بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: البحر الرائق المؤلف: ابن نجيم المصري الجزء: 5 الوفاة: 970 المجموعة: فقه المذهب الحنفي تحقيق: ضبطه وخرج آياته وأحاديثه: الشيخ زكريا عميرات الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1418 - 1997 م المطبعة: الناشر: منشورات محمد علي بيضون - دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان ردمك: ملاحظات: البحر الرائق شرح كنز الدقائق (في فروع الحنفية) للشيخ الإمام أبي البركات عبد الله بن أحمد بن محمود المعروف بحافظ الدين النسفي المتوفى سنة 710 ه والشرح " البحر الرائق " للإمام العلامة الشيخ زين الدين بن إبراهيم بن محمد المعروف بابن نجم المصري الحنفي المتوفى سنة 970 ه ومعه الحواشي المسماة منحة الخالق على البحر الرائق للعلامة الشيخ محمد أمين عابدين بن عمر عابدين بن عبد العزيز المعروف بابن عابدين الدمشقي الحنفي المتوفى سنة 1252 ه ضبطه وخرج آياته وأحاديثه الشيخ زكريا عميرات تنبيه وضعنا متن كنز الدقائق في أعلى الصفحات، ووضعنا أسفل منه مباشرة نص " البحر الرائق " ووضعنا في أسفل الصفحات حواشي الشيخ ابن عابدين الجزء الخامس منشورات محمد على بيضون دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
1 بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الحدود الحد عقوبة مقدرة لله تعالى والزنا وطء في قبل خال عن ملك وشبهته ويثبت كتاب الحدود لما كانت اليمين للمنع في أحد نوعيها ناسب أن يذكر الحدود عقيبها لأن الحد في اللغة المنع ومنه سمي البواب حدادا لمنعه الناس عن الدخول، والسجان حدادا لمنعه عن الخروج، وحدود الديار نهاياتها لمنعها عن دخول ملك الغير فيها وخروج بعضها إليه، وسمي اللفظ الجامع المانع حدا لأنه يجمع معنى الشئ ويمنع دخول غيره فيه، وسميت العقوبات الخالصة حدودا لأنها موانع من ارتكاب أسبابها معاودة، وحدود الله محارمه لأنها ممنوع عنها ومنه * (تلك حدود الله فلا تقربوها) * (البقرة: 187) وحدود الله أيضا أحكامه لأنها تمنع من التخطي إلى ما وراءها ومنه حدود الله فلا تعتدوها ولان كفارة اليمين دائرة بين العقوبة والعبادة فناسب أن يذكر العقوبات المحضة بعدها. قوله: (الحد عقوبة مقدر لله تعالى) بيان لمعناه شرعا فخرج التعزير لعدم التقدير ولا ينافيه قولهم إن أقله ثلاثة وأكثره تسعة وثلاثون سوطا لأن ما بين الأقل والأكثر ليس بمقدر، ولأنه يكون بغير الضرب. وخرج القصاص لأنه حق العبد فلا يسمى حدا اصطلاحا على المشهور، وقيل يسمى به فهو العقوبة المقدرة شرعا فهو على هذا قسمان: قسم يصح فيه العفو وهو القصاص، وقسم لا يصح فيه وهو ما عداه. وعلى الأول المشهور الحد لا يقبل الاسقاط مطلقا بعد ثبوت سببه عند الحاكم، وعلى هذا يبنى عدم جواز الشفاعة فيه فإنها
3 طلب ترك الواجب ولذا أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسامة بن زيد حين شفع في المخزومية التي سرقت فقال: أتشفع في حد من حدود الله تعالى؟ وأما قبل الوصول إلى الإمام والثبوت عنده تجوز الشفاعة عند الرافع له إلى الحاكم ليطلقه لأن الحد لم يثبت، كذا في فتح القدير. والتحقيق أن الحدود موانع قبل الفعل زواجر بعده أي العلم بشرعيتها يمنع الاقدام على الفعل وإيقاعه بعده يمنع من العود إليه فهي من حقوق الله تعالى لأنها شرعت لمصلحة تعود إلى كافة الناس فكان حكمها الأصلي الانزجار عما يتضرر به العباد وصيانة دار الاسلام عن الفساد، ففي حد الزنا صيانة الأنساب، وفي حد السرقة صيانة الأموال، وفي حد الشرب صيانة العقول، وفي حد القذف صيانة الاعراض فالحدود أربعة، وما في البدائع من أنها خمسة وجعل الخامس حد السكر فلا حاجة إليه لأن حد السكر هو حد الشرب كمية وكيفية وإن اختلف السبب. واختلف العلماء رحمهم الله في أن الطهرة من الذنب من أحكامه من غير توبة فذهب كثير من العلماء إلى ذلك، وذهب أصحابنا إلى أنها ليست من أحكامه فإذا أقيم عليه الحد ولم يتب لم يسقط عنه إثم تلك المعصية عندنا عملا بآية قطاع الطريق فإنه قال تعالى * (ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم إلا الذين تابوا) * (المائدة: 34) فإن اسم الإشارة يعود إلى التقتيل أو التصليب أو النفي فقد جمع الله تعالى بين عذاب الدنيا والآخرة عليهم وأسقط عذاب الآخرة بالتوبة فإن الاستثناء عائد إليه للاجماع على أن التوبة لا تسقط الحد في الدنيا، وأما ما رواه البخاري وغيره مرفوعا أن من أصاب من هذه المعاصي شيئا فعوقب به في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عاقبة (1) فيجب حمله على ما إذا تاب في العقوبة لأنه هو الظاهر لأن الظاهر أن ضربه أو رجمه يكون معه توبة منه لذوقه سبب فعله فتقيد به جمعا بين الأدلة، وتقيد الظني مع معارضة القطعي له متعين بخلاف العكس، كذا في فتح القدير. وقد يقال: إذا كان الاستثناء في الآية عائدا إلى عذاب الآخرة لم يبق لقوله تعالى * (من قبل أن تقدروا
4 عليهم) * (المائدة: 34) فائدة لأن التوبة ترفع الذنب قبل الاخذ والقدرة عليهم وبعدها، فالظاهر أنه راجع إلى عذاب الدنيا لما سيأتي أن حد قطاع الطريق يسقط بالتوبة قبل القدرة عليهم وإنما يبقى حق العباد عليهم من القصاص إن قتلوا، والقطع إن أخذوا المال فصح العفو عنهم بخلافها بعد القدرة فإنها لا تسقط حق الله تعالى حتى لا يصح عفو أولياء المقتولين. واستدل الزيلعي على عدم كونه مطهرا من الذنب بأنه يقام على الكافر ولا مطهر له اتفاقا، وزاد بعضهم: ويقام على كره ممن أقيم عليه الحد. والثاني ليس بشئ لجواز التكفير بما يصيب الانسان من المكاره وإن لم يصبر كما نص عليه الإمام الشافعي. والحاصل أن الواجب على العاصي في نفس الامر التوبة فيما بينه وبين الله تعالى والإنابة، ثم إذا اتصل بالإمام ثبوته وجب إقامة الحد على الإمام ولا يمتنع من إقامته بسبب التوبة. وفي الظهيرية: رجل أتى بفاحشة ثم تاب وأناب إلى الله تعالى فإنه لا يعلم القاضي بفاحشته لإقامة الحد عليه لأن الستر مندوب إليه ا ه. قوله: (والزنا وطئ في قبل حال عن الملك وشبهته) بيان لمعناه الشرعي واللغوي فإنهما واء فيه. وخرج الوطئ في الدبر، وخرج وطئ زوجته وأمته ومن له فيها شبهة ملك، ودخل وطئ الأب جارية ابنه فإنه زنا شرعي بدليل أنه لا يحد قاذفه بالزنا وإن لم يجب الحد عليه والمراد وطئ الرجل فخرج الصبي لكن يرد عليه المرأة فإن فعلها ليس وطئا، وإنما هو تمكين منه، والجواب أن تسميتها زانية مجاز والكلام في الحقيقة. ولم يقصد المصنف تعريف
5 الزنا الموجب للحد كما توهمه الزيلعي فإنه لو كان كذلك لانتقض التعريف طردا وعكسا. أما انتقاضه طردا فإنه يوجد في المجنون والمكره وفي وطئ الصبية التي لا تشتهي والميتة والبهيمة وفي دار الحرب ولا يجب الحد في هذه المواضع وهو زنا شرعي، وأما انتقاضه عكسا فبزنا المرأة فإن الحد انتفى ولم ينتف المحدود وهو الزنا الموجب للحد، فالزنا الموجب للحد هو وطئ مكلف طائع مشتهاة حالا أو ماضيا في القبل بلا شبهة ملك في دار الاسلام أو تمكينه من ذلك أو تمكينها ليصدق على ما لو كان مستلقيا فقعدت على ذكره فتركها حتى أدخلته فإنهما يحدان في هذه الصورة وليس الموجود منه سوى التمكين. والوطئ هو إدخال قدر الحشفة من الذكر في القبل أو الدبر. وبهذا عرف أن تعريف الزيلعي الزنا الموجب للحد بأنه وطئ مكلف في قبل المشتهاة عار عن ملكه وشبهته عن طوع ليس بتام وإن قال إنه أتم كما لا يخفى. وزاد في المحيط أن من شرائطه العلم بالتحريم حتى لو لم يعلم بالحرمة لم يجب الحد للشبهة، وأصله ما روي سعيد بن المسيب أن رجلا زنى باليمن فكتب في ذلك عمر رضي الله عنه إن كان يعلم أن الله تعالى قد حرم الزنا فاجلدوه، وإن كان لا يعلم فعلموه، فإن عاد فاجلدوه. ولان الحكم في الشرعيات لا يثبت إلا بعد العلم فإن كان الشيوع والاستفاضة في دار الاسلام أقيم مقام العلم ولكن لا أقل من إيراث شبهة لعدم التبليغ ا ه. وبه علم أن الكون في دار الاسلام لا يقوم مقام العلم في وجوب الحد كما هو قائم مقامه في الأحكام كلها. وتعقبه في فتح القدير بأن الزنا حرام في جميع الأديان والملل فالحربي إذا
6 دخل دار الاسلام فأسلم فزنى وقال ظننت أنه حلال يحد ولا يلتفت إليه وإن كان فعله أول يوم دخوله فكيف يقال إذا ادعى مسلم أصلي أنه لا يعلم حرمة الزنا أنه لا يحد لانتفاء شرط الحد، ولو أنه أراد أن المعنى أن شرط الحد في نفس الامر علمه بالحرمة في نفس الامر فإذا لم يكن عالما لا حد عليه كان قليل الجدوى أو غير صحيح لأن الشرع لما أوجب على الإمام أن يحد هذا الرجل الذي ثبت زناه عنده عرف ثبوت الوجوب في نفس الامر لأنه لا معنى لكونه واجبا في نفس الامر لأنه يكفيه فيما بينه وبين الله تعالى التوبة والإنابة، ثم إذا اتصل بالإمام ثبوته وجب على الإمام إقامة الحد ا ه. وهو مقصور في اللغة الفصحى لغة أهل الحجاز التي جاء بها القرآن ويمد في لغة نجد، والمراد بالملك هنا الأعم من ملك العين ومن ملك حقيقة الاستمتاع، ودخل تحت شبهة الملك حق الملك وشبهة النكاح وشبهة الاشتباه وقد فصلها في البدائع فقال: العاري عن حقيقة الملك وعن شبهته وعن حق الملك وعن حقيقة النكاح وشبهته وعن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه في الملك والنكاح جميعا ا ه. وفي الظهيرية: والذي يجن ويفيق إذا زنا في حال إفاقته أخذ بالحد، وإن قال زنيت في حال جنوني لا يحد كالبالغ إذا قال زنيت في حال الصبا. قوله: (ويثبت بشهادة أربعة بالزنا لا بالوطئ والجماع) أي يثبت الزنا عند الحاكم ظاهرا بشهادة أربعة من الرجال يشهدون بلفظ الزنا لا بلفظ الوطئ والجماع لقوله تعالى * (فاستشهدوا عليهن أربعة منكم) * (النساء: 15) وقال تعالى * (ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * (النور: 4) وقال
7 عليه السلام للذي قذف امرأته: ائت بأربعة يشهدون على صدق مقالتك. ولان في اشتراط الأربع تحقيق معنى الستر وهو مندوب إليه بقوله عليه السلام من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة (1) والإشاعة ضده. فعلى هذا فالشهادة بالزنا خلاف الأولى التي مرجعها إلى كراهة التنزيه لأنها في رتبة الندب في جانب الفعل وكراهته التنزيه في جانب الترك، ويجب أن يكون بالنسبة إلى من لم يعتد بالزنا ولم يتهتك به، أما إذا وصل الحال إلى إشاعته والتهتك به بل بعضهم ربما افتخر به فيجب كون الشهادة أولى من تركها لأن مطلوب الشارع إخلاء الأرض عن المعاصي والفواحش وذلك يتحقق بالتوبة من الغافلين وبالزجر لهم، فإذا أظهر حال الشره في الزنا مثلا والشرب وعدم مبالاته فإخلاء الأرض حينئذ بالحدود، وعلى هذا ذكره في غير مجلس القاضي. وأداء الشهادة بمنزلة الغيبة فيه يحرم منه ما يحرم منها ويحل منه ما يحل منها وسيأتي في الشهادات أنه لا بد من الذكورة في الشهود لادخال التاء في العدد في المنصوص. وأطلقهم فشمل ما إذا كان الزوج أحدهم خلافا للشافعي، هو يقول هو متهم، ونحن نقول التهمة ما توجب جر نفع والزوج مدخل على نفسه بهذه الشهادة لحوق العار وخلو الفراش خصوصا إذا كان له منها أولاد. وقيده في الظهيرية بأن لا يكون الزوج قذفها فلو كان قد قذفها وشهدا بالزنا ومعه ثلاثة حد الثلاثة للقذف وعلى الزوج اللعان لأن شهادة الزوج لم تقبل لمكان التهمة لأنه بشهادته يسعى في دفع اللعان عن نفسه اه. فعلى هذا لو قال بعض الشهود إن فلانا فد زنى أو قال له زنيت ثم جاء وشهد عند القاضي لا تقبل شهادته لما ذكر في الزوج. وفي المحيط: ولو شهدوا على المرأة أحدهم زوجها بالزنا بابن زوجها مطاوعة لا تجوز شهادة الزوج، دخل بها أو لم يدخل، لوجود التهمة لأنه ربما يريد إسقاط المهر قبل الدخول وإسقاط النفقة بعد الدخول ويحد الثلاثة ولا يحد الزوج اه. ولا بد من اتحاد المجلس لصحة الشهادة حتى لو شهدوا متفرقين لا تقبل شهادتهم لقول عمر رضي الله عنه: لو جاؤوا مثل ربيعة ومضر فرادي لجلدتهم. وفي الظهيرية: لو جاؤوا متفرقين يحدون حد القذف ولو جاؤوا فرادى وقعدوا مقعد الشهود وقام إلى القاضي واحد بعد واحد قبلت شهادتهم وإن كان خارج المسجد حدوا جميعا ا ه. وإنما اشترط لفظ الزنا لأنه هو الدال على فعل الحرام لا لفظ الوطئ والجماع، وظاهر كلام المصنف أنه لا يقوم لفظ
8 مقام لفظ الزنا فلو شهدوا أنه وطئها وطئا محرما لا يثبت به. وأشار بقوله بالزنا إلى أنه لو شهد رجلان أنه زنى وآخران أنه أقر بالزنا فإنه لا يحد. قال في الظهيرية: ولا تحد الشهود أيضا، وإن شهد ثلاثة بالزنا وشهد الرابع على الاقرار بالزنا فعلى الثلاثة الحد اه. لأن شهادة الواحد على الاقرار لا تعتبر فبقي كلام الثلاثة قذفا. قوله: (فسألهم الإمام عن ماهيته وكيفيته ومكانه وزمانه والمزنية) أي سأل الحاكم الشهود عن ماهيته أي ذاته وهو إدخال الفرج في الفرج لاحتمال أنهم عنوا غير الفعل في الفرج كما قال عليه السلام العينان تزنيان وزناهما النظر (1) الحديث. ومن الناس من يظن كل وطئ حرام زنا يوجب الحد، وظاهر كلامهم أنه ليس المراد بالماهية الحقيقة الشرعية كما بيناه والكيفية هي الطواعية والكراهية وعن المكان لاحتمال أنه زنا في دار الحرب فلا حد عليه، وعن الزمان لجواز تقادم العهد ولجواز أنه زنا في زمن صباه، وعن المزنية لجواز أن تكون جارية ابنه أو أمة مكاتبه فليستقص القاضي في ذلك احتيالا لدرء الحد. وفي فتح القدير: وقياسه في الشهادة على زنا امرأة أن يسألهم عن الزاني بها من هو فإن فيه أيضا الاحتمال المذكور وزيادة وهو جواز كونه صبيا أو مجنونا بأن مكنت أحدهما فإنه لا حد عليها عند الإمام اه. وأشار المصنف إلى أنه لو سألهم فلم يزيدوا على قولهم أنهم زنيا فلا حد على والمشهود عليه قالوا: لا على الشهود لأنهم شهدوا بالزنا ولم يثبت قذفهم لأنهم لم يذكروا ما ينفي كون ما ذكروه زنا ليظهر قذفهم بخلاف ما لو وصفوه بغير صفته فإنهم يحدون ولو بين ثلاثة ولم يزاد واحد على الزنا لا يحد، وما وقع في أصل المبسوط من أن الرابع لو قال أشهد أنه زان فسئل عن صفته ولم يصفه أنه يحد يحمل على أنه قاله للقاضي في مجلس غير المجلس الذي شهد فيه الثلاثة، كذا في فتح القدير. وإلى أنهم لو شهدوا بأنه زنى بامرأة لا يعرفونها لا يحد. قال في المحيط: لا يحد وإن قال ليست بامرأتي، وإن أقر أنه زنى بامرأة لا يعرفها يحد لأنه غير متهم في الاقرار على نفسه لأنه عارف بحاله بخلاف الشاهد لأنه متهم اه. وفي الخانية: شهدوا أنه زنى بامرأة لا يعرفونها ثم قالوا بفلانة لا يحد الرجل ولا الشهود اه. قوله: (فإن بينوه وقالوا رأيناه وطئها كالميل في المكحلة وعدلوا سرا وجهرا حكم به) لظهور الحق ووجوب الحكم به على القاضي. والمكحلة بضم الميم والحاء. وقولهم وطئها كالميل في المكحلة راجع إلى بيان الكيفية وهو زيادة بيان احتيالا للدرء وإلا السؤال عن ماهيته كاف مع أن ظاهر كلامهم أن الحكم موقوف على بيانه. ولم يكتف هنا بظاهر العدالة اتفاقا بأن يقال هو مسلم ليس بظاهر الفسق احتيالا للدرء بخلاف سائر الحقوق عند الإمام وسيأتي بيان التعديل سرا وعلانية إن شاء الله تعالى. وحاصل التعديل سرا أن يبعث القاضي ورقة فيها أسماؤهم
9 وأسماء محلتهم على وجه يتميز كل منهم لمن يعرفه فيكتب تحت اسمه هو عدل مقبول الشهادة. وحاصل التعديل علانية أن يجمع القاضي بين المزكي والشاهد فيقول هذا هو الذي زكيته. وفي فتح القدير: واعلم أن القاضي لو كان يعلم عدالة الشهود لا يجب عليه السؤال عن عدالتهم لأن علمه يغنيه عن ذلك وهو أقوى من الحاصل له من تعديل المزكي، ولولا ما ثبت من إهدار الشرع علمه بالزنا في إقامة الحد بالسمع الذي ذكرناه لكان يحده بعلمه لكن ثبت ذلك هناك ولم يثبت هنا قالوا: ويحبسه هنا حتى يسأل عن الشهود كيلا يهرب ولا وجه لاخذ الكفيل منه لأن أخذ الكفيل نوع احتياط فلا يكون مشروعا فيما ينبني على الدرء وليس حبسه للاحتياط بل للتهمة بطريق التعزير بخلاف الديون لا يحبس فيها قبل ظهور العدالة لأن الحبس أقصى عقوبة فيها فلا يجوز أن يفعله قبل الثبوت بخلاف الحدود فإنه فيها عقوبة أخرى أغلظ منه. قوله: (وبإقراره أربعا في مجالسه الأربعة كلما أقر رده) معطوف على بالبينة أي يثبت الزنا بإقراره. وقدم الثبوت بالبينة عليه لأنه المذكور في القرآن ولان الثابت بها أقوى حتى لا يندف الحد بالفرار ولا بالتقادم، ولأنها حجة متعدية والاقرار قاصر وللاقرار شرطان: أحدهما أن يكون صريحا فلو أقر الأخرس بالزنا بكتابة أو إشارة لا يحد للشبهة لعدم الصراحة، وكذا الشهادة على الأخرس لا تقبل لاحتمال أنه يدعي شبهة كما لو شهدوا على مجنون أنه زنى في حال إفاقته بخلاف الأعمى فإنه يصح إقراره والشهادة عليه، وكذا الخصي والعنين. وعلى هذا فيزاد في تعريف الزنا الموجب للحد بعد قوله مكلف ناطق لما علمت أن الأخرس لا حد عليه لا بإقراره ولا ببينة. الثاني أن لا يظهر كذبه في إقراره فلو أقر فظهر مجبوبا أو أقرت فظهرت رتقاء وذلك بأن تخبر النساء بأنها رتقاء قبل الحد وذلك لأن إخبارهن بالرتق يوجب شبهة في شهادة الشهود وبالشبهة يندرئ الحد. ولو أقر أنه زنى بخرساء أو هي أقرت بأخرس لا حد على واحد منهما، كذا في فتح القدير. ولا بد أن يكون إقراره في حالة
10 الصحو لما في المحيط: السكران إذا سرق أو زنى في حال سكره يحد ولو أقر بالزنا أو بالسرق لا يحد لأن الانشاء لا يحتمل الكذب والاقرار يحتمل الكذب فاعتبر هذا الاحتمال في حال سكره في الاقرار بالحد لا غير اه. ولا بد من أن لا يكذبه الآخر فإن أقر الرجل بالزنا بفلانة فكذبته درئ الحد عن الرجل، سواء قالت إنه تزوجني أو لا أعرفه أصلا، ويقضي بالمهر عليه إن ادعته المرأة، وإن أقرت المرأة بالزنا بفلان وكذبها الرجل فلا حد عليها أيضا عند الإمام خلافا لهما في المسألتين، كذا في الظهيرية. وفي المحيط: أصله أن الحد متى لم يجب على المرأة أصلا أو تعذر استيفاؤه عليها لا يجب على الرجل بالاجماع، ومتى لم يجب على الرجل أصلا لم يجب على المرأة بالاجماع وإن انعقد فعله موجبا للحد لكن بطل الحد عنه لمعنى عارض لا يمنع الوجوب على المرأة عنده خلافا لهما اه. ولم يشترط المصنف بلوغ المقر وعقله كما في الهداية لأنهما شرط الكل تكليف وليس من شرطه الحرية فصح إقرار العبد بالزنا أو بغيره مما يوجب الحد وإن كان مولاه غائبا، وكذا القطع والقصاص، وفرق أبو حنيفة ومحمد بين حجة البينة وحجة الاقرار. ولو قال العبد بعد ما أعتق زنيت وأنا عبد لزمه حد العبيد، كذا في الظهيرية. وإنما شرطنا تكرار الاقرار أربعا لحديث ما عز أنه عليه السلام أخر إقامة الحد عليه إلى أن تم إقراره أربع مرات في أربع مجالس فلهذا قلنا لا بد من اختلاف المجالس لأن لاتحاده أثرا في جمع المتفرقات فعنده يتحقق شبهة الاتحاد فيه والعبرة لمجلس المقر لأنه قائم به دون مجلس القاضي. وفسر محمد المجالس المتفرقة أن يذهب المقر بحيث يتوارى عن بصر القاضي وينبغي للإمام أن يزجره عن الاقرار ويظهر له الكراهية من ذلك ويأمر بإبعاده عن مجلسه في كل مرة لأنه عليه السلام فعل كذلك. وفي الظهيرية: ولو أقر كل يوم
11 مرة أو كل شهر مرة فإنه يحد اه. وأشار المصنف باقتصاره على البينة والاقرار إلى أن الزنا لا يثبت بعلم القاضي وكذلك سائر الحدود الخالصة، كذا في الذخيرة. وإلى أن الاقرار والشهادة لا يجتمعان فلذا قال في الظهيرية والذخيرة: أربعة فسقة شهدوا على رجل بالزنا وأقر هو مرة واحدة لا يحد. ولو كان الشهود عدولا. ذكر شمس الأئمة السرخسي أنه يحد وذكر غيره من المشايخ أن على قول محمد يحد وعلى قول أبي يوسف لا يحد اه. قوله: (وسأله كما مر فإن بينه حد) أي سأل الحاكم المقر عن الأشياء الخمسة المتقدمة للاحتمالات المذكورة فإن بين المسؤول عنه وجب الحد، وظاهر كلامه أنه يسأله عن الزمان والمزني بها وهذا هو الأصح لاحتمال أنه زنى في صباه أو زنى بجارية ابنه وهو لا يعلمها. وليس فائدة السؤال عن الزمان منحصرة في احتمال التقادم وهو مضر في الشهادة دون الاقرار لأن له فائدة أخرى وهو احتمال وجوده في زمن الصبا. ولو سئل عن المزني بها فقال لا أعرفها قدمنا أنه يحد، وكذا إذا أقر بالزنا بفلانة وهي غائبة فإنه يحد استحسانا بخلاف ما إذا كذبته لما قدمناه. وأشار بسؤال الإمام إلى أنه لا يعتبر إقراره عند غير الحاكم لأنه لا ولاية له في إقامة الحدود ولو كان أربع مرات حتى لا تقبل الشهادة بذلك عليه لأنه إن كان منكرا فقد رجع، وإن كان مقرا لا تعتبر الشهادة مع الاقرار، كذا في التبيين. وبهذا علم أن البينة على الاقرار لا تقبل أصلا قوله: (فإن رجع عن إقراره قبل الحد أو في وسطه خلى سبيله) لأن الرجوع خبر محتمل للصدق كالاقرار وليس أحد يكذبه فيه فتحقق الشبهة بالاقرار بخلاف ما فيه حق العبد وهو القصاص وحد القذف لوجود من يكذبه ولا كذلك ما هو خالص حق الشرع. أطلق في الرجوع فشمل الرجوع بالقول أو بالفعل كما إذا هرب كما في الحاوي. وقيد بالاقرار لأنه لو ثبت الزنا بالبينة فهرب في حال الرجم اتبع بالحجارة حتى يقضي عليه، كذا في الحاوي. وإنكار الاقرار رجوع كإنكار الردة توبة. قال في الخانية: رجل أقر عند القاضي بالزنا أربع مرات فأمر القاضي برجمه فقال والله ما أقررت بشئ يدرأ عند الحد اه. وكذا يصح الرجوع عن الاقرار بالاحصان لأنه لما صار شرطا للحد صار حق الله تعالى فصح الرجوع عنه لعدم المكذب، كذا في الكشف الكبير من بحث العلامة. وقد ظهر بما ذكرنا أنه يصح الرجوع عن الاقرار بالحدود الخالصة كحد الشرب والسرقة.
12 قوله: (وندب تلقينه بلعلك قبلت أو لمست أو وطئت بشبهة) لحديث ما عز في البخاري لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت. وقال في الأصل: ينبغي أن يقول له لعلك تزوجتها أو وطئتها بشبهة. والمقصود أن يلقنه بما يكون ذكره دارئا ليذكره كائنا ما كان كما قال عليه السلام للسارق الذي جئ به إليه أسرقت وما أخاله سرق أي وما أظنه سرق تلقينا له ليرجع. وبهذا علم أن الزاني لو ادعى أنها زوجته سقط الحد عنه وإن كانت زوجة للغير ولا يكلف إقامة البينة للشبهة كما لو ادعى السارق أن العين مملوكة له سقط القطع بمجرد دعواه. وفي المحيط: لو تزوج المزني بها أو اشتراها لا يسقط الحد في ظاهر الرواية لأنه لا شبهة له وقت الفعل قوله: (فإن كان محصنا رجمه في فضاء حتى يموت) لأنه عليه السلام رجم ماعزا وقد كان أحصن وقال في الحديث المعروف وزنا بعد إحصان. وعلى هذا إجماع الصحابة. وإنكار الخوارج الرجم باطل لأنهم إن أنكروا حجية إجماع الصحابة فجهل مركب بالدليل بل هو إجماع قطعي، وإن أنكروا وقوعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لانكارهم حجية خبر الواحد فهو بعد بطلانه بالدليل ليس مما نحن فيه لأن ثبوت الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواتر المعنى كشجاعة علي وجود حاتم، والآحاد في تفاصيل صوره وخصوصياته، كذا في فتح القدير. وإنما يرجم في الفضاء لحديث البخاري أن ما عزا رجم بالمصلي. وفي مسلم: فانطلقنا به إلى بقيع الغرقد. فإن المصلي كان به وهو مصلي الجنائز. وفي المحيط: المقضي برجمه إذا قتله انسان أو فقأ عينه لا شئ عليه ولو قتله قبل القضاء يجب القصاص إن كان عمدا والدية إن كان خطأ قوله: (يبدأ الشهود به) أي بالرجم يعني على وجه الشرط ولو بحصاة صغيرة، هكذا روي عن علي رضي الله عنه، ولان الشاهد قد يتجاسر على الأداء ثم يستعظم المباشرة فيرجع فكان في بدايته احتيال للدرء. وقال الشافعي: لا يشترط بدايتهم اعتبارا بالجلد. قلنا: كل أحد لا يحسن الجلد فربما يقع مهلكا والاهلاك غير مستحق ولا كذلك الرجم لأنه اتلاف قوله: (فإن أبوا سقط) أي إن امتنع الشهود من الابتداء سقط الحد لأنه دلالة الرجوع، وكذا إذا ماتوا أو غابوا في ظاهر الرواية لفوات الشرط. ولا يجب الحد عليهم لو امتنعوا لأنه دلالة الرجوع لا صريحه وامتناع البعض أو غيبته كالكل، وكذا إذا خرج بعض الشهود عن الأهلية بارتداد أو عمى أو خرس أو فسق أو قذف، سواء كان قبل القضاء أو بعده، لأن الامضاء من القضاء في الحدود، وأما قطع اليدين فإن كان بعد الشهادة امتنعت الإقامة، وإن
13 كان القطع قبلها رمي القاضي بحضرتهم لأنهم إذا كانوا مقطوعي الأيدي لم تستحق البداءة بهم، وإن قطعوا بعدها فقد استحقت، وهذا يفيد أن كون الابتداء بهم شرطا إنما هو عند قدرتهم على الرجم. وفي الظهيرية: وإن كان الشهود مرضى لا يستطيعون الرمي وقد حضروا رمى القاضي ثم رمى الناس. وقال أبو يوسف: يقام عليه الرجم وإن لم يحضر الشهود وإن حضروا ولم يرجموا رجم الإمام ثم الناس. وقيد المصنف بالرجم لأن ما سوى الرجم من الحدود لا يجب الابتداء لا من الشهود ولا من الإمام وكذا في الظهيرية قوله: (ثم الإمام ثم الناس) هكذا روي عن علي رضي الله عنه وأرضاه،. ويقصدون بذلك مقتله إلا من كان منهم ذا رحم محرم منه فإنه لا يقصد مقتله فإن بغيره كفاية، كذا في التبيين وغيره. وظاهره أنه يرجمه ولا يقصد مقتله مع أن ظاهر ما في المحيط أنه لا يرجمه أصلا فإنه قال: ويكره لذي الرحم المحرم أن يلي إقامة الحد والرجم ا ه. ولم يذكر المصنف أن الإمام إذا امتنع من الرجم بعد الشهود أنه يسقط الحد وقياسه السقوط. قال في فتح القدير: واعلم أن مقتضى ما ذكر أنه لو بدأ الشهود فيما إذا ثبت بالشهادة يجب أن يثني الإمام فلو لم يثن الإمام يسقط الحد لاتحاد المأخذ فيهما اه. وفي الظهيرية: والقاضي إذا أمر الناس برجم الزاني وسعهم أن يرجموه وإن لم يعاينوا أداء الشهادة. وروى ابن سماعة عن محمد أنه قال: هذا إذا كان القاضي فقيها عدلا، أما إذا كان فقيها غير عدل أو كان عدلا غير فقيه فلا يسعهم أن يرجموه حتى يعاينوا أداء الشهادة اه. قوله: (ويبدأ الإمام لو مقرا ثم الناس) كذا روي عن علي رضي الله عنه ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الغامدية بحصاة مثل الحمصة وكانت قد اعترفت بالزنا، ولم يذكر المصنف أن الإمام لو لم يبدأ هل يحل للناس الرمي. قال في فتح القدير: واعلم أن مقتضى هذا أنه لو
14 امتنع الإمام لا يحل للقوم رجمه ولو أمرهم لعلمهم بفوات شرط الرجم هو منتف برجم ما عز فإن القطع بأنه عليه السلام لم يحضره بل رجمه الناس بأمره عليه السلام. ويمكن الجواب بأن حقيقة ما دل عليه قول علي رضي الله عنه أنه يجب على الإمام أن يأمرهم بالابتداء اختيارا لثبوت دلالة الرجوع وعدمه، وأن يبتدئ هو في الاقرار لينكشف للناس أنه لم يقصر في أمر القضاء بأن لم يتساهل في بعض شروط القضاء بالحد، فإذا امتنع حينئذ ظهرت أمارة الرجوع. وفي الحاوي: وينبغي للناس أن يصفوا عند الرجم كصفوف الصلاة وكلما رجم قوم تأخروا وتقدم غيرهم فرجموا اه قوله: (ولو غير محصن جلده مائة) لقوله تعالى * (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * (النور: 2) إلا أنه انتسخ في حق المحصن فبقي في حق غيره معمولا به، ويكفينا في تعيين الناسخ القطع برجم النبي صلى الله عليه وسلم فيكون من نسخ الكتاب بالسنة القطعية قوله: (ونصف للعبد) أي نصف جلد المائة للعبد الزاني فيجلد خمسين سوطا لقوله تعالى * (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * (النساء: 25) والمراد به الجلد لأن الرجم لا يتنصف، وإذا ثبت التنصيف في الإماء لوجود الرق ثبت في العبيد دلالة. وما في التبيين من أن العبيد دخلوا في اللفظ وأنث للتغليب مخالف لما في الأصول من أن الذكور لا تتبع الإناث حتى لو قال أمنوني على بناتي لا تدخل الذكور بخلاف أمنوني على بني عم الذكور والإناث. قوله: (بسوط لا تمرة له متوسطا) أي لا عقدة له لأن عليا رضي الله عنه لما أراد أن يقيم الحد كسر تمرته. والمتوسط بين المبرح وهو الجارح وغيره المؤلم لافضاء الأول إلى الهلاك وخلو الثاني عن المقصود وهو الانزجار، كذا في الهداية. وحاصله أنه المؤلم غير الجارح قوله: (ونزع ثيابه وفرق على بدنه إلا رأسه ووجهه وفرجه) أي ونزع عنه ثيابه إلا ما يستر عورته لأن عليا رضي الله عنه كان يأمر بالتجريد في الحدود لأن التجريد أبلغ في إيصال الألم إليه، وهذا الحد مبناه على الشدة في الضرب، وفي نزع الإزار كشف العورة فيتوقاه. وإنما يفرق الضرب على أعضائه لأن الجمع في عضو واحد قد يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف. وإنما يتقي الأعضاء الثلاثة لقوله عليه السلام للذي أمره بضرب الحد اتق الوجه
15 والمذاكير ولان الفرج مقتل والرأس مجمع الحواس وكذا الوجه وهو مجمع المحاسن أيضا فلا يؤمن من فوات شئ منها بالضرب وذلك إهلاك معنى فلا يشرع حدا. وقال أبو يوسف: يضرب الرأس أيضا رجع إليه بعد أن كان أولا يقول لا يضرب كما هو المذهب وإنما يضرب سوطا لقول أبي بكر رضي الله عنه: اضربوا الرأس فإن فيه شيطانا. قلنا: تأويله أنه قال ذلك فيمن أبيح قتله ونقل أنه ورد في حربي كان من دعاة الكفرة والاهلاك فيه مستحق قوله: (ويضرب الرجل قائما في الحدود وغير ممدود) لقول علي رضي الله عنه: تضرب الرجال في الحدود قياما والنساء قعودا. ولان مبنى إقامة الحد على التشهير والقيام أبلغ فيه. ثم قوله غير ممدود فقد قيل المد أن يلقى على الأرض ويمد كما يفعل في زماننا وقيل أن يمد السوط فيرفعه الضارب فوق رأسه، وقيل أن يمد بعد الضرب وذلك كله لا يفعل لأن زيادة على المستحق قوله: (ولا ينزع ثيابها إلا الفرو والحشو) لأن في تجريدها كشف العورة والفرو والحشو يمنعان وصول الألم إلى الجسد والستر حاصل بدونهما فلا حاجة إليهما فينزعان ليصل الألم إلى البدن قوله: (وتضرب جالسة) لاثر علي رضي الله عنه ولأنها عورة فلو ضربت قائمة لا يؤمن كشف عورتها قوله: (ويحفر لها في الرجم لا له) لأن ماعزا لم يحفر له وحفر للغامدية وهو بيان للجواز وإلا فلا بأس بترك الحفر لها لأنه عليه السلام لم يأمر بذلك والامساك غير مشروع في المرجوم قوله: (ولا يحد عبده إلا بإذن إمامه) لقوله عليه السلام أربع إلى الولاة وذكر منها الحدود ولان الحد حق الله تعالى لأن المقصود منه إخلاء العالم عن الفساد ولهذا لا يسقط بإسقاط العبد فيستوفيه من هو نائب عن الشرع وهو الإمام أو نائبه بخلاف التعزير لأنه حق العبد، ولهذا يعزر الصبي وحق الشرع موضوع عنه. قيد بالحد لأن المولى يعزر عبده بلا إذن الإمام لأنه حق العبد وهو المالك والمقصود منه التأديب ولهذا يعزر الصبي والدابة وتقبل فيه الشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال ويصح فيه العفو قوله: (وإحصان الرجم الحرية والتكليف والاسلام والوطئ بنكاح صحيح وهما بصفة الاحصان) فالعبد ليس محصنا لأنه غير متمكن بنفسه من النكاح الصحيح المغني عن الزنا، ولا الصبي والمجنون لعدم أهلية العقوبة. والتكليف شرط لكون الفعل زنا وإنما جعله شرط الاحصان لأجل قوله وهما بصفة الاحصان وإلا ففعل الصبي والمجنون ليس بزنا أصلا. ولا الكافر للحديث من أشرك بالله فليس بمحصن ورجمه عليه السلام اليهوديين إنما كان
16 بحكم التوراة قبل نزول آية الرجم ثم نسخ. ولا من لم يتزوج لعدم تمكنه من الوطئ الحلال، ولا من تزوج ولم يدخل بها للحديث الثيب بالثيب (1) والثيابة لا تكون بغير دخول، ولأنه لم يستغن عن الزنا والدخول إيلاج الحشفة أو قدرها. ولا يشترط الانزال كما في الغسل لأنه شبع. ولا من دخل بغير المحصنة كمن دخل بذمية أو أمة أو صغيرة أو مجنونة لوجود النفرة عن نكاح هؤلاء لعدم تكامل النعمة، ولا من دخل بامرأة محصنة ولم يكن محصنا وقته وصار محصنا وقت الزنا لما ذكرنا من عدم تكامل النعمة. ولو زال الاحصان بعد ثبوته بالجنون أو العته يعود محصنا إذا أفاق، وعند أبي يوسف لا يعود حتى يدخل بامرأته بعد الإفاقة. وفي فتاوي قارئ الهداية المسماة بالسراجية: إذا سرق الذمي أو زنى ثم أسلم إن ثبت ذلك عليه بإقراره أو بشهادة المسلمين لا يدرأ عنه الحد، وإن ثبت بشهادة أهل الذمة فأسلم لا يقام عليه الحد وسقط عنه. وفي الحاوي القدسي: وإن شهد عليه أربعة بالزنا فأنكر الاحصان وله امرأة قد ولدت منه فإنه يرجم وإن لم تكن ولدت منه وشهد بالاحصان رجلان أو رجل وامرأتان رجم اه. قوله: (ولا يجمع بين جلد ورجم ولا بين جلد ونفي) لأنه عليه الصلاة والسلام لم يجمع بين الجلد والرجم لأن الجلد يعري عن المقصود مع الرجم لأن زجر غيره يحصل بالرجم إذ هو في العقوبة أقصاها وزجره لا يكون بعد هلاكه. وأما عدم الجمع بين الجلد والنفي وهو التغريب فلان الله تعالى جعل الجلد كل الموجب في قوله تعالى * (فاجلدوا) * رجوعا إلى حرف الفاء وإلى كونه كل المذكور، ولان في التغريب فتح باب الزنا لانعدام الاستحياء من العشيرة. ثم فيه فتح مواد البغاء فر بما تتخذ زناها مكسبة وهو من أقبح وجوه الزنا وهذه الجهة مرجحة لقول علي رضي الله عنه: كفى بالنفي فتنة. والحديث وهو قوله عليه السلام البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام (1) منسوخ كشطره وهو قوله الثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة (1) وقد عرف طريقه في موضعه قالوا: إلا إذا رأى الإمام مصلحة فيغربه على قدر ما يرى وذلك تعزير وسياسة لأنه قد يفيد في بعض الأحوال فيكون الرأي فيه إلى الإمام، وعليه يحمل النفي المروي عن بعض الصحابة رضي الله عنهم، كذا في الهداية وهو
17 المراد بقوله في المختصر قوله: (ولو غرب بما يرى صح) أي جاز. فسر التغريب في النهاية بالحبس وهو أحسن وأسكن للفتنة من نفيه إلى إقليم آخر لأنه بالنفي يعود مفسدا كما كان ولهذا كان الحبس حدا في ابتداء الاسلام دون النفي وحمل النفي المذكور في قطاع الطريق عليه. وفي الظهيرية: والزاني إذا ضرب الحد لا يحبس والسارق إذا قطع يحبس حتى يتوب اه. وظاهر كلامهم ههنا أن السياسة هي فعل شئ من الحاكم لمصلحة يراها وإن لم يرد بذلك الفعل دليل جزئي قوله: (والمريض يرجم ولا يجلد حتى يبرأ) لأن الاتلاف مستحق في الرجم فلا يمنع بسبب المرض وفي الجلد غير مستحق وهو في حالة المرض يفضي إلى الهلاك ولهذا لا يقام القطع عند شدة الحر والبرد. واستثنى في الظهيرية أن يكون مريضا وقع اليأس عن برئه فحينئذ يقام عليه اه. قيد بالمريض لو لأنه كان ضعيف الخلقة بحيث لا يرجى برؤه فخيف عليه الهلاك إذا ضرب يجلد جلدا خفيفا مقدار ما يحتمله لما روي أن رجلا ضعيفا زنى فذكر ذلك سعد بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك الرجل مسلما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اضربوه حده. فقالوا: يا رسول الله أنه ضعيف بحيث لو ضربناه مائة قتلناه فقال عليه الصلاة والسلام: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ ثم اضربوه ضربة واحدة. قال: ففعلوه. رواه أحمد وابن ماجة. والعثكال والعثكول عنقود النخل، والشمراخ شعبة منه وهو بالعين المهملة والثاء المثلثة، كذا في المغرب قوله: (والحامل لا تحد حتى تلد وتخرج من نفاسها لو كان حدها الجلد) لأن النفاس نوع مرض فيؤخر إلى زمان البرء. وقيد بحد الجلد لأنه لو كان حدها الرجم. رحمت إذا ولدت من غير تأخير لأن التأخير لأجل الولد وقد انفصل. وعن أبي حنيفة أن الرجم يؤخر إلى أن يستغني ولدها عنها إذا لم يكن أحد يقوم بتربيته لأن في التأخير صيانة الولد عن الضياع، وقد روي أنه عليه السلام قال للغامدية بعدما وضعت: ارجعي حتى يستغني ولدك. وظاهر المختار أن هذه الرواية هي المذهب فإنه اقتصر عليها ولم يذكر المصنف أنها تحبس إذا كانت حاملا. قال في الهداية: ثم الحبلى تحبس إلى أن تلد إن كان الحد ثابتا بالبينة كيلا تهرب بخلاف الاقرار والله أعلم.
18 باب الوطئ الذي يوجب الحد والذي لا يوجبه قد قدم حقيقة الزنا وهو الذي (1) لا يوجب الحد وهذا الباب لتفاصيله. ثم بدأ ببيان الشبهة وهي ما يشبه الثابت وليس بثابت، وبين أنها ثلاثة أنواع: شبهة في المحل، وشبهة في الفعل، وشبهة في العقد. قال الإمام الأسبيجابي: الأصل أنه متى ادعى شبهة وأقام البينة عليها سقط الحد فبمجرد الدعوى يسقط أيضا إلا الاكراه خاصة لا يسقط الحد حتى يقيم البينة على الاكراه اه قوله: (لا حد بشبهة المحل وإن ظن حرمته كوطئ أمة ولده وولد ولده ومعتدة الكنايات) لأن الشبهة إذا كانت في الموطوءة يثبت الملك فيها من وجه فلم يبق معه اسم الزنا فامتنع الحد على التقادير كلها وهي تتحقق بقيام الدليل النافي للحرمة في ذاته، ولا يتوقف على ظن الجاني واعتقاده. وبيانه أن قوله عليه السلام أنت ومالك لأبيك أورث شبهة في جارية الولد للأب لأن اللام فيه للملك. والمعتدة بالكنايات في بينونتها اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فمذهب عمر رضي الله عنه أنها رجعية فأورث شبهة وإن كان المختار قول علي رضي الله عنه. قال الشارحون: ومن هذا النوع مسائل منها: الجارية المبيعة في حق البائع قبل التسليم لأنها في ضمانه ويده وتعود إلى ملكه بالهلاك قبل التسليم، وكذا في الفاسد قبل القبض وبعده، أما قبله فلبقاء الملك وأما بعده فلان له الفسخ فله حق الملك فيها، وكذا إذا كان بشرط الخيار، سواء كان الخيار للبائع أو للمشتري، فإن كان للبائع فلبقاء ملكه، وإن كان للمشتري فلان المبيع لم يخرج عن ملك بائعه بالكلية. ومنها جارية مكاتبه أو عبده المأذون له وعليه دين يحيط بماله ورقبته لأن له حقا في كسب عبده فكان شبهة في حقه. ومنها الجارية الممهورة قبل التسليم في حق الزوج لما ذكرنا من المعنى في المبيعة. ومنها الجارية المشتركة بينه وبين غيره لأن ملكه في البعض ثابت حقيقة فالشبهة فيها أظهر، ويدخل فيه وطئ الرجل من الغانمين قبل القسمة جارية من الغنيمة، سواء كان بعد الاحراز بدار الاسلام أو قبله لثبوت الحق له بالاستيلاء، كذا في البدائع: ومنها المرهونة في حق المرتهن في رواية كتاب الرهن لأن استيفاء الدين يقع بها عند الهلاك وقد انعقد له سبب الملك الحال فصارت كالمشتراة بشرط الخيار للبائع، ففي هذه المواضع لا يجب الحد وإن قال علمت أنها على حرام لما ذكرنا قال في فتح القدير: وينبغي أن يزاد جاريته التي هي أخته من الرضاع وجاريته قبل
19 الاستبراء، والاستقراء يفيدك غير ذلك أيضا كالزوجة التي حرمت بردتها أو مطاوعتها لابنه أو جماعه لامها ثم جامعها وهو يعلم أنها عليه حرام فلا حد عليه ولا على قاذفه لأن بعض الأئمة لم يجزم به فاستحسن أن يدرأ بذلك الحد فالاقتصار على الستة لا فائدة فيه اه. وفي الظهيرية: رجل غصب جارية وزنى بها ثم ضمن قيمتها فلا حد عليه، وعلى قياس قول أبي حنيفة ومحمد لا يسقط الحد، وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف ينبغي أن يسقط كما يذكر في المسألة التي تليه اه. رجل زنى بأمة ثم اشتراها ذكر في ظاهر الرواية أنه يجد، وروي عن أبي يوسف أنه يسقط الحد، وذكر أصحاب الاملاء عن أبي يوسف أن من زنى بامرأة ثم تزوجها أو بأمة ثم اشتراها لا حد عليه عند أبي حنيفة، وعليه الحد في قول أبي يوسف. وذكر ابن سماعة في نوادره على عكس هذا وقال: وعلى قول أبي حنيفة ومحمد عليه الحد في الوجهين، وعن أبي يوسف لا حد عليه في الوجهين، وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا زنى بأمة ثم اشتراها فلا حد عليه، وإن زنى بامرأة ثم تزوجها فعليه الحد. والفرق بين النكاح والشراء أنه بالشراء يملك عينها وملك العين في محل الحل سبب لملك الحل فيجعل الطارئ قبل الاستيفاء كالمقترن بالسبب كما في باب السرقة فإن السارق إذا ملك المسروق قبل القطع يقنع القطع فأما بالنكاح فلا يملك عين المرأة وإنما ثبت له ملك الاستيفاء، ولهذا لو وطئت المنكوحة بشبهة كان العقر لها فلا يورث ذلك شبهة فيما تقدم استيفاؤه منها فلا يسقط الحد عنه. وإذا زنى بأمة ثم قال اشتريتها وصاحبها فيها بالخيار وقال مولاها كذب لم أبعها لا حد عليه. وإذا جنت الأمة فزنى بها ولي الجناية، فإن قتلت رجلا عمدا فوطئها ولي القتيل ولم يدع شبهة، فإن قال علمت أنها على حرام فإنه لا يحد، وأما إذا قتلت رجلا خطأ فوطئها ولي القتيل قبل أن يختار المولى شيئا أجمعوا على أنه إذا اختار الفداء بعد ذلك فإنه يحد، وأما إذا اختار دفع الجارية فالقياس أن يحد وفي الاستحسان لا يحد، وبالقياس أخذ أبو حنيفة ومحمد، وبالاستحسان أخذ أبو يوسف اه. - وأطلق في الكنايات فشمل المختلعة. وفي المجتبى: المختلعة ينبغي أن تكون كالمطلقة ثلاثا لحرمتها إجماعا. وفي جامع النسفي: لا حد عليه وإن علم حرمتها لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم في كونه بائنا اه.
20 قوله: (وبشبهة في الفعل إن ظن حله كمعتدة الثلاث وأمة أبويه وزوجته وسيده) أي لا حد لأجل الشبهة في الفعل بشرط أن يظن أن الوطئ حلال لأن الملك والحق غير ثابت في هذا النوع لأن حرمة المطلقة ثلاثا مقطوع به فلم يبق له فيها ملك ولا حق غير أنه بقي فيها بعض الأحكام كالنفقة والسكنى والمنع من الخروج وثبوت النسب وحرمة أختها وأربع سواها وعدم قبول شهادة كل منهما لصاحبه فحصل الاشتباه لذلك فأورث شبهة عند ظن الحل لأنه في موضع الاشتباه فيعذر. أطلق في الثلاث فشمل ما إذا أوقعها جملة أو متفرقة، ولا اعتبار بخلاف من أنكر وقوع الجملة لكونه مخالفا للقطعي، كذا ذكر الشارحون وفيه نظر لما في صحيح مسلم من أن الطلاق الثلاث كان واحدة في زمن النبي صلى الله عليه وأبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما حتى أمضى عمر رضي الله عنه على الناس الثلاث، وإن كان العلماء قد أجابوا عنه وأولوه فليس الدليل على وقوع الثلاث جملة واحدة بكلمة واحدة قطعيا. فإن قيل: إن العلماء قد أجمعوا عليه قلنا: قد خالف أهل الظاهر في ذلك كما نقلوه في كتاب الطلاق فينبغي أن لا يحد وإن علم الحرمة. والدليل عليه ما ذكره في الهداية من كتاب النكاح في فصل المحرمات أن الحد لا يجب بوطئ المطلقة طلاقا بائنا واحدة أو ثلاثا مع العلم بالحرمة على إشارة كتاب الطلاق، وعلى عبارة كتاب الحدود يجب لأن الملك قد زال في
21 حق الحل فيتحقق الزنا اه. وينبغي أن تحمل إشارة كتاب الطلاق على ما إذا أوقعها بكلمة واحدة، وعبارة كتاب الحدود على ما إذا أوقعها متفرقة لما ذكرنا توفيقا بينهما كما لا يخفى. وأما الزنا بأمة أبويه وزوجته وسيده فإنه لا ملك له ولا حق ملك فيها غير أن البسوطة تجري بينهم في الانتفاع بالأموال والرضا بذلك عادة وهي تجوز الانتفاع بالمال شرعا، فإذا ظن الوطئ من هذا القبيل يعذر لأن وطئ الجواري من قبيل الاستخدام فيشتبه الحال والاشتباه في محله معذور فيه. ولهذه المسائل أخوات منها: المطلقة على مال لأن حرمتها ثابتة بالاجماع فصارت كالمطلقة ثلاثا، كذا ذكره الشارحون. ومرادهم الطلاق على مال بغير لفظ الخلع، أما إذا كان بلفظ الخلع فقد قدمنا الاختلاف فيه وأن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا فيه لكن في البدائع: ولو خالعها أو طلقها على مال فوطئها في العدة ذكر الكرخي أنه ينبغي أن يكون الحكم فيه كالحكم في المطلقة ثلاثا وهو الصحيح لأن زوال الملك بالخلع والطلاق على مال مجمع عليه فلم تتحقق الشبهة فيجب الحد إلا إذا ادعى الاشتباه. ومنها أم الولد إذا أعتقها مولاها لثبوت حرمتها بالاجماع وتثبت الشبهة عند الاشتباه لبقاء أثر الفراش وهي العدة. ومنها الجارية المرهونة في حق المرتهن في رواية كتاب الحدود فإذا قال المرتهن علمت أنها حرام ووطئتها ففيه روايتان، ففي رواية كتاب الرهن لا حد عليه وهو من النوع الأول لما قدمناه، وفي وراية كتاب الحدود يجب الحد. قال في الهداية: وهو الأصح. وتبعه الشارحون. وفي التبيين: وهو المختار لأن الاستيفاء من عينها لا يتصور وإنما يتصور من ماليتها فلم يكن الوطئ حاصلا في محل الاستيفاء لكن لما كان الاستيفاء سببا لملك المال في الجملة وملك المال سبب لملك المتعة في الجملة حصل الاشتباه بخلاف المستأجرة وجارية الميت إذا وطئها الغريم لأن الإجارة لا تفيد المتعة بحال والغريم لا يملك عين التركة وإنما يستوفي حقه من الثمن، ولو تعلق حقه بالعين لما جاز بيعها إلا بإذنه كالرهن. والحاصل أنه إذا ظن الحل فلا حد عليه باتفاق الروايتين، والخلاف فيما إذا علم الحرمة والأصح وجوبه لكن ذكر في الايضاح رواية ثالثة أنه يجب الحد وإن قال ظننت أنها حلال وإن ظنه لا يعتبر قياسا على وطئ الغريم جارية الميت، وهذه الرواية مخالفة لعامة الروايات كما في فتح القدير: قال في الهداية: والمستعير للرهن في هذا بمنزلة المرتهن. وأما الجارية المستأجرة والعارية والوديعة فكجارية أخيه، وسيأتي أنه يحد وإن ظن الحل كما في المحيط والبدائع: وأطلق في ظن الحل فشمل ظن الرجل وظن الجارية فإن ظناه فلا حد، وإن علما الحرمة وجب الحد، وإن ظنه الرجل وعلمته الجارية أو بالعكس فلا حد لأن الشبهة إذا تمكنت في الفعل في أحد الجانبين تتعدى إلى الجانب الآخر ضرورة، كذا في المحيط.
22 قوله: (والنسب يثبت في الأول فقط) أي يثبت النسب في شبهة المحل بالدعوة ولا يثبت في شبهة الفعل وإن ادعاه لأن الفعل تمحض زنا في الثانية وإن سقط الحد لأمر راجع إليه وهو اشتباه الامر عليه ولم يتمحض في الأولى للشبهة في المحل، وقد قدم المصنف أن نسب ولد المعتدة البت يثبت إذا جاءت به لأقل من سنتين بغير دعوة، ولسنتين فأكثر لا يثبت إلا بالدعوة، وهو بعمومه يتناول المعتدة عن ثلاث طلقات فكان مخصصا لقوله هنا فقط. والحاصل أنه لا يثبت النسب في شبهة الفعل عند الدعوة إلا في المطلقة ثلاثا. والفرق أن الشبهة فيها شبهة في العقد بخلاف باقي محال شبهة الاشتباه فإنه لا شبهة عقد فيها فلا يثبت النسب بالدعوة، وسيأتي أن من شبهة الاشتباه وطئ امرأة زفت وقالت النساء هي زوجتك ولم تكن زوجته معتمدا خبرهن. وصرح الزيلعي بأن النسب يثبت فيه بالدعوة كما سيأتي فتحرر أن النسب لا يثبت في شبهة الفعل إلا في موضعين قوله: (وحد بوطئ أمة أخيه وعمه وإن ظن حله وامرأة وجدت في فراشه) يعني سواء ظن الحل أو الحرمة لأنه لا انبساط في مال الأخ والعم وكذا سائر المحارم سوى الولاد لما بينا، ولا اشتباه في المرأة الموجودة على فراشه لطول الصحبة فلم يكن مستندا إلى دليل، وهذا لأنه قد ينام على فراشه غيرها من المحارم التي في بيتها. أطلقه فشمل البصير والأعمى لأنه يمكنه التمييز بالسؤال وغيره إلا إذا ادعاها فأجابته وقالت أنا زوجتك أو أنا فلانة باسم زوجته فواقعها لأن الاخبار دليل. وفي التبيين: وإن جاءت بولد يثبت نسبه لما نذكره في المرقوقة. ولو أجابته فقط يحد لعدم ما يوجب السقوط. وأطلق في المرأة فشمل المكرهة والطائعة فيحد لو أكرهها دونها ولا يجب المهر عندنا قوله: (لا بأجنبية زفت وقيل هي زوجتك) أي لا يحد بوطئ أجنبية زفت إليه وقال النساء هي
23 زوجتك، قضى بذلك علي رضي الله عنه، ولأنه اعتمد دليلا وهو الاخبار في موضع الاشتباه إذ الانسان لا يميز بين امرأة وبين غيرها في أول الوهلة فصار كالمغرور ولكن لا يحد قاذفه لأن الملك منعدم حقيقة فبطل به إحصانه كوطئ جارية ابنه فإنه مسقط لاحصانه حبلت أو لا. وظاهر كلام المصنف أن إخبار واحدة له بأنها زوجته يكفي لاسقاط الحد عنه كما يفيده ما في فتح القدير، لكن عبارة القدوري وقلن النساء بالجمع، والظاهر أنه ليس بشرط كما سنبينه لأنه من المعاملات والواحد فيها يكفي اه. قوله: (وعليه مهر) بذلك قضى علي رضي الله عنه وبالعدة لأن الوطئ في دار الاسلام لا يخلو عن الحد أو المهر وقد سقط فتعين المهر وهو مهر المثل، ولهذا قلنا في كل موضع سقط فيه الحد مما ذكرنا يجب فيه المهر لما ذكرنا إلا في وطئ جارية الابن وقد علقت منه وادعى نسبه لما ذكرنا في النكاح أو في وطئ البائع المبيعة قبل التسليم، ذكرها في الزيادات. وينبغي أن لا يجب بوطئ جارية السيد لأن المولى لا يجب له دين على عبده، ولو قيل وجب ثم سقط فمستقيم على ما اختلفوا في تزويج المولى عبده بجاريته، كذا في التبيين. ولا يرد ما لو زنى صبي بامرأة بالغة مطاوعة قالوا لا حد على الصبي ولا مهر عليه لاسقاطها حقها حيث مكنته لأن المهر وجب لكنه سقط لما ذكرنا فلم يخل وطئ عنهما. وفي المجتبى: مراهق تزوج بالغة بغير إذن أبيه ووطئها ورد الأب النكاح فلا مهر على الصبي لأن قوله غير معتبر. وأراد المصنف أن يكون المهر لها عليه بذلك قضى علي رضي الله عنه خلافا لعمر رضي الله عنه حيث جعله في بيت المال كأنه جعله حق الشرع لما أن الحد حق له وهذا
24 كالعوض عنه، والمختار قول علي رضي الله عنه لأن الوطئ كالجناية عليها وأرش الجنايات للمجني عليه، ولو كان عوضا عن الحد لوجب على المرأة لأن الحد ساقط عنها. ولم يذكر المصنف ثبوت النسب فيها، وقالوا يثبت نسب الولد بالدعوة لكن اختلفوا ففي التبيين أنه يثبت النسب وإن كانت شبهة الاشتباه لعدم الملك وشبهته، وفي فتح القدير والأوجه أنها شبهة دليل فإن قول النساء هي زوجتك دليل شرعي مبيح للوطئ فإن قول الواحد مقبول في المعاملات ولذا حل وطئ الأمة إذا جاءت إلى رجل وقالت مولاي أرسلني إليك هدية، فإذا كان دليلا غير صحيح في الواقع أوجب الشبهة التي يثبت معها النسب اه. قوله: (وبمحرم نكحها) أي لا يجب الحد بوطئ امرأة محرم له عقد عليها عند أبي حنيفة. وقالا: عليه الحد إذا كان عالما بذلك لأنه عقد لم يصادف محله فيلغو كما إذا أضيف إلى الذكور. وهذا لأن محل التصرف ما يكون محلا لحكمه وحكمه في الحل وهي من المحرمات. ولأبي حنيفة أن العقد صادف محله لأن محل التصرف ما يقبل مقصوده والأنثى من بنات آدم قابلة للتوالد وهو المقصود وكان ينبغي أن ينعقد في حق جميع الأحكام إلا أنه تقاعد عن إفادة حقيقة الحل فيورث الشبهة لأن الشبهة ما بشبه الثابت لا نفس الثابت. وحاصل الخلاف أن هذا العقد هل يوجب شبهة أم لا، ومداره أنه هل ورده على ما هو محله أو لا؟ فعند الإمام ورد على ما هو محله لأن المحلية ليست بقبول الحل بل بقبول المقاصد من العقد وهو ثابت ولذا صح من غيره عليها. وعندهما لا لأن محل العقد ما يقبل حكمه وحكمه الحل وهذه من المحرمات في سائر الأحوال فكان الثابت صورة العقد لانعقاده، وبتأمل يسير يظهر أنهم لم يتواردوا على محل واحد في المحلية فحيث نفوا محليتها أرادوا بالنسبة إلى خصوص هذا العاقد أي ليست محلا لعقد هذا العاقد، ولهذا عللوه بعدم حلها، ولا شك في حلها لغيره بعقد النكاح لا محليتها للعقد من حيث هو والإمام حيث أثبت محليتها أراد محليتها النفس العقد لا بالنظر إلى خصوص عاقد ولذا علل بقبولها مقاصده، ولا ينافيه قول الأصوليين أن النهي
25 عن نكاح المحارم مجاز عن النفي لعدم محله. ولا قول الفقهاء أن محل النكاح الأنثى من بنات آدم التي ليست من المحرمات لأنهم أرادوا نفي المحلية لعقد النكاح الخاص، وأنت علمت أن أبا حنيفة إنما أثبت محليتها للنكاح في الجملة لا بالنظر إلى خصوص ناكح لكن قد أخذ الفقيه أبو الليث بقولهما. قال في الواقعات: ونحن نأخذ به أيضا. وفي الخلاصة: الفتوى على قولهما. ووجه ترجيحه أن تحقق الشبهة يقتضي تحقق الحل من وجه لأن الشبهة لا محالة شبهة الحل لكن حلها ليس ثابتا من وجه وإلا وجبت العدة وثبت النسب. اطلق المصنف فشمل ما إذا كان عالما بالحرمة أو لا. ثم اعلم أن مسائلهم هنا تدل على أن من استحل ما حرمه الله على وجه الظن لا يكفر وإنما يكفر إذا اعتقد الحرام حلالا لا إذا ظنه حلالا، ألا ترى أنهم قالوا في نكاح المحرم لو ظن الحل فإن لا يحد بالاجماع ويعزر كما في الظهيرية وغيرها، ولم يقل أحد أنه يكفر، وكذا في نظائره وهو نظير ما ذكره القرطبي في شرح مسلم: إن ظن الغيب جائز كظن المنجم والرمال بوقوع شئ في المستقبل بتجربة أمر عادي فهو ظن صادق، والممنوع هو ادعاء علم الغيب. والظاهر أن ادعاء ظن الغيب حرام وليس بكفر بخلاف ادعاء علم الغيب فإن كفر وسنوضحه إن شاء الله تعالى في باب الردة. وأشار المصنف إلى أن المستأجرة للزنا لو وطئها فلا حد عليه لشبهة العقد عند الإمام لأن المستوفي بالزنا المنفعة وهي المعقود عليه في الإجارة. وقالا: يحد كما سيأتي. وأطلق في المحرم فشمل المحرم نسبا ورضاعا وصهرية، وأشار إلى أنه لو عقد على منكوحة الغير أو معتدته أو مطلقته الثلاث أو أمة على حرة أو تزوج مجوسية أو أمة بلا إذن سيدها أو تزوج العبد بلا إذن سيده أو تزوج خمسا في عقدة فوطئهن أو جمع بين أختين في عقدة فوطئهما أو الأخيرة لو كان متعاقبا بعد التزوج فإن لا حد بالوطئ بالأولى وهو بالاتفاق على الأظهر، أما عنده فظاهر، وأما عندهما
26 فلان الشبهة إنما تنتفي عندهما إذا كان مجمعا على تحريمه وهي محرمة على التأبيد. وقيد بنفي الحد لأن التعزير واجب إن كان عالما قالوا يوجع بالضرب الشديد أشد ما يكون من التعزير سياسة. قوله: (وفي أجنبية في غير قبل ولواطة) أي لا يجب الحد في مسألتين أيضا: الأولى لو وطئ امرأة أجنبية في دبرها فإنه لا يحد. الثانية لو لاط بصبي في دبره فإنه لا يحد. ولا شك أن وطئ الأجنبية في دبرها لواطة أيضا، هذا عند أبي حنيفة. وقالا: هو كالزنا فيحد رجما إن كان محصنا أو جلدا إن كان غير محصن لأنه في معنى الزنا لأنه قضاء الشهوة في محل مشتهى على سبيل الكمال على وجه تمحض حراما لقصد سفح الماء. وله أنه ليس بزنا لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم في موجبه من الاحراق بالنار وهدم الجدار والتنكيس من مكان مرتفع باتباع الأحجار ونحو ذلك، ولا هو في معنى الزنا لأنه ليس فيه إضاعة الولد واشتباه الأنساب ولذا هو أندر وقوعا لانعدام الداعي في أحد الوجهين والداعي إلى الزنا من الجانبين، وما ورد في الحديث من الامر بقتل الفاعل والمفعول به فمحمول على السياسة أو على المستحل. قال الزيلعي: لو رأى الإمام مصلحة في قتل من اعتداه جاز له قتله ا ه. واعلم أنهم يذكرون في حكم السياسة أن الإمام يفعلها ولم يقولوا القاضي فظاهره أن القاضي ليس له الحكم بالسياسة ولا العمل بها. قيد بعدم الحد لأن التعزير واجب. قالوا: يوجع
27 ضربا زاد في الجامع الصغير أنه يودع في السجن. قال في فتح القدير: حتى يموت أو يتوب، ولو اعتاد اللواطة قتله الإمام محصنا كان أو غير محصن سياسة. وذكر العلامة الأكمل في شرح المشارق أن اللواطة محرمة عقلا وشرعا وطبعا بخلاف الزنا فإنه ليس بحرام طبعا فكانت أشد حرمة منه. وإنما لم يوجب الحد أبو حنيفة فيها لعدم الدليل عليه لا لخفتها. وإنما عدم الوجوب فيها للتغليظ على الفاعل لأن الحد مطهر على قول بعض العلماء. وفي فتح القدير: وهل تكون اللواطة في الجنة أي هل يجوز كونها فيها؟ قيل إن كان حرمتها عقلا وسمعا لا تكون وإن كان سمعا فقط جاز أن تكون والصحيح أنها لا تكون فيها لأنه تعالى استبعده واستقبحه فقال * (ما سبقكم بها من أحد من العالمين) * (الأعراف: 80) وسماه خبيثة فقال تعالى * (كانت تعمل الخبائث) * (الأنبياء: 74) والجنة منزهة عنها اه. وقيد بالأجنبية ليفيد أن زوجته وجاريته بالأولى في عدم وجوب الحد لكن قال في التبيين: إذا فعل في عبده أو أمته أو منكوحته لا يجب الحد بالاجماع وإنما يعزر لارتكابه المحظور. وفي الحاوي القدسي: وتكلموا في هذا التعزير من الجلد ورميه من أعلا موضع وحبسه في أنتن بقعة وغير ذلك سوى الاخصاء والجب والجلد أصح اه. وللواطة أحكام أخر لا يجب بها العقر أي المهر ولا العدة في النكاح الفاسد ولا في المأتي بها لشبهة، ولا تحل للزوج الأول في النكاح الصحيح، ولا تثبت بها الرجعة ولا حرمة المصاهرة عند الأكثر، ولا الكفارة في رمضان في رواية، ولو قذف بها لا يحد خلافا لهما، وكذا لو قذف امرأته بها لم يلاعن خلافا لهما، وعن الصفار يكفر مستحلها عند الجمهور، كذا في المجتبى: وقدمنا أنه يجب الغسل بها على الفاعل والمفعول به قوله: (وببهيمة) أي لا يحد بوطئ بهيمة لأنه ليس في معنى الزنا في كونه جناية وفي وجود الداعي لأن الطبع السليم ينفر عنه والحامل عليه نهاية السفه أو فرط الشبق ولهذا لا يجب ستره إلا أنه يعزر لما بينا. والذي يروي أنها تذبح البهيمة وتحرق فذلك لقطع التحدث به وليس بواجب. قالوا: إن كانت الدابة مما لا يؤكل لحمها تذبح
28 وتحرق لما ذكرنا، وإن كانت مما تؤكل تذبح وتؤكل عند أبي حنيفة. وقالا: تحرق هذه أيضا. هذا إن كانت البهيمة للفاعل، فإن كانت لغيره ففي الخانية كان لصاحبها أن يدفعها إليه بالقيمة، وفي التبيين يطالب صاحبها أن يدفعها إليه بالقيمة ثم تذبح. هكذا ذكروا ولا يعرف ذلك إلا سماعا فيحمل عليه اه. والظاهر أنه لا يجبر على دفعها. قوله: (وبزنا في دار حرب أو بغي) أي لا يجب الحد بالزنا في دار الحرب أو في دار البغي لقوله عليه السلام لا تقام الحدود في دار الحرب ولان المقصود هو الانزجار وولاية الإمام منقطعة فيهما فيعرى الوجوب عن الفائدة. أطلقه فأفاد أنه لا يقام بعد الخروج أيضا لأنها لم تنعقد موجبة فلا تنقلب موجبة. قيد بدار الحرب والبغي لأن من زنى في محل نزول العسكر فإن من له ولاية الإقامة بنفسه كالخليفة وأمير مصره أن يقيم الحد عليه لأنه تحت يده بخلاف أمير العسكر والسرية لأنه لم يفوض إليهما الإقامة. ويستثنى من كلام المصنف ما لو زنى في العسكر والعسكر في دار الحرب في أيام المحاربة قبل الفتح له أن يقيمه للولاية حينئذ بخلاف ما إذا زنى واحد منهم خارج العسكر فإنه لا يقيم الحد عليه قوله: (وبزنا حربي بذمية في حقه) أي لا يجب الحد بزنا رجل حربي مستأمن بذمية في حق الحربي المستأمن عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف آخرا: يحد لأن المستأمن التزم أحكامنا مدة مقامه في دارنا في المعاملات كما أن الذمي التزمها مدة عمره ولهذا يحد حد القذف ويقتل قصاصا بخلاف حد الشرب لأنه يعتقد إباحته. ولهما أنه ما دخل للقرار بل لحاجته كالتجارة ونحوها فلم يصر من أهل دارنا ولهذا يمكن من الرجوع إلى دار الحرب، ولا يقتل المسلم ولا الذمي به فإنما يلتزم من الحكم ما يرجع إلى تحصيل مقصوده وهو حقوق العباد لأنه لما طمع في الانصاف يلتزم الانتصاف والقصاص وحد القذف من حقوقهم، أما حد الزنا فمحض حق الشرع. قيد بقوله في حقه لأن الذمية تحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا تحد أيضا لأن المرأة تابعة فامتناع الحد في حق الأصل يوجب امتناعه في حق التبع كالبالغة إذا مكنت الصبي والمجنون قلنا إن فعل المستأمن زنا لأنه مخاطب بالحرمات على ما هو الصحيح، وإن لم يكن مخاطبا بالشرائع على أصلنا، والتمكين من فعل هو زنا موجب للحد عليها. وقيد بالحربي لأن الذمي إذا زنى بحربية فإنه يحد عندهما خلافا لمحمد، والأصل لأبي يوسف أن الحدود كلها تقام على المستأمن والمستأمنة إلا حد الشرب كما تقام على الذمي والذمية فسوى بين الذمي والحربي والمستأمن. والأصل عند الإمام الأعظم أنه لا يقام على المستأمن والمستأمنة شئ من الحدود إلا حد القذف بخلاف الذمي، وحد يقول كذلك في جميع ما ذكرنا إلا أنه
29 يقول فعل الرجل أصل والمرأة تبع فالامتناع في الأصل امتناع في التبع فمحل الاختلاف في حد الزنا والسرقة، وأما حد القذف فواجب اتفاقا وحد الشرب غير واجب اتفاقا، وقيد بالذمية لأنه لو زنى مستأمن بمستأمنة فلا حد عليهما خلافا لأبي يوسف. والحاصل أن الزانيين إما مسلمان أو ذميان أو مستأمنان أو أحدهما مسلم والآخر ذمي، وهو صادق بصورتين أو أحدهما مسلم والآخر مستأمن، وهو صادق بصورتين أو أحدهما ذمي والآخر مستأمن، وهو صادق بصورتين فهي تسع صور، والحد واجب في الكل عند الإمام إلا في المستأمنين وإلا فيما إذا كان أحدهما مستأمنا أيا كان فلا حد عليه في ثلاث منها كما لا يخفى. قوله: (وبزنا صبي أو مجنون بمكلفة بخلاف عكسه) أي لا يجب الحد إذا زنى صبي أو مجنون بمكلفة ويجب الحد إذا زنى بالغ بصبية أو مجنونة لأن فعل الزنا يتحقق منه وهي محل الفعل ولهذا يسمى هو واطئا وزانيا والمرأة موطوءة ومزنيا بها إلا أنها سميت زانية مجازا تسمية للفعل باسم الفاعل كالراضية بمعنى المرضية أو لكونها مسببة بالتمكين فتعلق الحد في حقها بالتمكين من قبيح الزنا وهو فعل من هو مخاطب بالكف عنه مؤثم على مباشرته، وفعل الصبي ليس بهذه الصفة فلا يناط به الحد، وقد ذكر بعضهم أن كلما انتفى الحد عن الرجل انتفى عن المرأة وهو منقوض بزنا المكره بالمطاوعة والمستأمن بالذمية والمسلمة فالأولى أن لا تجعل قاعدة لأن حكم في كل موضع بمقتضى الدليل. قال في التبيين: وعبارات أصحابنا أن فعلها مع الصبي والمجنون ليس بزنا يشير إلى أن إحصانها لا يسقط بذلك كما لا يسقط إحصان الصبي والمجنون حتى يجب الحد على قاذفهما بعد البلوغ والإفاقة وقد قدمنا حكم المهر قوله: (وبالزنا بمستأجرة) أي لا يجب الحد بوطئ من استأجرها ليزني بها عند أبي حنيفة. وقالا: يجب الحد لعدم شبهة الملك ولهذا لا يثبت النسب ولا تجب العدة. وله أن الله تعالى سمى المهر أجرة بقوله تعالى * (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) * (النساء: 24) فصار شبهة لأن الشبهة ما يشبه الحقيقة لا الحقيقة فصار كما لو قال أمهرتك كذا لأزني بك. قيدنا
30 بأن يكون استأجرها ليزني بها لأنه لو استأجرها للخدمة فزنى بها يجب الحد اتفاقا لأن العقد لم يضف إلى المستوفي بالوطئ والعقد المضاف إلى محل يورث الشبهة في ذلك المحل لا في محل آخر قوله: (وبإكراه) أي لا يجب الحد بالزنا بإكراه. أطلقه فشمل ما إذا كان المكره السلطان أو غيره، أما إذا كان المكره السلطان فكان أبو حنيفة أولا يقول عليه الحد وهو قول زفر لأن الزنا من الرجل لا يتصور إلا بعد انتشار الآلة وهذا آية الطوع، ووجه قوله الآخر أن السبب الملجئ قائم ظاهرا وهو قيام السيف على رأسه والانتشار دليل محتمل لأنه قد يكون من غير قصد كما في النائم فلا يزول اليقين بالمحتمل، وأما إذا أكرهه غير السلطان فإنه يحد عند الإمام. وقالا: لا يحد لتحقق الاكراه من غير السلطان عندهما لأن المؤثر خوف الهلاك ويتحقق من غيره، وله أنه من غيره لا يدوم إلا نادرا لتمكنه من الاستغاثة بالسلطان وبجماعة المسلمين ويمكنه دفع شره بنفسه بالسلاح والنادر لا حكم له فلا يسقط الحد بخلاف السلطان لأنه لا يمكنه الاستغاثة بغيره ولا الخروج بالسلاح عليه. قالوا: هذا اختلاف عصر وزمان لأنه لم يمكن في زمن أبي حنيفة لغير السلطان من القوة ما لا يمكن دفعها بالسلطان، وفي زمنهما ظهرت القوة لكل متغلب فيفتي بقولهما، كذا في الظهيرية فلذا أطلق في المختصر. قوله: (وبإقرار إن أنكره الآخر) أي لا يجب الحد بإقرار أحد الزانيين إذا أنكره الآخر لأن دعوى النكاح يحتمل الصدق وهو يقوم بالطرفين فأورث شبهة، وإذا سقط وجب المهر تعظيما لخطر البضع. أطلقه فشمل ما إذا قال لم أطأ أصلا أو قال تزوجت، وشمل ما إذا كان المنكر الرجل أو المرأة وهو قول الإمام. وقالا: إن ادعى المنكر منهما الشبهة بأن قال تزوجته فهو كما قال، وإن أنكر الإمام قال ما زنيت ولم يدع ما يسقط الحد وجب على المقر الحد دون المنكر. وحاصل دليل الإمام أن الزنا فعل مشترك بينهما قائم بهما فانتفاؤه عن أحدهما يورث شبهة في الآخر، وإذا سقط الحد وجب المهر تعظيما لأمر البضع، وإن كانت هي منكرة لأمر النكاح لأنه من ضرورة سقوط الحد. وأشار المصنف إلى أنه لو زنى بامرأة خرساء لا حد على واحد منهما. قال في الأصل: وجعل الجواب في الخرساء كالجواب فيما إذا كانت المرأة ناطقة وادعت المرأة النكاح بخلاف ما إذا كانت المرأة مجنونة أو صبية يجامع مثلها كان على الرجل الحد، وبخلاف ما إذا كانت المرأة غائبة وأقر الرجل أنه زنى بها أو شهد عليه الشهود فإنه يقام الحد على الرجل، كذا في الظهيرية قوله: (ومن زنى بأمة فقتلها لزمه الحد
31 والقيمة) معناه قتلها بفعل الزنا لأنه جنى جنايتين فيوفر على كل واحدة منهما حكمها. وعن أبي يوسف أنه لا يحد لأن تقرر ضمان القيمة سبب لملك الأمة وصار كما إذا اشتراها بعد ما زنى بها وهو على هذا الخلاف، واعتراض سبب الملك قبل إقامة الحد يوجب سقوطه كما إذا ملك المسروق قبل القطع. ولهما أنه ضمان قتل فلا يوجب الملك لأن ضمان دم ولو كان يوجبه إنما يوجبه في العين كما في هبة المسروق لا في منافع البضع لأنها استوفيت والملك يثبت مستندا فلا يظهر في المستوفي لكونها معدومة، وهذا بخلاف ما إذا زنى بها فاذهب عينها حيث يجب عليه قيمتها ويسقط الحد لأن الملك هناك يثبت في الجثة العمياء وهي عين فأورث شبهة. وأشار المصنف إلى أنه لو زنى بحرة فقتلها به يجب الحد عليه اتفاقا لأن الحرة لا تملك بالضمان وإن لم يقتلها وإنما أفضاها بأن اختلط المسلكان، فإن كانت كبيرة مطاوعة له من غير دعوى شبهة فعليهما الحد ولا شئ عليه في الافضاء لرضاها به ولا مهر عليه لوجوب الحد، وإن كان مع دعوى شبهة فلا حد ولا شئ في الافضاء ويجب العقر، وإن كانت مكرهة من غير دعوى شبهة فعليه الحد دونها ولا مهر لها ثم ينظر في الافضاء، فإن لم يستمسك بولها فعليه دية المرأة كاملة لأنه فوت جنس المنفعة على الكمال، وإن كان يستمسك بولها حد وضمن ثلث الدية لما أن جنايته جائفة. وإن كان مع دعوى شبهة فلا حد عليهما. وإن كان البول يستمسك فعليه ثلث الدية ويجب المهر في ظاهر الرواية، وإن لم يستمسك فعليه الدية كاملة ولا يجب المهر عندهما خلافا لمحمد. وإن كانت صغيرة يجامع مثلها فهي كالكبيرة فيما ذكرنا إلا في حق سقوط الأرش برضاها، وإن كانت صغيرة لا يجامع مثلها، فإن كان يستمسك بولها لزمه ثلث الدية والمهر كاملا ولا حد عليه لتمكن القصور في معنى الزنا وهو الايلاج في قبل المشتهاة، ولهذا لا تثبت به حرمة المصاهرة. والوطئ الحرام في دار الاسلام يوجب المهر إذا انتفي الحد فيجب ثلث الدية لكونه جائفة على ما بينا، وإن كان لا يستمسك ضمن الدية ولا يضمن المهر عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يضمن المهر أيضا لما ذكرنا. ولنا أن الدية ضمان كل العضو والمهر ضمان جزء منه وضمان الجزء يدخل في ضمان الكل إذا كانا في عضو واحد كما إذا قطع أصبع إنسان ثم قطع كفه قبل البرء يدخل أرش الإصبع في أرش الكف ويسقط إحصانه بهذا الوطئ لوجود صورة الزنا وهو الوطئ الحرام. وفي المحيط: لو كسر فخذ امرأة في الزنا أو جرحها ضمن الدية في ماله وحده لأنه شبه العمد وفي شبهة تجب الدية في ماله يعني به فيما دون النفس، وإن جنت الأمة فزنى بها
32 ولي الجناية، فإن كانت الجناية توجب القصاص بأن قتلت نفسا عمدا فلا حد عليه وعليه العقر لأن من العلماء من قال يملكها في هذه الصورة فأورث شبهة، وإن كانت الجناية لا توجب القصاص فإن فداها المولى يجب عليه الحد بالاتفاق لأن الزاني لم يملك الجثة، وإن دفعها بالجناية فعلى الخلاف. وفي الفوائد الظهيرية: لو غصبها ثم زنى بها ثم ضمن قيمتها فلا حد عليه عندهم جميعا خلافا للشافعي، أما لو زنا بها ثم غصبها وضمن قيمتها لم يسقط الحد. وفي جامع قاضيخان: لو زنى بحرة ثم نكحها لا يسقط الحد بالاتفاق قوله: (والخليفة يؤخذ بالقصاص والأموال لا بالحد) لأن الأول حقوق العباد لما أن حق استيفائها لمن له الحق فيكون الإمام فيه كغيره وإن احتاج إلى المنعة فالمسلمون منعته فيقدر بهم على الاستيفاء فكان الوجوب مفيدا، وبهذا يعلم أنه يجوز استيفاء القصاص بدون قضاء القاضي والقضاء لتمكين الولي من استيفائه لا أنه شرط كما صرحوا به. وأما الثاني - أعني الحدود - فإنما لا تقام عليه لأن الحد حق الله تعالى والإمام هو المكلف بإقامته وتعذر إقامته على نفسه لأن إقامته بطريق الجزاء والنكال ولا يفعل ذلك أحد بنفسه ولا ولاية لاحد عليه ليستوفيه وفائدة الايجاب الاستيفاء فإذا تعذر لم يجب، وفعل نائبه كفعله لأنه بأمره. أطلق في الحد فشمل حد القذف لأن المغلب فيه حق الشرع فكان كبقية الحدود. والمراد بالخليفة الإمام الذي ليس فوقه إمام، وقيد به احترازا عن أمير البلدة فإنه يقام عليه الحدود بأمر الإمام والله أعلم. باب الشهادة على الزنا والرجوع عنها قوله: (شهدوا بحد متقادم سوى حد القذف لم يحد) أي شهدوا بسبب حد وهو الزنا أو السرقة أو شرب الخمر لا بنفس الحد، وكذلك قوله متقادم معناه متقادم سببه. والأصل أن الحدود الخالصة حقا لله تعالى تبطل بالتقادم لأن الشاهد مخير بين حسبتين أداء الشهادة والستر، فالتأخير إن كان لاختيار الستر فالاقدام على الأداء بعد ذلك لضغينة هيجته أو لعداوة حركته فيتهم فيها، وإن كان التأخير لا للستر يصير فاسقا آثما فتيقنا بالمانع بخلاف التقادم في حد القذف لأن فيه حق العباد لما فيه من دفع العار عنه ولهذا لا يصح رجوعه بعد الاقرار
33 والتقادم غير مانع في حقوق العباد، ولان الدعوى فيه شرط فيحمل تأخيرهم على انعدام الدعوى فلا يوجب تفسيقهم، ولا يرد حد السرقة لأن الدعوى ليس بشرط للحد لأنه خالص حق الله تعالى على ما مر وإنما شرط للمال، ولان الحكم يدار على كون الحد حقا لله تعالى فلا يعتبر وجود التهمة في كل فرد، ولان السرقة تقام على الاستشرار على غرة من المالك فيجب على الشاهد إعلامه وبالكتمان يصير فاسقا آثما. وأشار المصنف بكون التقادم مبطلا لها إلى أن التقادم يمنع الإقامة بعد القضاء حتى لو هرب بعد ما ضرب بعض الحد ثم أخذ بعد ما تقادم الزمان لا يقام عليه لأن الامضاء من القضاء في باب الحدود فلا بد من قيام الشهادة حال الاستيفاء، وبالتقادم لم تبق الشهادة فلا يصح هذا القضاء الذي هو الاستيفاء. وقيد بالشهادة لأنه لو أقر بسبب حد متقادم حد لانتفاء العلة لأن الانسان لا يعادي نفسه إلا في حد الشرب عند أبي حنيفة وأبي يوسف فإن التقادم فيه يبطل الاقرار، كذا في غاية البيان. ولم يفسر المصنف التقادم لأن الإمام الأعظم لم يقدره بشئ وإنما فوضه إلى رأي القاضي في كل عصر لكن الأصح ما عن محمد أنه يقدر بشهر لأن ما دونه عاجل وهو مروي عنهما أيضا، وقد اعتبره محمد في شرب الخمر أيضا. وعندهما: هو مقدر بزوال الرائحة فلو شهدوا عليه بالشرب بعدها لا تقبل. وقد جزم به المصنف في بابه فظاهره كغيره أنه المختار فعلم أن الأصح اعتبار الشهر إلا في شرب الخمر. ولم يستثن المصنف كون التقادم لبعد المكان عن القاضي لأن العذر لا يختص به بل يكون بنحو مرض أو خوف طريق. وحاصله أن كل شئ منع الشاهد من المسارعة إلى أداء الشهادة فهو عذر بقدره، ولم يذكر المصنف وجوب الحد على الشهود إذا شهدوا بزنا متقادم. وذكر في الخانية: لو شهدوا بزنا متقادم اختلفوا فيه قال بعضهم يحد الشهود حد القذف، وقال بعضهم لا يحدون اه. قوله: (ويضمن المال) يعني في صورة شهادتهم بسرقة متقادمة لأن الدعوى شرط في حقوق العباد فتأخير الشاهد لتأخير الدعوى لا يلزم فيه تفسيق ولا تهمة ولذا لم يبطل حد القذف بالتقادم إن كان الغالب فيه حق الله تعالى على الأصح لتوقفه على الدعوى. أطلقه فشمل ما إذا كان تأخير الشهادة لعدم الدعوى بسبب عدم علم صاحب المال أو لطلبه الستر أو لكتمان الشهادة بعد طلبه الشهادة منه. وينبغي أن لا تقبل شهادتهم في حق المال أيضا في الوجه الثاني لفسقهم بالكتمان. واعلم أن قولهم بضمان المال مع تصريحهم بوجود التهمة في شهادتهم مع التقادم مشكل لتصريحهم في كتاب الشهادات بأنه لا شهادة للمتهم، سواء كانت في الأموال أو في غيرها إلا أن يقال إن التهمة غير محققة وإنما الموجود الشبهة والمال يثبت مع الشبهة بخلاف الحد قوله: (ولو أثبتوا زناه بغائبة حد بخلاف السرقة) أي لو شهدوا أنه
34 سرق من فلان وهو غائب يقطع، والفرق أن بالغيبة تنعدم الدعوى وهي شرط في السرقة دون الزنا، وبالحضور يتوهم دعوى الشبهة ولا معتبر بالموهوم لأنه شبهة الشبهة واعتبارها يؤدي ى سد باب الحدود لأن المقر يحتمل أن يرجع فرجوعه شبهة فيدرأ به الحد، واحتمال رجوعه شبهة الشبهة فلا يسقط، وكذا البينة يحتمل رجوعها فرجوعها حقيقة شبهة واحتماله شبهة الشبهة. وأشار المصنف إلى أنه لو أقر أنه زنى بفلانة وهي غائبة فإنه يحد بالأولى، ولأنه عليه السلام رجم ماعزا، والغامدية حين أقر بالزنا بغائبين. وقيد بالزنا لأنه لو كان القصاص بين شريكين وكان أحدهما غائبا لا يتمكن الحاضر من الاستيفاء لاحتمال العفو من الغائب وهو حقيقة المسقط، فاحتماله يكون شبهة المسقط لا شبهة الشبهة قوله: (وإن أقر بالزنا بمجهولة حد وإن شهدوا بذلك لا) أي شهدوا عليه أنه زنى بامرأة لا يعرفونها لا يحد لاحتمال أنها امرأته أو أمته هو الظاهر بخلاف الاقرار لأنه لا يخفى عليه امرأة وأمته، ولا اعتبار باحتمال أن تكون أمته بالميراث ولا يعرفها لأنه ثابت في المعروفة كالمجهولة واعتباره يؤدي إلى انسداد باب الحدود. وفي كافي الحاكم: الشهيد وإن قال المشهود عليه إن التي رأوها معي ليست لي بامرأة ولا خادم لم يحد أيضا، وذلك لأنها يتصور أنها أمة ابنه أو منكوحة نكاحا فاسدا اه. وهذا التعليل أولى مما علل به لعدم الوجوب من أنه إقرار مرة واحدة لأنه يتقضى أنه لو قال هذه المقالة أربعا حد وليس كذلك. وفي الخانية: لو قالوا زنى بامرأة لا نعرفها ثم قالوا بفلانة فإنه لا يحد الرجل ولا الشهود اه. قوله: (كاختلافهم في طوعها أو في البلد ولو على كل زنا أربعة) بيان لمسألتين لا حد فيهما: الأولى لو اختلف الشهود في طوع المرأة فشهد اثنان أنه استكرهها واثنان أنها طاوعته وعدم وجوب الحد عليهما قول الإمام. وقالا: يحد الرجل خاصة لاتفاقهم على الموجب عليه وانفراد أحد الفريقين بزيادة جناية وهو الاكراه بخلاف جانبها لأن طواعيتها شرط لتحقق الموجب في حقها ولم يثبت لاختلافهم. وله أنه اختلف المشهود عليه لأن الزنا فعل واحد يقوم بهما ولان شاهدي الطواعية صارا قاذفين لها، وإنما يسقط الحد عنهما لشهادة شاهدي الاكراه لأن زناها مكرهة يسقط إحصانها فصارا خصمين في ذلك. أطلقه فشمل ما إذا شهد ثلاثة بالطواعية وواحد بالاكراه وعكسه لكن في الوجه الأول يحد الثلاثة حد القذف لعدم سقوط إحصانها بشهادة الفرد، وعند الإمام لا يحدون في الوجوه الثلاثة لأن اتفاق الأربعة على النسبة إلى الزنا بلفظ الشهادة مخرج لكلامهم من أن يكون قذفا. الثانية لو اختلفوا في
35 البلد الذي وقع فيها الزنا فهو على وجهين: أحدهما أن يشهد اثنان أنه زنى بها بالكوفة واثنان أنه زنى بها بالبصرة فلا حد عليهما لأن المشهود به فعل الزنا وقد اختلف باختلاف المكان ولم يتم على كل واحد منهما نصاب الشهادة، ولا يحد الشهود خلافا لزفر لشبهة الاتحاد نظرا إلى اتحاد الصورة والمرأة. وعلى هذا الخلاف إذا جاء القاذف بأربعة شهداء فشهد اثنان أنه زنى في بلد وآخران أنه زنى في بلد آخر. وثانيهما أن يتم نصاب الشهادة بالزنا في كل بلد وهو على وجهين: أحدهما أن يذكروا وقتا واحدا مع تباعد المكانين كما إذا شهد أربعة أنه زنى بها بالبصرة وقت طلوع الشمس في اليوم الفلاني في الشهر الفلاني من السنة الفلانية وأربعة أنه زنى بها بالكوفة في الوقت المذكور بعينه، وفي هذه لا حد عليهما وهو المراد بقوله ولو على كل زنا أربعة لتيقننا بكذب أحدهما لأن الشخص الواحد لا يكون في ساعة واحدة في مكانين متباعدين، ولا يعرف الصادق من الكاذب فيعجز القاضي عن الحكم بهما للتعارض أو لتهمة الكذب، ولا يحد الشهود أيضا لأن كل واحد منهما تم به نصاب الشهادة واحتمل الصدق. ثانيهما أن يتقارب المكانان مع اتحاد الوقت فتجوز شهادتهم لأنه يصح كون الامر فيهما في ذلك الوقت لأن طلوع الشمس يقال لوقت ممتد امتدادا عرفيا لا أنه يخص وقت ظهورها من الأفق. ويحتمل تكرار الفعل، كذا في فتح القدير. وذكر الحاكم في كافيه: إذا شهد أربعة على رجل بالزنا فاختلفوا في المزني بها أو في المكان أو في الوقت بطلت شهادتهم إلا أن يكون اختلافهم في مكانين متقاربين من بيت أو غير بيت فيقام الحد استحسانا اه قوله: (ولو اختلفوا في بيت واحد حد الرجل والمرأة) أي اختلفوا في مكان الزنا من بيت واحد كما إذا شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه واثنان أنه زنى بها في زاوية أخر منه وهذا استحسان، والقياس أن لا يجب لاختلاف المكان حقيقة. وجه الاستحسان أن التوفيق ممكن بأن يكون ابتداء الفعل في زاوية والانتهاء في زاوية أخرى بالاضطراب والحركة أو لأن الواقع في وسط البيت فيحسبه من في المقدم في المقدم ومن في المؤخر في المؤخر فيشهد بحسب ما عنده. أطلق في البيت وهو مقيد بالصغير لأن الكبير كالدار ولو اختلفا في دارين لا حد كالبلدين. والحاصل أن الاختلاف في المكان مانع لقبولها إلا إذا أمكن التوفيق بأن يكون صغيرا. وقيد الاختلاف بما ذكر لأنهم لو اختلفوا في طولها وقصرها أو سمنها أو هزالها أو في لونها أو في ثيابها فإنه لا يمنع لامكان التوفيق. وقد استشكل على هذا مذهب الإمام فيما إذا اختلفوا في الاكراه والطواعية فإن التوفيق فيه ممكن بأن يكون ابتداء الفعل كرها وانتهاؤه طواعية. قال في الكافي: يمكن أن يجاب عنه بأن ابتداء الفعل إذا كان عن إكراه لا يوجب الحد فبالنظر إلى الابتداء لا يجب، وبالنظر إلى الانتهاء يجب فلا يجب بالشك، وهنا بالنظر إلى الزاويتين يجب فافترقا.
36 قوله: (ولو شهدوا على زنا امرأة وهي بكر أو الشهود فسقه أو شهدوا على شهادة أربعة وإن شهد الأصول لم يحد أحد) بيان لثلاث مسائل لا حد فيها: الأولى لو شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة فوجدت فلانة بكرا بقول النساء لأن الزنا لا يتحقق مع بقاء البكارة فلا حد عليهما لظهور الكذب، ولا على الشهود لأن سقوطه بقول النساء وشهادتهن حجة في إسقاط الحد وليس بحجة في إيجابه. وأشار المصنف إلى أنهم لو شهدوا على رجل بالزنا فوجد مجبوبا أو شهدوا عليها بالزنا فوجدت رتقاء أو قرناء فإنه لا حد على أحد لما ذكرنا. وأطلق في قوله وهي بكر فشمل ما إذا ثبتت بكارتها بقول امرأة واحدة. وكذا في الرتق والقرن وكل ما يعمل فيه بقول النساء، كذا في كافي الحاكم. الثانية لو شهد أربعة فسقة بالزنا لاشتراط العدالة فلم يثبت الزنا فلا حد ولا حد على الشهود لأن الفاسق من أهل الأداء والتحمل وإن كان في أدائه نوع قصور لتهمة الفسق ولهذا لو قضى القاضي بشهادته ينفذ عندنا فيثبت بشهادتهم شبهة الزنا فسقط الحد عنهم. وأطلق في الفسقة فشمل ما إذا علم فسقهم في الابتداء أو ظهر فسقهم كما في الهداية. وأشار المصنف بسقوط الحد عن الشهود الفسقة إلى أن القاذف لو أقام أربعة من الفساق على أن المقذوف قد زنى يسقط عنه الحد - قالوا - بخلاف القاتل حيث لا يسقط عنه القتل بإقامة الشهود الفسقة على أن أولياء المقتول قد عفوا لأن وجوب القود بالقتل متيقن فلا يسقط عنه بالشك والاحتمال، وحد القذف لم يجب بالقذف وإنما يجب بالعجز عن إقامة البينة وتمامه في التبيين. الثالثة لو شهدوا على شهادة أربعة فلان الشهادة على الشهادة لا تجوز في الحدود لما فيها من زيادة الشبهة لأن احتمال الكذب فيها في موضعين: في شهادة الأصول وفي شهادة الفروع. ولا حد على الفروع لأن الحاكي للقذف لا يكون قاذفا، وكذا لا حد على الأصول بالأولى فإذا شهد الفروع وردت شهادتهم ثم جاء الأصول بعد ذلك وشهدوا على معاينة ذلك الزنا بعينه لم تقبل شهادتهم ولم يحدوا أيضا وهو المراد بقوله وإن شهد الأصول لم يحد أحد لأن شهادة الأصول قد ردت من وجه برد شهادة الفروع. قيد بالحد لأنه لو ردت شهادة الفروع في الأموال فإن شهادة الأصول بعده مقبولة لثبوت المال مع الشبهة دون الحد، ولو ردت شهادة الأصول لم تقبل شهادة الأصول ولا الفروع بعده أبدا في كل شئ إن ردت لتهمة مع بقاء الأهلية، وإن ردت لعدم الأهلية كالعبيد والكفار تقبل شهادتهم في تلك الحادثة بعد العتق والاسلام لزوال المانع، كذا في التبيين قوله: (ولو كانوا عميانا أو محدودين أو ثلاثة حد الشهود لا المشهود عليهما) لأنه لا يثبت بشهادة الأعمى والمحدود المال فكيف يثبت الحد وهم ليسوا من أهل أداء الشهادة فلم تثبت شبهة الزنا فكانوا قذفة فيحدون، ومراده من ليس أهلا للأداء فدخل العبد مع أنه ليس
37 بأهل للتحمل أيضا، ولا فرق بين أن يكون الكل كذلك أو بعضهم كذلك، وأما إذا نقص عددهم عن الأربعة فلأنهم قذفة لأن الشهادة قذف حقيقة وخروجها عنه باعتبار الحسبة ولا حسبة عند النقصان، وحد عمر رضي الله عنه الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير. قوله: (ولو حد فوجد أحدهم عبدا أو محدودا حدوا) لأنهم قذفة إذا الشهود ثلاثة على ما بينا قوله: (وأرش ضربه هدر وإن رجم فديته على بيت المال) وهذا عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وقالا: أرش الضرب أيضا على بيت المال. ومعناه إذا كان جرحه، وعلى هذا الخلاف إذا مات من الضرب. وعلى هذا إذا رجع الشهود لا يضمنون عنده، وعندهما يضمنون. لهما أن الواجب بشهادتهم مطلق الضرب إذا الاحتراز عن الجرح خارج عن الوسع فينتظم الجارح وغيره فيضافان إلى شهادتهم فيضمنون بالرجوع، وعند عدم الرجوع يجب على بيت المال لأنه ينتقل فعل الجلاد إلى القاضي وهو عامل للمسلمين فتجب الغرامة في مالهم وصار كالرجم والقصاص. ولأبي حنيفة أن الواجب هو الجلد وهو ضرب مؤلم غير جارح ولا مهلك ولا يقع جارحا ظاهرا إلا لمعنى في الضارب وهو قلة هدايته فاقتصر عليه إلا أنه لا يجب الضمان عليه في الصحيح كيلا يمتنع الناس عن الإقامة مخافة الغرامة قوله: (فلو رجع أحد لا ربعة بعد الرجم حد وغرم ربع الدية) لأن الشهادة انقلبت قذفا بالرجوع لأن به تنفسخ الشهادة فجعل للحال قذفا للميت وقد انفسخت الحجة فينفسخ ما ينبني عليه وهو القضاء في حقه فلا يورث الشبهة بخلاف ما إذا قذفه غيره لأنه غير محصن في حق غيره لقيام القضاء في حقه. وإنما غرم الواحد الراجع ربع الدية لبقاء من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق فيكون التالف بشهادة الراجع ربع الحق، ولا يجب القصاص على الراجع عندنا لأنه تسبب في الاتلاف وليس بمباشر. قيد بالرجوع لأنه لو وجد واحد منهم عبدا فلا حد على واحد منهم لظهور أنها لم تكن شهادة بل هي قذف في ذلك الوقت فصاروا قاذفين حيا ثم مات والحد لا يورث على ما سيجئ، وأشار إلى أنه لو كان حده الجلد فجلد بشهادتهم ثم رجع واحد منهم فإنه يحد الراجع بالأولى وهو متفق عليه وفي مسألة الكتاب خلاف زفر، وإلى أنه لو رجع الكل حدوا وغرموا ربع الدية، وإلى أنه لو شهد على رجل أربعة أنه زنى بفلانة وشهد عليه أربعة آخرون بالزنا بغيرها ورجم فرجع الفريقان فإنهم يضمنون الدية إجماعا ويحدون للقذف عندهما. وقال محمد: لا يحدون قوله: (وقبله حدوا ولا رجم) أي لو
38 رجع أحدهم قبل الرجم حد الكل الراجع وغيره وامتنع الرجم. وقال محمد: حد الراجع خاصة لأن الشهادة تأكدت بالقضاء فلا ينفسخ إلا في حق الراجع كما إذا رجع بعد الامضاء ولهما إن الامضاء من القضاء وصار كما إذا رجع واحد منهم قبل القضاء ولهذا يسقط الحد عن المشهود عليه. أطلق في قوله قبله فشمل ما إذا كان قبل القضاء أو بعده، وخلاف محمد إنما هو فيما بعد القضاء، وأما قبل القضاء فيحد الكل عند الثلاثة خلافا لزفر فإنه قال: يحد الراجع خاصة لأنه لا يصدق على غيره. ولنا أن كلامهم قذف في الأصل وإنما يصير شهادة باتصال القضاء به فإذا لم يتصل بقي قذفا فيحدون قوله: (ولو رجع أحد الخمسة لا شئ عليه) لأنه بقي من يبقى بشهادته كل الحق وهو شهادة الأربع، وشمل قوله لا شئ عليه الحد والغرم وما إذا كان قبل القضاء وبعده، وأفاد أنه لا شئ على الأربعة بالأولى، وحاصله أنه لا شئ على الكل وكأنه لم يرجع أحد. قوله: (فإن رجع آخر حدا وغرما ربع الدية) أما الحد فلانفساخ القضاء بالرجم في حقهما، وأما الغرامة فلانه بقي من يبقى بشهادته ثلاثة أرباع الحق والمعتبر بقاء من بقي على ما عرف. وأفاد بالغرامة أن المسألة بعد الرجم لأنه لو كان قبله فلا غرامة وإنما لزم الأول برجوع الثاني لأنه وجد منه الموجب للحد والضمان وهو قذفه وإتلافه بشهادته وإنما امتنع الوجوب لمانع وهو بقاء من يقوم بالحق، فإذا زال المانع برجوع الثاني ظهر الوجوب، وإذا رجع الثالث ضمن ربع الدية، وكذا الثاني والأول، وإذا رجع الخمسة ضمنوا الدية أخماسا، كذا في الحاوي القدسي قوله: (وضمن المزكون دية المرجوم إن ظهروا عبيدا) يعني ضمن المزكون برجوعهم عن التزكية دية المرجوم إن ظهر الشهود أنهم ليسوا أهلا للشهادة عند أبي حنيفة. وقالا: هي على بيت المال لأنهم أثنوا على الشهود خيرا فصار كما إذا أثنوا على المشهود عليه خيرا بأن شهدوا بإحصانه. وله أن الشهادة إنما تصير حجة وعاملة بالتزكية فكانت التزكية في معنى علة العلة فيضاف الحكم إليها بخلاف شهود الاحصان لأنه محض الشرط. قيدنا بكونهم رجعوا بأن قالوا تعمدنا الكذب مع علمنا بأنهم ليسوا أحرارا لأنهم لو ثبتوا على تزكيتهم ولم يرجعوا أو قالوا أخطأنا لم يضمنوا بالاجماع لأنهم أخطؤوا فيما عملوا لعامة المسلمين فصاروا كالقاضي. وأفاد بالمزكين أنهم أخبروا بحرية الشهود وإسلامهم وعدالتهم لتكون تزكية، سواء كان بلفظ الشهادة أو بلفظ الاخبار، لأنهم لو أخبروا بأنهم عدول ثم ظهروا عبيدا لم يضمنوا اتفاقا لأنها ليست تزكية، والقاضي قد أخطأ حيث اكتفى بهذا القدر. وقيد بالمزكيين لأنه لا ضمان على الشهود والمسألة بحالها لأن كلامهم لم يقع شهادة ولا يحدون للقذف لأنهم قذفوا حيا وقد مات فلا
39 يورث. وقوله إن ظهروا عبيدا مثال بل المراد أن ظهر أنهم ليسوا أهلا للشهادة ولو كانوا كفارا. ثم اعلم أنه وقع في كثير من الكتب وجوب الضمان على المزكين بظهورهم عبيدا من غير تقييد برجوع المزكين حتى جعلها في المنظومة مسألتين: المسألة الأولى فيما إذا ظهروا عبيدا. الثانية إذا رجع المزكون وليس الامر كذلك. والحاصل أن ظهور الشهود عبيدا وعدمه لا تأثير له في ضمان المزكين وإنما الموجب عليهم هو الرجوع فقط عند الإمام، وإذا لم ير جعوا وظهروا عبيدا فالضمان في بيت المال اتفاقا. قوله: (كما لو قتل من أمر برجمه فظهروا كذلك) أي يضمن المزكون الدية كما يضمن القاتل لمن أمر القاضي برجمه فظهر الشهود أنهم ليسوا أهلا للشهادة. وفي القياس يجب القصاص على قاتله لأنه قتل نفسا معصومة بغير حق. وجه الاستحسان أن القضاء صحيح ظاهرا وقت القتل فأورث شبهة. وأشار بكون القاتل ضامنا إلى أن الدية في ماله لأنه عمد والعواقل لا تعقل دم العمد وتجب في ثلاث سنين لأنه وجب بنفس القتل بخلاف الواجب بالصلح حيث يجب حالا لأنه وجب بالعقد فأشبه الثمن في البيع. وقيد بقوله وأمر القاضي برجمه لأنه لو قتله بعد التزكية قبل القضاء بالرجم وجب القصاص في العمد والدية في الخطأ على عاقلته. والمراد من الامر بالرجم القضاء به فاستلزم أن يكون بعد التزكية، فلو أمر برجمه بعد الشهادة قبل التعديل خطأ من القاضي فقتله رجل عمدا وجب القصاص، أو خطأ وجبت الدية في ثلاث سنين. وقيد بقوله فظهروا كذلك لأنه لو قتله بعد الامر بالرجم ولم يظهر الشهود كذلك فلا شئ عليه. ولم يذكر المصنف تعزير القاتل ولا شك فيه لافتياته على الإمام كما في فتح القدير. وقيد بقتل المأمور برجمه لأن من قتل من قضى بقتله قصاصا فإنه يقتص منه، سواء ظهر الشهود عبيدا أو لا، لأن الاستيفاء للولي، كذا في التبيين من كتاب الردة. قوله: (وإن رجم فوجدوا عبيدا فديته في بيت المال) لأنه امتثل أمر الإمام فنقل فعله إليه، كذا في الهداية. وهو يقتضي أن يضبط رجم بالبناء للفاعل أي وإن رجم رجل من أمر القاضي برجمه، فالمسألة الأولى بيان لقتله بالسيف، والثانية بيان لقتله بالرجم، واقتصر عليه في فتح القدير. ويجوز أن يكون مبنيا للمفعول أي إن رجم المشهود عليه بالزنا في هذه الحالة ثم تبين حال الشهود، كذا في غاية البيان. ولم أر هل تؤخذ الدية حالا أو مؤجلة قوله: (وإن قال شهود الزنا تعمدنا النظر قبل شهادتهم) لأنه يباح النظر لهم إلى الفرج ضرورة تحمل الشهادة فأشبه الطبيب والقابلة والخافضة والختان والاحتقان والبكارة في العنة
40 والرد بالعيب. قيد بقوله تعمدنا النظر لأنهم لو قالوا تعمدنا النظر للتلذذ لا تقبل شهادتهم إجماعا لفسقهم. قوله: (ولو أنكر الاحصان فشهد عليه رجل وامرأتان أو ولدت منه زوجته رجم) أي لو أنكر الدخول بعد وجود سائر الشروط، أما إذا ولدت منه فلان الحكم بإثبات النسب منه حكم بالدخول عليه ولهذا لو طلقها يعقب الرجعة والاحصان يثبت بمثله، وأما إذا شهد عليه بالاحصان رجل وامرأتان بعد ما أنكر بعض شرائطه كالنكاح والدخول والحرية فإنه يرجم خلافا لزفر والشافعي، فالشافعي مر على أصله أن شهادتهن غير مقبولة في غير الأموال، وزفر يقول إنه شرط في معنى العلة لأن الجناية تتغلظ عنده فيضاف الحكم إليه فأشبه حقيقة العلة فلا تقبل شهادة النساء فيه احتيالا للدرء، وصار كما إذا شهد ذميان على ذمي زنى عبده المسلم أنه أعتقه قبل الزنا لا تقبل لما ذكرنا. ولنا أن الاحصان عبارة عن الخصال الحميدة وأنها مانعة عن الزنا على ما ذكرنا فلا يكون في معنى العلة، وصار كما إذا شهدوا به في غير هذه الحالة، ولا يرد أنه يصح الرجوع عن الاقرار به فدل أنه كالحد لأنا نقول: إنما صح لأنه لا مكذب له فيه بخلاف ما ذكر لأن العتق يثبت بشهادتهما، وإنما لا يثبت سبق التاريخ لأنه ينكره المسلم ويتضرر به المسلم. والمراد بقوله أو ولدت منه أن يكون له من زوجته ولد قبل الزنا. قال في غاية البيان: ودلت هذه المسألة على أن إثبات الاحصان ليس مثل إثبات العقوبات كالحدود والقصاص لأنها لا تثبت بدلالة الظواهر. قالوا: وكيفية الشهادة بالدخول أن يقول الشهود تزوج امرأة وجامعها أو باضعها، ولو قالوا دخل بها يكفي عندهما. وقال محمد: لا يكفي ولا يثبت بذلك إحصانه لأنه مشترك بين الوطئ والزفاف والخلوة والزيارة فلا يثبت بالشك كلفظ القربان والآتيان. ولهما أنه متى أضيف إلى المرأة بحرف الباء يتعين للجماع بخلاف دخل عليها فإنه للزيارة. ولو خلا بها ثم طلقها وقال وطئتها وأنكرت صار محصنا دونها، وكذا لو قالت بعد الطلاق كنت نصرانية وقال كانت مسلمة. وإذا كان أحد الزانيين محصنا يحد كل واحد منهما حده، وإن رجع شهود الاحصان لا يضمنون وهي معروفة. وفي المحيط: امرأة الرجل إذا أقرت أنها أمه هذا الرجل فزنى الرجل يرجم، وإن أقرت بالرق قبل أن يدخل بها ثم زنى الرجل لا يرجم استحسانا لا قياسا. رجل تزوج امرأة بغير ولي فدخل بها قال أبو يوسف: لا يكونان بذلك محصنين لأن هذا النكاح غير صحيح قطعا لاختلاف العلماء والاخبار فيه اه. والله أعلم.
41 باب حد الشرب أي الشرب المحرم أخره عن الزنا لأنه أقبح منه وأغلظ عقوبة، وقدمه على حد القذف لتيقن الحرمة في الشارب دون القاذف لاحتمال صدقه، وتأخير حد السرقة لأنه لصيانة الأموال التابعة للنفوس. قوله: (من شرب خمرا وأخذ وريحها موجود أو كان سكران ولو بنبيذ وشهد رجلان أو أقر مرة حدان علم شربه طوعا وصحا) للحديث من شرب الخمر فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه ثم إن شرب فاجلدوه فإن عاد في الرابعة فاقتلوه (1) أخرجه أصحاب السنن الأربعة إلا النسائي. ثم نسخ القتل في الرابعة بما رواه النسائي أنه عليه السلام قد أتى برجل شرب الخمر في الرابعة فجلدوه ولم يقتله. وزاد في لفظ فرأى المسلمون أن الحد قد وقع وأن القتل قد ارتفع. أطلق في شرب الخمر فشمل القطرة الواحدة كما سيصرح به آخرا، وفي وجود ريحها فشمل ما إذا كان الريح موجودا وقت الشهادة أو وقت رفعه إلى الحاكم وهي على وجهين: فإن كان المكان قريبا فلا بد من وجود الرائحة عند أداء الشهادة بأن يشهدا بالشرب وبقيام الرائحة أو يشهدا به فقط فيأمر القاضي باستنكاهه فيستنكهه ويخبره بأن ريحها موجود، فإن شهدا به بعد مضي ريحها مع قرب المكان فسيأتي، وإن كان المكان بعيدا فزالت الرائحة فلا بد أن يشهدا بالشرب ويقولا أخذناه وريحها موجود لأن مجيئهم به من مكان بعيد لا يستلزم كونهم أخذوه في حال قيام الرائحة فيحتاجون إلى ذكر ذلك للحاكم. ولو أخر المصنف اشتراط وجود الرائحة عن السكران بأن قال بعد قوله ولو بنبيذ وأخذ وريح ما شرب منه موجود لكان أولى لأنه لا بد من وجود رائحة الشرب الذي شربه خمرا كان أو نبيذا سكر منه. وقد ذكر المصنف الريح حيث قال موجود. وفي الهداية: وريحها موجودة وهو الحق لأن الريح من الأسماء المؤنثة السماعية كما في غاية البيان. وقيد بالرجلين لأن شهادة النساء لا تقبل في الحدود للشبهة. ولم يذكر المصنف أن القاضي يسأل الشهود كما يسألهم في الزنا وقد ذكره قاضيخان في الفتاوي فقال: وإذا شهد
42 الشهود عند القاضي على رجل بشرب الخمر سألهم القاضي عن الخمر ما هي ثم سألهم كيف شرب لاحتمال أنه كان مكرها، ثم يسألهم متى شرب لاحتمال التقادم، ثم يسألهم أنه أين شرب لاحتمال أنه شرب في دار الحرب اه. وينبغي أن يكون السؤال عن الوقت مبنيا على قول محمد، وأما على المذهب فلا لأن وجود الرائحة كاف ثم قال: فإذا بينوا ذلك حبسه القاضي حتى يسأل عن العدالة ولا يقضي بظاهر العدالة اه. والمشهود عليه بشربها لا بد أن يكون بالغا عاقلا مسلما ناطقا، فلا حد على صبي ولا مجنون ولا كافر. قال في الظهيرية: رجل ارتد عن الاسلام - والعياذ بالله تعالى - ثم أتى به إلى الإمام ثم شرب خمرا أو سكر من غير خمر أو سرق أو زنى ثم تاب وأسلم فإنه يحد في جميع ذلك ما خلا الخمر والسكر فإنه لا يحد فيهما لأن المرتد كافر وحد السكر والخمر لا يقام على أحد من الكفار اه. وفي الخانية: ولا يحد الأخرس سواء شهد الشهود عليه أو أشار بإشارة معهودة يكون ذلك إقرارا منه في المعاملات لأن الحدود لا تثبت بالشبهات، ويحد الأعمى. ولو قال المشهود عليه بشرب الخمر ظننتها لبنا أو قال لا أعلم أنها خمر لا يقبل ذلك لأنه يعرفها بالرائحة والذوق من غير ابتلاع، وإن قال ظننتها نبيذا قبل منه لأن غير الخمر بعد الغليان والشدة يشارك الخمر في الذوق والرائحة ا ه. ولا بد من اتفاق الشاهدين فلو شهدا على الشرب والريح يوجد منه لكنهما اختلفا في الوقت لم يحد، وكذا لو شهد أحدهما أنه شربها وشهد الآخر بإقراره بشربها، وكذلك لو شهد أحدهما أنه سكر من الخمر وشهد الآخر أنه سكر من السكر، كذا في الظهيرية. وفي حصره الثبوت في البينة والاقرار دليل على أن من يوجد في بيته الخمر وهو فاسق أو يوجد القوم مجتمعين عليها ولم يرهم أحد يشربونها غير أنهم جلسوا مجلس من يشربها لا يحدون وإنما يعزرون، وكذلك الرجل يوجد معه ركوة من خمر، وكان في عهد أبي حنيفة من يقول بوجود الحد عليه فقال له الإمام: لم تحده؟ فقال: لأن معه آلة الشرب والفساد. فقال الإمام: فارجمه إذن فإن معه آلة الزنا، كذا في الظهيرية. وفي قوله مرة لقول أبي يوسف أنه لا بد من مرتين اعتبارا بالشهادة كما في الزنا. قلنا: ثبت ذلك على خلاف القياس فلا يقاس عليه غيره، وشرط أن يعلم شربه طوعا وهو بأن يشهد الشهود أنه شربه طائعا لأن الشرب مكرها لا يوجب الحد. قال في الخانية: ولو قال أكرهت عليها لا يقبل لأن الشهود شهدوا عليه بالشرب طائعا، ولو لم يشهدوا بذلك لا تقبل شهادتهم، فلو قبلنا قوله كان لكل من شهد عليه بالشرب أن يقول كنت مكرها فيرتفع الحد
43 اه. قال في الظهيرية: فرق بين هذا وبين ما إذا ادعى المشهود عليه بالزنا أنه نكحها فإنه لا يحد لأن هناك هو ينكر السبب الموجب للحد لأن الفعل يخرج عن أن يكون زنا بالنكاح، وههنا بعذر الاكراه لا ينعدم السبب وهو حقيقة شرب الخمر إنما هذا عذر مسقط فلا يثبت إلا ببينة يقيمها على ذلك اه. وظاهر كلام المصنف أن الصحو شرط لإقامة الحد حتى لو حده في حال سكره لا يكتفي به لعدم فائدته من كونه زاجرا. وفي القنية: لا يجوز لقاضي الرستاق أو فقيهه أو المتفقهة وأئمة المساجد إقامة حد الشرب إلا بتولية الإمام قوله: (وإن أقر أو شهد بعد مضي ريحها لا لبعد المسافة أو وجد منه رائحة الخمر أو تقاياها أو رجع عما أقر أو أقر سكران بأن زال عقله لا) أي لا يحد في هذه المسائل كلها. أما ثبوته بعد زوال رائحتها بإقرار أو ببينة فللتقادم وهو مقدر به فالتقادم يمنع قبول الشهادة بالاتفاق غير أنه مقدر بالزمان عند محمد اعتبارا بحد الزنا، وهذا لأن التأخير يتحقق بمضي الزمان والرائحة قد تكون من غيره كما قيل: يقولون لي انكه شربت مدامة * فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا وعندهما يقدر بزوال الرائحة لقول ابن مسعود رضي الله عنه: تلتلوه ومزمزوه واستنكهوه فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه. ولان قيام الأثر من أقوى دلالة على القرب، وإنما يصار إلى التقدير بالزمان عند تعذر اعتباره والتمييز بين الروائح ممكن للمستدل وإنما يشتبه على الجهال، وأما الاقرار فالتقادم لا يبطله عند محمد كما في حد الزنا على ما مر تقريره، وعندهما لا يقام الحد إلا عند قيام الرائحة لأن حد الشرب ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولا إجماع إلا برأي ابن مسعود وقد شرط قيام الرائحة على ما روينا. ورجح في غاية البيان قول محمد فقال: والمذهب عندي في الاقرار ما قاله محمد لأن حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنكره بعض أهل العلم. قال أبو عبيد: لأن الأصل في الحدود إذا جاء صاحبها مقرا بها الرد والاعراض وعدم الاستمتاع احتيالا للدرء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقر ماعز فكيف يأمر ابن مسعود بالتلتلة والمزمزة والاستنكاه حتى يظهر سكره؟ فلو صح فتأويله أنه جاء في رجل أنه مولع بالشراب مدمن فاستجازه لذلك اه. وفي فتح القدير: وقول محمد هو الصحيح اه. والحاصل أن المذهب قول أبي حنيفة وأبي يوسف إلا أن قول
44 محمد أرجح من جهة المعنى، وقدمنا التفصيل في اشتراط وجود الرائحة، وأن المسافة إذا كانت بعيدة فالشرط وجودها عند التحمل لا الأداء وهو المراد بقوله لا لبعد المسافة. وقدمنا أن وجود الرائحة لا بد منها، سواء كان قد شرب الخمر أو سكر من نبيذ. وقول الزيلعي وأشار في الهداية إلى أنه لا يشترط غير صحيح لأنه قال أولا ومن شرب الخمر فأخذ وريحها موجودة أو جاؤوا به وهو سكران، وثانيا فإن أخذه الشهود وريحها توجد أو سكران وكونه سكران مغن عن اشتراط وجود الرائحة إذ لا يوجد سكران بغير رائحة ما شربه. وأما إذا وجد منه رائحة الخمر أو تقيأها فلانة يحتمل أنه شربها مكرها أو مضطرا والرائحة محتملة أيضا فلا يجب الحد بالشك. وأشار إلى أنه لو وجد سكران لا يحد من غير إقرار ولا بينة لاحتمال ما ذكرنا، ولاحتمال أنه سكر من المباح. وفي الظهيرية: شهد أحدهما أنه شربها والآخر أنه قاءها لم يحد، وإذا شرب قوم نبيذا فسكر منه بعضهم دون البعض حد من سكر، وأما إذا رجع عن الاقرار فلانه خالص حق الله تعالى فيعمل الرجوع فيه كسائر الحدود. وهذا لأنه يحتمل أن يكون صادقا فصارت شبهة والحدود تدرأ بالشبهات، وأما إذا أقر وهو سكران فلزيادة احتمال الكذب في إقراره فيحتال للدرء لأنه خالص حق الله تعالى. وأشار إلى أن كل حد كان خالصا لله تعالى فلا يصح إقرار السكران به، وإن ما لم يكن خالصا لله تعالى فإنه يصح إقراره به كحد القذف لأن فيه حق العبد والسكران فيه كالصاحي عقوبة عليه كما في سائر تصرفاته. والحاصل أن إقراره بالحدود لا يصح إلا حد القذف، وإقراره بسبب القصاص وسائر لحقوق من المال والطلاق والعتاق وغيرها صحيح لأنها لا تقبل الرجوع. ولذا إذا أقر بالسرقة ولم يقطع لسكره أخذ منه المال وصار ضامنا له، وأما ارتداده فليس بصحيح فلا تبين منه امرأته لأن الكفر من باب الاعتقاد فلا يتحقق مع السكر. قال في فتح القدير: هذا في الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان في الواقع قصد أن يتكلم به ذاكرا لمعناه كفر وإلا فلا. وفي التبيين: وعند أبي يوسف ارتداده كفر، ذكره في الذخيرة. وأما إذا أسلم ينبغي أن يصح كإسلام المكره اه. وفي فتح القدير: إن إسلامه غير صحيح وقيد بالاقرار
45 لأنهم لو شهدوا عليه بالشرب وهو سكران قبلت شهادتهم، وكذا بالزنا وهو سكران كما إذا زنى وهو كران، وكذا بالسرقة وهو سكران ويحد بعد الصحو ويقطع لأن الانشاء لا يحتمل الكذب فيعتبر فعله فيما ينفذ من غير قصد واعتقاد. وهذا كله إذا سكر من المحرم، وأما إذا سكر بالمباح كشرب المضطر والمكره. والمتخذ من الحبوب والعسل والدواء والبنج فلا تعتبر تصرفاته كلها لأنه بمنزلة الاغماء لعدم الجناية. وفي الخانية: وإن زال عقله بالبنج فطلق إن كان حين تناوله البنج علم أنه بنج يقع الطلاق، وإن لم يعلم لا يقع. وعن أبي يوسف ومحمد لا يقع من غير فصل وهو الصحيح اه. وهذا يدل على أن البنج حلال مطلقا على الصحيح. وقوله بأن زال عقله بيان لحد السكر فعند أبي حنيفة السكران من النبيذ الذي يحد هو الذي لا يعقل منطقا قليلا ولا كثيرا، ولا يعقل الرجل من المرأة ولا الأرض من السماء، وقالا: هو الذي يهذي ويختلط كلامه غالبا، فإن كان نصفه مستقيما فليس بسكران لأنه السكران في العرف وإليه مال أكثر المشايخ. وله أن يؤخذ في أسباب الحدود بأقصاها درأ للحد ونهاية السكران يغلب السرور على العقل فيسلبه الميز بين شئ وشئ، وما دون ذلك لا يعرى عن شبهة الصحو. والمعتبر في القدح المسكر في حق الحرمة ما قالاه بالاجماع أخذا بالاحتياط. وفي الخانية: وبقولهما أفتى المشايخ. وفي فتح القدير: واختاروه للفتوى لضعف دليل الإمام. واستدل له في الظهيرية بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من بات سكران بات عروسا للشيطان فعليه أن يغتسل إذا أصبح. فهذا إشارة إلى أن السكران من لا يحس بشئ مما يصنع به. وحكي أن أئمة بلخ اتفقوا على أنه يستقرأ سورة من القرآن فإن أمكنه أن يقرأها فليس بسكران حتى يحكي أن أميرا ببلخ أتاه بعض الشرطي - بسكون الراء -
46 بسكران فأمره الأمير أن يقرأ قل يا أيها الكافرون فقال السكران للأمير اقرأ سورة الفاتحة أو فلما قال الأمير: الحمد لله رب العالمين قال: قف فقد أخطأت من وجهين تركت التعوذ عند افتتاح القراءة وتركت التسمية وهي آية من أول الفاتحة عند بعض الأئمة والقراء، فخجل الأمير وجعل يضرب الشرطي الذي جاء به ويقول: أمرتك أن تأتيني بالسكران فجئتني بمقرئ بلخ اه. وفي فتح القدير: ولا شك أن المراد ممن يحفظ القرآن أو كان حفظها فيما حفظ منه لا من لم يدرسها أصلا، ولا ينبغي أن يعول على هذا بل ولا معتبر به فإنه طريق سماع تبديل كلام الله تعالى فإنه ليس كل سكران إذا قيل له اقرأ قل يا أيها الكافرون يقول لا أحسنها الآن بل يندفع قارئا فيبدلها إلى الكفر، ولا ينبغي لاحد أن يلزم أحدا بطريق ذكر ما هو كفر وإن لم يؤاخذ به. قوله: (وحد السكر والخمر ولو شرب قطرة ثمانون سوطا) لاجماع الصحابة رضي الله عنهم. روى البخاري من حديث السائب بن يزيد قال: كنا نأتي بالشارب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدر من خلافة عمر رضي الله عنهما فنقوم عليه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا حتى كان آخر إمرة عمر رضي الله عنه فجلد أربعين حتى عتوا وفسقوا جلد ثمانين. وحاصل ما في فتح القدير أنه عليه الصلاة والسلام لم يسن فيه عددا معينا، ثم قدرة أبو بكر وعمر رضي الله عنهما بأربعين، ثم اتفقوا على ثمانين. وإنما جاز لهم أن يجمعوا على تعيينه والحكم المعلوم عنه عليه السلام عدم تعيينه لعلمهم أنه عليه السلام انتهى إلى هذه الغاية في ذلك الرجل لزيادة فساد منه، ثم رأوا أهل الزمان تغيروا إلى نحوه أو أكثر على ما تقدم من قول السائب حتى عتوا وفسقوا وعلموا أن الزمان كلما تأخر كان فساد أهله أكثر فكان ما أجمعوا عليه هو ما كان حكمه عليه السلام في أمثالهم. والسكر في عبارة المصنف بضم السين وسكون الكاف، كذا في السماع كما في غاية البيان، يعني لا السكر بفتحتين نوع من الأشربة والحاصل أن حرمة الخمر قطعية فيحد بقليله وحرمة غيره ظنية فلا يحد إلا بالسكر منه قوله: (وللعبد نصفه) أي نصف هذا الحد وهو أربعون سوطا لما رواه مالك في الموطأ أن عمر وعثمان وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم قد جلدوا عبيدهم نصف الحد في الخمر،
47 ولان الرق منصف للنعمة والعقوبة على ما عرف قوله: (وفرق على بدنه كحد الزنا) لأن تكرار الضرب في موضع واحد قد يفضي إلى التلف والحد شرع زاجرا لا متلفا. وأشار بالتشبيه إلى أنه لا يضرب الرأس ولا الوجه ولا الفرج كما قدمنا في حد الزنا، وأنه يضرب بسوط لا تمرة له، وأنه ينزع عنه ثيابه. قال في الهداية: ثم يجرد في المشهور من الرواية. وعن محمد أنه لا يجرد إظهار للتخفيف. ووجه المشهور إذا أظهرنا التخفيف مرة فلا يعتبر ثانيا اه. وسيصرح المصنف رحمه الله في فصل التعزير أن حد الشرب أخف من حد الزنا وصفا كما هو أخف منه قدرا. والحاصل أن المضروب في الحدود والتعزير يجرد عن ثيابه إلا الإزار احتراز عن كشف العورة إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه إلا الحشو والفرو - كذا في غاية البيان - إلا أنه قال: والأصح عندي ما روي عن محمد من أنه لا يجرد لعدم ورود النص بذلك. باب حد القذف هو في اللغة الرمي بالشئ. وفي الشرع الرمي بالزنا. وهو من الكبائر بإجماع الأمة قال الله تعالى * (إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم) * (النور: 23) كذا في فتح القدير. وليس هو من الكبائر مطلقا بل بحضرة أحد، أما القذف في الخلوة فصغيرة عند الشافعية كما في شرح جمع الجوامع، وقواعدنا لا
48 تأباه لأن العلة فيه لحوق العار وهو مفقود في الخلوة. وينبغي أن يقيد أيضا بكون المقذوف محصنا كما قيد به في الآية الكريمة فقذف غير المحصن لا يكون من الكبائر ولذا لم يجب به الحد فينبغي أن يعرف القذف في الشرع بأنه رمي المحصن بالزنا. وفي فتح القدير: وتعلق الحد به بالاجماع مستندين إلى قوله تعالى * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) * (النور: 4) والمراد الرمي بالزنا حتى لو رماها بسائر المعاصي غيره لا يجب الحد بل التعزير، وفي النص إشارة إليه أي إلى أن المراد بالزنا وهو اشتراط أربعة من الشهود يشهدون عليها بما رماها به ليظهر به صدقه فيما رماها به، ولا شئ يتوقف ثبوته بالشهادة على شهادة أربعة إلا الزنا، ثم ثبت وجوب جلد القاذف للمحصن بدلالة هذا النص للقطع بإلغاء الفارق وهو صفة الأنوثة واستقلال دفع عار ما نسب إليه بالتأثير بحيث لا يتوقف فهمه على ثبوت أهلية الاجتهاد. قوله: (هو كحد الشر ب كمية وثبوتا) أي حد القذف كحد الشرب قدرا وهو ثمانون سوطا إن كان حرا، ونص فإن كان القاذف عبدا، ويثبت سببه وهو القذف بشهادة رجلين أو بإقرار القاذف مرة. ولا تقبل فيه شهادة النساء ولا الشهادة على الشهادة ولا كتاب القاضي إلى القاضي. ولو ادعى المقذوف أن له بينة حاضرة على القاذف في مضر يحبسه القاضي في قول أبي حنيفة إلى قيام القاضي عن مجلسه، يريد به أن يلازمه ولا يأخذ منه كفيلا بنفسه في قول أبي حنيفة ومحمد. ولو أقام المقذوف شاهدا واحدا عدلا على القاذف وقال لي شاهد آخر في المصر قال أبو حنيفة رضي الله عنه: يحبسه القاضي. وكذا لو أقام المدعي شاهدين مستورين لا يعرفهما القاضي بالعدالة فإنه يحبسه. وقال أبو يوسف: لا يحبس بقول الواحد العدل. ولو قال مدعي القذف شهودي خارج المصر أو أقام شاهدا واحدا وادعى أن بينته خارج المصر وطلب من القاضي حبس القاذف فإنه لا
49 يحبسه، كذا في الخانية. وفي الظهيرية: هذا إذا كان المكان الذي فيه الشاهد بعيدا من المصر بحيث لا يمكنه الاحضار في ثلاثة أيام، أما إذا كان المكان قريبا يمكنه الاحضار في ثلاثة أيام فإنه يحبسه أيضا. وفي الظهيرية أيضا: إذا ادعى رجل على رجل أنه قذفه وجاء بشاهدين فالقاضي يسأل الشاهدين عن القذف ما هو وكيف هو، فإذا قالا نشهد أنه قال له يا زاني قبلت شهادتهما وحد القاذف إن كانا عدلين، فإن شهد أحدهما أنه قال له يا زاني يوم الجمعة وشهد الآخر أنه قال له يا زاني يوم الخميس قال أبو حنيفة: تقبل هذه الشهادة. وقالا: لا تقبل، وكذا لو شهد أحدهما بالاقرار والآخر بالانشاء اه. قوله: (فلو قذف محصنا أو محصنة بزنا حد بطلبه مفرقا) أي بطلب المقذوف مفرقا على أعضاء القاذف لما تلوناه من الآية وبينا من الاجماع. قيد بالمحصن لأن غيره لا يجب الحد بقذفه، وفيه إشارة إلى اشتراط عجز القاذف عن إقامة البينة على الزنا فإنه إذا أقام بينة على صدق مقالته لم يبق المقذوف محصنا فأغنى ذكر الاحصان عن هذا الشرط، وكذا لو صدقه المقذوف، وفي الظهيرية: رجل قذف رجلا بالزنا فرفعه المقذوف إلى القاضي فقال القاذف عندي شهود عدول على ما قلت وأقامهم على ذلك فإنه لا يحد. وهل يحد المقذوف؟ إن شهدوا بحد متقادم فإنه لا يحد كما لو شهدوا عليه بالزنا قبل القذف إن كان متقادما لم يحد، وإن كان غير متقادم حد فكذلك ههنا اه. وقيد بقوله بزنا لأنه لو قذفه بغيره لا يكون قذفا شرعا لما قدمناه فلا حد بقوله وطئك فلان وطئا حراما أو جامعك حراما. وأطلق في الزنا ولم يقيده بلفظ ليدخل فيه ما إذا قال زنيت أو يا زاني أو أنت أزنى الناس أو أنت أزنى من فلان أو أنت أزنى مني كما في الظهيرية، ويخالفه ما في الخانية: لو قال أنت أزنى مني لا حد
50 عليه. ولو قال لرجل يا زانية بالتاء لا يحد في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، وقال محمد: يكون قاذفا. ولو قال لامرأة يا زاني يجب الحد في قولهم لأنه ترخيم وهو حذف آخر الكلمة. ولو قال لرجل زان لا حد عليه، ولو قال لأهل قرية ليس فيكم زان إلا واحدا أو قال كلكم زان إلا واحدا أو قال لرجلين أحدكما زان فقيل هذا لأحدهما بعينه فقال نعم لا حد عليه. ولو قال لرجل يا زاني فقال له غيره صدقت حد المبتدئ دون المصدق. ولو قال له صدقت هو كما قلت فهو قاذف أيضا. ولو أن جماعة قالوا رأينا فلانا يزني بفلانة ثم قالوا فيما دون الفرج متصلا لا حد على المقذوف ولا على الجماعة، ولو قطعوا الكلام ثم قالوا فيما دون الفرج كان عليهم حد القذف. ولو قال من قال كذا وكذا فهو ابن الزانية فقال رجل أنا قلت لا حد على المبتدئ. ولو قال لغيره أنت تزني لا حد عليه. ولو قال لامرأة ما رأيت زانية خيرا منك لا حد عليه، ولو قال لامرأة زنى بك زوجك قبل أن يتزوجك كان قاذفا. ولو قال لغيره زنى فخذك أو ظهرك أو يدك لا حد عليه. ولو قال زنى فرجك كان قاذفا. ولو قذف رجلا بغير لسان العربية كان عليه الحد. ولو قال لغيره أخبرت أنك زان أو قال أشهدت على ذلك لا حد عليه. ولو قال لغيره زنيت وفلان معك يكون قاذفا لهما. ولو قال عنيت وفلان معك شاهد لا يصدق. ولو قال أشهد أنك زان فقال رجل آخر وأنا أشهد أيضا لا حد على الثاني إلا أن يقول وأنا أشهد عليه بمثل ما شهدت به عليه فحينئذ يكون قاذفا. ولو قال لغيره اذهب إلى فلان وقل له يا زاني فلا حد على الآمر. وهل يحد المأمور؟ إن كان المأمور قال له يا زاني يحد، وإن قال له إن فلانا يقول لك يا زاني لم يحد. ولو قال لآخر يا ابن الزانية وهذا معك قال ذلك بكلام واحد فهذا ليس بقذف للثاني. ولو قال لرجل يا زاني وهذا معك كان قاذفا لهما. ولو قال لآخر يا ابن الزانية وهذا ولم يقل معك فهو قاذف للثاني. رجل قال لامرأة أجنبية زنيت ببعير أو بثور أو بحمار لا حد عليه لأنه نسبها إلى التمكين من البهائم، ولو قال زنيت بناقة أو ببقرة أو بثوب أو بدرهم فعليه الحد لأن معنى كلامه زنيت بناقة بذلت لك أو بدرهم بذل لك في الزنا. فإن قيل: بل معنى كلامه زنيت بدرهم استؤجرت عليه فينبغي أن لا يحد في قول أبي حنيفة، وهذا لأن حرف الباء تصحب الأعواض والابدال قيل له: هذا محتمل وما ذكرناه فيتقابل المحتملان ويبقى قوله زنيت فكأنه لم يزد على هذا. ولو قال لرجل زنيت ببعير أو بناقة أو ما أشبه ذلك لا حد عليه لأنه
51 نسبه إلى إتيان البهيمة، فإن قال بأمة أو دار أو ثوب فعليه الحد، كذا في الخانية والظهيرية. وبه تبين أن حد القذف لا يجب مع التصريح بالزنا في بعض المسائل لقرينة، ويجب في بعض المسائل مع عدم التصريح مثل ما تقدم من قوله هو كما قال فحينئذ يحتاج إلى ضبط هذه المسألة. وفي الخانية: رجل قال لغيره يا لوطي لا حد عليه، ولو نسبه إلى اللواطة صريحا لا حد عليه في قول أبي حنيفة. وقال صاحباه: يحد اه. واعلم أنه يشترط وجود الاحصان وقت الحد حتى لو زنى المقذوف قبل أن يقام الحد على القاذف أو وطئ وطئا حراما على ما ذكرنا أو ارتد والعياذ بالله تعالى سقط الحد عن القاذف، ولو أسلم بعد ذلك لأن إحصان المقذوف شرط فلا بد من وجوده عند إقامة الحد، كذا في فتح القدير. وقيد بطلبه لأنه حقه وينتفع به على الخصوص من حيث دفع العار على نفسه وإن كان الغالب فيه حق الله تعالى على الأصح. وأشار به إلى أن الأخرس لا يوجب الحد لأن طلبه يكون بالإشارة ولعله لو كان ينطبق لصدقه ولما كان الطلب، ثم الحد لدفع العار استفيد منه أنه لا بد من تصور الزنا من المقذوف حتى لو قذف رتقاء أو مجبوبا لا يجب عليه الحد لأنهما لا يلحقهما العار بذلك لظهور كذبه بيقين.
52 قوله: (ولا ينزع عنه غير الفرو والحشو) إظهارا للتخفيف لأن سببه غير متيقن به لاحتمال صدق القاذف فلا يقام على الشدة، وأما الفرو والحشو فيمنعان وصول الألم فينزعان بخلاف حد الزنا والشرب فإنه ينزع عنه ثيابه كلها إلا الإزار كما قدمناه. والمراد بالحشو الثوب المحشو كالمضرب بالقطن، ومقتضى كلامهم أنه لو كان عليه ثوب ذو بطانة غير محشو لا ينزع. وفي فتح القدير: والظاهر أنه لو كان فوق قميص ينزع لأنه يصير مع القميص كالمحشو أو قريبا منه ويمنع من إيصال الألم الذي يصلح زاجرا قوله: (وإحصانه بكونه مكلفا حرا مسلما عفيفا عن الزنا) فخرج الصبي والمجنون لأنه لا يتصور منهما الزنا إذ هو فعل محرم والحرمة بالتكليف. وفي الظهيرية: إذا قذف غلاما مراهقا فادعى الغلام البلوغ بالسن أو الاحتلام لم يجد القاذف بقوله وخرج العبد لأن الاحصان ينتظم الحرية قال تعالى * (فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * (النساء: 25) فقذف العبد ولو مدبرا أو مكاتبا يوجب التعزير على قاذفه لا الحد. وخرج الكافر لقوله عليه السلام من أشرك بالله فليس بمحصن. وفي الخانية: ولا يجب حد القذف إلا أن يكون المقذوف حرا ثبت حريته بإقرار القاذف أو بالبينة إذا أنكر القاذف حريته، وكذا لو أنكر القاذف حرية نفسه وقال أنا عبد وعلى حد العبيد كان القول قوله اه. ويثبت الاحصان بشهادة رجل وامرأتين وبعلم القاضي، ولا يحلف القاذف أنه لا يعلم أن المقذوف محصن، كذا في فتح القدير. وفي الظهيرية: لو قال لامرأته زنيت وأنت كافرة وأنت في الحال مسلمة فإنه يجب اللعان، وكذلك لو قال زنيت وهي أمة وهي في الحال حرة لأنه لو قال ذلك للأجنبية يجب الحد، وهذا بخلاف ما لو قال قذفتك وأنت كافرة أو وأنت أمة اه. وخرج غير العفيف لأن الاحصان ينتظم العفة أيضا قال تعالى * (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) * (المائدة: 5) أي العفائف، ولان المقذوف إذا لم يكن
53 عفيفا فالقاذف صادق فالشرائط الخمسة للاحصان داخلة تحت قوله تعالى * (والذين يرمون المحصنات) * (النور: 4) فإذا فقد واحد منها لا يكون محصنا. وفي القنية: قذف وهو مصلح ظاهرا ولم يكن عفيفا في السر يعذر في مطالبة القاذف بالحد فيما بينه وبين الله تعالى. قال رضي الله عنه: فيه نظر فإن المفهوم من قوله ولم يكن عفيفا في السر أنه من الزنا وإن كان زانيا لم يكن قذفه موجبا للحد فكيف يعذر؟ اه. وقيد بقوله عن الزنا لأنه لا يشترط العفة عن الوطئ الحرام ولذا قال في الظهيرية: لو وطئ أمته المرتدة حد قاذفه ولو تزوج أمة على حرة فوطئها فإني أحد قاذفه، كذا في المنتقى عن أبي يوسف. قال الحاكم أبو الفضل: هذا خلاف ما في الأصل قال: ثم كل شئ اختلف فيه الفقهاء حرمه بعضهم وأحله بعضهم فأني أحد قاذفه. وفيه أيضا: لو وطئ أمته في عدة من زوج لها فأني أحد قاذفه لأن ملكه في أمته صحيح، ولو وطئ جارية ابنه في عدة من زوج لها فأحبلها أو لم يحبلها فإنه يحد قاذفه. قال أبو يوسف: كل من درأت الحد عنه وجعلت عليه المهر وأثبت نسب الولد منه فإني أحد قاذفه، وكذلك لو تزوج أمة لرجل بغير إذنه ودخل بها فإني أحد قاذفه. هشام عن محمد في رجل اشترى أمة فوطئها ثم استبان أنها أخته حد قاذفه ابن سماعة عن محمد في الرقيات: أربعة شهدوا على رجل أنه زنى بفلانة بنت فلان الفلانية امرأة معروفة سموها ووصفوا الزنا فأثبتوه والمرأة غائبة فرجم الرجل، ثم إن رجلا قذف تلك المرأة الغائبة فخاصمته إلى القاضي
54 الذي قضى على الرجل بالرجم قال: القياس أن يحد قاذفها لأن القاضي إنما قضى عليه لا عليها لكني أستحسن أن لا أحد قاذفها ثم قال: وكما يزول الاحصان بالزنا من كل وجه يزول بالزنا من وجه، فكل وطئ حرم لعدم ملك المتعة من وجه فهو زنا من كل وجه وذلك كوطئ الأجنبية، وكل وطئ حرم مع قيام ملك المتعة من كل وجه لعارض كوطئ المرأة في حالة الحيض لا يزول به الاحصان. وإذا وطئ أمته المجوسية لا يزول إحصانه لقيام ملك المتعة من كل وجه. ولو اشترى أمة وطئها أبوه أو وطئ هو أمها ووطئها فقذفه إنسان فلا حد على القاذف بالاجماع، وكذا لو اشترى أخته من الرضاعة ووطئها سقط إحصانه لأن الحرمة هنا ثابتة على سبيل التأبيد بخلاف ما تقدم. ولو اشترى أمة لمس أمها أو بنتها بشهوة أو نظر إلى فرج أمها أو بنتها بشهوة أو نظر أبوه أو ابنه إلى فرجها بشهوة ووطئها قال أبو حنيفة: لا يزول إحصانه ويحد قاذفه. وقالا: يزول إحصانه ولا يحد قاذفه. وكذلك على الاختلاف إذا تزوج امرأة بهذه الصفة ووطئها ا ه. وجعل في الخانية من وطئ بنكاح فاسد كمن وطئ الجارية المشتركة في عدم وجوب الحد على القاذف. والحاصل أن من زنى أو وطئ بشبهة أو بنكاح فاسد في عمره أو وطئ من هي محرمة عليه على التأبيد سقط إحصانه ومالا فلا، كذا في شرح الطحاوي. قوله: (فلو قال لغيره لست لأبيك أو لست بابن فلان في غضب حد وفي غيره لا) أي وإن قال له ذلك في حالة الرضا فلا حد لأنه عند الغضب يراد به حقيقته سبا له وفي غيره يراد به المعاتبة بنفي مشابهته له في أسباب المروءة. ثم اعلم أنه قد وقع في الهداية مسألتان: الأولى قال: ومن نفى نسب غيره وقال لست لأبيك فإنه يحد، وهذا إذا كانت أمة مسلمة حرة لأنه في الحقيقة قذف لامه لأن النسب إنما ينفى عن الزاني لا عن غيره. الثانية قال لغيره في غضب لست بابن فلان لأبيه الذي يدعي له يحد ولو قال في غير غضب لا يحد وعلله بما ذكرناه، فظاهره أنهما مسألتان مختلفتان صورة وحكما لأن في المسألة الأولى قد نفاه عن أبيه من غير تعرض للأب الذي يدعى إليه، وحكمها وجوب الحد مطلقا سوءا كان في غضب أو رضا، لأنه لم يفصل. وفي المسألة الثانية قد نفاه عن أبيه المعين الذي يدعي إليه وحكمها التفصيل، وقد حمل بعضهم المسألة الأولى على التفصيل في الثانية وهو أنه إن كان في حالة الغضب حد لا في غيره. وجزم به في غاية البيان ولم يتعقبه في فتح القدير وهو بعيد لما صرح به في الكافي للحاكم الشهيد بقوله: وإن قال لرجل يا ولد الزنا أو يا ابن الزنا أو لست لأبيك وأمه حرة مسلمة فعليه الحد، بلغنا عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه
55 قال: لا حد إلا في قذف محصنة أو نفي رجل عن أبيه اه. - لأنه سوى بين الألفاظ الثلاثة. وقد صرح في فتح القدير بأنه إذا قال يا ولد الزنا أو يا ابن الزنا لا يتأتي فيه تفصيل بل يحد البتة اه. فكذلك إذا قال لست لأبيك لأنهم صرحوا أنه بمعنى أمك زانية أو زنت ولا يراد به المعاتبة حالة الرضا لأنه لم يعين أبا مخصوصا حتى ينفي أن يكون على إطلاقه. ثم رأيت التصريح بذلك في فتاوي قاضيخان: قال لرجل لست لأبيك عن أبي يوسف أنه قذف كان ذلك في غضب أو رضا، ولو قال ليس هذا أباك لأبيه المعروف فإن كان هذا في حالة الرضا أو على وجه الاستفهام لا يكون قذفا، وإن كان في غضب أو على وجه التعيير كان قذفا اه. وما في القدير من أن التقدير حالة الرضا لست لأبيك المشهور مجازا عن نفي المشابهة في محاسن الأخلاق فبعيد كما لا يخفى، وقد علم مما ذكرناه أنه لا بد من تقييد المختصر بأن تكون أمه محصنة لأنه قذف لها وما في الهداية من التقييد بحرية أمه وإسلامها لا ينفي اشتراط بقية شروط الاحصان ولذا اعترضه الشارحون. وأشار المصنف إلى أنه لو قال إنك ابن فلان لغير أبيه فالحكم كذلك من التفصيل. وقيد بالنفي عن أبيه فقط لأنه لو نفاه عن أمه أو عن أبيه وأمه فلا حد في الأحوال كلها للكذب في الثاني، ولان فيه نفي الزنا لأن نفي الولادة نفي للوطئ وللصدق في الأول لأن النسب ليس لامه. ولم يتعرض المصنف لطلب الولد لأن الام إن كانت حية فالطلب لها، وإن كانت ميتة فالطلب لكل من يقع القدح في نسبه المخاطب وغيره سواء. وفي القنية: سمع أناس من أناس كثيرة أن فلانا ولد فلان والفلان يجحد فلهم أن يشهدوا مطلقا أن هذا ولده بمجرد السماع وإن لم يعلموا حقيقته، ولو قال واحد لهذا الولد ولد الزنا لا يحد اه. قوله: (كنفيه عن جده وقوله لعربي يا نبطي أو يا ابن ماء السماء ونسبته إلى حاله وعمه ورابه) أي لا يجب الحد في هذه المسائل. أما الأول وهو ما إذا نفاه عن جده فلانه صادق في
56 قوله، وأشار إلى أنه لو نسبه إلى جده لا يحد أيضا لأنه قد ينسب إليه مجازا. وفي الظهيرية: إذا قال لست من ولد فلان فهذا قذف، ولو قال لست من ولادة فلان فهذا ليس بقذف، وإذا قال لغيره لست لأب لست لأبيك لم يلدك أبوك فهذا كله قذف لامه، وكذا إذا قال لست للرشدة ا ه. وأما عدمه فيما إذا قال لعربي يا نبطي فلانه يراد به التشبيه في الأخلاق أو عدم الفصاحة، وكذا إذا قال لست بعربي لما قلنا، وفسره الفقيه أبو الليث برجل من غير العرب. وفي المغرب: النبط جيل من الناس بسواد العراق الواحد نبطي. وعن ثعلب عن ابن الاعرابي: رجل نباطي ولا تقل نبطي اه. وأشار المصنف إلى أنه لو قال لست من بني فلان فلا حد، وكذا إذا قال لها شمي لست بها شمي لكنه يعزر كما في المبسوط. وأما إذا قال لرجل يا ابن ماء السماء فلانه يراد به التشبيه في الجود والسماحة والصفاء لأن ابن ماء السماء لقب به لصفائه وسخائه. وفي غاية البيان: ماء السماء هو عامر أبو مزيقيا وسمي به لأنه في القحط أقام ماله مقام المطر وكان غياثا لقومه مثل ماء السماء للأرض، وكانت أم المنذر بن امرئ القيس أيضا ماء السماء لجمالها وحسنها. وإنما سمي عمر وولده مزيقيا لأنه كان يمزق كل يوم حلتين يلبسهما ويكره أن يعود فيهما ويكره أن يلبسهما غيره اه. وأما إذا نسبه إلى عمه أو خاله أو زوج أمه فلان كل واحد من هؤلاء يسمى أبا، أما الأول فلقوله تعالى * (واله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق) * (البقرة: 133) فاسمعيل كان عما له أي ليعقوب
57 عليهما السلام. وأما الثاني فلقوله عليه السلام الخال أب. وأما الثالث فللتربية ونسبته إلى المربي في الكتاب دون زوج الام يشير إلى أن العبرة فيه للتربية لا غير، حتى لو نسبه إلى من رباه وهو ليس بزوج لامه وجب أن لا يحد، كذا في التبيين. وظاهر كلام المصنف كغيره أنه لا يحد في هذه المسائل، سواء كان في حالة الغضب أو الرضا. وفي فتح القدير: وقد ذكر أنه لو كان هناك رجل اسمه ماء السماء يعني وهو معروف يحد في حال السباب بخلاف ما إذا لم يكن. فإن قيل: إذا كان قد سمي به وإن كان للسخاء أو الصفاء فينبغي في حال الغضب أن يحمل على النفي لكن جواب المسألة مطلقة فالجواب لما لم يعهد استعماله لذلك القصد يمكن أن يجعل المراد في حالة الغضب التهكم به عليه كما قلنا في قوله لست بعربي لما لم تستعمل في النفي يحمل في حالة الغضب على سبه بنفي الشجاعة والسخاء عنه ليس غير ا ه. قوله: (ولو قال يا ابن الزانية وأمه ميتة فطلب الوالد أو الولد أو ولده حد) لأنه قذف محصنة بعد موتها فلكل من يقع القدح في نسبه بقذفه له المطالبة وهم الأصول والفروع لأن العار يلتحق بهم لمكان الجزئية فيكون القذف متناولا لهم معنى. قيد بموتها لأنها لو كانت غائبة لم يكن لهم المطالبة لجواز أن تصدق القاذف إذا حضرت والتقييد بقذف الام اتفاقي لأنه لو قذف رجلا وهو ميت فلأصله أو فرعه المطالبة، ولذا ذكر في شرح الطحاوي: ولو قذف ميتا وجب الحد على القاذف وللوالدين والمولودين أن يخاصموا، لسواء كان الولد أو الوالد أو لم يكن. والتقييد بالوالد اتفاقي أيضا إذ الام كذلك لما قدمناه من قوله وللوالدين. فعلى هذا لو قذف ميتا بالزنا وله أم فلها المطالبة لأنه يلحقها العار بذلك. وصرح الزيلعي بأن للأصول المطالبة وهو يقتضي أن للجد المطالبة وقد صرح في غاية البيان معزيا إلى شرح الجامع الصغير للفقيه أبي الليث بأن المراد الأب والجد وإن علا. ويخالفه ما في فتاوي قاضيخان من أن الجد أب الأب لا يطالب به ولا أم الام ولا الأخ ولا العم ولا العمة ولا مولاه، كذا في فتح القدير وهو سهو من القلم في النسخة التي نقل منها. والموجود في الفتاوي أن الجد أب الام ليس له المطالبة وليس فيما ذكر الجد أبو الأب فالحق أن له المطالبة. وأفاد بالتعبير ب " أو " أن للفرع المطالبة مع وجود أصله وأن لولد الولد المطالبة مع وجود الولد، وأنه إذا صدق القاذف بعضهم فللبعض الآخر المطالبة، ولذا ذكر في الخانية أن رجلا لو قذف ميتا وله ابنان فصدقه أحدهما فللآخر أن يحده اه. وكذا إذا عفا بعضهم فللآخر المطالبة، وأطلق في الولد فشمل ولد البنت فله المطالبة بقذف جده، وروي عن محمد خلافه والمذهب الأول لأن الشين يلحقه
58 إذ النسب ثابت من الطرفين. وقد أفاد صريح كلام المصنف أن ولد الولد المطالبة بقذف جده ولم يخالف في ذلك إلا زفر، ولا يخالفه ما في الخانية من أنه لو قال له جدك زان لا حد عليه لما علله في الظهيرية من أنه لا يدري أي جد هو. وأوضحه في فتح القدير بأن في أجداده من هو كافر فلا يكون قاذفا ما لم يعين مسلما بخلاف قوله أنت ابن ابن الزانية لأنه قاذف لجده الأدنى فإن كان أو كانت محصنة حد اه. وقد استفيد مما قدمه أنه لا بد أن يكون المقذوف ميتا محصنا فلذا لم يقيد به هنا. وأطلق في الطالب فشمل ما إذا كان غير محصن، فلو كان أصل المحصن الميت أو فرعه كافرا أو عبدا فله أن يطالب بالحد خلافا لزفر لأنه من أهل الاستحقاق إذ الكفر أو الرق لا ينافيه وقد عيره بنسبة محصن إلى الزنا ما إذا قذفه هو لأنه ليس بمحصن فلا يلحقه العار، فلو قال المصنف ولو قذف ميتا محصنا فلأصله وإن علا أو فرعه وإن سفل مطلقا المطالبة لكان أولى. قوله: (ولا يطلب ولد وعبد أباه وسيده بقذف أمه) لأن المولى لا يعاقب بسبب عبده، وكذا الأب بسبب ابنه ولهذا لا يقاد الوالد بولده، ولا السيد بعبده. المراد بالولد الفرع وإن سفل، وبالأب الأصل وإن علا، ذكرا كان أو أنثى. قالوا: وليس للولد المطالبة بالحد إذا كان القاذف أباه أو جده وإن علا، وأمه وجدته وإن علت، كذا في غاية البيان. وأشار إلى أنهما لا يطالبان بقذفهما بالأولى. وقيد بولد القاذف لأنه لو كان للمقذوفة الميتة ابنان أحدهما من غير القاذف فله أن يطالب بالحد لعدم المانع في حقه. وكذا لو كان لها أب ونحوه فله المطالبة حيث لم يكن مملوكا للقاذف فسقوط حق بعضهم لا يوجب سقوط حق الباقين بخلاف القصاص. والفرق بينهما أن القصاص حق العبد يستحقونه بالميراث ولهذا يثبت لجميع الورثة بقدر إرثهم، فإذا سقط حق بعضهم وهو لا يقبل التجزي سقط حق الباقين ضرورة، وأما حد القذف فحق الله تعالى، وإنما للعبد حق الخصومة إذا لحقه به شين فيثبت لكل واحد منهم على الكمال فسقوط حق بعضهم في الخصومة لا يسقط حق الباقين، ولهذا كان للأبعد منهم حق مع وجود الأقرب. وقيد بالقذف لأنه لو شتمه والده فإنه يعزر. قال في القنية: ولو قال لآخر يا حرام زاده لا يجب عليه حد القذف. قال: وقد كتبت أنه لو قال ذلك الوالد لا ولده يجب عليه التعزير اه. وفي نفسي منه شئ لتصريحهم بأن الوالد لا يعاقب بسبب ولده فإذا كان القذف لا يوجب عليه شئ فالشتم أولى قوله: (ويبطل بموت المقذوف) أي بطل الحد لأنه لا يورث عندنا، ولا خلاف في أنه فيه حق الشرع وحق العبد فإنه شرع لدفع العار عن
59 المقذوف وهو الذي ينتفع به على الخصوص، فمن هذا الوجه حق العبد، ثم إنه شرع زاجرا ومنه سمي حدا والمقصد من شرع الزواجر إخلاء العالم عن الفساد وهذا آية حق الشرع وبكل ذلك تشهد الأحكام، فإذا تعارضت الجهتان فالشافعي مال إلى تغليب حق العبد تقديما لحق العبد باعتبار حاجته وغنا الشرع ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع لأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه فيصير حق لعبد مدعيا به ولا كذلك عكسه لأنه لا ولاية للعبد في استيفاء حق الشرع إلا نيابة، وهذا هو الأصل المشهور الذي تتفرع عليه الفروع المختلف فيها منها: الإرث إذ الإرث يجري في حقوق العباد لا في حقوق الشرع، ومنها العفو فإنه لا يصح العفو عن المقذوف عندنا ويصح عنده، ومنها أنه لا يجوز الاعتياض عنه ويجري فيه التداخل، وعنده لا يجري، وعن أبي يوسف في العفو مثل قول الشافعي، ومن أصحابنا من قال إن الغالب حق العبد وخرج الأحكام والأول أظهر، كذا في الهداية. واعلم أنهم اتفقوا على أنه يشترط الدعوى في إقامته ولم تبطل الشهادة بالتقادم ويجب على المستأمن ويقيمه القاضي بعلمه إذا علمه في أيام قضائه، وكذا لو قذفه بحضرة القاضي حده، وإن علمه القاضي قبل أن يستقضي ثم ولي القضاء ليس له أن يقيمه حتى يشهد به عنده ويقدم استيفاؤه على حد الزنا والسرقة إذا اجتمعا، ولا يصح الرجوع عنه بعد الاقرار به. وهذا كله باعتبار حق العبد، واتفقوا على أن الإمام يستوفيه دون المقذوف بخلاف القصاص ولا ينقلب مالا عند سقوطه، ولا يستحلف عليه القاذف ويتنصف بالرق كالعقوبات الواجبة حقا لله تعالى، ولا يباح القذف بإباحته ولا يحلف القاذف ولا يؤخذ منه كقيل إلى أن يثبت. وهذا كله باعتبار حق الله تعالى ووقع الاختلاف في الفروع المذكورة أولا. ثم اعلم أن صدر الاسلام وإن صحح أن الغالب حق العبد لم يخالف في الفروع من عدم الإرث وصحة العفو إلى آخره، وإنما أجاب عنها كما في التبيين. وأطلق بطلانه بموت المقذوف فشمل الكل والبعض حتى لو ضر ب القاذف بعض الحد فمات المقذوف لا يقام ما بقي. وقيد بكونه قذفه حيا إذ لو قذفه ميتا فلأصله وفرعه المطالبة بطريق الأصالة لا بطريق الميراث. قوله: (لا بالرجوع والعفو) أي لا يبطل برجوع القاذف عن الاقرار ولا بعفو المقذوف لما قدمناه، وقد توهم بعض حنفية زماننا من عدم صحة العفو أن القاضي يقيم الحد عليه مع عفو المقذوف وتعلق بما في فتح القدير من قوله ومنها العفو فإنه بعدما ثبت عند الحاكم القذف والاحصان لو عفا المقذوف عن القاذف لا يصح منه العفو ويحد عندنا اه. وهو غلط
60 فاحش فقد صرح في المبسوط بأنه إذا قضى القاضي بحد القذف على القاذف ثم عفا المقذوف عنه بعوض أو بغير عوض لم يسقط الحد ولكن الحد وإن لم يسقط بعفوه فإذا ذهب العافي لا يكون للإمام أن يستوفيه لما بينا أن الاستيفاء عند طلبه وقد ترك الطلب إلا إذا عاد وطلب فحينئذ يقيم الحد لأن العفو كان لغوا فكأنه لم يخاصم إلى الآن اه. وفي غاية البيان معزيا إلى الشامل: لا يصح عفو المقذوف إلا أن يقول لم يقذفني أو كذب شهودي لأنه حق الله تعالى إلا أن خصومته شرط اه. ويدل عليه أيضا ما في كافي الحاكم: لو غاب المقذوف بعدما ضرب بعض الحد لم يتم الحد إلا وهو حاضر لاحتمال العفو فالعفو الصريح أولى فتعين حمل ما في فتح القدير على ما إذا عاد وطلب قوله: (ولو قال زنأت في الجبل وعنى الصعود حد) وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا بحد لأن المهموز منه للصعود حقيقة قالت امرأة من العرب: وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل وذكر الجبل يقرره مرادا. ولهما أنه يستعمل في الفاحشة مهموزا أيضا لأن من العرب من يهمز الملين كما يلين المهموز، وحالة الغضب والسباب تعين الفاحشة مرادا بمنزلة ما إذا قال يا زاني أو قال زنات، وذكر الجبل إنما يعين الصعود مرادا إذا كان مقرونا بكلمة على إذ هو المستعمل فيه. قيد بفي لأنه لو قال زنأت على الجبل قيل لا يحد، وقيل يحد للمعنى الذي ذكرنا. وفي غاية البيان: والمذهب عندي إذا كان هذا الكلام خرج على وجه الغضب والسباب يجب الحد لدلالة الحال على ذلك إذ لا يكون صعود الجبل سبا وإلا فلا للاحتمال والحد لا يجب بالاحتمال اه. وفي فتح القدير: والأوجه وجوب الحد حيث كان في الغضب. وقيد بقوله زنأت بالهمز إذ لو كان بالياء وجب الحد اتفاقا. وقيد بالجار والمجرور إذ لو اقتصر على قوله زنات يحد اتفاقا كما أفاده في غاية البيان. وأطلق في وجوب الحد وقيده الشارحون بأن يكون في حالة الغضب، أما في حالة الرضا فلا حد اتفاقا وبهذا ترجح
61 قولهما، فما في المغرب من أن زنأ في الجبل بمعنى صعد فقول محمد أظهر اه. ليس بظاهر. وقيد بقوله وعنى الصعود لأنه لو لم يعن الصعود يحد اتفاقا. قوله: (ولو قال يا زاني وعكس حدا) أي المبتدي والمجيب بقوله لا بل أنت لأن كلا منهما قذف صاحبه، أما الأول فظاهر، وكذا الثاني لأن معناه لا بل أنت زان إذ هي كلمة عطف يستدرك به الغلط فيصير المذكور في الأول خبرا لما بعد بل وإنما لم يلتقيا قصاصا لأن في حد القذف الغالب حق الله تعالى فلو جعل قصاصا يلزم إسقاط حقه تعالى فلا يجوز ذلك ولذا لم يجز عفو المقذوف، فإذا طالب كل منهما الآخر وأثبته لزم الاستيفاء فلا يتمكن واحد منهما من إسقاطه فيحد كل منهما، كذا في فتح القدير. وظاهره أنه يقام عليهما ولو أسقطاه وتقدم عدم صحته وأنه غلط في الفهم، فإذا أسقطاه بعد الثبوت امتنع الإمام من إقامته لعدم الطاب لا لصحة الاسقاط، فإذا عادا وطلبا أقامه عليهما. وقيد بحد القذف لأنه لو قال له يا خبيث فقال له الآخر أنت تكافأ ولا يعزر كل منهما الآخر لأن التعزير لحق الآدمي وقد وجب عليه مثل ما وجب للآخر فتساقطا، كذا في فتح القدير. وفي القنية: ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضا أنهما يعزران ويبدأ بإقامة التعزير بالبادئ منهما لأنه أظلم والوجوب عليه أسبق اه. فعلم أن التعزير بالضرب كحد القذف وأن التكافؤ إنما هو في الشتم بشرط أن لا يكون بين يدي القاضي. قالوا: لو تشاتم الخصمان بين يدي القاضي عزرهما قوله: (ولو قال لامرأته يا زانية وعكست حدت ولا لعان) لأنهما قاذفان وقذفه يوجب اللعان وقذفها يوجب الحد، وفي البداية بالحد إبطال اللعان لأن المحدود في القذف ليس بأهل له ولا إبطال في عكسه أصلا فيحتال للدرء إذ اللعان في معنى الحد. أشار المصنف إلى أنه لو قال لامرأته يا زانية بنت الزانية فخاصمت الام أولا فحد الرجل سقط اللعان لأنه بطلت شهادة الرجل ولو خاصمت المرأة أولا فلاعن القاضي بينهما ثم خاصمت الام يحد الرجل حد القذف قوله: (ولو قالت زنيت بك بطلا) أي الحد واللعان لوقوع الشك في كل واحد منهما لأنه يحتمل أنها أرادت الزنا قبل النكاح فيجب الحد دون اللعان لتصديقها إياه وانعدامه منه، ويحتمل أنها أرادت زناي الذي كان معك بعد النكاح لأني ما مكنت أحدا غيرك وهو المراد في مثل هذه الحالة. وعلى هذا الاعتبار يجب الحد دون اللعان لوجود القذف منه وعدمه منها فجاء ما قلناه. أطلقه فشمل ما إذا بدأت بقولها زنيت بك ثم قذفها أو قذفها
62 ثم أجابت به للاحتمال المذكور، ولا فرق بين الباء وكلمة مع كزنيت معك للاحتمال السابق مع احتمال آخر وهو أني زنيت بحضورك وأنت تشهد فلا يكون قذفا. وقيد بكونها اقتصرت على هذه المقالة لأنها لو زادت قبل أن أتزوجك تحد المرأة دون الرجل لأن كلا منهما قذف صاحبه غير أنها صدقته فبطل موجب قذفه ولم يصدقها فوجب موجب قذفها. وقيد بكونها امرأته لأنه لو كان ذلك كله مع امرأة أجنبية حدت المرأة دون الرجل لما ذكرنا من تصديقها وعدم الاحتمال الذي ذكرناه مع الزوجة. وقيد بقولها زنيت بك لأنها لو قالت في جوابه أنت أزنى مني حد الرجل وحده، كذا في الخانية قوله: (وإن أقر بولد ثم نفاه لاعن) لأن النسب لزمه بإقراره وبالنفي بعده صار قاذفا فيلاعن قوله: (وإن عكس حد) أي إن نفى الولد ثم أقر به فإنه يحد حد القذف لأنه لما أكذب نفسه بطل اللعان لأنه حد ضروري صير إليه ضرورة التكاذب، والأصل فيه حد القذف فإذا بطل التكاذب يصار إلى الأصل قوله: (والولد له فيهما) أي فيما إذا أقر به ثم نفاه أو نفاه ثم أقر به لاقراره به سابقا أو لاحقا واللعان يصح بدون قطع النسب كما يصح بدون الولد قوله: (ولو قال ليس بابني ولا بابنك بطلا) أي الحد واللعان لأنه أنكر الولادة وبه لا يصير قاذفا، وكذا لو قال لأجنبي لست بابن فلان ولا فلانة وهما أبواه لا يجب عليه شئ. قوله: (ومن قذف امرأة لم يدر أبو ولدها أو لاعنت بولد أو رجلا وطئ في غير ملكه أو أمه مشتركة أو مسلما زنا في كفره أو مكاتبا مات عن وفاء لا يحد) بيان لست مسائل: أما الأوليان فلقيام أمارة الزنا منها وهو ولادة ولد لا أب له ففاتت العفة نظرا إليها وهي شرط. أطلقه فشمل ما إذا كان الولد حيا عند القذف أو ميتا، وقيد بكونها لاعنت بولد إذ لو قذف الملاعنة بغير ولد فعليه الحد لانعدام أمارة الزنا. وأشار بقوله لاعنت إلى أنه لا بد من بقاء اللعان حتى لو بطل بإكذابه نفسه ثم قذفها رجل حد لزوال التهمة بثبوت النسب منه، وكذا لو قامت البينة على الزوج أنه ادعاه وهو ينكر يثبت النسب منه ويحد ومن قذفها بعد ذلك يحد لأنها خرجت عن صورة الزواني، ولو قذفها الزوج فرافعته وأقامت بينة أنه أكذب نفسه حد لأن الثابت بالبينة كالثابت بإقرار الخصم أو بمعاينة، ولا بد من أن يقطع القاضي نسب الولد حتى لو لاعنت بولد ولم يقطع القاضي النسب وجب الحد على قاذفها كما في غاية البيان. والمراد بعدم معرفة أبي ولدها عدمها في بلد القذف لا في كل البلاد ولذا قال في الجامع
63 الصغير: امرأة قذفت في بعض البلاد ومعها أولاد لا يعرف لهم أب فقال لها رجل يا زانية الخ. وفي فتح القدير: واعلم أنه إن صح ما رواه الإمام أحمد وأبو داود في حديث هلال بن أمية من قوله وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يدعي ولدها لأب ولا يرمي ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وكذا ما رواه الإمام أحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ولد المتلاعنين أنه يرث أمه وترثه ومن رماها به جلد ثمانين. أشكل على المذهب، والأئمة الثلاثة جعلوا قذف الملاعنة بولد كقذف الملاعنة بلا ولد إلى آخره. وأما الثالثة والرابعة أعني إذا قذف رجلا وطئ المقذوف امرأة في غير ملكه أو أمة مشتركة فلفوات العفة وهي شرط الاحصان لأن القاذف صادق. والأصل فيه أن من وطئ وطئا حراما لعينه لا يجب الحد بقذفه لأن الزنا هو الوطئ المحرم لعينه، وإن كان محرما لغيره يحد لأنه ليس بزنا والوطئ في غير الملك من كل وجه أو من وجه حرام لعينه، وكذا الوطئ في الملك والحرمة مؤبدة، فإن كانت الحرمة موقتة فالحرمة لغيره، فأبو حنيفة يشترط أن تكون الحرمة المؤبدة ثابتة بالاجماع أو بالحديث المشهور لتكون ثابتة من غير تردد، وقد قدمنا شيئا من هذه المسائل، وقيد بكونه في غير الملك لأنه لو كان وطئ أمته المجوسية أو المزوجة أو امرأته الحائض أو مكاتبته أو المظاهر منها أو المحرمة أو المشتراة شراء فاسدا، فعلى قاذفه الحد لأن الحرمة موقتة، وكذا إذا وطئ أخته من الرضاع وهي أمته لأنها وإن كانت الحرمة مؤبدة فهي مملوكة له، وهذا قول الكرخي. والصحيح أنه لا يحد قاذفه لثبوت التضاد بين الحل والحرمة، فلو قال المصنف أو رجلا وطئ في غير ملكه أو في ملكه والحرمة مؤبدة لكان أولى. وشمل قوله في غير ملكه جارية ابنه والمنكوحة نكاحا فاسدا والأمة المستحقة والمكره على الزنا والثابت حرمتها بالمصاهرة أو تزوج محارمه ودخل بهن أو جمع بين المحارم أو تزوج
64 أمة على حرة. وأما الخامسة وهي ما إذا قذف مسلما زنى في حال كفره فلتحقق الزنا منه شرعا وإن كان الاثم قد ارتفع بإسلامه لانعدام الملك ولهذا وجب عليه الحد لو كان في ديارنا. وأطلقه فشمل الحربي والذمي وما إذا كان الزنا في دار الاسلام أو في دار الحرب، وشمل ما إذا قال له زنيت. وأطلق ثم أثبت أنه زنى في كفره أو قال له زنيت وأنت كافر فهو كما لو قال لمعتق زنيت وأنت عبد. وأما السادسة وهي ما إذا قذف مكاتبا مات عن وفاء فلتمكن الشبهة في الحرية لمكان اختلاف الصحابة رضي الله عنهم. وقيد بكونه مات عن وفاء ليفيد أن المكاتب إذا مات من غير وفاء لا حد على قاذفه بالأولى لموته عبدا. قوله: (وحد قاذف واطئ أمة مجوسية وحائض ومكاتبة ومسلم نكح أمه في كفره) لما ذكرنا أن ملكه في هذه الأشياء ثابت والمراد بأمه محرمه، وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: لا يحد قاذفه بناء على أن نكاح الكافر محرمه صحيح وعندهما فاسد كما قدمناه في بابه قوله: (ومستأمن قذف مسلما) أي حد، وكان أبو حنيفة أولا يقول: لا يحد لأن المغلب فيه حق الله تعالى فصار كسائر الحدود ثم رجع إلى ما ذكر هنا لأن فيه حق العبد وقد التزم إيفاء حقوق العباد لأنه التزم أن لا يؤذي بطمعه في أن لا يؤذي. والحاصل أن حد القذف يجب عليه اتفاقا، وحد الخمر لا يجب عليه اتفاقا، ولا يجب حد الزنا والسرقة خلافا لأبي يوسف، وأما الذي فيجب عليه جميع الحدود اتفاقا إلا حد الخمر، كذا في غاية البيان قوله: (ومن قذف أو زنى أو شرب مرارا فحد فهو لكله) أما الأخيران فلان المقصد من إقامة الحد حقا لله تعالى الانزجار واحتمال حصوله بالأول قائم فتمكن شبهة فوات المقصود في الثاني، وأما القذف فالمغلب فيه عندنا حق الله تعالى فيكون ملحقا بهما. قيد بكونه فعل أحد هذه الأشياء لأنه لو فعل كلها بأن زنى وقذف وشرب الخمر فإنه يحد لكل واحد حده منها لعدم حصول المقصود بالبعض إذ الأغراض مختلفة، فإن المقصود من حد الزنا صيانة الأنساب، ومن حد القذف صيانة الاعراض، ومن حد الشرب صيانة العقول، فلا يحصل بكل جنس إلا ما قصد
65 بشرعه. وأطلق في قوله قذف مرارا فشمل ما إذا كان المقذوف واحدا أو جماعة فقذفهم بكلمة واحدة أو بكلمات، وشمل ما إذا كان في يوم أو أيام وما إذا طلبوا الحد كلهم أو بعضهم، وما إذا حضروا أو حضر أحدهم كما في الخانية وغيرها، وما إذا جلد للقذف إلا سوطا ثم قذف آخر في المجلس فإنه يتم الأول ولا يثنى عليه للثاني للتداخل، وما إذا قذف عبدا فأعتق ثم قذف آخر فأخذه الأول فضرب أربعين ثم أخذه الثاني قالوا: فإنه يتم له ثمانين لأن الأربعين وقع لهما فيبقى للباقي أربعين، ولو قذف الآخر قبل أن يأتي به فالثمانون تكون لهما جميعا ولا يضرب ثمانين مستأنفا لأن ما بقي تمامه حد الأحرار فجاز أن يدخل فيه الأحرار. وفي المحيط: رجل شرب الخمر فضرب بعض الحد ثم هرب ثم شرب ثانيا ضرب حدا مستقبلا، وكذا لو ضرب الزاني بعض الحد ثم هرب وزنى بأخرى، ولو ضرب القاذف بعض الحد فهرب ثم قذف آخر ثم قدم إلى القاضي ينظر، إن حضر المقذوف الثاني والأول جميعا يكمل الأول ويسقط الثاني لأنه يتداخل، وإن حضر الثاني دون الأول يضرب جلدا مستقبلا للثاني ويبطل الأول لأنه أمكن إقامة الحد للثاني لوجوه دعواه ولا يمكن الإقامة للأول لعدم دعواه اه. فتعين حمل ما تقدم من أنه لو جلد للقذف إلا سوطا إلى آخره على ما إذا حضرا جميعا، ومن أنه لو قذف جماعة يكتفي بحد واحد على ما إذا كان القذف لهم قبل أن يضرب البعض كما لا يخفى. وشمل ما إذا قال لرجل يا ابن الزانيين فعليه حد واحد حيين كانا أو ميتين. وحكي أن ابن أبي ليلى سمع من يقول لرجل يا ابن الزانيين فحده حدين في المسجد فبلغ أبا حنيفة فقال: يا للعجب لقاضي بلدتنا أخطأ في مسألة واحدة في خمس مواضع: الأول حده بدون طلب المقذوف. والثاني أنه لو خاصم وجب حد واحد. والثالث أنه إن كان الواجب عنده حدين ينبغي أن يتربص بينهما يوما أو أكثر حتى يخف أثر الضرب الأول. والرابع ضربه في المسجد. والخامس ينبغي أن يتعرف أن والديه في الاحياء أو لا، فإن كانا حيين فالخصومة لهما وإلا فالخصومة للابن. وأفاد بقوله فحد أن الحد وقع بعد الفعل المتكرر إذ لو حد للأول ثم فعل الثاني يحد حدا آخر للثاني، سواء كان قذفا أو زنا أو شربا كما صرح به في فتح القدير وغيره، لكن ينبغي أن يستثنى منه ما إذا قذف رجلا فحد له ثم عاد فقذفه ثانيا فإنه لا يحد ثانيا لأن المقصود وهو إظهار كذب القاذف ودفع العار عن المقذوف قد حصل بالأول فلا حاجة إلى الثاني، صرح به الشارح الزيلعي في حد السرقة عند مسألة سرقة العين ثانيا بعد ما قطع، ولا يخفي ما فيه فإن بالحد الأول لم يظهر كذبه في إخبار مستقبل إنما ظهر
66 كذبه فيما أخبر به ماضيا قبل الحد ولهذا ذكر المحقق في فتح القدير عند تلك المسألة، وصار كما لو قذف شخصا فحد به ثم قذفه بعين ذلك الزنا بأن قال أنا باق على نسبتي إليه الزنا الذي نسبته إليه لا يحد ثانيا فكذا هذا، أما إذا قذفه بزنا آخر حد به ا ه. لكن في الظهيرية: ومن قذف إنسانا فحد ثم قذفه ثانيا لم يحد. والأصل فيه ما روي أن أبا بكرة لما شهد على المغيرة بالزنا وجلده عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقصور العدد بالشهادة كان يقول بعد ذلك في المحافل: أشهد أن المغيرة لزان فأراد عمر رضي الله عنه أن يحده ثانيا فمنعه علي رضي الله عنه فرجع إلى قوله وصارت المسألة إجماعا اه بلفظه. فظهر أن المذهب إطلاق المسألة كما ذكره الزيلعي. ولم يذكر المصنف التداخل في حد السرقة، ولا شك فيه لأنه حق الله تعالى. ولم يذكر أيضا ما إذا اجتمعت عليه الحدود المختلفة كيف يفعل قال في المحيط: وإذا اجتمع حدان وقدر على درء أحدهما درأه، وإن كانت من أجناس مختلفة بأن اجتمع حد الزنا والسرقة والشرب والقذف والفقء بدأ بالفقء، فإذا برأ حد للقذف، فإذا برأ إن شاء بدأ بالقطع وإن شاد بدأ بحد الزنا، وحد الشرب آخرها لثبوته بالاجتهاد من الصحابة رضي الله عنهم، وإن كان محصنا يبدأ بالفقء ثم يحد القذف ثم بالرجم ويلغي غيرها اه. قالوا: ولا يقام حد في المسجد ولا قود ولا تعزير ولكن القاضي إذا أراد أن يقام بحضرته يخرج من المسجد كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغامدية أو يبعث أمينا كما فعل عليه الصلاة والسلام في ماعز رضي الله عنه. فصل في التعزير هو تأديب دون الحد وأصله من العزر بمعنى الرد والردع، كذا في المغرب وفي ضياء
67 الحلوم: هو ضرب دون الحد للتأديب والتعزير التعظيم والنصر قال تعالى * (وتعزروه) * (الفتح: 9) اه فالظاهر أن ما في ضياء الحلوم معناه اللغوي، وما في المغرب معناه الشريعي فإنه شرعا لا يختص بالضرب بل قد يكون به وقد يكون بالصفع وبفرك الاذن، وقد يكون بالكلام العنيف، وقد يكون بنظر القاضي إليه بوجه عبوس. وذكر أبو اليسر والسرخسي أنه لا يباح التعزير بالصفع لأنه من أعلى ما يكون من الاستخفاف فيصان عنه أهل الغفلة، كذا في المجتبى. وفي ضياء الحلوم: الصفع الضرب على القفا. ولم يذكر محمد التعزير بأخذ المال وقد قيل: روي عن أبي يوسف أن التعزير من السلطان بأخذ المال جائز، كذا في الظهيرية. وفي الخلاصة: سمعت عن ثقة أن التعزير بأخذ المال إن رأى القاضي ذلك أو الوالي جاز، ومن جملة ذلك رجل لا يحضر الجماعة يجوز تعزيره بأخذ المال اه. وأفاد في البزازية أن معنى التعزير بأخذ المال على القول به إمساك شئ من ماله عند مدة لينزجر ثم يعيده الحاكم إليه لا أن يأخذه الحاكم لنفسه أو لبيت المال كما يتوهمه الظلمة إذ لا يجوز لاحد من المسلمين أخذ مال أحد بغير سبب شرعي. وفي المجتبى: لم يذكر كيفية الاخذ وأرى أن يأخذها فيمسكها فإن أيس من توبته يصرفها إلى ما يرى. وفي شرح الآثار: التعزير بالمال كان في ابتداء الاسلام ثم نسخ اه. والحاصل أن المذهب عدم التعزير بأخذ المال، وأما التعزير بالشتم فلم أره إلا في المجتبى قال: وفي شرح أبي اليسر: التعزير بالشتم مشروع ولكن بعد أن يكون قاذفا اه. وصرح السرخسي بأنه ليس في التعزير شئ مقدر بل هو مفوض إلى رأي القاضي لأن المقصود منه الزجر وأحوال الناس مختلفة فيه. وفي الشافي: التعزير على مراتب: أشراف الاشراف وهم العلماء والعلوية بالأعلام وهو أن يقول له القاضي إنك تفعل كذا وكذا فينزجر به. وتعزير الاشراف وهم الامراء والدهاقين بالأعلام والجر إلى باب القاضي والخصومة. وتعزير الأوساط وهم السوقة بالجر والحبس. وتعزير الأخسة بهذا كله وبالضرب
68 اه. وظاهره أنه ليس مفوضا إلى رأي القاضي وأنه ليس للقاضي التعزير بغير المناسب لمستحقه. وظاهر الأول أن له ذلك وقد ذكر والتعزير بالقتل. قال في التبيين: وسئل الهندواني عن رجل وجد رجلا مع امرأة أيحل له قتله؟ قال: إن كان يعلم أنه ينزجر بالصياح والضرب بما دون السلاح لا، وإن كان يعلم أنه لا ينزجر إلا بالقتل حل له القتل، وإن طاوعته المرأة حل له قتلها أيضا. وفي المنية: رأى رجلا مع امرأته وهو يزني بها أو مع محرمه وهما مطاوعتان قتل الرجل والمرأة جميعا اه. فقد أفاد الفرق بين
69 الأجنبية والزوجة والمحرم ففي الأجنبية لا يحل القتل إلا بالشرط المذكور من عدم الانزجار بالصياح والضرب، وفي غيرها يحل مطلقا. وفي المجتبى: الأصل في كل شخص إذا رأى مسلما يزني أن يحل له قتله وإنما يمتنع خوفا أن يقتله ولا يصدق في أنه زنى. وعلى هذا القياس المكابرة بالظلم وقطاع الطريق وصاحب المكس وجميع الظلمة بأدنى شئ له قيمة وجميع الكبائر والأعونة والظلمة والسعاة فيباح قتل الكل ويثاب قاتلهم اه. ولم يذكر المصنف من يقيمه قالوا: لكل مسلم إقامته حال مباشرة المعصية، وأما بعد الفراغ منها فليس ذلك لغير الحاكم. قال في القنية: رأى غيره على فاحشة موجبة للتعزير فعزره بغير إذن المحتسب فللمحتسب أن يعزر المعزز إن عزره بعد الفراغ منها. قال رضي الله عنه: قوله إن عزره بعد الفراغ منها فيها إشارة إلى أنه لو عزره حال كونه مشغولا بالفاحشة فله ذلك وأنه حسن لأن ذلك نهي عن المنكر وكل واحد مأمور به، وبعد الفراغ ليس بنهي عن المنكر لأن النهي عما مضى لا يتصور فيتمحض تعزيرا وذلك إلى الإمام ا ه. وذكر قبله من عليه التعزير إذا قال لرجل أقم على التعزير ففعل ثم رفع إلى القاضي فإن القاضي يحتسب بذلك التعزير الذي أقامه بنفسه ا ه. وفي المجتبى: فأما إقامة التعزير فقيل لصاحب الحق كالقصاص، وقيل للإمام لأن صاحب الحق قد يسرف فيه غلظا بخلاف القصاص لأنه مقدر بخلاف التعزير الواجب حقا لله تعالى حيث يتولى إقامته كل أحد بحكم النيابة عن الله تعالى اه. وفي القنية: ضرب غيره بغير حق وضربه المضروب أيضا أنهما يعزران بإقامة التعزير بالبادي منهما لأنه أظلم والوجوب عليه أسبق اه.
70 قوله: (ومن قذف مملوكا أو كافرا بالزنا أو مسلما بيا فاسق يا كافر يا خبيث يا لص يا فاجر يا منافق يا لوطي يا من يلعب بالصبيان يا آكل الربا يا شارب الخمر يا ديوث يا مخنث يا خائن يا ابن القحبة يا زنديق يا قرطبان يا مأوى الزواني أو اللصوص يا حرام زاده عزر) لأنه جناية قذف في المسألتين الأوليين وقد امتنع وجوب الحد لفقد الاحصان فوجب التعزير وفيما عداهما قد أذاه وألحق الشين به ولا مدخل للقياس في الحدود فوجب التعزير وهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى * (واهجروهن في المضاجع واضربوهن) * (النساء: 34) وأما السنة فكثيرة منها تعزيره عليه السلام رجلا قال لغيره يا مخنث، وحبس عليه السلام رجلا بالتهمة وأجمعت الأمة على وجوبه في كبيرة لا توجب الحد أو جناية لا توجب الحد، كذا في التبيين فصار الحاصل أن كل من ارتكب معصية ليس فيها حد مقدر وثبت عليه عند الحاكم فإنه يجب التعزير من نظر محرم ومس محرم وخلوة محرمة وأكل ربا ظاهر، ومن ذلك ما في القنية: مسكينة أخذت كسرة خبز من خباز فضربها حتى صرعها ليس له ذلك ويعزر اه. ويؤخذ منه أن من أخذ مال أحد ليس له ضربه حيث أمكنه رفعه إلى الحاكم إلا أن يقال إنه لقلة قيمتها ولكونها مسكينة ومن ذلك الاستخفاف بالمسلم كما في القنية: ومنه المسلم إذا باع الخمر فإنه يضرب ضربا وجيعا بخلاف الذمي حتى يتقدم إليه، فإن باع في المصر بعد التقديم ثم أسلم لم يسقط الضرب، كذا في القنية. وفي فتاوي القاضي: من يتهم بالقتل والسرقة وضرب الناس يحبس ويخلد في السجن إلى أن يظهر التوبة. وقد ذكروا في كتاب الكفالة أن التهمة تثبت بشهادة مستورين أو واحد عدل، فظاهره أنه لو شهد عند الحاكم واحد مستور وفاسق بفساد شخص ليس للحاكم حبسه بخلاف ما إذا كان عدلا أو مستورين فإنه له حبسه. وقال المصنف فيها: ولا يحبس في الحدود والقصاص حتى يشهد شاهدان أو واحد عدل اه. وتقدير مدة الحبس راجعة إلى الحاكم كما لا يخفى. وفي فتح القدير: ويعزر من شهد شرب الشاربين والمجتمعون على شبه الشرب وإن لم يشربوا ومن معه ركوة خمر، والمفطر في نهار رمضان يعزر ويحبس، والمسلم يأكل الربا يعزر ويحبس، وكذا المغني والمخنث والنائحة يعزرون ويحبسون حتى يحدثوا توبة، وكذا من قبل أجنبية أو عانقها أو لمسها بشهوة اه. وفي شرح الطحاوي: والأصل في وجوب التعزير أن كل من ارتكب منكرا أو آذى مسلما بغير حق بقوله أو بفعله وجب عليه التعزير إلا إذا كان الكذب
71 ظاهرا كقوله يا كلب اه. والمصنف رحمه الله اقتصر على مسائل الشتم لكثرة وقوعها خصوصا في زماننا. وأطلق عليه قذفا مجازا شرعيا وهو حقيقة لغوية لأن القذف في اللغة الرمي بالحجارة ونحوها قال تعالى * (ويقذفون من كل جانب دحورا) * (الصافات: 8) وقذف المحصنات رميهن بالفجور والقذف بالغيب الرجم بالظن قال تعالى * (ويقذفون بالغيب) * (سبأ: 53) وقذف قذفا كذا في ضياء الحلوم. وأطلق في وجوب التعزير بالشتم المذكور وهو مقيد بأن يعجز القائل عن إثبات ما قاله. قال في المحيط: ولو قال له يا فاسق يا فاجر يا مخنث يا لص والمقول له فاسق أو فاجر أو لص لا يعزر، ذكره الحسن في المجرد لأنه صادق في إخباره فلا يكون فيه إلحاق الشين به بل الشين كان ملحقا به. وفي فتح القدير: إنما يجب التعزير فيمن لم يعلم اتصافه به، أما من علم اتصافه فإن الشين قد ألحقه هو بنفسه قبل قول القائل اه. وفي القنية: قال له يا فاسق ثم راد أن يثبت بالبينة فسقه ليدفع التعزير عن نفسه لا تسمع بينته لأن الشهادة على مجرد الجرح والفسق لا تقبل بخلاف ما إذا قال يا زاني ثم أثبت زناه بالبينة تقبل لأنه متعلق الحد، ولو أراد إثبات فسقه ضمنا لما تصح فيه الخصومة كجرح الشهود إذا قال رشوته بكذا فعليه رده تقبل البينة، كذا هذه اه. وهذا إذا شهدوا على فسقه ولم يبينوه، وأما إذا بينوه بما يتضمن إثبات حق الله تعالى أو العبد فإنها تقبل كما إذا قال له يا فاسق فلما رفع إلى القاضي ادعى أنه رآه قبل أجنبية أو عانقها أو خلا بها ونحو ذلك ثم أقام رجلين شهدا أنهما رأياه فعل ذلك فلا شك في قبولها وسقوط التعزير عن القائل لأنها تضمنت إثبات حق لله تعالى وهو التعزير على الفاعل لأن الحق لله تعالى لا يختص بالحد بل أعم منه ومن التعزير، وكذلك يجري هذا في جرح الشاهد بمثله وإقامة البينة عليه، وينبغي على هذا للقاضي أن يسأل الشاتم عن سبب فسقه فإن بين سببا شرعيا طلب منه إقامة البينة عليه، وينبغي أنه إن بين أن سببه ترك الاشتغال بالعلم مع الحاجة إليه أن يكون صحيحا وفي مثل هذا لا يطلب منه البينة بل يسأل المقول له عن الفرائض التي يفترض عليه معرفتها، فإن لم يعرفها ثبت فسقه فلا شئ على القائل له يا فاسق لما صرح به في المجتبى من أن من ترك
72 الاشتغال بالفقه لا تقبل شهادته. واقتصر المصنف في مسائل الشتم على النداء وليس بقيد لأن الاخبار كذلك كما إذا قال أنت فاسق أو فلان فاسق ونحوه. قال في القنية: لو قال له يا منافق أو أنت منافق يعزر اه. وهذا إذا لم يخرج مخرج الدعوى. قال في القنية: لو ادعى رجل عند القاضي سرقة وعجز عن إثباتها لا يعزر بخلاف دعوى الزنا لأن القصد من دعوى السرقة إثبات المال لا نسبته إلى السرقة بخلاف دعوى الزنا وإن قصد إقامة الحسبة لكن لا يمكنه إلا إثباتها بالنسبة إلى الزنا فكان قاصدا نسبته إلى الزنا، وفي المال يمكنه إثباته بدون نسبته إلى السرقة فلم يكن قاصدا نسبته إلى السرقة اه. وفي الظهيرية عن محمد في رجل قال إن زنيت فعبده حر فادعى العبد أنه زنى أحلف المولى بالله ما زنيت، فإن حلف لم يعتق العبد ووجب على العبد الحد للمولى، وإن لم يحلف عتق العبد ولا حد على من قذفه بعد ذلك استحسانا اه. وفي الفتاوي السراجية: إذا ادعى شخص على شخص بدعوى توجب تكفيره وعجز المدعي عن إثبات ما ادعاه لا يجب عليه شئ إذ صدر الكلام على وجه الدعوى عند حاكم شرعي، أما إذا صدر منه على وجه السب أو الانتقاص فإنه يعزر على حسب ما يليق به اه. والتقييد بالمسلم في قوله أو مسلما في مسائل الشتم اتفاقا إذ لو شتم مسلم ذميا فإنه يعزر لأنه ارتكب معصية، كذا في فتح القدير. وفي القنية من باب الاستحلال ورد المظالم: لو قال ليهودي أو مجوسي يا كافر يأثم إن شق عليه اه. ومقتضاه أن يعزر لارتكابه ما أوجب الاثم، وقد جعل المصنف من ألفاظ الشتم يا كافر يا منافق. وفي المحيط: جعل منه يا يهودي وظاهره أن الشاتم لا يكفر به. وصرح في الخلاصة
73 أنه لو أجابه بقوله لبيك كفر. ولا يخفى أن قوله يا رافضي بمنزلة يا كافر أو يا مبتدع فيعزر لأن الرافضي كافر إن كان يسب الشيخين، ومبتدع إن فضل عليا عليهما من غير سب كما في الخلاصة وسيأتي في باب الردة إن شاء الله تعالى. وأفاد بعطفه يا فاجر على يا فاسق التغاير بينهما ولذا قال في القنية: لو أقام مدعي الشتم شاهدين شهد أحدهما أنه قال له يا فاسق والآخر على أنه قال له يا فاجر لا تقبل هذه الشهادة اه. وأطلق في قوله يا لوطي فأفاد أنه لا يسأل عن نيته وأنه يعزر مطلقا. وفي فتح القدير: وقيل في يا لوطي يسأل عن نيته إن أراد أنه من قوم لوط لا شئ عليه، وإن أراد أنه يعمل عملهم يعزر على قول أبي حنيفة، وعندهما يحد، والصحيح أنه يعزر إن كان في غضب - قلت - أو هزل من تعود بالهزل والقبيح اه. وقد ذكر المصنف من الألفاظ الديوث والقرطبان فقال في المغرب: الديوث الذي لا غيرة له ممن يدخل على امرأته. والقرطبان نعت سوء في الرجل الذي لا غيرة له. عن الليث وعن الأزهري: هذا من كلام الحاضرة ولم أر البوادي لفظوا به ولا عرفوه ومنه ما في قذف الأجناس كشحات اه. وذكر الشارح أن القرطبان هو الذي يرى مع امرأته أو محرمه رجلا فيدعه خاليا بها. وقيل: هو المتسبب للجمع بين اثنين لمعنى غير ممدوح. وقيل: هو الذي يبعث امرأته مع غلام بالغ أو مع مزارعه إلى الضيعة أو يأذن لهما بالدخول عليها في غيبته اه. وعلى هذا يعزر بلفظ معرص لأنه الديوث في عرف مصر. وأشار بقوله يا ابن القحبة إلى مسألتين: أحداهما إذا شتم أصله فإنه يعزر بطلب الولد كقوله يا ابن الفاسق يا ابن الكافر أو النصراني وأبوه ليس كذلك. ثانيهما أنه لو قال لامرأته يا قحبة يعزر ولا يحد للقذف بخلاف يا روسي فإنه قذف يحد به، كذا في الخانية.
74 وكأن الفرق بينهما أن روسبي صريح في القذف بالزنا بخلاف القحبة فإنه كناية عن الزانية. قال في الظهيرية: والقحبة الزانية مأخوذ من القحاب وهو السعال، وكانت الزانية في العرب إذا مر بها رجل سعلت ليقضي منها وطره فسميت الزانية قحبة لهذا اه. ومن الألفاظ الموجبة للتعزير يا رستاقي يا ابن الأسود ويا ابن الحجام وهو ليس كذلك كذا في التبيين ومنها يا خائن كما في الظهيرية ومنها يا سفيه كما في المحيط. وفي فتح القدير: الأولى للانسان فيما إذا قيل له ما يوجب التعزير أن لا يجيبه. قالوا: لو قال له يا خبيث الأحسن أن يكف عنه، ولو رفع إلى القاضي ليؤدبه يجوز، ولو أجاب مع هذا فقال بل أنت لا بأس اه. وفي القنية: تشاتما يجب الاستحلال عليهما. وعن الشيخ الجليل: المتكلم إن من شتم غيره أو ضربه فالذهاب إليه في الاستحلال لا يجب عليه ويخرج عن العهدة بالارسال إليه اه. وهو مشكل لأنه يقتضي أنه يزول عنه المأثم بمجرد الذهاب أو الارسال، سواء حالله أو أبرأه أو لا، وينبغي أن يبقى الاثم إلى أن يوجد الابراء إلا أن يقال: إن الابراء ليس في قدرته وإنما في قدرته طلب المحاللة والابراء وقد أتى بما في وسعه. وفي الخانية: التعزير حق العبد كسائر حقوقه يجوز فيه الابراء والعفو والشهادة على الشهادة ويجري فيه اليمين يعني إذا أنكر أنه سبه يحلف ويقضي بالنكول. قال في فتح القدير: ولا يخفى على أحد أنه ينقسم إلى ما هو حق العبد وحق الله تعالى فحق العبد لا شك أنه يجري فيه ما ذكر، وأما ما وجب منه حقا لله تعالى فقد قدمنا أنه يجب على الإمام إقامته ولا يحل له تركه إلا فيما علم أنه انزجر
75 الفاعل قبل ذلك. ثم يجب أن يتفرع عليه أنه يجوز إثباته بمدع شهد به فيكون مدعيا شاهدا إذا كان معه آخر. فإن قلت: في فتاوي قاضيخان وغيره إن كان المدعى عليه ذا مروءة وكان أول ما ما فعل يوعظ استحسانا ولا يعزر فإن عاد وتكرر منه روي عن أبي حنيفة أنه يضرب وهذا يجب أن يكون في حقوق الله تعالى فإن حقوق العباد لا يتمكن القاضي فيها من اسقاط التعزير. قلت: يمكن أن يكون محمل ما قلت من حقوق الله تعالى ولا مناقضة لأنه إذا كان ذا مروءة فقد حصل تعزيره بالجر إلى باب القاضي والدعوى فلا يكون مسقطا لحق الله تعالى في التعزير. وقوله ولا يعزر يعني بالضرب في أول مرة فإن عاد عزره حينئذ بالضرب، ويمكن كون محمله حق آدمي من الشتم وهو ممن تعزيره بما ذكرنا، وقد روي عن محمد في الرجل يشتم الناس إن كان ذا مروءة وعظ، وإن كان دون ذلك حبس، وإن كان سبابا ضرب وحبس يعني الذي دون ذلك، والمروءة عندي في الدين والصلاح. اه ما في فتح القدير. وفي الخلاصة: لو ادعى عليه أنه قال له يا فاسق أو يا زنديق أو يا كافر أو يا منافق أو يا فاجر أو ما يجب فيه التعزير لا يحلفه بالله ما قلت هذا لكن يحلف بالله ماله عليك هذا الحق الذي يدعي ذكره في كيفية الاستحلال. وفي القنية: التعزير لا يسقط بالتوبة. وفي مشكل الآثار: وإقامة التعزير إلى الإمام عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد والشافعي والعفو إليه أيضا. قال الطحاوي: وعندي أن العفو ثابت للذي جنى عليه لا للإمام قال رضي الله عنه: ولعل ما قالوه من أن العفو إلى الإمام فذاك في التعزير الواجب حقا لله تعالى بأن ارتكب منكرا ليس فيه حد مشروع من غير أن يجني على إنسان، وما قاله الطحاوي فيما إذا جنى على إنسان اه. ما في القنية. فهذا كله يدل على أن العفو للإمام جائز وهو مخالف لما في فتح القدير.
76 قوله: (وبيا كلب يا تيس يا حمار يا خنزير يا بقر يا حية يا حجام يا بغا يا مؤاجر يا ولد الحرام يا عيار يا ناكس يا منكوس يا سخرة يا ضحكة يا كشحان يا أبله يا موسوس لا) أي لا يعزر بهذه الألفاظ. أما عدم التعزير في يا كلب يا حمار يا خنزير يا بقر يا حية يا تيس يا ذئب يا قرد فلظهور كذبه. قال في الحاوي القدسي: الأصل أن كل سب عاد شينه إلى الساب فإنه لا يعزر، فإن عاد الشين فيه إلى المسبوب عزر. وعلله في الهداية بأنه ما ألحق الشين به للتيقن بنفيه. وفي هذه الألفاظ ثلاثة مذاهب: ظاهر الرواية أنه لا يعزر مطلقا لما ذكرنا واختار الهندواني أنه يعزر به وهو قول الأئمة الثلاثة لأن هذه الألفاظ تذكر للشتيمة في عرفنا. وفي فتاوي قاضيخان في يا كلب لا يعزر قال: وعن الفقيه أبي جعفر أنه يعزر لأنه شتيمة ثم قال: والصحيح أنه لا يعزر لأنه كاذب قطعا اه. وفي المبسوط: فإن العرب لا تعده شتيمة ولهذا يسمون بكلب وذئب. وذكر قاضيخان عن أمالي أبي يوسف في يا خنزير يا حمار يعزر. ثم قال: وفي رواية محمد لا يعزر وهو الصحيح، وصاحب الهداية استحسن التعزير إذا كان المخاطب من الاشراف وتبعه في التبيين، وسوى في فتح القدير بين قوله يا حجام وبين قوله يا ابن الحجام حيث لم يكن كذلك في عدم التعزير. وفرق بينهما في التبيين فأوجب التعزير في يا ابن الحجام دون يا حجام كأنه لعدم ظهور الكذب في قوله يا ابن الحجام لموت أبيه فالسامعون لا يعلمون كذبه فلحقه الشين بخلاف قوله له يا حجام لأنهم يشاهدون صنعته. وأما بغا - بالباء الموحدة والغين المعجمة المشددة - فهو المأبون بالفارسية ويقال باغا وكأنه انتزع من البغاء، كذا في المغرب. وينبغي أن يجب التعزير فيه اتفاقا لأنه ألحق الشين به لعدم ظهور الكذب فيه ظاهرا لأنه مما يخفي وهو بمعنى يا معفوج وهو المأتي في الدبر. وقد
77 صرح في الظهيرية بوجوب التعزير فيه معللا بأنه ألحق الشين به بل هو أقوى إيذاء لأن الابنة في العرف عيب شديد إذ لا يقدر على ترك أن يؤتى في دبره بسبب دودة ونحوها، وأما المؤاجر فإن كان بكسر الجيم فهو بمعنى المؤجر للشئ ولا عيب فيه إلا أن هذا اللفظ لهذا المعنى في اللغة خطأ وقبيح، وإن كان بفتح الجيم بمعنى المؤجر بالفتح يقال آجره المملوك فاسم المفعول مؤجر ومؤاجر كذا في المغرب - فقد نسبه إلى أن غيره قد استأجره ولا عيب فيه، سواء كان صادقا أو كاذبا، لأنها عقد شرعي. وأما ولد الحرام فينبغي التعزير به لأنه في العرف بمعنى يا ولد الزنا ولم يجب القذف لأنه ليس بصريح وقد ألحق الشين به. وقد أبدله في فتح القدير بيا ولد الحمار وهذا هو الظاهر. وأما العيار - بالعين المهملة المفتوحة والياء المثناة التحتية المشددة - فهو كثير المجئ والذهاب. عن ابن دريد وعن ابن الأنباري: العيار من الرجال الذي يخلي نفسه وهواها لا يردعها ولا يزجرها. وفي أجناس الناطفي: الذي يتردد بلا عمل وهو مأخوذ من قولهم فرس عائر وعيار، كذا في المغرب. وكأنه لما كان أمر الانسان ظاهرا من التردد أو كثرة المجئ والذهاب لم يلحق الشين به فلذا لم يعزر. وأما قوله يا ناكس يا منكوس ففي ضياء الحلوم من باب فعل - بكسر العين - النكس الرجل الضعيف، ومن باب فعل بالفتح يفعل بالضم النكس قلب الشئ على رأسه قال الله تعالى * (ثم نكسوا على رؤوسهم) * (الأنبياء: 65) اه. فكأنه دعا على المخاطب فلا تعزير فيه لعدم إلحاق الشين به. وأما السخرة بضم السين ففي المغرب: السخري من السخرة وهو ما يتسخر أي يستعمل بغير أجر اه. فلا شين فيه بل هو مدح. وأما الضحكة - بضم الضاد - فهو الشئ يضحك منه، كذا في ضياء الحلوم. ولا يخفي أن المقول له إذا لم يكن كذلك فقد استخف به ومن استخف بغيره عزر فينبغي التعزير به ولذا قال في الولوالجية: لو قال له يا ساحر يا ضحكة يا مقامر
78 لا يعزر، هكذا ذكر في بعض المواضع والظاهر أنه يجب اه. وأما الكشحان فرأيت في بعض الحواشي أنه بالحاء المهملة. وفي المغرب: الكشحان الديوث الذي لا غيرة له، وكشحه وكشحته شتمته ويقال يا كشحان اه. فحينئذ هو بمعنى القرطبان والديوث فيجب فيه التعزير ولذا قال في فتح القدير: والحق ما قاله بعض أصحابنا أنه يعزر في الكشحان إذ قيل إنه قريب من معنى القرطبان والديوث اه. فما في المختصر مشكل لكن قال في ضياء الحلوم: كشح القوم عن الشئ إذا تفرقوا عنه وذهبوا، وكشح له بالعداوة أضمرها في كشحه لأن العداوة فيه، وقيل الكاشح المتباعد عن مودة صاحبه من قولهم كشح القوم على الشئ إذا ذهبوا عنه، وفي الحديث أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح فإن صح مجئ الكشحان منه فلا إشكال أنه ليس بمعنى القرطبان فلذا فرق المصنف بينهما. وأما الأبله ففي ضياء الحلوم: البله الغفلة، وفي الحديث أكثر من يدخل الجنة البله قيل: البله في أمر الدنيا الغافلون عن الشر وإن لم يكن بهم بله. قال الزبرقان: خير أولادنا الأبله العقول أي الذي هو لشدة حيائه كالأبله وهو عاقل اه. فعلم أنها صفة مدح وإن كانت مفضولة بالنسبة لمن عنده حذق وعلم كما صرح به القرطبي في شرح مسلم في قوله عليه السلام إن أهل الجنة يتراؤن الغرف فوقهم كالكوكب الدري (1) وصرح بأن المراد بهم البله وأن العلماء هم أهل الغرق فوقهم. وقيد بالأبله احترازا عن البليد فإنه يعزر به. قال في الولوالجية: لو قال يا بليد يا قذر يجب فيه التعزير لأنه قذفه بمعصية ولأنه ألحق الشين به اه. وفي كونه معصية نظر والظاهر التعليل الثاني. وأما الموسوس فضبطه في الظهيرية في فصل التعزير بكسر الواو، وفي المغرب: رجل موسوس بالكسر ولا يقال بالفتح ولكن موسوس له أو إليه أي ملقى إليه الوسوسة. وقال الليث: الوسوسة حديث النفس. وإنما قيل موسوس لأنه يحدث بما في ضميره. وعن أبي الليث: لا يجوز طلاق الموسوس يعني المغلوب في عقله وعن الحاكم: هو المصاب في عقله إذا تكلم تكلم بغير نظام اه. قوله: (وأكثر التعزير تسعة وثلاثون سوطا) وعن أبي يوسف أكثره خمسة وسبعون سوطا والأصل فيه الحديث من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين فتعذر تبليغه حدا
79 بالاجماع غير أن أبا حنيفة اعتبر أدنى الحدود وهو حد العبيد لأن مطلق ما روينا يتناوله وأقله أربعون، وأبو يوسف اعتبر حد الأحرار لأنهم هم الأصول وأقله ثمانون فلا بد من النقص عنه، ففي رواية عنه ينقص خمسة وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف كما في فتح القدير. قيل: وليس فيه معنى معقول فلا يضره لأنه قلد فيه عليا رضي الله عنه، ويجب تقليد الصحابي فيما لا يدرك بالرأي. وفي رواية ينقص سوط. وفي الحاوي القدسي قال أبو يوسف: أكثر في العبد تسعة وثلاثون سوطا، وفي الحر خمسة وسبعون سوطا وبه نأخذ اه. فعلم أن الأصح قول أبي يوسف. وفي المجتبى: وروي أنه ينقص منها سوطا وهو قول زفر وهو القياس وهو الأصح اه. وفي فتح القدير: وبما ذكرنا من تقدير أكثره بتسعة وثلاثين يعرف أن ما ذكر مما تقدم من أنه ليس في التعزير شئ مقدر بل مفوض إلى رأي الإمام أي من أنواعه فإنه يكون بالضرب وبغيره مما تقدم ذكره أما إن اقتضى رأيه الضرب في خصوص الواقعة فإنه حينئذ لا يزيد على تسعة وثلاثين اه. وقد وقع لي تردد في مسألة وهي أن انسانا لو ضرب انسانا بغير حق أكثر من أكثر التعزير ورفع إلى القاضي وثبت عليه أنه ضربه مثلا خمسين سوطا كيف يعزره القاضي؟ فإنه إن ضربه خمسين زاد على أكثر التعزير، وإن اقتصر على الأكثر لم يكن مستوفيا لحق المضروب إلا أن يقال: إن حقه التعزير لا القصاص وقد صرح في الخانية أن مما يجب التعزير به الضرب قوله: (وأقله ثلاثة) أي أقل التعزير بالضرب ثلاثة أسواط وهكذا ذكر القدوري فكأنه يرى أن ما دونها لا يقع به الزجر وليس كذلك، بل يختلف ذلك باختلاف الاشخاص فلا معنى لتقديره مع حصول المقصود بدونه فيكون مفوضا إلى رأي القاضي يقيمه بقدر ما يرى المصلحة فيه على ما بينا تفاصيله وعليه مشايخنا، كذا في التبيين. والحاصل أن على ما في المختصر لو علم القاضي أن الزجر يحصل بسوط لا يكتفى به بل لا بد من الثلاثة وعلى قول المشايخ يكتفى به اه. قوله: (وصح حبسه بعد الضرب) أي جاز للحاكم أن يحبس العاصي بعد الضرب فيجمع بين حبسه وضربه لأنه صلح تعزيرا وقد ورد به الشرع في الجملة حتى جاز أن يكتفي به فجاز أن يضم إليه، ولهذا لم يشرع في التعزير بالتهمة قبل ثبوته كما شرع في الحد لأنه من التعزير. أطلق في الحبس فشمل الحبس في البيت والسجن. قال في الحاوي القدسي: وقد يكون التعزير بالحبس في بيته أو في السجن اه.
80 بقوله: (وأشد الضرب التعزير) لأنه جرى التخفيف فيه من حيث العدد فلا يخفف من حيث الوصف كيلا يؤدي إلى فوات المقصود. ولم يذكر المصنف أنه يفرق على الأعضاء كضرب الحدود لأنه لا يفرق كما في الهداية وإليه يشير إطلاق الأشدية الشاملة لقوته وجمعه في عضو واحد، وفي حدود الأصل يفرق التعزير على الأعضاء وفي أشربة الأصل يضرب التعزير في موضع واحد. قال في التبيين: وليس في المسألة اختلاف الرواية وإنما اختلف الجواب لاختلاف الموضوع، فموضوع الأول إذا بلغ بالتعزير أقصاه، وموضوع الثاني إذا لم يبلغ ا ه. وهكذا في المجتبى وفي فتح القدير، وأثبت الاختلاف في غاية البيان معزيا إلى الأسبيجابي فقال بعضهم: الشدة هو الجمع فتجمع الأسواط في عضو واحد ولا يفرق على الأعضاء بخلاف سائر الحدود. وقال بعضهم: لا بل شدته في الضرب لا في الجمع اه. قالوا: ويتقي المواضع التي تتقى في الحدود. قال في المجتبي: ويضرب الظهر والالية. قالوا: ويبلغ في التعزير غايته وهو تسعة وثلاثون سوطا فيما إذا أصاب من الأجنبية كل محرم غير الجماع، وفيما إذا أخذ السارق بعد ما جمع المتاع قبل الاخراج، وفيما إذا شتمه بجنس ما يجب به حد القذف كقوله للعبد أو الذمي يا زاني. وأشار بالأشدية إلى أنه يجرد من ثيابه. قال في غاية البيان: ويجرد في سائر الحدود إلا في حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه كما قدمناه. ويخالفه ما في فتاوي قاضيخان يضرب للتعزير قائما عليه ثيابه وينزع الفرو والحشو ولا يمد في التعزير اه. والظاهر الأول لتصريح المبسوط به وإلى أنه لو اجتمع التعزير مع الحدود قدم التعزير في الاستيفاء لتمحضه حقا للعبد، كذا في الظهيرية قوله: (ثم حد الزنا) لأنه ثابت بالكتاب وحد الشرب ثابت بقول الصحابة رضي الله عنهم ولأنه أعظم جناية حتى شرع فيه الرجم قوله: (ثم الشرب ثم القذف) يعني حد الشرب يلي حد الزنا في شدة الضرب لما قدمناه، وحد القذف أدنى الكل وإن كان ثابتا بالكتاب إلا أن سببه محتمل لاحتمال كونه صادقا وسبب حد الشرب متيقن به وهو الشرب، والمراد أن الشرب متيقن السببية للحد لا متيقن الثبوت لأنه بالبينة أو الاقرار وهما لا يوجبان اليقين قوله: (ومن حد أو عزر فمات فدمه هدر) لأنه فعل ما فعل بأمر الشارع وفعل المأمور لا يتقيد بشرط السلامة كالفصاد والبزاغ. قال في ضياء الحلوم: ذهب دمه هدرا أي باطلا. قوله: (بخلاف الزوج إذا عزر زوجته لترك الزينة والإجابة إذا دعاها إلى فراشه وترك
81 الصلاة والخروج من البيت) يعني فماتت فإنه يكون ضامنا ولا يكون دمها هدرا لأنه مباح ومنفعته ترجع إليه كما ترجع إلى المرأة من وجه وهو استقامتها على ما أمر الله تعالى به. وقد ظهر بهذا أن كل ضرب كان مأمورا به من جهة الشارع فإن الضارب لا ضمان عليه بموته، وكل ضرب كان مأذونا فيه بدون الامر فإن الضارب يضمنه إذا مات لتقييده بشرط السلامة كالمرور في الطريق. وظهر أن الزوج لا يجب عليه ضرب زوجته أصلا، وظهر به أيضا أن له ضربها في أربعة مواضع لكن وقع الاختلاف في جواز ضربها على ترك الصلاة فذكر هنا تبعا لكثير أنه يجوز، وفي النهاية تبعا لما في كافي الحاكم أنه لا يجوز له لأن المنفعة لا تعود إليه بل إليها، وليس في كلام المصنف ما يقتضي أنه ليس له ضربها في غير هذه الأربعة أشياء ولهذا قال الولوالجي في فتاواه: للزوج أن يضرب زوجته على أربعة أشياء وما في معناها. ففي قوله وما في معناها إفادة عدم الحصر فمما في معناها ما إذا ضربت جارية زوجها غيرة ولا تتعظ بوعظه فله ضربها، كذا في القنية. وينبغي أن يلحق به ما إذا ضربت الولد الذي لا يعقل عند بكائه لأن ضرب الدابة إذا كان ممنوعا فهذا أولى. ومنه ما إذا شتمته أو مزقت ثيابه أو أخذت لحيته أو قالت له يا حمار يا أبله أو لعنته، سواء شتمها أو لا على قول العامة. ومنه ما إذا شتمت أجنبيا، ومنه ما إذا كشفت وجهها لغير محرم أو كلمت أجنبيا أو تكلمت عامدا مع الزوج أو شاغبت معه ليسمع صوتها الأجنبي. ومنه ما إذا أعطت من بيته شيئا من الطعام بلا إذنه حيث كانت العادة لم تجربه، وإن كانت العادة مسامحة المرأة بذلك بلا مشورة الزوج فليس له ضربها. ومنه ما إذا ادعت عليه. وليس منه ما إذا طلبت نفقتها أو كسوتها وألحت لأن لصاحب الحق يدا لملازمة ولسان التقاضي، كذا أفاده في البزازية في مسائل الضرب من فصل الامر باليد، والمعنى الجامع للكل أنها إذا ارتكبت معصية ليس فيها حد مقدر فإن للزوج أن يعزرها كما أن للسيد ذلك بعبده، كذا في البدائع من فصل القسم بين النساء وهو شامل لما كان متعلقا بالزوج وبغيره. وقد صرحوا بأنه إذا ضربها بغير حق وجب عليه التعزير، ولا يخفي أنه إنما يجوز ضربها لترك الزينة إذا كانت قادرة عليها وكانت شرعية وإلا فلا كما أنه يجوز ضربها لترك الإجابة إذا كانت طاهرة عن الحيض وعن النفاس، وكما يجوز ضربها للخروج إذا كان الخروج بغير حق، وأما إذا كان بحق فليس له ضربها عليه، وقدمنا
82 المواضع التي تخرج إليها بغير إذنه في كتاب النفقات. وأطلق في الزوجة فشمل الصغيرة ولذا قال في التبيين: إن التعزير مشروع في حق الصبيان. وفي القنية: مراهق شتم عالما فعليه التعزير اه. وفي المجتبى معزيا إلى السرخسي: الصغير لا يمنع وجوب التعزير ولو كان حقا لله تعالى لمنع. وعن الترجماني: البلوغ يعتبر في التعزير أراد به ما وجب حقا لله تعالى نحو ما إذا شرب الصبي أو زنى أو سرق، وما ذكره السرخسي فيما يجب حقا للعبد توفيقا بينهما اه. قيد بالزوجة لا بالأب والمعلم لا يضمن. وفي القنية: ولا يجوز ضرب أختها الصغيرة التي ليس لها ولي بترك الصلاة إذا بلغت عشرا، وله أن يضرب اليتيم فيما يضرب ولده، به وردت الآثار والاخبار. وفي الروضة: له أن يكره ولده الصغير على تعلم القرآن والأدب والعلم لأن ذلك فرض على الوالدين، ولو أمر غيره بضرب عبده حل للمأمور ضربه بخلاف الحر. قال رضي الله عنه: فهذا تنصيص على عدم جواز ضرب ولد الآمر بأمره بخلاف المعلم لأن المأمور يضربه نيابة عن الأب لمصلحته والمعلم يضربه بحكم الملك بتمليك أبيه لمصلحة الولد اه. وفيها أيضا عن أبي بكر: أساء عبده لا يعزره وهذا خلاف قول أصحابنا، وله التعزير دون الحد وبه نأخذ وكذلك امرأته لأن الله تعالى قال * (واضربوهن) * (النساء: 34) اه والله أعلم.
83 كتاب السرقة لما كانت صيانة الأموال مؤخرة عن صيانة النفوس والعقول والاعراض أخر زاجر ضياعها. وهي في اللغة أخذ الشئ في خفاء وحلية. يقال سرق منه مالا وسرقه سرقا وسرقة، ويسمى الشئ المسروق سرقة مجازا، كذا في المغرب. وأما في الشريعة فلها تعريفان: تعريف باعتبار الحرمة وتعريف باعتبار ترتب حكم شرعي وهو القطع. أما الأول فهو أخذ الشئ من الغير على وجه الخفية بغير حق، سواء كان نصابا أو لا. وأما الثاني فهو ما ذكره المصنف بقوله: (هو أخذ مكلف خفية قدر عشرة دراهم مضروبة محرزة بمكان أو حافظ) أطلق في الاخذ فشمل الحقيقي والحكمي، فالأول هو أن يتولى السارق أخذ المتاع بنفسه، والثاني هو أن يدخل جماعة من اللصوص من زل رجل ويأخذوا متاعه ويحملوه على ظهر رجل واحد ويخرجوه من المنزل، فإن الكل يقطعون استحسانا وسيأتي، فخرج بالتكليف الصبي والمجنون لأن القطع عقوبة وهما ليسا من أهلها فهما مخصوصان من آية السرقة لكنهما يضمنان المال. وإن كان يجن ويفيق، فإن سرق في حال جنونه لم يقطع، وإن كان في حال الإفاقة قطع. ولو سرق جماعة فيهم صبي أو مجنون يدرأ عنهم القطع، كذا في البدائع. وشمل الذكر والأنثى والحر والعبد ولو آبقا والمسلم والكافر كما في البدائع. وخرج بقيد الخفية ما أخذ جهرا مغالبة أو نهبا أو اختلافا فإنه لا قطع فيه. وأفاد بقوله الاخذ خفية إلى أن الشرط الخفية وقت الاخذ أو دخول الحرز ليلا كان أو نهارا، وأما الخفية في الانتهاء فإن كانت السرقة نهارا في المصر فهي شرط أيضا وما بين العشاء والعتمة من النهار ولذا قال في الاختيار: ولو دخل بين العشاء والناس منتشرون فهو بمنزلة النهار، وإن كانت السرقة ليلا فليست بشرط حتى لو دخل البيت ليلا خفية ثم أخذ المال مجاهرة ولو بعد مقاتلة من في يده
84 قطع به للاكتفاء بالخفية الأولى. ولم يبين المصنف أن المعتبر كونها خفية على زعم السارق أو المسروق منه فهي رباعية، فلو كان السارق يعلم أن صاحب الدار يعلم بدخوله وعلم به صاحب الدار أيضا فلا قطع، أو لم يعلما فيقطع اتفاقا، أو كان صاحب الدار يعمل بدخوله والسارق لا يعلم أنه يعلم فإنه يقطع اكتفاء بكونها خفية في زعم السارق، وإن كان على عكسه بأن زعم اللص بأن صاحب الدار علم به وصاحب الدار لم يعلم ففي التبيين لا يقطع لأنه جهر. وفي الخلاصة والمحيط والذخيرة أنه يقطع اكتفاء بكونها خفية في زعم أحدهما أيهما كان. واحترز بقوله قدر عشرة دراهم عن سرقة ما دونها. وأطلق في الدراهم فانصرفت إلى المعهودة وهي أن تكون العشرة منها وزن سبعة مثاقيل كما في الزكاة. واحترز بالمضروبة عما إذا سرق تبرا وزنه عشرة دراهم أو متاعا قيمته عشرة دراهم غير مضروبة فإنه لا قطع فيه على الصحيح بخلاف المهر. والفرق أن الحد يدرأ بالشبهة فيتعلق بالكامل، والمهر يثبت مع الشبهة مع أن قوله مضروبة تأكيد وإيضاح وإلا فالدرهم اسم للمضروب، وأما غير المضروب فلا يسمى درهما كما في المغرب، فلو سرق نصف دينار قيمته النصاب قطع عندنا، ولو سرق دينارا قيمته أقل من النصاب لا يقطع وتعتبر قيمة النصاب يوم السرقة ويوم القطع، فلو كانت قيمته يوم السرقة عشرة فانتقص بعد ذلك إن كان نقصان القيمة لنقصان العين يقطع، وإن كان لنقصان السعر لا يقطع في ظاهر الرواية. ولو سرق ثوبا قيمته عشرة دراهم فأخذه المالك. في بلد آخر وقيمة الثوب ثمة ثمانية دراهم درئ عنه القطع، وإذا وجب تقويم المسروق بعشرة دراهم يقوم بأعز النقود أو بنقد البلد الذي يروح بين الناس في الغالب، فالأول رواية الحسن عن الإمام، والثاني رواية أبي يوسف عنه. ولا يقطع السارق بتقويم الواحد بل لا بد من تقويم رجلين عدلين لهما معرفة بالقيمة لأنه من باب الحدود فلا يثبت إلا بما ثبت به السرقة فلا قطع عند اختلاف المقومين كما في الظهيرية. وأطلق في قدر النصاب فشمل ما إذا كان المسروق منه واحدا أو أكثر، فلو سرق واحد نصابا من جماعة قطع، ولو سرق اثنان نصابا من واحد لا قطع عليهما، فالعبرة للنصاب في حق السارق لا المسروق منه بشرط أن يكون الحرز واحدا، فلو سرق نصابا من منزلين مختلفين فلا قطع، والبيوت من دار واحدة بمنزلة بيت واحد حتى لو سرق من عشرة أنفس في دار كل واحد في بيت على حدة من كل واحد منهم درهما قطع بخلاف ما إذا كانت الدار عظيمة وفيها حجر كما في البدائع. وخرج باشتراط النصاب ما إذا سرق ثوبا قيمته تسعة دراهم فوضعه على باب الدار ثم دخل فأخذ ثوبا آخر يساوي تسعة دراهم فأخرجه عليه لم يقطع لأنه لم يبلغ المأخوذ في كل واحد منهما نصابا كذا في البدايع. وأطلق في
85 الدراهم فانصرفت إلى الجياد، فلو سرق زيوفا أو نبهرجة أو ستوقة فلا قطع إلا أن تكون كثيرة تبلغ قيمتها نصابا من الجياد. وقد استفيد من اشتراط النصاب اشتراط أن يكون المسروق مالا متقوما، ولا بد أن يكون مملوكا لغيره فلا قطع في حصر المسجد وأستار الكعبة وإن كانت محرزة. ولا بد من انتفاء الشبهة ولم يذكرهما لما سيصرح به، ولا بد من كون السارق ليس بأخرس ولا أعمى لاحتمال أنه لو نطق ادعى شبهة والأعمى جاهل بمال غيره. وقوله محرزة بمكان أو حافظ بيان لكون الحرز على قسمين: حرز بنفسه وهو كل بقعة معدة للاحراز ممنوع الدخول فيها إلا بإذن كالدور والحوانيت والخيم والخزائن والصناديق. وحرز بغيره وهو كل مكان غير معد للاحراز وفيه حافظ كالمساجد والطرق والصحراء وسيأتي بيانهما. وفي القنية: لو سرق المدفون في المفازة يقطع اه. ولا بد أن تكون السرقة في دار العدل فلا يقطع في السرقة في دار الحرب ودار البغي، فلو سرق بعض تجار المسلمين من البعض في دار الحرب ثم خرجوا إلى دار الاسلام فأخذ السارق لا يقطعه الإمام، كذا في البدائع. ولا بد من ثبوت دلالة القصد إلى النصاب المأخوذ. وعليه ذكر في التجنيس من علامة النوازل: سرق ثوبا قيمته دون العشرة وعلى طرفه دينار مشدود لا يقع وذكر من علامة فتاوى سمرقند إذا سرق ثوبا لا يساوي عشرة وفيه دراهم مصرورة لا يقطع قال: وهذا إذا لم يكن الثوب وعاء للدراهم عادة، فإن كان يقطع لأن القصد فيه يقع على سرقة الدراهم ألا ترى أنه لو سرق كيسا فيه دراهم كثيرة يقطع وإن كان الكيس يساوي درهما. ولا بد أن يكون للمسروق منه يد صحيحة فخرج السارق من السارق، ولا بد أن يخرجه ظاهرا حتى لو ابتلع دينارا في الحرز وخرج لا يقطع، ولا ينتظر أن يتغوطه بل يضمن مثله لأنه استهلكه وهو سبب الضمان للحال فقد علمت مما ذكرناه أن تعريف المختصر قاصر، فلو قال المصنف هي أخذ مكلف ناطق بصير صاحب يد يسرى ورجل يمنى صحيحتين عشرة دراهم جياد أو مقدارها مقصودة ظاهرة الاخراج خفية من صاحب يد صحيحة مما لا يتسارع إليه الفساد من المال المعمول للغير من حرز بلا شبهة وتأويل في دار العدل لكان أولى وقد علمت فوائد القيود. وفي الظهيرية: وشرط أصحابنا لقطع اليد اليمنى أن تكون اليد اليسرى والرجل اليمنى صحيحتين، وهكذا ذكره في المجتبى من الشروط. وفي التحقيق أن الاخذ المذكور هو ركنها.
86 قوله: (فيقطع أن أقر مرة أو شهد رجلان) بيان لحكمها وسبب ثبوتها. وفي قوله مرة رد على أبي يوسف في قوله لا يقطع إلا بإقراره مرتين ويروى عنه أنهما في مجلسين مختلفين لأنه أحد الحجتين فتعتبر بالأخرى وهي البينة كذلك اعتبرنا في الزنا. ولهما أن السرقة ظهرت بإقراره مرة واحدة فيكتفى به كما في القصاص وحد القذف، ولا اعتبار بالشهادة فيها لأن الزيادة تفيد فيها تقليل تهمة الكذب ولا تفيد في الاقرار شيئا لأنه لا تهمة، وباب الرجوع في حق الحد لا ينسد بالتكرار والرجوع في حق المال لا يصح أصلا لأن صاحب المال يكذبه واشتراط الزيادة في الزنا بخلاف القياس فيقتصر على مورد الشرع. ومن مسائل الاقرار لو قال أنا سارق هذا الثوب بالإضافة قطع، ولو نون القاف لا يقطع لأنه على الاستقبال والأول على الحال. وفي عيون المسائل: قال سرقت من فلان مائة درهم بل عشرة دنانير يقطع في العشرة دنانير ويضمن مائة. هذا إن ادعى المقر له المالين وهو قول أبي حنيفة لأنه رجع عن الاقرار بسرقة مائة وأقر بعشرة دنانير فصح رجوعه عن الاقرار بالسرقة الأولى في حق القطع ولم يصح في حق الضمان وصح الاقرار بالسرقة الثانية في حق القطع، وبه ينتفي الضمان بخلاف ما لو قال سرقت مائة بل مائتين فإنه يقطع ولا يضمن شيئا لو ادعى المقر له المائتين لأنه أقر بسرقة مائتين ووجب القطع فانتفى الضمان والمائة الأولى لا يدعيها المقر له بخلاف الأولى. ولو قال سرقت مائتين بل مائة لم يقطع ويضمن المائتين لأنه أقر بسرقة مائتين ورجع عنها فانتفى الضمان ولم يجب القطع ولم يصح الاقرار بالمائة إذ لا يدعيها
87 المسروق منه، ولو أنه صدقه في الرجوع إلى المائة لا ضمان، كذا في فتح القدير. ولم يذكر المصنف صحة الرجوع عن الاقرار للعلم بأنه يصح الرجوع عن الاقرار بالحدود كلها إلا حد القذف. قال في الذخيرة: وإذا أقر بالسرقة ثم هرب لا يتبع وإن كان في فوره اه. بخلاف ما إذا شهدا عليه ثم هرب فإنه يتبع، كذا في الظهيرية. ولم يشترط المصنف عدم التقادم في هذه الحجة لأنه ليس بشرط في الاقرار، وشرط في البينة فلو أقر بسرقة متقادمة قطع ولو شهدا عليه بذلك لا كما في البدائع. وقدمناه وحد التقادم في السرقة هو حده في الزنا، كذا في الذخيرة. وأطلق في المقر فشمل الحر والعبد وسيأتي تفاصيلها في العبد. وقيد بالرجلين لأن شهادة النساء غير مقبولة فيه وكذا الشهادة على الشهادة وإن قبلت في حق المال. وأفاد المصنف بحصر الحجة فيما ذكر أنه لا يقطع بالنكول وإن ضمن المال، وأن العبد لا يقطع بإقرار مولاه عليه بها وإن لزم المال. ولم يقيد المصنف الاقرار بالطواعية. قال في الظهيرية: وإذا أقر بالسرقة مكرها فإقراره باطل، ومن المتأخرين من أفتى بصحته، وسئل الحسن بن زياد أيحل ضرب السارق حتى يقر؟ قال: ما لم يقطع اللحم لا يتبين العظم ولم يزد على هذا ا ه. وفي التجنيس: لا يفتى بعقوبة السارق لأنه جور ولا يفتى به. وفي الظهيرية: هل ينبغي للسارق أن يعلم صاحب المتاع أنه سرق متاعه؟ إن كان لا يخاف أن يظلمه متى أخبره يخبره ليصل إلى حقه، وإن كان يخاف لا يخبره لأنه معذور في ترك الاخبار ولكن يوصل الحق إليه بطريق آخر. وإذا قضى القاضي بالقطع ببينة أو إقرار ثم قال المسروق منه هذا متاعه لم يسرقه مني إنما كنت أودعته أو قال شهد شهودي بزور أو قال أقر هو بباطل أو ما أشبه ذلك سقط عنه القطع، ويستحب للإمام أن يلقن السارق حتى لا يقر بالسرقة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقال: أسرق ما إخاله سرق؟ ولأنه احتيال للدرء. وقوله إخاله بكسر الهمزة معناه أظنه، وبالفتح كذلك وكلاهما فعل مضارع من المخيلة وهي الظن إلا أن الحديث جاء بالكسر. وإذا شهد كافران على كافر ومسلم بسرقة مال لا يقطع الكافر كما لا يقطع المسلم، ولو شهدا أنه سرق من فلان ثوبا فقال أحدهما إنه هروي وقال الآخر إنه مروي - بسكون الراء - ذكر في نسخ أبي سليمان أنه على الخلاف اعتبارا باختلاف الشاهدين في لون البقرة، وذكر في نسخة أبي حفص أنه لا تقبل الشهادة اجماعا اه. ولم يذكر المصنف سؤال الشاهدين. وفي الهداية: وينبغي أن يسألهم الإمام عن كيفية السرقة وماهيتها وزمانها ومكانها لزيادة الاحتياط كما مر في الحدود، ويحبسه إلى أن يسأل عن
88 الشهود للتهمة اه. زاد في الكافي أنه يسألهما عن المسروق إذ سرقة كل مال لا توجب القطع فالسؤال عن الكيفية لاحتمال أنه سرق على كيفية لا يقطع معها كأن نقب الجدار وأدخل يده فأخرج المتاع فإنه لا يقطع. والسؤال عن الماهية لاطلاقها على استراق السمع والنقص من أركان الصلاة والسؤال عن الزمان لاحتمال التقادم، وعلى المكان لاحتمال السرقة في دار الحرب من مسلم. وفي المبسوط: لم يذكر محمد السؤال عن المسروق منه لأنه حاضر يخاصم والشهود يشهدون على السرقة منه فلا حاجة إلى السؤال عنه وفيه نظر لاحتمال أن يكون قريب السارق أو زوجا فلا بد من السؤال عنه كما في التبيين. وأما سؤال المقر فإنه عن جميع ما ذكرنا إلا عن السؤال عن الزمان. وفي فتح القدير: ولا يسأل المقر عن المكان وهو مشكل للاحتمال المذكور. واعلم أنه لا بد من حضور الشاهدين وقت القطع كحضور المدعى حتى لو غابا أو ماتا لاقطع، وهذا في كل الحدود إلا في الرجم ويمضي القصاص وإن لم يحضروا استحسانا، كذا في كافي الحاكم وإن شرط بداءة الشهود بالرجم. قوله: (ولو جمعا والآخذ بعضهم قطعوا إن أصاب لكل نصاب) أي لو كان السارق جماعة لأن الموجب سرقة النصاب، ويجب على كل واحد منهم بجنايته فيعتبر كمال النصاب في حقه، وقدمنا أنه لا فرق بين كون الاخذ مباشرة أو تسببا، ولا بد من أن لا يكون فيهم ذو رحم محرم من المسروق منه ولا صبي ولا مجنون ولا معتوه. وأطلقه فشمل ما إذا كانوا خرجوا معه من الحرز أو بعده من فوره أو خرج هو بعدهم في فورهم لأن بذلك يحصل التعاون. وقيد بالجمع لأنه لو سرق واحد من عشرة من كل واحد منهم درهما من بيت واحد
89 يقطع لكمال النصاب في حق السارق قوله: (ولا يقطع بخشب وحشيش وقصب وسمك وطير وصيد وزرنيخ ومغرة ونورة) لأنه لا قطع فيما يوجد تافها مباحا في دار الاسلام لقول عائشة رضي الله عنها: كانت اليد لا تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشئ التافه أي الحقير. وما يوجد جنسه مباحا في الأصل بصورته غير مرغوب فيه حقير لقلة الرغبات فيه والطباع لا تضن به فقل ما يوجد آخذه على كره من المالك فلا حاجة إلى شرع الزاجر ولهذا لم يجب القطع بسرقة ما دون النصاب، ولان الحرز فيها ناقص ألا يرى أن الخشب يلقى على الأبواب وإنما يدخل في الدار للعمارة لا للاحراز والطير يطير والصيد يفر، وكذا الشركة العامة التي كانت فيه وهي على تلك الصفة تورث الشبهة والحد يندرئ بها. أطلق الخشب وهو مقيد بما إذا لم يحدث فيه صنعة متقومة، فإن كان معمولا قطع فيه كما في شرح الطحاوي كما يقطع في الحصر البغدادية كما في غاية البيان، ومقيد بما إذا لم تجر العادة بإحرازه، فإن كان مما يحرز كالساج والأبنوس فإنه يقطع فيه. وأطلق السمك فشمل الطري والمالح، والطير فشمل الدجاج والبط والحمام، ونظر بعضهم في الزرنيخ فقال: ينبغي أن يقطع به لأنه يحرز ويصان في دكاكين العطارين كسائر الأموال. واختلف في الوسمة والحناء والوجه القطع لأنه جرت العادة بإحرازه في الدكاكين. والمغرة - بفتح الغين - الطين الأحمر ويجوز إسكانها. وألحق في المجتبى بما ذكر الفحم والأشنان والزجاج والملح والخزف، واستثنى في الظهيرية من الطير الدجاج فأوجب القطع فيه. قوله: (وفاكهة رطبة أو على شجر ولبن ولحم وزرع لم يحصد وأشربة وطنبور) لأنه لا قطع فيما يتسارع إليه الفساد لقوله عليه السلام لا قطع في ثمرة ولا كثر والكثر الجمار. وقال عليه السلام لا قطع في الطعام والمراد والله أعلم ما يتسارع إليه الفساد كالمهيأ للاكل منه وما في معناه كاللحم والتمر لأنه يقطع في الحنطة والسكر إجماعا ولا إحراز فيما على الشجر وفي زرع لم يحصد ولتأول السارق في الأشربة المطربة الإراقة وبعضها ليس بمال، وفي مالية بعضها اختلاف فيتحقق شبهة عدم المال والطنبور من المعازف. أطلق في الفاكهة فشمل العنب والرطب على المختار لأنه يخاف الفساد من وجه. وذكر الأسبيجابي أنه لا بد أن
90 يكون المسروق يبقى من حول إلى حول فإذا سرق شئ لا يبقى من حول إلى حول لا يجب القطع اه. وقيد بالرطبة لأنه يقع في اليابسة ويقطع في الزبيب والتمر. وأطلق في اللحم فشمل القديد منه لأنه يتوهم فيه الفساد. وقيد بالأشربة لأنه يقطع في العسل والخل إجماعا كذا في التبيين. وفيه نظر لما نقله الناطفي عن المجرد قال أبو حنيفة: لا قطع في الخل لأنه قد صار خمرا مرة اه. فلا يدعي الاجماع. وأطلق في الأشربة فشمل الحلو والمر وما إذا كان السارق مسلما أو ذميا. وأشار بالطنبور إلى جميع آلات اللهو. وفي الظهيرية وغيرها: والقطع في الحنطة وغيرها إجماعا إنما هو في غير سنة القحط أما فيها فلا، سواء كان مما يتسارع الفساد إليه أو لا، لأنه عن ضرورة ظاهرة أو هي تبيح التناول وعنه عليه السلام لا قطع في مجاعة مضطرة وعن عمر رضي الله عنه: لا قطع في عام سنة قوله: (ومصحف ولو محلي) أي لا قطع في سرقة مصحف ولو كان عليه حلية من ذهب أو فضة لأن الآخذ يتأول في أخذه القراءة والنظر فيه ولأنه لا مالية له على اعتبار المكتوب وإحرازه لأجله لا للجلد والأوراق والحلية وإنما هي توابع ولا معتبر بالتبع كمن سرق آنية فيها خمر وقيمة الآنية تربو على النصاب، وكمن سرق صبيا حرا وعليه حلي. قال في المبسوط: ألا ترى أنه لو سرق ثوبا لا يساوي عشرة ووجد في جيبه عشرة مصرورة لم يعلم بها لم أقطعه، وإن كان يعمل بها فعليه القطع وقد قدمناه، وسيأتي أنه لا قطع في الدفاتر وهي الكتب شرعية كانت أو لا قوله: (وباب مسجد) لعدم الاحراز فصار كباب الدار بل أولى لأنه يحرز بباب الدار ما فيها ولا يحرز بباب المسجد ما فيه حتى لا يجب القطع بسرقة متاعه. قال فخر الاسلام: فإن اعتاد سرقة أبواب المساجد فيجب أن يعزر ويبالغ فيه ويحبس حتى يتوب اه. وينبغي أن يكون كذلك سارق البزابيز من الميض وأشار إلى أنه لا قطع في سرقة حصره وقناديله وكذا أستار الكعبة وإن كانت محرزة لعدم المالك قوله: (وصليب ذهب وشطرنج ونرد) لأنه يتأول من أخذها الكسر نهيا عن المنكر بخلاف الدرهم الذي عليه التمثال لأنه ما أعد للعبادة فلا يثبت شبهة إباحة الكسر. أطلقه فشمل ما إذا كان في حرز أو لا. والشطرنج بكسر الشين. وفي ضياء الحلوم: النرد الذي يلعب به وهو فارسي معرب وقل ما يأتلف النون والراء في كلمة واحدة إلا بدخل بينهما اه. وسيأتي في الشهادات أنه كل لعب لا يحتاج لاعبه إلى فكر
91 وحساب قوله: (وصبي حر ولو معه حلى) لأن الحر ليس بمال وما عليه من الحلي تبع له ولأنه يتأول في أخذ الصبي إسكاته أو حمله إلى مرضعته. أطلقه فشمل الصبي الذي لا يمشي ولا يتكلم. والحلي - بضم الحاء - جمع حلي - بفتحها - ما يلبس من ذهب أو فضة أو جوهر. وأشار المصنف إلى أنه لو سرق إناء ذهب فيه نبيذ أو ثريدا أو كلبا عليه قلادة فضة لا يقطع على المذهب إلا في رواية عن أبي يوسف ورجحها في فتح القدير، فإن الظاهر أن كلا منهما أصل مقصود بالأخذ بل القصد إلى الاناء الذهب أظهر منه إلى ما فيه وما يوافق ما ذكرنا ما في التجنيس: سرق كوزا فيه عسل وقيمة الكوز تسعة وقيمة العسل درهم يقطع، وكذا إذا سرق حمارا يساوي تسعة وعليه إكاف يساوي درهما بخلاف ما إذا سرق قمقمة فيها ما يساوي عشرة لأنه سرق ماء من وجه وهو نظير ما تقدم من المبسوط فيمن سرق ثوبا لا يساوي عشرة مصرور عليه عشرة قال: يقطع إذا علم أن عليه مالا بخلاف ما إذا لم يعلم. قوله: (وعبد كبير ودفاتر بخلاف الصغير ودفاتر الحساب) لأنه في الكبير غصب أو خداع وهي متحققة في الصغير. وقال أبو يوسف: لا يقطع وإن كان صغيرا لا يعقل ولا يتكلم استحسانا لأنه آدمي من وجه مال من وجه. ولهما أنه مال مطلق لكونه منتفعا به أو بعرض أن يصير منتفعا به إلا أنه انضم إليه معنى الآدمية، ولو كانت قيمته أقل من النصاب وفي اذنه شئ يكمل النصاب يقطع باعتبار الضم. أراد بالكبير المميز المعبر عن نفسه بالغا كان أو صبيا، وبالصغير الذي لا يعبر عن نفسه. وأطلق في الكبير فشمل النائم والمجنون والأعمى. والمقصود من الدفاتر ما فيها وذلك ليس بمال إلا دفتر الحساب لأن ما فيه لا يقصد بالأخذ فكان المقصود هو الكاغد. والمراد بالدفاتر صحائف فيها كتابة من عربية أو شعر أو حديث أو تفسير أو فقه مما هو من علم الشريعة، وقد اختلف في غيرها فقيل ملحقة بدفاتر الحساب فيقطع فيها، وقيل بكتب الشريعة لأن معرفتها قد تتوقف على اللغة والشعر والحاجة. وإن قلت: كفت في ايراث الشبهة ومقتضى هذا أن لا يختلف في القطع بسرقة كتب السحر والفلسفة لأنه لا يقصد ما فيها لأهل الديانة فكانت سرقة صرفا. والمراد بدفاتر الحساب دفاتر أهل الديون وقولهم لأن المقصود الكاغد يدل على أن المراد به الذي مضى حسابه وقد قيل به كما ذكره الشمني. وأما الدفاتر التي في الديوان المعمول بها فالمقصود علم ما فيها فلا قطع، وأما دفاتر مثل علم الحساب والهندسة فهو كغيره فلا قطع بسرقته لأنها ككتب الأدب والشعر. وقيد بالدفاتر لأنه لو سرق الورق والجلد قبل الكتابة قطع ذكره الشمني قوله: (وكلب وفهد) لأن من جنسها يوجد مباح الأصل غير مرغوب فيه ولان
92 الاختلاف بين العلماء ظاهر في مالية الكلب فأورث شبهة. أطلقه فشمل ما إذا كان عليه طوق ذهب أو فضة علم به أو لم يعلم لأنه تبع له كالصبي الحر إذا كان عليه حلي قوله: (ودف وطبل وبربط ومزمار) لأنها عندهما لا قيمة لها وعليه الفتوى فلا ضمان على من كسرها، وعند أبي حنيفة آخذها يتأول الكسر فيها. والدف - بالضم والفتح - الذي يلعب به وهو نوعان: مدور ومربع، كذا في المغرب. والبربط - بفتح الباءين الموحدتين - وهو العود، كذا في الترغيب والترهيب. أطلقه فشمل الدف والطبل للغزاة وفيه اختلاف المشايخ والأصح عدم القطع لأن صلاحيته للهو صارت شبهة، كذا في غاية البيان قوله: (وبخيانة ونهب واختلاس) لانتفاء ركن السرقة وهي الاخذ خفية والخيانة هي الاخذ مما في يده على وجه الأمانة، والنهب هو الاخذ على وجه العلانية، والقهر في بلد أو قرية، والاختلاس الاختطاف وهو أن يأخذ الشئ بسرعة والاسم الخلسة. وفي السنن والجامع للترمذي مرفوعا ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع (1) وأما ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة كانت تستعير المتاع وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطعها فأجاب عنه الجماهير بأن القطع كان لسرقة صدرت منها، وتمامه في فتح القدير قوله: (ونبش) أي لا قطع على النابش وهو الذي يسرق أكفان الموتى بعد الدفن، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: عليه القطع لقوله عليه السلام من نبش قطعناه ولأنه مال متقوم محرز مثله فيقطع. ولهما قوله عليه السلام لا قطع على المختفي وهو النباش بلغة أهل المدينة ولان الشبهة تمكنت في الملك لأنه لا ملك للميت حقيقة ولا للوارث لتقدم حاجة الميت وقد تمكن الخلل في المقصود وهو الانزجار لأن الجناية في نفسها نادرة لوجود، وما رواه غير مرفوع أو هو محمول على السياسة لمن اعتاده فيقطعه الإمام سياسة لا حدا. أطلقه فشمل ما إذا كان القبر في بيت مقفل على الصحيح وما إذا سرق من تابوت في القافلة وفيه الميت لما بينا، وما إذا سرق من القبر ثوبا غير الكفن لعدم الحرز. وأشار إلى أنه لو سرق من البيت الذي فيه قبر الميت مالا آخر غير الكفن أنه لا يقطع لتأوله بالدخول إلى زيارة القبر، وكذا لو سرق من بيت فيه الميت لتأوله بتجهيزه وهو أظهر من الكل لوجود الاذن بالدخول فيه عادة. قوله: (ومال عامة أو مشترك) لأن له فيه شركة حقيقة في الثاني أو شبهة شركة في
93 الأول وهو مال بيت المال فإنه مال المسلمين وهو منهم، وإذا احتاج ثبت الحق له فيه بقدر حاجته فأورث شبهة والحدود تدرأ بها. وأما مال الوقف فلم أر من صرح به ولا يخفي أنه لا يقطع به لعدم المالك كما صرحوا أنه لو سرق حصر المسجد ونحوها من حرز فإنه لا يقطع معللين بعدم المالك قوله: (ومثل دينه) لأنه استيفاء لحقه. أطلقه فشمل ما إذا كان الدين مؤجلا وهو استحسان لأن التأجيل لتأخير المطالبة. والمراد بالمماثلة المثل من حيث الجنس بأن كان من النقود، سواء كان من جنسه حقيقة كأن يكون دينه دراهم فسرق دراهم، أو من جنسه حكما كأن سرق دنانير في الصحيح ولهذا كان للقاضي أن يقضي بها دينه من غير رضا المطلوب ويضم أحدهما إلى الآخر في الزكاة فخرج ما إذا سرق عروضا ومنها الحلي فإنه يقطع لأنه ليس باستيفاء وإنما هو استبدال فلا يتم إلا بالتراضي ولم يوجد. وعن أبي يوسف أنه لا يقطع لأن له أن يأخذه عند بعض العلماء قضاء من حقه أو رهنا بحقه. قلنا: هذا قول لا يستند إلى دليل ظاهر فلا يعتبر بدون اتصال الدعوى به حتى لو ادعى ذلك درئ عنه الحد لأنه ظن في موضع الخلاف، وأما المماثلة من حيث القدر فليست بشرط لأنه لو سرق زيادة على حقه لا يقطع لأنه بمقدار حقه يصير شريكا فيه فيصير شبهة، وكذا المماثلة من حيث الوصف حتى لو سرق من جنس حقه أجود أو أراد ألا يقطع، كذا في المجتبى. وفيه أن ابن أبي ليلى والشافعي يطلقان أخذ خلاف جنس حقه للمجانسة في المالية، وما قالا هو الأوسع،
94 ويجوز الاخذ به وإن لم يكن مذهبنا فإن الانسان يعذر في العمل به عند الضرورة اه. وقيد بسرقة الدائن لأن المكاتب أو العبد إذا سرق من غريم المولى قطع إلا إن كان المولى وكلهما بالقبض لأن حق الاخذ حينئذ لهما، ولو سرق من غريم أبيه أو غريم ولده الكبير أو غريم مكاتبه أو غريم عبده المأذون المديون قطع لأن حق الاخذ لغيره، ولو سرق من غريم ابنه الصغير لا يقطع قوله: (وبشئ قطع فيه ولم يتغير) وهذا استحسان، والقياس أن يقطع وهو رواية عن أبي يوسف لقوله عليه السلام فإن عاد فاقطعوه من غير فصل، ولان الثانية متكاملة كالأولى بل أقبح لتقدم الزاجر وصار كما إذا باعه المالك من السارق ثم اشتراه منه ثم كانت السرقة. ولنا أن القطع أوجب سقوط عصمة المحل كما يعرف من بعد إن شاء الله تعالى. وبالرد إلى المالك وإن عادت حقيقة العصمة بقيت شبهة السقوط نظرا إلى اتحاد الملك والمحل وقيام الموجب وهو القطع فيه بخلاف ما ذكر لأن الملك قد اختلف لاختلاف سببه، ولان تكرار الجناية فيه نادر لتحمله مشقة الزاجر فتعرى الإقامة عن المقصود وهو تقليل الجناية فصار كما إذا قذف المحدود في القذف والمقذوف الأول. قيد بقوله ولم يتغير لأنه لو تغير مثل ما لو كان غزلا فسرقه فقطع فيه فرده ثم نسج فعاد فسرقه فإنه يقطع. وعلى هذا الصوف والقطن والكتان وكل عين أحدث المالك فيه صنعا بعد القطع لو أحدثه الغاصب ينقطع به حق المالك. وأطلق في التغير فشمل المعنوي كما إذا باعه المسروق منه بعد القطع ثم اشتراه فسرقه لأن تبدل السبب كتبدل العين. وذكر الشمني أنه لا يقطع عند مشايخ العراق، وينبغي أن يكون حكم ما إذا باعه المالك فسرقه من المشتري وجوب القطع بالأولى. قوله: (ويقطع بسرقة الساج والقنا والأبنوس والصندل والفصوص الخضر والياقوت والزبرجد واللؤلؤ) لأن هذه الأشياء من أعز الأموال وأنفسها وهي محرزة لا توجد مباحة الأصل بصورتها في دار الاسلام غير مرغوب فيها فصارت كالذهب والفضة. وفي شرح المختار: لا قطع في العاج ما ليعمل فإذا عمل منه شئ قطع فيه. وأشار المصنف إلى أنه يقطع في العود والمسك والادهان والورس والزعفران والعنبر بالأولى وفي طلبة الطلبة. قال جار الله العلامة: الساج ضرب من الشجر يعلوه الحمرة وهو صلب كالحجر ولا يكون هذا الأبنوس إلا في بلاد الهند ودور سادات مكة من هذا الساج اه. والقنا خشب الرماح جمع قناة وألفها منقلبة عن الواو. والأبنوس بفتح الباء معروف وهو معرب. ولم يذكر المصنف
95 الزجاج لأنه لا قطع فيه على الظاهر لأنه يسرع إليه الكسر فكان ناقصا في المالية قوله: (والأواني والأبواب المتخذة من الخشب) لأنه بالصنعة التحقت بالأموال النفيسة ألا ترى أنها تحرز بخلاف الحصير لأن الصنعة فيه لم تغلب على الجنس حتى يبسط في غير الحرز، وقدمنا أنهم قالوا في الحصر البغدادية يجب القطع في سرقتها لغلبة الصنعة على الأصل. وقوله من الخشب متعلق بالأواني والأبواب، وقيد به لأن الأواني المتخذة من الحشيش والقصب لا قطع فيها لأن الصنعة لم تغلب فيه حتى لا تتضاعف قيمته ولا تحرز حتى لو كان الغلبة فيه للصنعة كالأواني التي تتخذ للبن والماء من الحشيش في بلاد السودان يقطع فيها لما ذكرنا. وأطلق في الأبواب وهي مقيدة بقيدين: أحدهما أن لا يكون مركبا ليكون حرزا فلا قطع في المركب لعدم الاحراز لأنها حرز لغيرها. ثانيها أن يكون الباب خفيفا فلو كان ثقيلا يثقل على الواحد حمله فلا قطع لأن الثقيل منه لا يرغب في سرقته. وفي عيون المسائل: سرق جلود السباع المدبوغة لا يقطع فإذا جعلت مصلي أو بساطا يقطع هكذا قال محمد لأنها إذا جعلت ذلك خرجت من أن تكون جلود السباع لأنها أخذت أسماء أخر والله أعلم. فصل في الحرز هو في اللغة الموضع الحصين يقال أحرزه إذا جعله في الحرز، كذا في المغرب. وفي الشرع ما يحفظ فيه المال عادة أي المكان الذي يحرز فيه كالدار والحانوت والخيمة والشخص نفسه، والمحرز ما لا يعد صاحبه مضيعا. ثم الاخراج من الحرز شرط عند عامة أهل العلم تخصيصا لآية السرقة به بالاجماع كما نقله ابن المنذر بناء على عدم صحة الخلاف بعد ما خصص بمقدار النصاب. قوله: (ومن سرق من ذي رحم محرم لا برضاع ومن زوجته
96 وزوجها وسيده وزوجته وزوج سيدته ومكاتبه وختنه وصهره ومن مغنم وحمام وبيت أذن في دخوله لم يقطع) لوجود الشبهة في كل واحد منها، أما إذا سرق من قريبه المحرم فللدخول في الحرز مع البسوطة في المال في الأصول والفروع، والمراد من السرقة منه السرقة من بيته. أطلقه فشمل ما إذا سرق ماله أو مال غيره لأن بيته ليس بحرز في حقه مطلقا، واحترز به عما إذا سرق مال محرمه من بيت غيره فإنه يقطع لوجود الحرز، وينبغي أن لا يقطع لما في القطع من القطيعة فيندرئ، كذا في فتح القدير. وقد يقال ليس القطع حقه وإنما هو حق الشرع فلا يكون قطيعة، وينبغي أن لا يقطع في الولاد لما ذكرنا من الشبهة في ماله فعدم القطع في الولاد للشبهة لا لعدم الحرز وفي المحارم لعدم الحرز. واحترز بقوله لا برضاع عن المحرم الذي محرميته بالرضاع كابن العم الذي هو أخ من الرضاع فإنه رحم محرم لا من جهة القرابة وإنما محرميته من جهة الرضاع. فإذا سرق من بيته قطع كما إذا سرق من الرحم فقط، وبه اندفع ما في التبيين من أنه لا حاجة إلى إخراجه لأنه لم يدخل في ذي الرحم المحرم اه. ظنا منه أنه متعلق بالرحم وليس كذلك بل متعلق بالمحرم كما علمت، وأما إذا سرق أحد الزوجين من الآخر أو لعبد من سيده أو من امرأة سيده أو زوج سيدته فلوجود الاذن بالدخول عادة فانعدم الحرز أطلق في الزوجين فشمل الزوجية وقت السرقة فقط بأن سرق منها ثم أبانها وانقضت عدتها ثم ترافعا فلا قطع والزوجية بعدها كما إذا سرق من
97 أجنبية ثم تزوجها ثم ترافعا فلا قطع ولو بعد القضاء، وكذا عكسه لوجود الشبهة قبل الامضاء. وشمل زوجية من وجه كما إذا سرق من مبتوته في العدة أو سرقت هي منه لوجود الخلطة بخلاف ما إذا سرق منها بعد الانقضاء فإنه يقطع. والحاصل أن في باب السرقة يكتفي بوجود الزوجية في حالة من الأحوال قبل القطع لسقوطه، وفي باب الرجوع في الهبة لا بد من قيام الزوجية وقت الهبة، فلو حدثت بعدها فالرجوع ثابت، وفي الوصية الاعتبار لها حالة الموت لا غير. وشمل ما إذا سرق أحدهما من حرز لا يسكنان فيه لوجود البسوطة بينهما في الأموال عادة، والعبد في هذا ملحق بمولاه حتى لا يقطع في سرقة لا يقطع فيها المولى كالسرقة من أقارب المولى وغيرهم لأنه مأذون له الدخول عادة في بيت مولاها لإقامة المصالح. وأطلقه فشمل القن والمكاتب لأنه ما بقي عليه درهم والمأذون له في التجارة، وأما إذا سرق من مكاتبه فإن له حقا في إكسابه ولذا لا يجوز له أن يتزوج أمة مكاتبه. وأما إذا سرق من ختنه ومن صهره فالمذكور هنا قول الإمام، وعندهما يقطع لأنه لا شبهة في ملك الختن لأنها تكون بالقرابة ولا قرابة. وله أن العادة قد جرت بالبسوطة في دخول بعضهم منازل بعض بلا استئذان فتمكنت الشبهة في الحرز، والمحرمية بالمصاهرة كالمحرمية بالرضاع، وعلى هذا الخلاف إذا سرق من كل من يحرم عليه بالمصاهرة، ومحل الاختلاف ما إذا لم يجمعهما منزل واحد، أما إذا جمعهما منزل واحد فلا قطع اتفاقا، كذا في شرح الطحاوي. وسيأتي في باب الوصية للأقارب وغيرهم أن الاصهار كل ذي رحم محرم من امرأته، والأختان زوج كل ذي رحم محرم منه. وأما إذا سرق من المغنم فإن له فيه نصيبا كما أفتى به علي رضي الله عنه مع أن المصنف قد قدم أنه لا قطع في المال المشترك، فالظاهر من إعادته أنه لا قطع وإن لم يكن له حق في الغنيمة. وبحث في غاية البيان بأنه ينبغي أن يكون المراد من السارق من الغنيمة من له نصيب في الغنيمة في الأربعة الأخماس أو في الخمس كالغانمين أو اليتامى والمساكين، أما غيرهم فلا نصيب له في الغنيمة فينبغي أن يقطع بخلاف السارق من بيت المال فإنه معد لمصالح عامة المسلمين وهو منهم إلا أن يقال إن مال الغنيمة مال مباح في الأصل فلا قطع بسرقته حيث كان على صورته ولم يتغير، وسواء كان السارق حرا أو عبدا. وأما إذا سرق من الحمام أو بيت أذن للناس في الدخول فيه فلاختلال الحرز بالاذن في الدخول. أطلقه فشمل ما إذا سرق من الحمام وصاحبه عنده أو المسروق تحته بخلاف ما إذا سرق من المسجد وصاحبه عنده فإنه يقطع. والفرق على الظاهر أن الحمام بني للاحراز
98 فكان حرزا فلا يعتبر الحافظ كالبيت بخلاف المسجد لأنه ما بني لاحراز الأموال فلم يكن محرزا بالمكان فيعتبر الحافظ كالطريق والصحراء. وشمل ما إذا سرق من الحمام في وقت لم يؤذن للناس في الدخول فيها كالليل، والمنقول في التبيين أنه يقطع بخلاف المسجد لا يقطع مطلقا. وأطلق في المأذون للناس في دخوله فشمل حوانيت التجار والخانات إلا إذا سرق منه ليلا لأنها بنيت لاحراز الأموال، وإنما الاذن يختص بالنهار، كذا في الهداية. وفي قوله للناس إشارة إلى أنه لو أذن لجماعة مخصوصين بالدخول فدخل واحد غيرهم وسرق فإنه يقطع ولم أره صريحا، وقد قدم المصنف أنه لا بد من الاحراز بمكان أو حافظ. قال الطحاوي في كتابه: حرز كل شئ معتبر بحرز مثله حتى إنه إذا سرق دابة من اصطبل يقطع، ولو سرق لؤلؤة من اصطبل لا يقطع. وذكر الكرخي في كتابه أن ما كان حرز النوع فهو حرز للأنواع كلها. قال شمس الأئمة السرخسي: وهذا هو المذهب عندنا. والقفاف لا يقطع وهو الذي يعطي الدراهم لينظر إليها فيأخذ منها وصاحبها لا يعلم. والفشاش وهو الذي يهئ لغلق البيت ما يفتح به إذا فش نهارا وليس في البيت ولا في الدار أحد وأخذ المتاع لا يقطع، وإن كان فيها أحد من أهلها فأخذ المتاع وهو لا يعلم قطع. وفي الحاوي: إذا كان باب الدار مردودا غير مغلق فدخلها السارق خفية وأخذ المتاع قطع، ولو كان باب الدار مفتوحا فدخل نهارا وسرق لا يقطع، ولو سرق من السطح ثيابا تساوي نصابا يقطع لأنه حرز، وإذا سرق ثوبا بسط على حائط في السكة لا يقطع، وكذلك لو سرق ثوبا بسط على خص إلى السكة، وإن بسط على الحائط إلى الدار أو على الخص إلى السطح قطع، كذا في الظهيرية اه. قوله: (ومن سرق من المسجد متاعا وربه عنده قطع) لأنه عليه السلام قطع سارق رداء صفوان من تحت رأسه وهو نائم في المسجد أراد بالمسجد كل موضع لم يكن حرزا فدخل الطريق والصحراء. وأطلق في ربه فشمل النائم واليقظان وهو الصحيح، وأراد من كونه عنده أن يكون بحيث يراه كما في المجتبى. وأطلق في كونه عنده فشمل ما إذا كان تحت رأسه أو تحت جنبه أو بين يديه حالة النوم وهو قول بعض المشايخ وإليه مال الإمام السرخسي. وفي الأصل ما يدل على خلافه فإنه قال: المسافر ينزل في الصحراء فيجمع متاعه ويبيت عليه فسرق رجل منه شيئا قطع، فإن بعض المشايخ فهم منه أنه إذا كان موضوعا بين يديه لا يقطع، كذا في الظهيرية. وصحح في المجتبى ما اختاره السرخسي من الاطلاق لأنه يعد النائم حافظا له عادة وعلى هذا لا يضمن المودع والمستعير بمثله لأنه ليس بتضييع بخلاف ما اختاره في الفتاوي اه. وأشار المصنف إلى أنه لو سرق الغنم أو البقر أو الفرس من المرعى
99 ومعها حافظ فإنه يقطع، وإطلاق محمد عدم القطع محمول على ما إذا لم يكن معها حافظ لكن إن كان الحافظ الراعي ففيه اختلاف ففي البقالي لا يقطع وهكذا في المنتقى عن أبي حنيفة. وأطلق خواهر زاده ثبوت القطع إذا كان معها حافظ، ويمكن التوفيق بأن الراعي لم يقصد لحفظها من السراق بخلاف غيره، كذا في فتح القدير. وفي المجتبى: لا قطع في المواشي في المرعى وإن كان معها الراعي، وإن كان معها سوى الراعي من يحفظها يجب القطع، وكثير من مشايخنا أفتوا بهذا وإن كانت الغنم تأوي إلى بيت في الليل بني لها عليه باب مغلق فكسره وسرق منها شاة قطع لا يعتبر الغلق إذا كان الباب مردودا إلا أن يكون بيتا منفردا في الصحراء أو المراح. وفي الحاوي: اتخذ من الحجر أو الشوك حظيرة وجمع هذه الأغنام وهو نائم عندها قطع، وعن محمد يقطع سواء كان معها حافظ أو لا وعليه عامة المشايخ اه. وأشار المصنف بالحضرة إلى أن الثياب ليست عليه فلو سرق من رجل ثوبا عليه أو رداء أو قلنسوة أو منطقة أو سرق من امرأة نائمة حليا عليها لم يقطع، وكذا إذا سرق من رجل نائم عليه ملاءة وهو لابسها لم يقطع، وقيل يقطع كالموضوع عنده، كذا في المجتبى. وقيد بما ليس بحرز لما في الخلاصة جماعة نزلوا بيتا أو خانا فسرق بعضهم من بعض متاعا وصاحب المتاع يحفظه أو تحت رأسه لم يقطع، ولو كان في مسجد جماعة قطع قوله: (ولو سرق ضيف ممن أضافه أو سرق شيئا ولم يخرج من الدار لا) أي لا يقطع، أما الأول فلان البيت لم يبق حرزا في حقه لكونه مأذونا في دخوله ولأنه بمنزلة أهل الدار فيكون فعله خيانة لا سرقة. أطلقه فشمل ما إذا سرق من البيت الذي أضافه فيه أو من بعض بيوت الدار، سوء كان مقفلا أو من صندوق مقفل - ذكره القدوري في شرحه - لأن الدار مع جميع بيوتها حرز واحد فبالاذن في الدار اختل الحرز في جميع بيوتها. وأما الثاني فلان الدار كلها حرز واحد فلا بد من الاخراج منها وما فيها في يد صاحبها معنى فتتمكن شبهة عدم الاخذ. قيد بالسرقة لأنه يجب الضمان على الغاصب قوله: بمجرد الاخذ وإن لم يخرجه من الدار هو الصحيح لأنه يجب مع الشبهة (وإن أخرجه من حجرة إلى الدار وأغار من أهل الحجرة على حجرة أخرى أو نقب فدخل وألقى شيئا في الطريق ثم أخذه أو حمله على حمار فساقه وأخرجه قطع) بيان لأربع مسائل: الأولى لو كانت الدار فيها مقاصير فأخرجها من مقصورة إلى صحن الدار فإنه يقطع لأن كل مقصورة باعتبار ساكنها حرز على حدة، فالمراد بالدار الكبيرة التي فيها منازل وفي
100 كل منزل مكان يستغنى به أهله عن الانتفاع بصحن الدار وإنما ينتفعون به انتفاع السكة وإلا فهي المسألة السابقة التي لا بد فيها من الاخراج من الدار. الثانية لو أغار إنسان من أهل المقاصير على مقصورة فسرق منها قطع لما بينا، والمراد أنه دخل مقصورة على غرة فأخذ بسرعة. يقال أغار الفرس والثعلب في العدو إذا أسرع. الثالثة اللص إذا نقب البيت فدخل وأخذ المال ثم ألقاه في الطريق ثم خرج وأخذه فإنه يقطع. وقال زفر: لا يقطع لأن الالقاء غير موجب للقطع كما لو خرج ولم يأخذ فكذا الاخذ من السكة كما لو أخذه غيره. ولنا أن الرمي حيلة يعتادها السراق لتعذر الخروج مع المتاع أو ليتفرغ لقتال صاحب الدار وللفرار ولم تعترض عليه يد معتبرة فاعتبر الكل فعلا واحدا. قيد بقوله ثم أخذه لأنه لو لم يأخذه فهو مضيع لا سارق، وكذا لو أخذه غيره. الرابعة لو حمله على حمار وساقه وأخرجه لأن سيره مضاف إليه بسوقه. قيد بالسوق لأنه لو لم يسقه وخرج بنفسه لم يقطع. والمراد أن يكون متسببا في إخراجه فيشمل ما إذا علقه في عنق كلب وزجره، ولو خرج بغير زاجر لم يقطع لأن للدابة اختيارا فما لم يفسد اختيارها بالحمل والسوق لا ينقطع نسبة الفعل إليها. وكذا إذا علقه على طائر فطار به إلى منزل السارق فإنه لا يقطع، ويشمل ما لو ألقاه في نهر في الدار وكان الماء ضعيفا وأخرجه بتحريك السارق لأن الاخراج مضاف إليه وإن أخرجه الماء بقوة جريه لم يقطع، وقيل يقطع وهو الأصح لأنه أخرجه بسببه، كذا في النهاية. قوله: (وإن ناوله آخر من خارج أو أدخل يده في بيت فأخذ أو طر صرة خارجة من كم أو سرق من قطار بعيرا أو جملا لا) أي لا يقطع في هذه المسائل الأربع. أما الأولى وهي ما إذا نقب اللص البيت فدخل وأخذ المال وناوله آخر من خارج الدار فلا قطع عليهما لأن الأول لم يوجد منه الاخراج لاعتراض يد معتبرة على المال قبل خروجه. والثاني لم يوجد منه هتك الحرز فلم تتم السرقة من كل واحد. أطلقه فشمل ما إذا أخرج الداخل يده وناولها الخارج أو أدخل يده الخارج فتناولها من يد الداخل وهو ظاهر المذهب، ولم يذكر محمد ما إذا وضع الداخل المال عند النقب ثم خرج وأخذه قيل يقطع والصحيح أنه لا يقطع، كذا في فتح القدير. وأما الثانية وهي ما إذا أدخل يده في بيت وأخذ فلما روي عن علي رضي الله عنه أن اللص إذا كان ظريفا لا يقطع. قيل: وكيف ذلك؟ قال: أن ينقب البيت ويدخل يده من غير أن يدخله ولأنه لم يهتك الحرز. قيد بالبيت لأنه لو أدخل يده في الصندوق والجيب
101 والكم ونحوه فإنه يقطع لأن الممكن فيها إدخال اليد لا الدخول بخلاف ما إذا شق الجولق فتبدد ما فيه من الدراهم فأخذه لا يقطع لعدم الهتك. وأما الثالثة وهي ما إذا طر صرة خارجة من كم فلان الرباط من خارج في الطر لا تبقي الصرة داخل الكم فيتحقق الاخذ من الخارج فلم يوجد هتك الحرز. قيد بكونها خارجة لأنه إن طر صرة داخلة وأخذها قطع لأن الرباط من داخل فبالطر تبقي الصرة داخل الكم فتحقق الاخذ من الداخل فيوجد الهتك. والطر الشق. وذكر الشمني أن المراد بالصرة بعض الكم المشدود فيه الدراهم. وقيد بالطر لأنه لو كان مكانه حل الرباط انعكس الحكم لانعكاس العلة فيقطع إن كان الرباط خارج الكم لأنه يأخذ الدراهم من داخله، ولا يقطع إن كان الرباط من داخل الكم لأنه يأخذها من خارجه. وفي فتح القدير: وبما ذكر من التفصيل في الطر ظهر أن ما يطلق في الأصول من أن الطرار يقطع إنما يتأتى على قول أبي يوسف فإنه قال يقطع الطرار على كل حال اه. وأما الرابعة وهي ما إذا سرق من قطار بعيرا أو حملا عليه فإنه ليس بمحرز مقصودا فيتمكن فيه شبهة العدم. أطلقه فشمل ما إذا كان معها سائق أو قائد أو لم يكن لأن السائق أو الراكب يقصد قطع المسافة ونقل الأمتعة دون الحفظ حتى لو كان معها من يحفظها يقطع. والقطار الإبل على نسق واحد والجمع قطر وقيد بسرقة الجمل لأنه لو شق الجولق على الجمل وهو يسير وأخذ ما فيه فإنه يقطع لأن صاحب المال اعتمد الجوالق فكان هاتكا للحرز بخلاف ما إذا أخذ الجولق بما فيه، وكذا لو سرق من الفسطاط فإنه يقطع، ولو سرق نفس الفسطاط فإنه لا يقطع لعدم إحرازه إلا إذا كان الفسطاط غير منصوب وإنما هو ملفوف عنده من يحفظه أو في فسطاط آخر فإنه يقطع، كذا في فتح القدير قوله: (وإن شق الحمل فسرق منه أو سرق جوالقا فيه متاع وربه يحفظه أو نائم عليه أو أدخل يده في صندوق أو جيب غيره أو كمه فأخذ المال قطع) لوجود السرقة من الحرز وقدمنا كل ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.
102 فصل في كيفية القطع وإثباته لما كان القطع حكم السرقة ذكره عقبه لأن حكم الشئ يعقبه قوله: (وتقطع يمين السارق من الزند) لقوله تعالى * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * (المائدة: 38) والمعنى يديهما وحكم اللغة أن ما أضيف من الخلق إلى اثنين لكل واحد واحد أن يجمع مثل قوله تعالى * (فقد صغت قلوبكما) * (التحريم: 66) وقد يثنى والأفصح الجمع. وأما كونها اليمين فبقراءة ابن مسعود رضي الله عنه فاقطعوا أيمانهما وهي مشهورة فكان خبرا مشهورا فيقيد إطلاق النص فهذا من تقييد المطلق لا من بيان المجمل لأن الصحيح أنه لا إجمال في الآية وقد قطع عليه السلام اليمين والصحابة رضي الله عنهم. وأما كونه من الزند - وهو مفصل الرسغ ويقال الكوع وهو مذكر كما في المغرب - فلانه المتوارث ومثله لا يطلب له سند بخصوصه كالمتواتر ولا يبالي فيه بكفر الناقلين فضلا عن فسقهم أو ضعفهم قوله: (وتحسم) أي تكوي كي ينقطع الدم لقوله عليه السلام فاقطعوه واحسموه ولأنه لو لم يحسم يفضي إلى التلف والحد زاجر لا متلف - كذا في الهداية - وهو يقتضي وجوبه. وفي المغرب: الحسم أن يغمس في الدهن الذي أغلى. وفي فتح القدير: وثمن الزيت وكلفة الحسم على السارق عندنا. والمنقول (عن) الشافعي وأحمد أنه يسن تعليق يده في عنقه لأنه عليه السلام أمر به رواه أبو داود وابن ماجة. وعندنا ذلك مطلق للإمام إن رآه لم يثبت عنه عليه السلام في كل من قطعة ليكون سنة قوله: (ورجله اليسرى إن عاد) لقوله عليه السلام فإن عاد فاقطعوه وعليه إجماع المسلمين. ولم يذكر المصنف نهاية القطع من الرجل لأنه يقطع من الكعب عند أكثر العلماء وفعل عمر رضي الله عنه ذلك. وقال أبو ثور والروافض: يقطع من نصف القدم من معقد الشراك لأن عليا كان يفعل كذلك ويدع له عقبا يمشي عليها اه قوله: (فإن سرق ثالثا حبس حتى يتوب ولم يقطع) لقول علي رضي الله عنه فيه: إني لأستحي من الله أن لا أدع له يدا يأكل بها ويستنجي بها ورجلا يمشي عليها فلهذا حاج بقية الصحابة رضي الله عنهم فحجهم فانعقد إجماعا، ولأنه إهلاك معنى لما فيه من تفويت جنس المنفعة والحد زاجر ولأنه نادر الوجود والزجر فيما يغلب بخلاف القصاص لأنه حق العبد فيستوفي ما أمكن جبرا لحقه. وما ورد من الحديث من قطع يده اليسرى في الثالثة والرجل اليمنى في الرابعة
103 طعن فيه الطحاوي أو نحمله على السياسة وتمامه في الأصول من بحث الامر. وفي الفتاوي السراجية: للإمام أن يقتله سياسة، كذا في شرح مسكين. ولم يذكر المصنف ضربه مع الحبس وأثبته في المجتبى ولم يذكروا متى تقبل توبته وتظهر. وفي غاية البيان معزيا إلى النافع أنه يحبس حتى يتوب أو تظهر عليه سيما رجل صالح. قوله: (كمن سرق وإبهامه اليسرى مقطوعة أو شلاء أو إصبعان منها سواها أو رجله اليمنى مقطوعة) يعني لا يقطع في هذه المسائل لما فيه من تفويت جنس المنفعة بطشا أو مشيا، وكذا إذا كانت رجله اليمنى شلاء لما قلنا وقوام البطش بالابهام. قيد بالابهام لأنه لو كان المقطوع أصبعا غير الابهام أو أشل فإنه يقطع لأنه فوتها لا يوجب خللا في البطش ظاهرا. وقيد باليد اليسرى لأنه لو كانت يده اليمنى شلاء أو ناقصة الأصابع تقطع في ظاهر الرواية لأن المستحق بالنص قطع اليمنى واستيفاء الناقص عند تعذر الكامل جائز. وقيد بقطع الرجل اليمنى لأنه لو كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع فإن كان يستطيع القيام والمشي عليها قطعت يده، وإن كان لا يستطيع القيام والمشي لم تقطع يده، كذا في غاية البيان. وفي الكافي: وإذا حبس السارق ليسأل عن الشهود فقطع رجل يده اليمنى عمدا فعليه القصاص وقد بطل الحد عن السارق، وكذلك إن كان قطع يده اليسرى، وإن حكم عليه بالقطع في السرقة فقطع رجل يده اليمنى من غير أن يؤمر بذلك فلا شئ عليه اه قوله: (ولا يضمن بقطع اليسرى من أمر بخلافه) أي إذا قال الحاكم للجلاد اقطع يمين هذا في سرقة سرقها فقطع يساره عمدا فلا شئ عليه عند أبي حنيفة. وقالا: لا شئ عليه في الخطأ ويضمن في العمد. وقال زفر: يضمن في الخطأ أيضا وهو القياس والمراد هو الخطأ في الاجتهاد، وأما
104 الخطأ في معرفة اليمين واليسار لا يجعل عفوا. وقيل: يجعل عذرا أيضا. له أنه قطع يداه معصومة والخطأ في حق العباد غير مضمون فيضمنها. قلنا: إنه أخطأ في اجتهاده إذ ليس في النص تعيين اليمين والخطأ في الاجتهاد موضوع. ولهما أنه قطع طرفا معصوما بغير حق ولا تأويل. له لأنه تعمد الظلم فلا يعفي وإن كان في المجتهدات، وكان ينبغي أن يجب القصاص إلا أنه امتنع القصاص للشبهة. ولأبي حنيفة أنه أتلف وأخلف من جنسه ما هو خير منه فلا يعد إتلافا كمن شهد على غيره ببيع ماله بمثل قيمته ثم رجع، وعلى هذا لو قطعه غير الجلاد لا يضمن أيضا هو الصحيح. قيد بالامر لأنه لو قطعه أحد قبل الامر والقضاء وجب القصاص في العمد والدية في الخطأ اتفاقا وسقط القطع عن السارق لأن مقطوع اليد لا يجب عليه القطع حدا وقضاء القاضي بالحد كالأمر على الصحيح فلا يرد على المصنف. وقيد بقوله بخلافه لأن الحاكم لو أطلق وقال اقطع يده ولم يعين اليمنى فلا ضمان على القاطع اتفاقا لعدم المخالفة إذ اليد تطلق عليهما، وكذلك لو أخرج السارق يده فقال هذه يميني لأنه قطعه بأمره. وقيد بعدم الضمان لأنه يعزر إذا كان عمدا كما في فتح القدير. ولم يذكر المصنف أن هذا القطع وقع حدا أو لا قالوا: فعلى طريقة أنه وقع حدا فلا ضمان على السارق لو كان استهلك العين لأن القطع والضمان لا يجتمعان، وعلى طريقة عدم وقوعه حدا فهو ضامن في العمد والخطأ. قوله: (وطلب المسروق منه شرط القطع) أي وطلبه المال فلا قطع بدونه لأن الخصومة شرط لظهورها. أطلقه فشمل ما إذا أقر أو أقيمت عليه البينة لاحتمال أن يقر له بالملك فيسقط القطع فلا بد من حضوره عند الأداء والقطع لتنتفي تلك الشبهة. وبما ذكرناه ظهر أن ما في التبيين معزيا إلى البدائع من أنه إذا أقر أنه سرق من فلان الغائب قطع استحسانا ولا ينتظر حضور الغائب وتصديقه، فإنما هو رواية عن أبي يوسف وليست هذه عبارة البدائع فإن عبارته قال أبو حنيفة ومحمد: الدعوى في الاقرار شرط حتى لو أقر السارق أنه سرق مال فلان الغائب لم يقطع ما لم يحضر المسروق منه ويخاصم عندهما. وقال أبو يوسف: الدعوى في الاقرار ليست بشرط إلى آخره. وفي البدائع أيضا قال محمد: لو قال سرقت هذه الدراهم
105 ولا أدري لمن هي أو قال سرقتها ولا أخبرك من صاحبها لا يقطع لأن جهالة المسروقة منه فوق غيبته ثم الغيبة لما منعت القطع على أصله فالجهالة أولى اه. ولم يعين يعني المصنف مطلوب المسروق منه فاحتمل شيئين: أحدهما طلب المال وبه جزم الشارح. ثانيهما طلب القطع. وأشار الشمني إلى أنه لا بد من الطلبين وأن أحدهما لا يكفي لكن ذكر في الكشف الكبير قبيل بحث الامر أن وجوب القطع حق الله تعالى على الخلوص ولهذا لم يتقيد بالمثل، وما يجب حقا للعبد يتقيد به مالا كان أو عقوبة كالغصب والقصاص، ولهذا لا يملك المسروق منه الخصومة بدعوى الحد وإثباته، ولا يملك العفو بعد الوجوب ولا يورث عنه اه. فقد صرح بأنه لا يملك طلب القطع إلا أن يقال إنه لا يملك طلب القطع مجردا عن طلب المال. والظاهر أن الشرط إنما هو طلب المال ويشترط حضرته عند القطع لا طلبه القطع إذ هو حق الله تعالى فلا يتوقف على طلب العبد قوله: (ولو مودعا أو غاصبا أو صاحب الربا) أي ولو كان المسروق منه والأصل فيه أن كل من كان له يد صحيحة يملك الخصومة ومن لا فلا، فللمالك أن يخاصم السارق إذا سرق منه، وكذا المودع - بفتح الدال - والمستعير والمضارب والمبضع والغاصب والقابض على سوم الشراء والمرتهن ومتولي المسجد والأب والوصي، فتعتبر خصومتهم في ثبوت ولاية الاسترداد وفي حق القطع. وأراد بصاحب الربا أن يبيع عشرة بعشرين وقبض العشرين فسرق منه العشرون فيقطع السارق بخصومته عندنا لأن هذا المال في يده بمنزلة المغصوب إذ الشراء فاسد بمنزلته وأما العاقد الآخر من عاقدي الربا فإنه بالتسليم لم يبق له ملك ولا يد فلا يكون له ولاية الخصومة، ذكره الشمني. وفي فتاوي قاضيخان من اللقطة: رجل التقط لقطة فضاعت منه فوجدها في يد غيره فلا خصومة بينه وبين ذلك الرجل بخلاف الوديعة فإن في الوديعة يكون للمودع أن يأخذها من الثاني لأن في اللقطة الثاني كالأول في ولاية أخذ اللقطة وليس الثاني كالأول في ولاية إثبات اليد على الوديعة اه. فينبغي أن لا يقطع بطلب الملتقط كما لا يخفى قوله: (ويقطع بطلب المالك لو سرق منهم) أي من هؤلاء الثلاثة لأن الخصومة إنما شرطت ليعلم
106 أن المسروق ملك غير السارق وهذا يحصل بخصومة المالك، ولم يذكر المصنف الراهن والمرتهن للاختلاف فروي ابن سماعة عن محمد أنه لا يقطع بطلب الراهن في غيبة المرتهن بل لا بد من حضرته. وصرح في الجامع الصغير بأنه يقطع في غيبته لأنه هو المالك، وكذا الخلاف لو حضر المغصوب منه وغاب الغاصب. قوله: (لا بطلب المالك أو السارق لو سرق من سارق بعد القطع) يعني لو قطع سارق بسرقة فسرقت منه لم يكن له ولا لمالك العين المسروقة أن يقطع السارق الثاني لأن المال غير متقوم في حق السارق حتى لا يجب عليه الضمان بالهلاك فلم تنعقد موجبة في نفسها وللأول ولاية الخصومة في الاسترداد لحاجته إذ الرد واجب عليه. قيد بقوله بعد القطع لأنه لو سرق الثاني قبل أن يقطع الأول أو بعد ما درئ القطع بشبهة يقطع بخصومة الأول لأن سقوط التقوم ضرورة القطع ولم يوجد فصار كالغاصب، كذا في الهداية. وأطلق الكرخي والطحاوي عدم قطع السارق من السارق لأن يده ليست يد أمانة ولا ملك فكان ضائعا ولا قطع في أخذ مال ضائع. قلنا: بقي أن يكون يد غصب والسارق منه يقطع فالحق ما في الهداية من التفصيل، واختاره في فتح القدير في مسألة ولاية الاسترداد أن الوجه أنه إذا ظهر هذا الحال للقاضي لا يرده إلى الأول ولا إلى الثاني إذا رده لظهور خيانة كل منهما، بل يرده من يد الثاني إلى المالك إن كان حاضرا وإلا حفظه كما يحفظ أموال الغيب قوله: (ومن سرق شيئا ورده قبل الخصومة إلى مالكه أو ملكه بعد القضاء أو ادعى أنه ملكه أو نقصت قيمته عن النصاب لم يقطع) بيان لأربع مسائل لا قطع فيها: الأولى لو سرق شيئا ورده قبل الخصومة إلى مالكه فلا قطع لأن الخصومة شرط لظهور السرقة لأن البينة إنما جعلت حجة ضرورة قطع المنازعة وقد انقطعت الخصومة، وقيد بالرد بما قبل الخصومة أي قبل المرافعة إلى القاضي لأنه لو رده بعد المرافعة إلى القاضي قطع لانتهاء الخصومة لحصول
107 مقصودها فتبقى تقديرا، كذا في الهداية وهو شامل لما إذا رده بعد القضاء بالقطع وما إذا رده بعد ما شهد الشهود ولم يقض القاضي استحسانا لأن السرقة قد ظهرت عند القاضي بما هو حجة بناء على خصومة معتبرة، كذ في التبيين. فالمراد بالخصومة الدعوى والشهادة أو الاقرار، فلو ادعى ولم يثبت ثم رده ينبغي أن لا قطع لعدم ظهورها عند القاضي فهي رباعية لأن الرد إما أن يكون بعد الترافع إلى القاضي قبل الدعوى أو بعدها قبل الثبوت أو بعدهما قبل القضاء أو بعد الثلاثة، فلا قطع في الأوليين ويقطع في الآخرين. وأطلق في الرد فشمل الرد حقيقة والرد حكما كما إذا رده إلى أصوله وإن علا كوالده وجده ووالدته وجدته، سواء كانوا في عيال المالك أو لا، لأن لهؤلاء شبهة الملك فيثبت به شبهة الرد بخلاف ما إذا رده إلى عيال أصوله فإنه يقطع لأنه شبهة الشبهة وهي غير معتبرة. ومن الرد الحكمي إليه الرد إلى فرعه وكل ذي رحم محرم منه بشرط أن يكون في عياله وإلا فليس برد ومنه الرد إلى مكاتبه وعبده، ومنه الرد إلى مولاه لو كان مكاتبا لأن ماله له رقبة ومنه إذا سرق من العيال ورد إلى من يعولهم لأن يده عليهم فوق أيديهم في ماله. الثانية لو ملكه بعد القضاء بالقطع فلان الامضاء من القضاء في هذا الباب لوقوع الاستغناء عنه بالاستيفاء إذ القضاء للاظهار والقطع حق الله تعالى وهو ظاهر عنده، وإذا كان كذلك يشترط قيام الخصومة عند الاستيفاء وصار كما إذا ملكها منه قبل القضاء. أطلقه فشمل البيع والهبة لكن يشترط القبض فيها ليحصل الملك كما في الهداية. الثالثة لو ادعى السارق أن المسروق ملكه بعد ما ثبتت السرقة عليه بالبينة أو بالاقرار فلا قطع، سواء أقام بينة أو لم يقم، لأن الشبهة دارئة للحد فتتحقق بمجرد الدعوى بدليل صحة الرجوع بعد الاقرار. الرابعة إذا سرق شيئا قيمته نصاب ثم نقصت قيمته بعد القضاء لم يقطع لأن كمال النصاب لما كان شرطا يشترط قيامه عند الامضاء لما ذكرنا. أطلقه فشمل ما إذا تغير السعر في بلد أو بلدين حتى إذا سرق ما قيمته نصاب في بلد وأخذ في بلد آخر القيمة فيه أنقص لم يقطع كما في شرح الطحاوي. وقيد بنقصان القيمة لأن العين لو نقصت فإنه يقطع لأنه مضمون عليه فكمل النصاب عينا ودينا كما إذا استهلكه كله، أما نقصان السعر فغير مضمون فافترقا. قوله: (ولو أقرا بسرقة ثم قال أحدهما هو مالي لم يقطعا) أي السارقان المقران لأن الرجوع عامل في حق الراجع ومورث للشبهة في حق الآخر لأن السرقة قد ثبتت بإقرارهما على الشركة. أطلقه فشمل ما إذا كان قبل القضاء أو بعده، وقيد بإقرارهما لأنه لو أقر أنه سرق هو وفلان كذا فأنكر فلان فإنه يقطع المقر لعدم الشركة بتكذيبه بقوله قتلت أنا وفلان
108 وزنيت أنا وفلان اقتصر على المقر وإن أنكر فلان. وقوله قال أحدهما هو مالي تمثيل وإلا فالمراد أن أحدهما إذا ادعى شبهة أي شبهة كانت فإنه يسقط القطع عنهما كما في شرح الطحاوي قوله: (ولو سرقا وغاب أحدهما وشهد على سرقتهما قطع الآخر) أي الحاضر لأن الغيبة تمنع ثبوت السرقة على الغائب فيبقى معدوما والعدم لا يورث الشبهة، ولا معتبر بتوهم حدوث الشبهة لأنه شبهة الشبهة، وبيانه أن الغائب لو حضر وادعى كان شبهة للحاضر واحتمال دعوى الغائب شبهة الشبهة فلا تعتبر قوله: (ولو أقر عبد بسرقة قطع وترد السرقة إلى المسروق منه) لأن إقرار العبد على نفسه بالحدود والقصاص صحيح من حيث إنه آدمي ثم يتعدى إلى المالية فيصح من حيث إنه مال، ولأنه لا تهمة في هذ الاقرار لما يشتمل عليه من الاضرار ومثله مقبول على الغير فيقطع العبد. وإذا صح الاقرار بالقطع صح بالمال بناء عليه لأن الاقرار يلاقي حالة البقاء والمال في حالة البقاء تابع فقط حتى تسقط عصمة المال باعتباره ويستوفي القطع بعد استهلاكه. أطلق العبد فشمل المأذون والمحجور عليه وخالف محمد في المحجور فقال: لا يقطع. وخالفه أبو يوسف، واتفقا على أن المال للمولى. وأطلق في القطع فشمل ما إذا صدقه المولى وكذبه والخلاف فيه فقط. وأطلق في السرقة فشمل القائمة والمستهلكة. وأشار بالرد المقيد لبقائها إلى أنها لو كانت مستهلكة فلا ضمان ويقطع اتفاقا. وأشار بالقطع إلى أن العبد كبير إذ لا قطع إلا على مكلف فإذا أقر عبد صغير بسرقة فلا قطع غير أنه إذا كان مأذونا يرد المال إلى المسروق منه إن كان قائما، وإن كان هالكا يضمن، وإن كان محجورا فإن صدقه المولى يرد المال إلى المسروق منه إن كان قائما لا ضمان عليه إن كان هالكا ولا بعد العتق، كذا في فتح القدير. وقيد بالاقرار ليفيد أن السرقة لو ثبتت عليه بالبينة فإنه يقطع بالأولى ويرد المال إلى المسروق منه كما في الذخيرة، لكن يشترط حضرة المولى عند إقامة البينة عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف ليست بشرط، وأما حضرته عند الاقرار بالحدود فليست بشرط اتفاقا، كذا في شرح الطحاوي قوله: (ولا يجتمع قطع وضمان وترد العين لو قائمة) لقوله عليه السلام لا غرم على السارق بعد ما قطعت يمينه (1) ولان وجوب الضمان ينافي القطع لأنه يتملكه بأداء الضمان مسندا إلى وقت الاخذ فتبين أنه ورد على ملكه فينتفي القطع، وما يؤدي إلى انتفائه فهو المنتفي أو لأن المحل لا يبقى معصوما حقا للعبد إذ
109 لو بقي كان مباحا في نفسه فينتفي القطع للشبهة فيصير محرما حقا للشرع كالميتة ولا ضمان فيه. أطلقه فشمل ما إذا هلكت العين أو استهلكها وهو ظاهر الرواية، وسواء كان الاستهلاك قبل القطع أو بعده كما في المجتبى، وفرق في رواية الحسن بين الهلاك والاستهلاك لأن العصمة لا يظهر سقوطها في حق الاستهلاك لأنه فعل آخر غير السرقة ولا ضرورة في حقه، وكذا الشبهة تعتبر فيما هو السبب دون غيره. ووجه المشهور أن الاستهلاك إتمام المقصود فتعتبر الشبهة فيه، وكذا يظهر سقوط العصمة في حق الضمان لأنه من ضرورة سقوطها في حق الهلاك لانتفاء المماثلة. وفي التبيين عن محمد: إن السارق يفتي بأداء القيمة وإن لم يقض به كقطع الطريق والباغي يفتيان بأداء الضمان والأموال والدية في النفوس. وفي الكافي: هذا إذا كان بعد القطع وإن كان قبله، فإن قال المالك أنا أضمنه لم يقطع عندنا، وإن قال أنا أختار القطع يقطع ولا يضمن اه. لأنه في الأولى تضمن رجوعه عن دعوى السرقة إلى دعوى المال. وأطلق في قيام العين فشمل ما إذا كان السارق لم يتصرف فيها أو باعها أو وهبها فإنها تؤخذ من المشتري والموهوب له بلا خلاف لبقائها على ملك مالكها. وفي الايضاح قال أبو حنيفة: لا يحل للسارق الانتفاع به بوجه من الوجوه لأنه على ملك المسروق منه، وكذا لو خاطه قميصا لا يحل له الانتفاع به. وفي المجتبى: لو قطع السارق ثم استهلك السرقة غيره لم يضمن لاحد، وكذا لو هلك في يد المشتري منه أو الموهوب له ولو استهلكه فللمالك تضمينه اه. قوله: (ولو قطع لبعض السرقات لا يضمن شيئا) يعني عند الإمام. وقالا: يضمن كلها إلا التي قطع فيها لأن الحاضر ليس بنائب عن الغائب ولا بد من الخصومة لتظهر السرقة فلم تظهر السرقة من الغائبين فلم يقع القطع لهم فبقيت أموالهم معصومة. وله أن الواجب بالكل قطع واحد حقا لله تعالى لأن مبنى الحدود على التداخل والخصومة شرط للظهور عند القاضي، أما الوجوب بالجناية وإذا استوفى فالمستوفي كل الواجب ألا ترى أنه يرجع نفعه إلى
110 الكل فيقع عن الكل، وعلى هذا الخلاف إذا كان العين كلها لواحد وسرقها منه مرارا فخاصم في البعض ولذا أطلق المصنف فشمل ما إذا كان الكل لواحد كما شمل ما إذا كان لمتعدد وحضر الكل وقطع بالبعض أو حضر البعض فقط قوله: (ولو شق ما سرقه في الدار ثم أخرجه قطع) كما إذا سرق ثوبا فشقه نصفين ثم أخرجه، وعن أبي يوسف عدمه لشبهة الملك فإن الخرق الفاحش يوجب القيمة فيملك المضمون وصار كالمشتري إذا سرق مبيعا فيه خيار البائع. ولهما أن الاخذ وضع سببا للضمان لا للملك وإنما يثبت الملك ضرورة إذ الضمان كيلا يجتمع البدلان في ملك واحد ونفسه لا يورث الشبهة كنفس الاخذ، وكما إذا سرق البائع مبيعا باعه بخلاف ما ذكر لا البيع وضع لإفادة الملك. أطلق الشق فشمل ما إذا كان فاحشا أو يسيرا لكن لا خلاف في القطع إذا كان يسيرا لعدم وجوب الضمان وترك الثوب عليه وإنما يضمن النقصان مع القطع، وكذا إذا كان الخرق فاحشا. وصحح البخاري عدم وجوب الضمان لأنه لا يجتمع مع القطع. ورجح في فتح القدير الضمان تبعا لقاضيخان وقال: إنه الحق لوجوب الضمان بالخرق قبل الاخراج. واختلفوا في الفرق بين الفاحش واليسير، والصحيح أن الفاحش ما يفوت به بعض العين وبعض المنفعة، واليسير ما لا يفوت به شئ من المنفعة بل يتعيب به فقط. ويرد على المصنف رحمه الله شيئان: أحدهما أن القطع مقيد بما إذا اختار تضمين النقصان وأخذ الثوب وإن اختار تضمين القيمة وترك الثوب عليه فلا قطع اتفاقا لأنه ملكه مستندا إلى وقت الاخذ. وقد يجاب بأن هذا الاختيار مسقط للقطع بعد وجوبه فصار كما إذا وهبه العين بل أولى لاستناده واقتصار الهبة وكلام المصنف في الوجوب. ثانيهما أن الشق لو كان إتلافا فله تضمين القيمة من غير خيار ويملك السارق الثوب ولا يقطع وحد الاتلاف أن ينقص أكثر من نصف القيمة، فلو قال المصنف قطع ما لم يكن إتلافا لكان أولى، ولا بد أن تكون قيمة الثوب نصابا بعد الشق قوله: (ولو سرق شاة فذبحها فاخرجها لا) أي لا قطع عليه لأن السرقة تمت على اللجم ولا قطع فيه. أطلقه فشمل ما إذا ساوت نصابا بعد الذبح، وقيد بعدم القطع لأنه يضمن قيمتها للمسروق منه. قوله: (ولو صنع المسروق دراهم أو دنانير قطع وردها) أي لو صنع السارق وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: لا سبيل للمسروق منه عليها وأصله في الغصب فهذه صنعة متقومة
111 عندهما خلافا له. ثم وجوب القطع لا يشكل على قوله لأنه لم يملكه، وقيل على قولهما لا يجب لأنه ملكه قبل القطع، وقيل يجب لأنه صار بالصنعة شيئا آخر فلم يملك عينه. وأشار إلى أنه لو صنع المسروق من النقد آنية كان كذلك بالأولى. وقيد بالنقد لأنه في الحديد والرصاص والصفر إن جعله أواني، فإن كان يباع عددا فهو للسارق بالاجماع وإن كان يباع وزنا فهو على الاختلاف بينهم في الذهب والفضة، كذا في شرح المختار. وذكر الأسبيجابي أنه لو سرق حنطة فطحنها تكون للسارق بعد القطع. قوله: (ولو صبغه أحمر فقطع لا يرد ولا يضمن) بيان لثلاثة أحكام: الأول وجوب القطع لأن قطع السارق باعتبار سرقة الثوب الأبيض وهو لم يملكه أبيض بوجه ما والمملوك للسارق إنما هو المصبوغ فصار كما إذا سرق حنطة فطحنها فإنه يقطع بالحنطة وإن ملك الدقيق الثاني عدم رده إلى المسروق منه وهو قولهما. وقال محمد: يؤخذ منه الثوب ويعطي ما زاد الصبغ فيه اعتبارا للغصب، والجامع كون الثوب أصلا قائما وكون الصبغ تابعا. ولهما أن الصبغ قائم صورة ومعنى حتى لو أراد أخذه مصبوغا يضمن ما زاد الصبغ فيه، وحق المالك في الثوب قائم صورة لا معنى ألا ترى أنه غير مضمون على السارق بالهلاك وهو الحكم الثالث الذي أفاده بقوله ولا يضمن أي لا يرده حال قيامه ولا يضمنه حال استهلاكه بخلاف الغصب لأن حق كل واحد قائم صورة ومعنى فاستويا من هذا الوجه، ورجحنا جانب المالك لما ذكرنا. قيد بكونه صبغه قبل القطع بدليل فاء التعقيب لأنه لو صبغه بعد القطع يرده لأن الشركة بعد القطع لا تسقط القطع، كذا في شرح المختار. وذكر في الهداية الصبغ بعد القطع فإنه قال: وإن سرق ثوبا فقطع فصبغه أحمر لم يؤخذ منه الثوب ولا يضمن اه. وهو مفيد لأنه لو صبغه قبل القطع فالحكم كذلك بالأولى وكلام محمد دليل عليه أيضا فإنه قال: سرق الثوب فقطع يده وقد صبغ الثوب أحمر لم يؤخذ منه الثوب قوله: (ولو اسود برد) أي لو صبغة السارق أسود يرده على المالك يعني عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف هذا والأول سواء لأن السواد عنده زيادة كالحمرة وعند محمد زيادة أيضا كالحمرة لكنه لا يقطع حق المالك لما مر، وعند أبي حنيفة السواد نقصان فلا يوجب انقطاع حق المالك. قالوا: وهذا اختلاف عصر وزمان لا حجة وبرهان فإن الناس
112 كانوا لا يلبسون السواد فلا زمنه ويلبسونه في زمنهما. وفي شرح الطحاوي: لو سرق سويقا فلته بسمن أو عسل فهو مثل الاختلاف في الصبغ الأحمر والله أعلم. باب قطع الطريق بيان للسرقة الكبرى وإطلاق السرقة عليه مجاز لذا لزم التقييد بالكبرى. قالوا: إن الشرائط المختصة بها ثلاثة في ظاهر الرواية: الأول أن يكون من قوم لهم قوة وشوكة أو واحد كذلك. الثاني أن لا يكون في مصر أو ما هو بمنزلته كما بين المصرين أو القريتين. الثالث أن يكون بينهم وبين المصر مسيرة سفر. وعن أبي يوسف اعتبار الشرط الأول فقط فيتحقق في المصر ليلا وعليه الفتوى لمصلحة الناس اه. قوله: (أخذ قاصد قطع الطريق قبله حبس حتى يتوب وإن أخذ مالا معصوما قطع يده ورجله من خلاف وإن قتل حدا وإن عفا الولي وإن قتل وأخذ قطع وقتل أو صلب أو قتل وصلب) بيان لأحوال قاطع الطريق فبين أنها أربع: الأولى لو أمسك بعد ما قصد قطع الطريق ولم يقطعها على أحد وحكمه الحبس حتى يتوب وهو المراد بقوله تعالى * (أو ينفوا من الأرض) * (المائدة: 33) فالنفي بمعنى الحبس لأنه نفي عن وجه الأرض وقد عهد عقوبة في الشرع، ولم يذكر المصنف التعزير. وفي الهداية: ويعزرون أيضا لمباشرتهم منكر الإخافة اه. وأطلق في أخذه فشمل ما إذا كان بإذن الإمام أو لا، ولم يبينوا بماذا يتحقق قصده لظهور أنه يحصل بوقوفه على الطريق لإخافة المارين، وأما قطع الطريق حقيقة فبالقتل أو أخذ المال وأن يكون بالإخافة فقط، فالضمير في قوله قبله عائد إلى قطع الطريق لا كما قال الشارح أنها ترجع إلى غير مذكور، وكلامه مبني على أن مجرد الإخافة قطع وليس كذلك والتوبة وإن
113 كانت متعلقة بالقلب لكن لحصولها أمارات ظاهرة فصح أن تكون غاية للحبس. الثانية أن يؤخذ بعد ما أخذ المال ولم يقتل النفس، وحكمه أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى بشرطين: أحدهما أن يكون ذلك المال معصوما وهو أن يكون لمسلم أو ذمي فخرج مال الحربي المستأمن. الثاني أن يكون نصابا ولم يصرح به للاكتفاء بذكره في السرقة الصغرى فلا قطع على من أصابه أقل من نصاب وهو المراد بقوله تعالى * (أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف) * (المائدة: 33) بناء على أن الا جزية متوزعة على الأحوال كما علم في الأصول، ولما كانت جنايته أفحش من السرقة الصغرى كانت عقوبته أغلظ، وإنما كان من خلاف لئلا تفوت جنس المنفعة ولذا لو كانت يده اليسرى مقطوعة أو شلاء أو رجله اليمنى كذلك لا يقطع. الثالثة أن يؤخذ بعد ما قتل نفسا معصومة ولم يأخذ مالا، وحكمه أن الإمام يقتله حدا لله تعالى لا قصاصا حتى لو عفا الأولياء لا يلتفت إلى عفوهم. وأشار بكونه حدا إلى أنه لا يشترط في القتل أن يكون موجبا للقصاص من مباشرة الكل والآلة لأنه وجب في مقابلة الجناية على حق الله تعالى بمحاربته ولذا قال في المجتبى: ويقتل الكل في الحالة الثالثة حدا القاتل والمعين فيه سواء. وإنما الشرط القتل من أحدهم، وسواء قتلهم بسيف أو حجر أو عصا أو غيرهما، ويصير كالجماعة قتلوا واحدا به قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحاب أبي بردة اه. الرابعة أن يؤخذ وقد قتل النفس وأخذ المال فذكر المصنف أن الإمام مخير بين ثلاثة أشياء: إما أن يجمع بين الثلاثة قطع اليد والرجل من خلاف والقتل والصلب، وإما أن يقتصر على القتل، وإما أن يقتصر على الصلب وهكذا في الهداية. ومنع محمد القطع لأنه جناية واحدة فلا توجب حدين ولان ما دون النفس يدخل في النفس في باب الحد كحد السرقة والرجم. ولهما أن هذه عقوبة واحدة تغلظت لتغلظ سببها وهو تفويت الامن على التناهي بالقتل وأخذ المال ولهذا كان قطع اليد والرجل معا في الكبرى حدا واحدا وإن كان في الصغرى حدين، والتداخل في الحدود لا في حد واحد، ثم ذكر في الكتاب التخيير بين الصلب وتركه وهو ظاهر الرواية. وعن أبي يوسف أنه لا يتركه لأنه منصوص عليه والمقصود التشهير ليعتبر به غيره ونحن نقول: أصل التشهير بالقتل والمبالغة بالصلب فيخير فيه.
114 قوله: (ويصلب حيا ثلاثة أيام ويبعج بطنه برمح حتى يموت) تشهيرا له واستعجالا لموته، ومعنى يبعج يشق، كذا في المغرب. والصلب حيا ظاهر المذهب كما في المجتبى وهو الأصح. وعند الطحاوي أنه يقتل ثم يصلب. وقيد بالثلاثة لأنه لا يصلب أكثر منها توقيا عن تأذي الناس فإذا (تم) له ثلاثة من وقت موته يخلي بينه وبين أهله ليدفنوه. وعن أبي يوسف أنه يترك على الخشبة حتى يتقطع فيسقط قوله: (ولم يضمن ما أخذ) يعني بعد ما أقيم عليه الحد كما في السرقة الصغرى، ولو قال ولم يضمن ما فعل لكان أو لي لأنه لا يضمن ما قتل وما جرح لذلك المعنى قوله: (غير المباشر كالمباشر) يعني في الاخذ والقتل حتى تجري الأحكام على الكل بمباشرة البعض لأنه جزاء المحاربة وهي تتحقق بأن يكون البعض ردا للبعض حتى إذا زالت أقدامهم انحازوا إليهم وإنما الشرط القتل من واحد منهم وقد تحقق قوله: (والعصا والحجر كالسيف) لأنه يقع قطعا للطريق بقطع المارة قوله: (وإن أخذ مالا وجرح قطع وبطل الجرح) بيان للحالة الخامسة لهم وهي أن يأخذ المال ويجرح إنسانا فيقطع يده ورجله من خلاف ولا يجب شئ لأجل الجرح لأنه لما وجب الحد حقا لله تعالى سقطت عصمة النفس حقا للعبد كما تسقط عصمة المال. قوله: (وإن جرح فقط أو قتل فتاب أو كان بعض القطاع غير مكلف أو ذا رحم محرم من المقطوع عليه أو قطع بعض القافلة على البعض أو قطع الطريق ليلا أو نهارا بمصر أو بين مصرين لم يحد فأقاد الولي أو عفا) بيان للمسائل التي لا حد فيها وهي ست مسائل: الأولى لو جرح ولم يقتل ولم يأخذ مالا فلانه لا حد في هذه الجناية فيظهر حق العبد فيقتص منه مما فيه القصاص وأخذ الأرش منه مما فيه الأرش وذلك إلى الأولياء، كذا في الهداية. وفيه نظر لأن ذلك للمجروح لا لوليه، فإن أفضى الجرح إلى القتل ينبغي أن يجب الحد، ولما كان أخذ المال
115 الموجب للحد هنا هو النصاب كان أخذ ما دونه بمنزلة العدم، فإذا أخذ ما دون النصاب وجرح فهو داخل تحت قوله وإن جرح فقط. وكذا إذا أخذ مالا يقطع فيه كالأشياء التي يتسارع إليها الفساد. قال الشارح: ولو كان مع هذا الاخذ قتل لا يجب الحد أيضا وهي طعن عيسى فإنه قال: القتل وحده يوجب الحد فكيف يمتنع مع الزيادة؟ فجوابه أن قصدهم المال غالبا فينظر إليه لا غير بخلاف ما إذا اقتصروا على القتل لأنه تبين أن مقصدهم القتل دون المال فيحدون فعدت هذه من الغرائب وأمر بحفظها في الفوائد الظهيرية، وعدها من أعجب المسائل من حيث إن ازدياد الجناية أورث الخفة. الثانية لو قتل فتاب قبل الاخذ لا حد لأن هذه الجناية لا تقام بعد التوبة للاستثناء المذكور في النص، أو لأن التوبة تتوقف على رد المال ولا قطع في مثله فظهر حق العبد في النفس والمال حتى يستوفي الولي القصاص أو يعفو، ويجب الضمان إذا هلك في يده أو استهلكه، كذا في الهداية. وإنما قيد بالمختص بالقتل ليعلم حكم أخذ المال بالأولى. وفي المبسوط والمحيط: رد المال من تمام توبتهم لتنقطع خصومة صاحبه، ولو تاب ولم يرد المال لم يذكره في الكتاب واختلفوا فيه، فقيل لا يسقط الحد كسائر الحدود لا تسقط بالتوبة، وقيل يسقط أشار إليه محمد في الأصل. الثالثة والرابعة لو كان بعض القطاع غير مكلف كالصبي والمجنون أو ذا رحم محرم من المقطوع عليه فإن القطع يسقط عن الكل لأنها جناية واحدة قامت بالكل، فإذا لم يقع فعل بعضهم موجبا كان فعل الباقين بعض العلة وبه لا يثبت الحكم فصار كالخاطئ مع العامد. أطلق في ذي الرحم المحرم فشمل ما إذا لم يكن مشتركا بين المقطوع عليهم وهو الأصح لأن الجناية واحدة فالامتناع في حق البعض يوجب الامتناع في حق الباقين بخلاف ما إذا كان فيهم مستأمن لأن الامتناع في حقه لخلل في العصمة وهو يخصه، أما هنا الامتناع لخلل في الحرز والقافلة حرز واحد، وإذا سقط الحد صار القتل إلى الأولياء لظهور حق العبد على ما ذكرنا، وإن شاؤوا قتلوه وإن شاؤوا عفوا. وأشار بذي الرحم المحرم إلى أنه لو كان في المقطوع عليهم شريك مفاوض لبعض القطاع لا يحدون كذي الرحم المحرم. وفي المبسوط: تابوا وفيهم عبد قطع يد حر دفعه مولاه أو فداه كما لو فعله في غير قطع الطريق، وهذا لأنه لا قصاص بين العبيد والأحرار فيما دون النفس فيبقى حكم الدفع والفداء، فإن كانت فيهم امرأة فعلت
116 ذلك فعليها دية اليد في مالها لأنه لا قصاص بين الرجال والنساء في الأطراف والواقع منها عمدا لا تعقله العاقلة. الخامسة لو قطع بعض القافلة على البعض لم يجب الحد لأن الحرز واحد فصارت القافلة كدار واحدة، وإذا لم يجب الحد وجب القصاص في النفس إن قتل عمدا بحديدة أو بمثقل عندهما ورد المال إن أخذه وهو قائم في يده وضمانه إن هلك أو استهلك. السادسة لو قطع الطريق بمصر ليلا أو نهارا أو بين مصرين فليس بقاطع الطريق استحسانا، وفي القياس أن يكون قاطع الطريق وهو قول الشافعي لوجوده حقيقة وقدمنا المفتي به اه. قوله: (ومن خنق في المصر غير مرة قتل به) أمرارا - كذا في شرح مسكين - لأنه صار ساعيا في الأرض بالفساد فيدفع شره بالقتل والخنق عصر الحلق. قيد بتعدده لأنه لو خنق مرة واحدة فلا قتل عند الإمام وإنما تجب الدية على العاقلة وهي نظير مسألة القتل بالمثقل. وصرح الشارح بأن القتل عند التكرار إنما هو بطريق السياسة. ومنها ما حكي عن الفقيه أبي بكر الأعمش أن المدعي عليه السرقة إذا أنكر فللإمام أن يعمل فيه بأكبر رأيه، فإن غلب على ظنه أنه سارق وأن المال المسروق عنده عاقبه ويجوز ذلك كما لو رآه الإمام جالسا مع الفساق في مجلس الشراب، وكما لو رآه يمشي مع السراق وبغلبة الظن أجازوا قتل النفس كما إذا دخل عليه رجل شاهر سيفه وغلب على ظنه أنه يقتله. وحكي عن عصام بن يوسف أنه دخل على أمين بلخ فأتي بسارق فأنكر السرقة فقال الأمير لعصام: ماذا يجب عليه؟ فقال: على المدعي البينة وعلى المنكر اليمين فقال الأمير: هاتوا بالسوط فما ضرب عشرة حتى أقر وأحضر السرقة فقال عصام: ما رأيت جورا أشبه بالعدل من هذا اه. وفي التجنيس: رجل ادعى على آخر بسرقة كان على المدعي البينة وعلى السارق اليمين، والضرب خلاف الشرع فلا يفتي به لأن فتوى المفتي يجب أن يطابق الشرع. لص هو معروف بالسرقة وجده رجل يذهب في حاجته غير مشغول بالسرقة ليس له أن يقتله وله أن يأخذه، وللإمام أن يحبسه حتى يتوب لأن الحبس للزجر لتوبته مشروع. رجل استقبله اللصوص ومعه مال لا يساوي عشرة حل له أن يقاتلهم لقوله عليه السلام قاتل دون مالك واسم المال يقع على القليل والكثير. اللص إذا دخل دار رجل وأخذ المتاع وأخرجه فله أن يقتله ما دام المتاع معه لقوله عليه السلام قاتل دون مالك فإن رمى به ليس له أن يقتله لأنه لا يتناوله الحديث اه. وفي الذخيرة: رجل ادعى على رجل سرقة وقدمه إلى السلطان وطلب من السلطان أن يضربه
117 فضربه السلطان مرة أو مرتين ثم أعيد إلى السجن من غير أن يعذبه فخاف المحبوس من التعذيب والضرب فصعد السطح ليفر فسقط من السطح ومات وقد لحقه غرامة في هذه الحادثة وقد ظهرت السرقة على يدي رجل آخر كان للورثة أن يأخذوا صاحب السرقة بدية أبيهم وبالغرامة التي أداها إلى السلطان لأن الكل حصل بتسبيبه وهو متعد في هذا التسبيب، هكذا ذكر في مجموع النوازل. قيل: هذا الجواب مستقيم في حق الغرامة، أصله مسألة السعاية غير مستقيم في حق الدية لأنه صعد السطح باختياره. وقيل: هو مستقيم في حق الدية أيضا لأنه مكره على الصعود للفرار من حيث المعنى لأنه إنما قصد الفرار خوفا على نفسه من التعذيب اه. ولم أر في كلام مشايخنا تعريف السياسة. قال المقريزي في الخطط: يقال ساس الامر سياسة بمعنى قام به وهو سائس من قولهم ساسه وسوسه القوم جعلوه يسوسهم، والسوس الطبع والخلق، يقال الفصاحة من سوسه والكرم من سوسه أي من طبعه. فهذا أصل وضع السياسة في اللغة، ثم رسمت بأنها القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأموال. والسياسة نوعان: سياسة عادلة تخرج الحق من الظالم الفاجر فهي من الشريعة علمها من علمها وجهلها من جهلها، وقد صنف الناس في السياسة الشرعية كتبا متعددة، والنوع الآخر سياسة ظالمة فالشريعة تحرمها إلى آخر ما ذكره من النصف الثاني عند ذكر جيوش الدولة التركية والله تعالى أعلم.
118 كتاب السير مناسبته للحدود من حيث إن المقصود منهما إخلاء العالم عن الفساد فكان كل منهما حسنا لمعنى في غيره، وقدمها عليه لأنها معاملة مع المسلمين والجهاد معاملة مع الكفار. وهذا الكتاب يعبر عنه بالسير والجهاد والمغازي، فالسير جمع سيرة وهي فعلة - بكسر الفاء - من السير فتكون لبيان هيئة السير وحالته إلا أنها غلبت في لسان الشرع على أمور المغازي وما يتعلق بها كالمناسك على أمور الحج وقالوا: السير الكبير فوصفوها بصفة المذكر لقيامها مقام المضاف الذي هو الكتاب كقولهم صلاة الظهر وسير الكبير خطأ كجامع الصغير وجامع الكبير. والجهاد هو الدعاء إلى الدين الحق والقتال مع من امتنع عن القبول بالنفس والمال. والمغازي جمع المغزاة من غزوت العد وقصدته للقتال غزوا وهي الغزوة والغزاة. وسبب الجهاد عندنا كونهم حربا علينا، وعند الشافعي هو كفرهم، كذا في النهاية قوله: (الجهاد فرض كفاية ابتداء) مفيد لثلاثة أحكام: الأول كونه فرضا ودليله الأوامر القطعية كقوله تعالى * (فاقتلوا المشركين) * (التوبة: 5) * (وقاتلوا المشركين كافة) * (التوبة: 36) و * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) * (التوبة: 29) وتعقب بأنها عمومات مخصوصة والمخصوص ظني الدلالة وبه لا يثبت الفرض. وأجيب بأن خروج الصبي والمجنون منها بالعقل لا يصيره ظنا وأما غيرهما فنفس النص ابتداء لم يتعلق به لأنه مقيد بمن بحيث يحارب كقوله تعالى * (وقاتلوا المشركين كافة) * (التوبة: 36) الآية. فلم تدخل المرأة. وأما الأحاديث الواردة فيه فظنية لا تفيد الافتراض، وقول صاحب الايضاح إذا تأيد خبر الواحد بالكتاب والاجماع يفيد الفرضية ممنوع بل المفيد حينئذ الكتاب والاجماع وجاء الخبر على وفقهما. وأما قوله عليه
119 السلام الجهاد ماض إلى يوم القيمة (1) فدليل على وجوبه وأنه لا ينسخ وهو من مضافي الأرض مضاء نفذ. الثاني كونه على الكفاية لأنه ما فرض لعينه إذ هو إفساد في نفسه وإنما فرض لا عزاز دين الله تعالى ودفع الشر عن العباد فإذا حصل المقصود بالبعض سقط عن الباقين كصلاة الجنازة ورد السلام، والأدلة المذكورة وإن كانت تفيد فرض العين لكن قوله تعالى * (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون) * إلى قوله * (وكلا وعد الله الحسنى) * (النساء: 95) وعد القاعدين الحسنى فلو كان فرض عين لاستحقوا الاثم وقد صح خروجه عليه السلام في بعض الغزوات وقعوده في البعض. وقد ظن بعض المشايخ من جواز القعود إذا لم يكن النفير عاما أنه تطوع في هذه الحالة وأكثرهم على أنه فرض كفاية فيها وليس بتطوع أصلا كما في الذخيرة وهو الصحيح كما في التتارخانية. هذا وفضله عظيم كما نطقت به الأحاديث النبوية. وفي الخانية: الحراسة بالليل عند الحاجة إليها أفضل من صلاة الليل. وفي فتح القدير: ومن توابع الجهاد والرباط وهو الإقامة في مكان يتوقع هجوم العدو فيه لقصد دفعه لله تعالى، والأحاديث في فضله كثيرة. واختلف في محله فإنه لا يتحقق في كل مكان والمختار أن يكون في موضع لا يكون وراءه إسلام وجزم به في التجنيس. الثالث افتراضه وإن لم يبدؤنا للعمومات، وأما قوله تعالى * (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * (البقرة: 191) فمنسوخ كما في العناية. أطلقه فأفاد أنه لا يتقيد بزمان وتحريم القتال في الأشهر الحرم منسوخ بالعمومات قوله: (فإن قام به قوم سقط عن الكل وإلا أثموا بتركه) بيان لحكم فرض الكفاية. وفي الولوالجية: ولا ينبغي أن يخلو ثغر من ثغور المسلمين ممن يقاوم الأعداء، فإن ضعف أهل الثغر من المقاومة وخيف عليهم فعلى من وراءهم من المسلمين أن يعينوهم بأنفسهم والسلاح والكراع ليكون الجهاد قائما والدعاء إلى الاسلام
120 دائما. قوله: (ولا يجب على صبي وامرأة وعبد وأعمى ومقعد واقطع) لأن الصبي غير مكلف وكذا المجنون والعبد والمرأة مشغولان بحق الزوج والمولى وحقهما مقدم على فرض الكفاية والأعمى ونحوه عاجزون وقد قال تعالى * (ليس على الأعمى حرج) * (النور: 61) أطلق في المرأة والعبد وقيده في فتح القدير بعدم الإذن، أما لو أمر السيد والزوج العبد والمرأة بالقتال يجب أن يكون فرض كفاية ولا نقول صار فرض عين لوجوب طاعة المولى والزوج حتى إذا لم يقاتل في غير النفير العام يأثم لأن طاعتهما المفروضة عليهما في غير ما فيه المخاطرة بالروح وإنما يجب ذلك على المكلفين لخطاب الرب جل جلاله بذلك والغرض انتفاؤه عنهم قبل النفير العام اه. وفيه نظر لأن المرأة لا يجب عليها طاعة الزوج في كل ما يأمر به إنما ذلك فيما يرجع إلى النكاح وتوابعه خصوصا إذا كان في أمره إضرار بها فإنها تأثم على تقدير فرض الكفاية وترك الناس كلهم الجهاد، نعم هو في العبد ظاهر لعموم وجوب الطاعة عليه. وفي الذخيرة: ويجوز للأب أن يأذن للصبي المراهق إذا طالق القتال بالخروج له وإن كان يخاف عليه القتل لأن قصده تهذيبه لا إتلافه فهو كتعليمه السباحة وكختنه. وقيده ركن الاسلام السغدي بأن لا يخاف عليه نحو أن يرمي بالحجر فوق الحصن أو النشاب، أما إذا كان يخاف عليه بأن كان يخرج للبراز فليس له أن يأذن له في القتال اه. وأشار بالمرأة والعبد إلى أن المديون لا يخرج إلى الجهاد ما لم يقض دينه فإن لم يكن عنده وفاء لا يخرج إلا بإذن الغريم لأنه تعلق به حق الغريم، فإن كان للمال كفيل كفل بإذنه لا يخرج إلا بإذنهما، وإن كفل بغير إذنه لا يخرج إلا بإذن الطالب خاصة كذا في التنجيس - وهو يفيد أن له أن يأذن له أن يخرج بغير إذن الكفيل بالنفس لأنه لا ضرر على الكفيل إذا تعذر احضاره عليه. وفي الذخيرة: إن أذن له الدائن ولم يبرئه فالمستحب له الإقامة لقضاء الدين لأن الأولى أن يبدأ بما هو الأوجب، فإن غزا فلا بأس. وهذا إذا كان الدين حالا، فإن كان مؤجلا وهو يعلم بطريق الظاهر أنه يرجع
121 قبل أن يحل الاجل فالأفضل الإقامة لقضاء الدين، فإن خرج بغير إذن لم يكن به بأس لعدم توجه المطالبة بقضائه اه. وإلى أنه لا يخرج إلى الجهاد إلا بإذن الوالدين فإن أذن له أحدهما ولم يأذن له الآخر فلا ينبغي له أن يخرج وهما في سعة من أن يمنعاه إذا دخل عليهما مشقة لأن مراعاة حقهما فرض عين والجهاد فرض كفاية فكان مراعاة فرض العين أولى، فإن لم يكن له أبوان وله جدان أو جدتان فأذن له أب الأب وأم الام ولم يأذن له الآخران فلا بأس بالخروج لأن أب الأب قائم مقام الأب وأم الام قائمة مقام الام فكانا بمنزلة الأبوين. وأما سفر التجارة والحج فلا بأس بأن يخرج بغير إذن والديه لأنه ليس فيه خوف هلاكه حتى لو كان السفر في البحر لا يخرج بغير إذنهما. ثم إنما يخرج بغير إذنهما للتجارة إذا كانا مستغنيين عن خدمته، أما إذا كانا محتاجين فلا، كذا في التجنيس. وتعبيره في فتح القدير بالحرمة تسامح. وإنما الثابت الكراهة. وفي البزازية: دلت العلة على التحاق الخروج إلى العلم بالحج والتجارة ولان الخروج إلى التجارة لما جاز لأن يجوز للعلم أولى اه. وهذا كله إذا كان أبواه مسلمين، وأما إذا كانا كافرين أو أحدهما فكرها خروجه إلى الجهاد أو كره الكافر ذلك فعليه أن يتحرى، فإن وقع تحريه على أن الكراهة لما يلحقهما من التفجيع والمشقة لأجل الخوف عليه من القتل لا يخرج، وإن كان لأجل كراهة قتال الكفار يخرج، فإن شك ينبغي أن لا يخرج، كذا في الذخيرة. وفيها: أن من سوى الأصول إذا كرهوا خروجه للجهاد فإن كان يخاف عليهم الضياع فإنه لا يخرج بغير إذنهم وإلا يخرج وكذا امرأته اه. وفي التتارخانية: وإن كان عند الرجل ودائع وأربابها غيب فإن أوصى إلى رجل أن يدفع الودائع إلى أربابها كان له أن يخرج إلى الجهاد، والعالم الذي ليس في البلدة أحد أفقه منه ليس له أن يغزو لما يدخل عليهم من الضياع. قوله: (وفرض عين أن هجم العدو فتخرج المرأة والعبد بلا إذن زوجها وسيده) لأن المقصود عند ذلك لا يحصل إلا بإقامة الكل فيفترض على الكل فرض عين فلا يظهر ملك اليمين ورق النكاح في حقه كما في الصلاة والصوم بخلاف ما قبل ذلك لأن بغيرهما مقنعا ولا ضرورة إلى إبطال حق المولى والزوج. وأفاد خروج الولد بغير إذن والديه بالأولى، وكذا الغريم يخرج إذا صار فرض عين بغير إذن دائنه وأن الزوج والمولى إذا منعا أثما، كذا في الذخيرة. ولا بد من قيد آخر وهو الاستطاعة في كونه فرض عين فخرج المريض المدنف، أما الذي يقدر على الخروج دون الدفع ينبغي أن يخرج لتكثير السواد لأن فيه ارهابا، كذا في فتح
122 القدير. والهجوم الاتيان بغتة والدخول من غير استئذان، كذا في المغرب. المراد هجومه على بلدة معينة من بلاد المسلمين فيجب على جميع أهل تلك البلدة، وكذا من يقرب منهم إن لم يكن بأهلها كفاية، وكذا من يقرب ممن يقرب إن لم يكن ممن يقرب كفاية أو تكاسلوا وعصوا وهكذا إلى أن يجب على جميع أهل الاسلام شرقا وغربا كتجهيز الميت والصلاة عليه يجب أولا على أهل محلته فإن لم يفعلوا عجزا وجب على من ببلدتهم على ما ذكرنا، هكذا ذكروا وكان معناه إذا دام الحرب بقدر ما يصل الأبعدون وبلغهم الخبر وإلا فهو تكليف ما لا يطاق بخلاف إنقاذ الأسير وجوبه على كل متجه من أهل المشرق والمغرب ممن علم. ويجب أن لا يأثم من عزم على الخروج وقعوده لعدم خروج الناس وتكاسلهم أو قعود السلطان أو منعه، كذا في فتح القدير. وفي الذخيرة: إذا دخل المشركون أرضا فأخذوا الأموال وسبوا الذراري والنساء فعلم المسلمون بذلك وكان لهم عليهم قوة كان عليهم أن يتبعوهم حتى يستنقذوهم من أيديهم ما داموا في دار الاسلام، فإذا دخلوا أرض الحرب فكذلك في حق النساء والذراري ما لم يبلغوا حصونهم وجدرهم ويسعهم أن لا يتبعوهم في حق المال وذراري أهل الذمة وأموالهم في ذلك بمنزلة ذراري المسلمين وأموالهم اه. وفي البزازية: امرأة مسلمة سبيت بالمشرق وجب على أهل المغرب تخليصها من الأسر ما لم تدخل دار الحرب لأن دار الاسلام كمكان واحد اه. ومقتضى ما في الذخيرة أنه يجب تخليصها ما لم تدخل حصونهم وجدرهم. وفي الذخيرة: ويستوي أن يكون المستنفر عدلا أو فاسقا يقبل خبرة في ذلك لأنه خبر يشتهر بين المسلمين في الحال وكذلك الجواب في منادي السلطان يقبل خبره عدلا كان أو فاسقا اه. قوله: (وكره الجعل إن وجد فئ وإلا لا) أي إن لم يوجد فلا كراهة لأنه يشبه الاجر ولا ضرورة إليه لأن مال بيت المال معد لنوائب المسلمين، وإن دعت الضرورة فلا بأس أن يقوي المسلمون بعضهم بعضا لأن فيه دفع الضرر الاعلى بإلحاق الأدنى، ويؤيده أنه عليه السلام أخذ دروعا من صفوان وعمر رضي الله عنه كان يغزي الأعزب عن ذي الحليلة ويعطي الشاخص فرس القاعد والجعل - بضم الجيم - ما يجعل للانسان في مقابلة شئ يفعله والمراد به هنا أن يكلف الإمام الناس بأن يقوي بعضهم بعضا بالكراع والسلاح وغير ذلك من النفقة والزاد. والفئ المال والمأخوذ من الكفار بغير قتال كالخراج والجزية، وأما المأخوذ بقتال فإنه يسمى غنيمة، كذا في فتح القدير. وظاهره أنه إذا لم يكن في بيت المال فئ وكان فيه غيره من بقية الأنواع فإنه لا يكره الجعل ولا يخفي ما فيه فإنه لا ضرورة لجواز الاستقراض
123 من بقية الأنواع ولذا لم يذكر الفئ في الذخيرة والولوالجية إنما ذكر مال بيت المال وهو الحق. وفي الذخيرة: ثم من كان قادرا على الجهاد بنفسه وماله فعليه أن يجاهد بنفسه وماله قال الله تعالى * (وجاهدوا في الله حق جهاده) * (الحج: 78) وحق الجهاد أن يجاهد بنفسه وماله، ولا ينبغي له في هذه الحالة أن يأخذ من غيره جعلا. ومن عجز عن الخروج وله مال ينبغي أن يبعث غيره عن نفسه بماله، ومن قدر بنفسه ولا مال له فإن كان في بيت المال مال يعطيه الإمام كفايته من بيت المال، فإن أعطاه كفايته لا ينبغي أن يأخذ من غيره جعلا وإلا فله أن يأخذ الجعل من غيره. قال ركن الاسلام علي السغدي: إذا قال القاعد للشاخص خذ هذا المال فاغز به فإنه ليس باستئجار على الجهاد، فأما إذا قال خذه لتغزو به عني فهذا استئجار على الجهاد فلا يجوز، وينبغي أن تكون مسألة الحج على هذا التفصيل. وإذا دفع الرجل إلى غيره جعلا ليغزو به عنه هل له أن يصرفه في غير الغزو؟ فهو على وجهين: إن قال له أغز بهذا المال عني فليس له صرفه في غيره كقضاء دينه ونفقة أهله كمن دفع إلى آخر مالا وقال حج به عني، وإن قال اغز به فله صرفه إلى غيره كمن دفع مالا وقال حج به لأنه ملكه المال وأشار إليه إشارة فله أن لا يأخذ بإشارته كقوله هذه الدار لك فاسكنها وهذا الثوب لك فالبسه كان له أن لا يسكنها ولا يلبسه. وفي شرح السير: إن للمدفوع إليه أن يترك بعض الجعل لنفقة عياله على كل حال لأنه لا يتهيأ له الخروج إلا بهذا فكان من أعمال الجهاد معنى. وتفرع على الوجهين ما إذا عرض له عارض من مرض أو غيره فأراد أن يدفع إلى غيره أقل مما أخذ ليغزو به، فإن كان مراده إمساك الفضل لرب المال فلا بأس به، وإن كان مراده الامساك لنفسه ففي الوجه الأول لا يملك ذلك لأنه ما ملكه بل أباح له الانفاق على نفسه في الغزو، وفي الثاني يملكه لأن له أن لا يغزو أصلا، كذا في الذخيرة مختصرا. وفي الظهيرية: وينبغي أن تكون ألوية المسلمين بيضاء والرايات سوداء واللواء للإمام والرايات للقواد، وينبغي أن يتخذ لكل قوم شعارا حتى إذا ضل رجل عن رايته نادى بشعاره وليس ذلك بواجب. والشعار العلامة والخيار إلى إمام المسلمين إلا أنه ينبغي له أن يختار كلمة دالة على ظفرهم بالعدو وبطريق التفول. ويكره للغزاة اتخاذ الأجراس في دار الحرب لأنه يدلهم على المسلمين، أما في بلاد الاسلام فلا بأس به، ولا بأس بهذه الطبول التي تضرب في الحرب لاجتماع الناس واستعدادهم للقتال لأنها ليست بطبول لهو. وينبغي أن يكون أمير الجيش بصيرا بأمر الحرب حسن التدبير لذلك ليس ممن يقتحم بهم المهالك ولا مما يمنعهم عن الفرصة، وينبغي للإمام أن يستقبل الصفوف ويطوف عليهم يحضهم على القتال ويبشرهم بالفتح إن صدقوا وصبروا، كذا في الظهيرية مختصرا.
124 قوله: (فإن حاصرناهم ندعوهم إلى الاسلام) أي ضيقنا بالكفار وأحطنا بهم يقال حاصره العدو محاصرة وحصارا إذا ضيقوا عليه وأحاطوا به فطلب منهم الدخول في دين الاسلام لما روى الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ما قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما قط إلا دعاهم. وفي الصحيح أمر ت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله (1) ولم يذكر المصنف ما يصير به الكافر مسلما وهو نوعان: قول وفعل. والكفار أقسام: قسم يجحدون الباري جل وعلا وإسلامهم إقرارهم بوجوده، وقسم يقرون به ولكن ينكرون وحدانيته وإسلامهم إقرارهم بوحدانيته، وقسم أقروا بوحدانيته وجحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وإسلامهم إقرارهم برسالته صلى الله عليه وسلم، فالأصل أن كل من أقر بخلاف ما كان معلوما من اعتقاده أنه يحكم بإسلامه وهذا في غير الكتابي، أما اليهودي والنصراني فكان إسلامهم في زمنه عليه السلام بالشهادتين لأنهم كانوا ينكرون رسالة النبي عليه الصلاة والسلام، وأما اليوم ببلاد العراق فلا يحكم بإسلامه بهما ما لم يقل تبرأت عن ديني ودخلت في دين الاسلام لأنهم يقولون أنه أرسل إلى العرب والعجم لا إلى بني إسرائيل، كذا صرح به محمد رحمه الله، وإنما شرط مع التبري إقرارهم بالدخول في الاسلام لأنه قد يتبرأ من اليهودية ويدخل في النصرانية أو في المجوسية. ولو قيل لنصراني أمحمد رسول الله حق فقال نعم لا يصير مسلما وهو الصحيح، ولو قال رسول إلى العرب والعجم لا يصير مسلما لأنه يمكنه أن يقول هو رسول إلى العرب والعجم إلا أنه لم يبعث بعد. فإن قيل: يجب أن لا يحكم بإسلام اليهودي والنصراني وإن أقر برسالة محمد عليه السلام وتبرأ عن دينه ودخل في دين الاسلام ما لم يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ويقر بالبعث وبالقدر خيره وشره من الله تعالى لأنها من شرائط الاسلام كما في حديث جبريل عليه السلام قلنا: الاقرار بهذه الأشياء وإن لم يوجد نصا فقد وجد دلالة لأنه لما أقر بدخوله في الاسلام فقد التزم جميع ما كان شرط صحته. ولو قال الكتابي أنا مسلم أو أسلمت لا يحكم بإسلامه لأنهم يدعون ذلك لأنفسهم، وكذا لو قال أنا على دين الحنيفية. ولو قال الذمي لمسلم أنا مسلم مثلك يصير مسلما، كذا في الذخيرة والفتاوي. فالحاصل أن الكتابي اليوم إذا أتى بالشهادتين لا يحكم بإسلامه. وفي الفتاوي السراجية: سئل إذا قال
125 الذمي أنا مسلم أو إن فعلت كذا فأنا مسلم ثم فعله أو تلفظ بالشهادتين لا غير هل يصير مسلما؟ أجاب: لا يحكم بإسلامه في شئ من ذلك، كذا أفتى علماؤنا، والذي أفتى به إذا تلفظ بالشهادتين يحكم بإسلامه وإن لم يتبرأ عن دينه الذي كان عليه لأن التلفظ بهما صار علامة على الاسلام فيحكم بإسلامه، وإذا رجع إلى ما كان عليه يقتل إلا أن يعود إلى الاسلام فيترك اه. وهذا يجب المصير إليه في ديار مصر بالقاهرة لأنه لا يسمع من أهل الكتاب فيها الشهادتان ولذا قيده محمد بالعراق. وأما بالفعل فإن صلى بالجماعة صار مسلما بخلاف ما إذا صلى وحده إلا إذا قال الشهود صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا، وأما إذا صام أو أدى الزكاة أو حج لم يحكم بإسلامه في ظاهر الرواية، وعن محمد أنه إذا حج على الوجه الذي يفعله المسلمون يحكم بإسلامه، كذا في الذخيرة. وفي التتارخانية: وإن صلى خلف إمام ثم أفسد لم يكن مسلما، وكذا إذا قرأ القرآن أو صلى على محمد لم يكن مسلما أيضا، وأما الاذان فإن شهدوا أنه كان يؤذن ويقيم كان مسلما، سواء كان الاذان في السفر أو في الحضر، وإن قالوا سمعناه يؤذن في المسجد فليس بشئ حتى يقولوا هو مؤذن فإذا قالوا ذلك فهو مسلم لأنهم إذا قالوا إنه مؤذن كان ذلك عادة له فيكون مسلما: كذا في البزازية. وينبغي أن يكون ذلك في حق الكتابي بناء على أنه لا يكون مسلما بمجرد الشهادتين.
126 قوله: (فإن أسلموا وإلا إلى الجزية) أي وإن لم يسلموا ندعوهم إلى أداء الجزية للحديث المعروف، وسيأتي التصريح من المصنف أن مشركي العرب والمرتدين لا تقبل منهم الجزية بل إما الاسلام أو السيف فلا يدعوا إليها ابتداء لعدم الفائدة فلا يرد على إطلاقه هنا. وفي شرح الطحاوي: إذا أسلموا نترك أموالهم ونجعل أراضيهم عشرية ونأمرهم بالتحول من دارهم إلى دار الاسلام لأن المقام للمسلم في دار الحرب مكروه، فإن أبوا أخبرهم أنهم كأعراب المسلمين ليس لهم في الفئ ولا في الغنيمة ولا في الخمس ولا في بيت المال نصيب. هذا إذا كان مكانهم بدار الحرب ليس متصلا بدار الاسلام، فإن كان متصلا لا يؤمرون بالتحول. وفي التتارخانية: وينبغي للإمام أن يبين لهم مقدار الجزية ووقت وجوبها ويعلمهم أنه إنما يأخذها منهم في كل سنة مرة وأن الغني يؤخذ منه كذا ومن الفقير كذا ومن الوسط كذا اه. قوله: (فإن قبلوا فلهم ما لنا وعليهم ما علينا) أي قبلوا إعطاء الجزية صاروا ذمة لنا قال علي رضي الله عنه: إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا وأموالهم كأموالنا. وسيأتي في البيوع استثناء عقدهم على الخمر والخنزير وأن عقدهم على الخمر كعقدنا على العصير، وعقدهم على الخنزير كعقدنا على الشاة، وقدمنا أن الذمي مؤاخذ بالحدود والقصاص إلا حد شرب الخمر، وتقدم في كتاب النكاح أنهم إذا اعتقدوا جوازه بغير مهر أو شهود أو في عدة تتركهم وما يدينون بخلاف الربا فإنه مستثنى من عقودهم قوله: (ولا نقاتل من لا تبلغه الدعوة إلى الاسلام) أي لا يجوز القتال لقوله عليه الاسلام في وصية أمراء الأجناد فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله ولأنهم بالدعوة يعلمون أنا نقاتلهم على الدين لا على سلب الأموال وسبي
127 الذراري فلعلهم يجيبون فنكفي مؤنة القتال، ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي ولا غرامة لعدم العاصم وهو الدين أو الاحراز بالدار فصار كقتل النسوان والصبيان. أطلق الدعوة فشمل الحقيقية والحكمية، فالحقيقية باللسان، والحكمية انتشار الدعوة شرقا وغربا أنهم إلى ماذا يدعون وعلى ماذا يقاتلون فأقيم ظهورها مقامها، وقد نص محمد عليه في السير الكبير فقال: وإذا لقي المسلمون المشركين فإن كان المشركون قوما لم يبلغهم الاسلام لا حقيقة ولا حكما فلا ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم إلى الاسلام، وفي فتح القدير: ولا شك أن في بلاد الله تعالى من لا شعور له لهذا الامر فيجب أن المراد غلبة ظن أن هؤلاء لم تبلغهم الدعوة. وفي التتارخانية: وإن كانوا قوما قد تبلغهم الاسلام إن أنهم لا يدرون أيقبل المسلمون الجزية أم لا فلا ينبغي لهم أن يقاتلوهم حتى يدعوهم إلى الجزية اه قوله: (وندعو ندبا من بلغته) أي الدعوة مبالغة في الانذار ولا يجب ذلك لأنه صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون وعهد إلى أسامة أن يغير على أبنى صباحا ثم يحرق، والغارة لا تكون بدعوة. وابنى بوزن حبلى موضع بالشام. أطلق في الاستحباب وهو مقيد بأن لا يتضمن ضررا بأن يعلم أنهم بالدعوة يستعدون أو يحتالون أو يتحصنون وغلبة الظن في ذلك بما يظهر من أحوالهم كالعلم، كذا في فتح القدير. قوله: (وإلا فنستعين عليهم بالله تعالى بنصب المجانيق وحرقهم غرقهم وقطع أشجارهم وإفساد زروعهم ورميهم وإن تترسوا ببعضنا ونقصدهم) أي إن لم يقبلوا الجزية إلى آخره. أما الاستعانة فلانه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر على أعدائه فيستعان به في كل الأمور، وأما نصب المجانيق فلانه عليه السلام نصبها على الطائف، وأما التحريق ونحوه فلانه عليه السلام أحرق البوبرة أرسلوا عليهم الماء وقطعوا أشجارهم وأفسدوا زروعهم لأن في جميع ذلك إلحاق الغيظ والكبت بهم وكسر شوكتهم وتفريق جمعهم فيكون مشروعا. أطلق في الأشجار فشمل المثمرة وغيرها كما في البدائع. وأطلق في جواز فعل هذه الأشياء وقيده في فتح القدير بما إذا لم يغلب على الظن أنهم مأخوذون بغير ذلك، فإن كان الظاهر أنهم مغلوبون وأن الفتح باد كره ذلك لأنه إفساد في غير محل الحاجة وما أبيح إلا لها. وفي الظهيرية: ولا يستحب رفع الصوت في الحرب من غير أن يكون ذلك مكروها من وجه الدين ولكنه فشل والفشل الجبن، فإن كان فيه منفعة وتحريض للمسلمين فلا بأس به. وعن قيس بن عبادة قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند ثلاث: الجنائز والقتال والذكر. والمراد بالذكر الوعظ. وقال الإمام شمس الأئمة السرخسي: ففي هذا الحديث بيان كراهة رفع الصوت عند سماع القرآن والوعظ فتبين به أن ما يفعله الذين يدعون الوجد والمحبة مكروه لا أصل له
128 في الدين، وتبين به أنه يمنع المتقشفة وحمقاء أهل التصوف مما يعتادونه من رفع الصوت وتمزيق الثياب عند السماع لأن ذلك مكروه في الدين عند سماع القرآن والوعظ، فما ظنك عند سماع الغناء؟ ويندب للمجاهد في دار الحرب توفير الأظفار وإن كان قصها من الفطرة لأنه إذا سقط السلاح من يده ودنا منه العدو ربما يتمكن من دفعه بأظافيره وهو نظير قص الشوارب فإنه سنة، ثم الغازي في دار الحرب مندوب إلى توفيرها وتطويلها ليكون أهيب في عين من يبارزه. والحاصل أن ما يعين المرء على الجهاد فهو مندوب إلى اكتسابه لما فيه من اعزاز المسلمين وقهر المشركين اه. وأما جواز رميهم وإن تترسوا ببعضنا فلان في الرمي دفع الضرر العام بالذب عن بيضة الاسلام وقتل المسلم ضرر خاص، ولأنه قل ما يحلو حصن عن مسلم فلو امتنع عن اعتباره لا نسد بابه. أطلق في بعضنا فشمل الأسير والتاجر والصبيان لكن نقصد الكفار بالرمي دون المسلمين لأنه إن تعذر التمييز فعلا فقد أمكن قصدا والطاعة بحسب الطاقة، وما أصابوه منهم لا دية عليهم ولا كفارة لأن الجهاد فرض والغرامات لا تقترن بالفروض بخلاف حالة المخمصة لأنه لا يمتنع مخافة الضمان لما فيه من إحياء نفسه، أما الجهاد بني على إتلاف النفس فيمتنع حذار الضمان، وأما قوله عليه السلام ليس في الاسلام دم مفرج أي مهدر فمعناه ليس في دار الاسلام وكلامنا في دار الحرب، كذا في العناية، قيد بالتترس عند المحاربة لأن الإمام إذا فتح بلدة ومعلوم أن فيها مسلما أو ذميا لا يحل قتل أحد منهم لاحتمال كونه ذلك المسلم أو الذمي ولو أخرج واحدا من عرض الناس حل إذا قتل الباقي لجواز كون المخرج هو ذلك فصار في كون المسلم في الباقين شك بخلاف الحالة الأولى فإن كون المسلم أو الذمي فيهم معلوم بالفرض فوقع الفرق، كذا في فتح القدير. وفي الولوالجية وغيرها: فإن كان المسلمون في سفينة فاحترقت السفينة، فإن كان غلبة ظنهم أنهم لو ألقوا أنفسهم في البحر تخلصوا بالسباحة يجب عليهم أن يطرحوا أنفسهم في البحر ليتخلصوا من الهلاك القطعي، وإن استوى الجانبان إن أقاموا احترقوا وإن أوقعوا أنفسهم غرقوا فهم بالخيار عند أبي حنيفة وأبي يوسف لاستواء الجانبين. وقال محمد: لا يجوز لهم أن يلقوا أنفسهم في الماء لأنه يكون اهلاكا بفعلهم ا ه. قوله: (ونهينا عن إخراج مصحف وامرأة في سرية يخاف عليهما) لأن فيه تعريضهن على
129 الضياع والفضيحة وتعريض المصاحف على الاستخفاف فإنهم يستخفون بها مغايظة للمسلمين وهو التأويل الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو وما في الكتاب هو الأصح والأحوط خلافا لما ذكره الطحاوي من أنه لا كراهة في إخراج المصحف مطلقا. أطلق المرأة فشمل الشابة والعجوز للمداواة أو غيرها، كذا في الذخيرة. وقيد بالسرية لأنه لا كراهة في الاخراج إذا كان جيشا يؤمن عليه لأن الغالب هو السلامة والغالب كالمتحقق. وفي المغرب: ولم يرد في تحديد السرية نص، ومحصول ما ذكره محمد في السير أن التسعة وما فوقها سرية، وأما الأربعة والثلاثة ونحو ذلك طليعة لا سرية اه. وفي الخانية قال أبو حنيفة: أقل السرية مائتان وأقل الجيش أربعمائة. وقال الحسن بن زياد: أقل السرية أربعمائة وأقل الجيش أربعة آلاف. وفي المبسوط: السرية عدد قليل يسيرون بالليل ويكمنون بالنهار اه. وفي فتح القدير: وينبغي كون العسكر العظيم اثني عشر ألفا لما روي أنه عليه السلام قال لن تغلب أثناء عشر ألفا من قلة (2) وهو أكثر ما روي فيه اه. وظاهر مفهوم المختصر أن في الجيش لا يكره إخراج المرأة مطلقا وخصوه بالعجائز للطب والمداواة والسقي، ويكره إخراج الشواب ولو احتيج إلى المباضعة فالأولى إخراج الإماء دون الحرائر والأولى عدم اخراجهن أصلا خوفا من الفتن. ولا تباشر المرأة القتال إلا عند الضرورة لأنه يستدل به على ضعفهم. وأراد بالمصحف ما يجب تعظيمه ويحرم الاستخفاف به فيكره إخراج كتب الفقه والحديث في سرية كما في فتح القدير. وقيد بالاخراج في السرية لأنه إذا دخل رجل مسلم إليهم بأمان لا بأس أن يحمل معه المصحف إذا كانوا قوما يوفون بالعهد لأن الظاهر عدم التعرض. وفي الذخيرة قال محمد في أهل الثغور التي تلي أرض العدو: لا بأس أن يتخذوا فيها النساء وأن يكون لهم فيها الذراري وإن لم يكن بين تلك الثغور وبين أرض العدو أرض المسلمين إذا كان الرجال يقدرون على الدفع عنهم وإلا فلا ينبغي قوله: (وغدر وغلول ومثلة) أي نهينا عنها لقوله عليه السلام لا تغلوا ولا تعذروا ولا تمثلوا (3) وهذه الثلاثة محرمة كما
130 في فتح القدير. والغدر الخيانة ونقض العهد، والغلول السرقة من المغنم، والمثلة المروية في قصة العرنيين منسوخة بالنهي المتأخر هو المنقول يقال مثلث بالرجل بوزن ضربت أمثل به بوزن انصر مثلا ومثلة إذا سودت وجهه وقطعت أنفه ونحوه ذكره في الفائق. وفي فتح القدير: وأما من جنى على جماعة جنايات متعددة ليس فيها قتل بأن قطع أنف رجل وأذني رجل وفقأ عيني آخر وقطع يدي آخر ورجلي آخر فلا شك في أنه يجب القصاص لكل واحد أداء لحقه لكن يجب أن يتأنى لكل قصاص بعد الذي قبله إلى أن يبرأ منه وحينئذ يصير هذا الرجل ممثلا به أي مثلة ضمنا لا قصدا. وإنما يظهر أثر النهي والنسخ فيمن مثل بشخص حتى قتله، فمقتضى النسخ أن يقتل به ابتداء ولا يمثل به. ثم لا يخفي أن هذا بعد الظفر والنصر، أما قبل ذلك فلا بأس به إذا وقع قتال كمبارز ضرب فقطع أذنه ثم ضربه ففقأ عينه فلم ينته فضربه فقطع يده وأنفه ونحو ذلك اه. وفي الظهيرية: ولا بأس بحمل الرؤوس إذا كان فيه غيظ للمشركين أو إفراغ قلب للمسلمين بأن كان المقتول من قواد المشركين أو عظماء المبارزين ألا ترى أن عبد الله بن مسعود حمل رأس أبي جهل لعنه الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر حتى ألقاه بين يديه فقال: هذا رأس عدوك أبي جهل لعنه الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الله أكبر هذا فرعوني وفرعون أمتي كان شره علي وعلى أمتي أعظم من شر فرعون على موسى وأمته ولم ينكر عليه ذلك اه. قوله: (وقتل امرأة وغير مكلف وشيخ فإن وأعمى ومقعد إلا أن يكون أحدهم ذا رأي في الحرب أو ملكا) أي نهينا عن قتل هؤلاء لأن المبيح للقتل عندنا هو الحراب ولا يتحقق منهم ولهذا لا يقتل يابس الشق والمقطوع اليمين والمقطوع يده ورجله من خلاف والراهب الذي لم يقاتل وأهل الكنائس الذين لا يخالطون الناس، وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الصبيان والنساء، وحين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة مقتولة قال: هاه ما كانت هذه تقاتل فلم قتلت؟ وأما إذا كان لأحدهم رأي في الحرب أو كان ملكا فقد يتعدى ضرره إلى العباد ولذا يقتل من قاتل دفعا لشره، ولان القتال مبيح حقيقة. وغير المكلف شامل للصبي والمجنون
131 غير أنهما يقتلان ما داما يقاتلان، وغيرهما لا بأس بقتله بعد الأسر لأنه من أهل العقاب لتوجه الخطاب نحوه وإن أمكن السبي وإن كان يجن ويفيق فهو في حالة إفاقته كالصحيح. وفي التتارخانية: لا يقتل المعتوه. وفي فتح القدير: ثم المراد بالشيخ الفاني الذي لا يقتل من لا يقدر على القتال ولا الصياح عند التقاء الصفين ولا على الاحبال لأنه يجئ منه الولد فيكثر محارب المسلمين، ذكره في الذخيرة. وزاد الشيخ أبو بكر الرازي في كتاب المرتد من شرح الطحاوي أنه إذا كان كامل العقل نقتله ومثله نقتله إذا ارتد والذي لا نقتله الشيخ الفاني الذي خرف وزال عقله وخرج عن حدود العقلاء والمميزين فحينئذ يكون بمنزلة المجنون فلا نقتله ولا إذا ارتد. قال: وأما الزمني فهم بمنزلة الشيوخ فيجوز قتلهم إذا رأى الإمام ذلك بعد أن يكونوا عقلاء ونقتلهم أيضا إذا ارتدوا اه. وفي الذخيرة: ونقتل الأخرس والأصم والمقطوع اليسرى. وفي التتارخانية: ولا نقتل من في بلوغه شك. ولا بأس بنبش قبورهم طلبا للمال. وإذا كان بالمسلمين قوة على حمل من لا يقتل وإخراجهم إلى دار الاسلام لا ينبغي لهم أن يتركوا في دار الحرب امرأة ولا صبيا ولا معتوها ولا أعمى ولا مقعدا ولا مقطوع اليد والرجل من خلاف ولا مقطوع اليد اليمنى لأن هؤلاء يولد لهم ففي تركهم عون على المسلمين. وأما الشيخ الفاني الذي لا يلقح فإن شاء أخرجه وإن شاء تركه. وكذلك الرهبان وأصحاب الصوامع إذا كانوا ممن لا يصيبون النساء وكذلك العجوز الذي لا يرجى ولدها، فإن شاء الإمام أخرجهم وإن شاء تركهم اه. وفي البدائع: ولو قتل لا يحل له قتله ممن ذكرنا فلا شئ فيه من دية ولا كفارة إلا التوبة والاستغفار لأن دم الكافر لا يتقوم إلا بالأمان ولم يوجد قوله: (وقتل أب مشرك) أي نهينا عن ابتداء أبيه بالقتل لقوله تعالى * (وصاحبهما في
132 الدنيا معروفا) * (لقمان: 15) ولأنه يجب عليه إحياؤه بالانفاق فيناقضه الاطلاق في إفنائه ولو قتله لا شئ عليه لعدم العاصم قوله: (وليأب الابن ليقتله غيره) أي ليمتنع الابن من إطلاقه وقتله ليقتله غيره لأن المقصود يحصل بغيره من غير اقتحامه المأثم فإذا أدركه في الصف يشغله بالمحاولة بأن يعرقب فرسه أو يطرحه من فرسه ويلجئه إلى مكان، ولا ينبغي أن ينصرف عنه ويتركه لأن يصير حربا علينا. ولو قال المصنف وقتل أصله المشرك لكان أولى لأن هذا الحكم لا يخص الأب لأن أمه وأجداده وجداته من قبل الأب والام كالأب فلا يبتدئهم بالقتل. وخرج فرعه وإن سفل فللأب أن يبتدئ بقتل ابنه الكافر لأنه لا يجب عليه احياؤه، وكذا أخوه وخاله وعمه المشركون ولذا لم يجب عليه الانفاق عليهم إلا بشرط الاسلام. وقيدنا بالابتداء لأنه لو قصد الأب قتله بحيث لا يمكنه دفعه إلا بقتله لا بأس به لأن مقصوده الدفع ألا ترى أنه لو شهر الأب المسلم سيفه على ابنه ولا يمكنه دفعه إلا بقتله لا بأس بقتله لما بينا فهذا أولى. وقيد بالمشرك لأن الباغي يكره ابتداء القريب بقتله، سواء كان أبا أو أخا أو غيرهما لأنه يجب عليه إحياؤه بالانفاق عليه لاتحاد الدين فكذا بترك القتل، وأما في الرجم إذا كان الابن أحد الشهود فيبتدئ بالرجم ولا يقصد قتله بأن يرميه مثلا بحصاة. قوله: (ونصالحهم ولو بمال لو خيرا) لقوله تعالى * (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) * (الأنفال: 61) ووادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة عام الحديبية على أن يضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ولان الموادعة جهاد معنى إذا كان خيرا للمسلمين لأن المقصود وهو دفع الشر حاصل به فإذا وقع الصلح أمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم وأمن من أمنوه وصار في حكمهم كما في الولوالجية: أراد بالصلح العهد على ترك الجهاد مدة معينة أي مدة كانت ولا يقتصر الحكم على المدة المذكورة في المروي لتعدي المعني إلى ما زاد عليها. وقيد بالخير لأنه لا يجوز بالاجماع إذا لم يكن فيه مصطلحة. وأطلق في قوله ولو بمال فشمل المال المدفوع منهم إلينا وعكسه، والأول ظاهر إذا كان بالمسلمين حاجة إليه لأنه جهاد معنى ولأنه إذا جاز بغير المال فبالمال أولى، وإن لم يكن إليهم حاجة به لا يجوز لأنه ترك للجهاد صورة ومعنى، والمأخوذ منهم يصرف مصارف الجزية لأنه مأخوذ بقوة المسلمين كالجزية إلا إذا نزلوا بدارهم للحرب فحينئذ يكون غنيمة لكونه مأخوذا بالقهر، والثاني لا يفعله الإمام لما فيه من إعطاء الدنية ولحوق المذلة إلا إذا خاف على المسلمين لأن دفع الهلاك بأي طريق أمكن واجب.
133 وذكر الولوالجي: لو دخل الموادعون بلدة أخرى لا موادعة معهم فغزا المسلمون في تلك البلدة فهؤلاء آمنون لبقاء الأمان. ولو أسر من الموادعين أهل دار أخرى فاستولى عليه المسلمون كان فيأ لأن حكم الموادعة بطل في حق الأسير اه. وفي المحيط: ولو وقع الصلح ثم سرق مسلم منهم شئ لا يملكه، وكذا إن أغار المسلمون عليهم وسبوا قوما منهم لم يسع المسلمون الشراء من ذلك السبي ويرد المبيع، ومن دخل منهم دارنا بغير أمان لا نتعرض له لأن الموادعة السابقة كافية في إفادة الأمان والعصمة اه. وأطلق في المصالح ولم يقيده بالإمام لأن موادعة المسلم أهل الحرب جائزة كاعطائه الأمان، فإن كان على مال ولم يعلم الإمام ذلك، فإن مضت المدة أخذه وجعله في بيت المال، وإن علم بها قبل مضيها، فإن كان فيها خير أمضاها وأخذ المال وإلا أبطلها ورد المال ونبذ إليهم، وإن كان بعد مضي البعض رد كل المال استحسانا بخلاف ما إذا وادعهم ثلاث سنين كل سنة بكذا وقبض المال كله ثم أراد الإمام نقضها بعد مضي سنة فإنه يرد الثلثين لتفريق العقود هنا بتفريق التسمية بخلاف الأول فإن العقد واحد. ولو وادع المسلمون أهل الحرب على أن يؤدوا كل سنة مائة رأس إلينا وفيها خير، فإن كانت من أنفسهم وأهليهم وذراريهم لم يصح لأن الكل دخلوا تحت الأمان فلا يجوز استرقاقهم وتمليكهم، وإن صالحوا على مائة رأس بأعيانهم أول سنة على أن يكون أولئك لهم ثم يعطوهم كل سنة مائة رأس من رقيقهم جاز لعدم دخولهم تحت الأمان، وتمامه في المحيط. وذكر الولوالجي: وهذا كله إذا وقع الصلح على أن يكونوا مبقين على أحكام الكفر، فإن وقع الصلح على أن تجري عليهم أحكام الاسلام فقد صاروا ذمة ولا يسع للمسلمين أن لا يقبلوا ذلك منهم لأنهم لما قبلوا حكم الاسلام صاروا من جملة أهلها. قوله: (وننبذ لو خيرا) لأنه عليه السلام نبذ الموادعة التي كانت بينه وبين أهل مكة ولان المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهارا وإبقاء العهد ترك الجهاد صورة ومعنى فلا بد من النبذ تحرزا عن الغدر. ولا بد من اعتبار مدة يبلغ خبر النبذ إلى جميعهم ويكتفي في ذلك بمضي مدة يتمكن ملكهم بعد علمه بالنبذ من إنفاذ الخبر إلى أطراف مملكته لأن بذلك ينتفي الغدر، فإن كانوا خرجوا من حصونهم وتفرقوا في البلاد أو خربوا حصونهم بسب الأمان فحتى يعودوا كلهم إلى مأمنهم ويعمروا حصونهم مثل ما كانت توقيا عن الغدر. وفي المغرب: نبذ الشئ من يده طرحه ورمى به نبذا، ونبذ العهد نقضه وهو من ذلك لأنه طرح له. وفي النهاية: والمراد هنا من قوله فلا بد من النبذ إعلام نقض العهد. وذكر الشارح أن النبذ يكون على الوجه الذي كان الأمان، فإن كان منتشرا يجب أن يكون النبذ كذلك، وإن كان غير منتشر بأن أمنهم واحد
134 من المسلمين سرا يكتفي بنبذ ذلك الواحد كالحجر بعد الاذن. وهذا إذا صالحهم مدة فرأى نقضه قبل مضي المدة، وأما إذا مضت المدة فإنه يبطل الصلح بمضيها فلا ينبذ إليهم، ومن كان منهم في دارنا فهو آمن حتى يبلغ مأمنه لأنه في يدنا بأمان، كذا ذكره الولوالجي قوله: (ونقاتل بلا نبذ لو حان ملكهم) لأنهم صاروا ناقضين للعهد فلا حاجة إلى نقضه. أطلق في خيانة ملكهم فشمل ما إذا كان باتفاق الكل أو بفعل بعضهم بإذنه حتى لو دخل جماعة منهم ذو منعة دار الاسلام بإذنه وقاتلوا المسلمين كان نقضا. وقيد بملكهم لأنه لو دخل جماعة بغير إذنه لم ينتقض في حق الكل، وإنما ينتقض في حق الخائنين حتى يجوز قتلهم واسترقاقهم وإن لم يكن لهم منعة لم يكن نقضا للعهد قوله: (والمرتدين بلا مال وإن أخذ لم يرد) أي نصالح المرتدين حتى ننظر في أمورهم لأن الاسلام مرجو منهم فجاز تأخير قتالهم طمعا في إسلامهم، ولا نأخذ عليه مالا لأنه لا يجوز أخذ الجزية منهم وإن أخذه لم يرده لأنه مال غير معصوم. وأشار إلى أنه يجوز الصلح مع أهل البغي بالأولى ولا يؤخذ منهم شئ، وصرح الشارح بأن أموالهم معصومة فظاهره أنه إذا أخذ شئ لأجل الصلح يرد عليهم. وفي فتح القدير: ويرد عليهم بعد ما وضعت الحرب أوزارها ولا يردها حال الحرب لأنه إعانة لهم اه. وأطلق في جواز صلح المرتدين وهو مقيد بما إذا غلبوا على بلدة وصار دارهم دار الحرب وإلا فلا، لأن فيه تقرير المرتد على الردة وذلك لا يجوز ولذا قيده الفقيه أبو الليث بما ذكرنا، كذا في الفتح قوله: (ولم نبع سلاحا منهم) لأن النبي عليه السلام نهي عن بيع السلاح من أهل الحرب وحمله إليهم ولان فيه تقويتهم على قتال المسلمين فيمنع من ذلك، وصرح الشارحون بحرمته. أراد من السلاح ما يكون سببا لتقويتهم على الحرب فدخل الكراع والحديد لأنه أصل السلاح وهو ظاهر الرواية. والكراع الخيل. ودخل الرقيق لأنهم يتوالدون عندهم فيعودون حربا علينا مسلما كان الرقيق أو كافرا. وخرج الطعام والقماش والقياس المنع إلا أنا عرفناه بالنص لأنه عليه السلام أمر ثمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه. وشمل كلامه ما قبل الموادعة وما بعدها لأنها على شرف الانقضاء أو النقض قال الفقيه أبو الليث: وليس هذا كما قالوا في بيع العصير ممن يجعله خمرا لأن العصير ليس بآلة للمعصية وإنما يصير آلة لها بعدما يصير خمرا، وأما هنا فالسلاح آلة للفتنة في الحال اه. وفي كافي الحكم: فإن كان الحربي جاء بسيف فاشترى. مكانه قوسا أو رمحا أو فرسا لم يترك أن يخرج به مكان سيفه، وكذا إذا استبدل بسيفه سيفا خيرا منه، وإن كان مثله أو شرا منه لم يمنع اه. فما يمنع المسلم منه المستأمن منهم أن يدخل به دارهم وإن خرج هو بشئ ما ذكرنا فلا يمنع من الرجوع به إلا إذا أسلم العبد.
135 قوله: (ولا يقتل من أمنه حر أو حرة) لقوله عليه السلام المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم (1) أي أقلهم وهو الواحد ولأنه من أهل القتال فيخافونه إذ هو من أهل المنعة فيتحقق الأمان منه لملاقاته محله ثم يتعدى إلى غيره، ولان سببه لا يتجزأ وهو الايمان وكذا الأمان لا يتجزى فيتكامل كولاية الانكاح، وأجاز عليه السلام أمان أم هانئ رجالا من المشركين يوم فتح مكة كما رواه الشيخان. وركنه صريح وكناية وإشارة، فالصريح كقوله أمنت أو وادعت أو لا تخافوا منا ولا تذهلوا لا بأس عليكم لكم عهد الله أو ذمته تعالوا فاسمعوا الكلام، ويصح بأي لسان وإن كانوا لا يعرفونه بعد أن عرفه المسلمون بشرط سماعهم له فلا أمان لو كان بالبعد منهم. ومن الكنايات قول المسلم للمشرك تعال إذا ظن أنه أمان كان أمانا، وكذا إذا أشار بأصبعه إلى السماء فيه بيان أعطيتك ذمة إله السماء والمشرك إذا نادى الأمان فهو أمن إذا كان ممتنعا، وإن كان في موضع ليس بممتنع وهو ماد سيفه ورمحه فهو فئ. ولو طلب الأمان لأهله لا يكون هو آمنا بخلاف ما إذا طلب لذراريه فإنه يدخل تحت الأمان. وفي دخول أولاد البنات روايتان. ولو طلبه لأولاده دخل فيه أولاد الأبناء دون أولاد البنات، ولو طلبه لاخوته دخل الأخوات تبعا دون الأخوات المفردات، وكذا لو طلبه لأبنائه دخلت بناته كالآباء يدخل فيه الآباء والأمهات، ولا يدخل الأجداد لعدم صلاحيتهم للتبعية، كذا في المحيط. ولو طلبه لقرابته دخل الولدان استحسانا. وشرائطه العقل فلا يجوز أمان المجنون والصبي الذي لا يعقل، والبلوغ فلا يصح أمان الصبي العاقل، والاسلام فلا يصح أمان الذمي وإن كان مقاتلا، وأما الحرية فليست بشرط، وكذا السلامة عن العمى والزمانة والمرض. وأما حكمه فهو ثبوت الامن للكفرة عن القتل والسبي والاستغنام، وأما إذا وجد في أيديهم مسلم أو ذمي أسير فإنه يؤخذ منهم كما في التتارخانية وقال محمد: وإذا أمن رجل من المسلمين ناسا من المشركين فأغار عليهم قوم
136 آخرون من المسلمين قتلوا الرجل وسبوا النساء والأموال واقتسموا ذلك وولد لهم منهن أولاد ثم علموا بالأمان فعلى الذين قتلوا دية من قتلوا وترد النساء والأموال إلى أهلها وتغرم للنساء أصدقتهن لما أصابوا من فروجهن، والأولاد أحرار مسلمون تبعا لأبيهم لكن إنما ترد النساء بعد ثلاث حيض، وفي زمان الاعتداد يوضعن على يدي عدل، والعدل امرأة عجوز ثقة لا الرجل، ويكون الأولاد أحرارا بغير قيمة، كذا في التتارخانية اه. وأما صفته فهو عقد غير لازم حتى لو رأى الإمام المصلحة في نقضه نقضه، كذا في البدائع قوله: (وننبذ لو شرا) أي نقض الإمام الأمان لو كان بقاؤه شرا لأن جوازه كان للمصلحة مع أنه يتضمن ترك القتال المفروض فإذا صارت المصلحة في نقضه نقض. وعبارة المصنف شاملة لما إذا اعطى الإمام الأمان لمصلحة ثم رأى المصلحة في نقضه ولما إذا أمنهم مسلم بغير إذن الإمام ولا مصلحة فيه، فاقتصار الشارح على الثاني مما لا ينبغي. وإذا فعله الواحد ولا مصلحة فيه أدبه الإمام لانفراده برأيه بخلاف ما إذا كان فيه مصلحة لأنه ربما تفوت بالتأخير فيعذر. وفي البدائع: إن الأمان على وجهين: مطلق وموقت، فالأول ينتقض بأمرين: إما ينقض الإمام وينبغي أن يخبرهم به ثم يقاتلهم خوفا من الغدر، وإما بمجئ أهل الحصن إلى الإمام بالأمان ثم امتناعهم عن الاسلام وقبول الجزية فإنه ينتقض لكن يردهم إلى مأمنهم ثم يقاتلهم احترازا عن التغرير، فإن امتنعوا أن يلحقوا بمأمنهم أجلهم على ما يرى، فإن لم يرجعوا حتى مضى الاجل صاروا ذمة. والثاني ينتهي بمضي الوقت من غير توقف على النقض، ولهم أن يقاتلوهم إلا إذا دخل واحد منهم دار الاسلام فمضى الوقت وهو فيه فهو آمن حتى يرجع إلى مأمنه. قوله: (وبطل أمان ذمي وأسير وتاجر وعبد ومحجور عن القتال) لأن الذمي لا ولاية له على المسلمين وهو متهم والأسير والتاجر مقهوران تحت أيديهم فلا يخافونهم والأمان يختص بمحل الخوف والعبد المحجور عن القتال لا يخافونه فلا يلاقي الأمان محله بخلاف المأذون في القتال لأن الخوف منه متحقق، وصحح محمد أمانه. قيد بكون الأمان من الذمي لأن الأمير لو أمر الذمي بأن يؤمنهم فأمنهم فهو جائز والمسألة على وجهين: إما أن يقول له قل لهم إن
137 فلانا أمنكم أو قال له أمنهم وكل على وجهين: أما إن قال الذمي قد أمنتكم أو إن فلانا المسلم قد أمنكم ففي الثاني يصح أمانه في الوجهين، وفي الأول إن قال لهم الذمي إن فلانا أمنكم صح، وإن قال أمنتكم فهو باطل. وأراد بالأسير والتاجر المسلم الذي في دار الحرب، فلو دخل مسلم دار الحرب وأمن جندا عظيما فخرجوا معه إلى دار الاسلام وظفر بهم المسلمون فهم فئ بخلاف ما إذا خرج واحد منهم أو عشرون مع المسلم بأمان فهو آمن لأنه في الأول مقهور معهم دون الثاني. وفي الذخيرة: أراد بقوله لا يصح أمان الأسير لا يصح أمانه في حق باقي المسلمين حتى كان لهم أن يغيروا عليهم، وأما أمانه في حقه صحيح، وإذا صح أمانه في حق نفسه صار حكمه وحكم الداخل فيهم بأمان سواء، فلا يأخذ شيئا من أموالهم بغير رضاهم، وكذلك لا يأخذ ما كان للمسلمين وصار ملكا لهم بالاستيلاء والاحراز بدارهم، وما كان للمسلمين ولم يصر ملكا لهم بالاستيلاء لا بأس بأن يأخذه ويخرجه إلى دار الاسلام، وكذا قال في الذخيرة. ومعنى عدم صحة أمان العبد المحجور في حق باقي المسلمين، أما أمان العبد المحجور في حق نفسه صحيح بلا خلاف، والجواب في الأمة كالجواب في العبد إن كانت تقاتل بإذن المولى فأمانها صحيح وإلا فلا اه. وأطلق في أمان الذمي فشمل ما إذا أذنه الإمام بالقتال بخلاف ما إذا أذنه الإمام بالأمان كما قدمنا، وبخلاف العبد المأذون بالقتال، والفرق هو الصحيح. وفي السراجية: والفاسق يصح أمانه. وفي الخانية من فصل إعتاق الحربي: العبد المسلم إذا خدم مولاه الحربي في دار الحرب كانت خدمته له أمانا له والله سبحانه وتعالى أعلم. باب الغنائم وقسمتها الغنائم جمع غنيمة. قال في القاموس: المغنم والغنيم والغنيمة والغنم بالضم الفئ.
138 غنم - بكسر - غنما بالضم وبالفتح وبالتحريك، وغنيمة وغنمانا بالضم الفوز بالشئ بلا مشقة اه. وفي المغرب: الغنيمة ما نيل من أهل الشرك، عن أبي عبيدة عنوة والحرب قائمة. وحكمها أن تخمس وسائرها بعد الخمس للغانمين خاصة. والفئ ما نيل منهم بعدما تضع الحرب أوزارها وتصير الدار دار إسلام، وحكمه أن يكون لكافة المسلمين ولا يخمس اه. قوله: (ما فتح الإمام عنوة قسم بيننا أو أقر أهلها ووضع الجزية والخراج) أي الجزية على رؤوسهم والخراج على أراضيهم والعنوة القهر كما في القاموس. وبه اندفع ما في شروح الهداية فالقسمة اتباع لفعله عليه السلام بخيبر وعدمها اتباع لفعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة من الصحابة ولم يجد من خالفه وفي كل من ذلك قدوة فيتخير. وقيل: الأول هو الأولى عند حاجة الغانمين، والثاني عند عدم الحاجة ليكون عدة في الزمان الثاني، ولا يخفى أن القسيمة بعد إخراج الخمس قيد بالأراضي لأن في المنقول المجرد لا يجوز المن بالرد عليهم لأنه لم يرد به الشرع فيه وفي العقار خلاف الشافعي لأن في المن إبطال حق الغانمين أو ملكهم فلا يجوز من غير بدل يعادله، والخراج غير معادل لقلته بخلاف الرقاب لأن للإمام أن يبطل حقهم رأسا إما بالعوض القليل وإما والحجة عليه ما روينا، ولان فيه نظرا لهم لأنهم كالأكرة العاملة للمسلمين العالمة بوجوه الزراعة والمؤن مرتفعة مع أنه يخطئ به الذين يأتون من بعد والخراج وإن قل حالا فقد جل مآلا وهو المن عليهم برقابهم وأراضيهم فقط وقسمة الباقي لدوامه، وإن من عليهم بالرقاب والأراضي يدفع إليهم من المنقولات قدر ما يتهيؤ لهم العمل ليخرج عن حد الكراهة قوله:
139 (وقتل الاسرى أو استرق أو تركهم أحرارا ذمة لنا) يعني أن الإمام بالخيار إن شاء قتلهم لأنه عليه السلام قد قتل ولان فيه حسم مادة الفساد، وإن شاء استرقهم لأن فيه دفع شرهم مع وفور المنفعة لأهل الاسلام، وإن شاء تركهم أحرارا ذمة للمسلمين لما بينا إلا مشركي العرب والمرتدين فإنهم لا يسترقون ولا يكونون ذمة على ما نبين إن شاء تعالى، وليس له فيمن أسلم منهم إلا الاسترقاق لأن قتله أو وضع الجزية عليه بعد إسلامه لا يجوز قيد بكون الخيار للإمام لأنه ليس لواحد من الغزاة أن يقتل أسيرا بنفسه لأن الرأي فيه إلى الإمام فقد يرى مصلحة المسلمين في استرقاقه فليس له أن يفتات عليه. وعلى هذا فلو قتل بلا ملجئ بأن خاف القاتل شر الأسير كان له أن يعزره إذا وقع على خلاف مقصوده ولكن لا يضمن بقتله شيئا، كذا في فتح القدير. وفي القاموس: الأسير الأخيذ والمقيد والمسجون والجمع أسرى وأسارى وأسرى قوله: (وحرم ردهم إلى دار الحرب والفداء والمن) لأن في ردهم تقويتهم على المسلمين وفي الفداء بهم معونة الكفرة لأنه يعود حربا علينا ودفع شر حرابه خير من استخلاص الأسير المسلم لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه غير مضاف إلينا، والإعانة بدفع أسيرهم إليهم مضاف إلينا فلا يجوز عند الإمام أبي حنيفة، وجوزا أن يفادى أسرى المسلمين تخليصا للمسلم وجوابه ما مر. أطلق في منع الفداء فشمل الشيخ الكبير الذي لا يرجى له نسل. وعن محمد جوازه كما في الولوالجية، وشمل إطلاق الحربي وأخذ المسلم الأسير عوضا عنه واستنقاذه منا بمال نأخذه منه. قال في المغرب: فداه من الأسر فداء وفدى استنقذه منه بمال، والفدية اسم ذلك المال، والمفاداة بين اثنين يقال فداه إذا أطلقه وأخذ فديته. وعن المبرد: المفاداة أن تدفع رجلا وتأخذ رجلا والفداء أن تشتريه وقيل هما بمعنى اه. وفي الثاني خلاف ففي المشهور من المذهب لا يجوز. وفي السير الكبير: لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة استدلالا بأسرى بدر، ولو كان أسلم الأسير في أيدينا لا يفادى بمسلم أسير في أيديهم لأنه لا يفيد إلا إذا طابت نفسه به وهو مأمون على إسلامه، وأما المن فقال في القاموس: من عليه منا أنعم واصطنع عنده صنيعة اه. واختلفت العبارات في المراد به هنا ففي فتح القدير: هو أن يطلقهم إلى دار الحرب بغير شئ. وفي غاية البيان والنهاية: هو الانعام عليهم بأن يتركهم مجانا بدون إجراء الأحكام عليهم من القتل والاسترقاق أو تركهم ذمة للمسلمين اه. ولا يصح الأول في كلام المختصر لأنه هو عين قوله وحرم ردهم إلى دار الحرب وإنما حرم لأن بالأسر ثبت حق الغانمين فلا يجوز إبطال ذلك بغير عوض كسائر الأموال المغنومة. وقيد بفداء الكفار لأنه يجوز فداء أسرى المسلمين به الذين في دار الحرب بالدراهم والدنانير وما ليس فيه قوة للحرب كالثياب وغيرها
140 ولا يفادون بالسلاح، كذا في غاية البيان. وظاهر الولوالجية أنه يجوز مفاداة أسرى المسلمين بالسلاح والكراع اتفاقا قوله: (وعقر مواش شق إخراجها فتذبح وتحرق) أي وحرم عقر المواشي لأنه مثلة فيذبحها لأن ذبح الحيوان يجوز لغرض صحيح ولا غرض أصح من كسر شوكة الأعداء، ثم تحرق بالنار لتنقطع منفعته عن الكفار وصار كتخريب البنيان بخلاف التحريق قبل الذبح لأنه منهي عنه، قال في المحيط: وأشار إلى أنه يحرق الأسلحة والأمتعة إذا تعذر نقلها وما لا يحترق منها يدفن في موضع لا يقف عليه الكفار إبطالا للمنفعة عليهم. قال في المغرب: عقره عقرا جرحه، وعقر الناقة بالسيف ضرب قوائمها. والمواشي جمع ماشية وهي الإبل والبقر والغنم. وقيد بالمواشي احترازا عن النساء والصبيان التي يشق إخراجها فإنها تترك في أرض خربة حتى يموتوا جوعا كيلا يعودوا حربا علينا لأن النساء يقع بهن النسل، وأما الصبيان فإنهم يبلغون فيصيرون حربا علينا، كذا في فتاوى الولوالجي. وتعقبه في فتح القدير بأنه أقوى من القتل المنهي عنه في قتل النساء والصبيان اللهم إلا أن يضطروا إلى ذلك بسبب عدم الحمل فيتركوا ضرورة وهو عجيب منه لأن الولوالجي صرح بأنه يفعل بالنساء والصبيان ذلك عند عدم إمكان الاخراج لا مطلقا فلا إشكال أصلا والمسألة مذكورة في المحيط أيضا وذكر بعده: ولهذا قال علماؤنا: إذا وجد المسلمون حية أو عقربا في دار الحرب في رحالهم ينزعون ذنب العقرب وأنياب الحية قطعا للضرر عن أنفسهم ولا يقتلونها لأن فيه منفعة الكفار وقد أمرنا بضده اه. وفي التتارخانية: نساء من أهل الاسلام متن في دار الحرب فيطأ أهل الحرب النساء الأموات قال: يسعنا أن نحرقهن بالنار اه. قوله: (وقسمة غنيمة في دارهم لا للايداع) أي حرم قسمة الغنائم في دار الحرب لغير إيداع لنهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الغنائم في دار الحرب والقسمة بيع معنى فتدخل تحته، ولان الاستيلاء إثبات اليد الحافظة والناقلة والثاني منعدم لقدرتهم على الاستنقاذ ووجوده ظاهرا، والأصل عندنا أنه لا ملك قبل الاحراز بدار الاسلام فتحرم القسمة والبيع قبله ويشارك المدد العسكر قبله ولو من أهل الحرب إذا أسلموا بدارهم قبل الاستيلاء عليهم، ولا يثبت نسب ولد أمة
141 من السبي ادعاه بعض الغانمين قبله ويجب عقرها وتقسم الأمة والولد والعقر بين الغانمين، ولا يورث نصيب من مات قبله ولا ضمان على من أتلف شيئا من الغنيمة قبله، كذا ذكره الشارح وغيره، وظاهره أن جميع تلك الأحكام إنما هي قبله، أما بعده فالأحكام مختلفة وليس كذلك فإنه لا ملك بعد الاحراز بدار الاسلام أيضا إلا بالقسم بدار الاسلام فلا يثبت بالاحراز ملك لاحد بل يتأكد الحق، ولهذا لو أعتق واحد من الغانمين عبدا بعد الاحراز لا يعتق، ولو كان هناك ملك مشترك عتق بعتق الشريك ويجري فيه ما عرف في عتق الشريك، فحكم استيلاد الجارية بعد الاحراز قبل القسمة وقبله سواء. نعم لو قسمت تلك الغنيمة على الرايات أو العرافة فوقعت جارية بين أهل راية صح استيلاد أحدهم لها فإنه يصح عتقه لها لأنها مشتركة بينه وبين أهل تلك الراية والعرافة شركة ملك لكن هذا إذا قلوا حتى تكون الشركة خاصة، أما إذا كثروا فلا لأن بالشركة العامة لا تثبت ولاية الاعتاق. والقليل مائة أو أقل، وقيل أربعون. قال في المبسوط: والأولى أن لا يوقت ويجعل موكولا إلى اجتهاد الإمام، كذا في فتح القدير. وفي التتارخانية قال المتأخرون: وأحسن ما قيل فيه إن الجند إذا كان بحيث تقع بهم الشركة في الأغلب كانت الشركة فيما بينهم عامة، وإن كانت بحيث لا تقع بهم الشركة في الغالب تكون شركة خاصة اه. وفيها وفي المنتقي قال أبو يوسف: إذا أعتق الإمام عبدا من الخمس جاز عتقه وولاؤه لجماعة المسلمين وليس له أن يوالي أحدا اه. وفي المحيط: ولو وطئ جارية لا يحد ويؤخذ منه العقران وطئها في دار الاسلام دون دار الحرب لأنه أتلف منافع بضعها اه. وهذا هو الظاهر لأن الوطئ في دار الحرب لا يجب فيه شئ. وقد نقله في التتارخانية بصيغة قال محمد فكان هو المذهب قال: وكذا إذا قتل واحدا من السبي أو استهلك شيئا من الغنيمة في دار الحرب فلا صفان عليه، لا فرق بين أن يكون المستهلك من الغانمين أو غيرهم. وعبر بالحرمة دون الصحة لأنه إذا قسم في دار الحرب مجتهدا أو قسم لحاجة الغانمين فصحيحة، وإن قسم بلا اجتهاد أو اجتهد فوقع على عدم صحتها فغير صحيحة. وقيد بغير الايداع لأنها للايداع جائزة، وصورتها أن لا يكون للإمام من بيت المال حمولة يحمل عليها الغنائم فيقسمها بين الغانمين قسمة إيداع ليحملها إلى دار الاسلام ثم يرتجعها منهم فيها، فإن أبوا أن يحملوها أجبرهم على ذلك بأجر المثل في رواية السير الكبير لأنه دفع ضرر عام بتحميل ضرر خاص كما لو استأجر دابة شهرا فمضت المدة في المفازة أو استأجر سفينة فمضت المدة في وسط البحر فإنه ينعقد عليها إجارة أخرى بأجر المثل، ولا
142 يجبرهم في رواية السير الصغير لأنه لا يجبر على عقد الإجارة ابتداء كما إذا نفقت دابته في المفازة ومع رفيقه دابة لا يجبر على الإجارة بخلاف ما استشهد به فإنه بناء وليس بابتداء وهو أسهل منه، ولو كان في بيت المال أو في الغنيمة حمولة حمل عليها لأن الكل ما لهم. وفي الخانية: ولو أن الإمام أودع الغنيمة إلى بعض الجند قبل القسمة ولا يبين ما فعل حتى مات لا يضمن شيئا. وفي السير الكبير: وإذا أراد أمير العسكر أن يرسل رسولا من دار الحرب إلى دار الاسلام بشئ من أموال المسلمين ولم يقدر الرسول أن يخرج إلا فارسا ولبعض العسكر فضل فرس فلا بأس بأخذ فرسه على كره منه اه. قوله: (وبيعها قبلها) أي حرم بيع الغنائم قبل القسمة. أطلقه فشمل ما قبل الاحراز وما بعده، أما قبله لم يملكه، وأما بعده فنصيبه مجهول فلا يمكنه أن يبيع وقد ورد النهي عن البيع قبل القسمة كما قدمناه قوله: (وشرك الردء والمدد فيها) أي في الغنيمة لاستوائهم في السبب وهو المجاوزة أو شهود الوقعة، وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الاسلام شاركوهم فيها على ما قدمناه من الأصل. وإنما ينقطع حق المشاركة عندنا بالاحراز أو بقسمة الإمام في دار الحرب أو بيعه المغانم فيها لأن بكل منها يتم الملك فتنقطع شركة المدد. والردء - بكسر الراء وسكون الدال المهملة بعدها همزة - بمعنى العون، والمدد الجماعة الناصرون للجند. وأفاد المصنف أن المقاتل وغيره سواء حتى يستحق الجندي الذي لم يقاتل لمرض أو غيره، وأنه لا يتميز واحد على آخر بشئ حتى أمير العسكر وهذا بلا خلاف لاستواء الكل في سبب الاستحقاق، كذا في فتح القدير. وفي المحيط: المتطوع في الغزو وصاحب الديوان في الغنيمة سواء اه. وفي
143 التتارخانية: إذا قسم الإمام الغنيمة ثم جاء رجل وادعى أنه شهد الوقعة وأقام عدلين فالقياس أن ينقض القسمة. وفي الاستحسان لا ينقض ويعوض من بيت المال قيمة نصيبه اه قوله: (لا للسوقي بلا قتال) أي لا شركة لسوقي في الغنيمة إذا لم يقاتل لا سهما ولا رضخا لأنه لم توجد المجاوزة على قصد القتال فانعدم السبب الظاهر فيعتبر السبب الحقيقي وهو القتال فيقيد الاستحقاق على حسب حاله فارسا أو راجلا عند القتال. وأشار المصنف إلى أن الحربي إذا أسلم في دار الحرب أو المرتد إذا أسلم ولحق بالجيش لا يستحق شيئا إن لم يقاتل، صرح به في المحيط. وذكر الشارح أن السوقي إذا قاتل ظهر أن قصده القتال والتجارة تبع له فلا يضره كالحاج إذا أتجر في طريق الحج لا ينقص أجره اه قوله: (ولا من مات فيها وبعد الاحراز بدارنا يورث نصيبه) لأن الإرث يجري في الملك ولا ملك قبل الاحراز وإنما الملك بعده كما قدمنا. وصرحوا في كتاب الوقف أن معلوم المستحق لا يورث بعد موته على أحد القولين، وفي قول يورث ولم أر ترجيحا، وينبغي أن يفصل، فإن كان مات بعد خروج الغلة وإحراز الناظر لها قبل القسمة يورث نصيب المستحق لتأكد الحق فيه فإن الغنيمة بعد الاحراز بدارنا يتأكد الحق فيها للغانمين ولا ملك لواحد بعينه في شئ قبل القسمة مع أن النصيب يورث فكذا في الوظيفة، وإن مات قبل الاحراز في يد المتولي لا يورث نصيبه قياسا على مسألة الغنيمة، وسيأتي أن من مات من أهل الديوان قبل خروج العطاء لا يورث نصيبه،
144 سواء مات في نصف السنة أو آخرها. ثم اعلم أن من مات في دار الحرب إنما لا يورث نصيبه إذا مات قبل القسمة أو قبل البيع، أما إن مات بعد القسمة أو البيع في دار الحرب فإنه يورث نصيبه كما صرح به في التتارخانية قوله: (وينتفع فيها بعلف وطعام وحطب وسلاح ودهن بلا قسمة) لما رواه البخاري عن ابن عمر أنه قال: كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكل ولا نرفعه. أطلقه ولم يقيده بالحاجة وقد شرطها في رواية ولم يشترطها في الأخرى وهو الاستحسان فيجوز للغني والفقير. وجه الأولى أنه مشترك فلا يباح الانتفاع به إلا لحاجة كما في الثياب والدواب، ووجه الأخرى قوله عليه السلام في طعام خيبر كلوها واعلفوها ولا تحملوها ولان الحكم يدار على دليل الحاجة وهو كونه في دار الحرب. وظاهر كلامهم أن السلاح لا يجوز له إلا بشرط الحاجة اتفاقا وقد صرح به في الظهيرية مع أن المصنف سوى بين الكل. وأطلق الطعام فشمل المهيأ للاكل وغيره حتى يجوز لهم ذبح المواشي ويردون جلودها في الغنيمة، وقيد جواز الانتفاع بما ذكر في الظهيرية بما إذا لم ينههم الإمام عن الانتفاع بالمأكول والمشروب، أما إذا نهاهم عنه فلا يباح لهم الانتفاع به اه. وينبغي أن يقيد بما إذا لم تكن حاجتهم إليه، أما إذا احتاجوا إلى المأكول والمشروب لا يعمل نهيه. وقيد بالمذكورات لأن ما لا يؤكل عادة لا يجوز لهم تناوله مثل الأدوية والطيب ودهن البنفسج وما أشبه ذلك للحديث ردوا الخيط والمخيط كذا في الشرح. ولا شك أنه لو تحقق بأحدهم مرض يحوجه إلى استعمالها كان له ذلك كلبس الثوب فالمعتبر حقيقة الحاجة، ذكره في فتح القدير بحثا، وقد صرح به في المحيط. والضمير في قوله ينتفع عائد إلى الغانمين فخرج التاجر والداخل لخدمة الجندي بأجر لا يحل لهم إلا أن يكون خبز الحنطة أو طبخ اللحم فلا بأس به حينئذ لأنه ملكه بالاستهلاك، ولو فعلوا لا ضمان عليهم. ويأخذ الجندي ما يكفيه ومن معه من عبيده ونسائه وصبيانه الذي دخلوا معه. قالوا: ولو احتاج الكل إلى الثياب والسلاح قسمها حينئذ. ولم يذكر محمد قسمة السلاح ولا فرق كما ذكر المصنف لأن الحاجة في الثياب والسلاح واحد بخلاف السبي لا يقسم إذا احتيج إليه لأنه من فضول الحوائج لا أصولها. وفي المحيط: وجد مسلم جارية مأسورة له في دار الحرب في أيديهم وقد دخل بأمان كرهت له غصبها ووطأها إلا إذا كانت مدبرة أو أم ولد له فلا يكره لأن
145 المدبرة وأم الولد لا يملكونها بخلاف القنة لأنه بعقد الأمان ضمن أن لا يسرق ولا يغصب شيئا من أموالهم، فإذا فعل ذلك كان نقضا، فإن وطئ مدبرته أو أم ولده أهل الحرب لا يحل له وطؤها حتى تنقضي عدتها لأنهم باشروا الوطئ على تأويل الملك فتجب العدة ويثبت النسب. والمأسور فيهم لا يكره له أن يسرق أمته وسائر أمواله ولا يقتلهم لأنه لا عهد بينه وبينهم وأموالهم وأنفسهم مباحة في حقنا اه قوله: (ولا نبيعها) لأنه لا ملك لهم ولا ضرورة إلى ذلك، وأفاد أنهم يتمولونها كالمباح له الطعام. أطلقه فشمل البيع بالدراهم والدنانير والعروض فإن باعه أحدهم قبل القسمة رد الثمن إلى الغنيمة لأنه بدل عين كان للجماعة، وإن كان بعدها يتصدق به على الفقراء إن كان غنيا ويأكل إن كان فقيرا، كذا في المحيط. وفي التتارخانية: إذا دخل العسكر دار الحرب فصاد رجل منهم شئ من الصيد بازيا أو صقرا أو ظبيا أو صاد سمكة كبيرة من البحر أو أصاب عسلا في جبال لا يملكه أهل الحرب، أو أصاب جواهر من ياقوت وفيروزج وزمرد من معدن لا يملكه أهل الحرب، أو أصاب معدن ذهب أو فضة أو رصاص أو حديد مما لا يملكه أهل الحر ب سوى الحشيش والماء، فإن جميع ذلك يكون مشتركا بينه وبين أهل العسكر فلا يختص به الآخذ. فإن كان الآخذ باعه من التجار يقف على إجازة الأمير ثم الإمام ينظر في ذلك، فإن كان المبيع قائما والثمن أنفع للعسكر من المبيع أجاز البيع وأخذ الثمن ورده في الغنيمة وقسمه بين الغانمين، وإن كان المبيع أنفع لهم من الثمن فسخ البيع واسترد المبيع وجعله في الغنيمة، وإن لم يكن المبيع قائما يجيز بيعه وبأخذ ثمنه ويرده في الغنيمة. وهذا كله استحسان، والقياس أن لا تعمل الإجازة بعد الهلاك. ولو أن رجلا من الجند حش الحشيش في دار الحرب أو استسقى الماء ويبيعه من العسكر أو التجار كان بيعه جائزا وكان الثمن طيبا له، ولو أخذ جندي خشبا فعمل منه قصاعا ثم أخرجها إلى دار الاسلام فإن الإمام يأخذ ذلك منه ثم يعطيه قيمة ما زاد من الصنعة فيه إن شاء وإن شاء باعه وقسم الثمن على قيمة هذا الخشب غير معمول وعلى قيمته معمولا، فما أصاب غير المعمول كان في الغنيمة، وما أصاب المعمول من ذلك يكون للعامل. ولا يصير المصنوع ملكا للعامل بهذه الصنعة، وإن كانت الصنعة على هذا الوجه في ملك خاص لغيره يجعل المصنوع ملكا للصانع فينقطع حق صاحب الخشب، فأما إذا كان لا يضمن بالغصب فالصنعة لا توجب انقطاع حق المالك ألا ترى أن من غصب من آخر جلد ميتة وخاطها فروا ثم دبغها فإنه لا ينقطع حق صاحب الجلد عن الجلد بهذه الصنعة، ولو أخرجت الغنيمة إلى دار الاسلام فأخذ آخر منها خشبا وجعله قصاعا أو غيرها فإنه يضمن
146 قيمة الخشب وكان المصنوع للذي عمل لا سبيل للإمام عليه اه قوله: (وبعد الخروج منها لا) أي لا ينتفعون بشئ مما ذكر لزوال المبيح ولان حقهم قد تأكد حتى يورث نصيبه فلا يجوز الانتفاع به بدون رضاهم قوله: (وما فضل رد إلى الغنيمة) لزوال حاجته والإباحة باعتبارها. أطلقه وقيده في المحيط بأن يكون غنيا وإن كان فقيرا يأكل بالضمان لأنه ليس له أخذ الطعام بعد الاحراز فكذلك الامساك لأن الحاجة قد ارتفعت. وهذا إذا كان قبل القسمة، وأما إذا كان بعدها باعها وتصدق بثمنها لأنه لا يمكنه القسمة لقلته فتعذر إيصاله إلى المستحق فيتصدق به كاللقطة اه قوله: (ومن أسلم منهم أحرز نفسه وطفله وكل مال معه أو وديعة عند مسلم أو ذمي دون ولده الكبير وزوجته وحملها وعقاره وعبده المقاتل) أي ومن أسلم من أهل الحرب في دار الحرب قبل أخذه ولم يخرج إلينا حتى ظهرنا على الدار إلى آخره. وإنما يحرز نفسه لأن الاسلام ينافي ابتداء الاسترقاق وأولاده الصغار لأنهم مسلمون بإسلامه تبعا وكل مال هو في يده لقوله عليه السلام من سلم على مال فهو له ولأنه سبقت يده الحقيقية إليه يد الظاهرين عليه، والوديعة لما كانت في يد صحيحة محترمة صارت كيده وخرج عنه عقاره لأنه في يد أهل الدار وسلطانها إذ هو من جملة دار الحرب فلم يكن في يده حقيقة فكان فيأ. وقيل: إن محمدا جعله كسائر أمواله، وكذا عبده المقاتل لأنه لما تمرد على مولاه خرج من يده وصار تبعا لأهل داره، وكذا أمته المقاتلة ولو كانت حبلى فهي والجنين فئ، كذا في المحيط. وأما ولده الكبير فهو فئ لأنه كافر حربي ولا تبعية، وكذا زوجته وحملها جزء فيرق برقها والمسلم محل للتمليك تبعا لغيره بخلاف المنفصل لأنه حر لانعدام الجزئية عند ذلك. قيد بالوديعة لأن ما كان غصبا في يد مسلم أو ذمي فهو فئ عند الإمام خلافا لهما لأن المال تابع للنفس وقد صارت معصومة بإسلامه فيتبعها ماله فيها. وله أنه مال مباح فيملك بالاستيلاء والنفس لم تصر معصومة بالاسلام ألا ترى أنها ليست بمتقومة إلا أنه محرم التعرض في الأصل لكونه مكلفا وإباحة التعرض بعارض شره وقد اندفع بالاسلام بخلاف المال لأنه خلق عرضة للامتهان فكان محلا للتملك وليس في يده حكما فلم تثبت العصمة. وقيد بالمسلم والذمي لأنها لو كانت وديعة عند حربي فهي فئ لأن يده ليست بمحترمة. وقيدنا كون إسلامه قبل أخذه لأنه لو كان بعده فهو عبد لأنه أسلم بعد انعقاد سبب الملك فيه، وكذا لو أسلم بعدما أخذ أولاده الصغار وما له ولم يؤخذ هو حتى لو أسلم أحرز
147 بإسلامه نفسه فقط. وقيدنا بكونه خرج إلينا بعد الظهور لأنه لو أسلم في دار الحرب ثم خرج إلينا ثم ظهر على الدار فجميع ماله هناك فئ إلا أولاده الصغار لاسلامهم تبعا له وماله لم يكن في يده للتباين، وما أودع مسلما أو ذميا ليس فيأ لأن يدهما يد صحيحة عليه بخلاف وديعته عند الحربي فإنها فئ في ظاهر الرواية. وقيدنا بكونه في دار الحرب لأن المستأمن إذا أسلم في دار الاسلام ثم ظهرنا على داره فجميع ما خلفه فيها من الأولاد الصغار والمال فئ لأن التباين قاطع للعصمة وللتبعية. وقيد بالحربي إذا أسلم لأن المسلم أو الذمي إذا دخل دار الحرب بأمان واشترى منهم أموالا وأولادا ثم ظهرنا على الدار فالكل له إلا الدور والأرضين فإنها فئ لأن يده صحيحة، وما كان له وديعة عند حربي فهو له في رواية أبي سليمان وهي الأصح. وأشار المصنف بكون العقار فيأ إلى أن الزرع المتصل بالأرض قبل حصاده فئ تبعا للأرض، كذا في فتح القدير. وقيدنا بالظهور على الدار لأنهم إذا أغاروا عليها ولم يظهروا فكذلك عند محمد وعند أبي حنيفة يصير ماله فيأ وإنما يحرز نفسه وولده الصغير. وفي المحيط: حربي دخل دارنا بغير أمان فهو فئ لجماعة المسلمين أخذ قبل الاسلام أو بعده عند أبي حنيفة والله أعلم. فصل في كيفية القسمة أفردها بفصل على حدة لكثرة شعبها، والقسمة جمع نصيب شائع في معين. قال الشارح: يجب على الإمام أن يقسم الغنيمة ويخرج خمسها لقوله تعالى * (فإن لله خمسة) *
148 (الأنفال: 41) ويقسم الأربعة الأخماس على الغانمين للنصوص الواردة فيه وعليه إجماع المسلمين اه. وفي التتارخانية: ينبغي للإمام إذا أراد الدخول بدار الحرب أن يعرض العسكر ليعرف عددهم راجلهم وفارسهم ويكتب أسماءهم، فمن كتب اسمه فارسا ثم مات فرسه بعدما جاوز الدرب استحق سهم الفارس ولو باعها لا يستحق إلا أن يستبدل فرسا آخر قوله: (للراجل سهم وللفارس سهمان) يعني عند أبي حنيفة. وقالا: للفارس ثلاثة أسهم لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهما، ولان الاستحقاق بالكفاية وهي على ثلاثة أمثال الراجل لأنه للكر والفر والثبات والراجل للثبات لا غير. ولأبي حنيفة ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى للفارس سهمين وللراجل سهما فتعارض فعلاه فيرجع إلى قوله وقد قال عليه السلام للفارس سهمان وللراجل سهم (1) كيف وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم للفارس سهمين، وإذا تعارضت روايتاه ترجحت رواية غيره، ولان الكر والفر من جنس واحد فيكون غناؤه مثل غناء الراجل فيفضل عليه بسهم، ولأنه تعذر اعتبار مقدار الزيادة لتعذر معرفته فيدار الحكم على سبب ظاهر وللفارس سببان النفس والفرس وللراجل سبب واحد فكان استحقاقه على ضعفه، كذا في الهداية. وتعقبه في العناية بأن طريقة استدلاله مخالفة لقواعد الأصول فإن الأصل أن الدليلين إذا تعارضا وتعذر التوفيق والترجيح يصار إلى ما بعده لا إلى ما قبله وهو قال فتعارض فعلاه فيرجع إلى قوله والمسلك المعهود في مثله أن يستدل بقوله ويقول فعله لا يعارض قوله لأن القول أو لي بالاتفاق اه. وقد تقدم نظيره في باب سجود السهو. وفي المحيط: والفارس في السفينة في البحر يستحق سهمين وإن لم يمكنه القتال على الفرس في السفينة لأنه إن لم يباشر القتال على الفرس فقد تأهب للقتال على الفرس والمتأهب للشئ كالمباشر اه. أطلق في الفارس وهو من معه فرس فشمل الفرس المملوك والمستأجر والمستعار والمغصوب إذا لم يسترده، فإن استرده صاحبه قبل المقاتلة فسيأتي. وفي التتارخانية: وهل يتصدق الغاصب بالسهم الذي كان لفرسه؟ حكي عن الفقيه أبي جعفر أنه قال: على قياس قول أبي حنيفة ومحمد يتصدق، وعلى قياس قول أبي يوسف لا يتصدق. وسئل الخجندي عمن استأجر أجيرا للخدمة في سفره ولحرس ما له فذهب على الشرط إلى دار الحرب ثم غزى هذا الأجير بفرس المستأجر وسلاحه مع الكفار وأخذ منهم غنائم كثيرة لمن تكون؟ قال: إن شرط هذا المستأجر أن ما أصاب الأجير يكون للمستأجر يكون له، وإن استأجره للخدمة فحسب فالمصاب يكون بينهما.
149 قوله: (ولو له فرسان) يعني لو كان له فرسان لا يستحق إلا سهمين فلا يسهم إلا لفرس واحدة. وقال أبو يوسف: يسهم لفرسين لما روي أنه عليه السلام أسهم لفرسين ولان الواحد قد يعي فيحتاج إلى الآخر. ولهما أن البراء بن أوس قاد فرسين فلم يسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لفرس، ولان القتال لا يتحقق بفرسين دفعة واحدة فلا يكون السبب الظاهر مفضيا إلى القتال عليهما فيسهم لواحد ولهذا لا يسهم لثلاثة أفراس، وما رواه محمول على التنفيل كما أعطى سلمة ابن الأكوع رضي الله عنه سهمين وهو راجل. وفي النهاية: وهذه المسألة نظير ما بيننا في النكاح أن المرأة لا تستحق النفقة إلا لخادم واحد عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: تستحق النفقة لخادمين. قوله: (والبراذين كالعتاق) لأن الارهاب مضاف إلى جنس الخيل في الكتاب قال الله تعالى * (ومن رباط الخيل ترهبون به عدوا لله وعدوكم) * (الأنفال: 60) واسم الخيل ينطلق على البراذين والعراب والهجين والمقرف اطلاقا واحدا، ولان العربي إن كان في الطلب والهرب أقوى فالبرذون أصبر وألين عطفا ففي كل منهما منفعة معتبرة فاستويا. والبرذون التركي من الخيل والجمع البراذين وخلافها العراب والأنثى برذونة، وعتاق الخيل والطير كرائمها، كذا في المغرب. وفي شرح النقاية: العتاق - بكسر العين - كرام الخيل العربية، والبراذين خيل العجم والهجين الذي أبوه عربي وأمه عجمية والمقرف عكسه قوله: (لا الراحلة والبغل) أي لا يكونان كالعتاق فلا يسهم لهما لأن الارهاب لا يقع بهما إذ لا يقاتل عليهما قوله: (والعبرة للفارس والراجل عند المجاوزة) لأن المجاوزة نفسها قتال لأنهم يلحقون الخوف بها والحالة بعدها حالة الدوام ولا معتبر بها، ولان الوقوف على حقيقة القتال متعسر، وكذا على شهود الوقعة لأنه حالة التقاء الصفين فتقام المجاوزة مقامه إذ هو السبب المفضي إليه ظاهرا إذا كان على قصد القتال فيعتبر حال الشخص حالة المجاوزة فارسا أو راجلا، فلو دخل دار الحرب فارسا فنفق فرسه استحق سهم الفرسان، ولو كان بقتل رجل وأخذ القيمة منه فإذا بقي فرسه وقاتل راجلا لضيق المكان يستحقه بالطريق الأولى، وإن دخلها راجلا فاشترى فرسا استحق سهم راجل وهذا إذا هلك فرسه فإن دخلها فارسا ثم باعه أو رهنه أو أجره أو وهبه فإنه لا يستحق سهم الفارس في ظاهر الرواية لأن الاقدام على هذه التصرفات يدل على أنه لم يكن من قصده بالمجاوزة القتال فارسا، وكذا إذا باعه حال القتال على الأصح لدلالته على غرض التجارة إلا إذا باعه أو رهنه أو أجره أو وهبه فإنه لا يستحق سهم الفارس في ظاهر الرواية لأن الاقدام على هذه التصرفات يدل على أنه لم يكن من قصده بالمجاوزة القتال فارسا، وكذا إذا باعه حال القتال على الأصح لدلالته على غرض التجارة إلا إذا باعه مكرها كما في التتارخانية بخلاف ما إذا باعه بعد انقضاء الحرب فإنه يستحق سهم الفارس. وفي الخلاصة: ولو أعاره ففيه روايتان،
150 وأما إذا دخل على فرس مغصوب أو مستعار أو مستأجر ثم استرده المالك فقاتل راجلا ففيه روايتان ولم أر ترجيحا، وينبغي ترجيح استحقاق سهم الفارس لحصول الارهاب ولا صنع له في الاسترداد فصار كالهلاك بخلاف البيع وقد كتبته قبل مراجعة ما في فتح القدير ثم رأيته قال بعد ذكر الروايتين: ومقتضى كونه جاوز بفرس لقصد القتال عليه ترجيح الاستحقاق إلا أن يزاد في أجزاء السبب بفرس مملوك وهو ممنوع فإنه لو لم يسترد المعير وغيره حتى قاتل عليه كان فارسا اه. قالوا: ويشترط أن يكون الفرس صالحا للقتال بأن يكون صحيحا كبيرا حتى لو دخل بمهر أو مريض لا يستحق سهم الفرسان لأنه لا يقصد به القتال. وفي التتارخانية: لو زال المرض وصار بحال يقاتل عليه قبل الغنيمة فالقياس أن لا يسهم له. وفي الاستحسان يسهم له بخلاف ما إذا طال المكث في دار الحرب حتى بلغ المهر وصار صالحا للركوب فقاتل عليه لا يستحق سهم الفرسان اه. وكان الفرق هو أن الارهاب حاصل بالكبير المريض في الجملة بخلافه في المهر. وفيها: لو غصب فرسه منه قبل الدخول فدخل راجلا ثم استرده فيها فله سهم الفارس، وكذا لو ركب رجل عليه ودخل دار الحرب، وكذا لو نفر الفرس فأتبعه ودخل راجلا، وكذا إذا ضل منه فدخل راجلا ثم وجده فيها فإن صاحبه لا يحرم سهم الفرس ولو وهبها ودخل راجلا ودخل الموهوب له فارسا ثم رجع فيها استحق الموهوب له في الغنيمة سهم الفارس فيما أصابه قبل الرجوع وسهم الراجل فيما أصيب بعده. والراجع راجل مطلقا كالبائع فاسدا في دار الاسلام إذا استرده في دار الحرب للفساد، وكالمستحق للفرس في دار الحرب، وكالراهن إذا افتكها فيها. ولو باعها ثم وهب له أخرى وسلمت كان فارسا، ولو استردها المؤجر أو المعير فملك غيرها بشراء أو هبة فالثانية تقوم مقام الأولى، ولو كان الأول بإجارة والثاني كذلك، أو بعارية والثاني كذلك فالثاني يقوم مقام الأول، ولو كان الأول بإجارة والثاني عارية فإنه لا يقوم مقامه، ولو اشتراها في دار الاسلام وتقابضا في دار الحرب فهما راجلان، ولو نقده قبل الدخول وقبضها بعده فالمشتري فارس والفرس المشترك بين رجلين يقاتل هذا مرة وهذا أخرى لا سهم له إلا إذا أجر أحدهما نصيبه من شريكه قبل الدخول فالسهم للمستأجر اه. قوله: (وللمملوك والمرأة والصبي والذمي الرضخ لا السهم) لأنه عليه السلام كان لا يسهم للنساء والصبيان والعبيد وكان يرضخ لهم، ولما استعان النبي صلى الله عليه وسلم باليهود على اليهود لم يعطهم شيئا من الغنيمة يعني لم يسهم لهم، ولان الجهاد عبادة والذمي ليس من أهلها.
151 والرضخ في اللغة إعطاء القليل وهنا إعطاء القليل من سهم الغنيمة. وظاهر ما في المختصر أنه يرضخ لهم مطلقا وليس كذلك ذ بل إنما يرضخ للعبد إذا قاتل لأنه دخل لخدمة المولى فصار كالتاجر والمرأة، وكذا الصبي لأنه مفروض بأن يكون له قدرة عليه. والمرأة إنما يرضخ لها إذا كانت تداوي الجرحى وتقوم على المرضى لأنها عاجزة عن حقيقة القتال فيقام هذا لنوع من الإعانة مقام القتال بخلاف العبد لأنه قادر على حقيقة القتال، كذا في الهداية. وظاهره تخصيص هذا النوع من الإعانة وليس كذلك فقد قال الولوالجي: إن الإعانة منها قائمة مقام القتال كخدمة الغانمين وحفظ متاعهم اه. وهو الحق كما لا يخفي. والذمي إنما يرضخ له إذا قاتل أو دل على الطريق لأنه فيه منفعة للمسلمين إلا أنه يزاد على السهم في الدلالة إذا كانت فيه منفعة عظيمة، ولا يبلغ فيه السهم إذا قاتل لأنه جهاد والأول ليس من عمله فلا يسوى بينه وبين المسلم في حكم الجهاد، ودل كلامهم على أنه يجوز الاستعانة بالكافر على القتال إذا دعت الحاجة إلى ذلك كما قدمناه. وأطلق العبد فشمل المكاتب لقيام الرق وتوهم عجزه فيمنعه المولى عن القتال. وقيد بالمذكورين لأن الأجير لا يسهم له ولا يرضخ لعدم اجتماع الاجر والنصيب من الغنيمة إلا إذا قاتل فإنه يسهم له كما قدمناه. وفي التتارخانية: لو أعتق العبد يرضخ له فيما أصيب من الغنيمة قبل عتقه والذمي المقاتل مع الإمام إذا أسلم يضرب له بسهم كامل فيما أصيب بعد إسلامه اه. وطاهر ما في الولوالجية أن العبد يرضخ له بشرطين: إذن المولى بالقتال له وأن يقاتل. فعليه لو قاتل بلا إذن لا يرضخ له، ولم يذكر المصنف المجنون. وفي الولوالجية: ويرضخ للصبي والمجنون لأن السبب وجد في حقهما وهو القتال إلا أنهما تبع فصار كالعبد مع المولى اه.
152 قوله: (والخمس لليتامى والمساكين وابن السبيل وقدم ذوو القربى الفقراء منهم عليهم ولا حق لأغنيائهم) لأن الخلفاء الأربعة الراشدين رضي الله عنهم أجمعين قسموه على ثلاثة أسهم على نحو ما قلنا وكفى بهم قدوة. وقال عليه السلام يا معشر بني هاشم إن الله تعالى كره لكم غسالة الناس وأوساخهم وعوضكم منها بخمس الخمس (1) والعوض إنما يثبت في حق من يثبت في حقه المعوض وهم الفقراء، والنبي صلى الله عليه وسلم أعطاهم للنصرة ألا ترى أنه عليه السلام علل فقال: إنهم لم يزالوا معي هكذا في الجاهلية والاسلام وشبك بين أصابعه لأن المراد من النصر قرب النصرة لا قرب القرابة واليتيم صغير لا أب له فيدخل فقراء اليتامى من ذوي القربى في سهم اليتامى المذكورين دون أغنيائهم، والمسكين منهم في سهم المساكين وفقراء أبناء السبيل. فإن قيل: فلا فائدة حينئذ في ذكر اسم اليتيم حيث كان استحقاقه بالفقر والمسكنة لا باليتم. أجيب بأن فائدته دفع توهم أن اليتيم لا يستحق من الغنيمة شيئا لأن استحقاقها بالجهاد واليتيم صغير فلا يستحقها، ومثله ما ذكر في التأويلات للشيخ. أبي منصور لما كان فقراء ذوي القربى يستحقون بالفقر فلا فائدة في ذكرهم في القرآن. أجاب بأن إفهام بعض الناس قد تقتضي إلى أن الفقير منهم لا يستحق لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، وفي الحاوي القدسي: وعن أبي يوسف أن الخمس يصرف لذوي القربى واليتامى
153 والمساكين ابن السبيل وبه نأخذ اه. فهذا يقتضي أن الفتوى على الصرف إلى الأقرباء الأغنياء فليحفظ. وفي التحفة: هذه الثلاثة مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق حتى لو صرف إلى صنف واحد منهم جاز كما في الصدقات، كذا في فتح القدير: وأطلق في ذوي القربى وهو مقيد ببني هاشم وبني المطلب دون غيرهم لأنه عليه الصلاة والسلام وضع سهم ذوي القربى في بني هاشم وبني المطلب وترك بني نوفل وبني عبد شمس مع أن قرابتهم واحدة لأن عبد مناف الجد الثالث للنبي صلى الله عليه وسلم وأولاد هاشم والمطلب ونوفل وعبد شمس قوله: (وذكره تعالى للتبرك) أي للتبرك باسمه تعالى في افتتاح الكلام بقوله تعالى * (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسة) * (الأنفال: 41) لأن جميع الأشياء له إذ هو الغنى على الاطلاق لأن السلف رضي الله عنهم فسروه بما ذكر، وبه اندفع ما ذكره أبو العالية بأن سهم الله تعالى ثابت يصرف إلى بناء بيت الكعبة إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس قوله: (وسهم النبي عليه السلام سقط بموته كالصفى) لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده والصفي شئ كان النبي عليه السلام يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع أو سيف أو جارية. وقال الشافعي رضي الله عنه: يصرف سهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الخليفة والحجة عليه ما قدمناه. قوله: (وإن دخل جمع ذوو منعة دارهم بلا إذن خمس ما أخذوا وإلا لا) أي وإن لم يكونوا ذوي منعة لا يخمس لأن الغنيمة هو المأخوذ قهرا وغلبة لا اختلاسا وسرقة والخمس وظيفتها والقهر موجود في الأول والاختلاس في الثاني، ولا يضر كونه بغير إذن الإمام لأنه يجب عليه أن ينصرهم إذ لو خذلهم كان فيه وهن بالمسلمين بخلاف الواحد والاثنين لا يجب عليه نصرتهم. والتقييد بغير إذن الإمام ليس احترازيا لأنه لو كان بإذن الإمام ولهم منعة فإنه يخمس بالأولى، ولو لم يكن له منعة كواحد أو اثنين دخل بإذن الإمام ففيه روايتان، والمشهور أنه يخمس لأنه لما أذن لهم الإمام فقد التزم نصرتهم بالامداد فصار كالمنعة. فالحاصل أن الداخل بإذن الإمام يخمس ما أخذه مطلقا وبغير إذنه، فإن كان ذا منعة خمس وإلا لا. وفي المحيط: لو قال الإمام ما أصبتم فهو لكم لا خمس فيه فإن كانوا لا منعة لهم جاز، وإن كان لهم منعة لا يجوز لأن الخمس في الأول واجب بقول الإمام فله أن يبطله بقوله بخلافه في الثاني ولذا لو دخلوا بغير إذنه خمس ما أخذوه قوله: (وللإمام أن ينفل بقوله من قتل قتيلا فله
154 سلبه وبقوله للسرية جعلت لكم الربع بعد الخمس) أي بعدما دفع الخمس للفقراء لأن التحريض مندوب إليه قال الله تعالى * (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) * (الأنفال: 65) وهذا نوع تحريض فلو قال المصنف ويستحب للإمام لكان أولى. وقول من قال لا بأس للإمام لا يخالفه لأنها تستعمل في المندوب أيضا كما تقدم في الجنائز فلم تكن مضطردة لما تركه أولى. ثم قد يكون التنفيل بما ذكر وقد يكون بغيره كالدراهم والدنانير أو يقول من أخذ شيئا فهو له، فما ذكر في المختصر مثال لا قيد لكن قالوا: لو قال للعسكر كلما أخذتم فهو لكم بالسوية بعد الخمس أو للسرية لم يجز لأن فيه إبطال السهمان الذي أوجبها لشرع إذ فيه
155 تسوية الفارس بالراجل وكذا لو قال ما أصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لأن فيه إبطال الخمس الثابت بالنص، ذكره في السير الكبير. قال في فتح القدير: وهذا بعينه يبطل ما ذكرناه من قوله من أصاب شيئا فهو له لاتحاد اللازم فيهما وهو بطلان السهمان المنصوصة بالتسوية بل وزيادة حرمان من لم يصب شيئا أصلا بانتهائه فهو أولى بالبطلان والفرع المذكور من الحواشي وبه أيضا ينتفي ما ذكر من قوله إنه لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى المصلحة وفيه زيادة إيحاش الباقين وزيادة الفتنة اه. ويدخل الإمام نفسه في قوله من قتل قتيلا استحسانا لأنه ليس من باب القضاء ولا تهمة بخلاف ما إذا خصص نفسه بقوله من قتلته للتهمة إلا إذا عمم بعده كما في الظهيرية، وبخلاف ما إذا خصهم بقوله من قتل قتيلا منكم فإن الإمام لا يستحق كما في التتارخانية.
156 وإذا اشترك رجلان في قتل حربي اشتركا في سلبه. وقيده في شرح الطحاوي بأن يكون المقتول مبارزا يقاوم الكل، فإن كان عاجزا لا يستحقون سلبه ويكون غنيمة، وإن قيده الإمام بقوله وحده لا يستحقان سلبه، ولو كان الخطاب لواحد فشاركه آخر استحق المخاطب وحده، ولو خاطب واحدا فقتل المخاطب رجلين فله سلب الأول خاصة إلا إذا قتلهما معا فله واحد. والخيار في تعيينه للمقاتل لا للإمام، ولو كان على العموم فقتل رجل اثنين فأكثر استحق سلبهما ويستحق السلب من يستحق السهم أو الرضخ فيشتمل الذمي والتاجر والمرأة والعبد، ولا بد أن يكون المقتول منهم مباح القتل حتى لا يستحق السلب بقتل النساء والمجانين والصبيان الذين لم يقاتلوا، ولا يشترط في استحقاق السلب سماع القاتل مقالة الإمام حتى لو قتل من لم يسمع فله السلب لأنه ليس في وسع الإمام إسماع الافراد وإنما في وسعه إشاعة الخطاب وقد وجد. ولو نفل السرية بالربع وسمع العسكر دونها فلهم النفل استحسانا، كذا في الظهيرية. وفي التتارخانية: من قتل قتيلا فله سلبه يقع على كل قتال في تلك السفر ما لم يرجعوا وإن مات الوالي أو عزل ما لم يمنعه الثاني. وإن قال حالة القتال يتعين ذلك، ولو قال من دخل دار الحرب بدرع فله كذا جاز، وكذا بدرعين. ولا يجوز ما زاد إلا إذا كان فيه منفعة للمسلمين بخلاف ما إذا قال من دخل بفرس كذا فإنه لا يجوز والرماح والأقواس كالدرع. وقيد المصنف بالإمام لأنه أمير السرية إذ نهاه الإمام عن التنفيل فليس له أن ينفل إلا إذا رضي العسكر بنفله فيجوز من الأربعة الأخماس وإن لم ينهه له ذلك لأنه قائم مقام الإمام. ولو نفل الإمام السرية بالثلث بعد الخمس ثم إن أميرها نفل لفتح الحصن أو للمبارزة بغير أمر الإمام، فإن نفل من حصة السرية يجوز، ولا يجوز من سهام العسكر إلا إذا رجعت السرية إلى دار الاسلام قبل لحاق العسكر، فإن نفل أميرهم جائز من جميع ما أصابوا لأنه لا شركة للعسكر معهم فجاز نفل أمير السرية وبطل نفل أمير العسكر. ولا فرق في النفل بين أن يكون معلوما أو مجهولا، فلو قال من جاء منكم بشئ فله منه طائفة فجاء رجل بمتاع وآخر بثياب وآخر برؤس فالرأي للأمير، ولو قال له منه قليل أو يسير أو شئ أعطاه أقل من النصف والجزء النصف وما دونه وسهم رجل من القوم يعطيه
157 سهم الراجل، ولو قال من جاء بألف فله ألفان فجاء بألف لا يعطى إلا ألف، ولو قال من جاء بالأسير فله الأسير وألف درهم فإنه يعطى ذلك، والفرق وتمام التفريعات في المحيط. والتنفيل إعطاء الإمام الفارس فوق سهمه وهو من النفل وهو الزائد ومنه النافلة الزائد على الفرض، ويقال لولد الولد كذلك أيضا، ويقال نفله تنفيلا ونفله بالتخفيف نفلا لغتان فصيحتان. قوله: (وينفل بعد الاحراز من الخمس فقط) لأن حق الغير تأكد فيه بالاحراز ولا حق للغانمين في الخمس والمعطى من المصارف له والتنفيل منه إنما هو باعتبار الصرف إلى أحد الأصناف الثلاثة ولذا قال في الذخيرة: لا ينبغي للإمام أن يضعه في الغني ويجعله نفلا له بعد الإصابة لأن الخمس حق المحتاجين لا الأغنياء فجعله للأغنياء إبطال حقهم اه. لكن تصريحهم بأنه تنفيل يدل على جوازه للغنى، ومن العجيب قول الزيلعي لا يجوز للغني فإن
158 ظاهر ما في الذخيرة عدم الحرمة قوله: (والسلب للكل إن لم ينفل) أي لا يختص به القاتل عندنا لأنه مأخوذ بقوة الجيش فيكون غنيمة فيقسم بينهم قسمة الغنائم كما نطق به النص وقال عليه السلام لحبيب بن أبي سلمة: ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك. وأما قوله عليه السلام من قتل قتيلا فله سلبه (1) فيحتمل نصب الشرع ويحتمل التنفيل فنحمله على الثاني لما روينا قوله: (وهو مركبه وثيابه وسلاحه وما معه) أي السلب ما ذكر للعرف. وفي المغرب: السلب المسلوب. وعن الليث والأزهري: كل ما على الانسان من اللباس فهو سلب، وللفقهاء فيه كلام اه. وفي القاموس: السلب بالتحريك ما يسلب وجمعه أسلاب، ودخل في مركبه ما كان عليه من سرج وآلة وما مع المقتول شامل لما كان في وسطه أو على دابته، وما عدا ذلك مما هو مع غلامه أو في بيته أو في خيمته فليس بسلب. أطلقه فشمل ما إذا كان السلب عند المشرك عارية من صبي أو امرأة لأنه يستغنم مالهما كمال البالغ، وما إذا كان السلب ملكا لمسلم دخل دارهم بأمان فغصبه المشرك المقتول لأنه ملكه بالاستيلاء فانقطع ملك المسلم عنه. ولو أخذ المشركون سلب المقتول ثم انهزموا فهو غنيمة ولا شئ للقاتل لأنهم ملكوه بالاستيلاء فبطل ملك القاتل ثم ملكه الغزاة وإن لم يدر أنهم أخذوه، فإن كان منزوعا عنه فهو فئ لاثبات يدهم عليه بالنزع وإلا فهو للقاتل وإن جره المشركون أو حملوه على دابته وعليها سلاحه بخلاف ما إذا حملوا أسلحتهم وأمتعتهم عليها فإنه فئ. ولو وجد على دابة بعدما سار العسكر مرحلة أو مرحلتين ولا يدري أكان في يد أحد أو لا فهو للقاتل قياسا لا استحسانا. ولو قال من قتل قتيلا فله فرسه فقتل راجل راجلا ومع غلامه فرسه قائم بجنبه بين الصفين يكون للقاتل فرسه إذا كان فرسه مع غلامه بقرب منه لأن مقصود الإمام قتل من كان متمكنا من القتال فارسا وهذا كذلك، وإن لم يكن بجنبه في الصف فلا يكون له. ولو قتل مشركا على برذون كان له لأنه يسمى فارسا، ولو كان على حمار أو بغل أو حمل لا يستحق السلب لأن راكب هذه الأشياء لا يسمى فارسا ولذا لا يستحق سهم الفارس، كذا في المحيط. وبه علم أن ما ذكره الشارح عن المحيط بأنه قال الإمام من قتل قتيلا فله سلبه سبق قلم، وإنما المذكور في المحيط فله فرسه والدليل عليه أنه
159 قال آخرا: لو كان راكبا على بغل ونحوه لا يكون له، ولو كان التنفيل بلفظ السلب لاستحقه لأن المركب أعم منه ومن الفرس. قال في القاموس: المركب كمقعد واحد مراكب البر والبحر اه. وفي الهداية: ثم حكم التنفيل قطع حق الباقين فأما الملك فإنما يثبت بعد الاحراز بدار الاسلام لما مر من قبل حتى لو قال الأمير من أصاب جارية فهي له فأصابها مسلم فاستبرأها لم يجز له وطؤها وكذا لا يبيعها، هذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: له أن يطأها ويبيعها لأن التنفيل يثبت به الملك عنده كما يثبت بالقسمة في دار الحرب والشراء من الحربي ووجوب الضمان بالاتلاف قد قيل على هذا الاختلاف اه. والله سبحانه وتعالى أعلم. باب استيلاء الكفار شامل لشيئين: استيلاء بعضهم على بعض واستيلائهم على أموالنا فقدم الأول قوله: (سبى الترك الروم وأخذوا أموالهم ملكوها) لأن الاستيلاء قد تحقق في مال مباح وهو السبب لأن الكلام فيما إذا كان الكل في دار الحرب لأن الكافر يملك بمباشرة سبب الملك كالاحتطاب فكذا بهذا السبب. وفي القاموس: الروم بالضم جيل من ولد الروم بن عيصو رجل رومي والجمع روم. والترك - بالضم - جيل من الناس والجمع أتراك اه. فما في النهاية من أن الترك جمع التركي والروم جمع الرومي ففيه نظر لا يخفي قوله: (وملكنا ما نجده من ذلك أن غلبنا عليهم) اعتبارا بسائر أملاكهم. أطلقه فشمل ما إذا كان بيننا وبين الروم موادعة لأنا لم نغدرهم إنما أخذنا ما لا خرج عن ملكهم ولذا حل لنا أن نشتري ما غنمه إحدى الطائفتين من الأخرى لما ذكرنا. وفي الخلاصة. والاحراز بدار الحرب شرط أما بدارهم فلا، ولو كان بيننا وبين كل من الطائفتين موادعة واقتتلوا في دارنا لا نشتري من الغالبين شيئا لأنهم لم يملكوه لعدم الاحراز فيكون شراؤنا غدرا بالآخرين فإنه على ملكهم. وأما لو اقتتلت طائفتان في بلدة واحدة فهل يجوز شراء المسلم المستأمن من الغالبين نفسا أو مالا؟ ينبغي أن يقال: إن كان بين المأخوذ والآخذ قرابة محرمية كالأمية أو كان المأخوذ لا
160 يجوز بيعه للآخذ لم يجز إلا إن دانوا بذلك عند الكرخي، وإن لم يكن فإن دانوا بأن من قهر آخر ملكه جاز الشراء وإلا فلا، كذا في فتح القدير. قوله: (وإن غلبوا على أموالنا وأحرزوها بدارهم ملكوها) وقال الشافعي: لا يملكونها لأن الاستيلاء محظور ابتداء وانتهاء والمحظور لا ينتهض سببا للملك على ما عرف من قاعدة الخصم. ولنا أن الاستيلاء ورد على مال مباح فينعقد سببا للملك دفعا لحاجة المكلف كاستيلائنا على مالهم، وهذا لأن العصمة ثبتت على منافاة الدليل ضرورة تمكن المالك من الانتفاع، وإذا زالت المكنة عاد مباحا كما كان غير أن الاستيلاء لا يتحقق إلا بالاحراز بالدار لأنه عبارة عن الاقتدار على المحل حالا ومآلا، والمحظور لغيره إذا صلح سببا لكرامة تفوق الملك وهو الثواب الآجل فما ظنك بالملك العاجل؟ قيد بالاحراز لأنهم لو استولوا عليها فظهرنا عليهم قبل الاحراز فإنها تكون لملاكها بغير شئ، ولو اقتسموها في دارنا لم يملكوا. وفي المحيط: يفرض علينا اتباعهم ومقاتلتهم لاستنقاذ الأموال من أيديهم ما داموا في دار الاسلام، وإن دخلوا بها دار الحرب لا يفترض علينا اتباعهم. والأولى اتباعهم بخلاف الذراري يفترض اتباعهم مطلقا. وأفاد المصنف رحمه الله أنهم لو أسلموا فلا سبيل لأربابها عليها، كذا في شرح الطحاوي. قوله: (وإن غلبنا عليهم فمن وجد ملكه قبل القسمة أخذه مجانا وبعدها بالقيمة) لقوله عليه السلام فيه: إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شئ، وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة. ولان المالك القديم زال ملكه بغير رضاه فكان له حق الاخذ نظرا له إلا أن في الاخذ بعد القسمة ضررا بالمأخوذ منه بإزالة ملكه الخاص فيأخذه بالقيمة ليعتدل النظر من الجانبين، والشركة قبل القسمة عامة فيقل الضرر فيأخذه بغير قيمته. أطلقه فشمل ما إذا ترك أخذه بعد العلم به زمانا طويلا بعد الاخراج من دار الحرب كما سيأتي. وأشار بقوله بقيمته إلى أن الكلام في القيمي لأن النقدين والمكيل والموزون لا سبيل له عليه بعد القسمة لأنه لو أخذه أخذه بمثله وذلك لا يفيد وقبيل القسمة يأخذه مجانا، كذا في المحيط: وفي التتارخانية: عبد لمسلم سباه أهل الحرب فأعتقه سيده ثم غلب عليه المسلمون أخذه مولاه بغير شئ وذلك العتق باطل، ولو أعتقه بعد ما أخرجه المسلمون قبل القسمة جاز عتقه. عبد لمسلم
161 أسره العدو وأحرز بدارهم ثم انفلت منهم وأخذ شيئا من أموالهم وخرج هاربا إلى دار الاسلام فأخذه مسلم ثم جاء مولاه لم يأخذه منه إلا بالقيمة في قول محمد، وما في يده من المال فهو لمن أخذه ولا سبيل للمولى عليه، وأما في قياس قول أبي حنيفة فإن المولى يأخذ العبد بغير شئ لأنه لما دخل دار الاسلام صار فيأ لجماعة المسلمين يأخذه الإمام ويرفع خمسة ويقسم أربعة أخماسه بين الغانمين، ثم رجع محمد عن قوله وقال: إذا أخذه مسلم فهو غنيمة آخذه وأخمسه إذا لم يحضر المولى واجعل أربعة أخماس العبد والمال الذي معه للآخذ، فإن جاء مولاه بعد ذلك أخذه بالقيمة، وإن جاء مولاه قبل أن يخمس أخذه بغير شئ اه. وفي الملتقط: عبد أسره أهل الحرب وألحقوه بدارهم ثم أبق منهم يرد إلى سيده وفي رواية يعتق اه. قوله: (وبالثمن لو اشتراه تاجر منهم) أي لو اشترى ما أخذه العدو منهم تاجر وأخرجه إلى دار الاسلام أخذه مالكه القديم بثمنه الذي اشترى به التاجر من العدو لأنه يتضرر بالأخذ مجانا ألا ترى أنه وقع العوض بمقابلته فكان اعتدال النظر فيما قلنا، ولو اختلف المولى والمشتري منهم في قدر الثمن فالقول قول المشتري بيمينه إلا أن يقيم المالك البينة، كذا في المحيط. وفي التتارخانية: وإن أقام أحدهما بينة قبلت وإن أقاما فعلى قولهما البينة بينة المولى القديم. وقال أبو يوسف: بينة المشتري أراد بالثمن البدل فشمل ما إذا اشتراه بعرض فإنه يأخذه بقيمة العرض. ولو كان البيع فاسدا يأخذه بقيمة نفسه ويرد على المصنف ما لو اشتراه التاجر بمثله قدرا ووصفا فإنه لا يأخذه المالك القديم لعدم الفائدة، سواء كان البيع صحيحا أو فاسدا بخلاف ما إذا كان بأقل منه قدرا أو بأردأ منه وصفا فإن له أن يأخذه لأنه مفيد ولا يكون ربا لأنه يستخلص ملكه فهو في الحقيقة فداء لا عوض، فلو كان اشتراه بمثله نسيئة فليس للمالك أخذه، ولو كان اشتراه بخمر أو خنزير لم يكن للمالك أخذه باتفاق الروايات. ولو أخذ المشركون ألف درهم نقد ببيت المال لرجل وأحرزوها فاشتراها التاجر بألف درهم غلة وتفرقوا عن قبض لم يكن للمالك أن يأخذها على الروايات كلها بمثل الغلة
162 التي نقدها، كذا في التتارخانية مع أنه في الأخيرة مشكل لأنه بأردأ منه وصفا فينبغي أن يكون للمالك الاخذ. وههنا مسائل لا بأس بإيرادها تكثير ا للفوائد منها: أن العين المحرزة لو كانت في يد مستأجر أو مودع أو مستعير هل له المخاصمة والاسترداد أم لا؟ قالوا: للمستأجر أن يخاصم في المغنوم ويأخذه قبل القسمة بغير شئ، وكذا المستعير والمستودع، وإذا أخذه المستأجر عاد العبد إلى الإجارة وسقط عنه الاجر في مدة أسره، وإن كان بعد القسمة فللمستأجر أخذه بالقيمة، فإن أنكر الذي وقع في سهمه الإجارة فأقام المستأجر البينة قبلت بينته وثبتت الإجارة، وليس للمستعير والمستودع المخاصمة بعد القسمة فكانا بمنزلة الأجنبي. ومنها لو وهبها العد ولمسلم فأخرجها إلى دار الاسلام أخذها المالك بقيمتها لأنه ثبت له ملك خاص فلا يزال إلا بالقيمة. ومنها لو أسر العدو الجارية المبيعة قبل القبض ونقد الثمن ثم اشتراها رجل منهم يأخذها البائع بالثمن ولا يكون متطوعا لأنه يحيى به حقه فيرجع به على المشتري والثمن الثاني واجب على المشتري الثاني بعقده. ومنها إذا وقع العبد المأسور في سهم رجل فدبره أو أعتقه جاز ولا يبقى للمولى عليه سبيل لأن المأسور منه لا يملك نقض تصرف المالك في المأسور. ولو زوجها وولدت من الزوج له أخذها وولدها لأن التزويج لا يمنع النفل ولا يفسخ النكاح، وإن أخذ عقرها أو أرش جناية عليها ليس للمولى عليها سبيل لأن الولد من أجزائها وهي كانت ملكا له والعقر والأرش لم يكن من أجزائها وإنما وجب في ملك مستأنف للمشتري، ولأنهما من ذوات الأمثال فلا تجري فيهما المفاداة لأنها لا تفيد. ومنها أن للوصي أن يأخذ المأسور لليتيم من مشتريه بالثمن ولا يأخذه لنفسه بشرط أن يكون الثمن مثل قيمته. ومنها لو رهنه المشتري فليس لمولاه عليه سبيل حتى يفتكه ولا يجبر على الافتكاك إلا أن يتطوع بأداء الدين ثم يعطى الثمن فله ذلك بخلاف ما إذا آجره المشتري فللمولى أخذه وإبطال الإجارة لأنها تنفسح بالاعذار وهذا عذر بخلاف الرهن. ومنها لو أسروا عبدا في عنقه جناية أو دين فرجع إلى مولاه القديم فالكل في رقبته، وإن لم يرجع إليه أو رجع بملك مبتدأ فجناية العمد والدين بحاله وسقطت جناية الخطأ لأن العمد متعلق بروحه والدين بذمته، وأما الخطأ فمتعلق بماليته ابتداء فإذا خرج عن ملك المولى إلى ملك من لا يخلفه بطل الكل كما في المحيط. قوله: (وإن فقأ عينيه وأخذ أرشه) وصلية أي للمالك أن يأخذه بالثمن من التاجر وإن
163 كانت عينه فقئت وخذ التاجر أرشها يعنى لا يحط شئ من الثمن ولا يأخذ المالك الأرش. أما الأول فلان الأوصاف لا يقابلها شئ من الثمن بخلاف الشفعة لأن الصفقة لما تحولت إلى الشفيع صار المشتري في يد المشتري بمنزلة المشتري شراء فاسدا والأوصاف تضمن فيه كما في الغصب، أما هنا الملك صحيح فافترقا. وأما الثاني فلان الملك فيه صحيح فلو أخذه أخذه بمثله وهو لا يفيد، وظاهر ما في فتح القدير أن الفاقئ غير التاجر فإنه قال: ولو أنه فقأ عينه عند الغازي المقسوم له فأخذ قيمته وسلمه للفاقئ فللمالك الأول أخذه من الفاقئ بقيمته أعمى عند أبي حنيفة. وقالا: بقيمته سليما وهي التي أعطاها الفاقئ للمولى. والفرق لأبي حنيفة أن فوات الطرف هنا بفعل الذي ملكه باختياره فكان بمنزلة ما لو اشتراه سليما ثم قطع طرفه باختياره فكان راضيا بتنقيصه بخلاف مسألة الكتاب لأن الفاقئ غيره بغير رضاه اه. وصرح في المحيط بأن المشتري إذا فقأ عينها فالحكم كذلك. وعن محمد أنه تسقط حصته من الثمن، وهذا بمنزلة الشفعة إذا هدم المشتري البناء سقط عن الشفيع حصة البناء فكذا هذا اه. فعلى رواية محمد لا فرق بين مسألة الكتاب والشفعة إذ الوصف لا يقابله شئ إلا إذا صار مقصودا بالاتلاف وهو موافق لما ذكروه في البيوع لكن ظاهر الهداية الفرق بين مسألة الكتاب والشفعة وهو الحق. ولا فرق في الفاقئ بين أن يكون التاجر أو غيره ولهذا قال الشارح: الأوصاف لا يقابلها شئ من الثمن في ملك صحيح بعد القبض وإن كانت مقصودة بالاتلاف بخلاف المشفوع لأن شراءه من غير رضا الشفيع مكروه وملكه ينتقض من غير رضاه فأشبه البيع الفاسد اه. ولو أخرجه المشتري من العدو عن ملكه بعوض يأخذه المالك القديم بذلك العوض إن كان مالا، وإن كان غير مال كالصلح عن دم أو هبة أخذه بقيمته ولا ينتقض تصرفه بخلاف الشفيع لأن حقه قبل حق المشتري فينتقض تصرف المشتري لأجله، والتقييد بالعين اتفاقي لأن اليد لو قطعت فالحكم كذلك. ولو ولدت الجارية عند المشتري فأعتق المشتري أحدهما أخذ الباقي منهما بجميع الثمن لأن الفداء لا يتوزع ما بقي شئ من الأصل أو ما تولد منه، وعن محمد إن أعتق الام أخذ الولد بحصته من الثمن وليس الولد كالأرش، كذا في المحيط. وفي المغرب: فقأ العين غارها بأن شق حدقتها، والقلع أن ينزع حدقتها بعروقها، والأرش دية الجراحات والجمع أروش اه. قوله: (فإن تكرر الأسر والشراء أخذ الأول من الثاني بثمنه ثم القديم بالثمنين) يعني لو أسر العبد مرتين واشتراه في المرأة الأولى رجل وفي الثانية رجل آخر كان حق الاخذ من المشتري الثاني للمشتري الأول بما اشترى لأن الأسر ورد على ملكه وأفاد أنه ليس للمالك القديم أن يأخذه من المشتري الثاني، ولو كان المشتري الأول غائبا أو كان حاضرا إلا أنه أبى عن أخذه لأن الأسر ما ورد على ملكه، فإذا أخذه المشتري الأول من الثاني بثمنه فقد قام
164 عليه بالثمنين فكان للمالك القديم أن يأخذ بالثمنين إن شاء من المشتري الأول لأنه قام عليه بهما. وأفاد بتعبيره بالأخذ المفيد للتخليص أن المشتري الأول لو اشتراه من الثاني ليس للقديم أخذه لأن حق الاخذ ثبت للمالك القديم في ضمن عود ملك المشتري الأول ولم يعد ملكه القديم وإنما ملكه بالشراء الجديد منه. وقيد بتكرر الشراء لأن المشتري الأول لو كان وهبه له أخذه مولاه من الموهوب له بقيمته كما لو وهب الكافر لمسلم. وقيد بتكرر الأسر لأنه لو لم يتكرر ما إذا باع المشتري من العدو والعبد من غيره أخذه ا لمالك القديم من الثاني بالثمن الذي اشتراه به إن مثليا فبمثله وإن قيميا بأن كان اشتراه مقايضة فبقيمته لأن المشتري الثاني قائم مقام المشتري الأول، وليس للقديم أن ينقض العقد الثاني فيأخذه من المشتري الأول بالثمن للمولى إلا رواية ابن سماعة عن محمد وظاهر الرواية الأولى والوجه في المبسوط قوله: (ولا يملكون حرنا ومدبرنا وأم ولدنا ومكاتبنا ونملك عليهم جميع ذلك) يعني بالغلبة لأن السبب إنما يفيد الملك في محله والمحل المال المباح والحر معصوم بنفسه وكذا من سواه لأنه ثبتت الحرية فيه من وجه بخلاف رقابهم لأن الشرع أسقط عصمتهم جزاء على جنايتهم وجعلهم أرقاه ولا جناية من هؤلاء، ويتفرع على عدم ملكهم هؤلاء أنهم لو أسروا أم ولد لمسلم أو مكاتبا أو مدبرا ثم ظهر على دارهم أخذه مالكه بعد القسمة بغير شئ وعوض الإمام من وقع في قسمه من بيت المال قيمته، ولو اشترى ذلك تاجر منهم أخذه منه بغير ثمن ولا عوض قوله: (وإن نداليهم جمل فأخذوه ملكوه) لتحقق الاستيلاء إذ لا يد للعجماء لتظهر عند الخروج من دارنا والتقييد بالجمل اتفاقي، وإنما المقصود الدابة كما عبر بها في المحيط. وفي المغرب: ند البعير نفر ندودا من باب ضرب قوله: (وإن أبق إليهم قن لا) أي لا يملكونه بالأخذ عند أبي حنيفة. وقالا: يملكونه لأنه العصمة لحق المالك لقيام يده وقد زالت ولهذا لو أخذوه من دار الاسلام ملكوه. وله أنه ظهرت يده على نفسه بالخروج من دارنا لأن سقوط اعتباره لتحقق يد المولى عليه تمكينا له من الانتفاع وقد زالت يد المولى فظهرت يده على نفسه وصار معصوما بنفسه فلم يبق محلا للملك بخلاف المتردد في دار الاسلام لأن يد المولى باقية لقيام يد أهل الدار فمنع ظهور يده، وإذا لم يثبت الملك لهم عنده يأخذه المالك القديم بغير شئ موهوبا كان أو مشترى أو مغنوما قبل القسمة، وبعد القسمة يؤدي عوضه من بيت المال لأنه لا يمكن إعادة القسمة لتفرق الغانمين وتعذر اجتماعهم، وليس له على المالك جعل الآبق لأنه عامل لنفسه إذ في زعمه أنه ملكه. وأطلق في المالك للقن فشمل المسلم والذمي، وأطلق القن وهو مقيد بكونه مسلما لأنه لو ارتد فأبق إليهم فأخذوه ملكوه اتفاقا ولو كان كافرا من الأصل فهو ذمي تبع لمولاه، وفي العبد الذمي إذا أبق قولان، ذكره مجد الأئمة كذا في
165 فتح القدير. وفي شرح الوقاية: الخلاف فيما إذا أخذوه قهرا وقيدوه، وأما إذا لم يكن قهرا فلا يملكونه اتفاقا اه. قوله: (ولو أبق بفرس أو متاع فاشترى رجل كله منهم أخذ العبد مجانا وغيره بالثمن) يعني عند الإمام رضي الله عنه. وقالا: يأخذ العبد وما معه بالثمن اعتبارا لحالة الاجتماع بحالة الانفراد وقد بينا الحكم في كل فرد، ولا تكون يده على نفسه مانعة من استيلاء الكفار على ما معه لقيام الرق المانع للملك بالاستيلاء كغيره. وفي القاموس: المتاع المنفعة والسلعة والأداة وما تمتعت به من الحوائج اه. والمراد الثاني هنا قوله: (وإن ابتاع مستأمن عبدا مؤمنا وأدخله دارهم أو أمن عبد ثمة فجاءنا أو ظهرنا عليهم عتق) بيان لمسألتين: الأولى: أن الحربي إذا دخل دارنا بأمان واشترى عبدا مسلما وأدخله دار الحرب عتق عند أبي حنيفة. وقالا: لا يعتق لأن الإزالة كانت مستحقة بطريق معين وهو البيع وقد انقطعت ولاية الجبر عليه فبقي في يده عبدا. ولأبي حنيفة رحمه الله أن تخليص المسلم عن ذل الكافر واجب فيقام الشرط وهو تباين الدارين مقام العلة وهو الاعتاق تخليصا له كما يقام مضي ثلاث حيض مقام التفريق فيما إذا أسلمت المرأة في دار الحرب. قيد بكون الحربي ملكه في دار الاسلام لأن العبد المسلم إذا أسره الحربي من دار الاسلام وأدخله داره لا يعتق عليه اتفاقا، وأما عندهما فظاهر، وأما عنده فللمانع من عمل المقتضي عمله وهو حق استرداد المسلم، وعلى الخلاف السابق لو أسلم عبد الحربي ولم يهرب إلى دار الاسلام حتى اشتراه مسلم أو ذمي أو حربي في دار الحرب يعتق عنده خلافا لهما لأن العتق في دار الحرب يعتمد زوال القهر الخاص وقد عدم إذ زال قهره إلى المشتري فصار كما لو كان في يده، وله أن قهره زال حقيقة بالبيع وكان إسلامه يوجب إزالة قهره عنه إلا أنه تعذر الخطاب بالإزالة فأقيم ما له أثر في زوال الملك مقام الإزالة وهو البيع. والتقييد بأيمان العبد اتفاقي إذ لو كان ذميا فالحكم كذلك لأنه يجبر على بيعه ولا يمكن من إدخاله دار الحرب كما في النهاية. الثانية: لو أسلم عبد لحربي ثم خرج إلينا أو ظهر على الدار فهو حر، وكذا إذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرار لما روي أن عبيدا من عبيد الطائف أسلموا وخرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى بعتقهم وقال: هم عتقاء الله تعالى. وقيد بخروجه أو ظهورنا لأنه إذا أسلم ولم يوجدا فهو رقيق إلى أن يشتريه مسلم أو ذمي فيعتق. وفي شرح الطحاوي: إذا لم يوجدا لم يعتق إلا إذا عرضه المولى على البيع من مسلم أو كافر فحينئذ يعتق العبد، قبل المشتري البيع أو لم يقبل، لأنه لما عرضه فقد رضي بزوال ملكه. والتقييد بإيمانه في دار الحرب اتفاقي إذ لو خرج مراغما لمولاه فأمن في دار الاسلام فالحكم كذلك بخلاف ما إذا خرج بإذن مولاه أو بأمره لحاجته فأسلم في
166 دارنا فإن حكمه أن يبيعه الإمام ويحفظ ثمنه لمولاه الحربي لأنه لما دخل بأمان صارت رقبته داخلة فيه كما لو دخل سيده به وبما معه من المال. وفي شرح الطحاوي: ولا يثبت ولاء العبد الخارج إلينا مسلما لاحد لأن هذا عتق حكمي والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. باب المستأمن أخره عن الاستيلاء لأن الاستيلاء يكون بالقهر والاستئمان بكون بعد القهر قوله: (دخل تاجرنا ثم حرم تعرضه لشئ منهم) أي دخل المسلم دار الحرب بأمان، وعبر عنه بالتاجر لأنه لا يدخل دارهم إلا بأمان حفظا لما له. وإنما حرم عليه لأنه ضمن بالاستئمان أن لا يتعرض لهم فالتعرض بعد ذلك يكون غدرا والغدر حرام إلا إذا غدر به ملكهم فأخذ ماله أو حبسه أو فعل غيره بعلم الملك ولم يمنعه لأنهم هم الذين نقضوا العهد. قيد بالتاجر لأن الأسير يباح له التعرض وإن أطلقوه طوعا لأنه غير مستأمن فهو كالمتلصص فيجوز له أخذ المال وقتل النفس دون استباحة الفرج لأنه لا يحل إلا بالملك ولا ملك قبل الاحراز بدارنا إلا إذا وجد من لم يملكه أهل الحرب من امرأته وأم ولده ومدبرته فيباح له وطؤهن إلا إذا وطئهن أهل الحرب فتجب العدة للشبهة فلا يجوز وطؤهن حتى تنقضي عدتهن بخلاف أمته المأسورة لا يحل وطؤها مطلقا لأنها مملوكة لهم. وأطلق الشئ فشمل النفوس والأموال حتى أمة التاجر المأسورة لأنها من أملاكهم، ولا يدخل تحته زوجته وأم ولده ومدبرته لأنهن غير مملوكات لهم فيجوز للتاجر التعرض لهن، وكذا لو أغار أهل الحرب الذين فيهم مسلمون مستأمنون على طائفة من المسلمين فأسروا ذراريهم فمروا بهم على أولئك المستأمنين وجب عليهم أن ينقضوا عهودهم ويقاتلوهم إذا كانوا يقدرون عليه لأنهم لا يملكون رقابهم فتقريرهم في أيديهم تقرير على الظلم، ولم يضمنوا ذلك لهم بخلاف الأموال لأنهم ملكوها بالاحراز وقد ضمنوا لهم أن لا يتعرضوا لأموالهم، وكذا لو كان المأخوذ ذراري الخوارج لأنهم مسلمون. ومن الفروع النفيسة ما في المبسوط: لو أغار قوم من أهل الحرب على أهل الدار التي فيهم المسلم المستأمن لا يحل له قتال هؤلاء الكافر إلا إن خاف على نفسه لأن
167 القتال لما كان تعريضا لنفسه على الهلاك لا يحل إلا لذلك أو لا علاء كلمة الله وهو إذا لم يخف على نفسه ليس قتال هؤلاء إلا إعلاء كلمة الكفر اه. وفي المحيط: مسلم دخل دار الحرب بأمان فجاء رجل من أهل الحرب بأمه أو بأم ولده أو بعمته أو بخالته قد قهرها ببيعها من المسلم المستأمن لا يشتريها منه لأن الحربي إن ملكها بالقهر فقد صارت حرة فإذا باعها فقد باع الحرة، ولو قهر حربي بعض أحرارهم ثم جاء بهم إلى المسلم المستأمن فباعهم منه ينظر، إن كان الحكم عندهم أن من قهر منهم صاحبه فقد صار ملكه جاز الشراء لأنه باع المملوك، وإن لم يملكه لا يجوز لأنه باع الحر. قوله: (فلو أخرج شئ ملكه ملكا محظورا فيتصدق به) لورود الاستيلاء على مال مباح إلا أنه صل بسبب الغدر فأوجب ذلك خبثا فيه فيؤمر بالتصدق به، وهذا لأن الحظر فيه لا يمنع انعقاد السبب على ما بيناه. أفاد بالحظر مع وجوب التصدق أنه لو كان المأخوذ غدرا جارية لا يحل له وطؤها ولا للمشتري منه بخلاف المشتراة شراء فاسدا فإن حرمة وطئها على المشتري خاصة وتحل للمشتري منه لأن المنع منه لثبوت حق البائع في حق الاسترداد وببيع المشتري انقطع حقه ذلك لأنه باع بيعا صحيحا فلم يثبت له حق الاسترداد وهناك الكراهة للغدر، والمشتري الثاني كالأول فيه. وفي الولوالجية: مسلم تزوج امرأة في دار الحرب وكانت كافرة فأعطى للأب صداقها فأضمر في قلبه أنه يبيعها فخرج بها إلى دار الاسلام فأراد بيعها فالبيع باطل وهي حرة يريد به إذا خرجت معه طوعا لأن أهل الحرب إنما يملكون بالقهر في دار الحرب فإذا لم يقهر في دار الحرب وخرجت معه إلى دار الإسلام بغير قهر لا تصير ملكا له اه. وفي فتح القدير: واعلم أنهم أخذوا في تصويرها ما إذا أضمر في نفسه أنه يخرجها ليبيعها ولا بد منه لأنه لو أخرجها كرها لا لهذا الغرض بل لاعتقاده أن له أن يذهب بزوجته حيث شاء إذا أوفاها معجل مهرها ينبغي أن لا يملكها اه. وقيد بالاخراج لأنها إذا غصب شئ في دار الحرب وجب عليه التوبة وهي لا تحصل إلا بالرد عليهم فأشبه المشتري شراء فاسدا، كذا في المحيط قوله: (فإن أدانه حربي أو أدان حربيا أو غصب أحدهما صاحبه وخرج إلينا لم يقض بشئ) أما الإدانة فلان القضاء يعتمد الولاية ولا ولاية وقت الإدانة أصلا ولا وقت القضاء على المستأمن لأنه ما التزم حكم الاسلام فيما مضى من أفعاله وإنما التزم ذلك في المستقبل، وأما
168 الغصب فلانه صار ملكا للذي غصبه واستولى عليه لمصادفته مالا غير معصوم على ما بينا. قيد بالقضاء لأن المسلم يفتى برد المغصوب وإن كان لا يحكم عليه به لأنه غدر، كذا ذكره الشارح وسكت عن الافتاء بقضاء الدين. وفي فتح القدير: يفتى بأنه يجب عليه قضاء الدين فما بينه وبين الله تعالى. وذكر الشارحون أن الإدانة البيع بالدين والاستدانة الابتياع بالدين والظاهر عدم تخصيصه بالبيع وأنه لا يشمل القرض لما في القاموس: أدان واستدان وتدين أخذ دينا والدين ماله أجل ومالا أجل له فقرض وأدان اشترى بالدين أو باع بالدين ضد اه. مع أنه في الحكم هنا لا فرق بينهما لأن أحدهما لو أقرض الآخر في دار الحرب شئ ثم خرجا لم يقض بشئ قوله: (وكذلك لو كانا حربيين وفعلا ذلك ثم استأمنا) أي الإدانة والغصب ثم دخلا دارنا بأمان لم يقض بشئ لما بيناه. وفي المحيط: خرج حربي مع مسلم إلى العسكر وادعى المسلم أنه أسير وقال كنت مستأمنا فالقول للحربي إلا إذا قامت قرينة ككونه مكتوفا أو مغلولا أو كان مع عدد من المسلمين. قوله: (وإن خرجا مسلمين قضى بالدين بينهما لا بالغصب) أي أسلم الحربيان في دار الحرب ثم خرجا مسلمين بعد الإدانة أو الغصب لأن المداينة وقعت صحيحة لوقوعها بالتراضي والولاية ثابتة حالة القضاء لالتزامهما الأحكام بالاسلام، وأما الغصب فلما بيناه أنه ملكه ولا خبث في ملك الحربي حتى يؤمر بالرد، وقد قدمنا أن المسلم إذا دخل دارهم بأمان فأدانه حربي أو غصب منهم شيئا يفتى بالرد وإن لم يقض عليه قوله: (مسلمان مستأمنان قتل أحدهما صاحبه تجب الدية في ماله والكفارة في الخطأ) أي تجب الدية في مال القاتل لا على العاقلة، سواء كان القتل عمدا أو خطأ، أما الكفارة فلاطلاق الكتاب به والدية لأن العصمة الثابتة بالاحراز بدار الاسلام لا تبطل بعارض الدخول بالأمان. وإنما لا يجب القصاص لأنه لا يمكنه استيفاؤه إلا بمنعة ولا منعة بدون الإمام وجماعة المسلمين ولم يوجد ذلك في دار الحرب، وإنما تجب الدية في ماله في العمد لأن العواقل لا تعقل العمد وفي الخطأ لأنه لا قدرة لهم على الصيانة مع تباين الدارين والوجوب عليهم على اعتبار تركها قوله: (ولا شئ في الأسيرين سوى الكفارة في الخطأ كقتل مسلم مسلما أسلم ثمة) وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: في الأسيرين الدية في الخطأ والعمد لأن العصمة لا تبطل بعارض الأسر كما لا تبطل بعارض الاستئمان وامتناع القصاص لعدم المنعة وتجب الدية في ماله لما قلنا. ولأبي حنيفة أن
169 بالأسر صار تبعا لهم لصيرورته مقهورا في أيديهم ولهذا يصير مقيما بإقامتهم ومسافرا بسفرهم فبطل الاحراز أصلا وصار كالمسلم الذي لم يهاجر إلينا وهو المشبه به في المختصر وخص الخطأ بالكفارة لأنه لا كفارة في العمد عندنا والله أعلم. فصل تأخير استئمان الكافر عن المسلم ظاهر قوله: (لا يمكن مستأمن أن يقيم فينا سنة وقيل له إن أقمت سنة وضع عليك الجزية) لأن الحربي لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا باسترقاق أو جزية لأنه يصير عينا لهم وعونا علينا فتلتحق المضرة بالمسلمين، ويمكن من الإقامة اليسيرة لأن في منعها قطع الميرة والجلب وسد باب التجارة ففصلنا بينهما بسنة لأنها مدة تجب فيها الجزية فتكون الإقامة لمصلحة الجزية. قيد بالمستأمن لأنه لو دخل دارنا بلا أمان فهو وما معه فئ، فإن قال دخلت بأمان لم يصدق وأخذ، ولو قال أنا رسول، فإن وجد معه كتاب يعرف أنه كتاب ملكهم بعلامة تعرف ذلك كان آمنا فإن الرسول لا يحتاج إلى أمان خاص بل بكونه رسولا يأمن وإن لم يعرف فهو زور فيكون هو وما معه فيئا. وإن دخل دار الاسلام بلا أمان فأخذه واحد من المسلمين لا يختص به عند أبي حنيفة بل يكون فيئا لجماعة المسلمين، وظاهر قولهما أنه يختص به. ولو دخل الحرم قبل أن يؤخذ فعند أبي حنيفة يؤخذ ويكون فيئا للمسلمين، وعلى قولهما لا ولكن لا يطعم ولا يسقى ولا يؤذى ولا يخرج، كذا في فتح القدير. وفي المحيط: إذا دخل دارنا بلا أمان فهو فئ عند الإمام أخذ قبل الاسلام أو بعده، وعندهما إن أسلم قبل الاخذ فهو حر ولو رجع هذا الحربي إلى دار الحرب خرج من أن يكون فيئا وعاد حرا. ولو قال رجل من المسلمين أنا أمنته لم يصدق إلا أن يشهد رجلان غيره أنه أمنه قوله: (فإن مكث سنة فهو ذمي) إن مكث المدة المضروبة فهو ذمي لأنه لما أقامها بعد تقدم الإمام إليه صار ملتزما للجزية فيصير ذميا فمراده من السنة ما وقته الإمام له، سواء كانت سنة أو أقل كالشهر والشهرين. وظاهر ما في الكتاب أن قول الإمام له ما ذكر شرط
170 لكونه ذميا فلو مكث سنة قبل مقال الإمام له لا يكون ذميا وبه صرح العتابي فقال: لو أقام سنين من غير أن يتقدم الإمام إليه فله الرجوع. قيل: ولفظ المبسوط يدل على خلافه والأوجه الأول كما في فتح القدير. ودل كلامه على أنه لا جزية عليه في حول المكث لأنه إنما صار ذميا بعده فتجب في الحول الثاني إلا أن يكون شرط عليه أنه إن مكث سنة أخذها منه، وقد ذكروا أن من أحكام الذمي جريان القصاص بينه وبين المسلم، وضمان المسلم قيمة خمره وخنزيره إذا أتلفه، ووجوب الدية عليه إذا قتله خطأ، ووجوب كف الأذى عنه حتى قال في فتح القدير: تحرم غيبته كما تحرم غيبة المسلم. وفي فتح القدير: وإذا رجع إلى دار الحرب لا يمكن أن يرجع معه بسلاح اشتراه من دار الاسلام بل بالذي دخل به، فإن باع سيفه واشترى به قوسا ونشابا أو رمحا لا يمكن منه، وكذا لو اشترى سيفا أحسن منه، فإن كان مثل الأول أو دونه يمكن. ولو مات المستأمن في دارنا وقف ماله لورثته فإذا قدموا وبرهنوا أخذوه، ولو كان الشهود أهل ذمة أخذ منهم كفيلا ولا يقبل كتاب ملكهم. قوله: (فلم يترك أن يرجع إليهم) أي لا يمكن المستأمن بعد الحول من الرجوع إلى أهل الحرب لأن عقد الذمة لا ينقض لكونه خلفا عن الاسلام كيف وإن فيه قطع الجزية وجعل ولده حربا علينا وفيه مضرة بالمسلمين، وظاهره أنه لا يمكن من العود إلى دار الحرب للتجارة أو لقضاء حاجة ولو بعدت المدة وهو يقتضي منع الذمي من دخول دار الحرب قوله: (كما لو وضع عليه الخراج) أي فلا يمكن من العود إلى دار الحرب لأن خراج الأرض بمنزلة خراج الرأس فإذا التزمه صار ملتزما المقام في دارنا. قيد بوضعه لأن بمجرد الشراء لا يصير ذميا لأنه قد يشتريها للتجارة وصححه الشارح وهو ظاهر الرواية كما في السراج الوهاج، وفسر في البناية وضعه بالتوظيف عليه. وفي فتح القدير: والمراد بوضعه إلزامه به وأخذه منه عند حلول وقته وهو بمباشرة السبب وهو زراعتها أو تعطيلها مع التمكن منها إذا كانت في ملكه أو زراعتها بالإجارة وهي في ملك غيره إذا كان خراج مقاسمة فإنه يؤخذ منه لا من المالك فيصير به ذميا بخلاف ما إذا كان على المالك ولا يظن بوضع الإمام وتوظيفه أن يقول وظفت على هذه الأرض الخراج ونحوه لأن الإمام قط لا يقوله بل الخراج من حين استقر وظيفة للأرض استمر على كل من صارت إليه واستمرت في يده اه. وأطلق في وضع الخراج فشمل جميع أسباب التزامه، فلو استعارها المستأمن من ذمي صار المستعير ذميا. وفي التتارخانية: إذا اشترى المستأمن أرض خراج فغصبت منه فإن زرعها الغاصب لا يصير
171 المستأمن ذميا وإلا فهو ذمي لوجوبه عليه، والصحيح أنه يصير ذميا في الوجهين. وفي السراج: لو زرع الحربي أرضه الخراجية فأصاب الزرع آفة لا يصير ذميا لعدم وجوب الخراج . وفي الهداية: وإذا لزمه خراج الأرض فبعد ذلك تلزمه الجزية لسنة مستقبلة لأنه يصير ذميا بلزوم الخراج فتعتبر المدة من وقت وجوبه قوله: (أو نكحت ذميا) يعني فلا تمكن من الرجوع إليهم لأنها التزمت المقام تبعا للزوج فتكون ذمية فيوضع الخراج على أرضها، وتقييد الزوج بالذمي ليفيد أنها تصير ذمية إذا نكحت مسلما بالأولى كما في فتح القدير، لأن الكلام فيما إذا كانت كتابية كما في التتارخانية. وأفاد بإضافة النكاح إليها أنه بمعنى العقد فتصير ذمية بمجرده من غير توقف على الدخول كما أشار إليه الشارح. وظاهر كلام المصنف أن النكاح حادث بعدد دخولها دارنا وهو ليس بشرط. فلو قال أو صار لها زوج مسلم أو ذمي لكان أولى ليشمل ما إذا دخل المستأمن بامرأته دارنا ثم صار الزوج ذميا فليس لها الرجوع، وكذا لو أسلم وهي كتابية بخلاف ما إذا أسلم وهي مجوسية، وليشمل ما إذا تزوج مستأمن مستأمنة في دارنا ثم صار الرجل ذميا. ولو أسلم وهي كتابية ثم أنكرت أصل النكاح فأقام الزوج بينة من المسلمين أو من أهل الذمة على أصل النكاح أو إقرارها به في دار الحرب لم يلتفت القاضي إلى هذه البينة، وإن برهن على اقرارها به في درانا قبلت ومنعت من اللحاق كما لو أقرت بين يدي القاضي، كذا ذكره السرخسي. وذكر الهندواني أنها تقبل مطلقا، كذا في التتارخانية. قوله: (لا عكسه) أي لا يصير المستأمن ذميا إذا نكح ذمية لأنه يمكنه أن يطلقها فيرجع إلى بلده فلم يكن ملتزما المقام، وكذا لو دخلا إلينا بأمان فأسلمت فله أن يرجع إلى دار الحرب. وفي التتارخانية: لو طالبته بصداقها فإن كان تزوجها في دار الاسلام فلها أن تمنعه
172 الرجوع حتى يوفيها مهرها، وإن كان تزوجها في دار الحرب فليس لها ذلك اه. ويعلم منه حكم الدين الحادث في دارنا بالأولى، وظاهره أنها إذا منعته للمهر فلم يقدر على وفائه حتى مضى حول كان ذميا. وفي التتارخانية: لو أن جندا من أهل الشرك أو قوما من أهل الحصن استأمنوا وهم في معمعة القتال فأمنوهم وصاروا في أيدي المسلمين فأرادوا أن ينصرفوا إلى مأمنهم في دار الحرب لم يتركوا وصاروا ذمة اه. وقد تقدم في الهداية في آخر كتاب الطلاق أنه جعل الحربي بالتزوج في دار الاسلام ذميا فهو مناقض لما ذكره هنا وقدمنا جوابه قوله: (فإن رجع إليهم وله وديعة عند مسلم أو ذمي أو دين حل دمه) أي فإن رجع المستأمن إلى دار الحرب فقد جاز قتله لأنه أبطل أمانه بالعود إليها، وظاهره أنه لا فرق بين كونه قبل الحكم بكونه ذميا أو بعده لأن الذمي إذا لحق بدار الحرب صار حربيا كما سيأتي، وجواز قتله بعوده ليس موقوفا على كونه له دين أو وديعة فلو أسقطه لكان أولى قوله: (فإن أسر أو ظهر عليهم سقط دينه وصارت وديعته في أوان قتل ولم يظهر أو مات فقرضه ووديعته لورثته) بيان لحكم أمواله المتروكة في دار الاسلام إذا رجع إلى دار الحرب فإن أمانه بطل في حق نفسه فقط، وأما في حق أمواله التي في دارنا فباق ولهذا يرد عليه ماله وعلى ورثته من بعده. وفي السراج: لو بعث من يأخذ الوديعة والقرض وجب التسليم إليه. وحاصل المسألة خمسة أوجه، ففي ثلاثة يسقط دينه وتصير وديعته غنيمة: الأول أن يظهروا على الدار ويأخذوه. الثاني أن يظهروا ويقتلوه. الثالث أن يأخذوه مسببا من غير ظهور. فقوله فإن أسر بيان للثالث. وقوله أو ظهر عليهم بيان للأولين لأنه أعم من أن يقتلوه أولا لكن شامل لما إذا ظهر عليهم وهرب فإن ماله يبقى له كما سيأتي فلا بد من التقييد في الظهور عليهم بأن يأخذوه أو يقتلوه. وإنما صارت وديعته غنيمة لأنها في يده تقديرا لأن يد المودع كيده فيصير فيئا تبعا لنفسه. وإنما سقط الدين لأن إثبات اليد عليه بواسطة المطالبة وقد سقطت ويد من عليه أسبق إليه من يد العامة فتختص به فيسقط، وينبغي أن تكون العين المغصوبة منه كدينه لعدم المطالبة وليست يد الغاصب كيده. ولم يذكر المصنف حكم الرهن
173 قالوا: والرهن للمرتهن بدينه عند أبي يوسف، وعند محمد يباع ويستوفى دينه والزيادة فئ للمسلمين وينبغي ترجيحه لأن ما زاد على قدر الدين في حكم الوديعة وهي فئ، فلو قال المصنف وصار ما له فيئا لكان أولى لأنه لا يخص الوديعة لأن ما عند شريكه ومضاربه وما في بيته في دارنا كذلك، وفي وجهين يبقى ماله على حاله فيأخذه إن كان حيا أو ورثته إن مات. الأول أن يظهروا على الدار فيهرب. الثاني أن يقتلوه ولم يظهروا على الدار أو يموت لأن نفسه لم تصر مغنومة فكذلك ماله. ولو عبر بالدين بدل القرض لكان أولى ليشمل سائر الديون. ثم اعلم أن ماله وإن كان غنيمة لا خمس فيه وإنما يصرف كما يصرف الخراج والجزية لأنه مأخوذ بقوة المسلمين من غير قتال بخلاف الغنيمة لأنه مملوك بمباشرة الغانمين وبقوة المسلمين. وفي التتارخانية: وديعته فئ لجماعة المسلمين عند أبي يوسف. وقال محمد: تكون فيئا للسرية التي أسرت الرجل ويعتق مدبره الذي دبره في دارنا وأم ولده بأسره. وفي المغرب: ظهر عليه غلب وظهر على اللص غلب اه. فينبغي ضبط المختصر بالبناء للمجهول كما لا يخفى، ولم أر حكم ما إذا كان على المستأمن دين لمسلم أو ذمي أدانه له في دارنا ثم رجع، ولا يخفى أنه باق لبقاء المطالبة وينبغي أن يوفى من ماله المتروك ولو صارت وديعته فيئا اه. قوله: (وإن جاءنا حربي بأمان وله زوجة ثم وولد ومال عند مسلم أو ذمي أو حربي فأسلم هنا ثم ظهر عليهم فالكل فئ) بيان لحكم ما تركه المستأمن في دار الحرب ثم صار من أهل دارنا إما بإسلامه أو بصيرورته ذميا فتقييده بإسلامه في المختصر ليفهم منه حكم الآخر بالأولى. أما المرأة وأولاده الكبار فلأنهم حربيون كبار وليسوا بأتباع، وكذلك ما في بطنها لو كانت حاملا لما قلنا إنه جزؤها، وأما أولاده الصغار فلان الصغير إنما يتبع أباه في الاسلام عند اتحاد الدار ومع تباين الدارين لا يتحقق ولذا أطلق في الولد ليشمل الكبير والصغير والجنين. ولو سبى الصبي في هذه المسألة وصار في دار الاسلام فهو مسلم تبعا لأبيه لأنهما اجتمعا في دار واحدة بخلاف ما قبل إخراجه وهو فئ على كل حال. وأما أمواله فإنها لا تصير محرزة بإحراز نفسه لاختلاف الدارين فبقي الكل غنيمة وعمم المودع لعدم الفرق. فإن قلت: قوله عليه السلام عصموا مني دماءهم وأموالهم يخالفه. قلت: هذا باعتبار الغلبة يعني المال الذي في يده وما هو في معناه بالعرف لأن من دأب الشرع بناء الحكم على الغلبة،
174 كذا في البناية قوله: (وإن أسلم ثمة فجاءنا فظهر عليهم فولده الصغير حر مسلم وما أودعه عند مسلم أو ذمي فهو له وغيره فئ) بيان لحكم متروك الحربي إذا أسلم في دار الحرب وجاء إلينا مسلما وترك أمواله وأولاده ثم ظهرنا على أهل الحرب. أما الولد الصغير فهو تبع لأبيه حين أسلم إذا الدار واحدة فكان حرا مسلما، وما كان من وديعة له عند مسلم أو ذمي فهو له لأنه في يد محترمة ويده كيده وما سوى ذلك فئ، فأما المرأة وأولاده الكبار فلما قلنا، وأما المال الذي في يد الحربي فلانه لم يصر معصوما لأن يد الحربي ليست يدا محترمة، وشمل غيره العين المغصوبة في يد المسلم أو الذمي فيكون فيئا لعدم النيابة، كذا في فتح القدير قوله: (ومن قتل مؤمنا خطأ لا ولي له أو حربيا جاءنا بأمان فأسلم فديته على عاقلته للإمام) لأنه قتل نفسا معصومة خطأ فيعتبر بسائر النفوس المعصومة. ومعنى قوله للإمام أن حق الاخذ له لأنه لا وارث له لا أنه يملكه الإمام بل يوضع في بيت المال وهو المقصود من ذكره ههنا وإلا فحكم القتل الخطأ معلوم ولذا لم ينص على الكفارة لما سيأتي في الجنايات فإنه لا ولي له، ولو اقتصر على المسألة الأولى لشملت الثانية لأن الحربي إذا أسلم في دارنا ولم يكن معه وارث فإنه لا ولي له وإن كان له أولاد في دار الحرب قوله: (وفي العمد القتل أو الدية لا العفو) أي لو قتل من لا ولي له عمدا خير الإمام إن شاء قتله وإن شاء أخذ الدية لبيت المال لأنه النفس معصومة والقتل عمد والولي معلوم وهو السلطان لأنه ولى من لا ولى له كما في الحديث، وأخذه الدية بطريق الصلح برضا القاتل لأن موجب العمد هو القود عينا وهذا لأن الدية وإن كانت أنفع للمسلمين من قتله لكن قد يعود عليهم من قتله منفعة أخرى هو أن ينزجر أمثاله عن قتل المسلمين، وليس للإمام العفو لأن الحق للعامة وولايته نظرية وليس من النظر إسقاط حقهم من غير عوض. وشمل كلامه اللقيط فإن قتل خطأ فالدية للإمام قتله الملتقط أو غيره، وإن قتل عمدا خير كما في الكتاب وهو قولهما. وقال أبو يوسف: ليس له القصاص لأنه لا يخلو عن الوارث غالبا أو هو محتمل فكان فيه شبهة وهو يسقط بها. ولهما أن المجهول الذي لا يمكن الوصول إليه ليس بولي لأن الميت لا ينتفع به فصار كالعدم فتنتقل
175 الولاية إلى السلطان كما في الإرث، كذا ذكره الشارح وهو يفيد أن من لا وارث له معلوم فإرثه لبيت المال وإن احتمل أن يكون له وارث، وكذا من لا وارث له ظاهرا إذا أوصى بجميع ماله لأجنبي فإنه يعطى كل ماله وإن احتمل مجئ وارث لكن بعد التأني كما لا يخفي والله أعلم. باب العشر والخراج والجزية بيان لما يؤخذ من الذمي بعد بيان ما يصير به ذميا، وذكر العشر تتميم للوظائف المالية، وقدمه لما فيه من معنى العبادة. والعشر بضم العين واحد العشرة، والخراج اسم لما يخرج من غلة الأرض أو الغلام ثم سمي ما يأخذه السلطان خراجا يقال فلان أدى خراج أرضه قوله: (أرض العرب وما أسلم أهله أو فتح عنوة وقسم بين الغانمين عشرية) أما أرض العرب فلان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين لم يأخذوا الخراج من أرض العرب. وتعقبه في البناية بأنه ليس له أصل في كتب الحديث ولم يجب عنه، وجوابه أن العدم لا يحتاج إلى أصل لأنه لو أخذ منهم الخراج لنقل، ولما لم ينقل دل على عدمه، ولأنه بمنزلة الفئ فلا يثبت في أراضيهم كما لا يثبت في رقابهم. وهذا لأن وضع الخراج من شرطه أن يقر أهلها على الكفر كما في سواد العراق، ومشركو العرب لا يقبل منهم إلا الاسلام أو السيف. وذكر في المغرب معزيا إلى كتاب العشر والخراج أبو يوسف في الأمالي حدود أرض العرب ما وراء حدود أرض الكوفة إلى أقصى صخر باليمن. وعن محمد من عدن أبين إلى الشام وما والاها. وفي شرح القدوري قال الكرخي: هي أرض الحجاز وتهامة واليمن ومكة والطائف والبرية يعني البادية. قال وقال محمد: أرض العرب من العذيب إلى مكة وعدن أبين إلى أقصى حجر باليمن بمهرة. وهذه العبارات مما لم أجده في كتب اللغة وقد ظهر أن من روى إلى أقصى حجر بالسكون وفسره بالجانب فقد حرف لوقوع صخر موقعه وكأنهما ذكرا ذلك تأكيدا للتحديد وإلا فهو عنه مندوحة اه. ما في المغرب. وجزيرة العرب بمعنى أرضها ومحلتها. وفي البناية: العذيب - بضم العين المهملة وفتح الذال المعجمة وبالباء الموحدة - ماء لتميم. والحجر - بفتحتين - بمعنى الصخرة. ومهرة - بفتح الهاء والسكون - اسم رجل وقيل
176 اسم قبيلة ينسب إليها الإبل المهرية، وسمي ذلك المقام به فيكون بمهرة بدلا من قوله باليمن اه. وأما إذا أسلم أهلها أو فتحت قهرا وقسمت بين الغانمين فلان الحاجة إلى ابتداء التوظيف على المسلم والعشر أليق به لما فيه من معنى العبادة، وكذا هو أحق حيث يتعلق بنفس الخارج والعنوة بالفتح القهر، كذا في المغرب. قوله: (والسواد وما فتح عنوة وأقر أهله عليه أو فتح صلحا خراجية) أما السواد فالمراد به سواد العراق فلان عمر رضي الله عنه وضع عليه الخراج بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم وهو أشهر من أن ينقل فيه أثر معين. وفي البناية: المراد بالسواد القرى وبه صرح التمرتاشي. وسمي السواد لخضرة أشجاره وزروعه. وقال الاترازي: المراد من السواد المذكور سواد الكوفة وهو سواد العراق وحده من العذيب إلى عقبة حلوان عرضا ومن العلث إلى عبادان طولا، وأما سواد البصرة فالأهواز وفارس اه. وتقدم ضبط العذيب. وحلوان - بضم الحاء - اسم بلد. والعلث - بفتح العين المهملة وسكون اللام وبالثاء المثلثة - قرية موقوفة على العلوية على شرقي دجلة وهو أول العراق. وعبادان - بتشديد الباء الموحدة - حصن صغير على شط البحر وفي المثل ما وراء عبادان قرية. وفي شرح الوجيز: طول سواد العراق مائة وستون فرسخا، وعرضه ثمانون فرسخا، ومساحته ستة وثلاثون ألف ألف جريب، كذا في البناية. وأما ما أقر أهلها عليها سواء فتحت قهرا أو صلحا فلان الحاجة إلى ابتداء التوظيف على الكافر والخراج أليق به، ويلحق بما أقر أهله عليها ما نقل إليها غير أهلها من الكفار فإنها خراجية كما ذكره الأسبيجابي. وأطلق المصنف فيما أقر أهله عليه تبعا للقدوري، وقيده في الجامع الصغير على ما في الهداية بأن يصل إليها ماء الأنهار لتكون خراجية، وما لم يصل إليها ماء الأنهار واستخرج منها عين فهي أرض عشر لأن العشر يتعلق بالأراضي النامية ونماؤها بمائها فيعتبر السقي بماء العشر أو بماء الشعر أو بماء الخراج اه. وهو مشكل لأننا نقطع بأن الأرض التي أقر أهلها عليها لو كانت تسقى بعين أو بماء السماء لم تكن الاخراجية لأن أهلها كفار والكفار لو انتقلت إليهم أرض عشرية، ومعلوم أن العشرية قد تسقى بعين أو بماء السماء لا تبقى على العشرية بل تصير خراجية في قول أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد، فكيف يبتدأ الكافر بتوظيف العشر؟ ثم كونها عشرية عند محمد إذا انتقلت إليه كذلك أما في الابتداء فهو أيضا يمنعه، والعبارة التي نقلها عن الجامع في غاية البيان ليست كما في الهداية، وقد أطال المحقق في فتح القدير في تقريره ثم قال: والحاصل أن التي فتحت عنوة إن أقر الكفار عليها لا يوظف عليهم إلا الخراج ولو سقيت بماء المطر، وإن قسمت بين المسلمين لا يوظف إلا العشر وإن سقيت بماء الأنهار. وإذا كان كذلك فالتفصيل في الأرض المحياة
177 التي لم تقسم ولم يقر أهلها عليها بأن أحياها مسلم فإن وصل إليها ماء الأنهار فهي خراجية أو ماء عين ونحوه فعشرية اه. وفي التبيين: إن التفصيل في حق المسلم، أما الكافر فيجب عليه الخراج من أي ماء سقى لأن الكافر لا يبتدأ بالعشر فلا يتأتى فيه التفصيل في حالة الابتداء اجماعا إلى آخره. ومعنى قوله وأقر أهلها عليها أن الإمام أقرهم على ملكهم للأراضي. قال في الهداية: وأرض السواد مملوكة لأهلها يجوز بيعهم لها وتصرفهم فيها. وفي التتارخانية: فإن أسلموا سقطت الجزية عن رؤوسهم ولا يسقط الخراج عن أراضيهم اه. وإذا باعها انتقلت بوظيفتها من الخراج وكذا إذا مات انتقلت إلى ورثته كذلك، وإذا وقفها مالكها بقي الخراج على حاله كما صرحوا بوجوبه في أرض الوقف وأرض الصبي والمجنون. وفي الهداية أن عمر رضي الله عنه وضع على مصر الخراج حين افتتحها عمرو بن العاص رضي الله عنه، وكذا أجمعت الصحابة رضي الله عنهم على وضع الخراج على الشام اه. وفي فتح القدير: المأخوذ الآن من أراضي مصر إنما هو بدل إجارة لاخراج ألا ترى أن الأراضي ليست مملوكة للزراع، وهذا بعدما قلنا إن أرض مصر خراجية والله أعلم كأنه لموت المالكين شيئا فشيأ من غير إخلاف ورثة فصارت لبيت المال. وينبغي على هذا أن لا يصح بيع الإمام ولا شراؤه من وكيل بيت المال لشئ منها لأن نظره في مال المسلمين كنظره في مال اليتيم فلا يجوز له بيع عقاره إلا
178 لضرورة عدم وجود ما ينفقه سواه فلذا كتبت في فتوى رفعت إلي في شراء السلطان الأشرف برسباي الأرض ممن ولاه نظر بيت المال هل يجوز شراؤه منه وهو الذي ولاه؟ فكتبت: إذا كان بالمسلمين حاجة والعياذ بالله تعالى جاز ذلك اه. كأنه أجاب لا يجوز كما لا يخفى وهو مبتى على قول المتقدمين، أما على قول المتأخرين المفتى به لا ينحصر جواز بيع عقار اليتيم فيما ذكر بل فيه، وفيما إذا كان على الميت دين لا وفاء له إلا منه أو رغب فيه بضعف قيمته فكذلك نقول للإمام بيع العقار لغير حاجة إذا رغب فيه بضعف قيمته على المفتى به، وهذه مسألة مهمة وقع النزاع فيها في زماننا في تفتيش وقع من نائب مصر على الرزق في سنة ثمان وخمسين وتسعمائة حتى ادعى بعضهم بأن المبايعات للأراضي من بيت المال غير صحيحة ليتوصل بذلك إلى إبطال الأوقاف والخيرات وهو مردود بما ذكرناه، ثم قدم بعد ذلك بيسير شخص ولاه السلطان أمر الأوقاف فطلب أن يحدث على أراضي الأوقاف خراجا متمسكا بأن الخراج واجب في أرض الوقف وهو مردود عليه بما نقلناه عن المحقق ابن الهمام من أن الخراج ارتفع عن أراضي مصر إنما المأخوذ منها أجرة فصارت الأراضي بمنزلة دور السكنى لعدم من يجب عليه الخراج، فإذا اشتراها انسان من الإمام بشرطه شراء صحيحا ملكها ولا خراج عليها فلا يجب عليه الخراج لأن الإمام قد أخذ البدل للمسلمين فإذا وقفها وقفها سالمة من المؤن فلا يجب الخراج فيها وتمامه فيما كتبناه في تلك السنة المسمى بالتحفة المرضية في الأراضي المصرية اه.
179 قوله: (ولو أحيا أرضا مواتا يعتبر قربه) أي لو أحيا المسلم والمراد بالقرب أنها إن كانت بقرب أرض الخراج فهي خراجية، وإن كانت بقرب أرض العشر فهي عشرى. وهذا عند أبي يوسف لأن ما قرب من الشئ أخذ حكمه كفناء الدار لصاحبها الانتفاع به وإن لم تكن ملكا له ولذا لا يجوز إحياء ما قرب من العامر. واعتبر محمد الماء فإن أحياها بماء الخراج فهي خراجية وإلا فعشرية. قيدنا بالمسلم لأن الكافر يجب عليه الخراج مطلقا، كذا في الشرح وقدمناه اه قوله: (والبصرة عشرية) نص عليها لأن مقتضى ما سبق أن تكون خراجية لأنها من حيز أرض الخراج لكن ترك القياس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على توظيف العشر عليها، كذا في غاية البيان وفيه نظر لأن الحيز إنما يعتبر في الأرض المحياة والبصرة لم تكن محياة وإنما فتحت عنوة فقياس ما مضى أن تكون خراجية كما أشار إليه في التبيين كما خرج عن القياس مكة المشرفة فإن القياس وضع الخراج عليها لكونها فتحت عنوة ومع ذلك لم يوظف رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها الخراج تعظيما لها ولأهلها، فكما لا رق على العرب فكذلك لا
180 خراج على أراضيهم، كذا في البناية قوله: (وخراج جريب صلح للزراعة صاع ودرهم وفي جريب الرطبة خمسة دراهم وفي جريب الكرم والنخل المتصل عشرة دراهم) بيان للخراج الموظف وهذا هو المنقول عن عمر رضي الله عنه فإنه بعث عثمان بن حنيف حتى يمسح سواد العراق وجعل حذيفة مشرفا فمسح فبلغ ستا وثلاثين ألف ألف جريب ووضع على ذلك ما قلناه وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير فكان إجماعا منهم ، ولان المؤن متفاوتة فالكرم أخفها مؤنة والمزارع أكثرها مؤنة والرطاب بينهما والوظيفة تتفاوت بتفاوتها فجعل الواجب في الكرم أعلاها، وفي الزرع أدناها، وفي الرطبة أوسطها. والجريب أرض طولها ستون ذراعا وعرضها كذلك لكن اختلف في الذراع ففي كتب الفقه أنه سبع قبضات وهو ذراع كسرى يزيد على ذراع العامة بقبضة. وفي المغرب أنه ست قبضات والقبضة أربع أصابع اه. وفي الكافي ما قيل الجريب ستون في ستين حكاية عن جريبهم في أراضيهم وليس بتقدير لازم في الأراضي كلها بل جريب الأرض يختلف باختلاف البلدان فيعتبر في كل بلد متعارف أهله اه. وهذا يقتضي أن يعتبر في مصر الفدان فإنهم لا يعرفون غيره لكن ما في الكافي مردود والمعول عليه ما ذكرنا من التقدير كما في فتح القدير. وقيد بصلاحيته لأنه لا شئ في غير الصالح لها. وأطلقه فشمل ما زرعه صاحبه في السنة مرة أو مرارا أو لم يزرعه، ولم يذكر هنا تقدير الصاع للاكتفاء بما قدمه في صدقة الفطر من أنه ثمانية أرطال. وأطلقه فشمل كل مزروع فيه فيؤخذ قفيز مما زرع حنطة أو شعيرا أو عدسا أو ذرة وهو الصحيح، ولم يقدر الدرهم للاكتفاء بما ذكره في الزكاة من أن العشرة منها بوزن سبعة مثاقيل. وذكر العيني أنه يعطى الدرهم من أجود النقود. والرطبة - بفتح الراء - الإسفست الرطب والجمع رطاب. وفي كتاب العشر: البقول غير الرطاب وإنما البقول مثل الكراث والرطاب هو القثاء والبطيخ والباذنجان وما يجري مجراه، والأول هو المذكور فيما عندي من كتب اللغة فحسب، كذا في المغرب. وفي العيني: الرطبة البرسيم اه. وينبغي أن يفسر بما في كتاب العشر كما لا يخفي. وأفاد المصنف رحمه الله أنه يؤخذ من الرطبة شئ من الخارج، وقيد بالاتصال لأنها لو كانت متفرقة في جوانب الأرض ووسطها مزروعة فلا شئ فيها، وكذا لو غرس أشجارا غير مثمرة، ولو كان الأشجار ملتفة لا يمكن زراعة أرضها فهي كرم، ذكره في الظهيرية. وفي شرح الطحاوي: لو أنبت أرضه كرما فعليه خراجها إلى أن تطعم فإذا أطعمت فإن كان ضعف وظيفة الكرم ففيه وظيفة الكرم، وإن كان أقل فنصفه إلى أن ينقص عن قفيز ودرهم
181 فإن نقص فعليه درهم وقفيز اه. وفي البناية: المتصل ما يتصل بعضه ببعض على وجه تكون كل الأرض مشغولة بها. وفي الهداية: وفي ديارنا وظفوا من الدراهم في الأراضي كلها وترك كذلك لأن التقدير يجب أن يكون بقدر الطاقة من أي شئ كان اه. قلت: وكذا في غالب أراضي مصر لا يؤخذ خراجها إلا دراهم بخلاف أراضي الصعيد فإن غالب خراجها القمح، ولم يذكر المصنف ما سوى ذلك من الأصناف كالزعفران والبستان وغيره لأنه يوضع عليها بحسب الطاقة لأنه ليس فيه توظيف عمر رضي الله عنه وقد اعتبر في ذلك الطاقة فنعتبرها فيما لا توظيف فيه. قالوا: ونهاية الطاقة أن يبلغ الواجب نصف الخارج لا يزاد عليه لأن التنصيف عين الانصاف لما كان لنا أن نقسم الكل بين الغانمين والبستان كل أرض يحوطها حائط وفيها نخيل متفرقة وأشجار. ولم يذكر المصنف خراج المقاسمة لظهوره فإذا من الإمام عليهم جعل على أراضيهم نصف الخارج أو ثلثه أو ربعه. قال في السراج الوهاج: لا يزاد على النصف ولا ينقص عن الخمس قوله: (وإن لم تطق ما وظف نقص بخلاف الزيادة) أي وإن لم تطق الأرض ما جعل عليها من الخراج الموظف السابق نقص عنها ما لا تطيقه وجعل عليها ما تطيقه بخلاف الزيادة على ما وظفه عمر رضي الله عنه فإنها لا تجوز، وإن طاقتها الأرض لقول عمر رضي الله عنه لعامليه لعلكما حملتما الأرض ما لا تطيق فقالا: بل حملناها ما تطيق ولو زدنا لأطاقت. وهو دال على ما ذكرناه من الامرين. أطلقه فشمل الأراضي التي صدر التوظيف فيها من عمر رضي الله عنه أو من إمام بمثل وظيفة عمر وهو مجمع عليه، وأما إذا أراد الإمام توظيف الخراج على أرض ابتداء وزاد على وظيفة عمر رضي الله عنه فإنه لا يجوز عند أبي حنيفة وهو الصحيح لأن عمر رضي الله عنه لم يزد لما أخبراه بزيادة الطاقة، كذا في الكافي. ومعناه أن الأرض التي فتحت بعد عمر رضي الله عنه لو كانت تزرع الحنطة فأراد أن يضع عليها درهمين
182 وقفيزا وهي تطيقه ليس له ذلك. ومعنى عدم الإطاقة أن الخارج منها لم يبلغ ضعف الخراج الموظف فينقص منه إلى نصف الخارج، كذا أفاده في الخلاصة. وظاهر ما في الكتاب أن النقصان عند الإطاقة لا يجوز وليس كذلك فقد نقل في البناية عن الكاكي أنه إذا جاز النقصان عند قيام الطاقة فعند عدم الطاقة بالطريق الأولى. قوله: (ولا خراج أن غلب على أرضه الماء أو انقطع أو أصاب الزرع آفة) لأنه فات التمكن من الزراعة وهو النماء التقديري المعتبر في الخراج. وفيما إذا اصطلم الزرع آفة فات النماء التقديري في بعض الحول وكونه ناميا في جميع الحول شرط كما في الزكاة أو يدار الحكم على الحقيقة عند خروج الخارج. أطلقه فشمل ذهاب كل الخارج أو بعضه وهو مقيد بالأول، أما في الثاني قال محمد: إن بقي مقدار الخراج ومثله بأن بقي مقدار درهمين وقفيزين يجب الخراج، وإن بقي أقل من مقدار الخراج يجب نصفه. قال مشايخنا: والصواب في هذا أن ينظر أولا إلى ما أنفق هذا الرجل في هذه الأرض ثم ينظر إلى الخارج فيحسب ما أنفق أولا من الخارج. فإن فضل منه شئ أخذ منه مقدار ما بينا، وما ذكر في الكتاب أن الخراج يسقط بالاصطلام محمول على ما إذا لم يبق من السنة مقدار ما يمكنه أن يزرع الأرض، أما إذا بقي ذلك لا يسقط الخراج، كذا في الفوائد. وأطلق الآفة وهو مقيد بالآفة السماوية التي لا يمكن الاحتراز عنها كالغرق والاحتراق وشدة البرد، أما إذا كانت غير سماوية ويمكن الاحتراز عنها كأكل القردة والسباع والانعام ونحو ذلك لا يسقط الخراج. وقال بعضهم، يسقط. والأول أصح. وذكر شيخ الاسلام أن هلاك الخارج قبل الحصاد يسقط: كذا في السراج الوهاج. ومنه يعلم أن الدودة والفأرة إذا أكلا الزرع لا يسقط الخراج. وقيد بالزرع وهو اسم للقائم لأنه لو هلك بعد الحصاد لا يسقط كما أشار إليه شيخ الاسلام. وقيد بالخراج لأن الأجرة تسقط بالأوليين، وأما بالثالث فذكر الولوالجي في فتاواه: إذا استأجر أرضا للزراعة سنة ثم اصطلم الزرع آفة قبل مضي السنة فما وجب من الاجر قبيل الاصطلام لا يسقط، وما وجب بعد الاصطلام يسقط لأن الاجر إنما يجب بإزاء المنفعة شيئا فشيأ، فما استوفي من المنفعة وجب عليه الاجر، وما لم يستوف انفسخ العقد في حقه. وفي بعض الروايات لا يسقط شئ والاعتماد على ما ذكرنا فرق بين هذا وبين الخراج فإنه يسقط اه. قال شمس الأئمة: ومما حمد من سير الأكاسرة أنهم إذا أصاب
183 بعض زرع الرعية آفة غر مواله ما أنقق في الزراعة من بيت مالهم وقال التاجر شريك في الخسران كما هو شريك في الربح فإذا لم يعظه الإمام شئ فلا أقل من أن لا يغرمه الخراج اه. قوله: (وإن عطلها صاحبها أو أسلم أو اشترى مسلم أرض خراج يجب) أي الخراج، أما الأول فلان التمكن كان ثابتا وهو الذي فوته. قالوا: من انتقل إلى أحسن الامرين من غير عذر فعليه خراج الاعلى لأنه هو الذي ضيع الزيادة كما إذا كانت صالحة للزعفران فزرع الشعير وهذا يعرف ولا يفتى به كيلا يتجرأ الظلمة على أخذ أموال الناس لأنا لو أفتينا بذلك يدعي كل ظالم في أرض ليس هذا شأنها أنها كانت تزرع الزعفران فيأخذ خراجه فيكون ظلما وعدوانا. قيد بكونه المعطل لأنه لو منعه إنسان من الزراعة لا يجب عليه الخراج لعدم التمكن. وقيد بالخراج الموظف لأن كلامه فيه لأنه وكان خراج مقاسمة فلا شئ عليه بالتعطيل، كذا في السراج الوهاج. وأشار بنسبة التعطيل إليه إلى أنه كان متمكنا من الزراعة ولم يزرع فلو عجز المالك عن الزراعة لعدم قوته وأسبابه فللإمام أن يدفعها إلى غيره مزارعة ويأخذ الخراج من نصيب المالك ويمسك الباقي للمالك، وإن شاء أجرها وأخذ الخراج من الأجرة، إن شاء زرعها بنفقة من بيت المال، فإن لم يتمكن من ذلك ولم يجد من يقبل ذلك باعها وأخذ من ثمنها الخراج، وهذا بلا خلاف. وعن أبي يوسف يدفع للعاجز كفايته من بيت المال فيعمل فيها قرضا. وفي جمع الشهيد: باع أرضا خراجية فإن بقي من السنة مقدار
184 ما يتمكن المشتري من الزراعة فالخراج عليه وإلا فعلى البائع، كذا في البناية. وقد قدمناه أن أرض مصر الآن ليست خراجية إنما هي بالأجرة فلا شئ على الفلاح لو عطلها ولم يكن مستأجرا لها ولا جبر عليه بسببها. وبه علم أن بعض المزارعين إذا ترك الزراعة وسكن في مصر فلا شئ عليه، فما يفعله الظلمة من الاضرار به فحرام خصوصا إذا أراد الاشتغال بالقرآن والعلم كمجاوري الجامع الأزهر. وأما الثاني وهو أن من أسلم من أهل الخراج فإن يؤخذ منه الخراج على حاله لأن فيه معنى المؤنة فيعتبر مؤنة في حالة البقاء فأمكن إبقاؤه على المسلم. وأما الثالث وهو ما إذا اشترى مسلم من ذمي أرض خراج فلما قلنا، وقد صح أن الصحابة رضي الله عنهم اشتروا أراضي الخراج وكانوا يؤدون خراجها فدل على جواز الشراء وأخذ الخراج وأدائه للمسلم من غير كراهية قوله: (ولا عشر في خارج أرض الخراج) لقوله عليه السلام لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم كما رواه أبو حنيفة في مسنده. ولان أحدا من أئمة العدل والجور لم يجمع بينهما وكفى بإجماعهم حجة، ولان الخراج يجب في أرض فتحت عنوة وقهرا والعشر يجب في أرض أسلم أهلها طوعا والوصفان لا يجتمعان في أرض واحدة وسبب الحقين واحد وهو الأرض النامية إلا أنه يعتبر في العشر تحقيقا وفي الخراج تقديرا ولهذا يضافان إلى الأرض وعلى هذا الخلاف الزكاة مع أحدهما والحد والعقر والجلد والنفي والرجم وزكاة التجارة وصدقة الفطر والقطع والضمان، كذا في السراج الوهاج. وكذا التيمم مع الوضوء وكذا الحبل مع الحيض والحيض مع النفاس. فروع: لا يتكرر الخراج بتكرر الخارج في سنة إذا كان موظفا وإن كان خراج مقاسمة تكرر لتعلقه بالخارج حقيقة كالعشر، ولو وهب السلطان لانسان خراج أرضه ليس له أن يقبل وإن كان مصرفا له أن يقبل. ولو ترك السلطان لانسان خراج أرضه جاز عند أبي يوسف.
185 وقال محمد: لا يجوز والفتوى على قول أبي يوسف إن كان صاحب الأرض مصرفا له، ولو ترك له عشر أرضه لا يجوز بالاجماع ويخرجه بنفسه ويعطيه للفقراء والله أعلم. فصل في الجزية (الجزية لو وضعت بتراض لا يعدل عنها) لأن الموجب هو التراضي فلا يجوز التعدي إلى غير ما وقع عليه التراضي، وقد صالح عليه السلام بني نجران على ألف ومائتي حلة. والجزية اسم لما يؤخذ من أهل الذمة والجمع جزى كلحية ولحى لأنها تجزئ عن القتل أي تقضي وتكفي فإذا قبلها سقط عنه القتل قوله: (وإلا توضع على الفقير في كل سنة اثنا عشر درهما وعلى وسط الحال ضعفه وعلى المكثر ضعفه) أي إن لم توضع بالتراضي وإنما وضعت قهرا بأن غلب الإمام على الكفار وأقرهم على أملاكهم، ومذهبنا منقول عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ولم ينكر عليهم أحد من المهاجرين والأنصار، ولأنه وجب نصرة للمقاتلة فيجب على التفاوت بمنزلة خراج الأرض. وهذا لأنه وجب بدلا عن النصرة بالنفس والمال وذلك يتفاوت بكثرة الوفد وقلته فكذا ما هو بدله. وظاهر كلامهم أن حد الغني والمتوسط والفقر لم يذكر في ظاهر الرواية ولذا اختلف المشايخ فيه، وأحسن الأقوال ما اختاره في شرح الطحاوي من أن من ملك عشرة آلاف درهم فصاعدا فهو غني. والمتوسط من يملك مائتي درهم فصاعدا، والفقير الذي يملك ما دون المائتين أو لا يملك شيئا. وأشار بقوله في كل سنة إلى أن وجوبها في أول الحول وإنما الحول تخفيف وتسهيل. وفي الهداية أنه يؤخذ من الغني في كل شهر أربعة دراهم، ومن المتوسط درهمان، ومن الفقير درهم وهذا لأجل التسهل عليه لا بيان للوجوب لأنه بأول الحول كما ذكرنا، كذا في البناية.
186 وأطلق الفقير هنا اكتفاء بما ذكره بعده من أن الفقير غير المعتمل لا جزية عليه والمعتمل هو القادر على العمل وإن لم يحسن حرفة. وفي السراج: المعتمل القادر على تحصيل الدراهم والدنانير بأي وجه كان وإن لم يحسن الحرفة. وقال الكاكي: والمعتمل هو المكتسب والاعتمال الاضطراب في العمل وهو الاكتساب، فلو كان مريضا في السنة كلها أو نصفها أو أكثرها لا تجب عليه، ولو ترك العمل مع القدرة عليه فهو كالمعتمل كمن قدر على الزراعة ولم يزرع. وظاهر كلام المختصر أن القدرة على العمل شرط في حق الفقير فقط لقوله وفقير غير معتمل وليس كذلك بل هو شرط في حق الكل ولذا قال في البناية وغيرها: لا يلزم الزمن منهم وإن كان مفرطا في اليسار، وكذا لو مرض نصفها كما في الشرح. فلو حذف الفقير لكان أولى. وفي فتح القدير: ويعتبر وجود هذه الصفات في آخر السنة اه. وينبغي اعتبارها في أولها لأنه وقت الوجوب. قوله: (وتوضع على كتابي ومجوسي ووثني عجمي) لقوله تعالى * (من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد) * (التوبة: 29) الآية. ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزية على المجوس. وأما عبدة الأوثان من العجم فلانه يجوز استرقاقهم فيجوز ضرب الجزية عليهم إذ كل واحد منهما يشتمل على سلب النفس منهم فإنه يكتسب ويؤدي إلى المسلمين ونفقته في كسبه، وإن ظهر عليهم قبل وضع الجزية فهم ونساؤهم وصبيانهم فئ لجواز استرقاقهم لا فرق في ذلك بين الأنواع الثلاثة كما في العناية. وأشار بتقييد الوثني بالعجمي دون الأولين إلى أن الكتابي والمجوسي لا فرق فيهما بين العرب والعجم كما في العناية أيضا، والكتابي
187 شامل لليهود والنصارى. ويدخل في اليهود السامرة لأنهم يدينون بشريعة موسى صلوات الله وسلامه عليه إلا أنهم يخالفونهم في فروع، ويدخل في النصارى الفرنج والأرمن. وفي الخانية: وتؤخذ الجزية من الصابئة عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما. والمجوس عبدة النار، والوثن ماله جثة من خشب أو حجر أو فضة أو جوهر ينحت والجمع أوثان، وكانت العرب تنصبها وتعبدها. والعجم جمع العجمي وهو خلاف العربي وإن كان فصيحا، والأعجمي الذي في لسانه عجمة أي عدم إفصاح بالعربية وإن كان عربيا، كذا في المعرب. وفي السراج: الوثن ما كان منقوشا في حائط ولا شخص له، والصنم اسم لما كان على صورة الانسان، والصليب ما لا نقش فيه ولا صورة تعبد. قوله: (لا عربي ومرتد وصبي وامرأة وعبد ومكاتب وزمن وأعمى وفقير غير معتمل وراهب لا يخالط) أي لا توضع الجزية على هؤلاء، أما مشركو العرب فلان النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة في حقهم أظهر. والمراد بالعربي في عبارته عربي الأصل وهم عبدة الأوثان وأنهم أميون كما وصفهم الله تبارك وتعالى في كتابه فخرج الكتاب كما قدمناه، فأهل الكتابي وإن سكنوا فيما بين العرب وتوالدوا فهم ليسوا بعربي الأصل. وأما المرتد عربيا كان أو أعجميا فلانه كفر بربه بعدما هدي إلى الاسلام ووقف على محاسنه فلا يقبل من الفريقين إلا الاسلام أو السيف زيادة في العقوبة، وإذا ظهر عليهم فنساؤهم وصبيانهم فئ لأن أبا بكر رضي الله عنه استرق نساء بني حنيفة وصبيانهم لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين إلا أن نسائهم وذراريهم يجبرون على الاسلام بخلاف ذراري عبدة الأوثان ونسائهم، ومن لم يسلم من رجالهم قتل لما ذكرنا. وأما عدم وضعها على الصبي والمرأة فلأنها وجبت بدلا عن القتل أو القتال وهما لا يقتلان ولا يقاتلان لعدم الأهلية. وأما عدم وضعها على المملوك فلأنها بدل عن القتل في حقهم وعن النصرة في حقنا، وعلى اعتبار الثاني لا يجب فلا يجب بالشك. وشمل العبد المدبر وأم الولد وقد وقع في الهداية ذكر أم الولد ولا
188 ينبغي فإن من المعلوم أن لا جزية على النساء الأحرار فكيف بأم الولد وإنما المراد ابن أم الولد. وأفاد أنه لا يؤدي عنهم المولى لأنهم تحملوا الزيادة بسببهم لأنهم صاروا أغنياء به فلو أدوا عنهم لكن وجوبها مرتين بسبب شئ واحد. وأما عدمها على العاجز فلأنها وجبت بدلا عن القتال كما ذكرنا فدخل المفلوج والشيخ الكبير ولو كان له مال ولذا لم تجب على الراهب الذي لا يخالط الناس ولو كان قادرا على العمل لأنه لا يقتل والجزية لاسقاطه. وفي البناية: الزمن من زمن الرجل بزمن زمانة وهو عدم بعض أعضائه أو تعطيل قواه اه. وأما عدم وضعها عن الفقير الذي لا يعمل فلان عثمان رضي الله عنه لم يوظفها عليه وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم كالأرض التي لا طاقة لها فإن الخراج ساقط عنها، وغير المعتمل هو الذي لا يقدر على العمل. والمعتمل المكتسب الذي يقدر على العمل وإن لم يحسن حرفة ويكتفي بصحته في أكثر السنة، فإن مرض نصفها فلا جزية عليه. ولو أدرك الصبي أو أفاق المجنون أو عتق العبد أو برئ المريض قبل وضع الإمام الجزية ضع عليهم وبعد وضع الجزية لا يوضع عليهم لأن المعتبر أهليتهم وقت الوضع بخلاف الفقير إذا أيسر بعد الوضع حيث توضع عليه لأنه أهل للجزية وإنما سقطت عنه لعجزه وقد زال، كذا في الاختيار قوله: (وتسقط بالاسلام والموت والتكرر) لأنها عقوبة على الكفر وعقوبة الكفر تسقط بالاسلام ولا تقام بعد الموت. ولا فرق في المسقط بين أن يكون بعد تمام السنة أو في بعضها. وكذا تسقط إذا عمي أو زمن أو أقعد أو صار شيخا كبيرا لا يستطيع العمل أو افتقر بحيث لا يقدر على شئ، والعقوبات إذا اجتمعت تداخلت كالحدود فلذا إذ اجتمعت عليه حولان تداخلت. واختلف في معنى التكرار والأصح أنه إذا دخلت السنة الثانية سقطت جزية السنة الأولى لأن الوجوب بابتداء الحول بخلاف خراج الأرض فإنه بآخره لسلامة الانتفاع. وفي الجوهرة:
189 الجزية تجب في أول الحول عند الإمام إلا أنها تؤخذ في آخره قبل تمامه بحيث يبقى منه يوم أو يومان. وقال أبو يوسف: تؤخذ الجزية حين تدخل السنة ويمضي شهران منها. قيد بالجزية لأن الديون والأجرة والخراج لا يسقط بإسلام الذمي وموته اتفاقا. واختلف في الخراج هل يسقط بالتداخل؟ فقيل على الخلاف فعند الإمام يسقط، وعندهما لا. وقيل لا تداخل فيه بالاتفاق كالعشر لأنها مؤنة الأرض، وينبغي ترجيح الأول لأن الخراج عقوبة بخلاف العشر. فروع في الجزية: صرح في الهداية بأنها لا تقبل من الذمي لو بعثها على يد نائبه في أصح الروايات بل يكلف أن يأتي بنفسه فيعطى قائما والقابض منه قاعدا، وفي رواية يأخذ بتلبيبه ويهزه هزا ويقول أعط الجزية يا ذمي اه. أو يقول له يا يهودي أو يا نصراني أو يا عدو الله كما في غاية البيان، ولا يقال له يا كافر ويأثم القائل إن آذاه به كما في القنية. وفي بعض الكتب أنه يصفع في عنقه حين أداء الجزية. قوله: (ولا تحدث بيعة ولا كنيسة في دارنا) أي لا يجوز إحداثهما في دار الاسلام لقوله عليه السلام لا اخصاء في الاسلام ولا كنيسة والمراد إحداثهما. وفي البناية: يقال كنيسة اليهود والنصارى لمتعبدهم وكذلك البيعة كان مطلقا في الأصل ثم غلب استعمال الكنيسة لمتعبد اليهود والبيعة لمتعبد النصارى. وفي فتح القدير: وفي ديار مصر لا يستعمل لفظ البيعة بل الكنيسة لمتعبد الفريقين، ولفظ الدير للنصارى خاصة. والبيع بكسر الباء. أطلق عموم دار الاسلام فشمل الأمصار والقرى وهو المختار كما في فتح القدير. وقيده في الهداية بالامصار دون القرى لأن الأمصار هي التي تقام فيها الشعائر فلا يعارض بإظهار ما يخالفها. وقيل في ديارنا يمنعون من ذلك في القرى أيضا لأن فيها بعض الشعائر، والمروي عن صاحب المذهب في قرى الكوفة لأن أكثر أهلها أهل الذمة، وفي أرض العرب يمنعون من ذلك في أمصارها وقراها لقوله عليه السلام لا يجتمع دينان في جزيرة العرب اه. (1) وشمل كلامه المواضع كلها. وفي البناية: قيل أمصار المسلمين ثلاثة: أحدها ما مصره المسلمون منها كالكوفة والبصرة وبغداد وواسط فلا يجوز فيها إحداث بيعة ولا كنيسة ولا مجتمع لصلاتهم ولا صومعة بإجماع العلماء، ولا يمكنون فيه من شرب الخمر واتخاذ الخنزير وضرب الناقوس. وثانيها ما فتحه المسلمون عنوة فلا يجوز إحداث شئ فيها بالاجماع. وثالثها ما فتح صلحا فإن صالحهم على أن الأرض لهم ولنا الخراج جاز إحداثهم، وإن صالحهم على أن الدار لنا ويؤدون الجزية، فالحكم في الكنائس على ما يوقع عليه الصلح، فإن
190 صالحهم على شرط تمكين الاحداث لا نمنعهم والأولى أن لا يصالحهم عليه، وإن وقع الصلح مطلقا لا يجوز الاحداث ولا يتعض للقديمة اه. والحاصل أنهم يمنعون من الاحداث مطلقا إلا إذا وقع الصلح على الاحداث أو على أن الأرض لهم على هذا القول ولا استثناء في ظاهر الرواية. وأشار إلى أنهم يمنعون من إحداث بيت النار بالأولى. والصومعة كالكنيسة لأنها تبتني للتخلي للعبادة بخلاف موضع الصلاة في البيت لأنه تبع للسكنى. والصومعة بيت مبني برأس طويل لتعبد فيها بالانقطاع عن الناس قوله: (ويعاد المنهدم) مفيد لشيئين: الأول عدم التعرض للقديمة لأنه قد جرى التوارث من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بترك البيع والكنائس في دارنا. والمراد بالقديمة ما كانت قبل فتح الإمام بلدهم ومصالحتهم على إقرارهم على بلدهم وأراضيهم، ولا يشترط أن تكون في زمن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم لا محالة، كذا في البناية. وفي المحيط: لو ضربوا الناقوس في جوف كنائسهم لا يمنعون. الثاني جواز بناء ما انهدم من القديمة لأن الأبنية لا تبقى دائما، ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة. وأشار إلى أنه لا تجوز الزيادة على البناء الأول كما في الخانية، وإلى أنهم لا يمكنون من نقلها لأنه إحداث في الحقيقة. وفي فتح القدير: واعلم أن البيع والكنائس القديمة في السواد لا تهدم على الروايات كلها، وأما في الأمصار فاختلف كلام محمد فذكر في العشر والخراج تهدم القديمة، وذكر في الإجارة أنها لا تهدم وعمل الناس على هذا فإنا رأينا كثيرا منها تولت عليها أئمة وأزمان وهي باقية لم يأمر إمام بهدمها فكان متوارثا من عهد الصحابة رضي الله عنهم. وعلى هذا لو مصرنا برية فيها دير أو كنيسة فوقع داخل السور ينبغي أن لا يهدم لأنه كان مستحقا للأمان قبل وضع السور فيحمل ما في جوف القاهرة من الكنائس على ذلك فإنها كانت فضاء فأدار العبيديون عليها السور ثم فيها الآن كنائس ويبعد من إمام تمكين الكفار من إحداثها جهارا في جوف المدن الاسلامية، فالظاهر أنها كانت في الضواحي فأدير السور فأحاط بها. وعلى هذا أيضا فالكنائس الموجودة الآن في دار الاسلام غير جزيرة العرب
191 كلها ينبغي أن لا تهدم لأنها إن كانت في الأمصار قديمة فلا شك أن الصحابة أو التابعين رضي الله عنهم أجمعين حين فتحوا المدينة علموا بها وبقوها وبعد ذلك ينظر، فإن كانت البلدة فتحت عنوة حكمنا بأنهم بقوها مساكن لا معابد فلا تهدم ولكن يمنعون من الاجتماع فيها للتقرب، وإن عرف أنها فتحت صلحا حكمنا بأنهم أقروها معابد فلا يمنعون من ذلك فيها بل من الاظهار. وانظر إلى قول الكرخي إذا حضر لهم عيد يخرجون فيه صلبانهم وغير ذلك فليصنعوا في كنائسهم القديمة من ذلك ما أحبوا، فأما أن يخرجوا ذلك من الكنائس حتى يظهر في المصر فليس لهم ذلك ولكن ليخرجوا خفية من كنائسهم اه. وصحح في التتارخانية رواية كتاب الإجارة من عدم هدم القديمة. قوله: (ويميز الذمي عنا في الزي والمركب والسرج فلا يركب خيلا ولا يعمل بالسلاح ويظهر الكستيج ويركب سرجا كالأكف) إظهارا للصغار عليهم وصيانة لضعفة المسلمين ولان المسلم يكرم والذمي يهان فلا يبتدأ بالسلام ويضيق عليه في الطريق، فلو لم تكن علامة مميزة فلعله يعامل معاملة المسلمين وذلك لا يجوز بخلاف يهود المدينة لم يأمرهم عليه الصلاة والسلام بذلك لأنهم كانوا معروفين بأعيانهم لجميع أهل المدينة ولم يكن لهم زي عال عن المسلمين، وإذا وجب التمييز وجب بما فيه صغار لاعزاز لأن إذلالهم لازم بغير أذى من ضرب أو صفع بلا سبب يكون منه بل المراد اتصافه بهيئة وضيعة. والزي بالكسر اللباس والهيئة وأصله زوى، كذا في الصحاح. وفي الديوان: الزي الزينة والكستيج. عن أبي يوسف: خيط غليظ بقدر الإصبع يشده الذمي فوق ثيابه دون ما يتزينون به من الزنانير المتخذة من الإبريسم، كذا في المغرب. وقيده في المجمع بالصوف. وقيد بالخيل لأن لهم أن يركبوا الحمر عند المتقدمين على سروج كهيئة الأكف وهو جمع أكاف وهو معروف. والسرج الذي على هيئته هو ما يجعل على مقدمه شبه الرمانة. والوكاف لغة ومنه أو كف الحمار، كذا في المغرب. والأكاف البرذعة، ذكره العيني. واختار المتأخرون أن لا يركبوا أصلا إلا إذا خرجوا إلى قرية ونحوها أو كان مريضا. وحاصله أنه لا يركب إلا لضرورة فيركب ثم ينزل في مجامع المسلمين إذا مر بهم، كذا في فتح القدير. وفيه: وإذا عرف أن المقصود العلامة فلا يتعين ما ذكر بل يعتبر في كل بلدة ما يتعارفه أهله، وفي بلادنا جعلت العلامة في العمامة
192 فألزموا النصارى العمامة الزرقاء واليهود بالعمامة الصفراء واختص المسلمون بالبيضاء اه. لكن في الظهيرية ما يفيد منع العمامة لهم فإنه قال: وكستيجان النصارى قلنسوة سوداء من اللبد مضربة وزنار من الصوف، وأما لبس العمامة وزنار الإبريسم فجفاء في حق أهل الاسلام ومكسرة لقلوبهم اه. أطلق الذمي فشمل الذكر والأنثى ولذا قال في الهداية: ويجب أن تتميز نساؤهم عن نسائنا في الطرقات والحمامات ويجعل على دورهم علامات كيلا يقف عليها سائل يدعو لهم بالمغفرة ويمنعون عن لباس يختص به أهل العلم والزهد والشرف اه. وصرح في فتح القدير بمنعهم من الثياب الفاتحة حريرا أو غيره كالصوف المربع والجوخ الرفيع والابراد الرفيعة. قال: ولا شك في وقوع خلاف هذا في هذه الديار، ولا شك في منع استكتابهم وإدخالهم في المباشرة التي يكون بها معظما عند المسلمين بل ربما يقف بعض المسلمين خدمة له خوفا من أن يتغير خاطره منه فيسعى به عند مستكتبه سعاية توجب له منه الضرر اه. وفي الحاوي القدسي: وينبغي أن لا يلازم الذمي الصغار فيما يكون بينه وبين المسلم في كل شئ اه. فعلى هذا يمنع من القعود حال قيام المسلم عنده. واختار في فتح القدير بحثا أنه إذا استعلى على المسلمين حل للإمام قتله. واستثنى في الذخيرة من منع الخيل ما إذا وقعت الحاجة إلى ذلك بأن استعان بهم الإمام في المحاربة والذب عن المسلمين. وألحق في التتارخانية البغل بالحمار في جواز ركوبه لهم وصرح بمنعهم من القلانس الصغار وإنما تكون طويلة من كرباس مصبوغة بالسواد مضربة مبطنة. ويجب تمييزهم في النعال أيضا فيلبسون المكاعب الخشنة الفاسدة اللون تحقيرا لهم. وشرط في الخيط الذي يعقده على وسطه أن يكون غليظا غير منقوش وأن لا يجعل له حلقة وإنما يعقده على اليمين أو الشمال. وشرط في القميص أيضا أن يكون ذيله قصيرا وأن يكون جيبه على صدره كما يكون للنساء. وفي الخانية: ولا يؤخذ عبيد أهل الذمة بالكستيجان. وفي التتارخانية: وهذا كله إذا وقع الظهور عليهم، فأما إذا وقع معهم الصلح للمسلمين على بعض هذه الأشياء فإنهم يتركون على ذلك. واختلف المشايخ بعد هذا أن المخالفة بيننا وبينهم تشترط بعلامة واحدة أو بعلامتين أو بالثلاث. قال بعضهم: بعلامة واحدة إما على الرأس كالقلنسوة الطويلة المضربة أو على الوسط كالكستيج أو على الرجل كالنعل والمكعب على خلاف نعالنا أو مكاعبنا. وقال بعضهم: لا بد من الثلاث. ومنهم من قال في النصراني يكتفي بعلامة واحدة، وفي اليهودي بعلامتين، وفي المجوس بالثلاث وإليه مال الشيخ أبو بكر محمد بن الفضل. وفي الذخيرة: وبه كان يفتي بعضهم. قال شيخ الاسلام: والأحسن أن يكون في الكل ثلاث علامات. وكان الحاكم الإمام أبو محمد يقول: إن صالحهم الإمام وأعطاهم الذمة بعلامة واحدة لا يزاد عليها، وأما إذا فتح بلدا عنوة وقهرا كان للإمام أن يلزمهم العلامات وهو الصحيح اه. وإذا وجب عليهم إظهار الذل والصغار مع المسلمين
193 وجب على المسلمين عدم تعظيمهم لكن قال في الذخيرة: إذا دخل يهودي الحمام هل يباح للخادم المسلم أن يخدمه؟ أن خدمه طمعا في فلوسه فلا بأس به، وإن فعل ذلك تعظيما له إن كان لميل قلبه إلى الاسلام فلا بأس به، وإن فعل ذلك تعظيما له من غير أن ينوي شئ مما ذكرناه كره له ذلك. وكذا إذا دخل ذمي على مسلم فقام له إن قام طمعا في ميله إلى الاسلام فلا بأس به، وإن فعل ذلك تعظيما له من غير أن ينوي ما ذكرنا أو قام تعظيما لغناه كره له ذلك اه. قال الطرسوسي: إن قام تعظيما لذاته وما هو عليه كفر لأن الرضا بالكفر كفر فكيف يتعظم الكفر اه، كذا في شرح المنظومة. وفي الخانية: الذمي إذا اشترى دارا في المصر ذكر في العشر والخراج أنه لا ينبغي أن يباع منه، وإن اشتراها يجبر على بيعها من المسلم. وذكر في الإجارات أنه يجوز الشراء، ولا يجبر على البيع ولا يترك الذمي أن يتخذ بيته صومعة في المصر يصلي فيه اه. وفي الصغرى: وذكر في الإجارات أنه لا يجبر على البيع إلا إذا كثر فحينئذ يجبر اه. وفي التتارخانية: يمكنون من المقام في دار الاسلام على رواية عامة الكتب إلا أن يكون من أمصار العرب كأرض الحجاز. وعلى رواية العشر كما يجبر على بيع داره يخرجون من المصر وبه أخذ الحسن بن زياد. وفي الذخيرة: وإذا تكارى أهل الذمة دورا فيما بين المسلمين ليسكنوا فيها جاز لأنهم إذا سكنوا بين المسلمين رأوا معالم الاسلام ومحاسنه. وشرط الحلواني قلتهم بحيث يمكنون من المقام في دار الاسلام إلا في أمصار العرب كأرض الحجاز، أما إذا كثروا بحيث تعطل بسبب سكناهم بعض المسلمين أو تقللوا يمنعون من السكنى فيما بين المسلمين ويؤمرون بأن يسكنوا ناحية ليس فيها المسلمون وهو محفوظ عن أبي يوسف اه. وفي المحيط: يمكنون أن يسكنوا في أمصار المسلمين يبيعون ويشترون في أسواقهم لأن منفعة ذلك تعود إلى المسلمين اه. قوله: (ولا ينتقض عهده بالاباء عن الجزية والزنا بمسلمة وقتل مسلم وسب النبي صلى الله عليه وسلم) لأن الغاية التي ينتهي بها القتال التزام الجزية لا أداؤها والالتزام باق فيأخذها الإمام منه جبرا والاباء الامتناع. وأما الزنا فيقيم الحد عليه وفي القتل يستوفي القصاص منه، وأما السب فكفر والمقارن له لا يمنعه فالطارئ لا يرفعه. وأشار إلى أنه لا ينتقض إذا نكح مسلمة ولو وقع ذلك فالنكاح باطل ويعزران، وكذا الساعي بينهما، ولو أسلم بعد ذلك لا يجوز النكاح لوقوعه باطلا، كذا في المعراج من باب نكاح الكافر. وذكر العيني: وفي رواية مذكورة في واقعات حسام أن أهل الذمة إذا امتنعوا عن أداء الجزية ينتقض العهد ويقاتلون وهو قول
194 الثلاثة اه. ولا يخفي ضعفها رواية ودراية كما أن قول العيني واختياري أن يقتل بسب النبي صلى لله عليه وسلم لا أصل له في الرواية، وكذا وقع لابن الهمام بحث هنا خالف فيه أهل المذهب. وقد أفاد العلامة قاسم في فتاواه أنه لا يعمل بأبحاث شيخه ابن الهمام المخالفة للمذهب. نعم نفس المؤمن تميل إلى قول المخالف في مسألة السب لكن اتباعنا للمذهب واجب. وفي الحاوي القدسي: ويؤدب الذمي ويعاقب على سبه دين الاسلام أو النبي أو القرآن اه قوله: (بل باللحاق ثمة أو بالغلبة على موضع للحراب) أي بل ينتقض عهده باللحاق بدار الحرب ونحوه لأنهم صاروا حربا علينا فيعرى عقد الذمة عن الفائدة وهو دفع شر الحراب. وظاهر كلامهم أنه لا ينتقض إلا بأحد الامرين، وقد ذكر في فتح القدير من باب نكاح المشرك أن الذمي لو جعل نفسه طليعة للمشركين فإنه يقتل لأنه محارب معنى فحينئذ هي ثلاث لكن في المحيط هنا الذمي إذا وقف منه على أنه يخبر المشركين بعيوب المسلمين أو يقاتل رجلا من المسلمين فيقتله لا يكون نقضا للعهد لما روي أن حاطب بن أبي لمتعة كتب إلى مكة أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد حربكم فخذوا حذركم وجعل الكتاب في قرن امرأة لتذهب به إلى مكة فنزل
195 قوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) * (الممتحنة: 1) فبعث عليا رضي الله عنه فأخذه وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لحاطب: ما حملك على هذا؟ فقال: أن لي عيالات وقرابات بمكة فأردت أن يكون لي عندهم عهد، وإني أعلم أن الله تعالى ناصرك وممكنك ولا يضرك ما صنعت. فقال عمر رضي الله عنه: أئذن لي حتى أضرب عنق هذا المنافق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مهلا يا عمر لعل الله أطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فإني غفرت لكم. ولأنه لو فعله المسلم لا يكون نقضا للاسلام فكذلك إذا فعله الذمي غير أنه يعاقب ويحبس لأنه ارتكب محظورا اه. إلا أن يفرق بين الطليعة وبين ما في المحيط لما في المغرب: الطليعة واحدة الطلائع في الحرب وهم الذين يبعثون ليطلعوا على أخبار العدو ويتعرفونها. قال صاحب العين: وقد يسمى الرجل الواحد في ذلك طليعة والجميع أيضا إذا كانوا معا. وفي كلام محمد الطليعة الثلاثة والأربعة وهي فوق السرية اه. فيحمل ما في المحيط على أنه لم يبعثه أهل الحرب ليطلع على أخبار المسلمين. وما في الفتح ظاهر فيما إذا بعثوه لذلك. واستدلاله في المحيط بواقعة حاطب بعيد لأن كلامه في الذمي وحاطب كان مؤمنا ولذا قال تعالى * (يا أيها الذين آمنوا) * الخ وقال تعالى * (ومن يفعل ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) * ولذا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقت. وأفاد المصنف رحمه الله أن العهد لا ينتقض بالقول ولذا قال في المحيط: عقد الذمة ينتقض بالفعل وهو الالتحاق ولا ينتقض بالقول وأمان الحربي ينتقض بالقول اه. قوله: (وصاروا كالمرتدين) أي صار أهل الذمة بالالتحاق أو بالغلبة كالمرتدين في قتلهم ودفع مالهم لورثتهم لأنه التحق بالأموات لتباين الدار. قيدنا التشبيه في الشين لأن بينهما فرقا من جهة أخرى، وهو أن الذمي بعد الالتحاق يسترق ولا يجبر على قبول الذمة ذكرا كان أو أنثى كما في المحيط بخلاف المرتد حيث لا يسترق ويجبر على الاسلام لأن كفر المرتد أغلظ، وسيأتي أن المرتدة تسترق بعد اللحاق رواية واحدة وقبله في رواية. وأفاد بالتشبيه أن المال الذي لحق به بدار الحرب فئ كالمرتد ليس لورثتهما أخذه بخلاف ما إذا رجع إلى دار الاسلام بعد اللحاق وأخذ شيئا من ماله ولحق بدار الحرب فإنه يكون لورثته لأنه مالهم باللحاق الأول، والأحسن أن لا يقيد التشبيه بالشين فقط كما فعل الشارحون وإنما يبقى على إطلاقه ويستثنى منه مسألة الاسترقاق وعدم الجبر لما علمت من مسألة المال الذي لحق به دار
196 الحرب. ولما في المحيط أن أهل الذمة إذا انتقض عهدهم ثم عادوا إلى الذمة أخذوا بحقوق كانت قبل النقض من القصاص والمال لأنه حق التزمه بعقد الذمة فلا يسقط بصيرورته حربا علينا ولم يؤخذوا بما أصابوا في المحاربة، وكذلك المرتدون لأنهم بنقض العهد والردة التحقوا بسائر أهل الحرب، وما أصاب أهل الحرب من دمائنا وأموالنا لا يؤاخذون بذلك متى أسلموا كذا هذا اه. ولما في فتح القدير أنه كالمرتد في الحكم بموته باللحاق وإذا تاب تقبل توبته وتعود ذمته، ولا يبطل أمان ذريته بنقض عهده وتبين منه زوجته الذمية التي خلفها في دار الاسلام إجماعا ويقسم ماله بين ورثته اه. والحاصل أنه إذا أخذ أسيرا بعد الظهور فقد استرق ولا يتصور منه جزية كما صرح به في فتح القدير آخرا، وإذا جاء من نفسه تائبا عادت ذمته كما أفاده أولا. وفي فتح القدير أيضا: فإن عاد بعد الحكم باللحاق ففي رواية يكون فيأ وفي رواية لا اه. ويحمل على ما إذا لم يعد تائبا فقد علمت أن التشبيه في سبعة أشياء كما لا يخفي. قوله: (ويؤخذ من تغلبي وتغلبية ضعف زكاتنا) أي المسلمين وتغلب بن وائل من العرب من ربيعة تنصروا في الجاهلية فلما جاء الاسلام ثم زمن عمر رضي الله عنه دعاهم عمر إلى الجزية فأبوا وأنفوا وقالوا نحن عرب خدمنا كما يأخذ بعضكم من بعض الصدقة فقال: لا آخذ من مشرك صدقة فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين إن القوم لهم بأس شديد وهم عرب يأنفون من الحزبة فلا تعن عليك عدوا بهم وخذ منهم الجزية باسم الصدقة فبعث عمر رضي الله عنه في طلبهم وضعف عليهم فأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على ذلك ثم الفقهاء، ففي كل أربعين شاة شاتان ولا زيادة حتى تبلغ مائة وعشرين ففيها أربع شياه، وعلى هذا في البقر والإبل، كذا في فتح القدير. أفاد بتسويته بين الذكر والأنثى إلى أن المأخوذ وإن كان جزية في المعنى فهو واجب بشرائط الزكاة وأسبابها إذ الصلح وقع على ذلك فلا يراعي فيه شرائط الجزية من وصف الصغار فتقبل من النائب ويعطى جالسا إن شاء ولا يؤخذ بتلبيبه ولا يهز والمصرف مصالح المسلمين لأنه مال بيت المال وذلك لا يخص الجزية. وخرج الصبي والمجنون لا يؤخذ من مواشيهم وأموالهم لعدم وجوب الزكاة عليهم عندنا بخلاف أرضهم فيؤخذ خراجها لأنها وظيفة الأرض وليست عبادة. وفي التتارخانية معزيا إلى الحجة: لو حدث ولد ذكر بين نجراني وبين تغلبي من جارية بينهما وادعياه جميعا معا فمات الأبوان وكبر الولد لم تؤخذ منه الجزية. وذكر في السير
197 إن مات التغلبي أملا تؤخذ منه جرية أهل نجران، وإن مات النجراني أولا تؤخذ منه جزية بني تغلب، وإن ماتا معا يؤخذ النصف من هذا والنصف من ذاك اه. واقتصر في الخانية على ما في السير. والتغلبي بالتاء المثناة الفوقية والغين المعجمة. وفي كتاب الخراج لأبي يوسف أن عمر رضي الله عنه حين صالحهم شرط عليهم أن لا يغمسوا أحدا من أولادهم في النصرانية قوله: (ومولاه كمولى القرشي) أي ومعتق التغلبي ومعتق القرشي واحد في عدم التبعية للأصل فيوضع الخراج والجزية على معتقهما لأن الصدقة المضاعفة تخفيف والمعتق لا يلحق بالأصل فيه ألا ترى أن الاسلام أعلى أسباب التخفيف ولا تبعية فيه. قيد بهما لأن مولى الهاشمي كالهاشمي في حرمة الصدقة عليه لأنه ليس تخفيفا بل تحريم والحرمات تثبت بالشبهات فالحق مولى الهاشمي به. وبه بطل قياس زفر مولى التغلبي على مولى الهاشمي لكن نقض بمولى الغني تحرم الصدقة عليه ولم تنفذ إلى مولاه الفقير، ودفع بأن الغني أهل للصدقة في الجملة وإنما الغني مانع عن الاسقاط عن المعطي ولم يتحقق المانع في حق مولاه فخص السيد، أما الهاشمي فليس أهلا لهذه الصدقة أصلا لشرفه ولذا لا يعطى لو كان عاملا بخلاف الغني فألحق مولاه به لأن التكريم أن لا تنسب إليه الأوساخ بنسبة. وأما قوله عليه السلام مولى القوم منهم فإنما هو في حكم خاص وهو عدم دفع الزكاة إليه بدليل الاجماع على أن مولى الهاشمي لا ينزل منزلته في الكفاءة للهاشمية والإمامة. قوله: (والجزية والخراج ومال التغلبي وهدية أهل الحرب وما أخذنا منهم بلا قتال يصرف في مصالحنا كسد الثغور وبناء القناطر والجسور وكفاية القضاة والعلماء والعمال والمقاتلة وذراريهم) لأنه مال بيت المال فإنه وصل للمسلمين بغير قتال وهو معد لمصالح المسلمين وهؤلاء عملتهم ونفقة الذراري على الآباء فلو لم يعطوا كفايتهم لاحتاجوا إلى الاكتساب. وفائدة ذلك أنه لا يخمس ولا يقسم بين الغانمين، كذا في الجوهرة وفيها معزيا إلى الذخيرة: إنما يقبل الإمام هدية أهل الحرب إذا غلب على ظنه أن المشرك وقع عنده أن المسلمين يقاتلون لاعلاء كلمة الله وإعزاز الدين لا لطلب الدنيا، أما من كان من المشركين يغلب على الظن أنه يظن أن المسلمين يقاتلون طمعا لا يقبل هديته وإنما يقبل من شخص لا يطمع في إيمانه لو ردت هديته، أما من طمع في إيمانه إذا ردت هديته لا يقبل منه اه. ثم اعلم أن ظاهر المتون أن الذراري يعطون بعد موت آبائهم كما يعطون في حياتهم، وتعليل المشايخ يدل على أنه مخصوص بحياة آبائهم ولم أر نقلا صريحا في الاعطاء بعد موت آبائهم
198 حالة الصغر. والثغور جمع ثغر وهو موضع بحافة البلدان، والقنطرة ما لا يرفع، والجسر ما يرفع، كذا في العناية. والضمير في قوله منهم يعود إلى الكفار فيشمل ما يأخذه العاشر من أهل الحرب وأهل الذمة إذا مروا عليه مال نجران وما صولح عليه أهل الحرب على ترك القتال قبل نزول العسكر بساحتهم. وأفاد بالتمثيل إلى أنه يصرف أيضا هذا النوع لنحو الكراع والسلاح والعدة للعدو وحفر أنهار العامة وبناء المساجد والنفقة عليها، ذكره قاضيخان في فتاواه من كتاب الزكاة. فقد أفاد من أن المصالح بناء المساجد والنفقة عليها فيدخل فيه الصرف على إقامة شعائرها من وظائف الإمامة والاذان ونحوهما. وفي المحيط أن هذا النوع يصرف إلى أرزاق الولاة وأعوانهم وأرزاق القضاة والمفتين والمحتسبين والمسلمين وكل من تقلد شئ من أمور المسلمين وإلى ما فيه صلاح المسلمين اه. وفي التجنيس: ذكر من المصارف المعلمين والمتعلمين فقال في فتح القدير: وبهذا يدخل طلبة العلم بخلاف المذكورين هنا لأنه قبل أن يتأهل عامل لنفسه لكن ليعمل بعده للمسلمين اه. وفي فتاوي قاضيخان من الحظر والإباحة سئل علي الرازي عن بيت المال هل للأغنياء فيه نصيب؟ قال: لا إلا أن يكون عاملا أو قاضيا، وليس للفقهاء فيه نصيب إلا فقيه فرغ نفسه لتعليم الناس الفقه أو القرآن اه. فيحمل ما في التجنيس على ما إذا فرغ نفسه لذلك بأن صرف غالب أوقاته في العلم وليس مراد الرازي الاقتصار على العامل أو القاضي بل أشار بهما إلى كل من فرغ نفسه لعمل المسلمين فيدخل الجندي والمفتي فيستحقان الكفاية مع الغني. وفي الظهيرية من كتاب الزكاة: ويبدأ من الخراج بأرزاق المقاتلة وأرزاق عيالهم فإذا فضل شئ يجوز أن يصرف إلى الفقراء، ويجوز صرف الخراج إلى نفقة الكعبة. وفي المتنقى: إن تركه أهل الذمة كالخراج اه. والضمير في قوله وذراريهم يعود إلى الكل من القضاة والعلماء والمقاتلة لأن العلة تشمل الكل كما ذكره مسكين. وفي عبارة الهداية ما يوهم اختصاصه بالمقاتلة وليس كذلك. وفي المحيط من الزكاة: والرأي إلى الإمام من تفضيل وتسوية من غير أن يميل في ذلك إلى هوى، ولا يحل لهم إلا ما يكفيهم ويكفي أعوانهم بالمعروف، وإن فضل من المال شئ بعد إيصال الحقوق إلى أربابها قسموه بين المسلمين، فإن قصروا في ذلك وقعدوا عنه كان الله حسيبا عليهم اه.
199 وفي مآل الفتاوى لكل قارئ في كل سنة مائتا دينار أو ألفا درهم إن أخذها في الدنيا وإلا يأخذها في الآخرة اه. والمراد بالقارئ المفتي لما في الحاوي القدسي: ولم يقدر في ظاهر الرواية قدر الأرزاق والأعطية سوى قوله ما يكفيهم وذراريهم وسلاحهم وأهاليهم. وما ذكر في الحديث لحافظ القرآن وهو المفتي اليوم مائتا دينار وعن عمر رضي الله عنه أنه زاد فيه دليل على قدر الكفاية اه. وفي القنية من كتاب الوقف: كان أبو بكر رضي الله عنه يسوي في العطاء من بيت المال، وكان عمر رضي الله عنه يعطيهم على قدر الحاجة والفقه والفضل والاخذ بما فعله عمر رضي الله عنه في زماننا أحسن فتعتبر الأمور الثلاثة اه. وفي موضع آخر منها: له حظ في بيت المال ظفر بما هو وجه لبيت المال فله أن يأخذه ديانة وللإمام الخيار في المنع والاعطاء في الحكم اه. وفي الظهيرية: السلطان إذا جعل خراج الأرض لصاحب الأرض وتركه له جاز في قول أبي يوسف خلافا لمحمد، والفتوى على قول أبي يوسف إذا كان صاحب الأرض من أهل الخراج، وعلى هذا التسويغ للقضاة والفقهاء. ولو جعل العشر لصاحب الأرض لم يجز في قولهم. وفي الحاوي القدسي ما يخالفه فإنه قال: وإذا ترك الإمام خراج أرض رجل أو كرمه أو بستانه ولم يكن أهلا لصرف الخراج إليه عند أبي يوسف يحل له وعليه الفتوى، وعند محمد لا يحل له وعليه رده، وهذا يدل على أن الجاهل إذا أخذ من الجوالي شئ يجب عليه رده لقول محمد رحمه الله لا يحل وعليه أن يرده إلى بيت المال أو إلى من هو أهل لذلك كالمفتي والقاضي والجندي وإن لم يفعل أثم اه. ومن هنا يعلم حكم الاقطاعات من أراضي بيت المال فإن حاصلها أن الرقبة لبيت المال والخراج لمن أقطع له فلا ملك للمقطع فلا يصح بيعه ووقفه وإخراجه عن الملك وقد صرح به العلامة قاسم في فتاواه وأن له الإجارة تخريجا على إجارة المستأجر، وإجارة العبد الذي صولح على خدمته مدة معلومة، وإجارة الموقوف عليه الغلة، وإجارة العبد المأذون وإن لم يملكوا الرقبة لملك المنفعة وصرح بأنه إذا مات الجندي أو أخرج السلطان الاقطاع عنه تنفسخ الإجارة اه. ثم اعلم أن أموال بيت المال أربعة: أحدها ما ذكرناه. الثاني الزكاة والعشر ومصرفهما ما بين في باب المصرف من الزكاة. الثالث خمس الغنائم وقد تقدم مصرفه في كتاب السير. والرابع اللقطات والتركات التي لا وارث لها وديات مقتول لا ولي له ولم يذكره المصنف. قالوا: مصرفه اللقيط الفقير والفقراء الذين لا أولياء لهم يعطون منه نفقتهم وأدويتهم ويكفن به موتاهم ويعقل به جنايتهم، وعلى الإمام أن يجعل لكل نوع من هذه الأنواع بيتا يخصه فلا يخلط بعضه ببعض لأن لكل نوع حكما يختص به، فإن لم يكن في بعضها شئ فللإمام أن
200 يستقرض عليه من النوع الآخر ويصرفه إلى أهل ذلك، ثم إذا حصل من ذلك النوع شئ رده إلى المستقرض منه إلا أن يكون المصروف من الصدقات أو من خمس الغنيمة على أهل الخراج وهم فقراء فإنه لا يرد فيه شئ لأنهم مستحقون للصدقات بالفقر، وكذا في غيره إذا صرفه للمستحق. ويجب على الإمام أن يتقي الله تعالى ويصرف إلى كل مستحق قدر حاجته من غير زيادة، فإن قصر في ذلك كان الله عليه حسيبا، كذا في التبيين. وفي الحاوي القدسي والمحيط: ولا شئ لأهل الذمة في بيت مال المسلمين إلا أن يكون ذميا يهلك لضعفه فيعطيه الإمام منه قدر ما يسد جوعته اه. قوله: (ومن مات في نصف السنة حرم عن العطاء) لأنه نوع صلة وليس بدين فلهذا يسمى عطاء فلا يملك قبل القبض ويسقط بالموت، وأهل العطاء في زماننا مثل القاضي والمدرس والمفتي. والمراد بالحرمان عدم الاعطاء له وجوبا واستحبابا، وقيد بنصف السنة لأنه لو مات في آخرها يستحب الصرف إلى قريبه لأنه قد أوتي تعبه فيستحب له الوفاء ثم قيل: رزق القاضي ومن في معناه يعطى في آخر السنة، واختلفوا فيما إذا أخذه أو لها ثم مات أو عزل قبل مضيها، قيل يجب رد ما بقي، وقيل لا يجب عندهما كالنفقة المعجلة إلا عند محمد والله تعالى أعلم. باب أحكام المرتدين شروع في بيان الكفر الطارئ بعد الأصلي. والمرتد في اللغة الراجع مطلقا. وفي الشريعة الراجع عن دين الاسلام كما في فتح القدير. وفي البدائع: ركن الردة إجراء كلمة الكفر على اللسان - والعياذ بالله - بعد وجود الايمان، وشرائط صحتها العقل فلا تصح ردة
201 المجنون ولا الصبي الذي لا يعقل، وأما من جنونه متقطع فإن ارتد حال الجنون لم يصح، وإن ارتد حال إفاقته صحت، وكذا لا تصح ردة السكران الذاهب العقل. والبلوغ ليس بشرط لصحتها من الصبي عندهما خلافا لأبي يوسف، وكذا المذكورة ليست شرطا ومنها الطوع فلا تصح ردة المكره عليها اه. والايمان التصديق بجميع ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى مما علم مجيئه به ضرورة. وهل هو فقط أو هو مع الاقرار؟ قولان فأكثر الحنفية على الثاني والمحققون على الأول. والاقرار شرط إجراء أحكام الدنيا بعد الاتفاق على أنه يعتقد متى طولب به أتى به، فإن طولب به فلم يقر فهو كفر عناد. والكفر لغة الستر وشرعا تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم في شئ مما يثبت عنه ادعاؤه ضرورة. وفي المسايرة: ولاعتبار التعظيم المنافي للاستخفاف كفر الحنفية بألفاظ كثيرة وأفعال تصدر من المتهتكين لدلالتها على الاستخفاف بالدين كالصلاة بلا وضوء عمدا بل بالمواظبة على ترك سنة استخفافا بها بسبب أنه إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة أو استقباحها كمن استقبح من آخر جعل بعض العمامة تحت حلقه أو إحفاء شاربه اه. وفي فتح القدير: ومن هزل بلفظ كفر ارتد وإن لم يعتقده للاستخفاف فهو ككفر العناد والألفاظ التي يكفر بها تعرف في الفتاوى اه. فهذا وما قبله صريح في أن ألفاظ التكفير المعروفة في الفتاوى موجبة للردة عن الاسلام حقيقة. وفي البزازية: ويحكى عن بعض من لا سلف له أنه كان يقول ما ذكر في الفتاوى أنه يكفر بكذا وكذا فذاك للتخويف والتهويل لا لحقيقة الكفر وهذا كلام باطل إلى آخره. والحق أن ما صح عن المجتهد فهو على حقيقته، وأما ما ثبت عن غيره فلا يفتي به في مثل التكفير ولذا قال في فتح القدير من باب البغاة: إن الذي صح عن المجتهدين في الخوارج عدم تكفيرهم ويقع في كلام أهل المذهب تكفير كثير لكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون بل من غيرهم ولا عبرة بغير الفقهاء اه. فيكفر إذا وصف الله تعالى بما لا يليق به أو سخر باسم من أسمائه أو بأمر من أوامره أو أنكر وعده أو وعيده أو جعل له شريكا أو ولدا أو زوجة أو نسبه إلى الجهل أو العجز أو النقص. واختلفوا في قوله فلان في عيني كاليهودي في عين الله فكفره الجمهور، وقيل لا إن عنى به استقباح فعله، وقيل يكفر إن عنى الجارحة القدرة، والأصح مذهب المتقدمين في المتشابه كاليد، واختلفوا في جواز أن يقال بين يدي الله. ويكفر بقوله يجوز أن يفعل الله فعلا لا حكمة فيه وبإثبات المكان لله تعالى فإن قال الله في السماء فإن قصد حكاية ما جاء في
202 ظاهر الاخبار لا يكفر، وإن أراد المكان كفر، وإن لم يكن له نية كفر عند الأكثر وهو الأصح وعليه الفتوى. ويكفر إن اعتقد أن الله تعالى يرضى بالكفر، وبقوله لو أنصفني الله تعالى يوم القيامة انتصفت منك، أو إن قضى الله يوم القيامة أو إذا أنصف الله، وبقوله بارك الله في كذبك، وبقوله الله جلس للانصاف أو قام له، وبقوله هذا لا يمرض هذا ممن نسيه الله أو منسي الله على الأصح، وبوصفه تعالى بالفوق أو بالتحت وبظنه أن الجنة وما فيها للفناء عند البعض، وبقوله لامرأته أنت أحب إلي من الله وقيل لا، وبقوله لا أخاف الله أو لا أخشاه عند البعض ومحل الاختلاف عند عدم قصد الاستهزاء، وبقولها لا جوابا لقوله أما تعرفين الله على الظاهر، وبقوله لا أريد اليمين بالله وإنما أريد اليمين بالطلاق أو بالعتاق عند البعض خلافا للعامة وهو الأصح وبقوله رأيت الله في المنام، وبقوله المعدوم ليس بمعلوم الله تعالى، وبقوله الظالم أنا أفعل بغير تقدير الله تعالى، وبإدخاله الكاف في آخر الله عند ندائه من اسمه عبد الله وإن كان عالما على الأصح، وبتصغير الخالق عمدا عالما، وبقوله ليتني لم أسلم إلى هذا الوقت حتى أرث أبي، وبقوله إن كنت فعلت كذا أمس فهو كافر وهو يعلم أنه قد فعله إذا كان عنده أنه يكفر به وعليه الفتوى، وبقوله الله يعلم أني فعلت كذا وهو يعلم أنه ما فعل عند العامة إن كان اختيارا لا مخافة، وبقوله إن كنت قلته فأنا كافر وهو يعلم أنه قاله، وبقوله أنا برئ من الله لولا ولم يتم تعليقه خلافا للبعض قياسا على أنت طالق ثلاثا لولا لم يقع، وبقولها نعم جوابا لقوله أتعلمين الغيب، وبتزوجه بشهادة الله ورسوله، وبقوله فلان يموت بهذا المرض عند البعض، وبقوله عند رقاء الهامة يموت أحد عند البعض والأصح عدمه، وبقوله عند رؤية الدائرة التي تكون حول القمر يكون مطر مدعيا علم الغيب، وبرجوعه من سفره عند سماع صياح العقعق عند البعض، وبإتيان الكاهن وتصديقه، وبقوله أنا أعلم المسروقات، وبقوله أنا أخبر عن أخبار الجن إياي، وبعدم الاقرار ببعض الأنبياء عليهم السلام أو عيبه نبيا بشئ أو عدم الرضا بسنة من سنن المرسلين، وبقوله لا أعلم أن آدم عليه السلام نبي أولا، ولو قال آمنت بجميع الأنبياء عليهم السلام وبعدم معرفة أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء عند البعض وبنسبته نبيا إلى الفواحش كعزمه على الزنا وقيل لا، وبقوله إن الأنبياء عصو وإن كان معصية كفر، وبقوله لم تعص الأنبياء حال النبوة وقبلها لرده النصوص لا بقوله لا أقبل شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الامهال فكيف أقبلها منك، ولا بإنكاره نبوة الخضر وذي الكفل عليهما السلام لعدم الاجماع على نبوتهما، ويكفر من أراد بغض النبي صلى الله عليه وسلم بقلبه وبقوله لو كان فلان نبيا لا أؤمن به لا بقوله لو كان صهري رسول الله لا أئتمر بأمره، ويكفر بقوله إن كان ما قال الأنبياء حقا أو صدقا، وبقوله أنا رسول الله وبطلبه المعجزة حين ادعى
203 رجل الرسالة وقيل إذا أراد إظهار عجزه لا يكفر، واختلف في تصغيره شعر النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا أراد الإهانة فيكفر أما إذا أراد التعظيم فلا، وبقوله لا أدري أكان النبي صلى الله عليه وسلم انسيا أو جنيا، وبشتمه رجلا اسمه محمد وكنيته أبو القاسم ذاكرا للنبي صلى الله عليه وسلم عند البعض، وبشتمه محمدا صلى الله عليه وسلم حين أكره على شتمه قائلا قصدته، وبقوله جن النبي صلى الله عليه وسلم ساعة لا بقوله أغمي عليه. واختلفوا فيمن قال لو لم يأكل آدم عليه الصلاة والسلام الحنطة ما صرنا أشقياء، وبرده حديثا مرويا إن كان متواترا أو قال على وجه الاستخفاف سمعناه كثيرا، وبتمنيه أن لا يكون بعض الأنبياء نبيا مريدا به الاستخفاف به أو عداوته لا بقوله لو لم يبعث الله نبيا لم يكن خارجا عن الحكمة، وبقوله أنا لا أحبه حين قيل له إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب القرع وقيل إن كان على وجه الإهانة، وبقولها نعم حين قال لها لو شهد عندك الأنبياء والملائكة لا تصدقيهم حين قالت له لا تكذب، وباستخفافه بسنة من السنن، وبقوله لا أدري أن النبي في القبر مؤمن أم كافر، وبقوله ما كان علينا نعمة من النبي عليه السلام لأن البعثة من أعظم النعم، وبقذفه عائشة رضي الله عنها من نسائه صلى الله عليه وسلم فقط، وبإنكاره صحبة أبي بكر رضي الله عنه بخلاف غيره، وبإنكاره إمامة أبي بكر رضي الله عنه على الا صح كإنكاره خلافة عمر رضي الله عنه على الأصح لا بقوله لولا نبينا لم يخلق آدم عليه السلام وهو خطأ، ويكفر بقوله لو أمرني الله بكذا لم أفعل، ولو صارت القبلة إلى هذه الجهة ما صليت، أو لو أعطاني الله الجنة لا أريدها دونك أو لا أدخلها مع فلان، أو لو أعطاني الله الجنة لأجلك أو لأجل هذا العمل لا أريدها وأريد رؤيته، وبقوله لا أترك النقد لأجل النسيئة جوابا لقوله دع الدنيا للآخرة، وبقوله لو أمرني الله بالزكاة أكثر من خمسة دراهم أو بالصوم أكثر من شهر لا أفعل، وبقوله الايمان يزيد وينقص، وبقوله لا أدري الكافر في الجنة أو في النار أو لا أدري أين يصير الكافر، ويقتل بقوله أنا العن المذهبين جوابا لقوله على أي المذهبين أنت أبي حنيفة أو الشافعي وإن تاب عزر، ويكفر بإنكاره أصل الوتر والأضحية وباستحلال وطئ الحائض لا بقوله ليس لي موضع شبر في الجنة لاستقلاله العمل، ولا بقوله لا تكتب الحفظة على هذا الرجل. ولا بقوله هذا مكان لا إله فيه ولا رسول إلا إذا قصد به إنكار الدين، ولا بقول المرأة لا أتعلم ولا أصلي جوابا لقول الزوج تعلمي، ولا بإنكار العشر أو الخراج ولا يفسق خصوصا في هذا الزمان، ولا بقوله من أكل حراما فقد أكل ما رزقه الله لكنه أثم ويكفر باستحلاله حراما علمت حرمته من الدين من غير ضرورة لا بفعله من غير استحلال خلافا لما عن محمد رحمه الله في أكل الخنزير ولما عن أبي حفص في الخمر والفتوى على الأول، ويكفر بقوله للقبيح إنه
204 حسن، وبقوله لغيره رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت عند البعض خلافا للأكثر وقيل به إن قاله لعداوته لا لكراهة الموت، وبقوله لا أسمع شهادة فلان وإن كان جبريل أو ميكائيل عليهما السلام، وبعيبه ملكا من الملائكة أو الاستخفاف به لا بقوله أنا أظن أن ملك الموت توفي ولا يقبض روحي مجازا عن طول عمره إلا أن يعني به العجز عن توفيه. ويكفر إذا أنكر آية من القرآن أو سخر بآية منه إلا المعوذتين ففي إنكارهما اختلاف والصحيح كفره، وقيل لا، وقيل إن كان عاميا يكفر وإن كان عالما لا، وبوضع رجله على المصحف عند الحلف مستخفا، وبقراءة القرآن على ضرب الدف أو القضب وباعتقاد أن القرآن مخلوق حقيقة، والمزاح بالقرآن كقوله * (التفت الساق بالساق) * (القيامة: 29) أو ملا قدحا وجاء به وقال * (وكأسا دهاقا) * (النبأ، 34) أو قال عند الكيل أو الوزن قوله: * (وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) * (المطففين: 3) وقيل إن كان جاهلا لا يكفر. وبقوله القرآن أعجمي، ولو قال فيه كلمة أعجمية ففي أمره نظر، وفي تسميته آلة الفساد كراسته، وبقراءة القارئ * (يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم) * (النساء: 174) مريدا مدرسا اسمه إبراهيم، وبنظمه القرآن بالفارسية، وببراءته من القرآن لأمر خافه لكن قال الوبري: أخاف كفره. وبإنكاره القراءة في الصلاة وقيل لا، وبقول المريض لا أصلي أبدا جوابا لمن قال له صلى وقيل لا، وكذا قوله لا أصلي حين أمر بها وقيل إنما يكفر إذا قصد نفي الوجوب، وبقول العبد لا أصلي فإن الثواب يكون للمولى، وبقوله جوابا لصل إن الله نقص من مالي فأنا أنقص من حقه، وبقول مصلي رمضان فقط إن الصلاة في رمضان تساوي سبعين صلاة
205 وبترك الصلاة متعمدا غيرنا وللقضاء وغير خائف من العقاب وبصلاته لغير القبلة متعمدا أو في ثوب نجس أو بغير وضوء عمدا والمأخوذ به الكفر في الأخير فقط وقيل لا في الكل، ومحل الاختلاف إذا لم يكن استخفافا بالدين لا بسجوده بغير طهارة. ويكفر بإتيانه عيد المشركين مع ترك الصلاة تعظيما لهم، وبقوله لا أؤدي الزكاة بعد الامر بأدائها على قول، ولو تمنى أن لا يفرض رمضان فالصواب أنه على نيته، ويكفر بقوله جاء الشهر الثقيل إلا إذا أراد التعب لنفسه وباستهانته للشهور المفضلة، وبقوله إن هذه الطاعات جعلها الله تعالى عذابا علينا بلا تأويل أو قال لو لم يفرض الله هذه الطاعات لكان خيرا لنا، وبالاستهزاء بالأذكار وبتسميته عند أكل الحرام أو فعل حرام كالزنا، واختلف في تحميده عند الفراغ منه، وبقوله لا أقول عند أمره بقوله لا إله إلا الله وقيل لا إن عني أني لا أقول بأمرك، ولا يكفر المريض إذا قيل له قل لا إله إلا الله فقال لا أقول، ويكفر بالاستهزاء بالاذان لا بالمؤذن، وبإنكاره القيامة أو البعث أو الجنة أو النار أو الميزان أو الحساب أو الصراط أو الصحائف المكتوب فيها أعمال العباد لا إذا أنكر بعث رجل بعينه، واختلف في تكفير امرأة لا تعرف أن اليهود يبعثون، وسئل أبو يوسف رحمه الله عن امرأة لا تعرف أن الكفار يدخلون النار فقال: تعلم ولا تكفر. ويكفر بإنكاره رؤية الله عز وجل بعد دخول الجنة وبإنكاره عذاب القبر وبقوله لا أعلم أن اليهود والنصارى إذا بعثوا هل يعذبون بالنار وبإنكار حشر بني آدم أو غيرهم، ولا بقوله إن المثاب والمعاقب الروح فقط، ولا بقوله سلمتها إلى من لا يمنع السارق جوابا لمن وضع ثيابه وقال سلمتها إلى الله، ويخاف الكفر على من قال للآمر بالمعروف غوغا على وجه الرد والانكار، ويكفر بقوله له فضولي، ويخاف عليه بقوله أيهما أسرع وصولا جوابا لمن قال له حلال واحد أحب إليك أم حرامان، ويكفر بتصدقه على فقير بشئ حرام يرجو الثواب وبدعاء الفقير له عالما به وبتأمين المعطى وبقوله الحرام أحب إلي جوابا لقول القائل له كل من الحلال لا بقوله إني أحتاج إلى كثرة المال والحلال والحرام عندي سواء، ولا بقوله لحرام هذا حلال من غير أن يعتقده فلا يكفر السوقي بقوله هذا حلال للحرام ترويجا لشرائه والأصل أن من اعتقد الحرام حلالا فإن كان حراما لغيره كمال الغير لا يكفر وإن كان لعينه، فإن كان دليله قطعيا كفر وإلا فلا، وقيل التفصيل في العالم أما الجاهل فلا يفرق بين الحلال والحرام لعينه ولغيره وإنما الفرق في حقه إنما كان قطعيا كفر به وإلا فلا فيكفر إذا قال الخمر ليس
206 بحرام، وقيده بعضهم بما إذا كان يعلم حرمتها لا بقوله الخمر حرام ولكن ليست هذه التي تزعمون أنها حرام. ويكفر من قال إن حرمة الخمر لم تثبت بالقرآن، ومن زعم أن الصغائر والكبائر حلال، وباستحلاله الجماع للحائض لا في الاستبراء وقيل لا في الأول وهو الصحيح، ولا باستحلال سؤر كلب أو ريع أرض غصب، وباستحلال اللواطة إن علم حرمته من الدين، وبقوله هي لي حلال حين نهى عن تقبيله أجنبية، وبقوله الشريعة كلها تلبيس أو حيل إن قال في كل الشرائع لا فيما يرجع إلى المعاملات مما تصح فيه الحيل الشرعية وقيل يكفر في الأول مطلقا ويخاف عليه الكفر إذا شتم عالما أو فقيها من غير سبب، ويكفر بقوله لعالم ذكر الحمار في أست علمك مريدا به علم الدين، ويجلسوه على مكان مرتفع والتشبه بالمذكرين ومع جماعة يسألون منه المسائل ويضحكون منه ثم يضربونه بالمحراق، وكذا يكفر الجميع لاستخفافهم بالشرع، وكذا لو لم يجلس على مكان مرتفع ولكن يستهزئ بالمذكرين ويتمشى والقوم يضحكون، وبإلقاء الفتوى على الأرض حين أتى بها خصمه، وبقوله لا تذهب وإن ذهبت تطلق امرأتك استهزاء بالعلم والعلماء جوابا لمن قال إلى مجلس العلم جوابا لقوله أين تذهب، وبقوله قصعة من تريد خير من العلم لا بقوله خير من الله لإرادته أنها نعمة من الله والأول لا تأويل له سوى الاستخفاف بالعلم، وبقول المريض المشتد مرضه إن شئت توفني مسلما وإن شئت كافرا، وبقول المبتلي أخذت مالي وأخذت ولدي وأخذت كذا وكذا فماذا تفعل وماذا بقي، وبقوله عمدا لا جوابا لمن قال له ألست مسلما حين ضرب عبده أو ولده ضربا شديدا إلا إن غلط أو قصد الجواب، وبقول الزوج ليس لي حمية ولا دين الاسلام حين قالت له امرأته ذلك، وبقوله لمسلم يا كافر عند البعض ولو أحد الزوجين للآخر والمختار للفتوى أن يكفر إن اعتقده كافرا لا إن أراد شتمه، وبقوله لبيك جوابا لمن قال يا كافر يا يهودي يا مجوسي، وبقوله أنا ملحد لأن الملحد كافر ولو قال ما علمته لا يعذر، وبقول المعتذر لغيره كنت كافرا فأسلمت عند بعضهم وقيل لا، وبقوله كنت مجوسيا أسلمت الآن، وبنسيان العاصي التوبة وتحقير الذنب وعدم رؤية العقوبة بالذنب وعدم رؤية المعاصي قبيحة وبعدم رؤية الطاعة حسنا وبعدم رؤيته الثواب على الطاعة وبعدم رؤيته وجوب الطاعات،
207 وبقوله كفرت حين تكلم بكلمة زعم القوم أنها كفر وليست بكفر فقيل له كفرت وطلقت زوجتك، وتكفر المرأة إذا تكلمت بالكفر لقصد أن تحرم على زوجها والايمان مستقر في قلبها، وقولها أصير كافرة حتى أتخلص من الزوج، ومن قصد الكفر ساعة أو يوما فهو كافر في جميع العمر، وبتمنيه الكفر أن لو كان كافرا فأسلم حين أسلم كافرا فأعطي شئ، وبتمنيه أن لم يحرم الظلم والزنا والقتل بغير حق وكل حرام لا يكون حلالا في وقت بخلاف الخمر ومناكحة المحارم، وبتمنيه أن لو كان نصرانيا حتى يتزوج نصرانية سمينة رآها، وبوضع قلنسوة المجوسي على رأسه على الصحيح إلا لضرورة دفع الحر أو البرد، وبشد الزنار في وسطه إلا إذا فعل ذلك خديعة في الحرب وطليعة للمسلمين، وبقول معلم صبيان اليهود خير من المسلمين بكثير فإنهم يقضون حقوق معلمي صبيانهم، وبقوله المجوسية خير مما أنا فيه يعني فعله، وبقوله النصرانية خير من المجوسية لا بقوله المجوسية شر من النصرانية، وبقوله النصرانية خير من اليهودية وينبغي أن يقول النصرانية شر من اليهودية، وبقوله لمعاملة الكفر خير مما أنت تفعل عند بعضهم مطلقا، وقيده الفقيه أبو الليث بأن يقصد تحسين الكفر لا تقبيح معاملته، وبخروجه إلى نيروز المجوس والموافقة معهم فيما يفعلون في ذلك اليوم وبشرائه يوم النيروز شئ لم يكن يشتريه قبل ذلك تعظيما للنيروز لا للاكل والشرب وبإهدائه ذلك اليوم للمشركين ولو بضيعة تعظيما لذلك اليوم لا بإجابته دعوة مجوسي حلق رأس ولده وبتحسين أمر الكفار اتفاقا حتى قالوا: لو قال ترك الكلام عند أكل الطعام من المجوسي حسن أو ترك المضاجعة حالة الحيض منهم حسن فهو كافر. وبذبحه شئ في وجه إنسان وقت الخلعة أو للقادم من الحج أو الغزو والمذبوح ميتة وقيل لا يكفر، وقوله لسلطان زماننا عادل وقيل لا وعلى هذا الاختلاف قول الخطباء في ألقاب السلطان العادل الأعظم مالك رقاب الأمم سلطان أرض الله مالك بلاد الله، وبقوله لا تقل للسلطان هذا حين عطس السلطان فقال له رجل يرحمك الله، وبسقي ولده الخمر فجاء أقرباؤه ونثروا الدراهم والسكر كفر الكل، وكذا لو لم ينثروا الدراهم ولكنهم قالوا مبارك، واختلفوا فيما إذا قال أحب الخمر فلا أصبر عنها. ويكفر بتلقين كلمة الكفر ليتكلم بها ولو على وجه اللعب وبأمره امرأة بالارتداد لتبين من زوجها، وبالافتاء بذلك وإن لم تكفر المرأة بناء على أن الرضا بكفر غيره كفر وقيل لا،
208 وبعزمه على أن يأمر بالكفر، وبقوله لمن ينازعه افعل كل يوم عشرة أمثالك من الطين أو لم يقل من الطين قاصدا من حيث الخلقة لا من حيث بيان صنعته، ولا بقوله قد خلقت هذه الشجرة لأنه يراد به عادة الفرس حتى لو عنى به حقيقة الخلق يكفر، ولا بقوله لغيره ينبغي لك أن تسجد لي سجدة لأن المراد منه الشكر والمنة، ويكفر بقوله أي شئ أصنع إذا لزمني الكفر جوابا لمن قال له أي شئ تصنع قد لزمك الكفر. وبإبداله حرفا أو آية من القرآن عمدا، وباعتقاد أن الخراج ملك السلطان لا بقوله أنا فرعون أو إبليس إلا إذا قال اعتقادي كاعتقاد فرعون، ومن حسن كلام أهل الأهواء وقال معنوي أو كلام له معنى صحيح إن كان ذلك كفرا من القائل كفر المحسن، وكذا من حسن رسوم الكفرة. واختلفوا في تكفير من قال إن إبراهيم بن أدهم رأوه بالبصرة يوم التروية وفي ذلك اليوم بمكة. ومسألة ثبوت النسب بين المشرقي وبين المغربية تؤيد القائل بعدمه ويخاف الكفر على من قال بحياتي وحياتك. وأجمعوا على أن من شك في إيمانه فهو كافر وهو أن يكون مصدقا لكن يشك أن هذا التصديق إيمان أو كفر، واختلفوا في أنا مؤمن إن شاء الله. هذا كله حاصل ما في التتارخانية من الفصول من باب ألفاظ التكفير سوى الفارسي. وفي الخلاصة: يكفر بقوله أنا برئ من الثواب والعقاب، وبقوله لو عاقبني الله مع ما بي من المرض ومشقة الولد فقد ظلمني، وبشد المرأة حبلا في وسطها وقالت هذا زنار ومن أبغض عاملا من غير سبب ظاهر خيف عليه الكفر، ولو صغر الفقيه أو العلوي قاصدا الاستخفاف بالدين كفر لا إن لم يقصده، والسجود للجبابرة كفر إن أراد به العبادة لا إن أراد به التحية على قول الأكثر. وفي البزارية قال علماؤنا: من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر، ومن قال بخلق القرآن فهو كافر، ومن قال إن الايمان مخلوق فهو كافر، كذا في كثير من الفتاوى وهو محمول على أنه بمعنى هداية الرب، وأما فعل العبد فهو مخلوق. وإذا أخذ أحد المكس مقاطعة فقالوا له مبارك كفروا. ووقعت بسراي الجديدة واقعة وهي أن واحدا قاطع على مال معلوم احتسابا بها أعني الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فضربوا على بابه طبولات وبوقات ونادوا مبارك باد لمقاطعته الاحتساب وكان إمام الجامع فامتنعنا من الصلاة خلفه حتى عرض على نفسه الاسلام أخذا من هذه المسألة قال لرجل يا أحمر قال خلقني الله من سويق التفاح وخلقك من طين كفر. قال واحد من الفسقة لو وضعت هذه الخمرة بين يدي جبريل عليه السلام لرفعها على جناحه يكفر، ولا يكفر بقوله يا حاضر يا ناظر ولا بقوله درويش درويشان والقول بالكفر بكل منهما باطل. وفي جامع الفصولين روى الطحاوي عن أصحابنا: لا يخرج الرجل من الايمان إلا جحود ما أدخله فيه، ثم ما تيقن أنه
209 ردة يحكم بها به وما يشك أنه ردة لا يحكم بها إذ الاسلام الثابت لا يزول بشك مع أن الاسلام يعلو، وينبغي للعالم إذا رفع إليه هذا أن لا يبادر بتكفير أهل الاسلام مع أنه يقضي بصحة إسلام المكره. أقول: قدمت هذه لتصير ميزانا فيما نقلته في هذا الفصل من المسائل فإنه قد ذكر في بعضها أنه كفر مع أنه لا يكفر على قياس هذه المقدمة فليتأمل اه. وفي الفتاوى الصغرى: الكفر شئ عظيم فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر اه. وقال قبله وفي الجامع الأصغر، إذا أطلق الرجل كلمة الكفر عمدا لكنه لم يعتقد الكفر قال بعض أصحابنا: لا يكفر لأن الكفر يتعلق بالضمير ولم يعقد الضمير على الكفر. وقال بعضهم: يكفر وهو الصحيح عندي لأنه استخف بدينه اه. وفي الخلاصة وغيرها: إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنع التكفير فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم. زاد في البزازية إلا إذا صرح بإرادة موجب الكفر فلا ينفعه التأويل حينئذ. وفي التتارخانية: لا يكفر بالمحتمل لأن الكفر نهاية في العقوبة فيستدعي نهاية في الجناية ومع الاحتمال لا نهاية اه. والحاصل أن من تكلم بكلمة الكفر هازلا أو لاعبا كفر عند الكل ولا اعتبار باعتقاده كما صرح به قاضيخان في فتاواه، ومن تكلم بها مخطأ أو مكرها لا يكفر عند الكل، ومن تكلم بها عالما عامدا كفر عند الكل، ومن تكلم بها اختيارا جاهلا بأنها كفر ففيه اختلاف، والذي تحرر أنه لا يفتي بتكفير مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة، فعلى هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكورة لا يفتى بالتكفير بها ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشئ منها. وأما مسألة تكفير أهل البدع المذكورة في الفتاوي فقد تركتها عمدا لأن محلها أصول الدين وقد أوضحها المحقق في المسايرة. قوله: (يعرض الاسلام على المرتد) أي يعرضه الإمام والقاضي وهو مروي عن عمر رضي الله عنه لأن رجاء العود إلى الاسلام ثابت لاحتمل أن الردة كانت باعتراض شبهة لم يبين صفته، وظاهر المذهب استحبابه فقط ولا يجب لأن الدعوة قد بلغته وعرض الاسلام هو الدعوة إليه ودعوة من بلغته الدعوى غير واجبة ولم يذكر تكرار العرض عليه. وفي الخانية: يعرض عليه الاسلام في كل يوم من أيام التأجيل. قوله: (وتكشف شبهته) بيان لفائدة العرض أي فإن كان له شبهة أبداها كشفت عنه لأنه عساه اعترضت له شبهة فتزاح عنه. قوله: (ويحبس ثلاثة أيام فإن أسلم وإلا قتل) لأنها مدة ضربت لابداء الاعذار وهو مروي عن عمر رضي الله عنه. أطلقه فأفاد أنه يمهل وإن لم يطلبه وهو رواية، وظاهر الرواية أنه لا يمهل بدون استمهال بل يقتل من ساعته كما في الجامع الصغير إلا إذا كان الإمام يرجو
210 إسلامه كما في البدائع. وإذا استمهل فظاهر المبسوط الوجوب فإنه قال: إذا طلب التأجيل كان على الإمام أن يمهله، وعن الإمام الاستحباب مطلقا. وأفاد بإطلاقه أنه يفعل به ذلك إذا ارتد ثانيا إلا أنه إذا تاب ضربه الإمام وخلى سبيله، وإن ارتد ثالثا ثم تاب ضربه الإمام ضربا وجيعا وحبسه حتى تظهر عليه التوبة ويرى أنه مسلم مخلص ثم خلى سبيله فإن عاد فعل به هكذا، كذا في التتارخانية. وأفاد بإطلاقه أنه لا فرق بين ردة وردة من أنه إذا أسلم ويستثنى منه مسائل: الأولى الردة بسبه صلى الله عليه وسلم قال في فتح القدير: كل من أبغض رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه كان مرتدا فالساب بطريق أولى ثم يقتل حدا عندنا فلا تقبل توبته في إسقاطه القتل. قالوا:
211 هذا مذهب أهل الكوفة ومالك، ونقل عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ولا فرق بين أن يجئ تائبا من نفسه أو شهد عليه بذلك بخلاف غيره من المكفرات فإن الانكار فيها توبة فلا تعمل الشهادة معه حتى قالوا يقتل وإن سب سكران ولا يعفى عنه، ولا بد من تقييده بما إذا كان سكره بسبب محظور باشره مختارا بلا إكراه وإلا فهو كالمجنون. قال الخطابي: لا أعلم أحدا خالف في وجوب قتله وأما مثله في حقه تعالى فتقبل توبته في إسقاط قتله اه. وعلله البزازي بأنه حق تعلق به حق العبد فلا يسقط بالتوبة كسائر حقوق الآدميين وكحد القذف لا يزول بالتوبة، وصرح بأن سب واحد من الأنبياء كذلك. وقوله في فتح القدير في إسقاط القتل يفيد أن توبته مقبولة عند الله تعالى وهو مصرح به. الثانية الردة بسب الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد صرح في الخلاصة والبزازية بأن الرافضي إذا سب الشيخين وطعن فيهما كفر، وإن فضل عليا عليهما فمبتدع، ولم يتكلما على عدم قبول توبته. وفي الجوهرة: من سب الشيخين أو طعن فيهما كفر ويجب قتله، ثم إن رجع وتاب وجدد الاسلام هل تقبل توبته أم لا؟ قال الصدر الشهيد: لا تقبل توبته وإسلامه ونقتله وبه أخذ الفقيه أبو الليث السمرقندي وأبو نصر الدبوسي وهو المختار للفتوى اه. وحيث لا تقبل توبته علم أن سب الشيخين كسب النبي صلى الله عليه وسلم فلا يفيد الانكار مع البينة كما تقدم عن فتح القدير لأنا نجعل إنكار الردة توبة إن كانت مقبولة كما لا يخفى. الثالثة لا تقبل توبة الزنديق في ظاهر المذهب وهو من لا يتدين بدين، وأما من يبطن الكفر والعياذ بالله تعالى ويظهر الاسلام فهو المنافق ويجب أن يكون حكمه في عدم قبولنا توبته كالزنديق لأن ذلك في الزنديق لعدم الاطمئنان إلى ما يظهر من التوبة إذا كان قد يخفى كفره الذي هو عدم اعتقاده دينا والمنافق مثله في الاخفاء، وعلى هذا فطريق العلم بحاله إما بأن يعثر بعض الناس عليه أو يسره إلى من إن أمن إليه، والحق أن الذي يقتل ولا تقبل توبته هو المنافق فالزنديق إن كان حكمه ذلك فيجب أن يكون مبطنا كفره الذي هو عدم التدين بدين ويظهر تدينه بالاسلام أو غيره إلى أن ظفرنا به وهو عربي وإلا لو فرضناه مظهرا لذلك حتى تاب يجب أن لا يقتل وتقبل توبته كسائر الكفار المظهرين لكفرهم إذا أظهروا التوبة، وكذا من علم أنه ينكر في الباطن بعض الضروريات كحرمة الخمر ويظهر اعتقاد حرمته، كذا في فتح القدير. وفي الخانية قالوا: إن جاء الزنديق قبل أن يؤخذ فأقر أنه زنديق فتاب عن ذلك تقبل توبته وإن
212 أخذ ثم تاب لم تقبل توبته ويقتل اه. وتفصيل حسن موافق لما بحثه في فتح القدير هو الرابعة توبة الساحر جعله في فتح القدير كالزنديق لا تقبل توبته. وفي الخانية من كتاب الحظر والإباحة: الساحر إذا تاب فهو على وجوه: إن كان يعتقد نفسه خالقا لما يفعل فإن تاب عن ذلك فقال خالق كل شئ هو الله تعالى وتبرأ عما كان يقول تقبل توبته ولا يقتل، وإن كان الساحر يستعمل السحر بالتجربة والامتحان ولا يعتقد لذلك أثرا لا يقتل لأنه ليس بكافر. وساحر يجحد السحر ولا يدري كيف يفعل ولا يقربه قالوا: لا يستتاب بل يقتل إذا ثبت أنه يستعمل السحر، وفي بعض المواضع ذكر أن الاستتابة أحوط. وقال الفقيه أبو الليث: إذا تاب الساحر قبل أن يؤخذ تقبل توبته ولا يقتل وإن أخذ ثم تاب لم تقبل توبته ويقتل، وكذا الزنديق المعروف الداعي والفتوى على هذا القول اه. وفي فتح القدير: وتقبل الشهادة بالردة من عدلين ولا يعلم مخالف إلا الحسن قال: لا يقبل في القتل إلا أربعة قياسا على الزنا، وإذا شهدوا على مسلم بالردة وهو منكر لا يتعرض له لا لتكذيب الشهود العدول بل لأن إنكاره توبة ورجوع اه. وهذا معنى قوله فيما نقلناه آنفا عنه أن الشهادة لا تعمل مع الانكار وليس المراد أن ردته لا تثبت بالشهادة مع الانكار بل تثبت ويحكم بها حتى تبين زوجته منه ويجب تجديد النكاح، وإنما يمتنع القتل فقط للتوبة بالانكار، وقد رأيت من يغلط في هذا المحل. وقد ذكر المصنف للردة أحكاما أربعة: العرض والكشف والحبس والقتل إن لم يسلم. وقد بقي لها أحكام كثيرة منها: حبط العمل عندنا بنفس الردة، وعند الشافعي بشرط الموت عليها، كذا في البدائع. أي إبطال العبادات. وفي الخلاصة: من ارتد ثم أسلم وهو قد حج مرة فعليه أن يحج ثانيا وليس عليه إعادة الصلوات والزكوات والصيامات لأن بالردة كأنه لم يزل كافرا فإذا أسلم وهو غني فعليه الحج وليس عليه قضاء سائر العبادات اه. وفي التتارخانية معزيا إلى اليتيمة قيل له: لو تاب أتعود حسناته؟ قال: هذه المسألة مختلفة فعند أبي علي وأبي هاشم وأصحابنا أنها تعود، وعند أبي قاسم الكعبي أنها لا تعود ونحن نقول إنه لا يعود ما بطل من ثوابه لكنه تعود طاعاته المتقدمة مؤثرة في الثواب بعد اه. وفيها معزيا إلى السراجية: من ارتد ثم أسلم ثم ارتد ومات فإنه
213 يؤاخذ بعقوبة الكفر الأول والثاني وهو قول الفقيه أبي الليث ومن العبادات التي بطلت بردته وقفه الذي وقفه حال إسلامه، سواء كان على قربة ابتداء أو على ذريته ثم على المساكين لأنه قربة ولا بقاء لها مع وجود الردة، وإذا عاد مسلما لا يعود وقفه إلا بتجديد منه. وإذا مات أو قتل أو لحق كان الوقف ميراثا بين ورثته كما أوضحه الخصاف في آخر أوقافه. ومنها بقاء المعصية مع الردة ولذا قال في الخانية: إذا كان على المرتد قضاء صلوات أو صيامات تركها في الاسلام ثم أسلم قال شمس الأئمة الحلواني: عليه قضاء ما ترك في الاسلام لأن ترك الصلاة والصيام معصية والمعصية تبقى بعد الردة اه. ومنها أنه لا يجب عليه شئ من العبادات عندنا لعدم خطاب الكفار بالشرائع عندنا فلا يقضي ما فاته زمن ردته بعد إسلامه. ومنها ما في الخانية: مسلم أصاب مالا أو شيئا يجب به القصاص أو حد قذف ثم ارتد وأصاب ذلك وهو مرتد في دار الاسلام ثم لحق بدار الحرب وحارب المسلمين زمانا ثم جاء مسلما فهو مأخوذ بجميع ذلك، ولو أصاب ذلك بعد ما لحق بدار الحرب مرتدا وأسلم
214 فذلك كله موضوع عنه لأنه أصابه وهو حربي في دار الرحب والحربي لا يؤاخذ بعد الاسلام بما كان أصابه حال كونه محاربا. وما أصاب المسلم من حدود الله تعالى كالزنا والسرقة وقطع الطريق ثم ارتد أو أصاب ذلك بعد الردة ثم لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فكل ذلك يكون موضوعا عنه إلا أنه يضمن المال في السرقة، وإذا أصاب دما في الطريق كان عليه القصاص لأن ما كان من حقوق العباد كان المرتد مأخوذا بذلك، وما أصاب في قطع الطريق من القتل خطأ ففيه الدية على عاقلته إن أصابه قبل الردة، وفي ماله إن أصابه بعد الردة، وإن وجب على المسلم حد الشرب من الخمر أو المسكر ثم ارتد ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فإنه لا يؤاخذ بذلك لأن الكفر يمنع وجوب هذا الحد ابتداء حتى لا يجب على الذمي المستأمن فإذا اعترض الكفر بعد الوجوب يمنع البقاء، وإن أصاب ذلك والمرتد محبوس في يد الإمام فإنه لا يؤاخذ بحد الخمر والسكر وهو مؤاخذ بما سوى ذلك من حدود الله تعالى، ويتمكن الإمام من إقامة هذا الحد إذا كان في يده، فإن لم يكن في يده حين أصاب ذلك ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فذلك موضوع عنه أيضا اه. وسيأتي حكم تصرفاته وأملاكه وجنايته وأولاده في الكتاب. وأشار بقوله وإلا قتل إلى أنه لا يجوز استرقاقه وإن لحق بدار الحرب لأنه لم يشرع فيه إلا الاسلام أو السيف. وفي الخانية: لا يترك على ردته بإعطاء الجزية ولا بأمان موقت ولا بأمان مؤبد ولا يجوز استرقاقه بعد اللحاق مرتدا إذا أخذه المسلمون أسيرا، ويجوز استرقاق المرتدة بعد اللحاق اه. ومن أحكامه أنه لا عاقلة له لأنها للمعونة وهو لا يعاون، كذا في البدائع. وقد مضى في باب نكاح الكافر وقوع الفرقة بردة أحد الزوجين وفي المحرمات أنه لا ينكح ولا ينكح وسيأتي أنه لا يرث من أحد لانعدام الملة والولاية فقد ظهر أن الردة أفحش من الكفر الأصلي في الدنيا والآخرة. وأطلق في القتل فشمل الحر والعبد فولاية قتل العبد المرتد للإمام لا للمولى لاطلاق النصوص. وفي الولوالجية: إذا باع عبده المرتد أو أمته المرتدة جاز والردة عيب لأنه مملوك له فيجوز بيعه وفي حق العبد يوجب استحقاق القتل عليه فيكون عيبا وردة الأمة تفوت على المشتري منفعة الوطئ فيكون عيبا أيضا اه. وفي شرح المجمع معزيا إلى الحقائق: ولا تجالس ولا تواكل ولا تباع اه. ويشترط في جواز قتل المرتد أن لا يكون إسلامه بطريق التبعية ولذا قال في البدائع: صبي أبواه مسلمان حتى حكم بإسلامه تبعا لأبويه فبلغ كافرا ولم يسمع منه إقرار باللسان بعد البلوغ لا يقتل لانعدام الردة منه إذ هي اسم للتكذيب بعد سابقة التصديق ولم يوجد منه التصديق بعد البلوغ حتى لو أقر بالاسلام ثم ارتد يقتل ولكنه في الأولى يحبس لأنه كان له حكم الاسلام قبل
215 البلوغ تبعا والحكم في إكسابه كالحكم في إكساب المرتد لأنه مرتد حكما اه. وأن لا يكون في إسلامه شبهة لأن السكران لو أسلم صح إسلامه فإن رجع مرتدا لا يقتل كالصبي العاقل إذا ارتد، كذا في التاترخانية. قوله: (وإسلامه أن يتبرأ عن الأديان كلها أو عما انتقل إليه) أي إسلام المرتد بذلك ومراده أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى دين الاسلام وتركه لظهوره ولم يذكر الشهادتين. وصرح في العناية بأن التبرأ بعد الاتيان بالشهادتين. وفي شرح الطحاوي سئل أبو يوسف كيف يسلم؟ فقال: أن يقول أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقر بما جاء من عند الله ويتبرأ من الذي انتحله وقال لم أدخل في هذا الدين قط وأنا برئ منه. وقوله قط يريد منه معنى أبدا لأن قط طرف لما مضى لا لما يستقبل، كذا في فتح القدير. والاقرار بالبعث والنشور مستحب. وقوله عما انتحله أي ادعاه لنفسه كاليهود والنصارى، كذا في الظهيرية. وأفاد باشتراط التبري أنه لو أتى بالشهادتين على وجه العادة لم ينفعه ما لم يرجع عما قال إذ لا يرتفع بهما كفره، كذا في البزازية وجامع الفصولين. وقيد بإسلام المرتد لأن في إسلام غيره من الكفار تفصيلا، فإن كان الكافر جاحدا للباري سبحانه وتعالى كعبدة الأوثان أو مقرا بالباري مشركا غيره معه كالثنوية فإنه يكون مسلما بإحدى الشهادتين، وكذا إذا قال أنا على دين الاسلام أو على الحنيفية، وإن كان موحدا جاحدا للرسالة فلا يصير مسلما بكلمة التوحيد حتى يقول محمد رسول الله. وفي مجموع النوازل: قال مجوسي صلى الله على محمد لا يكون مسلما، ولو قال أسلمت فهو إسلام. وفي الروضة: لو قال الكافر آمنت بما آمن به الرسل صار مسلما وفي مجموع النوازل: إذا قال الكافر الله واحد يصير مسلما. ولو قال لمسلم دينك حق لا يصير مسلما، وقيل يصير مسلما إلا إذا قال حق ولكن لا أؤمن به. ولو قال برئت من اليهودية ولم يقل دخلت في دين الاسلام لا يكون مسلما. وفي التجريد: لو قال اليهودي أو النصراني لا إله إلا الله وأتبرأ من النصرانية فليس بإسلام، ولو قال مع ذلك ودخلت في دين الاسلام أو دين محمد صلى الله عليه وسلم كان مسلما، الكل من الخلاصة. وفي المحيط: من يقر من اليهود والنصارى برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم يزعمون أنه رسول إلى العرب لا إلى بني إسرائيل كما في بلاد العراق فإنه لا يكون مسلما بإقراره أن محمدا رسول الله حتى يتبرأ من دينه ذلك أو يقر بأنه دخل في دين الاسلام اه. ثم اعلم أن الاسلام يكون بالفعل أيضا كالصلاة بجماعة أو الاقرار بها أو الاذان في بعض المساجد أو
216 الحج وشهود المناسك لا الصلاة وحده ومجرد الاحرام. قوله: (وكره قتله قبله) أي قبل عرض الاسلام لأن إسلامه مرجو. قال في الهداية: ومعنى الكراهة هنا ترك المستحب اه. يعني فهي كراهة تنزيه وهو مبني على القول باستحباب العرض، وأما من قال بوجوبه فهي كراهة تحريم كما في فتح القدير. أطلقه فشمل قتل الإمام وغيره لكن إن قتله غيره أو قطع عضوا منه بغير إذن الإمام أدبه الإمام كما في شرح الطحاوي. قوله: (ولم يضمن قاتله لأن الكفر مبيح للقتل) وكل جناية على المرتد فهي هدر. قوله: (ولا تقتل المرتدة بل تحبس حتى تسلم) لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء ولان الأصل تأخير الا جزية إلى دار الآخرة إذ تعجيلها يخل بمعنى الابتلاء، وإنما عدل عنه دفعا لشر ناجز وهو الحراب ولا يتوجه ذلك من النساء لعدم صلاحية البنية بخلاف الرجال فصارت كالمرتدة الأصلية. أطلقها فشمل الحرة والأمة. ويستثنى منه المرتدة بالسحر لما في المحيط. والساحرة تقتل إذا كانت تعتقد أنها هي الخالقة لذلك لتصير مرتدة وإن كانت المرتدة لا تقتل لما جاء في الأثر من أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عماله أن اقتلوا الساحر والساحرة. وذكر في المنتقى أن الساحرة لا تقتل ولكنها تحبس وتضرب كالمرتدة والأول أصح لأن ضرر كفرها وهو سحرها يتعدى إلى الحي المعصوم بفوات حياته فتقتل كالرجل اه. وفي التتارخانية: الخنثى المشكل إذا ارتد لم يقتل ويحبس ويجبر على الاسلام اه. ولم يذكر المصنف حكم قاتلها قال في فتح القدير: ولو قتلها قاتل لا شئ عليه حرة كانت أو أمة. ذكره في المبسوط اه. وفي التتارخانية معزيا إلى العتابية: وفي الأمة يضم لمولاها اه. وفي الولوالجية: وإن قتلها قاتل لم يضمن شئ لأن قيمة الدم بالاسلام وقد زال ويؤدب على ذلك لارتكابه ما لا يحل اه. وظاهر كلامه أنه لا فرق بين الحرة والأمة في عدم الضمان فإنه قال أولا: ومن قتل حرة مرتدة لم يضمن ثم قال: وكذا الأمة. وأطلق في حبسها فشمل الأمة لكن الأمة تدفع إلى مولاها فيجعل حبسها بيت السيد، سواء طلب هو ذلك أم لا في الصحيح، ويتولى هو جبرها جمعا بين حق الله وحق السيد في الاستخدام فإنه لا منافاة بخلاف العبد المرتد لأنه لا فائدة في دفعه إليه لأنه يقتل. ويستثنى من خدمته لها وطؤها فقد صرح الأسبيجابي بأنه لا يطؤها، وقدمنا عن الولوالجي ما يفيده. وأفاد بقوله تحبس أنها لا تسترق في دار الاسلام وقدمنا فيه رواية في باب نكاح الكافر مع بقية أحكام ردتها فارجع إليه. ولم يذكر المصنف أنها تضرب لأنه لم ذكر في الجامع الكبير ولا في ظاهر الرواية وقد نقل الشارحون في باب نكاح الكافر أنها إذا ارتدت تضرب خمسة وسبعين وهو اختيار لقول أبي يوسف في نهاية التعزير
217 وهو المأخوذ به في كل تعزير بالضرب كما في الحاوي القدسي، وذكر في فتح القدير هنا: ويروى عن أبي حنيفة أنها تضرب في كل يوم وقدرها بعضهم بثلاثة، وعن الحسن تضرب في كل يوم تسعة وثلاثين سوطا إلى أن تموت أو تسلم. ولم يخصه بحرة ولا أمة وهذا قتل معنى لأن موالاة الضر ب تفضي إليه اه. وأطلق في حبسها فشمل ما إذا لحقت بدار الحرب ثم سبيت واسترقت فإنها تجير على الاسلام بالضرب والحبس ولا تقتل كما صرح به في البدائع، ولا يكون استرقاقها مسقطا عنها الجبر على الاسلام كما لو ارتدت الأمة ابتداء فإنها تجبر على الاسلام. وشمل ما إذا كانت صغيرة عاقلة لما في المحيط من باب ما يجب للمطلقة قبل الدخول ما يجب جزاء على الردة: يجوز أن تؤاخذ الصغيرة به ألا ترى أنها تحبس على الردة كما تحبس الكبيرة والحبس جزاء الردة اه. قوله: (ويزول ملك المرتد عن ماله زوالا موقوفا فإن أسلم عاد ملكه) قالوا: وهذا عند أبي حنيفة. وعندهما لا يزول ملكه لأنه مكلف محتاج فإلى أن يقتل يبقى ملكه كالمحكوم عليه بالرجم والقصاص، وله أنه حربي مقهور تحت أيدينا حتى يقتل ولا يقتل إلا بالحراب وهذا يوجب زوال ملكه ومالكيته غير أنه مدعو إلى الاسلام بالاجبار عليه ويرجى عوده إليه فتوقفنا في أمره، فإن أسلم جعل العارض كأن لم يكن في حق هذا الحكم فصار كأن لم يزل مسلما ولم يعمل بالسبب، وإن مات أو قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه استقر أمره فعمل السبب عمله وزال ملكه. ثم اختلف الشيخان في حكم تبرعاته فقال أبو يوسف: من جميع المال كتصرف من وجب عليه القصاص. وقال محمد: هو بمنزلة المريض فتكون من ا لثلث لكونه على شرف التلف. وفي البدائع: لا خلاف أنه إذا أسلم أن أمواله باقية على حكم ملكه وأنه إذا مات أو قتل أو لحق بدار الحرب أنها تزول عن ملكه، وإنما الخلاف في زوالها بهذه الأشياء الثلاثة مقصورا على الحال وهو قولهما أو مستندا إلى وقت وجود الردة وهو قوله وثمرته تظهر في تصرفاته فعندهما نافذة قبل الاسلام وعنده موقوفة لوقوف املاكه اه. قيد بالملك لأنه لا توقف في إحباط طاعاته ووقوع الفرقة بينه وبين امرأته وتجديد الايمان فإن الارتداد بالنسبة إليها قد عمل عمله، كذا في العناية. وذكر في الخانية إذا استأجر المسلم دارا أو عقارا أو منقولا ثم ارتد - والعياذ بالله تعالى - ولحق بدار الحرب وقضى القاضي بلحاقه تبطل إجارته كأنه مات، وكذا إذا استأجر ثم ارتد. ولو أوصى لرجل بثلث ماله ثم ارتد ولحق بدار الحرب أو لم يلحق بطلت وصيته، وكذا لو أوصى إلى رجل وجعله قيما في ماله ثم ارتد ولحق بدار الحرب أو لم يلحق بطل إيصاؤه. وإن وكل رجلا ثم ارتد الموكل ولحق بدار الحرب ينعزل وكيله في قولهم، وإن عاد إلينا مسلما هل يعود وكيلا؟ ذكر في الوكالة أنه لا يعود، وذكر في السير أنه يعود، ولو ارتد الوكيل ولحق وقضى به ثم عاد
218 مسلما قال أبو يوسف: لا يعود وكيلا. وقال محمد: يعود اه. والحاصل أنه لا توقف في إبطال عباداته وبينونة امرأته وإيجاره واستئجاره ووصيته وإيصائه وتوكيله ووكالته، وقدمنا أن من عباداته التي بطلب بردته وقفه وأنه لا يعود بإسلامه. وقيد بالمرتد لأن المرتدة لا يزول ملكها عن مالها بلا خلاف فيجوز تصرفاتها في مالها بالاجماع لأنها لا تقتل فلم تكن ردتها سببا لزوال ملكها، كذا في البدائع. وينبغي أن يلحق بها المرتد إذا لم يقتل وهو من كان في إسلامه شبهة كما قدمناه بجامع عدم القتل ولم أره صريحا. وفي الزيادات: المرتدة إذا تصرفت إن كان تصرفا ينفذ من المسلم ينفذ منها، وإن كان تصرفا لا ينفذ من المسلم لكن يصح ممن هو على ملة انتحلت إليها كاليهود والنصارى نفذ تصرفاتها عندهما، وعنده اختلف المشايخ قال بعضهم يصح، وقال بعضهم لا يصح منها إلا ما يصح من المسلم، كذا في التتارخانية، وثمرته في بيعها الخمر والخنزير. وأفاد بقوله ملك المرتد عن ماله أن الكلام في الحر فلا يزول ما ملكه المكاتب من اليد بردته ولذا قال في الخانية: وتصرفات المكاتب في ردته نافذة في قولهم اه. قوله: (وإن مات أو قتل على ردته ورث كسب إسلامه وإرثه المسلم بعد قضاء دين إسلامه وكسب ردته فئ بعد قضاء دين ردته) بيان لميراث المرتد بعد موته حقيقة. وحاصله أن ما كان كسبا له زمن إسلامه فهو ميراث لورثته المسلمين اتفاقا ولا يكون فئ عندنا خلافا للأمة الثلاثة لأنه مات كافرا والمسلم لا يرث الكافر وهو مال حربي لا أمان له فكان فيئا. ولنا أن ملكه بعد الردة باق فينتقل بموته إلى ورثته مستندا إلى ما قبيل ردته إذ الردة سببا للموت فيكون توريث المسلم من المسلم، والاستناد لازم له على قول الأئمة الثلاثة أيضا لأن أخذ المسلمين له إذا لم يكن له وارث بطريق الوراثة وهو يوجب الحكم باستناده شرعا إلى ما قبيل ردته وإلا كان توريثا للكافر من المسلم، ومحمل الحديث الكافر الأصلي الذي لم يسبق له إسلام فساوت قرابته المسلمين في ذلك فترجحت قرابته بجهة القرابة وتمامه في فتح القدير. واستدل في البدائع بأن عليا رضي الله عنه لما قتل المستورد العجلي بالردة قسم ماله بين ورثته للمسلمين وكان بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير إنكار فكان إجماعا، وأشار بقوله وارثه إلى أن المعتبر وجود الوارث عند الموت أو القتل أو الحكم باللحاق وهو رواية محمد عن الإمام وهو الأصح كما في النهاية وفتح القدير، لأن الحادث بعد انعقاد السبب قبل
219 تمامه كالحادث قبل انعقاده بمنزلة الولد الحادث من المبيع قبل القبض. وذكر في الهداية فيه ثلاث روايات وحاصله كما في النهاية أن على رواية الحسن يشترط الوصفان وهما كونه وراثا وقت الردة وكونه باقيا إلى وقت الموت أو القتل حتى لو كان وارثا وقت الردة ثم مات قبل موت المرتد أو حدث وارث بعد الردة فإنهما لا يرثان. وعلى رواية أبي يوسف يشترط الوصف الأول دون الثاني، وعلى رواية محمد يشترط الوصف الثاني دون الأول اه. فعلى الأصح لو كان من بحيث يرثه كافرا أو عبدا يوم ارتد فعتق بعد الردة قبل أن يموت أو يلحق أو أسلم ورثه، كذا في فتح القدير. وكذا لو ولد له ولد من علوق حادث بعد الردة إذا كان مسلما تبعا لامة بأن علق من أمة مسلمة له. وفي الخانية: مسلم ارتد أبوه فمات الابن وله معتق ثم مات الأب وله معتق مسلم فإن ميراث الأب لمعتقه لا لمعتق ابنه لأن الابن إنما يرث من أبيه المرتد عند موت المرتد فإذا مات الابن قبل موت الأب لم يرثه الابن اه. وهو مفرع على غير رواية أبي يوسف، أما عليها فالمال لمعتق الابن كما لا يخفى. وأطلق الوارث فشمل المرأة فترثه امرأته المسلمة إذا مات أو قتل وهي في العدة لأنه يصير فارا وإن كان صحيحا وقت الردة، كذا في الهداية والتحقيق أن يقال: إنه بالردة كأنه مرض مرض الموت باختياره بسبب المرض ثم هو بإصراره على الكفر مختارا في الاصرار الذي هو سبب القتل حتى قتل بمنزلة المطلق في مرض موته ثم يموت قتلا أو حتف أنفه أو بلحاقه فيثبت حكم الفرار، كذا في فتح القدير. ثم اعلم أن اشتراط قيام العدة لإرثها إنما هو على غير رواية أبي يوسف، أما عليها فترثه وإن كانت منقضية العدة لكونها وارثة وقت الردة وهو مروي أيضا. ثم اعلم أن اشتراط قيام العدة يقتضي أنها موطوءة فلا ترث غير المدخولة وهو كذلك، وذلك لأن بمجرد الردة تبين غير المدخولة لا إلى عدة فتصير أجنبية ولما لم تكن الردة موتا حقيقيا حتى إن المدخولة إنما تعتد فيها بالحيض لا بالأشهر لم تنتهض سببا للإرث إذا لم يكن عند موت الزوج أو لحاقه أثر من آثار النكاح لأن الإرث وإن استند إلى الردة لكن يتقرر عند الموت، وبهذا
220 أيضا لا ترث المنقضية عدتها، كذا في فتح القدير. وينبغي أن يكون مفرعا أيضا على غير رواية أبي يوسف، أما عليها فلا فرق بين المدخولة وغيرها. وقيد الوارث بالاسلام لأن الكافر لا يرث المرتد. وفي البدائع: ولو ارتد الزوجان معا ثم جاءت بولد ثم قتل الأب على ردته، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الردة يرثه لأنه علم أن العلوق حصل في حالة الاسلام قطعا، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعدا من وقت الردة لم يرثه لأنه يحتمل أنه علق في حالة الردة فلا يرث مع الشك، ولو ارتد الزوج دون المرأة أو كانت له أم ولد مسلمة ورثه مع ورثته المسلمين وإن جاءت به لأكثر من ستة أشهر لأن الام مسلمة فكان الولد على حكم الاسلام تبعا لامه فيرث أباه اه. وأما ما كان كسبا له زمن ردته ففيه اختلاف، فقالا: هو كالأول ميراث لأن ملكه باق بعد الردة فينتقل بموته إلى ورثته مستندا إلى ما قبيل ردته. وقال الإمام: إنه فئ يوضع في بيت مال المسلمين كاللقطة لأنه إنما يمكن الاستناد في كسب الاسلام لوجوده قبل الردة ولا يمكن الاستناد في كسب الردة لعدمه قبلها، ومن شرط استناد التوريث وجوده قبلها. وحاصله أنه لا ملك له فيما اكتسبه زمن ردته حيث مات أو قتل، وما ليس بمملوك له لا يورث عنه، وهما لما قالا بأن أملاكه لا تزول بردته قالا بأن كسبه زمنها مملوك له فيورث عنه فالخلاف هنا مبني على الخلاف السابق في زوال أملاكه بالردة. وفي القاموس: الفئ ما كان شمسا فينسخه الظل والغنيمة والخراج والقطعة من الطير والرجوع اه. فله خمسة معان لغة. وأما اصطلاحا فما يوضع في بيت مال المسلمين. وأما حكم ديونه فأفاد أن ديون إسلامه تقضي من كسب إسلامه وإن دين ردته يقضي من كسب ردته. وحاصله أن على قولهما تقضي ديونه من الكسبين لأنهما جميعا ملكه حتى يجري الإرث فيهما، وأما على قول الإمام ففيه روايتان: ففي رواية أبي يوسف عنه أنه في كسب الردة إلا أن لا يفي به فيقضي الباقي من كسب الاسلام. وفي رواية الحسن عنه أنه في كسب الاسلام إلا أن لا يفي به فيقضي الباقي من كسب الردة وهو الصحيح لأن دين الانسان يقضي من ماله لا من مال غيره، وكذا دين الميت يقضي من ماله لا من مال وارثه وماله كسب الاسلام فأما كسب الردة فما جماعة المسلمين فلا يقضي منه الدين إلا لضرورة، فإذا لم يف به كسب الاسلام تحققت الضرورة فيقضي الباقي منه، كذا في البدائع، وهكذا صحح الولوالجي. فقد علمت أن ما في المتن ليس على قول من الأقوال الثلاثة، وإنما ذكره في البدائع قولا للحسن وزفر فقال وقال الحسن: دين الاسلام في كسب الاسلام ودين الردة في كسب الردة وهو قول زفر اه. والحق أنها رواية زفر عن الإمام أيضا كما في النهاية. وقوله في الهداية إنها رواية عن أبي حنيفة أي رواية زفر عنه لكنها ضعيفة كما علمت. وظاهر الولوالجية أنه لو لم يكن له إلا أحد النوعين يقضي الدينان منه اتفاقا وسنوضحه من بعد
221 إن شاء الله تعالى. وقدمنا أن الكلام إنما هو في الحر وأن المكاتب خارج عن هذه الأحكام فلذا قال في الجوهرة: إن ما اكتسبه المكاتب في حال ردته لا يكون فيأ وإنما يكون لمولاه لتعلق حقه به وسنوضحه من بعد إن شاء الله تعالى. وقيد بالمرتد لأن المرتدة كسباها لورثتها لأنه لا حراب منها فلم يوجد سبب الفئ بخلاف المرتد عند أبي حنيفة، ويرثها زوجها المسلم إن ارتدت وهي مريضة لقصدها إبطال حقه، وإن كانت صحيحة لا يرثها لأنها لا تقتل فلم يتعلق حقه بمالها بالردة بخلاف المرتد. والحاصل أن زوجة المرتد ترث منه مطلقا وزوج المرتدة لا يرثها إلا إذا ارتدت مريضة والكسب بفتح الكاف وكسرها الجمع كسبه جمعه، كذا في القاموس. وقد قدمنا حكم المرتدة في النكاح والعدة في باب نكاح الكافر. قوله: (وإن حكم بلحاقه عتق مدبروه وأم ولده وحل دينه) لأنه باللحاق صار من أهل الحرب وهم أموات في حق أحكام الاسلام لانقطاع ولاية الالزام كما هي منقطعة عن الموتى فصار كالموت إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا فلا بد من القضاء وهو باتفاق الإمام وصاحبيه كما في الجوهرة. وإذا تقرر موته تثبت الأحكام المتعلقة به من عتق المدبر وأم الولد وسقوط الاجل كما في الموت الحقيقي، والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا من عتق مدبريها وحلول دين عليها. ولم يذكر قسمة ماله بين ورثته لظهوره ولما سيشير إليه عند قوله فما وجده في يد وارثه ولم يذكر حكم مكاتبه وحكمه كما في البدائع أنه يؤدي إلى الورثة فيعتق وإذا عتق فولاؤه للمرتد لأنه المعتق اه. وفي المجتبي بعلامة حس ظ: القضاء باللحاق ليس بشرط وإنما يشترط قضاؤه بشئ من أحكام الموتى. وعامتهم على أنه يشترط القضاء باللحاق سابقا على قضائه بهذه الأحكام وإليه أشار محمد في كثير من المواضع اه. وفي فتح القدير: وإذا صار اللحاق كالموت لا أنه حقيقة الموت لا يستقر حتى يقضي به سابقا على القضاء بشئ من هذه الأحكام المذكورة في الصحيح لا أن القضاء بشئ منها يكفي بل يسبق القضاء باللحاق ثم تثبت الأحكام المذكورة اه. وظاهرهما أن القضاء باللحاق قصدا صحيح وينبغي أن لا يصح إلا في ضم دعوى حق للعبد وقد قالوا: إن يوم الموت لا يدخل تحت القضاء ويوم القتل يدخل كما في جامع الفصولين والبزازية. واللحاق موت حكما فينبغي أن لا يدخل تحت القضاء قصدا فينبغي أنه لو حكم بعتق مدبره لثبوت لحاقه مرتدا ببينة عادلة فإنه صحيح، ولا يشترط له تقدم الحكم بلحاقه ولم أر إلى الآن من أوضح هذا المحل. وقوله عتق مدبروه معناه من ثلث ما له وإنما لم يصرح به لما تقدم في
222 باب التدبير. وقوله في الجوهرة بعد عتق المدير وأم الولد يعني من الثلث تسامح لأن أم الولد تعتق من جميع المال كما علم في بابها. ثم اختلف الشيخان في الوقت الذي يعتبر فيه كونه وارثا له فقال أبو يوسف: يقضي به كان وارثا وقت القضاء بلحاقه لأنه حينئذ يصير موتا. وقال محمد: يعتبر وقت لحاقه لأنه السبب، كذا في المجتبى. وفي التتارخانية: وإذا ارتد الأب مع بعض أولاده ولحقوا بدار الحرب فرفع ميراث المرتد إلى الإمام فإنه يقسم ميراثه بين ورثته المسلمين ولا شئ من ميراثه للذي ارتد من أولاده. هذا في كسب الاسلام، وأما كسب الردة ففئ عند الإمام، وأما ما اكتسبه في دار الحرب فهو للابن الذي ارتد ولحق معه إذا مات مرتدا، فإن لحق أحد من أولاده مسلما معه فإنه يرث كسب إسلامه فقط اه. قوله: (وتوقف مبايعته وعتقه وهبته فإن آمن نفذ وإن هلك بطل) بيان لتصرفه حال ردته بعد بيان حكم أملاكه قبل ردته، وهذا عند الإمام. وقالا: هو جائز مطلقا لأن الصحة تعتمد الأهلية وهي موجودة لكونه مخاطيا والنفاذ يعتمد الملك وهو موجود لقيامه قبل موته إلا أن عند أبي يوسف تصح كما تصح من الصحيح لأن الظاهر عوده إلى الاسلام، وعند محمد كما تصح من المريض لأنه يفضي إلى القتل ظاهرا، وله أنه حربي مقهور تحت أيدينا على ما قررناه في توقف الملك وتوقف التصرفات بناء عليه فصار كالحربي يدخل دارنا بغير أمان فيؤسر فتتوقف تصرفاته لتوقف حاله حيث كان للإمام الخيار بين استرقاقه وقتله، فإن قتل أو أسر لم تنفذ منه هذه أو أسلم لم يؤخذ له مال فكذا هذا وفي الأهلية خلل لاستحقاقه القتل لبطلان سب العصمة بخلاف الزاني وقاتل العمد لأن استحقاق القتل جزاء على الجناية. قال أبو اليسر: ما قالاه أحسن لأن المرتد لا يقبل الرق والقهر يكون حقيقيا لا حكميا والملك يبطل بالقهر الحكمي لا الحقيقي، ولهذا المعنى لا يبطل ملك المقضي عليه بالرجم. وحاصل مراده أن المنافي للملك الاسترقاق ليس غير لكنه ممنوع عند أبي حنيفة بل نقول: إنما أوجب الاسترقاق ذلك في الأصل للقهر الكائن بسبب حرابته وهو موجود في المرتد فيثبت فيه ذلك
223 بطريق الأولى لأن الرق يتصور معه ملك النكاح بخلاف قهر المرتد، كذا في فتح القدير. أطلق المبايعة فشملت البيع والشراء والإجارة لأنها بيع المنافع، وأشار بالعتق إلى ما هو من حقوقه كالتدبير والكتابة فهما موقوفان أيضا لكن لا يدخل الاستيلاد لأنه منه نافذ اتفاقا لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك حتى صح في جارية الابن. وأشار بالهبة إلى كل تمليك هو تبرع فدخلت الوصية فإنها موقوفة أيضا، ولما كان الرهن من المعاوضات في المال كالبيع كان داخلا فتوقف رهنه أيضا، ولما كان قبض الدين مبادلة حكما دخل تحت المبايعة فتوقف قبضه الدين أيضا. والحاصل أن ما يعتمد الملة لا يصح منه اتفاقا وهي خمسة، النكاح والذبيحة والصيد بالكلب والبازي والرمي والإرث والشهادة. وما لا يعتمد الملة ولاية ولا حقيقة ملك فإنه صحيح منه اتفاقا وهي خمس أيضا، الاستيلاد والطلاق وقبول الهبة وتسليم الشفعة والحجر على عبده المأذون. وصورة الاستيلاد ما في الخانية: إذا جاءت جاريته بولد فادعى الولد يثبت نسبه منه ويرث ذلك الولد مع ورثته وتصير الجارية أم ولد له اه. وأورد كيف يقع طلاقه وقد بانت بردته. وأجيب بأنه لا يلزم من وقوع البينونة امتناع الطلاق، وقد سلف أن المبانة يلحقها الصريح في العدة وأورد طلب الفرق بين طلاقه وعتقه، والفرق أن الطلاق لا يعتمد كمال الولاية بخلاف العتق بدليل وقوع طلاق العبد دون عتقه. وفي الخانية: وإذا أعتق المرتد عبده ثم أعتقه ابنه المسلم وليس له وارث سواه لا يجوز عتق واحد منهما لأن الابن إنما يرث بعد الموت لا قبله وإعتاقه سابق على ملكه فلا يعتق وهو بخلاف ما إذا مات الرجل وترك عبدا وتركته مستغرقة بالدين فأعتقه الوارث ثم سقط دين الغرماء فإنه ينفذ إعتاق الوارث لأن ثمة سبب الملك للوارث تام وإنما توقف الملك لحق الغرماء، فإذا سقط حق
224 الغرماء فإن إعتاق الوارث ينفذ، وأما في المرتد سبب الملك للوارث إنما يتم بعد موت المرتد اه. ولا يمكن توقف التسليم لأنها بطلت به مطلقا، وأما الحجر فيصح بحق الملك فبحقيقة الملك الموقوف أولى. وفي المحيط في مسألة عتقه: وإعتاق ابنه أنه على الرواية التي عند أبي حنيفة يعتبر كونه وارثا وقت الردة فيجب أن ينفذ عتقه لأنه يملكه من وقت الردة اه. وقد يقال: إنه إنما يملكه من وقت الردة على تلك الرواية إذا مات أو قتل والكلام هنا قبله، وأما ما يعتبر المساواة من التصرف أو ولاية متعدية فإنه لا ينفذ منه اتفاقا، فالأول المفاوضة فإذا فاوض مسلما توقفت اتفاقا إن أسلم نفذت، وإن هلك بطلت وتصير عنانا من الأصل عندهما وتبطل عنده، كذا في الخانية. والثاني التصرف على ولده الصغير وفي مال ولده موقوف اتفاقا فقد ظهر أن تصرفاته على أربعة أقسام ولم أر حكم التقاطه لقيطا أو لقطة. وفي غاية البيان من باب الاستيلاد: الجد إذا وطئ جارية ابن ابنه والأب مرتد فادعاه الجد بعد الولادة لم تصح دعوى الجد عندهما، وعند أبي حنيفة موقوفة، فإن أسلم الأب لم تصح دعوى الجد، وإن مات على الردة أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه تصح اه. وهذه لا ترد على ما في الكتاب لأنها تصرف المسلم وهو الجد لا تصرف المرتد. وقيد بالمرتد لأن تصرفات المرتدة نافذة عند الكل لأنها لا تقتل وقد قدمناه مع بيان تصرفات المكاتب المرتد. وأطلق الهلاك فشمل الحقيقي بالموت أو القتل والحكمي بالقضاء بلحاقه بدار الحرب كما في الخانية. وعبر بالايمان في قوله فإن آمن وأراد الاسلام فإنه المراد هنا كما عبر به في الهداية والخانية فإنه الانقياد الظاهر الذي تبتني عليه الأحكام. قوله: (وإن عاد مسلما بعد الحكم بلحاقه فما وجده في يد وارثه أخذه وإلا لا) أي وإن لم يجده قائما فيده فليس له أخذ بدله منه لأن الوارث إنما يخلفه فيه لاستغنائه، وإذا
225 عاد مسلما يحتاج إليه فيقدم عليه. وعلى هذا لو أحيا الله ميتا حقيقة وأعاده إلى دار الدنيا كان له أخذ ما في يد ورثته، وأطلق في قوله وإلا لا فشمل ما إذا كان هالكا أو إزالة الوارث عن ملكه وهو قائم، سواء كان بسبب يقبل الفسخ كبيع أو هبة أو لا يقبله كعتق وتدبير واستيلاد فإنه يمضي ولا عود له فيه ولا يضمنه. وشمل ما لم يدخل في يد وارثه أصلا كمدبريه وأمهات أولاده المحكوم بعتقهم بسبب الحكم بلحاقه فإنهم لا يعودون في الرق لأن القضاء بعتقهم قد صح بدليل مصحح له والعتق بعد نفاذه لا يقبل البطلان وولاؤهم لمولاهم أعني المرتد الذي عاد مسلما، وكذلك مكاتبه إذا كان أدى المال إلى الورثة لا سبيل عليه أيضا لأنه عتق بأداء المال والعتق لا يحتمل الفسخ وما أدى إلى الورثة إن كان قائما أخذه، وإن زال ملكهم عنه لا ضمان عليه كسائر أمواله، وإن كان لم يؤد بدل الكتابة يأخذها منه، وإن عجز عاد رقيقا له، كذا في البدائع. وفي الخانية: إذا عاد مسلما بعد الحكم بحل ديونه وعتق مدبريه وأم ولده لا يملك أن يبطل شئ إلا شيئان: الأول الميراث يبطله ويسترد ماله إن كان قائما، والثاني إذا كاتب ورثته عبدا من ماله ثم رجع فإن رجع بعدما أدى بدل الكتابة لا يملك إبطالها، فإن رجع قبل أن يؤدي جميع بدل الكتابة كان له أن يبطل الكتابة اه. وظاهر الكتاب أنه يأخذ ما في يد الوارث بغير قضاء ولا رضا والمنقول خلافه. قال في التتارخانية: وما كان قائما في يد الورثة إنما يعود إلى ملكه بقضاء أو رضا فإنه ذكر في السير الكبير أن وارث المرتد إذا تصرف في المال الذي ورثه بعد ما عاد المرتد مسلما نفذ تصرفه اه. وجزم به الزيلعي معللا بأنه دخل في ملكه بحكم شرعي فلا يخرج عن ملكه إلا بطريقه اه. وقد يقال طريقه عوده مسلما فإن الحكم الشرعي الموجب للدخول الحكم بخلافته عنه بعد موته حكما وقد بطلت فبطل ما ابتنى عليه، وقد قدمنا عن التتارخانية أن كسب ردته فئ بعد الحكم بلحاقه كموته حقيقة لكن لم أر حكم ما إذا عاد مسلما ووجد كسب ردته قائما عند الإمام فهل يسترده كما يسترد من وارثه كسب إسلامه؟ الظاهر أنه لا يسترده لأن أخذه ليس بطريق
226 الخلافة بل لكونه مال حربي كما قدمناه فصار لبيت المال فلا يسترده كما أن الحربي الحقيقي لا يسترد ماله بعد إسلامه. وقيد بقوله بعد الحكم بلحاقه لأنه لو عاد مسلما قبله فحكمه كما إذا لم يرتد فلا يعتق مدبره وأم ولده ولا تحل ديونه وله إبطال ما تصرف فيه الوارث لكونه فضوليا. قوله: (ولو ولدت أمة له نصرانية لستة أشهر منذ ارتد فادعاه فهي أم ولده وهو ابنه حر ولا يرثه ولو مسلمة ورثه الابن إن مات على الردة أو لحق بدار الحرب) أما صحة الاستيلاد فلما قدمنا أنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك، وأما الإرث فلان الام إذا كانت نصرانية فالولد تبع له لقربه إلى الاسلام للجبر عليه فصار في حكم المرتد والمرتد لا يرث أحدا، ولم يجعل مسلما تبعا للدار لأنها عند عدم الأبوين فقط، أما إذا كانت مسلمة فالولد مسلم تبعا لها لأنها خيرهما دينا، والمسلم يرث المرتد. أراد بالنصرانية الكتابية ولو يهودية، والتقييد بالستة لنفي الأقل فإنها إذا جاءت به لأقل منها فالولد يرث من أبيه المرتد للتيقن بوجوده في البطن قبل الردة فيكون مسلما تبعا للأب بخلافه للستة لعدم التيقن كما في النهاية لا لنفي الأكثر ولذا عبر في الهداية بالأكثر. زاد فتح القدير ولو إلى عشر سنين. قوله: (وإن لحق المرتد بماله فظهر عليه فهو فئ) أي ماله غنيمة يوضع في بيت المال بالاجماع لا لورثته لسقوط عصمة ماله تبعا لعصمة نفسه. وقيد بالمال لأن المرتد بعد الظهور لا يسترق وإنما يقتل إن لم يسلم، ولا يشكل كون ماله فيأ دون نفسه لأن مشركي العرب كذلك. وفي المغرب: ظهر عليه غلب، وظهر على اللص غلب وهو من قولهم ظهر فلان السطح إذا علاه وحقيقته صار على ظهره اه. فعلى هذا ظهر في كلام المصنف بالبناء للمفعول. قوله: (فإن رجع وذهب بماله وظهر عليه فلوارثه) لأنه انتقل إليهم بقضاء القاضي بلحاقه فكان الوارث مالكا قديما. وحكمه أنه إن وجده قبل القسمة أخذه بغير بدل، وإن وجده بعدها أخذه بقيمته إن شاء، وإن كان مثليا فقد تقدم أنه لا يؤخذ لعدم الفائدة، كذا في فتح القدير. والمثلي وارد على المصنف مع أن في عبارته إيهام أن يأخذه بغير شئ مطلقا، ولم يقيد المصنف أن يكون رجوعه بعد الحكم بلحاقه تبعا للجامع الصغير فأفاد أنه لا فرق بين أن يكون بعده أو قبله، أما إذا كان بعده فظاهر لتقرر الملك للوارث بالقضاء بلحاقه، وأما قبله فلان عوده وأخذه ولحاقه ثانيا يرجح جانب عدم العود ويؤكده فيتقرر موته، وما احتيج للقضاء باللحاق لصيرورته ميراثا إلا ليترجح عدم عوده فيتقرر إقامته ثمة فيتقرر موته، فكان رجوعه ثم عوده ثانيا بمنزلة القضاء. وفي بعض روايات السير جعله فيأ لأن بمجرد اللحاق لا يصير المال
227 ملكا للورثة والوجه ظاهر الرواية: كذا في فتح القدير تبعا لما في النهاية والعناية وهما تبعا فخر الاسلام البزدوي في شرح الجامع الصغير من أن ظاهر الرواية الاطلاق. وقيد الفقيه أبو الليث في شرح الجامع الصغير بأن يكون الرجوع بعد القضاء أما قبله ففئ. وحمل في غاية البيان إطلاق الكتاب على مذهب محمد وما في بعض روايات السير على مذهب أبي يوسف. وبما قررناه سقط إشكال الزيلعي على النهاية لأنه حيث كان ظاهر الرواية الاطلاق وكان له وجه ظاهر فلا محل للاشكال فلذا قال في الفتح: والوجه ظاهر الرواية واعتمده المصنف في الكافي. قوله: (وإن لحق وقضى بعبده لابنه فكاتبه فجاء مسلما فالمكاتبة والولاء لمورثه) وهو المرتد الذي عاد مسلما لأنه لا وجه إلى إبطال الكتابة لنفوذها بدليل منفذ وهو القضاء بلحاقه فجعلنا الوارث الذي هو خلفه كالوكيل من جهته وحقوق العقد فيه ترجع إلى الموكل والولاء لمن يقع العتق عنه نظيره المكاتب إذا كاتب عبده ثم عجز وفسخت الكتابة الأولى تبقى الثانية على حالها ويكون بدل الكتابة وولاؤه لمولاه، وليس انتقال الكتابة إلى المرتد الذي أسلم بسبب انتقال المكاتب من ملك الابن إليه وإنما هو لسقوط ولاية الخلف عند ظهور ولاية الأصل، وأشار بفاء التعقيب في قوله فجاء مسلما إلى أن مجيئه عقيب كتابته يعني من غير أداء بدل الكتابة إلى الابن فلو أداها إليه ثم جاء مسلما فإنه عتق على الابن حين أدى وكان الولاء له فلا ينتقل بعده إلى أبيه كما لو أعتق الابن عبده ثم جاء مسلما والمكاتبة بدل الكتابة. وقيد بالكتابة لأن الابن إذا دبره ثم جاء الأب مسلما فإن الولاء لا يكون للأب كما في التتارخانية. وأشار بكون البدل والولاء فقط للأب إلى أنه لا يمكن فسخ الكتابة لصدورها عن ولاية شرعية وقد صرح به الشارح، وقدمنا عن الخانية أنه يملك إبطال كتابة الوارث قبل أداء جميع البدل إلا أن يقال إن مرادهم أنه لا يمكن فسخها بمجرد مجيئه من غير أن يفسخها، أما إذا فسخها انفسخت إلا أن جعلهم الوارث كالوكيل من جهته يأباه وقدمنا حكم ما إذا كاتب ثم ارتد ثم لحق. قوله: (فإن قتل مرتد رجلا خطأ ولحق أو قتل فالدية في كسب الاسلام خاصة) بيان لحكم جنايته وهذا عند الإمام. وقالا: الدية فيما اكتسبه في الاسلام والردة لأن الكسبين ماله لنفوذ تصرفه في المالين ولذا يجري الإرث فيهما عندهما وعنده ماله هو المكتسب في الاسلام لنفوذ تصرفه فيه دون المكسوب في الردة لتوقف تصرفه ولذا كان الأول ميراثا عنه والثاني فيأ، واتفقوا أنه لا عاقلة له لانعدام النصرة فتكون الدية في ماله. قيد بلحاقه أو قتله يعني
228 على الردة لأنه لو أسلم تكون الدية في الكسبين جميعا مات أو لم يمت. وأشار بقوله خاصة إلى أنه لو لم يكن له كسب إسلام وإنما له كسب الردة فإن الجناية هدر عنده خلافا لهما، كذا في فتح القدير. وفيه نظر والصواب أن الدية في كسب الردة لأنها كالدين وقدمنا عن أبي حنيفة في الدين ثلاث روايات، وفي رواية يقضي دين الاسلام من كسبه ودين الردة من كسبها، وفي رواية يقضي من كسب الردة إلا أن لا يفي فمن كسب الاسلام، وفي رواية عكسه وهي الصحيحة فلم يرد أن دين الردة هدر فكيف يقال في جنايته مع وجود كسب الردة أنها هدر والظاهر أنه سهو ولذا قال في التتارخانية والولوالجية: فإن لم يكن له إلا كسب الاسلام أو إلا كسب الردة تستوفى الدية منه، وإن كان له الكسبان قالا يستوفي منهما. وقال الإمام: تستوفي من كسب الاسلام أولا فإن فضل شئ استوفى الفضل من كسب الردة اه. وفي فتح القدير: وعلى هذا لو غصب مالا فأفسده يجب ضمانه في مال الاسلام وعندهما في الكل اه. وفي غاية البيان: إن حكم ما اغتصبه أو أتلفه كذلك عنده في كسب الاسلام فإن فضل شئ كان في كسب الردة. وفي التتارخانية: هذا إذا ثبت الغصب والاتلاف بالمعاينة، فإن ثبت بإقرار المرتد فعندهما يستوفي من الكسبين، وعنده من كسب الردة، كذا ذكر شيخ الاسلام اه. وينبغي أن يكون القتل خطأ كذلك لكونه متهما في إقراره لحق الورثة. وفي فتح القدير الولوالجية: وجناية العبد والأمة والمكاتب المرتدين كجنايتهم في غير الردة لأن الملك فيهما قائم بعد الردة والمكاتب يملك إكسابه في الردة فيكون موجب جنايته في كسبه والجناية على المماليك المرتدين هدر اه. ولم يذكر المصنف حكم الجناية على المرتد بقطع يده أو رجله لكونه قد علم من قوله أولا لا يضمن قاتله بالأولى. وذكر محمد في الأصل أن الجاني لا يضمن. سواء مات المرتد من ذلك القطع على الردة أو مات مسلما حيث كان القطع وهو مرتد، وأما إذا كان القطع وهو مسلم والسراية إلى النفس وهو مرتد فهي المسألة الآتية. والواو في قوله ولحق بمعنى ثم وقيد به لأنه لو قتل في دار الحرب ثم جاء تائبا فلا شئ عليه، وكذا لو غصب أو قذف لأن فعله لم ينعقد موجبا لصيرورته في حكم أهل الحرب، وأما إذا فعل شئ قبل اللحاق ثم لحق فما كان من حقوق العباد كالقتل والغصب والقذف يؤخذ به، وما كان من حقوق الله تعالى كبقية الحدود فإنه يسقط لأن اللحاق كالموت يورث شبهة، كذا في البدائع. قوله: (ولو ارتد بعد القطع عمدا أو مات أو لحق وجاء مسلما فمات منه ضمن القاطع
229 نصف الدية في ماله لورثته) بيان لمسألتين: إحداهما إذا قطعت يد المسلم عمدا ثم ارتد المقطوعة يده ثم سرى القطع إلى النفس. ثانيهما إذا لحق المقطوع يده بدار الحرب ثم عاد مسلما ثم سرى القطع إلى النفس، والحكم فيهما ضمان دية اليد فقط ولا يضمن القاطع بالسراية إلى النفس شيئا، أما في الأولى فلان السراية حلت محلا غير معصوم فانهدرت بخلاف ما إذا قطع يد المرتد ثم أسلم فمات من ذلك فإنه لا يضمن شيئا لأن الاهدار لا يلحقه الاعتبار، أما المعتبر قد يهدر بالابراء وبالاعتاق وبالبيع كما لو قطع يد عبد ثم باعه مولاه ثم رد عليه بالعيب ثم مات العبد من القطع فإن الجاني لا يضمن للبائع ضمان النفس فلذا يهدر بالردة. وأما الثانية فقال في الهداية: معناه إذا قضى بلجاقه لأنه صار ميتا تقديرا والموت يقطع السراية وإسلامه حياة حادثة في التقدير فلا يعود حكم الجناية الأولى، وإن لم يقض بلحاقه حتى عاد مسلما فهو على الخلاف الآتي في الآتية على الصحيح، فعند محمد يجب نصف الدية، وعندهما دية، وحاصله أنه بعد اللحاق قبل القضاء كما قبل اللحاق. قيد بقوله عمدا ليكون ضمان دية اليد في ماله لأنه لو كان خطأ فهو على العاقلة كما في الولوالجية قوله: (وإن لم يلحق وأسلم ومات ضمن الدية) أي كاملة عندهما. وقال محمد: النصف لأن اعتراض الردة أهدر السراية فلا ينقلب بالاسلام إلى الضمان كما إذا قطع يد مرتد فأسلم. ولهما أن الجناية وردت على محل معصوم وتمت فيه فيجب ضمان النفس كما إذا لم تتخلل الردة. وهذا لأنه لا معتبر لقيام العصمة في حال بقاء الجناية وإنما المعتبر قيامها في حال انعقاد السبب وفي حال ثبوت الحكم وحالة البقاء بمعزل من ذلك وصار كقيام الملك في حال بقاء اليمين. قيد بكون المقطوع هو المرتد لأنه لو لم يرتد وإنما ارتد القاطع بعد القطع ثم قتل القاطع أو مات ثم سرى القطع إلى النفس، فإن كان القطع عمدا فلا شئ على أحد لفوت محل القصاص، وإن كان خطأ وجبت الدية بتمامها على عاقله القاطع في ثلاث سنين من يوم قضاء القاضي عليهم - كذا في الخانية - لأنه حين القطع كان مسلما وتبين أن الجناية قتل بخلاف ما إذا قطعها وهو مرتد فإنه لا شئ على العاقلة لأن المرتد لا عاقلة له. وأشار بإضافة الضمان إليه إلى أنه في ماله لأنه عمد والعاقلة لا تعقله فلو كان القطع خطأ وجبت الدية على العاقلة، كذا في الولوالجية. قوله: (ولو ارتد مكاتب ولحق وأخذ بماله وقتل فمكاتبته لمولاه وما بقي لورثته) أما على
230 أصلهما فظاهر لأن كسب الردة ملكه إذا كان حرا فكذا إذا كان مكاتبا، وأما عند أبي حنيفة فلان المكاتب إنما يملك إكسابه بالكتابة والكتابة لا تتوقف بالردة فكذا إكسابه ألا ترى أنه لا يتوقف تصرفه بالأقوى وهو الرق فكذا بالأدنى وهو الردة. ومعنى قوله أخذ بماله بالبناء للمفعول أنه أسر مع ماله وأبى أن يسلم فقتل وأورد عليه أنه إذا وفيت كتابته حكم بحريته في آخر جزء من أجزاء حياته فيتبين أن كسبه كسب مرتد حر فيكون فيأ عنده. وأجيب بأن الحكم بحريته إنما هو في الحقوق المستحقة بالكتابة وهي حرية نفسه وأولاده وملك كسبه رقبة وفيما عدا ذلك من الأحكام يعتبر عبدا ألا ترى أنه لا تصح وصيته وإن ترك وفاء لأن الوصية ليست من الحقوق المستحقة بالكتابة فكذا كسبه لا يكون فيأ لأن كسب العبد المرتد لا يكون فيئا فلا يجعل حرا في حقه والمكاتبة بدل الكتابة. وفي القاموس: المكاتبة التكاتب وأن يكاتبك عبدك على نفسه بثمنه فإذا أداه عتق اه. فإطلاق المكاتبة على البدل مجاز كما لا يخفى قوله: (ولو ارتد الزوجان ولحقا فولدت ولدا وولد له ولد فظهر عليهم فالولدان فئ ويجبر الولد على الاسلام لا ولد الولد) بيان لحكم ولد المرتدة وحاصله أنه إما أن يكون موجودا منفصلا حين الردة أولا، فإن كان الأول فإنه لا يكون مرتدا بردتهما معا لأنه ثبت له حكم الاسلام بالتبعية فلا تزول بردتهما إلا إذا لحقا به أو أحدهما إلى دار الحرب فإنه خرج عن الاسلام لأنه كان بالتبعية لهما أو للدار وقد انعدم الكل فيكون الولد فيئا ويجبر على الاسلام إذا بلغ كما تجبر الام عليه، فإن كان الأب ذهب به وحده والام مسلمة في دار الاسلام لم يكن الولد فيئا لأنه بقي مسلما تبعا لامه، وإن كان الثاني بأن ولد لهما ولد بعد لحوقهما فحكمه حكمهما من كونه فيئا ومن الجبر على الاسلام، سواء كان الحبل في دار الحرب أو في دار الاسلام ولذا أطلقه المصنف. وتقييده في الهداية بكون الحبل في دار الحرب اتفاقي ليعلم حكم ما إذا حبلت به في دار الاسلام بالأولى لأنه إذا أجبر على الاسلام مع بعده عنه ببعده عن داره فمع كونه أقرب إليه أولى كما في النهاية لكن ليس حكم هذا الولد كحكمهما من جهة القتل ولذا قال الولوالجي: لا يقتل لو أبى كولد المسلم إذا بلغ ولم يصف الاسلام يجبر عليه ولا يقتل. وإنما لم يجبر ولد الولد لأنه أما بالتبعية لجده أو لأبيه لا سبيل إلى الأول مع وجود أبيه ولا إلى الثاني لأن ردة أبيه كانت تبعا والتبع لا يستتبع خصوصا وأصل التبعية ثابتة على خلاف القياس لأنه لم يرتد حقيقة ولذا يجبر بالحبس لا بالقتل بخلاف أبيه، وإذا لم يتبع الجد فيسترق أو توضع عليه الجزية أو يقتل لأن حكمه حينئذ حكم سائر أهل الحرب إذا أسروا، وأما الجد فيقتل لا محالة لأنه المرتد بالأصالة أو يسلم، كذا في فتح القدير... واعلم
231 أن الجد ليس كالأب في ظاهر الرواية في ثمان مسائل، أربعة في الفرائض وأربعة في غيرها. أما الثاني فالأولى أنه لا يكون مسلما بإسلام جده في ظاهر الرواية وفي رواية الحسن يتبعه. وهذه وهو أن ولد الولد لا يجبر كجده مبنية عليها. والثانية صدقة الفطر للولد الصغير إذا كان جده موسرا أو لا أب له أو له أب معسر أو عبد لا تجب على الجد في ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن تجب عليه. والثالثة جر الولاء صورتها: معتقة تزوجت بعبد وله أب عبد فولدت منه فالولد حر تبعا لامه وولاؤه لمولى أمه فإذا عتق جده لا يجر ولاء حافده إلى مواليه عن موالي أمه في ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن يجره كما لو أعتق أبوه. والرابعة الوصية للقرابة لا يدخل الوالدان ويدخل الجد في ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن لا يدخل كالأب. وأما الأربعة التي في الفرائض فرد الام إلى ثلث ما بقي وحجب أم الأب والاخوة لا تسقط بالجد عندهما وتسقط بالأب اتفاقا. والرابعة ابن المعتق يحجب الجد عن ميراث المعتق اتفاقا ولا يحجب الأب عند أبي يوسف فله السدس والباقي للابن، ذكر هذه الأربعة الأكمل في شرح السراجية. وذكروا هنا الأربعة الأولى، وينبغي أن يزاد مسألتان مذكورتان في النفقات: الأولى الام تشارك الجد في نفقة الصغير أثلاثا بخلاف الأب. الثانية لا تفرض النفقة على الجد المعسر بخلاف الأب فصارت المسائل عشرا. وقد يزاد أخرى هي أن الصغير لا يتصف بعدم اليتم بحياة جده ويتصف به بحياة أبيه كما في الخانية من الوقف. قيد بردتهما لما في البدائع لو مات مسلم عن امرأته وهي حامل فارتدت ولحقت بدار الحرب فولدت هناك ثم ظهر على الدار فإنه لا يسترق ويرث أباه لأنه مسلم تبعا لأبيه، ولو لم تكن ولدته حتى سبيت ثم ولدته في دار الاسلام فهو مسلم تبعا لأبيه مرقوق تبعا لامه ولا يرث أباه لأن الرق من أسباب الحرمان اه. قوله: (وارتداد الصبي العاقل صحيح كإسلامه ويجير عليه ولا يقتل) بيان لاسلام الصبي وردته، أما الأول ففيه خلاف زفر والشافعي نظرا إلى أنه في الاسلام تبع لأبويه فيه فلا يجعل أصلا ولا نلزمه أحكاما يشوبها المضرة فلا يؤهل له. ولنا أن عليا رضي الله عنه أسلم في صباه وصحح النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه وافتخاره بذلك مشهور، ولأنه أتى بحقيقة الاسلام وهو التصديق والاقرار معه لأن الاقرار عن طوع دليل على الاعتقاد على ما عرف والحقائق لا ترد وما يتعلق به سعادة أبدية ونجاة عقباوية وهو من أجل المنافع وهو الحكم الأصلي ثم يبتنى عليه غيرها فلا يبالي بما يشوبه. وفي فتح القدير: مقتضى الدليل أن يجب عليه بعد البلوغ فيجب القصد إلى تصديق وإقرار يسقط به، ولا يكفيه استصحاب ما كان عليه من التصديق
232 والاقرار غير المنوي به إسقاط الفرض كما أنه لو كان يواظب على الصلاة قبل بلوغه لا يكون كما كان يفعله بل لا يكفيه بعد بلوغه منها إلا ما قرنه بنية أداء الواجب امتثالا لكنهم اتفقوا على أنه لا يجب بل يقع فرضا قبل البلوغ، أما عند فخر الاسلام فلانه يثبت أصل الوجوب على الصبي بالسبب وهو حدث العالم وعقلية دلالته دون وجوب الأداء لأنه بالخطاب وهو غير مخاطب، فإذا وجد بعد السبب وقع الفرض كتعجيل الزكاة. وأما عند شمس الأئمة لا وجوب أصلا لعدم حكمه وهو وجوب الأداء فإذا وجد وجد كالمسافر يصلي الجمعة فيسقط فرضه وليست الجمعة فرضا عليه لكن ذلك للترفية عليه بعد سببها فإذا فعلها تم، ولا نعلم خلافا بين المسلمين في عدم وجوب نية فرض الايمان بعد البلوغ على قول من حكم بصحة إسلامه صبيا تبعا لأبويه المسلمين أو لاسلامه وأبواه كافران، ولو كان ذلك فرضا لم ينقله أهل الاجماع عن آخرهم اه. ولم يذكر القول الثالث المختار عند أبي منصور الماتريدي وهو أن الصبي العاقل مخاطب بأداء الايمان كالبالغ حتى لو مات بعده بلا إيمان خلد في النار، وذكره في التجريد. وأما الثاني أعني ردته ففيها خلاف أبي يوسف نظرا إلى أنها مضرة محضة. ولهما أنها موجودة حقيقة ولا مرد للحقيقة كما قلنا في الاسلام والخلاف في أحكام الدنيا ولا خلاف أنه مرتد في أحكام الآخرة كما بيناه في شرح المنار المسمى بتعليق الأنوار في أصول المنار معزيا إلى التلويح. وبه ظهر ما في النهاية العناية وفتح القدير بأنه إذا ارتد كان معذبا في الآخرة مخلدا. ونقلوه عن الاسرار والمبسوط وجامع التمرتاشي، وأحال التمرتاشي هذه الرواية إلى التبصرة. وإنما لا يقتل إذا أبى عن الاسلام لاختلاف العلماء في صحة إسلامه لكنه يجير على الاسلام لما فيه من النفع المتيقن. وهنا مسائل لا يقتل فيها المرتد: الأولى هذه. والثانية الذي إسلامه بالتبعية لأبويه إذا بلغ مرتدا استحسانا لأن إسلامه لما كان بطريق التبعية صار شبهة في إسقاط القتل. الثالثة إذا أسلم في صغره ثم بلغ مرتدا استحسانا لقيام الشبهة باختلاف العلماء في إسلامه. الرابعة المكره على الاسلام إذا ارتد لا يقتل استحسانا لأن الشبهة بالاكراه مسقطة للقتل وفي الكل يجبر على الاسلام، ولو قتله قاتل قبل أن يسلم لا يلزمه شئ، كذا في المبسوط. وزاد في فتح القدير خامسة: اللقيط في دار الاسلام محكوم بإسلامه ولو بلغ كافرا أجبر على الاسلام ولا يقتل كالمولود بين المسلمين إذا بلغ كافرا اه. وقد قدمنا أن السكران إذا أسلم ثم ارتد لا يقتل. قيد بالعاقل لأن ارتداد الصبي الذي لا يعقل غير صحيح كإسلامه لأن إقراره لا يدل على تغيير العقيدة، وكذا المجنون والسكران
233 الذي لا يعقل وقدمنا حكم من جنونه متقطع وخرج عن هذا إسلام السكران فإنه صحيح كما ذكره الشارح والله أعلم. باب البغاة أخره لقلة وجوده ولبيان حكم من يقتل من المسلمين بعد من يقتل من الكفار. والبغاة جمع باغ من بغى على الناس ظلم واعتدى، وبغى سعى بالفساد ومنه الفرقة الباغية لأنها عدلت عن القصد. وأصله من بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد، وبغت المرأة تبغي بغاء بالكسر والمد فجرت فهي بغي والجمع البغايا وهو وصف يختص بالمرأة ولا يقال للرجل بغي، قاله الأزهري كذا في المصباح. وفي القاموس: الباغي الطالب والجمع بغاة وبغيان وفئة باغية خارجة عن طاعة الإمام العادل اه. فقوله في فتح القدير الباغي في عرف الفقهاء الخارج عن الإمام الحق تساهل لما علمت أنه في اللغة أيضا. والخارجون عن طاعته ثلاثة: قطاع الطريق وقد علم حكمهم، وخوارج وبغاة. وفرق بينهما في فتح القدير بأن الخوارج قوم لهم منعة وحمية خرجوا عليه بتأويل يرون أنه على باطل كفر أو معصية توجب قتاله بتأويلهم يستحلون دماء المسلمين وأموالهم ويسبون نساءهم ويكفرون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكمهم عند جمهور الفقهاء والمحدثين حكم البغاة، وذهب بعض المحدثين إلى كفرهم. قال
234 ابن المنذر: لا أعلم أحدا وافق أهل الحديث على تكفيرهم، وهذا يقتضي نقل إجماع الفقهاء. وذكر في المحيط أن بعض الفقهاء لا يكفر أحدا من أهل البدع وبعضهم يكفرون بعض أهل البدع وهو من خالف ببدعته دليلا قطعيا ونسبه إلى أكثر أهل السنة، والنقل الأول أثبت. نعم يقع في كلام أهل المذاهب تكفير كثير لكن ليس من كلام الفقهاء الذين هم المجتهدون بل من غيرهم ولا عبرة بغير الفقهاء، والمنقول عن المجتهدين ما ذكرنا، وابن المنذر أعرف بنقل مذاهب المجتهدين، وما ذكره محمد بن الحسن من حديث الحضرمي يدل على عدم تكفير الخوارج. وأما البغاة فقوم مسلمون خرجوا على الإمام العدل ولم يستبيحوا ما استباحه الخوارج من دماء المسلمين وسبي ذراريهم اه. فما في البدائع من تفسير البغاة بالخوارج فيه قصور وإنما لا نكفر الخوارج باستحلال الدماء والأموال لتأويلهم وإن كان باطلا بخلاف المستحل بلا تأويل. قوله: (خرج قوم مسلمون عن طاعة الإمام وغلبوا على بلد دعاهم إليه وكشف شبهتهم) بأن يسألهم عن سبب خروجهم فإن كان لظلم منه أزاله، وإن قالوا الحق معنا والولاية لنا فهم بغاة لأن عليا رضي الله عنه فعل ذلك بأهل حروراء قبل قتالهم ولأنه أهون الامرين ولعل الشر يندفع به فيبدأ به استحبابا لا وجوبا فإن أهل العدل لو قاتلوهم من غير دعوة إلى العود إلى الجماعة لم يكن عليهم شئ لأنهم علموا ما يقاتلون عليه فحالهم كالمرتدين وأهل الحرب بعد بلوغ الدعوة، كذا في العناية. فلو أبدوا ما يجوز لهم القتال كأن ظلمهم أو ظلم غيرهم ظلما لا شبهة فيه لا يكونون بغاة ولا يجوز معاونة الإمام عليهم حتى يجب على المسلمين أن يعينوهم حتى ينصفهم ويرجع عن جورهم بخلاف ما إذا كان الحال مشتبها أنه
235 ظلم مثل تحميل بعض الجبايات التي للإمام أخذها وإلحاق الضرر بها لدفع ضرر أعم منه، كذا في فتح القدير. قيد بإسلامهم لأن أهل الذمة إذا غلبوا على موضع للحراب صاروا أهل حرب كما قدمناه لكن لو استعان أهل البغي بأهل الذمة فقاتلوا معهم لم يكن ذلك منهم نقضا للعهد كما أن هذا الفعل من أهل البغي ليس نقضا للايمان فحكمهم حكم البغاة، كذا في فتح القدير. يعني بالتبعية للمسلمين فلا يرد على التقييد بالاسلام والمراد بالإمام السلطان أو نائبه. قال في الخانية من السير قال علماؤنا: السلطان من يصير سلطانا بأمرين: بالمبايعة معه ويعتبر في المبايعة أشرافهم وأعيانهم، والثاني أن ينفذ حكمه في رعيته خوفا من قهره وجبروته، فإن بايع الناس ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم لا يصير سلطانا، فإذا صار سلطانا بالمبايعة فجار إن كان له قهر وغلبة لا ينعزل لأنه لو انعزل يصير سلطانا بالقهر والغلبة فلا يفيد، وإن لم يكن له قهر وغلبة ينعزل اه. وقيد بغلبتهم على بلد لأنه لا يثبت حكم البغي ما لم ينغلبوا ويجتمعوا ويصير لهم منعة، كذا في المحيط. ولم يقيد المصنف الإمام بالعادل وقيده في فتح القدير بأن يكون الناس به في أمان والطرقات آمنة. قوله: (وبدأ بقتالهم) يعني إذا تعسكروا واجتمعوا وهو اختيار لما نقله خواهر زاده عن أصحابنا أنا نبدؤهم قبل أن يبدؤنا لأن الحكم يدار على لدليل وهو الاجتماع والامتناع. وهذا لأنه لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع فيدار على الدليل ضرورة دفع شرهم. ونقل القدوري أنه لا يبدؤهم حتى يبدؤه فإن بدؤه قاتلهم حتى يفرق جمعهم، وظاهر كلامهم أن المذهب الأول. وفي البدائع: يجب على كل من دعاهم الإمام إلى قتالهم أن يجيب ولا يسعهم التخلف إذا كان له غنى وقدرة لأن طاعة الإمام فيما ليس بمعصية فرض فكيف فيما هو طاعة؟ وما عن أبي حنيفة من الاعتزال في الفتنة ولزوم البيت محمول على ما إذا لم يدعه أما إذا ادعاه الإمام فالإجابة فرض اه. وأما تخلف بعض الصحابة رضي الله عنهم عنها فمحمول على أنه لم يكن لهم قدرة وربما كان بعضهم في تردد من حل القتال، وما روي إذا التقى المؤمنان بسيوفهما فالقاتل والمقتول في النار (1) محمول على اقتتالهما حمية وعصبة كما يتفق بين أهل قريتين أو محلتين أو لأجل الدنيا والمملكة، كذا في فتح القدير. وفي المحيط: طلب أهل البغي الموادعة أجيبوا إن كان خيرا المسلمين كما في أهل الحرب ولا يؤخذ منهم شئ فلو أخذنا منهم رهونا وأخذوا منا رهونا ثم غدروا بنا وقتلوا رهوننا لا ينبغي لنا أن نقتل رهونهم لأن الرهون صاروا آمنين في أيدينا وشرط إباحة دمهم باطل، ولكنهم يحبسون إلى أن يهلك أهل البغي أو يتوبوا، وكذلك أهل الشرك إذا فعلوا برهوننا ذلك لا نفعل
236 برهونهم فيجبرون على الاسلام أو يصيروا ذمة. وفي الهداية: وإذا بلغه أنهم يشترون السلاح ويتأهبون للقتال ينبغي أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك ويحدثوا توبة دفعا للشر بقدر الامكان. قوله: (ولو لهم فئة أجهز على جريحهم واتبع موليهم وإلا لا) أي وإن لم يكن لهم فئة لا يجهز على الجريح ولا يتبع المولى لدفع شرهم بالأول كيلا يلحقوا بهم ولاندفاع الشر دونه في الثاني، والفئة الطائفة والجمع فئون وفئات. وجهز على الجريح كمنع وأجهز ثبت قتله وأسرعه وتمم عليه، وموت مجهز وجهيز سريع، كذا في القاموس. واتبع على البناء للمفعول للقتل والأسر وموليهم بالنصب مفعول ثان وهو اسم فاعل من ولي تولية أدبر كتولي ولم يذكر حكم أسيرهم. وفي البدائع: إن شاء الإمام قتله وإن شاء حبسه لاندفاع شره به. ويقاتل أهل البغي بالمنجنيق والغرق وغير ذلك كأهل الحرب، وكل من لا يجوز قتله من أهل الحرب من النساء والصبيان والشيوخ والعميان لا يجوز قتله من أهل البغي إلا إذا قاتلوا فيقتلون حال القتال وبعد الفراغ إلا الصبيان والمجانين. ولا يجوز للعادل أن يبتدئ بقتل محرمه من أهل البغي مباشرة إلا إذا أراد قتله فله أن يدفعه ولو بقتله، وله أن يتسبب ليقتله غيره كعقر دابته بخلاف أهل الحرب فإن له أن يقتل محرمه منهم مباشرة إلا الوالدين اه. قوله: (ولم تسب ذريتهم وحبس أموالهم حتى يتوبوا) لقول علي رضي الله عنه يوم الجمل: ولا يقتل أسير ولا يكشف ستر ولا يؤخذ مال. وهو القدوة في هذا الباب. وقوله في الأسير مؤول بما إذا لم يكن لهم فئة. ومعنى لا يكشف لهم ستر لا تسبي نساؤهم. أطلق المال فشمل العبيد فلذا قال في البدائع: وأما العبد المأسور من أهل البغي فإن كان قاتل مع مولاه يجوز قتله، وإن كان يخدم مولاه لا يجوز قتله ولكن يحبس حتى يتوب اه. وظاهر ما في الكتاب حبس عين الكراع وليس كذلك لما في الهداية: وأما الكراع فلا يمسك ولكنه يباع ويحبس ثمنه لمالكه لأنه أنفع له. وذكر في المحيط الدواب بدل الكراع. وفي فتح القدير: ولا ينفق عليه من بيت المال لتتوفر مؤنتها عليه، وهذا إذا لم يكن للإمام بها حاجة اه. قوله: (وإن احتاج قاتل بسلاحهم وخيلهم) لأن عليا رضي الله عنه قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة وكانت قسمته للحاجة لا للتمليك، ولان للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة ففي مال الباغي أولى والمعنى فيه إلحاق الضرر الأدنى لدفع الاعلى. قيد بالسلاح والخيل لأن غيرهما من الأموال لا ينتفع به مطلقا، كذا في البدائع. وفي المحيط: قال الباغي تبت وألقى السلاح كف عنه لأن توبة الباغي بمنزلة الاسلام من الحربي في إفادة العصمة
237 والحرمة، ولو قال كف عني لأنظر في أمري لعلي ألقى السلاح يكف عنه، ولو قال أنا على دينك ومعه السلاح لم يكف عنه لأن ذلك ليس بتوبة اه. قوله: (وإن قتل باغ مثله فظهر عليهم لم يجب شئ) لأنه لا ولاية لإمام العدل حين القتل فلم ينعقد موجبا كالقتل في دار الحرب فلا قصاص ولا دية ولذا عبر بالشئ المنكر في النفي، فظاهره أنه لا يأثم أيضا وهو ظاهر ما في فتح القدير فإنه علل بأنه قتل نفسا يباح قتلها ألا ترى أن العادل إذا قتله لا يجب عليه شئ فلما كان مباح القتل لم يجب به شئ اه. وفي البدائع: يصنع بقتلى أهل العدل ما يصنع بسائر الشهداء لأنهم شهداء، وأما قتلى أهل البغي فلا يصلى عليهم ولكنهم يغسلون ويكفنون ويدفنون، ويكره أن تؤخذ رؤوسهم وتبعث إلى الآفاق وكذلك رؤس أهل الحرب لأنه مثلة اه. وفي فتح القدير: وجوزه بعض المتأخرين إذا كان فيه طمأنينة قلوب أهل العدل أو كسر شوكتهم اه. ومنعه في المحيط في رؤس البغاة وجوزه في رؤس أهل الحرب. قوله: (وإن غلبوا على مصر فقتل مصري مثله فظهر على المصر قتل به) يعني بشرطين: الأول إن كان عمدا. الثاني أن لا يجري على أهله أحكام أهل البغي وأزعجوا من المصر قبل ذلك لأنه حينئذ لم تنقطع ولاية الإمام وبعد إجراء أحكامهم تنقطع فلا يجب. قوله: (وإن قتل عادل باغيا أو قتله باغ وقال أنا على حق ورثه وإن قال أنا على باطل لا) أي لا يرثه بيان لمسألتين: الأولى إذا قتل عادل باغيا فإنه يرثه ولا تفصيل فيه لأنه قتل بحق فلا يمنع الإرث، وأصله أن العادل إذا أتلف نفس الباغي أو ماله لا يضمن ولا يأثم لأنه مأمور بقتالهم دفعا لشرهم، كذا في الهداية. وصرح في البدائع بأن العادل لا يضمن ما أصاب من أهل البغي من دم أو جراحة أو مال استهلكه. وفي شرح المختار قال محمد: إذا تابوا أفتيهم أن يغرموا ولا أجبرهم. وفي المحيط: العادل لو أتلف مال الباغي يؤخذ بالضمان لأن مال الباغي معصوم في حقنا وأمكن إلزام الضمان له فكان في إيجابه فائدة. ووفق الشارح فحمل عدم وجوب الضمان على ما إذا أتلفه حال القتال بسبب القتال إذ لا يمكنه أن يقتلهم إلا بإتلاف
238 شئ من أموالهم كالخيل، وأما إذا أتلفوها في غير هذه الحالة فلا معنى لمنع الضمان لعصمة أموالهم. وفي فتح القدير: ولو دخل باغ بأمان فقتله عادل كان عليه الدية كما لو قتل المسلم مستأمنا في دارنا، وهذا لبقاء شبهة الإباحة في دمه. الثانية إذا قتل باغ عادلا فمنع أبو يوسف إرثه لأنه قتل بغير حق، وكذا إذا أتلف ماله ضمنه لعصمة دمه وماله. وقالا: إن قال الباغي كنت على حق وأنا الآن على حق ورثه، وإن قال قتلته وأنا أعلم أني على الباطل لم يرثه لأنه أتلف عن تأويل فاسد والفاسد منه ملحق بالصحيح إذا ضمت إليه المنعة في حق الدفع كما في منعة أهل الحرب وتأويلهم. والحاصل أن نفي الضمان منوط بالمنعة مع التأويل فإن تجردت المنعة عن التأويل كقوم تغلبوا على بلدة فقتلوا واستهلكوا الأموال بلا تأويل ثم ظهر عليهم أخذوا بجميع ذلك، ولو انفرد التأويل عن المنعة بأن انفرد واحد أو اثنان فقتلوا وأخذوا عن تأويل ضمنوا إذا تابوا أو قدر عليهم، كذا في فتح القدير. وفي الهداية: وعلى هذا الخلاف إذا مات المرتد وقد أتلف نفسا أو مالا اه. وبما قررناه ظهر أن الضمير في قوله وقال أنا على حق عائد إلى الباغي لا إلى القاتل الشامل للعادل والباغي. وفي الهداية: الباغي إذا قتل العادل لا يجب الضمان ويأثم. وفي البدائع: لا يضمن ما أصاب من دم أو جراحة أو مال، ولو فعل شئ من ذلك قبل الحروج وظهور المنعة أو بعد الانهزام وتفرق الجمع يؤخذ به اه. والحاصل أن المسألة رباعية لأن الجاني والمجني عليه إما أن يكونا عادلين أو باغيين أو مختلفين، فإن كانا باغيين بينه بقوله وإن قتل باغ مثله وإن كانا مختلفين فقد بينه بقوله وإن قتل عادل باغيا أو قتله باغ وإن كانا عادلين فإن كانا في معسكر أهل البغي فلا قصاص لأن دار البغي كدار الحرب، وإن كانا في مصر فيها البغاة لكن لم تجر أحكامهم فيها فقد بينه بقوله وإن غلبوا على مصر. وفي فتح القدير: وإن كان رجل من أهل العدل في صف أهل البغي فقتله رجل من أهل العدل لم تكن عليه دية كما لو كان في صف أهل الحرب. ثم اعلم أن المصنف سكت عن أحكام منها حكم قضاتهم. وفي البدائع: الخوارج لو ولوا قاضيا فإن كان باغيا وقضى بقضاء ثم رفعت إلى أهل العدل لا ينفذها لأنه لا يعلم كونها حقا لأنهم يستحلون دماءنا وأموالنا، ولو كتب القاضي الباغي إلى القاضي العادل كتابا فإن علم أنه قضى بشهادة أهل
239 العدل نفذه وإلا فلا، وإن كان قاضيهم عادلا نفذنا قضاءه لصحة توليته، والظاهر قضاؤه على رأي أهل العدل. ومنها أن أمان الباغي لأهل الحرب صحيح لاسلامه فإن غدر بهم البغاة فسبوا لا يحل لاحد من أهل العدل أن يشتري منهم. ومنها أنه لا يجوز لنا الاستعانة بأهل الشرك على أهل البغي إذا كان حكم أهل الشرك هو الظاهر، ولا بأس أن يستعين أهل العدل بالبغاة والذميين على الخوارج إذا كان حكم أهل العدل هو الظاهر، كذا في فتح القدير. قوله: (وكره بيع السلاح من أهل الفتنة لأنه إعانة على المعصية) قيد بالسلاح لأن بيع ما يتخذ منه السلاح كالحديد ونحوه لا يكره لأنه لا يصير سلاحا إلا بالصنعة، نظيره بيع المزامير يكره ولا يكره بيع ما يتخذ منه المزامير وهو القصب والخشب، وكذا بيع الخمر باطل ولا يبطل بيع ما يتخذ منه وهو العنب، كذا في البدائع. وذكر الشارح أن بيع الحديد لا يجوز من أهل الحرب ويجوز من أهل البغي، والفرق أن أهل البغي لا يتفرغون لعمله سلاحا لأن فسادهم على شرف الزوال بخلاف أهل الحرب اه. وقد استفيد من كلامهم هنا أن ما قامت المعصية بعينه يكره بيعه وما لا فلا ولذا قال الشارح: إنه لا يكره بيع الجارية المغنية والكبش النطوح والديك المقاتل والحمامة الطيارة اه. وذكر الشارح من الخطر والإباحة أنه لا يكره بيع جارية لمن لا يستبريها أو يأتيها من دبرها أو بيع غلام من لوطي اه. وفي الخانية من البيوع: ويكره بيع الأمرد من فاسق يعلم أنه يعصي به لأنه إعانة على المعصية اه. وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحظر والإباحة تمامه. أطلق في أهل الفتنة فشمل البغاة وقطاع الطريق واللصوص. قوله: (وإن لم يدر أنه منهم لا) أي لا يكره البيع لأن الغلبة في الأمصار لأهل الصلاح وظاهر كلامهم في الأول أن الكراهة تحريمية لتعليلهم بالإعانة عى المعصية والله أعلم بالصواب.
240 كتاب اللقيط لما كان في الالتقاط دفع الهلاك عن نفس اللقيط ذكره عقيب الجهاد الذي فيه دفع الهلاك عن نفس عامة المسلمين. قال في القاموس: لقطه أخذه من الأرض فهو ملقوط ولقيط، واللقيط المولود الذي ينبذ كالملقوط اه. وفي المغرب: اللقيط ما يلقط أي يرفع عن الأرض وقد غلب على الصبي المنبوذ لأنه على عرض أن يلقط. وهو في الشريعة اسم لحي مولود طرحه أهله خوفا من العيلة أو فرارا من تهمة الريبة مضيعة آثم ومحرزه غانم. قوله: (ندب التقاطه) لما فيه من إحيائه وهو من أفضل الأعمال. قوله: (ووجب أن خيف الضياع) أي فرض على الكفاية إن غلب على ظنه هلاكه لو لم يرفعه بأن وجده في مفازة ونحوها من المهالك صيانة له ودفعا للهلاك عنه كمن رأى أعمى يقع في البئر افترض عليه حفظه من الوقوع. وإنما افترض على الكفاية لحصول المقصود بالبعض وهو صيانته، ويتعين إن لم يعلم به غيره، وفي القاموس: ضاع يضيع ضيعا ويكسر وضيعة وضياعا هلك اه. فالضاد مفتوحة وليس المراد من الوجوب ما اصطلحنا عليه بل الافتراض فلا خلاف بيننا وبين باقي الأئمة كما قد توهم، وينبغي أن يحرم طرحه بعد التقاطه لأنه وجب عليه بالتقاطه حفظه فلا يملك رده إلى ما كان عليه. قوله: (وهو حر) لأن الأصل في بني آدم إنما هو الحرية وكذا الدار دار الأحرار، ولان الحكم للغالب فيترتب عليه أحكام الأحرار من أهلية الشهادة والاعتاق وتوابعه وحد قاذفه وغير ذلك من أحكام الأحرار إلا أنه لا يحد قاذف أمه لأن إحصان المقذوف شرط ولم يعرف إحصانها، وسيأتي أنه لا يرق إلا ببينة وسنبين حكم إقراره بالرق. أطلقه فشمل ما إذا كان الواجد حرا أو عبدا أو مكاتبا ولا يكون تبعا للواجد، كذا في الولوالجية: وفي المحيط: وجد العبد المحجور عليه لقيطا ولا يعرف إلا بقوله وقال المولى
241 كذبت بل هو عبدي فالقول للمولى لأن ما في يد العبد المحجور في يد المولى لأنه ليس له يد على نفسه، ولهذا لو ادعى إنسان ما في يده لا ينتصب خصما له، ولو أقر بما في يده لم يصح، وإن كان مأذونا فالقول له لأن للمأذون يدا ولهذا ينتصب خصما لمن ادعى ما في يده، ولو أقر بما في يده صح فصح إقراره بأنه لقيط من حيث إن ما في يده ليس له كما في مال آخر في يده لا من حيث إنه أقر بالحرية لأنه لا يملك الاقرار بالحرية وتثبت حريته باعتبار الأصل فإنها أصل في بني آدم لا بإقراره اه. قوله: (ونفقته في بيت المال) هو المروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما ولأنه مسلم عاجز عن الكسب ولا مال له ولا قرابة فأشبه المقعد الذي لا مال له ولا قرابة، وسيأتي في اللقطة أن الملتقط متبرع بالانفاق عليهما وبإذن القاضي يكون دينا ونبينه إن شاء الله تعالى. وفي الخانية: وإن أمره القاضي أن ينفق عليه وشرط له الرجوع على اللقيط فادعى الملتقط عليه بعد بلوغه أنه أنفق عليه بأمر القاضي كذا إن صدقه اللقيط رجع بذلك عليه وإن كذبه في الانفاق لا يرجع إلا ببينة اه. أطلق النفقة فشمل الكسوة كما في المحيط. ولو قال وما يحتاج إليه في بيت المال لكان أولى لما في المحيط أن مهره إذا زوجه السلطان في بيت المال وإن كان له مال ففي ماله اه. ولو أبى الملتقط الانفاق عليه وسأل القاضي أخذه منه فهو مخير والأولى قبوله بالبينة إذا علم عجزه عنه، فلو قبله القاضي ودفعه إلى آخر وأمره بالانفاق ليرجع ثم طلب الأول رده خير القاضي، كذا في الخانية والمحيط. قوله: (كإرثه وجنايته) فإن إرثه لبيت المال وجنايته فيه لأن الخراج بالضمان فلو وجد اللقيط قتيلا في محلة كان على أهل تلك المحلة ديته لبيت المال وعليهم القسامة، وكذا إذا قتله الملتقط أو غيره خطأ فالدية على عاقلته لبيت المال، ولو قتله عمدا فالخيار للإمام بين القتل والصلح على الدية وليس له العفو. وقال أبو يوسف: تجب الدية في مال القاتل، كذا في الخانية، وفي البدائع: إن ولاءه لبيت المال كعقله وله أن يوالي من شاء إذا بلغ إلا إذا عقل عنه بيت المال فليس له أن يوالي أحدا ووليه السلطان في ماله ونفسه للحديث السلطان ولي من لا ولي له (1) فيزوجه ويتصرف في ماله دون الملتقط. وفي الظهيرية: لو جعل الإمام ولاء اللقيط للملتقط جاز له لأنه قضاء في فصل مجتهد فيه. قوله: (ولا يأخذه منه أحد) أي لا يأخذ اللقيط من الملتقط أحد بغير رضاه لأنه ثبت حق الحفظ له لسبق يده. عممه فشمل الإمام الأعظم فلا يأخذه منه بالولاية العامة إلا بسبب
242 يوجب ذلك، كذا في فتح القدير. وقيدنا بالجبر لأنه لو دفعه إلى غيره باختياره جاز وليس له أن يأخذه من الثاني لأنه أبطل حق نفسه عن اختيار، وأفاد بأنه لا يأخذه أحد أنه لو انتزعه أحد فاختصم الأول والثاني إلى القاضي فإن القاضي يدفعه إلى الأول، كذا في الخانية. وينبغي أن ينتزع منه إذا لم يكن أهلا لحفظه كما قالوا في الحاضنة وكما أفاده في فتح القدير بقوله إلا بسبب يوجب ذلك. وفي الخانية: وللملتقط أن ينقله إلى حيث شاء اه. وفي فتح القدير: ولو وجده مسلم وكافر فتنازعا في كونه عند أحدهما قضي به للمسلم لأنه محكوم له بالاسلام فكان المسلم أولى بحفظه ولأنه يعلمه أحكام الاسلام بخلاف الكافر اه. وهو يفيد أن الملتقط إذا كان متعددا فإن أمكن الترجيح اختص به الراجح ولم أر حكم ما إذا استويا، وينبغي أن يكون الرأي فيه إلى القاضي وفي روض الشافعية يشترط في الملتقط تكليف وحرية ورشد وإسلام وعدالة فلا يصح من عبد إلا بإذن سيده أو تقريره ويكون السيد الملتقط وإلا انتزع من العبد، ولا من مكاتب إلا بإذن سيده وينزع من سفيه وفاسق وكافر، وكذا ما لم يختبر وظاهره الأمانة فإن تنازع فيه ملتقطان قبل أخذه اختار الحاكم ولو غيرهما أو بعد الاخذ وهما أهل للالتقاط فالسابق بالأخذ، فإن استويا قدم الغني وظاهر العدالة على فقير ومستور. ثم يقرع، ولا يقدم مسلم على ذمي في كافر، والرجل والمرأة سواء فيقرع اه. ولم أر مثل هذا البيان لأصحابنا. قوله: (ويثبت نسبه من واحد) استحسانا لاحتياجه إليه. أطلقه فشمل الملتقط وغيره والقياس أن لا يقبل دعوى غيره لأنه يتضمن إبطال حق الملتقط. وجه الاستحسان أنه إقرار للصبي بما ينفعه لأنه يتشرف بالنسب ويعير بعدمه، ولو ادعاه الملتقط قيل يصح قياسا واستحسانا والأصح أنه على القياس والاستحسان لكن وجه القياس هنا غير وجه القياس في دعوى غير الملتقط، فوجهه في دعوى غير الملتقط تضمن إبطال حق الملتقط، ووجهه في دعوى الملتقط تناقض كلامه وتمامه في النهاية. وأفاد بثبوت النسب بدعوى غير الملتقط أن يكون أحق بحفظه من الملتقط ضرورة ثبوت النسب وكم من شئ يثبت ضمنا ولا يثبت قصدا وهو الأصح. وأطلقه عن البينة فشمل ما إذا لم يبرهن استحسانا لما فيه من النظر
243 من الجانبين، والقياس أن لا يثبت إلا ببينة، وهذا إذا لم يظهر كذبه ولذا قال في الظهيرية: لو انفرد رجل بالدعوى وقال هو غلام فإذا هو جارية أو قال هو جارية فإذا هو غلام لا يقضي له أصلا اه. وهذا كله حالة الحياة، أما بعد الموت فقال في الخانية: وإذا مات اللقيط وترك مالا أو لم يترك فادعى رجل بعد موته أنه ابنه لا يصدق إلا بحجة اه. قوله: (ومن اثنين) أي ويثبت نسبه من اثنين إذا ادعياه معا ولا مرجح لاستوائهما في السبب. وقيده في الخانية بأن يقول كل واحد منهما هو ولدي من جارية مشتركة بينهما. قيد بالاثنين لأن فيما زاد على الاثنين اختلافا فروي عن الإمام أنه جوز إلى خمسة. وقال أبو يوسف: يثبت من اثنين ولا يثبت من أكثر من ذلك. وقال محمد: أجوز الثلاثة ولا أجوز أكثر من ذلك، كذا ذكره الأسبيجابي، ولم أر توجيه هذه الأقوال. وقيد بدعوى الرجل لأن المدعي لو كان امرأة ادعت أنه ابنها فإن صدقها زوجها أو شهدت لها القابلة أو قامت البينة صحت دعوتها وإلا فلا، لأن فيه حمل نسب الغير على الغير وأنه لا يجوز. ولو ادعت امرأتان وأقامت إحداهما البينة فهي أولى به، وإن أقامتا جميعا فهو ابنهما عند أبي حنيفة، وعند أبي يوسف لا يكون لواحدة منهما. وعن محمد روايتان: في رواية أبي حفص يجعل ابنهما، وفي رواية أبي سليمان لا يجعل ابن واحدة منهما، كذا في البدائع. واعلم أن شهادة القابلة إنما يكتفى بها فيما إذا كان لها زوج منكر للولادة، أما إذا لم يكن لها زوج فلا بد من شهادة رجلين كما صرح به في الخانية. وفيها: لو أقامت إحداهما رجلين والأخرى امرأتين يجعل ابنا للذي شهد لها رجلان، ولو ادعت امرأتان اللقيط أنه ابنهما كل واحدة منهما تقيم البينة على رجل على حدة بعينه أنها ولدته منه قال أبو حنيفة: يصير ولدهما من الرجلين جميعا. وقالا: لا يصير ولدهما ولا ولد الرجلين اه. وفي الظهيرية: رجلان ادعيا نسب اللقيط وأقاما البينة وأرخت بينة كل واحدة منهما يقضي لمن يشهد له سن الصبي، فإن كان سن الصبي مشتبها لم يوافق كلا من التاريخين فعلى قولهما يسقط اعتبار التاريخ ويقضي به بينهما باتفاق الروايات، وأما على قول أبي حنيفة فقد ذكر خواهر زاده أنه يقضي به بينهما في رواية أبي حفص، وفي رواية أبي سليمان يقضي لأقدمهما تاريخا اه. وفي التتارخانية أنه يقضي به بينهما في عامة الروايات وهو الصحيح. وقيدنا بكونهما ادعياه معا لأنه لو سبقت دعوة أحدهما فهو ابنه لعدم النزاع، ولو ادعى الآخر بعده لا يقبل منه إلا ببينة لأن البينة أقوى،
244 كذا في الهداية. ولا اعتبار بالوصف من الثاني مع سبق الأول كما في فتح القدير. وقيدنا بعدم المرجح لأحدهما لأنه لو كان لأحدهما مرجح فهو أولى فيقدم الملتقط على الخارج ولو كان الملتقط ذميا والخارج مسلم لاستوائهما في الدعوى ولأحدهما يد فيحكم للذمي وبإسلام الولد، يقدم من يقيم البينة على من لم يبرهن من الخارجين، والمسلم على الذمي، والحر على العبد، والذمي الحر على العبد المسلم، ولم يذكروا من المرجح تقديم الأب على الابن وذكروه في ولد الجارية المشتركة، والفرق ظاهر وأما الترجيح بالعلامة فسيأتي. قوله: (وإن وصف أحدهما علامة به) أي بالولد قوله: (فهو أحق به) يعني إذا وافقها لأن الظاهر شاهد له لموافقة العلامة كلامه. قيد باللقيط لأن صاحب العلامة في اللقطة لا يترجح عند التنازع لأن الترجيح عند وجود سبب الاستحقاق وقد وجد في اللقيط وهو الدعوة دون اللقطة، وكذا لو تنازع خارجان عينا في يد ثالث وذكر أحدهما علامة فإنه لا ترجيح له، وقيدنا بالموافقة لأنه لو وصف أحدهما العلامة ولم يصب فلا ترجيح وهو ابنهما، وكذا لو وصف أحدهما وأصاب في البعض وأخطأ في البعض فهو ابنهما، وإن وصفا ولم يصب واحد منهما فهو ابنهما، ولو وصفا وأصاب أحدهما دون الآخر قضي للذي أصاب، كذا في الظهيرية. ثم اعلم أن لعلامة مرجحة عند عدم مرجح أقوى منها فيقدم ذو البرهان على ذي العلامة والمسلم على الذمي ذي العلامة، وظاهر ما في فتح القدير تقديم ذي اليد على الخارج ذي العلامة، وينبغي تقديم الحر على العبد ذي العلامة فعلم أنها أضعف المرجحات. وفي التتارخانية: وإذا ادعى اللقيط رجلان ادعى أحدهما أنه ابنه والآخر أنه ابنته فإذا هو خنثى فإن كان مشكلا قضى به بينهما، وإن لم يكن مشكلا حكم به لمن ادعى أنه ابنه اه. وفيها عن القدوري: لو شهد للمسلم ذميان وللذمي مسلمان قضى به للمسلم. قوله: (ومن ذمي وهو مسلم إن لم يكن في مكان أهل الذمة) أي يثبت النسب من ذمي عند عدم دعوى مسلم ويكون اللقيط مسلما إن لم يكن في مكان أهل الذمة، وهذا استحسان
245 لأن دعواه تتضمن النسب وهو نافع للصغير وإبطال الاسلام الثابت بالدار وهو يضره فصحت دعوته فيما ينفعه دون ما يضره. والمراد من مكان أهل الذمة قرية من قراهم أو بيعة أو كنيسة. قال في الهداية: وهذا الجواب فيما إذا كان الواجد ذميا رواية واحدة، وإن كان الواجد مسلما في هذا المكان أو ذميا في مكان المسلمين اختلفت الرواية فيه ففي كتاب اللقيط اعتبر المكان لسبقه، وفي كتاب الدعوى في بعض النسخ اعتبر الواجد وهو رواية ابن سماعة عن محمد لقوة اليد ألا ترى أن تبعية الأبوين فوق تبعية الدار حتى إذا سبى مع الصغير أحدهما يعتبر كافرا. وفي بعض نسخه اعتبر الاسلام نظرا للصغير. وفي النهاية حاصلها على أربعة أوجه: أحدها أن يجده مسلم في مكان المسلمين فهو مسلم. ثانيها أن يجده كافر في مكانهم فهو كافر. ثالثها أن يجده كافر في مكان المسلمين. رابعها عكسه ففيه روايتنا ففي كتاب اللقيط العبرة للمكان فيهما، وفي رواية ابن سماعة العبرة للواجد فيهما. وفي فتح القدير: ولا ينبغي أن يعدل عما في بعض النسخ من اعتبار الاسلام أي ما يصير الولد به مسلما نظرا للصغير اه. وظاهر كلام المصنف أنه إنما يعتبر مكان أهل الذمة إذا كان الواجد ذميا ومفهومه إن يكون مسلما في الصور الثلاث ذميا في صورة واحدة ولا يعدل عنه كما ذكرنا. وفي كفاية البيهقي قيل يعتبر بالسيما والزي لأنه حجة قال الله تعالى * (نعرفهم بسيماهم) * (البقرة: 273) وقال * (يعرف المجرمون بسيماهم) * (الرحمن: 41) وفي المبسوط: كما لو اختلط الكفار يعني موتانا بموتاهم فإنه يعتبر بالزي والعلامة، ولو فتحت القسطنطينية فوجد فيها شيخ يعلم صبيانا حوله القرآن يزعم أنه مسلم يجب أن يؤخذ بقوله، كذا في فتح القدير. وذكر في الخانية الروايات الأربع وصرح في المختار بأن ظاهر الرواية اعتبار المكان. وفي الخانية: ولو أدرك اللقيط كافرا فإن كان الملتقط وجده في مصر من أمصار المسلمين فإنه يحبس ويجير على الاسلام استحسانا. واختلفوا في موضع القياس والاستحسان قال بعضهم: القياس والاستحسان في قتله إذا لم يسلم في القياس يقتل، وفي الاستحسان لا يقتل. وقال بعضهم: الاستحسان والقياس في الجبر على الاسلام في القياس لا يجبر على الاسلام وترك على الكفر بالحرية، وفي الاستحسان يجبر على الاسلام ولا يترك على الكفر وهو الصحيح اه. ثم اعلم أن ابن الذمي اللقيط إنما يكون مسلما إذا لم يقم بينة أنه ابنه فإن برهن بشهود مسلمين قضي له به وصار تبعا له في دينه، وإن أقام بينة من أهل الذمة لا يكون ذميا لأنا حكمنا بإسلامه فلا يبطل هذا الحكم بهذه البينة لأنها شهادة قامت في حكم الدين على مسلم فلا تقبل، كذا في الخانية. قوله: (ومن عبد وهو حر) أي يثبت نسبه
246 من عبد ادعى أنه ابنه لأنه ينفعه وكان حرا لأن المملوك قد تلد له الحرة فلا تبطل الحرية الظاهرة بالشك، وقد منا أن الحر في دعوته اللقيط أولى من العبد كما أن المسلم أولى من الذمي ترجيحا لما هو إلا نظر في حقه. أطلق في قوله وهو حر فشمل ما إذا قال العبد هو ابني من زوجتي وهي أمة فصدقه مولاها لأنه حر باعتبار الأصل فلا تبطل الحرية بتصادق العبد وسيدها، وهذا قول محمد. وقال أبو يوسف: يكون عبدا لسيدها لأن الأمة أمه فإذا ثبت النسب منها ثبت ما هو من ضروراته وهو الرق إذ يستحيل أن يكون المولود بين رقيقين حرا بخلاف الذمي على ما بينا. قلنا: لا يستحيل ذلك لأنه يجوز عتقه قبل الانفصال وبعده فلا تبطل الحرية الثابتة بالدار بالشك، كذا في التبيين. وظاهره ترجيح قول محمد. وفي آخر جامع الفصولين قيل، قد يكون الولد حرا من زوجين قنين بلا تحرير ووصية وصورته أن يكون للحر ولد وهو قن لأجنبي فزوج الأب أمته من ولده برضا مولاه فولدت الأمة ولدا فهو حر لأنه ولد ولد المولى اه. وفي التبيين: ولو ادعاه حران أحدهما أنه ابنه من هذه الحرة والآخر من الأمة فالذي يدعي أنه من الحرة أولى لكونه أكثر إثباتا لكونه يثبت جميع أحكام النسب ولو كانت الأمة سرية له لأنه يثبت الأحكام من جانب والآخر من جانبين فكان أولى. قوله: (ولا يرق إلا ببينة) لأنه حر ظاهرا فإذا أقام بينة أنه عبده قبلت وكان عبده، لا يقال هذه البينة ليست على خصم فلا تقبل لأن الملتقط خصم لأنه أحق بثبوت يده عليه فلا تزول إلا ببينة هنا، وإنما قلنا هنا كيلا ينقص بما إذا ادعى خارج نسبه فإن يده تزول بلا بينة على الأوجه، والفرق أن يده اعتبر لمنفعة الولد، وفي دعوى النسب منفعة تفوق المنفعة التي أوجبت اعتبار يد الملتقط فتزال لحصول ما يفوق المقصود من اعتبارها، وهنا ليس دعوى العبدية كذلك بل هو بما يضره لتبديل صفة المالكية بالمملوكية فلا تزال إلا ببينة، ويشترط في قبولها إسلامهم لأنه مسلم بالدار وباليد فلا يحكم عليه بشهادة الكفار إلا إذا اعتبر كافرا بوجوده في موضع أهل الذمة على ما بينا. وفي المحيط: وإن ادعى الملتقط أنه عبده إن لم يقر بأنه لقيط فالقول قوله لأن الصغير في يده، وإن أقر أنه لقيط لا يصدق في دعواه إلا ببينة. قيد بالبينة لأنه لا يرق بإقراره لمدعيه فلو صدقه اللقيط قبل البلوغ لا يسمع تصديقه لأنه يضر به نفسه بعد الحكم بالحرية بخلاف ما إذا كان صغيرا في يد رجل فادعى أنه عبده وصدقه الغلام فإنه يكون عبدا له وإن لم يدرك لأنه لم يعرف إلا في يده وإن رد لا يصح لقيام يده من وجه، وإن بلغ فأقر أنه عبد فلان وفلان يدعيه إن كان قبل أن يقضي عليه بما لا يقضي به إلا على الأحرار كالحد الكامل ونحوه صح إقراره وصار عبدا لأنه غير متهم فيه، وإن كان بعد القضاء بنحو ذلك لا يقبل ولا يصير به عبدا لأن فيه إبطال حكم الحاكم، ولأنه مكذب في ذلك شرعا فهو كما لو كذبه الذي أقر له بالرق. ولو كان اللقيط امرأة فأقرت بالرق بعدما كبرت أو كان بعد التزوج صح وكانت أمة للمقر له، ولا تصدق في إبطال النكاح لأن
247 الرق لا ينافي النكاح ابتداء ولا بقاء فليس من ضرورة الحكم برقها انتفاء النكاح وإن بلغ فتزوج امرأة ثم أقر أنه عبد لفلان ولامرأته عليه صداق فصداقها لازم عليه لا يصدق في إبطاله لأنه دين ظهر وجوبه فهو متهم في إقراره، وكذا إذا استدان دينا أو بايع إنسانا أو كفل كفالة أو وهب أو تصدق وسلم أو دبر أو كاتب أو أعتق ثم أقر أنه عبد فلان لا يصدق في إبطال شئ من ذلك لأنه متهم، كذا في فتح القدير والخانية وزاد فيها: فإذا أعتقها المقر له وهي تحت زوج لم يكن لها خيار العتق، ولو كان الزوج طلقها واحدة فأقرت بالرق بصير طلاقها ثنتين لا يملك الزوج عليها بعد ذلك إلا طلقة واحدة، ولو كان طلقها ثنتين ثم أقرت بالرق كان له أن يراجعها، وكذلك حكم المعتدة إذا أقرت بالرق بعد ما حاضت حيضتين كان له أن يراجعها في الحيضة الثالثة اه. وهكذا ذكر في المحيط وزاد فيه: لو دبر اللقيط عبدا ثم أقر بالرق لآخر ثم مات عتق المدبر من ثلثه ويسعى في ثلثي قيمته لمولاه لأن المقر بالرق بقي حرا في حق المدبر وقد مات ولا مال له غير المدبر فيسعى في ثلثي قيمته لمولاه لأنه يقر بذلك لمولاه، ولو أن مولاه أعتقه كان المدبر على حاله غير أن خدمته للمولى وسعايته بعد موت اللقيط للمولى لأن المدبر يقر بالخدمة والسعاية للقيط وهو يقر بذلك لمولاه فصار كمن يقر للمقر له اه. وذكره في المحيط من كتاب الاقرار أيضا وزاد في باب الاقرار بالرق أن ما ولدت قبله أو بعده لأقل من ستة أشهر فهو حر لأنه عرف علوقه قبل الاقرار فلا يصدق في إبطال حريته، فإن ولدته لأكثر فعند أبي يوسف هو عبد خلافا لمحمد لأن الزوج استحق عليها حرية الأولاد فلا يبطل هذا الاستحقاق بإقرارها. وذكر في الزيادات: لو طلقها الزوج تطليقتين وهو لا يعلم بإقرارها ملك عليها الرجعة ولو علم لا يملك. وذكر في الجامع لا يملك علم أو لم يعلم. قيل: ما ذكره في الجامع قياس، وما ذكر في الزيادات استحسان وهو الصحيح. ولو اشترى مجهول الحرية عبدا فأعتقه ثم أقر بالرق فجحد المعتق وللمقر ابن كبير يجحد أيضا يصير المقر عبدا والمعتق حر على حاله، فإن مات المعتق وترك مالا وعصبة فماله لعصبته، فإن لم يكن له وارث غير الذي أعتقه فماله للمقر له، فإن كان للميت بنت فالنصف لها والنصف للمقر له فإن جنى هذا العتيق فأرشه عليه، وإن جنى عليه فهي كالجناية على المملوك وهو كالمملوك في الشهادة لأن حريته ثابتة بالظاهر لا بالدليل فصلح للدفع لا للاستحقاق، ولو أعتق المقر له المقر ثم مات العتيق الأول ولا عصبة له كان ميراثه للمقر له اه. وفيه أيضا: لو أقرت المنكوحة بالرق فإن أعطاها الزوج المهر قبل إقرارها برئ وبعد إقرارها لم يبرأ لأن المهر صار للمقر له اه. وهو يفيد أنها أمة في حق القسم في
248 النكاح، وينبغي أن يكون تسليمها للزوج كتسليم الحرائر فلا يملك المقر له استخدامها ومنعها من السكنى مع الزوج لما فيه من الاضرار فتستحق النفقة بلا تبوئة. وقيد في المحيط بجحد العتيق ولم يصرح بمفهومه، وصرح في تلخيص الجامع بأنه لو صدق العتيق مولاه في إقراره بالرق يبطل عتقه لأن المنع لحقه إذ الولاء يقبل البطلان بدليل العتيقة ترتد فتسبى. وفي التتارخانية: إذا أقر أنه عبد لا يصدق على إبطال شئ كان فعله إلا النكاح لأنه لما أقر بالرق فقد زعم أن النكاح لم يصح لعدم إذن من يزعم أنه مولاه فيجب أن يؤاخذ بزعمه بخلاف المرأة لو أقرت بالرق لا يبطل نكاحها اه. قوله: (وإن وجد معه مال فهو له) اعتبارا للظاهر وأورد عليه أن يكفي للدفع لا للاستحقاق، فلو ثبت الملك للقيط بهذا الظاهر كان الظاهر مثبتا. قلنا: يدفع بهذا الظاهر دعوى الغير، ثم الظاهر أن تكون الاملاك في يد الملاك، وكذا الظاهر يدل على أن من وضعه معه إنما وضعه لينفق عليه. أطلقه فشمل ما إذا كان المال مشدودا عليه أو دابة هو مشدود عليها وإن وجد اللقيط على دابة فهي له، وحكي أن لقيطة وجدت ببغداد وعند صدرها رق منشور فيه هذه بنت شقي وشقية بنت الطباهجة والقلية ومعها ألف دينار جعفرية يشتري بها جارية هندية وهذا جزاء من لم يزوج بنته وهي كبيرة. وفي رواية وهي صغيرة، كذا في الجوهرة. وفيها: لو كان المال موضوعا بقربه لم يحكموا له به ويكون لقطة اه. ولا يخفى أن الدراهم والدنانير الموضوعة عليه له لدخولها تحت قولهم معه مال. وينبغي أن تكون الدراهم التي فوق فراشه أو تحته له كلباسه ومهاده ودثاره بخلاف ما إذا كان مدفونا تحته ولم أره كما لم أر حكم ما إذا وجد في دار فيها وحده أو بستان هل يكونان له؟ وصرح في روض الشافعية بأن الدار له وفي البستان وجهان. ولم يذكر المصنف إنفاق الملتقط عليه من ماله قال في الهداية: ثم يصرفه الواجد إليه بأمر القاضي لأنه مال ضائع وللقاضي ولاية صرف مثله إليه، وقيل يصرفه بغير أمر القاضي لأنه للقيط ظاهرا وله ولاية الانفاق وشراء ما لا بد منه كالطعام والكسوة لأنه من الانفاق اه. وكذا الغير الواجد بأمر القاضي والقول قوله في نفقة مثله، وينبغي أن يشترط إذن القاضي إن أمكن وإلا يكفي الاشهاد. قوله: (ولا يصح للملتقط عليه نكاح وبيع وإجارة) أما النكاح فلانعدام سبب الولاية من القرابة والملك والسلطنة، وأما تصرفه في ماله بالبيع وغيره فبالقياس على الام لأن ولاية التصرف لتثمير المال وذلك يتحقق بالرأي الكامل والشفقة الوافرة فلا بد من اجتماعهما والوجود في كل واحد منهما أحدهما، وأما الإجارة ففيها روايتان، فرواية القدوري أنه يؤجره، وفي رواية الجامع الصغير أنه لا يجوز أن يؤجره، كذا ذكره في الكراهية وهو الأصح. وجه الأول أنه
249 يرجع إلى تثقيفه، وجه الثاني أنه لا يملك إتلاف منافعه فأشبه العم بخلاف الام فإنها تملك الاستخدام فتملك الإجارة، وقدمنا أن ولاية التصرف عليه في ماله ونفسه للسلطان وأنه لو جعل الولاية للمتلقط جاز. وفي منظومة ابن وهبان: لو قرر القاضي ولاءه للملتقط صح التقرير. قوله: (ويسلمه في حرفة) لأنه من باب تثقيفه وحفظ ماله والحرفة الصنعة. والتثقيف تقويم المعوج بالثقاف وهو ما يسوى به الرماح ويستعار للتأديب والتهذيب، كذا في النهاية. قوله: (ويقبض هبته) لأنه نفع محض ولهذا يملكه الصغير بنفسه إذا كان عاقلا وتملكه الام ووصيها ولم يذكر ختانه. قال في الخانية: فليس له أن يختنه فإن فعل ذلك وهلك كان ضامنا اه. وفي الذخيرة: لو أمر الملتقط الختان فختنه ضمن الملتقط لأنه ليس له ولاية ختانه فصار بهذا الامر جانيا ولا يضمن الختان. قيل: هذا إذا لم يعلم الختان بكونه ملتقطا فإن علم ضمن اه. وقدمنا أنه له ولاية نقله إلى حيث شاء، وينبغي أن ليس له نقله من مصر إلى قرية أو بادية والله أعلم بالصواب.
250 كتاب اللقطة وجه تأخيرها ظاهر. قال في القاموس: لقطه أخذه من الأرض فهو ملقوط واللقطة محركة كهمزة ما التقط اه. وفي المغرب: اللقطة الشئ الذي تجده ملقى فتأخذه. قال الأزهري: ولم أسمع اللقطة بالسكون لغير الليث اه. وفي فتح القدير: هي فعلة - بفتح العين - وصف مبالغة للفاعل كهمزة ولمزة ولعنة وضحكة للكثير الهمز وغيره. وبسكونها للمفعول كضحكة وهمزة للذي يضحك منه ويهزأ به. وإنما قيل للمال لقطة - بالفتح - لأن طباع النفوس تتبادر إلى التقاطه لأنه مال فصار المال باعتبار أنه داع إلى أخذه لمعنى فيه نفسه كأنه الكثير الالتقاط مجازا وإلا فحقيقته الملتقط الكثير الالتقاط. وما عن الأصمعي وابن الاعرابي أنه بفتح القاف اسم للمال أيضا محمول على هذا يعني يطلق الالتقاط على المال أيضا اه. ولم يذكر أكثر الشارحين تعريفها اصطلاحا وعرفها في التتارخانية معزيا إلى المضمرات بأنها مال يوجد ولا يعرف له مالك وليس بمباح اه. فخرج ما عرف مالكه فإنه أمانة لا لقطة ولان حكمها التعريف وهذا لا يعرف بل يدفع إلى مالكه، وخرج بالأخير مال الحربي لكن يرد عليه ما كان محرزا بمكان أو حافظ فإنه ليس لقطة وهو داخل في التعريف فالأولى أن يقال في مال معصوم معرض للضياع. وعرفها في المحيط بأنها رفع شئ ضائع للحفظ على الغير لا للتمليك وجعل عدم الحافظ لها من شرائطها. ثم قال في آخر الباب: أخذ الثوب من السكران الواقع النائم على الأرض ليحفظه فهلك في يده لا ضمان عليه لأنه متاع ضائع كاللقطة، فإن كان الثوب تحت رأسه أو كانت دراهمه في كمه فأخذها ليحفظها فهو ضامن لأنه ليس بضائع لأنه محفوظ بمالكه اه. والكلام فيها في مواضع في الالتقاط والملتقط واللقطة. أما الأول ولم يذكره المصنف للاختلاف فيه ففي الخلاصة: فإن خاف ضياعها
251 يفترض الرفع، وإن لم يخف يباح رفعها، أجمع العلماء عليه والأفضل الرفع في ظاهر المذهب اه. وأقره عليه في فتح القدير وفي البدائع أنه مندوب الاخذ ومباحه وحرامه. فالأول أن يخاف عليها الضياع لو تركها لأنه إحياء لمال المسلم فكان مستحبا. وقال الشافعي: إذا خاف الضياع وجب أخذها وإلا استحب لأن الترك عند الخوف تضييع والتضييع حرام وهذا غير سديد، لأن الترك لا يكون تضييعا بل امتناع عن حفظ غير ملتزم وهو ليس بتضييع كالامتناع عن قبول الوديعة. وأما حالة الإباحة فأن لا يخاف الضياع. وأما حالة الحرمة فهو أن يأخذها لنفسه لا لصاحبها فتكون في معنى الغصب اه. فقد علمت أن ما في الخلاصة ليس مذهبنا. وفي المحيط أن الاخذ مندوب إن أمن على نفسه التعريف والرد على صاحبها. وإن خاف الضياع فعليه أن يأخذها صيانة لحق المسلم لأن لماله حرمة كما لنفسه، وإن كان لا يأمن على نفسه فالترك أولى اه. وهو موافق لما في الخلاصة ومثله في المجتبى. وأشار في الهداية إلى التبري منه بقوله وهو واجب إذا خاف الضياع على ما قالوا، ولم أر حكم ما إذا ضاعت بعدما خاف الضياع ولم يلتقطها، ومقتضى القول بافتراض رفعها الضمان لو لم يرفع وضاعت لكن في جامع الفصولين في الفصل الثالث والثلاثين: لو انفتح زق فمر به رجل فلو لم يأخذه برئ ولو أخذه ثم تركه ضمن لو مالكه غائبا لا لو حاضرا، وكذا لو رأى ما وقع من كم رجل اه. فهذا يدل على عدم الافتراض إلا أن يقال: إن فائدة الافتراض الاثم بالترك لا الضمان في الدنيا بدليل أنهم قالوا: لو منع المالك عن أمواله حتى هلكت يأثم ولا يضمن، فأما الملتقط فلم أر من بين شرائطه ولا يشترط بلوغه بدليل ما في المجتبى التعريف إلى ولي الصبي والوارث اه. فدل على صحة التقاطه. وأما حرية الملتقط فليست بشرط لأن للعبد يدا صحيحة بدليل قولهم كما في البزازية من الوديعة ليس للمالك أن يأخذ وديعة عبده مأذونا أم لا ما لم يحضر ويظهر أنه من كسبه لاحتمال أن تكون وديعة الغير في يد العبد، فإن برهن أنه للعبد تدفع إليه اه. لكن قدمنا أنه لو التقط لقيطا فقال المولى هو عبدي وقال العبد التقطته فإن محجورا فالقول للمولى، وإن مأذونا فللعبد. ولم أر حكم اللقطة إذا تنازعا فيها وينبغي أن يكون كذلك، ولم أر حكم تعريف لقطته هل إليه أو إلى مولاه، وإذا عرفت فهل يتملكها
252 المولى إن كان فقيرا؟ وهل يتوقف الالتقاط على إذن المولى؟ وهل الاذن في التجارة إذن في الالتقاط؟ وهل المكاتب كالحر أو العبد فيه؟ ثم رأيت في الكافي للحاكم عن أبي سعيد مولى أبي رشيد قال: وجدت خمسمائة درهم بالحيرة وأنا مكاتب قال فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال اعمل بها وعرفها قال: فعملت بها حتى أديت مكاتبتي ثم أتيته فأخبرته فقال: ادفعها إلى خزائن بيت المال اه. وسيأتي أن العبد لورد الآبق فالجعل لمولاه فينبغي أن يكون أهلا للالتقاط، وأن المولى يعرفها ثم يتملكها إن كان فقيرا. وأما إسلام الملتقط فليس بشرط بدليل ما في الكافي للحاكم: لو أقام مدعيها شهودا كفارا على ملتقط كافر قبلت اه. فدل على صحة التقاط الكافر وعلى هذا تثبت الأحكام من التعريف والتصدق بعده أو الانتفاع ولم أره صريحا، ولم أر حكم التقاط المرتد لقيطا أو لقطة والظاهر أن مشايخنا إنما لم يقيدوا الملتقط بشئ لاطلاقه عندنا. ولم يذكر المصنف أن الملتقط أحق بإمساكها من غيره وذكر في اللقيط أنه ليس لأحد أخذه منه. وفي الولوالجية: رجل التقط لقطة فضاعت منه ثم وجدها في يد رجل فلا خصومة بينها وبين ذلك الرجل فرق بينه وبين الوديعة، والفرق أن الثاني في أخذ اللقطة كالأول وليس الثاني في أخذ الوديعة كالأول. ولو التقط الرجل لقيطا فأخذه منه رجل ثم اختصما فيه فالأول أحق به لأن الأول صار أحق بإمساكه بحكم اليد لأنه ليس له مستحق آخر بحسب الظاهر لأنه لو كان له مستحق لما وجد مطروحا من حيث الظاهر ولا كذلك اللقطة لأن لها مستحقا آخر من حيث الظاهر فلا يثبت الاستحقاق لصاحب اليد الأول فكان الثاني في إثبات اليد كالأول اه. فقد علمت أن الملتقط ليس أحق بها وهو مشكل لو انتزعها إنسان منه غصبا فإنه يثبت للأول حق أن يتملكها بعد التعريف لو كان فقيرا فكيف يبطله الثاني؟ نعم لو ضاعت من الأول والتقطها آخر فإن الأول لا يخاصمه لأنها لقطة للثاني والأول لا يملك الخصومة، ولا يقال إن كلامهم فيما إذا ضاعت
253 لأنا نقول: قد بينا أنهما مسألتان: الأولى فيما إذا ضاعت وفرقوا بينها وبين الوديعة. الثانية فيما إذا أخذها رجل منه وفرقوا بينها وبين اللقيط، وأما اللقطة فلا فرق عندنا بين لقطة ولقطة كما أفاده بقوله وصح التقاطه البهيمة ولا فرق بين مكان ومكان كما أفاده بقوله (لقطة الحل والحرم أمانة (1) إن أخذها ليردها على ربها وأشهد) لاطلاق قوله عليه السلام اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة وأما قوله عليه السلام في الحرم ولا تحل لقطته إلا لمنشدها فتأويله أنه لا يحل الالتقاط إلا للتعريف، والتخصيص بالحرم لبيان أنه لا يسقط التعريف فيه لمكان أنه للغرباء ظاهرا. وأما كونها أمانة فلان الاخذ على هذا الوجه مأذون فيه شرعا بل هو الأفضل عند العامة. قيد بأخذها ليردها لأنه لو أقر أنه أخذها لنفسه يضمن بالاجماع لأنه أخذ مال الغير بغير إذنه وبغير إذن الشرع. ولو تصادقا على أنه أخذها للمالك فلا ضمان إجماعا لأن تصادقهما حجة في حقهما كالبينة. وبه علم أن الاشهاد إنما هو شرط عند الاختلاف بأن قال الملتقط أخذته للمالك وكذبه المالك فإنه ضامن عندهما. وقال أبو يوسف: لا يضمن والقول قوله لأن الظاهر شاهد له لاختياره الحسبة دون المعصية. ولهما أنه أقر بسبب الضمان وهو أخذ مال الغير وادعى ما يبرئه وهو الاخذ لمالكه وفيه وقع الشك فلا يبرأ. وما ذكر من الظاهر معارض بمثله لأن الظاهر أن يكون المتصرف عاملا لنفسه. ورجح في الحاوي القدسي قول أبي يوسف قال وبه نأخذ اه. ويكفيه في الاشهاد أن يقول من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه علي واحدة كانت اللقطة أو أكثر لأنهم اسم جنس، كذا في الهداية. وفي الينابيع ذكر في بعض الكتب قول محمد مع أبي حنيفة والأصح أنه مع أبي يوسف اه. ويكفيه في الاشهاد أيضا أن يقول عندي لقطة كما في شرح الطحاوي ولا يشترط التصريح بكونه لقطة لأنه لو قال عندي شئ فمن سمعتموه يسأل فدلوه على كفاه كما في الولوالجية. ومحل اشتراط الاشهاد عند الامكان فلو لم يجد من يشهده عند الرفع أو خاف أنه لو أشهد عند الرفع يأخذه منه الظالم فترك الاشهاد لا يضمن، كذا في الخانية. وفي فتح القدير، والقول قوله مع يمينه كوني منعني من الاشهاد، كذا في الخانية. فإن وجد من يشهده فجاوزه ضمن. وفي القنية: وجد الصبي لقطة ولم يشهد يضمن كالبالغ اه. وهذا يدل على ما قدمناه من صحة التقاطه. وفي الولوالجية محل الاختلاف فيما إذا اتفقا على كونها لقطة لكن اختلفا هل التقطها للمالك أو لا، أما إذا اختلفا في كونها لقطة فقال صاحب المال أخذتها غصبا وقال الملتقط لقطة وقد أخذتها لك فالملتقط ضامن بالاجماع اه. ولم يذكر المصنف حكم ما إذا ردها إلى مكانها. وفي الولوالجية وغيرها: وإذا أخذ الرجل ليعرفها ثم
254 أعادها في المكان الذي أخذها منه فقد برئ عن الضمان. هذا إذا أعادها قبل أن يتحول عن ذلك المكان، أما إذا عادها بعد ما تحول يضمن. ولو كانت دابة فركبها ثم نزل عنها فتركها في مكانها على قول أبي يوسف هو ضامن، وعلى قول زفر لا، وكذا إذا أخذ الخاتم من أصبع نائم ثم أعاده إلى أصبعه بعدما انتبه، ولو أعاده قبل أن ينتبه من تلك النومة برئ عن الضمان اتفاقا اه. والتفصيل المذكور خلاف ظاهر الرواية فإنها عدم الضمان مطلقا وهو الوجه كما في فتح القدير ورجحه في البدائع أيضا. وأطلق في الاشهاد فانصرف إلى من تقبل شهادته وهو عدلان ولذا قال في فتح القدير: وظاهر المبسوط اشتراط عدلين اه. قوله: (وعرف إلى أن علم أن ربها لا يطلبها) معطوف على أشهد فظاهره أن التعريف شرط أيضا وأن الاشهاد لا يكفي لنفي الضمان، وهكذا شرط في المحيط لنفي الضمان الاشهاد وإشاعة التعريف. وحكى في الظهيرية فيه اختلافا فقال قال الحلواني: أدنى ما يكون من التعريف أن يشهد عند الاخذ ويقول آخذها لا ردها فإن فعل ذلك ثم لم يعرفها بعد ذلك كفى. ومن المشايخ من قال: يأتي على أبواب المساجد وينادي اه. وفي فتح القدير: وعلى هذا لا يلزم الاشهاد أي التعريف وقت الاخذ بل لا بد منه قبل هلاكها ليعرف أنه أخذها ليردها لا لنفسه اه. وهو غير صحيح لأن الاشهاد لا بد منه على قول الإمام عند الاخذ باتفاق المشايخ، وإنما اختلفوا هل يكفي هذا الاشهاد عند الاخذ عن التعريف بعده أو لا، ولم يقل أحد إن التعريف بعد الاخذ يكفي عن الاشهاد وقت الاخذ فليتأمل. ولم يجعل للتعريف مدة اتباعا لشمس الأئمة السرخسي فإنه بنى الحكم على غالب الرأي فيعرف القليل والكثير إلى أن يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطلبه بعد ذلك. وصححه في الهداية وقال في البزازية والجوهرة. وعليه الفتوى وهو خلاف ظاهر الرواية فإنه التقدير بالحول في القليل والكثير كما ذكره الأسبيجابي. وفي الظهيرية ثم على قول من قدر بحول اختلف فيه، قيل يعرفها كل جمعة، وقيل كل شهر، وقيل كل ستة أشهر. قال السرخسي: حكي أن بعض العلماء ببلخ وجد لقطة وكان محتاجا إليها وقد قال في نفسه لا بد من تعريفها ولو عرفتها في المصر ربما يظهر صاحبها فخرج من المصر حتى انتهى إلى رأس بئر فدلى رأسه في البئر وجعل يقول وجدت كذا، فمن سمعتموه ينشد ذلك فدلوه علي وبجنب البئر رجل رقع شملته وكان صاحب اللقطة فتعلق به حتى أخذها منه ليعلم أن المقدور كائن لا محالة، فلا ينبغي له أن يترك ما لزمه شرعا وهو إظهار التعريف قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يكثر همك ما يقدر يكون وما ترزق يأتيك اه. وهو خطأ من هذا الملتقط لأن هذا ليس بتعريف اتفاقا. قال في الجوهرة: ثم التعريف إنما يكون جهرا في الأسواق وفي أبواب المساجد وفي الموضع الذي وجدها فيه. وفي الجامع: وإن كانت شيئا لا يبقى عرفه حتى يخاف فساده فيتصدق به اه، كذا في الهداية. وإن وجد اللقطة رجلان عرفاها جميعا واشتركا في حكمها اه. وقدمنا أن الملتقط إذا
255 كان صبيا عرفها وليه - زاد في القنية - أو وصيه. ثم له أن يتصدق بها. وسكت عن حكم تمليكها للصبي لو كان فقيرا لأنه يعلم بالأولى، وينبغي أن لا تجوز الصدقة بها من وليه أو وصيه لما في ذلك من الاضرار على احتمال أن لا يجيز مالكها إذا حضر والعين هالكة من يد الفقير فإنه يضمنها من مال الصبي وليس في إمساكها أو تمليكها ضرر. ثم رأيت بعد ذلك في شرح منظومة ابن وهبان للمصنف أنه قال: ينبغي على قول أصحابنا إذا تصدق بها الأب أو الوصي ثم ظهر صاحب اللقطة وضمنها أن يكون الضمان في مالهما دون الصبي اه. وإذا صح هذا البحث فلا إشكال في جواز تصدقهما حينئذ. وفي القاموس: التعريف الاعلام. وفي التتارخانية قال أبو الحسن: له أن يأمر غيره ويعطيها حتى يعرفها يريد إذا عجز عن التعريف بنفسه اه. فأفاد جواز الاستنابة في التعريف لكن في الحاوي القدسي: لو دفعها إلى غيره بغير إذن القاضي ضمن اه. وأطلق المصنف في تعريفها وهو مقيد بما في الهداية فإن كانت اللقطة شئ يعلم أن صاحبها لا يطلبها كالنواة وقشر الرمان يكون إلقاؤه إباحة حتى جاز الانتفاع به من غير تعريف ولكنه يبقى على ملك مالكه لأن التمليك من المجهول لا يصح. وفي البزازية: لو وجدها مالكها في يده له أخذها إلا إذا قال عند الرمي من أخذها فهي له لقوم معلومين، ولم يذكر السرخسي هذا التفصيل. وكذا الحكم في التقاط السنابل لكن أخذه بعد جمع غيره يعد دناءة. وأطلق في الهداية في النواة وقشور الرمان وقيده في البزازية بأن يكون في مواضع متفرقة قال: أما المجتمعة فهي من قبيل ما يطلبه صاحبه فيحفظه وإن وجد جوزة ثم وثم حتى بلغ المتقوم إن مجتمعا فهو من الثاني، وإن متفرقا له قيمة اختلفوا، قيل من الأول، وقيل من الثاني وهو الأحوط. وذكر في الفتاوى المختار أنه من النوع الأول التفاح والكمثري إن وجد في الماء يجوز أخذه وإن كثيرا لأنه يفسد بالماء والحطب في الماء إن لم يكن له قيمة يأخذه وإن له قيمة فهو لقطة. وجعل في الفتاوى الحطب كالتفاح بالماء، أصابوا بعيرا مذبوحا في البادية قريبا من الماء ووقع في ظنه أن مالكه أباحه لا بأس بالأخذ والاكل. وعن الثاني لو طرح ميتة فجاء آخر وأخذ صوفها له الانتفاع به، ولو جاء مالكها له أن يأخذ الصوف منه، ولو سلخها ودبغ يأخذه المالك ويرد عليه ما زاد الدباغ فيه اه. وفي المحيط: أناخ رجل إبله في دار رجل يؤاجرها الجلد واجتمع من ذلك بعر كثير، فإن كان من رأى صاحب الدار أن يجمع ذلك له فهو له لأنه أعد الدار للاحراز، وإن لم يكن من رأيه أن يجمعه بل يترك ذلك
256 على حاله فهو مباح، فكل من أخذه فهو أولى، ولو سيب دابته فأخذها إنسان فأصلحها ثم جاء صاحبها، فإن كان قال عند التسييب جعلتها لمن أخذها فلا سبيل لصاحبها عليها لأنه أباح التمليك، وإن لم يقل ذلك له أن يأخذها، وكذلك من أرسل صيدا له هكذا اختاره بعض مشايخنا، فإن اختلفا فالقول قول صاحبها مع يمينه أنه لم يقل هي لمن أخذها لأنه ينكر إباحة التملك، وإن برهن الآخذ أو نكل المالك عن اليمين سلمت للآخذ. وذكر الفقيه أبو الليث في نوازله: إذا اجتمع للدهانين ما يقطر من الأوعية في إنائه، فإن كان يسيل من خارج الأوعية يطيب له لأنه ليس للمشتري لأن ما انفصل عنها لا يدخل البيع، وإن سال من الداخل أو من الداخل والخارج جميعا أو لا يعلم ينظر، إن زاد الدهان من عنده لكل واحد من المشترين طاب له، وإن لم يزد لا يطيب له ويتصدق به إلا أن يكون محتاجا لأن سبيله سبيل اللقطة اه. وفي التتارخانية: سأل رجل عطاء عن رجل بات في المسجد واستيقظ وفي يده صرة فيها دنانير قال: إن الذي صرها في يدك لم يصرها إلا وهو يريد أن يجعلها لك اه. وفي الظهيرية: ومن أخذ بازيا أو شبهه في مصر أو سواد وفي رجليه سير أو جلاجل فعليه أن يعرفه للتيقن بثبوت يد الغير عليه قبله، وكذا لو أخذ ظبيا وفي عنقه قلادة أو حمامة في المصر يعرف إذ مثلها لا يكون وحشية بأن كانت مسرولة فعليه أن يعرفها اه. قوله: (ثم تصدق) أي إن لم يجئ صاحبها فله أن يتصدق بها على الفقراء أيضا لا للحق إلى المستحق وهو واجب بقدر الامكان وذلك بإيصال عينها عند الظفر بصاحبها وإيصال العوض وهو الثواب على اعتبار إجازته التصدق بها، وسيأتي أن له أن ينتفع بها فعلم أنه مخير بينهما وسكت عن إمساكها وله ذلك رجاء الظفر بصاحبها كما في الهداية، وعن دفعها للإمام. قال في الخلاصة: يرفع الامر إلى الإمام والإمام بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل، فإن قبل إن شاء عجل صدقتها وإن شاء أقرضها من رجل ملئ وإن شاء دفعها مضاربة وإن شاء ردها على الملتقط، ثم هو بالخيار إن شاء أدام الحفظ وإن شاء تصدق على أن يكون الثواب لصاحبها، وإن شاء باعها إن لم تكن دراهم أو دنانير وأمسك ثمنها ثم بعد ذلك إن
257 حضر مالكها ليس له نقض البيع إن كان البيع بأمر القاضي، وإن باع بغير أمر القاضي وهي قائمة فإن شاء أجاز البيع وأخذ الثمن، وإن شاء أبطل البيع وأخذ عين ماله، وإن هلكت إن شاء ضمن البائع وعند ذلك ينفذ البيع من جهة البائع في ظاهر الرواية وبه أخذ عامة المشايخ. وذكر الإمام السرخسي أن المودع إذا باع الوديعة وهلكت وضمنه المالك فهو كالملتقط اه. وفي الذخيرة: والحاصل أن الإمام يصير ناظرا فيفعل ما يراه أصلح في حق صاحب اللقطة اه. وفي الحاوي: الدفع بعد الاشهاد إلى القاضي أجود ليفعل القاضي الأصلح. وفي المجتبى: والتصدق بيده في زماننا أولى من الدفع إلى الحاكم، وقد مر في كتاب التوبة لقاضي القضاة عبد الجبار المتكلم أن الواجب فيها أن يتصدق بنفسه ولا يلقيه في يد غيره لأنه لا يعلم هل يؤديها إلى مستحقها أو لا اه. وقيدنا بالتصدق على الفقراء لما في الهداية أنه لا يتصدق باللقطة على غني - زاد في الحاوي - ولا مملوك غني ولا ولد غني صغير، واستثنى من التصدق باللقطة ما إذا عرف أنها لذمي فلا يتصدق بها وكانت في بيت المال للنوائب، كذا في التتارخانية. وفي القنية: وما يتصدق به الملتقط بعد التعريف وغلبة ظنه أنه لا يوجد صاحبه لا يجب إيصاؤه، وإن كان يرجو وجود المالك وجوب الايصاء اه. وإذا أمسكها وخشي الموت يوصي بها كيلا تدخل في الميراث ثم الورثة أيضا يعرفونها، ومقتضى النظر أنهم لو لم يعرفوها حتى هلكت وجاء صاحبها أن يضمنوا لأنهم وضعوا أيديهم على لقطة ولم يشهدوا أي لم يعرفوا ويغلب على الظن بذلك أن قصدهم تعميتها ويجري فيهم خلاف أبي يوسف، كذا في فتح القدير. وقد يقال: إن التعريف عليهم غير واجب حيث عرفها الملتقط. قوله: (فإن جاء ربها نفذه أو ضمن الملتقط) أي إن جاء مالكها بعد تصدق الملتقط خير بين إمضاء الصدقة والثواب له وبين تضمين الملتقط لأن التصدق وإن حصل بإذن الشرع لم يحصل بإذنه فيتوقف على إجازته. أطلق في التنفيذ فشمل ما بعد هلاك العين لأن الملك يثبت للفقير قبل الإجازة فلا يتوقف على قيام المحل بخلاف بيع الفضولي فإنه يشترط لصحة إجازته قيام العين لثبوت الملك بعد الإجازة فيه، وإما تضمين الملتقط فلكونه سلم ماله إلى غيره بغير إذنه إلا أنه بإباحة من جهة الشرع وهذا لا ينافي الضمان حقا للعبد كما في تناول مال الغير حالة المخمصة. وأطلق فيه فشمل ما إذا كان التصدق بأمر القاضي وهو الصحيح لأن أمره لا يكون أعلى من فعله والقاضي لو تصدق بها كان له أن يضمنه فكذا له أن يضمن من أمره القاضي ولذا أطلق المصنف في الملتقط فشمل القاضي، ولذا قال في الذخيرة: وإذا مال
258 القاضي أو الإمام إلى التصدق وتصدق كان في ذلك كواحد من الرعايا، وهذا لأن التصدق بها غير داخل في ولاية الإمام والقاضي لأنه تصدق بمال الغير بغير إذنه اه. وهو شامل لما إذا كانا ملتقطين أو التقط غيرهما ودفعها إليهما، ولم يذكر المصنف تضمين المسكين قالوا: إنه مخير إن شاء ضمن الملتقط وإن شاء ضمن المسكين، وأيهما ضمن لا يرجع على صاحبه، فإن ضمن الملتقط ملكها الملتقط من وقت الاخذ ويكون الثواب له، وإن كانت العين قائمة أخذها من يد الفقير، كذا في الخانية، وبه علم أن الثواب موقوف. ولم يذكر المصنف أن للملتقط شئ إذا ردها إلى صاحبها لما في الولوالجية: ولو التقط لقطة أو وجد ضالة أو صبيا حرا ضالا فرده على أهله لم يكن له جعل وإن عوضه شئ فحسن اه. وفي التتارخانية: لو قال من وجده فله كذا فأتى به إنسان يستحق أجر مثله اه. وعلله في المحيط بأنها إجارة فاسدة وعزاه إلى الكرخي لكن فيه نظر لأنه لا قبول لهذه الإجارة فلا إجارة أصلا. وفي القاموس: الرب باللام لا يطلق لغير الله تعالى وأما بالإضافة فمالك الشئ ومستحقه أو صاحبه. وأنفذ الامر قضاه والنافذ الماضي في جميع أموره. قوله: (وصح التقاط البهيمة) أي ندب التقاطها لأنها لقطة يتوهم ضياعها فيستحب أخذها وتعريفها صيانة لأموال الناس، وأما ما في الصحيح حين سئل عن ضالة الإبل قال مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر فذرها حتى يجدها ربها فأجاب عنه في المبسوط بأن ذلك كان إذ ذاك لغلبة أهل الصلاح والأمانة لا تصل إليها يد خائنة فإذا تركها وجدها، وأما في زماننا فلا يأمن من وصول يد خائنة إليها بعده ففي أخذها إحياؤها. وإنما فسرنا الصحة بالندب لأن خلاف الأئمة الثلاثة إنما هو في ندب التقاطها فإنهم قالوا تركها أفضل لا أنهم قالوا بعدم الجواز وإنما يكون مندوبا عندنا إذا لم يخف الضياع وإلا لم يسعه تركه، كذا في الولوالجية. قال: ولا فرق عندنا بين أن تكون البهيمة في القرية أو في الصحراء، ومحل الاختلاف الثاني. والحذاء النعل والسقاء القربة والمراد به هنا مشافرها وبالأول فراسنها، كذا في الظهيرية. وفي التتارخانية: وإن كان مع اللقطة ما يدفع به عن نفسه كالقرن للبقرة وزيادة القوة في البعير بكدمه ونفحه يقضي بكراهية الاخذ اه. وبه علم أن التقاط البهيمة على ثلاثة أوجه لكن ظاهر الهداية أن
259 صورة الكراهة إنما هي عند الشافعي لا عندنا. وفي القاموس: البهيمة كل ذات أربع ولو في الماء أو كل حي لا يميز والجمع بهائم اه. فشمل الدواب والطيور والإبل والبقر والغنم والدجاج والحمام الأهلي كما في الحاوي وفيه: ومن رأى دابة في غير عمارة أو برية لا يأخذها ما لم يغلب على ظنه أنها ضالة بأن كانت في موضع لم يكن بقربه بيت مدرأ وشعر أو قافلة نازلة أو دواب في مرعاها اه. فلو وصف المصنف البهيمة بالضالة لكان أولى. قوله: (وهو متبرع في الانفاق على اللقيط واللقطة) أي الملتقط لقصور ولايته فصار كما لو قضى دين غيره بغير أمره. قيد بالملتقط لأن الوصي لو أنفق عليه من مال ومال اليتيم غائب فهو متطوع إلا أن يشهد أنه قرض عليه أو أنه يرجع، ولو اشترى له الوصي طعاما أو كسوة بشهادة شهود رجع، ولو اشترى ثوبا أو خادما لولده ونقد ثمنه من مال نفسه لا يرجع إلا أن يشهد أنه شراه له ليرجع، كذا في جامع الفصولين من الفصل السابع والعشرين. وقيد حكم قضاء مديون الميت دينه بغير أمر وصيه وقضاء المودع دين مودعه بلا أمر وقضاء الوكيل بالبيع عن المشتري الثمن لموكله بلا أمره. قوله: (وبإذن القاضي يكون دينا) لأن للقاضي ولاية في مال الغائب وعلى اللقيط نظرا لهما، وقد يكون النظر بالانفاق وصورة إذن القاضي أن يقول له أنفق على أن ترجع، فلو أمره به ولم يقل على أن ترجع لا يكون دينا وهو الأصح لأن الامر متردد بين الحسبة والرجوع فلا يكون دينا بالشك. وعبارة المجمع أحسن وهي: فإن أنفق الملتقط كان متبرعا إلا أن يأذن له القاضي بشرط الرجوع أو يصدقه اللقيط إذا بلغ اه. وينبغي أن يكون معنى التصديق تصديقه أنه أنفق عليه بأمر القاضي على أن يرجع لا تصديقه على الانفاق لأنه لو كان بلا أمر القاضي لا رجوع عليه له فتصديقه وعدمه سواء. وفي شرحه لابن الملك خلافه فإنه قال: يعني إذا لم يأمر القاضي بإنفاقه فصدقه اللقيط بعد البلوغ أنه أنفقه للرجوع عليه فله الرجوع عليه لاقراره بحقه اه. ولو صح هذا لزم أن يقال في الجواب فهو متبرع إلا أن شهد أنه أنفق ليرجع أو يصدقه على ذلك وحينئذ لا اعتبار بأمر القاضي وهم قد اتفقوا على أنه لا بد من إذن القاضي لعدم ولاية الملتقط فلا يكفيه الاشهاد بخلاف الوصي لو أنفق من ماله وأشهد يرجع كما قدمناه لأن له ولاية في مال
260 اليتيم، ولم أر من نبه على هذا المحل لكني فهمته مما نقلته عن الخانية في باب اللقيط عند قوله ونفقته في بيت المال. ولم يبين المصنف المديون لتعدده ففي اللقطة صاحبها، وفي اللقيط الأب إن ظهر له أب، واللقيط بعد بلوغه إن لم يظهر له أب كما في الظهيرية، ومالكه إن ظهر له سيد بإقراره كما في الحاوي. والعجب من الشارح أنه جعله صاحبها وسها عن اللقيط. ولم يذكر المصنف إقامة البينة من الملتقط قبل إذن القاضي وشرطه في الأصل وصححه في الهداية لأنه يحتمل أن يكون غصبا في يده ولا يأمر فيه بالانفاق وإنما يأمره في الوديعة فلا بد من البينة لكشف الحال وليست تقام للقضاء حتى يشترط لها خصم لكن ظاهره أنه في اللقطة، وأما في اللقيط فقد قدمنا أنه كذلك وصرح به في الظهيرية. وإن قال الملتقط لا بينة لي يقول له أنفق عليها إن كنت صادقا. وفي الذخيرة: يقول له ذلك بين يدي الثقات. وكذا لو كانت اللقطة شيئا يخاف عليه الهلاك متى لم ينفق عليه إلى إقامة البينة كما في الظهيرية. وقدمنا أن القاضي لو جعل ولاء اللقيط للملتقط جاز لأنه قضاء في فصل مجتهد فيه فإن من العلماء من قال بأن الملتقط يشبه المعتق من حيث إنه أحياه كالمعتق فعلى هذا لا يكون متبرعا بالانفاق بغير إذن القاضي إذا أشهد ليرجع كالوصي. قوله: (وإن كان لها نفع أجرها وأنفق عليها) أي اللقطة والمراد الضالة البهيمة لأن فيه إبقاء العين على مالكه من غير إلزام الدين عليه. قيد باللقطة لأن العبد الآبق لا يؤجره القاضي لأنه يخاف أن يأبق، كذا في التبيين. وفي الهداية: سوى بينهما بقوله وكذلك يفعل بالعبد الآبق ولم أر حكم اللقيط إذا صار مميزا ولا مال له هل يؤجره القاضي للنفقة أو لا؟ قوله: (وإلا باعها) أي إن لم يكن لها نفع باعها القاضي وحفظ ثمنها لصاحبها إبقاء له يعني عند تعذر إبقائه صورة، وظاهر الكتاب أن القاضي يفعل أحد الامرين من الإجارة إن أمكن وإلا فالبيع. وظاهره أنه إذا لم يكن له نفع لا يأذن له في الانفاق. وفي الهداية: وإن كان الأصلح الانفاق عليها أذن في ذلك وجعل النفقة دينا على مالكها. قالوا: إنما يأمر بالانفاق
261 يومين أو ثلاثة على قدر ما يرى رجاء أن يظهر مالكها فإذا لم يظهر يأمر ببيعها لأن دارة النفقة مستأصلة فلا نظر في الانفاق مدة مديدة اه. وأفاد بقوله لا نظر إلى آخره أنه لو فعل ذلك لا ينفذ من القاضي للتيقن بعدم النظر وقد فهمه المحقق ابن الهمام أيضا. وإذا بيعت أخذ الملتقط ما أنفق بإذن القاضي، ولم يذكر المصنف حكم ما إذا حضر المالك بعد البيع ولم يجزه، وقدمنا عن الخلاصة أن البيع نافذ من القاضي موقوف من غيره إجازته وبيع الملتقط بإذن القاضي كبيع القاضي، فلو كان عبدا باعه القاضي فلما جاء المولى قال هو مدبر أو مكاتب لا يصدق في نقض البيع، كذا في التتارخانية وهو مشكل لأنه لو باع بنفسه ثم قال هو مدير أو مكاتب أو أم ولد وبرهن قبل كما ذكره في فتح القدير من باب الاستحقاق مصورا له في الواهب، وعللوا له بأن التناقض في دعوى الحرية وفروعها لا يمنع. قوله: (ومنعها من ربها حتى يأخذ النفقة) أي منع اللقطة لأنه حي بنفقته فصار كأنه استفاد الملك من جهته فأشبه المبيع، وأقرب من ذلك زاد الآبق فإن له الحبس لاستيفاء الجعل لما ذكرنا، ثم لا يسقط دين النفقة بهلاكه عند الملتقط قبل حبسه ويسقط إذا هلك بعد الحبس لأنه يصير بالحبس شبيه الرهن كما في الهداية والكافي وهو المذهب فاندفع به ما ذكره القدوري من عدم السقوط بالهلاك بعد الحبس وإنما السقوط هو قول زفر، وهكذا في الينابيع. ولم يذكر المؤلف بيع القاضي لها بعد حضور مالكها للانفاق إذا امتنع من دفعه للملتقط. قال في الحاوي: فإن امتنع صاحبها من أداء ما أنفق بأمر القاضي باعها القاضي وأعطى نفقته من ثمنها ورد عليه الباقي اه. ولا فرق في منعها من ربها للانفاق بين أن يكون الملتقط أنفق من ماله أو استدان بأمر القاضي ليرجع على صاحبها كما صرح به في الحاوي لكن لم أر أن للملتقط أن يحيل الدائن على صاحبها بدينه بغير رضاه، وقد صرحوا في نفقة الزوجة المستدانة بإذن القاضي أن المرأة تتمكن من الحوالة عليه بغير رضاه وقياسه هنا كذلك بجامع إذن القاضي بالاستدانة.
262 قوله: (ولا يدفعها إلا مدعيها بلا بينة) أي اللقطة للحديث البينة على المدعي (1) ولان اليد حق مقصود حتى وجب على الغاصب الضمان بإزالته فلا يزال إلا ببينة ولا يستحق إلا بها كالملك ولذا وجب الضمان على غاصب المدبر. وفي الخانية: الملتقط إذا أقر بلقطة لرجل وأقام رجل آخر البينة أنها له يقضي بها لصاحب البينة، فإذا أقر بها لرجل ودفعها إليه فاستهلكها ثم أقام آخر البينة أنها له فإن كان دفع إلى الأول بقضاء أو بغير قضاء كان لصاحب البينة أن يضمن القابض لأنه قبض ماله بغير أمره عن اختيار فيكون بمنزلة غاصب الغاصب، وإذا ضمنه صاحب البينة لا يرجع هو على المقر كغاصب الغاصب إذا ضمن لا يرجع على الغاصب، وإن اختار صاحب البينة تضمين الدافع، فإن كان الدفع بغير قضاء كان له أن يضمنه، وإن كان الدفع بقضاء لم يذكره في الكتاب. قالوا: ينبغي أن تكون المسألة على الاختلاف على قول أبي يوسف ليس له ذلك وعلى قول محمد له ذلك اه. أراد بعدم الدفع عدم لزومه لأنه لو صدق مدعيها بلا بيان جاز الدفع بلا جبر وأراد بالبينة القضاء بها وفي الظهيرية: فإن كانت اللقطة في يد رجل مسلم فادعاها رجل فأقام البينة أو أقر الملتقط بذلك ولكن قال لا أردها عليك إلا عند القاضي فله ذلك، وإن مات في يده عند ذلك فلا ضمان عليه اه. وفي الكافي للحاكم: وإذا كانت اللقطة في يد مسلم فادعاها رجل ووصفها فأبى الذي في يده أن يعطيه إلا ببينة فأقام شاهدين كافرين لم تجز شهادتهما لأن الذي في يده مسلم، فإن كانت في يد كافر فكذلك القياس أيضا لعلها لمسلم ولكني أستحسن فأقضي له، فإن كانت في يد مسلم وكافر لم تجز شهادة الكافر على واحد منهما في القياس ولكني أستحسن أن أجيزه على ما في يد الكفار منهما اه. قوله: (فإن بين علامتها حل الدفع بلا جبر) للحديث فإن جاء صاحبها وعرف عفاصها وعددها فادفعها إليه وهذا للإباحة عملا بالمشهور وهو قول عليه السلام البينة على المدعى (1) الحديث. ولما قدمنا أن اليد حق مقصود كالملك فلا يستحق إلا بالبينة، والعلامة مثل أن يسمى وزن الدراهم وعددها ووكاءها ووعاءها، كذا في الهداية. والعفاص ككتاب الوعاء فيه النفقة جلدا أو خرقة وغلاف
263 القارورة والجلد يغطي به رأسها. والوكاء ككساء رباط القربة وغيرها وقد وكأها وأوكأها وعليها وكلما شد رأسه من وعاء ونحوه وكاء، كذا في القاموس. وظاهر مفهوم الشرط أنه لو لم يبين علامتها لا يحل الدفع وهو محمول على ما إذا لم يصدقه، فإن صدقه حل الدفع. قال في فتح القدير: فإن صدقه مع العلامة أو لا معها فلا شك في جواز دفعه إليه لكن هل يجبر؟ قيل يجبر كما لو أقام بينة، وقيل لا يجبر كالوكيل بقبض الوديعة إذا صدقه المودع لا يجبره القاضي على دفعها إليه ودفع بالفرق بأن المالك هنا غير ظاهر أي المالك الآخر والمودع في مسألة الوديعة ظاهر اه. وقدمنا حكم ما إذا دفعها بلا بينة ثم أثبتها آخر وهو أعم من دفعها بالعلامة أو بالتصديق فقط. ولم يذكر المصنف أخذ الكفيل عند دفعها ببيان العلامة قال في الهداية: ويأخذ منه كفيلا إن كان يدفعها إليه استيثاقا وهذا بلا خلاف لأنه يأخذ الكفيل لنفسه بخلاف الكفيل لوارث غائب عند أبي حنيفة اه. وصحح في النهاية أنه لا يأخذ كفيلا مع إقامة الحاضر البينة. والمراد ببيان العلامة بيانها مع المطابقة، وقدمنا في اللقيط أن الإصابة في بعض العلامات لا تكفي. وصرح في التتارخانية في التصوير بأنه أصاب في علامات اللقطة كلها. فظاهره أنه شرط ولم أر حكم ما إذا بين كل من المدعيين لها علاماتها وأصابا وينبغي أن يحل له الدفع لهما. قوله: (وينتفع بها لو فقيرا وإلا تصدق على أجنبي ولأبويه وزوجته وولده لو فقيرا) أي ينتفع الملتقط باللقطة بأن يتملكها بشرط كونه فقيرا نظرا من الجانبين كما جاز الدفع إلى فقير آخر، وأما الغني فلا يجوز له الانتفاع بها، فإن كان غير الملتقط فظاهر للحديث فإن لم يجئ صاحبها فليتصدق بها والصدقة إنما تكون على الفقير كالصدقة المفروضة وإن كان الملتقط فكذلك. وقال الشافعي: يجوز لقوله عليه السلام في حديث أبي رضي الله عنه فإن جاء صاحبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها وكان من الأغنياء ولأنه إنما يباح للفقير حملا له على رفعها صيانة لها والغني يشاركه فيه. ولنا أنه مال الغير فلا يباح الانتفاع به إلا برضاه لاطلاق النصوص والإباحة للفقير لما روينا أو بالاجماع فبقي ما وراءه على الأصل، والغني محمول على الاخذ لاحتمال افتقاره في مدة التعريف والفقير قد يتوانى لاحتمال استغنائه فيها، وانتفاع أبى رضي الله عنه كان بإذن الإمام وهو جائز بإذنه كما في الهداية، فقد أفاد أن الغني يجوز له الانتفاع بإذن الإمام لكن على وجه القرض كمقيده به الزيلعي وغيره. وظاهر كلامهم متونا وشروحا أن الحل للفقير بعد التعريف لا يتوقف على إذن القاضي. ويخالفه ما في الخانية في
264 المسألتين فإنه قال: لو أراد الملتقط أن يصرفها إلى نفسه بعدما عرفها هذه المدة فهو على وجهين: إن كان الملتقط غنيا لا يجوز له الانتفاع عندنا سواء فعل ذلك بأمر القاضي أو بغير أمره، وإن كان الملتقط فقيرا إن أذن له القاضي أن ينفقها على نفسه يحل له أن ينفق ولا يحل بغير أمر القاضي عند عامة العلماء. وقال بشر: يحل اه. وإنما فسرنا الانتفاع بالتملك لأنه ليس المراد الانتفاع بدونه كالإباحة ولذا ملك بيعها وصرف الثمن إلى نفسه كما في الخانية. أطلق في عدم الانتفاع للغني فشمل القرض ولذا قال في فتح القدير: وليس للملتقط إذا كان غنيا أن يتملكها بطريق القرض إلا بإذن الإمام، وإن كان فقيرا فله أن يصرفها إلى نفسه صدقة لا قرضا اه. وأطلق في ولده فشمل الصغير، والحاصل أن أقارب الملتقط وأصوله وفروعه وزوجته كالأجنبي لأن الجواز للفقر وهو موجود في الكل وينبغي تقييد الصغير بأن يكون الملتقط فقيرا لأن الولد يعد غنيا بغناء أبيه كما قدمناه في الزكاة. ولم يذكر المصنف حكم ما إذا انتفع بها الملتقط ثم حضر المالك لأنه معلوم من حكم ما إذا تصدق بها الملتقط ثم حضر المالك بالأولى فله أن يجيز وأن يضمن. وفي الخانية: رجل وجد عرضا لقطة فعرفها ولم يجد صاحبها وهو فقير ثم أنفق على نفسه ثم أصاب مالا قالوا: لا يجب عليه أن يتصدق على الفقراء بمثل ما أنفق على نفسه - زاد في الولوالجية - وهو المختار فأفاد الاختلاف. وفي الخانية: امرأة وضعت ملاءتها وجاءت امرأة أخرى ووضعت ملاءتها ثم جاءت الأولى وأخذت ملاءة الثانية وذهبت لا ينبغي للثانية أن تنتفع بملاءة الأولى لأنه انتفاع بملك الغير، فإن أرادت أن تنتفع بها قالوا ينبغي أن تتصدق هي بهذه الملاءة على ابنتها إن كانت فقيرة على نية أن يكون ثواب الصدقة لصاحبتها إن رضيت، ثم تهب الابنة الملاءة منها فيسعها الانتفاع بها لأنها بمنزلة اللقطة فكان التصدق، وإن كانت غنية لا يحل لها الانتفاع بها، وكذلك الجواب في المكعب إذا سرق اه. وقيده بعضهم بأن يكون المكعب الثاني مثل الأول أو أجود، أما إذا كان الثاني دون الأول فله أن ينتفع به من غير هذا التكلف لأن أخذ الأجود وترك الأدون دليل الرضا بالانتفاع بالأدون، كذا في الظهيرية. وفيه مخالفة اللقطة من جهة
265 جواز التصدق بها قبل التعريف وكأنه للضرورة، وكذلك جوزوا الانتفاع للحال في مسألة مذكورة في الخلاصة. وفي الولوالجية: هي لو مات غريب في دار رجل ومعه قدر خمسة دراهم فأراد صاحب البيت أن يتصدق على نفسه إن كان فقيرا فله ذلك كاللقطة اه. ولم يصرحا بما زاد على الخمسة. وفي الحاوي القدسي: وإذا مات الغريب في بيت إنسان وليس له وارث معروف كان حكم تركته كحكم اللقطة إلا إذا كان مالا كثيرا يكون لبيت المال بعد البحث والفحص عن ورثته سنين اه. وفي الخانية: رجل غريب مات في دار رجل وليس له وارث معروف وخلف ما يساوي خمسة دراهم وصاحب الدار فقير ليس له أن يتصدق بهذا المال على نفسه لأنه ليس بمنزلة اللقطة اه. وهو مخالف لما ذكرناه والأول أثبت وصرح به في المحيط، وأما مسألة الحمام فقال في الظهيرية: رجل له محصنة حمام اختلط بها أهلي لغيره لا ينبغي له أن يأخذه فإن أخذه طلب صاحبه ليرده عليه لأنه في معنى اللقطة، فإن فرخ عنده، فإن كانت الام غريبة لا يتعرض لفرخها، وإن كان الام لصاحب المحصنة والغريب ذكر فالفرخ له. قال الشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي: وبهذا تبين أن من اتخذ برج حمام فأوكرت فيه حمام الناس فما يأخذ من أفراخها لا يحل له وهو بمنزلة اللقطة في يده، فإن كان فقيرا له أن يتناول حاجته، وإن كان غنيا ينبغي له أن يتصدق بها على فقير ثم يشتري منه بشئ ويحل له التناول. قال شمس الأئمة: وهكذا كان يفعل شيخنا شمس الأئمة الحلواني وكان مولعا بأكل الجوازل. ومحصنة الحمام برجه، وأوكرت اتخذت وكرا وهو بيت الحمام وغيره والمولع الحريص، والجوازل جمع جوزل وهو فرخ الحمام اه. وفي القنية: يمشي في السوق وينفخ في التراب فوجد عدلية أو فلسا أو ذهبا لا يحل له إلا بعد التعريف ثم التصدق عليه إن كان فقيرا ثم رقم لآخر أما الفلس والعدلية فيباح له إذا كان فقيرا. وفي الزيادة: لا ويجوز التصدق في العدلية والفلس قبل التعريف اه. وفي الظهيرية: المأخوذ به أن للمأمور بالنثار سكرا أو غيره أن يحبس لنفسه مقدار ما يحبسه الناس وأن يلتقط ومن وقع في حجره أو ذيله شئ فأخذه منه غيره إن هيأه لذلك لا يكون للآخذ وإلا كان له. وفي التتارخانية: سارق دفع لرجل متاعا فينبغي له أن يتصدق به إن لم يعرف صاحبه وإلا رده ولا يرده إلى السارق والله سبحانه وتعالى أعلم.
266 كتاب الإباق كل من الإباق واللقيط واللقطة متحقق فيه عرضة الزوال والتلف إلا أن التعرض له بفعل فاعل مختار في الإباق فكان الأنسب تعقيب الجهاد به بخلاف اللقطة واللقيط وكذا الأولى فيه، وفي اللقطة الترجمة بالباب لا بالكتاب، كذا في فتح القدير وفيه نظر لأن خوف التلف من حيث الذات في اللقيط أكثر من اللقطة فناسب ذكره عقيب الجهاد. وأما التلف في الآبق فإنما هو من حيث الانتفاع للمولى لا من حيث الذات لأنه لو لم يعد إلى مولاه لا يموت بخلاف اللقيط فإنه لصغره إن لم يرفع يت فالأنسب ترتيب المشايخ كما لا يخفى. وكذا تعبيرهم بالكتاب لكل من الثلاثة أنسب من الباب لما أن مسائل كل منها مستقلة لم تدخل في شئ قبلها ولا بعدها. وفي القاموس: أبق العبد كسمع وضرب ومنع آبقا، ويحرك وإباقا ككتاب ذهب بلا خوف ولا كد عمل أو استخفى ثم ذهب فهو آبق وأبوق وجمعا ككفار وركع اه. وفي المصباح: الأكثر أنه من باب ضرب اه. ولما كان الهرب لا يتحقق إلا بالقصد لم يحتج إلى زيادته كما في العناية، وأما الضال فليس فيه قصد التغيب بل هو المنقطع عن مولاه لجهله بالطريق إليه، كذا في فتح القدير. قوله: (أخذه أحب أن يقو عليه) أي يقدر عليه لما فيه من إحيائه لأنه هالك في حق المولى فيكون الرد إحياء له. قيد بقدرته على أخذه لأنه لو لم يقدر فلا استحباب، ولم يذكر ما إذا خاف هلاكه لو لم يأخذه. وصرح في البدائع بأن حكم أخذه حكم أخذ اللقطة فعلى هذا يفترض أخذه إن خاف ضياعه، ويندب إن لم يخف، ويحرم أخذه لنفسه، ويستحب تركه إن لم يأمن على نفسه. ولم يذكر المصنف كثيرا من أحكامه بعد أخذه قال في البدائع: إن شاء الآخذ أمسكه حتى يجئ صاحبه، وإن
267 شاء ذهب به إلى صاحبه، فإن ادعى إنسان أنه عبده وبرهن دفعه إليه واستوثق بكفيل إن شاء لجواز أن يدعيه آخر، وإن لم يبرهن وأقر العبد لمدعيه دفعه إليه أيضا لعدم المنازع ويأخذ كفيلا، فإن طالت المدة باعه القاضي وحفظ ثمنه لصاحبه، فإن جاء صاحبه بعده وبرهن دفع الثمن إليه وليس له نقض البيع لأن بيع القاضي بولاية شرعية، ولو زعم المدعي أنه دبره وكاتبه لم يصدق في نقض البيع اه. وسيأتي حكم نفقته آخرا ويستحلف القاضي مدعيه مع البرهان بالله أنه باق إلى الآن في ملكك لم يخرج ببيع ولا هبة كما في فتح القدير. وفي الظهيرية: ينبغي للراد أن يأتي به إلى الإمام عند السرخسي وخيره الحلواني، وإذا جاء به إلى القاضي هل يصدقه القاضي بلا بينة؟ اختلف المشايخ فيه كما اختلفوا في نصب القاضي خصما لمدعيه حتى تقبل بينته ولم يذكره محمد كما اختلفوا في أخذ الكفيل من مدعيه بعد البرهان كما اختلفوا في أخذ الضال، وإذا أبق العبد وذهب بمال المولى فجاء به رجل وقال لم أجد معه شيئا فالقول قوله ولا شئ عليه، ولا يكون وصول يده إلى العبد دليلا على وصول يده إلى المالية اه. قوله: (ومن رده من مدة سفر فله أربعون درهما) جعلا له استحسانا يستحقها على مولاه بلا شرط لأن الصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أصل وجوب الجعل إلا أن منهم من جعله أربعين ومنهم من أوجب دونه فأوجب الأربعين في مسيرة السفر وما دونها فيما دونه توفيقا وتلفيقا، فلو جاء بالآبق رجل فأنكر مولاه إباقه فالقول له، فإن برهن أنه أبق أو أن مولاه أقر بذلك قبلت، كذا في الجوهرة. قيد بالآبق لأنه لا جعل لراد الضال لأنه بالسمع ولا سمع في الضال فامتنع، ولان الحاجة إلى صيانة الضال دونها في الآبق لأنه لا يتوارى والآبق يختفي، وهذا مما فارق فيه الآبق وكذا في حبسه فإن الآبق إذا رفع إلى الإمام يحبسه ولا يحبس الضال لأنه لا يؤمن على الآبق من الإباق ثانيا بخلاف الضال، وكذا لا يأخذه الواجد بل تركه أفضل على أحد القولين لأنه لا يبرح من مكانه فيجده المالك بخلاف الآبق، وكذا لا جعل لراد الصبي الحر. أطلق الراد فشمل ما إذا كانا اثنين فيشتركان في الأربعين إذا رداه لمولاه كما في الحاوي. وشمل ما إذا رده محرمه إليه فهو كالأجنبي لكن يرد عليه ما إذا رده من في عيال سيده إليه فإنه لا جعل له، وكذا يرد عليه ما إذا رده الأبوان أو أحدهما ولم يكن في عياله لا جعل له، وكذا يرد عليه لو رده الابن إلى أبيه وليس في عياله أو أحد
268 الزوجين إلى الآخر، وكذا يرد عليه لو رده الوصي إلى اليتيم، وكذا من يعول اليتيم إذا رد آبقه وليس بوصي، وكذا يرد عليه لو كان مالكه قد استعاذ به كما لو قال لرجل إن عبدي قد أبق فإذا وجدته فخذه كما في فتح القدير. وشرط في التتارخانية أن يقول له نعم معللا بأنه قد وعد له الإعانة. وكذا يرد عليه لو رده السلطان أو الشحنة أو الخفير لوجوب الفعل عليهم فالوارد إحدى عشرة فلو قال إذا كان الراد يحفظ مال السيد أو يخدمه أو استعان به لسلم من الايراد كما لا يخفى. وشمل ما إذا كان الراد بالغا أو صبيا حرا أو عبدا لأن الصبي من أهل استحقاق الاجر بالعمل وكذا العبد إلا أن الجعل لمولاه لأنه ليس من أهل ملك المال، كذا في البدائع. وشمل ما إذا رده بنفسه أو نائبه. قال في المحيط: أخذ أبقا من مسيرة سفر فدفعه إلى رجل وأمره أن يأتي به إلى مولاه وأن يأخذ منه الجعل جاز. وذكر في آخر الباب لو أخذ عبدا آبقا فاغتصبه منه رجل وجاء به لمولاه فدفعه إليه وأخذ جعله ثم جاء الذي أخذه فأقام البينة أنه أخذه من مسيرة ثلاثة أيام فإنه يأخذ من مولاه الجعل ثانيا ويرجع المولى على الغاصب بما دفع إليه لأنه أخذه بغير حق اه. وأطلق في السيد فشمل البالغ والصبي فيجعل الجعل في ماله. وشمل ما إذا كان متعددا فالجعل على قدر النصيب، فلو كان البعض غائبا فليس للحاضر أن يأخذه حتى يعطي تمام الجعل، ولا يكون متبرعا بنصيب الغائب فيرجع عليه. وأطلق في المردود فشمل ما إذا كان صغيرا فهو كالكبير، ذكره الحاكم في الكافي لكن ذكر بعده: وإذا أبقت الأمة ولها صبي رضيع فردهما رجل كان له جعل واحد، فإن كان ابنها غلاما قد قارب الحلم فله الجعل ثمانون درهما اه. وقيد ولد الآبقة بالمراهق ولم
269 يقيد أولا فالظاهر أن الصغير إن لم يكن تبعا لاحد أبويه لا يشترط أن يكون مراهقا وإلا فهو شرط لكن لا بد من تقييده بالعقل. قال في التتارخانية: وما ذكر من الجواب في الصغير محمول على ما إذا كان يعقل الإباق، أما إذا كان لا يعقل فهو ضال لا يستحق له الجعل اه. وفي المصباح: الجعل بالضم الاجر يقال جعلت له جعلك، والجعالة بكسر الجيم وبعضهم يحكي التثليث والجعيلة مثل الكريمة لغات في الجعل اه. قوله: (ولو قيمته أقل منه) أي ولو كانت قيمة المردود أقل من الأربعين فالواجب الأربعون عند أبي يوسف، لأن التقدير بها ثبت بالنص فلا ينقص عنها ولذا لا يجوز الصلح على الزيادة بخلاف الصلح على الأقل لأنه حط منه. وقال محمد: يقضي بقيمته إلا درهما لأن المقصود إحياء مال المالك فلا بد أن يسلم له شئ تحقيقا للفائدة. ولم يذكر في الهداية فيه قولا للإمام وذكره صاحب البدائع والأسبيجابي مع محمد فكان هو المذهب ولذا ذكره القدوري. وفي التتارخانية: لو مات العبد بعد الرد لم يبطل حقه في الجعل. قوله: (وإن رده لأقل منها فبحسابه) الخ. أي لو رد الآبق لأقل من ثلاثة أيام تقسم الأربعون على الأيام الثلاثة لكل يوم ثلاثة عشر وثلث إذ هي أقل مدة السفر. وقد استفيد منه أن ما زاد على الثلاث كالثلاثة بخلاف ما نقص عنها. وظاهر ما في الهداية وغيرها تضعيف ما في الكتاب وأن المذهب الرضخ له باصطلاحهما أو يفوض إلى رأي القاضي. وفي الينابيع: العرض إلى رأي الإمام وهو الأشبه بالاعتبار، وفي الإبانة وهو الصحيح، وفي الغياثية وعليه الفتوى، كذا في التتارخانية. وفي المحيط: رجلان أتيا به فبرهن أحدهما أنه أخذه من مسيرة ثلاثة أيام والثاني أنه من مسيرة يومين فعلى المولى جعل تام ويكون للأول جعل يوم خاصة ويكون جعل يومين بينهما نصفين، ولو أقام أحدهما البينة أنه أخذه بالكوفة وأقام آخر أنه أخذه في طريق البصرة على مسيرة يومين فقد علمت أن إحدى البينتين كاذبة فعلى المولى جعل تام ويكون للذي أقام البينة أنه أخذه بالكوفة ثلث الجعل ويكون الباقي بينهما نصفين اه. وفي القاموس: رضخ له كمنع وضرب أعطاه عطاء غير كثير اه. أطلق في الأقل فشمل ما إذا رده في المصر فإنه يرضخ له كما لو رده من خارج وهو المذكور في الأصل. وعن أبي حنيفة لا شئ له في المصر والأول هو الصحيح، كذا في التتارخانية. قوله: (وأم الولد والمدبر كالقن) لما فيه من إحياء ملكه. وقيده في الهداية بأن يكون الرد في حياة المولى ولا حاجة إليه لأنهما يعتقان بموته ولا شئ في رد الحر، وهذا ظاهر في
270 أم الولد لأنه لا سعاية عليها بعد موته، وكذا في المدبر الذي لا سعاية عليه بأن كان للمولى مال سواه، وأما إذا لم يكن له غيره فكذلك لا جعل للراد لأنه حر عندهما مستسعى عنده وهو كالمكاتب ولا جعل لراد المكاتب ولذا قيد بأم الولد والمدبر للاحتراز عنه لأن المكاتب أحق بمكاسبه فلا يوجب فيه إحياء مال المولى، ولو رد القن بعد موت مولاه وجب الجعل إن كان الراد أجنبيا، وإن كان وارثا ينظر، فإن أخذه بعد موت المولى لا يستحق شيئا لأن العمل يقع في محل مشترك بينه وبين بقية الورثة، وإن أخذه في حياته ثم مات استحقه في حصة غيره عندهما خلافا لأبي يوسف. والراد أحق بالعبد من سائر الغرماء حتى يعطى الجعل فيقدم على سائر الديون ويعطى من ثمنه ثم يقسم الباقي بين الغرماء، كذا في البدائع. وكذا لو كان الآبق مأذونا في التجارة وعليه دين محيط فالجعل على مولاه، فإن امتنع بيع في الجعل وما فضل يصرف للغرماء، كذا في التتارخانية. قوله: (وإن أبق من الراد لا يضمن) لأنه أمانة في يده إذا أشهد أنه أخذه ليرده كما سيأتي. ولم يذكر سقوط الجعل قالوا: ولا جعل له لأنه في معنى البائع من المالك ولهذا كان له أن يحبس الآبق حتى يستوفي الجعل بمنزلة البائع، يحبس المبيع لاستيفاء الثمن، وكذا إذا مات في يده لا شئ له ولا عليه. ولو أعتقه المولى كما لقيه صار قابضا بالاتفاق كما في العبد المشتري، وكذا إذا باعه من الراد لسلامة البدل له والرد وإن كان له حكم البيع لكنه بيع من وجه فلا يدخل تحت النهى الوارد عن بيع ما لم يقبض فجاز، كذا في الهداية. وقوله كما لقيه ليس بقيد بل لو أعتقه بعد ما سار به الراد ثلاثة أيام أو أكثر ليرده ثم أبق بعده فإن الجعل لا يسقط كما صرح به في المحيط بخلاف ما إذا سار به أقل من ثلاثة أيام. وقال أبو حنيفة: إن كان المولى دبره ثم هرب فلا جعل له لأن بالتدبير لم يزل الرق. وسبب الاستحقاق هو الرد إلى المولى في حالة الرق ولم يرده اه. ولم يذكر المصنف حكم ما إذا رده آخر بعدما أبق من الأول، وذكر في المحيط أن الأول إذا أدخله المصر فهرب منه فأخذه آخر ورده إلى مولاه فلا جعل لواحد منهما، وإن خرج من المصر ورده الثاني من مسيرة سفر فله الجعل، ولو أخذ الآبق من مسيرة سفر فسار به يوما ثم أبق منه متوجها إلى بلد مولاه ولا يريد أن يرجع إلى مولاه، فإن أخذه الذي كان أخذه ثانيا فسار به اليوم الثالث فرده فله ثلثا الجعل جعل اليوم الأول والثالث، فإن أخذه مولاه أو رجع العبد إلى مولاه فلا جعل للآخذ لأنه لم يدفعه إلى مولاه، ولو كان العبد لم يأبق من الآخذ ولكن فارقه وجاء إلى مولاه متوجها لا يريد الإباق فللآخذ جعل يوم لأنه لم يتمرد من الآخذ
271 بل منقاد له فلم تنقطع يده عنه فصار كأنه رده إلى مولاه، ولو أخذ عبدا أبقا من مسيرة سفر فسار به يوما ثم دفعه إلى آخر أو باعه منه أو وهبه وسلمه وأمره أن يدفع إلى مولاه فدفعه أو سار العبد بنفسه فللآخذ جعل اليوم الأول ولا شئ للمدفوع إليه اه. قوله: (ويشهد أنه أخذه ليرده) أي يشهد الآخذ للآبق. ولو قال إن أشهد أنه أخذه ليرده لكان أولى ليكون شرطا لعدم ضمانه بإباقه من يده فإن الاشهاد لنفي الضمان عن آخذه شرط عندهما خلافا لأبي يوسف كما تقدم في اللقطة لكن لم يعلقه به ليفيد أن الاشهاد شرط لاستحقاق الجعل أيضا حتى لو رده من لم يشهد وقت الاخذ لا جعل له عندهما لأن تركه الاشهاد أمارة أنه أخذه لنفسه فصار كما إذا اشتراه من الآخذ أو اتهبه أو ورثه فرده على مولاه لا جعل له لأنه أخذه لنفسه إلا إذا أشهد أنه اشتراه ليرده فيكون له الجعل وهو متبرع في أداء الثمن. واتفقوا أنه لو أقر أنه أخذه لنفسه فلا جعل له. والحاصل أنه إن أشهد أنه أخذه ليرده استحق الجعل وانتفى الضمان عنه بموته وإباقه وإلا لا، لكن ينبغي أن يكون الاشهاد شرطا لهما عند التمكن، أما إذا لم يتمكن منه فلا اتفاقا كما تقدم نظيره في اللقطة، وأن القول قوله في أنه لم يتمكن منه، ثم رأيت التصريح به في التتارخانية. قوله: (وجعل الرهن على المرتهن) لأنه أحيا ماليته بالرد وهي حق المرتهن، إذ الاستيفاء منها والجعل في مقابلة إحياء المالية فيكون عليه. أطلقه فأفاد أن الرد في حياة الراهن وبعده سواء لأن الرهن لا يبطل بالموت لكن يرد على إطلاقه ما إذا كانت قيمته أكثر من الدين فليس الكل عليه فإنما عليه بقدر دينه والباقي على الراهن لأن حقه في القدر المضمون فصار كثمن الدواء وتخليصه من الجناية بالفداء. وأشار بوجوبه على المرتهن الذي ليس بمالك للرقبة لكون المنفعة عائدة إليه لكونه مضمونا عليه إلى أن العبد الموصى برقبته لانسان وبخدمته لآخر إذا أبق فالجعل على صاحب الخدمة لأن المنفعة له، فإذا انقضت الخدمة رجع صاحب الخدمة على صاحب الرقبة أو بيع العبد فيه، وإلى أن المأذون المديون لو أبق فأداء الجعل على من يقع الرد له وهو من يستقر الملك له، فإن اختار المولى قضاء دينه كان الجعل عليه، وإن اختار بيعه كان الجعل في الثمن يبتدأ به كما أسلفناه ولا شئ على المشتري، وإلى أن الآبق لو كان حتى خطأ لا في يد الآخذ فإنه على من سيصير له إن اختار المولى فداءه فهو عليه لعود منفعته إليه، وإن اختار دفعه إلى الأولياء فعليهم لعودها إليهم، فلو دفع المولى الجعل وأخذه ثم قضى عليه بدفعه إلى الأولياء فله الرجوع على المدفوع إليه بالجعل، كما لو باعه القاضي في الدين فإن المولى يأخذ جعله الذي دفعه من ثمنه، كذا في المحيط. قيدنا بكونه خطأ لأنه لو كان قتل عمدا ثم رده فلا جعل له على أحد. وقيد بكون الجناية لم تكن وهي في يده إذ لو جنى الآبق في يد الآخذ فلا جعل له على أحد، ولو جنى بعد إباقه قبل أن يأخذه فإن قتل فلا شئ له، وإن دفع إلى الولي فعليه الجعل، كذا في المحيط. فجنايته على ثلاثة أوجه كما علمت، وإلى أن العبد
272 المغصوب لو أبق من غاصبه فالجعل على الغاصب. ودل بمفهومه أنه لو رد الموهوب فالجعل على الموهوب له سواء رجع الواهب في الهبة بعد الرد أو لم يرجع لأن المالك له وقت الرد المنتفع به إنما هو الموهوب له ولو وهبه للآخذ، فإن كان قبل قبض المولى فلا جعل وإلا فعلى المولى بخلاف ما إذا باعه منه فإن الجعل له مطلقا، كذا في المحيط. قوله: (وأمر نفقته كاللقطة) أي وحكم نفقة الآبق كحكم نفقة اللقطة لأنه لقطة حقيقة، فلو أنفق عليه الآخذ بلا أمر القاضي كان متبرعا وبإذنه كان له الرجوع بشرط أن يقول على أن يرجع على الأصح وله أن يحبسه للنفقة الدين، فإن طالت المدة ولم يجئ صاحبه باعه القاضي وحفظ ثمنه كما قدمناه. وأسلفنا أن القاضي لا يؤجره بخلاف اللقطة وأنه يحبسه تعزيرا له بخلاف الضال. وقدر في التتارخانية مدة حبسه بستة أشهر ثم يبيعه بعدها قال: وينفق عليه مدة الحبس من بيت المال. وسيأتي حكم بيع الآبق وهبته في البيوع الفاسدة. وإعتاقه جائز ولو عن كفارة ظهار، ولا تقطع يده بسرقة تثبت عليه حتى يحضر مولاه خلافا لأبي يوسف، وإن أجره رجل فالاجر له ويتصدق به وإن دفعه إلى المولى كان له حلالا استحسانا، كذا في التتارخانية والله سبحانه وتعالى أعلم.
273 كتاب المفقود من فقده يفقده فقدا وفقدانا وفقودا عدمه فهو فقيد ومفقود، كذا في القاموس. قوله : (وهو غائب لم يدر موضعه) يعني لم تدر حياته ولا موته فالمدار إنما هو على الجهل بحياته وموته لا على الجهل بمكانه فإنهم جعلوا منه - كما في المحيط - المسلم الذي أسره العدو ولا يدري أحي أم ميت مع أن مكانه معلوم وهو دار الحرب فإنه أعم من أن يكون عرف أنه في بلدة معينة من دار الحرب أو لا. وحاصل ما ذكره المصنف من أحكامه أن له حكمين: حكما في الحال وحكما في المآل فالأصل في الأول أنه حي في حق نفسه حتى لا يورث عنه ماله ولا تتزوج نساؤه، وميت في حق غيره حتى لا يرث من أحد ولا يقسم ماله بين ورثته ما لم يثبت موته ببينة أو يبلغ سنا سيبينه المصنف. وأما الحكم المآلي فهو الحكم بموته بمضي مدة معينة. قوله: (فينصب القاضي من يأخذ حقه ويحفظ ماله ويقوم عليه) لأن القاضي نصب ناظرا لكل عاجز عن النظر لنفسه والمفقود بهذه الصفة وصار كالصبي والمجنون، وفي نصب الحافظ لماله والقائم عليه نظر له لكن عند الحاجة فلو كان له وكيل ثم فقد ينبغي أن لا ينصب القاضي وكيلا لأنه لا ينعزل بفقد موكله إذا كان وكيلا في الحفظ لما في الولوالجية والتجنيس: رجل غاب وجعل داره في يد رجل ليعمرها أو دفع ماله ليحفظه وفقد الدافع فله أن يحفظه وليس له أن يعمر الدار إلا بإذن الحاكم لأنه لعله مات ولا يكون الرجل وصيا اه. أطلق الحق فشمل الأعيان والديون من الغلات وغيرها ما كان في بيته أو عند أمنائه، ولا يخفى أنه يقبض غلاته والديون المقر بها لأنه من باب الحفظ فيخاصم في دين وجب بعقده
274 لأنه أصيل في حقوقه ولا يخاصم في الذي تولاه المفقود ولا في نصيب له في عقار أو في عروض في يد رجل لأنه ليس بمالك ولا نائب عنه إنما هو وكيل في القبض من جهة القاضي، وأنه لا يملك الخصومة بلا خلاف وإنما الخلاف في الوكيل بالقبض من جهة المالك في الدين، وإذا كان كذلك تضمن الحكم به قضاء على الغائب وأنه لا يجوز إلا إذا رده القاضي وقضى به لأنه مجتهد فيه، كذا في الهداية. وأورد عليه أن المجتهد فيه نفس القضاء فينبغي أن يتوقف نفاذه على إمضاء قاض آخر كما لو كان القاضي محدودا في قذف. أجيب بأن المجتهد فيه سبب القضاء وهو أن البينة هل تكون حجة من غير خصم حاضر أو لا، فإذا رآها القاضي حجة وقضى بها نفذ قضاؤه كما لو قضى بشهادة المحدود في القذف. واستشكله الشارح بأن الاختلاف إنما هو في نفس القضاء وإلا لم يتصور الاختلاف في نفس القضاء فلا ينفذ حكمه إلا بتنفيذ قا ض آخر ولهذا قال الشارح في كتاب القضاء: إن الأصح أنه لا ينفذ إلا بتنفيذ قاض آخر لأن الاختلاف في نفس القضاء وتبعه المحقق ابن الهمام هناك لكن ذكر هنا عن الخلاصة أن الفتوى على النفاذ. والحاصل أن في نفاذ القضاء على الغائب روايتين فصححوا في باب المفقود رواية النفاذ وفي كتاب القضاء رواية عدمه لكن وقع الاشتباه بين أهل العصر في المراد بالقاضي على الغائب هل المراد به الأعم من الحنفي وغيره أو المراد غير الحنفي ومنشؤه فهم عبارة الهداية وغيرها هنا حيث قالوا: إذا رآه القاضي نفذ هل المراد أنه رأي له واعتقاد فيخرج الحنفي لأنه لا يرى القضاء على الغائب أو المراد إذا رآه القاضي مصلحة فقال في العناية إلا إذا رآه القاضي أي جعل ذلك رأيا له وحكم به. وقال في فتح القدير: أي رأى القاضي المصلحة في الحكم على الغائب أوله اه. وقال الشارحون وصاحب الخلاصة والبزازية في توجيه الجواب عما أورد أن المجتهد فيه نفس القضاء إذا رآها القاضي حجة وقضى بها نفذ وهو موافق لما في العناية المقتضي لتخصيص القاضي بغير الحنفي، ومن العجب ما في الخلاصة من نقل الاجماع على نفاذ القضاء على الغائب لو فعل، وإنما الخلاف في أنه هل يقضي وينصب وكيلا عن الغائب أم لا، وستزداد وضوحا في كتاب القضاء إن شاء الله تعالى. والحاصل أنه لا تسمع الدعوى ولا تقبل البينة فيما لو ادعى إنسان على المفقود دينا أو وديعة أو شركة في عقار أو رقيق أو ردا بعيب أو مطالبة لاستحقاق لعدم الخصم لأن منصوب القاضي ليس بخصم، وكذا ورثته لأنهم يرثونه بعد موته ولم يثبت، ولم يذكر المصنف بيع شئ من ماله وفي الهداية: ثم ما كان يخاف عليه الفساد يبيعه
275 القاضي لأنه يتعذر عليه حفظ صورته ومعناه فينظر له بحفظ المعنى، ولا يبيع ما لا يخاف عليه الفساد في نفقة ولا غيرها لأنه لا ولاية له على الغائب إلا في حفظ ماله فلا يسوغ له ترك حفظ الصورة وهو ممكن. قوله: (وينفق على قريبه ولادا وزوجته) يعني من مال المفقود والأصل فيه أن كل من يستحق النفقة في ماله حال حضرته بغير قضاء القاضي ينفق عليه من ماله في غيبته لأن القضاء حينئذ يكون إعانة، وكل من لا يستحقها في حضرته إلا بالقضاء لا ينفق عليه من ماله في غيبته لأن النفقة حينئذ تجب بالقضاء والقضاء على الغائب ممتنع. فمن الأول الأولاد الصغار والإناث من الكبار والزمني من الذكور الكبار، ومن الثاني الأخ والأخت والخال والخالة وكل محرم لما قدمناه في النفقات، أطلق في الانفاق من ماله وهو مقيد بالدراهم والدنانير لأن حقهم في الملبوس والمطعوم فإذا لم يكن ذلك في ماله يحتاج إلى القضاء بالقيمة وهي النقدان والتبر بمنزلتهما في هذا الحكم لأنه يصلح قيمة كالمضروب، وتقدم في النفقات استثناء الأب فإن له بيع العروض. وفي التتارخانية: ويباع في النفقة ما سوى العقار ولم يقيد بفقرهم لما علم في النفقات أنه لا بد منه إلا الزوجة فإنها تستحق النفقة وإن كان غنية، ولم يبين من تحت يده المال لما قدمه في النفقات أنه إذا كان المال وديعة أو دينا ينفق عليهم منهما إذا كان المودع والمديون مقرين بالدين والوديعة والنكاح والنسب، وهذا إذا لم يكونا ظاهرين عند القاضي، فإن كانا ظاهرين لا حاجة إلى الاقرار، وإن كان أحدهما ظاهرا الوديعة والدين أو النكاح والنسب يشترط الاقرار بما ليس بظاهر. هذا هو الصحيح، وإن دفع المودع بنفسه أو من عليه الدين بغير أمر القاضي يضمن المودع ولا يبرأ المديون لأنه ما أدى إلى صاحب الحق ولا إلى نائبه بخلاف ما إذا دفع بأمر القاضي لأن القاضي نائب عنه. وإن كان المودع والمديون جاحدين أصلا أو كانا جاحدين الزوجية والنسب لم ينتصب أحد من مستحقي النفقة خصما في ذلك لأن ما يدعيه للغائب لم يتعين سببا لثبوت حقه وهو النفقة لأنها كما تجب في هذا المال تجب في مال آخر للمفقود، وأما إذا نصب القاضي من يخاصم في ذلك فله ذلك كما في التتارخانية، ولم يذكر المصنف أخذ الكفيل منهم لما قدمه أنه يؤخذ كفيلا. قوله: (ولا يفرق بينه وبينها) أي وبين زوجته لقوله عليه السلام في امرأة المفقود إنها امرأته حتى يأتيها البيان وقول علي رضي الله عنه فيها هي امرأة ابتليت فلتصبر حتى يتبين موت أو طلاق خرج بيانا للبيان المذكور في المرفوع ولان النكاح عرف ثبوته والغيبة لا توجب الفرقة والموت في حيز الاحتمال فلا يزال النكاح بالشك، وعمر رضي الله عنه رجع إلى قول علي ولا معتبر بالايلاء لأنه كان طلاقا معجلا فاعتبر في الشرع مؤجلا فكان موجبا للفرقة لأن الغربة تعقب الأوبة والعنة قلما تنحل بعد استمرارها سنة.
276 قوله: (وحكم بموته بعد تسعين سنة) لأنه الغاية في زماننا والحياة بعدها نادر فلا عبرة للنادر، وقد وقع الاختلاف في هذه واختلف الترجيح فظاهر الرواية وهو المذهب أنه مقدر بموت الاقران في السن لأن من النوادر أن يعيش الانسان بعد موت أقرانه فلا ينبغي الحكم عليه، فإذا بقي منهم واحد لا يحكم بموته. واختلفوا في المراد بموت أقرانه فقيل من جميع البلاد، وقيل من بلده وهو الأصح، كذا في الذخيرة. واختار المؤلف التقدير بالتسعين بتقديم التاء على السين تبعا لابن الفضل وهو الأرفق كما في الهداية، وفي الذخيرة وعليه الفتوى، وعن أبي يوسف تقديره بمائة سنة واختاره أبو بكر بن حامد، وفي رواية الحسن عن الإمام بمائة وعشرين سنة واختاره القدوري، واختار المتأخرون ستين سنة، واختار المحقق ابن الهمام سبعين سنة، واختار شمس الأئمة أن لا يقدر بشئ لأنه أليق بطريق الفقه لأن نصب المقادير بالرأي لا تكون، وفي الهداية أنه الأقيس، وفوضه بعضهم إلى القاضي فأي وقت رأى المصلحة حكم بموته. قال الشارح: وهو المختار. والحاصل أن الاختلاف ما جاء إلا من اختلاف الرأي أي في أن الغالب هذا في الطول أو مطلقا، والعجب من المشايخ كيف يختارون خلاف ظاهر المذهب مع أنه واجب الاتباع على مقلدي أبي حنيفة والإمام محمد لم يعتبر السنين وإنما اعتبره المتقدمون بعده، وقال الصدر الشهيد في شرحه: ما قال محمد أحوط كما في التتارخانية ولقد صدق من قال كثرة المقالات تؤذن بكثرة الجهالات ومن الغريب ما نقله في التتارخانية أنه مقدر بثمانين سنة وعليه الفتوى. قوله: (وتعتد امرأته وورث منه حينئذ لا قبله) أي حين حكم بموته بمضي هذه المدة والظرف قيد للحكمين كأنه مات من ذلك الوقت معاينة إذ الحكمي معتبر بالحقيقي وكذا يحكم بعتق مدبريه وأمهات أولاده في ذلك الوقت كما في الحاوي. قوله: (ولا يرث من أحد مات) أي قبل الحكم بموته لأن بقاءه حيا في ذلك الوقت باستصحاب الحال وهو لا يصلح حجة للاستحقاق،
277 ولذلك لو أوصى للمفقود ومات الموصي لا يستحق الوصية لكن قال محمد: لا أقضي بها ولا أبطلها حتى يظهر حال المفقود يعني يوقف نصيب المفقود الموصي له به إلى أن يقضي بموته، فإذا قضي بموته جعل كأنه مات الآن. والحاصل أنه حي في مال نفسه فلا يورث ميت في حق غيره فلا يرث. وهذا إذا لم تعلم حياته إلى أن يحكم بموته، وإن علم حياته في وقت من الأوقات يرث من مات قبل ذلك الوقت من أقاربه كا في الحمل لاحتمال أن يكون حيا فيرث، فإن تبين حياته في وقت مات فيه قريبه وإلا يرد الموقوف لأجله إلى وارث مورثه الذي وقف من ماله. قوله: (ولو كان مع المفقود وارث يحجب به لم يعط شيئا وإن انتقص حقه به يعطى أقل النصيبين) بيانه: رجل مات عن ابنتين وابن مفقود وابن ابن أو بنت ابن والمال في يد الأجنبي وتصادقوا على فقد الابن وطلبت البنتان الميراث، يعطيان النصف لأنه متيقن به يوقف النصف الآخر ولا يعطى أولاد الابن لأنهم يحجبون بالمفقود لو كان حيا فلا يستحقون الميراث بالشك، ولا ينزع من يد الأجنبي إلا إذا ظهرت منه خيانة بأن كان أنكر أن للميت عنده مالا حتى أقامت البنتان البينة عليه فقضي بها لأن أحد الورثة ينتصب خصما عن الباقين فإن حينئذ يؤخذ الفضل الباقي منه ويوضع على يد عدل لظهور خيانته. ولو لم يتصادقوا على فقد الابن فقال الأجنبي الذي في يده المال مات المفقود قبل أبيه فإنه يجبر على دفعه الثلثين للبنتين لأن إقراره معتبر فيما في يده وقد أقر أن ثلثيه للبنتين فيجبر على دفعه لهما، ولا يمنع إقراره قول أولاد الابن أبونا أو عمنا مفقود لأنهم بهذا القول لا يدعون لأنفسهم شيئا ويوقف الثلث الباقي في يده وتمامه في فتح القدير. وفي البزازية من كتاب الدعوى: مات عن ابنين أحدهما مفقود فزعم ورثة المفقود أنه حي وله الميراث والابن الآخر يزعم موته لا خصومة بينهما لأن ورثة المفقود اعترفوا أنهم لاحق لهم في التركة فكيف يخاصمون عمهم؟ اه. قوله: (كالحمل) أي الحمل نظيره في الميراث عند الشك في نصيب الحمل فإنه يوقف له ميراث ابن واحد على ما عليه الفتوى، فلو كان مع الحمل وارث آخر لا يسقط بحال ولا يتغير بالحمل يعطى كل نصيبه للتيقن به على كل حال، وكذا إذا ترك ابنا وامرأة حاملا تعطى المرأة الثمن، وإن كان ممن يسقط بالحمل لا يعطى شيئا، وإن كان ممن يتغير يعطى الأقل للتيقن به مثاله: ترك امرأة حاملا وجدة تعطى السدس لأنه لا يتغير بها، ولو ترك حاملا وأخا أو عما لا يعطى شيئا لأن الأخ يسقط بالابن وجائز أن يكون الحمل ابنا وكان بين أن يسقط ولا يسقط فكان أصل الاستحقاق مشكوكا فيه فلا يعطى شيئا ولو ترك حاملا وأما وزوجة تأخذ الام السدس والزوجة الثمن لأنه لو كان ميتا أخذت الام الثلث أو حيا أخذت المسدس والزوجة الثمن لأنه لو كان ميتا أخذت الربع والله أعلم.
278 كتاب الشركة أولاها للمفقود لتناسبهما بوجهين: كون مال أحدهما أمانة في يد الآخر كما أن مال المفقود أمانة في يد الحاضر، وكون الاشتراك قد يتحقق في مال المفقود كما لو مات مورثه وله وارث آخر والمفقود حي. والشركة لغة خلط النصيبين بحيث لا يتميز أحدهما، وما قيل إنه اختلاط النصيبين تساهل فإن الشركة اسم المصدر والمصدر الشرك مصدر شركت الرجل أشركه شركا فظهر أنها فعل الانسان وفعله الخلط، وأما الاختلاط فصفة للمال تثبت عن فعلهما ليس لها اسم من المادة ولا يظن أن اسمه الاشتراك لأن الاشتراك فعلهما أيضا مصدر اشترك الرجلان افتعال من الشركة، كذا في فتح القدير. وذكر أنها بإسكان الراء في المعروف وسكت عن الأول. وفي القاموس: الشرك والشركة بكسرهما وضم الثاني بمعنى. وقد اشتركا وشارك أحدهما الآخر. والشرك بالكسر وكأمير المشارك والجمع أشراك وشركاء اه. وفي التبيين: إطلاق الشركة على العقد مجاز لكونه سببا له. وفي فتح القدير: وركنها في شركة العين اختلاطهما، وفي شركة العقد اللفظ المفيد له ويقال الشركة على العقد نفسه، فإذا قيل شركة العقب الإضافة فهي إضافة بيانية. وشرعيتها بالكتاب والسنة والمعقول، أما الكتاب فقوله تعالى * (فهم شركاء في الثلث) * (النساء: 12) وهو خاص بشركة العين. وأما السنة فما في سنن أبي داود عن السائب أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كنت شريكي في الجاهلية كما في فتح القدير. وفي المحيط: شرط جوازها كون الواحد قابلا للشركة وحكمها في شركة الملك صيرورة المجتمع من النصيبين مشتركا بينهما وفي شركة العقد صيرورة المعقود عليه أو ما يستفاد به مشتركا بينهما. قوله: (شركة الملك أن يملك اثنان عينا إرثا أو شراء) بيان للنوع الأول منها، وقوله إرثا أو شراء مثال لا قيد فلا يرد أن ظاهره القصر عليهما مع أنه لا
279 يقتصر عليهما بل تكون فيما إذا ملكاها هبة أو صدقة أو استيلاء بأن استوليا على مال حربي أو اختلاطا كما إذا اختلط مالهما من غير صنع من أحدهما أو اختلط بخلطهما خلطا يمنع التمييز أو يتعسر كالحنطة مع الشعير. والحاصل أنها نوعان: جبرية واختيارية، فأشار إلى الجبرية بالإرث وإلى الاختيارية بالشراء كما في المحيط. وذكر أن من الاختيارية أن يوصي لهما بمال فيقبلان، وظاهر قولهم عينا يدل على إخراج الدين فقيل إن الشركة فيه مجاز لأنه وصف شرعي لا يملك، وقد يقال بل يملك شرعا وقد جازت هبته ممن عليه الدين ودفع بأنها مجاز عن الاسقاط ولذا لم تجز من غير من عليه الدين. وفي فتح القدير: والحق ما ذكروا من ملكه ولذا ملك ما عنه من العين على الاشتراك حتى إذا دفع من عليه الدين إلى أحدهما كان للآخر الرجوع عليه بنصف ما أخذ، وليس له أن يقول هذا الذي أخذته حصتي وما بقي على المديون حصتك، ولا يصح من المديون أيضا أن يعطيه شيئا على أنه قضاه وأخر الآخر، وسيأتي في الصلح أن من الحيلة في اختصاص الآخذ بما أخذ دون شريكه أن يهبه من عليه مقدار حصته ويبرئه هو من حصته، فلو قال المصنف أن يملك متعدد عينا أو دينا لكان أولى. قوله: (وكل أجنبي في قسط صاحبه) أي وكل واحد من الشريكين ممنوع من التصرف في نصيب صاحبه لغير الشريك إلا بإذنه لعدم تضمنها الوكالة، والقسط بالكسر الحصة والنصيب، كذا في القاموس. ولم يذكر المصنف حكم بيع أحدهما حصته وحكم الانتفاع بها بلا بيع، أما الأول فقالوا: يجوز بيع أحدهما نصيبه من شريكه في جميع الصور ومن غير شريكه بغير إذنه إلا في صورة الخلط والاختلاط فإنه لا يجوز إلا بإذنه. والفرق أن الشركة إذا كانت بينهما من الابتداء بأن اشتريا حنطة أو ورثاها كانت كل حبة مشتركة بينهما فبيع كل منهما نصيبه شائعا جائز من الشريك والأجنبي بخلاف ما إذا كانت بالخلط أو الاختلاط كان كل حبة مملوكة بجميع أجزائها ليس للآخر فيها شركة، فإذا باع نصيبه من غير الشريك لا يقدر على تسليمه إلا مخلوطا بنصيب الشريك فيتوقف على إذنه بخلاف بيعه من الشريك
280 للقدرة على التسليم والتسلم. والظاهر أن البيع ليس بقيد بل المراد الاخراج عن الملك بهبة أو وصية أو صدقة أو إمهار أو بدل خلع، وسيأتي بيان إجارة المشترك في قوله فيها وفسد إجارة المشاع إلا من الشريك. وأما الثاني ففيه تفصيل، ففي الدابة المشتركة لا يركبها بغير إذن شريكه، وفي البيت له أن يسكن كله في غيبة شريكه وكذا الخادم، ولا يلزمه أجرة حصة شريكه، ولو كانت الدار معدة للاستغلال وفي الأرض له أن يزرعها كلها على المفتي به إن كان الزرع ينفعها، فإذا جاء شريكه زرعها مثل تلك المدة، وإن كان الزرع ينقصها أو الترك ينفعها فليس له أن يزرعها، وفي الكيلي والوزني له أن يعزل حصته بغيبة شريكه وينتفع بها ولا شئ عليه إن سلم الباقي، فإن هلك قبل التسليم إلى شريكه هلك عليهما، وتمامه في جامع الفصولين من الفصل الثالث والثلاثين من الانتفاع بالمشترك. وفي الخانية: ولو كان بينهما شركة في مال خلطاه ليس لواحد منهما أن يسافر بالمال بغير إذن الشريك، فإن سافر به فهلك، فإن كان له حمل ومؤنة ضمن، وإن لم يكن له حمل ومؤنة لا يضمن اه. وفي الظهيرية: ولو قال لآخر ما اشتريت اليوم من أنواع التجارات فهو بيني وبينك وقال الآخر نعم فهو جائز، وكذلك لو قال كل واحد منهما لصاحبه ذلك لأن هذه شركة في الشراء والشركة في الشراء جائزة، وليس لأحد منهما أن يبيع حصة الآخر مما اشترى إلا بإذن صاحبه لأنهما اشتركا في الشراء لا في البيع، ولو اشترى رجل عبدا فقال له رجل اشكرني
281 فيه فأشركه ثم جاء آخر فقال أشركني فيه فأشركه، فإن كان الثاني يعلم بمشاركة الأول إياه فله ربع جميع العبد لأنه طلب منه الاشتراك في نصيبه ونصيبه النصف، وإن كان الثاني لم يعلم بمشاركة الأول إياه فله نصف جميع العبد لأنه طلب منه الاشتراك في كل العبد فيكون طالبا للنصف، ولو كان بين رجلين عبد فقال أحدهما الثالث أشركتك في هذا العبد ولم يجز صاحبه صار نصيبه بينهما نصفين، ولو كان مكان الشركة بيع بأن باع نصف العبد المشترك نفذ البيع في جميع نصيبه لأن في الأولى نصا على الشركة ولو صار جميع نصيبه له لا تتحقق الشركة ولا كذلك البيع. رجل اشترى حنطة وطحنها فأشرك في طحنها رجلا، فإن طحنها بنفسه فعلى الذي أشركه فيه نصف الثمن لا غير، وإن استأجر رجلا ليطحنها فعلى الذي أشركه نصف الثمن ونصب أجر الطحن لأنه يجعله شريكا فيه بنصف ما قام عليه وقد قام عليه بهذا القدر فيقضي عليه بنصفه اه. ولا يصح أن يشرك فيما اشتراه قبل القبض، وإن كان بعده فهو بينهما على السواء، وإن أشرك فيه اثنين كان بينهم أثلاثا، وإذا لم يعرف الدخيل مقدار الثمن جاز وله الخيار ولو قال لك شركة يا فلان فعند أبي يوسف بينهما نصفان، وأبطله محمد. قال أشركت فلانا في نصف هذا العبد فله الربع قياسا والنصف استحسانا، ولو اشتريا عبدا أشركا فيه آخر فإن أشركاه على التعاقب فله النصف ولهما النصف، وإن أشركاه معا فله الثلث استحسانا لأن الاشراك يقتضي المساواة، وإن أشركه أحدهما في نصيبه ونصيب صاحبه، فإن أجاز صاحبه فله النصف وللشريكين النصف وتمامه في المحيط من باب من يشتري شيئا فيشرك فيه غيره. قوله: (وشركة العقد أن يقول أحدهما شاركتك في كذا ويقبل الآخر) بيان للنوع الثاني ومقصوده بيان ركنها من الايجاب والقبول الدالين عليها لا خصوص شاركتك لأنها عقد من العقود فينعقد بما يدل عليه، ولهذا لو دفع ألفا إلى رجل وقال أخرج مثلها واشتر وما كان من ربح فهو بيننا وقبل الآخر وأخذها وفعل انعقدت الشركة. وقوله في كذا أي في شئ لأن كذا كناية عن الشئ، كذا في القاموس. وذلك الشئ أعم من أن يكون خاصا كالبز والبقل أو عاما كما إذا شاركه في عموم التجارات، وتخصيص العموم بالمفاوضة والخصوص بالعنان كما في فتح القدير لا وجه له لأن العنان قد تكون عامة أيضا ولذا قال في البزازية: شركة العنان عامة بأن يشتركا في أنواع التجارات كلها وخاصة وهو أن يشتركا في شئ
282 واحد كالثياب والرقيق اه. وفي التتارخانية: من شرائط المفاوضة أن تكون عامة في عموم التجارات. إليه أشار محمد في الكتاب، وذكر شيخ الاسلام في آخر باب شركة المفاوضة أنها تجوز في نوع خاص أيضا اه. ويندب الاشهاد عليها، وذكر محمد كيفية كتابتها فقال: هذا ما أشترك عليه فلان وفلان اشتركا على تقوى الله تعالى وأداء الأمانة، ثم يبين قدر رأس مال كل منهما ويقول وذلك كله في أيديهما يشتريان ويبيعان جميعا وشتى ويعمل كل منهما برأيه ويبيع بالنقد والنسيئة. وهذا وإن ملكه كل بمطلق عقد الشركة إلا أن بعض العلماء يقول لا يملكه واحد منهما إلا بالتصريح به فللتحرز عنه يكتب هذا ثم يقول: فما كان من ربح فهو بينهما على قدر رؤس أموالهما، وما كان من وضيعة أو تبعة فكذلك. وحاصل ما ذكره المصنف في شركة العقد أنها مفاوضة وعنان وتقبل ووجوه، وذكر الشارح رحمه الله أنها ستة باعتبار أنها شركة بالمال وشركة بالاعمال وشركة الوجوه، وكل ينقسم إلى قسمين: مفاوضة وعنان وهو الأوجه وهو المذكور للشيخين الطحاوي والكرخي رحمهما الله، ولان الأول يوهم أن الأخيرين لا يكونان مفاوضة ولا عنانا قوله: (وهي مفاوضة إن تضمنت وكالة وكفالة وتساويا مالا وتصرفا ودينا) بيان للنوع الأول من النوع الثاني. قال في القاموس: المفاوضة الاشتراك في كل شئ والمساواة اه. ولذا قال في الهداية: لأنها شركة عامة في جميع التجارات يفوض كل واحد منهما أمر الشركة إلى صاحبه على الاطلاق إذ هي من المساواة قال قائلهم: لا يصلح الناس فوضى لا سراه لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا أي متساويين فلا بد من تحقيق المساواة ابتداء وانتهاء وذلك بالمال والمراد به ما تصح الشركة فيه، ولا يعتبر التفاضل فيما لا تصح فيه الشركة، وكذا في التصرف لأنه لو ملك أحدهما تصرفا لا يملكه الآخر فات التساوي وكذا في الدين اه. وفي فتح القدير: قوله إذ هي من المساواة تساهل إذ هي مادة أخرى فكيف يتحقق الاشتقاق، بل هي من التفويض أو من الفوض الذي منه فاض الماء إذا عم وانتشر، وإنما أراد أن معناها المساواة. وظاهر كلام المصنف أنه لا يشترط التنصيص على المفاوضة فإن صرحا بها ثبت أحكامها إقامة للفظ مقام المعنى لأنه صار علما على تمام المساواة في أمر الشركة، وإن لم يذكراها فلا بد أن يذكر إتمام معناها بأن يقول أحدهما وهما حران بالغان مسلمان أو ذميان شاركتك في جميع ما أملك من نقد وقدر ما تملك على وجه التفويض العام من كل منا للآخر في التجارات والنقد والنسيئة. وعلى أن كلا ضامن عن الآخر ما يلزمه من أمر كل بيع. وقدمنا أنها تصح خاصة أيضا لكن
283 قوله أن تضمنت وكالة زائد لأنه لا يخص المفاوضة لأن كل عقد شركة يتضمنها ولا تصح إلا بها. والمراد إنما هو بيان خصائصها ولذا ذكر في المحيط أن حكمها صيرورة كل واحد منهما وكيلا عن صاحبه في التجارة في النصف، وإذا كان لأحدهما دنانير وللآخر دراهم أو لأحدهما سود وللآخر بيض جازت المفاوضة إذا استوت قيمتها في ظاهر الرواية لأنهما متحدا الجنس من حيث المعنى، وروى الحسن أنه لا يجوز لأن المساواة بينهما لا تعرف إلا بالقيمة وهي مجهولة، وإن تفاضلا في القيمة لا تجوز المفاوضة في ظاهر الرواية، كذا في المحيط قوله: (فلا تصح بين حر وعبد وصبي وبالغ) تفريع على اشتراط المساواة في التصرف لأن الحر البالغ يملك التصرف والكفالة والمملوك لا يملك واحدا منهما إلا بإذن المولى والصبي لا يملك الكفالة ولا يملك التصرف إلا بإذن الولي. أطلق العبد فشمل المكاتب وأشار إلى أنها لا تصح بين العبدين والمكاتبين والصبيين لأن الصبيين ليسا أهلا للكفالة ولو بإذن الولي، وأما العبدان وإن كانا أهلا لها بإذن المولى لكن يتفاضلان فيها لأنهما يتفاوتان في القيمة وقضية المفاوضة صيرورة كل واحد منهما كفيلا بجميع ما لزم صاحبه ولم يتحقق، كذا في المحيط قوله: (ومسلم وكافر) أي لا تصح بينهما لعدم المساواة في الدين وهذا قولهما. وقال أبو يوسف: تجوز للتساوي بينهما في الوكالة والكفالة ولا معتبر بزيادة تصرف يملكه أحدهما كالمفاوضة بين الشفعوي والحنفي فإنها جائزة، ويتفاوتان في التصرف في متروك التسمية إلا أنه يكره لأن الذمي لا يهتدي إلى الجائز من العقود. ولهما أنه لا تساوي في التصرف فإن الذمي لو اشترى برأس المال خمورا أو خنازير صح ولو اشتراها المسلم لا يصح. أطلق الكافر فشمل المرتد ولذا قال في المحيط: شارك المسلم المرتد مفاوضة أو عنانا لم تجز عند أبي حنيفة إن قتل على ردته أو لحق بدار الحرب وإن أسلم جازت. وعندهما تجوز العنان دون المفاوضة وإن شارك المسلم مرتدة صحت عنانا لا مفاوضة، وينبغي أن تجوز المفاوضة عند أبي يوسف وتكره لأن تصرفات المرتدة نافذة بالاجماع فساوت المسلم في التجارات وضمانها كالمسلم مع الذمي عنده. لهما أنها وإن ساوت المسلم في التجارات لكنها أدون من المسلم في بعض ما يستفاد بالتجارة فإن المرتدة لو اشترت عبدا مسلما أو مصحفا فإنه لا يبقى بيدها ولا يقر على ملكها بخلاف المسلم، وغير المتقرر لا يساوي المتقرر. وقيد بالمسلم والكافر لأنها تجوز بين الذميين وإن كان أحدهما كتابيا والآخر مجوسيا لاستوائهما في التجارة وضمانها لأن الكتابي لو أجر نفسه للذبح يطالب به المجوسي وإن كان لا يقدر على الذبح بنفسه لأنه يقدر عليه بالمعين أو الأجير، وهذا المجوسي لو آجر نفسه للذبح صح كالقصار مع الخياط إذا تفاوضا صار كل واحد منهما مطالبا بما على الآخر لأنه يقدر عليه بمعين أو أجير، كذا في المحيط. ولو ارتد أحد المتفاوضين بطلت المفاوضة أصلا وقالا: تصير عنانا، كذا في
284 التتارخانية معزيا إلى السراجية. وذكر قبله أنها موقوفة عنده وأنه يكره للمسلم أن يشارك الذمي اه. يعني شركة عنان. وفي الهداية: وفي كل موضع لم تصح المفاوضة لفقد شرطها ولا يشترط ذلك في العنان كان عنانا لاستجماع شرائط العنان إذ هو قد يكون خاصا وقد يكون عاما اه. قال في النهاية: بخلاف المفاوضة فإنها عام لا غير اه. وفيه ما علمت سابقا. قوله: (وما يشتريه كل يقع مشتركا الاطعام أهله وكسوتهم) لأن مقتضى العقد المساواة وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه في التصرف فكان شراء أحدهما كشرائهما إلا ما استثناه في الكتاب وهو استحسان لأنه مستثنى عن المفاوضة للضرورة فإن الحاجة الراتبة معلومة الوقوع فلا يمكن إيجابه على صاحبه ولا الصرف من ماله. ولا بد من الشراء فيختص به ضرورة، والقياس أن يكون على الشركة لما بينا. أراد بالمستثنى ما كان من حوائجه فشمل شراء بيت للسكنى أو الاستئجار للسكنى أو للركوب لحاجته كالحج وغيره، وكذا إلا دام والجارية التي يطؤها بإذن الشريك فليس الكل على الشركة لما ذكرنا وإنما استثنى الطعام وما معه من الشركة دون الضمان لأنه وإن لم يكن على الشركة فالآخر كفيل عنه حتى كان لبائع الطعام والكسوة له ولعياله أن يطالب الآخر ويرجع الآخر بما أدى على المشتري. وإنما قيدنا في الجارية بإذن الشريك لأنه لو اشتراها للوطئ أو للخدمة لنفسه بغير إذن شريكه فهي على الشركة كما في المحيط وسنبينه في آخر الباب. وفي المحيط: لو اشتريا بالمالين شيئين صفقتين فلكل واحد منهما على صاحبه نصف رأس ماله دينا عليه لأن كل واحد صار مشتريا النصف لنفسه والنصف لصاحبه بحكم الوكالة ولا يلتقيان قصاصا لأن صفة المالين مختلفة بخلاف ما لو اشتريا بالمالين شيئين صفقة واحدة فإنه لا يرجع واحد منهما على صاحبه بشئ لأن كل واحد منهما لم يصر وكيلا عن صاحبه في ذلك وتمامه فيه قوله: (وكل دين لزم أحدهما بتجارة وغصب وكفالة لزم الآخر) لأنه كفيل فدخلت تحت التجارة ثمن المشتري في البيع الجائز وقيمته في الفاسد، سواء كان مشتركا أو لنفسه، وأجرة ما استأجره، سواء كان استأجره لنفسه أو لحاجة التجارة. والمراد بالغصب ما يشبه ضمان التجارة فيدخل ضمان الاستهلاك والوديعة المجحودة أو المستهلكة، وكذا العارية لأن تقرر الضمان في هذه المواضع يفيد له تملك الأصل فيصير في معنى التجارة، وأما لزوم صاحبه بكفالته فهو قول الإمام. وقالا: لا يلزمه لأنه تبرع ولهذا لا يصح من الصبي والمجنون والعبد المأذون والمكاتب، ولو صدر من المريض يصح من الثلث وصار كالاقراض والكفالة بالنفس. ولأبي حنيفة أنه تبرع ابتداء ومعاوضة انتهاء لأنه يستوجب الضمان بما يؤدي عن المكفول عنه إذا كانت الكفالة بأمره فبالنظر إلى البقاء تتضمنه المفاوضة، وبالنظر إلى الابتداء لم يصح ممن ذكره وصح من الثلث من المريض بخلاف الكفالة بالنفس لأنه تبرع ابتداء وانتهاء. أما الاقراض فعن أبي حنيفة أنه يلزم صاحبه ولو سلم فهو إعارة فيكون لمثلها حكم عينها لا حكم البدل حتى لا
285 يصح فيه الاجل فلا تتحقق مفاوضة، كذا في الهداية. وفي المحيط: لو استقرض أحدهما لزم الآخر في ظاهر الرواية وليس لأحدهما الاقراض في ظاهر الرواية، ولو كانت الكفالة بغير أمره لم يلزم صاحبه في الصحيح لانعدام معنى المعاوضة، ومطلق الجواب في الكتاب محمول على المقيد وهو الكفالة بأمر المكفول عنه. وقيد بالثلاث احترازا عن أرش الجنايات على بني آدم والمهر في النكاح وبدل الخلع والصلح عن دم العمد وعن النفقة لأن هذه الأشياء لا يصح فيها الاشتراك بخلاف الثلاثة فإنه يصح فيها الاشتراك وإن لم تكن على الشركة كطعام أهله. وفي القاموس: التاجر الذي يبيع ويشتري والجمع تجار وتجار وتجر وتجر كرجال وعمال وصحب وكتب وقد تجر تجرا وتجارة اه. ولو قال المصنف وكل شئ دون أن يقول كل دين لكان أولى ليشمل ما إذا آجر أحد المتفاوضين عبدا فإن للمستأجر مطالبة الآخر بتسليم العبد كما أن للآخر أخذ الأجرة بخلاف ما إذا آجر عبدا من ميراث أو شيئا له خاصة ليس لشريكه أخذ الأجرة ولا للمستأجر مطالبته بتسليم المستأجر. والفرق أن كل واحد منهما وكيل عن صاحبه في قبض الديون الواجبة في التجارة وكفيل بما وجب عليه بسبب التجارة وإجارة العبد من تجارتهما من باب التجارة فصار كل واحد مطالبا ومطالبا، فأما إجارة عبد له خاصة خرجت عن المفاوضة للضرورة بخلاف ما لو أجر أحدهما نفسه لأن منافعه داخلة تحت المفاوضة، ولا تبطل المفاوضة إذا آجر عبد الميراث وإن كانت الأجرة نقدا إلا إذا قبضها لأن الدين لا تصح الشركة فيه، كذا في المحيط. وأطلق في لزوم الثلاثة فشمل ما إذا لزم أحدهما بإقراره فإنه يكون عليهما لأنه أخبر عن أمر يملك استئنافه، كذا في المحيط. إلا إذا أقر لمن لا تقبل شهادته له فإنه يلزمه خاصة كأصوله وفروعه وامرأته. وعندهما يلزم شريكه أيضا إلا لعبده ومكاتبه. ولو أقر لمعتدته المبانة لم يصح عند أبي حنيفة، وروى الحسن أنه يصح بناء على أنه لا تقبل شهادته لمعتدته في ظاهر الرواية، وفي رواية الحسن تقبل ولو أعتق أم ولده ثم أقر لها بدين يلزمهما وإن كانت في عدته بخلاف المبانة المعتدة. والفرق أن شهادته لام ولده المعتقة جائزة بخلاف المعتدة عن نكاح وتمامه في المحيط. وإذا باع أحد المتفاوضين من صاحبه ثوبا من شريكه ليقطعه قميصا لنفسه جاز بخلاف ما إذا باع أحدهما من صاحبه شيئا من الشركة لأجل التجارة حيث لا يجوز، وكذلك لو باع جارية ليطأها أو طعاما ليجعله رزقا لأهله جاز البيع، كذا في الظهيرية. وهذا يستثنى من قوله ما لزم أحدهما بالتجارة لزم الآخر فإن المشتري من شريكه في صورة جواز البيع لزمه الثمن ولم يلزم شريكه فيقال إلا إذا كان الدائن الشريك كما لا
286 يخفى. وأشار المصنف بلزوم الأنواع الثلاثة إلى أن الدعوى إذا وقعت على أحدهما فأراد المدعي استحلاف الآخر فإن له ذلك. قال الولوالجي في فتاواه: لو ادعى على أحد المتفاوضين فجحد فاستحلف فأراد المدعي استحلاف الآخر فإن القاضي يستحلفه على علمه لأن الدعوى على أحدهما دعوى عليهما، ولو ادعى عليهما شيئا كان له أن يستحلف كل واحد منهما البتة لأن كل واحد منهما يستحلف على فعل نفسه فأيهما نكل عن اليمين يمضي الامر عليهما لأن إقرار أحدهما كإقرارهما، ولو ادعى على أحدهما وهو غائب كان له أن يستحلف الحاضر على علمه لأنه فعل غيره، فإن حلف ثم قدم الغائب كان له أن يستحلفه البتة لأنه يستحلفه على فعل نفسه. ولو ادعى رجل على أحد المتفاوضين جراحة خطأ لها أرش واستحلفه البتة فحلف ثم أراد أن يستحلف شريكه لم يكن له ذلك، وكذلك المهر والخلع والصلح عن دم العمد لأن هذه الأشياء غير داخلة تحت الشركة فلا يكون فعل أحدهما كفعلهما اه. وشمل قوله بتجارة مهر المشتراة الموطوءة إذا استحقت. قال في الظهيرية: وإذا وطئ أحد المتفاوضين الجارية المشتراة ثم استحقت الجارية فللمستحق أن يأخذ أيهما شاء بالعقر وليس ذلك كالمهر في النكاح لأن العقر ههنا وجب بسبب التجارة بخلاف المهر اه. ولو قال المصنف بعد هذه الكلية وكل شئ ثبت لأحدهما بتجارة ونحوها فللآخر قبضه والمطالبة به لكان أفود لما في الظهيرية: فإن باع أحد المتفاوضين أو أدان رجلا أو كفل له رجل بدين أو غصب مالا فلشريكه الآخر أن يطالب وكل شئ هو لأحدهما خاصة إذا باعه لم يكن لشريكه أن يطالب بالثمن ولا للمشتري أن يطالب الشريك بتسليم المبيع. قوله: (وبطلت أن وهب لأحدهما أو ورث ما تصح فيه الشركة) أي المفاوضة لفوات المساواة فيما يصلح رأس المال إذ هي شرط فيه ابتداء وبقاء، وهذا لأن الآخر لا يشاركه فيما أصابه لانعدام السبب في حقه إلا أنها تنقلب عنانا للامكان فإن المساواة ليست شرطا فيها ولدوامه حكم الابتداء لكونه غير لازم، وسيأتي أن ما تصح فيه الدراهم والدنانير والفلوس النافقة. وأراد بالهبة الهبة مع القبض والصدقة كالهبة، وكذا الوصية، وكذا لو زادت قيمة دراهم أحدهما البيض على دراهم الآخر السود أو دنانيره قبل الشراء. قيد بالزيادة في القدر احترازا عن الزيادة في القيمة فإنها على ثلاثة أوجه: فإن حصل الفضل قبل الشراء بالمالين فسدت، وإن حصل الفضل بعد الشراء بالمالين وبعد التسليم إلى البائع لا تفسد المفاوضة، وإن حصل بعد الشراء بالمالين وقبل التسليم إلى البائع لا تفسد استحسانا. وإن حصل الشراء بأحد المالين ثم فضل أحد المالين، فإن فضل المال الذي حصل به الشراء لا تفسد المفاوضة،
287 وإن فضل المال الذي لم يحصل به الشراء فسدت. والفرق أنه في القدر إنما هو فضل أحدهما صاحبه فيما يصلح رأس مال المفاوضة، فإن المشتري بينهما على الشركة ولأحدهما زيادة دراهم بخلاف الزيادة من حيث القيمة بعد الشراء فإنها حصلت في مال الغير لا في مال أحدهما فلم يفت التساوي في مالهما، كذا في المحيط قوله: (لا العرض) أي لا تبطل بملك العرض لأنه لا تصح فيه الشركة فلا تشترط المساواة فيه، ولو قال لا ما لا تصح فيه لكان أولى ليدخل العقار والديون فإنها لا تبطل بهما إلا إذا قبض الديون قوله: (ولا تصح مفاوضة وعنان بغير النقدين والتبر والفلوس) وقال مالك: تجوز بالعروض والمكيل والموزون أيضا إذا كان الجنس واحدا لأنها عقدت على رأس مال معلوم فأشبه النقود بخلاف المضاربة لأن القياس يأباها لما فيها من ربح ما لم يضمن فيقتصر على مورد الشرع. ولنا أنه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن لأنه إذا باع كل واحد منهما رأس ماله وتفاضل الثمنان فما يستحقه أحدهما من الزيادة في مال صاحبه ربح ما لم يملك وما لم يضمن بخلاف الدراهم والدنانير لأن ثمن ما يشتريه في ذمته إذ هي لا تتعين فكان ربح ما ضمن، ولان أول التصرف في العرض البيع وفي النقود الشراء وبيع أحدهما ما له على أن يكون الآخر شريكا في ثمنه لا يجوز، وشراء أحدهما شيئا بماله على أن يكون المبيع بينه وبين غيره جائز. وجعل المصنف التبر كالنقدين رواية كتاب الصرف بناء على أنه لا يتعين بالتعيين حتى لا ينفسخ العقد بهلاكه قبل التسليم. وفي الجامع الصغير: لا تكون المفاوضة بمثاقيل ذهب أو فضة ومراده التبر، فعلى هذه ا لرواية التبر سلعة ويتعين بالتعيين فلا يصلح رأس مال في المضاربات والشركات. وصححه في الهداية لأنها وإن خلقت للتجارة في الأصل لكن الثمنية تختص بالضرب المخصوص لأن عند ذلك لا يصرف إلى شئ آخر ظاهرا إلا أن يجري التعامل باستعمالها ثمنا فينزل التعامل بمنزلة الضرب فتكون ثمنا وتصلح رأس المال اه. فيحمل ما في الكتاب على ما إذا جرى التعامل باستعمال التبر ثمنا وهو أولى من حمله على الرواية الضعيفة. والتبر ما ليس بمضروب من الفضة والذهب. وأطلق الفلوس وأراد بها الرائجة لأنها تروج رواج الأثمان فألحقت بها قالوا: هذا قول محمد لأنها ملحقة بالنقود عنده حتى لا تتعين بالتعيين، ولا يجوز بيع اثنين بواحد بأعيانهما على ما عرف. أما عند أبي حنيفة وأبي يوسف لا تجوز الشركة والمضاربة بها لأن ثمنيتها تتبدل ساعة فساعة وتصير سلعة. وروي عن أبي يوسف مثل قول محمد والأول أقيس وأظهر، والأصح أنها جائزة بالفلوس عندهما أيضا لأنها أثمان باصطلاح الكل فلا تبطل ما لم يصطلح على ضده، ذكره الأسبيجابي. ولذا اختاره في الكتاب. وشمل قوله بغير
288 النقدين المكيل والموزون والمعدود المتقارب، ولا خلاف فيه بيننا قبل الخلط لأنها عروض محضة، وكذا إن خلطا ثم اشتركا عند أبي يوسف فلكل منهما متاعه بحصة ربحه ووضيعته. وعند محمد تصح وتصير شركة عقد إذا كان المخلوط جنسا واحدا. وثمرة الاختلاف تظهر في اشتراط التفاضل في الربح فعند أبي يوسف لا تصح، وعند محمد تلزم، وقول أبي يوسف هو ظاهر الرواية عن أبي حنيفة لأنه يتعين بالتعيين فكان عرضا محضا. ولو اختلفا جنسا كالحنطة والشعير والزيت والسمن فخلطا لا تنعقد الشركة بها بالاتفاق. والفرق لمحمد أن المخلوط من جنس واحد من ذوات الأمثال، ومن جنسين من ذوات القيم فتتمكن الجهالة كما في العروض، وإذا لم تصح الشركة فحكم الخلط سيأتي في كتاب الوديعة. ولم يقيد المصنف المال بالحضرة ولا بد منه. قال في القنية: عقدا شركة عنان بالدنانير ورأس مال أحدهما غائب لا تصح، ولو دفعه بعد الافتراق عن المجلس ليشتري الشريك بالمالين على ذلك العقد تنعقد الشركة بالدفع اه. وفي البزازية: لا تصح بمال غائب أو دين ولا بد من أن يكون المال حاضرا مفاوضة كانت أو عنانا. وأراد عند عقد الشراء لا عند عقد الشركة فإنه لو لم يوجد عند عقدها تجوز ألا ترى أنه لو دفع إلى رجل ألفا وقال اخرج مثلها أو اشتر بها وبع والحاصل بيننا أنصافا ولم يكن المال حاضرا وقت الشركة فبرهن المأمور على أنه فعل ذلك وأحضر المال وقت الشراء جاز اه. وفي الذخيرة: إذا قال لغيره أقرضني ألفا أتجر بها ويكون الربح بيننا فأقرضه ألفا فاتجر بها وربح فالربح كله للمستقرض لا شكرة للمقرض فيه، ولو دفع إلى رجل ألفا وقال اشتر بها بيني وبينك نصفين والربح لنا والوضيعة علينا فهلك المال قبل أن يشتري فلا ضمان عليه، وهذا ليس بقرض وإنما هو شركة، ولو اشترى بالمال ثم هلك المال فعلى الآمر ضمان نصف المال وعلى المشتري نصف ذلك اه. قوله: (ولو باع كل عرضه بنصف عرض الآخر وعقد الشركة صح) بيان للحيلة في صحة الشركة بالعروض فإن فساده بها ليس لذاتها بل للازم الباطل من أمرين: أحدهما لزوم ربح ما لم يضمن. والثاني جهالة رأس مال كل منهما عند القسمة، وكل منهما منتف في هذه الصورة فيكون كل ما يربحه الآخر ربح ما هو مضمون عليه ولا تحصل جهالة في رأس مال كل منهما عند القسمة حتى يكون ذلك بالحرز فتقع الجهالة لأنهما مستويان في المال شريكان فيه فبالضرورة يكون كل ما يحصل بينهما نصفان. وفي قوله وعقد الشركة إشارة إلى أن بالبيع صارت شركة ملك حتى لا يجوز لكل واحد أن يتصرف في نصيب الآخر، ثم بالعقد بعده صارت شركة عقد فيجوز لكل منهما أن يتصرف في نصيب صاحبه، كذا في التبيين.
289 وصرح في الهداية بأن هذا شركة ملك، وفي فتح القدير إنه مشكل، ولعله فهم أن الإشارة عائدة إلى الكل وليس كذلك وإنما هي عائدة إلى البيع فقط. وأطلق في قيمة مبتاعيهما وقيده في الهداية بأن تستوي القيمتان، ولو كان بينهما تفاوت يبيع صاحب الأقل بقدر ما تثبت به الشركة. وأوضحه في النهاية بأن تكون قيمة عرض أحدهما أربعمائة وقيمة عرض الآخر مائة فإنه يبيع صاحب الأقل أربعة أخماس عرضه بخمس عرض الآخر فيصير المتاع كله أخماسا ويكون الربح كله بينهما على قدر رأس ماليهما اه. ورده في التبيين بأن هذا الحمل غير محتاج إليه لأنه يجوز أن يبيع كل واحد منهما نصف ماله بنصف مال الآخر وإن تفاوتت قيمتهما حتى يصير المال بينهما نصفين، وكذا العكس جائز وهو ما إذا كانت قيمتهما متساوية فباعاه على التفاوت بأن باع أحدهما ربع ماله بثلاثة أرباع مال الآخر. فعلم بذلك أن قوله باع نصف ماله بنصف مال الآخر وقع اتفاقا أو قصدا ليكون شاملا للمفاوضة والعنان لأن المفاوضة شرطها التساوي بخلاف العنان. وقوله بنصف عرض الآخر وقع اتفاقا لأنه لو باعه بالدراهم ثم عقد الشركة في العرض الذي باعه جاز أيضا اه. وفي الذخيرة: وعلى هذا لو كان عبد بين رجلين اشتركا فيه شركة عنان أو مفاوضة جاز اه. وفي المحيط: رجلان لكل واحد منهما طعام فاشتركا بماليهما وخلطاهما وأحدهما أجود من الآخر فالشركة جائزة والثمن بينهما نصفان لأن هذا يشبه البيع حين خلطه على أنه بينهما. وقال في موضع آخر نص في هذا الكتاب: يقسم الثمن على قيمة الجيد وقيمة الردئ يوم باعا اه. هذا يقتضي أن تكون شركة ملك لا عقد. قوله: (وعنان أن تضمنت وكالة فقط) بالرفع عطف على مفاوضة بيان للنوع الثاني من شركة العقد. وفي القاموس إنها على وزن كتاب في الشركة أن يكون في شئ خاص دون سائر مالهما أو هو أن يعارض رجلا بالشراء فيقول أشركني معك أو هو أن يكونا سواء في الشركة لأن عنان الدابة طاقتان متساويتان اه. وإنما انعقدت على الوكالة لتحقيق مقصوده كما بينا. ومعنى قوله فقط أنها لا تنعقد على الكفالة لأن اللفظ مشتق من الاعتراض يقال عن له أي اعترض، وهذا لا ينبئ عن الكفالة وحكم التصرف لا يثبت بخلاف مقتضى اللفظ فظاهر كلامه أنهما لو عقداها على الكفالة لا تكون عنانا لكنه مقيد بما إذا كانت باقي شروط
290 المفاوضة متوفرة فحينئذ تكون مفاوضة، وإن لم تكن متوفرة ينبغي أن تكون عنانا، وأن يكون معنى قولهم لا تنعقد على الكفالة أن ذكر الكفالة فيها ليس بشرط لا أن عدم ذكرها شرط لكن في فتح القدير: ثم هل تبطل الكفالة؟ يمكن أن يقال تبطل لأن العنان معتبر فيها عدم الكفالة، ويمكن أن يقال لا تبطل لأن المعتبر فيها عدم اعتبار الكفالة لا اعتبار عدمها فتصح عنانا، ثم كفالة الآخر زيادة على نفس الشركة كما أنها تكون عنانا مع العموم باعتبار أن الثابت فيها عدم اعتبار العموم لا اعتبار عدم العموم إلا أن الأول قد يرجح بأن هذه الكفالة لمجهول فلا تصح إلا ضمنا، فإذا لم تكن مما تضمنها الشركة لم يكن ثبوتها إلا قصدا فلا تصح اه. وفي البزازية: ولكونها لا تقتضي الكفالة تنعقد ممن ليس بأهل للكفالة بأن كان أحدهما صبيا مأذونا في التجارة أو كلاهما أو أحدهما معتوها يعقل البيع والشراء أو كلاهما أو أحدهما مأذونا اه. وأطلقها فشمل ما إذا كانت خاصة أو عامة، وما إذا كانت مطلقة عن التقييد بوقت أو مقيدة به لأنها مبنية على الوكالة وهي تصح عاما وخاصا مطلقا وموقتا فكذا الشركة. وهل تتوقت هذه الشركة بالوقت؟ روى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنها تتوقت حتى لا تبقى الشركة بعد مضي الوقت. وقال الطحاوي: هذه الرواية مما لا تكاد تصح على ما روي عنهم في الوكالة أن من وكل رجلا بشراء عبد أو ببيعه اليوم لا تتوقت الوكالة باليوم، فإذا لم تتوقت الوكالة لا تتوقت الشركة ضرورة. وقال غيره من مشايخنا بأن هذه الرواية صحيحة في الشركة فصارت الشركة والوكالة على الروايتين في رواية يتوقتان لأنهما يقبلان الخصوص في النوع فيقبلان التوقيت بالوقت، وفي رواية لا يتوقتان لأن ذكره قد يكون لقصرهما عليه وقد يكون لاستعجال العمل فيما لا يحتاج إلى التوقيت وهما ثابتان للحال بيقين ووقع الشك في ارتفاعهما بمضي الوقت فلا يرتفعان بالشك ولهذا لا يتوقت الاذن، كذا في المحيط. قوله: (وتصح مع التساوي في المال دون الربح وعكسه) وهو التفاضل في المال والتساوي في الربح. وقال زفر والشافعي: لا يجوز لأن التفاضل فيه يؤدي إلى ربح ما لم يضمن فإن المال إذا كان نصفين والربح أثلاثا فصاحب الزيادة يستحقها بلا ضمان إذ الضمان
291 بقدر رأس المال لأن الشركة عندهما في الربح كالشركة في الأصل ولهذا يشترطان الخلط فصار ربح المال بمنزلة نماء الأعيان فيستحق بقدر الملك في الأصل. ولنا قوله عليه السلام الربح على ما شرطا والوضيعة على قدر المالين ولم يفصل ولان الربح كما يستحق بالمال يستحق بالعمل كما في المضاربة، وقد يكون أحدهما أحذق وأهدى أو أكثر عملا فلا يرضى بالمساواة فمست الحاجة إلى التفاضل. قيد بالشركة في الربح لأن اشتراط الربح كله لأحدهما غير صحيح لأنه يخرج العقد به من الشركة ومن المضاربة أيضا إلى قرض باشتراطه للعامل أو إلى بضاعة باشتراطه لرب المال، وهذا العقد يشبه المضاربة من حيث إنه يعمل في مال الشريك، ويشبه الشركة اسما وعملا فإنهما يعملان معا فعملنا بشبه المضاربة، وقلنا يصح اشتراط الربح من غير ضمان وبشبه الشركة حتى لا تبطل باشتراط العمل عليهما. وقد أطلق المصنف تبعا للهداية جواز التفاضل في الربح مع التساوي في المال، وقيده في التبيين وفتح القدير بأن يشترطا الأكثر للعامل منهما أو لاكثرهما عملا، أما إن شرطاه للقاعد أو لأقلهما عملا فلا يجوز، ولم يشترط المصنف لاستحقاق الربح المشروط اجتماعهما على العمل لأنه غير شرط لتضمنها الوكالة ولذا قال في البزازية: اشتركا وعمل أحدهما في غيبة الآخر فلما حضر أعطاه حصته ثم غاب الآخر وعمل الآخر فلما حضر الغائب أبى أن يعطيه حصته من الربح، إن كان الشرط أن يعملا جميعا وشتى فما كان من تجارتهما من الربح فبينهما على الشرط عملا أو عمل أحدهما، فإن مرض أحدهما ولم يعمل وعمل الآخر فهو بينهما. وفي المحيط: ثم المسألة على ثلاثة أوجه: الأول أن يشترطا العمل عليهما والربح بينهما نصفين والوضيعة على قدر رأس المال، فإن عمل أحدهما دون الآخر فالربح بينهما على ما شرطا، وإن شرطا العمل على أحدهما ينظر، إن شرطا العمل على أكثرهما ربحا جاز، وإن شرطاه على
292 أقلهما ربحا خاصة لا يجوز والربح بينهما على قدر رأس مالهما اه. وفي الظهيرية: لو قال أحد الشريكين لصاحبه لا أعمل معك بالشركة فهذا بمنزلة قوله فاسختك اه قوله: (وببعض المال) يعني يصح أن يعقدها كل واحد منهما ببعض ماله دون البعض لأن المساواة في المال ليس بشرط إذ اللفظ لا يقتضيه، وقدمنا ما تصح به الشركة من الأموال مفاوضة أو عنانا قوله: (وبخلاف الجنس) بأن يكون من أحدهما دنانير ومن الآخر دراهم لعدم اشتراط الخلط عندنا فجازت في متحد الجنس ومختلفه، وتجوز مع اختلاف الوصف فقط بالأولى كما إذا كان من أحدهما دراهم سود ومن الآخر دراهم بيض وإن تفاوتت قيمتها والربح على ما شرطا قوله: (وعدم الخلط) أي تصح وإن لم يخلطا المالين لأن الشركة في الربح مستندة إلى العقد دون المال لأن العقد يسمى شركة، ولا بد من تحقيق معنى هذا الاسم فيه فلم يكن الخلط شرطا، ولان الدراهم والدنانير لا يتعينان فلا يستفاد الربح برأس المال وإنما يستفاد بالتصرف لأنها في النصف أصيل وفي النصف وكيل، وإذا تحققت الشركة في التصرف بدون الخلط تحققت في المستفاد به وهو الربح بدونه وصارت كالمضاربة قوله: (وطولب المشتري بالثمن فقط) أي دون صاحبه لما بينا أنها تتضمن الوكالة دون الكفالة والوكيل الأصيل هو في
293 الحقوق. قوله: (ورجع على شريكه بحصته منه) أي من الثمن إذا أدى من مال نفسه لأنه وكيل من جهته في حصته فإذا فقد من مال نفسه رجع عليه، فإن كان ذلك لا يعرف إلا بقوله فعليه الحجة لأنه يدعي وجوب المال في ذمة الآخر وهو ينكر والقول للمنكر مع يمينه، هذا إذا أدى من ماله مع بقاء مال من الشركة ولذا قال في المحيط: إن لم يكن في يده مال ناض وصار مال الشركة أعيانا أو أمتعة فاشترى بدراهم أو دنانير نسيئة فالشراء له خاصة دون شريكه لأنه لو وقع على الشركة صار مستدينا على مال الشركة وأحد شريكي العنان لا يملك الاستدانة إلا أن يأذن له في ذلك. وعن الإمام إذا كان في يده دنانير فاشترى بدراهم جاز، ولو اشترى من جنس تجارتهما وأشهد عند الشراء أنه يشتريه لنفسه فهو مشترك بينهما لأنه في النصف بمنزلة الوكيل بشراء شئ معين، ولو اشترى ما ليس من تجارتهما فهو له خاصة لأن هذا النوع من التجارة لم ينطو عليه عقد الشركة اه قوله: (وتبطل بهلاك المالين أو أحدهما قبل
294 الشراء) لأن المعقود عليه في عقد الشركة المال فإنه يتعين فيه كما في الهبة والوصية، وبهلاك المعقود عليه يبطل العقد كما في البيع بخلاف المضاربة والوكالة المفردة لأنه لا يتعين الثمنان فيهما بالتعيين وإنما يتعينان بالقبض على ما عرف، وهذا ظاهر فيما إذا هلك المالان، وكذا إذا هلك أحدهما لأنه ما رضي بشركة صاحبه في ماله إلا بشركته في ماله، وإذا فات ذلك لم يكن راضيا بشركته فبطل العقد لعدم فائدته. وأيهما هلك هلك من مال صاحبه، إن هلك في يده فظاهر، وكذا إذا كان في يد الآخر لأنه أمانة في يده بخلاف ما بعد الخلط حيث يهلك على الشركة لأنه لا يتميز فيجعل الهلاك من المالين. قوله: (وإن اشترى أحدهما بماله وهلك مال الآخر فالمشتري بينهما) يعني على ما شرطا لأن الملك حين وقع وقع مشتركا بينهما لقيام الشركة وقت الشراء فلا يتغير الحكم بهلاك مال الآخر بعد ذلك. وإنما لم يقل على ما شرطا للاختلاف في هذه الشركة فعند محمد هي شركة عقد فيكون الربح على ما شرطا وأيهما باع جاز بيعه لأن الشركة قد تمت في المشتري فلا تنقض بهلاك المال بعد تمامها، وعند الحسن بن زياد هي شركة ملك لأن شركة العقد قد بطلت بهلاك المال كما لو هلك قبل الشراء وإنما بقي ما هو حكم الشراء وهو الملك. واعلم أن الواو في قوله وهلك بمعنى ثم لأنه لو هلك مال أحدهما ثم اشترى الآخر بالمال الآخر إن صرحا بالوكالة في عقد الشركة فالمشتري مشترك بينهما على ما شرطا لأن الشركة إن بطلت فالوكالة المصرح بها قائمة وكان مشتركا بحكم الوكالة وتكون شركة ملك ويرجع على شريكه بحصته من الثمن، وإن ذكرا مجرد الشركة ولم ينصا على الوكالة فيها كان المشتري للذي اشتراه خاصة لأن الوقوع على الشركة حكم الوكالة التي تضمنتها الشركة، فإذا بطلت يبطل ما في ضمنها بخلاف ما إذا صرحا بالوكالة لأنها مقصودة، ولهذا جمع في المبسوط بين
295 التناقض الواقع في جواب المسألة حيث قال محمد في بعض المواضع فاشترى بالمال الباقي بعد ذلك يكون لصاحبها، وفي بعضها إذا اشترى الآخر بماله بعد ذلك يكون بينهما فجعل محمل الأول ما إذا لم يكن في الشركة وكالة مصرح بها، ومحمل الثاني إذا صرحا بها على ما ذكر قوله: (ورجع على شريكه بحصته منه) أي من الثمن لأنه وكيل في حصة شريكه وقد قضى الثمن من ماله فيرجع عليه بحسابه لعدم الرضا بدون ضمانه. وفي المحيط: لأحدهما مائة دينار قيمتها ألف وخمسمائة وللآخر ألف درهم فاشتركا عنانا وشرطا الربح والوضيعة على رأس المال فاشترى صاحب الدراهم جارية ثم هلكت الدنانير فالجارية بينهما وربحها أخماسا، ثلاثة أخماسه لصاحب الدنانير وخمسان لصاحب الدراهم لما بينا أن حال شرائها كانت الشركة قائمة وبهلاك أحد المالين لا تنتقض الشركة، والربح يقسم على قدر ماليهما يوم الشراء، ومقدار رأس ماليهما يوم الشراء على خمسة أسهم خمسان لأحدهما وثلاثة أخماسه للآخر، ويرجع صاحب الدراهم على الآخر بثلاثة أخماس الألف لأنه صار وكيلا عن صاحبه بالشراء في ثلاثة أخماس الجارية وقد نقد ثمن ذلك من ماله، ولو كان على عكسه رجع صاحب الدنانير عليه بخمسي الثمن أربعون دينارا لما عرف، فإن اشترى صاحب الدنانير بها غلاما والآخر بألفه جارية وقبضا وهلكا يهلكان من مالهما لأن كل واحد حينما اشترى كانت الشركة بينهما قائمة وتمامه فيه قوله: (وتفسد أن شرط لأحدهما دراهم مسماة من الربح) لأنه شرط يوجب انقطاع حق الشركة فعساه لا يخرج إلا القدر المسمى لأحدهما، ونظيره في المزارعة إذا اشترط لأحدهما قفزانا مسماة. وفي الخانية: ولو تفاوتا في المال في شركة العنان وشرطا الربح والوضيعة نصفين قال في الكتاب: الشركة فاسدة. قالوا: لم يرد محمد بهذا فساد العقد وإنما أراد به فساد شرط الوضيعة لأن الشركة لا تبطل بالشروط الفاسدة، وكذا لو شرطا الوضيعة على المضارب كان فاسدا اه. وهذا صريح في أن الذي يبطل بالشرط الفاسد إنما هو الشرط لا الشركة. قال في الفتاوى الصغرى: وذكر خواهر زاده في أول المضاربة الشركات لا تبطل بالشروط الفاسدة لأن فيها معنى الوكالة والوكالات لا تبطل بالشروط، وإذا شرط في المضاربة ربح عشرة أو في الشركة تبطل لا لأنه شرط فاسد بل لأنه شرط تنتفي به الشركة وعسى أن يجري على إطلاقه من أن الشركات والمضاربات لا تبطل بالشروط الفاسدة اه.
296 قوله: (ولكل من شريكي العنان والمفاوضة أن يبضع ويستأجر ويودع ويضارب ويوكل) بيان لما لكل منهما أن يفعله، أما البضاعة فلأنها معتادة في عقد الشركة. وفي القاموس الباضع الشريك والجمع بضع من بضع كمنع بضوعا اه. والمراد هنا دفع المال لآخر ليعمل فيه على أن يكون الربح لرب المال ولا شئ للعامل، وأما الاستئجار فلكونه معتادا بين التجار. وأطلقه فشمل ما إذا استأجر رجلا ليتجر له أو يحفظ المال، وأما الايداع فجوازه بالأولى لأنه استحفاظ بغير أجر، وأما المضاربة فلكونها دون الشركة فتتضمنها. وعن أبي حنيفة ليس له ذلك لأنه نوع شركة والأول أصح وهو رواية الأصل لأن الشركة غير مقصودة وإنما المقصود تحصيل الربح كما إذا استأجره بأجر بل أولى لأنه تحصيل بدون ضمان في ذمته بخلاف الشركة حيث لا يملكها لأن الشئ لا يستتبع مثله، كذا في الهداية. وبهذا علم أنه ليس للشريك أن يشارك بخلاف المضاربة ولذا قال ويضارب ولم يقل ويشارك. قال في الجوهرة: إلا بإذن شريكه. وأما التوكيل فلانه من توابع التجارة والشركة انعقدت للتجارة بخلاف الوكيل بالشراء حيث لا يملك أن يوكل غيره لأنه عقد خاص طلب منه تحصيل المعين فلا يستتبع مثله. ولم يذكر المصنف بقية أحكام الشريك وهي مهمة فمنها العارية. قال الحاكم في الكافي: وليس له أن يعير في القياس فإن فعل، فإن أعار دابة فعطبت تحت المستعير فالقياس فيه أن المعير ضامن لنصف قيمة الدابة لشريكه ولكني أستحسن أن لا أضمنه، وهذا قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وكذلك لو أعار ثوبا أو دارا أو خادما اه. ومنها الرهن فإن كان شريك عنان فليس له ذلك. قال الكرخي في مختصره قال محمد في كتاب الرهن: إذا رهن أحد شريكي العنان متاعا من الشركة بدين عليهما لم يجز وكان ضامنا للرهن، ولو ارتهن بدين لهما أداناه وقبض لم يجز على شريكه من قبل أنه لم يسلطه أن يرتهن، فإن هلك الرهن وقيمته والدين سواء ذهب بحصته ويرجع شريكه بحصته على المطلوب ويرجع المطلوب بنصف قيمة الرهن على المرتهن. وإن شاء شريك المرتهن ضمن شريكه حصته من الدين لأن هلاك الرهن في يده بمنزلة الاستيفاء ثم قال بعده: ويجوز لاحد المتفاوضين أن يرهن ويرتهن على شريكه، كذا في غاية البيان. وفي المحيط: لا يرهن أحدهما شيئا من الشركة بدين عليه إلا بإذن شريكه، وكذا لا يرتهن رهنا بدين من الشركة في نصيب شريكه إلا إذا ولي عقده أو يأمر من يوليه اه. وفي الخانية: ولمن ولي المبايعة أن يرهن بالثمن. ومنها ليس له أن يكاتب لأنه ليس من عادة التجار، كذا في الجوهرة. وكذا ليس له تزويج الأمة وقضاء الدين كما في المحيط. ومنها ما إذا أخذ أحدهما مالا مضاربة فالربح له
297 خاصة. أطلق الجواب في الكتاب وهو على التفصيل إن أخذ مالا مضاربة ليتصرف فيما ليس من تجارتهما فالربح له خاصة لأنه لم يدخل تحت عقد الشركة، وكذلك إن أخذ المال مضاربة بحضرة صاحبه ليتصرف فيما هو من تجارتهما، وأما إذا أخذ المال مضاربة ليتصرف فيما كان من تجارتهما أو مطلقا حال غيبة شريكه يكون الربح بينهما مشتركا نصفه لشريكه ونصفه بين المضارب ورب المال، كذا في المحيط. فقوله في الكتاب يضارب معناه يدفع المال مضاربة، وأما أخذه المال مضاربة ففيه التفصيل كما علمت. ومنها تأجيل أحدهما الدين. قال في المحيط: وإن كان لهما دين على آخر لأجله أحدهما فهو على ثلاثة أوجه: إن أجله العاقد جاز في النصيبين ولا يضمن نصيب شريكه عندهما، وعند أبي يوسف يجوز في نصيبه ولا يجوز في نصيب شريكه. وأصله الوكيل بالبيع إذا أبرأ عن الثمن أو حط أو أجله عندهما خلافا لأبي يوسف إلا أن هناك يضمن من ماله لموكله عندهما وهنا لا يضمن لأن العاقد هنا لو أقال العقد ثم باعه بنفسه جاز، فلما ملك إنشاء البيع بثمن إلى أجل فلان يملك التأجيل فيه أولى. ولو أجل غير العاقد أو عقدا جميعا فأجله أحدهما لم يجز عند أبي حنيفة، وعندهما يجوز في نصيبه. ومنها أنه لا يملك الاقراض ولو مفاوضا في ظاهر الرواية لأنه إعارة حكما وعرفا فهي تبرع فلا يملكه أحدهما، كذا في المحيط. وقدمنا أن العارية ممنوعة قياسا جائزة استحسانا وهو يقتضي جواز الاقراض لأنه إما عارية وإما معاوضة وكل منهما يملكه أحدهما فلذا روى الحسن أنه يملك الاقراض. ومنها أنه يملك السفر بالمال هو المستبضع والمضارب والمودع عندهما خلافا لأبي يوسف، سواء كان له حمل ومؤنة أو لا، لأن ما يلحقه من المؤنة فهو ملحق برأس المال ولا يعده التجار من باب الغرامة. ثم اعلم أنه يجوز للمفاوض ما لا يجوز لشريك العنان فيجوز له كتابة العبد والاذن بالتجارة وتزويج الأمة دون شريك العنان، ولا يجوز للكل تزويج العبد ولا الاعتاق على المال، وقبول هدية المفاوض وأكل طعامه والاستعارة منه بغير إذن شريكه جائز ولا ضمان على الآكل والمتصدق عليه استحسانا. ولو كسى ثوبا أو وهبه لم يجز في حصة شريكه وإنما يجوز في الفاكهة والخبز واللحم وأشباهه. ولو وكل المفاوض رجلا بشراء شئ فنهاه الآخر صح نهيه وإن لم ينهه حتى اشترى يرجع بالثمن على أيهما شاء، ولغير المشتري أن يرد المبيع بالعيب. ولو شارك أحدهما آخر عنانا جاز عليهما لأن شركة العنان أخص وأدون من المفاوضة، وإن شارك مفاوضة جاز بإذن شريكه وبدون إذنه تنعقد عنانا، كذا في المحيط. وبه تبين أن قولهم كما كتبناه أولا أن الشريك ليس له أن يشارك ليس على إطلاقه. وفي البزازية: لكل من الشريكين
298 أن يبيع بالنقد والنسيئة، وإن اشترى، إن كان في يده مال الشركة فهو على الشركة، وإن لم يكن، فإن اشترى بدراهم أو دنانير فالشراء له خاصة دون شريكه لأنه لو صار على الشركة يصير مستدينا وأنه لا يملك ذلك، وإن قال أحدهما للآخر بع جازت، وإن باع أحدهما متاعا ورد عليه فقبله جاز ولو بلا قضاء، وكذا لو حط أو أخر من عيب، وإن بلا عيب جاز في حصته، وكذا لو وهب. ولو أقر بعيب في متاع باعه جاز عليهما، ولو قال كل منهما للآخر اعمل برأيك فلكل منهما أن يعمل ما يقع في التجارة كالرهن والارتهان والسفر والخلط بماله والشركة بالغير لا الهبة والقرض، وما كان إتلافا للمال أو تمليكا بغير عوض فإنه لا يجوز وإن قال له اعمل برأيك ما لم يصرح به نصا. وإن أذن كل منهما للآخر بالاستقراض لا يرجع المقرض على الآخر لأن التوكيل به لا يصح. ولو باع أحدهما لم يكن للآخر قبض الثمن، وكذا دين وليه أحدهما وللمديون أن يمتنع من الدفع إليه وإن دفع إلى الشريك برئ من نصيبه ولم يبرأ من حصة الدائن استحسانا، والقياس أن لا يبرأ من حصة القابض أيضا اه. ثم قال بعده: بيع المفاوض ممن لا تقبل شهادته له ينفذ على المفاوضة إجماعا، أما الاقرار بالدين لا ينفذ عنده. وفي الخانية: ليس لأحدهما أن يخاصم فيما باع صاحبه وقبض الذي باع وتوكيله جائز عليه وعلى شريكه. ولو وكل أحدهما رجلا في بيع أو شراء وأخرجه الآخر عن الوكالة صار خارجا عنها، فإن وكل البائع رجلا بتقاضي ثمن ما باع ليس للآخر أن يخرجه عن الوكالة. ولو قال أحدهما لصاحبه اخرج إلى نيسابور ولا تجاوز فجاوز فهلك المال
299 ضمن حصة الشريك، ولو شارك أحدهما رجلا شركة عنان فما اشترى الشريك الثالث كان النصف للمشتري والنصف بين الشريكين الأولين، وما اشتراه الشريك الذي لم يشارك فهو بينه وبين شريكه نصفين ولا شئ منه للشريك الثالث. ولو استقرض أحد شريكي العنان مالا للتجارة لزمهما لأنه تمليك مال بمال فكان بمنزلة الصرف، ولو أقر أحد الشريكين أنه استقرض من فلان ألفا من تجارتهما تلزمه خاصة اه. وفي الظهيرية: إذا باع أحد المتفاوضين شيئا من تجارتهما ثم إن البائع وهب الثمن من المشتري أو أبرأه منه جاز في قول أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف، ولو وهب غير البائع جاز في حصته فقط إجماعا. قوله: (ويده في المال أمانة) أي الشريك لأنه قبض المال بإذن المالك لا على وجه البدل والوثيقة فصار كالوديعة، كذا في الهداية. وخرج بالأول المقبوض على سوم الشراء، وبالثاني الرهن كما في النهاية: وظاهر كلامهم هنا أنه لو ادعى دفع المال إلى شريكه فالقول له مع اليمين، سواء كان في حياته أو بعد موته. وظاهر كلام الولوالجي في الوكالة يفيده فإنه قال:
300 إذا ادعى الأمين بعد الموت الدفع في الحياة وأنكر الوارث فإن كان المقصود نفي الضمان عن نفسه كالوكيل بقبض الوديعة فالقول قوله، وإن كان المقصود إيجاب الضمان على الميت كالوكيل بقبض الدين لا يقبل قوله اه. وفي البزازية من باب التحليف: ولو ادعى المضارب أو الشريك دفع المال وأنكره رب المال يحلف المضارب أو الشريك الذي كان في يده المال اه. ولا يخفى أنه إذا تعدى صار ضامنا لأنه حكم الأمانات. قال في البزازية: التقييد بالمكان صحيح حتى لو قال أحد الشريكين لصاحبه اخرج إلى خوارزم ولا تتجاوز عنه صح فلو جاوز عنه ضمن حصة شريكه. والتقييد بالنقد صحيح حتى لو قال لاتبع بالنسيئة صح، ولو اشتركا عنانا على أن يبيعا بالنقد والنسيئة ثم نهى أحدهما صاحبه عن البيع نسيئة صح اه. وقد وقعت حادثتان أفتيت فيهما: الأولى نهاه عن البيع نسيئة فباع فأفتيت بنفاذه في حصته وبتوقفه في حصة شريكه، فإن أجاز قسم الربح بينهما. الثانية نهاه عن الاخراج فخرج ثم ربح فأجبت بأنه غاصب حصة شريكه بالاخراج فينبغي أن لا يكون الربح على الشرط، ولم أر فيهما إلا ما قدمناه. واعلم أنه ذكر الناطفي أن الأمانات تنقلب مضمونة بالموت عن تجهيل إلا في ثلاث: أحدهما متولي المسجد إذا أخذ من غلات المسجد ومات من غير بيان لا يكون ضامنا. والثانية السلطان إذا خرج إلى الغزو وغنموا وأودع بعض الغنيمة عند بعض الغانمين
301 ومات ولم يبين عند من أودع لا ضمان عليه. والثالثة القاضي إذا أخذ مال اليتيم وأودع غيره ومات ولم يبين عند من أودع لا ضمان عليه. وأما أحد المتفاوضين إذا كان المال عنده ولم يبين حال المال الذي كان عنده، ذكر بعض الفقهاء أنه لا يضمن وأحاله إلى شركة الأصل وذلك غلط، بل الصحيح أنه يضمن نصيب صاحبه، كذا في فتاوى قاضيخان من كتاب الوقف. وبه تبين أن ما في فتح القدير وبعض الفتاوى ضعيف وأن الشريك ضامن بالموت عن تجهيل عنانا أو مفاوضة قوله: (وتقبل إن اشترك خياطان أو خياط وصباغ على أن يتقبلا الأعمال ويكون الكسب بينهما) بالرفع عطف على مفاوضة بيان لشركة الصنائع، وظاهره أن التقبل والوجوه غير المفاوضة والعنان وقدمنا خلافه. وفي البزازية: وشركة التقبل والوجوه قد تكون مفاوضة وعنانا فالعنان ما يكون في تجارة خاصة، والمفاوضة ما تكون في كل التجارات اه. وسيأتي بيان فائدة كونها مفاوضة. وإنما جاز هذا النوع من الشركة لأن المقصود منه التحصيل وهو ممكن بالتوكيل لأنه لما كان وكيلا في النصف أصيلا في النصف تحققت الشركة في المال المستفاد. وأفاد بقوله أو خياط وصباغ أنه لا يشترط فيه اتحاد العمل. قالوا: ولا يشترط أيضا اتحاد المكان لأن المعنى المجوز لها وهو ما ذكرنا لا يتفاوت، فالمراد من قوله إن اشترك خياطان صانعان ولو حكما، اتحد عملهما أو اختلف بعد أن يكون عملا حلالا يمكن استحقاقه، فشمل ما إذا اشترك معلمان لحفظ الصبيان وتعليم الكتابة والقرآن فإن المختار جوازه كما في البزازية، وما إذا كان له آلة القصارة ولآخر بيت اشتركا على أن يعملا في بيت هذا على أن يكون الكسب بينهما فإنه جائز، وكذا سائر الصناعات ولو من أحدهما أداة القصارة والعمل من الآخر فسدت والربح للعامل وعليه أجرة مثل الأداة، كذا في البزازية. وفي القنية: اشترك ثلاثة من الجمالين على أن يملا أحدهم الجوالق ويأخذ الثاني فمها ويحملها على الثالث فينقله إلى بيت المستأجر والاجر بينهم بالسوية فهي فاسدة. قال رضي الله عنه: فسادها لهذه الشروط فإن شركة الحمالين صحيحة إذا اشترك الحمالون في التقبل والعمل جميعا، ولو اشتركا في تقبل كتب الحجاج على أن ما رزقهما الله تعالى فيه فبينهما نصفان فهذه شركة جائزة اه. وقلنا ولو كان حكما ليشمل ما إذا اشتركا في صنعة ولم يحسنها أحدهما فإنها صحيحة كما سيأتي. وقيدنا بكون العمل حلالا لما
302 في البزازية: لو اشتركا في عمل حرام لم يصح اه. وقيدنا بإمكان استحقاقه لما في القنية: ولا تجوز شركة الدلالين في عملهم ولا شركة القراء في القراءة بالزمزمة في المجلس لأنها غير مستحقة عليهم، ولا شركة السؤال لأن التوكيل بالسؤال لا يصح. ولما في الظهيرية: ولو أن ثلاثة من القراء اشتركوا في المجلس والمعازي بالزمزمة والألحان فهذه الشركة فاسدة لأن ما اشتركوا فيه لا يكون مستحقا عليهم ولا على أحدهم اه. وقوله على أن يتقبلا الأعمال ليس بقيد لأنهما لو اشتركا على أن يتقبل أحدهما المتاع ويعمل الآخر أو يقبل أحدهما المتاع ويقطعه ثم يدفعه إلى الآخر للخياطة بالنصف جاز، كذا في القنية لكن من شرط عليه العمل فقط لو تقبل جاز فلو شرط على الصانع أن لا يتقبل وإنما عليه العمل فقط لا يجوز لأنه عند السكوت جعل إثباتها اقتضاء ولا يمكن ذلك مع النفي، كذا في المحيط. وشمل قوله والكسب بينهما ما إذا شرطاه على السواء أو شرطا الربح لأحدهما أكثر من الآخر، وقد صرح به في البزازية معللا بأن العمل متفاوت وقد يكون أحدهما أحذق، فإن شرطا الأكثر لأدناهما اختلفوا فيه اه. والصحيح الجواز لأن الربح بضمان العمل لا بحقيقته، كذا في فتح القدير. وفي القاموس: وقد قبل به كنصر وسمع وضرب قبالة وقبلت العامل العمل تقبلا نادر، والاسم القبالة وتقبله العامل تقبيلا نادر أيضا اه. قوله: (وكل ما يتقبله أحدهما يلزمهما) يعني فيطالب كل واحد منهما بالعمل ويطالب بالاجر ويبرأ الدافع بالدفع إليه. أطلقه فشمل ما إذا كانت مفاوضة وهو ظاهر وما إذا أطلقاها وصرحا بالعنان وهو استحسان، والقياس خلافه لأن الكفالة تقتضي المفاوضة. وجه الاستحسان أن هذه الشركة مقتضية للضمان ألا ترى أن ما يتقبله كل واحد منهما من العمل مضمون على الآخر ولذا يستحق الاجر بسبب نفاذ تقبله عليه فجرى مجرى المفاوضة في ضمان العمل واقتضاء البدل، كذا في الهداية. وإنما قيد جريانه مجرى المفاوضة بهذين السببين لأن فيما عدا ذلك لم يجر هذا العقد مجرى المفاوضة حتى قالوا: إذا أقر أحدهما بدين من ثمن صابون أو أشنان مستهلك أو أجر أجير أو أجرة بيت لمدة مضت لم يصدق على صاحبه إلا ببينة ويلزمه خاصة لأن التنصيص على المفاوضة لم يوجد ونفاذ الاقرار موجب
303 المفاوضة، كذا في النهاية. وبه علم فائدة كونها مفاوضة لو صرح بها ليلزم كل واحد ما أقر به صاحبه مطلقا، وتقييده بالاستهلاك وبمضي المدة للاحتراز عما إذا كان المبيع لم يستهلك ومدة الإجارة لم تمض فإنه يلزمهما كما في المحيط. وفي الخانية: ولا يشترط لهذه الشركة بيان المدة وحكمها أن يصير كل واحد منهما وكيلا عن صاحبه بتقبل الأعمال والتوكيل بتقبل الأعمال جائز، سواء كان الوكيل يحسن مباشرة ذلك العمل أو لا يحسن. وهذا النوع من الشركة قد يكون عنانا وقد يكون مفاوضة عند استجماع شرائط المفاوضة فيكون كل واحد منهما مطالبا بحكم الكفالة بما وجب على صاحبه، ومتى كان عنانا فإنما يطالب به من باشر السبب دون صاحبه بقضية الوكالة، فإن أطلقت هذه الشركة كانت عنانا، وإن شرطا المفاوضة كانت مفاوضة، فإذا عمل أحدهما دون صاحبه والشركة عنان أو مفاوضة كان الاجر بينهما على ما شرطا، ولو شرطا لأحدهما فضلا فيما يحصل من الأجرة جاز إذا كانا شرطا التفاضل في ضمان ما يتقبلانه. وعن أبي حنيفة: ما جنت يد أحدهما كان الضمان عليهما يأخذ أيهما شاء. وعن أبي يوسف: إذا مرض أحد الشريكين أو سافر أو بطل فعمل الآخر كان الاجر بينهما ولكل واحد منهما أن يأخذ الأجر وإلى أيهما دفع الاجر برئ وإن لم يتقاصا وهذا استحسان لأن تقبل أحدهما العمل جعل كتقبل الآخر فصار في معنى المفاوضة في باب ضمان العمل. ولو ادعى رجل على أحدهما أنه دفع إليه ثوبا للخياطة وأقر به الآخر صح إقراره بدفع الثوب ويأخذ الأجر لأنهما كالمتفاوضين، فإقرار أحدهما يصح في حق الآخر. وعن محمد أنه لا يصدق المقر في حق الشريك. وأخذ هو بالقياس، ولو أقر أحدهما بدين من ثمن صابون ونحوه لا يلزم الآخر اه. وفيها قبله: فإذا كان الشرط على الخياط أنه يخيط بنفسه لا يطالب الآخر بحكم الكفالة اه. وبه علم أن قولهم ما لزم أحدهما من العمل يلزم الآخر مقيد بما إذا لم يشترط المستأجر عمله بنفسه. فإن قلت: ما صورة استجماع شرائط المفاوضة فيها؟ قلت قال في المحيط بأن اشترط الصانعان على أن يتقبلا جميعا الأعمال، وأن يضمنا العمل جميعا على التساوي، وأن يتساويا في الربح والوضيعة، وأن يكون كل منهما كفيلا عن صاحبه فيما لحقه بسبب الشركة اه. قوله: (وكسب أحدهما بينهما) يعني إذا عمل أحدهما دون الآخر قسم الاجر بينهما على ما شرطا، أما العامل فظاهر، وأما غيره فلانه لزمه العمل بالتقبل فيكون ضامنا له فيستحقه بالضمان وهو لزوم العمل. وعلله في البزازية بأن العامل معين القابل لأن الشرط مطلق العمل لا عمل القابل ألا ترى أن القصار إذا استعان
304 بغيره أو استأجره استحق الاجر اه. أطلقه فشمل ما إذا عمل أحدهما فقط لعذر بالآخر كسفر أو مرض أو بغير عذر كما لو امتنع عنه بغير عذر به لأن العقد لا يرتفع بمجرد امتناعه، واستحقاقه الربح بحكم الشرط في العقد لا العمل، كذا في البزازية. وفي فتح القدير: ثلاثة لم يعقدوا بينهم شركة تقبل تقبلوا عملا فجاء أحدهم فعمله كله فله ثلث الأجرة ولا شئ للآخرين لأنهم لما لم يكونوا شراء كان على كل منهم ثلث العمل لأن المستحق على كل منهم ثلثه بثلث الاجر، فإذا عمل الكل كان متطوعا في الثلثين فلا يستحق الاجر اه. وبهذا علم أن قوله اشترك خياطان إلى آخره معناه إن عقدا عقد الشركة فلو تقبلا ولم يعقدا لم تكن شركة. قوله: (ووجوه إن اشتركا بلا مال على أن يشتريا بوجوههما ويبيعا) بالرفع عطف على مفاوضة بيان للنوع الرابع من شركة العقد، وقدمنا أنها كالصنائع تكون مفاوضة وعنانا فقال في النهاية: المفاوضة أن يكون الرجلان من أهل الكفالة، وأن يكون ثمن المشتري بينهما نصفين، وأن يتلفظا بلفظ المفاوضة - زاد في فتح القدير - وأن يتساويا في الربح. وإذا ذكر مقتضيات المفاوضة كفى عن التلفظ بها كما سلف، وإذا أطلقت كانت عنانا لأن مطلقه ينصرف إليه لكونه معتادا وهي جائزة عندنا لما بيناه في شركة الصنائع. وسميت شركة وجوه لأنه لا يشتري بالنسيئة إلا من له وجاهة عند الناس، وقيل لأنهما يشتريان من الوجه الذي لا يعرف، وقيل لأنهما إذا جلسا ليدبر أمرهما ينظر كل واحد منهما إلى وجه صاحبه. وعلى الآخرين فالتسمية ظاهرة، وعلى الأول من أنها من الوجاهة أو الجاه فقال في فتح القدير: لأن الجاه مقلوب الوجه لما عرف غير أن الواو انقلبت حين وضعت مع العين للموجب لذلك ولذا كان وزنه عفل اه. وفي الخانية: وهما فيما يجب لهما وعليهما بمنزلة العنان، ولو اشتركا بوجوههما شركة مفاوضة كان جائزا ويثبت التساوي بينهما فيما يجب لكل واحد منهما وعليه ما يجب في شركة المفاوضة بالمال اه. وفي البزازية: وإذا وقتا شركة الوجوه تصح، وهل تتوقت؟ فيه روايتان: فعلى الرواية التي لا تتوقت كان شرطا مفسدا ومع هذا تفسد واعتبر بالوكالة اه. وحذف مفعول يشتريا ليفيد أنها تكون عامة وخاصة كالبر. قوله: (وتتضمن الوكالة) يعني أن كل واحد منهما وكيل الآخر فيما اشتراه لأن التصرف على الغير لا يجوز إلا بوكالة أو ولاية ولا ولاية فتعين الأولى، ولم يذكر تضمنها للكفالة لأنها لا تكون كذلك إلا إذا كانت مفاوضة كما قدمناه. قوله: (وإن شرطا مناصفة المشتري أو مثالثته فالربح كذلك وبطل شرط الفضل) بيان لما فارقت فيه الوجوه العنان وهي أن الربح فيها على قدر الملك في المشتري - بفتح الراء - بخلاف العنان فإن التفاضل في الربح فيها مع التساوي
305 في المال صحيح، وهذا لأن الربح لا يستحق إلا بالمال أو بالعمل أو بالضمان فرب المال يستحقه بالمال والمضارب بالعمل، والأستاذ الذي يتلقى العمل على التلميذ بالنصف بالضمان ولا يستحق بما سواها ألا ترى أن من قال لغيره تصرف في مالك على أن لي ربحه لا يجوز لعدم هذه المعاني. واستحقاق الربح في شركة الوجوه بالضمان على ما بيناه والضمان على قدر الملك في المشتري فكان الربح الزائد عليه ربح ما لم يضمن فلا يصح اشتراطه إلا في المضاربة، والوجوه ليست في معناها بخلاف العنان لأنه في معناها من حيث إن كل واحد يعمل في مال صاحبه فيلحق بها. فصل في الشركة الفاسدة قوله: (ولا تصح شركة في احتطاب واصطياد واستقاء) لأن الشركة متضمنة معنى الوكالة والتوكيل في أخذ المباح باطل لأن أمر الموكل به غير صحيح والوكيل يملكه بدون أمره فلا يصلح نائبا عنه. أشار بالثلاثة إلى أن أخذ كل شئ مباح كالاحتشاش واجتناء الثمار من الجبال والتكدي وسؤال الناس ونقل الطين وبيعه من أرض مباحة أو الجص أو الملح أو الثلج أو الكحل أو المعدن أو الكنوز الجاهلية، وكذا إذا اشتركا على أن يبنيا من طين غير مملوك أو يطبخا آجرا ولو كان الطين مملوكا أو سهلة الزجاج فاشتركا على أن يشتريا ويطبخا ويبيعا جاز وهو شركة الصنائع، كذا في فتح القدير وذكر البزازي أنها شركة الوجوه. قوله: (والكسب للعامل وعليه أجر مثل ما للآخر) لوجود السبب منه وهو الاخذ والاحراز أفاد أنهما لو أخذاه معا فهو بينهما نصفان لاستوائهما في سبب الاستحقاق وأنه لو أخذه أحدهما ولم يعمل الآخر شيئا فهو للعامل ولا شئ عليه للآخر. وفي البزازية: ولكل ما أخذ وإن أخذاه منفردين وخلطا وباعا قسم الثمن على قدر ملكيهما وإن لم يعرف المقدار صدق كل منهما إلى النصف وفيما زاد عليه البينة. وعبر بما المفيدة للعموم ليشمل أجرة عمله كما إذا ساعده بالقلع وجمعه الآخر أو قلعه وحمله الآخر فللمعين أجر مثله بالغا ما بلغ عند محمد، وعند أبي يوسف لا يجاوز به نصف ثمن ذلك. وشمل ما إذا كان للآخر بغل أو راوية فإن كسب المال للذي استقى وعليه أجر مثل الراوية إن كان المستقي صاحب البغل، وإن كان
306 صاحب الراوية فعليه أجر مثل البغل، وما إذا دفع له شبكة ليصيد بها السمك على أن يكون بينهما فالصيد للصائد ولصاحب الشبكة أجر مثلها، كذا في المحيط. وفي البزازية: اشتركا في الاصطياد ونصبا شبكة أو أرسلا كلبا لهما فالصيد بينهما أنصافا، ولو لأحدهما وأرسلا فالصيد لصاحب الكلب خاصة لأن إرسال غير المالك مع المالك لا يعتبر، وإن أصاب أحد الكلبين صيدا فأثخنه ثم أدركه الآخر فالصيد لمن أثخنه كلبه لاخراجه عن أن يكون صيدا، وإن أثخناه فبينهما أنصافا للاشتراك في السبب اه. قوله: (والربح في الشركة الفاسدة بقدر المال وإن شرط الفضل) لأن الربح فيه تابع للمال فيقدر بقدره كما أن الريع تابع للزرع في المزارعة، والزيادة إنما تستحق بالتسمية وقد فسدت فبقي الاستحقاق على قدر رأس المال. أفاد بقوله بقدر المال أنها شركة في الأموال فلو لم يكن من أحدهما مال وكانت فاسدة فلا شئ له من الربح ولذا قال في المحيط: دفع دابته إلى رجل يؤاجرها على أن الاجر بينهما فالشركة فاسدة والاجر لصاحب الدابة وللآخر أجر مثله، وكذلك السفينة والبيت. ولو دفع دابته إلى رجل ليبيع عليها البر على أن الربح بينهما فالربح لصاحب البر ولصاحب الدابة أجر مثلها لأن منفعة الدابة لا تصح مالا للشركة كالعروض، ولو اشتركا ولأحدهما دابة وللآخر إكاف وجوالق على أن يؤجر الدابة والاجر بينهما فالشركة فاسدة لأنها وقعت على العين فكانت بمعنى الشركة في العروض، فإن أجر الدابة مع الجوالق الأكاف فالاجر كله لصاحب الدابة والدخيل معه أجر مثله بالغا ما بلغ. ولو اشتركا ولأحدهما بغل وللآخر بعير على أن يؤجراهما والأجرة بينهما لا تصح، فإن أجراهما قسم الاجر بينهما على مثل أجر البغل ومثل أجر البعير اه. وفي القنية: له سفينة فاشترك مع أربعة على أن يعملوا بسفينته وآلاتها والخمس لصاحب السفينة والباقي بينهم
307 بالسوية فهي فاسدة، والحاصل لصاحب السفينة وعليه أجر مثلهم اه. قوله: (وتبطل الشركة بموت أحدهما ولو حكما) لأنها تتضمن الوكالة ولا بد منها لتحقق الشركة على ما مر، والوكالة تبطل بالموت، والموت الحكمي الالتحاق بدار الحرب مرتدا إذا قضى القاضي به لأنه بمنزلة الموت كما قدمناه، فلو عاد مسلما لم يكن بينهما شركة، وإن لم يقض بلحاقه انقطعت على سبيل التوقف بالاجماع، فإن عاد مسلما قبل أن يحكم بلحاقه فهما على الشركة، وإن مات أو قتل انقطعت ولو لم يلحق بدار الحر ب وانقطعت المفاوضة على التوقف هل تصير عنانا؟ عند أبي حنيفة لا، وعندهما تبقى عنانا، ذكره الولوالجي. أطلقه فشمل ما إذا علم الشريك بموت صاحبه أو لم يعلم لأنه عزل حكمي فلا يشترط له العلم وفي المحيط: ولو أبضع أحد المتفاوضين ألفا له ولشريك له شركة عنان برضا شريك العنان ليشتري لهما متاعا ثم مات أحدهم، فإن مات المبضع ثم اشترى المستبضع فالمتاع للمشتري ويضمن المال ويكون نصفه لشريك العنان ونصفه للمفاوض الحي ولورثة الميت لأنه انعزل المستبضع في حق الكل بموته لأنه انقطع أمر الميت على نفسه وشركائه، وإن مات شريك العنان ثم اشترى المستبضع فالمشتري كله للمتفاوضين لأنه انفسخت الشركة بموته فانعزل المستبضع في حقه وبقي الابضاع صحيحا في حق المتفاوضين، ثم ورثة الميت إن شاؤوا رجعوا بحصتهم على أيهم شاؤوا وإذا لزم أحد المتفاوضين ضمان لزم الآخر، وإن شاؤوا ضمنوا المستبضع ويرجع به المستبضع على أيهما شاء. وإن مات المفاوض الذي لم يبضع ثم اشترى المستبضع فنصفه للآمر ونصفه لشريك العنان ويضمن المفاوض الحي لورثة الميت حصتهم، وإن شاؤوا ضمنوا المبضع ويرجع بها على الآمر اه. وفيه أيضا: باع أحد المتفاوضين شيئا نسيئة ثم مات ليس لصاحبه أن يخاصم فيه لأنه إنما كان له مطالبة المشتري ومخاصمته بحكم الوكالة وقد انقطعت بالموت، فإن أعطاه المشتري نصف الثمن برئ منه لأنه دفع الملك إلى مالكه اه. وفي الظهيرية: ولو كان الشركاء ثلاثة فمات أحدهم حتى انفسخت الشركة في حقه لا تنفسخ في حق الباقين ثم قال: وإذا مات أحد المتفاوضين والمال في يد الحي فادعى ورثة
308 الميت المفاوضة وجحد ذلك فأقام ورثة الميت بينة أن أباهم كان شريكه مفاوضة لم يقض لهم بشئ مما في يد الحي إلا أن يشهد الشهود أن المال كان في يده حال حياة الميت وأنه من شركة بينهما اه. ولم يذكر المصنف حكم ما إذا فسخها أحدهما. وفي البزازية: إنكارها فسخ وإن فسخها أحدهما لا تنفسخ ما لم يعلم الآخر، وإن فسخها أحدهما ورأس مالها نقد صح وإن عروضا لا رواية فيها إنما الرواية في المضاربة، والطحاوي جعلها كالمضاربة في عدم الانفساخ، وذكر بكر أنهما إذا فسخا المضاربة والمال عروض يصح وإن أحدهما لا. وظاهر المذهب الفرق بين الشركة والمضاربة يصح فسخها لو عروضا لا المضاربة واختاره الصدر وصورته: اشتركا واشتريا أمتعة ثم قال أحدهما لا أعمل معك بالشركة وغاب فباع الحاضر الأمتعة فالحاصل للبائع وعليه قيمة المتاع لأن قوله لا أعمل معك فسخ للشركة معه وأحدهما يملك فسخها وإن كان المال عروضا بخلاف المضاربة وهو المختار. وذكر الطحاوي: نهاه رب المال عن التصرف إن كان رأس المال من أحد النقدين فله أن يستبدله بالنقد الآخر ولا يعمل النهي، وإن عروضا لا يصح النهي والحق الشركة بالمضاربة والحق المختار ما ذكرنا. قال أحدهما لصاحبه أريد شراء هذه الجارية لنفسي فسكت الآخر فاشتراها فعلى الشركة ما لم يقل، نعم ولو وكله بشراء جارية بعينها فقال ذلك فسكت الموكل فالمشتري للوكيل لأنه يملك عزل نفسه، رضي به الموكل أم لا، واحد الشريكين لا يملك فسخها بلا رضا الآخر اه. وهكذا ذكر في الخلاصة أن أحد الشريكين لا يملك فسخها بلا رضا الآخر. وفي فتح القدير: إن هذا غلط وقد صحح هو انفراد الشريك بالفسخ والمال عروض، والتعليل الصحيح ما ذكره
309 في التجنيس أن أحد المتفاوضين لا يملك تغيير موجبها إلا برضا صاحبه وفي الرضا احتمال يعني إذا كان ساكتا، والمراد بموجبها وقوع المشتري على الاختصاص. ولا يشكل على هذا ما ذكره في الخلاصة في ثلاثة اشتركوا شركة صحيحة على قدر رؤس أموالهم فخرج واحد إلى ناحية من النواحي لشركتهم فشارك الحاضران آخر على أن ثلث الربح له والثلثين بينهم أثلاثا ثلثاه للحاضرين وثلثه للغائب، فعمل المدفوع إليه بذلك المال سنين مع الحاضرين ثم جاء الغائب فلم يتكلم بشئ فاقتسموا ولم يزل يعمل معهم هذا الرابع حتى خسر المال أو استهلكه فأراد الغائب أن يضمن شريكيه لا ضمان عليهما وعمله بعد ذلك رضا بالشركة لأن هذا أخص من السكوت السابق لما فيه من زيادة العمل اه. وقد ظهر لي أن لا غلط في كلامهم لامكان التوفيق فقولهم يملك فسخها بلا رضا الآخر حيث أعلمه معناه رفع عقد الشركة بالكلية، وقولهم في تعليل هذه المسألة إن أحدهما لا يملك فسخها بلا رضا الآخر معناه رفعها بالنسبة إلى المشتري فقط. وحاصله أن أحدهما إذا أراد أن يشتري شيئا ويختص به ولا يكون على الشركة فلا بد من رضا صاحبه ولا يكفي علمه بخلاف ما إذا فسخها بالكلية وهذا هو الحق لمن أنصف من نفسه. وفي الظهيرية: ثلاثة نفر متفاوضون غاب أحدهم وأراد الآخر أن يتناقضا ليس لهما ذلك بدون الغائب ولا ينتقض البعض دون البعض اه. وفي المحيط: جحد أحد المتفاوضين وقعت الفرقة وضمن نصف جميع ما في يده إذا ظهرت المفاوضة بالبينة العادلة لأنه أمين جحد الأمانة فصار غاصبا، وكذلك جحود وارثه بعد موته. باع أحد المتفاوضين شيئا ثم افترقا والمشتري لا يعلم فلكل واحد قبض المال كله فإلى أيهما دفع برئ، وإن علم بالفرقة لم يدفع إلا إلى العاقد، ولو دفع إلى شريكه لا يبرأ عن نصيب العاقد، وكذا لو وجد به عيبا لا يخاصم به إلا البائع، ولو رد عليه بالعيب قبل الافتراق وحكم عليه بالثمن ثم افترقا له أن يأخذ أيهما شاء، ولو استحق العبد قبل الفرقة وقبل نقد الثمن له أن يأخذ أيهما شاء اه.
310 وفيه قبله: ولو أبضع أحدهما رجلا فاشترى المستبضع بالبضاعة شيئا بعد تفرقهما، فإن علم بتفرقهما فالمشتري للمبضع خاصة، وإن لم يعلم فإن كان الثمن مدفوعا إلى المستبضع نفذ الشراء عليهما، وإن لم يكن مدفوعا إليه فالمشتري للمبضع اه. ولم يذكر المصنف حكمها إذا جن أحدهما وفي التتارخانية: سئل أبو بكر عن شريكين جن أحدهما وعمل الآخر بالمال حتى ربح أو وضع قال: الشركة بينهما قائمة إلى أن يتم إطباق الجنون عليه، فإذا قضى ذلك الوقت تنفسخ الشركة بينهما فإذا عمل بالمال بعد ذلك فالربح كله للعامل والوضيعة عليه وهو كالغصب لمال المجنون فيطيب له ما ربح ماله ولا يطيب له ربح من مال المجنون فيتصدق به اه. ثم اعلم أن الشريكين إذا اشتريا بالمال متاعا ثم أرادا القسمة فإنه يقوم ذلك يوم اشترياه ويكون الربح بينهما على قدره، ولو اشتركا في العروض على أن لكل واحد حصة ماله فاشتريا بها متاعا ثم باعاه بألف درهم فإنهما يقتسمان الدراهم على قيمة العروض يوم اشترياه، كذا في الينابيع. ولم يذكر المصنف حكم اختلافهما ولا بأس ببيانه تتميما للفائدة. وفي الظهيرية: ادعى أنه شاركه مفاوضة والمال في يد الجاحد فالقول للجاحد والبينة على المدعي، فإن أقامها، فإن شهدوا أنه مفاوضة وأن المال الذي في يده بينهما أو من شركتهما قبلت وقضى به بينهما، وإن شهدوا أنه مفاوضة فقط ذكر السرخسي قبولها، وذكر خواهر زاده قبولها إن شهدوا في مجلس الدعوى وإن بعد ما تفرقا لا يقضي ما لم يشهدوا أنه بينهما نصفان أو أنه من شركتهما أو بقر الجاحد أن المال كان في يده يومئذ. ثم إذا قضى به بينهما فادعى ذو اليد شيئا مما في يده لنفسه ميراثا أو هبة أو صدقة من غير جهة المدعي، فإن كان شهود مدعي المفاوضة شهدوا أنه مفاوضة وأن المال بينهما نصفان أو شهدوا أنه مفاوضة وأن المال من شركتهما فلا تسمع دعواه ولا تقبل بينته، وإن شهدوا أنه مفاوضة وأن المال في يده أو شهدوا أنه مفاوضة ولم يزيدوا قبلت عند محمد خلافا لأبي يوسف. ولو ادعى شيئا مما في يده بطريق التلقي من المدعي تسمع وتقبل مطلقا، وإذا افترق المتفاوضان ثم ادعى أحدهما أن شريكه كان بالنصف وادعى الآخر بالثلث وقد اتفقا على المفاوضة فجميع المال بينهما نصفان وهذا ظاهر وتمامه فيها. قوله: (ولم يزك مال الآخر إلا بإذنه) أي أحدهما لأنه ليس من جنس التجارة فلا يكون وكيلا عنه في أدائها إلى أن يأذن له قوله: (فإن أذن كل وأيدا معا ضمنا ولو متعاقبا ضمن
311 الثاني) أي إن أذن كل واحد منهما لصاحبه بأداء الزكاة عنه فأديا معا ضمن كل واحد منهما نصيب صاحبه، وإن أديا على التعاقب كان الثاني ضامنا للأول. أطلقه فشمل ما إذا علم بأداء صاحبه أو لم يعلم في الوجهين، وهذا عند الإمام، وعندهما لا ضمان إذا لم يعلم، وعلى هذا الاختلاف المأمور بأداء الزكاة إذا تصدق على الفقراء بعدما أدى الآمر بنفسه لهما أنه مأمور بالتمليك من الفقير وقد أتى به فلا يضمن للموكل، وهذا لأن في وسعه التمليك لا وقوعه زكاة لتعلقه بنية الموكل وإنما يطلب منه ما في وسعه وصار كالمأمور بذبح دم الاحصار إذا ذبح بعدما زال الاحصار وحج الآمر لم يضمن المأمور علم أولا. ولأبي حنيفة رضي الله عنه أنه مأمور بأداء الزكاة والمؤدي لم يقع زكاة فصار مخالفا، وهذا لأن المقصود من الآمر إخراج النفس عن عهدة الواجب لأن الظاهر أنه لا يلتزم الضرر إلا لدفع الضرر وهذا المقصود حصل بأدائه فعري أداء المأمور عنه فصار معزولا، علم أو لم يعلم، لأنه عزل حكمي، وأما دم الاحصار فقد قيل إنه على الخلاف، وقيل بينهما فرق، ووجهه أن الدم ليس بواجب عليه وأنه يمكنه أن يصبر حتى يزول الاحصار، وفي مسألتنا الأداء واجب فاعتبر الاسقاط مقصودا فيه دون دم الاحصار، وكذا في الهداية. ونقل الولوالجي أن في بعض المواضع لا يضمن عندهما وإن علم بأداء المالك، ونص في زيادات العتابي أن عندهما لا يضمن، علم بأدائه أو لم يعلم وهو الصحيح عندهما، كذا في فتح القدير قوله: (وإن أذن أحد المتفاوضين بشراء أمة ليطأ ففعل فهي له بلا شئ) أي عند الإمام. وقالا: يرجع عليه بنصف الثمن لأنه أدى دينا عليه خاصة من مال مشترك فيرجع عليه صاحبه بنصيبه كما في شراء الطعام والكسوة لأن الملك وقع له خاصة والثمن بمقابلة الملك. وله أن الجارية دخلت في الشركة على البتات جريا على مقتضى الشركة إذ هما لا يملكان تغييره فأشبه حال عدم الإذن غير أن الاذن يتضمن هبة نصيبه منه لأن الوطئ لا يحل إلا بالملك ولا وجه إلى إثباته بالبيع لما بينا أنه يخالف مقتضى الشركة فأثبتناه بالهبة الثابتة في ضمن الاذن بخلاف الطعام والكسوة لأن ذلك مستثنى عنها للضرورة فيقع الملك له خاصة بنفس العقد فكان مؤديا دينا عليه من مال الشركة، وفي مسألتنا قضى دينا عليهما وللبائع أن يأخذ بالثمن أيهما شاء بالاتفاق لأنه دين وجب بسبب التجارة والمفاوضة تضمنت الكفالة فصار كالطعام والكسوة. قيد بالاذن لأنه لو اشتراها للوطئ بلا إذن كانت مشتركة لما قدمناه، وقدمنا أن السكوت عند الاستئذان لا يكون إذنا فلا يكون له خاصة وقد بينا الفرق بينه وبين سكوت الموكل.
312 كتاب الوقف مناسبته للشركة باعتبار أن المقصود بكل منهما الانتفاع بما يزيد على أصل المال، وله معنى لغوي وشرعي وسبب ومحل وشرائط وركن وأحكام ومحاسن وصفة. فمعناه في اللغة الحبس قال في القاموس. وقف الدار حبسه كأوقفه وهذه لغة رديئة اه. وأما معناه شرعا فما أفاده قوله: (حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة) يعني عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وعندهما هو حبس العين على حكم ملك الله تعالى، وزاد في فتح القدير على كلام المصنف أو صرف منفعتها على من أحب قال: لأن الوقف يصح لمن يحب من الأغنياء بلا قصد القربة وهو وإن كان لا بد في آخره من القربة كشرط التأبيد وهو بذلك كالفقراء ومصالح المسجد لكنه يكون وقفا قبل انقراض الأغنياء بلا تصدق اه. وقد يقال: إن الوقف على الغني تصدق بالمنفعة لأن الصدقة كما تكون على الفقراء تكون على الأغنياء وإن كان التصدق على الغني مجازا عن الهبة عند بعضهم. وصرح في الذخيرة بأن في التصدق على الغني نوع قربة دون قربة الفقير. وعرفه شمس الأئمة السرخسي بأنه حبس المملوك عن التمليك من الغير وسببه إرادة محبوب النفس في الدنيا ببر الأحباب، وفي الآخرة بالتقرب إلى رب الأرباب عز وجل. ومحله المال المتقوم، وشرائطه أهلية الواقف للتبرع من كونه حرا عاقلا بالغا، وأن يكون منجزا غير معلق فإنه مما لا يصلح تعليقه بالشرط، فلو قال إن قدم ولدي فداري صدقة موقوفة على المساكين فجاء ولده لا تصير وقفا. وذكر في جامع الفصولين الوقف فيما لا يصح تعليقه بالشرط في رواية فأشار أن فيه روايتين وجزم بصحة إضافته. وفي البزازية: وتعليق الوقف بالشرط باطل. وفي الخانية: ولو قال إذا جاء غد
313 فأرضي صدقة موقوفة أو قال إذا ملكت هذه الأرض فهي صدقة موقوفة لا يجوز لأنه تعليق والوقف لا يحتمل التعليق بالخطر لأنه لا يحلف به فلا يصح تعليقه كما لا يصح تعليق الهبة بخلاف النذر لأنه يحلف به ويحتمل التعليق اه. فإذا جاء غد تعليق ووقفته غدا إضافة وقد بينا الفرق بينهما في شرحنا على المنار وفي لب الأصول. ولو قال وقفته إن شئت ثم قال شئت كان باطلا للتعليق، أما لو قال شئت وجعلتها صدقة صح هذا الكلام المتصل بخلاف ما لو قال إن كانت هذه الدار في ملكي فهي صدقة موقوفة فظهر أنها كانت في ملكه وقت التكلم فإنها تصير وقفا لأنه تعليق على أمر كائن وهو تنجيز، كذا في فتح القدير، وسيأتي تعليقه بالموت. الخامس من شرائطه الملك وقت الوقف حتى لو غصب أرضا فوقفها ثم اشتراها من مالكها ودفع الثمن إليه أو صالح على مال دفعه إليه لا تكون وقفا لأنه إنما ملكها بعد أن وقفها. هذا على أنه هو الواقف، أما لو وقف ضيعة غيره على جهات فبلغ الغير فأجازه جاز بشرط الحكم والتسليم أو عدمه على الخلاف الذي سنذكره، وهذا هو المراد بجواز وقف الفضولي. فلو استحق الوقف بطل، وكذا لو جعلها مسجدا وجاء شفيعها بعد وقف المشتري، وكذا لو وقف المريض المديون الذي أحاط الدين بماله فإنه يباع وينقض الوقف، ولو وقف المبيع فاسدا بعد القبض صح وعليه القيمة لبائع، وكذا لو اتخذها اتخذها مسجدا، وكذا لو جعلها مسجدا وجاء شفيعها نقض المسجدية. ولو وقفها المشتري قبل القبض إن نقد الثمن جاز الوقف وإلا فهو موقوف. ولو اشترى أرضا فوقفها ثم جاء مستحق فاستحقها وأجاز البيع بطل الوقف في قول محمد، ولو ضمن المستحق البائع جاز الوقف في قول محمد، الكل في الخانية. ولو وهبت له أرض هبة فاسدة فقبضها ثم وقفها صح وعليه قيمتها، ولو اشترى أرضا فوقفها ثم اطلع على عيب رجع بالنقصان ولا يلزمه أن يشتري به بدلا لعدم دخول نقصان العيب في الوقف، كذا في الاسعاف. وفي الذخيرة: لو اشترى على أن البائع بالخيار فيها فوفقها ثم أجاز البائع البيع لم يجز الوقف اه. ويتفرع على اشتراط الملك أنه لا يجوز وقف الاقطاعات إلا إذا كان الأرض مواتا فأقطعها الإمام رجلا أو كانت ملكا للإمام فأقطعها رجلا وأنه لا يجوز وقف أرض
314 الجوز للإمام لأنه ليس بمالك لها - زاد في التتارخانية - ولا لمالكها. قال: وتفسير أرض الجوز أرض عجز صاحبها عن زراعتها وأداء خراجها فدفعها إلى الإمام لتكون منافعها جبرا للخراج اه. وتمامه في الخصاف. وذكر أيضا أن الموهوب له لا يصح وقفه قبل القبض ولو قبض بعده والموصى له كذلك قبل الموت. السادس عدم الجهالة فلو وقف من أرضه شيئا ولم يسمه كان باطلا لأن الشئ يتناول القليل والكثير ولو بين بعد ذلك ربما يبين شيئا قليلا لا يوقف عادة، فلو وقف جميع حصته من هذه الدار والأرض ولم يسم السهام جاز استحسانا، كذا في الاسعاف. ولو وقف هذه الأرض أو هذه الأرض وبين وجه الصرف كان باطلا لمكان الجهالة. ولو قال جعلت نصيبي من هذه الدار وقفا وهو ثلث جميع الدار فإذا هي النصف كان الكل وقفا وتمامه في الخانية. السابع عدم الحجر على الواقف لسفه أو دين، كذا أطلقه الخصاف. وينبغي أنه إذا وقفها في الحجر للسفه على نفسه ثم لجهة لا تنقطع أن يصح على قول أبي يوسف وهو الصحيح عند المحققين، وعند الكل إذا حكم به حاكم، كذا في فتح القدير وهو مدفوع بأن الوقف تبرع وهو ليس من أهله. الثامن أن لا يذكر مع الوقف اشتراط بيعه، فلو وقف بشرط أن يبيعها ويصرف ثمنها إلى حاجته لا يصح الوقف في المختار، كذا في البزازية وهو قول هلال والخصاف. وجوزه يوسف بن خالد السمتي إلحاقا للوقف بالعتق، وأما اشتراط الاستبدال فلا يبطله كما سيأتي في محله. التاسع أن لا يلحق به خيار شرط فلو وقف على أنه بالخيار لم يصح عند محمد معلوما كان الوقت أو مجهولا، واختاره هلال. وقال أبو يوسف: إن كان الوقت معلوما جاز الوقف والشرط كالبيع وإلا بطل الوقف، وصححه السمتي مطلقا وأبطل الشرط. وظاهر ما في الخانية أنه لو جعل داره مسجدا على أنه بالخيار صح الوقف وبطل الشرط بلا خلاف. وقال الفقيه أبو جعفر: ينبغي على قول أبي يوسف فيما إذا كان الوقت مجهولا أن يصح الوقف ويبطل الشرط. العاشر أن لا يكون موقتا. قال الخصاف: لو وقف داره يوما أو شهرا لا يجوز لأنه لم يجعله مؤبدا، وكذا لو قال على فلان سنة كان باطلا. وفصل هلال
315 بين أن يشترط رجوعها إليه بعد الوقت فيبطل الوقف أو لا فلا، وظاهر ما في الخانية اعتماده. الحادي عشر أن يكون للواقف ملة فلا يصح وقف المرتد إن قتل أو مات على ردته، وإن أسلم صح. ويبطل وقف المسلم إن ارتد ويسير ميراثا، سواء قتل على ردته أو مات أو عاد إلى الاسلام إلا إن أعاد الوقف بعد عوده إلى الاسلام كما أوضحه الخصاف آخر الكتاب، ويصح وقف المرتدة لأنها لا تقتل. وأما الاسلام فليس من شرطه فصح وقف الذمي بشرط كونه قربة عندنا. وعندهم كما لو وقف على أولاده أو على الفقراء أو على فقراء أهل الذمة، فإن عمم جاز الصرف إلى كل فقير مسلم أو كافر. وإن خصص فقراء أهل الذمة اعتبر شرطه كما نص عليه الخصاف كالمعتزلي إذا خص أهل الاعتزال. ولو شرط أن من أسلم من ولده أخرج اعتبر شرطه أيضا كشرط المعتزلي أن من صار سينا أخرج وليس هذا من قبيل اشتراط المعصية لأن التصدق على الكافر غير الحربي قربة. ولو وقف على بيعة فإذا خربت كان للفقراء لم يصح وكان ميراثا لأنه ليس بقربة عندنا كالوقف على الحج أو العمرة لأنه ليس بقربة عندهم بخلاف ما لوقف على مسجد بيت المقدس فإنه صحيح لأنه قربة عندنا وعندهم. وفي القنية: وفي المجوسي ضيعة على فقراء المجوس
316 لا يجوز. ثم رقم بعده بحرف الطاء: مجوسي وقف أرضه على أولاده وأولاد أولاده ماتنا سلوا ومن بعده على فقراء اليهود أو المجوس يجوز. قال رضي الله عنه: فينبغي أن يجوز على فقراء المجوس ابتداء اه. وفي الحاوي: وقف المجوسي على بيت النار واليهودي والنصراني على البيعة والكنيسة باطل إذا كان في عهد الاسلام، وما كان منها في أيام الجاهلية مختلف فيه والأصح أنه إذا دخل في عهد عقد الذمة لا يتعرض اه. ثم اعلم أنه لا يشترط لصحته عدم تعلق حق الغير به فلو وقف ما في إجارة الغير صح ولا تبطل الإجارة فإذا انقضت أو مات أحدهما صرفت إلى جهات الوقف، وأما وقف المرهون فإن أفتكه أو مات عن وفاء عاد إلى الجهة، وإن مات عن غير وفاء بيع وبطل الوقف، كذا في فتح القدير. وسكت عن حكمه حال الحياة لو كان معسرا. وفي الاسعاف: لو وقف المرهون بعد تسليمه صح وأجبره القاضي على دفع ما عليه إن كان موسرا، فإن كان معسرا أبطل الوقف وباعه فيما عليه اه. وهكذا في الذخيرة والمحيط. وأما شرطه الخاص لخروجه عن الملك عند الإمام فالإضافة إلى ما بعد الموت وهو الوصية به أو يلحقه حكم به. وعند أبي يوسف لا يشترط سوى كون المحل قابلا له من كونه عقارا أو دارا. وعند محمد ذلك مع كونه مؤبدا مقسوما غير مشاح فيما يحتمل القسمة ومسلما إلى متول، وسيأتي أن أكثرهم أفتى بقول محمد، وأن بعضهم أفتى بقول أبي يوسف وما أفتى أحد بقول الإمام. وأما ركنه فالألفاظ الخاصة الدالة عليه وهي ستة وعشرون لفظا: الأول أرضي هذه صدقة موقوفة مؤبدة على المساكين ولا خلاف فيه. الثاني صدقة موقوفة فهلال وأبو يوسف وغيرهما على صحته لأنه لما ذكر صدقة عرف مصرفه. وانتفى بقوله موقوفة احتمال كونه نذرا. الثالث حبس صدقة. الرابع صدقة محرمة وهما كالثاني. الخامس موقوفة فقط لا يصح إلا عند أبي يوسف فإنه يجعلها بمجرد هذا اللفظ موقوفة على الفقراء وإذا كان مفيدا
317 لخصوص المصرف أعني الفقراء لزم كونه مؤبدا لأن جهة الفقراء لا تنقطع. قال الصدر الشهيد: ومشايخ بلخ يفتون بقول أبي يوسف ونحن نفتي بقوله أيضا لمكان العرف، وبهذا يندفع رد هلال قول أبي يوسف بأن الوقف يكون على الغني والفقير ولم يبين فيبطل لأن العرف إذا كان يصرفه إلى الفقراء كان كالتنصيص عليهم. السادس موقوفة على الفقراء صح عند هلال أيضا لزوال الاحتمال بالتنصيص على الفقراء. السابع محبوسة. الثامن حبس وهما باطلان ولو كان في حبس مثل هذا العرف يجب أن يكون كقوله موقوفة. التاسع لو قال هي للسبيل إن تعارفوه وقفا مؤبدا للفقراء كان كذلك وإلا سئل، فإن قال أردت الوقف صار وقفا لأنه محتمل لفظه أو قال أردت معنى صدقة فهو نذر فيتصدق بها أو بثمنها، وإن لم ينو كانت ميراثا، ذكره في النوازل. العاشر جعلتها للفقراء إن تعارفوه وقفا عمل به وإلا سئل، فإن أراد الوقف فهي وقف أو الصدقة فهي نذر، وهذا عند عدم النية لأنه أدنى فإثباته به عند الاحتمال أولى. واعترضه في فتاوى الخاصي بأنه لا فرق بينهما وذكر في إحداهما إذا لم تكن له نية يكون ميراثا، ولا يخفى أن كونه ميراثا لا ينافي كونه نذرا لأنه المنذور به إذا مات الناذر ولم يوف بنذره يكون ميراثا إلا أنه اقتصر على تمام التفصيل في إحداهما وإلا فلا شك أن في كل منهما إذا لم تكن له نية يكون نذرا، فإن مات ولم يتصدق به ولا بقيمته يكون ميراثا. الحادي عشر محرمة. الثاني عشر وقف وهو صحيح وهي معروفة عند أهل الحجاز. الثالث عشر حبس موقوفة وهو كالاقتصار على موقوفة. الرابع عشر جعلت نزل كرمي وقفا صار وقفا فيه ثمرة أولا. الخامس عشر جعلت غلته وقفا كذلك. الخامس عشر موقوفة لله بمنزلة صدقة موقوفة، الكل في فتح القدير. وجزم في البزازية بصحة الوقف بقوله وقف أو موقوفة. السادس عشر صدقة فقط كانت صدقة فإن لم يتصدق حتى مات كانت ميراثا، كذا في الخصاف. السابع عشر هذه موقوفة على وجه الخير أو على وجه البر تكون وقفا على الفقراء. الثامن عشر صدقة موقوفة في الحج عني والعمرة عني يصح الوقف ولو لم يقل عني لا يصح الوقف. التاسع عشر صدقة لا تباع تكون نذرا بالصدقة لا وقفا، ولو زاد ولا توهب ولا تورث صارت وقفا على المساكين
318 والثلاثة في الاسعاف. العشرون اشتروا من غلة داري هذه كل شهر بعشرة دراهم خبزا وفرقوه على المساكين صارت الدار وقفا. الحادي والعشرون هذه بعد وفاتي صدقة يتصدق بعينها أو تباع ويتصدق بثمنها، ذكرهما في الذخيرة. الثاني والعشرون أوصى أن يوقف ثلث ماله جاز عند أبي يوسف ويكون للفقراء، وعندهما لا يجوز إلا أن يقول لله أبدا: كذا في التتارخانية. الثالث والعشرون هذا الدكان موقوفة بعد موتي ومسبل ولم يعين مصرفا لا يصح. الرابع والعشرون داري هذه مسبلة إلى المسجد بعد موتي يصح إن خرجت من الثلث وعين المسجد وإلا فلا. الخامس والعشرون سبلت هذه الدار في وجه إمام مسجد كذا عن جهة صلواتي وصياماتي تصير وقفا وإن لم تقع عنهما والثلاثة في القنية. السادس والعشرون جعلت حجرتي لدهن سراج المسجد ولم يزد عليه صارت الحجرة وقفا على المسجد كما قال، وليس للمتولي أن يصرف إلى غير الدهن، كذا في المحيط. السابع والعشرون ذكر قاضيخان من كتاب الوصايا: رجل قال ثلث مالي وقف ولم يزد على ذلك قال أبو نصر: إن كان ماله نقدا فهذا القول باطل بمنزلة قوله هذه الدراهم وقف، وإن كان ماله ضياعا تصير وقفا على الفقراء اه. وأما حكمه فما ذكره في تعريفه من أنه حبس العين عن التمليك والتصدق بالمنفعة وسيأتي بقية أحكامه. ومحاسنه ظاهرة وهي الانتفاع الدار الباقي على طبقات المحبوبين من الذرية والمحتاجين من الاحياء والأموات لما فيه من إدامة العمل الصالح كما في الحديث المعروف إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث (1) وفي فتاوى قاضيخان: رجل جاء إلى فقيه وقال إني أريد أن أصرف مالي إلى خير، عتق العبيد أفضل أم اتخاذ الرباط للعامة؟ قال بعضهم الرباط أفضل. وقال الفقيه أبو الليث: إن جعل للرباط مستغلا يصرف إلى عمارة
319 الرباط فالرباط أفضل، وإن لم يجعل إلا رباطا فالاعتاق أفضل، ولو تصدق بهذا المال على المحتاجين فذاك أفضل من الاعتاق اه. وفي البزازية: وقف الضيعة أولى من بيعها والتصدق بثمنها اه. وصفته أن يكون مباحا وقربة وفرضا فالأول بلا قصد القربة ولذا يصح من الذمي ولا ثواب له. والثاني مع قصدها من المسلم. والثالث المنذور كما لو قال إن قدم ولدي فعلي أن أقف هذه الدار على ابن السبيل فقدم فهو نذر يجب الوفاء به، فإن وقفه على ولده وغيره ممن لا يجوز دفع زكاته إليهم جاز في الحكم ونذره باق، وإن وقف على غيرهم سقط. وإنما صح النذر به لأن من جنسه واجبا فإنه يجب أن يتخذ الإمام للمسلمين وقفا مسجدا من بيت المال أو من مالهم إن لم يكن لهم بيت مال كما في فتح القدير قوله: (والملك يزول بالقضاء لا إلى مالك) أي ملك العين الموقوفة يزول عن ملك المالك بقضاء القاضي بلزوم الوقف من غير أن ينتقل إلى ملك أحد، وهذا - أعني اللزوم بالقضاء - متفق عليه لأنه قضاء في محل الاجتهاد فينفذ. وفي الخانية: وطريق القضاء أن يسلم الواقف ما وقفه للمتولي ثم يريد أن يرجع عنه فينازعه بعلة عدم اللزوم ويختصمان إلى القاضي فيقضي القاضي بلزومه اه. وإنما يحتاج إلى الدعوى عند البعض، والصحيح أن الشهادة بالوقف بدون الدعوى مقبولة ولذا قالوا: لو باع ثم ادعى الوقفية لا تسمع دعواه للتناقض ولا يحلف فإن برهن تقبل. قال في البزازية: لا لصحة الدعوى بل لأن البرهان يقبل عليه بلا دعوى كالشهادة على عتق الأمة في المختار ولا تسمع الدعوى من غير المتولي وعليه الفتوى اه. ولذا قال في المحيط: ولو قضى بالوقفية بالشهادة القائمة على الوقف من غير دعوى يصح لأن حكمه هو التصدق بالغلة وهو
320 حق الله تعالى، وفي حقوق الله تعالى يصح القضاء بالشهادة من غير دعوى اه. وقيد بالقضاء لأنهما لو حكما رجلا ليحكم بينهما بلزوم الوقف اختلفوا فيه، والصحيح أن بحكم المحكم لا يرتفع الخلاف وللقاضي أن يبطله، كذا في الخانية. وهل القضاء به قضاء على الناس كافة كالحرية أو لا؟ قال قاضيخان: أرض في يد رجل ادعى رجل أنها وقف وبين شرائط الوقف وقضى القاضي بالوقف ثم جاء آخر وادعى أنه ملك قالوا: تقبل بينة المدعي لأن القضاء بالوقف بمنزلة استحقاق الملك وليس بتحرير ألا ترى أنه لو جمع بين وقف وملك وباعهما صفقة واحدة جاز بيع الملك، ولو جمع بين حر وعبد وباعهما صفقة واحدة لا يجوز بيع العبد، دل أن القضاء بالوقف بمنزلة القضاء بالملك وفي الملك القضاء يقتصر على المقضي عليه وعلى من يلتقي الملك منه ولا يتعدى إلى الغير فكذلك في الوقف اه. ذكره في باب ما يبطل دعوى المدعي، وعزاه في الخلاصة إلى الفتاوى الصغرى ثم قال: بخلاف العبد إذا ادعى العتق على إنسان وقضى القاضي بالعتق ثم ادعى رجل أن هذا العبد ملكه لا تسمع لأن القضاء بالعتق قضاء على جميع الناس بخلاف الوقف. قال الصدر الشهيد: لم نر لهذا رواية لكن سمعت أن فتوى السيد الإمام أبي شجاع على هذا. وفي فوائد شمس الأئمة الحلواني وركن الاسلام على السغدي أن الوقف كالعتق في عدم سماع الدعوى بعد قضاء القاضي بالوقفية لأن الوقف بعد ما صح بشرائطه لا يبطل إلا في مواضع مخصوصة وهكذا في النوازل اه. وذكر القولين في جامع الفصولين: وهل يقدم الخارج على ذي اليد ولا ترجيح
321 للوقف على الملك أو لا؟ قال في جامع الفصولين: ومتول ذو يد لو برهن على الوقف فبرهن الخارج على الملك يحكم بالملك للخارج فلو برهن المتولي بعده على الوقف لا تسمع لأن المتولي صار مقضيا عليه مع من يدعي تلقي الوقف من جهته. وعند أبي يوسف تقبل بينة ذي اليد على الوقف ولا تقبل بينة الخارج على الملك كمن ادعى قنا وقال ذو اليد هو ملكي وحررته فإنه يقضي ببينة ذي اليد وفاقا وبقولهما يفتى اه. فقد علمت أن المفتى به تقديم الخارج وفيه: ادعى ملكا في دار بيد متول يقول وقفه زيد على مسجد كذا وحكم به للمدعي، فلو ادعى متول آخر على هذا المدعي أنه وقف على مسجد كذا من جهة بكر تقبل إذ المقضي عليه هو زيد الواقف لا مطلق الواقف اه. والحاصل أن القضاء بالوقفية ليس قضاء على الكافة على المعتمد فتسمع الدعوى من غير المقضي عليه، وأما القضاء بالحرية فقضاء على الكافة فلا تسمع الدعوى بعده بالملك لاحد، ولا فرق بين الحرية الأصلية والعارضية بالاعتاق بأن شهدوا بإعتاقه وهو يملكه، صرح به قاضيخان. وأما القضاء بالملك فليس على الكافة بلا شبهة. وفي الفتاوى الصغرى من فصل دعوى النكاح: إذا قضى القاضي لانسان بنكاح امرأة أو بنسب أو بولاء عتاقة ثم ادعاه الآخر لا تسمع اه. فعلى هذا القضاء الذي يكون على الكافة في أربعة أشياء وسيأتي تمامه إن شاء الله تعالى في الدعوى. وفي القنية: دار في يد رجل أقام رجل بينة أنها وقفت عليه وأقام قيم المسجد بينة أنها وقف على المسجد فإن أرخا فهي للسابق منهما وإن لم يؤرخا فهي بينهما نصفان اه. وقد ذكر المصنف رحمه الله للزومه طريقا واحدة وهي القضاء فظاهره أنه لا يلزم لو علقه بموته. قال في الهداية قال في الكتاب: لا يزول ملك الواقف عن الوقف حتى يحكم به الحاكم أو يعلقه بموته، وهذا في حكم الحاكم صحيح لأنه قضاء في فصل مجتهد فيه، أما في تعليقه بالموت فالصحيح أنه لا يزول ملكه إلا أنه تصدق بمنافعه مؤبدا فيصير بمنزلة الوصية بالمنافع مؤبدا فيلزمه اه. والحاصل أنه إذا علقه بموته كما إذا قال إذا مت فقد وقفت داري على كذا فالصحيح أنه وصية لازمة لكن لم تخرج عن ملكه فلا يتصور التصرف فيه ببيع ونحوه بعد موته لما يلزم من إبطال الوصية، وله أن يرجع قبل موته كسائر الوصايا. وإنما يلزم بعد موته وإنما لم يكن وقفا لما قدمنا من أنه لا يقبل التعليق بالشرط، وكذا إذا قال إذا مت من مرضي هذا فقد وقفت أرضي على كذا فمات لم تصر وقفا وله أن يبيعها قبل الموت بخلاف ما إذا قال إذا مت فاجعلوها وقفا فإنه يجوز لأنه تعليق التوكيل لا تعليق الوقف نفسه، وهذا لأن الوقف بمنزلة تمليك الهبة من الموقوف عليه والتمليكات غير الوصية لا تتعلق بالخطر. ونص محمد في السير الكبير أن الوقف إذا أضيف إلى ما بعد الموت يكون باطلا أيضا عند أبي حنيفة وعلى ما عرفت
322 بأن صحته إذا أضيف إلى ما بعد الموت يكون باعتباره وصية. وفي المحيط: لو قال إن مت من مرضي هذا فقد وقفت أرضي هذه لا يصح الوقف برئ أو مات لأنه تعليق. وفي الخانية: لو قال أرضي بعد موتي موقوفة سنة جاز وتصير الأرض موقوفة أبدا لأنه في معنى الوصية بخلاف ما إذا لم يضف إلى ما بعد الموت بأن قال أرضي موقوفة سنة لأن ذاك ليس بوصية بل هو محض تعليق أو إضافة، فالحاصل أن على قول هلال إذا شرط في الوقف شرطا يمنع التأبيد لا يصح الوقف اه. وفي التبيين: لو علق الوقف بموته ثم مات صح ولزم إذا خرج من الثلث لأن الوصية بالمعدوم جائزة كالوصية بالمنافع ويكون ملك الواقف باقيا فيه حكما يتصدق منه دائما، وإن لم يخرج من الثلث يجوز بقدر الثلث ويبقى الباقي إلى أن يظهر له مال أو تجيز الورثة، فإن لم يظهر له مال ولم تجز الورثة تقسم الغلة بينهما أثلاثا ثلاثة للوقف وثلثاه للورثة اه. قال الإمام السرخسي: إذا خاف الواقف إبطال وقفه فللتحرز عنه طريقان: إحداهما القضاء، والثاني أن يذكر الواقف بعد الوقف والتسليم، فإن أبطله قاض بوجه من الوجوه فهذه الأرض بأصلها وجميع ما فيها وصية من فلان الواقف تباع ويتصدق بثمنها على الفقراء، ومتى فعل ينبرم الوقف لأن أحدا من الورثة لا يسعى في إبطاله لأن سعيه حينئذ يعرى عن الفائدة للزوم التصدق بها أو بثمنها. قال شمس الأئمة: والذي جرى به الرسم في زماننا أنهم يكتبون إقرار الواقف أن قاضيا من قضاة المسلمين قضى بلزوم هذا الوقف فذاك ليس بشئ ولا يحصل به المقصود لأن إقراره لا يصير حجة على القاضي الذي يريد إبطاله ولو لم يكن القاضي قضى بلزوم الوقف فإقراره يكون كذبا محضا ولا رخصة في الكذب وبه لا يتم المقصود، ومن المتأخرين من مشايخنا من قال: إذا كتب في آخر الصك وقد قضى بصحة هذا الوقف ولزومه قاض من قضاة المسلمين ولم يسم القاضي يجوز. وتمسك هذا القائل بقول محمد في الكتاب: إذا خاف الواقف أن يبطله القاضي فإنه يكتب في صك الوقف أن حاكما من حكام المسلمين قضى بلزوم هذا الوقف ولم يذكر الكتاب اسم القاضي ونسبه ومتى علم بتاريخ الوقف يصير القاضي في ذلك الزمان معلوما، كذا في الظهيرية، وقد وسع في ذلك قاضيخان أيضا. وقيد زوال الملك بالقضاء ليفيد عدمه قبله وهو قول
323 الإمام لكن قيل لا يجوز الوقف عنده أصلا كما صرح به في الأصل لأن المنفعة معدومة والتصدق بالمعدوم لا يصح، والأصح أنه جائز عنده إلا أنه غير لازم بمنزلة العارية، كذا في الهداية وغيرها. وفي فتح القدير: وإذا لم يزل عند أبي حنيفة قبل الحكم يكون موجب القول المذكور حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة. ولفظ حبس إلى آخره لا معنى له لأن له بيعه متى شاء وملكه مستمر فيه كما لو لم يتصدق بالمنفعة فلم يحدث الواقف إلا مشيئة التصدق بمنفعته، وله أن يترك ذلك متى شاء. وهذا القدر كان ثابتا قبل الوقف بلا ذكر لفظ الوقف فلم يفد الوقف شيئا وهذا معنى ما ذكر في المبسوط من قوله كان أبو حنيفة لا يجيز الوقف. وحينئذ فقول من أخذ بظاهر هذا اللفظ فقال الوقف عند أبي حنيفة لا يجوز صحيح لأنه ظهر أنه لم يثبت به قبل الحكم حكم لم يكن، وإذا لم يكن له أثر زائد على ما كان قبله كان كالمعدوم، والجواز والنفاذ والصحة فرع اعتبار الوجود ومعلوم أن قوله لا يجوز ولا يجيز ليس المراد التلفظ بلفظ الوقف بل لا يجيز الأحكام التي ذكر غيره أنها أحكام ذكر الوقف فلا خلاف إذا، فأبو حنيفة قال لا يجوز الوقف أي لا تثبت الأحكام التي ذكرت له إلا أن يحكم به حاكم. وقوله بمنزلة العارية لأنه ليس له حقيقة العارية لأنه إن لم يسلمه إلى غيره فظاهر، وإن أخرجه إلى غيره فذلك الغير ليس هو المستوفي لمنافعه اه. وفيه نظر لأن قوله لم يفد الوقف شيئا غير صحيح لأنه يصح الحكم به ولولا صحته الوقف لم يصح الحكم به ويحل للفقير أن يأكل منه ولولا صحته لم يحل، وثياب الواقف عليه ولولا صحته ما أثيب فكيف يقال لم يفد شيئا؟ وفي البزازية: معنى الجواز جواز صرف الغلة إلى تلك الجهة ويتبع شرطه ويصح نصب المتولي عليه فإذا أثبتت هذه الأحكام كيف يقال لم يفد شيئا أو أنه لم يثبت به حكم لم يكن. وقوله من أخذ بظاهر اللفظ إلى آخره ليس بصحيح لأن ظاهره عدم الصحة ولم يقل به أحد وإلا لزم أن لا يصح الحكم به ولذا رد شمس الأئمة على من ظن أنه غير جائز عنده أخذا فمن ظاهر المبسوط قال: وإنما المراد أنه غير لازم كما في الظهيرية. والحاصل أنه لا خلاف في صحته وإنما الخلاف في لزومه فقال بعدمه وقالا به فلا يباع ولا يورث ولفظ الواقف ينتظمهما والترجيح بالدليل. وقد أكثر الخصاف من الاستدلال لهما بوقوف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وقد كان أبو يوسف مع الإمام حتى حج مع الرشيد ورأي وقوف الصحابة رضي الله عنهم بالمدينة ونواحيها رجع وأفتى بلزومه. ولقد استبعد محمد قول أبي حنيفة في الكتاب لهذا وسماه تحكما على الناس من غير حجة وقال:
324 ما أخذ الناس بقول أبي حنيفة وأصحابه إلا لتركهم التحكم على الناس، ولو جاز تقليد أبي حنيفة في هذا لكان من مضى قبيل أبي حنيفة مثل الحسن البصري وإبراهيم النخعي أحرى أن يقلدوا، ولم يحمد محمد على ما قال بسبب أستاذه، وقيل بسبب ذلك انقطع خاطره فلم يتمكن من تفريع مسائل الوقف كالخصاف وهلال، ولو كان أبو حنيفة في الاحياء حين ما قال لزأم عليه فإنه كما قال مالك في أبي حنيفة: رأيت رجلا لو قال هذه الأسطوانة من ذهب لدل عليه ولكن كل مجر بالخلا يسر، كذا في الظهيرية. والحاصل أن المشايخ رجحوا قولهما وقال الفتوى عليه. وفي فتح القدير: إنه الحق، ولا يبعد أن يكون إجماع الصحابة ومن مر بعدهم رضي الله عنهم متوارثا على خلاف قوله. وفي الهداية: ولو وقف في مرض موته قال الطحاوي: هو بمنزلة الوصية بعد الموت والصحيح أنه لا يلزم عند أبي حنيفة، وعندهما يلزم إلا أنه يعتبر من الثلث والوقف في الصحة من جميع المال اه. وفي الظهيرية: امرأة وقفت منزلا في مرضها على بناتها ثم من بعدهن على أولادهن وأولاد أولادهن أبدا ما تناسلوا فإذا انقرضوا فللفقراء ثم ماتت من مرضها وخلفت من الورثة بنتين وأختا لأب والأخت لا ترضى بما صنعت ولا مال لها سوى المنزل، جاز الوقف في الثلث ولم يجز في الثلثين فيقسم الثلثان بين الورثة على قدر سهامهم ويوقف الثلث، فما خرج من غلته قسم بين الورثة كلهم على قدر سهامهم ما عاشت البنتان، فإذا ماتتا صرفت الغلة إلى أولادهما وأولاد أولادهما كما شرط الواقفة لا حق للورثة في ذلك. رجل وقف دارا له في مرضه على ثلاث بنات له وليس له وارث غيرهن قال الثلث من الدار وقف والثلثان مطلق له يصنعن بهما ما شئن. قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا لم يجزن، أما إذا أجزن صار الكل وقفا عليهن اه. والحاصل أن المريض إذا وقف على بعض ورثته ثم من بعدهم على أولادهم ثم على الفقراء، فإن أجاز الوارث الآخر كان الكل وقفا واتبع الشرط وإلا كان الثلثان ملكا بين الرثة والثلث وقفا مع أن الوصية للبعض لا تنفذ في شئ لأنه لم يتمحض للوارث لأنه بعده لغيره فاعتبر الغير بالنظر إلى الثلث، واعتبر الوارث بالنظر إلى غلة الثلث الذي صار وقفا فلا يتبع الشرط ما دام الوارث حيا، وإنما تقسم غلة هذا الثلث بين الورثة على فرائض الله تعالى، فإذا انقرض الوارث الموقوف عليه اعتبر شرطه في غلة الثلث. وإن وقف على غير الورثة ولم يجيزوا كان
325 الثلث وقفا واعتبر شرطه فيه والثلثان ملك، فلو باع الوارث الثلثين قبل ظهور مال آخر ثم ظهر لم يبطل البيع ويغرم القيمة فيشتري بذلك أرضا وتجعل وقفا على جهة الأول، كذا في البزازية. وفيها: قال أرضي هذه صدقة موقوفة على ابني فلان فإن مات فعلى ولدي وولد ولدي ونسلي ولم تجز الورثة فهي إرث بين كل الورثة ما دام الابن الموقوف عليه حيا فإن مات صار كلها للنسل اه. وهي عبارة غير صحيحة لما قدمنا عن الظهيرية أن الثلثين ملك والثلث وقف وأن غلة الثلث تقسم على الورثة ما دام الوارث الموقوف عليه حيا. ويدل عليه أيضا ما ذكره في البزازية بعده وقف أرضه في مرضه على ولده وولد ولده ولا مال له سواه فثلثها وقف على ولد الولد بلا توقف على إجازة الورثة والثلثان للورثة إن لم يجيزوا، وإن أجازوا كان بين الصلبي وولد الولد على السواء. وقف أرضه في مرضه وهي تخرج من الثلث فتلف المال قبل موته وصار لا يخرج من الثلث أو تلف المال بعد موته قبل أن يصل إلى الورثة فثلثها وقف وثلثاها للورثة. وقف أرضه في مرضه على بعض ورثته، فإن أجاز الورثة فهو كما قالوا في الوصية لبعض ورثته وإلا فإن كانت تخرج من الثلث صارت الأرض وقفا، وإن لم تخرج فمقدار ما يخرج من الثلث يصير وقفا ثم تقسم جميع غلة الأرض ما جاز فيه الوقف وما لم يجز على فرائض الله تعالى ما دام الموقوف عليه أو أحدهم في الاحياء، فإذا انقرضوا كلهم تصرف غلة الأرض إلى الفقراء إن لم يوص الواقف إلى واحد من الورثة، ولو مات أحد منهم من الموقوف عليهم من الورثة وبقي الآخرون فإن الميت في قسمة الغلة ما دام الموقوف عليهم أحياء يجعل كأنه حي فيقسم ثم يجعل سهمه ميراثا لورثته الذين لا حصة لهم من الوقف اه. ثم اعلم أنه لو وقفها في مرض موته ولا وارث له إلا زوجته ولم تجز ينبغي أن يكون
326 لها السدس والخمسة الأسداس تكون وقفا لما في البزازية من كتاب الوصايا: مات ولم يدع إلا امرأة واحدة وأوصى بكل ماله لرجل إن أجازت فكل المال له وإلا فالسدس لها وخمسة الأسداس له لأن الموصى له يأخذ الثلث أولا، بقي أربعة تأخذ الربع والثلاثة الباقية للموصى له فحصل له خمسة من ستة اه. ولا شك الوقف في مرض الموت وصية. وفي المحيط: وقف المريض على أربعة أوجه: الأول أن يقف على الفقراء فإن خرج من الثلث جاز في الجميع وإلا فإن أجاز الورثة جاز في الكل وإلا جاز في الثلث. الثاني لو وقف على وارث بعينه ولم يخرج من الثلث فإن لم يجيزوا جاز في الثلث. وذكر هلال والخصاف تقسم جميع غلة الأرض بين الورثة على فرائض الله تعالى ولا يعطى للفقراء شئ ما دام الموقوف عليه حيا، فإذا مات صرف للفقراء، فإن كان يخرج من الثلث يكون الكل للفقراء وإلا فلهم بقدر ما يخرج من الثلث لأن هذا وقف على الفقراء بعد موت الوارث لا قبله فما دام الوارث حيا لا يكون وقفا على الفقراء فلا يكون لهم حق في تلك الغلة، والوصية للوارث قد بطلت فيقسم الكل بينهم بالسوية، وقال بعضهم: يعطى حصة الوقف من الغلة للفقراء للحال ولا يكون للورثة منها شئ لأن الوقف حصل على الفقراء للحال لأن هذا الوقف وصية بالغلة للوارث فإذا لم يجز الباقون بطلت الوصية للوارث فبقي هذا وقفا على الفقراء، فأما إذا أجاز الورثة قيل تكون حصة الوقف للفقراء للحال، وقيل مقدار الثلث للفقراء وما وراء الثلث للموقوف عليه ما دام حيا، فإذا مات رجع إلى الورثة. والثالث لو وقف على المحتاجين من ولده ونسله ثم على الفقراء فإن كان الأولاد والنسل كلهم أغنياء فالغلة للفقراء، وإن كانوا كلهم فقراء أو كان في كل فريق بعضهم فقراء فإنه تقسم الغلة بينهم وبين فقراء الفريقين بالسوية، فما
327 أصاب الفقراء من أولاد الصلب قسم بين الأغنياء والفقراء على فرائض الله تعالى، وما أصاب الفقراء من النسل قسم بينهم بالسوية دون الأغنياء منهم. وإن كان أولاد الصلب كلهم أغنياء ونسله فقراء فالغلة كلها للنسل بينهم بالسوية، وإن كان ذلك على العكس أو بعض أولاد الصلب فقراء فالغلة كلها لأولاد الصلب تقسم بينهم على فرائض الله تعالى لأن ما أصاب النسل أصابوا على سبيل الوصية لأنهم لا يكونوا ورثة فيكون بينهم بالسوية، وما أصاب الأولاد بطريق الإرث إذ لا وصية للوارث فيكون بينهم على قدر مواريثهم، والرابع لو أوصى بأن توقف أرضه بعد موته على فقراء المسلمين فإن خرجت من الثلث أو لم تخرج ولكن أجازت الورثة فإنها توقف كلها، وإن لم يجيزوا فمقدار الثلث يوقف اعتبارا للبعض بالكل، وإن خرجت كلها من ثلثه وفيها نخل فأثمرت بعد الموت قبل وقف الأرض دخلت الثمرة في الوقف لأنها خرجت من أصل مشغول بحق الموقوف عليهم، وإن أثمرت قبل الموت فتلك الثمر تكون ميراثا اه. وتمامه في الاسعاف مع بيان حكم إقرار المريض بالوقف. قوله: (ولا يتم حتى يقبض ويفرز ويجعل آخره لجهة لا تنقطع) بيان لشرائطه الخاصة على قول محمد وقد مشى المؤلف أولا على قول أبي حنيفة من عدم لزومه إلا بالقضاء وثانيا في الشرائط على قول محمد وهو مما لا ينبغي لأن الفتوى على قولهما في لزومه بلا قضاء كما قدمنا، وإذا لزم عندهما فإنه يلزم بمجرد القول عند أبي يوسف بمنزلة الاعتاق بجامع إسقاط الملك، وعند محمد لا بد من التسليم إلى المتولي والافراز والتأبيد. أما الأول فلان حق الله تعالى إنما يثبت فيه في ضمن التسلم إلى العبد لأن التمليك إلى الله تعالى وهو مالك الأشياء لا يتحقق مقصودا وقد يكون تبعا لغيره فيأخذه حكمه فينزل منزلة الزكاة والصدقة. فلو قال هذه الشجرة للمسجد لا تكون له ما لم يسلمها إلى قيم المسجد عند محمد خلافا لأبي يوسف. وفي الخلاصة: ومشايخ بلخ يفتون بقول أبي يوسف. وقال الصدر الشهيد: والفتوى على قول محمد. وفي شرح المجمع: أكثر فقهاء الأمصار أخذوا أخذ بقول محمد والفتوى عليه. وفي فتح القدير: وقول أبي يوسف أوجه عند المحققين. وفي المنية: الفتوى على قول أبي يوسف. وهذا قول مشايخ بلخ، وأما البخاريون فأخذوا بقول محمد. وفي المبسوط: كان القاضي أبو عاصم يقول: قول أبي يوسف من حيث المعنى أقوى إلا أنه قال: وقول محمد أقرب إلى موافقة الآثار يعني ما روي أن عمر رضي الله عنه جعل وقفه في يد حفصة وغير ذلك. ورده في المبسوط بأنه لا يلزم كونه ليتم الوقف بل لشغله وخوف التقصير إلى آخره. وفي البزازية: والإمام الثاني في قوله الأول ضيق ثم وسع كل التوسع حتى قال يتم بقوله وقفت ومشايخ
328 خوارزم أخذوا بقوله على ما حكاه نجم الزاهد في شرحه للمختصر ومحمد توسط وبقوله أخذ عامة المشايخ على ما حكاه في الفتاوي اه. فالحاصل أن الترجيح قد اختلف والاخذ بقول أبي يوسف أحوط وأسهل ولذا قال في المحيط. ومشايخنا أخذوا بقول أبي يوسف ترغيبا للناس في الوقف. ويبتني على هذا الخلاف مسائل: الأولى لو عزل الواقف القيم وأخرجه إلى غيره بلا شرط أن له ذلك قال محمد: لا ينعزل والولاية للقيم. الثانية لو مات وله وصي فلا ولاية لوصيه والولاية للقيم. الثالثة لو تولاه الواقف بنفسه لا يملك ذلك. وقال أبو يوسف: الولاية للواقف وله أن يعزل القيم في حياته ويولي غيره أو يرد النظر إلى نفسه، وإذا مات الواقف بطل ولاية القيم عنده لأنه بمنزلة وكيله، وأما إذا جعله قيما في حياته وبعد موته فإنه لا ينعزل بموته اتفاقا، وكذا لو شرط الولاية في عزل القوام والاستبدال بهم لنفسه أو لأولاده وأخرجه من يده وسلمه إلى المتولي فإنه جائز اتفاقا: نص عليه في السير الكبير لأن هذا شرط لا يخل بشرائط الواقف. وفي الخلاصة: إذا شرط الواقف أن يكون هو المتولي فعند أبي يوسف الوقف والشرط كلاهما صحيحان، وعند محمد وهلال الوقف والشرط باطلان اه. وسيأتي آخر الباب ما يتعلق بالمتولي نصبا وتصرفا. وأما الثاني أعني اشتراط الافراز فقد علمت أنه قول محمد فلا يجوز وقف المشاع. وقال أبو يوسف: هو جائز وهو مبني على الشرط الأول لأن القسمة من تمام القبض فمن شرطه لم يجوز وقف المشاع ومن لم يشترطه جوزه والخلاف فيما يحتمل القسمة، أما ما لا يحتمل القسمة فهو جائز اتفاقا اعتبارا عند محمد بالهبة والصدقة المنفذة إلا في المسجد والمقبرة فإنه لا يتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة عند أبي يوسف أيضا لأن بقاء الشركة يمنع الخلوص لله تعالى، ولان المهايأة في هذا في غاية القبح بأن يقبر فيها الموتى سنة وتزرع سنة ويصلى لله فيه في وقت ويتخذ اصطبلا في وقت بخلاف الوقف لامكان الاستغلال. والحاصل أن وقف المشاع مسجدا أو مقبرة غير جائز مطلقا اتفاقا، وفي غيرهما إن كان مما لا يحتمل القسمة جاز اتفاقا. والخلاف فيما يحتملها، ومن أخذ بقول أبي يوسف في خروجه بمجرد اللفظ وهم مشايخ بلخ أخذ بقوله في هذه، ومن أخذ بقول محمد في القبض وهو مشايخ بخاري أخذ بقوله في وقف المشاع. وصرح في الخلاصة من الإجارة والوقف بأن الفتوى على قول محمد في وقف المشاع وكذا في البزازية والولوالجية وشرح المجمع لابن الملك. وفي التجنيس: وبقوله يفتي. وتبعه في غاية البيان وسيأتي بيان ما إذا قضى بجوازه. وفي الخلاصة: وإذا وقف أحد الشريكين نصيبه المشاع على قول أبي يوسف ثم اقتسما فوقع نصيب الواقف في موضع لا يجب عليه أن يقفه ثانيا لأن القسمة تعين الموقوف، وإذا أراد الاجتناب عن الخلاف
329 يقف المقسوم ثانيا، ولو كان الأرض له فوقف نصفها ثم أراد القسمة فالوجه في ذلك أن يبيع ما بقي ثم يقتسمان، وإن لم يبع ورفع إلى القاضي ليأمر إنسانا بالقسمة معه جاز، كذا في الخلاصة أيضا. وفيها: حانوت بين اثنين وقف أحدهما نصيبه وأراد أن يضرب لوح الوقف على بابه فمنعه الشريك الآخر ليس له الضرب إلا إذا أمره القاضي بذلك وهذا قول أبي يوسف، أما على قول محمد فلا يتأتى هذا. وفي الظهيرية: ولو كانت له أرضون ودور بينه وبين آخر فوقف نصيبه ثم أراد أن يقاسم شريكه ويجمع الوقف كله في أرض واحدة ودار واحدة فإنه جائز في قياس قول أبي يوسف وهلال، وإذا قاسم الواقف شريكه وبينهما دراهم فإن كان الواقف هو الذي أعطى الدراهم جاز لأنه في حصة الوقف قاسم شريكه واشترى أيضا ما لم يقف من نصيب شريكه فجاز ذلك كله، ثم حصة الوقف للواقف وما اشتراه بالدراهم فذلك له وليس بوقف اه. ولو وقف جميع أرضه ثم استحق جزء منه بطل في الباقي عند محمد لأن الشيوع مقارن كما في الهبة بخلاف ما إذا رجع الواهب في البعض أو رجع الوارث في الثلثين بعد موت المريض وقد وهب أو وقف في مرضه وفي المال ضيق لأن الشيوع في ذلك طار، ولو استحق جزء مميز بعينه لم يبطل في الباقي لعدم الشيوع ولهذا جاز في الابتداء، وعلى هذا الهبة والصدقة المملوكة، كذا في الهداية. ولو كانت الأرض بين رجلين فوقفاها على بعض الوجوه ودفعاها إلى وال يقوم عليها كان ذلك جائزا عند محمد لأن المانع من تمام الصدقة شيوع في المحل المتصدق به ولا شيوع هنا لأن الكل صدقة. غاية الأمر أن ذلك مع كثرة المتصدقين والقبض من الوالي في الكل وجد جملة واحدة فهو كما لو تصدق بها رجل واحد بخلاف ما لو وقف كل منهما نصفها شائعا على حدة وجعل لها واليا على حدة لا يجوز لأنهما صدقتان، ولو وقف كل منهما نصيبه وجعلا الوالي فسلماها إليه جميعا جاز لأن تمامها بالقبض والقبض يجتمع، كذا في فتح القدير. والمشاع غير المقسوم من شاع يشيع شيعا وشيوعا ومشاعا، كذا في القاموس. وأما الثالث وهو أن يجعل آخره لجهة لا تنقطع فهو قولهما. وقال أبو يوسف: إذا سمى فيه جهة تنقطع جاز وصار بعدها للفقراء، ولو لم يسمهم لهما أن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك وأنه يتأبد كالعتق، وإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها لا يتوفر عليه مقتضاه ولهذا كان التوقيت مبطلا له كالتوقيت في البيع. ولأبي يوسف أن المقصود هو التقرب إلى الله تعالى وهو موفر عليه لأن التقرب تارة يكون بالصرف إلى جهة تنقطع ومرة بالصرف إلى جهة تتأبد فصح في الوجهين. وقيل: التأبيد شرط بالاجماع إلا أن عند أبي يوسف لا يشترط ذكر التأبيد لأن لفظة الوقف والصدقة منبئة عنه لما بينا أنه إزالة الملك بدون التمليك كالعتق ولهذا قال في الكتاب في بيان قوله وصار بعدها للفقراء وإن لم يسمهم:
330 وهذا هو الصحيح. وعند محمد ذكر التأبيد شرط لأن هذا صدقة بالمنفعة وبالغلة وذلك قد يكون موقتا فمطلقه لا ينصرف إلى التأبيد فلا بد من التنصيص، كذا في الهداية. والحاصل أن عن أبي يوسف في التأبيد روايتين: في رواية لا بد منه وذكره ليس بشرط وصححه، وفي رواية ليس بشرط. وتفرع على الروايتين ما لو وقف على إنسان بعينه أو عليه وعلى أولاده أو على قرابته وهم يحصون أو على أمهات أولاده فمات الموقوف عليه، فعلى الأول يعود إلى ورثة الواقف. قال الناطفي في الأجناس: وعليه الفتوى. وعلى الثاني تصرف إلى الفقراء وهي رواية البرامكة، كذا في فتح القدير. وظاهر ما في المجتبى والخلاصة أن الروايتين عنه فيما إذا ذكر لفظ الصدقة، أما إذا ذكر لفظ الوقف فقط فلا يجوز اتفاقا إذا كان الموقوف عليه معينا
331 ثم قال: متى ذكر موضع الحاجة على وجه يتأبد يكفيه عن ذكر الصدقة، وكذا على أبناء السبيل أو الزمني ويكون للفقراء منهم. وفي الخلاصة والبزازية قال أبو حنيفة: إذا وقف مالا لبناء القناطر أو لاصلاح الطريق أو لحفر القبور أو لاتخاذ السقايات أو لشراء الأكفان لفقراء المسلمين لا يجوز بخلاف الوقف للمساجد لجريان العادة بالثاني دون الأول. وقف على فقراء مكة أو فقراء قرية معروفة إن كانوا لا يحصون يجوز في الحياة وبعد الممات لأنه مؤبد، وإن كانوا يحصون يجوز بعد الموت لأنه وصية والوصية لقوم يحصون تجوز حتى إذا انقرضوا صار ميراثا منهم، وإن كان في الحياة لا يجوز وقف أرضه على عمارة مصاحف موقوفة لا يصح لأنه لا عرف فيه. وقف على أمهات أولاده وعبيده فالوقف باطل في قول هلال. وفي الفتاوى: وقف على أمهات أولاده إلا من تزوج فلا شئ لها، فإن طلقها زوجها لا يعود حقها الساقط إلا إذا كان الواقف استثنى وقال من طلقت فلها أيضا قسط من الوقف. وذكر الخصاف: قال أرضي هذه صدقة موقوفة لله تعالى على الناس أو على بني آدم أو على أهل بغداد أبدا فإذا انقرضوا فعلى المساكين أو على العميان أو على الزمني فالوقف باطل. وذكر الخصاف في موضع آخر مسألة العميان والزمني وقال: الغلة للمساكين لا لهما. ولو وقف على قراء القرآن والفقراء فالوقف باطل. وذكر هلال الوقف على الزمني المنقطعين صحيح. وقال المشايخ: الوقف على معلم المسجد الذي يعلم الصبيان غير صحيح. وقيل: يصح لأن الفقر غالب فيهم. قال شمس الأئمة: فعلى هذا إذا وقف على طلبة علم بلدة كذا يجوز لأن الفقر غالب فيهم فكان الاسم منبئا عن الحاجة. والحاصل أنه متى ذكر مصرفا فيه نص على الفقراء والحاجة فالوقف صحيح يحصون أم لا. وقوله يحصون إشارة إلى أن التأبيد ليس بشرط ومتى ذكر مصرفا يستوي فيه الغني والفقير إن كانوا يحصون صح بطريق التمليك، وإن كانوا لا يحصون فهو باطل إلا أن يكون في لفظه ما يدل على الحاجة كاليتامى فحينئذ إن كانوا يحصون فالأغنياء والفقراء سواء، وإن لا يحصون فالوقف صحيح ويصرف إلى فقرائهم لا إلى أغنيائهم، وكذا لو وقف على الزمني فهو على فقرائهم. وفي الفتاوي: لو وقف على
332 الجهاد والغزو أو في أكفان الموتى أو حفر القبور يفتى بالجواز، وهذا على خلاف ما تقدم. ولو وقف على أبناء السبيل يجوز ويصرف إلى فقرائهم. وقف على أصحاب الحديث لا يدخل فيه شفعوي المذهب إذا لم يكن في طلب الحديث ويدخل الحنفي إذا كان في طلبه. وذكر بكر أن الوقف على أقرباء سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين يجوز وإن كان لا يجوز الصدقة عليهم. وفي الفتاوى أنه لا يجوز ولا يصير وقفا لعدم جواز صرف الصدقة لبني هاشم لكن في جواز الوقف وصدقة النفل عليهم روايتان. الوقف على الصوفية وصوفي خانه لا يجوز. قال شمس الأئمة: يجوز على الصوفية اه. وفي الاسعاف: روي عن محمد أن ما لا يحصى عشرة. وعن أبي يوسف مائة وهو المأخوذ عند البعض، وقيل أربعون، وقيل ثمانون، والفتوى على أنه مفوض إلى رأي الحاكم اه. وفي الظهيرية: لو وقف على كل مؤذن وإمام في مسجد معين قال الشيخ إسماعيل الزاهد: لا تجوز لأنها قربة وقعت لغير معين وقد يكونان غنيين أو فقيرين، وإن كان المؤذن فقيرا لا يجوز أيضا، والحيلة أن يقول على كل مؤذن فقير بهذا المسجد أو المحلة فإذا خرب كان على الفقراء، ولو قال على كل مؤذن فقير لا يجوز للجهالة. ولو وقفه على ولد عبد الله ونسله فلم يقبلوا كانت الغلة للفقراء، ولو حدثت الغلة بعد ذلك فقبلوا كانت الغلة لهم، فإن أخذوها سنة ثم قالوا لا نقبل فليس لهم ذلك. قال الفقيه أبو جعفر: هذا الجواب يستقيم في حق الغلة المأخوذة لأنها صارت لهم فلا يملكون الرد، أما التي تحدث فلهم الرد لأنه لا ملك لهم فيها إنما الثابت لهم مجرد الحق ومجرد الحق يقبل الرد. وإن قال أقبل سنة ولا أقبل فيما سوى ذلك أو على العكس كان الامر كما قال. ولو قال أرضي هذه صدقة موقوفة على عبد الله فقال عبد الله لا أقبل فالوقف جائز والغلة للفقراء. ولو قال صدقة على ولد عبد الله ونسل فأبى رجل من ولده أن يقبل فالغلة لمن قبل منهم ويجعل من لم يقبل بمنزلة الميت، هكذا ذكر هلال والخصاف. ولو قال على زيد وعمرو ما عاشا ومن بعدهم على المساكين فأقل زيد قبلت وقال عمرو لا أقبل فلزيد نصف الغلة والنصف الآخر للمساكين. وعلى قياس ما قدمنا ذكره ينبغي أن تكون كل الغلة لزيد، ولكن الفرق بينهما أن نقول: إن فيما تقدم أوجب الوقف باسم الولد واسم الولد ينتظم الواحد فصاعدا فجاز الفرد الواحد استحقاق الكل ولا كذلك ما نحن فيه لأن اسم زيد
333 لا ينتظم المذكورين واسم المذكورين لا ينتظم زيدا فلا يكون لهذا استحقاق الكل وتمامه فيها. وفي المحيط: لا يجوز الوقف على الأغنياء وحدهم، ولو شرط بعدهم للفقراء جاز، ولو وقف على معين ولو يذكر آخره للفقراء فهو على ستة: الأول هذه صدقة لله أو موقوفة لله أو صدقة موقوفة لله تعالى صار وقفا على الفقراء ذكر الأبد أو لا. الثاني موقوفة صدقة على وجوه البر أو الخير أو اليتامى جاز مؤبدا كالفقراء. والثالث موقوفة على فلان بعينه أو على ولدي أو فقراء قرابتي لا يصير وقفا عند محمد ويصح عند أبي يوسف. والرابع صدقة موقوفة على فلان جاز عند الكل. الخامس وقف على المساكين جاز بلا ذكر الأبد. السادس على العمارة لمسجد بعينه ولم يذكر آخره للمساكين قيل عند محمد لا يجوز وعند أبي يوسف يجوز، وقيل يجوز اتفاقا وهو المختار لمكان العرف اه. قوله: (وصح وقف العقار ببقره واكرته) أما العقار منفردا فلان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وقفوه، وأما جواز وقف المنقول تبعا للعقار فإطلاق قول الإمام أنه لا يجوز وقف المنقول يمنعه كوقفه قصدا. وقال أبو يوسف: إذا وقف ضيعة ببقرها وأكرتها وهم عبيده جاز، وكذلك في سائر آلات الحراثة لأنها تبع للأرض في تحصيل ما هو المقصود، وقد يثبت من الحكم تبعا ما لا يحصل مقصودا كالشرب في البيع والبناء في الوقف ومحمد معه فيه لأنه لما جاز إفراد بعض المنقول بالوقف عنده فلان يجوز الوقف فيه تبعا أولى. والعقار الأرض مبنية كانت أو غير مبنية، كذا في فتح القدير: وفي القاموس: العقار الضيعة كالعقري بالضم ويدخل الشرب والطريق والمسيل والشجر والبناء في وقف الأرض بلا ذكر، ولا يدخل الزرع والرياحين والخلاف والآس والثمر والبقل والطرفاء وما في الأجمة من حطب والورد والياسمين وورق الحناء والقطن والباذنجان. وأما الأصول التي تبقى والشجر الذي لا يقطع إلا بعد عامين أو أكثر فإنها تدخل تبعا والبقر العبيد بلا ذكر. ولا تدخل الأشجار العظام والأبنية فيما إذا جعل أرضه أو داره مقبرة وتكون له ولورثته من بعده، ولو وقف أرضه بحقوقها وجميع ما فيها ومنها وعلى الشجرة ثمرة قائمة يوم الوقف، قال هلال في القياس: تكون الثمرة له ولا تدخل في الوقف، وفي الاستحسان يلزمه التصدق بها على الفقراء على وجه النذر لا على وجه الوقف. ولو وقف دارا
334 بجميع ما فيها وفيها حمامات يطرن أو بيتا وفيها كورات عسل يدخل الحمام والنحل تبعا للدار والعسل، كذا في الاسعاف. والحاصل أن الوقف كالبيع لا يدخل فيهما الزرع والثمر إلا بالذكر، وفي الاقرار بأرض في يده لرجل وفيها ثمرة قائمة كانت الثمرة للمقر له بالأرض إذا كانت متصلة بالأرض. وفي الهبة قال هلال: لا تدخل الثمرة في الهبة والهبة باطلة لمكان الشيوع. وقال أبو جعفر: وهذا الحكم في الهبة إنما عرف بقول هلال ليس فيها رواية ظاهرة عن أصحابنا، وفي رهن الأرض يدخل الشجر والكرم والبناء والزرع والثمر في قول أصحابنا ويجوز الرهن، كذا في الخانية. وفيها: لو وقفها بحقوقها فالثمرة التي تكون على الأشجار تدخل في الوقف وفي البيع لا تدخل، ولو قال بكل قليل وكثير تدخل في البيع اه. وفي الظهيرية: وقصب السكر لا يدخل، وشجر الورد والياسمين يدخل، الرحى تدخل في وقف الضيعة ورحى الماء ورحى اليد في ذلك سواء، وكذلك الدوالي تدخل والدواليب لا تدخل، وفي وقف الحمام تدخل قدور الحمام، وفي وقف الحانوت يدخل ما كان يدخل في بيعها وخوابي الدباسين وقدور الدباغين لا تدخل سواء كانت في البناء أو لم تكن اه. وفي المحيط: وقف أرضا فيها أشجار واستثنى الأشجار لا يجوز الوقف لأنه صار مستثنيا للأشجار بمواضعها فيصير الداخل تحت الوقف مجهولا اه. والأكرة - بفتح الهمزة والكاف - الحراثون من أكرت الأرض حرثتها واسم الفاعل أكار للمبالغة والجمع أكرة كأنه جمع آكر وزان كفرة جمع كافر، كذا في المصباح. وفي العناية: الاكرة جمع أكار وهو الزراع كأنها جمع آكر تقديرا. ولم يشترط المصنف لصحة وقف العقار تحديده وإنما الشرط كون الموقوف معلوما ولذا قال في الخلاصة: ولو قالا أشهدنا على أرضه أنه وقفها وهو فيها ولم يذكر لنا حدودها جازت شهادتهما لأنهما شهدا على وقف أرض بعينها إلا أنهما لا يعرفان جيران الحدود فلم يتمكن الخلل في شهادتهما، ولو شهدا على أن الواقف وقف أرضه وذكر حدودها ولكنا لا نعرف تلك الأرض في أنها في أي مكان جازت شهادتهما ويكلف المدعي إقامة البينة أن الأرض التي يدعيها هذه الأرض، ولو شهدا أنه وقف أرضه ولم يحددها لنا ولكنا نعرف أرضه لا تقبل شهادتهما لعل للواقف أرضا أخرى، وكذا لو قالا لا نعرف له أرضا أخرى لا تقبل شهادتهما لعل للواقف أرضا أخرى وهما لا يعلمان اه. وظاهر ما في فتح القدير اشتراط تحديدها فإنه قال: إذا كانت الدار مشهورة معروفة صح وقفها وإن لم تحدد استغناء بشهرتها عن تحديدها اه. ولا يخفى ما فيه إنما ذلك الشرط لقبول الشهادة بوقفيتها
335 كما قدمناه. وفي القنية: وقف ضيعة يذكر حدود المستثنيات من المقابر والطرقات والمساجد والحياض العامة، ثم رقم أنه لا بد من ذكر الحدود إن أمكن ثم رقم بأنه لا يصح الوقف بدون التحديد اه. وفي فتح القدير: وقف عقارا على مسجد أو مدرسة هيأ مكانا لبنائها قبل أن يبنيها، اختلف المتأخرون والصحيح الجواز وتصرف غلتها إلى الفقراء إلى أن تبنى، فإذا بنيت ردت إليها الغلة أخذا من الوقف على أولاد فلان ولا أولاد له حكموا بصحته وتصرف غلته إلى الفقراء إلى أن يولد لفلان اه. وقد أفاد المصنف أن العبيد يصح وقفهم تبعا للضيعة ولم يذكر أحكامهم في البقاء من التزويج والجناية وغيرهما، وحكمهم على العموم حكم الأرقاء فليس له أن يزوج بنته بلا إذن. وفي البزازية: ولو زوج الحاكم جارية الوقف جاز وعبده لا يجوز ولو من أمة الوقف لأنه يلزمه المهر والنفقة اه. وظاهره أن المتولي لا يملكه إلا بإذن القاضي ولا فرق بين القاضي والسلطان كما في الخلاصة. وفي الاسعاف: وإن جنى أحد منهم جناية فعلى المتولي ما هو الأصلح من الدفع أو الفداء. ولو فداه بأكثر من أرش الجناية كان متطوعا في الزائد فيضمنه من ماله، وإن فداه أهل الوقف كانوا متطوعين ويبقى العبد على ما كان عليه من العمل في الصدقة اه. وفي البزازية: وجناية عبد الوقف في مال الوقف، وأما حكم الجناية عليه ففي البزازية: قتل عبد الوقف عمدا لا قصاص عليه اه. ولا يخفى أنه إذا لم يجب القصاص تجب قيمته كما لو قتل خطأ ويشتري به المتولي عبدا ويصير وقفا كما لو قتل المدبر خطأ وأخذ المولي قيمته فإنه يشتري بها عبدا ويصير مدبرا، وقد صرح به في الذخيرة معزيا إلى الخصاف. وأما نفقته فمن مال الوقف وإن لم يشترطه الواقف. وفي الاسعاف: لو شرط نفقتهم من غلتها ثم مرض بعضهم يستحق النفقة إن قال على أن
336 يجري عليهم نفقاتهم من غلتها أبدا ما كانوا أحياء، وإن قال لعملهم فيها لا يجري شئ من الغلة على من تعطل منهم عن العمل، ولو باع العاجز واشترى بثمنه عبدا مكانه جاز اه. وقول المصنف أكرته دون عبيده فيه دليل على أن العبيد إنما يصح وقفهم تبعا للضيعة لأجل زراعتها. وكذا قوله في الهداية لأنه تبع للأرض في تحصيل ما هو المقصود يدل على أنه لو وقف دارا فيها عبد وجعل العبد تبعا لها لا يصح لأنه لا يصلح للتبعية لأن المقصود من الدار سكناها وهو يحصل بدون العبد بخلاف زراعة الأرض لا يحصل إلا بالحراثة، وأما وقف العبيد تبعا للمدرسة والرباط فسيأتي أن بعض المشايخ جوزه. وفي الولوالجية: رباط كثرت دوابه وعظمت مؤناتها هل للقيم أن يبيع شيئا منها وينفق ثمنها في علفها أو مرمة الرباط؟ فهذا على وجهين: إن صارت البعض منها إلى حد لا يصلح لما ربط له كذلك لأنه لا يمكنه إمساكها وحفظها، وإن لم تصر بهذه الحالة ليس له ذلك إلا أنه يمسك في هذا الرباط مقدار ما يحتاج إليها ويربط ما زاد على ذلك في أدنى الرباط اه. قوله: (ومشاع قضى بجوازه) أي وصح وقف المشاع إذا قضى بصحته لأنه قضاء في فصل مجتهد فيه ولا خلاف فيه، وإنما الخلاف فيما يحتمل القسمة قبل القضاء. أطلق القاضي فشمل الحنفي وغيره فإن للحنفي المقلد أن يحكم بصحة وقف المشاع وببطلانه لاختلاف الترجيح وإذا كان في المسألة قولان مصححان فإنه يجوز القضاء والافتاء بأحدهما كما صرحوا به. قوله: (ومنقول فيه تعامل) أي وصح وقف المنقول مقصودا إذا تعامل الناس وقفه، وأما الكراع والسلاح فلا خلاف فيه بين الشيخين وهو استحسان، والقياس أن لا يجوز لما بينا من قبل من أن التأبيد شرط وهو لا يتحقق فيه. وجه الاستحسان، الآثار المشهورة فيه منها قوله عليه السلام فأما خالد فقد حبس أدرعا له في سبيل الله تعالى، وطلحة حبس أدرعا له في سبيل الله تعالى ويروى كراعه. وفي المجتبى: والمراد من الكراع الخيل والحمير والبغال والإبل والثيران التي يحمل عليها، والمراد من السلاح ما يستعمل في الحرب ويكون معدا للقتال اه. وفي المصباح: درع الحديد مؤنثة في الأكثر ويصغر على دريع بغير هاء على قياس، ويجوز أن يكون التصغير على لغة من ذكر وربما قيل دريعة بالهاء وجمعها أدرع ودروع وأدراع. قال ابن الأثير: هي الزردية ذكره في الدال المهملة. وأما ما سوى الكراع والسلاح فعند أبي يوسف لا يجوز وقفه لأن
337 القياس إنما يترك بالنص والنص ورد فيهما فيقتصر عليه. وقال محمد: يجوز وقف ما فيه تعامل من المنقولات. واختاره أكثر فقهاء الأمصار وهو الصحيح كما في الاسعاف، وهو قول عامة المشايخ كما في الظهيرية لأن القياس قد يترك بالتعامل كما في الاستصناع. وقد حكى في المجتبى هذا الخلاف في المنقول على خلاف هذا وعزاه إلى السير فنقل قول محمد بجوازه مطلقا جرى التعارف به أولا، وقول أبي يوسف بجوازه إن جرى فيه تعامل اه. ومثل في الهداية ما فيه تعليل بالفأس والمر والمنشار والجنازة وثيابها والقدور والمراجل والمصاحف. قال: وعن نصير بن يحيى أنه وقف كتبه إلحاقا لها بالمصاحف وهذا صحيح لأن كل واحد يمسك للدين تعليما وتعلما وقراءة اه. وجوز الفقيه أبو الليث وقف الكتب وعليه الفتوى، كذا في النهاية. ولم يجوزه محمد بن سلمة وهو ضعيف. وفي الخلاصة: إذا وقف مصحفا على أهل مسجد لقراءة القرآن إن كانوا يحصون جاز، وإن وقف على المسجد جاز ويقرأ في ذلك المسجد وفي موضع آخر ولا يكون مقصورا على هذا المسجد اه. وذكر في التحرير في بحث الحقيقة أن التعامل هو الأكثر استعمالا فلذا اقتصر الإمام محمد على هذه الأشياء فخرج ما لا تعامل فيه كالثياب والحيوان والذهب والفضة ولو حليا لأن الوقف فيه لا يتأبد ولا بد منه بخلاف الكراع والسلاح لورود النص بهما وما ذكرناه للتعامل فبقي ما عدا ذلك على أصل القياس. وقد زاد بعض المشايخ أشياء من لمنقول على ما قاله محمد لما رأوا من جريان التعامل بها، ففي الخلاصة: وقف بقرة على أن ما يخرج من لبنها وسمنها يعطى لأبناء السبيل قال: إن كان ذلك في موضع غلب ذلك في أوقافهم رجوت أن يكون ذلك جائزا. وعن الأنصاري - وكان من أصحاب زفر - في من وقف الدراهم أو الدنانير أو الطعام أو ما
338 يكال أو يوزن أيجوز؟ قال: نعم. قيل: وكيف؟ قال: تدفع الدراهم مضاربة ثم يتصدق بها في الوجه الذي وقف عليه، وما يكال وما يوزن يباع ويدفع ثمنه مضاربة أو بضاعة. قال: فعلى هذا القياس إذا وقف هذا الكر من الحنطة على شرط أن يقرض للفقراء الذين لا بذر لهم ليزرعوه لأنفسهم ثم يؤخذ منهم بعد الادراك قدر القرض ثم يقرض لغيرهم من الفقراء أبدا على هذا السبيل يجب أن يكون جائزا قال: ومثل هذا كثير في الري وناحية دوبناوند والأكسية وأسترة الموتى إذا وقف صدقة أبدا جاز وتدفع الأكسية للفقراء فينتفعون بها في أوقات لبسها. ولو وقف ثورا لانزاء بقرهم لا يصح ثم إذا عرف جواز وقف الفرس والجمل في سبيل الله تعالى فلو وقفه على أن يمسكه ما دام حيا إن أمسكه للجهاد له ذلك لأنه لو لم يشترط كان له ذلك لأن لجاعل فرس السبيل أن يجاهد عليه، وإذا أراد أن ينتفع به في غير ذلك ليس له ذلك وصح جعله للسبيل يعني يبطل الشرط ويصح وقفه ولا يؤاجر فرس السبيل إلا إذا احتيج إلى نفقته فيؤاجر بقدر ما ينفق عليه. قال في الخلاصة: وهذا دليل على أن المسجد إذا احتاج إلى نفقة تؤاجر قطعة منه بقدر ما ينفق عليه اه. وهذا عندي غير صحيح لأنه يعود إلى القبح الذي لأجله استثنى أبو يوسف المسجد من وقف المشاع وهو أن يتخذ مسجدا يصلى فيه عاما واصطبلا تربط فيه الدواب عاما، ولو قال إنما يؤجر لغير ذلك فنقول غاية ما يكون للسكنى ويستلزم جواز المجامعة فيه وإقامة الحائض والجنب فيه، ولو قال لا يؤاجر لذلك فكل عمل يؤاجر له تغيير أحكامه الشرعية، ولا شك أن باحتياجه إلى النفقة لا تتغير أحكامه الشرعية ولا يخرج به عن أن يكون مسجدا، نعم إن خرب ما حوله واستغنى عنه فحينئذ لا يصير مسجدا عند محمد خلافا لأبي يوسف، وأما إذا لم يكن كذلك فتجب عمارته في بيت المال لأنه من حاجة المسلمين. وفي الخلاصة أيضا: يجوز وقف الغلمان والجواري على مصالح الرباط، كذا في فتح القدير. ولم يذكر وقف السفينة ولم أر من صرح بها، ولا شك في دخولها تحت المنقول الذي لا تعامل فيه فلا يجوز وقفها، وقد وقف بعضهم سفينة على مقام الشافعي فسألني عنه فأجبت بعدم الصحة بناء على هذا. وفي الظهيرية: وقف بستانا بما فيه من البقر والغنم والرقيق يجوز، ولو وقف دابة على رباط فخرب الرباط واستغنى الناس عنه فإنه تربط في أقرب الرباطات إليه. وفي القنية: وقف الأدوية بالتيمارخانة لا يجوز إذا لم يذكر الفقراء. بقي مسألتان: الأولى وقف البناء بدون
339 الأرض فجزم هلال بعدم الجواز ونقله في الخانية عن الأصل ثم قال: ولا يجوز وقف البناء في أرض هي عارية أو إجارة، وإن كانت ملكا لواقف البناء جاز عند البعض. وعن محمد: إذا كان البناء في أرض وقف جاز على الجهة التي تكون الأرض وقفا عليها اه. ويستثنى من الإجارة ما ذكر الخصاف من أن الأرض إذا كانت متقررة للاحتكار فإنه يجوز. والحاصل أن في وقف البناء وحده اختلافا إذا لم يكن موقوفا على الجهة التي وقفت الأرض عليها لما في الظهيرية: إذا كان أصل البقعة وقفا على جهة قربة فبنى عليها بناء ووقفه على جهة أخرى اختلفوا فيه، وأما إذا وقفه على الجهة التي كانت البقعة وقفا عليها جاز اتفاقا تبعا للبقعة اه. وفي الذخيرة: وقف البناء من غير وقف الأصل لم يجز وهو الصحيح لأنه منقول وقفه غير متعارف، وإذا كان أصل البقعة موقوفا على جهة قربة فبنى عليها بناء ووقف بناءها على جهة قربة أخرى اختلفوا فيه اه. وظاهره أن الصحيح عدم الجواز مطلقا، وقد نقلنا الاتفاق فيما إذا كانت الأرض وقفا وقف البناء على تلك الجهة فبقي ما عدا هذه الصورة داخلا تحت الصحيح وهو شامل لما إذا كانت الأرض ملكا أو وقفا على جهة أخرى. وقصره الطرسوسي في أنفع الوسائل على ما إذا كانت الأرض ملكا وليس بظاهر، واستخرج الطرسوسي جواز وقف بناء وضعه صاحبه على أرض وقف استأجرها ولو كان على جهة أخرى، وكذا لو بنى في الأرض الموقوفة المستأجرة مسجدا ووقفه لله تعالى أنه يجوز قال: وإذا جاز فعلى من يكون حكره الظاهر أنه يكون على المستأجر ما دامت المدة باقية، فإذا انقضت ينبغي أن يكون في بيت المال اه. وفي البزازية: وقف البناء بدون الأرض لم يجوزه هلال وهو الصحيح وعمل أئمة خوارزم على خلافه اه. وفي المجتبى: لا يجوز وقف البناء بدون الأصل هو المختار اه. وفي الفتاوى السراجية: سئل هل يجوز وقف البناء والغرس دون الأرض أجاب: الفتوى على صحة ذلك اه. وظاهره أنه لا فرق بين أن يكون الأرض ملكا أو وقفا. وفي القنية من كتاب الإجارات: يفتي برواية جواز استئجار البناء إذا كان منتفعا به كالجدرات مع السقف، وفي ظاهر الرواية لا يجوز لأنه لا ينتفع بالبناء وحده اه. وأما الحكر فقال المقريزي في الخطط: إن أصله المنع فقول أهل مصر حكر فلان يعنون به منع غيره من البناء اه. الثانية
340 وقف الشجر قال في الظهيرية: وإذا غرس شجرة ووقفها إن غرسها في أرض غير موقوفة لا يخلو إما أن يقفها بموضعها من الأرض أو لا، فإن وقفها بموضعها من الأرض صح تبعا للأرض بحكم الاتصال، وإن وقفها دون أصلها لا يصح، وإن كانت في أرض موقوفة فوقفها على تلك الجهة جاز كما في البناء، وإن وقفها على جهة أخرى فعلى الاختلاف الذي ذكرناه آنفا اه. وفي المحيط: رجل غرس في المسجد يكون للمسجد لأنه بمنزلة البناء بالمسجد، وكذا لو بنى في أرض الوقف أو نصب فيها بابا فإن نوى عند البناء أنه بنى للوقف يصير وقفا لأنه جعله وقفا ووقف البناء تبعا لغيره يجوز، وإن لم ينو ذلك لا يصير وقفا لأنه لم يجعله وقفا. ولو غرس في أرض موقوفة على الرباط ينظر، إن تولى الغارس تعاهد الأرض الموقوفة فالأشجار للوقف لأن هذا من جملة التعاهد، وإن لم يتول فهي للغارس وعليه قلعها لأنه ليس له هذه الولاية. ولو غرس على طريق العامة أو على شط نهر العامة أو على شط حوض القرية فالشجرة للغارس وله قلعها لأنه ليس له ولاية على العامة اه. وفي الخانية: لو غرس الواقف للأرض شجرا فيها قالوا: إن غرس من غلة الوقف أو من مال نفسه لكن ذكر أنه غرس للوقف يكون للوقف وإن لم يذكر شيئا وقد غرس من مال نفسه يكون له ولورثته من بعده ولا يكون وقفا، وإذا صح وقف الشجرة تبعا لأصلها فإن كان ينتفع بأوراقها وأثمارها فإنه لا يقطع أصلها إلا أن تفسد أغصانها، ولو كان لا ينتفع بأوراقها ولا بأثمارها فإنه يقطع ويتصدق بها. مسجد فيه شجرة التفاح قال بعضهم يباح للقوم أن يفطروا بهذا التفاح والصحيح أنه لا يباح لأن ذلك صار وقفا للمسجد يصرف إلى عمارته. شجرة على طريق المارة جعلت وقفا على المارة يباح تناول ثمرها للمارة ويستوي فيه الفقير والغني. ولو كانت الثمار على أشجار رباط المارة. قال أبو القاسم: أرجو أن يكون النزال في سعة من تناولها إلا أن يعلم أن غارسها جعلها للفقراء. قال الفقيه أبو الليث: إذا لم يكن الرجل من ساكني الرباط فالأحوط له أن يحترز من تناولها إلا أن تكون ثمارا لا قيمة لها كالتوت اه. وقد وقعت حادثة هي أن المستأجر للدار الموقوفة المشتملة على الأشجار هل له أن يأكل من ثمارها إذا لم يعلم شرط الواقف فيها؟ وفي الحاوي: وما غرس في المساجد من الأشجار
341 المثمرة إن غرس للسبيل وهو الوقف على العامة كان لكل من دخل المسجد من المسلمين أن يأكل منها، وإن غرس للمسجد لا يجوز صرفها إلا إلى مصالح المسجد الأهم فالأهم كسائر الوقوف، وكذا إن لم يعلم غرض الغارس اه. ومقتضاه في البيت الموقوف إذا لم يعرف الشرط أن يأخذها المتولي ليبيعها ويصرفها في مصالح الوقف ولا يجوز للمستأجر الاكل منها. وفي القنية: يجوز للمستأجرين غرس الأشجار والكروم في الأراضي الموقوفة إذا لم يضر بالأرض بدون صريح الاذن من المتولي دون حفر الحياض. وإنما يحل للمتولي الاذن فيما يزيد الوقف به خيرا. قال مصنفها قلت: وهذا إذا لم يكن لهم حق قرار العمارة فيها، أما إذا كان لا يحرم الحفر والغرس لوجود الاذن في مثلها اه. وفي فتح القدير: وسئل أبو القاسم الصفار عن شجرة وقف يبس بعضها وبقي بعضها فقال: ما يبس منها فسبيله سبيل غلتها، وما بقي متروك على حالها اه. وفي البزازية وقال الفضلي: وبيع الأشجار الموقوفة مع الأرض لا يجوز قبل القلع كبيع الأرض. وقال أيضا: إن لم تكن مثمرة يجوز بيعها قبل القلع أيضا لأنه غلتها والمثمرة لا تباع إلا بعد القلع كبناء الوقف اه قوله: (ولا يملك الوقف) بإجماع الفقهاء كما نقله في فتح القدير، ولقوله عليه السلام لعمر رضي الله عنه تصدق بأصلها لا تباع ولا تورث ولأنه باللزوم خرج عن ملك الواقف وبلا ملك لا يتمكن من البيع أفاد بمنع تمليكه وتملكه منع رهنه فلا يجوز للمتولي رهنه. قال في الخانية: المتولي إذا رهن أرض الوقف بدين لا يصح وكذلك أهل الجماعة إذا رهنوا، فإن سكن المرتهن الدار قال بعضهم عليه أجر المثل، سواء كانت الدار معدة للاستغلال أو لم تكن نظرا للوقف، وكذلك متولي المسجد إذا باع منزلا موقوفا على المسجد فسكنها المشتري ثم عزل هذا المتولي وولي غيره فادعى الثاني المنزل على المشتري وأبطل القاضي بيع المتولي وسلم الدار إلى المتولي الثاني فعلى المشتري أجر المثل اه. ولا فرق بين أن يكون البائع المتولي أو غيره بل وجوب أجر المثل فيما إذا باعه غير المتولي بالأولى. وذكر في القنية أنه لا يجب وهو
342 ضعيف لأنه وإن سكن بتأويل الملك يجب أجر المثل مراعاة للوقف. وفي القنية: سكنها ثم بان أنها وقف أو لصغير يجب أجر المثل بخلاف ما مر. وفي المحيط: فإن هدم المشتري البناء فالقاضي بالخيار إن شاء ضمن البائع قيمة البناء وإن شاء ضمن المشتري، فإن ضمن البائع نفذ بيعه لأنه ملكه بالضمان فصار كأنه باع ملك نفسه، وإن ضمن المشتري لا ينفذ البيع ويملك المشتري بالبناء بالضمان ويكون الضمان للوقف لا للموقوف عليهم اه. فإن قلت: قال في الخلاصة وفي فوائد شمس الاسلام الواقف إذا افتقر واحتاج إلى الوقف يرفع الامر إلى القاضي حتى يفسخ إن لم يكن مسجلا اه. وفي البزازية والخلاصة: ولو وقف محدودا ثم باعه وكتب القاضي شهادته في صك البيع وكتب في الصك باع فلان منزل كذا أو كان كتب وأقر البائع بالبيع لا يكون حكما بصحة البيع ونقض الوقف، ولو كتب باع بيعا جائزا صحيحا كان حكما بصحة البيع وبطلان الوقف، وإذا أطلق الحاكم وأجاز بيع وقف غير مسجل إن أطلق ذلك للوارث كان حكما بصحة بيع الوقف، وإن أطلقه لغير الوارث لا يكون ذلك نقضا للوقف، أما إذا بيع الوقف وحكم بصحته قاض كان حكما ببطلان الوقف اه. وفي القنية: وقف قديم لا يعرف صحته ولا فساده باعه الموقوف عليه لضرورة وقضى القاضي بصحة البيع ينفذ إذا كان وارث الواقف، ثم رقم باعه الوارث لضرورة فالبيع باطل ولو قضى القاضي بصحته ولا يفتح هذا الباب اه. قلت: إنه في وقف لم يحكم بصحته ولزومه بدليل قوله في الخلاصة إن لم يكن مسجلا أي محكوما به ومع ذلك الحمل أيضا فهو على قول الإمام المرجوح، وعلى قولهما الراجح المفتى به لا يجوز بيعه قبل الحكم بلزومه لا للوارث ولا لغيره. ولو قضى قاض بصحة بيعه، فإن كان حنفيا مقلدا فحكمه باطل لأنه لا يصح إلا بالصحيح المفتى به فهو معزول بالنسبة إلى القول الضعيف ولذا قال في القنية تفريعا
343 على الصحيح: فالبيع باطل ولو قضى القاضي بصحته، وقد أفتى به العلامة قاسم. وأما ما أفتى به العلامة سراج الدين قارئ الهداية من صحة الحكم ببيعه قبل الحكم بوقفه فحمول على أن القاضي مجتهد أو سهو منه. وظاهر قول المصنف وأصحاب المتون والهداية أنه لا يجوز استبداله ولو خرب، وأنه لا يعود ملكا للواقف ولا لورثته لعدم استثنائهم شيئا من قولهم لا يملك، وظاهر قولهم إن الوقف لا يملك ولا يباع يقتضي أن الوقفية لا تبطل بالخراب ولا تعود إلى ملك الواقف ووارثه وأنه لا يجوز الاستبدال ولذا قال الإمام قاضيخان:
344 ولو كان الوقف مرسلا لم يذكر فيه شرط الاستبدال لم يكن له أن يبيعها ويستبدل بها وإن كانت أرض الوقف سبخة لا ينتفع بها لأن سبيل الوقف أن يكون مؤبدا لا يباع، وإنما تثبت ولاية الاستبدال بالشرط وبدون الشرط لا تثبت فهو كالبيع المطلق عن شرط الخيار لا يملك المشتري رده وإن لحقه في ذلك غبن اه. وفي الخلاصة وفي فتاوي النسفي: بيع عقار المسجد لمصلحة المسجد لا يجوز وإن كان بأمر القاضي وإن كان خرابا، فأما بيع النقض فيصح. ونقل عن شمس الأئمة الحلواني أنه يجوز للقاضي وللمتولي أن يبيعه ويشتري مكانه آخر وإن لم ينقطع ولكن يؤخذ بثمنه ما هو خير منه للمسجد لا يباع، وقد روي عن محمد إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال والقيم يجد بثمنها أخرى هي أكثر ريعا كان له أن يبيعها ويشتري بثمنها ما هو أكثر ريعا. وفي الفتاوى: قيم وقف خاف من السلطان أو من وارث يغلب على أرض وقف يبيعها ويتصدق بثمنها، وكذا كل قيم إذا خاف شيئا من ذلك له أن يبيع ويتصدق بثمنها. قال الصدر الشهيد: والفتوى على أنه لا يبيع. وما يوافق هذا ما روى الإمام السرخسي في السير الكبير في بابي الأسير في الدفتر الثاني ذكر مسألة ثم قال: وبهذا تبين خطأ من يجوز استبدال الوقف، والشيخ الإمام ظهير الدين كان يفتي بجواز الاستبدال ثم رجع. اه. ما في الخلاصة. وفي شرح الوقاية أن أبا يوسف يجوز الاستبدال في الوقف من غير شرط إذا ضعفت الأرض من الريع ونحن لا نفتي به، وقد شاهدنا في الاستبدال من الفساد ما لا يعد ولا يحصى، فإن ظلمة القضاة جعلوه جيلة إلى إبطال أكثر أوقاف المسلمين وفعلوا ما فعلوا اه. وفي الذخيرة سئل شمس الأئمة الحلواني عن أوقاف المسجد. إذا تعطلت وتذر استغلالها هل للمتولي أن يبيعها ويشتري مكانها أخرى؟ قال: نعم. قيل: إن لم تتعطل ولكن يؤخذ بثمنها ما هو خير منها هل له أن يبيعها؟ قال: لا. ومن المشايخ من لم يجوز بيعه تعطل أو لم يتعطل، وكذا لم يجوز الاستبدال بالوقف وهكذا فتوى شمس الأئمة السرخسي، وقد روينا عن محمد في فصل العمارة إذا ضعفت الأرض الموقوفة عن الاستغلال والقيم بجد بثمنها أرضا أخرى أكثر ريعا له أن يبيع هذه الأرض ويشتري. وفي المنتقي قال هشام: سمعت محمدا يقول: الوقف إذا صار بحيث لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره وليس ذلك إلا للقاضي. وذكر محمد في السير الكبير مسألة تدل على
345 عدم جواز الاستبدال بالوقف وصورتها: الكفار إذا استولوا على بلدة من بلاد المسلمين ثم ظهر عليها المسلمون وقسموها فيما بينهم فأصاب رجل من الغانمين أرضا فجعلها صدقة موقوفة للمساكين ودفعها إلى قيم يقوم عليها ثم حضر المالك القديم فليس له أن يأخذها. قالوا: وهذا لأنه زال عن ملك الواقف وصار بحال لا يقبل النقل من ملك إلى ملك فلا يكون للمالك القديم حق الملك، أما على قول أبي حنيفة الوقف باطل حتى كان للواقف أن يبيع الوقف حال حياته، فإذا مات يصير ميراثا عنه فكان للمالك القديم حق الاخذ إلا في المسجد خاصة فإن اتخاذ المسجد عنده صحيح ويزول عن ملكية متخذه فلا يكون للمالك القديم حق الاخذ فيه اه. وأما ما في الذخيرة وغيرها: حانوت احترق في السوق وصار بحيث لا ينتفع به ولا يستأجر البتة وحوض محلة خرب وصار بحال لا يمكن عمارته فهو للواقف ولورثته، فإن كان واقفه وورثته لا تعرف فهو لقطة. زاد في فتاوى الخاصي: إذا كان كاللقطة يتصدقون به على فقير ثم يبيعه الفقير فينتفع بثمنه فقال الصدر الشهيد: في جنس هذه المسائل نظر يعني لأن الوقف بعدما خرج إلى الله تعالى لا يعود إلى ملك الواقف وسيأتي تمامه في بيان شروط الواقف عند قوله وإن شرط الولاية لنفسه. وفي الخانية: المتولي إذا اشترى من غلة المسجد حانوتا أو دارا أو مستغلا آخر جاز لأن هذا من مصالح المسجد، فإن أراد المتولي أن يبيع ما اشترى أو باع اختلفوا فيه، قال بعضهم: لا يجوز هذا البيع لأن هذا صار من أوقاف المسجد. وقال بعضهم: يجوز هذا البيع وهو الصحيح لأن المشتري لم يذكر شيئا من شرائط الوقف فلا يكون ما اشترى من جملة أوقاف المسجد ا ه. وفي القنية: إنما يجوز الشراء بإذن القاضي لأنه لا يستفاد الشراء من مجرد تفويض القوامة إليه فلو استدان في ثمنه وقع الشراء له اه قوله: (ولا يقسم وإن وقفه على أولاده) أي لا يقسم الموقوف بين مستحقيه ولو كانوا أولاد الواقف لأنه لا حق لهم في العين وإنما حقهم في الغلة. وفي فتح القدير: وأجمعوا أن الكل لو كان وقفا على الأرباب وأرادوا القسمة لا يجوز التهايؤ وعليه فرع ما لو وقف داره على سكنى قوم بأعيانهم أو ولده ونسله أبدا ما تناسلوا فإذا انقرضوا كانت غلتها للمساكين. فإن هذا الوقف جائز على هذا الشرط، وإذا انقرضوا تكرى وتوضع غلتها للمساكين وليس لأحد من الموقوف عليهم السكنى أن يكتريها ولو زادت
346 على قدر حاجة سكناه، نعم له الإعارة لا غير. ولو كثر أولاد هذا الواقف وولد ولده ونسله حتى ضاقت الدار عليهم ليس لهم إلا سكناها تسقط على عددهم. ولو كانوا ذكورا وأناثا، إن كان فيها حجر ومقاصير كان للذكور أن يسكنوا نساءهم معهم وللنساء أن يسكن أزواجهن معهن، وإن لم يكن فيها حجر لا يستقيم أن تقسم بينهم ولا يقع فيها مهايأة إنما سكناها لمن جعل الواقف له ذلك لا لغيرهم. وعن هذا يعرف أنه لو سكن بعضهم فلم يجد الآخر موضعا يكفيه لا يستوجب الآخر أجرة حصته على الساكنين بل إن أحب أن يسكن معه في بقعة من تلك الدار بلا زوجة أو زوج إن كان لأحدهم ذلك وإلا ترك المتضيق وخرج أو جلسوا معا كل في بقعة إلى جنب الآخر. والأصل المذكور في الشروح الفرع في أوقاف الخصاف ولم يخالفه أحد فيما علمت، وكيف يخالف وقد نقلوا اجماعهم على الأصل المذكور؟ ا ه. وفي الاسعاف: ولو قسمه الواقف بين أربابه ليزرع كل واحد منهم نصيبه وليكون المزروع له دون شركائه توقف على رضاهم، ولو فعل أهل الوقف ذلك فيما بينهم جاز ولمن أبى منهم بعد ذلك إبطاله اه. قيدنا بقسمته بين مستحقيه لأن القسمة ليتميز الوقف عن الملك جائزة كما قدمناه في قوله ولا يتم حتى يقبض ويفرز. وفي القنية: ضيعة موقوفة على الموالي فلهم قسمتها قسمة حفظ وعمارة لا قسمة تملك اه. وفي القنية: أحد الشريكين إذا استعمل الوقف بالغلبة بدون إذن الآخر فعليه أجر حصة الشريك، سواء كانت وقفا على سكناهما أو موقوفة للاستغلال، وفي الملك المشترك لا يلزم الاجر على الشريك إذا استعمل كله وإن كان معدا للإجارة وليس للشريك الذي لم يستعمل الوقف أن يقول للآخر أنا أستعمله بقدر ما استعملت لأن المهايأة إنما تكون بعد الخصومة اه. فعلى هذا قول الخصاف لا يستوجب الآخر أجرة معناه قبل السكنى لو طلب أن يجعل عليه شيئا، أما بعد السكنى
347 فالأجرة واجبة عليه. وأفاد المصنف من عدم جواز القسمة أن أرض الوقف لو كانت بين اثنين فاقتسماها فلاحدهما إبطالها وأنه لو أجر أحدهما حصته فالاجر بينهما وقيل للمؤجر. والمسألتان في القنية قوله: (ويبدأ من غلته بعمارته بلا شرط) لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبدا ولا تبقى دائما إلا بالعمارة فثبت شرط العمارة اقتضاء، ولان الخراج بالضمان وصار كنفقة العبد الموصي بخدمته فإنها على الموصى له بها، ثم إن كان الوقف على الفقراء لا يؤخذون به لعدم تعينهم وأقرب أموالهم هذه الغلة فتجب العمارة فيها، ولو كان الوقف على رجل بعينه وآخره للفقراء فهي في ماله أي مال شاء إذا كان حيا ولا يؤخذ من الغلة لأنه معين يمكن مطالبته. وإنما تستحق العمارة عليه بقدر ما يبقى الموقوف على الصفة التي وقفه، فإن خرب يبني على ذلك الوصف لأنها بصفتها صارت غلتها مصروفة إلى الموقوف عليه، فأما الزيادة على ذلك فليست بمستحقة والغلة مستحقة له فلا يجوز صرفه إلى شئ آخر إلا برضاه، ولو كان الوقف على الفقراء فكذلك عند البعض وعند الآخرين يجوز ذلك والأول أصح لأن الصرف إلى العمارة ضرورة إبقاء مقصود الواقف ولا ضرورة في الزيادة، كذا في الهداية. وبهذا علم أن عمارة الأوقاف زيادة على ما كانت العين عليه زمن الواقف لا يجوز إلا برضا المستحقين، وظاهر قوله بقدر ما يبقى الموقوف على الصفة منع البياض والحمرة على الحيطان من مال الوقف إن لم يكن فعله الواقف وإن فعله فلا منع. ثم اعلم أن التعمير إنما يكون من غلة الوقف إذا لم يكن الخراب بصنع أحد ولذا قال في الولوالجية: رجل أجر دارا موقوفة فجعل المستأجر رواقها مربطا يربط فيه الدواب وخربها يضمن لأنه فعل بغير الاذن اه. ومما اتفق عليه أصحاب الفتاوى مربطا أن القيم إذا استأجر أجبرا للعمارة بدرهم ودانق وأجر مثله درهم فاستعمله في العمارة ونقد الأجرة من مال الوقف يضمن جميع ما نقد لأن الإجارة وقعت له لا للوقف اه. وصرحوا في نقش المسجد بالجص وماء الذهب أن المتولي لو فعله من مال الوقف ضمن وقدمناه. وههنا مسائل مهمة في العمارة: الأولى قال في فتح القدير: ولا تؤخر العمارة إذا احتيج إليها. وفي الخانية: إذا اجتمع من غلة الأرض في يد القيم فظهر له وجه من وجوه البر والوقف محتاج إلى الاصلاح والعمارة أيضا ويخاف القيم أنه لو صرف الغلة إلى العمارة يفوت ذلك البر فإنه ينظر، إنه إن لم يكن في تأخير إصلاح الأرض ومرمته إلى الغلة الثانية ضرر بين يخاف خراب الوقف فإنه يصرف الغلة إلى ذلك البر وتؤخر المرمة إلى الغلة الثانية، وإن كان في تأخير المرمة ضرر بين فإنه يصرف الغلة إلى المرمة، فإن فضل شئ يصرف إلى ذلك
348 البر. والمراد من وجه البر ههنا وجه فيه تصدق بالغلة على نوع من الفقراء نحو فك أسارى المسلمين أو إعانة الغازي المنقطع لأن هؤلاء من أهل التصدق عليهم فجاز صرف الغلة إليهم، فأما عمارة مسجد أو رباط أو نحو ذلك مما هو ليس بأهل للتمليك لا يجوز صرف لغلة إليه لأن التصدق عبارة عن التمليك فلا يصح إلا ممن هو من أهل التمليك اه. وظاهر أنه يجوز الصرف على المستحقين وتأخير العمارة إلى الغلة الثانية إذا لم يخف ضرر بين الثانية لو صرف المتولي على المستحقين وهناك عمارة لا يجوز تأخيرها فإنه يكون ضامنا لما في الذخيرة: إذا كانت في تلك السنة غلة ففرق القيم الغلة على المساكين ولم يمسك للخراج شيئا فإنه يضمن حصة الخراج لأن بقدر الخراج وما يحتاج إليه الوقف من العمارة والمؤنة مستثنى عن حق الفقراء فإذا دفع إليهم ذلك ضمن اه. وإذا ضمن ينبغي أن لا يرجع على المستحقين بما دفعه إليهم في هذه الحالة قياسا على مودع الابن إذا أنفق على الأبوين بغير إذنه وبغير إذن القاضي فإنهم قالوا يضمن ولا رجوع له على الأبوين قالوا: لأنه ملكه بالضمان فتبين أنه دفع مال نفسه وأنه متبرع ولا رجوع فيه، ذكروه في آخر النفقات. وعلى هذا فينبغي أنه إذا صرف على المستحقين وهناك تعمير واجب فعمر من ماله أن لا يكون متبرعا بالتعمير ويكون عوضا عما لزمه بالضمان. الثالثة في قطع معاليم المستحقين لأجل العمارة. قال في فتح القدير: وتقطع الجهات الموقوف عليها للعمارة إن لم
349 يخف ضرر بين، فإن خيف قدم، وأما الناظر، فإن كان المشروط له من الواقف فهو كأحد المستحقين، فإذا قطعوا للعمارة قطع إلا أن يعمل فيأخذ قدر أجرته، وإن لم يعمل لا يأخذ شيئا. قال الإمام فخر الدين قاضيخان: وقف ضيعة على مواليه ومات فجعل القاضي الوقف في يد قيم وجعل له عشر الغلات مثلا وفي الوقف طاحونة في يد رجل بالمقاطعة لا حاجة فيها إلى القيم وأصحاب هذه الطاحونة يقسمون غلتها لا يجب للقيم فيها ذلك العشر لأن القيم لا يأخذ ما يأخذه إلا بطريق الاجر فلا يستوجب الاجر بلا عمل اه. فهذا عندنا فيمن لم يشرط له الواقف، أما إذا شرط كان من جملة الموقوف عليهم اه. فظاهره أن من عمل من المستحقين زمن العمارة فإنه يأخذ قدر أجرته لكن إذا كان مما لا يمكن ترك عمله إلا بضرر
350 بين كالإمام والخطيب ولا يراعي المعلوم المشروط زمن العمارة فعلى هذا إذا عمل المباشر والشادز من العمارة يعطيان بقدر أجرة عملهما فقط، وأما ما ليس في قطعه ضرر بين فإنه لا يعطى شيئا أصلا زمن العمارة. الرابعة في الاستدانة لأجل العمارة حيث لم يكن غلة. قال في الذخيرة قال هلال: إذا احتاجت الصدقة إلى العمارة وليس في يد القيم ما يعمرها فليس له أن يستدين عليها لأن الدين لا يجب ابتداء إلا في الذمة وليس للوقف ذمة، والفقراء وإن كانت لهم ذمة إلا أنهم لكثرتهم لا تتصور مطالبتهم فلا يثبت الدين باستدانة القيم إلا عليه ودين يجب عليه لا يملك قضاءه من غلة هي على الفقراء. وعن الفقيه أبي جعفر أن القياس هذا لكن يترك القياس فيما فيه ضرورة نحو أن يكون في أرض الوقف زرع يأكله الجراد ويحتاج إلى النفقة لجمع الزرع أو طالبه السلطان بالخراج جاز له الاستدانة لأن القياس يترك للضرورة. قال: والأحوط في هذه الصورة كونها بأمر الحاكم لأن ولاية الحاكم أعم في مصالح المسلمين من ولايته إلا أن يكون بعيدا عن الحاكم ولا يمكنه الحضور فلا بأس بأن يستدين بنفسه، وهذا الذي روي عن الفقيه أبي جعفر مشكل لأنه جمع بين أكل الجراد والزرع وبين الخراج. وتتصور الاستدانة في أكل الجراد الزرع لأن الزرع مال للفقراء وهذا الدين إنما يستدان لحاجتهم فأمكن إيجاب الدين في مالهم، فأما باب الخراج فلا يتصور لأنه إن كان في الأرض غلة فلا ضرورة إلى الاستدانة لأن الغلة تباع ويؤدى منها الخراج، وإن لم يكن في الأرض غلة فليس هنا إلا رقبة الوقف ورقبة الوقف ليست للفقراء، ولا يستقيم إيجاب دين يحتاج إليه الفقراء في مال ليس لهم فهذا الفصل مشكل من هذا الوجه إلا أن يكون تصوير المسألة فيما إذا كان في الأرض غلة وكان بيعها متعذرا في الحال وقد طولب بالخراج قالوا: ليس قيم الوقف في الاستدانة على الوقف كالوصي في الاستدانة على اليتيم له ذمة صحيحة وهو معلوم فتتصور مطالبته، ألا ترى أن للوصي أن يشتري لليتيم شيئا بنسيئة من غير ضرورة. وفي فتاوى أبي الليث: قيم وقف طلب منه الجبايات والخراج وليس في يده من مال الوقف شئ وأراد أن يستدين فهذا على وجهين: إن أمر الواقف بالاستدانة فله ذلك، وإن لم يأمره بالاستدانة فقد اختلف المشايخ فيه قال الصدر الشهيد: والمختار ما قاله الفقيه أبو الليث إذا لم يكن للاستدانة بد يرفع الامر إلى القاضي حتى يأمره بالاستدانة ثم يرجع في
351 الغلة لأن للقاضي هذه الولاية، وإن كان لها بد ليس للقاضي هذه الولاية. وفي واقعات الناطفي: المتولي إذا أراد أن يستدين على الوقف ليجعل ذلك في ثمن البذر، إن أراد ذلك بأمر القاضي فله ذلك بلا خلاف لأن القاضي يملك الاستدانة على الوقف فيملك المتولي ذلك بإذن القاضي، وإن أراد ذلك بغير أمر القاضي ففيه روايتان، وصرح في الخلاصة بأن الأصح ما قاله الفقيه أبو الليث. وفي الخانية: قيم الوقف إذا اشترى شئ لمرمة المسجد بدون إذن القاضي قالوا: لا يرجع بذلك في مال المسجد، وله أن ينفق على المرمة من ماله كالوصي في مال الصغير، وإن أدخل المتولي جذعا من ماله في الوقف جاز وله أن يرجع في غلة الوقف اه. وفي الخلاصة في مسألة الجذع: والاحتياط أن يبيع الجذع من آخر ثم يشتريه لأجل الوقف ثم يدخله في دار الوقف اه. وفسر قاضيخان الاستدانة على الوقف بتفسيرين فقال في الثاني وتفسير الاستدانة بما ذكر إنما هو فيما إذا لم يكن في يده شئ من الغلة، وأما إذا كان في يده شئ منها واشترى شيئا للوقف ونقد الثمن من ماله جاز له أن يرجع بذلك من غلته، وإن لم يكن بأمر القاضي كالوكيل بالشراء إذا نقد الثمن من ماله فإنه يجوز له الرجوع به على موكله. وقال في الأول أن لا يكون للوقف غلة فيحتاج إلى القرض والاستدانة، أما إذا كان للوقف علة فأنفق من مال نفسه لاصلاح الوقف فإن له أن يرجع في علة الوقف اه. وفي القنية برقم (يو)، قيم أنفق في عمارة المسجد من مال نفسه ثم رجع بمثله في غلة
352 الوقف جاز، سواء كانت غلته مستوفاة أو غير مستوفاة اه. ثم قال: وللقيم الاستدانة على الوقف لضرورة العمارة لا لتقسيم ذلك على الموقوف عليهم ثم رقم (بنك) استقرض القيم لمصالح المساجد فهو على نفسه وبرقم (عك) لا أصدقه في زماننا وبرقم (حم) له ذلك وبرقم (بق) لا يستدين إلا بأمر القاضي ثم ذكر ما اختاره الفقيه أبو الليث اه. وفي جامع الفصولين من الفصل السابع والعشرين: ولو أخذ المتولي دراهم الوقف وصرف دنانير إلى عمارة الوقف صح لو خيرا، ولو أنفق عليه من مال نفسه يرجع ولو لم يشترط كوصي ثم رقم (مق) يرجع لو شرط وإلا لا ثم قال: وذكر في العدة الاستدانة لضرورة مصالح الوقف تجوز لو أمر الواقف وإلا فالمختار أن يرفع إلى القاضي ليأمر بها. ثم رقم (فط) الأحوط أن يرفع الامر إليه إلا إذا تعذر الحضور لبعده فيستدين بنفسه، وقيل يصح بلا رفع ولو أمكن اه. وفي الرابع والثلاثين: قيم الوقف لو أنفق من ماله في عمارة الوقف، فلو أشهد أنه أنفق ليرجع فله الرجوع وإلا فلا اه. وفي الحاوي: ويجوز للمتولي إذا احتاج إلى العمارة أن يستدين على الوقف ويصرف ذلك فيها والأولى أن يكون بإذن الحاكم اه. والحاصل أن هلالا مانع من الاستدانة مطلقا. وحمله ابن وهبان على ما إذا كان بغير أمر القاضي وادعى أنه إذا كان بأمر القاضي فلا خلاف فيه، والظاهر كما ذكره الطرسوسي خلافه لما علمت من تعليله، وأما غير هلال فمنهم من جوز الاستدانة مطلقا للعمارة كما في جامع الفصولين: والمعتمد في المذهب إن كان له منه بدلا يستدين مطلقا، وإن كان لا بد له، فإن كان بأمر القاضي جاز وإلا فلا والعمارة لا بد لها فيستدين لها بأمر القاضي، وأما غير العمارة فإن كان للصرف على المستحقين لا تجوز الاستدانة ولو بإذن القاضي لأن له منه بدا كما صرح به في القنية بقوله: لا لتقسيم ذلك على الموقوف عليهم وأن الاستدانة أعم من القرض والشراء بالنسيئة. وفي البزازية من كتاب الوصايا: لو استقرض المتولي إن شرط الواقف له ذلك وإلا رفع إلى الحاكم إن احتاج اه. لكن وقع الاشتباه في مسائل منها: هل يستدين للإمام والخطيب والمؤذن باعتبار أنه لا بد له من ذلك فيكون بإذن القاضي فقط أو لا؟ الظاهر أنه لا يستدين لهم إلا بإذن القاضي لقوله في جامع الفصولين لضرورة مصالح المسجد. وقال في خزانة الأكمل:
353 لو وقف على مصالح المسجد يجوز دفع غلته إلى الإمام والمؤذن والقيم اه. ولم يذكر الخطيب. قال في شرح المنظومة: ولا شك أنه في الجامع نظير من ذكر في المسجد اه. فعلى هذا تخرج الأربعة من قول القنية الموقوف عليهم. ومنها هل يستدين بإذن القاضي للحصر والزيت بالمسجد أم لا؟ فعلى أنهما من المصالح له ذلك وإلا فلا، وقد اختلف في كونهما من المصالح ففي القنية رقم لركن الدين الصباغي وقال: كتبت إلى المشايخ ورمز للقاضي عبد الجبار وشهاب الدين الإمامي هل للقيم شراء المراوح من مصالح المسجد؟ فقالا: لا. ثم رمز للعلاء الترجماني فقال: الدهن والحصير والمراوح ليس من مصالح المسجد وإنما مصالحه عمارته. ثم رمز لأبي حامد وقال: الدهن والحصير من مصالحه دون المراوح قال - يعني مولانا بديع الدين - وهو أشبه للصواب وأقرب إلى غرض الواقف اه. فقد تحرر أن الراجح كونهما من المصالح فيستدين بإذن القاضي. ومنها أن المتولي لو ادعى أنه استدان بإذن القاضي هل يقبل قوله بلا بينة؟ الظاهر أنه لا يقبل وإن كان المتولي مقبول القول لما أنه يريد الرجوع في الغلة وهو إنما قبل قوله فيما بيده، وعلى هذا لو كان الواقع أنه لم يستأذن القاضي يحرم عليه أن يأخذ من الغلة لما أنه بغير الاذن متبرع اه. وقد علمت مما نقلناه عن قاضيخان أنه لو أنفق من ماله أو أدخل جذعا له في الوقف لا يكون من باب الاستدانة لأنها محصورة في القرض والشراء بالنسيئة، وعلى هذا فلو صرف المتولي للمستحقين من ماله لا يكون من الاستدانة وله الرجوع، ولكن قاضيخان قيده بالانفاق على المرمة. وقيده في جامع الفصولين بأن يشهد أنه أنفق ليرجع فوقع الاشتباه في الصرف على المستحقين. وعلى هذا وقع الاشتباه في زماننا في ناظر أذن إنسانا في الصرف على المستحقين من ماله قبل مجئ الغلة ليرجع به إذا جاءت الغلة هل يكون من باب الاستدانة للموقوف عليهم فلا تجوز ولا رجوع له، أو أنه كصرف الناظر عليهم من مال نفسه فله الرجوع؟ إن قلنا برجوعه، فإن قلت إنه دفع لهم بشرط أن يأخذ معاليمهم فقام مقامهم قلت قال في جامع الفصولين من السابع والعشرين: الوكيل لو لم يقبض ثمنه حتى لقي الآمر فقال بعت ثوبك من فلان فأنا أقضيك عنه ثمنه فهو
354 متطوع ولا يرجع على المشتري، ولو قال أنا أقضيكه عنه على أن يكون المال الذي على المشتري لي لم يجز، ورجع الوكيل على موكله بما دفع، وفي العدة يباع عنده بضائع للناس أمروه ببيعها فباعها بثمن مسمى فعجل الثمن من ماله إلى أصحابها على أن أثمانها له إذا قبضها فأفلس المشتري فللبائع أن يسترد ما دفع إلى أصحاب البضائع اه. قال في القنية: إذا قال القيم أو المالك لمستأجرها أذنت لك في عمارتها فعمرها بإذنه يرجع على القيم والمالك، وهذا إذا كان يرجع معظم منفعته إلى المالك، أما إذا رجع إلى المستأجر وفيه ضرر بالدار كالبالوعة أو شغل بعضها كالتنور فلا ما لم يشترط الرجوع اه. ويدل له بالأولى ما في جامع الفصولين: المتولي صرف العمارة من خشب مملوك له ودفع قيمته من مال الوقف كان له إذ يملك المعاوضة من مال نفسه كوصي يملك صرف ثوب مملوك إلى الصبي ودفع ثمنه من مال الصبي، ولكن لو ادعى لا يقبل قوله، وهذا يشير إلى أنه لو أنفق ليرجع له الرجوع في مال الوقف واليتيم من غير أن يدعي عند القاضي، أما لو ادعى عند القاضي وقال أنفقت من مالي كذا في الوقف واليتيم لا يقبل قوله. ثم رقم بعلامة (بق) ادعى وصي أو قيم أنه أنفق من مال نفسه وأراد الرجوع في مال اليتيم والوقف ليس له ذلك إذ يدعي دينا لنفسه على اليتيم والوقف فلا يصح بمجرد الدعوى، ذكره في أحكام العمارة. وفي البزازية: قيم الوقف أنفق من ماله في الوقف ليرجع في غلته له الرجوع، وكذا الوصي مع مال الميت ولكن لو ادعى لا يكون القول قوله المتولي إذا أنفق من مال نفسه ليرجع في مال الوقف له ذلك، فإن شرط الرجوع يرجع وإلا فلا اه. وفيها أيضا: قيم المسجد اشترى شيئا لمؤنة المسجد بلا إذن الحاكم بماله لا يرجع على الوقف اه. وظاهره أنه لا رجوع له مطلقا إلا بإذن القاضي سواء كان أنفق ليرجع أو لا، سواء رفع إلى القاضي أو لا. سواء برهن على ذلك أو لا. الخامسة: يستثنى من قولهم لا يقدم على العمارة أحد ما في المحيط: لو شرط العمارة في الوقف فإنه تقدم العمارة على صاحب الغلة إلا إذا جعلت غلتها لفلان سنة أو سنتين ثم
355 بعده للفقراء، أو شرط العمارة من الغلة فإنه يؤخر العمارة عن حق صاحب الغلة لأنا لو صرفنا الغلة إلى العمارة أولا أدى إلى إبطال حق صاحب الغلة لأن حقه في الغلة في مدة مخصوصة فتنتهي بمضيها، ولو صرفناها إليه أولا لا يؤدي إلى فوات عمارة الوقف لأنه يمكن عمارته في الثانية إلا إذا كان في تأخير العمارة ضرر بين بالوقف فحينئذ تقدم العمارة لئلا يؤدي إلى إبطال مقصود الواقف اه. وقيد بالسنتين لما في التتارخانية: وأما المشروط له الغلة في ثلاث سنين يؤخذ بالعمارة اه. السادسة في بيان من يقدم مع العمارة وهو المسمى في زماننا بالشعائر، ولم أره إلا في الحاوي القدسي قال: والذي يبتدأ به من ارتفاع الوقف عمارته شرط الواقف أو لا، ثم ما هو أقرب إلى العمارة وأعم للمصلحة كالإمام للمسجد والمدرس للمدرسة يصرف إليهم إلى قدر كفايتهم، ثم السراج والبساط كذلك إلى آخر المصالح اه. وظاهره تقديم الإمام والمدرس على جميع المستحقين بلا شرط، والتسوية بالعمارة
356 يقتضي تقديمهما عند شرط الواقف أنه إذا ضاق ريع الوقف قسم الريع عليهم بالحصة وأن
357 هذا الشرط لا يعتبر، ولكن تقديم المدرس إنما يكون بشرط ملازمته للمدرسة للتدريس الأيام المشروطة في كل جمعة ولذا قال للمدرسة لأن مدرسها إذا غاب تعطلت بخلاف مدرس الجامع. وفي القنية: يدرس بعض النهار في مدرسة وبعض النهار في مدرسة أخرى ولا يعلم شرط الواقف يستحق غلة المدرس في المدرستين، ولو كان يدرس بعض الأيام في هذه
358 المدرسة وبعضها في الأخرى لا يستحق غلتهما بتمامها، وحكم المتعلم والمدرس في المسألتين سواء اه. واستفيد من قوله لا يستحق غلتهما بتمامها أنه يستحق بقدر عمله وهي كثيرة الوقوع في أصحاب الوظائف في زماننا، وحاصله أنه ينظر إلى ما شرطه الواقف له وعليه من العمل ويقسم المشروط على عمله خلافا لبعض الشافعية فإنه يقول: إذا لم يعلم المشروط لا يستحق شيئا من المشروط كما ذكره ابن السبكي. وقوله ثم السراج بكسر السين أي القناديل ومراده مع زيتها . والبساط - بكسر الباء - أي الحصير ويلحق بهما معلوم خادمها وهو الوقاد والفراش فيقدمان. وتعبيره بثم دون الواو يدل على أنهما مؤخران عن الإمام والمدرس. وفي القنية: لو اشترى بساطا نفيسا من غلته جاز إذا استغنى المسجد عن العمارة اه. وقوله إلى آخر المصالح أي مصالح المسجد فيدخل المؤذن والناظر لأنا قدمنا أنهم من المصالح، وقدمنا أن الخطيب داخل تحت الإمام لأنه إمام الجامع فتحصل أن الشعائر التي تقدم في الصرف مطلقا بعد العمارة الإمام والخطيب والمدرس والوقاد والفراش والمؤذن والناظر وثمن القناديل والزيت والحصر، ويلحق بثمن الزيت والحصر ثمن ماء الوضوء أو أجرة حمله أو كلفة نقله من البئر إلى الميضأة فليس المباشر والشاهد والجابي والشاد وخازن الكتب من الشعائر، وقد جرت العادة بمصر في ديوان المحاسبة بتقديمهم مع المذكورين أولا وليس شرعيا، ويقع الاشتباه في البواب والمزملاتي. وفي الخانية: لو جعل حجرته لدهن سراج المسجد ولم يزد صارت وقفا على المسجد إذا سلمها إلى المتولي وعليه الفتوى، وليس للمتولي أن يصرف الغلة إلى غير الدهن اه. فعلى هذا الموقوف على إمام للمسجد لا يصرف لغيره. وفي الخانية: رجل أوصى بثلث ماله لأعمال البر هل يجوز أن يسرج المسجد منه؟ قال الفقيه أبو بكر: يجوز ولا يجوز أن يزاد على سراج المسجد لأن ذلك إسراف، سواء كان ذلك في رمضان أو غيره، ولا يزين المسجد بهذه الوصية اه. ومقتضاه منع الكثرة الواقعة في رمضان في مساجد القاهرة ولو شرط الواقف لأن شرطه لا يعتبر في المعصية. وفي القنية: وإسراج السرج الكثيرة في السكك والأسواق ليلة البراءة بدعة، وكذا في المساجد ويضمن القيم، وكذا
359 يضمن إذا أسرف في السرج في رمضان وليلة القدر، ويجوز الاسراج على باب المسجد في السكة أو السوق ولو اشترى من مال المسجد شمعا في رمضان يضمن. قلت: وهذا إذا لم ينص الواقف عليه. ولو أوصى بثلث ماله أن ينفق على بيت المقدس جاز وينفق في سراجه ونحوه. قال هشام: فدل هذا على أنه يجوز أن ينفق من مال المسجد على قناديله وسرجه والنفط والزيت اه. السابعة: إذا احتاج الوقف إلى العمارة وليس عنده غلة ولم يتيسر له القرض إلا بربح. قال في القنية رامزا ليوسف الترجماني الصغير: قال البصراء للقيم إن لم تهدم المسجد العام يكون ضرره في القابل أعظم فله هدمه وإن خالفه بعض أهل محلته وليس له التأخير إذا أمكنه العمارة، فلو هدمه ولم يكن فيه غلة للعمارة في الحال فاستقرض العشرة بثلاثة عشر في السنة واشترى من المقرض شيئا يسيرا بثلاثة دنانير يرجع في غلته بالعشرة وعليه الزيادة اه. وبه اندفع ما ذكره ابن وهبان من أنه لا جواب للمشايخ فيها. الثامنة في وقف المسجد: أيجوز أن يبنى من غلته منارة؟ قال في الخانية معزيا إلى أبي بكر البلخي: إن كان ذلك من مصلحة المسجد بأن كان أسمع لهم فلا بأس به، وإن كان بحال يسمع الجيران الاذان بغير منارة فلا أرى لهم أن يفعلوا ذلك. التاسعة: وقف على عمارة المسجد على أن ما فضل من عمارته فهو للفقراء فاجتمعت الغلة والمسجد غير محتاج إلى العمارة قال الفقيه أبو بكر: تحبس الغلة لأنه ربما يحدث بالمسجد حدث وتصير الأرض بحال لا تغل. وقال الفقيه أبو جعفر: الجواب كما قال، وعندي لو علم أنه لو اجتمع من الغلة مقدار ما يحتاج الأرض والمسجد إلى العمارة يمكن العمارة بها ويفضل تصرف الزيادة إلى الفقراء على ما شرط الواقف. وفي القنية: ليس للقيم أن يأخذ ما فضل من وجه عمارة المدرسة دينا ليصرفها إلى الفقراء وإن احتاجوا إليه. وفي الخانية: والصحيح ما قال الفقيه أبو الليث أنه ينظر إن اجتمع من الغلة مقدار ما لو احتاج الضيعة والمسجد إلى العمارة بعد ذلك يمكن العمارة منها ويبقى شئ تصرف تلك الزيادة إلى الفقراء اه. ريع غلة الوقف للعمارة وثلاثة أرباعها للفقراء لم يجز للقيم أن يصرف ريع العمارة إذا استغنى عنها إلى الفقراء ليسترد ذلك من حصتهم في السنة الثانية اه. العاشرة: مسجد تهدم وقد اجتمع من غلته ما يحصل به البناء قال الخصاف: لا ينفق الغلة في البناء لأن الواقف وقف على مرمتها ولم يأمر بأن يبنى هذا المسجد، والفتوى على أنه يجوز البناء بتلك الغلة. ولو كان الوقف على عمارة المسجد هل للقيم أن يشتري سلما
360 ليرتقي على السطح لكنس السطح وتطيينه أو يعطى من غلة المسجد أجر من يكنس السطح ويطرح الثلج ويخرج التراب المجتمع من المسجد؟ قال أبو نصر: للقيم أن يفعل ما في تركه خراب المسجد، كذا في الخانية. الحادية عشرة: حوانيت مال بعضها إلى بعض والأول منها وقف والباقي ملك والمتولي لا يعمر الوقف قال أبو قاسم، إن كان للوقف غلة كان لأصحاب الحوانيت أن يأخذوا القيم ليسوي الحائط المائل من غلة الوقف وإن لم يكن للوقف غلة في يد القيم رفعوا الامر إلى القاضي ليأمر القاضي القيم بالاستدانة على الوقف في إصلاح الوقف، وليس له أن يستدين بغير أمر القاضي، كذا في الخانية. الثانية عشرة: لو وقف على المساكين ولم يذكر العمارة يبدأ من الغلة بالعمارة وبما يصلحها وبخراجها ومؤنها ثم يقسم الباقي على المساكين، فإن كان في الأرض نخل ويخاف القيم هلاكها كان للقيم أن يشتري من غلة الوقف فسيلا فيغرسه كيلا ينقطع، فلو كانت قطعة منها سبخة تحتاج إلى رفع وجهها وإصلاحها حتى تنبت كان للقيم أن يبدأ من جملة غلة الأرض في ذلك ويصلح القطعة، ولو أراد القيم أن يبني في الأرض الموقوفة قرية لاكرتها وحفاظها ليحفظ فيها الغلة ويجمعها كان له أن يفعل ذلك، وكذا لو كان الوقف خانا على الفقراء واحتاج إلى خادم يكسح الخان ويقوم به ويفتح بابه ويسده فسلم بعض البيوت إلى رجل أجرة له ليقوم بذلك كان له ذلك، وإن أراد قيم الوقف أن يبني في الأرض الموقوفة بيوتا يستغلها بالإجارة لا يكون له ذلك لأن استغلال أرض الوقف يكون بالزرع، ولو كانت الأرض متصلة ببيوت المصر يرغب الناس في استئجار بيوتها وتكون غلة ذلك فوق غلة الزرع والنخل كان للقيم أن يبني فيها بيوتا فيؤاجرها لأن الاستغلال بهذا الوجه يكون أنفع للفقراء، كذا في الخانية. الثالثة عشرة: لو بنى خانا واحتاج إلى المرمة روي عن محمد أنه يعزل منه بيت أو بيتان فتؤاجر وينفق من غلتها عليه، وعنه رواية أخرى إجارة الكل سنة ويسترم منها. قال الناطفي: قياسه في المسجد أن يجوز إجارة سطحه لمرمته، كذا في الظهيرية. الرابعة عشرة: في فتاوى سمرقند شجرة وقف في دار وقف خربت ليس للمتولي أن يبيع الشجرة ويعمر الدار ولكن يكري الدار ويستعين بالكراء على عمارة الدار لا بالشجرة، كذا في الظهيرية. الخامسة عشرة: هل يجوز الاكل من
361 طعام العملة يوم العمارة؟ قالوا: إن حضروا للإرشاد والحث على العمل جاز الاكل وإلا فإن كانوا قليلا جاز وإلا فلا، ذكره في الظهيرية في قوم جمعوا الدراهم لعمارة القنطرة. وبهذا يعلم جواز أكل الشاد والمهندس معهم. السادسة عشرة: في البزازية: وقد تقرر في فتاوى خوارزم أن الواقف ومحل الوقف أعني الجهة إن اتحدت بأن كانا وقفا على المسجد أحدهما إلى العمارة والآخر إلى إمامه أو مؤذنه والإمام والمؤذن لا يستقر لقلة المرسوم للحاكم الدين أن يصرف من فاضل وقف المصالح والعمارة إلى الإمام والمؤذن باستصواب أهل الصلاح من أهل المحلة إن كان الواقف متحدا لأن غرض الواقف إحياء وقفه وذلك يحصل بما قلنا، أما إذا اختلف الواقف أو اتحد الواقف واختلفت الجهة بأن بنى مدرسة ومسجدا وعين لكل وقفا وفضل من غلة أحدهما لا يبدل شرط الواقف، وكذا إذا اختلف الواقف لا الجهة يتبع شرط الواقف وقد علم بهذا التقرير إعمال الغلتين إحياء للوقف ورعاية شرط الواقف، هذا هو الحاصل من الفتاوى اه. وقد علم منه أنه لا يجوز لمتولي الشيخونية بالقاهرة صرف أحد الوقفين للآخر. وفي الولوالجية: مسجد له أوقاف مختلفة لا بأس للقيم أن يخلط غلتها كلها، وإن خرب حانوت منها فلا بأس بعمارته من غلة حانوت آخر لأن الكل للمسجد. هذا إذا كان الواقف واحدا، وإن كان الواقف مختلفا فكذلك الجواب لأن المعنى يجمعهما اه. السابعة عشرة: في البزازية: وإذا انهدم رباط المختلفة وبنى بناء جديدا من كل وجه لا يكون الأولون أولى من غيرهم وإن لم يغير ترتيبه الأول إلا أنه إن زيد أو نقص فالأولون أولى اه. الثامنة عشرة: بنى المتولي في عرصة الوقف من مال الوقف أو من ماله للوقف أو لم يذكر شئ كان وقفا بخلاف الأجنبي، وإن أشهد أنه بناه لنفسه كان ملكا له وإن متوليا، كذا في البزازية
362 وغيرها. وبه يعلم أن قول الناس العمارة في الوقف وقف ليس على إطلاقه. التاسع عشرة: إذا عمل القيم في عمارة المسجد والوقف كعمل الأجير لا يستحق أجرا لأنه لا يجتمع له أجر القوامة وأجر العمل، كذا في القنية وسيأتي أيضا. العشرون: لو انكشف سقف السوق فغلب الحر على المسجد الصيفي لوقوع الشمس فيه فللقيم ستر سقف السوق من مال المسجد بقدر ما يندفع به هذا القدر، كذا في القنية. قوله: (ولو دارا فعمارته على من له السكنى) أي لو كان الموقوف دارا فعمارة الموقوف على من له سكناه لأن الخراج بالضمان وصار كنفقة العبد الموصي بخدمته. وفي الظهيرية: فإن كان المشروط له السكنى رم حيطان الدار الموقوفة بالآجر وجصصها أو أدخل فيها أجذاعا ثم مات ولا يمكن نزع شئ من ذلك إلا بتضرر بالبناء فليس للورثة أخذ شئ من ذلك ولكن يقال للمشروط له السكنى بعده إضمن لورثته قيمة البناء ولك السكنى، فإن أبى أوجرت الدار وصرفت الغلة إلى ورثة الميت بقدر قيمة البناء، فإذا وفت غلته بقيمة البناء أعيد السكنى إلى من له السكنى. وليس لصاحب السكنى أن يرضى بقلع ذلك وهدمه. وإن كان ما رم الأول مثل تجصيص الحيطان أو تطيين السطوح أو ما أشبه ذلك ثم مات الأول فليس للورثة أن يرجعوا بشئ من ذلك، ألا ترى أن رجلا لو اشترى دارا وجصصها وطين سطوحها ثم استحقت الدار لا يكون للمشتري أن يرجع على البائع بقيمة الجص والطين، وإنما يكون له أن يرجع بقيمة ما يمكنه أن ينقضه ويسلم نقضه إليه اه. وجعل في المجتبى مسألة ما إذا عمرها وما نظير ما إذا عمر دار غيره بغير إذنه ثم قال مستأجر حانوت الوقف بنى فيه بغير إذن القيم لا يرجع عليه ويرفع بناءه إن لم يضر بالوقف وإلا يتملكه القيم بأقل القيمتين منزوعا وغير منزوع، فإن أبى يتربص إلى أن يخلص ماله. ثم قال: مستأجر الوقف بنى غرفة على الحانوت إن لم يضر بأصله ويزيد في أجرته أو لا يستأجر إلا بالغرفة يجوز وإلا فلا اه. وفي القنية: لو وقف دارا على رجل وأولاده وأولاد أولاده أبدا ما تناسلوا فإذا انقطعوا فإلى الفقراء، ثم بنى واحد من أولاد أولاد الموقوف عليهم بعض الدار الموقوفة وطين البعض وجصص البعض وبسط فيه الآجر فطلب الآخر منه حصته ليسكن فيها فمنعه منها حتى يدفع له حصة ما أنفق فيها ليس له ذلك، والتطيين والجص صار تبعا للوقف، وله أن ينقض الآجر. قال رضي الله عنه: وإنما ينقض الآجر إذا لم يكن في نقضه ضرر بالوقف كمن بنى في الحانوت المسبل فله رفعه إذا لم يضر بالبناء القديم وإلا فلا اه. وظاهر كلام المصنف وغيره أن من له الاستغلال لا تكون العمارة عليه بناء على أن من
363 له الاستغلال لا يملك السكنى. ومن له السكنى لا يملك الاستغلال كما صرح به في البزازية، وفي فتح القدير بقوله: وليس للموقوف عليهم الدار سكناها بل الاستغلال كما ليس للموقوف عليهم السكنى الاستغلال اه. ويدل عليه قولهم إجارة العين للموقوف عليه صحيحة ومعلوم أن استئجار دار ممن له حق السكنى لا يجوز فجوازها دل على ما ذكرنا، كذا في البزازية. ولم أر حكم ما إذا سكن من له الاستغلال وفعل ما لا يجوز هل تجب الأجرة عليه ويأخذها المتولي ثم يدفعها إليه؟ والذي يظهر أن الوقف إن كان محتاجا إلى العمارة وجبت الأجرة عليه فيأخذها المتولي ليعمر بها وإلا فلا فائدة في وجوبها حيث لم يكن له شريك في الغلة. وإنما لم تكن عليه لأن المتولي عليها يؤجرها ويعمرها بأجرتها كما لو أبى من له السكنى، لكن في الظهيرية: وإذا صح الوقف واحتاج إلى العمارة فالعمارة على من يستحق الغلة اه. ويحمل على أن المعنى فالعمارة في غلتها، ولما كانت غلتها له صار كان العمارة عليه. قال في الظهيرية: وإن كان المشروط له غلة الأرض جماعة رضي بعضهم بأن يرمه المتولي من مال الوقف وأبى البعض، فمن أراد العمارة عمر المتولي حصته بحصته، ومن أبى تؤجر حصته وتصرف غلتها إلى العمارة إلى أن تحصل العمارة ثم تعاد إليه اه. وفي التتارخانية: ولو كان الواقف حين شرط الغلة لفلان ما عاش شرط على فلان مرمتها
364 وإصلاحها فيما لا بد لها منه فالوقف جائز مع هذا الشرط اه. وظاهره أنه يجبر على عمارتها، وقياسه أن الموقوف عليه السكنى كذلك. فإن قلت: هل يصح بيع العمارة في الأرض الموقوفة؟ قلت قال في القنية من الوقف: ويجوز شراء عمارة أرض أو دار للمسجد إذا كانت الرقبة وقفا وإلا فلا اه. ومن البيوع: ويشترط لجواز بيع العمارة في الحانوت والأشجار في الأرض أن لا يلحقها ضرر بالقلع لاملاك الباعة وفي الوقف لا يشترط، ولو باع بناء واستثنى ما فيه من الخشب أو استثنى ما فيه من اللبن والتراب يجوز إذا اشتراه للنقض اه. وفي القنية: دار لسكني الإمام هدمها وبناها لنفسه وسقفها من الخشب القديم لم يكن له بيع البناء إن بناها كما كانت. وفيها أيضا: وقف دارا على إمام مسجد ليسكنه بشرائطه ثم أخذ يؤم بنفسه ليس له أن يأخذ أجرتها اه. قوله: (ولو أبى أو عجز عمر الحاكم بأجرتها) يعني أجرها الحاكم من الموقوف عليه أو غيره وعمرها بأجرتها ثم يردها بعد التعمير إلى من له السكنى لأن في ذلك رعاية للحقين - حق الوقف وحق صاحب السكنى - لأنه لو لم يعمرها تفوت السكنى أصلا. أفاد أنه لا يجبر الممتنع على العمارة لما فيه من إتلاف ماله فأشبه امتناع صاحب البذر في المزارعة، ولا يكون امتناعه رضا منه ببطلان حقه لأنه في حيز التردد. وأفاد بقوله عمر الحاكم بأجرتها أن من له السكنى لا تصح إجارته لأنه غير مالك، كذا في الهداية. وأورد عليه أنه إن أراد أنه ليس بمالك للمنفعة وإنما أبيح له الانتفاع كما اختاره في العناية وغاية البيان لزم أن لا يملك الإعارة، والمنقول في الخصاف أنه يملكها فلولا أنه مالك للمنفعة لما ملكها لأنها تمليك المنافع. وإن أراد أنه ليس بمالك للعين والإجارة تتوقف على ملك العين لزم أن لا تصح إجارة المستأجر فيما لا يختلف باختلاف المستعمل وأن لا تصح إعارته وهما صحيحان فالأولى أن يقال كما في فتح القدير لأنه يملك المنافع بلا بدل فلا يملك تمليكها ببدل وهو الإجارة وإلا لملك أكثر مما ملك بخلاف الإعارة، ولا فرق في هذا الحكم أعني عدم الإجارة بين الموقوف عليه السكنى وغيره فلا يملكها المستحق للغلة أيضا. ونص الأستروشني أن إجارة الموقوف عليه لا تجوز وإنما يملك الإجارة المتولي أو القاضي . ونقل عن الفقيه أبي جعفر: إن كان الاجر كله للموقوف عليه، فإن كان الوقف لا يسترم
365 تجوز إجارته وهذا في الدور والحوانيت، وأما الأراضي، فإن كان الواقف شرط تقديم العشر والخراج وسائر المؤن فليس للموقوف عليه أن يؤاجر، وإن لم يشترط ذلك يجب أن يجوز ويكون الخراج والمؤنة عليه والدعوى من الموقوف عليه غير مسموعة على الصحيح وبه يفتي، كذا في جامع الفصولين. فإن قلت: إذا لم يصح إيجاره ما حكم الأجرة إذا آجرها؟ قلت: ينبغي أن تكون للوقف ولم أره صريحا. ولو قالوا عمرها المتولي أو القاضي لكان أولى فظاهر قولهم إنما يملك الإجارة المتولي أو القاضي أن للقاضي الاستقلال بالإجارة ولو أبى المتولي إلا أن يكون المراد التوزيع فالقاضي يؤجرها إن لم يكن لها متول أو كان لها وأبى الأصلح، وأما مع حضور المتولي فليس للقاضي ذلك وستزداد وضوحا إن شاء الله تعالى بعد. ولم يذكر الشارحون حكم العمارة من المتولي فليس للقاضي ذلك وستزداد وضوحا إن شاء الله تعالى بعد. ولم يذكر الشارحون حكم العمارة من المتولي أو القاضي هل هي مملوكة لمن له السكنى أو لا؟ وفي المحيط: فإن أجر القيم وأنفق الأجرة في العمارة فتلك العمارة المحدثة تكون لصاحب السكنى لأن الأجرة بدل المنفعة وملك المنفعة كانت مستحقة لصاحب السكنى فكذا بدل المنفعة تكون له والقيم إنما أجر لأجله اه. ومقتضاه أنه لو مات تكون ميراثا كما لو عمرها بنفسه. وفي فتح القدير: ولو لم يرض الموقوف عليه السكنى بالعمارة ولم يجد من يستأجرها لم أر حكم هذه في المنقول من المذهب، والحال فيها يؤدي إلى أن تصير نقضا على الأرض كوما تسفوه الرياح، وخطر لي أنه يخيره القاضي بين أن يعمرها ليستوفي منفعتها وبين أن يردها إلى ورثة الواقف اه. وهو عجيب لأنهم صرحوا باستبدال الوقف إذا خرب وصار لا ينتفع به وهو شامل للأرض والدار. قال في الذخيرة: وفي المنتقى قال هشام: سمعت
366 محمدا يقول: الوقف إذا صار بحيث لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره وليس ذلك إلا للقاضي اه. وأما عود الوقف بعد خرابه إلى ملك الواقف أو ورثته فقد قدمنا ضعفه. والحاصل أن الموقوف عليه السكنى إذا امتنع من العمارة ولم يوجد مستأجر باعها القاضي واشترى بثمنها ما يكون وقفا. وفي الولوالجية: خان أو رباط سبيل أراد أن يخرب يؤاجره المتولي وينفق عليه، فإذا صار معمورا لا يؤاجره لأنه لو لم يؤاجره يندرس اه. لكن ظاهر كلام المشايخ أن محل الاستبدال عند التعذر إنما هو الأرض لا البيت وقد حققناه في رسالة في الاستبدال. قوله: (ويصرف نقضه إلى عمارته إن احتاج وإلا حفظه للاحتياج ولا يقسمه بين مستحقي الوقف) بيان لما انهدم من بناء الوقف وخشبه. والنقض - بالضم - البناء المنقوض والجمع نقوض. وعن الوبري: النقض بالكسر لا غير، كذا في المغرب. وذكر في القاموس أولا أن النقض بالكسر المنقوض وثانيا أنه بالضم ما انتقض من البنيان. وذكر أن الجمع أنقاض ونقوض. وفاعل يصرف الحاكم كما صرح به في الهداية لأنه المحدث عنه بقوله عمرها الحاكم. وقدمنا أنه لا فرق بين المتولي والحاكم في الإجارة والتعمير فكذا في النقض. وقد سوى بين القاضي والمتولي في الحاوي القدسي، فإن احتاج الوقف إلى عود النقض أعاده لحصول المقصود به، وإن استغنى عنه أمسكه إلى أن يحتاج إلى عمارته، ولا يجوز قسمته بين مستحقي الوقف لأنه جزء من العين ولا حق للموقوف عليهم فيها وإنما حقهم في المنافع والعين حق الله تعالى فلا يصرف لهم غير حقهم. ولم يذكر المصنف بيعه قال في الهداية: وإن تعذر إعادة عينه إلى موضعه بيع وصرف ثمنه إلى المرمة صرفا للبدل إلى مصرف المبدل اه. وظاهره أنه لا يجوز بيعه حيث أمكن إعادته. وهل يفسد البيع أو يصح مع إثم
367 المتولي؟ لم أره صريحا وينبغي الفساد، وقدمنا أنه لا يجوز بيع بعض الموقوف لمرمة الباقي بثمن ما باع. زاد في التتارخانية أن المشتري لو هدم البناء ينبغي عزل الناظر، ولا ينبغي للقاضي أن يأتمن الخائن وسبيله أن يعزله اه. وفي الحاوي: فإن خيف هلاك النقض باعه الحاكم وأمسك ثمنه لعمارته عند الحاجة اه. فعلى هذا يباع النقض في موضعين عند تعذر عوده وعند خوف هلاكه. والمراد ما انهدم من الوقف فلو انهدم الوقف كله فقد سئل عنه قارئ الهداية بقوله سئل عن وقف تهدم ولم يكن له شئ يعمر منه ولا أمكن إجارته ولا تعميره هل تباع أنقاضه من حجر وطوب وخشب؟ أجاب: إن كان الامر كذلك صح بيعه بأمر الحاكم ويشتري بثمنه وقف مكانه، فإذا لم يكن رده إلى ورثة الواقف إن وجدوا وإلا صرف إلى الفقراء اه. قوله: (وإن جعل الواقف غلة الوقف لنفسه أو جعل الولاية إليه صح) أي لو شرط عند الايقاف ذلك اعتبر شرطه، أما الأول فهو جائز عند أبي يوسف ولا يجوز على قياس قول محمد من اشتراط التسليم إلى المتولي عنده. وقيل: إن الاختلاف بينهما بناء على اشتراط القبض والافراز. وقيل: هي مسألة مبتدأة فالخلاف فيما إذا شرط البعض لنفسه في حياته وبعد موته للفقراء، وفيما إذا شرط الكل لنفسه في حياته وبعده للفقراء. وجه قول محمد أن الوقف شرع على وجه التمليك بالطريق الذي قدمناه فاشتراطه الكل أو البعض لنفسه يبطله لأن التمليك من نفسه لا يتحقق فصار كالصدقة المنفذة وشرط بعض بقعة المسجد لنفسه. ولأبي يوسف ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل من صدقته، والمراد منها صدقته الموقوفة ولا يحل الاكل منه إلا بالشرط فدل على صحته، ولان الوقف إزالة الملك إلى الله تعالى على وجه القربة على ما بيناه، فإذا شرط البعض أو الكل لنفسه فقد جعل ما صار مملوكا لله تعالى لنفسه لا أن يجعل ملك نفسه لنفسه وهذا جائز كما إذا بنى خانا أو سقاية أو جعل أرضه مقبرة وشرط أن ينزله أو يشرب منه أو يدفن فيه، ولان مقصوده القربة وفي الصرف إلى نفسه ذلك قال عليه السلام نفقة الرجل على نفسه صدقة. وفي فتح القدير: فقد ترجح قول أبي يوسف: قال الصدر الشهيد: والفتوى على قول أبي يوسف. ونحن أيضا نفتي بقوله ترغيبا للناس في الوقف. واختاره مشايخ بلخ، وكذا ظاهر الهداية حيث أخر وجهه ولم يدفعه. ومن صور الاشتراط لنفسه ما لو قال أن يقضي دينه من غلته، وكذا إذا قال إذا حدث على الموت وعلى دين يبدأ من غلة هذا الوقف بقضاء ما علي فما فضل فعلى سبيله كل ذلك جائز. وفي وقف الخصاف: فإذا شرط أن ينفق على نفسه وولده وحشمه وعياله من
368 غلة هذا الوقف فجاءت غلته فباعها وقبض ثمنها ثم مات قبل أن ينفق ذلك، هل يكون ذلك لورثته أو لأهل الوقف؟ قال: يكون لورثته لأنه قد حصل ذلك وكان له، فقد عرف أن شرط بعض الغلة لا يلزم كونه بعضا معينا كالنصف والربع، وكذلك إذا قال إن حدث على فلان الموت يعني الواقف نفسه أخرج من غلة هذا الوقف في كل سنة من عشرة أسهم مثلا سهم يجعل في الحج عنه أو في كفارة أيمانه وفي كذا وكذا وسمى أشياء أو قال اخرج من هذه الصدقة في كل سنة كذا وكذا درهما ليصرف في هذه الوجوه ويصرف الباقي في كذا وكذا على ما سبله اه. وفي الحاوي القدسي: المختار للفتوى قول أبي يوسف ترغيبا للناس في الوقف وتكثيرا للخير. ويتفرع على هذا الاختلاف أيضا ما لو وقف على عبيده وإمائه، فعند محمد لا يجوز، وعند أبي يوسف يجوز كشرطه لنفسه. وفرع بعضهم عليه أيضا اشتراط الغلة لمدبريه وأمهات أولاده وهو ضعيف، والأصح أنه صحيح اتفاقا. والفرق لمحمد أن حريتهم ثبتت بموته فيكون الوقف عليهم كالوقف على الأجانب ويكون ثبوته لهم حال حياته تبعا لما بعد موته، فما في الهداية والمجتبى من تصحيح أنها على الخلاف ضعيف. قيد بجعل الغلة لنفسه لأنه لو وقف على نفسه. قال أبو بكر الإسكاف: لا يجوز وعن أبي يوسف جوازه. وإذا مات صار إلى المساكين، ولو قال أرضي صدقة موقوفة على أن لي غلتها ما عشت قال هلال: لا يجوز هذا الوقف. وذكر الأنصاري جوازه. وإذا مات يكون للفقراء، كذا في الخانية. وفيها: لو وقف وقفا واستثنى لنفسه أن يأكل منه ما دام حيا ثم مات وعنده من هذا الوقف معاليق عنب أو زبيب فذلك كله مردود إلى الوقف، ولو كان عنده خبز من بر ذلك الوقف يكون ميراثا لأن ذلك ليس من الوقف حقيقة اه. وحاصله أن المعتمد صحة الوقف على النفس واشتراط أن تكون الغلة له، فما في الخانية من أنه لو وقف على نفسه وعلى فلان صح نصفه وهو حصة فلان وبطل حصة نفسه، ولو قال على نفسي ثم على فلان أو قال على فلان ثم على نفسي لا يصح شئ منه، ولو قال على عبدي وعلى فلان صح في النصف وبطل في النصف، ولو قال على نفسي وولدي ونسلي فالوقف كله باطل لأن حصة النسل مجهولة اه. مبني على القول الضعيف، والعجب منه كيف جزم به وساقه على طريقة
369 الاتفاق أو الصحيح. ثم علم أن الاعتبار في الشروط لما تكلم به الواقف لا لما كتب في مكتوب الوقف، فلو أقيمت بينة بشرط تكلم به الواقف ولم يوجد في المكتوب عمل به لما في البزازية: وقد أشرنا أن الوقف على ما تكلم به لا على ما كتب الكاتب فيدخل في الوقف المذكور وغير المذكور في الصك أعني كل ما تكلم به اه. ولا خلاف في اشتراط الغلة لولده فإذا وقف على ولده شمل الذكر والأنثى، وإن قيده بالذكر لا تدخل الأنثى كالابن. ولا شئ لولد الولد مع وجود الولد، فإن لم يوجد له ولد كانت لولد الابن. ولا يدخل ولد البنت في الوقف على الولد مفردا وجمعا في ظاهر الرواية وهو الصحيح المفتى به. ولو وقف على ولده وولد ولده اشترك ولده وولد ابنه. وصحح قاضيخان دخول أولاد البنات فيما إذا وقف على أولاده وأولاد أولاده، وصحح عدمه في ولدي. ولو قال على ولدي فمات كانت للفقراء ولا تصرف إلى ولد ولده في كل بطن إلا بالشرط إلا إذا ذكر البطون الثلاثة فإنها لا تصرف إلى للفقراء ما بقي أحد من أولاده وإن سفل. ولو وقف على ولديه ثم على أولادهما فمات أحدهما كان للآخر النصف ونصف الميت للفقراء لا لولده، فإذا مات الآخر صرف الكل إلى أولاد الأولاد. ولو وقف على ولده وليس له إلا ولد ابن كانت له، فإن حدث له ولد كانت له. ولو وقف على محتاجي ولده وليس له إلا ولد محتاج كان النصف له والآخر للفقراء. ولو وقف على أولاده فماتوا إلا واحدا كان الكل له لا للفقراء إلا بعد موته، ولو عين الأولاد فكل من مات كان نصيبه للفقراء لا لأخواته بغير شرط. ولو وقف على أولاده وليس له إلا واحد أو على بنيه وليس له إلا ابن واحد كان النصف له والنصف للفقراء. هكذا سوى بين الأولاد والأبناء في الخانية، وفرق بينهما في فتح القدير فقال في الأولاد: يستحق الواحد الكل وفي البنين لا يستحق الكل وقال: كأنه مبني على العرف، وقد علمت أن المنقول خلافه. ولو وقف على بنيه لا تستحق البنات كعكسه. وبقية التفاريع المتعلقة بالوقف على الأولاد والأقارب معلومة في الخصاف وغيره. وفرع في الهداية على الاختلاف بين الشيخين شرط الاستبدال لنفسه فجوزه أبو يوسف، وأبطل محمد الشرط وصحح
370 الوقف. وفي الخانية: الصحيح قول أبي يوسف لأنه شرط لا يبطل حكم الوقف لأن الوقف يحتمل الانتقال من أرض إلى أرض أخرى ويكون الثاني قائما مقام الأول فإن أرض الوقف إذا غصبها غاصب وأجرى عليها الماء حتى صارت بحرا لا تصلح للزراعة يضمن قيمتها ويشتري بقيمتها أرضا أخرى فتكون الثانية وقفا على وجه الأولى، وكذلك أرض الوقف، إذا قل نزلها الآفة وصارت بحيث لا تصلح للزراعة أو لا تفضل غلتها عن مؤنها ويكون صلاح الوقف في الاستبدال بأرض أخرى فيصح شرط ولاية الاستبدال وإن لم يكن للحال ضرورة داعية إلى الاستبدال. ولو شرط بيعها بما بدا له من الثمن أو أن يشتري بثمنها عبدا أو يبيعها ولم يزد فسد الوقف لأنه شرط ولاية الابطال بخلاف شرط الاستبدال لأنه نقل وتحويل، وأجمعوا أنه إذا شرط الاستبدال لنفسه في أصل الوقف أن الشرط والوقف صحيحان ويملك الاستبدال أما بدون الشرط أشار في السير أنه لا يملك الاستبدال إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك. ولو شرط أن يبيعها ويشتري بثمنها أرضا أخرى ولم يزد صح استحسانا وصارت الثانية وقفا بشرائطه: الأولى، ولا يحتاج إلى إيقافها كالعبد الموصي بخدمته إذا قتل خطأ واشترى المولى بقيمته عبدا آخر ثبت حق الموصى له في خدمته، والمدبر إذا قتل خطأ فاشترى المولى بقيمته آخر صار مدبرا وليس له أن يستبدل الثانية بأرض ثالثة لأن الشرط وجد في الأولى فقط. ولو شرط استبدالها بأرض فليس له الاستبدال بدار لأنه لا يملك تغيير الشرط، وله أن يشتري أرض الخراج لأن أرض الوقف لا تخلو عن وظيفة إما العشر وإما الخراج. ولو شرط استبدالها بدار فليس له استبدالها بأرض، ولو قيد بأرض البصرة تقيد وليس له استبدالها بأرض الحوز لأن من في يده أرض الحوز بمنزلة الأكار لا يملك البيع. ولو أطلق الاستبدال فباعها بثمن ملك الاستبدال بجنس العقار من دار أو أرض في أي بلد شاء، ولو باعها بغبن فاحش لا يجوز بيعه في قول أبي يوسف وهلال لأن القيم بمنزلة الوكيل فلا يملك البيع بغبن فاحش، ولو كان أبو حنيفة يجيز الوقف بشرط الاستبدال لأجاز بيع القيم بغبن فاحش كالوكيل بالبيع. ولو باعه بثمن مقبوض ومات مجهلا كان دينا في
371 تركته. ولو وهب الثمن صحت وضمن في قول الإمام. وقال أبو يوسف: لا تصح الهبة. ولو باعها بعروض ففي قياس قول الإمام يصح ثم يبيعها بنقد ثم يشتري عقارا أو يبيعها بعقار. وقال أبو يوسف وهلال: لا يملكه إلا بالنقد كالوكيل بالبيع. ولو عادت إليه بعد بيعها إن عادت إليه بما هو عقد جديد لا يملك بيعها ثانيا، وإن بما هو فسخ من كل وجه ملك بيعها ثانيا. ولو باع واشترى بثمنها أخرى ثم ردت الأولى عليه بعيب بالقضاء كان له أن يصنع بالأخرى ما شاء والأولى تعود وقفا، ولو بغير قضاء لم ينفسخ البيع في الأولى ولا تبطل الوقفية في الثانية ويصير مشتريا الأولى لنفسه. ولو اشترى بثمنها أرضا أخرى فاستحقت الأولى لا تبقى الثانية وقفا استحسانا لبطلان المبادلة، ولو شرط الاستبدال لنفسه ثم أوصى به إلى وصيه لا يملك وصيه الاستبدال، ولو وكل وكيلا في حياته صح، ولو شرطه لكل متول صح وملكه كل متول. ولو شرط أن لفلان ولاية الاستبدال فمات الواقف لا يكون لفلان ولايته بعد موت الواقف إلا أن يشترطه له بعد وفاته. وهذا كله قول أبي يوسف وهلال بناء على جواز عزل الواقف المتولي فكان وكيله فانعزل بموته. وعند محمد لا تبطل ولايته بوفاته لأنه وكيل الفقراء لا الواقف. ولو شرط الاستبدال لرجل آخر مع نفسه ملك الواقف الاستبدال وحده ولا يملكه فلان وحده، الكل من الخانية. وقد اختلف كلام قاضيخان في موضع جوزه للقاضي بلا شرط الواقف حيث رأى المصلحة فيه، وفي موضع منع منه ولو صارت الأرض بحال لا ينتفع بها، والمعتمد أنه بلا شرط يجوز للقاضي بشرط أن يخرج عن الانتفاع بالكلية، وأن لا يكون هناك ريع للوقف يعمر به، وأن لا يكون البيع بغبن فاحش. وشرط في الاسعاف أن يكون المستبدل قاضي الجنة المفسر بذي العلم والعمل كيلا يحصل التطرق إلى إبطال أوقاف المسلمين كما هو الغالب في زماننا اه. ويجب أن يزاد آخر في زماننا وهو أن يستبدل بعقار لا بالدراهم والدنانير فإنا قد شاهدنا النظار يأكلونها وقل أن يشتري بها بدل، ولم نر أحدا من القضاة يفتش على ذلك مع كثرة الاستبدال في زماننا مع أني نبهت بعض القضاة على ذلك وهم بالتفتيش ثم ترك. فإن قلت: كيف زدت هذا الشرط
372 والمنقول السابق عن قاضيخان يرده؟ قلت: لما في السراجية سئل عن مسألة استبدال الوقف ما صورته وهل هو على قول أبي حنيفة وأصحابه؟ أجاب: الاستبدال إذا تعين بأن كان الموقوف لا ينتفع به وثم من يرغب فيه ويعطى بدله أرضا أو دارا لها ريع يعود نفعه على جهة الوقف فالاستبدال في هذه الصورة قول أبي يوسف ومحمد، وإن كان للوقف ريع ولكن يرغب شخص في استبداله إن أعطي مكانه بدلا أكثر ريعا منه في صقع أحسن من صقع الوقف جاز عند القاضي أبي يوسف والعمل عليه وإلا فلا يجوز اه. فقد عين العقار للبدل فدل على منع الاستبدال بالدراهم والدنانير. وفي القنية: مبادلة دار الوقف بدار أخرى إنما يجوز إذا كانتا في محلة واحدة أو تكون المحلة المملوكة خيرا من
373 المحلة الموقوفة، وعلى عكسه لا يجوز وإن كانت المملوكة أكثر مساحة وقيمة وأجرة لاحتمال خرابها في أدون المحلتين لدناءتها وقلة رغبات الناس فيها اه. وفي المحيط: لو ضاع الثمن من المستبدل لا ضمان عليه لكونه أمينا كالوكيل بالبيع اه. وفي شرح منظومة ابن وهبان: لو شرط الواقف أن لا يستبدل أو يكون الناظر معزولا قبل الاستبدال أو إذا هم بالاستبدال انعزل هل يجوز استبداله؟ قال الطرسوسي: إنه لا نقل فيه، ومقتضى قواعد المذهب أن للقاضي أن يستبدل إذا رأى المصلحة في الاستبدال لأنهم قالوا: إذا شرط الواقف أن لا يكون للقاضي أو السلطان كلام في الوقف أنه شرط باطل وللقاضي الكلام لأن نظره أعلى، وهذا شرط فيه تفويت المصلحة للموقوف عليهم وتعطيل للوقف فيكون شرطا لا فائدة فيه للوقف ولا مصلحة فلا يقبل اه. وفيه أيضا فرع مهم وقع السؤال بالقاهرة بعد سنة سبعين أن الواقف إذا جعل لنفسه التبديل والتغيير والاخراج والادخال والزيادة والنقصان ثم فسر التبديل باستبدال الوقف هل يكون صحيحا؟ وهل تكون له ولاية الاستبدال؟ والشيخ الإمام الوالد سقى الله عهده صوب الرضوان أفتى بصحة ذلك وأنه يكون له ولاية الاستبدال لأن الكلام ما أمكن حمله على التأسيس لا يحمل على التأكيد ولفظ التبديل محتمل للمعنى المذكور وحمله على معنى يغايره فيه ما بعده أولى من جعله مؤكدا به. وبلغني موافقة بعض أصحابنا من الحنفية على ذلك ومخالفة البعض، ثم رفع سؤال آخر عن الواقف إذا شرط لنفسه ما ذكرنا ثم اشترط بمقتضى ذلك الشرط أنه شرط لنفسه أن يستبدل بوقفه إذا رأى ما هو أنفع منه لجهة الوقف، فهل يصح الاشتراط الثاني ويعمل به لأنه من مقتضى الشرط الأول أم لا؟ فاضطرب فيه إفتاء أصحابنا وكنت ممن أفتى بصحته وكونه من مقتضى الشرط الأول، وأظن أن الشيخ الإمام وافقني على ذلك وقضى به في التاريخ المذكور سيما إذا قال الواقف في كتاب الوقف وأن يشترط لنفسه ما شاء من الشروط المخالفة لذلك اه. وفي فتح القدير: لو باع وقبض الثمن ثم مات مجهلا فإنه يكون ضامنا اه. وقد وقعت حادثتان للفتوى: إحداهما باع الوقف من ابنه الصغير فأجبت بأنه لا يجوز اتفاقا كالوكيل بالبيع باع من ابنه الصغير، ولو باع من ابنه الكبير فكذلك عند الإمام خلافا لهما كما عرف في الوكالة. ثانيتهما باع من
374 رجل له دين على المستبدل وباعه الوقف بالدين ولم أر فيهما نقلا، وينبغي أن لا يجوز على قول أبي يوسف وهلال لأنهما لا يجوزان البيع بالعروض فالدين أولى. وفي فتح القدير: على وزان شرط الاستبدال لو شرط لنفسه أن ينقص من المعاليم إذا شاء ويزيد ويخرج من شاء ويستبدل به كان له ذلك، وليس لقيمه إلا أن يجعل له، وإذا أدخل وأخرج مرة ليس له ثانيا إلا بشرطه. وفي وقف الخصاف: لو شرط أن لا تباع ثم قال في آخره على أن له الاستبدال كان له الاستبدال لأن الآخر ناسخ للأول وكذا لو شرط الاستبدال أولا ثم قال لا تباع امتنع الاستبدال. وإذا شرط الزيادة والنقصان والادخال والاخراج كلما بدى له كان ذلك مطلقا له غير محظور عليه ويستقر الوقف على الحال الذي كان عليها يوم موته، وما شرطه لغيره من ذلك فهو له، ولو شرط لنفسه ما دام حيا ثم للمتولي من بعده صح، ولو جعله للمتولي ما دام الواقف حيا ملكاه مدة حياته، فإذا مات الواقف بطل، وليس للمشروط له ذلك أن يجعله لغيره أو يوصي له، ولو شرط لنفسه الاستبدال والزيادة والنقصان والادخال والاخراج ليس له أن يجعل ذلك للمتولي وإنما له ذلك ما دام حيا اه ملخصا. وفي المحيط: لو شرط أن يعطي غلتها من شاء له المشيئة في صرفها إلى من شاء وإذا مات انقطعت وإن شاء نفسه ليس له ذلك على قول ما نعي الوقف على النفس، وإن شاء غنيا معينا جاز كفقير معين وامتنع التحويل إلى غيره، وإن شاء الصرف على الأغنياء دون الفقراء بطلت المشيئة، وإن شاء صرفها إلى فقراء دون الأغنياء جازت، ولو شرط أن يعطيها من شاء من بني فلان فشاء واحدا منهم جاز، ولو شاء كلهم بطلت وتكون للفقراء عند أبي حنيفة قياسا، وعندهما جازت وتكون لبني فلان استحسانا بناء على أن كلمة من للتبعيض عنده، وللبيان عندهما. ولو شرط أن يفضل من شاء فله مشيئة التفضيل دون مشيئة التخصيص، ولو وقف على بني فلان على أن لي إخراج من شئت منهم، فإن أخرج معينا صح، ثم إن كان في الوقف غلة وقت الاخراج ذكر هلال أنه يخرج منها خاصة، وعلى قياس ما ذكر في وصايا الأصل والجامع الصغير أنه يخرج عن الغلة أبدا فإنه لو أوصى بغلة بستانه وفي البستان غلة يوم موت الموصى فله الغلة الموجودة وما يحدث في المستقبل أبدا، وعلى رواية هلال له الموجود فقط وهو المحكي عن أصحابنا. وإن أخرج واحدا مبهما بأن قال أخرجت فلانا أو فلانا جاز والبيان إليه، فإن لم يبين حتى مات فالغلة تقسم على رؤس الباقين ويضرب لهذين بسهم، فإن اصطلحا أخذاه بينهما، وإن أبيا أو أبي أحدهما وقف الامر حتى يصطلحا. وإن أخرجهم جميعا، فإن كان من غلة هذه السنة صح وكانت للفقراء وبعدها للموقوف عليهم، وإن أخرجهم من الغلة مطلقا لم يصح قياسا لأن الشرط للبعض ويصح استحسانا لأنه يراد به الايثار في المستأنف وما يبدو له في المستقيل وتكون للفقراء اه. وقد
375 وقعت حوادث الفتوى في مسألة الادخال والاخراج إلى آخره منها: لو قال من له ذلك بعدما أدخل انسانا أسقطت حقي من إخراجه ثم أخرجه هل يخرج؟ ومنها لو قال من له ذلك أسقطت حقي منه هل يسقط وليس له فعل شئ؟ ومنها لو شرط الواقف لنفسه الادخال إلى آخره كلما بدا له وشرط أن يشترطه لمن شاء فشرطه لغيره وشرط له ما شرطه لنفسه فشرطه المشروط له لآخر فأراد من شرطه الواقف له أن يخرج من جعل هذا الشرط له، وأراد المجعول له أن يخرج الجاعل، فهل هو للأول أو للثاني بناء على أن المشروط له ذلك إذا جعله لغيره، هل يبطل ما كان له أو يبقى له ولمن جعله له؟ ومنها أنه لو شرط ذلك له ولفلان فهل لأحدهما الانفراد أو لا؟ ولم أر نقلا صريحا فيها، وظاهر ما في الخانية من الشرب أن الحق يقبل الاسقاط أنه يسقط حقه فإنه صرح بأن حق الغانم قبل القسمة وحق المسيل المجرد وحق الموصى له بالسكنى وحق الموصى له بالثلث قبل القسمة وحق الوارث قبل القسمة يسقط. وصرح في جامع الفصولين من الفصل الثامن والعشرين: لو قال وارث تركت حقي لا يبطل حقه إذ الملك لا يبطل بالترك والحق يبطل به حتى لو أن أحد الغانمين قال قبل القسمة تركت حقي بطل حقه، وكذا لو قال المرتهن تركت حقي في حبس الرهن يبطل اه. فقوله والحق يبطل به يدل على ما ذكرنا. فإن قلت: ذكر في الخانية من كتاب الشهادات من كان فقيرا من أصحاب المدرسة يكون مستحقا للوقف استحقاقا لا يبطل بإبطاله فإنه لو قال أبطلت حقب كان له أن يطلب ويأخذ بعد ذلك اه. قلت: بينهما فرق لأن كلامنا فيما إذا كان الحق لمعين أسقطه، وأما ما في الخانية من الشهادات فالحق لغير معين فإنه وقف مطلق على فقراء المدرسة وغير المعين لا يصح إبطاله، وإنما خرج عن هذا الأصل ما إذا لم يكن الحق لمعين ومثله في الهبة. قال في البزازية: لو قال الواهب أسقطت حقي في الرجوع في الهبة لا يسقط اه. فإن قلت: إذا قال من له الشرط لا حق لي فيها ولا استحقاق ولا دعوى فهل له ولاية الادخال والاخراج مع شرط الواقف؟ قلت: ليس له ذلك لكونه مقرا بأنه لا حق له وهو مؤاخذ بإقراره ولذا قال الخصاف: لو وقف على ولده فأقر بأنه عليه وعلى زيد عمل بإقراره ما دام حيا حملا على أن الواقف رجع عن اختصاصه وأشرك معه زيدا إلى آخره. وعلى
376 هذا سألت فيمن له الادخال والاخراج كلما بدا له فأدخل انسانا فما الحيلة في عدم جواز اخراجه؟ فأجبت بأنه يقر بأنه لا حق له في إخراجه ولا تمسك له بما في شرط الواقف فلا يقدر على إخراجه بعده، هذا ما ظهر لي والله سبحانه وتعالى أعلم. وظاهر قوله في فتح القدير أن مسألة شرط الادخال والاخراج إلى آخره على وزان مسألة الاستبدال أن للواقف الانفراد وليس للآخر الانفراد لما ذكرناه عن الخانية في مسألة ما إذا شرط الاستبدال لنفسه ولفلان معللا بأن الواقف هو الذي شرط لذلك الرجل وما شرط لغيره فهو مشروط لنفسه اه. وقد يقال: لا فائدة حينئذ في اشتراطه معه لأن الواقف يصح انفراده فكان كالعدم، وظاهر ما في الخانية أنه مفرع على قول أبي يوسف بجواز عزل المتولي بلا شرط، وأما على قول محمد فالواقف كالأجنبي فينبغي أن لا يملك الواقف الاستبدال وحده، وكذا الادخال والاخراج ولم يظهر لي وجه الثالثة، وأما الثانية أعني اشتراط الولاية للواقف فالمذكور قول أبي يوسف وهو قول هلال وهو ظاهر المذهب. وذكر هلال في وقفه وقال أقوام: إن شرط الواقف الولا لنفسه كانت له، وإن لم يشترط لم تكن له ولاية. قال مشايخنا. والأشبه أن يكون هذا قول محمد لأن من أصله أن التسليم للقيم شرط لصحة الوقف فإذا سلم لم يبق له ولاية فيه، ولنا أن المتولي إنما يستفيد فيه الولاية من جهته بشرطه فيستحيل أن لا تكون له الولاية وغيره يستفيد الولاية منه، ولأنه أقرب الناس إلى هذا الوقف فيكون أولى بولايته كمن اتخذ مسجدا يكون أولى بعمارته ونصب المؤذن فيه، وكمن أعتق عبدا كان الولاء له لأنه أقرب الناس إليه، كذا في الهداية. وفي الخلاصة: إذا شرط الواقف أن يكون هو المتولي فعند أبي يوسف الوقف والشرط كلاهما صحيحان، وعند محمد وهلال الوقف والشرط كلاهما باطلان اه. فقد اختلف النقل عن هلال. وفي الخلاصة: إذا شرط في الوقف الولاية لنفسه وأولاده في عزل القيم واستبداله لهم وما هو من نوع الولاية وأخرجه من يد المتولي جاز، ولو لم يشترط الولاية لنفسه وأخرجه من يده قال محمد: لا ولاية للواقف والولاية للقيم، وكذا لو مات وله وصي لا ولاية لوصيه والولاية للقيم. وقال أبو يوسف: الولاية للواقف وله أن يعزل القيم في حياته، وإذا مات الواقف بطل ولاية القيم، ومشايخ بلخ يفتون بقول أبي يوسف. وقال الصدر الشهيد: والفتوى على قول محمد اه. والحاصل أن أبا يوسف لما لم يشترط التسليم إلى المتولي جاز عنده ابتداء شرط التولية إلى نفسه، وإذا ولى غيره
377 كان وكيلا عنه فله عزله، وإذا مات الواقف بطلت ولايته. ومحمد لما شرطه انعكست الأحكام عنده كما قدمناه والكلام هنا في الناظر يقع في مواضع: الأول في أهله وفيه بيان زله وعزل أرباب الوظائف. الثاني في الناظر بالشرط. الثالث في الناظر من القاضي. الرابع في تصرفاته وفيه بيان ما عليه من العمل وماله من الأجرة. أما الأول فقال في فتح القدير: الصالح للنظر من لم يسأل الولاية للوقف وليس فيه فسق يعرف قال: وصرح بأنه مما يخرج به الناظر ما إذا ظهر به فسق كشربه الخمر ونحوه اه. وفي الاسعاف: لا يولى إلا أمين قادر بنفسه أو بنائبه لأن الولاية مقيدة بشرط النظر، وليس من النظر تولية الخائن لأنه يخل بالمقصود، وكذا تولية العاجز لأن المقصود لا يحصل به ويستوي فيه الذكر والأنثى، وكذا الأعمى والبصير، وكذا المحدود في قذف إذا تاب لأنه أمين رجل طلب التولية على الوقف. قالوا: لا يعطى له وهو كمن طلب القضاء لا يقلد اه. والظاهر أنها شرائط الأولوية لا شرائط الصحة وأن الناظر إذا فسق استحق العزل ولا ينعزل لأن القضاء أشرف من التولية ويحتاط فيه أكثر من التولية، والعدالة فيه شرط الأولوية حتى يصح تقليد الفاسق، وإذا فسق القاضي لا ينعزل على الصحيح المفتى به فكذا الناظر، ويقرأ يخرج في عبارة ابن الهمام بالبناء للمجهول أي يجب إخراجه ولا ينعزل. ويشترط للصحة بلوغه وعقله لما في الاسعاف: ولو أوصى إلى صبي تبطل في القياس مطلقا، وفي الاستحسان هي باطلة ما دام صغيرا، فإذا كبر تكون الولاية له، وحكم من لم يخلق من ولده ونسله في الولاية كحكم الصغير قياسا واستحسانا اه. ولا تشترط الحرية والاسلام للصحة لما في الاسعاف: ولو كان ولده عبدا يجوز قياسا واستحسانا لأهليته في ذاته بدليل أن تصرفه الموقوف لحق المولى ينفذ عليه بعد العتق لزوال المانع بخلاف الصبي والذمي في الحكم كالعبد فلو أخرجهما القاضي
378 ثم أعتق العبد وأسلم الذمي لا تعود الولاية إليهما اه. وأما عزله فقدمنا أن أبا يوسف جوز عزله للواقف بغير جنحة وشرط لأنه وكيله، وخالفه محمد. وأما عزل القاضي له فشرطه أن يكون بجنحة. قال في الاسعاف: ولو جعلها للموقوف عليه ولم يكن أهلا أخرجه القاضي وإن كانت الغلة له وولي عليه مأمونا لأن مرجع الوقف للمساكين وغير المأمون لا يؤمن عليه من تخريب أو بيع فيمتنع وصوله إليهم، ولو أوصى الواقف إلى جماعة وكان بعضهم غير مأمون بدله القاضي بمأمون، وإن رأى إقامة واحد منهم مقامه فلا بأس به اه. وفي جامع الفصولين من الثالث عشر: القاضي لا يملك نصب وصي وقيم مع بقاء وصي الميت وقيمه إلا عند ظهور الخيانة منهما. ومن الفصل الأول معزيا إلى فوائد شيخ الاسلام برهان الدين: شرط الواقف أن يكون المتولي من أولاده وأولاد أولاده هل للقاضي أن يولي غيره بلا خيانة؟ ولو ولاه هل يصير متوليا؟ قال: لا اه. فقد أفاد حرمة تولية غيره وعدم صحتها لو فعل. وفي القنية: نصب القاضي قيما آخر لا ينعزل الأول إن كان منصوب الواقف اه. والحاصل أن تصرف القاضي في الأوقاف مقيد بالمصلحة لا أنه يتصرف كيف شاء، فلو فعل ما يخالف شرط الواقف فإنه لا يصح إلا لمصلحة ظاهرة ولذا قال في الذخيرة وغيرها: القاضي إذا قرر فراشا في المسجد بغير شرط الواقف وجعل له معلوما فإنه لا يحل للقاضي ذلك ولا يحل للفراش تناول المعلوم اه. فإن قلت: في تقرير الفراش مصلحة قلت: يمكن خدمة المسجد بدون تقريره بأن يستأجر المتولي فراشا له والممنوع تقريره في وظيفة تكون حقا له ولذا صرح قاضيخان بأن للمتولي أن يستأجر خادما للمسجد بأجرة المثل، واستفيد منه عدم صحة تقرير القاضي في بقية الوظائف بغير شرط الواقف كشهادة ومباشرة وطلب بالأولى وحرمة المرتبات
379 بالأوقاف بالأولى. واستفيد من عدم صحة عزل الناظر بغير جنحة عدمها لصاحب وظيفة في وقف، ويدل عليه أيضا ما في البزازية وغيرها: غاب المتعلم عن البلد أياما ثم رجع وطلب وظيفته، فإن خرج مسيرة سفر ليس له طلب ما مضى، وكذا إذا خرج وأقام خمسة عشر يوما، وإن أقل من ذلك لأمر لا بد له منه كطلب القوت والرزق فهو عفو، ولا يحل لغيره أن يأخذ حجرته وتبقى حجرته ووظيفته على حالها إذا كانت غيبته مقدار شهر إلى ثلاثة أشهر، فإذا زاد كان لغيره أخذ حجرته ووظيفته. وإن كان في المصر ولا يختلف للتعلم، فإن اشتغل بشئ من الكتابة المحتاج إليها كالعلوم الشرعية تحل له الوظيفة، وإن لعمل آخر لا تحل له، ويجوز أن تؤخذ حجرته ووظيفته اه. لقوله ولا يحل لغيره أن يأخذ حجرته ووظيفته فإذا حرم الاخذ مع الغيبة فكيف مع الحضرة والمباشرة فلا يحل عزل القاضي لصاحب وظيفة بغير جنحة وعدم أهلية ولو فعل لم يصح. واستفيد من البزازية جواز إخراج الوظائف بحكم الشغور لقوله: وإن لعمل آخر لا تحل ويجوز أخذ وظيفته وحجرته وأن الشغور إنما هو بخروجه عن المصر وإقامته زائدا على ثلاثة أشهر أو بتركه المباشرة وهو في المصر بشرط أن يشتغل بعمل آخر. وذكر ابن وهبان في شرح المنظومة أن في قوله ليس له أن يطلب الوظيفة إشارة إلى أنه لا ينعزل عنها، وفي قوله لا يؤخذ بيته إن غاب أقل من ثلاثة أشهر إشارة إلى أنه يؤخذ إذا كان أكثر، وكذا ينبغي أن تؤخذ الوظيفة أيضا لا سيما إذا كان مدرسا إذ المقصود يقوم به بخلاف الطالب فإن الدرس يقوم بغيره. قال ابن الشحنة في شرح المنظومة: وهذا يدل على أنه فهم من الوظيفة ما هو المتعارف في زماننا وليس هو المراد، بل المراد بالوظيفة ما يخصه من ريع وقف المدرسة فإن أصل المسألة في قاضيخان في الوقف على ساكني دار المختلفة، فالمراد سقوط سهمه فيعطى لذلك. أنه قال: ينبغي أن تكون الغيبة المسقطة للمعلوم المقتضية للعزل في غير فرض كالحج وصلة الرحم، وأما فيهما فلا يستحق العزل ولا يأخذ المعلوم، وهذا كله مفهوم من عبارة قاضيخان. لا يقال فيه ينبغي بل هو
380 مفهوم عبارة الأصحاب، وهذا كله فيما إذا كان الوقف على ساكني دار المختلفة، أما إذا شرط الواقف في ذلك كله شروطا اتبعت اه. والله أعلم. وبهذا ظهر غلط من يستدل من المدرسين أو الطلبة بما في الفتاوى على استحقاقه المعلوم بلا حضور الدرس لاشتغاله بالعلم في غير تلك المدرسة، فإن الواقف إذا شرط على المدرسين والطلبة حضور الدرس في المدرسة أياما معلومة في كل جمعة فإنه لا يستحق المعلوم إلا من باشر خصوصا إذا قال الواقف إن من غاب عن المدرسة يقطع معلومه فإنه يجب اتباعه، ولا يجوز للناظر الصرف إليه زمن غيبته. وعلى هذا لو شرط الواقف أن من زادت غيبته على كذا أخرجه الناظر وقرر غيره اتبع شرطه، فلو لم يعزله الناظر وباشر لا يستحق المعلوم. فإن قلت: إذا كان له درس في جامع ولازمه بنية أن يكون عما عليه في مدرسة هل يستحق معلوم المدرسة؟ قلت: لا يستحق إلا إذا باشر في المكان المعين بكتاب الوقف لقوله في شرح المنظومة: أما لو شرط الواقف في ذلك شروطا اتبعت. فإن قلت: قال في القنية: وقف وشرط أن يقرأ عند قبره فالتعيين باطل، وصرحوا في الوصايا بأنه لو أوصى بشئ لمن يقرأ عند قبره فالوصية باطلة، فدل على أن المكان لا يتعين وبه تمسك بعض الحنفية من أهل العصر. قلت: لا يدل لأن صاحب الاختيار علله بأن أخذ شئ للقراءة لا يجوز لأنه كالأجرة فأفاد أنه مبني على غير المفتى به فإن المفتى به جواز الاخذ على القراءة فيتعين المكان. والذي ظهر لي أنه مبني على قول أبي حنيفة بكراهة القراءة عند القبر فلذا يبطل التعيين، والفتوى على قول محمد من عدم كراهة القراءة عنده كما في الخلاصة فيلزم التعيين، وقد سمعت بعض المدرسين من الحنفية يتمسك على عدم تعيين المكان بقولهم: لو نذر الصلاة في الحرم لا يتعين المكان فكذا إذا عينه الواقف وهذه غفلة عظيمة لأن الناذر لو عين فقيرا لا يتعين، والواقف لو عين انسانا للصرف تعين حتى لو صرف الناظر لغيره كان ضامنا فكيف يقاس الوقف على النذر؟ فإن قلت: قد قدمت عن الخلاصة أنه لو وقف مصحفا على المسجد جاز ويقرأ في ذلك المسجد وفي موضع آخر ولا يكون مقصورا على هذا المسجد فهذا يدل على عدم تعيين المكان. قلت: ليس فيه أنه شرط أن يقرأ فيه في ذلك المسجد وإنما أطلق وكلامنا عند الاشتراط. وفي القنية: سبل مصحفا في
381 مسجد بعينه للقراءة ليس له بعد ذلك أن يدفعه إلى آخر من غير أهل تلك المحلة للقراءة اه. فهذا يدل على تعيين المحلة وأهلها. فإن قلت: ما يأخذه صاحب الوظيفة أجرة أو صدقة أو صلة؟ قلت قال الطرسوسي في أنفع الوسائل: إن فيه شوب الأجرة والصلة والصدقة فاعتبرنا شائبة الأجرة في اعتبار زمن المباشرة وما يقابله من المعلوم، واعتبرنا شائبة الصلة بالنظر إلى المدرس إذا قبض معلومه ومات أو عزل في أنه لا يسترد منه حصة ما بقي من السنة، وأعملنا شائبة الصدقة في تصحيح أصل الوقف فإن الوقف لا يصح على الأغنياء ابتداء لأنه لا بد فيه من ابتداء قرية ولا يكون إلا ملاحظة جانب الصدقة، ثم قال قبله: إن المأخوذ في معنى الأجرة وإلا لما جاز للغني فإذا مات المدرس في أثناء السنة قبل مجئ الغلة وقبل ظهورها من الأرض وقد باشر مدة ثم مات أو عزل ينبغي أن ينظر وقت قسمة الغلة إلى مدة مباشرته وإلى مباشرة من جاء بعده ويبسط المعلوم على المدرسين وينظركم يكون منه للمدرس المنفصل والمتصل فيعطي بحسابه مدته، ولا يعتبر في حقه ما قدمناه في اعتبار زمن مجئ الغلة وإدراكها كما اعتبر في حق الأولاد في الوقف عليهم، بل يفترق الحكم بينهم وبين المدرس والفقيه وصاحب وظيفة ما في جهات البر، وهذا هو الأشبه بالفقه والأعدل إلى آخره. وقد كثر وقوع هذه الحادثة بالقاهرة فأفتى بعض الحنفية بما قالوه في حق الأولاد من اعتبار مجئ الغلة حتى إن بعضهم يفرغ عن وظيفته قبل مجئ الغلة بشهر أو جمعة وقد كان باشر غالب السنة فينازعه المنزول له ويتمسك بما ذكرنا وليس بصحيح لما علمته من كلام الطرسوسي من قسمته المعلوم بينهما بقدر المباشرة، ولكن بالقاهرة إنما تعتبر الأقساط فإنهم يؤجرون الأوقاف بأجرة تستحق على
382 ثلاثة أقساط كما نبه عليه في فتح القدير فيقسم القسط بينهما بقدر المباشرة. فإن قلت: قال ابن الشحنة معزيا إلى التعليقة في المسائل الدقيقة لابن الصائغ وهو بخطه قال: وما يأخذه الفقهاء من المدارس ليس بأجرة لعدم شروط الإجارة ولا صدقة لأن الغني يأخذها بل إعانة لهم على حبس أنفسهم للاشتغال حتى لو لم يحضروا الدرس بسبب اشتغال وتعليق جاز أخذهم الجامكية ولم يعزها إلى كتاب لكن فيما تقدم قريبا عن قاضيخان ما يشهد له حيث علل بأن الكتابة من جملة التعلم. قلت: هو محمول على الأوقاف على الفقهاء من غير اشتراط حضور درس أياما معينة على ما قدمناه عن ابن الشحنة ولذا قال في القنية: الأوقاف ببخارى على العلماء لا يعرف من الواقف شئ غير ذلك فللقيم أن يفضل البعض ويحرم البعض إذ لم يكن الوقف على قوم يحصون، وكذا الوقف على الذين يختلفون إلى هذه المدرسة أو على متعلمي هذه المدرسة أو على علمائها يجوز للقيم أن يفضل البعض ويحرم البعض إن لم يبين الواقف ما يعطى كل واحد منهم، ثم رقم الأوقاف المطلقة على الفقهاء. قيل: الترجيح بالحاجة وقيل بالفضل اه. فإن قلت: كيف فرق الطرسوسي بين الأولاد وبين أرباب الوظائف وصريح ما في الفتاوى يخالفه؟ قال في البزازية: إمام المسجد رفع الغلة وذهب قبل
383 مضي السنة لا يسترد منه غلة بعض السنة والعبرة لوقت الحصاد، فإن كان يؤم في المسجد وقت الحصاد يستحقه وصار كالجزية وموت الحاكم في خلال السنة، وكذا حكم الطلبة في المدارس اه. قلت: إن قوله والعبرة لوقت الحصاد إنما هو فيما إذا قبض معلوم السنة بتمامها وذهب قبل مضيها لا لاستحقاقه من غير قبض مع أنه في القنية نقل عن بعض الكتب أنه ينبغي أن يسترد من الإمام حصة ما لم يؤم فيه اه. فإن قلت: هل تجوز النيابة في الوظائف مطلقا أو يعذر أم لا مطلقا؟ قلت: لم أر فيها نقلا عن أصحابنا إلا ما ذكره الطرسوسي في أنفع الوسائل فهما من كلام الخصاف فإنه قال: قلت أرأيت إن حلت بهذا القيم آفة من الآفات مثل الخرس والعمى وذهاب العقل والفالج وأشباه ذلك هل يكون له الاجر قائما أم لا؟ قال: إذا حل به من ذلك شئ يمكنه معه الكلام والأمر والنهي فالاجر له قائم، وإن كان لا يمكنه معه الكلام والأمر والنهي والاخذ والاعطاء لم يكن له من هذا الاجر شئ اه. قال الطرسوسي: فاستنبطنا منه جواب مسألة واقعة وهي أن المدرس أو الفقيه أو المعيد أو الإمام أو من كان مباشرا شيئا من وظائف المدارس إذا مرض أو حج وحصل له ما يسمونه الناس عذرا شرعيا على اصطلاحهم المتعارف بين الفقهاء أنه لا يحرم مرسومه المعين بل يصرف إليه ولا تكتب عليه غيبة. ومقتضى ما ذكره الخصاف أنه لا يستحق شيئا من المعلوم مدة ذلك العذر فالمدرس إذا مرض أو الفقيه أو أحد من أرباب الوظائف فإنه على ما قال
384 الخصاف إن أمكنه أن يباشر ذلك استحق، وإن كان لا يمكنه أن يباشر ذلك لا يستحق شيئا من المعلوم، وما جعل هذه العوارض عذرا في عدم منعه عن معلومه المقرر له بل أدار الحكم في المعلوم على نفس المباشرة، فإن وجدت استحق المعلوم، وإن لم توجد لا يكون له معلوم وهذا هو الفقه. واستخرجنا أيضا من هذا البحث والتقرير جواب مسألة أخرى وهي أن الاستنابة لا تجوز، سواء كان لعذر أو لغير عذر، فإن الخصاف لم يجعل له أن يستنيب مع قيام الاعذار التي ذكرها، ولو كانت الاستنابة تجوز كان قال ويجعل له من يقوم مقامه إلى أن يزول عذره، وهذا أيضا ظاهر الدليل وهو فقه حسن اه. وقدمنا عن ابن وهبان أنه إذا سافر للحج أو صلة الرحم لا ينعزل ولا يستحق المعلوم مع أنهما فرضان عليه وإلا ما ذكره في القنية استخلف الإمام خليفة في المسجد ليؤم فيه زمان غيبته لا يستحق الخليفة من أوقاف الإمامة شيئا إن كان الإمام أم أكثر السنة اه. وحاصله أن النائب لا يستحق من الوقف شيئا لأن الاستحقاق بالتقرير ولم يوجد، ويستحق الأصيل الكل إن عمل أكثر السنة، وسكت عما
385 يعينه الأصيل للنائب كل شهر في مقابلة عمله هل يستحقه النائب عليه أو لا، والظاهر أنه يستحقه لأنها إجارة وقد وفى العمل بناء على قول المتأخرين المفتى به من جواز الاستئجار على الإمامة والتدريس وتعليم القرآن. وعلى هذا إذا لم يعمل الأصيل وعمل النائب كان الوظيفة شاغرة ولا يجوز للناظر الصرف إلى واحد منهما ويجوز للقاضي عزله، وعمل الناس بالقاهرة على جواز الاستنابات في الوظائف وعدم اعتبارها شاغرة مع وجود النيابة. ثم رأيت في الخلاصة من كتاب القضاء أن الإمام يجوز استخلافه بلا إذن بخلاف القاضي، وعلى هذا لا تكون وظيفته شاغرة وتصح النيابة. ومما يرد على الطرسوسي أن الخصاف صرح بأن للقيم أن يوكل وكيلا يقوم مقامه وله أن يجعل له من معلومه شيئا، وكذا في الاسعاف وهذا كالتصريح بجواز الاستنابة لأن النائب وكيل بالأجرة كما لا يخفى، فالذي تحرر جواز الاستنابة في الوظائف. فإن قلت: هل للناظر قطع معلوم صاحب الوظيفة بقول كاتب الغيبة وحده مع دعوى المستحق حضوره؟ قلت: لم أر فيها نقلا لأصحابنا وإنما ذكره الإمام السبكي في فتاواه أنه لا يجوز القطع بقول كاتب الغيبة وحده، وصرح بأنه لا يحل لكاتب الغيبة أن يكتب عليه حتى يعلم أن غيبته كانت لغير عذر لكن هذا مبني على مذهبه من أن الغيبة لعذر لا توجب الحرمان، وأما على ما قدمناه من عدم الاستحقاق فلا، وسيأتي شئ من أحكام الوظائف في بيان تصرفات الناظر إن شاء الله تعالى. الموضع الثاني في الناظر بالشرط قدمنا أن الولاية للواقف ثابتة مدة حياته وإن لم يشترطها وأن له عزل المتولي، وأن من ولاه لا يكون له النظر بعد موته إلا بالشرط على قول أبي يوسف. ولو نصب الواقف عند موته وصيا ولم يذكر من أمور الوقف شيئا تكون ولاية الوقف إلى الوصي ولو جعله وصيا في أمر الوقف فقط كان
386 وصيا في الأشياء كلها عند أبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف وهلال، وليس لأحد الناظرين التصرف بغير رأي الآخر، وعلى قياس قول أبي يوسف يجوز. ولو أوصى أحدهما الآخر عند موته كان للباقي الانفراد، ولو شرط أن لا يوصي به المتولي عند موته امتنع الايصاء. ولو جعلها الرجلين فقبل أحدهما ورد الآخر ضم القاضي إلى من قبل رجلا أو فوض للقابل بمفرده، ولو جعلها لفلان إلى أن يدرك ولدي فإذا أدرك كان شريكا له لا يجوز ما جعله لابنه في رواية الحسن. وقال أبو يوسف: يجوز. ولو أوصى إلى رجل بأن يشتري بمال سماه أرضا ويجعلها وقفا سماها له وأشهد على وصيته جاز ويكون متوليا وله الايصاء به لغيره، ولو نصب متوليا على وقفه ثم وقف وقفا آخر ولم يجعل له متوليا لا يكون متولي الأول متوليا على الثاني إلا بأن يقول أنت وصبي. ولو وقف أرضين وجعل لكل متوليا لا يشارك أحدهما الآخر، ولو جعل ولاية وقفه لرجل ثم جعل رجلا آخر وصيه يكون شريكا للمتولي في أمر الوقف إلا أن يقول وقفت أرضي على كذا وكذا وجعلت ولايتها لفلان وجعلت فلانا وصيا في تركاتي وجميع أموري، فحينئذ ينفرد كل منهما بما فوض إليه، كذا في الاسعاف. ومنه يعلم جواب حادثة وجد مكتوبان شهد أحدهما بأن المتولي فلان وشهد الآخر بأن المتولي رجل غيره والثاني متأخر التاريخ، فأجبت بأنهما يشتركان ولا يقال إن الثاني ناسخ كما تقدم عن الخصاف في الشرائط لأنا نقول: إن التولية من الواقف خارجة عن حكم سائر الشرائط لأن له فيها التغيير والتبديل كلما بدا له من غير شرط في عقدة الوقف على قول أبي يوسف، وأما باقي الشرائط فلا بد من ذكرها في أصل الوقف. ثم قال في الاسعاف: ولو جعل الولاية لافضل أولاده وكانوا في الفضل سواء تكون لأكبرهم سنا ذكرا كان أو أنثى ولو قال الأفضل فالأفضل من أولادي فأبي أفضلهم القبول أو مات يكون لمن يليه فيه وهكذا على الترتيب، كذا ذكر الخصاف. وقال هلال: القياس أن يدخل القاضي بدله رجلا ما كان حيا فإذا مات صارت الولاية إلى الذي يليه في الفضل، ولو كان الأفضل غير موضع أقام القاضي رجلا يقوم بأمر الوقف ما دام الأفضل حيا، فإذا مات ينتقل إلى من يليه فيه، فإذا صار أهلا بعد ذلك ترد الولاية إليه، وهكذا الحكم لو لم يكن فيهم أحد أهلا لها فإن القاضي يقيم
387 أجنبيا إلى أن يصير منهم أحد أهلا فترد إليه. ولو صار المفضول من أولاده أفضل ممن كان أفضلهم تنتقل الولاية إليه بشرطه إياها لأفضلهم فينظر في كل وقت إلى أفضلهم كالوقف على الأفقر فالأفقر من ولده فإنه يعطي الأفقر منهم، وإذا صار غيره أفقر منه يعطى الثاني ويحرم الأول، ولو جعلها لاثنين من أولاده وكان فيهم ذكر وأنثى صالحين للولاية تشاركه فيها لصدق الولد عليها أيضا بخلاف ما لو قال الرجلين من أولادي فإنه لا حق لها حينئذ. ولو جعلها لرجل ثم عند وفاته قال قد أوصيت إلى فلان ورجعت عن كل وصية لي بطلت ولاية المتولي وصارت للوصي، ولو قال رجعت عما أوصيت به ولم يوص إلى أحد ينبغي للقاضي أن يولي غيره من يوثق به لبطلان الوصية برجوعه اه. ما في الاسعاف. وفي الظهيرية: إذا شرطها لأفضلهم واستوى اثنان في الديانة والسداد والفضل والرشاد فالأعلم بأمر الوقف أولى، ولو كان أحدهما أكثر ورعا وصلاحا والآخر أوفر علما بأمور الوقف فالأوفر علما أولى بعد أن يكون بحال تؤمن خيانته وغائلته، ولو جعل الولاية إلى عبد الله حتى يقدم زيد فهو كما قال، فإذا قدم زيد فكلاهما واليان عند أبي حنيفة. المتولي إذا أراد أن يفوض إلى غيره عند الموت إن كان الولاية بالايصاء يجوز، وإذا أراد أن يقيم غيره مقام نفسه في حياته وصحته لا يجوز إلا إذا كان التفويض إليه على سبيل التعميم اه. فإن قلت: لو شرطه للرشيد الصالح من ولده فمن يستحقه؟ قلت: فسر الخصاف الصالح بمن كان مستورا ليس بمهتوك ولا صاحب ريبة، وكان مستقيم الطريق سليم الناحية كامن الأذى قليل السوء، ليس بمعاقر للنبيذ ولا ينادم عليه الرجال، وليس بقذاف المحصنات ولا معروفا بالكذب، فهذا عندنا من أهل الصلاح، وكذا إذا قال من أهل العفاف أو الفضل أو الخير فالكل سواء اه. والظاهر أن الرشد صلاح المال وهو حسن التصرف. الموضع الثالث في الناظر المولى من القاضي ينصبه القاضي في مواضع: الأول إذا مات
388 الواقف ولم يجعل ولايته إلى أحد ولا يجعله من الأجانب ما دام بجد من أهل بيت الواقف من يصلح لذلك إما لأنه أشفق أو لأن من قصد الواقف نسبة الوقف إليه وذلك فيما ذكرنا، فإن لم يجد فمن يصلح من الأجانب، فإن أقام أجنبيا ثم صار من ولده من يصلح صرفه إليه، كذا في الاسعاف: الثاني إذا مات المتولي المشروط له بعد الواقف فإن القاضي ينصب غيره، وشرط في المجتبى أن لا يكون المتولي أوصى به إلى رجل عند موته، فإن كان أوصى لا ينصب القاضي. وقيدنا بموته بعد الواقف لأنه لو مات قبل الواقف قال في المجتبى: ولاية النصب إلى الواقف. وفي السير الكبير قال محمد: النصب إلى القاضي اه. وفي الفتاوى الصغرى: إذا مات المتولي والواقف حي فالرأي في نصب قيم آخر إلى الواقف لا إلى القاضي، فإن كان الواقف ميتا فوصيه أولى من القاضي، فإن لم يكن أوصى إلى أحد فالرأي في ذلك إلى القاضي اه. فأفاد أن ولاية القاضي متأخرة عن المشروط له ووصيه فيستفاد منه عدم صحة تقرير القاضي في الوظائف في الأوقاف إذا كان الواقف شرط التقرير للمتولي وهو خلاف الواقع في القاهرة في زماننا. وقبله بيسير وفي فتح القدير وغيره: وأما نصب المؤذن والإمام فقال أبو نصر: لأهل المحلة وليس الباني للمسجد أحق منهم بذلك. وقال أبو بكر الإسكاف: الباني أحق بنصبهما من غيره كالعمارة. قال أبو الليث: وبه نأخذ إلا أن يريد إماما ومؤذنا والقوم يريدون الأصلح فلهم أن يفعلوا ذلك اه. وفي التتارخانية: الوقف إذا كان على أرباب معلومين يحصى عددهم إذا نصبوا متوليا بدون استطلاع رأي القاضي يصح إذا كانوا من أهل الصلاح. والمتقدمون قالوا: الأولى أن يرفعوا إلى القاضي. ومشايخنا المتأخرون قالوا: الأولى أن لا يرفعوا إلى القاضي. ثم قال فيها أيضا: سئل شيخ الاسلام عن أهل مسجد اتفقوا على نصب رجل متوليا لمصالح المسجد فتولى ذلك باتفاقهم هل يصير متوليا
389 ويطلق له التصرف في مال المسجد كما لو قلده القاضي؟ قال: نعم. قال: ومشايخنا المتقدمون يجيبون عن هذه المسألة ويقولون نعم والأفضل أن يكون ذلك بإذن القاضي. ثم اتفق المشايخ المتأخرون واستأذونا أن الأفضل أن ينصبوا متوليا ولا يعلموا القاضي في زماننا لما عرف من طمع القضاة في أموال الأوقاف اه. وههنا تنبيه لا بد منه وهو ما المراد بالقاضي الذي يملك نصب الوصي والمتولي ويكون له النظر على الأوقاف؟ قلت: وهو قاضي القضاة لا كل قاض لما في جامع الفصولين من الفصل السابع والعشرين: لو كان الوصي أو المتولي من جهة الحاكم فالأوثق أن يكتب في الصكوك والسجلات وهو الوصي من جهة حاكم له ولاية نصب الوصي والتولية لأنه لو اقتصر على قوله وهو الوصي من جهة الحاكم ربما يكون من حاكم ليس له ولاية نصب الوصي فإن القاضي لا يملك نصب الوصي والمتولي إلا إذا كان ذكر التصرف في الأوقاف والأيتام منصوصا عليه في منشوره فصار كحكم نائب القاضي فإنه لا بد فيه أن يذكروا أن فلانا القاضي مأذون بالإنابة تحرزا عن هذا الوهم اه. ولا شك أن قول السلطان جعلتك قاضي القضاة كالتنصيص على هذه الأشياء في المنشور كما صرح به في مسألة استخلاف القاضي، وعلى هذا فقولهم في الاستدانة بأمر القاضي المراد به قاضي القضاة، وفي كل موضع ذكروا القاضي في أمور الأوقاف بخلاف قولهم وإذا رفع
390 إليه حكم قاض أمضاه فإنه أعم كما لا يخفى. الثالث إذا ظهرت خيانته فإن القاضي يعزله وينصب أمينا. قال في آخر أوقاف الخصاف: ما تقول إن طعن عليه في الأمانة فرأى الحاكم أن يدخل معه آخر أو يخرجه من يده ويصيره إلى غيره؟ قال: أما إخراجه فليس ينبغي أن يكون إلا بخيانة ظاهرة مبينة فإذا جاء من ذلك ما يصح واستحق إخراج الوقف من يده قطع عنه ما كان أجرى له الواقف، وأما إذا أدخل معه رجلا في القيام بذلك فالاجر له قائم، فإن رأى الحاكم أن يجعل للرجل الذي أدخل معه شيئا من هذا المال فلا بأس بذلك، وإن كان المال الذي سمى له قليلا ضيقا فرأى الحاكم أن يجعل للرجل الذي أدخله معه رزقا من غلة الوقف فلا بأس بذلك، وينبغي للحاكم أن يقتصد فيما يجريه من ذلك. ثم قال: ما تقول إن كان الحاكم أخرجه من القيام بأمر هذا الوقف وقطع عنه ما كان أجراه له الواقف، ثم جاء حاكم آخر فتقدم إليه هذا الرجل وقال إن الحاكم الذي كان قبلك إنما أخرجني من القيام بأمر هذا الوقف بتحامل من قوم سعوا به إليه ولم يصح على شئ استحق به إخراجي من القيام بأمر هذا الوقف. قال: أمور الحاكم عندنا إنما تجري على الصحة والاستقامة ولا ينبغي للحاكم أن يقبل قول هذا الرجل فيما ادعاه على الحاكم المتقدم، ولكن يقول صحح أنك موضع للقيام بأمر هذا الوقف أردك إلى القيام بذلك، فإن صح عند هذا الحاكم أنه موضع لذلك رده وأجرى ذلك المال له، وكذلك لو أن الحاكم الذي كان أخرجه صح عنده أنه بعد ذلك أناب ورجع عما كان عليه وصار موضعا للقيام به وجب أن يرده إلى ذلك ويرد عليه المال الذي كان الواقف جعله له اه. وقد علمت فيما سبق أنه لو عزله بغير جنحة لا ينعزل. فإن قلت: كيف يعيد الطالب للتولية بعد عزله إذا أناب ورجع مع قولهم طالب التولية لا يولى؟ قلت: محمول على طلبها ابتداء، وأما طلب العود بعد العزل فلا جمعا بين كلامهم ومن الخيانة امتناعه من العمارة. قال في الخصاف: إذا امتنع من العمارة وله غلة أجبر عليها، فإن فعل فيها وإلا أخرجه من يده. ومن الخيانة المجوزة لعزله أن يبيع الوقف أو بعضه لكن ظاهر
391 ما في الذخيرة أنه لا بد من هدم المشتري البناء فإنه قال: وإذا خربت أرض الوقف وأراد القيم أن يبيع بعضها منها ليرم الباقي ليس له ذلك، فإن باعه فهو باطل، فإن هدم المشتري البناء أو صرم النخل فينبغي للقاضي أن يخرج القيم عن هذا الوقف لأنه صار خائنا، ولا ينبغي للقاضي أن يأمن الخائن بل سبيله أن يعزله اه. ثم قال بعده: قرية وقف على أرباب مسمين في يد المتولي باع المولى ورق أشجار التوت جاز لأنه بمنزلة الغلة، فلو أراد المشتري قطع قوائم الشجر يمنع لأنها ليست بمبيعة، ولو امتنع المتولي من منع المشتري عن قطع القوائم كان ذلك خيانة منه، فاستفيد منه أنه إذا لم يمنع من يتلف شيئا للوقف كان خائنا ويعزل، وفي القنية: قيم يخلط غلة الدهن بغلة البواري فهو سارق خائن اه. فاستفيد منه أنه إذا تصرف بما لا يجوز كان خائنا يستحق العزل وليقس ما لم يقل. فإن قلت: إذا ثبتت خيانته هل للقاضي أن يضم إليه ثقة من غير أن يعزله؟ قلت: نعم لأن المقصود حصل بضم الثقة إليه. قال في القنية: متولي الوقف باع شيئا منه أو أرضه فهو خيانة فيعزل أو يضم إليه ثقة اه. ومن أحكام المتولي من القاضي ما في القنية: للمتولي أن يوكل فيما فوض إليه إن عمم القاضي التفويض إليه وإلا فلا، ولو مات القاضي أو عزل يبقى ما نصبه على حاله اه. فإن قلت: ما حكم تولية القاضي الناظر حسبة مع وجود الناظر المشروط له؟ قلت: صحيحة إذا شك الناظر أو ارتاب القاضي في أمانته لقول الخصاف كما نقلناه عنه، وأما إذا أدخل معه رجلا الخ لا يأخذ من معلوم المتولي ولا من الوقف شيئا لأنه إنما ولاه القاضي حسبة أي بغير معلوم. الرابع إذا عزل نفسه عند القاضي فإنه ينصب غيره. وهل ينعزل بعزل نفيه في غيبة القاضي؟ الجواب لا ينعزل حتى يبلغ القاضي كما صرحوا به في الوصي والقاضي، وظاهر كلامهم في كتاب القضاء أنه ينعزل إذا علم القاضي سواء عزله القاضي أو لم يعزله. وفي القنية: لو قال المتولي من جهة الواقف عزلت نفسي لا ينعزل إلا أن يقول له أو للقاضي فيخرجه اه. ومن عزل نفسه الفراغ عن وظيفة النظر لرجل عند القاضي. وهل يجب على
392 القاضي أن يقرر المنزول له وهكذا في سائر الوظائف، فإن لم يكن المنزول له أهلا لا شك أنه لا يقرره، وإن كان أهلا فكذلك لا يجب عليه. وأفتى العلامة قاسم بأن من فرغ لانسان عن
393 وظيفته سقط حقه منها سواء قرر الناظر المنزول له أو لا اه. فالقاضي بالأولى، وقد جرى التعارف بمصر الفراغ بالدراهم ولا يخفى ما فيه، وينبغي الابراء العام بعده. وفي البزازية: المتولي من جهة الحاكم امتنع من العمل ولم يرفع الامر بعزل نفسه إلى الحاكم لا يخرج عن التولية اه. فإن قلت: هل للقاضي عزل من ولاه بغير جنحة؟ قلت: نعم. قال في القنية: نصب القاضي قيما آخر لا ينعزل الأول إن كان منصوب الواقف، وإن كان منصوبه ويعلمه وقت نصب الثاني ينعزل بخلاف ما إذا نصب السلطان قاضيا في بلدة لا ينعزل الأول على أحد القولين لأنه قد تكثر القضاة في بلدة دون القوام في الوقف في مسجد واحد اه. وسيأتي عن الخانية أنه مقيد بما إذا رأى المصلحة. الموضع الرابع في تصرفات الناظر وفيه بيان ما عليه وله من المعلوم أول ما يفعله القيم في غلة الوقف البداءة بالعمارة وأجرة القوام وإن لم يشترطها الواقف، ويتحرى في تصرفاته النظر للوقف والغبطة حتى لو آجر الوقف من نفسه أو سكنه بأجرة المثل لا يجوز، وكذا إذا آجره من ابنه أو أبيه أو عبده أو مكاتبه للتهمة ولا نظر معها، كذا في الاسعاف. وفي جامع الفصولين: المتولي لو آجر دار الوقف من ابنه البالغ أو أؤبيه لم يجز عند أبي حنيفة إلا بأكثر من أجر المثل كبيع الوصي لو بقيمته صح
394 عندهما، ولو خيرا لليتيم صح عند أبي حنيفة، وكذا متول أجر من نفسه لو خيرا صح وإلا لا، ومعنى الخيرية مر في بيع الوصي من نفسه وبه يفتي اه. فعلم أن ما في الاسعاف ضعيف ولا تجوز إجارته لأجنبي إلا بأجرة المثل لأن ما نقص يكون أضرارا بالفقراء، كذا في المحيط. وفي القنية في الدور والحوانيت المسبلة في يد المستأجر يمسكها بغبن فاحش نصف المثل أو نحوه لا يعذر أهل المحلة في السكوت عنه إذا أمكنهم دفعه ويجب على الحاكم أن يأمره بالاستئجار بأجرة المثل، ويجب عليه أجر المثل بالغا ما بلغ وعليه الفتوى، وما لم يفسخ كان على المستأجر الاجر المسمى اه. وشرط الزيادة أن تكون عند الكل، أما لو زادها واحد أو اثنان تعنتا فإنها غير مقبولة كما صرح به الأسبيجابي. وحاصل كلامهم في الزيادة أن الساكن لو كان غير مستأجر أو مستأجرا إجارة فاسدة فإنه لا حق له وتقبل الزيادة ويخرج ويسلم المتولي العين إلى المستأجر، وإن كان مستأجرا صحيحة، فإن كانت تعنتا فهي غير مقبولة أصلا، وإن كانت لزيادة أجر المثل عند الكل عرض المتولي الزيادة على المستأجر، فإن قبلها فهو الأحق وإلا آجرها من الثاني، فإن كانت أرضا فهي كغيرها لكن إن كانت الأرض خالية عن الزراعة أجرها للثاني وإلا وجبت الزيادة عل المستأجر الأول من وقتها ووجب تسليم السنين الماضية والمسمى بحسابه قبلها لأن الزرع مانع من صحة الإجارة حيث كان مزروعا بحق وهذا كذلك. وإن لم يكن مزروعا بحق كالغاصب والمستأجر إجارة فاسدة فإنه لا يمنع صحة الإجارة كما في الظهيرية والسراجية لكونه لا يمنع التسليم، فإن كان المتولي ساكنا مع قدرته على الرفع لا غرامة عليه وقد وقعت حوادث الفتوى منها: استأجر أرض الوقف بأجر المثل ثم آجرها لآخر بأقل بنقصان فاحش فأجبت بالصحة لأن المنافع المملوكة للمستأجر ليست كالوقف وإنما هي كالملك ولذا ملك الإعارة. ومنها لو زاد أجر المثل بعد ما أجر المستأجر هل يعرض الامر على الأول أم الثاني؟ فأجبت على الأول لأنه المستأجر من
395 المتولي. ومنها لو لم يقبل ونقضت وأجرها المتولي ممن زاد هل تنتقض الثانية؟ فأجبت تنتقض لكونها مبنية على الأولى فإذا انتقض الأصل انتقض ما ابتنى عليه كما في الفتاوى الصغرى من الإجارة الطويلة، وعلى هذا لو فسخت الأولى بخيار رؤية أو عيب بقضاء بطلت الثانية. ومنها لو أجر المتولي جميع جهات الوقف الخراجي والهلالي بأجرة المثل فزاد أجر مثل بعضها وزاد فيها غيره هل تؤجر من الآخر بعد العرض على الأول أو لا؟ فأجبت ينبغي أن لا تقبل الزيادة لأنه حيث استأجر الجميع إجارة واحدة إنما ينظر إلى زيادة أجرة الجميع لا كل واحدة. ومنها أنه كيف يعلم القاضي أن الزيادة بسبب زيادة أجر المثل؟ وهل يحتاج إلى إثبات ذلك؟ قلت: نعم لما في الخانية من كتاب الوصايا: وصي باع شيئا من مال اليتيم ثم طلب منه بأكثر مما باع فإن القاضي يرجع إلى أهل البصر، إن أخبره اثنان من أهل البصر والأمانة أنه باع بقيمته وإن قيمته ذلك فإن القاضي لا يلتفت إلى مكن يريد، وإن كان في المزايدة يشتري بأكثر وفي السوق بأقل لا ينتقض بيع الوصي لأجل تلك الزيادة بل يرجع إلى أهل البصر والأمانة، وإن اجتمع رجلان منهم على شئ يؤخذ يقولهما معا، وهذا قول محمد، أما على قولهما قول الواحد يكفي كما في التزكية ونحوها. وعلى هذا قيم الوقف إذا أجر مستغل الوقف وجاء آخر يزيد في الأجرة اه. وصرح قاضيخان من كتاب الإجارة بأنه إذا أجر بأقل من أجرة المثل، فإن كان بنقصان يتغابن الناس فيه فهي صحيحة وليس للمتولي فسخها، وإن كان بنقصان لا يتغابن الناس فيه فهي فاسدة وله أن يؤاجرها إجارة صحيحة إما من الأول أو من غيره بأجر المثل وبالزيادة على قدر ما يرضى به المستأجر، فإن سكن المستأجر الأول وجب أجر المثل بالغا ما بلغ وعليه الفتوى، وإن كانت الإجارة الأولى بأجرة المثل ثم ازداد أجر مثله كان للمتولي أن يفسخ الإجارة، وما لم يفسخ كان على المستأجر الاجر المسمى اه. وفي الحاوي: ويفتي بالضمان في غصب عقار الوقف وغصب منافعه، وكذا كل ما هو أنفع
396 للوقف فيما اختلف العلماء فيه حتى نقضت الإجارة عند الزيادة الفاحشة نظرا للوقف وصيانة لحق الله تعالى وإبقاء للخيرات اه. وتقييده بالفاحشة يدل على عدم نقضها باليسير، ولعل المراد بالفاحشة ما لا يتغابن الناس فيها كما في طرف النقصان فإنه جائز عن أجر المثل إذا كان يسيرا والواحد في العشرة يتغابن الناس فيه كما ذكروه في كتاب الوكالة، وهذا قيد حسن يجب حفظه، فإذا كانت أجرة أر عشرة مثلا وزاد أجر مثلها واحدا فإنها لا تنقض كما لو أجرها المتولي بتسعة فإنها لا تنقض بخلاف الدرهمين في الطرفين، ويجوز النقصان عن أجر المثل نقصا فاحشا للضرورة. قال في المحيط وغيره: حانوت وقف وعمارته ملك لرجل أبى صاحب العمارة أن يستأجر بأجر مثله ينظر، إن كانت العمارة لو رفعت يستأجر بأكثر مما
397 يستأجر صاحب العمارة كلف رفع العمارة ويؤجر من غيره لأن النقصان عن أجر المثل لا يجوز من غير ضرورة، وإن كان لا يستأجر بأكثر مما يستأجره لا يكلف ويترك في يده بذلك الاجر لأن فيه ضرورة اه. فإن قلت: إذا استأجر أرض الوقف سنين على عقود كثيرة للبناء وحكم بصحتها ثم بنى فزاد إنسان عليه هل تنتقض الإجارة؟ قلت قال في المحيط وغيره: ولو استأجر أرضا موقوفة وبنى فيها حانوتا وسكنها فأراد غيره أن يزيد في الغلة ويخرجه من الحانوت ينظر، إن كانت أجرته مشاهرة إذا جاء رأس الشهر كان للقيم فسخ الإجارة لأن الإجارة إذا كانت مشاهرة تنعقد في رأس كل شهر، ثم ينظر إن كان رفع البناء لا يضر بالوقف فله رفعه لأنه ملكه، وإن كان يضر به فليس له رفعه لأنه وإن كان ملكه فليس له أن يضر بالوقف. ثم إن رضي المستأجر أن يتملكه القيم للوقف بالقيمة مبنيا أو منزوعا أيهما ما كان أخف يتملكه القيم، وإن لم يرض لا يتملك لأن التملك بغير رضاه لا يجوز فيبقى إلى أن
398 يخلص ملكة اه. ولم يذكر ما إذا كان استأجره مسانهة أو مدة طويلة، والظاهر أنه لا تقبل الزيادة عليه دفعا للضرر عند، ولا ضرر على الوقف لأن الزيادة إنما كانت بسبب البناء لا لزيادة في نفس الأرض. وإذا علم حرمة إيجار الوقف بأقل من أجر المثل علم حرمة إعارته بالأولى، ويجب أجر المثل كما قدمناه، وينبغي أن يكون خيانة من الناظر وكذا إجارته بالأقل
399 عالما بذلك. وذكر الخصاف أن الواقف أيضا إذا أجر بالأقل مما لا يتغابن الناس في مثله فإنها غير جائزة ويبطلها القاضي، فإن كان الواقف مأمونا وفعل ذلك على طريق السهو والغفلة أقره القاضي في يده وأمره بإجارتها بالأصلح، وإن كان غير مأمون أخرجها من يده وجعلها في يد من يثق بدينه. وكذا إذا أجرها الواقف سنين كثيرة ممن يخاف أن تتلف في يده قال: يبطل القاضي الإجارة ويخرجها من يد المستأجر اه. فإذا كان هذا في الواقف فالمتولي أولى. وفي الاسعاف: لو شرط الواقف أن لا يؤجر المتولي الوقف ولا شيئا منه أو أن لا يدفعه مزارعة أو على أن لا يعمل على ما فيه من الأشجار أو شرط أن لا يؤجر إلا ثلاث سنين ثم لا يعقد عليه إلا بعد انقضاء العقد الأول كان شرطه معتبرا ولا تجوز مخالفته اه. وسيأتي في بيان الشروط ما لا يعتبر منها إن شاء الله تعالى، وسيأتي في كتاب الإجارات بيان مدتها في الأوقاف وحكم الإجارة الطويلة إن شاء الله تعالى. وذكر الخصاف أنه لو تبين أن المستأجر يخاف منه على رقبة الوقف يفسخ القاضي الإجارة ويخرجه من يده ولو كان المستأجر أمين القاضي. ثم اعلم أن المتولي إذا آجر بأقل من أجرة المثل بنقصان فاحش حتى فسدت لا ضمان عليه وإنما يلزم المستأجر أجرة المثل، وقد توهم بعض من لا خبرة له ولا دربة أنه يكون ضامنا ما نقص وهو غلط، صرح به العلامة قاسم في فتاواه مستندا إلى النقول الصريحة. وفي جامع الفصولين: ولو استباع مال اليتيم بألف وآخر بألف ومائة والأول أملا يبيعه الوصي من الأول، وكذا الإجارة تؤجر بثمانية للاملاء لا بعشرة لغيره وكذا متولي الوقف اه. فإن قلت: هل للقاضي ولاية الايجار مع وجود المتولي؟ قلت: نعم على ما قدمناه
400 عند قوله أجرها الحاكم، وسيأتي في كتاب الإجارات أن التمكن في الفاسدة لا يكفي وهو بعمومه يتناول الوقف. وقد صرح الخصاف بأن المتولي إذا أجره إجارة فاسدة وتمكن المستأجر ولم ينتفع حقيقة فإنه لا أجر عليه. وفي الظهيرية: وتجوز إجارة القيم الوقف بعرض عند أبي حنيفة خلافا لهما، والأب والوصي إذا أجر دارا لليتيم بعرض جاز بلا خلاف. وفي القنية: ولا يجوز للقيم شراء شئ من مال المسجد لنفسه ولا البيع له وإن كان فيه منفعة ظاهرة للمسجد اه. فإن قلت: إذا أمر لقاضي بشئ ففعله ثم تبين أنه ليس بشرعي أو فيه ضرر على الوقف هل يكون القيم ضامنا؟ قلت: قال في القنية: طالب القيم أهل المحلة أن يقرض من مال المسجد للإمام فأبى فأمره القاضي به فأقرضه ثم مات الإمام مفلسا لا يضمن القيم اه. مع أن القيم ليس له إقراض مال المسجد. قال في جامع الفصولين: ليس للمتولي إيداع مال الوقف والمسجد إلا ممن في عياله ولا إقراضه، فلو أقرضه ضمن وكذا المستقرض، وذكر أن القيم لو أقرض مال المسجد ليأخذه عند الحاجة وهو أحرز من إمساكه فلا بأس به. وفي العدة: يسع المتولي إقراض ما فضل من غلة الوقف لو أحرز اه. فإن قلت: إذا قصر المتولي في شئ من مصالح الوقف هل يضمن؟ قلت: إن كان في عين ضمنها وإن كان فيما في الذمة لا يضمن. قال في القنية: انهدم المسجد فلم يحفظه القيم حتى ضاعت خشبة يضمن اشترى القيم من الدهان دهنا ودع الثمن ثم أفلس الدهان بعد لم يضمن اه. وفي البزازية: امتنع المتولي عن تقاضي ما على المتقبلين لا يأثم، فإن هرب بعض المتقبلين بعدما اجتمع عليه مال كثير بحق القبالة لا يضمن المتولي اه. وفي القنية: أجر القيم ثم عزل ونصب قيم آخر
401 فقيل أخذ الأجر للمعزول، والأصح أنه للمنصوب لأن المعزول أجرها للوقف لا لنفسه، ولو باع القيم دارا اشتراها بمال الوقف فله أن يقيل البيع مع المشتري إذا لم يكن البيع بأكثر من ثمن المثل، وكذا إذا عزل ونصب غيره فللمنصوب إقالته بلا خلاف. ولو أذن القاضي للقيم في خلط مال الوقف بماله تخفيفا عليه جاز ولا يضمن، وكذا القاضي إذا خلط مال الصغير بماله. وعن أبي يوسف: الوصي إذا خلط مال الصغير بماله لا يضمن وللقيم فسخ الإجارة مع المستأجر قبل قبض الاجر وينفذ فسخه على الوقف وبعد القبض لا. ولو أبرأ القيم المستأجر عن الأجرة بعد تمام المدة تصح البراءة عند أبي حنيفة ومحمد، ويضمن للقيم صرف شئ من مال الوقف إلى كتبة الفتوى ومحاضر الدعوى لاستخلاص الوقف، والمتولي إذا أجر نفسه في عمل المسجد وأخذ الأجرة لم يجز في ظاهر الرواية وبه يفتي اه. وفي جامع الفصولين: إذ لا يصلح مؤاجرة ومستأجرا وصح لو أمره الحاكم بعمل فيه. ثم قال: وفي القنية: القيم ضمن مال الوقف بالاستهلاك ثم صرف قدر الضمان إلى المصرف بدون إذن القاضي يخرج عن العهدة اه. وفي الولوالجية: للمتولي أن يحتال بمال الوقف على إنسان إذا كان مليا، وإن أخذ كفيلا كان أحب إلي. وفي جامع الفصولين: المتولي يملك الإقالة لو خيرا للوقف. فإن قلت: هل للمتولي أن يصرف غلة سنة عن سنة قبلها؟ قلت: لا لما في الحاوي الحصيري وغيره: سئل أبو جعفر عن قيم جمع الغلة فقسمها على أهل الوقف وحرم واحدا منهم فلم يعطه وصرف نصيبه إلى حاجة نفسه، فلما خرجت الغلة الثانية طلب المحروم نصيبه هل له ذلك؟ قال: إن شاء ضمن القيم وإن شاء اتبع شركاءه فشاركهم فيما أخذوا، فإن اختار تضمين القيم سلم لهم ما أخذوا وليس له أن يأخذ من غلة هذا العام أكثر من نصيبه اه. وظاهره أنه إذا اختار اتباع الشركاء فإنه لا مطالبة له على المتولي وأن المتولي لا يدفع للمحروم من غلة الثانية شيئا، سواء اختار تضمينه أو اتباع الشركاء، لكن في الذخيرة: وإن اختار اتباع الشركاء والشركة فيما أخذوا كان له أن يأخذ ذلك من نصيب الشركاء من الغلة الثانية لأنه لما اختار اتباع الشركاء تبين أنهم أخذوا نصيبه فله أن يأخذ من أنصبائهم مثل ذلك لأنه جنس حقه، فمتى أخذ رجعوا جميعا على القيم بما استهلك القيم من حصة المحروم في
402 السنة الأولى لأنه بقي ذلك حقا للجميع اه. فظاهره أن المتولي يدفع له من غلة الثانية شاؤوا أو أبوا حيث اختار اتباعهم، ومفهومه أنه لو لم يصرف حصة المحروم إلى نفسه وإنما صرف الغلة إليهم وحرم واحدا إما لعدم حضوره وقت القسمة أو عنادا أنه يشاركهم ولا يضمن المتولي، وأنه يدفع إليه من غلة الثانية من أنصبائهم. وظاهر ما في الحاوي أنه يتبعهم فيما أخذوا ولا يعطي من الثانية أكثر من حصته وهو الظاهر، لأن حقه صار في ذمتهم والمتولي ليس له ولاية قضاء ديونهم. ومقتضى القواعد أن المحروم في صورة صرف الجميع إليهم له أن يضمن المتولي لكونه متعديا كماله أن يرجع على المستحقين. فإن قلت: هل للمتولي تفضيل البعض على البعض قدرا وتعجيلا؟ قلت: فيه تفصيل، فالتفضيل في القدر راجع إلى شرط الواقف. قال في البزازية: وقف ضيعة على فقراء قرابته أو فقراء قريته وجعل آخره للمساكين جاز يحصون أو لا، وإن أراد القيم تفضيل البعض على البعض فالمسألة على وجوه: إن الوقف على فقراء قرابته وقريته وهم يحصون أو لا يحصون أو أحد الفريقين يحصون والآخر لا، ففي الوجه الأول للقيم أن يجعل نصف الغلة لفقراء القرابة ونصفها لفقراء القرية ثم يعطى كل فريق من شاء منهم، ويفضل البعض على البعض كما شاء لأن قصده القربة وفي الصدقة الحكم كذلك. وفي الوجه الثاني تصرف الغلة إلى الفريقين بعددهم، وليس له أن يفضل البعض على البعض لأن قصده الوصية وفي الوصية الحكم كذلك. وفي الثالث تجعل الغلة بين الفريقين أولا فتصرف إلى الذين يحصون بعددهم وإلى الذين لا يحصون سهم واحد لأن من يحصى لهم وصية، ولمن لا يحصى صدقة والمستحق للصدقة واحد، ثم يعطى هذا السهم من الذين لا يحصون من شاء ويفضل البعض على البعض في هذا السهم اه. وقدمنا أن
403 الأوقاف المطلقة على الفقهاء للمتولي التفضيل، واختلفوا هل هو بالحاجة أو بالفضيلة وكل منهما صحيح. وأما التعجيل للبعض فلم أر فيه نقلا صريحا، وينبغي أن يجوز استنباطا مما في البزازية: المصدق إذا أخذ عمالته قبل الوجوب أو القاضي استوفى رزقه قبل المدة جاز، والأفضل عدم التعجيل لاحتمال أن لا يعيش إلى المدة اه. فإن قيل: لا يقاس عليه لأن مال الوقف حق المستحقين على الخصوص فليس له أن يخصص أحدا، ومال بيت المال حق العامة. قلت: غايته أن يكون كدين مشترك بين اثنين وجب لهما بسبب واحد، والدائن إذا دفع لأحدهما نصيبه جاز له ذلك، غايته أن الشريك الغائب إذا حضر خير إن شاء اتبع شريكه وشاركه، وإن شاء أخذ من المديون فكذلك يمكن أن يقال: يخير المستحق كذلك كما قدمناه في مسألة المحروم. ثم رأيت في القنية: لم يكن في المسجد إمام ولا مؤذن واجتمعت غلات الإمامة والتأذين سنين ثم نصب إمام ومؤذن لا يجوز صرف شئ من تلك الغلات إليهما. وقال برهان الدين صاحب المحيط: لو عجلوه للمستقبل كان حسنا إلى آخر ما ذكره. وفي البزازية: المتولي لو أميا فاستأجر الكاتب لحسابه لا يجوز له إعطاء الأجرة من مال الوقف، ولو استأجر لكنس المسجد وفتحه وإغلاقه بمال المسجد يجوز اه. وليس لأحد الناظرين التصرف دون الآخر عندهما خلافا لأبي يوسف. وفي الخانية: ولو أن قيمين في وقف أقام كل قيم قاضي بلدة غير قاضي بلدة أخرى، هل يجوز لكل واحد منهما أن يتصرف بدون الآخر؟ قال الشيخ الإمام إسماعيل الزاهد: ينبغي أن يجوز تصرف كل واحد منهما، ولو أن واحدا من هذين القاضيين أراد أن يعزل القيم الذي أقامه القاضي الآخر فإن رأى القاضي المصلحة في عزل الآخر كان له ذلك وإلا فلا اه. وفيه دليل على أن للقاضي عزل منصوب قاض آخر بغير خيانة إذا رأى المصلحة اه. فإن قلت: هل لاحد الناظرين أن يؤجر الآخر؟ قلت: لا يجوز لما في الخانية من كتاب الوصايا: لو باع أحد الوصيين لصاحبه شيئا من التركة لا يجوز عند أبي حنيفة ومحمد لأن عندهما لا ينفرد أحد الوصيين بالتصرف اه. والناظر إما وصي أو كيل. وفي جامع الفصولين: ليس للوصي في هذا الزمان أخذ مال اليتيم مضاربة ولا للقيم أن يزرع في أرض الوقف اه. فإذا ثبت عند القاضي أنه زرع ينبغي أن يكون خيانة يستحق بها العزل. وفي جامع الفصولين: ولو أذن قيم مؤذنا ليخدم مسجدا وقطع له الاجر وجعل ذلك أجرة المنزل وهو أجر المثل جاز. وفي الخانية: المتولي إذا
404 استأجر رجلا في عمارة المسجد بدرهم ودانق وأجر مثله درهم فاستعمله في عمارة المسجد ونقد الاجر من مال الوقف قالوا: يكون ضامنا جميع ما نقد لأنه لما زاد في الاجر أكثر مما يتغابن فيه الناس يصير مستأجرا لنفسه دون المسجد، فإذا نقد الاجر من مال المسجد كان ضامنا. المتولي إذا أمر المؤذن أن يخدم المسجد وسمي له أجرا معلوما لكل سنة قال الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله. تصح الإجارة لأنه يملك الاستئجار لخدمة المسجد، ثم ينظر، إن كان ذلك أجر عمله أو زيادة يتغابن فيه الناس كانت الإجارة للمسجد، فإذا نقد الاجر من مال المسجد حل للمؤذن أخذه، وإن كان في الاجر زيادة على ما يتغابن فيه الناس كانت الإجارة للمتولي لأنه لا يملك الاستئجار للمسجد بغبن فاحش، فإذا أدى الاجر من مال المسجد كان ضامنا، وإن علم المؤذن بذلك لا يحل له أن يأخذ من مال المسجد اه. ثم قال: فقير سكن دارا موقوفة على الفقراء بأجر وترك المتولي ما عليه من الاجر بحصته من الوقف على الفقراء جاز كما لو ترك الإمام خراج الأرض لمن له حق في بيت المال بحصته اه. وذكر فيها ثلاث مسائل في غصب الوقف مناسبة لتصرف المتولي: الأولى لو غصب الوقف واسترده القيم وكان الغاصب زاد فيه، فإن لم يكن مالا متقوما بأن كرب الأرض أو حفر النهر أو ألقى في ذلك السرقين واختلط ذلك بالتراب استردها بغير شئ، وإن كانت مالا متقوما كالبناء والغرس أمر الغاصب برفعه إن لم يضر بالأرض، وإن أضر بأن خربها لم يكن له الرفع ويضمن القيم له من غلة الوقف قيمة الغراس مقلوعا، وقيمة البناء مرفوعا، وإن لم يكن للوقف غلة أجر الوقف وأعطى الضمان من الأجرة، وإن اختار الغاصب قلع الأشجار من أقصى موضع لا تخرب الأرض فله ذلك، ولا يجير على أخذ القيمة ثم يضمن القيم ما بقي في الأرض من الشجر إن كانت له قيمة. الثانية لو استولى على الوقف غاصب وعجز المتولي عن استرداده وأراد الغاصب أن يدفع قيمتها كان للمتولي أخذ القيمة أو الصلح على شئ ثم يشتري بالمأخوذ من الغاصب أرضا أخرى فيجعله وقفا على شرائط الأولى لأنه حينئذ صار بمنزلة المستهلك فيجوز أخذ القيمة. الثالثة رجل غصب أرضا موقوفة قيمتها ألف ثم غصب من الغاصب رجل آخر بعدما ازدادت قيمة الأرض وصارت
405 تساوي ألفي درهم فإن المتولي يتبع الغاصب الثاني إن كان مليا على قول من يرى جعل العقار مضمونا بالغصب لأن تضمين الثاني أنفع للوقف وإن كان الأول أملا من الثاني يتبع الأول لأن تضمين الأول يكون أنفع للوقف، وإذا اتبع القيم أحدهما برئ الآخر عن الضمان كالمالك إذا اختار تضمين الغاصب الأول أو الثاني برئ الآخر اه. ومنها أكار تناول من مال الوقف فصالحه المتولي على شئ والأكار غني لا يجوز الحط من مال الوقف وإن كان الأكار فقيرا جاز ذلك اه. وهو محمول على ما إذا كان الوقف على الفقراء كما قيده به فيما إذا سكن الفقير دار الوقف وسامحه المتولي بالاجر، وأما إذا كان على أرباب معلومين ومستحقين مخصوصين لا تجوز المسامحة والحط بالصلح مطلقا، وعلى هذا لا تجوز الإجارة بأقل من أجر المثل بغبن فاحش من فقير إذا كان الوقف على معينين، وإن كان وقف الفقراء جاز. وفي الاسعاف: ولو اشترى بغلته ثوبا ودفعه إلى المساكين يضمن ما نقد من مال الوقف لوقوع الشراء له. حائط بين دارين إحداهما وقف والأخرى ملك فانهدم وبناه صاحب الملك في حد دار الوقف قال أبو القاسم: يرفع القيم الامر إلى القاضي ليجبره على نقضه ثم يبنيه حيث كان في القديم، ولو قال القيم للباني أنا أعطيك قيمة البناء وأقره حيث بنيت وابن أنت لنفسك حائطا آخر في حدك قال أبو القاسم: ليس للقيم ذلك بل يأمره بنقضه وبنائه حيث كان في القديم اه. ولو أخذ متولي الوقف من غلته شيئا ثم مات بلا بيان لا يكون ضامنا هكذا قالوا، وقيده الطرسوسي في أنفع الوسائل بحثا بما إذا لم يطالب المستحق، أما إذا طالبه المستحق ولم يدفع له ثم مات بلا بيان فإنه يكون ضامنا اه. ومقتضاه أنه لو ادعى في حياته الهلاك لا يقبل قوله لأنه صار ضامنا بمنع المستحق بعد الطلب. وفي القنية: وينبغي للقاضي
406 أن يحاسب أمناءه فيما في أيديهم من أموال اليتامى ليعرف الخائن فيستبدله، وكذا القوام على الأوقاف ويقبل قولهم في مقدار ما حصل في أيديهم من مقدار الغلات الوصي والقيم فيه سواء. والأصل فيه أن القول قول القابض في مقدار المقبوض وفيما يخبر من الانفاق على اليتيم أو على الضيعة ومؤنات الأراضي. وفي أدب القاضي للخصاف: ويقبل قول الوصي في المحتمل دون القيم لأن الوصي من فوض إليه الحفظ والتصرف، والقيم من فوض إليه الحفظ دون التصرف، وكثير من مشايخنا سووا بين الوصي والقيم فيما لا بد فيه من الانفاق وقالوا: ويقبل قولهما فيه وقاسوه على قيم المسجد أو واحد من أهل المحلة إذا اشترى للمسجد ما لا بد منه كالحصير والحشيش والدهن وأجر الخادم ونحوه لا يضمن للاذن دلالة ولا يتعطل المسجد كذا هذا، وبه يفتي في زماننا. قال رضي الله عنه: والصحيح والصواب في عرفنا بخوارزم هذا أنه لا فرق بينهما. (ط) وإن اتهمه القاضي يحلفه وإن كان أمينا كالمودع يدعي هلاك الوديعة أو ردها قيل إنما يستحلف إذا ادعى عليه شيئا معلوما، وقيل يحلف على كل حال، وإن أخبروا أنهم أنفقوا على اليتيم والضيعة من إنزال الأرض كذا وبقي في أيدينا كذا، فإن عرف بالأمانة يقبل القاضي الاجمال ولا يجبره على التفسير شيئا فشيأ، وإن كان متهما يجبره القاضي على التفسير شيئا فشيأ ولا يحبسه ولكن يحضره يومين أو ثلاثة أو يخوفه ويهدده إن لم يفسره، فإن فعل وإلا يكتفي منه باليمين. ولو عزل القاضي ونصب غيره فقال الوصي للمنصوب حاسبني المعزول لا يقبل منه إلا بينة، وفي وقف الناصحي إذا أجر الواقف أو قيمه أو وصيه أو أمينه ثم قال قبضت الغلة فضاعت أو فرقته على الموقوف عليهم وأنكروا فالقول له مع يمينه. اه ما في القنية. فقد علمت أن مشروعية المحاسبات للنظار إنما هي ليعرف القاضي الخائن من الأمين لا لاخذ شئ من النظار للقاضي واتباعه، والواقع بالقاهرة في زماننا الثاني وقد شاهدنا فيها من الفساد للأوقاف كثيرا بحيث يقدم كلفة المحاسبة على العمارة والمستحقين، وكل ذلك من علامات الساعة المصدقة لقوله عليه الصلاة والسلام كما رواه البخاري في أول كتاب العلم إذا وسد الامر لغير أهله فانتظروا الساعة (1)
407 فإن قلت: هل يباح للقاضي أخذ الأجر على المحاسبات من مال الأوقاف؟ قلت قال في البزازية من كتاب القضاء: وإن كتب القاضي سجلا أو تولى قسمة وأخذ أجرة المثل له ذلك، ولو تولى نكاح صغيرة لا يحل له أخذ شئ لأنه واجب عليه، وكلما وجب عليه لا يجوز أخذ الأجر عليه، وما لا يجب عليه يجوز أخذ الأجر. وذكر عن البقالي في القاضي يقول إذا عقدت عقد البكر فلي دينار وإن ثيبا فلي نصفه أنه لا يحل له إن لم يكن لها ولي، فلو كان ولي غيره يحل بناء على ما ذكروا، ولو باع مال اليتيم لا يأخذ شيئا ولو أخذ وأذن في البيع لا ينفذ بيعه اه. فقد استفيد منه أنه يجوز له الاخذ على نفس الكتابة ولا يجوز له الاخذ على نفس المحاسبات لأن الحساب واجب عليه فهو كما لو تولى نكاح يتيمة أو بيع مال اليتيم، وقدمنا عن البزازية أن المتولي لو استأجر كاتبا للحساب لا يجوز له أن يدفع أجرته من مال الوقف. وفي القنية: ولو أبرأ صاحب الحق القيم عن نصيبه بعدما استهلكه لا يصح اه. قال في الخانية: وقف له متول ومشرف ليس للمشرف أن يتصرف في مال الوقف لأن ذاك مفوض إلى المتولي والمشرف مأمور بالحفظ لا غير اه. وهذا يختلف بحسب العرف في معنى المشرف، كذا في فتح القدير. وأما بيان ما عليه من العمل فحاصل ما ذكره الخصاف أن ما يجعله الواقف للمتولي ليس له حد معين، وإنما هو على ما تعارفه الناس من الجعل عند عقدة
408 الواقف ليقوم بمصالحه من عمارة واستغلال وبيع غلات وصرف ما اجتمع عنده فيما شرطه الواقف، ولا يكلف من العمل بنفسه إلا مثل ما يفعله أمثاله ولا ينبغي له أن يقصر عنه، وأما ما تفعله الاجراء والوكلاء فليس ذلك بواجب عليه حتى لو جعل الولاية إلى امرأة وجعل لها أجرا معلوما لا تكلف إلا مثل ما يفعله النساء عرفا. ولو نازع أهل الوقف القيم وقالوا للحاكم إن الواقف إنما جعل له هذا في مقابلة العمل وهو لا يعمل شيئا لا يكلفه الحاكم من العمل ما لا تفعله الولاة. فإن قلت: إذا شرط الواقف ناظرا وجابيا وصيرفيا فما عمل كل منهم؟ قلت: الأمر والنهي والتدبير والعقود وقبض المال وظيفة الناظر، وجمع المال من المستأجرين هلاليا وخراجيا وظيفة الجابي، ونقد المال ووزنه وظيفة الصيرفي. فإن قلت: هل للجابي الدعوى على المستأجر وهل له إجارة المسقف؟ قلت: لا إلا بتوكيل الناظر، وهذه الوظائف إنما يبتني حكمها على العرف فيها كما ذكره في فتح القدير في المشرف، وأما بيان ما له فإن كان من الواقف فله المشروط ولو كان أكثر من أجرة المثل، وإن كان منصوب القاضي فله أجر مثله، واختلفوا هل يستحقه بلا تعيين القاضي؟ فنقل في القنية أولا أن القاضي لو نصب قيما مطلقا ولم يعين له أجرا فسعى فيه سنة فلا شئ له. وثانيا أن القيم يستحق أجر مثل سعيه، سواء شرط له القاضي أو أهل المحلة أجرا أو لا، لأنه لا يقبل القوامة ظاهرا إلا بأجر والمعهود كالمشروط. قال: وقالوا: إذا عمل القيم في عمارة المسجد والوقف كعمل الأجير لا يستحق الاجر لأنه لا يستحق له أجر القوامة وأجر العمل فهذا يدل على أنه يستحق بالقوامة أجرا اه. وإذا لم يعمل الناظر لا يستحق شيئا لما في الخانية: ولو وقف أرضه على مواليه مثلا ثم مات فجعل القاضي للوقف قيما وجعل له عشر الغلة في الوقف وللوقف طاحونة في يد رجل بالمقاطعة لا يحتاج فيها إلى القيم، وأصحاب الوقف يقبضون غلتها منه لا يستحق القيم عشر غلتها لأن ما يأخذه بطريق الأجرة ولا أجرة بدون العمل اه. وفي فتح القدير بعد نقله: فهذا عندنا فيمن لم يشترط له الواقف، أما إذا شرط
409 كان من جملة الموقوف عليهم اه. والظاهر أنه عائد إلى قطع المعلوم في زمن التعمير، وأما عدم الاستحقاق عند عدم العمل فلا فرق فيه بين ناظر وناظر، وقد تمسك بعض من لا خبرة له بقول قاضيخان وجعل له عشر الغلة في الوقف على أن للقاضي أن يجعل للمتولي عشر الغلات مع قطع النظر عن أجرة المثل وهو غلط. قال في القنية: عزل القاضي فادعى القيم أنه قد أجرى له كذا مشاهرة أو مسانهة وصدقه المعزول فيه لا يقبل إلا ببينة، ثم إن كان ما عينه أجر مثل عمله أو دونه يعطيه الثاني وإلا يحط الزيادة ويعطيه الباقي اه. فقد أفاد أن القاضي الثاني يحط ما زاد على أجر المثل فأفاد عدم صحة تقرير القاضي للناظر معلوما أكثر من أجر المثل، فإن قلت: إذا كان الوقف هلاليا وقد أحال الناظر المستحقين على الحوانيت والبيوت وهم يأخذون من السكان، هل يستحق الناظر معلوما؟ قلت: لا يستحق معلوما لأجل الهلالي لعدم عمله فيه إلا لأجل التعمير كما قدمناه عن قاضيخان في مسألة الطاحونة، وللقيم التوكيل وعزل وكيله، وله أن يجعل للوكيل من معلومه شيئا، وله قطعه عنه. ولو شرط الواقف للقيم تفويض أمره بعد مماته مثل ما شرطه له في حياته فجعل القيم بعض معلومه لرجل أقامه قيما وسكت عن الباقي ثم مات، يكون لوصيه ما سمى له فقط ويرجع
410 الباقي إلى أصل الغلة. ولو شرط المعلوم ولم يشرط له أن يجعل لغيره ليس له أن يوصي به ولا بشئ منه لاحد، ويجوز له أن يوصي بأمر الوقف وينقطع المعلوم عنه بموته، ولو وكل هذا القيم وكيلا في الوقف أو أوصى به إلى رجل وجعل له كل المعلوم أو بعضه ثم جن جنونا مطبقا يبطل توكيله ووصايته وما جعل للوصي أو الوكيل من المال ويرجع إلى غلة الوقف إلا أن يكون الواقف عينه لجهة أخرى عند انقطاعه عن القيم فينفذ فيها حينئذ. وقدر الجنون المطبق بما يبقى حولا لسقوط الفرائض كلها عنه، ولو عاد عقله عادت الولاية إليه لأنها زالت بعارض فإذا زال عاد إلى ما كان عليه، كذا في الاسعاف قوله: (وينزع لو خائنا كالوصي وإن شرط أن لا ينزع) أي ويعزل القاضي الواقف المتولي على وقفه لو كان خائنا كما يعزل الوصي الخائن نظرا للوقف واليتيم، ولا اعتبار بشرط الواقف أن لا يعزله القاضي والسلطان لأنه شرط مخالف لحكم الشرع فبطل. واستفيد منه أن للقاضي عزل المتولي الخائن غير الواقف بالأولى. وصرح في البزازية أن عزل القاضي للخائن واجب عليه مقتضاه الاثم بتركه والاثم بتولية الخائن ولا شك فيه. وفي المصباح: وفرقوا بين الخائن والسارق والغاصب بأن الخائن هو الذي خان ما جعل عليه أمينا، والسارق من أخذ خفية من موضع كان ممنوعا من الوصول إليه، وربما قيل كل سارق خائن دون عكسه، والغاصب من أخذ جهارا معتمدا على قوته اه. وقدمنا أنه لا يعزله القاضي بمجرد الطعن في أمانته ولا يخرجه إلا بخيانة ظاهرة ببينة وأن له إدخال غيره معه إذا طعن في أمانته، وأنه إذا أخرجه ثم تاب وأناب أعاده، وأن امتناعه من التعمير خيانة. وكذا لو باع الوقف أو بعضه أو تصرف تصرفا غير جائز عالما به، وبيناه غاية البيان عند الكلام على نصب القاضي المتولي. وإنما الكلام الآن في شروط الواقفين فقد أفادوا هنا أنه ليس كل شرط يجب اتباعه فقالوا هنا: إن اشتراطه أن لا يعزله القاضي شرط باطل مخالف للشرع. وبهذا علم أن قولهم شرط الواقف كنص الشارع ليس على عمومه قال العلامة قاسم في فتاواه: أجمعت الأمة أن من شروط الواقفين ما هو صحيح معتبر يعمل به ومنها ما ليس كذلك، ونص أبو عبد الله الدمشقي في كتاب الوقف عن شيخه شيخ الاسلام قول الفقهاء نصوصه كنص الشارع يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العمل مع أن التحقيق أن لفظه ولفظ الموصي والحالف والناذر وكل عاقد يحمل على عادته في خطابه ولغته التي يتكلم بها، وافقت لغة العرب ولغة الشرع أم لا، ولا خلاف أن من وقف على صلاة أو صيام أو قراءة أو جهاد غير شرعي ونحوه لم يصح اه. قال
411 العلامة قاسم قلت: وإذا كان المعنى ما ذكر فما كان من عبارة الواقف من قبيل المفسر لا يحتمل تخصيصا ولا تأويلا يعمل به، وما كان من قبيل الظاهر كذلك، وما احتمل وفيه قرينة حمل عليها، وما كان مشتركا لا يعمل به لأنه لا عموم له عندنا ولم يقع فيه نظر المجتهد لترجح أحد مدلوليه، وكذلك ما كان من قبيل المجمل إذا مات الواقف، وإن كان حيا يرجع إلى بيانه. هذا معنى ما أفاده اه. قلت: فعلى هذا إذا ترك صاحب الوظيفة مباشرتها في بعض الأوقات المشروط عليه فيها العمل لا يأثم عند الله تعالى. غايته أنه لا يستحق المعلوم. ومن الشروط المعتبرة ما صرح به الخصاف لو شرط أن لا يؤجر المتولي الأرض فإن إجارتها باطلة، وكذا اشتراط أن لا يعامل على ما فيها من نخل وأشجار، وكذا إذا شرط أن المتولي إذا أجرها فهو خارج عن التولية، فإذا خالف المتولي صار خارجا ويوليها القاضي من يثق بأمانته، وكذا إذا شرط أنه إن أحدث أحد من أهل هذا الوقف حدثا في الوقف يريد إبطاله كان خارجا اعتبر، فإن نازع البعض وقال أردت تصحيح الوقف وقال سائر أهل الوقف إنما أردت إبطاله نظر القاضي في القوم الذين تنازعوا، فإن كانوا يريدون تصحيحه فلهم ذلك، وإن كانوا
412 يريدون إبطاله أخرجهم وأشهدهم على إخراجهم. ولو شرط أن من نازع القيم وتعرض له ولم يقل لابطاله فنازعه البعض وقال منعني حقي صار خارجا ولو كان طالبا حقه اتباعا للشرط كما لو شرط أن من طالبه بحقه فللمتولي إخراجه، فلو أخرجه ليس له إعادته بدون الشرط، ومنها ما لو وقف على أولاده وشرط أن من انتقل إلى مذهب المعتزلة صار خارجا فانتقل منهم واحد صار خارجا، فإن ادعى على واحد منهم بأنه صار معتزليا فالبينة على المدعي والقول للمنكر. وكذا لو كان الواقف من المعتزلة وشرط أن من انتقل إلى مذهب أهل السنة صار خارجا اعتبر شرطه، ولو شرط أن من انتقل من مذهب أهل السنة إلى غيره فصار خارجيا أو رافضيا خرج، فلو ارتد والعياذ بالله تعالى عن الاسلام خرج المرأة والرجل سواء، فلو شرط أن من خرج من مذهب الاثبات إلى غيره خرج فخرج واحد ثم عاد إلى مذهب الاثبات لا يعود إلى الوقف إلا بالشرط، وكذلك لو عين الواقف مذهبا من المذاهب وشرط أنه إن انتقل عنه خرج اعتبر شرطه، وكذا لو شرط أن من انتقل من قرابته من بغداد فلا حق له اعتبر لكن هنا إذا عاد إلى بغداد رد إلى الوقف. ولو شرط وقفه على العميان فالشرط باطل وتكون الغلة للمساكين لأن فيهم الغني والفقير وهم لا يحصون، وكذا على العوران والعرجان والزمني اه. مختصرا. ومنها ما في قاضيخان: لو وقف على أمهات أولاده وشرط عدم تزوجهن كان الشرط صحيحا. فعلى هذا لو شرط في حق الصوفية بالمدرسة عدم التزوج كما بالمدرسة الشيخونية بالقاهرة اعتبر شرطه، ومنها ما في الفتاوى أيضا: لو شرط الواقف أن لا تؤجر أكثر من سنة والناس لا يرغبون في استئجارها وكانت إجارتها أكثر من سنة أنفع للفقراء، فليس للقيم أن يؤاجرها أكثر من سنة ولكنه يرفع الامر إلى القاضي حتى يؤاجرها القاضي أكثر من سنة لأن للقاضي ولاية النظر على الفقراء وعلى الميت أيضا، ولو شرط أن لا تؤجر أكثر من سنة إلا إذا كان أنفع للفقراء كان للقيم أن يؤاجرها بنفسه أكثر من سنة إذا كان رأى ذلك خيرا ولا يحتاج إلى القاضي اه. وبهذا ظهر أن الشرائط الراجعة إلى الغلة وتحصيلها لا يقدر المتولي على مخالفتها ولو كان أصلح للوقف، وإنما يخالفها القاضي وهذا بخلاف ما لم ترجع إلى الغلة فإنه لا يجوز مخالفة القاضي كما قدمناه في تقرير القاضي فراشا للمسجد بغير
413 شرط الواقف فإنه غير جائز. وفي القنية: وقف على المتفقهة حنطة فيدفعها القيم دنانير فلهم طلب الحنطة ولهم أخذ الدنانير إن شاؤوا اه. وبهذا يعلم أن الخيار للمستحقين في أخذ الخبز المشروط لهم أو قيمته، وظاهره أنه لا خيار للمتولي وأنه يجبر على دفع ما شاؤوا. وفي القنية: يجوز صرف شئ من وجوه مصالح المسجد إلى الإمام إذا كان يتعطل لو لم يصرف إليه يجوز صرف الفاضل عن المصالح إلى الإمام الفقير بإذن القاضي لا بأس بأن يعين شيئا من مسبلات المصالح للإمام زيد في وجه الإمام من مصالح المسجد ثم نصب إمام آخر فله أخذه إن كانت الزيادة لقلة وجود الإمام، وإن كان لمعنى في الإمام الأول نحو فضيلة أو زيادة حاجة فلا تحل للثاني. قال الإمام للقاضي: إن مرسومي المعين لا يفي بنفقتي ونفقة عيالي فزاد القاضي في مرسومه من أوقاف المسجد بغير رضا أهل المحلة والإمام مستغن وغيره يؤم بالمرسوم المعهود تطيب له الزيادة إذا كان عالما تقيا اه. ثم قال: إذا شرط الواقف أن يعطي غلتها من شاء أو قال على أن يضعها حيث شاء فله أن يعطي الأغنياء. وفيها من باب الوقف الذي مضى زمن صرفه ولم يصرفه إلى المصرف ماذا يصنع به وقف مستغلا على أن يضحي عنه بعد موته من غلته كذا شاة كل سنة وقفا صحيحا ولم يضح القيم عنه حتى مضت أيام النحر يتصدق به. وفيها باب تصرفات القيم من التبديل وتغيير الشروط ونحوها. قال أبو نصر الدبوسي رحمه الله: إذا جعل الوقف على شراء الخبز والثياب والتصدق بها على الفقراء يجوز عندي بأن يتصدق بعين الغلة من غير شراء خبز ولا ثوب لأن التصدق هو المقصود حتى جاز التقرب بالتصدق دون الشراء، ولو وقف على أن يشتري بها الخيل والسلاح على محتاجي المجاهدين جاز التصدق بعين الغلة كالخبز والثياب، وإن شرط أن يسلمه الخيل والسلاح فيجاهد من غير تمليك ويسترد ممن أحب ثم يدفع إلى من أحب جاز الوقف، ويستوي فيه الغني والفقير ولا يجوز التصدق بعين الغلة ولا بالسلاح بل يشتري الخيل والسلاح ويبذلها لأهلها على وجهها لأن الوقف وقع للإباحة لا للتمليك. وكذا لو وقف على شراء النسم وعتقها جاز، ولم يجز إعطاء الغلة، وكذا لو وقف وكذا لو وقف ليضحي أو ليهدي إلى مكة
414 فيذبح عنه في كل سنة جاز وهو دائم أبدا، وكذا كل ما كان من هذا الجنس يراعي فيه شرط الواقف كما لو نذر بعتق عبده أو بذبح شاته أضحية لم يتصدق بقيمته وعليه الوفاء بما سمى. ولو نذر أن يتصدق بعبده على الفقراء أو شاته أو ثوبه جاز التصدق بعينه أو بقيمته، ولو وقف على محتاجي أهل العلم أن يشتري لهم الثياب والمداد والكاغد ونحوها من مصالحهم جاز الوقف وهو دائم لأن للعلوم طلابا إلى يوم القيامة، ويجوز مراعاة الشرط ويجوز التصدق عليهم بعين الغلة. ولو وقف ليشتري به الكتب ويدفع إلى أهل العلم، فإن كان تمليكا جاز التصدق بعين الغلة، وإن كان إباحة وإعارة فلا وقف على من يقرأ القرآن كل يوم منا من الخبز وربعا من اللحم فللقيم أن يدفع إليهم قيمة ذلك ورقا. ولو وقف على أن يتصدق بفاضل غلة الوقف على من يسأل في مسجد كذا كل يوم فللقيم أن يتصدق به على السؤال في غير ذلك المسجد أو خارج المسجد أو على فقير لا يسأل. قال رضي الله عنه: الأولى عندي أن يراعي في هذا الأخير شرط الواقف اه. فإن قلت: هل الوصف في الموقوف عليهم كصريح الشرط كما لو وقف على إمام حنفي؟ قلت: نعم فلا يجوز تقرير غير الحنفي. قال في القنية: وقف ضيعته على أولاده الفقهاء وأولاد أولاده إن كانوا فقهاء ثم مات أحدهم عن ابن صغير تفقه بعد سنين لا يوقف نصيبه ولا يستحق قبل حصول تلك الصفة وإنما يستحق الفقيه وإن كان واحدا اه. والله أعلم. فصل لما اختص المسجد بأحكام تخالف أحكام مطلق الوقف أفرده بفصل على حدة وأخره
415 قوله: (ومن بنى مسجدا لم يزل ملكه عنه حتى يفرزه عن ملكه بطريقه ويأذن بالصلاة فيه وإذا صلى فيه واحد زال ملكه) أما الافراز فإنه لا يخلص لله تعالى إلا به، وأما الصلاة فيه فلانه لا بد من التسليم عند أبي حنيفة ومحمد فيشترط تسليم نوعه وذلك في المسجد بالصلاة فيه أو لأنه لما تعذر القبض يقام تحقق المقصود مقامه، ثم يكتفي بصلاة الواحد لأن فعل الجنس يتعذر فيشترط أدناه. وعن محمد تشترط الصلاة بالجماعة لأن المسجد مبني لذلك في الغالب. وصححها الزيلعي تبعا لما في الخانية لأن قبض كل شئ وتسليمه يكون بحسب ما يليق به وذلك في المسجد بأداء الصلاة بالجماعة، أما الواحد يصلي في كل مكان. وقال أبو يوسف: يزول ملكه بقوله جعلته مسجدا لأن التسليم عنده ليس بشرط لأنه إسقاط لملك العبد فيصير خالصا لله تعالى بسقوط حق العبد وصار كالاعتاق. والحاصل أن المسجد مخالف لمطلق الوقف عند الكل، أما عند الأول فلا يشترط القضاء ولا التعليق بالموت، وأما عند الثاني فلا يجوز في المشاع، وأما عند الثالث فلا يشترط التسليم إلى المتولي. أطلق الواحد فشمل الباني وهو قول البعض والأصح أنه لا يكفي لأن الصلاة إنما تشترط لأجل القبض على العامة وقبضه لا يكفي فكذا صلاته، كذا في الخانية. وشمل ما إذا صلى واحد بغير أذان وإقامة وهو ظاهر الرواية، كذا في الخانية. ولو قال المصنف رحمه الله ومن جعل أرضه مسجدا بدل قوله ومن بنى لكان أولى لأنه لو كان له ساحة لا بناء فيها فأمر قومه أن يصلوا فيها بجماعة قالوا: إن أمرهم بالصلاة فيها أبدا أو أمرهم بالصلاة فيها بالجماعة ولم يذكر أبدا إلا أنه أراد بها الأبد ثم مات لا يكون ميراثا عنه وإن أمرهم بالصلاة شهرا أو سنة ثم مات تكون ميراثا عنه لأنه لا بد من التأبيد والتوقيت ينافي التأبيد، كذا في الخانية. وأفاد باشتراط الصلاة فيه أنه لو بنى مسجدا وسلمه إلى المتولي لا يصير مسجدا بالتسليم إلى المتولي وهو قول البعض واختاره شمس الأئمة السرخسي لأن قبض كل شئ يكون بما يليق به كقبض الخان يكون بنزول واحد من المارة فيه بإذنه، وفي الحوض والبئر والسقاية بالاستقاء. وقال بعضهم: يصير مسجدا كسائر الأوقاف، كذا في الخانية. وفي فتح القدير: والوجه الصحة لأن بالتسليم إلى المتولي أيضا يحصل تمام التسليم إليه تعالى لرفع يده عنه فكأنه لم يطلع على تصحيح. وفي الاختيار: والصحيح أنه يصير مسجدا وكذا إذا سلمه إلى القاضي أو نائبه، كذا في الاسعاف. وقيد بإذن الباني لأن متولي المسجد إذا جعل المنزل الموقوف على المسجد مسجدا وصلى فيه سنين ثم ترك الصلاة فيه وأعيد منزلا مستغلا جاز لأن المتولي وإن
416 جعله مسجدا لا يصير مسجدا، كذا في الخانية. وأطلق في المسجد فشمل المتخذ لصلاة الجنازة أو العيد، وفي الخانية: مسجد اتخذ لصلاة الجنازة أو لصلاة العيد هل يكون له حكم المسجد؟ اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يكون مسجدا حتى لو مات لا يورث عنه. وقال بعضهم: ما اتخذ لصلاة الجنازة فهو مسجد لا يورث عنه، وما اتخذ لصلاة العيد لا يكون مسجدا مطلقا وإنما يعطى له حكم المسجد في صحة الاقتداء بالإمام وإن كان منفصلا عن الصفوف، وأما فيما سوى ذلك فليس له حكم المسجد، وقال بعضهم: له حكم المسجد حال أداء الصلاة لا غير وهو والجبانة سواء، ويجنب هذا المكان كما يجنب المسجد احتياطا اه. فأفاد بالاقتصار على الشروط الثلاثة أنه لا يحتاج في جعله مسجدا إلى قوله وقفته ونحوه لأن العرف جار بالاذن في الصلاة على وجه العموم والتخلية بكونه وقفا على هذه الجهة فكان كالتعبير به فكان كمن قدم طعاما إلى ضيفه أو نثر نثارا كان إذنا في أكله والتقاطه بخلاف الوقف على الفقراء لم تجر عادة فيه بالتخلية والاذن بالاستغلال، ولو جرت به في عرف اكتفينا بذلك كمسألتنا، وبقولنا قال مالك وأحمد خلافا للشافعي. وأفاد أيضا أنه لو قال وقفته مسجدا ولم يأذن بالصلاة فيه ولم يصل فيه أحد لا يصير مسجدا بلا حكم وهو بعيد. ذكر في فتح القدير أن هذا مقتضى كلامهم ولم يعزه إلى النقل. وفي الحاوي القدسي: ومن بنى مسجدا في أرض مملوكة له إلى آخره فأفاد أن من شرطه ملك الأرض ولذا قال في الخانية: ولو أن سلطانا أذن لقوم أن يجعلوا أرضا من أراضي البلدة حوانيت موقوفة على المسجد أو أمرهم أن يزيدوا في مسجدهم قالوا: إن كانت البلدة فتحت عنوة وذلك لا يضر بالمارة والناس ينفذ أمر السلطان فيها، وإن كانت البلدة فتحت صلحا لا ينفذ أمر السلطان لأن في الأول تصير ملكا للغانمين فجاز أمر السلطان فيها، وفي الثاني تبقى على ملك ملاكها فلا ينفذ أمره فيها اه. ولذا قالوا: لو اشترى دارا لها شفيع فجعلها مسجدا كان للشفيع أن يأخذها بالشفعة، وكذا إذا كان للبائع حق الاسترداد كان له أن يبطل المسجد، كذا في فتح القدير. وأشار بإطلاق قوله ويأذن للناس في الصلاة أنه لا يشترط أن يقول أذنت فيه بالصلاة جماعة أبدا بل الاطلاق كاف لكن لو قال صلوا فيه جماعة صلاة أو صلاتين يوما أو
417 شهرا لا يكون مسجدا كما صرح به في الذخيرة، وقدمناه عن الخانية في الرحبة. وفي القنية: اختلف في مسجد الدار والخان والرباط أنه مسجد جماعة أم لا والأصح ما روي عن أبي يوسف أنه إذا أغلق باب الدار فهو مسجد جماعة للجماعة التي في الدار إذا لم يمنعوا غيرهم من الصلاة فيه في سائر الأوقات لأن مسجد الزقاق الذي ليس بنافذ مسجد جماعة فإن صلوا فيه في وقت أغلقوا باب الزقاق كذا هذا. وعنه إن كان فيه جماعة ممن في الدار بعد الاغلاق لا يمنعون غيرهم في الأوقات الاخر فهو مسجد جماعة وإلا فلا. (فخ) مثله. وعن محمد الأوزجندي: لا يجوز الاعتكاف في مسجد زقاق غير نافذ لأن طريق مملوك لأهله إلا إذا كان له حائط إلى طريق نافذ فحينئذ يمكن التطرق إليه من حق العامة فيخلص لله تعالى فيصير مسجدا. قال رضي الله تعالى عنه: والذي اختاره (فخ) أصح. وقد رأينا ببخارى وغيرها في دور وسكك في أزقة غير نافذة من غير شك الأئمة والعوام في كونها مساجد فعلى هذا المساجد التي في المدارس بجرجانية خوارزم مساجد لأنهم لا يمنعون الناس من الصلاة فيها، وإذا أغلقت يكون فيها جماعة من أهلها اه. وقد قدمنا شيئا من أحكام المسجد عند قوله ولا نقشه بالجص وماء الذهب من مكروهات الصلاة. وفي المجتبى: لا يجوز لقيم المسجد أن يبني حوانيت في حد المسجد أو فنائه، قيم يبيح فناء المسجد ليتجر فيه القوم أو يضع فيه سررا أجرها ليتجر فيها الناس فلا بأس إذا كان لصلاح المسجد ويعذر المستأجر إن شاء الله تعالى إذا لم يكن ممر العامة، وفناء المسجد ما كان عليه ظلة المسجد إذا لم يكن ممر العامة المسلمين، ولا يجوز صرف تلك الأجرة إلى نفسه ولا إلى الإمام بل يتصدق به على الفقراء، ولا بأس للقيم أن يخلط غلة أوقاف المسجد المختلفة اتحد الواقف أو اختلف. عن مشايخ بلخ: مسجد له أوقاف ولا قيم فيه فجمع بعض أهل محلته غلاتها وأنفقها في حصره وأدهانه وحشيشه لم يضمن ديانة استحسانا، ولو ثبت عند الحاكم ضمنه وفي تولية أهل المحلة قيما على أوقافه بدون إذن القاضي اختلاف المشايخ في فتاوى الفضلي، وأفتى مشايخنا المتقدمون أنه يصير متوليا، ثم اتفق المتأخرون واستأذونا أن الأفضل أن ينصبوا متوليا ولا يعلموا به القاضي في زماننا لطمع القضاة في أموال الأوقاف. تنازع أهل المحلة والباني في عمارته أو نصب المؤذن أو الإمام فالأصح أن الباني أولى به إلا أن يريد القوم ما هو أصلح منه، وقيل الباني بالمؤذن أولى وإن كان فاسقا بخلاف الإمام، والباني أحق بالإمامة والاذان وولده من بعده وعشيرته أولى بذلك من غيرهم. وفي المجرد عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن الباني أولى بجميع مصالح المسجد ونصب الإمام والمؤذن إذا تأهل للإمامة اه.
418 وفي القنية من آخر الوقف: بعث شمعا في شهر رمضان إلى مسجد فاحترق وبقي منه ثلثه أو دونه ليس للإمام ولا للمؤذن أن يأخذ بغير إذن الدافع، ولو كان العرف في ذلك الموضع أن الإمام والمؤذن يأخذه من غير صريح الاذن في ذلك فله ذلك اه. وفيها: وكرهوا إحداث الطاقات في المساجد روي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه. قيم الجامع القديم أجر موضعا تحت ظلة الباب لبعض الصكاكين لا يصح. لا يجوز إزالة الحائط التي بين المسجدين ليجعلهما واحدا إذا لم يكن فيه مصلحة ظاهرة، وكذا رفع صفته ويضمن القيم ما أنفق فيه من مال المسجد. بنى في فنائه في الرستاق دكانا لأجل الصلاة يصلون فيه بجماعة كل وقت فله حكم المسجد ولا يوضع الجذع على جدار المسجد وإن كان من أوقافه اه. وفيها من الكراهية: ولو كان المسجد مدخل من دار موقوفة لا بأس للإمام أن يدخل للصلاة من هذا الباب لأنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل من حجرته إلى المسجد. له في المسجد موضع معين يواظب عليه وقد شغله غيره قال الأوزاعي: له أن يزعجه وليس له ذلك عندنا ويكره تخصيص مكان في المسجد لنفسه لأنه يخل بالخشوع. ولا حرمة لتراب المسجد إذا جمع وله حرمة إذا بسط. له متاع في المسجد يخاف عليه فإنه يتيمم ويدخل في الصلاة، وإذا ضاق المسجد كان للمصلي أن يزعج القاعد من موضعه ليصلي فيه وإن كان مشتغلا بالذكر أو الدرس أو قراءة القرآن أو الاعتكاف وكذا لأهل المحلة أن يمنعوا من ليس منهم عن الصلاة فيه إذا ضاق بهم المسجد. أهل المحلة قسموا المسجد وضربوا فيه حائطا ولكل منهم إمام على حدة ومؤذنهم واحد لا بأس به، والأولى أن يكون لكل طائفة مؤذن كما يجوز لأهل المحلة أن يجعلوا المسجد الواحد مسجدين فلهم أن يجعلوا المسجدين واحدا لإقامة الجماعة أما للتذكير أو للتدريس فلا لأنه ما بنى له وإن جاز فيه. وفي شرح الآثار أن البيع وخصف النعل وإنشاد الشعر مما كان لا يعم المسجد من هذا غير مكروه، وما يعمه منه أو يغلبه فمكروه. ويجوز الدرس في المسجد وإن كان فيه استعمال اللبود والبواري المسبلة لأجل المسجد، لو علم الصبيان القرآن في المسجد لا يجوز ويأثم، وكذا التأديب فيه أي لا يجوز التأديب فيه إذا كان بأجر، وينبغي أن يجوز بغير أجر، وأما الصبيان فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وكذا لا يجوز التعليم في دكان في فناء المسجد، هذا عند أبي حنيفة. وعندهما يجوز إذا لم يضر بالعامة. أصابه البرد الشديد في الطريق فدخل مسجدا فيه خشب الغير ولو لم يوقد نارا يهلك فخشب المسجد في الايقاد أولى من غيره، ويجوز إدخال الحبوب وأثاث البيت في المسجد للخوف في الفتنة العامة اه. وفيها من الوقف: اتخذا مسجدا على أنه بالخيار جاز المسجد والشرط باطل. جعل وسط داره مسجدا وأذن للناس في الدخول
419 والصلاة فيه إن شرط معه الطريق صار مسجدا في قولهم وإلا فلا عند أبي حنيفة. وقالا: يصير مسجدا ويصير الطريق من حقه من غير شرط كما لو أجر أرضه ولم يشترط الطريق اه. وفي الاسعاف: وليس لمتولي المسجد أن يحمل سراج المسجد إلى بيته، ولا بأس بأن يترك سراج المسجد فيه من المغرب إلى وقت العشاء، ولا يجوز أن يترك فيه كل الليل إلا في موضع جرت العادة فيه بذلك كمسجد بيت المقدس ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والمسجد الحرام، أو شرط الواقف تركه فيه كل الليل كما جرت العادة به في زماننا. ويجوز الدرس بسراج المسجد إن كان موضوعا فيه لا للصلاة بأن فرغ القوم من الصلاة وذهبوا إلى بيوتهم وبقي السراج فيه قالوا: لا بأس بأن يدرس بنوره إلى ثلث الليل لأنهم لو أخروا الصلاة إلى ثلث الليل لا بأس به فلا يبطل حقه بتعجيلهم، وفيما زاد على الثلث ليس لهم تأخيرها فلا يكون لهم حق الدرس. ولو أن قوما بنوا مسجدا وفضل من خشبهم شئ قالوا: يصرف الفاضل في بنائه ولا يصرف إلى الدهن والحصر. هذا إذا سلموه إلى المتولي ليبني به المسجد وإلا يكون الفاضل لهم يصنعون به ما شاؤوا. ولو جمع مالا لينفقه في بناء المسجد فأنفق بعضه في حاجته ثم رد بدله في نفقة المسجد لا يسعه أن يفعل ذلك، فإذا فعله وكان يعرف صاحبه ضمن له بدله أو استأذنه في صرف عوضه في المسجد، وإن كان لا يعرفه رفع الامر إلى القاضي ليأمره بإنفاق بدله فيه، وإن لم يمكنه الرفع إليه قالوا: نرجوا له في الاستحسان الجواز إذا أنفق مثله في المسجد ويخرج عن العهدة فيما بينه وبين الله تعالى اه. وفي البزازية: أرادوا نقض المسجد وبناؤه أحكم من الأول إن لم يكن الباني من أهل المحلة ليس لهم ذلك، وإن كان من أهل المحلة لهم ذلك اه. وفي الحاوي: ولا بأس أن يدخل الكافر وأهل الذمة المسجد الحرام وبيت المقدس وسائر المساجد لمصالح المسجد وغيرها من المهمات، ويكره أن يكون محراب المسجد نحو المقبرة أو الميضأة أو الحمام، ويكره التوضؤ في المسجد كالبزق والمخط لما فيه من الاستخفاف، وكذا يكره أن يتخذ طريقا أو يحدث فيه حديث الدنيا أو يشهر فيه السلاح، فإن كان معه شئ منه يستحب أن يأخذ بنصله. ويكره الدخول فيه بغير ظهارة، وإذا رأى حشيش المسجد فرفعه إنسان جاز إن لم يكن له قيمة، فإن كان له أدنى قيمة لا يأخذه إلا بعد الشراء من المتولي أو القاضي أو أهل المسجد أو الإمام، وكذا الجنائز العتق أو الحصر المقطعة والمنابر والقناديل المكسرة، والأولى أن تكون حيطان المسجد أبيض غير منقوشة ولا مكتوب عليها، ويكره أن تكون منقوشة بصور أو كتابة اه.
420 قوله: (ومن جعل مسجدا تحته سرداب أو فوقه بيت وجعل بابه إلى الطريق وعزله أو اتخذ وسط داره مسجدا وأذن للناس بالدخول فله بيعه ويورث عنه) لأنه لم يخلص لله تعالى لبقاء حق العبد متعلقا به. والسرداب بيت يتخذ تحت الأرض لغرض تبريد الماء وغيره، كذا في فتح القدير. وفي المصباح: السرداب المكان الضيق يدخل فيه والجمع سراديب اه. وحاصله إن شرط كونه مسجدا أن يكون سفله وعلوه مسجدا لينقطع حق العبد عنه لقوله تعالى * (وأن المساجد لله) * (الجن: 18) بخلاف ما إذا كان السرداب أو العلو موقوفا لمصالح المسجد فإنه يجوز إذ لا ملك فيه لاحد بل هو من تتميم مصالح المسجد فهو كسرداب مسجد بيت المقدس. هذا هو ظاهر المذهب، وهناك روايات ضعيفة مذكورة في الهداية. وبما ذكرناه علم أنه لو بنى بيتا على سطح المسجد لسكني الإمام فإنه لا يضر في كونه مسجدا لأنه من المصالح. فإن قلت: لو جعل مسجدا ثم أراد أن يبني فوقه بيتا للإمام أو غيره هل له ذلك؟ قلت قال في التتارخانية: إذا بنى مسجدا وبنى غرفة وهو في يده فله ذلك، وإن كان حين بناه خلى بينه وبين الناس ثم جاء بعد ذلك يبني لا يتركه. وفي جامع الفتاوى: إذا قال عنيت ذلك فإنه لا يصدق اه. فإذا كان هذا في الواقف فكيف بغيره، فمن بنى بيتا على جدار المسجد وجب هدمه ولا يجوز أخذ الأجرة. وفي البزازية: ولا يجوز للقيم أن يجعل شيئا من المسجد مستغلا ولا مسكنا وقدمناه. ولم يذكر المصنف حكم المسجد بعد خرابه، وقد اختلف فيه الشيخان فقال محمد: إذا خرب وليس له ما يعمر به وقد استغنى الناس عنه لبناء مسجد آخر أو لخراب القرية أو لم يخرب لكن خربت القرية بنقل أهلها واستغنوا عنه فإنه يعود إلى ملك الواقف أو ورثته. وقال أبو يوسف: هو مسجد أبدا إلى قيام الساعة لا يعود ميراثا ولا يجوز نقله ونقل ما له إلى مسجد آخر، سواء كانوا يصلون فيه أو لا وهو الفتوى، كذا في الحاوي القدسي. وفي المجتبي: وأكثر المشايخ على قول أبي يوسف، ورجح في فتح القدير قول أبي يوسف بأنه الأوجه قال: وأما الحصر والقناديل فالصحيح من مذهب أبي يوسف أنه لا يعود إلى ملك متخذه بل يحول إلى مسجد آخر أو يبيعه قيم المسجد للمسجد.
421 وفي الخلاصة قال محمد في الفرس إذا جعله حبيسا في سبيل الله فصار بحيث لا يستطاع أن يركب يباع ويصرف ثمنه إلى صاحبه أو ورثته كما في المسجد، وإن لم يعلم صاحبه يشتري بثمنه فرس آخر يغزي عليه ولا حاجة إلى الحاكم. ولو جعل جنازة وملاءة ومغتسلا وقفا في محلة ومات أهلها كلهم لا ترد إلى الورثة بل تحمل إلى مكان آخر، فإن صح هذا عن محمد فهو رواية في البواري والحصر أنها لا تعود إلى الورثة، وهكذا نقل عن الشيخ الإمام الحلواني في المسجد والحوض إذا خرب ولا يحتاج إليه لتفرق الناس عنه أنه تصرف أوقافه إلى مسجد آخر أو حوض آخر. واعلم أنه يتفرع على الخلاف بين أبي يوسف ومحمد فيما إذا استغن عن المسجد لخراب المحلة والقرية وتفرق أهلها ما إذا انهدم الوقف وليس له من الغلة ما يمكن به عمارته به أنه يبطل الوقف ويرجع النقض إلى بانيه أو ورثته عند محمد خلافا لأبي يوسف، وكذا حانوت في سوق احترق وصار بحيث لا ينتفع به ولا يستأجر بشئ البتة يخرج عن الفقيه، وكذا في حوض محلة خرب وليس له ما يعمر به عاد لورثته، فإن لم يعرف فهو لقطة، وكذا الرباط إذا خرب يبطل الوقف ويصير ميراثا، ولو بنى رجل في هذه الأرض فالبناء للباني وأصل الواقف لورثة الوقف عند محمد، فقول من قال في جنس هذه المسائل نظر فليتأمل عند الفتوى غير واقع موقعه اه. وأراد الرد على الصدر الشهيد. وأقول: بل النظر واقع موقعه لأن الفتوى على قول أبي يوسف في المسجد فكذا فيما يبتني عليه، ومحمد يقول بجواز الاستبدال عند الخراب فكيف ينقل عنه القول ببطلان الوقفية في مسألة الحانوت؟ ولقد رجع في فتح القدير إلى الحق حيث قال: وفي الفتاوى الظهيرية سئل الحلواني عن أوقاف المسجد إذا تعطلت وتعذر استغلالها هل للمتولي أن يبيعها ويشتري بثمنها أخرى؟ قال: نعم. وروى هشام عن محمد: إذا صار الوقف بحيث لا ينتفع به المساكين فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه
422 غيره. وعلى هذا فينبغي أن لا يفتى على قوله برجوعه إلى ملك الواقف وورثته بمجرد تعطله أو خرابه بل إذا صار بحيث لا ينتفع به يشتري بثمنه وقف يستغل ولو كانت غلته دون غلة الأول. وفي فتاوى قاضيخان: وقف على مسمين خرب لا ينتفع به ولا يستأجر أصله يبطل الوقف ويجوز بيعه، وإن كان أصله يستأجر بشئ قليل يبقى أصله وقفا اه. ويجب حفظ هذا فإنه قد تخرب الدار وتصير كوما وهي بحيث لو نقل نقضها استأجر أرضها من يبني أو يغرس ولو بقليل فبغفل عن ذلك وتباع كلها للواقف مع أنه لا يرجع منها إليه إلا النقض. فإن قلت: على هذا تكون مسألة الرباط التي ذكرناها مقيدة بما إذا لم تكن أرضه بحيث تستأجر. قلنا: لا لأن الرباط موقوف للسكنى وامتنعت بانهدامه بخلاف هذه فإن المراد وقف لاستغلال الجماعة المسلمين اه. ما في الفتح. وفي الخانية: رجل بسط من ماله حصير للمسجد فخرب المسجد ووقع الاستغناء عنه فإنه ذلك يكون له إن كان حيا ولورثته إن كان ميتا، وإن بلي ذلك كان له أن يبيع ويشتري بثمنه حصيرا آخر. وكذا لو اشترى حشيشا أو قنديلا للمسجد فوقع الاستغناء عنه كان ذلك له إن كان حيا ولورثته إن كان ميتا، وعند أبي يوسف يباع ذلك ويصرف ثمنه إلى حوائج المسجد، فإن استغنى عنه هذا المسجد يحول إلى مسجد آخر، والفتوى على قول محمد. ولو كفن ميتا فافترسه سبع فإن الكفن يكون للمكفن إن كان حيا ولوارثه إن كان ميتا. ولو أن أهل المسجد باعوا حشيش المسجد أو جنازة أو نعشا صار خلقا ومن فعل ذلك غائب اختلفوا فيه، قال بعضهم: يجوز والأولى أن يكون بإذن القاضي. وقال بعضهم: لا يجوز إلا بإذن القاضي وهو الصحيح اه. وبه علم أن الفتوى على قول محمد في آلات المسجد، وعلى قول أبي يوسف في تأبيد المسجد، وأما قياسه في فتح القدير الحصير على الجنازة والنعش فغير صحيح لما في الخانية إذا وقف جنازة أو نعشا أو مغتسلا وهو التور العظيم في محلة خربت المحلة ولم يبق أهلها قالوا:
423 لا ترد إلى ورثة الواقف بل تحول إلى محلة أخرى أقرب إلى هذه المحلة، فرقوا بين هذا وبين المسجد إذا خرب ما حوله، على قول محمد يصير ميراثا لأن المسجد ما لا ينقل إلى مكان آخر وهذه الأشياء مما تنقل اه. وفي القنية: حوض أو مسجد خرب وتفرق الناس عنه فللقاضي أن يصرف أوقافه إلى مسجد آخر، ولو خرب أحد المسجدين في قرية واحدة فللقاضي صرف خشبه إلى عمارة المسجد الآخر إذا لم يعلم بانيه ولا وارثه وإن علم يصرفها هو بنفسه. قلت: إن شاء ولو خرب الحوض العام فكبسه إنسان وبنى عليه حوانيت فللقاضي أن يأخذ أجر مثل الأرض ويصرفه إلى حوض آخر من تلك القرية اه. قوله: (ومن بنى سقاية أو خانا أو رباطا أو مقبرة لم يزل ملكه عنه حتى يحكم به حاكم) يعني عند أبي حنيفة لأنه لم ينقطع عنه حق العبد ألا ترى أن له أن ينتفع به ويسكن في الخان
424 وينزل في الرباط ويشرب من السقاية ويدفن في المقبرة فيشترط حكم الحاكم أو الإضافة إلى ما بعد الموت كما في الوقف على الفقراء بخلاف المسجد لأنه لم يبق له حق الانتفاع به فخلص لله تعالى من غير حكم الحاكم. وعند أبي يوسف يزول ملكه بالقول كما هو أصله إذ التسليم عنده ليس بشرط والوقف لازم. وفي فتاوى قاضيخان: ونأخذ في ذلك بقول أبي يوسف. وعند محمد إذا استقى الناس من السقاية وسكنوا الخان والرباط ودفنوا في المقبرة زال الملك لأن التسليم عنده شرط والشرط تسليم نوعه وذلك بما ذكرناه، ويكتفي بالواحد لتعذر فعل الجنس كله. وعلى هذا البئر والحوص ولو سلم إلى المتولي صح التسليم في هذه الوجوه لأنه نائب عن الموقوف عليه وفعل النائب كفعل المنوب عنه، وأما في المسجد فقدمنا الخلاف فيما إذا سلمه إلى المتولي. والمقبرة في هذا بمنزلة المسجد على ما قيل لأنه لا متولي له عرفا، وقد قيل: إنه بمنزلة السقاية والخان فيصح التسليم إلى المتولي لأنه لو نصب المتولي يصح وإن كان على خلاف العادة. ولو جعل دارا له بمكة سكنى لحاج بيت الله الحرام والمعتمرين أو جعل داره في غير مكة سكنى للمساكين أو جعلها في ثغر من الثغور سكنى للغزاة والمرابطين أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى ودفع ذلك إلى وال يقوم عليه فهو جائز ولا رجوع فيها لما بينا إلا أن في الغلة تحل للفقراء دون الأغنياء، وفيما سواه من سكنى الخان والاستقاء من البئر والسقاية وغير ذلك يستوي فيه الفقير والغني. والفارق هو العرف بين الفصلين، فإن أهل العرف يريدون بذلك في الغلة للفقراء، وفي غيرها التسوية بينهم وبين الأغنياء، ولان الحاجة تشمل الغني والفقير في النزول والشرب والغني لا يحتاج إلى صرف هذه الغلة لغناه، كذا في الهداية. وبما قررناه علم أن اقتصار المصنف على حكم الحاكم ليس بجيد لأن الإضافة إلى ما بعد الموت كالحكم وهي وصية فلا تلزم إلا بعد الموت وله الرجوع عنها في حياته كما في فتح القدير. وظاهر قول المصنف أن له الرجوع في المقيرة قبل الحكم وبعد الدفن بها على قول الإمام. وفي فتح القدير: ثم روى الحسن عنه أنه إذا رجع بعد الدفن لا يرجع في المحل الذي دفن فيه ويرجع فيما سواه، ثم إذا رجع في المقبرة بعد الدفن لا ينبشها لأن النبش حرام ولكن يسوي ويزرع وهذا على غير رواية الحسن
425 والفتوى في ذلك كله على خلاف قولة أبي حنيفة للتعامل المتوارث. هذا وتفارق المقبرة غيرها بأنه لو كان في المقبرة أشجار وقت الوقف كان للورثة أن يقطعوها لأن موضعها لم يدخل في الوقف لأنه مشغول بها كما لو جعل داره مقبرة لا يدخل موضع البناء في الوقف بخلاف غير المقبرة فإن الأشجار والبناء إذا كانت في عقار وقفه دخلت في الوقف تبعا، ولو نبتت فيها بعد الوقف إن علم غارسها كانت للغارس، وإن لم يعلم فالرأي فيها إلى القاضي إن رأى بيعها وصرف ثمنها على عمارة المقبرة فله ذلك ويكون في الحكم كأنه وقف، ولو كانت قبل الوقف لكن الأرض موات ليس لها مالك فاتخذها أهل القرية مقبرة فالأشجار على ما كانت عليه قبل جعلها مقبرة، ولو بنى رجل بيتا في المقبرة لحفظ اللبن ونحوه إن كان في الأرض سعة جاز وإن لم يرض بذلك أهل المقبرة لكن إذا احتيج إلى ذلك المكان يرفع البناء ليقبر فيه. ومن حفر لنفسه قبرا فلغيره أن يقبر فيه وإن كان في الأرض سعة إلا أن الأولى أن لا يوحشه إن كان فيه سعة كمن بسط سجادة في المسجد أو نزل في الرباط فجاء آخر لا ينبغي أن يوحش الأول إن كان في المكان سعة. وذكر الناطقي أنه يضمن قيمة الحفر ليجمع بين الحقين. ولا يجوز لأهل القرية الانتفاع بالمقبرة الدائرة فلو كان فيها حشيش يحش ويرسل إلى الدواب ولا ترسل الدواب فيها اه. وفي الخانية: امرأة جعلت قطعة أرض مقبرة وأخرجتها من يدها ودفن فيها ابنها وهذه الأرض غير صالحة للقبر لغلبة الماء عليها. قال الفقيه أبو جعفر: إن كانت الأرض بحال يرغب الناس عن دفن الموتى فيها لفسادها لم تصر مقبرة وكان للمرأة أن تبيعها، وإذا باعت كان للمشتري أن يرفع الميت عنها أو يأمر برفع الميت عنها، ولو جعل أرضه مقبرة أو خانا للغلة أو مسكنا سقط الخراج عنه إن كانت خراجية، وقيل لا تسقط والصحيح هو الأول. ولو بنى رباطا على أن يكون في يده ما دام حيا قال أبو القاسم: يقر في يده ما لم يستوجب الاخراج عن يده. قوم عمروا أرض موات على شط جيحون وكان السلطان يأخذ العشر منهم لأن على قول محمد ماء الجيحون ليس ماء الخراج وبقرب ذلك رباط فقام متولي الرباط إلى السلطان فأطلق السلطان له ذلك العشر هل يكون للمتولي أن يصرف ذلك العشر إلى مؤذن يؤذن في هذا الرباط يستعين بهذا على طعامه وكسوته هل يجوز له ذلك؟ وهل يكون للمؤذن أن يأخذ ذلك العشر الذي أباح السلطان للرباط؟ قال الفقيه أبو جعفر: لو كان المؤذن محتاجا يطيب له ولا ينبغي له أن يصرف ذلك العشر إلى عمارة الرباط وإنما يصرف إلى
426 الفقراء لا غير، ولو صرف إلى المحتاجين ثم إنهم أنفقوا في عمارة الرباط جاز ويكون ذلك حسنا. رباط على بابه قنطرة على نهر عظيم خربت القنطرة ولا يمكن الوصول إلى الرباط إلا بمجاوزة النهر وبدون القنطرة لا يمكن المجاوزة، هل تجوز عمارة القنطرة بغلة الرباط؟ قال الفقيه أبو جعفر: إن كان الواقف وقف على مصالح الرباط لا بأس به وإلا فلا، لأن الرباط للعامة والقنطرة كذلك. متولي الرباط إذا صرف فضل غلة الرباط في حاجة نفسه قرضا لا ينبغي له أن يفعل ولو فعل ثم أنفق من مال نفسه في الرباط رجوت له أن يبرأ، وإن أقرض ليكون أحرز من الامساك عنده قال: رجوت أن يكون واسعا له ذلك. رباط استغنى عنه المارة وبقربه رباط آخر قال الفقيه أبو جعفر: تصرف غلة الرباط الأول إلى الرباط الثاني، وإن لم يكن بقربه رباط يعود الوقف إلى ورثة من بني الرباط. رجل أوصى بثلث ماله للرباط فإلى من يصرف قال الفقيه أبو جعفر: إن كان هناك دلالة أنه أراد به المقيمين يصرف إليهم وإلا يصرف إلى عمارة الرباط اه. وفي المصباح: السقاية بالكسر الموضع يتخذ لسقي الناس، والرباط اسم من رابط مرابطة من باب قاتل إذا لازم ثغر العدو، والرباط الذي يبنى للفقراء مولد ويجمع في القياس ربط بضمتين ورباطات. وفي المجتبى: اتخذ مشرعة أو مكتبا لا يتم حتى يشرع فيها إنسان أو يقرأ فيها إنسان. وقال أبو يوسف: الاشهاد في ذلك كله يكفي ولا بأس أن يشرب من الحوض والبئر ويسقي دابته ويتوضأ منه، وفي التوضئ من السقاية إذا اتخذها للشرب اختلاف المشايخ. ولو اتخذها للتوضؤ لا يجوز الشرب منه بالاجماع، وفي الاستقاء من السقاية واسقاء الدواب اختلاف والأصح أنه لا يجوز إلا الاستقاء للشرب إذا كان قليلا لأنه في معنى الشرب. والأصح عدم جواز أخذ الجمد إلى بيته لأن الجمد لتبريد ماء السقاية لا للاخذ. مقبرة للمشركين أراد أن يتخذها مقبرة للمسلمين لا بأس به إن كانت قد اندرست آثارهم، فإن بقي شئ من عظامهم تنبش وتقبر ثم تجعل مقبرة للمسلمين فإن موضع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مقبرة للمشركين فنبشه واتخذه مسجدا. استغنى عن مسجد لا يجوز اتخاذه مقبرة، ولو وقف أرضا على المقبرة أو على صوفي خانه بشرائطه لا يصح اه. وفي الظهيرية: وإذا اشترى الرجل موضعا وجعله طريقا للمسلمين وأشهد عليه صح، ويشترط لاتمامه مرور واحد من المسلمين على قول من يشترط التسليم في الأوقاف. وفي النوادر عن أبي حنيفة أنه أجاز وقف المقابر والطرق. قال هلال: وكذلك القنطرة يتخذها الرجل للمسلمين ويتطرقون فيها لا يكون بناؤها ميراثا للورثة وقد صار وقفا، ودلت المسألة على جواز وقف البناء. وفي القنية: صغير كان يأخذ من السقاية ماء لاصلاح الدواة أو قصعة للشرب ثم بلغ فندم لا يكفيه الندم بل يرد الضمان إلى القيم، ولا يجزيه صب مثله في السقاية أخذ من السقاية ماء مرة بعد أخرى حتى بلغ جرة مثلا وكان القيم قد صب في تلك السقاية خمسين جرة فصب هو جرة قضاء للحق بعد إذن القيم صار ضامنا للكل. دار موقوفة
427 للماء والجمد ليس للقيم أن يشتري من غلتها خابية ليسقي الماء. وقف أرضا على أن يدفن فيها أقرباءه فإذا انقطعوا فآخره للفقراء ودفن فيها من أقربائه حال حياته صح الوقف، ولو وقف مقبرة أو خانا بعد موته فلوارثه أن يدفن فيها أن ينزل فيه اه. قوله: (وإن جعل شئ من الطريق مسجدا صح كعكسه) يعني إذا بنى قوم مسجدا واحتاجوا إلى مكان ليتسع فأدخلوا شيئا من الطريق ليتسع المسجد وكان ذلك لا يضر بأصحاب الطريق جاز ذلك، وكذا إذا ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه بالقيمة كرها لما روي عن الصحابة رضي الله عنهم لما ضاق المسجد الحرام أخذوا أرضين بكره من أصحابها بالقيمة وزادوا في المسجد الحرام. ومعنى قوله كعكسه أنه إذا جعل في المسجد ممرا فإنه يجوز لتعارف أهل الأمصار في الجوامع وجاز لكل أحد أن يمر فيه حتى الكافر إلا الجنب والحائض والنفساء لما عرف في موضعه، وليس لهم أن يدخلوا فيه الدواب، كذا ذكره الشارح رحمه الله. وفي الخانية: طريق للعامة وهي واسع فبنى فيه أهل المحلة مسجدا للعامة ولا يضر ذلك بالطريق قالوا: لا بأس به، وهكذا روي عن أبي حنيفة ومحمد لأن الطريق للمسلمين والمسجد لهم أيضا، وإن أراد أهل المحلة أن يدخلوا شيئا من الطريق في دورهم وذلك لا يضر بالطريق لا يكون لهم ذلك. ولأهل المحلة تحويل باب المسجد من موضع إلى موضع آخر. قوم بنوا مسجدا واحتاجوا إلى مكان ليتسع المسجد فأخذوا من الطريق وأدخلوه في المسجد إن كان ذلك يضر بالطريق لا يجوز وإلا فلا بأس به، ولو ضاق المسجد على الناس وبجنبه أرض لرجل تؤخذ أرضه بالقيمة كرها، ولو كان بجنب المسجد أرض وقف على المسجد فأرادوا أن يزيدوا شيئا في المسجد من الأرض جاز ذلك بأمر القاضي اه. وقدمنا حكم ما إذا أمر السلطان بزيادة المسجد من الطريق والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
428 كتاب البيع قدمنا في الطهارة أن المشروعات أربعة: حقوق الله تعالى خالصة، وحقوق العباد خالصة، وما اجتمعا وغلب حق الله تعالى، وما اجتمعا وغلب حق العبد. وقدم الأول لأنه المقصود من خلق الثقلين، ثم شرع في المعاملات فبدأ بالنكاح وما يتبعه لما فيه من معنى العبادة، وذكر العتاق لمناسبة الطلاق في الاسقاط، ثم الايمان لمناسبتها لكليهما، ثم الحدود لمناسبتها لليمين من جهة الكفارة فإنها دائرة بين العبادة والعقوبة والحدود عقوبات، ثم ذكر السير بعدها للاشتراك في المقصود وهو اخلاء العالم عن الفساد. وقدم الأول لأنه معاملة مع المسلمين، والثاني مع الكفار، ثم اللقيط للاشتراك في كون النفوس عرضة للفوات، ثم اللقطة للاشتراك في كون الأموال كذلك، وكذا في الإباق والمفقود، ثم ذكر الشركة لأن المال لما كان فيها أمانة في يد الشريك كان بعرضية التوى، ثم الوقف بعدها للاشتراك في استيفاء الأصل مع الانتفاع بالزيادة، ثم البيوع لأن الوقف إزالة الملك لا إلى مالك وفي البيوع إليه فكان الوقف بمنزلة البسيط والبيع كالمركب. والكلام فيه يقع في عشرة واضع: الأول في معناه لغة وشريعة فالمقصود مقابلة شئ بشئ سواء كان مالا أو لا ولذا قال تعالى * (وشروه بثمن بخس دراهم معدودة) * (يوسف: 20) كما في المحيط. وقال في المصباح: باعه يبيعه بيعا ومبيعا فهو بائع، وبيع والبيع من الأضداد مثل الشراء، ويطلق على كل واحد من المتعاقدين أنه بائع لكن إذا أطلق البائع فالمتبادر إلى الذهن باذل السلعة، ويطلق البيع على المبيع فيقال بيع جيد ويجمع على بيوع وأبعته بالألف لغة. قال ابن القطاع: وبعت زيدا الدار يتعدى إلى مفعولين، وقد تدخل من على المفعول الأول على وجه التأكيد فيقال بعت من زيد الدار، وربما دخلت الام مكان من فيقال بعتك الشئ وبعت لك فهي زائدة. وابتاع زيد
429 الدار بمعنى اشتراها وباع عليه القاضي أي من غير رضاه. وفي الحديث لا يبع أحدكم (1) أي لا يشتري لأن النهي فيه على المشتري لا على البائع بدليل رواية البخاري لا يبتاع أحدكم (2) ويريد يحرم سوم الرجل على سوم أخيه. والأصل في البيع مبادلة مال بمال لقولهم بيع رابح وبيع خاسر وذلك حقيقة في وصف الأعيان لكنه أطلق على العقد مجازا لأنه سبب التمليك والتملك. وقولهم صح البيع أو بطل أي صيغته لكنه لما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهو مذكر أسند الفعل إليه اه. وفي القاموس: باعه يبيعه بيعا أو مبيعا والقياس مباعا إذا باعه وإذا اشتراه ضد وهو مبيع ومبيوع وبيع الشئ قد تضم باؤه فيقال بوع اه. وفي الشريعة ما ذكره المصنف رحمه الله تعالى بقوله: (هو مبادلة المال بالمال بالتراضي) من استبدلت الثوب بغيره أو بدلت الثوب بغيره أبدله من باب قتل، كذا في المصباح. وفي المعراج ما يدل على أنها بمعنى التمليك لأن بعضهم زاد على جهة التمليك فقال فيه لا حاجة إليه لأن المبادلة تدل عليه. والمال في اللغة ما ملكته من شئ والجمع أموال، كذا في القاموس. وفي الكشف الكبير: المال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية إنما ثبت بتمول الناس كافة أو بتقوم البعض والتقوم يثبت بها وبإباحة الانتفاع له شرعا فما يكون مباح الانتفاع بدون تمول الناس لا يكون مالا كحبة حنطة، وما يكون مالا بين الناس ولا يكون مباح الانتفاع لا يكون متقوما كالخمر، وإذا عدم الأمران لم يثبت واحد منهما كالدم اه. وصرح في المحيط بأن الخمر ليس بمال وأن العقد عليه لم ينعقد بخلاف ما
430 لو باع شيئا بخمر فإنه ينعقد في ذلك الشئ بالقيمة وسيأتي بيانه إن شاء الله. وفي الحاوي القدسي: المال اسم لغير الآدمي خلق لمصالح الآدمي وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار، والعبد وإن كان فيه معنى المالية ولكنه ليس بمال حقيقة حتى لا يجوز قتله وإهلاكه اه. وفي شرح الوقاية: لم يقل على سبيل التراضي ليشمل مالا يكون بتراض كبيع المكره فإنه ينعقد اه. وأجاب عنه في شرح النقاية بأن من ذكره أراد تعريف البيع النافذ ومن تركه أراد تعريف البيع مطلقا، نافذا كان أو غير نافذ. وأقول: بيع المكره فاسد موقوف لا أنه موقوف فقط كبيع الفضولي كما يفهم من كلامه. وقد عرفه فخر الاسلام بأنه في اللغة والشريعة المبادلة وزيد فيها التراضي. ورده في فتح القدير بأنه إذا فقد الرضا لا يسمى في اللغة بيعا بل غصبا ولو أعطاه شيئا آخر مكانه. وعرفه في البدائع بأنه مبادلة شئ مرغوب فيه بشئ مرغوب فيه وذلك قد يكون بالقول وقد يكون بالفعل، فالأول الايجاب والقبول والثاني التعاطي اه. وبهذا ظهر أنه لا منافاة بين قولهم إن معناه المبادلة وبين قولهم إن ركنه الايجاب والقبول. وما في المستصفى من أنه معنى شرعي يظهر أثره في المحل عند الايجاب والقبول فرده في فتح القدير بأنه نفس حكمه وهو الملك فإنه القدرة على التصرف ابتداء إلا لمانع فخرج بالابتداء قدرة الوكيل والوصي والمتولي، وبقولنا إلا لمانع المبيع المنقول قبل القبض،
431 فإن عدم القدرة على بيعه لمانع النهي. وفي الحاوي: المالك الاختصاص الحاجز وأنه حكم الاستيلاء لأنه به ثبت لا غير إذ المملوك لا يملك لأن اجتماع الملكين في محل واحد محال فلا بد وأن يكون المحل الذي ثبت الملك فيه خاليا عن الملك، والخالي عن الملك هو المباح، والمثبت للملك في المباح الاستيلاء لا غير وهو طريق الملك في جميع الأموال لأن الأصل الإباحة فيها، وبالبيع والهبة ونحوهما ينتقل الملك الحاصل بالاستيلاء إليه، فمن شرط البيع شغل المبيع بالملك حالة البيع حتى لم يصح في مباح قبل الاستيلاء، ومن شرط الاستيلاء خلو المحل عن الملك وقته وبالإرث والوصية تحصل الخلافة عن الميت حتى كأنه حي لا الانتقال حتى ملك الوارث الرد بالعيب دون المشتري فالأسباب ثلاثة: مثبت للملك وهو الاستيلاء، وناقل للملك وهو البيع ونحوه، وخلافة وهو الميراث والوصية. وما أريد لأجله حكم التصرف حكمة وثمرة، فحكم البيع الملك، وحكمته إطلاق الانتفاع والعقود تبطل إذا خلت عن الأحكام ولا تبطل بخلوها عن الحكم اه. ومما ظهرت فيه فائدة الخلافة جواز إقالة الوارث والموصى له، ومنها الخصومة في إثبات الدين كما في دعوى البزازية. وعرفه في الايضاح بأنه عقد متضمن مبادلة مال بمال ولا حاجة إلى زيادته شرعا لما سمعت من أن المبادلة تكون بالقول وبالفعل، وإنما زاد لما قدمناه عن المصباح أن المبادلة حقيقة للأعيان وللعقد مجاز. ثم اعلم أن البيع وإن كان مبناه على البدلين لكن الأصل فيه المبيع دون الثمن ولذا تشترط القدرة على المبيع دون الثمن وينفسخ بهلاك المبيع دون الثمن. وأما ركنه ففي البدائع: ركنه المبادلة المذكورة وهو معنى ما في فتح القدير من أن ركنه الايجاب والقبول الدالان على التبادل أو ما يقوم مقامهما من التعاطي، فركن الفعل الدال على الرضا بتبادل الملكين من قول أو فعل. وأما شرائطه فأنواع أربعة: شرط انعقاد، وشرط صحة، وشرط نفاذ، وشرط لزوم. فالأول أربعة أنواع في العاقد وفي نفس العقد وفي مكان العقد وفي المعقود عليه. فشرائط العاقد: العقل فلا ينعقد بيع المجنون والصبي الذي لا يعقل. والعدد في العاقد فلا ينعقد بالوكيل من الجانبين إلا في الأب ووصيه والقاضي فإنه يتولى الطرفين في مال الصغير إذا باعوا أموالهم منه أو اشتروا بشرط أن يكون فيه نفع ظاهر لليتيم في الوصي. وزاد في المعراج شراء العبد نفسه من مولاه بأمره، وأما القاضي فإنه لا يعقد لنفسه لأن فعله قضاء وقضاؤه لنفسه لا يجوز، كذا في الخزانة وغيرها وهو مخالف لما في البدائع. وفي الخانية من الوكالة الواحد لا يتولى العقد من الجانبين إلا في الأب فإنه يكتفي بلفظ واحد. وقال خواهر زاده: هذا إذا أتى بلفظ يكون أصيلا في ذلك اللفظ بأن قال بعت
432 هذا من ولدي فيكتفي به، وأما إذا أتى بلفظ لا يكون أصلا فيه بأن قال اشتريت هذا المال لولدي لا يكتفى بقوله اشتريت ولا بد أن يقول بعت وهو في الوجهين يتولى العقد من الجانبين. ومنها الوصي لنفسه، ومنها الوصي يبيع للقاضي، ومنها العبد يشتري نفسه من مولاه بأمره اه. فيحمل ما في البدائع على أن القاضي باع مال يتيم من آخر أو اشترى توفيقا بينه وبين ما في الخزانة. وفي البزازية: ولو أمر إنسان الوصي أن يشتري له مال اليتيم فاشترى لم يجز بخلاف ما إذا اشترى لنفسه مع النفع. وفي وصايا الخانية فسر شمس الأئمة السرخسي الخيرية فقال: إذا اشترى الوصي مال اليتيم لنفسه ما يساوي عشرة بخمسة عشر يكون خيرا لليتيم، وإذا باع مال نفسه من اليتيم ما يساوي خمسة عشر بعشرة كان خيرا لليتيم. وقال بعضهم: إن باع ما يساوي عشرة بثمانية أو اشترى ما يساوي ثمانية بعشرة كان خيرا لليتيم، والوكيل بالبيع أو بالشراء إذا اشترى لنفسه أو باع مال الموكل لم يجز عندهم جميعا، سواء كان شرا أو خيرا، وفي الأب لا يشترط أن يكون خيرا اه. وإلا في الرسول من الجانبين. وليس من شرائط العاقد البلوغ فانعقد بيع الصبي وشراؤه موقوفا على إجارة وليه إن كان شراؤه لنفسه، ونافذا بلا عهدة عليه إن كان لغيره. وليس من شرائطه الحرية فانعقد بيع العبد كالصبي في النوعين، وليس منه الاسلام والنطق والصحو. وأما شرط العقد فموافقة القبول للايجاب بأن يقبل المشتري ما أوجبه البائع بما أوجبه فإن خالفه بأن قبل غير ما أوجبه أو بعض ما أوجبه أو بغير ما أوجبه أو ببعض ما أوجبه لم ينعقد لتفرق الصفقة، وأنه لا يجوز إلا في الشفعة بأن باع عبدا وعقارا فطلب الشفيع أخذ العقار وحده فله ذلك وإن تفرقت الصفقة على البائع كما في الفتاوي الولوالجية من الشفعة وستأتي تفاريعه إلا فيما إذا كان الايجاب من المشتري فقبل البائع بأنقص من الثمن أو كان من البائع فقيل المشتري بأزيد انعقد، فإن قبل البائع الزيادة في المجلس جازت كما في التتارخانية. وفي الآلة أن تكون بلفظ الماضي إن عقد بالقول، كذا في البدائع. وأما شرط مكانه فواحد وهو اتحاد المجلس بأن كان الايجاب والقبول في مجلس واحد، فإن اختلف لم ينعقد. وأما شرائط المعقود عليه فأن يكون موجودا مالا متقوما مملوكا في نفسه، وأن يكون ملك البائع فيما يبيعه لنفسه، وأن يكون مقدور التسليم فلم ينعقد بيع المعدوم وماله خطر
433 العدم كنتاج النتاج والحمل واللبن في الضرع، والثمر والزرع قبل الظهور، والبزر في البطيخ، والنوى في التمر، واللحم في الشاة الحية، والشحم والالية فيها وأكارعها ورأسها، والسجير في السمسم، وهذا الفص على أنه ياقوت فإذا هو زجاج، أو هذا الثوب الهروي فإذا هو مروي، أو هذا العبد فإذا هو جارية، أو دار على أن بناءها أجر فإذا هو لبن، أو ثوب على أنه مصبوغ بعصفر فإذا هو بزعفران، أو هو حنطة في جوالق فإذا هي دقيق، أو دقيق فإذا هي خبز، أو هذا الثوب القز فإذا لحمته من ملحم ولو كان سداه من قز، وصح لو كان عكسه مع الخيار إذا اللحمة هي الأصل، أو هذا الثوب على أن ظهارته وبطانته وحشوه من كذا فإذا الظهارة من غير المعين بخلاف ما إذا كانت البطانة من غير المعين فإنه ينعقد مع الخيار. ومما تسامحوا فيه وأخرجوه عن هذه القاعدة ما في القنية: الأشياء التي تؤخذ من البياع على وجه الخرج كما هو العادة من غير بيع كالعدس والملح والزيت ونحوها ثم اشتراها بعد ما انعدمت صح اه. فيجوز بيع المعدوم هنا. ولم ينعقد بيع ما ليس بمال متقوم كبيع الحر والمدبر المطلق وأم الولد والمكاتب ومعتق البعض وأولادهم إلا ولد المكاتب المشتري في كتابته والميتة والدم وذبيحة المجوسي والمرتد والمشرك والصبي الذي لا يعقل والمجنون ومذبوح صيد المحرم، سواء كان من الحل أو الحرم، ومذبوح صيد الحرم وصيد المحرم إلا بيع وكيله، وجلد الميتة قبل الدبغ، وجلد الخنزير مطلقا وعظمه وشعره وعصبه على الصحيح كشعر الآدمي وعظمه، وفي عظم الكلب روايتان. ولم ينعقد بيع الخمر والخنزير في حق المسلم، وأما في حق الذمي فينعقد ولكن اختلفوا في كونه مباحا له أو محرما والصحيح الثاني كما في البدائع لكونهم بتمولونها. وإن تبايعا ثم أسلم أحدهما قبل القبض انفسخ البيع، ولو تقارضا ثم أسلم المقرض فلا شئ له من الخمر، وإن أسلم المستقرض كان عليه القيمة في رواية، وفي أخرى كالأول. ولم ينعقد بيع النحل ودود القز إلا تبعا، ولا بيع العذرة الخالصة بخلاف السرقين والمخلوطة بتراب، وكذا بيع آلات الملاهي عندهما خلافا للإمام، ولم ينعقد بيع الملاقيح والمضامين وعسب الفحل ولبن المرأة، وفي التلويح: المتقوم ما يجب ابقاؤه بعينه
434 أو بمثله أو بقيمته، والخمر يجب اجتنابها بالنص فلم تكن متقومة اه. وفي القنية: أدنى القيمة التي تشترط لجواز البيع فلس ولو كانت كسرة خبز لا يجوز شراء البراءات التي يكتبها الديوان على العمال لا يصح. قيل له: أئمة بخاري جوزوا بيع حظوظ الأئمة. قال: لأن مال الوقف قائم ثمة ولا كذلك هنا ا ه. فعلى هذا يجوز للمستحق في المدارس بيع خبزه قبل قبضه من المشرف بخلاف الجندي إذا باع الشعير المعين لعلف دابته قبل قبضه. وخرج بالمملوك بيع الكلأ ولو في أرض مملوكة له، والماء في نهره أو في بئره، وبيع الصيد والحطب والحشيش قبل الاحراز، وبيع أرض مكة عند الإمام، وأرض أحياها بغير إذن الإمام عند الإمام، وحوانيت السوق التي عليها غلة للسلطان لعدم الملك لأن السلطان إنما أذن لهم في البناء ولم يجعل البقعة لهم كما في البدائع. وفي القنية: حفر موضعا من المعدن ثم باع تلك الحفيرة أو أجرها لا يصح لأنه إنما ملك من المعدن ما يخرج ويؤخذ وما بقي فيه بقي على الإباحة. قال رضي الله تعالى عنه: وهذه رواية في واقعة بلغتني عن بعض المفتين المجازفين أنه أفتى فيمن حفر في جبل حجرا يتخذ منه القدور ثم مات ونحت غيره منه قدورا بأن لورثة الحافر المنع تاب الله عليه وعلينا وهداه وإيانا، والصواب ليس لهم المنع لأن الحجر الباقي وإن ظهر بحفره بقي على أصل الإباحة اه. وخرج بقولنا وأن يكون ملكا للبائع ما ليس كذلك فلم ينعقد بيع ما ليس بمملوك له وإن ملكه بعده إلا السلم، والمغصوب لو باعه الغاصب ثم ضمن الغاصب قيمته نفذ بيعه لاستناد الملك إلى وقت البيع فتبين أنه باع ملك نفسه. وقلنا فيما يبيعه لنفسه ليخرج النائب والفضولي فالأول نافذ والثاني منعقد موقوفا. وقلنا وأن يكون مقدور التسليم فلم ينعقد بيع معجوز التسليم عند البائع كبيع الآبق في ظاهر الرواية، فإن حضر احتيج إلى تجديد الركن قولا أو فعلا، وكذا بيع الطير في الهواء بعد أن كان في يده وطار، والسمك بعد الصيد، والالقاء في الحظيرة إذا كان لا يمكن أخذه إلا بصيد. ولا ينعقد بيع الدين من غير من عليه الدين، ويجوز من المديون لعدم الحاجة إلى التسليم، ولم ينعقد بيع المغصوب من غير الغاصب إذا كان الغاصب منكرا له ولا بينة. وإلى هنا صارت شرائط الانعقاد أحد عشر، اثنان في العاقد، واثنان في العقد، وواحد في مكانه، وستة في المعقود عليه. وأما شرائط النفاذ فالملك أو الولاية فلم ينعقد بيع الفضولي عندنا، وأما شراؤه فنافذ كما سيأتي، والولاية إما بإنابة المالك أو الشارع. فالأول الوكالة والثاني ولاية الأب ومن قام
435 مقامه بشرط إسلام الولي وحريته وعقله وبلوغه وصغر المولى عليه. وأولى الأولياء في المال الأب ثم وصيه ثم وصي وصيه ثم الجد أبو الأب ثم وصيه ثم وصي وصيه ثم القاضي ثم من نصبه القاضي، وليس لمن سواهم ولاية في المال من الام والأخ والعم، ولوصيهم ولاية بيع المنقول للحفظ والعقار لقضاء دين الميت خاصة وليس له التصرف. وأما وصي المكاتب فلا يملك الاقضاء دين المكاتب فيبيع له ولا يملك بعده إلا الحفظ في رواية الزيادات، وفي رواية كتاب القسمة جعله كوصي الأب. هذا إذا مات قبل الأداء، وأما بعده فوصيه كوصي الأحرار فانعقد بيع الصبي العاقل عندنا موقوفا إن كان محجورا، ونافذا إن كان مأذونا. الثاني أن لا يكون في المبيع حق لغير البائع، فإن كان لا ينفذ كالمرهون والمستأجر واختلفت عبارات الكتب فيها ففي بعضها أنه فاسد، والصحيح أنه موقوف ويحمل الفساد على أنه لا حكم له ظاهرا وهو تفسير الموقوف عندنا، ويملكان الإجازة دون الفسخ ويفسخه المشتري إن لم يعلم به أولا، وأما بيع عبد وجب عليه قود فنافذ كبيع المرتد والجاني ومن وجب عليه حد. وأما شرائط الصحة فعامة وخاصة، فالعامة لكل بيع ما هو شرط الانعقاد لأن ما لا ينعقد لم يصح ولا ينعكس فإن الفاسد عندنا منعقد نافذ إذا اتصل به القبض. ومنها أن لا يكون مؤقتا فإن أقته لم يصح بخلاف الإجارة فإن التأقيت شرطها. ومنها أن يكون المبيع معلوما والثمن معلوما علما يمنع من المنازعة فالمجهول جهالة مفضية إليها غير صحيح كشاة من هذا القطيع، وبيع الشئ بقيمته ويحكم فلان. ومنها خلوه عن شرط مفسد وهو أنواع شرط في وجوده غرر كاشتراط حمل البهيمة، واختلفت الروايات في اشتراط حمل الجارية، ورجح بعضهم أن الشارط له إن كان البائع صح وكان تبريا منه وإن كان المشتري ليتخذها ظئرا فسد. ومنه ما إذا اشترى كبشا على أنه نطاح، ومنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لاحديهما وسيأتي تفصيله. ومنه شرط الاجل في المبيع المعين والثمن المعين وإنما يجوز في الدين. ومنه شرط خيار مؤبد، ومنه شرط خيار مؤقت مجهول، ومنه شرط خيار مطلق،
436 ومنه شرط خيار مؤقت معلوم زائد على الثلاثة، ومنه استثناء حمل الجارية، ومنه الرضا ففسد بيع المكره وشراؤه، وكذا البيع تلجئة ويملك الأول بالقبض دون الثاني. ومنها الفائدة فبيع ما لا فائدة فيه وشراؤه فاسد، ففسد بيع درهم بدرهم استويا وزنا وصفة، كذا في الذخيرة. وأما الخاصة فمنها معلومية الاجل في البيع بثمن مؤجل ففسد إن كان مجهولا، ومنها القبض في بيع المشتري المنقول، وفي الدين فبيع الدين قبض قبل فاسد كالمسلم فيه، ورأس المال ولو بعد الإقالة، وبيع شئ بالدين الذي على فلان بخلاف ما إذا كان على البائع. ومنها أن يكون البدل مسمى في أحد نوعي المبادلة وهي القولية، فإن سكت عنه فسد وملك بالقبض، وإن نفاه قيل فسد، وقيل بطل فلا يملك بالقبض. وفي التتمة: باعه بدين عليه وهما يعلمان أن لا دين عليه لم يصح. ومنها المماثلة بين البدلين في أموال الربا وسيأتي تفصيله في بابه. ومنها الخلو عن شبهة الربا، ومنها وجود شرائط السلم الآتية، ومنها القبض في الصرف قبل الافتراق، ومنها أن يكون الثمن الأول معلوما في بيع المرابحة والتولية والاشراك والوضيعة. وأما شرائط اللزوم بعد الانعقاد والنفاذ فخلوه من الخيارات الأربعة المشهورة، ويزاد خيار الكمية وخيار الغبن إذا كان فيه غرور، وخيار استحقاق بعض المبيع القيمي مطلقا والمثلي قبل القبض، وخيار الخيانة في المرابحة، وخيار نقد الثمن وعدمه، وخيار كشف الحال، وخيار فوات وصف مرغوب فيه، وخيار إجازة بيع الفضولين وخيار هلاك بعض المبيع فهي ثلاثة
437 عشر. وقد صارت جملة الشرائط ستة وسبعين، فشرائط الانعقاد أحد عشر، وشرائط النفاذ اثنان، وشرائط الصحة خمسة وعشرون، وشرط اللزوم واحد بعد اجتماع الكل، فعلى هذا شرائط اللزوم تسعة وثلاثون، والكل من غير تداخل ثمانية. وسبب شرعيته تعلق البقاء المعلوم فيه لله تعالى على وجه جميل. وأما أحكامه فالأصلي له الملك في البدلين لكل منهما في بدل، وهو في اللغة القوة والقدرة، وشرعا ما قدمناه. والتابع وجوب تسليم المبيع والثمن ووجوب استبراء الجارية على المشتري وملك الاستمتاع بالجارية وثبوت الشفعة لو كان عقارا وعتق المبيع لو كان محرما من البائع. وأما صفة ذلك الحكم فاللزوم عند عدم خيار فليس لأحدهما فسخه فالبيع عند عدم الخيار من العقود اللازمة. والعقود ثلاثة: لازم من الطرفين وهو البيع والسلم والإجارة - وإن قلنا بفسخها بالاعذار - والصلح والحوالة والمساقاة والوصية بعد القبول بعد موت الموصي والنكاح والصداق والصدقة المقبوضة والهبة المقبوضة إذا وجد مانع من الموانع السبعة الآتية. ولازم من أحد الجانبين وهو الرهن فإنه لازم من جهة الراهن بعد التسليم دون المرتهن وجائز من الطرفين فلكل منهما فسخه وهو الشركة والوكالة والعارية لغير الراهن والمضاربة والوديعة والقضاء والوصاية قبل قبول الوصي، وأما بعده فلازمة والوصية قبل موت الموصي. وأما أنواعه فبالنظر إلى مطلق البيع أربعة: نافذ وموقوف وفاسد وباطل. فالنافذ ما أفاد الحكم للحال والموقوف ما أفاده عند الإجازة، والفاسد ما أفاده عند القبض، والباطل ما لم يفده أصلا، كذا في الحاوي وغيره وهو ظاهر في أن الموقوف ليس من الفاسد وإنما هو إما من قسم الصحيح أو قسم برأسه وهو ظاهر كلامهم وبالنظر إلى المبيع أربعة: مقايضة وهي بيع العين بالعين. وبيع الدين بالدين وهو الصرف، وبيع الدين بالعين وهو السلم وعكسه وهو بيع العين بالدين كأكثر البياعات. وبالنظر إلى الثمن خمسة: مرابحة وتولية وإشراك ووضيعة ومساومة. وستأتي البيوع المكروهة. وأما محاسنه فمنها التوصل إلى الأغراض وإخلاء العالم عن الفساد. وفي آخر بيوع البزازية قيل للإمام محمد: ألا تصنف في الزهد؟ قال: حسبكم كتاب البيوع. وكان التجار في القديم إذا سافروا استصحبوا معهم فقيها يرجعون إليه. وعن أئمة خوارزم أنه لا بد للتاجر من فقيه صديق اه. قال الشمني
438 رحمه الله تعالى: وقد صح عند أصحاب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم أتجر لخديجة رضي الله تعالى عنها لكن قبل البعثة بخمسة عشر سنة فإنه بعث على رأس الأربعين وخرج تاجرا إلى الشام لخديجة رضي الله تعالى عنها لما بلغ خمسا وعشرين سنة قبل أن يتزوجها بشهرين وخمسة وعشرين يوما، وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه تاجرا في البز، وكان عمر رضي الله تعالى عنه في الطعام، وعثمان رضي الله تعالى عنه في التمر والبز، وعباس رضي الله عنه في العطر، ومن هنا قال أصحابنا: أفضل الكسب بعد الجهاد التجارة ثم الحراثة ثم الصناعة اه. وأما دليله فالكتاب والسنة والاجماع والمعقول وهو العاشر من مواضعه (فرع حسن) من خزانة الفتاوى بيع ما يساوي درهما بألف درهم في غير رواية الأصول يجوز ولا يلزم في قول أبي يوسف وقال محمد يكره اه. قوله: (البيع يلزم بإيجاب وقبول) أي حكم البيع يلزم بهما لأنه جعلهما غيره وأنه يلزم بهما مع أن البيع ليس إلا هما لأنهما ركناه على ما حققناه، وما قيل أنه معنى شرعي كما قدمناه فليس هو إلا الحكم فالمتحقق من الشرع ليس إلا ثبوت الحكم المعلوم من تبادل الملكين عند وجود الفعلين أعني الشطرين بوضعهما سببا له شرعا وليس هنا شئ ثالث، كذا حققه في فتح القدير. وقد يقال: لا حاجة إلى هذا التكلف إذ يصح الكلام بدونه لأن الانعقاد - كما في العناية - تعلق كلام أحد العاقدين بالآخر شرعا. وفي البناية أنه انضمام كلام أحدهما للآخر على وجه يظهر أثره في المحل اه. وهو أمر ثالث غير الايجاب والقبول والبيع مجموع الثلاثة فصح التركيب. وفي شرح الوقاية من كتاب النكاح: فالعقد ربط أجزاء التصرف أي الايجاب والقبول شرعا لكن هنا أريد بالعقد الحاصل بالمصدر وهو الارتباط لكن النكاح الايجاب والقبول مع ذلك الارتباط. وإنما قلنا هذا لأن الشرع يعتبر الايجاب والقبول أركان عقد النكاح لا أمورا خارجية كالشرائط ونحوها، وقد ذكرت في شرح التنقيح في فصل النهي كالبيع فإن الشرع يحكم بأن الايجاب والقبول الموجودين حسا يرتبطان ارتباطا حكميا فيحصل معنى شرعي يكون ملك المشتري أثرا له فذلك المعنى هو البيع، فالمراد بذلك المعنى المجموع المركب من الايجاب والقبول مع ذلك الارتباط للشئ لا أن البيع مجرد ذلك المعنى الشرعي والايجاب والقبول آلة له كما توهم البعض لأن كونهما أركانا ينافي ذلك اه. وهو تقرير حسن. وقال في كتاب البيع: المبادلة علة صورية للبيع، والايجاب والقبول والتعاطي علة مادية، والمبادلة تكون بين اثنين فهي العلة الفاعلية وسكت عن العلة الغائية هنا وذكرها في النكاح وهي هنا الملك وثمة المصالح المتعلقة بالنكاح، وذكر الشمني أن المعنى أنه ينعقد بمجموع الايجاب والقبول اه. وفي القاموس: عقدت الحبل
439 والعهد والبيع فانعقد اه. فإن قلت: فما معنى قولهم البيع ينعقد وكذا أمثاله فإن المعنى العقد ينعقد؟ قلت: المعنى العقد الشرعي الخاص يثبت بالايجاب والقبول. وفي القاموس: عقد الحبل والبيع والعهد يعقده شده. وفي تفسير الفخر الرازي: العقد وصل الشئ بالشئ على سبيل الاستثبات والاستحكام اه. وفي تفسير القاضي: وأصل العقد الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال بينهما اه. والعقد شرعا على ما في التوضيح ربط القبول بالايجاب. وأما حمل كلام المستصفى على الحكم الذي هو الملك فليس بظاهر لأنه قال: البيع عبارة عن أثر شرعي يظهر في المحل عند الايجاب والقبول حتى يكون العاقد قادرا على التصرف اه. ولا يصح حمله عليه لأن الحكم لا يظهر عندهما إنما يظهر بهما عقيبهما لأن حكم الشئ يعقبه، ولأنه جعل القدرة على التصرف غاية لذلك الأثر والقدرة هي الملك فلا يصح أن يراد بذلك الأثر الملك لأن المغيا غير الغاية فافهم هذا التقرير فإنه دقيق. والايجاب لغة الالتزام والاثبات، وفي الفقه في المعاملات ما يذكر أولا من كلام المتعاقدين الدال على الرضا، وسمي به لأنه يثبت خيار القبول للآخر، وسواء وقع من البائع كبعت، أو من المشتري كأن يبدأ المشتري. والقبول في اللغة من قبلت العقد أقبله - من باب تعب - قبولا بالفتح، والضم لغة حكاها ابن الاعرابي، كذا في المصباح. وفي الفقه: اللفظ الصادر ثانيا الواقع جوابا للأول ولذا سمي قبولا، هكذا عرفه الجمهور وخالفهم في فتح القدير فعرفه بأنه الفعل الصادر ثانيا قال: وإنما قلنا بأنه الفعل الأعم منه ومن القبول فإن من الفروع ما لو قال كل هذا الطعام بدرهم فأكله تم البيع وأكله حلال، والركوب واللبس بعد قول البائع اركبها بمائة وألبسه بكذا رضا بالبيع، وكذا إذا قال بعته بألف فقبضه ولم يقل شيئا كان قبضه قبولا بخلاف بيع التعاطي فإنه ليس فيه إيجاب بل قبض بعد معرفة الثمن فقط، ففي جعل مسألة القبض بعد قوله بعتك بألف من صور التعاطي كما فعل بعضهم أي في غاية البيان نظر كما لا يخفى اه. ولا حاجة إلى تغيير كلام القوم وما ذكره من الفروع إنما هو من باب أن القبول يقوم مقامه فعل ولهذا قال في الخانية: يقوم القبض مقام القبول. وفي التتارخانية: اشتريت طعامك هذا بألف فتصدق به ففعل في المجلس ولم يتكلم جاز وإن تفرقا لا. وقيد اللزوم بالايجاب والقبول للإشارة إلى أن البائع إذا باع وقبل المشتري لا يحتاج بعدهما إلى إجازة البائع. قال في الذخيرة: ذكر محمد بن الحسن رحمه الله تعالى في كتاب الوكالة مسألة تدل
440 على أن من قال لغيره بعت منك هذا العبد بكذا فقال المشتري قبلت أن ا لبيع لا ينعقد بينهما ما لم يقل البائع بعد ذلك أجزت، وبه قال بعض المشايخ. وهذا لأن البائع لما قال بعت منك فقد ملك العبد من المشتري فإذا قال المشتري اشتريت فقد تملك العبد وملكه الثمن فلا بد من إجازة البائع بعد ذلك ليملك الثمن، وعامة المشايخ على أنه لا يحتاج إلى إجازة البائع بعد ذلك اه. وهو الصحيح وهكذا روي عن محمد اه. وينبغي حفظه لغرابته ولأنه إذا أوجب أحدهما فللآخر أن لا يقبل لأنه لا يلزمه حكم العقد بدون رضاه، وللموجب أن يرجع لخلوه عن إبطال حق الغير لأن الموجب أثبت له حق أن يتملك مع ثبوت حقيقة الملك له والحقيقة مقدمة على الحق، ولا بد من سماع الآخر رجوع الموجب كما في التتارخانية. وفي التتمة: يصح الرجوع وإن لم يعلم به الآخر وإنما يمتد خيار القبول إلى آخر المجلس لكونه جامعا للمتفرقات فاعتبرت ساعاته ساعة واحدة دفعا للعسر وتحقيقا لليسر وسيأتي بيان ما يبطله. وأشار باللزوم بهما إلى أنهما لو أقرا ببيع ولم يكن بينهما حقيقة لم ينعقد كما في الصيرفية، وإلى نفي خيار المجلس عندنا، ولولا هذه الإشارة لكان التعبير بالانعقاد تبعا للقوم أولى لأن المترتب عليهما إنما هو الانعقاد، وأما اللزوم فموقوف على شرائط أخر مخصوصة كما في إيضاح الاصلاح. وأثبته الشافعي عملا بحديث البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعا البيعان بالخيار ما لم يتفرقا (1) وأوله أبو يوسف بتفرق الأبدان بعد الايجاب قبل القبول، وأوله محمد تبعا لإبراهيم النخعي بتفرق الأقوال بناء على أن المراد بالخيار فيه خيار القبول، واعتمده في الهداية بأن في الحديث إشارة إليه فإنهما متبايعان حالة المباشرة لا بعدها، ويؤيده قوله تعالى * (وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته) * (النساء: 131) فإن الفرقة تحصل بقولهما وإن داما جالسين، وهو مبني على أن اسم الفاعل حقيقة في الحال وفيه نظر، لأن تسميتهما متبايعين قبل تمام العقد مجاز آخر، وإذا تعذر الحمل على الحقيقة تعين المجاز، وإذا تعارض المجازان فالأقرب إلى الحقيقة أولى، كذا في فتح الباري. وقال البيضاوي: ومن نفى خيار المجلس ارتكب مجازين، حمله التفرق على الأقوال، وحمله المتبايعين على المتساومين. وأيضا فكلام الشارع يصان عن الحمل عليه لأنه يصير التقدير أن المتساومين إن شاءا عقدا وإن شاءا لم يعقدا وهو تحصيل الحاصل اه. وقد استدل في البناية بقوله تعالى * (أوفوا بالعقود) * (المائدة: 1) والبيع عقد فيجب الوفاء به، وبقوله تعالى * (واشهدوا إذا تبايعتم) *
441 (البقرة: 282) أمر بالاشهاد للتوثق، فلو كان له الخيار لم يكن له معنى. وبقوله عليه الصلاة والسلام لحبان بن منقذ إذا بايعت فقل لا خلابة (1) ولو كان له خيار لم يحتج إليه اه. وفيه نظر لجواز أن يكون الكل بعد الافتراق لا قبله. ورجح عيسى بن أبان الأول بأن المعهود في الشرع أن الفرقة بالبدن موجبة للفساد كما في الصرف حال القبض. واختلف المتأخرون في معنى التفرق بالأقوال ففي المستصفى وفتح القدير: وهو أن يقول الآخر بعد الايجاب لا أقبل فالتفرق رد القول الأول كتفرق بني إسرائيل اثنين وسبعين فرقة بمعنى اختلاف عقائدهم. وفي غاية البيان: هو قبول الآخر بعد الايجاب فإذا قبله فقد تفرقا وانقطع الخيار كتفرق الزوجين. فعلى الأول إذا وجد التفرق لم يبق البيع أصلا، وعلى الثاني لم يبق الخيار ولزم البيع، وقد فهم الراوي - أعني ابن عمر رضي الله عنهما - خيار المجلس من الحديث فكان كما رواه البخاري إذا اشترى شيئا يعجبه فارق صاحبه لكن تأويل الراوي لا يكون حجة عندنا على غيره. وفي فتح الباري عن ابن خمر أن خيار المجلس ثابت بهذا الحديث، سواء قلنا التفرق بالكلام أو بالأبدان. فإن قلنا بالأبدان فواضح، وكذا إن قلنا بالأقوال لأن قول أحدهما بعتكه بعشرة وقول الآخر لا بل بعشرين افتراق في الكلام بخلاف ما لو قال اشتريته بعشرة فإنهما متوافقان فيتعين ثبوت الخيار لهما. فعلى هذا إذا وجد التفرق انقطع البيع لا أنه ينقطع الخيار، وظاهر الحديث انقطاع الخيار به مع بقاء العقد، وإذا احتمل فلم يبق حجة على معين وقد روى البخاري رواية أخرى عن ابن عمر مرفوعا إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا أو يخير أحدهما الآخر وكانا جميعا، وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع (2) وهو ظاهر في انفساخ البيع بفسخ أحدهما. قال الخطابي رحمه الله تعالى: هو أوضح شئ في ثبوت خيار المجلس مبطل لكل تأويل مخالف لظاهر الحديث. وكذلك قوله في آخره وإن تفرقا بعد أن تبايعا فيه البيان الواضح على أن التفرق بالأبدان، ولو كان معناه بالقول لخلا الحديث عن الفائدة، كذا في فتح الباري. وأطلق في الايجاب والقبول ولم يقيدهما بالماضي كما في الهداية لأن التحقيق أنه لا يتقيد بذلك لانعقاده بكل لفظين ينبئان عن معنى التملك والتمليك ماضيين أو حالين كما في الخانية لكن ينعقد بالماضي بلا نية، وبالمضارع بها على الأصح، كذا في البدائع. وإنما احتيج إليها مع كونه حقيقة للحال عندنا على الأصح لغلبة استعماله في الاستقبال حقيقة أو مجازا، كذا في البدائع
442 وهو المراد بقول بعضهم إنه ينعقد في المستقبل بالنية. وفي القنية: إنما يحتاج إلى النية إذا لم يكن أهل البلد يستعملون المضارع للحال لا للوعد والاستقبال، فإن كان كذلك كأهل خوارزم لا يحتاج إليها، وإنما قيده به في الهداية لاخراج المستقبل فقط أمرا أو مضارعا مبدو بالسين أو سوف كما في الخانية ما لم يؤد معناهما فيقال: إن دل الامر على المعنى المذكور انقد به كخذه بكذا فقال أخذته فإنه كالماضي يستدعي سابقة البيع إلا أن استدعاء الماضي سبق البيع بحسب الوضع واستدعاء خذه بطريق الاقتضاء كما لو قال بعتك فخذ عبدي هذا بألف فقال فهو حر عتق وثبت اشتريت اقتضاء ويصير قابضا بخلاف ما لو قال وهو حر فلا يعتق كقوله هو حر. وفي الخانية: لو قال بعد الايجاب أنا آخذه لا يكون بيعا، ولو قال أخذته جاز، ولو قال لقصاب زن من هذا اللحم كذا بدرهم ففعل لا يكون بيعا وكان للآمر الامتناع من أخذه، ولو قال زن لي من موضع كذا من هذا اللحم بكذا درهما فوزنه من ذلك الموضع كان بيعا وليس له الامتناع اه. وبهذا علم أن ما في الحاوي القدسي من أن المضي منهما شرط في كل عقد إلا النكاح تساهل. والحاصل كما في الهداية أن المعتبر في هذه العقود هو المعنى ألا ترى إلى ما قالوا لو قال وهبتك أو وهبت لك هذه الدار بألف درهم أو قال هذا العبد بثوبك هذا فرضي كان بيعا إجماعا، ولو قال أتبيعني عبدك هذا بألف فقال نعم فقال أخذته فهو بيع لازم فوقعت كلمة نعم إيجابا، وكذا تقع قبولا فيما لو قال اشتريت منك هذا بألف فقال نعم بخلاف النكاح فإنه ينعقد بالامر كقوله زوجني لأن المساومة لا تليق به فتكون إيجابا وقيل توكيل، والواحد يتولاه بخلاف البيع إلا في الأب ومن ذكرناه معه. وقد ذكر في النكاح أن فائدة الخلاف تظهر فيما إذا صدر الامر من الوكيل، فعلى الأول يصح القبول ولا يحتاج إلى قبول الوكيل، وعلى الثاني لا حتى يقبل وجزم به في الخلاصة لأن الوكيل لا يملك التوكيل بلا إذن أو تعميم. وهذه ثمانية مواضع منها: البيع والإقالة لا يكتفي بالامر فيهما عن الايجاب. ومنها النكاح والخلع يقع فيهما إيجابا. الخامسة إذا قال لعبده اشتر نفسك مني بألف فقال فعلت عتق. السادسة في الهبة إذا قال هب لي هذا فقال وهبته منك تمت الهبة. السابعة قال لصاحب الدين أبرئني عما لك علي من الدين فقال أبرأتك تمت البراءة. الثامنة الكفالة قال اكفل بنفس فلان لفلان فقال كفلت تمت فإذا كان غائبا فقدم وأجاز كفالته جاز، كذا في فتح القدير. وفي تصوير الكفالة نظر والصواب كما في الخانية: اكفل لي بمالي على زيد، اكفل لي بنفس زيد فقال كفلت تمت، ولكن في الخلع تفصيل، فإن قالت اخلعني فقال خلعتك على كذا لم يقع ما لم تقبل بخلاف ما لو قالت اخلعني على كذا
443 فقال قد فعلت، كذا في الصيرفية. وبهذا علم أن ما في الحاوي القدسي من أن المضي فيهما شرط في كل عقد إلا النكاح تساهل، وحاصل ما في التتارخانية مما يناسب المقام أنه ينعقد بلفظ الرد وببيع معلق بفعل قلب كإن أردت فقال أردت أو إن أعجبك فقال أعجبني أو إن وافقك فقال وافقني، وأما إذا قال إن أديت إلي ثمن هذا العبد فقد بعتك فإن أدى في المجلس صح، ولو قال بعت منك بألف إن شئت يوما إلى الليل كان تنجيزا لا تعليقا، وبأجزت بعد قوله بعت وبقوله أقلتك هذا فقال قبلت على قول أبي بكر الإسكاف، وقال الفقيه أبو جعفر: لا يكون بيعا، وبه أخذ الفقيه أبو الليث. وتصح إضافة البيع إلى عضو تصح إضافة العتق إليه وما لا فلا، وقد فعلت ونعم وهات الثمن قبول على الأصح. ولو قال بعني هذا بكذا فقال طابت نفسي لا ينعقد، ويصح الايجاب بلفظ الهبة وأشركتك فيه وأدخلتك فيه إيجاب، وإذا تعدد الايجاب فكل إيجاب بمال انصرف قبوله إلى الايجاب الثاني ويكون بيعا بالثمن الأول، وفي الاعتاق والطلاق على مال إذا قبل بعدهما لزمه المالان ولا يبطل الثاني الأول، وإذا تعدد الايجاب والقبول انعقد الثاني وانفسخ الأول إن كان الثاني بأزيد من الأول أو أنقص، وإن كان مثله لم ينفسخ الأول. واختلفوا فيما إذا كان الثاني
444 فاسدا هل يتضمن فسخ الأول والصلح بعد الصلح الثاني باطل والأول صحيح، وكذا الصلح بعد الشراء صلح باطل، ولو كان الشراء بعد الصلح فالشراء صحيح والصلح باطل، كذا في جامع الفصولين. وفي فروق الكرابيسي: الكفالة بعد الكفالة صحيحة، والحوالة بعد الحوالة باطلة، والنكاح بعد النكاح الثاني باطل فلا يلزمه المهر المسمى فيه إلا إذا جدده للزيادة في المهر كما في القنية، وأما الإجارة بعد الإجارة للمستأجر الأول فلم أرها، وينبغي أن المدة إذا اتحدت فيهما واتحد الاجران لا تصح الثانية كالبيع، وأما الهبة بعد الشراء فلا تفسخه دون الصدقة كالرهن بعده، والشراء بعد الصدقة يفسخها، والشراء بعد القرض باطل، كذا في القنية. والهبة إنما لم تفسخه إذا لم يكن للولد منهما أيضا وهبة الثمن بعد الايجاب قبل القبول مبطل للايجاب. وقيل: لا ويكون إبراء. وسكوت المشتري عن الثمن مفسد للبيع وإيجاب البيع بلا ثمن نفيا غير صحيح. ويصح الايجاب بلفظ الجعل كقوله جعلت لك هذا بألف لما ذكره محمد من أن القاضي إذا قال للدائن جعلت لك هذا بدينك كان بيعا وهو الصحيح، وفيه دليل على أنه لو قال لغيره هذا الشئ بيع بدينك فقبل انعقد كقوله هذا العبد عليك بألف
445 درهم. وصح الايجاب بقوله رضيت وإنكار الايجاب بعد الاقرار به لا يبطله حتى لو أقر به بعدما افترقا جاز، وكذا النكاح. وإذا أوجب في عقدين كبعتك هذا وزوجتك هذه بألف فقبلهما جاز وانقسم الألف على مهر مثل هذه وقيمة هذه. وإن قبل البيع وحده لا يجوز، وإن قبل النكاح وحده جاز بحصة مهر مثلها من الألف. ولو قال بعتك هذه الدار وأجرتك هذه الأرض فقال قبلت يكون جوابا لهما، ولو أراد أن يقول بعتك هذا بألف فسبق لسانه لغيره فهو على المذكور في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى. ولو قال بعت هذا العبد فلانا فبلغه الرسول فقال اشتريت لا يصح، وقيده السغناقي في المجلس. ويصح الرجوع عن الرسالة قبل التبليغ إلا في رواية. ولو قال بعت منه فبلغه يا فلان فبلغه غيره جاز وهذا مما يحفظ جدا، ولو قال بعته من فلان الرسول فقال المشتري اشتريته لا يصح. ولو قال بعته من فلان الغائب لم يجز إلا إذا قبل منه فضولي أو يقول بلغه، ولو أوجب البيع فقال المخاطب لآخر قل اشتريت فقال الآخر اشتريت، إن أخرجه مخرج الرسالة صح وإن أخرجه مخرج الوكالة لا يصح. وكذا الجواب في الإجارة والهبة والكتابة. فأما الخلع والعتق على مال فإنه يتوقف شطر العقد من الزوج والمولى على قبول الآخر وراء المجلس بالاجماع. وإذا قبل المشتري فلم يسمعه البائع لم ينعقد فسماع المتعاقدين كلاهما في البيع شرط للانعقاد إجماعا، فإن سمع أهل المجلس كلام المشتري والبائع يقول لم أسمع ولا وقر في أذنه لم يصدق قضاء. وفي البزازية: وكذا السماع شرط في النكاح والخلع في المختار. وفي المحيط: وينعقد بلفظ بذلته بكذا. وشرط في الحاوي القدسي السماع والفهم. وفرق في الولوالجية في القبول بنعم بين أن يبدأ البائع بالايجاب أو المشتري، فإن بدأ البائع فقال بعت عبدي هذا بألف فقال المشتري نعم لم ينعقد لأنه ليس بتحقيق ألا ترى أنه إذا قال الرجل لامرأته اختاري نفسك فقالت قد فعلت كان هذا اختيارا، ولو قالت نعم لا يكون اختيارا. ثم قال بعده: قال لآخر
446 اشتريت عبدك هذا بألف وقال الآخر نعم صح البيع لأنه جواب اه. وتحقيقه فيما كتبناه في القواعد الفقهية. وذكر في القنية أن نعم بعد الاستفهام هل بعت مني بكذا أو هل اشتريت مني بكذا بيع إذا نقد الثمن لأن النقد دليل التحقيق. وفي الخانية: لو قال أبيعه بخمسة عشر فقال لا آخذه إلا بعشرة فذهب به ولم يقل البائع شيئا فهو بخمسة عشر إن كان المبيع في يد المشتري حين ساومه، وإن كان في يد البائع فأخذه منه المشتري ولم يمنعه البائع فهو بعشرة، ولو كان عند المشتري وقال المشتري لا آخذه إلا بعشرة وقال البائع لا أبيعه إلا بخمسة عشر فرد عليه المشتري ثم تناوله من يد البائع فدفعه البائع إليه ولم يقل شيئا فذهب به المشتري فهو بعشرة، ولو أخذ ثوبا من رجل فقال البائع هو بعشرين وقال المشتري لا أزيدك على العشرة فأخذه وذهب به وضاع عنده قال أبو يوسف: هو بعشرين. ولو أخذ ثوبا على المساومة فدفعه إليه البائع وهو يساومه فقال البائع هو بعشرة فهو على الثمن الذي قال البائع اه. وفي المجتبى: إذا مضيا على العقد بعد اختلاف كلمتيهما ينظر إلى آخرهما كلاما فيحكم بذلك اه. ولا بد من كون القبول في مجلس الايجاب، فلو قام أحدهما قبله بطل، وقيل لا ما دام في مكانه. ولو تكلم البائع مع إنسان في حاجة له فإنه يبطل. وفي المجتبى: لو أوجب المشتري فقال البائع هو لك أو عبدك فهو بيع ولا بد من حياة الموجب إلى القبول، فلو مات بطل إلا في مسألة ذكرها قاضيخان في فتاواه: لو أوصى ببيع داره من رجل فقال داري بيع منه بألف درهم ومات فقبل الموصى له بعد موته جاز، كذا ذكره أبو يوسف في النوادر. ولا بد من أن يكون القبول قبل رجوع الموجب فلو رجع في كله أو بعضه بطل، وعليه تفرع ما في الخانية: لو قال بعتك هذا بألف ثم قال لآخر بعتك نصفه بخمسمائة فقيل الثاني قال أبو يوسف: يصح قبول الثاني ولا يصح قبول الأول بعد رجوع البائع عن النصف اه. ولو خرج القبول
447 ورجوع الموجب معا كان الرجوع أولى كما في الخانية، ولو صدر الايجاب والقبول معا صح البيع كما في التتارخانية. ولا يشترط أن يشتمل القبول على الخطاب بعدما صدر الايجاب بالخطاب فلو قال بعد قوله بعتك اشتريت ولم يقل منك صح كما في فتح القدير. ولو قال بعتكه بألف فقال اشتريته بألف إلى سنة أو بشرط الخيار لم يتم إلا إذا رضي في المجلس، كذا في المجتبى. ولا بد من كون القبول قبل تغير المبيع وعليه تفرع ما في الخانية: لو قطعت يد الجارية بعد الايجاب وأخذ البائع أرشها أو ولدت الجارية أو تخمر العصير ثم صار خلا لم يصح قبول المشتري اه. وكذا لو كان المبيع عبدين فقتل أحدهما خطأ وأخذ البائع الأرش لم يجز القبول، كذا في الظهيرية. ولا بد أن يكون قبل رد المخاطب الايجاب، فلو قال بعتك بألف فقال لا أقبل بل أعطيته بخمسمائة ثم قال أخذته بألف قال أبو يوسف: إن دفعه إليه فهو رضا وإلا فلا، كذا في الخانية. وقدمنا في بيان الشرائط أنه لا بد أن يكون القبول في جميع ما أوجب بجميع ما أوجبه فلم يصح القبول في البعض أو بالبعض حيث كانت الصفقة متحدة للزوم تفريق الصفقة المقتضي لعيب الشركة لا من جهة جريان العادة بضم الجيد إلى الردئ ليروج كما وقع في بعض الكتب فإنه لا يشمل ما إذا كان المبيع واحدا فقبل في البعض كما في الغاية، ولا بد من معرفة ما يوجب اتحادها وتفريقها. وحاصل ما ذكروه أن الموجب إذا اتحد وتعدد المخاطب لم يجز التفريق بقول أحدهما، بائعا كان الموجب أو مشتريا، وعلى عكسه لم يجز القبول في حصة أحدهما، وإن اتحدا لم يصح قبول المخاطب في البعض فلم يصح تفريقها مطلقا في الأحوال الثلاثة، أعني ما إذا اتحد الموجب أو تعدد أو اتحد القابل أو تعدد لاتحاد الصفقة في الكل، وكذا إذا اتحد العاقدان وتعدد المبيع كأن يوجب في مثليين أو قيمي ومثلي لم يجز تفريقها بالقبول في أحدهما إلا أن يرضى الآخر بذلك بعد قبوله في البعض، ويكون المبيع مما ينقسم الثمن عليه بالاجزاء كعبد واحد أو مكيل أو موزون فيكون القبول إيجابا والرضا قبولا وبطل الايجاب الأول، فإن كان مما لا ينقسم إلا بالقيمة كثوبين
448 وعبدين لا يجوز، فلو بين ثمن كل واحد فلا يخلو إما أن يكون بلا تكرار لفظ البيع أو بتكراره، ففيما إذا كرره فالاتفاق على أنه صفقتان، فإذا قبل في أحدهما يصح مثل أن يقول بعتك هذين العبدين بعتك هذا بألف. وهذا بألفين وفيما إذا لم يكرره وفصل الثمن فظاهر الهداية التعدد وبه قال بعضهم ومنعه الآخرون وحملوا كلامه على ما إذا كرر لفظ البيع. وقيل: إن اشتراط تكرار لفظ البيع للتعدد استحسان، وهو قول الإمام، وعدمه قياس، وهو قولهما. ورجح في فتح القدير قولهما بقوله، والوجه الاكتفاء بمجرد تفريق الثمن لأن الظاهر أن فائدته ليس إلا قصده بأن يبيع منه أيهما شاء وإلا فلو كان غرضه أن لا يبيعهما منه إلا جملة لم تكن فائدة لتعيين ثمن كل واحد منهما اه. واعلم أن تفصيل الثمن إنما يجعلهما عقدين على القول به إذا كان الثمن منقسما عليهما باعتبار القيمة، أما إذا كان منقسما عليهما باعتبار الاجزاء كالقفيزين من جنس واحد فإن التفصيل لا يجعله في حكم عقدين للانقسام من غير تفصيل فلم يعتبر التفصيل كما في شرح المجمع للمصنف وهو تقييد حسن. وإذا كانت الصفقة متحدة لم يجز التفريق في القبض أيضا، فلو تعدد المبيع ونقد بعض الثمن لم يجز أن يقبض بعض المبيع، فإن تعددت الصفقة جاز وحكم الابراء عن البعض كالاستيفاء، وكذا إذا أجل ثمن بعض المبيع دون البعض لم يكن له أن يقبض شيئا من المبيع حتى ينقد الحال، وكذا لو كان للمشتري على البائع دين أقل من الثمن فالتقيا قصاصا بقدره لم يكن له أن يقبض شيئا من المبيع حتى يأخذ الباقي كما في التتارخانية. ويتفرع أيضا ما لو حضر أحد المشتريين وغاب الآخر فنقد الحاضر حصته لم يكن له قبض شئ من المبيع حتى ينقد الغائب أو هو الجميع وقام الشريك مقام الغائب في حبس حصة الغائب حتى يدفع له ما عليه، فإن هلك المبيع قبل طلب الغائب هلك أمانة، فإذا حضر الغائب رجع عليه، وإن هلك بعد طلبه وحبسه للاستيفاء هلك أمانة بثمنه فلا رجوع على الغائب. ولو أبرأ البائع أحدهما عن حصته من الثمن أو أخره لم يكن له أن يقبض حصته من المبيع حتى ينقد الآخر، وأما إذا تعددت الصفقة في هذه المسائل انعكست الأحكام، كذا في التتارخانية. ثم اعلم أن الإجارة والقسمة كالبيع لا يجوز فيهما تفريق الصفقة حتى لو أجر عبده شهرين بكذا فقبل في أحدهما لم يجز، وكذا لو قال قاسمتك هذا الرقيق الأربعة على أن هذين لي وهذين لك فقال الآخر سلمت لك هذا ولا أسلم لك هذا الآخر لم يجز، ويجوز هذا في النكاح والخلع والصلح عن دم العمد والعتق على مال. ولو جمع بين النكاح والبيع فقبل أحدهما، إن قبل النكاح جاز، وإن قبل البيع لم يجز. ولو جمع عتقا وطلاقا أو عتقا ونكاحا أو طلاقا ونكاحا جاز قبول أحدهما، ولو جمع مكاتبة وعتقا وبين حصة المكاتبة جاز أيهما قبل، وإن لم يبين لم يجز قبول الكتابة. ولو كان لرجل على رجل دم عمد بأن قتل أخويه فقال لمن عليه صالحتك منهما على عشرة آلاف فقال رضيت عن دم فلان بخمسة آلاف صح. وله أن يقتل الآخر، ولو قال من عليه
449 صالحتك عنهما على عشرة آلاف فقبل عن أحدهما لم يجز، كذا في المحيط. ويستثنى من قوله يلزم بإيجاب وقبول ما إذا حصلا بعد عقد فاسد لم يتركاه فإن البيع ليس بلازم، ويتفرع عليه ما في الخانية: لو اشترى ثوبا شراء فاسدا ثم لقيه غدا فقال قد بعتني ثوبك هذا بألف درهم فقال بلى فقال قد أخذته فهو باطل. وهذا على ما كان قبله من البيع الفاسد، فإن كانا تتاركا البيع الفاسد فهو جائز اليوم. ولو باع عبدا من رجل بألف درهم وقال إن جئتني اليوم بالثمن فهو لك وإن لم تجئني اليوم بالثمن فلا بيع بيني وبينك فقبل المشتري ولم يأته بالثمن فلقيه غدا فقال المشتري قد بعتني عبدك هذا بألف درهم فقال نعم فقال قد أخذته فهو شراء الساعة لأن ذلك الشراء قد انتقض ولم يشبه هذا البيع الفاسد اه. مع أن البيع يفسد إذا كان فيه خيار نقد ولم ينقد حتى مضى الوقت حتى قالوا بفساده وعدم انفساخه حتى لو كان عبدا في يد المشتري وأعتقه صح فينبغي أن لا فرق لأن الفرع الثاني من أفراد البيع الفاسد، وقدمنا أن البائع إذا قبل بأقل مما أوجبه المشتري صح وكان خطأ وأن المشتري إذا قبل بأزيد صح وكان زيادة إن قبلها في المجلس لزمت. وشمل كلامه الايجاب والقبول بالكتابة والرسالة. قال في الهداية: والكتاب كالخطاب وكذا الارسال حتى اعتبر مجلس بلوغ الكتاب وأداء الرسالة. وصورة الكتاب أن يكتب: أما بعد فقد بعت عبدي فلانا منك بكذا فلما بلغه الكتاب قال في مجلسه ذلك اشتريت تم البيع بينهما. وصورة الارسال أن يرسل رسولا فيقول البائع بعت هذا من فلان الغائب بألف درهم فاذهب يا فلان فقل له، فذهب الرسول فأخبره بما قال فقبل المشتري في مجلسه ذلك. وفي النهاية: وكذا هذا الجواب في الإجارة والهبة والكتابة. فأما في الخلع والعتق على مال فإنه يتوقف شطر العقد من الزوج والمولى على قبول الآخر وراء المجلس بالاجماع بخلاف البيع والشراء فإنه لا يتوقف، فإن من قال بعت عبدي هذا من فلان الغائب بكذا وبلغه الخبر فقبل لا يصح لأن شطر العقد لا يتوقف فيه بالاجماع، فأما في النكاح فلا يتوقف الشطر عندهما خلافا لأبي يوسف. ثم في كل موضع لا يتوقف شطر العقد فإنه يجوز من العاقد الرجوع عنه ولا يجوز تعليقه بالشروط لأنه عقد معاوضة، وفي كل موضع يتوقف كالخلع لا يصح الرجوع ويصح التعليق بالشرط لكونه يمينا من جانب الزوج والمولى معاوضة من جانب الزوجة والعبد اه. وفي فتح القدير: ويصح الرجوع من المكاتب والمرسل قبل الوصول، سواء علم الآخر أو لم يعلم. وفي غاية البيان معزيا إلى مبسوط شيخ الاسلام: الخطاب والكتاب سواء إلا في فصل واحد وهو أنه
450 لو كان حاضرا يخاطبها بالنكاح فلم تجب في مجلس الخطاب ثم أجابته في مجلس آخر فإن النكاح لا يصح، وفي الكتاب إذا بلغها وقرأت الكتاب ولم تزوج نفسها منه في هذا المجلس ثم زوجت نفسها منه في مجلس آخر عند الشهود وقد سمعوا كلامها وما في الكتاب يصح لأن الغائب إنما صار مخاطبا لها بالكتاب وهو باق في المجلس الثاني اه. وفي الخبازية معزيا إلى المبسوط: لو كتب إليه بعني بكذا فقال بعت تم البيع وقد طعنوا فيه بأنه لا ينعقد بالامر من الحاضر فكيف بالامر من الغائب. وأجاب في المعراج بأن مراد محمد بيان الفرق بين النكاح والبيع في شرط الشهود لا بيان اللفظ، أو يقال بعني من الحاضر استيام ومن الغائب إيجاب وفيه نوع تأمل اه. وفي النهاية معزيا إلى شرح الطحاوي: يصح الرجوع عن الرسالة علم الرسول أو لم يعلم اه. وفي وكالة البزازية والخلاصة: لا يصح عزل الرسول بدون علمه اه. فعلى هذا يفرق بين الرجوع والعزل قوله: (وبتعاط) أي ويلزم البيع بالتعاطي أيضا لأن جوازه باعتبار الرضا وقد وجد. وقد بناه في الهداية على أن المعتبر في هذه العقود هو المعنى والإشارة إلى العقود التمليكية كما في المعراج فخرج الطلاق والعتاق فإن اللفظ فيهما يقام مقام المعنى قال: ولا يلزم على أصحابنا شركة المفاوضة فإنهم قالوا: إنها تنعقد بلفظ المفاوضة فقط لأن عقد المفاوضة لما توقف على شروط لا يهتدي إلى استيفائها العوام في معاملاتهم حتى لو كانا عالمين بشروطها فعقدوها بلفظ آخر مع استيفاء الشروط صح، كذا في شرح المجمع اه. وفي فتح القدير بعد نقل ما في المعراج: وأنت تعلم أن إقامة اللفظ مقام المعنى أثر في ثبوت حكمه بلا نية ليس غير، فإذا قارنت هذه العقود ذلك اقتضى أن لا يثبت بمجرد اللفظ بلا نية فلا يثبت بلفظ البيع حكمه إلا إذا أراده به، وحينئذ فلا فرق بين بعت وأبيع في توقف الانعقاد به على النية، ولذا لا ينعقد بلفظ بعت هزلا فلا معنى لقوله ينعقد بلفظ الماضي ولا ينعقد بلفظ المستقبل اه. وهذا سهو فإن المراد أن البيع لا يختص بلفظ وإنما يثبت الحكم إذا وجد معنى التمليك والتملك بخلاف الطلاق والعتاق فإنه لا يعتبر المعنى فيهما وإنما تعتبر الألفاظ الموضوعة لهما، صريحا كان أو كناية، ولذا قالوا: لو قال لها طلقي نفسك نصف تطليقة فطلقت نفسها واحدة لم يقع وإن كان الطلاق لا يتجزى، وإذا قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت عشرا لا يقع وإن كان الطلاق لا مزيد له على الثلاثة. ثم اعلم أن المعنى وإن كان معتبرا في البيع ونحوه خاصة لا بد من صحة الاستعارة إذا كان اللفظ مجازا ولذا قالوا: لو
451 قال بعتك هذا بغير ثمن كان باطلا ولا يكون مجازا عن الهبة مع أنه أتى بمعناها، وكذا لو قال أجرتك داري شهرا بغير شئ لا يكون عارية مع أنه أتى بمعناها، وكذا لو قال اشتريت منك خدمة عبدك هذا شهرا بكذا وكذا فهو إجارة فاسدة، وكذا لو قال بعت منك منافع هذه الدار شهرا بكذا فهي إجارة فاسدة فلم تعتبر المعنى والمسائل في الخلاصة والخانية بخلاف ما إذا قال أعرتك داري شهرا بكذا فهي إجارة، وكذا وهبتك منافعها شهرا بكذا اعتبارا للمعنى. وحقيقة التعاطي وضع الثمن وأخذ المثمن عن تراض منهما من غير لفظ، وهو يفيد أنه لا بد من الاعطاء من الجانبين لأنه من المعاطاة وهي مفاعلة فتقتضي حصولها من الجانبين كالمضاربة والمقاسمة والمخاصمة، وعليه أكثر المشايخ كما ذكره الطرسوسي وأفتى به الحلواني. وفي البزازية أنه المختار، وصح في فتح القدير أن اعطاء أحدهما كاف، ونص محمد على أن بيع التعاطي يثبت بقبض أحد البدلين وهذا ينتظم المبيع والثمن. ونصه في الجامع على أن تسليم المبيع يكفي لا ينفي الآخر. واكتفى الكرماني بتسليم المبيع مع بيان الثمن، أما إذا دفع الثمن ولم يقبض المبيع لا يجوز لأن المبيع أصل إلا إذا كان بيع مقايضة، كذا في البزازية. فقد تحرر أن في المسألة ثلاثة أقوال. وفي القاموس: التعاطي التناول. وهكذا في الصحاح والمصباح. وهو إنما يقتضي الاعطاء من جانب والاخذ من جانب لا الاعطاء من الجانبين كما فهم الطرسوسي. وأصل الاختلاف إنما نشأ من كلام الإمام محمد فإنه ذكر بيع التعاطي في مواضع فصوره في موضع بالاعطاء من الجانبين ففهم البعض أنه شرط، وصوره في موضع بالاعطاء من أحدهما ففهم البعض بأنه يكتفي به، وصوره في موضع بتسليم المبيع ففهم البعض على أن تسليم الثمن لا يكفي كما ذكره في الذخيرة وصورته من أحدهما أن يتفقا على الثمن ثم يأخذ المشتري المتاع ويذهب به برضا صاحبه من غير دفع الثمن أو يدفع الثمن المشتري للبائع ثم يذهب من غير تسليم المبيع فإن البيع لازم على الصحيح حتى لو امتنع أحدهما بعده أجبره القاضي. وهذا فيما ثمنه غير معلوم، أما الخبز واللحم فلا يحتاج فيه إلى بيان الثمن كما في البزازية. ومن بيع التعاطي حكما ما إذا جاء المودع بأمة غير المودعة وقال هذه أمتك والمالك يعلم أنها ليست إياها وحلف فأخذها حل الوطئ للمودع بأمة غير المودعة وقال هذه أمتك والمالك يعلم أنها ليست إياها وحلف فأخذها حل الوطئ للمودع وكان بيعا بالتعاطي. وعن أبي يوسف: لو قال للخياط ليست هذه بطانتي فحلف الخياط أنها هي وسعه أخذها. وينبغي تقييده فيما إذا كانت العين ملكا للدافع، أما إذا لم تكن ملكا له فلا. ومنه قول الدلال للبزاز إن هذا الثوب بدرهم فقال ضعه، وكذا بكم تبيع قفيز حنطة
452 فقال بدرهم فقال اعزله فعزله فهو بيع، وكذا لو قال للقصاب مثله، ومنه لو ردها بخيار عيب والبائع متيقن أنها ليست له فأخذها ورضي فهو بيع بالتعاطي كما في فتح القدير. وعلى هذا لا بد من الرضا في جارية الوديعة وبطانة الخياط، وعلى هذا فالامر بالعزل أو الوزن يكفي عن القبض فهذا بيع معاطاة، ولا قبض فيه من أحد الجانبين لكون الامر بالعزل والوزن قائما مقام القبض، ويجب أن يقام الايجاب لاقتضائه سابقة اشتريت كاقتضاء خذ سابقة البيع ووزن المخاطب قبول لما قدمنا أنه يكون بالفعل، فالوزن والعزل فعل هو قبول فلا ينبغي إدخاله هنا كما فعل ابن الهمام. وقدمنا في الايجاب والقبول أنهما بعد عقد فاسد لا ينعقد بهما البيع قبل متاركة الفاسد ففي بيع التعاطي بالأولى، وهو صريح الخلاصة والبزازية أن التعاطي بعد عقد فاسد أو باطل لا ينعقد به البيع لأنه بناء على السابق، وهو محمول على ما ذكرناه. وأطلقه فشمل الخسيس والنفيس لأن المعنى يشمل الكل وهو الصحيح المعتمد كما في الهداية وغيرها. وفي الحاوي القدسي: المشهور أنه لا يجوز في نفائس الأشياء اه. قلت: وما ادعاه من المشهور فخلاف المشهور. والنفيس ما كثر ثمنه كالعبد، والخسيس ما قل ثمنه كالخبز. ومنهم من حد النفيس بنصاب السرقة فأكثر، والخسيس بما دونه. وفي البزازية: اشترى وقرا بثمانية ثم قال ائت بوقر آخر وألقه هنا ففعل له طلب الثمن. قال لقصاب كم من هذا اللحم بدرهم فقال منوان فأعطى الدرهم وأخذه فهو بيع جائز ولا يعيد الوزن، وإن وزنه فوجده أنقص رجع بقدره من الدرهم لا من اللحم لأن الانعقاد بقدر المبيع
453 المعطى. قال كيف تبيع اللحم قال ثلاثة أرطال بدرهم فقال أخذت فزن فله أن يزن ولا يلزم، وإن وزن فله أن لا يعطي وللمشتري أن لا يأخذ، وإن قبضه المشتري أو جعله البائع في وعاء بإذن المشتري تم البيع وفيه انعقاده بالاعطاء من جانب. حلف لا يشتري أو لا يبيع فباع أو اشترى بالتعاطي قيل وقيل اه. وقدمنا أنه لو أمره بالوزن ولم يبين موضعا فوزن له لا يكون بيعا ولو بين له كان بيعا، وقد ذكره في فتح القدير هنا على العكس فليتأمل. واعلم أن الإقالة تنعقد بالتعاطي أيضا من أحد الجانبين على الصحيح كالبيع كما في البزازية. وفي القنية: دفع إلى بائع حنطة خمسة دنانير ليأخذ منه حنطة وقال له بكم تبيعها فقال مائة بدينار فسكت المشتري ثم طلب منه الحنطة ليأخذها فقال البائع غدا أدفع إليك ولم يجر بينهما بيع وذهب المشتري فجاء غدا ليأخذ الحنطة وقد تغير السعر فليس للبائع أن يمنعها منه بل عليه أن يدفعها بالسعر الأول. قال رضي الله عنه: وفي هذه الواقعة أربعة مسائل: أحدها الانعقاد بالتعاطي. الثانية الانعقاد به في الخسيس والنفيس وهو الصحيح. الثالثة الانعقاد به من جانب واحد. والرابعة كما ينعقد بإعطاء المبيع ينعقد بإعطاء الثمن اه. قلت: وفيها مسألة خامسة أنه ينعقد به ولو تأخرت معرفة المثمن لكون دفع الثمن قبل معرفته. وفي المجتبي معزيا إلى النصاب: عليه دين فطالب رب الدين به فبعث إليه شعيرا قدرا معلوما وقال خذه بسعر البلد والسعر لهما وقال معلوم كان بيعا وإن لم يعلماه فلا. ومن بيع التعاطي تسليم المشتري ما اشترى إلى من يطلبه بالشفعة في موضع لا شفعة فيه، وكذا تسليم الوكيل بعدما صار شراؤه لنفسه إلى الموكل إذا قبضه الآمر وأنكر الامر وقد اشترى له، كذا في المجتبى وذكر مسألتي الوديعة والخياط المتقدمتين. ومنه لو ادعى بيعا وبرهن بشهود زور والقضاء إذا رضي الآخر به على قول أبي يوسف، كذا في المجتبى. يعني وإن قالا بأن القضاء بشهادة الزور لا ينفذ باطنا يقولا بالانعقاد بالتعاطي بعده. ثم اعلم أنه إنما ينعقد بالتعاطي بشرط أن لا يصرح معه بعدم الرضا، فلو قبض الدراهم الثمن وأخذ صاحبها البطاطيخ والبائع يقول لا أعطيكها أو حلف فإنه لا يصح البيع، وتمامه في القنية والله أعلم قوله: (وأي قام عن المجلس قبل القبول بطل الايجاب) لكونه امتناعا عن إتمام العلة لا إبطالا لها، وهذا لأن إيجاب البائع أحد شطري العلة والحكم إذا تعلق بعلة ذات وصفين كان للأول حكم السبب وللثاني حكم العلة، فلما لم يكن للأول قبل القبول حكم العلة لا يكون إبطال الايجاب بالقيام
454 إبطالا للعلة فيجوز، ولان القيام دليل الاعراض فعملت الدلالة عملها من الابطال فبعد ذلك لا يعارضها صريح قبول يأتي بعدها لأنه إنما يقدم عليها إذا لم تعمل عملها. وفي المجتبى: المجلس المتحد أن لا يشتغل أحد المتعاقدين بعمل غير ما عقد له المجلس أو ما هو دليل الاعراض عن العقد. أطلق القيام ولم يقيده بالانتقال عن المجلس بناء على ظاهر ما في الهادية، ومشى عليه جمع، واختاره قاضيخان معللا بأنه دليل الاعراض، وقيده شيخ الاسلام بالذهاب. وشمل ما إذا قام أحدهما لحاجة كما في الحاوي، ولكن في القنية: لو قام لحاجة لا معرضا فإنه لا يصح اه. فعلى هذا القيام مبطل وإن لم يكن دليل الاعراض. وأشار بالقيام إلى أن المجلس يتبدل بما يدل على الاعراض كالاشتغال بعمل آخر كالأكل إلا إذا كان لقمة أو شرب إلا إذا كان القدح في يده فشرب، ونوم إلا النوم جالسا، وصلاة إلا إتمام فريضة أو إتمام شفع نفلا فلو أتمه أربعا بطل، وكلام ولو لحاجة. ومنه إيجاب لانسان بعد الايجاب الأول فإذا قبلا كان للثاني لبطلان الأول كما قدمناه، أو مشى إلا خطوة وخطوتين كما في الخلاصة. وفي جمع التفاريق: وبه نأخذ وهو خلاف ظاهر الرواية. وفي المعراج: وقيل قوله قام عن المجلس دليل على أن الذهاب عنه شرط لأن القيام عنه يتحقق بالذهاب، أما لو لم يذهب لا يقال قام عنه وإنما يقال قام فيه ولذا قال في الاصلاح أو قام وقال في الايضاح لم يقل عن المجلس لأن الايجاب يبطل بمجرد القيام وإن لم يذهب عن المجلس. وفي البناية معزيا إلى بعضهم أن قولهم قام عنه يدل على الذهاب وإلا كان يقول قام فيه ولبس ثوب إلا إذا فعل القابل بالمبيع الأكل والشرب واللبس فقبول. وفي الجوهرة: لو كان قائما فقعد لم يبطل. وعلى اشتراط اتحاد المجلس تفرع لو تبايعا وهما يمشيان أو يسيران ولو كانا على دابة واحدة لم يصح في ظاهر الرواية لاختلاف المجلس. واختار غير واحد كالطحاوي وغيره أنه إن أجاب على فور كلامه متصلا جاز. وصححه في المحيط ثم قال: وقيل يصح وإن فصلا بسكوت ما لم يتفرقا بأبدانهما اه. وفي المجتبى: ما لم يتفرقا بدابتيهما وهو أحسن وعلى الاختلاف ما إذا لم يقف، أما إذا وقف بعدما سار فقبل الآخر فإنه يصح كما في المحيط. وفي غاية البيان: والسفينة بمنزلة البيت لأنهما لا يملكان إيقافها فجريانها لم يضف إليهما فلا ينقطع مجلسهما بجريانها بخلاف الدابة فإنهما يملكان الايقاف. قيد بالبيع لأن الخلع والعتق على مال لا يبطل الايجاب فيه بقيام الزوج والمولى لكونه يمينا ويبطل بقيام المرأة والعبد لكونه
455 معاوضة في حقهما كما في النهاية. وأما في خيار المخبرة فإنه إذا خيرها وهي واقفة وسار الزوج أو مشى قبل أن تختار ثم اختارت وقع بخلاف ما إذا سارت لأنه يقتصر على مجلسها خاصة بخلاف البيع فإنه يقتصر على مجلسهما، كذا في غاية البيان. وفي الحاوي القدسي: ويبطل مجلس البيع بما يبطل به خيار المخيرة اه. وفي القنية: ولا يجوز أن يناديه من بعيد أو من وراء جدار. رجل في البيت فقال للذي في السطح بعته منك بكذا فقال اشتريت صح إذا كان كل منهما يرى صاحبه ولا يلتبس الكلام للبعد، ولو تعاقد البيع وبينهما النهر المزد حصائي يصح البيع. قلت: وإن كان نهرا عظما تجري فيه السفن قال رضي الله عنه: وقد تقرر رأي (بح) في أمثال هذه الصورة على أنه إن كان العبد بحال يوجب التباس ما يقول كل واحد منهما لصاحبه يمنع وإلا فلا، فعلى هذا الستر بينهما الذي لا يمنع الفهم والسماع لا يمنع. والحاصل أن الايجاب يبطل بما يدل على الاعراض وبرجوع أحدهما عنه وبموت أحدهما ولذا قلنا: إن خيار القبول لا يورث، وقدمنا استثناء مسألة. وبتغيير المبيع بقطع يد وتخلل عصير وزيادة بولادة وهلاكه بخلاف ما إذا كان بعد قلع عينه بآفة سماوية أو بعدما وهب للمبيع هبة كما في المحيط. وقدمنا أنه يبطل بهبة الثمن قبل قبوله، فأصل ما يبطله سبعة فليحفظ. وفي البزازية: بعت من فلان الغائب فحضر في المجلس وقبل صح اه. وهو مشكل لعدم سماع الغائب كلام الحاضر ولعدم اتحاد المجلس، وحمله على ما إذا أعاد الايجاب بعد حضوره بعيد كما لا يخفي. وفي الذخيرة: لو كان المشتري في الدار فخرج منها ثم قيل لم يصح. وقيد بالبيع لأن إجازة بيع الفضولي لا تتوقف على مجلس بلوغ خبره حتى لو قام المالك فأجاز في مجلس آخر جاز كما في الصيرفية، ولا يضر في الايجاب الأول وجود إيجاب ثان بشئ آخر غير البيع قبل القبول للأول، ولذا قدمنا ما لو أوجب بيعا ونكاحا فقبلهما جاز، وكذا لو قال أبيعك هذا وأهب لك هذا فقبل جاز الكل كما في الصيرفية قوله: (ولا بد من معرفة قدر ووصف ثمن غر مشار لا مشار) أي لا يصح المبيع إلا بمعرفة قدر البيع والثمن ووصف الثمن إذا كان كل منهما غير مشار إليه، أما المشار إليه فغير محتاج إليهما لأن التسليم والتسلم واجب بالعقد فهذه الجهالة مفضية إلى المنازعة فيمتنع التسليم والتسلم، وكل جهالة هذه صفتها تمنع الجواز. أطلق في معرفة القدر فشمل المبيع والثمن فلا بد من معرفة القدر فيهما، فلو باع عبدا له ولم يصف ولم يشر إليه، فإن كان له عبد واحد يجوز، وإن كان
456 له عبدان أو أكثر لا يجوز، وفي العبد الواحد لا بد أن يضيفه إلى نفسه بأن يقول بعت عبدي منك، أما لو قال بعت سالما واسمه سالم لا يجوز، كذا في الخلاصة. وفي القنية: بعت عبدا لي ففيه اختلاف، والأصح أنه لا يجوز البيع. ولو باعه كرا من حنطة فإن لم يكن في ملكه فالبيع باطل، وإن كان في ملكه البعض بطل في المعدوم وفسد في الموجود، وإن كان في ملكه، فإن كانت في موضعين أو من نوعين مختلفين لا يجوز البيع، وإن كانت من نوع واحد في موضع واحد إلا أنه لم يضف البيع إلى تلك الحنطة لكن قال بعت منك كرا من حنطة جاز البيع، وإن علم المشتري بمكانها كان له الخيار إن شاء أخذها في ذلك المكان بذلك الثمن وإن شاء تركها اه. وفي موضع آخر منها: ولو لم يضفها إلى نفسه جاز البيع وللمشتري الخيار وإن كانت في موضعين، كذا في الخانية. وذكر في الظهيرية بعد هذا الفرع: وهذا دليل على أنه معتبر مكان البيع لامكان المبيع. وفرع في الخانية على جهالة المبيع المفسدة ما لو قال بعت منك جميع مالي في هذه الدار من الرقيق والدواب والثياب والمشتري لا يعلم ما فيها كان فاسدا لأن المبيع مجهول، ولو جاز هذا لجاز إذا باع ما في هذه المدينة أو في هذه القرية، ولجاز إذا باع ما في الدنيا. ولو قال بعت منك جميع مالي في هذا البيت بكذا جاز وإن لم يعلم المشتري به لأن الجهالة في البيت يسيرة وفيما تقدم من الدار وغيرها كثيرة، فإذا جاز في البيت جاز في الصندوق والجوالق اه. وبه ظهر أن الجهالة اليسيرة في المبيع لا تمنع، وفيها أيضا: رجل قال لغيره عندي جارية بيضاء بعتها منك بكذا فقال المشتري قبلت لم يكن ذلك بيعا إلا أن يبين الموضع أو غيره فيقول أبيعك جارية في هذا البيت أو يقول جارية اشتريتها من فلان فحينئذ يتم البيع. وذكر في موضع آخر إذا قال بعتك جارية جاز البيع إذا لم يكن عنده إلا جارية، وإن كان عنده جاريتان فسد البيع، وذكر شمس الأئمة السرخسي: إذا أضاف الجارية إلى نفسه فقال بعتك جاريتي صح البيع وإن لم يضف إلى نفسه لا يصح اه. وفيها: رجل اشترى من السقاء كذا وكذا قربة من ماء الفرات قال أبو يوسف: إن كانت القربة بعينها جاز لمكان التعامل، وكذا الراوية والجرة وهذا استحسان، وفي القياس لا يجوز إذا كان لا يعرف قدرها وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وظاهره ترجيح الجواز فيقال: الجهالة لا تضر إذا جرى العرف فيها كما لا تضر إذا كانت يسيرة. وفي الخانية أيضا: إذا كانت الشجرة بين اثنين فباع أحدهما نصيبه من أجنبي لا يجوز، وإن باع من شريكه جاز، وإن كانت بين الثلاثة فباع أحدهما نصيبه من أجنبي لا يجوز، وإن باع من شريكيه جاز، وإن
457 كانت بين الثلاثة فباع أحدهم نصيبه من أحد شريكيه لا يجوز، وإن باع منهما جاز اه. وفي الولوالجية: إذا باع نصيبا له من شجرة بغير إذن شريكه بغير أرض فهو على وجهين: إن كانت الأشجار قد بلغت أوان قطعها فالبيع جائز لأن المشتري لا يتضرر بالقسمة، وإن لم تبلغ فالبيع فاسد لأن المشتري يتضرر بالقسمة، وعلى هذا إذا كان الزرع بين رجلين فباع أحدهما نصيبه من رجل فهو على وجهين، نص عليه في كتاب الصلح اه. وفي المجمع: ولو باع نصيبه من دار فعلم العاقدين شرط ويجيزه مطلقا وشرط علم المشتري وحده اه. وفي عمدة الفتاوي: رجل قال لرجل بعت منك مالي في هذه الدار من المتاع إن كان معلوما جاز، ولو قال بعت منك ما تجد لي في هذا البيت أو في هذا الصندوق أو في هذه الجوالق إن كان معلوما للمشتري فهو جائز، وإن لم يكن معلوما والجهالة يسيرة جاز اه. وظاهره أن الاعتبار بعلم المشتري والهبة في هذا كالبيع لما في الولوالجية منها: لو قال وهبت نصيبي من هذا العبد منك والموهوب له لا يعلم نصيبه لم يجز لأن الموهوب مجهول وهذه الجهالة عسى أن تفضي إلى المنازعة فصار كما إذا اشترى حقا في دار ولا يعلمان كم ذلك الحق لا يجوز لما قلنا كذا هذا اه. وفي القنية: بيع ما لم يعلم البائع والمشتري مقداره يجوز إذا لم يحتج فيه إلى التسليم والتسلم كمن أقر أن في يده متاع فلان غصبا أو وديعة ثم اشتراه المقر من المقر له جاز وإن لم يعرفا مقداره اه. وفي الولوالجية في المسائل الخمس وهي بيع جميع ما في هذه القرية أو هذه الدار أو هذا البيت أو هذا الصندوق أو الجوالق، فإذا علم المشتري ما فيها جاز وإلا ففي الأولين لا يجوز لفحش الجهالة، وفي الثلاثة الأخيرة يجوز لأن الجهالة يسيرة اه. وفيها: قال لآخر إن لك في يدي أرضا خربة لا تساوي شيئا في موضع كذا فبعها مني بستة دراهم فقال بعتها ولم يعرفها البائع وهي تساوي أكثر من ذلك جاز البيع ولم يكن ذلك بيع المجهول لأنه لما قال لك في يدي أرض صار كأنه قال أرض كذا فإذا أجابه جاز أيضا اه. وفيهما أيضا: رجل دفع دراهم إلى خباز فقال اشتريت منك مائة من من خبز وجعل يأخذ كل يوم خمسة أمناء فالبيع فاسد، وما أكل فهو مكروه لأنه اشترى خبزا غير مشار إليه بعقد البيع فكان البيع مجهولا، فإذا أكل كان الاكل بحكم عقد فاسد، ولو أعطاه الدراهم وجعل يأخذ منه في كل يوم خمسة أمناء، ولم يقل في الابتداء اشتريت منك يجوز وهذا حلال وإن كانت نيته وقت الدفع الشراء لأن بمجرد النية لا ينعقد البيع وإنما ينعقد البيع الآن بالتعاطي
458 والآن المبيع معلوم فينعقد البيع صحيحا اه. وفسد بيع شاة من قطيع، وثوب من عدل، وكذا إذا باع عدديا متفاوتا عددا بثمن واحد فوجد أكثر لجهالة المبيع، وكذا إذا اشترى من هذا اللحم ثلاثة أرطال بدرهم ولم يبين الموضع، وكذا إذا بينه فقال من الجنب أو هذا الفخذ على قياس قول الإمام في السلم، وعلى قياس قولهما يجوز، والمروي عن محمد الجواز، كذا في البدائع. وفيها: وبيع الطريق وهبته منفردا جائز، وهبته منفردا فاسد، وفي البزازية: المشتري أرضا وذكر حدودها لا ذرعها طولا وعرضا جاز، وإذا عرف المشتري الحدود لا الجيران يصح، وإن لم يذكر الحدود ولم يعرفه المشتري جاز البيع إذا لم يقع بينهما تجاحد، وجهل البائع المبيع لا يمنع، وجهل المشتري يمنع. دار بينهما باع أحدهما نصفه انصرف إلى قسطه، ولو عين وقال بعت هذا النصف لا يجوز. وأما جهالة الثمن فمانعة أيضا كما إذا باع شيئا بقيمته أو بحكم المشتري أو فلان وبعتك هذا بقفيزي شعير وهذا بألف إلى سنة أو بألف وخمسمائة إلى سنتين أو باع شيئا بربح ده يا زده ولم يعلم المشتري رأس المال حتى افترقا وبيع الشئ برقمه أو برأس ماله ولم يعلم المشتري كذلك، كذا في البدائع. والرقم بسكون القاف
459 علامة يعلم بها مقدار ما وقع البيع به من الثمن، كذا في الظهيرية. كذا لو باع بألف درهم إلا دينارا أو بمائة دينارا إلا درهما لأن الاستثناء يكون بالقيمة وهي مجهولة، وكذا لو باع بمثل ما باعه فلان ولم يعلما به حتى افترقا لا إن علما به في المجلس مع الخيار. ولو اشترى بوزن هذا الحجر ذهبا لم يجز لجهالته. فإن علم بوزنه فله الخيار. ولو كان لرجل على رجل عشرة دراهم فقال بعني هذا الثوب ببعض العشرة وبعني هذا الآخر بما بقي فباعه وقبله المشتري صح لعدم إفضاء الجهالة إلى المنازعة. ولو قال هذا ببعض العشرة وهذا ببعض لا يجوز لوجودها، ولو قال بعتك هذا العبد بألف إلا نصفه بخمسمائة فالعبد للمشتري بألف وخمسمائة لأنه استثنى بي نصفه من البيع الأول فيكون النصف الأول بألف، وعلى هذا القياس، كذا في المحيط. وأطلق في اشتراط معرفة قدر الثمن فشمل المعرفة صريحا وعرفا فلذا قال في البزازية: لو قال اشتريت هذه الدار أو هذا الثوب أو هذه البطيخة بعشرة وفي البلد يبتاع بالدراهم والدنانير والفلوس ولم يذكر واحدا منهم ففي الدار ينعقد على الدنانير، وفي الثوب ينعقد على الدراهم، وفي البطيخة على الفلوس، وإن كان لا يبتاع إلا بواحد فيصرف إلى ما يبتاع الناس بذلك النقد اه. وحاصله أنه إذا صرح بالعدد فتعيين المعدود من كونه دراهم أو دنانير أو فلوسا يثبت على ما يناسب المبيع، ولو وقع شك فيما يناسب وجب أن لا يتم البيع، كذا في فتح القدير. وفي القنية: له عليه نصف دينار ويظن المديون أنه ثلثا دينار فباعه منه شيئا بما عليه لا يجوز إلا إذا أعلمه بذلك في المجلس وقوله غير مشار قيد فيهما لأن المشار إليه بيعا كان أو ثمنا لا يحتاج إلى معرفة قدره ووصفه، فلو قال بعتك هذه الصبرة من الحنطة أو هذه الكورجة من الازر والشاشات وهي مجهولة العدد بهذه الدراهم التي في يدك وهي مرئية له فقبل جاز ولزم لأن الباقي جهالة الوصف يعني القدر وهو لا يضر إذ لا يمنع من التسليم والتسلم، ولا يرد على إطلاقه الأموال الربوية إذا قوبلت بجنسها وبيعت مجازفة مشارا إليها فإنه لا يصح لاحتمال الربا، واحتماله مانع كحقيقته لما سيذكره في بابه. وكذا لا يرد السلم فإن الإشارة فيه لا تكفي لرأس المال، ولا بد من معرفة قدره عند الإمام لما سيصرح به في بابه ولم يذكر المصنف صفة المبيع وإنما اشترط معرفة قدر المبيع والثمن، وأما معرفة الوصف فخصه بالثمن. ومفهومه أن معرفة وصف المبيع ليست شرطا ولهذا قال في البدائع: وأما معرفة أوصاف المبيع والثمن فقال أصحابنا: ليست شرطا والجهل بها ليس بمانع من الصحة لكن شرط اللزوم ما لم يره اه. وظاهر ما في فتح
460 القدير أن معرفة الوصف في المبيع والثمن شرط الصحة كمعرفة القدر فإنه قال: والصفة عشرة دراهم بخارية أو سمرقندية وكر حنطة بحرية أو صعيدية. وهذا لأنها إذا كانت الصفة مجهولة تتحقق المنازعة فالمشتري يريد دفع الأدون والبائع يطلب الا رفع فلا يحصل مقصود شرعية العقد وهو دفع الحاجة بلا منازعة اه. فالمصنف اقتصر على معرفة وصف الثمن وصاحب البدائع نفاه فيهما، والمحقق ابن الهمام اشترطه فيهما. وقال في القدوري: والأثمان المطلقة لا تصح إلا أن تكون معروفة القدر والصفة. والحق أن معرفة وصف المبيع ليست شرطا بعد الإشارة إليه أو إلى مكانه وهو مراد صاحب البدائع لأن خيار الرؤية إنما يثبت في مبيع أشير إليه وهو مستور ولكن ما كان ينبغي له أن يضم الثمن إليه فإن خيار الرؤية لا يدخل في الأثمان، وأما إذا لم يكن مشارا إليه فلا بد من بيان وصفه كحنطة مطلقة
461 وهو مراد المحقق. وفي الخانية: ولو اشترى لؤلؤة في صدفة قال أبو يوسف رحمه الله تعالى: يجوز البيع وله الخيار إذا رأى. وقال محمد رحمه الله تعالى: لا يجوز وعليه الفتوى اه. وهكذا في الولوالجية معللا للفتوى بأنها منه خلقة. ويرد على المحقق لو قال بعتك بعشرة دراهم ولم يذكر وصفا فإن البيع صحيح كما في الايضاح يعني وينصرف إلى الجياد. وأما قوله بخارية أو سمرقندي فبيان للنوع كما في المعراج. وفي الهداية: والاعواض المشار إليها لا يحتاج إلى معرفة مقدارها في جواز البيع فقال في فتح القدير: والتقييد بمقدارها في قوله لا يحتاج احتراز عن الصفة فإنه لو أراه دراهم فقال اشتريته بهذه فوجدها زيوفا أو نبهرجة كان له أن يرجع بالجياد لأن الإشارة إلى الدراهم كالتنصيص عليها وهو ينصرف إلى الجياد، ولو وجدها ستوقة أو رصاصا فسد البيع وعليه القيمة إن كان أتلفها. ولو قال اشتريتها بهذه الصرة من الدراهم فوجد البائع ما فيها خلاف نقد البلد فله أن يرجع بنقد البلد لأن مطلق الدراهم في البيع ينصرف إلى نقد البلد، وإن وجدها نقد البلد جاز ولا خيار للبائع بخلاف ما إذا قال اشتريت بما في هذه الخابية ثم رأى الدراهم التي كانت فيها كان له الخيار وإن كانت نقد البلد لأن الصرة يعرف مقدار ما فيها من خارجها. وفي الخانية: لا يعرف ذلك من خارجها
462 فكان له الخيار وهذا يسمى خيار الكمية لا خيار الرؤية لأن خيار الرؤية لا يثبت في النقود اه. والظاهر أن التقييد بالمقدار اتفاقي، وما ذكره في ثبوت الخيار أمر آخر ليس الكلام فيه لأن الكلام في الاحتياج إلى الصحة لا للزوم، ولأنه مع الإشارة إذا كان لا يحتاج إلى معرفة المقدار لا يحتاج إلى معرفة الوصف بالأولى. والمعرفة في اللغة من عرفته علمته بحاسة من الحواس الخمس عرفة وعرفانا والمعرفة اسم منه، كذا في المصباح. وبعضهم فرق بين المعرفة والعلم فخصها بإدراك الجزئيات واستعمله في الأعم من إدراك الجزئيات والكليات كما في ا لتلويح. وأشار بالمعرفة إلى أن الشرط العلم دون ذكرهما كما في الايضاح. واعلم أنه يستثنى من قوله في فتح القدير إذا وجد الدراهم زيوفا مسألة هي ما إذا استقرض دراهم وقبضها ثم اشترى ما في ذمته بدنانير مقبوضة في المجلس حتى صح ثم وجد دراهم القرض زيوفا أو نبهرجة فإنه لا رجوع له بشئ لأن القرض عارية وهو ينافي الضمان، وإن وجدها ستوقة ردها على المقرض لعدم صحة استقراضها لكونها من القيميات فيرجع بالجياد إن ردها قبل التفرق عن المجلس، وإن كان بعد تفرقهما يرجع بديناره لبطلان الصرف وتمامه في تلخيص الجامع في باب بيع القروض. قال في أوله: جاز شراء ما عليه لا ما استقرض عكس المقرض الخ. ثم اعلم أن الأعواض في البيع إما دراهم أو دنانير أو أعيان قيمية أو مثلية. فالأول والثاني ثمن سواء قوبلت بجنسها أو بغيرها، والثالث مبيعة أبدا ولا يجوز البيع فيها إلا عينا إلا فيما يجوز السلم فيه كالثياب، وكما ثبت مبيعا في الذمة سلما يثبت دينا مؤجلا في الذمة على أنها سلم، وحينئذ يشترط الاجل لأنها ثمن بل لكونها ملحقة بالسلم في كونها دينا في الذمة فلذا قلنا: إذا باع عبدا بثوب موصوف في الذمة إلى أجل جاز ويكون بيعا في حق العبد حتى لا يشترط قبضه في المجلس بخلاف ما لو أسلم الدراهم في الثوب. وإنما ظهرت أحكام المسلم فيه في الثوب حتى شرط فيه الاجل وامتنع بيعه قبل قبضه لالحاقه بالمسلم فيه. والرابع كيلي أو وزني أو عددي متقارب كالبيض، فإن قوبلت بالنقود فهي مبيعات أو بأمثالها من المثليات، فما كان موصوفا في الذمة فهو ثمن، وما كان معينا فمبيع، فإن كان كل منهما معينا فما صحبه حرف الباء أو على كان ثمنا والآخر بيعا، كذا في فتح القدير وغيره. والفلوس كالنقدين كما في المعراج، ودخل المصوغ من الذهب والفضة كالآنية تحت القيميات فتتعين بالتعيين للصفة، وأما المثلي إذا قوبل بقيمي فلم يدخل فيما ذكرنا. وقال الإمام خواهر زاده: إنه ثمن. ومن حكم النقود أنها لا تتعين ولو عينت في عقود المعاوضات
463 وفسوخها في حق الاستحقاق فلا يستحق عينها فللمشتري إمساكها ودفع مثلها قدرا ووصفا. ويتعينان في الغصوب والأمانات والوكالات على تفصيل فيها، وكذا في كل عقد ليس معاوضة، ولا يتعين في المهر قبل الطلاق وبعده قبل الدخول. وفي تعيينها في المعاوضات الفاسدة روايتان، ولا تتعين في الكتابة وتتعين في العتق المعلق بالأداء. والفرق بينهما في الظهيرية من المكاتب وتمامه فيما كتبناه من القواعد الفقهية. وفي القنية: دفع إلى بقال ثمنا ليشتري به شيئا فوزنه فضاع منه شئ قبل الفراغ منه، فإن وزنه بأذن الدافع ضاع من مال الدافع، وما وزنه ضاع من مال البقال. الشراء بالحنظة لا يصح ما لم يبين أنها جيدة أو وسط أو رديئة. بعتك عبدي بمنافع دارك سنة لا يجوز. ثم رقم هذا بيع في حق العبد إجارة في حق الدار فإنه جائز. باع ضيعة بأربعين فقبض خمسة وثلاثين واشترى بالخمسة الباقية من المشتري شيئا محقرا قيمته قليلة ثم تبين بطلان البيع أو ردها المشتري بعيب أو شرط أو خيار ليس له أن يطلب الخمسة التي باع ذلك الشئ بها. ولو باع بسدس متاعا وقال للمشتري هذا سدس وهو زيف وتجوز به البائع وأخذه يجوز اشتراه بسدس. وزاد في الزيوف بقدر شغيرة بما يدخل بين الوزنين لا يجوز اه. وفي الولوالجية من الشفعة: الزيوف من الدراهم بمنزلة الجياد في خمس مسائل: الأولى مسألة الشفعة إذا اشترى بالجياد ونقد الزيوف أخذ الشفيع بالجياد. الثانية الكفيل إذا كفل بالجياد ونقد للبائع الزيوف يرجع على المكفول عنه بالجياد. الثالثة إذا اشترى شيئا بالجياد ونقد البائع الزيوف ثم باعه مرابحة فإن رأس المال هو الجياد. الرابعة حلف ليقضينه حقه اليوم وكان عليه جياد فقضاه الزيوف لا يحنث. الخامسة له على آخر دراهم جياد فقبض الزيوف وأنفقها فلم يعلم إلا بعد الانفاق لا يرجع عليه بالجياد في قولهما خلافا لأبي يوسف اه. ويزاد سادسة هي ما نقلناه عن تلخيص الجامع استقرض دراهم وقبضها ثم اشترى ما في ذمته بدنانير مقبوضة في المجلس ثم وجد دراهم القرض زيوفا فلم يرجع بشئ ففيها الزيوف كالجياد. وفي القنية عن أبي يوسف: عبدان لرجلين لم يعرف كل واحد منهما عبده من عبد صاحبه فباعهما أحد الموليين بإجازة الآخر وأحدهما أكثر قيمة من الآخر، فالثمن بينهما نصفان، وكذا البيوت فإنما أنظر إلى عددها لا إلى فضل بعضها على بعض. اشترى بما في هذا الكيس من الدراهم فإذا فيه دنانير جاز البيع لأنها جنس في حق الزكاة وعليه ملء هذا الكيس من الدراهم نقد بلده وكذا عند تفاوت النقدين اه. وقد ظهر بهذا الفرع الأخير أن قول العمادي في فصوله أن الدراهم أجريت مجرى
464 الدنانير في سبعة مواضع: الأولى بيع القاضي دنانيره لقضاء دينه الدراهم وعكسه. الثانية يصرفها المضارب إذا مات رب المال أو عزل لتصير كرأس المال. الثالثة لو كان رأس المال في يد المضارب دراهم فاشترى بدنانير كان للمضارب. الرابعة باعه بدراهم ثم اشتراه قبل النقد بدنانير أقل قيمة لم يجز. الخامسة لو شراه بدراهم فباعه بربح ثم شراه بدنانير لا يرابح. السادسة أخبر الشفيع أنه شراه بألف درهم فسلم ثم ظهر أن البيع بدنانير أقل قيمة أو أكثر بطلت. السابعة أكره على البيع بدراهم فباع بدنانير مساوية يصير مكرها اه مختصرا ليس للحصر. وفي جامع الفصولين برقم (قش) لو جعل الكيلي أو الوزني ثمنا بأن جعل العنب مثلا ثمنا فانقطع يفسد البيع. ثم رقم (ط) قولهم بأنه يفسد بانقطاعه ليس بصحيح فإن من اشترى شيئا بقفيز رطب في الذمة فنقطع أوانه لا ينتقض البيع، ولو جعل الكيلي أو الوزني ثمنا في الذمة يشترط بيان محل الايفاء حتى لو باع قنا بكر بر في الذمة فإنه يشترط بيان محل إيفائه عند أبي حنيفة وهو الصحيح، وعندهما يتعين محل العقد للايفاء وما يصلح ثمنا يصلح أجرة، وما لا يصلح ثمنا يصلح أجرة أيضا كالأعيان اه. وفي التتارخانية معزيا إلى النوازل: سئل والدي عمن باع شيئا من آخر بعشرة دنانير وقد استقرت العادة في ذلك البلد أنهم يصرفون الأثمان فيما بينهم فيعطون كل خمسة أسداس مكان الدينار واشتهرت تلك العادة فيما بينهم، هل لبائع ذلك العين أن يطالب المشتري بالوزن أم ينعقد العقد على الذي تعارفه المسلمون فيما بينهم بطريق الدلالة؟ فقال: ينصرف إلى ما تعارفه الناس فيما بينهم اه. وههنا مسائل مناسبة للثمن لا بأس بذكرها تكثيرا للفوائد: لو استوفى الدلال الثمن ثم كسد في يده فلا مطالبة على المشتري حيث باع بإذن المالك، ولو دفع المشتري إلى البائع أكثر من حقه غلطا
465 فالزائد أمانة، فإنه ضاع نصف المدفوع فالباقي بينهما على الشركة، والأصل أن المال المشترك إذا هلك منه شئ فالهالك على الشركة والباقي يبقى على الشركة، فإن عزل منها الرائد فضاع قبل الرد كان الباقي بينهما، ولو ضاع قدر الثمن دون الزائد فللبائع أن يرجع في الزائد بحسابه، ولو جعل الألف في كمه ودفع المائتين إلى غلامه فسرق الكل لا رجوع لواحد منهما، ولو دفع المشتري إليه كيسا على أن فيه الثمن دراهم فذهب به إلى منزله فإذا فيه دنانير حملها ليردها فضاعت في الطريق فلا ضمان، الكل من التتارخانية. وفي الواقعات شرى الدجاجة بالبيضات: اشترى دجاجة بخمس بيضات فلم يقبضها حتى باضت خمسا، فإن كان الشراء بخمس بيضات بعينها ولم يستهلك البائع البيضات التي باضتها عنده يأخذ المشتري الدجاجة والبيضات ويدفع إليه الثمن ولا يجب على المشتري التصدق به لأنه يصير بمنزلة ما لو اشترى دجاجة وخمس بيضات بخمس بيضات وذلك جائز، فإن كان البائع استهلك البيضات أخذ المشتري الدجاجة بثلاث بيضات وثلث بيضة إن كانت قيمة الدجاجة عشر بيضات لأن الثمن ينقسم على قيمة الدجاجة وعلى خمس بيضات استهلكها البائع، فإن كانت قيمة الدجاجة عشر بيضات ينقسم الثمن أثلاثا، فما أصاب خمس بيضات سقط، وما أصاب الدجاجة وهو الثلاث والثلث لزم، فإن كانت بغير أعيانها، فإن لم يستهلك البائع البيضات التي باضت عنده يتصدق المشتري بالفضل لأنه لو اشترى دجاجة وخمس بيضات بغير عينها لا يجوز فكذا هنا، فإن استهلكها البائع فالحكم كما لو كانت بعينها اه. وفي الواقعات: اشتري شيئا ودفع إلى البائع دراهم صحاحا فكسرها البائع فوجدها نبهرجة فردها فلا شئ عليه لأنه لم يتلف عليه شيئا، وكذا لو دفع إليه إنسان لينظر إليه فكسره. باع بدراهم جياد فدفع إليه المشتري فأراها البائع رجلا فانتقدها فوجدها قليل نبهرجة فاستبدل فأراد أن يصرف في شراء الحوائج فلم يأخذها أحد وقالوا كلها نبهرجة، إن كان أقر للبائع أنها جياد لا يرد لأنه متناقض إلا إذا صدقه المشتري فإن لم يكن أقر بذلك يرد لأنه غير متناقض اه. والله أعلم. قوله: (وصح بثمن حال وبأجل معلوم) أي البيع لاطلاق النصوص. وفي السراج الوهاج أن الحلول مقتضى العقد وموجبه والأجل لا يثبت إلا بالشرط اه. قيد بعلم الاجل لأن جهالته تفضي إلى النزاع فالبائع يطالبه في مدة قريبة
466 والمشتري يأباها فيفسد. وفي شرح المجمع للمصنف من باب خيار الشرط: لو باع مؤجلا ولم يقل إلى رمضان لا يكون مؤبدا بل يكون ثلاثة أيام عند بعض ويفتي بأن يتأجل إلى شهر اه. كأنه لأنه المعهود في الشرع في السلم واليمين ليقضين دينه أجلا. وفي الخانية: لو باع ثم أجل الثمن إلى الحصاد فسد عند الإمام خلافا لهما، وإذا اختلفا في الاجل فالقول لمن ينفيه لأن الأصل عدمه، وكذا إذا اختلفا في قدره فالقول لمدعي الأقل والبينة بينته المشتري في الوجهين وإن اتفقا على قدره واختلفا في مضيه فالقول للمشتري أنه لم يعض والبينة بينته أيضا لأن البينة مقدمة على الدعوى، كذا في الجوهرة. وقيدنا بتأجيل الثمن لأن تأجيل المبيع المعين لا يجوز ويفسده كما في الجوهرة، ولا يرد على المصنف السلم مع أنه دين لما سيصرح به في بابه من أن من شرائطه الاجل كما لا يرد ما بيع بجنسه فإنه لا يصح مؤجلا لما سنذكره في باب الربا. وفي فتح القدير: ومن جهالة الاجل ما إذا باعه بألف على أن يؤدي إليه الثمن في بلد آخر، ولو قال إلى شهر على أن يؤدي الثمن في بلد آخر جاز بألف إلى شهر ويبطل شرط الايفاء في بلد آخر لأن تعيين مكان الايفاء فيما لا حمل له ولا مؤنة غير صحيح، فلو كان له حمل ومؤنة صح. ومن الاجل المجهول اشتراط أن يعطيه الثمن على التفاريق أو كل أسبوع البعض، فإذا لم يكن شرطا في البيع وإنما ذكره بعده لم يفسد وكان له أن يأخذ الكل جملة. ولو كان حالا فطالبه ثم قال اذهب فأعطني كل شهر كذا لا يكون تأجيلا، ولو قال
467 المديون برئت من الاجل أو لا حاجة لي به لا يبطل، ولو قال تركته أو أبطلته أو جعلت المال حالا بطل الاجل، ولو عجل الدين قبل الحلول ثم استحق المقبوض أو وجده زيوفا فرده عاد الاجل، ولو اشترى من المديون شيئا ثم تقايلا لا يعود الاجل ولو رده بعيب بقضاء عاد، ولو كان لهذا الدين المؤجل كفيل لا تعود الكفالة في الوجهين، كذا في الخانية. وإذا رضي البائع بالتأجيل فقد أسقط حقه في حبس المبيع، فلو حل الاجل قبل قبضه فللمشتري قبضه قبل نقد الثمن، كذا في المحيط. وسيأتي مسائل حبس المبيع آخر الباب. وفي البزازية: له على آخر ألف من ثمن مبيع فقال اعطه كل شهر مائة درهم لا يكون تأجيلا ويملك طلبه في الحال وفي الملتقط عليه ألف ثمن جعله الطالب نجوما إن أخل بنجم حل الباقي فالامر كما شرطا اه. وفي شرح المجمع: لو مات البائع لا يبطل الاجل، ولو مات المشتري حل المال لأن فائدة التأجيل أن يتجر فيؤدي الثمن من نماء المال، فإذا مات من له الاجل تعين المتروك لقضاء الدين فلا يفيد التأجيل اه. وفي المجمع: وللمشتري أجل سنة ثانية لمنع البائع السلعة سنة الاجل اه. فابتداؤه من وقت التسليم. وكذا لو كان فيه خيار يعتبر الاجل من حين سقوط الخيار عنده، كذا في الخانية. وفي التجنيس: فرق بين هذا وبين ما إذا اشترى إلى رمضان فمنعه حتى دخل رمضان كان المال حالا في قولهم جميعا اه. وهكذا في الخانية. ولا خصوص لرمضان وإنما خلاف الصاحبين في السنة المنكرة، أما في السنة المعينة فلا يبقى الاجل بعد مضيها، والمراد بمنعه عدم قبض المشتري المبيع مجازا لكون منعه سببا له، كذا في شرح المجمع. وفي الخانية والتجنيس: رجل قال لآخر بعت منك هذا الثوب بعشرة على أن تعطيني كل يوم درهما وكل يوم درهمين يعطيه عشرة في ستة أيام اليوم الأول درهما وثلاثة في اليوم الثاني ودرهما في اليوم الثالث وثلاثة في اليوم الرابع ودرهما في اليوم الخامس ودرهما في اليوم السادس، أما في اليوم الأول يعطيه درهما ظاهر، وفي اليوم الثاني يعطيه ثلاثة لأنه
468 جعل اليوم أجلا للدرهم الواحد بكلمة كل الموجبة للتكرار فكلما جاء يوم يلزمه درهم، وفي اليوم الثاني يلزمه درهم بمجئ اليوم الثاني ودرهمان بمجئ يومين ودرهم في اليوم الثالث لحلول نجم آخر ولم يحل للدرهمين أجل آخر، وفي الرابع يلزمه ثلاثة واحد بمضي الرابع ودرهمان بمجئ أجل آخر للدرهمين، وفي الخامس يلزمه درهم بمجئ الخامس ولم يحل للدرهمين أجل آخر، بقي من العشرة واحد يعطيه في اليوم السادس اه وفي الواقعات: اشترى شيئا ودفع إلى البائع دراهم صحاحا فكسرها البائع فوجدها نبهرجة فردها فلا شئ عليه لأنه لم يتلف عليه شئ، وكذا لو دفع إليه إنسان. وفي السراج الوهاج: الآجال على ضربين: معلومة ومجهولة. والمجهولة على ضربين: متقاربة ومتفاوتة. فالمعلومة السنون والشهور والأيام، والمجهولة متقاربة كالحصاد والدياس والنيروز والمهرجان وقدوم الحاج وخروجهم والجذاذ والقطاف وصوم النصارى وفطرهم. والمتفاوتة كهبوب الريح وإلى أن تمطر السماء وإلى قدوم فلان وإلى الميسرة. فتأجيل الثمن الدين المجهول بنوعيه لا يجوز وإن كان الثمن عينا فسد بالتأجيل ولو معلوما، وإذا أجل الدين أجلا مجهولا بجهالة متقاربة ثم أبطله المشتري قبل محله وقبل فسخه للفساد انقلب جائزا، وإن مضت المدة قبل إبطاله تأكد فساده. وإن كانت جهالته متفاوتة فإن أبطله المشتري قبل التفرق انقلب جائزا اه. وهنا مسائل في الواقعات متعلقة بالثمن أحببت ذكرها هنا: الأولى المأذون له في البيع إذا باع ومات فجاء المالك فليس له مطالبة وارث البائع ما لم يثبت قبضه، ولا يقبل قول المشتري عليه ولا مطالبة له على المشتري إلا برضا الوارث لأن الوكيل بالبيع إذا مات لا ينتقل حق المطالبة بالثمن إلى موكله وإنما ينتقل إلى وارثه أو وصيه إن كان، فإن لم يكن نصب القاضي عنه وصيا ليقبض، وكأحد المتفاوضين إذا مات كان قبض الثمن إلى وصيه. الثاني بياع عنده بضائع للناس أمروه ببيعها فباعها ونقد الثمن من ماله على أن يكون الثمن له فأفلس المشتري كان للبائع أن يسترد
469 من المالك ما دفعه إليه. الثالثة بايع أقواما ثم مات وعليهم ديون ولم يعرف له وارث فأخذ السلطان ديونه ثم ظهر له وارث لا يبرأ الغرماء وعليهم الأداء ثانيا إلى الوارث اه. وفي المصباح: حل الدين يحل - بالكسر - حلولا انتهى أجله فهو حال وأجل الشئ مدته ووقته الذي يحل فيه، وهو مصدر أجل الشئ أجلا من باب تعب، وأجل أجولا من باب قعد لغة، وأجلته تأجيلا جعلت له أجلا اه. فظاهره لا يقال حل إلا بعد تأجيل وليس بمراد في الكتاب، وفي القاموس: حل الدين صار حالا. وذكر في الظهيرية من باب الاختلافات بين البائع والمشتري مسألة لطيفة. قوله: (ومطلقه على النقد الغالب) أي مطلق الثمن ببيان قدره ونوعه دون وصفه. والتقييد ببلد بأن وقع البيع بعشرة دراهم أو دنانير ينصرف إلى غالب نقد البلد لأنه المتعارف فينصرف المطلق إليه، فإن كان إطلاق اسم الدراهم في العرف يختص بها مع وجود دراهم غيرها فهو تخصيص الدراهم بالعرف القولي وهو من أفراد ترك الحقيقة بدلالة العرف، وإن كان التعامل بها في الغالب كان من تركها بدلالة العادة، وكل منهما واجب تحريا للجواز وعدم إهدار كلام العاقل، كذا في فتح القدير. لكنه جزم في التحرير بأن العادة هي العرف العملي وأن مسألة الدراهم من العرف القولي. وفي شرح المجمع: لو باعه إلى أجل معين وشرط أن يعطيه المشتري أي نقد يروج يومئذ كان البيع فاسدا. وذكر تاج الشريعة أن المراد بالبلد البلد الذي جرى فيها البيع لا بلد المتبايعين. قوله: (وإن اختلفت النقود فسد إن لم يبين) أي فسد البيع لوجود الجهالة المفضية إلى المنازعة، فإذا ارتفعت ببيان أحدهما في المجلس ورضي الآخر صح لارتفاع المفسد قبل تقرره فصار كالبيان المقارن. والمراد بالبيان في كلامه البيان المتأخر لأن المقارن يخرج عن موضوع المسألة لأن موضوعها مطلقه فافهم والمراد باختلاف النقود اختلاف ماليتها مع الاستواء في الرواج كالبندقي والقايتبابي والسليمي والمغربي والغوري في القاهرة الآن. فالحاصل أن المسألة رباعية لأنها إما
470 أن تستوي في الرواج والمالية معا أو يختلف فيهما أو يستوي في أحدهما دون الآخر، والفساد في صورة واحدة وهي الاستواء في الرواج والاختلاف في المالية، والصحة في ثلاث صور فيما إذا كانت مختلفة في الرواج والمالية فينصرف إلى الأروج، وفيما إذا كانت مختلفة في الرواج مستوية في المالية فينصرف إلى الأروج أيضا، وفيما إذا استوت فيهما. وإنما الاختلاف في الاسم كالمصري والدمشقي فيتخير في دفع أيهما شاء، فلو طلب البائع أحدهما للمشتري أن يدفع غيره لأن امتناع البائع من قبول ما دفعه المشتري ولا فضل تعنت ولذا قلنا: إن النقد لا يتعين في المعاوضات. ومثل في الهداية مسألة الاستواء في المالية بالثنائي والثلاثي، وتعقبه في العناية بأنه لا يصح مثالا لأن ما كان اثنان منه دانقا وما كان ثلاثة منه دانقا لا يكون في المالية سواء لكن يمكن أن يكون في الرواج سواء، وفسر الثنائي والثلاثي في المعراج كما في العناية. وفي فتح القدير: الثنائي والثلاثي أسماء دراهم كانت في بلادهم مختلفة المالية، وكذا الركني والخليفتي في الذهب كان الخليفتي أفضل مالية عندهم والعدالي اسم لدراهم اه. وفسرها الزيلعي بأن الثنائي ما كان اثنان بدرهم والثلاثي ما كان ثلاثة منها بدرهم. وحاصله أن الثنائي قطعتان من فضة إما بدانق أو بدرهم، والثلاث ثلاث قطع منها إما بدانق أو بدرهم، وإذا باع سلعة بدرهم في بلدة فيها درهم قطعتان ودرهم ثلاثة خير المشتري إن شاء دفع قطعتين من الثنائي أو ثلاثا من الثلاثي. فالحق ما في الهداية من الاستواء في المالية لأن قيمة الثنائي بقدر قيمة الثلاثي وليس المراد القطعة حتى يكون من باب اختلاف المالية. نعم لو باع شيئا بقطعة فسد لأن قطعة الثنائي نصف درهم وقطعة الثلاثي ثلث درهم. هذا ما ظهر لي في حل هذا المحل ولم أره لغيري. قيد بالبيع لأن في الوصية إذا كانت مختلفة في المالية متساوية في الرواج فتنفذ وصاياه بأقل النقود، وإن كانت متفاوتة في الرواج مستوية في المالية انصرفت الوصية إلى النقد الغالب. وفي البزازية من كتاب الدعوى: وإن ادعى وزنيا ذكر الجنس ذهبا أو فضة ولو مضروبا يقول كذا دينارا خوارزميا أو بخاريا جيدا أو رديئا، ويحتاج إلى ذكر الصفة عند اختلاف النقود ولو نفدا واحدا لا ولو نقودا والكل على الرواج ولا مزية للبعض فيه على الآخر يجوز البيع ويعطى المشتري أيا شاء، لكن
471 في الدعوى لا بد من التعيين، فإن كان أحدهما أروج ينصرف البيع إلى الأروج. وعند ذكر النيسابوري إلى ذكر كونه أحمر. ولا بد من ذكر الجودة عند العامة. وقال الإمام النسفي: إن ذكر أحمر خالصا ولم يذكر الجودة كفاه، ولا بد من ذكر ضرب أي دار، وقيل لا يشترط، وإذا ذكر أنها منتقدة لا يحتاج إلى ذكر الجودة في الصحيح. وذكر اللامشي إذا كانت النقود في البلد مختلفة أحدها أروج لا تصح الدعوى ما لم يبين، وكذا إذا أقر بعشرة دنانير حمر وفي البلد نقود مختلفة حمر لا يصح بلا بيان بخلاف البيع فإنه ينصرف إلى الأروج. وفي الذخيرة: عند اختلاف النقود في البلد والتساوي في الرواج لا يصح البيع ولا الدعوى بلا بيان وإن لاح فضل الرواج ينصرف إليه ويعتبر كاللفظ في الدعوى فلا حاجة إلى البيان إلا إذا طال الزمان من وقت الخصومة إلى وقت الدعوى بحيث لا يعلم الأروج فحينئذ لا بد من البيان لما هو الأروج وقت العقد. إلى هنا ما في البزازية من الدعوى وذكر في الصلح: ولو كان البدل دراهم يحتاج إلى بيان القدر والصفة ويقع على نقد البلد الدراهم والدنانير عند الاطلاق، وإن اختلفت النقود فعلى الأغلب وإن استوت لا يصح بلا بيان اه. وفي التتارخانية من باب المهر معزيا إلى الحجة: تزوج امرأة على ألف وفي البلد نقود مختلفة ينصرف إلى الغالب، وإن لم يكن ينظر إلى مهر مثلها فأي ذلك وافق مهر مثلها يحكم لها به اه. وقد علم باب البيع والوصية والصلح والدعوى والاقرار والمهر. بقي الخلع لو خالعها على ألف درهم ولم يبين وبقي الواقف لو شرط له دراهم أو دنانير وينبغي أن يستحق الأقل، وينبغي أيضا في الهبة كذلك ولكن في الهبة لا تتم إلا بالقبض فهو السبب للملك وبه يزول الاشتباه. وبقي الإجارة قال في البزازية من الإجارات: وهو على غالب نقد البلد وإن اختلفت الغلبة فسدت كالبيع اه. فالحاصل أن البيع والإجارة والصلح سواء، وفي الدعوى لا بد من البيان في جميع الوجوه كالاقرار. وفي المهر يقضي بما وافق مهر المثل، وفي الوصية يكون له الأقل. وفي كتابة الخانية: ما صلح مهرا صلح بدلا في الكتابة. ومقتضاه لو كاتبه على ألف درهم وفي البلد نقود مستوية أن يقضي بما وافق القيمة، وفي المجتبى: لو اشترى بمائة مثقال فضة غير معينة أو ذهب لا يجوز حتى يصفه جيدا أو غيره، ولو قال بألف نبهرجة أو زيوف لا يصح إلا إذا كانت معروفة في البلد اه. وقدمنا أنه لو أشار إلى دراهم مستورة فلما كشف عنها ظهر أنها زيوف أو خلاف نقد البلد استحق الجياد من نقد البلد. قوله: (ويباع الطعام
472 كيلا وجزافا) لحديث البخاري فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم (1) ولا يرد عليه بيع الجنس بالجنس من الربا مجازفة لما سيأتي في باب الربا من أنه غير جائز إلا إذا كان قليلا. وفي البزازية: بيع الحنطة بالحنطة مجازفة لا يجوز إلا إذا ظهر تساويهما اه. يعني في المجلس كما سيأتي في باب الربا. وفي جامع الفصولين: شراء قصيل البر بالبر كيلا وجزافا جاز لعدم الجناس اه. ولان احتمال الربا كحقيقته حتى لو لم يحتمل كأن باع كفة ميزان من فضة بكفة منها فإنه يجوز وإن كان مجازفة لعدم احتمال التفاضل كما في فتح القدير وهكذا في البزازية. وفي الصيرفية: جعل في كفة الميزان تبرا وفي الأخرى ذهبا مضروبا وأخذ الميزان حتى تعادلت الكفتان فأخذ صاحب التبر الذهب وصاحب الذهب التبر لا يجوز ما لم يعلما وزن الذهب لأن الذهب وزني، وأحاله إلى الجامع الصغير في باب ما يكال وما يوزن. وفي فتح القدير أيضا: والطعام في العرف الماضي الحنطة ودقيقها. وفي المصباح: الطعام عند أهل الحجاز البر خاصة وفي العرف الطعام اسم لما يؤكل مثل الشراب اسم لما يشرب وجمعه أطعمة اه. والمراد به في كلام المصنف الحبوب كلها لا البر وحده ولا كل ما يؤكل بقرينة قوله كيلا وجزافا. وأما في باب الايمان فقال في البزازية: حلف لا يأكل طعاما ينصرف إلى كل مأكول مطعوم حتى لو أكل الخل يحنث، وإذا عقد يمينه على ما هو مأكول بعينه ينصرف إلى ما هو مأكول بعينه، وإذا عقد على ما ليس مأكولا بعينه أو على ما يؤكل بعينه إلا أنه لا يؤكل كذلك عادة ينصرف إلى المتخذ منه اه. وأما في باب الوكالة فقال المصنف: وبشراء طعام يقع على البر ودقيقه اه. وقال بعض المشايخ: الطعام في عرفنا ينصرف إلى ما يمكن أكله يعني المعتاد للاكل كاللحم المطبوخ والمشوي ونحوه. وقال الصدر الشهيد: وعليه الفتوى. فلا تدخل الحنطة والدقيق والخبز كما في النهاية. والجزاف بيع شئ لا يعلم كيله ولا وزنه وهو اسم من جازف مجازفة من باب قاتل. والجزاف بالضم خارج عن القياس وهي فارسية معرب كزاف ومن هنا قيل أصل الكلمة وصل إلى العربية. قال ابن القطاع: جزف في الكيل جزفا أكثر منه ومنه الجزاف والمجازفة في البيع وهي المساهلة والكلمة دخيلة في العربية ويؤيده قول ابن فارس: الجزف الاخذ بكثرة كلمة فارسية، ويقال
473 لمن يرسل كلامه إرسالا من غير قانون جازف في كلامه فأقيم نهج الصواب مقام الكيل والوزن اه. وفي السراج الوهاج: القسمة كالبيع إذا وقعت فيما يجري فيه الربا مجازفة لا تصح. وفي العمدة: اشترى حنطة رجل قبل أن تحصد مكايلة جاز لأن الحنطة موجودة وكذلك القوائم والتبن قبل الكدس قبل التذرية. وفي القنية: يجوز بيع الحنطة في سنبلها مكايلة أو موازنة وإن لم تشتد الحبوب بعد اه. ولو قال المصنف ويجوز بيع الحبوب كيلا ووزنا وجزافا بغير جنسه لكان أولى كما لا يخفى. وفي البزازية: وبيع الحنطة بالدراهم وزنا يجوز ويجوز بيع كل ما لا يتفاوت كالبر بلا إشارة ولا إضافة لو كان في ملكه قدر المبيع كله، ولو قال بعتك مائة من من هذه الحنطة وأعطاها من كدس آخر لا يجوز لأن غير النقدين يتعين بالتعيين. له عليه حنطة أكلها فباعها منه نسيئة لا يجوز لأنه بيع الضمان والحيلة أن يبيعها بثوب ويقبض الثوب ثم يبيعه بدراهم إلى أجل اه. والكدس وزان قفل ما يجمع من الطعام في البيدر فإذا ديس ودق فهو العرمة والصبرة، كذا في المصباح. وفي الظهيرية: رجل له زرع قد استحصد فباع حنطته جاز لأنه باع موجودا مقدور التسليم، ولو باع تبنها لم يجز لأن التبن لا يكون إلا بعد الدوس والتذرية فكان بيع المعدوم واستحصاد الزرع إدراكه. وفي الذخيرة: ادعى رجل على غيره شيئا مما يكال أو يوزن أو يعد فاشتراه المدعى عليه من المدعي بمائة دينار ثم تصادقا أنه لم يكن للمدعي على المدعى عليه شئ فالعقد باطل، تفرقا أو لم يتفرقا، لأن العقد يتعلق بالكر في ذمته بالإضافة إليه، فإذا تبين أنه لم يكن في الذمة تبين أنه باع المعدوم وبيع المعدوم باطل. ولو ادعى دراهم أو دنانير أو فلوسا اشتراها المدعى عليه بدراهم ونقد الدراهم ثم تصادقا أنه لم يكن عليه شئ ففي مسألة الدراهم والدنانير إذا لم يتفرقا ورجع بمثل ما اشترى يصح العقد ثم يتعلق بالمسمى في الذمة، ولو تفرقا بطل العقد، وفي الفلوس لا يبطل العقد وإن تفرقا قبل قبض ما اشترى لأن في بيع الفلوس بالدراهم يكتفي بقبض أحد البدلين حقيقة، وإذا اشترى شيئا بدراهم دين وهما يعلمان أن لا دين لم يجز. ومن مسائل الحنطة ودعواها قال في دعوى البزازية: ادعى عشرة أقفزة حنطة لا يصح بلا بيان السبب لأنه لو سلما يطالب في الموضع الذي عين عنده وإن قرضا أو ثمن مبيع تعين مكان البيع والقرض وإن غصبا واستهلاكا تعين مكان الغصب والاستهلاك اه. وفي السراج الوهاج والمنتقى، المشتري إذا قال بعني هذا الكر الحنطة فباعه فهو على الكيل فإن قبضه بغير كيل ثم كاله بغير محضر من البائع جاز إلا أن المشتري لا يصدق على ما يدعي من النقصان لأنه قد صدق على وفاء الكيل وإنما كيله تحليل لموافقة السنة اه. ولعله إنما لا
474 يصدق مع أن القول للقابض لاقراره بقوله بعني هذا الكر. قوله: (وبإناء أو حجر لا يعرف قدره) لأن هذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة لأن البيع يوجب التسليم في الحال وهلاكه قبل التسليم نادر، وبه اندفع ما رواه الحسن من عدم الجواز للجهالة، وما في الكتاب هو الأصح ولا يرد عليه السلام لأنه لا يجوز لما سيأتي فإنه لا بد من معرفة مقدار المسلم فيه لأن التسليم لا يكون فيه إلا بعد حلول الأجل، والهلاك قبله غير نادر، واحتمال الفساد فيه ملحق بحقيقته. وأطلقه وهو مقيد بما إذا لم يحتمل الحجر التفتت والاناء النقصان كأن يكون من خشب أو حديد، فإن احتملهما لم يجز كالزنبيل والغرائر والخيار والبطيخ، وعلى هذا ملء قربة بعينها أو راوية من النيل فعن أبي حنيفة لا يجوز لأن الماء ليس عنده ولا يعرف قدر القربة لكن أطلق في المجرد جوازه. ولا بد من اعتبار القرب المتعارفة في البلد مع غالب السقايين فلو ملا له بأصغر منها لا يقبل، وكذا راوية منه يوفيه في منزله. وعن أبي يوسف إذا ملاها ثم تراضيا جاز كما قالوا إذا باع الحطب ونحوه أحمالا لا يجوز، ولو حمله على الدابة ثم باعه الحمل جاز لتعيين قدر المبيع في الثاني. وفي المحيط: بيع الماء في الحياض والآبار لا يجوز إلا إذا جعله في إناء. وفي الخلاصة خلافه قال: اشترى كذا كذا قربة من ماء الفرات جاز استحسانا إذا كانت القربة معينة، وعن أبي يوسف يجوز في القرب مطلقا. ومراد المصنف جواز البيع بالاناء والحجر لا لزومه ففي المعراج عن جمع التفاريق عن محمد أن للمشتري الخيار. وفي مجموع النوازل: لو اشترى بوزن هذا الحجر ذهبا ثم علم به جاز وله الخيار. وفي فتح القدير بعد نقله: وينبغي أن يكون هذا محمل الرواية عن أبي حنيفة أنه لا يجوز في البيع أيضا كالسلم أي لا يلزم ا ه. وهو غير محتاج إليه بل ظاهر الهداية أنه على حقيقته ولذا قال: إن الجواز أصح وأظهر. وشرط في المبسوط في مسألة الكتاب أن يكون يدا بيد فلا يصح إلا بشرط تعجيل التسليم. ومن هنا طعن المحقق في فتح القدير على من
475 اشترط فيما يوزن به أن لا يحتمل النقصان لأنه حينئذ لا جفاف يوجب النقصان وما قد يعرض من تأخره يوما أو يومين ممنوع بل لا يجوز كما لا يجوز في السلم إلى آخر ما حققه وهو حسن جدا. وهذا الخيار خيار كشف الحال كما قدمناه في مسألة الحفيرة والمطمورة. وفي فتح القدير: وعن أبي جعفر باعه من هذه الحنطة قدر ما يملا هذا الطشت جاز، ولو باعه قدر ما يملا هذا البيت لا يجوز اه. وذكر في السراج الوهاج القصعة مع الطشت وقدمنا ما إذا باعه جميع ما في هذا البيت أو الدار أو الصندوق أو القربة ويشترط لبقاء عقد البيع على الصحة بقاء الاناء والحجر على حالهما. فلو تلفا قبل التسليم فسد البيع لأنه لا يعلم مبلغ ما باعه منه، كذا في السراج الوهاج. قوله: (ومن باع صبرة كل صاع بدرهم صح في صاع) يعني عند أبي حنيفة إلا أن يسمي جميع قفزانها أو جميع ثمنها. وقالا: يصح مطلقا. له أنه تعذر الصرف إلى الكل لجهالة المبيع والثمن فينصرف إلى الأقل وهو معلوم إلا أن تزول الجهالة بتسمية جميع القفزان أو بالكيل في المجلس. ولهما أن الجهالة بيدهما إزالتها ومثلها غير مانع كما إذا باع عبدا من عبدين على أن المشتري بالخيار. ولم يذكر المصنف الخيار على قوله قالوا وله الخيار في الواحد كما إذا رآه ولم يكن رآه وقت البيع. وظاهر ما في الهداية ترجيح قولهما لتأخيره دليلهما كما هو عادته. وقد صرح في الخلاصة في نظيره بأن الفتوى على قولهما فقال: رجل اشترى العنب كل وقر بكذا والوقر عندهم معروف، إن كان العنب عندهم من جنس واحد يجب أن يجوز في وقر واحد عند أبي حنيفة كما في بيع الصبرة
476 كل قفيز بدرهم، وإن كان العنب عندهم أجناسا مختلفة لا يجوز البيع أصلا عند أبي حنيفة كبيع قطيع الغنم، وعندهما يجوز إذا كان جنسا واحدا في كل العنب كل وقر بما قال، وكذا إذا كان الجنس مختلفا، هكذا أورده الصدر الشهيد. والفقيه أبو الليث جعل الجواب بالجواز فيما إذا كان العنب من جنس واحد متفقا عليه وإن كان من أجناس مختلف فيه قال الفقيه أبو الليث: والفتوى على قولهما تيسيرا للامر على المسلمين اه. وفي فتح القدير: وتفريع الصدر الشهيد أوجه اه. وفي المعراج أن أبا الليث هذا هو الخوارزمي فظاهره أنه ليس هو الفقيه المشهور. قيد بقوله كل قفيز لأنه لو قال بعتك هذه الصبرة على أنها قفيز أو بعتك قفيزا منها فهما سواء والبيع واقع على قفيز واحد، فإن وجده أقل من قفيز فله الخيار لتفرق الصفقة كما إذا قال بعتك على أنه كر كل قفيز بكذا فوجده أنقص فله الخيار، كذا في غاية البيان. وفيها: أن لكل منهما الخيار في مسألة الكتاب قبل الكيل وذلك لأن الجهالة قائمة أو لتفرق الصفقة، واستشكل القول بتفرق الصفقة على قول الإمام لأنه قال بانصرافه إلى الواحد فلا تفريق. وأجاب في المعراج بأن انصرافه إلى الواحد مجتهد فيه والعوام لا علم لهم بالمسائل الاجتهادية فلا ينزل عالما فلا يكون راضيا، كذا في الفوائد الظهيرية وفيه نوع تأمل اه. وصرح في البدائع بلزوم البيع في الواحد وهذا هو الظاهر، وعندهما البيع في الكل لازم ولا خيار وصبرة الطعام مثال لأن كل مكيل أو موزون أو معدود من جنس واحد إذا لم يكن مختلف القيمة كذلك. وكذا قوله كل صاع لأنه لو قال كل صاعين أو ثلاثة فإنه يصح بقدر ما سمى عنده. وقيدنا بعدم تسمية ثمن الجميع لأنه لو بينه ولم يبين جملة الصبرة كما لو قال بعتك هذه الصبرة بمائة درهم كل قفيز بدرهم فإنه يجوز في الجميع اتفاقا. وفي تلخيص الجامع من باب الكيل يزيد أو ينقص: اشترى على أنه كر فابتل قبل القبض أو جف وأمضى فالفضل والنقص له وعليه إن كانا بعد الكيل لملك الأصل كالولد والعمى وللبائع، وعليه إن كانا قبله إذ الكيل كالانشاء لابهام قبله والمكيل كالجزاف وفاء بالإشارة والشرط. ولو اشترى قفيزا منه فما بعد الكيل كما قبله لأنه مبهم ما لم يقبض حتى لم ينقصه التلف ما أبقى من الكر، وجاز التبديل ما لم يجاوزه فلا يعلم الحدوث في الملك، فإن قابله الجنس أفسده محمد في الطارئ حال الابهام إذ التعيين كالانشاء ولا يرى مبيحا بالغير والمثل ملحقا بالرطب والتمر ما يتفاوت في المال حتى المنقع دافعا للرطب بالرطب إذ التفاوت في غير المبيع إلى آخره. وقيد بالبيع لأنه في الإجارة والاقرار ينصرف إلى الواحد اتفاقا كما إذا قال أجرتك داري كل شهر بكذا وكل شهر سكن أوله لزمه، وإذا كفل إنسان بهذه الأجرة كل شهر بكذا
477 فكل شئ لزم المستأجر لزم كفيله كما في كفالة الخانية ولك على درهم. وفي إقرار الخانية: لو قال علي كل درهم من الدراهم يلزمه ثلاثة دراهم في قول أبي يوسف ومحمد، وفي قياس قول أبي حنيفة يلزمه عشرة. ولو قال علي مع كل درهم درهم أو علي درهم مع كل درهم يلزمه درهمان اه. وأما في التعليق فللكل اتفاقا كما إذا قال كل امرأة أتزوجها، وكذا لو قال كلما اشتريت هذا الثوب أو ثوبا فهو صدقة، أو كلما ركبت هذه الدابة أو دابة. وفرق أبو يوسف بين المنكر والمعرف في الكل وتمامه في شرح الزيلعي من التعليق. وفي الخانية: كلما أكلت اللحم فعلي درهم فعليه بكل لقمة درهم، وأما في الكفالة فإن صدر القول من الكفيل كان للواحد كما إذا ضمن لها نفقتها كل شهر أو كل يوم لزمه نفقة واحدة عند أبي حنيفة خلافا لأبي يوسف كما في نفقات الخلاصة. وإن صدر من الآمر كما إذا قال ادفع عني كل شهر كذا فدفع المأمور أكثر من شهر لزم الآمر كما في كفالة الخانية. وقد وضعت ضابطا فقهيا لم أسبق إليه لكلمة كل بعد تصريحهم بأنها لاستغراق أفراد ما دخلته في المنكر وأجزائه في المعرف هو أن الافراد إن كانت مما لا تعلم نهايتها فإن لم تفض الجهالة إلى المنازعة فإنها تكون على أصلها من الاستغراق كمسألة التعليق والامر بالدفع عنه، وإلا فإن كان لا يمكن معرفتها في المجلس فهي على الواحد اتفاقا كالإجارة والاقرار والكفالة وإلا فإن كانت الافراد متفاوتة لم تصح في شئ عنده كبيع قطيع كل شاة، وصح في الكل عندهما كالصبرة، والأصح في واحد عنده كالصبرة. وفي إقرار الخلاصة وغيرها: الوصي إذا قال قبضت كل مال لفلان الميت على الناس فجاء غريم وقال للوصي إني دفعت إليك كذا كذا درهما وقال الوصي ما قبضت منك شيئا فالقول قول الوصي مع يمينه اه. ثم رأيت بعد ذلك في آخر غصب الخانية من مسائل الابراء: لو قال كل غريم لي فهو في حل قال ابن مقاتل: لا يبرأ غرماؤه لأن الابراء إيجاب الحق للغرماء وإيجاب الحقوق لا يجوز إلا لقوم بأعيانهم، وأما كلمة كل في باب الإباحة فقال في الخانية من ذلك الباب: لو قال كل إنسان تناول من مالي فهو حلال له قال محمد بن سلمة: لا يجوز ومن تناول ضمن. وقال أبو نصر محمد بن سلام: هو جائز نظرا إلى الإباحة والإباحة للمجهول جائزة، ومحمد جعله إبراء عما تناوله والابراء للمجهول باطل والفتوى على قول نصير اه. ويمكن أن يقال في الضابط بعد قوله فهي على الواحد اتفاقا إن لم يكن فيه إيجاب حق لاحد، فإن كان لم يصح ولا في واحد كمسألة الابراء، وقدمنا في الطلاق الفرق بين قوله أنت طالق كل تطليقة وكل التطليقة، وفي باب
478 الظهار الفرق بين أنت علي كظهر أمي كل يوم وفي كل يوم. ثم اعلم أن مفهوم قوله صح في واحد أنه فاسد فيما عداه ويرتفع الفساد بكيله في المجلس لارتفاع الجهالة، فإن تفرقا قبل الكيل وكيل بعد ذلك تقرر الفساد فلا يصح إلا باستئناف العقد عليه، كذا في السراج الوهاج. ولو أشار إلى نوعين حنطة وشعير فقال أبيعك هاتين الصبرتين كل قفيز بدرهم فالبيع جائز عند أبي حنيفة في قفيز واحد. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز في الصبرتين جميعا، كذا في الكرخي. وفي المنظومة فاسد في الجميع عند أبي حنيفة، كذا في السراج الوهاج. وفي المجتبى: بعتك نصيبي من هذا الطعام بطل وإن بين بعد ذلك، وكذا في الدار وهو قول زفر، ولو باع جزأ من خمسة أسهم أو سهما من خمسة أو نصيبي من خمسة أسهم أو سهما من خمسة أنصباء أو جزأ أو نصيبا منه جاز عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى استحسانا لا قياسا اه. وفي الظهيرية من باب الاستحقاق: رجل له ثلاثة أقفزة حنطة باع منها قفيزا ثم باع منها قفيزا من رجل آخر ثم باع منها قفيزا من ثالث ثم كال لهم الأقفزة الثلاثة ثم جاء رجل واستحق من الكل قفيزا، فإن المستحق يأخذ القفيز الثالث لأن صاحب اليد حين باع القفيز الأول والثاني فقد باع ما يملكه، وأما الثالث فقد باع ما لا يملكه اه. وفي الخانية: رجل في يده كران فباع أحدهما من رجل ولم يسلم حتى باع من آخر كرا ودفع إليه ثم باع الكر الآخر من رجل آخر ودفعه إليه ثم حضر المشتري الأول ووجد المشتريين جميعا فإنه يأخذ ما كان في يد الثالث لأن البائع بعدما باع الأول كان يملك الكر الثاني، فإذا باع الآخر لثالث لم يجز بيعه، وإن لم يجد المشتري الثالث ووجد الثاني أخذ من الثاني نصف ما في يده، فإن حضر الثالث بعد ذلك أخذ الأول والثاني جميع ما في يده، ولو وجد الأول الثالث أخذ جميع ما في يده، وكذا لو كان مكان الكرين عبد اه. ثم قال بعده: ولو كان معه قفيزا حنطة وأما إذا باعها لثلاثة ثم كالها فوجدها ناقصة فهل يكون النقصان من حصة الثالث أو على الثلاثة؟ فقال في الولوالجية: رجل له سلعة وزنية ظن أنها أربعة آلاف من فباعها من أربعة أنفس لكل منهم ألف من بثمن معلوم، فلما وزنوا وجدوا ذلك ناقصا من المقدار المقدر بكثير فهذا على وجهين: إن باع منهم معالهم الخيار إن شاء أخذ كل واحد منهم ما يخصه من الثمن، وإن
479 شاؤوا تركوا ورجعوا بالثمن لأنه تغير شرطهم، فإن باع منهم على التعاقب فالنقصان على الآخر اه. والظاهر أن الشئ الكيلي كالوزني. وفي المصباح: الصبرة من الطعام جمعها صبر كغرفة وغرف. وعن ابن دريد: اشتريت صبرة أي بلا كيل ولا وزن اه. والقفيز مكيال يسع ثمانية مكاييل والجمع أقفزة وقفزان والقفيز من الأرض عشر الجريب اه. والوقر - بالكسر - حمل البعير ويستعمل في البعير وبالفتح ثقل السمع اه. قوله: (ولو باع ثلة أو ثوبا كل شاة بدرهم أو كل ذراع بدرهم فسد في الكل) يعني عند أبي حنيفة خلافا لهما لأن رفع هذه الجهالة بيدهما. وله ما قدمناه من أن الافراد إذا كانت متفاوتة لم يصح في شئ. وقطع ذراع من الثوب موجب للضرر فلم يجز كبيع جذع من سقف، وعلى هذا كل عددي متفاوت كالبقر والإبل والعبيد والبطيخ والرمان والسفرجل. وفي المعراج: البيض كالرمان قياسا واستحسانا كالقفزان اه. وفي القنية: باع نصف خشبة مقلوعة أو نصف عمارة مشاعا جاز وإن كان في قسمته ضرر اه. فليس كل ضرر يفسد البيع فلو علم بالعدد قبل الافتراق فله الخيار. قيد بعدم ثمن تسمية الكل لأنه لو سمى ثمن الكل كما إذا قال بعتك هذا الثوب بعشرة دراهم كل ذراع بدرهم فإنه جائز في الكل اتفاقا كما لو سمى جملة الذرعان أو القطيع. وأطلق الثوب وقيده العتابي في شرح الجامع الصغير بثوب يضره التبعيض، أما في ثوب الكرباس فينبغي أن يجوز عنده في ذراع واحد كما في الطعام الواحد، كذا في غاية البيان. وفي القنية: اشترى ذراعا من خشبة أو ثوب من جانب معلوم لا يجوز، ولو قطعه وسلمه أيضا لا يجوز إلا أن يقبل. وعن أبي يوسف جوازه، وعن محمد أنه فاسد ولكن لو قطع وسلم فليس للمشتري الامتناع. وعلى هذا لو باع غصنا من شجرة من موضع معلوم حتى لو اشترى الأوراق بأغصانها وكان موضع قطعها معلوما ومضى وقتها فليس للمشتري أن يسترد الثمن اه. وقيد بقوله كل شاة بدرهم لأنه لو اشترى الرجل غنما أو بقرا أو عدل زطي كل اثنين من ذلك بعشرة دراهم فهو بطال إجماعا لأن كل شاة لا يعرف ثمنها إلا
480 بانضمام غيرها إليها وأنه مجهول لا يدري، وإن كان ذلك في مكيل أو موزون أو عددي متقارب جاز كما في الخانية. وفي القاموس: الثلة جماعة الغنم أو الكثيرة منها أو من الضأن خاصة والجمع كندر وثلال اه. وفي السراج الوهاج: قال الحلواني رحمه الله تعالى: الأصح أن عند أبي حنيفة إذا أحاط علمه بعدد الأغنام في المجلس لا ينقلب العقد صحيحا لكن لو كان البائع على رضاه ورضي المشتري ينعقد البيع بينهما بالتراضي، كذا في الفوائد الظهيرية ونظيره البيع بالرقم اه. وفي البدائع: وعلى هذا الخلاف الوزني الذي في تبعيضه ضرر كالمصوغ من الأواني والعلب اه. قوله: (ولو سمى الكل في الكل صح) أي لو سمى جملة المبيع صح في المثلي والقيمي لزوال المانع. أطلقه فشمل ما إذ سمى في العقد أو بعده بشرط المجلس وبعده لا لأن ساعات المجلس تعتبر ساعة واحدة دفعا للعسر فالعلم في المجلس كالعلم حالة العقد، ولا ينقلب جائزا بالعلم بعد المجلس لتقرر الفساد للجهالة. وما في المحيط عن بعض المشايخ أن عنده يصح في الكل وإن علم بعد المجلس بعيد لما قررناه. وشمل تسمية جميع الثمن وجميع المبيع لما قدمنا أن تسمية جملة الثمن كافية للصحة كتسمية المبيع، وقد صرح به في السراج الوهاج. وفي القنية: اشترى من البقول عشرة أمناء من الجزر من جزر له كثير صح كعشرة أقفزة من الحنطة لأن المشاحة لا تجري فيه، ولو قال على أن اختار منها لا يصح. قال اشتريت منك ألف من من هذه الحنطة فوزنت فإذا هي خمسمائة، قيل صح في الموجود، وقيل لا لأن الفساد قوي فيتعدى إليه النقص صح في الموجود اتفاقا، وكذا في العدديات المتقاربة. وإنما الخلاف في العدديات المتفاوتة إذا وجدها أنقص. وفي البدائع: لو قال بعت منك هذا القطيع كل شاتين بعشرين فالبيع فاسد في الكل إجماعا وإن علم المشتري العدد في المجلس واختار. قوله: (وإن نقص كيل أخذ بحصته أو ترك وإن زاد فللبائع) متفرع على قوله وإن سمى الكل يعني إذا سمى الجملة لو نقص عما سماه في المثليات خير لتفرق الصفقة عليه فلم يتم رضاؤه بالموجود، وإن زاد شئ عليه فهو للبائع لأن البيع وقع على مقدار معين والقدر ليس بوصف. وفي غاية البيان: وكذا الحكم في كل مكيل أو موزون ليس في تبعيضه ضرر. قيد بكونه بيع مكايلة لأنه لو اشترى حنطة مجازفة في البيت فوجد تحتها دكانا فله الخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن وإن شاء تركها، وكذا لو اشترى بئرا من حنطة على أنها كذا وكذا ذراعا فإذا هي أقل من ذلك فله الخيار، ولو كان طعاما في حب فإذا نصفه تبن يأخذه بنصف الثمن لأن الحب وعاء يكال فيه فصار المبيع حنطة مقدرة، والبيت والبئر لا يكال بهما فصار المبيع حنطة غير مقدرة ولكن البائع أطعمه
481 في شئ فوجد بخلافه وذا يوجب الخيار. ولو اشترى سمكة على أنها عشرة أرطال ووزن البائع عليه فوجد المشتري في بطنها حجرا يزن ثلاثة أرطال فهو بالخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن وإن شاء ترك لأن الوزن ههنا جار مجرى الجودة، والوزن قد يجري مجرى الصفة في بعض الأشياء كما في اللآلئ والجواهر وههنا كذلك، وفوات الوزن بمنزلة العيب. فإن شواها قبل أن يعلم والمسألة بحالها تقوم السمكة عشرة أرطال وتقوم سبعة فيرجع بحصة ما بينهما من الثمن لأنه تعذر الرد بالعيب فيرجع بنقصان العيب، كذا في المحيط. ومسألة السمكة خارجة عن حكم الموزونات فإن الحكم في الموزونات التخير عند النقصان إن شاء أخذ الموجود بحصته من الثمن، وإن شاء ترك وحكمها التخيير بين الاخذ بجميع الثمن أو الفسخ، ولا خصوصية للسمكة بل كل موزون في تبعيضه ضرر كذلك ولذا قال في الخانية: رجل باع لؤلؤة على أنها تزن مثقالا فوجدها أكثر سلمت للمشتري لأن الوزن فيما يضره التبعيض وصف بمنزلة الذرعان في الثوب اه. وفي الخلاصة: اشترى طشتا على أنه عشرة أمناء فبان بعد القبض أنه خمسة أمناء خير المشتري لأنه بمنزلة العيب، فإن حدث به عيب عنده وأبى البائع قبوله قوم طشت من عشرة أمناء مثلا بعشرين، وقوم من خمسة أمناء بعشرة أمناء فالعيب ينقص خمسة ا ه. والقول للقابض في الزيادة والنقصان وعليها يتفرع ما في الخانية: ولو باع من آخر إبريسما فوزنه البائع على المشتري فذهب به المشتري ثم جاء بعد مدة وقال وجدته ناقصا، إن كان يعلم أنه انتقص من الهواء لا شئ على البائع، وكذا لو كان النقصان مما يجري بين الوزنين، وإن لم يكن النقصان من الهواء ولا يجري بين الوزنين فإن لم يكن المشتري أقر أنه قبض كذا أمناء فله أن يمنع حصة النقصان من الثمن إن كان لم ينقده الثمن، فإن كان نقده الثمن رجع عليه بذلك القدر، وإن كان المشتري أقر أنه قبض كذا أمنا ثم قال وجدته أقل من ذلك فليس له أن يمنع من البائع شيئا من الثمن ولا يسترده اه. وأطلقه فشمل ما إذا كان المسمى مشروطا باللفظ أو بالعادة لما في البزازية: اتفق أهل بلدة على سعر الخبز واللحم وشاع على وجه لا يتفاوت فأعطى رجل ثمنا واشتراه وأعطاه أقل من المتعارف، إن كان من أهل البلدة يرجع بالنقصان فيهما من الثمن، وإن كان من غير أهلها رجع في الخبز لأن التسعير فيه متعارف فيلزم الكل في اللحم فلا يعم اه. وفي البزازية أيضا: اشترى عنب كرم على أنه ألف من فظهر أنه تسعمائة طالب البائع بحصة مائة من من الثمن، وعلى قياس قول الإمام يفسد العقد في الباقي، وكان قاضي الحرمين يروي عن الإمام من جنس هذا. وأفتى الحلواني والسرخسي على أن العقد يصح فيما وجد، وبه أفتى الصدر الشهيد. وفي المحيط: اشترى نصف ما في الكرم المعين من العنب الذي على الكرم على أنه خمسمائة من بجوز، وجد ذلك القدر أو أقل أو أكثر. وذكر اللامشي أنما يجوز إذا وجد خمسمائة، ولو قال بعت ألف من من هذا الكرم إن كان العنب من نوع واحد يجوز. وفي
482 الملتقط: جواز شراء العنب من الكرم إذا سمي أنه كذا كذا كوارة وذكرها وينظر المقومون لتقدير القيمة، فإن شرط أنها كذا كذا كوارة يجوز فيها بشرائط السلم وإلا فلا، وعلى المشتري ضمان ما أتلفه ولا شئ عليه من ثمن الباقي إذا كان العقد جائزا، ولا يشترط فيه ذكرها وعددها، فإذا وجده زائدا أو ناقصا لا شئ لأحدهما على الآخر لأنه اشترى الجملة بلا تقدير اه. وفي المحيط: لو اشترى كرا على أنه عشرة أقفزة فكاله فوجده أكثر من عشرة فالزيادة للبائع لأن قدر المبيع عشرة أقفزة، فإذا كاله ثانيا فوجده أنقص لا يكملها لأنه ظهر قدر المبيع بالكيل الأول وصار مسلما فلا يعتبر الكيل الثاني، وإن كاله فوجده أنقص من عشرة يطرح من ثمنه، وإن شاء أخذ الباقي بحصته من الثمن، وإن شاء ترك، فإن كاله ثانية فوجده عشرة لا يزيد على الثمن ولا يبطل خياره والعبرة للكيل الأول اه. ويعلم منه حكم الموزونات. وفي تلخيص الجامع باب شراء الظرف بما فيه والطعام والقيمي: اشترى زق زيت بما فيه على أنهما مائة رطل فإذا الزق أثقل من العتاد خير للتقدير، ولو كان عشرين حط ثمن ما خص الزيت إن كان الزيت سبعين بعد قسمة الثمن على قيمة الزيت أو قيمة ثمانين رطل زيت والتخيير ورد عشرين إن كان مائة صرفا للنقص والفضل إلى الزيت إذ القدر أصل فيه دون الزق كأنه قال والزق ما وجد والزيت تكملة المائة. ولو كان مكان الزق سمن حط ثلاثة أخماس ما خصه ورد سبعي الزيت بعد قسمة الثمن على قيمة خمسين من كل فرد لأن القدر أصل فيهما فاقتسماه كما في البيع بألف مثقال ذهب وفضة، ولو كان الزق مائة والزيت خمسين فسد لجهالة الثمن شرط المعدوم إذ لا تنقيص في الزق ولا عقد في غير المائة. ولو اشترى الأغنام العشر والقفزان العشرة على أن كل شاة وقفيز بدرهم فإذا القفزان تسعة رد الكل إذ لم تتم الصفقة أو حط عشرة قسط الطعام بعد قسمة كل درهم على شاة وقفيز وأمضى لزوال الجهل بفرض التساوي. ولو كانت الأغنام تسعة فسد في قفيز عندهما، وفي الكل عنده لشرط الربا إذا لم يقابل قسط ما فات مالا وتمامه فيه. والزق بالكسر الظرف، كذا في المصباح. أطلق في تخييره عند النقصان عما سماه. وقيده قاضيخان في فتاواه فقال: وإن
483 اشترى مكيلا أو موزونا على أنه كذا فوجده أقل جاز البيع فيما وجد. وهل يخير المشتري؟ إن كان لم يقبض المشتري المبيع أو قبض البعض كان له أن يرده، وإن كان قبض الكل لا يخير اه. ثم اعلم أن في صورة النقصان إنما يسقط حصة النقصان إذا لم يكن المبيع مشاهدا له، فإن كان مشاهدا له انتفى الغرور ولهذا قال قاضيخان في فتاواه: اشترى سويقا على أن البائع لته بمن من السمن وتقابضا والمشتري ينظر إليه فظهر أنه لته بنصف من، جاز البيع ولا خيار للمشتري لأن هذا مما يعرف بالعيان، فإذا عاينه انتفى الغرور وهو كما لو اشترى صابونا على أنه متخذ من كذا جرة من الدهن فظهر أنه متخذ من أقل من ذلك والمشتري ينظر إلى الصابون وقت الشراء، وكذا لو اشترى قميصا على أنه اتخذ من عشرة أذرع وهو ينظر إليه فإذا هو من تسعة جاز البيع ولا خيار للمشتري لما قلنا اه. وأطلق في الزيادات وقيدها في المجتبى بما لا يدخل تحت الكيلين أو الوزنين وما يدخل بينهما لا يجب رده، واختلف في قدر ما يدخل بينهما فقيل نصف درهم في مائة، وقيل دانق في مائة لا حكم له، وعن أبي يوسف دانق في عشرة كثير، وقيل ما دون حبة عفو في الدينار وفي القفيز المعتاد في زماننا نصف من اه. وقيد بكون الزيادة كانت مختلطة في المبيع وقت البيع لأنها لو حدثت في المبيع كما إذا زادت الحنطة بالبل فإن كان مشارا إليه بيع بشرط الكيل تكون للبائع إن حدثت قبل الكيل، وإن بعده فللمشتري لأن قدر المبيع لا يظهر إلا بالكيل فتكون الزيادة قبل الكيل حادثة على ملك البائع، وبعده حادثة على ملك المشتري. وإن لم يكن مشارا إليه فالحادثة بعد الكيل قبل القبض للبائع، وبعد القبض للمشتري وتمام تفريعاته في المحيط. وسيأتي أن القيمي إذا وجده ناقصا أو زائدا فسد البيع إن لم يبين ثمن كل. وفي الخانية: باع أرضا على أن فيها كذا كذا نخلة فوجدها المشتري ناقصة جاز البيع ويخير المشتري إن شاء أخذها بجميع الثمن وإن شاء ترك لأن الشجر يدخل في بيع الأرض تبعا ولا يكون له قسط من الثمن. وكذا لو باع دارا على أن فيها كذا كذا بيتا فوجدها ناقصة جاز البيع ويخير على هذا الوجه، وكذا لو باع دارا على أن فيها كذا كذا نخلة عليها ثمارها فباع الكل بثمارها وكان فيها نخلة غير مثمرة فسد البيع لأن الثمر له قسط من الثمن، فإذا كانت الواحدة غير مثمرة لم يدخل المعدوم في البيع فصارت حصة الباقي مجهولة فيكون هذا ابتداء عقد في الباقي بثمن مجهول فيفسد البيع كما لو باع شاة مذبوحة فإذا رجلها من الفخذ مقطوعة فسد البيع لأن الفخذ له قسط من الثمن اه. وقيد بكونه سمى جملة القفزان على التعيين لأنه لو سماها على الابهام كما لو باع صبرة على أنها أكثر من عشرة أقفزة، فإن وجدها كذلك جاز البيع، وإن وجدها عشرة
484 أو أقل من عشرة لا يجوز البيع. ولو باعها على أنها أقل من عشرة فوجدها كذلك جاز، وإن وجدها عشرة أو أكثر لا يجوز البيع، وعن أبي يوسف أنه يجوز البيع. ولو اشترى دارا على أنها عشرة أذرع جاز البيع في الوجوه كلها، كذا في الخانية. وفي القنية: عد الكواغد فظنها أربعة وعشرين وأخبر البائع به ثم أضاف العقد إلى عينها ولم يذكر العدد ثم ازدادت على ما ظنه فهي حلال للمشتري. وفي فتاوي صاعد: ساومه الحنطة كل قفيز بثمن معين وحاسبوا فبلغ ستمائة درهم فغلطوا وحاسبوا المشتري بخمسمائة وباعوها منه بخمسمائة ثم ظهر أن فيها غلطا لا يلزمه إلا خمسمائة. أفرز القصاب أربع شياه فقال بائعها هي بخمسة كل واحدة بدينار وربع فذهب القصاب فجاء بأربع دنانير فقال للبائع هل بعت هذه بهذا القدر والبائع يعتقد أنها خمسة؟ قال: صح البيع. قال رضي الله تعالى عنه: وهذا إشارة إلى أنه يصح بأربعة ولا يعتبر ما سبق أن كل واحدة بدينار وربع اه. (فرع) لطيف من أيمان خزانة الفتاوى مناسب للوزنيات: اشترى منا من اللحم فقالت هذا أقل من من وحلفت عليه وقال الزوج إن لم يكن منا فأنت طالق فالحيلة فيه أن يطبخ قبل أن يوزن فلا يحنثان اه قوله: (وإن نقص ذراع أخذ بكل الثمن أو ترك وإن زاد فللمشتري ولا خيار للبائع) لأن الذرع في المذروع وصف لأنه عبارة عن الطول فيه لكنه وصف يستلزم زيادة أجزاء فإن لم يفرد بثمن كان تابعا محضا فلا يقابل بشئ من الثمن، فإذا قال على أنها مائة ذراع بمائة ولم يزد فوجدها أنقص كان عليه جميع الثمن، وإنما يتخير لفوات الوصف المشروط المرغوب فيه كما إذا اشتراه على أنه كاتب فوجده غير كاتب، وإن وجدها أزيد فللمشتري الزيادة ولا خيار للبائع كما إذا باعه على أنه معيب فإذا هو سليم، وقد ذكر المشايخ في التفريق بين القدر وهو الأصل والوصف حدودا فقيل ما يتعيب بالتبعيض والتشقيص فالزيادة والنقصان فيه وصف، وما لا يتعيب بهما فالزيادة والنقصان فيه أصل. وقيل: الوصف ما لوجوده تأثير في تقوم غيره ولعدمه تأثير في نقصان غيره، والأصل ما لا يكون بهذه المثابة. وقيل: ما لا ينقص بالباقي لفواته فهو أصل، وما ينقص الباقي بفواته فهو وصف، وهذا مع الثاني متقاربان فبهذا علم أن القدر في المكيلات والموزونات أصل، والذرع في المذروعات وصف، وثمرة كون الذرع وصفا والقدر أصلا تظهر في مواضع منها ما ذكر في الكتاب، ومنها أنه لا يجوز للمشتري التصرف في المبيع قبل الكيل والوزن إذا اشتراه بشرط الكيل والوزن، ويجوز به في المذروع قبل الذرع، سواء اشتراه مجازفة أو بشرط الذرع. ومنها أن بيع الواحد باثنين لا يجوز في المكيلات والموزونات ويجوز في المذروعات، كذا في المعراج إلا إذا بين لكل ذراع ثمنا فإنه لا يتصرف
485 قبل الذرع كما في المحيط. وفيه الوصف لا يقابله شئ من الثمن كما إذا أعور المبيع في يد البائع قبل التسليم لم يسقط شئ من الثمن، وكذا إذا اعورت في يد المشتري فله البيع مرابحة بلا بيان إلا إذا كان مقصودا بالتناول حقيقة أو حكما. أما حقيقة بأن قطع البائع يد العبد قبل القبض فإنه يسقط نصف الثمن لأنه صار مقصودا بالقطع. والحكمي بأن يمتنع الرد لحق البائع كما إذا تعيب المبيع عند المشتري أو لحق الشرع كما إذا خاط المبيع بأن كان ثوبا ثم وجد به عيبا فالوصف متى كان مقصودا بأحد هذين الوجهين يأخذ قسطا من الثمن، كذا في الفوائد الظهيرية. وفي إيضاح الاصلاح: وليس المراد من الوصف ما يوجب الحسن والقبح فيما قام به يفصح عن هذا قولهم إن الوزن فيما يضره التبعيض وصف، وفيما لا يضره قدر مع عدم الاختلاف في الحسن والقبح اه. وظاهر قوله وإن زاد فللمشتري أن الزيادة تسلم له قضاء وديانة، وحكى خلافا فيه في المعراج فقال في فتاوي النسفي وأما لي قاضيخان: لا تسلم له الزيادة ديانة. وفي شرح أبي ذر والجامع الأصغر عن أسد وأبي حفص وأبي الليث: لا يردها ديانة. وفي العمدة: لو اشترى حطبا على أنه عشرون وقرا فوجده ثلاثين طابت له الزيادة كما في الذرعان اه. وفرع الحطب مشكل، وينبغي أن يكون من قبيل القدر لأنه لا يتعيب بالتبعيض فينبغي أن تكون الزيادة للبائع خصوصا إن كان من الطرفاء التي تعورف وزنها بالقاهرة. وفي الخانية: رجل قال أبيعك هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف وهو ثلاثة عشر ذراعا فإذا هو خمسة عشر فقال البائع غلطت لا يلتفت إليه ويكون الثوب للمشتري بالثمن المسمى قضاء، وفي الديانة لا تسلم له الزيادة اه قوله: (ولو قال كل ذراع بكذا ونقص أخذ بحصتها أو ترك وإن زاد أخذ كله كل ذراع بكذا أو فسخ) لما قدمنا أنه وإن كان وصفا إذا أفرد بثمن صار أصلا وارتفع عن التبعية فنزل كل ذراع منزلة ثوب، فإذا وجدها ناقصة خير لأنه لو أخذها بكل الثمن لم يكن آخذا كل ذراع بدرهم، ولو وجدها زائدة لم تسلم له لصيرورتها أصلا فخير بين أن يأخذ الزائد بحصته وبين أن يفسخ لرفع الضرر عن التزام الزائد، وأورد عليه: ينبغي فساد العقد في صورة النقصان عند أبي حنيفة كما هو أحد قولي الشافعي للجمع بين الموجود والمعدوم كما إذا اشترى ثوبين هرويين فإذا أحدهما مروي. وأجيب بأن الذرع وإن صار أصلا بإفراد الثمن هو وصف حقيقة فكان أصلا من وجه دون وجه، فمن حيث إنه أصل لا تسلم له الزيادة، ومن حيث إنه وصف لم يفسد العقد فيما إذا وجد ناقصا بخلاف تلك المسألة فإن الثوبين أصل من وجه. وبهذا الجواب اندفع ما أورد من أنه ينبغي أن يكون أصلا وإن لم يفرد لكل ذراع ثمن لأنه لما قابل عشرة بعشرة مثلا انقسم الآحاد على الآحاد فيصير بسبب المقابلة كأنه أفرد. وحاصل الجواب أنه لما اجتمع فيه الأصالة والوصفية جعلناه أصلا عند الافراد ووصفا عند تركه صريحا عملا
486 بالشبهين، كذا في المعراج. وأورد أيضا على القول بأصالته عند إفراد ثمنه لزوم امتناع دخول الزيادة في العقد كما في الصبرة مع أنكم جوزتم أخذ الجميع بحكم البيع. وأجيب عنه للفرق بينهما وهو أن الزيادة لو لم تدخل في العقد فسد لأنه يصير بعض الثوب، وأنه لا يجوز بخلاف الصبرة لأنها لو لم تدخل لم يفسد العقد كما في الفوائد الظهيرية. أطلق في المذروع فشمل الثوب والأرض والحطب والدار، فلو قال بعتك هذه الأرض على أنها ألف ذراع بألف فوجدها زائدة أو ناقصة فالبيع صحيح وله الزيادة بلا خيار، وله الخيار مع النقصان. وإن أفرد لكل ذراع ثمنا خير في صورة الزيادة وسقطت حصة النقصان، كذا في البدائع. قال: وعلى هذا الموزونات التي في تبعيضها ضرر بأن قال بعت منك هذه السبيكة من الذهب على أنها مثقالان بكذا جاز البيع، فإن وجدها أزيد أو أنقص فهو كالمذروعات، وكذا إذا باع مصوغا من نحاس أو صفر فهو على هذا التفصيل المذكور لأن الوزن في مثله يكون ملحقا بالصفة لأن تبعيضه يوجب تعييب الباقي وهذا حد الصفة. ولو باع مصوغا من الفضة وزنه مائة بدنانير ولم يسم لكل عشرة ثمنا على حدة وتقابضا جاز، فإن وجده أزيد فالكل للمشتري، وإن وجده أقل خير، وإن سمى لكل عشرة ثمنا على حدة بأن قال وكل وزن عشرة بدينار، فإن وجده أزيد، فإن علم قبل التفرق خير إن شاء زاد في الثمن وإن شاء ترك. وإن علم بعده بطل بقدر الزيادة وله الخيار فيما بقي لأن الشركة فيه عيب، وإن وجده ناقصا خير قبل التفرق وبعده إن شاء رده وإن شاء رضي به بقسطه من الثمن. وكذا لو باع مصوغا من ذهب بدراهم فهو على هذا التفصيل، ولو باع مصوغا بجنسه مثل وزنه فوجده أزيد فإن علم بها قبل التفرق فله الخيار إن شاء زاد في الثمن قدرها وإن شاء ترك، وإن علم بها بعد التفرق بطل لفقد القبض في قدرها، وإن وجده أقل فله الخيار إن شاء رضي به واسترد الفضل وإن شاء رد الكل، سواء سمى لكل وزن درهم درهما أو لا، لأن عند اتحاد الجنس لا بد من المساواة اه. وفي دعوى البزازية: ادعى زندبيجا طوله بذرعان خوارزم كذا وشهدا بذلك كذلك بحضرة الزندبيجي فذرع فإذا هو أزيد أو أنقص بطلت الشهادة والدعوى كما إذا خالف سن الدابة الدعوى أو الشهادة. وقولهم الذرع وصف فيلغو في الحاضر ذلك في الأثمان والبيع لا في الدعوى والشهادة فإنهما إذا شهدا بوصف فظهر بخلافه لم يقبل. وذكر أيضا: ادعى حديدا مشارا إليه وذكر أنه عشرة أمناء فإذا هو عشرون أو ثمانية تقبل الدعوى والشهادة لأن الوزن في المشار إليه لغو اه قوله: (وفسد بيع عشرة أذرع من دار لا أسهم) وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: هو جائز كما لو باع عشرة أسهم من دار. ومبنى الخلاف في مؤدى التركيب، فعندهما شائع كأنه باع عشر مائة وبيع الشائع جائز اتفاقا، وعنده مؤداه قدر معين والجوانب مختلفة الجودة فتقع المنازعة في تعيين مكان العشرة فيفسد البيع، فلو اتفقوا على مؤداه لم يختلفوا فهو نظير اختلافهم في نكاح الصائبة فالشأن في
487 ترجيح لمبنى هو يقول الذراع اسم لما يذرع به فاستعير لما يحله وهو معين بخلاف عشرة أسهم لأن السهم اسم للجزء الشائع فكان المبيع عشرة أجزاء شائعة من مائة سهم. أطلقه فشمل ما إذا بين جملة الذرعان كأن يقول من مائة ذراع أو لم يبين. وبه اندفع قول الخصاف أن محل الفساد عنده فيما إذا لم يبين جملتها وليس بصحيح، ولهذا صور المسألة في الهداية فيما إذا سمى جملتها لكن اختلف المشايخ على قولهما فيما إذا لم يسم جملتها، والصحيح الجواز عندهما لأنها جهالة بأيديهما إزالتها. وقوله لا أسهم معناه لا يفسد بيع عشرة أسهم من دار وهو مقيد بما إذا سمى جملتها لأن عند عدمها يفسد البيع للجهالة لأنه لا يعرف نسبته إلى جميع الدار، فلو قال وفسد بيع عشرة أذرع من مائة ذراع من دار لا أسهم لكان أولى، ولفهم الفساد في الذرعان عند عدم التسمية للكل بالأولى ولكن اختصاره أداه إلى الا جحاف. والحمام والأرض كالدار كما في البدائع. وفي المعراج: قال بعتك ذراعا من هذه الدار، إن عين موضعه بأن قال من هذا الجانب إلا أنه يميز بعد فالقد غير نافذ حتى لا يجبر البائع على التسليم، وإن لم يعين فعلى قول أبي حنيفة لا يجوز، وعلى قولهما يجوز وتذرع، فإن كانت عشرة أذرع صار شريكا بمقدار عشر الدار وبه قال الشافعي. ولو باع سهما من دار له تعيين موضعه. وذكر الحلواني أنه لا يجوز إجماعا. وفي نسخة فيه اختلاف المشايخ على قولهما والأصح أنه يجوز، كذا في المغنى اه. وفي الخانية: ولو اشترى عشرة أجربة من مائة جريب من هذه الأرض أو عشرة أذرع من مائة ذراع من هذه الدار لا يجوز في قول أبي حنيفة قوله: (ومن اشترى عدلا على أنه عشرة أثواب فنقص أو زاد فسد) لجهالة المبيع في الزيادة وجهالة الثمن في النقصان لاحتياجه إلى إسقاط ثمن المعدوم. والمراد من هذه المسألة أنه اشترى عددا من قيمي ثيابا أو غنما كما في الجوهرة وقدمنا أنه لو اشترى أرضا على أن فيها كذا نخلا مثمرا فوجد فيها نخلة لا تثمر فسد البيع. وفي المغرب: عدل الشئ مثله من جنسه وفي المقدار أيضا ومنه عدلا الحمل وعدله بالفتح مثله من خلاف جنسه. وفي الخانية: لو اشترى غنما أو عدل زطى واستثنى منه شاة أو ثوبا بغير عينه لا يجوز ولو استثنى واحدا بعينه جاز اه. وفيها: أحد الشريكين في الدار إذا باع بيتا معينا من الجملة لا يجوز كبيع نصف بيت معين شائعا، وكذا لو باع من الأغنام المشتركة نصف واحد معين لا يجوز، وكذا لو كان بينهما أرض ونخل فباع أحدهما قطعة معينة من رجل قبل القسمة، ولو اختلفا في عدد الثياب المبيعة عند زيادته تخالفا كما في الظهيرية قوله: (ولو بين ثمن كل ثوب ونقص صح بقدره وخير وإن زاد فسد) لأنه إذا قال كل ثوب بكذا فلا جهالة النقصان ولكن للمشتري الخيار لتفرق الصفقة عليه، ولم يجز في الزيادة لأن جهالة المبيع لا ترتفع به لوقوع المنازعة في تعيين العشرة المبيعة من الأحد عشر. وقيل عند أبي حنيفة لا يجوز في فصل النقصان أيضا وليس بصحيح بخلاف ما إذا اشترى ثوبين على أنهما مرويان فإذا أحدهما مروي
488 والآخر هروي حيث لا يجوز فيهما وإن بين ثمن كل واحد منهما لأنه جعل القبول في المروي شرطا في العقد في الهروي وهو شرط فاسد ولا قبول يشترط في المعدوم فافترقا. وفي البزازية: اشترى عدلا على أنه كذا فوجده أزيد والبائع غائب يعزل الزائد ويستعمل الباقي لأنه ملكه اه. وكأنه استحسان وإلا فالبيع فاسد لجهالة المزيد، وقد صرح في الخانية والقنية بأن محمدا قال فيه: استحسن أن يعزل ثوبا من ذلك ويستعمل البقية. وفيها قبله: اشترى شيئا فوجده أزيد فدفع الزيادة إلى البائع فالباقي حلال له في المثليات وفي ذوات القيم لا يحل له حتى يشتري منه الباقي إلا إذا كانت تلك الزيادة مما لا تجري فيها الضنة فحينئذ يعذر اه. وهو يقتضي عدم الحل عند غيبة البائع بالأولى فهو معارض للنقل الآخر في الثياب والله أعلم قوله: (ومن اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع كل ذراع بدرهم أخذه بعشرة في عشرة ونصف بلا خيار وبتسعة في تسعة ونصف بخيار) عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يأخذه في الوجه الأول بأحد عشر إن شاء وفي الثاني بعشرة. وقال محمد: في الأول يأخذه بعشرة ونصف إن شاء، وفي الثاني بتسعة ونصف ويخير لأن من ضرورة مقابلة الذراع بالدرهم مقابلة نصفه فيجري عليه. ولأبي يوسف أنه لما أفرد كل ذراع ببدل نزل كل ذراع منزلة ثوب على حدة وقد انتقص، ولأبي حنيفة أن الذراع وصف في الأصل وإنما أخذ حكم المقدار بالشراء وهو مقيد بالذراع فعند عدمه عاد الحكم إلى الأصل. وقيل في الكرباس الذي لا يتفاوت جوانبه لا يطيب للمشتري ما زاد على المشروط لأنه بمنزلة الموزون حيث لا يضره الفصل. وعلى هذا قالوا: يجوز بيع ذراع منه، كذا في الهداية. وفي الذخيرة: قول أبي حنيفة أصح، ومن المشايخ من اختار قول محمد وهو عدل الأقوال كما لا يخفي. والكرباس بكسر الكاف فارسي معرب والجمع الكرابيس وهو الثياب ومنه سمي الإمام الناصحي بالكرابيسي صاحب الفروق. فصل قوله: (يدخل البناء والمفاتيح في بيع الدار) لأن الأصل أن ما كان في الدار من البناء
489 أو متصلا بالبناء تبعا لها فهو داخل في بيعها، فيدخل السلم المتصل والسرير والدر المتصلة والحجر الأسفل من الرحا وكذا الاعلى استحسانا إذا كانت مركبة في الدار لا المنقولة. وفي الخانية: لو اشترى بيت الرحا بكل حق هو له أو بكل قليل وكثير هو فيه. ذكر محمد في الشروط أن له الاعلى والأسفل، وكذا لو كان فيه قدر النحاس موصولا بالأرض، وقيل الاعلى لا يدخل. وفي الظهيرية: إذا كان المبيع دارا فرحا الإبل للبائع، وإن كان ضيعة كان الرحا للمشتري لأن ذلك يعد من توابع الضيعة اه. وذكر قبله أن رحى الإبل وآلاتها للبائع ولو ذكر الحقوق، وأما رحى الماء فللمشتري إذا باعها بحقوقها، وتدخل البئر الكائنة في الدار وبكرتها التي عليها لا الدلو والحبل إلا إذا قال بمرافقها، وأما البكرة فداخلة مطلقا لأنها مركبة بالبئر. ولو باع نصف دهليز من شريكه أو من غيره يدخل نصف الباب، كذا في القنية. ويدخل الباب المركب لا الموضوع فلو اختلفا في باب الدار فادعاه كل منهما فإن كان مركبا متصلا بالبناء فالقول للمشتري سواء كانت الدار في يده أو في يد البائع، فإن كان مقلوعا، فإن كانت في يد البائع فالقول له وإلا فللمشتري لأنه كالمتاع الموضوع فيها فالقول فيه لذي اليد، كذا في الخانية. بخلاف البكرة في الحمام لانفصالها، كذا في المحيط. ويدخل ما فيها من البستان ولو كبير إلا الخارج عنها. ولو كان له باب وتدخل الأرض التي تحت الحائط فيما إذا اشتراها كالأساس وتدخل القدور في بيع الحمام دون القصاع وإن ذكر المرافق بخلاف قدور الصياغ والقصار وإحانة الغسال وخابية الزيات وحبالهم ودنانهم ولو كانت مدفونة كالصندوق المثبت في البناء، وجذع القصار الذي يدق عليه لا يدخل في بيع الأرض وإن قال بحقوقها كالسلم المنفصل في عرفهم، وفي عرف القاهرة ينبغي دخوله مطلقا لأن بيوتهم طبقات لا ينتفع بها بدونه، ولا يرد عدم دخول الطريق مع أنه لا يمكن الانتفاع إلا به لأن ملك رقبتها قد يقصد للاخذ بشفعة الجوار ولهذا دخل في الإجارة بلا ذكر كما سيأتي. وأراد بالمفاتيح الاغلاق فإنها تدخل تبعا فإن المفاتيح تبع للغلق وهو لا يدخل
490 إلا إذا كان مركبا كالضبة والكيلون وإلا فلا كالقفل ومفتاحه كالثوب الموضوع فيها، سواء ذكر الحقوق أو لا، وسواء كان الباب مغلقا أو لا، وسواء كان المبيع حانوتا أو بيتا أو دارا كما في الخانية، وفي المحيط: مقلاة السواقين وهي التي يقلى فيها السويق إذا كانت من حديد أو من نحاس فهي للبائع، وإن كانت في البناء لأنها جعلت في البناء للعمل فلم تكن من جملة البناء وإن كانت من خزف فللمشتري اه. وفي الخانية: يدخل كور الحداد في بيع حانوته وإن لم يذكر المرافق، وكور الصائغ لا يدخل ولو ذكر المرافق لأن الأول مركب متصل والثاني منفصل، ولا يدخل زق الحداد الذي ينفخ فيه اه. وفيها أيضا: قال الحسن بن زياد: إذا باع بكل كثير وقليل هو فيها ولم يقل منها يدخل العبيد والجواري في البيع وما كان فيها من الحيوانات ولا يدخل فيه الأحرار. وقال زفر: يدخل فيه الأحرار أيضا ويفسد البيع ولو قال منها لا يدخل، وفي رواية هشام لا يدخل شئ من ذلك اه. وفي القنية: لو اشترى دارا فذهب بناؤها لم يسقط شئ من الثمن وإن استحق أخذ الدار بالحصة، ومنهم من سوى بينهما بخلاف صوف الشاة فإنه لا يأخذ قسطا من الثمن إلا بالتسمية له أو للبناء أو للشجر ثمنا قوله: (ويدخل البناء والشجر في بيع الأرض بلا ذكر) لكونه متصلا بها للقرار فيدخل تبعا. أطلقه فشمل الشجرة المثمرة وغير المثمرة، والصغيرة والكبيرة إلا اليابسة فإنها على شرف القطع فهي كالحطب الموضوع، كذا في فتح القدير. وقيدنا بكونها متصلة للقرار لأنه لو كانت فيها أشجار صغار تحول في فصل الربيع وتباع فإنها إن كانت تقلع من أصلها تدخل في البيع، وإن كانت تقطع من وجه الأرض فهي للبائع إلا بالشرط، كذا في الخانية. وفي الظهيرية: باع أرضا فيها قطن لم يدخل كالثمر، وأما أصله فقد قالوا لا يدخل وهو الصحيح، ومنهم من قال يدخل. وشجرة الباذنجان لا تدخل في بيع الأرض فهي للبائع إلا بالشرط، كذا في الخانية من غير ذكر هكذا ذكر الحاكم السمرقندي. والكراث بمنزلة الرطبة. وذكر الخصاف في الحطب والقصب والطرفاء وأنواع الخشب أنها للبائع اه. وفيها : إذا اشترى شجرة للقلع فإنه يؤمر بقلعها بعروقها وليس له حفر الأرض إلى انتهاء العروق بل يقلعها على العادة إلا إن شرط للبائع القطع على وجه الأرض أو يكون في القلع من الأصل
491 مضرة على البائع كما إذا كانت بقرب حائط أو بئر فإنه يقطعها على وجه الأرض، فإن قطعها أو قلعها فنبت مكانها أخرى فالنابت للبائع إلا إذا قطع من أعلاها فهو للمشتري، كذا في السراج الوهاج. ولو اشترى نخلة ولم يبين أنه اشتراها للقطع أو للقرار قال أبو يوسف: لا يملك أرضها. وأدخل محمد ما تحتها وهو المختار. وإن اشتراها للقطع لا تدخل الأرض اتفاقا، وإن اشتراها للقرار تدخل اتفاقا، كذا في شرح المجمع، وفي الظهيرية: وفي الاقرار تدخل ويجوز شراء الشجرة بشرط القطع، فأما شراؤها بشرط القلع ففيه اختلاف، والصحيح الجواز. وإذا باع نصيبا له من شجرة بغير إذن الشريك بغير أرض، فإن كانت الأشجار قد بلغت أو إن قطعها فالبيع جائز وإلا لم يجز، ولو اشتريا أرضا فيها نخيل على أن لأحدهما الأرض وللآخر النخيل فلصاحب الشجر أن يقلعه، فإن كان في قلعه ضرر فهو بينهما اه. ولو اشترى نخلة في أرض انسان ولها طريق فلم يبينه فالشراء جائز ويأخذ إلى النخلة طريقا من أي النواحي شاء لأنه لا يتفاوت حتى لو كان متفاوتا بطل البيع. ويدخل العذار في بيع الفرس، والزمام في بيع البعير، والحبل المشدود في عتق الحمار، والبرذعة وإلا كاف لا يدخلان من غير شرط، سواء كان موكفا أو لا وهو الظاهر كما في الخانية. وفي الظهيرية: باع حمارا موكفا يدخل الأكاف والبرذعة في البيع، وإن كان غير موكف فكذلك وهو المختار لكن إذا دخل فأي برذعة وأي إكاف يدخل؟ فالجواب فيه كالجواب في ثياب الجارية. ولا يدخل المقود في بيع الحمار من غير ذكر لأن الفرس والبعير لا ينقادان إلا به بخلاف الحمار والسرج لا يدخل إلا بالتنصيص لعدم العرف حتى لو جرى العرف بدخوله دخل أو كان الثمن كثيرا كما في الظهيرية. فصيل الناقة وفلو الرمكة وجحش الأتان والعجل للبقرة والحمل للشاة إن ذهب به مع الام إلى موضع البيع دخل فيه للعرف وإلا فلا. وفرق في
492 الظهيرية فقال: إن العجل يدخل والجحش لا يدخل لأن البقرة لا ينتفع بها إلا بالعجل ولا كذلك الأتان اه. وفي القنية: يدخل الولد الرضيع في الكل دون الفطيم، ولو باع عبدا له مال إن لم يذكره في البيع فهو للبائع لأنه كسب عبده، وإن باعه مع ماله بكذا ولم يبين المال فسد البيع، وكذا لو سماه وهو دين على الناس أو بعضه. وإن كان عينا جاز إن لم يكن من الأثمان، وإن كان الثمن من جنس مال العبد بأن كان الثمن دراهم ومال العبد دراهم، فإن كان الثمن أكثر جاز، وإن كان مثله أو أقل لا يجوز لأنه بيع العبد بلا ثمن، وإن كان منها ولم يكن من جنسه بأن كان دراهم ومال العبد دنانير أو على العكس جاز إذا تقابضا في المجلس. وكذا لو قبض مال العبد ونقد حصته من الثمن، وإن افترقا قبل القبض بطل العقد في مال العبد. ولو اشترى سمكة فوجد في بطنها لؤلؤة، فإنه كانت في الصدف فهي للمشتري وإلا فإن كان البائع اصطاد السمكة يردها المشتري على البائع وتكون عند البائع بمنزلة اللقطة يعرفها حولا ثم يتصدق بها، وإن اشترى دجاجة فوجد في بطنها لؤلؤة يردها على البائع، وإن اشترى سمكة فوجد في بطنها سمكة فهي للمشتري، كذا في الخانية. ولو اشترى دارا فوجد في بعض جذوعها مالا إن قال البائع هو لي كان له فيرده عليه لأنها وصلت إلى المشتري منه، وإن قال ليس لي كان كاللقطة، كذا في الظهيرية. وقيد في البزازية كونه للبائع بحلفه. ولو باع عبدا أو جارية كان على البائع من الكسوة ما يواري عورته، فإن بيعت في ثياب مثلها دخلت في البيع وللبائع أن يمسك تلك الثياب ويدفع غيرها من ثياب مثلها يستحق ذلك على البائع، ولا يكون لها قسط من الثمن حتى لو استحق الثوب أو وجد بالثوب عيبا لا يرجع على البائع بشئ ولا يرد عليه الثوب، ولو هلكت الثياب عند المشتري أو تعيبت ثم رد الجارية بعيب ردها بجميع الثمن. وذكر الشارح أنه لو وجد بالجارية عيبا كان له أن يردها بدون تلك الثياب اه. أي إذا هلكت، وأما مع قيامها فلا بد من ردها وإن كانت تبعا وإلا لزم حصولها للمشتري من غير مقابل بل وهو لا يجوز. وفي الظهيرية: باع جارية وعليها قلب فضة وقرطان ولم يشترطا ذلك والبائع ينكر قال: لا يدخل شئ من الحلي في البيع وإن سلم البائع الحلي لها فهو لها وإن سكت عن طلبها وهو يراها فهو بمنزلة التسليم اه. وفي الكافي: رجل له أرض بيضاء ولآخر فيها نخل فباعهما رب الأرض بإذن
493 الآخر بألف وقيمة كل واحد خمسمائة فالثمن بينهما نصفان، فإن هلك النخل قبل القبض بآفة سماوية خير المشتري بين الترك وأخذ الأرض بكل الثمن لأن النخل كالوصف والثمن بمقابلة الأصل لا الوصف ولذا لا يسقط شئ من الثمن اه. وبه علم أن كل ما دخل تبعا لم يقابله شئ كما في ثياب العبد. ثم اعلم أن مسألة الكافي مقيدة بما إذا لم يفصل ثمن كل، أما إذا فصل بأن عين البائع ثمن الأرض على حدة وثمن النخل على حدة سقط قسط النخل بهلاكها لما صرح به في تلخيص الجامع في باب الثمن صار له وكان لهما وقال في آخره: لهذا لو باع حاملا حملها للغير فولدت فالثمن لهما إن عاش الولد ولرب الام إن مات قبل القبض اه. وفي العمدة: اشترى أرضا وفيها بقول أو حطب أو رياحين فهي للبائع إلا أن يشترط، والشجر يدخل في بيع الأرض بلا ذكر، وكذا كل ما له ساق والآس والزعفران للبائع لأنه بمنزلة الثمر وأنه يقطع اه. وسيأتي في باب الحقوق دخول العلو في الدار والمنزل والبيت وعدمه. وفي الظهيرية: لو باع سفل داره على أن له حق قرار العلو عليه جاز، وأما الطريق فلا يدخل بلا ذكر. فإن قال بحقوقها ومرافقها أو قال بكل قليل وكثير له فيها وخارج عنها كان له الطريق والاقرار بالدار والصلح عليها والوصية بها كالبيع، كذا في الظهيرية والقسمة والرهن والوقف والصدقة كالإجارة، كذا في المحيط. وفي المجتبى: والحق في العادة يذكر فيما هو تبع للمبيع ولا بد للمبيع منه ولا يقصد إليه إلا لأجله كالشرب
494 والطريق ومسيل الماء، والمرافق ما يرتفق به ويختص بما هو من التوابع كالشرب والمسيل. وقوله كل قليل وكثير مبالغة في حق البائع في المبيع وبما هو متصل به اه. وظاهر ما في المجتبى أن ذكر الحقوق أو المرافق كاف ولا يحتاج إلى الجمع بينهما لادخال الطريق والشرب. وقولهم أو مثلها تفسير لقولهم فيها، كذا في المحيط فأحدهما يغني عن الآخر أيضا. وفي الخانية: اشترى أرضا بشر بها جاز البيع وإن لم يبين مقدار الشرب لأن الشرب تبع الأرض، فإذا كانت الأرض معلومة فجهالة التبع لا تمنع الجواز اه. وفي القنية: اشترى كرما تدخل الوثائل المشدودة على الأوتاد المضروبة في الأرض، وكذا عمد الزراجين المدفونة في الأرض أصولها من غير ذكر. ولو باع أرضا بها تراب منقول من أرض أخرى لا يدخل في البيع إذا كانت مجموعة شبه التل، ولو باع أرضا فيها مقابر صح البيع فيما وراء المقابر. أشار إلى أنه لا تدخل أرض القبر في البيع. ومطرح الحصائد ليس من مرافق الأرض فلا يدخل في البيع بلا ذكر المرافق اه. وفي المجتبى قال أبو حنيفة: باع دارا بفنائها لم يصح كمن جمع بين حر وعبد، وفي بيعها بحقوقها تدخل الحقوق وقت البيع لا ما قبله. وفي البدائع: الطريق الأعظم أو في سكة غير نافذة يدخل في البيع بلا تنصيص ولا قرينة، وإنما الكلام في الطريق الخاص في ملك إنسان، فإذا كان يلي الطريق الأعظم فتح له بابا إليه وإلا استأجر الطريق أو استعاره. وفي البزازية: اشترى أشجارا للقطع فلم يقطع حتى جاء الصيف، إن أضر القطع بالأرض وأصول الشجر يعطي البائع للمشتري قيمة شجر قائم جبرا. وقال
495 الصدر: قيمة مقطوع. وإن لم يضر بواحد قطع. وإن اشترى الشجر مطلقا له القطع من الأصل. ادعى البائع على المشتري كسر أغصان الأشجار وقال المشتري ما تعمدت ولكنه ما كان بد منه يرجع فيه إلى أهل العلم به، إن قالوا إنه مما يمكن التحرز عنه ضمن النقصان، وإن قالوا مما لا يمكن لم يضمن شيئا، وتدخل الأقتاب في بيع الجمال. ولو وجد في بطن السمكة سمكة أخرى كانت للمشتري، وكذا العنبر الموجود في بطنها لأنه حشيش في البحر هو طعامها، وكذا كل ما كان غذاء للسمك. وفي الصحاح: مرافق الدار مصاب الماء ونحوها، والمرفق من الامر ما ارتفقت وانتفعت به اه. وفي المصباح: وأما مرفق الدار كالمطبخ والكنيف ونحوه فبكسر الميم وفتح الفاء لا غير على التشبيه باسم الآلة وجمعه مرافق اه. والكور للحداد المبني من الطين معرب. وفي القاموس: إكاف الحمار ككتاب وغراب ووكافه بردعته والأكاف صانعه وأكف الحمار إيكافا ووكفه توكيفا شده عليه، وأكف الأكاف تأكيفا اتخذه اه. فهو صريح في أن الاكاف البردعة، وظاهر قول الفقهاء أنها غيره للعطف ولكن قال في القاموس في باب العين: البردعة الحلس تحت الرحل وبلا لام وقد تنقط داله اه. فعلى هذا الاكاف الرحل والبردعة ما تحته ولكن في العرف الاكاف خشبتان فوق البردعة. وقوله بلا ذكر متعلق بالمسألتين. وفي الخانية: رجل أمر غيره ببيع أرض فيها أشجار فباع الوكيل الأرض بأشجارها فقال الموكل ما أمرته ببيع الأشجار قال الفضلي: القول للموكل فيما أمر والمشتري يأخذ الأرض بحصتها من الثمن إن شاء، وكذا لو كان مكان الأشجار بناء اه. وفيها: اشترى كرما فيها أشجار الفرصاد وشجر الورد وعلى شجر الفرصاد توت وأوراق وعلى شجر الورد ورد وقال بكل حق هو له لا يدخل التوت وأوراق الفرصاد في البيع، وكذا الورد لأنه بمنزلة الثمر اه. قوله: (ولا يدخل الزرع في بيع الأرض بلا تسمية) لأنه متصل بالأرض للفصل فشابه المتاع الذي هو فيها، ولا يرد مل المبيع لأن المراد فصل الآدمي والحمل بفضل الله تعالى، ولأنه كالجزء للمجانسة بخلاف الزرع. أطلقه فشمل ما إذا نبت أولا واختاره في الهداية لأنه مودع فيها. وشمل ما إذا نبت ولم يصر له قيمة وفيه قولان من غير ترجيح في الهداية. وصرح في التجنيس بأن الصواب الدخول كما نص عليه القدوري والأسبيجابي. وفصل في
496 الذخيرة في غير النابت بين ما إذا لم يعفن أو لا، فإن عفن فهو للمشتري لأن العفن لا يجوز بيعه على الانفراد فصار كجزء من أجزاء الأرض. وفي المصباح: عفن الشئ عفنا من باب تعب فسد من ندوة أصابته فهو يتمزق عند مسه وعفن اللحم تغيرت رائحته اه. وفي الخانية: وإنما تعرف قيمته بأن تقوم الأرض مبذورة وغير مبذورة، فإن كانت قيمتها مبذورة أكثر من قيمتها غير مبذورة علم أنه صار متقوما اه. وفي فتح القدير: كان المناسب أن يقول تقوم الأرض بلا زرع وبه فإن زاد فالزائد قيمته، وأما تقويمها مبذورة وغير مبذورة فإنما يناسب من يقول إذا عفن البذر يدخل ويكون للمشتري معللا بأنه لا يجوز بيعه وحده لأنه ليس له قيمة. قال في الهداية: وكان هذا بناء على جواز بيعه قبل أن تناله المشافر والمناجل اه. يعني من قال لا يجوز بيعه قال يدخل، ومن قال يجوز قال لا يدخل، ولا يخفى أن كلا من الاختلافين مبني على سقوط تقومه وعدمه فإن القول بعدم جواز بيعه وبعدم دخوله في البيع كلاهما مبني على سقوط تقومه، والأوجه جواز بيعه على رجاء تركه كما يجوز بيع الجحش كما ولد رجاء حياته فينتفع به في ثاني الحال اه. ومشفر البعير شفته والجمع المشافر، والمنجل ما يحصد به الزرع والجمع المناجل كما في النهاية. وفي المصباح: الشفة لا تكون إلا من الأسنان والمشفر من ذوي الخف، والجحفلة من ذي الحافر، والمقمة من ذي الظلف، والخطم والخرطوم من السباع، والمنسر - بفتح الميم وكسرها والسين مفتوحة فيهما - من ذوي الجناح الصائد والمنقار من غير الصائد والفنطسة من الخنزير اه. وصحح في السراج الوهاج عدم الدخول في البيع إلا بالتسمية وصحح جواز البيع وهو من باب التلفيق لما قدمناه أن القائل بعدم الدخول قائل بعدم الجواز وعكسه فيهما وصحح في المحيط دخول الزرع قبل النبات لأنه صار تبعا للأرض، فالحاصل أن المصحح عدم الدخول ولو لم يكن له قيمة إلا إذا كان قبل النبات، فالصواب دخول ما لا قيمة له فاختلف الترجيح فيما لا قيمة له، وعلى هذا الخلاف الثمر الذي لا قيمة له. وقيل: يحكم الثمن في الكل، فإن كان مثل الأرض والزرع
497 والثمر يدخل تبعا وإلا فلا، كذا في المجتبى. قيد بالبيع لأنه يدخل في رهن الأرض بلا ذكر كالشجر والثمر لأنه لا يصح بدونه فيدخل في رهن الأرض تبعا، كذا في رهن الخانية. وأما في الوقف فقال في الاسعاف: يدخل البناء والشجر في وقف الأرض تبعا، ولا يدخل الزرع النابت فيها حنطة كان أو شعيرا أو غيره، وكذلك البقل والآس والرياحين والخلاف والطرفا وما في الجمة من حطب، ولو زاد بحقوقها تدخل الثمرة القائمة في الوقف الخ. وأما في الاقرار ففي البزازية: أقر بأرض عليها زرع أو شجر دخل في الاقرار، ولو برهن قبل القضاء أو بعده أن الزرع له صدق المقر في الزرع ولا يصدق في الشجر اه. وأما في الهبة ففي الخانية: لا يدخل الحلي والثياب في هبة الجارية، وأما في الإقالة فلا يدخل الزرع في إقالة الأرض، كذا في القنية. ولا يدخل الغلق والسرر والسلالم المغرزة لأنها بمنزلة المتاع إلا إذا قال بمرافقه قالوا: تدخل والزرع يدخل فيها. وفي الخانية: أرض فيها زرع فباع الأرض بدون الزرع أو الزرع بدون الأرض جاز، وكذا لو باع نصف الأرض بدون الزرع، وإن باع نصف الزرع بدون الأرض لا يجوز إلا أن يكون الزرع بينه وبين الأكار فيبيع الأكار نصيبه من صاحب الأرض جاز، وإن باع صاحب الأرض نصيبه من الأكار لا يجوز. هذا إذا كان البذر من قبل صاحب الأرض، فإن كان من قبل الأكار ينبغي أن يجوز، ولو باع نصف الأرض مع نصف الزرع جاز اه. وفي الخانية: باع أرضا فيها رطبة أو زعفران أو خلاف يقلع في كل ثلاث سنين أو رياحين أو بقول ولم يذكر في البيع ما فيها قال الفضلي: ما علا منها على وجه الأرض يكون بمنزلة الثمر لا يدخل في البيع من غير شرط، وما كان من أصولها في الأرض يدخل في البيع لأن أصولها تكون للبقاء بمنزلة البناء. وكذا لو كان فيها قصب أو حشيش أو حطب نابت ما هو على وجه الأرض لا يدخل في البيع من غير ذكر، وأصولها في الأرض تدخل. واختلفوا في قوائم الخلاف قال بعضهم تدخل لأنها شجر والمختار أنها لا تدخل لأنها تعد من الثمر، وإن كان في الأرض شجر قطن فبيعت الأرض لا يدخل ما فيها من القطن. واختلفوا في أصل القطن وهو الشجر والصحيح أنه لا يدخل، وإن كان في الأرض كراث فبيعت الأرض مطلقا ما كان على ظاهر الأرض لا يدخل، واختلفوا فيما كان مغيبا والصحيح الدخول. قوله: (ولا يدخل الثمر في بيع الشجر إلا بشرط) أي ولا يدخل إلا بشرط دخوله في البيع مطلقا، سواء بيع الشجر مع الأرض أو
498 وحده، كان له قيمة أولا، وقدمنا الاختلاف والراجح من القولين في دخول الزرع والثمر. وصحح في الهداية هنا إطلاق عدم الدخول ويكون للبائع في الحالين لأن بيعه يجوز في أصح الروايتين فلا يدخل في بيع الشجر من غير ذكر بيع الشجر مع الأرض أو وحده. فإن قلت: الكتاب مبني على الاختصار وكان يمكنه أن يقول ولا يدخل الزرع والثمر في البيع بلا شرط، فلم أفرد كل واحد؟ قلت: لاختلاف المبيع فالمبيع في الأول الأرض فلا يدخل الزرع تبعا. وفي الثانية: النخل والشجر فلا يدخل الثمر تبعا والثمرة تجمع على ثمار وتجمع على ثمر وثمرات، والثمر هو الحمل الذي تخرجه الشجرة، أكل أو لم يؤكل، فيقال ثمر الأراك، وثمر العوسج، وثمر العنب. وقيل: لما لا نفع فيه ليس له ثمرة، كذا في المصباح. وأطلق الشجر فشمل المؤبرة وغير المؤبرة. وعند الأئمة الثلاثة إن لم تكن أبرت فهي للمشتري. والتأبير التلقيح وهو أن يشق الكم ويذر فيها من طلع الفحل فإنه يصلح ثمر إناث النخل لحديث الكتب الستة مرفوعا من باع نخلا مؤبرا فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع (1) وفي لفظ البخاري من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترطها المبتاع (1) واستدل الإمام محمد بن الحسن على الاطلاق بالحديث من اشترى أرضا فيها نخل فالثمرة للبائع إلا أن يشترط المبتاع من غير فصل بين المؤبرة وغيرها. وأجابوا عن الأول بأن حاصله استدلال بمفهوم الصفة فمن قال به يلزمه، وأهل المذهب ينفون حجيته، وما قيل أن في مرويهم تخصيص الشئ بالذكر فلا يدل على نفي الحكم عما عداه إنما يلزمهم لو كان لقبا ليكون مفهوم لقب لكنه صفة وهو حجة عندهم. وفي فتح القدير: ولو صح حديث محمد فهم يحملون المطلق على المقيد، وعلى أصول المذهب أيضا يجب لأنه في حادثة واحدة في
499 حكم واحد والذي يلزمهم من الوجه القياس على المفهوم إذا تعارضا. وحينئذ فيجب حمل الابار على الأثمار لأنهم لا يؤخرونه عنه وكانت الابار علامة الاتمام فعلق به الحكم بقوله نخلا مؤبرا يعني مثمرا. وما نقل عن ابن أبي ليلى من أن الثمرة مطلقا للمشتري بعيد إذ يضاد الأحاديث المشهورة اه. فظاهره أن عنده ترددا في صحة دليل محمد، وقد أخذه من قول الزيلعي المخرج لأحاديث الهداية أنه غريب بهذا اللفظ. والمنقول في الأصول حتى في تحرير المعترض أن المجتهد إذا استدل بحديث كان تصحيحا فلا يحتاج إلى شئ بعده، ومحمد رحمه الله تعالى إما مجتهد أو ناقل أدلة الإمام الأعظم فاستدلاله تصحيح. وقوله وعلى أصول المذهب يجب قلنا ضعيف وإن كان مذكورا في بعض كتب الأصول لما في النهاية من كفارة الظهار أن الأصح أنه لا يجوز حمل المطلق على المقيد عندنا لا في حادثة ولا في حادثتين حتى جوز أبو حنيفة التميم بجميع أجزاء الأرض عملا بقوله عليه السلام جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا (2) ولم يحمل هذا المطلق على المقيد وهو قوله عليه السلام التراب طهور المسلم (3) إلى آخر ما فيها. فإن قلت: ذكر في الزرع إلا بالتسمية وذكر في الثمر الا بالشرط فهل للمغايرة نكتة؟ قلت: لا فرق بينهما من جهة الحكم وإنما غابر بينهما ليفيد أنه لا فرق بين أن يسمي الزرع والثمر بأن يقول بعتك الأرض وزرعها أو مع زرعها أو بزرعها أو الشجر وثمره أو معه أو به أو يخرجه مخرج الشرط فيقول بعتك الأرض على أن يكون زرعها لك وبعتك الشجر على أن يكون الثمر لك. ولم يذكر المصنف مسألة الحقوق والمرافق وكل قليل وكثير هو فيها أو منها، وقد ذكرها في الهداية وفي المعراج. وحاصل ذلك أن الألفاظ ثلاثة: أحدها إن باع أرضا بكل قليل وكثير مع ذكر الحقوق والمرافق ففي هذين الوجهين لا يدخل الزرع والثمر. والثالث إن باع أرضا مطلقا من غير ذكر شئ منها. والثاني إن باع أرضا بكل كثير وقليل منها أو فيها بدون ذكر الحقوق والمرافق فيدخلان فيه اه. وقدمنا حكم الطريق والمسيل والشرب من أنهما يدخلان في بيع الأرض إن ذكر المرافق والحقوق
500 مقتصرا، وإن زاد بكل قليل وكثير لم يدخلا فيهما على عكس الزرع والثمار. وفي المعراج: وقوله بكل كثير وقليل يذكر على وجه المبالغة في إسقاط حق البائع عن المبيع، أما الثمر المجدود والزرع المحصود فيها فلا يدخلان إلا بالتنصيص. وفي الخانية: ولو اشترى أرضا فيها أشجار عليها ثمار وقال في البيع بثمارها فأكل البائع الثمار سقطت حصة الثمار من الثمن. وهل يخير المشتري في أخذ الباقي؟ ذكر في البيوع أنه يخير إن شاء أخذ الباقي بما بقي من الثمن وإن شاء ترك. وذكر في بعض الكتب أنه لا يخير في قول أبي حنيفة كما لو اشترى شاة بعشرة فولدت عند البائع ولدا قيمته خمسة فأكله البائع قال أبو حنيفة: تلزمه الشاة بخمسة ولا خيار له. والصحيح أنه يخير في مسألة الثمار لأن الثمر صار مبيعا مقصودا، فإذا أكل البائع تفرقت الصفقة عليه فيخير اه. وفي القنية: اشترى أرضا مع الزرع فأدرك الزرع في يده ثم تقايلا لا تجوز الإقالة لأن العقد إنما ورد على القصيل دون الحنطة. ولو حصد المشتري الزرع ثم تقايلا صحت الإقالة بحصتها من الثمن، ولو اشترى أرضا فيها أشجار فقطعها ثم تقايلا صحت الإقالة بجميع الثمن ولا شئ للبائع من قيمة الأشجار وتسلم الأشجار إلى المشتري. هذا إذا علم البائع بقطع الأشجار، وإذا لم يعلم به وقت الإقالة يخير إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء ترك اه. قوله: (ويقال للبائع اقطعها وسلم المبيع) أي في الصورتين والمراد بالمبيع الأرض والشجر. وقيده في الخانية بأن ينقد الثمن إليه لأن ملك المشتري مشغول بملك البائع فكان عليه تفريغه وتسليمه كما إذا كان فيها متاع. قيد بالمبيع لأن المدة إذا انقضت في الإجارة وفي الأرض زرع فإن المستأجر لا يؤمر بقلع زرعه وإنما يبقى بأجر المثل إلى انتهائه لأنها للانتفاع وذلك بالترك دون القلع بخلاف الشراء لأنه ملك الرقبة فلا يراعى فيه إمكان الانتفاع، ولان التسليم وإن وجب عليه فارغة لكن تسليم العوض سليم للمعوض فافترقا فلا يقاس البيع على الإجارة كما هو مذهب الثلاثة. وفي الاختيار: ولو باع قطنا فلا فراش فعلى البائع فتقه لأن عليه تسليمه، أما جذاذ الثمرة وقطع الرطبة وقلع الجزر والبصل وأمثاله على المشتري لا البائع لأنه يعمل في ملكه وللعرف اه. وفي القنية: اشترى ثمار الكرم والأشجار وهي عليها يتم تسليمها بالتخلية وإن كانت متصلة بملك البائع كالمشاع بخلاف الهبة. ولو باع قطنا في فراش أو حنطة في سنبل وسلم كذلك لم يصح إذ لم يمكنه القبض إلا بالفتق والدق يصح تسليم دار فيها متاع لغير المشتري وأرض
501 فيها أشجار لغيره بحكم الشراء لا بحكم الهبة اه. وفيها: وإن اشترى الزرع في الأرض فاحترق أخذها بحصتها إن شاء اه. وفي الولوالجية: رجل باع من آخر شجرا وعليه ثمر قد أدرك أو لم يدرك جاز وعلى البائع قطع الثمر من ساعته لأن المشتري ملك الشجر فيجبر البائع على تسليمه فارغا، وكذلك إذا أوصى بنخل لرجل وعليه بسر أجبر الورثة على قطع البسر وهو المختار من الرواية. رجل باع عنبا جزافا فعلى المشتري قطعه، وكذلك كل شئ باعه جزافا مثل الثوم في الأرض والجزر والبصل إذا خلي بينه وبين المشتري لأن القطع لو وجب على البائع إنما يجب إذا وجب عليه الكيل أو الوزن، ولم يجب عليه الكيل والوزن لأنه لم يبع مكايلة ولا موازنة وسيأتي تمامه آخر الباب. قوله: (ومن باع ثمرة بدا صلاحها أو لا صح) أي ظهر صلاحها وإنما صح مطلقا لأنه مال متقوم إما لكونه منتفعا به في الحال أو في المآل. وقيل: لا يجوز قبل بدو الصلاح والأول أصح. وقوله ثمرة أي ظاهرة قيدنا به لأن بيعها قبل الظهور لا يصح اتفاقا، وقبل بدو الصلاح والأول أصح. وقوله ثمرة أي ظاهرة قيدنا به لأن بيعها قبل الظهور لا يصح اتفاقا، وقبل بدو الصلاح بشرط القطع في المنتفع به صحيح اتفاقا، وقبل بدو الصلاح بعد الظهور بشرط الترك غير صحيح اتفاقا، وبعد بدو الصلاح صحيح اتفاقا، وبعدما تناهت صحيح اتفاقا إذا أطلق. وأما بشرط الترك ففيه اختلاف سيأتي فصار محل الخلاف البيع بعد الظهور قبل بدو الصلاح مطلقا أي لا بشرط القطع ولا بشرط الترك فعند الأئمة الثلاثة لا يجوز، وعندنا يجوز ولكن اختلفوا فيما إذا كان غير منتفع به الآن أكلا وعلفا للدواب، فقيل بعدم الجواز ونسبه قاضيخان لعامة مشايخنا، والصحيح الجواز كما قدمنا. وقد أشار إليه محمد في كتاب الزكاة فإنه قال: لو باع الثمار في أول ما تطلع وتركها بإذن البائع حتى أدرك فالعشر على المشتري، فلو لم يكن جائزا لم يوجب فيه على المشتري العشر، وصحة البيع على هذا التقدير بناء على التعويل على إذن البائع على ما ذكرنا من قريب وإلا فلا انتفاع به مطلقا فلا يجوز بيعه. والحيلة في جوازه باتفاق المشايخ أن يبيع الكمثري أول ما يخرج من أوراق الشجر فيجوز فيها تبعا للأوراق كأنه ورق كله وإن كان بحيث ينتفع به ولو علفا للدواب فالبيع جائز باتفاق أهل المذهب إذا باع بشرط القطع أو مطلقا ويجب قطعه على المشتري. واستدل أصحابنا بما استدل به محمد سابقا لأنه بعمومه شامل لما قبل بدو الصلاح والأئمة الثلاثة كما في الصحيحين عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، وعن بيع النخل حتى تزهو. قال: تحمار أو تصفار. وأجاب عنه الإمام الحلواني كما في الخانية أنه محمول على ما قبل الظهور وغيره على
502 ما إذا كان بشرط الترك فإنهم تركوا ظاهره فأجازوا البيع قبل بدو الصلاح بشرط القطع وهي معارضة صريحة لمنطوقه فقد اتفقنا على أنه متروك الظاهر وهو لا يحل إن لم يكن لموجب، وهو عندهم تعليله عليه الصلاة والسلام بقوله أرأيت إن منع الله الثمرة فبما يستحل أحدكم مال أخيه فإنه يستلزم أن معناه أنه نهي عن بيعها مدركة قبل الادراك لأن العادة أن الناس يبيعون الثمار قبل أن تقطع فنهى عن هذا البيع قبل أن توجد الصفة المذكورة فصار محل النهي بيع الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط الترك إلى أن يبدو الصلاح، والبيع بشرط القطع لا يتوهم فيه ذلك فلم يكن متناولا للنهي، وإذا صار محله بيعها بشرط تركها إلى أن تصلح فقد قضينا عهدة هذا النهي فإنا قد قلنا بفساد هذا البيع فبقي بيعها مطلقا غير متناول النهي بوجه من الوجوه إلى آخر ما حققه في فتح القدير. وحمله في المعراج على السلم وظهور الصلاح عندنا أن يأمن العاهة والفساد، وعند الشافعي ظهور النضج وبدو الحلاوة. ولو اشتراها مطلقا فأثمرت ثمرا آخر قبل القبض فسد البيع لتعذر التمييز. ولو أثمرت بعده اشتركا للاختلاط والقول قول المشتري مع يمينه في مقداره لأنه في يده، وكذا في بيع الباذنجان والبطيخ إذا حدث بعد القبض خروج بعضها اشتركا، وكان الحلواني يفتي بجوازه في الكل وزعم أنه مروي عن أصحابنا، وهكذا حكى عن الإمام الفضلي وكان يقول: الموجود وقت العقد أصل وما يحدث تبع له، نقله شمس الأئمة عنه. ولم يقيده عنه بكون الموجود وقت العقد يكون أكثر بل قال عنه اجعل الموجود أصلا في العقد وما يحدث بعد ذلك تبعا. وقال: استحسن فيه لتعامل الناس فإنهم تعاملوا بيع ثمار الكرم بهذه الصفة ولهم في ذلك عادة ظاهرة وفي نزع الناس عن عاداتهم حرج. وقد رأيت في هذا رواية عن محمد وهو في بيع الورد على الأشجار فإن الورد متلاحق، ثم جوز المبيع في الكل بهذا الطريق وهو قول مالك. والمخلص من هذه اللوازم الصعبة أن يشتري أصول الباذنجان والبطيخ والرطبة ليكون ما يحدث على ملكه، وفي الزرع والحشيش يشتري الموجود ببعض الثمن ويستأجر الأرض مدة معلومة يعلم غاية الادراك وانقضاء الغرض فيها بباقي الثمن، وفي ثمار الأشجار يشتري الموجود ويحل له البائع ما يوجد، فإن خاف أن يرجع يفعل كما قال الفقيه أبو الليث في الاذن في ترك الثمر على الشجر على أنه متى رجع عن الاذن كان مأذونا في الترك بإذن جديد فيحل له على مثل
503 هذا الشرط، كذا في فتح القدير. ولا فرق في كون الخارج بعد العقد للبائع بين أن يكون الترك بإذن البائع أو بغير إذنه، والأصح ما ذهب إليه السرخسي من عدم الجواز في المعدوم وهو ظاهر المذهب، كذا في المعراج. وفي الخانية: ويقدم بيع الأشجار ويؤخر الإجارة فإن قدم الإجارة لا يجوز لأن الأرض تكون مشغولة بأشجار الاجر قبل البيع فلا تصح الإجارة، وينبغي أن يشتري الأشجار بعد أصولها لهذا. ولو باع أشجار البطيخ وأعار الأرض يجوز أيضا إلا أن الإعارة لا تكون لازمة ويجوز له أن يرجع بعدها اه. وفي الولوالجية: لو اشترى التمر على رؤوس النخيل فجذه على المشتري، وكذا لو اشترى الجزر فقلعه على المشتري اه. وتسليم الثمار على رؤس الأشجار بالتخلية كما في البدائع. وفي الحاوي: لو شرط قطع الثمرة على البائع فسد البيع اه. وفي البدائع: إذا سمى الثمر مع الشجر صار بيعا مقصودا، فلو هلك الثمر قبل القبض مطلقا تسقط حصته من الثمن كالشجر وخير المشتري. ولو جذه البائع وهو قائم فإن جذه في حينه ولم ينقص فلا خيار ويقبضهما، ولو قبضهما بعد جذاذ البائع فوجد بأحدهما عيبا رد المعيب خاصة لأنه قبضهما متفرقين بخلاف ما إذا جذه المشتري بعد القبض ليس له أن يرد المعيب وحده لاجتماعهما عند البيع والقبض، وإن نقصه جذاذ البائع سقط عن المشتري حصة النقصان وله الخيار اه. وفي الخانية: رجل اشترى الثمار على رؤس الأشجار فرأى من كل شجرة بعضها يثبت له خيار الرؤية حتى لو رضي بعده يلزمه، وإن باع ما هو مغيب في الأرض كالجزر والبصل وأصول الزعفران والثوم والشلجم والفجل إن باع بعدما ألقى في الأرض قبل النبات أو نبت إلا أنه غير معلوم لا يجوز البيع، فإن باع بعدما نبت نباتا معلوما يعلم وجوده تحت الأرض يجوز البيع ويكون مشتريا شيئا لم يره عند أبي حنيفة، ثم لا يبطل خياره ما لم ير الكل ويرضى به، وعلى قول صاحبيه لا يتوقف خيار الرؤية على رؤية الكل وعليه الفتوى، فإن كان مما يكال أو يوزن بعد القطع كالجزر والثوم والبصل، فإذا قلع البائع شيئا من ذلك أو قلع المشتري بإذن البائع ينظر، إن كان المقلوع
504 يدخل تحت الكيل أو الوزن يثبت خيار الرؤية حتى لو رضي به يلزمه الكل، وإن رد بطل البيع. وإن كان المشتري قلعه بغير إذن البائع، فإن كان المقلوع شيئا له قيمة لزمه الكل لأنه قبل القلع كان ينمو وبعد القلع لا ينمو والعيب الحادث عند المشتري يمنع الرد بخيار الرؤية، وإن كان المقلوع شيئا يسيرا لا قيمة له لا يعتبر والقلع وعدمه سواء، وإن كان المغيب يباع بعد القلع عددا كالفجل قطع البائع بعضه أو قلع المشتري بإذن البائع لا يلزمه ما لم ير الكل لأنه من العدديات المتفاوتة بمنزلة الثياب والعبيد ونحو ذلك. وإن قلع المشتري بغير إذن البائع لزمه الكل إلا أن يكون ذلك شيئا يسيرا، وإن اختصم البائع والمشتري قبل القلع فقال المشتري أخاف إن قلعته لا يصلح لي فيلزمني، وقال البائع أخاف إن قلعته لا ترضى به وترده فتتضرر بذلك يتطوع إنسان بالقلع وإلا يفسخ القاضي العقد بينهما اه. وفي القنية: اشترى أوراق الثوم ولم يبين موضع القطع وكان موضع قطعها معلوما ومضى وقتها ليس للمشتري أن يسترد الثمن. اشترى أوراق التوت ولم يبين موضع القطع لكنه معلوم عرفا صح، ولو ترك الأغصان فله أن يقطعها في السنة الثانية، ولو تركها مدة ثم أراد قطعها فله ذلك إن لم يضر ذلك بالشجرة، ولو باع أوراق توت لم تقطع قبله بسنة يجوز، وبسنتين لا يجوز لأنه بسنة يعلم موضع قطعها عرفا. باع أوراق التوت دون ثمر التوت صح. وفي الفتاوي الظهيرية: اشترى رطبة من البقول أو قثاء وشيئا ينمو ساعة فساعة لا يجوز كبيع الصوف، وبيع قوائم الخلاف يجوز وإن كان ينمو لأن نموها من الأعلى بخلاف الرطبات إلا الكراث للتعامل وما لا تعامل فيه لا يجوز اه. وفي المنتقى: وبيع الحصرم أو التفاح قبل الادراك جائز لأنه ينتفع به، والخوخ والكمثري ونحوها غير جائز، وإن كان ثمر بعض الأشجار مدركا دون البعض جاز في المدرك دون غيره، تين قد أدرك بعضه دون البعض، إن باع الموجود منه جاز، فإن لم يقبضها المشتري حتى خرج الباقي فسد البيع، وينبغي أن يكون تعريفا على القول الضعيف المشترط لبدو الصلاح. وفيه: من سرق ماء فسقى أرضه أو كرمه يطيب له ما خرج كما لو غصب شعيرا أو تبنا وسمن به دابته فيطيب له ما زاد في الدابة فعليه قيمة العلف اه قوله: (ويقطعها المشتري تفريغا لملك البائع) وقدمنا أن أجرة القطع على المشتري وأن تسليم الثمرة بالتخلية قوله: (وإن شرط تركها على النخل فسد) أي البيع لما قدمنا أنه محل النهي عن بيع الثمار قبل بدو الصلاح، ولأنه شرط لا يقتضيه العقد وهو شغل ملك الغير أو لأنه صفقة في صفقة لأنه إجارة في بيع إن كان للمنفعة حصة من الثمن أو إعارة في بيع إن لم يكن لها حصة من الثمن. وتعقبهم في النهاية بأنكم قلتم إن كلا من الإجارة والإعارة غير صحيح فكيف يقال إنه صفقة في صفقة؟ وجوابه أنه صفقة فاسدة في صفقة صحيحة ففسدتا جميعا،
505 وكذا لو شرط ترك الزرع على الأرض لما قلنا. أطلقه فشمل ما إذا تناهى عظمهما أو لا، وفي الأول خلاف محمد فإنه يقول: استحسن أن لا يفسد بشرط الترك للعادة بخلاف ما إذا لم يتناه لأنه شرط فيه الجزء المعدوم وهو ما يزداد بمعنى في الأرض والشجر. وفي الاسرار: الفتوى على قول محمد وبه أخذ الطحاوي. وفي المتنقى: ضم إليه أبا يوسف. وفي التحفة: والصحيح قولهما. وقيد باشتراط الترك لأنه لو اشتراها مطلقا وتركها، فإن كان بإذن البائع طاب له الفضل، وإن تركها بغير إذنه تصدق بما زاد في ذاته لحصوله بجهة محظورة، وإن تركها بعد ما تناهى لم يتصدق بشئ لأن هذا تغير حالة لا تتحقق زيادة، وإن اشتراها مطلقا أو بشرط القطع وتركها على النخل وقد استأجر النخيل إلى وقت الادراك طاب له الفضل لأن الإجارة باطلة لعدم التعارف والحاجة فبقي الاذن معتبرا لأن الباطل لا وجود له فكان إذنا مقصودا بخلاف ما إذا اشترى الزرع واستأجر الأرض إلى أن يدرك وترك حيث لا يطيب له الفضل لأن الإجارة فاسدة للجهالة، وإذا فسد المتضمن فسد المتضمن فأورثت خبثا. وقد ذكر أصحابنا هنا أن الشمس تنضحها بإذن الله تعالى وبتقديره، ويأخذ اللون من القمر، والطعم من الكواكب، فلم يبق فيه إلا عمل الشمس والقمر والكواكب، كذا في المعراج. وفي البخاري عن قتادة وفي المعراج معزيا إلى الفصول: لو أراد إجارة الأشجار والكروم فالحيلة فيه أن يكتب أن لهذا المشتري حق ترك الثمار على الأشجار في مدة كذا بأمر لازم واجب وعسى أن تكون الثمار والأشجار لآخر، وله حق الترك فيها إلى وقت الادراك، فإذا ذكر هذا حمل على أنه بحق لازم، كذا في شرح ظهير الدين المرغيناني اه. وفي جامع الفصولين: باع شجرا عليه ثمر وكرما فيه عنب لا يدخل الثمر، فلو استأجر الشجر من المشتري ليترك عليه الثمر لم يجز ولكن يعار إلى الادراك، فلو أبى المشتري يخير البائع إن شاء أبطل البيع أو قطع الثمر، ولو باع أرضا بدون الزرع فهو للبائع بأجر مثلها إلى الادراك اه. وفيه أيضا: شرى قصيلا فلم يقبضه حتى صار حبا بطل البيع عند أبي حنيفة لا عند أبي
506 يوسف اه. وينبغي على قياس هذا أنه لو باع ثمرة بدون الشجرة ولم يدرك ولم يرض البائع بإعارة الشجر أن يتخير المشتري إن شاء أبطل البيع وإن شاء قطعها. ووجهه فيهما أن في القطع إتلاف المال إذ لا ينتفع به. وقوله لو باع أرضا بدون الزرع فهو للبائع بأجر مثلها شكل لما قدمنا أنه يجب على البائع قطعه وتسليم الأرض فارغة وليس هذا مذهب الأئمة الثلاثة من أنه يؤخر التسليم إلى الادراك لأنهم لم يوجبوا أجر المثل فليتأمل. قوله: (ولو استثنى منها أرطالا معلومة صح) أي البيع والاستثناء لأن ما جاز إيراد العقد عليه بانفراده صح استثناؤه منه، وبيع قفيز من صبرة جائز فكذا استثناؤه بخلاف استثناء الحمل من الجارية الحامل أو الشاة وأطراف الحيوان فإنه غير جائز كما إذا باع هذه الشاة إلا أليتها أو هذا العبد إلا يده، وهذا هو المفهوم من ظاهر الرواية. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجوز وهو أقيس بمذهب الإمام في مسألة بيع صبرة طعام كل قفيز بدرهم فإنه أفسد البيع بجهالة قدر المبيع وقت العقد وهو لازم في استثناء أرطال معلومة مما على الأشجار وإن لم تفض إلى المنازعة. فالحاصل أن كل جهالة تفضي إلى المنازعة مبطلة فليس يلزم أن ما لا يفضي إليها يصح معها بل لا بد مع عدم الافضاء إليها في الصحة من كون المبيع على حدود الشرع، ألا ترى أن المتبايعين قد يتراضيا على شرط لا يقتضيه العقد وعلى البيع بأجل مجهول كقدوم الحاج ونحوه ولا يعتبر ذلك مصححا، كذا في فتح القدير. وفي المعراج: وقيل رواية الحسن والطحاوي محمولة على ما إذا لم يكن الثمر منتفعا به لأنه ربما يصيبه آفة وليس فيه إلا قدر المستثنى فيتطرق فيه الضرر اه. ومحل الاختلاف ما إذا استثنى معينا فإن استثنى جزأ كربع وثلث فإنه صحيح اتفاقا، كذا في البدائع، ولذا قال في الكتاب أرطالا معلومة. وقيد بقوله منها أي من الثمرة على رؤس النخيل لأنه لو كان مجذوذا واستثنى منه أرطالا جاز اتفاقا. وقيد بالأرطال لأنه لو استثنى رطلا واحدا جاز اتفاقا لأنه استثناء القليل من الكثير بخلاف الأرطال لجواز أنه لا يكون إلا ذلك القدر فيكون استثناء الكل من الكل، كذا في البناية.
507 وسيأتي في البيع الفاسد الايراد على القاعدة المذكورة في استثناء الحمل وهو أن الايصاء بالخدمة منفردة جائز واستثناؤها لا وكذلك الغلة. ونذكر جوابه وهي قاعدة مطردة منعكسة كما في البناية. ولو باع صبرة بمائة إلا عشرها فله تسعة أعشارها بجميع الثمن، ولو قال على أن عشرها لي فله تسعة أعشارها بتسعة أعشار الثمن خلافا لما روي عن محمد أنه يجمع الثمن فيها. وعن أبي يوسف: لو قال أبيعك هذه المائة شاة بمائة على أن هذه لي أو ولي هذه فسد، ولو قال إلا هذه كان ما بقي بمائة، ولو قال ولي نصفها كان النصف بخمسين. ولو قال بعتك هذا العبد بألف إلا نصفه بخمسمائة، عن محمد جاز في كله بألف وخمسمائة لأن المعنى باع نصفه بألف لأنه الباقي بعد الاستثناء فالنصف المستثنى عين بيعه بخمسمائة. ولو قال على أن لي نصفه بثلاثمائة أو مائة دينار فسد لادخال صفقة في صفقة، كذا في فتح القدير من البيع الفاسد وسيأتي تمامه في البيع الفاسد إن شاء الله تعالى. قيدنا باستثناء بعض الثمار أو الصبرة لأنه لو استثنى شاة من قطيع بغير عينها أو ثوبا من عدل بغير عينه لا يجوز، ولو استثنى واحدا بعينه جاز، كذا في الخانية وفيها: أبيعك دارا على أن لي طريقا من هذا الموضع إلى باب الدار يكون فاسدا، وكذا لو شرط الطريق للأجنبي وبين موضعه وطوله وعرضه كان فاسدا، ولو قال أبيعك هذه الدار إلا طريقا منها من هذا الموضع إلى باب الدار ووصف الطول والعرض جاز البيع بشرط الطريق لنفسه أو لغيره لأن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا فيكون جميع الثمن يقابله غير المستثنى فلا يفسد البيع. أما في الأول جعل الثمن مقابلا بجميع الدار فإذا شرط منها طريقا لنفسه أو لغيره يسقط حصته من الثمن وهو مجهول فيصير الباقي مجهولا فيصير الباقي مجهولا. ولو قال أبيعك داري هذه بألف على أن لي هذا البيت بعينه لا يصح، ولو قال إلا هذا البيت جاز البيع، ولو قال بعتك هذه الدار إلا بناءها جاز البيع ولا يدخل البناء في البيع. ولو باع أرضا إلا هذه الشجرة بعينها بقرارها جاز البيع وللمشتري أن يمتنع عن تدلي أغصان الشجرة في ملكه لأن المستثنى مقدار غلظ الشجرة دون الزيادة. رجلان اشتريا سيفا وتواضعا على أن يكون الحلية لأحدهما وللآخر النصل كان السيف المحلى بينهما والخاتم مع الفص كذلك. ولو اشتريا دارا على أن لأحدهما الأرض وللآخر البناء جاز كذلك. ولو اشتريا بعيرا وتواضعا على أن يكون لأحدهما رأسه وجلده وقوائمه وللآخر بدنه تواضعا في ذلك ولم يذكر البائع شيئا فالكل لصاحب البدن لأن البدن أصل وغيره بمنزلة
508 التبع. ولو تواضعا على أن لأحدهما رأسه وجلده وقوائمه وللآخر لحمه فهو بينهما نصفان لأن كل واحد من ذلك لا يحتمل الافراد بالبيع وأحدهما ليس بأصل فكان الكل بينهما. وفي التتارخانية: لو قال أبيعك هذا الطعام بألف درهم إلا عشرة أقفزة منها فالبيع فاسد في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف البيع جائز، وللمشتري الخيار إذا عزل منه العشرة أقفزة، ولو باع بمائة إلا دينارا كان البيع بتسعة وتسعين اشترى أمة وفي بطنها ولد لغير البائع بالوصية لرجل فأجاز صاحب الولد بيع الجارية جاز ولا شئ له من الثمن وإن لم يجز لم يجز لأن الجنين بمنزلة أجزاء الجارية * (تتمة) * منها: لو باع نصف عبد مشترك جاز وانصرف إلى نصيبه ولو أقر بنصفه انصرف إلى النصفين اه. وينبغي أن يكون الفرع الأول منها أعني مسألة الاستثناء العشرة إلا قفزة مفرعا على رواية الحسن من عدم جواز البيع إذا استثنى من الثمرة أرطالا معلومة وإلا فهو مشكل لأنه يصح إيراد العقد عليه بانفراده فكيف لا يصح استثناؤه. ثم اعلم أن حاصل ما نقلناه في هذه المسألة يدور على أربع قواعد: الأولى ما صح إيراد العقد عليه بانفراده صح استثناؤه سواء دخل في المبيع تبعا كالبناء والشجر أو لا وما لا فلا. الثانية ما صح استثناؤه صح اشتراطه للبائع إذا كان من المقدرات، وإن كان من القيميات فلا. الثالثة ما صح إيراد العقد عليه بانفراده صح اتفاقهما بعد العقد على أن يكون البعض لهذا والبعض لهذا كالبناء مع الأرض وما لا فلا كالسيف والحلية. الرابعة إذا استثنى ما يصح فإن ذكر للمستثنى ثمنا لم يكن للاخراج وكان الثمن الأول والثاني كبعتك هذا العبد بألف إلا نصفه بخمسمائة وإلا كان للاخراج من المبيع ولا يسقط من الثمن شئ، وإن كان شرطا في المقدرات سقط ما قابله. وقدمنا عن الظهيرية أنه لو باع سفل داره على أن يكون له حق قرار العلو عليه فإنه يجوز قوله: (كبيع بر في سنبله وباقلا في قشره) أي صحيح لأنه مال متقوم منتفع به فيجوز بيعه في قشر كالشعير. وفي البناية: ومن أكل الفولية يسهد بذلك وكذا الأرز والسمسم والجوز واللوز والفستق، ولا يجوز بيعه بمثله من سنبل الحنطة لاحتمال الربا كما في فتح القدير. وقدمنا أنه لا يجوز بيع قصيل البر بحنطة والقصيل الشعير يجز أخضر لعلف الدواب، كذا في المصباح. وأورد المطالبة بالفرق بين ما إذا باع حب قطن في قطن بعينه أو نوى تمر في تمر بعينه أي باع ما في هذا القطن من الحب أو ما في هذا التمر من النوى فإنه لا يجوز مع أنه أيضا في غلافه. وأشار أبو يوسف إلى الفرق بأن النوى هنالك معتبر عدما هالكا في العرف
509 فإنه يقال هذا تمر وقطن ولا يقال هذا نوى في ثمره ولا حب في قطنه، ويقال هذه حنطة في سنبلها وهذا لوز وفستق ولا يقال هذه قشور فيها لوز ولا يذهب إليه وهم بخلاف تراب الصاغة فإنه إنما لا يجوز بيعه بجنسه لاحتمال الربا حتى لو باع بخلاف جنسه جاز، وفي مسألتنا لو باع بجنسه لا يجوز لشبهة الربا. والصاغة جمع صائغ والمراد بيع برادة الذهب كما في البناية. وما ذكرنا يخرج الجواب عن امتناع بيع اللبن في الضرع، واللحم والشحم في الشاة، والالية والأكارع والجلد فيها، والدقيق في الحنطة، والزيت في الزيتون، والعصير في العنب ونحو ذلك حيث لا يجوز لأن كل ذلك منعدم في العرف، لا يقال هذا عصير وزيت في محله فكذا الباقي. واعلم أن الوجه يقتضى ثبوت الخيار بعد الاستخراج في ذلك كله لأنه لم يره، كذا في فتح القدير. قيد بيع الحنطة لأنه لو باع تبن الحنطة في سنبلها دون الحنطة لم ينعقد لا لأنه يصير تبنا إلا بالعلاج وهو الدق فلم يكن تبنا قبله فكان بيع المعدوم فلا ينعقد بخلاف الجذع في السقف أنه ينعقد حتى لو نزعه وسلمه أجبر على الاخذ وهنا لا، كذا في البدائع. والمراد بتراب الصاغة التراب الذي فيه ذرات الذهب فلا يجوز بيعه بجنسه لاحتمال الربا، ولا ينصرف إلى خلاف الجنس تحريا للجواز كما في بيع درهم ودينارين بدينار ودرهمين لأن التراب ليس بمال متقوم، كذا في المعراج. ولو اشترى تراب الصواغين بعرض إن وجد في التراب ذهبا أو فضة جاز بيعه لأنه باع مالا متقوما، وإن لم يجد شيئا من ذلك لا يجوز لأن التراب غير مقصود وإنما المقصود ما فيه من الذهب والفضة. وقال أبو يوسف: لا ينبغي للصائغ أن يأكل ثمن التراب الذي باعه لأن فيه مال الناس إلا أن يكون الصائغ قد زاد الناس في متاعهم بقدر ما سقط منهم في التراب، وكذا الدهان إذا باع الدهن وبقي من الدهن شئ في الأوعية، كذا في الخانية. وفيها أيضا: لو باع مائة من من حليج هذا القطن لا يجوز، ولو كانت الحنطة في سنبلها فباعها جاز، ولا يجوز بيع النوى في التمر، ولو باع حب قطن بعينه جاز، كذا اختاره الفقيه أبو الليث، ولو اشترى البزر الذي في جوف البطيخ لا يجوز وإن رضي صاحبه بأن يقطع البطيخ، ولو ذبح شاة فباع كرشها قبل السلخ جاز وكان على البائع إخراجه وتسليمه إلى المشتري والمشتري خيار الرؤية. ولو ابتلعت دجاجة لؤلؤة
510 فباع حبة اللؤلؤة التي في بطنها جاز ولا خيار للمشتري إن كان رآها إلا إذا تغيرت، وإن لم يكن المشتري رأى اللؤلؤة فله الخيار إذا رآها. ولو اشترى لؤلؤة في صدف قال أبو يوسف: يجوز البيع وله الخيار إذا رأى. وقال محمد: لا يجوز وعليه الفتوى، والباقلا الفول والحليج بمعنى المحلوج وهو ما خلص حبه من قطنه. وفي البزازية: لو باع حنطة في سنبلها لزم البائع الدوس والتذرية، وكذا لو أطلق له حنطة في سنبلها فصار حاصل ما نقلناه أنه إذا باع شيئا مستورا، فإن كان مستورا بما هو خلقي فيه أولا والثاني شراء ما لم يره جائز عندنا. والأول لا يخلو إما أن يكون المبيع موجودا في العرف أو معدوما، فإن كان موجودا جاز كبيع حنطة في سنبلها وأرز وسمسم وجوز ولوز وكرش شاة مذبوحة قبل سلخها ولؤلؤة في بطن دجاجة، وإن كان يقال في العرف أنه معدوم لم يجز كبيع حب قطن فيه ونوى تمر فيه، ولبن في ضرع، ولحم وشحم وألية في شاة، وأكارع وجلد فيها، ودقيق في حنطة، وزيت في زيتون وعصير في عنب، ومحلوج قطن فيه، ولؤلؤة في صدف على المفتى به وتبن حنطة في سنبلها قوله: (وأجرة الكيل على البائع) يعني إذا بيع مكايلة وكذا أجرة الوزان والعداد عليه والذراع لأنه من تمام التسليم وتسليم المبيع عليه فكذا ما كان من تمامه. قيد بالكيل لأن صب الحنطة في الوعاء على المشتري، وكذا إخراج الطعام من السفينة، وكذا قطع العنب المشتري جزافا عليه، وكذا كل شئ باعه جزافا كالثوم والبصل والجزر إذا خلي بينها وبين المشتري ، وكذا قطع الثمر إذا خلي بينها وبين المشتري، كذا في الخلاصة. وأشار إلى أنه لو اشترى حنطة في سنبلها فعلى البائع تخليصها بالدرس والتذرية ودفعها إلى المشتري وهو المختار. وفي المعراج: والتبن للبائع وإذا اشترى ثيابا في جراب ففتح الجراب على البائع وإخراج الثياب على المشتري. وقيل كما يجب الكيل على البائع فالصب في وعاء المشتري يكون عليه أيضا. وكذا لو اشترى ماء من سقاء في قربة كان صب الماء على السقاء والمعتبر في هذا العرف، كذا في الخانية. وفي المجتبى: لو اشترى وقر حطب في المصر فالحمل على البائع قوله: (وأجرة نقد الثمن ووزنه على المشتري) لما ذكرنا أن الوزن من تمام التسليم وتسليم الثمن على المشتري فكذا ما يكون من تمامه، وكذا يجب عليه تسليم الجيد لأن حق البائع تعلق به، وما ذكره المصنف في نقد الثمن هو الصحيح كما في الخلاصة وهو ظاهر الرواية كما في الخانية وبه كان يفتي الصدر الشهيد قال: وبه يفتي إلا إذا قبض البائع الثمن ثم جاء يرده بعيب الزيافة
511 فإنه على البائع. وأما أجرة نقد الدين فإنه على المديون إلا إذا قبض رب الدين الدين ثم ادعى عدم النقد فالأجرة على رب الدين لأنه بالقبض دخل في ضمانه فالناقد إنما يميز ملكه ليستوفي بذلك حقا له فالأجرة عليه. وأطلق في أجرة الناقد فشمل ما إذا قال المشتري دراهمي منتقدة أو وهو الصحيح خلافا لمن فصل، كذا في الخانية. وأمنا حكم الصيرفي إذا نقد ثم ظهر أن فيها زيوفا فقال في إجارات البزازية: استأجره لينقد الدراهم فنقد ثم وجده زيوفا يرد الأجرة، وإن وجد البعض زيوفا يرد بقدره اه. قوله: (ومن باع سلعة بثمن سلمه أولا) أي سلم الثمن قبل أن يتسلم المبيع لاقتضاء العقد المساواة وقد تعين حق المشتري في المبيع فيسلم الثمن أولا ليتعين حق البائع تحقيقا للمساواة. وفي البزازية: باع بشرط أن يدفع المبيع قبل نقد الثمن فسد البيع لأنه لا يقتضيه العقد. وقال محمد: لا يصح لجهالة الاجل حتى لو سمى الوقت الذي يسلم فيه المبيع جاز اه. ولا بد من إحضار السلعة ليعلم قيامها فإذا أحضرها البائع أمر المشتري بتسليم الثمن، وله أن يمتنع عن دفعه إذا كان المبيع غائبا ولو عن المصر. وفي السراج الوهاج: بخلاف الرهن إذا كان في موضع آخر غير موضع المتراهنين من حيث تلحقه المؤنة بالاحضار فإنه لا يؤمر المرتهن بإحضاره بل يسلم الراهن الدين إذا أقر المرتهن بقيام الرهن، فإن ادعى الراهن هلاكه فالقول قول المرتهن أنه لم يهلك لكون الرهن أمانة في يد المرتهن كالوديعة فلا يؤمر بإحضاره إذا لحقه مؤنة وأما في البيع فالثمن بدل الخ اه. وفي آخر رهن الخانية: إن المشتري إذا لقي البائع في غير مصرهما وطلب منه تسليم المبيع ولم يقدر عليه يأخذ المشتري منه كفيلا أو يبعث وكيلا ينقد الثمن له ثم يتسلم المبيع ولا بد من كون الثمن حالا لأنه لو كان مؤجلا لا يلزمه دفعه أولا، وقدمنا أول الكتاب بعض مسائل التأجيل. ولا بد أن لا يكون في البيع خيار للمشتري، فلو كان له ليس للبائع مطالبته بالثمن قبل سقوطه وقد صرح به في خيار الرؤية من القنية. وفي فتح القدير من خيار الشرط: وقد استفيد من كلامه أن للبائع حق حبس المبيع حتى يستوفي الثمن كله ولو بقي منه درهم إلا أن يكون مؤجلا كما قدمناه، فلو كان بعضه حالا وبعضه مؤجلا فله حبس المبيع إلى استيفاء الحال. ولو باعه شيئين صفقة واحدة وسمى لكل واحد ثمنا فدفع المشتري حصة أحدهما كان للبائع حبسهما حتى يستوفي حصة الآخر. ولو أبرأ المشتري عن بعض الثمن كان له الحبس حتى يستوفي الباقي لأن البراءة كالاستيفاء ولا يسقط حقه في الحبس بالرهن ولا بالكفيل ويسقط بحوالة البائع على المشتري بالثمن اتفاقا، وكذا بحوالة
512 المشتري البائع به على رجل عند أبي يوسف للبراءة كالايفاء. وفرق محمد بينهما ببقاء مطالبة البائع فيما إذا كان محتالا وبسقوطها فيما إذا كان محيلا، وكذا فرق محمد في الرهن فقال: إن أحال المرتهن بدينه على الراهن لم يبق له حق حبسه، وإن احتال به على رجل لم يسقط، وتأجيل الثمن بعد البيع بالحال مسقط لحقه في الحبس. وكذا إذا كان الثمن مؤجلا فلم يقبض المشتري حتى حل سقط الحبس، وقدمنا أن الاجل من وقت القبض عند الإمام إن لم تكن السنة معينة، وإن كانت معينة ومضت فلا بقاء له إجماعا. ومحل الاختلاف فيما إذا امتنع البائع من التسليم، أما إذا لم يمتنع فابتداؤه من وقت العقد إجماعا. ولو سلم البائع المبيع قبل قبض الثمن سقط حقه فليس له بعده رده إليه، ولو أعاره البائع له أو أودعه إياه على المشهور بخلاف المرتهن إذا أعار الرهن من الراهن فإنه لا يبطل الرهن فله استرجاعه، ولو قبضه المشتري بغير إذن لم يسقط حقه في الحبس، كذا في السراج الوهاج. والإجارة كالعارية والوديعة كما في المحيط. وفي الظهيرية: المشتري إذا قبض المبيع قبل نقد الثمن والبائع يراه ولم يمنعه من القبض كان إذنا، وهي من مسائل السكوت. وأما تصرف المشتري في المبيع قبل قبضه فعلى وجهين: قولي وحسي. فالأول فإن أعاره أو وهبه أو تصدق به أو رهنه وقبضه المرتهن جاز، ولو باع أو آجر لا يجوز قال محمد رحمه الله: كل تصرف يجوز من غير قبض إذا فعله المشتري قبل القبض لا يجوز، وكل ما لا يجوز إلا بالقبض كالهبة إذا فعله المشتري قبل القبض جاز ويصير المشتري قابضا، كذا في الظهيرية. ولو أودع المشتري من البائع أو أعاره أو آجره لم يكن قبضا، ولو أودعه عند أجنبي أو أعاره وأمر البائع بالتسليم إليه كان قبضا، كذا في المحيط. وفي الخانية: لو قال المشتري للغلام تعالى معي وامش فتخطى معه فهو قبض، ولو قال البائع للمشتري بعد البيع خذلا يكون قبضا، ولو قال خذه يكون تخلية إذا كان يصل إلى أخذه. ولو دفع بعض الثمن وقال للبائع تركته عندك رهنا على الباقي أو قال تركته وديعة عندك لا يكون قبضا اه. وإعتاقه المبيع قبل القبض قبض، ولو اشترى حاملا فأعتق ما في بطنها لا يكون قبضا لاحتمال أنه لم يصح إعتاق فلم يصر متلفا، وأما الثاني فالمشتري إذا أتلف المبيع أو أحدث فيه عيبا قبل القبض يصير قابضا، وكذا لو أمر
513 البائع بذلك فعمل البائع، وإذا أمر المشتري البائع بطحن الحنطة فطحن صار قابضا والدقيق للمشتري، كذا في الخانية. ووطئ المشتري الجارية قبض إن حبلت وإلا فله حبسها، فإن منعها البائع تموت من ماله ولا عقر عليه لأنه وطئ ملك نفسه، وإن نقصها الوطئ تأكد عليه حصة النقصان من الثمن. ولو زوجها المشتري صار قابضا قياسا لا استحسانا، وكذا لو أقر عليه بدين. ولو أرسل المشتري العبد في حاجته صار قابضا، فلو أمر البائع أن يأمر العبد بعمل فأمره صار قابضا كما لو أمره أن يؤجره لانسان، وما يأخذ البائع من الاجر محسوب عليه من الثمن. ولو اشترى دابة والبائع راكبها فقال المشتري احملني معك فحمله معه فهلكت فهي على المشتري وركوبه قبض، كذا في المحيط. وأما أمره للبائع بفعل شئ قبل القبض ففي الخانية: لو قال للبائع بعها أوطأها أو كل الطعام ففعل فإنه يكون فسخا للبيع وما لم يفعله لا ينفسخ ولكن البيع على ثلاثة أوجه: فإن قال بعه لنفسك فباعه انفسخ، ولو قال بعه لي لا يجوز البيع ولا ينفسخ، ولو قال بعه أو بعه ممن شئت فباعه انفسخ، وجاز البيع الثاني للمأمور في قول محمد. وقال أبو حنيفة: لا يكون فسخا كقوله بعه لي. ولو اشترى ثوبا أو حنطة فقال للبائع بعه قال الإمام الفضلي: إن كان قبل القبض والرؤية كان فسخا، وإن لم يقل البائع نعم لأن المشتري ينفرد بالفسخ في خيار الرؤية. وإن قال بعه لي أي كن وكيلا في الفسخ فما لم يقبل البائع ولم يقل نعم لا يكون فسخا، وإن كان بعد القبض والرؤية لا يكون فسخا ويكون وكيلا بالبيع سواء قال بعه أو بعه لي اه. وفي البناية: اشترى دهنا ودفع قارورة ليزنه فيها فوزنه فيها بحضرة المشتري فهو قبض، وكذا بغيبته في الأصح، وكذا كل مكيل أو موزون إذا دفع له الوعاء فكاله أو وزنه في وعائه بأمره. ولو غصب شيئا ثم اشتراه صار قابضا وليس للبائع حبسه بخلاف الوديعة والعارية إلا إذا وصل إليه بعد التخلية. ولو اشترى حنطة في السواد يجب تسليمها فيه. وفي الظهيرية والبزازية: دفع إلى قصاب درهما وقال اعطني بهذا الدرهم لحما وزنه وضعه في هذا الزنبيل في حانوتك حتى أجئ بعد ساعة، ففعل القصاب ذلك فأكلت الهرة اللحم قال الشيخ الإمام الفضلي: إن لم يبين موضع القطع كان الهلاك على القصاب، وإن بين فقال من الجنب أو من الذراع كان الهلاك على المشتري، وهذا بخلاف ما قدمناه فإن المشتري إنما يصير قابضا إذا كان الوزن بحضرته وهنا قال يصير قابضا وإن لم يكن الوزن بحضرته، وهكذا ذكر في الجامع الصغير فكان في المسألة
514 روايتان اه. وأما ما يصير به قابضا حقيقة ففي التجريد تسليم المبيع أن يخلي بينه وبين المبيع على وجه يتمكن من قبضه بغير حائل. وكذا تسليم الثمن. وفي الأجناس: يعتبر في صحة التسليم ثلاثة معان: أن يقول خليت بينك وبين المبيع وأن يكون بحضرة المشتري على صفة يتأتى فيه الفعل من غير مانع، وأن يكون مفرزا غير مشغول بحق غيره فلو كان المبيع شاغلا كالحنطة في جوالق البائع لم يمنعه. وفي القنية: لو باع حنطة في سنبلها فسلمها كذلك لم يصح كقطن في فراش ويصح تسليم ثمار الأشجار وهي عليها بالتخلية وإن كانت متصلة بملك البائع. وعن الوبري: المتاع لغير البائع لا يمنع فلو أذن له بقبض المتاع والبيت صح وصار المتاع وديعة عنده، وكان أبو حنيفة يقول: القبض أن يقول خليت بينك وبين المبيع فاقبضه، ويقول المشتري وهو عند البائع قبضته، فلو أخذ برأسه وصاحبه عنده فقاده فهو قبض، دابة كانت أو بعيرا. وإن كان غلاما أو جارية فقال له المشتري تعال معي أو امش فخطى معه فهو قبض، وكذا لو أرسله في حاجته، وفي الثوب إن أخذه بيده أو خلى بينه وبينه وهو موضع على الأرض فقال خليت بينك وبينه فاقبضه فقال قبضته فهو قبض، وكذا القبض في البيع الفاسد بالتخلية. ولو اشترى حنطة في بيت ودفع البائع المفتاح إليه وقال خليت بينك وبينها فهو قبض، وإن دفعه لم يقل شيئا لا يكون قبضا. ولو باع دارا غائبة فقال سلمتها إليك فقال قبضتها لم يكن قبضا وإن كانت قريبة كان قبضا وهي أن تكون بحال يقدر على إغلاقها وإلا فهي بعيدة، وأطلق في المحيط أن بالتخلية يقع القبض وإن كان المبيع ببعد عنهما. وقال الحلواني: ذكر في النوادر إذا باع ضيعة وخلى بينها وبين المشتري إن كان بقرب منها يصير قابضا وإن كان ببعد لا يصير قابضا قال: والناس عنه غافلون فإنهم يشترون الضيعة بالسواد ويقرون بالتسليم والقبض وهو لا يصح به القبض. وفي جامع شمس الأئمة: يصح القبض وإن كان العقار غائبا عنهما عند أبي حنيفة خلافا لهما. وفي جمع النوازل: دفع المفتاح في بيع الدار تسليم إذا تهيأ له فتحه من غير تكلف، وكذا لو اشترى بقرا في السرح فقال البائع اذهب فاقبض إن كان يرى بحيث يمكنه الإشارة إليه يكون قبضا. ولو باع خلا ونحوه في دن وخلى بينه وبين المشتري في دار المشتري وختم المشتري على الدن فهو قبض ولو اشترى ثوبا فأمره البائع بقبضه فلم يقبضه حتى أخذه إنسان، إن كان حين أمره بقبضه أمكنه من غير قيام صح التسليم، وإن كان لا يمكنه إلا بقيام لا يصح. ولو اشترى طيرا في بيت والباب مغلق فأمره البائع بالقبض فلم يقبض حتى هبت الريح ففتحت
515 الباب فطار لا يصح التسليم، وإن فتحه المشتري فطار صح التسليم لأنه يمكنه التسليم بأن يحتاط في الفتح. ولو اشترى فرسا في حظيرة فقال البائع سلمتها إليك ففتح المشتري الباب فذهبت الفرس، إن أمكنه أخذها من غير عون كان قبضا وهو تأويل مسألة الطير وفي مكان آخر من غير عون ولا حبل. وإن اشترى دابة والبائع راكبها فقال المشتري احملني معك فحمله فعطبت هلكت على المشتري قال القاضي الإمام: هذا إذا لم يكن على الدابة سرج، فإن كان عليها سرج وركب المشتري في السرج يكون قابضا وإلا فلا. ولو كانا راكبين فباع المالك منهما الآخر لا يصير قابضا كما إذا باع الدار والبائع والمشتري فيها اه. كذا في فتح القدير. ثم اعلم أن ما ذهب إليه الإمام الحلواني من عدم صحة تخلية البعيد هو ظاهر الرواية كما في الخانية والظهيرية. وفي الخانية: والصحيح ظاهر الرواية. وفي الظهيرية: والاعتماد على ما ذكرنا في ظاهر الرواية زاد في الخانية: وكذا الهبة والصدقة اه. فقد علمت ضعف ما في المحيط وجامع شمس الأئمة. وعلى هذا تخلية البعيد في الإجارة غي صحيحة فكذا الاقرار بتسلمها. وفي النهاية معزيا إلى الغاية أن القبض في العقار بالتخلية، وفي المنقول بالنقل إلى مكان لا يختص بالبائع. وفي البزازية: عشرة أشياء لو فعلها البائع بإذن المشتري كان قابضا: الامر بختان الغلام والجارية، والفصد، وقطع عرف الفرس، أو ثوبا فأمره بالقصارة أو الغسل، أو مكعبا فأمره بنعله، أو نعلا فأمره بحذائه، أو طعاما فأمره بالطبخ، أو دارا فآجرها من البائع، أو جارية فأمره بتزويجها فزوجها ودخل بها الزوج صار قابضا، وبلا دخول لا يصير قابضا. وكذا لو زوجها المشتري لا يصير قابضا ودخول الزوج وفعل المشتري واحدا من هذه العشرة بعد علمه بالعيب يمنع الرد والرجوع بالنقص. ولو استأجر المشتري البائع لغسل الثوب أو قطعه إن كان ذلك ينقص المبيع صار قابضا، وإن قال له أعتقه فأعتقه البائع قبل قبضه عنه جاز عند الإمام ومحمد خلافا للثاني. ولو أمر البائع أن يطرحه في الماء فطرحه صار قابضا بخلاف ما إذا أمر المديون أن يطرح الدين في الماء فطرحه لا يكون مؤديا، وكذا لو استقرضه كذا فجاء به فأمره بصبه في الماء فصبه المقترض كان له منه، ولو دفع البائع المبيع لمنكوحة المشتري لا يكون قابضا اه. وفي البزازية أيضا: قبض المشتري بلا إذن البائع قبل نقد الثمن وبنى أو غرس أو ثوبا فصبغه ملك الاسترداد، وإن تلف عند البائع ضمن ما زاد البناء والصبغ المشتري المفلس دبر أو أعتق المشتري قبل قبضه جاز ولا سعاية على الغلام إلا عند الثاني، فإن كاتبه أو آجره أو رهنه قبل قبضه ونقد الثمن أبطل القاضي هذه
516 التصرفات إن شاء البائع، فإن نقده قبل الابطال جازت الكتابة وبطل الرهن والإجارة، ولو جارية فوطئها المشتري فحبلت أو ولدت لا يتمكن البائع من الحبس، وإن لم تلد ولم تحبل له الحبس، فإن ماتت في يد البائع إن أخذت بيعا فمن البائع وإلا فمن المشتري لعدم نقص القبض. قال عبد لمولاه اشتريت نفسي منك فباع المولى صح ولا يملك المولى حبسه لاستيفاء الثمن لأنه صار قابضا بنفس العقد كمن اشترى دارا وهو ساكن فيه يصير قابضا بالشراء ولا يملك البائع الحبس، وكذا لو وكل أجنبي العبد ليشتريه من مولاه له فأعلم المولى واشترى نفسه له لا يملك البائع حبسه للثمن لعود الحقوق إلى العبد الوكيل اه. وفيها أيضا: قبض المشتري المشتري قبل نقده بلا إذنه فطلبه منه فخلى بينه وبين البائع لا يكون قبضا حتى يقبضه بيده بخلاف ما إذا خلى البائع بينه وبين المشتري اه. وسنتكلم على هلاك المبيع إن شاء الله تعالى في خيار الشرط ومحله هنا ولكن تركناه خوف الإطالة. وفي الولوالجية: باعه حبا في بيت ولا يمكن إخراجه إلا بقلع الباب أجبر البائع على تسليمه خارجا من البيت لأن التسليم واجب فيجبر عليه، ولو أمره بقبض الفرس والبائع ممسك بعنانه ففر من يدهما كان على المشتري لأن تسليم الفرس كذلك يكون. قوله: (وإلا معا) أي وإن لم يكن المبيع عينا والثمن دينا فإن البائع يسلم المبيع مع تسليم المشتري الثمن وهو صادق بثلاث صور: إحداها أن يكونا ثمنين. الثانية أن يكونا عينين. الثالثة أن يكون المبيع دينا والثمن سلعة، وهو ليس بمراد هنا لأنه من باب السلم فإن المبيع فيه هو المسلم فيه وهو دين والواجب أولا تسليم العين وهو رأس المال كما أن البيع إذا وقع بثمن مؤجل فالواجب أولا تسليم العين والله أعلم. تم الجزء الخامس ويليه الجزء السادس وأوله باب خيار الشرط