بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: المحلى المؤلف: ابن حزم الجزء: 5 الوفاة: 456 المجموعة: فقه المذهب الظاهري تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: المطبعة: الناشر: دار الفكر ردمك: ملاحظات: طبعة مصححة ومقابلة على عدة مخطوطات ونسخ معتمدة كما قوبلت على النسخة التي حققها الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر المحلى تصنيف الامام الجليل، المحدث، الفقيه، الأصولي، قوي العارضة شديد المعارضة، بليغ العبارة، بالغ الحجة، صاحب التصانيف الممتعة في المعقول والمنقول، والسنة، والفقه، والأصول والخلان، مجدد القرن الخامس، فخر الأندلس أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم المتوفى سنة 456 ه. طبعة مصححة ومقابلة على عدة مخطوطات ونسخ معتمدة كما قوبلت على النسخة التي حققها الأستاذ الشيخ احمد محمد شاكر الجزء الخامس دار الفكر
1 بسم الله الرحمن الرحيم 513 - مسألة - ومن خرج عن بيوت مدينته، أو قريته، أو موضع سكناه فمشى ميلا فصاعدا صلى ركعتين ولا بد إذا بلغ الميل، فان مشى أقل من ميل صلى أربعا. قال على: اختلف الناس في هذا، كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن أبي المهلب: أن عثمان بن عفان رضي الله عنه كتب: انه بلغني أن رجالا يخرجون إما لجباية، وإما لتجارة، واما الجشر (1) ثم لا يتمون الصلاة، فلا تفعلوا، فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو بحضرة عدو (2). ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عياش بن عبد الله ابن أبي ربيعة المخزومي. أن عثمان بن عفان كتب إلى عماله: لا يصلى (3) الركعتين جاب ولا تاجر ولاتان، إنما يصلي الركعتين من كان معه (4) الزاد والمزاد (5). قال على: التأني - هو صاحب الضيعة. قال على: هكذا في كتابي وصوابه عندي عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة.
(1) بفتح الجيم والشين المعجمة، قال في اللسان (وفى حديث عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا يغرنكم جشركم من صلاتكم فإنما يقصر الصلاة من كان شاخصا أو يحضره عدو، قال أبو عبيد: الجشر القوم يخرجون بدوابهم إلى المرعى ويبيتون مكانهم ولا يأوون إلى البيوت وربما رأوه سفرا فقصروا لصلاة فناهم عن ذلك لان المقام في المرعى وان طال فليس بسفر) اه وفى النسخة رقم (16) (لجش) وهو تصحيف وخطأ (2) انظر الطحاوي (ج 1 ص 247) (3) في النسخة رقم (45) (لا يصل) (4) في النسخة رقم (16) (مع) وهو خطأ (5) انظر الطحاوي (ج 1 ص 247) 2 ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة عن علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن عبد الله بن مسعود قال: لا يغرنكم سوادكم هذا من صلاتكم، فإنه من مصركم. وعن عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنت مع حذيفة بالمدائن فاستأذنته أن آتي أهلي بالكوفة، فاذن لي وشرط على أن لا أفطر ولا أصلى ركعتين حتى ارجع إليه، وبينهما نيف وستون ميلا. وهذه أسانيد في غاية الصحة. وعن حذيفة ان لا يقصر إلى السواد، وبين الكوفة والسواد سبعون ميلا (1). وعن معاذ بن جبل وعقبة بن عامر: لا يطأ أحدكم بماشيته احداب الجبال، وبطون الأودية وتزعمون انكم سفر، لا ولا كرامة، إنما التقصير في السفر البات، من الأفق. ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن عاصم عن ابن سيرين قال. كانوا يقولون: السفر الذي تقصر فيه الصلاة الذي يحمل فيه الزاد والمزاد. وعن أبي وائل شقيق بن سلمة. انه سئل عن قصر الصلاة من الكوفة إلى واسط؟ فقال: لا تقصر الصلاة في ذلك، وبينهما مائة ميل وخمسون ميلا. فهنا قول. وروينا من طريق ابن جريج. أخبرني نافع: ان ابن عمر كان أدنى ما يقصر الصلاة إليه مال له بخيبر، وهي مسيرة ثلاث فواصل (2) لم يكن يقصر فيما دونه. ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني وحميد، كلاهما عن نافع عن ابن عمر. أنه كان يقصر الصلاة فيما بين المدينة وخيبر وهي كقدر الأهواز من البصرة، لا يقصر فيما دون ذلك. قال على: بين المدينة وخيبر كما بين البصرة والأهواز وهو مائة ميل واحدة غير أربعة أميال.
(1) الكلمة تقرأ في الأصلين (سبعون) وتقرأ (تسعون) لاهمالها واشتباه رسمها (2) هكذا في النسخة رقم (16) وفى النسخة رقم (45) (قواصد) بدون نقط وكلاهما ظاهر انه خطأ والظن ان الكلمة محرفة فيحرر 3 وهذا مما اختلف فيه عن ابن عمر، ثم عن نافع أيضا عن ابن عمر. وروينا عن الحسن بن حي. أنه قال: لا قصر في أقل من اثنين وثمانين ميلا، كما بين الكوفة وبغداد. ومن طريق وكيع عن سعيد بن عبيد الطائي عن علي بن ربيعة الوالبي (1) الأسدي قال: سألت ابن عمر عن تقصير الصلاة؟ فقال: حاج أو معتمر أو غازي - قلت: لان، ولكن أحدنا تكون له الضيعة بالسواد، فقال: تعرف السويداء؟ قلت. سمعت بها ولم أرها، قال. فإنها ثلاث وليلتين (2) وليلة للمسرع، إذا خرجنا إليها قصرنا. قال على: من المدينة إلى السويداء اثنان وسبعون ميلا أربعة وعشرون فرسخا. فهذه رواية أخرى عن ابن عمر. ومن طريق عبد الرزاق عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى يقول. سمعت سويد ابن غفلة يقول. إذا سافرت ثلاثا فاقصر الصلاة. وعن عبد الرزاق عن أبي حنيفة وسفيان الثوري، كلاهما عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي أنه قال في قصر الصلاة، قال أبو حنيفة في روايته: مسيرة ثلاث، وقال سفيان في روايته: إلى نحو المدائن يعنى من الكوفة، وهو نحو نيف وستين ميلا، لا يتجاوز ثلاثة وستين ولا ينقص عن واحد وستين. وبهذين التحديدين جميعا يأخذ أبو حنيفة، وقال في تفسير الثلاث: سير الاقدام والثقل والإبل. وقال سفيان الثوري: لا قصر في أقل من مسيرة ثلاث، ولم نجد عنه تحديد الثلاث. وعن حماد بن أبي سليمان عن سعيد بن جبير في قصر الصلاة: في مسيرة ثلاث. ومن طريق الحجاج بن المنهال: ثنا يزيد بن إبراهيم قال سمعت الحسن البصري يقول: لا تقصر الصلاة في أقل من مسيرة ليلتين. ومن طريق وكيع عن الربيع بن صبيح عن الحسن: لا تقصر الصلاة إلا في ليلتين، ولم نجد عنه (3) تحديد الليلتين.
(1) في النسخة رقم (16) (علي بن ربيعة الرأي) وهو خطأ غريب (2) كذا في الأصول بنصب ليلتين (3) في النسخة رقم (16) (عنده) وهو خطأ 4 وعن معمر عن قتادة عن الحسن مثله، قال: وبه يأخذ قتادة. وعن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن الحسن مثله، إلا أنه قال: مسيرة يومين. وعن معمر عن الزهري قال: تقصر الصلاة في مسيرة يومين، ولم نجد عن قتادة ولاعن الزهري تحديد اليومين. وعن وكيع عن سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن مجاهد عن ابن عباس قال: إذا سافرت يوما إلى العشاء فأتم، فان زدت فقصر. وعن الحجاج بن المنهال: ثنا أبو عوانة عن منصور - هو ابن المعتمر - عن مجاهد عن ابن عباس قال: لا يقصر المسافر في مسيرة يوم إلى العتمة، إلا في أكثر من ذلك. وهذا مما اختلف (1) فيه عن ابن عباس. ومن طريق وكيع عن هشام بن الغاز ربيعة الجرشى (2) عن عطاء بن أبي رباح: قلت لابن عباس: أقصر إلى عرفة؟: قال: لا، ولكن إلى الطائف وعسفان، فذلك ثمانية وأربعون ميلا. وعن معمر أخبرني أيوب عن نافع: أن ابن عمر كان يقصر الصلاة في مسيرة أربعة برد. وهذا مما اختلف فيه عن ابن عمر كما ذكرنا. وبهذا يأخذ الليث ومالك في أشهر أقواله عنه، وقال: فإن كانت أرض لا أميال فيها فلا قصر في أقل من يوم وليلة للثقل. قال: وهذا أحب ما تقصر فيه الصلاة إلى. وقد ذكر عنه لا قصر إلا في خمسة وأربعين ميلا فصاعدا. وروى عنه: أنه لا قصر إلا في اثنين وأربعين ميلا فصاعدا. وروي عنه: لا قصر إلا في أربعين ميلا فصاعدا. وروى عنه إسماعيل بن أبي أويس: لا قصر الا في ستة وثلاثين ميلا فصاعدا. ذكر هذه الروايات عنه إسماعيل بن إسحاق القاضي في كتابه المعروف بالمبسوط. ورأي لأهل مكة خاصة في الحج خاصة -: أن يقصروا الصلاة إلى منى فما فوقها، وهي أربعة أميال. وروى عنه ابن القاسم: أنه قال فيمن خرج ثلاثة أميال - كالرعاء وغيرهم - فتأول فأفطر في رمضان فلا شئ عليه الا القضاء فقط.
(1) في النسخة رقم (16) (اختلفوا) (2) الغاز: بالغين المعجمة والزاي وبينهما ألف، والجرشى: بضم الجيم وفتح الراء وكسر الشين المعجمة. وفى النسخة رقم (16) (هشام بن ربيعة أبو الغاز الجرشى) وفى النسخة رقم (45) (هشام بن ربيعة بن الغاز الجرشى) وكلاهما خطأ والصواب ما ذكرنا 5 وروينا عن الشافعي: لاقصر في أقل من ستة وأربعين ميلا بالهاشمي. وههنا أقوال أخر أيضا: كما روينا من طريق وكيع عن شعبة عن شبيل (1) عن أبي جمرة الضبعي قال قلت لابن عباس: أقصر إلى الأبلة؟ قال: تذهب وتجئ في يوم؟ قلت: نعم، قال: لا، الا يوم متاح. وعن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء. قلت لابن عباس: أقصر إلى منى أو عرفة؟ قال: لا، ولكن إلى الطائف أو جدة أو عسفان، فإذا وردت على ماشية لك أو أهل فأتم الصلاة. قال على: من عسفان إلى مكة بتكسير الحلفاء (2) اثنان وثلاثون ميلا. وأخبرنا الثقات أن من جدة إلى مكة أربعين ميلا (3). وعن وكيع عن هشام بن الغاز عن نافع عن ابن عمر: لا تقصر الصلاة الا في يوم تام. وعن مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر: أنه سافر إلى ريم فقصر الصلاة، قال عبد الرزاق: وهي على ثلاثين ميلا من المدينة. وعن عكرمة: إذا خرجت فبت في غير أهلك فاقصر، فان أتيت أهلك فأتمم. وبه يقول الأوزاعي: لا قصر الا في يوم تام، ولم نجد عن هؤلاء تحديد اليوم. ومن طريق مالك عن نافع عن ابن عمر: أنه قصد إلى ذات النصب، وكنت أسافر مع ابن عمر البريد فلا يقصر. قال عبد الرزاق: ذات النصب من المدينة على ثمانية عشر ميلا. ومن طريق محمد بن جعفر: ثنا شعبة عن خبيب (4) بن عبد الرحمن عن حفص ابن عاصم بن عمر بن الخطاب قال: خرجت مع عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى ذات النصب - وهي من المدينة على ثمانية عشر ميلا - فلما أتاها قصر الصلاة. ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة: ثنا هشيم انا جويبر عن الضحاك عن النزال بن
(1) شبيل بضم الشين المعجمة وهو ابن عزرة بن عمير الضبعي، وشيخه أبو جمرة - بالجيم والراء - اسمه نصر بن عمران الضبعي، وفى النسخة رقم (16) (شبيل بن أبي جمرة) وهو خطأ (2) كذا في الأصلين (3) ما بين جدة ومكة من سبعين إلى ثمانين الف متر تقريبا فهو أكثر من أربعين ميلا (4) بالخاء المعجمة مصغر 6 سبرة: أن علي بن أبي طالب خرج إلى النخيلة فصلى بها الظهر ركعتين والعصر ركعتين ثم رجع من يومه، وقال: أردت أن أعلمكم سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم. ومن طريق وكيع: ثنا حماد بن زيد (1) ثنا أنس بن سيرين قال: خرجت مع أنس بن مالك إلى أرضه ببذق سيرين - وهي على رأس خمسة فراسخ - فصلى بنا العصر في سفينة، وهي تجرى بنا في دجلة قاعدا على بساط ركعتين ثم سلم، ثم صلى بنا ركعتين ثم سلم. ومن طريق البزار: ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي ثنا شعبة عن يزيد ابن خمير عن حبيب بن عبيد عن جبير بن نفير عن ابن السمط - هو شرحبيل -: أنه أتى أرضا يقال لها (دومين) - من حمص على بضعة عشر ميلا - فصلى ركعتين، فقلت له أتصلي ركعتين؟ قال: رأيت عمر يصلى بذى الحليفة ركعتين وقال: (أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل) (2). وعن محمد بن بشار: ثنا محمد بن أبي عدى ثنا شعبة عن يزيد بن خمير عن حبيب ابن عبيد عن جبير بن نفير قال: خرج ابن السمط - هو شرحبيل - إلى أرض يقال لها: (دومين) - من حمص على ثلاثة عشر ميلا فكان يقصر الصلاة، وقال: رأيت عمر ابن الخطاب يصلى بذى الحليفة ركعتين فسألته؟ فقال: (أفعل كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل). ورويناه من طريق مسلم أيضا باسناده إلى شرحبيل عن ابن عمر (3). قال على: لو كان هذا في طريق الحج لم يسأله ولا أنكر ذلك. ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة: ثنا إسماعيل بن علية عن الجريري عن أبي الورد ابن ثمامة (4) عن اللجلاج قال: كنا نسافر مع عمر بن الخطاب ثلاثة أميال فيتجوز في الصلاة ويفطر (5) ويقصر.
(1) في النسخة رقم (45) (ومن طريق حماد بن زيد) بدون نقط، وهو خطأ (2) كلمة (يفعل) سقطت من النسخة رقم (16) (3) في النسخة رقم (16) (عن ابن عمير) (4) في النسخة رقم (45) (عن أبي الورد عن ثمامة) وهو خطأ (5) في النسخة رقم (16) (فيفطر) وما هنا أحسن 7 ومن طريق محمد بن بشار: ثنا أبو عامر العقدي ثنا شعبة قال: سمعت ميسر (1) ابن عمران بن عمير يحدث عن أبيه عن جده: انه خرج (2) مع عبد الله بن مسعود - وهو رديفه على بغلة له - مسيرة أربعة فراسخ، فصلى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين قال شعبة: أخبرني بهذا ميسر بن عمران وأبوه عمران بن عمير شاهد. قال على: عمير هذا مولى عبد الله بن مسعود. ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة: ثنا علي بن مسهر عن أبي إسحاق الشيباني - هو سليمان ابن فيروز - عن محمد بن زيد بن خليدة عن ابن عمر قال: تقصر الصلاة في مسيرة ثلاثة أميال. قال على: محمد بن زيد هذا طائي ولاه علي بن أبي طالب القضاء بالكوفة، مشهور من كبار التابعين. ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة: ثنا وكيع ثنا مسعر - هو ابن كدام - عن محارب بن دثار قال سمعت ابن عمر يقول: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر، يعنى الصلاة. محارب هذا سدوسي قاضى الكوفة، من كبار التابعين، أحد الأئمة، ومسعر أحد الأئمة. ومن طريق محمد بن المثنى: ثنا عبد الرحمن بن مهدي قال ثنا سفيان الثوري قال سمعت جبلة بن سحيم يقول سمعت ابن عمر يقول: لو خرجت ميلا قصرت الصلاة. جبلة بن سحيم تابع ثقة مشهور. وحدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن بشار كلاهما عن غندر - هو محمد بن جعفر - عن شعبة عن يحيى بن يزيد الهنائي (3) قال: سألت أنس بن مالك عن قصر الصلاة؟ فقال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ - شك شعبة - صلى ركعتين. قال على: لا يجوز أن يجيب أنس إذا سئل الا بما يقول به.
(1) بضم الميم وفتح الياء المثناة وكسر السين المهملة المشددة وآخره راء (2) كلمة (خرج) سقطت من النسخة رقم (16) خطأ (3) بضم الهاء وفتح النون وكسر الهمزة 8 ومن طريق أبى داود السجستاني: أن دحية بن خليفة الكلبي أفطر في مسير له من الفسطاط إلى قرية على ثلاثة أميال منها. ومن طريق محمد بن بشار: ثنا أبو داود الطيالسي ثنا شعبة عن قيس بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: لقد كانت لي أرض على رأس فرسخين فلم أدرأ أقصر الصلاة إليها أم أتمها؟. ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة: ثنا حاتم بن إسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة قال: سألت سعيد بن المسيب: أأقصر الصلاة وأفطر في بريد من المدينة؟ قال: نعم. وهذا اسناد كالشمس. ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن زمعة - هو ابن صالح - عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء - هو جابر بن زيد - قال: يقصر في مسيرة ستة أميال. ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة: ثنا وكيع عن زكرياء بن أبي زائدة أنه سمع الشعبي يقول: لو خرجت إلى دير الثعالب لقصرت. وعن القاسم بن محمد وسالم: أنهما أمرار رجلا مكيا بالقصر من مكة إلى منى، ولم يخصا حجا من غيره، ولا مكيا من غيره. وصح عن كلثوم بن هانئ وعبد الله بن محيريز وقبيصة بن ذؤيب القصر في بضعة عشر ميلا (1) وبكل هذا نقول، وبه يقال أصحابنا في السفر إذا كان على ميل فصاعدا في حج أو عمرة أو جهاد، وفى الفطر في كل سفر. قال على: فهم من الصحابة كما أوردنا: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، ودحية بن خليفة، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، وأنس، وشرحبيل بن السمط، ومن التابعين: سعيد بن المسيب، والشعبي، وجابر بن زيد، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وقبيصة بن ذؤيب، و عبد الله بن محيريز، وكلثوم بن هانئ، وأنس بن سيرين، وغيرهم، وتوقف في ذلك سعيد بن جبير، ويدخل فيمن قال بهذا مالك في بعض أقواله، على ما ذكرنا عنه في المفطر متأولا، وفى المكي يقصر بمنى وعرفة.
(1) البضع في العدد بكسر الباء وبعض العرب يفتحها وهو ما بين الثلاث إلى التسع، والميل بكسر اللام منتهى مد البصر، والفرسخ ثلاثة أميال اه الجوهري. 9 قال على: وإنما تقصينا الروايات في هذه الأبواب لأننا وجدنا المالكيين والشافعيين قد أخذوا يجربون أنفسهم في دعوى الاجماع على قولهم! بل قد هجم على ذلك كبير من هؤلاء وكبير من هؤلاء فقال أحدهما: لم أجد أحدا قال بأقل من القصر فيما قلنا به، فهو إجماع! وقال الآخر: قولنا هو قول ابن عباس وابن عمر، ولا مخالف لهما من الصحابة! فاحتسبنا الاجر في إزالة ظلمة كذبهما عن المغتر بهما، ولو نورد إلا رواية مشهورة ظاهرة عند العلماء بالنقل، وفي الكتب المتداولة عند صبيان المحدثين فكيف أهل العلم؟ والحمد لله رب العالمين (1). قال على: أما من قال بتحديد ما يقصر فيه بالسفر من أفق إلى أفق، وحيث يحمل الزاد والمزاد، وفي ستة وتسعين ميلا وفى اثنين وثمانين ميلا، وفي اثنين وسبعين ميلا، وفي ثلاثة وستين ميلا، أو في أحد وستين ميلا، أو ثمانية وأربعين ميلا، أو خمسة وأربعين ميلا، أو أربعين ميلا، أو ستة وثلاثين ميلا -: فمالهم حجة أصلا ولا متعلق، لامن قرآن ولا من سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا من اجماع ولا من قياس، ولا من رأي سديد، ولا من قول صاحب لا مخالف له منهم. وما كان هكذا فلا وجه للاشتغال به. ثم نسأل من حد ما فيه القصر والفطر بشئ من ذلك عن أي ميل هو؟ ثم نحصله
(1) هذه الكتب التي كانت متداولة عند صبيان المحدثين في عصر ابن حزم - القرن الخامس ومن أهمها مصنف ابن أبي شيبة، ومصنف عبد الرزاق، واختلاف العلماء لابن المنذر -: صارت في عصرنا هذا بل وقبله بقرون من النوادر الغالية لا يسمع اسمها الا الخواص من كبار المطلعين على كتب السنة، وعامة المشتغلين بالحديث لا يعرفونها، وأصولها فقدت تقريبا من المكاتب الاسلامية وبقيت منها قطع قليلة، وقد علمنا أن مصنف ابن أبي شيبة يوجد منه نسختان بمكاتب الآستانة ولا ندري ماذا يفعل بهما الأتراك وبغيرهما من كتب الاسلام النادرة بعد ان أعلنوا خروجهم على الدين وأبدوا صفحتهم في عداء الاسلام؟، وسمعنا أيضا ان مصنف عبد الرزاق موجود في الأقطار اليمنية حفظها الله، بل هذا المحلى نفسه نلقى كل مشقة في سبيل تصحيح أصوله بعد إن كانت نسخة تفقد من بلاد الاسلام، لولا أن قيض الله لاحيائه الأستاذ الشيخ (محمد منير الدمشقي) مدير إدارة الطباعة المنيرية حفظه الله وجزاه عن المسلمين أحسن الجزاء، ولعل ناشري الكتب في العالم الاسلامي يهتمون بنشر ما يجدون من آثار لعلمائنا لو كانت في أمة من الأمم الأخرى لطاروا بها كل مطار. والله الهادي إلى سواء السبيل 10 من الميل عقدا أو فترا أو شبرا، ولا يزال نحطه شيئا فشيئا فلا بدله من التحكم في الدين، أو ترك ما هو عليه! فسقطت هذه الأقوال جملة والحمد لله رب العالمين. ولا متعلق لهم بابن عباس وابن عمر لوجوه: أحدها: أنه قد خالفهم غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. والثاني: أنه ليس التحديد بالأميال في ذلك من قولهما، وإنما هو من قول من دونهما. والثالث: انه قد اختلف عنهما أشد الاختلاف كما أوردنا. فروي حماد بن سلمة عن أيوب السختياني وحميد كلاهما عن نافع، ووافقهما ابن جريج عن نافع: ان ابن عمر كان لا يقصر في أقل من ستة وتسعين ميلا. وروي معمر عن أيوب عن نافع: ان ابن عمر كان يقصر في أربعة برد، ولم يذكر انه منع من القصر في أقل. وروي هشام بن الغاز عن نافع: ان ابن عمر قال: لا تقصر الصلاة الا في اليوم التام. وروي مالك عن نافع عنه: انه كان لا يقصر في البريد، وقال مالك: ذات النصب وريم كلتاهما من المدينة على نحو أربعة برد. وروى عنه علي بن ربيعة الوالبي: لا قصر في أقل من اثنين وسبعين ميلا. وروى عنه ابنه سالم بن عبد الله - وهو أجل من نافع -: انه قصر إلى ثلاثين ميلا. وروى عنه ابن أخيه حفص بن عاصم - وهو اجل من نافع واعلم به -: انه قصر إلى ثمانية عشر ميلا. وروى عنه شرحبيل بن السمط، ومحمد بن زيد بن خليدة، ومحارب بن دثار، وجبلة ابن سحيم - وكلهم أئمة -: القصر في أربعة أميال، وفى ثلاثة أميال، وفى ميل واحد وفى سفر ساعة، وأقصى ما يكون سفر الساعة من ميلين إلى ثلاثة. وأما ابن عباس فروي عنه عطاء: القصر إلى عسفان، وهي اثنان وثلاثون ميلا، وإذا وردت على أهل أو ماشية فأتم، ولا تقصر إلى عرفة ولا منى. وروى عنه مجاهد: لا قصر في يوم إلى العتمة، لكن فيما زاد على ذلك، وروي عنه أبو جمرة الضبعي: لا قصر الا في يوم متاح (1). وقد خالفه مالك في أمره عطاء أن لا يقصر إلى منى ولا إلى عرفة، وعطاء مكي، فمن
(1) بتشديد التاء المثناة من فوق أي يوم سيره من أول النهار إلى آخره ومتح النهار إذا طال وامتد 11 الباطل أن يكون بعض قوله حجة وجمهور قوله ليس حجة!. وخالفه أيضا مالك والشافعي في قوله: إذا قدمت على أهل أو ماشية فأتم الصلاة،. فحصل قول مالك والشافعي خارجا عن أن يقطع بأنه تحديد أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولاوجد بينا عن أحد من التابعين أنه حد ما فيه القصر بذلك ولعل التحديد - الذي في حديث ابن عباس - إنما هو من دون عطاء، وهو هشام بن ربيعة، وليس في حديث نافع عن ابن عمر أنه منع القصر في أقل من أربعة برد. فسقطت أقوال من حد ذلك بالأميال المذكورة سقوطا متيقنا. وبالله تعالى التوفيق. ثم رجعنا إلى قول من حد ذلك بثلاثة أيام، أو يومين أو يوم وشئ زائد، أو يوم تام أو يوم وليلة -: فلم نجد لمن حد ذلك بيوم وزيادة شئ متعلقا أصلا، فسقط هذا القول. فنظرنا في الأقوال الباقية (1) فلم نجد لهم متعلقا إلا بالحديث الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق أبي سعيد الخدري، وابن هريرة، وابن عمر في نهى المرأة عن السفر، في بعضها (ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم) وفى بعضها: (ليلتين إلا مع ذي محرم) وفى بعضها (يوما وليلة إلا مع ذي محرم) وفى بعضها: (يوما إلا مع ذي محرم) فتعلقت كل طائفة بلفظ مما ذكرنا. فأما من تعلق بليلتين أو بيوم وليلة فلا متعلق لهم أصلا، لأنه قد جاء ذلك الحديث بيوم وجاء بثلاثة أيام، فلا معنى للتعلق باليومين ولا باليوم والليلة دون هذين العددين الآخرين أصلا، وإنما يمكن ان يشغب ههنا بالتعلق بالأكثر مما ذكر في ذلك الحديث أو بالأقل مما ذكر فيه. واما التعلق بعدد قد جاء النص بأقل منه أو بأكثر منه فلا وجه له أصلا فسقط هذان القولان أيضا. فنظرنا في قول من تعلق بالثلاث أو باليوم فكان من شغب من تعلق باليوم ان قال: هو أقل ما ذكر في ذلك الحديث، فكان ذلك هو حد السفر الذي ما دونه بخلافه، فوجب أن يكون ذلك حدا لما يقصر فيه. قالوا: وكان من اخذ بحدنا قد استعمل حكم الليلتين واليوم والليلة والثلاث، ولم يسقط من حكم ما ذكر في ذلك الحديث شيئا، وهذا أولى ممن أسقط أكثر ما ذكر في ذلك الحديث.
(1) في النسخة رقم (45) (الثابتة) وهو خطأ 12 قال على: فقلنا لهم: لم تأتوا بشئ! فان كنتم إنما تعلقتم باليوم لأنه أقل ما ذكر في الحديث -: فليس كما قلتم، وقد جهلتم أو تعمدتم!. فان هذا الحديث رواه بشر بن المفضل عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تسافر يوما وليلة الا ومعها ذو محرم منها). ورواه مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر يوما وليلة الا مع ذي محرم منها). ورواه الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه ان أبا هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة مسلمة تسافر ليلة الا ومعها رجل ذو حرمة منها). ورواه ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة يوم الا مع ذي محرم). ورواه جرير بن حازم عن سهيل بن أبي صالح عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فذكر الحديث وفيه -: (أن تسافر بريدا) وسعيد أدرك أبا هريرة وسمع منه. فاختلف الرواة عن أبي هريرة ثم عن سعيد بن أبي سعيد، وعن سهيل بن أبي صالح كما أوردنا. وروى هذا الحديث ابن عباس فلم يضطرب عليه ولا اختلف عنه. كما حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب كلاهما عن سفيان بن عيينة ثنا عمرو بن دينار عن أبي معبد - هو مولى ابن عباس - قال سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يخلون رجل بامرأة الا ومعها ذو محرم، ولا تسافر المرأة الا مع ذي محرم). فعم ابن عباس في روايته كل سفر دون اليوم ودون البريد وأكثر منهما، وكل سفر
13 قل أو طال فهو عام لما في سائر الأحاديث، وكل ما في سائر الأحاديث فهو بعض ما في حديث ابن عباس هذا، فهو المحتوى على جميعها، والجامع لها كلها، ولا ينبغي أن يتعدى ما فيه إلى غيره، فسقط قول من تعلق باليوم أيضا. وبالله تعالى التوفيق. ثم نظرنا في قول من حد ذلك بالثلاث فوجدناهم يتعلقون بذكر الثلاث في هذا الحديث وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله في المسح: (للمسافر ثلاثا بلياليهن، وللمقيم يوما وليلة) لم نجدهم موهوا بغير هذا أصلا. قال على: وقالوا: من تعلق بالثلاث كان على يقين من الصواب (1)، لأنه إن كان عليه السلام ذكر نهيه عن سفرها ثلاثا قبل نهيه عن سفرها يوما أو أقل من يوم -: فالخبر الذي ذكر فيه اليوم هو الواجب ان يعمل به، ويبقى نهيه عن سفرها ثلاثا على حكمه غير منسوخ، بل ثابت كما كان، وإن كان ذكر نهيه عن سفرها ثلاثا بعد نهيه عن سفرها يوما أو أقل من يوم -: فنهيه عن السفر ثلاثا هو الناسخ لنهيه إياها عن السفر أقل من ثلاث. قالوا: فنحن على يقين من صحة حكم النهى لها عن السفر ثلاثا إلا مع ذي محرم، وعلى شك في صحة النهى لها عما دون الثلاث، فلا يجوز ان يترك اليقين للشك!. قال على: وهذا تمويه فاسد من وجوه ثلاثة. أحدها: انه قد جاء النهي عن أن تسافر أكثر من ثلاث. روينا ذلك من طرق كثيرة في غاية الصحة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تسافر المرأة فوق ثلاث إلا ومعها ذو محرم). ومن طريق قتادة عن قزعة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسافر المرأة (2) فوق ثلاث ليال الا مع ذي محرم). ومن طريق أبى معاوية ووكيع عن الأعمش عن أبي صالح السمان عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تسافر سفرا فوق ثلاثة أيام فصاعدا الا ومعها أخوها أو أبوها أو زوجها أو ابنها أو ذو محرم منها). فإن كان ذكر الثلاث في بعض الروايات مخرجا لما دون الثلاث، مما (3) قد ذكر أيضا
(1) في النسخة رقم (45) (من الصلوات) وما هنا أحسن وأصح (2) في النسخة رقم (45) (لا تسافر امرأة) (3) في النسخة رقم (45) (لما) وهو خطأ 14 في بعض الروايات، عن حكم الثلاث -: فان ذكر ما فوق الثلاث في هذه الروايات مخرج للثلاث أيضا، وان ذكرت في بعض الروايات عن حكم ما فوق الثلاث، وإلا فالقوم متلاعبون متحكمون بالباطل. ويلزمهم أن يقولوا: إنهم على يقين من صحة حكم ما فوق الثلاث وبقائه غير منسوخ وعلى شك من صحة بقاء النهى عن الثلاث، كما قالوا في الثلاث وفيما دونها سواء بسواء ولا فرق. فقالوا: لم يفرق أحد بين الثلاث وبين ما فوق الثلاث. فقيل لهم: قلتم بالباطل قد صح عن عكرمة أن حد ما تسافر المرأة فيه بأكثر من ثلاث، لا بثلاث،. فكيف؟ ولا يجوز أن يكون قول قاله رجلان من التابعين، ورجلان من فقهاء الأمصار، واختلف فيه عن واحد من الصحابة قد خالفه غيره منهم، فما يعده إجماعا إلا من لادين له ولا حياء!. فكيف؟ وإذا قد جاء عن ابن عمر: انه عد اثنين وسبعين ميلا إلى السويداء مسيرة ثلاث، فان تحديده الذي روى عنه أن لا قصر فيما دونه لستة وتسعين ميلا -: موجب ان هذا أكثر من ثلاث، لان بين العددين أربعة وعشرون ميلا، ومحال كون كل واحد من هذين العددين ثلاثا مستوية!. والوجه الثاني: انه قد عارض هذا القول قول من حد باليوم الواحد، وقولهم: نحن على يقين من صحة استعمالنا نهيه عليه السلام عن سفرها يوما واحدا مع غير ذي محرم ونهيها عن أكثر من ذلك لأنه إن كان النهى عن سفرها ثلاثا هو الأول أو هو الآخر، فإنها منهية أيضا عن اليوم، وليس تأخير نهيها عن الثلاث بناسخ لما تقدم من نهيه عليه السلام عما دون الثلاث، وأنتم على يقين من مخالفتكم لنهيه عليه السلام لها عما دون الثلاث وخلاف امره عليه السلام - بغير يقين للنسخ لا يحل، فتعارض القولان. والثالث: ان حديث ابن عباس الذي ذكرنا قاض على جميع هذه الأحاديث وكلها بعض ما فيه، فلا يجوز (1) ان يخالف ما فيه أصلا لان من عمل به فقد عمل بجميع الأحاديث المذكورة ومن عمل بشئ من تلك الأحاديث - دون سائرها - فقد خالف نهى رسول الله
(1) في النسخة رقم (45) (فلا يجب) وما هنا أصح 15 صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يجوز. قال على: ثم لو لم تتعارض الروايات فإنه ليس في الحديث الذي فيه نهى المرأة عن سفر مدة ما إلا مع ذي محرم، ولا في الحديث الذي فيه مدة مسح المسافر والميم -: ذكر أصلا - لا بنص ولا بدليل - على المدة التي يقصر فيها ويفطر، ولا يقصر ولا يفطر في أقل منها. ومن العجب أن الله تعالى ذكر القصر في الضرب في الأرض مع الخوف، وذكر الفطر في السفر والمرض، وذكر التيمم عند عدم الماء في السفر والمرض -: فجعل هؤلاء حكم نهى المرأة عن السفر إلا مع ذي محرم، وحكم مسح المسافر -: دليلا على ما يقصر فيه ويفطر، دون مالا قصر فيه ولا فطر، ولم يجعلوه دليلا على السفر الذي يتيمم فيه من السفر الذي لا يتيمم فيه!. فان قالوا: قسنا ما تقصر فيه الصلاة وما لا تقصر فيه على ما تسافر فيه المرأة مع غير ذي محرم وما لا تسافره، وعلى ما يمسح فيه المقيم وما لا يمسح. قلنا لهم: ولم فعلتم هذا؟! وما العلة الجامعة بين الامرين؟! أو ما الشبه بينهما؟! وهلا قستم المدة التي إذا نوى إقامتها المسافر أتم على ذلك أيضا؟ وما يعجز أحد أن يقيس برأيه حكما على حكم آخر! وهلا قستم ما يقصر فيه على ما لا يتيمم فيه؟ فهو أولى إن كان القياس حقا، أو على ما أبحتم فيه للراكب التنفل على دابته؟. ثم يقول لهم: أخبرونا عن قولكم: إن سافر ثلاثة أيام قصر وأفطر، وان سافر أقل لم يقصر ولم يفطر -: ما هذه الثلاثة الأيام؟ أمن أيام حزيران؟ أم من أيام كانون الأول فما بينهما؟ وهذه الأيام التي قلتم، أسير العساكر؟ أم سير الرفاق على الإبل، أو على الحمير، أو على البغال؟ أم سير الراكب المجد؟ أم سير البريد؟ أم مشى الرجالة؟ وقد علمنا يقينا أن مشى الراجل الشيخ الضعيف في وحل وعر أو في حر شديد -: خلاف مشى الراكب على البغل المطيق في الربيع في السهل وان هذا يمشى في يوم مالا يمشيه الآخر في عشرة أيام. وأخبرونا عن هذه الأيام: كيف هي؟ أمشيا من أول النهار إلى آخره؟ أم إلى وقت العصر أو بعد ذلك قليلا، أو قبل ذلك قليلا؟ أم النهار والليل معا؟ أم كيف هذا؟!. وأخبرونا: كيف جعلتم هذه الأيام ثلاثا وستين ميلا على واحد وعشرين ميلا كل يوم؟
16 ولم تجعلوها اثنين وسبعين ميلا على أربعة وعشرين ميلا كل يوم؟ أو اثنين وثلاثين ميلا كل يوم؟ أو عشرين ميلا كل يوم؟ أو خمسة وثلاثين ميلا كل يوم؟ فما بين ذلك! فكل هذه المسافات تمشيها الرفاق، ولا سبيل لهم إلى تحديد شئ مما ذكرنا - دون سائره - إلا برأي فاسد. وهكذا يقال لمن قدر ذلك بيوم أو بليلة أو بيوم أو بيومين ولا فرق. فان قالوا: هذا الاعتراض يلزمكم أن تدخلوه على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره المرأة ان لا تسافر ثلاثا أو ليلتين أو يوما وليلة أو يوما إلا مع ذي محرم، وفي تحديده عليه السلام مسح المسافر ثلاثا والمقيم يوما وليلة. قلنا - ولا كرامة لقائل هذا منكم -: بل بين تحديد رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحديدكم أعظم الفرق، وهو أنكم لم تكلوا الأيام التي جعلتموها حدا لما يقصر فيه وما يفطر، أو اليوم والليلة كذلك، التي جعلها منكم من جعلها حدا -: إلى مشى المسافر المأمور بالقصر أو الفطر في ذلك المقدار، بل كل طائفة منكم جعلت لذلك حدا من مساحة الأرض لا ينقص منها شئ، لأنكم مجمعون على أن من مشى ثلاثة أيام كل يوم ثمانية عشر ميلا أو عشرين ميلا لا يقصر، فان مشى يوما وليلة ثلاثين ميلا فإنه لا يقصر، واتفقتم أنه من مشى ثلاثة أيام كل يوم بريدا غير شئ أو جمع ذلك المشي في يوم واحد أنه لا يقصر، واتفقتم معشر المموهين بذكر الثلاث ليالي في الحديثين على أنه لو مشى من يومه ثلاثة وستين ميلا فإنه يقصر ويفطر، ولو لم يمش إلا بعض يوم وهذا ممكن جدا كثير (في الناس، وليس كذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة بأن لا تسافر ثلاثا أو يوما إلا مع ذي محرم، وأمره عليه السلام المسافر ثلاثة أيام بلياليهن بالمسح ثم يخلع، لأن هذه الأيام موكولة إلى حالة المسافر والمسافرة على عموم قوله عليه السلام الذي لو أراد غيره لبينة لامته، فلو أن مسافرة خرجت تريد سفر ميل فصاعدا لم يجز لها أن تخرجه إلا مع ذي محرم إلا لضرورة، لو أن مسافرا سافر سفرا يكون ثلاثة أميال يمشى في كل يوم ميلا لكان له أن يمسح، ولو سافر يوما وأقام آخر وسافر ثالثا لكان له أن يمسح الأيام الثلاثة كما هي، وحتى لو لم يأت عنه عليه السلام إلا خبر الثلاث فقط لكان القول: أن المرأة ان خرجت في سفر مقدار قوتها فيه أن لا تمشى إلا ميلين من نهارها
17 أو ثلاثة -: لما حل لها إلا مع ذي محرم، فلو كان مقدار قوتها أن تمشى خمسين ميلا كل يوم لكان لها أن تسافر مسافة مائة ميل مع ذي محرم (1) لكن وحدها، والذي حده عليه السلام في هذه الأخبار معقول مفهوم مضبوط غير مقدر بمساحة من الأرض لا تتعدى، بل بما يستحق به اسم سفر ثلاث أو سفر يوم ولا مزيد، والذي حدد تموه أنتم غير معقول ولا مفهوم ولا مضبوط أصلا بوجه من الوجوه، فظهر فرق ما بين قولكم وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبين فساد هذه الأقوال كلها بيقين لا إشكال فيه، وأنها لا متعلق لها ولا لشئ (2) منها لا بقرآن ولا بسنة صحيحة ولا سقيمة، ولا باجماع ولا بقياس ولا بمعقول، ولا بقول صاحب لم يختلف عليه نفسه فكيف أن لا يخالفه غيره منهم، وما كان هكذا فهو باطل بيقين. فان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاخبار المأثورة عنه حق، كلها على ظاهرها ومقتضاها، من خالف شيئا منها خالف الحق، لا سيما تفريق مالك بين خروج المكي إلى منى والى عرفة في الحج فيقصر -: وبين سائر جميع بلاد الأرض يخرجون هذا المقدار فلا يقصرون ولا يعرف هذا التفريق عن صاحب ولا تابع قبله. واحتج له بعض مقلديه بأن قال: إنما ذلك لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أهل مكة أتموا فانا قوم سفر) ولم يقل ذلك: بمنى. قال على: وهذا لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلا، وإنما هو محفوظ عن عمر رضي الله عنه. ثم لو صح لما كانت فيه حجة لهم، لأنه كان يلزمهم إذ أخرجوا حكم أهل مكة بمنى عن حكم سائر الاسفار من أجل ما ذكروا -: أن يقصر أهل منى بمنى وبمكة لأنه عليه السلام لم يقل لأهل منى: أتموا. فان قالوا: قد عرف أن الحاضر لا يقصر. قيل لهم: صدقتم، وقد عرف أن ما كان من الاسفار له حكم الإقامة فإنهم لا يقصرون فيها، فإن كان ما بين مكة ومنى من أحد السفرين المذكورين فتلك المسافة في جميع بلاد الله تعالى كذلك ولا فرق، إذ ليس
(1) في النسخة رقم (16) (إلا مع ذي محرم) وهو خطأ (2) في الأصلين (ولا بشئ) وهو خطأ ظاهر 18 إلا سفر أو إقامة بالنص والمعقول ولا فرق. وقد حد بعض المتأخرين ذلك بما فيه المشقة. قال على: فقلنا هذا باطل لان المشقة تختلف، فنجد من يشق عليه مشى ثلاثة أميال حتى لا يبلغها إلا بشق النفس، وهذا كثير جدا، يكاد أن يكون الأغلب، ونجد من لا يشق عليه الركوب في عمارية في أيام الربيع مرفها مخدوما شهرا وأقل وأكثر، فبطل هذا التحديد. قال على: فلنقل الآن بعون الله تعالى وقوته على بيان السفر الذي يقصر فيه ويفطر فنقول وبالله تعالى التوفيق. قال الله عز وجل (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا). وقال عمر، وعائشة، وابن عباس: ان الله تعالى فرض الصلاة على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم في السفر ركعتين، ولم يخص الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون بأجمعهم سفرا من سفر، فليس لأحد أن يخصه إلا بنص أو اجماع متيقن. فان قيل: بل لا يقصر ولا يفطر الا في سفر أجمع المسلمون على القصر فيه والفطر. قلنا لهم: فلا تقصروا ولا تفطروا إلا في حج، أو عمرة، أو جهاد، وليس هذا قولكم ولو قلتموه لكنتم قد خصصتم القرآن والسنة بلا برهان، وللزمكم في سائر الشرائع كلها أن لا تأخذوا في شئ منها لا بقرآن ولا بسنة إلا حتى يجمع الناس على ما أجمعوا عليه منها، وفى هذا هدم مذاهبكم كلها بل فيه الخروج عن الاسلام، وإباحة مخالفة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في الدين كله، إلا حتى يجمع الناس على شئ من ذلك، وهذا نفسه خروج عن الاجماع،. وإنما الحق في وجوب اتباع القرآن والسنن حتى يصح نص أو إجماع في شئ منهما أنه مخصوص أو منسوخ، فيوقف عندما صح من ذلك، فإنما بعث الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ليطاع، قال تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) ولم يبعثه الله تعالى ليعصى حتى يجمع الناس على طاعته، بل طاعته واجبة قبل ان يطيعه أحد، وقبل أن يخالفه أحد، لكن ساعة يأمر بالامر، هذا ما لا يقول مسلم خلافه، حتى نقض من نقض. والسفر هو البروز عن محلة الإقامة، وكذلك الضرب في الأرض، هذا الذي لا يقول أحد من أهل اللغة - التي بها خوطبنا وبها نزل القرآن - سواه، فلا يجوز أن يخرج
19 عن هذا الحكم إلا ما صح النص باخراجه، ثم وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا ولا أفطروا، ولا أفطر ولا قصر، فخرج هذا عن أن يسمى سفرا، وعن أن يكون له حكم السفر، فلم يجز لنا أن نوقع اسم سفر وحكم سفر إلا على من سماه من هو حجة في اللغة سفرا، فلم نجد ذلك في أقل من ميل، فقد روينا عن ابن عمر أنه قال: لو خرجت ميلا لقصرت الصلاة، فأوقعنا اسم السفر وحكم السفر في الفطر والقصر على الميل فصاعدا، إذا لم نجد عربيا ولا شريعيا عالما أوقع على أقل منه اسم سفر، وهذا برهان صحيح. وبالله تعالى التوفيق. فان قيل: فهلا جعلتم الثلاثة الأميال - كما بين المدينة وذي الحليفة - حدا للقصر والفطر إذ لم تجدوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قصر ولا أفطر في أقل من ذلك؟. قلنا: ولا وجدنا عنه عليه السلام منعا من الفطر والقصر في أقل من ذلك، بل وجدناه عليه السلام أوجب عن ربه تعالى الفطر في السفر مطلقا، وجعل الصلاة في السفر ركعتين مطلقا، فصح ما قلناه. والله تعالى الحمد والميل هو ما سمى عند العرب ميلا، ولا يقع ذلك على أقل من ألفي ذراع. فان قيل: لو كان هذا ما خفى على ابن عباس ولا على عثمان ولا على من لا يعرف ذلك من التابعين والفقهاء، فهو مما تعظم به البلوي. قلنا: قد عرفه عمر، وابن عمر، وأنس وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين. ثم نعكس عليكم قولكم، فنقول للحنيفيين: لو كان قولكم في هذه المسألة حقا ما خفى على عثمان، ولا على ابن مسعود، ولا على ابن عباس، ولا على من لا يعرف قولكم، كمالك، والليث والأوزاعي، وغيرهم، ممن لا يقول به من الصحابة والتابعين والفقهاء، وهو مما تعظم به البلوي. ونقول للمالكيين: لو كان قولكم حقا ما خفى على كل من ذكرنا من الصحابة والتابعين والفقهاء، وهو مما تعظم به البلوى. إلا أن هذا الالزام لازم للطوائف المذكورة لالنا، لأنهم يرون هذا الالزام حقا، ومن حقق شيئا لزمه، وأما نحن فلا نحقق هذا الالزام الفاسد، بل هو عندنا وسواس وضلال، وإنما حسبنا اتباع ما قال الله تعالى ورسوله عليه السلام، عرفه من عرفه، وجهله من جهله، وما من شريعة اختلف الناس فيها إلا قد علمها بعض السلف وقال بها، وجهلها بعضهم
20 فل يقل بها. وبالله تعالى التوفيق. قال على: وقدموه بعضهم بأن قال: إن من العجب ترك سؤال الصحابة رضي الله عنهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه العظيمة، وهي حد السفر الذي تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه في رمضان!. فقلنا: هذا أعظم برهان وأجل دليل وأوضح حجة لكل من له أدنى فهم وتمييز -: على أنه لاحد لذلك أصلا إلا ما سمى سفر في لغة العرب التي بها خاطبهم عليه السلام، إذ لو كان لمقدار السفر حد غير ما ذكرنا لما أغفل عليه السلام بيانه البتة، ولا أغفلوا هم سؤاله عليه السلام عنه، ولا اتفقوا على ترك نقل تحديده في ذلك الينا، فارتفع الاشكال جملة ولله الحمد، ولاح بذلك أن الجميع منهم قنعوا بالنص الجلي، وان كل من حد في ذلك حدا فإنما هو وهم أخطأ فيه. قال على: وقد اتفق الفريقان على أنه إذا فارق بيوت القرية وهو يريد اما ثلاثة أيام واما أربعة برد -: أنه يقصر الصلاة، فنسألهم: أهو في سفر تقصر فيه الصلاة؟ أم ليس في سفر تقصر فيه الصلاة بعد، لكنه يريد سفرا تقصر فيه الصلاة بعد، ولا يدرى أيبلغه أم لا؟ ولابد من أحد الامرين. فان قالوا: ليس في سفر تقصر فيه الصلاة بعد، ولكنه يريده، ولا يدرى أيبلغه أم لا، أقروا بأنهم أباحوا له القصر وهو في غير سفر تقصر فيه الصلاة، من أجل نيته في ارادته سفرا تقصر فيه الصلاة، ولزمهم أن يبيحوا له القصر فيه منزله وخارج منزله بين بيوت قريته، من أجل نيته في ارادته سفرا تقصر فيه الصلاة ولا فرق، وقد قال بهذا القول عطاء وأنس به مالك وغيرهما، الا أن هؤلاء يقرون أنه ليس في سفر، ثم يأمرونه بالقصر، وهذا لا يحل أصلا. وان قالوا: بل هو في سفر تقصر فيه الصلاة، هدموا كل ما بنوا، أبطلوا أصلهم ومذهبهم، وأقروا بأن قليل السفر وكثيره تقصر فيه الصلاة، لأنه قد ينصرف قبل أن يبلغ المقدار الذي فيه القصر عندهم. وأما نحن فان ما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر، فلا يقصر فيه ولا يفطر، فإذا بلغ الميل فحينئذ صار في سفر تقصر فيه الصلاة ويفطر فيه، فمن حينئذ
21 يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم، لأنه ليس في سفر يقصر فيه بعد. 514 - مسألة - وسواء سافر في بر، أو بحر، أو نهر، كل ذلك كما ذكرنا، لأنه سفر ولا فرق. 515 - مسأله - فان سافر المرء في جهاد أو حج أو عمرة أو غير ذلك من الاسفار -: فأقام في مكان واحد عشرين يوما بلياليها قصر، وان أقام أكثر أتم ولو في صلاة واحدة. ثم ثبتنا بعون الله تعالى على أن سفر الجهاد، وسفر الحج، وسفر العمرة، وسفر الطاعة وسفر المعصية، وسفر ما ليس طاعة ولا معصية -: كل ذلك سفر، حكمه كله في القصر واحد، وان من أقام في شئ منها عشرين يوما بلياليها فأقل فإنه يقصر ولابد، سواء نوى اقامتها أو لم ينو اقامتها، فان زاد على ذلك إقامة مدة صلاة واحدة فأكثر أتم ولابد، هذا في الصلاة خاصة. وأما في الصيام في رمضان فبخلاف ذلك، بل إن أقام يوما وليلة في خلال السفر لم يسافر فيهما -: ففرض عليه أن ينوى الصوم فيما يستأنف (1) وكذلك ان نزل ونوي إقامة ليلة والغد، ففرض عليه أن ينوى الصيام ويصوم. فان ورد على ضيعة له أو ما شية أو دار فنزل هنالك أتم فإذا رحل ميلا فصاعدا قصر. قال على: واختلف الناس في هذا فروينا عن ابن عمر: أنه كان إذا أجمع علي إقامة خمسة عشر يوما أتم الصلاة، ورويناه أيضا عن سعيد بن المسيب، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه. وروينا من طريق أبى داود ثنا محمد بن العلاء ثنا حفص بن غياث ثنا عاصم عن عكرمة عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بمكة سبع عشرة يقصر الصلاة) قال ابن عباس: من أقام سبع عشرة بمكة قصر، ومن أقام فزاد أتم. وروي عن الأوزاعي: إذا اجمع إقامة ثلاث عشرة ليلة أتم فان نوي أقل قصر. وعن ابن عمر قول آخر: انه كأن يقول: إذا أجمعت إقامة ثنتى عشرة ليلة فأتم الصلاة. وعن علي بن أبي طالب: إذا أقمت عشرا فأتم الصلاة. وبه يأخذ سفيان الثوري
(1) في النسخة رقم (45) (لما يستأنف) 22 والحسن بن حي وحميد الرؤاسي صاحبه. وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت أربعا فصل أربعا. وبه يأخذ مالك، والشافعي، والليث، الا انهم يشترطون ان ينوي إقامة أربع، فإن لم ينوها قصر وان بقي حولا. وعن سعيد بن المسيب قول آخر وهو: إذا أقمت ثلاثا فأتم. ومن طريق وكيع عن شعبة عن أبي بشر - هو جعفر بن أبي وحشية - عن سعيد بن جبير. إذا أراد أن يقيم أكثر من خمس عشرة أتم الصلاة. وعن سعيد بن جبير قول آخر: إذا وضعت رحلك (1) بأرض فأتم الصلاة. وعن معمر عن الأعمش عن أبي وائل قال كنا مع مسروق بالسلسلة سنتين وهو عامل عليها فصلى بنا ركعتين ركعتين حتى انصرف. وعن وكيع عن شعبة عن أبي التياج الضبعي عن أبي المنهال العنزي قلت لابن عباس: إني أقيم بالمدينة حولا لا أشد على سير؟ قال: صل ركعتين. وعن وكيع عن العمرى عن نافع عن ابن عمر: أنه أقام بأذربيجان ستة أشر أرتج عليهم الثلج، (2) فكان يصلى ركعتين. قال على: الوالي لا ينوي رحيلا قبل خمس عشرة ليلة بلا شك، وكذلك من ارتج عليه الثلج فقد أيقن أنه لا ينحل إلى أول الصف. وقد أمر ابن عباس من أخبره انه مقيم سنة لا ينوى سيرا بالقصر. وعن الحسن وقتادة: يقصر المسافر ما لم يرجع إلى منزله، إلا أن يدخل مصرا من أمصار المسلمين. قال على: احتج أصحاب أبي حنيفة بأن قولهم أكثر ما قيل، وانه مجمع عليه أنه إذا نوى المسافر إقامة ذلك المقدار أتم، ولا يخرج عن حكم القصر إلا باجماع. قال على: وهذا باطل، قد أوردنا عن سعيد بن جبير انه يقصر حين ينوى أكثر من خمسة عشر يوما، وقد اختلف عن ابن عمر نفسه، وخالفه ابن عباس كما أوردنا وغيره فبطل قولهم عن أن يكون له حجة.
(1) بفتح الراء واسكان الحاء المهملة. وفي نسخة رقم (16) (رجلك) بالجيم وهو تصحيف (2) في اللسان (ارتاج الثلج دوامه واطباقه، وارتاج الباب منه) 23 واحتج لمالك، والشافعي مقلدوهما بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق العلاء بن الحضرمي أنه عليه السلام قال: (يمكث المهاجر بعد انقضاء نسكه ثلاثا) قالوا: فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهاجرين الإقامة بمكة التي كانت أوطانهم فأخرجوا عنها في الله تعالى حتى يلقوا ربهم عز وجل غرباء عن أوطانهم لوجهه عز وجل ثم أباح لهم المقام بها ثلاثا بعد تمام النسك، قالوا: فكانت الثلاث خارجة عن الإقامة المكروهة لهم، وكان ما زاد عنها داخلا في الإقامة المكروهة. ما نعلم لهم حجة غير هذا أصلا. وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه ليس في هذا الخبر نص ولا إشارة إلى المدة التي إذا أقامها المسافر أتم، وإنما هو في حكم المهاجر، فما الذي أوجب أن يقاس المسافر يقيم على المهاجر يقيم؟ هذا لو كان القياس حقا، وكيف وكله باطل؟. وأيضا فان المسافر مباح له أن يقيم ثلاثا وأكثر من ثلاث، لا كراهية في شئ من ذلك وأما المهاجر فمكروه له أن يقيم بمكة بعد انقضاء نسكه أكثر من ثلاث، فأي نسبة بين إقامة مكروهة وإقامة مباحة لو أنصفوا أنفسهم؟. وأيضا: فان ما زاد على الثلاثة الأيام للمهاجر داخل عندهم في حكم أن يكون مسافرا لا مقيما، وما زاد على الثلاثة للمسافر فإقامة صحيحة، وهذا مانع من أن يقاس أحدهما على الآخر، ولو قيس أحدهما على الآخر لوجب ان يقصر المسافر فيما زاد على الثلاث، لا أن يتم، بخلاف قولهم. وأيضا: فان إقامة قدر صلاة واحدة زائدة على الثلاثة مكروهة، فينبغي عندهم - إذا قاسوا عليه المسافر - أن يتم ولو نوى زيادة صلاة على الثلاثة الأيام، وهكذا قال أبو تور. فبطل قولهم على كل حال، وعربت الأقوال كلها عن حجة، فوجب ان نبين البرهان على صحة قولنا بعون الله تعالى وقوته. قال على: أما الإقامة في الجهاد والحج والعمرة فان الله تعالى لم يجعل القصر إلا مع الضرب في الأرض ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم القصر إلا مع السفر، لامع الإقامة، وبالضرورة ندري ان حال السفر غير حال الإقامة، وان السفر إنما هو التنقل في غير دار الإقامة وان الإقامة هي السكون وترك النقلة والتنقل في دار الإقامة، هذا حكم الشريعة والطبيعة معا
24 فإذ ذلك كذلك فالمقيم في مكان واحد مقيم غير مسافر بلا شك، فلا يجوز أن يخرج عن حال الإقامة وحكمها في الصيام والاتمام الا بنص، وقد صح باجماع أهل النقل: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل في حال سفره فأقام باقي نهاره وليلته ثم رحل في اليوم الثاني، وأنه عليه السلام قصر في باقي يومه ذلك وفى ليلته التي بين يومى نقلته، فخرجت هذه الإقامة عن حكم الإقامة في الاتمام والصيام، ولولا ذلك لكان مقيم ساعة له حكم الإقامة. وكذلك من ورد على ضيعة له أو ماشية أو عقار فنزل هنا لك فهو مقيم، فله حكم الإقامة كما قال ابن عباس، إذ لم نجد نصا في مثل هذه الحال ينقلها عن حكم الإقامة، وهو أيضا قول الزهري، وأحمد بن حنبل. ولم نجد عنه عليه السلام انه أقام يوما وليلة لم يرحل فيهما فقصر وأفطر الا في الحج والعمرة، والجهاد فقط، فوجب بذلك ما ذكرنا من أن من أقام في خلال سفره يوما وليلة لم يظعن في أحدهما فإنه يتم ويصوم، وكذلك من مشى ليلا وينزل نهارا فإنه يقصر باقي ليلته ويومه الذي بين ليلتي حركته، وهذا قول روي عن ربيعة. ونسأل من أبى هذا عن ماش (1) في سفر تقصر فيه الصلاة عندهم نوى إقامة وهو سائر (2) لا ينزل ولا يثبت -: اضطر لشدة الخوف إلى أن يصلى فرضه راكبا ناهضا أو ينزل لصلاة فرضه ثم يرجع (3) إلى المشي: أيقصر أو يتم؟ فمن قولهم: يقصر، فصح أن السفر هو المشي. ثم نسألهم عمن نوى إقامة وهو نازل غير ماش: أيتم أو يقصر؟ فمن قولهم: يتم، فقد صح أن الإقامة هي السكون لا المشي متنقلا. وهذا نفس قولنا. ولله تعالى الحمد. وأما الجهاد والحج فان عبد الله بن ربيع قال ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا أحمد بن حنبل ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر بن عبد الله قال: (أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك عشرين يوما يقصر الصلاة).
(1) في النسخة رقم (45) (عمن مشى) (2) في النسخة رقم (45) (وهو مسافر) (3) في النسخة رقم (16) (نزل) ماض، و (يرجع) مضارع، وفى النسخة رقم (45) عكس ذلك والأنسب لسياق الكلام أن يكون كلاهما مضارعا. 25 قال على: محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ثقة، وباقي رواة الخبر أشهر من أن يسأل عنهم. وهذا أكثر ما روي عنه عليه السلام في اقامته بتبوك، فخرج هذا المقدار من الإقامة عن سائر الأوقات بهذا الخبر. وقال أبو حنيفة، ومالك: يقصر ما دام مقيما في دار الحرب. قال على: وهذا خطأ، لما ذكرنا من أن الله تعالى لم يجعل ولا رسوله عليه السلام الصلاة ركعتين إلا في السفر، وأن الإقامة خلاف السفر لما ذكرنا. وقال الشافعي، وأبو سليمان: كقولنا في الجهاد. وروينا عن ابن عباس مثل قولنا نصا إلا أنه خالف في المدة. وأما الحج، والعمرة فلما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب ابن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى أنا هشيم عن يحيى بن أبي إسحاق عن أنس بن مالك قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فصلي ركعتين ركعتين حتى رجع قال: (1) كم أقام بمكة؟ قال: عشرا. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا موسى ثنا وهيب عن أيوب السختياني عن أبي العالية البراء عن ابن عباس قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج) وذكر الحديث. قال على: فإذ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم صبح رابعة من ذي الحجة، فبالضرورة نعلم أنه أقام بمكة ذلك اليوم الرابع من ذي الحجة، والثاني وهو الخامس من ذي الحجة، والثالث وهو السادس من ذي الحجة، والرابع وهو السابع من ذي الحجة، وانه خرج عليه السلام إلى منى قبل صلاة الظهر من اليوم الثامن من ذي الحجة، هذا مالا خلاف فيه بين أحد من الأمة، فتمت له بمكة أربعة أيام وأربع ليال كملا، أقامها عليه السلام ناويا للإقامة هذه المدة بها بلا شك، ثم خرج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة كما ذكرنا. وهذا يبطل قول من قال: إن نوي إقامة أربعة أيام أتم لأنه عليه السلام نوى بلا شك إقامة هذه المدة ولم يتم، ثم كان عليه السلام بمنى اليوم الثامن من ذي الحجة، وبات بها ليلة يوم عرفة ، ثم أتى إلى عرفة بلا شك في اليوم التاسع من ذي الحجة فبقي هنالك إلى أول الليلة العاشرة، ثم نهض إلى مزدلفة فبات بها الليلة العاشرة، ثم
(1) في مسلم (ج 1 ص 193) (قلت) 26 نهض في صباح اليوم العاشر إلى منى، فكان بها، ونهض إلى مكة فطاف طواف الإفاضة إما في اليوم العاشر وإما في الليلة الحادية عشرة، بلا شك في أحد الامرين، ثم رجع إلى منى فأقام بها ثلاثة أيام، ودفع منها في آخر اليوم الرابع بعد رمى الجمار بعد زوال الشمس، وكانت اقامته عليه السلام بمنى أربعة أيام غير نصف يوم ثم اتى إلى مكة فبات الليلة الرابع عشرة بالأبطح، وطاف بها طواف الوداع، ثم نهض في آخر ليلته تلك إلى المدينة، فكمل له عليه السلام بمكة ومنى وعرفة ومزدلفة عشر ليال كملا كما قال أنس فصح قولنا، وكان معه عليه السلام متمتعون، وكان هو عليه السلام قارنا فصح ما قلناه في الحج والعمرة، ولله الحمد، فخرجت هذه الإقامة بهذا الأثر في الحج والعمرة حيث أقام عن حكم سائر الإقامات، ولله تعالى الحمد. فان قيل: أليس قد رويتم من طريق ابن عباس وعمران بن الحصين روايات مختلفة، في بعضها: (أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة تسع عشرة) وفى بعضها: (ثمان عشرة) وفى بعضها (سبع عشرة) وفى بعضها (خمس عشرة) يقصر الصلاة؟. قلنا: نعم، وقد بين ابن عباس ان هذا كان في عام الفتح، وكان عليه السلام في جهاد وفي دار حرب، لان جماعة من أهل مكة كصفوان وغيره لهم مدة موادعة لم تنقض بعد، ومالك بن عوف في هوازن قد جمعت له العساكر بحنين على بضعة عشر ميلا، وخالد بن سفيان الهذلي على أقل من ذلك يجمع هذيلا لحربه، والكفار محيطون به محاربون له، فالقصر واجب بعد في أكثر من هذه الإقامة، وهو عليه السلام يتردد من مكة إلى حنين. ثم إلى مكة معتمرا، ثم إلى الطائف، وهو عليه السلام يوجه السرايا إلى من حول مكة من قبائل العرب، كبني كنانة وغيرهم، فهذا قولنا، وما دخل عليه السلام مكة قط من حين خرج عنها مهاجرا إلا في عمرة القضاء، أقام بها ثلاثة أيام فقط، ثم حين فتحها كما ذكرنا محاربا، ثم في حجة الوداع أقام بها كما وصفنا ولا مزيد. قال على: وأما قولنا: إن هذه الإقامة لا تكون إلا بعد الدخول في أول دار الحرب وبعد الاحرام -: فلان القاصد إلى الجهاد ما دام في دار الاسلام فليس في حال جهاد، ولكنه مريد للجهاد وقاصد إليه، وإنما هو مسافر كسائر المسافرين، إلا اجر نيته فقط، وهو ما لم يحرم فليس بعد في عمل حج ولا عمل عمرة، لكنه مريد لان يحج أو لان يعتمر، فهو كسائر من يسافر ولا فرق
27 قال على: وكل هذا لا حجة لهم فيه، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل إذ أقام بمكة أياما: إني إنما قصرت أربعا لأني في حج ولا لأني في مكة، ولا قال إذا أقام بتبوك عشرين يوما يقصر: إني إنما قصرت لأني في جهاد، فمن قال: شيئا من هذا فقد قوله عليه السلام ما لم يقل، وهذا لا يحل، فصح يقينا أنه لولا مقام النبي عليه السلام في تبوك عشرين يوما يقصر، وبمكة دون ذلك يقصر -: لكان لا يجوز القصر إلا في يوم يكون فيه المرء مسافرا، ولكان مقيم يوم يلزمه الاتمام، لكن لما أقام عليه السلام عشرين يوما بتبوك يقصر صح بذلك ان عشرين يوما إذا أقامها المسافر فله فيها حكم السفر، فان أقام أكثر أو نوي إقامة أكثر فلا برهان يخرج ذلك عن حكم الإقامة أصلا. ولا فرق بين من خص الإقامة في الجهاد بعشرين يوما يقصر فيها وبين من خص بذلك بتبوك دون سائر الأماكن، وهذا كله باطل لا يجوز، القول به، إذ لم يأت به نص قرآن ولا سنة، وبالله تعالى التوفيق. ووجب أن يكون الصوم بخلاف ذلك، لأنه لم يأت فيه نص أصلا، والعباس لا يجوز، فمن نوى إقامة يوم في رمضان فإنه يصوم. وبالله تعالى التوفيق (1).
(1) من أول قوله (قال على: وكل هذا لا حجة لهم فيه) الخ هو في النسخة رقم (16) وهو يوافق ما في النسخة رقم (14). ولكنه محذوف في النسختين رقم (45 و 48) وبدله فيهما ما نصه: (قال على: ثم تعقبنا هذا التفريق فوجدناه خطأ، برهان ذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أخط ذلك (وكذا في الأصلين ولا قال قط: انى إنما أقصر لأني في جهاد، ولا. انى اقصر في حج أو عمرة، فإذ لم يقل عليه السلام فلا يجوز لنا ولا لاحد أن يقول فيشرع ما لم يأذن به الله تعالى لكن لما وجدناه عليه السلام قد حكم لإقامة عشرين يوما في حال السفر في الفضا (كذا في الأصلين) وجب علينا الانقياد له في ذلك في كل حال كل سفر (كذا فيهما) ولافرق بين من عمل ذلك في الجهاد خاصة وبين من عين فقال. ليس ذلك الا في تبوك خاصة، وكلا القولين خطأ وباطل، وتحكم في الدين بلا برهان، إنما هذا في الصلاة لافى الصوم في رمضان، وهذا تخصيص منه عليه السلام إنما جاء في الصلاة لافى الصوم، والقياس باطل، لا سيما عند القائلين منهم. لا يجوز أن يقاس أصل على أصل. وبالله تعالى التوفيق) وهذه عبارة قلقة غير محررة وما في النسختين رقم (14 و 16) أوضح وأصح 28 قال على: (1) وقال أبو حنيفة والشافعي: إن أقام في مكان ينوي خروجا غدا أو اليوم فإنه يقصر ويفطر ولو أقام كذلك أعواما، قال أبو حنيفة: وكذلك لو نوي خروجا ما بينه وبين خمسة عشر يوما ونوي إقامة أربعة عشر يوما فإنه يفطر ويقصر، وقال مالك: يقصر ويفطر وإن نوى إقامة ثلاثة أيام فإنه يفطر ويقصر، وإن نوى أخرج اليوم أخرج غدا قصر ولو بقي كذلك أعواما. قال على: ومن العجب العجيب اسقاط أبي حنيفة النية حيث افترضها الله تعالى من الوضوء للصلاة، وغسل الجنابة، والحيض وبقائه في رمضان ينوى الفطر إلى قبل زوال الشمس، ويجيز كل ذلك بلا نية -: ثم يوجب النية فرضا في الإقامة، حيث لم يوجبها الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أوجبها برهان نظري. قال على: وبرهان صحة قولنا: أن الحكم لإقامة المدد (2) التي ذكرنا - كانت هنالك نية لإقامة أولم تكن - فهو ان النيات إنما تجب فرضا في الاعمال التي أمر الله تعالى بها (3) فلا يجوز أن تؤدى بلا نية (4)، وأما عمل لم يوجبه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم فلا معنى للنية فيه، إذ لم يوجبها هنالك قرآن، ولا سنة، ولا نظر، ولا اجماع، والإقامة ليست عملا مأمورا به، وكذلك السفر، وإنما هما حالان أوجب الله تعالى فيهما العمل الذي أمر الله تعالى به فيهما، فذلك العمل هو المحتاج إلى النية، لا الحال، وهم موافقون لنا ان السفر لا يحتاج إلى نية، ولو أن امرءا خرج لا يريد سفرا فدفعته ضرورات لم يقصد لها حتى صار من منزله على ثلاث ليال، أو سيربه (5) مأسورا أو مكرها محمولا مجبرا فإنه يقصر ويفطر، وكذلك يقولون فيمن أقيم به كرها فطالت به مدته فإنه يتم ويصوم، وكذلك يقولون فيمن اضطر للخوف إلى الصلاة راكبا أو ماشيا، فذلك الخوف وتلك الضرورة لا يحتاج فيها إلى نية، وكذلك النوم لا يحتاج إلى نية، وله حكم في اسقاط الوضوء وايجاب تجديده وغير ذلك، وكذلك الا جناب لا يحتاج إلى نية، وهو يوجب الغسل، وكذلك الحدث لا يحتاج إلى نية، وهو يوجب حكم الوضوء والاستنجاء فكل عمل لم يؤمر به لكن أمر فيه بأعمال موصوفة فهو لا يحتاج إلى نية، ومن جملة هذه الاعمال هي الإقامة
(1) هنا في النسخة رقم (45) (مسألة قال على) الخ ولا نرى داعيا لفصل هذا عما قبله بعنوان جديد، بل هو باقي البحث (2) في النسخة رقم (45) (للإقامة للمدد) الخ وما هنا هو الصحيح (3) في النسخة رقم (16) (التي فرض الله تعالى بها) وهو خطأ (4) في النسخة رقم (45) (فلا يجوز أن تؤدى الأبنية) في النسخة رقم (16) (على ثلاث وصير به) الخ وهو خطأ 29 والسفر، فلا يحتاج فيهما إلى نية أصلا، لكن متى وجدا وجب لكل واحد منهما الحكم الذي أمر الله تعالى به فيه ولا مزيد. وبالله تعالى التوفيق. وهذا قول الشافعي وأصحابنا. 516 - مسألة - ومن ابتدأ صلاة وهو مقيم ثم نوى فيها السفر، أو ابتدأها وهو مسافر ثم نوى فيها أن يقيم -: أتم في كلا الحالين. برهان ذلك ما ذكرناه من أن الإقامة غير السفر، وانه لا يخرج عن حكم الإقامة مما هو إقامة الا ما أخرجه نص، فهو إذا نوى في الصلاة سفرا فلم يسافر بعد، بل هو مقيم، فله حكم الإقامة، وإذا افتتحها وهو مسافر فنوى فيها الإقامة فهو مقيم بعد لا مسافر، فله أيضا حكم الإقامة، إذ إنما كان له حكم السفر بالنص المخرج لتلك الحال عن الحكم الإقامة، فإذا بطلت تلك الحال ببطلان نيته صار في حال الإقامة. وبالله تعالى التوفيق. 517 - مسألة - ومن ذكر وهو في سفر صلاة نسيها أو نام عنها في اقامته صلاها ركعتين ولابد، فان ذكر في الحضر صلاة نسيها في سفر صلاها أربعا ولابد. وقال الشافعي: يصليها في كلتا الحالتين أربعا. وقال مالك: يصليها إذا نسيها في السفر فذكرها في الحضر ركعتين، وإذا نسيها في الحضر فذكرها في السفر صلاها أربعا. حجة الشافعي: ان الأصل الاتمام، وإنما القصر رخصة. قال على: وهذا خطأ، ودعوى بلا برهان، ولو أردنا معارضته لقلنا: بل الأصل القصر، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (فرضت الصلاة ركعتين فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على الحالة الأولى) ولكنا لا نرضى بالشغب، بل نقول: إن صلاة السفر أصل، وصلاة الإقامة أصل، ليست إحداهما فرعا للأخرى، فبطل هذا القول. واحتج مالك بأن الصلاة إنما تؤدى كما لزمت إذا فاتت. قال على: وهذا أيضا دعوى بلا برهان، وما كان هكذا فهو خطأ، وهو أول من يخالف هذا الأصل ويهدمه في كل موضع، الا هنا فإنه تناقض، وذلك أنه يقول: من فاتته صلاة الجمعة فإنه لا يصليها الا أربع ركعات، ومن فاتته في حال مرضه صلوات كان حكمها لو صلاها أن يصليها قاعدا أو مضطجعا أو مومئا فذكرها في صحته -: فإنه لا يصليها الا قائما ومن ذكر في حال المرض المذكور صلاة فاتته في صحته كان حكمها أن يصليها قائما فإنه لا يصليها الا قاعدا أو مضطجعا، ومن صلى في حال خوف راكبا أو ماشيا صلاة نسيها في حال الامن فإنه يؤديها راكبا أو ماشيا، ومن
30 ذكر في حال الامن صلاة نسيها في حال الخوف حيث لو صلاها راكبا أو ماشيا فإنه لا يصليها الا نازلا قائما، ومن نسي صلاة لو صلاها في وقتها لم يصلها الا متوضئا فذكرها في حال تيمم صلاها متيمما، ولو نسي صلاة لو صلاها في وقتها لم يصلها الا متيمما فذكرها والماء معه فإنه لا يصليها إلا متوضئا، والقوم أصحاب قياس بزعمهم، وهذا مقدار قياسهم!. وأما نحن فان حجتنا في هذا إنما هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها) فإنما جعل عليه السلام وقتها وقت أدائها لا الوقت الذي نسيها فيه أو نام عنها، فكل صلاة تؤدى في سفر فهي صلاة سفر، وكل صلاة تؤدى في حضر فهي صلاة حضر ولابد. فان قيل: فان في هذا الخبر: (كما كان يصليها لوقتها). قلنا: هذا باطل، وهذه لفظة موضوعة لم تأت قط من طريق فيها خير. قال على: واما قولنا: أن نسي صلاة في سفر فذكرها في حضر فإنه لا يصليها إلا أربعا -: فهو قول الأوزاعي، والشافعي، وغيرهما، وأما قولنا: ان نسيها في حضر فذكرها في سفر فإنه يصليها سفرية -: فهو قول روى عن الحسن. وبالله تعالى التوفيق. وقال الشافعي: لا يقصر إلا من نوى القصر في تكبيرة الاحرام. قال على: وهذا خطأ، لان الشافعي قد تناقض، فلم ير النية للاتمام، وهذا على أصله الذي قد بينا خطأه فيه، من أن الأصل عنده الاتمام، والقصر دخيل، وقد بينا أن صلاة السفر ركعتان، فلا يلزمه الا ان ينوى الظهر، أو العصر، أو العتمة فقط، ثم إن كان مقيما فهي أربع، وإن كان مسافرا فهي ركعتان ولابد، ومن الباطل الزامه النية في أحد الوجهين دون الآخر. وبالله تعالى التوفيق. 518 - مسألة - فان صلى مسافر بصلاة إمام مقيم قصر ولابد، وان صلى مقيم بصلاة مسافر أتم ولابد، وكل أحد يصلى لنفسه، وإمامة كل واحد منهما للآخر جائزة ولا فرق. روينا من طريق عبد الرزاق عن سعيد بن السائب عن داود بن أبي عاصم قال: سألت ابن عمر عن الصلاة في السفر؟ فقال: ركعتان قلت: كيف ترى ونحن ههنا بمنى؟ قال: ويحك! سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم وآمنت به؟ قلت: نعم قال: (فإنه كان يصلى ركعتين) فصل ركعتين إن شئت أودع. وهذا بيان جلى بأمر ابن عمر المسافر (1) أن يصلى خلف المقيم ركعتين فقط.
(1) في النسخة رقم (45) (بيان جلى من ابن عمر للمسافر) الخ 31 ومن طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم عن عبد الرحمن بن تميم بن حذلم (1) قال: كان أبي إذا أدرك من صلاة المقيم ركعة وهو مسافر صلى إليها أخرى، وإذا أدرك ركعتين اجتزأ بهما. قال على: تميم بن حذلم من كبار أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه. وعن شعبة عن مطربن فيل (2) عن الشعبي قال: إذا كان مسافرا فأدرك من صلاة المقيم ركعتين اعتد بهما. وعن شعبة عن سليمان التيمي قال: سمعت طاوسا وسألته عن مسافر أدرك من صلاة المقيمين ركعتين؟ قال: تجزيانه. قال على: برهان صحة قولنا ما قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الله تعالى فرض على لسانه صلى الله عليه وسلم صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا عبدة بن عبد الرحيم عن محمد ابن شعيب أنا الأوزاعي عن يحيى - هو ابن أبي كثير - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف حدثني عمرو بن أمية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إن الله قد وضع عن المسافر الصيام * (3) ونصف الصلاة) ولم يخص عليه السلام، مأموما من امام من منفرد (وما كان ربك نسيا) وقال تعالى (ولا تكسب كل نفس الا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى). قال على: والعجب من المالكيين والشافعيين والحنيفيين القائلين بأن المقيم خلف المسافر يتم ولا ينتقل إلى حكم امامه في التقصير، وان المسافر خلف المقيم ينتقل إلى حكم امامه في الاتمام، وهم يدعون انهم أصحاب قياس بزعمهم ولو صح قياس في العالم لكان هذا أصح قياس يوجد ولكن هذا مما تركوا فيه القرآن والسنن والقياس. وما وجدت لهم حجة الا ان بعضهم قال: إن المسافر إذا نوى في صلاته الإقامة لزمه اتمامها، والمقيم إذا نوى في صلاته السفر لم يقصرها، قال: فإذا خرج بنيته إلى الاتمام فأحرى ان يخرج إلى الاتمام بحكم امامه. قال على: وهذا قياس في غاية الفساد، لأنه لا نسبة ولا شبه بين صرف النية من سفر إلى إقامة وبين الائتمام بامام مقيم، بل التشبيه بينهما هوس ظاهر.
(1) بفتح الحاء واسكان الذال المعجمة وفتح اللام (2) كذا في جميع الأصول، وضبط في النسخة رقم (14) بالقلم بكسر الفاء ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا في شئ من الكتب (3) في النسخة رقم (16) (الصوم) وما هنا هو الموافق للنسختين رقم (14 و 45) وللنسائي (ج 1 ص 315) 32 واحتج بعضهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الامام ليؤتم به) فقلنا لهم: فقولوا للمقيم خلف المسافر: أن يأتم به إذن فقال قائلهم: قد جاء: (أتموا صلاتكم فانا قوم سفر) فقلنا: لو صح هذا لكان عليكم، لان فيه أن المسافر لا يتم، ولم يفرق بين مأموم ولا امام، فالواجب على هذا ان المسافر جملة يقصر، والمقيم جملة يتم، ولا يراعي أحد منهما حال إمامه. وبالله تعالى التوفيق. (صلاة الخوف) 519 - مسألة - من حضره خوف من عدو ظالم كافر، أو باغ من المسلمين، أو من سيل، أو من نار، أو من حنش، أو سبع، أو غير ذلك وهم في ثلاثة فصاعدا -: فأميرهم مخير بين أربعة عشر وجها، كلها صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد بيناها غاية البيان والتقصي في غير هذا الكتاب، والحمد لله رب العالمين. وإنما كتبنا كتابنا هذا للعامي والمبتدئ وتذكرة للعالم، فنذكر ههنا بعض تلك الوجوه، مما يقرب حفظه ويسهل فهمه، ولا يضعف فعله، وبالله تعالى التوفيق. فإن كان في سفر، فان شاء صلى بطائفة ركعتين ثم سلم وسلموا، ثم تأتى طائفة أخرى فيصلى بهم ركعتين ثم يسلم ويسلمون، وإن كان في حضر صلى بكل طائفة أربع ركعات، وإن كانت الصبح صلى بكل طائفة ركعتين، وإن كانت المغرب صلى بكل طائفة ثلاث ركعات الأولى فرض الامام، والثانية تطوع له. وان شاء في السفر أيضا صلى بكل طائفة ركعة ثم تسلم تلك الطائفة ويجزئهما، وإن شاء هو سلم، وإن شاء لم يسلم، ويصلى بالأخرى ركعة ويسلم ويسلمون ويجزئهم، وإن شاءت الطائفة أن تقضى الركعة والامام واقف فعلت، ثم تفعل الثانية أيضا كذلك. فإن كانت الصبح صلى بالطائفة الأولى ركعة ثم وقف ولابد وقضوا ركعة ثم سلموا، ثم تأتى الثانية فيصلى بهم الركعة الثانية، فإذا جلس قاموا فقضوا ركعة ثم سلم ويسلمون. فإن كانت المغرب صلى بالطائفة الأولى ركعتين، فإذا جلس قاموا فقضوا ركعة وسلموا وتأتي الأخرى فيصل بهم الركعة الباقية، فإذا قعد صلوا ركعة ثم جلسوا وتشهدوا، ثم صلوا الثالثة ثم يسلم ويسلمون. فإن كان وحده فهو مخير بين ركعتين في السفر أو ركعة واحدة وتجزئه، وأما الصبح
33 فاثنتان ولابد والمغرب ثلاث ولابد، وفى الحضر أربع ولابد. سواء ههنا الخائف من طلب (1) بحق أو بغير حق. قال الله تعالى: (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح ان تقصروا من الصلاة ان خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ان الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا. وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فيكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم) فهذه الآية تقتضي بعمومها الصفات التي قلنا نصا. ثم كل ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لاحد أن يرغب عن شئ منه قال الله تعالى آمرا لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول: (قل انني هداني ربى إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين). وقال تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه) وكل شئ فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو من ملته، وملته هي ملة إبراهيم عليه السلام. وقد ذكرنا قبل هذا بيسير في باب من نسي صلاة فوجد جماعة يصلون يصلى صلاة أخرى في حديث أبي بكرة وجابر: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بطائفة ركعتين في الخوف ثم سلم، وبطائفة أخرى ركعتين ثم سلم) وذكرنا من قال ذلك من السلف، فأغنى عن اعادته، وهذا آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، لان أبا بكرة شهده معه ولم يسلم إلا يوم الطائف، ولم يغز عليه السلام بعد الطائف غير تبوك فقط، فهذه أفضل صفات صلاة الخوف لما ذكرنا، وقال بهذا الشافعي وأحمد بن حنبل. وقد ذكرنا أيضا حديث ابن عباس: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفى السفر ركعتين، وفى الخوف ركعة). حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا أحمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب انا عمرو بن علي ثنا يحيى ابن سعيد القطان ثنا سفيان الثوري حدثني أشعث بن سليم - هو ابن أبي الشعشاء - عن الأسود بن هلال عن ثعلبة بن زهدم قال. (كنا مع سعيد بن العاصي بطبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال حذيفة: أنا، فقام حذيفة وصف الناس خلفه صفين، صفا خلفه وصفا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، وانصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك، فصلى بهم ركعة ولم يقضوا) قال سفيان: وحدثني الركين
(1) في النسخة رقم (45) (من طالب) 34 ابن الربيع عن القاسم بن حسان عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل صلاة حذيفة. قال على: الأسود بن هلال ثقة مشهور، وثعلبة بن زهدم أحد الصحابة حنظلي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع منه وروى عنه. وصح هذا أيضا مسندا من طريق يزيد بن زريع وأبى داود الطياليسي كلاهما عن عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي عن يزيد الفقير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبر جابر أن القصر المذكور في الآية عند الخوف هو هذا، لا كون الصلاة ركعتين في السفر. وصح أيضا من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أيضا عن ابن عمر، فهذه آثار متظاهرة متواترة، وقال بهذا جمهور من السلف، كما روى عن حذيفة أيام عثمان رضي الله عنه، ومن معه من الصحابة، لا ينكر ذلك أحد منهم، وعن جابر وغيره. وروينا عن أبي هريرة: انه صلى بمن معه صلاة الخوف، فصلاها بكل طائفة ركعة إلا أنه لم يقض ولا أمر بالقضاء. وعن ابن عباس: يومئ بركعة عند القتال. وعن الحسن: أن أبا موسى الأشعري صلى في الخوف ركعة. وعن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال: إذا كانت المسايفة فإنما هي ركعة يومئ إيماء حيث كان وجهه، راكبا كان أو ماشيا. وعن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن الحسن قال في صلاة المطاردة: ركعة. ومن طريق سعيد بن عبد العزيز عن مكحول في صلاة الخوف: إذا لم يقدر القوم على أن يصلوا (1) على الأرض صلوا على ظهور الدواب ركعتين، فإذا لم يقدروا فركعة وسجدتان، فإن لم يقدروا أخروا حيث يأمنوا. قال على: أما تأخيرها عن وقتها فلا يحل البتة، لأنه لم يسمح الله تعالى في تأخيرها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى (فان خفتم فرجالا أو ركبانا). وقال سفيان الثوري: حدثني سالم بن عجلان الأفطس سمعت سعيد بن جبير يقول: كيف يكون قصر وهم يصلون ركعتين؟ وإنما هو ركعة ركعة، يومئ بها حيث كان وجهه.
(1) في النسخة رقم (16) (على أن لا يصلوا) وهو خطأ 35 وعن شعبة عن أبي مسلمة (1) - هو سعيد بن يزيد عن أبي نضرة عن جابر بن غراب (2) كنا مصا في العدو (3) بفارس، ووجوهنا إلى المشرق، فقال هرم بن حيان: ليركع كل انسان منكم ركعة تحت جنته حيث كان وجهه. وعن عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة قال: سألت الحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وقتادة عن صلاة المسايفة؟ فقالوا: ركعة حيث كان وجهه. وعن وكيع عن شعبة عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم مثل قول الحكم، وحماد، وقتادة. وعن أبي عوانة عن أبي بشر عن مجاهد في قول الله تعالى (فان خفتم فرجالا أو ركبانا) قال: في العدو يصلى راكبا وراجلا يومئ حيث كان وجهه، والركعة الواحدة تجزئه. وبه يقول سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه. قال على: وهذان العملان أحب العمل الينا، من غيران نرغب عن سائر ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ومعاذ الله من هذا، لكن ملنا إلى هذين لسهولة العمل فيهما على كل جاهل، وعالم، ولكثرة من رواهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكثرة من قال بهما من الصحابة والتابعين، ولتواتر الخبر بهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولموافقتهما القرآن. وقد قال بعض من لا يبالي بالكذب، عصبية لتقليده المهلك له: الامر عندنا على أنهم قضوا. قال على: هذا انسلاخ من الحياء جملة، وقصد إلى الكذب جهارا! ولا فرق بين من قال هذا القول وبين من قال: الامر عندنا على أنهم أتموا أربعا!. وقال: لم نجد في الأصول صلاة من ركعة. وقلنا لهم: ولا وجدتم في الأصول صلاة الامام بطائفتين، ولا صلاة إلى غير القبلة، ولا صلاة يقضى فيها المأموم ما فاته قبل تمام صلاة إمامه، ولا صلاة يقف المأموم فيها لا هو يصلى مع امامه ولا هو يقضى ما بقي عليه من صلاته، وهذا كله عندكم جائز في الخوف، ولا وجدتم شيئا
(1) بفتح الميم واسكان السين وفى النسخة رقم (16) (عن أبي سلمة) وهو خطأ (2) كذا في أكثر الأصول، ولم أجد له ترجمة وضبط في النسخة رقم (14) (غزاب) بالغين والزاي المعجمتين ووضع عليه علامة التصحيح وما أظنه صحيحا فان الذهبي لم يذكر في المشتبه (غزاب ولم يذكر شرح القاموس مادة (غ زب) (3) أي نصف وجاه العدو، وهذا هو الصواب الذي في النسخة رقم (14) وفى باقي الأصول (نصلى في العدو) وهو خطأ ظاهر 36 من الديانة حتى جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، والأصول ليست شيئا غير القرآن والسنن. فان قيل: قد روى من طريق حذيفة: انه أمر بقضاء ركعة. قلنا: هذا انفرد به الحجاج بن أرطاة، وهو ساقط لا تحل الرواية عنه، ثم لو صح لما منع من رواية الثقات أنهم لم يقضوا، بل كأن يكون كل ذلك جائزا. وقال بعضهم: قد روى عن حذيفة صلاة الخوف ركعتين (1) وأربع سجدات. قلنا: هذا من رواية يحيى الحماني وهو ضعيف، عن شريك، وهو مدلس، وخديج، وهو مجهول، ثم لو صح ذلك لكان مقصودا به صلاة إمامهم بهم. وكذلك القول في رواية سليم بن صليع (2) السلولي - وهو مجهول - عن حذيفة: أنه قال لسعيد: مر طائفة من أصحابك فيصلون معك وطائفة خلفكم، فتصلى بهم ركعتين وأربع سجدات وهكذا نقول: في صلاة الامام بهم. وقال بعضهم: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى). قلنا: نعم، الا ما جاء نص فيه أنه أقل من مثنى، كالوتر وصلاة الخوف، أو أكثر من مثنى كالظهر والعصر والعشاء. وقال بعضهم: قد نهى عن البتيراء. قال على: وهذه كذبة وخبر موضوع وما ندري البتيراء في شئ من الدين والله الحمد. وقال بعضهم: أنتم تجيزون للامام أن يصلى بهم ان شاء ركعة ويسلم وان شاء وصلها بأخرى بالطائفة الثانية، وبيقين ندري أن ما كان للمرء فعله وتركه فهو تطوع لا فرض، وإذ ذلك كذلك فمحال أن يصل فرضه بتطوع لا يفصل بينهما سلام. قال على: إنما يكون ما ذكروا فيما لم يأت به نص، وأما إذا جاء النص فالنظر كله باطل، لا يحل به معارضة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ثم نقول لهم: أليس مصلى الفرض من امام أو منفرد - عندكم وعندنا - مخيرا بين ان يقرأ مع أم القرآن سورة ان شاء طويلة وان شاء قصيرة وان شاء اقتصر على أم القرآن فقط وان شاء سبح في ركوعه وسجوده تسبيحة تسبيحة وان شاء طولهما؟ فمن قولهم: نعم، فقلنا لهم: فقد أبحتم ههنا ما قد حكمتم بأنه باطل ومحال من صلته (3)
(1) كذا في الأصلين (2) سليم بالسين وصليع بالصاد المهملتين وبالتصغير فيهما. (3) أي من وصله الفرض بالتطوع، ردا على من أنكر صلاة الامام ركعة فريضة بالطائع الأولى ثم صلاته أخرى تطوعا بالطائفة الثانية موصولة بالأولى من غير فصل بالسلام وهكذا رسم في الأصلين (صلته) على هذا المعنى على الصواب، وظن ناسخا الأصلين أن صوابه (صلاته) وهو ظن خطأ بل الصواب ما ذكرنا. 37 فريضة بما هو عندكم تطوع ان شاء فعله وان شاء تركه. قال على: وليس كما قالوا، بل كل هذا خير فيه البر، فان طول ففرض أداه، وان لم يطول ففرض أداه، وإن كان صلى ركعة في الخوف فهي فرضه، وان صلى ركعتين فهما فرضه، كما فعل عليه السلام وكما امر (وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى). (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون). قال على: وسائر الوجوه الصحاح التي لم تذكر أخذ ببعضها علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وأبو موسى الأشعري، وابن عمرو جماعة من التابعين والفقهاء رضي الله عنهم. وههنا أقوال لم تصح قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ترو عنه أصلا لكن رويت عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الصحابة رضي الله عنهم عبد الرحمن بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس، والحكم بن عمرو الغفاري، ومن التابعين مسروق، ومن الفقهاء الحسن بن حيى، وحميد الرؤاسي صاحبه، ومن جملتها قول رويناه عن سهل بن أبي حثمة، رجع مالك إلى القول به، بعد أن كأن يقول ببعض الوجوه التي صحت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو: أن يصف الامام أصحابه طائفتين، إحداهما خلفه والثانية مواجهة العدو، فيصلى الامام بالطائفة التي معه ركعة بسجدتيها، فإذا قام إلى الركعة الثانية ثبت واقفا وأتمت هذه الطائفة لا نفسها الركعة التي بقيت عليها، ثم سلمت ونهضت فوقفت بإزاء العدو، والامام في كل ذلك واقف في الركعة الثانية، وتأتي الطائفة الثانية التي لم تصل فتصف خلف الامام وتكبر، فيصلى بهم الركعة الثانية بسجدتيها، هي لهم أولى، وهي للامام ثانية، ثم يجلس الامام ويتشهد ويسلم، فإذا سلم قامت هذه الطائفة الثانية فقضت الركعة التي لها. قال على: وهذا العمل المذكور - قضاء الطائفة الأولى والامام واقف، وقضاء الطائفة الثانية بعد أن يسلم الامام - لم يأت قط جمع هذين القضاءين على هذه الصفة في شئ مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلا، وهو خلاف ظاهر القرآن، لأنه تعالى قال: (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) ولان الطائفة لم تصل بعض صلاتها معه، وما كان خلافا لظاهر القرآن دون نص من بيان النبي صلى الله عليه وسلم -: فلا يجوز القول به، وليس يوجب هذا القول قياس ولا
38 نظر، وليس تقليد سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه بأولى من تقليد من خالفه من الصحابة، ممن قد ذكرنا، كعمرو، وابن عمرو، وأبي موسى، وجابر، وابن عباس، والحكم ابن عمرو، وحذيفة وثعلبة بن زهدم، وأنس، وعبد الرحمن بن سمرة وغيرهم. فان قيل: إن سهل بن أبي حثمة روي بعض تلك الأعمال وخالفه، ولا يجوز أن يظن به أنه خالف ما حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لأمر علمه هو ناسخ لما رواه. قلنا: هذا باطل، وحكم بالظن، وترك لليقين، وإضافة إلى الصاحب رضي الله عنه ما لا يحل أن يظن به، من أنه روى لنا المنسوخ وكتم الناسخ، ولا فرق بين قولكم هذا وبين من قال: لا يصح عنه أنه يخالف ما روى، فالداخلة إنما هي فيما روى منه مما أضيف إليه، لا فيما رواه هو عن النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل على ذلك بأنه لا يجوز أن يخالف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال على: ولسنا نقول: بشئ من هذين القولين، بل نقول: إن الحق أخذ رواية الراوي، لا أخذ رأيه، إذ قد يتأول فيهم، وقد ينسى، ولا يجوز البتة أن يكتم الناسخ ويروي المنسوخ. ولا يجوز لهم أن يوهموا ههنا بعمل أهل المدينة، لان ابن عمر، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة والزهري مخالفون لاختيار مالك، وما وجدنا ما اختاره مالك عن أحد قبله إلا عن سهل بن أبي حثمة وحده. وبالله تعالى التوفيق. ومنها قول رويناه عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وإبراهيم النخعي، أخذ به أبو حنيفة وأصحابه إلا أن أبا يوسف رجع عنه، وهو أن يصفهم الامام صفين: طائفة خلفه، وطائفة بإزاء العدو، فيصلى بالتي خلفه ركعة بسجدتيها، فإذا أقام إلى الركعة الثانية وقف، ونهضت الطائفة التي صلت معه فوقفوا بإزاء العدو، وهم في صلاتهم بعد، ثم تأتى الطائفة التي كانت بإزاء العدو فتكبر خلف الامام، ويصلى بهم الامام الركعة الثانية له. وهي لهم الأولى، فإذا جلس وتشهد سلم، وتنهض الطائفة الثانية التي صلت معه الركعة الثانية، وهم في صلاتهم. فتقف بإزاء العدو، وتأتي الطائفة التي كانت صلت مع الامام الركعة الأولى فترجع إلى المكان الذي صلت فيه مع الامام، فتقضى فيه الركعة التي بقيت لها، وتسلم، ثم تأتى فتقف بإزاء العدو، وترجع الطائفة الثانية إلى المكان الذي صلت فيه مع الامام، فتقضي فيه الركعة التي بقيت لها إلا أن أبا حنيفة زاد من قبل رأيه زيادة لا تعرف من أحد من الأمة قبله، وهي أنه قال: تقضى الطائفة الأولى
39 الركعة التي بقيت عليها بلا قراءة شئ من القرآن فيها، وتقضى الطائفة الثانية الركعة التي بقيت عليها بقراءة القرآن فيها ولابد!. قال على: وهذا عمل لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وذلك أن فيه مما قد يخالف كل أثر جاء في صلاة الخوف تأخير الطائفتين معا إتمام الركعة الباقية لهما إلى أن يسلم الامام، فتبتدئ أولاهما بالقضاء، ثم لا تقضى الثانية إلا حتى تسلم الأولى، وفيه أيضا مما يخالف كل أثر روى في صلاة الخوف مجئ كل طائفة للقضاء خاصة إلى الموضع الذي. صلت فيه مع الامام بعد أن زالت عنه إلى مواجهة العدو. فان قيل: قد روى نحو هذا عن ابن مسعود. قلنا: قلتم الباطل والكذب، إنما جاء عن ابن مسعود - من طريق واهية - خبر فيه ابتداء الطائفتين معا بالصلاة معا مع الامام، وأن الطائفة التي صلت آخرا هي بدأت بالقضاء قبل الثانية، وليس هذا في قول أبي حنيفة، وأنتم تعظمون خلاف الصاحب، لا سيما إذا لم يروعن أحد من الصحابة خلافه. فان قالوا: إنما تخيرنا ابتداء طائفة بعد طائفة اتباعا للآية. قلنا: فقد خالفتم الآية في ايجابكم صلاة كل طائفة ما بقي عليها بعد تمام صلاة الامام، وإنما قال تعالى: (فليصلوا معك) فخالفتم القرآن وجميع الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحها وسقيمها وجميع الصحابة رضي الله عنهم بلا نظر ولا قياس. واحتج بعضهم بنادرة، وهي: أنه قال: يلزم الإمام العدل بينهم، فكما صلت الطائفة الواحدة أولا فكذلك تقضى أولا!. قال على: وهذا باطل، بل هو الجور والمحاباة، بل العدل والتسوية هو أنه إذا صلت الواحدة أولى ان تقضى الثانية أولا، فتأخذ كل طائفة بحظها من التقدم وبحظها من التأخر. وقال بعضهم: لم نر قط مأموما بدأ بالقضاء قبل تمام صلاة إمامه. فقيل لهم: ولا رأيتم قط مأموما يترك صلاة امامه ويمضى إلى شغله ويقف برهة طويلة بعد تمام صلاة امامه لا يقضى ما فاته منها، وأنتم تقولون: بهذا بغير نص ولا قياس، ثم تعييون من اتبع القرآن والسنن! ألا ذلك هو الضلال المبين لا سيما تقسيم أبي حنيفة في قضاء الطائفتين، إحداهما بقراءة والأخرى بغير قراءة، فما عرف هذا عن أحد قبله، ولا يؤيده رأى سديد ولا قياس
40 ومنها قول ذهب إليه أبو يوسف في آخر قوليه، وهو قول الحسن اللؤلؤي، وهو: أن لا تصلى صلاة الخوف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال على: وهذا خلاف قول الله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). قال على: إلا أن من قال: إن النكاح بسورة من القرآن خاص للنبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة جالسا كذلك -: لا يقدر أن ينكر على أبى يوسف قوله ههنا. ومنها قول رويناه عن الضحاك من مزاحم، ومجاهد، والحكم بن عتيبة، وإسحاق بن راهويه، وهو: أن تكبيرتين فقط تجزئان في صلاة الخوف. وروينا أيضا عن الحكم، ومجاهد: تكبيرة واحدة تجزئ في صلاة الخوف. وهذا خطأ، لأنه لم يأت به نص. وبالله تعالى التوفيق. فان قال قائل: كيف تقولون بصلاة الخوف على جميع هذه الوجوه، وقد رويتم عن زيد بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف مرة، لم يصل بنا قبلها ولا بعدها؟!. قلنا: هذا لو صح لكان أشد عليكم، لأنه يقال لكم: من أين كان لكم بأن الوجه الذي اخترتموه هو العمل الذي عمله رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صلاها؟ لا سيما إن كان المعترض بهذا حنيفيا أو مالكيا؟ لان اختيار هاتين الفرقتين لم يأت قط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكيف وهذا حديث ساقط؟ لم يروه إلا يحيى الحماني، وهو ضعيف، عن شريك القاضي وهو مدلس لا يحتج بحديثه، فكيف يستحل ذو دين ان يعارض بهذه السوءة أحاديث الكواف من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؟ أنهم شهدوا صلاة الخوف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات مرة بذى قرد، ومرة بذات الرقاع، ومرة بنجد، ومرة بين ضجنان وعسفان، ومرة بأرض جهينة ومرة بنخل، ومرة بعسفان، ومرة يوم محارب وثعلبة، ومرة إما بالطائف واما بتبوك، وقد يمكن أن يصليها في يوم مرتين للظهر والعصر، وروي ذلك عن الصحابة أكابر التابعين والثقات الاثبات؟ ونعوذ بالله من الخذلان. قال على: وإنما قلنا: بالصلاة ركعة واحدة في كل خوف لعموم حديث ابن عباس (فرضت الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا وفى السفر ركعتين، وفى الخوف ركعة) ولا يجوز تخصيص حكمه عليه السلام بالظنون الكاذبة. وبالله تعالى التوفيق. 520 - مسألة - ولا يجوز أن يصلى صلاة الخوف بطائفتين من خاف من طالب
41 له بحق، ولا أن يصلى أصلا بثلاث طوائف فصاعدا،. لان في صلاتها بطائفتين عملا لكل طائفة في صلاتها هي منهية عنه إن كانت باغية، ومن عمل في صلاته ما لم يؤمر به فلا صلاة له، إذ لم يصل كما أمر. وكذلك من صلى راكبا أو ماشيا أو محاربا أو لغير القبلة أو قاعدا خوف طالب له بحق، لأنه في كل ذلك عمل عملا قد نهى عنه في صلاته، وهو في كونه مطلوبا بباطل عامل من كل ذلك عملا أبيح له في صلاته تلك. ولم يصل عليه السلام قط بثلاث طوائف، ولولا صلاته عليه السلام بطائفتين لما جاز ذلك، لأنه عمل في الصلاة، ولا يجوز عمل في الصلاة الا ما أباحه النص، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان في الصلاة لشغلا). والواحد مع الامام طائفة وصلاة جماعة. ومن صلى كما ذكرنا هاربا عن كافر أو عن باغ بطلت صلاته أيضا، الا ان ينوى في مشيه ذلك تحرفا لقتال أو تحيزا إلى فئة فتجزئه صلاته حينئذ، لان الله تعالى قال: (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله) فمن ولى الكفار ظهره والبغاة المفترض قتالهم لا ينوى تحيزا ولا تحرفا -: فقد عمل في صلاته عملا محرما عليه، فلم يصل كما أمر. وبالله تعالى التوفيق. وأما الفار عن السباع، والنار، والحنش، والمجنون والحيوان العادي، والسيل، وخوف عطش وخوف فوت الرفقة أو فوت متاعه، أو ضلال الطريق -: فصلاته تامة، لأنه لم يفعل في ذلك إلا ما أمر به. وبالله تعالى التوفيق. (صلاة الجمعة) 521 - مسألة - الجمعة، هي ظهر يوم الجمعة، ولا يجوز أن تصلى إلا بعد الزوال وآخر وقتها آخر وقت الظهر في سائر الأيام. وروينا عن عبد الله بن سيلان (1) قال: شهدت الجمعة مع أبي بكر الصديق فقضى صلاته وخطبته قبل نصف النهار، ثم شهدت الجمعة مع عمر بن الخطاب فقضى صلاته وخطبته مع زوال الشمس.
(1) بكسر السين المهملة واسكان الياء المثناة التحتية 42 وعن وكيع عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: صلى بنا ابن مسعود الجمعة ضحى، وقال: إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم. ومن طريق مالك بن أنس في موطئه عن عمه أبى سهيل بن مالك عن أبيه قال: كنت أرى طنفسة لعقيل بن أبي طالب تطرح إلى جدار المسجد الغربي، فإذا غشى الطنفسة كلها ظل الجدار خرج عمر بن الخطاب فصلى، ثم نرجع بعد صلاة الجمعة فنقيل قائلة الضحى. قال على: هذا يوجب أن صلاة عمر رضي الله عنه الجمعة كانت قبل الزوال، لان ظل الجدار ما دام في الغرب منه شئ فهو قبل الزوال، فإذا زالت الشمس صار الظل في الجانب الشرقي ولابد. وعن مالك عن عمرو بن يحيى المازني عن ابن أبي سليط: أن عثمان بن عفان صلى الجمعة بالمدينة وصلى العصر بملل (1) قال ابن أبي سليط: وكنا نصلى الجمعة مع عثمان وننصرف وما للجدار ظل. قال على: بين المدينة وملل اثنان وعشرون ميلا، ولا يجوز البتة أن تزول الشمس ثم يخطب ويصلى الجمعة ثم يمشى هذه المسافة قبل اصفرار الشمس، إلا من طرق طرق السرايا (2) أو ركض ركض البريد المؤجل، (3) وبالحرى أن يكون هذا. وقد روينا أيضا هذا عن ابن الزبير. وعن ابن جريج عن عطاء قال: كل عيد حين يمتد الضحى، الجمعة والأضحى والفطر كذلك بلغنا. وعن وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن مجاهد قال: كل عيد فهو نصف النهار قال على: أين المموهون أنهم متبعون عمل الصحابة رضي الله عنهم أجمعين؟! المشنعون بخلاف الصاحب إذا خالف تقليدهم؟! وهذا عمل أبى بكر، وعمر، وعثمان، وابن مسعود وابن الزبير وطائفة من التابعين ولكن القوم لا يبالون ما قالوا: في نصر تقليدهم. وأما نحن فالحجة عندنا فيما حدثناه عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب
(1) بفتح الميم واللام وآخره لام ثانية - بلفظ الملل من الملال - وهو منزل على طريق المدينة إلى مكة عن ثمانية وعشرين ميلا من المدينة، قاله ياقوت (2) الطرق - باسكان الراء - هو المشي (3) ضبط هذا الحرف في النسخة رقم (14) بكسر الجيم المشددة، وما أدرى وجه ذلك ولعل الكلمة مصحفة أو محرفة 43 ابن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى أنا وكيع عن يعلي بن الحارث المحاربي عن اياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: (كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفئ). حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا هارون بن عبد الله ثنا يحيى بن آدم ثنا حسن بن عياش (1) ثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله قال: (كنا نصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم نرجع فنريح نواضحنا، قلت: أي ساعة؟ قال: زوال الشمس). وبه إلى أحمد بن شعيب: ثنا قتيبة بن سعيد عن مالك عن سمى عن أبي صالح عن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة وراح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا خرج الامام حضرت الملائكة يستمعون الذكر). حدثنا يونس بن عبد الله ثنا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم ثنا أحمد بن خالد ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا صفوان بن عيسى ثنا محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل المهجر إلى الجمعة كمثل من يهدى بدنة، ثم كمن يهدى بقرة، ثم مثل من يهدى شاة، ثم مثل من يهدى دجاجة، ثم كمثل من يهدى عصفورا، ثم كمثل من يهدى بيضة، فإذا خرج الامام فجلس طويت الصحف). وروينا نحوه من طريق الليث بن سعيد عن سمى عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال على: ففي هذين الحديثين فضل التبكير في أول النهار إلى المسجد لانتظار الجمعة، وبطلان قول من منع من ذلك، وقال: إن هذه الفضائل كلها إنما هي لساعة واحدة، وهذا باطل، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلها ساعات متغايرات، (2) ثانية، وثالثة، ورابعة، وخامسة، فلا يحل لاحد أن يقول: إنها ساعة واحدة. وأيضا فان درج الفضل ينقطع بخروج الامام، وخروجه إنما هو قبل النداء وهم يقولون: إن تلك الساعة مع النداء، فظهر فساد قولهم.
(1) هو أخو أبى بكر بن عياش، وهو ثقة حجة، مات سنة 172 ه (2) في النسخة رقم (14) (متغايرة) 44 وفيهما أن الجمعة بعد الزوال، لان مالكا عن سمى ذكر خمس ساعات، وزاد مجمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة والليث عن سمى عن أبي صالح عن أبي هريرة: ساعة سادسة، وقد ذكر أن بخروج الامام تطوى الصحف، فصح أن خروجه بعد الساعة السادسة وهو أول الزوال ووقت الظهر. فان قيل: قد رويتم عن سلمة بن الأكوع: (كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنرجع وما نجد للحيطان ظلا نستظل به). قلنا: نعم، ولم ينف سلمة الظل جملة، وإنما نفى ظلا يستظلون به، وهذا إنما يدل على قصر الخطبة وتعجيل الصلاة في أول الزوال. وكذلك قول سهل بن سعد: (ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد صلاة الجمعة) ليس فيه بيان أن ذلك كان قبل الزوال. وقد روينا عن ابن عباس: خرج علينا عمر حين زالت الشمس فخطب، يعنى للجمعة. وعن أبي إسحاق السبيعي: شهدت علي بن أبي طالب يصلى الجمعة إذا زالت الشمس. وفرق مالك بين آخر وقت الجمعة وبين آخر وقت الظهر، على أنه موافق لنا في أن أول وقتها هو أول وقت الظهر، وهذا قول لا دليل على صحته، وإذ هي ظهر اليوم فلا يجوز التفريق بين آخر وقتها من أجل اختلاف الأيام. وبالله تعالى التوفيق. 522 - مسألة - والجمعة إذا صلاها اثنان فصاعدا ركعتان يجهر فيهما بالقراءة. ومن صلاهما وحده صلاهما أربع ركعات يسر فيها كلها، لأنها الظهر، وقد ذكرنا في باب وجوب قصر الصلاة من كتابنا حديث عمر: (صلاة الجمعة ركعتان، وصلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم) (1). قال أبو محمد: وذهب بعض الناس إلى أنها ركعتان للفذ وللجماعة بهذا الخبر. قال على: وهذا خطأ، لان الجمعة اسم اسلامي لليوم، لم يكن في الجاهلية، إنما كان يوم الجمعة يسمى في الجاهلية (العروبة)، فسمى في الاسلام (يوم الجمعة)، لأنه يجتمع فيه للصلاة اسما مأخوذا من الجمع، فلا تكون صلاة الجمعة الا في جماعة والا فليست صلاة جمعة، إنما هي ظهر، والظهر أربع كما قدمنا (2).
(1) ذكرها المصنف في المسألة 512 (ج 4 ص 265) (2) هنا بحاشية النسخة رقم (14) ما نصه (حكى أبو عمر بن عبد البر أن داود بن علي يرى أن الجمعة على واحد، يعنى يصلى ركعتين فقط، وحكى عنه أبو محمد خلاف هذا) اه، وأقول: لم يحك ابن حزم شيئا عن داود، ويظهر لي ان نقل ابن عبد البر صواب، ولذلك لم يذكر ابن حزم رأى داود وإنما رد على من قال إن المنفرد يصليها ركعتين كما ترى، وأقول أيضا: إن ما رد به ابن حزم ليس قويا وليس حجة، وإنما هو جدال، والحق ان صلاة يوم الجمعة ركعتان للجماعة وللمنفرد على اطلاق حديث عمر، وتسمية (اليوم الجمعة) لاجتماع الناس فيه لا يمنع من أن فرض الصلاة فيه ركعتان، إذ من شأنها الاجتماع عليها، وليس المراد في تسميتها (صلاة الجمعة) انها لا تكون جمعة إلا في جماعة، إنما المراد أنها صلاة يوم الجمعة) كما قال تعالى. (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) وهذا معنى دقيق يحتاج إلى تأمل وفقه 45 وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر فيها، وهو عمل أهل الاسلام، نقل كواف من عهده عليه السلام إلى اليوم في شرق الأرض وغربها. وأما العدد الذي يصليه الامام فيه جمعة ركعتين كما ذكرنا -: فقد اختلف فيه. فروينا عن عمر بن عبد العزيز: الجمعة تكون بخمسين رجلا فصاعدا. وقال الشافعي: لا جمعة إلا بأربعين رجلا أحرارا مقيمين عقلاء بالغين فصاعدا. وروينا عن بعض الناس: ثلاثين رجلا. وعن غيره: عشرين رجلا. وعن عكرمة: سبعة رجال لا أقل. وعن أبي حنيفة، والليث بن سعد، وزفر، ومحمد بن الحسن: إذا كان ثلاثة رجال والامام رابعهم صلوا الجمعة بخطبة ركعتين، ولا تكون بأقل. وعن الحسن البصري: إذا كان رجلان والامام ثالثهما صلوا الجمعة بخطبة ركعتين، وهو أحد قولي سفيان الثوري، وقول أبى يوسف وأبى ثور. وعن إبراهيم النخعي: إذا كان واحد مع الامام صليا الجمعة بخطبة ركعتين. وهو قول الحسن بن حي، وأبي سليمان وجميع أصحابنا، وبه نقول. قال على: فأما من حد خمسين فإنهم ذكروا حديثا فيه: (على الخمسين جمعة إذا كان عليهم امام) وهذا خبر لا يصح، لأنه عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبي أمامة، والقاسم هذا ضعيف (1).
(1) هو القاسم بن عبد الرحمن الشامي الدمشقي وهو تابعي ثقة، وإنما جاء المصنف في بعض أحاديثه من قبل الذين رووا عنه، فأما إذا روى عنه ثقة فحديثه يحتج به. وهذا الحديث رواه الدارقطني (ص 164) من طريق جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة باسنادين، وجعفر هو الحنفي الدمشقي وهو متروك باتفاق، ويروى عن القاسم أشياء موضوعة. 46 وأما من حد بثلاثين فإنهم ذكروا خبرا مرسلا من طريق أبى محمد الأزدي - وهو مجهول - (إذا اجتمع ثلاثون رجلا (1) فليؤمروا رجلا يصلى بهم الجمعة). وأما من قال: بقول أبي حنيفة والليث فذكروا حديثا من طريق معاوية بن يحيى عن معاوية بن سعيد عن الزهري عن أم عبد الله الدوسية وقد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجمعة واجبة في كل قرية وان لم يكن فيهم إلا أربعة). وهذا لا يجوز الاحتجاج به، لان معاوية بن يحيى، ومعاوية بن سعيد مجهولان. وأيضا فان أبا حنيفة أول من يخالف هذا الخبر، لأنه لا يرى الجمعة في القرى، لكن في الأمصار فقط. فكل هذه آثار لا تصح، ثم لو صحت لما كان في شئ منها حجة، لأنه ليس في شئ منها اسقاط الجمعة عن أقل من العدد المذكور. وقد روى حديث ساقط عن روح بن غطيف -. وهو مجهول (2) - (لما بلغوا مائتين جمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم) فان أخذوا بالأكثر فهذا الخبر هو الأكثر، وإن أخذوا بالأقل فسنذكر إن شاء الله تعالى حديثا فيه أقل. وأما الشافعي فإنه احتج بخبر صحيح رويناه من طريق الزهري عن ابن كعب بن مالك عن أبيه: انه كان إذا سمع نداء الجمعة ترحم على أبى أمامة أسعد بن زرارة، فسأله ابنه عن ذلك؟ فقال: إنه أول من جمع بنا في هزم (3) حرة بنى بياضة، في نقيع يعرف بنقيع الخضمات، (4) ونحن يومئذ أربعون رجلا (5).
(1) ما هنا الذي في النسخة رقم (14) وفى النسخة رقم (16) (ثلاثون بيتا) (2) بل هو معروف، ولكنه ضعيف جدا منكر الحديث، وذكر البخاري له حديثا في التاريخ الكبير وقال (هذا باطل) (3) بفتح الهاء واسكان الزاي، وهو مما اطمأن من الأرض (4) النقيع بالنون المفتوحة وكسر القاف، وهو في اللغة الموضع الذي يستنقع فيه الماء، والخضمات بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، وانظر تحقيق هذا الموضع في ياقوت (ج 8 ص 312 و 314 و 362 و 464) (5) هذا الحديث رواه ابن إسحاق في السيرة التي هذبها ابن هشام (ص 290) ورواه أبو داود (ج 1 ص 413 و 414) والحاكم (ج 1 ص 281) كلاهما من طريق ابن إسحاق، ونقله ياقوت (ج 8: ص 462) عن معجم الطبراني، وكتاب الصحابة لأبي نعيم، وكتاب معرفة الصحابة لابن منده، والآثار للبيهقي، ونسبه ابن حجر في التلخيص (ص 133) إلى ابن حبان 47 قال على: ولا حجة له في هذا، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل إنه لا تجوز الجمعة بأقل من هذا العدد، نعم والجمعة واجبة بأربعين رجلا وبأكثر من أربعين وبأقل من أربعين. واحتج من قال: بقول أبى يوسف بما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد ابن شعيب أنا عبيد الله بن سعيد عن يحيى - هو القطان - عن هشام - هو الدستوائي - ثنا قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم). وهذا خبر صحيح، إلا أنه لا حجة لهم فيه، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنه لا تكون جماعة ولا جمعة بأقل من ثلاثة. وما حجتنا فهي ما قد ذكرناه قبل من حديث مالك بن الحويرث ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إذا سافرتما فأذنا وأقيما، وليؤمكما أكبر كما) فجعل عليه السلام للاثنين حكم الجماعة في الصلاة. فان قال قائل: إن الاثنين إذا لم يكن لهما ثالث فان حكم الامام أن يقف المأموم على يمين الامام، فإذا كانوا ثلاثة فقد قيل: يقفان عن يمين الامام ويساره، وقد قيل: بل خلف الامام، ولم يختلفوا في الأربعة ان الثلاثة يقفون خلف الامام، فوجدنا حكم الأربعة غير حكم الاثنين. قلنا: فكان ماذا؟ نعم، هو كما تقولون: في مواضع الوقوف، إلا أن حكم الجماعة واجب لهما باقراركم، وليس في حكم اختلاف موقف المأموم دليل على حكم الجمعة أصلا، وقد حكم الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن صلاة الجمعة ركعتان. وقال عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) فلا يجوز أن يخرج عن هذا الامر وعن هذا الحكم أحد إلا من جاء نص جلى أو اجماع متيقن على خروجه عنه، وليس ذلك إلا الفذ وحده. وبالله تعالى التوفيق. فان ابتدأها انسان ولا أحد معه ثم اتاه آخر أو أكثر، فسواء اتوه إثر تكبيره فما بين
48 ذلك إلى أن يركع من الركعة الأولى -: يجعلها جمعة ويصليها ركعتين، لأنها قد صارت صلاة جمعة، فحقها أن تكون ركعتين، وهو قادر على أن يجعلها ركعتين بنية الجمعة، وهي ظهر يومه، فان جاءه بعد أن ركع فما بين ذلك إلى أن يسلم -: فيقطع الصلاة ويبتدئها صلاة جمعة، لابد من ذلك، لأنه قد لزمته الجمعة ركعتين، ولا سبيل له إلى أداء ما لزمه من ذلك إلا بقطع صلاته التي قد بطل حكمها. وبالله تعالى التوفيق. 523 - مسألة - وسواء فيما ذكرنا - من وجوب الجمعة - المسافر في سفره، والعبد، والحر، والمقيم، وكل من ذكرنا يكون اماما فيها، راتبا وغير راتب، ويصليها المسجونون، والمختفون ركعتين في جماعة بخطبة كسائر الناس، وتصلى في كل قرية صغرت أم كبرت، كان هنالك سلطان أو لم يكن، وان صليت الجمعة في مسجدين في القرية فصاعدا جاز ذلك. ورأي أبو حنيفة ومالك والشافعي أن لا جمعة على عبد ولا مسافر. واحتج لهم من قلدهم في ذلك بآثار واهية لا تصح: أحدها مرسل، والثاني فيه هريم وهو مجهول (1) والثالث فيه الحكم بن عمرو، وضرار بن عمرو، وهما مجهولان (2) ولا يحل الاحتجاج بمثل هذا.
(1) هريم بضم الهاء وفتح الراء وآخره ميم وهو هريم بن سفيان البجلي الكوفي وليس مجهولا كما زعم ابن حزم بل هو ثقة، وحديثه رواه أبو داود (ج 1 ص 412) من حديث طارق بن شهاب، وهو مرسل لان طارقا رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه، ولكن رواه الحاكم (ج 1 ص 288) عن طارق عن أبي موسى وصححه على شرط الشيخين، ونقل شارح أبى داود عن البيهقي في المعرفة نحوه بزيادة أبى موسى أيضا فالحديث صحيح، وانظر تفصيل الكلام عليه في شرح أبى داود، وفى نصب الراية (ج 1 ص 314 و 315) (2) في النسخة رقم (14) (الحكم أبو عمرو وضرار أبو عمرو و) وهو صواب في الأول خطأ في الثاني، لان الحكم بن عمرو هو الجزري وكنيته أبو عمرو. وحديثه نسبه الزيلعي (ج 1 ص 315) إلى البيهقي ونسبه الشوكاني (ج 3 ص 279) إلى العقيلي والحاكم أبى أحمد، ونقل ابن حجر في لسان الميزان عن البخاري أنه في الحكم في هذا الحديث (لا يتابع على حديثة) وعن الأزدي أنه قال (كذاب ساقط) 49 ولو شئنا لعارضناهم بما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال: (بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بأصحابه في سفر، وخطبهم يتوكأ على عصا) ولكننا والله الحمد في غنى بالصحيح عما لا يصح. واحتجوا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهر في صلاة الظهر بعرفة، وكان يوم جمعة. قال على: وهذه جرأة عظيمة! وما روى قط أحد أنه عليه السلام لم يجهر فيها، والقاطع بذلك كاذب على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قد قفا مالا علم به. وقد قال عطاء وغيره: إن وافق يوم عرفة يوم جمعة جهر الامام. قال على: ولا خلاف في أنه عليه السلام خطب وصلى ركعتين وهذه صفة صلاة الجمعة، وحتى لو صح لهم أنه عليه السلام لم يجهر لما كان لهم في ذلك حجة أصلا، لان الجهر ليس فرضا، ومن أسر في صلاة جهر أو جهر في صلاة سر فصلاته تامة، لما قد ذكرنا قبل. ولجأ بعضهم إلى دعوى الاجماع على ذلك وهذا مكان هان فيه الكذب على مدعيه. وروينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قال: من ادعى الاجماع كذب. حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ومحمد بن عبد السلام الخشني، قال ابن وضاح: ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع، وقال محمد بن عبد السلام الخشني: ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ثم اتفق وكيع، وعبد الرحمن كلاهما عن شعبة عن عطاء بن أبي ميمونة عن أبي رافع عن أبي هريرة: أنهم كتبوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه عن الجمعة وهم بالبحرين؟ فكتب إليهم: أن جمعوا حيثما كنتم، وقال وكيع: انه كتب. وعن أبي بكر بن أبي شيبة: ثنا أبو خالد الأحمر عن عبد الله بن يزيد قال: سألت سعيد ابن المسيب: على من تجب الجمعة؟ قال: على من سمع النداء. وعن القعنبي عن داود بن قيس سمعت عمرو بن شعيب وقيل له: يا أبا إبراهيم، على من تجب الجمعة؟ قال: على من سمع النداء. فعم سعيد وعمر وكل من سمع النداء ولم يخصا عبدا ولا مسافرا من غيرهما. وعن عبد الرزاق عن سعيد بن السائب بن يسار ثنا صالح بن سعد المكي: أنه كان مع عمر بن عبد العزيز وهو متبدى بالسويداء (1) في امارته على الحجاز، فحضرت الجمعة، فهيؤا
(1) تصغير سوداء، وهو موضع على ليلتين من المدينة على طريق الشام. قاله ياقوت 50 له مجلسا من البطحاء، ثم أذن المؤذن بالصلاة، فخرج إليهم عمر بن عبد العزيز، فجلس على ذلك المجلس، ثم أذنوا أذانا آخر، ثم خطبهم، ثم أقيمت الصلاة، فصلى بهم ركعتين وأعلن فيهما بالقراءة، ثم قال لهم: إن الامام يجمع حيثما كان. وعن الزهري مثل ذلك، وقال: إذ سئل عن المسافر يدخل قرية يوم الجمعة فينزل فيها؟ قال: إذا سمع الاذان فليشهد الجمعة. ومن طريق حماد بن سلمة عن أبي مكين عن عكرمة قال: إذا كانوا سبعة في سفر فجمعوا، يحمد الله ويثنى عليه ويخطب في الجمعة والأضحى والفطر. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أيما عبد كان يؤدى الخراج فعليه ان يشهد الجمعة، فإن لم يكن عليه خراج أو شغله عمل سيده. فلا جمعة عليه. قال على: الفرق بين عبد عليه الخراج وبين عبد لاخراج عليه دعوى بلا برهان، فقد ظهر كذبهم في دعوى الاجماع. فلجأوا إلى أن قالوا: روى عن علي بن أبي طالب: لا جمعة على مسافر. وعن أنس: أنه كان بنيسابور سنة أو سنتين فكان لا يجمع. وعن عبد الرحمن بن سمرة: انه كان بكابل شتوة أو شتوتين فكان لا يجمع. قال على: حصلنا من دعوى الاجماع على ثلاثة قد خالفتموهم أيضا، لان عبد الرحمن، وأنسا رضي الله عنهما كانا لا يجمعان، وهؤلاء يقولون: يجمع المسافر مع الناس ويجزئه، ورأي على أن يستخلف بالناس من يصلى بضعفائهم صلاة العيد في المسجد أربع ركعات، وهم لا يقولون: بهذا، وهذا عمر بن الخطاب يرى الجمعة عموما. قال على: قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسمعوا إلى ذكر الله وذروا البيع). قال على: فهذا خطاب لا يجوز أن يخرج منه مسافر ولا عبد بغير نص من رسول الله صلى اله عليه وسلم. وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه وفعله أن صلاة الخوف ركعة. وأما امامة المسافر، والعبد في الجمعة فان أبا حنيفة، والشافعي، وأبا سليمان وأصحابهم قالوا: يجوز ذلك، ومنع مالك من ذلك: وهو خطأ، أول ذلك قوله: إن المسافر، والعبد إذا حضر الجمعة كانت لهما جمعة، فما الفرق بين هذا وبين جواز إمامتهما فيها مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وليؤمكم أكبركم) و (يؤم القوم أقرؤهم)؟ فلم يخص عليه السلام جمعة
51 من غيرها، ولا مسافرا، ولا عبدا من حر مقيم، ولا جاء قط عن أحد من الصحابة منع العبد من الإمامة فيهما، بل قد صح أنه كان عبد لعثمان رضي الله عنه أسود مملوك أميرا له على الربذة يصلى خلفه أبو ذر رضي الله عنه وغيره من الصحابة الجمعة وغيرها، لان الربذة بها جمعة. وأما قولنا: كان هنالك سلطان أو لم يكن -: فالحاضرون من مخالفينا موافقون لنا في ذلك الا أبا حنيفة، وفى هذا خلاف قديم، وقد قلنا: لا يجوز تخصيص عموم أمر الله تعالى بالتجميع بغير نص جلى، ولا فرق بين الامام (1) في الجمعة والجماعة فيها وبين الامام (2) في سائر الصلوات والجماعة فيها، فمن أين وقع لهم رد الجمعة خاصة إلى السلطان دون غيرها؟. وأما قولنا: تصلى الجمعة في أي قرية صغرت أم كبرت: فقد صح عن علي رضي الله عنه : لا جمعة ولا تشريق الا في مصر جامع، وقد ذكرنا خلاف عمر لذلك وخلافهم لعلى في غير ما قصة. وقال مالك: لا تكون الجمعة إلا في قرية متصلة البنيان. قال على: هذا تحديد لا دليل عليه، وهو أيضا فاسد، لان ثلاثة دور قرية متصلة البنيان، والا فلا بدله من تحديد العدد الذي لا يقع اسم قربة على أقل منه، وهذا ما لا سبيل إليه. وقال بعض الحنيفيين: لو كان ذلك لكان النقل به متصلا. فيقال له: نعم قد كان ذلك، حتى قطعه المقلدون بضلالهم عن الحق، وقد شاهدنا جزيرة (ميورقة) (3) يجمعون في قراها، حتى قطع ذلك بعض المقلدين لمالك، وباء باثم النهى عن صلاة الجمعة. وروينا أن ابن عمر كان يمر على المياه وهم يجمعون فلا ينهاهم عن ذلك. وعن عمر بن عبد العزيز: أنه كان يأمر أهل المياه أن يجمعوا، ويأمر أهل كل قرية لا ينتقلون بأن يؤمر عليهم أمير يجمع بهم.
(1) في النسخة رقم (16) (بين الإمامة) (2) في النسخة رقم (16) (وبين الإمامة) (3) قال ياقوت: (بالفتح ثم الضم وسكون الواو والراء يلتقى فيه ساكنان وقاف جزيرة في شرقي الأندلس بالقرب منها جزيرة يقال لها منوقة بالنون) 52 ويقال لهم: لو كان قولكم حقا وصوابا لجاء به النقل المتواتر، ولما جاز أن يجعله ابن عمر، وقبله أبوه عمر، والزهري وغيره، ولا حجة في قول قائل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قولنا: إن الجمعة جائزة في مسجدين فصاعدا في القرية -: فان أصحاب أبي حنيفة حكوا عن أبي يوسف: أنها لا تجزئ الجمعة إلا في موضع واحد من المصر، إلا أن يكون جانبان بينهما نهر، فيجزئ أن يجمع في كل جانب منهما. ورووا عن أبي حنيفة ومحمد بن الحسن وأبى يوسف أيضا: أن الجمعة تجزئ في موضعين في المصر، ولا تجزئ في ثلاثة مواضع. وكلا هذين المذهبين من السخف بحيث لا نهاية له لأنه لا يعضدهما قرآن، ولا سنة، ولا قول صاحب، ولا إجماع، ولا قياس. وقد رووا عن محمد بن الحسن: أنها تجزئ في ثلاثة مواضع من المصر. فان قالوا: صلى على العيد في المصلى واستخلف من صلى بالضعفاء في المسجد، فهما موضعان وهذا لا يقال: رأيا. قلنا لهم: فقولوا: انه لا تجزئ الجمعة الا في المصلى، وفى الجامع فقط، والا فقد خالفتموه، كما خالفتموه في هذا الخبر نفسه، إذ أمر رضي الله عنه الذي استخلف أن يصلى بهم العيد أربعا. فقلتم: هذا شاذ فيقال لكم: بل الشاذ هو الذي أجزتم، والمعروف هو الذي أنكرتم وما جعل الله تعالى آراء كم قياسا على الأمة، ولا عيارا في دينه! وهلا قلتم: في هذا الخبر كما تقولون في خبر المصراة وغيره: هذا اعتراض على الآية لان الله تعالى عم الذين آمنوا بافتراض السعي إلى الجمعة، فصار تخصيصه اعتراضا على القرآن بخبر شاذ غير قوى النقل في أن ذلك لا يجب الا في مصر جامع؟!. ومنع مالك والشافعي من التجميع في موضعين في المصر. ورأينا المنتسبين إلى مالك يحدون في أن لا بكون بين الجامعين أقل من ثلاثة أميال! وهذا عجب عجيب! ولا ندري من أين جاء هذا التحديد؟ ولا كيف دخل في عقل ذي عقل حتى يجعله دينا؟ نعوذ بالله من الخذلان. قال الله تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم) فلم يقل عز وجل: في موضع ولا موضعين ولا أقل، ولا أكثر (وما كان ربك نسيا) * (*)
53 فان قالوا: قد كان أهل العوالي يشهدون مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة. قلنا: نعم وقد كان أهل ذي الحليفة يجمعون معه أيضا عليه السلام، روينا ذلك من طريق الزهري. ولا يلزم هذا عندكم، وقد كانوا يشهدون معه عليه السلام سائر الصلوات، ولم يكن ذلك دليلا على أن سائر قومهم لا يصلون الجماعات في مساجدهم، ولم يأت قط نص بأنهم كانوا لا يجمعون سائر قومهم في مساجدهم، ولا يحدون هذا أبدا. ومن البرهان القاطع على صحة قولنا: أن الله تعالى إنما افترض في القرآن السمى إلى صلاة الجمعة إذا نودي لها، لاقبل ذلك وبالضرورة أن من كان على نحو نصف ميل أو ثلثي ميل لا يدرك الصلاة أصلا إذا راح إليها في الوقت الذي أمره الله تعالى بالرواح إليها، فصح ضرورة أنه لابد لكل طائفة من مسجد يجمعون فيه إذا راحوا إليه في الوقت الذي أمروا بالرواح إليه فيه أدركوا الخطبة والصلاة، ومن قال: غير هذا فقد أوجب الرواح حين ليس بواجب، وهذا تناقص وايجاب ما ليس عندهم واجبا. ومن أعظم البرهان عليهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المدينة وإنما هي قرى صغار مفرقة، بنو مالك بن النجار في قريتهم حوالي دورهم أموالهم ونخلهم، وبنو عدى بن النجار في دارهم كذلك، وبنو مازن بن النجار كذلك، وبنو سالم كذلك، وبنو ساعدة كذلك، وبنو الحارث بن الخزرج كذلك وبنو عمرو بن عوف كذلك، وبنو عبد الأشهل كذلك، وسائر بطون الأنصار كذلك، فبنى مسجده في بنى مالك بن النجار، وجمع فيه في قرية ليست بالكبيرة، ولا مصر هنا لك، فبطل قول من ادعى أن لا جمعة إلا في مصر، وهذا امر لا يجهله أحد لا مؤمن ولا كافر، بل هو نقل الكواف من شرق الأرض إلى غربها. وبالله تعالى التوفيق. وقول عمر بن الخطاب: (حيثما كنتم) إباحة للتجميع في جميع المساجد. وروينا عن عمرو بن دينار أنه قال: إذا كان المسجد تجمع فيه للصلاة فلتصل فيه الجمعة. ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج: قلت لعطاء بن أبي رباح: أرأيت أهل البصرة لا يسعهم المسجد الأكبر؟، كيف يصنعون؟ قال: لكل قوم مسجد يجمعون فيه ثم يجزئ ذلك عنهم. وهو قول أبى سليمان، وبه نأخذ. 524 - مسألة - وليس للسيد منع عبده من حضور الجمعة، لأنه إذ قد ثبت انه مدعو إليها فسعيه إليها فرض كما أن الصلاة فرض ولا فرق، ولا يحل له منعه من شئ من فرائضه،
54 قال تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة في معصية إنما الطاعة في الطاعة). 525 - مسألة - ولا جمعة على معذور بمرض، أو خوف، أو غير ذلك من الاعذار، ولا على النساء، فان حضر هؤلاء صلوها ركعتين. لان الجمعة كسائر الصلوات تجب على من وجبت عليه سائر الصلوات في الجماعات ويسقط الإجابة من الاعذار ما يسقط الإجابة إلى غيرها ولا فرق. فان حضرها المعذور فقد سقط العذر فصار من أهلها وهي ركعتان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو صلاها الرجل المعذور بامرأته صلاها ركعتين، وكذلك لو صلاها النساء في جماعة. 526 - مسألة - ويلزم المجئ إلى الجمعة من كان منها بحيث إذا زالت الشمس وقد توضأ قبل ذلك دخل الطريق اثر أول الزوال ومشى مترسلا ويدرك منها ولو السلام سواء سمع النداء أو لم يسمع فمن كان بحيث ان فعل ما ذكرنا لم يدرك منها ولا السلام لم يلزمه المجئ إليها، سمع النداء أو لم يسمع، وهو قول ربيعة. والعذر في التخلف عنها كالعذر في التخلف عن سائر صلوات الفرض، كما ذكرنا قبل. واختلف الناس في هذا. فروينا عن ابن جريج عن سليمان بن موسى: أن معاوية كان يأمر على المنبر في خطبته أهل فاءين (1) فمن دونها بحضور الجمعة، وهم على أربعة وعشرين ميلا من دمشق. وعن معاذ بن جبل: أنه كان يأمر من كان على خمسة عشر ميلا بحضور الجمعة معه. وعن الزهري وقتادة: تجب الجمعة على من كان من الجامع بمقدار ذي الحليفة من المدينة وقال إبراهيم النخعي: تؤتى الجمعة من فرسخين. وعن أبي هريرة، أنس وابن عمر، ونافع، وعكرمة، والحكم، وعطاء، وعن الحسن، وقتادة وأبى ثور: تؤتى الجمعة من حيث إذا صلاها ثم خرج أدركه الليل في منزله، وهو قول الأوزاعي. وروى عن عبد الله بن عمرو بن العاصي، وعن سعيد بن المسيب، وعمرو بن شعيب: تجب الجمعة على من سمع النداء وان عبد الله بن عمر وكأن يكون من الطائف على ثلاثة أميال فلا
(1) هكذا في النسخة رقم (16) وفى النسخة رقم (14) (فائن) ولم أجد هذا الحرف في شئ من كتب البلدان ولا كتب اللغة، ولا في الفهارس الموضوعة على الطريقة الحديثة لكثير من الكتب الكبرى وغيرها. 55 يأتي الجمعة، وبه يقول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. وعن ابن المنكدر: تؤتى الجمعة على أربعة أميال. وقال مالك والليث: تجب الجمعة على من كان من المصر على ثلاثة أميال، ولا تجب على من كان على أكثر من ذلك. وقال الشافعي: تجب على أهل المصر وإن عظم، وأما من كان خارج المصر، فمن كان بحيث يسمع النداء فعليه أن يجيب ومن كان بحيث لا يسمع النداء لم تلزمه الجمعة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تلزم الجمعة جميع أهل المصر، سمعوا النداء أو لم يسمعوا، ولا تلزم من كان خارج المصر، سمع النداء أو لم يسمع. قال على: كل هذه الأقوال لا حجة لقائلها، لامن قرآن، ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا قول صاحب لا مخالف له، ولا اجماع، ولا قياس، لا سيما قول أبي حنيفة وأصحابه. فان تعلق من يحد ذلك بثلاثة أميال بأن أهل العوالي كانوا يجمعون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلنا: وقد روى أن أهل ذي الحليفة كانوا يجمعون معه عليه السلام، وهي على أكثر من ثلاثة أميال، وليس في ذلك دليل على أنه عليه السلام أوجب ذلك عليهم فرضا بل قدر روى أنه عليه السلام اذن لهم في أن لا يصلوها معه، وقد صح ذلك عن عثمان رضي الله عنه، كما روينا من طريق مالك عن الزهري عن أبي عبيد (1) مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عثمان بن عفان فصلى ثم خطب فقال: إنه قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان، فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فليرجع، فقد أذنت له. قال على: لو كان ذلك عنده فرضا عليهم لما أذن لهم في تركها. وأما من قال: تجب على من سمع النداء -: فان النداء قد لا يسمعه لخفاء صوت المؤذن، أو لحمل الريح له إلى جهة أخرى، أو لحواله (2) رابية من الأرض دونه من كان قريبا جدا، وقد يسمع علي أميال كثيرة إذا كان المؤذن في المنار والقرية في جبل والمؤذن صيتا والريح تحمل صوته.
(1) اسمه (سعد بن عبيد) بالتصغير في اسم أبيه وفى كنيته، وحديثه هذا في الموطأ (ص 63) (2) كذا في الأصلين باثبات الهاء في آخر الكلمة، ومصدر (حال) بين اثنين (الحول باسكان الواو والحؤول والمحالة) واما (الحول) بكسر الحاء فهو كل شئ حال بين اثنين وكذلك (الحول) بفتح الحاء والواو. 56 وبالضرورة ندري أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتسمع النداء؟ قال: نعم، قال: أجب) انه إنما أمره بالإجابة لحضور الصلاة المدعو إليها، لامن يوقن انه لا يدرك منها شيئا، هذا معلوم يقينا ويبين ذلك اخباره عليه السلام بأنه يهم باحراق منازل المتخلفين عن الصلاة في الجماعة لغير عذر،. فإذ قد اختلفوا هذا الاختلاف فالمرجوع إليه ما افترض الله الرجوع إليه من القرآن والسنة. فوجدنا الله تعالى قد قال: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع) فافترض الله تعالى السعي إليها إذا نودي لها، لا قبل ذلك، ولم يشترط تعالى من سمع النداء ممن لم يسمعه، والنداء لها إنما هو إذا زالت الشمس، فمن أمر بالرواح قبل ذلك فرضا فقد افترض ما لم يفترضه الله تعالى في الآية ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فصح يقينا انه تعالى امر بالرواح إليها اثر زوال الشمس، لا قبل ذلك، فصح انه قبل ذلك فضيلة لا فريضة، كمن قرب بدنة، أو بقرة، أو كبشا، أو ما ذكر معها. وقد صح امر النبي صلى الله عليه وسلم من مشى إلى الصلاة بالسكينة والوقار، والسعي المذكور في القرآن إنما هو المشي لا الجرى، وقد صح ان السعي المأمور به إنما هو لادراك الصلاة لا للعناء دون ادراكها، وقد قال عليه السلام: (فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا) فصح قولنا بيقين لا مرية فيه. وبالله تعالى التوفيق. 527 - مسألة - ويبتدئ الامام بعد الاذان وتمامه بالخطبة فيخطب واقفا خطبتين يجلس بينهما جلسة. وليست الخطبة فرضا، فلو صلاها امام دون خطبة صلاها ركعتين جهرا ولابد. ونستحب له أن يخطبهما على أعلى المنبر مقبلا على الناس بوجهه، يحمد الله تعالى، ويصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم، ويذكر الناس بالآخرة، ويأمرهم بما يلزمهم في دينهم. وما خطب به مما يقع عليه اسم خطبة أجزأه، ولو خطب بسورة يقرؤها فحسن. فإن كان لم يسلم على الناس إذ دخل فليسلم عليهم إذا قام على المنبر. روينا عن أبي بكر، وعمر: انهما كانا يسلمان إذا قعدا على المنبر. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كامل الجحدري ثنا خالد بن الحارث ثنا عبيد الله -
57 هو ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة قائما ثم يجلس ثم يقوم، كما يفعلون اليوم). وقد روينا عن عثمان، ومعاوية. أنهما كانا يخطبان جالسين. قال أبو محمد: قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فإنما لنا الائتساء بفعله صلى الله عليه وسلم، وليس فعله فرضا. فأما أبو حنيفة، ومالك فقالا: الخطبة فرض لا تجزئ صلاة الجمعة إلا بها، والوقوف في الخطبة فرض، واحتجا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تناقضا فقالا: إن خطب جالسا أجزأه، وان خطب خطبة واحدة أجزأه، وان لم يخطب لم يجزه، وقد صح عن جابر أنه قال: (من أخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب جالسا فقد كذب). قال أبو محمد: من الباطل أن يكون بعض فعله عليه السلام فرضا وبعضه غير فرض. وقال الشافعي: ان خطب خطبة واحدة لم تجزه الصلاة، ثم تناقض فأجاز الجمعة لمن خطب قاعدا، والقول عليه في ذلك كالقول على أبي حنيفة، ومالك في اجازتهما الجمعة بخطبة واحدة ولا فرق. وقال عطاء، وطاوس، ومجاهد: من لم يدرك الخطبة يوم الجمعة لم يصلها الا أربعا، لان الخطبة أقيمت مقام الركعتين. روينا من طريق الخشني: ثنا محمد بن المثنى ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن حنظلة بن أبي سفيان الجمحي المكي قال: سمعت طاوسا وعطاء يقولان: من لم يدرك الخطبة صلى أربعا. ومن طريق محمد بن المثنى: ثنا يحيى بن سعيد القطان عن أبي يونس الحسن بن يزيد سمعت مجاهدا يقول: إذا لم تدرك الخطبة يوم الجمعة فصل أربعا. وروينا من طريق عبد الرزاق عن الأوزاعي عن عمرو بن شعيب: أن عمر بن الخطاب قال: الخطبة موضع الركعتين، فمن فاتته الخطبة صلى أربعا. قال أبو محمد: الحنيفيون والمالكيون يقولون: المرسل كالمسند وأقوى، فيلزمهم الاخذ بقول عمر ههنا، وإلا فقد تناقضوا. قال أبو محمد: من احتج في ايجاب فرض الخطبة بأنها جعلت بدلا عن الركعتين لزمه أن يقول بقول هؤلاء، والا فقد تناقض
58 واحتج بعضهم في إيجاب الخطبة بقول الله تعالى: (وإذ رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما). قال أبو محمد: وهذا الاحتجاج لا منفعة لهم فيه في تصويب قولهم، وإنما فيه أنهم تركوه قائما، وهكذا نقول، وإنما هو رد على من قال: إنهم تركوه عليه السلام قاعدا، وهذا لا يقوله أحد، وليس في إنكار الله تعالى لتركهم لنبيه عليه السلام قائما -: إيجاب لفرض القيام في الخطبة، ولا لفرض الخطبة. فإن كان ذلك عندهم كما يقولون فيلزمهم أن من خطب قاعدا فلا جمعة له ولا لهم، وهذا لا يقوله أحد منهم، فظهر أن احتجاجهم بالآية عليهم، وأنها مبطلة لأقوالهم في ذلك لو كانت على إيجاب القيام، وليس فيها أثر بوجه من الوجوه على إيجاب الخطبة، إنما فيها أن الخطبة تكون قياما فقط. فان ادعوا اجماعا أكذبهم ما رويناه عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن البصري: من لم يخطب يوم الجمعة صلى ركعتين على كل حال. وقد قاله أيضا ابن سيرين. وقد أقدم بعضهم - بجاري عادتهم في الكذب على الله تعالى - فقال: إن قول الله تعالى: (فاسعوا إلى ذكر الله) إنما مراده إلى الخطبة، وجعل هذا حجة في إيجاب فرضها. قال أبو محمد: ومن لهذا المقدم ان الله تعالى أراد بالذكر المذكور فيها الخطبة؟ بل أول الآية وآخرها يكذبان ظنه الفاسد، لان الله تعالى إنما قال: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) ثم قال عز وجل: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا) فصح ان الله إنما افترض السعي إلى الصلاة إذا نودي لها، وأمر إذا قضيت بالانتشار وذكره كثيرا، فصح يقينا ان الذكر المأمور بالسعي له هو الصلاة وذكر الله تعالى فيها بالتكبير، والتسبيح، والتمجيد، والقراءة، والتشهد لا غير ذلك. ولو كان ما قاله هذا الجاهل لكان من لم يدرك الخطبة ولا شيئا منها وأدرك الصلاة غير مؤد لما افترض الله تعالى عليه من السعي، وهم لا يقولون: هذا، وقد قاله من هو خير منهم، فلا يكذبون ثانية في دعوى الاجماع مموهين على الضعفاء، وبالله تعالى التوفيق. فان قالوا: لم يصلها عليه السلام قط إلا بخطبة. قلنا: ولا صلاها عليه السلام قط إلا بخطبتين قائما يجلس بينهما، فاجعلوا كل ذلك فرضا لا تصح الجمعة إلا به، ولا صلى عليه السلام قط إلا رفع يديه في التكبيرة الأولى،
59 فأبطلوا الصلاة بترك ذلك * وأما قولنا: ما وقع عليه اسم خطبة فاقتداء بظاهر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة: تجزئ تكبيرة، وهذا نقض منه لا يجابه الخطبة فرضا، لان التكبيرة لا تسمى خطبة، ويقال لهم: إذا جاز هذا عندكم فلم لا أجزأت عن الخطبة تكبيرة الاحرام فهي ذكر؟. وقال مالك: الخطبة كل كلام ذي بال. قال أبو محمد: ليس هذا حد للخطبة، وهو يراها فرضا، ومن أوجب فرضا فواجب عليه تحديده، حتى يعلمه متبعوه علما لا إشكال فيه، وإلا فقد جهلوا فرضهم. واما خطبتها على أعلى المنبر فهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحت بذلك الآثار المتواترة وكان يلزمهم أن يجعلوا هذا أيضا فرضا، لأنه مذ عمل المنبر يخطب النبي صلى الله عليه وسلم في الجمعة إلا عليه. وأما قولنا: ان خطب بسورة يقرؤها فحسن (1). روينا من طريق مسلم حدثني محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن خبيب ابن عبد الرحمن عن عبد الله بن محمد بن معاوية عن ابنة لحارثة بن النعمان قالت: (ما حفظت (ق) (2) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخطب بها كل جمعة، وكان تنوريا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا). 528 - مسألة - ولا تجوز إطالة الخطبة، فان قرأ فيها بسورة فيها سجدة أو آية فيها سجدة فنستحب له أن ينزل فيسجد والناس، فإن لم يفعل فلا حرج. روينا من طريق مسلم بن الحجاج حدثني شريح بن يونس حدثني عبد الرحمن بن عبد الملك بن أبجر عن أبيه عن واصل بن حيان قال قال أبو وائل: خطبنا عمار بن ياسر فأوجز وأبلغ، لما نزل قلنا: يا أبا اليقظان، لقد أبلغت وأوجزت فلو كنت تنفست؟ فقال: انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة (3) من فقهه، فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة، فان من البيان سحرا). ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال قال ابن مسعود: أحسنوا هذه الصلاة واقصروا هذه الخطب. قال أبو محمد: شهدت ابن معدان في جامع قرطبة قد أطال الخطبة، حتى أخبرني بعض
(1) جواب أما محذوف دل عليه ما بعده وتقديره فنذكره بسندي (2) أي سورة (ق والقرآن المجيد) (3) في الصحاح (مئنة) أي علامة 60 وجوه الناس أنه بال في ثيابه وكان قد نشب في المقصورة. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا ابن السليم القاضي ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا أحمد بن صالح ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن عياض بن عبد الله ابن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ السجدة نزل فسجد وسجد الناس معه). ومن طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن صفوان بن محرز: ان أبا موسى الأشعري قرأ سورة الحج على المنبر بالبصرة فسجد بالناس سجدتين. ومن طريق مالك عن هشام بن عروة عن أبيه: ان عمر بن الخطاب قرأ السجدة وهو على المنبر يوم الجمعة، ثم نزل فسجد فسجدوا معه، ثم قرأها يوم الجمعة الأخرى فتهيئوا للسجود، فقال عمر: على رسلكم، إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء. ومن طريق البخاري: ثنا إبراهيم بن موسى انا هشام بن يوسف ان ابن جريج أخبرهم قال أخبرني أبو بكر بن أبي مليكة عن عثمان بن عبد الرحمن التيمي عن ربيعة بن عبد الله ابن الهدير (1) - وكان من خيار الناس - انه شهد عمر بن الخطاب قرأ يوم الجمعة على المنبر سورة النحل، حتى إذا جاء السجدة نزل فسجدوا سجد الناس معه، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاء السجدة قال: يا أيها الناس، إنما نمر بالسجود، فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا حرج عليه (2) فلم يسجد عمر. ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن زربن حبيش أن عمار بن ياسر قرأ يوم الجمعة على المنبر (إذا السماء انشقت) ثم نزل فسجد. ومن طريق شعبة عن أبي إسحاق السبيعي: أن الضحاك بن قيس كان يخطب فقرأ صلى الله عليه وسلم، وذلك بحضرة الصحابة، لا ينكر ذلك أحد بالمدينة، والبصرة، والكوفة، ولا يعرف لهم من الصحابة رضي الله عنهم مخالف، وقد سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في سجدات القرآن المشهورة، فأين دعواهم اتباع عمل الصحابة *؟ 529 - مسألة - وفرض على كل من حضر الجمعة - سمع الخطبة أو لم يسمع - أن لا يتكلم مدة خطبة الامام بشئ البتة، إلا التسليم إن دخل حينئذ، ورد السلام على
(1) بضم الهاء وفتح الدال المهملة واسكان الياء التحتية وآخره راء، (2) كذلك في النسخة رقم (14) وفى البخاري (ج 2 ص 101) (فلا إثم عليه) 61 من سلم ممن دخل حينئذ، وحمد الله تعالى ان عطس، وتشميت العاطس ان حمدا لله، والرد على المشمت، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا أمر الخطيب بالصلاة عليه، والتأمين على دعائه، وابتداء مخاطبة الامام في الحاجة تعن، ومجاوبة الامام ممن ابتدأه الامام بالكلام في أمر ما فقط. ولا يحل أن يقول أحد حينئذ لمن يتكلم -: أنصت، ولكن يشير إليه أن يغمزه أو يحصبه. ومن تكلم بغير ما ذكرنا ذا كرا عالما بالنهي فلا جمعة له. فان ادخل الخطيب في خطبته ما ليس من ذكر الله تعالى ولا من الدعاء المأمور به فالكلام مباح حينئذ، وكذلك إذا جلس الامام بين الخطبتين فالكلام حينئذ مباح، وبين الخطبة وابتداء الصلاة أيضا، ولا يجوز المس للحصى مدة الخطبة. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب انا إسحاق بن راهويه انا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن منصور بن المعتمر عن أبي معشر زياد بن كليب عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن القرثع الضبي - (1) وكان من القراء الأولين - عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من رجل يتطهر يوم الجمعة كما أمر ثم يخرج إلى الجمعة فينصت حتى يقضى صلاته -: إلا كان كفارة لما كان قبله (2) من الجمعة). حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كريب ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت -: غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام، ومن مس الحصى فقد لغا). حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا
(1) القرثع بفتح القاف واسكان الراء وفتح الثاء المثلثة وآخره عين مهملة، والقرثع هذا كان مخضر ما أدرك الجاهلية والاسلام، وكان من زهاد التابعين، وقتل في خلافة عثمان شهيدا، رحمه الله وفى النسخة رقم (16) (عن علقمة بن القرثع الضبي) وهو خطأ بل علقمة روى عن القرثع وليس ابنه (2) في سنن النسائي (ج 3 ص 104) (لما قبله) بحذف (كان) واعلم أننا اعتمدنا الآن نسخة النسائي المطبوعة حديثا بالمطبعة المصرية واسناد هذا الحديث اسناد صحيح 62 يحيى بن بكير ثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة أخبره ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والامام يخطب (1) فقد لغوت). قال أبو محمد: قال الله تعالى: (وإذا مروا باللغو مروا كراما). حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة على المنبر، فقال أبو ذر لأبي بن كعب: متى نزلت هذه السورة؟ فأعرض عنه أبى، فلما قضى صلاته قال أبي بن كعب لأبي ذر: مالك من صلاتك إلا ما لغوت، فدخل أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال: صدق أبي بن كعب):. وبه إلى حماد عن حميد عن بكر بن عبد الله المزني: ان علقمة بن عبد الله المزني كان بمكة فجاء كريه (2) والامام يخطب يوم الجمعة، فقال له: حبست القوم، قدار تحلوا (3)، فقال له: لا تعجل حتى ننصرف، فلما قضى صلاته قال له ابن عمر: أما صاحبك فحمار، وأما أنت فلا جمعة لك. ومن طريق وكيع عن أبيه عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي. ان رجلا استفتح عبد الله بن مسعود آية والامام يخطب، فلما صلى قال: هذا حظك من صلاتك. قال أبو محمد: فهؤلاء ثلاثة من الصحابة لا يعرف لهم من الصحابة رضي الله عنهم مخالف، كلهم يبطل صلاة من تكلم عامدا في الخطبة، وبه نقول، وعليه اعادتها في الوقت، لأنه لم يصلها. والعجب ممن قال: معنى هذا أنه بطل أجره!. قال أبو محمد: وإذا بطل أجره فقد بطل عمله بلا شك. ومن طريق معمر عن أيوب السختياني عن نافع: أن ابن عمر حصب رجلين كانا يتكلمان
(1) قوله (والامام يخطب) زيادة من النسخة رقم (14) وهو الموافق للبخاري (ج 2 ص 48) (2) بوزن فعيل من الكراء، والكرى هو الذي يكريك دابته فعيل - بكسر العين - يقال: اكرى دابته فهو مكر وكرى، وقد يقع على المكترى فعيل بمعنى مفعل - بفتح العين - قاله في اللسان (3) أي جعلوا الرحال على الإبل، يقال: رحل البعير وارتحله جعل عليه الرحل - باسكان الحاء المهملة - والمعنى انهم تهيؤا للذهاب 63 يوم الجمعة، وأنه رأى سائلا يسأل يوم الجمعة فحصبه، وأنه كان يومئ إلى الرجل يوم الجمعة: أن اسكت. وأما إذا أدخل الامام في خطبته (1) مدح من لا حاجة بالمسلمين إلى مدحه، أو دعاء فيه بغى وفضول من القول، أو ذم من لا يستحق -: فليس هذا من الخطبة، فلا يجوز الانصات لذلك، بل تغييره واجب إن أمكن. روينا من طريق سفيان الثوري عن مجالد قال: رأيت الشعبي وأبا بردة بن أبي موسى الأشعري يتكلمان والحجاج يخطب حين قال: لعن الله ولعن الله، فقلت: أتتكلمان في الخطبة؟ فقالا: لم نؤمر بأن ننصت لهذا. وعن المعتمر بن سليمان التيمي عن إسماعيل بن أبي خالد قال: رأيت إبراهيم النخعي يتكلم والامام يخطب زمن الحجاج. قال أبو محمد: كان الحجاج وخطباؤه يلعنون عليا وابن الزبير رضي الله عنهم ولعن لاعنهم. قال أبو محمد: وقد روينا خلافا عن بعض السلف لا نقول به. رويناه من طريق وكيع عن ابن نائل (2) عن إسماعيل بن أمية عن عروة بن الزبير: أنه كان لا يرى بأسا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة. وأما ابتداء السلام ورده فان عبد الله بن ربيع حدثنا قال ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد ابن بكر ثنا أبو داود ثنا أحمد بن حنبل ثنا بشر - هو ابن المفضل - عن محمد بن عجلان عن المقبري - هو سعيد بن أبي سعيد - عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست الأولى بأحق من الآخرة) (3) وقال عز وجل: (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أوردوها). وأما حمد العاطس وتشميته فان عبد الله بن ربيع حدثنا قال ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا جرير عن منصور عن هلال بن يساف عن سالم بن عبيد قال: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عطس أحدكم فليحمد الله، وليقل له من عنده: يرحمك الله، وليرد عليهم: يغفر الله لنا ولكم) (4).
(1) في النسخة رقم (14) (في الخطبة) (2) كذا في النسخة رقم (14) وفى النسخة رقم (16) (ابن أبي نابل) ويحرر رأيتهما أصح، فاني لم أعرف من هو؟ (3) رواه أبو داود (ج 4 ص 520) (4) اختصره المؤلف، وهو في أبى داود (ج 4 ص 466 و 467) وكذلك بالاسناد الذي فيه زيادة خالد بن عرفجة 64 وقد قيل: إن بين هلال بن يساف وبين سالم بن عبيد خالد بن عرفجة. وبه إلى أبى داود: ثنا موسى بن إسماعيل قال عبد العزيز - هو ابن عبد الله بن أبي سلمة - عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال، وليقل أخوه أو صاحبه: يرحمك الله، ويقول هو: يهديكم الله ويصلح بالكم). قال أبو محمد: فان قيل: قد صح النهي عن الكلام والامر بالانصات في الخطبة، وصح الامر بالسلام ورده، وبحمد الله تعالى عند العطاس وتشميته عند ذلك ورده، فقال قوم: إلا في الخطبة، وقلتم أنتم: بالانصات في الخطبة إلا عن السلام ورده والحمد والتشميت والرد، فمن لكم بترجيح استثنائكم وتغليب استعمالكم للاخبار على استثناء غيركم واستماله للاخبار لا سيما وقد أجمعتم معنا على أن كل ذلك لا يجوز في الصلاة؟!. قلنا وبالله تعالى التوفيق: قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة أنه (لا يصلح فيها شئ من كلام الناس) والقياس للخطبة على الصلاة باطل، إذ لم يوجبه قرآن، ولا سنة، ولا اجماع، فنظرنا في ذلك فوجدنا الخطبة يجوز فيها ابتداء الخطيب بالكلام ومجاوبته، وابتداء ذي الحاجة له بالمكالمة وجواب الخطيب له، على ما نذكر بعد هذا، وكل هذا ليس هو فرضا، بل هو مباح، ويجوز فيها ابتداء الداخل بالصلاة تطوعا، فصح أن الكلام المأمور به مغلب على الانصات فيها، لأنه من المحال الممتنع الذي لا يمكن البتة جوازه -: أن يكون الكلام المباح جائزا فيها، ويكون الكلام الفرض المأمور به الذي لا يحل تركه محرما فيها. وبالله تعالى نتأيد. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفر برى ثنا البخاري ثنا إبراهيم بن المنذر ثنا الوليد بن مسلم ثنا أبو عمرو - هو الأوزاعي - حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال. (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، وما نرى في السماء قزعة) (1) وذكر باقي الحديث. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا احمد
(1) القزعة بفتح القاف والزاي والعين المهملة: القطعة من السحاب. 65 ابن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا شيبان بن فروخ ثنا سليمان بن المغيرة ثنا حميد بن هلال قال قال أبو رفاعة: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله، رجل غريب جاء يسأل عن دينه، لا يدرى ما دينه، فأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلى، وأتى (1) بكرسي حسبت قوائمه حديدا، فقعد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يعلمني مما علمه الله عز وجل، ثم أتى خطبته (2) فأتم آخرها). قال أبو محمد: أبو رفاعة هذا تميم العدوي (3) له صحبة،. وقد ذكرنا قبل هذا الباب في الباب المتصل به كلام عمر مع الناس على المنبر في أن السجود ليس فرضا، وذكرنا قبل كلام عمر مع عثمان بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وكلام عثمان معه وعمر يخطب في أمر غسل الجمعة وانكار تركه، لا ينكر الكلام في كل ذلك أحد من الصحابة، حتى نشأ من لا يعتد به مع من ذكرنا. والعجب أن بعضهم - ممن ينتسب إلى العلم بزعمهم - قال: لعل هذا قبل نسخ الكلام في الصلاة أو قال: في الخطبة!. فليت شعري أين وجد نسخ الكلام الذي ذكرنا في الخطبة وما الذي أدخل الصلاة في الخطبة؟ وليس لها شئ من أحكامها ولو خطب الخطيب على غير وضوء لما ضر ذلك خطبته، وهو يخطبها إلى غير القبلة، فأين الصلاة من الخطبة لو عقلوا؟ ونعوذ بالله من الضلال. والدين لا يؤخذ بلعل. ومن طريق وكيع عن الفضل بن دلهم (4) عن الحسن قال: يسلم ويرد السلام ويشمت العاطس والامام يخطب. وعن وكيع عن سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي مثله. وعن الشعبي وسالم بن عبد الله بن عمر قالا: رد السلام يوم الجمعة واسمع. وقال القاسم بن محمد ومحمد بن علي: يرد في نفسه. ومن طريق شعبة قال: سألت حماد بن أبي سليمان والحكم بن عتيبة عن رجل جاء
(1) في صحيح مسلم (ج 1 ص 239) (فأتى) (2) في النسخة رقم (14) (ثم أتى إلى خطبته) وما هنا هو الموافق لصحيح مسلم (3) اختلف في اسمه فقيل (تميم بن أسد) وقيل (تميم ابن أسيد) وقيل (عبد الله بن الحارث بن أسد) وهو صحابي معروف بكنيته وبها اشتهر. (4) بفتح الدال المهملة والهاء وبينهما لام ساكنة، والفضل هذا وثقة وكيع وضعفه غيره 66 يوم الجمعة، وقد خرج الامام؟ فقالا جميعا: يسلم ويردون عليه، وإن عطس شمتوه ويرد عليهم. وعن عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: إذا عطس الرجل يوم الجمعة والامام يخطب فحمد الله تعالى، أو سلم وأنت تسمعه وتسمع الخطبة فشمته في نفسك، ورد عليه في نفسك، فان كنت لا تسمع الخطبة فشمته واسمعه ورد عليه وأسمعه. وعن معمر عن الحسن البصري وقتادة قالا جميعا في الرجل يسلم وهو يسمع الخطبة: انه يرد ويسمعه. وعن حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن: أنه كان لا يرى بأسا أن يسلم الرجل ويرد السلام والامام يخطب. وهو قول الشافعي، وعبد الرزاق، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي سليمان وأصحابهم. 530 - مسألة - والاحتباء جائز يوم الجمعة والامام يخطب، وكذلك شرب الماء، وإعطاء الصدقة، ومناولة المرء أخاه حاجته، لان كل هذا أفعال خير لم يأت عن شئ منها نهى، وقال تعالى: (وافعلوا الخير) ولو كرهت أو حرمت لبين ذلك تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم (وما كان ربك نسيا). وقد جاء النهى عن الاحتباء والامام يخطب من طريق أبى مرحوم عبد الرحيم ابن ميمون عن سهل بن معاذ بن أنس الجهني. وأبو مرحوم هذا مجهول (1)، لم يرو عنه أحد نعلمه إلا سعيد بن أبي أيوب. روينا عن ابن عمر: أنه كان يحتبى يوم الجمعة والامام يخطب، وكذلك أنس بن مالك وشريح، وصعصعة بن صوحان، وسعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي، ومكحول وإسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، ونعيم بن سلامة، ولم يبلغنا عن أحد من التابعين أنه كرهه، إلا عبادة بن نسي وحده، ولم ترو كراهة ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم.
(1) أما أبو مرحوم فإنه ليس مجهولا، وقد روى عنه أيضا نافع بن يزيد ويحيى ابن أيوب وابن لهيعة وغيرهم، وهو لا بأس به، وفيه ضعف، وشيخه سهل بن معاذ فيه ضعف أيضا 67 وروينا عن طاوس إباحة شرب الماء يوم الجمعة والامام يخطب. وهو قول مجاهد والشافعي وأبي سليمان. وقال الأوزاعي إن شرب الماء فسدت جمعته، وبالله تعالى التوفيق. 531 - مسألة - ومن دخل يوم الجمعة والامام يخطب فليصل ركعتين قبل أن يجلس. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا آدم ثنا شعبة ثنا عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا جاء أحدكم والامام يخطب أو قد خرج فليصل ركعتين). حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن عمرو بن دينار قال سمعت جابر بن عبد الله قال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم خطب فقال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الامام فليصل ركعتين). قال أبو محمد: هذا أمر لا حيلة لمموه فيه، والله تعالى الحمد. وبه إلى مسلم: ثنا قتيبة وإسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - كلاهما عن سفيان ابن عيينة عن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: (دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصل الركعتين) هذا لفظ إسحاق، وقال قتيبة في حديثه: (ركعتين) وهكذا رويناه من طريق حماد بن زيد وأيوب السختياني وابن جريج كلهم عن عمرو عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن طريق الليث عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا محمد بن محبوب وإسماعيل بن إبراهيم قالا ثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: (جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له عليه السلام: أصليت شيئا؟ قال: لا، قال: صل الركعتين تجوز فيهما). وحدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا إبراهيم بن أحمد بن فراس العبقسى (1)
(1) نسبة إلى (عبد القيس) وينسب إليه (العبدي) أيضا والعبقسى أشهر، قاله السمعاني 68 ثنا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري ثنا إسحاق بن راهويه أنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري (انه جاء ومروان يخطب يوم الجمعة، فقام فصلى الركعتين، فأجلسوه، فأبى، وقال: أبعد ما صليتموها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم). فهذه آثار متظاهرة متواترة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم بأصح أسانيد توجب العلم بأمره صلى الله عليه وسلم من جاء يوم الجمعة والامام يخطب بأن يصلى ركعتين، وصلاهما أبو سعيد مع النبي صلى الله عليه وسلم وبعده بحضرة الصحابة، ولا يعرف له منهم مخالف، ولا عليه منكر، إلا شرط مروان الذين تكلموا بالباطل وعملوا الباطل في الخطبة، فأظهروا بدعة وراموا إماتة سنة وإطفاء حق، فمن أعجب شأنا ممن يقتدى بهم ويدع الصحابة؟. وقد روى الناس من طريق مالك وغيره عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن عمرو ابن سليم الزرقي عن ابن قتادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل ان يجلس) فعم عليه السلام ولم يخص فلا يحل لاحد ان يخص إلا ما خصه النبي صلى الله عليه وسلم، ممن يجد الامام يقيم لصلاة الفرض، أو قد دخل فيها، وسبحان من يسر هؤلاء لعكس الحقائق فقالوا: من جاء والامام يخطب فلا يركع، ومن جاء والامام يصلى الفرض ولم يكن أوتر ولا ركع ركعتي الفجر فليترك الفريضة وليشتغل بالنافلة فعكسوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عكسا،. ولولا البرهان الذي قد ذكرنا قبل بأن لا فرض الا الخمس لكانت هاتان الركعتان فرضا، ولكنهما في غاية التأكيد، لا شئ من السنن أو كد منهما، لتردد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما. وروينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي: ثنا سفيان الثوري عن أبي نهيك (1) عن سماك بن سلمة قال: سأل رجل ابن عباس عن الصلاة والامام يخطب؟ فقال: لو أن الناس فعلوه كان حسنا. وعن أبي نعيم الفضل بن دكين: ثنا بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال: رأيت الحسن البصري دخل يوم الجمعة وابن هبيرة يخطب، فصلى ركعتين في مؤخر
(1) بفتح النون، وأظن أنه القاسم بن محمد الأسدي أو الضبي، وله ترجمة في التهذيب (ج 12 ص 259) وله فيه أيضا ذكر في ترجمة سماك (ج 4 ص 235) 69 المسجد ثم جلس. وعن وكيع عن عمران بن حدير عن أبي مجلز قال: إذا جئت يوم الجمعة وقد خرج الامام فان شئت صليت ركعتين. وهو قول سفيان بن عيينة، ومكحول، وعبد الله بن يزيد المقرئ، والحميدي، وأبى ثور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وجمهور أصحاب الحديث، وهو قول الشافعي وأبي سليمان وأصحابهما. وقال الأوزاعي: إن كان صلاهما في بيته جلس، وإن كان لم يصلهما في بيته ركعهما في المسجد والامام يخطب. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يصل، قال مالك: فان شرع فيهما فليتمهما. قال أبو محمد: إن كانتا حقا فلم لا يبتدئ بهما؟ فالخير ينبغي البدار إليه، وإن كانتا خطأ وغير جائزتين فما يجوز التمادي على الخطاء. وفى هذا كفاية. واحتج من منع (1) منهما بخبر ضعيف رويناه من طريق معاوية بن صالح عن أبي الزاهرية قال: كنا مع عبد الله بن بسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجلس فقد آذيت) (2) قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه، لوجوه أربعة. أحدها: أنه لا يصح، لأنه من طريق معاوية بن صالح، لم يروه غيره، وهو ضعيف. والثاني: أنه ليس في الحديث - لو صح - أنه لم يكن ركعهما، وقد يمكن أن يكون ركعهما ثم تخطى، ويمكن أن لا يكون ركعهما، فإذ ليس في الخبر لا أنه ركع ولا أنه لم يركع -: فلا حجة لهم فيه ولا عليهم، ولا يجوز أن يقيم في الخبر ما ليس فيه فيكون من فعل ذلك أحد الكذابين. والثالث: أنه حتى لو صح الخبر، وكان فيه أنه لم يكن ركع -: لكان ممكنا أن يكون قبل أمر النبي صلى الله عليه وسلم من جاء والامام يخطب بالركوع، وممكنا أن يكون بعده، فإذ ليس فيه بيان بأحد الوجهين فلا حجة فيه لهم ولا عليهم.
(1) في الأصلين (واحتج من سمع) الخ وهو خطأ ظاهر واتفاق الأصلين عليه غريب (2) رواه أبو داود (ج 1 ص 435 و 436) والنسائي (ج 3 ص 103) واحمد في المسند (ج 4 ص 190) وهو حديث صحيح ومعاوية بن صالح ثقة خلافا لما زعم ابن حزم 70 والرابع: أنه لو صح الخبر وصح فيه أنه لم يكن ركع، وصح ان ذلك كان بعد أمره عليه السلام من جاء والامام يخطب بأن يركع، وكل ذلك لا يصح منه شئ -: لما كانت لهم فيه حجة، لأننا لم نقل إنهما فرض، وإنما قلنا: إنهما سنة يكره تركها، وليس فيه نهى عن صلاتهما فبطل تعلقهم بهذا الخبر الفاسد جملة. وبالله تعالى التوفيق، وبقى أمره عليه السلام بصلاتهما لا معارض له. وتعلل بعضهم بخبر رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن عجلان عن عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري: (ان رجلا دخل المسجد) - فذكر الحديث وفيه - (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امره ان يصلى ركعتين، ثم قال: إن هذا دخل المسجد في هيئة بذة فأمرته ان يصلى ركعتين وأنا أرجو أن يفطن له رجل فيتصدق عليه) قالوا: فإنما امره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركعتين ليفطن فيتصدق عليه. قال أبو محمد: وهذا الحديث من أعظم الحجج عليهم، لان فيه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاتهما، وعلى كل حال فليس اعتراض على حديث جابر الذي ذكرنا، وفيه قوله عليه السلام: (من جاء يوم الجمعة والامام يخطب أو قد خرج فليركع ركعتين). ثم نقول لهم: قولوا لنا: هل أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك بحق أم بباطل؟ فان قالوا بباطل، كفروا، وإن قالوا: بحق أبطلوا مذهبهم، ولزمهم الامر بالحق الذي امر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصح انهما حق على كل حال، إذ لا يأمر عليه السلام بوجه من الوجوه إلا بحق. ثم نقول لهم: إذ قلتم هذا فتقولون أنتم به فتأمرون من دخل بهيئة بذة والامام يخطب يوم الجمعة بأن يركع ركعتين ليفطن له فيتصدق عليه؟ أم لا ترون ذلك؟ فان قالوا: نأمره بذلك تركوا مذهبهم، وإن قالوا: لسنا نأمره بذلك، قيل لهم: فأي راحة لكم في توجيهكم (1) للخبر الثابت وجوها أنتم مخالفون لها، وعاصون للخبر على كل حال؟ وهل ههنا إلا ايهام الضعفاء المغترين المحرومين أنكم أبطلتم حكم الخبر وصححتم بذلك قولكم؟ والامر في ذلك بالضد، بل هو عليكم. وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقال بعضهم: لما لم يجز ابتداء التطوع لمن كان في المسجد لم يجز لمن دخل المسجد
(1) في النسخة رقم (14) (توجهكم) وما هنا أصح 71 قال أبو محمد: وهذه دعوى فاسدة لم يأذن الله تعالى بها، ولا قضاها رسوله عليه السلام، بل قد فرق عليه السلام بينهما، بأن أمر من حضر بالانصات والاستماع، وأمر الداخل بالصلاة، فالمعترض على هذا مخالف لله ولرسوله عليه السلام، فالتطوع جائز لمن في المسجد ما لم يبدأ الامام بالخطبة ولمن دخل ما لم تقم الإقامة للصلاة. 522 - مسألة - والكلام مباح لكل أحد ما دام المؤذن يؤذن يوم الجمعة ما لم يبدأ الخطيب بالخطبة، والكلام جائز بعد الخطبة إلى أن يكبر الامام، والكلام جائز في جلسة الامام بين الخطبتين، لان الكلام بالمباح مباح إلا حيث منع منه النص، ولم يمنع النص إلا من الكلام في خطبة الامام كما أوردنا قبل. حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن جرير بن حازم عن ثابت بن أسلم البناني عن أنس بن مالك قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزل من المنبر يوم الجمعة فيكمله الرجل في الحاجة، فيكلمه ثم يتقدم إلى المصلى فيصلى). ومن طريق حماد بن سلمة أنا علي بن زيد عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر الصديق لما قعد على المنبر يوم الجمعة قال له بلال: يا أبا بكر، قال: لبيك، قال: أعتقتني لله أم لنفسك؟ قال أبو بكر: بل لله تعالى، قال: فاذن لي أجاهد في سبيل الله تعالى، فأذن له، فذهب إلى الشأم فمات بها رضي الله عنه. ومن طريق حماد بن سلمة عن برد أبى العلاء عن الزهري: أن عمر بن الخطاب قال: كلام الامام يقطع الكلام. فلم ير عمر الكلام يقطعه إلا كلام الامام. وعن سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام عن عمران بن موسى عن أبي الصعبة قال قال عمر بن الخطاب لرجل يوم الجمعة وعمر على المنبر: هل اشتريت لنا؟ أو هل اتيتنا بهذا؟ يعنى الحب. وعن هشيم بن بشير أخبرني محمد بن قيس أنه سمع موسى بن طلحة بن عبيد الله يقول: رأيت عثمان بن عفان جالسا يوم الجمعة على المنبر والمؤذن يؤذن وعثمان يسأل الناس عن أسعارهم وأخبارهم. ومن طريق سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب: كلام الامام يقطع الكلام
72 وعن عبد الله بن عون: قال لي حماد بن أبي سليمان في المسجد بعد أن خرج الامام يوم الجمعة: كيف أصبحت؟ وعن عطاء وإبراهيم النخعي: لا بأس بالكلام يوم الجمعة قبل أن يخطب الامام وهو على المنبر وبعد أن يفرغ. وعن قتادة عن بكر بن عبد الله المزني مثله. وعن حماد بن سلمة عن إياس بن معاوية مثله. وعن الحسن: لا بأس بالكلام في جلوس الامام بين الخطبتين. 533 - مسألة - ومن رعف والامام يخطب واحتاج إلى الخروج فليخرج، وكذلك من عرض له ما يدعوه إلى الخروج،. ولا معنى لاستئذان الامام، قال الله عز وجل: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وقال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر). ولم يأت نص بايجاب استئذان الإماء في ذلك. ويقال لمن أوجب ذلك: فإن لم يأذن له الامام، أتراه يبقى بلا وضوء؟ أو هو يلوث المسجد بالدم؟ أو يضيع ما لا يجوز لا تضييعه من نفسه أو ماله أو أهله؟ أو معاذ الله من هذا. 534 - مسألة - ومن ذكر في الخطبة صلاة فرض نسيها أو نام عنها فليقم وليصلها، سواء كان فقيها أو غير فقيه، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها) وقد ذكرناه باسناده قبل. وقد فرق قوم في ذلك بين الفقيه وغيره. وهذا خطأ لم يوجبه قرآن، ولا سنة، ولا نظر ولا معقول، بل الحجة ألزم للفقيه في أن لا يضيع دينه منها لغيره. فان قيل: يراه الجاهل فيظن الصلاة تطوعا جائزة حينئذ. قلنا: لا أعجب ممن يستعمل لنفسه مخالفة امر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتضييع فرضه خوف ان يخطئ غيره، ولعل غيره لا يظن ذلك أو يظن، فقد قال تعالى. (لا تكلف إلا نفسك) وقال تعالى: (عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم). 535 - مسألة - ومن لم يدرك مع الامام من صلاة الجمعة إلا ركعة واحدة أو الجلوس فقط فليدخل معه وليقض إذ أدرك ركعة ركعة واحدة (1) وان لم يدرك إلا الجلوس
(1) في النسخة رقم (16) (وليقض إذا أدرك ركعة واحدة) وهو خطأ والصواب تكرار كلمة (ركعة) مرتين كما هو ظاهر وكما هو في النسخة الصحيحة رقم (14) 73 صلى ركعتين فقط. وبه قال أبو حنيفة وأبو سليمان. وقال مالك والشافعي: إن أدرك ركعة قضى إليها أخرى، فإن لم يدرك إلا رفع الرأس من الركعة فما بعده صلى أربعا. وقال عطاء، وطاوس، ومجاهد - ورويناه أيضا عن عمر بن الخطاب -: من لم يدرك (1) شيئا من الخطبة صلى أربعا. واحتج من ذهب إلى هذا بأن الخطبة جعلت بإزاء الركعتين، فيلزم من قال بهذا أن من فاتته الخطبة الأولى وأدرك الثانية أن يقضى ركعة واحدة مع أن هذا القول لم يأت به نص قرآن ولا سنة. واحتج مالك والشافعي بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أدرك مع الامام ركعة فقد أدرك الصلاة). قال أبو محمد: وهذا خبر صحيح، وليس فيه أن من أدرك أقل من ركعة لم يدرك الصلاة. بل قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات ثنا إسحاق بن إسماعيل النضري ثنا عيسى بن حبيب ثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يزيد المقرئ ثنا جدي محمد بن عبد الله ثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون، عليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا). حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد البلخي ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو نعيم ثنا شيبان عن يحيى - هو ابن أبي كثير - عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: (بينما نحن نصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال (2)، فلما صلى قال: ما شأنكم؟ قالوا: استعجلنا إلى الصلاة، قال: فلا تفعلوا، إذا أتيتم الصلاة فعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا). فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصلى مع الامام ما أدرك، وعم عليه السلام ولم يخص، وسماه مدركا لما أدرك من الصلاة، فمن وجد الامام جالسا أو ساجدا فان عليه أن يصير معه في تلك الحال، ويلتزم إمامته، ويكون بذلك بلا شك داخلا في صلاة الجماعة فإنما يقضى ما فاته ويتم تلك الصلاة، ولم تفته إلا ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان فلا
(1) في النسخة رقم (14) (لمن لم يدرك) وما هنا أصح وأحسن (2) أي صوتهم 74 يصلى إلا ركعتين. وهذان الخبران زائدان على الذي فيه (من أدرك ركعة) والزيادة لا يجوز تركها وبالله تعالى التوفيق. روينا من طريق شعبة قال: سألت الحكم بن عتيبة عن الرجل يدرك الامام يوم الجمعة وهم جلوس؟ قال: يصلى ركعتين، قال شعبة: فقلنا له: ما قال هذا عن إبراهيم إلا حماد؟ قال الحكم: ومن مثل حماد؟ وعن معمر عن حماد بن أبي سليمان قال: إن أدركهم جلوسا في آخر الصلاة يوم الجمعة صلى ركعتين. قال أبو محمد: إلا أن الحنيفيين قد تناقضوا ههنا، لان من أصولهم - التي جعلوها دينا - ان قول الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف فإنه لا يحل خلافه. وقد روينا عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال: إذا أدرك الرجل ركعة يوم الجمعة صلى إليها أخرى، وإن وجد القوم جلوسا صلى أربعا. وعن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص (1) عن ابن مسعود: من أدرك الركعة فقد أدرك الجمعة، ومن لم يدرك الركعة فليصل أربعا. ولا يعرف لهما (2) من الصحابة رضي الله عنهم مخالف، نعم، وقد رويت فيه آثار - ليست بأضعف من حديث الوضوء بالنبيذ، والوضوء من القهقهة في الصلاة، والوضوء والبناء من الرعاف والقئ، فخالفوها إذ خالفها أبو حنيفة - من طريق الحجاج بن أرطاة من طريق ابن عمر، ومن طريق غيره عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة مسندين، وهذا مما تناقضوا فيه. قال أبو محمد: وأما نحن فلا حجة عندنا في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو صح في هذا اثر عن النبي صلى الله عليه وسلم لقلنا به ولم نتعده. 536 - مسألة - والغسل واجب يوم الجمعة لليوم لا للصلاة (3)، وكذلك الطيب،
(1) في النسخة رقم (14) (عن الأحوص) وهو خطأ، أبو الأحوص هذا اسمه (عوف ابن مالك بن نضلة الجشمي الكوفي) وهو شيخ أبى اسحق السبيعي، واما أبو الأحوص سلام بن سليم الحنفي فهو تلميذ أبي إسحاق (2) في النسخة رقم (14) (ولا يعرف له) وهو خطأ (3) هنا بحاشية النسخة رقم (14) ما نصه: (قال ابن كوثر: أما من اتى الجمعة فليزمه الغسل قبلها، لقوله عليه السلام: (إذا جاء أحدكم الجمعة)، (فإذا أراد أحدكم ان يأتي الجمعة) و (من جاء منكم الجمعة) في هذه التصريح بإرادة الاتيان، وهذا يوجب الغسل قبل الصلاة، فأما من لم يأت الجمعة فله الغسل في أي وقت شاء قبل الجمعة وبعدها) 75 والسواك، وقد ذكرنا كل ذلك فأغنى عن ترداده، إذ قد تقصيناه في كتاب الطهارة من ديواننا هذا ولله الحمد، ولا يتطيب لها المحرم ولا المرأة، لما ذكرنا في كتابنا هذا في النساء يحضرن صلاة الجماعة ولان المحرم منهى عن إحداث التطيب، على ما نذكر في كتاب الحج إن شاء الله تعالى،. ويلزم الغسل والسواك المحرم والمرأة كما يلزم الرجل، فمن عجز عن الماء تيمم، لما قد ذكرناه في التيمم من ديواننا هذا. والله تعالى الحمد. 537 - مسألة - فان ضاق المسجد أو امتلأت الرحاب واتصلت الصفوف صليت الجمعة وغيرها في الدور، والبيوت، والدكاكين المتصلة بالصفوف، وعلى ظهر المسجد بحيث يكون مسامتا لما خلف الامام، لا للامام، لا لما أمام الامام أصلا. ومن حال بينه وبين الامام والصفوف نهر عظيم أو صغير أو خندق أو حائط لم يضره شيئا، وصلى الجمعة بصلاة الامام. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد - هو ابن سلام - ثنا عبدة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة أم المؤمنين قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى من الليل في حجرته، وجدار الحجرة قصير، فرأى الناس شخص النبي صلى الله عليه وسلم، فقام أناس يصلون بصلاته) وذكر باقي الحديث. قال أبو محمد: حكم الإمامة سواء في الجمعة وغيرها، والنافلة والفريضة، لأنه لم يأت قرآن ولا سنة بالفرق بين أحوال الإمامة في ذلك، ولا جاء نص بالمنع من الائتمام بالامام إذا اتصلت الصفوف، فلا يجوز المنع من ذلك بالرأي الفاسد، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فحيثما أدركتك الصلاة فصل) فلا يحل أن يمنع أحد من الصلاة في موضع إلا موضعا جاء النص بالمنع من الصلاة فيه، فيكون مستثنى من هذه الجملة. روينا عن القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها: أنها كانت تصلى في بيتها بصلاة الامام وهو في المسجد. وقد جاء ذلك مبينا في صلاة الكسوف، إذ صلت في بيتها بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالناس.
76 ومن طريق حماد بن سلمة أخبرني جبلة بن أبي سليمان الشقري (1) قال: رأيت أنس ابن مالك يصلى في دار أبى عبد الله في الباب الصغير الذي يشرف على المسجد يرى ركوعهم وسجودهم. وعن المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي مجلز قال: تصلى المرأة بصلاة الامام وإن كان بينهما طريق أو جدار (2)، بعد أن تسمع التكبير. وعن حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه: انه جاء يوم الجمعة إلى المسجد وقد امتلاء، فدخل دار حميد بن عبد الرحمن بن عوف، والطريق بينه وبين المسجد، فصلى معهم وهو يرى ركوعهم وسجودهم وعن النضر بن أنس أنه صلى في بيت الخياط يوم الجمعة في الرحبة التي تباع فيها القباب. وعن حماد بن سلمة عن ثابت البناني قال: جئت أنا والحسن البصري يوم الجمعة والناس على الجدر والكنف، فقلت له: أبا سعيد، أترجو لهؤلاء؟ قال: أرجو أن يكونوا في الاجر سواء وقال مالك: لا تصلى الجمعة خاصة في مكان محجور بصلاة الامام في المجسد، وأما سائر صلوات الفرض فلا بأس بذلك فيها وهذا لا نعلمه عن أحد من الصحابة ولا يعضد هذا القول قرآن، ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا قياس، ولا رأى سديد. وقال أبو حنيفة: إن كان بين الإمام والمأموم نهر صغير أجزأته صلاته، فإن كان كبيرا لم تجزه. وهذا كلام ساقط، لا يعضده قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا قول صاحب، ولا رأى سديد. وحد النهر الكبير بما يمكن أن تجرى فيه السفن. قال أبو محمد: ليت شعري أي السفن؟ وفى السفن ما يحمل الف وسق، وفيها زويرق صغير يحمل ثلاثة أو أربعة فقط.
(1) جبلة: بفتح الجيم والباء الموحدة. والشقري: بفتح الشين المعجمة والقاف وكسر الراء، نسبة إلى بنى شقرة - بكسر القاف - على غير قياس. وله ترجمة في الأنساب (ورقة 336) (2) في النسخة رقم (14) (أو جدر) بالجيم والدال المضمومتين جمع جدار 77 وروينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: من صلى بصلاة الامام وبينهما طريق أو جدر أو نهر فلا يأتم به. فلم يفرق بين نهر صغير وكبير وروينا من طريق شعبة: ثنا قتادة قال قال لي زرارة بن أو في سمعت أبا هريرة يقول: لا جمعة لمن صلى في الرحبة. وبه يقول زرارة. قال أبو محمد: لو كان تقليد لكان هذا - لصحة اسناده - أولى من تقليد مالك وأبي حنيفة. وعن عقبة بن صهبان (1) عن أبي بكرة: أنه رأى قوما يصلون في رحبة المسجد يوم الجمعة، فقال: لا جمعة لهم، قلت: لم؟ قال: لأنهم يقدرون على أن يدخلوا فلا يفعلون. قال أبو محمد: هذا كما قال لمن قدر على أن يصل الصف فلم يفعل. وان العجب كله ممن يجيز الصلاة حيث صح نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيه كالمقبرة، ومعطن الإبل، والحمام، ثم يمنع منها حيث لا نص في المنع منها، كالموضع المحجور أو بينها نهر كبير وكل هذا كما ترى وبالله تعالى التوفيق. 538 - مسألة - ومن زوحم يوم الجمعة أو غيره فان قدر على السجود كيف أمكنه ولو ايماء وعلى الركوع كذلك -: أجزأه، فإن لم يقدر أصلا وقف كما هو، فإذا خف الامر صلى ركعتين وأجزأه. لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم) ولقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) ولا فرق بين العجز عن الركوع والسجود بمرض أو بخوف أو بمنع زحام، وقد صلى السلف الجمعة إيماء في المسجد، إذ كان بنو أمية يؤخرون الصلاة إلى قرب غروب الشمس. 539 - مسألة - وان جاء اثنان فصاعدا وقد فاتت الجمعة صلوها جمعة، لما ذكرنا من أنها ركعتان في الجماعة. 540 - مسألة - ومن كان بالمصر فراح إلى الجمعة من أول النهار فحسن، لما ذكرنا قبل، وكذلك من كان خارج المصر أو القرية على أقل من ميل، فإن كان على ميل فصاعدا صلى في موضعه، ولم يجز له المجئ إلى المجسد، إلا مسجد مكة ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس خاصة فالمجئ إليها على بعد فضيلة. لما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو ابن عبد الخالق البزار ثنا محمد بن معمر ثنا روح - هو ابن عبادة - ثنا محمد بن أبي حفصة
(1) بضم الصاد المهملة واسكان الهاء. وعقبة هذا تابعي ثقة مات سنة 82 78 عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الرحلة إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد إيلياء). قال أبو محمد: الرحلة هي السفر، وقد بينا قبل ان السفر ميل فصاعدا وبالله تعالى التوفيق. 541 - مسألة - والصلاة في المقصورة جائزة، والاثم على المانع لا على المطلق له دخولها، بل الفرض على من أمكنه دخولها أن يصل الصفوف فيها، لان اكمال الصفوف فرض كما قدمنا فمن أطلق على ذلك فحقه أطلق له، وحق عليه لم يمنع منه، ومن منع منه فحقه منع منه، والمانع من الحق ظالم، ولا اثم على الممنوع، لقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) (1). 542 - مسألة - ولا يحل البيع من أثر استواء الشمس ومن أول أخذها في الزوال والميل إلى أن تقضى صلاة الجمعة، فإن كانت قرية قد منع أهلها الجمعة أو كان ساكنا بين الكفار ولا مسلم معه فإلى ان يصلى ظهر يومه، أو يصلوا ذلك كلهم أو بعضهم، فإن لم يصل فإلى ان يدخل أول وقت العصر. ويفسخ البيع حينئذ أبدا إن وقع، ولا يصححه خروج الوقت، سواء كان التبايع من مسلمين أو من مسلم وكافر، أو من كافرين، ولا يحرم حينئذ نكاح، ولا إجارة، ولا سلم ولا ما ليس بيعا. وقال مالك كذلك في البيع الذي فيه مسلم، وفى النكاح، وعقد الإجارة، والسلم وأباح الهبة، والقرض، والصدقة. وقال أبو حنيفة والشافعي: البيع والنكاح والإجارة والسلم جائز كل ذلك في الوقت المذكور. قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض
(1) المقصورة المكان الذي كان خاصا بالملوك المسلمين يصلون فيه الجمعة وغيرها - حين كانوا يصلون - وكانت لا يدخلها عليهم الا المقربون منهم ويمنعها عامة المسلمين وهي بدعة ابتدعوها لا توافق قواعد الاسلام، وقد جاء بالتسوية بين بني آدم، لا كراهة لاحد إلا بالفتوى. ثم ما زالوا يتدرجون في ترك الدين خطوة خطوة حتى تركوا الصلاة في الجمعات والجماعات، والله أعلم بحالهم هل يصلونها فرادى؟ إلا من هدى الله، فانا لله وانا إليه راجعون 79 وابتغوا من فضل الله) ووقت النداء هو أول الزوال فحرم الله تعالى البيع إلى انقضاء الصلاة، وأباحه بعدها، فهو كما قال عز وجل، ولم يحرم تعالى نكاحا، ولا إجارة، ولا سلما، ولا ما ليس بيعا (وما كان ربك نسيا) و (تلك حدود الله فلا تعتدوها). وكل ما ذكرنا فجائز أن يكون وهو ناهض إلى الصلاة غير متشاغل بها، فجاز كل ذلك، لأنه ليس مانعا من السعي إلى الصلاة، فظهر تناقض قول مالك وفساده. فإن كان جعل علة كل ذلك التشاغل، سألنا هم عمن لم يتشاغل، بل باع، أو انكح أو اجر وهو ناهض إلى الجمعة، أو وهو في المسجد ينتظر الصلاة؟ فمن قولهم: يفسخ فبطل تعليلهم بالتشاغل، فإن لم يعللوا بالتشاغل فقد قاسوا على غير علة، وهو باطل عند من يقول: بالقياس، فكيف عند من لا يقول به. فان قال: النكاح بيع قلنا: هذا باطل ما سماه الله تعالى قط بيعا ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ونسألهم عمن حلف ان لا يبيع فنكح أو اجر؟ فمن قولهم: لا يحنث. واعتل أبو حنيفة والشافعي بأن النهى عن ذلك إنما هو للتشاغل عن الجمعة فقط. قال أبو محمد: وهذه دعوى كاذبة، وقول على الله تعالى بغير علم، وهذا لا يحل لاحد ان يخبر عن مراد الله تعالى بغير ان يخبر بذلك الله تعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، ولو أراد الله تعالى ذلك لبينه ولم يكلنا إلى خطأ رأى أبي حنيفة وظنه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إياكم والظن، فان الظن اكذب الحديث) وقال تعالى (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وان تقولوا على الله ما لا تعلمون). فان قالوا: قد علمنا ذلك. قلنا: ومن أين علمتموه؟ فان ادعيتم ضرورة كذبتم، لأننا غير مضطرين إلى علم ذلك، والطبيعة واحدة، وإن ادعوا دليلا سئلوه، ولا سبيل لهم إليه، فلم يبق إلا الظن. وقالوا: نحن منهيون عن البيع في الصلاة، ولو باع امرؤ في صلاته نفذ البيع. فقلنا لهم: إن البيع لا يجوز أن يكون في الصلاة أصلا، لأنه إذا وقع عمدا أبطلها، فليس حينئذ في صلاة، وإذا لم يكن في صلاة فبيعه جائز، وان ظن أنه ليس في صلاة فباع أو نكح، أو أنكح، أو عمل مالا يجوز في الصلاة فهو كله باطل، لان الحال التي هو فيها مانعة من ذلك، وهي حال ثابتة، فما ضادها فباطل، وكذلك من باع أو نكح أو طلق أو أعتق ولم يبق عليه من الوقت الا مقدار احرامه بالتكبير - وهو ذاكر لذلك - فهو كله باطل،
80 لأنه منهى عن كل ذلك، وقال عليه السلام: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) فكل من عمل أمرا بخلاف ما أمر به فهو مردود بنص حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. روينا من طريق عكرمة عن ابن عباس: (لا يصلح البيع يوم الجمعة حين ينادى بالصلاة فإذا قضيت الصلاة فاشتر وبع) (1). وعن القاسم بن محمد: أنه فسخ بيعا وقت في الوقت المذكور. قال أبو محمد: وهذا مما تناقض فيه الشافعيون والحنيفيون، لأنهم لا يجيزون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له من الصحابة مخالف، وهذا مكان لا يعرف لابن عباس فيه مخالف من الصحابة رضي الله عنهم. وتناقض المالكيون أيضا، لأنهم حملوا قوله تعالى: (وذروا البيع) على التحريم، ولم يحملوا امره تعالى بتمتيع المطلقة على الايجاب، وقالوا: لفظة (ذر) لا تكون الا للتحريم، فقلنا: هذا باطل، وقد قال تعالى (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون) فهذه للوعيد لا للتحريم. وأما منعنا أهل الكفر من البيع حينئذ فلقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) فوجب الحكم بين أهل الكفر بحكم أهل الاسلام ولابد، وقال تعالى (وان احكم بينهم بما أنزل الله). (صلاة العيدين) 543 - مسألة - هما عيد الفطر من رمضان، وهو أول يوم من شوال، ويوم الأضحى، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، ليس للمسلمين عيد غيرهما، الا يوم الجمعة وثلاثة أيام بعد يوم الأضحى لان الله تعالى لم يجعل لهم عيدا غير ما ذكرنا ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف بين أهل الاسلام في ذلك، ولا يحرم العمل ولا البيع في شئ من هذه الأيام لان الله تعالى لم يمنع من ذلك ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف أيضا بين أهل الاسلام في هذا. وسنة صلاة العيدين أن يبرز أهل كل قرية أو مدينة إلى فضاء واسع بحضرة منازلهم ضحوة إثر ابيضاض الشمس، وحين ابتداء جواز التطوع، يأتي الامام فيتقدم بلا أذان ولا إقامة، فيصلى بالناس ركعتين يجهر فيهما بالقراءة، في كل ركعة أم القرآن وسورة، ونستحب أن تكون السورة في الأولى (ق) وفى الثانية (اقتربت الساعة) أو
(1) في النسخة رقم (14) (فانتشر وبع) ولا بأس بها وما هنا أحسن 81 (سبح اسم ربك الاعلى) و (هل أتاك حديث الغاشية) وما قرأ من القرآن مع أم القرآن أجزأه، ويكبر في الركعة الأولى اثر تكبيرة الاحرام سبع تكبيرات متصلة قبل قراءة أم القرآن، ويكبر في أول الثانية اثر تكبيرة القيام خمس تكبيرات، ويجهر بجميعهن قبل قراءته أم القرآن، ولا يرفع يديه في شئ منها الا حيث يرفع في سائر الصلوات فقط، ولا يكبر بعد القراءة الا تكبيرة الركوع فقط، فإذا سلم الامام قام فخطب الناس خطبتين يجلس بينهما جلسة، فإذا أتمهما افترق الناس، فان خطب قبل الصلاة فليست خطبة، ولا يجب الانصات له، كل هذا لا خلاف فيه الا في مواضع نذكرها إن شاء الله تعالى. منها ما يقرأ مع أم القرآن، وفى صفة التكبير، واحدث بنو أمية تأخير الخروج إلى العيد وتقديم الخطبة قبل الصلاة والأذان والإقامة. فأما الذي يقرأ مع أم القرآن فان أبا حنيفة قال: اكره ان يقتصر على سورة بعينها، وشاهدنا المالكيين لا يقرؤن مع أم القرآن الا (والشمس وضحاها) و (سبح اسم ربك الاعلى) وهذان الاختياران فاسدان، إن كانت الصلاة كذلك جائزة، وإنما ننكر اختيار ذلك لأنهما خلاف ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى قرأت على مالك عن ضمرة بن سعيد المازني عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود: أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: (ما كان يقرأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفطر والأضحى؟ فقال: كان يقرأ فيهما بق والقرآن المجيد، واقتربت الساعة). قال أبو محمد عبيد الله أدرك أبا واقد الليثي وسمع منه، واسمه الحارث بن عوف، ولم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ غير هذا. وما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمود بن غيلان ثنا وكيع ثنا مسعر بن كدام وسفيان - هو الثوري - كلاهما عن معبد بن خالد عن زيد ابن عقبة عن سمرة بن جندب: (أنه عليه السلام كان يقرأ في العيد سبح اسم ربك الاعلى وهل أتاك حديث الغاشية). واختيارنا هو اختيار الشافعي وأبي سليمان وقد روى عن أبي حنيفة أنه ذكر بعض ذلك
82 ومنها التكبير، فان أبا حنيفة قال: يكبر للاحرام ثم يتعوذ ثم يكبر ثلاث تكبيرات يجهر بها، ويرفع يديه مع كل تكبيرة، ثم يقرأ ثم يركع، فإذا قام بعد السجود إلى الركعة الثانية كبر للاحرام ثم قرأ، فإذا أتم السورة مع أم القرآن كبر ثلاث تكبيرات جهرا، يرفع مع كل تكبيرة يديه، ثم يكبر للركوع. وقال مالك: سبعا في الأولى بتكبيرة الاحرام، وخمسا في الثانية سوى تكبيرة القيام. واختلف في ذلك عن السلف رضي الله عنهم. فروينا عن علي رضي الله عنه: أنه كان يكبر في الفطر والأضحى، والاستسقاء سبعا في الأولى، وخمسا في الآخرة ويصلى قبل الخطبة ويجهر بالقراءة. وأن أبا بكر، وعمر، وعثمان كانوا يفعلون ذلك، إلا أن في الطريق إبراهيم بن أبي يحيى، وهو أيضا منقطع، عن محمد بن علي بن الحسين (1): أن عليا. وروينا من طريق مالك وأيوب السختياني كلاهما عن نافع قال: شهدت العيد مع أبي هريرة، فكبر في الأولى سبعا، وفى الأخرى خمسا قبل القراءة. وهذا سند كالشمس. وروينا من طريق معمر عن أبي إسحاق السبيعي عن الأسود بن يزيد قال: كان ابن مسعود جالسا وعنده حذيفة، وأبو موسى الأشعري، فسألهم سعيد بن العاصي عن التكبير في الصلاة يوم الفطر والأضحى؟ فقال ابن مسعود: يكبر أربعا ثم يقرأ، ثم يكبر فيركع، ثم يقوم في الثانية فيقرأ ثم يكبر أربعا بعد القراءة. ومن طريق شعبة عن خالد الحذاء وقتادة كلاهما عن عبد الله بن الحارث - هو ابن نوفل - قال: كبر ابن عباس يوم العيد في الركعة الأولى أربع تكبيرات، ثم قرأ ثم ركع، ثم قام فقرأ ثم كبر ثلاث تكبيرات سوى تكبيرة الصلاة. وهذان اسنادان في غاية الصحة، وبهذا تعلق أبو حنيفة. قال أبو محمد: أين وجد لهؤلاء رضي الله عنهم أو لغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم ما قاله من أن يتعوذ إثر الأولى ثم يكبر ثلاثا، وأنه يرفع يديه معهن؟ فبطل عن أن يكون له متعلق بصاحب. وأطرف (2) ذلك أمره برفع الأيدي في التكبير، الذي لم يصح قط أن رسول الله
(1) في النسخة رقم (14) (محمد بن علي بن الحسن) وهو خطأ، فإنه أبو جعفر الباقر أبوه على زين العابدين بن الحسين، وأمه بنت الحسن بن علي بن أبي طالب (2) بالطاء المهملة 83 صلى الله عليه وسلم رفع فيه يديه، ونهيه عن رفع الأيدي في التكبير في الصلاة حيث صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع فيه يديه وهكذا فليكن عكس الحقائق وخلاف السنن!. وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس في التكبير في العيدين قال: يكبر تسعا أو إحدى عشرة أو ثلاث عشرة. وهذا سند في غاية الصحة. وعن جابر بن عبد الله قال: التكبير في يوم العيد في الركعة الأولى أربعا، وفى الآخرة ثلاثا والتكبير سبع سوى تكبير الصلاة. إلا أن في الطريق إبراهيم بن يزيد (1)، وليس بشئ. قال أبو محمد: وفى هذا آثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصح شئ منها. منها من طريق ابن لهيعة عن عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات وفى الثانية خمس تكبيرات). ومن طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاصي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة، والقراءة بعدهما كلتاهما) وهذا كله لا يصح، ومعاذ الله ان نحتج بما لا يصح كمن يحتج بابن لهيعة وعمرو بن شعيب إذا وافقا هواه، كفعله في زكاة الإبل وغير ذلك، ويرد روايتهما إذا خالفا هواه هذا فعل من لا دين له، ولا يبالي بأن يضل في دين الله تعالى ويضل. ومنها خبر من طريق زيد بن الحباب عن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبيه عن مكحول أخبرني أبو عائشة جليس أبي هريرة أنه حضر سعيد بن العاصي سأل أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان: (كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؟ فقال أبو موسى كان يكبر أربعا، تكبيرة على الجنائز، قال حذيفة: صدق، قال أبو موسى: كذلك كنت أكبر بالبصرة حيث كنت عليهم. قال أبو محمد: عبد الرحمن بن ثوبان ضعيف (2) وأبو عائشة مجهول، لا يدرى من هو ولا يعرفه أحد (3) ولا تصح رواية عنه لاحد، ولو صح لما كان فيه للحنيفيين حجة،
(1) إبراهيم بن يزيد في الرواة شائع، فما ادرى أيهم المؤلف ومنهم الثقة ومنهم غير الثقة؟ (2) هو عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان العنسي - بالنون - نسب إلى جده: وهو لا بأس به على ضعف في روايته (3) وكذلك قال ابن القطان فيما نقل عنه في التهذيب 84 لأنه ليس فيه ما يقولون من أربع تكبيرات في الأولى بتكبيرة الاحرام، وأربع في الثانية بتكبيرة الركوع، ولا أن الأولى يكبر فيها قيل القراءة وفى الثانية بعد القراءة، بل ظاهره أربع في كلتا الركعتين في الصلاة كلها، كما في صلاة الجنازة، - وهذا قياس عليهم لالهم، لان تكبير الجنازة أربع فقط، وهم يقولون: بست في كلتا الركعتين دون تكبيرتي الاحرام والركوع والقيام، أو بعشر تكبيرات إن عدوا فيها تكبيرة الاحرام والقيام والركوع، وليس فيه رفع الأيدي كما زعموا، فظهر تمويههم جملة. ولله تعالى الحمد. قال على: وأما مالك فإنه جعل في الأولى سبعا بتكبيرة الاحرام، وخمسا في الثانية دون تكبيرة القيام، وهذا غير محفوظ عن أحد من السلف. وإنما اخترنا ما اخترنا لأنه أكثر ما قيل، والتكبير خير، ولكل تكبيرة عشر حسنات، فلا يحقرها إلا محروم، ولو وجدنا من يقول: بأكثر لقلنا به، لقول الله تعالى (وافعلوا الخير) والتكبير خير بلا شك، واختيارنا هو اختيار الشافعي وأبي سليمان. ومنها: من أحدث بنو أمية من تأخير الصلاة، وإحداث الأذان والإقامة، وتقديم الخطبة قبل الصلاة. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري عن أبي عاصم ويعقوب بن إبراهيم، قال أبو عاصم: أنما ابن جريج أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس، وقال يعقوب: ثنا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - ثنا عبيد الله - هو ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر، ثم اتفق ابن عباس وابن عمر كلاهما يقول: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة) قال ابن عباس: (وعثمان) (1). ومن طريق مالك عن ابن شهاب عن أبي عبيد مولى ابن أزهر قال: شهدت العيد مع عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، كلهم يصلى ثم يخطب. وبالسند المذكور إلى البخاري: ثنا إبراهيم بن موسى ثنا هشام ان ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني عطاء عن ابن عباس وجابر بن عبد الله قالا جميعا: لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى. قال على: لا أذان ولا إقامة (2) لغير الفريضة، والأذان والإقامة فيهما الدعاء إلى
(1) روى المؤلف الحديثين بالمعنى وضمهما فجعلها حديثا واحدا، وهما في البخاري (ج 2 ص 59) (2) في النسخة رقم (16) (الأذان والإقامة) الخ وهو خطأ. 85 الصلاة، فلو أمر عليه السلام بذلك لصارت تلك الصلاة فريضة بدعائه إليها. واعتلوا بأن الناس كانوا إذا صلوا تركوهم ولم يشهد والخطبة، وذلك لأنهم كانوا يلعنون علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان المسلمون يفرون، وحق لهم، فكيف وليس الجلوس للخطبة واجبا. حدثنا حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا أحمد بن زهير ابن حرب ثنا عبد الله بن أحمد الكرماني ثنا الفضل بن موسى السيناني (1) عن ابن جريج عن عطاء - هو ابن أبي رباح - عن عبد الله بن السائب قال: (شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العيد فصلى، ثم قال عليه السلام: قد قضينا الصلاة فمن أحب ان يجلس للخطبة فليجلس ومن أحب ان يذهب فليذهب). قال أبو محمد: إن قيل: إن محمد بن الصباح أرسله عن الفضل بن موسى. قلنا: نعم، فكان ماذا؟ المسند زائد علما لم يكن عند المرسل، فكيف وخصومنا أكثرهم يقول: إن المرسل والمسند سواء؟. وروينا من طريق ابن جريج عن عطاء قال: ليس حقا على الناس حضور الخطبة، يعنى في العيدين، والآثار في هذا كثيرة جدا. 544 - مسألة - ويصليهما، العبد والحر، والحاضر، والمسافر، والمنفرد، والمرأة والنساء، وفى كل قرية، صغرت أم كبرت، كما ذكرنا، إلا أن المنفرد لا يخطب. وإن كان عليه مشقة في البروز إلى المصلى صلوا جماعة في الجامع. لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ذكرنا عنه في كلامنا في القصر في صلاة السفر وصلاة الجمعة: أن صلاة العيد ركعتان، فكان هذا عموما، لا يجوز تخصيصه بغير نص، وقال تعالى: (وافعلوا الخير) والصلاة خير. ولا نعلم في هذا خلافا، الا قول أبي حنيفة: إن صلاة العيدين لا تصلى الا في مصر جامع، ولا حجة لهم إلا شيئا رويناه من طريق على لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع وقد قدمنا أنه لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن كان قول علي رضي الله عنه حجة في هذا فقد روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة ثنا محمد بن النعمان عن أبي قيس عن هزيل بن شرحبيل (2): أن علي بن أبي طالب
(1) بكسر السين المهملة ثم ياء تحتانية ثم نون. نسبة إلى (سينان) قرية من خراسان (2) هزيل: بضم الهاء وفتح الزاي. وشرحبيل: بضم الشين وفتح الراء واسكان الحاء المهملة. 86 أمر رجلا ان يصلى بضعفة الناس أربع ركعات في المسجد يوم العيد. فان ضعفوا هذه الرواية قيل لهم: هي أقوى من التي تعلقتم بها عنه أو مثلها، ولافرق وكلهم مجمع علي أن صلاة العيدين تصلى حيث تصلى الجمعة، وقد ذكرنا حكم الجمعة، ولافرق بين صلاة العيدين وصلاتها في المواطن. وقد روينا عن عمر، وعثمان رضي الله عنهما: أنهما صليا العيد بالناس في المجسد لمطر وقع يوم العيد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبرز إلى المصلى لصلاة العيدين. فهذا أفضل، وغيره يجزئ، لأنه فعل لا أمر. وبالله تعالى التوفيق. 545 - مسألة - ويخرج إلى المصلى النساء حتى الابكار، والحيض وغير الحيض، ويعتزل الحيض المصلى، وأما الطواهر فيصلين مع الناس، ومن لا جلباب لها فلتستعر جلبابا ولتخرج، فإذا أتم الامام الخطبة فنختار له أن يأتيهن يعظهن ويأمرهن بالصدقة، ونستحب لهن الصدقة يومئذ بما تيسر. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا أبو معمر - هو عبد الله بن عمر والرقى - ثنا عبد الوارث - هو ابن سعيد التنوري - ثنا أيوب السختياني عن حفصة بنت سيرين قالت: كنا نمنع جوارينا ان يخرجن يوم العيد، فلما قدمت أم عطية اتيتها فسألتها؟ فقالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لتخرج العواتق ذوات الخدور، أو قال: وذوات الخذور - شك أيوب والحيض، فيعتزل الحيض المصلى، وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين). حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا عمرو الناقد ثنا عيسى بن يونس ثنا هشام - هو ابن حسان - عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخرجهن في الفطر والأضحى، العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: لتلبسها أختها من جلبابها). وبالسند المذكور إلى البخاري: ثنا إسحاق - هو ابن إبراهيم بن نصر - ثنا عبد الرزاق
وفي النسخة رقم (16) (شريح) وكذلك ذكر بحاشية النسخة رقم (14) على أنه نسخة أخرى، وهو خطأ فيها. 87 أنا ابن جريج أخبرني عطاء قال سمعت جابر بن عبد الله يقول: (قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى، فبدأ بالصلاة، ثم خطب، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن، وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه، تلقى فيه النساء صدقة) وقلت لعطاء: أترى حقا على الامام ذلك، يأتيهن ويذكرهن؟ قال: إنه لحق عليهم، ومالهم لا يفعلونه. وبالسند المذكور إلى مسلم حدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق أنا ابن جريج أخبرني الحسن بن مسلم عن طاوس عن ابن عباس قال: شهدت صلاة الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني انظر إليه حين يجلس الرجال بيده، ثم اقبل يشقهم، حتى جاء النساء ومعه بلال (1)، فقال: (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا) فتلا هذه الآية، ثم قال: أنتن على ذلك؟ فقالت امرأة واحدة منهن - لم يجبه غيرها منهن (2) -: نعم يا نبي الله، قال: فتصدقن، فبسط بلال ثوبه، ثم قال: هلم فدا لكن أبى وأمي، فجعلن يلقين الفتخ والخواتم في ثوب بلال). فهذه آثار متواترة عنه صلى الله عليه وسلم من طريق جابر، وابن عباس وغيرهما بأنه عليه السلام رأى حضور النساء المصلى، وأمر به، فلا وجه لقول غيره إذا خالفه. ولا متعلق للمخالف إلا رواية عن ابن عمر أنه منعهن، وقد جاء عن ابن عمر خلافها، ولا يجوزان يظن بابن عمر إلا أنه إذ منعهن لم يكن بلغه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذ بلغه رجع إلى الحق كما فعل إذ سب ابنه أشد السب إذ سمعه يقول: نمنع النساء المساجد ليلا. ولا حجة في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو ادعى امرؤ الاجماع على صحة خروج النساء إلى العيدين وأنه لا يحل منعهن -: لصدق، لأننا لا نشك في أن كل من حضر ذلك من الصحابة رضي الله عنهم أو بلغه ممن لم يحضر -: فقد سلم ورضى وأطاع، والمانع من هذا مخالف للاجماع وللسنة. 546 - مسألة - ونستحب السير إلى العيد على طريق والرجوع على آخر، فإن لم يكن ذلك فلا حرج، لأنه قد روى ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليست الرواية فيه بالقوية.
(1) في النسخة رقم (16) (ومعه اذن بلال) وهو خطأ. (2) في النسخة رقم (14) (لم يجبه منهن غيرها) وما هنا هو الموافق لمسلم (ج 1 ص 240 و 241). 88 547 - مسألة - وإذا اجتمع عيد في يوم جمعة صلى للعيد ثم للجمعة ولابد، ولا يصح أثر بخلاف ذلك. لان في رواته إسرائيل، وعبد الحميد بن جعفر، وليسا بالقويين، ولا مؤنة على خصومنا من الاحتجاج بهما إذا وافق ما روياه تقليدهما، وهنا خالفا روايتهما. فأما رواية إسرائيل، فإنه روى عن عثمان بن المغيرة عن اياس بن أبي رملة: سمعت معاوية سأل زيد بن أرقم: أشهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدين؟ قال: (نعم صلى العيد أول النهار، ثم رخص في الجمعة) (1) وروى عبد الحميد بن جعفر: حدثني وهب بن كيسان قال: (اجتمع عيدان على عهد ابن الزبير، فأخر الخروج حتى تعالى النهار، ثم خرج فخطب فأطال، ثم نزل فصلى ركعتين، ولم يصل للناس يومئذ الجمعة، فقال ابن عباس: أصاب السنة) (2). قال أبو محمد: الجمعة فرض والعيد تطوع، والتطوع لا يسقط الفرض (3). 548 - مسألة - والتكبير ليلة عيد الفطر فرض، وهو في ليلة عيد الأضحى حسن، قال تعالى وقد ذكر صوم رمضان: (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) فباكمال عدة صوم رمضان وجب التكبير، ويجزئ من ذلك تكبيرة، وأما ليلة الأضحى ويومه ويوم الفطر فلم يأت به أمر، لكن التكبير فعل خير وأجر. 549 - مسألة - ويستحب الاكل يوم الفطر قبل الغدو إلى المصلى، فإن لم يفعل فلا حرج، ما لم يرغب عن السنة في ذلك، وإن أكل يوم الأضحى قبل غدوه إلى المصلى فلا بأس، وإن لم يأكل حتى يأكل من أضحيته فحسن، ولا يحل صيامهما أصلا. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد
(1) كلا بل هو حديث صحيح واعله بعضهم بأن اياس بن أبي رملة مجهول، واما إسرائيل فإنه ثقة حجة. والحديث رواه الحاكم (ج 1 ص 288) وصححه هو والذهبي ورواه أيضا احمد وأبو داود وابن ماجة والنسائي وصححه ابن المديني. انظر الشوكاني (ج 3 ص: 347) وعند الحاكم شاهد له من حديث أبي هريرة وصححه هو والذهبي (2) رواه النسائي (ج 3 ص 194) وعبد الحميد بن جعفر ثقة اخرج له مسلم (3) زعم المؤلف مانعاه على غيره كثيرا من رد السنة بالآراء والقياس. 89 ابن عبد الرحيم أنا سعيد بن سليمان أخبرنا هشيم انا عبيد الله بن أبي بكر بن انس عن أنس قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات). قال أبو محمد: يلزم من أوجب ذلك ان يوجب التمر دون غيره. روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن نافع قال: كان ابن عمر يغدو يوم الفطر من المسجد، ولا اعلمه أكل شيئا. وعن إبراهيم النخعي عن علقمة، والأسود: ان ابن مسعود قال: لا تأكلوا قبل ان تخرجوا يوم الفطر إن شئتم. وعن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي قال: إن شاء طعم يوم الفطر والأضحى وان شاء لم يطعم. 550 - مسألة - والتنفل قبلهما في المصلى حسن، فإن لم يفعل فلا حرج، لان التنفل فعل خير. فان قيل: قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلهما، ولا بعدهما. قلنا: نعم، لأنه عليه السلام كان الامام، وكان مجيئه إلى التكبير لصلاة العيد بلا فصل، ولم ينه عليه السلام قط - لا بايجاب ولا بكراهة - عن التنفل في المصلى قبل صلاة العيد وبعدها، ولو كانت مكروهة لبينها عليه السلام، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد قط في ليلة على ثلاث عشرة ركعة، أفتكرهون الزيادة أو تمنعون منها؟ فمن قولهم: لا، فيقال لهم: فرقوا ولا سبيل إلى فرق. وروينا عن قتادة: كان أبو هريرة، وأنس بن مالك، والحسن، واخوه سعيد، وجابر بن زيد يصلون قبل خروج الامام وبعده، يعنى في العيدين. وعم معمر عن أيوب السختياني قال: رأيت انس بن مالك والحسن يصليان قبل صلاة العيد. وعن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: رأيت انس بن مالك والحسن وأخاه سعيدا وأبا الشعثاء جابر بن زيد يصلون يوم العيد قبل خروج الامام. وعن علي بن أبي طالب: انه اتى المصلى فرأى الناس يصلون، فقيل له في ذلك، فقال: لا أكون الذي ينهى عبدا إذا صلى
90 551 - مسألة - والتكبير اثر كل صلاة، وفى (1) الأضحى، وفى أيام التشريق ويوم عرفة -: حسن كله، لان التكبير فعل خير، وليس ههنا اثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخصيص الأيام المذكورة دون غيرها. وروينا عن الزهري، وأبى وائل، وأبى يوسف، ومحمد استحباب التكبير غداة عرفة إلى آخر أيام التشريق عند العصر. وعن يحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن الأسود وأصحاب ابن مسعود قال (2): كان ابن مسعود يكبر صلاة الصبح (3) يوم عرفة إلى صلاة العصر يوم النحر، قال عبد الرحمن في روايته: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، الحمد لله (4). وعن علقمة مثل هذا، وهو قول أبي حنيفة. وعن ابن عمر: من يوم النحر إلى صلاة الصبح آخر أيام التشريق. قال أبو محمد: من قاس ذلك على تكبير أيام منى فقد أخطأ، لأنه قاس من ليس بحاج على الحاج ولم يختلفوا انهم لا يقيسونهم عليهم في التلبية، فيلزمهم مثل ذلك في التكبير. ولا معنى لمن قال: إنما ذلك في الأيام المعلومات، لقول الله تعالى (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات وقال: إن يوم النحر مجمع عليه أنه من المعلومات، وما بعده مختلف فيه، لأنه دعوى فاسدة وما حجر الله تعالى قط ذكره في شئ من الأيام. ولا معنى لمن اقتصر بالمعلومات على يوم النحر لان النص يمنع من ذلك، بقوله تعالى (على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) وقد صح ان يوم عرفة ليس من أيام وان ما بعد يوم النحر هو من أيام النحر، فبطل هذا القول. وبالله تعالى التوفيق. 552 - مسألة - ومن لم يخرج يوم الفطر ولا يوم الأضحى لصلاة العيدين خرج لصلاتهما في اليوم الثاني، وان لم يخرج غدوة خرج ما لم تزل الشمس، لأنه فعل خير،
(1) باثبات الواو في الأصلين وهو صواب (2) كذا في الأصلين (قال) بالافراد، وهو صحيح فالقائل أبو إسحق نقلا عن الأسود وغيره (3) كذا في الأصلين وهو صحيح (4) في النسخة رقم (16) (ولله الحمد) وكانت هكذا في النسخة رقم (14) ولكن ناسخها صححها إلى (الحمد لله) وهي نسخة صحيحة عنى بها كاتبها واجتهد في أن تكون من أصح النسخ فلذلك اعتمدناها في التصحيح. 91 وقال تعالى: (وافعلوا الخير). حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا حفص ابن عمر - هو الحوضى - ثنا شعبة عن جعفر بن أبي وحشية عن أبي عمير بن انس بن مالك عن عمومة له من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (أن ركبا جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهدون انهم رأوا الهلال بالأمس، فأمرهم ان يفطروا (1) وإذا أصبحوا يغدوا إلى مصلاهم). قال أبو محمد: هذا مسند صحيح، وأبو عمير مقطوع على أنه لا يخفى عليه من أعمامه من صحت صحبته ممن لم تصح صحبته وإنما يكون هذا علة ممن يمكن أن يخفى عليه هذا، والصحابة كلهم عدول رضي الله عنهم، لثناء الله تعالى عليهم. وهذا قول أبي حنيفة والشافعي. فلو لم يخرج في الثاني من الأضحى وخرج في الثالث فقد قال به أبو حنيفة، وهو فعل خير لم يأت عنه نهى. 553 - مسألة - والغناء واللعب والزفن (2) في أيام العيدين حسن في المسجد وغيره حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا احمد ابن صالح ثنا ابن وهب انا عمرو - هو ابن الحارث - ان محمد بن عبد الرحمن - هو يتيم عروة - حدثه عن عروة عن عائشة قالت: (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث (3) فاضطجع على الفراش وحول وجهه فدخل أبو بكر فانتهرني وقال: مزمارة الشيطان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دعها (4)، فلما غفل غمزتهما فخرجتا، وكان يوم عيد، يلعب السودان بالدرق والحراب، فاما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما قال: تشتهين تنظرين؟ فقلت: نعم، فأقامني وراءه، خدي على خده، وهو يقول: دونكم يا بنى أرفدة (5) حتى إذا مللت قال: حسبك؟
(1) في النسخة رقم (16) (فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ان يفطروا) وما هنا هو الموافق لأبي داود (ج 1 ص 449 450) (2) بفتح الزاي واسكان الفاء، وانظر المسألة 500 (ج 4 ص 246) (3) بضم الباء وفتح العين المهملة المخففة. موضع في نواحي المدينة على ليلتين منها. كانت به وقائع بين الأوس والخزرج في الجاهلية (4) هكذا في الأصلين بالافراد، وفى البخاري (ج 2 ص 54 و 55) (دعهما وكل صحيح) (5) بفتح الهمزة واسكان الراء وكسر الفاء وفتح الدال المهملة، لقب للحبشة 92 قلت: نعم، قال: فاذهبي). حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثني ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن ابن شهاب حدثه عن عروة عن عائشة: (أن أبا بكر دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تغنيان وتضربان، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مسجى بثوبه، فانتهرها أبو بكر، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقال: دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد). وبه إلى مسلم: ثنا زهير بن حرب ثنا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن هشام - هو ابن عروة - عن أبيه عن عائشة قالت: (جاء جيش يزفنون في يوم عيد في المسجد، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم فوضعت رأسي على منكبه، فجعلت أنظر إلى لعبهم، حتى كنت أنا التي انصرفت). وبه إلى مسلم: حدثني محمد بن رافع وعبد بن حميد كلاهما عن عبد الرزاق أنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: (بينما الحبشة يلعبون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحرابهم إذ دخل عمر بن الخطاب، فأهوى إليهم ليحصبهم بالحصباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهم يا عمر) قال أبو محمد: أين يقع انكار من أنكر من إنكار سيدي هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم - أبى بكر، وعمر رضي الله عنهما -؟! وقد أنكر عليه السلام عليهما انكارهما، فرجعا عن رأيهما إلى قوله عليه السلام. (صلاة الاستسقاء) 544 - مسألة - قال أبو محمد: ان قحط الناس أو اشتد المطر حتى يؤذى فليدع المسلمون في ادبار صلواتهم وسجودهم وعلى كل حال، ويدعو الامام في خطبة الجمعة، قال عز وجل: (ادعوني استجب لكم) وقال تعالى: (فلولا إذ جاء هم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم). فان أراد الامام البروز في الاستسقاء خاصة - لا فيما سواه - فليخرج متبذلا متواضعا إلى موضع المصلى والناس معه، فيبدأ فيخطب بهم خطبة يكثر فيها من الاستغفار، ويدعو الله عز وجل، ثم يحول وجهه إلى القبلة وظهره إلى الناس، فيدعو الله تعالى رافعا يديه، ظهورهما إلى السماء، ثم يقلب رداءه أو ثوبه الذي يتغطاه، فيجعل باطنه ظاهره، وأعلاه أسفله، ما على منكب من منكبيه على المنكب الآخر، ويفعل الناس كذلك، ثم يصلى بهم ركعتين، كما قلنا في صلاة العيد سواء سواء، بلا أذان ولا إقامة، الا أن
93 صلاة الاستسقاء يخرج فيها المنبر إلى المصلى، ولا يخرج في العيدين، فإذا سلم انصرف وانصرف الناس. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا آدم ثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن عباد بن تميم عن عمه - هو عبد الله بن زيد الأنصاري - قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج يستسقى فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو، ثم حول رداءه، ثم صلى لنا ركعتين جهر فيهما بالقراءة). حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبيد ثنا حاتم بن إسماعيل عن هشام بن إسحاق بن عبد الله بن أبي كنانة عن أبيه قال: (سألت ابن عباس عن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء؟ فقال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم متبذلا متواضعا متضرعا، فجلس على المنبر، فلم يخطب خطبتكم هذه، لكن لم يزل في التضرع، والدعاء، والتكبير، وصلى ركعتين كما كان يصلى في العيد). قال أبو محمد: أما الاستغفار فلقول الله تعالى (واستغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا). وتحويل الرداء يقتضى ما قلناه. وهذا كله قول أصحابنا. وقال مالك: بتقديم الخطبة. وقال الشافعي: صلاة الاستسقاء كصلاة العيد. وقد روينا عن السلف خلاف هذا، ولا حجة في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي: أن ابن الزبير بعث إلى عبد الله بن يزيد - هو الخطمي - أن يستسقى بالناس، فخرج فاستسقى بالناس، وفيهم البراء بن عازب وزيد بن أرقم، فصلى ثم خطب. قال أبو محمد: لعبد الله بن يزيد هذا صحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي بكر وعمر، وعثمان، وعلى: أنهم كانوا يكبرون في الاستسقاء والفطر، والأضحى سبعا في الأولى وخمسا في الثانية، ويصلون قبل الخطبة، ويجهرون بالقراءة، ولكن في. الطريق إبراهيم بن أبي يحيى، وهو أيضا منقطع. وروينا: أن عمر خرج إلى المصلى فدعا في الاستسقاء، ثم انصرف ولم يصل. قال أبو محمد: ولا يمنع اليهود ولا المجوس ولا النصارى من الخروج إلى الاستسقاء للدعاء فقط، ولا يباح لهم إخراج ناقوس ولا شئ يخالف دين الاسلام. وبالله تعالى التوفيق
94 555 - مسألة - صلاة الكسوف على وجوه. أحدها أن تصلى ركعتين كسائر التطوع، وهذا في كسوف الشمس وفى كسوف القمر أيضا. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفريري ثنا البخاري ثنا أبو معمر ثنا عبد الوارث - هو ابن سعيد التنوري - ثنا يونس - هو ابن عبيد - عن الحسن عن أبي بكرة قال: (خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج يجر رداءه، حتى انتهى إلى المسجد، فثاب الناس (1) فصلى بهم ركعتين، فانجلت الشمس، فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وانهما لا يخسفان (2) لموت أحد، وإذا كان ذلك فصلوا وادعوا حتى يكشف ما بكم، وذلك أن ابنا للنبي صلى الله عليه وسلم مات، يقال له: إبراهيم، فقال ناس في ذلك) (3) حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب انا عمرو بن علي ثنا يزيد - هو ابن زريع (4) ثنا يونس - هو ابن عبيد - عن الحسن عن أبي بكرة: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فانكسفت الشمس، فقام إلى المسجد يجر رداءة من العجلة، فقام إليه الناس، فصلى ركعتين كما يصلون، فلما انجلت خطبنا، فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما (5) عباده وانهما لا ينكسفان (6) لموت أحد ولا لحياته (7) فإذا رأيتم كسوف أحدهما فصلوا حتى ينجلى (8). وروينا نحو هذا أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاصي يوم مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن فيه تطويل الركوع والسجود والقيام. فأخذا بهذا طائفة من السلف، منهم عبد الله بن الزبير، صلى في الكسوف ركعتين
(1) في البخاري (ج 2 ص 96 و 97) (وثاب الناس إليه) (2) في النسخة رقم (16) (ولا يخسفان) وما هنا هو الموافق للبخاري. (3) في البخاري (فقال الناس في ذلك) (4) بضم الزاي وفتح الراء وآخره عين مهملة وفى الأصلين (بزيع) وهو خطأ صرف، وليس في رجال الكتب الستة من يسمى (يزيد بن بزيع) وهو في النسائي (ج 3 ص 152 و 153) (حدثنا يزيد وهو ابن زريع) على الصواب (5) في النسخة رقم (16) (به) وهو خطأ (6) في النسخة رقم (16) (لا يكسفان) وما هنا هو الموافق للنسائي (7) كلمة (ولا لحياته) ثابتة في الأصلين ولا توجد في النسائي (8) الذي في النسائي (فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) 95 كسائر الصلوات. فان قيل: قد خطأه أخوه عروة. قلنا: عروة أحق بالخطأ، لان عبد الله صاحب، وعروة ليس بصاحب، وعبد الله عمل بعلم، وأنكر عروة ما لم يعلم. وبهذا يقول أبو حنيفة. قال أبو محمد: وهذا الوجه يصلى لكسوف الشمس ولكسوف القمر في جماعة، ولو صلى ذلك عند كل آية تظهر - من زلزلة أو نحوها - لكان حسنا، لأنه فعل خير. وإن شاء صلى ركعتين ويسلم، ثم ركعتين ويسلم، هكذا حتى ينجلي الكسوف في الشمس والقمر، والآيات كما ذكرنا. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا أحمد بن أبي شعيب الحراني ثنا الحارث بن عمير البصري عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير قال: (كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يصلى ركعتين ركعتين، ويسأل عنها حتى انجلت). وروينا أيضا قوله عليه السلام: (فصلوا حتى تنجلي) عن أبي بكرة، كما ذكرنا آنفا، وعن المغيرة بن شعبة، وعن ابن عمر، وأبى مسعود، بأسانيد في غاية الصحة، وهذا اللفظ يقتضى ما ذكرنا. وهذا قول طائفة من السلف روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري والربيع بن صبيح (1) وقال سفيان: عن المغيرة عن إبراهيم النخعي وقال الربيع: عن الحسن (2) ثم اتفق الحسن وإبراهيم قالا
(1) الربيع بفتح الراء، وصبيع بفتح الصاد، كلاهما بوزن أمير (2) قوله (وقال الربيع عن الحسن) سقط من النسخة رقم (16) وفى النسخة رقم (14) (روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري والربيع بن صبيح، وقال سفيان عن المغيرة، وقال الربيع عن الحسن عن إبراهيم النخعي ثم اتفق الحسن وإبراهيم) الخ وهو خطأ في الأولى وخلط في الثانية، والصواب ما استخرجناه من مجموعهما هنا، فان الثوري يروى عن المغيرة - وهو ابن مقسم الضبي - والمغيرة يروى عن إبراهيم ووكيع يروى عن الربيع والربيع عن الحسن، وقول المؤلف عقبة (ثم اتفق الحسن وإبراهيم) دليل على أن قوليهما متماثلان، لا أن أحدهما يرويه عن الآخر، وهذا واضح جدا 96 جميعا في الكسوف: صلى ركعتين ركعتين، وان شاء ذكر الله تعالى ودعا بعد أن يكبر قائما، فإذا انجلى الكسوف قرأ وركع ركعتين، هذا في الشمس والقمر والآيات أيضا. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الاعلي بن عبد الأعلى عن الجريري عن حيان بن عمير (1) أبى العلاء عن عبد الرحمن بن سمرة - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال: (كنت أرمى (2) بأسهم لي في المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كسفت الشمس، فنبذتها وقلت: والله لأنظرن إلى ما حدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كسوف الشمس، قال: فأتيته وهو قائم في الصلاة رافع (3) (يديه، فجعل يسبح، ويحمد ويهلل ويكبر، يدعو حتى حسر عنها، فلما حسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين). وإن شاء لكسوف الشمس خاصة إن كسفت من طلوع الشمس إلى أن يصلى الظهر - صلى ركعتين كما قدمنا، وان كسفت من بعد صلاة الظهر إلى أخذها في الغروب صلى أربع ركعات كصلاة الظهر أو العصر. وفى كسوف القمر خاصة إن كسفت بعد صلاة المغرب إلى أن تصلى العشاء الآخرة صلى ثلاث ركعات كصلاة المغرب وان كسف بعد صلاة العتمة إلى الصبح صلى أربعا كصلاة العتمة. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار ثنا عبد الوهاب - هو ابن عبد المجيد الثقفي - ثنا خالد - هو الحذاء عن أبي قلابة عن النعمان بن بشير قال: (انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج يجر ثوبه فزعا، حتى اتى المسجد، فلم يزل يصلى - بنا (4) حتى انجلت، فلما انجلت (5) قال: إن ناسا يزعمون أن الشمس والقمر لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء، وليس كذلك، إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنهما آيتان من آيات الله تعالى، وان
(1) حيان: بفتح الحاء المهملة وتشديد الياء المثناة التحتية، وعمير: بالتصغير (2) في الأصلين (أرتمى) وصححناه من مسلم (ج 1 ص 250 و 251) (3) في النسخة رقم (16) (رافعا) وما هنا هو الموافق لمسلم (4) كلمة (بنا) محذوفة من الأصلين، وزدناها من النسائي (ج 3 ص 141) (5) قوله (فلما انجلت) زدناه من النسائي 97 الله (1) إذا تجلى لشئ من خلقه خشع له (2) فإذا رأيتم ذلك فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة). فان قيل: إن أبا قلابة قد روى هذا الحديث عن رجل عن قبيصة العامري. قلنا: نعم، فكان ماذا؟ وأبو قلابة قد أدرك النعمان فروى هذا الخبر عنه، ورواه أيضا عن آخر فحدث بكلتا روايتيه، ولاوجه للتعلل بمثل هذا أصلا ولا معنى له. وإن شاء في كسوف الشمس خاصة صلى ركعتين، في كل ركعة ركعتان، يقرأ ثم يركع ثم يرفع فيقرأ ثم يركع ثم يرفع فيقول: (سمع الله لمن حمده) ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم فيركع أخرى، في كل ركعة ركعتان، كما وصفنا، ثم يسجد سجدتين، ثم يجلس ويتشهد ويسلم، وهو قول مالك والشافعي واحمد وأبى وثور. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله ابن مسلمة عن مالك بن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس قال: (انخسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام قياما طويلا نحوا من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قايما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد (3) ثم انصرف وذكر باقي الخبر. وروينا أيضا مثله عن عائشة رضي الله عنها. وان شاء صلى في كسوف الشمس خاصة ركعتين في كل ركعة ثلاث ركعات، يقرأ ثم يركع ثم يرفع فيقرأ ثم يركع، ثم يرفع فيقرأ ثم يركع، ثم يرفع فيقول: (سمع الله لمن حمده) ثم يسجد سجدتين، ثم يقوم فيركع أيضا ركعة فيها ثلاث ركعات كما ذكرنا، ثم يرفع (4) ثم يسجد ثم يجلس ويتشهد ويسلم.
(1) في النسائي (ان الله) بحذف الواو (2) كلمة (له) محذوفة في النسخة رقم (16) وانظر بحثا نفيسا جيدا في قوله (ان الله إذا تجلى لشئ من خلقه خشع له) في شرحي السيوطي والسندي على سنن النسائي وفى تهافت الفلاسفة للغزالي (ص 4 و 5) * (3) قوله (ثم سجد) سقط من النسخة رقم (16) خطأ، وما هنا هو الصواب الموافق للبخاري) ج 2 ص 92) (4) في الأصلين (ثم يركع) وهو خطأ واضح. 98 وقد روينا ما يظن فيه هذا الفعل عن ابن عباس. روينا من طريق حماد بن سلمة أنا قتادة عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس: أنه صلى في زلزلة بالبصرة قام بالناس فكبر أربعا ثم قرأ ثم كبر وركع، ثم رفع رأسه فكبر أربعا، ثم قرأ ما شاء الله ان يقرأ، ثم كبر فركع (1) ومن طريق معمر عن قتادة وعاصم الأحول كلاهما عن عبد الله بن الحارث عن ابن عباس: انه صلى بالبصرة في الزلزلة فأطال القنوت، ثم ركع ثم رفع رأسه فأطال القنوت ثم ركع ثم رفع رأسه فأطال القنوت، ثم ركع، ثم سجد، ثم صلى الثانية كذلك، فصار ثلاث ركعات في أربع سجدات، وقال هكذا صلاة الآيات، قال قتادة: صلى حذيفة بالمدائن بأصحابه مثل صلاة ابن عباس في الآيات، ثلاث ركعات ثم سجد سجدتين وفعل في الأخرى مثل ذلك. ومن طريق وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن عطاء عن عبيد بن عمير عن عائشة أم المؤمنين قالت: صلاة الآيات ست ركعات في أربع سجدات. وإن شاء صلى في كسوف الشمس خاصة ركعتين في كل ركعة أربع ركعات، يقرأ ثم يركع، ثم يرفع فيقرأ ثم يركع، ثم يرفع فيقرأ ثم يركع، ثم يرفع فيقرأ ثم يركع، ثم يرفع فيقول: (سمع الله لمن حمده) ثم يسجد سجدتين، ثم يفعل في الثانية كذلك أيضا سواء سواء، ثم يجلس ويتشهد ويسلم. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا إسماعيل بن علية عن سفيان الثوري عن حبيب - هو ابن أبي ثابت - عن طاوس عن ابن عباس قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين كسفت الشمس ثماني ركعات في أربع سجدات). وعن علي رضي الله عنه مثل ذلك. وبه إلى مسلم: ثنا محمد بن المثنى ثنا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري ثنا حبيب - هو ابن أبي ثابت - عن طاوس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه صلى في كسوف: قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم قرأ ثم ركع، ثم سجد، قال: والأخرى مثلها). وهو قول على كما ذكرنا. وقد فعله أيضا ابن عباس وحبيب بن أبي ثابت.
(1) هذان ركوعان فقط! 99 روينا (1) من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أن سليمان الأحول أخبره أن طاوسا أخبره: أن ابن عباس صلى إذ كشف الشمس على ظهر صفة زمزم ركعتين في كل ركعة أربع ركعات. وعن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت: انه صلى في كسوف الشمس ركعتين، في كل ركعة أربع ركعات، كما روى. وإن شاء صلى في كسوف الشمس خاصة ركعتين، في كل ركعة خمس ركعات، يقرأ ثم يركع، ثم يرفع فيقرأ ثم يركع، ثم يرفع فيقرأ ثم يركع، ثم يرفع فيقرأ ثم يركع، ثم يرفع فيقرأ ثم يركع، ثم يرفع ثم يسجد سجدتين ثم الثانية كذلك أيضا ثم يجلس ويتشهد ويسلم. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب انا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - ثنا معاذ بن هشام الدستوائي حدثني أبي عن قتادة في صلاة الآيات عن عطاء (2) بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن عائشة أم المؤمنين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ست ركعات في أربع سجدات (3). ورويناه أيضا مبينا في كسوف الشمس بصفة العمل كذلك من طريق أبي بن كعب. ومن طريق وكيع عن المبارك بن فضالة عن الحسن البصري: أن علي بن أبي طالب صلى في كسوف عشر ركعات في أربع سجدات. قال أبو محمد: كل هذا في غاية الصحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمن عمل به من صاحب أو تابع. وروى عن العلاء بن زياد العدوي - وهو من كبار التابعين أن صفة صلاة الكسوف أن يقرأ ثم يركع، فإن لم تنجل ركع ثم رفع، فقرأ هكذا أبدا حتى تنجلي، فإذا انجلت سجد ثم ركع الثانية، وعن إسحاق بن راهويه نحو هذا. (1) في نسخة (كما روينا) (2) في النسخة رقم (14) (وعن عطاء) وزيادة الواو خطأ، وما هنا هو الموافق للنسائي (ج 3 ص 130) (3) في الأصلين (عشر ركعات في أربع سجدات) وهو خطأ، والذي هنا هو الذي في النسائي بهذا الاسناد، وقد رواه أيضا مسلم (ج 1 ص 247) من طريق معاذ بن هشام عن أبيه بالاسناد الذي هنا وفيه أيضا (ست ركعات) ورواه أيضا النسائي ومسلم بمعناه من طريق ابن جريج عن عطاء، وهو مبين صريحا ان في كل ركعة ثلاث ركوعات * (*)
100 قال أبو محمد: لا يحل الاقتصار على بعض هذه الآثار دون بعض لأنها كلها سنن، ولا يحل النهى عن شئ من السنن. فأما مالك فإنه في اختياره بعض ما روى من طريق ابن عباس، وعائشة رضي الله عنهما وتقليد أصحابه له في ذلك -: هادمون أصلا لهم كبيرا، وهو أن الثابت عن عائشة، وابن عباس خلاف ما رويا (1) مما اختاره مالك كما أوردنا آنفا، ومن أصلهم أن الصاحب إذا صح عنه خلاف ما روى كان ذلك دليلا على نسخه، لأنه لا يترك ما روى إلا لان عنده علما بسنة هي أولى من التي ترك، وهذا مما تناقضوا فيه. واما أبو حنيفة ومن قلده فإنهم عارضوا سائر ما روى بأن قالوا: لم نجد في الأصول صفة شئ من هذه الاعمال. قال أبو محمد: وهذا ضلال يؤدى إلى الانسلاخ من الاسلام لأنهم مصرحون بأن لا يؤخذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم سنة، ولا يطاع له أمر: إلا حتى يوجد في سائر الديانة حكم آخر مثل هذا الذي خالفوا، ومع هذا فهو حمق من القول. وليت شعري من أين وجب أن لا تؤخذ لله شريعة الا حتى توجد أخرى مثلها والا فلا؟ وما ندري هذا يجب، لأبدين ولا بعقل، ولا برأي سديد، ولا بقول متقدم، وما هم بأولى من آخر قال: بل لا آخذ بها حتى أجد لها نظيرين أو من ثالث قال: لا حتى أجد لها ثلاث نظائر والزيادة ممكنة لمن لا دين له ولا عقل ولا حياء!. ثم نقضوا هذا فجوزوا صلاة الخوف كما جوزوها، ولم يجدوا لها في الأصول نظيرا، في أن يقف المأموم في الصلاة بعد دخوله فيها مختارا للوقوف، لا يصلى بصلاة. امامه، ولا يتم ما بقي عليه وجوزوا البناء في الحدث، ولم يجدوا في الأصول لها نظيرا، أن يكون في صلاته بلا طهارة، ثم لا يعمل عمل صلاته، ولا هو خارج عنها، والقوم لا يبالون بما قالوا. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجهر في صلاة الكسوف. وقال من احتج لهم: لو جهر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعرف بما قرأ. قال أبو محمد: هذا احتجاج فاسد، وقد عرف ما قرأ. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد (1) في النسخة رقم (14) (ما روينا) وهو خطأ ظاهر * (*)
101 ابن مهران - هو الرازي - ثنا الوليد بن مسلم ثنا ابن نمر - هو عبد الرحمن - سمع ابن شهاب عن عروة عن عائشة قالت: (جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف بقراءته). حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا العباس بن الوليد بن مزيد أخبرني أبي ثنا الأوزاعي أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ قراءة طويلة فجهر بها) في صفتها لصلاة الكسوف قال أبو محمد: قطع عائشة وعروة والزهري والأوزاعي بأنه عليه السلام جهر فيها -: أولى من ظنون هؤلاء الكاذبة!. وقد روينا من طريق أبي بن كعب: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في أول ركعة من صلاة الكسوف سورة من الطول). فان قيل: إن سمرة روى فقال: (انه عليه السلام صلى في الكسوف لا نسمع له صوتا). قلنا هذا لا يصح، لأنه لم يروه الا ثعلبة بن عباد العبدي،، وهو مجهول. ثم لو صح لم تكن لهم فيه حجة، لأنه ليس فيه انه عليه السلام لم يجهر وإنما فيه (لا نسمع له صوتا) وصدق سمرة في أنه لم يسمعه ولو كان بحيث يسمعه لسمعه كما سمعته عائشة رضي الله عنها التي كانت قريبا من القبلة في حجرتها، وكلاهما صادق. ثم لو كان فيه (لم يجهر) لكان خبر عائشة زائدا على ما في خبر سمرة، والزائد أولى أو لكان كلا الامرين جائزا لا يبطل أحدهما الآخر فكيف وليس فيه شئ من هذا؟. قال أبو محمد: ولا نعلم اختيار المالكيين روى عمله عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ببيان اقتصاره على ذلك العمل. فان قيل: كيف تكون هذه الاعمال صحاحا كلها وإنما صلاها عليه السلام مرة واحدة إذ مات إبراهيم؟. قلنا: هذا هو الكذب والقول بالجهل. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب انا عبدة بن عبد الرحيم أنا سفيان بن عيينة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة عن عائشة: (ان رسول الله
102 صلى الله عليه وسلم صلى في كسوف في صفة زمزم أربع ركعات وأربع سجدات) (1). فهذه صلاة كسوف كانت بمكة سوى التي كانت بالمدينة، وما رووا قط عن أحد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة. وكسوف الشمس يكون متواترا، بين كل كسوفين خمسة أشهر قمرية، فأي نكرة في أن يصلى عليه السلام فيه عشرات من المرات في نبوته؟ (2)!.
(1) قال السيوطي في شرح النسائي (ج 3 ص 135) (قال الحافظ عماد الدين بن كثير: تفرد النسائي عن عبدة بقوله (في صفة زمزم) وهو وهم بلا شك، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل الكسوف إلا مرة واحدة بالمدينة في المسجد، هذا هو الذي ذكره الشافعي، واحمد، والبخاري، والبيهقي، وابن عبد البر، وأما هذا الحديث بهذه الزيادة فيخشى أن يكون الوهم من عبدة بن عبد الرحيم هذا، فإنه مروزي نزل دمشق ثم صار إلى مصر فاحتمل أن النسائي سمعه منه بمصر، فدخل عليه الوهم، لأنه لم يكن معه كتاب وقد أخرجه البخاري ومسلم والنسائي أيضا بطريق آخر من غير هذه الزيادة. وعرض هذا على الحافظ جمال الدين المزي فاستحسنه وقال: (قد أجادوا أحسن الانتقاد) وقال ابن حجر في التلخيص (ص 147): (فيه نظر، لان الحافظ رووه عن يحيى بن سعيد بدون قوله: في صفة زمزم كذا هو عند مسلم والنسائي أيضا فهذه الزيادة شاذة) (2) حقيقة إن الأحاديث التي وردت في وصف صلاة الكسوف مختلفة جدا، وكثير منها صحيح الاسناد وللعلماء فيها مسلكان: مسلك الجمع بينها بحملها على تعدد حصول الكسوف وصلاته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي ذهب إليه اسحق ورجحه ابن رشد الفيلسوف في بداية المجتهد (ج 1 ص 167) والمؤلف في هذا الكتاب وغيرهم. والمسلك الثاني الترجيح، قال ابن حجر في الفتح (ج 2 ص 362): (نقل صاحب الهدى عن الشافعي واحمد والبخاري أنهم كانوا يعدون الزيادة على الركوعين في كل ركعة غلطا من بعض الرواة، فان أكثر طرق الحديث يمكن رد بعضها إلى بعض، ويجمعها ان ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام وإذا اتحدت القصة تعين الاخذ بالراجح) والراجح قطعا هو حديث عائشة الذي فيه ركوعان في كل ركعة. ومثل هذا الامر لا يكفي فيه الاحتمال فقط بل يجب تحقيقه، ولئن زعم بعض علمائنا رحمهم الله ان حساب المنجمين لا يقبل ولا يعتمد، فإنما ذلك كان ظنا منهم أنه من باب (التنجيم) ولم يعلموا انه حساب دقيق قاطع في الدلالة على مواقيت مثل هذه الأشياء، وليس هو من علم الغيب كما يفهم بعض الناس. وكسوف الشمس هو مرور القمر بينها وبين الأرض، وخسوف القمر يكون بوقوع ظل الأرض عليه، لان نوره مستمد من الشمس فإذا حجب عنه أظلم ولقد كان المتقدمون من علماء الفلك يعرفون الكسوفين بالاستقراء، فإنه في كل 6585 يوما وثلث يوم - أي نحو ثمانية عشر عاما واحد عشر يوما - يحدث سبعون كسوفا منها 29 للقمر و 41 للشمس، ويكون أقله مرتان، وإذا كان قاصرا عليهما كان للشمس وحدها، وقد يصل إلى سبع مرار، منها اثنان أو ثلاثة للقمر، وأربعة أو خمسة للشمس، وأما المتأخرون فصاروا يحسبون لذلك حسابا دقيقا جدا، حتى يمكن معرفة ما يحدث منها في المستقبل وما حصل في الماضي، وكسوف القمر يرى في نصف الأرض كله، وكسوف الشمس لا يرى إلا في جهات معينة، بل قد يمر بدون ان يرى، والكسوف الكلى - وهو الذي يغطى فيه القمر وجه الشمس كله - لا يرى إلا في أماكن ضيقة قد لا تزيد على 165 ميلا، ولا يزيد وقت بقائه على خمس دقائق أوست. (وهذه المعلومات اقتبستها من كتاب بسائط علم الفلك للدكتور صروف ص 27 و 31 ومن دائرة المعارف الفرنسوية الكبرى ج 15 ص 356 ومن دائرة معارف لاروس ج 4 ص 34 وتفضل بترجمتهما صديقي الأستاذ احمد بك وجدى المحامي بالزقازيق) فإذا علمنا هذا تبين لنا ان قول المؤلف: (بين كل كسوفين خمسة أشهر قمرية) قول قريب من الحقيقة، ويظهر لي انه كان ذا اطلاع على بعض علم الهيئة والفلك، وقد مدح هو ذلك في الملل والنحل (ج 5 ص 37) وقال: إن العلم بهذا (ينتج منه معرفة رؤية الأهلة لفرض الصوم والفطر ومعرفة الكسوفين). ولقد حاولت كثيرا ان أجد من العلماء بالفلك من يظهر لنا بالحساب الدقيق عدد الكسوفات التي حصلت في مدة إقامة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وتكون رؤيتها بها ممكنة، وطلبت ذلك من بعضهم مرارا -: فلم أوفق إلى ذلك، إلا أنى وجدت للمرحوم محمود باشا الفلكي جزءا صغيرا سماه (نتائج الافهام في تقويم العرب قبل الاسلام) ألفه باللغة الفرنسوية وترجمه إلى العربية الأستاذ العلامة احمد ذكى باشا وطبع في بولاق سنة 1305، وقد حقق فيه بالحساب الدقيق يوم الكسوف الذي حصل في السنة العاشرة وهو اليوم الذي مات فيه إبراهيم عليه السلام، ومنه اتضح ان الشمس كسفت في المدينة المنورة في يوم الاثنين 29 شوال سنة 10 الموافق ليوم 27 يناير سنة 632 ميلادية في الساعة 8 والدقيقة 30 صباحا. وهو يرد أكثر الأقوال التي نقلت في تحديد يوم موت إبراهيم عليه السلام. وعسى أن يكون هذا البحث والتحقيق حافزا لبعض النبهاء من العالمين بالفلك إلى حساب الكسوفات التي حصلت بالمدينة في السنين العشر الأولى من الهجرة النبوية أي إلى وقت وفاته صلى الله عليه وسلم في يوم الأحد 12 ربيع الأول سنة 11 أو الاثنين 13 منه الموافقان ليومي 7 يونيه سنة 632 و 8 منه، فإذا عرف بالحساب عدد الكسوفات في هذه المدة أمكن التحقيق من صحة أحد المسلكين: إما حمل الروايات على تعدد الوقائع وإما ترجيح الرواية التي فيها ركوعان في كل ركعة وأنا أميل جدا إلى الظن بأن صلاة الكسوف لم تكن إلا مرة واحدة، فقد علمنا من رسالة محمود باشا الفلكي انه حصل خسوف للقمر في المدينة في يوم الأربعاء 14 جمادى الثانية من السنة الرابعة للهجرة الموافق 20 نوفمبر سنة 625 ولم يرد ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع الناس فيه لصلاة الخسوف ويؤيد هذا ان الأحاديث الواردة في صلاة الكسوف دالة بسياقها على أن هذه الصلاة كانت لأول مرة، وان الصحابة لم يكونوا يعلمون ماذا يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها، وانهم ظنوا انها كسفت لموت إبراهيم، وان المدة بين موت إبراهيم عليه السلام وبين موت أبيه صلى الله عليه وسلم لن تزد على أربعة أشهر ونصف، فلو كان الكسوف حصل مرة أخرى وقاموا للصلاة لظهر ذلك واضحا في النقل لتوافر الدواعي إلى نقله كما نقلوا ما قبله بأسانيد كثيرة، والله أعلم بالصواب 103 وأما اقتصارنا على ما وصفنا في صلاة كسوف القمر لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) فلا يجوز أن تكون صلاة إلا مثنى مثنى، إلا صلاة جاء نص جلى صحيح بأنها أقل من مثنى أو أكثر من مثنى، كما جاء في كسوف الشمس، فيوقف عند ذلك ولا تضرب الشرائع بعضها ببعض، بل كلها حق. وإنما قلنا بصلاة الكسوف القمرى والآيات في جماعة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد بسبع وعشرين) ويصليها النساء، والمنفرد، والمسافرون كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق. (سجود القرآن) في القرآن أربع عشرة سجدة، أولها في آخر ختمه سورة الأعراف، ثم في الرعد، ثم في النحل، ثم في سبحان، ثم في كهيعص، ثم في الحج في الأولى وليس قرب آخرها سجدة، ثم في الفرقان، ثم في النمل، ثم في آلم تنزيل، ثم في ص، ثم في حم فصلت، ثم في
105 والنجم في آخرها، ثم في إذا السماء انشقت عند قوله تعالى: (لا يسجدون) ثم في اقرأ باسم ربك في آخرها. وليس السجود فرضا لكنه فضل، ويسجد لها في الصلاة الفريضة والتطوع وفى غير الصلاة في كل وقت، وعند طلوع الشمس وغروبها واستوائها، إلى القبلة والى غير القبلة، وعلى طهارة وعلى غير طهارة. فأما السجدات المتصلة إلى (ألم تنزيل) فلا خلاف فيها، ولا في مواضع السجود منها إلا في سورة النمل، فان كثيرا من الناس قالوا: موضع السجدة فيها عند تمام قراءتك (رب العرش العظيم) وقال بعض الفقهاء: بل في تمام قراءتك (وما يعلنون) وبهذا نقول لأنه أقرب إلى موضع ذكر السجود والامر به، والمبادرة إلى فعل الخير أولى، قال تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم). وقالت طائفة: في الحج سجدة ثانية قرب آخرها، عند قوله تعالى (وافعلوا الخير لعلكم تفلحون)، ولا نقول: بهذا في الصلاة البتة، لأنه لا يجوز ان يزاد في الصلاة سجود لم يصح به نص، والصلاة تبطل بذلك، وأما في غير الصلاة فهو حسن، لأنه فعل خير. وإنما لم نجزه في الصلاة لأنه لم يصح فيها سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجمع عليها، وإنما جاء فيها أثر مرسل، وصح عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبى الدرداء السجود فيها، وروى أيضا عن أبي موسى الأشعري. روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي: ثنا شعبة عن سعد (1) بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف سمعت عبد الله بن ثعلبة يقول: صليت خلف عمر بن الخطاب نسجد في الحج سجدتين. وعن مالك عن عبد الله بن دينار: رأيت عبد الله بن عمر سجد في الحج سجدتين. وعن معمر عن أيوب عن نافع عن ابن عمر: انه وأباه عمر كانا يسجدان في الحج سجدتين وقال ابن عمر: لو سجدت فيها واحدة لكانت السجدة في الآخرة أحب إلى. وقال عمر: انها فضلت بسجدتين. وعن عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن يزيد بن خمير عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه. ان أبا الدرداء سجد في الحج سجدتين.
(1) في الأصلين (سعيد) وهو خطأ 106 وروى أيضا عن علي بن أبي طالب، وأبي موسى، وعبد الله بن عمرو بن العاصي. قال أبو محمد: أين المهولون (1) من أصحاب مالك وأبي حنيفة بتعظيم خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة؟ وقد خالفوا ههنا فعل عمر بحضرة الصحابة، لا يعرف له منهم مخالف، ومعه طوائف ممن ذكرنا، ومعهم حديث مرسل بمثل ذلك، وطوائف من التابعين ومن بعدهم؟! وبه يقول الشافعي. وأما نحن فلا حجة عندنا إلا فيما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فان قالوا: قد جاء عن ابن عباس في هذا خلاف. قلنا: ليس كما تقولون، إنما جاء عن ابن عباس: السجود عشر، وقد جاء عنه: ليس في ص سجدة، فبطل ان يصح عنه خلاف في هذا، بل قد صح عنه السجود في الحج سجدتين، كما روينا من طريق شعبة عن عاصم الأحول عن أبي العالية عن ابن عباس قال: فضلت سورة الحج على القرآن بسجدتين. واختلف أفي ص سجدة أم لا؟. وإنما قلنا: بالسجود فيها لأنه قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود فيها، وقد ذكرناه قبل هذا في سجود الخطيب يوم الجمعة يقرأ السجدة. واختلف في السجود في حم، فقالت طائفة: السجدة عند تمام قوله تعالى (ان كنتم إياه تعبدون) وبه نأخذ، وقالت طائفة: بل عند قوله (وهم لا يسأمون)، وإنما اخترنا ما اخترنا لوجهين: أحدهما ان الآية التي يسجد عندها قبل الأخرى، والمسارعة إلى الطاعة أفضل، والثاني أنه أمر بالسجود، واتباع الامر أولى. وقال بعض من لم يوفق للصواب: وجدنا السجود في القرآن إنما هو في موضع الخبر، لا في موضع الامر. قال أبو محمد: وهذا هو أول من خالفه لأنه وسائر المسلمين يسجدون في الفرقان في قوله تعالى (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا: وما الرحمن؟ أنسجد لما تأمرنا؟ وزادهم نفورا) وهذا أمر لاخبر، وفى قراءة الكسائي وهي إحدى القراءات الثابتة: (ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخب ء في السماوات والأرض) إلى آخر الآية بتخفيف: (ألا) بمعنى: ألا يا قوم اسجدوا، وهذا أمر، وفى النحل عند قوله تعالى: (ويفعلون ما يؤمرون).
(1) في النسخة رقم (16) (أين المموهون). 107 وقد وجدنا ذكر السجود بالخبر لا سجود فيه عند أحد، وهو قوله تعالى في آل عمران (ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون). وفى قوله تعالى: (والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما) فصح ان القوم في تخليط لا يحصلون ما يقولون. وروينا عن وكيع عن أبيه عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الرحمن بن الأسود قال: كان أصحاب ابن مسعود يسجدون بالأولى من الآيتين. وكذلك عن أبي عبد الرحمن السلمي. وهو قول مالك وأبي سليمان. وصح عن ابن مسعود وعلي: انهما كانا لا يريان عزائم السجود من هذه المذكورات (1) الا آلم وحم، وكانا يريانهما أوكد من سواهما. وقال مالك: لا سجود في شئ من المفصل، وروى ذلك عن ابن عباس، وزيد ابن ثابت. وخالفهما آخرون من الصحابة، كما نذكر إن شاء الله تعالى، بعد أن نقول: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم السجود فيها، ولا حجة في أحد دونه ولا معه. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد ابن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا محمد بن المثنى ثنا محمد بن جعفر ثنا شعبة عن أبي إسحاق السبيعي قال سمعت الأسود بن يزيد عن ابن مسعود: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ والنجم فسجد فيها) حدثنا حمام بن أحمد ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا احمد ابن محمد البرتي القاضي ثنا مسدد ثنا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن سفيان الثوري عن أيوب بن موسى عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة قال: (سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في والنجم، واقرأ باسم ربك). وبه يأخذ جمهور السلف. وروينا من طريق مالك عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة: ان عمر بن الخطاب قرأ لهم والنجم إذا هوى فسجد فيها، ثم قام فقرأ بسورة أخرى، وانه فعل ذلك في الصلاة بالمسلمين. وعن أبي عثمان النهدي: ان عثمان بن عفان قرأ في صلاة العشاء بالنجم فسجد في
(1) في النسخة رقم (14) (المذكورة). 108 آخرها، ثم قام فقرأ بالتين والزيتون فركع وسجد، فقرأ سورتين في ركعة. ومن طريق سفيان الثوري عن عاصم بن أبي النجود عن زربن حبيش عن علي بن أبي طالب قال: العزائم أربع، آلم تنزيل، وحم السجدة، والنجم، واقرأ باسم ربك. وعن شعبة عن عاصم بن أبي النجود عن زربن حبيش عن ابن مسعود قال: عزائم السجود أربع، آلم تنزيل، وحم، والنجم، واقرأ باسم ربك. وعن سليمان بن موسى وأيوب السختياني كلاهما عن نافع مولى ابن عمر قال: إن ابن عمر كان إذا قرأ بالنجم سجد. وعن المطب بن أبي وداعة قال: (سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في النجم ولم أسجد - وكان مشركا حينئذ - قال: فلن ادع السجود فيها أبدا). أسلم المطلب يوم الفتح. فهذا عمر، وعثمان، وعلى بحضرة الصحابة رضي الله عنهم، وهم يشنعون أقل من هذا. وبالسجود فيها يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى، وسفيان، وأبو حنيفة، والشافعي، وأحمد وداود، وغيرهم. قال أبو محمد: واحتج المقلدون لمالك بخبر رويناه من طريق يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عن عطاء بن يسار عن زيد بن ثابت قال: (قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم والنجم فلم يسجد فيها) قال أبو محمد: لا حجة لهم في هذا، فإنه (1) لم يقل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا سجود فيها، وإنما في هذا الخبر حجة على من قال: إن السجود فرض فقط، وهكذا نقول: إن السجود ليس فرضا، لكن إن سجد فهو أفضل، وان ترك فلا حرج، ما لم يرغب عن السنة. وأيضا: فان راوي هذا الخبر قد صح عن مالك أنه لا يعتمد على روايته - وهو ابن قسيط - (2) فالآن صارت روايته حجة في ابطال السنن؟! على أنه ليس فيها شئ مما يدعونه. وموهوا أيضا بخبر رويناه من طريق حماد بن سلمة عن حميد عن بكر - هو ابن عبد الله المزني - أن أبا سعيد الخدري قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد بمكة بالنجم،
(1) في النسخة رقم (14) (لأنه) (2) بضم القاف وفتح السين المهملة وآخره طاء مهملة ويزيد هذا ثقة، وقد احتج به مالك والشيخان وغيرهم وإنما طعن مالك في الذي حدثه عن يزيد وهو رجل لم يسم، وذلك في حديث آخر. 109 فلما قدم المدينة رأى أبو سعيد فيما يرى النائم كأنه يكتب سورة ص، فلما أتى على السجدة سجدت الدواة والقلم والشجر وما حوله من شئ، قال: فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجد فيها وترك النجم). فهذا خبر لا يصح، لان بكرا لم يسمعه من أبي سعيد، والله أعلم ممن سمعه، إلا أنه قد صح (1) بطلان هذا الخبر بلا شك، لما رويناه آنفا من قول أبي هريرة: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد بهم في النجم) وأبو هريرة متأخر الاسلام، إنما أسلم بعد فتح خيبر، وفى هذا الخبر أن ترك السجود فيها كان اثر قدومه عليه السلام المدينة، وهذا باطل. وموهوا بخبر رويناه من طريق مطر الوراق يذكره عن ابن عباس: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل مذ قدم المدينة) * وهذا باطل بحت، لما ذكرنا من حديث أبي هريرة، ولما نذكره اثر هذا إن شاء الله تعالى، وعلة هذا الخبر هو أن مطرا سيئ الحفط، ثم لو صح لكان المثبت أولى من النافي، ولا عمل أقوى من عمل عمر، وعثمان بحضرة الصحابة بالمدينة وبالله تعالى التوفيق. وذكروا أحاديث مرسلة ساقطة، لا وجه للاشتغال بها لما ذكرنا. وأما إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك فان عبد الرحمن بن عبد الله حدثنا قال ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسلم بن إبراهيم، ومعاذ بن فضالة قالا ثنا هشام الدستوائي عن يحيى - هو ابن أبي كثير - عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف قال: (رأيت أبا هريرة سجد في إذا السماء انشقت، فقلت: يا أبا هريرة، ألم أرك تسجد؟ قال: لو لم أر النبي صلى الله عليه وسلم سجد لم أسجد بها). ومن طريق مالك أيضا عن عبد الله بن يزيد عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة بمثله. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد ثنا سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن عطاء بن ميناء عن أبي هريرة قال: (سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك).
(1) في الأصلين (قد صح عنه) وكتب في النسخة رقم (14) على كلمة (عنه) بالحمرة حرف زاي، إشارة إلى أنها زائدة، وهي حقا زائدة قد تفسد المعنى. 110 قال أبو محمد: هذا يكذب رواية مطر التي احتجوا بها. ومن طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن صفوان بن سليم عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة: (سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك). ورويناه من طرق كثيرة متواترة كالشمس، اكتفينا منها بهذا. وبهذا يأخذ عامة السلف. روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، والمعتمر بن سليمان كلهم قال ثنا قرة - هو ابن خالد - عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: (سجد أبو بكر وعمر في إذا السماء انشقت ومن هو خير منهما) زاد عبد الرحمن والمعتمر: (واقرأ باسم ربك) وهذا أثر كالشمس صحة. وقد ذكرنا عن علي، وابن مسعود آنفا: عزائم السجود آلم وحم والنجم واقرأ باسم ربك. ومن طريق شعبة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين: قرأ عمار بن ياسر إذا السماء انشقت وهو يخطب، فنزل فسجد. وعن الثقات أيوب، وعبيد الله بن عمر، وسليمان بن موسى عن نافع: أن ابن عمر كان يسجد في إذا السماء انشقت، واقرأ باسم ربك. وهو قول أصحاب ابن مسعود، وشريح، والشعبي، وعمر بن عبد العزيز أمر الناس بذلك، الشعبي (1) وأبي حنيفة والأوزاعي وسفيان الثوري والشافعي واحمد وإسحاق وداود وأصحابهم وأصحاب الحديث. وأما سجودها على غير وضوء والى غير القبلة كيف ما يمكن فلأنها ليست صلاة، وقد قال عليه السلام: (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) فما كان أقل من ركعتين فليس صلاة إلا أن يأتي نص بأنه صلاة، كركعة الخوف، والوتر، وصلاة الجنازة ولا نص في أن سجدة التلاوة صلاة. وقد روى عن عثمان رضى الله تعالى عنه، وسعيد بن المسيب: تومئ الحائض بالسجود قال سعيد: وتقول: رب لك سجدت. وعن الشعبي جوازها إلى غير القبلة. (سجود الشكر)
(1) كذا في الأصلين بتكرار اسم (الشعبي) 111 557 - مسألة - سجود الشكر حسن، إذا وردت لله تعالى على المرء نعمة فيستحب له السجود، لان السجود فعل خير، وقد قال الله تعالى (وافعلوا الخير) ولم يأت عنه نهى عن النبي صلى الله عليه وسلم. بل قد حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا الوهاب بن عيسى ثنا أحمد ابن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا زهير بن حرب ثنا الوليد بن مسلم سمعت الأوزاعي قال ثنا الوليد بن هشام المعيطى ثنا معدان بن أبي طلحة اليعمري قال: (لقيت ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت له (1): أخبرني بعمل يدخلني الله به الجنة، أو قلت: ما أحب الاعمال (2) إلى الله تعالى؟ فقال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سألتني فقال: (3) عليك بكثرة السجود لله تعالى، فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله عز وجل بها درجة، وحط عنك بها خطيئة، قال معدان: ثم لقيت أبا الدرداء فسألته، فقال: مثل ما قال لي (4) ثوبان) قال أبو محمد: الوليد بن هشام من كبار أصحاب عمر بن عبد العزيز لفضله وعمله، وباقي الاسناد أشهر من أن يسأل عنهم. وليس لاحد أن يقول: إن هذا السجود إنما هو سجود الصلاة خاصة، ومن اقدام على هذا فقد قال على رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لم يقله، بل كذب عليه، إذ أخبر عن مراده بالغيب والظن الكاذب. وقد روينا عن أبي بكر الصديق: أنه لما جاءه فتح اليمامة سجد. وعن علي بن أبي طالب: انه لما وجد ذو الثدية في القتلى سجد، إذ عرف أنه في الحزب المبطل، وانه هو المحق. وصح عن كعب بن مالك في حديث تخلفه عن تبوك: أنه لما تيب عليه سجد. ولا مخالف لهؤلاء من الصحابة أصلا، ولا مغمز في خبر كعب البتة
(1) كلمة (له) ليست في صحيح مسلم (ج 1 ص 140) (2) في مسلم (أو قلت بأحب الاعمال) (3) في مسلم (سألت عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال) الخ (4) كلمة (لي) ليست في مسلم 112 (كتاب الجنائز) صلاة الجنائز وحكم الموتى 558 - مسألة - غسل المسلم الذكر والأنثى وتكفينهما فرض، ولا يجوز أن يكون الكفن إلا حسنا على قدر الطاقة، وكذلك الصلاة عليه حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إسماعيل - هو ابن أبي أويس - ثنا مالك عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية الأنصارية قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفيت ابنته، فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك) وذكر الحديث. فأمر عليه السلام بغسلها، وأمره فرض، ما لم يخرجه عن الفرض نص آخر، ولا خلاف في أن حكم الرجل والمرأة في ذلك سواء. وإيجاب الغسل هو قول الشافعي، وداود. والعجب ممن لا يرى غسل الميت فرضا، وهو عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره، وعمل أهل الاسلام مذ أوله إلى الآن. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا هارون بن عبد الله ثنا حجاج بن محمد الأعور قال قال ابن جريج أنا أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث: (ان النبي صلى الله عليه وسلم خطب (1) يوما فذكر رجلا من أصحابه قبض فكفن في كفن غير طائل، فقال: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه). وروينا عن ابن مسعود: أنه أوصى أنه يكفن في حلة بمائتي درهم. وعن ابن سيرين: كان يقال: من ولى أخاه فليحسن كفنه، فإنهم يتزاورون في أكفانهم. وعن حذيفة: لا تغالوا في الكفن، اشتروا لي ثوبين نقيين.
(1) في النسخة رقم (16) (يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خطب) الخ وما هنا هو الموافق لمسلم (ج 1 ص 258) 113 قال أبو محمد: هذا تحسين للكفن، وإنما كره المغالاة فقط. وعن أبي سعيد الخدري: أنه قال لانس وابن عمر ولغيرهما من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: احملوني على قطيفة قيصرانية وأجمروا على أوقية مجمر (1) وكفنوني في ثيابي التي أصلى فيها وفى قبطية (2) في البيت معها. والذي روى عن أبي بكر رضى الله تعالى عنه في أن يغسل الثوب الذي عليه ويكفن فيه وفى ثوبين آخرين -: تحسين للكفن، وحتى لو كان خلاف لوجب الرد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 559 - مسألة - ومن لم يغسل ولا كفن حتى دفن وجب اخراجه حتى يغسل ويكفن ولابد. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا علي بن عبد الله ثنا سفيان - هو ابن عيينة - قال عمرو بن دينار سمعت جابر بن عبد الله قال: (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعد ما ادخل في حفرته، فأمر به فأخرج، فوضعه على ركبته، ونفث عليه من ريقه، والبسه قميصا). قال أبو محمد: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل والكفن ليس محدودا بوقت، فهو فرض أبدا، وإن تقطع الميت، ولا فرق بين تقطعه بالبلى وبين تقطعه بالجراح، والجدري، لا يمنع شئ من ذلك من غسله وتكفينه. 560 - مسألة - ولا يجوز أن يدفن أحد ليلا الا عن ضرورة، ولا عند طلوع الشمس حتى ترتفع، ولا حين استواء الشمس حتى تأخذ في الزوال، ولا حين ابتداء أخذها في الغروب، ويتصل ذلك بالليل إلى طلوع الفجر الثاني، والصلاة جائزة عليه (3) في هذه الأوقات كلها. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا يوسف بن سعيد ثنا حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فزجر أن يقبر انسان ليلا إلا أن يضطر إلى ذلك. قال أبو محمد: كل من دفن ليلا منه عليه السلام ومن أزواجه ومن أصحابه رضي الله عنهم -: فإنما ذلك لضرورة أوجبت ذلك، من خوف زحام، أو خوف الحر على من
(1) المجمر شئ يتبخر به (2) بضم القاف: هي الثوب من ثياب مصر رقيقة بيضاء، وكأنه منسوب إلى القبط بكسر القاف على غير قياس (3) في النسخة رقم (16) (عليها) 114 حضر وحر المدينة شديد، أو خوف تغير، أو غير ذلك مما يبيح الدفن ليلا، لا يحل لاحد أن يظن بهم رضي الله عنهم خلاف ذلك. روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان ثنا هشام الدستوائي عن قتادة عن سعيد ابن المسيب: أنه كره الدفن ليلا. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد ابن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى ثنا عبد الله بن وهب عن موسى ابن علي بن رباح (1) عن أبيه سمعت عقبة بن عامر يقول: (ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن نصلى فيها أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف للغروب حتى تغرب) قال أبو محمد: قد بينا قبل أن الصلاة المنهى عنها في هذه الأوقات إنما هي التطوع المتعمد ابتداؤه قصد إليه، وكذلك كل صلاة فرض مقضية تعمد تركها إلى ذلك الوقت وهو يذكرها فقط، لا كل صلاة مأمور بها أو مندوب إليها. وبالله تعالى التوفيق. 561 - مسألة - والصلاة على موتى المسلمين فرض. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمود بن غيلان أنا أبو داود - هو الطيالسي - ثنا شعبة عن عثمان بن عبد الله بن موهب سمعت عبد الله ابن أبي قتادة عن أبيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل من الأنصار ليصلى عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم، فان عليه دينا) وذكر الحديث. فهذا امر بالصلاة عليه عموما. وروى مثل ذلك أيضا في الغال. 562 - مسألة - حاشا المقتول بأيدي المشركين خاصة في سبيل الله عز وجل في المعركة خاصة، فإنه لا يغسل ولا يكفن، لكن يدفن بدمه وثيابه، إلا أنه ينزع عنه السلاح فقط، وإن صلى عليه فحسن، وان لم يصل عليه فحسن، فان حمل عن المعركة وهو حي فمات غسل وكفن وصلى عليه. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله بن يوسف ثنا الليث - هو ابن سعد - حدثني ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله: أنه ذكر قتلى أحد وقال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بدفنهم في دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم).
(1) (على) بضم العين مصغر، و (رباح) بفتح الراء وتخفيف الباء الموحدة وآخره حاء مهملة 115 وبه أيضا إلى الليث بن سعد: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة ابن عامر الجهني: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على أهل أحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر) وذكر الحديث. قال أبو محمد: فخرج هؤلاء عن امر النبي صلى الله عليه وسلم بالكفن، والغسل والصلاة - وبقى سائر من قتله مسلم، أو باغ، أو محارب أو رفع عن المعركة حيا - على حكم سائر الموتى. وذهب أبو حنيفة إلى أن يصلى عليهم. قال أبو محمد: ليس يجوز أن يترك أحد الاثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حق مباح، وليس هذا مكان نسخ، لان استعمالهما معا ممكن في أحوال مختلفة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ان المبطون والمطعون والغريق والحريق وصاحب ذات الجنب وصاحب الهدم والمرأة تموت بجمع (1) -: شهداء كلهم، ولا خلاف في أنه عليه السلام كفن في حياته، وغسل من مات فيهم من هؤلاء. وبالله تعالى التوفيق. وقد كان عمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم شهداء، فغسلوا وكفنوا وصلى عليهم. ولا يصح في ترك المجلود اثر، لان راويه علي بن عاصم، وليس بشئ. 563 - مسألة - وإعماق (2) حفير القبر فرض، ودفن المسلم فرض، وجائز دفن الاثنين والثلاثة في قبر واحد، ويقدم أكثرهم قرآنا. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب انا محمد بن معمر ثنا وهب بن جرير بن حازم ثنا أبي قال سمعت حميدا -: هو ابن هلال - عن سعد بن هشام بن عامر عن أبيه قال: (لما كان يوم أحد أصيب من أصيب من المسلمين، فأصاب الناس جراحات فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احفروا وأوسعوا، وأدفنوا الاثنين والثلاثة في القبر، وقدموا أكثرهم قرآنا). وبه إلى أحمد بن شعيب: أنا محمد بن بشار ثنا إسحاق بن يوسف ثنا سفيان - هو الثوري - عن أيوب السختياني عن حميد بن هلال عن هشام بن عامر قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فقلنا: يا رسول الله، الحفر علينا لكل انسان شديد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: احفروا واعمقوا وأحسنوا (3)، وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر
(1) بجمع - بفتح الجيم واسكان الميم - أي ولادة (2) بالعين المهملة (3) قوله (وأحسنوا) زيادة من النسائي (ج 4 ص 80 و 81) 116 واحد، قدموا (1) أكثرهم قرآنا) فلم يعذرهم عليه السلام في الأعماق في الحفر. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله ابن يوسف ثنا الليث - هو ابن سعد حدثني ابن شهاب عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر بن عبد الله قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد). 564 - مسألة - ودفن الكافر الحربي وغيره فرض. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عبد الله ابن محمد سمع روح بن عبادة ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال ذكر لنا أنس بن مالك: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى (2) من أطواء بدر خبيث مخبث). وقد صح نهيه عليه السلام عن المثلة، وترك الانسان لا يدفن مثلة. وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر إذ قتل بني قريظة بأن تحفر خنادق ويلقوا فيها. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا عبيد الله بن سعيد ثنا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن ناجية ابن كعب عن علي بن أبي طالب قال: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: إن عمك الضال قد مات فمن يواريه؟ قال: اذهب فوار أباك) وذكر باقي الحديث. ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي سنان عبد الله بن سنان عن سعيد بن جبير قال قلت لابن عباس: رجل فينا مات نصرانيا وترك ابنه؟ قال: ينبغي أن يمشى معه ويدفنه. قال سفيان: وسمعت حماد بن أبي سليمان يحدث عن الشعبي: أن أم الحارث بن أبي ربيعة ماتت وهي نصرانية، فشيعها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. 565 - مسألة - وأفضل الكفن للمسلم ثلاثة أثواب بيض للرجل، يلف فيها،
(1) في النسخة رقم (14) (وقدموا) بزيادة الواو وليست في النسائي (2) بفتح الطاء المهملة وكسر الواو وتشديد الياء، صفة، فعيل بمعنى مفعول في الأصل وانتقل إلى الأسماء. وهو البئر المطوية بالحجارة، وهو مذكر فان أنت فعلى معنى البئر. 117 لا يكون فيها قميص، ولا عمامة، ولا سراويل ولا قطن، والمرأة كذلك وثوبان زائدان، فإن لم يقدر له على أكثر من ثوب واحد أجزأه، فإن لم يوجد للاثنين إلا ثوب واحد أدرجا فيه جميعا، وان كفن الرجل والمرأة بأقل أو أكثر فلا حرج. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إسماعيل ابن أبي أويس عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: (كفن النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية، (1) ليس فيها قميص، ولا عمامة). قال أبو محمد: ما تخير الله تعالى لنبيه إلا أفضل الأحوال. وبه إلى البخاري: ثنا مسدد ثنا يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله - هو ابن عمر - حدثني نافع عن ابن عمر قال: (ان عبد الله بن أبي (2) لما توفى جاء ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أعطني قميصك أكفنه فيه، وصلى عليه واستغفر له، فأعطاه قميصه، وقال له: آذني أصل عليه) وذكر الحديث * (3) وبه إلى البخاري: ثنا عمر بن حفص بن غياث ثنا أبي عن الأعمش ثنا شقيق ثنا حباب قال: (هاجرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئا، ومنهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد، فلم نجد ما نكفنه إلا بردة، إذا غطينا بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وان نجعل على رجليه من الإذخر) (4). قال أبو محمد: هكذا يجب ان يكفن من لم يوجد له إلا ثوب واحد لا يعمه كله. قال أبو محمد: وههنا حديث وهم فيه راويه: رويناه من طريق أحمد بن حنبل عن الحسن بن موسى الأشيب عن حماد بن سلمة عن عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب عن محمد بن علي بن أبي طالب - هو ابن الحنفية - عن أبيه: (ان النبي صلى الله عليه وسلم
(1) في اللسان: (يروى بفتح السين وضمها، فالفتح منسوب إلى السحول وهو القصار، لأنه يسحلها أي يغسلها، أو إلى سحول، قرية باليمن، وأما الضم فهو جمع سحل، وهو الثوب الأبيض النقي، ولا يكون إلا من قطن، وفيه شذوذ، لأنه نسب إلى الجمع، وقيل: إن اسم القرية بالضم أيضا) (2) كان رئيس المنافقين (3) في البخاري (ج 2 ص 166 و 167) (4) هو حشيشة طيبة الرائحة تسقف بها فوق الخشب 118 كفن في سبعة أثواب) (1) والوهم فيه من الحسن بن موسى، أو من عبد الله بن محمد بن عقيل. فان ذكر ذاكر الخبر الذي رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان قال سمعت سعيد بن أبي عروبة يحدث عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البسوا من ثيابكم البياض، فإنها أطهر وأطيب، وكفنوا فيه موتاكم). قلنا: هذا ليس فرضا، لأنه قد صح انه عليه السلام لبس حلة حمراء (2) وشملة سوداء. وحدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا القعنبي عن عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي - عن زيد - هو ابن أسلم - ان ابن عمر قيل له: (لم تصبغ بالصفرة؟ قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبغ بها، ولم يكن شئ أحب إليه منها، وكان يصبغ بها ثيابه كلها حتى عمامته). حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا عمرو ابن عاصم ثنا همام بن يحيى عن قتادة قال قلت لانس به مالك: (أي الثياب كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: الحبرة) (3). قال أبو محمد: لا يحل ان يترك حديث لحديث، بل كلها حق. فصح ان الامر بالبياض ندب. وباختيارنا هذا يقول جمهور السلف. كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: ان أبا بكر الصديق قال لها في حديث: (فيم كفنتموه؟ - يعنى النبي صلى الله عليه وسلم - قالت: في ثلاثة أثواب بيض سحول (4) ليس فيها قميص ولا عمامة، فقال أبو بكر: انظروا ثوبي
(1) هو في المسند (ج 1 ص 94) ورواه أحمد أيضا (ج 1 ص 102) عن عفان وحسن بن موسى كلاهما عن حماد باسناده فالوهم فيه اذن من عبد الله بن محمد بن عقيل (2) في النسخة رقم (14) (قد صح عنه عليه السلام لبس حلة حمراء) الخ (3) بكسر الحاء المهملة وفتحها مع فتح الباء الموحدة فيهما: ضرب من برود اليمن منمر، والجمع حبر وحبرات، بكسر الحاء (4) يروى بفتح السين وبضمها. 119 هذا فاغسلوه، وبه ردع (1) من زعفران أو مشق (2) واجعلوا معه ثوبين آخرين) (3). ومن طريق ابن عمر قال: كفن عمر بن الخطاب في ثلاثة أثواب، ثوبين سحوليين، وثوب كان يلبسه. وعن أبي هريرة أنه قال لأهله عند موته: (لا تقمصوني ولا تعمموني فان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقمص ولم يعمم (4). وعن ابن جريج عن عطاء: لا يعمم الميت ولا يؤزر ولا يردى (5)، لكن يلف فيها لفا. قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه كان يكفن الرجل من أهله في ثلاثة أثواب ليس فيها عمامة. وهو اختيار الشافعي، وأبي سليمان، وأحمد بن حنبل وأصحابهم. وهكذا كفن بقي ابن مخلد، وقاسم بن محمد أفتى بذلك الخشني وغيره ممن حضر. وأما كفن المرأة فان عبد الرحمن بن عبد الله حدثنا قال ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا حامد بن عمر ثنا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت: (توفيت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم فخرج فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك أن رأيتن بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني، فلما فرغن آذناه، فالقى الينا حقوه (6)، وقال: أشعرنها إياه). وروينا عن الحسن قال: تكفن المرأة في خمسة أثواب: درع وخمار وثلاث لفائف. وعن النخعي: تكفن المرأة في خمسة أثواب: درع، وخمار، ولفافة، ومنطقة، ورداء. وعن ابن سيرين: تكفن المرأة في خمسة أثواب: درع وخمار ولفافتين وخرقة. وعن الشعبي: تكفن المرأة في خمسة أثواب، والرجل في ثلاثة.
(1) بفتح الراء واسكان الدال وآخره عين وهما مهملتان وهو اثر الخلوق والطيب في الجسد والثواب، أي لطخ لم يعمه كله، يقال: ردعه بالشئ ردعا فارتدع، لطخه به فتلطخ. قاله في اللسان. (2) بكسر الميم واسكان الشين المعجمة، هو المغرة، وهو صبغ أحمر. (3) أنظره مطولا في مسند أحمد (ج 6 ص 132) وفى الطبقات لابن سعد (ج 3 ق 1 ص 143) كلاهما عن عفان عن حماد باسناده. (4) في النسخة رقم (16) (لم يقمص ولا عمم) (5) بالراء من الرداء (6) أي ازاره 120 566 - مسألة - ومن مات وعليه دين يستغرق كل ما ترك فكل ما ترك للغرماء، ولا يلزمهم كفنه دون سائر من حضر من المسلمين. لان الله تعالى لم يجعل ميراثا ولا وصية الا فيما يخلفه المرء بعد دينه، فصح أن الدين مقدم، وانه لا حق له في مقدار دينه مما يتخلفه، فإذ هو كذلك فحق تكفينه - إذا لم يترك شيئا - واجب على كل من حضر من غريم أو غير غريم لقول الله. تعالى: (إنما المؤمنون أخوة) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ولى أخاه فليحسن كفنه) وقد ذكرناه قبل باسناده، فكل من وليه فهو مأمور باحسان كفنه، ولا يحل أن يخص بذلك الغرماء دون غيرهم، هو قول أبى سليمان وأصحابه. فان فضل عن الدين شئ فالكفن مقدم فيه قبل الوصية والميراث، لما ذكرنا قبل من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كفن مصعب بن عمير رضي الله عنه في بردة له لم يترك شيئا غيرها، فلم يجعلها لوارثه. 567 - مسألة - وكل ما ذكرنا أنه فرض على الكفاية فمن قام به سقط عن سائر الناس، كغسل الميت وتكفينه ودفنه والصلاة عليه، وهذا لا خلاف فيه، ولان تكليف ما عدا هذا داخل في الحرج والممتنع قال تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج). 568 - مسألة - وصفة الغسل أن يغسل جميع جسد الميت ورأسه بماء قد رمى فيه شئ من سدر ولابد، إن وجد، فإن لم يوجد فبالماء وحده -: ثلاث مرات ولابد، يبتدأ بالميامن ويوضأ، فان أحبوا الزيادة فعلى الوتر أبدا، وإما ثلاث مرات وإما خمس مرات وإما سبع مرات، ويجعل في آخر غسلاته - إن غسل أكثر من مرة - شيئا من كافور ولابد فرضا، فإن لم يوجد فلا حرج، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كله. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى (1) أنا يزيد بن زريع عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية قالت: (دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نغسل ابنته (2) فقال: اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك، إن رأيتن ذلك،
(1) في النسخة رقم (16) (محمد بن يحيى) وهو خطأ، وانظر مسلم (ج 1 ص 257) (2) كلمة (ابنته) سقطت من النسخة رقم (16) خطأ وما هنا هو الموافق لمسلم 121 بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا أو شيئا من كافور). حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا يحيى بن موسى ثنا وكيع عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية قالت: (لما غسلنا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: ابدأن (1) بميامنها وبمواضع الوضوء). وقال الله تعالى (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وقال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها) فصح ان من لم يؤته الله تعالى سدرا ولا كافورا فلم يكلفه إياهما. روينا عن ابن جريج عن عطاء: يغسل الميت ثلاثا أو خمسا أو سبعا، كلهن بماء وسدر، في كلهن يغسل رأسه وجسده، قال ابن جريج: فقلت له: فإن لم يوجد سدر فخطمى؟ قال: لا، سيوجد السدر، ورأي الواحدة تجزئ، وهذا رأى منه. وعن سليمان بن موسى وإبراهيم: غسل الميت ثلاث مرات. وعن محمد بن سيرين وإبراهيم: يغسل الميت وترا. وعن ابن سيرين: يغسل مرتين بماء وسدر، والثالثة بماء فيه كافور، والمرأة أيضا كذلك. وعن قتادة عن سعيد بن المسيب: الميت يغسل بماء، ثم بماء وسدر، ثم بماء وكافور. وعن ابن سيرين: الميت يوضأ كما يوضأ الحي يبدأ بميامنه. وعن قتادة يبدأ بميامن الميت، يعنى في الغسل. 569 - مسألة - فان عدم الماء يمم الميت ولابد، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا إذا لم نجد الماء) 570 - مسألة - ولا يحل تكفين الرجل فيما لا يحل لباسه، من حرير، أو مذهب، أو معصفر وجائز تكفين المرأة في كل ذلك، لما قد ذكرناه في كتاب الصلاة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحرير والذهب: (إنهما حرام على ذكور أمتي حل لإناثها) وكذلك قال في المعصفر: إذ نهى عليه السلام الرجال عنه. 571 - مسألة - وكفن المرأة وحفر قبرها من رأس مالها، ولا يلزم ذلك زوجها لان أموال المسلمين محظورة إلا بنص قرآن أو سنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن دماءكم * (هامش) (1) في النسخة رقم (16) (ابدؤا) وهو موافق لبعض نسخ البخاري (ج 2 ص 162) (*)
122 وأموالكم عليكم حرام) وإنما أوجب تعالى على الزوج النفقة والكسوة، والاسكان، ولا يسمى في اللغة التي خاطبنا الله تعالى بها الكفن كسوة ولا القبر إسكانا. 572 - مسألة - ويصلى على الميت بامام يقف ويستقبل القبلة، والناس وراءه صفوف، ويقف من الرجل عند رأسه، ومن المرأة عند وسطها (1). حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا مسدد عن أبي عوانة عن قتادة عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي فكنت في الصف الثاني أو الثالث). ولا خلاف في أنها صلاة قيام، لا ركوع فيها ولا سجود، ولا قعود ولا تشهد. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى انا عبد الوارث بن سعيد عن حسين ابن ذكوان حدثني عبد الله بن بريدة عن سمرة بن جندب قال: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى على أم كعب، ماتت في نفاسها، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة عليها وسطها). ورويناه أيضا من طريق البخاري عن مسدد ثنا يزيد بن زريع عن الحسين بن ذكوان باسناده، ورواه أيضا يزيد بن هارون، والفضل بن موسى، وعبد الله بن المبارك كلهم عن الحسين بن ذكوان باسناده. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا داود ابن معاذ ثنا عبد الوارث بن سعيد عن نافع أبى غالب أنه قال: (صليت على جنازة عبد الله ابن عمير، وصلى عليه بنا أنس بن مالك وانا خلفه، فقام عند رأسه، فكبر أربع تكبيرات، لم يطل ولم يسرع، ثم ذهب يقعد فقالوا: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية، فقربوها وعليها نعش أخضر، فقام عند عجيزتها، فصلى عليها نحو صلاته على الرجل، ثم جلس، فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى على الجنازة كصلاتك، يكبر عليها أربعا، ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم). حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا همام بن يحيى عن أبي غالب، فذكر حديث أنس
(1) في النسخة رقم (14) (في وسطها). 123 هذا، وفى آخره أن العلاء بن زياد أقبل على الناس بوجهه فقال: احفظوا. فدل هذا على موافقة كل من حضر له، وهم تابعون كلهم. وبهذا يأخذ الشافعي، وأحمد، وداود وأصحابهم وأصحاب الحديث. وقال أبو حنيفة، ومالك بخلاف هذا، وما نعلم لهم حجة إلا دعوى فاسدة، وان ذلك كان إذ لم تكن النعوش! وهذا كذب ممن قاله لان أنسا صلى كذلك والمرأة في نعش أخضر. وقال بعضهم: كما يقوم الامام موارى وسط الصف خلفه كذلك يقوم موازي وسط الجنازة فيقال له: هذا باطل، وقياس فاسد، لأنه امام الصف وليس إماما للجنازة ولا مأموما لها، والذي اقتدينا به في وقوفه إزاء وسط الصف هو الذي اقتدينا به إزاء وسط المرأة وإزاء رأس الرجل، وهو النبي عليه السلام، الذي لا يحل خلاف حكمه. وبالله تعالى التوفيق. 573 - مسألة - ويكبر الإمام والمأمومون بتكبير الامام على الجنازة خمس تكبيرات لا أكثر، فان كبروا أربعا فحسن، ولا أقل، ولا ترفع الأيدي إلا في أول تكبيرة فقط، فإذا انقضى التكبير المذكور سلم تسليمتين، وسلموا كذلك، فان كبر سبعا كرهناه وابتعناه، وكذلك إن كبر ثلاثا، فان كبر أكثر لم نتبعه، وإن كبر أقل من ثلاث لم نسلم بسلامه، بل أكملنا التكبير. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن المثنى قالا ثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: (كان زيد بن أرقم يكبر على جنائزنا أربعا، وانه كبر على جنازة خمسا، فسألته؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكبرها). وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر أيضا أربعا، كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى. قال أبو محمد: واحتج من منع من أكثر من أربع بخبر رويناه من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عامر بن شقيق عن أبي وائل قال: (جمع عمر بن الخطاب الناس فاستشارهم في التكبير على الجنازة، فقالوا: كبر النبي صلى الله عليه وسلم سبعا وخمسا وأربعا، فجمعهم عمر على أربع تكبيرات كأطول الصلاة (1)).
(1) رواه الطحاوي في معاني الآثار (ج 1 ص 288) من طريق مؤمل عن سفيان عن عامر ابن شقيق باسناده، وفى آخره زيادة (صلاة الظهر) 124 وروينا أيضا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمر بن شقيق عن أبي وائل فذكره. قالوا: فهذا اجماع، فلا يجوز خلافه. قال أبو محمد: وهذا في غاية الفساد، أول ذلك ان الخبر لا يصح لأنه عن عامر بن شقيق، وهو ضعيف، واما عمر بن شقيق فلا يدرى في العالم من هو! (1) ومعاذ الله أن يستشير عمر رضي الله عنه في إحداث فريضة بخلاف ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو للمنع من بعض ما فعله عليه السلام ومات وهو مباح فيحرم بعده، لا يظن هذا بعمر إلا جاهل بمحل عمر بن الدين والاسلام، طاعن علي السلف رضي الله عنهم. وذكروا أيضا ما حدثناه حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا ابن أيمن ثنا أحمد بن زهير ثنا علي بن الجعد ثنا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت سعيد بن المسيب يحدث عن ابن عمر قال: كل ذلك قد كان، أربعا وخمسا، فاجتمعنا على أربع، يعنى التكبير على الجنازة. وبه إلى شعبة عن المغيرة عن إبراهيم النخعي قال: جاء رجل من أصحاب معاذ بن جبل، فصلى على جنازة، فكبر عليها خمسا، فضحكوا منه، فقال ابن مسعود: قد كنا نكبر أربعا، وخمسا، وستا، وسبعا، فاجتمعنا على أربع. ورويناه أيضا من طريق الحجاج بن المنهال عن أبي عوانة عن المغيرة عن إبراهيم النخعي نحوه. ومن طريق غندر عن شعبة عن عمرو بن مرة عن سعيد بن المسيب قال قال عمر بن
(1) أما عامر بن شقيق فإنه لا بأس به وقد حسن البخاري له حديثا وصحح له ابن حزيمة وابن حبان والحاكم وغيرهم. وأما عمر بن شقيق فالظاهر أنه هو عامر وان بعض الرواة أخطأ في تسميته أو تصحف عليه، فقد يكون مكتوبا في خطوطهم القديمة بحذف الألف كما يحذفونها في (ملك) و (الحرث) وغيرهما فظنه الراوي كما كتب. وعندهم في الرواة (عمر بن شقيق الجرمي) ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهلي (ما رأيت أحدا ضعفه) ولكنه متأخر عن هذا، فإنه يروى عن أتباع التابعين، وأما عامر بن شقيق فإنه يروى عن أبي وائل وهو من كبار التابعين، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. فهو متقدم عن عمر بن شقيق الجرمي. ونقل ابن حجر كلام ابن حزم الذي هنا وظن أنه في عمر ابن شقيق المتأخر وهو وهم منه رحمه الله 125 الخطاب: كل ذلك قد كان أربع، وخمس يعنى التكبير على الجنازة، قال سعيد: فأمر عمر الناس بأربع. قالوا: فهذا إجماع. قال أبو محمد: هذا الكذب؟ لان إبراهيم لم يدرك ابن مسعود، وعلي بن الجعد ليس بالقوى (1)، وسعيد لم يحفظ من عمر إلا نعيه النعمان بن مقرن على المنبر فقط، فكل ذلك منقطع أو ضعيف. ولو صح لكان ما رووه من ذلك مكذبا لدعواهم في الاجماع، لان صاحب معاذ المذكور كبر خمسا، ولم ينكر ذلك عليه ابن مسعود، وقد ذكرنا عن زيد بن أرقم أنه كبر بعد عمر خمسا. حدثنا حمام ثنا ابن مفرج (2) ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن سفيان ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي حدثني عبد الله بن مغفل: أن علي بن أبي طالب صلى على سهل بن حنيف فكبر عليه ستا، ثم التفت الينا فقال: إنه بدري. قال الشعبي: وقدم علقمة من الشأم فقال لابن مسعود: إن إخوانك بالشأم يكبرون على جنائزهم خمسا، فلو وقتم لنا وقتا نتابعكم عليه؟ فأطرق عبد الله ساعة ثم قال: انظروا جنائزكم، فكبروا عليها ما كبر أئمتكم، لا وقت ولا عدد. قال أبو محمد: ابن مسعود مات في حياة عثمان رضي الله عنهما، فإنما ذكر له علقمة ما ذكر عن الصحابة رضي الله عنهم الذين بالشأم، وهذا اسناد في غاية الصحة، لان الشعبي أدرك علقمة وأخذ عنه وسمع منه. حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار ثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن المنهال بن عمرو عن
(1) كلا بل هو ثقة مأمون كما قال الدارقطني، وقال ابن معين: (ثقة صدوق أثبت البغداديين في شعبة) (2) ذكرنا في المسألة 116 (ج 1 ص 82) أننا نرجح انه بالجيم، ثم ذكرنا في المسألة 118 (ج 1 ص 87) أنه في اليمنية بالحاء. ولكن قد تأكدنا الآن أنه بالجيم فقد كتب بها مرارا في النسخة رقم (14) وهي نسخة صحيحة حجة كما قلنا مرارا. وهو بالجيم أيضا في ترجمة في تذكرة الحفاظ (ج 3 ص 201). 126 زربن حبيش قال رأيت ابن مسعود صلى على رجل من بلعدان (1) - فخذ من بنى أسد - فكبر عليه خمسا. وبالسند المذكور إلى عبد الرزاق عن معمر عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي ان عليا كبر على جنازة خمسا. وبه إلى عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي معبد عن ابن عباس: انه كان يكبر على الجنازة ثلاثا. ورويناه أيضا من طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن دينار قال سمعت أبا معبد يقول: كان ابن عباس يكبر على الجنازة ثلاثا. وهذا اسناد في غاية الصحة. ومن طريق حماد بن سلمة أخبرني شيبة بن أيمن: (2) ان انس بن مالك صلى على جنازة فكبر ثلاثا. وبه إلى حماد عن يحيى بن أبي إسحاق: انه قيل لانس: ان فلانا كبر ثلاثا، يعنى على جنازة؟ فقال إنس: وهل التكبير إلا ثلاثا؟. وقال محمد بن سيرين: إنما كان التكبير ثلاثا فزادوا واحدة يعنى على الجنازة. ومن طريق مسلم بن إبراهيم عن شعبة عن زرارة بن أبي الحلال (3) العتكي: ان جابر بن زيد أبا الشعثاء أمر يزيد بن المهلب ان يكبر على الجنازة ثلاثا. قال أبو محمد: أف لكل اجماع يخرج عنه علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وأنس بن مالك وابن عباس والصحابة بالشأم رضي الله عنهم ثم التابعون بالشام، وابن سيرين، وجابر بن زيد وغيرهم بأسانيد في غاية الصحة، ويدعى الاجماع بخلاف هؤلاء بأسانيد واهية فمن اجهل ممن هذه سبيله؟ فمن أخسر صفقة ممن يدخل في عقله أن
(1) بفتح الباء واسكان اللام وفتح العين والدال المهملتين، وأصلها (بنو العدان) وهم قبيلة من أسد كما هنا وفى اللسان أيضا (2) لم أجد له ترجمة ولا ذكرا (3) بفتح الحاء المهملة وتخفيف اللام، وفى النسخة رقم (16) (زرارة بن الخلال) بالمعجمة وفي النسخة رقم (14) (زرارة بن الحلال) بالمهملة وهو خطأ فيهما بل هو (زرارة بن ربيعة ابن زرارة الأزدي العتكي) وأبوه كنيته (أبو الحلال) ولزرارة هذا ترجمة في تعجيل المنفعة لابن حجر، ولكن تكرر فيه (أبى الخلال) بالخاء المعجمة وهو خطأ أيضا، وقد ضبطنا صحته من المشتبه للذهبي ص (192) 127 اجماعا عرفه أبو حنيفة ومالك والشافعي وخفي علمه على على، وابن مسعود، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك، وابن عباس، حتى خالفوا الاجماع؟ حاشا لله من هذا. ولا متعلق لهم بما رويناه من أن عمر كبر أربعا، وعليا كبر على ابن المكفف (1) أربعا، وزيد بن ثابت كبر على أمه أربعا، وعبد الله بن أبي أوفى كبر على ابنته أربعا، وزيد ابن أرقم كبر أربعا، وأنسا كبر أربعا: - فكل هذا حق وصواب، وليس من هؤلاء أحد صح عنه انكار تكبير خمس أصلا، وحتى لو وجد لكان معارضا له قول من أجازها، ووجب الرجوع حينئذ إلى ما افترض الله تعالى الرد إليه عند التنازع، من القرآن والسنة، وقد صح انه عليه السلام كبر خمسا وأربعا، وفلا يجوز ترك أحد عمليه للآخر. ولم نجد عن أحد من الأئمة تكبيرا أكثر من سبع، ولا أقل من ثلاث، فمن زاد على خمس وبلغ ستا أو سبعا فقد عمل عملا لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم قط، فكرهناه لذلك ولم ينه عليه السلام عنه فلم نقل: بتحريمه لذلك، وكذلك القول: فيمن كبر ثلاثا. واما ما دون الثلاث وفوق السبع فلم يفلعه النبي صلى الله عليه وسلم ولا علمنا أحدا قال به، فهو تكلف وقد نهينا ان نكون من المتكلفين، إلا حديثا ساقطا وجب أن ننبه عليه لئلا يغتر به، وهو ان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة رضي الله عنه يوم أحد سبعين صلاة وهذا باطل بلا شك. (2) وبالله تعالى التوفيق. وأما رفع الأيدي فإنه لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رفع في شئ من تكبير الجنازة الا في أول تكبيرة فقط، فلا يجوز فعل ذلك لأنه عمل في الصلاة لم يأت به نص، وإنما جاء عنه عليه السلام أنه كبر ورفع يديه في كل خفض ورفع، وليس فيها رفع ولا خفض. والعجب من قول أبي حنيفة: برفع الأيدي في كل تكبيرة في صلاة الجنازة ولم يأت قط عن النبي صلى الله عليه وسلم ومنعه من رفع الأيدي في كل خفض ورفع في سائر الصلوات، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم!. وأما التسليمتان فهي صلاة، وتحليل الصلاة التسليم والتسليمة الثانية ذكر وفعل خير وبالله تعالى التوفيق. * (هامش) (1) بفاء ين والأولى مفتوحة مشددة، واسمه (يزيد بن المكفف) كما في معاني الآثار (ج 1 ص 288) (2) بل هو ثابت، وانظر سيرة ابن هشام (ص 585) وطبقات ابن سعد (ج 3 ق 1 ص 9) والتلخيص (ص 158 و 159) وبعضها صحيح الاسناد
128 574 - مسألة - فإذا كبر الأولى قرأ أم القرآن ولابد، وصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فان دعا للمسلمين فحسن، ثم يدعو للميت في باقي الصلاة. أما قراءة أم القرآن فلان رسول الله صلى الله عليه وسلم سماها صلاة بقوله: (صلوا على صاحبكم) وقال عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ (1) بأم القرآن). حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد ابن كثير ثنا سفيان - هو الثوري - عن سعد - هو ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - عن طلحة - بن عبد الله بن عوف قال: (صليت خلف ابن عباس على جنازة، فقرأ بفاتحة الكتاب، قال: لتعلموا أنها سنة). ورويناه أيضا من طريق شعبة وإبراهيم بن سعد كلاهما عن سعد بن إبراهيم عن طلحة بن عبد الله عن ابن عباس. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا قتيبة بن سعيد أنا الليث بن سعد عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ومحمد بن سويد الدمشقي (2) عن الضحاك بن قيس، قال الضحاك وأبو امامة: السنة في الصلاة على الجنازة أن يقرأ في التكبيرة مخافتة، ثم يكبر، والتسليم عند الآخرة. وعن ابن مسعود: انه كان يقرأ على الجنازة بأم الكتاب. ومن طريق وكيع عن سلمة بن نبيط (3) عن الضحاك بن قيس قال: يقرأ ما بين التكبيرتين الأولتين فاتحة الكتاب. وعن حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم التيمي عن محمد بن عمرو ابن عطاء: ان المسور بن مخرمة صلى على الجنازة فقرأ في التكبيرة الأولى فاتحة الكتاب وسورة قصيرة، رفع بهما صوته، فلما فرغ قال: لا أجهل أن تكون هذه الصلاة عجماء، ولكني أردت أن أعلمكم أن فيها قراءة.
(1) في النسخة رقم (14) (لمن لم يقترئ) (2) معطوف على أبى امامة، ان الزهري روى عن أبي أمامة وروى عن محمد بن سويد عن الضحاك. ومحمد بن سويد بن كلثوم بن قيس الفهري أمير دمشق، تابعي ثقة والضحاك بن قيس عم أبيه مختلف في صحبته، وأبو امامة تابعي ولكنه سمع هذا من رجال من الصحابة كما في المستدرك (ج 1 ص 360) وإن كان اللفظ مختلفا وفيه زيادة ونقص (3) بالنون والباء والطاء المهملة مصغر 129 قال أبو محمد: فرأى ابن عباس والمسور المخافتة ليست فرضا. وعن أبي هريرة، وأبى الدرداء وابن مسعود، وأنس بن مالك: انهم كانوا يقرؤن بأم القرآن ويدعون ويستغفرون بعد كل تكبيرة من الثلاث في الجنازة، ثم يكبرون وينصرفون ولا يقرؤن. وعن معمر عن الزهري سمعت أبا امامة بن سهل بن حنيف يحدث سعيد بن المسيب (1) قال: السنة في الصلاة على الجنائز ان تكبر، ثم تقرأ بأم القرآن ثم تصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تخلص الدعاء للميت، ولا تقرأ إلا في التكبيرة الأولى، ثم يسلم في نفسه عن يمينه. وعن ابن جريج: قال لي ابن شهاب: القراءة على الميت في الصلاة في التكبيرة الأولى. وعن ابن جريج عن مجاهد في الصلاة على الجنازة: يكبر ثم يقرأ بأم القرآن ثم يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر دعاء. وعن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن الحسن: (2) أنه كان يقرأ بفاتحة الكتاب في كل تكبيرة في صلاة الجنازة. وهو قول الشافعي وأبي سليمان وأصحابهما. قال أبو محمد: واحتج من منع من قراءة القرآن فيها بأن قالوا: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أخلصوا له الدعاء). قال أبو محمد: هذا حديث ساقط، ما روى قط من طريق يشتغل بها (3)، ثم لو صح لما منع من القراءة، لأنه ليس في اخلاص الدعاء للميت نهى عن القراءة ونحن نخلص له الدعاء ونقرأ كما أمرنا.
(1) في النسخة رقم (16) (يحدث سمعت سعيد المسيب) فكأنه من رواية أبى امامة عن ابن المسيب، وهو خطأ والصواب ان الزهري سمعه من أبى امامة وسعيد بن المسيب حاضر يسمع، فالصواب ما هنا وهو الذي في النسخة رقم (14) وهو الموافق أيضا لما في ابن الجارود (ص 265) وانظر المستدرك (ج 1 ص 360) (2) في النسخة رقم (14) (عن الحسين) وهو خطأ، فان المراد الحسن البصري (3) بل هو صحيح، ورواه أبو داود (ج 3 ص 188) وابن ماجة (ج 1 ص 235) من حديث أبي هريرة، وفى اسناده محمد بن إسحاق والحق انه ثقة حجة، وقد رمى بالتدليس، ولكن نقل ابن حجر في التلخيص ان في بعض طرقه عند ابن حبان تصريح ابن إسحاق بالسماع (ص 161) 130 وقالوا: قد روى عن أبي هريرة: انه سئل عن الصلاة على الجنازة؟ فذكر دعاء ولم يذكر قراءة. وعن فضالة بن عبيد: انه سئل: أيقرأ في الجنازة بشئ من القرآن؟ قال: لا. وعن ابن عمر: انه كان لا يقرأ في صلاة الجنازة. قال أبو محمد: فقلنا: ليس عن واحد من هؤلاء أنه قال: لا يقرأ فيها بأم القرآن، ونعم، نحن نقول: لا يقرأ فيها بشئ من القرآن إلا أم القرآن، فلا يصح خلاف بين هؤلاء وبين من صرح بقراءة القرآن من الصحابة رضي الله عنهم، كابن عباس، والمسور، والضحاك بن قيس، وأبي هريرة، وأبى الدرداء و، وابن مسعود، وانس، لا سيما وأبو هريرة لم يذكر تكبيرا ولا تسليما، فبطل أن يكون لهم به متعلق. وقد روى عنه قراءة القرآن في الجنازة، فكيف ولو صح عنهم في ذلك خلاف؟ لوجب الرد عند تنازعهم إلى ما أمر الله تعالى بالرد إليه من القرآن والسنة، وقد قال عليه السلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ (1) بأم القرآن). وقالوا: لعل هؤلاء قرؤها على أنها دعاء!. فقلنا: هذا باطل، لأنهم ثبت عنهم الامر بقراءتها، وانها سنتها، فقول من قال: لعلهم قرؤها على أنها دعاء -: كذب بحت. ثم لا ندري ما الذي حملهم على المنع من قراءتها حتى يقتحموا في الكذب بمثل هذه الوجوه الضعيفة. والعجب أنهم أصحاب قياس، وهم يرون انها صلاة، ويوجبون فيها التكبير، واستقبال القبلة، والإمامة للرجال، والطهارة، والسلام ثم يسقطون القراءة فان قالوا: لما سقط الركوع والسجود والجلوس سقطت القراءة. قلنا: ومن أين يوجب هذا القياس دون قياس القراءة على التكبير والتسليم؟ بل لو صح القياس لكان قياس القراءة على التكبير والتسليم - لان كل ذلك ذكر باللسان - أولى من قياس القراءة على عمل الجسد ولكن هذا علمهم بالقياس والسنن. وهم يعظمون خلاف العمل بالمدينة وههنا أرينا هم عمل الصحابة، وسعيد بن المسيب، وأبى أمامة والزهري، علماء أهل المدينة، وخالفوهم. وبالله تعالى التوفيق. 575 - مسألة - وأحب الدعاء الينا على الجنازة هو ما حدثناه عبد الله بن يوسف
(1) في النسخة رقم (14) (يقترئ) 131 ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني أبو الطاهر ثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن أبي حمزة بن سليم عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن عوف بن مالك الأشجعي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى (1) على جنازة يقول: اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بماء، وثلج، وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبد له دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وزوجا خيرا من زوجه، وقه فتنة القبر، وعذاب القبر (2) وعذاب النار). وما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا موسى بن هارون الرقى ثنا شعيب - يعنى ابن إسحاق - عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال: (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على جنازة فقال: اللهم اغفر لحينا، وميتنا، وصغيرنا، وكبيرنا، وذكرنا، وأنثانا، وشاهدنا، وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الايمان، ومن توفيته منا فتوفه على الاسلام، اللهم لا تحرمنا اجره، ولا تضلنا بعده). فإن كان صغيرا فليقل: (الهم الحقه بإبراهيم خليلك) للأثر الذي صح ان الصغار مع إبراهيم صلى الله عليه وسلم في روضة خضراء. وما دعا به فحسن. 576 - مسألة - ونستحب اللحد، وهو الشق في أحد جانبي القبر، وهو أحب الينا من الضريح، وهو الشق في وسط القبر. ونستحب اللبن ان توضع على فتح اللحد، ونكره الخشب والقصب والحجارة. وكل ذلك جائز. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا يحيى بن يحيى أنا عبد الله بن جعفر المسوري عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن عمه عامر بن سعد: أن أباه سعد بن أبي وقاص قال في مرضه الذي هلك فيه: (الحد والى لحدا، وانصبوا على اللبن نصبا، كما صنع
(1) في النسخة رقم (16) (صلى) بحذف الواو، واثباتها هو الموافق لمسلم (ج 1 ص 264) وللنسخة رقم (14) (2) كذا في الأصلين باثبات قوله (وعذاب القبر) وهي زيادة ليست في أي نسخة من نسخ صحيح مسلم 132 برسول الله صلى الله عليه وسلم). 577 - مسألة - ولا يحل أن يبنى القبر، ولا أن يجصص، ولا أن يزاد على ترابه شئ، ويهدم كل ذلك، فان بنى عليه بيت أو قائم لم يكره ذلك، وكذلك لو نقش اسمه في حجر لم نكره ذلك. روينا بالسند المذكور إلى مسلم: حدثني هارون بن سعيد الأيلي ثنا ابن وهب حدثني عمرو بن الحارث أن ثمامة بن شفى (1) حدثه قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس، فتوفى صاحب لنا، فأمر فضالة بقبره فسوى، وقال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتسويتها). وبه إلى مسلم: ثنا يحيى بن يحيى أنا وكيع عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي وائل عن أبي الهياج الأسدي قال قال لي علي بن أبي طالب: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته). وبه إلى مسلم: حدثني محمد بن رافع ثنا عبد الرزاق (2) عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن أن تجصص القبور، وأن يقعد عليها، وان يبنى عليها (3)). قال أبو محمد: قد أنذر عليه السلام بموضع قبره بقوله: (ما بين قبري (4) ومنبري روضة من رياض الجنة) وأعلم انه في بيته بذلك ولم ينكر عليه السلام كون القبر في بيت، ولا نهى عن بناء قائم، وإنما نهى عن بناء على القبر، قبة فقط. وعن وكيع عن الربيع عن الحسن: كان يكره أن تجصص القبور أو تطين أو يزاد عليها من غير حفيرها. وعن وكيع عن عمران بن حدير عن أبي مجلز قال: تسوية القبور من السنة. وعن عثمان أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه أمر بتسوية القبور وان ترفع من الأرض شبرا.
(1) ثمامة: بضم الثاء المثلثة، وشفى: بضم الشين المعجمة وفتح الفاء وتشديد الياء (2) قوله (ثنا عبد الرزاق) سقط من الأصلين خطأ، وصححناه من مسلم (ج 1 ص 265) (3) في النسخة رقم (16) (وان يقعد عليه وان يبنى عليه) والذي في مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة باسناده إلى جابر (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يجصص القبر وان يقعد عليه وان يبنى عليه) ثم أتى مسلم بالاسناد الذي هنا وقال (بمثله) (4) في النسخة رقم (16) (بين قبري) بحذف (ما) واعلم أن هذا الحديث رواه البخاري في مواضع، ومسلم، وأحمد بن حنبل وابن سعد وغير كلهم من حديث أبي هريرة بلفظ (ما بين بيتي إلى منبري) وكذلك من حديث عبد الله بن يزيد المازني بهذا اللفظ، ورواه أحمد عن أبي هريرة وأبي سعيد معابه، وفى لفظ لأحمد عن أبي هريرة (ما بين منبري إلى حجرتي) (ج 2 ص 412) وفى آخره عنده (ج 2 ص 534) بلفظ (ما بين حجرتي ومنبري) وفى لفظ لأحمد عن عبد الله بن زيد (ج 4 ص 41) (ما بين هذه البيوت يعنى بيوته إلى منبري) وفى لفظ له عن جابر (ج 3 ص 389) بلفظ (ان ما بين منبري إلى حجرتي) وأما اللفظ الذي هنا فقد جاء في رواية ابن عساكر للبخاري في أواخر الحج (ج 3 ص 55) وقال ابن حجر في الفتح (وهو خطأ) ثم نسب هذا اللفظ للبزار بسند رجاله ثقات من حديث سعد بن أبي وقاص وللطبراني من حديث ابن عمر. وانظر الفتح (ج 3 ص 57 و ج 4 ص 70) والعيني (ج 7 ص 261 و 263) وطبقات ابن سعد (ج 1 ق 2 ص 12) ومسند أحمد (ج 2 ص 236 و 276 و 397 و 401 و 438 و 465 و 466 و 528 و 533) و (ج 3 ص 4) و (ج 4 ص 39 و 40 و 41) ووفاء الوفا للسمهودي (ج 1 ص 302 وما بعدها). 133 وعن عبد الرزاق أنا معمر عن أيوب السختياني عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد قال: سقط الحائط الذي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم فستر، ثم بنى، فقلت للذي ستره: ارفع ناحية الستر حتى أنظر إليه، فنظرت إليه، فإذا عليه جبوب (1) ورمل كأنه من رمل العرصة. حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا محمد بن وضاح ثنا يعقوب بن كعب ثنا ابن أبي فديك أخبرني عمرو بن عثمان بن هانئ عن القاسم بن محمد قال: دخلت على عائشة فقلت: يا أمه، اكشفي لي عن قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاجبيه فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا لاطئة (2) ولا مشرفة، مبطوحة (3) ببطحاء العرصة الحمراء، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدما، وأبو بكر عند رأسه، ورجلا ه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيت عمر عند رجلي أبى بكر رضي الله عنهما (4). 578 - مسألة - ولا يحل لاحد أن يجلس على قبر، فإن لم يجد أين يجلس فليقف
(1) الجبوب بفتح الجيم له معان منها: المدر المفتت، وكأنه المراد هنا (2) بالهمزة والياء، أي مستوية على وجه الأرض، يقال لطأ بالأرض، أي، لصق بها (3) أي ملقى فيها البطحاء وهو الحصى الصغار (4) اما الذي هنا فهو خطأ، ولعله من الناسخين وان اتفقت عليه أصول المحلى. والحديث في أبى داود (ج 3 ص 208 و 209) إلى قوله (العرصة الحمراء) ثم قال اللؤلؤي أبو علي راوي السنن. (يقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم، وأبو بكر عند رأسه، وعمر عند رجليه، رأسه عند رجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ورواه الحاكم مطولا (ج 1 ص 369) وفيه بعد قوله (العرصة الحمراء): (فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدما، وأبا بكر رأسه بين كتفي النبي صلى الله عليه وسلم، وعمر عند رجلي النبي صلى الله عليه وسلم) وصححه الحاكم والذهبي، والظاهر أن هذا هو الذي نقله المؤلف فأخطأ فيه أو أخطأ الناسخون وقد اختلف كثيرا في صفة القبور الثلاثة، وانظر تفصيل ذلك في وفاء الوفا (ج 1 ص 390 وما بعدها). 134 حتى يقضى حاجته، ولو استوفز ولم يقعد لم يبن أنه يحرج (1). حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج حدثني زهير بن حرب ثنا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لان يجلس أحدكم على جمرة فتحرق (2) ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر). وهكذا رويناه من طريق سفيان الثوري وعبد العزيز الدراوردي كلاهما عن سهيل عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروينا أيضا من طريق جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم النهى عن القعود على القبر، وقد ذكرناه قبل هذا بيسير. ورويناه أيضا من طريق واثلة بن الأسقع عن أبي مرثد الغنوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها). فهذه آثار متواترة في غاية الصحة، وهو قول جماعة من السلف رضي الله عنهم، منهم أبو هريرة. ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن سالم البراد عن ابن عمر قال: لان أطأ على رضف (3) أحب إلى من أن أطأ على قبر. وعن ابن مسعود: لان أطأ على جمرة حتى تبرد أحب إلى من أن أتعمد وطئ قبر لي عنه مندوحة.
(1) من الحرج بالحاء المهملة أي لم يظهر لنا انه عليه حرج (2) بحاشية النسخة رقم (14) ان في نسخة من المحلى (فتحترق) وما هنا هو الموافق لمسلم (ج 1 ص 265) (3) بفتح الراء واسكان الضاد المعجمة: الحجارة التي حميت بالشمس أو بالنار 135 وعن سعيد بن جبير: لان أطأ على جمرة حتى تبرد أحب إلى من أن اطأ على قبر. وهو قول أبى سليمان. فقال قائلون بإباحة ذلك، وحملوا الجلوس المتوعد عليه إنما هو للغائط خاصة. وهذا باطل بحت لوجوه. أولها أنه دعوى بلا برهان، وصرف لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وجهه، وهذا عظيم جدا وثانيها ان لفظ الخبر مانع من ذلك قطعا، بقوله عليه السلام: (لان يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر) وبالضرورة يدرى كل ذي حس سليم ان القعود للغائط لا يكون هكذا البتة، وما عهدنا قط أحدا يقعد على ثيابه للغائط إلا من لا صحة لدماغه. وثالثها ان الرواة لهذا الخبر لم يتعدوا به وجهه من الجلوس المعهود، وما علمنا قط في اللغة (جلس فلان) بمعنى تغوط، فظهر فساد هذا القول. ولله تعالى الحمد. وقد ذكرنا تحريم الصلاة إلى القبر وعليه في كتاب الصلاة. (1) والله تعالى محمود. 579 - مسألة - ولا يحل لاحد ان يمشى بين القبور بنعلين سبتيتين (2) وهما اللتان لا شعر فيهما، فإن كان فيهما شعر جاز ذلك، فإن كانت إحداهما بشعر والأخرى بلا شعر جاز المشي فيهما. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الله ابن المبارك ثنا وكيع عن الأسود بن شعبان - وكان ثقة - عن خالد بن سمير عن بشير بن نهيك (3) عن بشير رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو ابن الخصاصية - (4) قال: (كنت أمشى مع رسول الله * (هامش) (1) في المسألة رقم (393) (ج 4 ص 27 و 32) (2) بكسر السين المهملة واسكان الباء الموحدة، والسبت الجلد المدبوغ بالقرظ، قال الأزهري (كأنها سميت سبتية لان شعرها قد سبت عنها أي حلق وأزيل بعلاج من الدباغ معلوم عند دباغيها) (3) بشير بفتح الباء وكسر الشين المعجمة، ونهيك بفتح النون وكسر الهاء. (4) بشير بفتح الموحدة أيضا، والخصاصية بفتح الخاء المعجمة وتخفيف الصاد المهملة الأولى وكسر الثانية وتخفيف الياء، وهي احدى جداته، وهو بشير بن معبد وحديثه في النسائي (ج 4 ص 96) وأبى داود (ج 3 ص 210) وابن ماجة (ج 1 ص 244). وقد ذكر بشير هنا وفى المسألة 582 باسم (بشير رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفى أبى داود (بشير مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولم أر شيئا يؤيدهما في هذه النسبة * (*)
136 صلى الله عليه وسلم فرأى رجلا يمشى بين القبور في نعليه، فقال: يا صاحب السبتيتين، ألقهما). وحدثناه حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا محمد بن سليمان البصري ثنا سليمان بن حرب ثنا الأسود بن شيبان حدثني خالد بن سمير أخبرني بشير بن نهيك أخبرني بشير بن الخصاصية - وكان اسمه في الجاهلية زحم، (1) فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيرا - قال: (بينا أنا أمشى بين المقابر وعلى نعلان، إذ ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا صاحب السبتيتين، يا صاحب السبتيتين، إذا كنت في مثل هذا المكان فاخلع نعليك، قال: فخلعتهما. قال أبو محمد: فان قيل: فهلا منعتم من كل نعل، لعموم قوله عليه السلام: (فاخلع نعليك). قلنا: منع من ذلك وجهان: أحدهما انه عليه السلام إنما دعا صاحب سبتيتين، بنص كلامه، ثم أمره بخلع نعليه. والثاني ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا إبراهيم ابن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني ثنا يونس بن محمد ثنا شيبان (2) عن قتادة ثنا انس ابن مالك قال قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، انه ليسمع قرع نعالهم) وذكر الحديث. قال أبو محمد: فهذا إخبار منه عليه السلام بما يكون بعده، وان الناس من المسلمين سيلبسون النعال في مدافن الموتى إلى يوم القيامة، على عموم إنذاره عليه السلام بذلك، ولم ينه عنه، والاخبار لا تنسخ أصلا، فصح إباحة لباس النعال (3) في المقابر، ووجب استثناء السبتية منها، لنصه عليه السلام عليها. قال أبو محمد: وقال بعض من لا يبالي بما أطلق به لسانه فقال: لعل تينك النعلين كان فيهما قذر. قال أبو محمد: من قطع بهذا فقد كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ قوله ما لم يقل، ومن لم يقطع بذلك فقد حكم بالظن، وقفا مالا علم له به، وكلاهما خطتا خسف نعوذ بالله منهما.
(1) بفتح الزاي واسكان الحاء المهملة (2) في النسخة رقم (16) (شيبا) وسقطت النون الأخيرة من الكاتب خطأ (3) في النسخة رقم (16) (فصح لباس النعال) وما هنا أحسن 137 ثم يقال له: فهبك ذلك كذلك؟ أتقولون: بهذا أنتم؟ فتمنعون من المشي بين القبور بنعلين فيهما قذر؟ فمن قولهم: لا، فيقال لهم: فأي راحة لكم في دعوى كاذبة؟ ثم لو صحت لم تقولوا بها، ولبقيتم مخالفين للخبر بكل حال؟. ويقال له أيضا: ولعل البناء في الرعاف إنما هو في الدم الأسود لشبهه بدم الحيض، ولعل فساد صلاة الرجل إلى جنب المرأة إنما هو إذا كانت شابة خوف الفتنة، ومثل هذا كثير. 580 - مسألة - ويصلى على ما وجد من الميت المسلم، ولو أنه ظفر أو شعر فما فوق ذلك ويغسل، ويكفن، إلا أن يكون من شهيد فلا يغسل، لكن يلف ويدفن. ويصلى على الميت المسلم وإن كان غائبا لا يوجد منه شئ، فان وجد من الميت عضو آخر بعد ذلك أيضا غسل أيضا، وكفن، ودفن، ولا بأس بالصلاة عليه ثانية وهكذا ابدا. برهان ذلك أننا قد ذكرنا قبل وجوب غسل الميت وتكفينه ودفنه والصلاة عليه، فصح بذلك غسل جميع أعضائه، قليلها وكثيرها، وستر جميعها بالكفن والدفن، فذلك بلا شك واجب في كل جزء منه (1)، فإذ هو كذلك فواجب عمله فيما أمكن عمله فيه، بالوجود متى وجد، ولا يجوز أن يسقط ذلك في الأعضاء المفرقة بلا برهان. وينوى بالصلاة على ما وجد منه الصلاة على جميعه، جسده وروحه. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن وجد نصف الميت الذي فيه الرأس أو أكثر من نصفه وان لم يكن فيه الرأس -: غسل وكفن وصلى عليه، وان وجد النصف الذي ليس فيه الرأس أو أقل من النصف الذي فيه الرأس -: لم يغسل ولا كفن ولا صلى عليه!. قال أبو محمد: وهذا تخليط ناهيك به!. وقيل لهم: من أين لكم أن الصلاة على أكثره واجبة، وعلى نصفه غير واجبة؟ وأنتم قد جعلتم الربع - فيما انكشف من بطن الحرة وشعرها - كثيرا في حكم الكل؟ وجعلتم العشر - (2) في بعض مسائلكم أيضا - في حكم الكل؟ وهو من حلق عشر رأسه أو عشر لحيته من المحرمين في قول محمد بن الحسن، فمن أين هذه الأحكام في الدين بغير إذن من الله تعالى بها؟. وقد روينا عن أبي أيوب الأنصاري وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أنهما
(1) في النسخة رقم (16) (منها) (2) في النسخة رقم (14) (وجعلتم الشعر) وهو خطأ ظاهر 138 صليا على رجل انسان. وهو قول أبى سليمان وأصحابنا. وروى عن عمر: أنه صلى على عظام. وعن أبي عبيدة: أنه صلى على رأس. وأما الصلاة على الغائب فقد جاء به نص قاطع، أغنى عن النظر، وإن كان النظر تجب به الصلاة عليه، لان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلوا على صاحبكم) عموم يدخل فيه الغائب والحاضر، ولا يجوز أن يخص به أحدهما، بل فرض في كل مسلم دفن بغير صلاة أن يصلى عليه من بلغه ذلك من المسلمين، لأنها فرض على الكفاية، وهي فيمن صلى عليه ندب (1). حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا إسماعيل ابن أبي أويس حدثني مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه، خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر أربعا). وبه إلى البخاري: ثنا إبراهيم بن موسى ثنا هشام بن يوسف ان ابن جريج أخبرهم قال أخبرني عطاء انه سمع جابر بن عبد الله يقول: (قال النبي صلى الله عليه وسلم: قد توفى اليوم رجل صالح من الحبش، فهلم فصلوا عليه، فصففنا، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم ونحن). وبه إلى البخاري: ثنا مسدد عن أبي عوانة عن قتادة عن عطاء عن جابر بن عبد الله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي، قال جابر،: فكنت في الصف الثاني أو الثالث). ورويناه أيضا من طريق قوية عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمله وعمل جميع أصحابه، فلا اجماع أصح من هذا، وآثار متواترة عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كما أوردنا. ومنع من هذا مالك، وأبو حنيفة، ادعى أصحابهما الخصوص للنجاشي وهذه دعوى كاذبة بلا برهان. وبالله تعالى التوفيق. فان قالوا: هل فعل هذا أحد من الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟. قلنا لهم: وهل جاء قط عن أحد من الصحابة انه زجر عن هذا أو أنكره؟. ثم يقال لهم: لا حجة في أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). 581 - مسألة - والصلاة جائزة على القبر، وإن كان قد صلى على المدفون فيه.
(1) في النسخة رقم (16) (وهي من صلى عليه ندب) وهو خطأ 139 وقال أبو حنيفة: إن دفن بلا صلاة صلى على القبر ما بين دفنه إلى ثلاثة أيام، ولا يصلى عليه بعد ذلك وإن دفن بعد ان صلى عليه لم يصل أحد على قبره. وقال مالك: لا يصلى على قبر، وروى ذلك عن إبراهيم النخعي وقال الشافعي، والأوزاعي، وأبو سليمان: يصلى على القبر وإن كان قد صلى على المدفون فيه، وقد روى هذا عن ابن سيرين. وقال أحمد بن حنبل: يصلى عليه إلى شهر، ولا يصلى عليه بعد ذلك. وقال اسحق: يصلى الغائب (1) على القبر إلى شهر، ويصلى عليه الحاضر إلى ثلاث. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو كامل فضيل بن حسين الجحدري ثنا حماد بن زيد عن ثابت البناني عن أبي رافع عن أبي هريرة: (ان امرأة سوداء كانت تقم المسجد أو شابا، ففقدها (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، فقال: أفلا كنتم آذنتموني؟ قال: فكأنهم صغروا أمرها أو أمره، فقال: دلوني على قبره، فدلوه، فصلى عليها، ثم قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله تعالى ينورها لهم بصلاتي عليهم). فادعى قوم ان هذا الكلام منه عليه السلام دليل على أنه خصوص له. قال أبو محمد: وليس كما قالوا، وإنما في هذا الكلام بركة صلاته عليه السلام، وفضيلتها على صلاة غيره فقط، وليس فيه نهى غيره عن الصلاة على القبر أصلا، بل قد قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة *) ومما يدل على بطلان دعوى الخصوص ههنا ما رويناه بالسند المذكور إلى مسلم: ثنا محمد بن عبد الله بن نمير ثنا محمد بن إدريس عن الشيباني - هو أبو إسحاق - عن الشعبي عمن حدثه قال: (انتهينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر رطب، فصلى عليه، وصفوا خلفه، وكبر أربعا) قال الشيباني: قلت لعامر الشعبي: من حدثك؟ قال: الثقة،
(1) في النسخة رقم (14) (يصلى على الغائب) وهو خطأ قطعا، فان المراد ان الغائب يصلى على القبر إلى شهر وان الحاضر يصلى عليه إلى ثلاث فقط. وهذه الجملة سقطت من النسخة رقم (16) (2) في الأصلين (شاب فقدها) وما هنا هو الموافق لمسلم (ج 1 ص 262) 140 من شهده، ابن عباس. فهذا أبطل (1) الخصوص، لان أصحابه عليه السلام وعليهم رضوان الله صلوا معه على القبر، فبطلت دعوى الخصوص. وبه إلى مسلم حدثني إبراهيم بن محمد بن عرعرة السامي (2) ثنا غندر ثنا شعبة عن حبيب ابن الشهيد عن ثابت (3) عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر *) قال أبو محمد: فهذه آثار متواترة لا يسع الخروج عنها. واحتج بعضهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل المسلمون على قبره. قال أبو محمد: ما علمنا أحدا من الصحابة رضي الله عنهم نهى عن الصلاة على قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما نهى الله تعالى عنه، ولا رسوله عليه السلام، فالمنع من ذلك باطل، والصلاة عليه فعل خير، والدعوى باطل إلا ببرهان. وقال بعضهم: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة إلى القبر وعلى القبر مانع من هذا!. قال أبو محمد: وهذا عجب ما مثله عجب، وهو أن المحتج بهذا عكس الحق عكسا، لأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهى عن الصلاة على القبر، أو إليه أو في المقبرة، وعن الجلوس على القبر، فقال هذا القائل: كل هذا مباح! وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر صلاته على الميت، فقال هذا القائل: لا يجوز ذلك! واحتج بالنهي عن الصلاة مطلقا في منعه من صلاة الجنازة على القبر واحتج بخبر الصلاة (4) على القبر في إباحته الحرام من الصلوات في المقبرة، والى القبر، وعليه وحسبنا الله ونعم الوكيل. وقال بعضهم: كان ابن عمر لا يصلى على القبر. قلنا: نعم، كان لا يصلى سائر الصلوات على القبر، ويصلى صلاة الجنازة على القبر أبدا. قال أبو محمد: وهذا لو صح لكان قد صح ما يعارضه، وهو أنه رضي الله عنه صلى صلاة الجنازة على القبر، ثم لو لم يأت هذا عنه لكان قد عارضه ما صح عن الصحابة في ذلك، فكيف ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ولا يصح عن ابن عمر إلا ما ذكرناه.
(1) في النسخة رقم (14) (ابطال) (2) في النسخة رقم (16) (إبراهيم بن محمد عن عزة الشامي) وهو خطأ، وعرعرة بعينين مهملتين مفتوحتين بينهما راء ساكنة وآخره راء مفتوحة ثم هاء، والسامي بالسين المهملة نسبة إلى جده الاعلى (سامة بن لؤي) (3) قوله (عن ثابت) سقط من الأصلين خطأ، وصححناه من مسلم. (4) في النسخة رقم (16) (واحتج بالنهي عن الصلاة) الخ وهو خطأ واضح 141 وروينا عن معمر عن أيوب السختياني عن ابن أبي مليكة: مات عبد الرحمن بن أبي بكر على ستة أميال من مكة، فحملناه فجئنا به مكة فدفناه، فقدمت علينا عائشة أم المؤمنين فقالت: أين قبر أخي؟ فدللناها عليه، فوضعت في هودجها عند قبره فصلت عليه. وعن حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر: انه قدم وقد مات اخوه عاصم، فقال: أين قبر أخي؟ فدل عليه، فصلى عليه ودعا له. قال أبو محمد. هذا يبين أنها صلاة الجنازة، لا الدعاء فقط. وعن علي بن أبي طالب: أنه أمر قرظة (1) بن كعب الأنصاري أن يصلى على قبر سهل بن حنيف بقوم جاء وابعد ما دفن وصلى عليه. وعن علي بن أبي طالب أيضا: أنه صلى على جنازة بعد ما صلى عليها. وعن يحيى بن سعيد القطان ثنا أبان بن يزيد العطار عن يحيى بن أبي كثير: أن أنس بن مالك صلى على جنازة بعد ما صلى عليها. وعن ابن مسعود نحو ذلك. وعن سعيد بن المسيب إباحة ذلك. وعن عبد الرحمن بن خالد بن الوليد: أنه صلى على جنازة بعد ما صلى عليها. وعن قتادة: أنه كان إذا فاتته الصلاة على الجنازة صلى عليها. فهذه طوائف من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف. وأما أمر تحديد الصلاة بشهر أو ثلاثة أيام فخطأ لا يشكل، لأنه تحديد بلا دليل، ولا فرق بين من حد بهذا أو من حد بغير ذلك. 582 - مسألة - ومن تزوج كافرة فحملت منه وهو مسلم وماتت حاملا -: فإن كانت قبل أربعة أشهر ولم ينفخ فيه الروح بعد دفنت مع أهل دينها، وإن كان بعد أربعة أشهر والروح قد نفخ فيه دفنت في طرف مقبرة المسلمين، لان عمل أهل الاسلام من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لا يدفن مسلم مع مشرك. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الله بن المبارك ثنا وكيع عن الأسود بن شيبان - وكان ثقة - عن خالد بن سمير عن بشير بن نهيك عن بشير رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو ابن الخصاصية (2) قال: كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمر على
(1) بالقاف والراء والظاء المعجمة المفتوحات. (2) انظر الكلام عليه في المسألة 579 142 قبور المسلمين، فقال: لقد سبق هؤلاء شرا كثيرا، (1) ثم مر على قبور المشركين فقال: لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا). فصح بهذا تفريق قبور المسلمين عن قبور المشركين. والحمل ما لم ينفخ فيه الروح فإنما هو بعض جسم أمه، ومن حشوة (2) بطنها، وهي مدفونة مع المشركين، فإذا نفخ فيه الروح فهو خلق، آخر، كما قال تعالى: (فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر) فهو حينئذ (3) إنسان حي غير أمه، بل قد يكون ذكرا وهي أنثى، وهو ابن مسلم فله حكم الاسلام، فلا يجوز أن يدفن في مقابر المشركين، وهي كافرة، فلا تدفن في مقابر المسلمين، فوجب أن تدفن بناحية لأجل ذلك. روينا عن سليمان بن موسى: أن واثلة بن الأسقع صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم دفن امرأة نصرانية ماتت حبلى من مسلم -: في مقبرة ليست بمقبرة النصارى، ولا بمقبرة المسلمين بين ذلك وروينا عن عمر بن الخطاب: انها تدفن مع المسلمين من أجل ولدها 583 - مسألة - والصغير يسبى مع أبويه أو أحدهما أو دونهما فيموت -: فإنه يدفن مع المسلمين ويصلى عليه، قال تعالى: (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم) فصح أن كل مولود فهو مسلم، إلا من أقره الله تعالى على الكفر، وليس إلا من ولديين ذميين كافرين، أو حربيين كافرين، ولم يسب حتى بلغ، وما عدا هذين فمسلم. 584 - مسألة - وأحق الناس بالصلاة على الميت والميتة الأولياء، وهم الأب وآباؤه، والابن وأبناؤه، ثم الاخوة الأشقاء، ثم الذين للأب، ثم بنوهم، ثم الأعمام للأب والام، ثم للأب (4)، ثم بنوهم، ثم كل ذي رحم محرمة، إلا أن يوصى الميت أن يصلى عليه إنسان، فهو أولى، ثم الزوج، ثم الأمير أو القاضي، فان صلى غير من ذكرنا أجزأ. برهان ذلك قول الله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) وهذا
(1) هكذا رواية النسائي ورواية أبى داود وابن ماجة (أدرك هؤلاء خيرا كثيرا). (2) بكسر الحاء المهملة وبضمها مع اسكان الشين المعجمة وفتح الواو، وهي ما انضمت عليه الضلوع، أوهى الأمعاء، والمراد ظاهر، وفى النسخة رقم (14) بالسين المهملة وهو خطأ. (3) في النسخة رقم (16) (يؤمئذ) (4) قوله (ثم للأب) سقط من النسخة رقم (14) 143 عموم لا يجوز تخصيصه، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن الرجل في أهله) يدخل فيه ذو الرحم والزوج، فإذا اجتمعا فهما سواء في الحديث، فلا يجوز تقديم أحدهما على الآخر (1) وذو الرحم أولى بالآية، ثم الزوج أولى من غيره بالحديث. رويناه عن قتادة عن سعيد بن المسيب: أنه قال في الصلاة على المرأة: أب أو ابن أو أخ أحق بالصلاة عليها من الزوج. ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن ليث عن زيد بن أبي سليمان: أن عمر ابن الخطاب قال: في الصلاة على المرأة إذا ماتت -: الولي دون الزوج. وعن شعبة عن الحكم بن عتيبة في الصلاة على المرأة إذا ماتت الأخ أحق من الزوج. ومن طريق وكيع عن الربيع عن الحسن: كانوا يقدمون الأئمة على جنائزهم، فان تدارؤا (2) فالولي ثم الزوج. فان قيل: قد قدم الحسين بن علي سعيد بن العاصي على ولى له وقال: لولا أنها سنة ما قدمتك. وقال أبو بكرة (3) لاخوة زوجته: أنا أحق منكم. قلنا: لم ندع لكم إجماعا فتعارضونا بهذا، ولكن إذا تنازع الأئمة وجب الرد إلى القرآن والسنة، وفى القرآن والسنة ما أوردنا، ولم يبح الله تعالى الرد في التنازع إلى غير كلامه وحكم نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، والأوزاعي في أحد قوليه: الأولياء أحق بالصلاة عليها من الزوج، إلا أن أبا حنيفة قال: إن كان ولدها ابن زوجها الحاضر فالزوج أبو الولد أحق. وهذا لا معنى له، لأنه دعوى بلا برهان. 585 - مسألة - وأحق الناس بانزال المرأة في قبرها من لم يطأ تلك الليلة، وإن كان أجنبيا، حضر زوجها أو أولياؤها أو لم يحضروا، وأحقهم بانزال الرجل أولياؤه. أما الرجل فلقول الله تعالى: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) وهذا عموم، لا يجوز تخصيصه الا بنص. وأما المرأة فان عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد حدثنا قال ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري
(1) في النسخة رقم (16) (على الآخر به) وزيادة كلمة (به) خطأ قطعا (2) أي تدافعوا في الخصومة وغيرها (3) في النسخة رقم (16) (أبو بكر) وهو خطأ، فإنه ليس في أزواج أبي بكر من ماتت في خلافته 144 ثنا البخاري ثنا عبد الله بن محمد - هو المسندى - ثنا أبو عامر - هو العقدي - ثنا فليح بن سليمان عن هلال بن علي عن أنس بن مالك قال: (شهدنا بنتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟ فقال أبو طلحة: انا، قال: فأنزل، فنزل في قبرها (1)). حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي ثنا ابن مفرج ثنا محمد بن أيوب الصموت ثنا أحمد بن عمرو البزار ثنا محمد بن معمر ثنا روح بن أسلم انا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لما ماتت رقية ابنته رضي الله عنها: لا يدخل القبر رجل قارف الليلة، فلم يدخل عثمان). قال أبو محمد: المقارفة الوطئ، لا مقارفة الذنب. (2) ومعاذ الله أن يتزكى أبو طلحة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لم يقارف ذنبا، فصح أن من لم يطأ تلك الليلة أولى من الأب والزوج وغيرهما. 586 - بقية من المسألة - التي قبل هذه. قال أبو محمد: واستدركنا الوصية بأن يصلى على الموصى غير الولي وغير الزوج، وهو أن الله تعالى - وقد ذكر وصية المحتضر - قال: (فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه). وروينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن محارب بن دثار: أن أم سلمة أم المؤمنين رضى الله تعالى عنها أوصت أن يصلى عليها سعيد بن زيد، وهو غير أمير ولا ولى (3) من ذوي محارمها ولا من قومها، وذلك بحضرة الصحابة رضى الله تعالى عنهم. وبه إلى سفيان عن أبي إسحاق السبيعي: أن أبا ميسرة أوصى ان يصلى عليه شريح وليس من قومه. ومن طريق وكيع عن مسعر بن كدام عن أبي حصين: أن عبيدة السلماني أوصى أن يصلى عليه الأسود بن يزيد النخعي. 587 - مسألة - وتقبيل الميت جائز. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري
(1) هو في البخاري (ج 2 ص 172) (2) هذا هو الصواب، وأخطأ جدا من فسرها بمقارفة الذنب في هذا الحديث (3) في النسخة رقم (16) (وهو غير الأمير ولا وليا) وهذا خطأ 145 أنا بشر بن محمد (1) أنا عبد الله بن المبارك أخبرني معمر ويونس عن الزهري أخبرني أبو سلمة - هو ابن عبد الرحمن بن عوف - ان عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: (أن أبا بكر دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مسجى ببرد حبرة - تعنى إذ مات عليه السلام - قالت: فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه فقبله، ثم بكى وقال: بأبى أنت وأمي يا رسول الله) وذكر الحديث (2). 588 - مسألة - ويسجى الميت بثوب ويجعل على بطنه ما يمنع انتفاخه. أما التسجية فلما ذكرناه في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل ما فعل فيه صلى الله عليه وسلم فهو حق، لقوله تعالى: (والله يعصمك من الناس) وهذا عموم، لا يجوز تخصيصه إلا بنص. وأما قولنا: يوضع (3) على بطنه فلقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى). وكل ما فيه رفق بالمسلم ودفع للمثلة عنه فهو بر وتقوى. 589 - مسألة - والصبر واجب، والبكاء مباح، ما لم يكن نوح، فان النوح حرام والصياح، وخمش الوجوه وضربها، وضرب الصدور، ونتف الشعر وحلقه للميت -: كل ذلك حرام، وكذلك الكلام المكروه الذي هو تسخط لاقدار الله تعالى، وشق الثياب. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا آدم ثنا شعبة ثنا ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكى عند قبر، فقال: اتقى الله واصبري). وبه إلى البخاري: نا محمد بن بشار نا غندر عن شعبة عن ثابت البناني قال سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنما الصبر عند الصدمة الأولى). وبه إلى البخاري: نا الحسن بن عبد العزيز نا يحيى بن حسان حدثني قريش - هو ابن حيان (4) - عن ثابت البناني عن أنس قال: (دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على إبراهيم - هو ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان، فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله؟ فقال: يا ابن عوف، إنها رحمة، العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول الا ما يرضى ربنا، وانا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون)
(1) في النسخة رقم (14) (بشير بن محمد) بزيادة الياء وهو خطأ (2) هو في البخاري (ج 2 ص 157 و 158 (3) في النسخة رقم (14) (وأما ما يوضع) (4) بفتح الحاء وتشديد الياء المثناة التحتية 146 فهذا إباحة الحزن الذي لا يقدر أحد على دفعه، و (لا يكلف الله نفسا أولا وسعها وفيه إباحة البكاء، وتحريم الكلام بما لا يرضى الله تعالى. وبه إلى البخاري: نا محمد بن بشار نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية). حدثنا عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب بن عيسى نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم بن الحجاج ثنا إسحاق بن منصور أنا حبان بن هلال (1) نا أبان - هو ابن يزيد العطار - نا يحيى - هو ابن أبي كثير - أن زيدا حدثه ان أبا سلام حدثه ان أبا مالك الأشعري حدثه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أربع في أمتي من امر الجاهلية لا يتركونهن: (2) الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة، النائحة إذا ماتت ولم تتب قبل موتها (3) تقام يوم القيامة وعليها سر بال من قطران ودرع من جرب). وبه إلى مسلم: نا عبد الله بن حميد، وإسحاق بن منصور قالا أرنا جعفر بن عون أنا أبو عميس (4) قال: سمعت أبا صخرة يذكر عن عبد الرحمن بن يزيد وأبى بردة بن أبي موسى الأشعري قالا جميعا (5): أغمي على أبى موسى فأقبلت امرأته أم عبد الله تصيح برنة، فأفاق قال: ألم تعلمي - وكان يحدثها (2) - ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أنا برئ ممن حلق وسلق (7) وخرق)؟.
(1) بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة، كنيته أبو حبيب وهو بصرى. ويشتبه اسمه باسم (حيان - بالمثناة التحتية - ابن هلال أبى عبد الله) وهو بصرى أيضا روى عن سيف ابن سليمان، ولكن ليس له شئ في الكتب الستة. (2) في النسخة رقم (16) (لا يتركوهن) بحذف النون وهو خطأ، والتصحيح من مسلم (ج 1 ص 256) (3) الذي في نسخ مسلم (النائحة إذا لم تتب قبل موتها) فليس فيه قوله (ماتت) ولعل ما هنا رواية للمؤلف. (4) بضم العين المهملة مصغر وآخره سين وفى النسخة رقم (16) (بن عميس) وهو خطأ. (5) لفظ (جميعا) ليس في صحيح مسلم (ج 1 ص 40) (6) في النسخة رقم (16) (يحدثنا) وهو خطأ صححناه من مسلم (7) في النسخة رقم (16) (وصلق) بالصاد، وما هنا هو الموافق لمسلم، وكلاهما صحيح في المعنى، السلق رفع الصوت عند المصيبة 147 ومن طريق البخاري: نا أصبغ نا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد ابن الحارث الأنصاري عن عبد الله بن عمر قال: (اشتكى سعد بن عبادة فعاده النبي صلى الله عليه وسلم مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غاشيته (1)، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رأى القوم بكاء النبي صلى الله عليه وسلم بكوا، فقال: ألا تسمعون؟! إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم وان الميت يعذب ببكاء أهله عليه). قال أبو محمد: هذا الخبر بتمامه يبين معنى ما وهل (2) فيه كثير من الناس من قوله عليه السلام: (ان الميت يعذب ببكاء أهله عليه) ولاح بهذا ان هذا البكاء الذي يعذب به الميت ليس هو الذي لا يعذب به من دمع العين، وحزن القلب، فصح انه البكاء باللسان إذ يعذبونه برياسته التي جار فيها فعذب عليها، وشجاعته التي يعذب عليها إذ صرفها في غير طاعة الله تعالى، وبجوده الذي أخذ ما جاد به من غير حله، ووضعه في غير حقه فأهله يبكونه بهذه المفاخر، وهو يعذب بها بعينها، وهو ظاهر الحديث لمن لم يتكلف في ظاهر الخبر ما ليس فيه. وبالله تعالى التوفيق. وقد روينا عن ابن عباس: أنه أنكر على من أنكر البكاء على الميت، وقال؟ الله أضحك وأبكى. 590 - مسألة - وإذا مات المحرم ما بين أن يحرم إلى أن تطلع الشمس من يوم النحر إن كان حاجا، أو أن يتم (3) طوافه وسعيه، إن كان معتمرا -: فان الفرض ان يغسل بماء وسدر فقط، إن وجد السدر، ولا يمس بكافور ولا بطيب، ولا يغطى وجهه ولا رأسه ولا يكفن الا في ثياب احرامه فقط، أو في ثوبين غير ثياب إحرامه، وإن كانت امرأة فكذلك، إلا أن رأسها تغطي ويكشف وجهها، ولو أسدل عليه من فوق رأسها فلا بأس من غير أن تقنع. فمن مات من محرم أو محرمة بعد طلوع الشمس من يوم النحر فكسائر الموتى، رمى الجمار أو لم يرمها. * (هامش) (1) في أكثر روايات البخاري (في غاشية أهله) وهو الموافق للنسخة رقم (14) وانظر الحديث في البخاري (ج 2 ص 179 - 180) (2) أي غلط فيه (3) النسخة رقم (14) (أو ان يتم به) وزيادة هذا الحرف لا معنى لها، بل هي خطأ * (*)
148 وقال أبو حنيفة، ومالك: هما كسائر الموتى في كل ذلك. برهان قولنا: ما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن بشار نا محمد بن جعفر نا شعبة سمعت أبا بشر - هو جعفر بن أبي وحشية - عن سعيد بن جبير عن أبن عباس: (أن رجلا وقع عن راحلته فأقصعته (1)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، ويكفن في ثوبين، وخارج رأسه ووجهه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبدا). ومن طريق أحمد بن شعيب انا عبدة بن عبد الله البصري أنا أبو داود - هو الحفرى (2) عن سفيان - هو الثوري - عن عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: (مات رجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: غسلوه (3) بماء وسدر، وكفنوه في ثيابه، ولا تخمروا وجهه ولا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة يلبى). ومن طريق البخاري نا قتيبة نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، إذ وقع من راحلته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين، ولا تحنطوه، ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا). ومن طريق البخاري نا أبو النعمان - هو محمد بن الفضل عارم (4) - نا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. (ان رجلا وقصه بعيره ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبين، ولا تمسوه طيبا، ولا تخمروا رأسه، فان الله يبعثه يوم القيامة ملبدا). ومن طريق أبى داود السجستاني نا عثمان بن أبي شيبة نا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن منصور - هو ابن المعتمر - عن الحكم - هو ابن عيينة - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (وقصت (5) برجل محرم ناقته فقتلته، فأتى فيه (6) رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اغسلوه وكفنوه، ولا تغطوا رأسه ولا تقربوه طيبا، فإنه يبعث يهل)
(1) بتقديم الصاد على العين أي دفعته فقتلته (2) بفتح الحاء المهملة والفاء، نسبة إلى الحفر وهو موضع بالكوفة. وأبو داود هذا اسمه عمر بن سعد وهو من طبقة أبى داود الطيالسي (3) في النسخة رقم (14) (اغسلوه) (4) بالعين وهو لقب محمد بن الفضل (5) بالبناء للفاعل. والوقص كسر العنق أو الكسر مطلقا، ويقال (وقصته ووقصت به وأوقصته) وكلها روايات في هذا الحديث ومعناها واحد (6) في أبي داود (ج 3 ص 213) (فأتى به) وفى النسخة رقم (14) (فأفتى فيه) 149 فهذا لا يسع أحدا خلافه، لأنه كالشمس صحة، رواه شعبة، وسفيان، وأبو عوانة، ومنصور وحماد بن زيد، ورواه قبلهم أبو بشر، وعمرو بن دينار، والحكم، وأيوب، أئمة المسلمين كلهم، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه شهد القصة في حجة الوداع، آخر حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحت ألفاظ هذا الخبر كلها، فلا يحل ترك شئ منها، وأمر عليه السلام بذلك في محرم سئل عنه، والمحرم يعم الرجل والمرأة، والبعث والتلبية يجمعهما، وبهما جاء الأثر، والسبب المنصوص عليه في الحكم (1). فان قيل: إنكم تجيزون للمحرم الحي أن يغطى وجهه، وتمنعون ذلك الميت. قلنا: نعم، للنصوص الواردة في ذلك، ولا يحل الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يأمر المحرم الحي بكشف وجهه وامر بذلك في الميت، فوقفنا عند امره عليه السلام، (وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحى يوحى). وما ندري من أين وقع لهم ان لا يفرق الله تعالى بين حكم المحزم الحي والمحرم الميت؟ أم في أي سنة وجدوا ذلك أم في أي دليل عقل؟ ثم هم أول قائلين بهذا نفسه، فيفرقون بين حكم المحرم الحي والمحرم الميت بآرائهم الفاسدة، وينكرون ذلك على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم هذا: خصوص لذلك المحرم. فقلنا: هذا الكذب منكم، لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما أفتى بذلك في المحرم يموت إذ سئل عنه كما أفتى في المستحاضة، وكما أفتى أم سلمة في أن لا تحل ضفر رأسها في غسل الجنابة
(1) هنا بحاشية النسخة رقم (14) ما نصه: (قوله والمحرم يعم الرجل والمرأة إنما يصح لو كان في الأحاديث محرم مطلق، وليس فيها ذلك، إنما فيها رجل محرم، والرجل لا يتناول المرأة، فان ادعى ان حكم النساء حكم الرجال في كل شئ فعليه الدليل، فان إقامة صحت دعواه والا فلا، والله أعلم) ويظهر ان هذا الاعتراض من نفس كاتب النسخة وهو (احمد ابن محمد بن منصور الأشمومي الحنفي) الذي كتبها في شوال سنة 779 وهو اعتراض غلظ، والأشمومي بضم الهمزة واسكان الشين المعجمة وميمين نسبة إلى (أشموم) بالميم احدى قريتين بالديار المصرية إحداهما (أشموم طناح) - بفتح الطاء المهملة وتشديد النون - وهي قرب دمياط، والأخرى (أشموم الجريسات) - بضم الجيم وفتح الراء واسكان الياء وبالسين المهملة والتاء المثناة - وهي بالمنوفية، هكذا قال ياقوت في معجم البلدان ولم أجد لهذا الأشمومي ترجمة. 150 وسائر ما استفتى فيه عليه السلام فأفتى فيه فكان عموما. ومن عجائب الدنيا انهم اتوا إلى قوله عليه السلام: (فإنه يبعث ملبدا) و (يلبى) و (يهل) فلم يستعملوه، وأوقفوه على إنسان بعينه وأتوا إلى ما خصه عليه السلام من البر، والشعير والتمر، والملح، والذهب، والفضة -: فتعدوا بحكمها إلى ما لم يحكم عليه السلام قط بهذا الحكم فيه فإنما أولعوا بمخالفة الأوامر المنصوص عليها. وقال بعضهم: قد صح عن عائشة أم المؤمنين وابن عمر تحنيط المحرم إذا مات، وتطيبه وتخمير رأسه. قلنا: وقد صح عن عثمان وغيره خلاف ذلك. كما روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن الزهري قال: خرج عبد الله بن الوليد معتمرا مع عثمان بن عفان، فمات بالسقيا (1) وهو محرم، فلم يغيب عثمان رأسه، ولم يمسسه طيبا، فأخذ الناس بذلك. ومن طريق عبد الرزاق نا أبي (2) قال: توفى عبيد بن يزيد بالمزدلفة وهو محرم، فلم يغيب المغيرة بن حكيم رأسه في النعش. ومن طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن أبي إسحاق السبيعي عن الحارث عن علي بن أبي طالب قال في المحرم: يغسل رأسه بالماء والسدر، ولا يغطى رأسه، ولا يمس طيبا. وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي سليمان وغيرهم. والعجب أن الزهري يقول: فأخذ الناس بذلك وهم يدعون الاجماع في أقل من هذا كدعواهم في الحد في الخمر ثمانين، وغير ذلك. فان قيل: قد خالف ابن عمر عثمان بعد ذلك، فبطل أن يكون اجماعا. قلنا: وقد خالف عثمان وعلى والحسن وعبد الله بن جعفر في حد الخمر بعد عمر، فبطل أن يكون اجماعا. وإذا تنازع السلف فالفرض علينا رد ما تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة، لا إلى قول أحد دونهما.
(1) بالقصر وضم السين المهملة واسكان القاف. موضع قريب من مكة (2) والد عبد الرزاق هو همام بن نافع الصنعاني وهو ثقة. 151 ومن طرائف الدنيا احتجاجهم في هذا بما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمروا وجوههم، ولا تشبهوا باليهود). وهذا باطل لوجوه:. أولها أنه مرسل، ولا حجة في مرسل. والثاني أنه ليس فيه نص ولا دليل - لو صح - على أنه في المحرم (1) أصلا، بل كأن يكون في سائر الموتى. وثالثها أنه لا يجوز أن يقوله عليه السلام أصلا، لأنه عليه السلام لا يقول الا الحق واليهود لا تكشف وجوه موتاها، فصح أنه باطل، سمعه عطاء ممن لا خير فيه، أو ممن وهم. والرابع انه لو صح مسندا في المحرمين لما كانت فيه حجة، لان خبر ابن عباس هو الآخر بلا شك، وممن المحال أن يقول عليه السلام في أمر أمر به انه تشبه باليهود، وجائز ان ينهى عن التشبه باليهود قبل أن ينزل عليه الوحي، ثم يأمر بمثل ذلك الفعل، لا تشبها بهم، كما قال عليه السلام في قول اليهودية في عذاب القبر، ثم أتاه الوحي بصحة عذاب القبر. واحتج بعضهم في هذا بالخبر الثابت: (إذا مات الميت انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم علمه، وولد صالح يدعو له). وهذا لا حجة لهم فيه أصلا، لأنه إنما فيه انه انقطع عمله وهكذا نقول، وليس فيه انه ينقطع عمل غيره فيه، بل غيره مأمور فيه بأعمال مفترضة، من غسل، وصلاة، ودفن وغير ذلك وهذا العمل ليس هو عمل المحرم الميت، إنما هو عمل الاحياء. فظهر تخليطهم وتمويههم. واحتج بعضهم بقول الله تعالى: (وأن ليس للانسان الا ما سعى). وهذه إحالة منهم للكلم عن مواضعه، ولم نقل قط: إن هذا من سعى الميت، لكنه من سعى الاحياء المأمور به في الميت كما أمرنا بأن لا نغسل الشهيد ولا نكفنه، أن ندفنه في ثيابه، وليس هو عمل الشهيد ولا سعيه، لكنه عملنا فيه وسعينا لأنفسنا الذي أمرنا به فيه ولا فرق. والقوم متحكمون بالآراء الفاسدة والا مزيد إلا إن كانوا يحومون حول ان يعترضوا
(1) في النسخة رقم (16) (انه ليس في المحرم) وهو خطأ 152 بهذا كله على قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإنه يبعث ملبدا) (يلبى) و (يهل) فهذا ردة، ولا فرق بين قوله عليه السلام: (ان المحرم يبعث يوم القيامة يلبى) و (يهل) و (ملبدا) وبين قوله عليه السلام. (إن من يكلم في سبيل الله يأتي يوم القيامة وجرحه يثعب (1) دما اللون لون الدم والريح ريح المسك) وكل هذه فضائل لا تنسخ ولا ترد، والقوم أصحاب قياس بزعمهم، فهلا قالوا. المقتول في سبيل الله والميت محرما كلاهما مات في سبيل الله تعالى، وحكم أحدهما خلاف حكم الموتى، فكذلك الآخر؟! ولكنهم لا النصوص (2) يتبعون، ولا القياس يحسنون، ولا شك في أن الشبه بين الجهاد والحج أقرب من الشبه بين السرقة والنكاح 591 - مسألة - ونستحب القيام للجنازة إذا رآها المرء، وإن كانت جنازة كافر، حتى توضع أو تخلفه، فإن لم يقم فلا حرج لما روينا من طريق البخاري نا قتيبة نا الليث - هو ابن سعد - عن نافع عن ابن عمر عن عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال. (إذ رأى أحدكم الجنازة فإن لم يكن ماشيا معها فليقم حتى يخلفها أو تخلفه أو توضع من قبل ان تخلفه). ورويناه أيضا من طريق أيوب، وابن جريج، وعبيد الله بن عمر، وعبد الله بن عون، كلهم عن نافع عن ابن عمر مسندا، ومن طريق الزهري عن سالم عن أبيه مسندا. ومن طريق البخاري نا مسلم - هو ابن إبراهيم - نا هشام - هو الدستوائي - نا يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عبن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال. (إذا رأيتم الجنازة فقوموا، فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع). ومن طريق البخاري نا معاذ بن فضالة نا هشام - هو الدستوائي - عن يحيى - هو ابن أبي كثير - عن عبيد الله بن مقسم عن جابر قال (مر بنا جنازة، فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي؟ قال: فإذا (3) رأيتم الجنازة فقوموا). وبه يأخذ أبو سعيد - ويراه واجبا - وابن عمر، وسهل بن حنيف، وقيس بن سعد،
(1) بالثاء المثلثة والعين المهملة المفتوحتين ثعب الماء والدم ونحوهما يثعبه ثعبا فجره فانثعب كما ينثعب الدم من الانف قاله في اللسان (2) في النسخة رقم (14) (النص) بالافراد. (3) في البخاري (ج 2 ص 182) (إذا). 153 وأبو موسى الأشعري، وأبو مسعود البدري، والحسن بن علي، والمسور بن مخرمة، وقتادة وابن سيرين، والنخعي، والشعبي، وسالم بن عبد الله. ومن طريق مسلم نا محمد بن رمح بن المهاجر نا الليث - هو ابن سعد - عن يحيى بن سعيد - هو الأنصاري - عن واقد بن عمر وبن سعيد بن معاذ أن نافع بن جبير بن مطعم أخبره أن مسعود بن الحكم حدثه عن علي بن أبي طالب أنه قال: (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قعد) يعنى للجنازة. فكان قعوده صلى الله عليه وسلم بعد أمره بالقيام مبينا أنه أمر ندب، وليس يجوز أن يكون هذا نسخا لأنه لا يجوز ترك سنة متيقنة إلا بيقين نسخ، والنسخ لا يكون إلا بالنهي أو بترك معه نهى. فان قيل: فقد رويتم من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن واقد بن عمرو ابن سعد بن معاذ قال: قمت إلى جنب نافع بن جبير في جنازة، فقال لي: حدثني مسعود ابن الحكم عن علي بن أبي طالب قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام، ثم أمرنا بالجلوس) فهلا قطعتم بالنسخ بهذا الخبر. قلنا: كنا نفعل ذلك لولا ما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا يوسف بن سعيد نا حجاج بن محمد - هو الأعور عن ابن جريج عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، وأبي سعيد الخدري قالا جميعا: ما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة قط فجلس حتى توضع) فهذا عمله عليه السلام المداوم، وأبو هريرة، وأبو سعيد ما فارقاه عليه السلام حتى مات، فصح أن أمره بالجلوس إباحة وتخفيف، وأمره بالقيام وقيامه ندب. وممن كان يجلس ابن عباس، وأبو هريرة، وسعيد بن المسيب. - 592 - مسألة ويجب الاسراع بالجنازة، ونستحب أن لا يزول عنها من صلى عليها حتى تدفن، فان انصرف قبل الدفن فلا حرج، ولا معنى لانتظار إذن ولى الجنازة. أما وجوب الاسراع فلما رويناه من طريق مسلم نا أبو الطاهر نا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب حدثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن أبي هريرة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة قربتموها (1) إلى الخير،
(1) كذا في الأصلين ومسلم (ج 1 ص 259) وبحاشية النسخة رقم (14) أن في نسخة من المحلى (قدمتموها) 154 وإن كانت غير ذلك كان شرا تضعونه عن رقابكم). وهو عمل الصحابة، كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا علي بن حجر عن إسماعيل ابن علية وهشيم كلاهما عن عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بكرة قال: (لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنا لنكاد نرمل بالجنازة رملا). ومن طريق مسلم نا محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا شعبة حدثني قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة اليعمري عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى على جنازة فله قيراط، فان شهد دفنها فله قيراطان، القيراط مثل أحد). ورويناه أيضا من طريق ابن مغفل وأبي هريرة مسندا صحيحا. قال أبو محمد: الاسراع بها أمر، وهذا الآخر ندب، وفى إباحته عليه السلام لمن صلى على الجنازة أن لا يشهد دفنها وجعل له مع ذلك قيراط أجر مثل جبل أحد -: بيان جلى بأنه لا معنى لاذن صاحب الجنازة. روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق السبيعي أن ابن مسعود قال: إذا صليت على الجنازة فقد قضيت الذي عليك، فخلها وأهلها، وكان ينصرف ولا يستأذنهم. وبه إلى معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن زيد بن ثابت: أنه كان ينصرف ولا ينتظر إذنهم، يعنى في الجنازة وبه يأخذ معمر، قال معمر: وهو قول الحسن، وقتادة، وصح عن القاسم، وسالم، وروى عن عمر بن عبد العزيز. 593 - مسألة - ويقف الامام - إذا صلى على الجنازة - من الرجل قبالة رأسه. ومن المرأة قبالة وسطها. قال مالك، وأبو حنيفة يقف من الرجل قبالة وسطه، ومن المرأة عند منكبها، وروى عن أبي حنيفة أيضا: يقف قبالة الصدر من كليهما. برهان صحة قولنا ما رويناه من طريق أبى داود: نا داود بن معاذ نا عبد الوارث عن أبي غالب نافع (1) قال: (شهدت جنازة عبد الله بن عمير، فصلى عليها أنس بن مالك وانا خلفه، فقام عند رأسه فكبر أربع تكبيرات، ثم قالوا: يا أبا حمزة، المرأة الأنصارية
(1) هو أبو غالب الباهلي الخياط البصري، ثقة، اسمه نافع، قيل رافع. 155 فقربوها وعليها نعش أخضر، فقام عليها عند عجيزتها، فصلى عليها نحو صلاته على الرجل (1) فقال له العلاء بن زياد: يا أبا حمزة، هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعا، ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم). ورويناه من طريق الحجاج بن المنهال نا همام بن يحيى عن نافع أبى غالب، فذكر حديث أنس هذا، وفى آخره: فأقبل العلاء بن زياد على الناس فقال: احفظوا. قال أبو محمد: هذا مكان خالف فيه الحنيفيون والمالكيون أصولهم، لأنهم يشنعون بخلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف وهذا صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف وقد خالفوه وقولنا هذا هو قول الشافعي، وأحمد، أبى سليمان، واليه رجع أبو يوسف. ولا نعلم لمن قال: يقف في كليهما عند الوسط -: حجة، الا أنهم قالوا: قسنا ذلك على وقوف الامام مقابل وسط الصف خلفه وهذا أسخف قياس في العالم، لان الميت ليس مأموما للامام فيقف وسطه. وحجة من قال: يقف عند الصدر أنهم قالوا: كان ذلك قبل اتخاذ النعوش، فيستر المرأة من الناس وهذا باطل، ودعوى كاذبة بلا برهان وهذا عظيم جدا نعوذ بالله منه. ثم مع كذبه بارد باطل لأنه وان ستر عجيزتها عن الناس لم يسترها عن نفسه هو والناس سواء في ذلك. 594 - مسألة - ولا يحل سب الأموات على القصد بالأذى، واما تحذير من كفر أو بدعة أو من عمل فاسد فمباح، ولعن الكفار مباح. لما روينا من طريق البخاري: نا آدم نا شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن عائشة أم المؤمنين قالت قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الأموات (2) فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا). وقد سب الله تعالى أبا لهب، وفرعون تحذيرا من كفرهما، وقال تعالى: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل) وقال تعالى: (ألا لعنة الله على الظالمين) وأخبر عليه السلام
(1) قوله (فصلى عليها نحو صلاته على الرجل) وضع عليه علامة تدل أنه في بعض النسخ فقط وهو ثابت في أبى داود (ج 3 ص 184 و 186) و الحديث هناك مطول واختصره المؤلف وقد حسنه الترمذي وسكت عنه أبو داود والمنذري وابن القيم (2) في النسخة رقم (14) (الموتى) وما هنا هو الموافق للبخاري (ج 2 ص 214) 156 ان الشملة التي غلها مدعم (1) تشتعل عليه نارا، وذلك بعد موته. 595 - مسألة - ويجب تلقين الميت الذي يموت في ذهنه - (2) ولسانه منطلق - أو غير منطلق - شهادة الاسلام، وهي (لا إله الا الله محمد رسول الله). لما روينا من طريق مسلم نا عمرو الناقد نا أبو خالد الأحمر عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقنوا موتاكم لا إله الا الله) وصح هذا أيضا عن أم المؤمنين، وروى عن عمر بن الخطاب. وعن إبراهيم عن علقمة قال: لقنوني لا إله الا الله وأسرعوا بي إلى حفرتي. وأما من ليس في ذهنه فلا يمكن تلقينه، لأنه لا يتلقن. واما من منع الكلام فيقولها في نفسه، نسأل الله خير ذلك المقام. 596 - مسألة - ويستحب تغميض عيني الميت إذا قضى. لما روينا من طريق مسلم: حدثني زهير بن حرب نا معاوية بن عمرو نا أبو إسحق الفزاري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن قبيصة بن ذؤيب عن أم سلمة أم المؤمنين قالت: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبى سلمة وقد شق بصره (3) فأغمضه) وروينا عن عمر بن الخطاب: انه امر بتغميض أعين الموتى. 597 - مسألة - ويستحب أن يقول المصاب. (انا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي (4) وأخلف لي خيرا منها *) لما روينا من طريق مسلم: نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة عن سعد بن سعيد أخبرني عمر بن كثير بن أفلح سمعت ابن سفينة (5) يحدث انه سمع أم سلمة تقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إن لله وانا إليه راجعون،
(1) بكسر الميم واسكان الدال وفتح العين المهملتين وآخره ميم. وهو عبد أسود أهداه رفاعة بن زيد الجذامي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقتل في الرجوع من خيبر، وقصته في البخاري (ج 8 ص 257 و 258) ومسلم (ج 1 ص 43 و 44) وانظر العيني (ج 23 ص 215) طبع المنيرية (2) يعنى حاضر العقل (3) شق بفتح الشين المعجمة وبصره فاعل، وضبطه بعضهم بصره بالنصب وهو صحيح أيضا، وانكره ابن السكيت. ومعناه شخص بصره. (4) قال النووي في شرح مسلم (ج 6 ص 220) قال القاضي: أجرني بالقصر والمد، حكاهما صاحب الافعال، وقال الأصمعي وأكثر أهل اللغة: هو مقصور لا يمد) (5) سفينة هو مولى أم سلمة وشرطت عليه ان يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، وابنه هذا يقال: إنه عمر 157 اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرا منها -: الا أجره الله في مصيبته وأخلف له خيرا منها). 598 - مسألة - ونستحب الصلاة على المولود يولد حيا ثم يموت، استهل أولم يستهل، وليس الصلاة عليه فرضا ما لم يبلغ. أما الصلاة عليه فإنها فعل خير لم يأت عنه نهى. وأما ترك الصلاة عليه فلما روينا من طريق أبى داود: نا محمد بن يحيى بن فارس نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد حدثني أبي عن محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت: (مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية عشر شهرا، فلم يصل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم). هذا خبر صحيح ولكن إنما فيه ترك الصلاة، وليس فيه نهى عنها، وقد جاء أثران مرسلان بأنه عليه السلام صلى عليه، والمرسل لا حجة فيه. حدثنا عبد الله بن ربيع نا محمد بن معاوية نا أحمد بن شعيب أنا إسماعيل بن مسعود أنا خالد بن الحارث نا سعيد بن عبيد الله الثقفي سمعت زياد بن جبير بن حية يحدث عن أبيه عن المغيرة بن شعبة (1) أنه ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها، والطفل يصلى عليه). وبهذا يأخذ جمهور الصحابة. روينا من طريق الحجاج بن المنهال عن أبي عوانة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أن أبا بكر الصديق قال: أحق من صلينا عليه أطفالنا. ومن طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن المسيب عن أبي هريرة أنه صلى على منفوس إن عمل خطيئة قط (2) قال: اللهم أعذه من عذاب القبر. ومن طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: إذا استهل الصبي صلى عليه وورث. ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر أنه قال: إذا
(1) في النسخة رقم (16) (زياد بن جبير بن حية عن أبيه يحدث عن المغيرة بن شعبة (وما هنا هو الموافق للنسائي) (ج 4 ص 58) إلا أنه ليس فيه (ابن حية) (2) (إن) نافية وفى النسخة رقم (14) (انه صلى على منفوس له لم يعمل خطيئة قط) 158 تم خلقه فصاح صلى عليه وورث. ومن طريق شعبة: نا عمرو بن مرة قال قال لي عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار يصلون على الصبي إذا مات. ومن طريق يحيى بن سعيد القطان وعبد الرزاق قال يحيى: نا عبيد الله - هو ابن عمر - وقال عبد الرزاق: نا معمر عن أيوب، ثم اتفق عبيد الله وأيوب كلاهما عن نافع قال: صلى عبد الله بن عمر على سقط له لا ادرى استهل أم لا؟ هذا لفظ أيوب، وقال عبيد الله: مولود مكان سقط. ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد عن زياد بن جبير (1) عن أبيه عن المغيرة بن شعبة قال: السقط يصلى عليه ويدعى لأبويه (2) بالعافية والرحمة. ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب عن محمد بن سيرين: أنه كان يعجبه إذا تم خلقه ان يصلى عليه. ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن ابن سيرين انه كان يدعو على (3) الصغير كما يدعو على (4) الكبير، فقيل له: هذا ليس له ذنب؟ فقال: والنبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأمرنا أن نصلى عليه. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة وأيوب، قال قتادة عن سعيد بن المسيب وقال أيوب عن محمد بن سيرين قالا جميعا: إذا تم خلقه ونفخ فيه الروح صلى عليه وان لم يستهل. وروينا عن قتادة عن سعيد بن المسيب في السقط لأربعة أشهر يصلى عليه، قال قتادة: ويسمى، فإنه يبعث أو يدعى يوم القيامة باسمه. ومن طريق البخاري نا أبو اليمان أنا شعيب - هو ابن أبي حمزة - قال ابن شهاب: يصلى على كل مولود متوفى، وإن كان لغية (5) من أجل أنه ولد على فطرة الاسلام. ثم ذكر حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (ما من مولود إلا يولد على الفطرة) (6). وقال الحسن وإبراهيم: يصلى عليه إذا استهل.
(1) في النسخة رقم (16) (زياد بن يزيد) وفى النسخة رقن (14) (زياد بن جرير) وكلاهما خطأ بل هو زياد بن جبير بن حية الذي مضى في حديث المغيرة مرفوعا قريبا. (2) في النسخة رقم (16) (لوالدية) (3) كذا في الموضع (على) وله وجه (4) كذا في الموضع (على) وله وجه (5) بفتح الغين المعجمة وتشديد الياء المثناة المفتوحة من الغى، أي ولد لزنا، يقال لغية نقيض قولك لرشدة بفتح الراء وكسرها (6) هو في البخاري (ج 2 ص 198) 159 قال أبو محمد: لا معنى للاستهلال، لأنه لم يوجبه نص ولا اجماع وقال حماد إذا مات الصبي من السبي ليس بين أبويه صلى عليه. وروى عن الزبير بن العوام: أنه مات له ابن قد لعب مع الصبيان واشتد ولم يبلغ الحلم، اسمه عمر (1)، فلم يصل عليه. ومن طريق شعبة عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير قال: لا يصلى على الصبي. ورويناه أيضا عن سويد بن غفلة 599 - مسألة - ولا نكره اتباع النساء الجنازة، ولا يمنعهن من ذلك. جاءت في النهى عن ذلك آثار ليس منها شئ يصح، لأنها إما مرسلة، وإما عن مجهول وإما عمن لا يحتج به. وأشبه ما فيه ما روينا من طريق مسلم: نا إسحاق بن راهويه نا عيسى بن يونس عن هشام عن حفصة عن أم عطية قالت (نهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا). وهذا غير مسند لأننا لا ندري من هذا الناهي؟ ولعله بعض الصحابة (2)، ثم لو صح مسندا لم يكن فيه حجة، بل كأن يكون كراهة فقط. بل قد صح خلافه كما روينا من طريق ابن أبي شيبة: نا وكيع عن هشام بن عروة عن وهب بن كيسان عن محمد بن عمرو بن عطاء عن أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في جنازة فرأى عمر امرأة، فصاح بها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعها يا عمر فان العين دامعة، والنفس مصابة، والعهد قريب) (3). وقد صح ابن عباس أنه لم يكره ذلك. 600 - مسألة - ونستحب زيارة القبور، وهو فرض ولو مرة ولا بأس بان يزور المسلم قبر حميمه المشرك، الرجال والنساء سواء. لما روينا من طريق مسلم: نا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن فضيل عن أبي سنان - هو ضرار (4) بن مرة - عن محارب بن دثار عن ابن بريدة عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(1) هكذا في الأصول والذي في طبقات ابن سعد (ج 3 ق 1 ص 70 و 71) أن اسم ابنه (عمرا) وأنه سماه على اسم (عمرو بن سعيد بن العاص) (2) هذا احتمال بعيد، والظاهر لقريب أنه مسند، ولكنه لا يدل إلا على الكراهة فقط كما قال المؤلف (3) اسناد هذا الحديث صحيح جدا (4) بكسر الضاد المعجمة وتخفيف الراء 160 (نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها). ومن طريق مسلم: نا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن عبيد عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: (زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، فقال: استأذنت ربى في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها وأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت). وقد صح عن أم المؤمنين، وابن عمر وغيرهما زيارة القبور. وروى عن عمر النهى عن ذلك ولم يصح. 601 - مسألة - ونستحب لمن حضر على القبور أن يقول ما رويناه من طريق مسلم: نا زهير بن حرب نا محمد بن عبد الله الأسدي عن سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر، فكان قائلهم يقول: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وانا إن شاء الله بكم لاحقون (1)، أسأل الله لنا ولكم العافية). 602 - مسألة - ونستحب أن يصلى على الميت مائة من المسلمين فصاعدا. لما روينا من طريق مسلم: نا الحسن بن عيسى نا ابن المبارك أنا سلام بن أبي مطيع عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد رضيع عائشة أم المؤمنين عن عائشة أم المؤمنين (2) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من ميت يصلى عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له: إلا شفعوا فيه) قال (3): فحدثت به شعيب بن الحبحاب (4) فقال: حدثني به أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو محمد: الخبر الذي فيه (يصلى عليه أربعون) رواه شريك بن عبد الله بن أبي نمر، وهو ضعيف. قال أبو محمد: الشفيع يكون بعد العقاب، إلا أنه مخفف ما قد قضى الله تعالى انه لولا الشفاعة
(1) في مسلم (ج 1 ص 266) (وإنا إن شاء الله للاحقون) واما الذي هنا فهو لفظ حديث عائشة عند مسلم أيضا (2) قوله (عن عائشة أم المؤمنين) سقط من النسخة رقم (16) وهو خطأ (3) القائل هو سلام بن أبي مطيع الذي روى عن أيوب كما بينه النسائي في روايته (ج 4 ص 75) (4) بفتح الحاءين المهملتين وبينهما باء موحدة ساكتة 161 لم يخفف، وشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أكبر الشفاعات تكون قبل دخول النار وبعد دخول النار كما جاءت الآثار نعوذ بالله من النار. 603 - مسألة - وإدخال الموتى في المساجد والصلاة عليهم فيها حسن كله، وأفضل مكان صلى فيه على الموتى في داخل المساجد، وهو قول الشافعي وأبي سليمان، ولم ير ذلك مالك. برهان صحة قولنا ما روينا من طريق مسلم بن الحجاج: نا محمد بن حاتم نا بهز - هو ابن أسد نا وهيب - هو ابن خالد نا موسى بن عقبة عن عبد الواحد - هو ابن حمزة - عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن عائشة أم المؤمنين: (انها لما توفى سعد بن أبي وقاص، ارسل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ان يمروا بجنازته في المسجد فيصلين عليه، ففعلوا، فوقف به على حجرهن يصلين (1) عليه، ثم خرج به (2) من باب الجنائز الذي كان على المقاعد، (3)، فبلغهن أن الناس عابوا ذلك، وقالوا: ما كانت الجنائز يدخل بها المسجد، فقالت عائشة: ما أسرع الناس إلى أن يعييوا ما لا علم لهم به؟ عابوا علينا ان يمر بالجنازة (4) في المسجد، وما صلى (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهيل بن بيضاء إلا في جوف (6) المسجد؟ ومن طريق مسلم: نا محمد بن رافع نا ابن أبي فديك انا الضحاك بن عثمان عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ان عائشة أم المؤمنين قالت: (والله لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابني بيضاء - سهيل وأخيه في المسجد). ومن طريق عبد الرزاق عن معمر، وسفيان الثوري كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه: انه رأى الناس يخرجون من المسجد ليصلوا على جنازة، فقال: ما يصنع هؤلاء؟ ما صلى على ابن بكر الصديق الا في المسجد. ومن طريق ابن أبي شيبة: نا الفضل بن دكين عن مالك بن انس عن نافع عن ابن عمر: ان عمر صلى عليه في المسجد.
(1) هكذا في النسخة رقم (16) وفى جميع نسخ صحيح مسلم (ج 1 ص 265) وفى النسخة رقم (14) (فصلين) (2) في كل نسخ مسلم (اخرج به) بزيادة الهمزة وحذف (ثم) (3) هكذا في الأصلين، وفى صحيح مسلم (إلى المقاعد) (4) في مسلم (بجنازة) (5) كذا في الأصلين، وهو الموافق للنسخة المخطوطة من مسلم، وفى طبع بولاق (ما) بحذف الواو (6) كلمة (جوف) محذوفة من النسخة رقم (16) خطأ 162 فهذه أسانيد في غاية الصحة، وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه، لا يصح عن أحد من الصحابة خلاف هذا أصلا. قال على: وقد شهد الصلاة عليها خيار الأمة، فلم ينكروا ذلك، فأين المشنع بعمل أهل المدينة؟: واحتج من قلد مالكا في ذلك بما رويناه من طريق ابن أبي شيبة: نا حفص بن غياث عن ابن أبي ذئب عن صالح مولى التوأمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة في المسجد فلا صلاة له) قال: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تضايق بهم المكان رجعوا ولم يصلوا. ومن طريق وكيع عن ابن أبي ذئب عن سعيد بن أيمن عن كثير بن عباس (1) قال: لأعرفن ما صليت على جنازة في المسجد. وقال بعضهم: الميت جيفة، وينبغي تجنيب الجيف المساجد. ما نعلم لهم شيئا موهوا به غير هذا، وهو كله لا شئ. اما الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلم يروه أحد الا صالح مولى التوأمة، وهو ساقط. ومن عجائب الدنيا تقليد المالكيين مالكا دينهم، فإذا جاءت شهادته التي لا يحل ردها - لثقته - اطرحوها ولم يلتفتوا إليها فوا خلافاه!. روينا من طريق مسلم بن الحجاج قال: نا أبو جعفر الدارمي - هو أحمد بن سعيد ابن صخر - نا بشر بن عمر - هو الزهراني (2) قال: سألت مالك بن أنس عن صالح مولى التوأمة؟ فقال: ليس بثقة (3). فكذبوا مالكا في تجريحه صالحا واحتجوا برواية صالح في رد السنن الثابتة واجماع الصحابة. وأما المنكرون ادخال سعد في المسجد فليس في الخبر إلا تجهيلهم، وانهم أنكروا مالا علم لهم به، فصح أنهم عامة جهال أو أعراب كذلك بلا شك. ولا يصح لكثير بن عباس صحبة. وأما قول من قال: الميت جيفة فقوله مرغوب عنه، بل لعله إن تمادى عليه ولم يتناقض
(1) (كثير) بفتح الكاف، وهو أخو عبد الله بن عباس رضي الله عنهم جميعا، وهو تابعي ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تصح له عنه رواية ولا صحبة، كما قال المؤلف (2) بفتح الزاي واسكان الهاء، وفي الأصلين (الزاهراني وهو خطأ (3) هو في صحيح مسلم (ج 1 ص 12) 163 خرج إلى الكفر، لأنه يلزمه ذلك في الأنبياء عليهم السلام، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المؤمن لا ينجس) فبطل قول هذا الجاهل، وصح أن المؤمن طاهر طيب حيا وميتا والحمد لله رب العالمين. 604 - مسألة - ولا بأس بان يبسط في القبر تحت الميت ثوب. لما روينا من طريق مسلم: نا محمد بن المثنى نا يحيى بن سعيد القطان نا شعبة نا أبو جمرة عن ابن عباس قال: (بسط في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء). ورواه أيضا كذلك وكيع، ومحمد بن جعفر، ويزيد بن زريع، وكلهم عن شعبة باسناده. وهذا من جملة ما يكساه الميت في كفنه، وقد ترك الله تعالى هذا العمل في دفن رسوله المعصوم من الناس، ولم يمنع منه، وفعله خيرة أهل الأرض في ذلك الوقت باجماع منهم، لم ينكره أحد منهم. ولم يرد ذلك المالكيون، وهم يدعون في أقل من هذا عمل أهل المدينة! وقد تركوا عملهم هنا، وفى الصلاة على الميت في المسجد وفى حديث صخر أنه عملهم! وحسبنا الله ونعم الوكيل. 605 - مسألة - وحكم تشييع الجنازة أن يكون الركبان خلفها، وأن يكون الماشي حيث شاء، عن يمينها أو شمالها أو أمامها أو خلفها، وأحب ذلك الينا خلفها. برهان ذلك ما رويناه آنفا في باب الصلاة على الطفل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراكب خلف الجنازة، والماشي حيث شاء منها) (1). وما رويناه من طريق البخاري: نا أبو الوليد - هو الطيالسي - نا شعبة عن الأشعث ابن أبي الشعثاء قال سمعت معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباع الجنائز) (2). قال أبو محمد: فلفظ الاتباع لا يقع الا على التالي، ولا يسمى المتقدم تابعا، بل هو متبوع، فلولا الخبر الذي ذكرنا آنفا والخبر الذي روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقري نا أبى نا همام - هو ابن يحيى - نا سفيان ومنصور
(1) تقدم الكلام عليه في المسألة رقم 598 فارجع إليه (2) هو في البخاري (ج 2 ص 156) وقد اختصره المؤلف، وفى النسائي (ج 1 ص 275 طبعة أولى و ج 4 ص 54 طبعة ثانية) وفيهما كليهما (عن معاوية بن سعد) وهو خطأ، فإنه ليس في رواية الكتب الستة من اسمه (معاوية بن سعد) والصواب (معاوية بن سويد) كما هنا 164 وزياد كلهم ذكر أنه سمع الزهري يحدث أن سالم بن عبد الله بن عمر أخبره أن أباه أخبره: (أنه رأي النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان (1) يمشون بين يدي الجنازة) -: لوجب أن يكون المشي خلفها فرضا لا يجزئ غيره، للامر الوارد باتباعها، ولكن هذان الخبران بينا أن المشي خلفها ندب،. ولا يجوز أن يقطع في شئ من هذا بنسخ، لان استعمال كل ذلك ممكن،. ولم يخف علينا قول جمهور أصحاب الحديث أن خبر همام هذا خطأ، ولكنا لا نلتفت إلى دعوى الخطأ في رواية الثقة الا ببيان لا يشك فيه. وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة نا جرير بن عبد الحميد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشون أما الجنازة. وقد جاءت آثار فيها ايجاب المشي خلفها، لا يصح شئ منها، لان فيها أبا ما جدا الحنفي، (2) والمطرح (3)، وعبيد الله بن زحر، (4) وكلهم ضعفاء. وفى الصحيح الذي أوردنا كفاية، وبكل ذلك قال السلف. روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عروة بن الحارث عن زائدة بن أوس الكندي (5) عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه قال: كنت مع علي ابن أبي طالب في جنازة، وعلى آخذ بيدي، ونحن خلفها، وأبو بكر وعمر أمامها، فقال على: ان فضل الماشي خلفها على الذي يمشى أمامها كفضل صلاة الجماعة على صلاة الفذ، وانهما ليعلمان من ذلك ما أعلم، ولكنهما يسهلان على الناس.
(1) قوله (وعثمان يمشون) سقط من النسخة رقم (16) خطأ والصواب ما في النسخة رقم (14) وهو الموافق للنسائي (ج 4 ص 56) (2) اسمه عائذ بن نضلة وهو ضعيف جدا (3) بضم الميم وتشديد الطاء المهملة وكسر الراء وآخره حاء مهملة، وهو ابن يزيد الأسدي (4) عبيد الله بالتصغير، وزحر بفتح الزاي واسكان الحاء المهملة، وهو وتلميذه المطرح ضعيفان أيضا، وحديثهما عند عبد الرزاق، نقله الزيلمى في نصب الراية (5) زائدة هذا لم أجد له ذكرا في كتب الرواة، وهذا الأثر ذكره الزيلمى في نصب الراية (ج 1 ص 359) من طريق عبد الرزاق كما هنا ثم قال (ورواه ابن أبي شيبة: حدثنا محمد ابن فضل عن زيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن ابن أبزى قال: كنت في جنازة الحديث) ولم أعرف محمد بن فضل ولا شيخه زيد بن أبي زياد 165 وبهذا يقول سفيان وأبو حنيفة. ومن طريق عبد الرزاق عن أبي جعفر الرازي عن حميد الطويل قال: سمعت أنس بن مالك وقد سئل عن المشي أمام الجنازة فقال: إنما أنت مشيع، فامش ان شئت امامها، وان شئت خلفها، وان شئت عن يمينها وان شئت عن يسارها. ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء: المشي وراء الجنازة خير أم أمامها؟ قال لا أدرى، قال أبو محمد. قال مالك: المشي أمام أفضل، واحتج أصحابه بفعل أبى بكر، وعمر، وعلى قد أخبر عنهما بغير ذلك فجعلوا ظن مالك أصدق من خبر على. 606 - مسألة - ومن بلع درهما أو دينارا أو لؤلؤة شق بطنه عنها، لصحة نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. ولا يجوز أن يجبر صاحب المال عن أخذ غير عين ماله، ما دام عين ماله ممكنا، لان كل ذي حق أولى بحقه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام). فلو بلعه وهو حي حبس حتى يرميه، فان رماه ناقصا ضمن ما نقص، فإن لم يرمه ضمن ما بلع، ولا يجوز شق بطن الحي لان فيه قتله، ولا ضرر في ذلك على الميت. ولا يحل شق بطن الميت بلا معنى، لأنه تعدى، وقد قال تعالى: (ولا تعتدوا). فان قيل: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كسر عظم الميت ككسره حيا). قلنا: نعم، ولم نكسر له عظما، والقياس باطل، ومن المحال أن يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم النهى عن غير كسر العظم (1)، فلا يذكر ذلك ويذكر كسر العظم، ولو أن امرءا شهد على من شق بطن آخر بأنه كسر عظمه لكان شاهد زور، وهم أول مخالف لهذا الاحتجاج ولهذا القياس، فلا يرون القود ولا الأرش على كاسر عظم الميت، بخلاف قولهم في عظم الحي (2) وبالله تعالى التوفيق. 607 - مسألة - ولو ماتت امرأة حامل والولد حي يتحرك قد تجاوز ستة أشهر فإنه يشق بطنها طولا ويخرج الولد، لقول الله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا). ومن تركه عمدا حتى يموت فهو قاتل نفس، ولا معنى لقول أحمد رحمه الله: تدخل
(1) في النسخة رقم (14) (عن كسر غير العظم) (2) النهي عن كسر عظم الميت إنما هو نص بإشارته على النهى عن ايذائه، وان ذلك كايذاء الحي وشق البطن للضرورة جائز كما لو كانت ضرورة لكسر العظم 166 القابلة يدها فتخرجه، لوجهين: أحدهما انه محال لا يمكن ولو فعل ذلك لمات الجنين بيقين قبل أن يخرج، ولولا دفع الطبيعة المخلوقة المقدرة له وجر ليخرج لهلك بلا شك، والثاني أن مس فرجها لغير ضرورة حرام (1). 608 - مسألة - ولا يحل لاحد أن يتمنى الموت لضر نزل به. روينا من طريق أحمد بن شعيب: أنا قتيبة بن سعيد أنا يزيد بن زريع عن حميد عن أنس بن مالك ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يتمنين أحد كم الموت لضر نزل به في الدنيا لكن ليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي. ورويناه أيضا بأسانيد صحاح من طريق أبي هريرة وخباب. فان ذكروا قول الله تعالى عن يوسف عليه السلام: (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) فليس هذا على استعجال الموت المنهى عنه، لكن على الدعاء بأن لا يتوفاه الله تعالى إذا توفاه إلا مسلما، هذا ظاهر الآية الذي لا تزيد فيه. 609 - مسألة - ويحمل النعش كما يشاء الحامل، ان شاء من أحد قوائمه، وان شاء بين العمودين. وهو قول مالك والشافعي، وابن سليمان. وقال أبو حنيفة: يحمله من قوائمه الأربع. واحتج بما روينا من طريق ابن أبي شيبة: نا هشيم عن يعلي بن عطاء عن علي الأزدي (2) قال: رأيت ابن عمر في جنازة فحمل (3) بجوانب السرير الأربع، ثم تنحى. ومن طريق ابن أبي شيبة: نا حميد (4) عن مندل (5) عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إن استطعت فابدأ بالقائمة التي تلي يده اليمنى، ثم أطف بالسرير، وإلا فكن قريبا منها. ومن طريق سعيد بن منصور: نا حماد بن زيد عن منصور عن عبيد بن نسطاس (6) عن أبي عبيدة - هو ابن عبد الله بن مسعود - قال قال عبد الله - يعنى أباه -: من تبع
(1) أما اخراج الولد الحي من بطن الحامل إذا ماتت فإنه واجب، وأما كيف يخرج؟ فهذا من شأن أهل هذه الصناعة من الأطباء والقوابل (2) هو علي بن عبد الله الأزدي البارقي (3) في النسخة رقم (16) (يحمل) (4) هو ابن عبد الرحمن الرؤاسي (5) بتثليث الميم واسكان النون وفتح الدال المهملة، وهو ابن علي العنزي، وهو ضعيف من قبل حفظه. (6) بكسر النون واسكان السين المهملة 167 جنازة فليحمل بجوانب السرير كلها، فإنه من السنة ثم يتطوع بعد إن شاء أو ليدع (1). ومن طريق سعيد بن منصور: نا حبان بن علي (2) حدثني حمزة الزيات عن بعض أصحابه: كان عبد الله بن معسود يبدأ بميامن السرير على عاتقه اليمين من مقدمه، ثم الرجل اليمنى، ثم الرجل اليسرى، ثم اليد اليسرى. ومن طريق ابن أبي شيبة عن يحيى بن سعيد - هو القطان - عن ثور عن عامر ابن جشيب (3) وغيره من أهل الشأم قالوا: قال أبو الدرداء من تمام أجر الجنازة ان يشيعها من أهلها، وأن يحملها بأركانها الأربع، وان يحثوا في القبر. وروينا أيضا ذلك عن الحسن * قالوا: فقال ابن معسود وأبو الدرداء: إنه من السنة ولا يقال: هذا إلا عن توقيف قال أبو محمد: اما هذا القول ففاسد، لان من عجائب الدنيا أن يأتوا إلى قول لم يصح عن ابن مسعود وأبى الدرداء فلا يستحيون من القطع بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله ثم لا يلتفتون إلى قول ابن عباس الثابت عنه في قراءة أم القرآن في صلاة الجنازة إنها السنة، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تصديق قول ابن عباس هذا، بقوله عليه السلام: (لا صلاة لمن يقرأ (4) بأم القرآن) ولا يحل لاحد أن يضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا بالظن فيتبوأ مقعده من النار. وكل هذه الروايات لا يصح منها شئ إلا عن ابن عمر. وأما رواية ابن عباس فعن مندل وهو ضعيف. وأما خبر ابن مسعود فمنقطعان، لان أبا عبيدة لا يذكر من أبيه شيئا، وعامر بن جشيب غير مشهور. وقد صح عن ابن عمر وغيره خلاف هذا. كما روينا من طريق سعيد بن منصور: نا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن مالك
(1) رواه ابن ماجة (ج 1 ص 232) عن حميد بن مسعدة عن حماد بن زيد باسناده، واسناده إلا أنه ثقات إلا أنه منقطع، لان أبا عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا (2) بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة، وهو أخو مندل بن علي العنزي، وهو ضعيف كأخيه. (3) بفتح الجيم وكسر الشين المعجمة وآخره باء موحدة، وعامر هذا وثقة ابن حبان وغيره، فدعوى المؤلف أنه مشهور لا أثر لها عند التحقيق (4) في النسخة رقم (14) (يقترئ). 168 (1) قال: خرجت مع جنازة عبد الرحمن بن أبي بكر فرأيت ابن عمر جاء فقام بين الرجلين في مقدم السرير، فوضع السرير على كاهله، فلما وضع ليصلى عليه خلى عنه. ومن طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن عباد بن منصور عن أبي المهزم عن (2) أبي هريرة قال: من حمل الجنازة ثلاثا فقد قضى ما عليه. فإذ ليس في حملها نص ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا اختيار في ذلك، وكيفما حملها الحامل أجزأه (3). 610 - مسألة - ويصلى على الميت الغائب بامام وجماعة، قد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على النجاشي رضي الله عنه - ومات بأرض الحبشة - وصلى معه أصحابه عليه صفوفا، وهذا إجماع منهم لا يجوز تعديه 611 - مسألة - ويصلى على كل مسلم، بر، أو فاجر، مقتول في حد، أو في حرابة، أو في بغى، ويصلى عليهم الامام وغير ه، وكذلك على المبتدع ما لم يبلغ الكفر، وعلى من قتل نفسه، وعلى من قتل غيره، ولو أنه شر من على ظهر الأرض، إذا مات مسلما. لعموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (صلوا على صاحبكم) والمسلم صاحب لنا، قال تعالى: (إنما المؤمنون اخوة) وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فمن منع من الصلاة على مسلم فقد قال قولا عظيما، وإن الفاسق لاحوج إلى دعاء إخوانه المؤمنين من الفاضل المرحوم. وقد قال بعض المخالفين: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل على ما عز. قلنا: نعم، ولم نقل ان فرضا على الامام أن يصلى على من رجم، إنما قلنا: له ان يصلى عليه كسائر الموتى، وله أن يترك كسائر الموتى، ولا فرق. وقد أمرهم عليه السلام بالصلاة عليه ولم يخص بذلك من لم يرجمه ممن رجمه. وقد روينا من طريق أحمد بن شعيب: أنا عبيد الله بن سعيد نا يحيى - هو ابن سعيد القطان -
(1) بفتح الهاء لاغير، كلمة أعجمية، ومن ضبطه بكسر الهاء فقد أخطأ جدا وقد تقدم لفظه ما هك في آخر صحيفة 168 سهوا (2) بفتح الهاء وتشديد الزاي المفتوحة، وضبطه في التقريب بتشديد الزاي المكسورة، وضبطه في المعنى بتشديد الراء المفتوحة، وكلاهما خطأ، والصواب ما ذكرنا كما ضبطه في المشتبه والقاموس، واسمه يزيد بن سفيان، وهو ضعيف جدا. (3) في النسخة رقم (16) (أجر) بدل (أجزأه) 169 عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن يحيى بن حبان (1) عن أبي عمرة (2) عن زيد بن خالد الجهني، قال: (مات رجل بخيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم، إنه قد غل في سبيل الله، قال ففتشنا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز يهود، لا يساوي (3) درهمين). قال أبو محمد: وهؤلاء الحنيفيون والمالكيون - المخالفون لنا في هذا المكان - لا يرون امتناع النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة على الغال حجة في المنع من أن يصلى الامام على الغال فمن أين وجب عندهم أن يكون تركه عليه السلام أن يصلى على ما عز حجة في المنع من أن يصلى على المرجوم الامام؟ وكلاهما ترك وترك إن هذا لعجب فكيف وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على من رجم. كما روينا من طريق أحمد بن شعيب: أنا إسماعيل بن مسعود (4) نا خالد - هو ابن الحارث - نا هشام - هو الدستوائي - عن يحيى - هو ابن أبي كثير - عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين: (ان امرأة من جهينة أتت إلى (5) رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني زنيت - وهي حبلى - فدفعها إلى وليها، وقال له: أحسن إليها، فإذا وضعت فأتني بها، فلما وضعت جاء بها، فأمر بها فشكت عليها ثيابها، ثم رجمها، ثم صلى عليها، فقال له عمر: تصلى (6) عليها وقد زنت؟ قال: لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها) (7). فقد صلى عليه السلام عن من رجم. فان قيل: تابت قلنا: وما عز تاب أيضا ولا فرق. والعجب كله من منعهم الامام من الصلاة على من أمر برجمه ولا يمنعون المتولين للرجم من الصلاة عليه: فأين القياس لو دروا ما القياس؟.
(1) بفتح الحاء المهملة، وضبطه في النسخة رقم (14) بكسرها وهو تصحيف (2) هو مولى زيد بن. خالد (3) في النسائي (ج 4 ص 64) (ما يساوى) (4) في النسخة رقم (16) (إسماعيل بن محمود) وهو خطأ، والتصحيح من النسخة رقم (14) ومن النسائي (ج 4 ص 63) (5) في النسائي بحذف (إلى) (6) في النسائي (أتصلي) (7) في النسخة رقم (16) (أأفضل) من أن جاءت بنفسها) وما هنا هو الموافق لنسخة رقم (14) وللنسائي، إلا أن فيه زيادة في آخره (لله عز وجل) 170 وروينا عن علي بن أبي طالب: انه إذ رجم شراحة (1) الهموانية قال لأوليائها اصنعوا بها كما تصنعون بموتاكم. وصح عن عطاء أنه يصلى على ولد الزنا، وعلى أمه، وعلى المتلاعنين، وعلى الذي يقاد منه، وعلى المرجوم، والذي يفر من الزحف فيقتل، قال عطاء: لا أدع الصلاة على من قال (2) لا إله إلا الله قال تعالى: (من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) قال عطاء: فمن يعلم أن هؤلاء من أصحاب الجحيم؟ قال ابن جريج: فسألت عمرو بن دينار فقال: مثل قول عطاء. وصح عن إبراهيم النخعي أنه قال: لم يكونوا يحجبون الصلاة عن أحد من أهل القبلة، والذي قتل نفسه يصلى عليه، وأنه قال: السنة أن يصلى على المرجوم فلم يخص إماما من غيره. وصح عن قتادة: صلى على من قال إله إلا الله، فإن كان رجل سوء جدا فقل: اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات. ما أعلم أحدا من أهل العلم اجتنب الصلاة على من قال: لا إله إلا الله. وصح عن ابن سيرين: ما أدركت أحدا يتأثم من الصلاة على أحد من أهل القبلة. وصح عن الحسن أنه قال: يصلى على من قال لا إله الا الله وصلى إلى القبلة، إنما هي شفاعة. ومن طريق وكيع عن أبي هلال عن أبي غالب قلت لأبي أمامة الباهلي: الرجل يشرب الخمر، أيصلى عليه؟ قال: نعم، لعله اضطجع مرة على فراشه فقال: لا إله الا الله، فغفر له. وعن ابن مسعود: أنه سئل عن رجل قتل نفسه: أيصلى عليه؟ فقال: لو كان يعقل ما قتل نفسه. وصح عن الشعبي: أنه قال في رجل قتل نفسه: ما مات فيكم مذ كذا وكذا أحوج إلى استغفاركم منه. وقد روينا في هذا خلافا من طريق عبد الرزاق عن أبي معشر عن محمد بن كعب عن ميمون بن مهران: انه شهد ابن عمر صلى على ولد زنا، فقيل له: إن أبا هريرة لم يصل عليه، وقال: هو شر الثلاثة. فقال ابن عمر: هو خير الثلاثة.
(1) بالشين المعجمة والراء والحاء المهملة المفتوحات وهي التي اعترفت فجلدها على ثم رجمها، وقصتها مشهورة (2) في النسخة رقم (14) (يقول) 171 وقد روينا من طريق وكيع عن الفضيل بن غزوان عن نافع عن ابن عمر: انه كان لا يصلى على ولد زنا، صغير ولا كبير. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أنه قال له: لا يصلى على المرجوم، ويصلى على الذي يقاد منه، إلا من أقيد منه في رجم. فلم يخص الزهري إماما من غيره. وأما الصلاة على أهل المعاصي فما نعلم لمن منع من ذلك سلفا من صاحب أو تابع في هذا القول. وقولنا هذا هو قول سفيان، وابن أبي ليلى، وأبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان. قال أبو محمد: لقد رجانا الله تعالى في العفو والجنة حتى نقول: قد فزنا، ولقد خوفنا عز وجل حتى نقول: قد هلكنا، إلا أننا على يقين من أن لا خلود على مسلم في النار، وإن لم يفعل خيرا قط غير شهادة الاسلام بقلبه ولسانه، ولا امتنع من شر قط غير الكفر، ولعله قد تاب من هذه صفته قبل موته، فسبق المجتهدين، أو لعل له حسنات لا نعلمها، تغمر سيئاته فمن صلى على من هذه صفته، أو على ظالم للمسلمين متبلغ فيهم، أو على من له قبله مظالم لا يريد أن يغفرها له -: فليدع له كما يدعو، لغيره، وهو يريد بالمغفرة والرحمة ما يؤول إليه أمره بعد القصاص، وليقل: اللهم خذ لي بحقي منه 612 - مسألة - وعيادة مرضى المسلمين فرض - ولو مرة - على الجار الذي لا يشق عليه عيادته، ولا نخص مرضا من مرض. روينا من طريق البخاري: نا محمد هو ابن يحيى الذهلي - نا عمرو بن أبي سلمة عن الأوزاعي أخبرني ابن شهاب أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس). ومن طريق أبى داود: نا عبد الله بن محمد النفيلي نا حجاج بن محمد عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي عن أبيه عن زيد بن أرقم قال: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع كان بعيني). وقد عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب (1). ومن طريق أبى داود: نا سليمان بن حرب نا حماد - هو ابن سلمة - عن ثابت البناني
(1) وذلك إذ عرض عليه الاسلام، وقصته مشهورة، انظرها في صحيح مسلم (ج 1 ص 23 و 24) وغيره من الكتب المؤلفة في السير وغيره 172 عن أنس: (أن غلاما من اليهود مرض، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه، فقال: أطع أبا القاسم، فأسلم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار). فعيادة الكافر فعل حسن. 613 - مسألة - ولا يحل ان يهرب أحد عن الطاعون إذا وقع في بلد هو فيه، ومباح له الخروج لسفره الذي كان يخرج فيه لو لم يكن الطاعون، ولا يحل الدخول إلى بلد فيه الطاعون لمن كان خارجا عنه حتى يزول. والطاعون هو الموت الذي يكثر في بعض الأوقات كثرة خارجة عن المعهود. لما روينا من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس (1) قال قال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع في أرض وأنتم فيها (2) فلا تخرجوا (3) فرارا منه) قال أبو محمد: فلم ينه عليه السلام عن الخروج الا بنية الفرار منه فقط. وقد روينا عن عائشة رضي الله عنها إباحة الفرار عنه، ولا حجة في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. 614 - مسألة - ونستحب تأخير الدفن ولو يوما وليلة، ما لم يخف على الميت التغيير، لا سيما من توقع أن يغمى عليه، وقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ضحوة، ودفن في جوف الليل من ليلة الأربعاء. وروينا من طريق وكيع عن سفيان عن سالم الخياط عن الحسن قال: ينتظر بالمصعوق ثلاثا. 615 - مسألة - ويجعل الميت في قبره على جنبه اليمين، ووجهه قبالة القبلة، ورأسه ورجلاه إلى يمين القبلة ويسارها، على هذا جرى عمل أهل الاسلام من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا، وهكذا كل مقبرة على ظهر الأرض. 616 - مسألة - وتوجيه الميت إلى القبلة حسن، فإن لم يوجه فلا حرج. قال الله تعالى
(1) في الموطأ (ص 361) (عبد الله بن عياش) وهو خطأ. (2) هو في الموطأ وصحيح مسلم عن مالك (ج 2 ص 188) (وإذا وقع بأرض وأنتم بها) (3) في النسخة رقم (16) (فلا تخرجوا عنها) وزيادة (عنها) ليست في النسخة رقم (14) ولا في الموطأ ولا في مسلم 173 (فأينما تولوا فثم وجه الله) ولم يأت نص بتوجيهه إلى القبلة. روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر قال: سألت الشعبي عن الميت يوجه إلى القبلة؟ فقال: إن شئت فوجهه، وان شئت فلا توجهه، ولكن اجعل القبر إلى القبلة، قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبر أبى بكر وقبر عمر إلى القبلة. ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري وابن جريج عن إسماعيل بن أمية أن رجلا دخل على سعيد بن المسيب قال ابن جريج: حين حضره الموت وهو مستلق - فقال: وجهوه إلى القبلة، فغضب سعيد وقال: ألست إلى القبلة؟. 617 - مسألة - وجائز أن تغسل المرأة زوجها، وأم الولد سيدها، وإن انقضت العدة بالولادة، ما لم تنكحا، فان نكحتا لم يحل لهما غسله إلا كالأجنبيات. وجائز للرجل أن يغسل امرأته وأم ولده وأمته، وما لم يتزوج حريمتها أو يستحل حريمتها بالملك، فان فعل لم يحل له غسلها. وليس للأمة ان تغسل سيدها أصلا، لان ملكها بموته انتقل إلى غيره. برهان ذلك قول الله تعالى: (ولكم نصف ما ترك أزواجكم) فسماها زوجة بعد موتها، وهي - إن كانا مسلمين - امرأته في الجنة، وكذلك أم ولده وأمته، وكان حلالا له رؤية أبدانهن في الحياة وتقبيلهن ومسهن، فكل ذلك باق على التحليل، فمن ادعى تحريم ذلك بالموت فقوله باطل إلا بنص، ولا سبيل له إليه. وأما إذا تزوج حريمتها أو تملكها أو تزوجت هي -: فحرام عليه الاطلاع على بدنيهما معا، لأنه جمع بينهما، وكذلك حرام على المرأة التلذذ برؤية بدن رجلين معا. وقولنا هو قول مالك، والشافعي، وأبي سليمان. وقال أبو حنيفة: تغسل المرأة زوجها، لأنها في عدة منه، ولا يغسلها هو. روينا من طريق ابن أبي شيبة عن معمر (1) بن سليمان الرقى عن حجاج عن داود ابن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: الرجل أحق بغسل امرأته. ومن طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن عبد الرحمن بن الأسود قال: انى لاغسل نسائي، وأحول بينهن وبين أمهاتهن وبناتهن وأخواتهن.
(1) معمر. بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد الميم المفتوحة وآخره راء، وفى النسخة رقم (16) (معتمر) وهو خطأ 174 ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري سمعت حماد بن أبي سليمان يقول: إذا ماتت المرأة مع القوم فالمرأة تغسل زوجها والرجل امرأته. ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي الشعثاء - هو جابر بن زيد - قال: الرجل أحق أن يغسل امرأته من أخيها. ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عبد الكريم عن عطاء بن أبي رباح قال: يغسلها زوجها إذا لم يجد من يغسلها. ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصري قال: يغسل كل واحد صاحبه - يعنى الزوج والزوجة - بعد الموت. ومن طريق وكيع عن الربيع عن الحسن قال: لا بأس ان يغسل الرجل أم ولده. ومن طريق ابن أبي شيبة: نا أبو أسامة عن عوف - هو ابن أبي جميلة -: أنه شهد قسامة بن زهير (1) وأشياخا أدركوا عمر بن الخطاب وقد أتاهم رجل فأخبرهم أن امرأته ماتت فأمرته أن لا يغسلها غيره، فغسلها، فما منهم أحد أنكر ذلك. وروينا أيضا من طريق سليمان بن موسى أنه قال: يغسل الرجل امرأته. وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: إذا ماتت المرأة مع رجال ليس فيهم امرأة فان زوجها يغسلها. والحنيفيون يعظمون خلاف الصاحب الذي لا يعرف له منهم مخالف، وهذه رواية عن ابن عباس لا يعرف له من الصحابة مخالف، وقد خالفوه. وقد روى أيضا عن علي: أنه غسل فاطمة مع أسماء بنت عميس. فاعترضوا على ذلك برواية لا تصح: انها رضي الله عنها اغتسلت قبل موتها وأوصت ان لا تحرك، فدفنت بذلك الغسل (2). وهذا عليهم لا لهم، لأنهم قد خالفوا في هذا أيضا عليا وفاطمة بحضرة الصحابة. فان ذكروا ما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن ليث عن يزيد
(1) بفتح القاف وتخفيف السين المهملة، وهو تابعي قديم أدرك عمر بن الخطاب، وقيل أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وليست له صحبة، وأخطأ صاحب القاموس فزعم أنه صحابي. وفى النسخة رقم (16) (مسلمة بن زهير) وهو خطأ (2) لم أر هذه الرواية، ولعلها من مفتريات الشيعة، وغسل الميت إنما يجب بعد موته، فالغسل قبله لا يسقطه، ومعاذ الله أن تأمر فاطمة رضي الله عنها بهذا. 175 ابن أبي سليمان (1) عن مسروق قال: ماتت امرأة لعمر، فقال: أنا كنت أولى بها إذ كانت حية، فأما الآن فأنتم أو بها. فلا حجة لهم فيه، لأنه إنما خاطب بذلك أولياءها في إدخالها القبر والصلاة عليها، ولا خلاف في أن الأولياء لا يجوز لهم غسلها، ودليل ذلك أنه بلفظ خطاب المذكر، ولو خاطب النساء لقال أنتن أولى بها، وعمر لاياحن. 618 - مسألة - فلو مات رجل بين نساء لا رجل معهن، أو ماتت امرأة بين رجال لا نساء معهم -: غسل النساء الرجل وغسل الرجال المرأة على ثوب كثيف، يصب الماء على جميع الجسد دون مباشرة اليد، لان الغسل فرض كما قدمنا، وهو ممكن كما ذكرنا بلا مباشرة، فلا يحل تركه، ولا كراهة في صب الماء أصلا. وبالله تعالى التوفيق. ولا يجوز أن يعوض التيمم من الغسل إلا عند عدم الماء فقط. وبالله تعالى التوفيق. وروينا أثرا فيه أبو بكر بن عياش عن مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ييممان) وهذا مرسل، وأبو بكر بن عياش ضعيف فهو ساقط. وممن قال بقولنا هذا طائفة من العلماء. روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري وقتادة قالا جميعا: تغسل وعليها الثياب، يعنيان في المرأة تموت بين رجال لا امرأة معهم. ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد وزياد الأعلم والحجاج، قال حميد وزياد عن الحسن، وقال الحجاج عن الحكم بن عتيبة، قالا جميعا - في المرأة تموت مع رجال ليس معهم امرأة -: انها يصب عليها الماء من وراء الثياب. والعجب أن القائلين انها تيمم فروا من المباشرة خلف ثوب وأباحوها على البشرة وهذا جهل شديد. وبالله تعالى التوفيق. 619 - مسألة - ولا ترفع اليدان في الصلاة على الجنازة الا في أول تكبيرة فقط، لأنه لم يأت برفع الأيدي فيما عدا ذلك نص. وروى مثل قولنا هذا عن ابن مسعود وابن عباس. وهو قول أبي حنيفة، وسفيان. وصح عن ابن عمر رفع الأيدي لكل تكبيرة. ولقد كان يلزم من قال بالقياس أن يرفعها في كل تكبيرة، قياسا على التكبيرة الأولى (2)
(1) في النسخة رقم (14) (زيد بن أبي سليمان) وهو خطأ (2) هنا بحاشية النسخة رقم (14) ما نصه: (وقد ثبت النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يرفع يديه هي صلاة الجنازة الا في أول تكبيرة. قال الدارقطني: نا محمد بن مخلد وعثمان بن أحمد الدقاق قالا نا محمد بن سليمان بن الحارث نا إسماعيل بن أبان الوراق نا ابن يعلى عن يزيد بن سنان عن زيد ابن أبي أنيسة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى على الجنازة رفع يديه في أول تكبيرة، ثم وضع يده اليمنى على اليسرى) وهذا الحديث في سنن الدارقطني (ص 192)، وروى الترمذي نحوه عن القاسم بن دينار عن إسماعيل بن ابان الوراق باسناده (ج 1 ص 127 طبع الهند) وقال: (هذا الحديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه). وهذا الحديث ضعيف، في اسناده يحيى بن يعلى الأسلمي، وهو ضعيف مضطرب الحديث، ويزيد بن سنان أبو فروة الرهاوي، وهو أضعف من ابن يعلى، بل هو منكر الحديث، فلا أدري كيف يجزم كاتب هذه الحاشية بثبوت هذا الأثر؟ 176 620 - مسألة - وإن كانت أظفار الميت وافرة أو شار به وافيا أو عانته أخذ كل ذلك، لان النص قد ورد وصح بأن كل ذلك من الفطرة، فلا يجوز أن يجهز إلى ربه تعالى الا على الفطرة التي مات عليها. وروينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة: ان سعد بن أبي وقاص حلق عانة ميت. وهم يعظمون مخالفة الصحاب الذي لا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا صاحب لا يعرف له منهم مخالف. وعن عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في شعر عانة الميت إن كان وافرا، قال: يؤخذ منه. واحتج بعضهم بأن قال: فإن كان أقلف أيختن؟. قلنا: نعم، فكان ماذا؟ والختان من الفطرة. فان قيل: فأنتم لا ترون أن يطهر للجنابة ان مات مجنبا، ولا للحيض إن ماتت حائضا، ولا ليوم الجمعة ان مات يوم الجمعة، فما الفرق؟. قلنا. الفرق ان هذه الأغسال مأمور بها كل أحد في نفسه، ولا تلزم من لا يخاطب، كالمجنون، والمغمى عليه، والصغير، وقد سقط الخطاب عن الميت. وأما قص الشارب، وحلق العانة، والإبط، والختان فالنص جاءنا بأنها من الفطرة، ولم يؤمر بها المرء في نفسه، بل الكل مأمورون بها، فيعمل ذلك كله بالمجنون، والمغمى عليه، والصغير. 621 - مسألة - ويدخل الميت القبر كيف أمكن، إما من القبلة أو من دبر القبلة
177 أو من قبل رأسه أو من قبل رجليه، إذ لا نص في شئ من ذلك. وقد صح عن علي انه أدخل يزيد بن المكفف (1) من قبله القبلة. وعن ابن الحنفية: انه أدخل ابن عباس من قبل القبلة. وصح عن عبد الله بن زيد الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم: انه أدخل الحارث الخارفي (2) من قبل رجلي القبر. وروى قوم مرسلات لا تصح في ادخال النبي صلى الله عليه وسلم. فعن إبراهيم النخعي: انه عليه السلام أدخل من قبل القبلة. وعن ربيعة ويحيى بن سعيد وأبى الزناد وموسى بن عقبة: انه عليه السلام ادخل من قبل الرجلين * وكل هذا لو صح لم تقم به حجة في الوجوب، فكيف وهو لا يصح؟ لأنه ليس فيه منع مما سواه. 622 - مسألة - ولا يجوز التزاحم على النعش، لأنه بدعة لم تكن قبل، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرفق. روينا من طريق مسلم: نا محمد بن المثنى نا يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري نا منصور بن المعتمر عن تميم بن سلمة عن عبد الرحمن بن هلال عن جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يحرم الرفق يحرم الخير). ومن طريق وكيع عن الربيع عن الحسن: أنه كره الزحام على السرير، وكان إذا رآهم يزدحمون قال: أولئك الشياطين. ومن طريق وكيع عن همام عن قتادة: أنه قال: شهدت جنازة فيها أبو السوار - هو حريث بن حسان العدوي (3) - فازدحموا على السرير، فقال أبو السوار: أترون هؤلاء أفضل أو أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟! كان الرجل منهم إذا رأى محملا حمل، والا اعتزل ولم يؤذ أحدا.
(1) سبق بيانه في المسألة 573 (2) هو الحارث بن عبد الله الأعور الهمداني، وخارف - بالخاء المعجمة والراء والفاء - بطن من همدان (3) أبو السوار - بفتح السين المهملة وتشديد الواو - وحريث: بالتصغير، وجزم ابن سعد بان اسمه (حسان بن حريث العدوي) وهو الصواب، واما حريث بن حسان فإنه شيباني صحابي 178 623 - مسألة - ومن فاته بعض التكبيرات على الجنازة كبر ساعة يأتي، ولا ينتظر تكبير الامام، فإذا سلم الامام أتم هو ما بقي من التكبير، يدعو بين تكبيرة وتكبيرة كما كان يفعل مع الامام، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن اتى إلى الصلاة ان يصلى ما أدرك ويتم ما فاته، وهذه صلاته، وما عدا هذا فقول فاسد لا دليل على صحته، لامن نص ولا قياس ولا قول صاحب. وبالله تعالى التوفيق (تم كتاب الجنائز من كتاب المحلى والحمد لله رب العالمين) (كتاب الاعتكاف) الاعتكاف هو الإقامة في المسجد بنية التقرب إلى الله عز وجل ساعة فما فوقها، ليلا أو نهارا. 624 - مسألة - ويجوز اعتكاف يوم دون ليلة، وليلة دون يوم، وما أحب الرجل أو المرأة. برهان ذلك قول الله تعالى: (ولا تباشر وهن وأنتم عاكفون في المساجد). وروينا من طريق مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأوسط من رمضان، وانه عليه السلام قال: من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر) فالقرآن نزل بلسان عربي مبين، وبالعربية خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاعتكاف في لغة العرف الإقامة، قال تعالى: (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) بمعنى مقيمون متعبدون لها، فإذا لا شك في هذا فكل إقامة في مسجد الله تعالى بنية التقرب إليه اعتكاف وعكوف، فإذ لا شك في هذا، فالاعتكاف يقع على ما ذكرنا مما قل من الأزمان أو كثر إذ لم يخص القرآن والسنة عددا من عدد، ولا وقتا من وقت، ومدعى ذلك مخطئ، لأنه قائل بلا برهان. والاعتكاف فعل حسن، قد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه وأصحابه رضي الله عنهم بعده والتابعون. وممن قال بمثل هذا طائفة من السلف. كما أنا محمد بن سعيد بن نبات نا أحمد بن عبد البصيرى نا قاسم بن أصبع نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن زائدة عن عمران بن أبي مسلم عن سويد بن غفلة قال: من جلس في المسجد وهو طاهر فهو عاكف فيه، ما لم يحدث. ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن يعلى
179 ابن أمية قال: إني لأمكث في المسجد ساعة، وما أمكث إلا لأعتكف، قال عطاء: حسبت أن صفوان بن يعلى أخبرنيه، قال عطاء: هو اعتكاف ما مكث فيه، وإن جلس في المسجد احتساب الخير فهو معتكف، وإلا فلا. قال أبو محمد: يعلى صاحب، وسويد من كبار التابعين، أفتى أيام عمر بن الخطاب، ولا يعرف ليلعى في هذا مخالف من الصحابة. فان قيل: قد جاء عن عائشة، وابن عباس، وابن عمر: لا اعتكاف إلا بصوم، وهذا خلاف لقول يعلى. قلنا: ليس كما تقول: لأنه لم يأت قط عمن ذكرت الاعتكاف أقل من يوم كامل، إنما جاء عنهم ان الصوم واجب في حال الاعتكاف فقط، ولا يمتنع أن يعتكف المرء على هذا ساعة في يوم هو فيه صائم وهو قول محمد بن الحسن، فبطل ما أوهمتم به. وقوله تعالى (وأنتم عاكفون في المساجد) فلم يخص تعالى مدة من مدة، وما كان ربك نسيا. ومن طريق مسلم: نا زهير بن حرب نا يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله - هو ابن عمر - قال أخبرني نافع عن ابن عمر قال: (قال عمر: يا رسول الله، إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، قال: فأوف بنذرك). فهذا عموم منه عليه السلام بالامر بالوفاء بالنذر في الاعتكاف، ولم يخص عليه السلام مدة من مدة، فبطل قول من خالف قولنا. والحمد لله رب العالمين. وقولنا هذا هو قول الشافعي وأبي سليمان. وقال أبو حنيفة: لا يجوز الاعتكاف أقل من يوم. وقال مالك: لا اعتكاف أقل من يوم وليلة، ثم رجل وقال: لا اعتكاف أقل من عشر ليال، وله قول: لا اعتكاف أقل من سبع ليال، من الجمعة إلى الجمعة وكل هذا قول بلا دليل. فان قيل: لم يعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل من عشر ليال. قلنا: نعم، ولم يمنع من أقل من ذلك، وكذلك أيضا لم يعتكف قط في غير مسجد المدينة، فلا تجيزوا الاعتكاف في غير مسجده عليه السلام، ولا اعتكف قط إلا في رمضان وشوال، فلا تجيزوا الاعتكاف في غير هذين الشهرين. والاعتكاف في فعل خير، فلا يجوز المنع منه إلا بنص وارد بالمنع: وبالله تعالى التوفيق فان قالوا: قسنا على مسجده عليه السلام سائر المساجد * (*)
180 قيل لهم: فقيسوا على اعتكافه عشرا أو عشرين ما دون العشر وما فوق العشرين، إذ ليس منها ساعة ولا يوم إلا وهو فيه معتكف. 625 - مسألة - وليس الصوم من شروط الاعتكاف، لكن إن شاء المعتكف صام وإن شاء لم يصم. واعتكاف يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق حسن. وكذلك اعتكاف ليلة بلا يوم يوم بلا ليلة. وهو قول الشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبي سليمان، وهو قول طائفة من السلف. روينا من طريق سعيد بن منصور: نا عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي - عن أبي سهيل بن مالك قال: كان على امرأة من أهلي اعتكاف، فسألت عمر بن عبد العزيز فقال: ليس عليها صيام إلا أن تجعله على نفسها، فقال الزهري: لا اعتكاف إلا بصوم، فقال له عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قال. فعن أبي بكر؟ قال. لا، قال. فعن عمر؟ قال. لا، قال: فأظنه قال: فعن عثمان؟ قال: لا قال أبو سهيل: لقيت طاوسا وعطاء فسألتهما، فقال طاوس: كان فلان لا يرى عليها صياما إلا أن تجعله على نفسها، وقال عطاء: ليس عليها صيام إلا أن تجعله على نفسها. وبه إلى سعيد: نا حبان بن علي نا ليث عن الحكم عن مقسم أن عليا وابن مسعود قالا جميعا المعتكف ليس عليه صوم إلا أن يشترط ذلك على نفسه. واختلف في ذلك عن ابن عباس، كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات نا عبد الله بن محمد القلعي نا محمد بن أحمد الصواف نا بشر بن موسى بن صالح بن عميرة نا أبو بكر الحميدي (1) نا عبد العزيز بن محمد الدراوردي نا أبو سهيل بن مالك قال اجتمعت أنا وابن شهاب عند عمر بن عبد العزيز، وكان على امرأتي اعتكاف ثلاث في المسجد الحرام، فقال ابن شهاب: لا يكون اعتكاف إلا بصوم، فقال له عمر بن عبد العزيز: أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا، قال: فمن أبى بكر: قال: لا، قال: فمن عمر؟ قال: لا، قال: فمن عثمان؟ قال: لا، قال أبو سهيل: فانصرفت فلقيت طاوسا، وعطاء فسألتهما عن ذلك، فقال طاوس: كان ابن عباس لا يرى على المعتكف صياما إلا أن يجعله على نفسه، قال عطاء: ذلك رأيي.
(1) هو أبو بكر عبد الله بن الزبير القرشي الأسدي الحميدي الحافظ الفقيه 181 ومن طريق وكيع عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم النخعي قال: المعتكف ان شاء لم يصم. ومن طريق ابن أبي شيبة: نا عبدة عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن قال: ليس على المعتكف صوم الا ان يوجب ذلك على نفسه. وقال أبو حنيفة، وسفيان، والحسن بن حي، ومالك، والليث. لا اعتكاف إلا بصوم. وصح عن عروة بن الزبير والزهري. وقد اختلف فيه عن طاوس وعن ابن عباس، وصح عنهما كلا الامرين. كتب إلى داود بن بابشاذ بن داود المصري قال نا عبد الغني بن سعيد الحافظ نا هشام بن محمد بن قرة الرعيني نا أبو جعفر الطحاوي نا الربيع بن سليمان المؤذن نا ابن وهب عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر قالا جميعا. لا اعتكاف الا بصوم. وروى عن عائشة. لا اعتكاف إلا بصوم. ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عطاء عن عائشة أم المؤمنين قالت: من اعتكف فعليه الصوم. قال أبو محمد. شغب من قلد القائلين بأنه لا اعتكاف الا بصوم بأن قالوا. قال الله تعالى: (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) قالوا: فذكر الله تعالى الاعتكاف اثر ذكره للصوم، فوجب ان لا يكون الاعتكاف الا بصوم. قال أبو محمد: ما سمع بأقبح من هذا التحريف لكلام الله تعالى والاقحام فيه ما ليس فيه! وما علم قط ذو تمييز أن ذكر الله تعالى شريعة إثر ذكره أخرى موجبه عقد إحداهما بالأخرى. ولا فرق بين هذا القول وبين ما قال: بل لما ذكر الصوم ثم الاعتكاف وجب أن لا يجزئ صوم إلا باعتكاف. فان قالوا: لم يقل هذا أحد. قلنا. فقد أقررتم بصحة الاجماع على بطلان حجتكم وعلى أن ذكر شريعة مع ذكر أخرى لا يوجب ان لا تصح إحداهما الا بالأخرى. وأيضا. فان خصومنا مجمعون على أن المعتكف هو بالليل معتكف كما هو بالنهار، وهو بالليل غير صائم، فلو صح لهم هذا الاستدلال لوجب ان لا يجزئ الاعتكاف الا
182 بالنهار الذي لا يكون الصوم الا فيه فبطل تمويههم بايراد هذه الآية، حيث ليس فيها شئ مما موهوا به، لا بنص ولا بدليل. وذكروا ما روينا من طريق أبى داود قال: نا أحمد بن إبراهيم نا أبو داود - هو الطيالسي - نا عبد الله بن بديل (1) عن عمرو بن دينار عن ابن عمر قال: (ان عمر جعل عليه في الجاهلية ان يعتكف ليلة أو يوما عند الكعبة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اعتكف وصم). قال أبو محمد. هذا خبر لا يصح، لان عبد الله بن بديل مجهول (2)، ولا يعرف هذا الخبر من مسند عمرو بن دينار أصلا، وما نعرف لعمرو بن دينار عن ابن عمر حديثا مسندا الا ثلاثة ليس هذا منها، أحدها في العمرة (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) والثاني في صفة الحج والثالث. (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فسقط عنا هذا الخبر لبطلان سنده. ثم الطامة الكبرى احتجاجهم به في ايجاب الصوم في الاعتكاف ومخالفتهم إياه في ايجاب الوفاء بما نذره المرء في الجاهلية فهذه عظيمة لا يرضى بها ذو دين. فان قالوا معنى قوله (في الجاهلية) أي أيام ظهور الجاهلية بعد اسلامه. قلنا لمن قال هذا. ان كنت تقول هذا قاطعا به فأنت أحد الكذابين، لقطعك بما لا دليل لك عليه، ولا وجدت قط في شئ من الاخبار، وان كنت تقوله ظنا فان الحقائق لا تترك بالظنون، وقد قال الله تعالى. (ان الظن لا يغنى من الحق شيئا) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث). فكيف وقد صح كذب هذا القول، كما روينا من طريق ابن أبي شيبة : نا حفص بن غياث عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: (نذرت نذرا في الجاهلية فسألت النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلمت، فأمرني أن أو في بنذري). وهذا في غاية الصحة، لا كحديث عبد الله بن بديل الذاهب في الرياح.
(1) بضم الباء وفتح الدال المحملة (2) ليس مجهولا بل هو معروف، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال ابن معين (صالح) وقال ابن عدي (له ما ينكر عليه الزيادة في متن أو اسناد) وذكر ابن عدي والدارقطني أنه تفرد بهذه الرواية عن عمر وبن دينار، وهي رواية شاذة تخالف ما في البخاري من أنه أمره باعتكاف ليلة، وليس فيه ذكر للصوم. 183 فهل سمع بأعجب من هؤلاء القوم لا يزالون يأتون بالخبر يحتجون به على من لا يصححه فيما وافق تقليدهم، وهم أول مخالفين لذلك الخبر نفسه فيما خالف تقليدهم . فكيف يصعد مع هذا عمل ونعوذ بالله من الضلال، فعاد خبرهم حجة عليهم لا علينا، ولو صح ورأيناه حجة لقلنا: به. وموهوا بأن هذا روى عن أم المؤمنين، وابن عباس، وابن عمر، قالوا: ومثل هذا لا يقال بالرأي. فقلنا: أما ابن عباس فقد اختلف عنه في ذلك، فصح عنه مثل قولنا، وقد روينا عنه من طريق: عبد الرزاق أنا ابن عيينة عن عبد الكريم بن أبي أمية (1) سمعت عبيد الله بن عبد الله بن عتبة يقول: إن أمنا ماتت وعليها اعتكاف، فسألت ابن عباس فقال: اعتكف عنها وصم. فمن أين صار ابن عباس حجة في إيجاب الصوم على المعتكف - وقد صح عنه خلاف ذلك - ولم يصر حجة في ايجابه على الولي قضاء الاعتكاف عن الميت؟ وهلا قلتم هاهنا: مثل هذا لا يقال: بالرأي وعهدناهم يقولون: لو كان هذا عند فلان صحيحا ما تركه، أو يقولون: لم يترك ما عنده من ذلك إلا لما هو أصح عنده. وقد ذكرنا عن عطاء آنفا أنه لم ير الصوم على المعتكف، وسمع طاوسا يذكر ذلك عن ابن عباس فلم ينكر ذلك عليه فهلا قالوا. لم يترك عطاء ما روى عن ابن عباس وابن عمر إلا لما هو عنده أقوى منه. ولكن القوم متلاعبون. وأما أم المؤمنين فقد روينا عنها من طريق أبى داود. نا وهب بن بقية انا خالد عن عبد الرحمن - يعنى ابن إسحاق - عن الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين انها. (قالت (2) السنة على المعتكف ان لا يعود مريضا، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة الا لما لابد منه (3)، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف
(1) كذا في النسخة رقم (16)، وفى النسخة رقم (14) (عن عبد الكريم بن أمية) وانا أرجح ان كليهما خطأ وان الصواب (عن عبد الكريم أبى أمية) وهو عبد الكريم بن أبي المخارق البصري وكنيته أبو أمية. (2) في النسخة رقم (16) (قالت) بحذف (انها) واثباتها هو الموافق لأبي داود (ج 2 ص 310) (3) هذا هو الموافق لأبي داود، وفى النسخة رقم (16) (لما لا بدله منه)، وفى النسخة رقم (14) (لحاجة الانسان إلا ما لابد منه) 184 الا في مسجد جامع). فمن أين صار قولها في ايجاب الاعتكاف حجة ولم يصر قولها: (لا اعتكاف الا في مسجد جامع) حجة. وروينا عنها من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج، ومعمر، قال ابن جريج: أخبرني عطاء: ان عائشة نذرت جوارا (1) في جوف ثبير (2) مما يلي منى، وقال معمر عن أيوب السختياني عن ابن أبي مليكة قال: اعتكفت عائشة أم المؤمنين بين حراء وثبير فكنا نأتيها هنالك. فخالفوا عائشة في هذا أيضا، وهذا عجب. وأما ابن عمر فحدثنا يونس بن عبد الله نا أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم نا أحمد ابن خالد نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن بشار نا يحيى بن سعيد القطان نا عبد الملك ابن أبي سليمان عن عطاء بن أبي رباح: ان ابن عمر كان إذا اعتكف ضرب فسطاطا أو خباء يقضى فيه حاجته، ولا يظله سقف بيت. فكان ابن عمر حجة فيما روى عنه أنه لا اعتكاف الا بصوم، ولم يكن حجة في أنه كان إذا اعتكف لا يظله سقف بيت. فصح ان القوم إنما يموهون بذكر من يحتج به من الصحابة ايهاما، لأنهم لا مؤنة عليهم من خلافهم فيما لم يوافق من أقوالهم رأى أبي حنيفة ومالك وأنهم لا يرون أقوال الصحابة حجة إلا إذا وافقت رأى أبي حنيفة ومالك فقط، وفى هذا ما فيه. فبطل قولهم لتعريه من البرهان. ومن عجائب الدنيا ومن الهوس قولهم: لما كان الاعتكاف لبثا في موضع أشبه الوقوف بعرفة، والوقوف بعرفة لا يصح إلا محرما، فوجب ان لا يصح الاعتكاف الا بمعنى آخر، وهو الصوم.
(1) بضم الجيم وكسرها (2) كذا في حاشية النسخة رقم (14) على أنه نسخة، وقد اخترناه لوضوح معناه، وفى الأصلين (في جور ثبير) ولم يتضح معنى كلمة (جور) هنا، الا إن كان المراد بجانبه وعلى ناحية منه، وكأنه من قولهم (هو جور عن طريقنا) أي مائل عنه ليس على جادته 185 فقيل لهم: لما كان اللبث بعرفة لا يقتضى وجوب الصوم وجب أن يكون الاعتكاف لا يقتضى وجوب الصوم. قال أبو محمد: من البرهان على صحة قولنا اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فلا يخلو صومه من أن يكون لرمضان خالصا - وكذلك هو - فحصل الاعتكاف مجردا عن صوم يكون من شرطه وإذا لم يحتج الاعتكاف إلى صوم ينوى به الاعتكاف فقد بطل أن يكون الصوم من شروط الاعتكاف وصح انه جائز بلا صوم، وهذا برهان ما قدروا على اعتراضه الا بوساوس لا تعقل. ولو قالوا: إنه عليه السلام صام للاعتكاف لا لرمضان أو لرمضان والاعتكاف لم يبعدوا عن الانسلاخ من الاسلام. وأيضا فان الاعتكاف هو بالليل كهو بالنهار، ولا صوم بالليل، فصح ان الاعتكاف لا يحتاج إلى صوم. فقال مهلكوهم ههنا: إنما كان الاعتكاف بالليل تبعا للنهار. فقلنا: كذبتم ولا فرق بين هذا القول وبين من قال: بل إنما كان بالنهار تبعا لليل، وكلا القولين فاسد. فقالوا: إنما قلنا: انا الاعتكاف يقتضى (1) أن يكون في حال صوم. فقلنا: كذبتم لان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى) فلما كان الاعتكاف عندنا وعندكم لا يقتضى أن يكون معه صوم ينوى به الاعتكاف -: صح ضرورة أن الاعتكاف ليس من شروطه ولا من صفاته ولا من حكم أن يكون معه صوم، وقد جاء نص صحيح بقولنا. كما روينا من طريق أبى داود: نا عثمان بن أبي شيبة نا أبو معاوية ويعلي بن عبيد كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد ان يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفه، قالت: وانه أراد مرة ان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، قالت: فأمر ببنائه فضرب فلما رأيت ذلك أمرت بينائى فضرب، وأمر غيري من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ببنائهن (2) فضرب، فلما صلى الفجر نظر إلى الأبنية، فقال: ما هذه؟ البر تردن؟ فأمر ببنائه فقوض،
(1) في النسخة رقم (16) (ان الاعتكاف إنما يقتضى) الخ (2) في أبي داود (ج 2 ص 307 و 308) نسختان (ببنائه) و (ببنائها) وما هنا أحسن 186 وأمر أزواجه بأبنيتهن فقوضن، (1) ثم أخر الاعتكاف إلى العشر الأول، يعنى من شوال) قال أبو محمد. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد اعتكف العشر الأول من شوال، وفيها يوم الفطر، ولا صوم فيه. ومالك يقول. لا يخرج المعتكف في العشر الأواخر من رمضان عن اعتكافه الا حتى ينهض إلى المصلى، فنسألهم: أمعتكف هو ما لم ينهض إلى المصلى أم غير معتكف؟ فان قالوا هو معتكف، تناقضوا، وأجازوا الاعتكاف بلا صوم برهة من يوم الفطر، وان قالوا: ليس معتكفا، قلنا. فلم منعتموه الخروج اذن؟. 626 - مسألة - ولا يحل للرجل مباشرة المرأة ولا للمرأة مباشرة الرجل في حال الاعتكاف بشئ من الجسم، الا في ترجيل المرأة للمعتكف خاصة، فهو مباح، وله اخراج رأسه من المسجد للترجيل. لقول الله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) فصح أن من تعمد ما نهى عنه من عموم المباشرة - ذا كرا لاعتكافه - فلم يعتكف كما أمر، فلا اعتكاف له، فإن كان نذرا قضاه، وإلا فلا شئ عليه، وقوله تعالى: (وأنتم عاكفون في المساجد) خطاب للجميع من الرجال والنساء، فحرمت المباشرة بين الصنفين. ومن طريق البخاري: نا محمد بن يوسف نا سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة أم المؤمنين قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف، فأرجله وأنا حائض). فخرج هذا النوع من المباشرة من عموم نهى الله عز وجل. وبالله التوفيق. 627 - مسألة - وجائز للمعتكف أن يشترط ما شاء من المباح والخروج له، لأنه بذلك إنما التزم الاعتكاف في خلال (2) ما استثناه، وهذا مباح له، أن يعتكف إذا شاء، ويترك إذا شاء، لان الاعتكاف طاعة، وتركه مباح، فان أطاع أجر، وان ترك لم يقض. وإن العجب ليكثر ممن لا يجيز هذا الشرط والنصوص كلها من القرآن والسنة موجبة لما ذكرنا، ثم يقول: بلزوم الشروط (3) التي أبطلها القرآن والسنن، من اشتراط الرجل للمرأة إن تزوج عليها أو تسرى فأمرها بيدها، والداخلة بنكاح
(1) في أبى داود (فقوضت) (2) في النسخة رقم (16) (في حال) (3) في النسخة رقم (16) (ثم يقولون يلزم الشروط) وما هنا أصح 187 طالق، والسرية حرة، وهذه شروط الشيطان، وتحريم ما أحل الله عز وجل، وقد أنكر الله تعالى ذلك في القرآن. 628 - مسألة - وكل فرض على المسلم فان الاعتكاف لا يمنع منه، وعليه أن يخرج إليه، ولا يضر ذلك باعتكافه، وكذلك يخرج لحاجة الانسان، ومن البول والغائط وغسل النجاسة وغسل الاحتلام، وغسل الجمعة ومن الحيض، إن شاء في حمام أوفى غير حمام. ولا يتردد على أكثر من تمام غسله، وقضاء حاجته، فان فعل بطل اعتكافه. وكذلك يخرج لابتياع ما لابدله ولأهله منه، من الاكل واللباس، ولا يتردد على غير ذلك وفان تردد بلا ضرورة بطل اعتكافه. وله ان يشيع أهله إلى منزلها. وإنما يبطل الاعتكاف خروجه لما ليس فرضا عليه. وقد افترض الله تعالى على المسلم ما رويناه من طريق البخاري: ثنا محمد ثنا عمرو بن أبي سلمة (1) عن الأوزاعي أنا ابن شهاب أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (حق المسلم على المسلم خمس، رد السلام، وعيادة المريض وابتاع الجنائز وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس). وأمر عليه السلام من دعى إن كان مفطرا فليأكل، وإن كان صائما فليصل، (2) بمعنى أن يدعو لهم. وقال تعالى: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) وقال تعالى: (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) وقال تعالى: (انفروا خفافا وثقالا) فهذه فرائض لا يحل تركها للاعتكاف، وبلا شك عند كل مسلم أن كل من أدى ما افترض الله تعالى عليه فهو محسن، قال الله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل). ففرض على المعتكف أن يخرج لعيادة المريض مرة واحدة، يسأل عن حاله واقفا وينصرف، لان ما زاد على هذا فليس من الفرض، وإنما هو تطويل، فهو يبطل الاعتكاف. وكذلك يخرج لشهود الجنازة، فإذا صلى عليها انصرف، لأنه قد أدى الفرض، وما زاد فليس فرضا، وهو به خارج عن الاعتكاف.
(1) في النسخة رقم (16) (ثنا محمد بن عمرو بن أبي سلمة) وهو خطأ، صححناه من البخاري (ج 2 ص 157) ومن النسخة رقم (14) (2) في النسخة رقم (14) (أن يأكل) و (أن يصلى) 188 وفرض عليه أن يخرج إذا دعى، فإن كان صائما بلغ إلى دار الداعي ودعا وانصرف، ولا يزد على ذلك. وفرض عليه أن يخرج إلى الجمعة بمقدر ما يدرك أول الخطبة، فإذا سلم رجع، فان زاد على ذلك خرج من الاعتكاف، فان خرج كما ذكرنا ثم رأى أن في الوقت فسحة فان علم أنه ان رجع إلى معتكفه ثم خرج أدرك الخطبة فعليه أن يرجع، والا فليتماد، وكذلك إن كان عليه في الرجوع حرج، لقول الله تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج). وكذلك يخرج للشهادة إذا دعى سواء، قبل أو لم يقبل، لان الله تعالى أمر الشهداء بان لا يأبوا إذا دعوا، ولم يشترط من يقبل ممن لا يقبل، وما كان ربك نسيا، فإذا أداها رجع إلى معتكفه ولا يتردد، وفان تردد بطل اعتكافه، فان نزل عدو كافر أو ظالم بساحة موضعه، فان اضطر إلى النفار نفر وقاتل، فإذا استغنى عنه رجع إلى معتكفه، فان تردد لغير ضرورة بطل اعتكافه. وهو كله قول أبى سليمان وأصحابنا. وروينا من طريق سعيد بن منصور: أنا أبو الأحوص أنا أبو إسحاق - هو السبيعي - عن عاصم بن ضمرة قال قال علي بن أبي طالب: إذا اعتكف الرجل فليشهد الجمعة وليحضر الجنازة وليعد المريض وليأت أهله يأمرهم بحاجته وهو قائم. وبه إلى سعيد: نا سفيان - هو ابن عيينة - عن عمار بن عبد الله بن يسار (1) عن أبيه: أن علي بن أبي طالب أعان ابن أخته (2) جعدة بن هبيرة بسبعمائة درهم من عطائه أن يشترى بها خادما، فقال: إني كنت معتكفا، فقال له على: وما عليك لو خرجت إلى السوق فابتعت؟. وبه إلى سفيان: نا هشيم عن الزهري عن عمرة عن عائشة أم المؤمنين: أنها كانت
(1) عمار هذا لم أجد له ترجمة، ولكن ذكره في التهذيب راويا عن أبيه عبد الله ابن يسار الجهني، ووقع في التهذيب (ج 6 ص 85) بلفظ (وعنه ابن عمار) وهو خطأ مطبعي، والصواب (وعنه ابنه عمار) وله رواية عن أبيه في تاريخ الطبري (ج 6 ص 233) (2) في النسخة رقم (14) (ابن أخيه) وهو تصحيف، والصواب ما هنا، فان جعدة بن هبيرة أمه أم هانئ بنت أبي طالب أخت علي رضي الله عنه 189 لاتعود المريض من أهلها إذا كانت معتكفة إلا وهي مارة وبه إلى سعيد: نا هشيم أنا مغيرة عن إبراهيم النخعي قال: كانوا يستحبون للمعتكف أن يشترط هذه الخصال - وهن له وان لم يشترط -: عيادة المريض ولا يدخل سقفا ويأتي الجمعة، ويشهد الجنازة، ويخرج إلى الحاجة. قال إبراهيم: ولا يدخل المعتكف سقيفة إلا لحاجة. وبه إلى هشيم: أنا أبو إسحق الشيباني عن سعيد بن جبير قال: المعتكف يعود المريض ويشهد الجنازة ويجيب الامام. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة: أنه كان يرخص للمعتكف أن يتبع الجنازة ويعود المريض ولا يجلس. ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: المعتكف يدخل الباب فيسلم ولا يقعد، يعود المريض، وكان لا يرى بأسا إذا خرج المعتكف لحاجته فلقيه رجل فسأله أن يقف عليه فيسائله. قال أبو محمد: إن اضطر إلى ذلك، أو سأله عن سنة من الدين، وإلا فلا. ومن طريق شعبة عن أبي إسحاق الشيباني عن سعيد بن جبير قال: للمعتكف أن يعود المريض ويتبع الجنازة ويأتي الجمعة ويجيب الداعي. ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء: إن نذر جوارا أينوى (1) في نفسه أنه لا يصوم، وأنه يبيع ويبتاع، ويأنى الأسواق، ويعود المريض، ويتبع الجنازة وإن كان مطر (فانى استكن في البيت، وأتي أجاور جوارا منقطعا، أو أن يعتكف النهار ويأتي البيت بالليل؟ قال عطاء: ذلك على نيته ما كانت، ذلك له، هو قول قتادة أيضا. وروينا عن سفيان الثوري أنه قال: المعتكف يعود المرضى (2) ويخرج إلى الجمعة ويشهد الجنائز. هو قول الحسن بن حي. وروينا عن مجاهد وعطاء وعروة والزهري: لا يعود المعتكف مريضا ولا يشهد الجنازة، هو قول مالك والليث. قال مالك: لا يخرج إلى الجمعة.
(1) في النسخة رقم (16) (ينوى) بدون الهمزة (2) في النسخة رقم (16) (للمعتكف أن يعود المريض) 190 قال أبو محمد: هذا مكان صح فيه عن علي وعائشة ما أوردنا، ولا مخالف لهما يعرف من الصحابة، وهم يعظمون مثل هذا إذا خالف (1) تقليدهم. وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن علي بن الحسين عن صفية أم المؤمنين قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا، فحدثته، ثم قمت فانقلبت، فقام معي ليقلبني، وكان مسكنها (2) في دار أسامة) وذكر باقي الخبر. قال أبو محمد: في هذا كفاية، وما نعلم لمن منع من كل ما ذكر نا حجة، لامن قرآن ولا من سنة ولا من قول صاحب، ولا قياس. ونسألهم: ما الفرق بين ما أبا حواله من الخروج لقضاء الحاجة وابتياع ما لابد منه وبين خروجه لما افترضه الله عز وجل عليه. وقال أبو حنيفة. ليس له ان يعود المريض، ولا ان يشهد الجنازة، وعليه أن يخرج إلى الجمعة بمقدار (3) ما يصلى ست ركعات قبل الخطبة وله أن يبقى في الجامع بعد صلاة الجمعة مقدار ما يصلى ست ركعات، فان بقي أكثر أو خرج لأكثر لم يضره شيئا، فان خرج لجنازة أو لعيادة مريض بطل اعتكافه. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: له أن يخرج لكل ذلك، فإن كان مقدار لبثه في خروجه لذلك نصف يوم فأقل لم يضر اعتكافه ذلك، فإن كان أكثر من نصف يوم بطل اعتكافه. قال أبو محمد: ان في هذه التحديدات لعجبا وما ندري كيف يسمح ذو عقل أن يشرع في دين الله هذه الشرائع الفاسدة فيصير محرما محللا موجبا دون الله تعالى وما هو الا ما جاء النص بإباحته فهو مباح، قل أمده أو كثر، أو ما جاء النص بتحريمه فهو حرام قل أمده أو كثر، أو ما جاء النص بايجابه فهو واجب الا أن يأتي نص بتحديد في شئ من ذلك، فسمعا وطاعة.
(1) كذا في الأصلين (خالف) والكلام يقتضى أن يكون (وافق) (2) في النسخة رقم (16) (مسكنه) وهو خطأ، والصواب ما هنا، وهو الموافق لأبي داود (ج 2 ص 309 و 310) وقد روى الحديث عن ابن شبويه المروزي عن عبد الرازق، ونسبه المنذري للبخاري ومسلم والنسائي وابن ماجة. ومعنى (ليقلبني) أي يردني إلى بيتي (3) في النسخة رقم (16) (وعلى أن يخرج إلى الجمعة الا بمقدار) الخ وهو خطأ وخلط 191 629 - مسألة - ويعمل المعتكف في المسجد كل ما أبيح له، من محادثة فيما لا يحرم، ومن طلب العلم أي علم كان، ومن خياطة وخصام في حق ونسخ وبيع وشراء، وتزوج وغير ذلك لا تحاش شيئا لان الاعتكاف هو الإقامة كما ذكرنا، فهو إذا فعل ذلك في المسجد فلم يترك الاعتكاف. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي، وأبي سليمان. ولم ير ذلك مالك. وما نعلم له حجة في ذلك، لامن قرآن ولا من سنة لا صحيحة ولا سقيمة، ولا قول صاحب، ولا قول متقدم من التابعين، ولا قياس، ولا رأى له وجه. وأعجب ذلك (1) منعه من طلب العلم في المسجد وقد ذكرنا قبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عائشة رضي الله عنها ترجل شعره المقدس وهو في المسجد، وكل ما أباحه الله تعالى فليس معصية لكنه إما طاعة واما سلامة. 630 - مسألة - ولا يبطل الاعتكاف شئ الا خروجه عن المسجد لغير حاجة عامدا ذاكرا، لأنه قد فارق العكوف وتركه، ومباشرة المرأة في غير الترجيل، لقول الله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) وتعمد معصية الله تعالى - أي معصية كانت، لان العكوف الذي ندب الله تعالى إليه هو الذي لا يكون على معصية، ولا شك عند أحد من أهل الاسلام في أن الله تعالى حرم العكوف على المعصية فمن عكف في المسجد على معصية فقد ترك العكوف على الطاعة فبطل عكوفه. وهذا كله قول أبى سليمان، وأحد قولي الشافعي. وقال مالك: القبلة تبطل الاعتكاف. وقال أبو حنيفة: لا يبطل الاعتكاف مباشرة ولا قبلة إلا أن ينزل، وهذا تحديد فاسد، وقياس للباطل على الباطل، وقول بلا برهان. 631 - مسألة - ومن عصى ناسيا أو خرج ناسيا أو مكرها أو باشر أو جامع ناسيا أو مكرها -: فالاعتكاف تام لا يكدح (2) كل ذلك فيه شيئا، لأنه لم يعمد ابطال (3) اعتكافه
(1) في النسخة رقم (14) (وأعجب من ذلك) وما هنا أحسن (2) كذا في الأصلين بالكاف، وهو صحيح، يقال كدح وجه أمره إذا أفسده (3) كذا في الأصلين وهو صحيح، (عمد) يتعدى بنفسه وباللام وبالى 192 وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه). 632 - مسألة - ويؤذن في المئذنة إن كان بابها في المسجد أو في صحنه، ويصعد على ظهر المسجد، لان كل ذلك من المسجد، فإن كان باب المئذنة خارج المسجد بطل اعتكافه إن تعمد ذلك. وهو قول مالك والشافعي وأبي سليمان. وقال أبو حنيفة: لا يبطل. وهذا خطأ، لان الخروج عن المسجد - قل أو كثر - مفارقة للعكوف وترك له، والتحديد في ذلك بغير نص باطل، ولا فرق بين خطوة وخطوتين إلى مائة ألف خطوة وبالله تعالى التوفيق. 633 - مسألة - والاعتكاف جائز في كل مسجد جمعت فيه الجمعة أو لم تجمع، سواء كان مسقفا أو مكشوفا، فإن كان لا يصلى فيه جماعة ولا له إمام لزمه فرض الخروج لكل صلاة إلى المسجد تصلى فيه جماعة (1)، الا ان يبعد منه بعدا يكون عليه فيه حرج فلا يلزمه، وأما المرأة التي لا يلزمها فرض الجماعة فتعتكف فيه، ولا يجوز الاعتكاف في رحبة المسجد الا أن تكون منه، ولا يجوز للمرأة ولا للرجل ان يعتكفا أو أحدهما في مسجد داره. برهان ذلك قول الله تعالى: (وأنتم عاكفون في المساجد) فعم تعالى ولم يخص. فان قيل: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا). قلنا نعم، بمعنى انه تجوز الصلاة فيه، وإلا فقد جاء النص والاجماع بأن البول والغائط جائز فيما عدا المسجد، فصح انه ليس لما عدا المسجد حكم المسجد، فصح ان لا طاعة في إقامة في غير المسجد، فصح ان لا اعتكاف إلا في مسجد، وهذا يوجب ما قلنا. وقد اختلف الناس في هذا. فقالت طائفة: لا اعتكاف الا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) كذا في النسخة رقم (16) وهو صحيح، وفى النسخة رقم (14) (إلى مسجد تصلى فيه جماعة) 193 كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة احسبه عن سعيد بن المسيب قال: لا اعتكاف الا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو محمد: ان لم يكن قول سعيد فهو قول قتادة، لاشك في أحدهما. وقالت طائفة: لا اعتكاف الا في مسجد مكة ومسجد المدينة فقط. كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: لا جوار الا في مسجد مكة ومسجد المدينة، قلت له: فمسجد إيليا؟ قال: لا تجاور الا مسجد مكة ومسجد المدينة. وقد صح عن عطاء ان الجوار هو الاعتكاف. وقالت طائفة: لا اعتكاف الا في مسجد مكة أو مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس. كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن واصل الأحدب عن إبراهيم النخعي قال: جاء حذيفة إلى عبد الله بن مسعود فقال له: ألا أعجبك (1) من ناس عكوف بين دارك ودار الأشعري؟ فقال له عبد الله: فلعلهم أصابوا أو أخطأت فقال له حذيفة: ما أبالي، أفيه اعتكف أوفى سوقكم هذه، إنما الاعتكاف في هذه المساجد الثلاثة: مسجد الحرام، ومسجد المدينة، والمسجد الأقصى، قال إبراهيم: وكان الذين اعتكفوا فعاب عليهم حذيفة -: في مسجد الكوفة الأكبر. ورويناه أيضا ممن طريق عبد الرزاق عن أبن عيينة عن جامع بن أبي راشد قال سمعت أبا وائل يقول: قال حذيفة لعبد الله بن مسعود: قوم عكوف بين دارك ودار ابن موسى، ألا تنهاهم؟ فقال له عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت، وحفظوا ونسيت فقال حذيفة: لا اعتكاف الا في هذه المساجد الثلاثة: مسجد المدينة، ومسجد مكة، ومسجد إيليا. وقالت طائفة: لا اعتكاف الا في مسجد جامع. روينا هذا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء، وهو أول قوليه. وقالت طائفة: لا اعتكاف الا في مصر جامع. كما روينا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: لا اعتكاف الا في مصر جامع. وقالت طائفة: لا اعتكاف الا في مسجد نبي.
(1) بكسر الجيم المشددة، يقال: عجبه بالشئ تعجبيا نبهه على التعجب منه 194 كما روينا من طريق ابن الجهم: ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا عبيد الله بن عمر - هو القواريري - ثنا معاذ بن هشام الدستوائي ثنا أبي عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا اعتكاف الا في مسجد نبي. وقالت طائفة: لا اعتكاف الا في مسجد جماعة. كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري، ومعمر، قال سفيان: عن جابر الجعفي عن سعد بن عبيدة (1) عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب، وقال معمر: عن هشام بن عروة ويحيى بن أبي كثير ورجل، قال هشام: عن أبيه، وقال يحيى. عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وقال الرجل: عن الحسن، قالوا كلهم: لا اعتكاف الا في مسجد جماعة. وصح عن إبراهيم وسعيد بن جبير وأبى قلابة إباحة الاعتكاف في المساجد التي لا تصلى فيها الجمعة، وهو قولنا، لان كل مسجد بنى للصلاة فإقامة الصلاة فيه جائزة فهو مسجد جماعة. وقالت طائفة: الاعتكاف جائز في كل مسجد، ويعتكف الرجل في مسجد بيته. روينا ذلك عن عبد الرزاق عن إسرائيل عن رجل عن الشعبي قال: لا بأس ان يعتكف الرجل في مسجد بيته. وقال إبراهيم، وأبو حنيفة: تعتكف المرأة في مسجد بيتها. قال أبو محمد: أما من حد مسجد المدينة وحده أو مسجد مكة ومسجد المدينة، أو المساجد الثلاثة أو المسجد الجامع (2): فأقوال لا دليل على صحتها فلا (3) معنى لها وهو تخصيص لقول الله تعالى (وأنتم عاكفون في المساجد). فان قيل: فأين أنتم عما زويتموه من طريق سعيد بن منصور: نا سفيان - هو ابن عيينة - عن جامع بن أبي راشد عن شقيق بن سلمة قال: قال حذيفة لعبد الله بن مسعود: قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) أو قال: (مسجد جماعة)؟. قلنا: هذا شك من حذيفة أو ممن دونه، ولا يقطع على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشك، ولو أنه عليه السلام قال: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة) لحفظه الله تعالى علينا،
(1) في الأصلين (سعيد بن عبيدة) وهو خطأ (2) في النسخة رقم (16) (الحرام) بدل (الجامع) وهو خطأ ظاهر (3) في النسخة رقم (16) (ولا) 195 ولم يدخل فيه شكا، فصح يقينا انه عليه السلام لم يقله قط. فان قيل: فقد رويتم من طريق سعيد بن منصور: نا هشيم أنا جويبر عن الضحاك عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مسجد فيه إمام ومؤذن فالاعتكاف فيه يصلح (1)). قلنا: هذه سوأة لا يشتغل بها ذو فهم، جويبر هالك، والضحاك ضعيف ولم يدرك حذيفة (2). وأما قول إبراهيم وأبي حنيفة فخطأ، لان مسجد البيت لا يطلق عليه اسم مسجد، ولا خلاف في جواز بيعه وفى أن يجعل كنيفا. وقد صح أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن في المسجد، وهم يعظمون خلاف الصاحب، ولا مخالف لهن من الصحابة. فقال بعضهم: إنما كان ذلك لأنهن كن معه عليه السلام. فقلنا: كذب من قال هذا وافترى بغير علم وأثم. واحتج أيضا بقول عائشة: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما صنع النساء لمنعهن المساجد. وقد ذكرنا في كتاب الصلاة بطلان التعلق بهذا الخبر (3)، وأقرب ذلك بأنه لا يحل ترك ما لم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم، ولا المنع مما لم يمنع منه عليه السلام -: لظن أنه لو عاش لتركه ومنع منه، وهذا إحداث شريعة في الدين، أم المؤمنين القائلة هذا لم تر قط منع النساء من المساجد، فظهر فساد قولهم. وبالله تعالى التوفيق. 634 - مسألة - وإذا حاضت المعتكفة أقامت في المسجد كما هي تذكر الله تعالى، وكذلك إذا ولدت، فإنها إن اضطرت إلى الخروج خرجت ثم رجعت إذا قدرت. لما قد بينا قبل من أن الحائض تدخل المسجد، ولا يجوز منعها منه (4)، إذ لم يأت بالمنع لها منه نص ولا إجماع. وهو قول أبى سليمان.
(1) رواه أيضا الدارقطني (ص 247) من طريق اسحق الأزرق عن جويبر (2) الضحاك هو ابن مزاحم، وهو لم يدرك أحدا من الصحابة، وفى سماعه من ابن عباس خلاف، والراجح أنه لم يسمع منه، ووافق الدارقطني المؤلف في أنه لم يسمع من حذيفة (3) وقد تقدم ذلك في المسألة 321 (ج 3 ص 132 - 136) وفى المسألة 485 (ج 4 ص 200 - 201) (4) تقدم في المسألة 262 (ج 2 ص 184 - 187) 196 روينا من طريق البخاري: نا قتيبة نا يزيد بن زريع عن خالد الحذاء عن عكرمة عن عائشة أم المؤمنين قالت: (اعتكفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه مستحاضة، فكانت ترى الحمرة والصفرة، فربما وضعت الطست تحتها وهي تصلى) (1). 635 - مسألة - ومن مات وعليه نذر اعتكاف قضاه عنه وليه أو استؤجر من رأس ماله من يقضيه عنه، لابد من ذلك. لقول الله تعالى: (من بعد وصية يوصى بها أو دين). ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟! (2) فدين الله أحق أن يقضى). ولما روينا من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن عباس: (أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقضه عنها) وهذا عموم لكل نذر طاعة، فلا يحل لاحد خلافه. وقد ذكرنا في باب هل على المعتكف صيام أم لا قبل فتيا ابن عباس بقضاء نذر الاعتكاف (3). وروينا من طريق سعيد بن منصور: نا أبو الأحوص نا إبراهيم بن مهاجر عن عامر بن مصعب قال: اعتكفت عائشة أم المؤمنين عن أخيها بعد ما مات. وقال الحسن بن حي: من مات وعليه اعتكاف اعتكف عنه وليه. وقال الأوزاعي: يعتكف عنه وليه إذا لم يجد ما يطعم (4) قال: ومن نذر صلاة فمات صلاها عنه وليه. قال إسحاق بن راهويه: يعتكف عنه وليه ويصلى عنه وليه إذا نذر صلاة أو اعتكافا ثم مات قبل أن يقضى ذلك. وقال سفيان الثوري: الا طعام عنه أحب إلى من أن يعتكف عنه.
(1) في النسخة رقم (21) (وتصلى) وما هنا هو الموافق للبخاري (ج 3 ص 107) (2) (قاضيه) بالهاء خطاب للمذكر، إذا السائل رجل، كما في صحيح مسلم (ج 1 ص 135) وفى النسخة رقم (16) (قاضية) بالتاء، وهو تصحيف (3) تقدم في المسألة 625 هذا الجزء (4) في النسخة رقم (16) (وإذا لم يجده فليطعم) وهو كلام لا معنى له هنا 197 قال أبو حنيفة ومالك والشافعي: يطعم عنه لكل يوم مسكين. قال أبو محمد: هذا قول ظاهر الفساد، وما للاطعام مدخل في الاعتكاف. وهم يعظمون خلاف الصاحب إذا وافق تقليدهم، وقد خالفوا ههنا عائشة وابن عباس، ولا يعرف لهما في ذلك مخالف من الصحابة رضى الله تعالى عنهم. وقولهم في هذا قول لم يأت به قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولاقول صاحب ولا قياس، بل هو مخالف لكل ذلك. وبالله تعالى التوفيق. ومن عجائب الدنيا قول أبي حنيفة: من نذر اعتكاف شهر وهو مريض فلم يصح فلا شئ عليه، فلو نذر اعتكاف شهر وهو صحيح فلم يعش إثر نذره إلا عشرة أيام ومات فإنه يطعم عنه ثلاثون مسكينا، وقد لزمه اعتكاف شهر قال: فان نذر اعتكافا لزمه يوم بلا ليلة، فان قال على اعتكاف يومين لزمه يومان ومعهما ليلتان! (1) وقال أبو يوسف: إن نذر اعتكاف ليلتين (2) فليس عليه إلا يومان وليلة واحدة، كما لو نذر اعتكاف يومين ولافرق. فهل في التخليط أكثر من هذا؟ ونسأل الله العافية. 636 - مسألة - ومن نذر اعتكاف يوم أو أيام مسماة أو أراد ذلك تطوعا -: فإنه يدخل في اعتكافه قبل أن يتبين له طلوع الفجر، ويخرج إذا غاب جميع قرص الشمس، سواء كان ذلك في رمضان أو غيره. ومن نذر اعتكاف ليلة أو ليال مسماة أو أراد ذلك تطوعا -: فإنه يدخل قبل أن يتم غروب جميع قرص الشمس، ويخرج إذا تبين له طلوع الفجر. لان مبدأ الليل إثر غروب الشمس، وتمامه بطلوع الفجر. ومبدأ اليوم بطلوع الفجر، وتمامه بغروب الشمس كلها، وليس على أحد إلا ما التزم أو ما نوى. فان نذر اعتكاف شهر أو أراده تطوعا -: فمبدأ الشهر من أول ليلة منه فيدخل قبل أن يتم غروب جميع قرص الشمس، ويخرج إذا غابت الشمس كلها من آخر الشهر، سواء رمضان وغيره. لان الليلة المستأنفة ليست من ذلك الشهر الذي نذر اعتكافه أو نوى اعتكافه.
(1) في النسخة رقم (16) (الليلتان) وما هنا أحسن (2) في النسخة رقم (16) (إن اعتكف ليلتين) وهو خطأ 198 فان نذر اعتكاف العشر الأواخر من رمضان دخل قبل غروب الشمس من اليوم التاسع عشر لان الشهر قد يكون من تسع وعشرين ليلة، فلا يصح له اعتكاف العشر الأواخر إلا كما قلنا، وإلا فإنما اعتكف تسع ليال فقط، فإن كان الشهر ثلاثين علم أنه اعتكف ليلة زائدة، وعليه أن يتم اعتكاف الليلة الآخرة ليفي بنذره، وإلا من علم بانتقال القمر، فيدخل بقدر ما يدرى أنه يفي بنذره. والذي قلنا - من وقت الدخول والخروج - هو قول الشافعي وأبي سليمان. وروينا من طريق البخاري: نا عبد الله بن منير سمع هارون بن إسماعيل ثنا علي بن المبارك ثنا يحيى بن أبي كثير سمع أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنا أبا سعيد الخدري قال له: (اعتكفنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان، فخرجنا صبيحة عشرين) (1). وهذا نص قولنا. ومن طريق البخاري: نا إبراهيم بن حمزة (2) - هو الزبيدي - حدثني ابن أبي حازم والدراوردي كلاهما عن يزيد - هو ابن عبد الله بن الهاد - عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في رمضان الشعر التي (3) في وسط الشهر، فإذا كان حين يمسى من عشرين ليلة ويستقبل إحدى وعشرين رجع إلى مسكنه، ورجع من كان يجاور معه). وهذا نص قولنا، إلا أن فيه أنه عليه السلام كان يبقى يومه إلى أن يمسى، وهذا يخرج على أحد وجهين: إما أنه تنفل منه عليه السلام، وإما أنه عليه السلام نوى أن يعتكف العشر الليالي بعشرة أيامها. وهذا حديث رواه مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم، فوقع في لفظه تخليط وإشكال لم يقعا في رواية عبد العزيز بن أبي حازم وعبد العزيز بن محمد الدراوردي الا أنه موافق لهما في المعنى. وهو أننا روينا هذا الخبر نفسه عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري:
(1) هو في البخاري (ج 3 ص 106 - 107) (2) هو بالحاء والزاي، وفى النسخة رقم (16) (جمرة) وهو تصحيف (3) في الأصلين (الذي) وما هنا هو ما في البخاري (ج 3 ص 101) والحديث اختصره المؤلف 199 (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف الشعر الأوسط (1) من رمضان، فاعتكف عاما (2) حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين - وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها (3) من اعتكافه - قال: من كان (4) اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر، فقد رأيت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر، فمطرت السماء (6) تلك الليلة، وكان المسجد على عريش، فبصرت (7) عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين من صبح إحدى وعشرين). قال أبو محمد: من المحال الممتنع أن يكون عليه السلام يقول هذا القول بعد انقضاء ليلة إحدى وعشرين، وينذر بسجوده في ماء وطين فيما يستأنف، ويكون ذلك ليلة إحدى وعشرين التي مضت، فصح ان معنى قول الراوي: (حتى إذا كان ليلة إحدى وعشرين) أراد استقبال ليلة إحدى وعشرين، وبهذا تتفق رواية يحيى بن أبي كثير مع رواية محمد بن إبراهيم، كلاهما عن أبي سلمة ورواية الدراوردي وابن أبي حازم ومالك، كلهم عن يزيد ابن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم التيمي. وروينا من طريق البخاري: نا أبو النعمان - هو محمد بن الفضل - نا حماد بن زيد نا يحيى - هو ابن سعيد الأنصاري - عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلى الصبح ثم يدخله). قال أبو محمد: هذا تطوع منه عليه السلام، وليس أمرا منه ومن زاد في البر زاد خيرا. ويستحب للمعتكف والمعتكفة أن يكون لكل أحد خباء في صحن المسجد، ائتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك واجبا وبالله تعالى التوفيق. (تم كتاب الاعتكاف وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين والحمد لله رب العالمين)
(1) في الموطأ (ص 98) (العشر الوسط) وفى البخاري (ج 3 ص 103) من طريق مالك (يعتكف في العشر الأوسط) (2) قوله (عاما) محذوف من الأصلين، وزدناه من الموطأ والبخاري (3) هذا ما في البخاري، وفى الموطأ (يخرج فيها من صبحها) (4) في الأصلين بحذف (كان) وهو خطأ (5) هكذا في النسخة رقم (16) والموطأ، وفى النسخة رقم (14) والبخاري (أريت) (6) في النسخة رقم (16) (فنظرت السماء) وهو خطأ (7) في النسخة رقم (16) (فنظرت) وهو خطأ، وما هنا هو الموافق للبخاري وفى الموطأ (فأبصرت). 200 (كتاب الزكاة) 637 - مسألة - الزكاة فرض كالصلاة، هذا اجماع متيقن. وقال الله تعالى: (فان تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) فلم يبح الله تعالى سبيل أحد حتى يؤمن بالله تعالى ويتوب عن الكفر ويقيم الصلاة ويؤتى الزكاة. حدثنا عبد الله بن يوسف ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو غسان مالك بن عبد الواحد المسمعي (1) ثنا عبد الملك بن الصباح عن شعبة عن واقد بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوه عصموا منى دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله) (2). قال أبو محمد: وبين الله تعالى على لسانه رسوله صلى الله عليه وسلم مقدار الزكاة، ومن أي الأموال تؤخذ؟ وفى أي وقت تؤخذ، ومن يأخذها؟ وأين توضع؟. 638 - مسألة - والزكاة فرض على الرجال والنساء الأحرار منهم والحرائر والعبيد، والإماء، والكبار، والصغار، والعقلاء والمجانين من المسلمين. ولا تؤخذ من كافر. قال الله عز وجل: (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) فهذا خطاب منه تعالى لكل بالغ عاقل، من حر، أو عبد، ذكر، أو أنثى، لأنهم كلهم من الذين آمنوا. وقال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فهذا عموم لكل صغير وكبير، وعاقل ومجنون وحر وعبد، لأنهم كلهم محتاجون إلى طهرة الله تعالى لهم وتزكيته إياهم، وكلهم من الذين آمنوا. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الهمداني ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري
(1) بكسر الميم الأولى وفتح الثانية وبينهما سين مهملة ساكنة، نسبة إلى المسامعة، وهي محلة بالبصرة نزلها بنو مسمع بن شهاب بن عمرو بن عباد بن ربيعة، و (مسمع) بفتح الميم الأولى وكسر الثانية، والنسبة إليه بكسر الأولى وفتح الثانية، قال السمعاني في الأنساب (هكذا سمعنا مشايخنا يقولون) (2) هو في صحيح مسلم (ج 1 ص 23) 201 ثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن زكرياء بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي (1) عن أبي معبد عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال: أدعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله، فان هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض (2) عليهم خمس صلوات في يوم وليلة (3)، فان هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض (4) عليهم صدقة في أموالهم، تؤخذ من أغنيائهم، وترد في فقرائهم) (5) فهذا عموم لكل غنى من المسلمين، وهذا يدخل فيه الصغير والكبير، والمجنون، والعبد، والأمة، إذا كانوا أغنياء وقد اختلف الناس في هذا. فأما أبو حنيفة والشافعي فقالا: زكاة مال العبد على سيده، لان مال العبد لسيده ولا يملكه العبد. قال أبو محمد: أما هذان فقد وافقا أهل الحق في وجوب الزكاة في مال العبد، وإنما الخلاف بيننا وبينهم في هل يملك العبد ماله أم لا؟ وليس هذا مكان الكلام في هذه المسألة، وحسبنا أنهما متفقان معنا في أن الزكاة واجبة في مال العبد. وقال مالك: لا تجب الزكاة في مال العبد، لا عليه ولا على سيده. وهذا قول فاسد جدا، لخلافه القرآن والسنن، وما نعلم لهم حجة أصلا، إلا أن بعضهم قال: العبد ليس بتام الملك، فقلنا: أما تام الملك فكلام لا يعقل!. لكن مال العبد لا يخلو من أحد أوجه ثلاثة لا رابع لها. إما أن يكون للعبد وهذا قولنا، وإذا كان له فهو مالكه، وهو مسلم، فالزكاة عليه كسائر المسلمين ولا فرق:. وإما أن يكون لسيده كما قال أبو حنيفة والشافعي، فيزكيه سيده، لأنه مسلم، وكذلك إن كان لهما معا. وإما أن يكون لا للعبد ولا للسيد، فإن كان ذلك فهو حرام على العبد وعلى السيد،
(1) بفتح الصاد المهملة واسكان الياء، وفى النسخة رقم (16) بالضاد المعجمة وهو تصحيف (2) في البخاري (ج 1 ص 215) (قد افترض) (3) كذا في الأصلين، وفى البخاري (في كل يوم وليلة) (4) في النسخة رقم (16) (فرض) وما هنا هو الموافق للبخاري (5) كذا في الأصلين، وفى البخاري (وترد على فقرائهم) 202 وينبغي أن يأخذه الامام، فيضعه حيث يضع كل مال لا يعرف له رب وهذا لا يقولون به، لا سيما مع تناقضهم في إباحتهم للعبد أن يتسرى باذن سيده، فلولا أنه عندهم مالك لما له لما حل له وطئ فرج لا يملكه أصلا، ولكان زانيا، قال الله تعالى: (والذين هم لفروجهم حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فاؤلئك هم العادون) فلو لم يكن العبد مالكا ملك يمينه لكان عاديا إذا تسرى، وهم يرون الزكاة على السفيه والمجنون، ولا ينفذ أمرهما في أموالهما، فما الفرق بين هذا وبين مال العبد؟. وموه بعضهم بأنه صح الاجماع على أنه لا زكاة في مال المكاتب. فقلنا: هذا الباطل، وما روى إسقاط الزكاة عن مال المكاتب إلا عن أقل من عشرة من بين صاحب وتابع، وقد صح عن كثير من السلف من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم: أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وصح إيجاب الزكاة في مال العبد عن بعض الصحابة، فالزكاة على هذا القول واجبة في مال المكاتب. وهذا مكان تناقض فيه أبو حنيفة والشافعي، فقالا: لا زكاة في مال المكاتب. واحتجا بأنه لم يستقر عليه ملك بعد. قال أبو محمد: وهذا باطل، لأنهما مجمعان مع سائر المسلمين على أنه لا يحل لاحد أن يأخذ من مال المكاتب فلسا بغير إذنه أو بغير حق واجب، وأن ماله بيده يتصرف فيه بالمعروف، من نفقة على نفسه وكسوة وبيع وابتياع، تصرف ذي الملك في ملكه، فلولا أنه ماله، وملكه ما حل له شئ من هذا كله فيه. وهم كثيرا يعارضون السنن بأنها خلاف الأصول! كقولهم في حديث المصراة، وحديث العتق في الستة الا عبد بالقرعة، وحديث اليمين مع الشاهد، وغير ذلك فليت شعري؟ في أي الأصول وجدوا ما لا محكوما به لانسان ممنوعا منه كل أحد سواه مطلقة عليه يده في بيع وابتياع ونفقة وكسوة وسكنى -: وهو ليس له؟ أم في أي سنة وجدوا هذا؟ أم في أي القرآن؟ أم في غير قياس؟. وممن رأى الزكاة في مال المكاتب أبو ثور وغيره. والعجب أن أبا حنيفة والشافعي مجمعان على أن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فمن أين أسقطا الزكاة عن ماله دون مال غيره من العبيد؟. وأيضا فمن أين وقع لهم أن يفرقوا بين مال المكاتب ومال العبد؟
203 ولابد من أحد أمرين: إما أن يعتق المكاتب، فماله له، فزكاته عليه، وإما أن برق، فماله - قبل وبعد - كان عندهما لسيده، فزكاته على السيد. وشغب بعضهم بروايات رويت عن عمر بن الخطاب، وابنه، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم : لا زكاة في مال العبد والمكاتب. قال أبو محمد: أما الحنيفيون والشافعيون فقد خالفوا هذه الروايات، فرأوا الزكاة في مال العبد. ومن الباطل أن يكون قول من ذكرنا بعضه حجة وبعضه خطأ، فهذا هو التحكم في دين الله تعالى بالباطل. وأما المالكيون فيقال لهم: قد خالف من ذكرنا ما هو أصح من تلك الروايات حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا يزيد بن إبراهيم - هو التستري (1) - ثنا محمد بن سيرين حدثني جابر الحذاء قال: سألت ابن عمر قلت: على المملوك زكاة؟ قال: أليس مسلما؟! قلت: بلى، قال: فان عليه في كل مائتين خمسة (2) فما زاد فبحساب ذلك. حدثنا يوسف بن عبد الله ثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا قاسم بن أصبغ ثنا مطرف ابن قيس ثنا يحيى بن بكير ثنا مالك عن نافع عن ابن عمر: انه كأن يقول: المكاتب عبد ما بقي عليه درهم (3). فالزكاة في قول ابن عمر على المكاتب. وقد صح عن أبي بكر الصديق أنه قال: لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فان الزكاة حق المال. قال أبو محمد: وهم مجمعون على أن الصلاة واجبة على العبد والمكاتب، والنص قد جاء بالجمع بينهما على كل مؤمن على ما أوجبهما النص. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد بن خالد ثنا على ابن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري: أنه قال في مال العبد، قال: يزكيه العبد.
(1) نسبة إلى (تستر) بلد، بضم التاء الأولى وفتح الثانية وبينهما سين مهملة ساكنة (2) في نسخة (خمسة دراهم) (3) هو في الموطأ (ص 231) بلفظ (المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته شئ) 204 وبه إلى حماد بن سلمة عن قيس - هو ابن سعد - عن عطاء بن أبي رباح: أنه قال في زكاة مال العبد، قال يزكيه المملوك. حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني ابن حجير: أن طاوسا كأن يقول: في مال العبد زكاة. حدثنا حمام ثنا عبيد الله بن محمد بن علي الباجي ثنا عبد الله بن يونس المرادي ثنا بقي ابن مخلد ثنا أبو بمكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن زمعة عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال: في مال العبد زكاة. وبه إلى أبى بكر بن أبي شيبة: ثنا غندر عن عثمان بن غياث عن عكرمة: أنه سئل عن العبد هل عليه زكاة؟ قال: هل عليه صلاة؟. وقد روينا نحو هذا عن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب وابن أبي ذئب. وهو قول أبى سليمان وأصحابنا. قال أبو محمد: وكم قصة خالفوا فيها عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله، كقولهما جميعا في صدقة الفطر: مدان من قمح أو صاع من شعير، وغير ذلك كثير. وأما مال الصغير والمجنون فان مالكا والشافعي قالا بقولنا، وهو قول عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأم المؤمنين عائشة وجابر وابن مسعود وعطاء وغيره. وقال أبو حنيفة: لا زكاة في أموالهما من الناض (1) والماشية خاصة، والزكاة واجبة في ثمارهما وزروعهما. ولا نعلم أحدا تقدمه إلى هذا التقسيم. وقال الحسن البصري وابن شبرمة: لا زكاة في ذهبه وفضته خاصة وأما الثمار والزروع والمواشي ففيها الزكاة. وأما إبراهيم النخعي وشريح فقالا: لا زكاة في ماله جملة. قال أبو محمد: وقول أبي حنيفة اسقط كلام وأغثه؟ ليت شعري؟ ما الفرق بين زكاة الزرع والثمار وبين زكاة الماشية والذهب والفضة؟ فلو أن عاكسا عكس قولهم، فأوجب الزكاة في ذهبهما وفضتهما وماشيتهما، واسقطها عن زرعهما وثمرتهما، أكان يكون بين
(1) الأصمعي: (اسم الدراهم والدنانير عن أهل الحجاز الناض والنض، وإنما يسمونه ناضا إذا تحول عينا بعد ما كان متاعا، لأنه يقال: ما نض بيدي منه شئ) نقله في اللسان 205 التحكمين فرق في الفساد؟!. قال أبو محمد إن موه مموه منهم بأنه لا صلاة عليهما. قيل له: قد تسقط الزكاة عمن لا مال له ولا تسقط عنه الصلاة، وإنما تجب الصلاة والزكاة على العاقل البالغ ذي المال الذي فيه الزكاة، فان سقط المال سقطت الزكاة، ولم تسقط الصلاة وان سقط العقل، أو البلوغ سقطت الصلاة ولم تسقط الزكاة، لأنه لا يسقط فرض أوجبه الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم إلا حيث أسقطه الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يسقط فرض من اجل سقوط فرض آخر بالرأي الفاسد بلا نص قرآن ولا سنة (1). وأيضا فان أسقطوا الزكاة عن مال الصغير والمجنون لسقوط الصلاة عنهما ولأنهما لا يحتاجان إلى طهارة فليسقطاها بهذه العلة نفسها عن زرعهما وثمارهما ولا فرق، وليسقطا أيضا عنهما زكاة الفطر بهذه الحجة. فان قالوا: النص جاء بزكاة الفطر على الصغير. قلنا: والنص جاء بها على العبد فأسقطتموها عن رقيق التجارة بآرائكم، وهذا مما تركوا فيه القياس، إذ لم يقيسوا زكاة الماشية والناض على زكاة الزرع والفطر، أو فليوجبوها على المكاتب، لوجوب الصلاة عليه ولا فرق. وقد قال بعضهم: زكاة الزرع والثمرة حق واجب في الأرض، يجب بأول خروجهما. قال أبو محمد: وقد كذب هذا القائل، ولا فرق بين وجوب حق الله تعالى في الزكاة في الذهب والفضة والمواشي من حين اكتسابها إلى تمام الحول -: وبين وجوبه في الزرع والثمار من حين ظهورها إلى حلول وقت الزكاة فيها، والزكاة ساقطة بخروج كل كذلك عن يد مالكه قبل الحول وقبل حلول وقت الزكاة في الزرع والثمار. وإنما
(1) نعم لا يسقط فرض أوجبه الله أو رسوله الا حيث أسقطه الله أو رسوله، ونعم لا يسقط فرض من أجل سقوط فرض آخر، ولكن إذا كانت الزكاة تجب على العاقل البالغ ذي المال فإنها تسقط حيث سقط واحد من هذه الشروط - شروط الوجوب - إن صح جعلها شروطا لوجوبها، والظاهر أن المؤلف أساء العبارة إذا أوهم انها شروط للوجوب، وكان الأصح ان الزكاة تجب في المال كما تجب الدية وكما يجب العوض وكما يجب الثمن مثلا، وان ولى الصبي أو المجنون مكلف باخراجها من مال محجوره، وان ولى الامر يجب عليه استيفاؤها من المال، وهذا هو التحقيق، وهو الذي لجأ إليه المؤلف أخير فيما سيأتي، وان حاورود أو رفى التعبير. 206 الحق على صاحب الأرض، لا على الأرض، ولا شريعة على أرض أصلا، إنما هي على صاحب الأرض، قال الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأيين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا) فظهر كذب هذا القائل وفساد قوله. وأيضا: فلو كانت الزكاة على الأرض لا على صاحب الأرض لوجب أخذها في مال الكافر من زرعه وثماره، فظهر فساد قولهم. وبالله تعالى التوفيق. ولا خلاف في وجوب الزكاة على النساء كهى على الرجال. وهم مقرون بأنها قد تكون أرضون كثيرة لا حق فيها من زكاة ولا من خراج، كأرض مسلم جعلها قصبا وهي تغل المال الكثير، أو تركها لم يجعل فيها شيئا، وكأرض ذمي صالح على جزية رأسه فقط. وقد قال سفيان الثوري والحسن البصري وأشهب والشافعي إن الخراجي الكافر إذا ابتاع أرض عشر من مسلم فلا خراج فيها ولا عشر. وقد صح ان اليهود والنصارى والمجوس بالحجاز واليمن والبحرين كانت لهم أرضون في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلاف بين أحد من الأمة في أنه لم يجعل عليه السلام فهيأ عشرا ولا خراجا. فان ذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاثة) فذكر (الصبي حتى يبلغ والمجنون حتى يفيق). قلنا: فأسقطوا عنهما بهذه الحجة زكاة الزرع والثمار، وأروش الجنايات، التي هي ساقطة بها بلا شك وليس في سقوط القلم سقوط حقوق الأموال. وإنما فيه سقوط الملامة، وسقوط فرائض الأبدان فقط. وبالله تعالى التوفيق. فان قالوا: لا نية لمجنون ولا لمن لم يبلغ، والفرائض لا تجزئ إلا بنية. قلنا: نعم، وإنما أمر بأخذها الامام والمسلمون، بقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) فإذا أخذها من أمر بأخذها بنية انها الصدقة أجزأت عن الغائب والمغمى عليه والمجنون والصغير ومن لا نية له. والعجب أن المحفوظ عن الصحابة رضى الله تعالى عنهم إيجاب (1) الزكاة في مال اليتيم. روينا من طريق أحمد بن حنبل: ثنا سفيان - هو ابن عيينة - عن عبد الرحمن بن
(1) في النسخة رقم (16) (فايجاب) بزيادة الفاء 207 القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأيوب السختياني ويحيى بن سعيد الأنصاري أنهم كلهم سمعوا القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق يقول: كانت عائشة تزكى أموالنا ونحن أيتام في حجرها، زاد يحيى: وإنه ليتجر بها في البحر. ومن طريق أحمد بن حنبل: ثنا وكيع ثنا القاسم بن الفضل - هو الحداني (1) عن معاوية بن قرة عن الحكم بن أبي العاصي الثقفي قال قال لي عمر بن الخطاب: ان عندي مال يتيم قد كادت الصدقة ان تأتى عليه. ومن طريق عبد الرزاق ومحمد بن بكر قالا: أخبرنا ابن جريج أخبرني أبو الزبير انه سمع جابر بن عبد الله يقول في الرجل يلي مال اليتيم، قال: يعطى زكاته. ومن طريق سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن عبيد الله بن أبي رافع قال: باع علي بن أبي طالب أرضا لنا بثمانين ألفا، وكنا يتامى في حجره، فلما قبضنا أموالنا نقصت، فقال: إني كنت أزكيه. وعن ابن مسعود قال: أحص ما في مال اليتيم من زكاة، فإذا بلغ، فان آنست منه رشدا فأخبره، فان شاء زكى وان شاء ترك. وهو قول عطاء وجابر بن زيد وطاوس ومجاهد والزهري وغيرهم، وما نعلم لمن ذكرنا مخالفا من الصحابة، الا رواية ضعيفة عن ابن عباس، فيها ابن لهيعة. وقد حدثنا حمام عن ابن مفرج عن ابن الاعرابي عن الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال قال يوسف بن ماهك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ابتغوا في مال اليتيم لا تأكله الزكاة) (2). والحنيفيون يقولون: المرسل كالمسند، وقد خالفوا ههنا المرسل وجمهور الصحابة رضي الله عنه م. 639 - مسألة - ولا يجوز أخذ الزكاة من كافر. قال أبو محمد: هي واجبة عليه وهو معذب على منعها، إلا أنها لا تجزئ عنه الا أن
(1) بضم الحاء وتشد الدال المهملتين، نسبة إلى حدان بن شمس - بضم الشين المعجمة واسكان الميم - ابن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان. ولم يكن القاسم بن الفضل من بنى حدان بل هو أزدى، وإنما كان نازلا بجنب بنى حدان فنسب إليهم، وكنيته أبو المغيرة (2) ورواه الشافعي من طريق ابن جريج عن يوسف نحوه مرسلا. أيضا انظر التلخيص (ص 176) 208 يسلم، وكذلك الصلاة ولا فرق، فإذا أسلم فقد تفضل عز وجل باسقاط ما سلف عنه من كل ذلك، قال الله تعالى: (الا أصحاب اليمين في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر؟ قالوا: لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين) وقال عز وجل: (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون) وقال تعالى: (قل: للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف). قال أبو محمد: ولا خلاف في كل هذا، الا في وجوب الشرائع على الكفار، فان طائفة عندت عن القرآن والسنن، خالفوا في ذلك. 640 - مسألة - ولا تجب الزكاة إلا في ثمانية أصناف من الأموال فقط وهي: الذهب والفضة والقمح والشعير والتمر والإبل والبقر والغنم ضأنها وما عزها فقط. قال أبو محمد: لا خلاف بين أحد من أهل الاسلام في وجوب الزكاة في هذه الأنواع، وفيها جاءت السنة، على ما نذكر عبد هذا إن شاء الله تعالى، واختلفوا في أشياء مما عداها. 641 - مسألة - ولا زكاة في شئ من الثمار، ولا من الزرع، ولا في شئ من المعادن، غير ما ذكرنا، ولا في الخيل، ولا في الرقيق، ولا في العسل، ولا في عروض التجارة، لا على مدير (1) ولا غيره. قال أبو محمد: اختلف السلف في كثير مما ذكرنا، فأوجب بعضهم الزكاة فيها، ولم يوجبها بعضهم (2)، واتفقوا في أصناف سوى هذه أنه لا زكاة فيها. فمما اتفقوا على أنه لا زكاة فيه كل ما اكتسب للقنية لا للتجارة، من جوهر، وياقوت، ووطاء، وعطاء، وثياب، وآنية نحاس أو حديد أو رصاص أو قزدير، وسلاح، وخشب، ودور (3) وضياع، وبغال، وصوف، وحرير وغير ذلك كله لا تحاش شيئا. وقالت طائفة: كل ما عمل منه خبز أو عصيدة ففيه الزكاة، وما لم يؤكل الا تفكها فلا زكاة فيه، وهو قول الشافعي.
(1) في النسخة رقم (16) (ولا على مدير) والسياق يأبى زيادة الواو. وبحاشية النسخة رقم (14) ما نصه: (المدير الذي يدير النصاب قبل حلول الحول) (2) في النسخة رقم (16) (فأوجب بعضهم الزكاة فيما لم يوجبها بعضهم) (3) في النسخة رقم (14) (ودروع) بدل الدور وما هنا أحسن، فالدور أنسب لذكرها مع الضياع. 209 وقال المالك: الزكاة واجبة في القمح والشعير والسلت (1)، وهي كلها صنف واحد، قال: وفى العلس (2)، وهو صنف منفرد، وقال مرة أخرى: انه يضم إلى القمح والشعير والسلت، قال: وفى الدخن، وهو صنف منفرد، وفى السمسم، والأرز، والذرة، وكل صنف منها منفرد لا يضم إلى غيره، وفى الفول، والحمص (3) واللوبيا والعدس والجلبان (4) والبسيل (5) والترمس وسائر القطنية (6)، وكل ما ذكرنا فهو صنف واحد يضم بعضه إلى بعض في الزكاة. قال: وأما في البيوع فكل صنف منها على حياله، إلا الحمص واللوبيا فإنهما صنف واحد. ومرة رأى الزكاة في حب العصفر، ومرة لم يرها فيه، وأوجب الزكاة في زيت الفجل (7)، ولم ير الزكاة في زريعة الكتان، (8) ولا في زيتها، ولا في الكتان ولا في الكر سنة (9)، ولا في الخضر كلها (10)، ولا في اللفت. ورأي الزكاة في الزبيب وفى زيت الزيتون لا في حبه، ولم يرها في شئ من الثمار، لافى تين ولا بلوط ولا قسطل ولا رمان ولا جوز الهند ولا جوز ولا لوز، ولا غير ذلك أصلا.
(1) سيأتي الكلام عليه بعد قليل (2) بالعين المهملة واللام المفتوحتين وبعدها سين مهملة: هو نوع جيد من القمح، وقيل: هو ضرب من القمح يكون في الكمام منه حبتان يكون بناحية وهو طعام أهل صنعاء، وقال ابن الاعرابي: العدس يقال له العلس قاله في اللسان. (3) بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم المفتوحة وكسرها أيضا ففيه لغتان (4) بضم الجيم وضم اللام وتشديد الباء الموحدة، وباسكان اللام وتخفيف الباء، وهو حب أغبر أكدر على لون الماش إلا أنه أشد كدرة منه وأعظم جرما، وهو يطبخ. قاله في اللسان ووصفه داود في التذكرة وصفا مفصلا (5) هكذا في الأصلين، والذي في اللسان أن البسيلة الترمس. (6) بكسر القاف اسكان الطاء المهملة وتخفيف الياء المثناة، ويجوز تشديدها، وبضم القاف مع تشديد الياء فقط، هي واحدة القطاني، وهي الحبوب التي تدخر كالحمص والعدس والترمس والأرز وغيرها وهي ما كان سوى الحنطة والشعير والزبيب والتمر (7) بضم الفاء والجيم وباسكان الجيم أيضا (8) الزريعة الشئ المزروع فالمراد نفس نبات الكتان لابزره (9) بسكر الكاف واسكان الراء وكسر السين المهملة وفتحها مع تشديد النون المفتوحة: نبات له حب في غلف تعلفه الداوب، وصفته مفصلة عند داود (10) في النسخة رقم (14) تقديم وتأخير في هذه الأصناف وزيادة (ولا في القطن) 210 وقال أبو حنيفة: الزكاة في كل ما أنبتت الأرض من حبوب أو ثمار أو نوار (1) لا تحاش شيئا، حتى الورد، السوسن، والنرجس وغير ذلك، حاشا ثلاثة أشياء فقط، وهي: الحطب، والقصب، الحشيش فلا زكاة فيها، واختلف قوله في قصب الذريرة، (2)، فمرة رأى فيها الزكاة ومرة لم يرها فيها. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: لا زكاة في الخضر كلها، ولا في الفواكه، وأوجبا الزكاة في الجوز، واللوز، والتين، وحب الزيتون، والجلوز (3) والصنوبر والفستق والكمون والكرويا (4) والخردل والعناب وحب البسباس (5) وفى الكتان، وفى زريعته أيضا، وفى حب العصفر وفى نواره، وفى حب القنب (6) لا في كتانه، وفى ألفوه (7)، إذا بلغ كل صنف مما ذكرنا خمسة أوسق، والا فلا، وأوجبا الزكاة في الزعفران وفى القطن والورس. ثم اختلفا. فقال أبو يوسف: إذا بلغ ما يصاب من أحد هذه الثلاثة ما يساوى خمسة أوسق من قمح أو شعير أو من ذرة أو من تمر أو من زبيب - أحد هذه الخمسة فقط، لامن شئ غيرها -: ففيه الزكاة وان نقص عن قيمة خمسة أوسق من أحد ما ذكرنا فلا زكاة فيه. وقال محمد بن الحسن: ان بلغ ما يرفع (8) من الزعفران خمسة أمنان - وهي عشرة أرطال - ففيه الزكاة وإلا فلا، وكذلك الورس، وإن بلغ القطن خمسة أحمال - وهي ثلاثة
(1) بضم النون وتشديد الواو المفتوحة: هو الزهر (2) بفتح الذال المعجمة وكسر الراء وبعد الياء راء ثانية وهي: فتات من قصب الطيب الذي يجاء به من الهند يشبه قصب النشاب. قاله في اللسان (3) بكسر الجيم وتشديد اللام المفتوحة واسكان الواو وآخره زاي، وهو: البندق، وهو عربي حكاه سيبويه. (4) الكرويا والكروياء معروفة، بفتح الراء واسكان الواو وليس بينهما شئ، وحكاها بعضهم بوزن زكريا مقصورا (5) البسباس والبسباسة بفتح الباء بقل طيب الريح يشبه طعمه طعم الجزر (6) بفتح القاف وكسرها مع تشديد النون المفتوحة: نبات يفتل من لحائه حبال وخيطان (7) ألفوه والفوة، بضم الفاء وفتح الواو المشددة وبالهاء أو التاء: عروق دقاق: طوال حمر يصبغ ويداوى بها (8) يعنى ما تغله الأرض، يقال: جاء زمن الرفاع - بكسر الراء وفتحها - وهو اكتناز الزرع ورفعه بعد الحصاد 211 آلاف رطل فلفلية (1) ففيه الزكاة، وإلا فلا. واتفقا على أن حب العصفر إن بلغ خمسة أوسق زكى هو ونواره، وإن نقص عن ذلك لم يزك لاحبه ولا نواره. واختلفا في الاجاص (2) والبصل والثوم والحناء، فمرة أوجبا فيها الزكاة، ومرة أسقطاها. وأسقطا الزكاة عن خيوط القنب وعن حب القطن، وعن البلوط والقسطل والنبق (3) والتفاح والكمثرى والمشمش والهليلج (4) والبطيخ والقثاء واللفت والتوت والخروب والحرف (5) والحلبة والشونيز (6) والكراث. وقال أبو سليمان داود بن علي وجمهور أصحابنا: الزكاة في كل ما أنبتت الأرض، وفى كل ثمرة، وفى الحشيش وغير ذلك، لاتحاش شيئا، قالوا: فما كان من ذلك يحتمل الكيل لم تجب فيه زكاة حتى يبلغ الصنف الواحد منه خمسة أوسق فصاعدا، وما كان لا يحتمل ففي قليله وكثيره الزكاة. وروينا أيضا عن السلف الأول أقوالا. فروى عن ابن عباس: انه كان يأخذ الزكاة من الكراث. وعن ابن عمر: انه رأى الزكاة في السلت. وعن مجاهد وحماد بن أبي سليمان وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، قل أو كثر، وهو عن عمر بن عبد العزيز وإبراهيم وحماد بن أبي سليمان في غاية الصحة.
(1) بحاشية النسخة رقم (14) في (ص 251 منها) - بعد نيف وثلاثين صفحة عند الكلام على تفسير المد - ما نصه: (الرطل الفلفلي هو الرطل البغدادي، قال أبو عبيد: وزنته عندهم ثمانية وعشرون درهما ومائة درهم كيلا) (2) بكسر الهمزة وتشديد الجيم، ويفهم من كلام داود أنه فاكهة من أنواعها الخوخ والبرقوق وغيرهما (3) في النسخة رقم (16) (والتين) وهو خطأ (4) بفتح الهاء وكسر اللامين بينهما ياء، ويقال إهليلج وإهليلجة بزيادة همزة مكسورة في أولهما وفتح اللام الثانية فيهما ولا يجوز كسرها فيهما، قال في اللسان (عقير من الأدوية معروف وهو معرب؟) ولم يفسره داود بأكثر من هذا (5) بضم الحاء المهملة واسكان الراء، وهو حب الرشاد (6) بضم الشين وكسر النون، ويقال (الشينيز) بكسر الشين، وهو الحبة السوداء 212 رواه عن عمر بن عبد العزيز معمر عن سماك بن الفضل عنه. ورواه عن إبراهيم وكيع عن سفيان الثوري عن منصور عنه، وأنه قال: في عشر دستجات بقل دستجة (1). ورواه عن حماد بن أبي سليمان شعبة. وروينا عن الزهري وعمر بن عبد العزيز إيجاب الزكاة في الثمار عموما، دون تخصيص. بعضها من بعض. وعن الزهري إيجاب الزكاة في التوابل والزعفران عشر ما يصاب منها. وعن أبي بردة بن أبي موسى إيجاب الزكاة في البقول. قال أبو محمد: أما ما روى عن ابن عمر رضي الله عنه من ايجاب الزكاة في السلت فإنه قدر انه نوع من القمح، وليس كذلك، وإن كان القمح يستحيل في بعض الأرضين سلتا، فان اسمهما (2) عند العرب مختلف، وحدهما في المشاهدة مختلف، فهما صنفان بلا شك (3) وقد يستحيل العصير خمرا ويستحيل الخمر خلا وهي أصناف مختلفة بلا خلاف، ولم يأت قط برهان من نص ولا من اجماع ولا من معقول على أن ما استحال إلى شئ آخر فهما نوع واحد، ولكن إذا اختلف الأسماء لم يجز أن يوقع حكم ورد في اسم صنف ما على ما لا يقع عليه ذلك الاسم، لقول الله تعالى: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) ولو كان ذلك لوجب ان يوقع على غير السارق حكم السارق، وعلى غير الغنم حكم الغنم وهكذا (4) في كل شئ (5). وروينا في ذلك أثرا لا يصح، من طريق ابن لهيعة، وهو ساقط، عن عمارة بن غزية وهو ضعيف (6)، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمر وبن حزم: (إن هذا كتاب رسول الله
(1) بفتح الدال واسكان السين المهملتين وفتح التاء والجيم، وهي الحزمة، فارسي معرب (2) في الأصلين (اسمها) وهو خطأ ظاهر (3) السلت بضم السين المهملة واسكان اللام - نوع من الشعير لا قشر له يكون بالغور والحجاز يتبردون بسويقه في الصيف، هكذا في اللسان، ورجحه على قول من زعم أنه نوع من الحنطة، وكذلك قال داود: انه نوع من الشعير وانه ينبت بالعراق واليمن وينزع من قشره كالحنطة وانه أجود ما يؤكل مطبوخا باللبن ويسمن تسمينا عظيما (4) في النسخة رقم (14) (وهذا) (5) هذه مغالطة غريبة (6) غزية بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء المفتوحة، وعمارة هذا تابعي ثقة، قال الذهني في الميزان (ما علمت أحدا ضعفه سوى ابن حزم) 213 صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: في النخل، والزرع قمحه وسلته وشعيره فيما سقى من ذلك بالرشاء (1) نصف العشر) وذكر الحديث (2). وهذه صحيفة لا تسند، وقد خالف خصومنا أكثر ما في هذه الصحيفة. وأما قول الشافعي فإنه حد حدا فاسدا لا برهان على صحته، لامن قرآن ولا من سنة ولا من إجماع ولا من قول صاحب ولا من قياس، وما نعلم أحدا قاله قبله، وما كان هكذا فهو ساقط لا يحل القول به. والعجب أنه قاس على البر والشعير كل ما يعمل منه خبز أو عصيدة، ولن يقس على التمر والزبيب كل ما يتقوت من الثمار!، فان البلوط والتين والقسطل وجوز الهند أقوى وأشهر في القوت من الزبيب بلا شك فما علمنا بلدا يكون قوت أهله الزبيب صرفا ونعلم بلادا ليس قوتها إلا القسطل وجوز الهند والتين صرفا، وكذلك البلوط، وقد يعمل منه الخبز والعصيدة، فظهر فساد هذا القول. وأما قول مالك فأشد وأبين في الفساد، لأنه إن كانت علته التقوت، فان القسطل والبلوط والتين وجوز الهند واللفت بلا شك أقوى في التقوت من الزيت ومن الزيتون ومن الحمص ومن العدس ومن اللوبياء. والعجب كله إيجابه الزكاة في زيت الفجل وهو لا يؤكل، وإنما هو للوقيد (3) خاصة ولا يعرف إلا بأرض مصر فقط، أخبرني ثقة في نقله وتمييزه أن المسمى بمصر فجلا * (هامش) (1) الرشاء بكسر الراء بالمدحبل الدلو. والمراد هنا ما سقى بآلة من آلات السقي (2) كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم سبق أن ذكرنا في المسألة (116) (ج 1 ص 81 و 82) أنه كتاب صحيح وذكرنا اسناده من المستدرك للحاكم، وهذه القطعة التي هنا ليست في المستدرك بهذا اللفظ، ولكن فيه (وما كتب الله على المؤمنين من العشر في العقار ما سقت السماء أو كان سحا أو بعلا ففيه العشر إذا بلغت خمسة أوسق، وما سقى بالرشاء والدالية ففيه نصف العشر إذا بلغ خمسة أوسق) وقد ورد هذا المعنى باسناد صحيح جدا عند الدارقطني (ص 215) من طريق ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر: (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن) الخ وأرجو أن أوفق إلى جمع كل أسانيد هذا الأثر الجليل وكل ألفاظه وأحققها تحقيقا شافيا بإذن الله. (3) الوقيد بالياء أحد مصادر (وقد) * (*)
214 يعمل منه الزيت الذي رأى مالك فيه الزكاة -: هو النبات المسمى عندنا بالأندلس (اللبشتر) (1) وهو نبات صحراوي لا يغترس أصلا. ولم ير الزكاة في زيت زريعة الكتان، ولا في زيت السمسم، وزيت الجوز، وزيت الهركان وزيت الزنبوج (2) وزيت الضرو، (3) وهذه تؤكل ويوقد بها، وهي زيوت خراسان والعراق وأرض المصامدة وصقلية. ولا متعلق لقوله في قرآن ولا في سنة صحيحة ولا في رواية سقيمة، ولا من دليل إجماع ولا من قول صاحب ولا من قياس، ولا من عمل أهل المدينة، لان أكثر ما رأى فيه الزكاة ليس يعرف بالمدينة، وما نعرف هذا القول عن أحد قبله، فظهر فساد هذا القول جملة، وبالله تعالى التوفيق. والعجب كل العجب أن مالكا والشافعي قالا نصا عنهما: إن قول الله تعالى (وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده) إنما أراد به الزكاة الواجبة!. قال أبو محمد: فكيف تكون هذه الآية أنزلها الله تعالى في الزكاة عندهما، ثم يسقطان الزكاة عن أكثر ما ذكر الله تعالى فيها باسمه، من الرمان وسائر ما يكون في الجنات؟ وهذا عجب لا نظير له؟. واحتج بعضهم بأنه إنما أوجب الله تعالى الزكاة فيها فيما يحصد. فقيل للمالكيين: فمن أين أوجبتم الزكاة في الزيتون وهو عندكم لا يحصد؟. ويقال للشافعيين: من لكم بأن الحصاد لا يطلق على غير الزرع؟ والله تعالى ذكر منازل الكفار فقال: (منها قائم وحصيد) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: (احصدوهم حصدا. واما قول أبى يوسف ومحمد فأسقط هذه الأقوال (4) كلها وأشدها تناقضا، لأنهما
(1) ضبطت هذه الكلمة بالقلم في النسخة رقم (14) بفتح اللام وكسر الباء الموحدة واسكان الشين المعجمة وفتح التاء المثناة، ولم أصل إلى تحقيقها، ولعلها كلمة إسبانية مما عرب بعد فتح الأندلس (2) الهر كان والزنبوج لن أعرفها (3) بكسر الضاد واسكان الراء وآخره واو، هو من شجر الجبال كالبلوط العظيم، حقق داود ان صمغه هو المعروف بالحصى لبان الجاوي انظر اللسان والتذكرة (4) في بعض النسخ (فأسقط من هذه الأقوال) وما هنا أصح وأنسب للسياق 215 لم يلتزما التحديد بما يتقوت، ولا بمال يكال، ولا بما يؤكل ولا بما يبس، ولا بما يدخر، وأتيا بأقوال في غاية الفساد، فأوجبا الزكاة في الجوز واللوز والجلوز والصنوبر، وأسقطاها عن البلوط والقسطل واللفت وأوجباها في البسباس، وأسقطاها عن الشونيز، وهما اخوان وأوجباها - في بعض الأقوال - في الثوم، والبصل وأسقطاها عن الكراث، وأوجباها في خيوط الكتان وحبه، وأوجباها (1) في حب العصفر ونواره، وأوجباها في خيوط القطن دون حبه، وأوجباها في حب القنب وأسقطاها عن خيوطه، وأوجباها في الخردل وأسقطاها عن الحرف، وأوجباها في العناب، وأسقطاها عن النبق، وهما أخوان، وأوجباها في الرمان، وأسقطاها عن التفاح والسفرجل وهي (2) سواء. فان قيل: الرمان مذكور في الآية. قيل: والزرع مذكور في الآية. وقد أسقطا الزكاة عن أكثر ما يزرع. وهذه وساوس تشبه ما يأتي به الممرور (3) ومالهما متعلق لامن قرآن ولا من سنة ولا من رواية ضعيفة، ولا من قول صاحب، ولا قياس، ولا رأى سديد، وما نعلم أحدا قال بذلك قبلهما، فسقط هذا القول الفاسد أيضا جملة. أما قول أبي حنيفة فلا متعلق له بالقرآن، ولا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر) لأنه قد اخرج من جملة ذلك القصب والحشيش وورق الثمار كلها، وهذا تخصيص لما احتج به، بلا برهان من نص ولا من اجماع، ولا من قياس ولا من رأى له وجه يعقل، مع خلافه للسنة، فخرج أيضا هذا القول عن الجواز (4). وبالله تعالى التوفيق. قال أبو محمد: فلم يبق إلا قول أصحابنا وقولنا: فنظرنا في ذلك، فوجدنا أصحابنا يحتجون بالآية المذكورة وبالثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (فيما سقت السماء العشر)، لا حجة لهم غير هذين النصين،. فوجدنا الآية لا متعلق لهم بها لوجوه. أحدها: ان السورة مكية، والزكاة مدنية بلا خلاف من أحد من العلماء فبطل أن تكون أنزلت في الزكاة.
(1) في النسخة رقم (14) (واختلفا) وهو خطأ، فقد سبق ان نقل المؤلف عنهما إيجابها في حب العصفر ونواه (2) في النسخة رقم (16) (وهما وهو خطأ، إذا المراد ان الرمان والتفاح والسفرجل سواء (3) هو الذي غلبت عليه المرة (4) في النسخة رقم (14) (على الجواز) 216 وقال بعض المخالفين: نعم هي مكية، إلا هذه الآية وحدها، فإنها مدنية. قال أبو محمد: هذه دعوى بلا برهان على صحتها، وتخصيص بلا دليل، ثم لو صح لما كانت لهم في ذلك حجة، لان قائل هذا القول زعم أنها أنزلت في شأن ثابت بن قيس ابن الشماس رضي الله عنه، إذ جد ثمرته فتصدق منها حتى لم يبق له منها شئ (1)، فبطل أن يكون أريد بها الزكاة. والثاني: قوله تعالى فيها: (وآتوا حقه يوم حصاده) ولا خلاف بين أحد من الأمة في أن الزكاة لا يجوز إيتاؤها يوم الحصاد، لكن في الزرع بعد الحصاد، والدرس والذرو، والكيل، وفى الثمار بعد اليبس والتصفية والكيل، فبطل أن يكون ذلك الحق المأمور به هو الزكاة التي لا تجب إلا بعد ما ذكرنا. والثالث: قوله تعالى في الآية نفسها: (ولا تسرفوا) ولا سرف في الزكاة، لأنها محدودة، لا يحل أن ينقص منها حبة ولا تزاد أخرى (2). فان قيل: فما هذا الحق المفترض في الآية؟. قلنا: نعم، هو حق غير الزكاة، وهو ان يعطى الحاصد حين الحصد ما طابت به نفسه ولابد، لاحد في ذلك، هذا ظاهر الآية، وهو قول طائفة من السلف. كما حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل ابن إسحاق القاضي ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحيم بن سليمان عن أشعث - هو ابن عبد الملك - عن محمد بن سيرين وعن نافع عن ابن عمر في قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: كانوا يعطون من اعتر بهم (3) شيئا سوى الصدقة. وبه إلى إسماعيل بن إسحاق قال: ثنا محمد بن أبي بكر - هو المقدمي - ثنا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن سفيان الثوري عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي في
(1) هذا رواه الطبري في التفسير (ج 8 ص 45) عن ابن جريج مرسلا، وكذلك نسبه السيوطي في الدر المنثور (ج 3 ص 49) إليه والى ابن أبي حاتم، ولا حجة في مثل هذا (2) أي على أنها من المفروض، وإلا فالتطوع بالزيادة لا خلاف في جوازه (3) يقال (اعتره واعتر به) إذا أتاه فطلب معروفه. وهذا الأثر رواه يحيى بن آدم في الخراج رقم (412) عن حفص وعبد الرحيم عن أشعث بهذا الاسناد. ورواه النحاس في الناسخ والمنسوخ (ص 139) من طريق حفص وفيه (أنبأنا شعيب عن نافع عن ابن عمر) والظاهر أن قوله (شعيب) خطأ صوابه (أشعث) وروى الطبري (ج 8 ص 42) معناه باسنادين. ووقع في الخراج (من اعتراهم) وقد ظهر لنا الآن أنه خطأ وان صوابه (من اعتر بهم) كما في الدر المنثور أيضا (ج 3 ص 49) وكما في بعض ألفاظ الطبري عن ابن عمر (يطعم المعتر) 217 قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاه) قال: يعطى نحوا من الضغث. ومن طريق جرير عن منصور عن مجاهد في قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال إذا حصدت وحضرك المساكين طرحت لهم منه وإذا طيبت طرحت لهم منه، وإذا نقيته وأخذت في كيله حثوت لهم منه، وإذا علمت كيله عزلت زكاته، وإذا أخذت في جداد النخل (1) طرحت لهم من الثفاريق (2) والتمر، وإذا اخذت في كيله حثوت لهم منه، وإذا علمت كيله عزلت زكاته. وعن مجاهد أيضا: هذا واجب حين يصرم. وعن أبي العالية في قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاه) قال: كانوا يعطون شيئا غير الصدقة. وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: يمر به الضعيف والمسكين فيعطيه حتى يعلم ما يكون * وعن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: بعد الذي يجب عليه من الصدقة يعطى الضغث (3) والشئ. وعن الربيع بن أنس: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: لقاط السنبل. وعن عطاء في قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده) قال: شئ يسير سوى الزكاة المفروضة.
(1) الجداد بفتح الجيم وكسرها وبالدالين المهملتين، كما في النسخة رقم (14) وفى النسخة رقم (16) بالمعجمتين وكذلك في كثير من كتب السنة، وهو تصحيف، ولم تذكر هذه الكلمة في كتب اللغة الا في مادة (ج د د) وليس لها في مادة (ج ذذ) (2) بالثاء المثلثة جمع ثفروق وهو قمح البسرة والتمرة، والمراد هنا العناقيد يخرط ما عليها فتبقى عليها التمرة والتمرتان والثلاث يخطئها المخلب فتلقى للمساكين قاله في اللسان، والأثر رواه يحيى بن آدم رقم (403) والطبري (ج 8 ص 41) ووقع في الأصلين (التفاريق) بالمثناة وهو تصحيف (3) أي الحزمة 218 ولا يصح عن ابن عباس انها نزلت في الزكاة، لأنه من رواية الحجاج بن أرطاة، وهو ساقط، ومن طريق مقسم، وهو ضعيف. ومن ادعى أنه نسخ لم يصدق الا بنص متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فما يعجز أحد عن أن يدعى في أي آية شاء وفى أي حديث شاء أنه منسوخ، ودعوى النسخ إسقاط لطاعة الله تعالى فيما أمر به من ذلك النص، وهذا لا يجوز الا بنص مسند صحيح. وأما قول (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر وفيما سقى بنضح أو دالية (2) نصف العشر) فهو خبر صحيح، لو لم يأت ما يخصه لم يجز خلافه لاحد. لكن وجدنا ما حدثناه عبد الله بن يوسف وأحمد بن محمد الطلمنكي، قال عبد الله: ثنا أحمد بن فتح ثنا عبد الوهاب بن عيسى ثنا أحمد بن محمد ثنا أحمد بن علي ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعمر والناقد، وزهير بن حرب، قالوا كلهم: ثنا وكيع، وقال الطلمنكي: ثنا ابن مفرج ثنا محمد بن أيوب الرقى ثنا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار ثنا أحمد بن الوليد العدني ثنا يحيى بن آدم، ثم اتفق وكيع ويحيى، كلاهما عن سفيان الثوري عن إسماعيل بن أمية عن محمد بن يحيى بن حبان عن يحيى بن عمارة عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أو ساق (3) تمر ولا حب صدقة) قال وكيع في روايته: (من تمر) واتفقا فيما عدا ذلك (4). قال أبو محمد: وهذا إسناده في غاية الصحة، فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة عن كل ما دون خمسة أو ساق (5) من حب أو تمر. ولفظة (دون) في اللغة العربية تقع على معنيين، وقوعا مستويا، ليس أحدهما أولى من الآخر وهما بمعنى: أقل، وبمعنى: غير، قال عز وجل: (ألا تتخذوا من دوني وكيلا) أي من غيري، وقال عز وجل: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) أي من غيرهم، وحيثما وقعت لفظة (دون) في القرآن فهي بمعنى غير، فلا يجوز لاحد ان يقتصر بلفظة (دون)
(1) في النسخة رقم (14) (فأما) (2) هي شئ يتخذ من خوص وخشب يستقى به بحبال تشد في رأس جذع طويل. قاله في اللسان (3) في النسخة رقم (14) (أوسق وكلاهما جمع صحيح، وما هنا هو الموافق لمسلم (ج 1 ص 267) (4) هو في الخراج ليحيى برقم 440 بهذا الاسناد ولكن لفظه: (لا صدقة في حب ولا تمر دون خمسة أوسق) (5) في النسخة رقم (14) (أوسق) 219 في هذا الخبر على معنى: أقل دون معنى: غير، ونحن إذا حملنا (دون) ههنا على معنى غير دخل فيه أقل، وتخصيص اللفظ بلا برهان من نص لا يحل،. فصح يقينا أنه لا زكاة غير خمسة أوسق من حب أو تمر، ووجبت الزكاة فيما زاد على خمسة أوسق بنص قول (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالاجماع المتيقن على ذلك، وكذلك في الإبل والبقر والغنم والذهب والفضة بالاجماع المتيقن والنص أيضا، وسقطت الزكاة عما عدا ذلك مما اختلف فيه ولا نص فيه، بنفي النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة عن كل ما هو غير خمسة أوسق من حب أو تمر، (2). ثم وجب ان ننظر ما يقع عليه اسم (حب) في اللغة التي بها خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فوجدنا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمى (3) عن عطاء بن السائب عن أبيه عن سعيد بن جبير عن أبن عباس في قول الله تعالى: (حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا) قال ابن عباس: الحب البر، والقضب الفصفصة (4)، فاقتصر ابن عباس - وهو الحجة في اللغة - بالحب على البر. وذكر أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري اللغوي في كتابه في النبات، وفى باب ترجمته (باب الزرع والحرث وأسماء الحب والقطاني وأوصافها) فقال: قال أبو عمرو - هو الشيباني -: جميع بزور النبات يقال لها (الحبة) بكسر الحاء. قال أبو محمد: كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل). قال أبو حنيفة الدينوري في الباب المذكور: وقال الكسائي: واحد الحبة حبة بفتح
(1) في النسخة رقم (16) (فعل) وهو خطأ (2) كل هذا تكلف من ابن حزم ولا معنى له ولا دليل عليه. وزعمه ان (دون) في الحديث بمعنى غير زعم ليس صحيحا، بل سياق ألفاظ الحديث على اختلاف رواياته يدل على أن المراد به (أقل) بل جاء في بعض ألفاظه الموقوفة على الصحابة الذين رووه (3) بفتح العين المهملة وتشديد الميم المكسورة، نسبه إلى (العم) وهو بطن من تميم (4) بفاءين مكسورتين بينهما صاد مهملة ساكنة وبعدهما صاد مهملة مفتوحة، وهي الرطبة وقيل ألقت، جمعها فصافص يفتح الفاء الأولى. 220 الحاء، فأما الحب فليس إلا الحنطة والشعير وأحدها حبة، بفتح الحاء، وإنما افترقتا في الجمع. ثم ذكر أبو حنيفة بعد هذا الفصل - إثر كلام ذكره لأني نصر صاحب الأصمعي -: كلاما نصه: وكذلك غيره من الحبوب كالأرز، والدخن. قال على: فهذه ثلاثة جموع: الحب للحنطة والشعير خاصة، والحبة - بكسر الحاء وزيادة الهاء في آخرها - لكل ما عداهما من البزور خاصة، والحبوب للحنطة والشعير وسائر البزور. والكسائي امام في اللغة وفى الدين والعدالة * فإذ قد صح ان الحب لا يقع الا على الحنطة والشعير في لغة العرب، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نصا بنفي الزكاة عن غيرهما وغير التمر -: فلا زكاة في شئ من النبات غيرهما وغير التمر. وقد روى من لا يوثق به عمن لا يوثق به ولا يدرى من هو عمن لا يوثق به -: ايجاب الزكاة في الحبوب، وهو عبد الملك بن حبيب الأندلسي عن الطلحي (1) عن عبد الرحمن ابن زيد بن أسلم وهو أيضا منقطع. قال أبو محمد: وقال قوم من السلف بمثل هذا، وزادوا إلى هذه الثلاثة الزبيب. كما حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا ابن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن عمرو بن عثمان وطلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله، قال عمرو: عن موسى بن طلحة بن عبيد الله: أن معاذا لما قدم اليمن لم يأخذ الصدقة إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وقال طلحة بن يحيى: عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري عن أبيه: أنه لم يأخذها إلا من الحنطة والشعير والتمر والزبيب. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ثنا حجاج - هو ابن محمد الأعور - عن ابن جريج أخبرني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر في صدقة الثمار والزرع، قال: ما كان من نخل أو عنب أو حنطة أو شعير. وبه إلى أبى عبيد: ثنا يزيد عن هشام (2) - هو ابن حسان - عن الحسن البصري:
(1) بفتح الطاء المهملة واسكان اللام، نسبه إلى طلحة بن عبيد الله، والطلحي هذا هو عبد الرحمن بن صالح بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله، هو من أهل الصدق (2) في النسخة رقم (14) (يزيد بن هشام) الخ وهو خطأ والصواب ما هنا، فان يزيد هو ابن هارون، وهو يروى عن هشام بن حسان، وعنه أبو عبيد القاسم بن سلام. 221 أنه كان لا يرى العشر إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. قال أبو عبيد: وقال يحيى بن سعيد - هو القطان - عن أشعث - هو ابن عبد الملك الحمراني - عن الحسن ومحمد بن سيرين انهما قالا: الصدقة في تسعة أشياء: الذهب والورق والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب. قال أبو عبيد: وهو قول ابن أبي ليلى وسفيان الثوري. حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا حميد بن عبد الرحمن عن الحسن - هو ابن حي - عن مطرف - هو ابن طريف - قال قال لي الحكم بن عتيبة وقد سألته عن الأقطان والسماسم: أفيها صدقة؟ قال: ما حفظنا عن أصحابنا انهم (1) كانوا يقولون: ليس في شئ من هذا شئ إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. قال أبو محمد: الحكم أدرك كبار التابعين وبعض الصحابة. وبه إلى أبى بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع عن طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله قال سأل عبد الحميد موسى بن طلحة بن عبيد الله عن الصدقة؟ فقال موسى: إنما الصدقة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب. وبه إلى أبى بكر بن أبي شيبة: ثنا محمد بن بكر عن ابن جريج قال قال لي عطاء وعمرو بن دينار: لا صدقة إلا في نخل أو عنب أو حب. وقد روى نحو هذا عن علي بن أبي طالب. قال أبو محمد: وهو قول الحسن بن حي وعبد الله بن المبارك وأبى عبيد وغيرهم. قال أبو محمد: وادعى من ذهب إلى هذا أن إيجاب الزكاة في الزبيب اجماع، وذكر آثارا ليس منها شئ يصح. أحدها من طريق موسى بن طلحة: عندنا كتاب معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه إنما اخذ الصدقة من التمر والزبيب والحنطة والشعير. قال أبو محمد: هذا منقطع، لان موسى بن طلحة لم يدرك معاذا بعقله.
(1) في النسخة رقم (14) (قال: فيما حفظنا عن الصحابة انهم) الخ: ويظهر ان ما هنا أحسن لقول المؤلف بعد ان الحكم أدرك كبار التابعين وبعض الصحابة، فكأنه يدل على تفسير مراده بقوله (أصحابنا) 222 وآخر من طريق محمد بن أبي ليلى وهو سئ الحفظ، عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، هي صحيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: (العشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير). وخصومنا يخالفون كثيرا من صحيفة عمرو بن شعيب، ولا يرونه حجة. وآخر من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، وعبد الله بن نافع، وكلاهما في غاية الضعف، ومن طريق محمد بن مسلم الطائفي، وهو في غاية الضعف، ومن طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي عن أسد بن موسى وهو منكر الحديث، عن نصر بن طريف وهو أبو جزء، وهو ساقط البتة، كلهم يذكر عن سعيد بن المسيب عن عتاب بن أسيد (1): أنه أمر بخرص العنب. وسعيد لم يولد الا بعد موت عتاب بسنتين وعتاب لم يوله النبي صلى الله عليه وسلم الا مكة ولا زرع بها ولا عنب. فسقط كل ما شغبوا به، ولو صح شئ من هذه الآثار لاخذنا به، ولما حل لنا خلافه، كما لا يحل الاخذ في دين الله تعالى بخبر لا يصح. وأما دعوى الاجماع فباطل. كما حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد القاسم بن سلام ثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الحكم بن عتيبة عن شريح قال: تؤخذ الصدقة من الحنطة والشعير والتمر، وكان لا يرى في العنب صدقة. وبه إلى أبى عبيد: ثنا هشيم عن الأجلح (2) عن الشعبي قال الصدقة في البر والشعير والتمر. حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عون الله ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن عبد السلام الخشني ثنا محمد بن بشار بندار ثنا غندر ثنا شعبة عن الحكم بن عتيبة قال: ليس في الخيل زكاة ولا في الإبل العوامل زكاة، وليس في الزبيب شئ. فهؤلاء شريح، والشعبي، والحكم بن عتيبة، ولا يرون في الزبيب زكاة. قال أبو محمد: وليس إلا قول من قال بايجاب الزكاة في كل ما أنبتته الأرض، على * (هامش) (1) عتاب بفتح العين المهملة وتشديد التاء المثناة، وأسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة (2) بفتح المهزة واسكان الجيم وفتح اللام وآخره حاء مهملة، وهو ابن عبد الله الكندي وانظر خراج يحيى بن آدم رقم 516 و 517 * (*)
223 عموم الخبر الثابت: (فيما سقت السماء العشر) أو قولنا، وهو: لا زكاة إلا فيما أوجبها فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم باسمه على ما صح عنه عليه السلام من أنه قال: (ليس فيما دون خمسة أوسق من حب ولا تمر صدقة). وأما من أسقط من ذلك الخبر ما يقتضيه عمومه، وزاد في هذا الخبر ما ليس فيه -: فلم يتعلقوا بقرآن ولا بسنة صحيحة ولا برواية ضعيفة، ولا يقول صاحب لا مخالف له منهم، ولا بقياس ولا بتعليل مطرد، بل خالفوا ذلك، لأنهم إن راعوا القوت فقد أسقطوا الزكاة عن كثير من الأقوات، وكالتين والقسطل اللبن وغير ذلك، وأوجبوه فيما ليس قوتا، كالزيت والحمص وغير ذلك مما لا يتقوت إلا لضرورة مجاعة، وان راعوا الاكل فقد أسقطوها عن كثير مما يؤكل، وأوجبها بعضهم فيما لا يؤكل، كزيت الفجل والقطن وغير ذلك، وان راعوا ما يوسق فقد أسقطوها عن كثير مما يوسق. ثم أيضا لو راعوا شيئا من هذه المعاني وطردوا أصلهم لكانوا قائلين بلا برهان، لكن بدعوى فاسدة وظن كاذب، والله تعالى يقول: (إن الظن لا يغنى من الحق شيئا) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث). فإذ لم يبق الا أحد هذين القولين المذكورين فان قول من أوجب الزكاة في كل ما أنبتت الأرض -: حرج شديد، وشق الأنفس، وعسر لا يطاق، والاخذ بذلك الخبر تكليف ما ليس في الوسع، وممتنع لا يمكن البتة، لأنه يوجب أن لا ينبت في دار أحد أو في قطعة أرض له عشب ولو أنه ورقة واحدة أو نرجسة أو فول أو غصن حرف أو بهارة (1) أو تينة واحدة -: إلا وجب عليه عشر كل ذلك أو نصف عشره وكذلك ورق الشجر والتبن حتى تبن الفول وقصب الكتان، نعم، وأصول الشجر نفسها، لان كل ذلك مما يسقيه الماء وهذا مما لا يمكن البتة، وقد قال تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج) وقال تعالى (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال تعالى: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وامتن تعالى علينا إذ أجابنا في دعائنا الذي أمرنا تعالى ان ندعو به فنقول: (ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا مالا طاقة لنا به) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا). فان قيل: يفعل في ذلك ما يفعل الشريكان فيه.
(1) بفتح الباء الموحدة هو نبت طيب الريح يقال له عين البقر ينبت أيام الربيع 224 قلنا: هذا لا يجوز، لان بيع أحد الشريكين من صاحبه مباح وتحليله له جائز، ولا يجوز بيع الصدقة قبل قبضها، ولا التحليل منها أصلا،. فصح يقينا أن ذلك الخبر ليس على عمومه، ذا ذلك كذلك فلا ندري ما يخرج منه إلا ببيان نص آخر فصح أن لا زكاة إلا فيما أوجبه بيان نص غير ذلك النص، أو اجماع متيقن، ولا نص ولا اجماع إلا في البر والشعير والتمر فقط. ومن تعدى هذا فإنما يشرع برأيه، ويخصص الأثر بظنه الكاذب. وهذا حرام وبالله تعالى التوفيق. (وأما المعادن) فان الأمة مجمعة بلا خلاف من أحد منها على أن الصفر والحديد والرصاص والقزدير لا زكاة في أعيانها، وإن كثرت،. ثم اختلفوا إذا مزج شئ منها في الدنانير والدراهم والحلى. فقالت طائفة. تزكى تلك الدنانير والدراهم بوزنها. قال أبو محمد: وهذا خطأ فاحش، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط الزكاة نصا فيما دون خمس أواقي من الورق وفيما دون مقدار ما من الذهب ولم يوجب - بلا خلاف - زكاة في شئ من أعيان المعادن المذكورة فمن أوجب الزكاة في الدنانير والدراهم الممزوجة بالنحاس أو الحديد أو الرصاص أو القزدير فقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين: إحداهما في ايجابه الزكاة في أقل من خمس أواقي من الرقة (1) والثانية في ايجابه الزكاة في أعيان المعادن المذكورة. وأيضا: فإنهم تناقضوا إذ أوجبوا الزكاة في الصفر والرصاص والقزدير والحديد إذا مزج شئ منها بفضة أو ذهب وأسقطوا الزكاة عنها إذا كانت صرفا وهذا تحكم لا يحل. وأيضا: فنسألهم عن شئ من هذه المعادن مزج بفضة أو ذهب فكان الممزوج منها أكثر من الذهب ومن الفضة؟ ثم لانزال نزيدهم إلى أن نسألهم عن مائتي درهم في كل درهم فلس فضة فقط وسائرها نحاس؟ فان جعلوا فيها الزكاة أفحشوا جدا، وان أسقطوها سألناهم عن الحد الذي يوجبون فيه الزكاة والذي يسقطونها فيه؟ فان حدوا في ذلك حدا زادوا في التحكم بالباطل، وان لم يحدوا واحدا كانوا قد خلطوا ما يحرمون بما يحلون، ولم يبينوا الا نفسهم ولا لمن اتبعهم الحرام فيجتنبوه، من الحلال فيأتوه!. قال أبو محمد: والحق من هذا هو أن الأسماء في اللغة والديانة واقعة على المسميات بصفات محمولة فيها، فللفضة صفاتها التي إذا وجدت في شئ سمى ذلك الشئ فضة،
(1) الرقة بالتخفيف الدراهم 225 وكذلك القول في اسم الذهب، واسم النحاس واسم كل مسمى في العالم. وأحكام الديانة إنما جاءت على الأسماء، فللفضة حكمها، وللذهب حكمه، وللنحاس حكمه، وكذلك كل اسم في العالم. فإذا سقط الاسم الذي عليه جاء النص بالحكم سقط ذلك الحكم وانتقل المسمى إلى الحكم الذي جاء في النص على الاسم الذي وقع عليه، كالعصير والخمر والخل والماء والدم واللبن واللحم والآنية والدنانير، وكل ما في العالم. فإن كان المزج في الفضة أو الذهب لا يغير صفاتهما - التي ما دامت فيها سميا فضة وذهبا - فهي فضة وذهب، فالزكاة فيهما. وإن كان المزج في الفضة أو الذهب قد غير صفاتهما - وسقط عن الدنانير والدراهم اسم فضة واسم ذهب لظهور المزج فيهما - فهو حينئذ فضة مع ذهب، أو فضة مع نحاس فالواجب أن في مقدار الفضة التي في تلك الدراهم تجب الزكاة فيها خاصة، ولا زكاة في النحاس الظاهر فيها أثره. وكذلك القول في الذهب مع ما مزج به. فإن كان في الدنانير ذهب تجب في مقداره الزكاة وفضة لا تجب فيها الزكاة، فالزكاة فيما فيها من الذهب دون ما فيها من الفضة. وإن كان ما فيها من الفضة تجب فيه الزكاة وما فيها من الذهب لا تجب فيه الزكاة فالزكاة فيما فيها من الفضة دون ما فيها من الذهب. وإن كان فيها من الفضة ومن الذهب ما تجب في كل واحد منهما الزكاة زكى كل واحد منهما كحكمه لو كان منفردا. وإن كان ما فيهما من الذهب ومن الفضة لا تجب فيه الزكاة لو انفرد فلا زكاة هناك أصلا. فان زاد المزج حتى لا يكون للفضة ولا للذهب هناك صفة فليس في تلك الأعيان فضة أصلا، ولا ذهب، فلا زكاة فيها أصلا، اتباعا للنص. وبالله التوفيق. وأما الخيل والرقيق فقد حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان ثنا أحمد ابن خالد ثنا علي بن عبد العزيز ثنا الحجاج بن المنهال ثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن أنس بن مالك: أن عمر بن الخطاب كان يأخذ من الرأس عشرة (1) ومن الفرس (2) عشرة، ومن البراذين خمسة. يعنى رأس الرقيق، وعشرة دراهم، وخمسة دراهم.
(1) في النسخة رقم (16) (عشرة دراهم) وذكر الدراهم خطأ في لفظ الأثر، إذ صنيع المؤلف في تفسير العشرة يدل على أنها لم تميز في الرواية (2) في النسخة رقم (16) (ومن البقر) هو خطأ صرف 226 حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني عمرو - هو ابن دينار - قال: إن حيى بن يعلى أخبره انه سمع يعلي بن أمية يقول: ابتاع عبد الرحمن بن أمية - أخو يعلي بن أمية - فرسا أنثى بمائة قلوص، فندم البائع، فلحق بعمر، فقال: غصبني يعلى واخوه فرسا لي فكتب عمر إلى يعلى: ان الحق بي فأتاه فأخبره الخبر، فقال عمر: إن الخيل لتبلغ عندكم هذا! فقال يعلى: ما علمت فرسا بلغ هذا قبل هذا، فقال عمر: فنأخذ من أربعين شاة شاة ولا نأخذ من الخيل شيئا؟! اخذ من كل فرس دينارا قال: فضرب على الخيل دينارا دينارا. حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد الباجي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد بن بكر عن ابن جريج قال أخبرني عبد الله بن أبي حسين ان ابن شهاب أخبره أن السائب ابن أخت نمر (1) أخبره: أنه كان يأتي عمر بن الخطاب بصدقات الخيل، قال ابن شهاب: وكان عثمان بن عفان يصدق الخيل. ومن طريق حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري: ان مروان بعث إلى أبي سعيد الخدري: ان ابعث إلى بزكاة رقيقك فقال للرسول: إن مروان لا يعلم إنما علينا ان نطعم عن كل رأس عند كل فطر صاع تمر أن نصف صاع بر. ومن طريق محمد بن جعفر عن شعبة عن حماد بن أبي سليمان قال: وفى الخيل الزكاة. فذهب أبو حنيفة ومن قلده إلى أن في الخيل الزكاة. واحتجوا بهذه الآثار، وبقول الله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) قالوا: والخيل أموال، فالصدقة فيها بنص القرآن، وبقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الخيل لرجل أجر ولرجل ستر) فذكر الحديث، وفيه: (ورجل ربطها تغنيا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر). قال أبو محمد: هذا ما موه به الحنيفيون من الاحتجاج بالقرآن والسنة وفعل الصحابة وهم مخالفون لكل ذلك. أما الآية فليس فيها أن في كل صنف من أصناف الأموال صدقة وإنما فيها: (خذ من أموالهم) فلو لم يرد إلا هذا النص وحده لاجزأ فلس واحد عن جميع أموال المسلم، لأنه صدقة أخذت من أمواله (2). * (هامش) (1) هو السائب بن يزيد بن سعيد بن ثمامة، وهو صحابي، والنمر هو ابن جبل، وهو خال أبيه فعرفوا به (2) في النسخة رقم (16) (عن جميع أموال المسلمين، لأنه صدقة أخذت من أموالهم) وما هنا أحسن * (*)
227 ثم لو كان في الآية أن في كل صنف من أصناف الأموال صدقة - وليس ذلك فيها لا بنص ولا بدليل -: لما كانت لهم فيها حجة، لأنه ليس فيها مقدار المال المأخوذ، ولا مقدار المال المأخوذ منه ولامتي تؤخذ تلك الصدقة. ومثل هذا لا يجوز العمل فيه بقول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم المأمور بالبيان، قال تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم). وأما الحديث فليس فيه إلا أن الله تعالى حقا في رقابها وظهورها، غير معين ولا مبين المقدار ولا مدخل للزكاة في ظهور الخيل باجماع منا ومنهم، فصح أن هذا الحق إنما هو على ظاهر الحديث، وهو حمل على ما طابت نفسه منها في سبيل الله تعالى، وعارية ظهورها للمضطر. وأما فعل عمرو عثمان رضي الله عنهما فقد خالفوهما، وذلك أن قول أبي حنيفة: إنه لا زكاة في الخيل الذكور ولو كثرت وبلغت ألف فرس (1) فإن كانت إناثا أو إناثا وذكورا سائمة غير معلوفة - فحينئذ تجب فيها الزكاة، وصفة تلك الزكاة ان صاحب الخيل مخير، ان شاء أعطى عن كل فرس منها دينارا أو عشرة دراهم، وإن شاء قومها فأعطى من كل مائتي درهم خمسة دراهم (2). قال أبو محمد: وهذا خلاف فعل عمر. وأيضا فقد خالفوا فعل عمر في أخذه الزكاة من الرقيق عشرة دراهم من كل رأس، فكيف يجوز لذي عقل ودين أن يجعل بعض فعل عمر حجة وبعضه ليس بحجة؟!. وخالفوا عليا في إسقاط زكاة الخيل جملة، وأتوا بقول في صفة زكاتها لا نعلم أحدا قاله قبلهم. فظهر فساد قولهم جملة. وذهب جمهور الناس إلى أن لا زكاة في الخيل أصلا. حدثنا حمام ثنا ابن مفرج عن ابن الاعرابي عن الدبري عن عبد الرزاق عن معمر عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: قد عفوت عن صدقة الخيل والرقيق. وقد صح ان عمر إنما أخذها على أنها صدقة تطوع منهم لا واجبة. حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا عبد الرحيم بن سليمان عن ابن أبي خالد عن شبيل بن عوف (3) وكان قد أدرك الجاهلية - قال: أمر عمر بن الخطاب الناس بالصدقة، فقال الناس:
(1) الفرس يطلق على الذكر وعلى الأنثى سواء (2) في النسخة رقم (16) (عشرة دراهم) وهو خطأ ظاهر (3) ابن أبي خالد هو إسماعيل، وشبيل بضم الشين المعجمة 228 يا أمير المؤمنين، خيل لنا ورقيق، افرض علينا عشرة عشرة، فقال عمر: اما انا فلا أفرض ذلك عليكم. حدثنا حمام ثنا عباس بن اصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قرأت على أبى عن يحيى بن سعيد القطان عن زهير - هو ابن معاوية (1) ثنا أبو إسحاق - هو السبيعي - عن حارثة - هو ابن مضرب - قال: (حججت مع عمر ابن الخطاب فأتاه اشراف أهل الشأم فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا أصبنا رقيقا ودواب فخذ من أموالنا صدقة تطهرنا وتكون لنا زكاة، فقال: هذا شئ لم يفعله اللذان كانا قبلي) (2). قال أبو محمد: هذه أسانيد في غاية الصحة، والاسناد فيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ من الخيل صدقة، ولا أبو بكر بعده، وان عمر لم يفرض ذلك. وان عليا بعده لم يأخذها. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب انا محمود بن غيلان ثنا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - ثنا سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم ابن ضمرة عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد عفوت عن الخيل، فأدوا صدقة أموالكم، من كل مائتين خمسة). وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة إلا صدقة الفطر في الرقيق). والفرس والعبد اسم للجنس كله، ولو كان في شئ من ذلك صدقة لما أغفل عليه السلام بيان مقدارها ومقدار ما تؤخذ منه. وبالله تعالى التوفيق. وهو قول عمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب و، وعطاء، ومكحول، والشعبي، والحسن، والحكم بن عتيبة، وهو فعل أبى بكر، وعمر، وعلى كما ذكرنا، وهو قول مالك والشافعي وأصحابنا. وأما الحمير فما نعلم أحدا أوجب فيها الزكاة، إلا شيئا حدثناه حمام قال ثنا عبد الله
(1) في النسخة رقم (16) (عن زهير بن حرب هو ابن معاوية) وهذا خلط (2) الحديث في مسند أحمد (ج 1 ص 32) وهناك خطأ في اسناده فان فيه (قرأت على يحيى بن سعيد بن زهير) والصواب (عن زهير) كما هنا. وعنده في آخره (ولكن انتظروا حتى اسأل المسلمين) ورواه أيضا عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن أبي إسحاق بنحوه (ج 1 ص 14) وروى أيضا باسناد آخر عن عمر وحذيفة (ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذ من الخيل والرقيق صدقة) (ج 1 ص 18) 229 ابن محمد بن علي الباجي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا جرير عن منصور عن إبراهيم النخعي، قال منصور: سألته عن الحمير أفيها زكاة؟ فقال إبراهيم: أما أنا فأشبهها بالبقر، ولا نعلم فيها شيئا. قال أبو محمد: كل ما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بزكاة محدودة موصوفة فلا زكاة فيه. ولقد كان يجب على من رأى الزكاة في الخيل بعموم قول الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) أن يأخذها من الحمير، لأنها أموال، وكان يلزم من قاس الصداق على ما تقطع فيه اليد أن يقيسها على الإبل، والبقر، لأنها ذات أربع مثلها، وان افترقت في غير ذلك، فكذلك الصداق يخالف السرقة في أكثر من ذلك. وأما العسل فان مالكا والشافعي وأبا سليمان وأصحابهم لم يروا فيه زكاة. وقال أبو حنيفة: إن كان النحل في أرض العشر ففيه الزكاة، وهو عشر ما أصيب منه، قل أو كثر، وإن كان في أرض خراج فلا زكاة فيه قل أو كثر، ورأي في المواشي الزكاة، سواء كانت في أرض عشر أو في أرض خراج. وقال أبو يوسف: إذا بلغ العسل عشرة أرطال ففيه رطل واحد، وهكذا ما زاد ففيه العشر، والرطل هو الفلفلي. وقال محمد بن الحسن: إذا بلغ العسل خمسة أفراق ففيه العشر، والا فلا. والفرق ستة وثلاثون رطلا فلفلية والخمسة الا فراق مائة رطل وثمانون رطلا فلفلية، قال: والسكر كذلك. قال أبو محمد أما مناقضة أبي حنيفة وايجابه الزكاة في العسل ولو أنه قطرة إذا لم يكن في أرض الخراج -: فظاهرة لاخفاء بها. وأما تحديد صاحبيه ففي غاية الفساد والخبط والتخليط، هو إلى الهزل أقرب منه إلى الجد. لكن في العسل خلاف قديم. كما روينا من طريق عطاء الخراساني: ان عمر بن الخطاب قال لأهل اليمن في العسل ان عليكم في كل عشرة افراق فرقا. ومن طريق الحارث بن عبد الرحمن (1) عن منير بن عبد الله عن أبيه عن سعد بن أبي ذباب (2)
(1) هو الحارث بن عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد - وقيل المغيرة - بن أبي ذباب، مات سنة 146 وهو ثقة (2) ذباب، بضم الذال المعجمة وبالموحدتين. وفى الأصلين (عن منير ابن عبد الله عن سعيد بن أبي ذباب) وهو خطأ، فان صوابه (سعد) وكذلك هو في كل كتب الصحابة، ثم إن منير بن عبد الله إنما يروى هذا عن أبيه عن سعد بن أبي ذباب كذلك رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه (ج 4 ص 79) ومن طريقه ابن الأثير في أسد الغابة (ج 2 ص 276) ورواه كذلك ابن عبد البر في الاستيعاب (ص 568 و 569) ونقله ابن حجر في الإصابة ولسان الميزان وتعجيل المنفعة. ورواه ابن سعد في الطبقات مطولا (ج 4 ق 2 ص 64) عن أنس بن عياض وصفوان بن عيسى كلاهما عن الحارث بن عبد الرحمن ابن أبي ذباب الدوسي عن أبيه عن سعد بن أبي ذباب، وانا أظن أنه سقط عند ابن سعد ذكر (منير بن عبد الله) في الاسناد لاتفاقهم كلهم على ذكره فيه، ويؤيد وجوب زيادة (عن أبيه هنا ما سيذكره المؤلف في الكلام على هذا الاسناد. 230 وكانت له صحبة -: انه أخذ عشر العسل من قومه واتى به عمر، فجعله عمر في صدقات المسلمين، قال: (وقدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمت واستعملني على قومي، واستعملني أبو بكر بعده، ثم استعملني عمر من بعده، فقلت لقومي: في العسل زكاة، فإنه لا خير في مال لا يزكى فقالوا: كم ترى؟ فقلت: العشر، فأخذته وأتيت به عمر) (1). ومن طريق نعيم بن حماد عن بقية عن محمد بن الوليد الزبيدي عن عمرو بن شعيب عن هلال بن مرة: ان عمر بن الخطاب قال في عشور العسل: ما كان منه في السهل ففيه العشر، وما كان منه في الجبل ففيه نصف العشر. وصح عن مكحول والزهري: ان في كل عشرة ازقاق (2) من العسل زقا. رويناه من طريق ثابتة عن الأوزاعي عن الزهري. وعن سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى: في كل عشرة ازق من عسل زق قال: والزق يسع رطلين. وروى أيضا من طريق لا تصح عن عمر بن عبد العزيز. وهو قول ربيعة ويحيى ابن سعيد الأنصاري وابن وهب. واحتج أهل هذه المقالة بما رويناه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: (جاء هلال إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشور نحل له، وسأله ان يحمى له واديا يقال له: سلبة فحماه له) (3).
(1) في الطبقات زيادة (وأخبرته بما كان فقبضه عمر فباعه، ثم جعل ثمنه في صدقات المسلمين) (2) في النسخة رقم (16) (ارق) وهو جمع صحيح بفتح الهمزة وضم الزاي وتشديد القاف. (3) سلبة بالسين المهملة واللام والباء الموحدة المفتوحات، وهو واد لبني متعان (بضم الميم واسكان التاء المثناة) والحديث رواه أبو داود (ج 2 ص 22) والنسائي (ج 5 ص 46) 231 وبما رويناه من طريق عبد الله بن محرر عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: ان يؤخذ من العسل العشور). ومن طريق سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى: (ان أبا سيارة المتعى قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ان لي نحلا، قال. فأدمنه العشر) (1). ومن طريق ابن جريج قال كتبت إلى إبراهيم بن ميسرة أسأله عن زكاة العسل؟ فذكر جوابه، وفيه. أنه قال: ذكر لي من لا اتهم من أهلي: ان عروة بن محمد السعدي (2) قال له. انه كتب إلى عمر بن عبد العزيز يسأله عن صدقة العسل؟ فرد إليه عمر. قد وجدنا بيان صدقة العسل بأرض الطائف، فخذ منه العشور. قال أبو محمد: هذا كله لا حجة لهم فيه. اما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فصحيفة لا تصح وقد تركوها حيث لا توافق تقليدهم مما قد ذكرناه في غير ما موضع. وأما حديث أبي هريرة فمن رواية عبد الله بن محرر (3) وهو اسقط من كل ساقط متفق على اطراحه. وأما حديث أبي سيارة المتعى فمنقطع لان سليمان بن موسى لا يعرف له لقاء أحد من الصحابة رضي الله عنهم. وأما حديث عمر بن عبد العزيز فمنقطع، لأنه عمن لم يسم. وأما خبر عمر بن الخطاب فلا يصح، لأنه عن عطاء الخراساني عنه، ولم يدركه عطاء، وعن منير بن عبد الله عن أبيه، وكلاهما مجهول، وبعض رواته يقول: متين (4) بن عبد الله ولا يدرى من هو، وعن بقية، وهو ضعيف، ثم عن هلال بن مرة، ولا يدرى من هو. فبطل أن يصح في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ أو عن عمر، أو عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم. * (همش) (1) رواه أحمد (ج 4 ص 236) وابن ماجة (ج 1 ص 287) وابن سعد (ج 7 ق 2 ص 136) والمتعي بضم الميم وفتح التاء، وقال السمعاني. (هذه النسبة إلى متع وهو بطن من فهم فيما أظن) وانا أظن أنه نسبه إلى (بنى متعان) الذين منهم هلال الماضي في الحديث السابق (2) كان من عمال سليمان بن عبد الملك على اليمن وأقره عمر بن عبد العزيز عليها حتى مات وكذا يزيد بن عبد الملك، ووليها عشرين سنة. (3) محرر اسم مفعول بوزن معظم (4) ضبط بالقلم في النسخة رقم (14) بضم الميم وفتح التاء المثناة واسكان الياء وآخره نون، ولا أدرى ما صحته * (*)
232 قال أبو محمد: وقد عارض ذلك كله خبر مرسل أيضا. كما حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد بن علي الباجي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع عن سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس: ان معاذ بن جبل لما أتى اليمن أتى بالعسل وأوقاص (1) الغنم، فقال: لم أؤمر فيها بشئ. ولكنا لا نستحل الحجاج (2) بمرسل، لأنه لا حجة فيه (3). وبه إلى وكيع عن سفيان الثوري عن عبيد الله بن عمر (4) عن نافع قال: بعثني عمر بن عبد العزيز إلى اليمن، فأردت ان آخذ من العسل العشر، فقال المغيرة بن حكيم الصنعاني: ليس فيه شئ، فكتبت إلى عمر بن عبد العزيز، فقال: صدق، هو عدل رضى. قال أبو محمد: وبأن لا زكاة في العسل يقول مالك وسفيان الثوري، والحسن بن حي، والشافعي، وأبو سليمان وأصحابهم. قال على: قد قلنا: إن الله تعالى قال: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فلا يجوز ايجاب فرض زكاة في مال لم يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ايجابها. فان احتجوا بعموم قول الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة). قيل لهم: فأوجبوها فيما خرج من معادن الذهب والفضة، وفى القصب، وفى ذكور الخيل، فكل ذلك أموال للمسلمين، بل أوجبوها حيث لم يوجبها الله تعالى، وأسقطوها (5) مما خرج من النخل (6) والبر، والشعير، في أرض الخراج وفى الأرض المستأجرة! ولكنهم قوم يجهلون!. وأما عروض التجارة فقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في أحد قوليه: بايجاب الزكاة
(1) جمع وقص - بفتح الواو وفتح القاف - وهو ما بين الفريضتين من الإبل والغنم نحو ما زاد على خمس من الإبل إلى تسع وما زاد على عشر إلى أربع عشرة، فليس في هذه الزيادة صدقة (2) في النسخة رقم (16) (الاحتجاج) (3) لان رواية طاوس عن معاذ مرسلة (4) نقل نحو هذا الأثر في التهذيب (ج 10 ص 258) ولكن فيه (عبيد بن عمير) وانا أرجح انه خطأ وان الصواب ماهنا، إذ ليس في الذين يسمون (عبيد بن عمير) من روى عن نافع ولا من روى عنه الثوري (5) في النسخة رقم (16) (وأسقطتموها) وهو خطأ (6) بالخاء المعجمة، وفى النسخة رقم (14) بالمهملة وهو تصحيف 233 في العروض المتخذ للتجارة. واحتجوا في ذلك بخبر رويناه من طريق سليمان بن موسى عن جعفر بن سعد بن سمرة ابن جندب عن خبيب بن سليمان بن سمرة بن جندب (1) عن أبيه عن جده سمرة: (أما بعد، فان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا ان نخرج الصدقة من الذي نعد للبيع). وبخبر صحيح عن عبد الرحمن بن عبد القاري قال: كنت على بيت المال زمان (2) عمر ابن الخطاب، فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها، غائبها وشاهدها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد. وبخبر رويناه من طريق أبى قلابة: ان عمال عمر قالوا: يا أمير المؤمنين، ان التجار شكوا شدة التقويم، فقال عمر: هاه! هاه؟ خففوا. وبخبر رويناه من طريق يحيى بن سعيد عن عبد الله بن أبي سلمة عن أبي عمر وبن حماس (3) عن أبيه قال: مربى عمر بن الخطاب فقال: يا حماس، أد زكاة مالك، فقلت: مالي مال الاجعاب (4) وادم (5)، فقال: قومها قيمة ثم أد زكاتها (6). وبخبر صحيح رويناه عن ابن عباس أنه كأن يقول: لا بأس بالتربص حتى يبيع، والزكاة واجبة فيه. وبخبر صحيح عن ابن عمر: ليس في العروض زكاة إلا أن تكون لتجارة. وقال بعضهم: الزكاة موضوع فيما ينمى من الأموال. ما نعلم لهم متعلقا غير هذا، وكل هذا لا حجة لهم فيه. أما حديث سمرة فساقط، لان جميع رواته - ما بين سليمان بن موسى وسمرة رضي الله عنه - مجهولون لا يعرف من هم، ثم لو صح لما كانت لهم فيه حجة، لأنه ليس فيه ان تلك الصدقة هي الزكاة المفروضة، بل لو أراد عليه السلام بها الزكاة المفروضة لبين وقتها ومقدارها
(1) خبيب بضم الخاء المعجمة، وفى الأصلين بالحاء المهملة، وهو خطأ، وهذا الحديث رواه أبو داود (ج 2 ص 3) والدارقطني (ص 214) مطولا، وسكت عنه أبو داود والمنذري وحسنه ابن عبد البر، وجعفر بن سعد، وخبيب بن سليمان بن سمرة وأبوه سليمان؟؟ ذكره ابن حبان في الثقات (2) في النسخة رقم (16) (زمن) (3) بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم وآخره سين مهملة (4) بكسر الجيم جمع جعبة بفتحها، وهو كنانة النشاب (5) بالهمزة والدال المهملة المضمومتين ويجوز اسكان الدال، جمع (أديم) وهو الجلد (6) هذا الأثر رواه الشافعي في الام (ج 2 ص 39) ونسبه بعضهم لمالك ولأحمد ولم أجده عندهما 234 وكيف تخرج، أمن أعيانها، أم بتقويم، وبماذا تقويم؟ ومن المحال أن يكون عليه السلام يوجب علينا زكاة لا يبين كم هي؟ ولا كيف تؤخذ؟ وهذه الصدقة لو صحت لكانت موكولة إلى أصحاب تلك السلع. كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا مسدد ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة (1) قال: (مر بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا معشر التجار، إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة). فهذه صدقة مفروضة غير محدودة، لكن ما طابت به أنفسهم، وتكون كفارة لما يشوب البيع مما لا يصح، من لغو، وحلف. وأما حديث عمر فلا يصح، لأنه عن أبي عمرو بن حماس عن أبيه، وهما مجهولان (2). روينا من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: ثنا عازم بن الفضل قال سمعت أبا الأسود - هو حميد بن الأسود يقول: ذكرت لمالك بن أنس حديث ابن حماس في المتاع يزكى، عن يحيى بن سعيد؟ فقال مالك: يحيى قماش. قال أبو محمد: معناه انه يجمع القماش، وهو الكناسة أي يروى عمن لا قدر له ولا يستحق. وأما حديث أبي قلابة فمرسل، لأنه لم يدرك عمر بعقله ولا بسنه. وأما حديث عبد الرحمن بن عبد القاري فلا حجة لهم فيه، لأنه ليس فيه أن تلك الأموال كانت عروضا للتجارة، وقد كانت للتجار أموال تجب فيها الزكاة، من فضة وذهب وغير ذلك ولا يحل أن يزاد في الخبر ما ليس فيه، فيحصل من فعل ذلك على الكذب. وأما حديث ابن عباس فكذلك أيضا، ولا دليل فيه على ايجاب الزكاة في عروض التجارة، وهو خارج على مذهب ابن عباس المشهور عنه في أنه كان يرى الزكاة واجبة في فائدة الذهب والفضة والماشية حين تستفاد، فرأى الزكاة في الثمن إذا باعوه. حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن سعيد بن حزم ثنا محمد بن عبد الملك ابن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ثنا أبي عن عبد الصمد التنوري ثنا حماد ثنا قتادة عن جابر بن زيد أبى الشعثاء (3) عن ابن عباس: أنه قال في المال المستفاد: يزكيه حين يستفيده، وقال ابن عمر: حتى يحول عليه الحول. وقد بين هذا عطاء، وهو أكبر أصحابه،
(1) بغين معجمة ثم راء ثم زاي مفتوحات (2) كلا بل هما معروفان ثقتان (3) في النسخة رقم (16) (عن جابر بن زيد بن أبي الشعثاء) وهو خطأ، بل أبو الشعثاء هو جابر بن زيد وهي كنيته 235 على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما خبر ابن عمر فصحيح، إلا أنه لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكم قضية خالفوا فيها عمر وابنه؟ منها للمالكيين الرواية في زكاة العسل، وللحنيفيين حكمه في زكاة الرقيق، وغير ذلك كثير جدا. ومن المحال أن يكون عمر وابنه حجة في موضع غير حجة في موضع آخر!. وأيضا: فان الحنيفيين والمالكيين والشافعيين خالفوا ما روى عن عمر وابن عمر في هذه المسألة نفسها، فمالك فرق بين المدير وغير المدير، وأسقط الزكاة عمن باع عرضا بعرض، ما لم ينض له درهم، وليس هذا فيما روى عن عمر وابنه. والشافعي يرى أن لا يزكى الربح مع رأس المال إلا الصيارفة خاصة، وليس هذا عن عمرو لا عن ابن عمر. وكلهم يرى فيمن ورث عروضا أو ابتاعها للقنية ثم نوى بها التجارة انها لا زكاة فيها ولو بقيت عنده سنين، ولا في ثمنها إذا باعها، لكن يستأنف حولا، وهذا خلاف عمر وابن عمر، فبطل احتجاجهم بهما رضي الله عنهما. وقد جاء خلاف ما روى عن عمر وابن عمر عن غيرهما (1) من الصحابة رضي الله عنهم. حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني نافع بن الخوزي (2) قال: كنت جالسا عند عبد الرحمن بن نافع إذ جاءه زياد البواب فقال له: إن أمير المؤمنين - يعنى ابن الزبير - يقول: أرسل زكاة (3) مالك، فقام فأخرج مائة درهم، وقال له: اقرأ عليه السلام، وقل له: إنما الزكاة في الناض، قال نافع: فلقيت زيادا فقلت له: أبلغته؟ قال: نعم قلت: فماذا قال ابن الزبير؟ فقال: قال: صدق. قال ابن جريج: وقال لي عمرو بن دينار: ما أرى الزكاة الا في العين. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد ثنا إسماعيل بن إبراهيم عن قطن (4) قال: مررت بواسط زمن عمر بن عبد العزيز، فقالوا: قرئ علينا كتاب أمير المؤمنين: أن لا تأخذوا من أرباح التجار شيئا حتى يحول عليها الحول (5).
(1) في النسخة رقم (14) (وعن غيرهما) وزيادة الواو خطأ (2) هكذا هو في الأصلين بالخاء المعجمة والزاي ولم اعرفه ولم أجد له ترجمة (3) في النسخة رقم (14) (بزكاة) (4) بفتح القاف والطاء المهملة (5) في النسخة رقم (16) (بالحول) وهو خطأ. 236 قال أبو عبيد: وثنا معاذ عن عبد الله بن عون قال: أتيت المسجد وقد قرئ الكتاب، فقال صاحب لي: لو شهدت كتاب عمر بن عبد العزيز في أرباح التجار ان لا يعرض لها حتى يحول عليها الحول. فهذا ابن الزبير، وعبد الرحمن بن نافع (1)، وعمرو بن دينار، وعمر بن عبد العزيز، وقد روى أيضا عن عائشة، وذكره الشافعي عن ابن عباس، وهو أحد قولي الشافعي. قال أبو محمد: وحتى لو لم يأت خلاف في ذلك لما وجبت شريعة بغير نص قرآن أو سنة ثابتة أو اجماع متيقن لا يشك في أنه قال به جميع الصحابة رضي الله عنهم. وقد أسقط الحنيفيون الزكاة عن الإبل المعلوفة والبقر المعلوفة وأموال الصغار كلها الا ما أخرجت أرضهم. واسقط المالكيون الزكاة عن أموال العبيد والحلي. وأسقطها الشافعيون عن الحلى وعن المواشي المستعملة. وكل هذا خلاف للسنن الثابتة بلا برهان. وذكروا الخبر الذي من طريق أبي هريرة: ان عمر بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقا، فقال: منع العباس، وخالد بن الوليد، وابن جميل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انكم تظلمون خالدا، ان خالدا قد احتبس ادراعه وأعبده (2) في سبيل الله). قالوا: فدل هذا على أن الزكاة طلبت منه في دروعه وأعبده، ولا زكاة فيها الا أن تكون لتجارة. قال أبو محمد: وليس في الخبر لا نص ولا دليل ولا إشارة على شئ مما ادعوه وإنما فيه انهم ظلموا خالدا إذ نسبوا إليه منع الزكاة وهو قد احتبس ادراعه وأعبده في سبيل الله
(1) في النسخة رقم (16) (وعبد الله بن نافع) وهو خطأ (2) كذا في الأصلين بالباء الموحدة المضمومة جمع عبد، وهو رواية حكاها القاضي عياض في نسخ البخاري، والمشهور في رواية البخاري (واعتده) بضم التاء المثناة الفوقية، وهي جمع قلة للعتاد وهو ما أعده الرجل من السلاح والدواب وآلة الحرب للجهاد، يجمع علي (اعتد) بضم التاء، وعلى (أعتدة) بكسرها مع زيادة هاء في آخره، وفى رواية مسلم من طريق علي بن حفص (واعتاده) قال الدارقطني (قال أحمد بن حنبل قال علي بن حفص واعتاده وأخطأ فيه وصحف، وإنما هو اعتده) نقله في اللسان، وانظر البخاري (ج 2 ص 245) ومسلم (ج 1 ص 268) وفتح الباري (ج 3 ص 263) والعيني (ج 9 ص 47) 237 فقط، وصدق عليه السلام، إذا من المحال أن يكون رجل عاقل ذو دين ينفق النفقة العظيمة في التطوع ثم يمنع اليسير في الزكاة المفروضة، هذا حكم الحديث، واما إعمال الظن الكاذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فباطل. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن لا زكاة في عروض التجارة، وهو أنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) وانه اسقط الزكاة عما دون الأربعين من الغنم، وعما دون خمسة أوسق من التمر والحب، فمن أوجب زكاة في عروض التجارة فإنه يوجبها في كل ما نفى عنه عليه السلام الزكاة مما ذكرنا. وصح عنه عليه السلام: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة إلا صدقة الفطر) وانه عليه السلام قال: (قد عفوت عن صدقة الخيل) وأنه عليه السلام ذكر حق الله تعالى في الإبل والبقر والغنم والكنز (1) فسئل عن الخيل فقال: (الخيل ثلاثة: هي لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر) فسئل عن الحمير فقال: (ما انزل على فيها شئ إلا هذه الآية الفاذة (2) الجامعة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره). فمن أوجب الزكاة عن عروض التجارة فإنه يوجبها في الخيل والحمير والعبيد، وقد قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن لا زكاة في شئ منها إلا صدقة الفطر في الرقيق، فلو كانت في عروض التجارة أو في شئ مما ذكر عليه السلام زكاة إذا كان لتجارة -: لبين ذلك بلا شك، فإذ لم يبينه عليه السلام فلا زكاة فيها أصلا. وقد صح الاجماع المتيقن على أن حكم كل عرض كحكم الخيل والحمير والرقيق وما دون النصاب من الماشية والعين. ثم اختلف الناس، فمن موجب الزكاة في كل ذلك إذا كان للتجارة، ومن مسقط الزكاة في كل ذلك لتجارة كانت أو لغير تجارة. وصح بالنص ان لا زكاة في الخيل ولا في الرقيق ولا في الحمير ولا فيما دون النصاب من الماشية والعين، وصح الاجماع من كل أحد على أن حكم كل عرض في التجارة كحكم هذه، فصح من ذلك ان لا زكاة في عروض التجارة بالاجماع المذكور، وقد صح الاجماع أيضا على أنه لا زكاة في العروض. ثم ادعى قوم أنها إذا كانت للتجارة ففيها زكاة، وهذه دعوى بلا برهان.
(1) في النسخة رقم (16) بحذف الإبل وبتقديم وتأخير (2) أي المنفردة في معناها 238 واجمع الحنيفيون والمالكيون والشافعيون على أن من اشترى سلعا للقنية ثم نوى بها التجارة فلا زكاة فيها. وهذا تحكم في ايجابهم الزكاة في أثمانها إذا بيعت ثم تجربها بلا برهان (1). واما قولهم: إن الزكاة فيما ينمى، فدعوى كاذبة متناقضة، لان عروض القنية تنمى قيمتها كعروض التجارة ولافرق. فان قالوا: العروض للتجارة فيها النماء. قلنا: وفيها أيضا الخسارة، وكذلك الحمير تنمى، ولا زكاة فيها عندهم، والخيل تنمى، ولا زكاة فيها عند الشافعيين والمالكيين، والإبل العوامل تنمى ولا زكاة فيها عند الحنيفيين والشافعيين، وما أصيب في أرض الخراج ينمى، ولا زكاة فيها عند الحنيفيين وأموال العبيد تنمى، ولا زكاة فيها عند المالكيين. قال أبو محمد: وأقوالهم واضطرابهم في هذه المسألة نفسها برهان قاطع على أنها ليست. من عند الله تعالى. فان طائفة منهم قالت: تزكى عروض التجارة من أعيانها. وهو قول المزني. وطائفة قالت: بل نقومها، ثم اختلفوا. فقال أبو حنيفة: نقومها بالأحوط للمساكين. وقال الشافعي: بل بما اشتراها به، فإن كان اشترى عرضا بعرض قومه بما هو الأغلب من نقد البلد. وقال مالك: من باع عرضا بعرض أبدا فلا زكاة عليه إلا حتى يبيع ولو بدرهم، فإذا نض له ولو درهم قوم حينئذ عروضه وزكاها. فليت شعري! ما شأن الدرهم ههنا إن هذا لعجب؟ فكيف إن لم ينض له إلا نصف درهم أو حبة فضة أو فلس، كيف يصنع؟!. وقال أبو حنيفة والشافعي: يقوم ويزكى وإن لم ينض له درهم. وقال مالك: المدير الذي يبيع ويشترى يقوم كل سنة ويزكى، وأما المحتكر فلا زكاة عليه - ولو حبس عروضه سنين - الا حتى يبيع، فإذا باع زكى حينئذ لسنة واحدة وهذا عجب جدا!. وقال أبو حنيفة والشافعي: كلاهما سواء، يقومان كل سنة ويزكيان.
(1) تجر من باب نصر وكتب 239 حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد بن علي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي ين مخلد ثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ثنا محمد بن بكر عن ابن جريج قال قال لي عطاء: لا صدقة في لؤلؤ ولا في زبرجد، ولا ياقوت، ولا فصوص، ولا عرض ولا شئ لا يدار، فإن كان شئ من ذلك يدار ففيه الصدقة في ثمنه حين يباع. وهذا خلاف قول من ذكرنا. وقال الشافعي: لا يضيف الربح إلى رأس المال إلا الصيارفة، وهذا عجب جدا!. وقال أبو حنيفة ومالك: بل يضيف الربح إلى رأس المال ولو لم يربحه إلا في تلك الساعة فكان هذا أيضا عجبا!. وأقوالهم في هذه المسألة طريقة جدا لا يدل على صحة شئ منها قرآن ولا سنة صحيحة ولا رواية فاسدة، ولا قول صاحب أصلا، وأكثر ذلك لا يعرف له قائل قبل من قاله منهم، والله تعالى يقول (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) فليت شعري هل رد هؤلاء هذا الاختلاف إلى كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وهل وجدوا في القرآن والسنن نصا أو دليلا على شئ من هذه الأقوال الفاسدة؟. وكلهم يقول: ممن اشترى سلمة للقنية فنوى بها التجارة فلا زكاة فيها، فان اشتراها للتجارة فنوى بها القنية سقطت الزكاة عنها، فاحتاطوا لاسقاط الزكاة التي أوجبوها بجهلهم. وقالوا كلهم: من اشترى ماشية للتجارة أو زرع للتجارة فان زكاة التجارة تسقط وتلزمه الزكاة المفروضة، وكان في هذا كفاية لو أنصفوا أنفسهم ولو كانت زكاة التجارة حقا من عند الله تعالى ما أسقطتها الزكاة المفروضة، لكن الحق يغلب الباطل. فان قالوا: لا تجتمع زكاتان في مال واحد. قلنا: فما المانع من ذلك، ليت شعري، إذا كان الله تعالى قد أوجبهما جميعا أو رسوله صلى الله عليه وسلم!. 642 - مسألة - ولا زكاة في تمر ولا بر ولا شعير حتى يبلغ ما يصيبه المرء الواحد من الصنف الواحد منها خمسة أوسق، والوسق ستون صاعا، والصاع أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، والمد من رطل ونصف إلى رطل وربع على قدر رزانة المد وخفته، وسواء زرعه في ارض له أو في ارض لغيره بغصب أو بمعاملة جائزة أو غير جائزة، إذا كان البذر غير مغصوب، سواء أرض خراج كانت أو ارض عشر. وهذا قول جمهور الناس، وبه يقول مالك، والشافعي، واحمد، وأبو سليمان. وقال أبو حنيفة: يزكى ما قل من ذلك وما كثر، فإن كان في ارض خراج فلا زكاة
240 فيما أصيب فيها، فإن كانت الأرض مستأجرة فالزكاة على رب الأرض لا على الزارع، فإن كان في أرض مغصوبة، فان قضى لصاحب الأرض بما نقصها الزرع فالزكاة على صاحب الأرض، وان لم يقض له بشئ فالزكاة على الزارع. قال: والمد رطلان. فهذه خمسة مواضع خالف فيها الحق في هذه المسألة، وقد ذكرنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من حب أو تمر صدقة). وتعلق أبو حنيفة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء للعشر). وأخطأ في هذا، لأنه استعمل هذا الخبر وعصى الآخر، (1) وهذا لا يحل. ونحن أطعنا ما في الخبرين جميعا، وهو قد خالف هذا الخبر أيضا، إذ خص مما سقت السماء كثيرا برأيه، كالقصب، والحطب والحشيش، وورق الشجر وما أصيب في أرض الخراج ولم ير أن يخصه بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيضا فإنه كلف من ذلك مالا يطاق، كما قدمنا، وخص من ذلك برأيه ما أصيب في عرصات الدور، وهذه تخاليط لا نظير لها. واما أبو سليمان فقال: ما كان يحتمل التوسيق فلا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق، وما كان لا يحتمل التوسيق فالزكاة في قليله وكثيره، وقد ذكرنا فساد هذا القول قبل. والعجب أن أبا حنيفة يزعم أنه صاحب قياس، وهو لم ير فيما يزكى شيئا قليله وكثيره (2) فهلا قاس الزرع على الماشية والعين؟ فلا النص اتبع، ولا القياس طرد. وأما المد فان أبا حنيفة وأصحابه احتجوا في ذلك بما رويناه من طريق شريك بن عبد الله القاضي عن عبد الله بن عيسى عن عبد الله بن جبر عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجزئ في الوضوء رطلان) مع الأثر الصحيح في أنه عليه السلام كان يتوضأ بالمد. وهذا لا حجة فيه، لان شريكا مطرح، مشهور بتدليس المنكرات إلى الثقات، وقد أسقط حديثه الامامان عبد الله بن المبارك، ويحيى بن سعيد القطان وتالله لا أفلح من شهدا عليه بالجرحة. ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة، لأنه لا يدل ذلك على أن المد رطلان، وقد صح
(1) في النسخة رقم (16) (وعصى الآية) وهو خطأ ظاهر (2) في الأصلين (يزكى قليله ولا كثيره) وزيادة حرف (لا) خطأ صرف يفسد المعنى معها، كما هو واضح عند التأمل 241 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي المد، ولا خلاف في أنه عليه السلام لم يكن يعير (1) له الماء للوضوء بكيل ككيل الزيت لا يزيد ولا ينقص. وأيضا فلو صح لما كان في قوله عليه السلام (يجزئ في الوضوء رطلان) مانع من أن يجزئ أقل، وهم أول موافق لنا في هذا، فمن توضأ عندهم بنصف رطل أجزأة، فبطل تعلقهم بهذا الأثر. واحتجوا بخبر رويناه من طريق موسى الجهني: كنت عند مجاهد فأنى باناء يسع ثمانية أرطال، تسعة أرطال، عشرة أرطال، فقال: قالت عائشة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بمثل هذا) مع الأثر الثابت أنه عليه السلام كان يغتسل بالصاع. قال أبو محمد: وهذا لا حجة فيه، لان موسى قد شك في ذلك الاناء من ثمانية أرطال إلى عشرة، وهم لا يقولون: ان الصاع يزيد على ثمانية أرطال ولا فلسا. وأيضا فقد صح انه عليه السلام اغتسل هو وعائشة رضي الله عنها جميعا من إناء يسع ثلاثة أمداد، وأيضا من إناء هو الفرق، والفرق اثنا عشر مدا، وأيضا بخمسة امداد، وأيضا بخمسة مكا كي (2) وكل هذه الآثار في غاية الصحة والاسناد الوثيق الثابت المتصل، والخمسة مكاكي خمسون مدا، ولا خلاف في أنه عليه السلام لم يعير له الماء للغسل بكيل ككيل الزيت، ولا توضأ واغتسل باناءين مخصوصين، بل قد توضأ في الحضر والسفر بلا مراعاة لمقدار الماء، وهم أول مخالف لهذا التحديد، فلا يختلفون في أن امرءا لو اغتسل بنصف صاع لأجزأه. فبطل تعلقهم بهذه الآثار الواهية. واحتجوا بروايتين واهيتين. إحداهما من طريق أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية عن أبي إسحاق عن رجل عن موسى بن طلحة: ان القفيز الحجاجي قفيز عمر أو صاع عمر (3).
(1) بفتح العين المهملة وتشديد الياء المثناة المفتوحة، يقال: (عير الميزان والمكيال وعاورهما وعايرهما وعاير بينهما معايرة وعيارا قدرهما ونظر ما بينهما) نقله في اللسان (2) المكوك - بفتح الميم وضم الكاف المشددة - مكيال لأهل العراق سعته صاع ونصف، وجمعه مكاكيك ومكاكي بتشديد الياء في آخره على البدل كراهية التضعيف، وذكر في اللسان - في مادة (م ك ك) مقداره ومقدار غيره من المكاييل بتفصيل واف ثم قال (ويختلف مقداره باختلاف اصطلاح الناس عليه في البلاد) (3) رواه يحيى بن آدم في الخراج رقم 476 عن زهير بن معاوية بمعناه 242 والأخرى من طريق مجالد عن الشعبي قال: القفيز الحجاجى صاع عمر. وبرواية عن إبراهيم عيرنا صاع عمر فوجدناه حجاجيا (1). وبرواية عن الحجاج بن أرطاة عن الحكم عن إبراهيم: (كان صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية أرطال، ومده رطلين). قال أبو محمد هذا كله سواء وجوده وعدمه. أما حديث موسى بن طلحة فبين أبي إسحاق وبينه من لا يدرى من هو، ومجالد ضعيف، أول من ضعفه أبو حنيفة، وإبراهيم لم يدرك عمر. ثم لو صح كل ذلك لما انتفعوا به، لأننا لم ننازعهم في صاع عمر رضي الله عنه ولا في قفيزه، إنما نازعنا هم في صاع النبي صلى الله عليه وسلم، ولسنا ندفع أن يكون لعمر صاع وقفيز ومد رتبة لأهل العراق لفقاتهم وأرزاقهم، كما بمصر الويبة والاردب، وبالشأم المدى (2) وكما كان لمروان بالمدينة مد اخترعه، ولهشام بن إسماعيل مد اخترعه، ولا حجة في شئ من ذلك. وأما قول إبراهيم في صاع النبي صلى الله عليه وسلم ومده فقول إبراهيم وقول أبي حنيفة سواء في الرغبة عنهما إذا خالفا الصواب. وقد روينا من طريق البخاري: ثنا عثمان بن أبي شيبة ثنا القاسم بن مالك المزني ثنا الجعيد ابن عبد الرحمن عن (3) السائب بن يزيد قال: (كان الصاع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مدا وثلثا بمدكم اليوم، فزيد فيه في زمن (4) عمر بن عبد العزيز). وروينا عن مالك أنه قال في مكيلة زكاة الفطر بالمد الأصغر مد رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) وعنه أيضا في زكاة الحبوب والزيتون بالصاع الأول صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم (6).
(1) رواه الطحاوي (ج 1 ص 324) من طريق مغيرة عن إبراهيم، وزاد في آخره: (والحجاجي عندهم ثمانية أرطال بالبغدادي) (2) في النسخة رقم (16) (وبالشأم المد والدينار) وهو خطأ في موضعين، فليس لذكر الدينار هنا موضع، والمدى - بضم الميم واسكان الدال وآخره ياء بوزن قفل مكيال لأهل الشأم، وهو غير المد بتشديد الدال (3) الجعيد بالتصغير والذي رجحه ابن حجر ان اسمه (الجعد) بالتكبير (4) في النسخة رقم (14) (زمان) وما هنا هو الموافق للبخاري (ج 8 ص 260) ورواه البخاري أيضا بمعناه عن عمرو بن زرارة عن القاسم (ج 9 ص 188) وكذلك النسائي (ج 5 ص 54) (5) هو في الموطأ (ص 124) (6) هو في الموطأ (ص 188). 243 ومن طريق مالك عن نافع قال: كان ابن عمر يعطى زكاة الفطر من رمضان بمد رسول الله صلى الله عليه وسلم المد الأول. فصح ان بالمدينة صاعا ومدا غير مد النبي صلى الله عليه وسلم. ولو كان صاع عمر بن الخطاب هو صاع النبي صلى الله عليه وسلم لما نسب إلى عمر أصلا دون ان ينسب إلى أبى بكر، ولا إلى أبى بكر أيضا دون ان يضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصح بلا شك أن مد هشام إنما رتبة هشام، وأن صاع عمر إنما رتبه عمر. وهذا إن صح أنه كان هنالك صاع يقال له (صاع عمر) فان صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومده منسوبان إليه لا إلى غيره، باقيان بحسبهما. وأما حقيقة الصاع الحجاجي الذي عولوا عليه فإننا روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق عن مسدد عن المعتمر بن سليمان عن الحجاج بن أرطاة قال حدثني من سمع الحجاج أبن يوسف يقول: صاعي هذا صاع عمر (1) أعطتنيه عجوز بالمدينة. فان احتجوا برواية الحجاج بن أرطأة عن إبراهيم فروايته هذه حجة عليهم، وهذا أصل صاع الحجاج، فلا كثر ولا طيب، ولا بورك في الحجاج ولا في صاعه. وروينا من طريق أبى بكر بن أبي شيبة: ثنا جرير - هو ابن عبد الحميد عن يزيد (2) - هو ابن أبي زياد - عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: الصاع يزيد على الحجاجي مكيالا. فبطل ما موهوا به من الباطل، ووجب الرجوع إلى ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم. كما حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا إسحاق - هو ابن راهويه - ومحمد بن إسماعيل بن علية، قال اسحق عن الملائي (3) وقال ابن علية: ثنا أبو نعيم - هو الفضل بن دكين - كلاهما عن سفيان الثوري عن حنظلة ابن أبي سفيان الجمحي عن طاوس عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المكيال
(1) في النسخة رقم (16) (صاع ابن عمر) وهو خطأ، ففي خراج يحيى بن آدم (رقم 477) (قال لي إسرائيل عن أبي إسحاق قال: قدم علينا الحجاج من المدينة فقال: إني قد اتخذت لكم مختوما على صاع عمر بن الخطاب) وهو اسناد صحيح متصل إلى الحجاج (2) في النسخة رقم (16) (زيد) وهو خطأ (3) بضم الميم وتخفيف اللام، وأنا أرجح انه أبو نعيم الفضل بن دكين - بضم الدال المهملة - وليس شخصا آخر كما يوهم كلام المؤلف. وهذا الأثر بهذا الاسناد لم أجد في النسائي، ولكن وجدته فيه عن أبي سليمان عن أبي نعيم (ج 5 ص 54) 244 على مكيال أهل المدينة، والوزن على وزن أهل مكة). فلم يسع أحدا الخروج عن مكيال أهل المدينة ومقداره عندهم، ولا عن موازين (1) أهل مكة، ووجدنا أهل المدينة (لا يختلف منم اثنان في أن مد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي به تؤدى الصدقات ليس أكثر من رطل ونصف، ولا أقل من رطل وربع، وقال بعضهم: رطل وثلث. وليس هذا اختلافا، لكنه على حسب رزانة المكيل من البر والتمر والشعير. حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن هشام بن عروة: (ان مد النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يأخذ به الصدقات رطل ونصف). حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود عن أحمد بن حنبل قال: صاع ابن أبي ذئب خمسة أرطال وثلث. قال أبو داود: وهو صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم. حدثنا حمام ثنا عباس بن أصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: ذكر أبى أنه عير مد النبي صلى الله عليه وسلم بالحنطة فوجدها رطلا وثلثا (2) في البر، (3) قال: ولا يبلغ من التمر هذا المقدار. حدثنا يحيى بن عبد الرحمن بن مسعود ثنا أحمد بن دحيم ثنا إبراهيم بن حماد ثنا إسماعيل بن إسحاق قال: دفع الينا إسماعيل بن أبي أويس (4) المد، وقال: هذا مد مالك وهو على مثال مد النبي صلى الله عليه وسلم، فذهبت به إلى السوق، وخرط لي عليه مد وحملته معي إلى البصرة، فوجدته نصف كيلجة (5) بكيلجة البصرة، يزيد على كيلجة البصرة شيئا يسيرا خفيفا، وإنما هو شبيه بالرجحان الذي لا يقع عليه جزء من الاجزاء، ونصف كيلجة البصرة هو زبع كيلجة بغداد، فالمد ربع الصاع، والصاع مقدار كيلجة بغدادية يزيد الصاع عليها شيئا يسيرا. قال أبو محمد: وخرط لي مد على تحقيق المد المتوارث عند آل عبد الله بن علي الباجي،
(1) في النسخة رقم (14) (موازن) وهو خطأ (2) في النسخة رقم (16) (رطل وثلث) وهو لحن (3) في النسخة رقم (16) (في المد) بدل قوله (في البر)، وكانت أيضا هكذا في النسخة رقم (14) ولكن ناسخها صححها إلى (في البر) وهو الصواب، ويدل عليه قوله بعده (ولا يبلغ من التمر هذا المقدار) (4) هو إسماعيل بن عبد الله، وهو ابن أخت مالك ونسييه (5) بفتح الكاف واللام والجيم، وهو مكيال 245 وهو عند أكبرهم (1) لا يفارق داره، أخرجه إلى ثقتي (2) الذي كلفته ذلك، على ابن عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن علي المذكور وذكر أنه مد أبيه وجده وأبى جده أخذه وخرطه على مد أحمد بن خالد، وأخبره أحمد بن خالد أنه خرطه على مد يحيى ابن يحيى، الذي أعطاه إياه ابنه عبيد الله بن يحيى بن يحيى، وخرطه يحيى على مد مالك، ولا أشك ان أحمد بن خالد صححه أيضا على مد محمد بن وضاح الذي صححه ابن وضاح بالمدينة. قال أبو محمد: ثم كلته بالقمح الطيب، ثم وزنته، فوجدته رطلا واحدها ونصف رطل بالفلفلي (3)، لا يزيد حبة، وكلته بالشعير، الا أنه لم يكن بالطيب، فوجدته رطلا واحدا ونصف أوقية. قال أبو محمد: وهذا امر مشهور بالمدينة، منقول نقل الكافة، صغيرهم وكبيرهم، وصالحهم وطالحهم، وعالمهم وجاهلهم، وحرائرهم وإمائهم، كما نقل أهل مكة موضع الصفا، والمروة، والاعتراض على أهل المدينة في صاعهم ومدهم كالمعترض على أهل مكة في موضع الصفا والمروة ولا فرق، وكمن يعترض على أهل المدينة في القبر والمنبر والبقيع، وهذا خروج عن الديانة والمعقول. قال أبو محمد: وبحثت انا غاية البحث عند كل من وثقت بتمييزه، فكل اتفق لي على أن دينار الذهب بمكة وزنه اثنان وثمانون حبة وثلاثة أعشار حبة بالحب من الشغير المطلق، والدرهم سبعة أعشار المثقال، فوزن الدرهم المكي سبع وخمسون حبة وستة أعشار حبة وعشر عشر حبة، فالرطل مائة درهم واحدة وثمانية وعشرون درهما بالدرهم المذكور. وقد رجع أبو يوسف إلى الحق في هذه المسألة إذ دخل المدينة ووقف على أمداد أهلها. وقد موه بعضهم بأنه إنما سمى الوسق لأنه من وسق البعير. قال أبو محمد: وهذا طريف في الهوج جدا! وليت شعري من له بذلك؟! وهلا قال: لأنه وسق الحمار؟!. ثم أيضا فان الوسق الذي أشار إليه هو عندهم ستة عشر ربعا بالقرطبي، وحمل البعير أكثر من هذا المقدار بنحو نصفه. وأما اسقاطهم الزكاة عما أصيب في أرض الخراج من بر وتمر وشعير ففاحش جدا، وعظيم من القول واسقاط للزكاة المفترضة.
(1) في النسخة رقم (16) (أكثر هم) وهو تصحيف (2) في النسخة رقم (16) (تقى) وهو خطأ (3) هنا بحاشية النسخة رقم (14) كلمة في تفسير الرطل الفلفلي نقلناها فيما مضى 246 وموهوا في هذا بطوام، منها: أن قال قائلهم: إن عمر لم يأخذ الزكاة من أرض الخراج. قال أبو محمد: وهذا تمويه بارد! لان عمر رضي الله عنه إنما ضرب الخراج على أهل الكفر، ولا زكاة تؤخذ منهم، فان ادعى أن عمر لم يأخذ الزكاة ممن أسلم من أصحاب أرض الخراج فقد كذب جدا ولا يجد هذا أبدا، ومن ادعى ان عمر أسقط الزكاة عنهم كمن ادعى انه اسقط الصلاة عنهم ولا فرق. وموه بعضهم بأن ذكر ما قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (منعت العراق قفيزها ودرهمها، ومنعت الشأم مديها (1) ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم) (2) شهد على ذلك لحم أبي هريرة ودمه، قالوا: فأخبر عليه السلام بما يجب في هذه الأرضين، ولم يخبر ان فيها زكاة، ولو كان فيها زكاة لاخبر بها. قال أبو محمد: مثل هذا ليس لا يراده وجه إلا ليحمد الله تعالى من سمعه على خلاصه من عظيم ما ابتلوا به من المجاهرة بالباطل ومعارضة الحق بأغث ما يكون من الكلام؟! وليت شعري في أي معقول وجدوا أن كل شريعة لم تذكر في هذا الحديث فهي ساقطة؟ وهل يقول هذا من له نصيب من التمييز؟ وهل بين من أسقط الزكاة - لأنها لم تذكر في هذا الخبر - فرق وبين من اسقط الصيام لأنه لم يذكر في هذا الخبر، ومن اسقط الصلاة والحج لأنهما لم يذكرا في هذا الخبر؟. وحتى لو صح لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصد بهذا الخبر ذكر ما يجب في هذه الأرضين - ومعاذ الله من أن يصح هذا فهو الكذب البحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم -: لما كان في ذلك اسقاط سائر حقوق الله تعالى عن أهلها، وليس في الدنيا حديث انتظم ذكر جميع الشرائع أولها عن آخرها، ونعم، ولا سورة أيضا. وإنما قصد عليه السلام في هذا الحديث الانذار بخلاء أيدي المفتتحين لهذه البلاد من أخذ طعامها ودراهمها ودنانيرها فقط، وقد ظهر ما أنذر من عليه السلام. ومن الباطل الممتنع أن يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما زعموا، لأنه لو كان ذلك، وكان أرباب أراضي (3) الشأم، ومصر، والعراق مسلمين، فمن هم المخاطبون بأنهم يعودون كما
(1) بضم الميم واسكان الدال وبالياء كما سبق، وفى الأصلين (مدها) وهو تحريف (2) في النسخة رقم (16) (ابدأتم) وهو خطا، والحديث رواه يحيى بن آدم في الخراج (رقم 227) ومسلم (ج 2 ص 365) وأبو داود (ج 3 ص 129) وابن الجارود (ص 499) (3) في النسخة رقم (14) (ارض) بالافراد 247 بدؤا (1)؟ ومن المانع ما ذكر منعه؟ هذا تخصيص منهم بالباطل وبما ليس في الخبر منه نص ولا دليل، ولو قيل لهم: بل في قوله عليه السلام: (فيما سقت السماء العشر) دليل على سقوط الخراج وبطلانه، إذ لو كان فيها خراج لذكره عليه السلام. والعجب أيضا إسقاطهم الجزية بهذا الخبر عن أهل الخراج فأسقطوا فرضين من فرائض الاسلام برأي صاحب! - وهذا عجب جدا! وخالفوا ذلك الصاحب في هذه القضية نفسها، لأنه قد صح عنه إيجاب الجزية مع الخراج، فمرة يكون فعله حجة يخالف بها القرآن، وهم مع ذلك كاذبون عليه، فما روى عنه قط اسقاط الزكاة عما أصيب في أرض الخراج، ومرة لا يرونه حجة أصلا ومعه الحق. فان قالوا: إن الصحابة أجمعوا على أخذ الخراج. قيل لهم: والصحابة أجمعوا على أخذ الزكاة قبل إجماعهم على الخراج ومعه وبعده بلا شك، ولا عجب أعجب من إيجاب محمد بن الحسن الخراج عن المسلم في أرض الخراج إذا ملكها، وإسقاط الزكاة عنه وإيجابه الزكاة على اليهودي والنصراني إذا ملكا أرض العشر، واسقاط الخراج عنهما، وفاعل هذا متهم على الاسلام وأهله (2). وقالوا: لا يجتمع حقان في مال واحد. قال أبو محمد: كذبوا وافكوا؟ بل تجتمع حقوق لله تعالى في مال واحد، ولو أنها ألف حق، وما ندري من أين وقع لهم انه لا يجتمع حقان في مال واحد، وهم يوجبون الخمس في معادن الذهب والفضة والزكاة أيضا، إما عند الحول وإما في ذلك الوقت إن كان بلغ حول ما عنده من الذهب والفضة، ويوجبون أيضا الخراج في ارض المعدن إن كانت ارض خراج؟!. ومن عجائب الدنيا تغليبهم الخراج على الزكاة، فأسقطوها به، تم غلبوا زكاة البر والشعير، والتمر، والماشية على زكاة التجارة، فأسقطوها بها، ثم غلبوا زكاة التجارة في الرقيق على زكاة الفطر، فأسقطوها بها، فمرة رأوا زكاة التجارة أوكد من الزكاة المفروضة،
(1) في النسخة رقم (16) (ابدؤا) وهو خطأ (2) هذه زلة قلم من ابن حزم، أو لعلها من أثر ما كان عنده من الربو الذي يضيق به الصدر أعاذنا الله منه، وما كان محمد بن الحسن رحمه الله متهما على الاسلام، بل هو عالم كبير، ثقة في الحديث وبخاصة في الرواية عن مالك، وان لينه بعض أهل الحديث فإنما ذلك من قبل حفظه، ومن قبل انه اشتغل بالفقه أكثر من الرواية، ورحمه الله الجميع 248 ومرة رأوا الزكاة المفروضة أولى من زكاة التجارة؟ والحسن بن حي يرى أن يزكى ما زرع للتجارة زكاة التجارة لا الزكاة المفروضة، وذكرنا هذا لئلا يدعوا في ذلك إجماعا، فهذا أخف شئ عليهم. وإن تناقض المالكيين والشافعيين لظاهر في إسقاطهم الزكاة عن عروض التجارة للزكاة المفروضة وإبقائهم إياها مع زكاة الفطر في الرقيق. وكذلك أيضا تناقض الحنيفيون إذ أثبتوا الإجارة والزكاة في أرض واحدة. وممن صح عنه ايجاب الزكاة في الخارج من أرض الخراج عمر بن عبد العزيز وابن أبي ليلى وابن شبرمة وشريك والحسن بن حي. وقال سفيان وأحمد: ان فضل بعد الخراج خمسة أو سق فصاعدا ففيه الزكاة. ولا يحفظ عن أحد من السلف مثل قول أبي حنيفة في ذلك. والعجب كله من تمويههم بالثابت عن عمر رضي الله عنه من قوله - إذ أسلمت دهقانة نهر الملك (1) -: ان اختارت أرضها وأدت (2) ما على أرضها فخلوا بينها وبين أرضها، وإلا فخلوا بين المسلمين وارضهم. وعن علي نحو هذا. وعن ابن عمر انكار الدخول في أرض الخراج للمسلم (3). وليت شعري هل عقل ذو عقل قط ان في شئ من هذا اسقاط الزكاة عما أخرجت الأرض؟ وهذا مكان لا يقابل الا بالتعجب وحسبنا الله ونعم الوكيل. ويكفى من هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فيما سقت السماء العشر) فعم ولم يخص. وأيضا فان البرهان على أن الزكاة على الرافع (4) لاعلى الأرض اجماع الأمة على أنه ان أراد ان يعطى العشر من غير الذي أصاب في تلك الأرض لكان ذلك له، ولم
(1) في الأصلين (بهز الملك) وهو تصحيف، ونهر الملك كورة واسعة ببغداد بعد نهر عيسى، والدهقان - بكسر الدال وضمها - له معان منها: رئيس الإقليم، وهو معرب عن الفارسية، ولعله المراد هنا: وفى خراج يحيى بن آدم (رقم 181) (عن طارق بن شهاب قال: أسلمت امرأة من أهل نهر الملك) (2) في الأصلين (أو أدت) والصواب بواو العطف كما في خراج يحيى (3) انظر الخراج (رقم 150) إلى 171) (4) الرافع بالراء وفي النسخة رقم (16) بدال، وهو خطأ في ظني، بل هو من رفع الزرع بمعنى نقله من الموضع الذي يحصد فيه إلى البيادر، فالرافع هو صاحب الزرع الذي له نتاج الأرض 249 يجز اجباره على أن يعطى من عين ما أخرجت الأرض. فصح ان الزكاة في ذمة المسلم الرافع، لا في الأرض. 643 - مسألة - وكذلك ما أصيب في الأرض المغصوبة إذا كان البذر للغاصب لان غصبه الأرض لا يبطل ملكه عن بذره، فالبذر إذا كان له فما تولد عنه فله، وإنما عليه حق الأرض فقط، ففي حصته منه الزكاة، وهي له حلال وملك صحيح. وكذلك الأرض المستأجرة بعقد فاسد، أو المأخوذة ببعض ما يخرج منها، أو الممنوحة، لعموم قوله عليه السلام (فيما سقطت السماء العشر) * وإما إن كان البذر مغصوبا فلاحق له، ولا حكم في شئ مما انبت الله تعالى منه، سواء كان في أرضه نفسه أم في غيرها، وهو كله (1) لصاحب البذر، لقول الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) ولا يختلف اثنان في أن غاصب البذر إنما أخذه بالباطل، وكذلك كل بذر أخذ بغير حق فمحرم عليه بنص القرآن أكله، وكل ما تولد من شئ فهو لصاحب ما تولد منه بلا خلاف، وليس وجوب الضمان بمبيح له ما حرم الله تعالى عليه. فان موهوا بما روى من أن (الخراج بالضمان). فلا حجة لهم فيه لوجوه: أولها: أنه خبر لا يصح، لان راويه مخلد بن خفاف، وهو مجهول (2) * والثاني: انه لو صح لكان إنما ورد في عبد بيع بيعا صحيحا ثم وجد فيه عيب، ومن الباطل ان يقاس الحرام على الحلال، لو كان القياس حقا، فكيف والقياس كله باطل. والثالث: انهم (3) يلزمهم ان يجعلوا أولاد المغصوبة من الإماء والحيوان للغاصب بهذا الخبر، وهم لا يقولون بذلك. 644 - مسألة - فإذا بلغ الصنف الواحد - من البر، أو التمر، أو الشعير - خمسة
(1) في النسخة رقم (16) (وهذا كله) (2) مخلد بفتح الميم واسكان الخاء المعجمة وفتح اللام، وخفاف بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء. وحديثه هذا رواه الطيالسي (ص 206 رقم 1464) عن ابن أبي ذئب عن مخلد عن عروة عن عائشة مرفوعا، ونسبه ابن حجر في التلخيص (ص 241) إلى الشافعي والحاكم والترمذي، ونقل في التهذيب ما قيل في المخلد بن خفاف وان ابن حبان ذكره في الثقات ثم قال: (وتابعه على هذا الحديث مسلم بن خالد الزنجي عن هشام بن عروة عن أبيه به، وقال ابن وضاح: مخلد مدني ثقة) (3) في النسخة رقم (14) (أنه) 250 أوسق كما ذكرنا فصاعدا، فإن كان مما يسقى بساقية (1) من نهر أو عين أو كان بعلا (2) ففيه العشر، وإن كان يسقى بسانية أو ناعورة أو دلو ففيه نصف العشر، فان نقص عن الخمسة الأوسق - ما قل أو كثر - فلا زكاة فيه. وهذا قول مالك، والشافعي، وأصحابنا. وقال أبو حنيفة: في قليله وكثيره العشر أو نصف العشر. حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا سعيد بن أبي مريم ثنا عبد الله بن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا (3) العشر، وما سقى بالنضح نصف العشر). وقد ذكرنا قبل قوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق من حب ولا تمر صدقة) فصح ان ما نقص عن الخمسة الأوسق نقصانا - قل أو كثر - فلا زكاة فيه. والعجب من تغليب أبي حنيفة الخبر: (فيما سقت السماء العشر) على حديث الأوسق الخمسة وغلب قوله عليه السلام (ليس فيما دون خمس أواقي من الورق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود من الإبل صدقة) على قوله عليه السلام: (في الرقة ربع العشر) وعلى قوله عليه السلام: (ما من صاحب إبل لا يؤدى حقها) وهذا تناقض ظاهر وبالله تعالى التوفيق. 645 - مسألة - ولا يضم قمح إلى شعير، ولا تمر إليهما. وهو قول سفيان الثوري، ومحمد بن الحسن، والشافعي، وأبي سليمان وأصحابنا. وقال الليث بن سعد وأبو يوسف: يضم كل ما أخرجت الأرض من القمح والشعير والأرز والذرة والدخن وجميع القطاني، بعض ذلك إلى بعض، فإذا اجتمع من كل ذلك خمسة أوسق ففيه الزكاة كما ذكرنا، وإلا فلا. وقال مالك: القمح، والشعير، والسلت صنف واحد، يضم بعضها إلى بعض في الزكاة، فإذا اجتمع من جميعها خمسة أوسق ففيها الزكاة، والا فلا، ويجمع الحمص والقول واللوبيا، والعدس، والجلبان، والبسيلة بعضها إلى بعض، ولا يضم إلى القمح ولا إلى الشعير
(1) الساقية من سواقي الزرع نهير صغير، قاله في اللسان (2) بفتح الباء واسكان العين المهملة، وهو ما شرب من النخيل بعروقه من الأرض من غير سقى سماء ولا غيرها، والسانية بمعنى الناضحة، وهي ما يسقى عليه من بعير وغيره وانظر خراج يحيى (رقم 364 إلى 395) (3) العثرى: بفتح العين المهملة والثاء المثلثة المخففة. وقال ابن الاعرابي بتشديد الثاء وهو خطأ، وهو الذي يسقى بماء السماء من مطر وسيل 251 ولا إلى السلت، قال: واما الأرز، والذرة، والسمسم فهي أصناف مختلفة، لا يضم كل واحد منها إلى شئ أصلا. واختلف قوله في العلس، فمرة قال: يضم إلى القمح، والشعير، ومرة قال: لا يضم إلى شئ أصلا. ورأي القطاني في البيوع أصنافا مختلفة، حاشا اللوبيا والحمص، فإنه رآهما في البيوع صنفا واحدا. قال أبو محمد: أما قول مالك فظاهر الخطأ جملة، لا يحتاج من ابطاله إلى أكثر من ايراده؟ وما نعلم أحدا على ظهر الأرض قسم هذا التقسيم، ولا جمع هذا الجمع، ولا فرق هذا التفريق قبله ولا معه ولا بعده، إلا من قلده، وماله متعلق، لامن قرآن، ولا من سنة صحيحة، ولا من رواية فاسدة، ولا من قول صاحب ولا تابع، ولا من قياس، ولا من رأى يعرف له وجه، ولا من احتياط أصلا. واما من رأى جمع البر وغيره في الزكاة فيمكن أن يتعلقوا بعموم قوله عليه السلام: (ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة). قال أبو محمد: ولو لم يأت إلا هذا الخبر لكان هذا هو القول الذي لا يجوز غيره. لكن قد خصه ما حدثناه عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب أنا إسماعيل بن مسعود - هو الجحدري - ثنا يزيد بن زريع ثنا روح بن القاسم حدثني عمرو ابن يحيى بن عمارة عن أبيه عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحل في البر والتمر زكاة حتى يبلغ خمسة أوسق، ولا يحل في الورق زكاة حتى يبلغ خمس أواقي (1) ولا يحل في الإبل زكاة حتى تبلغ خمس ذود) (2). فنفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة عما لم يبلغ خمسة أوسق من البر، فبطل بهذا إيجاب الزكاة فيه على كل حال، مجموعا إلى شعير أو غير مجموع. قال أبو محمد: وكلهم متفق على أن لا يجمع التمر إلى الزبيب، وما نسبة أحدهما من الآخر الا كنسبة البر من الشعير، فلا النص اتبعوا، ولا القياس طردوا، ولا خلاف
(1) في النسخة رقم (14) (خمس أواق) وفى النسائي (ج 5 ص 40) (خمسة أواق) (2) لفظ هذا الحديث يرد على زعم المؤلف فيما مضى ان كلمة (دون) في حديث (ليس فيما دون خمسة أوسق) الخ بمعنى غير وانكاره أن تكون فيه بمعنى أقل، وقد بينا هناك خطأه، وقد أيد لفظ هذا الحديث ما قلنا فالحمد لله 252 بين كل من يرى الزكاة في الخمسة الأوسق فصاعدا - لا في أقل - في أنه لا يجمع التمر إلى البر ولا إلى الشعير. 646 - مسألة - وأما أصناف القمح فيضم بعضها إلى بعض، وكذلك تضم أصناف الشعير بعضها إلى بعض، وكذلك أصناف التمر بعضها إلى بعض، العجوة والبرني والصيحاني (1) وسائر أصنافه، وهذا لا خلاف فيه من أحد، لان اسم (بر) يجمع أصناف البر، واسم (تمر) يجمع أصناف التمر، واسم (شعير) يجمع أصناف الشعير. وبالله تعالى التوفيق. 647 - مسألة - ومن كانت له أرضون شتى في قرية واحدة أو في قرى شتى في عمل مدينة واحدة أو في أعمال شتى - ولو أن إحدى أرضيه في أقصى الصين والأخرى في أقصى الأندلس - فإنه يضم كل قمح أصاب في جميعها بعضها إلى بعض، وكل شعير اصابه في جميعها بعضه إلى بعض، وكل تمر اصابه في جميعها بعضه إلى بعض، فيزكيه، لأنه مخاطب بالزكاة في ذاته، مرتبة بنص القرآن والسنن في ذمته وماله، دون ان يخص الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك ما كان في طسوج (2) واحد، أو رستاق (3) واحد -: مما في طسوجين، أو رستاقين، وتخصيص القرآن والسنة بالآراء الفاسدة باطل مقطوع به وبالله تعالى التوفيق. 648 - مسألة - ومن لقط السنبل فاجتمع له من البر خمسة أوسق فصاعدا، ومن الشعير كذلك -: فعليه الزكاة فيها، العشر فيما سقى بالسماء أو بالنهر أو بالعين أو بالساقية، ونصف العشر فيما سقى بالنضح. ولا زكاة على من التقط من التمر خمسة أوسق. وبايجاب الزكاة في ذلك يقول أبو حنيفة.
(1) البرنى - بفتح الباء واسكان الراء - ضرب من التمر احمر مشرب بصفرة مدور كثير اللحاء عذب الحلاوة وهو أجود التمر، واحدته برنية، واصل الكلمة فارسي. عن اللسان، والصيحاني - بفتح الصاد المهملة - ضرب من تمر المدينة أسود صلب الممضغة، وسمى صيحانيا لان صيحان اسم كبش كان ربط إلى نخلة بالمدينة فأثمرت تمرا فنسب إلى صيحان. عن اللسان (2) بفتح الطاء المهملة وضم السين المهملة المشددة وفى آخره جيم، كلمة معربة، ومعناها الناحية، ومن ذلك طساسيج السواد. (3) كلمة معربة أيضا، وهي السواد، وكأنها كانت تطلق على بعض التقسيمات الإدارية في القرون الالى وعربت بألفاظ كثيرة، رزداق، رسداق، رزتاق، رستاق، وانكر بعضهم (رستاق) وكلها بضم الراء واسكان ما بعدها. عن اللسان 253 برهان ذلك: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجبها على مالكها الذي يخرج في ملكه الحب من سنبله إلى إمكان كيله، ولم يخص عليه السلام من اصابه من حرثه أو من غير حرثه، ولا شئ في ذلك على صاحب الزرع الذي التقط هذا منه، لأنه خرج عن ملكه قبل إمكان الكيل فيه الذي به تجب الزكاة. وليس كذلك ما التقط من التمر، لان الزكاة فيه واجبة على من أزهى التمر في ملكه، بخلاف البر والشعير وبالله تعالى نتأيد. 649 - مسألة - والزكاة واجبة على من أزهى التمر في ملكه - والازهاء هو احمراره في ثماره - وعلى من ملك البر والشعير قبل دراسهما وإمكان تصفيتهما من التبن وكيلهما، بأي وجه ملك ذلك، من ميراث، أو هبة، أو ابتياع، أو صدقة، أو إصداق أو غير ذلك، ولا زكاة على من أنتقل ملكه عن التمر (1) قبل الازهاء، ولا على من ملكها بعد الازهاء، ولا على من أنتقل ملكه عن البر والشعير قبل دراسهما (2) وامكان تصفيتهما وكيلهما، ولا على من ملكهما بعد إمكان تصفيتهما وكيلهما. برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس فيما دون خمسة أوسق من حب ولا تمر صدقة) فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم في الحب صدقة إلا بعد امكان توسيقه، فان صاحبه حينئذ مأمور بكيله وإخراج صدقته، فليس تأخيره الكيل - وهو له ممكن - بمسقط حق الله تعالى فيه، ولا سبيل إلى التوسيق الذي به تجب الزكاة قبل الدراس أصلا، فلا زكاة فيه قبل الدراس، لان الله تعالى لم يوجبها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن سقط ملكه عنه قبل الدراس - ببيع أو هبة أو إصداق أو موت أو جائحة أو نار أو غرق أو غصب - فلم يمكنه إخراج زكاته في وقت وجوبها، ولا وجبت الزكاة عليه وهو في ملكه. ومن أمكنه الكيل وهو في ملكه فهو الذي خوطب بزكاته، فمن ملكه بعد ذلك فإنما ملكه بعد وجوب الزكاة على غيره. وليس التمر كذلك، لان النص جاء بايجاب الزكاة فيه إذا بدا طيبه، كما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
(1) في النسخة رقم (16) (الثمرة) وهو خطأ ظاهر (2) هنا بحاشية النسخة رقم (14) ما نصه: (صوابه بعد دراسهما. هكذا مذهبه رحمه الله) وهذا خطأ من كاتب الحاشية، لان مذهب المؤلف واضح هنا في أن وجوب الزكاة إنما يكون على من ملك البر أو الشعير قبل الدراس والكيل وبقيا في ملكه إلى حين امكان ذلك فمن انتقلا عن ملكه قبل الدراس فلا زكاة عليه وإنما هي على من انتقلا إليه، وكذلك لا زكاة على من انتقلا إليه بعد الدراس، إذ هي على المالك الأول. وهذا ظاهر 254 ومن خالفنا في هذا ورأي الزكاة في البر والشعير إذا يبسا واستغنيا عن الماء سألناه عن الدليل على دعواه هذه؟ ولا سبيل له إلى ذلك وعارضناه بقول أبي حنيفة الذي يرى على من باع زرعا اخضر قصيلا (1) فقصله المشترى واطعمه دابته قبل ان يظهر فيه شئ من الحب -: ان الزكاة على البائع، عشر الثمن أو نصف عشره، ولا سبيل لأحدهما إلى ترجيح قوله على الآخر، ولو صح قول من رأى الزكاة واجبة فيه قبل دراسة -: لكان واجبا إذا أدى العشر منه كما هو في سنبله ان يجزئه، وهذا ما لا يقولونه. 650 - مسألة - واما النخل فإنه إذا أزهى خرص (2) والزم الزكاة كما ذكرنا، واطلقت يده عليه يفعل به ما شاء، والزكاة في ذمته. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب انا محمد بن بشار ثنا يحيى - هو ابن سعيد القطان - ومحمد بن جعفر غندر ثنا شعبة قال سمعت خبيب بن عبد الرحمن (3) يحدث عن عبد الرحمن بن مسعود بن نيار (4) قال: اتانا سهل بن أبي حثمة فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرصتم فخذوا أودعوا (5) الثلث، فان (6) لم تأخذوا فدعوا الربع) شك شعبة في لفظة (تأخذوا) و (تدعوا). حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري ثنا عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة وهي تذكر شأن خيبر قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى اليهود فيخرص النخل حين يطيب أول الثمر قبل أن
(1) القصل - بالقاف والصاد المهملة - القطع، أو قطع الشئ من وسطه أو أسفل من ذلك قطعا وحيا، أي سريعا، والقصيل ما اقتصل من الزرع اخضر والجمع قصلان بضم القاف واسكان الصاد (2) خرص النخل والكرم - من باب نصر - إذا حرز ما عليها من الرطب تمرا ومن العنب زبيبا، وهو من الظن لان الحرز إنما هو تقدير بظن. عن اللسان (3) خبيب بالخاء المعجمة مصغر (4) نيار بكسر النون وتخفيف الياء المثناة التحتية، وفى الأصلين (دينار) وهو تحريف، وفى النسخة رقم (16) (خبيب بن عبد الرحمن يحدث عبد الرحمن) الخ بحذف (عن) وهو خطأ، والتصحيح من النسائي (ج 5 ص 43) والتهذيب وغيرهما (5) في النسائي (ج 5 ص 43) وأبى داود (ج 2 ص 24) والترمذي (ج 1 ص 82) طبع الهند) (فخذوا ودعوا) بالواو، وانا أرجح ان ما هنا بحرف (أو) أصح وأنسب للسياق (6) في النسخة رقم (16) (وان) بالواو، وما هنا هو الموافق للنسائي وغيره وكذلك هو في المستدرك (ج 1 ص 402) 255 يؤكل، ثم يخيرون اليهود بين أن يأخذوها بذلك الخرص أو يدفعوها إليهم بذلك) وإنما كان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخرص لكي تحصى الزكاة قبل أن تؤكل الثمار وتفترق (1). 651 - مسألة - فإذا خرص كما ذكرنا فسواء باع الثمرة صاحبها أو وهبها أو تصدق بها أو أطعمها أو اجيح فيها -: كل ذلك لا يسقط الزكاة عنه، لأنها قد وجبت، وأطلق على الثمرة وأمكنه التصرف فيها بالبيع وغيره، كما لوجدها، ولا فرق. 652 - مسألة - فإذا غلط الخارص أو ظلم - فزاد أو نقص رد الواجب إلى الحق، فأعطى ما زيد عليه وأخذ منه ما نقص. لقول الله تعالى: (كونوا قوامين بالقسط) والزيادة من الخارص ظلم لصاحب الثمرة بلا شك، وقد قال تعالى: (ولا تعتدوا) فلم يوجب الله تعالى على صاحب الثمرة إلا العشر، لا أقل ولا أكثر، أو نصف العشر، لا أقل ولا أكثر، ونقصان الخارص ظلم لأهل الصدقات واسقاط لحقهم، وكل ذلك إثم وعدوان. 653 - مسألة - فان ادعى ان الخارص ظلمه أو أخطأ لم يصدق إلا ببينة إن كان الخارص عدلا عالما فإن كان جاهلا أو جائزا فحكمه مردود. لأنه إن كان جائزا فهو فاسق، فخبره مردود (2). لقول الله تعالى: (ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين). وإن كان جاهلا فتعرض الجاهل للحكم في أموال الناس بما لا يدرى جرحة، وأقل ذلك أنه لا يحل توليته، فإذ هو كذلك فتوليته باطل مردود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد). 654 - مسألة - ولا يجوز خرص الزرع أصلا، لكن إذا حصد ودرس، فان جاء الذي يقبض الزكاة حينئذ فقعد على الدرس والتصفية والكيل فله ذلك، ولا نفقة له على صاحب الزرع. * (هامش) (1) في النسخة رقم (16) (وتفتقر) وهو خطأ لا معنى له. ثم لا أدري ما دخل خرص نخل يهود في الزكاة؟ - ولا زكاة عليهم - وإنما ذلك الخرص كان لصلح رسول الله معهم على شطر ما يخرج من خيبر من زرع أو ثمر، انظر خراج يحيى بن آدم (رقم 97 و 98) والبخاري (ج 3 ص 191 و 211 و 212 و 281 و ج 4 ص 31 و 35 و 205 و ج 5 ص 290) ونيل الأوطار (ج 8 ص 206 و 207) (2) في النسخة رقم (16) (فجوره مردود) وما هنا أصح * (*)
256 لأنه لم يأت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه خرص الزرع، فلا يجوز خرصه، لأنه إحداث حكم لم يأت به نص. وبالله تعالى التوفيق. وأما النفقة فان الله تعالى يقول: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل). 655 - مسألة - وفرض على كل من له زرع عند حصاده أن يعطى منه من حضر من المساكين ما طابت به نفسه، وقد ذكرنا ذلك قبل في (باب ما تجب فيه الزكاة) عند ذكرنا قول الله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاه) وبالله تعالى التوفيق. 656 - مسألة - ومن ساقى حائط نخل أو زارع أرضه بجزء مما يخرج منها فأيهما وقع في سهمه خمسة أوسق فصاعدا من تمر أو خمسة أوسق كذلك من بر أو شعير فعليه الزكاة، والا فلا، وكذلك من كان له شريك فصاعدا في زرع أو في ثمرة نخل بحبس أو ابتياع أو بغير ذلك من الوجوه كلها ولا فرق. فإن كانت على المساكين أو العميان أو المجذومين أو في السبيل أو ما أشبه ذلك - مما لا يتعين أهله - أو على مسجد أو نحو ذلك فلا زكاة في شئ من ذلك كله. لان الله تعالى لم يوجب الزكاة في أقل من خمسة أوسق مما ذكرنا، ولم يوجبها على شريك من أجل ضم زرعه إلى زرع شريكه، قال تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى). وأما من لا يتعين فليس يصح أنه يقع لأحدهم خمسة أوسق، ولا زكاة إلا على مسلم يقع له مما يصيب خمسة أوسق. وقال أبو حنيفة ة في كل ذلك الزكاة. وهذا خطأ، لما قد ذكرنا من أنه لا شريعة على ارض، وإنما الشريعة على الناس والجن، ولو كان ما قالوا (1) لوجبت الزكاة في أراضي (2) الكفار. فان قالوا (3): الخراج ناب عنها. قلنا: قد كانوا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لاخراج عليهم فكان يجب على قولكم أن تكون الزكاة فيما أخرجت أرضهم، وهذا باطل باجماع من أهل النقل، وباجماعهم مع سائر المسلمين. وقال الشافعي: إذا اجتمع للشركاء كلهم خمسة أوسق فعليهم الزكاة. وسنذكر * (هامش) (1) في النسخة رقم (16) (قال) (2) في النسخة رقم (14) (أرضين) (3) في النسخة رقم (16) (قال). (م 33 - ج المحلى) (*)
257 بطلان هذا القول - إن شاء الله تعالى - في زكاة الخلطاء (1) في الماشية، وجملة الرد عليه أنه إيجاب شرع بلا برهان أصلا. وبالله تعالى التوفيق. 657 - مسألة - ولا يجوز أن يعد الذي له الزرع أو الثمر ما انفق في حرث (2) أو حصاد أو جمع، أو درس، أو تزبيل (3) أوجداد (4) أو حفر أو غير ذلك -: فيسقطه من الزكاة وسواء تداين في ذلك أو لم يتداين، أتت النفقة على جميع قيمة الزرع أو الثمر أولم تأت. وهذا مكان قد اختلف السلف فيه. حدثنا حمام ثنا عبد الله بن محمد بن علي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي بن مخلد ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع عن أبي عوانة عن أبي بشر - هو جعفر بن أبي وحشية (5) - عن عمرو ابن هرم (6) عن جابر بن زيد عن ابن عباس، وابن عمر، في الرجل ينفق على ثمرته، قال أحدهما: يزكيها، وقال الآخر: يرفع النفقة ويزكى ما بقي (7). وعن عطاء: أنه يسقط مما أصاب النفقة، فان بقي مقدار ما فيه الزكاة زكى، وإلا فلا. قال أبو محمد: أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التمر والبر والشعير الزكاة جملة إذا بلغ الصنف منها خمسة أوسق فصاعدا، ولم يسقط الزكاة عن ذلك بنفقة الزارع (8) وصاحب النحل، فلا يجوز إسقاط حق أوجبه الله تعالى بغير نص قرآن ولا سنة ثابتة. وهذا قول مالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأصحابنا، إلا أن مالكا، وأبا حنيفة، والشافعي في أحد قوليه تناقضوا وأسقطوا الزكاة عن الأموال التي أوجبها الله تعالى فيها إذا
(1) في النسخة رقم (16) (الخلطة (2) في النسخة رقم (16) (من حرث) وهو خطأ (3) الزبل - بفتح الزاي واسكان الباء - تسميد الأرض والزرع بالزبل - بكسر الزاي - فالتزبيل مشتق من ذلك (4) في الأصلين (جذاذ) بالذالين المعجمتين وهو خطأ. (5) هو جعفر بن اياس. (6) بفتح الهاء وكسر الراء. (7) هكذا روى المؤلف الأثر، وأظنه اختصره، فقد رواه يحيى بن آدم في الخراج (رقم 589) عن أبي عوانة عن جعفر عن عمرو عن حابر بن زيد (عن ابن عباس وابن عمر في الرجل يستقرض فينفق على ثمرته وعلى أهله، قال قال ابن عمر: يبدأ بما استقرض فيقضيه ويزكى ما بقي، قال وقال ابن عباس: يقضى ما أنفق على الثمرة ثم يزكى ما بقي) فقد اتفق ابن عباس وابن عمر على قضاء ما أنفق على الثمرة وزكاة الباقي فقط واختلفا في قضاء ما انفق على أهله، وهذا غير ما يوهمه اللفظ المختصر الذي هنا، فرواية يحيى أوضح جدا. (8) في النسخة رقم (14) الزرع وما هنا أصح 258 كان على صاحبها دين يستغرقها أو يستغرق بعضها، فأسقطوها عن مقدار ما استغرق الدين منها. 658 - مسألة - ولا يجوز ان يعد على صاحب الزرع في الزكاة ما أكل هو وأهله فريكا أو سويقا، قل أو كثر، ولا السنبل الذي يسقط فيأكله الطير أو الماشية أو يأخذه الضعفاء، ولا ما تصدق به حين الحصاد، لكن ما صفى فزكاته عليه. برهان ذلك ما ذكرنا قبل من أن الزكاة لا تجب إلا حين امكان الكيل، فما خرج عن يده قبل ذلك فقد خرج قبل وجوب الصدقة فيه. وقال الشافعي، والليث كذلك. وقال مالك، وأبو حنيفة: يعد عليه كل ذلك. قال أبو محمد: هذا تكليف مالا يطاق، وقد يسقط من السنبل ما لو بقي لاتم خمسة أوسق، وهذا لا يمكن ضبطه، ولا المنع منه أصلا، والله تعالى يقول: (لا يكاف الله نفسا إلا وسعها). 659 - مسألة - واما التمر ففرض على الخارص ان يترك له ما يأكل هو وأهله رطبا على السعة، ولا يكلف عنه زكاة، وهو قول الشافعي، والليث بن سعد. وقال مالك، وأبو حنيفة: لا يترك له شيئا. برهان صحة قولنا (1) حديث سهل ابن أبي حثمة الذي ذكرنا قبل من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا خرصتم فخذوا اودعوا الثلث أو الربع) ولا يختلف القائلون بهذا الخبر - وهم أهل الحق الذين اجماعهم الاجماع المتبع - في أن هذا على قدر حاجتهم إلى الاكل رطبا. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور ثنا محمد بن عيسى بن رفاعة ثنا علي بن عبد العزيز ثنا أبو عبيد ثنا هشيم ويزيد كلاهما عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار (2) قال: بعث عمر بن الخطاب أبا حثمة الأنصاري (3) على خرص أموال المسلمين، فقال: إذا وجدت القوم في نخلهم قد خرفوا (4) فدع لهم ما يأكلون، لا تخرصه عليهم.
(1) في النسخة رقم (14) (برهان ذلك) (2) بشير بالتصغير، وفى النسخة رقم (16) (بشر) وهو تحريف (3) هو والد سهل بن أبي حثمة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يبعثه خارصا أيضا. وهذا الأثر رواه الحاكم مختصرا (ج 1 ص 402 و 403) (4) بفتح الخاء والراء، وفى اللسان: (وفى حديث عمر رضي الله عنه: إذا رأيت قوما خرفوا في حائطهم، أي أقاموا فيه وقت اختراف الثمار: وهو الخريف، كقولك: صافوا وشتوا: إذا أقاموا في الصيف والشتاء، وأما أحرف وأصاف وأشتى فمعناه انه دخل في هذه الأوقات) 259 وبه إلى أبى عبيد عن يزيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن محمد بن يحيى بن حبان أن أبا ميمونة أخبره عن سهل بن أبي حثمة: ان مروان بعثه خارصا للنخل، فخرص مال سعد ابن أبي وقاص (1) سبعمائة وسق، وقال: لولا أنى وجدت فيه أربعين عريشا لخرصته تسعمائة وسق، ولكني تركت لهم قدر ما يأكلون. قال أبو محمد: هذا فعل عمر بن الخطاب، أبى حثمة، وسهل، ثلاثة من الصحابة، بحضرة الصحابة رضي الله عنهم، لا مخالف لهم يعرف منهم، ووهم يشنعون بمثل ذلك إذا وافقهم وبالله تعالى التوفيق. وقال أبو يوسف ومحمد: يزكى ما بقي بعد ما يأكل وهذا تخليط ومخالفة للنصوص كلها. 660 - مسألة - وإن كان زرع أو نخل يسقى بعض العام بعين أو ساقية من نهر (2) أو بماء السماء، وبعض العام بنضح أو سانية أو خطارة أو دلو، فإن كان النضح زاد في ذلك زيادة ظاهرة وأصلحه فزكاته نصف العشر فقط، وإن كان لم يزد فيه شيئا ولا أصلح فزكاته العشر. قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة وأصحابه: يزكى على الأغلب من ذلك وهو قول رويناه عن بعض السلف. حدثنا حمام ثنا أبو محمد الباجي ثنا عبد الله بن يونس ثنا بقي ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا محمد ابن بكر عن ابن جريج قال قلت لعطاء: في المال يكون على العين أو بعلا عامة الزمان ثم يحتاج إلى البئر يسقى بها؟ فقال إن كان يسقى بالعين أو البعل أكثر مما يسقى بالدلو ففيه العشر، وإن كان يسقى بالدلو أكثر مما يسقى بالبعل ففيه نصف العشر قال أبو الزبير: سمعت جابر بن عبد الله وعبيد بن عمير يقولان هذا القول. وقال مالك مرة: ان زكاته بالذي غذاه به وتم به، لا أبالي بأي ذلك كان أكثر سقيه فزكاته عليه. وقال مرة أخرى: يعطى نصف زكاته العشر ونصفها نصف العشر، وهكذا قال الشافعي. قال أبو محمد: قد حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيما سقى بالنضح بنصف العشر، وبلا شك أن السماء تسقيه ويصلحه ماء السماء، بل قد شاهدنا جمهور السقاء (3) بالعين والنضح ان لم
(1) كذا في النسخة رقم (16) وفى النسخة رقم (14) (سعد بن أبي سعد) فيحر رأيتهما أصح فاني لم أجد هذا الأثر (2) في النسخة رقم (16) (أو ساقية أو نهر) (3) بضم السين المهملة وفتح القاف المشددة، جمع ساق، ويجمع أيضا على (سقى) بضم السين وتشديد القاف المفتوحة المنونة، والسقاء - بفتح السين والقاف المشددة، هو الساقي على التكثير، وجمعه (سقاؤن) 260 يقع عليه ماء السماء تغير ولابد، فلم يجعل عليه السلام لذلك حكما، فصح ان النضح إذا كان مصلحا للزرع أو النخل فزكاته نصف العشر فقط. وهذا مما ترك الشافعيون فيه صاحبا لا يعرف له مخالف منهم 661 - مسألة - ومن زرع قمحا أو شعيرا مرتين في العام أو أكثر أو حملت نخله بطنين في السنة فإنه لا يضم البر الثاني ولا الشعير الثاني ولا التمر الثاني إلى الأول، وإن كان أحدهما ليس فيه خمسة أوسق لم يزكه، وإن كان كل واحد منهما ليس فيه خمسة أوسق بانفراده لم يزكهما قال على: وذلك أنه لو جمعا (1) لوجب ان يجمع بين الزرعين والتمرتين ولو كان بينهما عامان أو أكثر، وهذا باطل بلا خلاف، وإذ صح نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة عما دون خمسة أوسق فقد صح أنه راعى المجتمع، لا زرعا مستأنفا لا يدرى أيكون أم لا. وبالله تعالى التوفيق 662 - مسألة - وإن كان قمح بكير أو شعير بكير أو تمر بكير وآخر من جنس كل واحد منهما (2) مؤخر، فان يبس المؤخر أو أزهى قبل تمام وقت حصاد البكير وجداده (3) فهو كله زرع واحد وتمر واحد، يضم بعضه إلى بعض، وتزكى معا، وان لم ييبس المؤخر ولا أزهى إلا بعد انقضاء وقت حصاد البكير فهما زرعان وتمران، لا يضم أحدهما إلى الآخر، ولكل واحد منهما حكمه برهان ذلك ان كل زرع وكل تمر فان بعضه يتقدم بعضا في اليبس والازهاء، وان ما زرع في تشرين الأول يبدأ يبسه قبل ان ييبس ما زرع في شباط، الا أنه لا ينقضي وقت حصاد الأول حتى يستحصد الثاني، لأنها صيفة (4) واحدة، وكذلك التمر، واما إذا كان لا يجتمع وقت حصادهما ولا يتصل وقت ازهائهما فهما زمنان اثنان كما قدمنا. وبالله تعالى التوفيق وأبكر ما صح عندنا يقينا انه يبدأ بان يزرع فبلاد من شنت برية (5)، وهي من
(1) في النسخة رقم (14) (لو جمع) (2) في الأصلين (منهما) وهو خطأ ظاهر (3) في الأصلين بالذالين المعجمتين وهو تصحيف (4) في النسخة رقم (16) صيغة وهو خطأ واضح (5) في النسخة رقم (16) (يزرع قبلا شنت برية). واما (شنت) فإنها بفتح الشين المعجمة واسكان النون، قال ياقوت (وأظنها لفظة يعنى بها البلدة أو الناحية لأنها تضاف إلى عدة أسماء وهو خطأ بل هي تعريب كلمة (سانت) بمعنى قديس في لغات الإفرنج، واما (برية) فقد ضبطت في النسخة رقم (14) بفتح الباء وإسكان الراء وفتح الياء، وضبطها ياقوت بفتح الباء وكسر الراء وتشديد الياء المفتوحة، وهي (مدينة متصلة بحوز مدينة سالم بالأندلس، وهي شرقي قرطبة، وهي مدينة كثيرة الخيرات، لها حصون كثيرة) 261 عمل مدينة (سالم) بالأندلس، فإنهم يزرعون الشعير في آخر (أيلول) وهو (شتنبر) (1) لغلبة الثلج على بلادم، حتى يمنعهم من زرعها ان لم يبكروا به كما ذكرنا، ويتصل الزرع بعد ذلك مدة ستة أشهر وزيادة أيام، فقد شاهدنا في بعض الأعوام زريعة القمح والشعير في صدر (أذار) وهو (مرس) (2) وابكر ما صح عندنا حصاده (فألش) (3) من عمل (تدمير) (4) فإنهم يبدؤن بالحصاد في أيام باقية من (نيسان) وهو (ابريل) ويتصل الحصاد أربعة أشهر إلى صدر زمن (أيلول) وهو (اغشت) (5) وهي كلها صيفة واحدة، واستحصاد واحد متصل 663 - مسألة - فلو حصد قمح أو شعير ثم أخلف في أصوله زرع فهو زرع آخر، لا يضم إلى الأول، لما ذكرنا قبل. وبالله تعالى التوفيق 664 - مسألة - والزكاة واجبة في ذمة صاحب المال لا في عين المال قال أبو محمد: وقد اضطربت أقوال المخالفين في هذا، وبرهان صحة قولنا هو ان لا خلاف بين أحد من الأمة - من زمنا إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم - في أن من وجبت عليه زكاة بر أو شعير أو تمر أو فضة أو ذهب أو إبل أو بقر أو غنم فأعطى زكاته الواجبة عليه من غير ذلك الزرع ومن غير ذلك التمر ومن غير ذلك الذهب ومن غير تلك الفضة ومن غير تلك الإبل ومن غير تلك البقر ومن غير تلك الغنم -: فإنه لا يمنع من ذلك، ولا يكره ذلك له، بل سواء أعطى من تلك العين، أو مما عنده من غيرها، أو مما يشترى، أو مما يوهب، أو مما يتقرض، فصح يقينا ان الزكاة في الذمة لا في العين إذ لو كانت في العين لم يحل له
(1) هو المعرب الآن باسم (سبتمبر) (2) هو المسمى الآن (مارس) (3) (ألش) بفتح الهمزة واسكان اللام وآخره شين معجمة، مدينة بالأندلس (4) بضم التاء واسكان الدال المهملة وياء ساكنة وراء كورة بالأندلس شرقي قرطبة بينهما سبعة أيام (5) هو المعرب الآن باسم (أغسطس) وذلك أن (أيلول) العبري يبدأ في الثلث الأخير من أغسطس وينتهي في الثلث الأخير من سبتمبر 262 البتة ان يعطى من غيرها، ولوجب منعه من ذلك، كما يمنع من له شريك في شئ من كل ذلك أن يعطى شريكه من غير العين التي هم فيها شركاء إلا بتراضيهما وعلى حكم البيع وأيضا فلو كانت الزكاة في عين المال لكانت لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما: إما أن تكون في كل جزء من اجزاء ذلك المال، أو تكون في شئ منه بغير عينه. فلو كانت في كل جزء منه لحرم عليه ان يبيع منه رأسا أو حبة فما فوقها، لان لأهل الصدقات في ذلك الجزء شركا، ولحرم عليه ان يأكل منها شيئا لما ذكرنا، وهذا باطل بلا خلاف وللزمه أيضا ان لا يخرج الشاة إلا بقيمة مصححة مما بقي، كما يفعل في الشركات ولابد، وإن كانت الزكاة في شئ منه بغير عينه، فهذا باطل، وكان يلزم أيضا مثل ذلك سواء سواء لأنه كان لا يدرى لعله يبيع أو يأكل الذي هو حق أهل الصدقة. فصح ما قلنا يقينا. وبالله تعالى التوفيق 665 - مسألة - فكل مال وجبت فيه زكاة من الأموال التي ذكرنا، فسواء تلف ذلك أو بعضه - أكثره أو أقله - إثر امكان إخراج الزكاة منه، إثر وجوب الزكاة بما قل من الزمن أو كثر، بتفريط تلف أو بغير تفريط -: فالزكاة كلها واجبة في ذمة صاحبه كما كانت لو لم يتلف، ولا فرق، لما ذكرنا من أن الزكاة في الذمة لا في عين المال وإنما قلنا: إثر إمكان إخراج الزكاة منه لأنه إن أراد إخراج الزكاة من غير عين المال الواجبة فيه لم يجبر على غير ذلك، والإبل وغيرها في ذلك سواء، إلا أن تكون مما يزكى بالغنم وله غنم حاضرة فهذا تلزمه الزكاة من الغنم الحاضرة، وليس له ان يمطل بالزكاة حتى يبيع من تلك الإبل، لقول الله تعالى: (سارعوا إلى مغفرة من ربكم) 666 - مسألة - وكذلك لو اخرج الزكاة وعزلها ليدفعها إلى المصدق أو إلى أهل الصدقات فضاعت الزكاة كلها أو بعضها فعليه اعادتها كلها ولابد، لما ذكرنا، ولأنه في ذمته حتى يوصلها إلى من أمره الله تعالى بايصالها إليه. وبالله تعالى التوفيق. وهو قول الأوزاعي، وظاهر قول الشافعي في بعض أقواله وقال أبو حنيفة: ان هلك المال بعد الحول - ولم يحد لذلك مدة - فلا زكاة عليه بأي وجه هلك، فلو هلك بعضه فعليه زكاة ما بقي فقط، قل أو كثر، ولا زكاة عليه فيما تلف، فإن كان هو استهلكه فعليه زكاته
263 قال أبو محمد: وهذا خطأ، لما ذكرنا قبل، فان لجأ إلى أن الزكاة في عين المال، قلنا له: هذا باطل بما قدمنا آنفا، ثم هبك لو كان ذلك كما تقول لما وجب عليه زكاة ما بقي من المال إذا كان الباقي ليس مما يجب في مقداره الزكاة لو لم يكن معه غيره، لان التالف عندكم لا زكاة فيه لتلفه، والباقي ليس نصابا، فإن كان الباقي فيه الزكاة واجبة فالتالف فيه الزكاة واجبة ولا فرق، وقد قدمنا ان الزكاة ليست مشاعة في المال في كل جزء منه كالشركة، إذ لو كان ذلك لما جاز اخراجها الا بقيمة محققة منسوبة مما بقي. وقد قال الشافعي بهذا في زكاة الإبل، وقال به أصحاب أبي حنيفة في الطعام يخرج عن الطعام من صنفه أو من غير صنفه، فظهر تناقضهم وقال مالك: ان تلف الناض بعد الحول ولم يفرط في أداء زكاته فرجع إلى ما لا زكاة فيه فلا زكاة عليه فيه، وكذلك لو عزل زكاة الطعام فتلفت فلا شئ عليه غيرها، لاعن الكل ولا عما بقي، فلو لم يفعل وادخله بيته فتلف فعليه ضمان زكاته قال أبو محمد: وهذا خطأ، لان الزكاة الواجبة لأهل الصدقات ليست عينا معينة، بلا خلاف من أحد من الأمة ولا جزءا مشاعا في كل جزء من المال، وهذان الوجهان هما اللذان يكون من كانا عنده بحق مؤتمنا عليه فلا ضمان عليه فيما تلف من غير تعديه، فإذ الزكاة كما ذكرنا وإنما هي حق مفترض عليه في ذمته حتى يؤديه إلى المصدق أو إلى من جعلها الله تعالى له: فهي دين عليه لا أمانة عنده والدين مؤدى على كل حال، وبالله تعالى التوفيق وروينا من طريق ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث وجرير والمعتمر بن سليمان التيمي، وزيد بن الحباب، وعبد الوهاب بن عطاء، قال حفص عن هشام بن حسان عن الحسن البصري، وقال جرير عن المغيرة عن أصحابه، وقال المعتمر عن معمر عن حماد، وقال زيد عن شعبة عن الحكم، وقال عبد الوهاب عن ابن أبي عروبة عن حماد عن إبراهيم النخعي، ثم اتفقوا كلهم: فيمن أخرج زكاة ماله فضاعت: انها لا تجزئ عنه وعليه إخراجها ثانية وروينا عن عطاء: أنها تجزئ عنه 667 - مسألة - وأي بر أعطى أو أي شعير في زكاته كان أدنى مما أصاب أو أعلى -: أجزأه، ما لم يكن فاسدا بعفن أو تأكل، فلا يجزئ عن صحيح، أو ما كان رديئا برهان ذلك: انه إنما عليه بالنص عشر مكيلة ما أصاب أو نصف عشرها إذا كانت (*)
264 خمسة أوسق فصاعدا ولو كان لا يجزئه أدنى من صفة ما أصاب لكن لا يجزئه أعلى من تلك الصفة، وهذا لا يقولونه، فإذا لم يلزمه بالنص من العين التي أصاب فمن ادعى ان لا يجزئه الا مثل صفة التي أصاب لم يقبل قوله الا ببرهان وأما قولنا ألا أن يكون الذي أعطى فاسدا عن صحيح فلان المكيلة عليه بالنص وبالاجماع، وبالعيان ندري ان العفن والمتأكل (1) قد نقصا من المكيلة مالا يقدر على ايفائه أصلا، ولا يجزئه الا المكيلة تامة. وبالله تعالى التوفيق 668 - مسألة - وكذلك القول في زكاة التمر، أي تمرا خرج أجزأه، سواء من جنس تمره أو من غير جنسه، أدنى من تمره أو أعلى، ما لم يكن رديا كما ذكرنا، أو معفونا (2) أو متأكلا، أو الجعرور أولون الحبيق (3) فلا يجزئ اخراج شئ من ذلك أصلا، وسواء كان تمره كله من هذين النوعين أو من غيرهما، وعليه أن يأتي بتمر سالم غير ردئ ولا من هذين اللونين برهان ذلك قول الله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه الا ان تغمضوا فيه) حدثنا حمام ثنا عباس بن اصبغ ثنا محمد بن عبد الملك بن أيمن ثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي ثنا أبو الوليد الطيالسي ثنا سليمان بن كثير ثنا الزهري عن أبي أمامة بن سهل ابن حنيف عن أبيه: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لونين من التمر: الجعرور ولون الحبيق، وكان الناس يتيممون شرار ثمارهم فيخرجونها في الصدقة، فنهوا عن ذلك، ونزلت (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) (4) حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا أحمد بن عبد البصير ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن
(1) في النسخة رقم (14) (والتأكل) (2) كذا في الأصلين، والمعروف في اللغة ان يقال (عفن) بفتح العين وكسر الفاء (3) الجعرور - بضم الجيم واسكان العين المهملة - ضرب من التمر ردئ صغار لا ينتفع به، ولون الحبيق - بضم الحاء - تمر ردئ أيضا، وهو أغبر صغير فيه طول منسوب إلى ابن حبيق ويسمى أيضا: لون حبيق ولون ابن حبيق (4) رواه يحيى بن آدم (رقم 435) عن ابن المبارك عن محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن أبي أمامة، وليس فيه زيادة أبيه والصحيح زيادته كما في كثير من طرق الحديث ومنها ما هنا وانظر طرقه في أبى داود (ج 2 ص 25) والنسائي (ج 5 ص 43) والدارقطني (ص 216) والحاكم وصححه (ج 1 ص 402 و ج 2 ص 284) 265 عبد السلام الخشني ثنا محمد بن المثنى ثنا مؤمل بن إسماعيل الحميري ثنا سفيان الثوري ثنا إسماعيل السدى عن أبي مالك عن البراء بن عازب قال: (كانوا يجيئون في الصدقة بأدنى طعامهم وأدنى تمرهم، فنزلت: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه) (1) فان قال قائل: الخبيث لا يكون إلا حراما قلنا: نعم، وهذا المنهى عن إخراجه في الصدقة هو حرام فيها فهو خبيث فيها لا في غيرها، ولا ينكر كون الشئ طاعة في وجه معصية في وجه آخر، كالأكل للصائم عند غروب الشمس،، هو طاعة الله تعالى طيب حلال، ولو أكله في صلاة المغرب لاكل حراما عليه خبيثا في تلك الحال، وكذلك الميتة ولحم الخنزير، هما حرامان خبيثان لغير المضطر، وهما للمضطر غير المتجانف لاثم حلالان طيبان غير خبيثين، وهكذا أكثر الأشياء في الشرائع (2) حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا عمر بن عبد الملك (3) ثنا محمد بن بكر ثنا أبو داود ثنا محمد ابن يحيى بن فارس ثنا سعيد بن سليمان ثنا عباد عن (4) سفيان بن حسين عن الزهري عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجعرور ولون
266 ابن حبيق (1) أن يؤخذا في الصدقة) قال الزهري: لونين من تمر المدينة (زكاة الغنم) 669 - مسألة - الغنم في اللغة التي بها خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسم يقع على الضأن والماعز، فهي مجموع بعضها إلى بعض في الزكاة، وكذلك أصناف الماعز والضأن، كضأن بلاد السودان وما عز البصرة والنقد (2) وبنات حذف (3) وغيرها، وكذلك المقرون، الذي نصفه خلقة ما عزو نصفه ضأن، لان كل ذلك من الغنم، والذكور والإناث سواء، واسم الشاء أيضا واقع على المعز والضأن كما ذكرنا في اللغة، ولا واحد للغنم من لفظه، إنما يقال للواحد: شاة أو ما عزة أو ضانية أو كبش أو تيس، هذا مالا خلاف فيه بين أهل اللغة، وبالله تعالى التوفيق 670 - مسألة - ولا زكاة في الغنم حتى يملكن المسلم الواحد منها أربعين رأسا حولا كاملا متصلا عربيا قمريا وقد اختلف السلف في هذا، وسنذكره في زكاة الفوائد، إن شاء الله تعالى ويكفى من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب الزكاة في الماشية، ولم يحد وقتا، ولا ندري من هذا العموم متى تجب الزكاة، إلا أنه لم يوجبها عليه السلام في كل يوم، ولا في كل شهر، ولا مرتين في العام فصاعدا، هذا منقول باجماع إليه صلى الله عليه وسلم، فإذ لا شك في أنها مرة في الحول، فلا يجب فرض الا بنقل صحيح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووجدنا من أوجب الزكاة في أول الحول أو قبل تمام الحول لم ينقل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بنقل آحاد ولا بنقل تواتر ولا بنقل اجماع، ووجدنا من أوجبها بانقضاء الحول قد صح وجوبها بنقل الاجماع عن النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ بلا شك، فالآن وجبت، لا قبل ذلك
267 فان احتج بقول الله تعالى: (سارعوا إلى مغفرة من ربكم) قلنا: إنما تجب المسارعة إلى الفرض بعد وجوبه، لا قبل وجوبه، وكلامنا في هذه المسألة وفى أخواتها إنما هو في وقت الوجوب، فإذا صح وجوب الفرض فحينئذ تجب المسارعة إلى أدائه، لا قبل ذلك، بلا خلاف وأما قولنا: أن يكون الحول عربيا فلا خلاف بين أحد من الأمة في أن الحول اثنا عشر شهرا، وقال الله تعالى: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) والأشهر الحرم لا تكون إلا في الشهور العربية، وقال تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) وقال تعالى: (ولتعلموا عدد السنين والحساب) ولا يعد بالأهلة إلا العام العربي، فصح أنه لا تجب شريعة مؤقتة بالشهور أو بالحول إلا بشهور العرب والحول العربي. وبالله تعالى التوفيق 671 - مسألة - فإذا تمت في ملكه عاما كما ذكرنا، سواء كانت كلها ضأنا، أو كلها ما عزا، أو بعضها - أكثرها أو أقلها - ضأنا، وسائرها كذلك معزى: ففيها شاة واحدة لا تبالي ضانية كانت أو ماعزة، كبشا ذكرا أو أنثى من كليهما، كل رأس تجزئ منهما عن الضأن وعن الماعز، وهكذا ما زادت حتى تتم مائة وعشرين كما ذكرنا فإذا أتمتها وزادت ولو بعض شاة كذلك عاما كاملا كما ذكرنا: ففيها شاتان كما قلنا، إلى أن تتم مائتي شاة فإذا أتمتها وزادت ولو بعض شاة كذلك عاما كاملا كما وصفنا ففيها ثلاث شياه كما حددنا، وهكذا إلى أن تتم أربعمائة شاة كما وصفنا فإذا أتمتها كذلك عاما كاملا كما ذكرنا ففي كل مائة شاة شاة وأي شاة أعطى صاحب الغنم فليس للمصدق ولا لأهل الصدقات ردها، من غنمه كانت أو من غير غنمه، ما لم تكن هرمة أو معيبة، فان أعطاه هرمة أو معيبة فالمصدق مخير، إن شاء أخذها وأجزأت عنه، وإن شاء ردها وكلفه فتية سليمة، ولا نبالي كانت تجزئ في الأضاحي أولا تجزئ والمصدق (1) هو الذي يبعثه الامام - الواجبة طاعته - أو أميره في قبض الصدقات
268 ولا يجوز للمصدق ان يأخذ تيسا ذكرا إلا أن يرضى صاحب الغنم، فيجوز له حينئذ، ولا يجوز للمصدق ان يأخذ أفضل الغنم، فإن كانت التي تربى أو السمينة ليست من أفضل الغنم جاز أخذها، فإن كانت كلها فاضلة أخذ منها إن أعطاه صاحبها، وسواء فيما ذكرنا كان صاحبها حاضرا أو غائبا إذا أخذ المصدق ما ذكرنا أجزأ برهان ذلك ما حدثناه عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري ثنا أبي ثنا ثمامة بن عبد الله بن أنس ابن مالك ان انس بن مالك (1) حدثه: ان أبا بكر الصديق كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: (هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، فمن سألها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سأل فوقها فلا يعط) - ثم ذكر الحديث وفيه -: (في صدقة الغنم في سائمتها إذا كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاة)، فإذا زادت على عشرين ومائة إلى مائتين فشاتان فإذا زادت على مائتين إلى ثلاثمائة ففيها ثلاث شياه، فإذا زادت على ثلاثمائة ففي كل مائة شاة (فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدة فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها، ولا يخرج في الصدقة هرمة ولا ذات عوار، ولا تيس إلا ما شاء المصدق) (2) حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن إسحاق بن السليم ثنا ابن الاعرابي ثنا أبو داود ثنا عبد الله بن محمد النفيلي ثنا عباد بن العوام عن سفيان بن حسين عن الزهري عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه قال: (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب الصدقة فلم يخرجه إلى عماله حتى قبض عليه السلام، فعمل به أبو بكر حتى قبض، ثم عمل به عمر حتى قبض، فكان فيه - ذكر الفرائض: (وفى الغنم في كل أربعين شاة شاة) إلى عشرين ومائة، فان زادت واحدة فشاتان إلى مائتين، فان (3) زادت واحدة على المائتين ففيها ثلاث شياه إلى ثلاثمائة، فان
269 كانت الغنم أكثر من ذلك ففي كل مائة شاة شأة، وليس فيها شئ حتى تبلغ المائة) (1) حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن خالد ثنا إبراهيم بن أحمد ثنا الفربري ثنا البخاري ثنا محمد - هو ابن مقاتل - أنا عبد الله بن المبارك ثنا زكرياء بن إسحاق عن يحيى بن عبد الله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن - فذكر الحديث وفيه -: (فأخبرهم ان الله تعالى قد (2) فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فان هم أطاعوا بذلك (3) فإياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) ففي هذه الأخبار نص كل ما ذكرنا. وفى بعض ذلك خلاف فمن ذلك ان قوما قالوا: لا يؤخذ من الضأن إلا ضانية، ومن المعز إلا ماعزة (4)، فإن كان خليطين أخذ من الأكثر قال أبو محمد: وهذا قول بلا برهان، لا من قرآن ولا من سنة صحيحة ولا رواية سقيمة، ولا قول صاحب ولا قياس، بل الذي ذكروا خلاف للسنن المذكورة، وقد اتفقوا على جمع المعزى مع الضأن، وعلى أن اسم غنم يعمها، وان اسم الشاة يقع على الواحد من الماعز ومن الضأن، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم في حكمها فرقا لبينه، كما خص التيس، وان وجد في اللغة اسم التيس يقع على الكبش وجب ان لا يؤخذ في الصدقة الا برضا المصدق والعجب أن المانع من أخذ الماعزة عن الضأن أجاز اخذ الذهب عن الفضة والفضة عن الذهب وهما عنده صنفان يجوز بيع بعضهما ببعض متفاضلا والخلاف أيضا في مكان آخر: وهو ان قوما قالوا: إن ملك مائة شاة وعشرين شاة وبعض شاة فليس عليه إلا شاة واحدة حتى يتم في ملكه مائة واحدى وعشرون، (5) ومن ملك مائتي شاة وبعض شاة فليس عليه الا شاتان حتى يتم في ملكه مائتا شاة وشاة. واحتجوا بما في حديث ابن عمر: (فان زادت واحدة) كما أوردناه
270 قال أبو محمد: في حديث ابن عمر كما ذكروا، وفى حديث أبي بكر الذي أوردنا (فان زادت) ولم يقل (واحدة) فوجدنا الخبرين جميعا متفقين على أنها ان زادت واحدة على مائة وعشرين شاة أو على مائتي شاة فقد انتقلت الفريضة، ووجدنا حديث أبي بكر يوجب انتقال الفريضة بالزيادة على المائة وعشرين وعلى المائتين، فكان هذا عموما لكل زيادة، وليس في حديث ابن عمر المنع من ذلك أصلا، فصار من قال بقولنا قد أخذ بالحديثين، فلم يخالف واحدا منهما، وصار من قال بخلاف ذلك مخالفا لحديث أبي بكر، مخصصا له بلا برهان (1). وبالله تعالى التوفيق وههنا أيضا خلاف آخر: وهو ما رويناه من طريق وكيع عن سفيان الثوري، ومن طريق محمد بن جعفر عن شعبة، ثم اتفق شعبة وسفيان كلاهما عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي أنه قال: إذا زادت الغنم واحدة على ثلاثمائة ففيها أربع شياه إلى أربعمائة، فكل ما زادت واحدة فهو كذلك قال أبو محمد: ولا حجة في أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد يلزم القائلين بالقياس - لا سيما المالكيين القائلين بان القياس أقوى من خبر الواحد، والحنيفيين القائلين بأن ما عظمت به البلوى لا يقبل فيه خبر الواحد -: أن يقولوا بقول إبراهيم، لأنهم قد أجمعوا على أن المائتي شاة إذا زادت واحدة فان الفريضة تنتقل ويجب فيها ثلاث شياه، فكذلك إذا زادت على الثلثمائة واحدة أيضا، فيجب ان تنتقل الفريضة، ولا سيما والحنيفيون قد قلدوا إبراهيم في أخذ الزكاة من البقرة الواحدة تزيد على أربعين بقرة، واحتجوا بأنهم لم يجدوا في البقر وقصا من تسعة عشر ان يقلدوه (2) ههنا ويقولوا: لم نجد في الغنم وقصا من مائة وثمان وتسعين شاة، لا سيما ومعهم ههنا في الغنم قياس مطرد، وليس معهم في البقر قياس أصلا، وكل ما موهوا به في البقر فهو لازم لهم فيما زاد على الثلثمائة من الغنم من قوله (3) تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) ونحو ذلك. وهلا قالوا: هذا مما تعظم به البلوى فلو كان ذلك ما جهله إبراهيم؟
271 فان قالوا: إن خلاف قول إبراهيم قد جاء في حديث أبي بكر وخبر ابن عمر، وعن علي، وفى صحيفة ابن حزم قلنا: ليس شئ من هذه الأخبار الا وقد خالفتموها، فلم تكن حجة فيما خالفتموه فيه، وكان حجة عندكم فيما اشتهيتم، وهذا عجب جدا قال أبو محمد: وهذا كله خبط لا معنى له وإنما نريهم تناقضهم وتحكمهم في الدين بترك القياس للسنن إذا وافقت تقليدهم، وبترك السنن للقياس كذلك، وبتركهما جميعا كذلك واما من راعى في الشاة المأخوذة ما تجزئ في الأضحية - وهو أبو حنيفة - فقد أخطأ، لأنه لم يأت بما قال نص، ولا اجماع، فكيف وقد اجمعوا على اخذ الجذعة فما دونها في زكاة (1) الإبل، ولا تجزئ في الأضحية وأجازوا اخذ التبيع في زكاة البقر، ولا تجزئ في الأضحية وإنما قال عليه السلام لأبي بردة: (ولن تجزئ جذعة لاحد بعدك)، يعنى في الأضحية، لأنه عنها سأله، وقد صح النص (2) بايجاب الجذعة في زكاة الإبل، فصح يقينا أنه عليه السلام لم يعن إلا الأضحية. وبالله تعالى التوفيق وأما قولنا: إن كانت الغنم كلها كرائم أخذ منها برضا صاحبها، فلان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كرائم الغنم، وهذا في لغة العرب يقتضى أن يكون في الغنم - ولابد - ما ليس بكرائم، وأما إذا كانت كلها كرائم فلا يجوز أن يقال في شئ منها: هذه كرائم هذه الغنم، لكن يقال هذه كريمة من هذه الغنم الكرائم وقد روينا عن إبراهيم النخعي أنه قال: يؤمر المصدق أن يصدع الغنم صدعين (3) فيختار صاحب الغنم خير الصدعين ويأخذ المصدق من الآخر وعن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أنه قال: يفرق الغنم أثلاثا، ثلث خيار، وثلث رذال، وثلث وسط، ثم تكون الصدقة في الوسط (4) قال أبو محمد: هذا الا نص فيه، ولكن روينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب قال: لا يأخذ المصدق هرمة ولا ذات عوار ولا تيسا
272 ومن طريق البخاري عن شعيب ن أبى حمزة عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله (1) بان عتبة بن مسعود أن أبا هريرة قال قال أبو بكر الصديق: والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها ومن طريق عبد الرزاق: أخبرني (2) بشر بن عاصم بن سفيان بن عبد الله أن أباه حدثه أن سفيان أباه حدثه أن عمر بن الخطاب قال (3) له: قل لهم: إني لا آخذ الشاة الأكولة (4) ولا فخل الغنم ولا الربى (5) ولا الماخض (6)، ولكني آخذ العناق (7) والجذعة والثنية، وذلك عدل بين غذاء (8) المال وخياره ومن طريق الأوزاعي عن سالم بن عبد الله المحاربي (9): أن عمر بعثه مصدقا وأمره أن يأخذه الجذعة والثانية
273 672 - مسألة - وما صغر عن أن يسمى شاة لكن يسمى خروفا أو جديا أو سخلة لم يجزأن يؤخذ في الصدقة الواجبة، ولا أن يعد فيما تؤخذ منه الصدقة، إلا أن يتم سنة، فإذا أتمها عد، وأخذت الزكاة منه قال أبو محمد: هذا مكان اختلف الناس فيه فقال أبو حنيفة: تضم الفوائد كلها من الذهب والفضة والمواشي إلى ما عند صاحب المال فتزكى مع ما كان عنده، ولو لم يفدها إلا قبل تمام الحول بساعة، وهذا إذا كان الذي عنده تجب في مقدار ما معه الزكاة، وإلا فلا، وإنما يراعى في ذلك أن يكون عنده نصاب في أول الحول وآخره، ولا يبالي أنقص في داخل الحول عن النصاب أم لا؟ قال: فان ماتت التي كانت عنده كلها وبقى من عدد الخرفان أكثر من أربعين فلا زكاة فيها، وكذلك لو ملك ثلاثين عجلا فصاعدا، أو خمسا من الفصلان فصاعدا، عاما كاملا دون أن يكون فيها مسنة واحدة فما فوقها -: فلا زكاة عليه فيها وقال مالك: لا تضم فوائد الذهب والفضة إلى ما عند المسلم منها، بل يزكى كل مال بحوله، حاشا ربح المال وفوائد المواشي كلها، فإنها تضم إلى ما عنده ويزكى الجميع بحول ما كان عنده، ولو لم يفدها الا قبل الحول بساعة، الا انه فرق بين فائدة الذهب والفضة والماشية من غير الولادة، فلم ير أن يضم إلى ما عند المرء من ذلك كله الا إذا كان الذي عنده منها مقدارا تجب في مثله الزكاة والا فلا، ورأي أن تضم ولادة الماشية خاصة إلى ما عنده منها، سواء كان الذي عنده منها تجب في مقداره الزكاة أو لا تجب في مقداره الزكاة وقال الشافعي: لا تضم فائدة أصلا إلى ما عنده، الا أولاد الماشية فقط، فإنها تعد مع أمهاتها، ولو لم يتم العدد المأخوذ منه الزكاة بها (1) الاقبل الحول بساعة، هذا إذا كانت الأمهات نصابا تجب فيه الزكاة والا فلا، فان نقصت في بعض الحول عن النصاب فلا زكاة فيها قال أبو محمد: أما تناقض مالك والشافعي وتقسيمهما فلا خفاء به، لأنهما قسما تقسيما لا برهان على صحته وأما أبو حنيفة فله ههنا أيضا تناقض أشنع (2) من تناقض مالك والشافعي، وهو
274 أنه رأى أن يراعى أول الحول وآخره دون وسطه، ورأي أن تعد أولاد الماشية مع أمهاتها ولو لم تضعها الا قبل مجئ الساعي بساعة، ثم رأى في أربعين خروفا صغارا ومعها شاة واحدة مسنة ان فيها الزكاة، وهي تلك المسنة فقط، فإن لم يكن معها مسنة فلا زكاة فيها، فإن كانت (1) معه مائة خروف وعشرون خروفا صغارا كلها ومعها مسنة واحدة، قال: إن كان فيها مسنتان فصدقتها تانك المسنتان معا، وإن كان ليس معهما الا مسنة واحدة فليس فيها الا تلك المسنة وحدها فقط، فإن لم يكن معها مسنة فليس فيها شئ أصلا، وهكذا قال في العجاجيل والفصلان أيضا، ولو ملكها سنة فأكثر قال أبو محمد: وهذه شريعة إبليس لا شريعة الله تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، نعنى قوله: إن كان مع المائة خروف والعشرين خروفا مسنتان زائدتان أخذتا عن زكاة الخرفان كلتاهما فإن لم يكن معها إلا مسنة واحدة أخدت وحدها عن زكاة الخرفان والا مزيد وما جاء بهذا قط قرآن ولا سنة صحيحة ولا رواية سقيمة، ولا قول أحد من الصحابة ولا من التابعين، ولا أحد نعلمه قبل أبي حنيفة، ولا قياس ولا رأى سديد وقد روى عنه أنه قال مرة في أربعين خروفا: يؤخذ عن زكاتها شاة مسنة، وبه يأخذ زفر، ثم رجع إلى أن قال: بل يؤخذ عن زكاتها خروف منها، وبه يأخذ أبو يوسف، ثم رجع إلى أن قال: لا زكاة فيها وبه يأخذ الحسن بن زياد وقال مالك كقول زفر، وقال الأوزاعي والشافعي كقول أبى يوسف، وقال الشعبي وسفيان الثوري وأبو سليمان كقول الحسن بن زياد قال أبو محمد: احتج من رأى أن تعد الخرفان مع أمهاتها بما رويناه من طريق عبد الرزاق (2) عن بشر بن عاصم بن سفيان بن عبد الله الثقفي عن أبيه عن جده: انه كان مصدقا في مخاليف (3) الطائف، فشكا إليه أهل الماشية تصديق الغذاء، وقالوا: ان
275 كنت معتدا بالغذاء فخذ منه صدقته، قال عمر: فقل لهم (1): إنا نعتد بالغذاء كلها (2) حتى السخلة يروح بها الراعي على يده، وقل لهم: إني لا آخذ الشاة الأكولة ولا فحل الغنم ولا الربى ولا الماخض، ولكني آخذ العناق والجذعة والثنية، وذلك عدل بين غذاء المال وخياره (3). وروينا هذا أيضا من طريق مالك عن ثور بن زيد عن ابن عبد الله بن سفيان (4) ومن طريق أيوب عن عكرمة بن خالد عن سفيان ما نعلم لهم حجة غير هذا. قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لوجوه. أولها انه ليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حجة في قول أحد دونه. والثاني أنه قد خالف عمر رضي الله عنه في هذا غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (5) كما حدثنا حمام ثنا ابن مفرج ثنا ابن الاعرابي ثنا الدبري عن عبد الرزاق عن مالك عن محمد بن عقبة عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق: ان أبا بكر الصديق كان لا يأخذ من مال زكاة حتى يحول عليه الحول. حدثنا محمد بن سعيد بن نبات ثنا عبد الله بن نصر ثنا قاسم بن أصبغ ثنا محمد بن وضاح ثنا موسى بن معاوية ثنا وكيع عن سفيان الثوري عن حارثة بن أبي الرجال عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أم المؤمنين قالت: لا يزكي حتى يحول عليه الحول. تعنى المال المستفاد. وبه إلى سفيان عن أبي إسحاق السبيعي عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب قال: من استفاد مالا فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول. وبه إلى سفيان عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال: من استفاد مالا فلا زكاة فيه (6) حتى يحول عليه الحول. فهذا عموم من أبى بكر وعائشة وعلى وابن عمر رضي الله عنهم، لم يخصوا فائدة ماشية بولادة من سائر ما يستفاد، وليس لاحد أن يقول: إنهم لم يريدوا بذلك أولاد الماشية إلا كان كاذبا عليهم، وقائلا بالباطل الذي لم يقولوه قط. وأيضا فان الذين حكى عنهم سفيان بن عبد الله أنهم أنكروا أن يعد عليهم أولاد
(1) في الأصلين (فقيل لهم) وهو خطأ واضح مما مضى ومما سيجئ. (2) في النسخة رقم (14) (كله). (3) رواه الشافعي بنحوه في الام (ج 2 ص 13) عن سفيان بن عيينة عن بشر بن عاصم (4) هو في الموطأ (ص 113) (5) في النسخة رقم (14) (غيره من الصحابة رضي الله عنهم) (6) في النسخة رقم (16) (فلا زكاة عليه). 276 الماشية مع أمهاتها -: قد كان فيهم بلا شك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لان سفيان ذكر أن ذلك كان أيام عمر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ولى الامر بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ونصف، وبقى عشر سنين، ومات بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاث عشرة سنة وكانوا بالطائف، وأهل الطائف أسلموا قبل موت رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو عام ونصف ورأوه عليه السلام. فقد صح الخلاف في هذا من الصحابة رضي الله عنهم بلا شك، وإذا كان ذلك فليس قول بعضهم أولى من قول بعض، والواجب في ذلك ما افترضه الله تعالى إذ يقول (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسل ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر). والثالث أنه لم يرو هذا عن عمر من طريق متصلة إلا من طريقين: إحداهما من طريق بشر بن عاصم بن سفيان عن أبيه، وكلاهما غير معروف (1)، أو من طريق ابن لعبد الله ابن سفيان لم يسم. والثانية من طريق عكرمة بن خالد، وهو ضعيف (2). والرابع أن الحنيفيين والشافعيين خالفوا قول عمر في هذه المسألة نفسها، فقالوا: لا يعتد بما ولدت الماشية إلا أن تكون الأمهات - دون الأولاد - عددا تجب فيه الزكاة، وإلا في تعد عليهم الأولاد، وليس هذا في حديث عمر. والخامس أنهم لا يلتفتون (3) ما قد صح عن عمر رضي الله عنه بأصح من هذا الاسناد، أشياء لا يعرف له فيها مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، إذا خالف رأى مالك وأبي حنيفة والشافعي، كترك الحنيفيين والشافعيين قول عمر: الماء لا ينجسه شئ، وترك الحنيفيين والمالكيين والشافعيين أخذ عمر الزكاة من الرقيق لغير التجارة، وصفة أخذه الزكاة من الخيل، وترك الحنيفيين إيجاب عمر الزكاة في مال اليتيم، ولا يصح خلافه عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، وترك الحنيفيين والمالكيين امر عمر الخارص بأن يترك لأصحاب النخل ما يأكلونه لا يخرصه عليه، وغير هذا كثير جدا، فقد وضح ان احتجاجهم
(1) أما بشر بن عاصم فإنه معروف وثفه ابن معين والنسائي وغيرهما، وأما أبوه عاصم فانى لم أجد له ترجمة في شئ من الكتب وإنما ذكر في ترجمة أبيه سفيان ممن رووا عنه (2) عكرمة هذا - هو ابن خالد بن العاص ابن هشام الثقة الثبت - وفى الرواة آخر قريبه اسمه عكرمة بن خالد بن سلمة بن العاص بن هشام، وهو ضعيف منكر الحديث، ولكنه ليس الراوي لهذا الحديث، وقد نص ابن حجر في التلخيص (ص 174 و 175) والتهذيب (ج 7 ص 260) على أن ابن حزم أخطأ في هذا واشتبه عليه الامر (3) يستعمل المؤلف (التفت) متعديا بنفسه هنا وفي الأحكام 277 بعمر إنما هو حيث وافق شهواتهم! لا حيث صح عن عمر من قول أو عمل وهذا عظيم في الدين جدا. قال أبو محمد: المرجوع إليه عند التنازع هو القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الزكاة في أربعين شاة فصاعدا كما وصفنا، وأوجب فيها شاة أو شاتين أو في كل مائة شاة شاة، وأسقطها عما عدا ذلك، ووجدنا الخرفان والجديان لا يقع عليها اسم شاة ولا اسم شاء في اللغة التي أوجب الله تعالى علينا بها دينه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فخرجت الخرفان والجديان عن أن تجب فيها زكاة (1). وأيضا فقد اجمعوا على أن لا يؤخذ خروف ولا جدي في الواجب في الزكاة عن الشاء (2) فأقروا بأنه لا يسمى شاة ولا له حكم الشاء، فمن المحال ان يؤخذ منها زكاة، فلا تجوز هي في الزكاة بغير نص في ذلك. وأيضا فان زكاة ماشية لم يحل عليها حول لم يأت به قرآن، ولا سنة، ولا اجماع. وأما من ملك خرفانا أو عجولا أو فصلانا سنة كاملة فالزكاة فيها واجبة عند تمام العام، لان كل ذلك يسمى غنما وبقرا وابلا. حدثنا عبد الله بن ربيع ثنا محمد بن معاوية ثنا أحمد بن شعيب ثنا هناد بن السرى عن هشيم عن هلال بن خباب عن ميسرة أبى صالح عن سويد بن غفلة قال: (أتانا مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست إليه، فسمعته يقول: إن في عهدي أن لا نأخذ من راضع لبن (3)). قال أبو محمد: لو أراد أن لا يؤخذ هو في الزكاة لقال: (ان لا نأخذ راضع لبن) لكن لما منع من أخذ الزكاة من راضع لبن - وراضع لبن اسم للجنس - صح بذلك
(1) الخروف ولد الحمل، وقيل: هو دون الجذع من الضأن خاصة، واشتقاقه أنه يخرف - بضم الراء - من ههنا وههنا أي يرتع. قاله في اللسان (2) في النسخة رقم (14) (عن الشاة) (3) في النسخة رقم (14) (ان لا تأخذ راضع لبن) بحذف (من) وهو خطأ، كما يظهر واضحا من شرح المؤلف للحديث وبيانه، ووقع في النسائي كذلك بحذفها (ج 5 ص 29 و 30) وهو خطأ أيضا من الناسخين، فان السيوطي قال في شرحه عليه متأولا للحديث (ومن زائدة) فهي اذن ثابتة في نسخته وان سقطت من نسخة السندي. ويؤيد اثباتها انها ثابتة فيه في رواية أبى داود (ج 2 ص 14) والشوكاني (ج 4 ص 193) والدارقطني (ص 204) بل لفظه (ان لا آخذ من راضع شيئا) وهو تركيب لا يحتمل فيه حذفها، ثم إن الحديث في اللسان والنهاية باثباتها أيضا وحاول صاحب النهاية تأويله بتأويلات منها ان من زائدة. وهذا قطعة من حديث وسيأتي باقيه في المسألة 674 278 أن لا تعد الرواضع (1) فيما تؤخذ منه الزكاة. وما نعلم أحدا عاب هلال بن خباب، الا ان يحيى بن سعيد القطان قال: لقيته وقد تغير، وهذا ليس جرحة، لان هشيما أسن من يحيى بنحو عشرين سنة، فكان لقاء هشيم لهلال قبل تغيره بلا شك (2). وأما سويد فأدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وأتى إلى المدينة بعد وفاته عليه السلام بنحو خمس ليال، وأفتى أيام عمر رضي الله عنه. قال أبو محمد: وأما الشافعي، وأبو يوسف فطردا قولهما، إذ أوجبا أخذ خروف صغير في الزكاة عن أربعين خروفا فصاعدا، ولدت قبل الحول أو ماتت أمهاتها وأخذ مثل هذا في الزكاة عجب جدا!. وأما إذا أتمت سنة فاسم شاة يقع عليها، فهي معدودة ومأخوذة. وبالله تعالى التوفيق. وحصلوا كلهم على أن ادعوا أنهم قلدوا عمر رضي الله عنه، وهم قد خالفوه في هذه المسألة نفسها، فلم ير أبو حنيفة والشافعي أن تعد الأولاد مع الأمهات إلا إذا كانت الأمهات نصابا، ولم يقل عمر كذلك. وحصل مالك على قياس فاسد متناقض، لأنه قاس فائدة الماشية خاصة - دون سائر الفوائد - على ما في حديث عمر من عد أولادها معها، ثم نقض قياسه فرأى أن لا تضم فائدة الماشية بهبة، أو ميراث، أو شراء إلى ما عنده منها إلا إن كان ما عنده نصابا تجب في مثله الزكاة وإلا فلا. ورأي أن تضم أولادها إليها وإن لم تكن الأمهات نصابا تجب فيه الزكاة. وهذه تقاسيم لا يعرف أحد قال بها قبلهم، ولاهم اتبعوا عمر، ولا طردوا القياس، ولا اتبعوا نص السنة في ذلك. (تم الجزء الخامس من كتاب المحلى للامام العلامة أبي محمد على المشهور بابن حزم والله الحمد ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السادس مفتتحا (بزكاة البقر) فنسأل الله التوفيق لاتمامه انه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير)
(1) في النسخة رقم (16) (الراضع) (2) خباب: بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة وآخره موحدة أيضا. هلال هذا ثقة، ولم يثبت ما قاله القطان، فقد قال إبراهيم بن الجنيد: (سألت ابن معين عن هلال بن خباب وقلت: ان يحيى القطان يزعم أنه تغير قبل ان يموت واختلط؟ فقال يحيى: لا، ما اختلط ولا تغير، قلت ليحيى: فثقة هو؟ قال: ثقة مأمون) 279