ويدل عليه الحديث إذا قلت لصاحبك والإمام يخطب يوم الجمعة أنصت فقد
لغوت (1 فإنه يفيد بطريق الدلالة منعهما بالأولى لأن المنع من الامر بالمعروف وهو أعلى من
السنة وتحية المسجد. وما في صحيح مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم إذا جاء أحدكم والإمام يخطب
فليركع ركعتين وليتجوز فيهما (2) فمحمول على ما قبل تحريم الكلام فيها دفعا للمعارضة.
وجوابهم بحمله على ما إذا أمسك عن الخطبة حتى يفرغ من صلاته كما أجابوا به في واقعة
سليك الغطفاني، فغير مناسب لمذهب الإمام لما علمت أنه يمنع الصلاة بمجرد خروجه قبل
الخطبة إلى أن يفرغ من الصلاة. وفي فتح القدير: ولو خرج وهو في السنة يقطع على ركعتين
ا ه‍. وهو قول ضعيف وعزاه قاضيخان إلى النوادر قال: فإذا قطع يلزمه أربع ركعات
والصحيح خلافه كما في المحيط. قال الولوالجي في فتاواه: إذا شرع في الأربع قبل الجمعة
ثم افتتح الخطبة أو الأربع قبل الظهر ثم أقيمت هل يقطع على رأس الركعتين؟ تكلموا فيه
والصحيح أنه يتم ولا يقطع لأنها بمنزلة صلاة واحدة واجبة ا ه‍. وكذا في المبتغى بالغين
المعجمة. ولا يرد عليه قضاء فائتة لم يسقط الترتيب بينها وبين الوقتية فإنها لا تكره كما في
السراج الوهاج لأنه أطلق فيها ما قدمه أن الترتيب واجب بمعنى الشرط. وأطلق في منع
الكلام فشمل الخطيب.
قال في البدائع: ويكره للخطيب أن يتكلم في حال الخطبة إلا إذا كان أمرا بمعروف
فلا يكره لما روي أن عمر كان يخطب يوم الجمعة فدخل عليه عثمان فقال له: أية ساعة
هذه؟ فقال له: ما زدت حين سمعت النداء يا أمير المؤمنين على أن توضأت فقال:

271
والوضوء أيضا، وقد علمت أن رسول الله أمر بالاغتسال ا ه‍. فاستفيد منه أنه لا يسلم
إذا صعد المنبر. وروي أنه يسلم كما في السراج الوهاج. وشمل التسبيح والذكر والقراءة
وفي النهاية: اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة، قال بعضهم: إنما كان يكره ما كان من
كلام الناس. أما التسبيح ونحوه فلا. وقال بعضهم: كل ذلك مكروه والأول أصح ا ه‍.
وكذا في العناية وذكر الشارح أن الأحوط الانصات ا ه‍. ويجب أن يكون محل الاختلاف
قبل شروعه في الخطبة ويدل عليه قوله على قول أبي حنيفة: وأما وقت الخطبة فالكلام
مكروه تحريما ولو كان أمرا بمعروف أو تسبيحا أو غيره كما صرح به في الخلاصة
وغيرها. وزاد فيها أن ما يحرم في الصلاة يحرم في الخطبة من أكل وشرب وكلام. وهذا
إن كان قريبا، فإن كان بعيدا فقد تقدم من المصنف أن النائي كالقريب وهو الأحوط في
المحيط وهو الأصح. وأما دراسة الفقه والنظر في كتب الفقه ففيه اختلاف. وعن أبي
يوسف أنه كان ينطر في كتابه ويصححه وقت الخطبة ولو لم يتكلم لكن أشار بيده أو بعينه
حين رأى منكرا، الصحيح أنه لا بأس به، وشمل تشميت العاطس ورد السلام. وعن أبي
يوسف: لا يكره الرد وهو خلاف المذهب. واختلفوا في الحمد إذا عطس السامع،
وصححوا أنه يرد في نفسه لكن ذكر الولوالجي أن الأصوب أنه لا يجب فيهما لأنه يختل
الانصات وأنه مأمور به، وعليه الفتوى. وكذا اختلفوا في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند
سماع اسمه، والصواب أنه يصلي في نفسه كما في فتح القدير. ولا يرد على المصنف لو
رأى رجلا عند بئر فخاف وقوعه فيها أو رأى عقربا تدب إلى إنسان فإنه يجوز له أن يحذره
وقت الخطبة لأن ذلك يجب لحق آدمي وهو محتاج إليه والانصات لحق الله تعالى ومبناه على
المسامحة كما في السراج الوهاج. وفي المجتبى: الاستماع إلى خطبة النكاح والختم وسائر
الخطب واجب والأصح الاستماع إلى الخطبة من أولها إلى آخرها وإن كان فيها ذكر الولاة
ا ه‍. ثم اعلم أن ما تعورف من أن المرقى للخطيب يقرأ الحديث النبوي وأن المؤذنين
يؤمنون عند الدعاء ويدعون للصحابة بالرضى وللسلطان بالنصر إلى غير ذلك، فكله حرام

272
على مقتضى مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وأغرب منه أن المرقي ينهى عن الامر بالمعروف
بمقتضى الحديث الذي يقرأه ثم يقول أنصتوا رحمكم الله، ولم أر نقلا في وضع هذا المرقي
في كتب أئمتنا.
قوله: (ويجب السعي وترك البيع بالاذان الأول) لقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا
نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) * (الجمعة: 9) وإنما اعتبر الاذان
الأول لحصول الاعلام به، ومعلوم أنه بعد الزوال إذ الاذان قبله ليس بأذان، وهذا القول هو
الصحيح في المذهب. وقيل: العبرة للاذان الثاني الذي يكون بين يدي المنبر لأنه لم يكن في
زمنه عليه الصلاة والسلام إلا هو وهو ضعيف لأنه لو اعتبر في وجوب السعي لم يتمكن من
السنة القبلية ومن الاستماع بل ربما يخشى عليه فوات الجمعة. وفي صحيح البخاري مسندا
إلى السائب بن يزيد قال: كان النداء ليوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء.
قال البخاري: الزوراء موضع بالسوق بالمدينة. وفي فتح القدير: وقد تعلق بما ذكرنا بعض
من نفى أن للجمعة سنة فإنه من المعلوم أنه كان عليه السلام إذا رقي المنبر أخذ بلال في
الاذان فإذا أكمله أخذ عليه السلام في الخطبة فمتى كانوا يصلون السنة؟ ومن ظن أنهم إذا
فرغ من الاذان قاموا فركعوا فهو من أجهل الناس، وهذا مدفوع بأن خروجه عليه السلام
كان بعد الزوال بالضرورة فيجوز كونه بعد ما كان يصلي الأربع، ويجب الحكم بوقوع هذا
المجوز لما قدمناه من عموم أنه كان عليه السلام يصلي إذا زالت الشمس أربعا، وكذا يجب في
حقهم لأنهم أيضا يعلمون الزوال كالمؤذن بل ربما يعلمونه بدخول الوقت ليؤذن ا ه‍. والمراد
من البيع ما يشغل عن السعي إليها حتى لو اشتغل بعمل آخر سوى البيع فهو مكروه أيضا.
كذا في السراج الوهاج. وأشار بعطف ترك البيع على السعي إلى أنه لو باع أو اشترى حالة

273
السعي فهو مكروه أيضا. وصرح في السراج الوهاج بعدمها إذا لم يشغله وصرح بالوجوب
ليفيد أن الاشتغال بعمل آخر مكروه كراهة تحريم لأنه في رتبته ويصح إطلاق اسم الحرام
عليه كما وقع في الهداية. وبه اندفع ما في غاية البيان من أن فيه نظرا لأن البيع وقت الاذان
جائز لكنه مكروه فإن المراد بالجواز الصحة لا الحل، وبه اندفع أيضا ما ذكره القاضي
الأسبيجابي من أن البيع وقت النداء مكروه للآية ولو فعل كان جائزا، والامر بالسعي من الله
تعالى على الندب والاستحباب لا على الحتم والايجاب ا ه‍. فإنه يفيد أن الكراهة تنزيهية
وليس كذلك بل تحريمية اتفاقا ولهذا وجب فسخه لو وقع. وأيضا قوله إن الامر بالسعي
للندب غير صحيح لأنهم استدلوا به على فرضية صلاة الجمعة فعلم أنه للوجوب. وقول
الأكمل في شرح المنار أن الكراهة تنزيهية مردود لما علمت. وإنما لم يقل ويفترض السعي مع
أنه فرض للاختلاف في وقته هل هو الاذان الأول أو الثاني أو العبرة لدخول الوقت. وفي
المضمرات: والذي يبيع ويشتري في المسجد أو على باب المسجد أعظم إثما وأثقل وزرا.
قوله: (فإذا جلس على المنبر أذن بين يديه وأقيم بعد تمام الخطبة) بذلك جرى التوارث،
والضمير في قوله بين يديه عائد إلى الخطيب الجالس. وفي القدوري: بين يديه المنبر وهو
مجاز إطلاقا لاسم المحل على الحال كما في السراج الوهاج، فأطلق اسم المنبر على الخطيب.
وفي كثير من الكتب: لو سمع النداء وقت الاكل يتركه إذا خاف فوت الجمعة كخروج وقت
المكتوبات بخلاف الجماعة في سائر الصلوات. وفي المحيط وغيره: ويستحب لمن حضر
الجمعة أن يدهن ويمس طيبا إن جده، ويلبس أحسن ثيابه ويغتسل ويجلس في الصف الأول
لأن الصلاة فيه أفضل. ثم تكلموا في الصف الأول قيل هو خلف الإمام في المقصورة،

274
وقيل ما يلي المقصورة وبه أخذ الفقيه أبو الليث لأنه يمنع العامة عن الدخول في المقصورة فلا
تتوصل العامة إلى نيل فضيلة الصف الأول، ومن مات يوم الجمعة يرجى له فضل. وفي
البدائع: وينبغي للإمام أن يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وسورة مقدار ما يقرأ في صلاة
الظهر، ولو قرأ في الأولى بسورة الجمعة، وفي الثانية بسورة المنافقين أو في الأولى بسبح اسم
ربك الاعلى، وفي الثانية بسورة هل أتاك حديث الغاشية فحسن تبركا بفعله عليه السلام
ولكن يواظب على قراءتها بل يقرأ غيرها في بعض الأوقات كيلا يؤدي إلى هجر الباقي ولا
يظنه العامة حتما. وفي الخلاصة: ولا يحل للرجل أن يعطى سؤال المساجد. هكذا ذكر في
الفتاوى. قال الصدر الشهيد: المختار أن السائل إذا كان لا يمر بين يدي المصلي ولا يتخطى
رقاب الناس ولا يسأل الحافا ويسأل لأمر لا بد له منه لا بأس بالسؤال والاعطاء، وإذا حضر
الرجل الجامع وهو ملآن إن تخطى يؤذي الناس لم يتخط وإن كان لا يؤذي أحدا بأن كان لا
يطأ ثوبا ولا جسدا فلا بأس بأن يتخطى ويدنو من الإمام. وعن أصحابنا بأنه لا بأس
بالتخطي ما لم يأخذ الإمام في الخطبة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع
والمآب.
باب العيدين
أي صلاة العيدين. ولا خفاء في وجه المناسبة وسمي به لما أن لله سبحانه وتعالى فيه

275
عوائد الاحسان إلى عباده، أو لأنه يعود ويتكرر، أو لأنه يعود بالفرح والسرور، أو تفاؤلا
بعوده على من أدركه كما سميت القافلة قافلة تفاؤلا بقفولها أي برجوعها. وجمعه أعياد وكان
حقه أعواد لأنه من العود ولكن جمع بالياء للزومها في الواحد أو للفرق بينه وبين عود
الخشب فإنه يجمع على عيدان وعود اللهو فإنه يجمع على أعواد كما في العيني. وكانت صلاة
عيد الفطر في السنة الأولى من الهجرة كما رواه أبو داود مسندا إلى أنس رضي الله عنه قال:
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال: ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا
نلعب فيهما في الجاهلية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم
الأضحى ويوم الفطر قوله: (تجب صلاة العيد على من تجب عليه الجمعة بشرائطها سوى
الخطبة) تصريح بوجوبها وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وهو الأصح كما في الهداية
والمختار كما في الخلاصة وهو قول الأكثرين كما في المجتبى، ويدل عليه من جهة الرواية
قول محمد في الأصل: ولا يصلي نافلة في جماعة إلا قيام رمضان وصلاة الكسوف فإنه لم
يستثن العيد فعلم أنه ليس من النوافل. ومن جهة الدليل مواظبته صلى الله عليه وسلم عليها من غير ترك.
وفي رواية أخرى أنها سنة لقول محمد في الجامع الصغير في العيدين يجتمعان في يوم واحد
قال: يشهدهما جميعا ولا يترك واحدا منهما. والأولى منهما سنة والأخرى فريضة. قال في
غاية البيان: وهذا أظهر ولم يعلله وهو كذلك لوجهين: أحدهما أن الجامع الصغير صنفة بعد
الأصل فما فيه هو المعول عليه. وثانيهما أنه صرح بالسنة بخلاف ما في الأصل، والظاهر
أنه لا خلاف في الحقيقة لأن المراد من السنة السنة المؤكدة بدليل قوله ولا يترك واحدا
منهما، وكما صرح به في المبسوط، وقد ذكرنا مرارا أنها بمنزلة الواجب عندنا ولهذا كان

276
الأصح أنه يأثم بترك المؤكدة كالواجب وفي المجتبى: الأصح أنها سنة مؤكدة وأفاد أن جميع
شرائط الجمعة وجوبا وصحة شرائط للعيد إلا الخطبة فإنها ليست بشرط حتى لو لم يخطب
أصلا صح وأساء لترك السنة، ولو قدمها على الصلاة صحت وأساء ولا تعاد الصلاة وبه
اندفع ما في السراج الوهاج من أن المملوك تجب عليه العيد إذا أذن له مولاه ولا تجب عليه
الجمعة لأن الجمعة لها بدل وهو الظهر وليس كذلك العيد فإنه لا بدل له لأن منافعه لا تصير
مملوكة له بالاذن، فحاله بعد الاذن كحاله قبله. وفي القنية: صلاة العيد في الرساتيق تكره
كراهة تحريم ا ه‍. لأنه اشتغال بما لا يصح لأن المصر شرط الصحة.
قوله (وندب يوم الفطر أن يطعم ويغتسل ويستاك ويتطيب ويلبس أحسن ثيابه) اقتداء
بالنبي صلى الله عليه وسلم. ويستحب كون ذلك المطعوم حلوا لما روى البخاري: كان عليه الصلاة والسلام لا
يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات ويأكلهن وترا. وأما ما يفعله الناس في زماننا من جمع التمر
مع اللبن والفطر عليه فليس له أصل في السنة، وظاهر كلامهم تقديم الأحسن من الثياب في
الجمعة والعيدين وإن لم يكن أبيض والدليل دال عليه فقد روى البيهقي أنه عليه الصلاة والسلام
كان يلبس يوم العيد بردة حمراء. وفي فتح القدير: واعلم أن الحلة الحمراء عبارة عن ثوبين من
اليمن فيهما خطوط حمر وخضر لا أنها أحمر بحت فليكن محمل البردة أحدهما اه‍. بدليل نهيه
عليه السلام عن لبس الأحمر كما رواه أبو داود. والقول مقدم على الفعل والحاظر مقدم على
المبيح لو تعارضا، فكيف إذا لم يتعارضا بالحمل المذكور. وزاد في الحاوي القدسي أن من
المستحبات التزين وأن يظهر فرحا وبشاشة ويكثر من الصدقة حسب طاقته وقدرته. وزاد في
القنية استحباب التختم والتبكير وهو سرعة الانتباه والابتكار وهو المسارعة إلى المصلى وصلاة
الغداة في مسجد حيه والخروج إلى المصلى ماشيا والرجوع في طريق آخر والتهنئة بقوله تقبل الله
منا ومنكم لا تنكر. وفي المجتبى: فإن قلت عد الغسل ههنا مستحبا وفي الطهارة سنة قلت:
للاختلاف فيه والصحيح أنه سنة، وسماه مستحبا لاشتمال السنة على المستحب وعد سائر
المستحبات المذكورة هنا في بعض الكتب سنة اه‍. قوله (ويؤدي صدقة الفطر) معطوف على
يطعم فيقتضي أن يكون الأداء مندوبا وهو كذلك لأن الكلام كله قبل الخروج إلى المصلى

277
فلصدقة الفطر أحوال: أحدها قبل دخول يوم العيد وهو جائز. ثانيها يومه قبل الخروج إلى
المصلى فلصدقة الفطر أحوال: أحدها قبل دخول يوم العيد وهو جائز. ثانيها يومه قبل الخروج
وهو مستحب. ثالثها يومه بعد الصلاة وهو جائز. رابعها بعد يوم الفطر وهو صحيح ويأتم
بالتأخير إلا أنه يرتفع بالأداء كمن أخر الحج بعد القدرة فإنه يأثم، ثم يزول بالأداء كما سيأتي.
وإنما استحب الأداء قبله للحديث من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد
الصلاة فهي صدقة من الصدقات (1) ولقوله عليه الصلاة والسلام أغنوهم في هذا اليوم عن
المسألة ولان المستحب أن يأكل قبل الخروج إلى المصلى فيقدم للفقير ليأكل قبلها فيتفرغ قبله
للصلاة قوله (ثم يتوجه إلى المصلى) ضبطه في غاية البيان بالرفع وقال لا بالنصب، ولم يبين
وجهه. ووجهه أن التوجه واجب وليس بمستحب ولهذا أتى بأسلوب آخر وهو العطف
بثم. وفي السراج الوهاج: المستحب أن يتوجه ماشيا ولا يركب في الرجوع لأن النبي صلى الله عليه وسلم
ما ركب في عيد ولا جنازة. ولا بأس أن يركب في الرجوع لأنه غير قاصد إلى قربة. وفي
التجنيس: والخروج إلى الجبانة سنة لصلاة العيد وإن كان يسعهم المسجد الجامع عند عامة
المشايخ هو الصحيح اه‍. وفي المغرب: الجبانة المصلى العام في الصحراء. وعلى هذا فيجوز أن
يكون منصوبا عطفا على يطعم لأن التوجه إلى المصلي مندوب كما أفاده في التجنيس، فإن
كانت صلاة العيد واجبة حتى لو صلى العيد في الجامع ولم يتوجه إلى المصلى فقد ترك السنة وإنما
أتى بثم لإفادة أن التوجه متراخ عن جميع الأفعال السابقة. وفي الخلاصة: ولا يخرج المنبر إلى
الجبانة يوم العيد، واختلف المشايخ في بناء المنبر في الجبانة، قال بعضهم يكره، وقال بعضهم لا
يكره، وفي نسخة الإمام خواهر زاده هذا حسن في زماننا، وعن أبي حنيفة أنه لا بأس به اه‍.
قوله (غير مكبر ومتنفل قبلها) أي قبل صلاة العيد. أما الأول فظاهر كلامه أنه لا يكبر
يوم الفطر قبل صلاة العيد لا جهرا ولا سرا وأنه لافرق بين التكبير في البيت أو في الطريق
أو في المصلي قبل الصلاة لكن أفاد بعد ذلك أن أحكام الأضحى كالفطر إلا أنه يكبر في
الطريق جهرا، فصار معنى كلامه هنا أنه لا يكبر في الطريق جهرا. وفي غاية البيان: المراد
من نفي التكبير بصفة الجهر لأن التكبير خير موضوع لا خلاف في جوازه بصفة الاخفاء اه‍.
وفي الخلاصة: ما يخالفه قال: ولا يكبر يوم الفطر. وعندهما يكبر ويخافت وهو إحدى
الروايتين عن أبي حنيفة، والأصح ما ذكرنا أنه لا يكبر في عيد الفطر اه‍. فأفاد أن الخلاف

278
في أصله لا في صفته وأن الاتفاق على عدم الجهرية. ورده في فتح القدير بأنه ليس بشئ إذ
لا يمنع من ذكر الله بسائر الألفاظ في شئ من الأوقات بل من إيقاعه على وجه البدعة فقال
أبو حنيفة: رفع الصوت بالذكر بدعة ويخالف الامر من قوله تعالى * (واذكر ربك في نفسك
تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول) * (الأعراف: 205) فيقتصر على مورد الشرع، وقد
ورد به في الأضحى وهو قوله تعالى * (واذكروا الله في أيام معدودات) * (البقرة: 203) جاء
في التفسير أن المراد التكبير في هذه الأيام اه‍. وهو مردود لأن صاحب الخلاصة أعلم
بالخلاف منه ولان ذكر الله تعالى إذ قصد به التخصيص بوقت دون وقت أو بشئ دون شئ
لم يكن مشروعا حيث لم يرد الشرع به لأنه خلاف المشروع، وكلامهم إنما هو فيما إذا خص
يوم الفطر بالتكبير ولهذا قال في غاية البيان من باب المهر عند ذكر المتعة: وقوله ولا يكبر في
طريق المصلى عند أبي حنيفة أي حكما للعيد ولكن لو كبر لأنه ذكر الله تعالى يجوز ويستحب
اه‍. فالحاصل أن الجهر بالتكبير بدعة في كل وقت إلا في المواضع المستثناة. وصرح
قاضيخان في فتاواه بكراهة الذكر جهرا وتبعه على ذلك صاحب المستصفى. وفي الفتاوى
العلامية: وتمنع الصوفية من رفع الصوت والصفق. وصرح بحرمتها لعيني في شرح التحفة
وشنع على من يفعله مدعيا أنه من الصوفية، واستثنى من ذلك في القنية ما يفعله الأئمة في
زماننا فقال: إمام يعتاد في كل غداة مع جماعته قراءة آية الكرسي وآخر البقرة وشهد الله
ونحوه جهرا لا بأس به والأفضل الاخفاء. ثم قال: التكبير جهرا في غير أيام التشريق لا
يسن إلا بإزاء العدو أو اللصوص. وقاس عليه بعضهم الحريق والمخاوف كلها ثم رقم برقم
آخر قاص وعنده جمع كثير يرفعون أصواتهم بالتهليل والتسبيح جملة لا بأس به والاخفاء
أفضل، ولو اجتمعوا في ذكر الله والتسبيح والتهليل يخفون والاخفاء أفضل عند الفزع في
السفينة أو ملاعبتهم بالسيوف، وكذا الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم اه‍. وأما التكبير خفيه فإن قصد
أن يكون لأجل يوم الفطر فهو مكروه أيضا وإلا فهو مستحب ولو كان يوم الفطر. وأما
الثاني وهو التنفل قبلها فهو مكروه، وأطلقه فشمل ما إذا كان في المصلى أو في البيت، ولا
خلاف فيما إذا كان المصلى. واختلفوا فيما إذا تنفل في البيت فعامتهم على الكراهة وهو
الأصح كما في غاية البيان. وقيد بقوله قبلها لأن التنفل بعدها فيه تفصيل، فإن كان في

279
المصلي فمكروه عند العامة، وإن كان في البيت فلا. ودليل الكراهة ما في الكتب الستة عن
ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلى بهم العيد لم يصل قبلها ولا بعدها.
وهذا النفي بعدها محمول على ما إذا كان في المصلى لحديث ابن ماجة قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئا فإذا رجع إلى منزله صلى ركعتين اه‍. قال في فتاوى
قاضيخان والخلاصة: والأفضل أن يصلي أربع ركعات بعدها. وأطلقه فشمل صلاة الضحى
وشمل من يصلي صلاة العيد إماما كان أو غيره ومن لم يصلها كما في السراج الوهاج ولهذا
قال في الخلاصة: النساء إذا أردن أن يصلين صلاة الضحى يوم العيد صلين بعدما يصلي
الإمام في الجبانة اه‍. وهذا كله إنما هو بحسب حال الانسان، وأما العوام فلا يمنعون من
تكبير قبلها. قال أبو جعفر: لا ينبغي أن يمنع العامة من ذلك لقلة رغبتهم في الخيرات اه‍.
وكذا في التنفل قبلها. قال في التجنيس: سئل شمس الأئمة الحلواني أن كسالى العوام
يصلون الفجر عند طلوع الشمس أفنزجرهم عن ذلك؟ قال: لا لأنهم إذا منعوا عن ذلك
تركوها أصلا وأداؤها مع تجويز أهل الحديث لها أولى من تركها أصلا اه‍.
قوله (ووقتها من ارتفاع الشمس إلى زوالها) أما الابتداء فلانه عليه الصلاة والسلام كان
يصلي العيد والشمس على قيد رمح أو رمحين، وهو بكسر القاف بمعنى قدر. وأما الانتهاء
فلما في السنة أن ركبا جاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشهدون أنهم رأوا الهلال بالأمس فأمرهم أن
يفطروا إذا أصبحوا يغدون إلى مصلاهم، ولو جاز فعلها بعد الزوال لم يكن للتأخير إلى الغد
معنى. واستفيد منه أنها لا تصح قبل ارتفاع الشمس بمعنى لا تكون صلاة عيد بل نفل
محرم. ولو زالت الشمس وهو في أثنائها فسدت كما في الجمعة صرح به في السراج
الوهاج. وعلى هذا فينبغي إدخاله في المسائل الاثني عشرية لما أنها كالجمعة وقد أغفلوها عن
ذكرها. ويستحب تعجيل صلاة الأضحى لتعجيل الأضاحي. وفي المجتبى: ويستحب أن
يكون خروجه بعد ارتفاع قدر رمح حتى لا يحتاج إلى انتظار القوم، وفي عيد الفطر يؤخر
الخروج قليلا. كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزم: عجل الأضحى وأخر الفطر. قيل:
ليؤدي الفطرة ويعجل الأضحية. قوله (ويصلى ركعتين مثنيا قبل الزوائد) أما كونها ركعتين
فمتفق عليه، وأما كون الثناء قبل التكبيرات فلانه شرع أول الصلاة فيقدم عليها في ظاهر
الرواية كما يقدم على سائر الأفعال والأذكار قوله (وهي ثلاث في كل ركعة) أي الزوائد

280
ثلاث تكبيرا ت في كل ركعة وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه وبه أخذ أئمتنا أبو حنيفة
وصاحباه. وأما ما في الخلاصة وعن أبي يوسف كما قال ابن عباس رضي الله عنهما خمس
في الأولى وخمس في الثانية أو أربع على اختلاف الروايات والأئمة في زماننا يكبرون عل
مذهب ابن عباس لأن الخلفاء شرطوا عليهم ذلك اه‍. فليس مذهبا لأبي يوسف وإنما فعله
امتثالا لأمر هارون الرشيد. قال في السراج الوهاج: لما انتقلت الولاية إلى بني العباس
أمروا الناس بالعمل في التكبيرات بقول جدهم وكتبوا ذلك في مناشيرهم. وهذا تأويل ما روي
عن أبي يوسف أنه قدم بغداد فصلى بالناس صلاة العيد وخلفه هارون الرشيد فكبر تكبير ابن
عباس، فيحتمل أن هارون أمره أن يكبر تكبير جده ففعله امتثالا لامره، وأما مذهبه فهو على
تكبير ابن مسعود رضي الله عنه لأن التكبير ورفع الأيدي خلاف المعهود فكان الاخذ فيه
بالأقل أولى اه‍. وكذا هو مروي عن محمد. قال في الظهيرية: إنهما فعلا ذلك امتثالا لأمر
الخليفة لا مذهبا ولا اعتقادا. وذكر في المجتبى: ثم يأخذ بأي هذه التكبيرات شاء، وفي
رواية عن أبي يوسف ومحمد قال في الموطأ بعد ذكر الروايات: فما أخذت به فحسن، ولو
كان فيها ناسخ، ومنسوخ لكان محمد بن الحسن أولى بمعرفته لقدمه في علم الحديث والفقه.
وقيل: الآخر ناسخ للأول والصحيح ما قلناه والاخذ بتكبيرات ابن مسعود أولى اه‍. وبهذا
ظهر أن الخلاف في الأولوية. وفي المحيط: ولو كبر الإمام أكثر من تكبير ابن مسعود اتبعه
ما لم يكبر أكثر مما جاء به الآثار لأنه مولى عليه فيلزمه العمل برأي الإمام وذلك إلى ستة
عشر، فإن زاد لا يلزمه متابعته لأنه مخطئ بيقين. ولو سمع التكبيرات من المكبرين يأتي بالكل
احتياطا وإن كثر لاحتمال الغلط من المكبرين ولهذا قيل: ينوي بكل تكبيرة الافتتاح لاحتمال

281
التقدم على الإمام في كل تكبيرة اه‍. ثم قال: الأصل أن المنفرد يتبع رأي نفسه في التكبيرات
والمقتدي يتبع رأي إمامه، ومن أدرك الإمام راكعا في صلاة العيد فخشي أن يرفع رأسه يركع
ويكبر في ركوعه عندهما خلافا لأبي يوسف، ولو أدركه في القيام فلم يكبر حتى ركع لا يكبر في
الركوع على الصحيح كما لو ركع الإمام قبل أن يكبر فإن الإمام لا يكبر في الركوع ولا يعود إلى
القيام ليكبر في ظاهر الرواية، ومن فاتته أول الصلاة مع الإمام يكبر في الحال ويكبر برأي نفسه.
قوله (ويوالي بين القراءتين) اقتداء بابن مسعود رضي الله عنه ولتكون التكبيرات مجتمعة
لأنها من أعلام الشريعة، ولذلك وجب الجهر بها. والجمع يحقق معنى الشعائر والاعلام هذا إلا
أن في الركعة الأولى تخللت الزوائد بين تكبيرة الافتتاح وتكبيرة الركوع فوجب الضم إلى تكبيرة
الافتتاح أولى لأنها سابقة، وفي الركعة الثانية الأصل فيه تكبيرة الركوع لا غيره فوجب الضم إليها
ضرورة. كذا في المحيط والهداية. والظاهر أن المراد بالوجوب في عبارتهما الثبوت لا المصطلح
عليه لأن الموالاة بينهما مستحبة لما تقدم من أن الخلاف في الأولوية. ثم المسبوق بركعة إذا قام إلى
القضاء فإنه يقرأ ثم يكبر لأنه لو بدأ بالتكبير يصير مواليا بين التكبيرات ولم يقل به أحد من
الصحابة. ولو بدأ بالقراءة يصير فعله موافقا لقول علي فكان أولى. كذا في المحيط وهو مخصص
لقولهم إن المسبوق يقضي أول صلاته في حق الأذكار ويكبر المسبوق على رأي نفسه بخلاف
اللاحق فإنه يكبر على رأي إمامه لأنه خلف الإمام حكما. كذا في السراج الوهاج وفي المجتبى:
الأصل أن من قدم المؤخر أو أخر المقدم ساهيا أو اجتهادا فإن كان لم يفرغ مما دخل فيه يعيد وإن
فرغ لا يعود اه‍. وفي المحيط: إن بدأ الإمام بالقراءة سهوا ثم تذكر، فإن فرغ من قراءة الفاتحة
والسورة يمضي في صلاته، وإن لم يقرأ إلا الفاتحة كبر وأعاد القراءة لزوما لأن القراءة إذا لم تتم
كان امتناعا عن الاتمام رفضا للفرض. ولو تحول رأيه بعدما صلى ركعة وكبر بالقول الثاني، فإن
تحول إلى قول ابن عباس بعدما كبر بقول ابن مسعود وقرأ إن لم يفرغ من القراءة يكبر ما بقي من
تكبيرات ابن عباس ويعيد القراءة، وإن فرغ من القراءة كبر ما بقي ولا يعيد القراءة قوله (ويرفع
يديه في الزوائد) توضيح لما أبهمه سابقا بقوله: ولا يرفع الأيدي إلا في فقعس صمعج. فإن
العين الأولى للإشارة إلى العيدين فبين هنا أنه خاص بالزوائد دون تكبيرة الركوع فإن تكبيرتي
الركوع لما ألحقت بالزوائد في كونهما واجبتين حتى يجب السهو بتركهما ساهيا كما صرح به في

282
السراج الوهاج، ربما توهم أنهما التحقنا بهما في الرفع أيضا فنص على أنه خاص بالزوائد. وعن
أبي يوسف: لا يرفع يديه فيها وهو ضعيف، ويستثنى منه ما إذا كبر راكعا لكونه مسبوقا كما
قدمناه فإنه لا يرفع يديه كما ذكره الأسبيجابي. وقيل: يرفع يديه. وأشار المصنف إلى أنه يسكت
بين كل تكبيرتين لأنه ليس بينهما ذكر مسنون عندنا، ولهذا يرسل يديه عندنا وقدره مقدار ثلاث
تسبيحات لزوال الاشتباه. وذكر في المبسوط أن هذا التقدير ليس بلازم بل يختلف بكثرة الزحام
وقلته لأن المقصود إزالة الاشتباه، ولم يذكر هنا الجهر بالقراءة لما علم سابقا في فضل القراءة ويقرأ
فيهما كما يقرأ في الجمعة. وفي الظهيرية: لو صلى خلف إمام لا يرى رفع اليدين عند تكبيرات
الزوائد يرفع يديه ولا يوافق الإمام في الترك اه‍.
قوله (ويخطب بعدها خطبتين) اقتداء بفعله عليه الصلاة والسلام بخلاف الجمعة فإنه
يخطب قبلها لأن الخطبة فيها شرط والشرط متقدم أو مقارن وفي العيد ليست بشرط، ولهذا إذا
خطب قبلها صح وكره لأنه خالف السنة كما لو تركها أصلا. وفي المجتبى: ويبدأ بالتحميد في
خطبة الجمعة وخطبة الاستسقاء وخطبة النكاح، ويبدأ بالتكبيرات في خطبة العيدين، ويستحب
أن يستفتح الأولى بتسع تكبيرات تترى، والثانية بسبع. قال عبد الله بن عتبة بن مسعود: هو
من السنة. ويكبر قبل أن ينزل من المنبر أربع عشرة اه‍. ويجب السكوت والاستماع في خطبة
العيدين وخطبة الموسم كذا في المجتبى قوله (ويعلم الناس فيها أحكام صدقة الفطر) لأنها
شرعت لأجله. وقال في السراج الوهاج: وأحكامها خمسة: على من تجب ولمن تجب ومتى تجب
وكم تجب ومم تجب. أما على من تجب فعلى الحر المسلم المالك للنصاب، وأما لمن تجب فللفقراء
والمساكين، وأما متى تجب فبطلوع الفجر، وأما كم تجب فنصف صاع من برأ وصاع من تمر أو
شعير أو زبيب، وأما مم تجب فمن أربعة أشياء المذكورة وأما ما سواها فبالقيمة قوله (ولم تقض
إن فاتت مع الإمام) لأن الصلاة بهذه الصفة لم تعرف قربة إلا بشرائط لا تتم بالمنفرد فمراده نفي
صلاتها وحده وإلا فإذا فاتت مع إمام وأمكنه أن يذهب إلى إمام آخر فإنه يذهب إليه لأنه يجوز
تعدادها في مصر واحد في موضعين وأكثر اتفاقا إنما الخلاف في الجمعة. وأطلقه فشمل ما إذا
كان في الوقت أو خرج الوقت وما إذا لم يدخل مع الإمام أصلا أو دخل معه وأفسدها فلا

283
قضاء عليه أصلا. وقال أبو يوسف: إذا أفسدها بعد الشروع يقضي لأن الشروع في الايجاب
كالنذر. كذا في المحيط. ولا يخفى أنه إذا لم يلزمه القضاء فالاثم عليه لترك الواجب من غير
عذر كالسجدة الصلاتية إذا لم يسجد لها حتى فرغ من صلاته. وفي البدائع: وأما حكمها إذا
فسدت أو فاتت فكل ما يفسد سائر الصلوات والجمعة يفسدها من خروج الوقت ولو بعد
القعود وفوت الجماعة على التفصيل والاختلاف المذكور في الجمعة غير أنها إن فسدت بنحو
حدث عمد يستقبلها، وإن فسدت بخروج الوقت سقطت ولا يقضيها عندنا كالجمعة ولكنه
يصلي أربعا مثل صلاة الضحى إن شاء لأنها إذا فاتته لا يمكن تداركها بالقضاء لفقد الشرائط،
فلو صلى مثل الضحى لنيل الثواب كان حسنا وهو مروي عن ابن مسعود.
قوله (وتؤخر بعذر إلى الغد فقط) لأن الأصل فيها أن لا تقضى لكن ورد الحديث
بتأخيرها إلى الغد للعذر فبقي ما عداه على الأصل فلا تؤخر إلى الغد بغير عذر ولا إلى ما
بعده بعذر. ولما قدم أن انتهاء وقته زوال الشمس من اليوم الأول لم يحتج إلى التقييد هنا،
فالعبارة الجيدة وتؤخر بعذر إلى الزوال من الغد فقط. ولم يذكر في الكتب المعتبرة اختلاف
في هذا، وذكر في المجتبى عن الطحاوي في شرح الآثار أن هذا قول أبي يوسف. وقال أبو
حنيفة: إن فاتت في اليوم الأول لم تقض. لأبي يوسف حديث أنس قال: أخبرني عمومتي
من الأنصار أن الهلال خفي على الناس في آخر ليلة من شهر رمضان فأصبحوا صياما
فشهدوا عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد الزوال أنهم رأوا الهلال في الليلة الماضية فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفطر
فأفطروا، وخرج بهم من الغد فصلى بهم جواز النحر وحرمة الصوم، وفيما عداه جرينا على
الأصل. قال الطحاوي في حديث أنس ليخرجوا لعيدهم من الغد وليس فيه أنه صلى
صلاة العيد بهم فيحتمل أن يكون خروجهم لاظهار سواد المسلمين وإرهابا لعدوهم اه‍. قوله
(وهي أحكام الأضحى) أي الأحكام المذكورة لعيد الفطر ثابتة لعيد الأضحى صفة وشرطا
ووقتا ومندوبا لاستوائهما دليلا. واستثنى المصنف رحمه الله من ذلك فقال (لكن هنا يؤخر
الاكل) للاتباع فيهما وهو مستحب، ولا يلزم من ترك المستحب ثبوت الكراهة إذ لا بد لها
من دليل خاص فلذا كان المختار عدم كراهة الاكل قبل الصلاة. وأطلقه فشمل من لا
يضحي، وقيل إنه لا يستحب التأخير في حقه، وشمل من كان في المصر ومن كان في

284
السواد. وقيده في غاية البيان بأن هذا في حق المصري، أما القروي فإنه يذوق من حين
أصبح ولا يمسك كما في عيد الفطر لأن الأضاحي تذبح في القرى من الصباح قوله (ويكبر
في الطريق جهرا) للاتباع أيضا وظاهره أنه ليس بمستحب في البيت وفي المصلى. وفي
المحيط: ويكبر في حال خروجه إلى المصلى جهرا فإذا انتهى إلى المصلى يترك. وفي رواية لا
يقطعها ما لم يفتتح الإمام الصلاة لأنه وقت التكبير فإنه يكبر عقب الصلاة جهرا ويسن الجهر
التكبير إظهارا للشعائر اه‍. وجزم في البدائع بالأولى وعمل الناس في المساجد على الرواية
الثانية قوله (ويعلم الأضحية وتكبير التشريق في الخطبة) لأنها شرعت لتعليم أحكام الوقت،
هكذا ذكروا مع أن تكبير التشريق يحتاج إلى تعليمه قبل يوم عرفة ليتعلموه يوم عرفة فإنه
ابتداؤه فينبغي للخطيب أن يعلمهم أحكامه في الجمعة التي قبل عيد الأضحى كما أنه ينبغي
له أن يعلمهم أحكام صدقة الفطر في الجمعة التي قبل عيد الفطر ليتعلموها ويخرجوها قبل
الخروج إلى المصلى، ولم أره منقولا والعلم أمانة في عنق العلماء ويستفاد من كلامهم أن
الخطيب إذا رأى بهم حاجة إلى معرفة بعض الأحكام فإنه يعلمهم إياها في خطبة الجمعة
خصوصا في زماننا من كثرة الجهل وقلة العلم فينبغي أن يعلمهم أحكام الصلاة كما لا يخفى
قوله (وتؤخر بعذر إلى ثلاثة أيام) لأنها موقتة بوقت الأضحية فتجوز ما دام وقتها باقيا
ولا تجوز بعد خروجه لأنها لا تقضى. قيد بالعذر لأن تأخيرها لغير عذر عن اليوم الأول
مكروه بخلاف تأخير عيد الفطر لغير عذر فإنه لا يجوز ولا يصلي بعده، فالتقييد بالعذر هنا
لنفي الكراهة وفي عيد الفطر للصحة. كذا في أكثر الكتب المعتمدة. وفي المجتبى: وإنما
قيده بالعذر لأنه لو تركها في اليوم الأول بغير عذر لم يصلها بعد. كذا في صلاة الجلابي وهو
من جملة غرائبه رحمه الله قوله (والتعريف ليس بشئ) وهو في اللغة الوقوف بعرفات والمراد

285
به هنا وقوف الناس يوم عرفة في غير عرفات تشبها بالواقفين بها. واختلف في معنى هذا
اللفظ، ففي فتح القدير أن ظاهره أنه مطلوب الاجتناب فيكون مكروها، وفي النهاية ليس
بشئ يتعلق به الثواب وهو يصدق على الإباحة، وفي غاية البيان أي ليس بشئ في حكم
الوقوف لقول محمد في الأصل دم السمك ليس بشئ في حكم الدماء، وهذا لأنه شئ
حقيقة لكونه موجودا إلا أنه لما لم يكن معتبرا نفي عنه اسم الشئ. وإنما لم يعتبر تعريفهم
لأن الوقوف لما كان عبادة مخصوصة بمكان لم يجز فعله إلا في ذلك المكان كالطواف وغيره،
ألا ترى أنه لا يجوز الطواف حول سائر البيوت تشبها بالطواف حول الكعبة اه‍. وظاهره أن
الكراهة تحريمية. وفي الذخيرة من كتاب الحظر والإباحة: التضحية بالديك أو بالدجاج في
أيام الأضحية ممن لا أضحية عليه لعسرته بطريق التشبيه بالمضحين مكروه لأن هذا من رسوم
المجوس اه‍..
قوله (وسن بعد فجر عرفة إلى ثمان مرة الله أكبر إلى آخره بشرط إقامة ومصر ومكتوبة
وجماعة مستحبة) بيان لتكبير التشريق والإضافة فيه بيانية أي التكبير الذي هو التشريق فإن
التكبير لا يسمى تشريقا إلا إذا كان بتلك الألفاظ في شئ من الأيام المخصوصة فهو حينئذ
متفرع على قول الكل، وبهذا اندفع ما في غاية البيان من أن هذه الإضافة وقعت على قولهما
لأنه لا تكبير في أيام التشريق عند أبي حنيفة اه‍. فإن التكبير في هذا الوقت الخاص يسمى
تشريقا فإذا صار علما عليه خرج من إفادته معناه الأصلي من تشريق اللحم مع أنه إن روعي
هذا المعنى لم يكن متفرعا على قول أحد لأنهم اتفقوا على تكبير التشريق في يوم عرفة وليس
المعنى موجودا فيه، وما في الحقائق من أنه إنما أضيف إلى التشريق مع أنه يؤتى به في غيرها
لما أن أكثره في أيام التشريق وللأكثر حكم الكل يؤل إلى أنه على قولهما كمالا يخفي. وعلى
هذا فما في الخلاصة والبدائع من أن أيام النحر ثلاثة وأيام التشريق ثلاثة ويمضي ذلك كله
في أربعة أيام العاشر من ذي الحجة للنحر خاصة والثالث عشر للتشريق خاصة واليومان فيما
بينهما للنحر والتشريق جميعا اه‍. فبيان للواقع من أفعال الناس من أنهم يشرقون اللحم في
أيام مخصوصة لا بيان لتكبير التشريق لاتفاقهم على أن اليوم الأول من أيام النحر يكبر فيه.
ثم صرح في البدائع بأن التشريق في اللغة كما يطلق على القاء لحوم الأضاحي بالمشرقة يطلق

286
على رفع الصوت بالتكبير. قاله لنضر بن شميل. ولذا استدل أبو حنيفة على اشتراط
المصر لوجوب التكبير بقول علي: لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر
جامع. فحينئذ ظهر أن الإضافة فيه على وقول الكل. ثم سماه في الكتاب سنة تبعا
للكرخي مع أنه واجب على الأصح كما في غاية البيان للامر في قوله تعالى * (واذكروا الله
في أيام معدودات) * (البقرة: 203) ولقوله تعالى * (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات)
* (الحج: 28) على القول بأن كلا منهما أيام التشريق. وقيل: المعدودات أيام التشريق
والمعلومات أيام العشر. وقيل: المعلومات يوم النحر ويومان بعده والمعدودات أيام التشريق
لأنه أمر في المعدودات أيان التشريق لأنه أمر في المعدودات بالذكر مطلقا، وفي المعلومات الذكر على ما رزقهم من بهيمة الأنعام
وهي الذبائح ومطلق الامر للوجوب. وإطلاق اسم السنة على الواجب جائز لأن السنة
عبارة عن الطريق المرضية أو السيرة الحسنة وكل واجب هذا صفته. كذا في البدائع. ولا
يخفى أنه مجاز عرفا فيحتاج إلى قرينة وإلا انصرف إلى المعنى الحقيقي وهي في كلام المصنف
قوله بعده: وبالاقتداء يجب على المرأة والمسافر. فصرح بالوجوب بالاقتداء ولولا أنه واجب
لما وجب بالاقتداء. وقد يقال: إن الامر في الآية يفيد الافتراض لأنه قطعي فلا بد له من
صارف منه إلى الوجوب، والحق كما قدمنا مرارا أن السنة المؤكدة والواجب متساويات في
الرتبة فلذا تارة يصرحون في الشئ بأنه سنة ويصرحون فيه بعينه بأنه واجب لعدم التفاوت
في استحقاق الاثم بتركه وبين وقته فأفاد أن أوله عقب فجر يوم عرفة، فالمراد ببعد عقب في

287
عبارته ولا خلاف فيه، وأفاد آخره بقوله إلى ثمان أي مع ثمان صلوات فلذا لم يقل ثمانية
وهي من الغايات التي تدخل في المغيا. كذا في المصفي.
وهذا عند أبي حنيفة فالتكبير عنده عقب ثمان صلوات فينتهي بالتكبير عقب العصر يوم
النحر، وعندهما ينتهي بالتكبير عقب العصر من آخر أيام التشريق وهي ثلاث وعشرون صلاة
وهو قول عمر وعلي ورجحاه لأنه الأكثر وهو الأحوط في العبادات. ورجح أبو حنيفة قول ابن
مسعود لأن الجهر بالتكبير بدعة فكان الاخذ بالأقل أولى احتياطا، وقد ذكروا في مسائل
السجدات أن ما تردد بين بدعة وواجب فإنه يؤتى به احتياطا، وما تردد بين بدعة وسنة يترك
احتياطا كما في المحيط وغيره، وهو يقتضي ترجيح قولهما ولهذا ذكر الأسبيجابي وغيره أن
الفتوى على قولهما. وفي الخلاصة: وعليه عمل الناس اليوم. وفي المجتبي: والعمل والفتوى في
عامة الأمصار وكافة الاعصار على قولهما. وهذا بناء على أنه إذا اختلف أبو حنيفة وصاحباه
فالأصح أن العبرة بقوة الدليل كما في آخر الحاوي القدسي وهو مبني على أن قولهما في كل
مسألة مروي عنه أيضا كما ذكره في الحاوي أيضا، وإلا فكيف يفتى بغير قول صاحب المذهب!
وبه اندفع ما ذكره في فتح القدير من ترجيح قوله هنا ورد فتوى المشايخ بقولهما إلا أن يريدوا
إلا أن يريد بالواجب المذكور في باب السجدات الفرض. ويلتزم أن ما تردد بين بدعة وواجب اصطلاحي فإنه
يترك كالسنة فيترجح قوله وفي قوله مرة إشارة إلى رد ما نقل عن الشافعي أنه يكرر التكبير
ثلاثا. وقول الله أكبر إلى آخره بيان لألفاظه وهو: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله
أكبر ولله الحمد. وقد ذكر الفقهاء أنه مأثور عن الخليل عليه السلام. وأصله أن جبريل عليه
السلام لما جاء بالفداء خاف العجلة على إبراهيم فقال: الله أكبر الله أكبر. فلما رآه إبراهيم عليه
السلام قال لا إله إلا الله والله أكبر. فلما علم إسماعيل الفداء قال إسماعيل: الله أكبر ولله
الحمد. كذا في غاية البيان. وكثير من الكتب ولم يثبت عند المحدثين كما في فتح القدير، وقد
صرحوا بأن الذبيح إسماعيل وفيه اختلاف بين السلف والخلف، فطائفة قالوا به وطائفة قالوا به وطائفة قالوا بأنه
اسحق والحنفية مائلون إلى الأول، ورجحه الإمام أبو الليث السمرقندي في البستان بأنه أشبه
بالكتاب والسنة، فأما الكتاب فقوله تعالى * (وفديناه بذبح عظيم) * (الصافات: 107) ثم قال بعد
قصة الذبح * (وبشرناه بإسحاق) * (الصافات: 112) الآية. وأما الخبر فما روي عنه عليه السلام
أنا ابن الذبيحين يعني أباه عبد الله وإسماعيل. واتفقت الأمة أنه كان من ولد إسماعيل. وقال
أهل التوراة: مكتوب في التوراة أنه كان اسحق فإن صح ذلك فيها آمنا به اه‍. وأما محل أدائه فدبر
الصلاة وفورها من غير أن يتخلل ما يقطع حرمة الصلاة حتى لو ضحك قهقهة أو أحدث متعمدا

288
أو تكلم عامدا أو ساهيا أو خرج من المسجد أو جاوز الصفو ف في الصحراء لا يكبر لأن التكبير
من خصائص الصلاة حيث لا يؤتى به إلا عقب الصلاة فيراعي لاتيانه حرمتها وهذه العوارض
تقطع حرمتها، ولو صرف وجهه عن القبلة ولم يخرج من المسجد ولم يجاوز الصفوف أو سبقه
الحدث يكبر لأن حرمة الصلاة باقية والأصل أن كل ما يقطع البناء يقطع التكبير وما لا فلا. وإذا
سبقه الحدث فإن شاء ذهب وتوضأ ورجع فكبر، وإن شاء كبر من غير تطهير لأنه لا يؤدي في
تحريمة الصلاة فلا يشترط له الطهارة قال الإمام السرخسي والأصح عندي أنه كبر ولا يخرج
من المسجد للطهارة لأن التكبير لما لم يفتقر إلى الطهارة كان خروجه مع عدم الحاجة قاطعا لفور
الصلاة فلا يمكنه التكبير بعد ذلك فيكبر للحال جزما. كذا في البدائع.
وشرط الإقامة احترازا عن المسافر فلا تكبير عليه، ولو صلى المسافرون في المصر جماعة
على الأصح كما في البدائع. وقيد بالمصر احترازا عن أهل القرى، وقيد بالمكتوبة احترازا عن
الواجب كصلاة الوتر والعيدين وعن النافلة فلا تكبير عقبها. وفي المجتبي: والبلخيون يكبرون
عقب صلاة العيد لأنها تؤدي بجماعة فأشبه الجمعة اه‍. وفي مبسوط أبي الليث: ولو كبر على
أثر صلاة العيد لا بأس به لأن المسلمين توارثوا هكذا فوجب أن يتبع توارث المسلمين اه‍. وفي
الظهيرية عن الفقيه أبي جعفر قال سمعت أن مشايخنا كانوا يرون الكبير في الأسواق في الأيام
العشر وفي المجتبى: لا تمنع العامة عنه وبه نأخذ وتدخل الجمعة في المكتوبة كما في
المحيط. وأراد بالمكتوبة الصلاة المفروضة من الصلوات الخمس فلا تكبير عقب صلاة الجنازة
وإن كانت مكتوبة. وقيد بالجماعة فلا تكبير على المنفرد، وقيد بكونها مستحبة احترازا عن جماعة
النساء والعراة، ولم يشترط الحرية لأنها ليست بشرط على الأصح حتى لو أم العبد قوما وجب
عليه وعليهم التكبير. وذكر الشارح أن الحاصل أن شروطه شروط الجمعة غير الخطبة والسلطان
والحرية في رواية وهو الأصح اه‍. وليس بصحيح إذ ليس الوقت والإذن العام من شروطه،
وهذا كله عند أبي حنيفة أخذا من قول علي لا جمعة ولا تشريق ولا فطر ولا أضحى إلا في مصر
جامع فإن المراد بالتشريق التكبير كما قدمناه لأن تشريق اللحم لا يختص بمكان دون مكان.

289
وأما عندهما فهو واجب على كل من يصلي المكتوبة لأنه تبع لها فيجب على المسافر والمرأة
والقروي. قال في السراج الوهاج والجوهرة: والفتوى على قولهما في هذا أيضا.
فالحاصل أن الفتوى على قولهما في آخر وقته وفيمن يجب عليه. وأطلق المصنف في
التكبير عقب هذه الصلوات فشمل الأداء والقضاء وهي رباعية لا تكبير في ثلاثة منها: الأولى
فاتته في غير أيام التشريق فقضاها فيها. ثانيها فاتته في هذه الأيام فقضاها في غير هذه الأيام.
ثالثها فاتته في هذه الأيام فقضاها فيها من السنة القابلة لا تكبير في الأوليين اتفاقا. وفي الثالثة
خلاف أبي يوسف والصحيح ظاهر الرواية. والتكبير إنما هو في الرابعة وهي ما إذا فاتته في
هذه الأيام فقضاها فيها من هذه السنة فإنه يكبر لقيام وقته كالأضحية، ثم الذي يؤدي عقب
الصلاة ثلاثة أشياء: سجود السهو وتكبير التشريق والتلبية إلا أن السهو يؤدي في تحريمة
الصلاة حتى صح الاقتداء بالساهي بعد سلامه والتكبير يؤدي في حرمتها لا في تحريمتها حتى
لم يصح الاقتداء بالإمام بعد السلام قبل التكبير والتلبية لا تؤدى في شئ منها، ولذا قال في
الخلاصة: ويبدأ الإمام بسجود السهو ثم بالتكبير ثم بالتلبية إن كان محرما. وفي فتاوى
الولوالجي: لو بدى بالتلبية سقط السجود والتكبير ولما لم يكن مؤدى في تحريمتها لو تركه الإمام
فعلى القوم أن يأتوا به كسامع السجدة مع تاليها بخلاف ما إذا لم يسجد لإمام للسهو فإنهم لا
يسجدون. قال يعقوب: صليت بهم المغرب يوم عرفة فسهوت أن أكبر بهم فكبر بهم أبو حنيفة
رحمه الله. وقد استنبط من هذه الواقعة أشياء منها هذه المسألة، ومنها أن تعظيم الأستاذ في
إطاعته لا فيما يظنه طاعة لأن أبا يوسف تقدم بأمر أبي حنيفة، ومنها أنه ينبغي للأستاذ إذا
تفرس في بعض أصحابه الخير أن يقدمه ويعظمه عند الناس حتى يعظموه، ومنها أن التلميذ لا
ينبغي أن ينسى حرمة أستاذه وإن قدمه أستاذه وعظمه، ألا ترى أن أبا يوسف شغله ذلك عن
التكبير حتى سها قوله (وبالاقتداء يجب على المرأة والمسافر) أي باقتدائهما بمن يجب عليه بجب
عليهما بطريق التبعية. والمرأة تخافت بالتكبير لأن صوتها عورة، وكذا يجب على المسبوق لأنه
مقتد تحريمة لكن لا يكبر مع الإمام ويكبر بعدما قضى ما فاته، وفي الأصل: ولو تابعه لا
تفسد صلاته وفي التلبية تفسد. كذا في الخلاصة والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

290
باب صلاة الكسوف
مناسبته للعيد هو أن كلا منهما يؤدي بالجماعة نهارا بغير أذان ولا إقامة. وأخرها عن
العيد لأن صلاة العيد واجبة على الأصح. يقال كسفت الشمس تكسف كسوفا وكسفها الله
كسفا يتعدى ولا يتعدى. قال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز:
الشمس طالعة ليست بكاسفة * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
أي ليست تكسف ضوء النجوم مع طلوعها لقلة ضوئها وبكائها عليك ولأجل ذلك لم
يظهر لها نور، فعلى هذا انتصب قوله نجوم على المفعول به والقمر معطوف عليه، وتمامه
في السراج الوهاج. ومنهم من جعل الكسوف للشمس والقمر، ومنهم من جعل الكسوف
للشمس والخسوف للقمر. والأصل في صلاة الكسوف حديث البخاري إن الشمس والقمر
لا ينكسفان لموت أحد من الناس ولكنهما آيتان من آيات الله فإذا رأيتموها فصلوا (1) وفي
رواية فادعوا قوله: (يصلي ركعتين كالنفل إمام الجمعة) بيان لمقدارها ولصفة أدائها. أما
مقدارها فذكر أنها ركعتان وهو بيان لأقلها، ولذا قال في المجتبي: إن شاؤوا صلوها ركعتين
أو أربعا أو أكثر كل ركعتين بتسليمه أو كل أربع. وأما صفة أدائها فهي صفة أداء النفل من
أن كل ركعة بركوع واحد وسجدتين ومن أنه لا أذان له ولا إقامة ولا خطبة وينادي الصلاة
جامعة ليجتمعوا إن لم يكونوا اجتمعوا، ومن أنها لا تصلى في الأوقات المكروهة، ومن أنه لا
يكره تطويل القيام والركوع والسجود والأدعية والأذكار الذي هو من خصائص النوافل.
واحترز بقوله كالنفل عن قول أبي يوسف فإنه قال: كهيئة صلاة العيد. وتقييده بإمام
الجمعة بيان للمستحب. قال القاضي الأسبيجابي: ويستحب في كسوف الشمس ثلاثة أشياء:
الإمام والوقت والموضع. إما الإمام فالسلطان أو القاضي ومن له ولاية إقامة الجمعة والعيدين،
وأما الوقت فهو الذي يباح فيه التطوع والموضع الذي يصلي فيه صلاة العيد أو المسجد الجامع
ولو صلوا في موضع آخر أجزأهم ولكن الأول أفضل، ولو صلوا وحدانا في منازلهم جاز
ويكره أن يجمع في كل ناحية اه‍. وبه اندفع ما في السراج الوهاج أن في ذكر الإمام إشارة إلى

291
أنه لا بد من شرائط الجمعة وهو كذلك إلا الخطبة اه‍. لكن جعله الوقت من المستحبات لا
يصح لأنه لا تجوز الصلاة في الأوقات المكروهة ولم يبين المصنف رحمه الله صفتها من الوجوب
والسنية. وقد ذكر في البدائع قولين وذكر محمد في الأصل ما يدل على عدم الوجوب فإنه قال:
ولا تصلى نافلة في جماعة إلا قيام رمضان، وصلاة الكسوف استثناها من النافلة، والمستثنى من
جنس المستثنى منه فدل على كونها نافلة، لكن مطلق الامر في قوله عليه الصلاة والسلام
فصلوا يدل على الوجوب إلا لصارف. وما قد يتوهم من أنه ذكره مع قوله وادعوا فإن
الدعاء ليس بواجب اجماعا فكذا الصلاة غير صحيح لأن القرآن في النظم لا يوجب القرآن في
الحكم.
قوله: (بلا جهر) تصريح بما علم من قوله كالنفل لأن النفل النهاري لا يكون جهرا
لدفع قولهما من الجهر لحديث ابن عباس: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكسوف فقام بنا قياما
طويلا نحوا من سورة البقرة، ولو جهر لما احتيج إلى الحزر، وقد تركنا الدلائل الكثيرة في
هذا الباب والكلام مع الشافعي والصاحبين روما للاختصار. قال في المجتبي: وأما قدر
القراءة فيها فروي أنه عليه السلام قام في الركعة الأولى بقدر سورة البقرة، وفي الثانية بقدر
سورة آل عمران، فإن طول القراءة خفف الدعاء أو على العكس اه‍. قوله: (وخطبة) أي بلا
خطبة لأنه عليه الصلاة والسلام أمر بها ولم يبين الخطبة، وما ورد من خطبته يوم مات إبراهيم
وكسفت الشمس فإنما كان للرد على من قال إنها كسفت لموته لا لأنها مشروعة له، ولذا
خطب بعد الانجلاء ولو كانت سنة له لخطب قبله كالصلاة الدعاء قوله: (ثم يدعو حتى
تنجلي الشمس) أي يدعو الإمام والناس معه حتى تنجلي الشمس للحديث المتقدم. أطلقه
فأفاد أن الداعي مخير إن شاء دعا جالسا مستقبل القبلة وإن شاء دعا قائما يستقبل الناس
بوجهه. قال الحلواني: وهذا أحسن، ولو قام ودعا معتمدا على عصا أو قو س كان أيضا
حسنا. وأفاد بكلمة ثم أن السنة تأخير الدعاء عن الصلاة لأنه هو السنة في الأدعية. وفي
المحيط: ولا يصعد الإمام على المنبر للدعاء ولا يخرج قوله: (وإلا صلوها فرادي) أي إن لم
يحضر إمام الجمعة صلى الناس فرادى تحرزا عن الفتنة إذ هي تقام بجمع عظيم. وروي عن
أبي حنيفة أن لكل إمام مسجد أن يصلي بجماعة والصحيح ظاهر الرواية لأن أداء هذه

292
الصلوات بالجماعة عرف بإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما يقيمها الآن من هو قائم مقامه، فإن لم
يقمها الإمام صلى الناس فرادى إن شاؤوا ركعتين وإن شاؤوا أربعا والأربع أفضل، ثم إن
شاؤوا طولوا القراءة وإن شاؤوا قصروا واشتغلوا بالدعاء حتى تنجلي الشمس. كذا في
البدائع قوله: (كالخسوف والظلمة والريح والفزع) أي حيث يصلي الناس فرادى لأنه قد
خسف القمر في عهده عليه السلام مرارا ولم ينقل أنه جمع الناس له، ولان الجمع فيه متعسر
كالزلازل والصواعق وانتشار الكواكب والضوء الهائل بالليل والثلج والأمطار الدائمة وعموم
الأمراض والخوف الغالب من العدو ونحو ذلك من الافزاع والأهوال، لأن ذلك كله من
الآيات المخوفة والله تعالى يخوف عباده ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى الطاعة التي فيها فوزهم
وخلاصهم، وأقرب أحوال العبد في الرجوع إلى ربه الصلاة. وذكر في البدائع أنهم يصلون
في منازلهم. وفي المجتبي: وقيل الجماعة جائزة عندنا لكنه ليست بسنة والله أعلم..
باب الاستسقاء
هو طلب السقيا من الله تعالى بالثناء عليه والفزع إليه والاستغفار، وقد ثبت ذلك
بالكتاب والسنة والاجماع. أما الكتاب فقوله تعالى حكاية عن نوح عليه السلام حين أجهد
قومه القحط والجدب * (فقلت استغفروا ربكم كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا)
* (نوح: 10) وأما السنة فصح في الآثار الكثيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى مرارا وكذا الخلفاء
بعده والأمة بعده والأمة أجمعت عليه خلفا عن سلف من غير نكير قوله: (له صلاة لا بجماعة) عند
أبي حنيفة بيان لكونها مشروعة في حق المنفرد وإن لجماعة ليست بمشروعة لها ولم يبين

293
صفتها وقد اختلف فيها، والظاهر ما في الكتاب من أنها جائزة وليست بسنة. وقالا: يصلي
الإمام ركعتين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه ركعتين كصلاة العيد. قلنا: فعله مرة وتركه
أخرى فلم يكن سنة كذا في الهداية قوله: (ودعاء واستغفار) أي للاستسقاء دعاء واستغفار لما
تلونا قوله: (لا قلب رداء) أي ليس فيه قلب رداء لأنه دعاء فيعتبر بسائر الأدعية، ولا فرق
بين الإمام والقوم. وقالا: يقلب الإمام رداءه واختاره القدوري وهو أن يجعل الأيمن على
الأيسر والأيسر على الأيمن ليقلب الله تعالى الحال من الجدب إلى الخصب، ومن العسر إلى
اليسر. وقيل: أن يجعل أعلاه أسفل. وفي المدور: يعتبر اليمين واليسار قوله: (وإنما
يخرجون ثلاثة أيام) يعني متتابعات ويخرجون مشاة في ثياب خلف غسيلة أو مرقعة متذللين
متواضعين خاشعين لله تعالى ناكسي رؤوسهم، ويقدمون الصدقة في كل يوم قبل خروجهم
ويجددون التوبة ويستغفرون للمسلمين ويتواضعون بينهم ويستسقون بالضعفة والشيوخ. وفي
المجتبي: والأولى أن يخرج الإمام بالناس وإن امتنع وقال اخرجوا جاز، وإن خرجوا بغير إذنه
جاز. ولا يخرج في الاستسقاء منبر بل يقوم الإمام والقوم قعود فإن أخرجوا المنبر جاز لحديث
عائشة رضي الله عنها أنه أخرج المنبر لاستسقائه صلى الله عليه وسلم، وقيد بالخروج ثلاثة أيام لأنه لم ينقل
أكثر منها قوله: (لا يحضر أهل الذمة الاستسقاء) لنهي عمر رضي الله عنه ولان المقصود هو
الدعاء قال تعالى * (وما دعاء الكافرين إلا في ضلال) * (الرعد: 14) وفي فتاوي قاضيخان:

294
اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقال يستجاب دعاء الكافرين ولم يرجح، وذكر الولوالجي أن
الفتوى على أنه يجوز أن يقال يستجاب دعاؤه ا ه‍. وأطلق المصنف الخروج للاستسقاء
واستثنى في فتح القدير مكة وبيت المقدس فيجتمعون في المسجد ولم يستثن مسجد المدينة
لعله لضيقه وإلا فهو أفضل من بيت المقدس والله تعالى أعلم.
باب الخوف
أي صلاته. ووجه المناسبة أن شرعية كل منهما لعارض خوف. وقدم الاستسقاء لأن
العارض هناك انقطاع المطر وهو سماوي وهنا اختياري وهو الجهاد الذي سببه كفر الكافر
قوله: (إن اشتد من عدو أو سبع وقف الإمام طائفة بإزاء العدو وصلى بطائفة ركعة وركعتين
لو مقيما مضت هذه إلى العدو وجاءت تلك فصلى بهم ما بقي وسلم وذهبوا إليهم وجاءت
الأولى وأتموا بلا قراءة وسلموا ثم الأخرى وأتموا بقراءة) هكذا صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من
حديث ابن عمر، وهناك كيفيات أخرى معلومة في الخلافيات. وذكر في المجتبي أن الكل
جائز وإنما الخلاف في الأولى. وفي العناية: ليس الاشتداد شرطا عند عامة مشايخنا. قال في
التحفة: سبب جواز صلاة الخوف نفس قرب العدو من غير ذكر الخوف والاشتداد شرطا عند عامة مشايخنا. قال في التحفة: سبب جواز صلاة الخوف نفس قرب العدو من غير ذكر الخوف والاشتداد. قال
فخر الاسلام في مبسوطة: المراد بالخوف عند البعض حضرة العدو لا حقيقة الخو ف لأن

295
حضرة العدو وأقيمت مقام الخوف على ما عرف في أصلنا في تعليق الرخصة بنفس السفر لا
حقيقة المشقة، لأن السفر سبب المشقة فأقيم مقامها، فكذا حضرة العدو هنا سبب الخوف
فأقيم مقامه حقيقة الخوف ا ه‍. وفي فتح القدير: واعلم أن صلاة الخوف على الصفة
المذكورة إنما تلزم إذا تنازع القوم في الصلاة، أما إذا لم يتنازعوا فالأفضل أن يصلي بإحدى
الطائفتين تمام الصلاة ويصلي بالطائفة الأخرى إمام آخر تمامها ا ه‍. وذكر الأسبيجابي أن من
انصرف منهم إلى وجه العدو راكبا فإنه لا يجوز، سواء كان انصرافه من القبلة إلى العدو
وعكسه وإنما تتم الطائفة الأولى بلا قراءة لأنهم لاحقون ولذا لو حاذتهم امرأة فسدت
صلاتهم، والثانية بقراءة لأنهم مسبوقون ولذا لو حاذتهم امرأة لا تفسد صلاتهم، ويدخل تحته
المقيم خلف المسافر حتى يقضي ثلاث ركعات بلا قراءة إن كان من الطائفة الأولى، وبقراءة
إن كان من الثانية. والمسبوق إن أدرك ركعة من الشفع الأول فهو من الطائفة الأولى وإلا فهو
من الثانية. وأطلق في الصلاة فشمل كل صلاة تؤدي بجماعة كالصلوات الخمس ومنها
الجمعة وكذا العيد، وفي المجتبي: ويسجد للسهو في صلاة الخوف لعموم الحديث ويتابعه
من خلفه ويسجد اللاحق في آخر صلاته.
قوله: (وصلى في المغرب بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة) لأن الركعتين شطر في المغرب
ولهذا شرع القعود عقبيهما ولان الواحد لا يتجزى فكانت الطائفة الأولى أولى بها للسبق،
فإذا ترجحت عند التعارض لزم اعتباره، ومسائل خطأ الإمام وتفاريعهم تركناها عمدا
للاستغناء عنها قوله: (ومن قاتل بطلت صلاته) لأنه عمل كثير مفسد للصلاة وهو مراده
بالمقاتلة وإلا فلو قاتل بعمل قليل كالرمية لا تفسد كما علم في مفسدات الصلاة. واستدل
في المجتبي بحديث المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل عن أربع صلوات يوم الخندق فصلاهن من بعد
ما مضي من الليل، ولو جاز مع القتال لما أخرهن عن وقتهن ا ه‍. وأشار المصنف إلى أن
السابح في البحر إذا لم يمكنه أن يرسل أعضاءه ساعة فإنه لا يصلي فإن صلى لا تصح، وإن
أمكنه ذلك فإنه يصلي بالايماء. كذا في المجتبي قوله: (فإذا اشتد الخوف صلوا ركبانا فرادي
بالايماء إلى أي جهة قدروا) لقوله تعالى * (فإن خفتم فرجا لا أو ركبانا) * (البقرة: 239)
والتوجه إلى القبلة للضرورة. أراد بالاشتداد أن لا يتهيأ لهم النزول عن الدابة كما في غاية
البيان. قيد بقوله فرادي لأنه لا يجوز بجماعة لعدم الاتحاد في المكان إلا إذا كان راكبا مع
الإمام على دابة واحدة فإنه يجوز اقتداء المتأخر منهما بالمتقدم اتفاقا. ويرد على المصنف ما إذا
صلى راكبا في المصر فإنه لا يجوز إلا أن يقال: إنه معلوم مما قدمه من أن التطوع لا يجوز في
المصر راكبا فكذا الفرض للضرورة. وقيد بالركوب لأنه لا يجوز ماشيا في غير المصر لأن المشي

296
عمل كثير مفسد للصلاة كالغريق السابح كما قدمناه. وفي المحيط: والراكب إن كان طالبا لا
يجوز صلاته على الدابة لعدم ضرورة الخوف في حقه وإن كان مطلوبا فلا بأس أن يصلي وهو
سائر لأن السير فعل الدابة حقيقة وإنما أضيفت إليه معنى بتسييره، فإذا جاء العذر انقطعت
الإضافة إليه بخلاف ما لو صلى وهو يمشي حيث لا يجوز لأن المشي فعله حقيقة وهو مناف
للصلاة ا. قوله: (ولم تجر بلا حضور عدو) لعدم الضرورة حتى لو رأو سوادا فظنوا أنه
عدو فصلوا صلاة الخوف ثم بأن أنه ليس بعد وأعادوها لما قلنا إلا إذا بان لهم قبل أن
يتجاوز الصفوف فإن لهم أن يبنوا استحسانا، وهذا كله في حق القوم، وأما الإمام فصلاته
جائزة بكل حال لعدم المفسد في حقه والله أعلم.

297
كتاب الجنائز
جمع جنازة وهي بالكسر السرير، وبالفتح الميت. وقيل: هما لغتان كذا في المغرب.
ومناسبته لما قبله أن الخوف والقتال يفضي إلى الموت، أو لما فرغ من بيان الصلاة حال الحياة
شرع في بيانها حال الموت، وأخر الصلاة في الكعبة ليكون ختم كتاب الصلاة بما يتبرك بها
حالا ومكانا. وصفتها أنها فرض كفاية بالاجماع حتى لا يسع للكل تركها كالجهاد. وسبب
وجوبها الميت المسلم لأنها شرعت قضاء لحقه ولهذا تضاف إليه فيقال صلاة الجنازة - بالفتح -
بمعنى الميت. وركنها التكبيرات والقيام لأن كل تكبيرة منها قائمة مقام ركعة. وشرطها على
الخصوص اثنان: كونه مسلما وكونه مغسولا. كذا في المحيط. ويزاد على الشرطين كونه أمام
المصلي كما صرحوا به. وسننها التحميد والثناء والدعاء، وما ذكروه منها من كونه مكفنا
بثلاثة أثواب أو بثيابه في الشهيد فهو تساهل كما في فتح القدير إذ ليس الكفن من سنن
الصلاة قوله: (ولي المحتضر القبلة على يمينه) أي وجه وجه من حضره الموت فالمحتضر من
قرب من الموت، علامته أن يسترخي قدماه فلا ينتصبان وينعوج أنفه وينخسف صدغاه
وتمتد جلده الخصية لأن الخصية تتعلق بالموت وتتدلى جلدتها. ولا يمتنع حضور الجنب
والحائض وقت الاحتضار وإنما يوجه إلى القبلة على يمينه لأنه السنة المنقولة، واختار مشايخنا
بما وراء النهر الاستلقاء على ظهره وقدماه إلى القبلة لأنه أيسر لخروج الروح. وتعقبه في فتح
القدير وغيره بأنه لم يذكر فيه وجه ولم يعرف إلا نقلا والله أعلم بالأيسر منهما ولكنه أيسر
لتغميضه وشد لحيته وأمنع من تقوس أعضائه، ثم إذا ألقي على القفا يرفع رأسه قليلا ليصير
وجهه إلى القبلة دون السماء ا ه‍. وفي المبتغي بالمعجمة: والأصح أنه يوضع كما تيسر
لاختلاف المواضع والأماكن ا ه‍. وهذا كله إذا لم يشق عليه، فإذا شق عليه ترك على حاله

298
كذا في المجتبي. وذكر في المحيط الاضطجاع للمريض أنواع أحدها في حالة الصلاة وهو أن
يستلقي على قفاه، والثاني إذا قرب من الموت يضجع على الأيمن واختير الاستلقاء، والثالث
في حالة الصلاة على الميت يضجع على قفاه معترضا للقبلة. والرابع في اللحد يضجع على
شقه الأيمن ووجهه إلى القبلة هكذا توارثت السنة ا ه‍. وفي معراج الدراية: والمرجوم لا
يوجه ا ه‍. قوله: (ولقن الشهادة) بأن يقال عنده لا إله إلا الله محمد رسول الله ولا يؤمر بها
للحديث الصحيح من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة (1) وهو تحريض على التلقين
بها عند الموت فيفيد الاستحباب، وحينئذ فلا حاجة إلى الاستدلال بالحديث الآخر لقنوا
موتاكم قول لا إله إلا الله (2) فإن حقيقته التلقين بعد الموت وقد اختلفوا فيه. وقولهم إنه
مجاز تسمية للشئ باسم ما يؤل إليه قول لا دليل عليه لأن الأصل الحقيقة، وقد أطال
المحقق في فتح القدير في رده. وفي المجتبي: وإذا قالها مرة كفاه ولا يكثر عليه ما لم يتكلم
بعد ذلك، ولما أكثر على ابن المبارك عن الوفاة قال: إذا قلت ذلك مرة فأنا على ذلك ما لم
أتكلم لأن الغرض من التلقين أن يكون لا إله إلا الله آخر قوله ا ه‍. وفي القنية: اشتد
مرضه ودنا موته فالواجب على إخوانه وأصدقائه أن يلقنوه الشهادة ا ه‍. وينبغي أن يكون
مستحبا كما قدمناه لأن الامر في الحديث لم يكن على حقيقته بل استعمل في مجازه فلم يكن
قطعي الدلالة فلم يفد الوجوب. قالوا: إذا ظهر منه كلمات توجب الكفر لا يحكم بكفره.
ويعامل معاملة موتى المسلمين حملا على أنه في حال زوال عقله، ولذا اختار بعض المشايخ أن
يذهب عقله قبل موته لهذا الخوف، وبعضهم اختاروا قيامه حال الموت، وقد اعتاد الناس
قراء يس عند المحتضر وسيأتي.
قوله: (فإن مات شد لحياه وغمض عيناه) بذلك جري التوارث ثم فيه تحسينه
فيستحسن وتقدم في الوضوء أن اللحي بفتح اللام منبت اللحية من الانسان أو العظم الذي
عليه الأسنان. وعن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على أبي سلمة بعد الوفاة وقد شق بصره
فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع

299
درجته في المهديين واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا رب العالمين وافسح له في
قبره ونور له فيه. قال في المجتبي: وينبغي أن يحفظه كل مسلم فيدعو به عند الحاجة. وفي
النتف: يصنع بالمحتضر عشرة أشياء: يوجه إلى القبلة على قفاه أو يمينه، ويمد أعضاؤه،
ويغمض عيناه، ويقرأ عنده سورة يس، ويحضر عنده من الطبيب، ويلقن لا إله إلا الله،
ويخرج من عنده الحائض والنفساء والجنب، ويوضع على بطنه سيف لئلا ينتفخ، ويقرأ عنده
القرآن إلى أن يرفع ا ه‍. أي إلى أن يرفع روحه. وفي التبيين: ويقول مغمضه بسم الله وعلى
ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللهم يسر عليه أمره وسهل عليه ما بعده وأسعده بلقائك واجعل ما
خرج إليه خيرا مما خرج عنه. وفي المحيط: وليسرع في جهازه لقوله عليه الصلاة والسلام
عجلوا بموتاكم فإن بك خيرا الف قدمتموه إليه، وإن يك شرا فبعدا لأهل النار (1) قوله:
(ووضع على سرير مجمر وترا) لئلا يعتريه الأرضي نداوة ولينصب عنه الماء عند غسله، وفي
التجمير تعظيمه وإزالة الرائحة الكريهة والوتر أحب إلى الله من غيره. وكيفيته أن يدار
بالمجمرة حول السرير مرة أو ثلاثا أو خمسا ولا يزاد عليها. كذا في التبيين. وفي النهاية
والكافي وفتح القدير: أو سبعا ولا يزاد عليه. وفي الظهيرية: وكيفيته الوضع عند بعض
أصحابنا الوضع طولا كما في حالة المرض إذا أراد الصلاة بإيماء، ومنهم من اختار الوضع
عرضا كما يوضع في القبر والأصح أنه يوضع كما تيسر ا ه‍. وظاهر كلامه أن السرير يجمر
قبل وضعه عليه وأنه يوضع عليه كمامات ولا يؤخر إلى وقت الغسل. وفي الغاية: يفعل

300
هذا عند إرادة غسله إخفاء للرائحة الكريهة. وقال القدوري: إذا أرادوا غسله وضعوه على
سريره والأول أشبه لما ذكرنا. وفي التبيين: وتكره قراءة القرآن عنده إلى أن يغسل. وفي
المغرب: جمر ثوبه وأجمره بخره.
قوله: (وستر عورته) إقامة لواجب الستر ولان النظر إليها حرام كما في عورة الحي.
وأطلق العورة فشملت الخفيفة والغليظة وصححه في التبيين وغاية البيان، وصحح في الهداية
والمجتبي أنها العورة الغليظة تيسيرا ولبطلان الشهوة، وجعله في الكافي والظهيرية ظاهر
الرواية. وفي المحيط: ويغسل عورته تحت الخرقة بعد أن يلف على يده خرقة لتصير الخرقة
حائلة بين يده وبين العورة لأن اللمس حرام كالنظر قوله: (وجرد) أي من ثيابه ليمكنهم
التنظيف وتغسيله عليه الصلاة والسلام في قميصه خصوصية له. قالوا: يجرد كما مات لأن
الثياب تحمى فيسرع إليه التغيير قوله: (ووضئ بلا مضمضة ولا استنشاق) لأن الوضوء سنة
الاغتسال غير أن إخراج الماء متعذر فيتركان. وفي الظهيرية: ومن العلماء من قال يجعل
الغاسل خرقة في أصبعه يمسح بها أسنانه ولهاته ولثته ويدخل في منخريه أيضا ا ه‍. وفي
المجتبي: وعليه العمل اليوم. وظاهر كلام المصنف أن الغاسل يمسح رأس الميت في الوضوء

301
وهو ظاهر الرواية كالجنب، وفي رواية لا فيهما لكنه لا يؤخر غسل رجليه في هذا الوضوء
ولا يبدأ بغسل يديه بل بوجهه فخالف الجنب فيهما كذا في المحيط. ولم يذكر الاستنجاء
للاختلاف فيه فعندهما يستنجي، وعند أبي يوسف لا. وأطلقه فشمل البالغ والصبي إلا أن
الصبي الذي لا يعقل الصلاة لا يوضأ لأنه لم يكن بحيث يصلي قوله: (وصب عليه ماء مغلي
بسدر أو حرض) مبالغة في التنظيف لأن تسخين الماء كذلك مما يزيد في تحقيق المطلوب فكان
مطلوبا شرعا. وما يظن مانعا وهو كون سخونته توجب انحلال ما في الباطن فيكثر الخارج
هو عندنا داع لا مانع لا المقصود يتم إذ يحصل باستفراغ ما في الباطن تمام النظافة والأمان
من تلويث الكفن عند حركة الحاملين له، فعندنا الماء الحار أفضل على كل حال. والحرض
اشنان غير مطحون والمغلي من الاغلاء لا من الغلي والغليان لأنه لازم. كذا في المعراج قوله:
وإلا فالقراح) أي إن لم يتيسر ما ذكره فيصب عليه الماء الخالص لأن المقصود هو الطهارة
ويحصل به قوله: (وغسل رأسه ولحيته بالخطمي) لأنه أبلغ في استخلاص الوسخ وإن لم يكن
فبالصابون ونحوه لأنه يعمل عمله. هذا إذا كان في رأسه شعر اعتبارا بحالة الحياة.
والخطمي بكسر الخاء نبت يغسل به الرأس كما في الصحاح. ونقل القاضي عياض في
تنبيهاته الفتح لا غير والمراد به خطمي العراق قوله: (واضجع على يساره فيغسل حتى يصل
الماء إلى ما يلي التخت منه ثم على يمينه كذلك) لأن السنة هي البداءة من الميامن والمراد بما
يلي التخت منه الجنب المتصل بالتخت، والتخت بالخاء المعجمة لا بالحاء المهملة لأن بالحاء
المهملة يوهم أن غسل ما يلي التخت من الجنب لا الجنب المتصل بالتخت، أما بالخاء المعجمة
يفهم الجنب المتصل.، كذا في معراج الدراية، وبه اندفع ما ذكره العيني من جواز الوجهين.
قوله: (ثم اجلس مسندا إليه ومسح بطنه رفيقا وما خرج منه غسله) تنظيفا له. ثم
اعلم أن المصنف ذكر غسله مرتين: الأولى بقوله وأضجع على يساره فيغسل الثانية بقوله
ثم علي يمينه كذلك، ولم يذكر الغسلة الثالثة تمام السنة. قال في المحيط بعد إقعاده: ثم

302
يضجعه على شقه الأيسر ويغسله لأن التثليث مسنون في غسل الحي فكذا في غسل الميت،
وما قيل من أنه ذكرها بقوله وصب عليه ماء مغلي فغير صحيح لأنها ليست غسلة من
الثلاث بدليل قوله بعد وغسل رأسه ولحيته بالخطمي " فإن السنة أن يبدأ يغسلهما قبل الغسلة
الأولى وإنما هو كلام إجمالي لبيان كيفية الماء، والحاصل أن السنة أنه إذا فرغ من وضوئه غسل
رأسه ولحيته بالخطمي من غير تسريح ثم يضجعه على شقه الأيسر ويغسله وهذه مرة، ثم على
الأيمن كذلك وهذه ثانية، ثم يقعده ويمسح بطنه كما ذكره ثم يضجعه على الأيسر فيصب
الماء عليه وهذه ثالثة، لكن ذكر خواهر زاده أن المرة الأولى بالماء القراح، والثانية بالماء المغلي
فيه سدد أو حرض، والثالثة بالماء الذي فيه الكافور. ولم يفصل صاحب الهداية في مياه
الغسلات بين القراح وغيره وهو ظاهر كلام الحاكم. وفي فتح القدير: والأولى أن يغسل
الأوليان بالسدر ولم يذكر المصنف كمية الصبات. وفي المجتبي: يصب الماء عليه عند كل
إضجاع ثلاث مرات وإن زاد على الثلاث جاز قوله: (ولم يعد غسله) لأن الغسل عرفناه
بالنص وقد حصل مرة، وكذا لا تجب إعادة وضوئه لأن الخارج من قبل أو دبر أو غيرهما
ليس بحدث لأن الموت حدث كالخارج فلما لم يؤثر الموت في الوضوء وهو موجود لم يؤثر
الخارج. وضبط في معراج الدراية الغسل هنا بالضم، وفي العناية يجوز فيه الضم والفتح.
وذكر في السراج الوهاج من بحث الطهارة أنه بفتح الغين كغسل الثوب قال: والضابط أنك
إذا أضفت إلى المغسول فتحت، وإذا أضيفت إلى غير المغسول ضممت قوله: (ونشف في
ثوب) كيلا يبتل أكفانه. وفي الولواجية: المنديل الذي يمسح به الميت بعد الغسل كالمنديل
الذي يمسح به الحي ا ه‍. يعني أنه طاهر قوله: (وجعل الحنوط على رأسه ولحيته) لأن
التطيب سنة. وذكر الرازي أن هذا الجعل مستحب. والحنوط عطر مركب من أشياء طيبة ولا
بأس بسائر الطيب غير الزعفران والورس اعتبارا بالحياة، وقد ورد النهي عن المزعفر للرجال
وبهذا يعلم جهل من يجعل الزعفران في الكفن عند رأس الميت في زماننا قوله: (والكافور
على مساجده) زيادة في تكرمتها وصيانة للميت عن سرعة الفساد وهي موضع سجوده جمع
مسجد بالفتح لا غير كذا في المغرب. واختلف فيها فذكر السرخسي أنها الجبهة والأنف

303
واليدان والركبتان والقدمان. وذكره القدوري في شرح الكرخي أنها الجبهة واليدان والركبتان
ولم يذكر الانف والقدمين. كذا في غاية البيان. ولم يذكر المصنف في الغسل استعمال القطن
لأنه لم يرد في الروايات الظاهرة. وعن أبي حنيفة أنه يجعل القطن المحلوج في منخريه وفمه.
وقال بعضهم: في صماخيه. وقال بعضهم: في دبره أيضا. قال في الظهيرية: واستقبحه
عامة المشايخ.
قوله: (ولا يسرح شعره ولحيته ولا يقص ظفره وشعره) لأنها للزينة وقد استغنى عنها،
والظاهر أن هذا الصنيع لا يجوز. قال في القنية: أما التزين بعد موتها والامتشاط وقطع
الشعر لا يجوز والطيب يجوز والأصح أنه يجوز للزوج أن يراها. وفي المجتبي: ولا بأس
بتقبيل الميت. وذكر اللحية مع الشعر من باب عطف الجزء على الكل اهتماما بمنع تسريحها،
وليس هو من قبيل التكرار كما توهمه الشارح. وفي الظهيرية: ولو تكسر ظفر الميت فلا بأس
بأن يؤخذ، روي ذلك عن أبي حنيفة وأبي يوسف ا ه‍. ولم يذكر المصنف صفة الغسل ومن
يغسل والغاسل وحكم الميت قبله وبعده. أما الأول فهو من فروض الكفاية كالصلاة عليه
وتجهيزه ودفنه حتى لو اجتمع أهل بلدة على تركها قوتلوا، ولو صلوا عليه قبل الغسل أعادوا
الصلاة. وكذا إذا ذكر قبل أن يهال عليه التراب ينزع اللبن ويخرج ويغسل ويصلي عليه،
وإن أهالوه لم ينبش ولم تعد الصلاة عليه، ولو بقي منه عضو فذكروه بعد الصلاة والتكفين
يغسل ذلك العضو ويعاد، فإن بقي أصبع ونحوه بعد التكفين لا يغسل. وقال محمد: يغسل
على كل حال كذا في المجتبي. وفي القنية: وجد رأس آدمي لا يغسل ولا يصلى عليه ولو
غسل صار الماء مستعملا، ولو مات في بيته فقالت الورثة لا نرضى بغسله فيه ليس لهم ذلك
لأن غسلة في بيته من حوائجه وهي مقدمة على الورثة ا ه‍. وفي الظهيرية: والأفضل أن
يغسل الميت مجانا فإن ابتغى الغاسل الاجر فهو على وجهين: إن كان هناك غيره يجوز أخذ الأجر
وإلا فلا. واختلفوا في استئجار الخياط لخياطة الكفن وأجرة الحاملين والحفار والدفان
من رأس المال اه‍. وفي الخانية: إذا جرى الماء على الميت أو أصابه المطر عن أبي يوسف أنه
لا ينوب عن الغسل لأنا أمرنا بالغسل وجريان الماء وإصابة المطر ليس بغسل. والغريق يغسل
ثلاثا عند أبي يوسف. وعن محمد: إذا نوى الغسل عند الاخراج من الماء يغسل مرتين وإن لم
ينو يغسل ثلاثا، وفي رواية يغسل مرة واحدة ا ه‍. وفي فتح القدير: الظاهر اشتراط النية
فيه لاسقاط وجوبه عن المكلف لا لتحصيل طهارته هو وشرط صحة الصلاة عليه ا ه‍. وفي
فتاوي قاضيخان: ميت غسله أهله بغير نية أجزأهم ذلك ا ه‍. واختاره في الغاية

304
والأسبيجابي لأن غسل الحي لا يشترط له النية فكذا غسل الميت. وإما الثاني فالموتى ضربان:
من يغسل ومن لا يغسل. والأول ضربان: من يغسل ليصلى عليه ومن يغسل لا للصلاة.
فالأول من مات بعد الولادة وله حكم الاسلام، والثاني الجنين الميت على ما سيأتي، وكذا
الكافر غير الحربي إذا مات وله ولي مسلم كما سيأتي. والثاني ضربان: من لا يغسل إهانة
وعقوبة كقتلى أهل البغي والحرب وقطا الطريق، وضرب لا يغسل إكراما وفضيلة
كالشهداء. ولو اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار يغسلون إن كان المسلمون أكثر وإلا فلا.
ومن لا يدري أمسلم أم كافر إن كان عليه سيما المسلمين أو في بقاع ديار الاسلام يغسل وإلا
فلا. ولو وجد الأكثر من الميت أو النصف مع الرأس غسل وصلى عليه وإلا فلا.
وأما الغاسل فمن شرطه أن يحل له النظر إلى المغسول فلا يغسل الرجل المرأة ولا المرأة
الرجل والمجبوب والخصي فأما الخنثى المشكل المراهق إذا مات ففيه اختلاف والظاهر أنه
ييمم وإذا ماتت المرأة في السفر بين الرجال ييممها ذو رحم محرم منها، وإن لم يكن لف
الأجنبي على يديه خرقة ثم ييممها، وإن كانت أمة ييممها الأجنبي بغير ثوب، وكذا إذا مات
رجل بين النساء تيممه ذات رحم محرم منه أو زوجته أو أمته بغير ثوب وغيرهن بثوب،

305
والصبي الذي لا يشتهي والصبية كذلك غسلهما الرجال والنساء، ولا يغسل الرجل زوجته
والزوجة تغسل زوجها دخل بها أو لا بشرط بقاء الزوجية عند الغسل حتى لو كانت مبانة
بالطلاق وهي في العدة أو محرمة بردة أو رضاع أو مصاهرة لم تغسله، ولم يغسل المولى أم
ولده وكذا مدبرته ومكاتبته، وكذا على العكس في المشهور عن أبي حنيفة. الكل في المجتبي.
وفي الواقعات: رجل له امرأتان قال إحداكما طالق ثلاثا بعد الدخول بهما ثم مات قبل أن
يبين فليس لواحدة منهما أن تغسله لجواز أن كل واحدة منهما مطلقة، ولهما الميراث وعليهما
عدة الطلاق والوفاة. ولو مات عن امرأته وهي مجوسية لم تغسله لأنه كان لا يحل له المس
حال حياته فكذا بعد وفاته بخلاف التي ظاهر منها لأن الحل قائم، فإن أسلمت قبل أن
يغسل غسلته اعتبارا بحالة الحياة. وكذا لو مات عن امرأته وأختها منه في عدته لم تغسله فإن
انقضت عدتها قبل أن يغسل غسلته لما قلنا ا ه‍. وفي الولوالجية: إذا ارتدت المنكوحة بعد
موته أو قبلت ابنه لا تغسله، وكذا إذا وطئت بالشبهة لأن هذه الأشياء تنافي النكاح وتحرم
المس. وفيها: إذا كان مع النساء رجل من أهل الذمة أو مع الرجال امرأة ذمية يعلمان الغسل
لأن السنة تتأدى بغسله ولكن لا يهتدي إلى السنة فيعلم. وفي المحيط: لو مات عنها وهي
حامل فوضعت لا تغسله لانقضاء عدتها. وفي المجتبي: وأما ما يستحب للغاسل فالأولى أن
يكون أقرب الناس إلى الميت، فإن لم يعلم الغسل فأهل الأمانة والورع للحديث، فإن كان
الغاسل جنبا أو حائضا أو كافرا جاز، واليهودية والنصرانية كالمسلمة في غسل زوجها لكنه
أقبح، وليس على من غسل ميتا غسل ولا وضوء ا ه‍. وأما حكمه قبله ففيه اختلاف،
فقيل: أنه محدث وهو سبب وجوبه لنجاسة حلت به، وإنما وجب غسل جميع الجسد لعدم
الحرج. وقيل: ينجس بالموت واقتصر عليه في المحيط مستدلا بأنه لو وقع في الماء القليل قبل
الغسل نجسه، ولو صلى وهو حامل للميت لا يجوز فيجب تطهيره بالغسل شرعا كرامة له
وشرفا ا ه‍. وصححه في الكافي ونسبه في البدائع إلى عامة المشايخ. قال في فتح القدير:

306
وقد روي في حديث أبي هريرة سبحان الله إن الميت لا ينجس حيا ولا ميتا (1) فإن صحت
وجب ترجيح أنها للحدث ا ه‍. واتفقوا أن حكمه بعده إن كان مسلما الطهارة ولذا يصلي
عليه، فما يتوهم من أن الحنفية إنما منعوا من الصلاة عليه في المسجد لأجل نجساته خطأ،
واتفقوا على أن الكافر لا يطهر بالغسل وأنه لا تصح صلاة حامله بعده.
قوله: (وكفنه سنة أزار وقميص ولفافة) لحديث البخاري: كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
ثلاثة أثواب بيض سحولية. وسحول بفتح السين قرية باليمن. والأزرار واللفافة من القرن
إلى القدم. والقرن هنا بمعنى الشعر، واللفافة هي الرداء طولا. وفي بعض نسخ المختار أن
الإزار من المنكب إلى القدم هذا ما ذكروه وبحث فيه في فتح القدير بأنه ينبغي أن يكون
إزار الميت كإزار الحي من السرة إلى الركبة لأنه عليه السلام أعطي اللاتي غسلن ابنته حقوة
وهي في الأصل معقد الإزار ثم سمي به الإزار للمجاورة. والقميص من المنكب إلى القدم
بلا دخاريص لأنها تفعل في قميص الحي ليتسع أسفله للمشي، وبلا جيب ولا كمين ولا
يكف أطرافه، ولو كفن في قميص قطع جيبه ولبته كذا في التبيين. والمراد بالجيب الشق

307
النازل على الصدر. وفي العناية: التكفين في ثلاثة أثواب هو السنة وذلك لا ينافي أن
يكون أصل التكفين واجبا. ولم يذكر المصنف العمامة لما في المجتبي: وتكره العمامة في
الأصح. وفي فتح القدير: واستحسنها بعضهم لما روي عن ابن عمر أنه كان يعممه ويجعل
العذبة على وجهه ا ه‍. وفي الظهيرية: استحسنها بعضهم للعلماء والاشراف فقط. وأشار
المصنف إلى أنه لا يزاد للرجل على ثلاثة وصرح في المجتبي بكراهتها. واستثني في روضة
الزندوستي ما إذا أوصى بأن يكفن في أربعة أو خمسة فإنه يجوز بخلاف ما إذا أوصى أن
يكفن في ثوبين فإنه يكفن في ثلاثة، ولو أوصى بأن يكفن بألف درهم كفن كفنا وسطا
ا ه‍. ولم يبين لون الأكفان لجواز كل لون لكن أحبها البياض، ولم يبين جنسها لجواز الكل
لا مالا يجوز لبسه حال الحياة كالحرير للرجال، وقد قالوا في باب الشهيد: إنه ينزع عنه
الفرو والحشو معللين بأنه ليس من جنس الكفن فظاهره أنه لا يجوز التكفين به إلا أن
يقال: ليس من جنسه المسنون وهو الظاهر لأن المقصود من الكفن ستره وهو حاصل بهما.
وفي المجتبي: والجديد والخلق فيه سواء بعد أن يكون نظيفا من الوسخ والحدث. قال ابن
المبارك: أحب إلى أن يكفن في ثيابه التي كان يصلي فيها ا ه‍. وفي الظهيرية: ويكفن الميت
كفن مثله وتفسيره أن ينظر إلى ثيابه في حال حياته لخروج الجمعة والعيدين فذلك كفن
مثله. وتحسن الأكفان للحديث حسنوا أكفان الموتى لأنهم يتزاورون فيما بينهم ويتفاخرون
بحسن أكفانهم ا ه‍. قوله: (وكفاية إزار ولفافة) لقوله عليه الصلاة والسلام في المحرم
الذي وقصته ناقته كفنوه في ثوبين. واختلف فيهما فقيل قميص ولفافة وصحح الشارح
ما في الكتاب ولم يبين وجهه، وينبغي عدم التخصيص بالإزار واللفافة لأن كفن الكفاية
معتبر بأدنى ما يلبسه الرجل في حياته من غير كراهة وهو ثوبان كما علل به في البدائع.
قالوا: ويكره أن يكفن في ثوب واحد حالة الاختيار لأن في حال حياته تجوز صلاته في
ثوب واحد مع الكراهة. وقالوا: إذا كان بالمال قلة وبالورثة كثرة فكفن الكفاية أولى وعلى
القلب كفن السنة أولى، ومقتضاه أنه لو كان عليه ثلاثة أثواب وليس له غيرها وعليه دين

308
أن يباح واحد منهما للدين لأن الثالث ليس بواجب حتى ترك للورثة عند كثرتهم، فالذين
أولى مع أنهم صرحوا كما في الخلاصة بأنه لا يباع شئ منها للدين كما في حالة الحياة إذا
أفلس وله ثلاثة أثواب وهو لابسها ولا ينزع عنه شئ ليباع.
قوله: (وضرورة ما يوجد) ثابت في أكثر النسخ وقد شرح عليه مسكين وباكير وغيرهما
ولم يثبت في نسخة الزيلعي فأنكرها، واستدل له بحديث مصعب بن عمير لم يوجد له شئ
يكفي فيه إلا ثمرة فكانت إذا وضعت على رأسه بدت رجلاه. وإذا وضعت على رجليه
خرج رأسه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تغطي رأسه ويجعل على رجليه شئ من الإذخر، وهذا دليل على أن
ستر العورة وحدها لا يكفي. كذا في التبيين قوله: (ولف من يساره ثم يمينه) أي لف الكفن
من يسار الميت ثم يمينه. وكيفيته أن تبسط اللفافة أولا ثم الإزار فوقها ويوضع الميت عليهما
مقمصا، ثم يعطف عليه الإزار وحده من قبل اليسار ثم من قبل اليمين ليكون الأيمن فوق
الأيسر ثم اللفافة كذلك. وفي البدائع: فإن كان الإزار طويلا حتى يعطف على رأسه وسائر
جسده فهو أولى قوله: (وعقدان أن خيف انتشاره) صيانة عن الكشف قوله: (وكفنها سنة درع
وإزار ولفافة وخمار وخرقة تربط ثدياها) لحديث أم عطية أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي اللواتي غسلن
ابنته خمسة أثواب. واختلف في اسمها ففي مسلم أنها زينب، وفي أبي داود أنها أم كلثوم.
وذكر بعضهم القميص لها ولم يذكر الدرع وهو الأولى للاختلاف في الدرع. قال في
المغرب: درع المرأة ما تلبسه فوق القميص وهو مذكر. وعن الحلواني: ما جيبه إلى الصدر

309
والقميص ما شقه إلى المنكب، ولم أجده أنا في كتب اللغة ا ه‍. واختلف في عرض الخرقة
فقيل ما بين الثدي إلى السرة، وقيل ما بين الثدي إلى الركبة كيلا ينتشر الكفن بالفخذين وقت
المشي قوله: (وكفاية إزار ولفافة وخمار) اعتبارا بلبسها حال حياتها من غير كراهة، ويكره أقل
من ذلك. وفي الخلاصة: كفن الكفاية لها ثلاثة أثواب قميص وإزار ولفافة فلم يذكر
الخمار. وفي الفتح القدير: وما في الكتاب من عد الخمار أولى لكن لم يعين في الهداية ما
عدا الخمار بل قال ثوبان وخمار ففسرهما في فتح القدير بالقميص واللفافة فهو مخالف لما في
المتن، والظاهر كما قدمناه عدم التعيين بل إما قميص وإزار أو إزاران لأن المقصود ستر جميع
البدن وهو حاصل بالكل لكن جعلهما إزارين زيادة في ستر الرأس والعنق كما لا يخفى. قال
في التبيين: وما دون الثلاثة كفن الضرورة في حقها قوله: (وتلبس الدرع أولا ثم يجعل
شعرها ضفيرتين على صدرها ثم الخمار فوقه تحت اللفافة ثم يعطف الإزار ثم اللفافة) كما
ذكرنا. ثم الخرقة فوق الأكفان. وفي الجوهرة: توضع الخرقة تحت اللفافة وفوق الإزار
والقميص وهو الظاهر.
قوله: (وتجمر الأكفان أولا وترا) لأنه عليه السلام أمر بإجمار أكفان امرأته والمراد به
التطيب قبل أن يدرج فيها الميت. وجميع ما يجمر فيه الميت ثلاث مواضع: عند خروج روحه
لإزالة الرائحة الكريهة، وعند غسله، وعند تكفينه. ولا يجمر خلفه ولا في القبر. وفي
المجتبي: يحتمل أن يريد بالتجمير جمعها وترا قبل الغسل. يقال أجمر كذا إذا جمعه، ويحتمل أن

310
يريد التطيب بعود يحرق في مجمرة. وصرح في البدائع بأنه لا يزيد في تجميرها على خمس. وفي
المجتبي: المكفنون اثنا عشر: الرجل والمرأة وقد تقدما، والثالث المراهق المشتهي وهو كالبالغ،
والرابع المراهقة التي تشتهي وهي كالمرأة، والخامس الصبي الذي لم يراهق فيكفن في خرقتين
إزار ورداء وإن كفن في واحد أجزأ، والسادس الصبية التي لم تراهق فعن محمد كفنها ثلاثة
وهذا أكثر، والسابع السقط فيلف ولا يكفن كالعضو من الميت، والثامن الخنثى المشكل فيكفن
كتكفين الجارية وينعش ويسجي قبره، والتاسع الشهيد وسيأتي، والعاشر المحرم وهو كالحلال
عندنا، والحادي عشر المنبوش الطري فيكفن كالذي لم يدفن، والثاني عشر المنبوش المتفسخ
فيكفن في ثوب واحد ا ه‍. ولم يذكر المصنف من يجب عليه الكفن وهو من ماله إن كان له مال
يقدم على الدين والوصية والإرث إلى قدر السنة ما لم يتعلق بعين ماله حق الغير كالرهن والمبيع
قبل القبض، والعبد الجاني، فلو نبش عليه وسرق كفنه وقد قسم الميراث أجبر القاضي الورثة
على أن يكفنوه من الميراث وإن كان عليه دين، فإن لم يكن قبض الغرماء بدأ بالكفن لأنه بقي
على ملك الميت، والكفن مقدم على الدين، وإن كانوا قبضوا لا يسترد منهم لأنه زال ملك الميت
بخلاف الميراث لأن ملك الوارث عين ملك المورث حكما ولهذا يرد عليه بالعيب فصار ملك
المورث قائما ببقاء خلفه. واستثنى أبو يوسف الزوجة. فإن كفنها على زوجها لكن اختلفت
العبارات في تحرير مذهب أبي يوسف، ففي فتاوي قاضيخان والخلاصة والظهيرية وعلى قول
أبي يوسف يجب الكفن على الزوج وإن تركت مالا وعليه الفتوى ا ه‍. وكذا في المجتبي وزاد:
ولا رواية فيها عن أبي حنيفة. وفي المحيط والتجنيس والواقعات وشرح المجمع للمصنف: إذا
لم يكن لها مال فكفنها على الزوج عند أبي يوسف وعليه الفتوى لأنه لو لم يجب عليه لوجوب على
الأجانب. وهو بيت المال كان أوبى بإيجاب الكسوة عليه مال خيانتها فرجح على سائر
الأجانب وقال محمد: يجب تجهيزها في بيت المال. وقيد شارح المجمع بيسار الزوج عند أبي
يوسف فظاهره أنه إذا كان لها مال فكفنها في مالها اتفاقا، والظاهر ترجيح ما في الفتاوي

311
الخانية لأنه ككسوتها والكسوة واجبة عليه، غنية كانت أو فقيرة، غنيا كان أو فقيرا. وصححها
الولوالجي في فتاواه من النفقات فإن لم يكن للميت مال فكفنه على من تجب عليه نفقته وكسوته
في حياته. وكفن العبد على سيده، والمرهون على الراهن، والمبيع في يد البائع عليه، فإن لم يكن
له من تجب النفقة عليه فكفنه في بيت المال، فإن لم يكن فعلى المسلمين تكفينه، فإن لم يقدر
واسألوا الناس ليكفنوه بخلاف الحي إذا لم يجد ثوبا يصلي فيه ليس على الناس أن يسألوا له ثوبا،
والفرق أن الحي يقدر على السؤال بنفسه والميت عاجز، وإن سألوا له وفضل من الكفن شئ
يرد إلى المتصدق، وإن لم يعلم يتصدق به على الفقراء اعتبارا بكسوته. كذا في المجتبي. وفي
التجنيس والواقعات: إذا لم يعلم المتصدق يكفن به مثله من أهل الحاجة وإن لم يتيسر يصرف إلى
الفقراء. وفيهما: لو كفن ميتا من ماله ثم وجد الكفن فله أن يأخذه وهو أحق به لأن الميت لم
يملكه. وفيهما: حي عريان وميت ومعهما ثوب واحد فإن كان للحي فله لبسه ولا يكفن به
الميت لأنه محتاج إليه، وإن كان ملك الميت والحي وارثه يكفن به الميت ولا يلبسه لأن الكفن
مقدم على الميراث، وإذا تعدد من وجبت النفقة عليه على ما يعرف في النفقات فالكفن عليهم
على قدر ميراثهم كما كانت النفقة واجبة عليهم، ولو مات معتق شخص ولم يترك شيئا وله خالة
موسرة يؤمر معتقه بتكفينه. وقال محمد: على خالته. وفي الخانية: من لا يجبر على النفقة في
حياته كأولاد الأعمام والعمات والأخوال والخالات لا يجبر على الكفن. زاد في الظهيرية: وإن
كان وارثا. وفي البدائع: ولا يجب على المرأة كفن زوجها بالاجماع كما لا يجب عليها كسوته في
الحياة. وفي القنية: ولو مات ولا شئ له وجب كفنه على ورثته فكفنه الحاضر من مال نفسه
ليرجع على الغائب منهم بحصتهم ليس له الرجوع إذا أنفق عليه بغير إذن القاضي قال محمد
رحمه الله: كالعبد أو الزرع أو النخل بين شريكين أنفق أحدهما عليه ليرجع على الغائب لا يرجع
إذا فعله بغير إذن القاضي ا ه‍.

312
فصل السلطان أحق بصلاته
يعني إذا حضر لأن في التقدم عليه استخفافا به، ولما مات الحسن قدم الحسين سعيد بن
العاص وقال: لولا السنة ما قدمتك. أطلق في السلطان وأراد به من له سلطنه أي حكم
ولاية على العامة، سواء كان الخليفة أو غيره، فيقدم الخليفة إن حضر ثم نائب المصر ثم
القاضي ثم صاحب الشرط ثم خليفته ثم خليفة القاضي. وهذا ما نقله الفقيه أبو جعفر،
والإمام الفضلي إنما نقل تقديم السلطان وهو الخليفة فقط وأما من عداه فليس له التقدم على
الأولياء إلا برضاهم. قال في الظهيرية والخانية: إنه قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر
ا ه‍. فعلى هذا فالمراد من السلطان في المختصر هو الوالي الذي لا والي فوقه لكن المذكور في
المحيط والبدائع والتبيين والمجمع وشرحه التفصيل المتقدم عن أبي جعفر واقتصر عليه في فتح
القدير وصرح في الخلاصة بأنه المختار فكان هو المذهب. وقدم أبو يوسف الولي مطلقا وهو
رواية الحسن عن أبي حنيفة، وما في الأصل من أن إمام الحي أولى بها فمحمول على ما إذا لم
يحضر السلطان ولا من يقوم مقامه توفيقا بينهما لأن السلطان قل ما يحضر الجنائز. كذا في

313
البدائع وغيره ومعنى الأحقية وجوب تقديمه قوله: (وهي فرض كفاية) أي الصلاة عليه
للاجماع على افتراضها وكونها على الكفاية، وما ورد في بعض العبارات من أنها واجبة فالمراد
الافتراض، وقد صرح في القنية والفوائد التاجية بكفر من أنكر فرضيتها لأنه أنكر الاجماع
ا ه‍. وهل يصح النذر بها صرحوا بأنه لا يصح النذر بالتكفين ولا بتشييع الجنازة لعدم القربة
المقصودة ولا شك أن صلاة الجنازة قربة مقصودة.
قوله: (وشرطها إسلام الميت وطهارته) فلا تصح على الكافر للآية * (ولاتصل على
أحد منهم مات أبدا) * ولا تصح على من لم يغسل لأنه له حكم الإمام من وجه لا من كل
وجه. وهذا الشرط عند الامكان فلو دفن بلا غسل ولم يمكن إخراجه إلا بالنبش صلى على
قبره بلا غسل للضرورة بخلاف ما إذا لم يهل عليه التراب بعد فإنه يخرج ويغسل. ولو
صلى عليه بلا غسل جهلا مثلا ولا يخرج إلا بالنبش تعاد لفساد الأولى، وقيل تنقلب الأولى
صحيحة عند تحقق العجز فلا تعاد. وفي المحيط: ولو لف في كفنه وقد بقي عضو منه لم
يصبه الماء ينقض الكفن ويغسل ثم يصلى عليه، ولو بقي إصبع واحدة ونحوها ينقض
الكفن عند محمد ويغسل، وعندهما لا ينقض الكفن لأنه لا يتيقن بعدم وصول الماء إليه
فعليه أسرع إليه الجفاف لقلته فلا يحل نقض الكفن بالشك لأنه لا يحل نقضه إلا بعذر
بخلاف العضو لأنه لا يسرع إليه الجفاف. ولو صلى الإمام بلا طهارة أعادوا لأنه لا صحة
لها بدون الطهارة فإذا لم تصح صلاة الإمام لم تصح صلاة القوم. ولو كان الإمام على طهارة
والقوم على غيرها لا تعاد لأن صلاة الإمام صحت فلو أعادوا تتكرر الصلاة وأنه لا يجوز،
وبهذا تبين أنه لا تجب صلاة الجماعة فيها ا ه‍. وزاد في فتح القدير وغيره شرطا ثالثا في
الميت وهو وضعه أمام المصلى فلا تجوز على غائب ولا على حاضر محمول على دابة أو غيرها
ولا موضوع متقدم عليه المصلى لأنه كالإمام من وجه دون وجه لصحة الصلاة على الصبي،

314
وأما صلاته على النجاشي فإما لأنه رفع له عليه الصلاة والسلام سريره حتى رآه بحضرته
فتكون صلاة من خلفه على ميت يراه الإمام وبحضرته دون المأمومين وهذا غير مانع من
الاقتداء، وإما أن يكون مخصوصا بالنجاشي وقد أثبت كلا منهما بالدليل في فتح القدير.
وأجاب في البدائع بثالث وهو أنها الادعاء لا الصلاة المخصوصة وهذه الشرائط في الميت.
وأما شرائطها بالنظر إلى المصلي فشرائط الصلاة الكاملة من الطهارة الحقيقة والحكمية واستقبال
القبلة وستر العورة والنية، وقدمنا حكم ما لو ظهر المصلي محدثا. وقيد المصنف بطهارة الميت
احترازا عن طهارة مكانه. قال في الفوائد الناجية: إن كان على جنازة لا شك أنه يجوز وإن
كان بغير جنازة لا رواية لهذا، وينبغي أن يجوز لأن طهارة مكان الميت ليس بشرط لأنه ليس
بمؤد، ومنهم من علل بأن كفنه يصير حائلا بينه وبين الأرض لأنه ليس بلابس بل هو
ملبوس فيكون حائلا ا ه‍. وفي القنية: الطهارة من النجاسة في الثوب والبدن والمكان وستر
العورة شرط في حق الإمام والميت جميعا. وقد قدمنا في باب شروط الصلاة أنه لو قام على
النجاسة وفي رجليه نعلان لم يجز، ولو افترش نعليه وقام عليهما جازت. وبهذا يعلم ما يفعل
في زماننا من القيام على النعلين في صلاة الجنازة لكن لا بد من طهارة النعلين كما لا يخفى.
وأما أركانها ففي فتح القدير أن الذي يفهم من كلامهم أنها الدعاء والقيام والتكبير لقولهم إن
حقيقتها هو الدعاء والمقصود منها، ولو صلى عليها قاعدا من غير عذر لا يجوز. وقالوا: كل
تكبيرة بمنزلة ركعة. وقالوا: يقدم الثناء والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه سنة الدعاء، ولا
يخفي أن التكبيرة الأولى شرط لأنها تكبيرة الاحرام ا ه‍. وفيه نظر لأن المصرح به بخلافه.
قال في المحيط: وأما ركنها فالتكبيرات والقيام، وأما سننها فالتحميد والثناء والدعاء فيها
ا ه‍. فقد صرح بأن الدعاء سنة وقولهم في المسبوق يقضي التكبير نسقا بغير دعاء يدل عليه
ولا نسلم أن التكبيرة الأولى شرط بل الأربع أركان. قال في المحيط: كبر على جنازة فجئ
بأخرى أتمها واستقبل الصلاة على الأخرى لأنه لو نواها للأخرى أيضا يصير مكبرا ثلاثا وأنه
لا يجوز، وإن زاد على الأربع لا يجوز لأن الزيادة على الأربع لا تتأدى بتحريمة واحدة. وفي
الغاية للسروجي: فإن قلت التكبيرة الأولى للاحرام وهي شرط وقد تقدم أنه يجوز بناء الصلاة

315
على التحريمة الأولى لكونها غير ركن. قيل له: التكبيرات الأربع في صلاة الجنازة قائمة مقام
الأربع ركعات بخلاف المكتوبة وصلاة النافلة ا ه‍. وأما ما يفسدها فما أفسد الصلاة أفسدها
إلا لمحاذاة. كذا في البدائع. وتكره في الأوقات المكروهة، وقد تقدم ولو أمت امرأة فيها
تأدت الصلاة، ولو أحدث الإمام فاستخلف غيره فيها جاز هو الصحيح. كذا في الظهيرية.
قوله: (ثم أمام الحي) أي الجماعة لأنه رضيه في حال حياته، وظاهره أن تقديمه
واجب لأنه عطفه على ما تقديمه واجب وهو السلطان مع تصريحهم بأن تقديمه مستحب
بخلاف السلطان. قال في غاية البيان: وإنما قالوا تقديمه مستحب لأن في التقدم عليه لا
يلزم إفساد أمر العامة بخلاف التقدم على السلطان حيث يلزم ذلك فلذا وجب تقديمه ا ه‍.
وفي شرح المجمع للمصنف: إنما يستحب تقديم إمام مسجد حيه على الولي إذا كان أفضل
من الولي. ذكره في الفتاوي ا ه‍. وهو قيد حسن وكذا في المجتبي: وفي جوامع الفقه
أمام المسجد الجامع أولى من إمام الحي ا ه‍. وهذا يدل على أن المراد بإمام الحي إمام المسجد
الخاص للمحلة. وقد وقع الاشتباه في إمام المصلي المبنية لصلاة الأموات في الأمصار فإن
الباني يشرط لها إماما خاصا ويجعل له معلوما من وقفه فهل هو مقدم على الولي إلحاقا له بإمام
الحي أو لا، مع القطع بأنه ليس بإمام الحي لتعليلهم إياه بأن الميت رضي بالصلاة خلفه حال
حياته وهذا خاص بإمام مسجد محلته، والذي ظهر لي أنه إن كان مقررا من جهة القاضي فهو
كنائبه، وإن كان المقرر له الناظر فهو كالأجنبي قوله: (ثم الولي) لأنه أقرب الناس إليه
والولاية له في الحقيقة كما في غسله وتكفينه، وإنما يقدم السلطان عليه إذا حضر كيلا يكون
ازدراء به. ثم الترتيب في الأولياء كترتيب العصبات في الانكاح لكن إذا اجتمع أبو الميت
وابنه كان الأب أولى بالاتفاق على الأصح لأن للأب فضيلة على الابن وزيادة سن، والفضيلة
والزيادة تعتبر ترجيحا في استحقاق الإمامة كما في سائر الصلوات. كذا في البدائع. فلو
كان الأب جاهلا والابن عالما ينبغي تقديم الابن كما في سائر الصلوات إلا أن يقال: إن
صفة العلم لا توجب التقديم في صلاة الجنازة لعدم احتياطها للعلم ويعتبر الاسن فيها

316
فالاخوان لأب وأم أسنهما أولى، فإن أراد الاسن أن يقدم أحدا كان للأصغر أن يمنع، فإن
قدم كل واحد منهما رجلا آخر فالذي قدمه الاسن أولى، وكذلك الابنان على هذا وكذلك
أبناء العم، فإن كان الأخ الأصغر لأب وأم والأكبر لأب فالأصغر أولى كما في الميراث، فإن
قدم الأصغر جدا فليس للأكبر أن يمنعه، فإن كان الأخ لأب وأم غائبا وكتب لانسان ليتقدم
فللأخ لأب أن يمنعه، وحد الغيبة أن لا يقدر على أن يقدم ويدرك الصلاة ولا ينتظر الناس
قدومه. والمريض في المصر بمنزلة الصحيح يقدم من شاء وليس للأبعد منعه. ولو ماتت
امرأة ولها أ ب وابن بالغ عاقل وزوج فالأب أحق بها ثم الابن، إن كان من غير الزوج، فإن
كان منه فالزوج أحق من الولد. ولو مات ابن وله أب وأبواب فالولاية لأبيه ولكنه يقدم أباه
جد الميت تعظيما له، وكذا المكاتب إذا مات عبده ومولاه حاضرا فالولاية للمكاتب لكنه يقدم
مولاه احتراما. ومولى العبد أحق بالصلاة عليه من ابنه الحر على المفتي به لبقاء ملكه حكما،
وكذا المكاتب إذا مات عن غير وفاء فإن ترك وفاء، فإن أديت كتابته أو كان المال حاضرا لا
يخاف عليه التوى والتلف فالابن أحق وإلا فالمولى. وسائر القرابات أولى من الزوج، وكذا
مولى العتاقة وابنه ومولى الموالاة لأن الزوجية انقطعت بينهما بالموت. وفي المجتبي: والجار
أحق من غيره.
قوله: (وله أن يأذن لغيره) أي للولي الاذن في صلاة الجنازة وهو يحتمل شيئين:
أحدهما الاذن في التقدم لأنه حقه فيملك إبطاله وقدمنا أن محله ما إذا لم يكن هناك ولي غيره
أو كان وهو بعيد، أما إذا كانا وليين مستويين فأذن أحدهما أجنبيا فللآخر أن يمنعه. ثانيهما
أن يأذن للناس في الانصراف بعد الصلاة قبل الدفن لأنه لا ينبغي لهم أن ينصرفوا إلا بإذنه،
وذكر الشارح معنى آخر وهو الاعلام بموته ليصلوا عليه لا سيما إذا كان الميت يتبرك به،
وكره بعضهم أن ينادي عليه في الأزقة والأسواق لأنه نعي أهل الجاهلية وهو مكروه،
والأصح أنه لا يكره لأن فيه تكثير الجماعة من المصلين عليه المستغفرين له وتحريض الناس
على الطهارة والاعتبار به والاستعداد، وليس ذلك نعي أهل الجاهلية، وإنما كانوا يبعثون إلى
القبائل ينعون مع ضجيج وبكاء وعويل وتعديد وهو مكروه بالاجماع ا ه‍. وهي كراهة تحريم

317
للحديث المتفق عليه ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية (1)
وقال عليه السلام لعن الله الحالقة والصالقة والشاقة (2) والصالقة التي ترفع صوتها بالمصيبة
ولا بأس بإرسال الدمع والبكاء من غير نياحة قوله: (فإن صلى عليه غير الولي والسلطان أعاد
الولي) لأن الحق له. والمراد من السلطان من له حق التقدم على الولي فإن الكلام فيما إذا
تقدم على الولي من ليس له حق التقدم فليس للولي الإعادة إذا صلى القاضي أو نائبه أو إمام الحي لما
في الخلاصة والولوالجية والظهيرية والتجنيس والواقعات: ولو صلى رجل والولي خلفه ولم
يرض به إن صلى معه لا يعيد لأنه صلى مرة وإن لم يتابعه، فإن كان المصلي السلطان أو الإمام
الأعظم في البلدة أو القاضي أو الوالي على البلدة أو إمام حي ليس له أن يعيد لأنهم أولى
بالصلاة منه وإن كان غيره فله الإعادة ا ه‍. وأشار المصنف إلى أن الموصى له بالتقدم ليس
بمقدم على الولي لأن الوصية باطلة على المفتي به، وصرح بذلك أصحاب الفتاوي قالوا: ولو
أعادها الولي ليس لمن صلى عليها أن يصلي مع الولي مرة أخرى. وظاهر كلامهم أن الولي إذا
لم يعد فلا إثم على أحد لما أن الفرض وهو قضاء حق الميت قد تأدى بصلاة الأجنبي،
والإعادة إنما هي لأجل حقه لا لاسقاط الفرض، هذا أولى مما في غاية البيان من أن حكم
الصلاة التي صليت بلا إذن الولي موقوف إن أعاد الولي تبين أن الفرض ما صلى الولي، وإن لم
يعد سقط الفرض بالأولى ا ه‍. فإنه يقتضي أن لمن صلى أولا أن يصلي مع الولي وليس
كذلك، وبما ذكرناه عن الفتاوي المذكورة ظهر ضعف ما في غاية البيان من أن إمام الحي إذا
صلى بلا إذن الولي فإن للولي الإعادة وإنما لم يعد إذا صلى السلطان لخوف الازدراء به، وقد
صرح في المجمع وشرحه بأن إمام الحي كالسلطان في عدم إعادة
الولي. قوله: (ولم يصل غيره بعده) أي بعد ما صلى الولي لأن الفرض قد تأدى بالأولى والتنفل
بها غير مشروع إلا لمن له الحق وهو الولي عند تقدم الأجنبي إن قلنا إن إعادة الولي نفل وإلا
فلا استثناء، وقد اختلف المشايخ في إعادة من هو مقدم على الولي إذا صلى الولي كالسلطان
والقاضي، فذهب صاحب النهاية والعناية إلا أن المراد بالغير من ليس به تقدم على الولي، أما
من كان مقدما على الولي فله الإعادة بعد صلاة الولي لأن إذا كان له الإعادة إذا صلى
غيره مع أنه أدنى فالسلطان والقاضي لهما الإعادة بالطريق الأولى وهو مصرح به في رواية

318
النوادر. ويشهد له ما في الفتاوي وفي السراج الوهاج قوله: فإن صلى الولي عليه لم يجز أن
يصلي أحد بعده يعني سلطانا كان أو غيره، ففيه دلالة على تقديم حق الولي من حيث إنه
جوز له الإعادة ولم يجوز للسلطان إذا صلى الولي فافهم ذلك ا ه‍. وكذا ذكر المصنف في
المستصفي. وقد ظهر للعبد الضعيف أن الأول محمول على ما إذا تقدم الولي مع وجود من هو
مقدم عليه لأنه حيث حضر فالحق له فكانت صلاة الولي تعديا، والثاني محمول على ما إذا لم
يحضر غير الولي فصلى الولي. ثم جاء المقدم عليه فليس له الإعادة لأن الفرض قد سقط
بصلاة من له ولايتها والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم رأيت بعد ذلك في المجتبي ما يفيده قال:
فإن صلى عليه الولي لم يجز أن يصلي عليه أحد بعده، وهذا إذا كان حق الصلاة له بأن لم
يحضر السلطان، وأما إذا حضر وصلى عليه الولي يعيد السلطان ا ه‍ قوله: (فإن دفن بلا صلاة
صلى على قبره ما لم يتفسخ) لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأة من الأنصار. أطلقه فشمل ما

319
إذا كان مدفونا بعد الغسل أو قبله كما قدمناه وهو رواية ابن سماعة عن محمد لكن صحح
في غاية البيان معزيا إلى القدوري وصاحب التحفة أنه لا يصلي على قبره لأن الصلاة بدون
الغسل ليست بمشروعة ولا يؤمر بالغسل لتضمنه أمرا حراما وهو نبش القبر فسقطت الصلاة
ا ه‍. وقيد بالدفن لأنه لو وضع في قبره ولم يهل عليه التراب فإنه يخرج ويصلي عليه كما
قدمناه، وقيد بعدم التفسخ لأنه لا يصلي عليه بعد التفسخ لأن الصلاة شرعت على بدن الميت
فإذا تفسخ لم يبق بدنه قائما. ولم يقيد المصنف بمدة لأن الصحيح أن ذلك جائز إلى أن يغلب
على الظن تفسخه، والمعتبر فيه أكبر الرأي على الصحيح من غير تقدير بمدة. كذا في شرح
المجمع وغيره، وظاهره أنه لو شك في تفسيخه يصلي عليه، والمذكور في غاية البيان أنه لو
شك لا يصلي عليه. رواه ابن رستم عن محمد ا ه‍. وإنما كان هذا هو الأصح لأنه يختلف
باختلاف الأوقات في الحر والبرد، وباختلاف حال الميت في السمن والهزال، وباختلاف
الأمكنة فيحكم فيه غالب الرأي. فإن قيل: روي عنه عليه السلام أنه صلى على شهداء أحد
بعد ثمانين سنة. فالجواب أن معناه - والله أعلم - أنه دعا لهم. قال الله تعالى * (وصل عليهم
إن صلاتك سكن لهم) * (التوبة: 103) والصلاة في الآية بمنزلة الدعاء. وقيل: إنهم لم
تتفرق أعضاؤهم فإن معاوية لما أراد أن يحولهم وجد كما دفنوا فتركهم. كذا في البدائع.
وحكم صلاة من لا ولاية له كعدم الصلاة أصلا فيصلي على قبره ما لم يتمزق. كذا في
المجتبي.
قوله: وهي أربع تكبيرات بثناء بعد الأولى وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثانية ودعاء بعد
الثالثة وتسليمتين بعد الرابعة) لما روي عليه الصلاة والسلام صلى على النجاشي فكبر أربع
تكبيرات وثبت عليها حتى توفي فنسخت ما قبلها. والبداءة بالثناء ثم الصلاة سنة الدعاء لأنه

320
أرجى للقبول، ولم يعين المصنف الثناء وروي الحسن أنه دعاء الاستفتاح. والمراد بالصلاة
الصلاة عليه في التشهد وهو الأولى كما في فتح القدير، ولم يذكر القراءة لأنها لم تثبت عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي المحيط والتجنيس: ولو قرأ الفاتحة فيها بنية الدعاء فلا بأس به وإن
قرأها بنية القراءة لا يجوز لأنها محل الدعاء دون القراءة ا ه‍. ولم يعين المصنف الدعاء لأنه لا
توقيت فيه سوى أنه بأمور الآخرة، وإن دعا بالمأثور فما أحسنه وأبلغه. ومن المأثور حديث
عوف بمالك أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فحفظت من دعائه اللهم اغفر له
وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من
الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره وأهلا خيرا من أهله
وزوجا من زوجه، وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار. قال عوف: حتى
تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. رواه مسلم. وقيد بقوله بعد الثالثة لأنه لا يدعو بعد
التسليم كما في الخلاصة. وعن الفضلي: لا بأس به. ومن لا يحسن الدعاء يقول: اللهم
اغفر للمؤمنين والمؤمنات. كذا في المجتبي. ولم يبين المدعو له لأنه يدعو لنفسه أولا لأن دعاء
المغفور له أقرب إلى الإجابة. ثم يدعو للميت وللمؤمنين والمؤمنات لأنه المقصد منها وهو لا
يقضي ركنية الدعاء كما توهمه في فتح القدير لأن نفس التكبيرات رحمة للميت وإن لم يدع
له. وأشار بقوله وتسليمتين بعد الرابعة إلى أنه لا شئ بعدها غيرهما وهو ظاهر المذهب.
وقيل: يقول اللهم آتنا في الدنيا حسنة إلى آخره. وقيل: ربنا لا تزغ قلوبنا إلى آخره. وقيل:
بخير بين السكوت والدعاء ولم يبين المنوي بالتسليمتين للاختلاف ففي التبيين وفتح القدير
ينوي بهما الميت مع القوم، وفي الظهيرية ولا ينوي الإمام الميت في تسليمتي الجنازة بل ينوي
عن يمينه في التسليمة الأولى، ومن عن يساره في التسليمة الثانية ا ه‍. وهو الظاهر لأن

321
الميت لا يخاطب بالسلام عليه حتى ينوي به إذا ليس أهلا له. وقد تقدم في كيفية الصلاة أنه
لا ترفع الأيدي في صلاة الجنازة سوى تكبيرة الافتتاح وهو ظاهر الرواية، وكثير من أئمة
بلخ اختاروا رفع اليد في تكبيرة فيها، وكان نصير بن يحيى يرفع تارة ولا يرفع أخرى. ولا
يجهر بما يقرأ عقب كل تكبيرة لأنه ذكر والسنة فيه المخافتة كذا في البدائع. وفيه وهل يرفع
صوته بالتسليم لم يتعرض له في ظاهر الرواية، وذكر الحسن بن زياد أنه لا يرفع لأنه للاعلام
ولا حاجة له لأن التسليم مشروع عقب التكبير بلا فصل ولكن العمل في زماننا على خلافه
ا ه‍. وفي الفوائد التاجية: إذا سلم على ظن أنه أتم التكبير ثم علم أنه لم يتم فإنه يبني لأنه
سلم في محله وهو القيام فيكون معذورا وفي الظهيرية وغيرها: رجل كبر على جنازة فجئ

322
بجنازة أخرى فكبر ينويه ونوى أن لا يكبر على الأولى فقد خرج من الأولى إلى صلاة الثانية،
وإن كبر الثانية ينوي بها عليهما لم يكن خارجا. وعن أبي يوسف: إذا كبر ينوي به التطوع
وصلاة الجنازة جاز عن التطوع ا ه‍.
قوله: (فلو كبر الإمام خمسا لم يتبع) لأنه منسوخ ولا متابعة فيه ولم يتبين ماذا يصنع، وعن
أبي حنيفة روايتان: في رواية يسلم للحال ولا ينتظر تحقيقا للمخالفة، وفي رواية يمكث حتى
يسلم معه إذا سلم ليكون متابعا فيما تجب فيه المتابعة وبه يفتي. كذا في الواقعات. ورجحه في
فتح القدير بأن البقاء في حرمة الصلاة بعد فراغها ليس بخطأ مطلقا إنما الخطأ في المتابعة في
الخامسة، وفي بعض المواضع إنما لا يتابعه في الزوائد على الأربعة إذا سمع من الإمام أما إذا لم
يسمع إلا من المبلغ فيتابعه وهذا حسن وهو قياس ما ذكروه في تكبيرات العيدين اه‍. وذكر ابن
الملك في شرح المجمع قالوا: وينوي الافتتاح عند كل تكبيرة لجواز أن تكبيرة الإمام للافتتاح الآن
وأخطأ المنادي. وقيد بتكبيرات الجنازة لأن الإمام في العيد لو زاد على ثلاث فإنه يتبع لأنه مجتهد
فيها حتى لو تجوز الإمام في التكبير حد الاجتهاد لا يتابع أيضا. كذا في شرح المجمع قوله: (ولا
يستغفر لصبي ولا لمجنون ويقول اللهم اجعله لنا فرطا واجعله لنا أجرا وذخرا واجعله لنا شافعا
ومشفعا) كذا ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه لا ذنب لهما. والفرط بفتحتين الذي يتقدم الانسان من

323
ولده، يقال اللهم اجعله لنا فرطا أي أجرا متقدما، والفرط الفارط وهو الذي يسبق الوراد إلى
الماء، وفي الحديث أنا فرطكم على الحوض أي أتقدمكم إليه. كذا في ضياء الحلوم. والأنسب هو
المعني الثاني هنا كما اقتصر عليه في غاية البيان لئلا يلزم التكرار في قوله واجعله لنا أجرا.
والذخر بضم الذال وسكون الخاء الذخيرة، والمشفع بفتح الفاء مقبول الشفاعة. وذكر اليميني في
شرح الشهاب في بحث إنما الأعمال بالنيات أن الثواب هو الحاصل بأصول الشرع والحاصل
بالمكملات يسمى أجرا لأن الثواب لغة بدل العين والاجر بدل المنفعة فالمنفعة تابعة للعين، وقد
يطلق الاجر ويراد به الثواب وبالعكس ا ه‍. ولم أر من صرح بأنه يدعو لسيد العبد الميت وينبغي
أن يدعو له فيها كما يدعو للميت.
قوله: (وينتظر المسبوق ليكبر معه لا من كان حاضرا في حالة التحريمة) أي وينتظر
المسبوق في صلاة الجنازة تكبير الإمام ليكبر مع الإمام للافتتاح فلو كبر الإمام تكبيرة أو
تكبيرتين لا يكبر الآتي حتى يكبر الأخرى بعد حضوره عند أبي حنيفة ومحمد. قال أبو
يوسف: يكبر حين يحضر لأن الأولى للافتتاح والمسبوق يأتي به، ولهما: إن كل تكبيرة قائمة
مقام ركعة والمسبوق لا يبتدئ بما فاته إذ هو منسوخ، كذا في الهداية. وهو مفيد لما ذكرناه
أن التكبيرات الأربع أركان وليست الأولى شرطا كما توهمه في فتح القدير، إلا أن يكون على
قول أبي يوسف كما لا يخفي. ولو كبر كما حضر ولم ينتظر لا تفسد عندهما لكن ما أداه غير
معتبر كذا في الخلاصة، وأشار المصنف إلى أنه لو أدرك الإمام بعد ما كبر الرابعة فاتته الصلاة

324
على قولهما خلافا لأبي يوسف، وأفاد أنه لو جاء بعد التكبيرة الأولى فإنه يكبر بعد سلام
الإمام عندهما خلافا لأبي يوسف، ثم عندهما يقضي ما فاته بغير دعاء لأنه لو قضى الدعاء
رفع الميت فيفوت له التكبير، وإذا رفع الميت قطع التكبير لأن الصلاة على الميت ولا ميت
يتصور. وفي الظهيرية: ولو رفعت بالأيدي ولم توضع على الأكتاف ذكر في ظاهر الرواية أنه
لا يأتي وإنما لا ينتظر من كان حاضرا حالة التحريمة اتفاقا لأنه بمنزلة المدرك، ألا ترى أنه
لو كبر تكبيرة الافتتاح بعد الإمام يقع أداء لا قضاء. أطلقه فشمل ما إذا كبر الإمام للثانية أو
لم يكبر فإن لم يكبر الإمام الثانية كبر الحاضر للأولى للحال، وإن لم يكبر الحاضر حتى كبر
الإمام الثانية كبر معه الثانية وقضى الأولى للحال. كذا في المجتبي. وكذا أن لم يكبر في
الثانية والثالثة والرابعة يكبر ويقضي ما فاته للحال. قال في المحيط: ولو كبر الإمام أربعا
والرجل حاضر فإنه يكبر ما لم يسلم الإمام ويقضي الثلاث. وهذا قول أبي يوسف وعليه
الفتوى وقد روى الحسن أنه لا يكبر وقد فاتته ا ه‍. فما في الحقائق من أن الفتوى على قول

325
أبي يوسف إنما هو في مسألة الحاضر لا في مسألة المسبوق. وقد يقال: إن الرجل إذا كان
حاضرا ولم يكبر حتى كبر الإمام اثنين أو ثلاثا فلا شك أنه مسبوق كما لو كان حاضرا
وقد صلى الإمام ركعة أو ركعتين فإنه مسبوق، وحضوره من غير فعل لا يجعله مدركا فينبغي أن
يكون كالمسألة الأولى. وأن يكون الفرق بين الحاضر وغيره إنما هو في التكبيرة الأولى فقط
كما لا يخفي. وفي الواقعات: وإن لم يكبر الحاضر حتى كبر الإمام ثنتين كبر الثانية منهما
ولم يكبر الأولى حتى يسلم الإمام لأن الأولى ذهب محلها فكان قضاء والمسبوق لا يشتغل بالقضاء
قبل فراغ الإمام ا ه‍. وهو مخالف لما ذكرناه عن المجتبي من أنه يكبر الأولى للحال قضاء،
وما في الواقعات أولى. قيد بالمسبوق لأن اللاحق فيها كاللاحق في سائر الصلوات كذا في
المجتبي. وذكر في الواقعات: لو كبر مع الإمام التكبيرة الأولى ولم يكبر الثانية والثالثة يكبرهما
أولا ثم يكبر مع الإمام ما بقي ا ه‍. وهو معنى ما في المجتبي في اللاحق.

326
قوله: (ويقوم من الرجل والمرأة بحذاء الصدر) لأنه موضع القلب وفيه نور الايمان
فيكون القيام عنده إشارة إلى الشفاعة لايمانه، وهذا ظاهر الرواية وهو بيان الاستحباب حتى لو
وقف في غيره أجزأه. كذا في كافي الحاكم. وما في الصحيحين أنه عليه الصلاة والسلام صلى
على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها لا ينافي كونه الصدر بل الصدر وسط باعتبار توسط
الأعضاء إذ فوقه يداه ورأسه وتحته بطنه وفخذاه، ويحتمل أنه وقف كما قلنا إلا أنه مال إلى
العورة في حقها فظن الراوي ذلك لتقارب المحلين. كذا في فتح القدير قوله: (ولم يصلوا
ركبانا) لأنها صلاة من وجه لوجود التحريمة فلا يجوز تركه القيام من غير عذر احتياطا. وما في
غاية البيان من أنها ليست بأكثر من القيام فإذا ترك القيام انعدمت أصلا فلم يجز تركه فيه نظر،
لأنه يقتضي أن ركنها القيام فقط وهو غير صحيح، قيدنا بكونه بغير عذر لأنه لو تعذر النزول
لطين ومطر جاز الركوب فيها، وأشار إلى أنها لا تجوز قاعدا مع القدرة على القيام. ولو كان ولي
الميت مريضا فصلى قاعدا وصلى الناس خلفه قياما ما أجزأهم في قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
وقال محمد: يجزئ الإمام ولا يجزئ المأموم بناء على اقتداء القائم بالقاعد.
قوله (ولا في مسجد) لحديث أبي داود مرفوعا من صلى على ميت في المسجد فلا أجر له
وفي رواية فلا شئ له أطلقه فشمل ما إذا كان الميت والقوم في المسجد، أو كان الميت خارج المسجد والقوم في المسجد أو كان الإمام
مع بعض القوم خارج المسجد والقوم الباقون في المسجد أو الميت في المسجد والإمام والقوم خارج
المسجد وهو المختار خلافا لما أورده النسفي. كذا في الخلاصة. وهذا الاطلاق في الكراهة بناء
على أن المسجد إنما بني للصلاة المكتوبة وتوابعها من النوافل والذكر وتدريس العلم. وقيل: لا
يكره إذا كان الميت خارج المسجد وهو مبني على أن الكراهة لاحتمال تلويث المسجد والأول هو
الأوفق لاطلاق الحديث كذا في فتح القدير. فما في غاية البيان والعناية من أن الميت وبعض القوم
إذا كانا خارج المسجد والباقون فيه لا كراهة اتفاقا ممنوع. وقد يقال: إن الحديث يحتمل ثلاثة أشياء:
أن يكون الظرف وهو قوله في مسجد ظرفا للصلاة والميت وحينئذ فللكراهة شرطان: كون
الصلاة في المسجد وكون الميت فيه، فإذا فقد أحدهما فلا كراهة. الثاني أن يكون ظرفا للصلاة فقط
فلا يكره إذا كان الميت في المسجد والقوم كلهم خارجه. الثالث أن يكون ظرفا للميت فقط

327
وحينئذ حيث كان خارجه فلا كراهة، وما اختاروه كما نقلناه لم يوافق واحدا من الاحتمالات
الثلاثة لأنهم قالوا بالكراهة إذا وجد أحدهما في المسجد المصلي أو الميت كما قال في المجتبي
وتكره سواء كان الميت والقوم في المسجد أو أحدهما. ولعل وجهه أنه لما لم يكن دليل على
واحد من الاحتمالات بعينه قالوا بالكراهة بوجود أحدهما أيا كان، وظاهر كلام المصنف أن
الكراهة تحريمية لأنه عطفه على ما لا يجوز من الصلاة راكبا وهي إحدى الروايتين مع أن فيه
إيهاما لأن في المعطوف عليه لم تصح الصلاة أصلا وفي المعطوف هنا صحيحة، والأخرى أنها
تنزيهية ورجحه في فتح القدير بأن الحديث ليس نهيا غير مصروف ولا قرن الفعل بوعيد
بظني بل سلب الاجر وسلب الاجر لا يستلزم ثبوت استحقاق العقاب لجواز الإباحة. ثم
قرر تقريرا حاصله أنه لا خلاف بيننا وبين الشافعي على هذه الرواية لأنه يقول بالجواز في
المسجد لكن الأفضل خارجه وهو معنى كراهة التنزيه وبه يحصل الجمع بين الأحاديث اه‍.
لكن تترجح كراهة التحريم بالرواية الأخرى التي رواها الطيالسي كما في الفتاوى
القاسمية: من صلى على ميت في المسجد فلا صلاة له. ولم يقيد المصنف كصاحب المجمع
المسجد بالجماعة كما قيده في الهداية لعدم الحاجة إليه لأنهم يحترزون به عن المسجد المبني
لصلاة الجنازة فإنها لا تكره فيه مع أن الصحيح أنه ليس بمسجد لأنه ما أعد للصلاة حقيقة
لأن صلاة الجنازة ليست بصلاة حقيقة وحاجة الناس ماسة إلى أنه لم يكن مسجدا توسعة
للامر عليهم. واختلفوا أيضا في مصلى العيدين أنه هل هو مسجد، والصحيح أنه مسجد في
حق جواز الاقتداء وإن لم تتصل الصفوف لأنه أعد للصلاة حقيقة لافي حرمة دخول الجنب
والحائض. كذا في المحيط وغيره. واعلم أن ظاهر الحديث وكلامهم أنه لا أجر أصلا لمن
صلى عليها في المسجد ولا يلزم منه عدم سقوط الفرض لعدم الملازمة بينهما. ولم يذكر
المصنف رحمه الله ما إذا اجتمعت الجنائز للصلاة قالوا: الإمام بالخيار إن شاء صلى عليهم دفعة
واحدة وإن شاء صلى على كل جنازة صلاة على حدة، فإن أراد الثاني فالأفضل أن يقدم

328
الأفضل فالأفضل فإن لم يفعل فلا بأس به. وأمن كيفية وضعها فإن كان الجنس متحدا فإن شاؤوا
واجعلوها صفا واحدا كما يصطفون في حال حياتهم عند الصلاة، وإن شاؤوا وضعوا واحدا بعد
واحد مما يلي القبلة ليقوم الإمام بحذاء الكل. هذا جواب ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن أن
الثاني أولى من الأول. وإذا وضعوا واحدا بعد واحد ينبغي أن يكون الأفضل مما يلي الإمام، ثم إن
وضع رأس كل واحد بحذاء رأس صاحبه فحسن وإن وضع رأس كل واحد عند منكب الأول
فحسن، وإن اختلف الجنس وضع الرجل بين يدي الإمام، ثم الصبي وراءه ثم الخنثى ثم المرأة ثم
الصبية. والأفضل أن يجعل الحر مما يلي الإمام ويقدم على العبد ولو كان الحر صبيا كما في الظهيرية
وإن كان عبدا أو امرأة حرة فالعبد يوضع مما يلي الإمام والمرأة خلفه. وفي فتح القدير: ولو اجتمعوا
في قبر واحد فوضعهم على عكس هذا الأفضل فالأفضل إلى القبلة، وفي الرجلين يعدم
أكبرهما سنا وقرآنا وعلما كما فعله عليه السلام في قتلى أحد من المسلمين اه‍. وفي البدائع: ولو
كان رجل وامرأة قدم الرجل مما يلي القبلة والمرأة خلفه اعتبارا بحال الحياة، ولو اجتمع رجل
وامرأة وصبي وخنثى وصبية دفن الرجل مما يلي القبلة ثم الصبي خلفه ثم الخنثى ثم
الصبية لأنهم هكذا يصطفون خلف الإمام حالة الحياة وهكذا توضع جنائزهم عند الصلاة فكذا
في القبر فكذا في القبر اه‍. وهو سهو في قوله وهكذا توضع جنائزهم لما ذكرنا أنه على عكسه.
قوله (ومن استهل صلى عليه وإلا لا) استهلال الصبي في اللغة أن يرفع صوته بالبكاء
عند ولادته، وقول من قال هو أن يقع حيا تدريس كذا في المغرب. وضبطه في العناية بأنه
بالبناء للفاعل. وفي الشرع أن يكون منه ما يدل على حياته من رفع صوت أن حركة عضو

329
ولو أن يطرف بعينه. وذكر المصنف أن حكمه الصلاة عليه ويلزم أن يغسل وأن يرث ويورث
وأن يسمى وإن لم يبق بعده حيا لاكرامه لأنه من بني آدم، ويجوز أن يكون له مال يحتاج أبوه إلى
أن يذكر اسمه عند الدعوى به. ولم يقيد المصنف بوجود الحياة فيه إلى أن يخرج أكثره ولا بد منه
لما في المحيط قال أبو حنيفة: إذا خرج بعض الولد وتحرك ثم مات فإن كان خرج أكثره صلي
عليه، وإن كان أقله لم يصل عليه اه‍. وفي آخر المبتغى بالمعجمة: الولد إذا خرج رأسه وهو
ويصيح ثم مات قبل أن يخرج لم يرث ولم يصل عليه ما لم يخرج أكثر بدنه حيا، فإن كان ذبحه
رجل حال ما يخرج رأسه فعليه الغرة، وإن قطع أذنه وخرج حيا ثم ما ت فعليه الدية اه‍. وفي
المجتبي والبدائع: اختلف في الاستهلال فعن أبي حنيفة لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين أو رجل
وامرأتين لأن الصياح والحركة يطلع عليها الرجال. وقالا: يقبل قول النساء فيه إلا الام فلا
يقبل قولها في الميراث اجماعا لأنها متهمة بجرها المغنم إلى نفسها. وإنما قبل قول النساء عندهما
لأن هذا المشهد لا يشهده الرجال، وقول القابلة مقبول في حق الصلاة في قولهم وأمه كالقابلة
كما في البدائع، لكن قيد بالعدالة فقال: لأن خبر الواحد في الديانات مقبول إذا كان عدلا
اه‍. ولما كانت الحركة دليل الحياة قالوا: الحبلى إذا ماتت وفي بطنها ولد يضطرب يشق بطنها
ويخرج الولد لا يسع إلا ذلك. كذا في الظهيرية. وأفاد بقوله وإلا لا أنه إذا لم يستهل لا يصلى
عليه ويلزم منه أن لا يغسل ولا يرث ولا يورث ولا يسمى. واتفقوا على ما عدا الغسل
والتسمية، واختلفوا فيهما فظاهر الرواية عدمهما، وروى الطحاوي فعلهما، وفي الهداية أنه
المختار لأنه نفس من وجه. وفي شرح المجمع للمصنف: إذا وضع المولود سقطا تام الخلقة قال
أبو يوسف: يغسل اكراما لبني آدم. وقالا: يدرج في خرقة والصحيح قول أبو
يوسف وإذا لم يكن تام الحلق لا يغسل اجماعا اه‍. وبهذا ظهر ضعف ما في فتح القدير والخلاصة من أن
السقط الذي لم تتم خلقة أعضائه المختار أنه يغسل اه‍. لما سمعت من الاجماع على عدم غسله

330
ولعله سبق نظرهما إلى الذي تم خلقه أو سهو من الكتاب. ثم اعلم أن قولهم هنا بأن من ولد
ميتا لا يرث ولا يورث ليس على إطلاقه لما في آخر الفتاوى الظهيرية من المقطعات: ومتى
انفصل الحمل ميتا إنما لا يرث إذا انفصل بنفسه، فأما إذا فصل فهو من جملة الورثة بيانه: إذا
ضرب إنسان بطنها فألقت جنينا ميتا فهذا الجنين من جملة الورثة لأن الشارع أوجب على
الضارب الغرة ووجوب الضمان بالجناية على الحي دون الميت، فإذا حكمنا بحياته كان له
الميراث ويورث عنه نصيبه كما يورث عنه بدل نفس وهو الغرة اه‍. وهكذا في آخر المبسوط من
ميراث الحمل. وفي المبتغى: السقط الذي لم تتم أعضاؤه هل يحشر؟ قيل: إذا نفخ فيه الروح
يحشر وإلا فلا. وقيل: إذا استبان بعض خلقه يحشر اه‍. وفي الظهيرية: والذي يقتضيه مذهب
علمائنا أنه إذا استبان بعض خلقه فإنه يحشر وهو قول الشعبي وابن سيرين اه‍.
قوله (كصبي سئ مع أحد أبويه) أي لا يصلى عليه لأنه تبع لهما للحديث كل مولود
يولد على الفطرة فأبواه يهودانه إلى آخره. وتقدم في غسل الجنابة معنى الفطر وأفاد بقوله
(إلا أن يسلم أحدهما) أنه يصلي عليه لاسلامه تبعا للمسلم منهما لأنه يتبع خيرهما دينا وأفاد
بقوله (أو هو) أنه يصلى عليه إذا أسلم وأبواه كافران لصحة إسلامه عندنا. وأطلقه وقيده في
الهداية بأن يعقل الاسلام. واختلف في تفسيره، فقيل أن يعقل المنافع والمضار وأن الاسلام
هدى واتبعه خير له. ذكره في العناية. وفسره في فتح القدير بأن يعقل صفة الاسلام وهو
ما في الحديث أن تؤمن بالله أي بوجوده وبربوبيته لكل شئ وملائكته أي بوجود
ملائكته وكتبه أي إنزالها ورسله أي إرسالهم إليهم عليهم السلام واليوم الآخر أي
البعث بعد الموت والقدر خيره وشر من الله تعالى. وهذا دليل أن مجرد قوله لا إله إلا الله

331
لا يوجب الحكم بالاسلام ما لم يؤمن بما ذكرنا. وعلى هذا قالوا: لو اشترى جارية أو تزوج
امرأة فاستوصفها صفة الاسلام فلم تعرفه لا تكون مسلمة. والمراد من عدم المعرفة ليس ما
يظهر من التوقف في جواب ما الايمان ما الاسلام كما يكون من بعض العوام لقصورهم في
التعبير بل قيام الجهل بذلك بالباطن مثلا بأن البعث هل يوجد أو لا، وأن الرسل وإنزال
الكتب عليهم كان أو لا، لا يكون في اعتقاده اعتقاد طرف الاثبات للجهل البسيط فعن ذلك
قالت لا أعرفه، وقل ما يكون ذلك لمن نشأ في دار الاسلام فإنا نسمع ممن قد يقول في
جواب ما قلنا لا أعرف وهو من التوحيد والاقرار والخوف من النار وطلب الجنة بمكان، بل
وذكر ما يصلح استدلالا في أثناء أحوالهم وتكلمهم على التصريح ما يصرح باعتقاد هذه
الأمور وكانوا يظنون أن جواب هذه الأشياء إنما يكون بكلام خاص منظوم وعبارة عالية
خاصة فيحجمون عن الجواب اه‍. فعلى هذا فينبغي ألا يسأل العامي والمرأة على هذا الوجه
بأن يقال ما الايمان، وإنما يذكر حقيقة الايمان وما يجب الايمان به بحضرتهما، ثم يقال له
هل أنت مصدق بهذا فإذا قال نعم كان ذلك كافيا. وأفاد بقوله.
قوله (أو لم يسب أحدهما معه) أنه يصلى عليه إذا دخل دار الاسلام ولم يكن معه أحد أبويه
تبعا لدار الاسلام. وفي التبيين: أي إذا لم يسب مع الصبي أحد أبويه فحينئذ يصلى عليه تبعا
للسابي أو الدار اه‍. فجعل كلام المصنف شاملا لتبعية السابي ولتبعية الدار، والظاهر أنه لم
يتعرض لتبعية السابي فإن السبي في اللغة الأسر والسبي الاسرى المحمولون من بلد إلى بلد

332
كما في ضياء الحلوم، وفائدة تبعية السابي إنما تظهر في دار الحرب بأن وقع صبي في سهم
رجل ومات الصبي في دار الحرب فإنه يصلي عليه تبعا للسابي. وظاهر ما في ضياء الحلوم أنه
لا بد من الحمل من دار الحرب إلى دار الاسلام حتى يسمى سبيا. وفي فتح القدير: واختلف
بعد تبعية الولادة فالذي في الهداية تبعية الدار، وفي المحيط عند عدم أحد الأبوين يكون تبعا لصاحب اليد
وعند عدم صاحب اليد يكون تبعا للدار ولعله أولى، فإن من وقع في سهمه صبي من الغنيمة
في دار الحرب فمات يصلى عليه ويجعل مسلما تبعا لصاحب اليد اه‍. وفيه نظر لأن تبعية اليد
عند عدم الكوفي دار الاسلام متفق عليه فلا يصلح مرجحا لما في المحيط من تقدم تبعية
اليد على الدار. فالحاصل أن الاتفاق على التبعية بالجهات الثلاث، وإنما محل الاختلاف في
تقديم الدار على اليد، فصاحب الهداية وقاضيخان وجمع على تقديم الدار على اليد، فصاحب الهداية وقاضيخان وجمع على تقديم الدار على اليد وهو
الأوجه لما نقله في كشف الاسرار شرح أصول فخر الاسلام أنه لو سرق ذمي صبيا وأخرجه
إلى دار الاسلام ومات الصبي فإنه يصلى عليه ويصير مسلما بتبعية الدار ولا يعتبر الاخذ حتى
وجب تخليصه من يده اه‍. ولم يحك فيه خلافا وهي واردة على ما في المحيط فإن مقتضاه أن
لا يصلى عليه تقديما لتبعية اليد على الدار إلا أن يكون على الخلاف. وأطلق المصنف في
الصبي ولم يقيده بغير العاقل، وقيده المحقق ابن الهمام في تحريره بغير العاقل قال: وإن كان
عاقلا استقل بإسلامه فلا يرتد بردة من أسلم منهما اه‍. وهو ظاهر كلام الزيلعي فإنه علل
تبعية اليد بأن الصغير الذي لا يعبر عن نفسه بمنزلة المتاع، وعزاه إلى شرح الزيادات
فظاهر هما أن لو سبي صبي عاقل مع أحد أبويه الكافر فإنه لا يكون كافرا تبعا لأبيه الكافر
ويكون مسلما تبعا للدار. ويحتاج إلى صريح النقل وكلامهم يدل على خلافه فإنهم جعلوا

333
الولد تابعا لأبويه إلى البلوغ ولا تزول التبعية إلى البلوغ. نعم تزول التبعية إذا اعتقد دينا غير
دين أبويه إذا عقل الأديان فحينئذ صار مستقلا. وفي الظهيرية: وإذا ارتد الزوجان والمرأة
حامل فوضعت المرأة الولد ثم مات الولد لا يصلى عليه وحكم الصلاة عليه يخالف حكم
الميراث اه‍. ثم اعلم أن المراد بالتبعية التبعية في أحكام الدنيا لا في العقبى فلا يحكم بأن
أطفالهم من أهل النار البتة بل فيه خلاف، قيل يكونون خدم الجنة، وقيل إن كانوا قالوا
بلى يوم أخذ العهد عن اعتقاد ففي الجنة وإلا ففي النار. وعن محمد أنه قال فيهم: إني أعلم
أن الله لا يعذب أحدا بغير ذنب وهذا ينفي التفصيل، وتوقف فيهم أبو حنيفة كذا في فتح
القدير. وفي القنية: صبي سبي مع أبيه ثم مات أبوه في دار الاسلام ثم مات الصبي لا
يصلى عليه لتقرر التبعية بالموت اه‍. وحكم المجنون البالغ في هذه الأحكام كحكم الصبي
العاقل فيكون فيه الأوجه الثلاثة في التبعية كما صرح به الأصوليون.
قوله (ويغسل ولي مسلم الكافر ويكفنه ويدفنه) بذلك أمر علي رضي الله عنه أن يفعل
بأبيه حين مات، وهذه عبارة معيبة غير محررة. أما الأول فلان المسلم ليس بولي الكافر، وما
في العناية من أنه أراد به القريب فغير مفيد لأن المؤاخذة على نفس التعبير به بعد إرادة
القريب به. وأطلقه فشمل ذوي الأرحام كالأخت والخال والخالة. وأما الثاني فلانه أطلق في
الغسل والتكفين والدفن فينصرف إلى ما قدمه من تجهير المسلم وليس كذلك، وإنما يغسل
غسل الثوب النجس من غير وضوء ولا بداءة بالميامن ولا يكون الغسل طهارة له حتى لو
حمله إنسان وصلى لم تجز صلاته، ويلف في خرقة بلا اعتبار عدد ولا حنوط ولا كافور ويحفر
له حفرة من غير مراعاة سنة اللحد. ولأنه أطلق في الكافر وهو مقيد بغير المرتد، وأما المرتد
فلا يغسل ولا يكفن وإنما يلقى في حفرة كالكلب ولا يدفع إلى من انتقل إلى دينهم كما في

334
فتح القدير، ولأنه أطلق جواب المسألة وهو مقيد بما إذا لم يكن له قريب كافر فإن كان خلي بينه
وبينهم ويتبع الجنازة من بعيد. وقيد المصنف بالولي المسلم لأن المسلم إذا مات وله قريب كافر
فإن الكافر لا يتولى تجهيزه وإنما يفعله المسلمون، ويكره أن يدخل الكافر في قبر قرابته المسلم
ليدفنه، وما استدل به الزيلعي على أن الكافر يمكن من تجهير قريبه المسلم من قول القدوري إذا
مات مسلم ولم يوجد رجل يغسله يعلم النساء الكافر، فاستدلال غير صحيح لأن كلامنا فيما
إذا وجد المسلمون ودليله فيما إذا لم يوجد من الرجال أحد، فلو قال ويغسل ويكفن ويدفن
المسلم قريبه الكافر الأصلي عند الاحتياج من غير مراعاة السنة لكان أولى قوله (ويؤخذ سريره
بقوائمه الأربع) بذلك وردت السنة وفيه تكثير الجماعة وزيادة الاكرام والصيانة ويرفعونه أخذا
باليد لا وضعا على العنق كما تحمل الأمتعة. وفي مختصر الكرخي: ويكره أن يحمل بين
عمودي السرير من مقدمه أو مؤخره لأن السنة فيه التربيع، ويكره حمله على الظهر والدابة.
وذكر الأسبيجابي أن الصبي الرضيع أو الفطيم أو فوق ذلك قليلا إذا مات فلا بأس بأن يحمله
رجل واحد على يديه ويتداوله الناس بالحمل على أيديهم، ولا بأس بأن يحملها على يديه وهو
راكب وإن كان كبيرا يحمل على الجنازة اه‍. قوله (ويعجل به بلا خبب) وهو بمعجمة مفتوحة
وموحدتين ضرب من العدو، وقيل هو كالرمل وحد التعجيل المسنون أن يسرع به بحيث لا
يضطرب الميت على الجنازة للحديث أسرعوا بالجنازة فإن كانت صالحة قربتموها إلى الخير، وإن
كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم والأفضل أن يعجل بتجهيزه كله من حين يموت ولو
مشوا به بالخبب كره لأنه ازدراء بالموت وإضرار بالمتبعين. وفي القنية: ولو جهز الميت صبيحة
يوم الجمعة يكره تأخير الصلاة ودفنه ليصلي عليه الجمع العظيم بعد صلاة الجمعة،
ولو جهز خافوا فوت الجمعة بسبب دفنه يؤخر الدفن. وتقدم صلاة العيد على صلاة الجنازة، وتقدم
صلاة الجنازة على الخطبة، والقياس أن تقدم على صلاة العيد لكنه قدم صلاة العيد مخافة
التشويش وكيلا يظنها من في أخريات الصفوف أنها صلاة العيد اه‍.
قوله (وجلوس قبل وضعها) أي بلا جلوس لمتبعها قبل وضعها لأنه قد تقع الحاجة إلى
التعاون والقيام أمكن منه فكان الجلوس قبله مكروها، ولان الجنازة متبوعة وهم أتباع والتبع
لا يقعد قبل قعود الأصل. قيد بقوله قبل وضعها لأنهم يجلسون إذا وضعت عن أعناق
الرجال ويكره القيام بعد وضعها كما في الخانية والعناية، وفي المحيط خلافه. قال:

335
والأفضل أن لا يجلسوا ما لم يسووا عليه التراب لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم
حتى يسوى عليه التراب، ولان في القيام إظهار العناية بأمر الميت وأنه مستحب اه‍. والأولى
لما في البدائع: فأما بعد الوضع فلا بأس بالجلوس لما روي عن عبادة بن الصامت أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يجلس حتى يوضع الميت في اللحد فكان قائما مع أصحابه على رأس قبر
فقال يهودي: هكذا نصنع بموتانا. فجلس صلى الله عليه وسلم وقال لأصحابه: خالفوهم اه‍. أي في القيام
فلذاكره. وقيدنا بمتبعها لأن من لم يرد اتباعها ومرت عليه فالمختار أنه لا يقوم لها لما روي
عن علي رضي الله عنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بالقيام في الجنازة ثم جلس بعد ذلك وأمرنا
بالجلوس بهذا اللفظ لأحمد رحمه الله، وصحح في الظهيرية أن من في المصلى لا يقوم لها إذا
رآها قبل أن توضع.
قوله (ومشى قدامها) أي بلا مشي لمتبعها أمامها لأن المشي خلفها أفضل عندنا للأحاديث
الواردة باتباع الجنائز، وقد نقل فعل السلف على الوجهين والترجيح بالمعنى، فالشافعي يقول
هم شفعاء والشفيع يتقدم ليمهد المقصود، ونحن نقول هم مشيعون فيتأخرون والشفيع المتقدم
هو الذي لا يستصحب المشفوع له في الشفاعة وما نحن فيه بخلافه، بل قد ثبت شرعا الزام
تقديمه حالة الشفاعة له أعني حالة الصلاة فثبت شرعا عدم اعتبار ما اعتبره. قالوا: ويجوز
المشي أمامها إلا أن يتباعد عنها أو يتقدم الكل فيكره ولا يمشي عن يمينها ولا عن شمالها.
وذكر الأسبيجابي: ولا بأس بأن يذهب إلى صلاة الجنازة راكبا غير أنه يكره له التقدم أمام
الجنازة بخلاف الماشي اه‍. وبهذا يضعف ما نقله ابن الملك في شرح المجمع معزيا إلى أبي
يوسف فقال: رأيت أبا حنيفة يتقدم الجنازة وهو راكب ثم قعد حتى تأتيه. كذا في النوادر
اه‍. وفي الظهيرية: والمشي فيها أفضل من الركوب كصلاة الجمعة. وفي الغاية: اتباع الجنائز
أفضل من النوافل إذا كان لجوار أو قرابة أو صلاح مشهور وإلا فالنوافل أفضل. وينبغي لمن
تبع جنازة أن يطيل الصمت ويكره رفع الصوت بالذكر وقراءة القرآن وغيرهما في الجنازة،
والكراهة فيها كراهة تحريم في فتاوى العصر وعند مجد الأئمة التركماني. وقال علاء الدين
الناصري: ترك الأولى اه‍. وفي الظهيرية: فإن أراد أن يذكر الله يذكره في نفسه لقوله تعالى
* (أنه لا يحب المعتدين) * (الأعراف: 55) أي الجاهرين بالدعاء. وعن إبراهيم أنه كان يكره أن
يقول الرجل وهو يمشي معها استغفروا له غفر الله لكم. وفي البدائع: ولا ينبغي أن يرجع من

336
يتبع جنازة حتى يصلي لأن الاتباع كان للصلاة عليها فلا يرجع قبل حصول المقصود. ولا
ينبغي للنساء أن يخرجن في الجنازة لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن عن ذلك وقال إنصرفن مأزورات
غير مأجورات ويكره النوح والصياح في الجنازة ومنزل الميت للنهي عنه، فإما البكاء فلا
بأس به. وإن كان مع الجنازة نائحة أو صائحة زجرت، فإن لم تنزجر فلا بأس بأن تتبع
الجنازة ولا يمتنع لأجلها لأن الاتباع سنة فلا تترك ببدعة من غيره اه‍. وفي المجتبي قال
البقالي: إذا استمع إلى باكية ليلين فلا بأس إذا أما الوقوع في الفتنة لاستماعه من غيره اه‍. وفي المجتبي قال
البقالي: إذا استمع إلى باكية ليلين فلا بأس إذا أمن الوقوع في الفتنة لاستماعه عليه الصلاة
والسلام لبواكي حمزة. ولا تتبع بنار في مجمرة ولا سمع ولا بأس بمرثية الميت، شعرا كان أو
غيره. والتعزية للمصاب سنة للحديث من عزى مصابا فله مثل أجره قال البالقي: لا
بأس بالجلوس للعزاء ثلاثة أيام في بيت أو مسجد وقد جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قتل جعفر
وزيد بن حارثة والناس يأتون ويعزونه. والتعزية في اليوم الأول أفضل والجلوس في المسجد
ثلاثة أيام للتعزية مكروه وفي غيره جاءت الرخصة ثلاثة أيام للرجال وتركه أحسن ويكره
للمعزي أن يعزي ثانيا اه‍. وهي كما في التبين أن يقول: أعظم الله أجرك وأحسن عزاك
وغفر لميتك. ولا بأس بالجلوس إليها ثلاثا من غير ارتكاب محظور من فرش البسط والأطعمة
من أهل البيت لأنها تتخذ عند السرور ولا بأس بأن يتخذ لأهل الميت طعام اه‍. وفي
الخانية: وإن اتخذ ولي الميت طعاما للفقراء كان حسنا إذا كانوا بالغين، وإن كان في الورثة
صغير لم يتخذ ذلك من التركة اه‍. وفي الظهيرية: ويكره الجلوس على باب الدار للتعزية لأنه
عمل أهل الجاهلية وقد نهي عنه، وما يصنع في بلاد العجم من فرش البسط والقيام على
قوارع الطرق من أقبح القبائح اه‍. وفي التجنيس: ويكره الافراط في مدح الميت عند جنازته
لأن الجاهلية كانوا يذكرون في ذلك ما هو شبه المحال، وفيه قال عليه الصلاة والسلام من
تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا (2) اه‍. وفي القنية عن شداد: أكره التعزية
عند القبر ذكره في المجرد اه‍. وفي الظهيرية: وهل يعذب الميت ببكاء أهله عليه؟ فقال
بعضهم: يعذب لقول عليه الصلاة والسلام إن الميت ليعذب ببكاء أهله (3) وقال عامة

337
العلماء: لا يعذب لقوله تعالى * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * (الانعام، 164) وتأويل الحديث
أنهم في ذلك الزمان كانوا يوصون بالنوح عليهم فقال عليه الصلاة والسلام ذلك اه‍.
قوله (وضع مقدمها على يمينه ثم مؤخرها ثم مقدمها على يسارك مؤخرها) بيان لاكمال
السنة في حملها عند كثرة الحاملين إذا تناوبوا في حملها. وقوله ثم مؤخرها أي على يمينك.
وقوله ثانيا ثم مؤخرها أي على يسارك. وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شئ وإذا
حمل هكذا حصلت البداءة بيمين الحامل ويمين الميت وإنما بدأ بالأيمن المقدم دون المؤخر لأن
المقدم أول الجنازة والبداءة بالشئ إنما يكون من أوله، ثم يضع مؤخرها الأيمن على يمينه لأنه لو
وضع مقدمها الأيسر على يساره لاحتاج إلى المشي أمامها والمشي خلفها أفضل، ولأنه لو فعل ذلك
أو وضع مؤخرها الأيسر على يساره تقدم الأيسر على الأيمن. وإنما يضع مقدمها الأيسر على
يساره لأنه لو فعل هكذا يقع الفراغ خلف الجنازة فيمشي خلفها وهو أفضل لذلك كان كمال السنة
كما وصفنا اه‍. وينبغي أن يحمل من كل جانب عشر خطوات للحديث من حمل جنازة أربعين
خطوة كفرت أربعين كبيرة كذا في البدائع. وذكر الأسبيجابي: وفي حالة المشي بالجنازة يقدم
الرأس، وإذا نزلوا به المصلي فإنه يوضع عرضا للقبلة. والمقدم بفتح الدال وكسرها والكسر أفصح
كذا في الغاية. وكذا المؤخر. وفي ضياء الحلوم: المقدم بضم الميم وفتح الدال مشددة نقيض
المؤخر، يقال ضرب مقدم وجهه وهو الناصية اه‍. قوله (ويحفر القبر ويلحد) لحديث صاحب
السنن مرفوعا للحد لنا والشق لغيرنا يقال لحدت الميت وألحدت له لغتان وللحد بفتح اللام
وضمها - كذا في الغاية - وهو أن يحفر القبر بتمامه ثم يحفر في جانب القبلة صغيرة يوضع فيها
الميت. ويجعل ذلك كالبيت المسقف والشق أن يحفر صغيرة في وسط القبر يوضع فيها الميت.
واستحسنوا الشق فيما إذا كانت الأرض رخوة لتعذر اللحد، وإن تعذر اللحد فلا بأس بتابوت
يتخذ للميت لكن السنة أن يفرش فيه التراب. كذا في غاية البيان. ولا فرق بين أن يكون التابوت
من حجر أو حديد كذا في التبيين. وذكر الظهيرية معزيا إلى السرخسي في الجامع الصغير أنه
لا يجوز أن تطرح المضربة في القبر، وما روي عن عائشة فغير مشهور ولا يؤخذ به اه‍. واختلفوا
في عمق القبر فقيل قدر نصف القامة، وقيل إلى الصدر وإن زادوا فحسن. وفي المحيط وغيره:
ومن مات في السفينة يغسل ويكفن ويصلى عليه ويرمى في البحر اه‍. وهو مقيد بما إذا لم يكن

338
البر إليه قريبا كما في فتح القدير. وفي الواقعات: لا ينبغي أن يدفن الميت في الدار وإن كان
صغيرا لأن هذه السنة كانت للأنبياء قوله (ويدخل من قبل القبلة) وهو أن توضع الجنازة في جانب
القبلة من القبر ويحمل الميت منه فيوضع في اللحد فيكون الآخذ له مستقبل القبلة حال الاخذ،
واختار الشافعي السل وهو أن توضع الجنازة على يمين ويجعل رجلا الميت إلى القبر طولا،
ثم يؤخذ برجليه وتدخل رجلاه في القبر ويذهب به إلى أن تصير رجلاه إلى موضعهما ويدخل
رأسه القبر، واضطربت الروايات في إدخاله عليه الصلاة والسلام ورجحنا الأول لأن جانب
القبلة معظم فيستحب الادخال منه.
قوله (ويقول واضعه باسم الله وعلى ملة رسول الله) كذا ورد في الحديث. وقال
السرخسي: أي بسم الله وضعناك وعلى ملة رسول الله سملناك. وزاد في الظهيرية: بالله
وفي الله. وزاد في البدائع: وفي سبيل الله. ثم قال الماتريدي: وليس هذا بدعاء للميت لأنه
إذا مات على ملة رسول الله لم يجز أن تبدل عليه الحالة، وإن مات على غير ذلك لم يبدل إلى
ملة رسول الله ولكن المؤمنين شهداء الله في الأرض يشهدون بوفاته على الملة. وعلى هذا
جرت السنة. ولا يضر وتر دخل القبر أم شفع واختار الشافعي الوتر اعتبارا بعدد الكفن
والغسل والاجمار. ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفن أدخله العباس والفضل بن العباس وعلي
وصهيب. كذا في البدائع. وذو الرحم المحرم أولى بإدخال المرأة القبر، وكذا الرحم غير
الرحم غير المحرم أولى من الأجنبي، فإن لم يكن فلا بأس للأجانب وضعها ولا يحتاج إلى النساء للوضع
قوله (ووجه إلى القبلة) بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكون على شقة الأيمن كما قدمناه. وفي
الظهيرية: وإذا دفن الميت مستدبر القبلة وأهالوا التراب عليه فإنه لا ينبش ليجعل مستقبل
القبلة، ولو بقي فيه متاع لانسان فلا بأس بالنبش لاخراج المتاع، وروي أن المغيرة بن شعبة
سقط خاتمه في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فما زال بالصحابة حتى رفع اللبن وأخذ خاتمه وقبل بين
عيني رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كان يفتخر بذلك ويقول: أنا أحدثكم برسول الله صلى الله عليه وسلم قوله وتحل
العقدة لوقوع الامن عن الانتشار قوله (ويسوى اللبن عليه والقصب) لأنه جعل على قبره
عليه الصلاة والسلام اللبن وطن من قصب، واللبن واحده لبنة على وزن كلمة ما يتخذ من
الطين، والطن بضم الطاء الحزمة. واختلف في المنسوج من القصب وما ينسج من البردي
يكره في قولهم لأنه للتزيين. كذا في المجتبي قوله (لا الآجر والخشب) لأنهما لأحكام البناء
والقبر موضع البلاء ولان بالآجر أثر النار فيكره تفاؤلا كذا في الهداية. فعلى الأول يسوى
بين الحجر والآجر، وعلى الثاني يفرق بينهما كذا في الغاية. وأورد الإمام حميد الدين الضرير
على التعليل الثاني أن الماء يسخن بالنار ومع ذلك يجوز استعماله فعلم أن أثر النار لا يضر.

339
وأجاب عنه في غاية البيان بالفرق لأن أثر النار في الآجر محسوس بالمشاهدة وفي الماء ليس
بمشاهد. أطلق المصنف في منعهما وقيده الإمام السرخسي بأن لا يكون الغالب على
الأراضي النز والرخاوة فإن كان فلا بأس بهما كاتخاذ تابوت من حديد لهذا. وقيده في
شرح المجمع بأن يكون حوله، وأما لو كان فوقه لا يكره لأنه يكون عصمة من السبع اه‍.
وفي المغرب: الآجر الطين المطبوخ قوله (ويسجى قبرها لا قبره) لأن مبني حالهن على
الستر والرجال على الكشف إلا أن يكون المطر أو ثلج. في المغرب: سجى الميت بثوب
ستره قوله (ويهال التراب) سترا له. ويكره أن يزاد على التراب الذي أخرج من القبر لأن
الزيادة عليه بمنزلة البناء، ويستحب أن يحثى عليه التراب. ولا بأس برش الماء على القبر
لأنه تسوية له، وعن أبي يوسف كراهته لأنه يشبه التطيين قوله (ويسنم القبر ولا يربع) لأنه
عليه الصلاة والسلام نهى عن تربيع القبور ومن شاهد قبر النبي عليه الصلاة والسلام أخبر
أنه مسنم. في المغرب: قبر مسنم مرتفع غير مسطح ويسنم قدر شبر. وقيل: قدر أربع
أصابع. وما ورد في الصحيح من حديث علي أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته
فمحمول على ما زاد على التسنيم. وصرح في الظهيرية بوجوب التسنيم، وفي المجتبي
باستحبابه.
قوله (ولا يجصص) لحديث جابر: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد
عليه، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه وأن يوطأ. والتجصيص طلي البناء بالجص بالكسر
والفتح كذا في المغرب. وفي الخلاصة: ولا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء.
قالوا: أراد به السفط الذي يجعل في ديارنا على القبر. وقال في الفتاوى: اليوم اعتادوا
السفط ولا بأس بالتطيين اه‍. وفي الظهيرية: ولو وضع عليه شئ من الأشجار أو كتب
عليه شئ فلا بأس به عند البعض اه‍. والحديث المتقدم يمنع الكتابة فليكن المعول عليه لكن
فصل في المحيط فقال: وإن احتيج إلى الكتابة حتى لا يذهب الأثر ولا يمتهن فلا بأس به،

340
فأما الكتابة من غير عذر فلا اه‍. وفي المجتبي: ويكره أن يطأ القبر أو يجلس أو ينام عليه أو
يقض عليه حاجة من بول أو غائط أو يصلى عليه أو إليه، ثم المشي عليه يكره وعلى التابوت
يجوز عند بعضهم كالمشي على السقف اه‍. وفي الخلاصة: ولو وجد طريقا في المقبرة وهو
يظن أنه طريق أحدثوه لا يمشي في ذلك وإن لم يقع ذلك في ضميره لا بأس بأن يمشي فيه
اه‍. وفي فتح القدير: ويكره الجلوس على القبر ووطؤه حينئذ فما تصنعه الناس ممن دفنت
أقاربه ثم دفنت حواليهم حلق من وطئ تلك القبور إلى أن يصل إلى قبر قريبه مكروه اه‍.
وفي المحيط وغيره: ولا يدفن اثنان وثلاثة في قبر واحد إلا عند الحاجة يوضع الرجل مما يلي
القبلة ثم خلفه الغلام ثم خلفه الخنثى ثم خلفه المرأة، ويجعل بين كل ميتين حاجزا من التراب
ليصير في حكم قبرين. هكذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد وقال: قدموا أكثرهم قرآنا اه‍.
وفي فتح القدير: ويكره الدفن في الأماكن التي تسمى فساقي اه‍. وهي من وجوه: الأول
عدم اللحد. الثاني دفن الجماعة في قبر واحد لغير ضرورة. الثالث اختلاط الرجال بالنساء
من غير حاجز كما هو الواقع في كثير منها. الرابع تجصيصها والبناء عليها. وفي البدائع قال
أبو حنيفة رحمه الله: ولا ينبغي أن يصلى على ميت بين القبور وكان علي وابن عباس يكرهان
ذلك فإن صلوا أجزأهم اه‍.
قوله (ولا يخرج من القبر إن أن تكون الأرض مغصوبة) أي بعدما أهيل التراب عليه
لا يجوز إخراجه لغير ضرورة للنهي الوارد عن نبشه وصرحوا بحرمته. وأشار بكون
الأرض مغصوبة إلى أنه يجوز نبشه لحق الآدمي كما إذا سقط فيها متاعه أو كفن بثوب
مغصوب أو دفن في ملك الغير أو دفن معه مال إحياء لحق المحتاج قد أباح النبي صلى الله عليه وسلم نبش
قبر أبي رعال لعصا من ذهب معه. كذا في المجتبي. قالوا، ولو كان المال درهما. ودخل
فيه ما إذا أخذها الشفيع فإنه ينبش أيضا لحقه كما في فتح القدير. وذكر في التبيين أن
صاحب الأرض مخير إن شاء أخرجه منها وإن شاء ساواه مع الأرض وانتفع بها زراعة أو
غيرها. وأفاد كلام المصنف أنه لو وضع لغير القبلة أو على شقة الأيسر أو جعل رأسه في
موضع رجليه أو دفن بلا غسل وأهيل عليه التراب فإنه لا ينبش. قال في البدائع: لأن
النبش حرام حقا لله تعالى. وفي فتح القدير: واتفقت كلمة المشايخ في امرأة دفن ابنها وهي
غائبة في غير بلدها فلم تصبر وأرادت نقله أنه لا يسعها ذلك، فتجويز شواذ بعض المتأخرين
لا يلتفت إليه اه‍. وأطلق المصنف فشمل ما إذا بعدت المدة أو قصرت كما في الفتاوى. ولم
يتكلم المصنف على نقل الميت من مكان إلى آخر قبل دفنه قال في الواقعات والتجنيس: القتيل

341
أو الميت يستحب لهما أن يدفنا في المكان الذي قتل أو مات فيه في مقابر أولئك القوم ما
روي عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما
وكان مات بالشام وحمل من هناك فقالت: لو كان الامر فيك بيدي ما نقلتك ولدفنتك حيث
مت. لكن مع هذا إذا نقل ميلا أو ميلين ونحو ذلك فلا بأس، وإن نقل من بلد إلى بلد فلا
إثم فيه لأنه روي أن يعقوب صلوات الله عليه مات بمصر فحمل إلى أرض الشام، وموسى
عليه السلام حمل تابوت يوسف عليه السلام بعدما أتى عليه زمان إلى أرض الشام من مصر
ليكون عظامه مع عظام آبائه، وسعد بن أبي وقاص مات في ضيعة على أربعة فراسخ من
المدينة فحمل على أعناق الرجال إلى المدينة اه‍. وفي التبيين: ولو بلي الميت وصار ترابا جاز
دفن غيره في قبره وزرعه والبناء عليه اه‍. وفي الواقعات: عظام اليهود لها حرمة إذا وجدت
في قبورهم كحرمة عظام المسلمين حتى لا تكسر لأن الذمي لما حرم ايذاؤه في حياته لذمته
فتجب صيانة نفسه عن الكسر بعد موته اه‍. ولم يتكلم المصنف رحمه الله على زيارة القبور ولا
بأس ببيانه تكميلا للفائدة. قال في البدائع: ولا بأس بزيارة القبور والدعاء للأموات إن كانوا
مؤمنين من غير وطئ القبور لقوله صلى الله عليه وسلم إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها
ولعمل الأمة من لدن الرسول صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا اه‍. وصرح في المجتبي بأنها مندوبة. وقيل:
تحرم على النساء، والأصح أن الرخصة ثابتة لهما. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم السلام على الموتى السلام
عليكم أيها الدار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فرط ونحن

342
لكم تبع فنسأل الله العافية. ولا بأس بقراءة القرآن عند القبور وربما تكون أفضل من غيره،
ويجوز أن يخفف الله عن أهل القبور شيئا من عذاب القبر أو يقطعه عند دعاء القارئ
وتلاوته، وفيه ورد آثار من دخل المقابر فقرأ سورة يس خفف الله عنهم يومئذ وكان له بعدد
من فيها حسنات اه‍. وفي فتح القدير: ويكره عند القبر كلما لم يعهد من السنة والمعهود
منها ليس إلا زيارتها والدعاء عندها قائما كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى البقيع اه‍. وفي
الخلاصة: ويكره قطع الحطب والحشيش من المقبرة إلا إذا كان يابسا ولا يستحب قطع
الحشيش الرطب اه‍. وذكر في الظهيرية مسألة السؤال في القبر وليست فقهية وإنما هي
كلامية فلذا تركناها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الشهيد
إنما بوب له مع أن المقتول ميت بأجله عند أهل السنة لاختصاصه بالفضيلة فكان
إفراده كإفراد جبريل مع الملائكة. وهو فعيل بمعنى مفعول لأن الملائكة يشهدون موته إكراما
له فكان مشهودا أو لأنه مشهود له بالجنة أو بمعنى فاعل لأنه حي عند الله حاضر قوله: (هو
من قتله أهل الحرب أو البغي أو قطاع الطريق أو وجد في المعركة وبه أثر أو قتله مسلم ظلما
ولم يجب بقتله دية) بيان لشرائطه. قيد بكونه مقتولا لأنه لو مات حتف أنفه أو تردي من
وضع أو احترق بالنار أو مات تحت هدم أو غرق لا يكون شهيدا أي في حكم الدنيا وإلا
فقد شهد رسول لله صلى الله عليه وسلم للغريق وللحريق والمبطون والغريب بأنهم شهداء فينالون ثواب
الشهداء كذا في البدائع. وفي التجنيس: رجل قصد العدو ليضربه فأخطأ فأصاب نفسه
فمات، يغسل لأنه ما صار مقتولا بفعل مضاف إلى العدو ولكنه شهيد فيما ينال من الثواب
في الآخرة لأنه قصد العدو لا نفسه ا ه‍. وأطلق في قتله فشمل القتل مباشرة أو تسببا لأن

343
موته مضاف إليهم حتى لو أوطؤا دابتهم مسلما أو انفردوا دابة مسلم فرمته أو رموه من
السور أو ألقوا عليه حائطا أو رموا بنار فأحرقوا سفنهم أو ما أشبه ذلك من الأسباب كان
شهيدا، ولو انفلتت دابة مشرك ليس عليها أحد فوطئت مسلما أو رمي مسلم إلى الكفار
فأصاب مسلما، أو نفرت دابة مسلم من سواد الكفار أو نفر المسلمون منهم فالجؤهم إلى
خندق أو نار أو نحوه، أو جعلوا حولهم الشوك فمشى عليها مسلم فما ت بذلك لم يكن
شهيدا خلافا لأبي يوسف لأن فعله يقطع النسبة إليهم، وكذا فعل الدابة دون حامل وإنما لم
يكن جعل الشوك حولهم تسبيبا لأن ما قصد به القتل فهو تسبيبي وما لا فلا، وهم أنما
قصدوا به الدفع لا القتل. وأراد بمن المسلم فإن الكافر ليس بشهيد، وأراد بالأثر هنا ما
يكون علامة على القتل كالجرح وسيلان الدم من عينيه أو أذنه لا ماء يسيل من أنفه أو ذكره
أو دبره فإن كان يسيل من فيه فإن ارتقى من الجوف وكان صافيا كان علامة على القتل، وإن
نزل من الرأس أو كان جامدا فلا. وفي البدائع: إن أثر الضرب والخنق كأثر الجرح. وقيدنا
بكونه في المعركة وهي موضع الحرب لأنه لو وجد في عسكر المسلمين قتيل قبل لقاء العدو
فليس بشهيد لأنه ليس قتيل العدو ولهذا تجب فيه القسامة والدية بخلاف ما إذا كان بعد
لقائهم فإنه قتيلهم ظاهرا كذا في البدائع، وإنما لم يكتف بقوله أو قتله مسلم ظلما عن ذكر
أهل البغي وقطاع الطريق مع كونهم مسلمين قتلوا ظلما لأن قتيل أهل البغي وقطاع الطريق
لا يشترط أن يكون قتله بحديدة بل بكل آلة سلاحا كان أو غيره مباشرة أو تسبيبا كقتيل أهل
الحرب.
قال في معراج الدراية: لأنه لما كان القتال مع أهل البغي وقطاع الطريق مأمورا به ألحق
بقتال أهل الحرب فعمت الآلة كما عمت هناك ا ه‍. بخلاف قتل غيرهم فإنه يشترط أن
يكون بحديدة كما سنذكره. وقيد بقوله ظلما لأن من قتله مسلم حقا كالمقتول بحد أو
قصاص أو عدا على قوم فقتلوه فليس بشهيد، وكذا لو مات في حد أو تغرير أو غيره. وقيد
بقوله ولم يجب بقتله دية لأن من قتله مسلم ظلما خطأ أو عمدا بالمثقل أو غيره فليس بشهيد
لوجوب الدية بقتله، وكذا لو وجد مذبوحا ولم يعلم قاتله كما سيأتي، وكذا لو وجد في محلة
مقتولة ولم يعلم قاتله فإن لا يدري أقتل ظالما أو مظلوما عمدا أو خطأ. وفي المجتبي: وإذا

344
التقت سريتان من المسلمين وكل واحدة ترى أنهم مشركون فأجلوا عن قتلي من الفريقين قال
محمد: لا دية على أحد ولا كفارة لأنهم يدافعون عن أنفسهم ولم يذكر حكم الغسل، ويجب أن
يغسلوا لأن قاتلهم لم يظلمهم ا ه‍. واحترز بقوله بقتله أي بسببه عما إذا وجبت الدية بالصلح
أو بقتل الأب ابنه أو شخصا آخر ووارثه ابنه، فالمقتول شهيد لأن نفس القتل لم يوجب الدية بل
يوجب القصاص وإنما سقط للصلح أو للشبهة. وإنما كان المال عوضا مانعا ولم يكن وجوب
القصاص عوضا مانعا لأن القصاص للميت من وجه وللوارث من وجه آخر وهي تشفي الصدور
وللمصلحة العامة وهما في شرعيته من حياة الأنفس فلم يكن عوضا مطلقا فلا تبطل الشهادة
بالشك. كذا في شرح المجمع للمصنف. وذكر في المجتبي والبدائع أن الشرائط ست: العقل
والبلوغ والقتل ظلما وأنه لا يجب به عوض مالي والطهارة عن الجنابة وعدم الارتثاث ا ه‍. وإنما
لم يذكر المصنف بقيتها لما سيصرح به من مفهوماتها لكن بقي من قتل مدافعا عن نفسه أو عن ماله
أو عن أهل الذمة من غير أن يكون القاتل واحد من الثلاث في الكتاب، فإن المقتول شهيد كما
صرح به في المحيط وعطفه على الثلاثة وجعله سببا رابعا ولا يمكن دخوله تحت قوله أو قتله
مسلم ظلما لأن المدافع المذكور شهيد بأي الة بحديدة أو حجر أو خشب كما صرح به في
المحيط ومقتول المسلم لا يكون شهيدا إلا إذا قتل بحديدة كما قدمناه. ومن هنا يظهر أن
عبارة المجمع هنا لم تكن محررة فإنه لم يفصل في مقتول المسلم ظلما بل أدخل الباغي وقاطع الطريق
تحت المسلم وجعل حكم مقتولهم واحدا وليس بصحيح. وإن أراد بالمسلم ما عداهما فليس في
عبارته استيفاء للشهيد ويرد على الكل ما قتله ذمي ظلما فإنه في حكم المسلم هنا كما صرح به ابن
الملك في شرح المجمع قال: والمكابرون في المصر ليلا بمنزلة قطاع الطريق ا ه‍. والبغي في عبارة
المختصر مجرور وقطاع الطريق مرفوع.
قوله: (فيكفن ويصلى عليه بلا غسل) بيان لحكمه. أما عدم الغسل فلحديث السنن أنه عليه الصلاة
والسلام أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم. وما
علل به الحسن البصري لعدم الغسل بأنهم كانوا جرحى فقد قال السرخسي: أنه ليس بصحيح لأنه
لو كان عدم الغسل باعتبار الجراحة لكان التيمم مشروعا. وأما الصلاة فلصلاته عليه السلام على
حمزة وغيره يوم أحد ولحديث البخاري أنه صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين. وما قيل من أنهم

345
أحياء والحي لا يصلى عليه فمدفوع بأنه حكم أخروي لا دنيوي بدليل ثبوت أحكام الموتى لهم
من قسمة تركاتهم وبينونة نسائهم إلى غير ذلك. وما قيل من أنها للاستغفار وهم مغفور لهم
فمنتقض بالنبي والصبي كما في الهداية. وما في فتح القدير من أنه لو اقتصر على النبي لكان
أولى فإن الدعاء في الصلاة على الصبي لأبويه فمدفوع من أن كلامه في نفس الصلاة لا في
المدعو له، ولان الصبي ليس بمستغن عن الرحمة فنفس الصلاة عليه رحمه له ونفس الدعاء
الوارد لأبويه دعاء له لأنه إذا كان فرطا لأبويه فقد تقدمهما في الخير لا سيما وقد قالوا: إن
حسنات الصبي له لا لأبويه ولهما ثواب التعليم قوله: (ويدفن بدمه وثيابه إلا ما ليس من
الكفن ويزاد وينقص) بيان لحكم آخر له. وأشار إلى أنه يكره أن ينزع عنه جميع ثيابه ويجدد
الكفن ذكره الأسبيجابي. وقالوا: ما ليس من جنس الكفن الفرو والحشو والقلنسوة والسلاح
والخف وقدمنا فيه كلاما. واختلفوا في معنى قولهم يزاد وينقص ففي غاية البيان وغيرها: يزاد
إن كان ما عليه ناقصا عن كفن السنة، وينقص إن كان ما عليه زائدا على كفن السنة. وفي
معراج الدراية: وبه استدل المشايخ على جواز الزيادة في الكفن على الثلاث. وفيه: ويجعل
الحنوط للشهيد كالميت قوله: (ويغسل إن قتل جنبا أو صبيا) بيان لشرطين آخرين للشهادة الأول
الطهارة من الجنابة، الثاني التكليف. أما الأول فهو قوله: وقالا: الجنب شهيد لأن ما وجب
بالجنابة سقط بالموت. وله: إن الشهاد عرفت مانعة غير رافعة فلا ترفع الجنابة وقد صح أن
حنظلة لما استشهد جنبا غسلته الملائكة. وعلى هذا الخلاف الحائض والنفساء إذا طهرتا وكذا فبل
الانقطاع في الصحيح من الرواية كذا في الهداية. وفي معراج الدراية: وإنما لم يعد النبي
صلى صلى الله عليه وسلم غسل حنظلة لأن الواجب تأدى بدليل قصة آدم عليه السلام ولم تعد أولاده
غسله وهو الجواب عن قولهما لو كان واجبا لوجب على بني آدم ولما اكتفى به إذا لواجب نفس
الغسل، فأما الغاسل يجوز من كان كما في قصة آدم ا ه‍. وفيه أن هذا الغسل عنده للجنابة لا

346
للموت. قيد بقوله جنبا لأنه لو قتل محدثا حدثا أصغر فإنه لا يغسل، والفرق بين الحدثين
عنده هو أن سقوط غسل أعضاء الوضوء لمعنى ضروري لأن الموت لا يخلو عن حدث قبله لعدم
خلوه من زوال العقل فكانت الشهادة رافعة له ضرورة ولا ضرورة في الجنابة لأن الموت يخلو
عنها فلا تكون رافعة في حقها. وفي الخبازية: هذا الجواب في النفساء مجري على إطلاقه لأن
أقل النفاس لا حد له، أما في الحائض فمصورة فيما إذا استمر بها الدم ثلاثة أيام ثم قتلت قبل
الانقطاع أو بعده، أما لو رأت يوما أو يومين دما وقتلت لا تغسل بالاجماع ذكره التمرتاشي
لعدم كونها حائضا ا ه‍. وأما الثاني فعلى الخلاف أيضا لهما. إن الصبي أحق بهذه الكرامات. وله:
إن السيف كفي عن الغسل في حق شهداء أحد بوصف كونه مطهرة ولا ذنب للصبي فلم يكن
في معناهم، فعلى هذا الخلاف المجنون. وقد يقال: ينبغي تخصيصه بمجنون بلغ مجنونا أما من
بلغ عاقلا ثم جن فهو محتاج إلى ما يطهر إذ ذنوبه الماضية لم تسقط عنه بجنونه إلا أن يقال: إن
المجنون إذا استمر على جنونه حتى مات لم يؤاخذ بما مضي لأنه لا قدرة له على التوبة ولم أر
نقلا في هذا الحكم.
قوله: (أو ارتث بأن أكل أو شرب أو نام أو تداوى أو مضي وقت الصلاة وهو يعقل
أو نقل من المعركة أو أوصى) بيان للشرط السادس وهو عدم الارتثاث وهو في اللغة من
الرث وهو الشئ البالي، وسمي به مرتثا لأنه قد صار خلقا في حكم الشهادة. وقيل:
مأخوذ من الترثيث وهو الجريح. وفي مجمل اللغة: رتث فلان أي حمل من المعركة رثيثا أي
جريحا. وحاصله في الشرع أن ينال بعد مرافق الحياة فبطلت شهادته في حكم الدنيا فيغسل
وهو شهيد في حكم الآخرة فينال الثواب الموعود للشهداء. وذكر في البدائع أن المرتث في
الشرع من خرج عن صفة القتلى وصار إلى حال الدنيا بأن جري عليه شئ من أحكامها أو
وصل إليه شئ من منافعها ا ه‍. وهو أضبط مما تقدم. أطلق في الأكل والشرب والنوم
والتداوي فشمل القليل والكثير، وأطلق في مضي الوقت فشمل ما إذا كان قادرا على الأداء
أو لا لضعف بدنه لا لزوال عقله. وقيده في التبيين بأن يقدر على أدائها حتى يجب القضاء

347
بتركها. ورده في فتح القدير بقوله: الله أعلم بصحته. وفيه إفادة أنه إذا لم يقدر على الأداء
لا يجب القضاء، فإن أراد إذا لم يقدر للضعف مع حضور العقل فكونه يسقط به القضاء قول
طائفة والمختار هو ظاهر كلامه في باب صلاة المريض أنه لا يسقط، وإن أراد لغيبة العقل
فالمغمى عليه يقضي ما لم يزد على صلاة يوم وليلة فمتى يسقط القضاء مطلقا لعدم قدرة الأداء
من الجريح ا ه‍. وقد يقال: إن مراده الأول وكون عدم القدرة للضعف لا يسقط القضاء على
لا لصحيح هو فيما إذا قدر بعده، أما إذا مات على حاله فلا إثم لعدم القدرة عليها بالايماء.
وقيد بقوله وهو يعقل لأنه لو مضي الوقت وهو لا يعقل لا يغسل، وإن زاد على يوم وليلة
أو نقل من المعركة لعدم الانتفاع بحياته، فلو أخر وهو يعقل وجعله قيدا في الكل لكان أولى
كما أنه لا بد من استثناء من نقل من المعركة خوفا من أن تطأه الخيل فإنه لا يغسل لأنه ما
نال شيئا من الراحة كما في الهداية، وتعقبه في غاية البيان بأنا لا نسلم أن الحمل من المصرع
ليس بنيل راحة ا ه‍. وصرح في البدائع بأن النقل من المعركة يزيده ضعفا ويوجب حدوث
آلام لم تحدث لولا النقل والموت يحصل عقب ترادف الآلام فيكون النقل مشاركا للجراحة في
إثارة الموت فلم يمت بسبب الجراحة يقينا فلذا لم يسقط الغسل بالشك ا ه‍. فالارتثاث فيه
ليس للراحة بل لما ذكره. وأطلق في النقل فشمل ما إذا وصل إلى بيته حيا أو مات على
الأيدي كما في البدائع. وأشار إلى أنه لو قام من مكانه إلى مكان آخر فإنه يكون مرتثا بالأولى
كما في البدائع، وإلى أنه لو باع أو ابتاع فهو مرتث، وأطلق في الوصية فشملت ما كان
بأمور الدنيا وبأمور الآخرة وفيه اختلاف معروف، والأظهر أنه لا خلاف فجواب أبي يوسف
بأنه يكون مرتثا فيما إذا كان بأمور الدنيا، وجواب محمد بعدمه فيما إذا كان بأمور الآخرة
لأن الوصية بأمور الدنيا من أمر الاحياء فقد أصابه مرافق الحياة فنقص معنى الشهادة، فأما
الوصية بأمور الآخرة من أمور الموتى وصنيع من أيس من نفسه فيوصي بما يكفن به ويخلص
رقبته ويبرد جلدته من النار ويدخر لنفسه ذخيرة الآخرة كما في وصية سعد بن الربيع لما
بلغه سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحمد لله على سلامته الآن طابت نفسي للموت اقرأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم مني السلام واقرأ الأنصار مني السلام وقل لهم: لا عذر لكم عند الله أن
قتل محمد وفيكم عين تطرف. كذا في المحيط. وشمل الوصية بكلام قليل أو كثير كما في
غاية البيان، واستثنى في الخانية الوصية بكلمتين وقالوا: إذا تكلم فإن كان طويلا كان مرتثا
وإلا فلا. ويمكن حمله على كلام ليس بوصية توفيقا بينهما، لكن ذكر أبو بكر الرازي أنه لو
أكثر من كلامه في الوصية فطال غسل لأن الوصية بشئ من أمر الميت فإذا طالت أشبهت

348
أمور الدنيا. كذا في غاية البيان. ومن الارتثاث ما إذا أواه فسطاط أو خيمة كذا في الهداية.
يعنى وهو في مكانه وإلا فهي مسألة النقل من المعركة. وفي التبيين: وهذا كله إذا وجد بعد
انقضاء الحرب، وأما قبل انقضائها فلا يكون مرتثا بشئ مما ذكرنا ا ه‍.
قوله: (أو قتل في المصر ولم يعلم أنه قتل بحديدة ظلما) أي مظلوما لأن الواجب فيه
القسامة والدية فخف أثر الظلم. قيد بالمصر لأنه لو وجد في مفازة ليس بقربها عمران لا
تجب فيه قسامة ولادية فلا يغسل لو وجد به أثر القتل. كذا في معراج الدراية. فالمراد بالمصر
العمران وما بقربه مصرا كان أو قرية. وقيد بكونه لم يعلم أنه قتل بحديدة لأنه لو علم ذلك
بأن وجد مذبوحا فإن علم قاتله فهو شهيد لوجوب القصاص، وإن لم يعلم قاتله فلا لعدم
وجوبه. فقوله ظلما داخل تحت النفي يعني لم يعلم أنه قتل مظلوما بحديدة فكان فيه
شيئان: أحدهما عدم العلم بكونه قتل بحديدة. ثانيهما عدم العلم بكونه مظلوما بأن لم يعلم
قاتله لأنه إذا لم يعلم قاتله لم يتحقق كونه مظلوما، وأما إذا علم فقد تحقق كونه مظلوما فلا
يكون كلام المصنف مخلا بشئ كما قد يتوهم. وحاصل المسألة أن من قتل بغير المحدد وعلم
قاتله أولا فإنه ليس بشهيد عند أبي حنيفة أصلا، سواء كان بالمثقل أو بغيره لوجوب الدية،
ومن قتل بالمحدد ولم يعلم قاتله فليس بشهيد لوجوب الدية والاقتصار على وجوب الدية في
التعليل أولى مما قدمناه من ضم القسامة كما في الهداية، لأنه يرد عليه المقتول في الجامع أو
الشارع الأعظم فإنه ليس بشهيد حيث لم يعلم قاتله وليس فيه قسامة وإنما تجب الدية في بيت
المال فقط، فلو قيل أقتل في العمران بغير المحدد مطلقا أو بالحدد ولم يعلم قاتله لشمل
الكل لكن قد علم حكم ما إذا قتل بغير المحدد مطلقا من أول الباب. وفي البدائع: لو قتل
في المصر بغير المحدد لا يكون شهيدا وإن كان في المفازة كان شهيدا لأنه يوجب القتل بحكم
قطع الطريق لا المال. ولو نزل عليه اللصوص ليلا في المصر فقتل بسلاح أو غيره أو قتله
قطاع الطريق خارج المصر بسلاح أو غيره فهو شهيد لأن القتيل لم يخلف في هذه المواضع
بدلا هو مال ا ه‍. وبهذا يعلم أن من قتله اللصوص في بيته ولم يعلم له قاتل معين منهم
لعدم وجودهم فإنه لا قسامة ولا دية على أحد لأنهما لا يجبان إلا إذا لم يعلم القاتل، وهنا قد
علم أن قاتله اللصوص وإن لم يثبت عليهم لفرارهم فليحفظ هذا فإن الناس عنه غافلون
قوله: (أو قتل بحد أو قود) أي يغسل لأنه صح أنه عليه الصلاة والسلام غسل ماعزا ولأنه
بذل نفسه لحق واجب عليه فلم يكن في معنى شهداء أحد قوله: (لا لبغي وقطع طريق) أي

349
لا يغسل من قتل للبغي أو قطع الطريق وإذا لم يغسلا لم يصل عليهما لأن عليا رضي الله عنه
لم يصل على البغاة ولم ينكر عليه فكان إجماعا، وقطاع الطريق بمنزلتهم. أطلقه فشمل ما إذا
قتلوا في حال الحرب أو أخذوا وقتلوا بعده كذا روي عن محمد. وفرق الصدر الشهيد بينهما
فوافق في الأول وقال بالصلاة في الثاني. قال في التبيين: وهذا تفصيل حسن أخذ به الكبار
من المشايخ والمعنى فيه أن القتل في الثاني جدا وقصاص في قاطع الطريق، وفي البغاة لكسر
شوكتهم فنزل منزلته لعود منفعته إلى العامة. وهذا التفصيل ربما يشير إليه قوله لبغي فإن
من قتل بعد الحرب لم يقتل لبغي وإنما قتل قصاصا. وألحق بقاطع الطريق المكابرون في المصر
بالسلاح ليلا كذا في غاية البيان. والخناق الذي خنق غير مرة كذا في الأسبيجابي. وحكم
أهل العصبية كحكم البغاة. ومن قتل أحد أبويه لا يصلى عليه إهانة له كذا في التبيين. ولم
يذكر المصنف حكم قاتل نفسه عمدا للاختلاف فعندهما يصلي عليه وهو الأصح لأنه فاسق
غير ساع في الأرض بالفساد. كذا في النهاية. وقال أبو يوسف: لا يصلى عليه وهو الأصح
لأنه باغ على نفسه كذا في غاية البيان معزيا إلى القاضي علي السغدي فقد اختلف التصحيح
كما ترى لكن تأيد قول أبي يوسف بما في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة قال: أتي
النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه ا ه‍. وفي فتاوي قاضيخان قريبا من
كتاب الوقف: رجلان أحدهما قتل نفسه والآخر قتل غيره كان قاتل نفسه أعظم وزرا وإثما
ا ه‍. قيدنا بكونه قتل نفسه عمدا لأنه لو قتلها خطأ فإنه يغسل ويصلي عليه اتفاقا.
باب الصلاة في الكعبة
ختم كتاب الصلاة بما يتبرك به حالا ومكانا وأولاه للشهيد لأنه معدول به عن سائر
الصلوات لجواز جعل الظهر فيها إلى ظهر الإمام قوله: (صح فرض ونفل فيها وفوقها)
لأنه صلى الله عليه وسلم صلى في جوف الكعبة يوم الفتح ولأنها صلاة استجمعت شرائطها لوجود استقبال القبلة
لأن استيعابها ليس بشرط، وإنما جازت فوقها لأن الكعبة هي العرصة والهواء إلى عنان
السماء عندنا دون البناء لأنه ينقل، ألا ترى أنه لو صلى على أبي قبيس جاز ولا بناء بين يديه

350
إلا أنه يكره لما فيه من ترك التعظيم وقد ورد النهي عنه. وفي الغاية: الكعبة هي البناء المرتفع
مأخوذ من الارتفاع والنتو ومنه الكاعب. فكيف يقال الكعبة هي العرصة والصواب القبلة
هي العرصة كما ذكره صاحب المحيط والوبري وفي المجتبي: وقد رفع البناء في عهد ابن
الزبير ليبني على قواعد الخليل، وفي عهد الحجاج كذلك ليعيدها إلى الحالة الأولى والناس
يصلون والأحرار والعبيد والرجال والنساء في ذلك سواء قوله: (ومن جعل ظهره إلى ظهر
الإمام فيها صح) لأنه متوجه إلى القبلة ولا يعتقد إمامه على الخطأ بخلاف مسألة التحري
قوله: (وإلى وجهه لا) أي لو جعل ظهره إلى وجه إمامه لا يصح لتقدمه على إمامه، وسكت
عما إذا جعل وجهه إلى وجه الإمام لأنه صحيح لما قدمناه لكنه مكروه بلا حائل لأنه يشبه
عبادة الصورة، وعما إذا جعل وجهه إلى جوانب الإمام وهو جائز بلا كراهة فهي أربعة،
تصح بلا كراهة في صورتين ومعها في صورة ولا تصح في أخرى قوله: (وإن حلقوا حولها
صح لمن هو أقرب إليها إن لم يكن في جانبه) لأنه متأخر حكما لأن التقدم والتأخر لا يظهر
إلا عند اتحاد الجهة، فمن كان وجهه إلى الجهة التي توجه الإمام إليها وهو عن يمينه أو يساره
وتقدم عليه بأن كان أقرب إلى الحائط من الإمام فهو غير صحيح لتقدمه فهو في معنى من
جعل ظهره إلى وجه الإمام، ولو قام الإمام في الكعبة وتحلق المقتدون حولها جاز إذا كان
الباب مفتوحا لأنه كقيامه في المحراب في غيرها من المساجد، والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب وإليه المرجع والمآب.

351
كتاب الزكاة ذكر الزكاة بعد الصلاة لأنهما مقترنان في كتاب الله تعالى في اثنين وثمانين آية، وهذا
يدل على أن التعاقب بينهما في غاية الوكادة والنهاية كما في المناقب البزازية. وهي لغة
الطهارة. قال في ضياء الحلوم: سميت زكاة المال زكاة لأنها تزكي المال أي تطهره قال تعالى
* (خيرا منه زكاة) * (الكهف: 81) وقيل: سميت زكاة لأن المال يزكو بها أي ينمو ويكثر. ثم
ذكر فعل بالفتح يقال زكاء الماء زيادته ونماؤه، وزكا أيضا إذا طهر، ثم ذكر في باب التفعيل
زكى المال أدى زكاته وزكاه أخذ زكاته ا ه‍. وفي الغاية: أنها في اللغة بمعنى النماء وبمعنى
الطهارة وبمعنى البركة. يقال زكت البقعة أي بورك فيها، وبمعنى المدح يقال زكى نفسه،
وبمعنى الثناء الجميل يقال زكى الشاهد، وفي اصطلاح الفقهاء ما ذكره المصنف قوله: (هي
تمليك المال من فقير مسلم غيرها هاشمي ولا مولاه بشرط قطع المنفعة عن المملك كل وجه الله
تعالى) لقوله تعالى * (وآتوا الزكاة) * (البقرة: 43) والايتاء هو التمليك ومراده تمليك جزء من
ماله وهو ربع العشر أو ما يقوم مقامه، وإنما كانت اسما للفعل عند المحققين وهو الأصح
لأنها توصف بالوجوب وهو من صفات الافعال دون الأعيان، والمراد من إيتاء الزكاة
إخراجها من العدم إلى الوجود كما في قوله * (أقيموا الصلاة) * (البقرة: 43) كذا في المعراج،
ويؤيده أن موضوع الفقه كما قدمناه فعل المكلف. وفي الشرع هي المال المؤدي لأنه تعالى قال
وآتوا الزكاة ولا يصح الايتاء إلا للعين. كذا في العناية. وأورد الشارح على هذا الحد
الكفارة إذا ملكت لأن التمليك بالوصف المذكور موجود فيها ولو قال تمليك المال على وجه
لا بد له منه لانفصل عنها لأن الزكاة يجب فيها تمليك المال ا ه‍. وجوابه أن قوله من فقير

352
مسلم خرج مخرج الشروط والاسلام ليس بشرط في أخذ الكفارة كما سيأتي. وأيضا ليس
الجواز في الكفارة باعتبار التمليك بل باعتبار أن الشرط فيها التمكين الشامل للتمليك
والإباحة، والمال كما صرح به أهل الأصول ما يتمول ويدخر للحاجة وهو خاص بالأعيان
فخرج تمليك المنافع. قال في الكشف الكبير في بحث القدرة الميسرة: الزكاة لا تتأدى إلا
بتمليك عين متقومة حتى لو أسكن الفقير داره سنة بنية الزكاة لا يجزئه لأن المنفعة ليست بعين
متقومة ا ه‍. وهذا على إحدى الطريقتين، وأما على الأخرى من أن المنفعة مال فهو عند
الاطلاق منصرف إلى العين. وقيد بالتمليك احترازا عن الإباحة ولهذا ذكر الولوالجي وغيره
أنه لو عال يتيما فجعل يكسوه ويطعمه وجعله من زكاة ماله فالكسوة تجوز لوجود ركنه وهو
التمليك، وأما الاطعام إن دفع الطعام إليه بيده يجوز أيضا لهذه العلة، وإن كان لم يدفع إليه
ويأكل اليتيم لم يجز لانعدام الركن وهو التمليك، ولم يشترط قبض الفقير لأن التمليك في
التبرعات لا يحصل إلا به. واحترز بالفقير الموصوف بما ذكر عن الغني والكافر والهاشمي
ومولاه والمراد عند العلم بحالهم كما سيأتي في المصرف. ولم يشترط البلوغ والعقل لأنهما
ليس بشرط لأن تمليك الصبي صحيح لكن إن لم يكن عاقلا فإنه يقبض عنه وصيه أو أبوه أو
من يعوله قريبا أو أجنبيا أو الملتقط كما في الولوالجية، وإن كان عاقلا فقبض من ذكر كذا
قبضه بنفسه. والمراد أن يعقل القبض بأن لا يرمي به ولا يخدع عنه والدفع إلى المعتوه يجزئ
كذا في فتح القدير. وحكم المجنون المطبق معلوم من حكم الصبي الذي لا يعقل. ولا
يشترط الحرية لأن الدفع إلى غير الحر جائز كما سيأتي في بيان المصرف. وأفاد بقوله بشرط
أن الدفع إلى أصوله وإن علوا وإلى فروعه وإن سفلوا وإلى زوجته وزوجها وإلى مكاتبه ليس
بزكاة كما سيأتي مبينا. وأشار إلى أن الدفع إلى كل قريب ليس بأصل ولا فرع جائز وهو مقيد
بما في الولوالجية: رجل يعول أخته أو أخاه أو عمه فأراد أن يعطيه الزكاة فإن لم يفرض
القاضي عليه النفقة جاز لأن التمليك بصفة القربة يتحقق من كل وجه، وإن فرض عليه
النفقة لزمانته إن لم يحتسب من نفقتهم جاز، وإن كان يحتسب لا يجوز لأن هذا أداء الواجب
عن واجب آخر ا ه‍. وقوله لله تعالى بيان لشرط آخر وهو النية وهي شرط بالاجماع في
العبادات كلها المقاصد.
قوله: (شرط وجوبها العقل والبلوغ والاسلام والحرية) أي شرط افتراضها لأنها فريضة
محكمة قطعية أجمع العلماء على تكفير جاحدها ودليله القرآن. وما في البدائع من أنه الكتاب
والسنة والاجماع والمعقول رده في الغاية بأن السنة لا يثبت بها الفرض إلا أن تكون متواترة أو

353
مشهورة، والسنة الواردة أخبار أحاد صحاح وبها يثبت الوجوب دون الفرض والعقل لا
يثبت به شئ من الأحكام الشرعية، وإن أراد بالمعقول المقاييس المستنبطة من الكتاب
والسنة فلا يثبت بها الفرضية ا ه‍. وجوابه أنهم في مثله يجعلونه مؤكدا للقرآن القطعي لا
مثبتا وهو كثير في كلامهم كإطلاق الواجب على الفرض وهو إما مجاز في العرف بعلاقة
المشترك من لزوم استحقاق العقاب بتركه عدل عن الحقيقة وهو الفر ض إليه بسبب أن
بعض مقاديرها وكيفياتها تثبت بأخبار الآحاد، أو حقيقة على ما قال بعضهم أن الواجب
نوعان: قطعي وظني. فعلى هذا يكون اسم الواجب من قبيل المشكك اسما أعم وهو
حقيقة في كل نوع، وقد أسلفنا شيئا منه في أول الطهارة وخرج المجنون والصبي فلا زكاة
في مالهما كما لا صلاة عليهما للحديث المعروف رفع القلم عن ثلاث. وأما إيجاب
النفقات والغرامات في مالهما فلأنهما من حقوق العباد لعدم التوقف على النية، وأما إيجاب
العشر والخراج وصدقة الفطر فلأنها ليست عبادة محضة لما عرف في الأصول وقد قدمنا في
نقض الوضوء حكم المعتوه في العبادات والاختلاف فيه. وخرج الكافر لعدم خطابه
بالفروع سواء كان أصليا أو مرتدا، فلو أسلم المرتد لا يخاطب بشئ من العبادات أيام
ردته، ثم كما هو شرط للوجوب شرط لبقاء الزكاة عندنا حتى لو ارتد بعد وجوبها
سقطت كما في الموت. كذا في معراج الدراية. وقيد بالحرية احترازا عن العبد والمدبر وأم
الولد والمكاتب والمستسعى عند أبي حنيفة لعدم الملك أصلا فيما عدا المكاتب والمستسعى
ولعدم تمامه فيهما، ولو حذف الحرية واستغني عنها بالملك إذ العبد لا ملك له وزاد في
الملك قيد التمام وهو المملوك رقبة ويدا ليخرج المكاتب والمشتري قبل القبض كما سيأتي
لكان أوجز وأتم. وعندهما: المستسعي حر مديون فإن ملك بعد قضاء سعايته ما يبلغ
نصابا كاملا تجب الزكاة وإلا فلا. وفي البدائع: والجنون نوعان: أصلي وعارض. أما
الأصلي وهو أن يبلغ مجنونا فلا خلاف بين أصحابنا أنه يمنع انعقاد الحول على النصاب
حتى لا يجب عليه زكاة ما مضى من الأحوال بعد الإفاقة، وإنما يعتبر ابتداء الحول من
وقت الإفاقة كالصبي إذا بلغ يعتبر ابتداء الحول من قوت البلوغ. وأما الطارئ فإن دام سنة

354
كاملة فهو في حكم الأصلي، وإن كان في بعض السنة ثم أفاق فعن محمد وجوبها وإن
أفاق ساعة، وعنه إن أفاق أكثر السنة وجبت وإلا فلا ا ه‍. وظاهر الرواية قول محمد كما
في الهداية وغيرها والمغمى عليه كالصحيح كما في المجتبي.
قوله: (وملك نصاب حولي فارغ عن الدين وحوائجه الأصلية نام ولو تقديرا) لأنه عليه
الصلاة والسلام قدر السبب به، وقد جعله المصنف شرطا للوجوب مع قولهم إن سببها ملك
مال معد مرصد للنماء والزيادة فاضل عن الحاجة - كذا في المحيط وغيره - لما أن السبب
والشرط قد اشتركا في أن كلا منهما يضاف إليه الوجود لا على وجه التأثير فخرج العلة.
ويتميز السبب عن الشرط بإضافة الوجوب إليه أيضا دون الشرط كما عرف في الأصول.
وأطلق الملك فانصرف إلى الكامل وهو المملوك رقبة ويدا فلا يجب على المشتري فيما اشتراه
للتجارة قبل القبض، ولا على المولى في عبده المعد للتجارة إذا أبق لعدم اليد، ولا المغصوب
ولا المجحود إذا عاد إلى صاحبه. كذا في غاية البيان. ولا يلزم عليه ابن السبيل لأن يد نائبه
كيده كذا في معراج الدراية. ومن موانع الوجوب الرهن إذا كان في يد المرتهن لعدم ملك
اليد بخلاف العشر حيث يجب فيه كذا في العناية. وأما كسب العبد المأذون فإن كان عليه

355
دين محيط فلا زكاة فيه على أحد بالاتفاق وإلا فكسبه لمولاه، وعلى المولى زكاته إذا تم الحول
نص عليه في المبسوط والبدائع والمعراج، وهو بإطلاقه يتناول ما إذا تم الحول وهو في يد
العبد لكن قال في المحيط: وإن لم يكن عليه دين ففيه الزكاة ويزكي المولى متى أخذه من
العبد. ذكره محمد في نوادر الزكاة. وقيل: ينبغي أن يلزمه الأداء قبل الأخذ لأنه مال مملوك
للمولى كالوديعة، والأصح أنه لا يلزمه الأداء قبل الاخذ لأنه مال تجرد عن يد المولى لأن يد
العبد يد أصالة عن نفسه لا يد نيابة عن المولى بدليل أنه يملك التصرف فيه إثباتا، وإزالة فلم
تكن يد المولى ثابتة عليه حقيقة ولا حكما فلا يلزمه الأداء ما لم يصل إليه كالديون ولا كذلك
الوديعة ا ه‍. وفي المحيط معزيا إلى الجامع: رجل له ألف درهم لا مال له غيرها استأجر بها
دارا عشر سنين لكل سنة مائة، فدفع الألف ولم يسكنها حتى مضت السنون والدار في يد
الآجر زكي الآجر في السنة الأولى عن تسعمائة وفي الثانية عن ثمان مائة إلا زكاة السنة
الأولى، ثم يسقط لكل سنة زكاة مائة أخرى وما وجب عليه بالسنين الماضية لأنه ملك الألف
بالتعجيل كلها، فإذا لم يسلم الدار إليه سنة انقضت الإجارة في العشر لأنه استهلك المعقود
عليه قبل التسليم فزال عن ملكه مائة وصار مصروفا إلى الدين. وكذلك في كل حول انتقض
مائة ويصير مائة دينا عليه ويرفع ذلك من النصاب. ثم عند أبي حنيفة يزكي للسنة الثانية
سبعمائة وستين، وعندهما سبعمائة وسبعة وسبعون ونصف لأنه لا زكاة في الكسور عنده،
وعندهما فيه زكاة، ولا زكاة على المستأجر في السنة الأولى والثانية لنقصان نصابه في الأولى
ولعدم تمام الحول في الثانية، ويزكي في الثالثة ثلاثمائة لأنه استفاد مائة أخرى ثم يزكي لكل
سنة مائة أخرى وما استفاد قبلها إلا أنه يرفع عنه زكاة السنين الماضية ا ه‍. والمراد بكونه
حوليا أن يتم الحول عليه وهو في ملكه لقوله عليه الصلاة والسلام لا زكاة في مال حتى
يحول عليه الحول (1) قال في الغاية: سمي حولا لأن الأحوال تحول فيه. وفي القنية: العبرة
في الزكاة للحول القمري.
وفي الخانية: رجل تزوج امرأة على ألف ودفع إليها ولم يعلم أنها أمة فحال الحول
عندها، ثم علم أنها كانت أمة زوجت نفسها بغير إذن المولى ورد الألف على الزوج، روي
عن أبي يوسف أنه لا زكاة على واحد منهما. وكذلك الرجل إذا حلق لحية إنسان فقضي عليه
بالدية ودفع الدية إليه وحال الحول ثم نبتت لحيته وردت الدية، لا زكاة على واحد منهما.

356
وكذلك رجل أقر لرجل بدين ألف درهم ودفع الألف إليه ثم تصادقا بعد الحول أنه لم يكن
عليه دين، لا زكاة على واحد منهما. وكذلك رجل وهب لرجل ألفا ودفع الألف إليه ثم
رجع في الهبة بعد الحول بقضاء أو بغير قضاء واسترد الألف لا زكاة على واحدة منهما ا ه‍.
وظاهره عدم وجوب الزكاة من الابتداء وهو مشكل في حق من كانت في يده وملكه وحال
الحول عليه، فالظاهر أن هذا بمنزلة هلاك المال بعد الوجوب وهو مسقط كما في الولوالجية،
وإلا فتحتاج المتون إلى إصلاح كما لا يخفى. وفي الخانية أيضا: رجل اشتري عبدا للتجارة
يساوي مائتي درهم ونقد الثمن ولم يقبض العبد حتى حال الحول فمات العبد عند البائع،
وكان على بائع العبد زكاة المائتين وكذلك على المشتري أما على البائع فلانه ملك الثمن وحال
الحول عليه عنده، وأما على المشتري فلان العبد كان للتجارة وبموته عند البائع انفسخ البيع
والمشتري أخذ عوض العبد مائتي درهم، فإن كانت قيمة العبد مائة كان على البائع زكاة
المائتين لأنه ملك الثمن ومضى عليه الحول عنده وبانفساخ البيع لحقه دين بعد الحول فلا
تسقط عنه زكاة المائتين، ولا زكاة على المشتري لأن الثمن زال عن ملكه إلى البائع فلم يملك
المائتي حولا كاملا، وبانفساخ البيع استفاد المائتين بعد الحول فلا تجب عليه الزكاة ا ه‍.
وشرط فراغة عن الدين لأنه معه مشغول بحاجته الأصلية فاعتبر معدوما كالماء المستحق
بالعطش، ولان الزكاة تحل مع ثبوت يده على ماله فلم تجب عليه الزكاة كالمكاتب، ولان
الدين يوجب نقصان الملك ولذا يأخذه الغريم إذا كان من جنس دينه من غير قضاء ولا
رضا. أطلقه فشمل الحال والمؤجل ولو صداق زوجته المؤجل إلى الطلاق أو الموت. وقيل:
المهر المؤجل لا يمنع لأنه غير مطالب به عادة بخلاف المعجل. قيل: إن كان الزوج على
عزم الأداء منع وإلا فلا، لأنه لا يعد دينا كذا في غاية البيان ونفقة المرأة إذا صارت دينا على
الزوج إما بالصلح أو بالقضاء ونفقة الأقارب إذا صارت دينا عليه إما بالصلح أو بالقضاء
عليه يمنع. كذا في معراج الدراية. وقيد نفقة الأقارب في البدائع بقيد آخر وهو قليل المدة
فإن المدة إذا كانت طويلة فإنها تسقط ولا تصير دينا. وشمل كلامه كل دين.
وفي الهداية: والمراد دين له مطالب من جهة العبا حتى لا يمنع دين النذر والكفارة
ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب لأنه ينتقص به النصاب، وكذا بعد الاستهلاك خلافا لزفر
فيهما، ولأبي يوسف في الثاني لأن له مطالبا وهو الإمام في السوائم ونوابه في أموال التجارة
كان الملاك نوابه ا ه‍. وكذا لا يمنع دين صدقة الفطر ووجوب الحج وهدي المتعة
والأضحية. وفي معراج الدراية: ودين النذر لا يمنع ومتى استحق بجهة الزكاة بطل النذر

357
فيه بيانه: له مائتا درهم نذر بأن يتصدق بمائة منها وحال الحول سقط النذر بقدر درهمين
ونصف ويتصدق للنذر بسبعة وتسعين ونصف، ولو تصدق بمائة منها للنذر يقع درهمان
ونصف عن الزكاة لأنه متعين بتعيين الله تعالى فلا يبطل بتعيينه لغيره. ولو نذر بمائة مطلقة
لزمته لأن محل المنذور به الذمة، فلو تصدق بمائة منها للنذر يقع درهمان ونصف للزكاة
ويتصدق بمثلها عن النذر ا ه‍. فلو كان له نصاب حال عليه حولان ولم يزكيه فيهما لا زكاة
عليه في الحول الثاني، ولو كان له خمس وعشرون من الإبل لم يزكها حولين كان عليه في
الحول الأول بنت مخاض وللحول الثاني أربع شياه، ولو كان له نصاب حال عليه الحول فلم
يزكه ثم استهلكه ثم استفاد غيره وحال على النصاب المستفاد الحول لا زكاة فيه لاشتغال خمسة
منه بدين المستهلك بخلاف ما لو كان الأول لم يستهلك بل هلك فإنه يجب في المستفاد
لسقوط زكاة الأول بالهلاك، وبخلاف ما لو استهلك قبل الحول حيث لا يجب شئ. ومن
فروعه ما إذا باع نصاب السائمة قبل الحول بيوم بسائمة مثلها أو من جنس آخر أو بدراهم
يريد به الفرار من الصدقة أو لا يريد لا يجب عليه الزكاة في البدل إلا بحول جديد أو يكون
له ما يضمه إليه في صورة الدراهم. وهذا بناء على أن استبداله السائمة بغيرها مطلقا
استهلاك بخلاف غير السائمة. كذا في فتح القدير. وفي البدائع: وقالوا دين الخراج يمنع
وجوب الزكاة لأنه يطالبه به، وكذا إذا صار العشر دينا في الذمة بأن أتلف الطعام العشري
صاحبه، فأما وجوب العشر فلا يمنع لأنه متعلق بالطعام وهو ليس من مال التجارة، وذكر
الشارح وغيره إن كان للمديون نصب يصرف الدين إلى الأيسر قضاء فيصرف إلى الدراهم
والدنانير ثم إلى عروض التجارة ثم إلى السوائم، فإن كانت أجناسا صرف إلى أقلها حتى لو
كان له أربعون من الغنم وثلاثون من البقر وخمس من الإبل صرف إلى الغنم أو إلى الإبل دون
البقر لأن التبيع فوق الشاة، فإن استويا خير كأربعين من الغنم وخمس من الإبل. وقيل:
يصرف إلى الغنم لتجب الزكاة في الإبل في العام القابل. هكذا أطلقوا. وقيده في المبسوط
بأن يحضر المصدق أي الساعي فإن لم يحضره فالخيار إلى صاحب المال إن شاء صرف الدين إلى
السائمة لأن في حق صاحب المال هما سواء ا ه. وفي المحيط وإما الدين المعترض في
خلال الحول فإنه يمنع وجوب الزكاة بمنزلة هلاكه عند محمد وعند أبي يوسف لا يمنع
بمنزلة نقصانه ا ه. وتقديمهم قول محمد يشعر بترجيحه وهو كذلك كما لا يفي وفائدة
الخلاف تظهر فيما إذا أبرأه فعند محمد يستأنف حولا جديدا لا عند أبي يوسف كما في

358
المحيط أيضا وأما الحادث بعد الحول فال يسقط الزكاة اتفاقا كذا في الخانية وغيرها. على
هذا من ضمن دركا في بيع فاستحق المبيع بعد الحول لم تسقط الزكاة لأن الدين إنما وجب
عليه عند الاستحقاق كذا في غاية البيان.
وشمل كلامه الدين بطريق الأصالة وبطريق الأصالة وبطريق الكفالة ولذا قال في المحيط: لو
استقرض ألفا فكفل عنه عشرة ولكل ألف في بيته وحال الحول فلا زكاة على واحد منهم
لشغله بدين الكفالة لأنه له أن يأخذ من أيهم شاء بخلاف ما إذا كان له ألف وغصب ألفا
وغصبها منه آخر له ألف وحال الحول على مال الغاصبين ثم أبرأهما فإنه يزكي الغاصب الأول
ألفه والغاصب الثاني لا لأن الغاصب الأول لو ضمن يرجع على الثاني والثاني لو ضمن لا
يرجع على الأول فكان قرار الضمان عليه فصار الدين عليه مانعا ا ه. وظاهره أنه لو لم
يبرئهما لا يكون الحكم كذلك وفي فتح القدير وغيره: لا يخرج عن ملك النصاب المذكور
ما ملك بسبب خبيث ولذا قالوا: لو أن سلطانا غصب مالا وخلطة صار ملكا له حتى
وجبت عليه الزكاة وورث عنه على قول أبي حنيفة لأن خلط دراهمه بدراهم غيره عنده
استهلاك أما على قولهما فلا يضمن فلا يثبت الملك لأنه فرع أرفق بالناس إذ قل ما يخلو
مال مشترك فإنما يورث حصة الميت منه. وفي الولوالجية: وقوله أرفق بالناس إذ قل ما يخلو
مال عن غصب ا ه. هكذا ذكروا وهو مشكل لأنه وإن كان ملكه عند أبي حنيفة بالخلط فهو
مشغول بالدين والشرط الفراغ عنه فينبغي أن لا تجب الزكاة فيه على قوله أيضا ولذا شرط

359
وبه صرح في شرح المنظومة ويجب عليه تفريغ ذمته برده إلى أربابه إن علموا والا إلى الفقراء قوله:
(وهو قيد حسن الخ) قال في النهر: وينبغي أن يقيد بما إذا لم يكن له مال غيره يوفي منه الكل أو
البغض فإن كان زكي ما قدر على وفائه. ثم رأيته في الحواشي السعدية قال: محمل ما ذكروه ما إذا
كان له مال غير ما استهلكه بالخلط يفضل عنه فلا يحيط الدين بماله وهذا طب ما فهمته ولله تعالى.
المنة ا ه. قلت: وقد رأيت ما يفيده في الفصل العاشر من التتارخانية حيث ال عن فتاوى الحجة.
ومن ملك أموالا غير طيبة أو غصب أموالا وخلطها ملكها بالخلط ملكها بالخلط ويصير ضامنا وان لم يكن له
سواها نصاب فلا زكاة عليه في تلك الأموال وإن بلغت نصابا لأنه مديون ومال المديون لا ينعقد
سببا لوجوب الزكاة عندنا ا ه. وذكر في الشرنبلالية مثل ما في السعدية وبالجملة فوجوب الزكاة
عليه مقيد بما إذا أبرأه الغرماء أو بما إذا كان له مال يوفي دينه وإلا فلا وبه يندفع الاشكال لكن لا
بد أن يكون معه نصاب زائد على ما يوفي دينه لأن ما مشغولا بالدين لا زكاة فيه وإنما يزكي ما
زاد عليه إذا بلغ نصابا كما تفيده عبارة السعدية خلافا لما يوهمه كلام النهر. وعلى هذ فلم تجب عليه
زكاة ما غصبه بل زكاة ماله الزائد عليه ففي هذا لا جواب نظر فتدبر. لا يقال قد يحمل على ما إذا
كان له مال آخر من غير جنس مال الزكاة كدور السكنى وثياب البدن ونحوها فإذا كان له من ذلك
ما يساوي ما عليه تلزمه الزكاة لأن ما عليه مما غصبه وخلطه صار ملكه وله جهة وفاء مما ذكر لأنا
نقول: ما كان من الحوائج الأصلية لا يصير به غنيا فلو كان مديونا بما يساوي حوائجه الأصلية
وقلنا بوجوب الزكاة في ذلك الدين لزم إيجاب الزكاة على الفقير الذي يحل له أخذ الزكاة ولان
المرح به أن الدين يصرف إلى مال الزكاة حتى لو كان عليه دين وله مال الزكاة وغيره يصرف الدين
إلى مال الزكاة ولو من غير جنسه خلافا لزفر حتى لو تزوج امرأة على خادم بغير عينه وله مائتا
درهم وخادم يصرف الدين إلى المائتين دون الخادم خلافا لزفر صرح بذلك في البدائع فلا يمكن
الحمل المذكور تأمل وقد يجاب عن أصل الاشكال كما أفاده شيخنا حفظه الله تعالى بأن ما غصبه
السلطان وخلطه بماله إن كان أصحابه معلومين فلا كلام في وجوب ضمانه لهم وعدم وجوب
الزكاة عليه بقدره قبل أداء ضمانه وإن كانوا غير معلومين أي لا هم ولا ورثتهم فعلى زكاته لأنه
صار ملكه بالخلط وهو وإن كانت ذمته مشغولة بقدره لكن هذا دين ليس له مطالب من جهة العباد
في الدنيا فلا يمنع وجوب الزكاة قلت: لكن سيذكر المؤلف في أواخر فصل ذكاة الغنم عن
المبسوط أن الظلمة بمنزلة الغارمين والفقراء حتى قال محمد بن سلمة: يجوز دفع الصدقة لوالي
خراسان. ذكر قاضيخان في الجامع الصغير: لو أوصى بثلث ماله للفقراء فدفع إلى السلطان الجائر
سقط ا ه‍. فكونه فقيرا يجوز دفع الصدقة إليه ينافي وجوب الزكاة عليه. نعم سيأتي في باب المصرف

360
ثم تصدق بها وله ألف درهم ثم تم الحول على ألفه زكاها استحسانا لأن الألف المتصدق بها
لم تصر دينا عليه في الحال لجواز أن يجيز صاحبها التصدق اه‍.
وشرط فراغه عن الحاجة الأصلية لأن المال المشغول بها كالمعدوم، وفسرها في شرح
المجمع لابن الملك بما يدفع الهلاك عن الانسان تحقيقا أو تقديرا، فالثاني كالدين والأول
كالنفقة ودور السكني وآلات الحرب والثياب المحتاج إليها لدفع الحر أو البرد وكآلات الحرفة
وأثاث المنزل ودواب الركوب وكتب العلم لأهلها، فإذا كان له دراهم مستحقة ليصرفها إلى
تلك الحوائج صارت كالمعدومة كما أن الماء المستحق لصرفه إلى العطش كان كالمعدوم وجاز
عنده التيمم اه‍. فقد صرح بأن من معه دراهم وأمسكها بنية صرفها إلى حاجته الأصلية لا
تجب الزكاة إذا حال الحول وهي عنده، ويخالفه ما في معراج الدراية في فصل زكاة العروض
أن الزكاة تجب في النقد كيفما أمسكه للنماء أو المنفقة اه‍. وكذا في البدائع في بحث النماء
التقديري: وما آلات الحرفة الصابون والحرض للغسال لا للبقال بخلاف العصفر والزعفران
للصباغ والدهن والعفص للدباغ فإنها واجبة فيه لأن المأخوذ فيه بمقابلة العين وقوارير
العطارين ولجم الخيل والحمير المشتراة للتجارة ومقاودها وجلالها إن كان من غرض المشتري
بيعها بها ففيها الزكاة وإلا فلا. كذا في فتح القدير. وما في النهاية من أن التقييد بالأهل في
الكتب ليس بمفيد مما أنه إن لم يكن من أهلها وليست هي للتجارة لا تجب فيها الزكاة وإن
كثرت لعدم النماء، وإنما يفيد ذكر الأهل في حق مصرف الزكاة فإذا كانت له كتب تساوي
مائتي درهم وهو محتاج إليها للتدريس وغيره يجوز صرف الزكاة إليه، وأما إذا كان لا يحتاج
إليها وهي تساوي مائتي درهم لا يجوز صرف الزكاة إليه اه‍. فغير مفيد لأن كلامهم في بيان
ما هو من الحوائج الأصلية ولا شك أن الكتب لغير الأهل ليست منها وهو تقييد مفيد كما لا
يخفى. وشرط أن يكون النصاب ناميا والنماء في اللغة بالمد الزيادة والقصر بالهمز خطأ.

361
يقال نما المال ينمي نماء وينمو نموا وأنماه الله كذا في المغرب. وفي الشرع هو نوعان:
حقيقي وتقديري. فالحقيقي الزيادة بالتوالد والتناسل والتجارات، والتقدير تمكنه من الزيادة
بكون المال في يده أو يد نائبه، فلا زكاة على من لم يتمكن منها في ماله كمال الضمار، وهو
في اللغة الغائب الذي لا يرجى فإذا رجي فليس بضمار. وأصله الاضمار وهو التغيب
والاخفاء ومنه أضمر في قلبه شيئا.
وفي الشرع كل مال غير مقدور الانتفاع به مع قيام أصل الملك. كذا في البدائع. فما
في فتح القدير من أن مهر المرأة التي تبين أنها أمة، ودية اللحية التي تنبت بعد حقها، والمال
المتصادق على عدم وجوبه، والهبة التي رجع فيها بعد الحول من جملة مال الضمار، فغير
صحيح مطلقا لأن الذي كان في يده المال في الحول كان متمكنا من الانتفاع به فلم يكن
ضمارا في حقه، وكذا من لم يكن في يده إذ لا ملك له ظاهرا في الحول وإنما الحق في
التعليل ما قدمناه عن الولوالجي من أنه بمنزلة الهالك بعد الوجوب، ومال الضمار هو الدين
المجحود والمغصوب إذا لم يكن عليهما بينة فإن كان عليهما بينة وجبت الزكاة إلا في غصب
السائمة فإنه ليس على صاحبها الزكاة، وإن كان الغاصب مقرا. كذا في الخانية. وفيها أيضا
من باب المصرف: الدين المجحود إنما لا يكون نصابا إذا حلفه القاضي وحلف، أما قبل
ذلك يكون نصابا حتى لو قبض منه أربعين درهما يلزمه أداء الزكاة اه‍. وعن محمد: لا تجب
الزكاة وإن كان له بينة لأن البينة قد لا تقبل والقاضي قد لا يعدل وقد لا يظهر بالخصومة بين
يديه لمانع فيكون في حكم الهالك. وصححه في التحفة كذا في غاية البيان، وصححه في
الخانية أيضا وعزاه إلى السرخسي. ومنه المفقود والآبق والمأخوذ مصادرة والمال الساقط في
البحر والمدفون في الصحراء المنسي مكانه، فلو صار في يده بعد ذلك فلا بد له من حول

362
جديد لعدم الشرط وهو النمو، وأما المدفون في حرز ولو دار غيره إذا نسيه فليس منه فيكون
نصابا. واختلف المشايخ في المدفون في أرض مملوكة أو كرم، فقيل بالوجوب لامكان
الوصول، وقيل لا لأنها غير حرز. وأما إذا أودعه ونسي المودع قالوا: إن كان المودع من
الأجانب فهو ضمار وإن كان من معارفه وجبت الزكاة لتفريطه بالنسيان في غير محله.
وقيدنا الدين بالمجحود لأنه لو كان على مقر ملي أو معسر تجب الزكاة لامكان الوصول إليه
ابتداء أو بواسطة التحصيل، ولو كان على مقر مفلس فهو نصاب عند أبي حنيفة لأن تفليس
القاضي لا يصح عنده، وعند محمد لا يجب لتحقق الافلاس عنده بالتفليس، وأبو يوسف مع
محمد في تحقق الافلاس ومع أبي حنيفة في حكم الزكاة رعاية لجانب الفقراء. كذا في
الهداية. فأفاد أنه إذا قبض الدين زكاه لما مضى.
قال في فتح القدير: وهو غير جار على إطلاقه بل ذلك في بعض أنواع الدين ولتوضح
ذلك فنقول: قسم أبو حنيفة الدين على ثلاثة أقسام: قوي وهو بدل القرض ومال التجارة،
ومتوسط وهو بدل ما ليس للتجارة كثمن ثياب البذلة وعبد الخدمة ودار السكني، وضعيف
وهو بدل ما ليس بمال كالمهر والوصية وبدل الخلع والصلح عن دم العمد والدية وبدل الكتابة
والسعاية. ففي القوي تجب الزكاة إذا حال الحول ويتراخى القضاء إلى أن يقبض أربعين درهما
ففيها درهم، وكذا فيما زاد بحسابه. وفي المتوسط لا تجب ما لم يقبض نصابا ويعتبر لما مضى
من الحول في صحيح الرواية. وفي الضعيف لا تجب ما لم يقبض نصابا ويحول الحول بعد
القبض عليه وثمن السائمة كثمن عبد الخدمة. ولو ورث دينا على رجل فهو كالدين الوسط،

363
وروي أنه كالضعيف. وعندهما الديون كلها سواء تجب الزكاة قبل القبض، وكلما قبض شيئا
زكاة قل أو كثر إلا دين الكتابة والسعاية. وفي رواية أخرجا الدية أيضا قبل الحكم بها وأرش
الجراحة لأنها ليست بدين على الحقيقة فلذا لا تصح الكفالة ببدل الكتابة، ولا يؤخذ من تركة
من مات من العاقلة الدية لأن وجوبها بطريق الصلة إلا أن يقول الأصل إن المسببات تختلف
بحسب اختلاف الأسباب. ولو آجر عبده أو داره بنصاب إن لم يكونا للتجارة لا تجب ما لم يحل
الحول بعد القبض في قوله، وإن كان للتجارة كان حكمه كالقوي لأن أجرة مال التجارة كثمن
مال التجارة في صحيح الرواية اه‍. وفي الولوالجية: وأما إذا أعتق أحد الشريكين عبدا مشتركا
واختار المولى تضمين المعتق إن كان العبد للتجارة فحكمه حكم دين الوسط هو الصحيح،
وإن كان العبد للخدمة فكذلك أيضا، وإن اختار استسعاء العبد فحكمه حكم الدين الضعيف
اه‍. ومقتضى الأول أن العبد إذا كان للتجارة فحكم هذا الدين حكم الدين القوي وقد صرح

364
به في المحيط إلا أن الصحيح خلافه كما علمت ولعله ليس بلالا من كل وجه بدليل أن المولى
مخير. ثم قال الولوالجي: وهذا كله إذا لم يكن عنده مال
آخر للتجارة، فأما إذا كان عنده مال آخر للتجارة يصير المقبوض من الدين الضعيف مضموما إلى ما عنده فتجب فيها الزكاة وإن لم
يبلغ نصابا، وكذا في المحيط وفيه: ولو كان له مائتا درهم دين فاستفاد في خلال الحول مائة
درهم فإنه يضم المستفاد إلى الدين في حوله بالاجماع وإذا تم الحول على الدين لا يلزمه الأداء
من المستفاد ما لم يقبض أربعين درهما. وعندهما: يلزمه وإن لم يقبض منه شيئا. وفائدة
الخلاف تظهر فيما إذا مات من عليه مفلسا سقط عنه زكاة المستفاد عنده لأنه جعل مضموما إلى
الدين تبعا له فسقط بسقوطه، وعندهما تجب لأنه بالضم صار كالموجود في ابتداء الحول فعليه
زكاة العين دون الدين اه‍. وقدمنا أن المبيع قبل القبض لا تجب زكاته على المشتري.
وذكر في المحيط في بيان أقسام الدين أن المبيع قبل القبض قيل لا يكون نصابا لأن
الملك فيه ناقص بافتقاد اليد، والصحيح أنه يكون نصابا لأنه عوض عن مال كانت يده ثابتة
عليه وقد أمكنه احتواء اليد على العوض فتعتبر يده باقية على النصاب باعتبار التمكن شرعا
اه‍. فعلى هذا قولهم لا تجب الزكاة معناه قبل قبضة، وأما بعد قبضه فتجب زكاته فيما مضى
كالدين القوي. وفي المحيط: رجل وهب دينا له على رجل ووكل بقبضه فلم يقبضه حتى
وجبت فيه الزكاة، فالزكاة على الواهب لأن قبض الموهوب له كقبض صاحب المال اه‍. ثم
اعلم أن هذا كله فيما إذا لم يبرئ صاحب الدين منه، أما إذا أبرأ المديون منه بعد الحول فإنه لا

365
زكاة عليه فيه، سواء كان ثمن مبيع أو قرضا أو غير ذلك. صرح به قاضيخان في فتاواه،
لكن قيده في المحيط يكون المديون معسرا، أما لو كان موسرا فهو استهلاك وهو تقييد
حسن يجب حفظه. وذكر في القنية أن فيه روايتين. ولم يبين المصنف رحمه الله ما يكون
محلا للنماء التقديري من الأموال. وحاصله أنها قسمان: خلقي وفعلي. فالخلقي الذهب
والفضة لأنها تصلح للانتفاع بأعيانها في دفع الحوائج الأصلية فلا حاجة إلى الاعداد من
العبد للتجارة بالنية إذا النية للتعيين وهي متعينة للتجارة بأصل الخلقة فتجب الزكاة فيها،
نوى التجارة أو لم ينو أصلا أو نوى النفقة. والفعلي ما سواهما فإنما يكون الاعداد فيها
للتجارة بالنية إذا كانت عروضا، وكذا في المواشي لا بد فيها من نية الإسامة لأنها كما
تصلح للدر والنسل تصلح للحمل وللركوب. ثم نية التجارة والإسامة لا تعتبر ما لم تتصل
بفعل التجارة والإسامة، ثم نية التجارة قد تكون صريحا وقد تكون دلالة، فالصريح أن
ينوي عند عقد التجارة أن يكون المملوك به للتجارة، سواء كان ذلك العقد شراء أو
إجارة، وسواء كان ذلك الثمن من النقود أو من العروض، فلو نوى أن يكون للبذلة لا
يكون للتجارة، وإن كان الثمن من النقود فخرج ما ملكه بغير عقد كالميراث فلا تصح فيه
نية التجارة إذا كان من غير النقود إلا إذا تصرف فيه، فحينئذ تجب الزكاة. كذا في شرح
المجمع للمصنف. وفي الخانية: ولو ورث سائمة كان عليه الزكاة إذا حال الحول، نوى أو
لم ينو. وخرج أيضا ما إذا دخل من أرضه حنطة تبلغ قيمتها قيمة نصاب ونوى أن يمسكها
ويبيعها فأمسكها حولا لا تجب فيها الزكاة كما في الميراث، وكذا لو اشترى بدرا للتجارة
وزرعها في أرض عشر استأجرها كان فيها العشر لا غير كما لم اشترى أرض خراج أو
عشر للتجارة لم يكن عليه زكاة التجارة وخرج وزرعها في أرض عشر استأجرها كان فيها العشر لا غير كما لو اشترى أرض خراج أو عشر للتجارة لم يكن عليه زكاة التجارة إنما عليه حق الأرض من العشر أو الخراج. وخرج
ما ملكه بعقد ليس فيه مبادلة أصلا كالهبة والوصية والصدقة أو ملكه بعقد هو مبادلة مال
بغير مال كالمهر بدل الخلع والصلح عن دم العمد وبدل العتق فإنه لا تصح فيه نية التجارة
وهو الأصح لأن التجارة كسب المال ببدل هو مال والقبول هنا اكتساب المال بغير بدل
أصلا فلم يكن من باب التجارة فلم تكن النية مقارنة لعمل التجارة. كذا صححه في

366
البدائع. وقيدنا ببدل الصلح عن دم العمد لأن العبد للتجارة إذا قتله عبد خطأ ودفع به فإن
المدفوع يكون للتجارة. كذا في الخانية.
ولو استقرض عروضا ونوى أن تكون للتجارة اختلف المشايخ، والظاهر أنها تكون
للتجارة وإليه أشار في الجامع كما في البدائع. ولو اشترى عروضا للبذلة والمهنة ثم نوى أن
تكون للتجارة بعد ذلك لا تصير للتجارة ما لم يبعها فيكون بدلها للتجارة لأن التجارة عمل
فلا تتم بمجرد النية بخلاف ما إذا كان للتجارة فنوى أن تكون للبذلة خرج عن التجارة بالنية
وإن لم يستعمله لأنها ترك العمل فتتم بها. قال الشارح الزيلعي: ونظيره المقيم والصائم
والكافر والعلوفة والسائمة حيث لا يكون مسافرا ولا مفطرا ولا مسلما ولا سائمة ولا علوفة
بمجرد النية ويكون مقيما وصائما وكافرا بالنية اه‍. فقد سوى بين العلوفة والسائمة. والمنقول
في النهاية وفتح القدير أن العلوفة لا تصير سائمة بمجرد النية، والسائمة تصير علوفة
بمجردها، وقد ظهر لي التوفيق بينهما أن كلام الشارح محمول على ما إذا نوى أن تكون
السائمة علوفة وهي في المرعي. ولم يخرجها بعد فإنها بهذه النية لا تكون علوفة بل لا بد من العمل وهو إفراجها في المرعى ولم يرد بالعمل أن يعلفها، وكلام غيره محمول على ما إذا
نوى أن تكون علوفة بعد إخراجها من المرعى، وهذا التوفيق يدل عليه ما في النهاية في

367
تعريف السائمة فليراجع. وأما الدلالة فهي أن يشتري عينا من الأعيان بعرض التجارة أو
يؤاجر داره التي للتجارة بعرض من العروض فيصير للتجارة وإن لم ينو التجارة صريحا لكن
ذكر في البدائع الاختلاف في بدل منافع عين معدة للتجارة، ففي كتاب الزكاة من الأصل أنه
للتجارة بلا نية، وفي الجامع ما يدل على التوقف على النية فكان في المسألة روايتان، ومشايخ
بلخ كانوا يصححون رواية الجامع لأن العين وإن كانت للتجارة لكن قد يقصد ببدل منافعها
المنفعة فيؤاجر الدابة لينفق عليها والدار للعمارة فلا تصير للتجارة مع التردد إلا بالنية اه‍. ثم
اعلم أنه يستثني من اشتراط نية التجارة للوجوب ما يشتريه المضارب فإنه يكون للتجارة وإن
لم ينوها أو نوى الشراء للنفقة حتى لو اشترى عبيدا بمال المضاربة ثم اشترى لهم كسوة
وطعاما للنفقة كان الكل للتجارة وتجب الزكاة في الكل لأنه لا يملك إلا الشراء للتجارة
بمالها وإن نص على النفقة بخلاف المالك إذا اشترى عبيدا للتجارة ثم اشترى لهم طعاما
وثيابا للنفقة فإنه لا يكون للتجارة لأنه يملك الشراء لغير التجارة. كذا في البدائع. ويدخل
في نية التجارة ما يشتريه الصباغ بنية أن يصبغ به للناس بالأجرة فإنه يكون للتجارة بهذه
النية. وضابطه أن ما يبقى أثره في العين فهو مال التجارة، وما لا يبقى أثره فيها فليس منه
كصابون الغسال كما قدمنا. ولم يذكر المصنف من شرائط الوجوب العلم به حقيقة أو حكما
بالكون في دار الاسلام كما في البدائع لأنه شرط لكل عبادة، وقد يقال: إنه ذكر الشروط
العامة هنا كالاسلام والتكليف فينبغي ذكره أيضا اه‍.
قوله (وشرط أدائها نية مقارنة للأداء أو لعزل ما وجب أو تصدق بكله) بيان لشرط
الصحة فإن شرائطها ثلاثة أنواع: شرائط وجوب وهي ما ذكره إلا الحول فإنه من شروط
وجوب الأداء بدليل جواز التعجيل قبله بعد وجود السبب، وأما النية فهي شرط الصحة لكل
عبادة كما قدمناه وقد علمت من قوله أولا لله تعالى لكن المراد هنا بيان تفاصيلها. والأصل
اقترانها بالأداء كسائر العبادات إلا أن الدفع يتفرق فيحرج باستحضار النية عند كل دفع
فاكتفى بوجودها حالة العزل دفعا للحرج. وإنما سقطت عنه بلا نية فيما إذا تصدق بجميع
النصاب لأن الواجب جزء منه وقد وصل إلى مستحقه، وإنما تشترط النية لدفع المزاحم فلما
أدى الكل زالت المزاحمة. أطلق المقارنة فشمل المقارنة الحقيقية وهو ظاهر، والحكمية كما إذا
دفع بلا نية ثم حضرته النية والمال قائم في يد الفقير فإنه يجزئه وهو بخلاف ما إذا نوى بعد
هلاكه، وكما إذا وكل رجلا بدفع زكاة ماله ونوى المالك عند الدفع إلى الوكيل فدفع الوكيل
بلا نية فإنه يجزئه لأن المعتبر نية الآمر لأنه المؤدي حقيقة، ولو دفعها إلى ذمي ليدفعها إلى

368
الفقراء جاز لوجود النية من الآمر. ولو أدى زكاة غيره بغير أمره فبلغه فأجاز لم يجز لأنها
وجدت نفاذا على المتصدق لأنها ملكه ولم يصر نائبا عن غيره فنفذت عليه. ولو تصدق عنه
بأمره جاز ويرجع بما دفع عند أبي يوسف وإن لم يشترط الرجوع كالأمر بقضاء الدين، وعند
محمد لا رجوع له إلا بالشرط. وتمامه في الخانية: ولو أعطاه دراهم ليتصدق بها تطوعا فلم
يتصدق بها حتى نوى الآمر أن تكون زكاته ثم تصدق بها أجزأه، وكذا لو قال تصدق بها عن
كفارة يميني ثم نوى عن زكاة ماله. وفي الفتاوى: رجلان دفع كل واحد منهما زكاة ماله إلى
رجل ليؤدي عنه فخلط مالهما ثم تصدق ضمن الوكيل، وكذا لو كان في يد رجل أوقاف
مختلفة فخلط إنزال الأوقاف، وكذلك البياع والسمسار والطحان إلا في موضع يكون الطحان
مأذونا بالخلط عرفا انتهى. وبه يعلم حكم من يجمع للفقراء، ومحله ما إذا لم يوكلوه فإن كان
وكيلا من جانب الفقراء أيضا فلا ضمان عليه، فإذا ضمن في صورة الخلط لا تسقط الزكاة
عن أربابها، فإذا أدى صار مؤديا مال نفسه. كذا في التجنيس. ولو لم يخلط الجابي فإنه يجوز
دفع من أعطى قبل أن تبلغ الدراهم مائتين ولا يجوز لمن أعطى بعدما بلغت نصابا إن كان
الفقير وكل الجابي وعلم المعطى ببلوغه نصابا، فإن لم يكن الجابي وكيل الفقير جاز مطلقا،
وإن لم يعلم المعطى ببلوغه نصابا جاز في قول أبي حنيفة ومحمد. كذا في الظهيرية. وللوكيل
بدفع الزكاة أن يدفعها إلى ولد نفسه كبيرا كان أو صغيرا وإلى امرأته إذا كانوا محاويج ولا يجوز
أن يمسك لنفسه شيئا اه‍. إلا إذا قال ضعها حيث شئت فله أن يمسكها لنفسه. كذا في
الولوالجية. وأشار المصنف إلى أنه لا يخرج بعزل ما وجب عن العهدة بل لا بد من الأداء إلى
الفقير لما في الخانية: لو أفرز من النصاب خمسة ثم ضاعت لا تسقط عنه الزكاة. ولو مات
بعد إفرازها كانت الخمسة ميراثا عنه اه‍. بخلاف ما إذا ضاعت في يد الساعي لأن يده كيد
الفقراء. كذا في المحيط.
وفي التجنيس: لو عزل الرجل زكاة ماله ووضعه في ناحية من بيته فسرقها منه سارق لم
تقطع يده للشبهة، وقد ذكر في كتاب السرقة من هذا الكتاب أنه يقطع السارق غنيا كان أو فقيرا
اه‍ بلفظه. وإلى أنه لو أخر الزكاة ليس للفقير أن يطالبه ولا أن يأخذ ماله بغير علمه وإن أخذ كان
لصاحب المال أن يسترده إن كان قائما ويضمنه إن كان هالكا، فإن لم يكن في قرابة من عليه الزكاة
أو في قبيلته أحوج من هذا الرجل فكذلك ليس له أن يأخذها له، وإن أخذ كان ضامنا في
الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى يرجى أن يحل له الاخذ. كذا في الخانية أيضا. وإلى أنه لو مات
من عليه الزكاة لا تؤخذ من تركته لفقد شرط صحتها وهو النية إلا إذا أوصى بها فتعتبر من الثلث
كسائر التبرعات وإلى أنه لو امتنع من أدائها فالساعي لا يأخذ منه كرها، ولو أخذ لا يقع عن الزكاة
لكونها بلا اختيار ولكن يجبره بالحبس ليؤدي بنفسه لأن الاكراه لا يسلب الاختيار بل الطواعية
فيتحقق الأداء عن اختيار. كذا في المحيط. وفي مختصر الطحاوي: ومن امتنع عن أداء زكاة ماله

369
وأخذها الإمام كرها منه فوضعها في أهلها أجزأه لأن للإمام ولاية أخذ الصدقات فقام أخذه مقام
دفع المالك اه‍. وفي القنية: فيه إشكال لأن النية فيها شرط ولم توجد منه اه‍. وفي المجمع: ولا
نأخذها من سائمة امتنع ربها من أدائها بغير رضاه بل نأمره ليؤديها اختيارا اه‍. والمفتى به التفصيل
إن كان في الأموال الظاهرة فإنه يسقط الفرض عن أربابها بأخذ السلطان أو نائبه لأن ولاية الاخذ
له فبعد ذلك إن لم يضع السلطان موضعها لا يبطل أخذه عنه، وإن كان في الأموال الباطنة فإنه لا
يسقط الفرض لأنه ليس للسلطان ولاية أخذ زكاة الأموال الباطنة فلم يصح أخذه. كذا في
التجنيس والواقعات والولوالجية. وقيد بالتصدق بالكل لأنه لو تصدق ببعض النصاب بلا نية
اتفقوا أنه لا يسقط زكاة كله، واختلفوا زكاة في سقوط ما تصدق به فقال محمد بسقوطه، وقال أبو
يوسف عليه زكاة كله إلا إذا كان الموهوب مائة وستة وتسعين فحينئذ. تسقط كذا في المبتغى
بالغين المعجمة. وأطلق في التصدق بالكل فشمل العين والدين فلو كان له على فقير دين فأبرأه عنه
سقط زكاته عنه، نوى الزكاة أولم ينو لما قدمناه، ولو أبرأه عن البعض سقط زكاة ذلك البعض ولا
تسقط عنه زكاة الباقي ولو نوى به الأداء عن الباقي يصير عينا بالقبض فيصير مؤديا
الدين عن العين، والأصل فيه أن أداء العين عن العين وعن الدين يجوز، وأداء الدين عن العين
وعن دين سيقبض لا يجوز، وأداء الدين عن دين لا يقبض يجوز. كذا في شرح الطحاوي. وحيلة
الجواز أن يعطى المديون الفقير خمسة زكاة ثم يأخذه منه قضاء عن دينه كذا في المحيط ولو أمر
فقيرا يقبض دين له على اخر نواه عن زكاة عين عنده جاز لأن الفقير يقبض عينا فكان عينا عن
عين. كذا في الولوالجية. وقيدنا بكون من عليه الدين فقيرا لأنه لو كان غنيا فوهبه بعد الحول ففيه
روايتان، أصحهما الضمان كما في المحيط وقد قدمناه. وشمل أيضا ما إذا لم ينو شيئا أصلا أو
نوى غير الزكاة وهو الصحيح فيما إذا نوى التطوع، أما إذا تصدق بكله ناويا النذر أو واجبا آخر
فإنه يقع عما نوى ويضمن قدر الواجب. كذا في التبيين.
وفي شرح الطحاوي: لو وجبت الزكاة في مائتي درهم فأدى خمسة ونوى ذلك تطوعا
سقطت عنه زكاة الخمسة وهي ثمن درهم ولا تسقط عنه زكاة الباقي اه‍. وينبغي أن يكون
مفرعا على قول محمد كما لا يخفى. ولم يشترط المصنف رحمه الله علم الآخذ بما يأخذه أنه
زكاة للإشارة إلى أنه ليس بشرط وفيه اختلاف، والأصح كما في المبتغى والقنية أن من أعطى
مسكينا دراهم وسماها هبة أو قرضا ونوى الزكاة فإنها تجزئه، ولم يشترط أيضا الدفع من عين

370
مال الزكاة لما قدمناه من أنه لو أمر إنسانا بالدفع عنه أجزأه لكن اختلف فيما إذا دفع من مال
آخر خبيث. وظاهر القنية ترجيح الاجزاء استدلالا بقولهم: مسلم له خمر فوكل ذميا فباعها
من ذمي فللمسلم أن يصرف هذا الثمن إلى الفقراء من زكاة ماله اه‍. وفي الخانية: إذا هلكت
الوديعة عند المودع فدفع القيمة إلى صاحبها وهو فقير لدفع الخصومة يريد به الزكاة لا يجزئه
اه‍. وفي القنية: عليه زكاة ودين أيضا والمال يفي بأحدهما يقضي دين الغريم ثم يؤدي حق
الكريم اه‍. وفي الظهيرية: له خمس من الإبل وأربعون شاة فأدى شاة لا ينوي عن أحدهما
صرفها إلى أيهما شاء كما لو كفر عن ظهار امرأتين بتحرير رقبة كان له أن يجعل عن أيتهما
شاء اه‍. وفي فتح القدير: والأفضل في الزكاة الاعلان بخلاف صدقة التطوع. وفي
الولوالجية: إذا أدى خمسة دراهم ونوى الزكاة والتطوع جميعا يقع عن الزكاة عند أبي يوسف،
وعند محمد عن النفل لأن نية النفل عارض نية الفرض فبقي مطلق النية، لأبي يوسف أن نية
الفرض أقوى فلا يعارضها نية النفل اه‍. وأطلق في عزل ما وجب فشمل ما إذا عزل كل ما
وجب أو بعضه. وفي الخانية من باب الأضحية: للوكيل بدفع الزكاة أن يوكل بلا إذن ولا
يتوقف. وفي القنية من باب الوكالة بأداء الزكاة: لو أمره أن يتصدق بدينار على فقير معين
فدفعها إلى فقير آخر لا يضمن. ثم رقم برقم آخر أنه في الزكاة يضمن وله التعين اه‍.
والقواعد تشهد للأول لأنهم قالوا: لو قال لله علي أن أتصدق بهذا الدينار على فلان فله أن
يتصدق على غيره. وفي الواقعات: ولو شك رجل في الزكاة فلم يدر أزكى أم لا فإنه يعيد.
فرق بين هذا وبين ما إذا شك في الصلاة بعد ذهاب الوقت أصلاها أم لا، والفرق أن العمر
كله وقت لأداء الزكاة فصار هذا بمنزلة شك وقع في أداء الصلاة أنه أدى أم لا وهو في
وقتها ولو كان كذلك يعيد اه‍. ووقعت حادثة هي أن من شك هل أدى جميع ما عليه من
الزكاة أم لا بأن كان يؤدي متفرقا ولا يضبطه هل يلزمه إعادتها، ومقتضى ما ذكرنا لزوم

371
الإعادة حيث لم يغلب على ظنه دفع قدر معين لأنه ثابت في ذمته بيقين فلا يخرج عن العهدة
بالشك والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب صدقة السوائم
أي زكاتها قالوا: حيث أطلقت الصدقة في الكتاب العزيز فالمراد بها الزكاة. وبدأ
أكثرهم ببيان السوائم اقتداء بكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها كانت مفتتحة بها ولكونها أعز أموال
العرب. والسوائم جمع سائمة ولها معنيان: لغوي وفقهي. قال في المغرب، سامت الماشية
رعت سوما وأسامها صاحبها أسامة، والسائمة عن الأصمعي كل إبل ترسل ترعي ولا تعلف
في الأهل اه‍. وفي ضياء الحلوم: السائمة المال الراعي قوله (هي التي تكتفي بالرعي في أكثر
السنة) بيان للسائمة بالمعنى الفقهي لأن اسم السائمة لا يزول بالعلف اليسير ولأنه لا يمكن
الاحتراز عنه. قيد بالأكثر لإفادة أنه لو علفها نصف الحول فإنها لا تكون سائمة فلا زكاة فيها
لوقوع الشك في السبب لأن المال إنما صار سببا بوصف الإسامة فلا يجب الحكم مع الشك.
اعترض في النهاية بأن مرادهم تفسير السائمة التي فيها الحكم المذكور فهي تعريف بالأعم إذ
بقي قيد كون ذلك لغرض النسل والدر والتسمين وإلا فيشمل الإسامة لغرض الحمل
والركوب وليس فيها زكاة وأقره عليه في فتح القدير. وقد يجاب بأنهم إنما تركوا القيد
لتصريحهم بعد ذلك بأن ما كان للحمل والركوب فإنه لا شئ فيه، وصرحوا أيضا بأن
العروض إذا كانت للتجارة يجب فيها زكاة التجارة وقالوا: إن العرض خلاف النقد فيدخل
فيه الحيوانات. وحاصله أنه إن أسامها للحمل أو للركوب فلا زكاة أصلا، أو للتجارة ففيها
زكاة التجارة، أو للدر والنسل ففيها الزكاة المذكورة في هذا الباب. وفي المحيط: ولو
اشتراها للتجارة ثم جعلها سائمة يعتبر الحول من وقت الجعل لأن حول زكاة التجارة يبطل
بجعلها للسوم لأن زكاة السوائم وزكاة التجارة مختلفان قدرا وسببا فلا يبني حول أحدهما على
الآخر اه‍. فإن قلت: قد اقتصر الزيلعي وغيره على أن المراد بها التي تسام للدر والنسل فيفيد
أنها لو كانت كلها ذكورا لا تجب الزكاة فيها، والمصرح به في البدائع والمحيط أنه لا فرق بين

372
كونها كلها إناثا أو كونها كلها ذكورا أو بعضها ذكورا وبعضها إناثا. قلت: المقصود من هذا
الشرط نفي كون الأسامة للحمل والركوب أو للتجارة لا اشتراط أن تكون للدر والنسل، ولذا
زاد في المحيط ان تسام لقصد الدر والنسل والزيادة والسمن، فالذكور فقط تسام للزيادة
والسمن لكن في البدائع: لو أسامها للحم لا زكاة فيها كالحمل والركوب. وفي القنية: له إبل
عوامل يعمل بها في السنة أربعة أشهر ويسمنها في الباقي ينبغي أن لا يجب فيها الزكاة اه‍.
والرعي مصدر رعت الماشية الكلأ والرعي بالكسر الكلأ نفسه. كذا في المغرب. والمناسب هنا
ضبطه بالفتح لأن السائمة في الفقه هي التي ترعى ولا تعلف في الأهل لقصد الدر والنسل كما
في فتح القدير، فلو حمل الكلأ إليها في البيت تكون سائمة فلو ضبط الرعي في كلامهم هنا
بالكسر لكانت سائم، ولا بد أن يكون الكلأ الذي ترعاه مباحا كما قيده الشمني به لأن الكلأ
في اللغة كل ما رعت الدواب من الرطب واليابس فيدخل فيه غير المباح.
قوله (ويجب في خمس وعشرين إبلا بنت مخاض وفيما دونه في كل خمس شاة وفي ست
وثلاثين بنت لبون وفي ست وأربعين حقة وفي إحدى وستين جذعة وفي ست وسبعين بنتا لبون
وفي إحدى وتسعين حقتان إلى مائة وعشرين) بهذا اشتهرت كتب الصدقات من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والإبل ليس لها واحد من لفظها والنسبة إليها إبلي بفتح الباء كقولهم في النسبة إلى سلمة سلمي
بالفتح لتوالي الكسرات مع الياء. والمخاض النوق الحوامل، وابن المخاض هو الفصيل الذي حملت
أمه قبل ابن اللبون بسنة، وكذلك بنت المخاض. والمخاض أيضا وجع الولادة قال تعالى

373
* (فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة) * (مريم: 23) وشاة لبون ذات لبن، وابن اللبون الذي
استكمل سنتين ودخل في الثالثة، والحق من الإبل ما استكمل ثلاث سنين ودخل في
الرابعة، والحقة الأنثى والجمع حقاق، والجذع من البهائم قيل الثني إلا أنه من الإبل في
السنة الخامسة والأنثى جذعة. هذا في اللغة. وفي الشريعة والمراد ببنت المخاض ما تم لها
سنة، وبنت اللبون ما تم لها سنتان، وبالحقة ما تم لها ثلاث، وبالجذعة ما تم لها أربع.
ذكر الزيلعي في فصل المحرمات من النكاح أن قيد كونها بنت مخاض أو بنت لبون خرج
مخرج العادة لا مخرج الشرط فالمراد السن لا أن تكون أمها مخاضا أو لبونا اه‍. واقتصر
الفقهاء على هذه الأسنان الأربعة لأن ما عداها لا مدخل لها في الزكاة كالثني والسديس
والباذل تيسيرا على أرباب الأموال بخلاف الأضحية فإنها لا تجوز بهذه الأسنان لأنه لا يجوز
فيها إلا الثني ولا يجوز الجذع إلا من الضأن وقالوا: هذه الأسنان الأربعة نهاية الإبل في
الحسن والدر والنسل والقوة وما زاد عليه فهو رجوع كالكبر والهرم. والأصل في هذا
الباب أنه توقيفي، وما في المبسوط مما يفيد أنه معقول المعنى فإنه قال: إن إيجاب الشاة في
خمسة من الإبل لأن المأمور به ربع العشر بقوله عليه الصلاة والسلام هاتوا ربع عشر
أموالكم والشاة تقرب من ربع عشر فإن الشاة كانت تقوم بخمسة دراهم هناك وابنة
مخاض بأربعين درهما فإيجاب الشاة في الخمس كإيجابها في المائتين من الدراهم ففيه نظر،
لأنه قد ورد في الحديث أن من وجب عليه سن فلم يوجد عنده فإنه يضع العشرة موضع
الشاة عند عدمها وهو مصرح بخلافه. وقيد المصنف السن الواجب في الإبل بالإناث لأنه
لا يجوز فيها دفع الذكور كبن المخاض إلا بطريق القيمة للإناث إلا فيما دون خمس
وعشرين من الإبل فإنه يجوز الذكور كابن المخاض إلا بطريق القيمة للإناث إلا فيما دون خمس وعشرين من الإبل فإنه يجوز الذكر والأنثى لأن النص ورد باسم الشاة فإنها تقع على الذكر
والأنثى بخلاف البقر والغنم فإنه يجوز في السن الواجب فيهما الذكور والإناث كما
سيصرح به من التبيع والمسن. وفي البدائع: ولا يجوز في الصدقة إلا ما يجوز
الأضحية. وأطلق فيه الإبل فشمل الذكور والإناث كما قدمناه لأن الشرع ورد بنصابها
باسم الإبل والبقر والغنم، واسم الجنس يتناول جميع الأنواع بأي صفة كانت كاسم

374
الحيوان، وسواء كان متولدا من الأهليين أو من أهلي ووحشي بعد أن كان الام أهلية كالمتولد
من الشاة والظبي إذا كان أمه شاة، والمتولد من البقر الأهلي والوحشي إذا كان أمه أهلية
فتجب الزكاة فيه. كذا في البدائع. وشمل الصغار والكبار لكن بشرط أن لا يكون الكل
صغارا لما سيصرح به بعد ذلك فالصغار تبع للكبار عند الاختلاط. وشمل الأعمى والمريض
والأعرج في العدد ولا يؤخذ في الصدقة كما في الولوالجية، وشمل السمان والعجاف لكن
قالوا: إذا كان له خمس من الإبل مهازيل وجب فيها شاة بقدرهن، ومعرفة ذلك أن ينظر إلى
الشاة الوسط كم هي من بنت المخاض الوسط، فإن كانت قيمة بنت مخاض وسط خمسين
وقيمة الشاة الوسط عشرة تبين أن الشاة الوسط خمس بنت مخاض فوجب في المهازيل شاة
قيمتها قيمة خمس واحدة منها، وإن كان سدسها فسدس، وعلى هذا قياسه. وإن كان لا يبلغ
قيمة كلها قيمة بنت مخاض وسط ينظر إلى قيمة أعلاهن فيجب فيها من الزكاة قدر خمس
أعلاهن، فإن كانت قيمة أعلاهن عشرين فخمسه أربعة فيجب فيها
شاة تساوي أربعة دراهم، وإن كانت قيمة أعلاهن ثلاثين فخمسه ستة دراهم لأنه لاوجه
لا يجاب الشاة الوسط لأنه لعل قيمتها تبلغ قيمة واحدة من العجاف أو تربو عليها فيؤدي إلى
الاجحاف بأرباب الأموال فأوجبنا شاة بقدرهم ليعتدل النظر من الجانبين، وكذا في العشرة
منها يجب شاتان بقدرهم إلى خمس وعشرين فيجب واحدة من أفضلهن، وتمام تفريعات زكاة
العجاف في الزيادات والمحيط وغيرها.
قوله: (ثم في كل خمس شاة إلى مائة وخمس وأربعين ففيها حقتان وبنت مخاض وفي
مائة وخمسين ثلاث حقاق ثم في كل خمس شاة وفي مائة وخمس وسبعين ثلاث حقاق وبنت
مخاض وفي مائة وست وثمانين ثلاث حقاق وبنت لبون وفي مائة وست وتسعين أربع حقاق
إلى مائتين ثم تستأنف أبدا كما بعد مائة وخمسين) كما ورد ذلك في كتاب عمرو بن جزم.
وفي المبسوط وفتاوي قاضيخان: إذا صارت مائتين فهو مخير إن شاء أدى فيها أربع حقاق في
كل خمسين حقة، وإن شاء أدى خمس بنات لبون في كل أربعين بنت لبون. وفي معراج
الدراية: إن له الخيار فيما إذا كانت مائة وستا وتسعين إن شاء أدى أربع حقاق وإن شاء صبر

375
لتكمل مائتين فيخير بينها وبين خمس بنات لبون. وإنما قيد في الاستئناف بقوله كما بعد
مائة وخمسين ليفيد أنه ليس كالاستئناف الذي بعد المائة والعشرين. والفرق بينهما أن في
الاستئناف الثاني إيجاب ليفيد أنه ليس كالاستئناف الذي بعد المائة والعشرين، والفرق بينهما
أن في الاستئناف الثاني إيجاب بنت لبون، وفي الاستئناف الأول لم يكن لانعدام نصابه، وأن
الواجب في الاستئناف الأول تغير من الخمس إلى الخمس إلى أن تستأنف الفريضة، وفي الاستئناف الثاني
لم يكن كذلك، فازداد على المائتين خمس ففيها شاة مع الأربع حقاق أو الخمس بنات لبون،
وفي عشر شاتان معها، وفي خمسة عشر ثلاث شياه معها، وفي عشرين أربع معها، فإذا
بلغت مائتين وخمسا وعشرين ففيها بنت مخاض معها إلى ست وثلاثين فبنت لبون معها إلى
ست وأربعين ومائتين ففيها خمس حقاق إلى مائتين وخمسين، ثم تستأنف كذلك ففي مائتين
وست وتسعين ست حقاق إلى ثلاثمائة وهكذا قوله: (والبخت كالعراب) لأن اسم الإبل
يتناولهما واختلافهما في النوع لا يخرجهما من الجنس. والبخت جمع بختى وهو الذي تولد
من العربي والعجمي منسوب إلى بخت نصر. والعراب عربي للبهائم وللأناسي عرب
ففرقوا بينهما في الجمع. والعرب هم الذين استوطنوا المدن والقرى العربية والاعراب أهل
البدو واختلف في نسبتهم، فالأصح أنهم نسبوا إلى عربة بفتحتين وهي من تهامة لأن أباهم
إسماعيل عليه السلام نشأ بها. كذا في المغرب والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب صدقة البقر
قدمت على الغنم لقربها من الإبل في الضخامة حتى يشملها اسم البدنة. وفي المغرب:
بقر بطنه شقه من باب طلب. والباقور والأبقور والبقر سواء، وفي التكملة عن
قطرب الباقورة البقر ا ه‍. والبقر جنس واحده بقرة ذكرا كان أو أثنى كالتمر والتمرة فالتاء
للوحدة لا للتأنيث، وفي ضياء الحلوم: الباقر جماعة البقر مع رعائها قوله: (في ثلاثين بقرا
تبيع ذو سنة أو تبيعة وفي أربعين مسن ذو سنتين أو مسنة وفيما زاد بحسابه إلى ستين ففيها
تبيعان وفي سبعين مسنة وتبيع وفي ثمانين مسنتان فالفرض يتغير في كل عشر من تبيع إلى

376
مسنة) بهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن ولا خلاف فيما في المختصر إلا في
قوله وفيما زاد على الأربعين فبحسابه ففيه روايات عن الإمام، فما في المختصر رواية عن
أبي يوسف عنه فيجب في الزائد إذا كان واحدة جزء من أربعين جزأ من مسنة، وروى
الحسن عنه أنه لا شئ فيما زاد إلى خمسين ففي الخمسين مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع وروى أسد بن عمرو عنه أن لا شئ في الزيادة إلى ستين وهو قولهما، وظاهر الرواية ما في المختصر كذا
في غاية البيان لكن في المحيط رواية أسد أعدل الأقوال. وفي جامع الفقه: قولهما هو
المختار وذكر الأسبيجابي أن الفتوى على قولهما كما ذكره العلامة قاسم في تصحيحه على
القدوري. وسمي الحولي من أولاد البقر بالتبيع لأنه يتبع أمه بعد. والمسن من البقر والشاء ما
تم له سنتان، ومن الإبل ما دخل في السنة الثامنة. ثم لا يتعين الأنوثة في هذا الباب ولا في
الغنم بخلاف الإبل لأنها لا تعد فضلا فيهما بخلاف الإبل وفي المحيط معزيا إلى الزيادات:
له أربعون من البقر عجافا فعليه مسنة بقدرهن. ومعرفة ذلك أن ينظر إلى قيمة التبيع الوسط
وقيمة المسنة الوسط، فإن كانت قيمة التبيع أربعين وقيمة المسنة خمسين تبين أن المسنة مثل تبيع
وربع تبيع فعليه واحدة من أفضلهن وربع التي تليها، وإن كان قيمة أفضلهن ثلاثين وقيمة
التي تليها عشرين فعليه مسنة قيمتها خمسة وثلاثون وعلى هذا تجري المسائل اه‍ قوله:
(والجاموس كالبقر) لأن اسم البقر يتناولهما إذ هو نوع منه فيكمل نصاب البقر به وتجب فيه
زكاتها، وعند الاختلاط تؤخذ الزكاة من أغلبها إن كان بعضها أكثر من بعض، وإن لم يكن
فيأخذ أعلى الأدنى وأدنى الاعلى. ولا يرد عليه ما إذا حلف لا يأكل لحم البقر فأكله فإنه لا
يحنث كما في الهداية، لأن أوهام الناس لا تسبق إليه في ديارنا لقلته. وفي فتاوي قاضيخان
من فصل الاكل من الايمان قال بعضهم: لو حلف لا يأكل البقر فأكل لحم الجاموس
حنث. ولو حلف أن لا يأكل لحم الجاموس فأكل لحم البقر لا يحنث وهذا أصح، وينبغي أن
لا يحنث في الفصلين للعرف ا ه‍. فعلى هذا التصحيح كان التشبيه في قوله كالجاموس
عاما في الايمان أيضا ويوافقه ما في المحيط: والجواميس بمنزلة البقر، ولهذا لو حلف لا
يشتري بقرا فاشترى جاموسا يحنث بخلاف البقر الوحشي لأنه ملحق بخلاف الجنس كالحمار
الوحشي وإن ألفت فيما بيننا لا يلتحق بالأهلي حكما حتى يبقى حلال الاكل فكذا البقر
الوحشي ا ه‍. والحق ما في الهداية وفي التبيين. وقوله والجاموس كالبقر ليس بجيد لأنه
يوهم أنه ليس ببقر ا ه‍. وجوابه أنه لما كان في العرف ليس ببقر كان ذلك كافيا في التغاير
المقتضي لصح التشبيه، وعبارة الولوالجي أحسن وهي: والجواميس من البقر لأنها نوع منه
والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.

377
فصل في الغنم
سميت (به لأنه ليس لها آلة الدفاع فكانت غنيمة لكل طالب قوله: (في أربعين شاة
شاة وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان وفي مائتين وواحدة ثلاث شياه وفي أربعمائة أربع شياه
ثم في كل مائة شاة شاة) بالاجماع وقدمنا أن الشاة تشمل الذكر والأنثى. وفي المحيط:
والمتولد بين الغنم والظباء يعتبر فيه الام، فإن كانت غنما وجبت فيها الزكاة ويكمل به
النصاب وإلا فلا. وفي الولوالجية: لو كان لرجل مائة وعشرون شاة حتى وجبت فيها شاة
ليس للساعي أن يفرقها فيجعلها أربعين أربعين فيأخذ ثلاث شياه لأن باتحاد الملك صار الكل
نصابا، ولو كان بين رجلين أربعون شاة حتى لم يجب على كل واحد منها الزكاة ليس
للساعي أن يجمعها ويجعلها نصابا ويأخذ الزكاة منها لأن ملك كل واحد منهما قاصر على
النصاب ا ه‍. وفي العجاف إن كانت شاة وسط تعينت وإلا واحدة من أفضلها، فإن كانت
نصابين أو ثلاثة كمائة وإحدى وعشرين أو مائتين وواحدة وفيها عدد الواجب وسط تعينت
هي أو قيمتها، وإن بعضه تعين هو وكمل من أفضلها بقية الواجب فتجب الواحدة الوسط
واحدة أو اثنتان عجفا وأن يحسب ما يكون الواجب والموجود، وتمامه في الزيادات قوله:
(والمعز كالضأن) لأن النص ورد باسم الشاة والغنم وهو شامل لهما فكانا جنسا واحدا. وفي
فتح القدير: والضأن والمعز سواء أي في تكميل النصاب لا في أداء الواجب ا ه‍. وفي
المعراج الضأن جمع ضائن كركب جمع راكب من ذوات الصوف والضأن اسم للذكر، والنعجة
للأنثى، والمعز ذات الشعر اسم للأنثى واسم الذكر التيس قوله: (ويؤخذ الثني في زكاته لا
الجذع) لقول علي رضي الله عنه: لا يجزئ في الزكاة إلا الثني فصاعدا. أو أطلقه فشمل
الضأن والمعز ولا خلاف أنه لا يؤخذ في المعز إلا الثني كما ذكره قاضيخان. واختلف في
الضأن، فما في المختصر ظاهر الرواية ويقابله جواز الجذع وهو قولهما قياسا على الأضحية
وهو ممتنع لأن جواز التضحية به عرف نصا فلا يلحق به غيره والثني ما تم له سنة. واختلف
في الجذع ففي الهداية أنه ما أتى عليه أكثرها، وذكر الناطفي أنه ماتم له ثمانية أشهر، وذكر

378
الزعفراني أنه ما تم له سبعة أشهر وذكر الأقطع. قال الفقهاء: الجذع من الغنم ماله ستة أشهر
ا ه‍. وهو الظاهر وحاصله أن الجذع من الغنم عند الفقهاء ابن نصف سنة، ومن البقر ابن
سنة، ومن الإبل ابن أربع سنين، والثني عندهم ما تم له سنة من الغنم، ومن البقر ابن
سنتين من الإبل ابن خمسة، والمذكور في التبيين من كتاب الأضحية أن الثني من الضأن
والمعز سواء وهو ماتم له سنة، ولم أر سن الجذع من المعز عند الفقهاء وإنما نقلوه عن
الأزهري أن الجذع من المعز ما تم له سنة.
قوله: (ولا شئ في الخيل) اختيار لقولهما لحديث البخاري مرفوعا ليس على المسلم
في عبده ولا في فرسه صدقة (1) ولا يريد عليه أن فيها زكاة التجارة إذا كانت لها اتفاقا لأن
كلامه في زكاة السوائم لا مطلق الزكاة، وأما عند أبي حنيفة فلا يخلوا إما إن تكون سائمة أو
علوفة، وكل منهما لا يخلو إما أن تكون للتجارة أولا، فإن كانت للتجارة وجبت فيها زكاة
التجارة سائمة كانت أو علوفة لأنها من العروض، وإن لم تكن للتجارة فلا يخلو إما أن تكون
للحمل والركوب أو لا، فإن كانت للحمل والركوب فلا شئ فيها مطلقا، وإن كانت
لغيرهما فإما أن تكون سائمة أو علوفة، فإن كانت علوفة فلا شئ فيها، وإن كانت سائمة
للدر والنسل فلا يخلو فإن كانت ذكورا وإناثا فلا يخلوا، فإن كانت من أفراس العرب
فصاحبها بالخير إن شاء أعطى عن كل فرس دينارا وإن شاء قومها وأعطى عن كل مائتين
خمسة دراهم وهو مأثور عن عمر رضي الله عنه كما في الهداية. وإن لم تكن من أفراس
العرب فإنها تقوم ويؤدي عن كل مائتين خمسة دراهم، والفرق أن أفراس العرب لا تتفاوت
تفاوتا فاحشا بخلاف غيرها كما في الخانية. وإن كانت ذكورا فقط أو إناثا، فقط فعنه
روايتان المشهور منهما عدم الوجوب، لأنها غير معدة للاستنماء لأن معنى النسل لا يحصل
منها ومعنى السمن فيها غير معتبر لأنه غير مأكول اللحم. كذا في المحيط وصححه في
البدائع. وفي التبيين: الأشبه أن تجب في الإناث لأنها تتناسل بالفحل المستعار ولا تجب في
الذكور لعدم النماء. ورجح قوله شمس الأئمة وصاحب التحفة وتبعهما في فتح القدير وذكر
في الخانية أن الفتوى على قولهما، وأجمعوا أن الإمام لا يأخذ منهم صدقة الخيل جبرا ا ه‍.
واختلف المشايخ على قوله في اشتراط نصاب لها والصحيح أنه لا يشترط لعدم النقل بالتقدير
قوله: (ولا في الحمير والبغال لقوله عليه السلام لم ينزل على فيهما شئ والمقادير ثبتت
سماعا إلا أن تكون للتجارة لأن الزكاة حينئذ تتعلق بالمالية كسائر أموال التجارة.

379
قوله: (ولا في الحملان والفصلان والعجاجيل) الحملان بضم الحاء، وفي الديوان
بكسرها جمع حمل بفتحتين ولد الشاة، والفصلان جمع فصيل ولد الناقة قبل أن يصير ابن
مخاض، والعجاجيل جمع عجول بمعنى عجل ولد البقرة، وعدم الوجوب في الصغار من
السوائم قولهما. وقال أبو يوسف: تجب واحدة منها. وفي المحيط: تكلموا في صورة
المسألة فإنها مشكلة لأن الزكاة لا تجب بدون مضي الحول وبعد الحول لم تبق صغارا، قيل:
إن صورتها أن الحول هل ينعقد على هذه الصغار بأن ملكها في أول الحول ثم تم الحول عليها
هل تجب الزكاة فيها وإن لم تبق صغارا، وقيل: صورتها إذا كانت لها أمهات فمضت ستة
أشهر فولدت أولادا ثم ماتت الأمهات وبقيت الأولاد ثم تم الحول عليها وهي صغار هل
تجب الزكاة فيها أم لا وهو الأصح، لأبي يوسف أنا لو أوجبا فيها ما يجب في المسان كما
قال زفر أجحفنا بأرباب الأموال، ولو أوجبنا فيها شاة أضررنا بالفقراء فأوجبنا واحدة منها
استدلالا بالمهازيل فإن نقصان الوصف لما أثر في تخفيف الواجب لا في أسقاطه فكذلك في
إسقاطه السن، والصحيح قول أبي حنيفة لأن النص أوجب للزكاة أسنانا مرتبة ولا مدخل
للقياس في ذلك وهو مفقود في الصغار ا ه‍. وفي معراج الدراية: إنها مصورة فيما إذا كان
له خمس وعشرون من النوق قال: وإنما لم تصور خمسة لأن أبا يوسف أوجب واحدة منها
وذلك لا يتصور في أقل من خمس وعشرين. وهذا الخلاف فيما إذا لم يكن مع الصغار كبير،
فأما إذا كان فتجب بالاجماع حتى لو كان مع تسع وثلاثين حملا مسن تجب ويؤخذ المسن
وكذلك في الإبل والبقر ا ه‍. وفي غاية البيان معزيا إلى الزيادات: رجل له تسعة وثلاثون
حملا ومسنة واحدة، فإن كانت المسنة وسطا أخذت، وإن كانت جيدة لم تؤخذ ويؤدي
صاحب المال شاة وسطا، وإن كانت دون الوسط لم يجب إلا هذه، فإن هلكت الكبيرة بعد
الحول بطل الواجب كله عند أبي حنيفة ومحمد لأن الصغار كانت تبعا للكبار عندهما، وعند
أبي يوسف يجب في الباقي تسعة وثلاثون جزأ من أربعين جزأ من حمل لأن الفضل على
الحمل إنما وجب باعتبار الكبيرة فبطل بهلاكها، وإذا هلك الكل إلا الكبيرة فإن فيها جزأ
من أربعين جزأ من شاة مسنة. وكذلك رجل له أربعة وعشرون فصيلا وبنت مخاض سمينة
أو وسط وكذلك تسعة وعشرون عجولا وفيها مسنة أو تبيعه، ثم الأصل الذي يعتبر في حال
اختلاط الصغار والكبار أن يكون العدد الواجب في الكبار موجودا كما إذا كان له مسنتان
ومائة وتسعة عشر حملا فإنه يجب مسنتان في قولهما، أما إذا كان له مسنة ومائة وعشرون
حملا يجب مسنة واحدة عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف تجب مسنة وحمل، وكذلك

380
تسعة وخمسون عجولا وتبيع حيث يؤخذ التبيع فحسب عندهما لأنه ليس فيها ما يجزئ في
الوجوب غيره. وقال أبو يوسف: يؤخذ التبيع وعجل معه وتمامه في شرح الزيادات
لقاضيخان.
قوله: (ولا في العلوفة والعوامل) للحديث ليس في الحوامل والعوامل والعلوفة
صدقة ولان السبب هو المال النامي ودليله الإسامة أو الاعداد للتجارة ولم يوجد، ولان في
العلوفة تتراكم المؤنة فينعدم النماء معنى، والمراد بنفي الزكاة عن العلوفة زكاة السائمة لأنها لو
كانت للتجارة وجبت فيها زكاة التجارة، والمراد بنفيها عن العوامل التعميم. والعلوفة بفتح
العين ما يعلق من الغنم وغيرها الواحد والجمع سواء، العلوفة بالضم جمع علف يقال
علفت الدابة ولا يقال أعلفتها والدابة معلوفة وعليف. كذا في غاية البيان. وقدمنا عن القنية
أنه لو كان له إبل عوامل يعمل بها في السنة أربعة أشهر ويسمنها في الباقي ينبغي أن لا تجب
فيها الزكاة.
قوله: (ولا في العفو) أي لا زكاة في العفو وهو لغة مشترك بين أفضل المال وأفضل
المرعى، والمعروف والاعطاء من غير مسألة والفاضل عن النفقة والمكان الذي لم يوطأ،
والصفح والاعراض عن عقوبة المذنب. وشرعا ما بين النصب كالأربعة الزائدة على الخمسة
من الإبل إلى العشر، وكالعشرة الزائدة على خمس وعشرين من الإبل، فعند أبي حنيفة وأبي
يوسف الزكاة في النصاب لا في العفو، وعند محمد وزفر فيهما حتى لو هلك العفو وبقي
النصاب يبقى كل الواجب عند الأولين ويسقط بقدره عند الآخرين، فلو كان له تسع من
الإبل أو مائة وعشرون من الغنم فهلك بعد الحول من الإبل أربعة من الغنم ثمانون لم يسقط
شئ من الزكاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف، وعند محمد وزفر يسقط في الأول أربعة أتساع
شاة وفي الثانية ثلثا شاة. وفي الهداية وغيرها: إن الهلاك يصرف بعد العفو إلى النصاب
الأخير ثم إلى الذي يليه إلى أن ينتهي عند الإمام لأن الأصل هو النصاب الأول وما زاد عليه
تابع، وعند أبي يوسف يصرف إلى العفو أولا ثم إلى النصب شائعا. وفي المحيط: إن هذه
رواية ضعيفة عن أبي يوسف وظاهر الرواية عنه كقول إمامه. وتظهر فائدته فيما إذا كان له
مائة وإحدى وعشرون شاة فهلك إحدى وثمانون بقي من الواجب شاة عند الإمام، وعند
الثلاثة يجب أربعون جزأ من مائة وإحدى وعشرين جزأ من شاتين. ولو هلك شاة فقط
بقي من الواجب شاة عنده، وعند الثلاثة يسقط جزء واحد من مائة وإحدى وعشرين جزأ
من شاتين ويبقى الباقي، وإذا كان له أربعون من الإبل فهلك نصفها بعد الحول فعند الإمام
الواجب أربع شياه، وعند أبي يوسف عشرون جزأ من ستة وثلاثين جزأ من بنت اللبون،
وعند محمد نصف بنت لبون. ولو هلك عشرة من خمس وعشرين فعنده الواجب ثلاث
شياه، وعند الثلاثة ثلاثة أخماس بنت المخاض. وفي غاية البيان. ينبغي لك أن تعلم أن العفو

381
عند أبي حنيفة في جميع الأموال وعندهما لا يتصور العفو إلا في السوائم لأن ما زاد على
مائتي درهم لا عفو فيه عندهما ا ه‍.
قوله: (ولا الهالك بعد الوجوب) أي لا شئ في الهالك بعد الوجوب فإن هلك المال
كله سقط الواجب كله وإن بعضه فبحسابه. وقال الشافعي: يضمن إذا هلك بعد التمكن من
الأداء وهو مبني على أن الزكاة تجب في العين أو في الذمة، فعندنا تجب في العين وهو
المشهور من قول الشافعي، وفي قول له تجب في الذمة والعين مرتهنة بها. كذا في غاية
البيان. ثم الظواهر تؤيد ما قلنا مثل قوله عليه الصلاة والسلام هاتوا ربع العشر من كل
أربعين درهما درهم. أطلقه فشمل ما إذا تمكن من الأداء وفرط في التأخير حتى هلك وما
إذا منع الإمام أو الساعي بعد الطلب حتى هلك، وفي الثاني خلاف وعامتهم على السقوط
وهو الصحيح لأنه لم يفوت بهذا المنع ملكا على أحد ولا يدا فصار كما لو طلب واحد من
الفقراء، ورجحه في فتح القدير بأنه الأشبه بالفقه لأن الساعي وإن تعين لكن للمالك رأي
في اختيار محل الأداء بين العين والقيمة، ثم القيمة شائعة في محال كثيرة والرأي يستدعي
زمانا فالحبس لذلك ا ه‍. وقيد بالهلاك لأنه لو استهلكه بعد الحول لا تسقط عنه لوجود
التعدي، واختلف فيما لو حبس السائمة للعلف أو للماء حتى هلكت، قيل هو استهلاك
فيضمن، وقيل لا يضمن كالوديعة إذا منعها لذلك حتى هلكت لم يضمن. كذا في المعراج.
وقدمنا أن الابراء عن الدين بعد الحول مطلقا ليس باستهلاك فلا زكاة فيه. وفي الخانية:
واستبدال مال التجارة بمال التجارة ليس باستهلاك وبغير مال التجارة استهلاك، واستبدال

382
مال السائمة بالسائمة استهلاك وإقراض النصاب بعد الحول ليس باستهلاك، وإن نوى المال
على المستقرض، وكذا لو أعار ثوب التجارة بعد الحول ا ه‍. وإنما كان بيع السائمة
استهلاكا مطلقا لأن الوجوب فيها متعلق بالصورة والمعنى فبيعها يكون استهلاكا لا
استبدالا، فإذا باعها، فإن كان المصدق حاضرا فهو بالخيار إن شاء أخذ قيمة الواجب من
البائع وتم البيع في الكل وإن شاء أخذ الواجب من العين المشتراة وبطل البيع في القدر
المأخوذ، وإن لم يكن حاضرا وقت البيع وحضر بعد التفرق عن المجلس فإنه لا يأخذه من
المشتري وإنما يأخذ قيمة الواجب من البائع. ولو باع طعاما وجب فيه العشر فالمصدق
بالخيار إن شاء أخذ من البائع وإن شاء من المشتري، سواء حضر قبل الافتراق أو بعده لأنه
تعلق العشر بالعين أكثر من تعلق الزكاة بها، ألا ترى أن العشر لا يعتبر فيه المالك بخلاف
الزكاة، كذا في البدائع. وفي معراج الدراية: ولو استبدل السائمة بجنسها ينقطع حكم
الحول لأن وجوب الزكاة في السائمة باعتبار عينها، وفي غيرها باعتبار ماليتها، فالعين
الثانية في السائمة غير الأولى لفوات متعلق الوجوب
بخلاف العروض لأن إخراج مال الزكاة عن ملكه بغير عوض كالهبة باقية مع الاستبدال ا ه‍.
وقيدوا بالاستبدال لأن إخراج مال الزكاة عن ملكه بغير عوض كالهبة من غير الفقير
والوصية أو بعوض ليس بمال بأن تزوج امرأة أو صالح به عن دم العمد أو اختلعت به المرأة
فهو استهلاك فيضمن به الزكاة، وقولهم أن استبدال مال التجارة بمثله ليس باستهلاك يستثنى
منه ما إذا جابى بما لا يتغابن الناس في مثله فإنه يضمن قدر زكاة المحاباة ويكون دينا في
ذمته، وزكاة ما بقي تتحول إلى العين تبقى ببقائها كما في البدائع. فإذا صار مستهلكا بالهبة

383
بعد الحول فإذا رجع بقضاء أو غيره لا شئ عليه لو هلكت عنده بعده لأن الرجوع فسخ من
الأصل والنقود تتعين في مثله فعاد إليه قديم ملكه ثم هلك فلا ضمان، ولو رجع بعدما حال
الحول عند الموهوب له فكذلك خلافا لزفر فيما لو كان بغير قضاء فإنه يقول: يجب على
الموهوب له فإنه مختار فكان تمليكا. قلنا: بل غير مختار لأنه لو امتنع عن الرد أجبر كذا في فتح
القدير. وقولهم إن الرجوع فسخ من الأصل ليس على إطلاقه فقد صرحوا في الهبة أن الواهب
لا يملك الزوائد المنفصلة برجوعه. وفي الظهيرية: ولو وهب النصاب ثم استفاد مالا في
خلال الحول ثم رجع في الهبة يستأنف الحول في المستفاد من حين استفاده، فهذه المسألة تدل
على أن الرجوع في الهبة ليس فسخا للهبة من الأصل إذ لو كان فسخا لما وجب استئناف في
المستفاد من وقت الاستفادة ا ه‍. بلفظه. ثم اعلم أنه لو وهب النصاب في خلال الحول ثم تم
الحول عند الموهوب له ثم رجع الواهب بقضاء أو غيره فلا زكاة على واحد منهما كما في
الخانية، وهي من حيل إسقاط الزكاة قبل الوجوب كما لا يخفى. وفي المعراج: ولو حال الحول
على مائتي درهم ثم ورث مثلها فخلطه بها وهلك النصف سقط نصف الزكاة لأن أحدهما لبس
بتابع للآخر بخلاف ما لو ربح بعد الحول مائتين ثم هلك نصف الكل مختلطا لم يسقط شئ لأن
الربح تبع فيصرف الهلاك إليه كالعفو، وعندهما لا يتصور العفو في غير السوائم ا ه‍. وسوى
في المحيط بين الإرث والربح عندهما في عدم السقوط، وعند محمد يسقط نصفها وتمام تفاريعها
فيه. وفي المعراج: ولو باع السوائم قبل تمام الحول بيوم فرارا عن الوجوب قال محمد: يكره.
وقال أبو يوسف: لا يكره وهو الأصح. ولو باعها للنفقة لا يكره بالاجماع، ولو احتال
لاسقاط الواجب يكره بالاجماع، ولو فر من الوجوب بخلا لا تأثيما يكره بالاجماع ا ه‍.
قوله: (ولو وجب سن ولم يوجد دفع أعلى منها وأخذ الفضل أو دونها ورد الفضل أو
دفع القيمة) بيان لمسألتين: الأولى لو وجب عليه سن كبنت مخاض مثلا ولم يكن عنده
فصاحب المال مخير إن شاء دفع الاعلى واسترد الفضل أو الأدنى ورد الفضل فقد جعل الخيار
للمالك دون الساعي فيهما، وقد صرح به في المبسوط وقال: ليس للساعي إذا عين المالك

384
سنا أن يأبى ذلك في الصورتين. واستثنى في الهداية من ذلك ما إذا أراد المالك دفع الاعلى
وأخذ الفضل من الساعي فإنه لا إجبار على الساعي لأنه شراء فحينئذ لم يكن للمالك خيرا
في هذه الصورة. وتبعه في التبيين، وتعقبه في غاية البيان بأن الزكاة وجبت بطريق اليسر فإذا
كان للساعي ولاية الامتناع من قبول الاعلى يلزم العسر وفي ذلك العود على الموضوع بالنقض
فلا يجوز وأيضا فيه خلاف السنة لأن من لزمه الحقة تقبل منه الجذعة إذا لم تكن عنده حقه،
وكذلك من لزمه بنت لبون وعنده حقه يقبل منه الحقة ويعطي المصدق عشرين درهما أو
شاتين كما في صحيح البخاري، وهو دليلنا على دفع القيمة في الزكاة وهي في المسألة
الثانية، وتقدير الفضل بالعشرين أو الشاتين بناء على الغالب لا أنه تقدير لازم ا ه‍. وأما
قولهم إنه شراء ولا إجبار فيه فممنوع لأنه ليس شراء حقيقيا ولم يلزم من الاجبار ضرر
بالساعي لأنه عامل لغيره، فالظاهر المختصر من أن الخيار للمالك فيهما لكن ذكر
محمد في الأصل أن الخيار للمصدق أي الساعي، ورده في النهاية والمعراج بأن الصواب
خلافه، وذكر في البدائع أن الخيار لصاحب المال دون المصدق إلا في فصل واحد وهو ما إذا
أراد صاحب المال أن يدفع بعض العين لأجل الواجب فالمصدق بالخيار بين أن لا يأخذ وبين
أن يأخذ بأن كان الواجب بنت لبون فأراد أن يدفع بعض الحقة بطريق القيمة، فالمصدق إن
شاء قبل وإن شاء لم يقبل لما فيه من تشقيص العين والتشقيص في الأعيان عيب فكان له أن
لا يقبل ا ه‍. وتعقبه الزيلعي بأنه غير مستقيم لوجهين: أحدهما أنه مع العيب يساوي قدر
الواجب وهو المعتبر في الباب، والثاني أن فيه إجبار المصدق على شراء الزائد ا ه‍. وقد قدمنا

385
أن جبره على شراء الزائد مستقيم، ولا يخفي أن في التشقيص إضرارا بالفقراء فلم يملك رب
المال ذلك فاستقام ما في البدائع، ولكن قيد المصنف الخيار المذكور بين الأمور الثلاثة بعدم
وجود السن الواجب كما في أكثر الكتب وهو قيد اتفاقي لأن الخيار ثابت مع وجود السن
الواجب، ولذا قال في المعراج: وظن بعض أصحابنا أن أداء القيمة بدل عن الواجب حتى
لقب المسألة بالابدال وليس كذلك فإن المصير إلى البدل لا يجوز إلا عند عدم الأصل وأداء
القيمة مع وجود المنصوص عليه جائز عندنا ا ه‍. وفي البدائع: اختلف أصحابنا، فعند
الإمام الواجب فيما عدا السوائم جزء من النصاب معنى لا صورة، وعندهما صورة ومعنى
لكن يجوز إقامة غيره مقامه معنى. واختلف في السوائم على قوله، فقيل هي كغيرها، وقيل
الواجب المنصوص عليه من حيث المعنى، وعندهما الواجب المنصوص عليه صورة ومعنى
لكن يجوز إقامة غيره مقامه معنى ويبتني على هذا الأصل مسائل الجامع له مائتا قفيز حنطة
للتجارة تساوي مائتي درهم ولا مال له غيرها، فإن أدى من عينها يؤدي خمسة أقفزة بلا
خلاف، وإن أدى قيمتها فعنده تعتبر القيمة يوم الوجوب في الزيادة والنقصان، وعندهما في
الفصلين يعتبر يوم الأداء.
واختلف على قوله في السوائم فقيل يوم الوجوب، وقيل يوم الأداء حسب الاختلاف
السابق وتمامه فيه. وفي المحيط: يعتبر في قيمة السوائم يوم الأداء بالاجماع وهو الأصح،
وذكر في الجامع: لو فسدت الحنطة بما أصابها حتى صارت قيمتها مائة فإنه يؤدي درهمين
ونصفا بلا خلاف إذا اختار القيمة لأنه هلك جزء من العين فسقط ما تعلق به من الواجب،
وإن زادت في نفسها قيمة فالعبرة ليوم الوجوب ا ه‍. وفي الهداية: ويجوز دفع القيمة في
الزكاة والكفارة وصدقة الفطر والعشر والنذر ا ه‍. وفي فتح القدير: لو أدى ثلاث شياه
سمان عن أربع وسط أو بعض بنت لبون عن بنت مخاض جاز لأن المنصوص عليه الوسط
فلم يكن الاعلى داخلا في النص والجودة معتبرة في غير الربويات فتقوم مقام الشاة الرابعة
بخلاف ما لو كان مثليا بأن أدى أربعة أقفزة جيدة عن خمسة وسط وهي تساويها لا يجوز، أو
كسوة بأن أدى ثوبا يعدل ثوبين لم يجز إلا عن ثوب واحد، أو نذر أن يهدي شاتين أو يعتق
عبدين وسطين فأهدي شاة أو أعتق عبدا يساوي كل منهما وسطين لا يجوز. أما الأول فلان
الجودة غير معتبرة عند المقابلة بجنسها فلا تقوم الجودة مقام القفيز الخامس، وأما الثاني فلان
المنصوص عليه مطلق الثوب في الكفارة لا بقيد الوسط فكان الاعلى وغيره داخلا تحت
النص، وأما الثالث فلان القربة في الإراقة والتحرير وقد التزم إراقتين وتحريرين فلا يخرج عن

386
العهدة بواجد: بخلاف النذر بالتصدق بأن نذر أن يتصدق بشاتين وسطين فتصدق بشاة
بقدرهما جاز لأن المقصود إغناء الفقير، وبه تحصل القربة وهو يحصل بالقيمة. وعلى ما قلنا لو
نذر أن يتصدق بقفيز دقل فتصدق بنصفه جيدا يساوي تمامه لا يجزئه لأن الجودة لا قيمة لها
هنا للربوية وللمقابلة بالجنس بخلاف جنس آخر لو تصدق بنصف قفيز منه يساويه جاز ا ه‍.
قيد المصنف بالزكاة لأنه لا يجوز دفع القيمة في الضحايا والهدايا والعتق، لأن معنى القربة
إراقة الدم وذلك لا يتقوم، وكذلك الاعتاق لأن معنى القربة فيه إتلاف الملك ونفي الرق
وذلك لا يتقوم. كذا في غاية البيان. ولا يخفى أنه مقيد ببقاء أيام النحر، وأما بعدها فيجوز
دفع القيمة كما عرف في الأضحية. والسن هي المعروفة والمراد بها هنا ذات سن إطلاقا
للبعض على الكل أو سمي بها صاحبها كما سمي المسنة من النوق بالناب لأن السن مما يستدل
به على عمر الدواب. ووقع هنا إطلاق المصدق على الساعي وهو مشتبه برب المال، والفرق
بينهما أنه إن كان بالصاد المخففة والدال المشددة المكسورة فهو بمعنى آخذ الصدقة، وإن كان
بالصاد المشددة والدال المكسورة المشددة فهو المعطي لها.
قوله: (ويؤخذ الوسط) أي في الزكاة لقوله عليه الصلاة والسلام لا تأخذوا من
حزرا ت أموال الناس - أي كرائمها - وخذوا من حواشي أموالهم أي من أوساطها ولان فيه
نظرا من الجانبين. كذا في الهداية. والحزرات جمع حزرة بتقديم الزاي المنقوطة على الراء
المهملة. وفي الخانية ولا تؤخذ الربا والأكولة والماخض وفحل الغنم لأنها من الكرائم وقد
نهينا عن أخذ الكرائم، ولا تؤخذ الهرم ولا ذات عوار إلا أن يشاء المصدق ا ه‍. والأكولة
الشاة السمينة التي أعدت للاكل، والربا بضم الراء المشددة وتشديد الباء مقصورة وهي التي
تربي ولدها. كذا في المغرب. والماخض التي في بطنها ولد. وقد أطال فيه في البدائع وذكر
أنه ليس للساعي أخذ الأدون وهو مخالف لما في الخانية. وفي فتح القدير: إن الأدلة تقتضي
أن لا يجب في الاخذ من العجاف التي ليس فيها وسط اعتبار أعلاها وأفضلها وقد قدمنا
عنهم خلافها في صدقة السوائم ا ه‍. وفي المعراج: وذكر الحاكم الجليل في المنتقى الوسط
أعلى الأدون وأدون الاعلى. وقيل: إذا كان عشرون من الضأن وعشرون من المعز يأخذ
الوسط ومعرفته أن يقوم الوسط من المعز والضأن فتؤخذ شاة تساوي نصف قيمة كل واحد
منهما مثلا الوسط من المعز تساوي عشرة دراهم والوسط من الضأن عشرين فتؤخذ شاة
قيمتها خمسة عشر اه‍. وكذا في البدائع وفيه: ولو كان له خمس من الإبل كلها بنات مخاض
أوكلها بنات لبون أو حقاق أو جذاع ففيها شاة وسط. وفي الفتاوي الظهيرية: إذا كان لرجل

387
نخيل تمر جيد برني ودقل قال أبو حنيفة: يؤخذ من كل نخلة حصتها من العشر. وقال
محمد: يؤخذ من الوسط إذا كانت أصنافا ثلاثة جيد ووسط وردئ ا ه‍. وهذا يقتضي أن
أخذ الوسط إنما هو فيما إذا اشتمل المال على جيد ووسط وردئ أو على صنفين منهما، أما
لو كان المال كله جيدا كأربعين شاة أكولة فإنه يجب واحدة من الكرائم لا شاة وسط عند
الإمام خلافا لمحمد كما لا يخفي.
قوله: (ويضم مستفاد من جنس نصاب إليه) لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب في خمس وعشرين
من الإبل بنت مخاض إلى خمس وثلاثين، فإذا زادت واحدة ففيها بنت لبون من غير فصل بين
الزيادة في أول الحول أو في أثنائه، ولأنه عند المجانسة يتعسر التمييز فيعسر اعتبار الحول
لكل مستفاد وما شرط الحول إلا للتيسير، والمراد بالضم أن تجب الزكاة في الفائدة عند تمام
الحول على الأصل. قيد بالجنس لأن المستفاد من خلاف جنسه كالإبل مع الشياه لا تضم لأنه
لا يؤدي إلى التعسير لأنه لا ينعقد الحول عليه ما لم يبلغ نصابا، ثم كل ما يستفيده من هذا
الجنس يضمه إليه. وقيد بالنصاب لأنه لو كان النصاب ناقصا وكمل مع المستفاد فإن الحول
ينعقد عليه عند الكمال. كذا في الأسبيجابي، بخلاف ما لو كان له نصاب في أول الحول
فهلك بعضه في أثناء الحول فاستفاد تمام النصاب أو أكثر يضم أيضا عندنا لأن نقصان
النصاب في أثناء الحول لا يقطع حكم الحول فصار المستفاد مع النقصان كالمستفاد مع كماله.
كذا في غاية البيان. وأطلق في المستفاد فشمل المستفاد بميراث أو هبة أو شراء أو وصية
وسيأتي أن أحد النقدين يضم إلى الآخر، وأن العروض للتجارة تضم إلى النقدين للجنسية
باعتبار قيمتها. وفي المحيط: لو كان له مائتا درهم دين فاستفاد في خلال الحول مائة درهم
فإنه يضم المستفاد إلى الدين في حوله بالاجماع، وإذا تم الحول على الدين فعند أبي حنيفة لا
يلزمه الأداء من المستفاد ما لم يقبض أربعين درهما، وعندهما يلزمه وإن لم يقبض من الدين
شيئا. وفائدة الخلاف تظهر فيما إذا مات من عليه مفلسا سقط عنه زكاة المستفاد عنده وعندهما
يجب ا ه‍. وأشار بقوله إليه أي إلى النصاب إلى أنه لا بد من بقاء النصاب المضموم إليه ولذا
قال في المحيط: ولو وهب له ألف ثم استفاد ألفا قبل الحول ثم رجع الواهب في الهبة
بقضاء قاض فلا زكاة عليه في الألف الفائدة حتى يمضي حول من حين ملكها لأنه بطل
حول الأصل وهو الموهوب فيبطل في حق التبع ا ه‍. وفي المبسوط: ولو ضاع المال الأول
فإنه يستقبل الحول على المستفاد منه منذ ملكه فإن وجد درهما من دراهم الأول قبل الحول
بيوم ضمه إلى ما عنده فيزكي الكل لأن بالضياع لا ينعدم أصل الملك وإنما تنعدم يده
وتصرفه، فإذا ارتفع ذلك قبل كمال الحول كان كأن الضياع لم يكن ا ه‍. ولا يخفى أن الضم
المذكور عند عدم مانع، أما إذا وجد مانع منه فلا ضم ولذا قال في المحيط: ولا يضم أثمان
الإبل والبقر والغنم المزكاة إلى ما عنده من النصاب من جنسه عند أبي حنيفة لأن في الضم

388
تحقيق الثني في الصدقة لأن الثني إيجاب الزكاة مرتين على مالك واحد في
مال واحد في حول واحد، وأنه منفي لقوله عليه الصلاة والسلام لا ثني في الصدقة. وعندهما يضم،
ولو جعل السائمة علوفة بعدما زكاها ثم باعها يضم ثمنها إلى ما عنده لخروجها عن مال
الزكاة فصار كمال آخر فلم يؤد إلى الثني، وكذا لو جعل العبد المؤدي زكاته للخدمة ثم باعه
يضم ثمنه إلى ما عنده، ولو أدى صدقة الفطر عن عبد الخدمة أو أدى عشر طعامه ثم باعه
ضم ثمنه إلى ما عنده لأن ليس ببدل مال أديت الفطرة عنه لأن الفطرة إنما تجب بسبب رأس
يمونه ويلي عليه دون المالية، ألا ترى أنها تجب عن أولاده الأحرار والثمن بدل المالية،
والعشر إنما يجب بسبب أرض نامية لا بالخارج فلم يثبت الاتحاد حتى لو باع الأرض النامية
يضم ثمنها إلى ما عنده عند أبي حنيفة. ومن عنده نصابان من جنس واحد أحدهما ثمن
إبل مزكاة فاستفاد نصابا من جنسها فإنه يضم إلى أقربهما حولا لأنهما استويا في علة الضم،
وترجح أحدهما باعتبار القرب لكونه أنفع للفقراء، ولو كان المستفاد ربحا أو ولدا ضمه إلى
أصله، وإن كان أبعد حولا لأنه يرجح باعتبار التفرع والتولد لأنه تبع وحكم التبع لا يقطع
عن الأصل، ولو أدى زكاة الدراهم ثم اشترى بها سائمة وعند من جنسها سائمة لم يضمها
إليه لأنها بدل مال أديت الزكاة عنه ا ه‍.
قوله: (ولو أخذ العشر والخراج والزكاة بغاة لم يؤخذ أخرى) أي لم يؤخذ مرة أخرى
لأن الإمام لم يحمهم والجباية بالحماية. قال في الهداية: وأفتوا بأن يعيدوها دون الخراج لأنهم
مصارف الخراج لكونهم مقاتلة والزكاة مصرفها الفقراء ولا يصرفونها إليهم، وقيل: إذا نوي
بالدفع التصدق عليهم سقط عنه، وكذا الدفع إلى كل جائز لأنهم بما عليهم من التبعات فقراء
والأول أحوط ا ه‍. أطلق في الزكاة فشمل الأموال الظاهرة والباطنة ولذا قال في المبسوط:
الأصح أن أرباب الأموال إذا نووا عند الدفع إلى الظلمة التصدق عليهم سقط عنهم جميع
ذلك، وكذا جميع ما يؤخذ من الرجل من الجنايات والمصادرات لأن ما بأيديهم أموال المسلمين
وما عليهم من التبعات فوق مالهم فهم بمنزلة الغارمين والفقراء حتى قال محمد بن سلمة:
يجوز دفع الصدقة لعلي بن عيسى بن ماهان وإلى خراسان وكان أميرا ببلخ وجبت عليه كفارة
يمين فسأل فأفتوه بالصيام فجعل يبكي ويقول لحشمه إنهم يقولون لي ما عليك من التبعات
فوق مالك من المال فكفارتك كفارة يمين من لا يملك شيئا. قال في فتح القدير: وعلى هذا
لو أوصى بثلث ماله الفقراء فدفع إلى السلطان الجائز سقط، ذكره قاضيخان في الجامع
الصغير. وعلى هذا فإنكارهم على يحيى بن يحيى تلميذ مالك حيث أفتي بعض ملوك المغاربة

389
في كفارة عليه بالصوم غير لازم وتعليلهم بأنه اعتبار للمناسب المعلوم الالغاء غير لازم لجواز
أن يكون للاعتبار الذي ذكرناه من فقرهم لا لكونه أشق عليه من الاعتاق ليكون هو المناسب
المعلوم الالغاء وكونهم لهم مال وما أخذوه وخلطوه به وذلك استهلاك إذا كان لا يمكن
تمييزه عنه عند أبي حنيفة فيملكه ويجب عليه الضمان حتى قالوا: تجب عليهم فيه الزكاة
ويورث عنهم غير ضائر لاشتغال ذمتهم بمثله والمديون بقدر ما في يده فقير ا ه‍. وظاهر ما
صححه السرخسي أنه لا فرق بين الأموال الظاهرة والباطنة، وصحح الولوالجي عدم الجواز
في الأموال الباطنة قال: وبه يفتي لأنه ليس للسلطان ولاية الزكاة في الأموال الباطنة فلم
يصح الاخذ اه‍. وفي الظهيرية: الأفضل لصاحب المال الظاهر أن يؤدي الزكاة إلى الفقراء
بنفسه لأن هؤلاء لا يضعون الزكاة مواضعها، فأما الخراج فإنهم يضعونه مواضعه لأن موضع
الخراج المقاتلة وهو لا مقاتلة ا ه‍. وفي التبيين: واشتراط أخذهم الخراج ونحوه وقع اتفاقا
حتى لو لم يأخذوا منه سنين وهو عندهم لم يؤخذ منهم شئ أيضا لما ذكرنا ا ه‍. والضمير
في قوله وهو عندهم عائد إلى وجب عليه الخراج ونحوه، وضمير الجماعة في
عندهم عائد إلى البغاة أي ومن وجب عليه عند البغاة، وأطلق فمن وجب عليه الخراج
فشمل الذمي كالمسلم، وأشار المصنف إلى أن الحربي لو أسلم في دار الحرب وأقام فيها سنين
ثم خرج إلينا لم يأخذ منه الإمام الزكاة لعدم الحماية ونفتيه بأدائها إن كان عالما بوجوبها وإلا
فلا زكاة عليه لأن الخطاب لم يبلغه وهو شرط الوجوب.
قوله (ولو عجل ذو نصاب لسنين أو لنصب صح) أما الأول فلانه أدى بعد سبب
الوجوب فيجوز لسنة ولسنين كما إذا كفر بعد الجرح وأما الثاني فلان النصاب الأول هو
الأصل في السببية والزائد عليه تابع له. قيد بقوله ذو نصاب لأنه لو عجل قبل أن يملك
تمامه ثم تم الحول على النصاب لا يجوز وفيه شرطان آخران: أن لا ينقطع النصاب في أثناء
الحول، وأن يكون كاملا في آخره. فتفرع على الأول أنه لو عجل ومعه نصاب ثم هلك كله

390
ثم استفاد فتم الحول على النصاب لم يجز المعجل بخلاف ما إذا بقي في يده منه شئ، وعلى
الثاني ما لو عجل شاة عن أربعين وحال الحول وعنده تسعة وثلاثون، فإن كان صرفها إلى
الفقراء فالمعجل نفل بخلاف ما إذا أدى بعد الحول إلى الفقير وانتقص النصاب بأدائه فإن
الزكاة واجبة، وإن كانت قائمة في يد الساعي فالصحيح وقوعها زكاة فلا يستردها لأن الدفع
إلى المصدق لا يزيل ملكه عن المدفوع، ولا فرق بين السوائم والنقود في هذا، ولا فرق بين
أن تكون الزكاة في يد الساعي حقيقة أو استهلكها أو أنفقها على نفسه قرضا أو أخذها
الساعي من عمالته لأنه كقيام العين حكما بخلاف ما إذا صرفها الساعي إلى الفقراء أو إلى
نفسه وهو فقير فإنه كصرفها بنفسه فلا يجوز المعجل كما لو ضاعت من يد الساعي قبل الحول
ووجدها بعده فلا زكاة وللمالك أن يستردها فلو لم يستردها حتى دفعها الساعي إلى الفقراء لم
يضمن إلا أن كان المالك نهاه. ثم اعلم أن وقوعها زكاة فيما إذا أخذها الساعي من عمالته
إنما هو في غير السوائم، أما في السوائم فلا تقع زكاة لنقصان النصاب ويستردها المالك
ويضمن الساعي قيمتها لو باعها ويكون الثمن له. وإنما كان كذلك في السائمة لأنها لما
خرجت عن ملك المعجل بذلك السبب فحين تم الحول يصير ضامنا بالقيمة والسائمة لا
يكمل نصابها بالدين بخلاف نصاب الدراهم لأنه يكمل بالدين. وهذا كله إذا لم يستفد قدر
ما عجل ولم ينتقص ما عنده، فإن استفاده صار المؤدي زكاة في الوجوه كلها من وقت
التعجيل وإلا يلزم هنا كون الدين زكاة عن العين في بعض الوجوه ولا يجب عليه زكاة
المستفاد، وإن انتقص ما فيده فلا تجب في الوجوه كلها فيسترد إن كان في يد الساعي وإن
استهلكها أو أكله قرضا أو بجهة العمالة ضمن. ولو تصدق بها على الفقراء أو نفسه وهو
فقير لا يضمن الا أن تصدق بها بعد الحول فيضمن عنده، علم بالنقصان أو لم يعلم.
وعندهما: إعلم وإن كان نهاه ضمن عند الكل، وأما الفقير فلا رجوع عليه في شئ من
الصور لأنه وقع صدقة تطوعا لو لم يجز المعجل عنها.
والحاصل أن وجوه هذه المسألة ثلاثة وكل وجه على سبعة لأن المعجل إما أن يكون في
يد الساعي أو استهلكه أو أنفقه على نفسه قرضا أو عمالة أو صدقة أو صرفه إلى الفقراء أو
ضاع من يد الساعي قبل الحول فهي إحدى وعشرون، وقد علم أحكامها وبسطه في شرح
الزيادات لقاضيخان. والمسألة الثانية - أعني ما إذا عجل لنصب بعد ملك نصاب واحد -
مقيدة بما إذا ملك ما عجل عنه في سنة التعجيل، فلو كان عنده مائتا درهم فعجل زكاة
ألف، فإن استفاد مالا أو ربح حتى صارت ألفا ثم تم الحول وعنده ألف فإنه يجوز التعجيل

391
وسقط عنه زكاة الألف، وإن تم الحول ولم يستفد شيئا ثم استفاد فالمعجل لا يجزئ عن زكاتها،
فإذا تم الحول من حين الاستفادة كان عليه أن يزكي. صرح به في المبسوط وأفاده الأسبيجابي
والكاكي والسغناقي وغيرهم. وبهذا ظهر ما في فتاوى قاضيخان من أنه لو كان له خمس من الإبل
الحوامل يعني الحبالى فعجل شاتين عنها وعما في بطنها ثم تتجت خمسا قبل الحول أجزأه ما
عجل، وإن عجل عما تحمل في السنة الثانية لا يجوز اه‍. لأنه لما عجل عما تحمله في الثانية لم
يوجد المعجل عنه في سنة التعجيل ففقد الشرط فلم يجز عنا تحمله في الثانية وهو المراد من نفي
الجواز. وليس المراد نفي الجواز مطلقا لظهور أنه يقع عما في ملكة وقت التعجيل في الحول الثاني
فهو تعجيل زكاة ما في ملكه لسنتين لأن التعيين في الجنس الواحد لغو، وكذا لو كان له ألف
درهم بيض وألف سود فعجل خمسة وعشرين عن البيض فهلكت البيض قبل تمام الحول ثم تم لا
زكاة عليه في السود ويكون المخرج عنها، وكذا عكسه. وكذا لو عجل عن الدنانير وله دراهم ثم
هلكت الدنانير كان ما عجل عن الدراهم باعتبار القيمة وكذا عكسه. قيدنا بالهلاك لأنه لو عجل
عن أحد المالين ثم استحق المال الذي عجل عنه قبل الحول لم يكن المعجل عن الباقي، وكذا لو
استحق بعد الحول لأن في الاستحقاق عجل عما لم يملكه فبطل تعجيله. كذا في فتاوى
قاضيخان. وبما ذكرناه اندفع ما في فتح القدير من الاعتراض على الفرع الأول المنقول من
الفتاوى كما لا يخفى. وقيدنا بكون الجنس متحدا لأنه لو كان خمس من الإبل وأربعون من
الغنم فعجل شاة عن أحد الصنفين ثم هلك لا يكون عن الآخر ولو كان له عين ودين فعجل عن
العين فهلكت قبل الحول جاز عن الدين، وإن هلكت بعده لا يقع عنه والدراهم والدنانير وعروض التجارة جنس واحد بدليل الضم كما قدمناه وصرح به في المحيط هنا، وفي الولوالجية وغيرها:
رجل عنده أربعمائة درهم فظن أن عنده خمسمائة درهم فأدى زكاة خمسمائة فله أن يحتسب الزيادة
للسنة الثانية لأنه أمكن أن تجعل الزيادة تعجيلا اه‍. فقولنا فيما مضى يشترط أن يملك ما عجل
عنه في حوله يستثنى منه ما إذا عجل غلطا عن شئ يظن أنه في ملكه. ثم اعلم أنه لو عجل زكاة
ماله فأيسر الفقير قبل تمام الحول أو مات أو ارتد جاز عن الزكاة لأنه كان مصرفا وقت الصرف
فصح الأداء إليه فلا ينتقض بهذه العوارض. كذا في الولوالجية. وأشار المصنف بجواز التعجيل
بعد ملك النصاب إلى جواز تعجيل عشر زرعه بعد النبات قبل الادراك أو عشر الثمر بعد الخروج
قبل البلوغ لأنه تعجيل بعد وجود السبب، وبعدم جوازه قبل ملك النصاب إلى عدم جواز تعجيل
العشر قبل الزرع أو قبل الغرس. واختلف في تعجيله قبل النبات بعد الزرع أو بعدما غرس
الشجر قبل خروج الثمرة، فعند محمد لا يجوز لأن التعجيل للحادث لا للبذر ولم يحدث شئ،

392
وجوزه أبو يوسف لأن السبب الأرض النامية وبعد الزراعة صارت نامية، ورده محمد بأن السبب
الأرض النامية بحقيقة النماء فيكون التعجيل قبلها واقعا قبل السبب فلا يجوز. كذا في الولوالجية.
ولا يخفى أن الأفضل لصاحب المال عدم التعجيل للاختلاف في التعجيل عند العلماء ولم أره
منقولا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب زكاة المال
ما تقدم أيضا زكاة مال لأن المال كما روي عن محمد: كل ما يتملكه الناس من نقد
وعروض وحيوان وغير ذلك إلا أن في عرفنا يتبادر من اسم المال النقد والعروض. وقدم
الفضة على الذهب في بعض المصنفات اقتداء بكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله (يجب في مائتي
درهم وعشرين مثقالا ربع العشر) وهو خمسة دراهم في المأتين، ونصف مثقال في العشرين.
والعشر بالضم أحد الاجزاء العشرة. وإنما وجب ربع العشر لحديث مسلم ليس فيما دون
خمس أواق من الورق صدقة والأوقية أربعون رهما كما رواه الدارقطني. ولحديث علي
وغيره في الذهب. وعبر المصنف بالوجوب تبعا للقدوري في قوله الزكاة واجبة قالوا: لأن
بعض مقاديرها وكيفياتها ثبتت بأخبار الآحاد، وقد صرح السيد نكر كان في شرح المنار أن
مقادير الزكوات ثبتت بالتواتر كنقل القرآن واعداد الركعات وهذا يقتضي كفر جاحد المقدار
في الزكوات. قيد بالنصاب لأن ما دونه لا زكاة فيه ولو كان نقصانا يسيرا يدخل بين الوزنين

393
لأنه وقع الشك في كمال النصاب فلا يحكم بكماله مع الشك. كذا في البدائع قوله (ولو تبرا
أو حليا) بيان لعدم الفرق بين المصكوك وغيره كالمهر الشرعي. وفي غير الذهب والفضة لا
تجب الزكاة ما لم تبلغ قيمته نصابا مصكوكا من أحدهما لأن لزومها مبني على المتقوم، والعرف
أن تقوم بالمصكوك، وكذا نصاب السرقة احتيالا للدك. قال في ضياء الحلوم: التبر الذهب
والفضة قبل أن يصاغا ويعملا. وحلى المرأة معروفة وجمعه حلى وحلى بضم الحاء وكسرها
قال تعالى * (من حليهم) * (الأعراف: 148) يقرأ بالواحد والجمع بضم الحاء وكسرها اه‍.
والمراد بالحلي هنا ما تتحلى به المرأة من ذهب أو فضة، ولا يدخل الجوهر واللؤلؤ بخلافه في
الايمان فإنه ما تتحلى به المرأة مطلقا فتحنث بلبس اللؤلؤ أو الجوهر في حلفها لا تتحلى ولو لم
يكن مرصعا على المفتى به. ودليل وجوب الزكاة في الحلي أحاديث في السنن منها قوله عليه
الصلاة والسلام لعائشة لما تزينت له بالفتخات: أتؤدين زكاتهن؟ قالت: لا. قال: هو حسبك
من النار. والفتخات جمع فتخة وهي الخاتم الذي لا فص له. وفي المعراج: وأما حكم الزكاة
في الحلي والأواني يختلف بين أداء الزكاة لا من عينها وبين أدائها من قيمتها مثلا. له إناء فضة
وزنه مائتان وقيمته ثلاثمائة فلو زكى من عينه زكى ربع عشره ولو أدى من قيمته، فعند محمد
يعدل إلى خلاف جنسه وهو الذهب لأن الجودة معتبرة، أما عند أبي حنيفة لو أدى خمسة من
غير الاناء سقطت عنه الزكاة لأن الحكم مقصور على الوزن، فلو أدى من الذهب ما يبلغ
قيمته خمسة دراهم من غير الاناء لم يجز في قولهم جميعا لأن الجودة متقومة عند المقابلة
بخلاف الجنس فإن أدى القيمة وقعت عن القدر المستحق. كذا في الايضاح. وفي البدائع:
تجب الزكاة في الذهب والفضة مضروبا أو تبرا أو حليا مصوغا أو حلية سيف أو منطقة أو
لجام أو سرج أو الكواكب في المصاحف، والأواني وغيرها إذا كانت تخلص عن الإذابة سواء
كان يمسكها للتجارة أو للنفقة أو للتجمل أولم ينو شيئا اه‍.
قوله (ثم في كل خمس بحسابه) بضم الخاء المعجمة أحد الاجزاء الخمسة وهو أربعون
من المائتين وأربعة مثاقيل من العشرين دينارا، فيجب في الأول درهم، وفي الثاني قيراطان.
أفاد المصنف أنه لا شئ فيما نقص عن الخمس فالعفو من الفضة بعد النصاب تسعة

394
وثلاثون، فإذا ملك نصابا وتسعة وسبعين درهما فعليه ستة والباقي عفو، وهكذا ما بين
الخمس إلى الخمس عفو في الذهب. وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: يجب فيما زاد بحسابه من
غير عفو لقوله عليه الصلاة والسلام وفيما زاد على المائتين فبحسابه وله قوله عليه السلام
في حديث معاذ لا تأخذ من الكسور شيئا وقوله في حديث عمرو بن حزم ليس فميا دون
الأربعين صدقة ولان الحرج مدفوع، وفي ايجاب الكسور ذلك لتعذر الوقوف. وفي
المعراج: معنى الحديث الأول لا تأخذ من الشئ الذي يكون المأخوذ منه كسورا فسماه
كسورا باعتبار ما يجب فيه، وقيل من زائدة وفيه نوع تأمل اه‍. ومما ينبني على هذا الخلاف
لو كان له مائتان وخمسة دراهم مضى عليها عامان عنده عليه عشرة، وعندهما خمسة لأن
وجب عليه في العام الأول خمسة وثم فبقي السالم من الدين في العام الثاني مائتان إلا ثمن
درهم فلا تجب فيه الزكاة، وعنده لا زكاة في الكسور فيبقى السالم مائتين ففيها خمسة أخرى.
كذا في فتح القدير. ويبتنى على الخلاف أيضا الهلاك بعد الحول إن هلك عشرون من مائتي
درهم يقي فيها ربعة دراهم عنده، وعندهما أربعة ونصف. كذا في المعراج. وذكر في
المحيط: ولا يضم إحدى الزيادتين إلى الأخرى ليتم أربعين درهما أو أربعة مثاقيل عند أبي
حنيفة لأنه لا تجب الزكاة في الكسور عنده، وعندهما يضم لأنها تجب في الكسور قوله
(والمعتبر وزنهما أداء ووجوبا) أما الأول وهو اعتبار الوزن في الأداء فهو قول أبي حنيفة وأبي
يوسف. وقال زفر: تعتبر القيمة. وقال محمد: يعتبر الأنفع للفقراء حتى لو أدى عن خمسة
دراهم جياد خمسة زيوفا قيمتها أربعة جياد جاز عند الإمامين خلافا لمحمد وزفر، ولو أدى
أربعة جيدة قيمتها خمسة ردية عن خمسة ردية لا يجوز إلا عند زفر، ولو كان إبريق فضة وزنه
مائتان وقيمته بصياغته ثلاثمائة إن أدى من العين يؤدي ربع عشره وهو خمسة قيمتها سبعة

395
ونصف، وإن أدى خمسة قيمتها خمسة جاز عندهما. وقال محمد وزفر: لا يجوز إلا أن يؤدي
الفضل فلو أدى من خلاف جنسه تعتبر القيمة بالاجماع. وأما الثاني وهو اعتبار الوزن في حق
الوجوب دون العدد والقيمة فمجمع عليه حتى لو كان له إبريق فضة وزنها مائة وخمسون
وقيمتها مائتان فلا زكاة فيها وكذا الذهب. وفي البدائع: ولو كانت الفضة مشتركة بين
اثنين، فإن كان يبلغ نصيب كل واحد مقدار النصاب تجب الزكاة وإلا فلا، ويعتبر في حال
الشركة ما يعتبر في حال الانفراد.
قوله (وفي الدراهم وزن سبعة وهو أن تكون العشرة منها وزن سبعة مثاقيل) والمثقال
وهو الدينار عشرون قيراطا والدرهم أربعة عشر قيراطا والقيراط خمس شعيرات أي المعتبر في
الدراهم إلى آخره، والأصل فيه أن الدراهم كانت مختلفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما على ثلاث مراتب: فبعضها كان عشرين قيراطا مثل الدينار، وبعضها
كان اثني عشر قيراطا ثلاثة أخماس الدينار، وبعضها عشرة قراريط نصف الدينار. فالأول
وزن عشرة من الدنانير، والثاني وزن ستة أي كل عشرة منه وزن ستة من الدنانير، والثالث
وزن خمسة أي كل عشرة منه وزن خمسة من الدنانير، فوقع التنازع بين الناس في الايفاء
والاستيفاء فأخذ عمر من كل نوع درهما فخلطه فجعله ثلاثة دراهم متساوية، فخرج كل
درهم أربعة عشر قيراطا فبقي العمل عليه إلى يومنا هذا في كل شئ في الزكاة ونصاب
السرقة والمهر وتقدير الديات. وذكر في المغرب أن هذا الجمع والضرب كان في عهد بني
أمية. وذكر المرغيناني أن الدرهم كان شبيه النواة وصار مدورا على عهد عمر فكتبوا عليه
وعلى الدينار لا إله إلا الله محمد رسول الله وزاد ناصر الدولة ابن حمدان صلى الله عليه وسلم. وفي
الغاية: إن درهم مصر أربعة وستون حبة وهو أكبر من درهم الزكاة فالنصاب منه مائة
وثمانون درهما وحبتان. وتعقبه في فتح القدير بأن فيه نظرا على ما اعتبروه في درهم الزكاة
لأنه إن أراد بالحبة الشعيرة فدرهم الزكاة سبعون شعيرة إذا كان العشرة وزن سبعة مثاقيل
والمثقال مائة شعيرة فهو إذن أصغر لا أكبر، وإن أراد بالحبة أنه شعيرتان كما وقع تفسيرها في

396
تعريف السجاوندي فهو خلاف الواقع إذا الواقع أن درهم مصر لا يزيد على أربعة وستين شعيرة
لأن كل ربع منه مقدر بأربع خرانيب والخرنوبة مقدرة بأربع قمحات وسط اه‍. وذكر الولوالجي
أن الزكاة تجب في الغطارفة إذا كانت مائتين لأنها اليوم من دراهم
الناس وإن لم تكن من دراهم الناس في الزمن الأول. وإنما يعتبر في كل زمان عادة أهل ذلك الزمان، ألا ترى أن مقدار
المائتين لوجوب الزكاة من الفضة إنما تعتبر بوزن سبعة وإن كان مقدار المائتين في الزكاة في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم كان بوزن خمسة وفي زمن عمر رضي الله عنه بوزن ستة، فيعتبر دراهم أهل كل بلد
بوزنهم ودنانير كل بلد بوزنهم وإن كان الوزن يتفاوت اه‍. وكذا في الخلاصة وعن ابن الفضل
أنه كان يوجب في كل مائتي درهم بخارية خمسة متهاوبة أخذ السرخسي واختاره في المجتبى
وجمع النوازل والعيون والمعراج والخانية. وذكره في فتح القدير غير أنه قال بعده: إلا أني أقول:
ينبغي أن يقيد بما إذا كانت لهم دراهم لا تنقص عن أقل ما كان وزنا في زمنه عليه السلام وهي
ما تكون العشرة وزن خمسة لأنها أقل ما قدر النصاب بمائتين منها حتى لا تجب في المائتين من
الدراهم المسعودية الكائنة بمكة مثلا وإن كانت دراهم قوم وكأنه أعمل إطلاق الدراهم
والأواقي في الموجود ما يمكن أن يوجد ويستحدث.
قوله (وغالب الورق ورق لا عكسه) يعني أن الدراهم إذا كانت مغشوشة، فإن كان
الغالب هو الفضة فهي كالدراهم الخالصة لأن الغش فيها مستهلك لا فرق في ذلك بين
الزيوف والنبهرجة، وما غلب فضته على غشه تناوله اسم الدراهم مطلقا والشرع أوجب باسم
الدراهم، فإن غلب الغش فليس كالفضة كالستوقة فينظر إن كانت رائجة أو نوى التجارة
اعتبرت قيمتها، فإن بلغت نصابا من أدنى الدراهم التي تجب فيها الزكاة وهي التي غلبت
فضتها وجبت فيها الزكاة وإلا فلا. وإن لم تكن أثمانا رائجة ولا منوية للتجارة فلا زكاة فيها
إلا أن يكون ما فيها من الفضة يبلغ مائتي درهم بأن كانت كثيرة ويتخلص من الغش لأن
الصفر لا تجب الزكاة فيها إلا بنية التجارة والفضة لا يشترط فيها نية التجارة، فإن كان ما
فيها لا يتخلص فلا شئ عليه لأن الفضة فيه قد هلكت. كذا في كثير من الكتب. وفي
غاية البيان: الظاهر أن خلوص الفضة من الدراهم ليس بشرط، بل المعتبر أن تكون في
الدراهم فضة بقدر النصاب. فأما الغطارفة فقيل: يجب في كل مائتين منها خمسة منها عددا
لأنها من أعز الأثمان والنقود عندهم. وقال السلف: ينظر إن كانت أثمانا رائجة أو سلعا
للتجارة تجب الزكاة في قيمتها كالفلوس، وإن لم تكن للتجارة فلا زكاة فيها لأن ما فيها من

397
الفضة مستهلك لغلبة النحاس عليها فكانت كالستوقة. وفي البدائع: وقول السلف أصح
وحكم الذهب المغشوش كالفضة المغشوشة. وقيد المصنف بالغالب لأن الغش والفضة لو
استويا ففيه اختلاف. واختار في الخانية والخلاصة الوجوب احتياطا. وفي معراج الدراية:
وكذا لا تباع إلا وزنا. وفي المجتبى: المفهوم من كتاب للصرف أن للمساوي حكم الذهب
والفضة، ومما ذكر في الزكاة أنه لا يكون له حكم الذهب والفضة. وقيدنا المخالط للورق بأن
يكون غشا لأنه لو كان ذهبا فإن كانت الفضة مغلوبة فكله ذهب لأنه أعز وأغلى قيمة، وإن
كانت الفضة غالبة فإن بلغ الذهب نصابه ففيه زكاة الذهب، وإن بلغت الفضة نصابها فزكاة
الفضة. وفي المغرب: الغطريفية كانت من أعز النقود ببخارى منسوبة إلى غطريف بن عطاء
الكندي أمير خراسان أيام الرشيد.
قوله (وفي عروض تجارة بلغت نصاب ورق أو ذهب) معطوف على قوله أول الباب
في مائتي درهم أي يجب ربع العشر في عروض التجارة إذا بلغت نصابا من أحدهما وهي
جمع عرض لكنه بفتح الراء حطام الدنيا كما في المغرب لكنه ليس بمناسب هنا لأنه يدخل فيه
النقدان، فالصواب أن يكون جمع عرض بسكونها وهو كما في ضياء الحلوم ما ليس بنقد.
وفي الصحاح: العرض بسكون الراء المتاع وكل شئ فهو عرض سوى الدراهم والدنانير
اه‍. فيدخل الحيوان ولا يرد عليه ما أسيم من الحيوانات للدر والنسل لظهور أن المراد غيره
لتقدم ذكر زكاة السوائم. والعرض بالضم الجانب منه ومنه أوصى بعرض ما له أي جانب
منه بلا تعيين، والعرض بكسر العين ما يحمد الرجل ويذم عند وجوده وعدمه. كذا في
معراج الدراية. قيد بكونها للتجارة لأنها لو كانت للغلة فلا زكاة فيها لأنها ليست للمبايعة.
ولو اشترى عبدا لخدمة ناويا بيعه إن وجد ربحا لا زكاة فيه، ولا يرد عليه ما إذا كان في
العرض مانع من نية التجارة كأن اشترى أرض خراج ناويا للتجارة أو اشترى أرض عشر
وزرعها فإنها لا تكون للتجارة لما يلزم عليه من الثني كما قدمناه، وجواب منلا خسرو
بأن الأرض ليست من العروض بناء على تفسير أبي عبيد إياها بما لا يدخله كيل ولا وزن ولا

398
يكون عقارا ولا حيوانا مردود، لما علمت أن الصواب تفسيرها هنا بما ليس بنقد ولذا لا يرد
على المصنف ما لو اشترى بذرا للتجارة وزرعه فإنه لا زكاة فيه وإنما يجب العشر فيه لأن بذره
في الأرض أبطل كونه للتجارة لأن مجرد كونه نوى الخدمة في عبد التجارة أسقط وجوب الزكاة
فلان يسقط التصرف الأقوى أولى. وكذا لو لم يزرعه ففيه الزكاة وبهذا سقط اعتبار الزيلعي كما
لا يخفى. واعلم أن نية التجارة في الأصل تعتبر ثابتة في بدله وأن لم يتحقق شخصها فيه وهو
ما قوبض به مال التجارة فإنه يكون للتجارة بلا نية لأن حكم البدل حكم الأصل، وكذا لو كان
العبد للتجارة فقتله عبد خطأ ودفع به فإن المدفوع يكون للتجارة بخلاف القتل عمدا، وأجرة
دار التجارة وعبد التجارة بمنزلة ثمن مال التجارة في الصحيح من الرواية. كذا في الخانية.
وذكر في الكافي: ولو ابتاع مضارب عبدا وثوبا له وطعاما وحمولة وجبت الزكاة في
الكل وإن قصد غير التجارة لأنه لا يملك الشراء إلا للتجارة بخلاف رب المال حيث لا
يزكى الثوب والحمولة لأنه يملك الشراء لغير التجارة اه‍. وفي فتح القدير: ويحمل عدم
تزكية الثوب لرب المال ما دام لم يقصد بيعه معه فإنه ذكر في فتاوى قاضيخان: النخاس إذا
باع دواب للبيع واشترى لها جلالا ومقاود، فإن كان لا يدفع ذلك مع الدابة إلى المشتري لا
زكاة فيها، وإن كان يدفعها معها وجب فيها، وكذا العطار إذا اشترى قوارير اه‍. وقد يفرق
بأن ثوب العبد يدخل في بيعه بلا ذكر تبعا حتى لا يكون له قسط من الثمن فلم يكن
مقصودا أصلا فوجوده كعدمه بخلاف جل الدواب والقوارير فإنه مبيع قصدا، ولذا لم يدخل
في البيع بلا ذكر. وإنما قال نصاب ورق ولم يقل نصاب فضة لأن الورق - بكسر الراء - اسم
للمضروب من الفضة كما في المغرب. ولا بد أن تبلغ العروض قيمة نصاب من الفضة
المضروبة كما في الذخيرة والخانية، لأن لزومها مبني على التقوم، والعرف أن تقوم بالمصكوك
كما قدمناه. وأشار بقوله ورق أو ذهب إلى أنه مخير أن شاء قومها بالفضة وإن شاء بالذهب
لأن الثمنين في تقدير قيم الأشياء بهما سواء. وفي النهاية: لو كان تقويمه بأحد النقدين يتم
النصاب وبالآخر فإنه يقومه بما يتم به النصاب بالاتفاق اه‍. وفي الخلاصة أيضا ما يفيد
الاتفاق على هذا وكل منهما ممنوع فقد قال في الظهيرية: رجل له عبد للتجارة أن قوم
بالدراهم لا تجب فيه الزكاة، وإن قوم بالدنانير تجب، فعند أبي حنيفة يقوم بما تجب فيه الزكاة
دفعا لحاجة الفقير وسدا لخلته. وقال أبو يوسف: يقوم بما اشترى فإن اشتراه بغير النقدين

399
يقوم بالنقد الغالب اه‍. فالحاصل أن المذهب تخييره إلا إذا كان لا يبلغ بأحدهما نصابا تعين
التقويم بما يبلغ نصابا وهو مراد من قال يقوم بالأنفع ولذا قال في الهداية: وتفسير الأنفع
أن يقومها بما يبلغ نصابا ويقوم العرض بالمصر الذي هو فيه حتى لو بعث عبدا للتجارة في
بلد آخر يقوم في ذلك الذي فيه العبد، إن كان في مفازة تعتبر قيمته في أقرب الأمصار إلى
ذلك الموضع. كذا في فتح القدير وهو أولى مما في التبيين من أنه إذا كان في المفازة يقوم في
المصر الذي يصير إليه ثم عند أبي حنيفة تعتبر القيمة يوم الوجوب، وعندهما يوم الأداء وتمامه
في فتح القدير.
قوله (ونقصان النصاب في الحول لا يضران كمل في طرفيه) لأنه يشق اعتبار الكمال
في أثنائه أما لابد منه في ابتدائه للانعقاد وتحقيق الغناء وفي انتهائه للوجوب ولا كذلك فيما
بين ذلك لأنه حالة البقاء. قيد بنقصان النصاب أي قدره لأن زوال وصفه كهلاك الكل كما
إذا جعل السائمة علوفة لأن العلوفة ليست من مال الزكاة، أما بعد فوات بعض النصاب بقي
بعض المحل صالحا لبقاء الحول وشرط الكمال في الطرفين لنقصانه في الحول لأن نقصانه بعد
الحول من حيث القيمة لا يسقط شيئا من الزكاة عند أبي حنيفة، وعندهما عليه زكاة ما بقي.
كذا في الخلاصة. وذكر في المجتبى الدين في خلال الحول لا يقطع حكم الحول وإن كان
مستغرقا. وقال زفر: يقطع اه‍. ومن فروع المسألة إذا كان له غنما للتجارة تساوي نصابا
فماتت قبل الحول فسلخها ودبغ جلدها فتم الحول كان عليه فيها الزكاة إن بلغت نصابا، ولو
كان له عصير للتجارة فتخمر قبل الحول ثم صار خلا فتم الحول لا زكاة فيها قالوا: لأن في
الأول الصوف الذي على الجلد متقوم فيبقى الحول لبقائه، وفي الثاني بطل تقوم الكل بالخمرية
فهلك كل المال إلا أنه يخالف ما روى ابن سماعة عن محمد: اشترى عصيرا قيمته مائتا درهم
فتخمر بعد أربعة أشهر، فلما مضى سبعة أشهر أو ثمانية أشهر إلا يوما صار خلا يساوي
مائتي درهم فتمت السنة، كان عليه الزكاة لأنه عاد للتجارة كما كان. كذا في الخانية.
قوله (وتضم قيمة العروض إلى الثمنين والذهب إلى الفضة قيمة) أما الأول فلان

400
الوجوب في الكل باعتبار التجارة وإن افترقت جهة الاعداد، وأما الثاني فللمجانسة من
حيث الثمنية ومن هذا الوجه صار سببا. وضم إحدى النقدين إلى الآخر قيمة مذهب
الإمام، وعندهما الضم بالاجزاء وهو رواية عنه حتى إن من كان له مائة درهم وخمسة
مثاقيل ذهب تبلغ قيمتها مائة درهم فعليه الزكاة عنده خلافا لهما. هما يقولان: المعتبر
فيهما القدر دون القيمة حتى لا تجب الزكاة في مصوغ وزنه أقل من مائتين وقيمته فوقهما.
وهو يقول: الضم للمجانسة وهي تحقق باعتبار القيمة دون الصورة فيضم بها. وفي
المحيط: لو كان له مائة درهم وعشرة دنانير قيمتها أقل من مائة تجب الزكاة عندهما.
واختلفوا على قوله والصحيح الوجوب لأنه إن لم يمكن تكميل نصاب الدراهم باعتبار قيمة
الدنانير أمكن تكميل نصاب الدنانير باعتبار قيمة الدراهم لأن قيمتها تبلغ عشرة دنانير
فتكمل احتياطا لايجاب الزكاة اه‍. وبهذا ظهر بحث الزيلعي منقولا وعشرة دنانير ظنا منه
أن إيجاب الزكاة في هذه المسألة على الصحيح لتكامل الاجزاء لا باعتبار القيمة وليس كما
ظن، بل الايجاب باعتبار القيمة كما أفاده تعليل المحيط، فإن حاصله اعتبار القيمة من جهة
كل من النقدين لا من جهة أحدهما عينا فإنه إن لم يتم النصاب باعتبار قيمة الذهب بالفضة
يتم باعتبار القيمة كما أفاده تعليل المحيط، فإن حاصله اعتبار القيمة من جهة كل من النقدين لا من جهة أحدهما عينا فإنه إن لم يتم النصاب باعتبار قيمة الذهب بالفضة يتم باعتبار قيمة الفضة بالذهب، فكيف يكون تعليلا لعدم اعتبار القيمة مطلقا عند تكامل
الاجزاء مع أنه يرد عليه لو زادت قيمة أحدهما ولم ينتقص قيمة الآخر كمائة درهم وعشرة
دنانير تساوي مائة وثمانين، فإن مقتضى كلامه من عدم اعتبار القيمة عند تكامل الاجزاء
أن لا يلزمه إلا خمسة. والظاهر لزوم سبعة اعتبارا للقيمة أخذا من دليله من أن الضم ليس
إلا للمجانسة، وإنما هي باعتبار المعنى وهو القيمة لا باعتبار الصورة. وقد صرح به في

401
المحيط فقال: لو كان له مائة درهم وعشرة دنانير قيمتها مائة وأربعون، فعند أبي حنيفة
تجب ستة دراهم، وعندهما هو نصاب تام نصفه ذهب ونصفه فضة فيجب في كل نصف
ربع عشره وفيه أيضا: لو كان له مائة وخمسون درهما وخمسة دنانير قيمتها خمسون تجب
الزكاة بالاجماع، ولو كان له إبريق فضة وزنه مائة وقيمته لصناعته مائتان لا تجب الزكاة
باعتبار القيمة لأن الجودة والصنعة في أموال الربا لا قيمة لها عند انفرادها ولا عند المقابلة
بجنسها اه‍. وفي المعراج: لو كان له مائة وخمسون درهما وخمسة دنانير وقيمة الدنانير لا
تساوي خمسين درهما تجب الزكاة على قولهما. واختلف المشايخ على قوله قال بعضهم: لا
تجب لأن الضم باعتبار القيمة عنده ويضم الأقل إلى الأكثر لأن الأقل تابع للأكثر فلا
يكمل النصاب به. وقال الفقيه أبو جعفر: تجب على قوله وهو الصحيح ويضم الأكثر إلى
الأقل اه‍. وهو دليل على أنه لا اعتبار بتكامل الاجزاء عنده وإنما يضم أحد النقدين إلى
الآخر قيمة، ولا فرق بين ضم الأقل إلى الأكثر أو عكسه.
باب العاشر
أخره عما قبله لتمحض ما قبله زكاة بخلاف ما يأخذه العاشر كما سيأتي. وهو فاعل
من عشرته أعشره عشرا بالضم، والمراد هنا ما يدور اسم العشر في متعلق أخذه فإنه إنما
يأخذ العشر من الحربي لا المسلم والذمي، أو تسمية للشئ باعتبار بعض أحواله وهو أخذه
العشر من الحربي من المسلم والذمي والأدوار مركب فيتعسر التلفظ والعشر منفرد فلا
يتعسر قوله (هو من نصبه الإمام ليأخذ الصدقات من التجار) أي من نصبه الإمام على الطريق
ليأخذ الصدقات من التجار المارين بأموالهم عليه. قالوا: وإنما ينصب ليأمن التجار من
اللصوص ويحميهم منهم فيستفاد منه أنه لا بد أن يكون قادرا على الحماية لأن الجباية بالحماية
ولذا قال في الغاية: ويشترط في العامل أن يكون حرا مسلما غير هاشمي، فلا يصح أن
يكون عبدا لعدم الولاية، ولا يصح أن يكون كافرا لأنه لا يلي على المسلم بالآية، ولا يصح

402
أن يكون مسلما هاشميا لأن فيها شبهة الزكاة اه‍. بلفظه. وبه يعلم حكم تولية اليهود في
زمان على بعض الأعمال ولا شك في حرمة ذلك أيضا. قيدنا بكونه نصب على الطريق
للاحتراز عن الساعي وهو الذي يسعى في القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها.
والمصدق بتخفيف الصاد وتشديد الدال اسم جنس لهما كذا في البدائع. وحاصله أن مال
الزكاة نوعان: ظاهر وهو المواشي والمال الذي يمر به التاجر على العاشر، وباطن وهو
الذهب والفضة وأموال التجارة في مواضعها. أما الظاهر فللإمام ونوابه وهم المصدقون من السعاة
والعشار ولاية الاخذ للآية * (خذ من أموالهم صدقة) * (التوبة: 103 خ ولجعله للعاملين عليها
حقا فلو لم يكن للإمام مطالبتهم لم يكن له وجه، ولما اشتهر من بعثه عليه الصلاة والسلام
للقبائل لاخذ الزكاة وكذا الخلفاء بعده حتى قاتل الصديق ما نعي الزكاة، ولا شك أن
السوائم تحتاج إلى الحماية لأنها تكون في البراري بحماية السلطان وغيرها من الأموال إذا
أخرجه في السفر احتاج إلى الحماية بخلاف الأموال الباطنة إذا لم يخرجها مالكها من المصر
لفقد هذا المعنى. وفي البدائع: وشرط ولاية الاخذ وجود الحماية من الإمام فلا شئ لو
غلب الخوارج على مصر أو قرية وأخذوا منهم الصدقات ومنها وجوب الزكاة لأن المأخوذ
زكاة فيراعي شرائطها كلها، ومنها ظهور المال وحضور المالك فلو حضر وأخبر بما في بيته
أو حضر ماله مع مستبضع نحوه فلا أخذ. وفي التبيين: إن هذا العمل مشروع وما ورد من
ذم العشار محمول على من يأخذ أموال الناس ظلما كما تفعله الظلمة اليوم. روى أن عمر
أراد أن يستعمل أنس بن مالك على هذا العمل فقال له: أتستعملني على المكس من عملك؟
فقال: ألا ترضى أن أقلدك ما قلدنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم اه‍. وفي الخانية قسم الجبايات: والمؤن
بين الناس على السوية يكون مأجورا اه‍.
قوله (فمن قال لم يتم الحول أو علي دين أو أديت أنا أو إلى عاشر آخر وحلف صدق إلا
في السوائم في دفعه بنفسه) أما الأول والثاني فلانكاره الوجوب وقدمنا أن شرط ولاية الاخذ
وجود الزكاة، فكل ما وجوده مسقط فالحكم كذلك إذا ادعاه. والمراد بنفي تمام الحول
نفيه عما في يده وما في بيته لأنه لو كان في بيته مال آخر قد حال عليه الحول وما مر به لم يحل
عليه الحول واتحد الجنس فإن العاشر لا يلتفت إليه لوجوب الضم في متحد الجنس إلا لمانع
كما قدمناه. وقيد في المعراج الدين بدين العباد وقدمنا أن منه دين الزكاة. وأطلق المصنف

403
في الدين فشمل المستغرق للماء والمنقص للنصاب وهو الحق، وبه اندفع ما في غاية البيان
من التقييد بالمحيط لما له، واندفع ما في الخبازية من أن العاشر يسأله عن قدر الدين على
الأصح فإن أخبره بما يستغرق النصاب يصدقه وإلا لا يصدقه اه‍. لأن المنقص له مانع من
الوجوب فلا فرق كما في المعراج. وأشار المصنف إلى أن المار إذا قال ليس في هذا المال
صدقة فإنه يصدق مع يمينه - كما في المبسوط - وإن لم يبين سبب النفي. وفيه أيضا: إذا
أخبر التاجر العاشر أن متاعه مروي أو هروي واتهمه العاشر فيه وفيه ضرر عليه حلفه وأخذ
منه الصدقة على قوله لأنه ليس له ولاية إلا ضرار به، وقد نقل عن عمر أنه قال لعماله: ولا
تفتشوا على الناس متاعهم. وأما الثالث فلانه ادعى وضع الأمانة موضعها ومراده إذا كان في
تلك السنة عاشر آخر وإلا فلا يصدق لظهور كذبة بيقين. ومراده أيضا ما إذا أدى بنفسه في
المصر إلى الفقراء لأن الأداء كان مفوضا إليه فيه وولاية الاخذ بالمرور لدخوله تحت الحماية
لأنه لو ادعى الأداء بنفسه إليهم بعد الخروج من المصر لا يقبل. وإنما لا يصدق في قوله
أديت بنفسي صدقة السوائم إلى الفقراء في المصر لأن حق الاخذ للسلطان فلا يملك إبطاله
بخلاف الأموال الباطنة. ثم قيل: الزكاة هو الأول والثاني سياسة. وقيل: هو الثاني والأول
ينقلب نفلا هو الصحيح كذا في الهداية. وظاهر قوله ينقلب نفلا أنه لو لم يأخذ منه الإمام
لعلمه بأدائه إلى الفقراء فإن ذمته تبرأ ديانة وفيه اختلاف المشايخ كما في المعراج. وفي جامع
أبي اليسر: لو أجاز الإمام إعطاءه لم يكن به بأس لأنه إذا أذن له الإمام في الابتداء أن يعطي
إلى الفقراء بنفسه جاز فكذا إذا أجاز بعد الاعطاء اه‍. وإنما حلف وإن كانت العبادات يصدق
فيها بلا تحليف لتعلق حق العبد وهو العاشر في الاخذ وهو يدعي عليه معنى لو أقر به لزمه
فيحلف لرجاء النكول بخلاف حد القذف لأن القضاء بالنكول متعذر في الحدود على ما
عرف، وبخلاف الصلاة والصوم لأنه لا مكذب له فيها، فاندفع قول أبي يوسف أنه لا يحلف
لأنها عبادة. وأشار المصنف بالاكتفاء بالحلف إلى أنه لا يشترط إخراج البراءة فيما إذا ادعى
الدفع إلى عاشر آخر تبعا للجامع الصغير لأن الخط يشبه الخط فلم يعتبر علامة وهو ظاهر
الرواية كما في البدائع. وشرطه في الأصل لأنه ادعى ولصدق دعواه علامة فيجب إبرازها.
وفي المعراج: ثم على قول من يشترط إخراج البراءة هل يشترط اليمين معها فقد اختلف فيه.

404
وفي البدائع: إذا أتى بالبراءة على خلاف اسم ذلك المصدق فإنه يقبل قوله مع يمينه على
جواب ظاهر الرواية لأن البراءة ليست بشرط فكان الاتيان بها والعدم بمنزلة واحدة اه‍. وقد
يقال: إنه دليل كذبه فهو نظير ما لو ذكر الحد الرابع وغلط فيه فإنه لا تسمع الدعوى وإن
جاز تركه إلا أن يقال: إنها عبادة بخلاف حقوق العباد المحضة. وفي المحيط: حلف أنه أدى
الصدقة إلى مصدق آخر وظهر كذبه آخذه بها إن ظهر بعد سنين لأن حق الاخذ ثابت فلا
يسقط باليمين الكاذبة اه‍.
قوله (وكل شئ صدق فيه المسلم صدق فيه الذمي) لأن ما يؤخذ منهم ضعف ما
يؤخذ من المسلم فيراعى فيه شرائط الزكاة تحقيقا للتضعيف. وفي التبيين: لا يمكن إجراؤه
على عمومه فإن ما يؤخذ من الذمي جزية وفي الجزية لا يصدق إذا قال أديتها أنا لأن فقراء
أهل الذمة ليسوا بمصارف لهذا الحق وليس له ولاية الصرف إلى مستحقه وهو مصالح
المسلمين اه‍. وقولهم ما يؤخذ من الذمي جزية أي حكمه حكمها من كونه يصرف مصارفها
لا أنه جزية حتى لا تسقط جزية رأسه في تلك السنة. نص عليه الأسبيجابي. واستثنى في
البدائع نصارى بني تغلب لأن عمر صالحهم من الجزية على الصدقة المضاعفة فإذا أخذ العاشر
منهم ذلك سقطت الجزية اه‍. قوله (لا الحربي إلا في أم ولده) أي لا يصدق الحربي في شئ
إلا في جارية في يده قال هي أم ولدي فإنه يصدق، وكذا في الجواري لأن الاخذ منه بطريق
الحماية لا زكاة ولا ضعفها فلا يراعي فيه الشروط المتقدمة، ولذا كان الأولى أن يقال: لا
يلتفت إلى كلامه أو لا يترك الاخذ منه إذا ادعى شيئا مما ذكرناه دون أن يقال ولا بصدق
لأنه لو كان صادقا بأن ثبت صدقه ببينة عادلة من المسلمين المسافرين معه من دار الحرب أخذ
منه. كذا في فتح القدير ويستثنى من العموم ما إذا قال الحربي أديت إلى عاشر آخر وثمة
عاشر آخر فإنه لا يؤخذ منه ثانيا لأنه يؤدي إلى الاستئصال. جزم به منلا شيخ في شرح
الدرر. وذكره في الغاية بلفظ: ينبغي أن لا يؤخذ منه ثانيا. وتبعه في التبيين. وأشار باستثناء

405
أم الولد إلى أنه لو قال في حق غلام معه هذا ولدي فإنه يصح ولا يعشر لأن النسب يثبت
في دار الحرب كما يثبت في دار الاسلام، وأمومية الولد تبع للنسب. وقيده في المحيط بأن
كان يولد مثله لأنه لو كان لا يولد مثله لمثله فإنه يعتق عليه عند أبي حنيفة ويعشر لأنه إقرار
بالعتق فلا يصدق في حق غيره اه‍. وقيد بأم الولد لأنه لو أقر بتدبير عبده لا يصدق لأن
التدبير لا يصح في دار الحرب. كذا في المعراج. وفي النهاية: لو مر بجلود الميتة فإن كانوا
يدينون أنها مال أخذ منها وإلا فلا اه‍. والحاصل أنه لا يؤخذ إلا من مال قوله (وأخذ منا
ربع العشر ومن الذمي ضعفه ومن الحربي العشر بشرط نصاب وأخذهم منا) بذلك أمر عمر
رضي الله عنه سعاته وقدمنا أن المأخوذ من المسلم زكاة ومن الذمي صدقة مضاعفة تصرف
مصارف الجزية وليست بجزية حقيقة، ومن الحربي بطريق الحماية وتصرف مصارف الجزية
كما في غاية البيان. ويصح أن يتعلق قوله بشرط نصاب بالثلاثة وهو متفق عليه في المسلم
والذمي، وأما في الحربي فظاهر المختصر أنه إذا مر بأقل منه لا يؤخذ منه. وفي الجامع
الصغير: وإن مر حربي بخمسين درهما لم يؤخذ منه شئ إلا أن يكونوا يأخذون منا من مثلهم
لأن الاخذ بطريق المجازاة. وفي كتاب الزكاة: لا نأخذ من القليل وإن كانوا يأخذون منا لأن
القليل لم يزل عفوا وهو للنفقة عادة فأخذهم منا من مثله ظلم وخيانة ولا متابعة عليه،
والأصل فيه أنه متى عرفنا ما يأخذون منا أخذ منهم مثلة لأن عمر أمر بذلك، وإن لم
نعرف أخذ منهم العشر لقول عمر رضي الله عنه: فإن أعياكم فالعشر. وإن كانوا يأخذون الكل
نأخذ منهم الجميع إلا قدر ما يوصله إلى مأمنه في الصحيح، وإن لم يأخذوا منا لا نأخذ منهم
ليستمروا عليه ولأنا أحق بالمكارم وهو المراد بقوله: وأخذهم منا لأنه بطريق المجازاة. كذا
في التبيين. وفي كافي الحاكم: إن العاشر لا يأخذ العشر من مال الصبي الحربي إلا أن
يكونوا يأخذون من أموال صبياننا شيئا اه‍.

406
قوله: (ولم يثمن في حول بلا عود) أي بلا عود إلى دار الحرب لأن الاخذ في كل مرة يؤدي
إلى الاستئصال بخلاف ما إذا عاد ثم خرج إلينا لأن ما يؤخذ منه بطريق الأمان وقد استفاده في كل
مرة. وفي المحيط: ولو عاد الحربي إلى دار الحرب ولم يعلم به العاشر ثم خرج ثانيا لم يأخذه بما
مضى لأن ممضى سقط لانقطاع الولاية ولو مر المسلم والذمي على العاشر ولم يعلم بها ثم
علم في الحول الثاني يؤخذ منهما لأن الوجوب قد ثبت والمسقط لم يوجد ا ه‍. قوله: (وعشر
الخمر لا الخنزير) أي أخذ نصف عشر قيمة الخمر من الذمي وعشر قيمته من الحربي لا أنه يؤخذ
العشر بتمامه منهما، ولا أن المأخوذ من عين الخمر لأن المسلم منهي عن اقترابها. ووجه الفرق بين
الخمر والخنزير على الظاهر أن القيمة في ذوات القيم لها حكم العين والخنزير منها، وفي ذوات
الأمثال ليس لها هذا الحكم والخمر منها، ولان حق الاخذ منها للحماية والمسلم يحمي خمر نفسه
للتخليل فكذا يحمها على غيره ولا يحمي خنزير نفسه بل يجب تسييبه بالاسلام فكذا لا يحميه على
غيره، وسيأتي في آخر باب المهر ما أورد على التعليل الأول وجوابه. وفي الغاية: تعريف قيمة
الخمر بقول فاسقين تابا أو ذميين أسلما. وفي الكافي: يعرف ذلك بالرجوع إلى أهل الذمة ا ه‍.
قيدنا بخمر الذمي والحربي لأن العاشر لا يأخذ من المسلم إذا مر بالخمر اتفاقا. كذا في الفوائد.
وقيد المسألة في المبسوط: والاقطع بأن يمر الذمي بالخمر والخنزير للتجارة ويشهد له قول عمر:
ولو هم بيعها وخذوا العشر من أثمانها. وفي المعراج: قوله مر ذمي بخمر وخنزير أي مر
بهما بنية التجارة وهما يساويان مائتي درهم لما ذكرنا من رعاية الشروط في حقه ا ه‍. وجلود
الميتة كالخمر فإنه كان مالا في الابتداء ويصير مالا في الانتهاء بالدبغ قوله: (وما في بيته)
معطوف على الخنزير أي لا يعشر المال الذي في بيته لما قدمنا أن من شروطه مروره بالمال
عليه فيلزمه الزكاة فيما بينه وبين الله تعالى. قوله: (والبضاعة) أي لا يأخذ من مال البضاعة
شيئا لأن الوكيل ليس بنائب عنه في أداء الزكاة. وفي المغرب: البضاعة قطعة من المال. وفي
الاصطلاح ما يدفعه المالك لانسان يبيع فيه ويتجر ليكون الربح كله للمالك ولا شئ للعامل
قوله: (ومال المضاربة وكسب المأذون) أي لا يأخذ العشر من المضارب والمأذون لأنه لا ملك
لهما ولا نيابة من المالك وهذا هو الصحيح في الثلاثة، ولو كان في المضاربة ربح عشر
حصة المضارب إن بلغت نصابا بالملك نصيبه من الربح، ولو كان مولى المأذون معه يؤخذ منه لأن
المال له إلا إذا كان على العبد دين محيط بماله ورقبته لانعدام الملك عنده وللشغل عندهما

407
قوله: (وثنى أن عشر الخوارج) أي أخذ منه ثانيا إن مر على عاشر الخوارج فعشروه لأن
التقصير من جهته حيث مر عليهم بخلاف ما إذا ظهروا على مصر أو قرية كما قدمناه.
باب الركاز
هو المعدن أو الكنز لأن كلا منهما مركوز في الأرض وإن اختلف الراكز، وشئ راكز
ثابت. كذا في المغرب. فظاهره أنه حقيقة فيهما مشتركا معنويا وليس خالصا بالدفين ولو دار
الامر فيه بين كونه مجازا فيه أو متواطئا إذ لا شك في صحة إطلاقه على المعدن كان التواطؤ
متعينا. وبه اندفع ما في غاية البيان والبدائع من أن الركاز حقيقة في المعدن لأنه خلق فيها
مركبا وفي الكنز مجاز بالمجاورة، وفي المغرب: عدن بالمكان أقام به ومنه المعدن لما خلقه الله
تعالى في الأرض من الذهب والفضة لأن الناس يقيمون فيه الصيف والشتاء. وقيل:
لاثبات الله فيه جوهرهما وإثباته، إياه في الأرض حتى عدن فيها أي ثبت ا ه‍.
قوله: (خمس معدن نقد ونحو حديد في أرض خراج أو عشر) لقوله عليه الصلاة والسلام
وفي الركاز الخمس (1) وهو من الركز فانطلق على المعدن ولأنه كان في أيدي الكفرة وحوته
أيدينا غلبة فكان غنيمة وفي الغنيمة الخمس إلا أن للغانمين يدا حكمية لثبوتها على الظاهر، وأما
الحقيقة فللواجد فاعتبرنا الحكمية في حق الخمس، والحقيقة في حق الأربعة الأخماس حتى كانت
للواجد والنقد الذهب والفضة ونحو الحديد كل جامد ينطبع بالنار كالرصاص والنحاس
والصفر، وقيد به احترازا عن المائعات كالقار والنفط والملح، وعن الجامد الذي لا ينطبع كالجص
والنورة والجواهر كالياقوت والفيروزج والزمرد فلا شئ فيها. وأطلق في الواحد فشمل الحر
والعبد والمسلم والذمي والبالغ والصبي والذكر والأنثى كما في المحيط. وأما الحربي المستأمن إذا
عمل بغير إذن الإمام لم يكن له شئ لأنه لا حق له في الغنيمة، وإن عمل بإذن فله ما شرط لأنه

408
استعمله فيه، وإذا عمل رجلان في طلب الركاز وأصابه أحدهما يكون للواجد لأنه عليه الصلاة
والسلام جعل أربعة أخماسه للواجد. وإذا استأجر للعمل في المعدن فالمصاب للمستأجر
لأنهم يعملون له. وعن أبي يوسف: لو وجد ركازا فباعه بعوض فالخمس على الذي في يده
الركاز ويرجع على البائع بخمس الثمن. كذا في المحيط: وفي المبسوط: ومن أصاب ركازا
وسعه أن يتصدق بخمسه على المساكين فإذا اطلع الإمام على ذلك أمضى له ما صنع لأن الخمس
حق الفقراء وقد أوصله إلى مستحقه وهو في إصابة الركاز غير محتاج إلى الحماية فهو كزكاة
الأموال الباطنة ا ه‍. وفي البدائع: ويجوز دفع الخمس إلى الوالدين والمولودين الفقراء كما في
الغنائم، ويجوز للواجد أن يصرفه إلى نفسه إذا كان محتاجا ولا تغنيه الأربعة الأخماس بأن كان
دون المائتين، أما إذا بلغ مائتين فإنه لا يجوز له تناول الخمس ا ه‍. وهو دليل على وجوب
الخمس مع فقر الواجد وجواز صرفه لنفسه، ويقال ينبغي أن لا يجب الخمس مع الفقر
كاللقطة لأنا نقول: إن النص عام فيتناوله. كذا في المعراج. وقيد بكونه في أرض خراج أو
عشر ليخرج الدار فإنه لا شئ فيها لكن ورد عليه الأرض التي لا وظيفة فيها كالمفازة إذ يقتضي
أنه لا شئ في المأخوذ منها وليس كذلك، فالصواب أن لا يجعل ذلك القصد الاحتراز بل
للتنصيص على أن وظيفتهما المستمرة لا تمنع الاخذ مما يوجد فيها. كذا في فتح القدير. وفي
المغرب: خمس القوم إذا أخذ خمس أموالهم من باب طلب اه‍. واستشهد له في ضياء الحلوم
بقول عدي بن حاتم الطائي: ربعت في الجاهلية وخمست في الاسلام. والخمس بضمتين وقد
تسكن الميم وبه قرئ في قوله تعالى * (فأن لله خمسه) * (الأنفال: 41) ا ه‍ فعلم أن قوله في
المختصر خمس بتخفيف الميم لأنه متعد فجاز بناء المفعول منه، وبه اندفع قول من قرأه خمس
- بتشديد الميم - ظنا منه أن المخفف لازم لما علمت أن المخفف متعد وأنه من باب طلب.

409
قوله: (لا داره وأرضه) أي لا خمس في معدن وجده في داره أو أرضه فاتفقوا على أن
الأربعة الأخماس للمالك، سواء وجده هو أو غيره، لأنه من توابع الأرض بدليل دخوله في
البيع بغير تسمية فيكون من أجزائها. واختلفوا في وجوب الخمس، قال أبو حنيفة: لا خمس
في الدار والبيت والمنزل والحانوت مسلما كان المالك أو ذميا كما في المحيط، وفي الأرض
عنه روايتان اختار المصنف أنها كالدار. وقالا: يجب الخمس لاطلاق الدليل، وله أنه من
أجزاء الأرض مركب فيها ولا مؤنة في سائر الأجزاء فكذا في هذا الجزء لأن الجزء لا يخالف
الجملة بخلاف الكنز فإنه غير مركب فيها. والفرق بين الأرض والدار على إحدى الروايتين.
وهي رواية الجامع الصغير. أن الدار ملكت خالية عن المؤن دون الأرض ولذا وجب العشر
أو الخراج في الأرض دون الدار فكذا هذه المؤنة حتى قالوا: لو كان في الدار نخلة تطرح
كل سنة أكرارا من الثمار لا يجب فيه شئ لما قلنا بخلاف الأرض. وفي البدائع: هذا كله
إذا وجد في دار الاسلام، فأما إذا وجده في دار الحرب فإن وجده في أرض غير مملوكه فهو
له ولا خمس فيه كما في الكنز وأورد على كون المعدن من أجزاء الأرض جواز التيمم به
وليس بجائز، وأجاب في المعراج بأنه من أجزائها وليس من جنسها كالخشب قوله: (وكنز)
بالرفع عطف على معدن أي وخمس كنز وهو دفين الجاهلية فيكون الخمس لبيت المال، وله
أن يصرفه إلى نفسه إن كان فقيرا كما قدمناه في المعدن، ووجوب الخمس اتفاقا لعموم
الحديث وفي الركاز الخمس كما قدمناه قوله: (وباقيه للمختط له) أي الأخماس الأربعة
للذي ملكه الإمام البقعة أول الفتح، وإن كان ميتا فلورثته إن عرفوا وإلا فهو لاقصى مالك
للأرض أو لورثته. كذا في البدائع. وقيل: يوضع في بيت المال ورجحه في فتح القدير.

410
وفي التحفة: جعله لبيت المال إن لم يعرف الأقصى وورثته وهذا كله عندهما. وقال أبو
يوسف: إن الباقي للواجد كالمعدن لأن الاستحقاق بتمام الحيازة وهي منه. ولهما: إن يد
المختط له سبقت إليه وهي يد الخصوص فيملك به ما في الباطن وإن كانت على الظاهر كما
إذا اصطاد سمكة في بطنها درة ثم بالبيع لم تخرج عن ملكه لأنه مودع فيها بخلاف المعد
لأنه من أجزائها فينتقل إلى المشتري. ومحل الخلاف فيما إذا لم يدعه مالك الأرض، فإن ادعى
أنه ملكه فالقول قوله اتفاقا. كذا في المعراج. أطلق في الكنز فشمل النقد وغيره من السلاح
والآلات وأثاث المنازل والفصوص والقماش لأنها كانت ملكا للكفارة فحوته أيدينا قهرا
فصارت غنيمة. وقيدناه بدفين الجاهلية بأن كان نقشه صنما أو اسم ملوكهم المعروفين للاحتراز
عن دفين أهل الاسلام كالمكتوب عليه كلمة الشهادة أو نقش آخر معروف للمسلمين فهو لقطة
لأن مال المسلمين لا يغنم وحكمها معروف، وإن اشتبه الضرب عليهم فهو جاهلي في ظاهر
المذهب لأنه الأصل، وقيل يجعل إسلاميا في زماننا لتقادم العهد. وأشار بقوله للمختط له إلى
أنه وجده في أرض مملوكه لأنه لو وجده في أرض غير مملوكة كالجبال والمفازة فهو كالمعدن يجب
خمسه وباقيه للواجد، مطلقا حرا كان أو عبدا كما ذكرناه. وفي المغرب: الخطة المكان المختط
لبناء دار أو غير ذلك في العمارات. وفي المعراج: إنما قالوا للمختط له لأن الإمام إذا أراد
قسمه الأراضي يخط لكل واحد من الغانمين ويجعل تلك الناحية له.
قوله: (وزئبق) أي خمس الزئبق عند أبي حنيفة ومحمد، وعن أبي يوسف لا شئ فيه
لأنه مائع ينبع من الأرض كالقير، ولهما أنه ينطبع مع غيره فإنه حجر يطبخ فيسيل منه الزئبق
فأشبه الرصاص وهو بكسر الباء بعد الهمزة الساكنة. كذا في المغرب. وقيل: هو حيوان لأنه
ذو حس يتحرك بالإرادة ولهذا يقتل. كذا في المعراج. وفي فتح القدير: إنه بالياء وقد تهمز،
ومنهم حينئذ من يكسر الموحدة بعد الهمزة مثل زيبر الثوب وهو ما يعلو جديدة من الوبرة
لاخذه لا على وجه القهر والغلبة قوله: (لا ركاز دار حرب) أي لا يخمس ركاز في دار
الحرب لأنه ليس بغنيمة لاخذه لا على وجه القهر والغلبة لانعدام غلبة المسلمين عليه. أطلق
في الركاز فشمل الكنز والمعدن. والقدوري وضع المسألة في الكنز ليبين حكم المعدن بالأولى
لعدم الاختلاف فيه بخلاف الكنز فإن شيخ الاسلام أوجب الخمس فيه كما في المعراج.
وأطلق في دار الحرب فشمل ما إذا وجده في أرض غير مملوكة أو في مملوكة لهم لكن إذا
كانت غير مملوكة فالكل له، سواء دخل بأمان أو لا، لأن حكم الأمان يظهر في المملوك لا

411
في المباح، وإن كانت مملوكة لبعضهم فإن دخل بأمان رده إلى صاحبها لحرمة أموالهم عليه
بغير الرضا، فإن لم يرده إليه ملكه ملكا خبيثا فسبيله التصدق به، فلو باعه صح لقيامه ملكه
لكن لا يطيب للمشتري بخلاف بيع المشتري شراء فاسدا لأن الفساد يرتفع ببيعه لامتناع
فسخه حينئذ، وإن دخل بغير أمان حل له. ويستثنى من إطلاق المصنف ما إذا دخل جماعة
ذو ومنعة دار الحر ب وظفروا بشئ من كنوزهم فإنه يجب فيه الخمس لكونه غنيمة لحصول
الاخذ على طريق القهر والغلبة قوله: (وفيروزج ولؤلؤ وعنبر) أي لا تخمس هذه الأشياء، أما
الأول فلانه حجر مضئ يوجد في الجبال وقد ورد في الحديث لا خمس في الحجر ونحوه
الياقوت والجواهر كما قدمناه من كل جامع لا ينطبع. أطلقه وهو مقيد بما إذا أخذها من
معدنها، أما إذا وجدت كنزا وهي دفين الجاهلية ففيه الخمس لأنه لا يشترط في الكنز إلا
المالية لكونه غنيمة. وأما الثاني فالمراد به كل حلية تستخرج من البحر حتى الذهب والفضة فيه
بأن كانت كنزا في قعر البحر وهذا عندهما. وقال أبو يوسف: يجب في جميع ما يخرج من
البحر لأنه مما تحويه يد الملوك. ولهما: إن قعر البحر لا يرد عليه قهر أحد فانعدمت اليد
وهي شرط الوجوب. فالحاصل أن الكنز لا تفصيل فيه بل يجب فيه الخمس كيفما كان،
سواء كان من جنس الأرض أو لم يكن بعد أن كان مالا متقوما، وأما المعدن فثلاثة أنواع
كما قدمناه أول الباب، واللؤلؤ مطر الربيع يقع في الصدف فيصير لؤلؤا، والصدف حيوان يخلق
فيه اللؤلؤ. والعنبر حشيش ينبت في البحر أو خثي دابة في البحر والله سبحانه أعلم.
باب العشر
هو واحد الاجزاء العشرة والكلام فيه في مواضع: في بيان فريضته وكيفيتها وسببها
وشرائطها وقدر المفروض ووقته وصفته وركنه وشرائطه وما يسقطه. أما الأول فثابت
بالكتاب قوله تعالى * (وآتوا حقه يوم حصاده) * (الانعام: 141) على قول عامة أهل التأويل
هو العشر أو نصفه. وبالسنة ما سقته السماء ففيه العشر وما سقي بغرب أو دالية ففيه نصف
العشر (1) وبالاجماع. وأما الكيفية فما تقدم في الزكاة أنه على الفور أو التراخي. وأما سببها

412
فالأرض النامية بالخارج حقيقة بخلاف الخراج فإن سببه الأرض النامية حقيقة أو تقديرا
بالتمكين، فلو تمكن وليزرع وجب الخراج دون العشر، ولو أصاب الزرع آفة لم يجبا،
وقدمنا حكم تعجيل العشر وأنه على ثلاثة أوجه في مسألة تعجيل الزكاة. وأما شرائطها
فنوعان: شرط الأهلية وشرط المحلية. فالأول نوعان: أحدهما الاسلام وأنه شرط ابتداء هذا
الحق فلا يبتدأ إلا على مسلم بلا خلاف، وأما كونه يتحول إلى الكافر فسيأتي مفصلا. والثاني
العلم بالفرضية وهو عام في كل عبادة أيضا.، وأما العقل والبلوغ فليسا من شرائط الوجوب
حتى يجب العشر في أرض الصبي والمجنون لأن فيه معنى المؤنة، ولهذا جاز للإمام أن يأخذه
جبرا ويسقط عن صاحب الأرض إلا أنه لا ثواب له إلا إذا أدى اختيارا، ولذا لو مات من
عليه العشر والطعام قائم يؤخذ منه بخلاف الزكاة، وكذا ملك الأرض ليس بشرط للوجوب
لوجوبه في الأرض الموقوفة. ويجب في أرض المأذون والمكاتب ويجب على المؤجر عنده،
وعندهما على المستأجر كالمستعير ويسقط عن المؤجر بهلاكه قبل الحصاد لا بعده، وفي المزارعة
على قولهما فالعشر عليهما بالحصة، وعلى قوله على رب الأرض لكن يجب في حصته في
عينه وفي حصة المزارع يكون دينا في ذمته، وفي الأرض المغصوبة على الغاصب إن لم تنقصها
الزراعة، وإن نقصتها فعلى رب الأرض عنده، وعندهما في الخارج. ولو كانت الأرض
خراجية فخراجها على رب الأرض في الوجوه كلها بالاجماع إلا في الغصب إذا لم تنقصها
الزراعة فخراجها على الغاصب، وإن نقصتها فعلى رب الأرض. كذا في البدائع وغيره. وفي
الخلاصة والظهيرية: إن الخراج إنما يكون على الغاصب إذا كان جاحدا ولا بينة للمالك
وزرعها الغاصب، أما إذا كان مقرا أو للمالك بينة عادلة ولم تنقصها الزراعة فالخراج على رب
الأرض ا ه‍. وأما شرائط المحلية فإن تكون عشرية فلا عشر في الخارج من أرض الخراج
لأنهما لا يجتمعان، وسيأتي بيان العشرية ووجود الخارج وأن يكون الخارج منها مما يقصد
بزراعته نماء الأرض فلا عشر في الحطب ونحوه، وسيأتي بيان قدره. وأما وقته فوقت
خروج الزرع وظهور الثمر عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف وقت الادراك، وعند محمد عند
التنقية والجذاذ، وأما ركنه فالتمليك كالزكاة، وشرائط الأداء ما قدمناه في الزكاة. وأما ما
يسقطه فهلاك الخارج من غير صنعه وبهلاك البعض يسقط بقدره وإن استهلكه غير المالك
أخذ الضمان منه وأدى عشره، وإن استهلكه المالك ضمن عشره وصار دينا في ذمته. ومنها
الردة، ومنها موت المالك من غير وصية إذا كان قد استهلكه. كذا في البدائع مختصرا.

413
قوله: (يجب في عسل أرض العشر ومسقي سماء وسبح بلا شرط نصاب وبقاء إلا
الحطب والقصب والحشيش) أي يجب العشر فيما ذكر أما في العسل فللحديث في العسل
والعشر ولان النحل يتناول من الأنوار والثمار وفيهما العشرة فكذا فيما يتولد منهما بخلاف
دود القز لأنه يتناول الأوراق ولا عشر فيها. أطلقه فتناول القليل والكثير وهو مذهب
الإمام، وقدر أبو يوسف نصابه بخمسة أوسق، وعن محمد بخمسة أفراق كل فرق ستة
وثلاثون رطلا. قيد بأرض العشر لأن العسل إذا كان في أرض الخراج فلا شئ فيه لما ذكر
أن وجوب العشر فيه لكونه بمنزلة الثمر ولا شئ في ثمار أرض الخراج لامتناع وجوب
العشر والخراج في أرض واحدة. وفي المعراج: وقول محمد لا شئ فيه أي في العسل
ولكن الخراج يجب باعتبار التمكن من الاستنزال ا ه‍. وفي المبسوط: إن صاحب الأرض
يملك العسل الذي في أرضه وإن لم يتخذها لذلك حتى له أن يأخذه ممن أخذه من أرضه
بخلاف الطير إذا فرخ في أرض رجل فجاء رجل وأخذه فهو للآخذ لأن الطير لا يفرخ في
موضع ليترك فيه بل ليطير فلم يصر صاحب الأرض محرزا للفرخ بملكه ا ه‍. ولو وجد
العسل في المفازة أو الجبل ففيه اختلاف، فعندهما يجب العشر. وقال أبو يوسف: لا شئ
فيه لأن الأرض ليست بمملوكة. ولهما: إن المقصود من ملكها النماء وقد حصل، وعلى هذا
كل ما يوجد في الجبال من الثمار والجوز، وبهذا علم أن التقييد بأرض العشر للاحتراز عن
أرض الخراج فقط، فلو قال يجب في عسل أرض غير الخراج لكان أولى. وأما وجوبه فيما

414
سقي بالمطر أو بالسيح كماء النيل فمتفق عليه للأدلة السابقة، وأما قوله بلا شرط نصاب
وبقاء فمذهب الإمام وشرطاهما فصار الخلاف في موضعين: لهما في الأول قوله عليه
الصلاة والسلام ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أو سق (1) رواه مسلم. وله
إطلاق الآية * (مما أخرجنا لكم من الأرض) * (البقرة: 267) والحديث فيما سقت السماء
العشر (2) وتأويل مرويهما أن المنقى زكاة التجارة لأنهم كانوا يتبايعون بالأوساق وقيمة
الوسق أربعون درهما، أو تعارض الخاص والعام فقدم العام لأنه أحوط. ولهما في الثاني
الحديث ليس في الخضراوات صدقة (3). وله التمسك بالعمومات. وإنما استثنى الثلاثة
لأنه لا يقصد بها استغلال الأرض غالبا حتى لو استغل بها أرضه وجب العشر، وعلى هذا
كل ما لا يقصد به استغلال الأرض لا يجب فيه العشر مثل السعف والتبن، وكذا كل حب
لا يصلح للزراعة كبزر البطيخ والقثاء لكونها غير مقصودة في نفسها، وكذا لا عشر فيما
هو تابع للأرض كالنحل والأشجار لأنه بمنزلة جزء الأرض لأنه يتبعها في البيع، وكذا
كل ما يخرج من الشجر كالصمغ والقطران لأنه لا يقصد به الاستغلال، ويجب في
العصفر والكتان وبزره لأن كل واحد منها مقصود فيه. ثم اختلفا فيما لا يوسق
كالزعفران والقطن فاعتبر أبو يوسف قيمة أدنى ما يوسق كالذرة. واعتبر محمد خمسة
أعداد من أعلى ما يقدر به نوعه فاعتبر في القطن خمسة أحمال كل حمل ثلاث مائة من،
وفي الزعفران خمسة أمناء، ولو كان الخارج نوعين يضم أحدهما إلى الآخر لتكميل
النصاب إذا اتحد الجنس، وإن كانا جنسين كل واحد أقل من خمسة أوسق فإنه لا يضم.
ونصاب القصب السكر على قول أبي يوسف أن تبلغ قيمته قيمة خمسة أوسق من أدنى ما
يوسق وعند محمد نصاب السكر خمسة أمناء، فإذا بلغ القصب قدرا يخرج منه خمسة أمناء

415
سكر وجب فيه العشر على قوله، وينبغي أن يكون نصاب القصب عنده خمسة أطنان كما
في عرف ديارنا.
قوله: (ونصفه في مسقي غرب ودالية) أي ويجب نصف العشر فيما سقي بآلة
للحديث. والغرب دلو عظيم، والدالية دولاب عظيم تديره البقر. وإن سقي بعض السنة
بآلة والبعض بغيرها فالمعتبر أكثرها كما مر في السائمة والعلوفة، وإن استويا يجب نصف
العشر نظرا للفقراء كما في السائمة، وظاهر الغاية وجوب ثلاثة أرباع العشر قوله: (ولا
ترفع المؤن) أي لا تحسب أجرة العمال ونفقة البقر وكري الأنهار وأجرة الحافظ وغير ذلك
لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤنة فلا معنى لرفعها. أطلقه فشمل ما فيه
العشر وما فيه نصفه فيجب إخراج الواجب من جميع ما أخرجته الأرض عشرا أو نصفا إلا
أن ما تكلفه يأخذه بلا عشر أو نصفه ثم يخرج الواجب من الباقي كما توهمه بعض الناس
قوله: (وضعفه في أرض عشرية لتغلبي وإن أسلم أو ابتاعها منه مسلم أو ذمي) أي يجب
عشران في أرض إلى آخره وفيه ثلاث مسائل: الأولى الأرض العشرية إذا اشتراها تغلبي
فالمذهب تضعيفه عليه لاجماع الصحابة. الثانية إذا أسلم التغلبي فالتضعيف باق عليه لأن
التضعيف صار وظيفة الأرض فيبقي بعد إسلامه كالخراج. الثالثة إذا اشتراها منه مسلم أو
ذمي فكذلك لأنها انتقلت إليه بوظيفتها كالخراج، فإن المسلم أهل للبقاء عليه وإن لم يكن
أهلا لابتدائه، ورد الواجب أبو يوسف في المسألتين إلى عشر واحد لزوال الداعي إلى
التضعيف قوله: (وخراج أن اشتري ذمي أرضا عشرية من مسلم) أي يجب الخراج لأن في
العشر معنى العبادة والكفر ينافيها ولا وجه إلى التضعيف لأن الكلام في غير التغلبي
بخلاف الخراج لأنه عقوبة والاسلام لا ينافيها كالرق، وبه اندفع قول أبي يوسف من
تضعيف العشر عليه وقول محمد ببقاء العشر. وحاصل هذه المسائل أن الأرض إما عشرية
أو خراجية أو تضعيفية، والمشترون مسلم وذمي وتغلبي، فالمسلم إذا اشتري العشرية أو
الخراجية بقيت على حالها، أو التضعيفية فكذلك عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف:
ترجع إلى عشر واحد، فإذا اشترى التغلبي الخراجية بقيت خراجية أو التضعيفية فهي
تضعيفية أو العشرية من مسلم ضوعف عليه العشر عندهما خلافا لمحمد، وإذا اشترى ذمي
غير تغلبي خراجية أو تضعيفية بقيت على حالها أو عشرية صارت خراجية إن استقرت في
ملكه عنده، ولم يشترط في المختصر لوجوب الخراج، وشرطه في الهداية لأن

416
الخراج لا يجب إلا بالتمكن من الزراعة وذلك بالقبض قوله: (وعشران أخذها بالشفعة
أورد على البائع للفساد) أما الأول فلتحول الصفقة إلى الشفيع كأنه اشتراها من المسلم، وأما
الثاني فلانه بالرد والفسخ جعل البيع كأنه لم يكن لأن حق المسلم وهو البائع لم ينقطع بهذا
البيع لكونه مستحق الرد. وأشار بقوله للفساد إلى كل موضع كان الرد فيه فسخا كالرد
بخيار الشرط والرؤية مطلقا والرد بخيار العيب إن كان بقضاء، وأما بغير قضاء فهي خراجية
على حالها كالإقالة لأنها فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد في حق ثالث فصار شراء من
الذمي فتنتقل إلى المسلم بوظيفتها فاستفيد من وضع المسألة أن للذمي أن يردها بعيب قديم
ولا يكون وجوب الخراج عليها عيبا حادثا لأنه يرتفع بالفسخ بالقضاء فلا يمنع الرد.
قوله: (وإن جعل مسلم داره بستانا فمؤنته تدور مع مائه) يعني فإن سقاه بماء العشر
فهو عشري، وإن سقاه بماء الخراج فهو خراجي، وإن سقاه مرة من ماء العشر ومرة من ماء
الخراج فعليه العشر لأنه أحق بالعشر من الخراج. كذا في غاية البيان. واستشكل العتابي
وجوب الخراج على المسلم ابتداء حتى نقل في غاية البيان أن الإمام السرخسي ذكر في كتاب
الجامع أن عليه العشر بكل حال لأنه أحق بالعشر من الخراج وهو الأظهر ا ه‍. وجوابه أن
الممنوع وضع الخراج عليه ابتداء جبرا، أما باختياره فيجوز وقد اختاره هنا حيث سقاه بماء
الخراج فهو كما إذا أحيا أرضا ميتة بإذن الإمام وسقاها بماء الخراج فإنه يجب عليه الخراج
والبستان يحوط عليها حائط وفيها أشجار متفرقة. كذا في المعراج. قيد بجعلها بستانا لأنه لو
لم يجعلها بستانا وفيها نخل تغل أكرارا لا شئ فيها، وأما الذمي فإن الخراج واجب عليه
مطلقا ولا يعتبر الماء وهو المراد بقوله قوله: (بخلاف الذمي) لأنه أهل له لا للعشر قوله:
(وداره حر) لأن عمر رضي الله عنه جعل المساكن عفوا وعليه إجماع الصحابة وكذا المقابر،
وتقييده في الهداية بالمجوسي ليفيد النفي في غيره من أهل الكتاب بالدلالة لأن المجوسي أبعد

417
عن الاسلام لحرمة مناكحته وذبائحه قوله: (كعين قير ونفط في أرض عشر ولو في أرض
خراج يجب الخراج) لأنه ليس من أنزال الأرض وإنما هو عين فوارة كعين الماء فلا عشر
ولا خراج إن لم يكن وراء موضع القير والنفط أرض فارغة صالحة للزراعة، وأما إذا كان
وراءه موضع صالح للزراعة فلا يجب شئ إن كان في أرض العشر لأن العشر لا يكفي
فيه التمكن من الزراعة بل لا بد من حقيقة الخارج، وأما إن كان في أرض خراج وجب
الخراج لأنه يكفي لوجوبه التمكن من الزراعة وقد حصل وهو المراد بما في المختصر.
والقير هو الزفت ويقال القار. والنفط بالفتح والكسر وهو أفصح دهن يعلو الماء وفي
معراج الدراية: ولا يمسح موضع القير في رواية ابن سماعة عن محمد لأن موضعه لا
يصلح للزراعة. وقال بعض مشايخنا: يمسح لأن موضع القير تبع للأرض فيمسح معه تبعا
وإن كان لا يصلح للزراعة كأرض في بعض جوانبها سبخة فإنها تمسح مع الأرض ويوضع
الخراج فيها لكونها تابعة لما يصلح للزراعة ا ه‍. وظاهر المختصر يدل على قول البعض فإنه
أوجب الخراج مطلقا، ولم يذكر المصنف الفرق بين الأرض الخراجية والعشرية فالأرض
العشرية أرض العرب كلها. قال محمد: هي من العذيب إلى مكة وعدن أبين إلى أقصى
حجر باليمن بمهرة. وذكر الكرخي أنها أرض الحجاز وتهامة واليمن ومكة والطائف
والبرية، ومنها الأرض التي أسلم أهلها طوعا أو فتحت قهرا وقسمت بين الغانمين. وأما
الأرض الخراجية فما فتحت قهرا وتركت في أيدي أربابها وأرض نصارى بني تغلب.
والموات التي أحياها ذمي مطلقا أو مسلم وسقاها بماء الخراج، وماء الخراج هو ماء الأنهار
الصغار التي حفرها الأعاجم مما يدخل تحت الأيدي وماء العيون والقنوات المستنبطة من
مال بيت المال. وماء العشر هو ماء السماء والآبار والعيون والأنهار العظام التي لا تدخل
تحت الأيدي كسيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل لعدم إثبات يد عليها وعن أبي
يوسف أنها خراجية لامكان إثبات اليد عليها بشد السفن بعضها على بعض حتى تصير شبه
القنطرة. كذا في البدائع وغيرها والله أعلم.

418
باب المصرف
هو في اللغة المعدل قال تعالى * (ولم يجدوا عنها مصرفا) * (الكهف: 53) كذا في ضياء
الحلوم. ولم يقيده في الكتاب بمصرف الزكاة ليتناول الزكاة والعشر وخمس المعادن مما قدمه
كما أشير إليه في النهاية. وينبغي إخراج خمس المعادن لأن مصرفه الغنائم كما صرح به
الأسبيجابي وغيره. وقد ذكر الأصناف السبعة وسكت عن المؤلفة قلوبهم للإشارة إلى السقوط
للاجماع الصحابي وهو من قبيل انتهاء الحكم لانتهاء علته الغائية التي كان لأجلها الدفع فإن
الدفع كان للاعزاز وقد أعز الله الاسلام وأغنى عنهم، واختار في العناية أنه ليس من باب
النسخ لأن الاعزاز الآن في عدم الدفع فهو تقرير لما كان لا نسخ. وتعقبه في فتح القدير بأن
هذا لا ينفي النسخ لأن الإباحة الدفع إليهم حكم شرعي كان ثابتا وقد ارتفع وهم كانوا
ثلاثة أقسام: قسم كان الاعطاء ليتألفهم على الاسلام، وقسم كان يعطيهم لدفع شرهم،
وقسم أسلموا وفيهم ضعف فكان يتألفهم ليثبتوا ولا يقال إن نسخ الكتاب بالاجماع لا يجوز
لأن الناسخ دليل الاجماع لا هو بناء على أنه لا إجماع إلا عن مستند، فإن ظهر وإلا وجب
الحكم بأنه ثابت على أن الآية التي ذكرها عمر رضي الله عنه تصلح لذلك وهو قوله تعالى
* (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) * (الكهف: 29) قوله: (هو الفقير
والمسكين وهو أسوأ حالا من الفقير) أي المصرف الفقير والمسكين، والمسكين أدنى حالا.
وفرق بينهما في الهداية وغيرها بأن الفقير من له أدنى شئ، والمسكين من لا شئ له، وقيل
على العكس ولكل وجه والأول هو الأصح وهو المذهب. كذا في الكافي. والأولى أن يفسر
الفقير بمن له ما دون النصاب كما في النقاية أخذا من قولهم يجوز دفع الزكاة إلى من يملك
ما دون النصاب أو قدر نصاب غير نام وهو مستغرق في الحاجة. ولا خلاف في أنهما
صنفان هو الصحيح لأن العطف في الآية يقتضي المغايرة، وإنما الخلاف في أنهما صنفان أو
صنف واحد في غير الزكاة كالوصية والوقف والنذر فقال أبو حنيفة بالأول وهو الصحيح
كما في غاية البيان، وأبو يوسف بالثاني، فلو أوصي بثلث ماله لفلان وللفقراء والمساكين

419
فعلى الصحيح لفلان ثلث الثلث، وعلى غيره نصف الثلث، وإنما جاز صرف الزكاة إلى
صنف واحد لمعنى لا يوجد في الوصية وهو دفع الحاجة وذا يحصل بالصرف إلى صنف واحد
والوصية ما شرعت لدفع حاجة الموصى له فإنها تجوز للغني أيضا، وقد يكون للموصي
أغراض كثيرة لا يوقف عليها فلا يمكن تعليل نص كلامه فيجري على ظاهر لفظه من غير
اعتبار المعنى. كذا في البدائع. ولهذا لو أوصى بثلث ماله للأصناف السبعة فصرف إلى
صنف واحد لا يجوز، وقيل يجوز. كذا في المحيط. وفي الخانية: والذي له دين مؤجل على
إنسان إذا احتيج إلى النفقة يجوز له أن يأخذ من الزكاة قدر كفايته إلى حلول الأجل، وإن كان
الدين غير مؤجل، فإن كان من عليه الدين معسرا يجوز له أخذ الزكاة في أصح الأقاويل لأنه
بمنزلة ابن السبيل، وإن كان المديون موسرا معترفا لا يحل له أخذ الزكاة، وكذا إذا كان
جاحدا وله عليه بينة عادلة، وإن لم تكن بينة عادلة لا يحل له أخذ الزكاة ما لم يرفع الامر إلى
القاضي فيحلفه، فإذا حلف بعد ذلك يحل له أخذ الزكاة ا ه‍. والمراد من الدين ما يبلغ نصابا
كما لا يخفى. وفي فتح القدير: ولو دفع إلى فقيرة لها مهر دين على زوجها يبلغ نصابا وهو
موسر بحيث لو طلبت أعطاها لا يجوز، وإن كان بحيث لا يعطي لو طلبت جاز ا ه‍. وهو
مقيد لعموم ما في الخانية: والمراد من المهر ما تعورف تعجيله لأن ما تعورف تأجيله فهو دين
مؤجل لا يمنع أخذ الزكاة ويكون في الأول عدم إعطائه بمنزلة إعساره، ويفرق بينه وبين
سائر الديون بأن رفع الزوج للقاضي مما لا ينبغي للمرأة بخلاف غيره. لكن في البزازية:
وإن كان موسرا والمعجل قدر النصاب لا يجوز عندهما وبه يفتى للاحتياط، وعند الإمام يجوز
مطلقا وسيأتي بيان النصب الثلاثة آخر الباب إن شاء الله تعالى.
قوله: (والعامل) تقدم تفسيره في باب العاشر. وعبر بالعامل دون العاشر ليشمل
الساعي أيضا، وقدمنا الفرق بينهما فيعطى ما يكفيه وأعوانه بالوسط مدة ذهابهم وإيابهم ما
دام المال باقيا إلا إذا استغرقت كفايته الزكاة فلا يزاد على النصف لأن التنصيف عين الانصاف
قيدنا بالوسط لأنه لا يجوز له أن يتبع شهوته في المأكل والمشرب والملبس لأنها حرام لكونها
إسرافا محضا، وعلى الإمام أن يبعث من يرضى بالوسط من غير إسراف ولا تقتير. كذا في
غاية البيان، وفي البزازية: المصدق إذا أخذ عمالته قبل الوجوب أو القاضي استوفى رزقه
قبل المدة جاز، والأفضل عدم التعجيل لاحتمال أن لا يعيش إلى المدة ا ه‍. وقيدنا ببقاء المال

420
لأنه لو أخذ الصدقة وضاعت في يده بطلت عمالته ولا يعطى من بيت المال شيئا. كذا في
الأجناس عن الزيادات. وما يأخذه العامل صدقة فلا تحل العمالة لهاشمي لشرفه كما سيأتي،
وإنما حلت للغني مع حرمة الصدقة عليه لأنه فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية
والغني لا يمنع من تناولها عند الحاجة كابن السبيل. كذا في البدائع. والتحقيق أن فيه شبها
بالأجرة وشبها بالصدقة فللأول يحل للغني ولا يعطى لو هلك المال أو أرداها صاحب المال إلى
الإمام، وللثاني لا يحل للهاشمي. ويسقط الواجب عن أرباب الأموال لو هلك المال في يده
لأن يده كيد الإمام وهو نائب عن الفقراء ولا تكون مقدرة. وفي النهاية: رجل من بني
هاشم استعمل على الصدقة فأجري له منها رزق فإنه لا ينبغي له أن يأخذ من ذلك، وإن
عمل فيها ورزق من غيرها فلا بأس بذلك ا ه‍. وهو يفيد صحة توليته وأن أخذه منها
مكروه لا حرام. ومن أحكام العامل ما ذكره في البزازية أن العامل إذا ترك الخراج على
المزارع بدون علم السلطان يحل له لو مصرفا كالسلطان إذا ترك الخراج له قوله: (والمكاتب)
أي يعان المكاتب في فك رقبته وهو المراد بقوله تعالى * (وفي الرقاب) * (البقرة: 177) هو
منقول عن الحسن البصري وغيره في تفسيره الطبري. وأطلقه فشمل ما إذا كان مولاه فقيرا أو
غنيا. وهل ما يدفع للمكاتب منها يكون ملكا له أو لا؟ فالذي في بعض التفاسير أنه لا
يملك. قال القاضي البيضاوي: والعدول عن اللام إلى في للدلالة على أن الاستحقاق
للجهة لا للرقاب. وقيل: للايذان بأنهم أحق بها ا ه‍. وقال الطيبي في حاشية الكشاف:
إنما عدل عن اللام إلى في في الأربعة الأخيرة لأن الأربعة الأولى ملاك لما عسى أن يدفع
إليهم. والأربعة الأخيرة لا يملكون ما يدفع إليهم إنما يصرف المال في مصالح تتعلق بهم
لأن التعدية بفي مقدر بالصرف، فمال الرقاب يملكه السادة والمكاتبون لا يحصل في أيديهم
شئ، والغارمون بصرف نصيبهم لأرباب الديون، وكذلك في سبيل الله تعالى وابن السبيل
مندرج في سبيل الله، وأفرد بالذكر تنبيها على خصوصية وهو مجرد عن الحرفين جميعا أي
اللام وفي وعطفه على اللام ممكن وفي أقرب ا ه‍. فقد صرح بأن الأربعة الأخيرة لا
يملكون شيئا، ويستفاد منه أنهم ليس لهم صرف المال في غير الجهة التي أخذوا لأجلها.
وفي البدائع: وإنما جاز دفع الزكاة إلى المكاتب لأن الدفع إليه تمليك وهو ظاهر في أن الملك
يقع للمكاتب فبقية الأربعة بالطريقة الأولى لكن بقي هل لهم على هذا الصرف إلى غير الجهة.

421
وفي المحيط: وقد قالوا إنه لا يجوز لمكاتب هاشمي لأن الملك يقع للمولى من وجه والشبهة
ملحقة بالحقيقة في حقهم ا ه‍. وفي شرح المجمع: وإن عجز المكاتب يحل لمولاه وإن كان
غنيا، وعلى هذا الفقير إذا استغنى وابن السبيل إذا وصل إلى ماله.
قوله: (والمديون) أطلقه كالقدوري وقيده في الكافي بأن لا يملك نصابا فاضلا عن
دينه لأنه المراد بالغارم في الآية وهو في اللغة من عليه دين ولا يجد قضاء كما ذكره القتبي.
وإنما لم يقيده المصنف لأن الفقر شرط في الأصناف كلها إلا العامل وابن السبيل إذا كان له
في وطنه مال بمنزلة الفقير. وفي الفتاوي الظهيرية: والدفع إلى من عليه الدين أولى من الدفع
إلى الفقير قوله: ومنقطع الغزاة) هو المراد بقوله تعالى * (وفي سبيل الله) * (التوبة: 60) وهو
اختيار منه لقول أبي يوسف، وعند محمد منقطع الحاج، وقيل: طلبة العلم، واقتصر عليه في
الفتاوي الظهيرية، وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله
تعالى وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا ا ه‍. ولا يخفى أن قيد الفقير لا بد منه على الوجوه كلها
فحينئذ لا تظهر ثمرته في الزكاة وإنما تظهر في الوصايا والأوقاف كما تقدم نظيره في الفقراء
والمساكن قوله: (وابن السبيل) هو المنقطع عن ماله لبعده عنه، والسبيل الطريق فكل من
يكون مسافرا يسمى ابن السبيل وهو غني بمكانه حتى تجب الزكاة في ماله، ويؤمر بالأداء إذا
وصلت إليه يده وهو فقير يدا حتى تصرف إليه الصدقة في الحال لحاجته، كذا في الكافي.
فإن قلت: منقطع الغزاة أو الحج إن لم يكن في وطنه مال فهو فقير وإلا فهو ابن السبيل،
فكيف تكون الأقسام سبعة؟ قلت: هو فقير إلا أنه زاد عليه بالانقطاع في عبادة الله تعالى
فكان مغايرا للفقير المطلق الخالي عن هذا القيد. كذا في النهاية. وفي الظهيرية: الاستقراض
لابن السبيل خير من قبول الصدقة. وفي فتح القدير: ولا يحل له أن يأخذ أكثر من حاجته
وألحق به كل من هو غائب عن ماله وإن كان في بلده ولا يقدر عليه إلا به. وفي المحيط:
وإن كان تاجرا له دين على الناس لا يقدر على أخذه ولا يجد شيئا يحل له أخذ الزكاة لأنه فقير

422
يدا كابن السبيل ا ه‍. وهو أولى من جعله غارما كما في فتح القدير، وقد قدمنا في بحث
الفقير تفصيلا له فراجعه قوله: (فيدفع إلى كلهم أو إلى صنف) لأن المراد بالآية بيان الأصناف
التي يجوز الدفع إليهم لا تعيين الدفع لهم، ويدل له من الكتاب قوله تعالى * (وإن تخفوها
وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) * (البقرة: 271) ومن السنة أنه عليه الصلاة والسلام أتاه مال
من الصدقة فجعله في صنف واحد وهم المؤلفة قلوبهم، ثم أتاه مال آخر فجعله في
الغارمين، ولم يصرح في الكتاب بجواز الاقتصار على شخص واحد من صنف واحد، ولا
شك فيه عندنا لأن الجمع المعرف باللام مجاز عن الجنس، ولهذا لحلف لا يتزوج النساء
ولا يشتري العبيد يحنث بالواحد، فالمعنى في الآية أن جنس الزكاة لجنس الفقير فيجوز
الصرف إلى واحد لأن الاستغراق ليس بمستقيم إذ يصير المعنى أن كل صدقة لكل فقير ولا
يرد خالعني على ما في يدي من الدراهم ولا شئ في يدها فإنه يلزمها ثلاثة. ولو حلف لا
يكلمه الأيام أو الشهور يقع على العشرة عنده، وعلى الأسبوع والسنة عندهما لأنه أمكن العهد
فلا يحمل على الجنس، فالحاصل أن حمل الجمع على الجنس مجاز، وعلى العهد أو الاستغراق
حقيقة، ولا مسوغ للخلف إلا عند تعذر الأصل، وعلى هذا تنصف الموصى به لزيد والفقراء
كالوصية لزيد وفقير.
قوله (لا إلى ذمي) أي لا تدفع إلى ذمي لحديث معاذ خذها من أغنيائهم وردها في
فقرائهم لا لأن التنصيص على الشئ ينفي الحكم عما عداه بل للامر بردها إلى فقراء
المسلمين، فالصرف إلى غيرهم ترك للامر وحديث معاذ مشهور تجوز الزيادة به على الكتاب،
ولئن كان خبر واحد فالعام خص منه البعض بالدليل القطعي وهو الفقير الحربي بالآية
وأصوله وفروعه بالاجماع فيخص الباقي بخبر الواحد كما عرف في الأصول قوله (وصح
غيرها) أي وصح دفع غير الزكاة إلى الذمي واجبا كان أو تطوعا كصدقة الفطر والكفارات
والمنذور لقوله تعالى * (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين) * (الممتحنة: 8) الآية.
وخصت الزكاة بحديث معاذ وفيه خلاف أبي يوسف، ولا يرد عليه العشر لأن مصرفه

423
مصرف الزكاة كما قدمناه فلا يدفع إلى ذمي، والصرف في الكل إلى فقراء المسلمين. فرضا كانت أو واجبة أو تطوعا لا أحب. وقيد
بالذمي لأن جميع الصدقات تجوز للحربي اتفاقا كما في غاية البيان
لقوله تعالى * (إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين) * (الممتحنة: 9) وأطلقه فشمل المستأمن وقد
صرح به في النهاية قوله (وبناء مسجد وتكفين ميت وقضاء دينه وشراء قن يعتق) بالجر بالعطف على
ذمي والضمير في دينه للميت، وعدم الجواز لانعدام التمليك الذي هو الركن في الأربعة لأن
الكفن على ملك المتبرع حتى لو افترس الميت السبع كان الكفن للمتبرع لا لورثة الميت، وقضاء دين
الغير لا يقتضي التمليك من ذلك الغير الحي فالميت أولى بدليل أنه لو قضى دين غيره ثم تصادق الدائن
والمديون على عدمه رجع المتبرع على الدائن لا على المديون والاعتاق إسقاط لا تمليك. قيد بقضاء دين
الميت لأنه لو قضى دين الحي إن قضاه بغير أمره يكون متبرعا ولا يجزئه عن الزكاة، وإن قضاه بأمره جاز
ويكون القابض كالوكيل له في قبض الصدقة. كذا في غاية البيان. وقيده في النهاية بأن يكون المديون
فقير أولا بد منه، ويستفاد منه أن رجوع المتبرع بقضاء الدين عند التصادق على الدائن محمول على ما
إذا كان بغير أمر المديون أما إذا كان بأمره فهو تمليك منه فلا رجوع عند التصادق بأنه لادين
على الدائن وإنما يرجع على المديون، وهو بعمومه يتناول ما لو دفعه ناويا الزكاة، وينبغي أن لا
رجوع فيها كما بحثه المحقق في فتح القدير فليراجع. والحيلة في الجواز في هذه الأربعة أن
يتصدق بمقدار زكاته على فقير ثم يأمره بعد ذلك بالصرف إلى هذه الوجوه فيكون لصاحب المال
ثواب الزكاة وللفقير ثواب هذه القرب. كذا في المحيط. وأشار المصنف إلى أنه لو أطعم يتيما
بنيتها لا يجزئه لعدم التمليك إلا إذا دفع له الطعام كالكسوة إذا كان يعقل القبض وإلا فلا ولو
دفع الصغير إلى وليه كذا في الخانية. والمراد بالعقل هنا أن لا يرمي به ولا يخدع عنه.

424
قوله (وأصله وإن علا وفرعه وإن سفل) بالجر أي لا يجوز الدفع إلى أبيه وجده وإن علا
ولا إلى ولده وولد ولده وإن سفل لأن المنفعة لم تنقطع عن المملك من كل وجه كما قدمه في
تعريف الزكاة لأن الواجب عليه الاخراج عن ملكه رقبة ومنفعة ولم يوجد في الأصول والفروع
الاخراج عن ملكه منفعة وإن وجد رقبة وفي عبده وجد الاخراج منفعة لا رقبة. كذا في
المستصفى. وفيه إشارة إلى أن هذا الحكم لا يخص الزكاة بل كل صدقة واجبة لا يجوز دفعها لهم
كأحد الزوجين كالكفارات وصدقة الفطر والنذور. وقيد بأصله وفرعه لأن من سواهم من
القرابة يجوز الدفع لهم وهو أولى لما فيه من الصلة مع الصدقة كالاخوة والأخوات والأعمام
والعمات والأخوال والخالات الفقراء، ولهذا قال في الفتاوى الظهيرية: ويبدأ في الصدقات
بالأقارب ثم الموالي ثم الجيران. وذكر في موضع آخر معزيا إلى أبي حفص الكبير: لا تقبل
صدقة الرجل وقرابته محاويج فيسد حاجتهم. وفي المحيط: لو دفع إلى أخته ولها مهر على
زوجها الموسر يبلغ نصابا يجوز عند أبي حنيفة، ولا يحل عندهما وبه يفتى احتياطا. ولو دفع
زكاته إلى من نفقته واجبة عليه من القرايب جاز إذا لم يحتسبها من النفقة. وفي القنية: دفع زكاته
في مرض موته إلى أخيه ثم مات وهو وارثه وقعت موقعها ثم رقم بأنه لا يصح كمن أوصى
بالحج ليس للوصي أن يدفعه إلى قريب الميت لأنه وصية كذا هذا، ثم رقم بأنه يصح لكن
للورثة الرد باعتبار أنه وصية اه‍. والذي يظهر ترجيح الأول. وأطلق في فرعه فشمل ثابت
النسب منه وغيره إذا كان مخلوقا من مائه فلا يدفع إلى المخلوق من مائه بالزنا ولا إلى ولد أم
ولده الذي نفاه، وخرج ولد المنعي إليها زوجها إذا تزوجت ثم جاء الأول حيا، فإن على
قول أبي حنيفة المرجوع عنه الأولاد للأول ومع هذا يجوز دفع زكاة الأول إليهم وتجوز شهادتهم له.
كذا في معراج الدراية لعدم الفرعية ظاهرا، أو على هذا فينبغي على هذا القول أن لا يجوز للثاني دفع
الزكاة إليهم لوجود الفرعية حقيقة وإن لم يثبت النسب منه لكن المنقول الفتاوى الولوالجية أنه
يجوز للثاني الدفع إليهم وتجوز شهادتهم له على قول الإمام، وروي رجوعه وعليه الفتوى. وعليه
فللأول الدفع إليهم دون الثاني، وعلم من تعليل المسألة بعدم انقطاع المنفعة عن المملك أن خمس
المعادن يجوز صرفه إلى الأصول والفروع وأحد الزوجين لأن له أن يحبس الخمس لنفسه إذا كانت
الأربعة الأخماس لا تغنيه فأولى أن يجوز لغيره لأنه أبعد من نفس. كذا ذكر الأسبيجابي. وقيد
بالصدقة بالواجبة لأن صدقة التطوع الأولى دفعها إلى الأصول والفروع. كذا في البدائع قوله
(وزوجته وزوجها) أي لا يجوز الدفع لزوجته ولا دفع المرأة لزوجها لما قدمناه من عدم قطع
المنفعة عنه من كل وجه وفي دفعها له خلافهما لقوله عليه الصلاة والسلام لك أجران أجر
الصدقة وأجر الصلة قاله لامرأة ابن مسعود وقد سألته عن التصدق عليه. قلنا: هو محمول على

425
النافلة. كذا في الهداية أطلق الزوجة من وجه فلا يجوز الوضع إلى مقتده من بائن
ولو بثلاث كذا في المعراج. واعلم أن في شهادة أحد الزوجين لصاحب تعتبر الزوجية وقت الأداء،
وفي الرجوع في الهبة وقت الهبة، وفي الوصية وقت الموت، وفي الاقرار لها في مرض موته
الاعتبار لوقت الاقرار، وفي الحدود يعتبر كلا الطرفين حتى لو سرق من مرأته ثم أبانها أو من
أجنبية ثم تزوجها ثم اختصما لم يقطع. كذا في النهاية. وفي فتاوى قاضيخان من الشهادات ما
يدل على أن العبرة فيها لوقت الحكم وسيأتي إن شاء الله تعالى. وفي الظهيرية: رجل دفع زكاة ماله
إلى رجل وأمره بالأداء فأعطى الوكيل ولد نفسه الكبير أو الصغير أو امرأته وهم محاويج جاز ولا
يمسك لنفسه شيئا، ولو أن صاحب المال قال له ضعه حيث شئت له أن يمسك لنفسه اه‍.
قوله (وعبده ومكاتبه ومدبره وأم ولده ومعتق البعض) أي لا يجوز الدفع إلى هؤلاء
لعدم التمليك أصلا في غير المكاتب ولعدم تمامه فيه لأن له حقا في كسب مكاتبه، ولذا لو
تزوج بأمة مكاتبه لم يجز بمنزلة تزوجه بأمة نفسه ومعتق البعض كالمكاتب، وإذا كان معتق
البعض لغيره فقد قدم أن الدفع لمكاتب الغير هو المراد بالرقاب فلا يرد عليه هنا. وهذا إذا
كان العبد كله لمعتق بعضه، فلو كان بين اثنين فأعتق أحدهما حصته وهو معسر واختار
الساكت الاستسعاء، فللمعتق الدفع لأنه مكاتب لشريكه وليس للساكت الدفع لأنه مكاتبه.
وهذا إذا كان الشريك أجنبيا، فإن كان ولده فلا، لأن الدفع لمكاتب الولد غير جائز كالدفع
لابنه وإن كان المعتق موسرا واختار الساكت تضمينه فللساكت الدفع للعبد لأنه أجنبي عنه،
وليس للمعتق الدفع إذا اختار استسعاءه لأنه مكاتبه لما أنه بالضمان مخير بين إعتاق الباقي أو
الاستسعاء. قوله (وغني يملك نصابا) أي لا يجوز الدفع له لحديث معاذا المشهور خذها من
أغنيائهم وردها في فقرائهم. أطلقه فشمل النصاب النامي السالم من الدين الفاضل عن
الحوائج الأصلية الموجب لكل واجب مالي والنصاب الذي ليس بنام الفارع عما ذكر الموجب
لثلاثة: صدقه الفطر والأضحية ونفقة القريب، فإن كلا منهما محرم لاخذ الزكاة، ولا يرد
عليه الغني بقوت يومه فإنه لا يملك نصابا وتسمية الشارحين له نصابا وجعلهم النصب ثلاثة
مجاز لما في الصحاح: النصاب من المال القدر الذي يجب فيه الزكاة إذا بلغه نحو مائتي درهم
وخمس من الإبل إذ ليس قوت اليوم مقدرا لكن في ضياء الحلوم: نصاب كل شئ أصله،
ومنه النصاب المعتبر في وجوب الزكاة وهو يقتضي إطلاق النصاب عليه حقيقة إذ قوت اليوم

426
أصل تحريم السؤال. وقيدنا بكونه فارغا عن الحوائج الأصلية لأنه لو كان مستغرقا بها حلت
له فتحل لمن ملك كتبا تساوي نصابا وهو من أهلها للحاجة لا إن زادت على قدرها أو كان
جاهلا، والفقيه غني بكتبه ولو كان محتاجا إليها لقضاء دينه فيجب بيعها كما في القنية من
باب الحبس من القضاء، ويحل لمن له دور وحوانيت تساوي نصبا وهو محتاج لغلتها لنفقته
ونفقة عياله على خلاف فيه، ولمن عنده طعام سنة تساوي نصابا لعياله على ما هو الظاهر
بخلاف قضاء الدين فإنه يجب عليه بيع قوته إلا قوت يومه كما في القنية من الحبس. وحلت
لمن له نصاب وعليه دين مستغرق أو منقص للنصاب وحلت لمن له كسوة الشتاء لا يحتاج
إليها في الصيف، وللمزارع إذا كان له ثوران لا إن زاد وبلغ نصابا، ولا تحل لمن له دار
تساوي نصبا والفاضل عن سكناه يبلغ نصابا. وقيد بملك النصاب لأن من ملك ما دونه
يحل له أخذها إذا كان قيمته لا تبلغ نصابا ولو كان صحيحا مكتسبا، قيدنا به لأنه لو كان
تسعة عشر دينارا تساوي ثلاث مائة درهم لا تحل له الزكاة. كذا في المحيط عن محمد.
وفي الفتاوى الظهيرية خلافه قال: وقال هشام سألت محمدا عن رجل له تسعة عشر
دينارا تساوي ثلاث مائة درهم، هل يسعه أن يأخذ؟ قال: نعم ولا يجب عليه صدقة فطره.
وقيد بالزكاة لأن النفل يجوز للغني كما للهاشمي، وأما بقية الصدقات المفروضة والواجبة
كالعشر والكفارات والنذور وصدقة الفطر فلا يجوز صرفها للغني لعموم قوله عليه الصلاة
والسلام لا تحل صدقة لغتي خرج النفل منها لأن الصدقة على الغني هبة. كذا في البدائع.
وأما صدقة الوقف فيجوز صرفها إلى الأغنياء إن سماهم الواقف وإلا فلا لأنها من الصدقة
الواجبة. كذا في البدائع أيضا. وفرعوا على منع دفع الزكاة للغني ما لو دفع قوم زكاتهم إلى
من يجمعها لفقير فاجتمع عند الآخذ أكثر من مائتين، فإن كان جمعه له بأمره قالوا كل من
دفع قبل أن يبلغ ما في يد الجابي مائتين جازت زكاته، ومن دفع بعده لا يجوز إلا أن يكون
الفقير مديونا فيعتبر هذا التفصيل في مائتين تفضل بعد دينه، فإن كان بغير أمره جاز الكل
مطلقا لأنه في الأول هو وكيل عن الفقير فما اجتمع عنده يملكه، وفي الثاني وكيل الدافعين
فما اجتمع عنده ملكهم. كذا في فتح القدير. وللغني أن يشتري الصدقة الواجبة من الفقير
ويأكلها، وكذا لو وهبها له لما علم أن تبدل الملك كتبدل العين، فلو أباحها له ولم يملكها منه
ذكر أبو المعين النسفي أنه لا يحل تناوله للغني. وقال خواهر زاده: يحل. كذا في الفوائد
بالتاجية. والذي يظهر ترجيح الأول لأن الإباحة لو كانت كافية لما قال عليه الصلاة والسلام
في واقعة بريرة هو لها صدقة ولنا هدية كما لا يخفى إلا أن يقال بالفرق بين الهاشمي
والغني، وإن قيل به فصحيح لما تقدم أن الشبهة في حق الهاشمي كالحقيقة بدليل منع

427
الهاشمي من العمالة بخلاف الغني. ودخل تحت النصاب النامي المذكور أولا الخمس من
الإبل السائمة، فإن ملكها أو نصابا من السوائم من أي مال كان لا يجوز دفع الزكاة له،
سواء كان يساوي مائتي درهم أو لا، وقد صرح به شراح الهداية عند قوله من أي مال
كان. وفي معراج الدراية: قوله ويجوز دفعها إلى من يملك أقل من ذلك ولكنه لا يطيب
للآخذ لأنه لا يلزم من جواز الدفع جواز الاخذ كظن الغني فقيرا اه‍. وهو غير صحيح لأن
المصرح به في غاية البيان وغيرها أنه يجوز أخذها لمن ملك أقل من النصاب كما يجوز دفعها،
نعم الأولى عدم الاخذ لمن له سداد من عيش كما صرح به في البدائع.
قوله (وعبده وطفله) أي لا يجوز دفع الزكاة وما ألحق بها لعبد الغني وولده الصغير لأن
الملك في العبد يقع لمولاه وهو ليس بمصرف. كذا في الكافي. فأفاد أن المراد بالعبد غير

428
المديون المستغرق لما في يده ورقبته، أما هو فيجوز دفعها له لعدم ملك المولى إكسابه في هذه
الحالة عند الإمام لما عرف خلافا لهما. وأطلق العبد فشمل القن والمدبر وأم الولد والزمن
الذي ليس في عيال مولاه ولم يجد شيئا أو كان مولاه غائبا خلافا لما روي عن أبي يوسف في
الأخير واختاره في الذخيرة لأنه لا ينفي وقوع الملك لمولاه بهذا العارض. وقد يجاب بأنه عند
غيبة مولاه الغني وعدم قدرته على الكسب لا ينزل عن حال ابن السبيل. كذا في فتح
القدير. وقد يقال: إن الملك هنا يقع للمولى وهو ليس بمصرف، وأما ابن السبيل فمصرف
فالأولى الاطلاق كما هو المذهب، وقد تقدم أن الدفع إلى مكاتب الغني جائز، وإنما منع من
الدفع لطفل الغني لأنه يعد غنيا بغناء أبيه. كذا قالوا، وهو يفيد أن الدفع لولد الغنية جائز إذ
لا يعد غنيا بغناء أمه ولو لم يكن له أب، وقد صرح به في القنية. وأطلق الطفل فشمل الذكر
والأنثى ومن هو في عيال الأب أو لا على الصحيح لوجود العلة، وقيد بالطفل لأن الدفع لولد
الغني إذا كان كبيرا جائز مطلقا، وقيد بعبده وطفله لأن الدفع إلى أب الغني وزوجته جائز
سواء فرض لها نفقة أو لا.
قوله (وبنى هاشم ومواليهم) أي لا يجوز الدفع لهم لحديث البخاري نحن أهل بيت
لا تحل لنا الصدقة (1) ولحديث أبي داود مولى القوم من أنفسهم وإنا لا تحل لنا الصدقة. (2)
أطلق في بني هاشم فشمل من كان ناصرا للنبي صلى الله عليه وسلم ومن لم يكن ناصرا له منهم كولد أبي
لهب، فيدخل من أسلم منهم في حرمة الصدقة لكونه هاشميا فإن تحريم الصدقة حكم
يختص بالقرابة من بني هاشم لا بالنصرة. كذا في غاية البيان. وقيده المصنف في الكافي تبعا

429
لما في الهداية وشروحها بآل علي وعباس وجعفر وعقيل وحرث بن عبد المطلب، ومشى
عليه الشارح الزيلعي والمحقق في فتح القدير وصرحا بإخراج أبي لهب وأولاده من هذا
الحكم لأن حرمة الصدقة لبني هاشم كرامة من الله تعالى لهم ولذريتهم حيث نصروه عليه
الصلاة والسلام في جاهليتهم وإسلامهم، وأبو لهب كان حريصا على أذى النبي صلى الله عليه وسلم فلم
يستحقها بنوه، واختاره المصنف في المستصفى وروي حديثا لا قرابة بيني وبين أبي لهب.
ونص في البدائع على أن الكرخي قيد بني هاشم بالخمسة من بني هاشم فكان المذهب
التقييد لأن الإمام الكرخي ممن هو أعلم بمذهب أصحابنا. وقيد ببني هاشم لأن بني
المطلب تحل لهم الصدقة وليسوا كبني هاشم وإن استووا في القرابة لأن عبد مناف جد
النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ولعبد مناف
أربعة بنين: هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس. والخمسة المذكورون من ببني هاشم لأن
العباس والحرث عمان للنبي صلى الله عليه وسلم، وجعفر وعقيل أخوان لعلي بن أبي طالب وهو عم
النبي صلى الله عليه وسلم، وكان لأبي طالب أربعة من الأولاد: ولد له طالب فمات ولم يعقب وكان بينه
وبين عقيل عشر سنين، وبين عقيل وجعفر عشر سنين، وبين جعفر وعلي عشر سنين،
وأمهم فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. كذا في غاية البيان وجمهرة النسب.
وقال المصنف في الكافي: وهذا في الواجبات كالزكاة والنذر والعشر والكفارة، أما
التطوع والوقف فيجوز الصرف إليهم لأن المؤدي في الواجب يطهر نفسه بإسقاط الفرض
فيتدنس المؤدي كالماء المستعمل، وفي النفل تبرع بما ليس عليه فلا يتدنس به المؤدى كمن
تبرد بالماء اه‍. وإنما لم تلحق صدقة التطوع لهم بالوضوء على الوضوء فيتدنس به المؤدى
لأن الأصل يقتضي عدمه. وإنما قلتا به في الماء للنص الوارد الوضوء على الوضوء نور على نور إذ
ازدياد النور يقتضي زوال الظلمة بقدره لا محالة. كذا في النهاية مختصرا. وفيها عن
العتابي: إن النفل جائز لهم بالاجماع كالنفل للغني. وتبعه صاحب المعراج واختاره في
المحيط مقتصرا عليه وعزاه إلى النوادر، ومشى عليه الأقطع في شرح القدوري، واختاره
في غاية البيان ولم ينقل غيره شارح المجمع فكان هو المذهب.
وأثبت الشارح الزيلعي الخلاف في التطوع على وجه يشعر بترجيح الحرمة، وقواه
المحقق في فتح القدير من جهة الدليل لاطلاقه. وقد سوى المصنف في الكافي بين التطوع
والوقف كما سمعت، وهكذا في المحيط. وفي شرح الطحاوي وغيره: إن الحل مقيد بما إذا
سماهم، أما إذا لم يسمهم فلا، لأنها صدقة واجبة. ورده المحقق في فتح القدير بأن صدقة
الوقف كالنفل لأنه متبرع بتصدقه بالوقف إذ لا إيقاف واجب، وكان منشأ الغلط وجوب
دفعها على الناظر وبذلك لم تصر صدقة واجبة على المالك، بل غاية الأمر أنه وجوب اتباع
شرط الواقف على الناظر اه‍. وفيه نظر إذ الايقاف قد يكون واجبا كما إذا كان منذورا كان

430
قال إن قدم أبي فعلي أن أقف هذه الدار. صرح المحقق نفسه في كتاب الوقف بذلك وأورد
سؤالا: كيف يلزم النذر به وليس من جنسه واجب؟ وأجاب بأنه يجب على الإمام أن يقف
مسجدا من بيت المال للمسلمين وإن لم يكن في بيت المال شئ فعلى المسلمين. وفي الفتاوى
الظهيرية من كتاب الزكاة من فصل النذر: رجل سقط منه شئ فقال إن وجدته فلله علي أن
أقف أرضي هذه على أبناء السبيل فوجده كان عليه الوفاء به، فإن وقف أرضه على من يجوز
له صرف الزكاة إليه من الأقارب والأجانب جاز اه‍. وأطلق الحكم في بني هاشم ولك يقيده
بزمان ولا يستحض للإشارة إلى رد رواية أبي عصمة عن الإمام أنه يجوز الدفع إلى بني هاشم
في زمانه لأن عوضها وهو خمس الخمس لم يصل إليهم لاهمال الناس أمر الغنائم وإيصالها
إلى مستحقها، وإذا لم يصل إليهم العوض عادوا إلى المعوض، وللإشارة إلى رد الرواية بأن
الهاشمي يجوز له أن يدفع زكاته إلى هاشمي مثله لأن ظاهر الرواية المنع مطلقا. وقيد بمولى
الهاشمي لأن مولى الغني يجوز الدفع إليه لأن الغني أهل لها لكن الغني مانع ولا مانع في
حق المولى. والحديث ليس على عمومه أعني مولى القوم من أنفسهم ولهذا قال الأسبيجابي
في تفسيره، يعني في حل الصدقة وحرمتها وإلا فمولى القوم ليس منهم من جميع الوجوه،
ألا ترى أنه ليس بكفؤ لهم وأن مولى المسلم إذا كان كافرا تؤخذ منه الجزية، وإن كان مولى
التغلبي تؤخذ منه الجزية لا المضاعفة اه‍. وفي آخر مبسوط الإمام السرخسي من كتاب
الكسب: وتكلم الناس في حق سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أتحل لهم الصدقة أم
لا؟ فمنهم من يقول ما كان يحل أخذ الصدقة لسائر الأنبياء أيضا ولكن كانت تحل
لقرابتهم ثم أن الله تعالى أكرم نبينا ثان حرم على قرابته إظهارا ولكن كانت تحل
لقراباتهم، ثم إن الله تعالى أكرم نبينا بأن حرم الصدقة على قرابته إظهارا لفضيلته، وقيل بل
كانت الصدقة تحل لسائر الأنبياء وهذه خصوصية لنبينا عليه أفضل الصلاة والسلام.
قوله (ولو دفع بتحر فبان أنه غني أو هاشمي أو كافر أو أبوه أو ابنه صح ولو عبده أو
مكاتبه لا) لحديث البخاري لك ما نويت يا زيد ولك ما أخذت يا معن حين دفعها زيد إلى
ولده معن. وليس المراد بالتحري الاجتهاد بل غلبة الظن بأنه مصرف بعد الشك في كونه

431
مصرفا. وإنما قلنا هذا لأنه لو دفع باجتهاد بدون ظن أو بغير اجتهاد أصلا أو بظن أنه بعد
الشك ليس بمصرف ثم تبين المانع فإنه لا يجزئه، وكذا لو لم يتبين شئ فهو على الفساد حتى
يتبين أنه مصرف. ولو دفع إلى من يظن أنه ليس بمصرف ثم تبين أنه مصرف يجزئه، والفرق
بين هذا وبين من صلى باجتهاد إلى جهة يظن أنها ليست القبلة حيث لا تجزئه الصلاة وإن
ظهر أنها القبلة بل قال الإمام يخشى عليه الكفر، أن الصلاة الفرض لغير القبلة معصية
والمعصية لا تنقلب طاعة، ودفع المال إلى غير الفقير قربة يثاب عليها. وقيدنا بكونه بعد
الشك لأنه لو دفعهما ولم يخطر بباله أنه مصرف أم لا فهو على الجواز إلا إذا تبين أنه غير
مصرف لأن الظاهر أنه صرف الصدقة إلى محلها حيث نوى الزكاة عند الدفع، والظاهر لا
يبطل إلا باليقين حتى لو شك فيه بعد ذلك ولم يظهر له شئ لا تلزمه الإعادة لأن الظاهر
الأول لا يبطل بالشك، وليس له أن يسترد ما دفعه إذا تبين أنه ليس بمصرف ووقع تطوعا.
كذا في البدائع. واختلف المشايخ في كونه يطيب للفقير وعلى القول بأنه لا يطيب، قيل
يتصدق به لخبثه، وقيل يرده على الدافع. كذا في معراج الدراية. وأطلق الكافر فشمل الذمي
والحربي وقد صرح بهما في المبتغى بالمعجمة. وفي المحيط: إذا ظهر أنه حربي فيه روايتان
والفرق على إحداهما أنه لم توجد صفة القربة أصلا، والحق المنع فقد قال في غاية البيان معزيا
إلى التحفة: وأجمعوا أنه إذا ظهر أنه حربي ولو مستأمنا لا يجوز، وكذا في معراج الدراية

432
معللا بأن صلته لا تكون برا شرعا ولذا لم يجز التطوع إليه فلم يقع قربة. ولا يخفى أن أحد
الزوجين كالأصول والفروع وأن المدبر وأم الولد داخلان تحت العبد، والمستسعى كالمكاتب
عنده، وعندهما حر مديون. كذا في البدائع. وقيد بالزكاة لأنه لو أوصى بثلث ماله للفقراء
فأعطاهم الوصي ثم تبين أنهم أغنياء لم يجز وهو ضامن بالاتفاق لأن الزكاة حق الله تعالى
فاعتبر فيها الوسع، والوصية حق العباد فاعتبر فيها الحقيقة، ألا ترى أن النائم إذا أتلف شيئا
يضمن ولا يأثم. كذا في معراج الدراية. وقياسه أن الوصي بشراء دار ليوقفها إذا اشترى
ونقد الثمن ثم ظهر أنها وقف الغير وضاع الثمن أن يضمن الوصي وهي واقعة في زماننا،
ولأنه لو اختلط أواني طاهرة بنجسة أو ثياب كذلك وكانت الغلبة للطاهر فتحرى فيها ثم تبين
خطؤه يعيد الصلاة، أو قضى القاضي باجتهاده ثم ظهر نص بخلافه بطل قضاؤه وهو الذي
قاس عليه أبو يوسف مسألة الكتاب، والفرق لهما إن العلم بالثوب الطاهر والماء الطاهر
والنص ممكن فلم يأت بالمأمور به. قيدنا بكون الغلبة للطاهر لأن الغلبة لو كانت للنجس أو
استويا لا يتحرى بل يتيمم. كذا في المعراج.
وفي النهاية جعل هذا الحكم مختصا بالأواني، أما الثياب النجسة إذا اختلطت بالطاهرة
فإنه يتحرى مطلقا ولو كانت النجسة أكثر أو مساوية، وتبعه في فتح القدير، وقد أخذاه من
مبسوط السرخسي من كتاب التحري. وفرق بينهما بأن الضرورة لا تتحقق في الأواني لأن

433
التراب طهور له بدل عند العجز عن الماء الطاهر فلا يضطر إلى التحري للوضوء عند غلبة
النجاسة لما أمكنه إقامة الفرض بالبدل حتى لو تحققت الضرورة للشرب عند العطش وعدم
الماء الطاهر يجوز التحري للشرب في مسألة الثياب الضرورة مست للتحري لأنه ليس للستر
بدل يتوصل به إلى إقامة الفرض، يوضحه أن في مسألة الأواني لو كانت كلها نجسة لا
يؤمر بالتوضؤ بها، ولو فعل لا تجوز صلاته، فكذا إذا كانت الغلبة له. وفي مسألة الثياب
وإن كانت الكل نجسة يؤمر بالصلاة في بعضها، فكذا إذا كانت الغلبة لها. ثم اعلم أن
التحري يجري في مسائل منها الزكاة كما قدمناه، ومنها القبلة وقد تقدم في الصلاة، ومنها
مسائل المساليخ المختلطة بالميتة ففي حالة الاضطرار للاكل يجوز التحري في الفصول كلها،
وفي حالة الاختيار لا يجوز التحري إلا إذا كان الحلال غالبا. ومنها مسألة الزيت إذا
اختلط بودك الميتة فإن كان المحرم غالبا أو مساو فإنه لا يجوز الانتفاع به أصلا للاكل ولا
غيره، وإن كان الحلال غالبا ففي حالة الاضطرار يجوز الاكل والانتفاع به، وفي حالة
الاختيار يحرم الاكل وتناوله ويجوز الانتفاع به من حيث الاستصباح ودبغ الجلود. ومنها
مسألة الموتى إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، فإن كانت الغلبة لموتي المسلمين فإنه
يصلي عليهم ويدفنون في مقابر المسلمين، وإن غلب موتى الكفار أو تساويا لا يصلى على
أحد منهم إلا من يعلم أنه مسلم بالعلامة، وفي ظاهر الرواية يدفنون في مقابر المشركين.
ومنها مسألتا الأواني المختلطة والثياب المختلطة وقد تقدمتا، وأما التحري في الفروج فلا
يجوز بحال حتى لو أعتق واحدة من جواريه بعينها ثم نسيها لم يسعه التحري للوطئ ولا
للبيع، ومن أراد معرفة الدلائل والفرق بين المسائل وزيادة التعريفات في مسائل التحري
فعليه بكتاب التحري من المبسوط أول الجزء الرابع. واعلم أن التحري في اللغة الطلب
والابتغاء وهو والتوخي سواء إلا أن لفظ التوخي يستعمل في المعاملات والتحري في
العبادات. وفي الشريعة: طلب الشئ بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته، وهو
غير الشك والظن، فالشك أن يستوي طرفا العلم والجهل والظن ترجح أحدهما من غير
دليل، والتحري ترجح أحدهما بغالب الرأي وهو دليل يتوصل به إلى طرف العلم وإن كان
لا يتوصل به ما يوجب حقيقة العلم. ويلحق بالتحري في مسألة الزكاة ما لو كان
المدفوع إليه جالسا في صف الفقراء يصنع صنيعهم أو كان عليه زي الفقراء أو سأله
فأعطاه، فهذه الأسباب بمنزلة التحري. كذا في المبسوط أيضا يعني أنه لو ظهر أنه غني لا
إعادة عليه.

434
قوله (وكره الاغناء وندب عن السؤال) أي كره أن يدفع إلى فقير ما يصير به غنيا
وندب الاغناء عن سؤال الناس. وإنما صح الاغناء لأن الغني حكم الأداء فيتعقبه لكن يكره
لقرب الغني منه كمن صلى وبقربه نجاسة. كذا في الهداية. وفي فتح القدير: وقوله
فيتعقبه صريح في تعقب حكم العلة إياها في الخارج ولم يتعقبه. وتعقبه في النهاية والمعراج
بأنه ليس بمستقيم على الأصح من مذهبنا من أن حكم العلة الحقيقة لا يجوز تأخره عنها بل
هما كالاستطاعة مع الفعل يقترنان. وأجابا بأن معنى قوله أن الغنى حكم الأداء أي حكمه
حكم الأداء أي حكمه حكم الأداء لأن الأداء علة الملك والملك علة الغني فكان الغنى مضافا إلى الأداء بواسطة
الملك كالاعتاق في شراء القريب فكان للأداء شبهة السبب الحقيقي، والسبب الحقيقي مقدم
على الحكم حقيقة، وما يشبه السبب من العلل له شبهة التقدم اه‍. وإنما عممنا في المدفوع
ولم نقيده بمائتي درهم لأنه لو كان له مائة وتسعة وتسعون درهما فتصدق عليه بدرهمين قال
أبو يوسف: يأخذوا واحدا ويرد واحدا. كذا في الفتاوى الظهيرية. وإنما قيدنا بقولنا يصير
غنيا لأنه لو دفع مائتي درهم فأكثر لمديون لا يفضل له بعد دينه نصاب لا يكره، وكذا لو
كان معيلا إذا وزع المأخوذ على عياله لم يصب كلا منهم نصاب. وأطلق في استحباب الاغناء
عن السؤال ولم يقيده بأداء قوت يومه كما وقع في غاية البيان لأن الأوجه النظر إلى ما يقتضيه
الأحوال في كل فقير من عيال وحاجة أخرى كدين وثوب وغير ذلك، والحديث وارد في
صدقة الفطر. كذا في فتح القدير. وقال فخر الاسلام: من أراد أن يتصدق بدرهم فاشترى
به فلوسا ففرقها فقد قصر أمر الصدقة لأن الجمع كان أولى من التفريق قوله (وكره نقلها
إلى بلد آخر لغير قريب وأحوج) أما الصحة فلاطلاق قوله تعالى * (إنما الصدقات للفقراء)

435
* (التوبة: 60) من غير قيد بالمكان، وأما حديث معاذ المشهور خذها من أغنيائهم وردها في
فقرائهم (1) فلا ينفي الصحة لأن الضمير راجع إلى فقراء المسلمين لا إلى أهل اليمن، أو لأنه
ورد لبيان أنه عليه الصلاة والسلام لا طمع له في الصدقات، ولأنه صبح عنه أنه كان يقول
لأهل اليمن ائتوني بخميس أو لبيس - وهما الصغار من الثياب - آخذه منكم في الصدقة
مكان الشعير والذرة أهون عليكم وخير لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن كان في زمنه فهو
تقرير، وإن كان في زمن أبي بكر فذاك إجماع لسكوتهم عنه، وعدم الكراهة في نقلها للقريب
للجمع بين أجري الصدقة والصلة وللأحوج لأن المقصود منها سد خلة المحتاج، فمن كان
أحوج كان أولى. وليس عدم الكراهة منحصرا في هاتين لأنه لو نقلها إلى فقير في بلد آخر
أورع وأصلح كما فعل معاذ رضي الله عنه لا يكره، ولهذا قيل: التصدق على العالم الفقير
أفضل. كذا في المعراج. ولا يكره نقلها من دار الحرب إلى فقراء دار الاسلام ولهذا ذكر في
نوادر المبسوط: رجل مكث في دار الحرب سنين فعليه زكاة ماله الذي خلف ههنا وما
استفاده في دار الحرب لكن تصرف زكاة الكل إلى فقراء المسلمين الذين في دار الاسلام لأن
فقراءهم أفضل من فقراء دار الحرب اه‍. وكذا ألا يكره نقل الزكاة المعجلة مطلقا ولهذا قال
في الخلاصة: لا يكره أن ينقل زكاة ماله المعجلة قبل الحول لفقير غير أحوج ومديون اه‍.
فاستثنى على هذا ستة. هذا والمعتبر في الزكاة مكان المال في الروايات كلها، وفي صدقة
الفطر مكان الرأس المخرج عنه في الصحيح مراعاة لايجاب الحكم في محل وجود سببه. كذا
في فتح القدير. وصحح في المحيط أنه في صدقة الفطر يؤدي حيث هو ولا يعتبر مكان
الرأس من العبد والولد لأن الواجب في ذمة المولى حتى لو هلك العبد لم يسقط عنه فاختلف
التصحيح كما ترى فوجب الفحص عن ظاهر الرواية والرجوع إليها. والمنقول في النهاية
معزيا إلى المبسوط أن العبرة لمكان من تجب عليه لا بمكان المخرج عنه موافقا لتصحيح المحيط
فكان هو المذهب ولهذا اختاره قاضيخان في فتاواه مقتصرا عليه، وحكى الخلاف في البدائع
فعن محمد يؤدي عن عبيده حيث هو وهو الأصح. وعند أبي يوسف حيث هم، وحكى
القاضي في شرح مختصر الطحاوي أن أبا حنيفة مع أبي يوسف.
قوله (ولا يسأل من له قوت يومه) أي لا يحل سؤال قوت يومه لمن له قوت يومه لحديث

436
الطحاوي من سأل الناس عن ظهر غنى فإنه يستكثر من جمر جهنم. قلت: يا رسول الله وما ظهر
غنى؟ قال: أن يعلم أن عند أهله ما يغديهم وما يعشيهم (2) قيدنا بسؤال القوت لأن سؤال
الكسوة المحتاج إليها لا يكره وقيدنا بالسؤال لأن الاخذ لمن ملك أقل من نصاب جائز بلا سؤال
كما قدمناه وقيد بمن له القوت لأن السؤال لمن لا قوت يومه له جائز ولا يرد عليه القوى
المكتسب فإنه لا يحل سؤال القوت له إذا لم يكن له قوت يومه لأنه قادر بصحته واكتسابه على قوت
اليوم فكأنه مالك له. واستثنى من ذلك في غاية البيان الغازي فإن طلب الصدقة جائز له وإن كان
قويا مكتسبا لاشتغاله بالجهاد عن الكسب اه‍. وينبغي أن يلحق به طالب العلم لاشتغاله عن
الكسب بالعلم ولهذا قالوا: إن نفقته على أبيه وإن كان صحيحا مكتسبا كما لو كان زمنا. وإذا
حرم السؤال عليه إذا ملك قوت يومه فهل يحرم الاعطاء له إذا علم حاله؟ قال الشيخ أكمل الدين
في شرح المشارق: وأما الدفع إلى مثل ذلك السائل عالما بحاله فحكمه في القياس أن يأثم بذلك
لأنه إعانة على الحرام لكنه يجعل هبة وبالهبة للغني أو لمن لا يكون محتاجا إليه لا يكون آثما اه‍.
ويلزم عليه أن الصدقة على من ملك قوت يومه فقط تكون هبة حتى يثبت فيها أحكام الهبة من
صحة الرجوع فإنهم قالوا: الصدقة على الغني هبة فله الرجوع بخلافها على الفقير وهو بعيد. فإن
الظاهر أن مرادهم بالغني من ملك نصابا لكن يمكن دفع القياس المذكور بأن الدفع ليس إعانة على
الحرام لأن الحرمة في الابتداء إنما هي بالسؤال وهو متقدم على الدفع ولا يكون الدفع إعانة إلا لو
كان الاخذ هو المحرم فقط فليتأمل والله تعالى أعلم.
باب صدقة الفطر
لما كان لها مناسبة بالزكاة لكونها عبادة مالية، وبالصوم لأن شرط وجوبها الفطر بعد
الصوم، ذكرها بينهما. والصدقة العطية التي يراد بها المثوبة عنده تعالى، وسميت بها لأنها
تظهر صدق رغبة الرجل في تلك المثوبة كالصداق يظهر به صدق رغبة الزوج في المرأة. والفطر

437
لفظ اسلامي اصطلح عليه الفقهاء كأنه من الفطرة بمعنى الخلقة، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها
في السنة التي فرض فيها رمضان قبل أن تفرض زكاة المال، وكان يخطب قبل الفطر بيومين يأمر
بإخراجها. كذا في شرح النقاية. والكلام هاهنا في كيفيتها وكميتها وشرطها وحكمها وسببها
وركنها ووقت وجوبها ووقت الاستحباب. فالأول أنها واجبة كما في الكتاب وأراد به الوجوب
المصطلح عليه عندنا وإن كان ورد في السنة لفظ: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر لأن معناه
أمر أمر إيجاب والامر الثابت بظني إنما يفيد الوجوب. والاجماع المنعقد على وجوبها ليس قطعيا
ليكون الثابت الفرض لأنه لم ينقل تواترا ولهذا قالوا: أمن أنكر وجوبها لا يكفر. واختلفوا هل
هي على الفور أو التراخي؟ فقيل تجب وجوبا مضيقا في يوم الفطر عينا، وقيل تجب موسعا في
العمر كالزكاة، وصححه في البدائع معللا بأن الامر بأدائها مطلق عن الوقت فلا تضييق إلا في

438
آخر العمر. ورده المحقق في تحرير الأصول بأنه من قبيل المقيد بالوقت لا المطلق لقوله عليه الصلاة
والسلام أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة فبعده قضاء، فالراجح القول الأول. وأما بيان كميتها
وشرطها وسببها ووقتها فسيأتي مفصلا. وأما ركنها فهو نفس الأداء إلى المصرف فهي التمليك
كالزكاة فلا تتأدى بطعام الإباحة، وأما حكمها فهو الخروج عن عهدة الواجب في الدنيا ووصول
الثواب في الآخرة، والإضافة فيها من إضافة الشئ إلى شرطه وهو مجاز لأن الحقيقة إضافة الحكم
إلى سببه وهو الرأس بدليل التعدد بتعدد الرأس. وجعلوها في الأصول عبادة فيها معنى المؤنة لأنها
وجبت بسبب الغير كما تجب مؤنته، ولذا لم يشترط لها كمال الأهلية فوجبت في مال الصبي
والمجنون خلافا لمحمد، بخلاف العشر فإنه مؤنة فيها معنى العبادة لأن المؤنة ما به بقاء الشئ
وبقاء الأرض في أيدينا به والعبادة لتعلقه بالنماء، وإذا كانت الأرض الأصل كانت المؤنة غالبة
وللعبادة لا يبتدأ الكافر به ولا يبقى عليه خلافا لمحمد كما تقدم.
قوله: (تجب على حر مسلم ذي نصاب فضل عن مسكنه وثيابه وأثاثه وفرسه وسلاحه
وعبيده) لأن العبد لا يملك وإن ملك فكيف يملك؟ ورواية علي في بعض الروايات بمعنى
عن والكافر ليس من أهل العبادة فلا تجب. ولو كان له عبد مسلم أو ولد مسلم وهي
وجبت لاغناء الفقير للحديث أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة والاغناء من غير الغني لا
يكون. والغنى الشرعي مقدر بالنصاب، وشرط أن يكون فاضلا عن حوائجه الأصلية لأن
المستحق بالحاجة كالمعدوم كالماء المستحق للعطش فخرج النصاب المشغول بالدين. ولما كان
حوائج عياله الأصلية كحوائجه لم يذكرها فإنه لا بد أن يكون النصاب فاضلا عن حوائجه
وحوائج عياله كما صرح به في الفتاوي الظهيرية، ولم يقيد النصاب بالنمو كما في الزكاة لما
قدمناه، ولأنها وجبت بقدرة ممكنة لا ميسرة، ولهذا لو هلك المال بعد الوجوب لا يسقط
بخلاف الزكاة كما عرف في الأصول. ولم يقيد بالبلوغ والعقل لما قدمناه فيجب على الولي أو

439
الوصي، إخراجها من مال الصبي والجنون حتى لو لم يخرجها وجب الأداء بعد البلوغ. كذا
في البدائع. وكما يخرج الولي من ماله عنه يخرج عن عبيده للخدمة كذا في الفتاوي الظهيرية.
وأشار بعد النصاب من الشروط إلى أنه ليس سببا فأفاد أنه لو عجل صدقة الفطر قبل ملك
النصاب ثم ملك صح لأن السبب هو الرأس - كذا في البزازية - إلا إذا كان الأب مجنونا
فقيرا فإن صدقة فطره واجبة على ابنه. كذا في الاختيار. وكذا الولد الكبير إذا كان مجنونا فإن
صدقة فطره على أبيه، سواء بلغ مجنونا أو جن بعد بلوغه خلافا لما عن محمد في الثاني.
وخرج الأقارب ولو في عياله، وإذا أدى عن الزوجة والولد الكبير بغير اذنهما جاز، وظاهر
الظهيرية أنه لو أدى عمن في عياله بغير أمره جاز مطلقا بغير تقييد بالزوجة والولد.
قوله: (عن نفسه وطفله الفقير وعبده لخدمته ومدبره وأم ولده لا عن زوجته وولده
الكبير ومكاتبه أو عبده أو عبيد لهما) شروع في بيان السبب وهو رأسه وما كان في معناه ممن
يمونه ويلي عليه ولاية كاملة مطلقة للحديث أدوا عمن تمونون وما بعد عن يكون سببا لما
قبلها. وزيدت الولاية للاجماع على أنه لو مات صغيرا أجنبيا لله تعالى لم يجب أن يخرج عنه
لعدم الولاية، ولان الأئمة الثلاثة قالوا بوجوبها عن الأبوين المعسرين، وعن الولد الكبير في
أحد قولي الشافعي، ولا ولاية عليهم، فزيادة الولاية لم يدل عليها نص ولم يقع عليها إجماع
. كذا قاله بعض المتأخرين. ويمكن أن يقال: إن نفقة الفقير واجبة على الإمام في بيت المال
ولا تجب صدقة فطره إجماعا، وليس ذلك إلا لعدم الولاية وفيه بحث، ولان المراد أدوا على
من يلزمكم مؤنته كما صرح به المحقق نفسه في تقرير عدم لزومها عن العبد المكاتب
والمستسعي والمشترك وفيه بحث، لأن المراد أدوا عمن تلزمكم مؤنته كولده الصغير أو العبيد
فخرج الصغير الأجنبي إذ أمانه لعدم الوجوب لا لعدم الولاية. كذا في فتح القدير.
وخرجت الزوجة والولد الكبير لعدم الولاية، وكذا الأصول والأقارب، وخرج العبد المشترك
أو العبيد لعدم كمال الولاية والمؤنة، وخرج ولد الولد فإن صدقة فطره لا تجب على جده عند

440
عدم أبيه أو فقره على ظاهر الرواية لعدم الولاية المطلقة فإن ولايته ناقصة لانتقالها إليه من
الأب فصارت كولاية الوصي، وتعقبه في فتح القدير بالفرق بين الجد والوصي لوجوب
النفقة على الجد دون الوصي فلم يبق إلا مجرد انتقال الولاية، ولا أثر له بالفرق بين الجد
والوصي كمشتري العبد، ولا مخلص إلا بترجيح رواية الحسن أن على الجد صدقة فطرهم،
وهذه مسائل يخالف فيها الجد الأب في ظاهر الرواية. ولا يخالف في رواية الحسن هذه
والتبعية في الاسلام وجر الولاء والوصية لقرابة فلان ا ه‍. وقد يجاب عنه بأن انتقال الولاية
له أثر في عدم الوجوب للقصور لأنها لا تثبت إلا بشرط عدم الأب، ولا نسلم أن ولاية
المشتري انتقلت له من البائع بل انقطعت ولاية البائع بالبيع وثبت للمشتري ولاية مطلقة غير
منتقلة بحكم الشرع له بذلك كأنه ملكه من الابتداء. واختار رواية الحسن في الاختيار.
وأطلق الطفل فشمل الذكر والأنثى للعلة المذكورة وهو وجوب نفقته عليه وثبوت الولاية
الكاملة عليه له، فاستفيد منه أن البنت الصغيرة إذا زوجت وسلمت إلى الزوج ثم جاء يوم
الفطر لا يجب على الأب صدقة فطرها لعدم المؤنة عليه لها كما صرح به في الخلاصة. وشمل
الولد بين الأبوين فإن على كل واحد منهما صدقة تامة. كذا في الفتاوي الظهيرية. وقيد
الطفل بالفقر لأن الطفل الغني بملك نصاب تجب صدقة فطره في ماله كما قدمناه كنفقته،
وقيد العبد بكونه للخدمة لأنه لو كان للتجارة لا تجب صدقة فطره لأنه يؤدي إلى الثني وهو
تعدد الوجوب المالي في مال واحد، فلذا لم تجب عن عبيد عبده، ولو كان غير مديون لكونهم
للتجارة. كذا في النهاية. وفي القنية: له عبد للتجارة لا يساوي نصابا وليس له مال الزكاة
سواه لا تجب صدقة فطرة العبد وإن لم يؤد إلى الثني، لأن سبب وجوب الزكاة فيه موجود

441
والمعتبر سبب الحكم لا الحكم ا ه‍. وأطلقه فشمل المديون والمستأجر والمرهون إذا كان عنده
وفاء بالدين، والعبد الجاني عمدا كان أو خطأ، والعبد المنذور بالتصدق به، والعبد المعلق
عتقه بمجئ يوم الفطر، والعبد الموصي برقبته لانسان وبخدمته لآخر فإنها على الموصى له
بالرقبة بخلاف النفقة فإنها على الموصى له بالخدمة. كذا في الفتاوي الظهيرية. وأشار بقوله
عبده لخدمته إلى أنه لا يخرج عن عبده الآبق ولا عن المغصوب المجحود إلا بعد عوده
فيلزمه لما مضي ولا عن عبده المأسور لأنه خارج عن يده وتصرفه فأشبه المكاتب، ولا عن
خادمه بإجارة أو إعارة، ولا عن الحيوانات سوى الرقيق، ولا عن الحمل، وإلى أنه ليس في
رقيق الأخماس ورقيق القوام مثل زمزم، ورقيق الفئ والسبي ورقيق الغنيمة والأسرى قبل
القسمة صدقة إذ ليس لهم مالك معين. كذا في البدائع.
قوله: (ويتوقف لو مبيعا بخيار) أي يتوقف وجوب صدقة الفطر لو مر يوم الفطر
والمبيع فيه خيار فمن استقر الملك له فهو عليه لأن الملك والولاية موقوفان فكذا ما يبتني
عليهما. أطلق الخيار فشمل ما إذا كان الخيار للبائع أو للمشتري أو لهما، وقيد بوجوب
الصدقة لأن النفقة تجب على من كان الملك له وقت الوجوب لأنها لا تحتمل التوقف لأنها
تجب لحاجة المملوك للحال، فلو جعلناها موقوفة لمات المملوك جوعا فاعتبرنا الملك فيها
للحال ضرورة. كذا في الكافي. ولا يخفي أن الخيار إذا كان للمشتري فعند الإمام خرج
المبيع عن ملك البائع ولم يدخل في ملك المشتري، ومع ذلك فالنفقة واجبة على المشتري
إجماعا كما صرح به في الجوهرة شرح القدوري من خيار الشرط لم يعلله، ولعل وجهه أن
المشتري لما ملك التصرف فيه إجماعا كانت نفقته عليه بخلاف البائع لا يملك التصرف.
وأشار إلى أن وجوب زكاة مال التجارة متوقف أيضا بأن اشتراه للتجارة بشرط الخيار فتم
الحول في مدة الخيار، فعندنا يضم إلى من يصير له أن كان عنده نصاب فيزكيه مع نصابه وإلى
أنه لو لم يكن في البيع خيرا ولم يقبضه المشتري حتى مر يوم الفطر فالامر موقوف، فإن قبضه
المشتري فالفطرة عليه وإلا، فإن رده على البائع بخيار عيب أو رؤية بقضاء أو بغير قضاء فعلى
البائع لأنه عاد إليه قديم ملكه منتفعا به، وإلا بأن مات قبل قبضه فلا صدقة على واحد منهما
لقصور ملك المشتري وعوده إلى البائع غير منتفع به فكان كالآبق بل أشد. وفي الفتاوي

442
الظهيرية: وفي الموقوف إن أجاز المالك البيع بعد يوم الفطر فعلى المجيز والعبد المشتري شراء
فاسدا إذا مر عليه يوم الفطر في يد المشتري، فالصدقة على البائع إذا رده، وإن لم يرده ولكن
باعه المشتري أو أعتقه فالصدقة على المشتري والعبد المجهول مهرا إن كان بعينه تجب الصدقة
على المرأة قبضته أو لم تقبضه لأنها ملكته بنفس العقد، ولهذا جاز تصرفها قبل القبض، فإن
طلقها قبل الدخول بها ثم يوم الفطر إن لم يكن المهر مقبوضا فلا صدقة على أحد، وإن كان
مقبوضا فكذلك عند أبي حنيفة، وعندهما تجب عليها، وفي الأصل لا صدقة في عبد المهر
في يد الزوج ا ه‍. ما في الظهيرية بلفظه
. قوله: (نصف صاع من برا ودقيقه أو سويقه أو زبيب أو صاع تمر أو شعير وهو
ثمانية أرطال) بدل من الضمير في تجب أي تجب صدقة الفطر وهي نصف صاع إلى آخره
لحديث الصحيحين: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر والأنثى والحر والمملوك
صاعا من تمر أو صاعا من شعير. فعدل الناس به مدين من حنطة والكلام مع المخالفين في
المسألة طويل قد استوفاه المحقق في فتح القدير. وفي جعله دقيق البر وسويقه كالبر إشارة إلى
أن دقيق الشعير وسويقه كهو كما صرح به في الكافي وأفاد أنه لا اعتبار للقيمة في الدقيق
والسويق كأصلهما لأن المنصوص عليه لا تعتبر فيه القيمة بخلاف غيره حتى لو أدى نصف
صاع من تمر قيمته صاع من برأ وأكثر لا يجوز لكن صرح المصنف في الكافي بأن الأولى
اعتبار القدر والقيمة في الدقيق والسويق وإن نص على الدقيق في بعض الأخبار إلا أنه ليس
بمشهور، فالاحتياط فيما قلنا وهو أن يعطى نصف صاع دقيق حنطة أو صاع دقيق شعير
يساويان نصف صاع بر وصاع شعير لا أقل من نصف يساوي نصف صاع من بر أو أقل من
صاع يساوي صاع شعير، ولا نصف لا يساوي نصف صاع برأ وصاع لا يساوي صاع
شعير. كذا في فتح القدير. وقيد بالدقيق والسويق لأن الصحيح في الخبز أنه لا يجوز إلا
باعتبار القيمة لعدم ورود النص به فكان كالزكاة وكالذرة وغيرها من الحبوب التي لم يرد بها
النص، وكالأقط وجعله الزبيب كالبر رواية الجامع الصغير، وجعلاه كالتمر وهو رواية عن
أبي حنيفة وصححها أبو اليسر، ورجحها المحقق في فتح القدير من جهة الدليل وفي شرح
النقاية، والأولى أن يراعى في الزبيب القدر والقيمة. والضمير في قوله وهو عائد إلى
الصاع وتقديره بما ذكر مذهب أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: خمسة أرطال وثلث وبه
قال الأئمة الثلاثة، ومنهم من رفع الخلاف بينهم فإن أبا يوسف لما حرره وجده خمسة وثلثا
برطل أهل المدينة وهو أكبر من رطل أهل بغداد لأنه ثلاثون إستارا والبغدادي عشرون، وإذا
قابلت ثمانية بالبغدادي بخمسة وثلث بالمدني وجدتها سواء وهو الأشبه لأن محمدا لم يذكر في
المسألة خلاف أبي يوسف ولو كان لذكره على المعتاد وهو أعرف بمذهبه. ورده في الينابيع

443
بأن الصحيح أن الاختلاف بينهم ثابت بالحقيقة والأستار - بكسر الهمزة - أربعة مثاقيل
ونصف. كذا في شرح الوقاية. وفي تقديره الصاع بالأرطال دليل أنه يعتبر نصف صاع أو
صاع من حيث الوزن لا من حيث الكيل وهو مذهب أبي حنيفة وعن محمد يعتبر كيلا لأن
النص جاء بالصاع وهو اسم للمكيال حتى لو وزن أربعة أرطال فدفعها إلى الفقير لا يجزئه
لجواز كون الحنطة ثقيلة لا تبلغ نصف صاع وإن وزنت أربعة أرطال. كذا قالوا، لكن قولهم
في تقدير الصاع أنه يعتبر بما لا يختلف كيله ووزنه وهو بالعدس والماش فما وسع ثمانية
أرطال أو خمسة وثلثا من ذلك فهو الصاع كما صرح به في الخانية يقتضي رفع الخلاف
المذكور في تقدير الصاع كيلا ووزنا. كذا في فتح القدير. وفي الفتاوي الظهيرية: ولو أدى
منوين من الحنطة بالوزن لا يجوز عند أبي حنيفة إلا كيلا وهو قول محمد إلا أن يتيقن أنه يبلغ
نصف صاع. وقال أبو يوسف: يجوز ا ه‍. وهو مخالف لما نقل من الخلاف أولا. وفيها
أيضا: ويجوز نصف صاع من تمر ومثله من شعير ولا يجوز نصف صاع من التمر ومدمن
الحنطة، جوزه في الكفارة وذكر الإمام الزندوستي في نظمه: فإن أدى نصف صاع من
شعير ونصف صاع من تمر أو نصف صاع تمر ومنا واحدا من الحنطة أو نصف صاع شعير
وربع صاع حنطة جاز عندنا خلافا للشافعي فإن عنده لا يجوز إلا إذا كان الكل من جنس
واحد ا ه‍. وأطلق المصنف نصف الصاع والصاع ولم يقيده بالجيد لأنه لو أدى نصف صاع
ردئ جاز، وإن أدى عفينا أو به عيب أدى النقصان، وإن أدى قيمة الردئ أدى الفضل.
كذا في الفتاوي الظهيرية. ولم يتعرض المصنف لأفضلية العين أو القيمة فقيل بالأول، وقيل
بالثاني والفتوى عليه لأنه أدفع لحاجة الفقير. كذا في الظهيرية. واختار الأول في الخانية إذا
كانوا في موضع يشترون الأشياء بالحنطة كالدراهم.
(صبح يوم الفطر فمن مات قبله أو أسلم أو ولد بعده لا تجب) بيان لوقت
وجوب أدائها وهو منصوب على أنه ظرف ليجب أول الباب، وعند الشافعي بغروب
الشمس من اليوم الأخير من رمضان. ومبني الخلاف على أن قول ابن عمر في الحديث
السابق - فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر - المراد به الفطر المعتاد في سائر الشهر فيكون
الوجوب بالغروب أو الفطر الذي ليس بمعتاد فيكون الوجوب بطلوع الفجر. ورجحنا الثاني

444
لأنه لو كان الفطر المعتاد لسائر الشهر لوجب ثلاثون فطرة فكان المراد صدقة يوم الفطر ويدل
عليه الحديث صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون (1) أي وقت فطركم يوم تفطرون
كذا في البدائع. ولم يتعرض في الكتاب لوقت الاستحباب وصرح به في كافيه فقال:
ويستحب أن يخرج الناس الفطرة قبل الخروج إلى المصلي يعني بعد طلوع الفجر من يوم العيد
لحديث الحاكم كان يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرج صدفة الفطر قبل الصلاة وكان يقسمها
قبل أن ينصرف إلى المصلي ويقول: أغنوهم عن الطوف في هذا اليوم قوله: (وصح لو قدم
أو أخر) أي صح أداؤها إذا قدمه على يوم الفطر أو أخره، أما التقديم فلكونه بعد السبب إذ
هو الرأس، وأما الفطر فشرط الوجوب كما قدمناه ولهذا قالوا: لو قال لعبده إذ جاء يوم
الفطر فأنت حر فجاء يوم الفطر عتق العبد. ويجب على المولى صدقة فطرة قبل العتق بلا
فصل لأن المشروط متعقب عن الشرط في الوجود لا مقارن بخلاف العلة فإن المعلول
يقارنها، وكذا لو كان للتجارة يجب على المولى زكاة التجارة إذ تم الحول بانفجار الصبح من
يوم الفطر ونظيرهما ما لو قال لعبده إن بعتك فأنت حر حيث يصح البيع - كذا في النهاية -
فصار كتقديم الزكاة على الحول بعد ملك النصاب بمعنى أنه لا فارق لا أنه قياس فاندفع به
فما في فتح القدير من أن حكم الأصل على خلاف القياس فلا يقاس لكنه وجد فيه دليل وهو
حديث البخاري وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو بيومين. وأطلق في التقديم فشمل ما إذا
دخل رمضان وقبله. وصححه المصنف في الكافي وفي الهداية والتبيين وشروح الهداية. وفي
فتاوى قاضيخان: وقال خلف بن أيوب يجوز التعجيل إذا دخل رمضان. وهكذا ذكره الإمام
محمد بن الفضل وهو الصحيح. في فتاوي الظهيرية: والصحيح أنه يجوز تعجيلها إذ دخل
شهر رمضان وهو اختيار الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل وعليه الفتوى اه‍ فقد
اختلف التصحيح كما ترى لكن تأيد التقييد بدخول رمضان بأن الفتوى عليه فليكن العمل
عليه، وسبب هذا الاختلاف أن مسألة التعجيل على يوم الفطر لم تذكر في ظاهر الرواية كما
صرح به في البدائع لكن صحح هو أنه يجوز التعجيل مطلقا كما في الهداية، وأما التأخير
فلأنها قربة مالية فلا تسقط بعد الوجوب إلا بالأداء كالزكاة حتى لو مات ولده الصغير أو
مملوكه يوم الفطر لا يسقط عنه أو افتقر بعد ذلك فكذلك. وفي أي وقت أدى كان مؤديا لا
قاضيا كما في سائر الواجبات الموسعة. كذا في البدائع. وقد تقدم أن التحقيق أنه بعد اليوم

445
الأول لا مؤد لأنه من قبيل المقيد بالوقت بقوله صلى الله عليه وسلم أغنوهم في هذا اليوم عن المسألة
ومقتضاه أنه يأثم بتأخيره عن اليوم الأول على القول بأنه مقيد، وعلى أنه مطلق فلا اثم ولهذا
قال في الفتاوي الظهيرية: ولا يكره التأخير. ولم يتعرض في الكتاب لجواز تفريق صدقة
شخص على مساكين، وظاهر ما في التبيين وفتح القدير أن المذهب المنع وأن القائل بالجواز
إنما هو الكرخي. وصرح الولوالجي وقاضيخان وصاحب المحيط والبدائع بالجواز من غير
ذكر خلاف فكان هو المذهب كجواز تفريق الزكاة. وأما الحديث المأمور فيه بالاغناء فيفيد
الأولوية. وقد نقل في التبيين الجواز من غير ذكر خلاف في باب الظهار، وأما دفع صدقة
جماعة إلى مسكين واحد فلا خلاف في جوازه.
فروع: المرأة إذا أمرها زوجها بأداء صدقة الفطر فخلطت حنطته بحنطتها بغير إذن
الزوج ودفعت إلى الفقير جاز عنها لا عن الزوج عند أبي حنيفة خلافا لهما، وهي محمولة
على قولهما إذا أجاز الزوج. كذا في الفتاوي الظهيرية. وعلله في حيرة الفقهاء بأنها لما
خلطت بغير إذنه صارت مستهلكة لحصته لأن الخلط استهلاك عنده يقطع حق صاحبه عن
العين، وفي قولهما لا يقطع وتجوز عنه لهذه العلة. وفي البدائع: ولا يبعث الإمام على
صدقة الفطر ساعيا لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبعث. وذكر الزندوستي أن الأفضل صرف الزكاتين
يعني زكاة المال وصدقة الفطر إلى أحد هؤلاء السبعة الأول أخوته الفقراء وأخواته ثم إلى
أولاد إخوته وأخواته المسلمين ثم إلى أعمامه الفقراء ثم إلى أخواله وخالاته وسائر ذوي
أرحامه الفقراء ثم إلى جيرانه ثم إلى أهل مسكنه ثم إلى أهل مصره. وقال الشيخ الإمام أبو
حفص الكبير البخاري: لا تقبل صدقة الرجل وقرابته محاويج حتى يبدأ بهم فيسد حاجتهم
ثم أعطى في غير قرابته إن أحب. كذا في الفتاوي الظهيرية. وفي الولوالجية: وصدقة الفطر
كالزكاة في المصارف ا ه‍. وينبغي أن يستثنى الذمي كما سبق في المصرف. وفي عمدة
الفتاوي، للصدر الشهيد: ولو دفع صدقة فطره إلى زوجة عبده جاز وإن كانت نفقتها عليه
ا ه‍. والله أعلم.

446
كتاب الصوم
أخره عن الزكاة وإن كان عبادة بدنية مقدمة على المالية لقرانها بالصلاة في آيات كثيرة،
وذكر محمد رحمه الله الصوم عقب الصلاة في الجامع الكبير والصغير نظرا لما قلنا. وهو في
اللغة ترك الانسان الاكل وإمساكه عنه ثم جعل عبارة عن هذه العبادة المخصوصة. ومن مجازه
صام الفرس على آريه إذا لم يعتلف. ومنه قول النابغة خيل صيام كذا في المغرب. وفي
الشرع ما سيذكره المصنف ولو قال كتاب الصيام لكان أولى لما في الفتاوي الظهيرية: لو
قال لله علي صوم فعليه صوم يوم واحد، ولو قال فعلي صيام عليه صيام ثلاثة أيام كما في
قوله تعالى * (ففدية من صيام) * (البقرة: 196) ا ه‍. وركنه حقيقته الشرعية التي هي الامساك
المخصوص، وسببه مختلف ففي المنذور النذر ولذا قلنا: لو نذر صوم شهر بعينه كرجب أو
يوما بعينه فصام غيره أجزأ عن المنذور لأنه تعجيل بعد وجود السبب وفيه خلاف محمد كما
في المجمع. وصوم الكفارات سببه ما يضاف إليه من الحنث والقتل والظهار والفطر، وسبب
رمضان شهود جزء من الشهر اتفاقا لكن اختلفوا فذهب السرخسي إلى أن السبب مطلق
شهود الشهر حتى استوى في السببية الأيام والليالي. وذهب الدبوسي وفخر الاسلام وأبو
اليسر إلى أن السبب الأيام دون الليالي أي الجزء الذي لا يتجزأ من كل يوم سبب لصوم ذلك

447
اليوم فيجب صوم جميع الأيام مقارنا إياه، وثمرة الخلاف تظهر فيمن أفاق في أول ليلة من
الشهر ثم جن قبل أن يصبح ومضى الشهر وهو مجنون ثم أفاق، فعلى قول السرخسي يلزمه
القضاء ولو لم يتقرر السبب في حقه بما شهد من الشهر حال إفاقته لم يلزمه، وعلى قول غيره
لا يلزمه القضاء، وصححه السراج الهندي في شرح المغني لأن الليل ليس بمحل للصوم
فكان الجنون والإفاقة فيه سواء، وعلى هذا الخلاف لو أفاق ليلة في وسط الشهر ثم أصبح
مجنونا، وكذا لو أفاق في آخر يوم من رمضان بعد الزوال، وجمع في الهداية بين القولين بأنه
لا منافاة فشهود جزء منه سبب لكله ثم كل يوم سبب وجوب أدائه. غاية الأمر أنه تكرر
سبب وجوب صوم اليوم باعتبار خصوصه ودخوله فضمن غيره كذا في فتح القدير والذي يظهر أن صاحب الهداية يختار غير قول السرخسي لأن السرخسي يقول كل يوم مع ليلته سبب
للوجوب لا اليوم وحده وتمام تقريره في الأصول.
وشرائطه ثلاثة: شرط وجوب وهو الاسلام والبلوغ والعقل كذا في النهاية وفتح
القدير. وفي غاية البيان ذكر الأولين ثم قال: ولا يشترط العقل لا للوجوب ولا للأداء
ولهذا إذا جن في بعض الشهر ثم أفاق يلزمه القضاء بخلاف استيعاب الشهر حيث لا يلزمه
القضاء للحرج، واختاره صاحب الكشف فقال: إن المجنون أهل للوجوب إلا أن الشرع
أسقط عنه عند تضاعف الواجبات دفعا للحرج واعتبر الحرج في حق الصوم باستغراق الجنون
جميع الشهر ا ه‍. وفي البدائع، وأما العقل فهل هو من شرائط الوجوب، وكذا الإفاقة
واليقظة. قال عامة مشايخنا: ليست من شرائط الوجوب بل من شرائط وجوب الأداء
مستدلين بوجوب القضاء على المغمي عليه والنائم بعد الإفاقة والانتباه بعد مضي بعض الشهر

448
أو كله، وكذا المجنون إذا أفاق في بعض الشهر. وقال بعض أهل التحقق من مشايخ ما وراء
النهر: إنه شرط الوجوب. وعندهم لا فرق بينه وبين وجوب الأداء وأجابوا عما استدل به
العامة بأن وجوب القضاء لا يستدعي سابقة الوجوب لا محالة وإنما يستدعي فوت العبادة عن
وقتها والقدرة على القضاء من غير حرج، وهكذا وقع الاختلاف في الطهارة عن الحيض
والنفاس، فذهب أهل التحقيق إلى أنها شرط الوجوب فلا وجوب على الحائض والنفساء
وقضاء الصوم لا يستدعي سابقة الوجوب كما تقدم، وعند العامة ليست بشرط وإنما الطهارة
عنهما شرط الأداء وتمامه في البدائع ولعله لا ثمرة له. والنوع الثاني من الشرائط شرط
وجوب الأداء وهو الصحة والإقامة، والثالث شرط صحته وهو الاسلام والطهارة عن
الحيض والنفاس والنية. كذا في البدائع. واقتصر في فتح القدير على ما عدا الأول لأن
الكافر لا نية له فخرج باشتراطها، ولم يجعلوا العقل، والإقامة شرطين للصحة لأن من نوي
الصوم من الليل ثم جن في النهار أو أغمي عليه يصح صومه في ذلك اليوم، وإنما لم يصح
في اليوم الثاني لعدم النية لأنها من المجنون والمغمى عليه لا تتصور لا لعدم أهلية الأداء، وأما
البلوغ فليس من شرط الصحة لصحته من الصبي العاقل ولهذا يثاب عليه. كذا في البدائع.
وزاد في فتح القدير العلم بالوجوب أو الكون في دار الاسلام لأن الحربي إذا أسلم في دار
الحرب ولم يعلم بفرضية رمضان ثم علم ليس عليه قضاء ما مضى. وزاد في النهاية على
شرائط الصحة الوقت القابل ليخرج الليل. وفيه بحث لأن التعليق بالنهار داخل في مفهوم
الصوم لا قيد له ولهذا كان التحقيق في الأصول أن القضاء والنذر المطلق وصوم الكفارة من
قبيل المطلق عن الوقت لا من المقيد به كما ذهب إليه فخر الاسلام، وحكمه سقوط الواجب
ونيل ثوابه إن كان صوما لازما وإلا فالثاني. كذا في فتح القدير وفيه بحث، لأن صوم الأيام
المنهية لا ثواب فيه فالأولى أن يقال: وإلا فالثاني إن لم يكن منهيا عنه وإلا فالصحة فقط.
وأقسامه فرض وواجب ومسنون ومندوب ونفل ومكروه تنزيها وتحريما، فالأول
رمضان وقضاؤه والكفارات، والواجب المنذور، والمسنون عاشوراء مع التاسع، والمندوب
صوم ثلاثة من كل شهر ويندب فيها كونها الأيام البيض، وكل صوم ثبت بالسنة طلبه

449
والوعد عليه كصوم داود عليه الصلاة والسلام وعلى سائر الأنبياء، والنفل ما سوى ذلك مما
لم يثبت كراهته، والمكروه تنزيها عاشوراء مفردا عن التاسع ونحو يوم المهرجان، وتحريما أيام
التشريق العيدين. كذا في فتح القدير. واستثنى في عمدة الفتاوي من كراهة صوم يوم
النيروز والمهرجان أن يصوم يوما قبله فلا يكره كما في يوم الشك، والأظهر أن يضم المنذور
بقسميه إلى المفروض كما اختاره في البدائع والمجمع ورجحه في فتح القدير للاجماع على
لزومه، وأن يجعل قسم الواجب صوم التطوع بعد الشروع فيه وصوم قضائه عند الافساد
وصوم الاعتكاف. كذا في البدائع أيضا. وبما ذكره المحقق اندفع ما في البدائع من قوله
وعندنا يكره الصوم في يومي العيد وأيام التشريق والمستحب هو الافطار فإنه يفيد أن
الصوم فيها مكروه تنزيها وليس بصحيح لأن الافطار واجب متحتم ولهذا صرح في المجمع
بحرمة الصوم فيها، وينبغي أن يكون كل صوم رغب فيه الشارع صلى الله عليه وسلم بخصوصه يكون
مستحبا وما سواه يكون مندوبا مما لم تثبت كراهيته لا نفلا لأن الشارع قد رغب في مطلق
الصوم فترتب على فعله الثواب بخلاف النفلة المقابلة للندبية فإن ظاهره يقتضي عدم الثواب

450
فيه وإلا فهو مندوب كما لا يخفى. ومن المكروه صوم يوم الشك على ما سنذكره إن شاء الله
تعالى، ومنه صوم الوصال، وقد فسره أبو يوسف ومحمد بصوم يومين لا فطر بينهما، ومنه
صوم يوم عرفة للحاج إن أضعفه، ومنه صوم يوم السبت بانفراده للتشبه باليهود بخلاف صوم
يوم الجمعة فإن صومه بانفراده مستحب عند العامة كالاثنين والخميس وكره الكل بعضهم، ومنه
صوم الصمت بأن يمسك عن الطعام والكلام جميعا. كذا في البدائع. ومنه أيضا صوم ستة من
شوال عند أبي حنيفة متفرقا كان أو متتابعا، وعن أبي يوسف كراهته متتابعا لا متفرقا لكن عامة
المتأخرين لم يروا به بأسا. ثم اعلم أن الصيامات اللازمة فرضا ثلاثة عشر، سبعة منها يجب فيها
التتابع وهي: رمضان وكفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة اليمين وكفارة الافطار في رمضان
والنذر المعين وصوم اليمين المعين. وستة لا يجب فيها التتابع وهي: قضاء رمضان وصوم المتعة
وصوم كفارة الحلق وصوم جزاء الصيد وصوم النذر المطلق وصوم اليمين بأن قال والله لأصومن
شهرا. ثم إذا أفطر يوما يجب فيه التتابع هل يلزمه الاستقبال أو لا فنقول: كل صوم يؤمر فيه
بالتتابع لأجل الفعل وهو الصوم يكون التتابع شرطا فيه، وكل صوم يؤمر فيه بالتتابع لأجل أن
الوقت مفوت ذلك يسقط التتابع، وإن بقي الفعل واجب القضاء فالأول كصوم كفارة القتل
والظهار واليمين والافطار ويلحق به النذر المطلق إذا ذكر التتابع فيه أو نواه، والثاني كرمضان
والنذر المعين واليمين بصوم يوم معين. كذا ذكره صاحب البدائع والأسبيجابي منتصرا، ومحاسنه
كثيرة منها شكر النعمة التي هي المفطرات الثلاثة لأن بضدها تتبين الأشياء، ومنها أنه وسيلة إلى
التقوى لأنها إذا انقادت إلى الامتناع عن الحلال طمعا في مرضاته تعالى فالأولى أن تنقاد للامتناع
عن الحرام وإليه الإشارة بقوله تعالى * (لعلكم تتقون) * (البقرة: 183) ومنها كسر الشهوة الداعية
إلى المعاصي، ومنها الاتصاف بصفة الملائكة الروحانية، ومنها علمه بحال الفقراء ليرحمهم
فيطعمهم، ومنها موافقته لهم

451
قوله: (هو ترك الأكل والشرب والجماع من الصبح إلى الغروب بنية من أهله) أي
الصوم في الشرع الامساك عن المفطرات الثلاث حقيقة أو حكما في وقت مخصوص من
شخص مخصوص مع النية، وإنما فسرنا الترك بالامساك المذكور في كلام القدوري ليكون
فعل المكلف لأنه لا تكليف إلا بفعل حتى قالوا: إن المكلف به في النهي كف النفس لا ترك
الفعل لأنه لا تكليف إلا بمقدور والمعدوم غير مقدور لأن تفسير القادر بمن إن شاء فعل وإن
لم يشأ لم يفعل لا وإن شاء ترك، وتمامه في تحرير الأصول وقلنا حقيقة وحكما ليدخل من
أفطر ناسيا فإنه ممسك حكما، واختص الصوم باليوم لتعذر الوصال المنهي عنه وكونه على
خلاف العادة وعليه مبنى العبادة إذ ترك الأكل بالليل معتاد، واشترطت النية لتمييز العبادة
عن العادة كما سيأتي. وأراد بالأهل من اجتمعت فيه شروط الصحة وتقدم أنها ثلاثة فخرج
الكافر والحائض والنفساء، والمراد باشتراط الطهارة عن الحيض والنفاس اشتراط عدمهما لا
أن يكون المراد منها الاغتسال. كذا في النهاية. والمراد بترك الاكل ترك إدخال شئ بطنه أعم
من كونه مأكولا أولا لما سيأتي من إبطاله بإدخال نحو الحديد، ولا يرد ما وصل إلى الدماغ
فإنه مفطر كما سيأتي لما أن بين الدماغ والجوف منفذا فما وصل إلى الدماغ وصل إلى الجوف
كما صرح به في البدائع على ما سيأتي. وفي البزازية: استنشق وصل الماء إلى فمه ولم يصل
إلى دماغه لا يفسد صومه.
قوله: (وصح صوم رمضان والنذر المعين والنفل بنية من الليل إلى ما قبل نصف النهار)
شروع في بيان النية التي هي شرط الصحة لكل صوم، وعرفها في المحيط بأن يعرف بقلبه
أنه صوم. ووقتها بعد الغروب ولا يجوز قبله والتسحر نية كذا في الظهيرية. ولم يتكلم على
فرضية رمضان لما أنها من الاعتقادات لا لفقه لثبوتها بالقطعي المتأيد بالاجماع ولهذا يحكم بكفر
جاحده. وكانت فرضيته بعد ما صرفت القبلة إلى الكعبة بشهر في شعبان على رأس ثمانية
عشر شهرا من الهجرة وهو في الأصل من رمض إذا احترق سمي به لأن الذنوب تحترق
فيه، وهو غير منصرف للعلمية والألف والنون. قال الجوهري: يجمع على ارمضا
ورمضانات. وقال الفراء: يجمع على رماضين كسلاطين وشياطين. وقال ابن الأنباري:
رماض جمع رمضان. وتقدم حكم النذر أنه فرض على الأظهر، والمراد بالنفل ما عدا

452
الفرض، والواجب أعم من أن يكون سنة أو مندوبا أو مكروها. وأشار إلى أنه لو نوى عند
الغروب لا تصح نيته لأنه قبل الوقت كما قدمناه. وفي فتاوي الظهيرية: ولو نوى أن يتسحر
في آخر الليل ثم يصبح صائما لم تصح هذه النية كما لو نوى بعد العصر صوم الغد ا ه‍.
واستدل الطحاوي لعدم اشتراط التبييت في رمضان بحديث الصحيحين في يوم عاشوراء
من أكل فليمسك بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم (1) وكان صومه فرضا حتى فرض
رمضان فصار سنة ففيه دليل على أن من تعين عليه صوم يوم ولم ينوه ليلا تجزئه النية نهارا
فوجب حمل حديث السنن الأربعة لا صيام لمن لم ينو الصيام من الليل (2) على نفي الكمال
لأن الأفضل في كل صوم أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكنه أو من الليل كما في البدائع،
أو على أن المراد لم ينو كون الصوم من الليل فيكون الجار وهو من الليل متعلقا بصيام الثاني لا
ينوي، فحاصله لا صيام لمن لم يقصد أنه صائم من الليل أي من آخر أجزائه فيكون نفيا
لصحة الصوم من حين نوى من النهار، وعلى تقدير كونه لنفي الصحة وجب أن يخص
عمومه بما روينا عندهم، وعندنا لو كان قطعيا خص بعضه خصص به بعض فكيف وقد
اجتمع فيه عدم الظنية والتخصيص إذ قد خصص منه النفل بحديث مسلم عن عائشة: دخل
علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: هل عندكم شئ؟ فقلنا: لا. فقال: إني إذا صائم.
فالحاصل أن صوم عاشوراء أصل وألحق به صوم رمضان والمنذور المعين في حكمه وهو عدم
النية من الليلة ومقتضاه إلحاق كل صوم واجب به لكن القياس إنما يصلح مخصصا للخبر لا
ناسخا، ولو جرينا على تمام لازم هذه القياس لكان ناسخا لحديث السنن إذ لم يبق تحته شئ
حينئذ فوجب أن يحاذي به مورد النص وهو الواجب المعين من رمضان، ونظيره من النذر
المعين. ولا يمكن أن يلغي قيد التعيين في مورد النص الذي رويناه فإنه حينئذ يكون إبطالا
لحكم لفظ بلا لفظ بنص فيه. وإنما اختص اعتبارها بوجودها في أكثر النهار لأن ما رويناه
من حديث الصحيحين واقعة حال لا عموم لها في جميع أجزاء النهار، واحتمل كون إجازة
الصوم في تلك الواقعة لوجود النية فيها في أكثره، واحتمل كونها للتجويز في النهار مطلقا،

453
في الواجب فقلنا بالأول لأنه أحوط خصوصا ومعنا نص السنن بمنعها من النهار مطلقا
وعضده المعين وهو أن للأكثر من الشئ الواحد حكم الكل وإنما اختص بالصوم دون الحج
والصلاة فإن قران النية فيهما شرط حقيقة أو حكما كالمتقدمة بفاصل لأن الصوم ركن واحد
ممتد فبالوجود في آخره يعتبر قيامها في كله بخلافهما فإنهما أركان فيشترط قرانها بالعقد على
أدائها وإلا خلت بعض الأركان عنها فلم يقع ذلك الركن عبادة. واعتبر المصنف النية إلى ما قبل
نصف النهار ليكون أكثر اليوم منويا، ولهذا عبر في الوافي بنية أكثره وهي أولى لما أن النهار
يطلق في اللغة على زمن أوله طلوع الشمس كما في النهاية وغيرها لكن هو في الشرع واليوم
سواء من طلوع الفجر. وفي غاية البيان: جعل أوله من طلوع الفجر لغة وفقها، وعلى كل حال
فهي أولى من عبارة القدوري ومختصر الكرخي والطحاوي ما بينه وبين الزوال لأن ساعة الزوال
نصف النهار من طلوع الشمس ووقت الصوم من طلوع الفجر. كذا في المبسوط. والظاهر أن
الاختلاف في العبارة لا في الحكم. وفي الفتاوي الظهيرية: الصائم المتطوع إذا ارتد عن
الاسلام ثم رجع إلى الاسلام قبل الزوال ونوى الصوم - قال زفر - لا يكون صائما ولا قضاء
عليه إن أفطر. وقال أبو يوسف: يكون صائما وعليه القضاء إذا أفطر. وذكر بعده: وعلى هذا
الخلاف إذا أسلم النصراني في غير رمضان قبل الزوال ونوى التطوع كان صائما عند أبي يوسف
خلافا لزفر. وأطلق المصنف فأفاد أنه لا فرق بين الصحيح والمريض والمقيم والمسافر لأنه لا
تفصيل فيما ذكرنا من الدليل. وقال زفر: لا يجوز الصوم للمسافر والمريض إلا بنية من الليل
لأن الأداء غير مستحق عليهما فصار كالقضاء. ورد بأنه من باب التغليظ والمناسب لهما
التخفيف. وفي فتاوي قاضيخان، مريض أو مسافر لم ينو الصوم من الليل في شهر رمضان ثم
نوى بعد طلوع الفجر قال أبو يوسف: يجزئهما وبه أخذ الحسن. قال صاحب الكشف الكبير:
فهذا يشير إلى أن عند أبي حنيفة ومحمد لا يجزئهما ا ه‍. وهذه الإشارة مدفوعة بصريح المنقول
من أن عندنا لا فرق كما ذكره في المبسوط والنهاية والولوالجية وغيرها.
قوله: (وبمطلق النية ونية النفل) أي صح صوم رمضان وما معه بمطلق النية وبنية
النفل، أما في رمضان فلان الشارع عينه لفرض الصوم فانتفى شرعية غيره من الصيام فيه

454
فلم يشترط له نية التعيين فصك بنية صوم مباين له كالنفل والكفارات بناء على لغو الجهة التي
عينها فيبقى الصوم المطلق، وبمطلق النية يصح صومه كالأخص نحو زيد يصاب بالأعم كيا
إنسان، وجمهور العلماء على خلافه. قال في التحرير: وهو الحق لأن نفي شرعية غيره إنما
توجب صحته لو نواه، ونفي صحة ما نواه من الغير لا يوجب وجود نية ما يصح وهو
يصرح بقوله لم أرده بل لو ثبت لكان جبرا ولا جبر في العبادات. وقولهم الأخص يصاب
بالأعم إنما يصح إذا أراد الأخص بالأعم ولو أراده لارتفع الخلاف، وأعجب من هذا ما
روي عن زفر أن التعيين شرعا يوجب الإصابة بلا نية ا ه‍. وقد يقال بأنه نوي أصل الصوم
ووصفة والوقت لا يقبل الوصف فلغت نية الوصف وبقيت نية الأصل إذ ليس من ضرورة
بطلان الوصف بطلان الأصل، والاعراض إن ثبت فإنما هو في ضمن نية النفل أو القضاء
وقد لغت بالاتفاق فيلغو ما في ضمنها، ولا يلزم الجبر لأن معنى القربة في أصل الصوم
يتحقق لبقاء الاختيار للعبد فيه ولا يتحقق في الصفة إذ لا اختيار له فيها فلا يتصور منه إبدال
هذا الوصف بوصف آخر في هذا الزمان فيسقط اعتبار نية الصفة فعلم أنه لا يلزم الجبر إلا
لو قلنا بوقوع الصوم من غير نية أصلا. وما ألزمنا به الشافعي هنا من لزوم الجبر لزمه في
الحج فإنه صححه فرضا بنية النفل فما هو جوابه فهو جوابنا. وأما في النذر المعين فلانه
معتبر بإيجاب الله تعالى، وإنما قال وبنية النفل ولم يقل وبنية مباينة لما أن النفل لا يصح بنية
واجب آخر بل يقع عما نوى، ولما أن المنذور المعين لا يصح بنية واجب آخر بل يقع عما
نوي بخلاف رمضان. والفرق بينهما أن التعيين إنما جعل بولاية الناذر وله إبطال صلاحية
ماله وهو النفل لا ما عليه وهو القضاء ونحوه رمضان متعين بتعيين الشارع وليس له ولاية

455
إبطال صلاحيته لغير من الصيام لكن بقي عليه إفادة صحة رمضان بنية واجب آخر، ويمكن
أن يكون ذكر نية النفل إشارة إليه بجامع إلغاء الجهة لتعيينه. وإذا وقع عما نوي فهل يلزمه
قضاء المنذور المعين لا ذكر لها في ظاهر الرواية، والأصح وجوب القضاء. كذا في الفتاوي
الظهيرية. ولا يرد عليه المسافر فإنه لو نوى واجبا آخر في رمضان يصح عند أبي حنيفة ويقع
عما نوى لاثبات الشارع الترخص له وهو في الميل إلى الأخف وهو في صوم الواجب المغاير
لأنه في ذمته وفرض الوقت لا يكون في ذمته إلا إذا أدرك عدة من أيام أخر. وفي النفل عنه
روايتان، أصحهما عدم صحة ما نوي ووقوعه عن فرض الوقت لأن فائدة النفل الثواب وهو
في فرض الوقت أكثر كما لو أطلق النية. كذا في التقرير. فعلم بهذا أن المسافر يصح صومه
عن رمضان بمطلق النية وبنية النفل على الأصح فيهما مع وجود الروايتين فيهما فلهذا لم
يستثنه في المختصر، وأما المريض إذا نوى واجبا آخر أو نفلا ففيه ثلاثة أقوال، فقيل يقع عن
رمضان لأنه لما صام التحق بالصحيح واختاره فخر الاسلام وشمس الأئمة وجمع وصححه
صاحب المجمع، وقيل يقع عما نوى كالمسافر واختاره صاحب الهداية وأكثر المشايخ، وقيل
بأنه ظاهر الرواية، وينبغي أن يقع عن رمضان في النفل على الصحيح كالمسافر على ما
قدمناه، وقيل بالتفصيل بين أن يضره الصوم فتتعلق الرخصة بخوف الزيادة فيصير كالمسافر
يقع عما نوي، وبين أن لا يضره الصوم كفساد الهضم فتتعلق الرخصة بحقيقته فيقع عن
فرض الوقت واختاره صاحب الكشف وتبعه المحقق في فتح القدير والتحرير.
وتعقبه الأكمل في التقرير بأن المعلوم أن المريض الذي لا يضره الصوم غير مرخص له

456
الفطر عند أئمة الفقه كما شهدت كتبهم بذلك فمن لا يضره الصوم صحيح وليس الكلام
فيه. ثم اعلم أنه وقع في عبارة القوم أصولا وفروعا أن رمضان يصح مع الخطأ في
الوصف، فذهب جماعة من المشايخ إلى أن مسألة نية الصوم النفل في رمضان من الصحيح
المقيم إنما هي مصورة في يوم الشك بأن شرع بهذه النية ثم ظهر أنه من رمضان حتى يكون
هذا الظن معفوا، فأما لو وجدت في غيره يخشى عليه الكفر لأنه ظن أن الامر بالامساك
المعين يتأدى بغيره وبمثل هذ الظن يخشى عليه الكفر. كذا في التقرير. وفي النهاية ما يرده
فإنه قال في دليل الشافعي: إنه لو اعتقد المشروع في هذا الوقت أنه نفل يكفر. وقال في رده
إنه لما لغا نية النفل لم تتحقق نية الاعراض وبه يبطل قوله أنه لو اعتقد فيه أنه نفل يكفر ا ه‍.
والحاصل أنه لا ملازمة بين نية النفل واعتقاد عدم الفرضية أو ظنه فقد يكون معتقدا للفرضية
ومع ذلك نوى النفل فلا يكون بنية النفل كافرا إلا إذا انضم إليها اعتقاد النفلية، وكذا لا
يخشى عليه الكفر إلا إذا انضم إليها الظن المذكور والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم اعلم أن أبا
حنيفة جرى على أصله في المواضع كلها من أن الأصل ينفك عن الوصف فلهذا قال: إذا
بطلت صفة الفرضية في الصلاة لا يبطل أصلها، وإذا بطلت الصفة في الصوم بقي أصله،
وإذا قال لها أنت طالق كيف شئت وقع أصل الطلاق وكان الوصف مفوضا إليها. وهما قالا
في هذه المسألة بأن ما لا يقبل الإشارة من الأمور الشرعية فحاله ووصفه بمنزلة أصله فيتعلق
الأصل بتعلقه فخالفا هذا الأصل في الصوم. وخالفه أبو يوسف في الصلاة لأنه موافق لأبي
حنيفة فيها وجرى عليه محمد في الصلاة فإنه قال ببطلان الأصل إذا بطل الوصف فيها، وقد
فرق بعضهم لمحمد بين الصوم والصلاة، ورده الأكمل في تقريره وقال في بحث: كيف أن
أصلهما المذكور ليس بصحيح لأن صحته تستلزم انتفاء الفاسد على مذهبنا واللازم باطل لأن
الأحكام عندنا تنقسم إلى جائز وفاسد وباطل بيان الملازمة أن الربا مثلا وسائر العقودات
مشروعة بأصلها غير مشروعة بوصفها بالاتفاق وهي مما لا يقبل الإشارة. فلو كان ما
ذكرناه صحيحا لكان الأصل فيه مثل الوصف والوصف غير مشروع، وما كان غير مشروع
بحسب الأصل والوصف فهو باطل اتفاقا لا فاسد، أو كان الوصف مثل الأصل والأصل
مشروع فكان الربا جائزا لا فاسدا وهو باطل إجماعا ا ه‍.
قوله: (وما بقي لم يجز إلا بنية معينة مبيتة) أي ما بقي من الصيام وهو قضاء رمضان
والكفارات وجزاء الصيد والحلق والمتعة والنذر المطلق لا يصح بمطلق النية ولا بنية مباينة،
ولا بد فيه من التعيين لعدم تعين الوقت له، ولا بد فيه أيضا من النية من الليل أو ما هو في

457
حكمه وهو المقارنة لطلوع الفجر بل هو الأصل لأن الواجب قران النية بالصوم لا
تقديمها، وإنما جاز التقديم للضرورة. ومن فروع لزوم التبييت في غير المعين لو نوي
القضاء نهارا فلم يصح هل يقع عن النفل، في فتاوي النسفي نعم ولو أفطر يلزما القضاء.
قيل هذا إذا علم أن صومه عن القضاء لم يصح بنية من النهار، أما إذا لم يعلم فلا يلزم
بالشروع كما في المظنون. كذا في فتح القدير. والذي يظهر ترجيح الاطلاق فإن الجهل
بالأحكام في دار الاسلام ليس بمعتبر خصوصا أن هذه المسألة - أعني عدم جواز القضاء
بنية نهارا - متفق عليها فيما يظهر فليس كالمظنون، ولا يخفى أن قضاء النفل بعد إفساده
وقضاء المنذور المعين داخل تحت قوله وما بقي. ثم اعلم أن النية من الليل كافية في كل
صوم بشرط عدم الرجوع عنها حتى لو نوي ليلا أن يصوم غدا ثم عزم في الليل على
الفطر لم يصبح صائما، فلو أفطر لا شئ عليه إن لم يكن رمضان ولو مضي عليه لا يجزئه
لأن تلك النية انتقضت بالرجوع ولو نوى الصائم الفطر لم يفطر حتى يأكل، وكذا لو نوى
التكلم في الصلاة. كذا في الظهيرية. ولو قال نويت صوم غد إن شاء الله تعالى، فعن
الحلواني يجوز استحسانا لأن المشيئة إنما تبطل اللفظ والنية فعل القلب وصححه في فتاوي
الظهيرية. واعلم أنه يتفرع على كيفية النية ووقتها مسألة الأسير في دار الحرب إذا اشتبه
عليه رمضان فتحرى وصام شهرا عن رمضان فلا يخلو، إما أن يوافق أو لا بالتقديم أو
بالتأخير، فإن وافق جاز، وإن تقدم لم يجز، وإن تأخر فإن وافق شوالا لا يجوز بشرط موافقة
الشهرين في العدد وتعيين النية وتبييتها ولا يشترط نية القضاء في الصحيح فإن كان كل
منهما كاملا قضى يوما واحدا لأجل يوم الفطر، وإن كان رمضان كاملا وشوال ناقصا
قضي يومين يوما لأجل يوم العيد ويوما لأجل النقصان وعلى العكس لا شئ عليه. وإن
وافق صومه هلال ذي الحجة، فإن كان رمضان كاملا وذو الحجة كاملا قضي أربعة أيام
يوم النحر وأيام التشريق، وإن كان رمضان كاملا وذو الحجة ناقصا قضي خمسة أيام على
عكسه قضي ثلاثة أيام، وإن وافق صومه شهرا آخر سوى هذين الشهرين، فإن كان
الشهران كاملين أو ناقصين أو كان رمضان ناقصا والآخر كاملا فلا شئ عليه، وعلى
عكسه قضي يوما ولو صام بالتحري سنين كثيرة ثم تبين أنه صام في كل سنة قبل شهر

458
رمضان فهل يجوز صومه في الثانية عن الأولى وفي الثالثة عن الثانية وفي الرابعة عن
الثالثة؟ قيل يجوز، وقيل لا يجوز. كذا في البدائع مختصرا. وصحح في المحيط أنه إن نوى
صوم رمضان مبهما يجوز عن القضاء، وإن نوى عن السنة الثانية مفسرا لا يجوز، وقد علم
من هذا أن من فاته رمضان وكان ناقصا يلزمه قضاؤه بعدد الأيام لأشهر كامل، ولهذا قال
في البدائع: قالوا فيمن أفطر شهرا بعذر ثلاثين يوما ثم قضى شهرا بالهلال فكان تسعة
وعشرين أن عليه قضاء يوم آخر لأن المعتبر عدد الأيام التي أفطر فيها دون الهلال لأن
القضاء على قدر الفائت، ولو صام أهل مصر تسعة وعشرين وأفطروا للرؤية وفيهم مريض
لم يصم، فإن علم ما صام أهل مصره فعليه قضاء تسعة وعشرين يوما، وإن لم يعلم صام
ثلاثين يوما لأنه الأصل والنقصان عارض ا ه‍. وفي عدة الفتاوي: لو قال لله علي صوم
شوال وذي القعدة وذي الحجة فصامهن بالرؤية وكان هلال ذي القعدة وذي الحجة ثلاثين
وشوال تسعة وعشرين فعليه صوم خمسة أيام الفطر والأضحية وأيا التشريق، ولو قال لله
علي صوم ثلاثة أشهر فصامهن فعليه قضاء تسعة أيام لأنه أشار إلى غائب فيلزم لكل شهر
ثلاثون ا ه‍. وبما ذكرنا علم من يراجع فتح القدير أنه لم يستوف الأقسام كلها.
قوله: (ويثبت رمضان برؤية هلاله أو بعد شعبان ثلاثين يوما) لحديث الصحيحين
صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليك فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما (1).
والوجه في إثبات الرمضانية والعيد أن يدعي عند القاضي بوكالة رجل معلقة بدخول
رمضان بقبض دين فيقر الخصم بالوكالة وينكر دخول رمضان فيشهد الشهود بذلك فيقضي

459
القاضي عليه بالمال فيثبت مجئ رمضان لأن إثبات مجئ رمضان لا يدخل تحت الحكم حتى
لو أخبر رجل عدل القاضي بمجئ رمضان يقبل ويأمر الناس بالصوم يعني في يوم الغيم،
ولا يشترط لفظ الشهادة وشرائط القضاء، أما في العيد فيشترط لفظ الشهادة وهو يدخل
تحت الحكم لأنه من حقوق العباد. كذا في الخلاصة من كتاب الشهادات. وبهذا علم أن
عبارة المصنف في الوافي أولى وأوجز وهي: ويصام برؤية الهلال أو اكمال شعبان لأن
الصوم لا يتوقف على الثبوت، وليس يلزم من رؤيته ثبوته لما تقدم أن مجرد مجيئه لا يدخل
تحت الحكم ولم يتعرض لوجوب التماسه ولا شك في وجوبه على الناس وجوب كفاية.
وينبغي في كلام بعضهم بمعناه ووقته ليلة الثلاثين ولهذا قال في الاختيار: يجب التماسه
في اليوم التاسع والعشرين وقت الغروب، وقول بعضهم في التاسع والعشرين تساهل.
نعم لو رؤي في التاسع والعشرين بعد الزوال كان كرؤيته ليلة الثلاثين اتفاقا، وإنما
الخلاف في رؤيته قبل الزوال يوم الثلاثين، فعند أبي حنيفة ومحمد هو للمستقبلة، وعند أبي
يوسف هو للماضية والمختار قولهما لكن لو أفطر والكفارة عليهم لأنهم أفطروا بتأويل.
ذكره قاضيخان. وفي الفتاوي الظهيرية: وتكره الإشارة عند رؤية الهلال تحرزا عن التشبه
بأهل الجاهلية. وأشار المصنف إلى أنه لا عبرة بقول المنجمين. قال في غاية البيان: ومن
قال يرجع فيه إلى قولهم فقد خالف الشرع لأنه روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال من أتي كاهنا أو

460
منجما فصدقه بما قال فهو كافر بما أنزل على محمد (1).
قوله: (ولا يصام يوم الشك إلا تطوعا) وهو استواء طرفي الادراك من النفي
والاثبات، وموجبه هنا أحد أمرين، إما أن يغم عليهم هلال رمضان أو هلال شعبان
فأكملت عدته ولم ير هلال رمضان لأن الشهر ليس الظاهر فيه أن يكون ثلاثين بل يكون
تسعة وعشرين كما يكون ثلاثين فيستوي هاتان الحالتان بالنسبة إليه كما يعطيه الحديث
المعروف في الشهر فاستوى الحال حينئذ في الثلاثين أنه من المنسلخ أو المستهل إذا كان غيم
فيكون مشكوكا بخلاف ما إذا لم يكن لأنه لو كان من المستهل لرؤي عند الترائي فلما لم ير
كان غيم فيكون مشكوكا بخلاف ما إذا لم يكن لأنه لو كان من المستهل لرأي عند الترائي، فلما لم ير كان الظاهر أن المنسلخ ثلاثون فيكون هذا اليوم منه غير مشكوك في ذلك. كذا ذكروا وقد
قدمنا عن البدائع أن كونه ثلاثين هو الأصل والنقصان عارض، ولهذا وجب على المريض

461
الذي أفطر رمضان قضاء ثلاثين يوما إذا لم يعلم صوم أهل بلده فلو كان على السواء لم
يلزم الزائد بالشك لأن ظهور كونه كاملا إنما هو عند الصحو، أما عند الغيم فلا إلا أن
يقال الأصل الصحو والغيم عارض ولا عبرة به قبل تحققه، وهم إنما ذكروا التساوي عند
تحقق الغيم ولم يتعرض لصفة صوم غير التطوع ولا لصفته من الإباحة والاستحباب، أما
صوم غير التطوع فإن جزم بكونه عن رمضان كان مكروها كراهة تحريم للتشبه بأهل
الكتاب لأنهم زادوا في صومهم، وعليه حمل حديث النهي عن التقدم بصوم يوم أو يومين
وفي استحبابه، إن وافق صوما كان يعتاده على الأصح ويجزئه إن بان أنه من رمضان لما
تقدم وإلا فهو تطوع غير مضمون بالافساد لأنه في معنى المظنون، وإن جزم بكونه عن
واجب آخر فهو مكروه كراهة تنزيه التي مرجعها خلاف الأولى لأن النهي عن التقدم
خاص بصوم رمضان لكن كره لصورة النهي المحمول على رمضان، فإن ظهر أنه من
رمضان أجزأه عنه لما عرف أن كان مقيما وإلا أجزأه عن الذي نواه كما لو ظهر أنه من
شعبان على الأصح. وإن جزم التطوع فلا كلام في عدم كراهته وإنما الخلاف في
استحبابه إن لم يوافق صومه، والأفضل أن يتلوم ولا يأكل ولا ينوي الصوم ما لم يتقارب
انتصاف النهار، فإن تقارب ولم يتبين الحال اختلفوا فيه، فقيل الأفضل صومه، وقيل
فطره، وعامة المشايخ على أنه ينبغي للقضاة والمفتين أن يصوموا تطوعا ويفتوا بذلك
خاصتهم ويفتوا العامة بالافطار، وكان محمد بن سلمة وأبو نصر يقولان: الفطر أحوط
لأنهم أجمعوا أنه لا إثم عليه لو أفطر. واختلفوا في الصوم قال بعضهم: يكره ويأثم كذا
في الفتاوي الظهيرية: وقولهم يصوم القاضي والمفتي، المراد أنه يصوم من تمكن من
ضبط نفسه عن الاضجاع عن النية وملاحظة كونه عن الفرض إن كان غد من رمضان
ولهذا قالوا: ويفتوا بالصوم خاصتهم. وأما إذا ردد فإن كان في أصلها كان نوى أن يصوم
غدا عن رمضان إن كان رمضان وإلا فليس بصائم وهذه غير صحيحة فليس بصائم. وفي
الفتاوي الظهيرية: وعن محمد ينبغي أن يعزم ليلة يوم الشك على أنه إن كان غد من
رمضان فهو صائم عن رمضان، وإن لم يكن من رمضان فليس بصائم وهذا مذهب
أصحابنا ا ه‍. وإن ردد في وصفها فله صورتان: أحدهما ما إذا نوي أن يصوم عن رمضان
إن كان غد منه وإلا فعن واجب آخر وهو مكروه لتردده بين مكروهين، فإن ظهر أنه من

462
رمضان أجزأه عنه وإلا كان تطوعا غير مضمون بالافساد ولا يكون عن الواجب لعدم الجزم
به. والثانية إذا نوي أن يصوم عن رمضان إن كان منه وإلا فتطوع فهو مكروه لنية الفرض
من وجه، فإن ظهر أنه منه أجزأه وإلا فتطوع غير مضمون لدخول الاسقاط في عزيمته من
وجه، ولم يتعرض المصنف لصوم ما قبله. وصرح في الكافي بأنه إن وافق يوم الشك صوما
كان يصومه فالصوم أفضل، وكذا إن صام كله أو نصفه أو ثلاثة من أخره، ولم يقيد بكون
صوم الثلاثة عادة. وصرح في التحفة بكراهة الصوم قبل رمضان بيوم أو يومين لمن ليس له
عادة لقوله عليه السلام لا تتقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يوافق صوما كان
يصومه أحدكم (1) وإنما كره خوفا من أن يظن أنه زيادة على رمضان إذا اعتادوا ذلك.
فالحاصل أن من له عادة فلا كراهة في حقه مطلقا، ومن ليس له عادة فلا كراهة في التقدم
بثلاثة فأكثر ويكره في اليوم واليومين. وأما صوم الشك فلا يكره بنية التطوع مطلقا.
قوله: (ومن رأى هلال رمضان أو الفطر ورد قوله صام فإن أفطر قضى فقط) لقوله
تعالى في هلال رمضان * (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) * (البقرة: 185) وهذا قد شهده.
والحديث في هلال الفطر صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون والناس لم يفطروا في

463
هذا اليوم فوجب عليه موافقتهم، ولان تفرده مع شدة حرص الناس على طلبه دليل غلطه.
وإنما لم تجب الكفارة فيما إذا رأى هلال رمضان ولم يصم لأن القاضي رد شهادته بدليل
شرعي وهو تهمة الغلط فأورث شبهة وهذه الكفارة تندرئ بالشبهات لأنها ألحقت بالعقوبات
باعتبار أن معنى العقوبة فيها أغلب بدليل عدم وجوبها على المعذور والمخطئ بخلاف بقية
الكفارات فإنه اجتمع فيها معنى العبادة والعقوبة والعبادة أغلب كما عرف في تحرير
الأصول. قيد بقوله ورد قوله أي ورد القاضي إخباره احترازا عما إذا أفطر قبل أن يرد
القاضي شهادته فإنه لا رواية فيه عن المتقدمين. واختلف المشايخ في وجوب الكفارة،
وصحح في المحيط عدم وجوبها ورجحه في غاية البيان باعتبار أنه يوم مختلف في وجوب
صومه فإن الحسن وابن سيرين وعطاء قالوا بأنه لا يصومه إلا مع الإمام. واحترازا عما إذا
قبل الإمام شهادته وهو فاسق وأمر الناس بالصوم فأفطر هو أو واحد من أهل بلده لزمته
الكفارة وبه قال عامة المشايخ خلافا للفقيه أبي جعفر لأنه صوم يوم الناس، فلو كان عدلا
ينبغي أن لا يكون في وجوب الكفارة خلاف لأن وجه النفي كونه ممن لا يجوز القضاء
بشهادته وهو منتف. كذا في فتح القدير. وأفاد أن التفرد بالرؤية من غير ثبوت عند الحاكم
موجب لاسقاط الكفارة فدخل ما إذا رآه الحاكم وحده ولم يصم فإنه لا كفارة عليه، ولهذا
قالوا: لا ينبغي للإمام إذا رآه وحده أن يأمر الناس بالصوم، وكذا في الفطر بل حكمه حكم
غيره فليس له أن يخرج إلى العيد برؤيته وحده وله أن يصوم وحده إذا رآه والوالي إذا أخبر
صديقه صام إن صدقه ولا يفطر وإن أفطر لا كفار عليه، كذا في البزازية. وفي فتاوي
قاضيخان. ومن رأى هلال رمضان في الرستاق وليس هناك وآل وقاض، فإن كان ثقة يصوم
الناس بقوله، وفي الفطر إن أخبر عدلان برؤية الهلال لا بأس بأن يفطروا ا ه‍. وأشار
بوجوب صومه إذا رأى هلال الفطر وحده إلى أن المنفرد برؤية هلال رمضان إذا صام وأكمل
ثلاثين يوما لم يفطر إلا مع الإمام لأن الوجوب علته الاحتياط والاحتياط بعد ذلك في تأخير
الافطار، ولو أفطر لا كفارة عليه اعتبارا للحقيقة التي عنده، وأطلق في الرائي فشمل من لا
تقبل شهادته ومن تقبل. كذا في الفتاوي الظهيرية. وأشار إلى رد قول الفقيه أبي جعفر من أن
معنى قول الإمام أبي حنيفة فيما إذا رأى هلال الفطر لا يفطر لا يأكل ولا يشرب ولكن
ينبغي أن يفسد صوم ذلك اليوم ولا يتقرب به إلى الله تعالى لأنه يوم عيد عنده، وإلى رد ما

464
قاله بعض مشايخنا من أنه إذا أيقن برؤية هلال الفطر أفطر لكن يأكل سرا. كذا في الفتاوي
الظهيرية. وفيها أيضا: وإذا صام أهل مصر بغير رؤية ورجل برؤية فنقص له يوم جاز.
قوله: (وقبل بعلة خبر عدل ولو قنا أو أنثى لرمضان وحرين أو حرو حرتين للفطر)
لأن صوم رمضان أمر ديني فأشبه رواية الاخبار ولهذا لا يختص بلفظ الشهادة خلافا لشيخ
الاسلام. ولا يشترط الدعوى لكن قال في الفتاوي الظهيرية أنه قولهما، أما على قول الإمام
أبي حنيفة فينبغي أن يشترط الدعوى، أما في شهادة الفطر والأضحى فيشترط لفظ الشهادة
وتشترط العدالة في الكل لأن قول الفاسق في الديانات التي يمكن تلقيها من العدول غيره
مقبول كالهلال ورواية الاخبار ولو تعدد كفاسقين فأكثر. كذا في الولوالجية بخلاف ما يتيسر
تلقيه منهم حيث يتحرى في خبر الفاسق كالاخبار بطهارة الماء ونجاسته وحل الطعام
وحرمته، وبخلاف الهدية والوكالة وما لا إلزام فيه من المعاملات حيث يقبل خبره بدون
التحري للزوم الضرورة ولا دليل سواه فوجب قبوله مطلقا. وحقيقة العدالة ملكة تحمل على
ملازمة التقوى والمروءة والشرط أدناها وهو ترك الكبائر والاصرار على الصغائر وما يخل
بالمروءة كما عرف تحقيقه في تعريف الأصول، فلزم أن يكون مسلما عاقلا بالغا، وأما الحرية
والبصر وعدم الحد في قذف وعدم الولاء والعداوة فمختص بالشهادة. وعن أبي حنيفة نفى
رواية المحدود والظاهر خلافه لقبول رواية أبي بكرة بعد ما تاب وكان قد حد في قذف، وأما
مجهول الحال وهو المستور فعن أبي حنيفة قبوله، وظاهر الرواية عدمه لأن المراد بالعدل في
ظاهر الرواية من ثبتت عدالته وأن الحكم بقوله فرع ثبوتها ولا ثبوت في المستور، وما ذكره
الطحاوي من عدم اشتراط العدالة فمحمول على قبول المستور الذي هو إحدى الروايتين،
وصحح البزازي في فتاواه قبول المستور وهو خلاف ظاهر الرواية كما علمت، أما مع تبين
الفسق فلا قائل به عندنا، وفرعوا عليه ما لو شهدوا في تاسع عشرين رمضان أنهم رأوا
هلال رمضان قبل صومهم بيوم إن كانوا في هذا المصر لا تقبل شهادتهم لأنهم تركوا الحسبة،
وإن جاؤوا من خارج قبلت. وفي البزازية: الفاسق إذا رآه وحده يشهد لأن القاضي ربما
يقبل شهادته لكن القاضي يرده ا ه‍. وأما هلال الفطر فلانه تعلق به نفع العباد وهو الفطر
فأشبه سائر حقوقهم فيشترط فيه ما يشترط في سائر حقوقهم من العدالة والحرية والعدد
وعدم الحد في قذف ولفظ الشهادة والدعوى على خلاف فيه إن أمكن ذلك وإلا فقد تقدم

465
أنهم لو كانوا في بلدة لا قاضي فيها ولا وال فإن الناس يصومون بقول الثقة ويفطرون
بإخبار عدلين للضرورة.
وأطلقه فشمل ما لو كان المخبر من مصر أو جاء من خارجه وهو ظاهر الرواية خلافا
للإمام الفضلي حيث قال: إنما يقبل الواحد العدل إذا فسر وقال رأيته خارج البلد في
الصحراء أو يقول رأيته في البلدة من بين خلل السحاب، أما بدون هذا التفسير فلا يقبل،
كذا في الظهيرية. وأشار إلى أنه يقبل في هلال رمضان شهادة واحد عدل على شهادة واحد
عدل بخلاف الشهادة على الشهادة في سائر الأحكام حيث لا تقبل ما لم يشهد على شهادة
رجل واحد رجلان أو رجل وامرأتان لما ذكرنا أنه من باب الاخبار لا من باب الشهادة. كذا
في البدائع، وكذا تقبل فيه شهادة العبد على العبد كذا في البزازية، وكذا شهادة المرأة على
المرأة كذا في الظهيرية. وإلى أنهم لو صاموا بشهادة واحدة وغم هلال شوال فإنهم لا يفطرون
فتثبت الرمضانية بشهادته لا الفطر خلافا لما روي عند محمد أنهم يفطرون وصححه في غاية
البيان. وأما إذا صاموا بشهادة اثنين فإنهم يفطرون اتفاقا كذا في البدائع. وحكى البزازي فيه
خلافا والعلة غيم أو غبار أو نحوهما هنا. وفي الأصول الخارج المتعلق بالحكم المؤثر فيه،

466
وأشار إلى أن الجارية المخدرة إذا رأت هلال رمضان وبالسماء علة وجب عليها أن تخرج في
ليلتها وتشهد بغير إذن مواليها كما صرح به البزازي. واعلم أن ما كان من باب الديانات فإنه
يكتفي فيه بخبر الواحد العدل كهلال رمضان، وما كان من حقوق العباد وفيه إلزام محض
كالبيوع والاملاك فشرطه العدد والعدالة ولفظ الشهادة مع باقي شروطها، ومنه الفطر إلا أن
يكون الملزم به غير مسلم فلا يشترط في الشاهد الاسلام وإلا ما لا يطلع عليه الرجال
كالبكارة والولادة والعيوب في العورة فلا عدد ولا ذكورة، وما لا إلزام فيه كالاخبار
بالوكالات والمضاربات والاذن في التجارة والرسالات في الهدايا والشركات فلا شرط سوى
التمييز مع تصديق القلب، وما كان فيه إلزام من وجه كعزل الوكيل وحجز المأذون وفسخ
الشركة والمضاربة فالرسول والوكيل فيها كما قبله عندهما. وشرط الإمام عدالته أو العدد كما
عرف في تحرير الأصول. وفي البزازية: وقعت في بخارى سنة إحدى وسبعين وسبعمائة أن
الناس صاموا يوم الأربعاء فجاء اثنان أو ثلاثة يوم الأربعاء التاسع والعشرين وأخبروا أنهم
رأوا ليلة الثلاثاء وهذا الأربعاء يوفي الثلاثين. اتفقت الأجوبة أن بالسماء علة عيدوا يوم
الخميس وإلا لا صاموا ثمانية وعشرين بلا رؤية ثم رأوا هلال الفطر إن أكملوا عدة شعبان
ثلاثين وقد كانوا رأوا هلال شعبان قضوا يوما، وإن صاموا تسعا وعشرين لا قضاء عليهم
أصلا فإن كانوا أتموا شعبان من غير رؤية هلاله أيضا قضوا يومين ا ه‍..

467
قوله: (وإلا فجمع عظيم) أي وإن لم يكن بالسماء علة فيهما يشترط أن يكون فيهما
الشهود جمعا كثيرا يقع العلم بخبرهم أي علم غالب الظن لا اليقين لأن التفرد من بين الجم
الغفير بالرؤية مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه مع فرض عدم المانع وسلامة الابصار وإن
تفاوتت الابصار في الحدة ظاهر في غلطه قياسا على تفرد ناقل زيادة من بين سائر أهل مجلس
مشاركين له في السماع فإنها ترد وإن كان ثقة مع أن التفاوت في حدة السمع واقع أيضا كما
هو في الابصار مع أنه لا نسبة لمشاركته في السماع بمشاركته في الترائي كثرة، والزيادة
المقبولة ما علم فيه تعدد المجالس أو جهل فيه الحال من الاتحاد والتعدد. كذا في فتح القدير
وغيره. وبهذا اندفع تشنيع المتعصبين في زماننا على مذهبنا حيث زعموا أن عدم قبول الاثنين
لا دليل له وهو مردود لأن القياس حيث لاسمع أحد الأدلة الشرعية والقياس المذكور
صحيح لوجود ركنه وشرائطه، ولم يردوا بالتفرد تفرد الواحد وإلا لأفاد قبول الاثنين وهو
منتف، بل المراد تفرد من لم يقع العلم بخبرهم من بين أضعافهم من الخلائق وهذا هو ظاهر
الرواية. وروي الحسن عن أبي حنيفة أنه يقبل فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، سواء
كان بالسماء علة أو لم يكن كما روي عنه في هلال رمضان. كذا في البدائع. ولم أر من
رجحها من المشايخ. وينبغي العمل عليها في زمانا لأن الناس تكاسلت عن ترائي الأهلة
فانتفي قولهم مع توجههم طالبين لما توجه هو إليه فكان التفرد غير ظاهر في الغلط، ولهذا
وقع في زمانا في سنة خمس وخمسين وتسعمائة أن أهل مصر افترقوا فرقتين، فمنهم من صام
ومنهم من لم يصم. وهكذا وقع لهم في الفطر بسبب أن جمعا قليلا شهدوا عند قاضي القضاة

468
الحنفي ولم يكن بالسماء علة فلم يقبلهم فصاموا وتبعهم جمع كثير على الصوم وأمروا الناس
بالفطر، وهكذا في هلال الفطر حتى إن بعض المشايخ الشافعية صلى العيد بجماعة دون
غالب أهل البلدة وأنكر عليه ذلك لمخالفة الإمام ولم يقدر الجمع الكثير في ظاهر الرواية
بشئ فروي عن أبي يوسف أنه قدره بعدد القسامة خمسين رجلا، وعن خلف بن أيوب
خمسمائة ببلخ قليل، وقيل ينبغي أن يكون من كل مسجد جماعة واحد واثنان، وعن محمد
أنه يفوض مقدار القلة والكثرة إلى رأي الإمام. كذا في البدائع. وفي فتح القدير: والحق ما
روي عن محمد وأبي يوسف أيضا أن العبرة لتواتر الخبر ومجيئه من كل جانب.
وفي الفتاوي الظهيرية: وإن كانت السماء مصحبة لا تقبل شهادة الواحد في ظاهر
الرواية بل يشترط العدد، واختلفوا في تقديره ا ه‍. فظاهره أن ظاهر الرواية لا يشترط الجمع
العظيم وإنما يشترط العدد وهو يصدق على اثنين فكان مرجحا لرواية الحسن اتي اخترناها
آنفا، ويدل على ذلك أيضا ما في الفتاوي الولوالجية: وإن كانت السماء مصحية لا تقبل
شهادة الواحد، وعن أبي حنيفة أنه يقبل لأنه اجتمع في هذه الشهادة ما يوجب القبول وهو
العدالة والاسلام وما يوجب الرد وهو مخالفة الظاهر فرجح ما يوجب القبول احتياطا لأنه إذا
صام يوما من شعبان كان خيرا من أن يفطر يوما من رمضان. وجه ظاهر الرواية أنه اجتمع
ما يوجب القبول وما يوجب الرد فرجح جانب الرد لأن الفطر في رمضان من كل وجه جائز

469
بعذر كما في المريض والمسافر، وصوم رمضان قبل رمضان لا يجوز بعذر من الاعذار فكان
المصير إلى ما يجوز بعذر أولى. ثم إذا لم تقبل شهادة الواحد واحتيج إلى زيادة العدد عن أبي
حنيفة أنه تقبل شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، وعن أبي يوسف أنه لا يقبل ما لم يشهد على
ذلك جمع عظيم وذلك مقدر بعدد القسامة، وعن خلف بن أيوب خمسمائة ببلخ قليل، وعن
أبي حفص الكبير أنه شرط الوفا، وعن محمد ما استكثره الحاكم فهو كثير وما استقله فهو
قليل. هذا إذا كان الذي شهد بذلك في المصر، أما إذا جاء من مكان آخر خارج المصر فإنه
تقبل شهادته إذا كان عدلا ثقة لأنه يتيقن في الرؤية في الصحاري ما لم يتيقن في الأمصار لما
فيها من كثرة الغبار، وكذا إذا كان في المصر في موضع مرتفع وهلال الفطر إذا كانت السماء
مصحية كهلال رمضان ا ه‍. فهذا يدل على ترجيح رواية الحسن وأن ظاهر الرواية اعتبار
العدد لا الجمع الكثير لكن فرقه بين من كان بالمصر وخارجه وبين المكان المرتفع وغيره قول
الطحاوي: أما ظاهر الرواية فلا يقبل فيه خبر الواحد مطلقا كما في غاية البيان وفتح القدير
قوله: (والأضحى كالفطر) أي هلال ذي الحجة كهلال شوال فلا يثبت بالغيم إلا برجلين أو
رجل وامرأتين، وأما حالة الصحو فالكل سواء لا بد من زيادة العدد على ما قدمناه، وإنما
كان كهلاله دون رمضان لأنه تعلق به حق العباد وهو التوسع بلحوم الأضاحي. وذكر في
النوادر عن أبي حنيفة أنه كرمضان لأنه تعلق به أمر ديني وهو وجوب الأضحية، والأول
ظاهر المذهب كذا في الخلاصة. وهو ظاهر الرواية وهو الأصح كذا في الهداية وشروحها
والتبيين. وصحح الثاني صاحب التحفة فاختلف التصحيح لكن تأيد الأول بأنه المذهب ولم
يتعرض لحكم بقية الأهلية التسعة. وذكر الإمام الأسبيجابي في شرح مختصر الطحاوي الكبير:
وأما في هلال الفطر والأضحى وغيرهما من الأهلة فإنه لا يقبل فه إلا شهادة رجلين أو رجل
وامرأتين عدول أحرار غير محدودين كما في سائر الأحكام ا ه‍.

470
قوله: (ولا عبرة باختلاف المطالع) فإذا رآه أهل بلدة ولم يره أهل بلدة أخرى وجب
عليهم أن يصوموا برؤية أولئك إذا ثبت عندهم بطريق موجب ويلزم أهل المشرق برؤية أهل
المغرب. وقيل يعتبر فلا يلزمهم برؤية غيرهم إذا اختلف المطلع وهو الأشبه. كذا في التبيين،
والأول ظاهر الرواية وهو الأحوط. كذا في فتح القدير وظاهر المذهب وعليه الفتوى كذا في
الخلاصة أطلقه فشمل ما إذا كان بينهما تفاوت بحيث يختلف المطلع أولا، وقيدنا بالثبوت
المذكور لأنه لو شهد جماعة أن أهل بلد كذا رأوا هلال رمضان قبلكم بيوم فصاموا وهذا اليوم

471
ثلاثون بحسابهم ولم يروا هؤلاء الهلال. لا يباح فطر غد ولا تترك التراويح هذه الليلة لأن
هذه الجماعة لم يشهدوا بالرؤية ولا على شهادة غيرهم وإنما حكوا رؤية غيرهم، ولو شهدوا
أن قاضي بلد كذا شهد عنده اثنان برؤية الهلال في ليلة كذا وقضي بشهادتهما جاز لهذا
القاضي أن يحكم بشهادتهما لأن قضاء القاضي حجة وقد شهدوا به، وأما ما استدل به
الشارح على اعتبار اختلاف المطالع من واقعة الفضل مع عبد الله بن عباس حين أخبره أنه
رأى الهلال بالشام ليلة الجمعة ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فلم يعتبره وإنما اعتبر ما
رآه أهل المدينة ليلة السبت، فلا دليل فيه لأنه لم يشهد على شهادة غيره ولا على حكم
الحاكم، ولئن سلم فلانه لم يأت بلفظ الشهادة، ولئن سلم فهو واحد لا يثبت بشهادته
وجوب القضاء على القاضي. والمطالع جمع مطلع - بكسر اللام - موضع الطلوع. كذا في
ضياء الحلوم.
باب ما يفسد الصوم وما لا يفسده
الفساد والبطلان في العبادات بمعنى واحد وهو عدم الصحة، وهي عند الفقهاء اندفاع
وجوب القضاء بالاتيان بالشرائط والأركان، وقد يظن أن الصحة والفساد في العبادات من
أحكام الشرع الوضعية وقد أنكر ذلك. وإنما حكمنا به عقلي على ما عرف في تحرير الأصول
بخلافهما في المعاملات فإن ترتب أثر المعاملة مطلوب التفاسخ شرعا هو الفساد، وغير

472
مطلوب التفاسخ هو الصحة، وعدم ترتب الأثر أصلا هو البطلان قوله (فإن أكل الصائم أو
شرب أو جامع ناسيا إلى آخره) لحديث الجماعة إلا النسائي من نسي وهو صائم فأكل أو
شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه (1) والمراد بالصوم الشرعي لا اللغوي الذي هو
مطلق الامساك للاتفاق على أن الحمل على المفهوم الشرعي حيث أمكن في لفظ الشارع
واجب خصوصا قد ورد في صحيح ابن حبان ولا قضاء عليك وعند البزار فلا يفطر.
وألحق الجماع به دلالة للاستواء في الركنية لا قياسا فاندفع به القياس المقتضي للفطر لفوات
الركن. وحقيقة النسيان عدم استحضار الشئ وقت حاجته قالوا: وليس عذرا في حقوق
العباد وفي حقوقه تعالى عذر في سقوط الاثم، أما الحكم فإن كان مع مذكر ولا داعي إليه
كأكل المصلي لم يسقط لتقصيره بخلاف سلامه في القعدة فإنه ساقط لوجود الداعي، وإن لم
يكن مع مذكر وله داع كأكل الصائم سقط، وإن لم يكن معه مذكر ولا داع فأولى بالسقوط
كترك الذابح التسمية. وخرج ما إذا أكل ناسيا فذكره إنسان بالصوم ولم يتذكر فأكل فسد
صومه في الصحيح خلافا لبعضهم - كذا في الظهيرية - لأنه أخبر بأن هذا الاكل حرام
عليه، وخبر الواحد في الديانات مقبول فكان يجب أن يلتفت إلى تأمل الحال لوجود المذكر.
والأولى أن لا يذكره إن كان شيخا لأن ما يفعله الصائم ليس بمعصية فالسكوت عنه ليس

473
بمعصية، ولان الشيخوخة مظنة المرحمة. وإن كان شابا يقوى على الصوم يكره أن لا يخبره،
والظاهر أنها تحريمية لأن الولوالجي قال: يلزمه أن يخبره ويكره تركه. أطلقه فشمل الفرض
والنفل ولو بدأ بالجماع ناسيا فتذكر إن نزع من ساعته لم يفطر، وإن دام على ذلك حتى أنزل
فعليه القضاء ثم قيل لا كفارة عليه، وقيل هذا إذا لم يحرك نفسه بعد التذكر حتى أنزل فإن
حرك نفسه بعده فعليه الكفارة كما لو نزع ثم أدخل. ولو جامع عامدا قبل الفجر وطلع
وجب النزع في الحال فإن حرك نفسه فهو على هذا نظير ما قالوا لو أولج ثم قال لها إن
جامعتك فأنت طالق أو حرة إن نزع أو لم ينزع ولم يتحرك حتى أنزل لم تطلق ولا تعتق، وإن
حرك نفسه طلقت وعتقت ويصير مراجعا بالحركة الثانية ويجب للأمة العقر ولا حد عليهما.
كذا في فتح القدير. وفي الفتاوى الظهيرية: رجل أصبح يوم الشك متلوما ثم أكل ناسيا ثم
ظهر أنه من رمضان ونوى صوما ذكر في الفتاوى أنه لا يجوز. وفي البقالي: النسيان قبل النية
كما بعدها وصححه في القنية. قيد بالناسي لأنه لو كان مخطئا أو مكرها فعليه القضاء خلافا
للشافعي فإنه يعتبر بالناسي. ولنا أنه لا يغلب وجوده وعذر النسيان غالب، ولان النسيان
من قبل من له الحق، وإلا كراه من قبل غيره فيفترقان كالمقيد والمريض العاجز عن الأداء
بالرأس في قضاء الصلاة حيث يقضي المقيد لا المريض. وأما حديث رفع عن أمتي الخطأ
فهو من باب الاقتضاء وقد أريد الحكم الأخروي فلا حاجة إلى إرادة الدنيوي إذ هو لا عموم

474
له كما عرف في الأصول. وحقيقة الخطأ أن يقصد بالفعل غير المحل الذي يقصد به الجناية
كالمضمضة تسري إلى الحلق، والفرق بين صورة الخطأ والنسيان هنا أن المخطئ ذاكر للصوم
وغير قاصد للشرب والناسي عكسه. كذا في غاية البيان. وقد يكون المخطئ غير ذاكر
للصوم وغير قاصد للشرب لكنه في حكم الناسي هنا كما في النهاية. والمؤاخذة بالخطأ جائزة
عندنا خلافا للمعتزلة وتمامه في تحرير الأصول. ومما ألحق بالمكره النائم إذا صب في حلقه ما
يفطر، وكذا النائمة إذا جامعها زوجها ولم تنتبه.
وفي الفتاوى الظهيرية: لو أن رجلا رمى إلى رجل حبة عنب فدخلت حلقه وهو ذاكر
لصومه يفسد صومه، وما عن نصير بن يحيى فيمن اغتسل ودخل الماء في حلقه لم يفسد اه‍.
خلاف المذهب. وفي فتاوى قاضيخان: النائم إذا شر ب فسد صومه وليس هو كالناسي لأن
النائم ذاهب العقل وإذا ذبح لم تؤكل ذبيحته وتؤكد ذبيحة من نسي التسمية.
قوله (أو احتلم أو أنزل بنظر) أي لا يفطر لحديث السنن لا يفطر من قاء ولا من
احتلم ولا من احتجم ولأنه لم يوجد الجماع صورة لعدم الايلاج حقيقة ولا معنى لعدم
الانزال عن شهوة المباشرة، ولهذا ذكر الولوالجي في فتاواه بأن من جامع في رمضان قبل
الصبح قلما خشي أخرج فأنزل بعد الصبح لا يفسد صومه وهو بمنزله الاحتلام لوجود صورة الجماع معنى. قالوا: الصائم إذا
عالج ذكره حتى أمني يجب عليه القضاء وهو المختار. كذا في التجنيس والولوالجية، وبه قال
عامة المشايخ. كذا في النهاية. واختار أبو بكر الإسكاف أنه لا يفسد وصححه في غاية البيان
بصيغة: الأصح عندي قول أبي بكر لعدم الصورة والمعنى وهو مردود، لأن المباشر المأخوذة
في معنى الجماع أعم من كونها مباشرة الغير أولا بأن يراد مباشرة هي سبب الانزال، سواء
كان ما بوشر مما يشتهي عادة أو لا، ولهذا أفطر بالانزال في فرج البهيمة والميتة وليسا مما
يشتهي عادة. وأما ما نقل عن أبي بكر من عدم الافطار بالانزال في البهيمة فقال الفقيه أبو
الليث: إن هذا القول زلة منه. وهل يحل الاستمناء بالكف خارج رمضان؟ إن أراد الشهوة لا
يحل لقوله عليه السلام ناكح اليد ملعون وإن أراد تسكين الشهوة يرجى أن لا يكون عليه

475
وبال. كذا في الولوالجية. وظاهره أنه في رمضان لا يحل مطلقا. أطلق في النظر فشمل ما
إذا نظر إلى وجهها أو فرجها، كرر النظر أو لا. وقيد به لأنه لو قبلها بشهوة فأنزل فسد
صومه لوجود معنى الجماع بخلاف ما إذا لم ينزل حيث لا يفسد لعدم المنافي صورة ومعنى
وهو محمل قوله أو قبل بخلاف الرجعة والمصاهرة لأن الحكم هناك أدبر على السبب على ما
يأتي إن شاء الله تعالى واللمس والمباشرة والمصافحة والمعانقة كالقبلة ولا كفارة عليه لأنها تفتقر
إلى كمال الجناية لما بينا أن الغالب فيها العقوبة لأن الكفارة لجبر الفائت وهو قد حصل فكانت
زاجرة فقط ولهذا تندرئ بالشبهات. ولا بأس بالقبلة إذا أمن على نفسه الجماع والانزال،
ويكره إذا لم يأمن لأن عينه ليس بمفطر ربما يصير فطرا بعاقبته، فإن أمن اعتبر عينه وأبيح
له، وإن لم يأمن اعتبر عاقبته ويكره له والمباشرة كالقبلة في ظاهر الرواية. وعن محمد أنه كره
المباشرة الفاحشة، واختار في فتح القدير رواية محمد لأنها سبب غالب للانزال، وجزم
بالكراهة من غير ذكر خلاف الولوالجي في فتاواه، ويشهد للتفصيل المذكور في القبلة الحديث
من ترخيصه للشيخ ونهيه الشاب والتقبيل الفاحش كالمباشرة الفاحشة وهو أن يمضغ شفتيها.
كذا في معراج الدراية. وقيدنا بكونه قبلها لأنها لو قبلته ووجدت لذة الانزال ولم تر بللا فسد
صومها عند أبي يوسف خلافا لمحمد، وكذا في وجوب الغسل كذا في المعراج. والمراد
باللمس اللمس بلا حائل فإن مسها وراء الثياب فأمنى فإن وجد حرارة جلدها فسد وإلا
فلا. ولو مست زوجها فأنزل لم يفسد صومه، وقيل إن تكلف له فسد كذا في المعراج أيضا.
وفي الذخيرة: ولو مس فرج بهيمة فأنزل لا يفسد صومه بالاتفاق. وفي الفتاوى الظهيرية:
فإن عملت المرأتان عمل الرجال من الجماع في رمضان إن أنزلتا فعليهما القضاء، وإن لم
ينزلا فلا غسل ولا قضاء. وأشار إلى أنه لو أصبح جنبا لا يضره كذا في المحيط.
قوله (أو ادهن أو احتجم أو اكتحل أو قبل) أي لا يفطر لأن الادهان غير مناف
للصوم لعدم وجود المفطر صورة ومعنى، والداخل من المسام لا من المسالك فلا ينافيه كما لو
اغتسل بالماء البارد ووجد برده في كبده. وإنما كره أبو حنيفة الدخول في الماء والتلفف
بالثوب المبلول لما فيه من إظهار الضجر في إقامة العبادة لا لأنه قريب من الافطار. كذا في
فتح القدير. وقال أبو يوسف: لا يكره ذلك. كذا في المعراج. وكذا الاحتجام غير مناف

476
أيضا ولما روينا من الحديث وهو مكروه للصائم إذا كان يضعفه عن الصوم، أما إذا كان لا
يخافه فلا بأس. كذا في غاية البيان وكذا الاكتحال وأطلقه فأفاد أنه لا فرق بين أن يجد
طعمه في حلقه أو لا، وكذا لو بزق فوجد لونه في الأصح لأن الموجود في حلقه أثره لا
عينه كما لو ذاق شيئا، وكذا لو صب في عينه لبن أو دواء مع الدهن فوجد طعمه أو
مرارته في حلقه لا يفسد صومه. كذا في الظهيرية. وفي الولوالجية والظهيرية: ولو مص
الهليلج وجعل يمضغها فدخل البزاق حلقه ولا يدخل عينها في جوفه لا يفسد صومه،
فإن فعل هذا بالفانيد أو السكر يلزمه القضاء والكفارة. وفي مآل الفتاوى: لو أفطر على
الحلاوة فوجد طعمها في فمه في الصلاة لا تفسد صلاته، وأما القبلة فقد تقدم الكلام
عليه قوله (أو دخل حلقه غبار أو ذباب وهو ذاكر لصومه) يعني لا يفطر لأن الذباب لا
يستطاع الامتناع عنه فشابه الدخان والغبار لدخولهما من الانف إذا طبق الفم. قيد بما ذكر
لأنه لو وصل لحلقه دموعه أو عرقه أو دم رعافه أو مطر أو ثلج فسد صومه لتيسر طبق
الفم وفتحه أحيانا مع الاحتراز عن الدخول، وإن ابتلعه متعمدا لزمته الكفارة. واعتبار
الوصول إلى الحلق في الدمع ونحوه مذكور في فتاوى قاضيخان وهو أولى مما في الخزانة
من تقييد الفساد بوجدان الملوحة في الأكثر من قطرتين ونفى الفساد في القطرة والقطرتين
لأن القطرة يجد ملوحتها فلا معول عليه، والتعليل في المطر بما ذكرنا أولى مما في الهداية
والتبيين من التعليل بإمكان أن تأويه خيمة أو سقف فإنه يقتضي أن المسافر الذي لا يجد ما
يأويه ليس حكمه كغيره وليس كذلك. وفي الفتاوى الظهيرية: وإذا نزل الدموع من عينيه
إلى فمه فابتلعها يجب القضاء بلا كفارة. وفي متفرقات الفقيه أبي جعفر: إن تلذذ بابتلاع
الدموع يجب القضاء مع الكفارة وغبار الطاحونة كالدخان. وفي الولوالجية: الدم إذا خرج
من الأسنان ودخل الحلق إن كانت الغلبة للبزاق لا يفسد صومه، وإن كانت للدم فسد،
وكذا إن استويا احتياطا ثم قال: الصائم إذا دخل المخاط أنفه من رأسه ثم استشمه ودخل
حلقه على تعمد منه لا شئ عليه لأنه بمنزلة ريقه إلا أن يجعله على كفه ثم يبتلعه فيكون
عليه القضاء. وفي الظهيرية: وكذا المخاط والبزاق يخرج من فيه أو أنفه فاستشمه واستنشقه
لا يفسد صومه. وفي فتح القدير: لو ابتلع ريق غيره أفطر ولا كفارة عليه، وليس على

477
إطلاقه فسيأتي في آخر الكتاب في مسائل شتى أنه لو ابتلع بزاق غيره كفر لو صديقه وإلا
لا وأقره عليه الشارح الزيلعي.
قوله (أو أكل ما بين أسنانه) أي لا يفطر لأنه قليل لا يمكن الاحتراز عنه فجعل
بمنزلة الريق، ولم يقيده المصنف بالقلة مع أن الكثير مفسد موجب للقضاء دون الكفارة عند
أبي يوسف خلافا لزفر لما أن الكثير لا يبقى بين الأسنان، وهو مقدار الحمصة على رأي
الصدر الشهيد، أو ما يمكن أن يبتلعه من غير ريق على ما اختاره الدبوسي واستحسنه ابن
الهمام وما دونه قليل. وأطلقه فشمل ما إذا ابتلعه أو مضغه وسواء قصد ابتلاعه أو لا كما
في غاية البيان. وقيد بأكله لأنه لو أخرجه ثم ابتلعه فسد صومه كما لو ابتلع سمسمة أو حبة
حنطة من خارج لكن تكلموا في وجوب الكفارة والمختار الوجوب كذا في فتاوى قاضيخان.
وهو الصحيح كذا في المحيط بخلاف ما لو مضغها حيث لا يفسد لأنها تتلاشى إلا إذا كان
قدر الحمصة فإن صومه يفسد وفي الكافي في السمسمة قال إن مضغها لا يفسد إلا أن
وجد طعمها في حلقه. قال في فتح القدير: وهذا حسن جدا فليكن الأصل في كقليل
مضغه. وصرح في المحيط بما في الكافي. وفي الفتاوى الظهيرية: روي عن محمد أنه خرج
على أصحابه يوما وسألهم عن هذه المسألة فقال: ماذا تقولون في صائم رمضان إذا ابتلع
سمسمة واحدة كما هي أيفطر؟ قالوا: لا. قال: أرأيتم لو أكل كفا من سمسم واحدة بعد
واحدة وابتلع كما هي؟ قالوا: نعم وعليه الكفارة. قال: بالأولى أم بالأخيرة؟ قالوا: لا بل
بالأولى. قال الحاكم الإمام محمد بن يوسف: فعلى قياس هذه الرواية يجب القضاء مع الكفارة
إذا ابتلعها كما هي اه‍. وتقدم أن وجوب الكفارة هو المختار. وذكر قبلها: وإذا ابتلع حبة
العنب إن مضغها قضى وكفر، وإن ابتلعها كما هي إن لم يكن معها تفروقها فعليه القضاء
والكفارة بالاتفاق، وإن كان معها تفروقها قال عامة العلماء: عليه القضاء مع الكفارة. وقال
أبو سهيل: لا كفارة عليه وهو الصحيح لأنها لا تؤكل مع ذلك عادة. وأراد بالتفروق هاهنا
ما يلتزق بالعنقود من حب العنب وثقبته مسدودة به. وإن ابتلع تفاحة روى هشام عن محمد
أن عليه الكفارة ثم ما يفسد الصوم فإنه يفسد الصلاة وهو قدر الحمصة. وفي البزازية: أكل

478
بعض لقمة وبقي البعض بين أسنانه فشرع فيها وابتلع الباقي لا تبطل الصلاة ما لم تبلع ملء
الفم وقدر الحمصة لا يفسد الصلاة بخلا ف الصوم قوله (أو قاء وعاد لم يفطر) لحديث السنن
من ذرعه القئ وهو صائم فليس عليه القضاء وإن استقاء فليقض (1). وإنما ذكر العود
ليفيد أن مجرد القئ بلا عود لا يفطر بالأولى. وأطلقه فشمل ما إذا ملاء الفم أو لا، وفيما إذا
عاد ملا الفم خلاف أبي يوسف والصحيح قول محمد لعدم وجود الصنع ولعدم وجود
صورة الفطر وهو الابتلاع وكذا معناه لأنه لا يتغذى به بل النفس تعافه.
قوله (وإن أعاده أو استقاء أو ابتلع حصاة أو حديد اقضي فقط) أي أعاد القئ أو قاء
عامدا وابتلع ما لا يتغذى به ولا يتداوى به عادة فسد صومه ولزمه القضاء ولا كفارة عليه.
وأطلق في الإعادة فشمل ما إذا لم يملا الفم وهو قول محمد لوجود الصنع. وقال أبو
يوسف: لا يفسد لعدم الخروج شرعا وهو المختار فلا بد من التقييد بملء الفم. وأطلق في
الاستقاء فشمل ما إذا لم يملا الفم وهو قول محمد، ولا يفطر عند أبي يوسف وهو المختار لكن
ذكر المصنف في كافيه أن ظاهر الرواية كقول محمد. وإنما لم يقيد الاستقاء بالعمد كما في
الهداية لم قدمه أن النسيان لا يفطر، وما في غاية البيان أن ذكر العمد مع الاستقاء تأكيد لأنه
لا يكون إلا مع العمد مردود، لأن العمد يخرج النسيان أي متعمد الفطرة لا متعمدا للقئ.
فالحاصل أن صور المسائل اثنا عشر لأنه لا يخلو إما إن ذرعه القئ أو استقاء، وكل منهما لا

479
يخلو إما أن يملا الفم أو لا، وكل من الأربعة إما أن عاد بنفسه أو أعاده أو خرج ولم يعده
ولا عاد بنفسه وأن صومه لا يفسد على الأصح في الجميع إلا في مسألتين: في الإعادة
بشرط ملء الفم، وفي الاستقاء بشرط ملء الفم، وأن وضوءه ينتقض إلا فيما إذا لم يملا
الفم، وأما الصلاة ففي الظهيرية منها: لو قاء أقل من ملء الفم لم تفسد صلاته، وإن أعاده
إلى جوفه يجب أن يكون على قيا س الصوم عند أبو يوسف لا تفسد، وعن محمد تفسد، وإن
تقيأ في صلاته إن كان أقل من ملء الفم لا تفسد صلاته، وإن كان ملء الفم تفسد صلاته
اه‍. وفي الخلاصة من فصل الحدث في الصلاة: فلو قاء أن كان من غير قصده يبني إذا لم
يتكلم، وإن تقيأ لا يبني. وهذا إذا كان ملء الفم، فإن كان أقل من ذلك لا تفسد صلاته
فلا حاجة إلى البناء اه‍. وأطلق في أنواع القئ والاستقاء فشمل ما إذا استقاء بلغما ملء الفم
وهو قول أبي يوسف، وعند أبي حنيفة ومحمد لا يفسد صومه بناء على الاختلاف في انتقاض
الطهارة، وقول أبي يوسف هنا أحسن، وقولهما في عدم النقض به أحسن لأن الفطر إنما
أنيط بما يدخل أو بالقئ عمدا من غير نظر إلى طهارة ونجاسة فلا فرق بين البلغم وغيره
بخلاف نقض الطهارة. كذا في فتح القدير. وتعبيري بالاستقاء في البلغم أولى مما في الشرح
وغيره من التعبير بالقئ كما لا يخفى. ولو استقاء مرارا من مجلس ملء فيه لزمه القضاء، إن

480
كان في مجالس أو غدوة ثم نصف النهار ثم عشية لا يلزمه. كذا في خزانة الأكمل. وتعبيري
بالاستقاء أولى من التعبير بالقئ كما في الشرح.
وينبغي أن يعتبر عند محمد اتحاد السبب لا المجلس كما في نقض الوضوء وأن يكون
هو الصحيح كما في النقيض، وينبغي أن يكون ما في الخزانة مفرعا على قول أبي يوسف، أما
على قول محمد فإنه يبطل صومه بالمرة الأولى. وأما إذا ابتلع ما لا يتغذى به ولا يتداوى به
كالحصاة والحديد فلوجود صورة الفطر ولا كفارة لعدم معناه وهو إيصال ما فيه نفع البدن إلى
الجوف فقصرت الجناية وهي لا تجب إلا بكمالها فانتفت. وفي القنية: أفطر في رمضان مرة
بعد أخرى بتراب أو مدر لأجل المعصية فعليه الكفارة زجرا له، وكتب غيره نعم الفتوى على
ذلك وبه أفتى أئمة الأمصار. وإنما عبر بالابتلاع دون الاكل لأنه عبارة عن إيصال ما يتأتى
فيه المضغ وهولا يتأتى في الحصاة، وكذا كل ما لا يتغذى به ولا يتداوى به كالحجر
والتراب والدقيق على الأصح والأرز والعجين والملح إلا إذا اعتاد أكله وحده، ولا في النواة
والقطن والكاغد والسفرجل إذا لم يدرك ولا وهو مطبوخ، ولا في ابتلاع الجوزة الرطبة،
ويجب لو مضغها أو مضغ اليابسة لا إن ابتلعها، وكذا يابس اللوز والبندق والفستق إن ابتلعه
لا يجب، وإن مضغه وجبت كما يجب في ابتلاع اللوزة الرطبة لأنها تؤكل كما هي بخلاف
الجوزة، وابتلاع التفاحة كاللوزة والرمانة والبيضة كالجوزة، وفي ابتلاع البطيخة الصغيرة
والخوخة الصغيرة والهليلجة روي عن محمد وجوب الكفارة، وتجب بأكل اللحم النئ وإن

481
كان ميتة منتنا لا أن دود فلا تجب. واختلف في الشحم واختار أبو الليث الوجوب وصححه
في الظهيرية، فلو كان قديدا وجب بلا خلاف. وتجب بأكل الحنطة وقضمها لا إن مضغ
قمحة للتلاشي، ولا تجب بأكل الشعير إلا إذا كان مقليا. كذا في الظهيرية. وتجب بالطين
الأرمني وكذا بغيره على من يعتاد أكله كالمسمى بالطفل لا على من لا يعتاده، ولا بأكل الدم
في ظاهر الرواية. وإن أكل ورق الشجر، فإن كان مما يؤكل كورق الكرم فعليه القضاء
والكفارة، وإن كان مما لا يؤكل كورق الكرم إذا عظم فعليه القضاء دون الكفارة. ولو أكل
قشور الرمان بشحمتها أو ابتلع رمانة فلا كفارة، وهو محمول على ما إذا أكل مع القشرة. ولو
أكل قشر البطيخ إن كان يابسا وكان بحال يتقذر منه فلا كفارة، وإن كان طريا لا يتقذر منه
فعليه الكفارة، وإن أكل كافورا أو مسكا أو زعفرانا فعليه الكفارة، وإذا أكل لقمة كانت في
فيه وقت السحر وهو ذاكر لصومه لا رواية لها في الأصول. قال أبو حفص الكبير: إن
كانت لقمة غيره لا كفارة عليه، وإن كانت لقمته فابتلعها من غير أن يخرجها من فمه فعليه
الكفارة هو الصحيح، وإن أخرجها إن بردت فلا كفارة لأنها صارت مستقذرة، وإن لم تبرد
وجبت لأنها قد تخرج لأجل الحرارة ثم تدخل ثانيا. كذا في الظهيرية.
قوله (ومن جامع أو جومع أو أكل أو شرب عمدا غذاء أو دواء قضى وكفر ككفارة
الظهار) أما القضاء فلاستدراك المصلحة الفائتة، وأما الكفارة فلتكامل الجناية. أطلقه فشمل ما
إذا لم ينزل لأن الانزال شبع لأن قضاء الشهوة يتحقق دونه وقد وجب الحد بدونه وهو عقوبة
محضة فما فيه معنى العبادة أولى. وشمل الجماع في الدبر كالقبل وهو الصحيح والمختار أنه
بالاتفاق. كذا ذكره الولوالجي لتكامل الجناية لقضاء الشهوة، وإنما ادعى أبو حنيفة النقصان
في معنى الزنا من حيث عدم فساد الفراش به ولا عبرة به في إيجاب الكفارة. وأشار بقوله
أو جومع ليفيد بعد التنصيص على الوجوب على المفعول به الطائع، امرأة أو رجلا، إلى أن

482
المحل لا بد أن يكون مشتهى على الكمال فلا تجب الكفارة لو جامع بهيمة أو ميتة ولو أنزل
كما في الظهيرية، وأما الصغيرة التي لا تشتهى فظاهر ما في شرح المجمع لابن الملك وجوب
الكفارة بوطئها، وروي عن أبي حنيفة عدم الوجوب مع أنهم صرحوا في الغسل بأنه لا يجب
بوطئها إلا بالانزال كالبهيمة، وجعلوا المحل ليس مشتهى على الكمال ومقتضاه عدم وجوب
الكفارة مطلقا. وفي القنية: فأما إتيان الصغيرة التي لا تشتهى فلا رواية فيه، واختلفوا في
وجوب الكفارة. وقيد بالعمد لاخراج المخطئ والمكره فإنه وإن فسد صومهما لا تلزمهما
الكفارة ولو حصلت الطواعية في وسط الجماع بعدما كان ابتداؤه بالاكراه لأنها إنما حصلت
بعد الافطار كما في الظهيرية. قال في الاختيار: إلا إذا كان الاكراه منها فإنها تجب عليهما.
وفي الفتاوى الظهيرية: المرأة إذا أكرهت زوجها في رمضان على الجماع فجامعها مكرها
فالأصح أنه لا تجب الكفارة عليه لأنه مكره في ذلك وعليه الفتوى. وأشار بقوله أكل أو
شرب إلى أنه لا بد من وصوله إلى المسلك المعتاد إذ لو وصل من غيره فلا كفارة كما
سنذكره. وأشار ربما سيأتي من قوله كأكلة عمدا بعد أكله ناسيا من عدم وجوب الكفارة
إلى أن الكفارة لا تجب إلا بإفساد صوم تام قطعا حتى لو صام يوما من رمضان ونوى قبل
الزوال ثم أفطر لا يلزمه الكفارة عند أبي حنيفة خلافا لهما، لأن في هذا الصوم شبهة. وعلى
قياس هذا لصام يوما من رمضان بمطلق النية ثم أفطر ينبغي أن لا تلزمه الكفارة لمكان
الشبهة. كذا في الظهيرية. ولو أخبر بأن الفجر لم يطلع فأكل ثم ظهر خلافه لا كفارة مطلقا

483
وبه أخذ أكثر المشايخ. ولو أخبر بطلوعه فقال إذا لم أكن صائما آكل حتى أشبع ثم ظهر أن
أكله الأول قبل طلوع الفجر وأكله الآخر بعد الطلوع، فإن كان المخبر جماعة وصدقهم لا
كفارة، وإن كان المخبر واحدا فعليه الكفارة، عدلا كان أو غير عدل، لأن شهادة الفرد في
مثل هذا لا تقبل. كذا في الظهيرية. وإذا أفطرت على ظن أنه يوم حيضها فلم تحض،
إلا ظهر وجوب الكفارة كما لو أفطر على ظن أنه يوم مرضه أو أفطر بعد إكراهه على السفر
قبل أن يخرج ثم عفي عنه، أو شرب بعدما قدم ليقتل ثم عفي عنه ولم يقتل. ومما يسقطها
حيضها أو نفاسها بعد إفطارها في ذلك اليوم، وكذا مرضها وكذا مرضه بعد إفطاره عمدا
بخلاف ما إذا جرح نفسه بعد إفطاره عمدا فإنها لا تسقط على الصحيح كما لو سافر بعد
إفطاره عمدا - كذا في الظهيرية - بخلاف ما لو أصبح مقيما صائما ثم سافر فأفطر فإنها تسقط
لأن الأصل أنه إذا صار في آخر النهار على صفة لو كان عليها في أول اليوم يباح له الفطر
تسقط عنه الكفارة كذا في فتاوى قاضيخان ولو جامع مرارا في أيام من رمضان واحد ولم
يكفر كان عليه كفارة واحد لأنها شرعت للزجر وهو يحصل بواحدة، فلو جامع وكفر ثم
جامع مرة أخرى فعليه كفارة أخرى في ظاهر الرواية للعلم بأن الزجر لم يحصل بالأول. ولو
جامع في رمضانين فعليه كفارتان وإن لم يكفر للأولى في ظاهر الرواية وهو الصحيح. كذا
في الجوهرة، وقال محمد: عليه واحدة. قال في الاسرار: وعليه الاعتماد. وكذا في
البزازية. ولو أفطر في يوم فأعتق ثم في آخر فأعتق ثم كذلك ثم استحقت الرقبة الأولى أو
الثانية لا شئ عليه لأن المتأخر يجزئه، ولو استحقت الثالثة فعليه إعتاق واحدة لأن ما تقدم
لا يجزئ عما تأخر، ولو استحقت الثانية أيضا فعليه واحدة للثاني والثالث، وكذا لو
استحقت الأولى تنزيلا للمستحق منزلة المعدوم. ولو استحقت الأولى والثالثة دون الثانية أعتق
واحدة للثالث لأن الثانية كفت عن الأولى، والأصل أن الثاني يجزئ عما قبله لا عما بعده.
كذا في فتح القدير والبدائع.
وأفاد بالتشبيه أن هذه الكفارة مرتبة فالواجب العتق فإن لم يجد فعليه صيام شهرين
متتابعين فإن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا لحديث الاعرابي المروي في الكتب الستة. فلو

484
أفطر يوما في خلال المدة بطل ما قبله ولزمه الاستقبال، سواء أفطر لعذر أو لا. وكذا في
كفارة القتل والظهار للنص على التتابع إلا لعذر الحيض لأنها لا تجد شهرين عادة لا تحيض
فيهما لكنها إذا تطهرت تصل بما مضى، فإن لم تصل استقبلت. كذا في الولوالجية. وكذا
صوم كفارة اليمين متتابع فهي أربعة بخلاف قضاء رمضان وصوم المتعة وكفارة الحلق وكفارة
جزاء الصيد فإنه غير متتابع، والأصل. أن كل كفارة شرع فيها عتق فإن صومه متتابع، وما
لم يشرع فيها عتق فهو مخير. كذا في النهاية وإذا وجب عليه قضاء يومين من رمضان واحد
ينوي أول يوم وجب عليه وإن لم ينو جاز، وإن كانا من رمضانين ينوي قضاء رمضان
الأول، فإن لم ينو ذلك اختلف المشايخ فيه والصحيح الاجزاء. ولو صام الفقير إحدى وستين
يوما للكفارة ولم يعين اليوم للقضاء جاز ذلك - كذا ذكره الفقيه أبو الليث - وصار كأنه نوى
القضاء في اليوم الأول وستين يوما عن الكفارة. كذا في الفتاوى الظهيرية. وعلله في
التجنيس بأن الغالب أن الذي يصوم القضاء والكفارة يبدأ بالقضاء وفيه إشكال للمحقق
مذكور في فتح القدير. ولو نوى قضاء رمضان والتطوع كان عن القضاء في قول أبي يوسف
خلافا لمحمد فإن عنده يصير شارعا في التطوع بخلاف الصلاة فإنه إذا نوى التطوع والفرض
لا يصير شارعا في الصلاة أصلا عنده. ولو نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار كان عن
القضاء استحسانا، وفي القياس يكون تطوعا وهو قول محمد. كذا في الفتاوى الظهيرية.
وفي الفتاوى البزازية: من أكل نهارا في رمضان عيانا عمدا شهرة يقتل لأنه دليل الاستحلال
اه‍. واعلم أن هذا الذنب - أعني ذنب الافطار عمدا - لا يرتفع بالتوبة بل لا بد من التكفير
ولهذا قال في الهداية: وبإيجاب الاعتاق عرف أن التوبة غير مكفرة لهذه الجناية. وتبعه
الشارحون، وشبهه في غاية البيان بجناية السرقة والزنا حيث لا يرتفعان بمجرد التوبة بل
يرتفعان بالحد، وهذا يقتضي أن المراد بعدم الارتفاع عدمه ظاهرا، أما فيما بينه وبين ربه
فيرتفع بالتوبة بدون تكفير لأن حد الزنا يرتفع فيما بينه وبين الله بالتوبة كما صرحوا به. وأما
القاضي بعد ما رفع الزاني إليه لا يقبل منه التوبة بل يقيم الحد عليه، وقد صرح الشيخ زكريا

485
من الشافعية في شرح المنهج بارتفاعه بدون تكفير فيما بينه وبين الله تعالى. وعبر بمن
المفيدة للعموم في قوله من جامع أو جومع ليفيد أنه لافرق في الحكم وهو وجوب
الكفارة بين الذكر والأنثى والحر والعبد ولهذا البزازية بالوجوب على الجارية فيم
لو أخبرت سيدها بعد طلوع الفجر عالمة بطلوعه فجامعها مع عدم الوجوب عليه، وكذا لا
فرق بين السلطان وغيره ولهذا قال في البزازية: إذا لزم الكفارة على السلطان وهو موسر بما
له الحلال وليس عليه تبعة لاحد يفتي بإعتاق الرقبة. وقال أبو نصر محمد ابن سلام: يفتى
بصيام شهرين لأن المقصود من الكفارة الانزجار ويسهل عليه إفطار شهر واعتاق رقبة فلا
يحصل الزجر.
قوله (ولا كفارة بالانزال فيما دون الفرج) أي في غير القبل والدبر كالفخذ والإبط
والبطن لانعدام الجماع صورة وفسد صومه لوجوده معنى كما قدمناه في المباشرة والتقبيل
وعمل المرأتين كذلك كما قدمناه. وفي المغرب: الفرج قبل الرجل والمرأة باتفاق أهل اللغة،
وقوله القبل والدبر كلهما فرج يعني في الحكم اه‍ بلفظه. يعني لا في اللغة قوله (وبافساد
صوم غير رمضان) أي لا كفارة في إفساد صوم غير أداء رمضان لأن الافطار في رمضان أبلغ
في الجناية لهتك حرمة الشهر فلا يلحق به غيره لا قياسا إذا هو ممتنع لكونه على خلاف
القياس، ولا دلالة لأن إفساد غيره ليس في معناه، ولزوم إفساد الحج النفل والقضاء بالجماع
ليس إلحاقا بإفساد الحج الفرض بل هو ثابت ابتداء لعموم نص القضاء والاجماع. قوله: (وإذا
احتقن أو استعط أو أقطر في اذنه أو داوى جائفة أو آمة بدواء ووصل إلى جوفة أو دماغه
أفطر) لقوله عليه السلام الفطر مما دخل وليس مما خرج رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده
وهو مخصوص بحديث الاستقاء، أو الفطر فيه باعتبار أنه يعود شئ وإن قل حتى لا يحس
به. كذا في فتح القدير. فإن قلت: ظاهره أن الخارج لا يبطل الصوم أصلا إلا في
الاستقاء، والحصر ممنوع لأن الحيض والنفاس كل منهما يفسد الصوم كما صرح به في
البدائع. قلت: لا يرد لأن إفسادهما الصوم باعتبار منافاتهما الأهلية له شرعا على خلاف
القياس يإجماع الصحابة بخلاف الجنون والاغماء بعد النية لا يفسدان الصوم لأنهما لا ينافيان
أهلية الأداء وإنما ينافيان النية. كذا في البدائع. والرواية بالفتح في احتقن واستعط أي وضع
الحقنة في الدبر وصب السعوط وهو الدواء في الانف، وبالضم في أفطر. والجائفة اسم
لجراحة وصلت إلى الجوف، والآمة الجراحة وصلت إلى أم الدماغ. وأطلق في الأقطار في

486
الاذن فشمل الماء والدهن وهو في الدهن بلا خلاف، أما الماء فاختار الهداية عدم الافطار
به، سواء دخل بنفسه أو أدخله. وصرح الولوالجي بأنه لا يفسد صومه مطلقا على المختار معللا
بأنه لم يوجد الفطر صورة ولا معنى، لأنه مما لا يتعلق به صلاح البدن بوصوله إلى الدماغ.
وجعل السعوط كالإقطار في الاذن وصححه في المحيط. وفي فتاوى قاضيخان أنه إن خاض
الماء فدخل أذنه لا يفسد، وإن صب الماء في أذنه فالصحيح أنه يفسد لأنه وصل إلى الجوف
بفعله، ورجحه المحقق في فتح القدير. وبهذا يعلم حكم الغسل وهو صائم إذا دخل الماء في
أذنه وفي عمدة الفتاوى للصدر الشهيد فلو دخل الماء في الغسل أنفه أو أذنه ووصل إلى الدماغ لا
شئ عليه اه‍. ولو شد الطعام بخيط وأرسله في حلقه وطرف الخيط في يده لا يفسد الصوم
إلا إذا انفصل. وذكر الولوالجي أن الصائم إذا استقصى في الاستنجاء حتى بلغ مبلغ المحقنة
فهذا أقل ما يكون ولو كان يفسد صومه والاستقصاء لا يفعل لأنه يورث داء عظيما. وفي
الظهيرية: ولو أدخل خشبة أو نحوها وطرفا منها بيده لم يفسد صومه. قال في البدائع: وهذا
يدل على أن استقرار الداخل في الجوف شرط لفساد الصوم، وكذا لو أدخل أصبعه في أسته أو
أدخلت المرأة في فرجها هو المختار إلا إذا كانت الإصبع مبتلة بالماء أو الدهن فحينئذ يفسد
لوصول الماء أو الدهن. وقيل: إن المرأة إذا حشت الفرج الداخل فسد صومها، والصائم إذا
أصابه سهم وخرج من الجانب الآخر لم يفسد صومه ولو بقي النصل في جوفه يفسد صومه اه‍.
وفي شرح الجامع الصغير لقاضيخان: وإن بقي الرمح في جوفه اختلفوا فيه والصحيح أنه لا
يفسد لأنه لم يوجد منه الفعل ولم يصل إليه ما فيه صلاحه. وذكر الولوالجي: وأما الوجور في
الفم فإنه يفسد صومه لأنه وصل إلى جوف البدن ما هو مصلح للبدن فكان أكلا معنى لكن لا
تلزمه الكفارة لانعدام الاكل صورة. وعن أبي يوسف في السعوط والوجور الكفارة، ولو
استعط ليلا فخرج نهارا لا يفطر. وأطلق الدواء فشمل الرطب واليابس لأن العبرة للوصول لا
لكونه رطبا أو يابسا، وإنما شرطه القدوري لأن الرطب هو الذي يصل إلى الجوف عادة حتى لو
علم أن الرطب لم يصل لم يفسد، ولو علم أن اليابس وصل فسد صومه. كذا في العناية لكن
بقي ما إذا لم يعلم يقينا أحدهما وكان رطبا فعند أبي حنيفة يفطر للوصول عادة. وقالا: لا

487
لعدم العلم به فلا يفطر بالشك بخلا ف ما إذا كان يابسا ولم يعلم فلا فطر اتفاقا. كذا في فتح
القدير: وقوله إلى جوفه عائد إلى الجائفة، وقوله إلى دماغه عائد إلى الأمة. وفي التحقيق
أن بين الجوفين منفذا أصليا، فما وصل إلى جوف الرأس يصل إلى جوف البطن. كذا في
النهاية والبدائع. ولهذا لو استعط ليلا ووصل إلى الرأس ثم خرج نهارا لا يفسد كما قدمناه،
وعلله في البدائع بأنه لما خرج علم أنه لم يصل إلى الجوف أو لم يستقر فيه.
قوله (وإن أقطر في إحليله لا) أي لا يفطر. أطلقه فشمل الماء والدهن، وهذا عندهما
خلافا لأبي يوسف وهو مبني على أنه هل بين المثانة والجوف منفذ أم لا وهو ليس باختلاف
فيه على التحقيق فقالا: لا. ووصول البول من المعدة إلى المثانة بالترشح وما يخرج رشحا لا
يعود رشحا كالجرة إذا سد رأسها والقي في الحوض يخرج منها الماء ولا يدخل فيها ذكره
الولوالجي وقال: نعم. قال في الهداية: وهذا ليس من باب الفقه لأنه متعلق بالطب.
والخلاف فيما إذا وصل إلى المثانة، أما ما دام في قصبة الذكر فلا يفسد صومه اتفاقا كذا في
الخلاصة. وعارض به في فتح القدير ما في خزانة الأكمل لو حشا ذكره بقطنة فغيبها أنه
يفسد كاحتشائها وأطال فيه. وصحح في التحفة قول أبي يوسف ومحمد وهو رواية عن أبي
حنيفة لكن رجح الشيخ قاسم في تصحيحه ظاهر الرواية. وقيد بالإحليل الذي هو مخرج
البول من الذكر لأن الأقطار في قبل المرأة يفسد الصوم بلا خلاف على الصحيح. كذا في
غاية البيان. وفي الولوالجية أنه يفسد بالاجماع. وعلله في فتح القدير بأنه شبيه بالحقنة. وفي
شرح المجمع لابن فرشته: الإحليل مخرج البول ومخرج اللبن من الثدي قوله (وكره ذوق شئ

488
ومضغه بلا عذر) لما فيه من تعريض الصوم للفساد ولا يفسد صومه لعدم الفطر صورة
ومعنى. قيد بوله بلا عذر لأن الذوق بعذر لا يكره كما قال في الخانية فيمن كان زوجها
سئ الخلق أو سيدها لا بأس بأن تذوق بلسانها. وليس من الاعذار الذوق عند الشراء
ليعرف الجيد من الردئ بل يكره كما ذكره في الولوالجي وتبعه في فتح القدير. وفي
المحيط: يجوز أن يقال لا بأس به كي لا يغبن. والمضغ بعذر بأن لم تجد المرأة من يمضغ
لصبيها الطعام من حائض أو نفساء أو غيرهما ممن لا يصوم ولم تجد طبيخا ولبنا حليبا لا
بأس به للضرورة، ألا ترى أنه يجوز لها الافطار إذا خافت على الولد فالمضغ أولى. وأطلق
في الصوم فشمل الفرض والنفل وقد قالوا: إن الكراهة في الفرض، أما في الصوم التطوع
فلا يكره الذوق والمضغ فيه لأن الافطار فيه مباح للعذر وغيره على رواية الحسن. كذا في
التجنيس. وتبعه في النهاية وفتح القدير وغيرهما وفيه بحث لأن المذهب أن الافطار في
التطوع لا يحل من غير عذر فما كان تعريضا له عليه يكره لأن كلا منا عند عدم العذر، وأما
على رواية الحسن فمسلم وسيأتي أنها شاذة.
قوله: (ومضغ العلك) أي ويكره مضغه في ظاهر الرواية لما فيه من تعريض الصوم
على الفساد ولأنه يتهم بالافطار. أطلقه فأفاد أنه لا فرق بين علك وعلك في أنه لا يفطر،
وإنما يكره وهو ظاهر الرواية. كذا في غاية البيان. والمتأخرون قيدوه بأن يكون أبيض وقد
مضغه غيره، أما إذا لم يمضغه غيره أو كان الأسود مطلقا يفطره لأنه إذا لم يمضغه غيره يتفتت
فيتجاوز شئ منه حلقه، وإذا مضغه غيره لا يتتفت إلا أن الأسود يذوب بالمضغ، فأما
الأبيض لا يذوب، وإطلاق محمد يدل على أن الكل سواء. كذا ذكره الولوالجي في فتاواه،
واختار المحقق كلام المتأخرين لأن إطلاق محمد محمول عليه للقطع بأنه معلل بعدم الوصول
فإذا فرض في بعض العلك معرفة الوصول منه عادة وجب الحكم فيه بالفساد لأنه كالمتيقن
ا ه‍. وقال فخر الاسلام: وعموم ما قال محمد في الجامع الصغير إشارة إلى أنه لا يكره
العلك لغير الصائم ولكن يستحب للرجال تركه إلا لعذر مثل أن يكون في فمه بخر ا ه‍.
وأما في حق النساء فالمستحب لهن فعله لأنه سواكهن. وفي فتح القدير: والأولى الكراهة
للرجال إلا لحاجة لأن الدليل أعني التشبه يقتضيها في حقهم خاليا عن المعارض. وفي

489
الفتاوي الظهيرية: صائم عمل عمل الإبريسم فأخذ الإبريسم في فيه فخرجت خضرة الصبغ
أو صفرته أو حمرته واختلطت بالريق فاخضر الريق أو اصفر أو احمر فابتلعه وهو ذاكر صومه
فسد صومه. وفي المحيط: عن أبي حنيفة أنه يكره للصائم المضمضة والاستنشاق لغير
الوضوء، ولا بأس به للوضوء، وكره الاغتسال وصب الماء على الرأس والاستنقاع في الماء
والتلفف بالثوب المبلول لأنه إظهار الضجر عن العبادة. وقال أبو يوسف: لا يكره وهو
الأظهر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صب على رأسه ماء من شدة الحر وهو صائم ولان فيه إظهار
ضعف بنيته وعجز بشريته فإن الانسان خلق ضعيفا لا إظهار الضجر.
قوله: (لا كحل ودهن شارب) أي لا يكره. يجوز أن تكون الفاء منهما مفتوحة فيكونان
مصدرين من كحل عينيه كحلا ودهن رأسه دهنا إذا طلاة بالدهن، ويجوز أن يكون مضموما
ويكون معناه ولا بأس باستعمال الكحل والدهن. كذا في العناية. وفي غاية البيان: الرواية
بفتح الكاف والدال. وإنما لم يكرها لما أنه نوع ارتفاق وليس من محظور الصوم وقد ندب صلى الله عليه وسلم
إلى الاكتحال يوم عاشوراء وإلى الصوم فيه، ولا بأس بالاكتحال للرجال إذا قصدوا به التداوي
دون الزينة. ويستحسن دهن الشارب إذا لم يكن من قصده الزينة لأنه يعمل عمل الخضاب،
ولا يفعل لتطويل اللحية إذا كانت بقدر المسنون وهو القبضة. كذا في الهداية. وكان ابن عمر
يقبض على لحيته فيقطع ما زاد على الكف. رواه أبو داود في سننه. وما في الصحيحين عن ابن
عمر عنه عليه الصلاة والسلام أحفوا الشوارب واعفوا اللحى (1) فمحمول على إعفائها من أن
يأخذ غالبها أو كلها كما هو فعل مجوس الأعاجم من حلق لحاهم فيقع بذلك الجميع بين
الروايات، وأما الاخذ منها وهي دون ذلك لم يفعل بعض المغازية والمخنثة من الرجال فلم يبحه
أحد. كذا في فتح القدير: وقد صرح في النهاية بوجوب قطع ما زاد على القبضة بالضم
ومقتضاه الاثم بتركه. واعلم أنه لا تلازم بين قصد الجمال وقصد الزينة فالقصد الأول لدفع
الثين وإقامة ما به الوقار وإظهار النعمة لا فخرا وهو أثر أدب النفس وشهامتها، والثاني
أثر ضعفها وقالوا بالخضاب وردت السنة ولم يكن لقصد الزينة ثم بعد ذلك إن حصلت زينة فقد
حصلت في ضمن قصد مطلوب فلا يضره إذا ليكن ملتفتا إليه. كذا في فتح القدير. ولهذا
قال الولوالجي في فتاواه: لبس الثياب الجميلة مباح إذا كان لا يتكبر لأن التكبر حرام وتفسيره

490
أن يكون معها كما كان قبلها ا ه‍ قوله: (وسواك وقبلة أن أمن) أي لا يكرهان، وقد تقدم
حكم القبلة، وأما السواك فلا بأس به للصائم. أطلقه فشمل الرطب واليابس والمبلول وغيره
وقبل الزوال وبعده لعموم قوله صلى الله عليه وسلم لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل وضوء
وعند كل صلاة لتناوله الظهر والعصر والمغرب، وقد تقدم أحكامه في سنن الطهارة فارجع
إليها. ولم يتعرض لسنة السواك للصائم ولا شك فيه كغير الصائم صرح به النهاية والله أعلم.
فصل في العوارض
اعلم أن لفساد الصوم أحكاما بعضها يعم الصيامات كلها، وبعضها يخص البعض دون
البعض، فالذي يعم الكل الاثم إذا أفسده بغير عذر لأنه أبطل عمله من غير عذر وإبطال
العمل من غير عذر حرام لقوله تعالى * (ولا تبطلوا أعمالكم) * (محمد: 33) على ما سيأتي في
صوم التطوع، وإن كان بعذر لا يأثم. وإذا اختلف الحكم بالعذر فلا بد من معرفة الاعذار
المسقطة للإثم والمؤاخذة فلهذا ذكرها في فصل على حدة. كذا في مختصر البدائع. وأخرها
حرية بالتأخير. والعوارض جمع عارض وهو في اللغة كل ما استقبلك قال الله تعالى
* (عارض ممطرنا) * (الأحقاف: 24) وهو السحاب الذي يستقبلك. والعارض الناب أيضا،
والعارضان شقا الفم، والعارض الخد يقال أخذ من عارضيه من الشعر، وعرض له عارض
أي آفة من كبر أو من مرض. كذا في ضياء الحلوم مختصر شمس العلوم. وهي هنا ثمانية:
المرض والسفر والاكراه والجبل والرضاع والجوع والعطش وكبر السن. كذا في البدائع.

491
قوله: (لمن خاف زيادة المرض الفطر) لقوله تعالى * (فمن كان منكم مريضا أو على سفر
فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184) فإنه أباح الفطر مريض لكن القطع بأن شرعية الفطر
فيه إنما هو لدفع الحرج وتحقق الربح منوط بزيادة المرض، أو إبطاء البرء أو إفساد عضو،
ثم معرفة ذلك باجتهاد المريض والاجتهاد غير مجرد الوهم بل هو غلبة الظن عن أمارة أو
تجربة أو بإخبار طبيب مسلم غير ظاهر الفسق. وقيل عدالته شرط فلو برأ من المرض لكن
الضعف باق وخاف أن يمرض سأل عنه القاضي الإمام فقال: الخوف ليس بشئ. كذا في
فتح القدير: وفي التبيين: والصحيح الذي يخشى أن يمرض بالصوم فهو كالمريض، ومراده
بالخشية غلبة الظن كما أراد المصنف بالخوف إياها. وأطلق الخوف ابن الملك في شرح الجمع
وأراد الوهم حيث قال: لو خاف من المرض لا يفطر. وفي فتح القدير: الأمة إذا ضعفت
عن العمل وخشيت الهلاك بالصوم جاز لها الفطر، وكذا الذي ذهب به متوكل السلطان إلى
العمارة في الأيام الحارة والعمل الحثيث إذا خشي الهلاك أو نقصان العقل. وقالوا: الغازي
إذا كان يعلم يقينا أنه يقاتل العدو في شهر رمضان ويخاف الضعف إن لم يفطر يفطر قبل
الحرب، ومسافرا كان أو مقيما. وفي الفتاوي الظهيرية والولوالجية: للأمة أن تمتنع من امتثال
أمر المولى. إذا كان ذلك يعجزها عن إقامة الفرائض لأنها مبقاة على أصل الحرية في حق
الفرائض. أطلق في المرض فشمل ما إذا مرض قبل طلوع الفجر أو بعده بعد ما شرع
بخلاف السفر فإنه ليس بعذر في اليوم الذي أنشأ السفر فيه ولا يحل له الافطار وهو عذر في
سائر الأيام. كذا في الظهيرية. وأشار باللام إلى أنه مخير بين الصوم والفطر لكن الفطر

492
رخصة والصوم عزيمة فكان أفضل إلا إذا خاف الهلاك فالافطار واجب. كذا في البدائع.
وفي الظهيرية: رجل لو صام في شهر رمضان لا يمكنه أن يصلي قائما وإذا أفطر يمكنه أن
يصلي قائما فإنه يصوم ويصلي قاعدا جمعا بين العبادتين. في الخلاصة: لو كان له نوبة حمى
فأكل قبل أن تظهر يعني في يوم النوبة لا بأس، فإن لم يحم فيه كان عليه الكفارة كما لو
أفطرت على ظن أنه يوم حيضها فلم تحض كان عليها الكفارة لوجود الافطار في يوم ليس فيه
شبهة الإباحة. وهذا إذا أفطر بعد ما نوي الصوم وشرع فيه، أما لو لم ينو كان عليه القضاء
دون الكفارة. كذا في فتاوي قاضيخان. وفي الظهيرية: رضيع مبطون يخاف موته من هذا
الدواء وزعم الأطباء أن الظئر إذا شربت دواء كذا برئ الصغير وتماثل وتحتاج الظئر إلى أن
تشرب ذلك نهارا في رمضان قيل: لها ذلك إذا قال ذلك الأطباء الحذاق. كذلك الرجل إذا
لدغته حية فأفطر بشرب الدواء قالوا: إن كان ذلك ينفعه فلا بأس به. أطلق في الكتاب
الأطباء الحذاق قال رضي الله عنه: وعندي هذا محمول على الطبيب المسلم دون الكافر
كمسلم شرع في الصلاة بالتيمم فوعد له كافر إعطاء الماء فإنه لا يقطع الصلاة لعل غرضه
إفساد الصلاة عليه فكذلك في الصوم ا ه‍. وفيه إشارة إلى أن المريض يجوز له أن يستطب
بالكافر فيما عدا إبطال العبادة لما أنه علل قبول قوله باحتمال أن يكون غرضه إفساد العبادة لا
بأن استعماله في الطب لا يجوز. وفي القنية: لا يجوز للخباز أن يخبز خبزا يوصله إلى ضعف
مبيح للفطر بل يخبز نصف النهار ويستريح في النصف، قيل له: لا يكفيه أجرته أو ربحه
فقال: هو كاذب وهو باطل بأقصر أيام الشتاء.

493
قوله: (وللمسافر وصومه أحب إن لم يضره) أي جاز للمسافر الفطر لأن السفر لا يعرا
عن المشقة فجعل نفسه عذرا بخلاف المرض لأنه قد يخفف بالصوم فشرط كونه مفضيا إلى
الحرج، وإنما كان الصوم أفضل إن لم يضره لقوله تعالى * (وإن تصوموا خير لكم) * (البقرة:
184) ولان رمضان أفضل الوقتين فكأن فيه الأداء أولى. ولا يرد علينا القصر في الصلوات
فإنه واجب حتى يأثم بالاتمام لأن القصر هو العزيمة وتسميتهم له رخصة إسقاط مجاز، وقول
صاحب غاية البيان أن القصر أفضل تسامح. ولو قال المصنف وصومهما أحب إن لم
يضرهما لكان أولى لشموله. قيد بقوله إن لم يضره لأن الصوم إن ضره بأن شق عليه
فالفطر أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام ليس من البر والصيام في السفر (1) قاله لرجل
صائم يصب عليه الماء. وفي المحيط: ولو أراد المسافر أيقيم في مصر أو يدخل مصره كره

494
له أن يفطر لأنه اجتمع في اليوم المبيح وهو السفر والمحرم وهو الإقامة فرجحنا المحرم
احتياطا. وصرح في الخلاصة بكراهة الصوم إن أجهده. وأطلق الضرر ولم يقيده بضرر بدنه
لأنه لو لم يضره الصوم لكن كان رفقاؤه أو عامتهم مفطرين والنفقة مشتركة بينهم فالافطار
أفضل - كذا في الخلاصة والظهيرية - لأن ضرر المال كضرر البدن. وأشار إلى أن إنشاء السفر
في شهر رمضان جائز لاطلاق النص خلافا لعلي وابن عباس كذا في المحيط. وفي
الولوالجية: والسفر الذي يبيح الفطر هو الذي يبيح القصر لأن كلاهما قد ثبتت رخصته.
وأطلق السفر فشمل سفر الطاعة والمعصية لما عرف، وأراد بالضرر الضرر الذي ليس فيه
خوف الهلاك لأن ما فيه خوف الهلاك بسبب الصوم فالافطار في مثله واجب لا أنه أفضل.
كذا في البدائة. ومنه ما إذا أكره المريض والمسافر فإن الافطار واجب ولا يسعه الصوم حتى
لو امتنع من الافطار فقتل يأثم كالاكراه على أكل الميتة بخلاف ما إذا كان صحيحا مقيما فأكره
بقتل نفسه فإنه يرخص له الفطر والصوم أفضل حتى لو امتنع من الافطار حتى قتل يثاب
عليه لأن الوجوب ثابت حالة الاكراه وأثر الرخصة بالاكراه في سقوط الاثم بالترك لا في
سقوط الواجب كالاكراه على الكفر. كذا في البدائع. وقيدنا بكونه أكره بقتل نفسه لأنه لو
قيل له لتفطرن أو لأقتلن ولدك فإنه لا يباح له الفطر كقوله لتشربن الخمر أو لأقتلن ولدك
فصار كتهديده بالحبس. كذا في النهاية. وفي فتاوي قاضيخان: المسافر إذا تذكر شيئا قد
نسيه في منزله فدخل فأفطر ثم خرج - قال عليه الكفارة قياسا لأنه مقيم عند الاكل حيث
رفض سفره بالعود إلى منزله وبالقياس نأخذ ا ه‍.
قوله: (ولا قضاء إن ماتا عليهما) أي ولا قضاء على المريض والمسافر إذا ماتا قبل
الصحة والإقامة لأنهما لم يدركا عدة من أيام أخر فلم يوجد شرط وجوب الأداء فلم يلزم
القضاء. قيد به لأنه لو صح المريض أو أقام المسافر ولم يقض حتى مات لزمه الايصاء بقدره

495
وهو مصرح به في بعض نسخ المتن لوجود الادراك بهذا المقدار. وذكر الطحاوي أن هذا قول
محمد، وعندهما يلزمه قضاء الكل، وغلطه القدوري وتبعه في الهداية قال: والصحيح أنه لا
يلزمه إلا بقدره عند الكل. وإنما الخلاف في النذر بأن يقول المريض لله علي صوم هذا
الشهر فصح يوما ثم مات يلزمه قضاء جميع الشهر عندهما، وعند محمد قضاء ما صح فيه.
والفرق لهما أن النذر سبب فظهر الوجوب في حق الخلف، وفي هذه المسألة السبب إدراك
العدة فيتقدر بقدر ما أدرك فيه. وإنما لم يلزمه القضاء قبل الصحة ليظهر في الايصاء لأنه
معلق بالصحة وإن لم يذكر أداة التعليق تصحيحا لتصرف المكلف ما أمكن فينزل عن الصحة.
وأجاب عنه في غاية البيان بأن الجماعة الذين أنكروا والخلاف نشؤوا بعد الطحاوي بكثير من
الزمان باعتبار أن الخلاف لم يبلغهم وهو ليس بحجة عليه لأن جهل الانسان لا يعتبر حجة
على غيره، وقد ذكره بعد ما ثبت عنده وهو ممن لا يتهم لأوصافه الجميلة. والحاصل أن
الصحيح لو نذر صوم شهر معين ثم مات قبل مجئ الشهر لا يلزمه شئ بلا خلاف، وإن
مات بعد ما صح يوما يلزمه الايصاء بالجميع عندهما، وعند محمد بقدر ما صح. وفصل

496
الطحاوي فقال: إن لم يصم اليوم الذي صح فيه لزمه الكل، وإن صامه لا يلزمه شئ
كالمريض في رمضان إذا صح يوما فصامه ثم مات لا يلزمه شئ اتفاقا لأنه بالصوم تعين أنه
لا يصح فيه قضاء يوم آخر بخلاف ما إذا لم يصمه حيث لا يلزمه الكل كما قدمناه على قول
الطحاوي، لأن ما قدر فيه صالح لقضاء اليوم الأول والوسط والأخير فلما قدر على قضاء
البعض فكأنه قدر على قضاء الكل إليه أشار في البدائع وغاية البيان. وفي الولوالجية: ولو
أوجب على نفسه اعتكاف شهر وهو مريض ثم مات قبل أن يصح لم يجب عليه لأنه لم يجب
عليه أداء الأصل فلا يجب أداء البدل، ولو أوجب على نفسه اعتكاف شهر وهو صحيح
فعاش عشرة أيام ثم مات أطعم عنه الشهر كله لأن الاعتكاف مما لا يتجزى.
قوله: (ويطعم وليهما لكل يوم كالفطرة بوصية) أي يطعم ولي المريض والمسافر عنهما
عن كل يوم أدركاه كصدقة الفطر إذا أوصيا به لأنهما لما عجزا عن الصوم الذي هو في ذمتهما
التحقا بالشيخ الفاني دلالة لا قياسا فوجب عليهما الايصاء بقدر ما أدركا فيه عدة من أيام
أخر كما في الهداية. ولو قال ويطعم ولي من مات وعليه قضاء رمضان لكان أشمل لأن

497
هذا الحكم لا يخص المريض والمسافر ولا من أفطر لعذر بل يدخل فيه من أفطر متعمدا
ووجب القضاء عليه، بل أراد بالولي من له ولاية التصرف في ماله بعد موته فيدخل
وصيهما، وأراد بتشبيهه بالفطرة كالكفارة التشبيه من جهة المقدار بأن يطعم عن صوم كل يوم
نصف صاع من بر أو زبيب أو صاعا من تمر أو شعير لا التشبيه مطلقا لأن الإباحة كافية
هنا، ولهذا عبر بالاطعام دون الايتاء دون صدقة الفطر فإن الركن فيها التمليك ولا تكفي
الإباحة. وقيد بالوصية لأنه لو لم يأمر لا يلزم الورثة شئ كالزكاة لأنها من حقوق الله تعالى،
ولا بد فيها من الايصاء ليتحقق الاختيار إلا إذا مات قبل أن يؤدي العشر فإنه يؤخذ من
تركته من غير إيصاء لشدة تعلق العشر بالعين. كذا في البدائع من كتاب الزكاة في مسألة إذا
باع صاحب المال ماله قبل أداء الزكاة، ومع ذلك لو تبرع الورثة أجزأه إن شاء الله تعالى.
وكذا كفارة اليمين والقتل إذا تبرع الوارث بالاطعام والكسوة يجوز، ولا يجوز التبرع بالاعتاق
لما فيه من إلزام الولاء للميت بغير رضاه. وأشار بالوصية إلى أنه معتبر من ثلث ماله صرح به
قاضيخان في فتاواه، وإلى أن الصلاة كالصوم بجامع أنهما من حقوقه تعالى بل أولى لكونها

498
أهم ويؤدي عن كل وتر نصف صاع لأنه فرض عند الإمام. كذا في غاية البيان. ويعتبر
كل صلاة بصوم يوم على الصحيح وإلى أن سائر حقوقه تعالى كذلك، ماليا كان أو بدنيا.
وعبادة محضة أو فيه معنى المؤنة كصدقة الفطر، أو عكسه كالعشر، أو مؤنة محضة كالنفقات،
أو فيه معنى العقوبة كالكفارات. وإلى أن الولي لا يصوم عنه ولا يصلي لحديث النسائي لا
يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد وقيدنا بكونهما أدركا عدة من أيام أخر إذ لو
ماتا قبله لا يجب عليهما الايصاء لما قدمناه لكن لو أوصيناه صحت وصيتهما لأن صحتها
لا تتوقف على الوجوب. كذا في البدائع. وأشار أيضا إلى أنه لو أوجب على نفسه الاعتكاف
ثم مات أطعم عنه لكل يوم نصف صاع من حنطة لأنه وقع الياس عن أدائه فوقع القضاء
بالاطعام كالصوم في الصلاة. كذا ذكره الولوالجي في فتاويه. فالحاصل أنما كان عبادة
بدنية فإن الوصي يطعم عنه بعد موته عن كل واجب كصدقة الفطر، وما كان عبادة مالية
كالزكاة فإنه يخرج عنه القدر الواجب عليه، وما كان مركبا منهما كالحج فإنه يحج عنه رجلا
من مال الميت.
قوله: (وقضيا ما قدرا بلا شرط ولاء) أي لا يشترط التتابع في القضاء لاطلاق قوله
تعالى * (فعدة من أيام أخر) * (البقرة: 184) والذي في قراءة أبي * (فعدة من أيام أخر متتابعه)
* غير مشهور لا يزاد بمثله بخلاف قراءة ابن مسعود في كفارة اليمين فإنها مشهورة فيزاد. كذا
في النهاية والكافي. لكن المستحب التتابع. وأشار بإطلاقه إلى أن القضاء على التراخي لأن
الامر فيه مطلق وهو على التراخي كما عرف في الأصول. ومعنى التراخي عدم تعين الزمن
الأول للفعل ففي أي وقت شرع فيه كان ممتثولا إثم عليه بالتأخير، ويتضيق عليه الوجوب
في آخر عمره في زمان يتمكن فيه من الأداء قبل موته ولهذا قال أصحابنا: إنه لا يكره لمن
عليه قضاء رمضان أن يصوم متطوعا ولو كان الوجوب على الفور يكره له التطوع قبل القضاء
لأنه يكره له تأخير الواجب عن وقته المضيق، ولهذا إذا أخر قضاء رمضان حتى دخل آخر
فلا فدية عليه لكونها تجب خلفا عن الصوم عند العجز ولم يوجد لقدرته على القضاء ولهذا
قال قوله: (فإذا جاء رمضان آخر قدم الأداء على القضاء) لأنه في وقته وهو لا يقبل غيره ويصوم
القضاء بعده، وهذا بخلاف قضاء الصلوات فإنها على الفور ولا يباح التأخير إلا بعذر. ذكره
الولوالجي قوله: (وللحامل والمرضع إذا خافتا على الولد أو النفس) أي لهما الفطر دفعا
للحرج ولقوله صلى الله عليه وسلم إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحامل والمرضع

499
الصوم (1) قيد بالخوف بمعنى غلبة الظن بتجربة أو إخبار طبيب حاذق مسلم كما في الفتاوي
الظهيرية على ما قدمناه، لأنها لو لم تخف لا يرخص لها الفطر. وإنما لا يجوز إفطاره بسبب
خوف هلاك ابنه في الاكراه لأن العذر في الاكراه جاء من قبل من ليس له الحق فلا يعذر
لصيانة نفس غيره بخلاف الحامل والمرضع، وهناك فرق آخر مذكور في النهاية. وأطلق
المرضع ولم يقيدها ليفيد أنه لا فرق بين الام والظئر، أما الظئر فلان الارضاع واجب عليها
بالعقد، وأما الام فلوجوبه ديانة مطلقا وقضاء إذا كان الأب معسرا أو كان الولد لا يرضع
من غيرها، وبهذا اندفع ما في الذخيرة من أن المراد بالمرضع الظئر لا الام فإن الأب يستأجر
غيرها. وإنما قال إذا خافتا على الولد، ولم يقل كالقدوري إذا خافتا على أنفسهما أو
ولدهما لأنه لا يشمل المستأجر إذ لا ولد لها. كذا قيل، وقد قيل إنه ولدها من الرضاع لأن
المفرد المضاف يعم، سواء كان مضافا لمفرد أو غيره كما صرحوا به، فيشمل الولد الذي ولدته
والذي أرضعته لأنه ولدها شرعا وإن كان ولدها مجازا لغة. والواو في قوله والمرضع بمعنى
أو لأن هذا الحكم ثابت لكل واحد منهما على الانفراد. كذا في النهاية. والحامل هي التي
في بطنها ولد، والمرضع هي التي لها اللبن. ولا يجوز إدخال التاء في أحدهما كما في
حائض وطالق لأن ذلك من الصفات الثابتة لا الحادثة إلا إذا أريد الحدوث فإنه يجوز
إدخال التاء بأن يقال حائضة الآن وغدا. كذا في غاية البيان. ولم أر من صرح بأن الحامل
والمرضع إذا ماتا قبل أن يزول خوفهما على الولد أو على أنفسهما أنه لا يلزمهما القضاء
كالمريض والمسافر لكن صرح في البدائع بأن للقضاء شرائط منها: القدرة على القضاء وهو
بعمومه يتناول الحامل والمرضع فعلى هذا إذا زال الخوف أياما لزمهما بقدره، بل ولا

500
خصوصية فإن كل من أفطر لعذر ومات قبل زواله لا يلزمه شئ فيدخل المكره والأقسام
الثمانية المتقدمة.
قوله: (للشيخ الفاني وهو يفد فقط) أي له الفطر وعليه الفدية وليست على غيره من
المريض والمسافر والحامل والمرضع لعدم ورود نص فيهم، ووروده في الشيخ الفاني وهو الذي
كل يوم في نقص إلى أن يموت وسمي به إما لأنه قرب من الفناء أو لأنه فنيت قوته، وإنما
لزمته باعتبار شهوده للشهر حتى لو تحمل المشقة وصام كان مؤديا، وإنما أبيح له الفطر لأجل
الحرج وعذره ليس بعرض الزوال حتى يصار إلى القضاء فوجب الفدية لكل يوم نصف صاع
من بر أو زبيب أو صاعا من تمر أو شعير كصدقة الفطر لكن يجوز هنا طعام الإباحة أكلتان
مشبعتان بخلاف صدقة الفطر كما قدمناه. كذا في فتح القدير وفتاوي قاضيخان. وفي
معراج الدراية: ولا يجوز في الفدية الإباحة لأنها تنبي عن تمليك اه‍. وهو مخالف لما
قدمناه، ويحمل ما في المعراج على الفدية في الحج. ولو قد على الصوم يبطل حكم الفداء
لأن شرط الخلفية استمرار العجز في الصوم، وإنما قيدنا به ليخرج المتيمم إذا قدر على الماء لا تبطل
الصلوات المؤداة بالتيمم لأن خلفية التيمم مشروط بمجرد العجز عن الماء لا بقيد دوامه،
وكذا خلفية الأشهر عن الأقراء في الاعتداد مشروط بانقطاع الدم من سن اليأس لا بشرط
دوامه حتى لا تبطل الأنكحة الماضية بعود الدم على ما قدمناه في الحيض. وفي الكافي:
وشرط الخلفية استمرار العجز كما في اليمين وفي صوم دم المتعة وغيرها قد تخلف لقيام
الدليل اه‍ وأشار المصنف فيما سبق من أن المسافر إذا لم يدرك عدة فلا شئ عليه إذا مات
إلا أن الشيخ الفاني لو كان مسافرا فمات قبل الإقامة لا يجب عليه الايصاء بالفدية لأن يخالف
غيره في التخفيف لا في التغليظ، لكن ذكره الشارحون بصيغة قيل ينبغي ألا يجب مع
أن الأولى الجزم به لاستفادته مما ذكرناه ولعلها ليست صريحة في كلام أه‍ المذهب فلم يجزموا
بها، ولان الفدية لا تجوز إلا عن صوم هو أصل بنفسه لا بدل عن غيره فجازت عن رمضان
وقضائه والنذر حتى لو نذر صوم الأبد فضعف عن الصوم لاشتغاله بالمعيشة له أن يطعم
ويفطر لأنه استيقن أن لا يقدر على قضائه، وإن لم يقدر على الاطعام لعسرته يستغفر الله
تعالى، وإن لم يقدر لشدة الحر كان له أن يفطر ويقضيه في الشتاء إذا لم يكن نذر الأبد. ولو
نذر صوما معينا فلم يصم حتى صار فانيا جازت له الفدية، ولو وجبت عليه كفارة يمين أو
قتل فلم يجد ما يكفر به وهو شيخ كبير عاجز عن الصوم أو لم يصم حتى صار شيخا كبيرا لا

501
تجوز له الفدية لأن الصوم هنا بدل عن غيره ولذا لا يجوز المصير إلى الصوم إلا عند العجز
عما يكفر به من المال كذا في فتح القدير. وفي فتاوي قاضيخان وغاية البيان: وكذا لو
حلق رأسه وهو محرم عن أذى ولم يجد نسكا يذبحه ولا ثلاثة آصع حنطة يفرقها على ستة
مساكين وهو فالا يستطيع الصيام فأطعم عن الصيام لم يجز لأنه بدل. وفي القنية: ولو
تصدق الشيخ الفاني بالليل عن صوم الفدية يجزئه. وفي فتاوي أبي حفص الكبير: إن شاء
أعطى الفدية في أول رمضان بمرة وإن شاء أعطاها في آخره بمرة. وعن أبي يوسف: لو
أعطي نصف صاع من برعن عن يوم واحد لمساكين يجوز. قال الحسن: وبه نأخذ وإن أعطى
مسكينا عن يومين فعن أبي يوسف روايتان. وعند أبي حنيفة لا يجزئه كالاطعام في
كفارة اليمين. وفي الفتاوي الظهيرية: استشهادا لكون البدل لا بدل له. وذكر الصدر الشهيد
إذا كان جميع رأسه مجروحا فربط الجبيرة لم يجب عليه أن يمسح هنا أصل منصوص
عليه لا بدل عن غيره ا ه‍.
قوله: (وللمتطوع بغير عذر في رواية ويقضي) أي له الفطر بعذر وبغيره، وإذا أفطر
قضى إن كان نفلا قصديا وهذه الرواية عن أبي يوسف، وظاهر الرواية أنه ليس له الفطر إلا
من عذر. وصححه في المحيط. وإنما اقتصر على هذه الرواية لأنها أرجح من جهة الدليل
ولهذا اختارها المحقق في فتح القدير وقال: إن الأدلة تظافرت عليها وهي أوجه. ثم اختلف
المشايخ على ظاهر الرواية هل الضيافة عذر أو لا؟ قيل نعم، وقيل لا، وقيل عذر قبل الزوال
لا بعده إلا إذا كان في عدم الفطر بعده عقوق لاحد الوالدين لا غيرهما حتى لو حلف عليه
رجل بالطلاق الثلاث ليفطرن لا يفطر. وقيل: إن كان صاحب الطعام يرضى بمجرد
حضوره وإن لم يأكل لا يباح الفطر، وإن كان يتأذى بذلك يفطر. كذا في فتح القدير. ولم
يصحح شيئا كما ترى. وفي الكافي: والأظهر أنها عذر. وصحح قاضيخان في شرح الجامع
الصغير من أحكام الخلوة أن الضيافة عذر. وفي الفتاوي الظهيرية قالوا: والصحيح من
المذهب أنه ينظر في ذلك إن كان صاحب الدعوة ممن يرضى بمجرد حضوره ولا يتأذى بترك
الافطار لا يفطر. وقال شمس الأئمة الحلواني: أحسن ما قيل في هذا الباب أنه إن كان يثق من
نفسه القضاء يفطر دفعا للأذى عن أخيه المسلم، وإن كان لا يثق لا يفطر وإن كان في ترك
الافطار أذى أخيه المسلم. وفي مسألة اليمين يجب أن يكون الجواب على هذا التفصيل ا ه‍.
وفي موضع آخر منها: وإن كان صائما عن قضاء رمضان يكره له أن يفطر لأن له حكم رمضان ا ه‍.
ولهذا لا يفطر لو حلف رجل بالطلاق ليفطرن كذا في المحيط. وفي النهاية: الأظهر أن
الضيافة عذر. وفي البزازية: لو حلف بطلاق امرأته إن لم يفطر أن نفلا أفطر وإن قضاء لا
والاعتماد على أنه يفطر فيهما ولا يحنثه، وإذا قلنا بأن الضيافة عذر في التطوع تكون عذرا في
حق الضيف والمضيف. كذا في شرح الوقاية. وأطلق في قضاء التطوع فشمل ما إذا كان فطره

502
عن قصد أو لا بأن عرض الحيض للصائمة المتطوعة في أصح الروايتين. كذا في النهاية.
وقيدنا النفل بكونه قصديا لأنه لو شرع على ظن أنه عليه ثم علم أنه لا شئ عليه كان
متطوعا والأحسن أن يتمه، فإن أفطر لا قضاء عليه. كذا في المحيط وغيره. وقيده صاحب
الهداية في التجنيس بأن لا يمضي عليه ساعة من حين ظهر بأن لا شئ عليه فإن مضى
ساعة ثم أفطر فعليه القضاء لأنه لما مضى عليه ساعة صار كأنه نوى في هذه الساعة، فإن
كان قبل الزوال صار شارعا في صوم التطوع فيجب عليه ثم قال: إذا نوى الصوم للقضاء
بعد طلوع الفجر حتى لا تصبح نيته عن القضاء يصير صائما، وإن أفطر يلزمه القضاء كما
إذا نوى التطوع ابتداء وهذه ترد إشكالا على مسألة المظنون ا ه‍. وقد تقدم الكلام عليه عند
قوله وما بقي لم يجز إلا بنية معينة. وفي البدائع: إذا شرع في صوم الكفارة ثم أيسر في
خلاله لا قضاء عليه. وفي الفتاوي الظهيرية: ويكره للعبد أو للأجير أو للمرأة أن يتطوع
بالصوم إلا أن يأذن من له حق فيه ومن له الحق له أن يفطره. وفي الولوالجية: وابنة الرجل
وقرابته تتطوع بدون إذنه لأنه لا يفوت حقه ا ه‍. وقيد في المحيط والولوالجية كراهة صوم
المرأة بأن يضر بالزوج، أما إذا كان لا يضره بأن كان صائما أو مريضا فلها أن تصوم وليس
له منعها لأنه ليس فيه إبطال حقه بخلاف العبد والمدبر وأم الولد والأمة فإنه ليس لهم الصوم
بغير إذن المولى وإن لم يضر به لأن منافعهم مملوكة للمولى بخلاف المرأة فإن منافعها غير مملوكة
للزوج وإنما له حق الاستمتاع بها. وتقضي المرأة إذا أذن لها الزوج أو بانت منه، ويقضي
العبد إذا أذن له المولى أو أعتق. وقيد كراهة صوم الأجير أيضا بكون الصوم يضر بالمستأجر
في الخدمة فإن كان لا يضر فله أن يصوم بغير إذنه ا ه‍. وفي البزازية قالوا: يباح الفطر
لأجل المرأة أي لا يمنع صوم النفل صحة الخلوة. وفي النظم: الأفضل أن يفطر للضيافة ولا
يقول أنا صائم لئلا يقف على سره أحد. وفي فتاوي قاضيخان: لا يصوم المملوك تطوعا إلا
بإذن المولى إلا إذا كان غائبا ولا ضرر له في ذلك ا ه‍. وهو خلاف ما في المحيط. وإن
أحرمت المرأة تطوعا بغير إذن الزوج قالوا: له أن يحللها. والأجير إذا كان يضره الخدمة وكذا
في الصلوات. كذا في فتاوي قاضيخان. فالحاصل أن الصوم والحج والصلاة سواء،
والأظهر من هذا كله إطلاق ما في الظهيرية في المرأة والعبد لأن الصوم يضر ببدن المرأة
ويهز لها وإن لم يكن الزوج الآن يطؤها والعبد منافعه مملوكة للمولى فليس له الصوم مطلقا

503
بغير إذنه. ولو كان المولى غائبا فإنه لم يكن مبقي على أصل الحرية في العبادات إلا في
الفرائض، وأما في النوافل فلا. وفي القنية: وللزوج أن يمنع زوجته عن كل ما كان الايجاب
من جهتها كالتطوع والنذر واليمين دون ما كان من جهته تعالى كقضاء رمضان، وكذا العبد
إلا إذا ظاهر من امرأته لا يمنعه من كفارة الظهار بالصوم لتعلق حق المرأة به. ثم اعلم
أن افساد الصوم أو الصلاة بعد الشروع فيها مكروه - نص عليه في غاية البيان - وليس بحرام
لأن الدليل ليس قطعي الدلالة كما أوضحه في فتح القدير.
قوله: (ولو بلغ أو أسلم كافر أمسك يومه ولم يقض شيئا) فالامساك قضاء لحق الوقت
بالتشبه وعدم القضاء لعدم وجوب الصوم عليهما فيه. وأطلق الامساك ولم يبين صفته
للاختلاف فيه، والأصح الوجوب لموافقته للدليل وهو ما ثبت من أمره عليه الصلاة والسلام
بالامساك لمن أكل في يوم عاشوراء حين كان واجبا. وأطلق في عدم القضاء فشمل ما إذا
أفطرا في ذلك اليوم أو صاماه، وسواء كان قبل الزوال أو بعده، لأن الصوم لا يتجزى
وجوبا كما لا يتجزى آداء، وأهلية الوجوب منعدمة في أوله فلا يجب. وقيد بالصوم لأنه لو
بلغ أو أسلم في أثناء وقت الصلاة أو في آخره وجبت عليه اتفاقا وهو قياس زفر، وفرق
أئمتنا بين الصوم والصلاة بأن السبب في الصلاة الجزء المتصل بالأداء فوجدت الأهلية عنده،
وفي الصوم الجزء الأول هو السبب والأهلية معدومة عند. قال في فتح القدير: وعلى هذا
فقولهم في الأصول الواجب المؤقت قد يكون الوقت فيه سببا للمؤدي وظرفا له كوقت
الصلاة أو سببا ومعيارا وهو ما يقع فيه مقدرا به كوقت الصوم تساهل، إذ يقتضي أن السبب
ثمام الوقت فيهما وقد بان خلافه، ثم على ما بان من تحقيق المراد قد يقال: يلزم أن لا يجب
الامساك في نفس الجزء الأول من اليوم لأنه هو السبب للوجوب والالزام سبق الوجوب على
السبب للزوم تقدم السبب فالايجاب فيه يستدعي سببا سابقا والفرض خلافه، ولو لم يستلزم
ذلك لزم كون ما ذكروه في وقت الصلوات من أن السببية تضاف إلى الجزء الأول فإن لم يؤد
عقيبه انتقلت إلى ما يلي ابتداء الشروع، فإن لم يشرع إلى الجزء الأخير تقررت السببية فيه
واعتبر حال المكلف عنده تكلف مستغني عنه إذ لا داعي لجعله ما يليه دون ما يقع فيه ا ه‍.
وقد يقال: إن قولهم يقتضي أن السبب تمام الوقت مسلم لو سكتوا وهم قد صرحوا بأنه لا
يمكن جعل كل الوقت سببا في الصلاة، وذكروا أن السببية تنتقل من جزء إلى جزء. وقوله
ثم على ما بان إلى آخره فيه بحث، أما على اختيار شمس الأئمة السرخسي من أن السببية
لليالي والأيام فقد وجد السبب بالليلة فالامساك إنما وجب في الجزء الأول باعتبار سبق

504
السبب عليه وهو الليل، وأما على اختيار غيره من أن السببية خاصة بالأيام وأن الليالي لا
دخل لها في السببية، فلان لزوم تقدم السبب إنما هو عند الامكان، أما عند عدم الامكان
فلا والصوم منه لأن وقته معيار له مقدر به يزيد بزيادته وينقص بنقصانه فلا يمكن أن يكون
الجزء الأول خاليا عن الصوم ليكون سببا متقدما، ولا يمكن أن يكون ما قبله سببا لعدم
الصلاحية فلزم فيه مقارنة السبب للمسبب، وقد صرح بأن السبب في الصوم مقارن للمسبب
صاحب كشف الاسرار شرح أصول فخر الاسلام البزدوي بخلاف وقت الصلاة فإنه ظرف
فأمكن تقدم السبب على الحكم حتى لو لم يمكن بأن شرع في الجزء الأول سقط اشتراط تقدم
السبب وجوزت المقارنة إذ لا يمكن جعل ما قبل بالوقت سببا.
وذكر بعض المتأخرين من الأصوليين أن السبب في الصوم اليوم الكامل لا الجزء منه،
ولا شك في المقارنة على هذا. وأشار المصنف بالمسألتين إلى أصل وهو أن كل من صار في
آخر النهار بصفة لو كان في أول النهار عليها للزمه الصوم فعليه الامساك كالحائض والنفساء
تطهر بعد طلوع الفجر أو معه، والمجنون يفيق، والمريض يبرأ، والمسافر يقدم بعد الزوال أو
الاكل. والذي أفطر عمدا أو خطأ أو مكرها أو أكل يوم الشك ثم استبان أنه من رمضان أو
أفطر وهو يرى أن الشمس قد غربت أو تسحر بعد الفجر ولم يعلم ومن لم يكن على تلك
الصفة لم يجب الامساك كما في حالة الحيض والنفاس. ثم قيل: الحائض تأكل سرا لا جهرا،
وقيل تأكل سرا وجهرا، وللمريض والمسافر الاكل جهرا. كذا في النهاية. وغير في فتح
القدير عبارة هذا الأصل فقال: كل من تحقق بصفة في أثناء النهار أو قارن ابتداء وجودها
طلوع الفجر وتلك الصفة بحيث لو كانت قبله واستمرت معه وجب عليه الصوم فإنه يجب
عليه الامساك تشبها. قال: وقلنا كل من تحقق ولم نقل من صار بصفة إلى آخره يعني كما في
النهاية يشمل من أكل عمدا في نهار رمضان لأن الصيرورة للتحول ولو لامتناع ما يليه ولا
يتحقق المفاد بهما فيه اه‍. والحاصل أن من أكل عمدا في نهار رمضان لم يدخل تحت عبارة
النهاية باعتبار أنه لم يتجدد له حالة بعد فطره لم يكن عليها قبله وكلمة صار تفيد التحول من
حالة إلى أخرى بخلاف تحقق، ولا يخفى أن ما هرب منه وقع فيه لأنه وإن غير صار إلى
تحقق أتى بكلمة لو المفيدة لامتناع ما يليه المفيدة أن الصفة لم تكن موجودة أول اليوم فلا
يشمل كلامه من أكل عمدا فليتأمل. فظهر من هذا أن من كان أهلا للصوم في أوله كمن
أكل عمدا لا يدخل تحت الضابط أصلا على كل منهما، وإنما أدرجوه في هذا الأصل وإن لم
يدخل تحته باعتبار أن حكمه وجوب الامساك تشبها فهو مثله لأن غرضهم بيان الأحكام.
وعبارة البدائع أولى وهي: أما وجوب الامساك تشبها بالصائمين فكل من كان له عذر في

505
صوم رمضان في أول النهار مانع من الوجوب أو مبيح للفطر ثم زال عذره وصار بحال لو
كان عليه في أول النهار لوجب عليه الصوم لا يباح له الفطر كالصبي إذا بلغ، والكافر إذا
أسلم، والمجنون إذا أفاق، والحائض إذا طهرت، والمسافر إذا قدم، وكذا كل من وجب عليه
الصوم لوجود سبب الوجوب والأهلية ثم تعذر عليه المضي بأن أفطر متعمدا أو أصبح يوم
الشك مفطرا ثم تبين أنه من رمضان أو تسحر على ظن أن الفجر لم يطلع ثم تبين أنه طالع،
فإنه يجب عليه الامساك تشبها. فقد جعل لوجوب الامساك أصلين، وجعل بعض الفروع
مخرجة على أصل وبعضها على آخر فلا إيراد أصلا والله الموفق. وفي الفتاوى الظهيرية: صبي
بلغ قبل الزوال ونصراني أسلم ونويا الصوم قبل الزوال لا يجوز صومهما عن الفرض غير أن
الصبي يكون صائما عن التطوع بخلاف الكافر لفقد الأهلية في حقه. وعن أبي يوسف: إن
الصبي يجوز صومه عن الفرض. وقيل: جوابه في الكافر كذلك. إليه أشار في المنتقي. ثم
في ظاهر الرواية فرق بين هذا وبين المجنون إذا أفاق في نهار رمضان قبل الزوال ولم يكن
أكل شيئا ونوى الصوم جاز عن الفرض لأن الجنون إذا لم يستوعب كان بمنزلة المرض
والمرض لا ينافي وجوب الصوم بخلاف الصبي والكفر والحيض لأنها منافية للصوم اه‍.
قوله (ولو نوى المسافر الافطار ثم قدم ونوى الصوم في وقته صح) إن نوى قبل
انتصاف النهار لأن السفر لا ينافي أهلية الوجوب ولا صحة الشروع. أطلق الصوم فشمل
الفرض الذي لا يشترط فيه التبييت والنفل وحيث أفاد صحة صوم الفرض لزم عليه صومه
إن كان في رمضان لزوال المرخص في وقت النية، ألا ترى أنه لو كان مقيما في أول اليوم
ثم سافر لا يباح له الفطر ترجيحا لجانب الإقامة فهذا أولى إلا أنه إذا أفطر في المسألتين لا
كفارة عليه لقيام شبهة المبيح، وكذا لو نوى المسافر الصوم ليلا وأصبح من غير أن ينقض
عزيمته قبل الفجر ثم أصبح صائما لا يحل فطره في ذلك اليوم ولو أفطر لا كفارة عليه.
وأشار إلى أنه لو لم ينو الافطار وإنما قدم قبل الزوال والاكل فالحكم كذلك بالأولى لأن
الحكم إذا كان الصحة مع نية المنافي فمع عدمها أولى، ولان نية الافطار لا عبرة بها حتى لو
نوى الصائم الفطر ولم يفطر لا يكون مفطرا، وكذا لو نوى التكلم في الصلاة ولم يتكلم لا
تفسد صلاته كما في الظهيرية قوله (ويقضي باغماء سوى يوم حدث في ليلته) لأنه نوع
مرض يضعف لقوى ولا يزيل الحجى فيصير عذرا في التأخير لا في الاسقاط. وإنما لا

506
يقضي اليوم الأول لوجود الصوم فيه وهو الامساك المقرون بالنية إذ الظاهر وجودها منه،
ويقضي ما بعده لانعدام النية. ولا فرق بين أن يحدث الاغماء في الليل أو في النهار في أنه
لا يقضي اليوم الأول، وإنما ذكر المصنف حدوثه في ليلته ليعلم حكم ما إذا حدث في اليوم
بالأولى لوجود الامساك وهو ليس بمغمى عليه. وأشار إلى أن الاغماء لو كان في شعبان
قضاه كله لعدم النية، وإلى أنه لو كان متهتكا يعتاد الاكل في رمضان أو مسافرا قضاه كله
لعدم ما يدل على وجود النية قوله (وبجنون غير ممتد) أي يقضيه إذا فاته بجنون غير ممتد وهو
أن لا يستوعب الشهر، والممتد هو أن يستوعب الشهر، وهو مسقط للحرج بخلاف ما دونه
لأن السبب قد وجد وهو الشهر والأهلية بالذمة. وفي الوجوب فائدة وهو صيرورته مطلوبا
على وجه لا يحرج في أدائه بخلاف المستوعب فإنه يحرج في أدائه فلا فائدة فيه، الاغماء لا
يستوعب الشهر عادة فلا حرج وإلا كان ربما يموت فإنه لا يأكل ولا يشرب، أطلقه فشمل
الجنون الأصلي والعارض وهو ظاهر الرواية، وعن محمد أنه فرق بينهما لأنه إذا بلغ مجنونا
التحق بالصبي فانعدم الخطاب بخلاف ما إذا بلغ عاقلا ثم جن وهذا مختار بعض المتأخرين.
ودخل تحت غير الممتد ما إذا أفاق آخر يوم من رمضان، سواء كان قبل الزوال أو بعده، فإنه
يلزمه قضاء جميع الشهر خلافا لما في غاية البيان عن حميد الدين الضرير أنه قال: إذا أفاق بعد
الزوال في آخر يوم من رمضان لا يلزمه شئ. وصححه في النهاية والظهيرية لأن الصوم لا
يصح فيه كالليل. اعلم أن الجنون ينافي النية التي هي شرط العبادات فلا يجب مع الممتد منه
مطلقا للحرج وما لا يمتد جعل كالنوم لأن الجنون لا ينفي أصل الوجوب إذ هو بالذمة وهي
ثابتة له باعتبار آدميته حتى ورث وملك وكان أهلا للثواب كأن نوى صوم الغد بعد غروب
الشمس فجن فيه ممسكا كله صح فلا يقضي لو أفاق بعده وصح إسلامه تبعا، وإذا كان
المسقط الحرج لزم اختلاف الامتداد المسقط فقدر في الصلاة بالزيادة على يوم وليلة عندهما،
وعند محمد وصيرورة الصلاة ستا وهو أقيس لكنهما أقاما الوقت مقام الواجب كما في

507
المستحاضة، وفي الصوم باستغراق الشهر ليله ونهاره، وفي الزكاة باستغراق الحول، وأبو
يوسف جعل أكثره ككله. وأما الصغير فقبل أن يعقل كالجنون الممتد فإذا عقل تأهل للأداء
دون الوجوب إلا الايمان، وأما النائم فلكون النوم موجبا للعجز لزم تأخير خطاب الأداء لا
أصل الوجوب ولذا وجب القضاء إذا زال بعد الوقت. ولما كان لا يمتد غالبا لم يسقط به
شئ من العبادات لعدم الحرج والاغماء فوقه، فإن امتد في الصلوات بأن زاد على يوم وليلة
جعل عذرا مسقطا لها دفعا للحرج لكونه غالبا ولم يجعل عذرا في الصوم لأن امتداده شهرا
نادر فلم يكن في إيجابه حرج وبهذا ظهر أن الاعذار أربعة: صبا وجنون وإغماء ونوم. وقد
علم أحكامها والله الموفق للصواب.
قوله (وبامساك بلا نية صوم وفطر) أي يجب القضاء لأن المستحق هو الامساك بجهة
العبادة ولا عبادة إلا بالنية، وأما هبة النصاب من الفقير فإنها تسقط الزكاة بدون نيتها باعتبار
وجود نية القربة. وفي غاية البيان: وقد مر أن المغمى عليه لا يقضي اليوم الذي حدث الاغماء
في ليلته لوجود النية منه ظاهرا فلا بد من التأويل لهذه المسألة. وتأويلها أن يكون مريضا أو
مسافرا لا ينوي شيئا أو متهتكا اعتاد الاكل في رمضان فلم يكن حاله دليلا على عزيمة الصوم
اه‍. وكذا في النهاية. ورده في فتح القدير بأنه تكلف مستغنى عنه لأن الكلام عند عدم النية
ابتداء لا بأمر يوجب النسيان ولا شك أنه أدرى بحاله بخلاف من أغمي عليه فأن الاغماء قد
يوجب نسيانه حال نفسه بعد الإفاقة فبنى الامر فيه على الظاهر من حاله وهي وجود النية.
وأشار بوجب القضاء فقط إلى عدم وجوب الكفارة لو أكل لأنه غير صائم، وهذا عند أبي
حنيفة، وعندهما كذلك إن أكل بعد الزوال، وإن أكل قبل الزوال تجب الكفارة لأنه فوت إمكان
التحصيل فصار كغاصب الغاصب قوله (ولو قدم مسافر أو طهرت حائض أو تسحر يظنه ليلا والفجر
طالع أو أفطر كذلك والشمس حية أمسك يومه وقضى ولم يكفر كأكلة عمدا بعد أكله ناسيا
ونائمة ومجنونة وطئتا) لما قدمنا أن كل من صار أهلا للزوم ولم يكن كذلك في أول اليوم فإنه
يجب عليه الامساك لأنه وجب قضاء لحق الوقت لأنه وقت معظم. وإنما وجب القضاء على
المسافر والحائض لما تقدم أن أصل الوجوب ثابت عليهما، وإنما المتأخر وجوب الأداء بخلاف
الصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم فإنه وإن وجب عليهما الامساك أيضا لم يجب القضاء لعدم
الوجوب في حقهما أول الجزء من اليوم كما بيناه، وكذا لو تسحر وهو يظن بقاء الليل فبان
خلافه أو أفطر ظانا زوال اليوم فبان خلافه وجب الامساك قضاء لحق الوقت بالقدر الممكن أو

508
نفيا للتهمة ووجب القضاء أيضا لأنه حق مضمون بالمثل كما في المريض والمسافر، ولا كفارة
في هاتين أيضا لأن الجناية قاصرة وهي جناية عدم التثبت إلى أن يستيقن لا جناية الافطار لأنه لم
يقصد، ولهذا صرحوا بعدم الاثم عليه كما قالوا في القتل الخطأ لا إثم فيه، والمراد إثم القتل
وصرح بأن فيه إثم ترك العزيمة والمبالغة في التثبت حالة الرمي. كذا في فتح القدير. أراد
بالظن في قوله ظنه ليلا التردد في بقاء الليل وعدمه، سواء ترجح عنده شئ أو لا، فيدخل
الشك فإن الحكم فيه لو ظهر طلوع الفجر عدم وجوب الكفارة كما لو ظن، والأفضل له أن لا
يتسحر مع الشك. وأراد بقوله والفجر طالع تيقن الطلوع لما في الفتاوى الظهيرية: ولو شك
في ليلة مقمرة أو متغيمة في طلوع الفجر يدع الأكل والشرب لقوله عليه الصلاة والسلام دع
ما يريبك إلى ما لا يريبك (1) ولو غلب على ظنه أنه أكل بعد طلوع الفجر لا قضاء عليه ما لم
يخبره رجل عدل في أشهر الرواية. وذكر البقالي في كتاب الصلاة إذا غلب على ظنه أنه
أحدث فلا وضوء عليه اه‍. وقيد بقوله والفجر طالع لأنه لو ظن أو شك فتسحر ثم لم يتبين
له شئ لم يفسد صومه لأن الأصل بقاء الليل فلا يخرج بالشك. وقوله ليلا ليس بقيد لأنه لو
ظن الطلوع وأكل مع ذلك ثم تبين صحة ظنه فعليه القضاء ولا كفارة لأنه بنى الامر على الأصل
فلم تكمل الجناية، فلو قال ظنه ليلا أو نهارا لكان أولى وليس له أن يأكل لأن غلبة الظن تعمل
عمل اليقين، وإن أكل ولم يتبين له شئ قيل يقضيه احتياطا وصححه في غاية البيان ناقلا عن
التحفة، وعلى ظاهر الرواية قيل لا قضاء عليه وصححه في الايضاح لأن اليقين لا يزال إلا
بمثله والليل أصل ثابت بيقين، وللمحقق في فتح القدير بحث فيه حسن حاصله أن المتيقن به

509
دخول الليل في الوجود، وأما الحكم ببقائه فهو ظني لأن القول بالاستصحاب والامارة التي
بحيث توجب عدم ظن بقاء الليل دليل ظني فتعارض دليلان ظنيان في قيام الليل وعدمه
فيتهاتران فيعمل الأصل وهي الليل وتمامه فيه. وأراد بالظن في قوله أو أفطر كذلك غلبة
الظن لأنه لو كان شاكا تجب الكفارة. كذا في المستصفى. ونقل في شرح الطحاوي فيه
اختلافا بين المشايخ. وإن لم يتبين له شئ فعليه القضاء. وفي التبيين في وجوب الكفارة
روايتان وإن تبين أنه أكل قبل الغروب وجبت الكفارة. وقيد بكونه ظن وجود المبيح لأنه لو
ظن قيام المحرم كأن ظن أن الشمس لم تغرب فأكل فعليه القضاء والكفارة إذا لم يتبين له شئ
أو تبين أنه أكل قبل الغروب، وإن تبين أنه أكل بالليل فلا شئ عليه في جميع ما ذكرنا. كذا
في التبين. وفي البدائع ما يخالفه ولفظه: وإن كان غالب رأيه أنها لم تغرب فلا شك في
وجوب القضاء عليه.
واختلف المشايخ في وجوب الكفارة، فقال بعضهم تجب، وقال بعضهم لا تجب وهو
الصحيح لأن احتمال الغروب قائم فكانت الشبهة ثابتة وهذه الكفارة لا تجب مع الشبهة.
فحاصله أنه إما أن يظن أو يشك، فإن ظن فلا يخلو إما أن يظن وجود المبيح أو قيام المحرم،
فإن كان الأول فلا يخلو إما أن لا يتبين له شئ أو يتبين صحة ما ظنه أو بطلانه، وكل من
الثلاثة إما أن يكون في ابتداء الصوم أو انتهائه فهي ستة. وإن شك أيضا فهي اثنا عشر في
وجود المبيح، ومثلها في قيام المحرم فهي أربعة وعشرون، وقد علم أحكامها من المتن منطوقا
ومفهوما فليتأمل. وأشار إلى أن التسحر ثابت واختلف فيه، فقيل مستحب، وقيل سنة
واختار الأول في الظهيرية، والثاني في البدائع مقتصرا كل منهما عليه، ودليله حديث

510
الجماعة إلا أبا داود تسحروا فإن في السحور بركة (1) والسحور ما يؤكل في السحر وهو
السدس الأخير من الليل. وقوله في السحور هو على حذف مضاف تقديره في أكل
السحور بركة بناء على ضبطه بضم السين جمع سحر، فأما على فتحها وهو الأعرف في الرواية
فهو اسم للمأكول في السحر كالوضوء بالفتح ما يتوضأ به. وقيل: يتعين الضم لأن البركة
ونيل الثوب إنما يحصل بالفعل لا بنفس المأكول. كذا في فتح القدير. ومحل الاستحباب ما
إذا يتيقن بقاء الليل أو غلب على ظنه، أما إذا شك فالأفضل أن لا يتسحر تحرزا عن المحرم
ولم يجب عليه ذلك، ولو أكل فصومه تام لأن الأصل هو الليل. كذا في الهداية. وفي
الفتاوى الظهيرية: وإذا تسحر ثم ظهر أن الفجر طالع أثم وقضى اه‍. وهو بإطلاقه يتناول ما
إذا غلب على ظنه بقاؤه فتسحر ثم تبين خلافه فإنه يأثم. وفي البدائع: وهل يكره الاكل مع
الشك؟ روى هشام عن أبي يوسف أنه يكره، وروى ابن سماعة عن محمد أنه لا يكره،
والصحيح قول أبي يوسف. وعن الهندواني أنه إذا ظهر علامات الطلوع من ضرب الدبادب
والاذان يكره وإلا فلا، ولا تعويل على ذلك لأنه مما يتقدم ويتأخر اه‍. والسنة في السحور
التأخير لأن معنى الاستعانة فيه أبلغ، وكذا تعجيل الفطر كذا في البدائع. والتعجيل المستحب
التعجيل قبل اشتباك النجوم ذكره قاضيخان في شرح الجامع الصغير. ولم أر صريحا في
كلامهم أن الماء وحده يكون محصلا لسنة السحور، وظاهر الحديث يفيده وهو ما رواه أحمد

511
عن أبي سعيد مسندا السحور كله بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء فإن الله
وملائكته يصلون على المتسحرين (1) والبركة في الحديث لغة الزيادة والنماء، والزيادة فيه على
وجوه: زيادة في القوة على أداء الصوم، وزيادة في إباحة الاكل واشرب وزيادة على
الأوقات التي يستجاب فيها الدعاء كذا أذكره الكلاباذي وبينها في غاية البيان.
وفي البزازية: ويستحب تعجيل الافطار إلا في يوم غيم، ولا يفطر ما لم يغلب على ظنه
غروب الشمس وإن أذن المؤذن اه‍. وذكر قبله: شهدا أنها غربت وآخران بأنها لم تغرب وأفطر
ثم بان عدم الغروب قضى ولا كفارة عليه بالاتفاق. شهدا على طلوع الفجر وآخر أن على عدم
الطلوع فأكل ثم بان الطلوع قضى وكفر وفاقا لأن البينات للاثبات لا للنفي حتى قبل شهادة
المثبت لا النافي. ولو واحد على طلوعه وآخر أن على عدمه لا كفارة عليه. دخلوا عليه وهو
يتسحر فقالوا إنه طالع فصدقهم فقال إذن أنا مفطر لا صائم، ثم دام على الاكل ثم بان أنه ما
كان طالعا في أول الاكل وطالعا وقت الاكل الثاني قال النسفي الحاكم: لا كفارة عليه لعدم نية
الصوم، وإن كان المخبر واحدا عليه الكفارة لأن خبر الواحد عدلا أولا في مثل هذا لا يقبل
اه‍. وإنما لم تجب الكفارة بإفطاره عمدا بعد أكله أو شربه أو جماعه ناسيا لأنه ظن في موضع
الاشتباه بالنظير وهو الاكل عمدا لأن الاكل مضاد للصوم ساهيا أو عامدا فأورث شبهة. وكذا
فيه شبهة اختلاف العلماء فإن مالكا يقول بفساد قوم من أكل ناسيا. وأطلقه فشمل ما إذا علم
بأنه لا يفطر بأن بلغه الحديث أم الفتوى أولا وهو قول أبي حنيفة وهو الصحيح لأن العلماء
اختلفوا في قبول الحديث فإن فقهاء المدينة كما لك وغيره لم يقبلوه فصار شبهة لأن قول الشافعي
إذا كان موافقا للقياس يكون شبهة كقول الصحابي، وكذا لو ذرعه القئ فظن أنه يفطره فأفطر
لا كفارة عليه لوجود شبهة الاشتباه بالنظير، فإن القئ والاستقاء متشابهان لأن مخرجهما من
الفم. وكذا لو احتلم للتشابه في قضاء الشهوة، وإن علم أن ذلك لا يفطره فعليه الكفارة لأنه لم
توجد شبهة الاشتباه ولا شبهة الاختلاف. وقيد بالنسيان لأنه لو احتجم أو اغتاب فظن أنه
يفطره ثم أكل إن لم يستفت فقيها ولا بلغه الخبر فعليه الكفارة لأنه مجرد جهل وأنه ليس بعذر في
دار الاسلام، وإن استفتى فقيها لا كفارة عليه لأن العامي يجب عليه تقليد العالم إذا كان يعتمد
على فتواه فكان معذورا فيما صنع، وإن كان المفتي مخطئا فيما أفتى وإن لم يستفت ولكن بلغه
الخبر وهو قوله عليه الصلاة والسلام أفطر الحاجم والمحجوم (1) وقوله صلى الله عليه وسلم
الغيبة تفطر الصائم ولم يعرف النسخ ولا تأويله فلا كفارة عليه عندهما لأن ظاهر الحديث

512
واجب العمل به خلافا لأبي يوسف لأنه ليس للعامي العمل بالحديث لعدم علمه بالناسخ
والمنسوخ. ولو لمس امرأة وقبلها بشهوة أو اكتحل فظن أن ذلك يفطره ثم أفطر فعليه الكفارة إلا
إذا استفتى فقيها فأفتاه بالفطر أو بلغه خبر فيه. ولو نوى الصوم قبل الزوال ثم أفطر لم تلزمه
الكفارة عند أبي حنيفة خلافا لهما. كذا في المحيط. وقد علم من هذا أن مذهب العامي فتوى
مفتيه من غير تقييد بمذهب، ولهذا قال في فتح القدير: الحكم في حق العامي فتوى مفتيه.
وفي البدائع: ولدهن شاربه فظن أنه أفطر فأكل عمدا فعليه الكفارة وإن استفتى فقيها أو تأول
حديثا لأن هذا مما لا يشتبه وكذا لو اغتاب اه‍. وفي التبيين أن عليه عامة المشايخ وهي في الغيبة
مخالف لما في المحيط، والظاهر ترجيح ما في المحيط للشبهة. وفي النهاية: ويشترط أن يكون
المفتي ممن يؤخذ منه الفقه ويعتمد على فتواه في البلدة وحينئذ تصير فتواه شبهة ولا معتبر بغيره.
وأما النائمة أو المجنونة إذا أكلتا بعدما جومعتا فلا كفارة عليهما لأن الفساد حصل بالجماع قبل
الاكل كالمخطئ ولا كفارة لعدم الجناية فالاكل بعده ليس بافساد وصورتها في النائمة ظاهر.
وفي المجنونة بأن نوت الصوم ثم جنت بالنهار وهي صائمة فجامعها إنسان فإن الجنون لا ينافي
الصوم إنما ينافي شرطه أعني النية وقد وجد في حال الإفاقة فلا يجب قضاء ذلك اليوم إذا

513
أفاقت، فإذا جومعت قضته لطرو المفسد على صوم صحيح، وبهذا اندفع ما قيل إنها كانت
في الأصل المجبورة أي المكرهة فصحفها الكاتب إلى المجنونة لامكان توجيهها كما ذكرناه
والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل
. عقد لبيان ما يوجبه العبد على نفسه بعدما ذكر ما أوجبه الله تعالى عليه قوله (ومن نذر صوم
يوم النحر أفطر وقضى) لأنه نذر بصوم مشروع والنهي لغيره وهو ترك إجابة دعوة الله تعالى فيصح
نذره لكن يفطر احترازا عن المعصية المجاورة ثم يقضي إسقاطا للواجب وإن صام فيه يخرج عن
العهدة لأنه أداه كما التزم. وأشار بصوم يوم النحر إلى كل صوم كره تحريما، وبالصوم إلى
الاعتكاف، فلو نذر اعتكاف يوم النحر صح ولزمه الفطر والقضاء، فإن اعتكف فيه بالصوم صح
كما في الولوالجية. وأراد بقوله أفطر على وجه الوجوب خروجا عن المعصية. وقوله في النهاية
الأفضل الفطر تساهل. وأطلق فشمل ما إذا قال لله علي صوم غد فوافق يوم النحر أو صرح فقال
لله علي صوم يوم النحر وهو ظاهر الرواية لا فرق بين أن يصرح بذكر المنهي عنه أو لا. كذا في
الكشف وغيره. واعلم بأنهم صرحوا بأن شرط لزوم النذر ثلاث يكون المنذور لبس بمعصية
وكونه من جنسه واجب وكون الواجب مقصود النفسية قالوا فخرج بالأول النطر بالمعصية
والثاني بمعصية المريض والثالث ما كان مقصودا لغيره حتى لو نذر الوضوء لكل صلاة لم
يلزم، وكذا لو نذر سجدة التلاوة. وفي الواقعات: ولو نذر تكفين ميت لم يلزم لأنه ليس بقربة
مقصودة كالوضوء مع تصريحهم بصحة النذر بيوم النحر ولزومه، فعلم أنهم أرادوا باشتراط
كونه ليس بمعصية كون المعصية باعتبار نفسه حتى لا ينفك شئ من أفراد الجنس عنها، وحينئذ لا
يلزم لكنه ينعقد للكفارة حيث تعذر عليه الفعل ولهذا قالوا: لو أضاف النذر إلى سائر المعاصي
كقوله لله علا أن أقتل فلانا كان يمينا ولزمته الكفارة بالحنث فلو فعل نفس المنذور عصى وانحل
النذر كالحلف بالمعصية ينعقد للكفارة، فلو فعل المعصية المحلوف عليها سقطت وأثم بخلاف ما
إذا كان نذرا بطاعة كالحج والصلاة والصدقة فإن اليمين لا تلزم بنفس النذر إلا بالنية وهو الظاهر
عن أبي حنيفة وبه يفتى. وصرح في النهاية بأن النذر لا يصح إلا بشروط ثلاثة في الأصل إلا إذا
قام الدليل على خلافه: إحداها أن يكون الواجب من جنسه شرعا. والثاني أن يكون مقصودا لا

514
وسيلة. والثالث أن لا يكون واجبا عليه في الحال أو في ثاني الحال، فلذا لا يصح النذر بصلاة
الظهر وغيرها من المفروضات لانعدام الشرط الثالث اه‍. فعلى هذا فالشرائط أربعة إلا أن يقال:
إن النذر بصلاة الظهر ونحوها خرج بالشرط الأول إذ قولهم من جنسه واجب يفيد أن المنذور غير
الواجب من جنسه وههنا عينه ولكن لا بد من رابع وهو أن لا يكون مستحيل الكون، فلو نذر
صوم أمس أو اعتكاف شهر مضى لم يصح نذره كما في الولوالجية. وقيد بقوله إلا إذا قام الدليل
على خلافه لأنه لو قام الدليل على الوجوب من غير الشروط المذكورة يجب كالنذر بالحج ماشيا
والاعتكاف وإعتاق الرقبة مع أن الحج بصفة المشي غير واجب، وكذا الاعتكاف، وكذا نفس
الاعتاق من غير مباشرة سبب موجب للاعتاق. كذا في النهاية وفيه نظر، لأن النذر بالحج ماشيا
من جنسه واجب لأن أهل مكة ومن حولها لا يشترط في حقهم الراحلة بل يجب المشي على كل
من قدر منهم على المشي كما صرح به في التبيين في آخر الحج. وأما الاعتكاف وهو اللبث في
مكان من جنسه واجب وهو القعدة الأخيرة في الصلاة، وأما الاعتاق فلا شك أن من جنسه
واجبا وهو الاعتاق في الكفارة، وأما كونه من غير سبب فليس بمراد.
قوله (وإن نوى يمينا كفر أيضا) أي مع القضاء تجب كفارة اليمين إذا أفطر وهذه المسألة على
وجوه ستة: إن لم ينو شيئا، أو نوى النذر لا غير، أو نوى النذر ونوى أن لا يكون نذرا
لأنه نذر بصيغته كيف وقد قرره بعزيمته، وإن نوى اليمين ونوى أن لا يكون نذرا يكون يمينا
محتمل كلامه وقد عينه ونفي غيره، وإن نواهما يكون نذرا ويمينا عند أبي حنيفة ومحمد،
وعند أبي يوسف يكون نذرا، ولو نوى اليمين فكذلك عندهما، وعند أبي يوسف يكون يمينا.
لأبي يوسف إن النذر فيه حقيقة واليمين مجاز حتى لا يتوقف الأول على النية ويتوقف الثاني فلا
ينتظمهما لفظ واحد، ثم المجاز يتعين بنيته وعند نيتهما تترجح الحقيقة. ولهما أنها لا تنافي بين
الجهتين لأنهما يقضيان الوجوب إلا أن النذر يقتضيه لعينه واليمين لغيره فجمعنا بينهما عملا
بالدليلين كما جمعنا بين جهتي التبرع والمعاوضة في الهبة بشرط العوض. كذا في الهداية، وتعقبه
في فتح القدير بلزوم التنافي من جهة أخرى وهو أن الوجوب الذي يقتضيه اليمين وجوب يلزم

515
بترك متعلقه الكفارة والوجوب الذي هو موجب النذر ليس يلزم بترك متعلقه ذلك وتنافي اللوازم
أقل ما يقتضي التغاير فلا بد أن لا يراد بلفظ واحد. واختار شمس الأئمة السرخسي في الجواب
أنه أريد بلفظ اليمين لله وأريد النذر به علي أن أصوم كذا وجواب القسم حينئذ محذوف مدلول
عليه بذكر المنذور أي كأنه قال لله لأصومن وعلي أن أصوم. وعلى هذا لا يراد أن بنحو علي
أن أصوم وتمامه في تحرير الأصول. وذكر المصنف في كافية بأنهما لما اشتركا في نفس الايجاب
فإذا نوى اليمين يراد بهما الايجاب فيكون عملا بعموم المجاز لا جمعا بين الحقيقة والمجاز. وذكر
الولوالجي في فتاواه: لو قال لله علي أن أصوم كل خميس فأفطر خميسا كفر عن يمينه إن أراد يمينا،
ثم إذا أفطر خميسا آخر لم يكفر لأن اليمين واحدة فإذا حنث فيها مرة لم يحنث مرة أخرى اه‍.
قوله (ولو نذر صوم هذه السنة أفطر أياما منهية وهي يوما العيد وأيام التشريق وقضاها)
لأن النذر بالسنة المعينة نذر بهذه الأيام لأنها لا تخلو عنها والنذر بالأيام المنهية صحيح مع
الحرمة عندنا فكان قوله أفطر للايجاب كما قدمناه وبه صرح المصنف في كافيه، وقد وقع
صاحب النهاية بالأولوية في التساهل أيضا كما قدمناه. ورتب قضاءها على إفطاره فيها ليفيد
أنه لو صامها لا قضاء عليه لأنه أداه كما التزمه كما قدمناه. م وأشار إلى أن المرأة لو نذرت
صوم هذه السنة فإنها تقضي مع هذه الأيام أيام حيضها لأن السنة قد تخلو عن الحيض فصح
الايجاب، وإلى أنها لو نذرت صوم الغد فوافق حيضها فإنها تقضيه بخلاف ما لو قالت لله
علي صوم يوم حيضي لا قضاء لعدم صحته لاضافته إلى غير محله بخلاف ما إذا قال لله علي
صوم يوم النحر فإنه يقضيه إذا أفطر كما تقدم أنه ظاهر الرواية. والفرق أن الحيض وصف
للمرأة لا وصف لليوم، وقد ثبت بالاجماع أن طهارتها شرط لأدائه، فلما علقت النذر بصفة
لا تبقي معها أهلا للأداء لم يصح لأنه لا يصح إلا من الأهل كقوله لله علي أن أصوم يوم
آكل. كذا في الكشف الكبير. وأشار إلى أنه لا يلزمه قضاء رمضان الذي صامه لأنه لا يصح
التزامه بالنذر لأن صومه مستحق عليه بجهة أخرى، وإلى أنه لو لم يعين هذه السنة وإنما
شرط التتابع فهو كما لو عينها فيقضي الأيام الخمسة دون شهر رمضان لأن المتابعة لا تعرى
عنها لكن يقضيها في هذا الفصل موصولة تحقيقا للتتابع بقدر الامكان. وأطلق قضاء لزوم
الأيام المنهية فشمل ما إذا نذر بعد هذه الأيام المنهية بأن نذر بعد أيام التشريق صو هذه
السنة. وحمله في الغاية على ما إذا نذر قبل عيد الفطر، أما إذا قال في شوال لله علي صوم
هذه السنة لا يلزمه قضاء يوم الفطر، وكذا لو قال بعد أيام التشريق لا يلزمه قضاء يومي
العيدين وأيام التشريق بل يلزمه صيام ما بقي من السنة اه‍. ويدل على هذا الحمل قوله أفطر

516
أياما منهية إذ لا يتصور الفطر بعد المضي لكن قال الشارح الزيلعي: هذا سهو وقع من
صاحب الغاية لأن قوله هذه السنة عبارة عن اثني عشر شهرا من وقت النذر إلى وقت
النذر، وهذه المدة لا تخلو عن هذه الأيام فلا يحتاج إلى الحمل فيكون نذرا بها. ورده المحقق
في فتح القدير وقال: إن هذا سهو وقع من الزيلعي لأن المسألة كما هي في الغاية منقولة في
الخلاصة وفتاوى قاضيخان في هذه السنة وهذا الشهر، ولان كل سنة عربية معينة عبارة عن
مدة معينة لها مبتدأ ومختتم خاصان عند العرب مبدؤها المحرم وآخرها ذو الحجة. فإذا قال
هذه فإنهما يفيد الإشارة إلى التي هو فيها، فحقيقة كلامه أنه نذر بالمدة المستقبلة إلى آخر ذي
الحجة، والمدة الماضية التي مبدؤها المحرم إلى وقت التكلم فيلغو في حق الماضي كما يلغو في
قوله لله علي صوم أمس. وهذا فرع يناسب هذا لو قال لله علي صوم أمس اليوم أو اليوم
أمس لزمه صوم اليوم، ولو قال غدا هذا اليوم أو هذا اليوم غدا لزمه صوم أول الوقتين تفوه
به، ولو قال شهرا لزمه شهر كامل، ولو قال الشهر وجب بقية الشهر الذي هو فيه لأن ذكر
الشهر معرفا فينصرف إلى المعهود بالحضور، فإن نوى شهرا فهو على ما نوى لأنه محتمل
كلامه. ذكره في التجنيس وفيه تأييد لما في الغاية أيضا ا ه‍.
ويؤيده ما في الفتاوى الظهيرية أيضا. ولو قال لله علي أن أصوم الشهر فعليه صوم
بقية الشهر الذي هو فيه. وما في الفتاوى الولوالجي لو قال لله علي أن أصوم الشهر وجب
عليه بقية الشهر الذي هو فيه لأنه ذكر الشهر معرفا فينصرف إليه وإن نوى شهرا كاملا فهو
كما نوى لأنه نوى ما يحتمله اه‍. ويمكن حمل ما في الغاية على ما إذا لم ينو، وحمل ما ذكره
الزيلعي على ما إذا نوى توفيقا وإن كان بعيدا. وبهذا ظهر أن ما ذكره في فتح القدير من
كونه يلغو فيما مضى كما يلغو في قوله لله علي صوم أمس ليس بقوي لأنه لو كان لغوا لما
لزمه بنيته، ولا يصح تشبيهه بصوم الأمس لأنه لو نوى به صوم اليوم لا يصح ولا يلزمه لأنه
ليس محتمل كلامه كما لا يخفي. ويدل له ما في الفتاوى الظهيرية: ولو نذر صوم غد ونوى
كل ما دار غد لا تصح نيته لأن النية إنما تعمل في الملفوظ، ولو قال صوم يوم ونوى كلما

517
دار يوم صحت نيته وكذا يوم الخميس اه‍. وفي موضع آخر منها: ولو نذر بصوم شهر قد
مضى لا يجب عليه وإن لم يعلم بمضيه لأن المنذور به مستحيل الكون. وصرح الزيلعي في
الإقالة بأن اللفظ لا يحتمل ضده. وقيد بكون السنة معينة لأنها لو كانت منكرة فإن شرط التتابع
فكالمعينة كما قدمناه وإلا فلا، فلا تدخل هذه الأيام الخمسة ولا شهر رمضان وإنما يلزمه قدر
السنة، فإذا صام سنة لزمه قضاء خمسة وثلاثين يوما لأن صومه في هذه الخمسة ناقص فلا يجزئه
عن الكامل، وشهر رمضان لا يكون إلا عنه فيجب القضاء بقدره. وينبغي أن يصل ذلك بما
مضى، وإن لم يصل ذكر في بعض المواضع أنه لم يخرج عن العهدة وهذا غلط والصحيح أنه
يخرج. كذا في فتاوى الولوالجي. وأطلقه فشمل ما إذا قصد ما تلفظ به أو لا، ولهذا ذكر
الولوالجي في فتاواه: رجل أراد أن يقول لله علي صوم يوم فجرى على لسانه صوم شهر كان
عليه صوم شهر، وكذا إذا أراد شيئا فجرى على لسانه الطلاق أو العتاق أو النذر لزمه ذلك
لقوله عليه السلام ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق والعتاق والنكاح (1) والنذر في
معنى الطلاق والعتاق لأنه لا يحتمل الفسخ بعد وقوعه اه‍. وفي الفتاوي الظهيرية: ولو نذر
صوم يوم الاثنين أو الخميس فصام ذلك مرة كفاه إلا أن ينوي الأبد، ولو أوجب صوم هذا
اليوم شهرا أصام ما تكرر منه في ثلاثين يوما يعني إن كان ذلك اليوم يوم الخميس يصوم كل
خميس حتى يمضي شهر فيكون الواجب صوم أربعة أيام أو خمسة أيام، وكذلك لو قال لله علي
أن أصوم يوم الاثنين سنة. ولو قال لله علي يوما ويوما لزمه صوم يوم إلا أن ينوي الأبد كما
إذ قال لامرأته أنت طالق يوما ويوما لا. ولو قال لله علي أن أصوم كذا كذا يوما يلزمه صوم
أحد عشر يوما وهذا مشكل، وكذا ينبغي أن يلزمه اثنا عشر لأن كذا اسم عدد بدليل أنه لو قال
لفلان علي كذا درهما يلزمه درهمان وقد جمع بين عددين ليس بينهما حرف العطف وأقله اثنا

518
عشر، ولو قال كذا وكذا يلزمه أحد وعشرون، ولو قال بضعة عشر يلزمه ثلاثة عشر، وسيأتي
أجناس هذا في كتاب الاقرار. ولو قال لله علي أن أصوم جمعة، إن أراد بها أيام الجمعة أو لم
تكن له نية يلزمه صوم سبعة أيام وإن أراد بها يوم الجمعة يلزمه يوم الجمعة لأنه نوى حقيقة
كلامه كما لو حلف أن لا يكلم فلانا يوما وأراد به بياض النهار صدق قضاء، ولو قال جمع هذا
الشهر فعليه أن يصوم كل يوم جمعة تمر في هذا الشهر.
قال شمس الأئمة السرخسي: هذا هو الأصح، ولو قال صوم أيام الجمعة فعليه صوم
سبعة أيام، ولو قال لله علي أن أصوم السبت ثمانية أيام لزمه صوم سبتين، ولو قال لله علي
أن أصوم السبت سبعة أيام لزمه صوم سبعة أسبات لأن السبت في سبعة أيام لا يتكرر فحمل
كلامه على عدد الأسبات بخلاف الثمانية لأن السبت فيها يتكرر، ولو أوجب على نفسه
صوما متتابعا فصامه متفرقا لم يجز، وعلى عكسه جاز. ولو قال لله علي أن أصوم يوم الذي
يقدم فيه فلان فقدم فيه فلان بعدما أكل أو كانت الناذرة امرأة فحاضت لا يجب شئ في
قول محمد وعلى قياس قول أبي حنيفة يجب القضاء. ولو قدم بعد الزوال لا يلزمه شئ في
قول محمد ولا رواية فيه عن غيره. ولو قال لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان
شكرا لله تعالى وأراد به اليمين فقدم فلان في يوم من رمضان كان عليه كفارة اليمين ولا
قضاء عليه لأنه لم يوجد شرط البر وهو الصوم بنية الشكر، ولو قدم فلان قبل أن ينوي صوم
رمضان فنوى به عن الشكر ولا ينوي به عن رمضان بر في يمينه لوجود شرط البر وهو
الصوم بنية الشكر وأجزأه عن رمضان كما لو صام رمضان بنية التطوع وليس عليه قضاؤه.
ولو قال لله علي مثل شهر رمضان، فإن أراد مثله في الوجوب فله أن يفرق، وإن أراد به في
التتابع فعليه أن يتابع وإن لم يكن له نية فله أن يصوم متفرقا لأنه محتمل لهما فكان له الخيار.
ولو قال لله علي أن أصوم عشرة أيام متتابعات فصام خمسة عشر يوما وأفطر يوما لا يدري أن
يوم الافطار من الخمسة أو من العشرة فإنه يصوم خمسة أيام أخر متتابعات فيوجد عشرة متتابعة.
ولو قال لله علي صوم نصف يوم لا يصح بخلاف نصف ركعة حيث يصح عند محمد، ونصف
حج لا يصح. ولو نذر صوم شهرين متتابعين من يوم قدوم فلان فقدم في شعبان بنى بعد
رمضان كما في الحيض. ولو قال إن عوفيت صمت كذا لم يجب عليه حتى يقول لله علي
وهذا قياس، وفي الاستحسان يجب، فإن لم يكن تعليق لا يجب عليه قياسا ولا استحسانا
نظيره ما إذا قال أنا أحج لا شئ عليه. ولو قال إن فعلت كذا فأنا أحج ففعل يلزمه ذلك.

519
ولو قال لله علي صوم آخر يوم من أول الشهر وأول يوم من آخر الشهر لزمه الخامس عشر
والسادس عشر. الكل من الظهيرية والولوالجية والخانية وزاد الولوالجي فروعا وبعضها في
الخانية وهي: ولو قال لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبدا فقدم فلان ليلا لم يجب
عليه شئ لأن اليوم إذا قرن به ما يختص بالنهار كالصوم يراد به بياض النهار، وإذا كان كذلك
لم يوجد الوقت الذي أوجب فيه الصوم وهو النهار ولو قدم يوما قبل الزوال ولم يأكل صامه
وإن قدم قبل الزوال وأكل فيه أو بعد الزوال ولم يأكل فيه صام ذلك اليوم في المستقبل ولا
يصوم يومه ذلك لأن المضاف إلى الوقت عند وجود الوقت كالمرسل، ولو أرسل كان الجواب
هكذا. ولو نذر صوما في رجب أو صلاة فيه جاز عنه قبله في قول أبي يوسف لأنه إضافة
خلافا لمحمد. وإن كان معلقا بالشرط بأن قال إذا جاء شهر رجب فعلي أن أصوم لا يجوز قبله
لأن المعلق بالشرط لا يكون سببا قبل الشرط، ويجوز تعجيل الصدقة المضافة إلى وقت كالزكاة.
ولو قال لله علي صوم هذا الشهر يوما لزمه صوم ذلك الشهر بعينه متى شاء موسعا عليه إلى أن
يموت لأن الشهر لا يتصور أن يكون يوما حقيقة وهو بياض النهار فحمل على الوقت فصار
كما لو قال لله علي أن أصوم هذا الشهر وقتا من الأوقات. ولو قال لله علي صيام أيام ولا نية
له كان عليه صيام عشرة أيام عند أبي حنيفة، وعندهما سبعة أيام. ولو قال لله علي صيام أيام
لزمه صوم ثلاثة لأنه جمع قليل، ولو قال صيام الشهور فعشرة، وقالا صيام اثنى عشر شهرا.
ولو قال لله علي صيام السنين لزمه صيام عشرة وقالا: لزمه صيام الدهر إلا أن ينوي ثلاثا
فيكون ما نوى ولو قال لله علي صيام الزمن والحين ولا نية له كان على ستة أشهر. والزمن
مثل الحين في العرف ولا علم لأبي حنيفة بصيام دهر إذا نذره. وقالا: على ستة أشهر. الكل
من الولوالجي. وفي الكافي: لا يختص نذر غير معلق بزمان ومكان ودرهم وفقير اه‍.
وقد قدمنا أن النذر لا يصح بالمعصية للحديث لا نذر في معصية الله تعالى فقال
الشيخ قاسم في شرح الدرر: وأما النذر الذي ينذره أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون
لانسان غائب أو مريض أو له حاجة ضرورية فيأتي بعض الصلحاء فيجعل ستره على رأسه
فيقول يا سيدي فلان إن رد غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا
أو من الفضة كذا أو من الطعام كذا أو من الماء كذا أو من الشمع كذا أو من الزيت كذا،
فهذا النذر باطل بالاجماع لوجوه منها: أنه نذر مخلوق والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة
والعبادة لا تكون للمخلوق. ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك. ومنها إن ظن أن
الميت يتصرف في الأمور دون الله تعالى واعتقاده ذلك كفر اللهم إلا أن قال يا الله إني نذرت

520
لك إن شفيت مريضي أو رددت غائبي أو قضيت حاجتي أن أطعم الفقراء الذين بباب السيدة
نفيسة أو الفقراء الذين بباب الإمام الشافعي أو الإمام الليث أو أشتري حصرا لمساجدهم أو
زيتا لوقودها أو دراهم لمن يقوم بشعائرها إلى غير ذلك مما يكون فيه نفع للفقراء والنذر لله
عز وجل. وذكر الشيخ إنما هو محل لصرف النذر لمستحقيه القاطنين برباطه أو مسجده أو
جامعه فيجوز بهذا الاعتبار إذ مصرف النذر الفقراء وقد وجد المصرف، ولا يجوز أن يصرف
ذلك لغني غير محتاج ولا لشريف منصب لأنه لا يحل له الاخذ ما لم يكن محتاجا فقيرا، ولا
لذي النسب لأجل نسبه ما لم يكن فقيرا، ولا لذي علم لأجل علمه ما لم يكن فقيرا. ولم
يثبت في الشرع جواز الصرف للأغنياء للاجماع على حرمة النذر للمخلوق ولا ينعقد ولا
تشتغل الذمة به ولأنه حرام بل سحت. ولا يجوز لخادم الشيخ أخذه ولا أكله ولا التصرف
فيه بوجه من الوجوه إلا أن يكون فقيرا أو له عيال فقراء عاجزون عن الكسب وهم
مضطرون فيأخذونه على سبيل الصدقة المبتدأة، فأخذه أيضا مكروه ما لم يقصد به الناذر
التقرب إلى الله تعالى وصرفه إلى الفقراء ويقطع النظر عن نذر الشيخ، فإذا علمت هذا فما
يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم فحرام
بإجماع المسلمين ما لم يقصدوا بصرفها للفقراء الاحياء قولا واحدا اه‍.
قوله: (ولا قضاء إن شرع فيها فأفطر) أي إن شرع في صوم الأيام المنهية ثم أفسده فلا
قضاء عليه، وعن أبي يوسف ومحمد في النوادر أن عليه القضاء لأن الشروع ملزم كالنذر
وصار كالشروع في الصلاة في الوقت المكروه، والفرق لأبي حنيفة وهو ظاهر الرواية أن
بنفس الشروع في الصوم يسمى صائما حتى يحنث به الحالف على الصوم فيصير مرتكبا للنهي
فيجب إبطاله ولا تجب صيانته، ووجوب القضاء يبتني عليه ولا يصير مرتكبا للنهي بنفس
النذر وهو الموجب، ولا بنفس الشروع في الصلاة حتى يتم ركعة ولهذا لا يحنث له الحالف
على الصلاة فيجب صيانة المؤدي فيكون مضمونا بالقضاء. وعن أبي حنيفة أنه لا يجب القضاء
في فصل الصلاة أيضا والأظهر هو الأول. كذا في الهداية. وتعقب في فتح القدير والتحرير
بأنه يقتضي أنه لو قطع بعد السجدة لا يجب قضاؤها والجواب مطلق في الوجوب. وحينئذ
فالوجه أن لا يصح الشروع لانتفاء فائدته من الأداء والقضاء ولا مخلص إلا بجعل الكراهة

521
تنزيهية ا ه‍. ولنا مخلص مع جعلها تحريمية كما هو المذهب بأن يقال: لما شرع في الصلاة لم
يكن مرتكبا للمنهي عنه فوجب عليه المضي وحرم القطع بقوله تعالى * (ولا تبطلوا أعمالكم)
* (محمد: 33) فلما قيدها بسجدة حرم عليه المضي فتعارض محرمان ومع أحدهما وجوب فتقدم
حرمة القطع والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب الاعتكاف
ذكره بعد الصوم لما أنه من شرطه كما سيأتي، والشرط يقدم على المشروط. وهو لغة
افتعال من عكف إذا دام من باب طلب، وعكفه حبسه ومنه * (والهدي معكوفا) * (الفتح:
25) وسمي به هذا النوع من العبادة لأنه إقامة في المسجد مع شرائط. كذا في المغرب وفي
الصحاح: الاعتكاف الاحتباس. وفي النهاية إنه متعد فمصدره العكف، ولازم فمصدره
العكوف. فالمعتدي بمعنى الحبس والمنع ومنه قوله تعالى * (والهدى معكوفا) * (الفتح: 25)
ومنه الاعتكاف في المسجد. وأما اللازم فهو الاقبال على الشئ بطريق المواظبة ومنه قوله
تعالى * (يعكفون على أصنام لهم) * () وشرعا اللبث في المسجد مع نيته، فالركن هو
اللبث. والكون في المسجد والنية شرطان للصحة، وأما الصوم فيأتي. ومنها الاسلام والعقل
والطهارة عن الجنابة والحيض والنفاس، وأما البلوغ فليس بشرط حتى يصح اعتكاف الصبي
العاقل كالصوم، وكذا الذكورة والحرية فيصح من المرأة والعبد بإذن الزوج والمولى ولو نذرا
فلمن له الاذن المنع ويقضيانه بعد زوال الولاية بالطلاق البائن والعتق، وأما المكاتب فليس
للمولى منعه ولو تطوعا، ولو أذن لها به لم يكن له رجوع لكونه ملكها منافع الاستمتاع بها
وهي من أهل الملك بخلاف المملوك لأنه ليس من أهله وقد أعاره منافعه وللمعير الرجوع
لكنه يكره لخلف الوعد. كذا في البدائع وفيه بحث، لأنه لا حاجة إلى التصريح بالاسلام
والعقل لما أنهما علما من اشتراط النية لأن الكافر والمجنون ليسا بأهل لها. وأما الطهارة من
الجنابة فينبغي أن تكون شرطا للجواز بمعنى الحل كالصوم لا للصحة كما صرح به. وأما

522
صفته فالسنية كما ذكره على كلام فيه يأتي، وأما سببه فالنذر إن كان واجبا والنشاط الداعي
إلى طلب الثواب إن كان تطوعا، وأما حكمه فسقوط الواجب ونيل الثواب إن كان واجبا،
والثاني فقط إن كان نفلا وسيأتي ما يفسده ويكره فيه ويحرم ويندب ومحاسنه كثيرة لأن فيه
تفريغ القلب عن أمور الدنيا وتسليم النفس إلى المولى والتحصن بحصن حصين وملازمة بيت
رب كريم فهو كمن احتاج إلى عظيم فلازمه حتى قضي مآربه فهو يلازم بيت ربه ليغفر له.
كذا في الكافي. وفي الاختيار: وهو من أشرف الأعمال إذا كان عن إخلاص.
قوله: (سن لبث في مسجد بصوم ونية) أي ونية اللبث الذي هو الاعتكاف. وقد
أشار المصنف إلى صفته وركنه وشرائطه. أما الأول فهو السنية وهكذا في كثير من الكتب،
وفي القدوري الاعتكاف مستحب، وصحح في الهداية أنه سنة مؤكدة، وذكر الشارح أن
الحق انقسامه إلى ثلاثة أقسام: واجب وهو المنذور، وسنة وهو في العشر الأخير من
رمضان، ومستحب وهو في غيره من الأزمنة. وتبعه المحقق في فتح القدير، والأظهر أنه
سنة في الأصل كما اقتصر عليه في المتن تبعا لما صرح به في البدائع وهي مؤكدة وغير
مؤكدة. وأطلق عليها الاستحباب لأنها بمعناه، وأما الواجب فهو بعارض النذر. وفي البدائع
إنه يجب بالشروع أيضا، ولا يخفي أنه مفرع على ضعيف وهو اشتراط زمن للتطوع، وأما على
المذهب من أن أقل النفل ساعة فلا، والدليل على تأكده في العشر الأخير مواظبته عليه السلام
عليه فيه كما في الصحيحين ولهذا قال الزهري: عجبا للناس كيف تركوا الاعتكاف وقد كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل الشئ ويتركه ولم يترك الاعتكاف منذ دخل المدينة إلى أن مات. فهذه
المواظبة المقرونة بعدم الترك مرة لما اقترنت بعدم الانكار على من لم يفعله من الصحابة كانت دليل
السنية وإلا كانت دليل الوجوب. كذا في فتح القدير. ولا يخفى أن المواظبة قد اقترنت

523
بالترك وهو ما يفيده الحديث من أنه اعتكف العشر الأخير من رمضان فرأى خياما وقبابا
مضروبة فقال: لمن هذا؟ قال: لعائشة وهذا لحفصة وهذا لسودة، فغضب وقال: أترون البر
بهذا فأمر بأن تنزع قبته فنزعت ولم يعتكف فيه ثم قضي في شوال. وقد يقال: إن الترك هنا
لعذر كما صرح به الفتاوي الظهيرية وقد قدمنا في المواظبة كلاما حسنا في سنن الوضوء
فارجع إليه. ولا فرق في المنذور بين المنجز والمعلق. وأشار باللبث إلى ركنه، وبالمسجد
والصوم والنية إلى شرائطه لكن ذكره الصوم معها لا ينبغي لأنه لا يمكن حمله على المنذور
لتصريحه بالسنية، ولا على غيره لتصريحه بعد أن أقله نفلا ساعة فلزم أن الصوم ليس من
شرطه. فإن قلت: يمكن حمله على الاعتكاف المسنون سنة مؤكدة وهو العشر الأخير من
رمضان فإن الصوم من شرطه حتى لو اعتكفه من غير صوم لمرض أو سفر ينبغي أن لا
يصح. قلت: لا يمكن لتصريحهم بأن الصوم إنما هو شرط في المنذور فقط دون غيره،
وفرعوا عليه بأنه لو نذر اعتكاف ليلة لم يصح لأن الصوم من شرطه والليل ليس بمحل له،
ولو نوى اليوم معها لم يصح. كذا في الظهيرية. عن أبي يوسف: إن نوى ليلة بيومها لزمه
ولم يذكر محمد هذا التفصيل. ولو قال لله علي أن أعتكف ليلا ونهارا لزمه أن يعتكف ليلا
ونهارا وإن لم يكن الليل محلا للصوم لأن الليل يدخل فيه تبعا، ولا يشترط للتبع ما يشترط
للأصل ولو نذر اعتكاف يوم قد أكل فيه لم يصح ولم يلزمه شئ لأنه لا يصح بدون الصوم،
وسيأتي بقية تفاريع النذر. ومن تفريعاته هنا أنه لو أصبح صائما متطوعا أو غيرنا وللصوم ثم
قال لله علي أن أعتكف هذا اليوم لا يصح وإن كان في وقت تصح فيه نية الصوم لعدم
استيفاء النهار، وتمامه في فتح القدير: وفي الفتاوي الظهيرية: ولو قال علي أن أعتكف

524
شهرا بغير صوم فعليه أن يعتكف ويصوم وقد علم من كون الصوم شرطا أنه يراعي وجوده
لا إيجاده للمشروط له قصدا فلو نذر اعتكاف شهر رمضان لزمه وأجزأه صوم رمضان عن
صوم الاعتكاف، وإن لم يعتكف قضى شهرا بصوم مقصود لعود شرطه إلى الكمال، ولا
يجوز اعتكافه في رمضان آخر ويجوز في قضاء رمضان الأول والمسألة معروفة في الأصول في
بحث الامر.
قوله: (وأقله نفلا ساعة) لقول محمد في الأصل: إذا دخل المسجد بنية الاعتكاف فهو
معتكف ما أقام تارك له إذا خرج فكان ظاهر الرواية، واستنبط المشايخ منه أن الصوم ليس
من شرطه على ظاهر الرواية لأن مبني النفل على المسامحة حتى جازت صلاته قاعدا أو راكبا
مع قدرته على الركوب والنزول. ونظر فيه المحقق في فتح القدير بأنه لا يمتنع عند العقل
القول بصحة اعتكاف ساعة مع اشتراط الصوم له وإن كان الصوم لا يكون أقل من يوم.
وحاصله أن من أراد أن يعتكف فليصم، سواء كان يريد اعتكاف يوم أو دونه، ولا مانع من
اعتبار شرط يكون أطول من مشروطه ومن ادعاه فهو بلا دليل، فهذا الاستنباط غير صحيح
بلا موجب فالاعتكاف لا يقدر شرعا بكمية لا تصح دونها كالصوم بل كل جزء منه لا يفتقر
في كونه عبادة إلى الجزء الآخر ولم يستلزم تقدير شرطه تقديره ا ه‍. ولا يخفى أن ما ادعاه
أمر عقلي مسلم، وبهذا لا يندفع ما صرح به المشايخ الثقات من أن ظاهر الرواية أن الصوم
ليس من شرطه، وممن صرح به صاحب المبسوط وشرح الطحاوي وفتاوي قاضيخان
والذخيرة والفتاوي الظهيرية والكافي للمصنف والبدائع والنهاية وغاية البيان والتبيين

525
وغيرهم، والكل مصرحون بأن ظاهر الرواية أن الصوم ليس من شرطه لكن وقع لصاحب
المبسوط أنه قال: وفي ظاهر الرواية يجوز النفل من الاعتكاف من غير صوم فإنه قال في
الكتاب: إذا دخل المسجد بنية الاعتكاف فهو معتكف ما أقام تارك له إذا خرج، وظاهره أن
مستند ظاهر الرواية ما ذكره في الكتاب. ولا يمتنع أن يكون مستنده صريحا آخر بل هو
الظاهر لنقل الثقات، وعبارة البدائع: وأما اعتكاف التطوع فالصوم ليس بشرط لجوازه في
ظاهر الرواية، وروي الحسن أنه شرط، واختلاف الرواية فيه مبني على اختلاف الرواية في
اعتكاف التطوع أنه مقدر بيوم أو غير مقدر. ذكر محمد في الأصل أنه غير مقدر فلم يكن
الصوم شرطا لأن الصوم مقدر بيوم إذ صوم بعض اليوم ليس بمشروع فلا يصلح شرطا لما
ليس بمقدر ا ه‍. وهي تفيد أن ظاهر الرواية مروي لا مستنبط، وأشار إلى أنه لو شرع في
النفل ثم قطعه لا يلزمه القضاء في ظاهر الرواية لأنه غير مقدر فلم يكن قطعه إبطالا، وقد
ذكروا في الحيض أن الساعة اسم لقطعة من الزمن عند الفقهاء ولا يختص بخمسة عشر درجة
كما يقوله أهل الميقات فكذا هنا. وأطلق في المسجد فأفاد أن الاعتكاف يصح في كل مسجد
وصححه في غاية البيان لاطلاق قوله تعالى * (وأنتم عاكفون في المساجد) * (البقرة: 187)
وصحح قاضيخان في فتاواه أنه يصح في كل مسجد له أذان وإقامة. واختار في الهداية أنه
لا يصح إلا في مسجد الجماعة، وعن أبي يوسف تخصيصه بالواجب أما في النفل فيجوز في
غير مسجد الجماعة. ذكره في النهاية. وصحح في فتح القدير عن بعض المشايخ ما روي
عن أبي حنيفة أن كل مسجد له إمام ومؤذن معلوم ويصلي فيه الخمس بالجماعة يصح
الاعتكاف فيه. وفي الكافي: أراد به أبو حنيفة غير الجامع فإن الجامع يجوز الاعتكاف فيه
وإن لم يصلوا فيه الصلوات كلها. ويوافقه ما في غاية البيان عن الفتاوي: يجوز الاعتكاف في
الجامع وإن لم يصلوا فيه بالجماعة. وهذا كله لبيان الصحة، وأما الأفضل فإن يكون في
المسجد الحرام ثم في مسجد المدينة وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم
مسجد بيت المقدس، ثم مسجد الجامع ثم المساجد العظام التي كثر أهلها. كذا في البدائع وشرح الطحاوي. وظاهره
أن المجاورة بمكة ليس بمكروه، والمروي عن أبي حنيفة الكراهة، وعلى قولهما لا بأس به

526
وهو الأفضل. قال في النهاية: وعليه عمل الناس اليوم إلا أن يقال: إن مرادهم الاعتكاف
فيه في أيام الموسم فلا يدل على المسألة.
قوله: (والمرأة تعتكف في مسجد بيتها) يريد به الموضع المعد للصلاة لأنه أستر لها.
قيد به لأنها لو اعتكفت في غير موضع صلاتها من بيتها، سواء كان لها موضع معد أو لا،
لا يصح اعتكافها. وأشار بقوله تعتكف دون أن يقول يجب عليها إلى أن اعتكافها في
مسجد بيتها أفضل فأفاد أن اعتكافها في مسجد الجماعة جائز وهو مكروه، ذكره قاضيخان
وصححه في النهاية: وظاهر ما في غاية البيان أن ظاهر الرواية عدم الصحة. وفي البدائع أن
اعتكافها في مسجد الجماعة صحيح بلا خلاف بين أصحابنا، والمذكور في الأصل محمول
على نفي الفضيلة لا نفي الجواز. وأشار بجعله كالمسجد إلا أنها لو خرجت منه ولو إلى بيتها
بطل اعتكافها إن كان واجبا وانتهى إن كان نفلا. والفرق بينهما أنها تثاب في الثاني دون
الأول وهكذا في الرجل. وفي الفتاوي الظهيرية: ولو نذرت المرأة اعتكاف شهر فحاضت
تقضي أيام حيضها متصلا بالشهر وإلا استقبلت، وقد تقدم أنها لا تعتكف إلا بإذن زوجها
إن كان لها زوج ولو واجبا. وفي المحيط: ولو أذن لها في الاعتكاف فأرادت أن تعتكف
متتابعا فللزوج أن يأمرها بالتفريق لأنه لم يأذن. لها في الاعتكاف متتابعا لا نصا ولا دلالة،
ولو أذن لها في اعتكاف شهر أو صوم شهر بعينه فاعتكفت أو صامت فيه متتابعا ليس له
منعها لأنه أذن لها في التتابع ضرورة أنه متتابع وقوعا.
قوله: (ولا يخرج منه إلا لحاجة شرعية كالجمعة أو طبيعية كالبول والغائط) أي لا يخرج
المعتكف اعتكافا واجبا من مسجده إلا لضرورة مطلقة لحديث عائشة: كان عليه السلام لا
يخرج من معتكفه إلا لحاجة الانسان ولأنه معلوم وقوعها، ولا بد من الخروج في بعضها
فيصير الخروج لها مستثنى، ولا يمكث بعد فراغه من الطهور لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر
بقدرها، وأما الجمعة فإنها من أهم حوائجه وهي معلومة وقوعها ويخرج حين تزول الشمس
لأن الخطاب يتوجه بعده، وإن كان منزله بعيدا عنه يخرج في وقت يمكنه إدراكها وصلاة
أربع قبلها، وركعتان تحية المسجد يحكم في ذلك رأيه أن يجتهد في خروجه على إدراك سماع
الجمعة لأن السنة إنما تصلي قبل خروج الخطيب. كذا قالوا مع تصريحهم بأنه إذا شرع في
الفريضة حين دخل المسجد أجزأه عن تحية المسجد لأن التحية تحصل بذلك فلا حاجة إلى تحية

527
غيرها في تحقيقها وكذا السنة. فما قالوه هنا من صلاة التحية ضعيف ويصلي بعدها السنة
أربعا على قوله، وستا على قولهما. ولو أقام في الجامع أكثر من ذلك لم يفسد اعتكافه لأنه
موضع الاعتكاف إلا أنه يكره لأنه التزم أداءه في مسجد واحد فلا يتمه في مسجدين من غير
ضرورة، وقد ظهر بما ذكروه أن الأربع التي تصلى بعد الجمعة وينوي بها آخر ظهر عليه لا
أصل لها في المذهب لأنهم نصوا هنا على أن المعتكف لا يصلي إلا السنة البعدية فقط، ولان
من اختارها من المتأخرين فإنما اختارها للشك في أن جمعته سابقة أولا بناء على عدم جواز
تعددها في مصر واحد، وقد نص الإمام شمس الأئمة السرخسي على أن الصحيح من
مذهب أبي حنيفة جواز إقامتها في مصر واحد في مسجدين فأكثر - قال - وبه نأخذ. وفي
فتح القدير وهو الأصح فلا ينبغي الافتاء بها في زماننا لما أنهم تطرقوا منها إلى التكاسل عن
الجمعة بل ربما وقع عندهم أن الجمعة ليست فرضا وإن الظهر كاف، ولا خفاء في كفر من
اعتقد ذلك فلذلك نبهت عليها مرارا.
قيدنا يكون الاعتكاف واجبا لأنه لو كان نفلا فله الخروج لأنه منه له لا مبطل كما
قدمناه، ومراده يمنع الخروج الحرمة يعني يحرم على المعتكف الخروج ليلا أو نهارا. وصرح
بالحرمة صاحب المحيط وأفاد أنه لا يخرج لعيادة المريض وصلاة الجنازة لعدم الضرورة المطلقة
للخروج. كذا في غاية البيان. وفي المحيط: ولو أحرم المعتكف بحجة أو عمرة أقام في
اعتكافه إلى أن يفرغ منه ثم يمضي في إحرامه لأنه أمكنه إقامة الامرين، فإن خاف فوت

528
الحج يدع الاعتكاف ويحج ثم يستقبل الاعتكاف لأن الحج أهم من الاعتكاف لأنه يفوت
بمضي يوم عرفة وإدراكه في سنة أخرى موهوم، وإنما يستقبله لأن هذا الخروج وإن وجب
شرعا فإنما وجب بعقده وإيجابه. وعقده لم يكن معلوم الوقوع فلا يصير مستثنى عن
الاعتكاف. وأشار إلى أنه لو خرج لحاجة الانسان ثم ذهب لعيادة المريض أو لصلاة الجنازة
من غير أن يكون لذلك قصد فإنه جائز بخلاف ما إذا خرج لحاجة الانسان ومكث بعد فراغه
أنه ينتقض اعتكافه عند أبي حنيفة، قل أو كثر، وعندهما لا ينتقض ما لم يكن أكثر من نصف
يوم. كذا في البدائع.
قوله: (فإن خرج ساعة بلا عذر فسد) لوجود المنافي. أطلقه فشمل القليل والكثير
وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: لا يفسد إلا بأكثر من نصف يوم وهو الاستحسان لأن في
القليل ضرورة - كذا في الهداية - وهو يقتضي ترجيح قولهما. ورجح المحقق في فتح القدير
قوله لأن الضرورة التي يناط بها التخفيف اللازمة أو الغالبة وليس هنا كذلك، وأراد بالعذر
ما يغلب وقوعه كالمواضع التي قدمها وإلا لو أريد مطلقه لكان الخروج ناسيا أو مكرها غير
مفسد لكونه عذرا شرعيا وليس كذلك بل هو مفسد كما صرحوا به. وبما قررناه ظهر القول
بفساده فيما إذا خرج لانهدام المسجد أو لتفرق أهله أو أخرجه ظالم أو خاف على متاعه كما
في فتاوي قاضيخان والظهيرية خلافا للشارح الزيلعي أو خرج لجنازة وإن تعينت عليه أو
لنفير عام أو لأداء شهادة أو لعذر المرض أو لانقاذ غريق أو حريق، ففرق الشارح هنا بين
هذه المسائل حيث جعل بعضها مفسدا والبعض لا، تبعا لصاحب البدائع مما لا ينبغي. نعم
الكل عذر مسقط للإثم بل قد يجب عليه الافساد إذا تعينت عليه صلاة الجنازة أو أداء الشهادة
بأن كان ينوي حقه إن لم يشهد أولا نجاء غريق ونحوه، والدليل على ما ذكره القاضي ما
ذكره الحاكم في كافيه بقوله: فأما في قول أبي حنيفة فاعتكافه فاسد إذا خرج ساعة لغير غائط
أو بول أو جمعة ا ه‍. فكان مفسرا للعذر المسقط للفساد. وفي فتاوي قاضيخان والولوالجي:
وصعود المئذنة إن كان بابها في المسجد لا يفسد الاعتكاف، وإن كان الباب خارج المسجد
فكذلك في ظاهر الرواية. قال بعضهم: هذا في المؤذن لأن خروجه للاذان يكون مستثنى
عن الايجاب، أما في غير المؤذن فيفسد الاعتكاف، والصحيح أن هذا قول الكل في حق
الكل لأنه خرج لإقامة سنة الصلاة وسنتها تقام في موضعها فلا تعتبر خارجا ا ه‍. وفي

529
التبيين: ولو كانت المرأة معتكفة في المسجد فطلقت لها أن ترجع إلى بيتها وتبني على اعتكافها
ا ه‍. وينبغي أن يكون مفسدا على ما اختاره القاضي لأنه لا يغلب وقوعه، وأراد بالخروج
انفصال قدميه احترازا عما إذا خرج رأسه إلى داره فإنه لا يفسد اعتكافه لأنه ليس بخروج،
إلا ترى أنه لو حلف أنه لا يخرج من الدار ففعل ذلك لا يحنث. كذا في البدائع. وقد
علمت أن الفساد لا يتصور إلا في الواجب وإذا فسد وجب عليه القضاء بالصوم عند القدرة
جبرا لما فاته إلا في الردة خاصة غير أن المنذور به إن كان اعتكاف شهر بعينه يقضي قدر ما
فسد لا غير، ولا يلزمه الاستقبال كالصوم المنذور بشهر بعينه إذا أفطر يوما وجب قضاؤه ولا
يلزمه الاستقبال كما في صوم رمضان، وإن كان اعتكاف شهر بغير عينه يلزمه الاستقبال لأنه
لزمه متتابعا فيراعي فيه صفة التتابع، وسواء فسد بصنعه بغير عذر كالخروج والجماع والأكل والشرب
في النهار إلا الردة. أو فسد بصنعه لعذر كما إذا مرض فاحتاج إلى الخروج فخرج
أو بغير صنعه رأسا كالحيض والجنون والاغماء الطويل. والقياس في الجنون الطويل أن
يسقط القضاء كما في صوم رمضان إلا أن في الاستحسان يقضي لأنه لا حرج في قضاء
الاعتكاف. كذا في البدائع. وبهذا علم أن مفسداته عى ثلاثة أقسام، ولا يفسد الاعتكاف
سباب ولا جدال ولا سكر في الليل.
قوله: (وأكله وشربه ونومه ومبايعته فيه) يعني يفعل المعتكف هذه الأشياء في المسجد،
فإن خرج لأجلها بطل اعتكافه لأنه لا ضرورة إلى الخروج حيث جازت فيه. وفي الفتاوي
الظهيرية: وقيل يخرج بعد الغروب للاكل والشرب ا ه‍. وينبغي حمله على ما إذا لم يجد من
يأتي له به فحينئذ يكون من الحوائج الضرورة كالبول والغائط. وأراد بالمبايعة البيع والشراء
وهو الايجاب والقبول، وأشار بالمبايعة إلى كل عقد احتاج إليه فله أن يتزوج ويراجع كما في
البدائع. وأطلق المبايعة فشملت ما إذا كانت للتجارة، وقيده في الذخيرة بما لا بد له منه
كالطعام، أما إذا أراد أن يتخذ ذلك متجرا فإنه مكروه وإن لم يحضر السلعة واختاره قاضيخان
في فتاواه ورجحه الشارح لأنه منقطع إلى الله تعالى فلا ينبغي له أن يشتغل بأمور الدنيا. وقيد
بالمعتكف لأن غيره يكره له البيع مطلقا لنهيه عليه السلام عن البيع والشراء في المسجد،
وكذا كره فيه التعليم والكتابة والخياطة بأجر. وكل شئ يكره فيه كره في سطحه. واستثنى
البزازي من كراهة التعليم بأجر فيه أن يكون لضرورة الحراسة ويكره لغيره النوم فيه. وقيل:
إذا كان غريبا فلا بأس أن ينام فيه. كذا في فتح القدير. والأكل والشرب كالنوم. وفي
البدائع: وإن غسل المعتكف رأسه في المسجد فلا بأس به إذا لم يلوث بالماء المستعمل، فإن
كان بحيث يتلوث المسجد يمنع منه لأن تنظيف المسجد واجب، ولو توضأ في المسجد في

530
إناء فهو على هذا التفصيل ا ه‍. بخلاف غير المعتكف فإنه يكره له التوضؤ في المسجد ولو
في إناء إلا أن يكون موضعا اتخذ لذلك لا يصلي فيه. وفي فتح القدير خصال لا تنبغي في
المسجد لا يتخذ طلايقا، ولا يشهر فيه سلاح، ولا ينبض فيه بقوس، ولا ينثر فيه نبل، ولا
يمر فيه بلحم ني، ولا يضرب فيه حد، ولا يتخذ سوقا (1) رواه ابن ماجة في سنته عنه عليه
السلام قوله: (وكره إحضار المبيع والصمت والتكلم إلا بخير) أما الأول فلان المسجد محرز
عن حقوق العباد وفيه شغله بها ولهذا قالوا: لا يجوز غرس الأشجار فيه. والظاهر أن
الكراهة تحريمية لأنها محل إطلاقهم كما صرح به المحقق في فتح القدير أول الزكاة، ودل
تعليلهم أن المبيع لو كان لا يشغل البقعة لا يكره إحضاره كدراهم ودنانير يسيرة أو كتاب
ونحوه. وأفاد الاطلاق أن إحضار الطعام المبيع الذي يشتريه ليأكله مكروه، وينبغي عدم
كراهته كما لا يخفي. وأما الثاني وهو الصمت فالمراد به ترك التحدث مع الناس من غير عذر
وقد ورد النهي عنه. وقالوا: إن صوم الصمت من فعل المجوس لعنهم الله تعالى. وخصه
الإمام حميد الدين الضرير بما إذا اعتقده قربة، أما إذا لم يعتقده قربة فلا يكره للحديث من
صمت نجا. وأما الثالث وهو أنه لا يتكلم إلا بخير فلقوله تعالى * (وقل لعبادي يقولوا التي
هي أحسن) * (الاسراء: 53) وهو بعمومه يقتضي أن لا يتكلم خارج المسجد إلا بخير
فالمسجد أولى. كذا في غاية البيان. وفي التبيين: وأما التكلم بغير خير فإنه يكره لغير
المعتكف فما ظنك للمعتكف ا ه‍. وظاهره أن المراد بالخير هنا ما لا إثم فيه فيشمل المباح
وبغير الخير ما فيه إثم، والأولى تفسيره بما فيه ثواب يعني أنه يكره للمعتكف أن يتكلم
بالمباح بخلاف غيره ولهذا قالوا: الكلام المباح في المسجد مكروه يأكل الحسنات كما تأكل

531
النار الحطب. صرح به فتح القدير قبيل باب الوتر لكن قال الأسبيجابي: ولا بأس أن يتحدث
بما لا إثم فيه. وقال في الهداية: لكنه يتجانب ما يكون مأثما. والظاهر ما ذكرناه كما لا
يخفي قالوا: ويلازم قراءة القرآن والحديث والعلم والتدريس وسير النبي صلى الله عليه وسلم وقصص الأنبياء
وحكايات الصالحين وكتابة أمور الدين.
قوله: (ويحرم الوطئ ودواعيه) لقوله تعالى * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في
المساجد) * (البقرة: 187) لأن المباشرة تصدق على الوطئ ودواعيه فيفيد تحريم كل فرد من
أفراد المباشرة جماع أو غيره لأنه في سياق النهي فيفيد العموم. والمراد بدواعيه المسن والقبلة
وهو كالحج والاستبراء والظهار لما حرم الوطئ لها حرم دواعيه لأن حرمة الوطئ ثبتت
بصريح النية فقويت فتعدت إلى الدواعي. أما في الحج فلقوله تعالى * (فلا رفث) * (البقرة:
197) وأما في الاستبراء فللحديث لا تنكح الحيالى حتى يضعن ولا الحالي حتى يستبرئن
بحيضة. وأما في الظهار فلقوله تعالى * (من قبل أن يتماسا) * (المجادلة: 3) بخلاف الحيض
والصوم حيث لا تحرم الدواعي فيهما لأن حرمة الوطئ لم تثبت بصريح النهي. ولكثرة
الوقوع فلو حرم الدواعي لزم الحرج وهو مدفوع، ولان النص في الحيض معلول بعلة الأذى
وهو لا يوجد في الدواعي. قوله: (ويبطل بوطئه) لأنه محذور بالنص فكان مفسدا له. أطلقه
فشمل ما إذا كان عامدا أو ناسيا نهارا أو ليلا أنزل أو لا بخلاف الصوم إذا كان ناسيا.
والفرق أن حالة المعتكف مذكرة كحالة الاحرام والصلاة وحالة الصائم غير مذكرة، وقيد
بالوطئ لأن الجماع فيما دون الفرج أو التقبيل، أو اللمس لا يفسد إلا إذا أنزل وأن أمنى
بالتفكر أو النظر لا يفسد اعتكافه، وإن أكل أو شرب ليلا لم يفسد اعتكافه، وإن أكل نهارا
فإن عامدا فسد لفساد الصوم، وإن ناسيا لا لبقاء الصوم، والأصل أن ما كان من محظورات
الاعتكاف وهو ما منع عنه لأجل الاعتكاف لا لأجل الصوم لا يختلف فيه العمد والسهو
والنهار والليل كالجماع والخروج، وما كان من محضورات الصوم وهو مانع عنه لأجل الصوم
يختلف فيه العمد والسهو والنهار والليل كالأكل والشرب. كذا في البدائع قوله: (ولزمه
الليالي بنذر اعتكاف أيام) كقوله بلسانه لله علي أن أعتكف ثلاثة أيام أو ثلاثين يوما لأن ذكر
الأيام على سبيل الجمع يتناول ما بإزائها من الليالي. يقال ما رأيتك منذ أيام والمراد بلياليها.
وأشار إلى أنه يلزمه الأيام بنذر اعتكاف الليالي لأن ذكر أحد العددين على طريق الجمع ينتظم
ما بإزائه من العدد الآخر لقصة زكريا عليه السلام فإنه قال الله تعالى * (قال آيتك لا تكلم

532
الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * (آل عمران: 41) وقال في آية أخرى * (قال آيتك أن لا تكلم
الناس ثلاث ليال سويا) * (مريم: 10) والقصة واحدة. والرمز الإشارة باليد أو بالرأس أو
بغيرهما وهذا عند نيتهما أو عدم النية، أما لو نوى في الأيام النهار خاصة صحت نيته لأنه
نوى حقيقة كلامه بخلاف ما إذا نوى بالأيام الليالي خاصة حيث لم تعمل نيته، ولزمه الليالي
والنهار لأنه نوى ما لا يحتمله كلامه. كذا في البدائع كما إذا أنذر أن يعتكف شهرا ونوى
النهار خاصة أو الليل خاصة لا تصح نيته لأن الشهر اسم لعدد مقدر مشتمل على الأيام
والليالي فلا يحتمل ما دونه إلا أن يصرح ويقول شهرا بالنهار لزمه كما قال، أو يستثني ويقول
إلا الليالي لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا فكأنه قال ثلاثين نهارا. ولو نذر ثلاثين ليلة
ونوي الليالي خاصة صح لأنه نوى الحقيقة. ولا يلزمه شئ لأن الليالي ليست محلا للصوم.
كذا الكافي. وكذا في لو نذر أن يعتكف شهرا واستثنى الأيام لا يجب عليه شئ لأن
الباقي الليالي المجردة، ولا يصح فيها لمنافاتها شرطه وهو الصوم. كذا في فتح القدير. قيدنا
كونه نذر بلسانه لأن مجرد نية القلب لا يلزمه بها شئ.
قوله: (وليلتان بنذر يومين) يعني لزمه اعتكاف ليلتين مع يوميهما إذا نذر اعتكاف
يومين لأن المثنى كالجمع. فحاصله أنه إما أن يأتي بلفظ المفرد أو المثنى أو المجموع، وكل
منهما إما أن يكون اليوم أو الليل فهي ستة، وكل منها إما أن ينوي الحقيقة أو المجاز أو
ينويهما أو لم تكن له نية فهي أربعة وعشرون، وقد تقدم حكم المجموع والمثنى بأقسامهما،
بقي حكم المفرد فإن قال لله علي أن أعتكف يوما لزمه فقط، سواء نواه فقط أو لم تكن له
نية، ولا يدخل ليلته ويدخل المسجد قبل الفجر ويخرج بعد الغروب، فإن نوى الليلة معه
لزماه، ولو نذر اعتكاف ليلة لم يصح، سواء كان نواها فقط أو لم تكن له نية، فإن نوى اليوم
معها لم يصح كما قدمناه عن الظهيرية. وفي فتاوي قاضيخان: لو نذر اعتكاف ليلة ونوى

533
اليوم لزمه الاعتكاف، وإن لم ينوي يلزمه شئ، ولا معارضة لما في الكتابين لأن ما في الظهيرية
إنما هو أنه نوي اليوم معها وهنا نوى بالليلة اليوم فليتأمل. وفي الكافي: ومتى دخل في
اعتكافه الليل أو النهار فابتداؤه من الليل لأن الأصل أن كل ليلة تتبع اليوم الذي بعدها ألا
ترى أنه يصلي التراويح في أول ليلة من رمضان ولا يفعل ذلك في أول ليلة من شوال. وفي
فتاوي الولوالجي من كتاب الأضحية: الليلة في كل وقت تبع لنهار يأتي إلا في أيام الأضحى
تبع لنهار ما مضي رفقا بالناس ا ه‍. وفي المحيط من كتاب الحج: والليالي كلها تابعة للأيام
المستقبلة لا للأيام الماضية إلا في الحج فإنها في حكم الأيام الماضية، فليلة عرفة تابعة ليوم
التروية، وليلة النحر تابعة ليوم عرفة اه‍. فتحصل أنها تبع لما يأتي إلا في ثلاثة مواضع،
وإما قوله تعالى * (ولا الليل سابق النهار) * (يس: 40) فقال الإمام فخر الدين الرازي في
تفسيره: إن سلطان الليل وهو القمر ليس يسبق الشمس وهي سلطان النهار. وقيل: تفسيره
الليل لا يدخل وقت النهار. وأطال الكلام في بيان الوجه الأول فراجعه. فعلى هذا إذا ذكر
المثني أو المجموع يدخل المسجد قبل الغروب ويخرج بعد الغروب من آخر يوم نذره كما
صرح بها قاضيخان في فتاواه، وصرح بأنه إذا قال أياما يبدأ بالنهار فيدخل المسجد قبل طلوع
الفجر ا ه‍. فعلى هذا لا يدخل الليل في نذر الأيام إلا إذا ذكر له عددا معينا كما لا يخفى.
ثم الأصل أنه متى دخل في اعتكافه الليل والنهار فإنه يلزمه متتابعا ولا يجزيه لو فرق، ومتى
لم يدخل الليل جاز له التفرق كالتتابع، فإذا انذر اعتكاف شهر لزمه شهر بالأيام والليالي
متتابعا في ظاهر الرواية بخلاف ما إذا نذر أن يصوم شهرا لا يلزمه التتابع. كذا في البدائع
وفتاوي قاضيخان.

534
وفي الخلاصة من الايمان من الجنس الثالث في النذر: ولو قال لله علي صوم شهر،
إن قال صوم شهر بعينه كرجب يجب عليه التتابع، ولو أفطر يوما لا يلزمه الاستقبال كما في
رمضان. وإنما يلزمه القضاء. وإن قال لله علي صوم شهر ولم يعين، إن قال متتابعا لزمه
متتابعا، وإن أطلق لا يلزمه التتابع، وفي الاعتكاف يلزمه بصفة التتبع في المعين وغير
المعين. ثم في الصوم والاعتكاف إن أفسد يوما إن كان شهرا معينا لا يلزمه الاستقبال وإن
كان غير معين لزمه ا ه‍. يعني لزمه الاستقبال في الصوم إن ذكر التتابع وفي الاعتكاف
مطلقا، وعلل له في المبسوط بأن إيجاب العبد معتبر بإيجاب الله تعالى، وما أوجب الله متتابعا
إذا أفطر فيه يوما لزمه الاستقبال كصوم الظهار والقتل، والاطلاق في الاعتكاف كالتصريح
بالتتابع بخلاف الاطلاق في نذر الصوم. والفرق بينهما أن الاعتكاف يدوم بالليل والنهار
فكان متصل الاجزاء، وما كان متصل الاجزاء لا يجوز تفريقه إلا بالتنصيص عليه بخلاف
الصوم فإنه لا يوجد ليلا فكان متفرقا وما كان متفرقا في نفسه لا يجب الوصل فيه إلا
بالتنصيص اه‍. وأطلق في النذر فشمل ما إذا نذر اعتكاف يوم العيد فإنه منعقد، ويجب
عليه قضاؤه في وقت آخر لأن الاعتكاف لا يصح إلا بالصوم والصوم فيه حرام، وكفر عن
يمينه أن أراد يمينا لفوات البر، وإن اعتكف فيه أجزأه وقد أساء كما في الصوم. كذا في
فتاوي الولوالجي وغيرها. وقد علم مما قدمناه في الصوم أنه لو نذر اعتكاف يوم أو شهر
معين فاعتكف قبله يجوز لما أن التعجيل بعد وجود السبب جائز وقد صرحوا به هنا وذكروا
فيه خلافا. وينبغي أن لا يكون فيه خلاف كما ذكرناه، وكذا يلغو تعيين المكان كما إذا نذر
الاعتكاف بالمسجد الحرام فاعتكف في غيره فإنه يجوز. وفي الفتاوي الظهيرية: ولو نذر
اعتكاف شهر ثم عاش عشرة أيام ثم مات أطعم عنه عن جميع الشهر. وفي الكافي: وليلة
القدر في رمضان دائرة لكنها تتقدم وتتأخر، وعندهما تكون في رمضان ولا تتقدم ولا تتأخر
حتى لو قال لعبده أنت حر ليلة القدر، فإن قال قبل دخول رمضان عتق إذا انسلخ الشهر،
وإن قال بعد مضي ليلة منه لم يعتق حتى ينسلخ رمضان من العام القابل عنده لجواز أنها
كانت في الشهر الماضي في الليلة الأولى، وفي الشهر الآتي في الليلة الأخيرة، وعندهما إذا
مضى ليلة منه في العام القابل عتق لأنها لا تتقدم ولا تتأخر. وفي المحيط: الفتوى على قول

535
أبي حنيفة لكن قيده بما إذا كان الحالف فقيها يعرف الاختلاف، وإن كان عاميا فليلة القدر
ليلة السابع والعشرين وجعل مذهبهما أنها في النصف الأخير من رمضان، فخالف ما في
الكافي. وذكر في فتاوي قاضيخان أن المشهور عن أبي حنيفة أنها تدور في السنة وقد تكون
في رمضان وقد تكون في غيره. وفي فتح القدير: وأجاب أبو حنيفة عن الأدلة المفيدة
لكونها في العشر الأواخر بأن المراد بذلك الرمضان الذي كان عليه الصلاة والسلام التمسها
فيه، والسياقات تدل عليه لمن تأمل طرق الأحاديث وألفاظها كقوله إن الذي تطلب أمامك
وإنما كان يطلب ليلة القدر من تلك السنة. ومن علاماتها أنها بلجة ساكنة لا حارة ولا قارة،
تطلع الشمس صبحيتها بلا شعاع كأنها طست. كذا قالوا، وإنما أخفيت ليجتهد في طلبها
فينال بذلك أجر المجتهدين في العبادة كما أخفى سبحانه الساعة ليكونوا على وجل من قيامها
بغتة والله سبحانه وتعالى أعلم.

536
كتاب الحج
لما كان مركبا من المال والبدن وكان واجبا في العمر مرة أخره ولمراعاة ترتيب حديث
الصحيحين بني الاسلام على خمس وختم بالحج، وفي رواية ختم بالصوم وعليها اعتمد
البخاري في تقديم الحج على الصوم. وهو في اللغة - بفتح الحاء وكسرها وبهما قرئ في
التنزيل - القصد إلى معظم لا مطلق القصد كما ظنه الشارح وجعله كالتيمم وفي الفقه ما
ذكره بقوله قوله: (هو زيارة مكان مخصوص في زمان مخصوص بفعل مخصوص) والمراد
بالزيارة الطواف والوقوف، والمراد بالمكان المخصوص البيت الشريف والجبل المسمى بعرفات،
والمراد بالزمان المخصوص في الطواف من طلوع الفجر يوم النحر إلى آخر العمر، وفي
الوقوف زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر. وبهذا التقرير ظهر أن الحج اسم
لافعال مخصوصة من الطواف الفرض والوقوف في وقتهما محرما بنية الحج سابقا كما سيأتي
أن الاحرام شرط. واندفع به ما قرره الشارح من فهم كلام المصنف على أنه في الشريعة جعل
لقصد خاص من زيادة وصف فإن المصنف لم يتعرض للقصد. وإنما عرفه بالزيارة وهي فعل

537
لا قصد بدليل ما في عمدة الفتاوي: إذا حلف ليزورن فلانا غدا فذهب ولم يؤذن له يحنث
ولو لم يستأذن ورجع يحنث ا ه‍. فلا بد من الذهاب مع الاستئذان، وسلم من بحث المحقق
ابن الهمام على المشايخ من أن التعريف بالقصد الخاص تعريف له بشرطه وليوافق تعريف بقية
العبادات فإن الصلاة اسم لافعال مخصوصة هي القيام والقراءة والركوع والسجود، والصوم
اسم للامساك الخاص، والزكاة اسم للايتاء المخصوص فليكن الحج اسما لافعال مخصوصة.
ولا يراد بالزيارة زيارة البيت فقط فإنه حينئذ يصير الحج اسما للطواف فقط وليس كذلك فإن
ركنه شيئان: الطواف بالبيت والوقوف بعرفة بالشرط السابق، ويشكل عليه ما قالوا: إن
المأمور بالحج إذا مات بعد الوقوف بعرفة قبل طواف الزيارة فإنه يكون مجزئا بخلاف ما إذا
رجع قبله فإنه لا وجود للحج إلا بوجود ركنية ولم يوجدا فينبغي أن لا يجزئ الآمر، سواء
مات المأمور أو رجع، وسببه البيت لأنه يضاف إليه ولهذا لم يتكرر الحج عن المكلف،
وشرائطه ثلاثة: شرائط وجوب، وشرائط وجوب أداء، وشرائط صحة، فالأولى ثمانية على

538
الأصح: الاسلام والعقل والبلوغ والحرية والوقت والقدرة على الزاد والقدرة على الراحلة
والعلم بكون الحج فرضا، وقد ذكر المصنف منها ستة وترك الأول والأخير والعذر له كغيره
أنهما شرطان لكل عبادة، وقد يقال كذلك العقل والبلوغ والعلم المذكور يثبت لمن في دار
الاسلام بمجرد الوجود فيها، سواء علم بالفرضية أو لم يعلم. ولا فرق في ذلك بين أن
يكون نشأ على الاسلام فيها أو لا فيكون ذلك علما حكميا، ولمن في دار الحرب بإخبار
رجلين أو رجل وامرأتين ولو مستورين أو واحد عدل، وعندهما لا تشترط العدالة والبلوغ
والحرية فيه وفي نظائره الخمسة كما عرف أصولا وفروعا، والثانية خمسة على الأصح: صحة
البدن وزوال الموانع الحسية عن الذهاب إلى الحج وأمن الطريق وعدم قيام العدة في حق المرأة
وخروج الزوج أو المحرم معها.
والثالثة أعني شرائط الصحة أربعة: الاحرام بالحج والوقت المخصوص والمكان
المخصوص والاسلام. ومنهم من ذكر بدل الاحرام النية، وهذا أولى لاستلزامه النية وغيرها.
وواجباته أعني التي يلزم بترك واحد منها دم إنشاء الاحرام من الميقات. ومد الوقوف بعرفة

539
إلى الغروب، والوقوف بالمزدلفة فيما بين طلوع فجر يوم النحر إلى طلوع الشمس، والحلق
أو التقصير، والسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، وكونه بعد طواف معتد به، ورمي
الجمار، وبداية الطواف من الحجر الأسود والتيامن فيه، والمشي فيه لمن ليس له عذر يمنعه
منه، والطهارة فيه من الحدث الأصغر والأكبر، وستر العورة. وأقل الأشواط السبعة وهي
ثلاثة، وبداية السعي بين الصفا والمروة من الصفا والمشي فيه لمن ليس له عذر، وذبح الشاة
للقارن أو المتمتع، وصلاة ركعتين لكل أسبوع، وطواف الصدر، والترتيب بين الرمي
والحلق والذبح يوم النحر، وتوقيت الحلق بالمكان وتوقيته بالزمان، وفعل طواف الإفاضة
في أيام النحر، وما عدا هذه المذكورات مما سيأتي بيانه مفصلا سنن وآداب. وأما محظوراته
فنوعان: ما يفعله في نفسه وهو الجماع وإزالة الشعر وقلم الأظفار والتطيب وتغطية الرأس
والوجه ولبس المخيط. وما يفعله في غيره وهو حلق رأس الغير والتعرض للصيد في الحل
والحرم، وأما قطع شجر الحرم فلا ينبغي عده مما نحن فيه كما في النهاية، فإن حرمته لا
تتعلق بالحج ولا بالاحرام. كذا في فتح القدير. وقد يقال: إنه كصيد الحرم وقد عده من
محظوراته فلا بدع في أن يكون حراما بجهتين كما لا يخفى. ولمن أراد الحج مهمات ينبغي
الاعتناء بها وهي: البداية بالتوبة بشروطها من رد المظالم إلى أهلها عند الامكان، وقضاء ما
قصر في فعله من العبادات، والندم على تفريطه في ذلك، والعزم على عدم العود إلى مثل
ذلك، والاستحلال من ذوي الخصومات والمعاملات، وتحصيل رضا من يكره السفر بغير
رضاه. وفي الخلاصة معزيا إلى العيون: إذا أراد الابن أن يخرج إلى الحج وأبوه كاره لذلك
إن كان الأب مستغنيا عن خدمته فلا بأس به، وإن كان محتاجا يكره، وكذا الام. وفي
السير الكبير: إذا لم يخف عليه الضعف فلا بأس به، وكذا إن كرهت خروجه زوجته ومن
عليه نفقته، وإن لم يكن عليه نفقته فلا بأس به مطلقا. وفي النوازل: إن كان الابن أمرد
صبيح الوجه للأب أن يمنعه عن الخروج حتى يلتحي، وإن كان الطريق مخوفا لا يخرج
وإن لم يكن أمرد ا ه‍.
وفي فتح القدير: والأجداد والجدات كالأبوين عند فقدهما، ويكره الخروج للغزو
والحج لمديون وإن لم يكن له مال يقضي به إلا أن يأذن الغريم، فإن كان بالدين كفيل بإذنه
لا يخرج إلا بإذنهما وإن بغير أذنه فبإذن الطالب وحده ا ه‍. وهذا كله في حج الفرض،
أما فحج النفل فطاعة الوالدين أولى مطلقا كما صرح به في الملتقط ويشاور ذا رأي في

540
سفره في ذلك الوقت لا في نفس الحج فإنه خير، وكذا يستخير الله في ذلك. ويجتهد في
تحصيل نفقة حلال فإنه لا يقبل بالنفقة الحرام كما ورد في الحديث مع أنه يسقط الفرض
عنه معها وإن كانت مغصوبة، ولا تنافي بين سقوطه وعدم قبوله فلا يثاب لعدم القبول،
ولا يعاقب في الآخرة عقاب تارك الحج. ولا بد له من رفيق صالح يذكره إذا نسي
ويصبره إذا جزع ويعينه إذا عجز، وكونه من الأجانب أولى من الأقارب عند بعض
الصالحين تبعدا من ساحة القطعية. ويرى المكاري ما يحمله ولا يحمل أكثر منه إلا بإذنه،
وقد ذكر عن بعض السلف، ويقال إنه الشافعي وقيل ابن المبارك، وقيل ابن القاسم
صاحب الإمام مالك أنه دفع إليه مطالعة ليحملها إلى إنسان فامتنع من حملها بدون إذن
المكاري لكونه لم يشارطه على ذلك ورعا من فاعله. وكذا يحترز من تحميلها فوق ما تطيق
ومن تقليل علفها المعتاد بلا ضرورة ولو مملوكة له. وفي إجارة الخلاصة: حمل البعير مائتان
وأربعون منا، وحمل الحمار مائة وخمسون منا. قالوا: ولا يشارك في الزاد واجتماع الرفقة
كل يوم على طعام أحدهم أحل. وينبغي أن يستثنى ما إذا علمت المسامحة بينهما فله
المشاركة وإلا وشارك فالاستحلال من الشركاء مخلص. وتجريد السفر عن التجارة أحسن،
ولو أتجر لا ينقص ثوابه كالغازي إذا أتجر كما ذكره الشارح في السير. وأما عن الرياء
والسمعة والفخر ظاهرا أو باطنا ففرض وخلط التجارة بهذا القسم كما في فتح القدير مما
لا ينبغي. وأما الركوب في المحمل فكرهه بعضهم خوفا مما ذكرنا، ولم يكره بعضهم إذا
تجرد عن ذلك ففي التحقيق لا اختلاف وركوب الجمل أفضل، ويكره الحج على الحمار
والظاهر أنها تنزيهية بدليل أفضلية ما قابله، والمشي أفضل من الركوب لمن يطيقه ولا يسئ

541
خلقه، وأما حج النبي صلى الله عليه وسلم راكبا فلانه كان القدوة فكانت الحاجة ماسة إلى ظهوره ليراه
الناس وسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في محله. ولا يماكس في شراء الأدوات والزاد،
ويستحب أن يجعل خروجه يوم الخميس أو يوم الاثنين ويفعل ما ذكره العلماء في آداب
السفر.
قوله: (فرض مرة على الفور) أي فرض الحج في العمرة مرة واحدة في أول سني
الامكان. والفور في اللغة من فور القدر غليانها، وفعل ذلك من فوره أي من وجهه ذلك
وهو من فور القدر قبل أن تسكن قال الله تعالى * (من فورهم هذا) * (آل عمران: 125) ولم
يذكر المصنف فرضيته قصدا لأنها من المسائل الاعتقادية فليست من مسائل الفقه لأن مسائلة
ظنية، وإنما ذكره توطئة لما بعده ودليله القرآني * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه
سبيلا) * (آل عمران: 97) والسنة كثيرة. أما كونه لا يتعدد فلان سببه وهو البيت كذلك،
وأما تكرر وجوب الزكاة مع اتحاد المال فلان سببه هو النامي تقديرا وتقدير النماء دائر مع
حولان الحول إذا كان المال معدا للاستنماء في الزمان المستقبل، وتقدير النماء الثابت في هذا
الحول غير تقدير النماء في حول آخر، فالمال مع هذا النماء غير المجموع منه ومن النماء
الآخر فيتعدد حكما كتعدد الوجوب بتعدد النصاب، ولرواية أحمد مرفوعا الحج مرة فمن زاد
فهو تطوع (1). وأما كونه على الفور فهو قول أبي يوسف وأصح الروايتين عن أبي حنيفة،
وعند محمد يجب على التراخي والتعجيل أفضل. كذا في الخلاصة. وتحقيقه أن الامر إنما هو
طلب المأمور به ولا دلالة له على الفور ولا على التراخي فأخذ به محمد وقواه بأنه عليه السلام
حج سنة عشر وفرضية الحج كانت سنة تسع فبعث أبا بكر حج بالناس فيها ولم يحج هو إلى
القابلة. وأما أبو حنيفة وأبو يوسف فقا: الاحتياط في تعيين أول سني الامكان لأن الحج
له وقت معين في السنة والموت في سنة غير نادر فتأخيره بعد التمكن في وقته تعريض له على
الفوات فلا يجوز، وبهذا حصل الجواب عن تأخيره عليه الصلاة والسلام إذ لا يتحقق في
حقه تعريض الفوات وهو الموجب للفور لأنه كان يعلم أنه يعيش حتى يحج ويعلم الناس
مناسكهم تكميلا للتبليغ. وبهذا التقرير علم أن الفورية ظنية لأن دليل الاحتياط ظني
ومقتضاه الوجوب فإذا أخره وأداه بعد ذلك وقع أداء ويأثم بالتأخير لترك الواجب، وثمرة
الاختلاف تظهر فيما إذا أخره فعلى الصحيح يأثم ويصير فاسقا مردود الشهادة، وعلى قول

542
محمد لا، وينبغي أن لا يصير فاسقا من أول سنة على المذهب الصحيح بل لا بد أن يتوالى
عليه سنون لأن التأخير في هذه الحالة صغير لأنه مكروه تحريما ولا يصير فاسقا بارتكابها
مرة بل لا بد من الاصرار عليها، وإذا حج في آخر عمره ارتفع الاثم اتفاقا قال الشارح:
ولو مات ولم يحج أثم بالاجماع ولا يخفى ما فيه فإن المشايخ اختلفوا على قول محمد، فقيل
يأثم مطلقا، وقيل لا يأثم مطلقا، وقيل: إن خاف الفوات بأن ظهرت له مخائل الموت في
قلبه فأخره حتى مات أثم، وإن فجأة الموت لا يأثم، وينبغي اعتماد القول الأول وتضعيف
القول الثاني لأنه حينئذ يفوت القول بفرضية الحج لأن فائدتها الاثم عند عدم الفعل، سواء
كان مضيقا أو موسعا اللهم إلا إن يقال: فائدتها على هذا القول وجوب الايصاء عليه قبيل
موته فإذا لم يوص يأثم لترك هذ الواجب لا لترك الحج. وعلم من قوله فرض مرة أن ما
زاد عليها فهو تطوع ويشهد له الحديث السابق. وعند الشافعية أن الحج لا يوصف بالنفلية بل
المرة الأولى فرض عين وما زاد ففرض كفاية لأن من فروض الكفاية أن يحج البيت كل عام
ولم أره لائمتنا بل صرحوا بالنفلية فقالوا: حج النفل أفضل من الصدقة، ولا يخفى أنه إذا

543
نذر الحج فإنه يصير فرضا أيضا. ومن فروعه ما في الخلاصة: رجل قال لله علي مائة حجة
لزمته كلها، ولو قال أنا أحج لا حج عليه، ولو قال إذا دخلت الدار فأنا أحج يلزمه عند
الشرط، ولو قال المريض إن عافاني الله تعالى من مرضي هذا فعلي حجة فبرئ لزمته حجة وإن لم
يقل علي حجة لله لأن الحجة لا تكون إلا لله، ولو برأ وحج جاز عن حجة الاسلام، ولو نوى
غير حجة الاسلام صحت نيته ا ه‍. وظاهره أنه ينصرف إلى حجة الاسلام من غير نيته،
وينبغي أن ينصرف إلى غير حجة الاسلام بغير نية، إلا أن ينويها، وقد صرح به الشارح الزيلعي
في كتاب الأضحية لكن علل المحقق ابن الهمام لما في الخلاصة بأن الغالب أن يريد به المريض
الذي فرط في الفرض حتى مرض، وقد قدمنا أن الحج يتصف بالحرمة إذا كان المال حراما
ويمكن أن يقال: إنه يكون واجبا وهو ما إذا جاوز الميقات بغير إحرام فإنهم قالوا: يجب عليه
أحد النسكين إما الحج أو العمرة، فإذا اختار الحج فإنه يتصف بالوجوب وقد قدمنا أنه يتصف
بالكراهة وهو حجة بغير إذن أبويه بشرطه أو بغير إذن صاحب الدين، فتحرر من هذا أنه يكون
فرضا وواجبا ونفلا وحراما ومكروها، والظاهر أنه لا يتصف بالإباحة لأنه عبادة وضعا.
قوله: (بشرط حرية وبلوغ وعقل وصحة وقدرة زاد وراحلة فضل عن مسكنه وعما لا
بد منه ونفقة ذهابه وإيابه وعياله) فلا حج على عبد ولو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا أو مبعضا
أو مأذونا له في الحج ولو كان بمكة لعدم ملكه بخلاف الصوم والصلاة لأن الحج لا يتأتى إلا
بالمال غالبا بخلافهما، ولفوات حق المولى في مدة طويلة وحق العبد مقدم بإذن الشرع
والمولى، وإن أذنه فقد أعاره منافعه. والحج لا يجب بقدرة عارية ولا على صبي ولا مجنون

544
وفي المعتوه خلاف في الأصول فذهب المصنف تبعا لفخر الاسلام إلى أنه يوضع عنه الخطاب
كالصبي فلا يجب عليه شئ من العبادات، وذهب الدبوسي في التقويم إلى أنه مخاطب
بالعبادات احتياطا. والمراد بالصحة صحة الجوارح فلا يجب أداء الحج على مقعد ولا على زمن
ولا مفلوج ولا مقطوع الرجلين ولا على المريض، والشيخ الذي لا يثبت بنفسه على الراحلة
والأعمى والمجبوس والخائف من السلطان الذي يمنع الناس من الخروج إلى الحج ولا يجب
عليهم الحج بأنفسهم ولا الاحجاج عنهم إن قدروا على ذلك. هذا ظاهر المذهب عن أبي
حنيفة وهو رواية عنهما، وظاهر الرواية عنهما أنه يجب عليهم الاحجاج فإن أحجوا أجزأهم

545
ما دام العجز مستمرا بهم، فإن زال فعليهم الإعادة بأنفسهم. وظاهر ما في التحفة اختياره
فإنه اقتصر عليه، وكذا الأسبيجابي وقواه المحق في فتح القدير ومشي على أن الصحة من
شرائط وجوب الأداء. فالحاصل أنها من شرائط الوجوب عنده، ومن شرائط وجوب الأداء
عندهما، وفائدة الخلاف تظهر في وجوب الاحجاج كما ذكرنا وفي وجوب الايصاء، ومحل
الخلاف فيما إذا لم يقدر على الحج وهو صحيح أما إن قدر عليه وهو صحيح ثم زالت الصحة
قبل أن يخرج إلى الحج فإنه يتقرر دينا في ذمته فيجب عليه الاحجاج اتفاقا، أما إن خرج
فمات في الطريق فإنه لا يجب عليه الايصاء بالحج لأنه لم يؤخر بعد الايجاب. كذا في
التجنيس. ولا فرق في الأعمى بين أن يجد قائدا أو لا هو المشهور عن أبي حنيفة، لأن القادر
بقدرة غيره ليس بقادر. ولو تكلف هؤلاء الحج بأنفسهم سقط عنهم حتى لو صحوا بعد
ذلك لا يجب عليهم الأداء لأن سقوط الوجوب عنهم لدفع الحرج فإذا تحملوه وقع عن حجة
الاسلام كالفقير إذا حج، وأما القدرة على الزاد والراحة فالفقهاء على أنه من شرط الوجوب
فلا وجوب أصلا يتعلق بالفقير لاشتراط الاستطاعة في آية الحج وفسرت بهما، والذي عليه
أهل الأصول ومنهم صاحب التوضيح تبعا لفخر الاسلام أن القدرة الممكنة كالزاد والراحلة
للحج شرط وجوب الأداء لا شرط الوجوب لأن الوجوب جبري لا صنع للعبد فيه، وليس
فيه تكليف لأنه طلب إيقاع الفعل من العبد ونفس الوجوب ليس كذلك، إلا ترى أن صوم
المريض والمسافر واجب ولا تكليف عليهما، وكذا الزكاة قبل الحول، وقد ظهر للعبد
الضعيف أن الفقهاء إنما لم يوافقوا الأصوليين على ذلك لما أنه لا فائدة في جعله شرط وجوب
الأداء لأن فائدة الفرق بينهما هو لزوم الايصاء عند الموت وعدمه والفقير لا يتأتى فيه ذلك

546
فلهذا جعلوا القدرة من شرائط أصل الوجوب، ولم أر من نبه على هذا. وقول المحقق في
فتح القدير واعلم أن القدرة على الزاد والراحة شرط الوجوب لا نعلم عن أحد خلافه
مراده عن أحد من الفقهاء وإلا فقد علمت أن الأصوليين على خلافه وعلى ما ذكره
الأصوليون فلا يتأتى بحثه المذكور في الفقير كما لا يخفى. وأطلق في الزاد فأفاد أنه يعتبر في
حق كل إنسان ما يصح به بدنه والناس متفاوتون من ذلك، والراحلة في اللغة المركب من
الإبل ذكرا كان أو أنثى وهي فاعلة بمعنى مفعولة، وفيه إشارة إلى أنه لو قدر على غير
الراحة من بغل أو حمار فإنه لا يجب عليه ولم أره صريحا، وإنما صرحوا بالكراهة. ويعتبر

547
في حق كل إنسان ما يبلغه فمن قدر على رأس زاملة - وهو المسمى في عرفنا راكب مقتب -
وأمكنه السفر عليه وجب وإلا بأن كان مترفها فلا بد أن يقدر على شق محمل وهو المسمى في
عرفنا محارة أو موهية، وإن أمكنه أن يكتري عقبة لا يجب عليه لأنه غير قادر على الراحلة في
جميع الطريق وهو الشرط، سواء كان قادرا على المشي أو لا، والعقبة أن يكتري اثنان راحلة
يتعقبان عليها يركب أحدهما مرحلة والآخر مرحلة وشق المحمل جانبه لأن للمحمل جانبين
ويكفي للراكب أحد جانبيه، وقد رأيت في كتب الشافعية أن من الشرائط أن يجد له من
يركب في الجانب الآخر وهو المسمى بالمعادل، فإن لم يجد لا يجب الحج عليه ولم أره لائمتنا،
ولعلهم إنما لم يذكروه لما أنه ليس بشرط لامكان أن يضع زاده وقربته وأمتعته في الجانب
الآخر، وقد وقع لي ذلك في الحجة الثانية في الرجعة لم أجد معادلا يصلح لي ففعلت ذلك
لكن حصل لي نوع مشقة حين يقل الماء والزاد والله أعلم بحقيقة الحال.
ثم القدرة على الزاد لا تثبت إلا بالملك لا بالإباحة، والقدرة على الراحلة لا تثبت إلا
بالملك أو الإجارة لا بالعارية والإباحة، فلو بذل الابن لأبيه الطاعة وأباح له الزاد والراحلة لا
يجب عليه الحج، وكذا لو وهب له مال ليحج به لا يجب عليه القبول لأن شرائط أصل
الوجوب لا يجب عليه تحصيلها عند عدمها. ثم اشتراط القدرة على الزاد عام في حق كل
أحد حتى أهل مكة، وأما القدرة على الراحلة فشرط في حق غير المكي وأما هو فلا. ومن
حولها كأهلها لأنه لا يلحقهم مشقة فأشبه السعي إلى الجمعة، أما إذا كان لا يستطيع المشي
أصلا فلا بد منه في حق الكل. وفي قوله وما لا بد منه إشارة إلى أن المسكن لا بد أن

548
يكون محتاجا إليه للسكنى فلا تثبت الاستطاعة بدار يسكنها وعبد يستخدمه وثياب يلبسها
ومتاع يحتاج إليه، وتثبت الاستطاعة بدار لا يسكنها وعبد لا يستخدمه فعليه أن يبيعه ويحج
بخلاف ما إذا كان سكنه وهو كبير يفضل عنه حتى يمكنه بيعه والاكتفاء بما دونه ببعض ثمنه
ويحج بالفضل فإنه لا يجب بيعه لذلك كما لا يجب بيع مسكنه والاقتصار على السكني
بالإجارة اتفاقا بل إن باع واشترى قدر حاجته وحج بالفضل كان أفضل، ولو لم يكن له
مسكن ولا خادم وعنده مال يبلغ ثمن ذلك ولا يبقى بعده قدر ما يحج به فإنه لا يجب عليه
الحج لأن هذا المال مشغول بالحاجة الأصلية إليه أشار في الخلاصة، وأشار بقوله وما لا بد
منه إلى أنه لا بد أن يفضل له مال بقدر رأس مال التجارة بعد الحج إن كان تاجرا، وكذا
الدهقان والمزارع، أما المحترف فلا كذا في الخلاصة، ورأس المال يختلف باختلاف الناس،
والمراد بالعيال من تلزمه نفقته قال الشارح: ويعتبر في نفقته ونفقة عياله الوسط من غير تبذير

549
ولا تقتير، وقد يقال: اعتبار الوسط في نفقة الزوجة مخالف للمفتي فيها فإن الفتوى اعتبار
حالهما والوسط إنما يعتبر فيما إذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا كما سيأتي في باب النفقات
إن شاء الله تعالى. وأشار بقوله نفقة ذهابه وإيابه إلى أنه ليس من الشرط قدرته على نفقته
ونفقة عياله بعد عوده وهو ظاهر الرواية، وقيل لا بد من زيادة نفقته يوم، وقيل شهر،
والأول عن أبي حنيفة، والثاني عن أبي يوسف. ودخل تحت نفقة عياله سكناهم ونفقتهم
وكسوتهم فإن النفقة تشمل الطعام والكسوة والسكنى وقد قدمنا أن من الشرائط الوقت أعني
أن يكون مالكا لما ذكر في أشهر الحج حتى لو ملك ما به الاستطاعة قبلها كان في سعة من
صرفها إلى غيره، وأفاد هذا قيدا في صيرورته دينا إذا افتقر هو أن يكون مالكا في أشهر الحج
فلم يحج والأولى أن يقال: إذا كان قادرا وقت خروج أهل بلده إن كانوا يخرجون قبل أشهر
الحج لبعد المسافة أو كان قادرا في أشهر الحج إن كانوا يخرجون فيها ولم يحج حتى افتقر تقرر
دينا، وإن ملك في غيرها وصرفها إلى غيره لا شئ عليه. كذا في فتح القدير.
قوله: (وأمن طريق) أي وبشرط أمن طريق يعني وقت خروج أهل بلده وإن كان مخيفا
في غيره. وحقيقة أمن الطريق أن يكون الغالب فيه السلامة كما اختاره الفقيه أبو الليث
وعليه الاعتماد، وما أفتى به أبو بكر الرازي من سقوط الحج عن أهل بغداد، وقول أبي بكر
الإسكاف لا أقول الحج فريضية في زماننا قاله سنة ست وعشرين وثلاثمائة، وقول الثلجي
ليس على أهل خراسان حج مذ كذا وكذا سنة كان وقت غلبة النهب والخوف في الطريق،
فلا يعارض ما ذكرنا. وما قاله الصفار من أني لا أرى الحج فرضا من حين خرجت القرامطة
وما علل به في الفتاوي الظهيرية بأن الحاج لا يتوصل إلى الحج إلا بالرشوة للقرامطة وغيرهم
فتكون الطاعة سببا للمعصية مردود بأن هذا لم يكن من شأنهم لأنهم طائفة من الخوارج كانوا
يستحلون قتل المسلمين وأخذ أموالهم وكانوا يغلبون على أماكن ويترصدون للحاج، وعلى
تقدير أخذهم الرشوة فالاثم في مثله على الآخذ لا المعطي على ما عرف من تقسيم الرشوة في
كتاب القضاء، ولا يترك الفرض لمعصية عاص. قال في فتح القدير: والذي يظهر أن يعتبر

550
مع غلبة السلامة عدم غلبة الخوف حتى إذا غلب الخوف على القلوب من المحاربين لوقوع
النهب والغلبة منهم مرارا وسمعوا أن طائفة تعرضت للطريق ولها شوكة والناس يستضعفون
أنفسهم عنهم لا يجب. واختلف في سقوطه إذا لم يكن بد من ركوب البحر، فقيل البحر
يمنع الوجوب. وقال الكرماني: إن كان الغالب في البحر السلامة من موضع جرت العادة
بركوبه يجب وإلا فلا وهو الأصح. وسيحون وجيحون والفرات والنيل أنهار لا بحار كما في
الحديث سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة.
قوله: (ومحرم أو زوج لامرأة في سفر) أي وبشرط محرم إلى أخره لما في الصحيحين لا
تسافر امرأة ثلاثا إلا ومعها محرم (1) وزاد مسلم في رواية أو زوج. وروى البزاز لا تحج
امرأة إلا ومعها محرم فقال رجل: يا رسول الله أني كتبت في غزوة وامرأتي حاجة قال: ارجع
فحج معها فأفاد هذا كله أن النسوة الثقات لا تكفي قياسا على المهاجرة والمأسورة لأنه قياس
مع النص مع وجود الفارق فإن الوجود في المهاجرة والمأسورة ليس سفرا لأنها لا تقصد مكانا
معينا بل النجاة خوفا من الفتنة حتى لو وجدت مأمنا كعسكر المسلمين وجب أن تقر، ولأنه
يخاف عليها الفتنة وتزاد بانضمام غيرها إليها ولهذا تحرم الخلوة بالأجنبية وإن كان معها غيرها
من النساء، والمحرم من لا يجوز له مناكحتها على التأبيد بقرابة أو رضاع أو مصاهرة، أطلقه

551
فشمل المسلم والذمي والحر والعبد ولا يرد عليه المجوسي الذي يعتقد إباحة نكاحها
والمسلم القريب إذا لم يكن مأمونا والصبي الذي لم يحتلم والمجنون لأن المقصود من المحرم
الحفظ والصيانة لها وهو مفقود في هؤلاء الأربعة، ولم أر من شرط في الزوج شروط
المحرم، وينبغي أنه لا فرق لأن الزوج إذا لم يكن مأمونا أو كان صبيا أو مجنونا لم يوجد
منه ما هو المقصود كما ذكرنا، وعبارة المجمع أولى وهي: ويشترط في حج المرأة من سفر
زوج أو محرم بالغ عاقل غير مجوسي ولا فاسق مع النفقة عليه. وأطلق المرأة فشمل الشابة
والعجوز لاطلاق النصوص. والمرأة هي البالغة لأن الكلام فيمن يجب عليه الحج فلذا قالوا
في الصبية التي لم تبلغ حد الشهوة تسافر بلا محرم فإن بلغتها لا تسافر إلا به. والمراد
خطاب وليها بأن يمنعها من السفر فإن لم يكن لها ولي فلا تستصحب في السفر لا أن
المراد أنها يحرم عليها لأنها غير مكلفة حتى تبلغ وبلوغها حد الشهوة لا يستلزمه. وقيد
بالسفر وهو ثلاثة أيام بلياليها لأنه يباح لها الخروج إلى ما دون ذلك لحاجة بغير محرم،
وأشار بعدم اشتراط رضا الزوج إلى أنه ليس له منعها عن حجة الاسلام إذا وجدت محرما
لأن حقه لا يظهر في الفرائض بخلاف حج التطوع والمنذور. وأشار المصنف إلى أن أمن
الطريق والمحرم من شرائط الوجوب لأنه عطفه على ما قبله وهو أحد القولين، وقيل شرط

552
وجوب الأداء، وثمرة الاختلاف تظهر في وجوب الوصية وفي وجوب نفقة المحرم
وراحلته إذا أبى أن يحج معها إلا بهما وفي وجوب التزوج عليها ليحج معها إن لم تجد
محرما، فمن قال هو شرط الوجوب قال لا يجب عليها شئ من ذلك لأن شرط الوجوب
لا يجب تحصيله، ولهذا لو ملك المال كان له الامتناع من القبول حتى لا يجب عليه الحج،
وكذا لو أبيح له. ومن قال إنه شرط وجوب الأداء وجب جميع ذلك، ورجح المحقق في
فتح القدير أنهما مع الصحة شروط وجوب أداء بأن هذه العبادة تجري فيها النيابة عند
العجر لا مطلقا توسطا بين المالية المحضة والبدنية المحضة لتوسطها بينهما، والوجوب أمر
دائر مع فائدته فيثبت مع قدرة المال ليظهر أثره في الاحجاج والايصاء، واعلم أن
الاختلاف في وجوب الايصاء إذا مات قبل أمن الطريق، فإن مات بعد حصول الامن
فالاتفاق على الوجوب. وأشار باشتراط المحرم أو الزوج إلى أن عدم العدة في حقها شرط
أيضا بجامع حرمة السفر عليها أي عدة كانت والعبرة لوجوبها وقت خروج أهل بلدها،
وعن ابن مسعود أنه رد المعتدات من النجف بفتحتين مكان لا يعلوه الماء مستطيل فإن
لزمتها العدة في السفر فسيأتي في محله إن شاء الله تعالى.
قوله: (فلو أحرم صبي أو عبد فبلغ أو عتق فمضي لم يجز عن فرضه) لأن الاحرام
انعقد للنفل فلا ينقلب للفرض وهو وإن كان شرطا عندنا لكنه شبيه بالركن من حيث إمكان
اتصال الأداء به فاعتبرنا الشبه فيما نحن فيه احتياطا. وفي إسناد الاحرام إلى الصبي دليل على
صحته منه وهو محمول على ما إذا كان يعقله، فإن كان لا يعقله فأحرم عنه أبوه صار محرما

553
فينبغي أن يجرده قبله ويلبسه إزارا ورداء، ولما كان الصبي غير مخاطب كان إحرامه غير لازم
ولذا لو أحصر وتحلل لا دم عليه ولا جزاء ولا قضاء، ولو جدده بعد بلوغه قبل الوقوف ونوى
الفرض أجزأه لأنه يمكنه الخروج عنه لعدم اللزوم بخلاف العبد لا يمكنه الخروج عنه للزوم،
فلو جدده بعد عتقه لا يصح والكافر والجنون كالصبي فلو حج كافر أو مجنون فأفاق وأسلم
فجدد الاحرام أجزأهما قيل: وهذا دليل أن الكافر إذا حج لا يحكم بإسلامه بخلاف الصلاة
بجماعة. كذا في فتح القدير وفيه بحث من وجهين: الأول كيف يتصور إحرام المجنون فإنه لا
يتصور منه إحرام بنفسه وكون وليه أحرم عنه يحتاج إلى نقل صريح يفيد أن المجنون البالغ
كالصبي في هذا. الثاني أن هذا لا يدل على أن الكافر إذا حج لا يحكم بإسلامه لأن في هذه

554
المسألة لم يوجد الحج منه إنما وجد الاحرام فقط لأنه لو وقف بعرفة لم يكن موضوع المسألة ولم
يكن للتجديد فائدة، فالحاصل أنه لا يكون مسلما إلا بالاحرام والوقوف وشهود المناسك فلا
منافاة بين الفرعين كما لا يخفي. وفي الذخيرة عن النوادر: البالغ إذا جن بعد الاحرام ثم
ارتكب شيئا من محظورات الاحرام فإن فيه الكفارة فرقا بينه وبين الصبي.
قوله (ومواقيت الاحرام ذو الحليفة وذات عرق والجحفة وقرن ويلملم لأهلها ولمن مر بها)
أي الأمكنة التي لا يتجاوزها الآفاقي إلا محرما خمسة، فالميقات مشترك بين الوقت المعين والمكان
المعين والمراد هنا الثاني وسيأتي الأول. وذو الحليفة - بضم الحاء المهملة وبالفاء - بينه وبين مكة
نحو عشر مراحل أو تسع، وبينه وبين المدينة ستة أميال كما ذكره النووي، وقيل سبعة كما
ذكره القاضي عياض، ميقات أهل المدينة وهو أبعد المواقيت وبهذا المكان آبار تسميه العوام آبار
علي قيل لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتل الجن في بعض تلك الآبار وهو كذب من
قائله كما ذكره الحلبي في مناسكه. وذات عرق بكسر العين وسكون الراء لجميع أهل المشرق
وهي بين المشرق والمغرب من مكة، قيل وبينها وبين مكة مرحلتان. والجحفة بضم الجيم
وسكون الحاء المهملة واسمها في الأصل مهيعة نزل بها سيل جحف أهلها أي استأصلهم
فسميت جحفة. قال النووي: بينها وبين مكة ثلاث مراحل وهي قرية بين المغرب والشمال من
مكة من طريق تبوك وهي طريق أهل الشام ونواحيها اليوم، وهي ميقات أهل مصر والمغرب
والشام. وقرن بفتح القاف وسكون الراء وهو جبل مطل على عرفات بينه وبين مكة نحو
مرحلتين. وفي الصحاح إنه بفتح الراء وإن أويسا القرني منسوب إليه ورد بأنه بسكون الراء
وأن أويسا منسوب إلى قبيلة يقال لها بنو قرن بطن من مراد وهو ميقات أهل نجد. وأما يلملم

555
فهو ميقات أهل اليمن وهو مكان جنوبي مكة وهو جبل من جبال تهامة على مرحلتين من مكة.
فهذا هو المراد بقوله لأهلها وهذه المواقيت ما عدا ذات عرق ثابتة في الصحيحين وذات عرق
في صحيح مسلم وسنن أبي داود. وقوله ولمن مر بها يعني من غير أهلها وقد أفاد أنه لا يجوز
مجاوزة الجميع إلا محرما فلا يجب على المدني أن يحرم من ميقاته وإن كان هو الأفضل وإنما يجب
عليه أن يحرم من آخرها عندنا، ويعلم منه أن الشامي إذا مر على ذي الحليفة في ذهابه لا يلزمه
الاحرام منه بالطريق الأولى وإنما يجب عليه أن يحرم من الجحفة كالمصري لكن قيل أن الجحفة
قد ذهبت أعلامها ولم يبق بها إلا رسوم خفية لا يكاد يعرفها إلا سكان بعض البوادي. ولهذا
والله أعلم اختار الناس الاحرام من المكان المسمى برابض، وبعضهم يجعله بالغين احتياطا لأنه
قبل الجحفة بنصف مرحلة أو قريب من ذلك وقد قالوا: ومن كان في برا وبحرا لا يمر بواحد
من هذه المواقيت المذكورة فعليه أن يحرم إذا حاذى آخرها ويعرف بالاجتهاد وعليه أن يجتهد،

556
فإذا لم يكن بحيث يحاذي فعلى مرحلتين إلى مكة. ولعل مرادهم بالمحاذاة المحاذاة القريبة من
الميقات وإلا فآخر المواقيت باعتبار المحاذاة قرن المنازل. ذكر لي بعض أهل العلم من الشافعية
المقيمين بمكة في الحجة الرابعة للعبد الضعيف أن المحاذاة حاصلة في هذا الميقات
فينبغي على مذهب الحنيفة أن لا يلزم الاحرام من رابغ بل من خليص القرية المعروفة فإنه حينئذ
يكون محاذيا لآخر المواقيت وهو قرن فأجبته بجوابين: الأول أن احرام المصري والشامي لم يكن
بالمحاذاة وإنما هو بالمرور على الجحفة وإن لم تكن معروفة وإحرامهم قبلها احتياطا، والمحاذاة
إنما تعتبر عند عدم المرور على المواقيت. الثاني أن مرادهم المحاذاة القريبة ومحاذاة
القريبة ومحاذاة المارين لقرن بعيدة لأن بينهم وبينه بعض جبال والله أعلم بحقيقة الحال. أطلق في الاحرام
فشمل إحرام الحج واحرام العمرة لأنه لا فرق بينهما في حق الآفاقي، وشمل ما إذا كان قاصدا
عند المجاوزة الحج أو العمرة أو التجارة أو القتال أو غير ذلك بعد أن يكون قد قصد دخول
مكة لأن الاحرام لتعظيم هذه البقعة الشريفة فاستوى فيه الكل، وأما دخوله صلى الله عليه وسلم مكة بغير
إحرام يوم الفتح فكان مختصا بتلك الساعة بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم مكة حرام لم تحل
لاحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما (1) يعني الدخول بغير إحرام
لاجماع المسلمين على حل الدخول بعده عليه الصلاة والسلام للقتال. وقيدنا بقصد مكة لأن
الآفاقي إذا قصد موضعا من الحل كخليص يجوز له أن يتجاوز الميقات غير محرم وإذا وصل
إليه التحق بأهله، ومن كان داخل الميقات فله أن يدخل مكة بغير إحرام إذا لم يقصد الحج أو
العمرة وهي الحيلة لمن أراد أن يدخل مكة بغير احرام. وينبغي أن لا تجوز هذه الحيلة للمأمور

557
بالحج لأنه حينئذ لم يكن سفره للحج ولأنه مأمور بحجة آفاقية، وإذا دخل مكة بغير إحرام
صارت حجته مكية فكان مخالفا، وهذه المسألة يكثر وقوعها فيمن يسافر في البحر الملح وهو
مأمور بالحج ويكون ذلك في وسط السنة فهل له أن يقصد البندر المعروف بجدة ليدخل مكة
بغير إحرام حتى لا يطول الاحرام عليه لو أحرم بالحج فإن المأمور بالحج ليس له أن يحرم
بالعمرة.
قوله (وصح تقديمه عليها عكسه) أي جاز تقديم الاحرام على المواقيت ولا يجوز
تأخيره عنها. أما الأول فلقوله تعالى * (وأتموا الحج والعمرة لله) * وفسرت الصحابة الاتمام بأن
يحر بها من دويرة أهله ومن الأماكن القاصية. وقال عليه السلام من أهل من المسجد
الأقصى بحجة أو بعمرة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر رواه الإمام أحمد. ولم يتكلم
المصنف على أفضلية التقديم وعدمها لما أن فيه تفصيلا ذكره في الكافي وهو أن التقديم أفضل
إذا كان يملك نفسه أن لا يقع في محظور لأن المشقة فيه أكثر فكان أكثر ثوابا لأن الاجر بقدر

558
التعب بخلاف التقديم على الأشهر. أجمعوا على أنه مكروه من غير تفصيل بين خوف الوقوع
في محظور أو لا كما أطلقه في المجمع. ومن فصل كصاحب الظهيرية قياسا على الميقات
المكاني فقد أخطأ، وإنما كره مطلقا قبل الميقات الزماني شبهه بالركن وإن كان شرطا فيراعى
مقتضى ذلك الشبه احتياطا ولو كان ركنا حقيقة لم يصح قبل أشهر الحج فإن كان شبيها به
كره قبلها لشبهة وقربه من عدم الصحة ولشبه الركن لم يجز لفائت الحج استدامة الاحرام
ليقضي به من قابل. وأما الثاني فلقوله عليه السلام لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما وفائدة
التاقيت بالمواقيت الخمسة المنع من التأخير قوله (ولداخلها الحل) أي الحل ميقات من كان دلل
المواقيت، وهو بكسر الحاء المواضع التي بين المواقيت والحرم، ولا فرق بين أن يكون في
نفس الميقات أو بعده كما نص عليه محمد في كتبه. وقول المحقق في فتح القدير المتبادر من
هذه العبارة أن يكون بعد المواقيت غير مسلم بل المتبادر منها من كان فيها نفسها وهو غير
مقصود للمصنفين، وإنما المقصود الاطلاق كما ذكرنا. وإنما كان الحل ميقاته لأن خارج
الحرم كله كمكان واحد في حقه والحرم حد في حقه كالميقات للآفاقي فلا يدخل الحرم عند
قصد النسك إلا محرما، وأما عند عدم هذا القصد فله الدخول بغير إحرام للحاجة والضرورة

559
كالمكي إذا خرج من الحرم لحاجة أن يدخل مكة بغير إحرام بشرط أن لا يكون جاوز الميقات
كالآفاقي، فإن جاوزه فليس له أن يدخل مكة من غير إحرام لأنه صار آفاقيا قوله (وللمكي
الحرم للحج والح للعمرة) أي ميقات المكي إذا أراد الحج الحرم فإن أحرم له من الحل لزمه
دم وإذا أراد العمرة الحل، فإذا أحرم بها من الحرم لزمه دم لأنه ترك ميقاته فيهما وهو مجمع
عليه. والمراد بالمكي من كان داخل الحرم سواء كأنه بمكة أو لا، وسواء كان من أهلها أو
لا، وبه يعلم أن المراد بداخل المواقيت من كان ساكنا في الحل والله سبحانه أعلم.
باب الاحرام
أحرم الرجل إذا دخل في حرمة لا تنتهك من ذمة وغيرها، وأحرم للحج لأنه يحرم عليه ما
يحل لغيره من الصيد والنساء ونحو ذلك، وأحرم الرجل إذا دخل في الحرم أو دخل في الشهر
الحرام، وأحرمه لغة في حرمه العطية أي منعه. كذا في ضياء الحلوم مختصر شمس العلوم. وهو
في الشريعة نية النسك من حج أو عمرة مع الذكر أو الخصوصية على ما سيأتي. وهو شرط صحة
النسك كتكبيرة الافتتاح في الصلاة فالصلاة والحج لهما تحريم وتحليل بخلاف الصوم والزكاة
لكن الحج أقوى من غيره من وجهين: الأول أنه إذا تم الاحرام للحج أو للعمرة لا يخرج عنه إلا
بعمل النسك الذي أحرم به وإن أفسده إلا في الفوات فيعمل العمرة وإلا الاحصار فبذبح الهدي.
الثاني أنه لا بد من قضائه مطلقا ولو كان مظنونا، فلو أحرم بالحج على ظن أنه عليه ثم ظهر خلافه
وجب عليه المضي فيه والقضاء إن أبطله بخلاف المظنون في الصلاة فإنه لا قضاء لو أفسده قوله
(وإذا أردت أن تحرم فتوضأ والغسل أفضل) قد تقدم دليله في الغسل وهو للنظافة لا للطهارة

560
فيستحب في حق الحائض أو النفساء والصبي لما روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أسماء قد نفست فقال: مرها فلتغتسل وتحرم بالحج. ولهذا لا يشرع
التيمم له عند العجز عن الماء. قال الشارح: بخلاف الجمعة والعيدين يعني أن الغسل
فيهما للطهارة لا للتنظيف ولهذا يشرع التيمم لهما عند العجز وفيه نظر، لأن التيمم لم
يشرع لهما عند العجز إذا كان طاهرا عن الجنابة ونحوها والكلام فيه لأنه ملوث ومغير
لكن جعل طهارة ضرورة أداء الصلاة ولا ضرورة فيهما ولهذا سوى المصنف في الكافي
بين الاحرام وبين الجمعة والعيدين. وأشار المصنف إلى أنه يستحب لمن أراده كمال التنظيف
من قص الأظفار والشارب وحلق الإبطين والعانة والرأس لمن اعتاده من الرجال أو أراده
وإلا فتسريحه وإزالة الشعث والوسخ عنه وعن بدنه بغسله بالخطمي والأشنان ونحوهما،
ومن المستحب عند إرادته جماع زوجته أو جاريته إن كانت معه ولا مانع من الجماع فإنه من
السنة قوله (والبس إزارا ورداء جديدين أو غسيلين) لأنه عليه السلام لبسهما هو وأصحابه

561
كما رواه مسلم، ولأنه ممنوع عن لبس المخيط. ولا بد من ستر العورة ودفع الحر والبرد
وذلك فيما عيناه. والإزار من السرة إلى ما تحت الركبة يذكر ويؤنث كما في ضياء الحلوم
والرداء على الظهر والكتفين والصدر ويشده فوق السرة وإن غرز طرفيه في إزاره فلا بأس
به، ولو خلله بخلال أو مسلة أو شده على نفسه بحبل أساء ولا شئ عليه. وما في
الكتاب بيان للسنة وإلا فساتر العورة كاف كما في المجمع. وأشار بتقديم الجديد إلى
أفضليته، وكونه أبيض أفضل من غيره كالتكفين، وفي عدم غسل الثوب العتيق ترك
للمستحب ولا يخفى أن هذا في حق الرجل قوله (وتطيب) أي يسن له استعمال الطيب في
بدنه قبيل الاحرام. أطلقه فشمل ما تبقى عينه بعده كالمسك والغالية وما لا تبقى لحديث
عائشة في الصحيحين: كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه قبل أن يحرم. وفي لفظ لهما:
كأني أنظر إلى وبيض الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه قبل أن يحرم. في لفظ
لمسلم: كأني أنظر إلى وبيض المسك وهو البريق واللمعان. وكرهه محمد بما تبقى عينه
والحديث حجة عليه. وقيدنا بالبدن إذ لا يجوز التطيب في الثوب بما تبقى عينه على قول
الكل على أحد الروايتين عنهما قالوا: وبه نأخذ. والفرق لهما بينهما أنه اعتبر في البدن
تابعا على لأصح والمتصل بالثوب منفصل عنه فلم يعتبر تابعا، والمقصود من استنانه
حصول الارتفاق به حالة المنع منه كالسحور للصوم وهو يحصل بما في البدن فأغنى عن
تجويزه في الثوب إذ لم يقصد كمال الارتفاق حالة الاحرام لأن الحاج الشعث التفل،
وظاهر ما في الفتاوى الظهيرية أن ما عن محمد رواية ضعيفة وأن مشهور مذهبه
كمذهبهما.

562
قوله (وصل ركعتين) أي على وجه السنية بعد اللبس والتطيب لأنه عليه السلام صلاهما
كما في الصحيحين ولا يصليهما في الوقت المكروه وتجزئه المكتوبة كتحية المسجد ثم ينوي بقلبه
الدخول في الحج ويقول بلسانه مطالقا لجنانه: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني لأني
محتاج في أداء أركانه إلى تحمل المشقة فيطلب التيسير والقبول اقتداء بالخليل وولده عليهما السلام
حيث قالا: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. ولم يؤمر بمثل هذا الدعاء عند إرادة الصلاة
لأن سؤال التيسير يكون في العسير لا في اليسير وأداؤها يسير عادة. كذا في الكافي، وقدمنا
ما فيه من الخلاف في بحث نية الصلاة قوله (ولب دبر الصلاة تنوي بها الحج) أي لب عقبها
ناويا بالتلبية الحج. والدبر بضم الباء وسكونها آخر الشئ. كذا في الصحاح. وإنما يلبي لما صح
عنه عليه السلام من تلبيته بعد الصلاة. وفي قوله تنوي بها إشارة إلى أن ما ذكره المشايخ من
أنه يقول اللهم إني أريد الحج إلى آخره ليس محصلا للنية ولهذا قال في فتح القدير: ولم نعلم أن
أحدا من الرواة لنسكه روى أنه سمعه عليه السلام يقول نويت العمرة ولا الحج ولهذا قال
مشايخنا: إن الذكر باللسان حسن ليطابق القلب. وعلى قياس ما قدمناه في نية الصلاة إنما
يحسن إذا لم تجتمع عزيمته وإلا فلا، فالحاصل أن التلفظ باللسان بالنية بدعة مطلقا في جميع
العبادات وفي بعض النسخ وقل اللهم إني أريد الحج فيسره لي وتقبله مني ولب. وقوله تنوي
الحج بيان للأكمل وإلا فيصح الحج بمطلق النية. وإذا أبهم الاحرام بأن لم يعين ما أحرم به جاز

563
وعليه التعيين قبل أن يشرع في الافعال والأصل حديث علي رضي الله عنه حين قدم من اليمن
فقال: أهللت بما أهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه، فإن لم يعين وطاف شوطا كان للعمرة، وكذا
إذا أحصر قبل الافعال فتحلل بدم تعين للعمرة حتى يجب عليه قضاؤها لا قضاء حجة، وكذا إذا
جامع فأفسد وجب عليه المضي في عمرة. قال في الظهيرية ولم يذكر في الكتاب أن حجة
الاسلام تتأدى بنية التطوع اه‍. والمنقول في الأصول أنها لا تتأدى بنية النفل وتتأدى بمطلق النية
نظرا إلى أن الوقت له فيه شبهة المعيارية وشبهة الظرفية فالأول للثاني والثاني للأول.
قوله (وهي لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا
شريك لك) هكذا روى أصحاب الكتب الستة تلبيته صلى الله عليه وسلم، ولفظها مصدر مثنى تثنية يراد بها
التكثير وهو ملزوم النصب والإضافة والناصب له من غير لفظه تقديره أجبت إجابتك إجابة بعد
إجابة إلى ما لا نهاية له، وكأنه من ألب بالمكان إذا أقام فهو مصدر محذوف الزوائد والقياس
الباب، ومفرد لبيك لب. واختلف في الداعي فقيل هو الله تعالى، وقيل إبراهيم الخليل عليه
السلام، ورجحه المصنف في الكافي وقال: إنه الأظهر. وقيل رسولنا صلى الله عليه وسلم. واختلف في همز
إن الحمد بعد الاتفاق على جواز الكسر والفتح واختار في الهداية أن الأوجه الكسر على
استئناف الثناء وتكون التلبية للذات. وقال الكسائي: الفتح أحسن على أنه تعليل للتلبية أي
لبيك لأن الحمد. ورجح الأول في فتح القدير بأن تعليق الإجابة التي لا نهاية لها بالذات
أولى منه باعتبار صفة هذا وإن كان استئناف الثناء لا يتعين مع الكسر لجواز كونه تعليلا
مستأنفا كما في قولك علم ابنك العلم أن العلم نافعه قال تعالى * (وصل عليهم إن صلاتك
سكن لهم) * (التوبة: 103) وهذا مقرر في مسالك العلة من علم الأصول لكن لما جاز فيه
كل منهما يحمل على الأول لأولويته ولأكثريته بخلاف الفتح ليس فيه سوى أنه تعليل قوله

564
(وزد فيها ولا تنقص) أي في التلبية ولا تنقص منها والزيادة مثل لبيك وسعديك والخير
بيديك والرغباء إليك والعمل لبيك إله الخلق غفار الذنوب لبيك ذا النعمة والفضل الحسن،
لبيك عدد التراب لبيك إن العيش عيش الآخرة كما ورد ذلك عن عدة من الصحابة. وصرح
المصنف في الكافي بأن الزيادة حسنة التكرار، وصرح الحلبي في مناسكه باستحبابها عندنا.
وأما النقص فقال المصنف إنه لا يجوز. وقال ابن الملك في شرح المجمع: إنه مكروه اتفاقا.
والظاهر أنها كراهة تنزيهية لما أن التلبية إنما هي سنة فإن الشرط إنما هو ذكر الله تعالى فارسيا
كان أو عربيا هو المشهور عن أصحابنا. وخصوص التلبية سنة فإذا تركها أصلا ارتكب كراهة
تنزيهية فإذا نقص عنها فكذلك بالأولى، فقول المصنف لا يجوز فيه نظر ظاهر، وقول من
قال إن التلبية شرط مراده ذكر يقصد به التعظيم لا خصوصها. قيدنا بالزيادة في التلبية لأن
الزيادة في الاذان غير مشروعة لأنه للاعلام ولا يحصل بغير المتعارف، وفي التشهد في
الصلاة إن كان الأول فليست بمشروعة كتكراره لأنه في وسط الصلاة فيقتصر فيه على
الوارد، وإن كان الأخير فهي مشروعة لأنه محل الذكر والثناء قوله (فإذا لبيت ناويا فقد
أحرمت) أفاد أنه لا يكون محرما إلا بهما فإذا أتى بهما فقد دخل في حرمات مخصوصة فهما
عين الاحرام شرعا. وذكر حسام الدين الشهيد أنه يصير شارعا بالنية لكن عند التلبية لا
بالتلبية كما يصير شارعا في الصلاة بالنية لكن عند التكبير لا بالتكبير ولا يصير شارعا بالنية
وحدها قياسا على الصلاة، وروي عن أبي يوسف أن النية تكفي قياسا على الصوم بجامع
أنهما عبادة كف عن المحظورات، وقياسنا أولى لأنه التزام أفعال كالصلاة لا مجرد كف بل
التزام الكف شرط فكان بالصلاة أشبه. والمراد بالتلبية شرط من خصوصيات النسك، سواء
كان تلبية أو ذكر يقصد به التعظيم أو سوق الهدي أو تقليد البدن كما ذكره المصنف في
المستصفى. وذكر الأسبيجابي أنه لو ساق هديا قاصدا إلى مكة صار محرما بالسوق، نوى

565
الاحرام أولم ينو شيئا، وسيأتي تفاصيله إن شاء الله تعالى. ثم إذا أحرم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم
عقب إحرامه سرا وهكذا يفعل عقب التلبية ودعا بما شاء من الأدعية وإن تبرك بالمأثور فهو
حسن قوله (فاتق الرفث والفسوق والجدال) للآية الكريمة * (فلا رفت ولا فسوق ولا جدال
في الحج) * (البقرة: 197) وهذا نهي بصيغة النفي وهو آكد ما يكون من النهي كأنه قيل فلا
يكونن رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وهذا لأنه لو بقي أخبار التطرق الخلف في كلام
الله تعالى لصدور هذه الأشياء من البعض فيكون المراد بالنفي وجوب انتفائها وإنها حقيقة بأن
لا تكون. كذا في الكافي. والرفث الجماع لقوله تعالى * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى
نسائكم) * (البقرة: 187) وقيل الكلام الفاحش لأنه من دواعيه فيحرم كالجماع إلا أن ابن
عباس يقول: إنما يكون الكلام الفاحش رفثا بحضرة النساء حتى روي أنه كان ينشد في
إحرامه:
وهن يمشين بنا هميسا * إن يصدق الطيرننك لميسا
فقيل له: أترفث وأنت محرم؟ فقال: إنما الرفث بحضرة النساء. والضمير في هن للإبل
والهميس صوت نقل أخفافها، وقيل المشي الخفي. ولميس اسم جارية والمعنى نفعل بها ما
نريد إن صدق الفال. والفسوق المعاصي وهو منهي عنه في الاحرام وغيره إلا أنه في
الاحرام أشد كلبس الحرير في الصلاة. والتطريب في قراءة القرآن، والجدال الخصومة مع
الرفقاء والخدم والمكارين، ومن ذكر من الشارحين أن المراد به مجادلة المشركين بتقديم وقت
الحج وتأخيره أو التفاخر بذكر آبائهم حتى أفضى ذلك إلى القتال فإنه يناسب تفسير الجدال
في الآية لا الجدال في كلام الفقهاء فلهذا اقتصرنا على الأول وفي المحيط: إذا رفث يفسد
حجه وإذا فسق أو جادل لا لأن الجماع من محظورات الاحرام اه‍. ولا يخفى أنه مقيد بما
قبل الوقوف بعرفة وإلا فلا فساد في الكل.

566
قوله: (وقتل الصيد والإشارة إليه والدلالة عليه) أي فاثق إذا أحرمت التعرض لصيد
البر. قال المصنف في المستصفى: أريد بالصيد هاهنا المصيد إذ لو أريد به المصدر وهو
الاصطياد لما صح إسناد القتل إليه وحرمة قتله ثابتة بالقرآن وحرمة الإشارة والدلالة بحديث
أبي قتادة كما سيأتي، والفرق بين الإشارة والدلالة أن الإشارة تقتضي الحضرة والدلالة
تقتضي الغيبة قوله: (ولبس القميص والسراويل والعمامة والقلنسوة والقباء والخفين إلا أن لا
تجد النعلين فاقطعهما أسفل من الكعبين والثوب المصبوغ بورس أو زعفران أو عصفر إلا أن
يكون غسيلا لا ينفض) كما دل عليه حديث الصحيحين. والسراويل أعجمية والجمع
سراويلات منصرف في أحد استعماليه ويؤنث، والقباء المد على وزن فعال بالفتحة والورس
صبغ أصفر يؤتى به من اليمن. واختلف في قولهم لا ينفض فقيل لا يفوح، وقيل لا
يتناثر والثاني غير صحيح لأن العبرة للطيب لا للتناثر ألا ترى أنه لو كان ثوبا مصبوغا له
رائحة طيبة ولا يتناثر منه شئ فإن المحرم يمنع منه. كذا في المستصفى. والمراد بلبس القباء
أن يدخل منكبيه ويديه في كميه لأنه لو لم يدخل يديه في كميه فإنه يجوز عندنا خلافا لزفر.
كذا في غاية البيان. والكعب هنا المفصل الذي في وسط القدم عند معقد الشراك فميا روى
هشام عن محمد بخلافه في الوضوء فإنه العظم الناتئ أي المرتفع، ولم يعين في الحديث
أحدهما لكن لما كان الكعب يطلق عليه، وعلى الثاني حمله عليه احتياطا. كذا في فتح القدير.
أي حمل الكعب في الاحرام على المفصل المذكور لأجل الاحتياط لأن الأحوط فيما كان أكثر
كشفا وهو قيما قلنا. فالحاصل أنه يجوز لبس كل شئ في رجله لا يغط الكعب الذي في
وسط القدم، سرموزه كان أو مداسا أو غير ذلك. ويدخل في لبس القميص ليس الزردة
والبرنس، وخرج باللبس الارتداء بالقميص ونحوه لأنه ليس بلبس. وذكر الحلبي في مناسكه

567
أن ضابطه لبس كل شئ معمول على قدر البدن أو بعضه بحيث يحيط به بخياطة أو تلزيق
بعضه ببعض أو غيرهما ويستمسك عليه بنفس لبس مثله إلا المكعب. ويدخل في الخفين
الجوز بأن ولم أر من صرح بما إذا كان قادرا على النعلين فهل له أن يقطع الخفين أسفل من
الكعبين، والظاهر من الحديث وكلامهم أنه لا يجوز لا يحل لما فيه من إتلاف ما له لغير
ضرورة قوله: (وستر الوجه والرأس) أي واجتنب تغطيتهما لحديث الاعرابي الذي وقصته
ناقته لا تخمروا رأسه ولا وجهه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا. واعلم أن أئمتنا استدلوا بهذا
الحديث على حرمة تغطية الوجه على المحرم الحي المفهوم من التعليل ولم يعملوا بمنطوقه في
حق الميت المحرم فإن حكمه عندنا كسائر الأموات في تغطية الوجه والرأس، والشافعية
عملوا به فيما إذا مات المحرم ولم يعملوا به في حالة الحياة. وأجا ب في غاية البيان عن أئمتنا
بأنهم إنما لم يعملوا به في الموت لأنه معارض بحديث إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من
ثلاث والاحرام عمل فهو منقطع فيغطى العضوان ولهذا لا يبنى المأمور بالحج على إحرام
الميت اتفاقا، وهو يدل على انقطاعه بالموت والأعرابي مخصوص من ذلك بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم

568
ببقاء إحرامه وهو في غيره مفقود فقلنا بانقطاعه بالموت، ولأن المرأة لا تغطي وجهها إجماعا
مع أنها عورة مستورة وفي كشفه فتنة فلأن لا يغطي به عادة كالعد والطبق والإجانة، ولا
فرق بين ستر الكل والبعض والعصابة ولهذا ذكر قاضيخان في فتاواه أنه لا يغطي فاه ولا
ذقنه ولا عارضه ولا بأس بأن يضع يديه على أنفه قوله: (وغسلهما بالخطمي) أي وليجتنب
غسل رأسه ولحيته بالخطمي واللحية لما كانت في الوجه. أعاد الضمير عليها وإن لم يتقدم لها
ذكر ووجوب اجتنابه متفق عليه لكن يجب عليه دم إذا لم يجتنبه عنده لأنه نوع طيب وعندهما
صدقة لأنه يقتل الهوام ويلين الشعر وليس بطيب، وهذا الاختلاف راجع إلى تفسيره وليس
باختلاف حقيقة كالاختلاف في الصابئة والافطار بالأقطار في الإحليل. والخطمي بكسر الخاء
نبت يغسل به الرأس، وقيد بالخطمي لأنه لو غسل رأسه بالحرض والصابون لا شئ عليه
باتفاقهم قوله: (ومس الطيب) أي واجتنبه مطلقا في الثوب والبدن لقوله عليه السلام الخاج
الشعث التفل وهو بكسر العين مغبر الرأس، والتفل بكسر الفاء تارك الطيب، وهو في
اللغة نقيض الخبث، وفي الشريعة وهو جسم له رائحة طيبة كالزعفران والبنفسج والياسمين
والغالية والورد والورس والعصفر والحناء، ولم يذكر المصنف هنا الدهن كما في الوافي، إما
أنه أصل الطيب فدخل تحته، وإما للاختلاف كما سيأتي في باب الجنايات قوله: (وحلق
رأسه وقص شعره وظفره) أي واجتنب هذه الأشياء لقوله تعالى * (ولا تحلقوا رؤوسكم)
* (البقرة: 196) والقص في معناه فثبت دلالة. والمراد إزالة الشعر كيفما كان حلقا وقصا ونتفا
وتنورا وإحراقا من أي مكان كان من الرأس والبدن مباشرة أو تمكينا لكن قال الحلبي في
مناسكه: ويستثنى منه قلع الشعر النابت في العين فقد ذكر بعض مشايخنا أنه لا شئ فيه
عندنا. قوله: (لا الاغتسال ودخول الحمام) أي لا يتقيهما لما روى مسلم أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل وهو
محرم قوله: (والاستظلال بالبيت والمحمل) أي لا يجتنبه. والمحمل بفتح الميم الأولى وكسر
الثانية أو عكسه، وهو مقيد بما إذا لم يصب رأسه ولا وجهه فلو أصاب أحدهما يكره كما لو
حمل ثيابا على رأسه فإنه يلزمه الجزاء بخلاف ما إذا حمل نحو الطبق أو الإجانة والعدل
المشغول قوله: (وشد الهميان في وسطه) أي لا يجتنبه وهو بالكسر ما يجعل فيه الدراهم
ويشد على الحقو. أطلقه فشمل ما إذا كان فيه نفقته أو نفقة غيره لأنه ليس بلبس مخيط ولا
في معناه. وأشار إلى أنه لا يكره شد المنطقة والسيف والسلاح والتختم بالخاتم. ومما لا يكره

569
له أيضا الاكتحال بغير المطيب وأن يختتن ويفتصد ويقلع ضرسه ويجبر الكسر ويحتجم وأن
يحك رأسه وبدنه غير أنه إن خاف سقوط شئ من شعره بسبب ذلك حكه برفق وإن لم يخف
من ذلك فلا بأس بالحك الشديد قوله: (وأكثر من التلبية متى صليت أو علوت شرفا أو
هبطت واديا أو لقيت ركبا وبالأسحار رافعا صوتك) أي أكثر منها على وجه الاستحباب عند
اختلاف الأحوال كتكبير الصلاة عند الانتقال. أطلق الصلاة فشمل فرضها وواجبها ونفلها
وهو ظاهر الرواية، وخصها الطحاوي بالمكتوبات قياسا على تكبيرات التشريق كما ذكره
الأسبيجابي. وعلوت شرفا أي صعدت مكانا مرتفعا، وقيل بضم الشين جمع شرفة. والركب
جمع راكب كتجر جمع تاجر، والسحر السدس الأخير من الليل. وصرح في المحيط بأن
الزيادة منها على المرة الواحدة سنة حتى تلزمه الإساءة بتركها. قال في فتح القدير: فظهر أن
التلبية فرض وسنة ومندوب. ويستحب أن يكررها كلما أخذ فيها ثلاث مرات ويأتي بها على
الولاء ولا يقطعها بكلام، ولو رد السلام في خلالها جاز لكن يكره لغير السلام عليه في
حالة التلبية. وإذا رأى شيئا يعجبه قال لبيك إن العيش عيش الآخرة، وتقدم أنه يصلي على
النبي صلى الله عليه وسلم عقب تلبيته سرا ويسأل الله الجنة ويتعوذ من النار ورفع الصوت بها سنة إلا أنه لا
يجهد نفسه كما يفعله العوام.

570
قوله: (وابدأ بالمسجد بدخول مكة) الباء الأولى باء التعدية وهو إيصال معنى متعلقها
بمدخولها، والثانية للسببية، وعبادة أصله أولى وهي: إذا دخل مكة بدأ بالمسجد الحرام لأنه
أولى شئ فعله عليه السلام وكذا الخلفاء بعده، وقد قدمنا في كتاب الطهارة أن من
الاغتسالات المسنونة الاغتسال لدخولها وهو للنظافة فيستحب للحائض والنفساء. ولم يقيد
دخول مكة بزمن خاص فأفاد أنه لا يضره ليلا دخلها أو نهارا لأنه عليه السلام دخلها نهارا
في حجته وليلا في عمرته فهما سواء في عدم الكراهة، وما روي عن ابن عمر أنه كان ينهى
عن الدخول ليلا فليس تقريرا للسنة بل شفقة على الحاج من السراق، وأما المستحب فالدخول
نهارا كما في الخانية. ويستحب أن يدخل مكة من باب المعلا ليكون مستقبلا في دخوله باب
البيت تعظيما، وإذا خرج فمن السفلى. ولا يخفى أن تقديم الرجل اليمنى سنة دخول المساجد
كلها، ويستحب أن يكون ملبيا في دخوله حتى يأتي باب بني شيبة فيدخل المسجد الحرام منه
لأنه عليه السلام دخل منه وهو المسمى بباب السلام متواضعا خاشعا ملبيا ملاحظا جلالة
البقعة مع التلطف بالمزاحم قوله: (وكبر وهلل تلقاء البيت) أي مواجها له لحديث جابر أنه
عليه السلام كبر ثلاثا وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل
شئ قدير، فالمراد من التكبير الله أكبر أي من هذه الكعبة المعظمة. كذا في غاية البيان.
والأولى أي من كل ما سواه ومن التهليل لا إله إلا الله، ولم يذكر المصنف الدعاء عند مشاهدة
البيت وهكذا في المتون وهي غفلة عما لا يغفل عنه فإن الدعاء عندها مستجاب، ومحمد
رحمه الله لم يعين في الأصل لمشاهد الحج شيئا من الدعوات لأن التوقيت يذهب بالرقة وإن
تبرك بالمنقول منها فحسن. كذا في الهداية. وفي الولوالجية من فصل القراءة: للمصلي ينبغي

571
أن يدعو في الصلاة بدعاء محفوظ لا بما يحضره لأنه يخاف أن يجري على لسانه ما يشبه كلام الناس
فتفسد صلاته، فأما في غير الصلاة فينبغي أن يدعو بما يحضره ولا يستظهر الدعاء لأن حفظ
الدعاء يمنعه عن الرقة اه‍. وقد ذكر في المناقب أن أبا حنيفة أوصى رجلا يريد السفر إلى مكة بأن
يدعو الله عند مشاهدة البيت باستجابة دعائه فإن استجيبت هذه الدعوة صار مستجاب الدعوة
وفي فتح القدير ومن أهم الأدعية طلب ب الجنة بلا حساب والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم هنا من أهم
الأذكار كما ذكر الحلبي في مناسكه.
قوله: (ثم استقبل الحجر مكبرا مهللا مستلما بلا إيذاء) لفعله عليه السلام كذلك ولنهي
عمر عن المزاحمة ولان الاستلام سنة والكف عن الايذاء واجب فالاتيان بالواجب متعين.
والاستلام أن يضع يديه على الحجر الأسود ويقبله لفعله عليه السلام الثابت في الصحيحين،
وإن لم يقدر وضع يديه وقبلهما أو إحداهما، فإن لم يقدر أمس الحجر شيئا كالعرجون ونحوه
وقبله لرواية مسلم، وإن عجز عن ذلك للزحمة استقبله ورفع يديه حذاء أذنيه وجعل باطنهما
نحو الحجر مشيرا بهما إليه وظاهرهما نحو وجهه. وهكذا المأثور وإن أمكنه أن يسجد على الحجر

572
فعل لفعله عليه السلام والفاروق بعده، وقول القوام الكاكي الأولى أن لا يسجد عندنا
ضعيف. وهذا التقبيل المسنون إنما يكون بوضع الشفتين من غير تصويت كما ذكره الحلبي في
مناسكه، وقد أشار إلى أنه لا يبدأ بالصلاة لأن تحية البيت الطواف فإن كان حلالا فيطوف
طواف التحية، وإن كان محرما بالحج فطواف القدوم وهو أيضا تحية إلا أنه خص بهذه الإضافة.
وإن دخل في يوم النحر بعد الوقوف فطواف الفرض يغني كصلاة الفرض تغني عن تحية
المسجد أو بالعمرة فطواف العمرة. ولا يسن في حقه طواف القدوم واستثنى علماؤنا من ذلك
ما إذا دخل في وقت منع الناس من الطواف أو كان عليه فائتة مكتوبة أو خاف خروج الوقت
للمكتوبة أو الوتر أو سنة راتبة أو فوت الجماعة في المكتوبة فإنه يقدم الصلاة على الطواف في
هذه المسائل ثم يطوف. وفي قوله الحجر دون أن يصفه بالسواد إشارة إلى أنه حين أخرج من
الجنة كان أبيض من اللبن وإنما أسود بمس المشركين والعصاة. كذا في المحيط.
قوله: (وطف مضطبعا وراء الحطيم عن يمينك مما يلي الباب سبعة أشواط) لفعله
عليه السلام كذلك لما رواه أبو داود وهو أن يدخل ثوبه تحت يده اليمنى ويلقه على عاتقه
الأيسر. يقال اضطبع بثوبه وتأبط به، وقولهم اضطبع رداءه سهو وإنما الصواب بردائه. كذا
في المغرب. وهو سنة مأخوذ من الضبع وهو العضد لأنه يبقى مكشوفا، وينبغي أن يفعله
قبل الشروع في الطواف بقليل. وأما إدخال الحطيم في طوافه فهو واجب لأن الحطيم ثبت

573
كونه من البيت بخير الواحد حتى لو تركه يؤمر بإعادة الطواف من الأصل أو إعادته على
الحطيم ما دام بمكة ولو لم يعد لزمه دم، ولو استقبل الحطيم وحده لا تجوز صلاته لأن
فرضية التوجه ثبتت بنص الكتاب فلا تتأدى بما ثبت بخير الواحد احتياطا. وله ثلاث أسام:
حطيم وحظيرة وحجر. وهو اسم لموضع متصل بالبيت من الجانب الغربي بينه وبين البيت
فرجة، وسمي به لأنه حطم من البيت أي كسر فعيل بمعنى مفعول كالقتيل بمعنى المقتول،
أو لأن من دعا على من ظلمه فيه حطمه الله كما جاء في الحديث فهو بمعنى فاعل. كذا في
كشف الاسرار. وليس كله من البيت بل مقدار ستة أذرع من البيت برواية مسلم عن عائشة.
وفي غاية البيان أن فيه قبر هاجر وإسماعيل عليهما السلام. وأما أخذه عن يمينه مما يلي
الباب فهو واجب أيضا حتى لو طاف منكوسا صح وأثم لتركه الواجب، ويجب إعادته ما دام
بمكة فإن رجع قبل إعادته فعليه دم والحكمة في كونه يجعل البيت عن يساره أن الطائف
بالبيت مؤتم به والواحد مع الإمام يكون الإمام على يساره، وقيلان القلب في الجانب
الأيسر، وقيل ليكون الباب في أول طوافه لقوله تعالى * (واتوا البيوت من أبوابها) * (البقرة:
189) وأشار بقوله مما يلي الباب أن الافتتاح من الحجر الأسود واجب لأنه عليه السلام لم
يتركه قط، وقيل شرط حتى لو افتتح من غيره لا يجزئه لأن الامر بالطواف في الآية مجمل في
حق الابتداء فالتحق فعله عليه السلام بيانا له. كذا في فتح القدير هنا. وفي باب الجنايات
ذكر أن ظاهر الروايات أنه سنة، وذكر في المحيط أنه سنة عند عامة المشايخ حتى لو افتتح من غير

574
الحجر جاز ويكره. وذكر محمد في الرقيات أنه لم يجز ذلك القدر وعليه الإعادة وإليه أشار في
الأصل فقد جعل البداية منه فرضا ا ه‍. والأوجه الوجوب للمواظبة والافتراض بعيد عن
الأصول للزوم الزيادة على القطعي بخبر الواحد، ولعل صاحب المحيط أراد بالسنة السنة
المؤكدة التي بمعنى الواجب وتكون الكراهة تحريمية. ولما كان الابتداء من الحجر واجبا كان
الابتداء من الطواف من الجهة التي فيها الركن اليماني قريبا من الحجر الأسود متعينا ليكن
مارا بجميع بدنه على جميع الحجر الأسود وكثير من العوام شاهدناهم يبتدؤن الطواف وبعض
الحجر خارج عن طوافهم فاحذره. وقوله سبعة أشواط بيان للواجب لا للفرض في
الطواف فإنا قدمنا أن أقل الأشواط السبعة واجبة تجبر بالدم فالركن أكثر الأشواط. واختلف

575
فيه فقيل أربعة أشواط وهو الصحيح نص عليه محمد في المبسوط، وذكر الجرجاني أنه ثلاثة
أشواط وثلثا شوط، وخالف المحقق ابن الهمام أهل المذهب وجزم بأن السبعة ركن فإنه لا
يجزئ أقل منها وأن هذا ليس من قبيل ما يقام فيه الأكثر مقام الكل، وأطال الكلام فيه في
الجنايات، وهذا التقدير أعني السبعة مانع للنقصان اتفاقا. واختلفوا في منعه للزيادة حتى لو
طاف ثامنا وعلم أنه ثامن اختلفوا فيه والصحيح أنه يلزمه إتمام الأسبوع لأنه شرع فيه ملتزما
بخلاف ما إذا ظن أنه سابع ثم تبين له أنه ثامن فإنه لا يلزمه الاتمام لأنه شرع فيه مسقطا لا
ملتزما كالعبادة المظنونة. كذا في المحيط.
وبهذا علم أن الطواف خالف الحج فإنه إذا شرع فيه مسقطا يلزمه إتمامه بخلاف بقية
العبادات. والأشواط جمع شوط وهو جري مرة إلى الغاية. كذا في المغرب. وفي الخانية من
الحجر إلى الحجر شوط. واعلم أن مكان الطواف داخل المسجد الحرام حتى لو طاف بالبيت
من وراء زمزم أو من وراء السواري جاز، ومن خارج المسجد لا يجوز وعليه أن يعيد لأنه لا
يمكنه الطواف ملاصقا لحائط البيت فلا بد من حد فاصل بين القريب والبعيد فجعلنا الفاصل
حائط المسجد لأنه في حكم بقعة واحدة، فإذا طاف خارج المسجد فقد طاف بالمسجد لا
بالبيت لأن حيطان المسجد تحول بينه وبين البيت. كذا في المحيط. وقد علمت مما قدمناه من
واجبات الحج أن الطهارة فيه من الحدثين واجب، وكذا ستر العورة، فلو طاف مكشوف
العورة قدر ما لا تجوز الصلاة معه لزمه دم. كذا في الظهيرية. وأما الطهارة من الخبث فمن

576
السنة لا يلزمه بتركها شئ كما صرح به في المحيط وغيره لكن صرح في الفتاوي الظهيرية
بأنه لو طاف طواف الزيادة في ثوب كله نجس فهذا وما لو طاف عريانا سواء، فإن كان من
الثوب قدر ما يواري عورته طاهرا والباقي نجسا جاز طوافه ولا شئ عليه. وأطلق الطواف
فأفاد أنه لا يكره في الأوقات التي تكره الصلاة فيها لأن الطواف ليس بصلاة حقيقة ولهذا
أبيح الكلام فيه كما ورد في الحديث ولا تبطله المحاذاة وقالوا: لا بأس بأن يفتي في الطواف
ويشرب ويفعل ما يحتاج إليه لكن يكره إنشاد الشعر فيه والحديث لغير حاجة والبيع، وأما
قراءة القرآن فيه فمباحة في نفسه ولا يرفع بها صوته كما في المحيط. والمعروف في الطواف
إنما هو مجرد ذكر الله روي ابن ماجة عن أبي هريرة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول من طاف
بالبيت سبعا ولم يتكلم إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قولة
إلا بالله محيت عنه عشر سيأت، وكتبت له عشر حسنات، ورفع له بها عشر درجات (1) وفي
المحيط: لو خرج من طوافه إلى جنازة أو مكتوبة أو تجديد وضوء ثم عاد بني.
قوله: (ترمل في الثلاثة الأول فقط) بيان للسنة أي في الأشواط الثلاثة الأول دون
غيرها فأفاد أنه من الحجر لحديث ابن عمر وابن عباس في حجة الوداع المروي في
الصحيحين ردا على من قال إنه ينتهي إلى الركن اليماني. واعلم أن الأصل زوال الحكم عند
زوال العلة لأن الحكم ملزوم لوجود العلة ووجود الملزوم بدون اللازم محال: وقول من قال
إن علة الرمل في الطواف زالت وبقي الحكم ممنوع فإن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في حجة الوداع
تذكيرا لنعمة الامن بعد الخوف ليشكر عليها فقد أمر الله بذكر نعمه في مواضع من كتابه.
وما أمرنا بذكرها إلا لنشكرها. ويجوز أن يثبت الحكم بعلل متبادلة فحين غلبة المشركين كانت
علة الرمل إيهام المشركين قوة المؤمنين، وعند زوال ذلك تكون علته تذكير نعمة الامن كما أن
علة الرق في الأصل استنكاف الكافر عن عبادة ربه ثم صار علته حكم الشرع بربه وإن أسلم
وكالخراج فإنه يثبت في الابتداء بطريق العقوبة ولهذا لا يبدأ به على المسلم ثم صار علته
حكم الشرع بذلك حتى لو اشترى المسلم أرض خراج لزمه عليه الخراج. كذا ذكره المحقق

577
أكمل الدين في شرح البزدوي من بحث القدرة الميسرة. وقد رد المحقق ابن الهمام في باب
العشر والخراج كون الحكم ملزوما لوجود العلة في العلل الشرعية لأن العلل الشرعية أمارات
على الحكم لا مؤثرات فيجوز بقاء الحكم بعد زوال علته وإنما ذلك في العلل العقلية. وأشار
بقوله بعد ذلك ثم أخرج إلى الصفا إلى أنه لا يرمل إلا في طواف بعده سعي، فلو أراد
تأخير السعي إلى طواف الزيارة لا يرمل في طواف القدوم، وذكر الشارح معزيا إلى الغاية إذا
كان قارنا لم يرمل في طواف القدوم إن كان رمل في طواف العمرة. وأشار بقوله فقط إلى
أنه لو ترك الرمل في الشوط الأول لا يرمل إلا في الشوطين بعده، وبنسيانه في الثلاثة الأول
لا يرمل في الباقي لأن ترك الرمل في الأربعة سنة، فلو رمل فيها لكان تاركا للسنتين وكان
ترك أحدهما أسهل، فإن زاحمه الناس في الرمل وقف، فإذا وجد مسلكا رمل لأنه لا بدل له
فيقف حتى يقيمه على الوجه المسنون بخلاف استلام الحجر لأن الاستقبال بدل له. وفي
الولوالجية: ولو رمل في الكل لم يلزمه شئ ا ه‍. وينبغي أن يكره تنزيها لمخالفة السنة.
والرمل كما في الهداية أن يهز في مشيته الكتفين كالمبارز يتبختر بين الصفين، وقيل هو إسراع
مع تقارب الخطأ دون الوثوب والعدو. وهو في اللغة كما في ضياء الحلوم بفتح الفاء والعين
الهرولة. وفي فتح القدير: وهو بقرب البيت أفضل فإن لم يقدر فهو في البعد من البيت
أفضل من الطواف بلا رمل مع القرب منه.
قوله: (واستلم الحجر كلما مررت به إن استطعت) أي من غير إيذاء لحديث البخاري
أنه عليه السلام طاف على بعير كلما أتى إلى الركن أشار بشئ في يده وكبر. وفي المغرب:
استلم الحجر تناوله بيده أو بالقبلة أو مسحه بالكف من السلمة بفتح السين وكسر اللام وهي

578
الحجر، أفاد أن استلام الحجر بين كل شوطين سنة كما صرح به في غاية البيان. وذكر في
المحيط والولوالجي في فتاواه أن الاستلام في الابتداء والانتهاء سنة وفيما بين ذلك أدب. ولم
يذكر المصنف استلام غير الحجر لأنه لا يستلم الركن العراقي والشامي، وأما اليماني
فيستحب أن يستلمه ولا يقبله، وعند محمد هو سنة وتقبيله مثل الحجر الأسود والدلائل
تشهد له فإن ابن عمر قال: لم أر النبي صلى الله عليه وسلم يمس من الأركان إلا اليمانيين كما في
الصحيحين. وعن ابن عباس أنه عليه السلام كان يقبل الركن اليماني ويضع يده عليه. رواه
الدارقطني. وعنه عليه السلام إذا استلم الركن اليماني قبله رواه البخاري في تاريخه. وعن
ابن عمر أنه قال: ما تركت استلام هذين الركنين الركن اليماني والحجر الأسود منذ رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما. رواه مسلم وأبو داود. وقد علمت أن استلام الحجر والركن
اليماني يعم التقبيل فقد دل على سنية استلامه، وأظهر منه ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن
عمر أنه عليه السلام لا يدع أن يستلم الحجر والركن اليماني في كل طوافه، فإنه صريح في
المواظبة الدالة على السنية. واعلم أنه قد صرح في غاية البيان أنه لا يجوز استلام غير الركنين
وهو تساهل فإنه ليس فيه ما يدل على التحريم، وإنما هو مكروه كراهة التنزيه. والحكمة في
عدم استلامهما أنهما ليسا من أركان البيت حقيقة لأن بعض الحطيم من البيت فيكون الركنان
إذن وسط البيت، وأن الأصل في النسبة إلى اليمن والشام يمني وشامي ثم حذفوا إحدى

579
يائي النسبة وعوضوا منها ألفا فقالوا اليماني والشآمي بالتخفيف وبعضهم يشدده كما في
الصحاح قوله: (واختم الطواف به وبركعتين في المقام أو حيث تيسر من المسجد) أما ختم
الطواف بالاستلام فهو سنة لفعله عليه السلام كذلك في حجة الوداع، وأما صلاة ركعتي
الطواف بعد كل أسبوع فواجبة على الصحيح لما ثبت في حديث جابر الطويل أنه عليه السلام
لما انتهى إلى مقام إبراهيم عليه السلام قرأ * (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) * (البقرة: 125)
فنبه بالتلاوة قبل الصلاة على أن صلاته هذه امتثالا لهذا الامر والامر للوجوب إلا أن استفادة ذلك

580
من التنبيه وهو ظني فكان الثابت الوجوب، ويلزمه حكمنا بمواظبته عليه السلام من غير ترك
إذ لا يجوز عليه ترك الواجب. ويكره وصل الأسابيع عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي
يوسف وهي كراهة تحريم لاستلزامها ترك الواجب، ويتفرع على الكراهة أنه لو نسيهما فلم
يتذكر إلا بعد أن شرع في طواف آخر إن كان قبل إتمام شوط رفضه وبعد إتمامه لا، ولو
طاف بصبي لا يصلي ركعتي الطواف عنه. كذا في فتح القدير. وقيد بعضهم قول أبي يوسف
بأن ينصرف عن وتر. والمراد بالمقام مقام إبراهيم وهي حجارة يقوم عليها عند نزوله وركوبه
من الإبل حين يأتي إلى زيارة هاجر وولدها إسماعيل. كذا ذكر المصنف في المستصفي. وذكر
القاضي في تفسيره أنه الحجر الذي فيه أثر قدميه والموضع الذي كان فيه حين قام عليه ودعا
الناس إلى الحج، وقيل مقام إبراهيم الحرم كله. وقول المصنف من المسجد بيان للفضيلة
وإلا فحيث أراد بعد الرجوع إلى أهله لأنها على التراخي ما لم يرد أن يطوف أسبوعا آخر
فتكون على الفور لما قدمنا من كراهة وصل الأسابيع، وقد تقدم في الأوقات المكروهة أنه لا
يصليهما فيها فحمل قولهما يكره وصل الأسابيع إنما هو في وقت لا يكره التطوع فيه ولم أر
نقلا فيما إذا وصل الأسابيع في وقت الكراهة ثم زال وقتها أنه يكره الطواف قبل الصلاة
لكل أسبوع ركعتين. وينبغي أن يكون مكروها لما أن الأسابيع في هذه الحالة صارت كأسبوع
واحد. وفي الفتاوي الظهيرية: يقرأ في الركعة الأولى * (قل يا أيها الكافرون) * وفي الثانية * (قل
هو الله أحد) * تبركا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن قرأ غير ذلك جاز، وإذا فرغ من صلاته يدعو
للمؤمنين والمؤمنات قوله: (للقدوم وهو سنة لغير المكي) أي طف هذا الطواف لأجل

581
القدوم، وهذا الطواف سنة للآفاقي دون المكي لأنه كتحية المسجد لا يسن للجالس فيه،
هكذا ذكروا وليس هذا كتحية المسجد من كل وجه فإن الفرض أو السنة تغني عن تحية
المسجد بخلاف طواف القدوم لما سيأتي من أن القارن يطوف للعمرة أولا ثم يطوف للقدوم
ثانيا ولا يكفيه الأول، ولم يذكر المصنف الشرب من ماء زمزم بعد ختم الطواف وإنما ذكره
بعد الفراغ من أفعال الحج، وكذا إتيان الملتزم والتشبث به، وكذا العود إلى الحجر الأسود
قبل السعي، والكل مستحب لكن الأخير مشروط بإرادة السعي حتى لو لم يرده لم يعد إلى
الحجر بعد ركعتي الطواف كما في الولوالجية.
قوله: (ثم أخرج إلى الصفا وقم عليه مستقبل البيت مكبرا مهللا مصليا على النبي صلى الله عليه وسلم
داعيا ربك بحاجتك) لما ثبت في حديث جابر الطويل، وقد قدمنا أن هذا السعي واجب
وليس بركن للحديث اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي قاله عليه السلام حين كان يطوف
بين الصفا والمروة، فإنه ظني وبمثله لا يثبت الركن لأنه إنما يثبت عندنا بدليل مقطوع، فما
في الهداية من تأويله بمعنى كتب استحبابا فمناف لمطلوبه لأنه الوجوب وجميع السبعة
الأشواط واجب لا الأكثر فقط فإنهم قالوا في باب الجنايات: لو ترك أكثر الأشواط لزمه دم
وإن ترك الأقل لزمه صدقة فدل على وجوب الكل إذ لو كان الواجب الأكثر لم يلزمه في
الأقل شئ. أشار بثم إلى تراخي السعي عن الطواف، فلو سعي ثم طاف أعاده لأن
السعي تبع ولا يجوز تقدم التبع على الأصل. كذا ذكر الولوالجي. وصرح في المحيط بأن
تقديم الطواف شرط لصحة السعي. وبهذا علم أن تأخير السعي عن الطواف واجب وإلى أن

582
السعي لا يجب بعد الطواف فورا بل لو أتى به بعد زمان ولو طويلا لا شئ عليه، والسنة
الاتصال به كالطهارة فصح سعي الحائض والجنب، وكذا الصعود عليه مع ما بعده سنة حتى
يكره لا يصعد عليهما، كما في المحيط، وقد قدمنا أن المشي فيه واجب حتى لو سعى راكبا
من غير عذر لزمه دم. ولم يذكر أي باب يخرج منه إلى الصفا لأنه مخير لأن المقصود يحصل
به، وإنما خرج عليه السلام من باب بني مخزوم المسمى الآن بباب الصفا لأنه أقرب الأبواب
إليه فكان اتفاقا لا قصدا فلم يكن سنة. ولم يذكر رفع اليدين في هذا الدعاء وهو مندوب
حذو منكبيه جاعلا باطنهما إلى السماء. ثم اعلم أن أصل الصفا في اللغة الحجر الأملس
وهو والمروة جبلان معروفان بمكة، وكان الصفا مذكرا لأن آدم عليه السلام وقف عليه
فسمي به، ووقفت حواء على المروة فسميت باسم المرأة فأنث لذلك. كذا ذكر القرطبي في
تفسيره. وفي التحفة: الأفضل للحاج أن لا يسعى بعد طواف القدوم لأن السعي واجب لا
يليق أن يكون تبعا للسنة بل يؤخره إلى طواف الزيارة لأنه ركن واللائق للواجب أن يكون

583
تبعا للفرض قوله: (ثم اهبط نحو المروة ساعيا بين الميلين الأخضرين وافعل عليها فعلك على
الصفا) أي على المروة من الصعود والتكبير والتهليل والصلاة والدعاء، والكل سنة حتى لو
ترك الهرولة بين الميلين لا شئ عليه، وهما شيئان على شكل الميلين منحوتان من نفس جدار
المسجد الحرام إلا أنهما منفصلان عنه، وهما علامتان لموضع الهرولة في ممر بطن الوادي بين
الصفا والمروة. كذا في المغرب قوله: (وطف بينهما سبعة أشواط تبدأ بالصفا وتختم بالمروة)
كما صح في حديث جابر الطويل. وقوله تبدأ بالصفا بيان للواجب حتى لو بدأ بالمروة لا
يعتد بالأول هو الصحيح لمخالفة الامر وهو قوله عليه السلام ابدؤا بما بدأ الله به (1).
وإشارة إلى أن الذهاب إلى المروة شوط والعود منها إلى الصفا شوط آخر وهو الصحيح لما
صح في حديث جابر أنه قال: فلما كان آخر طوافه على المروة. ولو كان من الصفا إلى الصفا
شوطا لكان آخر طوافه الصفا. ونقل الشارح عن الطحاوي أن الذهاب من الصفا إلى المروة

584
والرجوع منها إلى الصفا شوط قياسا على الطواف فإنه من الحجر إلى الحجر شوط. وفي
الفتاوي الظهيرية ما يخالفه فإنه قال: لا خلاف بين أصحابنا أن الذهاب من الصفا إلى المروة
شوط محسوب من الأشواط السبعة، فأما الرجوع من المروة إلى الصفا هل هو شوط آخر؟
قال الطحاوي: لا يعتبر الرجوع من المروة إلى الصفا شوطا آخر والصحيح أنه شوط آخر
ا ه‍. وفرق المحقق ابن الهمام بين الطوافين بالفرق لغة بين طاف كذا وكذا سبعا الصادق
بالتردد من كل من الغايتين إلى الأخرى سبعا وبين طاف بكذا فإن حقيقته متوقفة على أن
يشمل بالطواف ذلك الشئ، فإذا قال طاف به سبعا كان بتكرير تعميمه بالطواف سبعا فمن
هنا افترق الحال بين الطواف بالبيت حيث لزم في شوطه كونه من المبدأ إلى المبدأ والطواف

585
بين الصفا والمروة حيث لم يستلزم ذلك ا ه‍. ولم يذكر صلاة ركعتين بعد السعي ختما له
وهي مستحبة لفعله عليه السلام لذلك لما رواه أحمد.
قوله: (ثم أقم بمكة حراما لأنك محرم بالحج) فلا يجوز له التحلل حتى يأتي بأفعاله
فأفاد أن فسخ الحج إلى العمرة لا يجوز، وما في الصحيحين من أنه عليه السلام أمر بذلك
أصحابه إلا من ساق منهم الهدي فهو مخصوص بهم لما في صحيح مسلم عن أبي ذر أن المتعة
كانت لأصحاب محمد خاصة، وفي بعض الشروح أنها كانت مشروعة على العموم ثم نسخت
كمتعة النكاح، أو معارض بما في الصحيحين أيضا أن من أهل بالحج أو بالحج والعمرة لم
يحلوا إلى يوم النحر قوله: (فطف بالبيت كلما بدا لك) أي ظهر لك لحديث الطحاوي وغيره
الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله قد أحل لكم المنطق (1) والصلاة خير موضوع فكذا
الطواف إلا أنه لا يسعى لكونه يتكرر لا وجوبا ولا نفلا، وكذا الرمل. ويجب أن يصلي
لكل أسبوع ركعتين كما قدمناه فالطواف التطوع أفضل للغرباء من صلاة التطوع، ولأهل
مكة الصلاة أفضل منه. هكذا أطلقه كثير وينبغي تقييده بزمن الموسم وإلا فالطواف أفضل
من الصلاة مكيا كان أو غريبا، وينبغي أن يكون قريبا من البيت في طوافه إذا لم يؤذ به

586
أحدا. والأفضل للمرأة أن تكون في حاشية المطاف ويكون طوافه وراء الشاذروان كي لا
يكون بعض طوافه بالبيت بناء على أنه منه. وقال الكرماني: الشاذروان ليس عندنا من
البيت، وعند الشافعي منه حتى لا يجوز الطواف عليه وهو تلك الزيادة الملصقة بالبيت من
الحجر الأسود إلى فرجة الحجر، قيل بقي منه حين عمرته قريش وضيقته. وفي التجنيس:
الذكر أفضل من القراءة في الطواف. وفي فتح القدير معزيا لكافي الحاكم: يكره أن يرفع
صوته بالقراءة فيه ولا بأس بقراءته في نفسه. ولم يذكر المصنف دخول البيت وهو مستحب
إذا لم يؤذ أحدا كذا قالوا يعني لا نفسه ولا غيره. وقليل أن يوجد هذا الشرط في زمن
الموسم كما شاهدناه. ويستحب أن يصلي فيه اقتداء به عليه السلام، وينبغي أن يقصد مصلاه
عليه السلام وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا دخل مشى قبل وجهه ويجعل الباب قبل
ظهره حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريب من ثلاثة أذرع. ثم يصلي ويلزم
الأدب ما استطاع بظاهره وباطنه ولا يرفع بصره إلى السقف، فإذا صلى إلى الجدار يضع خده
عليه ويستغفر ويحمد ثم يأتي الأركان فيحمد ويهلل ويسبح ويكبر ويسأل الله تعالى ما شاء.
قوله: (ثم اخطب قبل يوم التروية بيوم وعلم فيها المناسك) يعني في اليوم السابع من
الحجة بعد صلاة الظهر خطبة واحدة لا جلوس فيها، ويوم التروية هو يوم الثامن سمي به
لأن الناس يرون إبلهم فيه لأجل يوم عرفة، وقيل لأن إبراهيم عليه السلام رأى في تلك
الليلة في منامه أن يذبح ولده بأمر ربه فلما أصبح روى في النهار كله أي تفكر أن ما رآه

587
من الله تعالى فيأتمره أو لا فلا. وظاهر كلام المغرب تعينه فإنه قال: والأصل الهمزة وأخذها
من الرؤية خطأ ومن الري منظور فيه. وأراد بالمناسك الخروج إلى منى وإلى عرفة والصلاة
فيها والوقوف والإفاضة وهذه أول الخطب الثلاث التي في الحج، ويبدأ في الكل بالتكبير ثم
بالتلبية ثم بالتحميد كابتدائه في خطبة العيدين، ويبدأ بالتحميد في ثلاث خطب وهي خطبة
الجمع والاستسقاء والنكاح. كذا في المبتغى قوله: (ثم رح يوم التروية إلى منى) وهي قرية
فيها ثلاث سكك بينها وبين مكة فرسخ وهي من الحرم، والغالب عليه التذكير والصرف وقد
يكتب بالألف. كذا في المغرب. أطلقه فأفاد أنه يجوز التوجه إليها في أي وقت شاء من
اليوم. واختلف في المستحب على ثلاثة أقوال أصحها أنه يخرج إليها بعد ما طلعت الشمس لما
ثبت من فعله عليه السلام كذلك في حديث جابر الطويل وابن عمر مع اتفاق الرواة أنه صلى
الظهر بمنى، والبيتوتة بها سنة والإقامة بها مندوبة. كذا في المحيط. ولو لم يخرج من مكة إلا
يوم عرفة أجزأه أيضا ولكنه أساء لترك السنة، وأفاد أنه لا فرق بين أن يكون يوم التروية يوم
الجمعة أو لا فله الخروج إليها يوم الجمعة قبل الزوال وأما بعده فلا يخرج ما لم يصلها كما إذا
أراد أن يسافر يوم الجمعة من مصره. وينبغي أن لا يترك التلبية في الأحوال كلها حال الإقامة
بمكة داخل المسجد الحرام وخارجه إلى حال كونه في الطواف ويلبي عند الخروج إلى منى
ويدعو بما شاء، ويستحب أن ينزل بالقرب من مسجد الخيف قوله: (ثم إلى عرفات بعد
صلاة الفجر يوم عرفة) وهي علم للموقف وهي منونة لا غير ويقال لها عرفة أيضا، ويوم
عرفة التاسع من ذي الحجة وسمي به لأن إبراهيم عليه السلام عرف أن الحكم من الله فيه أو
لأن جبريل عرفه المناسك فيه أو لأن آدم وحواء تعارفا فيه بعد الهبوط إلى الأرض وهذا بيان
الأفضل حتى لو ذهب قبل طلوع الفجر إليها جاز كما يفعله الحجاج في زماننا فإن أكثرهم لا

588
يبيت بمنى لتوهم الضرر من السراق. ويستحب أن يسير على طريق ضب ويعود على طريق
المأزمين اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كما في العيدين، وينزل مع الناس حيث شاء وبقرب الجبل أفضل
والبعد عن الناس في هذا المكان تجبر والحال حال تضرع ومسكنة أو اضرار بنفسه أو متاعه أو
تضيق على المارة إن كان بالطريق، والسنة أن ينزل الإمام بنمرة وتزول النبي صلى الله على وسلم بها لا نزاع
فيه. كذا في فتح القدير قوله: (ثم اخطب) يعني خطبتين بعد الزوال والآذان قبل الصلاة يجلس
بينهما كما في الجمعة للاتباع. وإنما أطلقه لإفادة أنها جائزة قبل الزوال واكتفى بما ذكره في
الأولى من تعليم المناسك عن أن يقول ويعلم الناس فيها المناسك التي هي إلى الخطبة الثالثة وهي
الوقوف بعرفة والمزدلفة والإفاضة منهما ورمي جمرة العقبة يوم النحر والذبح والحلق وطواف
الزيارة. ولما كان الاطلاق مصروفا إلى المعهود دل أنه إذا صعد الإمام المنبر وجلس أذن المؤذن
وهو ظاهر المذهب وهو الصحيح للاتباع الثابت عنه عليه السلام.
قوله: (ثم صل بعد الزوال الظهر والعصر بأذان وإقامتين بشرط الإمام والاحرام) لما
ثبت من حديث جابر من الجمع بينهما كذلك فيؤذن للظهر ثم يقيم له ثم يقيم للعصر لأنها
تؤدى قبل وقتها المعتاد فتفرد بالإقامة للاعلام. وأشار بذكر العصر بعد الظهر إلى أنه لا يصلي
سنة الظهر البعدية وهو الصحيح كما في التصحيح فبالأولى أن لا ينتقل بينهما، فلو فعل كره
وأعاد الاذان للعصر لانقطاع فوره فصار كالاشتغال بينهما بفعل آخر. وفي اقتصاره في بيان

589
شرط الجمع على ما ذكر دليل على أن الخطبة ليست من شرطه بخلاف الجمعة وعلى أن
الجماعة ليست من شرطه حتى لو لحق الناس الفزع بعرفات فصلى الإمام وحده الصلاتين فإنه
يجوز بالاجماع على الصحيح. كذا في الوجيز. وفي البدائع: ولا يلزم عليه ما إذا سبق الإمام
الحدث في صلاة الظهر فاستخلف رجلا وذهب الإمام ليتوضأ فصلى الخليفة الظهر والعصر
ثم جاء الإمام أنه لا يجوز له أن يصلي العصر إلا في وقتها لأن عدم الجواز هناك ليس لعدم
الجماعة بل لعدم الإمام لأنه خرج عن أن يكون إماما وصار كواحد من المؤتمين أو يقال:
الجماعة شرط الجمع عند أبي حنيفة لكن في حق غير الإمام لا في حق الإمام ا ه‍. فما في
النقاية والجوهرة والمجمع من اشتراط الجماعة ضعيف. ولو أحدث بعد الخطبة قبل أن يشرع
في الصلاة فاستخلف من لم يشهد الخطبة جاز ويجمع بين الصلاتين بخلاف الجمعة، وذكر

590
الإمام والاحرام بالتعريف للإشارة إلى تعيينهما فالمراد بالإمام الإمام الأعظم أو نائبه مقيما كان
أو مسافرا، فلا يجوز الجمع مع إمام غيرهما. ولو مات الإمام وهو الخليفة جمع نائبه أو صاحب
شرطه لأن النواب لا ينعزلون بموت الخليفة والأصلي كل واحد منهما في وقتها، والمراد
بالاحرام إحرام الحج حتى لو كان محرما بالعمرة يصلي في وقته عنده، وهذان الشرطان
لا بد منهما في كل من الصلاتين لا في العصر وحدها حتى لو كان محرما بالعمرة في الظهر
محرما بالحج في العصر لا يجوز له الجمع عنده كما لو لم يكن محرما في الظهر. وأطلق في وقت
الاحرام فأفاد أنه لا فرق بين أن يكون محرما قبل الزوال أو بعده وهو الصحيح لأن المقصود
حصوله عند أداء الصلاتين، ولا يشترط الإمام لجميع أداء الظهر حتى لو أدرك جزأ منه معه
جاز له الجمع. كذا في المحيط. وهذا كله مذهب الإمام، وعندهما لا يشترط إلا الاحرام عند
العصر وهو رواية فجور للمنفرد الجمع. وفي قوله صلى الظهر إشارة إلى الصحيحة فلو
صلاها ثم تبين فساد الظهر أعادهما جميعا لأن الفاسد عدم شرعا، وذكر في معراج الدراية أنه
يؤخر هذا الجمع إلى آخر وقت الظهر، وفي المحيط لا يجهر بالقراءة فيهما قوله: (ثم إلى الموقف
وقف بقرب الجبل) أي ثم رح والمراد بالجبل جبل الرحمة.

591
قوله (وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة) لحديث البخاري عرفات كلها موقف
وارتفعوا عن بطن عرنة، والمزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن محسر. وشعاب مكة كلها
منحر (1) وفي المغرب: عرنة واد بحذاء عرفات وبتصغيرها سميت عرينة ينسب إليها
العرنيون. وذكر القرطبي في تفسيره أنها بفتح الراء وضمها بغربي مسجد عرفة حتى لو قال
بعض العلماء: إن الجدار الغربي من مسجد عرفة لو سقط سقط في بطن عرنة. وحكي
الباجي عن ابن حبيب أن عرفة في الحل وعرنة في الحرم قوله: (حامدا مكبرا مهللا ملبيا
مصليا داعيا) أي قف حامدا إلى آخره لحديث مالك وغيره أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة
وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي
ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شئ قدير وكان عليه السلام يجتهد في
الدعاء في هذا الموقف حتى روى عنه أنه عليه السلام دعا عشية عرفة لامته بالمغفرة فاستجيب
له إلا في الدماء والمظالم ثم أعاد الدعاء بالمزدلفة فأجيب حتى الدماء والمظالم. خرجه ابن ماجة

592
وهو ضعيف بالعباس بن مرادس فإنه منكر الحديث ساقط الاحتجاج كما ذكره الحفاظ لكن
له شواهد كثيرة، فمنها ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: كان فلان ردف
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة فجعل الفتى يلاحظ النساء وينظر إليهن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ابن
أخي إن هذا يوم من ملك فيه سمعه وبصره غفله. ومنها ما رواه البخاري مرفوعا من
حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ومنها ما رواه مسلم في صحيحه
مرفوعا إن الاسلام يهدم ما كان قبله، وإن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وإن الحج يهدم ما
كان قبله (1) ومنها ما رواه مالك في الموطأ مرفوعا ما رؤي الشيطان يوما هو أصغر ولا
أدحر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن
الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر فإنه رأي جبريل يزع الملائكة (2) فإنها تقتضي تكفير
الصغائر والكبائر ولو كانت من حقوق العباد لكن ذكر الأكمل في شرح المشارق أن
الاسلام يهدم ما كان قبله أن المقصود أن الذنوب السالفة تحبط بالاسلام والهجرة والحج
صغيره كانت أو كبيرة، وتتناول حقوق الله وحقوق العباد بالنسبة إلى الحربي حتى لو أسلم
لا يطالب بشئ منها حتى لو كان قتل وأخذ المال وأحرزه بدار الحرب ثم أسلم لا يؤاخذ
بشئ من ذلك، وعلى هذا كان الاسلام كافيا في تحصيل مراده ولكن ذكر صلى الله عليه وسلم الهجرة
والحج تأكيدا في بشارته وترغيبا في مبايعته فإن الهجرة والحج لا يكفران المظالم ولا يقطع
فيهما بمحو الكبائر وإنما يكفران الصغائر. ويجوز أن يقال: والكبائر التي ليست من
حقوق العباد أيضا كالاسلام من أهل الذمة وحينئذ لا يشك أن ذكرهما كان للتأكيد ا ه‍.
وهكذا ذكر الإمام الطيبي في شرح هذا الحديث وقال: إن الشارحين اتفقوا عليه. وهكذا
ذكر الإمام النووي والقرطبي في شرح مسلم. وذكر القاضي عياض أن أهل السنة أجمعوا
على أن الكبائر لا يكفرها إلا التوبة.
فالحاصل أن المسألة ظنية وأن الحج لا يقطع فيه بتكفير الكبائر من حقوق الله تعالى
فضلا عن حقوق العباد. وأن قلنا بالتكفير للكل فليس معناه كما يتوهمه كثير من الناس أن
الدين يسقط عنه وكذا قضاء الصلوات والصيامات والزكاة إذ لم يقل أحد بذلك، وإنما المراد

593
أن إثم مطل الدين وتأخيره يسقط ثم بعد الوقوف بعرفة إذا مطل صار آثما الآن، وكذا إثم
تأخير الصلاة عن أوقاتها يرتفع بالحج لا القضاء ثم بعد الوقوف بعرفة يطالب بالقضاء فإن لم
يفعل كان آثما على القول بغوريته، وكذا البقية على هذا القياس. وبالجملة فلم يقل أحد
بمقتضى عموم الأحاديث الواردة في الحج كما لا يخفي. وأشار بقوله ملبيا إلى الرد على من
قال يقطعها إذا وقف. ثم اعلم أن الوقوف ركن من أركان الحج كما قدمناه وهو أعظم
أركانه للحديث الصحيح الحج عرفة وشرطه شيئان: أحدهما كونه في أرض عرفات. الثاني
أن يكون في وقته كما سيأتي بيانه. وليس القيام من شرطه ولا من واجباته حتى لو كان
جالسا جاز لأن الوقوف المفروض هو الكينونة فيه، وكذا النية ليس من شرطه، وواجبه
الامتداد إلى الغروب. وأما سننه فالاغتسال للوقوف والخطبتان والجمع بين الصلاتين وتعجيل
الوقوف عقيبهما وأن يكون مفطرا لكونه أعون على الدعاء، وأن يكون متوضئا لكونه أكمل،

594
وأن يقف على راحلته، وأن يكون مستقبل القبلة، وأن يكون وراء الإمام بالقرب منه، وأن
يكون حاضر القلب فارغا من الأمور الشاغلة عن الدعاء فينبغي أن يجتنب في موقفه طريق
القوافل وغيرهم لئلا ينزعج بهم، وأن يقف عند الصخرات السود موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن
تعذر عليه يقف بقرب منه بحسب الامكان، وأما ما اشتهر عن العوام من الاعتناء بالوقوف
على جبل الرحمة الذي هو بوسط عرفات وترجيحهم له على غيره فخطأ ظاهر ومخالف للسنة
ولم يذكر أحد ممن يعتد به في صعود هذا الجبل فضيلة تختص به بل له حكم سائر أراضي
عرفات غير موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أفضل إلا الطبري والماوردي في الحاوي فإنهما قالا
باستحباب قصد هذا الجبل الذي يقال له جبل الدعاء. قال: وهو موقف الأنبياء. وما قالاه
لا أصل له ولم يرد فيه حديث صحيح ولا ضعيف. كذا ذكر النووي في شرح المهذب. ومن
السنة أن يكثر من الدعاء والتكبير والتهليل والتلبية والاستغفار وقراءة القرآن والصلاة على
النبي صلى الله عليه وسلم، وليحذر كل الحذر من التقصير في شئ من هذا فإن هذا اليوم لا يمكن تداركه.
ويكثر من التلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب، وأن يكثر البكاء مع الذكر

595
فهناك تسكب العبرات وتستقال العثرات وترتجى الطلبات وإنه لمجمع عظيم وموقف جسيم
يجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين وأوليائه المخلصين وهو أعظم مجامع الدنيا، وقد قيل إذا
وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل الموقف وأنه أفضل من سبعين حجة في غير يوم جمعة
كما ورد في الحديث. وليحذر كل الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح بل
ومن المباح أيضا في مثل هذا اليوم.
قوله: (ثم إلى مزدلفة بعد الغروب) أي ثم رح كما ثبت في صحيح مسلم من فعله
عليه السلام، وهذا بيان للواجب حتى لو دفع قبل الغروب وجاوز حدود عرفة لزمه دم.
وأشار إلى أن الإمام لو أبطأ لدفع بعد الغروب. فإن الناس يدفعون لأنه لا موافقة في مخالفة
السنة، ولو مكث بعد الغروب وبعد دفع الإمام وإن كان قليلا لخوف الزحام فلا بأس به،
وإن كان كثيرا كان مسيئا لمخالفة السنة، والأفضل أن يمشي على هينته وإذا وجد فرجة
أسرع، ويستحب أن يدخل مزدلفة ماشيا وأن يكبر ويهلل ويحمد ويلبي ساعة فساعة قوله:
(وانزل بقرب جبل قزح) يعني المشعر الحرام وهو غير منصرف للعدل والعلمية كعمر من قزح
الشئ ارتفع يقال إنه كانون آدم عليه السلام وهو موقف الإمام كما رواه أبو داود. ولا
ينبغي النزول على الطريق ولا الانفراد عن الناس فينزل عن يمينه أو يساره، ويستحب أن
يقف وراء الإمام كالوقوف بعرفة قوله: (وصل بالناس العشائين بأذان وإقامة) أي المغرب
والعشاء جمع تأخير لرواية مسلم عن ابن عمر أنه عليه السلام أذن للمغرب بجمع فأقام ثم
صلى العشاء بالإقامة الأولى. وأشار إلى أنه لا تطوع بين الصلاتين ولو سنة مؤكدة على

596
الصحيح ولو تطوع بينهما أعاد الإقامة كما لو اشتغل بينهما بعمل آخر: وفي الهداية: وكان
ينبغي أن يعاد الاذان كما في الجمع الأول إلا أنا اكتفينا بإعادة الإقامة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى المغرب بمزدلفة ثم تعشى ثم أفرد الإقامة بالعشاء، وإلى أن هذا الجمع لا يختص بالمسافر
لأنه جمع بسبب النسك فيجوز لأهل مكة ومزدلفة ومنى وغيرهم، وإلى أن هذا الجمع لا
يشترط فيه الإمام كما شرط في الجمع المتقدم لأن العشاء تقع أداء في وقتها والمغرب قضاء،
والأفضل أن يصليهما مع الإمام بجماعة. وينبغي أن يصلي الفرض قبل حط رحله بل ينيخ
جماله ويعقلها، وهذه ليلة جمعت شرف المكان والزمان فينبغي أن يجتهد في إحيائها بالصلاة
والتلاوة والذكر والتضرع قوله: (ولم تجز المغرب في الطريق) أي لم تحل صلاة المغرب قبل
الوصول إلى مزدلفة للحديث الصلاة أمامك قاله حين قيل لا الصلاة يا رسول الله وهو في
طريق مزدلفة أي وقتها. فدل كلامه أنها لا تحل بعرفات بالطريق الأولى. وأشار إلى أن العشاء
لا تحل بالطريق الأولى وإن كان بعد دخول وقتها لأن صاحبة الوقت وهي المغرب إذا كانت
لا تحل به فغيرها أولى. ولما كان وقت هاتين الصلاتين وقت العشاء علم أنه لو خاف طلوع
الفجر جاز أن يصليهما في الطريق لأنه لو لم يصليهما لصارتا قضاء وإذا لم يحل له أداؤهما
بالطريق فإذا صلاهما أو إحداهما فقد ارتكب كراهة التحريم فكل صلاة أديت معها وجب
إعادتها فيجب إعادتهما ما لم يطلع الفجر، فإن طلع سقطت الإعادة لأن الإعادة للجمع بينهما

597
في وقت العشاء وقد خرج. وفي الفتاوي الظهيرية: ثم ههنا مسألة لا بد من معرفتها وهو
أنه لو قدم العشاء على المغرب بمزدلفة يصلي المغرب ثم العشاء، فإن لم يعد العشاء حتى
انفجر الصبح عاد العشاء إلى الجواز، وهذا كما قال أبو حنيفة فيمن ترك صلاة الظهر ثم صلى
بعدها خمسا وهو ذاكر للمتروكة لم يجز، فإن صلى السادسة عاد إلى الجواز. واعلم أن المشايخ
صرحوا في كتبهم بعدم الجواز وهو يوهم عدم الصحة وليس بمراد بل المراد عدم الحل ولهذا
صرحوا بالإعادة. ولو كانت باطلة لكان أداء إن كان في الوقت وقضاء إن كان خارجه، ولو
صرحوا بعدم الحل لزال الاشتباه. وحاصل دليلهم المقتضي لعدم الحل أنه ظني مفيد تأخير
وقت المغرب في خصوص هذه الليلة ليتوصل إلى الجمع بمزدلفة، فعلمنا بمقتضاه ما لم يلزم

598
تقديم على الدليل القاطع وهو الدليل الموجب للمحافظة على الوقت، فقبل طلوع الفجر لم
يلزم تقديمه على القطعي، وبعده انتفي إمكان تدارك هذا الواجب وتقرر المأثم إذ لو وجبت
الإعادة بعده كان حقيقته عدم الصحة فيما هو مؤقت قطعا وفيه التقديم الممتنع. وفي فتح
القدير: وقد يقال بوجوب الإعادة مطلقا لأنه أداها قبل وقتها الثابت بالحديث، فتعليله بأنه
للجمع فإذا مات سقطت الإعادة تخصيص للنص بالمعنى المستنبط منه، ومرجعه إلى تقديم
المعنى على النص وكلمتهم على أن العبرة في المنصوص عليه لعين النص لا لمعنى النص لا
يقال لو أجريناه على إطلاقه أدى إلى تقديم الظني على القطعي لأنا نقول ذلك لو قلنا بافتراض
ذلك لكنا نحكم بالاجزاء ونوجب إعادة ما وقع مجزئا شرعا مطلقا ولا بدع في ذلك فهو
نظير وجوب إعادة صلاة أديت مع كراهة التحريم حيث نحكم بإجزائها ويجب إعادتها مطلقا
ا ه‍. وفي المحيط: لو صلاهما بعد ما جاوز المزدلفة جاز ا ه‍ قوله: (ثم صل الفجر بغلس)
لرواية ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم صلاها يومئذ بغلس. وهو في اللغة آخر الليل والمراد هنا بعد
طلوع الفجر بقليل للحاجة إلى الوقوف بالمزدلفة.

599
قوله (ثم قف مكبرا مهللا ملبيا مصليا على النبي صلى الله عليه وسلم داعيا ربك بحاجتك وقف على
جبل قزح إن أمكنك وإلا فبقرب منه) بيان للسنة، فلو وقف قبل الصلاة أجزأه، ووقته من
طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقدمنا أنه واجب. وصرح في الهداية بسقوطه للعذر بأن
يكون به ضعف أو علة أو كانت امرأة تخاف الزحام لا شئ عليه، وسيأتي في الجنايات أن
هذا لا يخص هذا الواجب بل كل واجب إذا تركه للعذر لا شئ عليه. ولم يقيد في المحيط
خوف الزحام بالمرأة بل أطلقه فشمل الرجل لو مر قبل الوقت لخوفه لا شئ عليه، ولو مر
بها من غير أن يقف جاز كالوقوف بعرفة، ولو مر في جزء من أجزاء المزدلفة جاز. كذا في
المعراج. واختلف في جبل قزح فقيل هو المشعر الحرام، وقيل المشعر جميع المزدلفة. ولم يذكر
البيتوتة بمزدلفة وهي سنة لا شئ عليه لو تركها كما لو وقف بعد ما أفاض الإمام قبل
الشمس لأن البيتوتة شرعت للتأهب للوقوف ولم تشرع نسكا قوله: (وهي موقف إلا بطن
محسر) أي المزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، وهو بضم الميم المهملة وكسر
السين المهملة المشددة وبالراء، وسمي بذلك لأن فيل أصحاب الفيل حسر فيه أي عي وكل.
ووادي محسر موضع فاصل بين منى ومزدلفة ليس من واحدة منهما. قال الأزرقي: إن وادي
محسر خمسمائة ذراع وخمس وأربعون ذراعا، وأما مزدلفة فإنها كلها من الحرم سميت بذلك
من التزلف والازدلاف وهو التقرب لأن الحجاج يتقربون منها، وحدها ما بين وادي محسر
ومأزمي عرفة ويدخل فيها جميع تلك الشعاب والجبال الداخلة في الحد المذكور. وظاهر كلام
المصنف كغيره أن بطن محسر ليس مكان الوقوف كبطن عرنة في عرفات فلو وقف

600
فيهما فقط لا يجوز كما لوقف في منى، سواء قلنا إن عرنة ومحسرا من عرفة ومزدلفة أو لا.
ووقع في البدائع: وأما مكانه يعني الوقوف بمزدلفة فجزء من أجزاء مزدلفة إلا أنه لا ينبغي
له أن ينزل في وادي محسر، ولو وقف به أجزأه مع الكراهة وذكر مثله في بطن عرنة. قال
في فتح القدير: وما ذكره في البدائع غير مشهور من كلام الأصحاب بل الذي يقتضيه
كلامهم عدم الاجزاء وهو الذي يقتضيه النظر لأنهما ليسا من مسمى المكانين والاستثناء
منقطع قوله: (ثم إلى منى بعد ما أسفر جدا) أي ثم رح وفسر الاسفار بأن تدفع بحيث لم يبق
إلى طلوع الشمس إلا مقدار ما يصلي ركعتين كما في المحيط. وفي الظهيرية: وينبغي أن يكثر
من الذكر والصلاة عليه السلام والدعاء وهو ذاهب فإذا بلغ بطن محسر أسرع إن كان ماشيا
وحرك دابته إن كان راكبا قدر رمية حجر لأنه عليه السلام فعل ذلك.
قوله: (فارم جمرة العقبة من بطن الوادي بسبع حصيات كحصى الخذف) أي المكان
المسمى بذلك. والجمار هي الصغار من الحجارة جمع جمرة وبها سموا المواضع التي ترمي جمارا
وجمرات لما بينهما من الملابسة، وقيل لتجمع ما هنالك من الحصى من تجمر القوم إذا
تجمعوا، وجمر شعره إذا جمعه على قفاه. والخذف بالخاء والذال المعجمتين أن ترمي بحصاة أو
نواة أو نحوها تأخذه بين سبابتيك، وقيل أن تضع طرف الابهام على طرف السبابة وفعله من
باب ضرب. كذا في المغرب. وصحح الولوالجي القول الثاني لأنه أكثر إهانة للشيطان وهذا
بيان للسنة، فلو رمى كيف أراد جاز، ولو رمي من فوق العقبة أجزأه وكان مخالفا للسنة. قيد
بالرمي لأنه لو وضعها وضعا لم يجز لترك الواجب والطرح رمي إلى قدميه فيكون مجزئا إلا أنه
مخالف للسنة. ومقدار الرمي أن يكون بين الرامي وموضع السقوط خمسة أذرع. كذا في

601
الهداية. وفي الظهيرية: يجب أن يكون بينهما هذا القدر فلو رماها فوقعت قريبا من الجمرة
يكفيه، ولو وقعت بعيدا لم يجزه لأنه لم يعرف قربة إلا في مكان مخصوص والقريب عفو.
ولو وقعت الحصاة على ظهر رجل أو على محمل وثبتت عليه كان عليه إعادتها، وإذا سقطت
عن المحمل أو عن ظهر الرجل في سننها ذلك أجزأه. وأشار بقوله كحصى الخذف إلى أنه
لو رمى بسبع حصيات جملة واحدة فإنه يكون عن واحدة لأن المنصوص عليه تفرق الافعال
والتقييد بالسبع لمنع النقص لا لمنع الزيادة فإنه لو رماها بأكثر من السبع لم يضره. والتقييد

602
بالحصى لبيان الأكمل وإلا فيجوز الرمي بكل ما كان من جنس الأرض كالحجر والمدر وما
يجوز التيمم به ولو كفا من تراب.، ولا يجوز بالخشب والعنبر واللؤلؤ والجواهر والذهب
والفضة، إما لأنها ليست من جنس الأرض أو لأنها نثار وليست برمي أو لأنه إعزاز لا
إهانة، وكذا التقييد بحصى الخذف لبيان الأكمل فإنه لو رماها بأكبر منه جاز لحصول المقصود
غير أنه لا يرمي بالكبار من الحجارة كيلا يتأذى به غيره، ولو رمى صح وكره. ولم يبين
الموضع المأخوذ منه الحصا لأنه يجوز أخذه من أي موضع شاء فليأخذها من مزدلفة أو من
قارعة الطريق، ويكره من عند الجمرة تنزيها لأنه حصى من لم يقبل حجة فإنه من قبل حجه
رفع حصاه كما ورد في الحديث. ولم يشترط طهارة الحجارة لأنه يجوز الرمي بالحجر النجس

603
والأفضل غسلها. وفي مناسك الحصيري: جرى التوارث بحمل الحصى من جبل على
الطريق فيحمل منه سبعين حصاة قال: وفي مناسك الكرماني يدفع من المزدلفة بسبع
حصيات، وقال قوم بسبعين حصاة وليس مذهبنا ا ه‍. كذا في معراج الدراية. وفي فتح
القدير: ويكره أن يلتقط حجرا واحدا فيكسره سبعين حجرا صغيرا كما يفعله كثمن الناس
اليوم. ولم يبين وقته وله أوقات أربعة: وقت الجواز ووقت الاستحباب ووقت الإباحة ووقت
الكراهة، فالأول ابتداؤه من طلوع الفجر يوم النحر وانتهاؤه إذا طلع الفجر من اليوم الثاني
حتى لو أخره حتى طلع الفجر في اليوم الثاني لزمه دم عند أبي حنيفة خلافا لهما، ولو رمى

604
قبل طلوع فجر يوم النحر لم يصح اتفاقا. والثاني من طلوع الشمس إلى الزوال. والثالث من
الزوال إلى الغروب، والرابع قبل طلوع الشمس وبعد الغروب. كذا في المحيط وغيره.
وجعل في الفتاوي الظهيرية الوقت المباح من المكروه فهي ثلاثة عنده، والأكثرون على
الأول.
قوله: (وكبر بكل حصاة) أي مع كل حصة من السبعة بيان للأفضل فلو لم يذكر الله
أصلا أو هلل أو سبح أجزأه، ولم يذكر الدعاء آخره لأن السنة أن لا يقف عندها كما سيشير
إليه في رمي الجمار الثلاث، وضابطه أن كل جمرة بعدها جمرة فإنه يقف بعدها للدعاء لأنه
في أثناء العبادة، وكل جمرة ليس بعدها جمرة ترمى في يومه لا يقف عندها لأنه خرج من
العبادة. كذا في الظهيرية وهو مشكل فإن الدعاء بعد الخروج من العبادة مستحب كما في
الصلاة والصوم إذا خرج منهما فالأولى الاستدلال بفعله عليه السلام كذلك وإن لم تظهر له
حكمة، وقد يقال هي كون الوقوف يقع في جمرة العقبة في الطريق فيوجب قطع سلوكها على
الناس وشدة ازدحام الواقفين والمارين ويفضي ذلك إلى ضرر عظيم بخلافه في باقي الجمرات
فإنه لا يقع في نفس الطريق بل بمعزل عنه قوله: (واقطع التلبية بأولها) أي مع أول حصاة
ترميها لحديث الصحيحين: لم يزل عليه السلام يلبي حتى رمي جمرة العقبة. ولا فرق بين
المفرد والمتمتع والقارن. وقيد بالمحرم بالحج لأن المعتمر يقطع التلبية إذا استلم الحجر لأن
الطواف ركن في العمرة فيقطع التلبية قبل الشروع فيها، وقيد بكونه مدركا للحج بإدراك
الوقوف بعرفة لأن فائت الحج إذا تحلل بالعمرة يقطع التلبية حين يأخذ في الطواف لأن
العمرة واجبة عليه فصار كالمعتمر، والمحصر يقطعها إذا ذبح هديه لأن الذبح للتحلل،
والقارن إذا كان فائت الحج يقطع حين يأخذ في الطواف الثاني لأنه يتحلل بعده. وأشار

605
بالرمي إلى أنه يقطعها إذا فعل واحدا من الأمور الأربعة التي تفعل في الحج يوم النحر
فيقطعها إن حلق قبل الرمي أو طاف الزيارة قبل الرمي والذبح والحلق أو ذبح قبل الرمي دم
التمتع أو القران ومضي وقت الرمي المستحب كفعله فيقطعها إذا لم يرم جمرة العقبة حتى
زالت الشمس. كذا في المحيط قوله: (ثم اذبح) أي على وجه الأفضلية لأن الكلام في المفرد
وهو ليس بواجب عليه وإنما يجب على القارن والمتمتع، وأما الأضحية فإن كان مسافرا فلا
أضحية عليه وإلا فعليه كالمكي، وقد ثبت في حديث جابر الطويل أنه عليه السلام ذبح بيده
ثلاثا وستين بدنه وأمر عليا فذبح ما بقي وأشركه في هديه ثم أمر من كل بدنة ببضعة
فجعلت في قدر فطبخت فأكلا من لحمها وشربا من مرقها ثم ركب إلى البيت فصلى بمكة
الظهر. قال ابن حبان: والحكمة في أنه صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثا وستين بدنة أنه كان له يومئذ ثلاث
وستون سنة فينحر لكل سنة بدنة.
قوله: (ثم احلق أو اقصر والحلق أحب) بيان للواجب والمراد بالحلق إزالة شعر ربع
الرأس إن أمكن وإلا بان كان أقرع فيجري الموسى على رأسه إن أمكن وأحب على المختار
وإلا بأن كان على رأسه قروح لا يمكن إمرار الموسى عليه ولا يصل إلى تقصير فقط سقط
هذا الواجب وحل كمن حلقها. والأحسن أن يؤخر الاحلال إلى آخر الوقت من أيام النحر،
ولو أمكنه الحلق لكن لم يجد آلة ولا من يحلقها فليس بعذر وليس له الاحلال لأن إصابة الآلة
مرجو في كل ساعة ولا كذلك برء القروح واندمالها. والإزالة لا تختص بالموسى بل بأي آلة
كانت أو بالنورة، والمستحب الحلق بالموسى لا السنة وردت به. والمراد بالتقصير أن يأخذ
الرجل أو المرأة من رؤوس شعر ربع الرأس مقدار الأنملة كذا ذكر الشارح. ومراده أن يأخذ
من كل شعرة مقدار الأنملة كما صرح به في المحيط. وفي البدائع قالوا: يجب أن يزيد في
التقصير على قدر الأنملة حتى يستوفي قدر الأنملة من كل شعرة برأسه لأن أطراف الشعر
غير متساو عادة. قال الحلبي في مناسكه: وهو حسن. والأنملة بفتح الهمزة والميم وضم
الميم لغة مشهورة ومن خطأ راويها فقد أخطأ واحدة الأنامل. ثم التخيير بين الحلق والتقصير
إنما هو عند عدم العذر فلو تعذر الحلق لعارض تعين التقصير أو التقصير تعين الحلق كأن
لبده بصمغ فلا يعمل فيه المقراض، وإنما كان الحلق أفضل لدعائه عليه السلام للمحلقين
بالرحمة ثنتين أو ثلاثا وفي الثالثة أو الرابعة للمقصرين بها. ويستحب حلق الكل للاتباع. ولم
يذكر سنن الحلق لأنه لا يخص الحلق في الحج لأن أصل الحلق في كل جمعة مستحب كما
صرح به في القنية، ويعتبر في سنته البداءة باليمين للحالق لا المحلوق فيبدأ بشقه الأيسر،

606
ومقتضي النص البداءة بيمين الرأس لما في الصحيحين أنه عليه السلام قال للحلاق خذ وأشار
إلى الجانب الأيمن ثم الأيسر ثم جعل يعطي الناس. وفي فتح القدير: إنه هو الصواب وهو
خلاف ما ذكر في المذهب. ويستحب دفن شعره والدعاء عند الحلق وبعد الفراغ مع التكبير
وإن رمى الشعر فلا بأس به وكره إلقاؤه في الكنيف والمغتسل. كذا في فتاوي العلامي.
ويستحب له أن يقص أظفاره وشواربه بعد الحلق للاتباع ولا يأخذ من لحيته شيئا لأنه مثلة
ولو فعل يلزمه شئ قوله: (وحل لك غير النساء) أي بالحلق أي فحل التطيب لحديث
الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله
حين أحل قبل أن يطوف بالبيت. وحرم الدواعي كالوطئ أفاد أنه ليس قبل الحلق تحليل
لشئ مما كان حلالا بالاحرام ويدل عليه ما في المبسوط. فالحاصل أن في الحج إحلالين:
أحدهما بالحلق، والثاني بالطواف. وما في الهداية وغيرها من أن الرمي ليس من أسباب
التحلل عندنا يخالفه ما في فتاوي قاضيخان ولفظه: وبعد الرمي قبل الحلق يحل له كل شئ
إلا الطيب والنساء. وعن أبي يوسف يحل له الطيب أيضا وإن كان لا يحل له النساء،
والصحيح ما قلنا لأن الطيب داع إلى الجماع وإنما عرفنا حل الطيب بعد الحلق قبل طواف
الزيارة بالأثر ا ه‍. وينبغي أن يحكم بضعف ما في الفتاوي لما قدمنا ولما في المحيط ولفظه:
ولو أبيح له التحلل فغسل رأسه بالخطمي وقلم ظفره قبل الحلق فعليه دم لأن الاحرام باق
لأنه لا يحل إلا بالحلق فقد جنى عليه، وقد ذكر الطحاوي لا دم عليه عند أبي يوسف ومحمد

607
لأنه أبيح له التحلل فيقع به التحلل ا ه‍. فلو كان التحلل بالرمي حاصلا في غير الطيب
والنساء لم يلزمه دم بتقليم الأظفار وتخريجه على قول الطحاوي عندهما بعيد كما لا يخفى.
قوله: (ثم إلى مكة يوم النحر أو غدا أو بعده فطف للركن سبعة أشواط بلا رمل وسعي أن
قدمتهما وإلا فعلا) أي ثم رح في واحد من هذه الأيام الثلاثة لأداء الركن الثاني من ركني الحج،
وقد قدمنا أن الركن أكثرها وهو أربعة أشواط على الصحيح وما زاد عليها واجب ينجبر بالدم.
وأول وقت صحته إذا طلع الفجر يوم النحر ولو قبل الرمي والحلق وليس له وقت آخر تفوت
الصحة بفوته بل وقته العمر، وأما الواجب فهو فعله في يوم من الأيام الثلاثة عند أبي حنيفة حتى
لو أخره عنها مع الامكان لزمه دم، وأفضلها أولها كالأضحية وقد ورد في الحديث أنه عليه
السلام طاف بعد صلاة الظهر يوم النحر للركن وأفاد أنه مخير في تقديم الرمل والسعي إذ طاف

608
للقدوم وفي تأخيرهما لطواف الركن وأنهما لا يتكرران في الحج، ولم يتكلم على الأفضلية وقالوا:
الأفضل تأخيرهما لطواف الركن ليصيرا تبعا للفرض دون السنة قوله: (وحل لك النساء) يعني
بالحلق السابق لا بالطواف لأن الحلق هو المحلل دون الطواف غير أنه آخر عمله في حق النساء إلى
ما بعد الطواف، فإذا طاف عمل الحلق عمله كالطلاق الرجعي آخر عمله إلى انقضاء العدة لحاجته
إلى الاسترداد فإذا انقضت عمل الطلاق عمله فبانت به، والدليل على ذلك أنه لو لم يحلق حتى
طاف بالبيت لم يحل له شئ حتى يحلق. كذا ذكر الشارح وغيره، وهكذا صرح في فتح القدير أنه
لا يخرج من الاحرام إلا بالحلق فأفاد أنه لو ترك الحلق أصلا وقلم ظفره أو غطى رأسه قاصدا
التحلل من الاحرام كان ذلك جناية موجبة للجزاء وحل النساء موقوف على الركن منها وهي أربعة
فقط قوله: (وكره تأخيره عن أيام النحر) أي تأخير الطواف كراهة تحريم لترك الواجب وهو أداؤه
فيها، وأشار به إلى ما رد ذكره القدوري في شرحه من أن آخره آخر أيام التشريق، ولو قال وكره
تأخيرهما عن أيام انحر لكان أولى ليفيد حكم الحلق كالطواف ومحل الكراهة ولزوم الدم
بالتأخير إنما هو عند الامكان كما في المحيط أن الحائض إذا طهرت في آخر أيام النحر فإن
أمكنها الطواف قبل الغروب ولم تفعل فعليها دم للتأخير، وإن لم يمكنها طواف أربعة أشواط فلا
شئ عليها، ولو حاضت بعدما قدرت على الطواف فلم تطف حتى مضى الوقت لزمها الدم لأنها
مقصرة بتفريطها، وفي الظهيرية وليالي أيام النحر منها
. قوله: (ثم إلى منى فارم الجمار الثلاث في ثاني النحر بعد الزوال بادئا بما يلي المسجد
بما يليها ثم بجمرة العقبة وقف عند كل رمي بعده رمي ثم غدا كذلك ثم بعده كذلك إن

609
مكثت) أي ثم رح إلى منى فارم الجمار اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر البيتوتة بمنى لأنها
ليست بواجبة لأن المقصود الرمي لكن هي سنة حتى قال الأسبيجابي: ولا يبيت بمكة ولا
بالطريق ويكره أن يبيت في غير أيام منى. وأشار بقوله بعد الزوال إلى أول وقته في ثاني
النحر وثالثة حتى لو رمى قبل الزوال لا يجوز، ولم يذكر آخره وهو ممتد إلى طلوع الشمس
من الغد فلو رمى ليلا صح وكره. كذا في المحيط. فظهر أن له وقتين وقتا لصحة ووقتا
لكراهة بخلاف الرمي في اليوم الأول فإن له أربعة أوقات كما بيناه، وما في الفتاوي
الظهيرية من أن اليوم الثاني من أيام التشريق كاليوم الأول ولو أراد أن ينفر في هذا اليوم له
أن يرمي قبل الزوال وإنما لا يجوز قبل الزوال لمن لا يريد النفر، فمحمول على غير ظاهر
الرواية فإن ظاهر الرواية أنه لا يدخل وقته في اليومين إلا بعد الزوال مطلقا، وفي المحيط:
ولو أخر رمي الجمار كلها إلى اليوم الرابع رماها على التأليف لأن أيام التشريق كلها وقت
رمي فيقضي مرتبا كالمسنون وعليه دم واحد عند أبي حنيفة لأن الجنايات اجتمعت من جنس
واحد فيتعلق بها كفارة واحدة، ولو تركها حتى غابت الشمس في آخر أيام التشريق يسقط

610
الرمي لانقضاء وقته وعليه دم واحد اتفاقا ا ه‍. فظهر بهذا أن للرمي وقت أداء ووقت
قضاء، وأفاد بقوله بادئا إلى آخر إلى الترتيب بين الجمار الثلاث وهو ثابت من فعله عليه
السلام ولم يبين أنه واجب أو سنة وفيه اختلاف، ففي الظهيرية فإن غير هذا الترتيب فبدأ في
اليوم الثاني بجمرة العقبة فرماها ثم بالوسطى ثم بالتي تلي مسجد الخيف بمنى وهو بعد في
يومه أعاد الجمرة الوسطى وجمرة العقبة ليأتي بها مرتبا مسنونا. وعلل في المحيط بأن الترتيب
مسنون قال: وإن لم يعد أجزأه لأن رمي كل جمرة قربة تامة بنفسها وليست بتابعة للبعض فلا
يتعلق جوازها بتقديم البعض دون البعض كالطواف قبل الرمي يقع معتدا به، وإذا كان
مسنونا فإن رمى كل جمرة بثلاث أتم الأولى بأربع ثم أعاد الوسطى بسبع ثم العقبة بسبع لأنه
رمى من الأولى أقلها والأقل لا يقوم مقام الكل فلا عبرة به فكأنه أتى بهما قبل الأولى أصلا
فيعيدهما، فإن رمى كل واحدة بأربع أتم كل واحدة بثلاث لأنه أتى بالأكثر من الأولى
وللأكثر حكم الكل فكأنه رمى الثانية والثالثة بعد الأولى، وإن استقبل رميها كان أفضل
ليكون إتيانه له على الوجه المسنون. وعن محمد لو رمى الجمار الثلاث فإذا في يده أربع
حصيات لا يدري من أيتهن هي يرمهن عن الأولى ويستقبل الجمرتين الباقيتين لاحتمال أنها
من الأولى فلم يجز رمي الأخريين، ولو كن ثلاثا أعاد على كل جمرة واحدة، ولو كانت حصاة
أو حصاتين أعاد كل واحدة ويجزئه لأنه رمي كل واحدة بأكثرها فوقع معتدا به ولكن لم يقع
مسنونا ا ه‍. ما في المحيط وهو صريح في الخلاف وفي اختيار السنية واعتمده المحقق ابن

611
الهمام. وقال في المجمع: ويسقط الترتيب في الرمي. وأفاد بقوله إن مكثت أنه مخير في
اليوم الثالث بين النفر والإقامة للرمي في اليوم الرابع، والإقامة أفضل اتباعا لفعله عليه
السلام كذلك وأن الإقامة لطلوع الفجر يوم الرابع موجبة للرمي فيه وبإطلاقه أنه لا فرق بين
المكي والافاقي في هذه الأحكام لعموم قوله تعالى * (فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن
تأخر فلا اثم عليه لمن اتقى) * البقرة: 203) وهو كالمسافر مخير بين الصوم والفطر والصوم
أفضل وقد قدمناه معني قوله وقف عند كل رمي بعده رمي في بحث رمي جمرة العقبة
فراجعه. وينبغي أن يحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على نبيه صلى الله عليه وسلم ويدعو الله بحاجته ويجعل
باطن كفيه إلى السماء في رفع يديه وأن يستغفر لأبويه وأقاربه ومعارفه للحديث اللهم اغفر
للحاج ولمن استغفر له الحاج. وفي فتح القدير: ومن كان مريضا لا يستطيع الرمي يوضع
في يده ويرمي بها أو يرمي عنه غيره، وكذا المغمي عليه، ولو رمى بحصاتين إحداهما لنفسه
والأخرى للآخر جاز ويكره. ولا ينبغي أن يترك الجماعة مع الإمام بمسجد الخيف، ويكثر
من الصلاة فيه أمام المنارة عند الأحجار ا ه‍. وقد قدمنا أن المرأة لو تركت الوقوف بالمزدلفة
لأجل الزحام لا يلزمها شئ فينبغي أنها لو تركت الرمي له لا يلزمها شئ والله سبحانه
أعلم.
قوله: (ولو رميت في اليوم الرابع قبل الزوال صح) يعني عند أبي حنيفة اقتداء بابن
عباس وقياسا على الترك. وقالا: لا يجوز اعتبارا بسائر الأيام. قيد بالرابع احترازا عن الثاني
والثالث فإنه لا يجوز قبل الزوال اتفاقا لوجوب اتباع المنقول عنه عليه السلام لعدم المعقول
فلم يظهر أثر تخفيف فيها بتجويز الترك بالتقديم. وفي المحيط: وأما وقت الرمي في اليوم
الرابع فعند أبي حنيفة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس إلا أن ما قبل الزوال وقت مكروه
وما بعده مسنون ا ه‍. فعلم أنه قبل الزوال صحيح مكروه عنده قوله: (وكل رمي بعده رمي
فارمه ماشيا وإلا فراكبا) بيان للأفضل واختيار لقول أبي يوسف على ما حكاه في الظهيرية عن
إبراهيم بن الجراح قال: دخلت على أبي يوسف فوجدته مغمى عليه ففتح عينه فرآني فقال: يا

612
إبراهيم أيما أفضل للحاج أن يرمي راجلا أو راكبا؟ فقلت: راجلا. فخطأني ثم قلت: راكبا
فخطأني ثم قال: ما كان يوقف عندها فالأفضل أن يرميها راجلا. وما لا يوقف عندها
فالأفضل أن يرميها راكبا. قال: فخرجت من عنده فما بلغت الباب حتى سمعت صراخ
النساء أنه قد توفي إلى رحمة الله تعالى، فلو كان شئ أفضل من مذاكرة العلم لاشتغل به في
هذه الحالة لأن هذه الحالة حالة الندامة والحسرة ا ه‍. وأما قول أبي حنيفة ومحمد فعلى ما في
فتاوي قاضيخان أن الرمي كله راكبا أفضل في قول أبي حنيفة ومحمد، وعلى ما في فتاوي
الظهيرية أن الرمي كله ماشيا أفضل فإن ركب إليها فلا بأس به يعني عندهما لأنه حكي قول
أبي يوسف بعده، فتحصل أن في هذه المسألة ثلاثة أقوال. ورجح في فتح القدير ما في
الظهيرية لأن أداءها ماشيا أقرب إلى التواضع والخشوع وخصوصا في هذا الزمان فإن عامة
المسلمين في جميع الرمي فلا يؤمن من الأذى بالركوب بينهم بالزحمة. ورميه عليه السلام راكبا
إنما هو ليظهر فعله ليقتدي به كطوافه راكبا ا ه‍. ولو قيل بأنه ماشيا أفضل إلا في رمي جمرة
العقبة في اليوم الأخير فهو راكبا أفضل لكان له وجه باعتبار أنه ذاهب إلى مكة في هذه
الساعة كما هو العادة وغالب الناس راكب فلا إيذاء في ركوبه مع تحصيل فضيلة الاتباع
له صلى الله عليه وسلم قوله: (ويكره أن تقدم ثقلك إلى مكة وتقيم بمنى للرمي) لاثر ابن أبي شيبة عن ابن
عمر رضي الله عنه من قدم ثقله قبل النفر فلا حج له وأراد نفي الكمال ولأنه يوجب شغل
قلبه وهو في العبادة فيكره، والظاهر أنها تنزيهية. والثقل متاع المسافر وحشمه وهو بفتحتين
وجمعه أثقال. وأشار إلى أنه يكره ترك أمتعته بمكة والذهاب إلى عرفات بالطريق الأولى لأنها
العبادة المقصودة بخلاف الرمي، وينبغي أن يكون محل الكراهة في المسألتين عند عدم الامن
عليها بمكة أما أن أمن فلا لعدم شغل القلب قوله: (ثم إلى المحصب) أي ثم رح إليه وهو
بضم الميم وفتح المهملتين وهو الأبطح موضع ذات حصى بين منى ومكة وليست المقبرة منه
وكانت الكفار اجتمعوا فيه وتحالفوا على إضرار رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل عليه السلام فيه إراءة
لهم لطيف صنع الله به وتكريمه بنصرته فصار ذلك سنة كالرمل في الطواف. وعبارة المجمع

613
أولى من عبارة المصنف حيث قال: ثم ينزل بالمحصب فإن الرواح إليه لا يستلزم النزول فيه.
وفي فتاوي قاضيخان: وينزل بالمحصب ساعة. وفي فتح القدير: ويصلي فيه الظهر والعصر
والمغرب والعشاء ويهجع هجعة ثم يدخل مكة ا ه‍. فحاصله أن النزول به ساعة محصل
لأصل السنة وأما الكمال فما ذكره الكمال.
قوله: (فطف للصدر سبعة أشواط وهو واجب إلا على أهل مكة) وله خمسة أسام ما
في الكتاب لأنه يصدر عنه أي يرجع والصدر الرجوع، وطواف الوداع لأنه يودع البيت به،
وطواف الإفاضة لأنه لأجله يفيض إلى البيت من مني، وطواف آخر عهد بالبيت لأنه لا
طواف بعده طواف الواجب. واختلف في المراد بالصدر الذي هو الرجوع فعندنا هو
الرجوع عن أفعال الحج، وعند الشافعي هو الرجوع إلى أهله ويبتني عليه أنه لو طاف للصدر
ثم أقام بمكة لشغل لم تلزمه الإعادة عندنا خلافا له، والصحيح قولنا لأن الإضافة
للاختصاص وهو إما باعتبار أن الصدر سبب أو شرط وكل منهما سابق على الحكم وهو بما
قلنا، وعلى قوله يكون متأخرا عن الحكم والفراغ عن الافعال يسمى صدورا ورجوعا عنها
إلى الحالة التي كانت من قبل. ولم يبين وقته وله وقتان: وقت الجواز ووقت الاستحباب،
فالأول أوله بعد طواف الزيارة إذا كان على عزم السفر حتى لو طاف كذلك ثم أطال الإقامة
بمكة وله سنة ولم ينو الإقامة بها ولم يتخذها دارا جاز طوافه وأما آخره فليس بموقت ما دام
مقيما حتى لو أقام عاما لا ينوي الإقامة فله أن يطوف ويقع أداء، والثاني أن يوقعه عند إرادة
السفر حتى روي عن أبي حنيفة أنه لو طافه ثم أقام إلى العشاء فأحب إلى أن يطوف طوافا آخر
ليكون توديع البيت آخر مورده. كذا في المحيط. ولم يشترط المصنف له نية معينة فأفاد أنه لو
طاف بعد ما حل النفر ونوي التطوع أجزأه عن الصدر كما لو طاف بنية التطوع في أيام
النحر وقع عن الفرض. وأفاد ببيان صفته أنه لو نفر ولم يطف يجب عليه أن يرجع فيطوفه
لكن قالوا: ما لم يجاوز المواقيت فإن جاوزها لم يجب الرجوع عينا بل إما أن يمضي وعليه
دم، وإما أن يرجع فيرجع بإحرام جديد لأن الميقات لا يجاوز بلا إحرام فيحرم بعمرة، فإذا
رجع ابتدأ بطواف العمرة ثم يطوف للصدر ولا شئ عليه لتأخيره وقالوا: الأولى أن لا
يرجع ويريق دما لأنه أنفع للفقراء وأيسر عليه لما فيه من دفع ضرر التزام الاحرام ومشقة
الطريق. والدليل على وجوبه من السنة أحاديث أصرحها ما في صحيح مسلم: كانوا
ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينصرفن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت.
وأراد بأهل مكة من اتخذ مكة أو داخل المواقيت دارا فلا طواف صدر على من كان داخل

614
المواقيت، وكذا الآفاقي الذي اتخذ مكة دارا ثم بداله الخروج. وقيد في البدائع بأن ينوي
الإقامة بها قبل أن يحل النفر الأول، وأما إن نواه بعده لا يسقط عنه في قول أبي حنيفة خلافا
لأبي يوسف ا ه‍. والظاهر الاطلاق، وحكي الخلاف في المجمع بين أبي يوسف ومحمد. والمراد
بالنفر الأول والرجوع إلى مكة في اليوم الثالث من أيام النحر، وكذا لا طواف صدر على مكي إذا
أراد الخروج منها. وقيد بالمحرم بالحج باعتبار أن الكلام فيه لأن المعتمر ليس عليه طواف
الصدر، وقيد بكونه أدرك الحج فإن فائت الحج ليس عليه طواف الصدر لأن العود مستحق
عليه ولأنه كالمعتمر. وأشار إلى أنه لا سعي عليه ولا رمل في هذا الطواف لعدم ذكرهما، ولم
يستثني الحائض والنفساء مع أهل مكة في سقوطه عنهم لما سيصرح به في باب التمتع.
ولما علم أن واجبات الحج تسقط بالعذر وقد صرح قاضيخان في فتاواه بسقوط طواف
الصدر بالعذر والحيض والنفاس عذر ولهذا قال في المحيط: لو طهرت الحائض قبل أن تخرج
من مكة يلزمها طواف الصدر وإن جاوزت بيوت مكة مسيرة سفر وطهرت فليس عليها
العود، وكذا لو انقطع دمها فلم تغتسل ولم يذهب وقت الصلاة حتى خرجت من مكة لم
يلزمها العود لأنه لم يثبت لها أحكام الطاهرات وقت الطواف، وإن خرجت وهي حائض ثم
اغتسلت ثم رجعت إلى مكة قبل أن تجاوز المواقيت فعليها الطواف، وإن جاوزت فلا تعود
إلا بإحرام جديد. وأشار بطواف الصدر إلى الرجوع إلى أهله وعدم المجاورة بمكة ولهذا قال
في المجمع بعده: ثم يعود إلى أهله والمجاورة بها مكروهة يعني عند أبي حنيفة، وعندهما لا

615
تكره لقوله تعالى * (إن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) * (البقرة: 125)
والمجاورة هي العكوف وله أن المجاورة في العادة تفضي إلى الاخلال بإجلال بيت الله لكثرة
المشاهدة. والعكوف في الآية بمعنى اللبث دون المجاورة وقد قرر في فتح القدير فيها كلاما
حسنا فراجعه قوله: (ثم اشرب من زمزم والتزم الملتزم وتشبث بالأستار والتصق بالجدار) بيان
للمستحب، وقدم الشرب من ماء زمزم على غيره لأن المختار تقديمه كما ذكره الشارح.
واختار في فتح القدير تأخيره عن التزام الملتزم وتقبيل العتبة، وكيفيته أن يأتي زمزم فيستقي
بنفسه الماء ويشربه مستقبل القبلة ويتضلع منه ويتنفس مرات ويرفع بصره في كل مرة وينظر
إلى البيت ويمسح به وجهه ورأسه وجسده ويصب عليه إن تيسر، والملتزم ما بين الركن
والباب كما رواه البيهقي حديثا مرفوعا. والتشبث التعلق والمراد بالأستار أستار الكعبة إن
كانت قريبة بحيث ينالها وإلا وضع يديه فوق رأسه مبسوطتين على الجدار قائمتين ويجتهد في
إخراج الدمع من عينه. ولم يذكر المصنف أنه يمشي القهقري وذكره في المجمع لكن يفعله

616
على وجه لا يحصل منه صدم أو وطئ لاحد وهو باك متحسر على فراق البيت الشريف وبصره
ملاحظ له حتى يخرج من المسجد. وفي رسالة الحسن البصري التي أرسلها إلى أهل مكة أن
الدعاء هناك يستجاب في خمسة عشر موضعا: في الطواف وعند الملتزم وتحت الميزاب وفي
البيت وعند زمزم وخلف المقام وعلى الصفا وعلى المروة وفي السعي وفي عرفات وفي مزدلفة
وفي مني وعند الجمرات الثلاث. وزاد غيره وعند رؤية البيت وفي الحطيم لكن الثاني هو
تحت الميزاب فهو ستة عشر موضعا.

617
فصل
قوله: (ومن لم يدخل مكة ووقف بعرفة سقط عنه طواف القدوم) مجاز عن عدم سنيته
في حقه فإن حقيقة السقوط لا تكون إلا في اللازم إما لأنه ما شرع إلا في ابتداء الافعال فلا
يكون سنة عند التأخر ولا شئ عليه بتركه لأنه سنة، وإما لأن طواف الزيارة أغنى عنه
كالفرض يغني عن تحية المسجد ولذا لم يكن للعمرة طواف قدوم لأن طوافها أغنى عنه. قيد
بطواف القدوم لأن القارن إذا لم يدخل مكة ووقف بعرفة فإنه صار رافضا لعمرته فيلزمه دم
لرفضها وقضاؤها كما سيأتي في آخر القران قوله: (ومن وقف بعرفة ساعة من الزوال إلى
فجر النحر فقد تم حجه ولو جاهلا أو نائما أو مغمى عليه) لأنه عليه السلام وقف بعد
الزوال وقال من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج فكان فعله بيانا لأول وقته، وقوله بيانا
لآخره. والمراد بالساعة الساعة العرفية وهو اليسير من الزمان وهو المحمل عند إطلاق الفقهاء
لا الساعة عند المنجمين كما بيناه في الحيض، والمراد بتمام الحج بالوقوف في الحديث
وعبارتهم الامن من البطلان لا حقيقته إذ بقي الركن الثاني وهو الطواف. وأفاد أن النية
ليست بشرط لصحة الوقوف وقيد به لأن الطواف لا بد له من النية حتى لو طاف هاربا من
عدو لا يصح، والفرق بينهما أن الطواف عبادة مقصودة ولهذا يتنفل به فلا بد من اشتراط

618
أصل النية وإن كان غير محتاج إلى تعيينه حتى إن المحرم لو طاف يوم النحر ونوى به النذر
يجزيه عن طواف الزيارة عما وجب عليه. وأما الوقوف فليس بعبادة مقصودة ولهذا لا
ينتقل به فوجود النية في أصل العبادة وهو الاحرام يغني عن اشتراطه في الوقوف مع أن
الوقوف أعظم الركنين لكن باعتبار الامن على البطلان عند فعله لا من كل وجه.
قوله: (ولو أهل عنه رفيقه باغمائه جاز) أي أحرم. أطلقه فشمل ما إذ كان أمره بأن
يحرم عنه عجزه أو لا، والأول متفق عليه، وفي الثاني خلاف أبي يوسف ومحمد بناء على أن
المرافقة أمر به دلالة عند العجز عند أبي حنيفة، وعندهما إنما تراد المرافقة لأمر السفر لا غير
ويتفرع على ثبوت الاذن دلالة مسائل ذكرها في جامع الفصولين منها مسألة الحج، ومنها ذبح
شاة قصاب شدها للذبح لا ضمان عليه لا لو لم يشدها، ومنها ذبح أضحية غيره في أيامها
بلا إذنه. وذكرها في أكثر الكتب مطلقة وقيدت في بعضها بما إذا أضجعها للذبح، ومنها
وضع القدر على كانون وفيه اللحم ووضع الحطب تحتها فوقد النار رجل وطبخ لا ضمان
عليه، ومنها جعل بره في دورق وربط الحمار فساقه رجل حتى طحنه، ومنها سقط حمل في
الطريق فحمل بلا إذن ربه فتلفت الدابة، ومنها رفع جرة نفسه فأعانه آخر على الرفع
فانكسرت، ومنها مزارع زرع الأرض ببذر ربها ولم ينبت حتى سقاها ربها بلا أمره فالخارج
بينهما لأنه لما هيئت للسقي والتربية صار مستعينا بكل ما قام به دلالة، وكذا لو سقاها
أجنبي والمسألة بحالها. ومنها من أحضر فعلة لهدم دار فهدم آخر بلا إذن لا يضمن
استحسانا والأصل في جنسها أن كل عمل لا يتفاوت فيه الناس تثبت الاستعانة فيه بكل أحد
دلالة، وكل عمل يتفاوت فيه الناس لا تثبت الاستعانة فيه بكل أحد كما لو ذبح شاة وعلقها
للسلخ فسلخها رجل بلا إذنه ضمن ا ه‍. وقد قدمنا أن الاحرام هو النية مع التلبية فإذا نوى
الرفيق ولبى صار المغمى عليه محرما لا الرفيق ولذا يجوز للرفيق بعده أن يحرم عن نفسه
ويصح منه عن المغمى عليه ولو كان محرما لنفسه. ولا يلزم النائب التجرد عن المخيط لأجل
إحرامه عن المغمى عليه، ولو أحرم عن نفسه وعن رفيقه وارتكب محظور إحرامه لزمه جزاء
واحد بخلاف القارن يلزمه جزءان لأنه محرم بإحرامين، وشمل ما إذا أحرم عنه بحجة أو
عمرة أو بهما من الميقات أو بمكة ولم أره صريحا. والمراد بالرفيق واحد من أهل القافلة سواء
كان مخالطا له أو لا كما قالوا فيما إذا خاف عطش رفيقه في التيمم أنه الواحد من القافلة كما

619
صرح به الحدادي في السراج الوهاج، فحينئذ ذكر الرفيق في عبارتهم هنا لبيان الواقع لكن ذكر
في المحيط أنه لو أحرم عنه غير رفيقه على قول أبي حنيفة قيل يجوز، وقيل لا يجوز ولم يرجح،
ورجح في فتح القدير الجواز لأن هذا من باب الإعانة لا الولاية ودلالة الإعانة قائمة عند كل من
علم قصده رفيقا كان أو لا، وأصله أن الاحرام شرط عندنا اتفاقا كالوضوء وستر العورة وإن
كان له شبه بالركن فجازت النيابة فيه بعد وجود نية العبادة منه عند خروجه من بلده، وإنما
اختلفوا في هذه المسألة بناء على أن المرافقة تكون أمرا به دلالة عند العجز أو لا ا ه‍.
ويرجحه أيضا أن المسائل التي ذكرنا أن الاذن ثابت فيها دلالة لم تختص بواحد معين بل
الناس كلهم فيها على السواء، وأشار إلى أنه لو استمر مغمى عليه إلى وقت أداء الافعال فأدى
عنه رفيقه فإنه يجوز وإن لم يشهد به المشاهد ولم يطف به، وصححه صاحب المبسوط لأن هذه
العبادة مما تجزئ فيها النيابة عند العجز كما في استنابة الزمن غير أنه إن أفاق قبل الافعال
تبين أن عجزه كان في الاحرام فقط فصحت النيابة فيه ثم يجري هو على موجبه، وإن لم يفق
تحقق عجزه عن الكل غير أنه لا يلزم الرفيق بفعل المحظور شئ بخلاف النائب في الحج عن
الميت لأنه يتوقع إفاقته في كل ساعة فنقلنا الاحرام إليه بخلاف الميت. وقيد بكونه أغمي
عليه قبل الاحرام إذ لو أغمي عليه بعد الاحرام فلا بد من أن يشهد به الرفيق المناسك عند
أصحابنا جميعا على ما ذكره فخر الاسلام لأنه هو الفاعل وقد سبقت النية منه، ويشترط نيتهم

620
الطواف إذا حملوه كما يشترط نيته. وقيدنا بالاغماء لأن المريض الذي لا يستطيع الطواف إذا
طاف به رفيقه وهو نائم إن كان بأمره جاز لأن فعل المأمور كفعل الآمر وإلا فلا. كذا في
المحيط. فظهر أن النائم يشترط صريح الاذن منه بخلاف المغمى عليه وأنه يشترط نية الحامل
للطواف إن كان المحمول مغمى عليه حتى لو حمله وطاف به طالبا الغريم لم يجزه بخلاف
النائم لا تشترط نية الحامل له للطواف لأن نية الاحرام منه كافية كما صرح به في المحيط
وفيه بحث، فإن الطواف لا بد له من أصل النية ولا يكفي نية الاحرام له كما قدمناه فينبغي
أنه لا بد من نية الحامل في المسألتين اللهم إلا أن يقال: إن نية الاحرام لا تكفي للطواف عند
القدرة عليها وأما النائم فلا قدرة له عليها. وذكر في المحيط أن استئجار المريض من يحمله
ويطوف به صحيح وله الأجرة إذا طاف به، وأن المريض الذي لا يستطيع الرمي توضع
الحصاة في كفه ليرمي به أو يرمي عنه غيره بأمره، ودل كلامه أن للأب أن يحرم عن ولده
الصغير والمجنون ويقضي المناسك كلها بالأولى، ولو ترك رمي الجمار أو الوقوف بالمزدلفة لا
يلزمه شئ. كذا في المحيط. وذكر الأسبيجابي: ومن طيف به محمولا أجزأه ذلك الطواف
عن الحامل والمحمول جميعا، وسواء نوى الحامل الطواف عن نفسه وعن المحمول أو لم ينو،
أو كان للحامل طواف العمرة وللمحمول طواف الحج أو للحامل طواف الحج وللمحمول
طواف العمرة أو يكون الحامل ليس بمحرم والمحمول عما أوجبه إحرامه، وإن طيف به لغير
علة طواف العمرة أو الزيارة وجب عليه الإعادة أو الد ا ه‍.
قوله: (والمرأة كالرجل غير أنها تكشف وجهها لا رأسها ولا تلبي جهرا ولا ترمل ولا
تسعى بين الميلين ولا تحلق رأسها ولكن تقصر وتلبس المخيط) لأن أوامر الشرع عامة جميع
المكلفين ما لم يقم دليل على الخصوص وإنما لا تكشف رأسها لأنه عورة بخلاف وجهها
فاشتركا في كشف الوجه وانفردت بتغطية الرأس، ولما كان كشف وجهها خفيا لأن المتبادر

621
إلى الفهم أنها لا تكشفه لما أنه محل الفتنة نص عليه وإن كانا سواء فيه. ولما قدم في باب
الاحرام أن الرجل يكشف وجهه ورأسه لم يتوهم هنا من عبارته اختصاصها بكشف الوجه،
والمراد بكشف الوجه عدم مماسة شئ له فلذا يكره لها أن تلبس البرقع لأن ذلك يماس
وجهها. كذا في المبسوط. ولو أرخت شيئا على وجهها وجافته لا بأس به كذا ذكر
الأسبيجابي لكن في فتح القدير أنه يستحب. وقد جعلوا لذلك أعوادا كالقبة توضع على
الوجه وتستدل من فوقها الثوب. وفي فتاوي قاضيخان: ودلت المسألة على أنها لا تكشف
وجهها للأجانب من غير ضرورة ا ه‍. وهو يدل على أن هذا الارخاء عند الامكان ووجود
الأجانب واجب عليها إن كان المراد لا يحل أن تكشف، فمحمل الاستحباب عند عدمهم
وعلى أنه عند عدم الامكان فالواجب على الأجانب غض البصر لكن قال النووي في شرح
مسلم قبيل كتاب السلام في قوله سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظر الفجأة فأمرني أن أصرف
بصري قال العلماء وفي هذا حجة أنه لا يجب على المرأة أن تستر وجهها في طريقها وإنما
ذلك سنة مستحبة لها ويجب على الرجال غض البصر عنها إلا لغرض شرعي ا ه‍. وظاهره
نقل الاجماع فيكون معنى ما في الفتاوى لا ينبغي كشفها وإنما لا تجهر بالتلبية لما أن صوتها
يؤدي إلى الفتنة على الصحيح أو عورة على ما قيل كما حققناه في شروط الصلاة، وإنما لا
رمل ولا سعي لها لما أنه يخل بالستر أو لأن أصل المشروعية لاظهار الجلد وهو للرجال.

622
وأشار إلى أنها لا تضطبع لأنه سنة الرمل، وإنما لا تحلق لكونه مثلة كحلق اللحية. وأطلق
في التقصير فأفاد أنها كالرجل فيه خلافا لما قيل إنه لا يتقدر في حقها بالربع بخلاف الرجل،
وإنما تلبس المخيط لما أنها عورة. وأشار بعد الرمل إلى أنها لا تستلم الحجر إذا كان هناك
جمع لأنها ممنوعة عن مماسة الرجال بخلاف ما إذا لم يكن لعدم المانع. وأشار بلبس المخيط إلى
لبس الخفين والقفازين، ما ذكره الشارح من أنها لا تحج إلا بمحرم بخلاف الرجل ليس مما
نحن فيه لأن هذا لا يختص بالحج بل هو حكم كل سفر ومن أنها تترك طواف الصدر بعذر
الحيض فليس منه أيضا لأن الحيض غير ممكن من الرجل حتى تخالفه في أحكامه، وكذا
ما ذكره الأسبيجابي من أنه لا يجب عليها بتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر لأجل الحيض
والنفاس شئ. قالوا: والخنثى المشكل في جميع ما ذكرنا كالمرأة احتياطا ولا يخلوا بامرأة ولا
برجل لأنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى (قوله: ومن قلد بدنة تطوع أو نذر
أو جزاء صيد أو نحوه فتوجه معها يريد الحج فقد أحرم) بيان لما يقوم مقام التلبية لأن
المقصود من التلبية إظهار الإجابة للدعوة وهو حاصل بتقليد الهدي. قيد بكونه محرما بثلاثة:
التقليد والتوجه وإرادة النسك. فأفاد أن التقليد وحده لا يكفي، وكذا أخواه، وكذا لو تقلد
وساق ولم ينو لا يكون محرما، فما ذكره الأسبيجابي من أنه لو قلدها وساقها قاصدا إلى مكة
صار محرما بالسوق نوى الاحرام أو لم ينو، مخالف لما عليه العامة فلا يعول عليه كذا في فتح
القدير. وقد يقال: إن قصد مكة منه نية فلا يحتاج معه إلى نية أخرى فلا مخالفة منه لما عليه
العامة. وأراد بجزاء الصيد جزاء صيد عليه في حجة سابقة فقلده في السنة الثانية أو جزاء
صيد الحرم، وأفاد بقوله أو نحوه إلى أن هذا الحكم لا يختص بشئ بل المراد أنه قلد بدنه
مطلقة. والتقليد أن يعلق على عنق بدنته قطعة نعل أو شراك نعلي أو عورة مزادة أو لحاء شجر
أو نحو ذلك مما يكون علامة على أنه هدي، والمعنى بالتقليد إفادة أنه عن قريب يصير جلده
كذا اللحاء والنعل في اليبوسة لإراقة دمه، وكان في الأصل يفعل ذلك كيلا تهاج عن
الورود والكلأ ولترد إذا ضلت للعلم بأنه هدي. وذكر الشارح أنه لو أشترك جماعة في بدنة
فقلدها أحدهم صاروا محرمين إن كان ذلك بأمر البقية وساروا معها.

623
قوله: (فإن بعث بها ثم توجه إليها لا يصير محرما حتى يلحقها إلا في بدنة المتعة)
لفقد أحد الشروط الثلاثة وهو السوق في الابتداء فإذا أدركها اقترنت نيته بفعل ما هو من
خصائصها إلا في هدي هو من خصائص الحج وضعا وهو هدي المتعة والقران فإنه لا
يحتاج فيه إلى الادراك والمتعة تشمل التمتع العرفي والقران لأن المذكور في الآية إنما هو
التمتع بقوله تعالى * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * (البقرة: 196) إلى آخره فهو دليلهما فلذا
اقتصر المصنف على المتعة. ولما كان التمتع لا يكون قبل أشهر الحج لم يقيد البعث بأشهر
الحج فاستغنى عن تقييد النهاية، ثم المصنف تبعا للجامع الصغير شرط اللحوق فقط ولم
يشترط السوق معه وشرطهما في المبسوط، والظاهر الأول لأن فعل الوكيل بحضرة الموكل
كفعل الموكل. كذا علل به في فتح القدير. وقد يقال: لا يحتاج إليه لأنه يصير محرما
باللحوق وإن لم يسقها أحد، وهذا التعليل إنما هو على قول من يشترط السوق مع
اللحوق. وأفاد المصنف أنه لا بد من التوجه إلى بدنة المتعة ولا يكفي البعث قوله: (وإن
جللها أو أشعرها أو قلد شاة لم يكن محرما) يعني وإن ساقها لأنه ليس من خصائص الحج
فلم يقم مقام التلبية شئ لأن التجليل لدفع الأذى عنها. والاشعار مكروه عند أبي حنيفة
أن يطعن من الجانب الأيسر في السنام فيسيل الدم فلا يكون من النسك، وعندهما وإن
كان حسنا فقد يفعل للمعالجة بخلاف التقليد فإنه يختص بالهدي ولذا كان التقليد أحب من
التجليل لأنه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتجليل حسن للاتباع ويستحب التصديق به، وأما تقليد
الشاة فغير متعارف وليس بسنة أيضا فلا يقوم مقامها. وقد علم مما قرره المصنف أنه لا
يكون محرما بمجرد النية من غير تلبية أو ما يقوم مقامها وهو المذهب، وعن أبي يوسف أنه
يكتفي بالنية ولا خلاف أن التلبية وحدها لا تكفي بلا نية قوله: (والبدن من الإبل والبقر)
يعني لغة وشرعا. قال الجوهري: البدنة ناقة أو بقرة وقال النووي: إنه قول أكثر أهل اللغة فإذا طلب من المكلف بدنة خرج عن العهدة بالبقرة كالناقة، وأما حديث الرواح يوم
الجمعة وعطفه البقرة على البدنة فمحمول على أنه أراد بالأعم بعض الافراد وهو الجزور لا
كل ما يصدق عليه لأنه لو كانت البدنة اسما للجزور فقط للزم النقل عن المعنى اللغوي

624
وهو خلاف الأصل. فالحاصل أن العطف في الحديث يقتضي المغايرة بينهما ظاهرا ولزوم
النقل عن المعنى اللغوي على تقديره خلاف الأصل، فالظاهر عدمه فتعارضا فرجحنا ما
ذهبنا إليه لما ثبت في حديث جابر: كنا ننحر البدنة عن سبعة فقيل: والبقرة؟ فقال: وهل
هي إلا من البدن. ذكره مسلم في صحيحه. وثمرة الاختلاف تظهر فيما إذا التزم بدنة فإن
نوي شيئا فهو على ما نوى لأن المنوي إذا كان من محتملات كلامه فهو كالمصرح به وإن
لم يكن له نية فعليه بقرة أو جزور فينحرها حيث شاء في قولهما خلافا لأبي يوسف فإنه
يقيسه على الهدي وهو يختص بمكة اتفاقا، وهما قاساه على ما إذا التزم جزورا فإنه لا
يختص بمكة اتفاقا. كذا في المبسوط والله أعلم.
باب القرآن
هو مصدر قرن من باب نصر وفعال يجئ مصدرا من الثلاثي كلباس وهو الجمع بين
شيئين: يقال قرنت البعيرين إذا جمعت بينهما بحبل وسيأتي معناه شرعا. ثم اعلم أن المحرمين
أربعة: مفرد بالحج إن أحرم به مفردا أو مفرد بالعمرة إن أحرم بها في غير أشهر الحج وطاف
لها كذلك حج من عامه أو لا أو طاف فيها ولم يحج من عامه أو أحرم بها في أشهر الحج
وطاف كذلك ولم يحج من عامه أو حج وألم بينهما بأهله إلماما صحيحا، ومتمتع إن أتى بأكثر
أشواط العمرة في أشهر الحج بعد ما أحرم بها فقط مطلقا ثم حج من عامه من غير أن يلم
بأهله إلماما صحيحا، وقارن إن أحرم بهما معا أو أدخل إحرام الحج على إحرام العمرة قبل أن
يطوف لها أكثر الأشواط أو أدخل إحرام العمرة إلى إحرام الحج قبل أن يطوف للقدوم ولو
شوطا. ولا إساءة في القسمين الأولين وهو قارن مسئ في الثالث، وأما الاحرام المبهم كان
يحرم بنسك مبهم ثم يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أولهما، والاحرام المعلق كأن يحرم
بإحرام كإحرام زيد فليس خارجا عن الأربعة كما لا يخفى قوله: (هو أفضل ثم التمتع ثم
الافراد) بيان لامرين: الأول جواز الثلاثة وهو مجمع عليه إلا ما ثبت في الصحيحين عن عمر
وعن عثمان رضي الله عنهما أنهما كان ينهيان عن التمتع. وحمله العلماء على نهي التنزيه حملا

625
للناس على ما هو الأفضل لا أنهما يعتقدان بطلانه مع عملهما بالآية الشريفة، وحمله على أن
المراد به فسخ الحج إلى العمرة ضعيف لأن سياق الحديث في الصحيح يقتضي خلافه وهو
ثابت بالكتاب والسنة أيضا، أما الأول فقوله تعالى * (ولله على الناس حج البيت) * (آل
عمران: 97) دليل الافراد، وقوله * (وأتموا الحج والعمرة لله) * (البقرة: 196) دليل القران،
وقوله * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * (البقرة: 196) دليل التمتع، وأما الثاني فما في
الصحيحين من حديث عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من
أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بالحج وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج. وفي
رواية لمسلم: منا من أهل بالحج مفردا ومنا من قرن ومنا من تمتع. الثاني تفضيل القران ثم
الافراد وفضل مالك والشافعي الافراد، وفضل أحمد التمتع، وأصله الاختلاف في
حجته صلى الله عليه وسلم وقد أكثر الناس الكلام فيها وأوسعهم نفسا في ذلك الإمام الطحاوي فإنه تكلم
في ذلك زيادة على ألف ورقة. وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ليس على شئ من
الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح يعني لما كانت الثلاثة
مباحة لم يكن في الاختلاف تغيير حكم لما كانت حجة واحدة ولم يتفقوا على نقلها كان
اختلافهم قبيحا منهم، فما يرجح أنه عليه السلام كان قارنا ما رواه علي في الصحيحين،
وأنس في الصحيحين بروايات كثيرة، وعمران بن الحصين في صحيح مسلم، وعمر بن
الخطاب في صحيح البخاري وأبي داود والنسائي، وحفصة في الصحيحين، وأبو موسى
الأشعري في الصحيحين، مما يرجح أنه عليه السلام كان مفردا ما ثبت في الصحيح من
رواية جابر وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم، ومما يرجح أنه كان متمتعا ما

626
ثبت عن ابن عمر وعائشة في الصحيحين، وعن ابن عباس فيما رواه الترمذي وحسنه، وعن
عمران بن الحصين في الصحيحين، وجمع أئمتنا بين الروايات بأن سبب رواية الافراد
سماع من رأى تلبيته بالحج وحده، ورواية التمتع سماع من سمعه، يلبي بالعمرة، ورواية القران
سماع من سمعه يلبي بهما. وهذا لأنه لا مانع من إفراد ذكر نسك في التلبية وعدم ذكر شئ
أصلا وجهة أخرى مع نية القران فهو نظير سبب الاختلاف في تلبيته عليه السلام أكانت دبر
الصلاة أو عند استواء ناقته أو حين علا على البيداء فروى كل بحسب ما سمع، ومما يرجح
القران أن من روى الافراد روي التمتع فتناقض بخلاف من روي التمتع وهو بلغة القرآن
الكريم وعرف الصحابة أعم من القران. وترجح الفرد المسمى بالقران في الاصطلاح بما في
الصحيح عن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق يقول: أتاني الليلة آت من ربي
عز وجل فقال: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين وقل عمرة في حجة. ولا بد له من
امتثال ما أمر به في مقامه الذي هو وحي ولأئمتنا ترجيحات كثيرة.
وقال النووي في شرح المهذب: والصواب الذي نعتقده أنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج أولا مفردا
ثم أدخل عليه العمرة فصار قارنا، وإدخال العمرة على الحج جائز على أحد القولين عندنا،
وعلى الأصح لا يجوز لنا وجاز للنبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة للحاجة وأمر به في قوله لبيك عمرة
وحجة، فمن روى أنه كان مفردا اعتمد أول الاحرام، ومن روي أنه كان قارنا اعتمد آخره،
ومن روى أنه كان متمتعا أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع بأن كفاه عن النسكين فعل واحد،
ويؤيده أنه عليه السلام لم يعتمر تلك السنة عمرة مفردة لا قبل الحج ولا بعده، وقد قدمنا أن
القران أفضل من إفراد الحج من غير عمرة بلا خلاف ولو جعلت حجته عليه السلام مفردة
لزم أن لا يكون اعتمر تلك السنة ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران ا ه‍. وبهذا
تبين صحة ما في النهاية من أن محل الاختلاف بيننا وبين الشافعي إنما هو أن إفراد كل نسك
بإحرام في سنة واحدة أفضل، أو الجمع بينهما بإحرام واحد أفضل، وأنه لم يقل أحد
بتفضيل الحج وحده على القران، وتبين به بطلان ما ذكره الشارح هنا ردا على صاحب
النهاية. وما روي عن محمد إنه قال حجة كوفية وعمرة كوفية أفضل عندي من القران فليس
بموافق لمذهب الشافعي في تفضيل الافراد فإنه يفضل الافراد سواء أتى بنسكين في سفرة

627
واحدة أو في سفرتين، ومحمد إنما فضل الافراد إذا اشتمل على سفرين، وبهذا اندفع ما ذكره
الشارح من لزوم موافقة محمد للشافعي.
قوله: (وهو أن يهل بالعمرة والحج من الميقات ويقول اللهم أني أريد العمرة والحج
فيسرهما لي وتقبلهما مني) أي القران أن يلبي بالنسكين مع النية حقيقة أو حكما من غير مكة
وما كان من حكمها، وأنما عبر بالاهلال للإشارة إلى أن رفع الصوت بها مستحب. وأراد
بالميقات ما ذكرنا وإنما ذكره للإشارة إلى أن القارن لا يكون إلا آفاقيا وهو أحسن مما ذكره
الشارح من أنه قيد اتفاقي فإنه لو أحرم بهما من دوبرة أهلة أو بعد الخروج قبل الميقات أو داخله
فإنه يكون قارنا. وقلنا حقيقة أو حكما ليدخل ما إذا أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج قبل أن
يطوف لها الأكثر أو أحرم بالحج ثم أحرم بالعمرة قبل أن يطوف له وإن كان مسيئا في الثاني
كما قدمناه لوجود الجمع بينهما في الاحرام حكما. والمراد من قوله ويقول النية لا التلفظ أن
عطفه على يهل فيكون منصوبا من تمام الحد، وإن رفع كان ابتداء كلام بيانا للسنة فإن السنة
للقارن التلفظ بها وتقديم العمرة في الذكر مستحب لأن الواو للترتيب، ولم يشترط المصنف
وقوع الاحرام في أشهر الحج أو طواف العمرة فيها كما هو شرط في التمتع لما روي عن محمد
أنه لو طاف لعمرته في رمضان فهو قارن ولا دم عليه إن لم يطف لعمرته في أشهر الحج فتوهم
بعضهم في هذه الرواية الفرق بين القران والتمتع فيه وليس كما توهموا فإن القران في هذه
الرواية بمعنى الجمع لا القران الشرعي المصطلح عليه بدليل أنه نفى لازم القرن بالمعنى الشرعي

628
وهو لزوم الدم شكرا ونفي اللازم الشرعي نفي للملزوم الشرعي. والحاصل أن النسك المستعقب
للدم شكرا هو ما تحقق فيه فعل المشروع المرتفق به الناسخ لما كان في الجاهلية وذلك بفعل العمرة
في أشهر الحج، فإن كان مع الجمع في الاحرام قبل أكثر طواف العمرة فهو المسمى بالقران وإلا
فهو التمتع بالمعنى العرفي وكلاهما التمتع بالاطلاق القرآني وعرف الصحابة وهو في الحقيقة
اطلاقه اللغة للحصول الرفق به هذا كله على أصول المذهب. كذا في فتح القدير قوله: (ويطوف
ويسعى لها ثم يحج كما مر) يعني يأتي بأفعال العمرة أولا من الطواف والسعي بين الصفا والمروة
والرمل في الأشواط الثلاثة والسعي بين الميلين الأخضرين وصلاة ركعتي الطواف ثم يأتي بأفعال
الحج كلها ثانيا فيبدأ بطواف القدوم ويسعى بعده إن شاء، وهذا الترتيب أعني تقديم العمرة في
أفعال الحج واجب لقوله تعالى * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) * جعل الحج غاية وهو شامل للقران
والتمتع كما قدمناه فأفاد أنه لو طاف أولا لحجته وسعى لها ثم طاف لعمرته وسعى لها فطوافه
الأول وسعيه يكون للعمرة ونيته لغو، ولم يذكر الحلق للعمرة لأنه لا يتخلل بينهما بالحلق فلو
حلق كان جناية على الاحرامين، أما على إحرام الحج فظاهر لأن أوان التحلل فيه يوم النحر، وأما
على إحرام العمرة فكذلك لأن أوان تحلل القارن يوم النحر كما صرح به الإمام محمد. قال
الشارح: ويؤيده أن المتمتع إذا ساق الهدي وفرغ من أفعال العمرة وحلق يجب عليه الدم ولا

629
يتحلل بذلك من عمرته بل يكون جناية على إحرامها مع أنه ليس محرما بالحج فهذا أولى.
قوله (فإن طاف لهما طوافين وسعى سعيين جاز وأساء) بأن طاف للعمرة والحج
أربعة عشر شوطا وسعي كذلك. وأراد بالواو معنى ثم أو الفاء لأن المسألة مفروضة فيما
إذا أتى بالسعي بعد الطوافين ولا يفهم هذا من الواو لأنها لمطلق الجمع ولهذا أتى في
الجامع الصغير بثم واختلفوا في ثاني الطوافين في قولهم طاف طوافين فذهب صاحب الهداية
والشارحون تبعا للمبسوط إلى أنه طواف القدوم ولهذا قال في الهداية: وقد أساء بتأخير
سعي العمرة وتقديم طواف التحية عليه ولا يلزمه شئ، أما عندهما فظاهر لأن التقديم
والتأخير في المناسك لا يوجب الدم عندهما، وعنده طواف التحية سنة وتركه لا يوجب الدم
فتقديمه أولى والسعي بتأخيره بالاشتغال بعمل آخر لا يوجب الدم فكذا بالاشتغال بالطواف
ا ه‍. وذهب صاحب غاية البيان إلى أن المراد بأحدهما طواف العمرة وبالآخر طواف الزيارة
بأن أتى بطواف العمرة ثم اشتغل بالوقوف ثم طاف للزيادة يوم النحر ثم سعي أربعة عشر
شوطا بدليل قولهم في جواب المسألة يجزئه والمجزئ عبارة عما يكون كافيا في الخروج عن
عهدة الفرض، ولا يحصل الاجزاء بترك الفرض والآتيان بالسنة وبدليل قولهم إن القارن
يطوف طوافين ويسعد سعيين عندنا ليس المراد بهما إلا طواف العمرة وطواف الزيارة قوله:
(وإذا رمي يوم النحر ذبح شاة أو بدنة أو سبعها) لقوله تعالى * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما
استيسر من الهدي) * والتمتع يشمل القران العرفي والتمتع العرفي كما قدمناه. قيد بالذبح
بعد الرمي لأن الذبح قبله لا يجوز لوجوب الترتيب ولم يقيد الذبح بالمحبة كما قيده بها في
ذبح المفرد لما أنه واجب على القارن والمتمتع. وأطلق البدنة فشملت البعير والبقرة والسبع
جزء من سبعة أجزاء، وإنما كان مجزئا لحديث الصحيحين عن جابر: حججنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحرنا البعير عن سبعة والبقرة عن سبعة. وأشار بالتخيير بين البدنة وسبعها

630
إلى أنه دم عبادة لادم جناية فيأكل منه كما سيأتي، وسيأتي في الأضحية أنه لا بد أن يكون
الكل مريدا للقربة وإن اختلفت جهة القربة فلو أراد أحد السبعة لحما لأهله لا يجزئهم،
واستدل له بعض شارحي المصابيح بقوله صلى الله عليه وسلم أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا
أشرك فيه معي غيري تركته وشركه (1) وما في المبتغى: ولو بعث القارن بثمن هديين فلم
يوجد بذلك بمكة إلا هدي واحد فبذبحه لا يتحلل عن الاحرامين ولا عن أحدهما ا ه‍.
محمول على هدي الاحصار لأن التحلل موقوف عليه لا على ذبح دم الشكر. وفي الظهيرية
والخانية: والاشتراك في البقرة أفضل من الشاة، والجزور أفضل من البقرة كما في الأضحية
فإن كان القارن ساق الهدي مع نفسه كان أفضل.
قوله: (وصام العاجز عنه ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة وسبعة إذا فرغ ولو بمكة) أي صام
العاجز عن الهدي لقوله تعالى * (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك

631
عشرة كاملة) * (البقرة: 196) والعبرة لأيام النحر في العجز والقدرة، وكذا لو قدر على
الهدي قبل أن يكمل صوم الثلاثة أيام أو بعد ما أكمل قبل أن يحلق ويحل وهو في أيام الذبح
بطل صومه ولا يحل إلا بالهدي، ولو وجد الهدي بعد ما حلق وحل قبل أن يصوم السبعة
صح صومه ولا يجب عليه ذبح الهدي، ولو صام ثلاثة أيام ولم يحلق ولم يحل حتى مضت أيام
الذبح ثم وجد الهدي فصومه ماض ولا شئ عليه. كذا ذكر الأسبيجابي. ويدل على أنه لو
صام في وقته مع وجود الهدي ينظر، فإن بقي إلى يوم النحر لم يجزه للقدرة على الأصل، وإن

632
هلك قبل الذبح جاز للعجز عن الأصل فكان المعتبر وقت التحلل. كذا في فتح القدير. وقوله
آخرها يوم عرفة بيان للأفضل وإلا فوقته وقت الحج بعد الاحرام بالعمرة لأن المراد بالحج في
الآية وقته لأن نفسه لا يصلح ظرفا. وإنما كان الأفضل التأخير لأن الصوم بدل عن الهدي
فيستحب تأخيره إلى آخر وقته رجاء أن يقدر على الأصل. كذا في الهداية. وأشار بقوله إذا
فرغ إلى أن المراد بالرجوع في الآية الفراغ من أعمال الحج مجازا إذا الفراغ سبب للرجوع إلى
أهله، وقد عمل الشافعي بالحقيقة فلم يجوز صومها بمكة ويشهد له حديث البخاري مرفوعا
وسبعة إذا رجعتم إلى أهليكم وإنما عدل أئمتنا عن الحقيقة إلى المجاز لفرع مجمع عليه وهو أنه
لو لم يكن له وطن أصلا ليرجع إليه بل مستمر على السياحة وجب عليه صومها بهذا النص ولا
يتحقق في حقه سوى الرجوع عن الأعمال، وكذا لو رجع إلى مكة غير قاصد للإقامة بها حتى
تحقق رجوعه إلى غير أهله ووطنه ثم بدا له أن يتخذها وطنا كان له أن يصوم بها مع أنه لم يتحقق
منه الرجوع إلى وطنه. كذا في فتح القدير. وأراد بالفراغ من أعمال الحج فرضا وواجبا
وهو بمضي أيام التشريق لأن اليوم الثالث منها يوم للرمي الواجب على من أقام به حتى طلع
الفجر فيفيد أنه لو صام السبعة وبعضها من أيام التشريق فإنه لا يجوز ولما قدمه في بحث الصوم
من النهي عن الصوم فيها مطلقا فلذا لم يقيد ههنا.

633
قوله: (فإن لم يصم إلى يوم النحر تعين الدم) أي إن لم يصم الثلاثة حتى دخل يوم
النحر ليجزه الصوم أصلا وصار الدم متعينا لأن الصوم بدل والابدال لا تنصب إلا شرعا
والنص خصه بوقت الحج وجواز الدم على الأصل، وعن ابن عمر أنه أمر في مثله بذبح
الشاة فلو لم يقدر على الهدي تحلل وعليه دمان: دم التمتع ودم التحلل قبل الهدي. كذا في
الهداية هنا. وقال فيما يأتي في آخر الجنايات: فإن حلق القارن قبل أن يذبح فعليه دمان عند
أبي حنيفة دم بالحلق في غير أوانه لأن أوانه بعد الذبح، ودم بتأخير الذبح عن الحلق.
وعندهما يجب عليه دم واحد وهو الأول فنسبه صاحب غاية البيان إلى التخليط لكونه جعل
أحد الدمين هنا دم الشكر والآخر دم الجناية وهو صواب، وفيما يأتي أثبت عند أبي حنيفة
دمين آخرين سوى دم الشكر، ونسبه في فتح القدير أيضا في باب الجنايات إلى السهو وليس
كما قالا بل كلامه صواب في الموضعين فهنا لما لم يكن جانيا بالتأخير لأنه لعجزه لم يلزمه
لأجله دم ولزمه دم للحلق في غير أوانه، وفي باب الجنايات لما كان جانيا بحلقه قبل الذبح
لزمه دمان كما قرره، ولم يذكر دم الشكر لأنه قدمه في باب القران وليس الكلام إلا في
الجناية وسيأتي تمامه هناك بأزيد من هذا إن شاء الله تعالى قوله: (وإن لم يدخل مكة ووقف
بعرفة فعليه دم لرفض العمرة وقضاؤها) يعني إن لم يأت القارن بالعمرة حتى أتى بالوقوف
فعليه دم لترك العمرة لأنه تعذر عليه أداؤها لأنه يصير بانيا أفعال العمرة على أفعال الحج،
وذلك خلاف المشروع فعدم دخول مكة كناية عن عدم طواف العمرة لأن الدخول وعدمه
سواء إذا لم يطف لها. والمراد أكثر أشواطه حتى لو طاف لها أربعة أشواط ثم وقف بعرفة

634
فإنه لا يصير رافضا لها إذ قد أتى بركنها ولم يبق إلا واجباتها من الأقل والسعي ويأتي بها يوم
النحر وهو قارن على حاله بخلاف ما إذا طاف الأقل ثم وقف فإنه كالعدم فيصير رافضا.
والمراد بعدم الطواف للعمرة عدم الطواف أصلا فإنه لو طاف طوافا ما ولو قصد به طواف
القدوم للحج فإنه ينصرف إلى طواف العمرة ولم يكن رافضا لها بالوقوف لأن الأصل أن المأتي به
من جنس ما هو متلبس به في وقت يصلح له ينصرف إلى ما هو متلبس به، وعن هذا قلنا لو
طاف وسعى للحج ثم طاف وسعى للعمرة كان الأول لها والثاني له ولا شئ عليه كمن سجد
في الصلاة بعد الركوع ينوي سجدة تلاوة انصرف إلى سجدة الصلاة. ولم يقيد الوقوف بعرفة
بكونه بعد الزوال كما وقع في كافي الحاكم لأنه لا حاجة إليه لأن الوقوف قبل وقته لا اعتبار
به، وقيد بالوقوف لأنه يكون رافضا لها بمجرد التوجه إلى عرفات هو الصحيح. والفرق بينه
وبين مصلي الظهر يوم الجمعة إذا توجه إليها أن الامر هناك بالتوجه متوجه بعد أداء الظهر،
والتوجه في القران والتمتع منهي عنه قبل أداء العمرة فافترقا. وأطلق في رفضها فشمل ما إذا
قصده أو لا، وأشار به إلى سقوط دم القران عنه لعدمه وإنما وجب دم لرفضها لأن كل من
تحلل بغير طواف يجب عليه دم كالمحصر ووجب قضاؤها لأن الشروع ملزم كالنذر والله أعلم.
باب التمتع
أخره عن القران لتأخره عنه رتبة كما قدمه. وهو في اللغة من المتاع أو المتعة وهو

635
الانتفاع أو النفع وفي الشريعة ما ذكره بقوله: (وهو أن يحرم بعمرة من الميقات فيطوف لها
ويسعى ويحلق أو يقصر وقد حل منها ويقطع التلبية بأول الطواف ثم يحرم بالحج يوم التروية
من الحرم ويحج) فقوله من الميقات للاحتراز عن مكة فإنه ليس لأهلها تمتع ولا قران لا
للاحتراز عن دوبرة أهله أو غيرها كما بيناه في القرآن، ولم يقيد إحرامها بأشهر الحج لأنه
ليس بشرط لكن أداء أكثر طوافها فيها شرط، فلو طاف الأقل في رمضان مثلا ثم طاف
الباقي في شوال ثم حج من عامه كان متمتعا. وإنما لم يقيد الطواف به لما يصرح به في هذا
الباب. وإنما ذكر الحلق لبيان تمام أفعال العمرة لا لأنه شرط في التمتع لأنه مخير بينه وبين
بقائه محرما بها إلى أن يدخل إحرام الحج ولا يرد عليه المتمتع الذي ساق الهدي فإنه لا يجوز
له الحلق للعمرة حتى لو حلق لها لزمه دم لأن سوق الهدي عارض منعه من التحلل على
خلاف الأصل. وفي قوله ثم يحرم بالحج دلالة على تراخي إحرامه عن أفعالها فخرج
القران، ولم يقيد الحج بأن يكون من عامه للعلم به لأن معنى التمتع الترفق بأداء النسكين في
سفرة واحدة ولا يشترط أن يكون من عام الاحرام العمرة بل من عام فعلها حتى لو أحرم
بعمرة في رمضان وأقام على إحرامه إلى شوال من العام القابل ثم طاف لعمرته من القابل ثم
حج من عامه ذلك كان متمتعا بخلاف من وجب عليه أن يتحلل من الحج بعمرة كفائت
الحج فأخر إلى قابل فتحلل بها في شوال وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا لأنه ما أتى
بأفعالها عن إحرام عمرة بل للتحلل عن إحرام الحج فلم تقع هذه الأفعال معتدا بها عن
العمرة فلم يكن متمتعا. وقوله يوم التروية بيان للجواز وإلا فالأفضل أن يكون قبله
للمسارعة إلى الخير، وقوله من الحرم بيان للميقات المكاني لأهل مكة ولم يقيد بعدم الالمام
بأهله فيما بينهما إلماما صحيحا لما يصرح به قريبا. وحاصله أنه إن ألم بينهما بأهله إلماما
صحيحا بطل تمتعه وإلا فلا، والصحيح منه أن لا يكون العود مستحقا عليه يقال ألم بأهله

636
نزل وهو يزور إلماما أي غبا. كذا في المغرب. وإنما يقطع التلبية فيها بأوله لما صححه أبو
داود عن ابن عباس أنه عليه السلام كان يمسك عن التلبية في العمرة إذا استلم الحجر. ولم
يذكر طواف القدوم لأنه ليس على المتمتع طواف قدوم كذا في المبتغي. أي لا يكون مسنونا
في حقه بخلاف القارن لأن المتمتع حين قدومه محرم بالعمرة فقط وليس لها طواف قدوم ولا
صدر، والحكمة فيه أن المعتمر متمكن من أدائها حين وصل إلى البيت، وأما الحاج فغير
متمكن من طواف الزيارة لعدم وقته فسن له طواف القدوم إلى أن يجئ وقته، والطواف ركن
معظم في العمرة فلا يتكرر في الصدر كالوقوف للحج لا يتكرر كذا في النهاية. وفي قوله
ويحج دلالة على أنه يسعى للحج ويرمل في طوافه والذي أتى به أولا إنما هو عن العمرة
فإن سعى المتمتع ورمل في طوافه بعد إحرامه بالحج لا يعيدها في طواف الزيارة لأنهما لا
يتكرران قوله: ويذبح فإن عجز فقد مر) أي في باب القران فإن حكمهما واحد قوله: (فإن
صام ثلاثة أيام من شوال فاعتمر لم يجزه عن الثلاثة) لأن سبب وجوبه التمتع وهو في هذه
الحالة غير متمتع فلا يجوز أداؤه قبل سببه قوله: (وصح لو بعد ما أحرم بها قبل أن يطوف)
أي صح صوم الثلاثة بعد ما أحرم بالعمرة قبل الطواف لأنه أداء بعد السبب لأن سببه أتمتع
بالمعنى اللغوي وهو الترفق لترتيبه على التمتع بالنص ومأخذ الاشتقاق علة للمترتب، والعمرة
في أشهر الحج هي السبب فيه لأنها التي بها يتحقق الترفق الذي كان ممنوعا في الجاهلية وهو
معنى التمتع، ولما لم يمكنه الخروج عن إحرامها بلا فعل نزل الاحرام منزلتها فلذا جاز بعد
إحرامها قبل الفراغ منها.
قيد بصوم الثلاثة لأن صوم السبعة لا يجوز إلا بعد الفراغ وإن كان السبب فيهما واحدا
لأن الله تعالى فصل بينهما فجعل الثلاثة في الحج أي في وقته والسبعة بعد الفراغ. وقيد

637
بكون الصوم في شوال أي في أشهر الحج لأن الصوم قبل أشهر الحج لا يجوز، سواء كان
بعد ما أحرم للعمرة في أشهر الحج أو لا، وقد تقدم أن الأفضل تأخير صومها إلى السابع من
ذي الحجة لرجاء القدرة على الأصل وهو الهدي قوله: (فإن أراد سوق الهدي أحرم وساق
وقلد بدنته بمزادة أو نعل ولا يشعر) بيان لافضل التمتع اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. والواو في
قوله وساق بمعنى ثم لأن الأفضل أن لا يحرم بالسوق والتوجه بل يحرم بالتلبية والنية ثم
يسوق، وأفاد بالتقليد أنه أفضل من التجليل وبالسوق أنه أفضل من القود إلا إذا كانت
لا تنساق فيقودها. والضمير في قوله أراد عائد إلى المتمتع بمعنى مريده، والمراد بالاحرام
إحرام العمرة، وقيد بالبدنة لأن الشاة لا يسن تقليدها. والاشعار في اللغة الاعلام بأن البدنة
هدي والمراد هنا أن يشق سنامها من الجانب الأيمن. كذا في شرح الأقطع. وفي الهداية
قالوا: والأشبه هو الأيسر وهو مكروه عند أبي حنيفة، حسن عندهما للاتباع الثابت في
صحيح مسلم وغيره، وأجيب لأبي حنيفة بأنه مثلة وقد نهي عنه فتعارضا فرجحنا المنع لأنه
قول وهو مقدم على الفعل أو نهي وهو مقدم على المبيح، ورد بأنه ليس منها لأنها ما يكون
تشويها كقطع الانف والأذنين فليس كل جرح مثلة ولأنه نهي عنها في أول الاسلام وفعل
الاشعار في حجة الوداع. فلو كان منها لم يفعله وبأن إشعاره عليه السلام لصيانة الهدي لأن
المشركين لا يمتنعون عن تعرضه إلا به. وقال الطحاوي: إنما كره أبو حنيفة الاشعار المحدث
الذي يفعل على وجه المبالغة ويخاف منه السراية إلى الموت لا مطلق الاشعار، واختاره في غاية
البيان وصححه وفي فتح القدير أنه الأولى قوله: (ولا يتحلل بعد عمرته) لأن سوق الهدي
يمنعه من التحلل لحديث البخاري: أني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر. وقد
قدمنا أنه لو حلق رأسه بعد الفراغ من عمرته وقد كان ساق الهدي لزمه دم، ومقتضاه أنه

638
يلزمه موجب كل جناية على الاحرام كأنه محرم. والحاصل أن لسوق الهدي تأخيرا في إثبات
الاحرام ابتداء فكان له أثر في استدامة الاحرام أيضا بل الأولى لأن البقاء أسهل. كذا في
النهاية قوله: (ويحرم بالحج يوم التروية وقبله أحب) لما ذكرناه في متمتع لا يسوق الهدي،
وإنما ذكر يوم التروية لأن الافعال بعد ذلك تتعقب الاحرام قوله: (فإذا حلق يوم النحر حل
من إحراميه) أي من إحرامي الحج والعمرة وهو تصريح ببقاء إحرام العمرة بعد الوقوف
بعرفة إلى الحلق، وأورد عليه في النهاية القارن إذا قتل صيدا بعد الوقوف بعرفة لا يلزم
قيمتان، وأجاب بأن إحرام العمرة قد انتهى بالوقوف في حق سائر الأحكام وإنما يبقى في
حق التحلل لا غير كأحكام الحج تنتهي بالحلق في يوم النحر ولا يبقى إلا في حق النساء
خاصة، واستبعده الشارح الزيلعي وهو المراد عند إطلاق الشارح في هذا الكتاب بأن القارن
إذا جامع بعد الوقوف يجب عليه بدنة للحج والعمرة شاة وبعد الحلق قبل الطواف شاتان
ا ه‍. لكن صاحب النهاية لم يجزم به إنما عزاه إلى شيخ الاسلام في مبسوطه وهو اختياره،
وأكثر عبارات الأصحاب كما قال الشارح. وفي فتح القدير: وهو الظاهر إذ قضاء الأعمال
يمنع بقاء الاحرام والوجوب إنما هو باعتبار أنه جناية على الاحرام لا على الأعمال،
والفرع المنقول في الجماع يدل على ما قلنا. وقد تناقض كلام شيخ الاسلام فإنه أوجب في

639
جماع القارن بعد الوقوف شاتين فلا يخلو من أن يكون إحرام العمرة بعد الوقوف
الجناية عليه شيئا أو لا، فإن أوجبت لزم شمل الوجوب وإلا فشمول العدم. فالحاصل أن
المذهب بقاء إحرام العمرة إلى الحلق ويحل منه في كل شئ حتى في حق النساء إذا كان
متمتعا ساق الهدي لأن المانع له من التحلل سوقه وقد زال بذبحه، وفي القارن يحل منه في
كل شئ إلا في النساء كإحرام الحج، وهذا هو الفرق بين المتمتع الذي ساق الهدي وبين
القارن وإلا فلا فرق بينهما بعد الاحرام بالحج على الصحيح كما ذكرنا. وفي المحيط: قارن
طاف لعمرته ثم حل فعليه دمان ولا يحل من عمرته بالحلق، ولو أحرم بعمرة فطاف لها ثم
أضاف حجة ثم حلق يحل من عمرته ولا شئ عليه لأنه بمنزلة من أحرم بالحجة بعد ما حلق
من العمرة قوله: (ولا تمتع ولا قران لمكي ومن حولها) لقوله تعالى * (ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام) * (البقرة: 196) بناء على عود اسم الإشارة إلى التمتع لا إلى الهدي
بقرينة وصلها باللام وهي تستعمل فيما لنا أن نفعله بخلاف الهدي فإنه علينا، فلو كان مرادا
لقيل ذلك على من لم يكن ولكونها اسم إشارة للبعيد والتمتع أبعد من الهدي. ثم ظاهر
الكتب متونا وشروحا وفتاوي أنه لا يصح منهم تمتع ولا قران لقولهم: وإذا عاد المتمتع إلى

640
أهله ولم يكن ساق الهدي بطل تمتعه. قال في غاية البيان: ولهذا قلنا لم يصح تمتع المكي
لوجود الالمام الصحيح، ومقتضاه أنه لو أحرم بعمرة في أشهر الحج وحل منها ثم أحرم بحج
فإنه لا يلزمه دم، لكن صرح في التحفة بأنه يصح تمتعهم وقرانهم فإنه نقل في غاية البيان
عنها أنهم لو تمتعوا جاز وأساؤا ويجب عليهم دم الجبر، وهكذا ذكر الأسبيجابي ثم قال: ولا
يباح لهم الاكل من ذلك الدم ولا يجزئهم الصوم إن كانوا معسرين فتعين أن يكون المراد
بالنفي في قولهم لا تمتع ولا قران لمكي نفي الحل لا نفي الصحة ولذا وجب دم جبر لو
فعلوا هو فرع الصحة، واشتراطهم عدم الالمام فيما بينهما إنما هو للتمتع المنتهض سببا
للثواب المترتب عليه وجوب دم الشكر. فالحاصل أن المكي إذا أحرم بعمرة في أشهر الحج
فإن كان من نيته الحج من عامه فإنه يكون آثما لأنه عين التمتع المنهي عنه لهم، فإن حج من
عامه لزمه دم جناية لا دم شكر، وإن لم يكن من نيته الحج من عامه ولم يحج فإنه لا يكون
آثما بالاعتمار في أشهر الحج لأنهم وغيرهم سواء في رخصة الاعتمار في أشهر الحج. وما

641
في البدائع من أن الاعتمار في أشهر الحج للمكي معصية محمول على ما إذا حج من عامه
وإذا قرن فإنه يكون آثما أيضا ويلزمه دم جناية. وفي الهداية: بخلاف المكي إذا خرج إلى
الكوفة وقرن حيث تصح لأن عمرته وحجته ميقاتيتان فصار بمنزلة الآفاقي. قال الشارحون:
قيد بالقران لأنه لو تمتع فإنه لا يصح ويلزمه دم جناية لوجود الالمام الصحيح بينهما فقد فرقوا
بين التمتع والقران فشرطوا في التمتع عدم الالمام دون القران، ومقتضى الدليل أنه لا فرق
بينهما في هذا الشرط وأن المكي يأثم إذا أحرم من الميقات بهما أو بالعمرة في أشهر الحج ثم
حج من عامة لأن التمتع المذكور في الآية يعمهما كما قدمناه وإيجابهما عدم الجناية على المكي إذ
خرج إلى الميقات وتمتع مقتضى لوجوب الدم على الآفاقي إذا تمتع وقد ألم بينهما إلماما صحيحا
ولم يصرحوا به. وإنما قالوا بطل تمتعه والمراد بمن حولها من كان داخل المواقيت فإنهم بمنزلة
أهل مكة وإن كان بينهم وبين مكة مسيرة سفر لأنهم في حكم حاضري المسجد الحرام. وفي
النهاية: وأما القران من المكي فيكره ويلزمه الرفض والعمرة له في أشهر الحج لا تكره ولكن

642
لا يدرك فضيلة التمتع لأن الالمام قطع تمتعه ا ه‍. ولم يبين المرفوض وبينه في المحيط فقال:
مكي أحرم بعمرة وحجة رفض العمرة ومضي في الحجة وعليه عمرة ودم، فإن مضي العمرة
لزمه دم لجمعه بينهما فإنه لا يجوز له الجمع، فإذا جمع فقد احتمل وزرا فارتكب محظورا فلزم
دم كفارة. ثم لا بد من رفض أحدهما خروجا عن المعصية فرفص العمرة أولى، فإن طاف
لعمرته ثلاثة أشواط ثم أحرم بالحج رفض الحج عند أبي حنيفة لأنه امتناع وهو أسهل من
الابطال، وعندهما يرفض العمرة، ولو طاف لها أربعة أشواط ثم أحرم بالحج أتمهما وعليه دم
لارتكابه المنهي عنه ا ه‍. وفيها أيضا: وذكر الإمام المحبوبي أن هذا المكي الذي خرج إلى
الكوفة وقرن إنما يبيح قرانة إذا خرج من الميقات قبل دخول أشهر الحج، فأما إذا دخل أشهر
الحج وهو بمكة ثم قدم الكوفة ثم عاد وأحرم بها من الميقات لم يكن قارنا لأنه لما دخل أشهر
الحج وهو بمكة صار ممنوعا من القران شرعا فلا يتغير ذلك بخروجه من الميقات. وتعقبه في
فتح القدير بأن الظاهر الاطلاق لأن كل من حل بمكان صار من أهله مطلقا قوله: (فإن عاد
المتمتع إلى بلده بعد العمرة ولم يسق الهدي بطل تمتعه وإن ساق لا) أي لا يبطل يعني إذا حج
من عامه لا يلزمه دم الشكر في الأول ويلزمه في الثاني، ومحمد رحمه الله تعالى أبطل التمتع

643
فيهما لأنه أداهما بسفرتين والمتمتع من يؤديهما بسفرة واحدة، وهما جعلا استحقاق العود
كعدمه فإنه بالهدى استدام إحرام العمرة إلى أن يحرم بالحج ويحل منهما. وظاهر كلامهم أن
سوق الهدي يمنعه من التحلل وأنه التزام لاحرام الحج من عامة لكن في فتح القدير أنه لو
بدا له بعد العمرة أن لا يحج من عامه لا يؤاخذ بذلك فإنه لم يحرم بالحج بعد، وإذا ذبح
الهدي أو أمر بذبحه يقع تطوعا ا ه‍. وذكر الشارح أيضا في دليل محمد لكون العود غير
مستحق عليه أنه لو بعث هديه لينحر عنه ولم يحج كان له ذلك، فقولهما إن العود مستحق
عليه بسوق الهدي معناه إذا أراد المتعة لا مطلقا. وفي المحيط: فإن ذبح الهدي ورجع إلى
أهله فله أن لا يحج لأنه لم يوجد منه في حق الحج إلا مجرد النية وبمجردها لا يلزمه الحج،
فإذا نوي أن لا يحج ارتفعت نية الحج فصار كأنه لم ينو في الابتداء، وإن أراد أن ينحر هديه
ويحل ولا يرجع إلى أهله ويحج من عامه ذلك لم يكن له ذلك لأنه مقيم على عزم التمتع
فيمنعه الهدي من الاحلال، فإن فعله ثم رجع إلى أهله ثم حج لا شئ عليه لأنه غير
متمتع. ولو حل بمكة ونحر هدية ثم حج قبل أن يرجع إلى أهله لزمه دم لتمتعه لأنه لم يلم
بأهله فيما بين النسكين وعليه دم آخر لأنه حل قبل يوم النحر ا ه‍. فالحاصل أنه إذا ساق
الهدي لا يخلوا ما أن يتركه إلى يوم النحر أو لا، فإن تركه إليه فتمتعه صحيح ولا شئ عليه
غيره، سواء عاد إلى أهله أو لا، وإن تعجل ذبحه، فأما إن رجع إلى أهله أو لا، فإن رجع
إلى أهله فلا شئ عليه مطلقا سواء حج من عامه أو لا، وإن لم يرجع إليهم فإن لم يحج من
عامه فلا شئ عليه، وإن حج منه لزمه دمان دم المتعة ودم الحل قبل أوانه. ورجح في فتح
القدير مذهب الشافعي في أن عدم الالمام بينهما ليس بشرط في التمتع فلا يبطل تمتعه بعوده
إلى أهله، سواء ساق الهدي أو لا، لأن الآية إنما منعت التمتع لمن كان حاضر المسجد الحرام
لا لأجل إلمامهم بأهلهم بينهما بل لتيسر العمرة لهم في كل وقت بخلاف الغير. قيد بقوله
بعد العمرة لأنه لو عاد بعد ما طاف لها الأقل لا يبطل تمتعه لأن العود مستحق عليه لأنه ألم
بأهله محرما بخلاف ما إذا طاف الأكثر. ودخل في قوله بعد العمرة الحلق فلا بد للبطلان
منه لأنه من واجباتها وبه التحلل، فلو عاد بعد طوافها قبل الحلق ثم حج من عامه قبل أن
يحلق في أهله فهو متمتع لأن العود مستحق عليه عند من جعل الحرم شرط جواز الحلق وهو
أبو حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف إن لم يكن مستحقا فهو مستحب. كذا في البدائع وغيره
قوله: (ومن طاف أقل أشواط العمرة قبل أشهر الحج وأتمها فيها كان متمتعا وبعكسه لا) أي
لو طاف أكثر أشواطها قبلها وأتمها فيها لا يكون متمتعا لأن للأكثر حكم الكل. قال الإمام

644
ألا قطع: فصار ذلك أصلا في أن كل ما يتعلق بالاحرام من الافعال فحكم أكثره حكم جميعه
في باب الجواز ومنع ورود الفساد عليه. وأشار إلى أنه لا يشترط وجود إحرامها في أشهر
الحج لأن المعتبر إنما هو الطواف. وفي المحيط: ولو طاف كله في رمضان جنب أو محدث
ثم أعاده في شوال لم يكن متمتعا لأن طواف المحدث لا يرتفض بالإعادة فلم تقع العمرة
والحج في أشهر الحج، وكذلك طواف الجنب على رواية الكرخي فكان الفرض هو الأول ولم
يوجد في أشهر الحج، وعلى قول غيره يرتفع الأول بالإعادة لكن تعلق بهذا الطواف في
رمضان المنع عن العمرة لهذا السفر بدليل أنه لو أتم هذه العمرة ثم ابتدأ إحرام العمرة في
أشهر الحج ثم اعتمر عمرة جديدة وحج من عامة لم يكن متمتعا فلا يرتفض هذا الطواف
الأول بالإعادة بخلاف طواف الزيارة لأنه لا يتعلق به منع عن شئ حتى ينتقض بالإعادة
ا ه‍. وعلم من هذا أن الاعتمار في سنة قبل أشهر الحج مانع من التمتع في سننه، سواء أتى
بعمرة أخرى في أشهر الحج أو لا. وإنما اختصت المتعة بأفعال العمرة في أشهر الحج لأن
أشهر الحج كان متعينا للحج قبل الاسلام فأدخل الله العمرة فيها إسقاطا للسفر الجديد عن
الغرباء فكان اجتماعهما في وقت واحد في سفر واحد رخصة وتمتعا. وفي فتح القدير:
وهل يشترط في القران أيضا أن يفعل أكثر أشواط العمرة في أشهر الحج؟ ذكر في المحيط أنه

645
لا يشترط وكأنه مستند في ذلك إلى ما قدمناه عن محمد وقدمنا جوابه في باب القران قوله:
(وهي شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة) أي أشهر الحج المرادة في قوله تعالى * (الحج أشهر
معلومات) * (البقرة: 197) وهو مروي عن العباد له الثلاثة، ورواه البخاري في صحيحه عن
ابن عمر، فالمراد حينئذ من الجمع شهران وبعض الثالث، وذكر في الكشاف: فإن قلت
فكيف كان الشهران وبعض الثالث أشهرا؟ قلت: اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد
بدليل قوله تعالى * (فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 4) فلا سؤال فيه إذن، وإنما يكون
موضعا للسؤال لو قيل ثلاثة أشهر معلومات ا ه‍. وما في غاية البيان من أنه عام مخصوص
ففيه نظر لأن أخص الخصوص في العام إذا كان جمعا ثلاثة لا يجوز التخصيص بعده فالأولى
ما ذكره في الكشاف. وفائدة التوقيت بهذه الأشهر أن شيئا من أفعال الحج لا يجوز إلا فيها
حتى إذا صام المتمتع أو القارن ثلاثة أيام قبل أشهر الحج لا يجوز، وكذا السعي بين الصفا
والمروة عقب طواف القدوم لا يجوز إلا في أشهر الحج، وأنه لا يكره الاحرام بالحج فيه مع
أنه يكره الاحرام بالحج في غير أشهر الحج، وأنه لو أحرم بعمرة يوم النحر فأتي بأفعالها ثم
أحرم من يومه ذلك بالحج وبقي محرما إلى قابل فحج كان متمتعا. قال في فتح القدير: وهذ
يعكر على ما تقدم، ويوجب أن يضع مكان قولهم وحج من عامة ذلك في تصوير التمتع
وأحرم بالحج من عامة ذلك ا ه‍. وسيأتي في باب إضافة الاحرام إلى الاحرام أنه لو أحرم
بعمرة يوم النحر وجب عليه الرفض والتحلل لارتكابه النهي فينبغي أن لا يكون متمتعا لأنه
مكي وعمرته وحجته مكية والتمتع من عمرته ميقاتية وحجته مكية. والقعدة بالكسر والفتح

646
ولم يسمع في الحجة إلا الكسر قوله: (وصح الاحرام به قبلها وكره) أي صح الاحرام بالحج
قبل أشهر الحج مع الكراهة بناء على أنه شرط وليس بركن لعدم اتصال الافعال به فجاز
تقديمه على الزمان كالتقديم على المكان وكالطهارة للصلاة بخلاف تحريمتها فإنه لا يجوز
تقديمها على الوقت وإن كانت شرطا عندنا لما أن الافعال متصلة بها لقوله تعالى * (وذكر اسم
ربه فصلى) * (الاعلى: 15) لأن الفاء للوصل والتعقيب بلا تراخ. وإنما كره للطول المفضي
إلى الوقوع في محظوره أو على أنه شرط شبيه بالركن، ولذا إذا أعتق العبد بعد ما أحرم لا
يتمكن عن أن يخرج عن ذلك الاحرام للفرض فالصحة للشرط والكراهة للشبه، وأطلقوا
الكراهة فهي تحريمية لأنها المرادة عند إطلاقهم لها قوله: (ولو اعتمر كوفي فيها وأقام بمكة
أو بصرة وحج صح تمتعه) أراد بالكوفي الآفاقي الذي يشرع له التمتع والقران كما أن المراد
بالبصرة مكان لأهل التمتع والقران، سواء كان البصرة أو غيرها. أما إذا أقام بمكة أو
خارجها داخل المواقيت فلان عمرته آفاقية وحجته مكية فلذا كان متمتعا اتفاقا، وأما إذا خرج
إلى مكان لأهله التمتع وليس وطنه فلان السفرة الأولى قائمة ما لم يعد إلى وطنه وقد اجتمع له
نسكان فيها فوجب دم التمتع. ثم اختلف الطحاوي والجصاص فنقل الطحاوي أن هذا قول الإمام
وأن قول صاحبيه بطلان التمتع لما أن نسكه هذان ميقاتيان ولا بد فيه أن تكون حجته
مكية، ونقل الجصاص أنه متمتع اتفاقا. قال فخر الاسلام: إنه الصواب. وقوى الأول
الشارح. وأطلق في إقامة مكة أو بصرة فشمل ما إذا اتخذهما دارا أولا كما صرح به
الأسبيجابي والكيساني، فما في الهداية من التقييد باتخاذهما دارا اتفاقي. وقيد بكونه اعتمر في

647
أشهر الحج إذ لو اعتمر قبلها لا يكون متمتعا اتفاقا، وقيد بالكوفي لأن المكي لا تمتع له
اتفاقا، وقيد بكونه رجع إلى غير وطنه لأنه لو رجع إلى وطنه بطل تمتعه اتفاقا إذا لم يكن ساق
الهدي، وعبارة المجمع وخرج إلى البصرة أولى من التعبير بالإقامة بها لأن الحكم عند الإمام لا
يختلف بين أن يقيم بها خمسة عشر يوما أو لا، والأول محل الخلاف وفي الثاني يكون متمتعا
اتفاقا. كذا في المصفي قوله: (ولو أفسدها فأقام بمكة وقضي وحج لا إلا أن يعود إلى أهله) أ
لو أفسد الكوفي عمرته فأقام بمكة وقضي العمرة من عامه لا يكون متمتعا إلا أن يرجع إلى
وطنه بعد الخروج عن إحرام الفاسدة ثم يعود محرما من الميقات بعمرة ثم يحج من عامه فإنه
يكون متمتعا، أما الأول فلان سفره انتهى بالفساد فلما قضاها صار ت عمرته مكية ولا تمتع
لأهل مكة، وأما الثاني فلان عمرته ميقاتية وحجته مكية فصار متمتعا ولا يضره كون العمرة
قضاء عما أفسده إن كان قضاء. وفي قوله إلا أن يعود إلى أهله دلالة على أن المراد بالإقامة
بمكة الإقامة بمكان غير وطنه سواء كان مكة أو غيرها ولا خلاف فيما إذا أقام بمكة وأما
إذا أقام بغيرها فهو مذهب الإمام يكون متمتعا لأنه إنشاء سفر فهو كالعود إلى وطنه،
وله أن سفره الأول باق ما لم يعد إلى وطنه وقد انتهى بالفاسد، وهذه المسألة أيدت نقل
الطحاوي، وقيده في المبسوط بأن يجاوز المواقيت في أشهر الحج، أما إذا جاوزها قبلها ثم أهل
بعمرة فيها كان متمتعا عند الإمام أيضا لأنه بمجاوزة الميقات صار في حكم من لم يدخل مكة إن
كان في أشهر الحج فلانه لما دخلت وهو داخل المواقيت حرم عليه التمتع كما هو حرام على أهل
مكة فلا تنقطع هذه الحرمة بخروجه من المواقيت بعد ذلك كالمكي قوله: (وأيهما أفسد مضي فيه
ولا دم عليه) يعني الكوفي إذا قدم بعمرة ثم حج من عامه ذلك فأي النسكين أفسده مضي فيه
لأنه لا يمكنه الخروج عن عهدة الاحرام إلا بالافعال، ولا يجب عليه دم التمتع لأنه لم ينتفع
بأداء نسكين صحيحين في سفر واحد وهو السبب فوجوبه، وهذا هو المراد بنفي الدم في
عبارته وإلا فمن أفسد حجه لزمه دم قوله: (ولو تمتع وضحى لم يجزه عن المتعة) لأنه أتى بغير
الواجب لأن الواجب دم التمتع، وأما الأضحية فليست بواجبة عليه لأنه مسافر. أطلقه فشمل
الرجل والمرأة، وإنما وضع محمد المسألة في المرأة إما لأنها واقعة امرأة، وإما لأن هذا إنما يشتبه
على المرأة لأن الجهل فيها أغلب فإذا لم يجز عن المتعة، فإن كان تحلل بناء على جهله لزمه دمان دم

648
التمتع ودم التحلل قبل أوانه وإلا فدم التمتع. وقد استفيد من هذا أن دم التمتع يحتاج إلى النية،
وقد يقال إنه ليس فوق طواف الركن ولا مثله وقد قدمنا أنه لو نوي به التطوع أجزأه عن الركن
فينبغي أن يكون الدم كذلك بل أولى قوله: (ولو حاضت عند الاحرام أتت بغير الطواف) لقوله
عليه السلام لعائشة حين حاضت بسرف افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى
تطهري (1) فأفاد أن طوافها حرام وهو من وجهين: دخولها المسجد وترك واجب الطهارة، فإن
الطهارة واجبة في الطواف فلا يحل لها أن تطوف حتى تطهر، فإن طافت كانت عاصية مستحقة
لعقاب الله ولزمها الإعادة، فإن لم تعد كان عليها بدنة وتم حجها قوله: (ولو عند الصدر تركته
كمن أقام بمكة) يعني ولا شئ عليها لأنه واجب يسقط بالعذر والحيض والنفاس عذر، وكذا
إذا أخرت طواف الزيارة إلى وقت طهرها فإنه لا يجب عليها شئ للعذر وقد قدمنا ذلك كله
في طواف الصدر. وأطلق في سقوطه عمن أقام بمكة فشمل ما إذا أقام بعد ما حل النفر الأول أو
لا وفيه اختلاف، وقد قدمناه هناك والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله باب الجنايات

649
/ 1