محلى (جزء 8) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

محلى (جزء 8) - نسخه متنی

علی بن احمد ابن حزم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: المحلى
المؤلف: ابن حزم
الجزء: 8
الوفاة: 456
المجموعة: فقه المذهب الظاهري
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر
ردمك:
ملاحظات: طبعة مصححة ومقابلة على عدة مخطوطات ونسخ معتمدة كما قوبلت على النسخة التي حققها الأستاذ الشيخ أحمد محمد شاكر
المحلى
تصنيف الامام الجليل، المحدث، الفقيه، الأصولي، قوي العارضة
شديد المعارضة، بليغ العبارة، بالغ الحجة، صاحب التصانيف
الممتعة في المعقول والمنقول، والسنة، والفقه، والأصول
والخلان، مجدد القرن الخامس، فخر الأندلس
أبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم
المتوفى سنة 456 ه‍
طبعة مصححة ومقابلة
على عدة مخطوطات ونسخ معتمدة
كما قوبلت على النسخة التي حققها الأستاذ
الشيخ أحمد محمد شاكر
الجزء الثامن
دار الفكر

1
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب النذور (1)
1114 - مسألة - نكرة النذر وننهى عنه لكن مع ذلك من نذر طاعة لله عز
وجل لزمه الوفاء بها فرضا إذا نذرها تقربا إلى الله عز وجل مجردا أو شكرا لنعمة من
نعم الله تعالى، أو ان أراه الله تعالى أملا لا ظلم فيه لمسلم ولا لمعصية مثل أن يقول: لله على
صدقة كذا وكذا أو يقول صوم كذا وكذا فأكثر، أو حج. أو جهاد. أو ذكر
لله تعالى. أو رباط: أو عيادة مريض. أو شهود جنازة. أو زيارة قبر نبي. أو رجل
صالح. أو المشي. أو الركوب. أو النهوض إلى مشعر من مشاعر مكة. أو المدينة. أو
إلى بيت المقدس. أو عتق معين أو غير معين أو أي طاعة كانت فهذا هو التقرب المجرد،
أو يقول: لله على إذا خلصني من كذا أو إذا ملكني أمر كذا. أو إذا جمعني مع أبي أو
فلان صديقي أو مع أهلي صدقة أو ذكر شيئا من القرب التي ذكرنا، أو يقول: على لله
ان أنزل الغيث. أو ان صححت من علتي. أو ان تخلصت أو ان ملكت أمر كذا أو ما أشبه
هذا * فأن نذر معصية لله أو ما ليس طاعة ولا معصية لم يلزم الوفاء بشئ من ذلك مثل
أن ينشد شعرا أو أن يصبغ ثوبه أحمر أو ما أشبه هذا، وكذلك من نذر طاعة ان نال
معصية أو إذا رأى معصية مثل أن يقول لله على صوم ان قتل فلان أو ان ضرب وذلك
الفلان لا يستحق شيئا من ذلك، أو قال: لله على صدقة إذا أراني مصرع فلان وذلك الفلان
مظلوم فكل هذا لا يلزم الوفاء بشئ منه ولا كفارة في شئ منه وليستغفر الله تعالى
فقط، وكذلك من أخرج نذره مخرج اليمين فقال: على المشي إلى مكة ان كلمت فلانا



(1) هو جمع نذر وأصله الانذار بمعنى التخويف، قال الراغب الأصبهاني في مفرداته: النذر ان توجب
على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر اه‍، وقال العلامة ابن الأثير في النهاية يقال: نذرت أنذر وأنذر - أي بضم
الذال المعجمة وكسرها - نذر إذا أوجبت على نفسك شيئا تبرعا من عبادة أو صدقة أو غير ذلك اه‍.
2
أو على عتق خادمي فلانة ان كلمت فلانا أو ان زرت فلانا، فكل هذا لا يلزم الوفاء به
ولا كفارة فيه إلا الاستغفار فقط، فان قال: لله علي نذر ولم يسم شيئا فليس عليه
الا كفارة يمين فقط، وقال قوم: ما خرج من هذا مخرج اليمين فعليه الوفاء به، وقال
آخرون: ما خرج من هذا مخرج اليمين فليس فيه إلا كفارة يمين *
قال أبو محمد: برهان صحة قولنا أما المنع من النذر فلما رويناه من طريق سفيان (1)
وشعبة كلاهما عن منصور عن عبد الله بن مرة (2) عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (انه نهى عن
النذر وقال: إنه لا يرد شيئا ولكن يستخرج به من البخيل) هذا لفظ سفيان، ولفظ
شعبة (انه لا يأتي بخير) مكان (انه لا يرد شيئا وانه يستخرج به من البخيل) (3) واتفقا في غير
ذلك، وصح أيضا مسندا من طريق أبي هريرة (4)، ورينا من طريق سفيان بن عيينة
عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري (انه سمع أبا هريرة يقول: لا أنذر أبدا)
وهذا يوجب ما قلنا: من أنه منهى عنه فإذا وقع لزم واستخرج به من البخيل، وأيضا
قول الله تعالى: (يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا) وقوله تعالى: (يا أيها الذين
آمنوا أوفوا بالعقود) وقوله تعالى: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) وقوله تعالى:
(قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر منها وما بطن والاثم والبغي بغير الحق) فصح بهذا
كله ان كل ما نهى الله تعالى عنه فلا يحل لاحد أن يفعله فصح من هذا ان من نذره فقد
نذر ان يعصى الله عز وجل وقد نهاه الله تعالى عن معصيته فقد صح يقينا (5) ان النذور
والعقود التي أمر الله تعالى بالوفاء بها إنما هي نذر الطاعة فقط وليس نذر الطاعة إما ما ذكرنا



(1) رواية سفيان عن منصور هي في صحيح البخاري ج 8 ص 224 وص 253 وهي في صحيح مسلم أيضا ج 2 ص 13
ورواية شعبة عن منصور في صحيح مسلم ج 2 ص 12
(2) في الأصول كلها (عن عمرو بن مرة) وهو غلط صححناه من تهذيب التهذيب وصحيحي البخاري ومسلم
(3) قال الخطابي: معنى نهيه عليه السلام عن النذر إنما هو تأكيد
لامره وتحذير عن التهاون به بعد ايجابه، ولو كان معناه الزجر عنه حتى لا يفعل لكان في ذلك ابطال حكمه
واسقاط لزوم الوفاء به إذ كان بالنهي عنه قد صار معصية فلا يلزم الوفاء به وإنما وجه الحديث انه قد أعلمه ان ذلك
امر مما لا يجلب لهم في العاجل نفعا ولا يدفع عنهم ضرا فلا يرد شيئا قضاه الله تعالى يقول: لا تنذروا على أنكم
تدركون بالنذر شيئا لم يقدره الله لكم أو تصرفون عن أنفسكم شيئا جرى القضاء به عليكم فإذا فعلتم ذلك فأخرجوا
عنه بالوفاء به فان الذي نذرتموه لازم لكم هذا معنى الحديث ووجه قوله عليه السلام (إنما يستخرج به من
البخيل) فثبت بذلك وجوب استخراجه من ماله ولو كان غير لازم له لم يجز ان يكره عليه والله أعلم، وقد ذكر
هذا العلامة ابن الأثير في النهاية ولم يعزه إلى الخطابي تنبه لذلك
(4) هو في صحيح مسلم ج 2 ص 12
(5) في النسخة رقم 16 (فصح يقينا) باسقاط لفظ (قد).
3
ولا مزيد، وبالضرورة يدرى كل أحد أن من نذر طاعة ان رأى معصية (1) أوان تمكن
من معصية أو إذ رأى معصية سرورا بها فان كل ذلك منه عصيان لله تعالى يشك في شئ
من هذا مسلم، فصح انه كله نذر معصية فلا يحل الوفاء به، وأما ما لا طاعة فيه ولا
معصية فان ناذره موجب ما لم يوجبه الله تعالى ولا ندب إليه ومن فعل هذا فقد تعدى
حدود الله تعالى ففعله لذلك معصية فلا يلزمه الوفاء بما لم يلزمه الله تعالى من ذلك *
روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا أبو كريب محمد بن العلاء نا ابن إدريس - هو
عبد الله - عن عبيد الله بن عمر عن طلحة بن عبد الملك عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق
عن عائشة أم المؤمنين قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقول] (2): (من نذر
ان يطيع الله تعالى فليطعه ومن نذر ان يعصى الله تعالى فلا يعصه) قال أحمد: طلحة
ابن عبد الملك ثقة ثقة ثقة *
ومن طريق البخاري ناموسي بن إسماعيل نا وهيب بن خالد (3) نا أيوب - هو
السختياني - عن عكرمة عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو يخطب (4)
إذا هو برجل قائم فسأل عنه؟ فقالوا: [أبو إسرائيل] (5) نذر أن يقوم ولا يقعد ولا
يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مره فليتكلم وليستظل وليقعد
وليتم صومه، وهذا كله هو نفس قولنا ولله الحمد، أمره عليه السلام بالوفاء بالصوم الذي
هو طاعة ونهاه عن الوفاء بما ليس طاعة ولا معصية من الوقوف وترك الاستظلال
وترك الكلام، وقد قال أبو ثور: يلزمه ترك الكلام واحتج له بقوله تعالى: (انى
نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا) وبقوله تعالى: (آيتك ان لا تكلم الناس
ثلاث ليال سويا) *
قال على: هذه شريعة زكريا ومريم عليهما السلام ولا يلزمنا شريعة غير نبينا صلى
الله عليه وسلم ان شأنهما آية من آيات النبوة وليس الآيات لنا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ترك الكلام كما ذكرنا *
ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد الله بن طاوس قال: سمعت أبي يقول:



(1) قوله (ان رأى معصية) شرط لنذر المعصية وتعليق، وقوله (أو ان تمكن من معصية) معطوف عليه وكذا
ما بعده، وتقدير الكلام هكذا وبالضرورة يدرى كل أحد ان من نذر طاعة ان رأى معصية الخ معصية وعصيان
لله تعالى والله أعلم
(2) الزيادة من النسخة رقم 14 وهي موافقة لسنن النسائي ج 7 ص 17
(3) في النسخ كلها (وهب بن خالد) مكبرا وهو غلط صححناه من صحيح البخاري ج 8 ص 256 وتهذيب التهذيب
(4) في صحيح البخاري (عن ابن عباس قال بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب)
(5) الزيادة من صحيح البخاري.
4
مذ عقلت لا نذر في معصية الله لأنذر الا فيما تملك * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر
قال: سألت الزهري عن النذر ينذره الانسان؟ فقال: إن كان طاعة لله فعليه وفاؤه وإن كان
معصية لله فليتقرب إلى الله تعالى بما شاء * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابان
عن ابن عباس أن رجلا أتاه فقال: إني نذرت ان نجا أبى من الأسر ان أقوم عريانا وان
أصوم يوما فقال له ابن عباس: البس ثيابك وصم يوما وصل قائما وقاعدا * وعن أبي
الزبير انه سمع جابرا يقول: لا وفاء لنذر في معصية الله تعالى * وعن عكرمة عن
ابن عباس عن عمر بن الخطاب أن رجلا نذران لا يأكل مع بنى أخيه يتامى فقال له عمر:
اذهب فكل معهم * وعن قيس بن أبي حازم أن أبا بكر الصديق رضى الله تعالى عنه أمر
امرأة نذرت ان تحج ساكتة بأن تتكلم * وعن مسروق. والشعبي لا وفاء في نذر معصية
ولا كفارة * ومن طريق مسلم نا قتيبة نا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار انه سمع
ابن عمر يقول (1): (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان حالفا فلا يحلف الا بالله) *
ومن طريق مالك عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أنه قال
في حديث: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت (2)) فأبطل رسول الله صلى الله
عليه وسلم كل يمين الا بالله عز وجل ونهى عنها، فمن حلف بغير الله فقد عصى الله تعالى
ولا وفاء لنذر في معصية الله *
قال أبو محمد: وقال أبو حنيفة. ومالك: من أخرج نذره مخرج اليمين مثل من قال:
على المشي إلى مكة ان كلمت فلانا فان كلمه فعليه الوفاء بذلك، وقال الشافعي: كفارة
يمين فقط الا في العتق المعين وحده، وقال أبو ثور (3): كفارة يمين في كل ذلك العتق
المعين وغيره، وقال المزني: لا شئ في ذلك الا في العتق المعين وحده ففيه الوفاء به *
قال على: أما من قال بقول أبي حنيفة. ومالك فإنهم احتجوا بأنه نذر طاعة
فعليه الوفاء به وقالوا: قسناه على اطلاق *
قال أبو محمد: وهذا خطأ ظاهر لان النذر ما قصد ناذره الرغبة في فعليه والتقرب
إلى الله تعالى به واستدعى من الله عز وجل تعجيل تبليغه ما يوجب عليه ذلك العمل،
وهذا بخلاف ذلك لأنه إنما قصد الامتناع من ذلك البر وابعاده عن نفسه جملة ومنع



(1) في صحيح مسلم ج 2 ص 14 (قال) بدل يقول، والحديث اختصره المصنف، وجه النهى عن ذلك ان
الحلف باسم شئ يقتضى تعظيمه ولا يتحقق حتى يعتقد فيه العظمة والبركة، والعظمة لا تكون حقيقة الا الله وحده
فلا ينبغي ان يضاهي بها غيره بل كل ما يشابه ذلك يترك ويهجر
(2) هو في الموطأ ج 3 ص 33 مطولا كما قال المصنف
(3) في النسخة رقم 16 (وقال أبو يوسف).
5
نفسه مما يوجب عليها ذلك العمل فصح يقينا انه ليس ناذرا وإذ ليس ناذرا فلا وفاء عليه
بما قال، وأيضا فإنه عاص لله عز وجل في ذلك الالتزام إذ أخرجه مخرج اليمين وقد
حرم الله تعالى عليه أن يحلف بغيره فصار معصية ولا وفاء لنذر معصية (1)، فصح يقينا
ان كل ما ذكرنا ليس نذر طاعة فيجب الوفاء به وليس يمينا لله تعالى فيجب فيه كفارة
يمين فبطل أن يجب في ذلك شئ إذ لم يوجبه قرآن ولا سنة والأموال محظورة محرمة
الا بنص *
وأما قياسهم إياه على الطلاق فالخلاف أيضا في الطلاق غير المعين أشهر من أن
يجهل فظهر بطلان هذا القول * وأما من أوجب في ذلك كفارة يمين فباطل أيضا لأنه
لا يمين الا بالله تعالى ولم يوجب عز وجل كفارة في غير اليمين به فلا كفارة في يمين
بغيره عزو جل، وأما من فرق بين العتق المعين وغيره فخطأ، وحجتهم في ذلك أنه عتق
بصفة وليس كما قالوا بل هو يمين بالعتق فهو باطل أيضا لا يلزم، وقالوا: قسنا العتق
المعين على الطلاق المعين فقلنا: القياس كله باطل ثم لا يصح قولكم في الطلاق المعين
إذا قصد به اليمين لامن قرآن. ولا سنة. ولا اجماع، (فان احتجوا) بالخبر الذي رويناه
من طريق الزهري عن أبي سلمة عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا نذر
في معصية الله وكفارته كفارة يمين) (2) وهذا خبر لم يسمعه الزهري من أبى سلمة إنما
رواه عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة، وسليمان بن أرقم مذكور
بالكذب * وخبر آخر من طريق طلحة بن يحيى الأنصاري عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند
عن بكير بن [عبد الله بن] (3) الأشج عن كريب عن ابن عباس (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا
لا يطيقه فكفارته كفارة يمين)، وطلحة بن يحيى الأنصاري ضعيف جدا *
وروينا من طريق سعيد بن منصور نا حماد بن زيد بن درهم عن محمد بن الزبير
الحنظلي عن أبيه عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا نذر في غضب وكفارته
كفارة يمين) (4) * وخبر من طريق عبد الوارث بن سعيد عن محمد بن الزبير الحنظلي
عن أبيه عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا نذر في معصية وكفارته كفارة



(1) في النسخة رقم 16 (ولا وفاء في معصية)
(2) الحديث في سنن أبي داود ج 3 ص 230
(3) الزيادة من سنن أبي داود ج 3 ص 246 والحديث اختصره المصنف، قال أبو داود بعد ما ذكر الحديث روى هذا الحديث وكيع وغيره عن عبد الله بن سعيد بن ابن الهند أوقفوه على ابن عباس، قال الحافظ ابن حجر في التلخيص: يعنى وهو أصح، وقال الحافظ أيضا فيه طلحة بن يحيى وهو مختلف فيه اه‍
(4) هو أيضا في سنن النسائي ج 7 ص 28.
6
يمين (1))، محمد بن الزبير الحنظلي في غاية الضعف وزيادة، فقد روينا من طريق ابن أبي
شيبة عن المعتمر بن سليمان التيمي عن محمد بن الزبير الحنظلي عن عمران بن الحصين
فذكر هذا الحديث نفسه، قال المعتمر: فقلت لمحمد بن الزبير أحدثكه من سمعه من
عمران؟ فقال: لا ولكن حدثنيه رجل عن عمران بن الحصين فبطل جملة * وآخر من
طريق إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه عن داود بن الحصين عن بكير بن الأشج عن
كريب عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل حديث طلحة بن يحيى الأنصاري الذي
ذكرنا، وابن أبي أويس (2) ضعيف * ومن طريق عبد الرزاق بن روح عن سلام
ابن سليمان عن محمد بن الفضل بن عطية عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن
عدى بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم (من نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين) *
سلام بن سليمان هالك، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر. وابن جريج قال معمر:
عن يحيى بن أبي كثير عن رجل من بنى حنيفة (3)، وقال ابن جريج: حدثت عن يحيى
ابن أبي كثير عن أبي سلمة ثم اتفقا عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا نذر في غضب ولا في معصية
الله وكفارته كفارة يمين) أحدهما مرسل ومنقطع، والآخر مرسل وعمن لا يدرى من
هو * وروينا عن ابن مسعود. وابن عباس لا وفاء لنذر في معصية وكفارته كفارة
يمين ولا يصح شئ من ذلك لأنه عن ابن مسعود من طريق ابنه أبى عبيدة (4) ولم
يسمع منه شيئا، وعن ابن عباس من طريق إبراهيم بن أبي يحيى وهو مذكور بالكذب *
وروينا أيضا من طريق أبي سفيان عن جابر لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين،
وأبو سفيان ساقط *
قال أبو محمد: ثم كل هذا على فساده فان أبا حنيفة. والشافعي مخالفان له أما أبو حنيفة
فلا يرى فيمن أخرج النذر مخرج اليمين الا الوفاء به وهو نذر معصية وإنما يرى
كفارة نذر المعصية كفارة يمين في موضعين فقط، أحدهما إذا قال: أنا كافر ان فعلت
كذا وكذا وإذا قال: لله على أن قتل اليوم فلان وأراد اليمين ولم ير على من نذر أن
يزني. أو أن يقتل. أو ان يكفر. أو أن يلوط. أو أن يشرب الخمر كفارة يمين أصلا،
فخالف كل ما ذكرنا إلى غير سلف يعرف، وأما الشافعي فلم ير في شئ من النذور في
المعصية كفارة يمين الا فيمن نذر طاعة أخرجه مخرج اليمين فكلاهما مخالف لكل ما ذكرنا



(1) هو في النسائي أيضا ج 7 ص 28
(2) في النسخة رقم 14 (وأبو أويس) وكلاهما صحيح لان ابن أبي أويس وأباه ضعيفان
(3) قال الحافظ في التلخيص: والحنفي هو محمد بن الزبير قاله الحاكم وقال إن قوله (من بنى حنيفة)
تصحيف وإنما هو من بنى حنظلة
(4) في النسخة رقم 14 (من طريق أبيه أبى عبيدة) وهو غلط.
7
فبطل أن يكون لهم متعلق بشئ أصلا، وقولنا هو قول طائفة من السلف كما روينا من
طريق عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن بكر بن عبد الله المزني
أخبرني أبو رافع قال: قالت لي مولاتي ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر وكل
مال لها هدى وهي يهودية أو نصرانية ان لم نطلق امرأتك فأتيت زينب بنت أم سلمة
أم المؤمنين فجاءت معي إليها فقالت: يا زينب جعلني الله فداءك انها قالت: كل مملوك لها حر
وهي يهودية فقالت لها زينب: يهودية ونصرانية خل بين الرجل وبين امرأته فكأنها لم
تقبل فاتيت حفصة أم المؤمنين فأرسلت معي إليها فقالت: يا أم المؤمنين جعلني الله
فداءك انها قالت: كل مملوك لها حر وكل مال لها هدى وهي يهودية أو نصرانية فقالت
أم المؤمنين: يهودية ونصرانية خل بين الرجل وبين امرأته * ومن طريق عائشة أم
المؤمنين فيمن قال لغريمه: ان فارقتك فمالي عليك في المساكين صدقة ففارقه إن هذا
لا شئ يلزمه فيه، وصح هذا أيضا عن الحكم بن عتيبة. وحماد بن أبي سليمان من طريق
شعبة عنهما وهو قول الشعبي (1). والحارث العكلي وسعيد بن المسيب والقاسم بن
محمد. وأبي سليمان. وأصحابنا، فان قالوا: قد أفتى ابن عمر في ذلك بكفارة يمين قلنا:
نعم وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في ذلك على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى.
فما الذي جعل قول بعضهم أولى من قول بعض بلا برهان؟ وصح عن عائشة. وأم سلمة
أمي المؤمنين * وعن ابن عمر انه جعل قول ليلى بنت العجماء: كل مملوك لها حر وكل
مال لها هدى وهي يهودية أو نصرانية لم تطلق امرأتك كفارة يمين واحدة * وعن
عائشة أم المؤمنين انها قالت فيمن قال في يمين: مالي ضرائب في سبيل الله أو قال: مالي
كله في رتاج الكعبة (2) كفارة يمين * وعن أم سلمة. وعائشة أمي المؤمنين فيمن قال:
على المشي إلى بيت الله ان لم يكن كذا كفارة يمين * ومن طريق محمد بن عبد الله الأنصاري
عن أشعث الحمراني عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع عنهما * وروينا عن حماد بن
عبد الله النذر كفارته كفارة يمين، وعن ابن عباس مثل هذا، وعن عمر بن الخطاب
نحوه، وعن عكرمة. والحسن فيمن قال: مالي كله في رتاج الكعبة كفارة يمين، وصح
عن طاوس. وعطاء أما طاوس فقال: الحالف بالعتاق وما لي هدى وكل شئ لي في سبيل
الله، وهذا النحو كفارة يمين، وأما عطاء فقال فيمن قال: على الف بدنة أو قال: على
الف حجة أو قال: مالي هدى أو قال: مالي في المساكين كل ذلك يمين وهو قول قتادة



(1) في النسخة رقم 16 (وهو قول الشافعي) وظاهر السياق ومقارنته مع ما بعده يؤيد ما هنا والله أعلم
(2) الرتاج بكسر الراء الباب وجمعه رتج أي فجعل ماله كله الكعبة فكنى عنها بالباب لان الدخول إليها منه والله أعلم.
8
وسليمان بن يسار. وسالم بن عبد الله بن عمر *
قال أبو محمد: كل هذا خلاف لقول أبي حنيفة. ومالك. والشافعي لان الشافعي
اخرج من ذلك العتق المعين، والذي ذكرنا عمن ذكرنا من الصحابة. والتابعين هو
قول عبيد الله بن الحسن. وشريك. وأبي ثور. وأحمد بن حنبل. وإسحاق [بن
راهويه] (1) وأبى عبيد، وبه يقول الطحاوي، وذكر أنه قول زفر بن الهذيل. وأحد
قولي محمد بن الحسن، وقد روينا من طريق ثابتة عن ابن القاسم صاحب مالك أنه أفتى
ابنه في المشي إلى مكة بكفارة يمين وقال له: ان عدت أفتيتك بقول مالك، وهذا عجب جدا *
حدثني بذلك حمام بن أحمد قال ثنا عبد الله بن محمد الباجي نا عمر بن أبي تمام نا محمد
ابن عبد الله بن عبد الحكم قال: حدثني بذلك عبد الصمد بن عبد الرحمن بن القاسم عن
أبيه، وروينا عن ابن عمر قولا آخر وهو ان ابن عمر سئل عن النذر؟ فقال:
أفضل الايمان فإن لم تجد فالتي تليها فإن لم تجد فالتي تليها يقول: العتق. ثم الكسوة.
ثم الاطعام الا أنها من طريق أبى معشر وهو ضعيف * وروينا مثل تفريق الشافعي
أيضا بخلاف قوله أيضا عن ابن عباس. وابن عمر من طريق إسماعيل بن أمية عن عثمان
ابن أبي حاضر قال: حلفت امرأة مالي في سبيل الله وجاريتي حرة ان لم تفعل كذا فقال
ابن عباس. وابن عمر: أما الجارية فتعتق وأما قولها: مالي في سبيل الله فيتصدق بزكاة
مالها، وروينا مثل قول أبي حنيفة عن ابن عمر من طريق لا تصح، وقد خالفوه أيضا
فيها كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو معاوية نا جميل بن زيد عن ابن عمر قال:
من حلف على يمين أصر فلا كفارة له (3)، والاصر أن يحلف بطلاق. أو عتاق.
أو نذر. أو مشى، ومن حلف على يمين غير ذلك فليأت الذي هو خير فهو كفارته *
جميل بن زيد ساقط ولو صح لكانوا قد خالفوه في هذا الخبر نفسه لأنه لم يجعل
فيمن أتى خيرا مما حلف أن يفعله كفارة الا فعله ذلك فقط، فان قالوا: قد أمر النبي
صلى الله عليه وسلم في هذا بالكفارة قلنا: نعم وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله تعالى
ونهى عن الوفاء بنذر المعصية فإن كان قوله يمينا فهو معصية وإن كان نذرا فهو معصية
إذ لم يقصد به قصد القربة إلى الله تعالى فلا وفاء فيه ولا كفارة، فحصل قول هؤلاء
القوم خارجا عن أقوال جميع السلف *
ومما ذكرنا مسائل فيها خلاف قديم وهي من نذر الصدقة بجميع ماله، ومن نذر



(1) الزيادة من النسخة رقم (14)
(2) قوله أيضا زيادة من النسخة رقم 14
(3) الضمير في (له) يعود على الحالف لا على اليمين لأنها مؤنثة وفى النهاية (لها) وهو يعود على اليمين
9
أن ينحر نفسه، ومن نذر المشي إلى مسجد المدينة. أو مسجد إيليا. أو الركوب. أو النهوض إلى مكة: أو إلى موضع سماه من الحرم، ومن نذر عتق عبده ان باعه أو عتق
عبد فلان ان ملكه، فأما الصدقة بجميع المال فقد ذكرنا من قال: لا شئ في ذلك من
الصحابة والتابعين إذا خرج مخرج اليمين وهو قولنا، وقالت طائفة: من نذر أن
يتصدق بجميع ماله في المساكين فعليه أن يتصدق به كله صح ذلك من طريق عبد
الرزاق عن معمر عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن رجلا سأله فقال (1): جعلت
ما لي في سبيل الله فقال ابن عمر: فهو في سبيل الله، وروينا عن سالم. والقاسم بن محمد
انهما قالا في هذه المسألة يتصدق به على بعض بناته، وصح عن الشعبي. والنخعي
أنهما كانا يلزمانه ما جعل على نفسه وهو قول عثمان البتي. والشافعي. والطحاوي.
وأبي سليمان، قال هؤلاء: فان أخرجه مخرج اليمين فكفارته كفارة (2) يمين الا أبا
سليمان فقال: لا شئ في ذلك، وقالت طائفة: يتصدق بجميعه حاشا قوت شهر فإذا
أفاد شيئا تصدق بما كان أبقى لنفسه وهو قول زفر بن الهذيل ورأي فيه إذا أخرجه
مخرج اليمين كفارة يمين، وقالت طائفة: يتصدق بثلث ماله ويجزيه * روينا ذلك عن
ابن لهيعة عن يزيد بن حبيب عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وصح نحوه عن
الزهري وهو قول الليث بن سعد، وقالت طائفة: فيه كفارة يمين روينا ذلك أيضا
عن عكرمة. والحسن. وعطاء، وروينا ذلك قبل عن عائشة أم المؤمنين. وعمر.
وجابر. وابن عباس. وابن عمر وهو قول الأوزاعي، وقالت طائفة: كما روينا
من طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن جابر بن زيد أنه سئل عمن جعل ماله
هديا في سبيل الله عز وجل؟ فقال: إن الله تعالى لم يرد أن يغتصب أحدا ماله فإن كان
كثيرا فليهد خمسه وإن كان وسطا فسبعه وإن كان قليلا فعشره، قال قتادة: الكثير
ألفان. والوسط ألف. والقليل خمسمائة، وقالت طائفة: ما روينا بالسند المذكور
إلى قتادة قال: يتصدق بخمسة، وقالت طائفة: يتصدق بربع العشر كما روينا ذلك
آنفا عن ابن عباس. وابن عمر وهو قول ربيعة وسوى بين من حلف بصدقة جميع
ماله (3) أو بصدقة جزء منه سماه (4) وإنما روينا ذلك عنهم في اليمين بذلك، وروينا
عن عبد العزيز بن الماجشون انه استحسن قول ربيعة هذا، وقالت طائفة: كما روينا



(1) في النسخة رقم 14 (قال)
(2) في النسخة رقم 16 والنسخة اليمنية (فكفارة يمين)
(3) في النسخة رقم 16 والنسخة اليمنية (بصدقة جميعه) وما هنا أوضح
(4) في النسخة رقم 14، والنسخة اليمنية (جزء سماه منه)
10
من طريق ابن جريج. وعمر بن ذر كلاهما عن عطاء فيمن قال: ابلى نذر أو هدى
انه يجزيه بعير منها. قال ابن جريج عنه: لعله يجزيه إن كانت إبله كثيرة، وقال ابن ذر
عنه: يهدى جزورا ثمينا ويمسك بقية إبله *
وأما المتأخرون فلهم أقوال غير هذا كله قال أبو حنيفة: من نذر أن يتصدق
بجميع ماله نذرا أو على سبيل اليمين فإنه يلزمه أن يتصدق من ماله بكل نوع تجب
فيه الزكاة فقط كالمواشي. والذهب والفضة سواء كان معه من ذلك نصاب تجب في
مثله الزكاة أو كان معه أقل من النصاب. ولا شئ عليه في سائر أمواله *
قال أبو محمد: ولا ندري ما قولهم في الحبوب وما يزرع. والثمار. والعسل؟ فان
الزكاة في كل هذا عنده نعم وفى كل عرض إذا كان للتجارة (1) وهو قول أبى يوسف.
ومحمد بن الحسن، وهذا قول في غاية الفساد ولا يعرف عنه حد قبل أبي حنيفة ولا
متعلق له بقرآن. ولا بسنة. ولا رواية سقيمة. ولا قول سلف. ولا قياس، وموه
بعضهم بان قال: المال هو الذي فيه الزكاة لقول الله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة)
قال أبو محمد: والصدقة المأخوذة إنما هي من جملة ما يملك المرء، وما اختلف قط عربي
ولا لغوي ولا فقيه في أن الحوائط والدور تسمى ما لا وأموالا، وان من حلف أنه لا مال
له وله حمير. ودور. وضياع فإنه حانث عندهم وعند غيرهم، وقال أبو طلحة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم: أحب أموالي إلى بيرحاء (2)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن مالك: (امسك
عليك بعض مالك فقال. انى أمسك سهمي الذي بخيبر، ويلزم على قولهم الفساد ان لا تجزئ
صدقة أصلا الا بمال فيه زكاة أو بمقدار الزكاة فقط، وقال مالك: سواء نذر ذلك
أو أخرجه مخرج اليمين ان قال: مالي كله صدقة على المساكين أجزأه ثلثه فان قال.
دوري كلها صدقة على المساكين وضياعي كلها صدقة على المساكين وثيابي كلها صدقة
على المساكين ورقيقي كلهم صدقة على المساكين فلم يزل هكذا حتى سمى نوعا نوعا حتى
أتى على كل ما يملك لزمه ان يتصدق بكل ذلك أو له عن آخره لا يجزيه منه الثلث الا أنه
يؤمر ولا يجبر، فلو قال مكان المساكين على إنسان بعينه لزمه أن يتصدق عليه بكل ذلك
ويجبر على ذلك، قالوا: فلو نذر أو حلف أن يتصدق بماله كله الا دينارا انه تلزمه الصدقة
بجميعه الا دينارا وهذا قول في غاية الفساد لأنه لا قرآن يعضده. ولا سنة. ولا
رواية ضعيفة. ولا قول نعلمه عن أحد قبله (3) ولا قياس. ولا رأى له وجه بل هو



(1) في النسخة رقم 16 (في التجارة)
(2) هي أرض لأبي طلحة، وهو قصر بنى جديلة بالمدينة
(3) في النسخة رقم 16 (ولاقول عن أحد نعلمه قبله)
11
مخالف لكل ذلك، ونسألهم عمن نذر أن يتصدق بماله كله الا نصف دينار أو درهما
حتى نبلغهم إلى الفلس. وحبة الخردلة؟، وقال ابن وهب: إن كان ماله كثيرا تصدق
بثلثه وإن كان يسيرا فربع عشره وإن كان علقة قليلة فكفارة يمين، وهذا أيضا
قول لا وجه له *
قال أبو محمد: ليس لشئ من هذه الأقوال متعلق يحتاج إلى ذكره الا قول من قال:
يتصدق بجميعه، وقول من قال: يتصدق بثلثه وقول من قال: كفارة يمين فقط، فأما
من قال: كفارة يمين فإنهم احتجوا بالخبر الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله (كفارة
النذر كفارة يمين (1)) *
قال على: وهذا خبر لا حجة لهم فيه لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: من نذر أن يطيع الله
فليطعه ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه، فلا يخلو النذر بصدقة المال كله من أن يكون
طاعة لله تعالى فيلزم الوفاء به أو يكون معصية فلا يلزمه أصلا الا أن يأتي نص صحيح في
ذلك بحكم ما فيوقف عنده فبطل تعلقهم بقوله عليه السلام: كفارة النذر كفارة يمين،
ولهذا الخبر وجه ظاهر نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى *
وأما من قال: يتصدق بجميعه فإنهم قالوا: هو نذر طاعة فعليه الوفاء به *
قال أبو محمد: وليس كما قالوا بل ليس هو نذر طاعة على ما نبين إن شاء الله تعالى *
وأما من قال: يجزيه الثلث فإنهم احتجوا بخبر رويناه من طريق أبى داود نا محمد
ابن يحيى نا الحسن بن الربيع نا ابن إدريس قال قال ابن إسحاق: حدثني الزهري عن
عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه عن جده في قصته إذ تخلف عن تبوك (2)
قال: قلت: يا رسول الله ان من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله و [إلى] (3)
رسوله صلى الله عليه وسلم صدقة قال: لا، قلت فنصفه قال: لا قلت: فثلثه قال: نعم قلت: فانى
أمسك (4) سهمي من خيبر * وبخبر رويناه من طريق ابن شهاب ان حسين بن السائب
ابن أبي لبابة أخبره أن أبا لبابة قال: يا رسول الله إن من توبتي إلى الله عز وجل ان
أهجر دار قومي وأساكنك وانخلع من مالي صدقة لله ولرسوله قال: يجزى عنك الثلث *
ومن طريق ابن شهاب أخبرني بعض بنى السائب بن أبي لبابة عن أبي لبابة بمثله *
ومن طريق الزهري أخبرني ابن المسيب فذكر الحديث وفيه (ان أبا لبابة قال:



(1) رواه مسلم في صحيحه ج 2 ص 14
(2) قوله (إذ تخلف عن تبوك) هو زيادة من المؤلف توجد في سنن أبي داود
(3) الزيادة من سنن أبي داود
(4) في سنن أبي داود (سأمسك)
12
يا رسول الله وان أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله قال: يجزى عنك الثلث (1))
قال أبو محمد: هذا كل ما احتجوا به وكله لا حجة لهم فيه لأنها كلها مراسيل،
والأول منقطع لان ابن إدريس لم يذكر أنه سمعه من ابن إسحاق، وأما تمويه
المالكيين بالاحتجاج بهذا الخبر فعار عظيم عليهم لأنهم مخالفون له كله بتلك التقاسيم
الفاسدة وبأنهم يرون عليه الوفاء بصدقة نصف ماله إذا نذره، وفي هذا الخبر خلاف
ذلك، والتسوية بين النذر بصدقة جميعه وبصدقة نصفه فبطل أن يكون لهذا القول متعلق *
قال على: فإذا بطلت هذا الأقوال الا قول من قال يتصدق بجميعه لأنه طاعة
منذورة فههنا نتكلم معهم إن شاء الله تعالى فنقول: قال الله تعالى: (وآت ذا القربى
حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا) وقال تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة
إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) وقال تعالى: (وآتوا حقه يوم
حصاده ولا تسرفوا إنه لا يجب المسرفين) فلام الله تعالى ولم يجب من تصدق
بكل ما يملك * ومن طريق البخاري نا أحمد بن صالح نا ابن وهب أخبرني يونس بن
يزيد عن ابن شهاب أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك قال: سمعت
كعب بن مالك - فذكر حديث تخلفه عن تبوك - وأنه قال لرسول الله (2) ان من
توبتي ان انخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك
بعض مالك فهو خير لك (3) * ومن طريق مسلم عن أحمد بن عمرو بن عبد الله] (4)
ابن عمرو بن السرح عن ابن وهب باسناده مثله وزاد فيه فقلت: انى (5) أمسك سهمي
الذي بخيبر * ومن طريق أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن خير الصدة ما ترك
غنى أو تصدق عن غنى وابدأ بمن تعول (6) * ومن طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
(ابدأ بنفسك فتصدق عليها فان فضل شئ فلاهلك فان فضل عن أهلك شئ فلذي
قرابتك فان فضل عن ذي قرابتك شئ فهكذا وهكذا (7))، والأحاديث ههنا
كثيرة جدا * ومن طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن
قتادة بن النعمان الظفري عن محمود بن لبيد عن جابر بن عبد الله [الأنصاري] (8) قال:
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل بمثل بيضة من ذهب فقال: يا رسول الله



(1) انظر سنن أبي داود في كتاب الايمان والنذور
(2) في النسخة رقم 16 (وأنه قال: يا رسول الله) الخ
(3) هو في صحيح البخاري ج 8 ص 252
(4) الزيادة من صحيح مسلم ج 2 ص 329
(5) في صحيح مسلم (فانى)
(6) هو في سنن أبي داود
(7) رواه النسائي في سننه
(8) الزيادة من سنن أبي داود
13
أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فاعرض النبي صلى الله عليه وسلم عنه
مرارا - وهو يردد كلامه هذا - ثم أخذها عليه السلام فحذفه (1) بها فلو أنها أصابته لأوجعته
[أو لعقرته] (2) وقال عليه السلام: يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم
يقعد فيتكفف الناس (3) خير الصدة ما كان عن ظهر غنى * ومن طريق عبد الله بن
إدريس عن محمد بن إسحاق باسناده نحوه، وفي آخره أنه عليه السلام قال: خذ عنا مالك
لا حاجة لنا به (4) * ومن طريق سفيان بن عيينة عن ابن عجلان عن عياض بن عبد الله
ابن سعد انه سمع أبا سعيد الخدري يقول: دخل رجل المسجد فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس
أن يطرحوا ثيابا فطرحوا فامر له منها بثوبين ثم حث عليه السلام على الصدقة فطرح الرجل
أحد الثوبين فصاح به رسول الله صلى الله عليه وسلم [وقال] (5) (خذ ثوبك) * ومن طريق حكيم
ابن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى (6) *
فهذه آثار متواترة متظاهرة بابطال الصدقة بما زاد على ما يبقى غنى وإذا كان الصدقة
بما أبقى غنى خيرا وأفضل من الصدقة بما لا يبقى غنى فبالضرورة يدرى كل أحدان صدقته
بتلك الزيادة لا أجر له فيها بل حطت من أجره فهي غير مقبولة، وما تيقن انه يحط من
الاجرا أو لا أجر فيه من اعطاء المال فلا يحل اعطاؤه فيه لأنه افساد للمال وإضاعة له
وسرف حرام، فكيف ورده عليه السلام الصدقة بذلك بيان كاف *
فان ذكروا قول الله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) وقوله عليه
السلام إذ سئل (أي الصدقة أفضل فقال: جهد المقل) (7) وقوله عليه السلام سبق درهم
مائة ألف كان لرجل درهمان تصدق بأجودهما (8) وبقوله تعالى (والذين لا يجدون
إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم)، وبحديثي أبى مسعود كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يأمرنا بالصدقة فينطلق أحدنا فيتحامل فيجئ بالمد، وصدقة أبى عقيل بصاع تمر (9)
فهذا كله صحيح وحجة لنا لا لهم * أما قول الله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم
خصاصة) فليس فيه انهم لم يبقوا لأنفسهم معاشا إنما فيه انهم كانوا مقلين ويؤثرون من



(1) هو بحاء مهملة وذال معجمة أي رماه بها
(2) الزيادة من سنن أبي داود، ومعناه لجرحته
(3) في سنن أبي داود (يستكف الناس) قال الخطابي: معناه يتعرض للصدقة وهو أن يأخذها
ببطن كفه يقال: تكفف الرجل واستكف إذا فعل ذلك
(4) هو في سنن أبي داود أيضا
(5) الزيادة من سنن أبي داود
(6) هو في سنن النسائي مطولا
(7) هو هن سنن النسائي مطولا و (جهد المقل) بضم الجيم أي قدر ما يحتمله حال قليل المال
(8) هو في سنن النسائي أيضا
(9) في سنن النسائي بنصف صاع تمر
14
بعض قوتهم، وأما قوله تعالى: (والذين لا يجدون الا جهدهم) فمثل هذا أيضا، وأما قولهم
جهد المقل ففي حديث أبي هريرة هذه اللفظة الموصولة بقوله عليه السلام: (وابدأ بمن
تعول) فبين هذا القول إنه جهده بعد كفاف من تعول، وكذلك حدثنا أبي مسعود أيضا
وإنما كان لرجل درهمان فتصدق بأجود هما فكذلك أيضا وقد يكون له ضيعة أوله غلة
تقوم به فتصدق بأحد درهمين كانا له ولم يقل عليه السلام: انه لم يكن له غيرهما، فان
ذكروا صدقة أبى بكر بما يملكه قلنا: هذا لا يصح لأنه من طريق هشام بن سعد وهو
ضعيف (1) عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: سمعت عمر يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالصدقة فوافق ذلك ما لا عندي فقلت: اليوم أسبق أبا بكران سبقته يوما [قال]: فجئت
بنصف ما لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت مثله وأتى أبو بكر بكل ما عنده
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. *
قال أبو محمد: ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة لأنه بلا شك كانت له دار بالمدينة معروفة ودار بمكة وأيضا فان مثل أبى بكر لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليضيعه فكان في غنى، فصح بما ذكرنا
أن من نذران يتصدق بجميع ماله مجملا أو منوعا على سبيل القربة إلى الله تعالى لم يلزمه أن
يتصدق منه إلا بما أبقى لنفسه ولأهله غنى كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كعب بن مالك وغيره،
(فان ذكروا حديث سعد في الوصية) قلنا: هو عليكم لان أمر الوصية غير أمر الصدقة
المنفذة في الحياة باتفاق منا ومنكم، وأيضا فقد منعه عليه السلام من الصدقة بنصفة وأنتم
لا تقولون هذا، وليس لأحد أن يوصى بأكثر من الثلث ولو ترك ألف ألف دينار أو أكثر
ويرد ما زاد على ذلك وأنتم لا تقولون: برد ما نفذ من الصدقة بأكثر من ثلثه في حياته، وبالله
تعالى التوفيق *
وأما من نذر نحر نفسه أو ابنه فروينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني يحيى
ابن سعيد الأنصاري قال: سمعت القاسم بن محمد بن أبي بكر يقول: سئل ابن عباس عمن
نذر أن ينحر ابنه؟ فقال: لا ينحر ابنه وليكفر عن يمينه فقيل لابن عباس. كيف تكون
في طاعة الشيطان كفارة فقال ابن عباس: الذين يظاهرون ثم جعل فيه من الكفارة ما رأيت *
قال أبو محمد: لا حجة لابن عباس في هذه الآية، أول ذلك أنه لم يجعل هو في طاعة
الشطان التي شبهها بطاعته في الظهار الكفارة التي في الظهار ويكفى هذا، ثم لو طرد هذا
القول لوجبت في كل معصية كفارة يمين وهذا لا يقوله هو ولا غيره، وقد صح عنه فيمن



(1) هو ضعيف كما قال المصنف، وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي وقال الترمذي:
هذا حديث حسن صحيح
15
قال لامرأته: أنت على حرام انها لا تحرم بذلك ولم يجعل فيه كفارة وهذا أصح أقواله، وقد
روينا عنه غير هذا من طريق ابن جريج عن عطاء قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال له:
نذرت لا نحرن نفسي فقال ابن عباس: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة وفديناه
بذبح عظيم فأمره بكبش، قال عطاء: يذبح (1) الكبش بمكة، قال ابن جريج: فقلت
لعطاء: نذر لينحرن فرسه أو بغلته فقال: جزور أو بقرة فقلت له: أمره ابن عباس
بكبش في نفسه وتقول في الدابة جزور فأبى عطاء الا ذلك *
قال أبو محمد: وليس في هذه الآية أيضا حجة لابن عباس لان إبراهيم عليه السلام
لم ينذر ذبح (2) ولده لكن أمره الله تعالى بذبحه فكان فرضا عليه ان يذبحه وكان نذر
الناذر نحر ولده أو نفسه معصية من كبار المعاصي، ولا يجوز ان تشبه الكبائر بالطاعات،
وأيضا فإننا لا ندري ما كان ذلك الذبح الذي فدى به إسماعيل عليه السلام فبطل هذا التشبيه *
وروينا عنه قولا ثالثا أيضا كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن
أبيه عن ابن عباس أنه قال في رجل نذران ينحر نفسه: قال: ليهدى مائة ناقة *
ومن طريق شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت سالم بن أبي الجعد قال. جاء رجل إلى
ابن عباس فقال له: انى كنت أسيرا في أرض العدو فنذرت ان نجاني الله ان افعل كذا وان
انحر نفسي وانى قد فعلت ذلك قال وفى عنقه قد (3) فأقبل ابن عباس على امرأة سألته وغفل
عن الرجل فانطلق لينحر نفسه فسأل ابن عباس عنه؟ فقيل له: ذهب لينحر نفسه فقال
على بالرجل فجاء فقال. لما أعرضت عنى انطلقت انحر نفسي فقال له ابن عباس: لو فعلت
ما زلت في نار جهنم انظر ديتك فاجعلها في بدن فاهدها في كل عام شيئا ولولا أنك شددت
على نفسك لرجوت أن يجزيك كبش، وهذه آثار في غاية الصحة * ومن طريق قتادة
عن ابن عباس انه أفتى رجلا نذر ان ينحر نفسه فقال له: أتجد مائة بدنة؟ قال: نعم قال.
فانحر ها فلما ولى الرجل قال ابن عباس: أما لو امرته بكبش لأجزأ عنه * ومن طريق ابن جريج
أخبرني عمرو بن دينار ان عكرمة أخبره أن رجلا أتى إلى ابن عباس فقال له: لقد أذنبت
ذنبا لان أمرتني لانحرن الساعة نفسي والله لا أخبركه (4) فقال له ابن عباس. بل لعلى أن
أخبرك بكفارة قال. فأبى فأمره بمائة ناقة، وهذا أيضا اسناد صحيح * وروينا من
طريق ساقطة فيها ابن حبيب الأندلسي ان عليا. وابن عباس، وابن عمر أفتوا فيمن نذر
ان يهدى ابنه أن يهدى مائة من الإبل، قال ابن حبيب: وحدثني ابن المغيرة عن



(1) في النسخة رقم 16 (فذبح الكبش بمكة)
(2) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (نحر)
(3) هو وزان حمل سير يخصف به النعل
(4) في النسخة رقم 16 (لاخبركه) وهو غلط
16
الثوري عن إسماعيل بن أمية عن عثمان بن حاطب انهم ثلاثتهم سئلوا عن ذلك بعد ذلك؟
فقالوا: ينحر بدنة فإن لم يجد فكبشا *
قال أبو محمد: فهذه أقوال عن ابن عباس صحاح ليس بعضها أولى من بعض ولا حجة في
أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن عباس وغيره لم يعصم من الخطأ، ومن قلدهم فقد خالف
امر الله تعالى في أن لا تتبع إلا ما أنزل الينا، ولكل واحد من الصحابة رضي الله عنهم فضائل
ومشاهد تعفو عن كل تقصير (1) وليس ذلك لغيرهم * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر
عن أيوب السختياني قال: سأل رجل سعيد بن المسيب عن رجل نذر نذر الا ينبغي له ذكر
لأنه معصية؟ فأمره أن يوفيه ثم سأل عكرمة؟ فنهاه عن الوفاء به وأمره بكفارة يمين فرجع
إلى سعيد بن المسيب فأخبره فقال سعيد: لينتهين عكرمة أو ليوجعن الامراء ظهره فرجع
إلى عكرمة فأخبره فقال له عكرمة: إذ بلغتني فبلغه أما هو فقد ضربت الامراء ظهره وأوقفوه
في تبان (2) شعر وسله عن نذرك أطاعة لله هو أم معصية؟ فان قال: معصية لله فقد أمرك
بالمعصية وان قال هو طاعة لله فقد كذب على الله إذ زعم أن معصية الله طاعة له *
قال أبو محمد: وروينا من طريق عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن رشدين بن كريب
مولى ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (انى نذرت أن أنحر نفسي فأمره
النبي صلى الله عليه وسلم بان يهدى مائة ناقة وأن يجعلها في ثلاث سنين قال: فإنك لا تجد من يأخذه
منك بعد أن سأله ألك مال؟ فقال: نعم) (وقد خالف الحنيفيون والمالكيون ما روى
عن الصحابة في هذا فلا ما يوهمون من اتباع الصحابة التزموا ولا النص المفترض عليهم
اتبعوا ولا بالمرسل أخذوا وهم يقولون: إن المرسل والمسند سواء، أما أبو حنيفة
فقال: من نذر نحر ولده أو نحر نفسه أو نحر غلامه أو نحر والده أو نحر أجنبي أو اهداءه
أو اهداء ولده أو اهداء والده فلا شئ عليه في كل ذلك الا في ولده خاصة فيلزمه فيه هدى
شاة، وهذا من التخليط الذي لا نظير له، ووافقه على كل ذلك محمد بن الحسن الا أنه قال:
وعليه في عبده أيضا شاة *
واضطرب قول مالك فمرة قال: من حلف فقال: أنا انحر ابني ان فعلت كذا فحنث
فعليه كفارة يمين ومرة قال: إن كان نوى بذلك الهدى فعليه هدى وإن كان لم ينو هديا
فلا شئ عليه لا هدى ولا كفارة، ومرة قال: إن نذر ذلك عند مقام إبراهيم فعليه هدى



(1) في النسخة اليمنية (ينفى كل تقصير)
(2) هو بضم التاء المثناة من فوق وتشديد الباء
الموحدة سراويل صغير مقدار شبر يستر العورة المغلظة، وقد يكون للملاحين، وفى نسخة
رقم 16 (بيان) بباء موحدة وياء مثناة من تحت وهو تصحيف
17
وان لم يقل عند مقام إبراهيم فكفارة يمين، وقال ابن القاسم صاحبه: ان نذر أن
ينحر أباه أو أمه ان فعلت كذا وكذا فالحكم في ذلك كالحكم المذكور في الابن أيضا، وكذلك
ان نذر ذلك بمنى أو بين الصفا والمروة فكما لو نذره عند مقام إبراهيم، وهذه أقوال في غاية
الفساد وخلاف للسلف، وقال الليث بن سعد: من قال أنا أنحر ابني عند البيت فعليه أن
يحج ويحج بابنه ويهدى هديا، وقال الحسن بن حيى: من قال: أنا أنحر فلانا عند الكعبة
فإنه يحجه أو يعمره ويهدى إلا أن ينوى أحد ذلك فيلزمه ما نوى فقط، وهذه أقوال
لا برهان عليها فلا وجه للاشتغال بها، وقال أبو يوسف. والشافعي. وأبو سليمان: لا شئ
عليه في كل ذلك إلا الاستغفار فقط *
قال أبو محمد: وهذا هو الحق لقول الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) وقال تعالى:
(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. (من نذر أن يعصى
الله فلا يعصه (1)) ولم يأمره في ذلك بكفارة ولا هدى وما ينطق عن الهوى ان هو إلا
وحى يوحى (وما كان ربك نسيا) * روينا من طريق ابن جريج قال: سمعت سليمان بن
موسى يحدث عطاء أن رجلا أتى إلى ابن عمر فقال له: نذرت لانحرن نفسي فقال له ابن عمر:
أوف ما نذرت فقال له الرجل: أفأقتل نفسي؟ قال [له]. (2) إذا تدخل النار قال له:
ألبست على قال. أنت ألبست على نفسك *
قال أبو محمد: وبهذا كان يفتى ابن عمر صح ان آتيا أتاه فقال: نذرت صوم يوم النحر
فقال له ابن عمر: أمر الله تعالى بوفاء النذر ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم النحر *
وان امرأة سألته؟ فقالت: نذرت ان أمشى حاسرة فقال: أو في بنذرك واختمري،
وقد ذكرنا قبل عن ابن عباس سقوط نذر المعصية جملة وبهذا نقول *
قال أبو محمد: وأما من نذر نحر فرسه أو بغلته فلينحر هما لله، وكذلك ما يؤكل لأنه
نذر طاعة وبالله تعالى التوفيق *
قال أبو محمد: وأما من نذر المشي إلى مسجد المدينة أو مسجد بيت المقدس أو إلى
مكان سماه من الحرم أو إلى مسجد من سائر المساجد فإنه ان نذر مشيا أو ركوبا أو نهوضا
إلى مكة أو إلى موضع من الحرم لزمه لأنه نذر طاعة، والحرم كله مسجد على ما ذكرنا في كتاب
الحج فأغنى عن اعادته، وكذلك ان نذر مشيا أو نهوضا أو ركوبا إلى المدينة لزمه ذلك
وكذلك إلى أثر من آثار الأنبياء عليهم السلام، فان نذر مشيا أو ركوبا أو اعتكافا أو
نهوضا إلى بيت المقدس لزمه، فان نذر صلاة فيه كان مخيرا بين أمرين، أحدهما وهو



(1) هو في صحيح البخاري مطولا
(2) الزيادة من النسخة رقم 14.
18
الأفضل أن ينهض إلى مكة فيصلى فيها ويجزيه، والثاني أن ينهض إلى بيت المقدس، فان نذر
مشيا أو نهوضا أو ركوبا إلى مسجد من مساجد الأرض غير هذه لم يلزمه شئ أصلا *
برهان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد فقط. المسجد
الحرام. ومسجد المدينة. والمسجد الأقصى * روينا من طريق البزار نا محمد بن معمر
نا روح - هو ابن عبادة - نا محمد بن أبي حفصة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن
ابن عوف عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الرحلة إلى ثلاثة مساجد.
مسجد الحرام. ومسجد المدينة. ومسجد ايلياء (1) فصار القصد إلى ما سواها معصية
والمعصية لا يجوز الوفاء بها، ولا يجوز ان يلزم ما لم ينذره من صلاة في غير المسجد الذي سمى،
ولا فرق بين النهوض. والذهاب. والمشي. والركوب الا أن المشي طاعة والركوب أيضا
طاعة لان فيه نفقة زائدة في بر، وأما من نذر الصلاة في بيت المقدس أو في غيرها (2) مكة أو
مسجد المدينة فإن كان نذر صلاة تطوع هنا لك لم يلزمه شئ من ذلك، فان نذر ان يصلى صلاة
فرض في أحد هذه المساجد لزمه لان كونه في هذه المساجد طاعة لله عز وجل يلزمه الوفاء بها،
وإنما قلنا: لا يلزمه ذلك في نذره صلاة تطوع فيها للأثر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ربه عز وجل (أنه قال: ليلة الاسراء إذ فرض عز وجل الخمس الصلوات هن خمس وهن
خمسون (3) لا يبدل القول لدى) فأمنا بقوله تعالى: (لا يبدل القول لدى) أن تكون
صلاة مفترضة غير الخمس لا أقل من خمس ولا أكثر من خمس معينة على إنسان بعينه أبدا،
وليس ذلك في غير الصلاة إذ لم يأت نص في شئ من الاعمال بمثل هذا، وبهذا أسقطنا
وجوب الوتر فرضا مع ورود الامر، ووجوب الركعتين فرضا على الداخل المسجد
قبل أن يجلس، فان قيل: قد قلتم فيمن نذر صلاة في بيت المقدس ما قلتم قلنا: نعم يستحب
له أن يصليها بمكة لما روينا من طريق أبى داود ناموسي بن إسماعيل نا حماد بن سلمة نا حبيب
المعلم عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله (ان رجلا [قام يوم الفتح] (4) فقال:
يا رسول الله انى نذرت [لله] ان فتح الله عليك مكة أن أصلى في بيت المقدس ركعتين فقال
له رسول الله عليه السلام: صل ههنا فأعادها عليه فقال: صل ههنا ثم أعادها فقال:
شأنك إذا) * ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد القاسم
ابن سلام نا محمد بن كثير عن حماد بن سلمة عن حبيب المعلم عن عطاء عن جابر بن عبد الله



(1) رواية الصحيحين (لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد) وذكرها
(2) أي في غير المساجد الثلاثة
(3) الحديث في الصحيحين كما هنا، وفى لفظ (هي خمس وهي خمسون)،
والمراد انها خمس في العدد وخمسون في الاجر والاعتداد
(4) الزيادة من سنن أبي داود
19
قال: قال رجل يوم الفتح: يا رسول الله انى نذرت ان فتح الله عليك أن أصلى في بيت المقدس
قال: صل ههنا فأعاد الرجل مرتين أو ثلاثا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فشأنك إذا) *
قال أبو محمد: ولم يأت مثل هذا فيمن نذر اعتكافا في مسجد ايلياء وإنما جاء فيمن نذر
صلاة فيه فقط (وما كان ربك نسيا) فان عجز ركب لقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا
الا وسعها) ولا شئ عليه *
قال على: لما أخبر الرجل النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نذر الصلاة في بيت المقدس فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم صل ههنا - يعنى بمكة - تبين بذلك أنه ليس عليه وجوب نذره أن يصلى
في بيت المقدس، وصح أنه ندب مباح وكان في ظاهر الامر لازما له ان يصلى بمكة فلما راجع
بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال له عليه السلام. فشأنك إذا تبين وصح ان أمره عليه السلام له بأن
يصلى بمكة ندب لا فرض أيضا هذا ما لا يمكن سواه ولا يحتمل الخبر غيره فصار كل
ذلك ندبا فقط، فان قيل: فإنكم توجبون صلاة الجنازة فرضا قلنا: نعم على الكفاية
لا متعينا على أحد بعينه ونسأل من خالف هذا عمن نذر ركعتين في الساعة الثالثة من كل
يوم فان ألزمه ذلك كانت صلاة سادسة؟، وبدل القول الذي أخبر تعالى انه لا يبدل لديه
فإن لم يلزمه ذلك سألناه ما الفرق؟ ولا سبيل إلى فرق أبدا وبالله تعالى التوفيق (1) *
فلو نذر النهوض إلى مكة أو المدينة أو بيت المقدس ليصلى فيها لزمه النهوض إليها ولابد
فقط لأنه طاعة لله عز وجل ثم يلزمه من صلاة الفرض هنا لك ما أدركه وقته ويستحب (2)
له فيها من التطوع ما يستحب لمن هو هنالك * وروينا من طريق محمد بن المثنى
نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن عبد الكريم الجزري عن سعيد
ابن المسيب ان رجلا أراد أن يأتي بيت المقدس فقال له عمر بن الخطاب. اذهب
فتجهز فتجهز ثم أتاه فقال له عمر: اجعلها عمرة، وقد روى نحو هذا عن أم سلمة
أم المؤمنين في امرأة نذرت أن تصلى في بيت المقدس فأمرتها بان تصلى في مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم، وصح عن سعيد بن المسيب أنه قال. من نذر أن يعتكف في مسجد ايلياء
فاعتكف بمسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف في مسجد المدينة
فاعتكف في المسجد الحرام أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف على رؤوس الجبال فإنه لا ينبغي
له ذلك وليعتكف في مسجد جماعة * رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن عبد
الكريم الجزري عن ابن المسيب * ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قلت لعطاء:
رجل نذر أن يمشى إلى بيت المقدس من البصرة قال. إنما أمرتم بهذا البيت، وكذلك



(1) في النسخة اليمنية (وبالله تعالى نتأيد)
(2) في النسخة رقم 16 (ونستحب)
20
في الجوار قلت. فأوصى في أمر فرأيت خيرا منه قال: افعل الذي هو خير ما لم تسم لانسان شيئا ولكن ان قال للمساكين أو في سبيل الله فرأيت خيرا من ذلك فافعل الذي هو
خير ثم رجع عطاء عن هذا وقال: ليفعل الذي قال ولينفذ أمره، قال ابن جريج. وقوله
الأول أحب إلى، وقال ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه: أنه كان (1) من قال له: نذرت
مشيا إلى بيت المقدس أو زيارة بيت المقدس قال له طاوس: عليك بمكة مكة، وقال
أبو حنيفة وأصحابه: من نذر المشي إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أو إلى بيت المقدس.
أو اتيان بيت المقدس. أو اتيان مسجد المدينة لم يلزمه شئ أصلا، وكذلك من نذر صلاة
في المسجد الحرام بمكة أو في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أو بيت المقدس فإنه لا يلزمه شئ
من ذلك لكن يلزمه أن يصلى في مسكنه من البلاد حيث كان إلا أنه قد روى عن أبي
يوسف أنه ان نذر صلاة في موضع فصلى في أفضل منه أجزأه وان صلى في دونه لم يجزه،
وقال مالك: إذا قال: لله على أن أمشى إلى المدينة أو قال إلى بيت المقدس لم يلزمه ذلك
الا أن ينوى صلاة هنالك فعليه أن يذهب راكبا والصلاة هنا لك، فان قال: على المشي إلى
مسجد المدينة أو قال: إلى مسجد بيت المقدس فعليه الذهاب إلى ما هنالك راكبا والصلاة
هنا لك قال: فان نذر المشي إلى عرفة أو إلى مزدلفة لم يلزمه فان نذر المشي إلى مكة لزمه،
وقال الليث: من نذر أن يمشى إلى مسجد من المساجد مشى إلى ذلك المسجد، وقال
الشافعي: من نذر أن يصلى بمكة لم يجزه الا فيها فان نذر أن يصلى بالمدينة أو بيت المقدس
أجزأه ان يصلى بمكة أو في المسجد الذي ذكر لا فيما سواه فان نذر صلاة في غير هذه
الثلاثة المساجد لم يلزمه لكن يصلى حيث هو فان نذر المشي إلى مسجد المدينة أو بيت
المقدس أجزأه الركوب إليهما *
قال أبو محمد: أما قول أبي حنيفة ففي غاية الفساد وخلاف السنة الواردة فيمن نذر
طاعة وفى ان صلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه وان صلاة في المسجد
الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه من المساجد الا مسجد المدينة عموما لا يخص
منه نافلة من فرض، وهذه طاعة عظيمة، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع
الله فليطعه) فقالوا: لا يطعه * وأما قول أبى يوسف ففاسد أيضا لأنه يجب (2) على
قوله من نذر صوم يوم فجاهد فإنه يجزيه من الصوم لأنه قد فعل خيرا مما نذر وان من نذر
أن يتصدق بدرهم فتصدق بثوب انه يجزيه وهذا خطأ لأنه لم يف بنذره * وأما قول



(1) في النسخة رقم 14 (انه كأن يقول) بزيادة لفظ (يقول) ولا معنى له
(2) في النسخة رقم 16 (لأنه لا يجب) بزيادة لفظ (لا) وهو خطأ
21
ملك فخطأ لائح أيضا لأنه أسقط وجوب المشي عن من نذره إلى المدينة وأوجبه على من
نذره إلى مكة، وهذا عجب جدا: لا سيما مع قوله: إن المدينة أفضل من مكة ثم تخصيصه
فيمن نذر المشي إلى بعض المشاعر كمزدلفة أو عرفة فلم يوجب ذلك وأوجبه إلى مكة. والى
الكعبة. والى الحرم، وهذا كله تحكم بلا برهان، وكذلك قول الشافعي أيضا فإنه
ينتقض بما ينتقض به قول أبى يوسف *
وأما من نذر عتق عبد فلان ان ملكه أو أوجب على نفسه عتق عبده ان باعه فان
من أخرج ذلك مخرج اليمين فهو باطل لا يلزم لما ذكرنا قبل، فان أخرج ذلك مخرج النذر
لم يلزمه أيضا شئ لأنه إذا قال: عبدي حر إن بعته أو قال: ثوبي هذا صدقة ان بعته فباعه
فقد سقط ملكه عنه، وإذا سقط ملكه عنه فمن الباطل أن ينفذ عتقه في عبد لا يملكه هو
وإنما يملكه غيره وصدقته (1) كذلك، ومن قال: إن ابتعت عبد فلان فهو حر أو ان
ابتعت دار فلان فهي صدقة ثم ابتاع كل ذلك لم يلزمه عتق ولا صدقة لما روينا من طريق
مسلم نا علي بن حجر السعدي نا إسماعيل بن إبراهيم - هو ابن علية - نا أيوب - هو السختياني -
عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا وفاء لنذر في
معصية الله ولا فيما لا يملك العبد) * (2) ومن طريق أبى داود السجستاني نا داود بن
رشيد نا شعيب بن إسحاق عن الأوزاعي حدثني يحيى بن أبي كثير حدثني أبو قلابة
نا ثابت بن الضحاك - هو من أصحاب الشجرة - (أن رجلا [على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
نذر أن ينحر إبلا ببوانة] (3) فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نذرت
ان أنحر إبلا بيوانة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان فيها [وثن] (4) من أو ثان الجاهلية
يعبد؟ قالوا: لا [قال هل كان فيها عيد من أعيادهم؟ قالوا: لا] (5) فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أو ف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم)، ففي
هذا الخبر نص ما قلنا من أنه لا يلزم المرء وفاء نذره (6) فيما لا يملكه، وفيه ايجاب الوفاء
بنذر نحر الإبل في غير مكة وهو قولنا ولله الحمد * وقال الناس في هذا: أقوالا فاختلفوا
في رجل قال: إن بعت عبدي هذا فهو حر، وقال آخر ان اشتريته منك فهو حر ثم باعه منه
فان أبا حنيفة. وعبد العزيز بن الماجشون قالا: يعتق على المشترى لا على البائع، وقال مالك.



(1) في النسخة رقم 16 وكذلك اليمنية (أو صدقته)
(2) الحديث في صحيح مسلم ج 2 ص 12 مطولا وفيه قصة
(3) الزيادة من سنن أبي داود وقوله (ببوانة) هو - بضم
الموحدة بعدها واو فنون - كغرابة، ويفتح مصبة من وراء ينبع
(4) الزيادة من سنن أبي داود
(5) الزيادة من سنن أبي داود
(6) في النسخة رقم 16 (وفاء نذر نذرة)
22
والشافعي: يعتق على البائع لا على المشترى، وقال أبو سليمان: لا يعتق على واحد منهما
وهو الحق لما ذكرنا، والمذكورون قبل قد نقضت كل طائفة أصلها لأنهم على اختلافهم
متفقون على أن من قال: ابن بعت عبدي فهو حر فباعه انه يعتق عليه، وعلى أنه ان قال: إن
اشتريت، عبد فلان (1) فهو حر فاشتراه فإنه حر فمن أين غلبت كل طائفة منهما في اجتماعهما
في بيعه وابتياعه أحد الناذرين على الآخر؟ فكان الأولى (2) بهم ان يعتقوه عليهما جميعا،
فم ذا نقض واحد * وأما قول مالك: يعتق على البائع فخطأ ظاهر لأنه لا يخلو من أن يكون
باعه أو لم يبعه ولا سبيل إلى قسم ثالث فإن كان باعه فقد ملكه غيره فبأي حكم تفسخ صفقة
مسلم قد تمت؟ وبأي حكم يعتق زيد عبد عمرو؟ ان هذا لعجب! وإن كان لم يبعه فما يلزمه
عتقه لأنه إنما نذر عتقه ان باعه وهو لم يبعه وهذا نفسه لازم للشافعي سواء سواء فظهر فساد
أقوالهم ولله الحمد * وقال ابن أبي ليلى: من قال: إن دخل غلامي دار زيد فهو حر ثم باعه ثم
دخل الغلام دار زيد بعد مدة فإنه يفسخ البيع فيه ويعتق على بائعه، ولعمري ما قول مالك.
والشافعي ببعيد من قول ابن أبي ليلى لأنهم كلهم قد أعتقوه عليه بعد خروجه عن ملكه وأبطلوا
صفقة المشترى وصحة ملكه، وليت شعري ماذا يقول ابن أبي ليلى ان أعتقه المشترى قبل أن
يدخل الغلام دار زيد أيفسخ عتقه ثم يعتقه على بائعه؟ أو كانت أمة فأولدها المشترى ثم
دخلت الدار *
1115 - مسالة وهذا بخلاف من قال: لله تعالى على عتق رقبة أو قال: بدنة أو قال:
مائة درهم أو شئ من البر هكذا لم يعينه فان هذا كله نذر لازم لأنه لم ينذر شيئا من ذلك في شئ
لا يملكه لان الذي نذر ليس معينا فيكون مشار إليه مخبرا عنه فإنما نذر عتقا في ذمته أو
صدقة في ذمته *
برهان هذا قول الله تعالى: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن) ثم لا معهم
عز وجل إذ لم يفوا بذلك إذ آتاهم من فضله، فخرج هذا على ما التزم في الذمة جملة وخرج نهى
النبي صلى الله عليه وسلم وسلم عن النذر فيما لا يملك على ما نذر في معين لا يملكه، ويدخل في القسم اللازم من
نذر عتق أول عبد يملكه أو أول ولد تلده أمته وفى هذا نظر * ومن طريق مسلم نا أبو بكر
ابن أبي شيبة نا عبد الله بن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه (ان حكيم بن حزام أعتق في الجاهلية
مائة رقبة وحمل على مائة بعير [ثم أعتق في الاسلام مائة رقبة وحمل على مائة بعير (3)] قال
حكيم: فقلت: يا رسول الله أشياء كنت أفعلها في الجاهلية فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (عبد زيد)
(2) في النسخة رقم 16 (وفان الأولى)
(3) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 46
23
أسلمت على ما أسلفت لك من الخير قال حكيم: قلت: فوالله لا أدع شيئا صنعته في الجاهلية
الا فعلت في الاسلام مثله)، فهذا انذر من حكيم في عتق مائة رقبة وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
فلم ينكره كما أنكر نذر الأنصارية نحر الناقة التي لم تملكها، فصح أن ذلك النهى إنما هو
في المعين وان الجائز هو غير المعين وان لم يكن في ملكه حينئذ لأنه في ذمته *
وأما من قال: على نذر ولم يسم شيئا فكفارة يمين ولابد لا يجزيه غير ذلك لما روينا
من طريق ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن كعب بن علقمة عن عبد الرحمن بن شماسة
عن أبي الخير عن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كفارة النذر كفارة يمين (1) *
قال أبو محمد: قد ذكرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر
أن يعصيه فلا يعصه) وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا وفاء لنذر في معصية الله)، وأمره من نذر أن
يصوم ولا يستظل ولا يقعد ولا يتكلم بأن يصوم ويطرح ما سوى ذلك، ونهيه عن
اليمين بغير الله تعالى ولم نجد نذرا في العالم يخرج عن هذه الوجوه، وقد بين عليه السلام
لكل وجه حكمه فكان من استعمل في أحد تلك الوجوه كفارة يمين فقد أخطأ لأنه زاد
في ذلك ما لم يأت به نص في ذلك الوجه فوجب حمل هذا الخبر على ما لا يحال به حكم تلك
النصوص عن أحكامها فوجدناه إذا حمل على ظاهره صح حكمه وهو من نذر نذرا فقط
كما في نص الخبر ولم يجز أن يلزم شيئا من أعمال البر لم يلتزمها ولا جاء بالتزامه إياها نص وبالله
تعالى التوفيق *
وسواء قال: على نذر أو قال: إن تخلصت مما أنا فيه فعلى ندر، وسواء تخلص أو لم
يتخلص عليه في كل ذلك كفارة يمين ولابد وبالله تعالى التوفيق * وروينا من طريق سعيد
ابن منصور نا أبو عوانة عن منصور بن المعتمر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الرجل
يقول: على حرام، على نذر قال: أعتق رقبة أو صم شهرين متتابعين أو أطعم ستين
مسكينا * قال سعيد. ونا سفيان - هو ابن عيينة - عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال: النذر أغلظ اليمين وفيها أغلظ الكفارة عتق رقبة وكلاهما صحيح
عن ابن عباس ولا نعلم له مخالفا من الصحابة، وممن قال: فيه يمين كقولنا الشعبي رويناه
من طريق سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي ولا حجة في أحد دون
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
1116 - مسألة ومن قال في النذر اللازم الذي قدمنا: الا أن يشاء الله أو إن شاء الله،
أو الا ان لا يشاء الله أو ذكر الإرادة مكان المشيئة أو الا ان بدل الله ما في نفسي أو الا ان يبدو لي



(1) هو في صحيح مسلم ج 2 ص 14
24
أو نحو هذا من الاستثناء ووصله بكلامه فهو استثناء صحيح ولا يلزمه ما نذر لقول الله تعالى:
(ولا تقولن لشئ انى فاعل ذلك غدا الا أن يشاء الله) ولأنه إذا علق نذره بكل ما ذكرنا فلم
يلتزمه لان الله تعالى لو شاء تمامه لا نفذه دون استثناء وقد علمنا أنه إذا لم يكن فان الله تعالى
لم يرد كونه وهو لم يلتزمه الا ان أراد الله تعالى كونه فإذ لم يرد الله تعالى كونه فلم يلتزمه،
وكذلك ان بداله، وبالله تعالى التوفيق *
1117 - مسألة ونذر الرجل. والمرأة البكر ذات الأب وغير ذات الأب
وذات الزوج وغير ذات الزوج والعبد والحر سواء في كل ما ذكرنا لان أمر الله تعالى
بالوفاء بالنذر وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك عموم لم يخص من ذلك أحد (1)
من أحد (وما كان ربك نسيا) ومن الباطل الممتنع أن يكون الله تعالى يريد تخصيص بعض
ما ذكرنا فلا يبينه لنا هذا أمر قد أمناه ولله الحمد الا الصيام وحده فليس للمرأة أن تصوم غير
الذي فرضه الله تعالى عليها الا باذن زوجها على ما ذكرنا في كتاب الصيام، وبالله تعالى التوفيق *
1118 - مسألة ومن نذر ما لا يطيق أبدا لم يلزمه لقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا
الا وسعها) وكذلك من نذر نذرا في وقت محدود فجاء ذلك الوقت وهو لا يطيقه فإنه غير
لازم له لا حينئذ ولا بعد ذلك *
1119 - مسأله ومن نذر في حاله كفره طاعة لله عز وجل ثم أسلم لزمه الوفاء به
لقول الله تعالى: (فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو اطعام في يوم ذي مسغبة
يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا) فحض الله تعال على فعل الخير
وأوجبه لفاعله ثم على الايمان وعلى فعل الخير فيه أيضا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نذر
أن يطيع الله فليطعه) وهو عليه السلام مبعوث إلى الجن والإنس وطاعته فرض على كل
مؤمن وكافر من قال غير هذا فليس مسلما، وهذه جملة لم يختلف فيها أحد ممن يدعى الاسلام
ثم نقضوا في التفصيل *
روينا من طريق مسلم نا حسن الحلواني نا يعقوب - هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم
ابن عبد الرحمن بن عوف - نا أبى عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب أنا عروة بن الزبير أن
حكيم بن حزام أخبره أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أي رسول الله أرأيت أمورا كنت أتحنث
بها في الجاهلية من صدقة أو عتاقة أو صلة رحم أفيها أجر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت
على ما أسلفت من خير (2)، * نا يوسف بن عبد [الله بن عبد] البر النمري نا سعيد



(1) في النسخة رقم 16 (لم يخص من ذلك أحد) وهو صحيح أيضا
(2) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 46
(3) الزيادة من النسخة اليمنية
25
ابن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن عبيد الله
ابن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: (نذرت نذرا في الجاهلية فسألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلمت؟ فأمرني أن أو في بنذري) * نا حمام نا أبو محمد الباجي نا عبد الله
ابن يونس المرادي نا بقي بن مخلد نا أبو بكر بن أبي شيبة نا حفص - هو ابن غياث - عن عبيد الله
ابن عمر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: نذرت نذرا في الجاهلية ثم أسلمت فسألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأمرني أن أوفى بنذري * فهذا حكم لا يسع أحدا الخروج عنه *
وقال مالك: لا يلزمه واحتج له مقلدوه بقول الله تعالى: (لئن أشركت ليحبطن عملك)
وقوله تعالى: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا) *
قال أبو محمد: لا حجة لهم في هذا لان هذا كله نما نزل فيمن مات كافرا بنص كل
آية منهما قال تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فاؤلئك حبطت أعمالهم)
ثم هم أول من ينقض هذه الحجة فيجيزون بيعهم. وابتياعهم. ونكاحهم. وهباتهم.
وصدقاتهم. وعتقهم وبالله تعالى التوفيق * ومن طريق مسلم نا قتيبة [بن سعيد] (1) نا ليث
ابن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري (انه سمع أبا هريرة يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له: ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة فربطوه
بسارية من سواري المسجد) وذكر الحديث وفيه (ان ثمامة أسلم بعد أن أطلقه النبي
صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد والله ما كان [على الأرض] (2) من دين أبغض إلى من دينك فأصبح
دينك أحب الدين كله إلى [والله ما كان من بلد أبغض إلى من بلدك فأصبح بلدك أحب
البلاد كلها إلى] (3) وان خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر)، فهذا كافر خرج يريد العمرة فأسلم فأمره عليه السلام باتمام
نيته * وروينا عن طاوس من نذر في كفره ثم أسلم فليوف بنذره، وعن الحسن.
وقتادة نحوه، وبهذا يقول الشافعي. وأبو سليمان. وأصحابهما *
1120 - مسألة ومن نذر لله صوم يوم يقدم فيه فلان أو يوم يبرأ أو ينطلق
فكان ذلك ليلا أو نهارا لم يلزمه في ذلك اليوم شئ لأنه إن كان ليلا فلم يكن ما نذر فيه
وإن كان نهارا فقد مضى وقت الدخول في الصوم الا أن يقول: لله على صوم اليوم الذي
أنطلق فيه أو يكون كذا في الأبد أو مدة يسميها فيلزمه صيام ذلك اليوم في المستأنف
وبالله تعالى التوفيق *



(1) الزيادة من النسخة رقم 14 وهي موافقة لما في صحيح مسلم ج 2 ص 56
(2) الزيادة من صحيح مسلم
(3) الزيادة من صحيح مسلم
26
1121 - مسأله ومن نذر صياما. أو صلاة. أو صدقة ولم يسم عدد اما لزمه في الصيام
صوم يوم ولا مزيد، وفي الصدقة ما طابت به نفسه مما يسمى صدقة ولو شق تمرة أو أقل
مما ينتفع به المتصدق عليه، ولزمه في الصلاة ركعتان لان كل ما ذكرنا أقل مما يقع
عليه الاسم المذكور فهو اللازم بيقين ولا يلزمه زيادة لأنه لم يوجبها شرع ولا لغة
وبالله تعالى التوفيق *
1122 - مسألة ومن قال: لله على صدقة أو صيام. أو صلاة هكذا جملة لزمه أن
يفعل أي ذلك شاء ويجزيه لأنه نذر طاعة فعليه ان يطيع، وكذلك لو قال لله على عمل بر
فيجزيه تسبيحة. أو تكبيرة. أو صدقة. أو صوم. أو صلاة. أو غير ذلك من أعمال البر،
وسواء قال على ذلك نذرا أو على عهد الله أو قال على لله كذا وكذا كل ذلك سواء ولا يجزى
في ذلك لفظ دون نية ولا نية دون لفظ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الأعمال بالنيات ولكل
امرئ ما نوى) فلم يفرد عليه السلام نية دون عمل ولا عملا دون نية، وبالله تعالى التوفيق *
1123 - مسألة ومن مات وعليه نذر ففرض أن يؤدى عنه من رأس ماله قبل
ديون الناس كلها فان فضل شئ كان لديون الناس لقول الله تعالى: (من بعد وصية يوصى
بها أو دين) فعم نعالى ولم يخص، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما قد ذكرناه في كتاب الصيام
وكتاب الزكاة وكتاب الحج (دين الله أحق ان يقضى) * ومن طريق البخاري نا أبو اليمان -
هو الحكم بن نافع - انا شعيب - هو ابن أبي حمزة - عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة أن عبد الله بن عباس أخبره أن سعد بن عبادة الأنصاري استفتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل إن تقضيه فأفناه عليه السلام أن يقضيه عنها
فكانت سنة بعده (1) *
قال أبو محمد إن من رغب عن فتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وسارع إلى قبول فتيا أبي حنيفة.
ومالك. والشافعي لمخذول محروم من التوفيق ونعوذ بالله من الضلال، والعجب
من احتجاجهم في أن في ثلاثة أصابع تقطع للمرأة ثلاثين من الإبل وفي أربع أصابع
تقطع لها عشرين من الإبل لقول سعيد بن المسيب تلك السنة ثم لا يرى قول ابن عباس
ههنا أو عبيد الله بن عبد الله أو الزهري فكانت سنة حجة لبعيد من القول بالحق * روينا
من طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن إبراهيم بن مهاجر عن عامر بن مصعب أن
عائشة أم المؤمنين اعتكفت عن أخيها بعد ما مات * ومن طريق حماد بن سلمة عن عبيد
الله بن عبد الله بن عتبة أن أمه نذرت اعتكافا فماتت ولم تعتكف فقال له ابن عباس:



(1) هو في صحيح البخاري ج 8 ص 255
27
اعتكف عن أمك * ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي حصين عن سعيد
ابن جبير عن ابن عباس إذا مات وعليه نذر قضاه عنه وليه، وهو قول طاوس وغيره *
ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال سألت عطاء عمن نذر جوارا أو مشيا فمات
ولم ينفذ؟ قال: ينفذه عنه وليه قلت فغيره من ذوي قرابته قال نعم، وأحب الينا الأولياء *
قال أبو محمد: فإن كان نذر صلاة صلاها عنه وليه أو صوما كذلك أو حجا كذلك
أو عمرة كذلك أو اعتكافا كذلك أو ذكرا كذلك، وكل بر كذلك فان أبى الولي
استؤجر من رأس ماله من يؤدى دين الله تعالى قبله، وهو قول أبى سليمان وأصحابنا،
وبالله تعالى التوفيق *
1124 - مسألة قال على: ومن تعمد النذور ليلزمها من بعده فهي غير لازمة لاله
ولا لمن بعده لا النذر اللازم الوفاء به هو نذر الطاعة كما قدمنا وهو الآن نذر معصية
لا نذر طاعة لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى وإنما قصد ادخال المشقة على مسلم فهو نذر معصية
وبالله تعالى التوفيق *
الوعد
1125 - مسألة ومن وعد آخر بان يعطيه مالا معينا أو غير معين، أو بان يعينه
في عمل ما حلف له على ذلك أو لم يحلف لم يلزمه الوفاء به ويكره له ذلك، وكان الأفضل
لو وفي، وسواء أدخله بذلك في نفقة أو لم يدخله كمن قال. تزوج فلانة وأنا أعينك
في صداقها بكذا وكذا أو نحو هذا، وهو قول أبي حنيفة. والشافعي. وأبي سليمان، وقال
مالك لا يلزمه شئ من ذلك الا أن يدخله بوعده ذلك في كلفة فيلزمه ويقضى عليه، وقال
ابن شبرمة الوعد كله لازم ويقضى به على الواعد ويجبر *
فأما تقسيم مالك فلا وجه له ولا برهان يعضده لامن قرآن. ولا سنة، ولا قول
صاحب. ولا قياس، فان قالوا قد أصربه إذ كلفه من أجل وعده عملا ونفقة قلنا فهبكم
أنه كما تقولون من أين وجب على من أضر بآخر وظلمه وغره ان يغرم له مالا؟ ما علمنا هذا
في دين الله تعالى الا حيث جاء به النص فقط، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه *
وأما من ذهب إلى قول ابن شبرمة فإنهم احتجوا بقول الله تعالى: (كبر مقتا عند الله
أن تقولوا ما لا تفعلون) والخبر الصحيح من طريق عبد الله بن عمرو عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه

28
خصلة من النفاق حتى يدعها إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا وعد أخلف وإذا خاصم
فجر (1)) * والآخر الثابت من طريق أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من علامة النفاق
ثلاثة وان صلى وصام وزعم أنه مسلم إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف. وإذا اؤتمن
خان (2))، فهذان أثران في غاية الصحة آثار أخر لا تصح، أحدها من طريق الليث
عن ابن عجلان (ان رجلا من موالي عبد الله بن عامر بن ربيعة العدوي حدثه عن عبد الله
ابن عامر قالت لي أمي هاه تعال أعطك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت ان تعطيه؟ فقالت
أعطية تمرا فقال لها عليه السلام أما أنك لو لم تعطيه شيئا كتبت عليك كذبة)، هذا لا شئ
لأنه عمن لم يسم * وآخر من طريق ابن وهب أيضا عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وأي المؤمن حق واجب) (3) هشام بن سعد ضعيف وهو
مرسل، ومن طريق ابن وهب عن إسماعيل بن عياش عن أبي إسحاق (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: ولا تعد أخاك وعدا فتخلفه فان ذلك يورث بينك وبينه عداوة) وهذا
مرسل وإسماعيل بن عياش ضعيف * ومن طريق ابن وهب أخبرني الليث بن سعد عن
عقيل بن خالد عن ابن شهاب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال لصبي تعال
هاه لك ثم لم يعطه شيئا فهي كذبة) ابن شهاب كان إذ مات أبو هريرة ابن أقل من تسع سنين
لم يسمع منه كلمة، وأبو حنيفة. ومالك يرون المرسل كالمسند ويحتجون بما ذكرنا فيلزمهم
أن يقضوا بانجاز الوعد على الواعد ولابد وإلا فهم متناقضون فلو صحت هذه الآثار لقلنا
بها، وأما الحديثان اللذان صدرنا بهما فصحيحان الا أنه لا حجة فيهما علينا لأنهما
ليسا على ظاهر هما لان من وعد بما لا يحل أو عاهد على معصية فلا يحل له الوفاء بشئ من ذلك
كمن وعد بزنا. أو بخمر. أو بما يشبه ذلك، فصح أن ليس كل من وعد فأخلف أو عاهد
فغدر مذموما ولا ملوما ولا عاصيا بل قد يكون مطيعا مؤدى فرض، فإذ ذلك كذلك فلا
يكون فرضا من إنجاز الوعد والعهد إلا على من وعد بواجب عليه كانصاف من دين أو أداء
حق فقط، وأيضا فان من وعد وحلف واستثنى فقد سقطه عنه الحنث بالنص والاجماع
المتيقن، فإذا سقط عنه الحنث لم يلزمه فعل ما حلف عليه، ولا فرق بين وعد أقسم عليه
وبين وعد لم يقسم عليه، وأيضا فان الله تعالى يقول: (ولا تقولن لشئ انى فاعل ذلك
غدا الا أن يشاء الله)، فصح تحريم الوعد بغير استثناء فوجب أن من وعد ولم يستثن
فقد عصى الله تعالى في وعده ذلك، ولا يجوز أن يجبر أحد على معصية، فان استثنى فقال



(1) الحديث في الصحيحين من رواية عبد الله بن عمرو بألفاظ متقاربة من هذا
(2) هو في الصحيحين أيضا
(3) رواه أبو داود في مراسيله، والوأى الوعد لفظا ومعنى
29
إن شاء الله تعالى أو الا ان يشاء الله تعالى أو نحوه مما يعلقه بإرادة الله عز وجل فلا يكون
مخلفا لوعده ان لم يفعل لأنه إنما وعده أن يفعل إن شاء الله تعالى) وقد علمنا أن الله تعالى
لو شاءه لانفذه فإن لم ينفذه فلم يشأ الله تعالى كونه، وقول الله تعالى: (كبر مقتا عند
الله أن تقولوا ما لا تفعلون) على هذا أيضا مما يلزمهم كالذي وصف اله تعالى عنه إذ يقول:
(ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من
فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله
ما وعدوه)، فصح ما قلنا لان الصدقة واجبة. والكون من الصالحين واجب فالوعد
والعهد بذلك فرضان فرض انجازهما، وبالله تعالى التوفيق، وأيضا فان هذا نذر من
هذا الذي عاهد الله تعالى على ذلك والنذر فرض وبالله تعالى نتأيد، تم كتاب النذور
والحمد لله أو لا وآخرا *
كتاب الايمان
1126 - مسألة لا يمين الا بالله عز وجل إما باسم من أسمائه تعالى أو بما يخبر به عن الله
تعالى ولا يراد به غيره مثل مقلب القلوب. ووارث الأرض وما عليها. الذي نفسي بيده رب
العالمين، وما كان من هذا النحو، ويكون ذلك بجميع اللغات. أو بعلم الله تعالى. أو قدرته.
أو عزته. أو قوته. أو جلاله، وكل ما جاء به النص من مثل هذا فهذا هو الذي ان حلف به
المرء كان حالفا فان حنث فيه كانت فيه الكفارة، وأما من حلف بغير ما ذكرنا أي شئ كان
لا تحاش شيئا فليس حالفا ولا هي يمينا ولا كفارة في ذلك ان حنث ولا يلزمه الوفاء بما
حلف عليه بذلك وهو عاص لله تعالى فقط وليس عليه الا التوبة من ذلك والاستغفار *
برهان ذلك ما ذكرناه قبل في كتاب النذور من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان
حالفا فلا يحلف الا بالله)، وقوله تعالى. (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياما تدعوا فله
الأسماء الحسنى) وقال تعالى. (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون
في أسمائه) وكل ما ذكر نا قبل فإنما يراد به الله تعالى لا شئ سواه ولا يرجع من كل ذلك إلى
شئ غير الله تعالى * روينا من طريق البخاري نا أبو اليمان - هو الحكم بن نافع - أنا شعيب
ابن أبي حمزة (1) نا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (2) (أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال. ان لله تسعة وتسعين اسما مائة الا واحدا من أحصاها دخل الجنة)،
وقال تعالى: (ان هي الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) فصح



(1) هو بحاء مهملة واسمه دينار الأموي
(2) الزيادة من صحيح البخاري ج 4 ص 45
30
أنه لا يحل لاحد أن يسمى الله تعالى الا بما سمى به نفسه، وصح ان أسماءه لا تزيد على تسعة
وتسعين شيئا لقوله عليه السلام: (مائة الا واحدا) فنفى الزيادة وأبطلها لكن يخبر
عنه بما يفعل تعالى، وجاءت أحاديث في احصاء التسعة والتسعين أسماء مضطربة
لا يصح منها شئ أصلا فإنما تؤخذ من نص القرآن، ومما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد بلغ
احصاؤنا منها إلى ما نذكر *
وهي. الله. الرحمن. الرحيم العليم. الحكيم. الكريم. العظيم. الحليم. القيوم.
الأكرم. السلام. التواب. الرب. الوهاب. الاله. القريب. السميع. المجيب. الواسع.
العزيز. الشاكر. القاهر. الآخر. الظاهر. الكبير. الخبير. القدير. البصير. الغفور.
الشكور. الغفار. القهار. الجبار. المتكبر. المصور. البر. مقتدر. الباري. العلى. الغنى.
الولي. القوى. الحي. الحميد. المجيد. الودود. الصمد. الأحد. الواحد. الأول. الاعلى.
المتعال. الخالق. الخلاق. الرزاق. الحق. اللطيف. رؤوف. عفو. الفتاح. المتين. المبين.
المؤمن. المهيمن. الباطن. القدوس. الملك. مليك. الأكبر. الأعز. السيد. سبوح. وتر.
محسان. جميل. رفيق. المسعر. القابض. الباسط. الشافي. المعطى. المقدم. المؤخر. الدهر *
روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - أنا الفضل بن
موسى نا محمد بن عمر ونا أبو سلمة - هو ابن عبد الرحمن بن عوف - عن أبي هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فذكر حديث خلق الجنة والنار وفيه (ان جبريل عليه السلام لما رأى الجنة وأنها حفت
بالمكاره قال لله عز وجل وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد، وقال تعالى: (أنزله بعلمه) *
ومن طريق البخاري نا مطرف بن عبد الله [أبو مصعب] (1) نا عبد الرحمن بن أبي الموالي
عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة
في الأمور كلها كالسورة من القرآن إذا هم [أحدكم] (2) بالامر فليركع ركعتين ثم
يقول: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك) وقال عز وجل: (هو أشد منهم
قوة) وقال تعالى: (ذو الجلال والاكرام) وقال تعالى: (فثم وجه الله) وقال تعالى: (يد
الله فوق أيديهم) وقال تعالى: (ولتصنع على عيني) وقال تعالى: (فإنك بأعيننا) فهذه
جاء النص بها * وأما اليمين بعظمة الله وارادته وكرمه وحلمه وحكمته وسائر ما لم يأت
به نص فليس شئ من ذلك يمينا لأنه لم يأت بها نص فلا يجوز القول بها *



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 8 ص 146
(2) الزيادة من بعض نسخ البخاري، والحديث في البخاري مطولا اختصره المصنف
31
1127 - مسألة ومن حلف بما ذكرنا أن لا يفعل أمرا كذا أو أن يفعل أمرا كذا (1)
فان وقت وقتا مثل غدا أو يوم كذا أو اليوم أو في وقت يسميه فان مضى ذلك الوقت ولم
يفعل ما حلف أن يفعله فيه عامدا ذاكرا ليمينه أو فعل ما حلف أن لا يفعله فيه عامدا ذاكرا
ليمينه فعليه كفارة اليمين هذا ما لا خلاف فيه من أحد وبه جاء القرآن والسنة، فإن لم
يوقت وقتا قوله لأفعلن كذا فهو على البر أبدا حتى يموت، وكذلك لو وقت وقتا ولا
فرق ولا حنث عليه، وهذا مكان فيه خلاف، قال مالك: هو حانث في كلا الامرين
وعليه الكفارة، وقال الشافعي: هو على البر إلى آخر أوقات صحته التي يقدر فيها على فعل
ما حلف أن يفعله فحينئذ يحنث وعليه الكفارة، وقال أبو ثور. وأبو سليمان كقولنا *
قال أبو محمد: فنسأل من قال بقول مالك أحانث هو ما لم يفعل ما حلف أن يفعله أم بار؟
ولا سبيل إلى قسم ثالث فان قالوا: هو بار قلنا: صدقتم ووهو قولنا لنا لا قولكم، وان قالوا: هو
حانث قلنا: فأجبوا عليه الكفارة وطلاق امرأته في قولكم إن كان حانثا وهم لا يقولون
بذلك، فظهر يقين فساد قولهم بلا مرية وان قولهم هو على حنث وليس حانثا ولا حنث
بعد كلام متناقض في غاية الفساد والتخليط، وأما قول الشافعي فخطأ لأنه أوجب الحنث
بعد البر بلا نص ولا اجماع، ولا يقع الحنث على ميت بعد موته فلاح أن قوله دعوى بلا
برهان، وبالله تعالى التوفيق *
1128 - مسألة وأما الحلف بالأمانة. وبعهد الله. وميثاقه. وما أخذ يعقوب
علي بنيه. وأشد ما أخذ أحد على أحد. وحق رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحق المصحف. وحق
الاسلام. وحق الكعبة. وأنا كافر. ولعمري. ولعمرك. ولأفعلن كذا. وأقسم.
وأقسمت. وأحلف. وحلفت. وأشهد. وعلى يمين. أو على ألف يمين. أو جميع
الايمان تلزمني. فكل هذا ليس يمينا، واليمين بها معصية ليس فيها الا التوبة والاستغفار
لأنه كله غير الله ولا يجوز الحلف الا بالله *
قال أبو محمد: والعجب ممن يرى هذه الألفاظ يمينا ويرى الحلف بالمشي إلى مكة.
وبالطلاق. وبالعتق. وبصدقة المال أيمانا ثم لا يحلف في حقوق الناس من الدماء
والفروج والأموال والابشار بشئ من ذلك وهي أو كد عندهم لأنها لا كفارة لها
ويحلفونهم بالله وفيه الكفارة أليس هذا عجبا؟ ولئن كانت أيمانا عندهم بل من أغلظ
الايمان وأشدها فالواجب أن يحلفوا الناس بالايمان الغليظة، ولئن كانت ليست ايمانا
فلم يقولون انها ايمان؟ حسبنا الله وهو المستعان *،



(1) كذا في النسختين على الوصفية، وفى النسخة اليمنية (أمر كذا) على الإضافة
32
وفي كل ما ذكرنا خلاف قديم من السلف يرون كل ذلك أيمانا * روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن ليث عن مجاهد عن ابن مسعود: قال لان أحلف بالله كاذبا
أحب إلى من أن أحلف بغير الله صادقا * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري
عن أبي سلمة عن وبرة قال: قال ابن مسعود. أو ابن عمر. لان أحلف بالله كاذبا أحب إلى
من أن أحلف بغيره صادقا * ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج سمعت عبد الله
ابن أبي مليكة سمعت ابن الزبير يقول: إن عمر قال له - وقد سمعه يحلف بالكعبة -: لو
أعلم أنك فكرت فيها قبل أن تحلف لعاقبتك احلف بالله فأثم أو أبرر *
1129 - مسألة ومن حلف بالقرآن. أو بكلام الله عز وجل فان نوى في نفسه
المصحف أو الصوت المسموع أو المحفوظ في الصدور (1) فليس يمينا وان لم ينو ذلك
بل نواه على الاطلاق فهي يمين وعليه كفارة ان حنث لان كلام الله تعالى هو علمه (2)
قال تعالى: (ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضى بينهم) وعلم الله تعالى ليس
هو غير الله تعالى، والقرآن كلام الله تعالى، وقد روينا خلاف هذا، [روينا] (3) من طريق
عبد الرزاق. والحجاج بن المنهال قال عبد الرزاق: عن سفيان الثوري عن ليث عن مجاهد،
وقال الحجاج بن المنهال: نا أبو الأشهب عن الحسن البصري ثم اتفق الحسن. ومجاهد
قالا جميعا: قال رسول الله صلى الله عليه آله وسلم: (من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها يمين
صبر فمن شاء بر ومن شاء فجر) ولفظ الحسن ان شاء بر وان شاء فجر * وروينا من طريق
عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن أبي سنان عن عبد الله بن أبي الهذيل عن عبد الله
ابن حنظلة قال: أتيت مع عبد الله بن مسعود السوق فسمع رجلا يحلف بسورة البقرة
فقال ابن مسعود: أما ان عليه بكل آية يمينا * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري
عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن ابن مسعود قال: من كفر بحرف من القرآن فقد
كفر به أجمع ومن حلف بالقرآن فعليه بكل آية يمين، وهو قول الحسن البصري. وأحمد
ابن حنبل، وروينا عن سهم بن منجاب من حلف بالقرآن فعليه بكل آية خطيئة، وقال
أبو عبيد. هو يمين واحدة، وروينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج سمعت عطاء -
وقد سأله رجل - فقال: قلت: والبيت. وكتاب الله فقال عطاء: ليسا لك برب ليسا
يمينا، وبه يقول أبو حنيفة، وقد كان يلزم الحنيفيين والمالكيين أن يقولوا بقول ابن مسعود
لأنه لا يعلم له في ذلك مخالف من الصحابة *



(1) في النسخة اليمنية (في الصدر) بالافراد
(2) في النسخة اليمنية (هو علم الله)
(3) الزيادة من النسخة اليمنية
33
1130 - مسألة - ولغو اليمين لا كفارة فيه ولا اثم وهو وجهان أحدهما ما حلف
عليه المرء وهو لا يشك في أنه كما حلف عليه ثم تبين له (1) أنه بخلاف ذلك وهو قول
أبي حنيفة. ومالك. وأبي سليمان، والثاني ما جرى به لسان المرء في خلال كلامه بغير نية
فيقول في أثناء كلامه: لا والله. وأي والله وهو قول الشافعي. وأبي سليمان، قال الله تعالى
(لا يؤاخذ كم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذ كم بما عقدتم الايمان) وصح من طريق
معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: ربما قال ابن عمر لبعض بنيه: لقد
حفظت عليك في هذا المجلس أحد عشر يمينا ولا يأمره بكفارة * ومن طريق عبد الرزاق
نا ابن جريج انا عطاء أنه سمع عائشة أم المؤمنين وقد سألها عبيد بن عمير عن قول الله تعالى:
(لا يؤاخذ كم الله باللغو في أيمانكم)؟ قالت: هو قول الرجل لا والله. وبلى والله *
ومن طريق معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله (2) عن عروة عن عائشة أم
المؤمنين قالت في اللغو: هو قول القوم يتدارمون في الامر يقول هذا: لا والله. وبلى والله.
وكلا والله ولا تعقد عليه قلوبهم، وهو قول القاسم بن محمد. وعطاء. وإبراهيم. والشعبي
وعكرمة. ومجاهد. وطاوس. والحسن. والزهري. وأبى قلابة. وغيرهم *
ومن طريق ابن عباس - ولا يصح عنه لأنه من طريق الكلبي - لغو اليمين هو قول الرجل
هذا والله فلان وليس بفلان، وهو أيضا قول الحسن. وإبراهيم. والشعبي. ومجاهد.
وقتادة. وزرارة بن أوفى. وسليمان بن يسار. وسفيان الثوري. والأوزاعي. والحسن
ابن حي. وأحمد بن حنبل وغيرهم *
قال أبو محمد: أما قول المرء: لا والله. وأي والله بغير نية فأمره ظاهر لا اشكال فيه
لأنه نص القرآن كما قال أم المؤمنين رضي الله عنها، وأما من أقسم على شئ وهو يرى ولا
يشك في أنه كما حلف عليه فإنه لم يعمد الحنث ولا قصد له ولا حنث الاعلى من قصد إليه الا
أن هذا مما تناقض فيه الحنيفيون. والمالكيون فأسقطوا الكفارة ههنا وأوجبوها
على من فعل ما حلف عليه ناسيا أو مكرها ولا فرق بين شئ من ذلك، وبالله تعالى التوفيق *
والعجب أيضا أنهم رأوا اللغو في اليمين بالله تعالى ولم يروه في اليمين بغيره تعالى كالمشي
إلى مكة. والطلاق. والعتق وغير ذلك، وقد جاء أثر بقولنا رويناه من طريق أبى داود.
السجستاني نا حميد بن مسعدة نا حسان - هو ابن إبراهيم - نا إبراهيم - هو الصائغ - عن
عطاء بن أبي رباح قال: اللغو في اليمين قالت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: هو كلام الرجل



(1) سقط لفض (له) من النسخة رقم 16
(2) جملة (عن سالم بن عبد الله) سقطت من النسخة اليمنية
34
في بيته كلا والله. وبلى والله (1)، وبالله تعالى التوفيق *
1131 - مسألة - ومن حلف أن لا يفعل أمرا كذا ففعله ناسيا أو مكرها أو غلب
بأمر حيل بينه وبينه به، أو حلف على غيره أن يفعل فعلا ذكره له أو ان لا يفعل فعلا
كذا ففعله المحلوف عليه عامدا أو ناسيا أو شك الحالف أفعل ما حلف أن لا يفعله أم لا؟
أو فعله في غير عقله فلا كفارة على الحالف في شئ من كل ذلك (2) ولا اثم * روينا من
طريق هشيم عن المغيرة عن إبراهيم النخعي قال: لغو اليمين هو أن يحلف على الشئ ثم ينسى،
قال هشيم: وأخبرني منصور عن الحسن بمثله *
برهان ذلك قول الله تعالى: (ولكن يؤاخذ كم بما عقدتم الايمان) وقال تعالى: (ولكن
ما تعمدت قلوبكم) وقد قلنا إن الحنث ليس الا على قاصد إلى الحنث يتعمد له بنص القرآن
وهؤلاء كلهم غير قاصدين إليه فلا حنث عليهم إذا لم يتعمدوه بقلوبهم، وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم
(عفى لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وانه (رفع القلم عن النائم حتى يستيقظ
والمجنون حتى يفيق) ولقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وبالمشاهدة ندري أنه
ليس في وسع الناس ولا المغلوب بأي وجه منع أن يفعل ما نسي ولا ما غلب على فعله، فصح
بنص القرآن انه لم يكلف فعل ذلك وإذ ليس مكلفا لذلك فقد سقط عنه الوفاء بما لم
يكلف الوفاء به، وهذا في غاية البيان والحمد لله رب العالمين، وهو قول الحسن. وإبراهيم *
روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم انا منصور هو ابن المعتمر عن الحسين
البصري قال: إذا أقسم على غيره فأحنث فلا كفارة عليه * ومن طريق هشيم نا مغيرة
عن إبراهيم فيمن أقسم على غيره فأحنثه (3) أحب إلى للمقسم أن يكفر فلم يوجبه الا استحبابا *
1132 مسألة ومن هذا من حلف على ما لا يدرى أهو كذلك أم لا وعلى ما قد
يكون ولا يكون؟ كمن حلف لينزلن المطر غدا فنزل أو لم ينزل فلا كفارة في شئ من ذلك
لأنه لم يتعمد الحنث، ولا كفارة الا على من تعمد الحنث وقصده لقوله تعالى: (ولكن
ما تعمدت قلوبكم)، وقد صح أن عمر حلف بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وسلم ان ابن صياد هو الدجال
فلم يأمره عليه السلام بكفارة، وقال مالك: عليه الكفارة كان ما حلف عليه أو لم يكن،
وهذا خطأ لأنه لا نص بما قال، والأموال محظورة الا بنص، والشرائع لا تجب الا



(1) قال أبو داود في سننه بعد ما ساق الحديث: روى هذا الحديث داود بن أبي
الفرات عن إبراهيم الصائغ موقوفا عن عائشة، وكذلك رواه الزهري. وعبد الملك
ابن أبي سليمان. ومالك بن مغول كلهم عن عطاء عن عائشة موقوفا *
(2) في النسخة اليمنية (من ذلك كله)
(3) في النسخة رقم 16 (فأحنث)
35
بنص، وبالله تعالى التوفيق *
1133 مسألة ومن حلف عامدا للكذب فيما يحلف فعليه الكفارة وهو
قول الأوزاعي. والحسن بن حي. والشافعي، وقالت طائفة: لا كفارة في ذلك وهو
قول أبي حنيفة. ومال: وسفيان الثوري. وأبي سليمان، وروينا مثل قولنا عن السلف
المتقدم من طريق شعبة قال: سألت الحكم بن عتيبة عن الرجل يحلف بالحلف الكاذب؟
أفيه كفارة؟ قال: نعم * ومن طريق هشيم عن الحجاج عن عطاء بن أبي رباح فيمن
حلف على كذب يتعمد فيه الكذب قال عطاء عليه الكفارة ولا يزيد بالكفارة الا خيرا *
ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن مجاهد (ولكن يؤاخذ كم بما
عقدتم الايمان) قال: بما تعمد تم * ومن طريق قتادة عن الحسن في قوله تعالى: (ولكن
يؤاخذ كم بما عقدتم الايمان فكفارته) قال يقول بما تعمدتم فيه المأثم، وقال سعيد بن
جبير: هي اليمين في المعصية * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر في الرجل يحلف على أمر
يتعمده كاذبا يقول: والله لقد فعلت ولم يفعل أو والله ما فعلت وقد فعل، قال: أحب إلى أن
يكفر * وروينا القول الثاني من طريق رفيع أبى العالية ان ابن مسعود كأن يقول: كنا نعد
من الذنب الذي لا كفارة له اليمين الغموس ان يحلف الرجل كاذبا على مال أخيه ليقتطعه *
وعن إبراهيم النخعي. والحسن. وحماد بن أبي سليمان أن هذا اليمين أعظم من أن
تكفر أو انها كذبة لا كفارة فيها *
قال أبو محمد: احتج من لم ير الكفارة في ذلك بالاخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
منها من طريق ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ
مسلم لقى الله وهو عليه غضبان فأنزل الله تعالى [تصديق ذلك] (1) (ان الذين يشترون
بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم
يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم)) * ومن طريق أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم (ثلاثة
لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم، فذكر عليه السلام
فيهم (المنفق سلعته بالحلف الكاذب) (2) * ومن طريق عبد الله بن عمرو عن النبي
صلى الله عليه وسلم (الكبائر الا شراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس واليمين الغموس) (3) *



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 8 ص 247، والحديث مطول اقتصر المصنف على
محل الشاهد منه
(2) رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر ج 1 ص 41 ورواه البخاري في غير موضع في صحيحه عن أبي هريرة
(3) هو في صحيح البخاري ج 8 ص 246
36
ومن طريق عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم (من حلف على يمين مصبورة كاذبا (1)
فليتبوأ بوجهه مقعده من النار) * ومن طريق الأشعث بن قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم وسلم (من
حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو غضبان) *
ومن طريق جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم (من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ
مقعده من النار) وزاد بعضهم (ولو كان سواكا أخضر) (2) هذه كلها آثار صحاح،
وذكروا أيضا خبرا صحيحا من طريق يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم (من استلج في أهله بيمين فهو أعظم اثما ليس تغنى الكفارة) (3) *
وبخبر رويناه من طريق ابن الجهم نا يوسف بن الضحاك ناموسي بن إسماعيل نا حماد بن
سلمة عن ثابت عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل: (فعلت كذا وكذا قال:
لا والذي لا إله إلا هو ما فعلت فجاء جبريل صلى الله عليه وسلم فقال: بلى قد فعل ولكن الله قد غفر له
بالاخلاص (4)، ورواه أبو داود من طريق موسى بن إسماعيل عن حماد بن سلمة عن عطاء
ابن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس، وهكذا رويناه أيضا من طريق ابن أبي شيبة عن
وكيع عن سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس فإن لم يكن
أخطأ فيه يوسف بن الضحاك فهو حديث جيد والا فهو ضعيف قالوا: فلم يأمره عليه
السلام بكفارة، وقالوا: إنما الكفارة فيما حلف فيه في المستأنف، وموهوا في ذلك بذكر
قول الله تعالى: (واحفظوا أيمانكم) قالوا: وحفظها إنما يكون بعد مواقعتها (5)
هذا كل ما شغبوا به وكله لا حجة لهم فيه *
أما حديث ابن مسعود. وأبي ذر. وعمران. وجابر. والأشعث، وقول الله تعالى
(ان الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم) فليس في شئ من ذلك اسقاط الكفارة ولا
ايجابها كما ليس فيها ذكر التوبة أصلا وإنما فيها كلها الوعيد الشديد بالنار والعقاب، فسقط
تعلقهم بها في اسقاط الكفارة، ثم العجب كله انهم في هذه الأحاديث. وفي هذه الآية
على قسمين، قسم يقول: إنه ليس شئ ما ذكر في هذه الآية وفى هذه الأحاديث يقطع



(1) في النسخ (كاذبة) وهي صفة لليمين، وفى سنن أبي داود (كاذبا) وهو حال من الحالف وما هنا أظهر
(2) هو في سنن أبي داود
(3) هو في صحيح البخاري ج 8 ص 230، وقوله (استلج) قال ابن الأثير في النهاية: هو استفعل من اللجاج، ومعناه ان يحلف على شئ ويرى أن غيره خير منه فيقيم على يمينه ولا يحنث فيكفر فذلك آثم له، وقيل: هو أن يرى أنه صادق فيها مصيب فيلج فيها ولا يكفرها اه‍
(4) في سنن أبي داود (باخلاص قول لا إله إلا الله) وليس في سنن أبي داود جملة (فجاء جبريل) الخ
(5) في النسخة رقم 16 (بعد موافقتها)
37
بكونه ولابد وقد يمكن أن يغفر الله عزو جل، وقسم قالوا: هو نافذ ما لم يتب فمن أعجب شأنا ممن احتج بآية واخبار صحاح في اسقاط كفارة يمين ليس فيها من ذلك ذكر أصلا وهم
قد خالفوا كل ما فيها علانية، وهذا عجب جدا *
وأما قوله عليه السلام: (من استلج في أهله بيمين فهو أعظم اثما ليس تغنى الكفارة)
فلا حجة لهم فيه أصلا لان الايمان عندنا وعندهم، منها لغو لا اثم فيه ولم يرد هذا الصنف في
هذا الخبر بلا شك، ومنها ما يكون المرء بها حالفا على ما غيره خير منه ولا خلاف عندنا
وعندهم في أن الكفارة تغنى في هذا وبه جاء النص عن النبي صلى الله عليه وسلم على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله
تعالى * ومنها اليمين الغموس التي اختلفنا فيها وبالحس والمشاهدة ندري نحن وهم ان
الحالف بها لا يسمى مستلجا في أهله فبطل أن (1) يراد بهذا الخبر هذا القسم وبطل احتجاجهم
به في اسقاطهم الكفارة في اليمين الغموس، فان قيل: فما معنى هذا الخبر عندكم وهو
صحيح؟ قلنا: نعم معناه ولله الحمد بين على ظاهر لفظه دون تبديل ولا إحالة ولا زيادة
ولا نقص وهو أن يحلف المرء أن يحسن إلى أهله أو أن لا يضربهم ثم لج في أن يحنث
فيضربهم ولا يحسن إليهم ويكفر عن يمينه، فهذا بلا شك مستلج بيمينه في أهله ان
لا يفي بها وهو أعظم إثما بلا شك والكفارة لا تغنى عنه ولا تحط اثم إساءته إليهم
وإن كانت واجبة عليه لا يحتمل البتة هذا الخبر معنى غير هذا *
وأما حديث حماد بن سلمة. وسفيان. فطريق سفيان لا تصح فان صحت طريق حماد
فليس فيه لاسقاط الكفارة ذكر وإنما فيه أن الله تعالى غفر له بالاخلاص فقط، وليس
كل شريعة توجد في كل حديث، ولا شك في أنه ما أمور بالتوبة من تعمد الحلف على
الكذب وليس في هذا الخبر لها ذكر، فإن كان سكوته عليه السلام عن ذكر الكفارة
حجة في سقوطها فسكوته عن ذكر التوبة حجة في سقوطها ولابد وهم لا يقولون بهذا، فان
قالوا: قد أمر بالتوبة في نصوص أخر قلنا وقد أمر بالكفارة في نصوص أخر نذكرها
إن شاء الله تعالى، ونقول لهم: إن كان سكوته عليه السلام عن ذكر الكفارة في هذه الأخبار
كلها حجة في اسقاطها فسكوته عليه السلام عن ذكر سقوطها حجة في إيجابها ولا
فرق وهي دعوى كدعوى، فالواجب طلب حكم الكفارة في نص غير هذه *
وأما قول الله تعالى: (واحفظوا أيمانكم) فحق * وأما قولهم: ان الحفظ لا يكون
الابعد مواقعة اليمين (2) فكذب. وافتراء. وبهت وضلال محض بل حفظ الايمان
واجب قبل الحلف. وفى الحلف بها. وبعد الحلف بها، فلا يحلف في كل ذلك الا على حق



(1) في النسخة رقم 16 (أن يكون يراد)
(2) في النسخة رقم 16 (بعد موافقة اليمين)
38
ثم هبك أن الامر كما قالوا، وان قوله تعالى: (واحفظوا أيمانكم) إنما هو بعد أن يحلف
فأي دليل في هذا على أن لا كفارة على من تعمد الحلف كاذبا وهل هذا منهم الا المباهتة
والتمويه. وتحريف كلام الله عن مواضعه وما يشك كل ذي مسكة تمييز في أن من تعمد
الحلف كاذبا فما حفظ يمينه، فظهر فساد كل ما يمخرقون به *
وأما قولهم: إن الكفارة إنما تجب عليه فيما حلف عليه في المستأنف فباطل ودعوى
بلا برهان لامن قرآن ولا سنة ولا إجماع، فان ذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انه
لا يحلف على يمين فيرى غيرها خيرا منها إلا أتى الذي هو خير وكفر عن يمينه) فلا حجة
لهم فيه لان الكفارة عندهم وعندنا تجب في غير هذه الصفة، وهي من حلف على يمين ورأي
غيرها شرا منها ففعل الذي هو شر، فان الكفارة عندهم وعندنا واجبة عليه في ذلك *
قال أبو محمد: وأما قولهم: هي أعظم من أن تكفر فمن أين لهم هذا؟ وأين وجدوه؟
وهل هو إلا حكم منهم (1) لا من عند الله تعالى؟ ويعارضون بان يقال لهم: دعوى
أحسن من دعواهم بل كلما عظم الذنب كان صاحبه أحوج إلى الكفارة وكانت أوجب
عليه منها فيما ليس ذنبا أصلا أو فيما هو صغير من الذنوب، وهذا المتعمد للفطر في رمضان
نحن وهم متفقون على أن الكفارة عليه ولعله أعظم إثما من حالف على يمين غموس أو مثله
وهم يرون الكفارة على من تعمدا فساد حجة بالهدى بآرائهم، ولعله أعظم اثما من حالف
يمين غموس أو مثله، وأعجب من هذا كله قولهم فيمن حلف أن لا يقتل مؤمنا متعمدا،
وأن يصلى اليوم الصلوات المفروضة، وأن لا يزني بحريمة (2)، وأن لا يعمل بالربا، ثم
لم يصل من يومه ذلك، وقتل النفس التي حرم الله، وزنى. وأربى. فان عليه الكفارة في
أيمانه تلك، فيالله ويا للمسلمين أيما أعظم اثما ممن حلف عامدا للكذب أنه ما رأى زيدا
اليوم وهو قد رآه فأسقطوا فيه الكفارة لعظمه، أو من حنث بان لا يصلى الخمس صلوات.
وبان قتل النفس. وبان زنى بابنته أو بأمه. وبان عمل بالربا ثم لا يرون عظم حنثه في إتيانه
هذه الكبائر العظيمة التي هي والله قطعا عند كل من له علم بالدين أعظم اثما من الف يمين
تعمد فيها الكذب لا تجب فيه كفارة لأنه أعظم من أن يكفر؟ فهل تجرى أقوال هؤلاء
القوم على اتباع نص أو على التزام قياس؟ *
وأما تمويههم بأنه روى ذلك عن ابن مسعود ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم
فهي رواية منقطعة لا تصح لان أبا العالية لم يلق ابن مسعود ولا أمثاله من الصحابة



(1) في النسخة اليمنية (الا بحكم منهم)
(2) وفى النسخة (بحيمته) والمعنى أن لا يزني بمحرم عليه نكاحه كأمه وبنته كما هو ظاهر في تمثيل المصنف بعد *
39
رضي الله عنهم إنما أدرك أصاغر الصحابة كابن عباس ومثله رضى الله عن جميعهم، وقد
خالفوا ابن مسعود في قوله، ان من حلف بالقرآن. أو بسورة منه فعليه بكل آية كفارة
ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة، فابن مسعود حجة إذا اشتهوا وغير حجة إذا لم
يشتهوا أن يكون حجة *
قال أبو محمد: فإذ قد سقط كل ما شغبوا به فلنأت بالبرهان على صحة قولنا فنقول وبالله
تعالى التوفيق: قال الله عز وجل: (فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون
أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) إلى قوله تعالى: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا
أيمانكم) فظاهر القرآن ايجاب الكفارة في كل يمين فلا يجوز أن تسقط كفارة (1) عن
يمين أصلا الا حيث أسقطها نص قرآن. أو سنة، ولا نص قرآن ولا سنة أصلا في اسقاط
الكفارة عن الحالف يمينا غموسا، فهي واجبة عليه بنص القرآن، والعجب كله ممن
أسقطها عنه والقرآن يوجبها ثم يوجبونها على من حنث ناسيا مخطئا والقرآن والسنة قد
أسقطاها عنه، وأوجبوها على من لم يتعمد اليمين ولا نواها والقرآن والسنة يسقطانها عنه،
وهذا كما ترى، فان قالوا: إن هذه الآية فيها حذف بلا شك ولولا ذلك لوجبت الكفارة
على كل من حلف ساعة حلف بر أو حنث قلنا: نعم لا شك في ذلك الا أن ذلك الحذف لا يصدق
أحد في تعيينه له الا بنص صحيح أو اجماع متيقن على أنه هو الذي أراد الله تعالى لا ما سواه
وأما بالدعوى المفتراة فلا، فوجدنا الحذف المذكور في الآية قد صح الاجماع المتيقن
والنص على أنه فحثتم، وإذ لا شك في هذا فالمتعمد لليمين على الكذب عالما بأنه كذب
حانث بيقين حكم الشريعة وحكم اللغة فصح إذ هو حانث ان عليه الكفارة وهذا في غاية
الوضوح وبالله تعالى التوفيق، والقوم أصحاب قياس بزعمهم وقد قاسوا احالق رأسه لغير
ضرورة وهو محرم عاصيا لله تعالى على حالق رأسه لضرورة محرما غير عاص لله تعالى،
فهلا قاسوا الحالف عامدا للكذب حانثا عاصيا علي الحالف ان لا يعصى فحنث عاصيا أو
على من حلف أن لا يبر فبر غير عاص في ايجاب الكفارة في كل ذلك؟ ولكن هذا مقدار
عليهم وقياسهم، وبالله تعالى التوفيق *
1134 - مسألة - واليمين في الغضب. والرضا. وعلى أن يطيع. أو على أن يعصى.
أو على ما لا طاعة فيه ولا معصية سواء في كل ما ذكرنا ان تعمد الحنث في كل ذلك فعليه
الكفارة، وان لم يتعمد الحنث أو لم يعقد اليمين بقلبه فلا كفارة في ذلك لقول الله تعالى: (ذلك
كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم) فالكفارة واجبة في كل حنث قصده المرء *



(1) في النسخة رقم 16 (الكفارة)
40
وقد اختلف السلف في ذلك، فروى عن ابن عباس ان لغو اليمين هو اليمين في الغضب
ولا كفارة فيها *
قال أبو محمد: وهذا قول لا دليل على صحته بل البرهان قائم بخلافه كما روينا من
طريق البخاري نا أبو معمر - هو عبد الله بن عمرو هو الرقى - (1) نا عبد الوارث بن سعيد
التنوري نا أيوب - هو السختياني - عن القاسم بن عاصم عن زهدم الجرمي عن أبي موسى
أنه سمعه يقول: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من الأشعريين فوافقته وهو غضبان
فاستحملناه فخلف أن لا يحملنا ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إن شاء الله لا أحلف على
يمين فأرى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير وتحللتها (2))، فصح وجوب
الكفارة في اليمين في الغضب قال تعالى: (ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته
اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون) والحالف في الغضب معقد ليمينه فعليه الكفارة * وأما اليمين في المعصية فروينا من طريق حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب
عن أبي البختري أن رجلا أضافه رجل فحلف أن يأكل فحلف الضيف أن لا يأكل فقال
له ابن مسعود: كل وانى لا ظن أن أحب إليك أن تكفر عن يمينك، فلم ير الكفارة في ذلك
الا استحبابا * ومن طريق حماد بن سلمة عن داود بن هند عن عبد الرحمن بن عابس ان
ابن عباس حلف أن يجلد غلامه مائة جلدة ثم لم يجلده قال: فقلنا له في ذلك فقال: ألم تر
ما صنعت (3)؟ تركته فذاك بذاك * ومن طريق سفيان بن عيينة عن سليمان الأحول قال:
من حلف على ملك يمينه أن يضربه فان كفارة يمينه أن لا يضربه وهي مع الكفارة حسنة *
ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن المعتمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن المغيرة
عن إبراهيم فيمن حلف أن يضرب مملوكه قال إبراهيم: لان يحنث أحب إلى من أن
يضربه قال المعتمر: وحلفت أن أضرب مملوكة لي فنهاني أبى ولم يأمرني بكفارة *
ومن طريق محمد بن المثنى نا عبيد الله بن موسى العبسي نا حنظلة بن أبي سفيان الجمحي
قال: سئل طاوس عمن حلف أن لا يعتق غلاما له فأعتقه؟ فقال طاوس: تريد من
الكفارة أكثر من هذا؟ * ومن طريق عبد الرزاق عن هشيم عن أبي بشر - هو جعفر
ابن أبي وحشية - عن سعيد بن جبير في لغو اليمين قال: هو الرجل يحلف على الحرام
فلا يؤاخذه الله بتركه (4) * ومن طريق إسماعيل بن إسحاق نا مسدد نا عبد الواحد
ابن زياد نا عاصم عن الشعبي قال: اللغو في اليمين كل يمين في معصية فليست لها كفارة



(1) في تهذيب التهذيب وغيره (والمنقري)
(2) هو في صحيح البخاري ج ص 248
(3) في النسخة رقم 16 (لما صنعت)
(4) في النسخة رقم 16 (في تركه)
41
من يكفر للشيطان (1)؟ * ومن طريق إسماعيل نا عبد الله بن عبد الوهاب الحجبي نا
عبد الواحد بن زياد نا سليمان الشيباني قال: سمعت عكرمة قال: من حلف على يمين فرأى
غيرها خيرا منها فليأته (لا يؤاخذ كم الله باللغو في أيمانكم) فيه نزلت * ومن طريق حماد
ابن سلمة نا داود بن أبي هند عن الشعبي عن مسروق أنه قال في الرجل يحلف أن لا يصل أباه
وأمه قال كفارته تركه، فسألت سعيد بن جبير؟ فقال: لم يصنع شيئا ليأت الذي هو
خير وليكفر عن يمينه *
واحتج أهل هذه المقالة بما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا أبو أسامة عن الوليد
ابن كثير نا عبد الرحمن بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (من حلف على معصية فلا يمين له ومن حلف على قطعية رحم فلا يمين له) *
ومن طريق أبى داود نا المنذر بن الوليد نا عبد الله بن بكر نا عبيد الله بن الأخنس عن
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا نذر ولا يمين فيما
لا يملك ابن آدم ولا في معصية الله ولا في قطعية رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا
منها فليدعها وليأت الذي هو خير فان تركها كفارتها (2)) * ومن طريق حجاج
ابن المنهال نا هشيم عن يحيى بن عبيد الله عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (قال:
من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير فهو كفارتها) *
ومن طريق أبى داود نا محمد بن المنهال نا يزيد بن زريع نا حبيب المعلم عن عمرو
ابن شعيب عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
[يقول] (3): لا يمين عليك ولا نذر في معصية الله ولا في قطعية الرحم وفيما لا تملك) *
ومن طريق العقيلي نا أحمد بن عمرو نا إبراهيم بن المستمر نا شعيب بن حيان بن شعيب
ابن درهم نا يزيد بن أبي معاذ عن مسلم بن عقرب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من حلف على
مملوكه ليضربنه فان كفارته أن يدعه وله مع كفارته خير) * ومن طريق سعيد بن منصور
نا حزم بن أبي حزم القطعي (4) سمعت الحسن يقول: بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (لمن يكفر للشيطان)
(2) قال في شرح سنن أبي داود. حديث عمر وبن شعيب ذكر البيهقي انه لم يثبت قال أبو داود: الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم وليكفر عن يمينه الا مالا يعبأ به، قال الحافظ: ورواته لا بأس بهم لكن اختلف في سنده على عمرو وفى بعض طرقه عند أبي داود (ولا في معصية)
(3) الزيادة من سنن أبي داود والحديث فيه مطول اختصره المصنف واقتصر على محل الشاهد منه
(4) هو بضم القاف وفتح الطاء المهملة وبعدهما عين مهملة منسوب إلى قطيعة بن عبس
42
قال: (لا نذر لابن آدم في مال غيره ولا يمين في معصية) *
قال أبو محمد: كل هذا لا يصح، حديث عمرو بن شعيب صحيفة ولكن لا مؤنة على
المالكيين. والشافعيين. والحنيفيين في أن يحتجوا بروايته إذا وافقتهم ويصححونها
حينئذ فإذا خالفتهم كانت حينئذ صحيفة ضعيفة ما ندري كيف ينطق بهذا من يوقن أنه
ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد؟ أم كيف تدين به نفس تدرى أن الله تعالى يعلم السر
وأخفى؟ * وأما حديث عمر فمنقطع لان سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر شيئا الا نعيه
النعمان بن مقرن المزني على المنبر فقط، وهؤلاء يقولون: إن المنقطع. والمتصل سواء
فأين هم عن هذا الأثر؟ * وأما حديث أبي هريرة فعن يحيى بن عبيد الله وهو ساقط
متروك ذكر ذلك مسلم وغيره * وأما حديث مسلم بن عقرب ففيه شعيب بن حيان وهو ضعيف
ويزيد بن أبي معاذ وهو غير معروف * وحديث الحسن مرسل فسقط كل ما في هذا الباب *
ووجدنا نص القرآن يوجب الكفارة في ذلك بعمومه ومع ذلك قول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غير ها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفره)،
فان قيل: إن هذا فيما كان في كليهما خير الا أن الآخر أكثر خيرا قلنا هذه دعوى بل كل
شرفي العالم وكل معصية فالبر والتقوى خير منهما، قال الله تعالى: (الله خير أم ما يشركون)
فصح ان الله تعالى خير من الأوثان ولا شئ من الخير في الأوثان، وقال تعالى:
(أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا) ولا خير في جهنم أصلا * ومن طريق
مسلم نا محمد بن رافع نا عبد الرزاق [ثنا معمر] (1) عن همام بن منبه نا أبو هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله لان يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطى
كفارته التي فرض الله)، فصح بهذا الخبر وجوب الكفارة في الحنث في اليمين التي يكون
التمادي على الوفاء بها اثما، وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه رأى في ذلك الكفارة، وهو
قول الحاضرين وبالله تعالى التوفيق *
1135 - مسالة - واليمين محمولة على لغة الحالف وعلى نيته، وهو مصدق فيما ادعى
من ذلك الامن لزمته يمين في حق لخصمه عليه والحالف مبطل فان اليمين ههنا على نية
المحلوف له، ومن قيل له: قل كذا أو كذا فقاله وكان ذلك الكلام يمينا بلغة لا يحسنها
القائل فلا شئ عليه ولم يحلف، ومن حلف بلغته باسم الله تعالى عندهم فهو حالف فان
حنث فعليه الكفارة *
برهان ذلك أن اليمين (2) إنما هي إخبار من الحالف عما يلتزم بيمينه تلك وكل



(1) الزيادة من صحيح مسلم ج 2 ص 18
(2) في النسخة رقم 16 (الايمان) *
43
واحد فإنما يخبر عن نفسه بلغته وعما في ضميره فصح ما قلناه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
(إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى)، وقال الله تعالى: (وان من أمة إلا خلا
فيها نذير)، وقال تعالى: (وما أرسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم). ولله تعالى
في كل لغة اسم فبالفارسية أو زمز، وبالعبرانية اذوناى. والوهيم. والوهاء واسرايل،
وبالتينية داوش وقريطور، وبالصقلبية بغ، وبالبربرية يكش، فان حلف هؤلاء
بهذه الأسماء فهي يمين صحيحة، وفى الحنث فيها الكفارة، وأما من لزمته يمين لخصمه
وهو مبطل فلا ينتفع بتوريته وهو عاص لله تعالى في جحوده الحق عاص له في استدفاع
مطلب خصمه بتلك اليمين فهو حالف يمين غموس ولابد *
روينا من طريق هشم عن عباد بن أبي صالح. وعبد الله بن أبي صالح عن أبي صالح
السمان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك (1))،
وقد قيل: عباد. وعبد الله. واحد، ولا يكون صاحب المرء الامن له معه أمر يجمعهما
يصطحبان فيه وليس الا ذو الحق الذي له عليك يمين تؤديها إليه ولابد وأما من (2)
لا يمين له عندك فليس صاحبك في تلك اليمين *
1136 - مسألة - ومن حلف ثم قال: نويت بعض ما يقع عليه اللفظ الذي
نطق به صدق وكذلك لو قال: جرى لساني ولم يكن لي نية فإنه يصدق، فان قال: لم أنو شيئا
دون شئ حمل على عموم لفظه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق *
1137 - مسألة - ومن حلف على شئ ثم قال موصولا بكلامه إن شاء الله تعالى
أو إلا أن يشاء الله، أو الا أن لا يشاء الله أو نحو هذا، أو إلا أن أشاء، أو إلا أن
لا أشاء، أو إلا إن بدل الله ما في قلبي، أو إلا أن يبدو إلى، أو إلا أن يشاء فلان، أو
إن شاء فلان فهو استثناء صحيح وقد سقطت اليمين عنه بذلك ولا كفارة عليه ان خالف
ما حلف عليه، فلو لم يصل الاستثناء بيمينه لكن قطع قطع ترك للكلام ثم ابتدأ الاستثناء
لم ينتفع بذلك وقد لزمته اليمين، فان حنث فيها فعليه الكفارة، ولا يكون الاستثناء
الا باللفظ وأما بنية دون لفظ فلا لقول الله تعالى: (ولكن يؤاخذ كم بما عقدتم
الايمان) فهذا لم يعقد اليمين ونحن على يقين من أن الله تعالى لو شاء تمام تلك اليمين
لانفذها وأتمها فإذا لم ينفذها عز وجل ولا أتمها فنحن على يقين من أنه تعالى لم يشأ كونها
وهو إنما التزمها ان شاءها الله تعالى والله تعالى لم يشأها فلم يلتزمها قط، وكذلك اشتراطه



(1) هو في صحيح مسلم ج 2 ص 17
(2) في النسخة رقم 16 (وأما مع من) بزيادة لفظ (مع)
44
مشيئة نفسه أو مشيئة زيد لان مشيئته الا من قبله فهو مصدق فيها، ومشيئة
زيد لا ندري أصدق في دعواه انه شاء أو لم يصدق؟ ولا ندري أيضا أصدق في دعواه
انه لم يشأ أو لم يصدق؟ فلسنا على يقين من لزوم هذه اليمين الذي حلف بها فلم يجز انه نلزمه
كفارة بالشك: ومن طريق أحمد بن زهير بن حرب نا يحيى بن معين عن عبد الرزاق عن
معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال
إن شاء الله لم يحنث) * ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا بكر بن حماد نا مسدد عن
عبد الوارث - هو ابن سعيد التنوري - عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف فاستثنى فان شاء رجع وإن شاء ترك غير حنث) فهذا
عموم لكل استثناء كما ذكرنا *
قال أبو محمد: وقوله عليه السلام فقال: إن شاء الله أو فاستثنى يقتضى القول والقول
لا يكون الا باللسان لا يكون بالنية أصلا، وقد قال قوم. إن استثنى في نفسه أجزأه *
وروينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن محل (1) بن محرز عن إبراهيم النخعي قال
لا حتى يجهر بالاستثناء كما جهر باليمين * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن
المغيرة عن إبراهيم ان استثنى في نفسه فليس بشئ حتى يظهره بلسانه * وعن معمر عن حماد
في الاستثناء ليس بشئ حتى يسمع نفسه * وعن قتادة عن الحسن البصري إذا حرك
لسانه أجزأ عنه في الاستثناء *
قال أبو محمد: وبهذا نقول لأنه قول صحيح يعنى حركة اللسان، وأما وصل الاستثناء
باليمين فان أبا ثور قال لا يكون مستثنيا الا حتى ينوى الاستثناء في حين نطقه باليمين
لا بعد تمامها لأنها إذا أتم اليمين ولم ينو فيها الاستثناء كان قد عقد يمينه فلزمته *
قال أبو محمد: ولا يعترض بالنظر على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال عليه السلام:
(من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث) فأثبت له اليمين أو لاثم أسقطها عليه السلام عنه
بقوله (فقال إن شاء الله) والفاء تعطى أن يكون الثاني بعد الأول بلا مهلة فصح ما قلناه،
وقالت طائفة: الاستثناء جائز أبدا متى أراد أن يستثنى كما روينا من طريق الحجاج
ابن المنهال نا عبد الله بن داود - هو الخريبى - عن سليمان الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس
قال له ثنياه بعد كذا وكذا * ومن طريق خصيف عن مجاهد قال. ان قال بعد سنين.
إن شاء الله تعالى فقد استثنى، وقالت طائفة بعد أربعة أشهر كما روينا من طريق سالم الأفطس
عن سعيد بن جبير قال إن قال بعد أربعة أشهر إن شاء الله فقد استثنى، وقالت طائفة.



(1) هو بضم الميم وكسر الحاء المهملة وتشديد اللام في آخره
45
بعد شهر كما روينا من طريق يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن سالم بن عجلان
الأفطس عن سعيد بن جبير قال إذا حلف الرجل فقال بعد شهر. إن شاء الله فله ثنياه، وقالت
طائفة من نسي فله أن يستثنى متى ما ذكر كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن
الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس قال: يستثنى في يمينه متى ما ذكر، وقرأ (واذكر ربك
إذا نسيت) وصح [هذا] (1) أيضا عن سعيد بن جبير و [عن] (2) أبى العالية، وقالت
طائفة في ذلك بمهلة غير محدودة كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن عبد الرحمن بن عبد الله
ابن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود قال قال
عبد الله بن مسعود. من حلف ثم قال. إن شاء الله فهو بالخيار، وقالت طائفة بمقدار
حلب شاة غزيرة كما رويناه من طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح
عن عطاء قال له الاستثناء في اليمين بمقدار حلب الناقة الغزيرة، وطائفة قالت: له
الاستثناء ما لم يقم عن مجلسه أو يتكلم كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن قتادة قال
إذا حلف ثم استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه، وطائفة قالت: ما لم يقم فقط
كما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني ابن طاوس عن أبيه قال من
استثنى لم يحنث وله الثنيا ما لم يقم من مجلسه * ومن طريق ابن أبي شيبة عن حماد
ابن سلمة عن هشام بن حسان عن الحسن البصري انه كان يرى الاستثناء في اليمين ما لم
يقم من مقعده ذلك لا يوجب عليه الكفارة ان استثنى قبل أن يقوم، وقالت طائفة:
له الاستثناء في أول نهاره كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن
عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله
ابن مسعود قال قال عبد الله بن مسعود قال أبو ذر هو الغفاري ما من رجل يقول
حين يصبح. اللهم ما قلت من قول أو حلفت من حلف أو نذرت من نذر فمشيئتك بين
يدي ذلك كله ما شئت منه كان وما لم تشأ لم يكن فاغفره لي وتجاوز لي عنه اللهم من صليت
عليه فصلواتي عليه ومن لعنته فلعنتي عليه الا كان في استثنائه بقية يومه ذلك *
وأما قولنا فإننا روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن نافع ان ابن عمر
كان يحلف يقول. والله لا أفعل كذا وكذا إن شاء الله ثم يفعله ولا يكفر، وقد صح
عن ابن عمر أنه كان يكفر أيمانا أخر فقد ثبت عنه اسقاط الكفارة إذا وصل الاستثناء
بكلامه ولم يصح عنه في المهلة شئ فظاهره انه إذا لم يكن استثناؤه موصولا بيمينه كفر *
ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال لي عطاء إذا حلف ثم استثنى على أثر



(1) الزيادة من النسخة رقم 16
(2) الزيادة من النسخة اليمنية
46
ذلك ومع ذلك وعند ذلك، قال ابن جريج كأنه يقول: ما لم يقطع اليمين ويتركه، وصح
عن الأعمش عن إبراهيم في الاستثناء في اليمين قال: ما كان في كلامه [بقول] (1) *
ورويناه أيضا عن الشعبي. والحسن. وسفيان الثوري، وهو قول أبي حنيفة
ومالك. والشافعي. وأبي سليمان *
قال أبو محمد: إنما قلنا بهذا لقول الله تعالى: (ولكن يؤاخذ كم بما عقد تم الايمان
فكفارته اطعام عشرة مساكين) الآية فأوجب الله تعالى الكفارة على من عقد اليمين،
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث) فلم يجعل الاستثناء مردودا
على اليمين الا بالفاء والفاء في لغة العرب توجب تعقيبا بلا مهلة فوقفنا عند ذلك، وقال
بعضهم لو كان ما قال ابن عباس ما لزمت أحدا كفاره أبدا *
قال على: وهذا الا شئ لان ابن عباس لا يمنع من أراد الحنث وايجاب الكفارة من
أن يكفر لكن لو قالوا هذا مما تكثر به البلوى فما كان مثل هذا ليخفى على ابن عباس لكان
ألزم لهم، والعجب أن أبا حنيفة ومالكا يريان الاستثناء في اليمين بالله تعالى فقط ولا يريانه
في سائر الايمان، وهذا عجب جدا أن يكون الايمان بغير الله تعالى أو كد وأعظم من
اليمين بالله لان اليمين بالله تعالى يسقطها الاستثناء ويسقطها الكفارة، واليمين
بغير الله تعالى أجل من أن يسقطها الاستثناء ومن أن يسقطها الكفارة، ومن أن يكون
فيها غير الوفاء بها ونحن نبرأ إلى الله تعالى من هذا القول البشيع الشنيع، والكفارة في
نص القرآن جاءت على الايمان جملة والاستثناء في بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء في الحلف
جملة فإن كان تلك أيمانا فالاستثناء والكفارة فيها وان لم تكن أيمانا فمن أين ألزموها؟
وعجب آخر عجيب جدا! وهو أن مالكا قال: إن الاستثناء في الايمان ان نوى به الحالف
الاستثناء فهو استثناء صحيح فان نوى به قول الله عز وجل: (ولا تقولن لشئ انى فاعل
ذلك غدا الا أن يشاء الله) لم يكن استثناء *
قال أبو محمد: هذا كلام لا يدرى ما هو ولا ماذا أراد قائله به ولقد رمنا أن نجد عند
من أخذنا قوله عنه من المنتمين إليه معنى يصح فهمه لهذا الكلام فما وجدناه الا أنهم يحملونه
كما جاء وكما نقول نحن في كهيعص وطه آمنا به كل من عند ربنا وان لم نفهم معناه *
قال أبو محمد: فان احتج محتج لقول ابن عباس وغيره بما روينا من طريق أبى داود نا
محمد بن العلاء نا ابن بشر (2) عن مسعر عن سماك بن حرب [عن عكرمة] (3) يرفعه



(1) الزيادة من النسخة رقم 16
(2) في النسخة رقم 16 (نا أبو بشر) وهو غلط
(3) الزيادة من سنن أبي داود
47
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والله لأغزون قريشا ثم قال: إن شاء الله (1) ثم قال والله
لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال: إن شاء الله) قال أبو داود: وقال الوليد بن مسلم (2) عن
شريك ثم لم يغزهم * ورويناه أيضا من طريق شريك عن سماك عن عكرمة، وأسنده
جماعة عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس *
قال أبو محمد: سماك ضعيف يقبل التلقين ويلزم من اعتد بروايته في أخذ الدنانير من
الدراهم والدراهم من الدنانير ان يأخذ بها ههنا، ومن قال: إن المرسل كالمسند أن يقول
بهذا أيضا ويلزمهم إذ قاسوا ما يكون صداقا على ما تقطع فيه اليد في السرقة ان يقيسوا مدة
مهلة الاستثناء على مدة الايلاء فيقولوا بقول سعيد بن جبير في ذلك أو يجعلوه شهرا على
قولهم في أجل المدين (3) أنه يسجن شهرا ثم يسأل عنه بعد الشهر؟ أو يقيسوه على قولهم
الفاسد في المخيرة ان لها الخيار ما لم تقم عن مجلسها أو تتكلم، فأي فرق بين هذه التحكمات في
الدين بالباطل في تحريم الفروج واباحتها وغير ذلك من الديانة وبين مهلة الاستثناء؟ وهل
هذا إلا شبه التلاعب بالدين، والعجب من اجازتهم أكل ما ذبح أو نحر ونسي مذكيه أن
يسمى الله تعالى عليه ثم لا يرون ههنا نسيان الاستثناء عذرا يوجبون للحالف به الاستثناء
متى ذكر، فان قالوا فهلا قلتم أنتم بهذا كما أسقطتم الكفارة عمن فعل ما حلف عليه ناسيا
قلنا لم نقل بذلك لان الفاعل ناسيا ليس حانثا لان الحانث هو القاصد إلى الحنث وناسي
الاستثناء لم يستثن، فانعقدت اليمين عليه فوجبت الكفارة بنص القرآن، والكفارة
لا تسقط بعد وجوبها الا بالنص ولم يسقطها النص الا إذا قال موصولا باليمين ما يستثنى
به والعجب أنهم يقولون في مثل هذا إذا وافقهم: مثل هذا لا يقال بالرأي فهلا قالوا في قول
أبي ذر. وابن عباس ههنا مثل هذا لا يقال بالرأي كما قالوا في رواية شيخ من بنى كنانة عن
عمر البيع عن صفقة أو خيا وهذا: لا يقال بالرأي فردوا به السنة الثابتة من أن كل بيعين فلا بيع
بينهما ما لم يتفرقا وكانا معا *
1138 مسألة ويمين الا بكم واستثناؤه لا زمان على حسب طاقته من صوت
يصوته أو إشارة إن كان مصمتا لا يقدر على أكثر لما ذكرنا من أن الايمان أخبار من الحالف
عن نفسه والأبكم والمصمت مخاطبان بشرائع الاسلام كغيرهما، وقد قال الله تعالى:
(لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمرتكم بأمر فائتوا
منه ما استطعتم) فوجب عليهما من هذه الشريعة ما استطاعاه وان يسقط عنهما ما ليس



(1) في النسخة رقم 16 (ان يشأ الله)
(2) في سنن أبي داود قال أبو داود: (زاد فيه الوليد ابن مسلم) الخ
(3) في النسخة رقم 16 (المديون) وهما صحيحان
48
في وسعهما وان يقبل منهما ما يخبران به عن أنفسهما حسب ما يطيقان ويلزمهما ما التزماه،
وبالله تعالى التوفيق *
1139 مسألة والرجال. والنساء. الأحرار. والمملوكون. وذوات
الأزواج والأبكار وغيرهن في كل ما ذكر نا ونذكر سواء لان الله تعالى قال: (ذلك
كفارة أيمانكم إذا حلفتم) وقال تعالى: (ولكن يؤاخذ كم بما عقدتم الايمان) وقال
عليه السلام: (من كان حالفا فلا يحلف الا بالله) وقال في الاستثناء ما ذكرنا، ولم يأت
نص بتخصيص عبد من حر ولا ذات زوج من أيم ولا بكر من ثيب (وما كان ربك
نسيا)، والتحكم في الدين بالآراء الفاسدة لا يجوز وبالله تعالى التوفيق *
وقد وافقونا على أن كل من ذكرنا مخاطب بالصلاة وبالصيام. وتحريم ما يحرم.
وتحليل ما يحل سواء فأنى لهم تخصيص بعض ذلك من بعض بالباطل. والدعاوى الكاذبة؟
فان ذكروا ما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن حرام بن عثمان عن عبد الرحمن.
ومحمد ابني جابر بن عبد الله عن أبيهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يمين لولد مع يمين
والد. ولا يمين لزوجة مع يمين زوج. ولا يمين للمملوك مع يمين مليكه. ولا يمين في قطيعة.
ولا نذر في معصية. ولا طلاق قبل نكاح. ولا عتاقة قبل الملك (1) ولا صمت يوم إلى
الليل. ولا مواصلة في الصيام. ولا يتم بعد الحلم. ولا رضاعة بعد الفطام. ولا تغرب
بعد الهجرة. ولا هجرة بعد الفتح)، فحرام بن عثمان ساقط مطرح لا تحل الرواية
عنه، ويلزم من قلد روايته في استظهار المستحاضة بثلاث بعد أيامها فأسقط بها الصلوات
المفروضة والصيام المفروض وحرم الوطئ المباح ان يأخذوا (2) بروايته ههنا وإلا فهم
متلاعبون بالدين، وبالله تعالى التوفيق * وقد خالفوا أكثر ما في هذا الخبر، وأما نحن
فوالله لو صح برواية الثقات متصلا لبادرنا إلى القول به، وبالله تعالى التوفيق *
1140 مسألة ولا يمين لسكران ولا لمجنون في حال جنونه. ولا لهاذ (3) في
مرضه ولا لنائم في نومه. ولا لمن لم يبلغ، ووافقنا في كل هذا أبو حنيفة. ومالك.
والشافعي الا أنهم خالفونا في السكران وحده ووافق في السكران أيضا قولنا ههنا قول
المزني. وأبي سليمان. وأبي ثور. والطحاوي. والكرخي من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم *
وحجتنا في الكسران قول الله تعالى: (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا
ما تقولون) فمن شهد الله تعالى له بأنه لا يدرى ما يقول فلا يحل أخذه بما لا يدرى ما هومن



(1) في النسخة اليمنية (ولاعتاقة قبل الملكة)
(2) في النسخة رقم 16 (أن يأخذ)
(3) الهاذى هو الذي يتكلم بكلام غير معقول في مرض أو غيره *
49
قوله، وبيقين ندري أنه لم يعقد اليمين والله تعالى لا يؤاخذ الا بما عقد منها بنص القرآن،
وما نعلم لهم حجة الا أنهم قالوا: هو أدخل ذلك على نفسه فقلنا: نعم فكان ماذا؟ وما
تقولون فيمن قطع الطريق فجرح جراحة أقعدته أو جرحها نفسه عابثا عاصيا أينتقل إلى
حكم من أقعد في سبيل الله أو بمرض من عنده عزو جل في جواز الصلاة قاعدوا وفى وجوب
الفطر في رمضان في مرضه أم لا؟ فمن قولهم نعم فظهر تناقضهم وكل من صار إلى حال
يبطل اختياره فيها بأي وجه صار إليها فهو في حكم من صار إليها بغلبة لان النصوص لم
تستثن ههنا من أحوال المصير إلى تلك الحال شيئا، والعجب من المالكيين القائلين فيمن
خرج قاطعا للطريق فاضطر إلى الميتة. والخنزير ان له أن يقوى نفسه باكلها والقرآن جاء
بخلاف ذلك وهو قادر على التوبة ثم يأكل حلالا فلا يلزمه ذلك ثم لا يرى السكران في حكم
من ذهب عقله من أجل أنه هو ادخله على نفسه، والعجب من أبي حنيفة الذي يرى أن
النائم في نهار رمضان ان أكل في حال نومه أو شرب ما دس في فمه أنه مفطر ثم يراه ههنا غير
حالف ثم يلزم السكران يمينه، وهذا عجب جدا، فان قالوا: لعله متساكر ومن يدرى
أنه سكران؟ قلنا: ولعل المجنون متجنن متحامق ومن يدرى أنه مجنون أو أحمق،
وجوابنا ههنا أنه من حيث يدرى أنه مجنون يدرى أنه سكران ولا فرق *
(وفى الصبي يحلف) خلاف نذكره، روينا من طريق محمد بن المثنى عن حفص بن
غياث عن ليث بن أبي سليم عن طاوس قال: إذا حلف الصبي ثم حنث بعد ما يكبر كفر *
قال أبو محمد. وقد صح عن بعض الصحابة عمر. أو عثمان إقامة الحد على من بلغ خمسة
أشبار وان لم يبلغ، ويلزم من يرى من المالكيين ان يكفر عن الصبي يصيب الصيد في
احرامه أن يكفر عنه ان خنث والا فقد تناقضوا *
قال على: والحجة في هذا هو ما رويناه من طريق أبى داود ناموسي بن إسماعيل نا
وهيب هو ابن خالد عن خالد الحذاء عن أبي الضحى عن علي بن أبي طالب عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: (رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن الصبي حتى يحتلم وعن
المجنون حتى يعقل) * ومن طريق أبى داود نا عثمان بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون
نا حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن الأسود بن يزيد عن عائشة
أم المؤمنين (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ وعن
المبتلى حتى يبرأ وعن الصبي حتى يكبر * قال على: السكران مبتلى بلا شك في عقله *
1141 مسألة ومن حلف بالله تعالى في كفره ثم حنث في كفره أو بعد اسلامه
فعليه الكفارة لأنهم مخاطبون بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودين الله تعالى لازم لهم قال تعالى.

50
(وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) وقال تعالى. (وان احكم بينهم بما
أنزل الله) ولا يجزيه أن يكفر في حال كفره لأنه لم يأت بالكفارة التي افترض الله تعالى
عليه في القرآن مصدقا انها دين الله تعالى فعليه أن يأتي بها قال تعالى: (وما أمروا
الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء *
1142 مسألة ومن حلف واللات والعزى فكفارته أن يقول لا اله إلا الله
وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير يقولها مرة أو يقول لا اله
إلا الله وحده ثلاث مرات ولابد، وينفث عن شماله ثلاث مرات ويتعوذ بالله من
الشيطان ثلاث مرات ثم لا يعد فان عاد عاد لما ذكرنا أيضا، ومن قال لآخر تعال أقامرك
فليتصدق ولابد بما طابت به نفسه قل أم كثر لما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا عبد الحميد
ابن محمد أنا مخلد نا يونس هو ابن أبي إسحاق السبيعي عن أبيه [قال] (1) حدثني مصعب
ابن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال: (حلفت باللات والعزى فأتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: قل لا اله إلا الله وحده لا شريك له آله الملك وله الحمد وهو
على كل شئ قدير وانفث عن شمالك (2) ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد) *
ومن طريق أحمد بن شعيب نا أبو داود الحراني نا الحسن بن محمد هو ابن أعين ثقة
نا زهير هو ابن معاوية نا أبو إسحاق هو السبيعي عن معصب بن سعد بن أبي وقاص
عن أبيه قال: (حلفت باللات والعزى فقال لي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بئس ما قلت
إئت رسول الله صلى الله عليه وسلم [فأخبره] (3) فانا لا نراك الا قد كفرت فلقيته فأخبرته فقال لي:
قل: لا اله إلا الله وحده [لا شريك له] ثلاث مرات وتعوذ بالله من الشيطان ثلاث
مرات وانفث عن شمالك (4) ثلاث مرات ولا تعدله) * ومن طريق مسلم نا إسحاق
هو ابن راهويه أنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن بن عوف
(أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف منكم فقال في حلفه: باللات فليقل
لا اله إلا الله ومن قال لصاحبه: تعالى أقا مرك فليتصدق 5)) *
قال على: في هذا ابطال التعلق بقول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال الصحابة
رضي الله عنهم لسعد: ما نراك الا قد كفرت ولم يكن كفر *
1143 مسألة ومن حلف أيمانا على أشياء كثيرة على كل شئ منها يمين مثل



(1) الزيادة من سنن النسائي
(2) في سنن النسائي (عن يسارك) والحديث فيه زيادة هناك
(3) الزيادة من سنن النسائي وفيه طول
(4) في النسائي (عن يسارك)
(5) هو في صحيح مسلم ج 2 ص 14
51
والله لا أكلت اليوم، ووالله لا كلمت زيدا، والله لا دخلت داره أو نحو هذا فهي أيمان
كثيرة ان حنث في شئ منها فعليه كفارة، فان عمل آخر فكفارة أخرى فان عمل ثالثا
فكفارة ثالثة وهكذا ما زاد لأنها أيمان متغايرة. وأفعال متغايرة وأحناث متغايرة
ان حنث في يمين لم يحنث بذلك في أخرى بلا شك فلكل يمين حكمها *
1144 مسألة فلو حلف كذلك ثم قال في آخرها: إن شاء الله أو استثنى
بشئ ما فان قوما قالوا: إن كان كل ذلك موصولا فهو مصدق فيما نوى فان قال أردت
بالاستثناء جميع الايمان فلا حنث عليه في شئ منها وان قال: نويت آخرها فهو كما قال
وبالله تعالى التوفيق * وقال أبو ثور: الاستثناء راجع إلى جميع الايمان، وقال أبو حنيفة:
لا يكون الاستثناء الا لليمين التي تلي الاستثناء *
قال أبو محمد: وبهذا نأخذ لأنه قد عقد الايمان السالفة ولم يستثن فيها وقطع الكلام
فيها وأخذ في كلام آخر فبطل أن يتصل الاستثناء بها فوجب الحنث فيها ان حنث
والكفارة وكان الاستثناء في اليمين التي اتصل بها كما قدمنا، وبالله تعالى التوفيق *
1145 مسألة فان حلف يمينا واحدة على أشياء كثيرة كمن قال والله لا كلمت
زيدا ولا خالدا ولا دخلت دار عبد الله ولا أعطيتك شيئا فهي يمين واحدة ولا يحنث
بفعله شيئا مما حلف عليه ولا تجب عليه كفارة حتى يفعل كل ما حلف عليه، وهذا قول
عطاء. والشافعي. وبعض أصحابنا * روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج قال
قال عطاء فيمن قال: والله لا أفعل كذا والله لا أفعل كذا لأمور شتى قال هو قول واحد
ولكنه خص كل واحد بيمين قال: كفارتان، وقال عطاء فيمن قال والله لا أفعل كذا
وكذا لامرين شتى فعمهما باليمين قال كفارة واحدة، ولا نعلم لمتقدم فيها قولا آخر،
وقال المالكيون: هو حانث بكل ما فعل من ذلك ثم يخرج على هذا القول إنه يجب عليه
لكل فعل كفارة وقول آخر انه يلزمه كفارة بأول ما يحنث ثم لا كفارة عليه في سائر ذلك *
قال أبو محمد: اليمين لا تكون بالنية دون القول وهو لم يلفظ الا بيمين واحدة فلا
يلزمه أكثر من يمين أصلا إذ لم يوجب لزومها إياه قرآن ولا سنة فإذ هي يمين واحدة
فلا يجوز أن يكون في بعضها على حنث وفى بعضها على بر إنما هو حانث أو غير حانث لم
يأت بغير هذا قرآن. ولا سنة. ولا قياس. ولا قول متقدم، فصح أنه لا يكون حانثا
الا بأن يفعل كل ما عقد بتلك اليمين أن لا يفعله، وأيضا فالأموال محظورة والشرائع
لا تجب بدعوى لا نص معها، وبالله تعالى التوفيق *
1146 مسألة فان حلف أيمانا كثيرة على شئ واحد مثل أن يكون بالله

52
لا كلمت زيد أو الرحمن لا كلمة والرحيم لا كلمته بالله ثانية لا كلمته بالله ثالثة لا كلمته،
وهكذا أبدا في مجلس واحدا أو في مجالس متفرقة وفى أيام متفرقة فهي كلها يمين واحدة ولو
كررها ألف ألف مرة وحنث واحد وكفارة واحدة ولا مزيد *
وقد اختلف السلف في هذا روينا من طريق حماد بن سلمة عن أبان عن مجاهد قال:
زوج ابن عمر مملوكه من جارية له فأراد المملوك سفرا فقال له ابن عمر: طلقها فقال المملوك
والله لا طلقتها فقال له ابن عمر: والله لتطلقنها كرر ذلك ثلاث مرات قال مجاهد فقلت
لابن عمر. كيف تصنع؟ قال أكفر عن يمين فقلت له: قد حلفت مرارا قال كفارة
واحدة * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن مجاهد عن ابن عمر قال: إذا أقسمت
مرارا فكفارة واحدة * ومن طريق إبراهيم النخعي إذ أردد الايمان فهي يمين واحدة *
وعن هشام بن عروة ان أباه سئل من تعرضت له جارية له مرارا كل مرة يحلف بالله
أن لا يطأ ها ثم وطئها فقال له عروة: كفارة واحدة * ومن طريق حماد بن سلمة عن قيس
ابن سعد عن عطاء قال كفارة واحدة إذا حلف في أمر واحد في مجالس شتى *
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: إذا حلف في مجالس شتى قال:
كفارة واحدة قال. وأخبرني من سمع عكرمة يقول مثل هذا * ومن طريق حماد بن سلمة
عن حميد. وقتادة عن الحسن قال: كفارة واحدة إذا حلف في أمر واحد في مجالس شتى
وهو قول الأوزاعي. ومالك. وأحمد. واسحق. وأبي سليمان. وأبى عبيد وأحد
قولي سفيان الثوري، وروينا عن ابن عمر. وابن عباس إذا أكد اليمين فعتق رقبة،
وقالت طائفة: إن كان ذلك في مجلس واحد فكفارة واحدة وإن كان في مجالس شتى
فكفارات شتى صح ذلك عن قتادة، وقال عمرو بن دينار: يقولون ذلك، وقال سفيان
الثوري في قول له ان نوى باليمين الأخرى يمينا ثانية فكفارتان، وقال عثمان التي، وأبو
ثور ان أراد التكرار فيمين واحدة وكفارة واحدة وان أراد التغليظ فلكل مرة كفارة،
وهو قول الشافعي الا أنه عبر عنه بأن قال: إن أراد التكرار فكفارة واحدة والا فلكل
مرة كفارة فلم يخرجه عن أن يكون لكل مرة كفارة الا بأن ينوى التكرار فقط ثم
لم يشترط (1) إرادة التغليظ، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ان أراد التكرار فيمين واحدة
وان لم تكن له نية أو أراد التغليظ أو كان ذلك في مجلسين فصاعدا فلكل يمين كفارة *
قال أبو محمد: لا نعلم لمن رأى في تأكيد اليمين عتق رقبة فقط حجة لان الله تعالى حين بين
الرقبة. والا طعام. والكسوة وقد علم أن هنالك أيمانا مؤكدة قال تعالى. (ولا تنقضوا



(1) في النسخة اليمنية (فقط ولم يشترط)
53
الايمان بعد توكيدها)، ولا نعلم لمن فرق بين أن يكون ذلك في مجلس وبين أن يكون
في مجلسين فصاعدا حجة الا الدعوى أنها يمين واحدة في مجلس ويمين ثانية في المجلس
الثاني، وهذه دعوى لا يصححها برهان، وكل لفظ فهو بلا شك غير اللفظ الآخر كما أن
كل مجلس غير المجلس الآخر ولا فرق، وكذلك لا ندري لمن فرق بين التغليظ وغير
التغليظ حجة أصلا الا الدعوى بلا برهان، وأما من قال: إن نوى التكرار فهي يمين
واحدة والا فهي أيمان شتى فما نعلم لهم حجة الا أنهم قالوا: هي ألفاظ شتى فلكل لفظ
حكم أو ان يقيسوا ذلك على تكرار الطلاق *
قال أبو محمد: القياس كله باطل ثم لو كان حقا لكان هذا منه باطلاق لان النص جاء
في القرآن بأن حكم الطلقة الثالثة غير حكم الثانية وغير حكم الأولى ولم يأت ذلك في الايمان
وأما قولهم. انها ألفاظ شتى فنعم الا أن الحنث به تجب الكفارة لا بنفس اليمين فان
الايمان لا توجب الكفارة أصلا ولا خلاف في ذلك ولا يوجب الكفارة الا الحنث
فالحنث فيها كلها حنث واحد بلا شك، ولا يجوز أن يكون بحنث واحد كفارات شتى،
والأموال محرمة والشرائع ساقطة الا أن يبيح المال نص أو يأتي بالشرع نص وبالله
تعالى التوفيق، وهذا مما خالف فيه الحنيفيون والشافعيون ابن عمر. وابن عباس ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف، وبالله تعالى التوفيق *
1147 مسألة ومن حلف بالله لا أكلت هذا الرغيف أو قال لا شربت ماء
هذا الكوز فلا يحنث بأكل بعض الرغيف ولو لم يبق منه الا فتاتة، ولا بشرب بعض
ما في الكوز ولو لم يبق الا نقطة الا حتى يستوعب أكل جميع الرغيف وشرب جميع ما في
الكوز، وكذلك لو حلف بالله لآكلن هذا الرغيف اليوم فأكله كله الا فتاتة وغابت
الشمس فقد حنث وهكذا في الرمانة وفي كل شئ في العالم لا يحنث ببعض ما حلف عليه،
وهو قول أبي حنيفة. والشافعي. وأبي سليمان، وقال المالكيون يحنث بأكل بعضه
وشرب بعضه *
قال أبو محمد: نسألهم عن رجل أكل بعض رغيف لزيد فشهد عليه شاهدان أنه أكل
رغيف زيد؟ أصادقان هما أم كاذبان؟ فمن قولهم إنهما كاذبان مبطلان فاقروا على أنفسهم
بالفتيا بالكذب. وبالباطل. وبالمشاهدة يدرى فساد هذا القول لأنه إنما حلف أن
لا يأكله لم يحلف أن لا يأكل منه شيئا وهو إذا أبقى منه شيئا فلم يفعل ما حلف عليه،
والأموال محظورة الا بنص ولا نص في صحة قولهم، وقال قائلهم الحنث. والتحريم كلاهما
يدخل بارق الأسباب فقلنا: هذا باطل ما يدخل الحنث والتحريم لا بارق الأسباب ولا

54
بأغلظها ولا يدخل التحليل أيضا لا بأرق الأسباب ولا بأغلظها وكل هذا باطل وافك، ولا
يدخل الحنث. والبر. والتحريم. والتحليل الا حيث أدخل الله تعالى شيئا منها في كتابه أو
على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأطراف شئ انهم قالوا: تحريم زوجة الأب على الابن يدخل
بأرق الأسباب وهو العقد وحده فقلنا لهم نسيتم أنفسكم أو لم يكن فرج هذه المرأة حراما
على الأب كما هي على الابن ثم دخل التحليل للأب بارق الأسباب وهو العقد وحده فأين
قولكم إن التحليل لا يدخل الا بأغلظ الأسباب؟ وكم هذا التخليط بما لا يعقل في دين الله
تعالى؟ وقالوا: والتحليل في المطلقة ثلاثا لا يدخل الا بأغلظ الأسباب وهو العقد.
والوطئ فقلنا: نقضتم قولكم قولوا بقول الحسن والا فقد أفسدتم بنيانكم لأنه يقول:
لا تحل المطلقة ثلاثا الا بالعقد. والوطئ. والانزال فيها والا فلا وهذا أغلظ (1) الأسباب
والقوم في لا شئ، ونحمد الله على السلامة، وابنة الزوجة لا تحرم على زوج أمها بارق
الأسباب الذي هو العقد لكن بالدخول بالأم مع العقد فهذا تحريم لم يدخل الا بأغلظ
الأسباب، ثم تناقضهم ههنا طريف جدا لان من قولهم: ان من حلف أن لا يأكل رغيفا
فاكل نصف رغيف يحنث ومن حلف أن لا يهب لزيد عشرة دنانير فوهب له تسعة دنانير انه
لا يحنث فأي فرق بين هذا كله لو كان ههنا تقوى؟ *
واحتج بعضهم في ذلك بان من حلف أن لا يدخل دار زيد فدخل شيئا منها فإنه يحنث
فقلنا لهم: إنما يكون الحنث بمخالفة ما حلف عليه ولا يكون في اللغة والمعقول دخول الدار
الا بدخول بعضها لا بأن يملا ها بجثته بخلاف أكل الرغيف ولو أنه دخل بعضه الدار
لا كله لم يحنث لأنه لم يدخلها وهم مجمعون معنا على أن من حلف أن لا يهدم هذا الحائط
فهدم منه مدرة أنه لا يحنث *
1148 مسألة فلو حلف أن لا يأكل من هذا الرغيف أو ان لا يشرب من ماء هذا الكوز
فإنه يحنث بأكل شئ منه وشرب شئ منه لأنه خلاف ما حلف عليه، وبالله تعالى التوفيق *
1149 مسألة فلو حلف أن لا يشرب ماء النهر فإن كانت له نية في شرب شئ
منه حنث [باي شئ شرب منه] (2) لأنه بهذا (3) يخبر عن شرب بعض مائه
فإن لم يكن له نية فلا حنث عليه لان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات ولكل
امرئ ما نوى) *
1150 مسألة ومن حلف أن لا يدخل دار زيد فإن كانت من الدور المباحة



(1) في النسخة رقم 16 (فهذا أغلظ)
(2) الزيادة من النسخة اليمنية
(3) في النسخة اليمنية (لأنه هكذا)
55
الدهاليز كدور الرؤساء لم يحنث بدخول الدهليز حتى يدخل منها ما يقع على من صار هنا لك
انه داخل دار زيد (1) وإن كانت من الدور التي لا تباح دهاليز ها حنث بدخول الدهليز،
وهكذا في المساجد. والحمامات. وسائر المواضع لما ذكرنا من أنه إنما يراعى ما يتخاطب
به أهل تلك اللغة وقد قال الله تعالى: (وان منكم إلا وارد ها كان على ربك حتما مقضيا)
فهذا عموم ولا يجوز أن يقال إن محمدا عليه السلام والأنبياء يدخلون جهنم *
1151 مسألة ومن حلف أن لا يدخل دار فلان أو ان لا يدخل الحمام فمشى على
سقوف كل ذلك أو دخل دهليز الحمام لم يحنث لأنه لم يدخل الدار ولا الحمام ولا يسمى
دخول دهليز الحمام دخول حمام *
1152 مسألة ومن حلف أن لا يكلم فلانا فأوصى إليه أو كتب إليه لم يحنث لأنه
لا يسمى الكتاب ولا الوصية كلاما، وكذلك لو أشار إليه قال الله عز وجل: (آيتك أن لا
تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة
وعشيا)، وقال تعالى: (فاما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن
أكلم اليوم انسيا) إلى قوله (فأشارت إليه)، فصح أن الإشارة والايماء ليسا كلا ما *
1153 - مسألة - ومن حلف أن لا يشترى اداما فأي شئ اشتراه من لحم. أو غيره
أي شئ كان مما يؤكل به الخبز فاشتراه ليأكل به الخبز حنث أكل به أو لم يأكل لأنه قد
اشترى الا دام فلو اشتراه ليأكله بلا خبز لم يحنث لأنه ليس ادا ما حينئذ، وقال أبو حنيفة:
من حلف أن لا يأكل اداما فاكل خبزا بشواء لم يحنث فان أكله بملح أو بزيت أو بشئ
يصنع فيه الخبز حنث *
قال على: وهذا كلام فاسد جدا لأنه لا دليل عليه لا من شريعة ولا لغة * نا أحمد
ابن عمر بن أنس نا أحمد بن محمد البلوى غندر نا خلف بن القاسم نا أبو الميمون نا عبد
الرحمن بن عبد الله بن عمر بن راشد نا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو النصرى نا عمر بن
حفص بن غياث نا أبى عن محمد بن أبي يحيى ثقة عن يزيد الأعور عن يوسف بن عبد
الله بن سلام قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ كسرة خبز شعير ووضع عليها تمرة
قال: هذه ادام هذه) *
قال على: وأصل الادام الجمع بينه وبين الخبز. فذلك أحرى أن يؤدم بينهما فكل
شئ جمع إلى الخبز ليسهل أكله به فهو إدام *
1154 - مسألة - ومن حلف أن يضرب غلامه عددا من الجلد أكثر من العشر



(1) في النسخة رقم 16 (انه دخل دار زيد)
56
لم يحل له ذلك ويبر في يمينه بان يجمع ذلك العدد فيضربه به ضربة واحدة * روينا من طريق
عبد الرزاق عن ابن جريج أنه أخبره عبد الله بن عبيد بن عمير أنه رأى أباه يتحلل يمينه في
ضرب نذره بأدنى ضرب فقال عطاء: قد نزل ذلك في كتاب الله تعالى: (وخذ بيدك
ضغثا فاضرب به ولا تحنث) وهو قول أبي حنيفة: والشافعي. وأبي سليمان، وقال مجاهد.
والليث. ومالك: لا يبر بذلك وما نعلم لهم حجة أصلا *
1155 - مسألة - ولا معنى للبساط في الايمان ولا للمن، ولو منت امرأته عليه
أو غيرها بما لها فحلف أن لا يلبس من ما لها ثوبا لم يحنث الا بما سمى فقط ويأكل من مالها
ما شاء ويأخذ ما تعطيه ولا يحنث بذلك ويشترى بما تعطيه ما يلبس ولا يحنث بذلك،
وكذلك من من على آخر بلبن شاته فحلف أن لا يشرب منه شيئا فله أن يأكل من لحم
تلك الشاة ومن جبنها ومن زبدها. وورائها لأنه ليس شئ من ذلك شرب لبن، فان باعت
تلك الشاة واشترت أخرى كان له أن يشرب من لبنها ولا كفارة في ذلك إنما يحنث بما حلف
عليه وسماه فقط، وهو قول أبي حنيفة. والشافعي. وأبي سليمان، وقال مالك: يحنث
بكل ذلك ثم تناقض فقال: إن وهبت له شاة ثم منت بها عليه فحلف أن لا يأكل من لبنها
شيئا فباعها وابتاع بثمنها ثوب بالبسه فإنه يحنث ولا يحنث بامساكها في ملكه ولا ببيعها
وقضاء دينه من ثمنها، وهذا قول ظاهر الفساد لأنه أحنثه بغير ما حلف عليه، وموه
بعضهم بان ذكر ما رويناه من طريق حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن علي بن
الحسين (أن أبا لبابة ربط نفسه إلى سارية وقال: لا أحل نفسي حتى يحلني رسول الله صلى الله عليه وسلم
أو تنزل توبتي فجاءت فاطمة تحله فأبى إلا أن يحله رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: ان
فاطمة بضعة منى) فهذا لا يصلح لأنه مرسل، ثم عن علي بن زيد وهو ضعيف، ثم لو صح
لكانوا مخالفين لما فيه لأنهم لا يختلفون فيمن حلف أن لا يضرب زيدا فضرب ولد زيد
أنه لا يحنث *
1156 - مسألة ومن حلف أن لا يفعل أمرا كذا حينا أو دهرا أو زمانا أو مدة
أو برهة أو وقتا أو ذكر كل ذلك بالألف واللام. أو قال مليا أو قال: عمرا أو العمر فبقي
مقدار طرفة عين لم يفعله ثم فعله فلا حنث عليه لان كل جزء من الزمان زمان. ودهر.
وحين. ووقت. وبرهة. ومدة *
وقد اختلف السلف في الحين فقالت طائفة: الحين سنة * روينا من طريق ابن وهب
عن الليث بن سعد كان علي بن أبي طالب يقول: أرى الحين سنة، وقد روى من طريق
عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس الحين سنة * ومن طريق شعبة عن

57
الحكم بن عتيبة. وحماد بن أبي سليمان قالا جميعا: الحين سنة، وعن عكرمة مثله، وهو
قول مالك قال: الا أن ينوى غير ذلك فله ما نوى * وذهبت طائفة إلى ما رويناه من طريق
محمد بن عبد الله الأنصاري عن محمد بن علي بن الحسين أنه سئل في رجل حلف
على امرأته أن لا تفعل فعلا ما إلى حين؟ فقال: أي الأحيان أردت؟ فان الأحيان ثلاثة
قال الله عز وجل: (تؤتى أكلها كل حين باذن ربها) كل ستة أشهر، وقوله تعالى:
(ليسجننه حتى حين) فذلك ثلاثة عشر عاما، وقوله تعالى (ولتعلمن نبأه بعد حين)
فذلك إلى يوم القيامة * وذهبت طائفة إلى ما رويناه من طريق إسماعيل بن إسحاق عن
محمد بن عبيد عن محمد بن ثور عن معمر قال الحسن البصري: (تؤتى أكلها كل حين)
ما بين ستة أشهر إلى تسعة أشهر * وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق محمد بن المثنى نا
المغيرة بن سلمة بن هشام المخزومي نا وهيب بن خالد نا ابن حرملة أن رجلا سأل سعيد
ابن المسيب عن يمينه أن لا تدخل امرأته على أهلها حينا؟ فقال سعيد الحين ما بين أن تطلع
النخل إلى أن ترطب (تؤتى أكلها كل حين)، وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق
إسماعيل بن إسحاق عن محمد بن عبيد عن محمد بن ثور عن معمر عن قتادة (تؤتى أكلها
كل حين) قال: تؤكل ثمرتها في الشتاء والصيف * وذهبت طائفة إلى ما روينا من طريق
يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري حدثني طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس قال: (الحين ستة أشهر) وهو قول سعيد بن جبير. والشعبي * وذهبت
طائفة إلى ما روينا من طريق محمد ابن المثنى نا يزيد بن هارون انا هشام - هو ابن حسان - عن
عكرمة أن عمر بن عبد العزيز سألهم عمن قال لا أفعل امرا كذا حينا؟ فقال له عكرمة:
إن من الحين ما يدرك ومالا يدرك فالذي لا يدرك قوله عز وجل (ومتعناهم إلى حين)
والذي يدرك قوله تعالى (تؤتى أكلها كل حين) فأراه من حين تثمر إلى حين تصرم
ستة أشهر فاعجب ذلك عمر بن العزيز وبه يقول أبو حنيفة. والأوزاعي. وأبو عبيد،
وقال أبو حنيفة. الا أن ينوى مدة ما فله ما نوى * وذهبت طائفة إلى ما رويناه من طريق
محمد بن المثنى نا يزيد بن هارون عن محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة عن
سعيد بن المسيب قال: الحين شهران النخلة تطلع السنة كلها الا شهرين * وذهبت
طائفة إلى ما روينا من طريق محمد بن المثنى نا أبو معاوية الضرير نا الأعمش عن أبي
ظبيان عن ابن عباس قال: الحين قد يكون غدوة وعشية وهو قول الشافعي. وأبي سليمان
* وروينا من طريق وكيع عن أبي جعفر عن طاوس قال الزمان شهران *
قال أبو محمد: المرجوع إليه عند التنازع كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم

58
فوجدناه تعالى قد قال (هل أتى على الانسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) فهذا
مذ خلق الله عز وجل مبدأ العالم إلى خلق آدم عليه السلام ونسم بنيه والى وقت نفخ الروح
في كل واحد منا، وقال تعالى (ولتعلمن نبأه بعد حين) فهذا إلى يوم القيامة، وقال تعالى:
(ومتعناهم إلى حين) فهذا مدة عمر الانسان إلى أن يموت، وقال تعالى: (ليسجننه حتى حين)،
وقال تعالى: (فلبث في السجن بضع سنين) والبضع ما بين الثلاث إلى التسع، وقال الله
تعالى: (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا
وحين تظهرون) فسمى الله تعالى المساء حينا. والاصباح حينا. والظهيرة حينا، فصح
بذلك ما ذكرناه وبطل قول من حد حدا دون حد، ووجدنا احتجاجهم بالنخلة عليهم
لا لهم لأننا نشاهدها يرطب منها ما كان زهوا. ويزهى ما كان بسرا. ويبسر منها ما كان
بلحا. ويبلح منها ما كان طلعا، ففي كل ساعة تؤتى أكلها وبالله تعالى التوفيق *
ولأبي حنيفة هنا تخاليط عظيمة، منها أنه قال: من حلف أن لا يكلم فلانا زمانا أو
الزمان. أو حينا أو الحين. أو مليا أو طويلا فهو كله ستة أشهر الا أن ينوى مدة ما فله
ما نوى، وروى عنه أيضا في قوله مليا انه شهر واحد فان حلف أن لا يكلمه دهرا قال
أبو حنيفة: لا أدرى ما الدهر؟ وقال أبو يوسف. ومحمد: هو ستة أشهر فان قال لا أكلمه
الدهر قال أبو يوسف: هو على الأبد، وقال محمد بن الحسن: ستة أشهر فان حلف أن
لا يكلمه إلى بعيد فهو أكثر من شهر قال أبو يوسف: شهر ويوم فان حلف أن لا يكلمه إلى
قريب فهو أقل من شهر فان حلف أن لا يكلمه عمرا فان أبا يوسف قال: ستة أشهر، وروى
عنه أنه يوم واحد الا أن ينوى مدة ما فله ما نوى *
1157 - مسألة - فان حلف أن لا يكلمه طويلا فهو ما زاد على أقل المدد، فان
حلف أن لا يكلمه أياما أو جمعا أو شهورا أو سنين أو ذكر كل ذلك بالألف واللام فكل
ذلك على ثلاثة ولا يحنث فيما زاد لأنه الجمع وأقل الجمع ثلاثة وهو ما زاد على التثنية قال
تعالى: (فان كن نساء فوق اثنتين) فان قال في كل ذلك: كثيرة فهي على أربع لأنه
لا كثير الا بالإضافة إلى ما هو أقل منه ولا يجوز أن يحنث أحد الا بيقين لا مجال للشك
فيه، وبالله تعالى التوفيق *
1158 - مسألة - ومن حلف أن لا يساكن من كان ساكنا معه من امرأته أو
قريبه أو أجنبي فليفارق حاله التي هو فيها إلى غيرها ولا يحنث فان أقام مدة يمكنه فيها
أن لا يساكنه فلم يفارقه حنث فان رحل كما ذكرنا مدة قلت أو كثرت ثم رجع لم يحنث،
وتفسير ذلك إن كان في بيت واحد أن يرحل أحدهما إلى بيت آخر من تلك الدار

59
أو غيرها وإن كانا في دار واحدة رحل أحدهما إلى أخرى متصلة بها أو متنابذة (1)،
أو اقتسما الدار وإن كانا في محلة واحدة رحل أحدهما إلى أخرى وإن كانا في مدينة واحدة أو
قرية واحدة خرج أحدهما عن دور القرية أو دور المدينة لم يحنث وان رحل أحدهما بجسمه
وترك أهله وماله وولده لم يحنث الا أن يكون له نية تطابق قوله فله ما نوى وهذا كله قول أبي حنيفة
والشافعي. أبى سليمان، وكل ما ذكرنا مساكنة وغير مساكنة، فان فارق تلك
الحال فقد فارق مساكنته وقد بر ولا يقدر أحد على أكثر لان الناس مساكن بعضهم
لبعض في ساحة الأرض وفى العالم قال تعالى: (وله ما سكن في الليل والنهار) وقد افترض
الله عز وجل على المهاجرين الرحلة عن مكة ودار الكفر إلى المدينة فكان من خرج منهم
بنفسه قد أدى ما عليه وفارق وطن الكفر، وأكثرهم ترك أهله وولده وماله بمكة
وفى دار قومه فلم يخرجهم ذلك عن الهجرة ومفارقة الكفار، وقال مالك: يحنث حتى
يرحل بأكثر رحيله وهذا خطأ لما ذكرنا ولأنه قول بلا دليل، واحتج بعض مقلديه
بما روى (المرء مع رحله) وهذا لا يسند، ثم لو صح لكان حجة عليهم لان النبي صلى الله عليه وسلم
لم يرو أنه قال الا في رحل ناقته فقط لا في رحيل منزله بل تركه بمكة بلا شك ولم يخرج
الا بجسمه *
1159 - مسألة - ومن حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه
زيد وآخر معه لم يحنث، وكذلك لو حلف أن لا يدخل دار زيد فدخل دارا يسكنها زيد
بكرا [وكذلك] (2) دارا بين زيد وغيره لم يحنث الا أن ينوى دارا يسكنها زيد
فيحنث لان المنظور إليه في الايمان ما تعارفه أهل تلك اللغة في كلامهم الذي به حلف
وعليه حلف فقط ولا يطلق على طعام اشتراه زيد وخالد أنه اشتراه زيد، ولا على دار
مشتركة انها لا حد من هي له *
1160 - مسالة - ومن حلف أن لا يهب لا حد عشرة دنانير فوهب له أكثر حنث
الا أن ينوى العدد الذي سمى فقط فلا يحنث *
1161 - مسألة - ومن حلف أن لا يجمعه مع فلان سقف فدخل بيتا فوجده
فيه ولم يكن عرف إذ دخل أنه فيه لم يحنث لكن ليخرج من وقته فإن لم يفعل حنث
لما ذكرنا قبل من أن الحنث لا يلحق الا قاصدا إليه عالما به *
1162 - مسألة - ومن حلف أن لا يأكل لحما أو ان لا يشتريه فاشترى شحما أو كبدا



(1) وفى النسخة اليمنية (متباعدة) وهما بمعنى أي غير متلاصقة ومتصلة
(2) الزيادة من النسخة رقم 16
60
أو سناما. أو مصرانا. أو حشوة. أو رأسا. أو أكارع. أو سمكا. أو طيرا. أو
قديدا لم يحنث لأنه لا يقع على شئ مما ذكرنا في اللغة اسم لحم أصلا بل كل لغوي وعامي يقول
في كل ذلك: ليس لحما ولا يطلق على السمك (1) والطير اسم لحم الا بالإضافة، وقال أبو
حنيفة. والشافعي. وأبو سليمان كما قلنا، وقال مالك: يحنث بكل ذلك، واحتج له
مقلدوه بقول الله تعالى: (ولحم طير مما يشتهون) * (ومن كل تأكلون لحما طريا) *
قال أبو محمد: قد قلنا: إنه لا يطلق على ذلك اسم لحم الا بالإضافة كما لا يطلق على ماء
الورد اسم ماء الا بالإضافة ويلزمهم أن يقولوا فيمن حلف أن لا يجمعه مع فلان سقف
أن يحنث ولابد لان الله تعالى قال: (وجعلنا السماء سقفا محفوظا) وأن يقول فيمن حلف
أن لا يقرأ بضوء سراج فقرأ بضوء الشمس أن يحنث لأنه تعالى قال: (وجعلنا سراجا وهاجا)
وقوله تعالى: (وجعل الشمس سراجا) وأن يقولوا فيمن حلف أن لا يلقى ثيابه على
وتدفأ لقاها على جبل أن يحنث لان الله تعالى يقول: (والجبال أوتادا) وهم لا يقولون هذا
فصح أن المراعى في ذلك ما قلناه، ولا يخالفوننا فيمن قال لآخر ابتع لي بهذا الدرهم لحما فابتاع
له به سمكا. أو دجاجة. أو شحما. أو رأسا. أو حشوة. أو أكاوع فإنه ضامن للدرهم
وانه قد خالف ما أمر به وتعدى وبالله تعالى التوفيق *
1163 - مسألة - ومن حلف أن لا يأكل شحما حنث بأكل شحم الظهر والبطن
وكل ما يطلق عليه اسم شحم ولم يحنث بأكل اللحم المحض، وهذا قول الشافعي. وأبي سليمان
وقال أبو حنيفة. وأصحابه: لا يحنث الا بشحم البطن وحده ولا يحنث بشحم الظهر، وقال
مالك: من حلف أن لا يأكل لحما فأكل شحما حنث ومن حلف أن لا يأكل شحما فأكل
لحما لم يحنث، واحتج أصحاب أبي حنيفة بأن الله تعالى قال: (ومن البقر والغنم حرمنا
عليهم شحومهما) قالوا: فكان ذلك على شحم البطن خاصة *
قال أبو محمد: وهذا احتجاج محال عن موضعه لأنه لم يخص شحم البطن بالتحريم
عليهم بنفس هذا اللفظ لكن بما بعده من قوله تعالى: (الا ما حملت ظهور هما أو الحوايا
أو ما اختلط بعظم) فبهذا خص شحم البطن بالتحريم ولولا ذلك لحرمت الشحوم
كلها فالآية حجة عليهم، واحتج المالكيون بأن قالوا: حرم الله تعالى لحم الخنزير فحرم
شحمه وحرم علي بني إسرائيل الشحم فلم يحرم اللحم وقالوا: الشحم متولد من اللحم وليس
اللحم متولدا من الشحم *
قال أبو محمد:: وهذان الاحتجاجان في غاية التمويه بالباطل لان تحريم شحم الخنز



(1) في النسخ كلها (ولا يطلق للسمك)
61
لم يحرم من أجل تحريم لحمه لكن ببرهان آخر قد ذكرناه في باب ما يحل أكله ويحرم،
ولو كان تحريم، شحم الخنزير من أجل تحريم لحمه دليلا على أن من حلف أن لا يأكل لحما
فأكل شحما حنث لكان تحريم لبن الخنزيرة وعظمها على قولهم من أجل تحريم لحمها
موجبا للحنث على من حلف أن لا يأكل لحما فشرب لبنا ولا فرق وهم لا يقولون هذا،
وأما قولهم: ان الشحم تولد من اللحم فيقال لهم فكان ما ذا؟ أليس اللحم. واللبن متولدين
من الدم والدم حرام وهما حلالان؟ أوليس الخمر متولدة من العصير والخل متولدة
من الخمر وهي حرام وما تولدت منه حلال وما تولد منها حلال فبطل قولهم وبالله تعالى التوفيق *
1164 - مسألة - ومن حلف أن لا يأكل رأسا لم يحنث بأكل رؤس الطير
ولا رؤس السمك ولا يحنث الا بأكل رؤس الغنم. والماعز، فإن كان أهل
موضعه (1) لا يطلقون اسم الرؤس في البيع والاكل على رؤس الإبل والبقر لم
يحنث بأكلها وإن كانوا يطلقون عليها في البيع والاكل اسم الرؤس حنث بها لما
ذكرنا من أن الايمان إنما هي على لغة الحالف ومعهود استعماله في كلامه وهو قول
أبي حنيفة. والشافعي. وأبي سليمان، ألا ترى أن المسك دم جامد ولكون لما لم بطلق عليه
اسم دم حل ولم يحرم *
1165 - مسألة - ومن حلف أن لا يأكل بيضا لم يحنث الا بأكل بيض الدجاج
خاصة ولم يحنث بأكل بيض النعام وسائر الطير ولا بيض السمك لما ذكرنا وهو قول
أبي حنيفة. والشافعي. وأبي سليمان *
1166 - مسألة - ومن حلف أن لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو شرب عصيرا أو
أكل ربا (2) أو خلا لم يحنث، وكذلك من حلف أن لا يأكل زبيبا لم يحنث بأكل العنب
ولا بشرب نبيذ الزبيب وأكل خله، وكذلك القول في التمر. والرطب. والزهو.
والبسر. والبلح. والطلع. والمنكت ونبيذ كل ذلك وخله وذو شائبه. وناطفه لا يحنث،
ومن حلف أن لا يأخذ شيئا منها حنث بأكل سائرها ولا يحنث بشرب ما يشرب منها
وهو قول أبي حنيفة. والشافعي. وأبي سليمان لان اسم كل واحد منها لا يطلق على
الآخر، والعالم كله بعضه متولد من بعض، ونحن مخلوقون من تراب وماء،
فلو أن امرءا حلف أن لا يدخل في داره حيوانا فادخل التراب والماء لم يحنث بلا
خلاف منا ومن غيرنا، وقال مالك: من حلف أن لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو شرب



(1) في النسخة رقم 16 (أهل مواضعه)
(2) هو بضم أوله وتشديد الباء الموحدة الطلاء
الخاثر، والطلاء ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه
62
عصيرا حنث ولا يحنث بأكل الخل فكان عجبا جدا وكان احتجاجهم لهذه القولة أعجب
منها لأنهم قالوا: أمر الخل بعيد وليث شعري ما معنى بعيد، فان قالوا: إن بين العنب
وبين الخل درجتين العصير والخمر قلنا فكان ماذا؟ ومن الذي جعل كون درجتين بين الخل
والعنب علة في التحليل؟ وحاش لله من هذا الحكم الفاسد فما زادونا على أن جعلوا دعواهم
حجة لدعواهم (1) وقد تناقضوا من قرب فخشوا من أكل جبنا يابسا وقد حلف أن لا يأكل
لبنا وبين الجبن اليابس واللبن درجتان وهما العقيد (2) والجبن الرطب، فان قالوا: كل
ذلك عين واحدة قلنا: والخل. والعصير. والخمر عين واحدة الا أن أحكامها اختلفت
باختلاف صفاتها ولا مزيد، وكذلك السمن بينه وبين اللبن درجتان الرائب ثم الزبد،
وقد يترك العنب في الظروف من أيامه إلى أيام الربيع ثم يعصر خلا محضا *
1167 - مسألة - ومن حلف أن لا يأكل لبنا لم يحنث بأكل (3) اللبأ. ولا بأكل
العقيد. لا الرائب. ولا الزبد. ولا السمن. ولا المخيض. ولا الميس. ولا الجبن،
وكذلك القول في الزبد. والسمن وسائر ما ذكرنا لاختلاف أسماء كل ذلك *
1168 - مسألة - ومن حلف أن لا يأكل خبزا فأكل كعكا. أو بشماطا.
أو حريرة. أو عصيدة. أو حسوفتاة. أو فتيتا لم يحنث، ومن حلف أن لا يأكل قمحا
فإن كانت له نية في خبزه حنث والا لم يحنث الا بأكله صرفا، ولا يحنث بأكل هريسة. ولا
أكل حشيش. ولا سويق. ولا أكل فريك لأنه لا يطلق على كل ذلك اسم قمح، ومن
حلف أن لا يأكل تينا حنث بالأخضر واليابس لان اسم التين يطلق على كل ذلك *
1169 - مسألة - ومن حلف أن لا يشرب شرابا فإن كانت له نية حمل عليها وان لم
تكن له نية حنث بالخمر وبجميع الأنبذة. وبالجلاب. والاسكنجبين وسائر الأشربة
لان اسم شراب يطلق على كل ذلك ولا يحنث بشرب اللبن ولا بشرب الماء لأنه لا يطلق عليها
اسم شراب، ومن حلف أن لا يأكل لبنا فشر به لم يحنث لأنه لم يأكله ولو حلف أن لا يشربه
فاكله بالخبز لم يحنث لأنه لم يشربه، ومن حلف أن لا يشرب الماء يومه هذا فاكل خبزا
مبلولا بالماء لم يحنث، ومن حلف أن لا يأكل سمنا ولا زيتا فاكل خبزا معجونا بهما
أو بأحدهما لم يحنث لأنه لم يأكل زيتا ولا سمنا، ولو حنث في هذا لحنث من حلف أن لا
يشرب يومه هذا ماء فاكل خبزا لأنه بالماء عجن ولا يحنث بأكل طعام طبخ بهما الا أن
يكونا ظاهرين فيه لم يزل الاسم عنهما فيحنث حينئذ، ومن حلف أن لا يأكل ملحا فاكل



(1) في النسخة رقم 16 (حجة لدعوانا)
(2) في النسخة رقم 16 (العقد)
(3) في النسخة رقم 16 (الا بأكل) وهو غلط
63
طعاما معمولا بالملح وخبزا معجونا به لم يحنث لأنه لم يأكل ملحا، فإن كان قد ذر عليه
الملح حنث لأنه ظاهر فيه، ومن حلف أن لا يأكل خلا فأكل طعاما يظهر فيه طعم الخل
متميزا حنث لأنه هكذا يؤكل الخل *
1170 - مسألة - ومن حلف أن لا يبيع هذا الشئ بدينار فباعه بدينار غير فلس
فأكثر أو بدينار وفلس فصاعدا لم يحنث لأنه لا يسمى في ذلك كله بائعا له بدينار *
1171 - مسألة - ومن حلف ليقضين غريمه حقه رأس الهلال فإنه ان قضاه حقه
أول ليلة من الشهر أو أول يوم منه ما لم تغرب الشمس لم يحنث لان هذا هو رأس الهلال في
اللغة فإن لم يقضه في الليلة أو اليوم المذكورين وهو قادر على قضائه ذاكر حنث *
1172 - مسألة - ومن حلف أن لا يشترى أمر كذا. أو لا يزوج وليته. أو أن
لا يضرب عبده. أو ان لا يبنى داره. أو ما أشبه هذا من كل شئ فامر من فعل له ذلك كله
فإن كان ممن يتولى الشراء بنفسه. والبناء. والضرب أو فعل ما حلف عليه لم يحنث لأنه لم
يفعله وإن كان ممن لا يباشر بنفسه ذلك حنث بأمره من يفعله لأنه هكذا يطلق في اللغة الخبر
عن كل من ذكرنا (1) ولا يحنث في أمر غيره بالزواج على كل حال لان كل أحد يزوج
وليته فإذا لم يزوجها وأمر غيره فلم يزوجها هو *
1173 - مسألة - ومن حلف ألا يبيع عبده فباعه بيعا فاسدا. أو أصدقه. أو اجره.
أو بيع عليه في حق لم يحنث لأنه ليس شئ مما ذكرنا بيعا والبيع الفاسد حرام والله تعالى
يقول: (وأحل الله البيع) ولا شك عند من دماغه صحيح في أن الحرام غير الحلال، فان
باعه بيعا صحيحا لم يحنث ما لم يتفرقا عن موضعيهما فان تفرقا وهو مختار ذاكر حنث حينئذ
لأنه حينئذ باعه لما نذكر في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى *
1174 - مسألة - ومن حلف أن لا يتكلم اليوم فقرأ القرآن في صلاة. أو غير
صلاة. أو ذكر الله تعالى لم يحنث لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان هذه الصلاة لا يصلح فيها
شئ من كلام الناس إنما هو التسبيح. والتكبير. وقراءة القرآن أو نحو ذلك) (2)
ولقول الله تعالى (ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ان هذا إلا قول البشر
سأصليه سقر) نصح أن القرآن ليس قول البشر وان من أطلق ذلك عليه (3) سيصلى سقر،
فصح أنه لا يطلق في اللغة ولا في الشريعة على شئ مما ذكر نا اسم كلام، وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة رقم 16 (عن كل ما ذكرنا)
(2) الحديث في سنن النسائي مطولا
(3) في النسخة اليمنية (من أطلق عليه ذلك)
64
كفارات الايمان
1175 - مسألة - من حنث بمخالفة ما حلف عليه فقد وجبت عليه الكفارة بعد
الحنث لا خلاف في ذلك *
1176 - مسألة - ومن أراد أن يحنث فله ان يقدم الكفارة قبل أن يحنث أي
الكفارات لزمته من العتق. أو الكسوة أو الاطعام. أو الصيام، وهو قول مالك، وقال
أبو حنيفة. وأبو سليمان لا يجزيه ذلك الا بعد الحنث، وقال الشافعي: أما العتق. أو الكسوة
أو الاطعام فيجزى تقديمه قبل الحنث وأما الصيام فلا يجزى. الا بعد الحنث، وحجة
الشافعيين أن العتق. والكسوة. والاطعام من فرائض الأموال والأموال من حقوق
الناس وحقوق الناس جائز تقديمها قبل آجالها، وأما الصوم فمن فرائض الأبدان وفرائض
الأبدان لا يجزى تقديمها قبل أوقاتها *
قال أبو محمد: وهذه قضية فاسدة وهم موافقون لنا على أن تعجيل أموال الناس إنما
تجب برضا صاحب الحق. والذي عليه الحق معا لا برضا أحدهما دون الآخر وأن هذا إنما
يجب أيضا فيما هو حق للانسان بعينه فتراضى هو وغريمه على تقديمه أو تأخيره أو اسقاطه
أو اسقاط بعضه، وأما كل ما ليس لانسان بعينه وإنما هو حق لله تعالى وقته بوقت محدود
وليس ههنا مالك بعينه يصح رضاه في تقديمه لا في تأخيره ولا في اسقاطه ولا في
اسقاط بعضه وإنما هو حق لله تعالى لا يحل فيه الا ما حد الله تعالى، قال الله تعالى: (ومن
يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) ويقال لهم أيضا: ان حقوق الناس يجوز فيها التأخير
والاسقاط فهل يجوز في الكفارات الاسقاط أو التأخير إلى أجل أو إلى غير أجل؟ فظهر
فساد قولهم جملة * وأما المالكيون فإنهم وإن كانوا أصابوا ههنا فقد تناقضوا جدا لأنهم
أجازوا تقديم الكفارة اثر اليمين وقبل الحنث ولم يجيزوا تقديم الزكاة اثر كسب المال
لكن قبل الحول بشهر ونحوه، ولا أجازوا تقديم صدقة الفطر اثر ابتداء الصوم لكن (1)
قبل الفطر بيومين فأقل فقط، ولم يجيزوا تقديم كفارة الظهار أصلا، ولا بساعة قبل ما يوجبها
عندهم من إرادة الوطئ، ولا أجازوا تقديم كفارة قتل الخطأ قبل ما يوجبها من موت
المقتول ولا بطرفة عين. ولا كفارة قتل الصيد في الحرم قبل قتله، وأجازوا اذن الورثة
للموصى في أكثر من الثلث قبل أن يجب لهم المال بموته، فظهر تناقض أقوالهم ولله تعالى الحمد *
وأما الحنيفيون فتناقضوا أقبح تناقض لأنهم أجازوا تقديم الزكاة قبل الحول



(1) في النسخة رقم 16 (ولكن) بزيادة واو
65
بثلاثة أعوام وتقديم زكاة الزرع أثر زرعه في الأرض، وأجازوا تقديم الكفارة في
جزاء الصيد بعد جراحه وقبل موته. وتقديم كفارة قتل الخطأ قبل موت المجروح ولم
يجيزوا للورثة الاذن في الوصية بأكثر من الثلث قبل وجوب المال لهم بالموت. ولا أجازوا
اسقاط الشفيع حقه من الشفعة بعد عرض شريكه أخذ الشقص عليه قبل وجوب أخذه
له بالبيع، فظهر تخليطهم وسخف أقوالهم وبالله تعالى نعوذ من الخذلان *
وكلهم لا يجيز الاستثناء قبل اليمين ولا قضاء دين قبل أخذه. ولا صلاة قبل وقتها فلم
يبق الا قولنا. وقول أصحابنا المانعين من تقديم كل حق له وقت قبل وقته فإنهم قالوا:
الكفارة لا تجب الا بالحنث وهي فرض بعد الحنث بالنص والاجماع فتقديمها قبل أن
تجب تطوع لا فرض، ومن المحال أن يجزى التطوع عن الفرض وقالوا: قال تعالى:
(ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه) والدلائل ههنا تكثر جدا *
قال أبو محمد: وهذه أدلة صحاح ونحن موافقون لهم في أنه لا يجزى شئ من الشريعة
قبل وقته الا في موضعين، أحدهما كفارة اليمين فحائز تقديمها قبل الحنث لكن بعد إرادة
الحنث ولابد، والثاني اسقاط الشفيع حقه بعد عرض الشفيع عليه أن يأخذ أو يترك
قبل البيع فاسقاطه حقه حينئذ لازم له فقط وإنما فعلنا ذلك للنصوص المخرجة لهذين الشرعين
عن حكم سائر الشريعة في أنه لا يجزى ولا يجوز أداء شئ منها قبل الوقت الذي حده الله تعالى له *
قال أبو محمد: وقد احتج بعض من وافقنا ههنا في تصحيح قولنا بان قال: قال الله
تعالى: (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) قال: فالكفارة واجبة بنفس اليمين *
قال على: ولا حجة لنا في هذا لأنه قد جاء النص والاجماع المتيقن على أن من لم يحنث
فلا كفارة تلزمه فصح أنه ليس بنفس اليمين تجب الكفارة، واحتج بعضهم بأن في الآية
حذفا بلا خلاف وانه فاردتم الحنث أو حنثتم *
قال أبو محمد: وهذه دعوى منهم في أن المحذوف هو فأردتم الحنث لا يقبل الا
ببرهان فوجب طلب البرهان في ذلك فنظرنا فوجدنا ما رويناه من طريق مسلم نا زهير
ابن حرب نا مروان بن معاوية الفزاري نا يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة: (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأتها وليكفر عن
يمينه (1)) * ومن طريق أحمد بن شعيب أنا أحمد بن سليمان نا عفان - هو ابن مسلم -
نا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن - هو البصري - يقول: نا (2) عبد الرحمن بن سمرة



(1) الحديث في صحيح مسلم ج 2 ص 16 بأطول من هذا
(2) في سنن النسائي ج 7 ص 10 (قال حدثنا)
66
قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم،: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر
عن يمينك ثم ائت الذي هو خير)، وهكذا رويناه أيضا من طريق سعيد بن أبي عروبة
عن قتادة عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) * ومن طريق أحمد
ابن شعيب أنا إسحاق بن منصور أنا عبد الرحمن بن مهدي نا شعبة عن عمرو بن مرة سمعت
عبد الله بن عمرو مولى الحسن بن علي يحدث عن عدى بن حاتم (قال [قال] (2) رسول الله
صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر [عن
يمينه]) (3)
فهذه الأحاديث جامعة لجميع أحكام ما اختلفوا فيه من جواز تقديم الكفارة قبل
الحنث لان في حديث أبي هريرة تقديم الحنث قبل الكفارة، وفى حديث عبد الرحمن
ابن سمرة تقديم الكفارة قبل الحنث، وفى حديث عدى بن حاتم الجمع بين الحنث
والكفارة بواو العطف التي لا تعطى رتبة، وهكذا جاء من طريق أبى موسى الأشعري
فوجب استعمال جميعها ولم يكن بعضها أولى بالطاعة من بعض ولا تحل مخالفة بعضها
لبعض فكان ذلك جائزا وبالله تعالى التوفيق، وصح بهذا أن الحذف الذي في الآية
إنما هو إذا أردتم الحنث أو حنثتم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو المبين عن ربه عز وجل،
واعترض بعضهم بان قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فليكفر ثم ليأت الذي هو خير)
هو مثل قول الله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا) وكقوله تعالى: (ثم آتينا موسى
الكتاب) وكقوله تعالى: (ولقد خلقنا كم ثم صورنا كم ثم قلنا للملائكة اسجدوا الآدم)
قال هذا القائل: ولفظة ثم في هذه الآيات لا توجب تعقيبا بل هي واقعة على ما كان قبل
ما عطف اللفظ عليه بثم *
قال أبو محمد: ليس كما ظنوا أما قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا) فان نص الآيات
هو قوله تعالى: (وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو اطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو
مسكينا ذا مترتبة ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) وقد ذكرنا
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: (أسلمت على ما أسلفت من الخير) فصح بهذه
الآية عظيم نعمة الله تعالى على عباده في قوله كل عمل بر عملوه في كفر هم ثم أسلموا فالآية
على ظاهرها وهي زائدة على سائل ما في القرآن من قبوله تعالى أعمال من آمن ثم عمل الخير
والحمد لله رب العالمين * وأما قوله تعالى: (ثم آتينا موسى الكتاب) فليس كما ظنوا الان



(1) الحديث أيضا في سنن النسائي
(2) الزيادة من سنن النسائي ج 7 ص 11
(3) الزيادة من سنن النسائي
67
أول الآية قوله عزو جل: (وان هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق
بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي
أحسن) وقد قال تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما)
وقال تعالى: (ملة أبيكم إبراهيم) فصح أن الصراط الذي أمرنا الله تعالى باتباعه وأتانا به
محمد صلى الله عليه وسلم هو صراط إبراهيم عليه السلام، وقد كان قبل موسى بلا شك ثم آتى الله
تعالى موسى الكتاب، فهذا تعقيب بمهلة لا شك فيه، فأما قوله تعالى: (لقد خلقنا كم ثم
صورنا كم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) فعلى ظاهره لان الله تعالى خلق أنفسنا
وصورها وهي التي أخذ الله عليها العهد ألست بربكم قالوا بلى ثم بعد ذلك أسجد الملائكة
لآدم عليه السلام فبطل تعلقهم بهذه الآيات، ثم حتى لو خرجت عن ظاهرها أو كانت
ثم لغير التعقيب فيها لم يجب لذلك أن تكون ثم لغير التعقيب حيثما وجدت لان ما خرج
عن موضوعه في اللغة بدليل في موضع ما لم يجز أن يخرج في غير ذلك الموضع عن موضوعه
في اللغة، وهذا من تمويههم الفاسد الذي لا ينتفعون به إلا في تحيير من لم ينعم النظر في أول
ما يفجأونه به، وبالله تعالى التوفيق *
وقولنا هذا هو قول عائشة أم المؤمنين * ومن طريق ابن أبي شيبة نا المعتمر بن سليمان
التيمي عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين أن مسلمة بن مخلد. وسلمان الفارسي كانا
يكفران قبل الحنث * وبه إلى أبى بكر بن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن أشعث عن
ابن سيرين أن أبا الدرداء دعا غلاما له فاعتقه ثم حنث فصنع الذي حلف عليه *
وبه إلى ابن أبي شيبة نا أزهر عن ابن عون أن محمد بن سيرين كان يكفر قبل الحنث
وهو قول ابن عباس أيضا. والحسن. وربيعة. وسفيان. والأوزاعي. ومالك.
والليث. وعبد الله بن المبارك. وأحمد بن حنبل. وإسحاق بن راهويه. وسليمان بن داود
الهاشمي. وأبي ثور. وأبى خيثمة وغيرهم، ولا يعلم لمن ذكرنا مخالف من الصحابة
رضي الله عنهم الا أن مموها موه برواية عبد الرزاق عن الأسلمي - هو إبراهيم بن أبي يحيى -
عن رجل سماه عن محمد بن زياد عن ميمون بن مهران عن ابن عباس أنه كان لا يكفر حتى
يحنث، وهذا باطل لان ابن أبي يحيى مذكور بالكذب ثم عمن لم يسم، ثم لو صح لما
كان لهم فيه حجة لأنه ليس فيه ان ابن عباس لم يجز الكفارة قبل الحنث إنما فيه انه كان
يؤخر الكفارة بعد الحنث فقط ونحن لا ننكر هذا *
1177 - مسألة - ومن حلف أن لا يعتق عبده هذا فأعتقه ينوى بعتقه ذلك
كفارة تلك اليمين لم يجزه، ومن حلف أن لا يتصدق على هؤلاء العشرة المساكين

68
فاطعمهم ينوى بذلك كفارة يمينه تلك لم يجزه ولا يحنث بأن يتصدق عليهم بعد ذلك
وكذلك الكسوة لكن عليه الكفارة، ومن حلف أن لا يصوم في هذه الجمعة ولا يوما
ثم صام منها ثلاثة أيام ينوى بها كفارة يمينه تلك - وهو من أهل الكفارة بالصيام - لم
يجزه ولا يحنث بان يصوم فيها بعد ذلك وعليه الكفارة لان معنى الكفارة بلا شك
اسقاط الحنث والحنث قد وجب بالعتق. والاطعام. والكسوة فلا يحنث بعد في يمين
قد حنث فيها، والكفارة لا تكون الحنث بلا شك بل هي المبطلة له والحق لا يبطل نفسه *
1178 - مسألة - وصيفة الكفارة هي أن من حنث أو أراد الحنث وان لم
يحنث بعد فهو مخير بين ما جاء به النص وهو اما أن يعتق رقبة واما أن يكسو عشرة
مساكين واما أن يطعمهم أي ذلك فعل فهو فرض ويجزيه فإن لم يقدر على شئ من
ذلك ففرضه صيام ثلاثة أيام ولا يجزيه الصوم ما دام يقدر على ما ذكرنا من العتق.
أو الكسوة. أو الاطعام *
برهان ذلك قول الله تعالى: (فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون
أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم
إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم) وما نعلم في هذا خلافا ولا نبعده لان من قال في قول
الله تعالى: (فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة
أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما): ان هذا على الترتيب لا على التخيير
فغير مستبعد منه أن يقول في كفارة الايمان أيضا: انه على الترتيب، ونسأل الله التوفيق *
1179 - مسألة - ولا يجزيه بدل ما ذكرنا صدقة. ولا هدى. ولا قيمة. ولا شئ
سواه أصلا لان الله تعالى لم يوجب غير ما ذكرنا فمن أوجب في ذلك قيمة فقد تعدى حدود
الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه وقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله تعالى (وما كان
ربك نسيا) *
1180 - مسألة - ومن حنث وهو قادر على الاطعام. أو الكسوة. أو العتق ثم
افتقر فعجز عن كل ذلك لم يجزه الصوم أصلا لأنه قد تعين عليه حين وجوب الكفارة أحد
هذه الوجوه بنص القرآن فلا يجوز سقوط ما ألزمه الله تعالى يقينا بدعوى كاذبة لكن
يمهل حتى يجد أو لا يجد فالله تعالى ولى حسابه، وأما ما لم يحنث فلم يتعين عليه وجوب كفارة
بعد الا أن يعجلها فتجزيه على ما قدمناه وبالله تعالى التوفيق *
1181 - مسألة - ومن حنث وهو عاجز عن كل ذلك ففرضه الصوم قدر عليه
حينئذ أو لم يقدر متى قدر فلا يجزيه الا الصوم فان أيسر بعد ذلك وقدر على العتق.

69
والاطعام. والكسوة لم يجزه شئ من ذلك الا الصوم فان مات ولم يصم صام عنه وليه
أو استؤجر عنه من رأس ماله من يصوم عنه لأن الصوم قد تعين عليه وجوبه حين حنث
وصح لزومه إياه فلا يجوز سقوط ما أوجبه الله تعالى عليه يقينا لا شك فيه بدعوى كاذبة،
وقال بعض القائلين: ان أيسر قبل أن يصوم أو قبل أن يتم الصوم انتقل حكمه إلى العتق.
أو الاطعام. أو الكسوة *
قال أبو محمد: وهذه دعوى فاسدة وليث شعري ما الفرق بين أن يعسر بعد أن يوسر
فلا ينقلونه إلى جواز الصيام عنه أو وجوبه عليه وبين أن يوسر بعد ما يعسر فينقلونه إلى
وجوب العتق. أو الاطعام. أو الكسوة، فان قالوا: إنما لزمه الصيام لضرورة عدمه
قلنا: كذب من قال هذا وأخبر عن الله تعالى بالباطل، وقد وجدنا الله تعالى عوض من
العتق في كفارة الظهار وقتل الخطأ الصيام لا الاطعام ثم عوض من الصيام من لا يقدر
عليه في كفارة الظهار الاطعام ولم يعوض منه في كفارة القتل اطعاما وخير في جزاء الصيد
بين الاطعام والصيام والهدى والله تعالى يفعل ما يشاء لا يسأل عما يفعل ويحكم لا معقب
لحكمه، ولا يجوز تغيير ما أوجب الله تعالى عن ما أوجبه *
واختلف المخالفون لنا في هذا فقال أبو حنيفة. وأصحابه: أن قدر على الاطعام.
أو الكسوة. أو العتق قبل أن يتم جميع صيام الثلاثة الأيام بطل حكم الصوم ولزمه أحد
ما قدر عليه من ذلك، وقال الحكم بن عتيبة. وإبراهيم النخعي. وسفيان الثوري إن كان
قد أتم صيام يومين صام اليوم الثالث فقط وإن كان لم يصم تمام اليومين انتقل عن حكم
الصوم ولزمه أحد ما قدر عليه من ذلك، وقال آخرون: إن كان قد تم له صيام يوم واحد
تمادى على صيام اليومين الباقيين وأجزأه وإن كان لم يتم له صيام يوم واحد انتقل عن
حكم الصوم ولزمه أحد ما قدر عليه من ذلك، وهو قول أحمد بن حنبل. وإسحاق. وأحد
قولي الشافعي، وقال مالك: ان دخل في الصوم ثم أيسر فليتمادى في صومه وإن لم يدخل
فيه بطل حكم الصوم وانتقل إلى العتق أو الكسوة أو الاطعام، وهو قول الحسن،
وعطاء، قال الله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لو جدوا فيه اختلافا كثيرا) وهذه
أقوال لا نص قرآن فيها ولا سنة فصح أنها آراء مجردة، ولا فرق بين يساره قبل أن
يشرع في الصوم وبين يساره بعد أن يشرع فيه وإنما الحكم للحال التي أوجب الله تعالى
فيها عليه ما أوجب، ونسألهم كلهم عمن حنث وهو معسر هل عليه لله تعالى كفارة مفترضة
أم ليس لله تعالى عليه كفارة مفترضة ولابد من أحدهما؟ فمن قولهم: ان لله تعالى عليه
كفارة مفترضة ولو قالوا: غير هذا لخالفوا نص القرآن بلا برهان، فإذ الكفارة عليه

70
ولا بد فنسألهم ما هي؟ فان قالوا: هي التي افترض الله تعالى عليه في القرآن قلنا: صدقتم
فإذ قد أقررتم بذلك فمن أين سقطت عندكم بيساره بعد ذلك وليس هذا في القرآن ولا في السنة؟
وما كان هكذا فهو باطل بلا شك، وان قالوا: هي غير التي افترض الله تعالى عليه أو
قسموا (1) كانوا قائلين بلا برهان، وكفونا مؤنتهم ولله تعالى الحمد، وقولنا هذا هو قول
أبى سليمان وأصحابه *
1182 - مسألة - ويجزى في العتق في كل ذلك الكافر. والمؤمن والصغير
والكبير. والمعيب. والسالم. والذكر. والأنثى. وولد الزنا والمخدم. والمؤاجر.
والمرهون. وأم الولد. والمدبرة. والمدبر. والمنذور عتقه. والمعتق إلى أجل.
والمكاتب ما لم يؤد شيئا فإن كان أدى من كتابته ما قل أو كثر لم يجز في ذلك ولا يجزى من
يعتق على المرء بحكم واجب ولا نصفا رقبتين، وقد ذكرنا كل ذلك في كتاب الصيام فأغنى
عن اعادته *
وعمدة البرهان في ذلك قول الله تعالى: (أو تحرير رقبة) فلم يخص رقبة من رقبة:
(وما كان ربك نسيا) فان قالوا: قسنا الرقبة في هذا على رقبة القتل لا تجزى الا مؤمنة
قلنا: فقيسوهما عليهما في تعويض الاطعام منها، فان قالوا: لا نفعل لأننا نخالف القرآن
ونزيد على ما فيه قلنا: وزيادتكم في كفارة اليمين أن تكون مؤمنة ولابد خلاف للقرآن
وزيادة على ما فيه فإن كان القياس في أحد الحكمين جائزا فهو في الآخر جائز وإن كان في
أحدهما غير جائز فهو في الآخر غير جائز * فان احتجوا بالخبر الذي فيه ان القائل قال
لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انه لطم وجه جارية له وعلى رقبة أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أين الله؟ قالت: في السماء قال: من أنا؟ قالت: رسول الله فقال عليه السلام:
أعتقها فإنها مؤمنة (2)) فلا حجة لهم فيه لأنها بنص الخبر لم تكن كفار يمين ولا وطئ في
رمضان ولا عن ظهار، وهم يجيزون الكافرة في الرقبة المنذورة على الانسان فقد خالفوا
ما في هذا الخبر واحتجوا به فيما ليس فيه منه شئ، وأيضا فإنه ليس فيه انه عليه السلام قال:
لا تجزى الا مؤمنة وإنما فيه أعتقها فإنها مؤمنة، ونحن لا ننكر عتق المؤمنة وليس فيه
أن لا يجوز عتق الكفارة فنحن لا نمنع من عتقها، فان قيل: قد رويتم هذا الخبر من طريق
حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة: (ان الرشيد قال: يا رسول الله ان أمي أمرتني
أن أعتق عنها رقبة وعندي أمة سوداء أفأعتقها؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ادع بها فقال لها
النبي صلى الله عليه وسلم: من ربك؟ قالت: الله قال: فمن أنا؟ قالت: رسول الله قال: أعتقها فإنها



(1) كذا في جميع النسخ
(2) الحديث في صحيح مسلم، ورواه أيضا أبو داود في سننه
71
مؤمنة (1)) فهذا عليهم لا لهم لأنهم يجيزون في رقبة الوصية كافرة وأما نحن فلو
انسند لقلنا به في الموصى بعتقها كما ورد، وقال بعضهم: كما لا يعطى من الزكاة كافر كذلك
لا يعتق في الفرض كافر قلنا: هذا قياس والقياس كله باطل ثم هذا منه عين الباطل لأنه
دعوى لا تقابل الا بالتكذيب والرد فقط لان الله تعالى لم يقل ذلك ولا رسوله عليه
السلام * روينا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان الثوري عن ابن أبي نجيح عن
عطاء قال: يجزى اليهودي والنصراني في كفارة اليمين * ومن طريق جرير عن المغيرة
عن إبراهيم مثله أيضا * ومن طريق ابن أبي شيبة عن عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن
جابر عن الشعبي قال: يجزى الأعمى في الكفارة * وعن الحسن. وطاوس يجزى المدبر
في الكفارة * وعن الحسن. وطاوس. والنخعي تجزئ أم الولد في الكفارة، وأما ولد
الزنا فإننا روينا من طريق يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة أم المؤمنين قالت: لان
أتصدق بثلاث تمرات أو امتع بسوط في سبيل الله تعالى أحب إلى من أن أعتق ولد زنا *
ومن طريق أبي هريرة أنه قال لعبد له: لولا أنك ولد زنا لأعتقتك، وقال النخعي.
والشعبي: لا يجزى ولد الزنا في رقبة واجبة * وعن ابن عمر أنه أعتق ولد زنا *
واحتج من منع منه بخبر رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا العباس بن محمد الدورقي
نا الفضل بن دكين نا إسرائيل عن زيد بن جبير عن أبي يزيد الضبي عن ميمونة مولاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي عليه السلام (أنه سئل عن ولد الزنا فقال لا خير فيه نعلان أجاهد
أو قال أجهز (2) بهما أحب إلى من أن أعتق ولد الزنا) *
قال أبو محمد: إسرائيل ضعيف. وأبو يزيد مجهول ولو صح لقلنا به * وروينا من
طريق ابن أبي شيبة نا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم. والشعبي قالا جميعا: لا يجزى في شئ
من الواجب ولد زنا *
قال أبو محمد: وأجازه طاوس. ومحمد بن علي ولا يسمى نصفا رقبتين رقبة، ومن
أعتق بحكم فلم يعتق عن الكفارة فلا يجزى فيها، وبالله تعالى التوفيق *
1183 - مسألة - ولا يجزى اطعام مسكين واحد أو ما دون العشرة يردد
عليهم لان الله تعالى افترض عشرة مساكين وهنا خلاف أمر الله تعالى، وقال أبو حنيفة:
يجوز. وروينا مثل قول أبي حنيفة عن الحسن وخالفه الشعبي، ولا يجزى الا مثل ما يطعم
الانسان أهله فإن كان يعطى أهله الدقيق فليعط المساكين الدقيق وإن كان يعطى أهله



(1) رواه أبو داود في سننه، وقال: خالد بن عبد الله أرسله لم يذكر الشريد
(2) في النسخة رقم 16 (أهجز)
72
الحب فليعط المساكين الحب، وإن كان يعطى أهله الخبز فليعط المساكين الخبز، ومن
أي شئ أطعم أهله فمنه يطعم المساكين لا يجزيه غير ذلك أصلا لأنه خلاف نص
القرآن، ويعطى من الصفة. والكيل الوسط لا الاعلى ولا الأدنى كما قال عزو جل *
وقد اختلف الناس في هذا فصح عن عمر بن الخطاب في كفارة اليمين لكل مسكين
نصف صاع حنطة أو صاع تمر أو شعير، وعن علي مثله * وروينا عن ابن عمر لكل
مسكين نصف صاع حنطة * وعن زيد بن ثابت مثله * وعن عائشة أم المؤمنين لكل
مسكين نصف صاع بر أو صاع تمر وهو قول إبراهيم النخعي. وابن سيرين، وقال:
أو اكلة مأدومة، وقال الحسن: مكوك حنطة ومكوك تمر لكل مسكين، والمكوك
نصف صاع، قال الحسن: ولان شاء أطعمهم أكلة خبز أو لحما فإن لم يجد فخبزا وسمنا ولبنا،
فإن لم يجد فخبز أو خلا وزيتا فإن لم يجد صام ثلاثة أيام، وقال قتادة أيضا مكوك تمر ومكوك
حنطة * وعن إبراهيم النخعي مد بر ومد تمر هذا كله في كفارة اليمين، وقال عطاء ومجاهد:
عشرة أمداد لعشرة مساكين ومدان للحطب والإدام * وعن الحسن. وابن سيرين يجمعهم
فيشبعهم مرة واحدة، وصح أيضا عن سعيد بن المسيب، والحسن: وقتادة مد تمر ومد
حنطة لكل مسكين، وصح عن ابن عباس لكل مسكين مد حنطة، وعن زيد بن ثابت،
وعن ابن عمر صحيح مثله أيضا * وعن عطاء وهو قول مالك. والشافعي * وروينا عن
ابن بريدة الأسلمي (1) إن كان خبزا يابسا فعشاء وغداء، وعن علي يغديهم ويعشيهم
خبزا وزيتا وسمنا، ولا يصح عنهما، وعن القاسم. وسالم. والشعبي. والنخعي.
وغيرهم غداء وعشاء *
واحتج من ذهب إلى هذا بما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن يعلى نا أبو المحياة
عن ليث بن أبي سليم قال: قال ابن بريدة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن كان خبزا يابسا
فغداء وعشاء)، وهذا مرسل (2) وليث ضعيف، وقال أبو حنيفة: نصف صاع بر
لكل مسكين أو صاع تمر أو شعير، ومن دقيق البر وسويقه نصف صاع، ومن دقيق الشعير
وسويقه صاع فان أطعمهم فغداء وعشاء. أو غداء وغداء. أو عشاء وعشاء. أو سحور
وغداء. أو سحور وعشاء، ولا يجزى عند مالك. والشافعي دقيق ولا سويق *
قال أبو محمد: هذه أقوال مختلفة لا حجة بشئ منها من قرآن ولا سنة، وموه بعضهم
بان رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب في حلق الرأس للأذى للمحرم نصف صاع بين ستة



(1) في النسخة اليمنية (عن بريدة الأسلمي) وهو غلط، واسم ابن بريدة عبد الله
(2) لأنه سقط منه الصحابي، وابن بريدة من التابعين توفى سنة خمس عشرة ومائة
73
مساكين، وهذا حجة عليهم لان نص ذلك الخبر نصف صاع تمر لكل مسكين وهو
خلاف قولهم، وموهوا أيضا بخبر رويناه من طريق أبى يحيى زكريا بن يحيى الساجي
نا محمد بن موسى الحرشي نا زياد بن عبد الله نا عمر بن عبد الله الثقفي نا المنهال بن عمر وعن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: (كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس
أن يعطوا فمن لم يجد فنصف صاع)، وهذا خبر ساقط لان زياد بن عبد الله ضعيف،
وعمر بن عبد الله - هو ابن يعلي بن مرة - وقد ينسب إلى جده وهو ضعيف، ولو صح لكان
خلافا لقولهم لا بهم لا يجيزون نصف صاع تمر البتة * وروينا من طريق ابن أبي شيبة
نا أبو معاوية الضرير عن عاصم عن ابن سيرين عن ابن عمر قال: (من أوسط ما تطعمون
أهليكم) قال: الخبز. واللبن، والخبز والزيت، والخبز والسمن، ومن أعلى ما يطعمهم
الخبز واللحم * ومن طريق عبد الرزاق عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين ان أبا موسى
الأشعري كفر عن يمين فعجن فأطعمهم * ومن طريق سفيان بن عيينة قال: قال سليمان
ابن أبي المغيرة - وكان ثقة - عن سعيد بن جبير قال ابن عباس: كان الرجل يقوت أهله
قوتا فيه سعة: وبعضهم قوتا دونا. وبعضهم قوتا وسطا فقيل: من أوسط ما تطعمون
أهليكم * وعن ابن سيرين مثل قول ابن عمر، وروينا نحو هذا عن شريح. والأسود بن
يزيد. وسعيد بن جبير. والشعبي وهو قول أبى سليمان وهو قولنا، وهو نص القرآن،
وأما من حد كيلا ما ومن منع من اطعام الخبز. والدقيق. ومن أوجب أكلتين فأقوال
لا حجة لها من قرآن: ولا سنة. ولا قياس. ولا قول صاحب لا مخالف له منهم،
وبالله تعالى نتأيد *
1184 - مسألة - وأما الكسوة فما وقع عليه اسم كسوة قميص. أو سراويل
أو مقنع. أو قلنسوة. أو رداء. أو عمامة. أو برنس أو غير ذلك لان الله تعالى عم ولم
يخص، ولو أراد الله تعالى كسوة دون كسوة لبين لنا ذلك (وما كان ربك نسيا)
فتخصيص ذلك لا يجوز * روينا عن عمران بن الحصين أن رجلا سأله عن الكسوة في
الكفارة؟ فقال له عمران أرأيت لو أن وفدا دخلوا على أميرهم فكسا كل رجل منهم قلنسوة
قال الناس: انه قد كساهم؟ * روينا من طريق مسدد عن عبد الوارث التنوري عن محمد
ابن الزبير عن أبيه * ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أشعث عن الحسن البصري
قال: تجزئ العمامة في كفارة اليمين وهو قول سفيان الثوري. والأوزاعي. والشافعي
وأبي سليمان، وقال مالك: لا يجزى الا ما تجوز فيه الصلاة، وهذا لا وجه له لأنه قول
بلا برهان، واختلف عن أبي حنيفة في السراويل وحدها ولا يجزى عنده عمامة فقط،

74
وقالوا: لو أن انسانا لم يلبس الا عمامة فقط. أو سراويل فقط لقال الناس: هذا عريان *
قال أبو محمد: وهذا ليس بشئ (1) لان الله تعالى لم يقل لنا: اكسوهم ما لا يقع عليهم به
اسم عريان (وما كان ربك نسيا) ولو أن امرءا لبس قميصا. وسراويل في الشتاء لقال
الناس: هذا عريان، والعجب كله من أبي حنيفة إذ يمنع من أن تجزئ العمامة وهي
كسوة ثم يقول: لو كساهم ثوبا واحدا يساوى عشرة أثواب أو أعطاهم بغلة أو حمارة
تساوى عشرة أثواب أجزأه، وثم تدبرنا هذا فرأينا ضرورة أن الكسوة على الاطلاق
منافية للعرى إذا ممتنع محال أن يكون كاسيا عاريا من وجه واحد لكن يكون كذلك من
وجهين مثل أن يكون بعضه كاسيا وبعضه عاريا أو يكون عليه كسوة تعمه ولا تستر بشرته
كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نساء كاسيات عاريات لا يدخلن الجنة) فضح
يقينا أن الكسوة لا يكون معها عرى إذا كانت على الاطلاق والله تعالى قد أطلقها ولم
يذكر ها بإضافة، ولا شك في أن من عليه كسوة سابغة الا أن رأسه عار أو ظهره أو عورته
أو غير ذلك منه فإنه لا يسمى كاسيا ولا مكتسيا الا بإضافة، فوجب ضرورة ان لا تكون
الكسوة الا عامة لجميع الجسم ساترة له عن العيون مانعة من البرد لأنه بالضرورة يعلم أن
من كان في كانون الأول مغطى برداء قصب فقط أنه لا يسميه أحد كاسيا بل هو عريان،
وبالله تعالى التوفيق *
1185 - مسألة - ويجزئ كسوة أهل الذمة واطعامهم إذا كانوا مساكين
بخلاف الزكاة لأنه لم يأت ههنا نص بتخصيص المؤمنين، وقد جاء النص في الزكاة ان
تؤخذ من أغنياء المسلمين فترد في فقرائهم *
1186 - مسألة - ويجزئ الصوم للثلاثة الأيام متفرقة ان شاء وهو قول مالك.
والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تجزى الا متتابعة، واحتجوا بقياسها على كفاة الظهار.
والقتل، وقالوا في قراءة ابن مسعود: متتابعات *
قال أبو محمد: من العجائب ان يقيس المالكيون الرقبة في أن تكون مؤمنة في كفارة
اليمين على كفارة القتل ولا يقيسها الحنيفيون عليها ويقيس الحنيفيون الصوم في كفارة
اليمين في وجوب كونه متتابعا على صوم كفارة قتل الخطأ. والظهار، ولا يقيسه
المالكيون عليه فاعجبوا لهذه المقاييس المتخاذلة المحكوم بها في الدين مجازفة؟ واما
قراءة ابن مسعود فهي من شرق الأرض إلى غربها أشهر من الشمس من طريق
عاصم. وحمزة. والكسائي ليس فيها ما ذكروا ثم لا يستحيون من أن يزيدوا



(1) في النسخة رقم 16 (وليس هذا بشئ)
75
في القرآن الكذب المفترى نصرا لأقوالهم الفاسدة وهم يأبون من قبول التغريب في الزنا
لأنه عندهم زيادة على ما في القرآن، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم لا يستحيون من الله تعالى
ولا من الناس في أن يزيدوا في القرآن ما يكون من زاده فيه كافرا وما أن قرأ به في المحراب
استتيب وان كتبه في مصحف قطع الورقة أو بشر نصرا لتقليدهم فإذ لم يخص الله تعالى
تتابعا من تفريق فكيفما صامهن أجزأه، وبالله تعالى التوفيق *
(1187) -
مسألة - ومن عنده فضل عن قوت يومه وقوت أهله ما يطعم منه
عشرة مساكين لم يجزه الصوم أصلا لأنه واجد ولا يجزى الواجد بنص القرآن من وجد
الا ما وجد ولا يجزى الصوم الا من لم يجد (1)، والعبد والحر في كل ذلك سواء:
(وما كان ربك نسيا) ومن حد بأكثر من هذا من قوت جمعة. أو شهر. أو سنة كلف
الدليل ولا سبيل له إليه *
1188 - مسالة - ولا يجزى اطعام بعض العشرة وكسوة بعضهم وهو قول
مالك. والشافعي، وقال أبو حنيفة. وسفيان: يجزى، وهذا خلاف القرآن وما نعلم
أحدا قاله قبل أبي حنيفة *
1189 - مسألة - ومن حلف على اثم ففرض عليه أن لا يفعله ويكفر فان حلف
على ما ليس اثما فلا يلزمه ذلك، وقال بعض أصحابنا: يلزمه ذلك إذا رأى غيرها خيرا منها
واحتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه *
قال أبو محمد: كان هذا احتجاجا صحيحا لولا ما رويناه في كتاب الصلاة في باب
الوتر من قول القائل للنبي صلى الله عليه وسلم إذ ذكر له الصلوات الخمس فقال: هل على غيرهن؟
قال: لا الا ان تطوع، وقال في صوم رمضان والزكاة كذلك (والله لا أزيد عليهن ولا
أنقص منهن فقال عليه السلام: أفلح ان صدق دخل الجنة ان صدق (2)) ولا شك في
أن التطوع بعد الفرض أفضل من ترك التطوع وخير من تركه فلم ينكر النبي عليه السلام
يمينه تلك ولا أمره بأن يأتي الذي هو خير بل حسن له ذلك، فصح ان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك
إنما هو ندب وبالله تعالى التوفيق *
(تم كتاب الكفارات والحمد لله رب العالمين)



(1) في النسخة رقم 16 (من لا يجد)
(2) وهو حديث صحيح
76
كتاب القرض وهو الدين
1190 - مسألة - القرض فعل خير، وهو أن تعطى انسانا شيئا بعينه من مالك تدفعه إليه ليرد عليك مثله إما
حالا في ذمته وإما إلى أجل مسمى هذا مجمع عليه، وقال الله
تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) *
1191 - مسألة - والقرض جائز في كل ما يحل تملكه وتمليكه بهبة أو غيرها
سواء جاز بيعه أو لم يجز لان القرض هو غير البيع لان البيع لا يجوز الا بثمن ويجوز بغير
نوع ما بعت ولا يجوز في القرض الا رد مثل ما اقترض لا من سوى نوعه أصلا *
1192 - مسألة - ولا يحل أن يشترط رد أكثر مما أخذ ولا أقل وهو ربا مفسوخ
ولا يحل اشتراط رد أفضل مما أخذ ولا أدنى وهو ربا، ولا يجوز اشتراط نوع غير النوع
الذي أخذ ولا اشتراط أن يقضيه في موضع كذا ولا اشتراط ضامن *
برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ما بال
أقوام يشتر طون شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس
له وان اشترط مائة شرط كتاب الله أحق وشرط الله أوثق (1)) ولا خلاف في بطلان
هذه الشروط التي ذكرنا في القرض وبالله تعالى نتأيد *
1193 - مسألة - فأن تطوع عند قضاء ما عليه بأن يعطى أكثر مما أخذ. أو
أقل مما أخذ. أو أجود مما أخذ. أو أدنى مما أخذ فكل ذلك حسن مستحب، ومعطى
أكثر مما اقترض وأجود مما اقترض مأجور، والذي يقبل أدنى مما أعطى. أو أقل مما
أعطى مأجور، وسواء كان ذلك عادة أو لم يكن ما لم يكن عن شرط، وكذلك إن قضاه
في بلد آخر. ولا فرق فهو حسن ما لم يكن عن شرط * روينا من طريق البخاري وموسى
ابن معاوية قال البخاري: نا خلاد، وقال موسى: نا وكيع ثم اتفق خلاد ووكيع قالا:
نا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله قال: (كان لي على رسول الله
صلى الله عليه وسلم دين فقضاني وزادني) * ومن طريق وكيع عن علي بن صالح بن حي عن سلمة
ابن كهيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: (استقرض رسول الله صلى الله عليه وسلم سنا فأعطاه سنا
فوق سنه وقال: خياركم محاسنكم قضاء)، وهو قول السلف * روينا من طريق سفيان



(1) هو في الصحيحين بألفاظ مختلفة
77
ابن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه قال: قضاني الحسن بن علي بن أبي طالب وزادني
نحوا من ثمانين درهما * ومن طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبيه قال: تقاضيت
الحسن بن علي دينا لي عليه فوجدته قد خرج من الحمام فقضاني ولم يزنه فوزنته فوجدته قد
زادني على حقي سبعين درهما * ومن طريق مالك قال: بلغني أن رجلا قال لابن عمر: انى
أسلفت رجلا سلفا واشترطت أفضل مما أسلفته فقال ابن عمر: ذلك الربا ثم ذكر كلاما
وفيه أن ابن عمر قال له: أرى أن تشق صكك فان أعطاك مثل الذي أسلفته قبلته وان أعطاك
دون ما أسلفته فأخذته أجرت وان أعطاك أفضل مما أسلفته طيبة به نفسه فذلك شكر
شكره لك وهو أجر ما أنظرته * ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا هشام الدستوائي
عن القاسم بن أبي بزة (1) عن عطاء بن يعقوب قال: اقترض منى ابن عمر ألف درهم فقضاني
أجود من دراهمي، وقال لي: ما كان فيها من فضل فهو نائل منى لك أتقبله؟ قلت: نعم
ولا يعرف لهذين مخالف من الصابة رضي الله عنهم الا رواية عن ابن مسعود انه كره
ذلك * ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كان ابن الزبير يستسلف من
التجار أموالا ثم يكتب لهم إلى العمال فذكرت ذلك لابن عباس فقال: لا بأس به، وحكى
شعبة أنه سأل الحكم بن عتيبة. وحماد بن أبي سليمان عمن اقترض دراهم فرد عليه خيرا منها؟
فقالا جميعا: إذا كان ليس من نيته فلا بأس، وصح عن قتادة عن الحسن البصري. وسعيد
ابن المسيب قالا جميعا: لا بأس أن تقرض دراهم بيضا وتأخذ سودا أو تقرض سودا
وتأخذ بيضا * ومن طريق ابن أبي شيبة نا قطري بن عبد الله عن أشعث الحمراني (2) قال:
سألت الحسن؟ فقلت: يا أبا سعيد لي جارات ولهن عطاء فيقترضن منى ونيتي في فضل
دراهم العطاء على دراهم قال: لا بأس به * ومن طريق معمر عن أيوب عن ابن سيرين
إذا أسلفت طعاما فاعطاكه بأرض أخرى فإن كان عن شرط فهو مكروه وإن كان على
وجه المعروف فلا بأس به، وهو كله قول أبي حنيفة. والشافعي. وأبي سليمان، وأجاز
مالك أن يرد أفضل ما لم يكن عن عادة ولم يجز أن يرد أكثر وهذا خطأ لأنه خلاف فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أوردنا، وأما فرقة بين العادة وغيرها فخطأ لأنه ان جاز مرة
جاز ألف مرة ولا فرق وإن كان خيرا في المرة الواحدة فالاكثار من الخير خير وإن كان
شرا فالشر لا يجوز لامرة ولا مرارا وبالله تعالى التوفيق *



(1) هو بفتح الباء الموحدة وتشديد الزاي، وفى النسخة رقم 16 (برة) براء بعد الباء
وهو تصحيف
(2) هو بضم الحاء المهملة وسكون الميم نسبة إلى حمران، وفى النسخة رقم 16
(الحراني) بدون ميم وهو تصحيف
78
ولا نعلم أحدا قبله فرق بين العادة في ذلك وبين المرة الواحدة، وأما منعه من رد أكثر
فقد روينا عن الشعبي. والزهري، والعجب كله من اجازته الزيادة حيث هي الربا
المكشوف المحرم إذ يجيز مبادلة دينار ناقص بدينار زائد عليه في وزنه بمشارطة في حين
المبادلة، وكذلك في الدرهم الناقص بالدرهم الزائد على في وزنه، وقد صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم (الدرهم بالدرهم فضل ما بينهما ربا) ثم يمنع من الزيادة غير المشترطة في قضاء
القرض وقد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وحض عليه وحسبنا الله [ونعم الوكيل] (1) *
1194 - مسالة - فأن قضاه من غير نوع ما استقرض لم يحل أصلا لا بشرط ولا
بغير شرط مثل أن يكون أقرضه ذهبا فيرد عليه فضة أو غير ذلك وهكذا في كل شئ، يقول
الله تعالى: (وتأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)،
وهو إذا رد غير ما كان عليه فقد أخذ غير حقه ومن أخذ غير حقه فقد أكل المال بالباطل،
فان قالوا: إنما هو من باب البيع كأنه باع منه ما كان له عنده بما أخذ منه قلنا: هذا حرام
لا يحل لأنه ليس عليه عنده شئ بعينه ولا يحل البيع الا في شئ بعينه وهو بيع ما ليس عندك
وبيع ما لم يقبض، وكل هذا قد صح النهى عنه على ما نذكر في البيوع إن شاء الله تعالى، وهو
فيما يقع فيه الربا ربا محض على ما نذكر في أبواب الربا إن شاء الله تعالى *
فان احتجوا بخبر ابن عمر في ذلك فهو خبر لا يصح على ما نذكر في البيوع إن شاء الله تعالى
لأنه من رواية سماك بن حرب ثم لو صح لكانوا مخالفين له على ما نذكر هنا لك إن شاء الله تعالى *
1195 - مسألة - ومن استقرض شيئا فقد ملكه وله بيعه ان شاء وهبته والتصرف
فيه كسائر ملكه وهذا الاخلاف فيه وبه جاءت النصوص *
1196 - مسألة - فإن كان الدين حالا كان للذي أقرض ان يأخذ به المستقرض
متى أحب ان شاء أثر اقراضه إياه وان شاء أنظره به إلى انقضاء حياته، وقال مالك: ليس
له مطالبته إياه به الا بعد مدة ينتفع فيها المستقرض بما استقرض وهذا خطأ لأنه دعوى
بلا برهان، وأيضا فإنه أوجب ههنا أجلا مجهول المقدار لم يوجبه الله تعالى قط ثم هو
الموجب له لا يحد مقداره فأي دليل أدل على فساد هذا القول من أن يكون قائله يوجب
فيه مقدارا [ما] (2) لا يدرى هو ولا غيره ما هو وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يعطى
كل ذي حق حقه، فمن منع من هذا فقد خالف أمره عليه السلام *
1197 - مسالة - فان طالبه صاحبه الدين بدينه والشئ المستقرض حاضر عند



(1) الزيادة من النسخة رقم 14
(2) الزيادة من النسخة رقم 16
79
المستقرض لم يجزان يجبر المستقرض على [شئ من ماله إذ لم يوجب ذلك] (1) أن يرد
الذي أخذ بعينه ولابد لكن يجبر على رد مثله اما ذلك الشئ واما غيره مثله من نوعه لأنه
قد ملك الذي استقرض وصار كسائر ماله ولا فرق، ولا يجوز أن يجبر على اخراج شئ
بعينه من ماله إذ لم يوجب عليه قرآن ولا سنة فإن لم يوجد له غيره قضى عليه حينئذ برده
لأنه مأمور بتعجيل انصاف غريمه فتأخيره بذلك وهو قادر على الانصاف ظلم وقد قال
عليه السلام: (مطلق الغنى ظلم) (2) وهذا غنى فمطله ظلم *
1198 - مسألة - فإن كان القرض إلى أجل ففرض عليهما أن يكتباه وان يشهدا
عليه عدلين فصاعد أو رجلا. وامرأتين عدولا فصاعدا، فإن كان ذلك في سفر ولم
يجد كاتبا فان شاء الذي له الدين ان يرتهن به رهنا فله ذلك وان شاء أن لا يرتهن فله ذلك وليس
يلزمه شئ من ذلك في الدين الحال لا في السفر ولا في الحضر *
برهان ذلك قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه) إلى قوله (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله) إلى قوله تعالى
(واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من
الشهداء) إلى قوله تعالى (وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فان أمن
بعضكم بعضا فليؤد الذي ائتمن أمانته) وليس في أمر الله تعالى الا الطاعة ومن قال: إنه
ندب فقد قال: الباطل ولا يجوز أن يقول الله تعالى: فاكتبوه فيقول قائل: لا أكتب
ان شئت ويقول الله تعالى: (واشهدوا) فيقول قائل: لا أشهد ولا يجوز نقل أوامر
الله تعالى عن الوجوب إلى الندب الا بنص آخر أو بضرورة حس، وكل هذا قول أبى
سليمان. وجميع أصحابنا وطائفة من السلف ونتقصى ذلك في كتاب البيوع إن شاء الله
تعالى *
1199 - مسألة - ومن لقى غريمه في بلد بعيد أو قريب وكان الدين حالا أو قد بلغ
أجله فله مطالبته وأخذه بحقه ويجبره الحاكم على أنصافه عرضا كان الدين. أو طعاما.
أو حيوانا. أو دنانير. أو دراهم كل ذلك سواء ولا يحل أن يجبر صاحب الحق على أن
لا ينتصف الا في الموضع الذي تداينا فيه *
برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (مطل الغنى ظلم) وأمره عليه السلام أن يعطى
كل ذي حق حقه، ومن ادعى أنه لا يجوز أن يجبر على أنصافه الا حيث تداينا فقد قال:
الباطل لأنه قول لا دليل عليه لامن قرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قول صاحب



(1) الزيادة من النسخة رقم 16 وقد أو جدت تكلفا في الكلام
(2) هو في الصحيحين
80
ولا قياس. ولا رأى سديد، ثم يقال له: إن كان التداين بالأندلس ثم لقيه بصين الصين
ساكنا هنالك أو كلاهما أترى حقه سقط أو يكلف الذي عليه الحق هو وصاحب
الحق النهوض إلى الاندس لينصفه هنا لك من مدين، ثم لو طردوا قولهم للزمهم ان
لا يجيزوا الانصاف الا في البقعة التي كانا فيها بأبدانهما حين التداين وهم لا يقولون هذا
فنحن نزيدهم من الأرض شبرا شبرا حتى نبلغهم إلى أقص العالم، ولو حقق كل ذي قول
قوله وحاسب نفسه بان لا يقول في الدين الا ما جاء به قرآن أو سنة لقل الخطأ ولكان أسلم
لكل قائل، وما توفيقنا الا بالله العظيم *
1200 - مسألة وان أراد الذي عليه الدين المؤجل أن يعجله قبل أجله بما قل أو كثر
لم يجبر الذي له الحق على قبوله أصلا، وكذلك لو أراد الذي له الحق أن يتعجل قبض دينه
قبل أجله بما قل أو كثر لم يجز أن يجبر الذي عليه الحق على أدائه سواء في كل ذلك الدنانير
والدراهم. والطعام كله. والعروض كلها. والحيوان فلو تراضيا علي تعجيل الدين
أو بعضه قبل حلول أجله أو على تأخيره بعد حلول أجله أو بعضه جاز كل ذلك وهو قول
أبى سليمان. وأصحابنا، وقال المالكيون: إن كان ممالا مؤنة في حمله ونقله أجبر الذي له الحق
على قبضه وإن كان مما فيه مؤنة في حمله ونقله لم يجبر على قبوله قبل محله *
قال أبو محمد: وهذا قول في غاية الفساد، أول ذلك أنه قول بلا برهان لا من قرآن.
ولا سنة. ولا اجماع. ولا قول صاحب لا مخالف له. ولا قياس. ولا رأى سديد،
والثاني أن شرط الأجل قد صح بالقرآن والسنة فلا يجوز ابطال ما صححه الله تعالى،
والثالث أنهم أبطلوا هذا الشرط الصحيح الذي أثبته الله تعالى في كتابه وأجازوا الشروط
الفاسدة التي أبطلها الله تعالى في كتابه كمن اشترط لامرأته ان كل امرأة يتزوجها عليها
فهي طالق، وكل سرية يتخذها عليها فهي حرة وأن لا يرحلها عن دارها فان فعل فأمرها
بيدها، واحتجوا ههنا برواية مكذوبة (وهي المسلمون عند شروطهم) فهلا احتجوا بها إذ
هي عندهم صحيحة في إنفاذ شرط التأجيل المسمى بالدين فتأملوا هذه الأمور تروا
العجب، والرابع أنهم احتجوا في هذا بعمر. وعثمان فيما روى عنهما في القضاء بقبول
تعجيل الكتابة قبل أجلها وقد أخطأوا في هذا من وجوه، أولها أنه لا حجة فيمن دون
رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني أنه إنما جاء ذلك عن عمر. وعثمان في الكتابة خاصة فقاسوا
عليها سائر الديون وهم مقرون بان حكم الكتابة مخالف لحكم الديون في جواز الحمالة
وغير ذلك، والثالث أنه قد خالف عمر. وعثمان في ذلك أنس فلم ير تعجيل الكتابة قبل
أجلها، والرابع انهم خالفوا عمر. وعثمان في مئين من القضايا، منها اجبار عمر سادات

81
العبيد على كتابتهم بالضرب إذ طلب العبيد ذلك وغير هذا كثير، فمن الباطل أن يكون
قولهما حجة في موضع غير حجة في آخر، والخامس انهم قد خالفوا عمر. وعثمان في هذه
القضية نفسها لأنه جاء عنهما وضع الكتابة في بيت المال ثم يعطى السيد في كل نجم حقه
فظهر فساد هذا القول وبالله تعالى التوفيق، وقدموه بعضهم بالخبر الثابت عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم (ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه وما لا فلا تتبعه نفسك) *
قال أبو محمد: وهذا تحريف منهم للكلم عن مواضه لان هذا الخبر إنما هو في العطاء المبتدأ
الذي نهينا عن السؤال فيه عن غير ضرورة أو بغير سلطان ولا في الحقوق الواجبة
الواجب السؤال عنها وطلبها أو الابراء منها لله تعالى *
قال أبو محمد: وليت شعري أي فرق بين إرادة الذي عليه الحق تعجيل ما عليه قيل أجله
مع اباية الذي له الحق من ذلك وبين إرادة الذي له الحق تعجيل ما له قبل أجله مع اباية الذي
عليه الحق من ذلك؟ إذ أوجبوا الواحد ومنعوا الآخر، فان قالوا: إن الذي عليه الحق
يريدان يبرأ مما عليه قلنا لهم: والذي له الحق يريد أن يبرئ الذي عليه الحق مما عليه، فان
قالوا: ليس يريد ذلك الذي عليه الحق الا إلى أجله قلنا لهم: ويريد ذلك الذي له الحق
الا إلى أجله *
1201 - مسألة - والقرض جائز في الجواري. والعبيد. والدواب. والدور.
والأرضين وغير ذلك لعموم قوله تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) فعم تعالى
ولم يخص فلا يجوز التخصيص في ذلك بالرأي الفاسد بغير قرآن. ولا سنة، وقولنا في
هذا هو قول المزني. وأبي سليمان. ومحمد بن جرير. وأصحابنا، ومنع من ذلك أبو حنيفة.
ومالك. و الشافعي في الجواري خاصة وما نعلم لهم حجة أصلا لا من قرآن. ولا من سنة.
ولا من رواية سقيمة. ولا من قول صاحب. ولا من اجماع. ولا من قياس. ولا من
رأى سديد الا أن بعضهم قال: لا يجوز ذلك لأنه يطؤها ثم يردها إليه فيكون فرجا معارا *
قال أبو محمد: أما قولهم: يطؤها ثم يردها عليه فهم يوجبون هذا نفسه في التي يجد
بها عيبا، فان ادعوا اجماعا قلنا: كذبتم قد صح عن علي. وشريح المنع من الرد بالعيب
بعد الوطئ ثم لو صح لهم انه اجماع للزمهم لأنهم أصحاب قياس أن يقيسوا ما اختلف فيه
على ما يزعمون أنه اتفق عليه فهذا أصلهم في القياس فانى بدا لهم عنه، ثم نقول لهم: فإذا
وطئها ثم ردها فكان ماذا؟ وطئها بحق بنص القرآن قال تعالى: (والذين هم لفروجهم
حافظون الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك
فأولئك هم العادون) ثم إن ردها ردها بحق لأنه أدى ما عليه فانتقلت من حق إلى حق،

82
وأما قولهم: انه فرج معار فكذب وباطل لان العارية لا يزول عنها ملك المعير فحرام
على غيره وطؤها لأنه ملك يمين غيره، وأما المستقرضة فهي ملك يمين المستقرض فهي
له حلال وهو مخير بين أن يردها أو يمسكها ويرد غيرها وليست العارية كذلك، وقالوا:
هو بشيع شنيع قلنا: لا شنعة ولا بشاعة في الحلال وأنتم لا تستبشعون مثله من أن يكون
انسان يبيع جارية من غيره فيطؤها ثم يبتاعها الذي باعها فيستبرئها بحيضة ثم يطؤها
ثم يبتاعها الذي باعها منه، وهكذا ابدا، ومن أن يكون انسان يتزوج امرأة فيطؤها ثم
يطلقها فتعتد خمسة وأربعين يوما وهي مصدقة عنده ثم يتزوجها جاره فيطؤها ثم يطلقها
فتعتد كذلك ثم يتزوجها الأول فيطؤها ثم يطلقها وهكذا أبدا، فأي فرق بين هذا وبين
ما منعوا منه من قرض الجواري؟ إنما الشنيع البشيع الفظيع ما يقولونه من أن رجالا
تكون بينهم أمة يطؤها كل واحد منهم فلا يرون في ذلك حدا ويلحقون الولد بهذا الوطئ
الحرام الخبيث، ومن أن يطأ الوالد أم ولد ابنه فلا يرون عليه حدا ويلحقون الولد في هذا
الوطئ الفاحش لا سيما الحنيفيين الذين يقولون: من عشق امرأة جاره فرشا شاهدين
فشهدا له بأن زوجها طلقها وانها اعتدت وانها تزوجت هذا وهي منكرة وزوجها
منكر والله تعالى يعلم أنهما كاذبان فقضى القاضي بذلك فإنه يطؤها حلالا طيبا، فهذه
هي الشناعة المضاهية لخلاف الاسلام وبالله تعالى التوفيق *
1202 - مسألة - وكل ما يمكن وزنه أو كيله أو عدده أو زرعه لم يجر أن
يقرض جزافا لأنه لا يدرى مقدار ما يلزمه أن يرده فيكون أكل مال بالباطل *
1203 - مسألة - وكل ما اقترض من ذلك معلوم العدد أو الزرع أو الكيل
أو الون فان رده جزافا فكان ظاهرا متيقنا أنه أقل مما اقترض فرضى ذلك المقرض أو
كان ظاهرا متيقنا انه أكثر مما اقترض وطابت نفسه المقترض وكل ذلك جائز حسن لما
قدمنا، فإن لم يدرأ هو مثل ما اقترض أم أقل أم أكثر؟ لم يجز له لأنه لا يجوز مال أحدا لا
بطيب نفس منه ورضاه ولا يكون الرضا وطيب النفس الاعلى معلوم ولابد (1) لا على
مجهول وبالله تعالى التوفيق *
1204 - مسألة - ولا يجوز تعجيل بعض الدين المؤجل على أن يبريه من الباقي
فان وقع رد وصرف إلى الغريم ما أعطى لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) فلو عجل الذي عليه الحق
بعض ما عليه بغير شرط ثم رغب إلى صاحب الحق أن يضع عنه الباقي أو بعضه فأجابه إلى



(1) سقطت جملة (ولابد) من النسخة رقم 16
83
ذلك أو وضعه عنه أو بعضه بغير رغبة فكل ذلك جائز حسن وكلاهما مأجور لأنه ليس
ههنا شرط أصلا لكن أحدهما سارع إلى الخير في أداء بعض ما عليه فهو محسن والآخر
سارع إلى الابراء من حقه فهو محسن قال الله عز وجل: (وافعلوا الخير) وهذا كله خير
[وبالله تعالى التوفيق] (1) *
1205 - مسألة - ومن كان له دين حال أو مؤجل فحل فرغب إليه الذي عليه الحق
في أن ينظره أيضا إلى أجل مسمى ففعل أو أنظره كذلك بغير رغبة وأشهد أو لم يشهد لم
يلزمه من ذلك شئ والدين حال يأخذه به متى شاء وهو قول الشافعي وهو أيضا قول زفر.
وأبي سليمان. وأصحابنا، وكذلك لو أن امرءا عليه دين مؤجل فأشهد على نفسه أنه قد
أسقط الأجل وجعله حالا فإنه لا يلزمه ذلك والدين إلى أجله كما كان *
برهان ذلك أن كل ما ذكرنا فإنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وليس شئ
من هذا من العقود التي افترض الله تعالى الوفاء بها لأن العقود المأمور بالوفاء بها
منصوصة الأسماء في القرآن، ولا خلاف في أن كل العقود لا يلزم الوفاء بها كمن عقد أن
يكفر أو أن يزني، وكل عقد صح مؤجلا بالقرآن أو السنة فلا يجوز البتة ابطال التأجيل
الا بنص آخر، وكل عقد صح حالا بالقرآن أو السنة فلا يجوز البتة ابطال الحلول الا
بنص آخر، ولا سبيل إلى نص في ذلك وبالله تعالى التوفيق * فان قيل: قد قلتم: إنه
ان عجل له ما عليه قبل الأجل ان ذلك لازم له لا رجوع فيه قلنا: نعم لأنه قد خرج من حقه
وصيره إلى غيره ووهبه فهذا جائز إذ قد أمضاه وأما ما لم يمضه فإنما هو وعدو قد قدمنا ان
الوعد لا يلزم انجازه فرضا وبالله تعالى التوفيق *
وقال مالك: يلزمه التأجيل، وقال أبو حنيفة: ان أجله في قرض لم يلزمه وكان له
الرجوع ويأخذه حالا فان أجله في غضب غصبه إياه أو في سائر الحقوق ما عدا القرض
لزمه التأجيل وهو قول محمد بن الحسن. وأبى يوسف، وروى عن أبي يوسف انه ان استهلك
له مما يكال أو يوزن ثم أجله به فله أن يرجع في ذلك ولا يلزمه التأجيل، فان استهلك له شاة
أو ثوبا فأجله في قيمتها لزمه التأجيل *
قال أبو محمد: فهل سمع بأسخف من هذه الفروق، واحتج بعضهم بان قال: إن
التأجيل في أصل القرض لا يصح فما زاد هذا المحتج على خلاف الله تعالى في قوله: (إذا
تداينتم بدين إلى أجل مسمى) * قال أبو محمد: وإنما الحجة ما ذكرنا وبالله تعالى نتأيد *
1206 - مسألة - وكل من مات وله ديون على الناس مؤجلة أو للناس عليه ديون



(1) الزيادة من النسخة اليمنية
84
مؤجلة فكل ذلك سواء وقد بطلت الآجال كلها وصار كل ما عليه من دين حالا وكل ماله
من دين حالا سواء في ذلك كله القرض. والبيع. وغير ذلك، وقال مالك: اما الديون
التي عليه مؤجلة فقد حلت واما التي له على الناس فإلى أجلها *
قال أبو محمد: وهذا فرق فاسد بلا برهان لامن قرآن. ولا سنة. ولا اجماع.
ولا رواية سقيمة. ولا قياس. ولا قول صاحب. ولا رأى له وجه *
برهان قولنا هو قول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا عليها) وقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) (1) وقال تعالى في حكمه في المواريث فذكر
فرائض المواريث وقال عز وجل (من بعد وصية يوصى بها أو دين) فصح أن بموت
الانسان بطل حكمه عن ماله وانتقل إلى ملك الغرماء والموصى لهم ووجوه الوصايا *
والورثة. وعقد الغرماء في تأجيل ما عليهم أو تأجيل ما على الميت إنما كان بلا شك بينهم وبين
المتوفى إذ كان حيا وقد انتقل الآن المال عن ملكه إلى ملك غيره فلا يجوز كسب الميت
عليهم فيما قد سقط ملكه عنه ولا يحل للغرماء شئ من ماله الورثة والموصى لهم والوصية
بغير طيب أنفسهم فبطل حكم التأجيل في ذلك ووجب للورثة وللوصية أخذ حقوقهم،
وكذلك لا يحل للورثة امساك مال غريم ميتهم إلا بطيب نفسه لان عقده إنما كان مع
المتوفى إذ كان حيا فلا يلزمه أن يبقى ماله بأيدي ورثة لم يعاملهم قط، ولا يحل لهم امساك
مال الذي له الحق عنه والله تعالى لم يجعل لهم حقا ولا للوصية الا بعد انصاف أصحاب
الديون وبالله تعالى التوفيق *
روينا من طريق أبى عبيدنا إسماعيل بن إبراهيم - هو ابن علية - عن ليث عن الشعبي.
والنخعي قالا جميعا: من كان له (2) دين إلى أجل فإذا مات فقد حل * وبه إلى أبى عبيد
عن معاذ بن معاذ العنبري عن أشعث عن الحسن البصري أنه كان يرى الدين حالا إذا مات
وعليه دين * ومن طريق محمد بن المثنى حدثني عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن
المغيرة بن مقسم عن إبراهيم قال: إذا مات الميت فقد حل دينه وهذا عموم لما عليه ولما له *
1207 - مسألة - وهدية الذي عليه الدين إلى الذي له عليه الدين حلال، وكذلك
ضيافته إياه ما لم يكن شئ من ذلك عن شرط، فإن كان شئ عن شرط فهو حرام لما روينا
من طريق الليث بن سعد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي شريح العدوي (أنه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كان يؤمن. لله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يومه



(1) الحديث في الصحيحين
(2) في النسخة رقم 16 (فمن كان له)
85
وليلته والضيافة ثلاثة أيام فما كان وراء ذلك فهو صدقة (1)) وكان عليه السلام يأكل الهدية
وقال عليه السلام: (لو أهدى إلى ذراع لقبلت (2) * رويناه من طريق شعبة عن الأعمش
عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا عموم لم يخص عليه السلام من ذلك غريما
من غيره * وقالت طائفة: لا يجوز قبول هديته ولا النزول عنده ولا أكل طعامه صح عن
ابن عباس إذا أسلفت رجلا سلفا فلا تقبل منه هدية قراع ولا عارية ركوب دابة (3)
وانه استفتاه رجل فقال له: أقرضت سماكا خمسين درهما وكان يبعث إلى من سمكه فقال
له ابن عباس: حاسبه فإن كان فضل فرد عليه وإن كان كفافا فقا صصه، وصح عن عبد الله.
ابن سلام أنه قال: إذا كان لك على رجل مال فأهدى لك حملة من تبن (4) فلا تقبلها فإنها ربا
أردد عليه هديته أو اثبه، وصح عن ابن عمر انه سأله سائل؟ فقاله له: أقرضت رجلا
فأهدى لي هدية فقال: اثبه أو احسبها له مما عليه أو أردد ها عليه * وعن علقمة نحو هذا *
واحتجوا فقالوا: هو سلف جر منفعة، وصح النهى عن هذا عن ابن سيرين.
وقتادة. والنخعي *
قال أبو محمد: أما هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم فلا حجة في أحد دون رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقد خالفوا ابن عمر. وابن عباس في مئين من القضايا وقد جاء خلافهم عن غيرهم *
روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس بن عبيد. وخالد الحذاء
كلاهما عن محمد بن سيرين ان أبي بن كعب تسلف من عمر بن الخطاب عشرة آلاف فبعث
إليه أبى من ثمره وكانت تبكر وكان من أطيب ثمر أهل المدينة فردها عليه عمر فقال له:
أبي بن كعب: لا حاجة لي بما منعك طيب ثمرتي فقبلها عمر، وقال: إنما الربا على من أراد
أن يربى وينسئ * وبه إلى سفيان عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي وذكر نهى
علقمة عن أكل المراء عند من له عليه دين فقال إبراهيم: الا أن يكون معروفا كان يتعاطيانه *
قال أبو محمد: قول عمر بن الخطاب هو الحق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات
ولكل امرئ ما نوى) ولو كانت هدية الغريم والضيافة منه حراما أو مكروها
لما أغفل الله تعالى بيانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم (وما كان ربك نسيا) فإذا لم ينه تعالى عن



(1) هو في صحيح البخاري، والجائزة - وتسمى الجيزة - هي قدر ما يجوز به المسافر من
منهل إلى منهل، وقال الخطابي: معناه انه إذا نزل به الضيف أن يتحفه ويزيده في البر على
ما بحضرته يوما وليلة، وفى اليومين الأخيرين يقدم له ما يحضره فإذا مضى الثلاث فقد قضى
حقه فما زاد عليها مما يقدمه له يكون صدقه
(2) الحديث في صحيح البخاري ج 7 ص 44 بأطول من هذا
(3) في النسخة رقم 16 (ولا تجزيه ركوب دابة)
(4) في نسخة (جملة من تين) *
86
ذلك فهو حلال محض الا ما كان عن شرط بينهما، وأما قولهم إنه سلف جر منفعة فكان
ماذا؟ أين وجدوا النهى عن سلف جر منفعة؟ فليعلموا الآن أنه ليس في العالم سلف الا
وهو يجر منفعة وذلك انتفاع المسلف بتضمين ماله فيكون مضمونا تلف أو لم يتلف مع
شكر المستقرض إياه وانتفاع المستقرض بمال غيره مدة ما فعلى قولهم كل سلف فهو
حرام وفى هذا ما فيه، وبالله تعالى التوفيق، تم كتاب القرض والحمد [وصلى الله
على محمد وآله] (1) *
كتاب الرهن
1208 - مسألة - لا يجوز اشتراط الرهن الا في البيع إلى أجل مسمى في السفر
أو في السلم إلى أجل مسمى في السفر خاصة أو في القرض إلى أجل مسمى في السفر خاصة
مع عدم الكاتب في كلا الوجهين *
برهان ذلك ان اشتراط الرهن شرط وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس
في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس
له)، وقال عز وجل: (إذ تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) إلى قوله تعالى:
(وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) فههنا يجوز اشتراط الرهن
حيث أجازه الله تعالى، والدين إلى أجل مسمى لا يعدو أن يكون بيعا. أو سلما. أو قرضا فهذه الوجوه يجوز فيها اشتراط التأجيل لورود النصوص بوجوه في السلم وجوازه في
القرض. والبيع ولا يجوز فيما عدا ذلك أصلا لأنه لم يأت في شئ من المعاملات سوى
ما ذكرنا نص بجواز اشتراط التأجيل فهو شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل،
وصح عن مجاهد أنه لا يجوز الرهن إلا في السفر، وأما الحضر فلما رويناه من طريق
البخاري نا مسدد نا عبد الواحد - هو ابن زياد - حدثه الأعمش نا إبراهيم نا الأسود
عن عائشة أم المؤمنين [رضي الله عنها] (2) (أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاما
إلى أجل ورهنه درعه) * ومن طريق محمد بن المثنى حدثني عثمان بن عمر نا هشام بن
حسان عن عكرمة عن ابن عباس قال: والله لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وان درعه
لمرهونة عند رجل من اليهود بعشرين صاعا من شعير أخذها طعاما لأهله * فان قيل: قد
روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ شعيرا من يهودي بالمدينة ورهنه درعه وليس فيه ذكر



(1) الزيادة من النسخة رقم 14
(2) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 233، وفى بعض ألفاظ الحديث تقديم وتأخير وفى جزء 3 ص 284 بلفظه
87
أجل قلنا: ولا فيه اشتراط الرهن ونحن لا نمنع من الرهن بغير أن يشترط في العقد لأنه
تطوع من الراهن حينئذ والتطوع بما لم ينهه عنه حسن، فان ذكر حديث أبي رافع في بعثة
النبي صلى الله عليه وسلم إياه إلى يهودي ليسلفه طعاما لضيف نزل به فأبى إلا برهن فرهنه درعه،
فهذا خبر انفرد به موسى بن عبيد الربذي وهو ضعيف ضعفه القطان. وابن معين.
والبخاري. وابن المديني، وقال أحمد بن حنبل: لا تحل الرواية عنه *
1209 - مسألة - ولا يجوز الرهن إلا مقبوضا في نفس العقد لقول الله تعالى:
(فرهان مقبوضة)، وقال قوم: ان شرطه أن يجعل الرهن عند ثقة فهو جائز وهو قول
إبراهيم النخعي. والشعبي. وعطاء وبه يقول أبو حنيفة: ومالك. والشافعي، وقال
آخرون: لا يجوز هذا وليس هو قبضا كما روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر. وسفيان
الثوري قال معمر: عن قتادة، وقال سفيان: عن أشعث عن الحكم ثم اتفق قتادة. والحكم
على أن الرهن إذا كان على يدي عدل فليس مقبوضا قال سفيان: وهو قول ابن أبي ليلى
وبه يقول أبو سليمان. وأصحابنا، وصح أيضا عن الحارث العكلي من طريق هشيم عن
المغيرة عنه *
قال أبو محمد: إنما ذكر الله تعالى القبض في الرهن مع ذكره المتداينين في السفر إلى
أجل عند عدم الكاتب وإنما أقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم الدرع الذي له الدين فهو القبض
الصحيح، وأما قبض غير صاحب الدين فلم يأت به نص ولا اجماع، واشتراط أن
يقبضه فلان لا صاحب الدين شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل *
1210 - مسألة - ورهن المرء حصته من شئ مشاع مما ينقسم أو لا ينقسم عند الشريك
فهي وعند غيره جائز لان الله تعالى قال: (فرهن مقبوضة) ولم يخص تعالى مشاعا من مقسوم
(وما كان ربك نسيا) وهو قول عثمان البتي. وابن أبي ليلى. ومالك. وعبيد الله بن الحسن.
وسوار بن عبد الله. والشافعي. وأبي ثور. وأبي سليمان. وغيرهم، وقال أبو حنيفة.
وأصحابه: لا يجوز رهن المشاع كان مما ينقسم أو مما لا ينقسم لا عند الشريك فيه ولا عند
غيره، وأجازوا أن يرهن اثنان أرضا مشاعة بينهما عند انسان واحد، ومنعوا من أن يرهن
المرء أرضه عند اثنين داينهما دينا واحدا في صفقة واحدة، وهذا تخليط ناهيك به، أول
ذلك أنه قول لا نعلم أحدا قاله قبلهم، والثاني أنه قول بلا دليل، والثالث أنهم تناقضوا
فيه كما ذكرنا، وأيضا فإنهم لا يختلون في أن بيع المشاع جائز فيما ينقسم ومالا ينقسم
من الشريك وغيره. ومنع أبو حنيفة من إجازة المشاع فيما ينقسم وما لا ينقسم الا من
الشريك فيه وحده فاجازه له، وهذه تخاليط ومناقضات لا خفاء بها وما نعلم لهم شيئا

88
موهوا به الا أنهم قالوا: لا يصح القبض في المشاع، ومن قولهم: ان البيع لا يتم الا
بالقبض وقد أجازوا البيع في المشاع فالقبض عندهم ممكن في المشاع حيث اشتهوا وهو
البيع، والقبض عندهم غير ممكن في المشاع حيث لم يشتهوا وهو الرهن، وحسبنا الله ونعم
الوكيل، ويقال لهم: كما يقبض في البيع كذلك يقبض في الرهن ولا فرق *
1211 - مسألة - وصفة القبض في الرهن وغيره هو أن يطلق يده عليه فما كان
مما ينقل نقله إلى نفسه وما كان ممالا ينقل كالدور والأرضين أطلقت يده على ضبطه كما
يفعل في البيع وما كان مشاعا كان قبضه له كقبض صاحبه لحصته منه مع شريكه ولا فرق،
ولو كان القبض لا يصح في المشاع لكان الشريكان فيه غير قابضين له ولو كانا غير قابضين
له لكان مهملا لا يد لاحد عليه، وهذا أمر يكذبه الدين والعيان، أما الدين فتصرفهما
فيه تصرف ذي الملك في ملكه، وأما العيان فكونه عند كل واحد مدة يتفقان فيها أو عند
من يتفقان على كونه عنده، وبالله تعالى التوفيق *
1212 - مسألة - والرهن جائز في كل ما يجوز بيعه ولا يجوز فيما لا يجوز بيعه
كالحر وأم الولد. والسنور. والكلب. والماء لأنه وثيقة للمرتهن لينتصف ان مطل
ولا يمكن الانتصاف للغريم الا مما يجوز بيعه وبالله تعالى نتأيد *
1213 - مسألة - ومنافع الرهن كلها لا تحاشى منها شيئا لصاحبه الراهن له كما
كانت قبل الرهن ولا فرق حاشا ركوب الدابة المرهونة وحاشا لبن الحيوان المرهون فإنه
لصاحب الرهن كما ذكرنا إلا أن يضيعهما فلا ينفق عليهما وينفق على كل ذلك المرتهن
فيكون له حينئذ ركوب الدابة ولبن الحيوان بما أنفق لا يحاسب به من دينه كثر ذلك أم قل *
برهان ذلك قول الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) وقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (إنه دماء كم وأموالكم عليكم حرام) وحكم عليه السلام بأنه لا يحل مال امرئ
مسلم إلا بطيب نفسه وملك الشئ المرتهن باق لراهنه بيقين وباجماع لا خلاف فيه، فإذ
هو كذلك فحق الرهن الذي حدث فيه للمرتهن ولم ينقل ملك الراهن عن الشئ المرهون
لا يوجب حدوث حكم في منعه ما للمرء ان ينتفع به من ماله بغير نص بذلك، فله الوطئ.
والاستخدام. والمؤاجرة. والخياطة. وأكل الثمرة الحادثة. والولد الحادث. والزرع.
والعمارة. والأصواف الحادثة. والسكنى. وسائر ما للمرء في ملكه الا كون الرهن في
يد المرتهن فقط بحق القبض الذي جاء به القرآن ولا مزيد *
وأما الركوب والاحتلاب خاصة لمن أنفق على المركوب والمحلوب فلما روينا من

89
طريق البخاري نا محمد بن مقاتل أنا (1) عبد الله بن المبارك أنا زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي
عن أبي هريرة [رضي الله عنه] (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الظهر يركب (3) بنفقته
إذا كان مرهونا ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مر هونا وعلى الذي يركب ويشرب
النفقة) والنص قد ورد بتحريم الأموال على غير من له فيها حق فالرهن بلا شك حرام على
كل من عدا الراهن وللمرتهن فيه حق الارتهان، فدخل به في هذا العموم وخرج منه من
عداه بالنص الآخر *
قال أبو محمد: ومن خالفنا في هذا فإنه يخالف القرآن. والسنن. والمعقول، أما
القرآن. والسنن فمنعه صاحب الحق من منافع ماله والله تعالى يقول: (والذين هم لفروجهم
حافظون الاعلى أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك
فأولئك هم العادون) فقد أطلقه الله تعالى على وطئ أمته ولم يخص غير مرهونة من مرهونة
(وما كان ربك نسيا)، وقال تعالى: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا ان
الله لا يجب المعتدين) وأما خلاف المعقول فإننا نسأل من خالفنا ههنا عن الدار لمرهونة
أتؤاجر ويصلح ما هي فيها أم تهمل وتضيع ويخرج المستأجر لها عنها؟ وعن الأرض
المرهونة أتحرث وتزرع أم تهمل وتضاع؟ وعن الحيوان المرهون أينفق عليه ويستغل
أم يضيع حتى يهلك؟ وعن الأشجار المرهونة لمن تكون غلتها؟ فان قالوا: إن كل ذلك
يضيع خالفوا الاجماع، وقيل لهم: قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وان
قالوا: لا يضيع قلنا: فالمنافع المذكورة من الإجارة. واللبن. والولد. والصوف.
والثمرة لمن تكون؟ فان قالوا: تكون داخلا في الرهن قلنا لهم: ومن أين لكم ادخال
مال من ماله في رهن لم يتعاقد اقط أن يكون داخلا فيه؟ ومن أمر بهذا؟ فلاسمع له ولا
طاعة ولا نعمى عين لأنه خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ان دماء كم وأموالكم عليكم حرام)
وهذا تحريم ماله عليه واباحته لغيره وهذا باطل متيقن، وان قالوا (4): بل هو لصاحب
الملك قلنا: نعم وهذا قولنا ولله الحمد، وصح عن أبي هريرة رضي الله عنه من قوله مثل
قولنا وهو أنه قال: صاحب الرهن يركبه وصاحب الدر يحلبه وعليهما النفقة، وأنه قال
: الرهن مركوب ومحلوب بعلفه * ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان
عن إبراهيم النخعي فيمن ارتهن شاة ذات لبن قال: يشرب المرتهن من لبنها بقدر ثمن



(1) في صحيح البخاري ج 3 ص 285 (قال أخبرنا) الخ
(2) الزيادة من صحيح البخاري
(3) في صحيح البخاري ج 3 ص 285 (الرهن يركب) وما هنا أوضح
(4) في النسخة رقم 16 (فان قالوا)
90
علفها فان استفضل من اللبن بعد ثمن العلف فهو ربا *
قال أبو محمد: هذه الزيادة من إبراهيم لا نقول بها وعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم أحب
الينا من تفسير أبى عمران رحمه الله برأيه، ولا مخالف لأبي هريرة ههنا من الصحابة نعلمه،
وقال الشافعي: جميع منافع الرهن للراهن كما كانت، وقال أبو ثور بذلك وبقولنا
في الركوب والحلب الا أنه زاد الاستخدام ولا نقول بهذا لأنه لم يأت به النص، والقياس
لا يستحل به المحرم من أموال الناس: (وما كان ربك نسيا)، وقال إسحاق. وأحمد
ابن حنبل: لا ينتفع الراهن من الرهن الا بالدر وهذا قول بلا برهان، وأما مالك فإنه قال
: لا بأس أن يشترط المرتهن منفعة الرهن إلى أجل في الدور والأرضين وكره ذلك
في الحيوان والثياب (1) والعروض، وهذا قول لا برهان على صحته، وتقسيم فاسد
وشرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وقول لا نعلم أحدا قاله قبله. ومناقضة، وأتى بعضهم بغريبة وهو أنه قال: هو في العروض سلف جر منفعة فقيل له: وهو في العقار
كذلك ولا فرق * وأما أبو حنيفة وأصحابه فإنهم منعوا من موأجرة الرهن ومن أن ينتفع
به الراهن والمرتهن ثم تناقضوا من قرب فأباحوا للراهن أن يستعيره من المرتهن وان
يعيره إياه المرتهن ولم يروه بذلك خارجا من الرهن، وهذا قول في غاية الفساد لتعريه من
البرهان ولأننا لا نعلم أحدا قال به قبله واعترض بعضهم بان قال: فإذا كانت المنافع
للراهن كما كانت فأي فائدة للرهن؟ قلنا: أعظم الفائدة أما في الآخرة فالعمل بما أمر الله
تعالى به والاجر، وأما في الدنيا فلان الراهن إن مطل بالانصاف بيع الرهن وتعجل
المرتهن الانتصاف من حقه، فأي فائدة تريدون أكثر من هذه الفائدة؟ ونقول لهم: أنتم
توافقوننا على أنه لا يحل القمح بالقمح إلا مثلا بمثل فأي فائدة في هذا؟ وكذلك الذهب
بالذهب والفضة بالفضة وهذه اعتراضات يسوء الظن بصاحبها وليس إلا الائتمار لله ولرسوله
صلى الله عليه وسلم قال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا أن يكون
لهم الخيرة من أمرهم) وقال عز وجل: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) واعترض
بعض من لا يتقى الله تعالى على حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي أوردنا قبل من قوله عليه السلام:
(الرهن محلوب ومركوب) فقال: هذا خبر رواه هشيم عن زكريا عن الشعبي عن
أبي هريرة وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا كانت الدابة مرهونة فعلى المرتهن علفها
ولبن الدر يشرب بنفقتها وتركب) (2) قال هذا الجاهل المقدم * فإذا المراد بذلك المرتهن



(1) في النسخة رقم 16 (والنبات) وهو تصحيف
(2) انظر صحيح البخاري جزء 3 ص 285
91
فهو منسوخ بتحريم الربا وبالنهي عن سلف جر منفعة *
قال أبو محمد: وهذا كلام في غاية الفساد والجرأة، أول ذلك ان هذا خبر ليس مسندا
لأنه ليس فيه بيان بان هذا اللفظ من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأيضا فان فيه لفظا مختلفا
لا يفهم أصلا وهو قوله ولبن الدر يشرب وعلى الذي يشرب نفقتها وتركب، وحاش لله
أن يكون هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم المأمور بالبيان لنا، وهذه الرواية إنما هي من
طريق إسماعيل بن سالم الصايغ مولى بني هاشم عن هشيم فالتخليط من قبله لا من قبل هشيم
فمن فوقه لان حديث هشيم هذا رويناه من طريق سعيد بن منصور الذي هو أحفظ الناس
لحديث هشيم وأضبطهم له فقال: نا هشيم عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة يرفع
الحديث فيما زعم (قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرهن يركب ويعلف ولبن الدر إذا كان
مرهونا يشرب وعلى الذي يشر به النفقة والعلف) وأما قول هذا الجاهل فإذ ذلك على
المرتهن فهو منسوخ بالنهي عن الربا وبالنهي عن سلف جر منفعة فقد كذب وأفك وما
للربا ههنا مدخل أصلا، ولو أنهم اتقوا الربا لما أقدموا عليه جهارا إذ أباحوا التمرتين
بالأربع تمرات وإن كانت الأربع أكبر جسما وأثقل وزنا، وإذ أباح بعضه درهما
فيه درهم ونصف بدرهم فيه درهم غير ثمن، وإذ أباحوا كلهم ألف درهم حاضرة بمائة دينار
غائبة في الذمة فهذا هو الربا حقا لا انتفاع الراهن بماله ولا انتفاع المرتهن بالدر. والركوب
المباحين له بالنص من أجل نفقته على المركوب والمحلوب، وقالوا أيضا: قد صح عن
الشعبي أنه كره أن ينتفع الراهن من رهنه بشئ قالوا: وهو راوي الحديث فلم يتركه
الا الفضل علم عنه *
قال أبو محمد: وهذا من أسخف ما يأتون به، ولقد كنا نظن أن في بلادهم بعض
العذر لهم إذ يحتجون بترك الصحاب لما روى حتى أتونا بترك السنة من أجل ترك الشعبي
لها، وقد أوردنا أخذ أبي هريرة بما روى من ذلك فلئن مشوا هكذا ليكونن ترك
مالك للاخذ بما روى حجة على الحنيفيين في أخذهم به وليكونن ترك أبي حنيفة لما بلغه
من الحديث حجة على المالكيين في أخذهم به وهكذا سفلا (1) حتى يكون ترك كل أحد
للحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه حجة قاطعة في رده، وهذا مذهب إبليس ومن اتبعه،
ولا كرامة لاحد أن يكون حجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو عليه السلام الحجة
على الجن والإنس، وأسلم الوجوه لمن خالف ما روى عن صاحب فمن دونه من الأئمة



(1) هو بضم السين المهملة وسكون الفاء ضد العلو، أي وهكذا نتدرج معهم من علو إلى
سفل أي ممن هو في درجة العلو إلى من هو دونه في المرتبة
92
خاصة أن يظن بهم النسيان أو التأويل الذي أخطأوا فيه قاصدين للخير فيؤجرون مرة
واحدة وأما من أقدم على ما صح عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم فان اعتقد جواز مخالفته عليه السلام
فهو كافر حلال الدم والمال وان لم يعتقد ذلك فهو فاسق قال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون
حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) *
قال أبو محمد: وقد روى عن ابن مسعود. وابن عمر. وشريح أن لا ينتفع المرتهن
بشئ من الرهن ولا يصح عن أحد منهم لأنه عن ابن مسعود منقطع، وعن ابن عمر من
طريق ابن لهيعة، وعن شريح من طريق جابر الجعفي بل قد صح عن ابن سيرين.
والشعبي. لا ينتفع من الرهن بشئ وهذا صحيح إن كانوا عنوا المرتهن (1) وبه نقول
الا الحلب. والركوب ان انفق (2) فقط والا فلا وبالله تعالى التوفيق، وقال أبو
حنيفة. ومالك. والشافعي. وأحمد. وأبو سليمان: نفقة الرهن على راهنه وهذا
صحيح لأنه ماله الا أن الحنيفيين قالوا: إن مرض الرقيق المرهون. أو أصابت العبد
جراحة. أو دبرت الدواب المرهونة فإن كان الدين. وقيمة الرهن سواء فالعلاج كله
على المرتهن وإن كان الدين أقل من قيمة الرهن فالعلاج على الراهن والمرتهن بحساب ذلك،
وهذا كلام يشبه الهذيان الا أنه أسوأ حالا من الهذيان لأنه على حكم في الدين بالآراء
الفاسدة التي لا نعلم أحدا قالها قبله ولا متعلق لهم فيها لا بقرآن. ولا سنة. ولا برواية
ضعيفة. ولا بقياس. ولا برأي سديد. ولا بقول متقدم *
1214 - مسألة - فان مات الرهن. أو تلف. أو أبق. أو فسد. أو كانت أمة
فحملت من سيدها. أو أعتقها. أو باع الرهن. أو وهبه. أو تصدق به. أو أصدقه فكل
ذلك نافذ وقد بطل الرهن وبقى الدين كله بحسبه ولا يكلف الراهن عوضا مكان شئ من
ذلك ولا يكلف المعتق ولا الحامل استسعاء الا أن يكون الراهن لا شئ له من أين ينصف
غريمه غيره فيبطل عتقه. وصدقته. وهبته: لولا يبطل بيعه ولا اصداقه * روينا من طريق
ابن أبي شيبة نا يحيى بن آدم نا إسرائيل عن المغيرة بن مقسم الضبي عن إبراهيم النخعي فيمن
رهن عبده ثم أعتقه قال: العتق جائز ويتبع المرتهن الراهن، قال يحيى: وسمعت الحسن
ابن حي يقول فيمن رهن عبدا ثم أعتقه: العتق جائز وليس عليه سعاية *
برهان ذلك أن الدين قد ثبت فلا يبطله شئ إلا نص قرآن أو سنة فلا سبيل إلى وجود



(1) في النسخة اليمنية (عند المرتهن) وهو غلط، والمرتهن هو الذي يأخذ الرهن
(2) أن لا ينتفع المرتهن من الرهن حلبا وركوبا إلا إذا أنفق هو فقط فحينئذ للمرتهن أن
يركب ويحلب بقدر النفقة وفى بعض النسخ (ان اتفق) وهو تصحيف
93
ابطاله فيهما ولا يجوز تكليف عوض ولا استسعاء لأنه لم يأمر الله تعالى بذلك ولا رسوله
صلى الله عليه وسلم، والذمم بريئة إلا بنص قرآن أو سنة، فأما العتق. والبيع. والهبة. والاصداق.
والصدقة فان الرهن مال الراهن بلا خلاف وكل هذه الوجوه مباحة للمرء في ماله بنص
القرآن. والسنة. والاجماع المتيقن الا من لا شئ له غير ذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل
معروف صدقة) وقوله: (الصدقة عن ظهر غنى) فمن ادعى أن الارتهان يمنع شيئا من
ذلك فقوله باطل ودعواه فاسدة إذا لا سبيل له إلى قرآن ولا سنة. بتصحيح دعواه، قال
تعالى: (قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) وقد اختلفوا في ذلك فقال عثمان البتي.
وأبو ثور. وأبو سليمان: العتق باطل بكل حال وهو قول عطاء، وقال مالك. والشافعي:
إن كان موسرا نفذ عتقه وكلف قيمة يجعلها رهنا مكانه وإن كان معسرا فالعتق باطل، وقال
أحمد بن حنبل: العتق نافذ على كل حال فإن كان موسرا كلف قيمته تكون رهنا وإن كان
معسرا لم يكلف قيمته ولا كلف العبد استسعاء ونفذ العتق، وقال أبو حنيفة: العتق
نافذ بكل حال ثم قسم كما نذكر بعد هذا. وقال الشافعي: ان رهن أمة له فوطئها
فحملت فإن كان موسرا خرجت من الرهن وكلف رهنا آخر مكانها وإن كان معسرا فمرة
قال: تخرج من الرهن ولا يكلف رهنا مكانها ولا تكلف هي شيئا، ومرة قال: تباع إذا
وضعت ولا يباع الولد، وتكليف رهن آخر، والتفريق ههنا بين الموسر والمعسر وبيعها
بعد وضعها دون ولدها أقوال فاسدة بلا برهان، وقال أبو ثور: هي خارجة من الرهن
ولا يكلف لا هو ولا هي شيئا سواء معسرا كان أو موسرا، وروينا عن قتادة انها تباع
هي ويكلف سيدها أن يفتك ولده منها *
قال أبو محمد: افتكاك الولد لا ندري وجهه ولئن كان مملوكا فلأي معنى يكلف والده
افتكاكه؟ وإن كان حرا فلم يباع حتى يحتاج إلى افتكاكه، وروينا عن ابن شبرمة أنها
تستسعى وكذلك العبد المرهون إذا أعتق *
قال أبو محمد: وهذا عجب: وما ندري من أين حل أخذ مالها وتكليفهما غرامة لم
يكلفهما الله تعالى قط إياها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم وما جعل الله تعالى فيهما شركا للمرتهن
فيستسعى له؟، وأما مالك فقال. إن كان موسرا كلف أن يأتي بقيمتها فتكون
القيمة رهنا وتخرج هي من الرهن وإن كان معسرا فإن كانت تخرج إليه وتأتيه فهي
خارجة من الرهن ولا تتبع بغرامة ولا يكلف هو رهنا مكانها ولكن يتبع بالدين الذي
عليه فقط وإن كان تسور عليها بيعت هي وأعطى هو ولده منها *
قال أبو محمد: في هذا القول خمسة أوجه من الخطأ، وهي تفريقه بين المعسر والموسر

94
في ذلك والحق عل ما؟ واحد، وتكليفه احضار قطعة من ماله لترهن لم يعقد قط فيها رهنا،
وتفريقه بين خروجها إلى سيدها وبين تسوره عليها، وهي آمنة في كلا الوجهين. وهي مرهونة
في كلا الوجهين، وهذا عجب جدا. وبيعه إياها وهي أم ولد واخراجه ولدها من حكم
الرهن بلا تكليف عوض بخلاف الام وكلاهما عنده لا يجوز رهنهما، وكل هذه
أوجه فاحشة الخطأ لا متعلق له فيها بقرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة. لا اجماع.
ولا دليل. ولا قياس. ولا رأى له وجه. ولا قول صاحب نعم. ولا قول أحد نعلمه
قبله، وقال أبو حنيفة. وأصحابه (1) ان حملت فاقر بحملها فإن كان موسرا خرجت من
الرهن وكلف قضاء الدين إن كان حالا أو كلف رهنا بقيمتها إن كان إلى أجل، فإن كان
معسرا كلفت أن تستسعى في الدين الحال بالغا ما بلغ ولا ترجع به على سيدها، ولا يكلف
ولدها سعاية فإن كان الدين إلى أجل كلفت أن تستسعى في قيمتها فقط فجعلت رهنا مكانها
فإذا حل أجل الدين كلفت من ذي قبل أن تستسعى في باقي الدين إن كان أكثر من قيمتها
قالوا: فإن كان السيد استلحق ولدها بعد وضعها له وهو معسر قسم الدين على قيمتها يوم
ارتهنها وعلى قيمة ولدها يوم استلحق فما أصاب الام سعت فيه بالغا ما بلغ للمرتهن ولم
ترجع به على سيدها وما أصاب الولد سعى في الأقل من الدين أو قيمته (2) ورجع به على
أبيه ويأخذ المرتهن كان ذلك، قالوا: فلو كان الرهن عبدا فأعتقة نفذ فيه العتق وخرج
من الرهن، فإن كان الراهن موسرا والدين حالا كلف غرم الدين فإن كان الدين إلى أجل
كلف السيد قيمة العبد تكون رهنا مكانه، فإن كان معسرا استسعى العبد في الأقل من
قيمته أو الدين ورجع به على سيده ورجع المرتهن على الراهن بباقي دينه *
قال أبو محمد: ان في هذه الأقوال لعبرة لمن اعتبر ونعوذ بالله من الخذلان، وان من
العجب تفريقه بين ما تستسعى فيه الام وبين ما يستسعى فيه العبد المعتق، وبين ما يستسعى فيه
الولد وهو عنده حر لا حق النسب فيما بال أمة خرجت أم ولد من سيدها بوطئ مباح، وما
بال انسان حر ابن حر ولد على فراش أبيه، وما بال عبد عتق يكلفون الغرامات دون جناية
جنوها ولا ذنب اقترفوه فتستباح أموالهم بالباطل ويكلفون ما لم يكلفهم الله تعالى به قط
ولا رسوله عليه السلام. ولا أحد من المسلمين قبل أبي حنيفة ثم يكلفونهم ما ذكرنا
ويسلمون صاحب الجناية عندهم من الغرامة ما شاء الله كان وكل ما يدخل على مالك مما
ذكرنا قبل فإنه يدخل على أبي حنيفة الا فرق مالك بين خروجها إليه وبين تسوره عليها



(1) سقط لفظ (وأصحابه) من النسخة رقم 16
(2) في النسخة رقم 16 (في الأقل من قيمته أو من الدين)
95
ويزيد من التناقض والفساد في قول أبي حنيفة تفريقه بين الدين الحال والمؤجل في ذلك
وتفريقه بين ما تكلفه الام وبين ما يكلفه الولد، وتفريقه بين اقراره بالحمل وبين اقراره
بالولد بعد الوضع فيما يكلفه من الاستسعاء في الحالين، وتفريقه بين ما تكلفه أم الولد
وبين ما يكلفه العبد بعتق، وتفريقه بين الرجوع مرة على السيد بما غرم الغارم منهم وبين
منعهم من الرجوع عليه مرة بذلك وأغرب من ذلك كله قوله: إن الولد يستسعى فليت
شعري إلى متى بقي هذا الدين المسخوط حتى ولد المحمول به وحتى فطم وكبر وبلغ
وتصرف؟ أفإن مات قبل ذلك ما ذا يكون؟ كل هذا بلا دليل أصلا لا من قرآن. ولا
سنة. ولا رواية سقيمة. ولا فوق أحد من ولد آدم قبلهم. ولا قياس أصلا. ولا
رأى له وجه ما مثل عقول أنتجت هذه الأقوال بمأمونة على تدبير نواة محرقة فكيف
على التحكم في الدين؟ وإن نعم (1) الله تعالى علينا لعظيمة في توفيقه لنا إلى اتباع كتابه وسنن
رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يموهون بأن يقولوا: قسنا ذلك على الاستسعاء الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم
في العبد المشترك يعتقه سيده وهو معسر فان ذلك الحكم في عبد يملكه اثنان فصاعدا
وليس ههنا مالك غير المعتق عبده والمولد أمته، ولو كان القياس حقا لكان هذا منه
عين الباطل لأنه قياس حكم على ما لا يشبهه وعلى ما ليس منه في ورد ولا في صدر *
قال أبو محمد: ثم نسألهم؟ ما الفرق بين عتقه وهبته وبيعه واصداقه إذ أجزتم البيع
بغير اجماع ومنعتم من سائر ذلك؟ *
وأما هلاك الرهن بغير فعل الراهن ولا المرتهن فللناس فيه خمسة أقوال، قالت
طائفة: يترادان الفضل، تفسير ذلك ان الرهن إن كانت قيمته وقيمة الدين سواء فقد
سقط الدين عن الذي كان عليه ولا ضمان عليه في الرهن فإن كانت قيمة الرهن أكثر سقط
الدين بمقداره من الرهن وكلف المرتهن أن يودى (2) إلى الراهن مقدار ما كان تزيده (3)
قيمة الرهن على قيمة الدين، وإن كانت قيمة الرهن أقل سقط من الدين بمقداره وأدى
الراهن إلى المرتهن فضل ما زاد الدين على قيمة الرهن * روينا من طريق الحكم. وقتادة أن علي بن أبي طالب قال: يتراجعان الفضل يعنى
في الرهن يهلك، وروى أيضا عن ابن عمر وهو قول عبيد الله بن الحسين. وأبى عبيد.
وإسحاق بن راهويه * وقالت طائفة: إن كانت قيمة الرهن أكثر من قيمة الدين أو
مثلها فقد بطل الدين كله ولا غرامة على المرتهن في زيادة قيمة الرهن على قيمة الدين



(1) في بعض النسخ (وان نعمة)
(2) في النسخة رقم 16 (أن يدفع)
(3) في النسخة رقم 14 (يزيده)
96
فإن كانت قيمة الرهن أقل من قيمة الدين سقط من الدين بمقدار قيمة الرهن وأدى الرهن
إلى المرتهن ما بقي دينه، وروينا هذا من طريق مطر الوراق عن عطاء عن عبيد بن عمير عن
عمر بن الخطاب * ومن طريق وكيع عن علي بن صالح بن حي عن عبد الاعلي بن عامر عن محمد
ابن الحنيفة عن علي بن أبي طالب * ومن طريق قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن علي *
ومن طريق وكيع عن إدريس الأودي عن إبراهيم بن عمير قال: سمعت ابن عمر
يقول: مثل ذلك، وهو قول إبراهيم النخعي. وقتادة، وبه يقول أبو حنيفة وأصحابه *
وقالت طائفة: ذهب الرهن بما فيه سواء كان كقيمة الدين أو أقل أو أكثر إذا
تلف سقط الدين ولا يغرم أحدهما للآخر شيئا، صح هذا عن الحسن البصري.
وإبراهيم النخعي. وشريح. والشعبي. والزهري. وقتادة، وصح عن طاوس في
الحيوان يرتهن، وروينا عن النخعي. والشعبي فيمن ارتهن عبدا فاعور عنده قالا:
ذهب بنصف دينه * وقالت طائفة: إن كان الرهن مما يخفى كالثياب. ونحوها فضمان
ما تلفت منها على المرتهن بالغة ما بلغت ويبقى دينه بحسبه حتى يؤدى إليه بكماله. وإن كان
الرهن مما يظهر كالعقار. والحيوان فلا ضمان فيه على المرتهن ودينه باق بكماله
حتى يؤدى إليه وهو قول مالك * وقالت طائفة: سواء كان مما يخفى أو مما لا يخفى لا ضمان
فيه عليه المرتهن أصلا ودينه باق بكماله حتى يؤدى إليه وهو قول الشافعي. وأبي ثور.
وأحمد بن حنبل. وأبي سليمان. وأصحابهم * وروينا من طريق الحجاج بن المنهال نا همام
ابن يحيى أنا قتادة عن خلاس ان علي بن أبي طالب قال في الرهن: يترادان الفضل فان
أصابته جائحة برى، فصح أن علي بن أبي طالب لم ير تردا الفضل الا فيما تلف بجناية
المرتهن لا فيما أصابته جائحة بل رأى البراءة له مما أصابته جائحة، وصح عن عطاء أنه قال:
الرهن وثيقة ان هلك فليس عليه غرم يأخذ الدين الذي له كله * وعن الزهري أنه قال في
الرهن يهلك [انه] (1) لم يذهب حق هذا إنما هلك من رب الرهن له غنمه وعليه غرمه *
قال أبو محمد: أما تفريق مالك بين ما يخفى وبين ما لا يخفى فقول لا برهان
على صحته لا من قرآن. ولا من سنة. ولا من رواية سقيمة. ولا قياس. ولا
قول أحد نعلمه قبله فسقط وإنما بنوه على التهمة والتهمة ظن كاذب يأثم صاحبه
ولا يحل القول به، والتهمة متوجهة إلى كل أحد وفى كل شئ، وأما قول أبي حنيفة
فإنهم احتجوا بخبر مرسل رويناه من طريق سعيد بن المسيب (أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يغلق الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه لا يغلق الرهن



(1) الزيادة من النسخة رقم 16
97
ممن رهنه له غنمه وعليه غرمه (1) وقالوا: قد أجمع الصحابة على تضمين الرهن والمرتهن
أمين فيما زاد من قيمة الرهن على قيمة دينه *
قال أبو محمد: أما قولهم: ان المرتهن أمين فيما فضل من قيمة الرهن على قيمة دينه
فدعوى فاسدة وتفريق بلا دليل وما هو الا أمين في الكل أو غير أمين في الكل، وأما قولهم:
أجمع الصحابة على تضمين الرهن فقول جروا فيه على عادتهم الخفيفة على ألسنتهم من
الكذب على الصحابة بلا مؤنة، ويا للمسلمين هل جاء في هذا كلمة عن أحد من الصحابة
الاعن عمر. وعلى. وابن عمر فقط، فأما عمر فلم يصح عنه ذلك لأنه من رواية عبيد بن
عمير وعبيد لم يولد الا بعد موت عمر أو أدركه صغيرا لم يسمع منه شيئا: وأما ابن عمر
فلا يصح عنه لأنه من رواية إبراهيم بن عمير عنه وهو مجهول، وقد روى عنه يترادان
الفضل، وأما على فمختلف عنه في ذلك وأصح الروايات عنه اسقاط التضمين فيما أصابته
جائحة كما أوردنا آنفا ثم أعجب شئ دعواهم ان الصحابة أجمعوا على تضمين الرهن فان
صح ذلك فهم قد خالفوا الاجماع لأنهم لا يضمنون بعض الرهن وهو ما زاد من قيمته
على قيمة الدين فهذا حكمهم على أنفسهم، وأما الحديث الذي ذكروا فمرسل ولا حجة
في مرسل، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة أصلا لأنه لا يدل على شئ من قولهم، ولا تقسيمهم
وإنما مقتضاه لو صح هو ان قوله: لا يغلق الرهن ممن رهنه، بضم الراء وكسر الهاء له غنمه وعليه غرمه فوجب ضمان الرهن على المرتهن ولابد بخلاف قولهم، وقوله: (لا يغلق
الرهن من صاحبه له غنمه وعليه غرمه) إن كان أراد بصاحبه مالكه وهو الأظهر فهو
يوجب أن خسارته منه ولا يضمنه له المرتهن، وإن كان أراد بصاحبه المرتهن فهو
يوجب ضمانه له بكل حال فصار حجة عليهم بكل وجه وبطل قولهم، ونقول لهم في أي
الأصول وجدتم شيئا واحدا رهنا كله عن دين واحد بعضه مضمون وبعضه أمانة
وأنتم تردون السنن بخلافها بالأصول بزعمكم ثم تخالفونها جهارا بلا نص، وأما من
قال: يترادان الفضل فما نعلم لهم حجة أصلا الا أنه استحسان وكأنه لما كان الرهن
مكان الدين تقاضا فيه وهذا رأى، والدين لا يؤخذ بالآراء، وأما من قال، ذهبت
الرهون بما فيها فإنهم احتجوا بخبر رويناه من طريق مصعب بن ثابت عن عطاء أن رجلا



(1) الحديث رواه ابن ماجة في سننه مختصرا، قال العلامة ابن الأثير في النهاية: يقال
غلق الرهن يغلق غلوقا إذا بقي في يد المرتهن لا يقدر راهنه على تخليصه، والمعنى أنه
لا يستحقه المرتهن إذا لم يستفكه صاحبه، وكان هذا من فعل الجاهلية ان الراهن إذا لم
يؤد ما عليه في الوقت المعين ملك المرتهن الرهن فأبطله الاسلام
98
رهن فرسا فهلك عنده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذهب حقك) *
قال أبو محمد: هذا مرسل، ومصعب بن ثابت ليس بالقوى *
قال أبو محمد: فإذ قد بطل كل ما هو هوا به فالواجب الرجوع إلى القرآن. والسنة
فوجدنا ما حدثناه أحمد بن قاسم نا أبى قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ حدثني
محمد بن إبراهيم حدثني يحيى بن أبي طالب الأنطاكي (1) وجماعة من أهل الثقة (2) نا
نضر بن عاصم الأنطاكي نا شبابة عن ورقاء نا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد بن المسيب.
وأبى سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يغلق
الرهن الرهن لمن رهنه له غنمه وعليه غرمه) فهذا مسند من أحسن ما روى في هذا
الباب، وادعوا أن أبا عمر المطرز غلام ثعلب قال: أخطأ من قال: أن الغرم الهلاك *
قال أبو محمد: وقد صح في ذم قوم في القرآن قوله تعالى: (ومن الاعراب من يتخذ
ما ينفق مغرما) أي يراه هالكا بلا منفعة فالقرآن أولى من رأى المطرز *
قال أبو محمد: ووجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (ان دماء كم وأموالكم عليكم حرام)
فلم يحل لغريم المرتهن شيئا ولا ان يضمن الرهن بغير نص في تضمينه الا أن يتعدى فيه
أو بان يضيعه فيضمنه حينئذ باعتدائه في كلا الوجهين، وكذلك الدين قد وجب فلا
يسقطه ذهاب الرهن فصح يقينا من هذين الأصلين الصحيحين بالقرآن. والاجماع.
والسنة ان هلاك الرهن من الراهن ولا ضمان على المرتهن وان دين المرتهن باق بحسبه
لازم للراهن وبالله تعالى التوفيق، وأما ما تولد من الرهن فإننا روينا من طريق عمر وبن دينار
ان معاذ بن جبل قضى فيمن ارتهن أرضا فأثمرت فان الثمرة من الرهن * ومن طريق
طاوس ان في كتاب معاذ من ارتهن أرضا فهو يحتسب ثمرها لصاحب الرهن *
قال أبو محمد: الحكمان متضادان وهما قولان، أحدهما ان الثمرة لصاحب الرهن،
والآخر أنها من الرهن، وقال أبو حنيفة: الولد. والغلة. والثمرة رهن من الأصول
ثم تناقضوا فقالوا: إن هلك الولد. والغلة. والثمرة لم يسقط من أجل ذلك من الدين
شئ وان هلك الأصل. والام. والشجر قسم الدين على ذلك وعلى النماء فما وقع للأصل
سقط وما وقع للنماء بقي *
قال أبو محمد: وهذا تناقض فاحش لان كل ذلك رهن عندهم ثم خالفوا بين



(1) في النسخة اليمنية والنسخة رقم 14 (يحيى بن طالب الأنطاكي) وما هنا موافق لما
في كتاب ميزان الاعتدال ولسان الميزان الا أنهما لم يذكرا نسبته، ولم يذكره السمعاني
في كتابه الأنساب
(2) في النسخة رقم 16 (من أهل الصدق)
99
أحكامها بلا برهان، وقال مالك: أما الولد فداخل في الرهن وأما الغلة والثمرة فخارجان
من الرهن، وهذا تقسيم فاسد جدا بلا برهان، فان قالوا: إن الولد بعض الام قلنا:
كذب من قال: هكذا؟ وكيف يكون بعضها وقد يكون ذكرا وهي أنثى ويكون مسلما
وهي كافرة؟ ثم يقال لهم: والثمرة أيضا بعض الشجر دعوى كدعوى، وقال الشافعي:
كل ذلك لصاحب الأصل ولا يدخل شئ منه في الرهن وهو الحق لان الرهن هو ما تعاقدا
عليه الصفقة لا ما لم يتعاقداها عليه وكل ما ذكرنا شئ لم يتعاقدا الصفقة عليه فكله غير
الأصل وكله حادث في ملك صاحب الأصل فكله له وبالله تعالى التوفيق *
1215 - مسألة - فان مات الراهن أو المرتهن بطل الرهن ووجب رد الرهن
إلى الراهن أو إلى ورثته وحل الدين المؤجل ولا يكون المرتهن أولى بثمن الرهن من سائر
الغرماء حينئذ وذلك لقول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا عليها) فإذا مات المرتهن
فإنما كان حق الرهن له لا لورثته ولا لغرمائه ولا لأهل وصيته وإنما تورث الأموال لا
الحقوق التي ليست أموالا كالأمانات. والوكالات. والوصايا وغير ذلك، فإذا سقط
حق المرتهن بموته وجب رد الرهن إلى صاحبه، وإذا مات الراهن فإنما كان عقد المرتهن
معه لامع ورثته وقد سقط ملك الراهن عن الرهن بموته وانتقل ملكه إلى ورثته أو إلى
غرمائه وهو أحد غرمائه أو إلى أهل وصيته ولا عقد للمرتهن معهم ولا يجوز عقد الميت
على غيره فيكون كاسبا عليهم، فالواجب رد متاعهم إليهم ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) وما نعلم لمن خالف هذا حجة أصلا * وروينا عن
الشعبي فيمن رهن على يدي عدل فمات أن الرهن له أي لورثته قال الحكم: هو للغرماء *
1216 - مسألة - ومن ارتهن شيئا فخاف فساده كعصير خيف أن يصير خمرا
ففرض عليه أن يأتي الحاكم فيبيعه ويوقف الثمن لصاحبه إن كان غائبا أو ينصف منه
الغريم المرتهن إن كان الدين حالا أو يصرف الثمن إلى صاحبه إن كان الدين مؤجلا
فإن لم يمكنه السلطان فليفعل هو ما ذكرنا لقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى)
ولنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولان ثمن الرهن هو غير الرهن وإنما عقده في الرهن
لا في ثمنه وإنما ثمنه مال من مال مالكه كسائر ماله ولا فرق، وبالله تعالى التوفيق *
1217 - مسألة - ولا يجوز بيع سلعة على أن تكون رهنا عن ثمنها فان وقع
فالبيع مفسوخ ولكن يجوز للبائع امساك سلعته حتى ينتصف من ثمنها إن كان حالا
والا فليس له ذلك *
برهان ذلك أنه اشترط منع المشترى من قبض ما اشترى مدة مسماة وهذا شرط ليس

100
في كتاب الله عز وجل فهو باطل، وأيضا فان المشترى لا يملك ما اشترى الا بتمام عقد
البيع بينهما والبيع لا يتم الا بما نذكره في كتاب البيوع إن شاء الله تعالى من التفرق
أو التخيير فهو ما لم يتم البيع فإنما الشئ المبيع ملك للبائع فإنما اشترطا في المسألة المذكورة
كون شئ من مال البائع المرتهن رهنا عنده نفسه وهذا في غاية الفساد، وهو قول
الشافعي. وأبي سليمان. وأصحابهما، وأما امساك البائع سلعته حتى ينتصف فان حقه
واجب في مال المشترى فان مطله بحق قد وجب له عنده فهو ظالم معتد لقول النبي صلى الله عليه وسلم
(مطل الغنى ظلم)، وإذ هو ظالم فكل ظالم معتد، وقال تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم) فالسلعة التي ابتاع مال من مال المشترى فللممطول بحقه المعتدى
عليه أن يعتدى على المعتدى عليه بمثل ما اعتدى عليه به بنص القرآن فله امساك السلعة
حتى ينتصف * روينا من طريق محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا عبد الرحمن
ابن مهدي نا هشيم. وسفيان الثوري قال سفيان الثوري: عن إسماعيل بن أبي خالد
عن الشعبي أن عمرو بن حريث قال فيمن باع سلعة فنقده المشترى بعض الثمن فقال البائع:
لا أعطيك السلعة حتى تجئ بالبقية، فجعل عمرو بن حريث السلعة رهنا بما بقي، وقال
هشيم عن داود بن أبي هند عن الشعبي: أن عروة بن المغيرة بن شعبة جعل في ذلك أيضا
السلعة رهنا بما بقي. فهذا أعمر وصاحب لا يعرف له في هذا مخالف من الصحابة *
1218 - مسألة - ولا يكون حكم الرهن الا لما ارتهن في نفس عقد التداين وأما
ما ارتهن بعد تمام العقد فليس له حكم الرهن ولراهنه أخذه متى شاء لان الله تعالى لم يجعل
الرهن الا في العقد كما تلونا وكل ما كان بعد ذلك فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل *
1219 - مسألة - ومن تداين فرهن في العقد رهنا صحيحا ثم بعد ذلك تداينا أيضا
وجعلا ذلك الرهن رهنا عن هذا الدين الثاني فالعقد الثاني باطل مردود لان ذلك
الرهن قد صح في العقد الأول فلا يجوز نقله إلى عقد آخر إذا لم يوجب ذلك قرآن. ولا
سنة فهو شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وكل عقد انعقد على باطل فهو باطل
لأنه لم تعقد له صحة الا بصحة ما لا صحة له فلا صحة له وبالله تعالى التوفيق *
1220 - مسألة - ومن رهن رهنا صحيحا ثم أنصف من بعض دينه أقله أو أكثره
فأراد أن يخرج عن الرهن بقدر ما أدى لم يكن له ذلك لان الرهن وقع في جميعه بجميع
الدين فلا يسقط عن بعض الرهن حكم الرهن من أجل سقوط بعض الدين إذ لم يوجب
ذلك قرآن. ولا سنة، وهو قول الشافعي. وأصحابنا، فان قيل: كيف تمنعون من
اخراج الرهن الا برضا المرتهن وتجيزون بيعه وعتقه والصدقة به وهو اخراج له عن

101
الرهن بغير اذن المرتهن؟ قلنا: لان النص جاء بايجاب الرهن فليس له ابطال ما صححه
الله تعالى فإذا أخرجه عن ملكه جملة فلم يمنعه الله تعالى من ذلك قط لا في قرآن. ولا
سنة فإذا صار في ملك غيره فقد قال تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا عليها) وعقد المرتهن
لم يكن قط مع الذي انتقل إليه الملك فلا يجوز له ارتهان ماله عن غيره، ونقول لهم: إن
جميعكم - يعنى المالكيين. والحنيفيين. والشافعيين - مجمعون على أن من قال لعبده:
أنت حر إذا قدم أبى انه قد عقد فيه عقدا لا يحل له الرجوع فيه أبدا وانه حرمتي قدم أبوه
هم لا خلاف بينكم في جواز بيعه قبل أن يأتي أبوه إصداقه. وهبته فأي فرق بين الامرين
أن أنصفتم أنفسكم؟ *
1221 - مسألة - ولا يحل لاحد أن يرهن مال غيره عن نفسه. ولامال ولده
الصغير أو الكبير الا باذن صاحب السلعة التي يريد رهنها. ولا بغير اذنه ولا مال يتيمه
الصغير أو الكبير (1) ولا مال زوجته، وقال الحنيفيون. والمالكيون: له أن يرهن
عن نفسه مال ابنه الصغير، قال المالكيون: وللوصي أن يرهن مال يتيمه عن نفسه
وقالوا: إذا أذن الأجنبي لغيره أن يرهن ماله عن نفسه جاز، واحتجوا في ذلك ان للأب
والوصي أن يودع مال الابن واليتيم فادخاله في الذمة أحق بالجواز *
قال أبو محمد: وهذا باطل لأنه لا يجوز لهما ايداعه ولا قرضه الا حيث يكون ذلك
نظرا وحياطة للصغير ولا نظر له أصلا في أن يرهنه الأب والوصي عن أنفسهما فهو
ضرر فهو (2) مردود، وأيضا فان للانسان أن يودع الوديعة التي أو دعت عنده إذا
خشي هلاكها عنده ورأي السلامة في ايداعها فيلزمهم بهذا الاستدلال البديع أن
يكون له أن يرهنها عن نفسه * واحتجوا في ذلك بما صح من طريق سويد بن غفلة عن
عائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ان أطيب ما أكلتم من كسبكم وان أولادكم
من كسبكم (3)) * ومن طريق الأسود بن يزيد عن أم المؤمنين عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: (ان أطيب ما أكل الرجل منكسب يده وولده من كسبه (4)) روينا هما من
طريق قاسم بن أصبغ قال: نا بكر بن حماد. وأحمد بن زهير قال بكر: نا مسدد نا يحيى
ابن سعيد القطان عن سفيان الثوري نا إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة، وقال
أحمد: نا أبى نا أبو معاوية الضرير عن الأعمش عن إبراهيم النخعي عن الأسود *
قال أبو محمد: وهذا الخبران إنما هما في الاكل وهكذا نقول: يأكل منه ما شاء



(1) في بعض النسخ (والكبير)
(2) سقط لفظ (فهو) من النسخة رقم 16
(3) رواه الترمذي وغيره
(4) هو في سنن النسائي
102
من بيته وغير بيته وليسا في البيع. ولا في الارتهان. ولا في الهبة. ولا في الاخذ والتملك
فان قالوا: قسنا ذلك على الاكل قلنا: القياس كله باطل، ثم لو صح لكنتم قد تناقضتم
أفحش تناقض من وجهين، أحدهما ان الله تعالى يقول: (ولا على أنفسكم أن تأكلوا من
بيوتكم أو بيوت آبائكم أو بيوت أمهاتكم) إلى قوله تعالى: (أو ما ملكتم مفاتحه أو
صديقكم ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا) فأباح الله تعالى الاكل من بيوت
الأصدقاء. والتي مفاتحها بأيدينا وبيوت الاخوة والأخوات وسائر من ذكر في الآية
فأبيحوا الارتهان منها قياسا على الاكل بغير اذن أهلها وأنتم لا تفعلون ذلك فقد نقضتم
قياسكم وتركتموه وقضيتم بفساده وهو أهل للفساد جملة، والثاني انكم لا تجيزون
أن يبيع من مال ابنه الصغير الاعلى وجه النظر له ولا ان يتملك منه شيئا أصلا لغير
الحاجة الماسة الا الارتهان خاصة، وعند المالكيين أن يصدقه عن نفسه خاصة فكم
هذا التناقض والتحكم في الدين بالآراء الفاسدة المضطربة، واحتجوا أيضا بما رويناه
من طريق البزار نا محمد بن يحيى بن عبد الكريم نا عبد الله بن داود هو الخريبي عن هشام
ابن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(أنت ومالك لأبيك (1)) *
قال أبو محمد: فأباحوا به أن يرهن الرجل مال ابنه الصغير وأسقطوا عنه الحد في
وطئ أمة ابنه الصغير والكبير وأسقطوا عنه الحد فيما سرق من مال ابنه الكبير. والصغير،
وقضوا على الأب بضمانه ورده. وأباح المالكيون به أن يصدق مال ابنه الصغير عن نفسه
وان يعتق رقبة ابنه الصغير خاصة ويضمن القيمة في ذلك كله *
قال أبو محمد: ولا حجة لهم في هذا الخبر بل هو حجة عليهم لأنهم أول من خالفوه
فلم يبيحوا للأب من ماله ابنه غير ما ذكرنا والحديث عام لم يخص هذه الوجوه من غيرها
فلا يجوز لهم تخصيصها بدعوى كاذبة (2)، ووجه آخر وهو أنهم لم يبيحوا الارتهان
والاصداق الا من مال الابن الصغير لا من مال الابن الكبير فخالفوا الخبر وتحكموا في
الدين بالتحريم. والتحليل بالدعوى المبطلة بلا برهان * فان ادعوا اجماعا كذبوا لأنه
روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا هشام بن عروة عن أبيه (أن رجلا صنع شيئا
في ماله ولم يستأذن أباه فسأل النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو أبا بكر أو عمر فقال: أردد عليه فإنما هو
سهم من كنانتك)، وقد صح ما روينا من طريق ابن الجهم نا أبو قلابة الرقاشي نا روح



(1) سيأتي أنه منسوخ ولم يبح له إلا الا كل من البيت لقوله تعالى: (ليس عليكم جناح
أن تأكلوا) الآية
(2) في النسخة رقم 14 (بدعاوى كاذبة)
103
هو ابن عبادة نا ابن جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: يأخذ
الأب. والام من ماله ولدهما بغير اذنه ولا يأخذ الابن والابنة من ماله أبويهما بغير
اذنهما، وصح مثله نصا من طريق عبد بن حميد عن عبيد الله (1) بن موسى العبسي عن
سفيان الثوري عن إبراهيم عبد الأعلى عن سويد - هو ابن غفلة - عن أم المؤمنين
عائشة من قولها * ومن طريق ابن الجهم نا بشر بن موسى الأسدي نا أحمد بن الوليد
الأزرقي نا الخباب بن فضالة بن هرمز الحنفي قال: قلت لانس بن مالك: جارية لي
غلبني عليها أبى لم يخلطها (2) مال لأبي فقال لي أنس: هي له أنت ومالك من كسبه. أنت
ومالك له حلال وماله عليك حرام الا ما طابت به نفسه * ومن طريق ابن الجهم نا
أبو قلابة نا أبو داود - هو السجستاني - نا محمد بن ابان عن حماد عن مسعود بن جبير عن ابن
عباس قال أولادكم هبة الله لكم وأموالكم لكم * روينا من طريق ابن مسعود عن عمر بن
الخطاب أنه أتاه أب وابن والابن يطلب أباه بألف درهم أقرضه إياها والأب يقول: إنه
لا يقدر عليها فأخذ عمر بيد الابن فوضعها في يد الأب فقال: هذا وماله من هبة الله لك *
وعن علي بن أبي طالب نحو هذا وانه قضى بمال الولد للوالد وجوز من قال غير هذا *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا غندر عن ابن جريج كان عطاء لا يرى بأسا بان يأخذ
الرجل من مال ولده ما شاء من غير ضرورة * ومن طريق ابن أبي شيبة عن إسرائيل عن
جابر عن الشعبي عن مسروق (3) قال: أنت من هبة الله لأبيك أنت ومالك لأبيك، نا
ابن أبي شيبة نا عبيد الله - هو ابن موسى - نا الحسن - هو ابن حي - عن اليث عن مجاهد.
والحكم قالا جميعا يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء الا الفرج * نا ابن أبي شيبة نا معاوية
ابن هشام عن سفيان الثوري عن أبي حمزة عن إبراهيم النخعي قال: الوالد في حل من
مال ولده إلا الفرج ومن طريق شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن عبد الله بن أبي بردة بن أبي
موسى الأشعري أنه خاصم أباه إلى الشعبي في مال له فقال الشعبي لعبد الله. أجعلك
ومالك له يعنى لوالده * ومن طريق عبد بن حميد نا أبو نعيم الفضل بن دكين عن
الحسن بن صالح بن حي عن أبيه عن الشعبي قال: الرجل في حل من مال ولده * ومن
طريق علي بن المديني نا محمد بن أبي عدى انا ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح أنه كان
لا يرى بأسا أن يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء ما لم يضاره * ومن طريق عبد بن حميد
نا يزيد بن هارون انا داود بن أبي هند عن سعيد بن المسيب قال: الوالد يأكل من مال



(1) في النسخة رقم 16 (عبد الله) مكبرا وهو غلط
(2) في النسخة رقم 16 (لم يخالطها)
(3) في النسخة رقم 16 (عن هارون)
104
ولده ما شاء والولد لا يأكل من مال والده إلا باذنه * ومن طريق عبد بن حميد نا محمد بن
بكر البرساني عن هشام بن حسان عن الحسن البصري قال: يأخذ الوالدان من مال
ولدهما ما شاء * ومن طريق عبد بن حميد نا وهب بن جرير بن حازم عن أبيه قال: سمعت
الحسن وسأله سائل عن شئ من أمر والده؟ فقال له الحسن: أنت ومالك لأبيك أما
علمت أنك عبد أبيك؟ * ومن طريق عبد بن حميد انا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة
عن الحسن قال: يأخذ الرجل من مال ولده ما شاء وإن كانت جارية تسراها قال قتادة:
لم يعجبني ما قال في الجارية * ومن طريق ليث عن مجاهد قال: يأخذ الرجل من مال
ولده إلا الفرج * وقد روينا عن الحسن أيضا إلا الفرج * وقال ابن أبي ليلى لا يغرم الأب
ما استهلك من مال ولده ويجوز بيعه لمال ولده الكبير *
قال أبو محمد: ما نعلم خلافا من الصحابة لمن ذكرنا منهم في هذه المسألة وهم عمر:
ومن على. وابن مسعود. وعائشة أم المؤمنين. وجابر بن عبد الله. وأنس. وابن عباس
إلا رواية صحت عن ابن عمر وأخرى عن علي لم تصح، ولا نعلم لمن ذكرنا من التابعين
مخالفا في هذه المسألة الا ابن سيرين. والنخعي. ومجاهدا باختلاف (1) عنهم والزهري
فإنهم يقولون كقولنا * روينا من طريق عبد بن حميد نا الضحاك بن مخلد عن عبد الله
ابن عون عن محمد بن سيرين قال: كل واحد منهما أولى بماله يعنى الوالد والولد * وبه إلى
عبد أخبرني جعفر بن عون عن أبي حنيفة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم قال: ليس
للأب من مال ابنه الا ما احتاج إليه من طعام. أو شراب. أو لباس * ومن طريق عبد
عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: لا يأخذ الرجل من مال ولده شيئا إلا أن
يحتاج فيستنفق بالمعروف يعوله ابنه كما كان الأب يعوله فاما إذا كان الأب موسرا فليس
له أن يأخذ من ماله ابنه فيبقى به ماله أو يضعه في ما لا يحل، قال: فإذا كانت أم اليتيم محتاجة
انفق عليها من ماله يدها مع يده والموسرة لا شئ لها * ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبيد
الله (2) بن موسى عن عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: خذ من مال ولدك ما أعطيته
ولا تأخذ منه ما لم تعطه * ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة نا سفيان بن عيينة عن عمرو بن
دينار قال: قال رجل لجابر بن زيد: ان أبى يحرمني ماله فقال له جابر: كل من مال أبيك
بالمعروف * نا ابن أبي شيبة نا يزيد بن هارون عن جرير بن حازم عن يونس بن يزيد عن
الزهري عن سالم بن عبد الله أن حمزة بن عبد الله بن عمر نحر جزورا فجاء سائل فسأل ابن عمر؟



(1) في النسخة اليمنية وفى النسخة رقم 16 (باختلاف عنهما) وهو تصحيف بدليل
كلام المصنف بعد وسياقه لأقوال الثلاثة
(2) في النسخة رقم 16 (نا عبد الله) وهو غلط
105
فقال ابن عمر: ما هي لي فقال له حمزة: يا أبتاه فأنت في حل أطعم منها ما شئت * نا
ابن أبي شيبة عن إسرائيل عن عبد الأعلى عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب قال:
الرجل أحق بمال ولده إذا كان صغيرا فإذا كبر واحتاز ماله فهو أحق به، إسرائيل ضعيف *
قال أبو محمد: بقول ابن سيرين. والنخعي. والزهري. ومجاهد. وجابر بن زيد
نقول في كل شئ الا في الاكل خاصة فان للأب والام أن يأكلا من مال الولد حيث
وجداه من بيت أو غير بيت فقط ثم لا شئ لهما ولا حكم في شئ من ماله لا بعتق ولا باصداق
ولا بارتهان الا إن كان فقيرين فيأخذ الفقير منهما ما احتاج من مال ولده من كسوة.
وأكل. وسكنى. وخدمة. وما احتاجا إليه فقط، وأما الولد فيأكل من بيت أبيه وبيت
أمه ما شاء بغير اذنهما ولا يأكل من يغر البيت شيئا كما جاءت النصوص لا يتعدى حدود
الله، فان احتاج اخذ أيضا كما قلنا في الوالدين لقول الله تعالى: (وبالوالدين احسانا وبذي
القربى) ثم الجدود. والأحكام لازمة للأب في جارية ولده وفى مال ولده ولازمة للابن
في جارية أبيه وأمه ومالهما كما هي فيما بين الأجنبيين سواء، والعجب أن الحنيفيين والمالكيين
يشنعون خلاف الصاحب لا يعرف له منهم مخالف إذا وافق شهواتهم ويجعلونه اجماعا
ويكذبون في ذلك، وأقرب ذلك ما ذكرنا من دعوى الحنيفيين إجماع الصحابة على
تضمين الرهن وليس منه الا روايات لا تصح عن عمر. وابنه. وعلى فقط، وقد صحت
عن علي رواية باسقاط التضمين إذا أصابته جائحة ثم لا يرون ههنا ما قد صح عن
عائشة (1). وأنس. وابن عباس، وروى عن علي وابن مسعود لا مخالف لهم يعرف
من الصحابة رضي الله عنهم حجة أصلا ويلتفتون إليه إلا رواية عن عمر رويناها من
طريق شعبة عن أبي بشير عن محمد بن قدامة الحنفي عن رجل منهم أن رجلا خاصم أباه إلى عمر
ابن الخطاب في ماله أخذه له أبوه فقال عمر: أماما كان في يده فإنه يرده وأما ما استهلك فليس
عليه شئ، وهم قد خالفوا هذا أيضا مع أنها لا تصح لأنها عمن لا يدرى من هو أليس هذا
من أعجب العجب؟ ومما ينبغي لذي الحياء ان يهابه ولذي الدين أن يفرقه، فان قيل:
فأنتم القائلون بكل ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فلم استحللتم ترك الثابت عنه من قوله عليه السلام
(أنت ومالك لأبيك)؟ قلنا: يعيذ نا الله من أن نترك خبر أصح عنه عليه السلام ولو
أجب علينا من بين البحرين الا أن يصح نسخه، وهذا الخبر منسوخ لا شك فيه لان الله
عز وجل حكم بميراث الأبوين. والزوج. والزوجة. والبنين. والبنات من مال الولد



(1) في النسخة رقم 16 (ما قد صح عن علي وعائشة) بزيادة لفظ (على) وهي زيادة
سهو من الكاتب بدليل ذكره بعد قريبا
106
إذا مات وأباح في القرآن لكل مالك أمة وطئها بملك يمينه وحرمها على من لا يملكها
بقوله تعالى: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء
ذلك فاؤلئك هم العادون) فدخل في هذا من له والد ومن لا والد له فصح ان مال الولد له
بيقين لا لأبويه ولا حق لهما فيه إلا ما جاء به النص مما ذكرنا من الاكل أو عند الحاجة فقط
ولو كان مال الولد للوالد لما ورثت زوجة الولد ولا زوج البنت ولا أولاد هما من ذلك
شيئا لأنه مال لانسان حي، ولا كان يحل لذي والد ان يطأ جاريته أصلا لأنها لأبيه
كانت تكون، فصح بورود هذين الحكمين وبقائهما إلى يوم القيامة ثابتين غير منسوخين
ان ذلك الخبر منسوخ وكذلك أيضا صح بالنص والاجماع المتيقن ان من ملك أمة
أو عبدا لهما والد فان ملكهما لمالكهما لا لأبيهما، فصح أيضا أن (1) قوله عليه السلام:
(انه لأبيه) منسوخ وارتفع الاشكال والحمد لله، وهذا مما احتجوا به بالأثر وخالفوا
ذلك الأثر نفسه، وأما رهن المرء السلعة تكون لغيره باذن صاحبها فان الرهن لا يجوز
اخراجه عن الارتهان الا بخروجه عن ملك الراهن. أو بهلا كله. أو باستحالته حتى.
يسقط عنه الاسم الذي كان عليه حين رهن أو بقضاء الحق الذي رهن عنه فالتزام غير
الراهن للراهن هذا كله في سلعته شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، وله أخذ
سلعته متى شاء (2) فالرهن باطل لأنه ليس له حكم الرهون فيما ذكرنا فليس رهنا
وبالله تعالى التوفيق *
1222 - مسألة - وإذا استحق الرهن أو بعضه بطلت الصفقة كلها لأنهما
تعاقدا صحتها بصحة الرهن ولم يتعاقدا قط تلك المداينة الا على صحة الرهن وذلك الرهن
لا صحة له فتلك المداينة لم تصح قط وبالله تعالى التوفيق *
1223 - مسألة - وإذا رهن جماعة رهنا هو لهم عند واحد أو رهن واحد
عند جماعة فأي الجماعة قضى ما عليه خرج حقه من ذلك الرهن عن الارتهان وبقى نصيب
شركائه رهنا بحسبه، وكذلك ان قضى الواحد بعض الجماعة حقه دون بعض فقد
سقط حق المقضى في الارتهان ورجعت حصته من الرهن إلى الراهن وبقيت حصص شركائه
رهنا بحسبها لقول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفسه الا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)
فصحح أن لكل واحد منهم حكمه وبالله تعالى التوفيق *
1224 - مسألة - ولا حق للمرتهن في شئ من رقبة الرهن فإن كانت أمة فوطئها
فهو زان وعليه الحد وذلك الولد رقيق للراهن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الولد لفراش وللعاهر



(1) سقط لفظ (ان) من النسخة رقم 16
(2) في النسخة رقم 16 (متى أحب)
107
الحجر، فالأمة بلا خلاف ليست فراشا للمرتهن ولا ملك يمين له فهو معتد عاهر *
1225 - مسألة - ورهن الدنانير والدراهم جائز طبعت أو لم تطبع، قال
مالك: لا يجوز الا أن تطبع، وهذا قول لا نعلمه لاحد قبله ولئن كان يخاف انتفاع بها
فان ذلك لمخوف على كل ما يرهن ولا فرق ولا سيما مع قوله: ان الدنانير والدراهم لا تتعين وان امرءا لو غصب درهما أو دينارا لم يقض عليه بردهما بعينهما وإن كانا حاضرين
في يده وإنما عليه مثلهما، وهذا عجب جدا! مع قوله فيطبعهما في الرهن، وبالله تعالى
التوفيق، تم كتاب الرهن والحمد لله رب العالمين، [وصلى الله على محمد خاتم النبيين] (1) *
كتاب الحوالة
1226 - مسألة - روينا طريق البخاري. ومسلم قال البخاري: نا عبد الله
ابن يوسف نا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج، وقال مسلم: نا ابن رافع (2) نا عبد الرزاق
نا معمر عن همام بن منبه ثم اتفق الأعرج. وهمام كلاهما عن أبي هريرة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مطل الغنى ظلم وإذا اتبع أحدكم على ملئ فليتبع) وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم
ما سنذكره إن شاء الله تعالى في كتاب البيوع باسناده أنه قال: (إذا ابتعت بيعا فلا تبعه
حتى تقبضه) فوجب من هذين النصين أن كل من له عند آخر حق من غير البيع لكن
من ضمان غصب أو تعد بوجه ما أو من سلم سلم فيه. أو من قرض. أو من صلح أو
إجارة. أو صداق. أو من كتابة. أو من ضمان فاحاله به على من له عنده حق من غير
البيع لكن بأحد هذه الوجوه المذكورة ولا نبالي من وجه واحد كان الحقان أو من
وجهين مختلفين وكان المحال عليه يوفيه حقه من وقته ولا يمطله ففرض على الذي أحيل
أن يستحيل عليه ويجبر على ذلك ويبرأ المحيل مما كان عليه، ولا رجوع للذي أحيل على
الذي أحاله بشئ من ذلك الحق انتصف أولم ينتصف أعسر المحال عليه اثر الإحالة عليه
أم لم يعسر لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره باتباع المحال عليه ولا يجوز له اتباع غيره فان
غره و أحاله على غير ملئ والمحيل يدرى أنه غير ملئ أو لا يدرى فهو عمل فاسد وحقه



(1) الزيادة من النسخة الحلبية، وهي النسخة التي استنسخها السيد محمد حسين نظيف
من حلب بواسطة الشيخ راغب الطباخ الكتبي المشهور وأرسلها الينا جزى الله الجميع خيرا
(2) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (نا ابن أبي رافع) بزيادة لفظ (أبى) وهو غلط
صححناه من كتب تراجم رجال الحديث، واسم ابن رافع محمد، وهو موافق لما في صحيح مسلم
ج 2 ص 460، وهو في صحيح البخاري ج 3 ص 191
108
باق على المحيل كما كان لأنه لم يحل على ملئ ولا تجوز الحوالة إلا على ملئ بنص الخبر، وقال
الشافعي: لا يرجع على المحيل في كل ذلك وهذا خطأ (1) لما ذكرناه، وقال أبو حنيفة.
ومالك: كقولنا، فإن كان أحد الحقين من بيع والآخر من غير بيع نظر فإن كان الحق
على المحيل من غير بيع وكان حق المحيل على المحال عليه من بيع أو غير بيع جازت الحوالة
فإن كان الحق على المحيل من بيع لم يجز الا بوجه التوكيل فيوكله على قبضه حقه قبله فان
قبضه للموكل له فحين مصيره بيده صار قابضا ذلك الحق لنفسه وبرئ المحيل وان لم
يقدر على قبضه لمانع ما أي مانع كان؟ رجع على المحيل بحقه لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع
ما ابتعت حتى تقبضه، وأما براءة ذمة الموكل إذا قبض الوكيل الحق فلانه مأمور
بأن يقضيه لنفسه إذا صار بيده فان فعل فقد استوفى حقه وان لم يفعل فقد اعتدى إذ ضيع
مال موكل فلزمه ضمانه بالتضييع *
[فصار ضمانه بالتضييع] (2) فصار مثله عليه لموكله في ذمته، وقال أبو حنيفة: ان
جحد المحال عليه الحوالة ولم تقم عليه بينة وحلف رجع الذي أحيل على المحيل بحقه،
وكذلك ان مات المحال عليه، ولا مال له، وقال أبو يوسف. ومحمد: وكذلك إذا
أفلس القاضي المحال عليه وأطلقه من السجن أيضا *
قال أبو محمد: هذا قول فاسد لمخالفته أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنهم مجمعون معنا
على أن الحوالة إذا صح أمرها فقد سقط الحق عن المحيل وإذ قد أقروا بسقوطه فمن
الباطل رجوع حق قد سقط بغير نص يوجب رجوعه ولا اجماع يوجب رجوعه، فان
قالوا: قد روى عن عثمان أنه قال في الحوالات: ليس على مال مسلم توا (3) *
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر أو غيره عنه عن قتادة عن علي بن أبي طالب أنه قال
في الذي أحيل: لا يرجع على صاحبه الا أن يفلس أو يموت، وهو قول شريح. والحسن
و النخعي. والشعبي كلهم يقول: إن لم ينصفه رجع على المحيل، وعن الحكم لا يرجع
على المحيل الا أن يموت المحال عليه قبل أن ينتصف فإنه يرجع إلى المحيل قلنا: لا حجة في
أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف وقد روينا من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق
عن علي بن عبيد الله عن سعيد بن المسيب أنه كان لأبيه المسيب دين على إنسان ألفا درهم
ولرجل آخر على علي بن أبي طالب ألفا درهم فقال ذلك الرجل للمسيب: أنا أحيلك
على على وأحلى أنت على فلان ففعلا فانتصف المسيب من على وتلف مال الذي أحاله المسيب



(1) في النسخة رقم 16 (وهو خطأ)
(2) الزيادة من النسخة رقم 16 وهي زيادة لا حاجة إليها ولم تفد شيئا
(3) أي ضياع وخسارة، والتو الهلاك
109
عليه فأخبر المسيب بذلك علي بن أبي طالب فقال له على: أبعده الله، فهذا خلاف
الرواية عن عثمان والذي ذكرنا عن علي، وهذه موافقة لقولنا، وإذا اختلف السلف
فليس بعض ما روى عنهم بأولى من بعض باتفاقكم معنا في ذلك ولسنا نرى إحالة من
لا حق للمحال عنده لأنه أكل مال بالباطل وإنما يجوز عندنا مثل فعل على. و المسيب
رضي الله عنهما على الضمان فإنه إذا ضمن كل واحد من الغريمين ما على الآخر من غير شرط
جاز ذلك ولزم وتحول الحق الذي على كل واحد منهما على الآخر، وقال أبو حنيفة.
ومالك: لا يجبر المحال على قبول الحوالة واحتجوا في ذلك بان قالوا: لو وجب اجباره
لوجب أيضا إذا أحاله المحال عليه على آخر ان يجبر على اتباعه ثم إذا أحاله ذلك على
آخران يجبر أيضا على اتباعه وهكذا أبدا *
قال أبو محمد: هذه معارضة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى هذا ما فيه فكيف والذي
اعترضوا به فساد؟ لأنه مطل من غنى أو حوالة على غير ملئ، ومطل الغنى ظلم والحوالة
على غير ملئ لم يؤمر بان يقبلها وإنما الحوالة على من يعجل الانصاف بفعله لا بقوله
والا فليست حوالة بنص الحديث *
1227 - مسألة - وإذا ثبت حق المحيل على المحال عليه باقراره أو ببينة عدل
وإن كان جاحدا فهي حوالة صحيحة، وقال مالك: لا تجوز الا باقراره بالحق فقط.
وهذه دعوى بلا برهان، واحتج له من قلده بأنه قد تجرح البينة فيبطل الحق قلنا: وقد
يرجع عن اقراره بذلك الحق ويقيم بينة بأنه قد كان أداه فيبطل الحق ولا يجوز تخصيص
ما لم يخصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالآراء الفاسدة، وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى
يوحى (وما كان ربك نسيا) *
1228 - مسألة - وتجوز الحوالة بالدين المؤجل على الدين المؤجل إلى مثل أجله لا
إلى أبعد ولا إلى أقرب، وتجوز الحوالة بالحال على الحال ولا تجوز بحال على مؤجل ولا
بمؤجل على حال ولا بمؤجل على مؤجل إلى غير أجله لان في كل ذلك ايجاب تأجيل حال
أو ايجاب حلول مؤجل، ولا يجوز ذلك إذا لم يوجبه نص ولا اجماع، وأما المؤجل
بالمؤجل إلى أجله فلم يمنع منه نص ولا اجماع فهو داخل في أمره عليه السلام (من اتبع
على ملئ أن يتبعه) تم كتاب الحوالة والحمد لله رب العالمين *
كتاب الكفالة
1229 - مسألة - الكفالة هي الضمان. وهي الزعامة. وهي القبالة. وهي الحمالة،

110
فمن كان له على آخر حق مال من بيع أو من غير بيع من أي وجه كان حالا أو إلى أجل سواء
كان الذي عليه الحق حيا أو ميتا فضمن له ذلك الحق انسان لا شئ عليه للمضمون عنه بطيب
نفسه وطيب نفس الذي له الحق فقد سقط ذلك الحق عن الذي كان عليه وانتقل إلى الضامن
ولزمه بكل حال ولا يجوز للمضمون له أن يرجع على المضمون عنه، ولا على ورثته ابدا بشئ
من ذلك الحق انتصف أو لم ينتصف ولا بحال من الأحوال ولا يرجع الضامن على المضمون
عنه ولا على ورثته أبدا بشئ مما ضمن عنه أصلا سواء رغب إليه في أن يضمنه عنه أو لم يرغب
إليه في ذلك الا في وجه واحد وهو أن يقول الذي عليه الحق اضمن عنى ما لهذا على فإذا أديت
عنى فهو دين لك على فههنا يرجع عليه بما أدى عنه لأنه استقرضه ما أدى عنه فهو قرض صحيح *
أما قولنا: ان الكفالة هي الضمان. والحمالة. والزعامة. والقبالة، والضامن هو
القبيل. والكفيل. والزعيم. والحميل فاللغة والديانة لا خلاف فيهما في ذلك، وأما
عموم جواز الضمان في كل حق من بيع أو غيره فلانه ليس فيه بيع أصلا وإنما هو نقل
حق فقط، وأما جواز الضمان بغير رغبة المضمون عنه فلما روينا من طريق أبى داود
نا مسدد [بن مسرهد] (1) نا يحيى بن سعيد القطان نا ابن أبي ذئب قال: حدثني سعيد
ابن أبي سعيد المقبري قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (انكم
يا معشر خزاعة قتلتم هذا القتيل [من هذيل] (2) وانى عاقله) وذكر باقي الخبر، فضمن
النبي صلى الله عليه وسلم عنهم الدية بغير رغبتهم في ذلك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز الضمان إلا بمحضر
الذي له الحق إلا في موضع واحد وهو المريض يقول لورثته: أيكم يضمن عنى دين فلان
على فيضمنه أحدهم - فيجوز بغير محضر الطالب، وهذا كلام في غاية الفساد لأنه دعوى
بلا برهان أصلا، واحتج له بعض المبتلين بتقليده انه عقد كالنكاح والبيع فلا يصح الا بمحضر هما جميعا *
قال أبو محمد: وهذا قياس والقياس كله فاسد ثم أنه لو صح لكان هذا منه عين
الفساد (3) أول ذلك أنهم ينتقضون من قرب فيجيزون نكاح الصغيرة بغير محضرها
ويجيزون الضمان لدين المريض بغير محضر صاحب الحق، ثم إن الضمان ليس عقدا على
المضمون له وإنما هو على الضامن وحده وإنما للمضمون له انصافه من حقه فقط فان
انصف في مثل هذا وإلا فلا يلزمه ما لم يرض به وهو باق على حقه كما كان، وراموا الفرق
بين مسألة المريض وغيرها بان قالوا: إن الدين قد تعين في مال المريض *



(1) الزيادة من سنن أبي داود
(2) الزيادة من سنن أبي داود
(3) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (عين الباطل)
111
قال على: وقد كذبوا ما تعين قط في ماله الا بعد موته، وأبو حنيفة لا يجيز ضمان دين
على الميت الا بان يترك وفاء فظهر فساد قولهم جملة * واحتجوا في ذلك بان الدين قد هلك
وأجازوا الضمان على الحق المفلس والدين قد هلك وهذا تناقض، فان قالوا: قد يكسب
المفلس (1) ما لا قلنا: وقد يطرأ للميت مال لم يكن عرف حين موته، وهذا منهم خلاف
لرسول الله صلى الله عليه وسلم مجرد، وممن قال بقولنا في الضمان عن الميت الذي لا يترك وفاء مالك
وأبو يوسف. ومحمد بن الحسن. والشافعي. وأبو سليمان * روينا من طريق البخاري
نا مكي بن إبراهيم نا يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع [رضي الله عنه] (2) قال:
(كنا جلوسا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتى بجنازة فقالوا: صل عليها فقال: هل ترك شيئا؟
قالوا: لا قال: فهل عليه دين؟ قالوا: نعم ثلاثة دنانير قال: صلوا على صاحبكم فقال
أبو قتادة: صل عليه يا رسول الله وعلى دينه فصلى عليه)، ففي هذا الخبر جواز ضمان
دين الميت الذي لم يترك وفاء بدينه بخلاف رأى أبي حنيفة، وفيه أن الدين يسقط بالضمان
جملة لأنه لو لم يسقط عن الميت وينتقل إلى ذمة أبى قتادة لما كانت الحال الا واحدة،
وامتناعه عليه السلام من الصلاة عليه قبل ضمان أبى قتادة لدينه ثم صلاته عليه السلام
عليه بعد ضمان أبى قتادة برهان صحيح على أن الحال الثانية غير الأولى وان الدين الذي
لا يترك به وفاء قد بطل وسقط بضمان الضامن ولزم ذمة الضامن بقول أبى قتادة الذي
أقره عليه النبي صلى الله عليه وسلم على دينه، فصح أن الدين على الضامن بعد لا على المضمون عنه،
وفيه أيضا جواز الضمان بغير محضر الطالب الذي له الحق، وإذ قد سقط الدين بالضمان
كما ذكرنا فلا يجوز رجوعه بعد سقوطه بالدعوى الكاذبة بغير نص ولا اجماع، وأيضا
الخبر الذي روينا من طريق مسلم نا يحيى بن يحيى انا حماد بن يزيد عن هارون بن رئاب
حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن مخارق الهلالي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:
يا قبيصة ان المسألة لا تحل الا لاحد ثلاثة (3) رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى
يصيبها ثم يمسك) وذكر باقي الخبر، فعم عليه لاسلام إباحة تحمل الحمالة عموما بكل
حال، وبالله تعالى التوفيق *
وأما قولنا: انه ان لم يرض المضمون له بالضمان لم يلزمه الا بان يوفيه أيضا من حقه
فليس له حينئذ الا أخذه منه أو تركه جملة، ولا طلب له على المضمون عند بعدها فلانه



(1) في النسخة رقم 16 (قد يكتسب المفلس)
(2) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 194 والحديث مطول اختصره المصنف
(3) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (لاحد ثلاثة رجال) بزيادة لفظ (رجال) وما هنا موافق لما في صحيح مسلم ج 1 ص 284
112
صاحب الحق ولم يأت نص بلزوم ترك طلب غريمه بل الضمان حينئذ مطل له، وقد قال
عليه السلام: (مطل الغنى ظلم) وأمر عليه السلام أن يعطى كل ذي حق حقه فان أنصف
فقد أعطى حقه ومن أعطى حقه فلا حق له سواه، فان قيل: فأنتم أصحاب اتباع
للآثار (1) فمن أين أجزتم الصلاة على من مات وعليه دين لا وفاء له به؟ قلنا: سبحان
الله! أوليس في قوله عليه السلام لهم: (صلوا على صاحبكم) بيان في أنه عليه السلام
المخصوص بهذا الحكم وحده لا أحد من المسلمين سواه لا الامام ولا غيره؟ فكيف
وقد روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن
جابر قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلى على رجل مات وعليه دين فأتى بميت فقال:
عليه دين؟ قالوا: نعم ديناران فقال أبو قتادة الأنصاري: هما على يا رسول الله
فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما فتح الله على رسوله قال: إنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن
ترك دينا فعلى قضاؤه) وذكر الخبر، وممن أجاز الضمان عن الميت الذي لم يترك وفاء
ابن أبي ليلى. ومالك. وأبو يوسف. ومحمد بن الحسن. والشافعي. وأبو سليمان وما
نعلم لأبي حنيفة سلفا في قوله: قال أبو حنيفة. وسفيان الثوري. والأوزاعي.
وأبو عبيد. وإسحاق. وأحمد. والشافعي. ومالك في أول قوليه: ان للمضمون له
أن يطلب بحقه ان شاء الضامن وان شاء المضمون، وقال مالك في آخر قوليه: إذا
كان المضمون عنه مليا بالحق فليس لطالب الحق أن يطلب الضامن وإنما له طلب
المضمون عنه فقط الا أن ينقص من حقه شئ فيؤخذ من الضامن حينئذ والا أن يكون
المضمون عنه غائبا أو يكون عليه ديون للناس فيخاف المضمون له محاصة الغرماء
فله في هذين الوجهين أن يطلب الضامن [أيضا] (2) حينئذ *
قال أبو محمد: أما هذا القول الذي رجع إليه مالك فظاهر العوار لأنه دعاوى كله (3)
بلا برهان وتقاسيم بلا دليل لا من قرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قول أحد
نعلمه من صاحب أو تابع. ولا قياس. ولا رأى له وجه، وقال ابن أبي ليلى. وابن شبرمة
وأبو ثور. وأبو سليمان وجميع أصحابنا كما قلنا من أن الحق قد سقط جملة عن المضمون
عنه ولا سبيل للمضمون له إليه أبدا وإنما حقه عند الضامن أنصفه أو لم ينصفه *
روينا من طريق ابن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن أشعث هو ابن عبد الملك الحمراني
عن الحسن. ومحمد بن سيرين قالا جميعا: الكفالة. والحوالة سواء، وقد ذكرنا برهان



(1) في النسخة رقم 16 (اتباع آثار)
(2) الزيادة من النسخة رقم 14
(3) في النسخة رقم 16 (لأنه دعاوى كلها)
113
ذلك من السنة، وأيضا فان من المحال الممتنع أن يكون مال واحد معدود محدود هو كله
على زيد وهو كله على عمرو، ولو كان هذا لكان للذي هو له عليهما أن يأخذهما جميعا
بجميعه فيحصل له العدد مضاعفا، ولما سقط عن أحدهما حق قد لزمه بأداء آخر عن نفسه
ما لزمه أيضا وهم لا يقولون بهذا، فظهر تناقضهم واختلاط قولهم (1) وانه لا يعقل ولا
يستقر، فان قالوا: إنما هوله على أيهما طلبه منه قلنا: فهذا أدخل في المحال لأنه على هذا
لم يستقر حقه على واحد منهما بعد لا على الضامن ولا على المضمون عنه، فإذ هو كذلك فلا
حق له على واحد منهما بعد، فان قالوا: فإنكم تقولون في وارثين ترك مورثهما ألفي درهم
فاخذ كل واحد منهما ألف درهم ثم ظهر غريم له على الميت ألف درهم: أنه يأخذها من أيهما
شاء، وتقولون فيمن باع شقصا مشاعا ثم باعه المبتاع من آخر، والثالث من رابع: إن
الشفيع يأخذه بالشفعة من أيهم شاء، وتقولون فيمن غصب ما لا ثم وهبه لآخر: فان
المغصوب منه يأخذ بماله أيهما شاء قلنا: نعم وليس شئ من هذا مما أنكرناه من كون مال
واحد على اثنين هو كله على كل واحد منهما اما الوارثان فإنهما اقتسما ما لا يحل لهما اقتسامه
وحق الغريم في ذلك المال بعينه لا عند الوارثين أصلا فإنما يأخذ حقه من مال الميت
حيث وجده ثم يرجع المأخوذ منه على صاحبه فيقتسمان ما بقي للغريم (2) حينئذ والقسمة
الأولى فاسدة لان الله تعالى لم يجعل للورثة شيئا إلا بعد الوصية. والدين، وأما الغاصب
يهب ما غصب فحق المغصوب منه عند الغاصب وحق الغاصب أن يرجع بما يؤدى على
الذي وهبه إياه بغير حق فالمغصوب منه ان طلب الغاصب طلبه بحقه عنده وان طلب
الموهوب له طلبه بحق الغاصب عنده من رد ما وهبه بالباطل فإذا فعل استحقه المغصوب
منه بحقه عند الغاصب وهكذا كل ما انتقل ذلك المال بغير حق، وأما الشفيع فإنه مخير
بين امضاء البيع أورده فهو يمضى بيع من شاء منهم ويرد بيع من شاء منهم بحق الشفعة،
فظهر فاسد تنظيرهم وبالله تعالى نتأيد *
واحتجوا على خبر أبي قتادة الذي ذكرنا بخبر رويناه من طريق ابن أبي شيبة عن
حسين بن علي الجعفي عن زائدة عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: (مات رجل
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أعليه دين؟ قلنا: نعم ديناران فقال عليه السلام: صلوا على
صاحبكم فتحملهما أبو قتادة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: حق الغريم عليك وبرئ منهما
الميت قال: نعم يا رسول الله فصلى عليه فلما كان من الغد قال عليه السلام لأبي قتادة:
ما فعل الديناران؟ قال: يا رسول الله إنما دفناه أمس ثم أتاه بعد فقال له: ما فعل



(1) في النسخة رقم 16 (واختلاط أقوالهم)
(2) في النسخة رقم 16 (ما بقي عن الغريم)
114
الديناران؟ قال: قضيتهما يا رسول الله قال: الآن بردت عليه جلده)، وبخبرين
آخرين لا يصحان أحدهما (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه) والآخر فيه
انه عليه السلام قال لعلي إذا ضمن دين الميت: (فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك) *
قال أبو محمد: وهذا من العجب (1) احتجاجهم باخبار هي أعظم حجة عليهم أما فك
الله رهانك كما فككت رهان أخيك فليس فيه دليل ولا نص على ما يدعونه من بقاء
الدين على المضمون عنه، ونحن نقول: إنه قد فك رهانه بضمانه دينه فقط فإنه حول دينه
على نفسه (2) حيا كان المضمون عنه أو ميتا، وأما نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى
عنه فليس فيه أنه حكم المضمون عنه ولا أنه حكم من لم يمطل بدينه بعط طلب صاحبه إياه
منه، ونحن نقول: إن المطالب بدينه في الآخرة إنما هو من مطل به وهو غنى فصار
ظالما فعليه اثم المطل أعسر بعد ذلك أو لم يعسر وإن كان حق الغريم فيما يتخلف من
مال أو في سهم الغارمين من زكوات المسلمين ان لم يخلف مالا، وقد يمكن أن يعفوا الله تعالى
عنه ذنب المطل إذا قضى عنه مما يخلف أو من سهم الغارمين أو قضاه عنه الضامن ففي هذا
جاءت الأحاديث في تشديد أمر الدين، وأما من لم يمطل قط به فلم يظلم وإذا لم يظلم فلا
اثم عليه ولا تبعة وحق الغريم ان مات الذي عليه الدين فيما يتخلف أو في سهم الغارمين
والظالم حينئذ من مطله بعد موت الذي عليه الدين من ورثة أو سلطان ولا اثم على
الميت أصلا لقول الله تعالى: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) وهو لم يمطل في حياته
فلم يظلم وإذ لم يظلم في حياته فليس في وسعه الانصاف بعد موته وإنما عليه الاقرار به
فقط وبالله تعالى التوفيق [وبه نتأيد] (3) *
وأما حديث أبي قتادة من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل فأعظم حجة عليهم لو كان
لهم مسكة انصاف (4) لان فيا نصا قول النبي صلى الله عليه وسلم للضامن عن الميت: (حق الغريم عليك
وبرئ منهما الميت، قال الضامن: نعم) أليس في هذا كفاية لمن له مسكة دين أو أقل تمييز؟
ولكنهم قوم مفتونون، فان قيل: فما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم إذا قضاهما: (الآن بردت عليه
جلده)؟ قلنا: هذا لا متعلق فيه في بقاء الدين عليه الميت ولا في رجوعه عليه لان نص الخبر
قد ورد فيه بعينه: (ان الميت قد برئ من الدين وان حق الغريم على الزعيم) فلا معنى
للزيادة في هذا، وأما قوله عليه السلام: (الآن بردت عليه جلده) فقد أصاب عليه السلام
ما أراد وقوله الحق لا نشك فيه لكن نقول: إنه قد يكون تبريد زائد دخل عليه حين



(1) في النسخة رقم 16 (وهذا من العجائب) بصيغة الجمع
(2) في النسخة الحلبية (عن نفسه)
(3) الزيادة من النسخة رقم 16
(4) أي بقية من أنصاف
115
القضاء عنه وإن كان لم يكن قبل ذلك في حر كما تقول لقد سرني فعلك وان لم تكن قبل
ذلك في هم ولا حزن، وكما لو تصدق عن الميت بصدقة لكان قد دخل عليه بها روح زائد
ولا بد وان لم يكن قبل ذلك في كرب ولا غم، ويمكن أن يكون قد كان مطل وهو
غنى فحصل له الظلم ثم غفر الله تعالى له ذلك الظلم بالقضاء والله أعلم الا أنه لا متعلق لهم
بهذا أصلا وإنما هو حكم من أحكام الآخرة ونحن نجد من سن سنة سوء في الاسلام كان
له اثم ذلك واثم من عمل بها أبدا، ونجد من سن سنة خير في الاسلام كان له أجر ذلك
وأجر من عمل بها أبدا، فقد يؤجر الانسان بفعل غيره ويعاقب بفعل غيره إذا كان له
فيهما سبب، وقد يدخل الروح على من ترك ولدا صالحا يدعو له ويفعل الله ما يشاء
لا يسأل عما يفعل وبالله تعالى التوفيق *
وأما قولنا: لا يرجع الضامن بما أدى سواء بأمره ضمن عنه أو بغير أمره الا أن
يكون المضمون عنه استقرضه فلما ذكرنا من سقوط الحق عن المضمون عنه وبراءته
منه واستقراره على الضامن، فمن الباطل المتيقن والظلم الواضح أن يطالب الضامن من
أجل أدائه حقا لزمه وصار عليه واستقر في ذمته من لا حق قبله له ولا للذي أداه عنه
وهذا لا خفاء به وما ندري لمن قال: إنه يرجع الضامن على المضمون عنه بما أدى حجة
أصلا، وقال مالك: يرجع الضامن على المضمون عنه بما أدى عنه سواء بأمره ضمن
عنه أو بغير أمره، وقال أبو حنيفة. والحسن بن حي. والشافعي: ان ضمن عنه بأمره
رجع عليه وان ضمن عنه بغير أمره لم يرجع عليه وكلا القولين فاسد (1) لا دليل عليه
أصلا. وتقسيم فاسد بلا برهان: وقال ابن أبي ليلى: وابن شبرمة. وأبو ثور. وأبو سليمان
بمثل قولنا *
قال أبو محمد: وموه بعضهم بخبر واه رويناه من طريق أبى داود عن القعنبي عن
الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس: (ان رجلا لزم غريما
له بعشرة دنانير فقال: والله لا أفارقك حتى تقضيني أو تأتيني بحميل فتحمل بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأتاه بقدر ما وعده فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أين أصبت هذا الذهب؟ قال:
من معدن قال: لا حاجة لنا فيها ليس فها خير فقضاها عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم) *
قال على: في احتجاجهم بهذا الخبر عجب! أول ذلك أنه من رواية عمرو بن أبي عمرو
وهو ضعيف ضعفه ابن معين وغيره وقد تركوا روايته في غير قصة، منها روايته من
هذه الطريق نفسها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها [معه] (2) ثم



(1) في النسخة رقم 16 (وكل هذا فاسد)
(2) الزيادة من النسخة رقم 14
116
لو صح لما كان لهم فيه حجة لان فيه فأتاه بقدر ما وعده، فصح أن المضمون عنه وعده عليه السلام بأن يأتيه بما تحمل عنه وهذا أمر لا نأباه بل به نقول إذا قال المضمون.
للضامن: انا آتيك بما تتحمل به عنى، ثم العجب الثالث احتجاجهم بهذا الخبر وهم
أول مخالف له لان فيه أن ما أخذ من معدن فلا خير فيه وهم لا يقولون بهذا، فمن أعجب
ممن يحتج بخبر ليس فيه أثر مما يحتج به فيه ثم هو مخالف لنص ما فيه ونسأل الله العافية *
1230 مسألة وحكم العبد. والحر. والمرأة. والرجل. والكافر.
والمؤمن سواء لعموم النص الذي أوردناه في ذلك ولم يأت نص بالفرق بين شئ مما
ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق *
1231 مسألة ولا يجوز ضمان ما لا يدرى مقداره مثل أن يقول له: انا
أضمن عنك ما لفلان عليك لقول الله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم)، ولاخباره عليه السلام: (انه لا يحل مال مسلم الا
بطيب نفسه منه) والتراضي. وطيب النفس لا يكون الا على معلوم القدر هذا أمر
يعلم بالحس والمشاهدة (1) *
1232 مسألة ولا يجوز ضمان مال لم يجب بعد كمن قال لآخر: انا أضمن
لك ما تستقرضه من فلان، أو قال له: اقترض من فلان دينارا وأنا أضمنه عنك، أو
قال له: أقرض فلانا دينارا وأنا أضمنه لك وهو قول ابن أبي ليلى. ومحمد بن الحسن.
والشافعي. وأبي سليمان لأنه شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، ولأن الضمان
عقد واجب ولا يجوز الواجب في غير واجب وهو التزام ما لم يلزم بعد وهذا محال وقول
متفاسد، وكل عقد لم يلزم حين التزامه فلا يجوز أن يلزم في ثان وفى حين لم يلتزم فيه وقد
بلا يقرضه ما قال له وقد يموت القائل لذلك قبل أن يقرضه ما أمره باقراضه، فصح بكل
هذا انه لا يلزم ذلك القول، فان قال له: أقرضني كذا وكذا وأدفعه إلى فلان أو زن
عنى لفلان كذا وكذا أو أنفق عنى في أمر كذا فما أنفقت فهو على أو ابتع لي أمر كذا
فهذا جائز لازم لأنها وكالة وكله بما أمره به *
وأجاز ما ذكرنا بطلانه أبو حنيفة. وأبو يوسف. ومالك. وعثمان البتي. واحتج
لهم بعض الممتحنين بتقليدهم بان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولى زيد بن حارثة جيش الامراء فان
مات فالأمير جعفر بن أبي طالب فان مات فالأمير عبد الله بن رواحة. قال: فكما تجوز
المخاطرة في الولايات فهي جائزة في الضمان



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (يعلم المشاهدة والحس)
117
قال أبو محمد: وهذا قيا س والقياس كله باطل، ثم لو صح القياس لكان هذا منه
عين الباطل لأنه لا نسبة بين الولاية وبين الضمان ولا نسبة بين الوكالة وبين الضمان
لان الولاية فرض على المسلمين إلى يوم القيامة وليس الضمان فرضا، وأما لوكالة فحكم
على حياله جاء به النصف، ثم نسألهم عمن قال: أنا أضمن لك ما أقرضته زيدا ثم مات
فاقرض المقول له ذلك زياد ما أمره به؟ أيلزمونه ذلك بعد موته؟ فهذا عجب! أم
لا يلزمونه؟ فقد تركوا قولهم الفاسد ورجعوا إلى الحق ولئن لزمه ضمان ذلك في ذمته
في حياته فهو لازم له في ماله ولابد بعد موته من رأس ماله، ونسألهم عمن ضمن كل
ما يتداين به زيد إلى انقضاء عمره؟ فان ألزموه ذلك كان شنعة من القول وان لم يلزموه
تناقضوا: ونقول لهم: كما لم يجز الغرر والمخاطرة في البيوع ولا جاز اصداق ما لم يخلق
بعد فكذلك لا يجوز ضمان ما لم يلزم بعد، فهذا أصح من قياسهم على الامارة والوكالة
والدلائل ههنا على بطلان قولهم تكثر جدا وفيما ذكرنا كفاية *
1233 مسألة ولا يجوز أن يشترط في ضمان اثنين عن واحد أن يأخذ
أيهما شاء بالجميع ولا أن يشترط ذلك الضامن في نفسه وفى المضمون عنه ولا أن يشترط
أن يأخذ الملئ منهما عن المعسر والحاضر عن الغائب، وهو قول ابن شبرمة. وأبي سليمان
، وأجاز هذا الشرط شريح. وابن سيرين. وعطاء. وعمرو بن دينار. وسليمان
ابن موسى. وهو قول سفيان الثوري. وأبي حنيفة. ومالك *
برهان صحة قولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)،
وهذا شرط لم يأت بإباحته نص فهو باطل، وأيضا فإنه ضمان لم يستقر عليهما ولا على
واحد منهما بعينه وإنما هو ضمان معلق على أحدهما بغير عينه لا يدرى على أيهما يستقر (1)
فهو باطل لان ما لم يصح على المرء بعينه حين عقده إياه فمن الباطل أن يصح عليه بعد ذلك
في حين لم يعقده ولا التزمه، وهذا واضح لاخفاء به، وبالله تعالى التوفيق *
1234 مسألة فان ضمن اثنان فصاعدا حقا على إنسان فهو بينهم بالحصص
لما ذكرنا، فلو ابتاع اثنان بيعا أو تداينا دينا على أن كل واحد منهما ضامن عن الآخر
فان ما كان على كل واحد منهما قد انتقل عنه واستقر على الآخر لا يجوز غير هذا أصلا
لما ذكرنا قبل، ولان من الباطل المحال الممتنع أن يكون مال واحد على اثنين فصاعدا
يكون كله على كل واحد منهما لأنه كان يصير الدرهم درهمين ولابد أو يكون غير لازم
لأحدهما بعينه ولا لهما جميعا، وهذا هوس لا يعقل، وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة رقم 16 والنسخة اليمنية (على أيهما استقر)
118
1235 مسألة ولا يجوز أن يشترط في بيع ولا في لم ولا في مداينة أصلا
أعطاء ضامن، ولا يجوز أن يكلف أحد في خصومة اعطاء ضامن به لئلا يهرب، ولا
يجوز أن يكلف من وجب له حق من ميراث أو غيره ضامنا، وكل ذلك جور وباطل
لأنه كله شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل، ولأنه تكليف ما لم يأن قط نص
من الله تعالى ولا من رسوله عليه السلام بايجابه فهو شرع لم يأذن به الله تعالى، فان احتج
من يجيز ذلك أو بعضه بالخبر الذي رويناه من طريق عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد
عن جعفر بن ربيعة عن عبد الرحمن بن هرمز عن أبيه عن أبي هريرة: (ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه
ألف دينار فذكر كلاما وفيه فقال: ائتني بالكفيل فقال: كفى بالله كفيلا فقال:
صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى فخرج في البحر فقضى حاجته ثم التمس مركبا
[يركبها] (1) يقدم عليه للأجل الذي أجله فلم يجد مركبا فأخذ خشبة فنقرها
ثم ادخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه ثم زجج (2) موضعها ثم أتى بها إلى
البحر فذكر كلاما وفيه فرمى بها إلى البحر) وذكر باقي الخبر، وذكر البخاري هذا
الخبر منقطعا غير متصل، فان هذا خبر لا يصح لأنه من طريق عبد الله بن صالح وهو ضعيف
جدا، ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة لأنه شريعة غير شريعتنا ولا يلزمنا غير شريعة نبينا
صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) والعجب أنهم أول مخالف
له فإنهم لا يجيزون البتة لا حدان يقذف ماله في البحر لعله يبلغ إلى غريمه بل يقضون على
من فعل هذا بالسفه ويحجرون عليه ويؤدبونه (3) فكيف يستسهل ذو حياء ان يحتج على
خصمه بما هو أول مخالف له وحسبنا الله ونعم الوكيل *
1236 مسألة ولا يجوز ضمان الوجه أصلا لا في مال ولا في حدو لا في شئ
من الأشياء لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، ومن طريق النظر اننا نسألهم
عمن تكفل بالوجه فقط فغاب المكفول ماذا تصنعون بالضامن لوجهه أتلزمونه غرامة
ما على المضمون فهذا جور وأكل مال بالباطل لأنه لم يلتزمه قط أم تتركونه؟ فقد
أبطلتم الضمان بالوجه الذي جاذبتم (4) فيه الخصوم وحكمتم بأنه لا معنى له أم تكلفونه
طلبه؟ فهذا تكليف الحرج وما لا طاقة له به وما لم يكلفه الله تعالى إياه قط ولا منفعة
فيه ولعله يزول عن موضعكم ولا يطلبه ولكن يشتغل بما يعنيه، وقولنا هذا هو أحد



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 193
(2) أي سوى موضع النقر وأصلحه
(3) في النسخة رقم 16 (ويؤذونه) وهو تصحيف
(4) في النسخة الحلبية وغيرها (جادلتم)
119
قول الشافعي. وقول أبى سليمان، وقال أبو حنيفة. ومالك: يجوز ضمان الوجه الا
ان مالكا قال: إن ضمن الوجه غرم المال الا أن يقول الوجه خاصة فكان هذا التقسيم
طريفا جدا وما يعلم أحد فرق بين قوله أنا أضمن وجهه وبين قوله أنا اضمن وجهه خاصة،
وكلا القولين لم يلتزم فيه غرامة مال ولا ضمانة أصلا فكيف يجوز أن يأخذ بغرامة مال
لم يضمنه قط؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل، وما نعلم لمالك في هذا التقسيم سلفا *
واحتج المجيزون ضمان الوجه بخبر رويناه من طريق العقيلي عن إبراهيم بن الحسن
الهمداني عن محمد بن إسحاق البلخي عن إبراهيم بن خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه
خثيم عن عراك عن أبي هريرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم كفل في تهمة) * وبما روينا من طريق
ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن محمد بن حمزة بن عمرو الأسلمي عن
أبيه ان عمر بعثه مصدقا علي بنى سعد هذيم فذكر الخبر وفيه (أنه وجد فيهم رجلا وطئ
أمة امرأته فولدت منه فأخذ حمزة بالرجل كفيلا) لأنهم ذكروا له أن عمر قد عرف
خبره وانه لم ير عليه رجما لكن جلده مائة فلما أتى عمر أخبره الخبر فصدقهم عمر قال:
وإنما درأ عنه الرجم (1) لأنه عذره بالجهالة * وبخبر رويناه من طريق إسرائيل عن أبي
إسحاق عن حارثة بن مضرب أن ابن مسعود أتى بقوم يقرون بنبوة مسيلمة وفيهم ابن
النواحة فاستتابه فأبى فضرب عنقه ثم إن ابن مسعود استشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الباقين فأشار عليه عدى بن حاتم بقتلهم وأشار عليه الأشعث بن قيس. وجرير بن
عبد الله باستتابتهم وان يكفلهم عشائرهم فاستتابهم فكفلهم عشائرهم ونفاهم إلى الشام *
وذكروا أن شريحا كفل في دم وحبسه في السجن، وان عمر بن عبد العزيز كفل في
حد قالوا: وهذا اجماع من الصحابة كما ترى *
قال أبو محمد: في احتجاج من احتج بهذا كله دليل على رقة دين المحتج به ولا مزيد
وعلى قلة مبالاته بالفضيحة العاجلة والخزي الآجل عند الله تعالى وما لهم حجة أصلا
غير ما ذكرنا وكل ذلك باطل * أما الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فباطل لأنه من رواية
إبراهيم بن خثيم بن عراك وهو وأبوه في غاية الضعف لا تجوز الرواية عنهما ومعاذ الله
من أن يأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا بتهمة وهو القائل: (إياكم والظن فان الظن أكذب
الحديث) والتهمة ظن، ولو جاز ان يكفل انسان بتهمة لوجب الكفيل على كل من على
ظهر الأرض إذ ليس أحد بعد الصدر الأول يقطع ببراءته من التهمة، وهذا تخليط لا نظير
له والمحتجون بهذا الخبر لا يقولون بما فيه من أخذ الكفالة في التهمة فمن أضل ممن يحتج



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (وإنما درأ عنه الحد)
120
بخبر يطلقه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ليس فيه منه شئ وهو يخالف كل ما في ذلك الخبر
ويرى الحكم بما فيه جورا وظلما؟ نبرأ إلى الله تعالى من مثل هذا * وأما خبر حمزة بن
عمرو الأسلمي فباطل لأنه عن عبد الرحمن بن أبي الزناد وهو ضعيف، ثم المحتجون به
أول مخالف لما فيه فليس منهم أحد يرى أن يجلد الجاهل في وطئ أمة امرأته مائة ولا أن
يدرأ الرجم عن الجاهل (1) فكيف يستحلون أن يحتجوا عن عمر رضي الله عنه بعمل
هو عندهم جور وظلم أما في هذا عجب وعبرة! ما شاء الله كان، وأيضا فكلهم لا يجيز
الكفالة في شئ من الحدود وهذا الخبر إنما فيه الكفالة في حد فاعجبوا لهذه العجائب *
وأما خبر ابن مسعود فإننا رويناه من طريق يحيى بن سعيد القطان وسفيان بن عيينة
كلاهما عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن ابن مسعود، ومن طريق
الأعمش. وشعبة. وسفيان الثوري كلهم عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن ابن
مسعود، وهذه الأسانيد هي أنوار الهدى لم يذكر أحد منهم في روايته أنه كفل بهم ولا
ذكر منهم أحد كفالة الا إسرائيل وحده - وهو ضعيف - ولو كان ثقة ما ضر روايته من
خالفها من الثقات ولكنه ضعيف، ثم لو صحت لكان جميع المحتجين بها أول مخالف
لها لأنهم كلهم لا يجيزون الكفالة في الردة تاب أو لم يتب ولا يرون التغريب على المرتد
إذا تاب، وليس هذا مكانا يمكنهم فيه دعوى نسخ بل هي أحكام مجموعة اما صواب
وحجة وإما خطأ وغير حجة، الكفالة بالوجه في الحدود وفى الردة والتغريب في الردة،
وجلد الجاهل المحصن في الزنا مائة جلدة ولا يرجم فيا للمسلمين كيف يستحل من له مسكة
حياء أن يحتج على خصمه بما هو أول مخالف له؟ وكذلك الرواية عن شريح. وعمر بن
عبد العزيز إنما هي أنهما كفلا في حد ودم وهم لا يرون الكفالة فيهما أصلا، وهي بعد
عن شريح من طريق جابر الجعفي - وهو كذاب - ولا يعفر هذا أيضا يصح عن عمر بن
عبد العزيز، فإن كان ما ذكروا من هذه التكاذيب اجماعا كما زعموا فقد أقروا على أنفسهم
بمخالفة الاجماع فسحقا وبعدا لمن خالف الاجماع نقول فيهم: كما قال تعالى فيمن اعترف
على نفسه بالضلال: (فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير) وشهدوا على أنفسهم
الا أن أولئك نادمون وهؤلاء مصرون، وأما نحن فلو صحت هذه الروايات كلها لما
كان فيها حجة لأنها إنما هي عن خمسة من الصحابة رضي الله عنهم فقط وأين هذه من
صلاة معاذ مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم إمامته قومه في المسجد بنى سلمة في تلك الصلاة وخلفه ثلاثة



(1) في النسخة رقم 16 والنسخة اليمنية (ولا أن يدرأ الرجم عن غير الجاهل) بزيادة
لفظ (غير)
121
وأربعون بدريا مسمون بأسمائهم وأنسابهم سوى سائر أصحاب المشاهد منهم؟ فلم
يروا هذا اجماعا بل رأوها صلاة فاسدة ومعاذ الله من هذا بل هي والله صلاة مقدسة
فاضلة حق وصلاة المخالفين لها هي الفاسدة حقا، وأين هذا من اعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع
أصحابه أرض خيبر على نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر إلى غير أجل مسمى لكن
يقرونهم [بها] (1) ما شاءوا ويخرجونهم إذا شاءوا؟ فلم يروا هذا اجماعا بل رأوه
معاملة فاسدة مردودة وحاش لله من هذا بل هو والله الاجماع المتيقن والحق الواضح،
وأقوال من خالف ذلك هي الفاسدة المردودة حقا، ونحمد الله تعالى على ما من به، ثم
اعلموا الآن أنه لم يصح قط إباحة كفالة الوجه عن صاحب ولا تابع فهي باطل متيقن
لا تجوز البتة وبالله تعالى التوفيق، تم كتاب الكفالة والحمد لله رب العالمين *
كتاب الشركة
1237 مسألة لا تجوز الشركة بالأبدان أصلا لا في دلالة. ولا في تعليم.
ولا في خدمة. ولا في عمل يد. ولا في شئ من الأشياء فان وقعت فهي باطل لا تلزم
ولكل واحد منهم أو منهما ما كسب فان اقتسماه وجب أن يقضى له بأخذه ولا بدلانه (2)
شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، ولقول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا
عليها) وقال تعالى: (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت)
وهذا كله عموم في الدنيا والآخرة لأنه لم يأت بتخصيص شئ من ذلك قرآن. ولا سنة،
فمن ادعى في ذلك تخصيصا فقد قال على الله تعالى ما لا يعلم، وأما نحن فقد قلنا: (3)
ما نعلم لان الله تعالى لو أراد تخصيص شئ من ذلك لما أهمله ليضلنا ولبينه لنا رسوله صلى الله عليه وسلم
المأمور ببيان ما أنزل عليه (4) فإذا لم يخبرنا الله تعالى ولا رسوله عليه السلام بتخصيص
شئ من ذلك فنحن على يقين قاطع بلت على أنه تعالى أراد عموم كل ما اقتضاه كلامه،
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فلا يحل أن يقضى بمال
مسلم أو ذمي لغيره إلا بنص قرآن. أو سنة والا فهو جور، ولقول الله تعالى: (لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فهذه ليست تجارة أصلا،
فهي أكل مال بالباطل *



(1) الزيادة من النسخة رقم 16
(2) في النسخة رقم 16 والنسخة اليمنية (لأنها)
(3) في النسخة رقم 16 والنسخة الحلبية (وأما نحن فقلنا) باسقاط لفظ (فقد)
(4) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (ما أنزل الينا) وهذه الجملة سقطت من النسخة الحلبية
122
1238 - مسألة - فإن كان العمل لا ينقسم واستأجرهما صاحبه بأجرة واحدة
فالأجرة بينهما على قدر عمل كل واحد ككمد ثوب واحد. أو بناء حائط واحد. أو خياطة
ثوب واحد. وما أشبه هذا؟ وكذلك ان نصبا حبالة معا فالصيد بينهما أو أرسلا
جارحين فأخذا صيدا واحدا فهو بينهما والا فلكل واحد ما صاد جارحه، وقال أبو حنيفة:
شركة الأبدان جائزة في الصناعات اتفقت صناعتهما أو اختلفت عملا في موضع واحد
أو في موضعين، فان غاب أحدهما أو مرض فما أصاب الصحيح الحاضر فبينهما ولا تجوز
في التصيد ولا في الاحتطاب *
قال أبو محمد: هذا تقسيم فاسد بلا برهان، وروى عنه ان شركة الأبدان لا تجوز
الا فيما تجوز فيه الوكالة وهذا في غاية الفساد أيضا لان الوكالة عنده جائزة في النكاح
فيجب أن تجوز الشركة عندهم (1) في النكاح، وقال مالك شركة الأبدان جائزة في الاحتطاب
وطلب العنبر إذا كان كل ذلك في موضع واحد، وكذلك إذا اشتركا في صيد الكلاب
والبزاة إذا كان لكل واحد منهما باز وكلب يتعاون البازان أو الكلبان على صيد واحد،
وتجوز الشركة عنده على التعليم في مكان واحد فإن كانا في مجلسين فلا ضير فيه، وأجاز
شركة الأبدان في الصناعات إذا كانا في دكان واحد كالقصار ونحوه إذا كان ذلك في صناعة
واحدة فان مرض أحدهما فالأجرة بينهما، وكذلك ان غاب أحدهما أو عمل أحدهما
يوما والآخر يومين ولا يجوز عنده اشتراك الحمالين أو النقالين على الدواب ولا يجوز
عنده الاشتراك في صناعتين أصلا كحداد وقصار ونحو ذلك وهذا تحكم بلا برهان (2)
وقول: لا نعلم لهم فيه سلفا، وقولنا هو قول الليث. وأبي سليمان. والشافعي. وأبي ثور *
واحتج من أجاز شركة الأبدان بما روينا من طريق أبى داود عن عبيد الله بن معاذ
العنبري عن يحيى بن سعيد القطان عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق السبيعي عن أبي عبيدة
ابن عبد الله (3) بن مسعود عن أبيه قال: اشتركت أنا وعمار بن ياسر. وسعد بن أبي وقاص
فيما نصيب يوم بدر فجاء سعد بأسيرين ولم أجئ أنا وعمار بشئ *
قال أبو محمد: وهذا عجب عجيب وما ندري على ماذا يحمل عليه أمر هؤلاء القوم؟
ونسأل الله السلامة من التمويه في دينه تعالى بالباطل * أول ذلك ان هذا خبر منقطع
لان أبا عبيدة لا يذكر من أبيه شيئا روينا ذلك من طريق وكيع عن شعبة عن عمرو
ابن مرة قال: قلت لأبي عبيدة أتذكر من عبد الله شيئا؟ قال: لا * والثاني انه لو صح



(1) في النسخة الحلبية (فتجب أن تكون الشركة عندهم)
(2) في النسخة رقم 16 (بلا دليل)
(3) في سنن أبي داود (عن عبد الله) وهو هو
123
لكان أعظم حجة عليهم لأنهم أول قائل معنا ومع سائر المسلمين ان هذه شركة لا تجوز
وانه لا ينفرد أحد من أهل العسكر بما يصيب دون جميع أهل العسكر حاشا ما اختلفنا
فيه من كون السلب للقاتل وانه ان فعل فهو غلول من كبائر الذنوب * والثالث ان هذه
شركة لم تتم ولا حصل لسعد ولا لعمار ولا لابن مسعود من ذينك الأسيرين الا ما حصل
لطلحة بن عبيد الله الذي كان بالشام. ولعثمان بن عفان الذي كان بالمدينة فأنزل الله
تعالى في ذلك: (قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) فكيف
يستحل من يرى العار (1) عارا أن يحتج بشركة أبطلها الله تعالى ولم يمضها؟ *
والرابع انهم - يعنى الحنيفيين - لا يجيزون الشركة في الاصطياد ولا يجيزها
المالكيون في العمل في مكانين فهذه الشركة المذكورة في الحديث لا تجوز عندهم، فمن
أعجب ممن يحتج في تصحيح قوله برواية لا تجوز عنده؟: والحمد لله رب العالمين على
توفيقه لنا *
1239 - مسألة - ولا تجوز الشركة الا في أعيان الأموال فتجوز في التجارة بأن يخرج أحدهما مالا والآخر مالا مثله من نوعه أو أقل منه أو أكثر منه فيخلطا المالين ولابد حتى لا يميز أحدهما ماله من الآخر ثم يكون ما ابتاعا بذلك المال بينهما
على قد حصصهما فيه والربح بينهما كذلك والخسارة عليهما كذلك، فإن لم يخلطا المالين
فلكل واحد منهما ما ابتاعه هو أو شريكه به ربحه كله له وحده وخسارته كلها عليه وحده *
برهان ذلك أنهما إذا خلطا المالين فقد صارت تلك الجملة مشاعة بينهما فما ابتاعا
بها فمشاع بينهما وإذ هو كذلك فثمنه أصله. وربحه مشاع بينهما. والخسارة مشاعة
بينهما، وأما إذا لم يخلطا المالين فمن الباطل أن يكون لزيد ما ابتيع بمال عمرو أو ما ربح
في مال غيره أو ما خسر في مال غيره لما ذكرنا آنفا من قول الله تعالى: (ولا تكسب كل
نفس إلا عليها) *
1240 مسألة فان ابتاع اثنان فصاعدا سلعة بينهما على السواء أو ابتاع
أحدهما منها أكثر من النصف والآخر أقل من النصف فهذا بيع جائز والثمن عليهما
على قدر حصصهما فما ربحا أو خسرا فبينهما على قدر حصصهما لان الثمن بدل من السلعة
وهكذا لو ورثا سلعة أو وهبت لهما أو ملكا ها بأي وجه ملكاها به فلو تعاقدا أن
يبتاعا هكذا لم يلزم لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل *
1241 مسألة ولا يحل للشريكين فصاعدا أن يشترطا أن يكون لأحدهما



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (من رأى العار)
124
من الربح زيادة على مقدار ماله فيما يبيع ولا أن يكون عليه خسارة ولا أن يشترطا
أن يعمل أحدهما دون الآخر فأوقع شئ من هذا فهو كله باطل مردود وليس
له من الربح إلا ما يقابل ماله من المال وعليه من الخسارة بقدر ذلك لأنه كله شرط
ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، فان عمل أحدهما أكثر من الآخر أو عمل وحده
تطوعا بغير شرط فذلك جائز، فان أبى من أن يتطوع بذلك فليس له الا أجر مثله في مثل
ذلك العمل ربحا أو خسرا لأنه ليس عليه أن يعمل لغيره فاغتنام عمله بغير طيب نفسه
اعتداء وعلى المعتدى مثل ما اعتدى فيه لقول الله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه
بمثل ما اعتدى عليكم) *
1242 - مسألة - فان أخرج أحدهما ذهبا والآخر فضة أو عرضا أو ما أشبه
ذلك لم يجز أصلا الا بأن يبيع أحدهما عرضه أو كلاهما حتى يصير الثمن ذهبا فقط أو
فضة فقط ثم يخلطا الثمن كما قدمنا ولا بد لما ذكرنا قبل، أو يبيع أحدهما من الآخر مما
أخرج بمقدار ما يريد أن يشاركه به حتى يكون رأس المال بينهما مخلوطا لا يتميز ولا
بد لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق *
1243 - مسألة - ومشاركة المسلم للذمي جائزة ولا يحل للذمي من البيع والتصرف
الا ما يحل للمسلم لأنه لم يأت قرآن. ولا سنة بالمنع من ذلك، وقد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم
أهل خيبر - وهم يهود - بنصف ما يخرج منها على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم فهذه
شركة في الثمن. والزرع. والغرس، وقد ابتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما من يهودي
بالمدينة ورهنه درعه فمات عليه السلام وهي رهن عنده وذكرناه باسناده في كتاب الرهن
من ديواننا هذا، فهذه تجارة اليهود جائزة ومعاملتهم جائزة (1) ومن خالف هذا
فلا برهان له * وروينا عن اياس بن معاوية لا بأس بمشاركة المسلم الذمي إذا كانت
الدراهم عند المسلم وتولى العمل لها وهو قول مالك، وكره ذلك أصحاب أبي حنيفة جملة *
قال أبو محمد: من عجائب الدنيا تجويز أبي حنيفة. ومالك معاملة اليهود والنصارى
وان أعطوه دراهم الخمر والربا! ثم يكرهون مشاركته حيث لا يوقن بأنهم يعملون
بمالا يحل، وهذا عجب جدا! وأما نحن فانا ندري انهم يستحلون الحرام كما أن
في المسلمين من لا يبالي من أين أخذ المال الا أن معاملة الجميع جائزة ما لم يوقن حراما
فإذا أيقناه حرم أخذه من كافر أو مسلم * وروينا من طريق وكيع عن سفيان الثوري



(1) في النسخة رقم 16 (فهذه تجارة اليهودي جائزة ومعاملته جائزة)
125
عن أبي حصين قال: قال [لي] (1) علي بن أبي طالب في المضارب وفى الشريكين: الربح
على ما اصطلحا عليه ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن هشام أبى كليب. وعاصم
الأحول. وإسماعيل الأسدي قال إسماعيل: عن الشعبي، وقال عاصم: عن جابر
ابن زيد (2)، وقال هشام: عن إبراهيم النخعي قالوا كلهم في شريكين أخرج أحدهما
مائة والآخر مائتين: ان الربح على ما اصطلحا عليه والوضيعة على رأس المال *
قال على: هذا صاحب لا يعرف له من الصحابة مخالف (3) وقد خالفه الحنيفيون
والمالكيون وخالفوا معه من ذكرنا من التابعين *
1244 - مسألة - فان أخذ أحد الشريكين شيئا من المال حسبه على نفسه ونقص
به من رأس ماله ذلك القدر الذي أخذ ولم يكن له من الربح الا بقدر ما بقي له ولا يحل
لاحد منهما (4) أن ينفق الا من حصته من الربح ولا مزيد لما ذكرنا من أن الأموال
محرمة على غير أربابها فان تكارما في ذلك جاز ما نفد بطيب النفس ولم يلزم في المستأنف
ان لم تطب به النفس *
1245 - مسألة - ومن استأجر أجيرا يعاونه في خياطة أو نسج أو غير ذلك
بنصف ما يرد أو بجزء مسمى منه فهو باطل وعقد فاسد وله بقدر ما يعمل (5) ولابد
فان تكارما بذلك عن غير شرط فهو جائز ما دام بطيب نفوسهما بذلك فقط لقوله تعالى:
(ولا تنسوا الفضل بينكم) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس
في كتاب الله فهو باطل) *
1246 - مسألة - ومن كانت بينهما الدابة مشتركة لم يجز أن يتشارطا استعمالها
بالأيام لأنه ليس شرط في كتاب الله فهو باطل وقد يستعملها أحدهما أكثر مما يستعملها
الآخر والأموال محرمة على غير أربابها الا بطيب أنفسهم فان تكارما في ذلك جاز
ما دام بطيب أنفسهم بذلك لما ذكرنا من أن لكل أحد أن يطيب نفسه من ماله بما شاء
ما لم يمنعه من ذلك نص، وكذلك القول في العبد. والرحى وغير ذلك، فان تشاحا فلكل
أحد منهما على الآخر نصف أجرة ما استعمل فيه ذلك الشئ المشترك أو مقدار حصته
من أجرتها فان آجرها فحسن والأجرة بينهما على قدر حصصهما في تلك السلعة *
1247 - مسألة - ومن كانت بينهما سلع مشتركة ابتاعاها للبيع فأراد أحدهما



(1) الزيادة من النسخة رقم 16
(2) في النسخة رقم 16 (عن جابر بن عبد الله زيد)
(3) في النسخة رقم 16 والنسخة اليمنية (لا نعرف له من الصحابة مخالفا)
(4) في النسخة رقم 16 (للآخذ منهما) وهو تصحيف
(5) في النسخة رقم 16 (ولم يقدر ما يعمل) وهو غلط
126
البيع أجبر شريكه على البيع لأنهما على ذلك تعاقدا الشركة فإن لم تكن للبيع لم يجبر على
البيع من لا يريده لأنه لم يوجب ذلك نص، ومن كانت بينهما دابة. أو عبد. أو حيوان
أجبرا على النفقة وعلى ما فيه صلاح كل ذلك ومن كانت بينهما أرض لم يجبر من لا يريد
عمارتها على عمارتها لكن يقتسمانها ويعمر من شاء حصته لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت
له أرض فليزرعها أو فليزرعها أو ليمسك أرضه) ومن كانت بينهما دار أو رحى أو مالا
ينقسم أجبرا على الاصلاح لنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال ولكل أو امره حقها من
الطاعة لا يحل ضرب بعضها ببعض وبيع الشريك فيما اشتركا فيه للبيع جائز على شريكه
وابتياعه كذلك لأنهما على ذلك تعاقدا فكل واحد منهما وكيل للآخر فان تعدى
ما أمره به فباع بوضعية أو إلى أجل أو اشترى عيبا فعليه ضمان كل ذلك لأنه لم يوكله
بشئ من ذلك فلا يجوز له في مال غيره الا ما أباحه له، ولا يجوز اقرار أحدهما على الآخر
في غير ما وكله به من بيع أو ابتياع لقول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا عليها) وكل واحد
منهما إذا أراد الانفصال فله ذلك ولا تحل الشركة إلى أجل مسمى لأنه شرط ليس في
كتاب الله تعالى فهو باطل وبالله تعالى التوفيق، تم كتاب الشركة والحمد لله رب العالمين (1) *



(1) وجد في النسخة الحلبية زيادة نقلها الناسخ من كتاب الايصال للمؤلف وادرجها
في أصل النسخة فاتما ما للفائدة ذكرتها هنا ولم ادخلها في الأصل لئلا يظن أنها منه وهي هذه *
قال على: فإن كانت الشركة في رحى لم يجز قسمتها بالأيام لكن يطحن كل واحد
منهم مثل ما يطحن الآخر ويقسمون الأجرة على حصصهم إذ لا منفعة للرحى إلا الطحن فان
اقتسموها بالأيام وقع التفاضل وهذا حرام فإن كان عبد مشترك فكسبه وغلته بخلاف
خدمته فكل ما اكتسب بهبة أو اجرة أو غيرهما فلكل واحد من مالكيه انتزاع مقدار
حصته فقط ولا يجوز اقتسامها بالأيام للتفاضل المذكور، وكذلك ألبان المواشي
وأولادها لا يجوز اقتسامها بالأيام ولا بالشهور ولا اقتسام غلة الدور بالشهور ولا
الأعوام ولا اقتسام حمل الشجر بالأعوام لكن يقسم كل ما ظهر من لبن أو ولد وغلة
أو حمل على قدر الحصص إذ فيما عدا ذلك التفاضل وأكل بعضهم مال بعض بالباطل
وهذا حرام بالنص وبالله تعالى التوفيق *
قال على: وجاء في المضارة خبر نا عبد الله بن ربيع نا محمد بن إسحاق نا ابن الاعرابي
نا أبو داود نا قتيبة بن سعيد نا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن
محمد بن يحيى عن لؤلؤة عن صرمة - هو قيس بن مالك المازني له صحبة - عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من ضار أضر الله به ومن شاق شاق الله عليه)
127
كتاب القسمة
1248 - مسألة - القسمة جائزة في كل حق مشترك (1) إذا أمكن وعلى حسب
ما يمكن * برهان ذلك قول الله تعالى: (وإذا حضر القسمة أو لوا القربى واليتامى
والمساكين فارزقوهم منه) * ومن طريق أبى داود نا موسى بن إسماعيل نا حماد - هو ابن
سلمة - عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عن عبد الله بن يزيد الخطمي عن عائشة أم
المؤمنين قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم فيعدل فيقول: اللهم هذه قسمتي (2)
فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) [يعنى القلب] (3) فهذان نصان عموم لكل
قسمة وليس لا حد أن يخصهما في ميراث أو بين النساء برأيه، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بان يعطى كل ذي حق حقه برهان قاطع في وجوب القسمة إذا طلب ذو الحق حقه
وبالله تعالى التوفيق *
1249 - مسألة - ويجبر الممتنع منهما عليها ويوكل للصغير. والمجنون. والغائب
من يعزل له حقه لما ذكرنا من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن يعطى كل ذي حق حقه) فوجب
أن ينفذ ذلك ويقضى به لكل من طلب حقه، وأما التقديم لمن ذكرنا فلقول الله عز
وجل: (كونوا قوامين بالقسط) وهذا من القسط *
1250 - مسألة - وفرض على كل آخذ حظه من المقسوم أن يعطى منه من
حضر القسمة من ذوي قربى أو مسكين ما طابت به نفسه ويعطيه الولي عن الصغير.
والمجنون. والغائب لقول الله تعالى: (وإذا حضر القسمة أو لوا القربى واليتامى
والمساكين فارزقوهم منه) وأمر الله تعالى فرض حتى يأتي نص ثابت بأنه ليس فرضا
والا فقول من قال: لا يلزم انفاذ أمر الله تعالى لخصوص ادعاه. أو نسخ زعمه. أو لندب
أطلقه بظنه قول ساقط مردود فاسد فاحش الا أن يخبرنا بشئ من ذلك رسول الله
صلى الله عليه وسلم فسمعا وطاعة لأنه المبلغ عن الله تعالى أحكامه، وأما من دونه فلا * روينا من
طريق سعيد بن منصور نا هشيم عن يونس - هو ابن عبيد - ومنصور بن المعتمر. والمغيرة
ابن مقسم قال يونس. ومنصور عن الحسن، وقال المغيرة: عن إبراهيم ثم اتفق الحسن
وإبراهيم قالا جميعا في قول الله تعالى: (وإذا حضر القسمة أو لو القربى واليتامى والمساكين
فارزقوهم منه): هي بحكمة وليست بمنسوخة، وبه إلى هشيم عن عوف - هو ابن أبي جميلة -



(1) في النسخة رقم 16 (في حق كل مشترك)
(2) في سنن أبي داود (هذا قسمي)
(3) الزيادة من سنن أبي داود، وأخرج هذا الحديث أيضا النسائي والترمذي وابن ماجة
128
عن ابن سيرين قال: كانوا يرضخون لهم إذا حضر أحدهم القسمة، وابن سيرين أدرك
الصحابة رضي الله عنهم * ومن طريق أحمد بن محمد بن إسماعيل الصفار النحوي نا
جعفر بن مجاشع نا إبراهيم بن إسحاق نا عبيد الله نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان - هو
الثوري - عن ابن أبي نجيح عن مجاهد. (وإذا حضر القسمة أو لوا القربى واليتامى
والمساكين فارزقوهم منه) قال: هي واجبة عند قسمة الميراث ما طابت به أنفسهم *
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في هذه الآية قال: هي محكمة ما طابت
به أنفسهم عند أهل الميراث، فان قيل: قد روى عن الضحاك. وابن المسيب. وابن عباس
أنها منسوخة، وقال قوم: انها ندب قلنا: أما الاحتجاج بقول ابن المسيب. والضحاك
فقول يستغنى عن تكلف الرد عليه بأكثر من ايراده فكيف وقد خالفهما الحسن. وابن
سيرين. والنخعي. والزهري. ومجاهد. وغيرهم؟ وأما ابن عباس فما قول أحد حجة
بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف وقد جاء عن ابن عباس خلاف هذا؟ كما رويا من طريق
أحمد بن محمد بن إسماعيل الصفار النحوي نا بكر بن سهل نا أبو صالح نا معاوية بن صالح
عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس (وإذا حضر القسمة أو لوا القربى واليتامى والمساكين
فارزقوهم منه) قال: أمر الله عز وجل عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم ويتاماهم
ومساكينهم من الوصية فإن لم تكن وصية وصل لهم من الميراث، وقد حكم بهذه الآية
في ميراث عبد الرحمن بن أبي بكر بعلم عائشة أم المؤمنين فلم تنكر ذلك، ولا عجب
أعجب ممن يأتي إلى ما قد صح عن ابن عباس من أن قول الله تعالى: (فان جاءوك فاحكم
بينهم أو أعرض عنهم) منسوخ بقوله تعالى: (وان احكم بينهم مما أنزل الله) فلا يلتفت
إليه وهو قول قد صح برهانه بانكار الله تعالى حكم الجاهلية، وكل ما خالف دين الاسلام
فهو حكم جاهلية سواء كان مفترى من أهله أو كان من عند الله تعالى ثم نسخه بغيره كالصلاة
إلى بيت المقدس. وتربص المتوفى عنها حولا. والتزام السبت. وغير ذلك، ثم يأتي
فيحتج بقول جاء عن ابن عباس في هذه الآية قد جاء عنه خلافه، وهذا هو اتباع الهوى
والتحكم بالباطل في دين الله عزو جل، ولئن كان قول ابن عباس المختلف عنه فيه ههنا
حجة فأحرى أن يكون حجة حيث لم يختلف عنه وإن كان ليس قوله (1) هنا لك حجة
فليس ههنا حجة، ثم أن قول القائل: هذه الآية منسوخة أو غير واجبة قول لا يحل
اتباعه لأنه دعوى بلا برهان ونهى عن اتباع أمر الله تعالى وأمر رسوله عليه السلام
بلا برهان أو إباحة لمخالفتهما كذلك وكل ذلك باطل متيقن الا بنص ثابت من قرآن



(1) في النسخة رقم 16 (ولئن كان قوله ليس) الخ
129
أو سنة، وبالله تعالى التوفيق *
1251 مسألة ولا يجوز أن يجبر أحد من الشركاء على بيع حصته مع شريكه
أو شركائه ولا على تقاومهما الشئ الذي هما فيه شريكان أصلا كان مما ينقسم أو مما
لا ينقسم من الحيوان لكن يجبران على القسمة ان دعا إليها أحدهما أو أحدهم أو تقسم المنافع
بينهما إن كان لا تمكن القسمة ومن دعا إلى البيع قيل له: ان شئت فبع حصتك وان شئت
فأمسك وكذلك شريكك الا أن يكون في ذلك إضاعة للمال بلا شئ من النفع فيباع
حينئذ لواحد كان أو لشريكين فصاعدا إلا أن يكون اشتر كالتجارة فيجبر على البيع
ههنا خاصة من أباه *
برهان ذلك قول الله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة
عن تراض منكم)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام)
فصح بهذا انه لا يخل أن يخرج مال أحد عن ملكه بغير تراض منه والاجبار على البيع
اخراج للمال عن صاحبه إلى من هو حرام عليه بنص القرآن والسنة وهذا ظلم لا شك
فيه، فان قيل: إن في ترك أحدهما البيع ضررا بانتقاص قيمة حصة الآخر قلنا:
لا ضرر في ذلك بل الضرر كله هو ان يجبر المرء على اخراج ملكه عن يده فهذا الضرر
هو المحرم لا ضرر انسان بان لا ينفذ له هواه في مال شريكه، وقد وافقنا المخالفون ههنا
على أن من له قطعة أرض أو دار صغيرة إلى جنب أرض أو دار لغيره لو بيعتا معا
لتضاعفت القيمة لهما وان بيعتا متفرقتين (1) نقصت القيمة انه لا يجبر أحد على ذلك
ان أباه فمن أين وقع لهم هذا الحكم في المشترك من الأموال دون المقسوم منها؟ وقولهم
ههنا عار من الأدلة كلها وظلم لا خفاء به * وأما ما ابتيع للتجارة والبيع (2) فهو شرط
قد إباحة القرآن والسنة فلا يجوز ابطاله الا برضا منهما جميعا وبالله تعالى التوفيق *
ومن عجائب الأقوال ان الذين يجبرون الشرك على البيع مع شريكه أو على تقاومه
حتى يحصل لأحدهما كله لا يرون الشفعة في ذلك فيما عدا الأرض والبناء فأوجبوا البيع
حيث لم يوجبه الله تعالى. ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأبطلوه حيث أوجبه الله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم وهما بيع وبيع *
1252 مسألة ويقسم كل شئ سواء أرضا كان أو دارا صغيرة أو كبيرة
أو حماما أو ثوبا أو سيفا أو لؤلؤة أو غير ذلك إذ لم يكن بينهما مال مشترك سواه حاشا
الرأس الواحد من الحيوان والمصحف فلا يقسم أصلا لكن يكون بينهم يؤاجرونه



(1) في النسخة الحلبية (وان بيعا منفردين)
(2) في النسخة رقم 16 (والبيع)
130
ويقتسمون أجرته أو يخدمهم أياما معلومة *
برهان ذلك قول الله تعالى: (للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون) إلى
قوله تعالى: (مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا)) وقال قوم: ان لم ينتفع واحد من
الشركاء بما يقع له وانتفع سائرهم لم يقسم، وقال آخرون: ان انتفع بما يقع له واحد
منهم أجبروا على القسمة وان لم ينتفع الآخرون، وقال قوم: ان استضر أحدهم بالقسمة
في انحطاط قيمة نصيبه لم يقسم *
قال أبو محمد: وهذه أقوال فاسدة متناقضة لا يدل على صحة شئ منها قرآن. ولا سنة
ولا قياس. ولا رأى سديد، أما من منع من القسمة إن كان فيهم واحد لا ينتفع بما
يقع له فقد عجل الضرر لغيره منهم بمنعه من أخذ حقه والتصرف فيه بما يشاء، فما الذي جعل
ضرر زيد مباحا خوف ان يستضر عمرو؟ وكذلك يقال لمن راعى انحطاط قيمة
حصة أحدهم بالقسمة، وأما تناقضهم فإنهم لا يختلفون في قسمة الأرض الواسعة وان
انحطت (1) قمية بعض الحصص انحطاطا ظاهرا فظهر تناقضهم، وفى المسألة التي
قبل هذه زيادة في بيان فساد أقوالهم غنينا عن تكرارها، ولا فرق بين قسمة السيف.
واللؤلؤة. والثوب. والسفينة وبين قسمة الدار. والحمام. والأرض، وقد ينتفع المرء
بكل ما يقع له من ذلك وقد ينحط النصيب من الأرض. والدار من قيمة المئين من
الدنانير أضعاف ما ينحط النصيب من السيف. والثوب. واللؤلؤة، ومالك. والشافعي
يبيحان قسمة الحمام إذا دعا إلى ذلك أحدهما وان لم ينتفع شريكه بما يقع له من ذلك،
وأبو حنيفة يرى ذلك إذا اتفقا عليه، وقد يسقط في هذا من القيمة ويبطل من المنفعة ما لا
يسقط من اللؤلؤة إذا قسمت والسيف إذا قسم ولا سبيل إلى وجود قول صاحب بخلاف
هذا فكيف دعوى الاجماع بالباطل؟ فظهر فساد نظر هم وبطل احتياطهم باباحتهم في
موضع ما منعوا منه في آخر، وأما الرأس الواحد من الحيوان فإن كان انسانا فتفصيل
أعضائه حرام وإن كان مما لا يؤكل لحمه كالحمار. والكلب. والسنور فقتله حرام وذبحه
لا يكون زكاة فهو إضاعة للمال ومعصية مجردة وإن كان مما يؤكل لحمه لم يحل ذبحه بغير
اذن كل من له فيه ملك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فلا يحل
لاحد ذبح حصة شريكه بغير اذنه الا أن يرى به موت فيبادر بذبحه لان تركه ميتة إضاعة
للمال، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أضاعه المال * وأما المصحف فلا يحل تقطيعه
ولا تفريق أوراقه لان رتبة كتاب الله منزلة من عنده فلا تحال، وقد روينا عن مجاهد



(1) في النسخة رقم 16 (ان انحطت)
131
لا يقسم المصحف، واحتج المانعون من هذا بخبر فيه (لا تعضية على أهل الميراث الا فيما
احتمل القسم) وهذا خبر مرسل رويناه من طريق ابن وهب عن ابن جريج عن صديق
ابن موسى عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه، ثم لو صح لكان حجة لنا
لان التعضية مأخوذة من قسمة الأعضاء وإنما الأعضاء للحيوان فقط *
1253 - مسألة - فإن كان المال المقسوم أشياء متفرقة فدعا أحد المقتسمين إلى
اخراج نصيبه كله بالقرعة في شخص من أشخاص المال أو في نوع من أنواعه قضى له
بذلك أحب شركاؤه أم كرهوا، ولا يجوز أن يقسم كل نوع بين جميعهم، ولا كل دار
بين جميعهم، ولا كل ضيعة بين جميعهم الا باتفاق جميعهم على ذلك، ويقسم الرقيق
والحيوان. والمصاحف وغير ذلك، فمن وقع في سهمه عبد وبعض آخر بقي شريكا في
الذي وقع حظه فيه *
برهان ذلك ان من قال: غير قولنا لم يكن له بد من ترك قوله هذا والرجوع إلى قولنا
أو ابطال القسمة جملة وتكليف ما لا يطاق، وذلك أنه يقال له: ما الفرق بينك في قولك
تقسم كل دار بينهم. وكل ضيعة بينهم. وكل غنم بينهم. وكل بقر بينهم. وكل رقيق
بينهم. وكل ثياب بينهم وبين آخر؟ قال: بل يقسم كل بيت بينهم وكل ركن من كل
فدان بينهم لأنه إذا جعلت لكل واحد منهم حصة في كل شئ تركه الميت لزمك هذا
الذي ألزمناك ولابد، فان قال: إن الله تعالى يقول: (مما قل أو كثر نصيبا مفروضا)
قلنا: نعم هذا الحق وهذه الآية حجتنا عليك لأنك (1) إذا حملتها على ما قلت لزمك
ما قلنا ولا بد والآية موجبة لقولنا لان الله تعالى إنما أراد منا ما قد جعله في وسعنا فإنما
أراد تعالى مما قل ما تركه الميت أو كثر فقط ولم يرد تعالى قط من كل جزء من المقسوم
إذ لو أراد تعالى ذلك لكان تعالى قد كلفنا ما ليس في الوسع من قسمة كل جزء منه ولو
على قدر الصوابة فظهر فساد قولهم، وأيضا فان الخبر الثابت الذي رويناه من طريق
البخاري عن علي بن الحكم الأنصاري نا أبو عوانة عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة
ابن رافع بن خديج عن جده رافع بن خديج: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قسم الغنيمة فعدل عشرة من الغنم ببعير (2)) في حديث، فهذا نص قولنا لأنه عليه السلام
أعطى بعضهم غنا وبعضهم إبلا، فهذا عمل الصحابة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مخالف لهم
منهم، وهو قول أبي ثور وغيره.
1254 - مسألة - ويقسم كل ما لا يحل بيعه إذا حل ملكه كالكلاب. والسنانير.



(1) في النسخة رقم 16 (لأنها) وهو غلط (2) هو في صحيح البخاري ج 4 ص 171
132
والثمر قبل أن يبدو صلاحه. والماء وغير ذلك كل ذلك بالمساواة والمماثلة لان القسمة
تمييز حق كل واحد وتخليصه وليست بيعا ولو كانت بيعا لما جاز أن تأخذ البنت دينارا
والابن دينارين، وكذلك تقسم الضياع المتباعدة في البلاد المتفرقة فيخرج بعضهم إلى
بلدة والآخر إلى أخرى لما ذكرنا، وكل قول خالف هذا فهو تحكم بلا برهان يؤول
إلى التناقض وإلى (1) الرجوع إلى قولنا وترك قولهم إذ لابد من ترك بعض وأخذ بعض،
وقال أبو حنيفة: لا يقسم الحيوان الا إذا كان معه غيره ولا يعرف هذا عن أحد قبله،
وبالله تعالى التوفيق *
1255 مسألة ولا يجوز أن يقع في القسمة لاحد المقتسمين علو بناء والآخر
سفله وهذا مفسوخ أبدا ان وقع *
برهان ذلك ان الهواء دون الأرض لا يتملك ولا يمكن ذلك فيه أصلا لوجهين،
أحدهما أنه لا سبيل لاحد إلى أن يستقر في الهواء وهذا ممتنع، والثاني انه متموج غير
مستقر ولا مضبوط، فمن وقع له العلو فإنما يملكه بشرط أن يبنى على جدرات صاحبه
وسطحه وبشرط أن لا يهدم صاحب السفل جدراته ولا سطحه ولا ان يعلى شيئا من
ذلك. ولا أن يقصره. ولا أن يقبب سطحه. ولا أن يرقق جدراته. ولا أن يفتح فيها
أقواسا، وكل هذه شروط ليس في كتاب الله تعالى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط
الله أوثق) وقد علمنا أن كل من له حق فهو مملك إياه يتصرف فيه كيف شاء ما لم يمنعه قرآن
أو سنة، فبطلت هذه القسمة بيقين لا اشكال فيه وصح أن ابتياع العلو على اقراره حيث
هو أكل مال بالباطل وإنما يجوز بيع انقضاه فقط فإذا ابتاعها فليس له امساكها على
جدرات غيره الا ما دام تطيب نفسه بذلك ثم له أن يأخذه بإزالتها عن حقه متى شاء، وقد
منع الشافعي من اقتسام سفل لواحد وعلو لآخر *
1256 مسألة ولا يحل لاحد من الشركاء انفاذ شئ من الحكم في جزء
معين مما له فيه شريك ولا في كله سواء قل ذلك الجزء أو كثر لا بيع. ولا صدقة. ولا
هبة. ولا اصداق. ولا اقرار فيه لاحد ولا تحبيس ولا غير ذلك كمن باع ربع هذا
البيت أو ثلث هذه الدار أوما أشبه ذلك أو كان شريكه حاضرا أو مقاسمته له ممكنة
لان كل ما ذكرنا كسب على غيره لأنه لا يدرى أيقع له عند القسمة ذلك الجزء أم لا؟ وقد
قال الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)، ولقول



(1) سقط لفظ (إلى) من النسخة رقم 16
133
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) *
1257 مسألة فان وقع شئ مما ذكرنا فسخ أبدا سواء وقع ذلك الشئ
بعينه بعد ذلك في حصته أو لم يقع لا ينفذ شئ مما ذكرنا أصلا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد) وكل ما ذكرنا فإنه عمل وقع بخلاف امر الله تعالى
وأمر رسوله عليه السلام فهو رد، وأيضا فكل عقد لم يجز حين عقده بل وجب ابطاله
فمن المحال الباطل أن يجوز في وقت آخر لم يعقد فيه وكل قول لم يصدق حين النطق به
فمن الباطل الممتنع أن يصدق حين لم ينطق به إلا أن يوجب شيئا من ذلك في مكان من
الأمكنة قرآن. أو سنة فيسمع له ويطاع وبالله تعالى التوفيق * ومن كان بينه وبين غيره أرض. أو حيوان. أو عرض فباع شيئا من ذلك. أو
وهبه. أو تصدق به. أو أصدقه فإن كان شريكه غائبا ولم يجب إلى القسمة أو حاضرا
يتعذر عليه أن يضمه إلى القسمة أو لم يجبه إلى القسمة فله تعجيل أخذ حقه والقسمة
والعدل فيها لأنه لا فرق بين قسمة الحاكم إذا عدل وبين قسمة الشريك إذا عدل إذ لم
يوجب الفرق بين ذلك قرآن. ولا سنة. ولا معقول، ومنعه من أخذ حقه جور
وكل ذي حق أولى بحقه فينظر حينئذ؟ فإن كان أنفذ ما ذكرنا في مقدار حقه في القيمة
بالعدل غير متزيد ولا محاب لنفسه بشئ أصلا فهي قسمة حق وكل ما أنفذ من ذلك
جائز نافذ أحب شريكه أم كره، فإن كان حابى نفسه فسخ كل ذلك لأنها صفقة جمعت
حراما وحلالا فلم تنعقد صحيحة، فلو غرس وبنى وعمر نفذ كل ذلك في مقدار حقه
وقضى بما زاد للذي يشركه ولا حق له في بنائه (1) وعمارته وغرسه الا قلع عين ماله
كالغصب ولا فرق، فلو كان طعاما فاكل منه ضمن ما زاد على مقدار حقه فإن كان مملوكا
فاعتق ضمن حصة شريكه وبالله تعالى التوفيق، تم كتاب القسمة والحمد لله رب العالمين *
كتاب الاستحقاق والغصب والجنايات على الأموال
1258 مسألة لا يحل لا حد مال مسلم ولا مال ذمي الا بمال أباح الله عز وجل
على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن أو السنة نقل ما له عنه إلى غيره أو بالوجه الذي أوجب
الله تعالى به أيضا كذلك نقله عنه إلى غيره كالهبات الجائزة. والتجارة الجائزة. أو القضاء
الواجب بالديات والتقاص وغير ذلك مما هو منصوص، فمن أخذ شيئا من مال غيره
أو صار إليه بغير ما ذكرنا فإن كان عامدا عالما بالغا مميزا فهو عاص لله عز وجل وإن كان غير



(1) في النسخة رقم 16 (في بنيانه)
134
عالم. أو غير عامدا. أو غير مخاطب فلا اثم عليه الا أنهما سواء في الحكم في وجوب رد ذلك
إلى صاحبه أو في وجوب ضمان مثله إن كان ما صار إليه من مال غيره قد تلفت عينه
أو لم يقدر عليه *
برهان ذلك قول الله عز وجل: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام)
روينا هذا من طرق منها عن البخاري نا مسدد نا يحيى - هو ابن سيعد القطان - ناقرة
ابن خالد حدثني محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)
وقول الله عز وجل: (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) (2) ولم يستثن عليه السلام عالما من غير عالم
ولا مكلفا من غير مكلف ولا عامدا من غير عامد *
1259 مسألة فمن غصب شيئا أو أخذه بغير حق لكن ببيع محرم أو هبة
محرمة أو بعقد فاسد أو وهو يظن أنه له ففرض عليه أن يرده إن كان حاضرا أو ما بقي
منه
ان تلف بعضه أقله أو أكثره ومثل ما تلف منه أو يرده ومثل ما نقص من صفاته أو مثله
ان فاتت عينه وأن يرد كل ما اغتل منه وكل ما تولد منه كما قلنا سواء سواء الحيوان. والدور
والشجر. والأرض. والرقيق. وغير ذلك سواء في كل ما قلنا فيرد كل ما اغتل من الشجر
ومن الماشية من لبن أو صوف أو نتاج، ومن العقار الكراء، وإن كانت أمة فأولدها
فإن كان عالما فعليه الحد حد الزنا ويردها وأولادها وما نقصها وطؤه وإن كان جاهلا
فلا شئ عليه من حدو لا اثم لكن يردها ويرد أولاده منها رقيقا لسيدها ويرد ما نقصها
وطؤه ولا شئ لكل من ذكرنا على المستحق فيما أنفق كثر أم قل *
برهان ذلك ما ذكرنا آنفا من القرآن والسنة، وكل ما تولد من مال المرء فهو له
باتفاق من خصومنا معنا، فمن خالف ما قلنا فقد أباح أكل المال بالباطل وأباح المال
الحرام وخالف القرآن. والسنن بلا دليل أصلا * روينا من طريق مالك. والليث.
وعبيد الله بن عمر. وأيوب السختياني. وإسماعيل ابن أمية. وموسى بن عقبة كلهم عن
نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يحلبن أحد ما شية أحد إلا باذنه
أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته فينتقل طعامه فإنما تخزن لهم ضروع
مواشيهم أطعمتهم)، وهذا نص قولنا والحمد لله رب العالمين، وقد اختلف الناس في



(1) رواه البخاري في صحيحه في غير موضع من حديث طويل (2) رواه البخاري
ومسلم وغيرهما
135
هذا فقال بعض التابعين وبعض المتأخرين: كل ذلك للغاصب وللمستحق عليه بضمانه، و
قال آخرون: ما تولد من لبن. أو صوف. أو إجارة فهو للغاصب والمستحق عليه وأما
الولد فللمستحق، وفرق آخرون في ذلك بين المستحق عليه وبين الغاصب فجعلوا كل
ذلك للمستحق عليه ولم يجعلوه للغاصب، وفرق آخرون بين ما وجد من ذلك قائما وبين
ما هلك منه فلم يضمنوه ما هلك *
قال أبو محمد: وهذه كلها آراء فاسدة متخاذلة وحجة جميعهم إنما هي الحديث الذي
لا يصح الذي انفرد به مخلد بن خفاف. ومسلم بن خالد الزنجي (ان الخراج بالضمان)
ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة لأنه إنما جاء فيمن اشترى عبدا فاستغله ثم وجد به عيبا فرده
فكان خراجه له، وهكذا نقول نحن لأنه قد ملكه ملكا صحيحا فاستغل ماله لا مال غيره
ومن الباطل ان يقاس الحرام على الحلال ثم لو كان القياس حقا فكيف وهو باطل كله؟
أو ان يحكم للباطل بحكم الحق وللظالم بحكم من لم يظلم فهذا الجور والتعدي لحدود الله عز
وجل، ثم لو صح هذا الخبر على عمومه لكان تقسيم من فرق بين الغاصب وبين المستحق
عليه وبين الولد وبين الغلة وبين الموجود والتألف باطلا مقطوعا به لأنه لا بهذا الخبر
أخذ ولا بالنصوص التي قدمنا أخذ بل خالف كل ذلك فإنما بقي الكلام بيننا وبين من
رأى الغلة والولد للغاصب وللمستحق عليه بالضمان فقط فالنصوص التي ذكرنا توجب
ما قلنا، وأيضا فان الرواية صحت من طريق أبى داود قال: نا محمد بن المثنى نا عبد الوهاب -
هو ابن عبد المجيد الثقفي - نا أيوب - هو السختياني - عن هشام بن عروة عن أبيه عن
سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل عن رسول الله (1) صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحيا أرضا
ميتة فهي له وليس لعرق ظالم حق) فنسألهم عمن صار إليه مال أحد بغير حق؟ أعرق
ظالم هو أم لا؟ فان قالوا،: لا خالفوا القرآن. والسنن وتركوا قولهم. وقول أهل
الاسلام ولزمهم أن لا يردوا على المستحق شيئا لأنه ليس بيد المستحق عليه ولا بيد
الغاصب والظالم بعرق ظالم وإذا لم يكن عرق ظالم فهو عرق حق إذ لا واسطة بينهما قال
تعالى: (فماذا بعد الحق الا الضلال) وهم لا يقولون بهذا وان قالوا: بل بعرق ظالم
هو بيده لزمهم أن لا حق له في شئ مما سرى فيه ذلك العرق، وهذا في غاية الوضوح
وبالله تعالى التوفيق *
وأما من فرق بين (2) الولد وبين سائر الغلة فكلام في غاية السخف والفساد ولو عكس
عليهم قولهم ما انفصلوا منه * وأما من فرق بين الأولاد الاحياء فرأى ردهم وبين الموتى



(1) في سنن أبي داود (عن النبي) الخ (2) سقط لفظ (بين) من النسخة اليمنية
136
فلم ير ردهم فيقال لهم (1): هل وجب عليه رد كل ما نتجت الأمهات حين الولادة
إلى سيدهم وسيد أمهم أم لا؟ فان قالوا: لا لزمهم أن لا يقضوا بردهم أصلا أحياء
وجدوا أم أمواتا، وان قالوا: نعم قلنا: فسقوط وجوب ردهم بموتهم كلام باطل
لا خفاء به، ولهم في أولاد المستحقة ممن استحقت عليه أقوال ثلاثة فمرة قالوا: يأخذها
ويأخذ قيمة ولدها، ومرة قالوا: يأخذها فقط ولا شئ له في الولد لا قيمة ولا غيرها،
ومرة قالوا: يأخذ قيمتها وقيمة ولدها *
قال أبو محمد: وهذه أقوال في غاية الفساد، ونسألهم عن هؤلاء الأولاد هل وقع عليهم
قط في أول خلقهم أو حين ولادتهم ملك سيد أمهم أم لم يقع له قط عليهم ملك؟ ولا
ثالث لهذين القولين فان قالوا: بل قد وقع عليهم ملكه قلنا: ففي أي دين الله عز وجل
وجدتم أن تجبروه على بيع عبده أو أمته بلا ضرر كان منه إليهم؟ وما الفرق بين هؤلاء
وبين من تزوج أمة فاسترق ولده منها؟ فهلا أجبرتهم سيدها على قبول فدائهم (2)
فان قالوا: على هذا دخل الناكح ولم ينوا المستحق (3) عليه على ذلك قلنا: فكان ما ذا
وما حرمت أموال الناس عليهم بنيات غيرهم فيها أو أين وجدتم هذا الحكم؟ وهذا
ما لا سبيل إلى وجوده وإذ هم في ملكه فهم له بلا شك وان قالوا. لم يقع ملكه قط عليهم
قلنا: فبأي وجه تقضون له بقيمتهم؟ وهذا ظلم لأبيهم بين. وايكال لماله بالباطل.
وإباحة لثمن الحر الذي حرمه الله تعالى ورسوله عليه السلام، ويقال لمن قال: يأخذ
قيمة الام فقط أو يأخذها فقط: لأي شئ يأخذها أو قيمتها؟ فان قالوا: لأنها أمته قلنا:
فأولاد أمته عبيده بلا شك فلم أعطيتموه بعض ما ملكت يمينه وتمنعونه البعض؟ أو
لم تجبرونه على بيعها وهو لا يريد بيعها * روينا من طريق حماد بن سلمة عن حميد أن رجلا
باع جارية لأبيه فتسراها المشترى فولدت له أولادا فجاء أبوه فخاصمه إلى عمر بن الخطاب
فردها وولدها إليه فقال المشترى: دع لي ولدى فقال له: دع له ولده *
قال على: هذه شفاعة من عمر رضي الله عنه ورغبة وليس فسخا لقضائه بها وبولدها
لسيدها * ومن طريق محمد بن المثنى نا عبد الأعلى نا سعيد - هو ابن أبي عروبة - عن قتادة
عن خلاس ان أمة أتت طيئا فزعمت أنها حرة فتزوجها رجل منهم فولدت له أولادا
ثم إن سيدها ظهر عليها فقضى بها عثمان بن عفان أنها وأولادها لسيدها وان لزوجها
ما أدرك من متاعه وجعل فيهم الملة والسنة كل رأس (4) رأسين * ومن طريق عبد الرزاق



(1) في النسخة رقم 16 (فيقال له) (2) في النسخة غير رقم 16 (على قبول فداء أبيهم)
(3) في النسخة غير رقم 16 (ولم يبق المستحق) (4) في النسخة رقم 16 (والسنة على رأسين)
137
عن معمر عن منصور عن الحكم بن عتيبة ان امرأة وابنا لها باعا جارية لزوجها وهو
أبو الولد فولدت الجارية للذي ابتاعها ثم جاء زوجها فخاصم (1) إلى علي بن أبي طالب
فقال: لم أبع ولم أهب فقال له على: قد باع ابنك وباعت امرأتك قال: إن كنت ترى
لي حقا فأعطني قال: فخذ جاريتك وابنها ثم سجن المرأة وابنها حتى تخلصا له فلما
رأى الزوج ذلك أنفذ البيع، فهذا على قد رأى الحق انها وولدها لسيدها وقضى بذلك
وسجن المرأة وولدها وهما أهل لذلك لتعديهما والاخذ بالخلاص قد يكون المراد به
رد الثمن وهذا حق * ومن طريق ابن أبي شيبة عن أبي بكر بن عياش عن مطرف عن
الشعبي عن علي في رجل اشترى جارية فولدت له ثم استحقها آخر ببينة قال على: ترد
عليه ويقوم ولدها فيغرم الذي باعه بما عز وهان * وروينا من طريق سعيد بن منصور
نا هشيم أنا مطرف - هو ابن طريف - والمغيرة قال مطرف: عن الشعبي، وقال مغيرة:
عن إبراهيم ثم اتفق الشعبي. وإبراهيم في ولد الغارة ان على أبيهم أن يفديهم بما عز وهان،
وعن الحسن يفدون بعبد عبد *
وقد روينا من طريق سعيد بن منصور عن سفيان بن عيينة عن أيوب بن موسى عن
ابن قسيط عن سليمان بن يسار قال: قضى عمر في أولاد الغارة بالقيمة * ورويناه من
طريق ابن أبي شيبة نا سفيان عن أيوب بن موسى عن ابن قسيط عن سليمان بن يسار قال:
غرت أمة قوما وزعمت أنها حرة فتزوجت فيهم فولدت أولادا فوجدوها أمة فقضى
عمر بقية أولادها في كل مغرور غرة، وقضى الشعبي. وابن المسيب في ولد المغرور
بغرة، وهو أيضا قول أبى ميسرة. والحسن مكان كل واحد غرة، وقال إبراهيم:
على أبيهم قيمتهم ويهضم عنه من القيمة شئ، وهذا قولنا وهو قول أبي ثور. وأبي سليمان
. وأصحابنا. وقول الشافعي إلا في ولد المستحق عليه منها فقط فإنه ناقض في
ذلك * وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا إسماعيل بن علية عن عبد الله بن عون أن رجلا
اشترى عبدا فاستغله ثم جاء رجل فادعاه فخاصم إلى اياس بن معاوية فيه فاستحقه فقضى
له بالعبد وبغلته وقضى للرجل على صاحبه الذي اشتراه منه بمثل العبد وبمثل غلته،
قال ابن عون: فذكرت ذلك لمحمد بن سيرين فقال: هو فهم، فهذان اياس بن معاوية
ومحمد بن سيرين يقولان بقولنا في رد الغلة في الاستحقاق * ومن طريق عبد الرزاق عن
سفيان الثوري قال: إذا اشتريت غنما فنمت ثم جاء أمر برد البيع فيه (2) قال: يردها
ونماءها والجارية إذا ولدت كذلك، فان قالوا: فلم (3) فرقتم أنتم بين الغاصب



(1) في النسخة رقم 16 (يخاصم)
(2) في بعض النسخ (ثم جاء امرؤ يرد البيع فيه)
(3) في بعض النسخ سقط لفظ (لم) وهي أظهر بدليل الجواب بعد
138
والمستحق فألحقتم الولد بالمستحق عليه ولم تلحقوه بالغاصب؟ قلنا: نعم لأنه لم يختلف
اثنان من مؤمن وكافر في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث فاسلم الناس وفيهم أولاد المنكوحات
النكاح الفاسد والمتملكات بغير حق، والمتملك والناكح يظنان أن ذلك النكاح والملك
حق فألحقهم بآبائهم ولم يلحق قط ولد غاصب أوزان بمن وضعه في بطن أمه بل قال عليه
السلام: (وللعاهر الحجر) والغاصب والعالم بفساد عقده ملكا كان أو زواجا عاهران
فلا حق لهما في الولد وبالله تعالى التوفيق *
وهذا مكان خالفوا فيه عمر. وعثمان. وعليا ولا يعرف لهم من الصحابة رضي الله عنهم
في ذلك مخالف الا رواية عن أبي بكر بن عياش عن مطرف بن طريف عن الشعبي
أن رجلا اشترى جارية فولدت له فأقام رجل البينة أنها له فقال على: ترد إليه ويقوم عليه
الولد فيغرم الذي باع بما عز وهان، فادعوا أنهم تعلقوا بهذه وقد كذبوا لأنهم لا يغرمون
البائع ما يفدى به ولده، وإلا الرواية المنقطعة التي ذكرنا قبل عن عمر أنه قضى في أولاد
الغارة بقيمتهم والقيمة قد صحت عن عمر في ذلك أنها عبد مكان عبد أو عبدان مكان عبد،
فقد خالفوا هذا أيضا وخالفوا كل من ذكرنا والحسن. وقتادة: والشعبي وهم جمهور
من روى عنه في هذه المسألة قول في فداء ولد الغارة المستحقة بعبد (1) وأما قولنا: انه
يضمن كل ما مات من الولد والنتاج وما تلف من الغلة ويضمن الزيادة في الجسم والقيمة
لان كل ذلك مال المغصوب منه وكان فرضا عليه أن يرد كل ذلك فهو معتد (2) بامساكه
مال غيره فعليه أن يعتدى عليه بمثل ما اعتدى، فان قالوا: ليس معتديا لأنه لم يباشر
غصب الولد وإنما هو بمنزلة ريح ألقت ثوبا في منزل الانسان قلنا: هذا باطل لان الذي
رمت الريح الثوب في منزله ليس متملكا له ولو تملكه للزمه ضمانه وهذا المشترى أو الغاصب
متملك لكل ما تولد من غلة. أو زيادة. أو نتاج. أو ثمرة حائل بينه وبين صاحبه الذي
افترض الله تعالى رده إليه وحرم عليه امساكه عنه فهو معتد بذلك يقينا فعليه أن يعتدى عليه
بمثل ما اعتدى * وأما الزيادة في الثمن فإنه حين زاد ثمنه كان فرضا عليه رده إلى صاحبه
بجميع صفاته فكان لازما له أن يرده إليه وهو يساوى تلك القيمة فإذا لزمه ذلك ثم نقصت
قيمته فإنه لا يسقط رد ما لزمه رده، وأما الكراء فإنه إذ حال بين صاحبه وبين عين ماله حال
بينه وبين منافعه فضمنها ولزمه أداء ما منعه من حقه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطى كل
ذي حق حقه، وكراء متاعه من حقه بلا شك ففرض على مانعه اعطاؤه حقه *
ومن عجائب الدنيا قول الحنيفيين أن الكراء للغاصب والغلة ولا يضمن ولدها



(1) في بعض النسخ (بعبيد)
(2) في النسخة رقم 14 (معتد)
139
الموتى ثم يقولون فيمن صاد ظبية في الحرم فأمسكها ولم يقتلها حتى إذا ولدت عنده أولادا
فماتوا ولم يذبحهم: أنه يجزيها ويجزى أولادها فلو عكسوا لأصابوا وما ألزم الله تعالى
صائد الظبية ضمانها عاشت أو ماتت الا أن يقتلها عامدا وإلا فلا، فهم أبدا يحرفون كلام
الله تعالى عن مواضعه، وأعجب شئ احتجاج بعض متصدريهم بالجهل بان قال: وأي ذنب
للولد حتى يسترق؟ فقلنا: ما علمنا ذنبا يوجب الاسترقاق. والردة. وقتل المؤمن
عمدا. وترك الصلاة. وزنا المحصن أعظم الذنوب وليس شئ من ذلك يوجب استرقاق
فاعله (1) وأولاد الكفار يسترقون ولا ذنب لهم فليس يعترض بمثل هذا الهوس
الامن لا عقل له ولا دين * وأما اسقاطنا المهر في وطئ الغاصب والمستحق فلانه لم
يوجبه قرآن ولا سنة ومال الغاصب والمستحق عليه حرام إلا ما أوجبه النص ولا مهر
إلا في نكاح صحيحي أو للتي نكحت بغير اذن وليها فقط على ما جاء به النص وإنما عليه ضمان
ما نقصه وطؤه إياها بزنا الغاصب أو بجهل المستحق عليه فقط لأنه استهلك بذلك بعض
قيمة أمة غيره فقط * وأما القضاء بالمثل فان المتأخرين اختلفوا فقال بعضهم: لا يعطى
إلا القيمة في كل شئ * روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن أبي إسحاق
الشيباني فيمن استهلك حنطة ان له طعاما مثل طعامه قال سفيان: وقال غيره من فقهائنا:
له القيمة، وقال أبو حنيفة. ومالك: أما ما يكال أو يوزن فعليه مثله من نوعه وأما ما عدا
ذلك من العروض. والحيوان فالقيمة. وقال أصحابنا: المثل في كل ذلك ولابد فان عدم
المثل فالمضمون له مخير بين أن يمهله حتى يوجد المثل وبين أن يأخذ القيمة *
قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي لا يجوز خلافه وما نعلم لمن قضى بالقيمة حجة
أصلا الا أن بعضهم أتى بطامة فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى على من أعتق شركا
له في عبد بأن يقوم عليه باقيه لشريكه قالوا: فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من استهلك
حصة غيره من العبد بالقيمة *
قال على: وهذا من عجائبهم فإنهم أفحشوا الخطأ في هذا الاحتجاج من وجهين،
أحدهما احتجاجهم به فيمن استهلك والمعتق نصيبه من عبد بينه وبين آخر لم يستهلك
شيئا ولا غصب شيئا ولا تعدى أصلا بل أعتق حصته التي أباح الله تعالى له عتقها وإنما
هو حكم من الله تعالى أنفذه لا لتعد من المعتق أصلا، والثاني عظيم تناقضهم
لأنه يلزمهم إن كان المعتق المذكور مستهلكا حصة شريكه ولذلك يضمن القيمة



(1) في النسخة رقم 16 (يوجب استرقاقا عليه)
(2) في النسخة رقم 16 (ولذلك ضمن القيمة)
140
بأن يوجبوا ذلك عليه معسرا كان أو موسرا (1) كما يفعلون في كل مستهلك وهم لا يفعلون
هذا فكيف يستحل من يدرى أن الله تعالى سائله عن كلامه في الدين. وأن عباد الله تعالى
يتعقبون كلامه على هذه المجاهرة القبيحة الفاسدة من إحالة السنن عن مواضعها وسعيهم
في ادحاض الحق بذلك؟ وليس لهم أن يدعو ههنا اجماعا لان ابن أبي ليلى. وزفر بن الهذيل
يضمنونه معسرا أو موسرا وما نبالي بطرد هذين أصلهما في الخطأ لأنهما في ذلك مخالفان
لحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أنه عليه السلام لم يضمن المعسر شيئا وإنما أمر في ذلك
بالاستسعاء للمعتق فقط * روينا من طريق الليث بن سعد عن جرير بن حازم عن حميد
الطويل قال: سمعت أنس بن مالك يحدث (أن زينب بنت جحش أهدت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت عائشة ويومها جفنة من حيس فقامت عائشة فأخذت القصعة
فضربت بها الأرض فكسرتها فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قصعة لها فدفعها إلى رسول
زينب فقال: هذه مكان صحفتها وقال لعائشة: لك التي كسرت) فهذا قضاء بالمثل
لا بالدراهم بالقيمة، وقد روى عن عثمان. وابن مسعود انهما قضيا علي من استهلك
فصلانا بفصلان مثلها * وعن زيد بن ثابت. وعلى أنهما قضيا بالمثل فيمن باع بعيرا
واستثنى جلده. ورأسه. وسواقطه * وعن عمر. وعثمان. والحسن. والشعبي. وقتادة. في فداء ولد الغارة بعبيد لا بالقيمة * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب
عن ابن سيرين عن شريح أنه قضى في قصار شق ثوبا ان الثوب له وعليه مثله فقال رجل:
أو ثمنه فقال شريح: انه كان أحب إليه من ثمنه قال: إنه لا يجد قال: لا وجد * وعن قتادة
أنه قضى في ثوب استهلك بالمثل *
قال أبو محمد: لم نورد قول أحد ممن أوردنا احتجاجا به وإنما أوردناه لئلا يهجموا
بدعوى الاجماع جرأة على الباطل، فان قالوا: فإنكم لا تقضون بالمكسور للكاسر فقد
خالفتم الحديث قلنا: حاش لله من ذلك لكن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ان دماءكم وأموالكم
عليكم حرام) فعلمنا أنه عليه السلام لا يعطى أحدا غير حقه ولا أكثر من حقه ولم يقل
عليه السلام انها لك من أجل كسرك إياها فقد كذب عليه من نسب إليه هذا الحكم من
غير أن يقوله عليه السلام، فصح بذلك يقينا ان تلك الكسارة التي أعطى لعائشة رضي الله عنها
لا تخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما اما أنها لم تصلح لشئ فأبقاها (2) كما يحل لكل انسان
منا ما فسد جملة من متاع غيره ولم ينتفع منه بشئ، وإما ان قصعة عائشة التي أعطى كانت
خيرا من التي كانت لزينب رضي الله عنها فجبر عليه السلام تلك الزيادة بتلك الكسارة



(1) في النسخة رقم 14 (معسرا كان ذلك أو مؤسرا)
(2) في نسخة (فالقاها)
141
والا فنحن على يقين من أنه عليه السلام لا يعطى أحدا مال غيره بغير حق وإنما حق المجني عليه
في عين ماله لا في غيره فما دامت العين أو شئ منها موجودين فلاحق له في غير ذلك فان عدم
جملة فحينئذ يقضى له بالمثل *
قال على: فإذا عدم المثل من نوعه فكل ما قاومه وساواه فهو أيضا مثل له من هذا
الباب الا أنه أقل مثليه مما هو من نوعه فلذلك قضينا به عند عدم المثل المطلق وبالله تعالى التوفيق *
1260 مسألة ومن كسر لآخر شيئا أو جرح له عبدا أو حيوانا أو خرق
له ثوبا قوم كل ذلك صحيحا مما جنى عليه ثم قوم كما هو الساعة وكلف الجاني أن يعطى صاحب
الشئ ما بين القيمتين ولابد، ولا يجوز أن يعطى الشئ المجني عليه للجاني لما ذكرنا آنفا
وإنما عليه أن يعتدى عليه بمثل ما اعتدى فقط، وسواء كانت الجناية صغيرة أو كبيرة لا يحل
هذا، وللحنيفيين ههنا اضطراب وتخليط كثير كقولهم: من غصب ثوبا فإنه يرد إلى
صاحبه (1) فان وجد وقد قطعه الغاصب فصاحب الثوب مخير بين أخذه كما هو وما نقصه
القطع وبين أن يعطيه للغاصب ويضمنه قيمة الثوب، فإن لم يوجد الا وقد خاطه قميصا
فهو للغاصب بلا تخيير وليس عليه الا قيمة الثوب، وكذلك قولهم في الحنطة تغصب
فتطحن، والدقيق يغصب فيعجن. واللحم يغصب فيطبخ أو يشوى *
قال أبو محمد: ما في المجاهرة بكيد الدين أكثر من هذا ولا في تعليم الظلمة أكل أموال
الناس أكثر من هذا فيقال لكل فاسق: إذا أردت أخذ قمح يتيم أو جارك وأكل غنمه
واستحلال ثيابه وقد امتنع من أن يبيعك شيئا من ذلك فاغصبها واقطعها ثيابا على رغمه
واذبح غنمه واطبخها واغصبه حنطته وأطحنها وكل كل ذلك حلالا طيبا وليس عليك
الا قيمة ما أخذت، وهذا خلاف القرآن في نهيه تعالى ان نأكل أموالنا بالباطل و خلاف
رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)، (ومن عمل عملا
ليس عليه أمرنا فهو رد) وما يشك أحد من أهل الاسلام في أن كل ثوب قطع من شقة فإنه
لصاحب الشقة، وكل دقيق طحن من حنطة انسان فهو لصاحب الحنطة. وكل لحم
شوى فهو لصاحب اللحم وهم يقرون بهذا ثم لا يبالون بأن يقولوا: الغصب. والظلم.
والتعدى يحل أموال المسلمين للغصاب (2)، واحتجوا في ذلك بأمر القصعة المكسورة
التي ذكرنا قبل وهم أول مخالف لذلك الخبر فخالفوه فيما فيه واحتجوا له فيما ليس فيه منه
شئ، واحتجوا أيضا بخبر المرأة التي دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعام فأخبرته انها
أرادت ابتياع شاة فلم تجدها فأرسلت إلى جارة لها ابعثي إلى الشاة التي لزوجك فبعثت



(1) في النسخة رقم 16 (على صاحبه)
(2) في النسخة رقم 16 (للغاصب)
142
بها إليها فامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشاة أن تطعم الأسارى. قال هذا الجاهل
المفترى: فهذا يدل على أن حق صاحب الشاة قد سقط عنها إذ شويت *
قال أبو محمد: وهذا الخبر لا يصح ولو صح لكان أعظم حجة عليهم لأنه خلاف
لقولهم إذ فيه انه عليه السلام لم يبق ذلك اللحم في ملك التي أخذتها بغير اذن ربها وهم
يقولون: انه للغاصب حلال وهذا الخبر فيه انه لم يأخذ رأيها في ذلك، فصح انه ليس لها
فهو حجة عليهم *
قال على: والمحفوظ عن الصحابة رضي الله عنهم خلاف هذا كما روينا من طريق
عبد الرزاق نا معمر عن أيوب السختياتي عن محمد بن سيرين ان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
نزلوا بأهل ماء وفيهم أبو بكر الصديق فانطلق النعمان فجعل يقول لهم: يكون كذا
وكذا وهم يأتونه بالطعام واللبن ويرسل هو بذلك إلى أصابه فأخبر أبو بكر بذلك
فقال: أراني آكل كهانة النعمان منذ اليوم ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه (1) *
ومن طريق محمد ابن إسحاق في مغازيه عن يزيد بن أبي حبيب عن عوف بن مالك
الأشجعي قال: كنت في غزة ذات السلاسل فذكر قسمته الجزور بين القوم وانهم
أعطوه منها فأتى به إلى أصحابه فطبخوه فأكلوه ثم سأله أبو بكر. وعمر عنه؟ فأخبرهما
فقالا له: والله ما أحسنت حين أطعمتنا هذا ثم قاما يتقيآن ما في بطونهما * ومن طريق
مالك عن زيد بن أسلم قال: شرب عمر بن الخطاب لبنا فأعجبه فسأل عنه فأخبر انه حلب
له من نعم الصدقة فأدخل عمر أصبعه فاستقاءه * و من طريق سعيد بن منصور نا المعتمر
ابن سليمان التيمي عن أبيه ان أهل للكوفة قالوا له: قد شرب على نبيذ الجر قال سليمان:
فقلت لهم: هذا أبو إسحاق الهمداني يحدث ان علي بن أبي طالب لما أخبر انه نبيذ جر
تقيأه * نا أحمد بن عمر بن أنس العذري نا عبيد الله بن محمد السقطي نا محمد بن أحمد بن يعقوب
ابن شيبة (2) نا أحمد بن شبويه قال: سمعت عبد الرزاق يقول: دخل معمر على أهله فإذا عندها
فاكهة فأكل منها ثم سأل عنها فقالت له: أهدتها الينا فلانة النائحة فقام معمر فتقيأ ما أكل *
قال أبو محمد: فهذا أبو بكر. وعمر. وعلى بحضرة الصحابة وعلمهم لا مخالف لهم
منهم في ذلك لا يرون الطعام المأخوذ بغير حق ملكا لآخذه وان أكله بل يرون عليه
اخراجه وأن لا يبقيه في جسمه ما دام يقدر على ذلك وان استهلكه، فبأي شئ تعلق هؤلاء
القوم في إباحة الحرام جهارا؟ *
قال أبو محمد: وبهذا نقول فما دام المرء يقدر على أن يتقيأه ففرض عليه ذلك ولا



(1) في النسخة رقم 16 (فاستقاء)
(2) في بعض النسخ (ابن شعبة)
143
يحل امساك الحرام أصلا (1)، فان عجز عن ذلك فلا يكلف الله نفسا الا وسعها، وهذا
مما خالفوا فيه القرآن. والسنن بآرائهم الفاسدة وتقليدا لبعض التابعين في خطأ أخطأه
وبالله تعالى التوفيق * وقالوا أيضا: فسنا هذا على العبد يموت فتضمن قيمته (2)
قال على. وهذا عليهم لا لهم لان الميت لا يتملكه الغاصب *
1261 مسألة ومن غصب دارا فتهدمت كلف رد بنائها كما كان ولابد
لقول الله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وهو قد اعتدى
على البناء المؤلف فحال بينه وبين صاحبه وهو باجماعهم معنا واجماع أهل الاسلام مأمور
بردها في كل وقت إلى صاحبها فلا يجوز أن يسقط عنه بهدمها ما لزمه، وليت شعري
أي فرق بين دار تتهدم وبين عبد يموت؟ فكان احتجاج صاحبهم أن الدور والأرضين
لا تغصب فكان هذا عجبا جدا! وما نعلم لا بليس داعية في الاسلام أكثر ممن يطلق الظلمة
على غصب دور الناس وأراضيهم ثم يبيح لهم كراءها وغلتها ولا يرى عليهم ضمان
ما تلف منها نعوذ بالله من مثل هذا *
1262 مسألة ومن غصب أرضا فزرعها أو لم يزرعها فعليه ردها وما
نقص منها ومزارعته مثلها لما ذكرنا من أنه حال بين صاحبها وبين منفعة أرضه ولا منفعة
للأرض الا الزرع والمزارعة على ما نذكر في المزارعة إن شاء الله تعالى، وقال الحنيفيون:
الأرض لا تغصب وهذا كذب منهم لأن الغصب هو أخذ الشئ بغير حقه ظلما، وقد
روينا من طريق البخاري نا مسلم بن إبراهيم نا عبد الله بن المبارك نا موسى بن عقبة عن سالم
ابن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ من الأرض شبرا بغير
حقه خسف [به] (3) يوم القيامة إلى سبع أرضين) فصح أن الأرض تؤخذ بغير حق
فصح أنها تغصب *
1263 مسألة ومن غصب زريعة فزرعها. أو نوى فغرسه. أو ملوخا
فغرسها فكل ما تولد من الزرع فلصاحب الزريعة يضمنه له الزارع، وكل ما نبت
من النوى. والملوخ فلصاحبها وكل ما أثمرت تلك الشجر في الأبد فله لا حق للغاصب في
شئ من ذلك لما ذكرنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وليس لعرق ظالم حق) ولان كل ما تولد
من مال المرء فله وإنما يحل للناس من ذلك ما لا خطب له به مما يتبرأ منه صاحبه فيطرحه مبيحا
له من أخذه من النوى ونحو ذلك (4) فقط لا ما لم يبحه، وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة رقم 16 (قطعا)
(2) في النسخة رقم 16 (فيضمن بقيمة)
(3) الزيادة من صحيح البخاري ج 4 ص 224
(4) في النسخة رقم 16 (أو نحو ذلك)
144
1264 - مسألة - وكل من عدا عليه حيوان متملك من بعير. أو فرس. أو بغل. أو فيل.
أو غير ذلك فلم يقدر على دفعه عن نفسه الا بقتله فقتله فلا ضمان عليه فيه وهو قول مالك.
والشافعي. وأبي سليمان، وقال الحنيفيون: يضمنه، واحتجوا بالخبر الثابت عن
النبي (1) صلى الله عليه وسلم: (العجماء جرحها جبار) (2) * وبالخبر الذي رويناه (3) من
طريق عبد الكريم (ان انسانا عدا عليه فحل ليقتله فضربه بالسيف فقتله فأغرمه أبو بكر
إياه وقال: بهيمة لا تعقل) * وعن علي بن أبي طالب نحوه * ومن طريق عبد الرزاق عن
معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: (من أصاب العجماء غرم) * ومن طريق
سفيان الثوري عن الأسود بن قيس عن أشياخ لهم أن غلاما دخل دار زيد بن صوحان
فضربته ناقة لزيد فقتلته فعمد أولياء الغلام فعقروها فأبطل عمر بن الخطاب دم الغلام
وأغرم والد الغلام ثمن الناقة، وعن شريح مثل هذا *
قال على: أما الحديث (جرح العجماء جبار) ففي غاية الصحة وبه نقول ولا حجة لهم فيه
لأننا لم نخالفهم في أن ما جرحته العجماء لا يغرم وليس فيه الا هذا بل هو حجة عليهم في
تضمينهم الراكب. والسائق. والقائد ما أصابت العجماء مما لم يحملها عليه (4) فهم
المخالفون لهذا الأثر حقا * وأما حديث عمر بن الخطاب. وشريح فبه نقول: ومن
قتلت بهيمة وليه فمضى بعد جنايتها فقلتها فهو ضامن لها لأنها لا ذنب لها، وأما قول أبي هريرة
فصحيح ومن أصاب العجماء قاصدا لها غير مضطر فهو غارم * وأما الرواية عن أبي
بكر. وعلى فمنقطعة ولا حجة في منقطع لو كان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف عمن دونه؟ ثم
لو صح لما كانت لهم فيه حجة، وكم قصة خالفوا فيها أبا بكر وغيره حيث لا يجوز خلافه، أقرب
ذلك ما أوردنا عن أبي بكر. وعمر. وعلي رضي الله عنهم من تقيئهم ما أكلوا أو شربوا مما
لا يحل فخالفوا فإنما هم حجة عندهم حيث وافقوا أبا حنيفة لا حيث خالفوه، وهذا تلاعب
بالدين، والعجب أنهم يقولون: ان الأسد. والسبع حرام قتله في الحرم وعلى قاتله الجزاء
الا أن يبتدئ المحرم بأذى فله قتله ولا يجزيه فكم هذا التناقض. والهدم. والبناء؟ ولقد
كان يلزم المالكيين المشنعين بقول الصاحب إذا وافقهم والقائلين بان المرسل والمسند
سواء أن يقولوا بهذا ولكنه مما تناقضوا فيه *
قال على: لا يخلو من عدت البهيمة عليه فخشي أن تقتله أو ان تجرحه أو ان تكسر له



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (عن رسول الله الخ)
(2) هو في الصحيحين وغيرهما
(3) في النسخة رقم 16 (وبخبر رويناه) وما هنا انسب لسابقه
(4) في النسخة رقم 16 (عليهم)
145
عضوا أو ان تفسد ثيابه من أن يكون مأمورا بإباحة ذلك لها منهيا عن الامتناع منها ودفعها
وهذا مما لا يقولونه ولو قالوه لكان زائدا في ضلالهم لان الله تعالى يقول: (ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة) وهذا على عمومه، أو يكون مأمورا بدفعها عن نفسه منهيا عن
إمكانها من روحه. أو جسمه، أو ماله. أو أخيه المسلم، وهذا هو الحق لما ذكرنا، فإذ
هو مأمور بذلك ولم يقدر على النجاة منها الا بقتلها فهو مأمور بقتلها لان قتلها هو الدفع
الذي أمر به [ومن فعل ما أمر به] (1) فهو محسن [وإذ هو محسن] (2) فقد قال تعالى:
(ما على المحسنين من سبيل) *
1265 - مسألة - ولا ضمان على صاحب البهيمة فيما جنته في مال أو دم ليلا أو نهارا
لكن يؤمر صاحبه بضبطه فان ضبطه فذاك وان عاد ولم يضبطه بيع عليه لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (العجماء جرحها جبار) وهو قول أبي حنيفة. وأبي سليمان، وقال مالك.
والشافعي: يضمن ما جنته ليلا ولا يضمن ما جنته نهارا وهو قضاء شريح. وحكم الشعبي،
واحتجوا في ذلك بحديث ناقة البراء بان رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن على أهل الحوائط
حفظها بالنهار وعلى أهل الماشية ما أصابت بالليل *
قال على: لو صح هذا لما سبقونا إلى القول به ولكنه خبر لا يصح لأنه إنما رواه
الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه، ورواه الزهري أيضا عن أبي أمامة بن سهل بن
حنيف ان ناقة للبراء فصح أنه مرسل لان حراما ليس هو ابن محيصة لصلبه إنما هو ابن
سعد بن محيصة وسعد لم يسمع من البرء ولا أبو أمامة ولا حجة في منقطع، ولقد كان يلزم
الحنيفيين القائلين: إن المرسل والمسند سواء أن يقولوا به ولكن هذا مما تناقضوا فيه *
واحتجوا أيضا بأغرب من هذا كله وهو ما روينا من طريق عبيد بن عمير. والزهري.
ومسروق. ومجاهد في قول الله تعالى: (وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه
غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما) وأن سليمان
صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك في غنم أفسدت حرث قوم بان دفع الغنم إلى أهل الحرث لهم صوفها
وألبانها حتى يعود العنب أو الحرث كما كان *
قال أبو محمد: وهذا عجب من عجائب الدنيا والذي لا نشك فيه أن بين هؤلاء المذكورين
وبين سليمان عليه السلام ما في رياح ومهامه فيحاء ولو رووا لنا ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما قامت به حجة لأنه مرسل، ثم لو صح لكان المحتجون به أول مخالفين له لأنهم لا يحكمون
بهذا الحكم فيا الله كيف ينطلق لسان مسلم بان يحتج على خصمه في الدين بحكم لا يحل عنده



(1) سقطت هذه الزيادة من بعض النسخ
(2) سقطت هذه الجملة من بعض النسخ
146
أن يؤخذ به؟ وحسبنا الله * وعجب آخر من الشافعي: وهو أنه لا يرى القول بالمرسل ثم
أباح ههنا الأموال بمرسل لا يصح أصلا * وأما بيع ما تعدى من العجماء فلقول الله تعالى:
(وتعاونوا على البر والتقوى) ومن البر والتقوى حفظ الزروع. والثمار التي هي أموال الناس
فلا يعان على فسادها فابعاد ما يفسدها فرض ولا سبيل إلى ذلك الا بالبيع المباح وههنا آثار
عن الصحابة رضي الله عنهم قد خالفوها * روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني
عبد الكريم ان عمر بن الخطاب كأن يقول: برد البعير. والبقرة. والحمار. والضواري إلى
أهلهن ثلاثا إذا حظر الحائط ثم يعقرن، قال ابن جريج: وسمعت عبد العزيز بن عبد الله
يذكر عن عمر بن الخطاب انه كان يأمر بالحائط ان يحظر ويسد الحظر من الضاري المدل
ثم يرد إلى أهله ثلاث مرات ثم يعقر * ومن طريق يحيى بن سعيد القطان نا أبو حيان
يحيى بن سعيد التيمي قال. أخبرني (1) مكاتب لبنى أسد انه أتى بنقد من السواد إلى
الكوفة فلما انتهى إلى جسر الكوفة جاء مولى لبكر بن وائل فتخلل النقد على الجسر
فنفرت منها نقدة فقطرت (2) الرجل في الفرات فغرق فأخذت فجاء مواليه إلى موالي
فعرض موالي عليهم صلحا ألفي درهم ولا يرفعوهم إلى علي فأبوا فاتينا علي بن أبي طالب
فقال لهم: ان عرفتم النقدة بعينها فخذوها وان اختلطت عليكم فشرواها (3) *
قال أبو محمد: ان في الحنيفيين والمالكيين العجب إذ يحتجون في ابطال السنن الثابتة
في أن البيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا برواية شيخ من بنى كنانة ان عمر قال: البيع عن
صفقة أو خيار ثم يردون هذه الرواية عن عمر بن الخطاب وهذه الأخرى عن علي فهلا
قالوا: مثل هذا لا يقال بالرأي؟ ولكن هذا حكم القوم في دينهم فليحمد الله أهل السنن
على عظيم نعمته عندهم *
1266 مسألة ومن كسر اناء فضة أو اناء ذهب فلا شئ عليه وقد أحسن
لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد ذكرناه في الوضوء والا طعمة والأشربة،
وكذلك من كسر صليبا أو أهرق خمرا لمسلم أو لذمي * وقال الحنيفيون: ان أهرق
خمر الذمي ملسم فعليه قيمتها وان أهرقها ذمي فعليه مثلها *
قال أبو محمد: وهذا باطل ولا قيمة للخمر وقد حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعها وأمر
بهرقها فما لا يحل بيعه ولا ملكه فلا ضمان فيه، فان قالوا: هي أموال أهل الذمة قلنا:



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (حدثني)
(2) أي ألقته في الفرات على أحد قطريه أي شقيه، والنقد صغار الغنم واحدتها نقدة وجمعها نقاد، وفى بعض النسخ (بقرة) وهو تصحيف
(3) أي مثلها من الغنم
147
كذبتم وما جعلها الله تعالى مذ حرمها مالا لاحد ولكن أخبرونا أهي حلال لأهل الذمة أم
هي حرام عليهم؟ فان قالوا: هي لهم حلال كفر والآن الله تعالى قد أخبر فيما نعاه عيهم
انهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق، ولا يختلف مسلمان في أن
دين الاسلام لازم للكفار لزومه للمسلمين. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مبعوث إليهم كما
بعث إلينا وان طاعته فرض عليهم كما هي علينا؟ فان قالوا: بل هي عليهم حرام قلنا:
صدقتم فمن أتلف ما لا لا يحل تملكه فقد أحسن ولا شئ عليه، واحتجوا برواية
رويناها من طريق سفيان الثوري عن إبراهيم بن عبد الأعلى الجعفي عن سويد بن غفلة ان
عمر بن الخطاب قيل له: عمالك يأخذون الخمر. والخنازير في الخراج فقال له بلال:
انهم ليفعلون فقال عمر: لا تفعلوا ولو هم بيعها * ومن طريق أبى عبيد عن [كدام] (1) الأنصاري عن إسرائيل عن إبراهيم بن عبد الأعلى عن سويد بن غفلة ان بلالا قال لعمر
ابن الخطاب: ان عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج فقال: لا تأخذوها منهم
ولكن ولو هم أنتم بيعها وخذوا أنتم من الثمن *
قال أبو محمد: هذا لا حجة فيه لان حديث سفيان - وهو الصحيح - ليس فيه ما زاد
إسرائيل وإنما فيه (ولو هم بيعها) وهذا كقول الله تعالى: (نوله ما توى) وإسرائيل ضعيف،
ثم لو صح فلا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وان من العجب أن يخالفوا عمر
رضي الله عنه في تفريقه بين ذوي المحارم من المجوس ونهيه لهم عن الزمزمة (2) ثم
يقلدون ههنا رواية ساقطة مخالفة للقرآن. والسنن وإن كانت الخمر من أموالهم فان
الصليب والأصنام عندهم أجل من الخمر فيجب على هؤلاء القوم أن يضمنوا من كسر
لهم صليبا أو صنما حتى يعيده سالما صحيحا والا فقد تناقضوا * روينا من طريق أبى داود
نا قتيبة بن سعيد نا الليث - هو ابن سعد - عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح
عن جابر بن عبد الله: (انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة: ان الله حرم
بيع الخمر. والميتة. والخنازير (3)) فيا ليت شعري كيف يستحل مسلم أن يبيح ثمن بيع (4)
حرمه الله تعالى؟ أم كيف يستحل مسلم أن يقول: إنها مال من أموال أهل الذمة تضمن
لهم؟ حاش لله من هذا *
1267 مسألة ومن كسر حلية فضة في سرج. أو لجام. أو مهاميز.



(1) الزيادة من النسخة رقم 14
(2) هي كلام يقولونه عند أكلهم بصوت خفى
(3) في سنن أبي داود (والخنزير) وهو حديث مطول اقتصر المصنف على محل الشاهد منه
(4) في النسخة رقم 16 (ان يبيح بيعا)
148
أو سيف. أو تاج. أو غير ذلك. أو حلي ذهب لامرأة أو لرجل يعده لأهله. أو
للبيع كلف اعادته صحيحا كما كان لما ذكرنا قبل، فان تراضيا جميعا على أن يضمن له ما بين
قيمته صحيحا ومكسورا جاز ذلك لأنه مثل ما اعتدى به وجائز أن يتفقا من ذلك في حلي
الذهب على ذهب. وفى حلي الفضة على فضة. وله أن يؤخره به ما شاء لأنه ليس هو بيعا
وإنما هو اعتداء بمثل ما اعتدى به عليه فقط، وبالله تعالى التوفيق *
1268 مسألة وكل ما جنى على عبد أو أمة. أو بعير. أو فرس. أو بغل.
أو حمار. أو كلب يحل تملكه. أو سنور. أو شاة. أو بقرة. أو إبل. أو ظبي. أو كل
حيوان متملك (1) فان في الخطأ في العبد وفى الأمة [خاصة] (2) وفى سائر ما ذكرنا خطأ
أو عمدا ما نقص من قيمته بالغا ما بلغ، أما العبد والأمة ففيما جنى عليهما عمدا القود
وما نقص من قيمتها أما القود فللمجني عليه وأما ما نقص من القيمة فللسيد فيما اعتدى
عليه من ماله، وكذلك لو أن امرءا استكره أمة فقتلها لكان عليه الغرامة لسيدها والحد
في زنائه بها ولا يبطل حق حقا، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بان يعطى كل ذي حق حقه،
وأما القود بين الحر. والعبد فنذكره إن شاء الله تعالى في كتاب القصاص * وأما
ما نقصه فللناس ههنا اختلاف، وكذلك في الحيوان، وقولنا في الحيوان هو قول أبى سليمان
ومالك. والشافعي، وقال أبو حنيفة: كذلك الا في الإبل. والبقر. والبغال. والحمير.
والخيل خاصة في عيونها خاصة فإنه قال في عين كل ما ذكرنا ربع ثمنه *
قال أبو محمد: واحتجوا في ذلك بأثر رويناه من طريق قاسم بن أصبغ نا زكريا
ابن يحيى الناقد نا سعيد بن سليمان عن أبي أمية بن يعلى نا أبو الزناد عن عمرو بن وهب عن
أبيه عن زيد بن ثابت ان النبي صلى الله عليه وسلم لم يقض في الرأس الا في ثلاث. المنقلة. والموضحة.
والآمة (3) وفى عين الفرس بربع ثمنه، وبرواية عن عمر بن الخطاب من طريق سفيان.
وعمرو بن دينار. ومعمر قال سفيان: عن جابر الجعفي عن الشعبي عن شريح عن عمر،
وقال عمرو بن دينار: أخبرني رجل أن شريحا قال له: قال لي عمر، وقال معمر: بلغني
أن عمر بن الخطاب، ثم اتفقوا أنه قضى في عين الدابة بربع ثمنها * ومن طريق ابن أبي شيبة
نا جرير عن المغيرة عن إبراهيم عن شريح قال: أتاني عروة البارقي من عند عمر بأن في عين
الدابة ربع ثمنها * ومن طريق أبى قلابة عن أبي المهلب عن عمر في عين الدابة ربع ثمنها *



(1) في النسخة رقم 16 (يتملك)
(2) الزيادة من النسخة رقم 14
(3) المنقلة بتشديد القاف هي التي تخرج منها صغار العظام وتنتقل عن أماكنها، والموضحة هي التي تبدى وضح العظم أي بياضه، والأمة هي الشجة التي بلغت أم الرأس وهي الجلدة التي تجمع الدماغ
149
ومن طريق ابن جريج عن عبد الكريم أن علي بن أبي طالب قضى في عين الدابة بربع ثمنها *
قال على: الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تصح لأنها من طريق إسماعيل بن يعلى الثقفي - وهو ضعيف - عن عمرو بن وهب عن أبيه وهما مجهولان، ثم ليس فيه الا الفرس فلا هم
خصوه كما جاء مخصوصا ولا هم قاسوا عليه جميع ذوات الأربع * وأما عن علي. وعمر
رضي الله عنهما فمراسيل كلها ثم لو صحت لما كان فيها حجة لوجوه، أو لها أنه لا حجة
فيمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني أنه لا مؤنة عليهم في خلاف عمر. وعلى إذا خالفا
أبا حنيفة كما ذكرنا عنهما آنفا من أنهما تقيئا ما شربا إذ علما أنه لا يحل، ثم في هذه
القصة نفسها كما روينا من طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال: كتب
عمر مع عروة البارقي إلى شريح في عين الدابة ربع ثمنها وأحق ما صدق به الرجل عند
موته ان ينتفى من ولده أو يدعيه * ومن طريق عبد الرزاق عمن حدثه عن محمد بن جابر
عن جابر عن الشعبي ان عليا قضى في الفرس تصاب عينه بنصف ثمنه * ومن طريق سفيان
ابن عيينة عن مجالد عن الشعبي ان عمر بن الخطاب قضى في عين جميل أصيب بنصف ثمنه
ثم نظر إليها بعد فقال: ما أراه نقص من قوته ولا هدايته فقضى فيه بربع ثمنه، فليت
شعري ما الذي جعل احدى قضيتي عمر. وعلى أولى من الأخرى؟ وهلا أخذوا بهذه
القضية قياسا على قولهم: ان في عين الانسان نصف ثمنه وقد أضعف عمر على حاطب
قيمة الناقة التي انتحرها عبيده، وجاء بذلك أثر كما روينا عن ابن وهب أنا عمرو بن الحارث
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاصي: (أن رجلا من مزينة
سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ترى في حريسة الجبل (1)؟ قال: هي ومثلها والنكال)
فهذا خبر أصح من خبرهم في عين الفرس ربع ثمنه وأصح من خبرهم عن عمر فظهر
فساد قولهم من كل جهة، وقد كان يلزم المالكيين القائلين بتقليد الصاحب وان المرسل
كالمسند ان يقولوا بهذه الآثار والا فقد تناقضوا *
وأما ما جنى على عبد فيما دون النفس أو على أمة كذلك فقال قوم: كما قلنا إنما فيه للسيد
ما نقص من ثمنه فقط وهو قول الحسن، وقال قوم: جراح العبد من ثمنه كجراح الحر من
ديته بالغا ثمن العبد والأمة ما بلغ، ففي عين العبد نصف ثمنه ولو أن ثمنه ألفا دينار (2)،
وفى عين الأمة نصف ثمنها ولو بلغ عشرة آلاف دينار، وهكذا في سائر الأعضاء * روينا
من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: جراحات العبيد



(1) في النسخة اليمنية (الخيل) بخاء معجمة وهو تصحيف، والحريسة فعلية بمعنى
مفعولة أي أن لها من يحرسها ويحفظها
(2) في النسخة رقم 16 (ألف دينار)
150
في أثمانهم بقدر جراحات الأحرار في دياتهم، وهو قول شريح. والشعبي والنخعي. وعمر
ابن عبد العزيز. ومحمد بن سيرين. والشافعي. وسفيان الثوري. والحسن بن حي الا أن
الحسن قال: إن بلغ جميع القيمة لم يكن له الا أن يسلمه ويأخذ قيمته أو يأخذ ما نقص *
ورويناه أيضا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز
عن أبيه ان عمر بن الخطاب قال: وعقل العبد في ثمنه كعقل الحر في ديته * وروى
أيضا عن علي بن أبي طالب * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: إن
رجالا من العلماء ليقولون: العبيد والا ماء سلع فينظر ما نقص ذلك من أثمانهم *
قال أبو محمد: وهذا قولنا، وقالت طائفة: فيه ما نقص الا أن تكون الجناية استهلاكا
كقطع اليدين أو الرجلين أوفق العينين فصاحبه مخير بين أن يأخذ ما نقص من ذلك
من قيمته أو يسلمه إلى الجاني ويأخذ منه قيمته صحيا. وهو قول أبى يوسف. ومحمد بن
الحسن، وطائفة قالت: جراح العبد في ثمنه كجراح الحر في ديته فإن كانت الجناية مما لو كانت
على حر لكانت فيه الدية كلها أسلمه إلى الجاني ولابد وألزمه قيمته صحيا وهو قول النخعي.
والشعبي، وطائفة قالت: يدفع إلى الجاني وتلزمه قيمته صحيحا وهو قول اياس بن معاوية.
وقتادة * روينا من طريق حماد بن سلمة عن اياس بن معاوية في رجل قطع يد عبد قال: هو
له وعليه مثله * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فيمن جدع اذن عبد أو انفه
أو أشل يده انه يدفع إليه ويغرم لصاحبه مثله * ومن طريق عبد الرزاق عن ابن جريج
عن عطاء قال: إن شج عبدا أو فقأ عينه فقيمته كما أفسده، ورأي في موضحته نصف
عشر قيمته *
قول أبي حنيفة ومحمد: من قتل عبدا خطأ فقيمته على العاقلة ما لم تبلغ قيمته عشرة
آلاف درهم فأكثر فليس فيه الا عشرة آلاف درهم غير عشرة دراهم وفى الأمة قيمتها
كذلك ما لم تبلغ خمسة آلاف درهم فصاعدا فان بلغتها فليس فيها (1) الا خمسة آلاف
درهم غير خمسة دراهم على العاقلة، قال أبو حنيفة وحده: وأما ما دون النفس فمن قيمتها مثل
ما في الجناية وعلى الحر من ديته فإذا بلغ أرش ذلك من الحر أنفص من قيمته عشرة دراهم (2)
أو خمسة دراهم هكذا جملة، ثم رجع عن الاذن والحاجب خاصة فقال: فيهما ما نقصهما
فقط، فإن كانت الجناية مستهلكة فليس له الا امساكه كما هو ولا شئ له أو اسلامه وأخذ
ما كان يأخذ لو (3) قتل خطأ، وقال أبو يوسف في قتل العبد خطأ والجناية: عليه قيمته



(1) في النسخة رقم 16 (عليه)
(2) في النسخة رقم 14 (انقص منه بقيمته من عشرة دراهم) وهو تركيب ركيك
(3) في النسخة رقم 16 (وأخذ ما كان يأخذ لو)
151
ما بلغت ولو تجاوزت ديات، ووافقه محمد فيما دون النفس واتفقوا كلهم في الجناية المستهلكة
على قول أبي حنيفة الذي ذكرنا، وقد روى عنهما أنه ان أمسكه أخذ قيمة ما نقصته الجناية
المستهلكة، وقد روى عن أبي يوسف فيما دون النفس خاصة مثل قول أبي حنيفة وسواء
في ذلك الحاجب. والاذن وغير ذلك ذكر ذلك في اختلاف الفقهاء، وروى عن زفر فيما
دون النفس مرة مثل قول أبي حنيفة الآخر ومرة مثل قوله الأول، ووافق أبا حنيفة في
قوله في النفس *
وقالت طائفة جراح العبد (1) في قيمته كجراح الحر في ديته الا أن تبلغ قيمة العبد
عشرة آلاف درهم فصاعدا أو تبلغ قيمة الأمة خمسة آلاف درهم فصاعدا فلا تبلغ (2)
بأرش تلك الجراحة مقدارها من دية الحر أو الحرة لكن يحط من ذلك حصتها من عشرة
دراهم في العبد وحصتها من خمسة دراهم في الأمة الا أن يكون قطع اذن فبرأ أو نتف حاجب
فبرأ ولم ينبت فليس عليه الا ما نقصه وهذا قول أبي حنيفة، فان بلغ من الجناية على العبد
ما لو جنى على حر لوجبت فيه الدية كلها فليس له الا امساكه كما هو ولا شئ له أو اسلامه إلى
الجاني وأخذ جميع قيمته ما لم يبلغ عشرة آلاف درهم فصاعدا فليس له الا عشرة آلاف
غير عشرة دراهم وفى الأمة نصف ذلك *
وتفسيره أنه ان فقأ عين أمة تساوى خمسة آلاف درهم فما فوق ذلك إلى مائه
الف فأكثر فليس عليه إلا ألفا درهم وخمسمائة درهم غير درهمين ونصف وان
فقأ عين عبد يساوى عشرة آلاف فما زاد فليس عليه الا خمسة آلاف درهم غير خمسة دراهم
وهكذا أفي سائر الجراحات، فلو ساوت الأمة مائتي درهم والعبد مائة درهم لم يلزمه
في عين العبد الا خمسون درهما فقط وفى عين الأمة مائة درهم فقط وهكذا العلم في
سائر القيم، وطائفة قالت: إن منقلة العبد ومأمومته وجائفته وموضحته من
ثمنه بالغا ما بلغ فهي من الحر في ديته، ففي موضحة العبد نصف عشر ثمنه ولو أنه الف
ألف درهم وفى منقلته عشر قيمته كذلك ونصف عشر قيمته كذلك، وفى جائفته
ومأمومته ثلث ثمنه بالغ ما بلغ، وأما سائر الجراحات وقطع الأعضاء فإنما فيه ما نقصه
فقط وهو قول مالك، وقد روى عن مالك أيضا انه إذا قطع يدي عبدا أو فقأ عينيه (3)
أعتق عليه وغرم قيمته كاملة لسيده، وقالت الليث بن سعد: من خصى عبد غيره فعليه



(1) قوله (وقالت طائفة جراح العبد) إلى قوله بعد أسطر (في الأمة نصف ذلك)
مقدم من تأخير في بعض النسخ
(2) في بعض النسخ (فلا بأس) وهو غلط
(3) في النسخة رقم 14 والنسخة اليمنية (عينه) بالافراد
152
قيمته كلها لسيده ويبقى العبد لسيده سواء زاد ذلك في قيمته أو نقص *
قال أبو محمد: أما من قال: جراح العبد في قيمته كجراح الحر في ديته فقول لا دليل
على صحته لامن قرآن. ولا من سنة. ولا من رواية فاسدة لكنهم قاسوه على الحر لأنه
انسان مثله *
قال على: ولو كان القياس حقا لكان هذا منه عين الباطل لان كثيرا من ديات
أعضاء الحر مؤقتة لا زيادة فيها ولا نقص، وقد وافقنا من خالفنا ههنا على أن دية
أعضاء العبد غير مؤقتة لا خلاف في ذلك، إذ قد يساوى العبد عشرة دنانير فتكون
دية عينه عندهم عشرة دنانير وتساوى الأمة خمسة آلاف درهم فتكون دية عينها ألفي
درهم وخمسمائة درهم غير درهمين ونصف. أو تكون دية عينها عند بعضهم عشرة
آلاف دينار، فقد أصفقوا (1) على أن الديات في ذلك غير محدودة وعلى جواز تفضيل
دية عضو المرأة على دية عضو الرجل بخلاف الأحرار والحرائر، فقد ظهر فساد
قياسهم جملة بهذه الدلائل وبغيرها أيضا. فسقط هذا القول بيقين *
ثم نظرنا في قول من قال: يسلمه ويأخذ قيمته فوجدناه أيضا غير صحيح لأنه لا يحل
اخراج مال عن يد صاحبه (2) إلى غيره بغير تراض منهما الا أن يأنى بذلك نص ولم
يأت بهذا ههنا نص أصلا فسقط أيضا جملة، ثم نظرنا في قول مالك. وأبي حنيفة
فوجدنا هما أشد الأقوال فسادا لأنه لم يأت بشئ منه قرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة.
ولا قول صاحب أصلا. ولا قياس. ولا رأى له وجه بل ما نعرف هذين عن أحد من
الأئمة قبل هذين الرجلين * وأما قول أبي حنيفة فظلم بين لا خفاء به أن يكون يقطع
يد جارية تساوى عشرة آلاف دينار فلا يقضى لصاحبها الا بمائتي دينار وخمسين
دينارا غير ما تساوى من الذهب درهمين ونصفا ويكون تغصب له خادم أخرى قيمتها
ألف دينار فتموت عند الغاصب فيغرم له ألف دينار كاملة، على هذا الحكم الدثار والدمار،
ونحن نبرأ إلى الله تعالى منه في الدنيا ويوم يقوم الاشهاد * وأما قول مالك فتقسيم في غاية
الفساد ولو عكس عليهم قولهم ما تخلصوا منه لو قيل لهم: بل في المنقلة. والجائفة. والمأمومة
ما نقصه فقط وأما سائر الجراحات فمن ثمنه بقدرها من الحرفي ديته ومثل هذا لا يشتغل
به الا محروم * واحتج له بعض مقلديه بأن قال: هذه جراحات يشفق عليه منها فيمكن
أن يتلف ويمكن أن يبرأ ولا يبقى لها أثر ولا ضرر فقلنا: نعم فاجعلوا هذا دليلكم



(1) أي أجمعوا، وقد جاء في النسخة الحلبية (فقد أجمعوا) الخ
(2) في النسخة رقم 16 (اخراج مال عبد عن يد صاحبه) بزيادة لفظ (عبد) وهو زيادة سهو من النساخ
153
في أن لا يكون فيها الا ما نقص فقط *
قال أبو محمد: والحكم على الجاني بما نقص فيما جناه على العبد من خصاء. أو
مأمومة. أو جائفة. أو قطع عضو. أو غير ذلك مما قل أو كثر من الجنايات إنما يكون
بأن يقوم صحيحا ثم يقوم في أصعب ما انتهت إليه حاله من تلك الجناية وأشد ما كان
منها مرضا وضعفا وخوفا عليه ويغرم ما بين القيمتين ولا ينتظر به صحته ولا تخفف أصلا
لأنه في كل حال من أحواله في تأثير تلك الجناية فهو الجاني عليه في كل تلك الأحوال
فعليه في كل حال منها ما نقص بجنايته من مال سيده بلا شك لقول الله تعالى: (وان
عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) ولقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل
ما اعتدى عليكم) فان برئ العبد أو الأمة وصحا وزادت تلك الجنايات في أثمانهما
كالخصاء في العبد: أو قطع إصبع زائدة. أو ما أشبه ذلك فمن رزق الله تعالى للسيد ولا
رجوع للجاني من أجل ذلك بشئ مما غرم وكذلك لو لم يغرم شيئا حتى صح المجني
عليه فإنه يغرم كما ذكرنا ولا بد لأنه قد لزمه أداء مثل ما اعتدى فيه فلا يسقط عنه
ببرء الجناية، وكذلك من قطع شجرة لانسان فإنه يضمن قيمتها سواء نبتت بعد ذلك
ونمت أو لم تنبت ولا نمت لما ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق *
واما ان قتل الرم ء عبدا لغيره أو أمة عمدا أو خطأ فقيمتهما ولا بد لسيدهما بالغة
ما بلغت لما ذكرنا، وقد اختلف الناس في هذا فروينا عن حماد بن سلمة عن داود
ابن أبي هند عن الشعبي أن عبدا قتل خطأ وكان ثمنه عشرة آلاف درهم فجعل سعيد
ابن العاصي ديته أربعة آلاف، وصح عن النخعي. والشعبي قالا جميعا: لا يبلغ بدية العبد
دية الحر، ورويناه أيضا عن عطاء. والحكم بن عتيبة. وحماد بن أبي سليمان وبه يقول
سفيان الثوري قال: ينقص منها الدرهم ونحوه، وقال عطاء: لا يتجاوز به دية الحر،
وصح أيضا عن حماد بن أبي سليمان، وقال أبو حنيفة. وزفر. ومحمد: إن كان عبدا
فقيمته ما لم يبلغ عشرة آلاف درهم فان بلغها أو تجاوزها بما قل أو كثر لم يغرم قاتله الا
عشرة آلاف درهم غير عشرة دراهم وإن كانت أمة فقيمتها ما لم تبلغ خمسة آلاف درهم
فان بلغتها أو تجاوزتها بما قل أو كثر لم يغرم قاتلها إلا خمسة آلاف درهم غير خمسة
دراهم، وقالت طائفة: يغرم القيمة بالغة ما بلغت * روينا من طريق ابن أبي شيبة نا
محمد بن بكر عن ابن جريج عن عبد الكريم عن علي بن أبي طالب: وابن مسعود.
وشريح قالوا: ثمنه وان خلف دية الحر، وصح هذا أيضا عن سعيد بن المسيب.
والحسن. وابن سيرين. وإبراهيم النخعي أيضا. ويحيى بن سعيد الأنصاري. والزهري

154
ورويناه أيضا عن عمر بن عبد العزيز. وإياس بن معاوية. وعطاء: ومكحول، وهو
قول مالك. وأبى يوسف. والشافعي. وأحمد بن حنبل. وإسحاق. وأبي سليمان وغيرهم *
قال أبو محمد: أما قول أبي حنيفة ففي غاية السقوط لأنه حد ما يسقط من ذلك بحد
لا يحفظ عن أحد قبله وإنما هو من رأيه الفاسد، وقال مقلدوه: ينقص من ذلك ما تقطع
فيه اليد قلنا: ومن أين لكم هذا؟ ثم قد تناقضتم فأسقطتم من دية المرأة خمسة دراهم وليس
تقطع فيها اليد في قولكم فقد أبطلتكم ما أصلتم من كثب (1) ثم نقول لهم: وهلا نقصتم من
الدية ما نقصتم من الأربعين درهما في جعل الآبق إذا كان يساويها؟ وهلا نقصتم من
الدية ما تجب فيه الزكاة؟ وهل هذا إلا رأى زائف مجرد؟ وكل قول لم يقم عليه دليل
أصلا ولا كان له سلف فأولى قول بالاطراح، ثم نظرنا في قول من قال لا يبلغ بدية العبد
دية الحر فوجدناه قولا فاسدا لا دليل عليه، ثم هم يتناقضون فيقولون فيمن قتل كلبا
يساوى ألفي دينار: انه يعطى ألفي دينار، وان عقر خنزيرا لذمي يساوى ألف دينار أدى
إليه ألف دينار، وان قتل نصرانيا يجعل لله تعالى الولد وأم الولد أنه يعطى فيه دية المسلم
فيا للمسلمين أيبلغ كلب وخنزير ومن هو شر من الكلب والخنزير دية المسلم ولا يبلغ
بلال لو قتل قبل أن يعتق دية مسلم نعم ولا دية كافر يعبد الصليب وهو خير من كل مسلم
على ظهر الأرض اليوم عند الله تعالى وعند أهل الاسلام * ثم قد تناقضوا فقالوا: من غصب
عبدا فمات عنده وقيمته عشرة آلاف دينار أدى عشرة آلاف دينار (2) فهل سمع
بأسخف من هذا التناقض؟ ثم قد جعلوا دية العبد عشرة آلاف درهم غير درهم أو غير
عشرة دراهم فتجاوزوا بها دية الحرة المسلمة، وهذه وساوس يعنى ذكرها عن تكلف
الرد عليها، وقد روى ما ذكرنا عن ابن مسعود. وعلى وما نعلم (3) لهما مخلفا من الصحابة
رضي الله عنهم في ذلك فخالفوهما، وقد جسر بعضهم فقال: قد أجمع على المقدار الذي
ذكرنا واختلف فيما زاد فقلنا: كذبت وأفكت (4)، هذا سعيد بن العاصي أمير الكوفة
لعثمان رضي الله عنه. وأمير المدينة. ومكة لمعاوية لا يتجاوز بدية العبد أربعة
آلاف درهم *
قال أبو محمد: والعبد. والأمة ما فعلى متلفهما مثل ما تعدى فيه بالغا ما بلغ وبالله
تعالى التوفيق، وأما جناية العبد على مال غيره ففي مال العبد كان له مال فإن لم يكن



(1) بالثاء المثلثة أي من قرب
(2) سقط في النسخة اليمنية من قوله (ثم قد تناقضوا) إلى هنا
(3) في النسخة رقم 16 (وما يعلم لهما مخالف)
(4) في النسخة رقم 16 (كذبتم وأفكتم) والضمير فيهما للبعض فما هنا أتم وأظهر
155
له مال ففي ذمته يتبع به حتى يكون له مال في رقه أو بعد عتقه وليس على سيده فداؤه لا بما
قل ولا بما كثر ولا اسلامه في جنايته ولا بيعه فيها وكذلك جناية المدبر والمكاتب
وأم الولد المأذون وغير المأذون سواء الدين والجناية في كل ذلك سواء لقول الله تعالى.
(ولا تكسب كل نفس الا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) ولا يحل أن يؤخذ
أحد بجريرة أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)
وقال تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم)
والعبد مال من مال سيده. وكذلك ثمنه. وكذلك سائر مال السيد فنسأل من خالفنا
ههنا بأي كتاب الله أم بأي سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم استحللتم إباحة مال السيد
لغيره ولم يجن شيئا؟ ولعله صغير. أو مجنون. أو غائب في أرض بعيدة. أو نائم. أو في
صلاة ان هذا لعجب عجيب! *
قال أبو محمد: واحتج المخالفون بخبر رويناه من طريق مروان الفزاري عن دهثم
ابن قران (1) اليمامي عن نمران بن جارية ابن ظفر عن أبيه (أن مملوكا قطع يد رجل
ثم لقى آخر فشجه فاختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم العبد إلى
المقطوع يده ثم أخذه منه فدفعه إلى المشجوج فصار له ورجع سيد البعد والمقطوع
يده بلا شئ) *
قال أبو محمد: هذا لا يصح لان دهثم بن قران ضعيف متفق من أهل النقل على
ضعفه، ونمران مجهول فلم يجز القول به ولو صح لما سبقونا إلى الاخذ به وقد ادعى بعض
من لا يبالي بالكذب على أهل الاسلام الاجماع على أن جناية العبد في رقبته وقد كذب
هذا الجاهل وأفك، ما جاء في هذا [الخبر] عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم في علمنا الا
ما نذكره إن شاء الله تعالى وما فاتنا بحول الله تعالى في ذلك شئ ثابت أصلا ولعله لم يفتنا
أيضا معلول * روينا من طريق ابن أبي شيبة نا حفص - هو ابن غياث - عن حجاج - هو ابن
أرطاة - عن حصين الحارثي عن الشعبي عن الحارث - هو الأعور - عن علي قال: ما جنى العبد
ففي رقبته ويتخير مولاه ان شاء فداه وان شاء دفعه، وهذه فضيحة الحجاج والحارث الأعور
أحدهما كان يكفي، وقد خالفوا علي بن أبي طالب في اسلامه الشاة إلى أولياء التي نطحت
فغرق في الفرات، فما الذي جعل حكمه هنا لك أولى من حكمه ههنا لو صح عنه فكيف وهو
باطل؟ نعم وقد خالفوا عليا في هذه القضية (2) نفسا فأبو حنيفة يقول: ما جنى العبد من دم



(1) دهثم بثاء مثلثة، وقران بضم القاف وتشديد الراء
(2) في النسخة رقم 16 (القصة)
156
عمدا فليس في رقبته ولا يفديه سيده ولا يدفعه إنما هو القود أو العفو أو ما تصالحوا عليه،
ومالك يقول: جناية العبد في ماله إن كان له مال فإن لم يكن له مال فحينئذ يرجع إلى سيده،
والشافعي يقول: لا يلزم السيد ان يفدى عبده ولا أن يسلمه لكن يباع في جنايته فقط *
وحديث مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ان
رقيقا (1) لحاطب سرقوا ناقة لرجل من مزينة فنحروها (2) فبلغ ذلك عمر بن الخطاب
فأمر كثير بن الصلت فقطع أيديهم، ثم قال عمر لحاطب: انى أراك تجيعهم لأغرمنك
غرما يشق عليك ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ قال: أربعمائة درهم قال: فاعطه
ثمانمائة درهم وهو يخالفون عمر في هذا، فليت شعري ما الذي جعل بعض حكمه في قضية
واحدة حقا وبعضه في تلك القضية نفسها باطلا، ان هذا لهو الضلال المبين، ورواية
من طريق وكيع نا ابن أبي ذئب عن محمد بن إبراهيم التيمي عن أبيه عن السلولي الأعور
عن معاذ بن جبل عن أبي عبيدة قال: جناية المدبر على مولاه وهذا باطل لان السلولي
الأعور لا يدرى من هو في خلق الله تعالى؟ ثم قد خالفوا هذه الرواية فما لك يقول:
لا يغرم عنه سيده ما جنى ولا يدفعه وإنما الحكم ان يستخدم في جنايته فقط، وكذلك
يقول أبو حنيفة أيضا فيما جنى في الأموال (3) فإن كان ذلك اجماعا فهم أول من
خالف الاجماع فمن أقل حياء ممن يجعل مثل هذا اجماعا ثم لا يرى صوابا فكيف سنة
فكيف اجماعا؟ دفعهم كلهم أموالهم بخيبر على نصف ما يخرج منها من زرع أو تمر
إلى غير أجل لكن يقرونهم ما أقرهم الله ويخرجونهم إذا شاءوا مدة حياة النبي صلى الله عليه وسلم
ثم مدة أبى بكر. ثم مدة عمر رضي الله عنهما لا أحد يخالف في ذلك فأي عجب أعجب
من هذا!؟ ولا يرى أيضا آخر صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم بجميع الحاضرين من
أصحابه رضي الله عنهم ولم يخف ذلك عمن غاب منه بعد أن بدأ أبو بكر بالصلاة بهم
صوابا ولا سنة ولا اجماعا *
قال أبو محمد: ثم هم مختلفون فقالت طائفة: لا يباع المأذون له في التجارة في ديته ولا
يسلم ولا يفديه سيده، وأما غير المأذون فهو والذي يباع. أو يسلم. أو يفدى، وقالت طائفة:
لا يباع المأذون ولا غير المأذون في دين ولا يسلم ولا يفدى وأما جنايتهما فيباعان فيهما. أو
يسلمان. أو يفديان، وقالت طائفة: المأذون وغير المأذون سواء، والدين والجناية
سواء كلاهما يباع في كل ذلك أو يسلمه سيده أو يفديه، فهذه أقوال كما ترونها (4)



(1) في بعض النسخ (ان رفقة)
(2) في النسخة رقم 16 (فانتحروها)
(3) في النسخة رقم 16 (من الأموال)
(4) في النسخة رقم 16 (كما ترى)
157
ما نحتاج في ردها إلى أكثر من ايرادها لان كل طائفة تخطئ الأخرى وتبطل قولها
وكلها باطل، * وقال أبو حنيفة. وأصحابه: ان قتل العبد حرا فليس الا القود أو العفو
وهو لسيده كما كان ان عفا عنه وكذلك المدبر وأم الولد، قالوا: فان قتل العبد حرا
أو عبدا خطأ أو جنى على ما دون النفس من حر أو عبد عمدا أو خطأ قلت الجناية أو
كثرت كلف سيده أو يدفعه إلى المجني عليه أو إلى وليه كثر المجني عليهم أم قلوا أو يفديه
بجميع أروش الجنايات قالوا: فان جنى في مال فليس عليه ولا على السيد الا أن يباع
في جنايته فان وفى ثمنه بالجنايات فذلك وان لم يف بها فلا شئ على السيد ولا على العبد
وان فضل فضل كان للسيد، قالوا: فان جنى المدبر فقتل خطأ أو جنى فيما دون النفس
فعلى سيده الأقل من قيمته أو من أرش الجناية أو الدية ليس عليه غير ذلك الا أن تكون
قيمة الجناية عشرة آلاف درهم فصاعدا فلا يلزم السيد الا عشرة آلاف غير عشرة
دراهم فان قتل آخر خطأ فلا شئ على السيد لكن يرجع كل من جنى عليه بعد ذلك على
المجني عليه أو لا فيشاركه فيما أخذ وهكذا أبدا، وهكذا أم الولد في جنايتها في قتل الخطأ
وما دون النفس، وقال أبو حنيفة: فان جنى المدبر. وأم الولد على مال فعليهما السعي
في قيمة ما جنيا ولا شئ على سيد أم الولد *
قال أبو محمد: هذا الفصل موافق لقولنا، وكذلك ينبغي أن تكون سائر جناياتهما
وجنايات العبيد ولا فرق، وهذه تفاريق لا تحفظ عن أحد قبل أبي حنيفة، ولو ادعى
مدع في هذه التخاليط خلاف الاجماع لما بعد عن الصدق، وقالوا: إن جنى المكاتب
فقتل خطأ أو فيما دون النفس فعليه أن يسعى في الأقل من قيمته أو من أرش الجناية ولا
شئ عليه غير ذلك فان جنى في مال سعى في قيمته بالغة ما بلغت، وقال مالك: جناية العبد
في الدماء والأموال سواء فإن كان للعبد مال فكل ذلك في ماله فإن لم يكن له مال فسيده
مخير بين أن يفديه بأرش الجناية أو بقدر المال أو يدفعه فان جنى المدبر كذلك ففي ماله
فإن لم يف استخدم في الباقي فان جنت أم الولد فعلى سيدها ان يفديها بالأقل من قيمتها
أو من أرش الجناية فقط ثم كلما جنت كان عليه أن يفديها كذلك فان جنى المكاتب
كذلك كلف أن يؤدى أرش ما جنى فان عجز أو أبى رق وعاد إلى حكم العبيد *
وهذه تفاريق لا تحفظ أيضا عن أحد من الناس قبله، ولو ادعى مدع خلاف الاجماع
عليها لما بعد عن الصدوق الا قوله: ان الجنايات في مال العبد والمدبر فهو صحيح لو لم يتبعه
بما ذكرنا، وقال الشافعي: كل ما جنى المدبر. والبعد من دم أوفى مال أو ما دون النفس

158
فإنما يلزم السيد بيعه فيها فقط فان وفى فذلك (1) فان فضل فضل فللسيد وان لم يف
فلا شئ عليه ولا على البعد غير ذلك وليس عليه أن يسلمه ولا أن يفديه، فان جنت أم
الولد فداها سيدها بالأقل من قيمتها ومن أرش الجناية، فان جنت ثانية فقولان. أحدهما
يفديها أيضا وهكذا أبدا. والثاني يرجع الآخر على الذي قبله فيشاركه فيما أخذ ولا شئ
على السيد، وهذا أيضا قول لا يحفظ عن أحد قبله، وكل هذه الأقوال ليس على صحة
شئ منها دليل لا من قرآن. ولا من سنة. ولا من رواية فاسدة. ولا من قول صاحب.
ولا من قياس. ولا من رأى له وجه، وما كان هكذا فلا يجوز القول به، فان موهوا بان
العبد لا مال له ولا يملك شيئا قلنا: هذا باطل بل يملك كما يملك الحر ولكن هبكم الآن
انه لا يملك كما تدعون عدوه فقيرا واتبعوه به إذا ملك يوما ما كما يتبع الفقير سواء بسواء
ولافرق، والله تعالى يقول: (وانكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم
أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) فقد وعدهم الله أو من شاء منهم بالغنى فانتظروا
بهم ذلك الغنى فكيف والبراهين على صحة ملك العبد ظاهرة؟ * روينا من طريق
عبد الرزاق عن ابن جريج عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن أبيه أن عمر بن الخطاب
قال: ويقاد للمملوك من المملوك في كل عمد يبلغ نفسه فما دون ذلك من الجراح، فان
اصطلحوا على العقل فقيمة المقتول على مال القاتل أو الجارح *
قال أبو محمد: هذا قولنا ولله تعالى الحمد، وبيان [هذا] (2) ان عمر بن الخطاب
يرى العبد مالكا، ومن طريق حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال أخذ عبد
أسود آبق قد عدا على رجل فشجه ليذهب برقبته فرفع ذلك إلى عمر بن عبد العزيز فلم ير له
شيئا وهذا قولنا، وقد جاء هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم كما روينا من طريق أبى داود نا أحمد بن
حنبل نا معاذ بن هشام الدستوائي حدثني أبي عن قتادة عن أبي نضرة عن عمران بن الحصين
(أن غلاما لا ناس فقراء قطع أذن غلام لا ناس أغنياء فأتى أهله رسول (3) الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا: يا رسول الله انا أناس فقراء فلم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه شيئا *
قال أبو محمد: لم يسلمه ولا باعه ولا ألزمه ما لا يملكه ولا ألزم ساداته فداءه وهذا
قولنا والحمد لله رب العالمين * تم كتاب الغصب والاستحقاق والجنايات على الأموال (4)



(1) في النسخة رقم 16 (فذاك)
(2) الزيادة من النسخة رقم 14
(3) في سنن أبي داود (النبي) بدل (رسول الله) الخ
(4) في النسخة الحلبية زيادة أدخلها الناسخ نسخته - وهي من كتاب الايصال للمصنف - وأسندها إليه فحرصا على اظهار هذا الكتاب العظيم لطلاب العلم أثبتنا هذه الزيادة هنا مفصولة عن الأصل لئلا يظن أنها منه وهي هذه قال:
مسألة فلو أن دينارا. أو درهما. أو لؤلؤة. أو غير ذلك وقع في محبرة أو اناء ضيق
الفم قال على: كلما دخل حين وقع كذلك يخرج ولا بد فإن لم يمكن اخراجه فان تراضيا
على أن يضمن صاحبه الاناء أو صاحب الجرم الواقع فيه مثل شيئه جاز ولو تراضيا علي
كسرا لاناء وأخذ صاحب الشئ شيئه جاز ذلك ولو لم يتراضيا علي شئ من ذلك وقف
الاناء بما فيه لهما أبدا حتى يتفقا على ما يجوز ولم يمكن أحدهما منه * برهان ذلك أن الاناء
لصاحبه فلا يحل لغيره والشئ الواقع فيه لصاحبه فلا يجوز لغيره فوقف كل واحد منهما
لصاحبه لا يمكن الآخر منه حتى يتفقا على ما يجوز فلو أن صاحب المحبرة ألقى ذلك متعمدا
ولم يقدر على اخراجه الا بكسر المحيرة كسرت ولا شئ على صاحب الدرهم أو الدينار فلو
ان صاحب الدينار تولى رميه متعمدا قيل له: أحضر مثل المحبرة واكسره وخذه والا فلا
سبيل لك على صاحب المحبرة لأنه هو المتعدى حينئذ فلو ألقاه غيرهما ضمن ما ألقى أو ما أفسد
في اخراجه فلو ألقاه مجنون أو صبي أو وقع بغير القاء انسان فكما ذكرنا في أول المسألة
وبالله تعالى التوفيق *
مسأله فلو أن انسانا طرح ماء في غسل غيره أو لو أن صاحب الغسل طرح ماء غيره
في غسله فكلا الامرين سواء وعلى صاحب الغسل ضمان ذلك الماء لا يجوز غير هذا إن كان
الماء مستهلكا وإن كان الغسل مستهلكا فعلى المعتدى ضمان ما اعتدى عليه وليس
كذلك مزج غسل بغسل أو زيت بزيت أو ما أشبه هذا فان ما ذكرنا له عين واحدة فهما
شريكان فيما امتزج إن كانا مثلين والا فعلى المستهلك ضمان متاع غيره فقط لأنه لا يحل
مال انسان لغيره الا لضرورة خوف الموت بالعطش فقط وهذا كله حكم واحد كما
قلنا في المسألة الأولى إنما الضمان على المتعدى *
مسألة فلو أن انسانا أدخل فروجا صغيرا في قارورة فاطعمه حتى كبر وصار ديكا
أو دجاجة فإنه يضمن مثل القارورة ويكلف اخراج ديكه عنها لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فكل متعد ضامن لما اعتدى فيه هذه مختصرة ثم
قال: هذه المسائل الثلاثة من تخاليط أصحاب الرأي ليوجبوا في ظنهم الفاسد أحكاما لم
يأذن الله تعالى بها ولا رسوله صلى الله عليه وسلم هيهات لهم من ذلك انتهى من الايصال *
159
بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الصلح
1269 مسألة لا يحل الصلح البتة على الانكار ولا على السكوت الذي لا انكار
معه. ولا اقرار. ولا على اسقاط يمين قد وجبت. ولا على أن يصالح مقر على غيره

160
وذلك الذي صولح عند منكر وإنما يجوز الصلح مع الاقرار بالحق فقط وهو قول ابن أبي
ليلى الا أنه جوز الصلح على السكوت الذي لا اقرار معه ولا انكار، وهو قول الشافعي الا
أنه جوز الصلح على اسقاط اليمين وأن يقر انسان عن غيره ويصالح عنه بغير أمره وهذا
نقض لاصله، وهو أيضا قول أبى سليمان الا انه جوز الصلح على اسقاط اليمين وهذا نقض
لاصله * روينا من طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: كان
لرجل على رجل حق فصالحه عنه ثم رجع فيه فخاصمه إلى شريح فقال له شريح: شاهدان
ذوا عدل انه تركه ولو شاء أديته إليه، فهذا شريح لم يجز الصلح الا مع قدرة صاحب الحق
على أخذ حقه بأداء الذي عليه الحق إليه حقه وفسخه إذا لم يكن كذلك وهو قولنا * ومن طريق
ابن أبي شيبة نا ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن شريح قال: أيما
امرأة صولحت عن ثمنها ولم يبين لها ما ترك زوجها فتلك الريبة كلها * وهذا أيضا بيان
انه لم يجز الصلح الا على اقرار بمعلوم، وقال أبو حنيفة. ومالك: الصلح على الانكار
وعلى السكوت الذي لا اقرار معه ولا انكار جائز *
قال أبو محمد: برهان صحة قولنا قول الله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
إلا أن تكون تجارة عن ترض منكم) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم
عليكم حرام) فصح أن كل مال حرام على غير صاحبه ويحرم على صاحبه أن يبيحه لغيره
الا حيث أباح القرآن. والسنة اخراجه أو أوجبا اخراجه، ولم يأت نص بجواز
الصلح على شئ مما ذكرنا، والحديث المشهور من طريق (1) الزهري عن عبيد الله بن
عبد الله بن عتبة عن أبي هريرة. وزيد بن خالد الجهني قال: (جاء أعرابي إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله قال أحدا لخصمين: ان ابني كان عسيفا على
هذا فزنى بامرأته فقالوا لي: على ابنك الرجم ففديت ابني بمائة من الغنم ووليدة تم
سألت أهل العلم فقالوا: إنما على ابنك جلد مائه (2) وتغريب عام [وإنما الرجم على
امرأته] (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لأقضين بينكما بكتاب الله أما الوليدة. والغنم
فرد عليك وعلى ابنك جلد مائة وتغريم عام) وذكر باقي الخبر فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم
الصلح المذكور وفسخه *
قال أبو محمد: احتج المتأخرون المجيزون للصلح على الانكار وعلى سائر ما ذكرنا
بقول الله تعالى: (والصلح خير) وبقول الله تعالى: (أوفوا بالعقود) وبما روينا من



(1) في النسخة رقم 16 (من حديث) وفيه تكرار في التعبير
(2) في النسخة رقم 16 (مائة جلدة) وما هنا موافق لما في سنن أبي داود
(3) الزيادة من سنن أبي داود والحديث مطول
161
طريق كثير بن عبد الله - وهو كثير بن زيد - عن أبيه عن جده، وعن الوليد بن رباح
عن أبي هريرة كلاهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل
حراما أو حرم حلالا والمسلمون عند شروطهم (1)) * وبما حدثناه أحمد بن عمر بن أنس
نا أبو ذر الهروي نا الخليل بن أحمد نا أبو داود السجستاني نا يحيى بن محمد بن صاعد نا يوسف
ابن موسى القطان نا عبيد الله بن موسى نا عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه قال:
كتب عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعري والصلح جائز بين المسلمين الا صلحا حرم
حلالا أو أحل حراما * وبما روينا من طرق كثيرة منها عن سفيان بن عيينة. ووكيع.
وهشيم. وابن أبي زائدة كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: أتى علي بن أبي
طالب في شئ فقال: إنه لجور ولولا أنه صلح (2) لرددته، واحتجوا أيضا بقول الله
تعالى: (الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) قالوا: والصلح على الانكار تجارة عن
تراض منهما *
قال أبو محمد: هذا كل ما احتجوا به وكله لا حجة لهم في شئ منه بل كله حجة عليهم
على ما نبين إن شاء الله تعالى، أما قوله تعالى: (والصلح خير): (وأوفوا بالعقود)
فالمخالفون لنا في هذه المسألة وجميع أهل الاسلام موافقون لنا على أن كلتا هاتين الآيتين
ليستا على عمومهما وان الله تعالى لم يرد قط كل صلح ولا كل عقد وان امراء (3) لو صالح
على إباحة فرجه أو فرج امرأته أو على خنزير أو على خمر أو على ترك صلاة أو على ارقاق
حر، أو عقد على نفسه كل هذا لكان هذا صلحا باطلا لا يحل وعقدا فاسدا مردودا
فإذ لا شك في هذا فلا يكون صلح ولا عقد يجوز امضاؤهما الا صلح أو عقد شهد القرآن
والسنة بجوازهما، فان قالوا: نعم لكن كل صلح وكل عقد فلا زمان إلا صلحا أو
عقدا جاء القرآن أو السنة بابطالهما قلنا: نعم وهو قولنا وقد جاء القرآن بالطاعة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عليه السلام: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) فصح
أن كل شرط فحكمه الابطال الا شرطا جاء بإباحته القرآن أو السنة، وكل عقد وكل
صلح فهو بلا شك شرط فحكمهما الابطال أبدا حتى يصححهما قرآن أو سنة وليس
في القرآن، ولا في السنة تصحيح الصلح على الانكار. ولا على السكوت. ولا على اسقاط
اليمين، ولا صلح انسان عن من لم يأمره ولا اقراره على غيره فبطل كل ذلك بيقين *
وأما حديث الصلح جائز بين المسلمين، وكلام عمر رضي الله عنه فكلاهما لا يجوز



(1) الحديث في سنن أبي داود
(2) في النسخة رقم 16 (ولولا الصلح)
(3) في النسخة رقم 16 (وان أحدا)
162
الحكم به * أما الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم فساقطة لأنه انفرد بها كثير بن عبد الله بن زيد
ابن عمرو هو ساقط متفق على اطراحه وان الرواية عنه لا تحل * وأما الرواية عن عمر
فانفرد بها عبد الملك بن الوليد بن معدان عن أبيه وكلاهما لا شئ، ثم لو صحا لكانا حجة
لنا لان الصلح على الانكار وعلى السكوت لا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن
يكون الطالب طالب حق والمطلوب مانع حق أو مما طلا لحق، أو يكون الطالب طالب
باطل ولابد من أحدهما فإن كان الطالب محقا فحرام على المطلوب بلا خلاف من أحد
من أهل الاسلام أن يمنعه حقه أو أن يمطله وهو قادر على أنصافه حتى يضطره إلى
اسقاطه بعض حقه أو أخذ غير حقه فالمطلوب في هذه الجهة أ كل مال الطالب بالباطل
وبالظلم. والمطل. والكذب وهو حرام بنص القرآن، وإن كان الطالب مبطلا
فحرام عليه الطلب بالباطل وأخذ شئ من مال المطلوب بغير حق بلا خلاف من
أحد من أهل الاسلام وبنص القرآن. والسنة، فالطالب في هذه الجهة أكل مال المطلوب
بالباطل والظلم والكذب وهذا حرام بنص القرآن، ولعمري اننا ليطول عجبنا كيف
خفى هذا الذي هو أشهر من الشمس على من أجاز الصلح بغير الاقرار؟ إذ لابد فيه ضرورة
من أكل مال محرم بالباطل لاحد المتصالحين في كلا الوجهين، وأما الصلح على ترك اليمين
فلا تخلو تلك اليمين التي يطلب بها المنكر من أن تكون صادقة ان حلف بها أو تكون كآبة
ان حلف بها ولا سبيل إلى ثالث، فإن كان المطلوب كاذبا إن حلف فقد قدمنا انه آكل
مال خصمه بالباطل والظلم والكذب، ولا يحل له ذلك، وإن كان المطلوب صادقا إن
حلف فحرام على الطالب أن يأخذ منه فلسا فما فوقه بالباطل، وهذا لا خفاء به على أحد
يتأمله ويسمعه * وأما مصالحة المرء على غيره واقراره على غيره فهذا أبطل. الباطل لقول
الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) فاقرار المرء
على غيره كسب على غير نفسه فهو باطل ومصالحته عن غيره لا تخلو أيضا مما قدمنا إما أن
يكون الذي صولح عنه مطلوبا بباطل أو مطلوبا بحق ولا بد من أحدهما فإن كان مطلوبا بباطل
فحرام على الطالب ان يأخذ فلسا فما فوقه أو شيئا أصلا بطلب باطل فيكون أكل مال بالباطل
وإن كان الذي صولح عنه مطلوبا بحق فإن كان المتبرع بالصلح عنه ضامنا لما على المطلوب
فهذا جائز والحق قد تحول حينئذ على المقر فإنما صالح حينئذ عن نفسه لا عن غيره وعن
حق يأخذه به الطالب كله ان شاء وهذا جائز حسن لا نمنع منه، وكذلك ان ضمن عنه
بعض ما عليه ولا فرق وإنما نمنع من أن يصالح عن غيره دون دون ان يضمن عنه الحق الذي
عليه وهذا في غاية البيان وبالله تعالى التوفيق، فقد صح بهذا ان كل صلح على غير الاقرار

163
فهو محل حراما ومحرم حلالا، فذانك الأثر ان لو صحا لكانا حجة لنا عليهم قاطعة *
وأما المسلمون عند شروطهم فان شروط المسلمين هي الشروط التي جاء القرآن وجاءت
السنة بايجابها واباحتها، وأما كل شرط لم يأت النص بإباحته أو ايجابه (1) فليس
من شروط المسلمين بل هو من شروط الكافرين أو الفاسقين لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) وليس الباطل من شروط المسلمين بلا شك *
وأما خبر على فهو خبر سوء يعيذ الله عليا في سابقته وفضله. وإمامته من أن ينفذ الجور
وهو يقر أنه جور، ويا سبحان الله! هل يجوز لمسلم أن ينفذ جورا؟ لئن صح هذا لينفذن
الربا. والزنا. والغارة. على أموال الناس لأنه كله جور (2) * والآفة في هذا الخبر والبلية من
قبل الارسال لان الشعبي لم يسمع قط من على كلمة وإنما أخذ هذا الخبر بلا شك من قبل
الحارث وأشباهه، وهذا عيب المرسل، ثم العجب من احتجاجهم بهذه البلية وهم أول
مخالف لها فلا يرون انفاذ الجور لا في صلح ولا غيره وهذا تلاعب بالديانة. وضلال.
واضلال (فان قالوا): قد جاء عن عمر أنه قال رددوا الخصوم (3) حتى يصطلحوا فان فصل
القضاء يورث بين القوم الضغائن، قلنا: هذا لا يصح عن عمر أصلا لأننا إنما رويناه
من طريق محارب بن دثار عن عمر وعمر لم يدركه محارب ومحارب ثقة فهو مرسل،
ويعيذ الله عمر من أن يقول هذا القول فيأمر بترديد ذي الحق ولا يقضى له بحقه،
هذا الظلم والجور اللذان نزه الله تعالى عمر في إمامته ودينه وصرامته في الحق من أن يفوه
به، ثم ليت شعري أيها المحتجون بهذا القول الذي لم يصح قط عرفونا ما حد هذا الترديد
الذي تضيفونه إلى أمير المؤمنين رضي الله عنه وتحتجون به وتأمرون به؟ أترديد ساعة
فإنه ترديد في اللغة بلا شك. أم ترديد يوم أم ترديد جمعة. أم ترديد شهر. أو ترديد
سنة. أم ترديد باقي العمر؟ فكل ذلك ترديد وليس بعض ذلك باسم الترديد بأولى
من بعض، وكل من حد في هذا الترديد حد ا فهو كذاب قائل بالباطل في دين الله عز
وجل، وأيضا فان ترك الحكم بينهم حتى ينزل المحق على حكم الباطل أو يترك الطلب
أو يمل من طلب المبطل فيعطيه ماله بالباطل أشد توريثا للضغائن بين القوم من فصل
القضاء بلا شك، والحمد لله الذي جعل الاسناد في ديننا فصلا بين الحق والكذب *
فان ذكر ذاكر الخبر الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق البخاري عن آدم بن أبي
اياس عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:



(1) في النسخة رقم 14 (أو اجازته) وهو تصحيف من النساخ
(2) في النسخة رقم 16 (لأنها كلها جور)
(3) في النسخة رقم 16 (ردوا الخصوم)
164
من كانت له مظلمة لأخيه (1) من عرضه أو شئ فليتحلله منه اليوم قبل أن لا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وان لم تكن له حسنات أخذ
من سيئات صاحبه فحمل عليه) فان هذا الخبر من أعظم حجة في هذا الباب فان فيه
ايجاب التحلل من كل مظلمة والتحلل ضرورة لا يكون بانكار الحق أصلا بل هذا اصرار
على الظلم وإنما التحلل بالاعتراف. والتوبة. والندم وطلب ان يجعل في حل فقط وهو قولنا
وليس فيه إباحة صلح أصلا وإنما فيه الخروج إلى الحل ولا يكون ذلك إلا بالخروج عن
الظلم، فمن كان قبله مال انصف منه أو تحلل منه. ومن كان قبله سبب عرض طلب التحلل.
ومن كان قبله قصاص اقتص من نفسه أو تحلل منه بالعفو ولا مزيد وبالله تعالى التوفيق *
1270 مسألة فإذا صح الاقرار بالصلح فاما أن يكون في المال فلا يجوز (2)
الا بأحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يعطيه بعض ماله عليه ويبرئه الذي له الحق من باقيه
باختياره ولو شاء ان يأخذ ما أبرأه منه لفعل فهذا حسن جائز بلا خلاف، وهو فعل خير *
واما أن يكون الحق المقر به عينا معينة حاضرة أو غائبة فتراضيا علي أن يبيعها منه فهذا
بيع صحيح يجوز فيه ما يجوز في البيع ويحرم فيه ما يحرم في البيع ولا مزيد، وأو بالإجارة
حيث تجوز الإجارة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاجرة قال الله تعالى: (وأحل الله
البيع وحرم الربا) وروينا من طريق الليث بن سعد عن جعفر بن ربيعة عن الأعرج حدثني
عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه انه كان له على عبد الله بن أبي حد رد مال فمر بهما رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيا كعب (3) فأشار بيده كأنه يقول: النصف فاخذ نصف ما عليه
وترك نصفه *
1271 - مسألة - ولا يجوز في الصلح الذي يكون فيه ابراء من البعض شرط
تأجيل أصلا لأنه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل لكنه يكون حالا في الذمة ينظره
به ما شاء بلا شرط لأنه فعل خير *
1272 - مسألة ولا يجوز الصلح على مال مجهول القدرة لقول الله تعالى: (لا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) والرضا لا يكون في مجهول
أصلا إذ قد يظن المرء أن حقه قليل فتطيب نفسه به فإذا علم أنه كثير لم تطب نفسه به ولكن



(1) في صحيح البخاري ج 3 ص 260 (لاحد) بدل لأخيه
(2) في النسخة اليمنية وغيرها (فإذا صح الاقرار فالصلح في المال لا يجوز)
(3) في النسخة رقم 16 (حتى أتى كعب) وما هنا موافق لما في سنن أبي داود، والحديث رواه أبو داود في سننه من طريق أحمد بن صالح عن ابن وهب الخ وفيه قصة
165
ما عرف قدره جاز الصلح فيه وما جهل فهو مؤخر إلى يوم الحساب *
وقد احتج من أجاز ذلك بما رويناه من طريق محمد بن إسحاق في مغازيه عن حكيم بن
حكيم بن عباد بن حنيف عن أبي جعفر محمد بن علي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليا إلى
بنى جذيمة إذ أوقع بهم خالد فبعثه عليه السلام بمال فودى لهم الدماء والأموال حتى أنه
ليدى لهم ميلغة الكلب حتى إذا لم يبق شئ من مال ولا دم حتى أداه وبقيت معه بقية من
المال فقال لهم: هل بقي لكم دم أو مال؟ قالوا: لا، قال: فانى أعطيكم هذه البقية من المال
احتياطا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يعلم ولا تعلمون ففعل فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره
فقال له: أصبت وأحسنت) *
قال أبو محمد: هذا لا يصلح لأنه مرسل ثم عن حكيم بن حكيم وهو ضعيف، ثم لو صح
لما كانت لهم فيه حجة أصلا لأنه ليس فيه صلح مشترط على طلب حق مجهول وهذا هو الذي
أنكرنا وإنما هو تطوع لقوم لا يدعون حقا أصلا بل هم مقرون بأنهم لم يبق لهم طلب أصلا
ونحن لا ننكر التطوع ممن لا يطلب بحق بل هو فعل خير، وبالله تعالى التوفيق *
1273 - مسألة - ولا يجوز الصلح في غير ما ذكرنا من الأموال الواجبة المعلومة
بالاقرار والبينة الا في أربعة أوجه فقط، في الخلع (1) ونذكره إن شاء الله تعالى في كتاب
النكاح قال الله تعالى: (وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا فلا جناح
عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) أو في كسر سن عمدا فيصالح الكاسر في اسقاط
القود، أو في جراحة عمدا عوضا من القود. أو في قتل نفس عوضا من القود بأقل من الدية
أو بأكثر وبغير ما يجب في الدية *
برهان ذلك ما ذكرنا قبل من قول الله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا
أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم
عليكم حرام) فلا يحل اعطاء مال الا حيث جاء النص بإباحة ذلك أو ايجابه، ولقول
النبي صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) والصلح شرط فهو باطل الا
حيث اباحه نص ولا مزيد، ولم يبح النص الا حيث ذكرنا فقط * روينا من طريق أبى
داود نا مسدد نا المعتمر بن سليمان التيمي عن حميد الطويل عن أنس [بن مالك] (2)
قال: (كسرت الربيع أخت أنس بن النضر ثنية امرأة (3) فاتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقضى بكتاب



(1) في النسخة اليمنية وغيرها (وهي الخلع) وما هنا أنسب بلاحق كلام المصنف بعد
(2) الزيادة من سنن أبي داود
(3) في النسخة رقم 16 (ثنية لمرأة) وما هنا موافق لما في سنن أبي داود، والحديث فيه مطول
166
الله القصاص فقال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها اليوم قال:
يا أنس كتاب الله القصاص فرضوا بأرش أخذوه)، (فان قيل): فان هذا الخبر
رويتموه من طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس فذكر أنها كانت جراحة وأنهم
أخذوا الدية، ورويتموه من طريق بشر بن المفضل. وخالد الحذاء كلاهما عن حميد الطويل
عن أنس فذكر انهم عفوا ولم يذكر دية، ولا أرشا، ورويتموه من طريق أبى خالد الأحمر.
ومحمد بن عبد الله الأنصاري كلاهما عن حميد الطويل عن أنس فذكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالقصاص
فقط قلنا: نعم، وكل ذلك في غاية الصحة وليس شئ منها مخالفا لسائر ذلك (1)
لان سليمان. وثابتا. وبشرا. وخالدا زادوا كلهم على أبى خالد. والأنصاري العفو عن
القصاص ولم يذكر الأنصاري. ولا أبو خالد عفوا ولا أنهم لم يعفوا وزيادة العدل
مقبولة، وزاد سليمان. وثابت على الأنصاري. وأبى خالد. وخالد. وبشر ذكر
قبول الأرش ولم يذكر هؤلاء (2) خلاف ذلك، وزيادة العدل مقبولة، وقال ثابت:
دية، وقال سليمان: أرش، وهذا ليس اختلافا لان كل دية أرش وكل أرش دية الا أن
من ذلك ما يكون موقتا محدودا ومنه ما يكون غير مؤقت ولا محدود والتوقيت لا يؤخذ الا
بنص وارد به، فوجب حمل ما رويناه على عمومه وجواز ما تراضوا عليه وبالله تعالى التوفيق *
وأما اختلاف ثابت. وسليمان فقال أحدهما وهو ثابت: جراحة وان أم الربيع
التي أقسمت أن لا يقتص منها، وقال سليمان: كسر سن وان أنس بن النضر أقسم أن
لا يقتص منها فيمكن أن يكونا حديثين في قضيتين ويمكن أن يكون حديث واحد في قضية (3)
واحدة لان كسر السن جراحة لأنه يدمى ويؤثر في اللثة فهي جراحة فزاد سليمان بيانا
إذ بين أنه كسر سن، وبالله تعالى التوفيق *
وأما الجراحة فروينا من طريق محمد بن داود بن سفيان عن عبد الرزاق نا معمر عن
الزهري عن عروة عن عائشة أم المؤمنين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) بعث أبا جهم
[ابن حذيفة] (5) مصدقا فلاجه (6) رجل في صدقته فضربه أبو جهم فشجه (7) فأتوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: القود يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكم كذا وكذا



(1) في النسخة رقم 16 (مخالفا لكل ذلك)
(2) في النسخة رقم 16 (ولم يذكر غير هؤلاء)
(3) في النسخة رقم (في قصة)
(4) في سنن أبي داود (ان النبي) الخ والحديث أخرجه أبو داود في سننه
(5) الزيادة من سنن أبي داود والحديث مطول
(6) هو بالجيم من اللجاج أي نازعه وخاصمه قال شارح سنن أبي داود: وفى نسخة الخطابي فلاحه بالحاء المهملة منقوصا وهما بمعنى
(7) أي جرح رأسه فشقه،
167
فلم يرضوا فقال: لكم كذا وكذا فلم يرضوا فقال: لكم كذا وكذا فرضوا) فهذا
الصلح على الشجة بما يتراضى به الفريقان، فان قيل: فان هذا خبر (1) رويتموه
من طريق محمد بن رافع عن عبد الرزاق بالاسناد المذكور فيه وفيه (فضربه أبو جهم) ولم
يذكر شجة قلنا: هذه بلا شك قصة واحدة وخبر واحد، وزاد محمد بن داود بيان
ذكر شجه ولم يذكرها محمد بن رافع وزيادة العدل مقبولة *
وأما الصلح في النفس فإننا روينا من طريق مسلم قال: نا زهير بن حرب نا الوليد بن مسلم
نا الأوزاعي نا يحيى بن أبي كثير نا أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف حدثني أبو هريرة:
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بعد فتح مكة: ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين اما أن يفدى
واما أن يقتل (2)) فان قيل: فهذا خبر رويتموه من طريق أبى شريح الكعبي: (ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فمن قتل له بعد مقالتي هذه قتيل فأهله بين خيرتين بين أن يأخذوا
العقل وبين أن يقتلوه، قلنا: نعم كلاهما صحيح وحق وجائز أن يلزم ولى القتيل القاتل
الدية (3)، جائز أن يصالحه حينئذ القاتل بما يرضيه به، فكلا الخبرين صحيح وبالله
تعالى التوفيق *
1274 مسألة ومن صالح عن دم. أو كسر سن. أو جراحة. أو عن
شئ معين بشئ معين فذلك جائز فان استحق بعضه أو كله بطلت المصالحة وعاد على
حقه في القود وغيره لأنه إنما ترك حقه بشئ لم يصح له والا فهو على حقه، فإذا لم يصح
له ذلك الشئ فلم يترك حقه، وكذلك لو صالح من سلعة بعينها بسكنى دار أو خدمة عبد
فمات العبد وانهدمت الدار أو استحقا بطل الصلح وعاد على حقه وبالله تعالى التوفيق *
(تم كتاب الصلح بحمد الله وعونه)
بسم الله الرحمن الرحيم * كتاب المداينات والتفليس
1275 مسألة ومن ثبت للناس عليه حقوق من مال أو مما يوجب غرم
مال ببينة عدل أو باقرار منه صحيح بيع عليه كل ما يوجد له وأنصف الغرماء ولا يحل
أن يسجن أصلا الا أن يوجد له من نوع ما عليه فينصف الناس منه بغير بيع كمن عليه
دراهم ووجدت له دراهم أو عليه طعام ووجد له طعام وهكذا في كل شئ لقول الله تعالى:



(1) في نسخة (فهذا خبر)
(2) الحديث في صحيح مسلم ج 1 ص 384 مطولا، وفيه (اما أن يعطى - يعنى الدية - واما أن يقاد أهل القتيل)
(3) في النسخة رقم 16 (ولى القاتل للقتيل الدية) وهو سبق قلم من الناسخ
168
(كونوا قوامين بالقسط) ولتصويب رسول الله صلى الله عليه وسلم قول سلمان أعط كل ذي حق حقه،
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مطل الغنى ظلم) فسجنه مع القدرة على أنصاف غرمائه ظلم
له ولهم معا وحكم بما لم يوجبه الله تعالى قط ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم
سجن قط * روينا من طريق أبى عبيد القاسم بن سلام نا أحمد بن خالد الوهبي
عن محمد بن إسحاق عن محمد بن علي بن الحسين قال: قال علي بن أبي طالب:
حبس الرجل في السجن بعد ما يعرف ما عليه من الدين ظلم وقال الحنيفيون: لا يباع
شئ من ماله لكن يسجن وإن كان ماله حاضرا حتى يكون هو الذي ينصف
من نفسه، ثم تناقضوا فقالوا: الا إن كان الدين دراهم فتوجد له دنانير أو يكون الدين
دنانير فتوجد له دراهم فان الذي يوجد له من ذلك يباع فيما عليه منها (1) فليت شعري
ما الفرق بين بيع الدنانير وابتياع دراهم وبين بيع العروض وابتياع ما عليه؟ وإنما
أوجب الله تعالى علينا وعلى كل أحد انصاف ذي الحق من أنفسنا ومن غير نا ومنع تعالى
من السجن بقوله تعالى: (فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه) وافترض حضور الجمعة
والجماعات فمنعوا المدين من حضور الصلوات في الجماعة. ومن حضور الجمعة. ومن المشي
في مناكب الأرض، ومنعوا صاحب الحق من تعجيل انصافه وهم قادرون على ذلك
فظلموا الفريقين *
واحتجوا بآثار واهية، منها رواية من طريق أبى بكر بن عياش عن أنس (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة) * ومن طريق عبد الرزاق عن بهز بن حكيم عن أبيه عن
جده (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة) * ومن طريق أبى مجلز (ان غلامين من
جهينة كان بينهما غلام فأعتقه أحدهما فحبسه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى باع غنيمته) وعن
الحسن (أن قوما اقتتلوا فقتل بينهم قتيل فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسهم) *
قال أبو محمد: كل هذا باطل، أما حديث أنس ففيه أبو بكر بن عياش وهو ضعيف
وانفرد عنه أيضا إبراهيم بن زكريا الواسطي ولا يدرى من هو، وحديث بهز بن حكيم
عن أبيه عن جده ضعيف، ومن هذه الطريق بعينها فيمن منع الزكاة (2) (انا آخذوها
وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا)، فان احتجوا به في الحبس في التهمة فليأخذوا بروايته
هذه والا فالقوم متلاعبون بالدين، فان قالوا: هذا منسوخ قيل لهم: أترون خصمكم
يعجز عن أن يقول لكم: والحبس في التهمة منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فان



(1) في النسخة رقم 14 والحلبية (فيما عليه منهما) والضمير في نسختنا عائد إلى الدراهم أو
الدنانير
(2) في النسخة رقم 16 (ومن هذه الطريق نفسها في منع الزكاة)
169
الظن أكذب الحديث)؟ والحبس في غير التهمة منسوخ بوجوب حضور الجمعة.
والجماعات، وحديث الحبس حتى باع غنيمته مرسل ولا حجة في مرسل، ولو صح لما
كان لهم فيه حجة لأنه قد يخاف عليه الهرب بغنيمته فحبس ليبيعها وهذا حق لا ننكره
وليس فيه الحبس الذي يرون هم ولا انه امتنع من بيعها، وقد يكون الضمير الذي في باعها
راجعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يكون هذا الحبس امساكا في المدينة، وليس فيه أصلا
انه حبس في سجن فلا حجة لهم فيه أصلا، وحديث الحسن مرسل، وأيضا فإنما هو
حبس في قتيل وحاش لله أن يكون عليه السلام يحبس من لم يصح عليه قتل بسجن فيسجن
البرئ مع النطف، هذا فعل أهل الظلم والعدوان لا فعله عليه السلام، والله لقد قتل عبد الله
ابن سهل رضوان الله عليه وهو من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم فيما بين أظهر شر الأمة
وهم اليهود لعنهم الله فما استجاز عليه السلام سجنهم فكيف أن يسجن في تهمة قوما من
المسلمين؟ فهذا الباطل الذي لا شك فيه، ثم ليت شعري إلى متى يكون هذا الحبس في التهمة
بالدم وغيره؟ فان حدوا حدا زادوا في التحكم بالباطل وان قالوا: إلى الأبد تركوا قولهم
فهم أبدا يتكسعون في ظلمة الخطأ، واحتجوا أيضا بقول الله تعالى: (واللاتي يأتين
الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فان شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى
يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) وهذه أحكام منسوخة، فمن أضل ممن يستشهد
بآية قد نسخت وبطل حكمها فيما لم ينزل فيه أيضا وفيما ليس فيما منه لا نص ولا دليل ولا أثر،
والحق في هذا هو قولنا كما روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا قتيبة بن سعيد نا ليث - هو
ابن سعد - عن بكير بن الأشج عن عياض بن عبد الله عن أبي سعيد الخدري قال: (أصيب
رجل في ثمار ابتاعها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
[لغرمائه] (2): خذوا ما وجدتم وليس لكم الا ذلك) فهذا نص جلى على أن ليس
لهم شئ غير ما وجدوا له وأنه ليس لهم حبسه وان ما وجد من ماله للغرماء، وهذا هو
الحق الذي لا يحل سواه (فان قيل): روى أنه عليه السلام باع لهم مال معاذ قلنا: هكذا
نقول وان لم يصح من طريق السند لأنه مرسل لكن الحكم انه إنما يقضى
لهم بعين ماله ثم يباع لهم ويقسم عليهم بالحصص لأنه لا سبيل إلى أنصافهم بغير هذا *
فان موهوا بما روى عن عمر. وعلى. وشريح. والشعبي فان الرواية عن عمر إنما هي من



(1) في صحيح مسلم ج 1 ص 458 تقديم وتأخير
(2) الزيادة من صحيح مسلم
170
طريق سعيد بن المسيب ان عمر حبس عصبة منفوس (1) ينفقون عليه الرجال دون
النساء، وان نافع بن عبد الحارث اشترى دارا للسجن من صفوان بن أمية بأربعة آلاف
فإن لم يرض عمر فلصفوان أربعمائة، وهذان خبر ان لا حجة لهم فيهما لان حبس عمر
للعصبة للنفقة على الصبي إنما هو امساك وحكم وقصر لا سجن لان من الباطل أن يسجنهم
أدا ولم يذكر عنهم امتناع، ثم هم لا يقولون بايجاب النفقة على العصبة فقد خالفوا
عمر فكيف يحتجون به في شئ هم أول مخالف له؟ وأما الخبر الثاني فكلهم لا يراه بيعا
صحيحا بل فاسدا مفسوخا فكيف يستجيز مسلم أن يحتج بحكم يراه باطلا؟ والمحفوظ
عن عمر مثل قولنا على ما نذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى، والرواية عن علي أنه حبس في
دين هي من طريق جابر الجعفي وهو كذاب، وقد روينا عن علي خلاف هذا كما ذكرنا
ونذكر، وأما شريح. والشعبي فما علمنا حكمهما حجة، وأقرب ذلك أنهما قد ثبت
عنهما ان الأجير. والمستأجر كل واحد منهما يفسخ الإجارة إذا شاء وان كره الآخر،
وهم كلهم خالف لهذا الحكم، فالشعبي. وشريح حجة إذا اشتهوا وليسا حجة إذا
اشتهوا أف لهذه العقول. والأديان، وقد ذكرنا قبل عن علي إنكار السجن، وقد روينا
عن عمر ما روينا من طريق مالك عن عمر بن عبد الرحمن بن دلاف عن أبيه أن رجلا من
جهينة كان يشترى الرواحل إلى أجل فيغالى بها فأفلس فرفع إلى عمر بن الخطاب فقال:
أما بعد أيها الناس فان الأسفع أسفع بنى جهينة (2) رضى من دينه وأمانته بان يقال:
سبق الحاج وانه اد ان معرضا فأصبح قد دين به فمن كان له عليه شئ فليفد بالغداة فانا
قاسمون ماله بالحصص * ورويناه أيضا من طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن
نافع مولى ابن عمر، ومن طريق أبى عبيد نا ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن إبراهيم
ابن مهاجر عن عبد الملك بن عمير قال: كان علي بن أبي طالب إذا أتاه رجل برجل له عليه
دين فقال: أحبسه قال له على: أله مال؟ فان قال نعم قد لجأه (3) مال قال أقم البينة على أنه
لجأه والا أحلفناه بالله ما لجاه * ومن طريق أبى عبيد نا أحمد بن عثمان عن عبد الله
ابن المبارك عن محمد بن سليم عن غالب القطان عن أبي المهزم عن أبي هريرة أن رجلا أتاه
بآخر فقال له: ان لي على هذا دينا فقال للآخر: ما تقول؟ قال: صدق قال: فاقضه
قال: إني معسر فقال للآخر: ما تريد؟ قال: أحبسه قال أبو هريرة: لا ولكن يطلب
لك ولنفسه ولعياله، قال غالب القطان: وشهدت الحسن وهو على القضاء قضى بمثل ذلك *
ومن طريق ابن أبي شيبة عن زيد بن حباب. وعبيد الله كلاهما عن أبي هلال عن



(1) أي صغير في النفاس
(2) في النسخة رقم 16 (اسفع جهينة)
(3) أي أخفاه وغيبه
171
غالب القطان عن أبي المهزم عن أبي هريرة فذكره كما أوردناه، وزاد فيه أن أبا هريرة
قال لصاحب الدين: هل تعلم له عين مال فاخذه به؟ قال: لا قال: هل تعلم له عقارا
أكسره؟ قال: لاثم ذكر امتناعه من أن يحبسه كما أوردناه (1) * وعن عمر بن عبد العزيز
انه قضى في ذلك بأن يقسم ماله بين الغرماء ثم يترك حتى يرزقه الله * ونا محمد بن سعيد
ابن نبات نا أحمد بن عبد البصير نا قاسم بن اصبغ نا محمد بن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى
نا أبو عامر العقدي عن عمرو بن ميمون بن مهران ان عمر بن عبد العزيز كان يؤاجر المفلس
في شر صنعة *
قال أبو محمد: أمر الله تعالى بالقيام بالقسط ونهى عن المطل والسجن فالسجن مطل
وظلم، ومنع الذي له الحق من تعجيل حقه مطل وظلم، ثم ترك من صح افلاسه لا يؤاجر
لغرمائه مطل وظلم فلا يجوز شئ من ذلك وهو مفترض عليه انصافه غرمائه واعطاؤهم
حقهم فان امتنع من ذلك وهو قادر عليه بالإجارة أجبر على ذلك وبالله تعالى التوفيق *
ومن طريق أبى عبيد حدثني يحيى بن بكير عن الليث بن سعد عن عبيد الله بن أبي جعفر
في المفلس قال: لا يحبسه ولكن يرسله يسعى في دينه، وهو قول الليث بن سعد وبه يقول
أبو سليمان. وأصحابه وبالله تعالى التوفيق *
(1276) - مسألة - فإن لم يوجد له مال فإن كانت الحقوق من بيع أو قرض ألزم
الغرم وسجن حتى يثبت العدم ولا يمنع من الخروج في طلب شهود له بذلك ولا يمنع
خصمه من لزومه والمشي معه حيث مشى أو وكيله على المشي معه، فان أثبت عدمه سرح
بعد أن يحلفه ماله مال باطن ومنع خصمه من لزومه وأوجر لخصومه ومتى ظهر له مال
انصف منه، فإن كانت الحقوق من نفقات. أو صداق. أو ضمان. أو جناية فالقول قوله
مع يمينه في أنه عديم ولا سبيل إليه حتى يثبت خصمه ان له ما لا لكن يؤاجر كما قدمنا، وان
صح أن له ما لا غيبة أدب وضرب حتى يحضره أو يموت لقول الله تعالى: (كونوا قوامين
بالقسط شهداء لله) * ولما روينا من طريق مسلم نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر غندر
نا شعبة عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: قال أبو سعيد الخدري: (سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم
يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان (2)) * ومن طريق مسلم نا أحمد بن عيسى نا
ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن سليمان بن يسار حدثهم
قال حدثني عبد الرحمن بن جابر بن عبد الله عن أبيه عن أبي بردة الأنصاري (انه سمع



(1) في النسخة رقم 16 (كما ذكرناه)
(2) الحديث في صحيح مسلم ج 1 ص 29 مطولا
172
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجلد أحد فوق عشرة أسواط الا في حد من حدود الله، (1)
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغيير المنكر باليد، من المنكر مطل الغنى، فمن صح غناه ومنع
خصمه فقد أتى منكر أو ظلما وكل ظلم منكر فواجب على الحاكم تغييره باليد، ومنع رسول
الله صلى الله عليه وسلم من أن يجلد أحد في غير حدأ كثر من عشرة أسواط، فواجب أن يضرب عشرة
فان أنصف فلا سبيل إليه وان تمادى على المطل فقد أحدث منكرا آخر غير الذي ضرب عليه
فيضرب أيضا عشرة وهكذا أبدا حتى ينصف ويترك الظلم أو يقتله الحق وأمر الله تعالى *
وأما التفريق بين وجوه الحقوق فان من كان أصل الحق عليه من دين (2) أو بيع فقد صح
انه قد ملك مالا، ومن صح أنه قد ملك ما لا فواجب أن ينصف من ذلك المال حتى يصح
أن ذلك المال قد تلف وهو في تلفه مدعى، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبينة على المدعى،
ومن كان أصل الحق عليه من ضمان. أو جناية. أو صداق. أو نفقة فاليقين الذي لا شك
فيه عند أحد هو ان كل أحد ولد عريان لا شئ له فالناس كلهم قد صح لهم الفقر فهم على
ما صح منهم حتى يصح أنهم كسبوا ما لا وهو في أنه قد كسب ما لا مدعى عليه وقد قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين على المدعى عليه، وهذا قول أبى سليمان. ومحمد بن شجاع البلخي.
وغيرهما، وخالف في هذا بعض المتعسفين فقال: قال الله تعالى: (خلقكم ثم رزقكم
ثم يميتكم ثم يحييكم) فصح ان الله تعالى رزق الجميع *
قال أبو محمد: لم نخالفه في الرزق بل الرزق متيقن، وأوله لبن التي أرضعته فلولا
رزق الله تعالى ما عاش أحد يوما فما فوقه وليس من كل الرزق ينصف الغرماء وإنما ينصفون
من فضول الرزق وهي التي لا يصح ان الله تعالى آتاها الانسان الا بينة (3) وأما المؤاجرة
فلما ذكرنا قبل في المسألة المتقدمة لهذه، وبالله تعالى التوفيق *
1278 - مسألة - فان قيل: إن قول الله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة
إلى ميسرة) يمنع من استئجاره قلنا: بل يوجب استئجاره لان الميسرة لا تكون الا
بأحد وجهين إما بسعي واما بلا سعى، وقد قال تعالى: (وابتغوا من فضل الله) فنحن
نجبره على ابتغاء فضل الله تعالى الذي أمره تعالى بابتغائه فنأمره ونلزمه التكسب لينصف
غرماءه ويقوم بعيناه ونفسه ولا ندعه يضيع نفسه وعياله والحق اللازم له *



(1) هو في صحيح مسلم ج 2 ص 39
(2) في النسخة رقم 16 (فإن كان أصل الحق في دين) الخ وهو سقط ظاهر يحققه ما سيأتي بعد من المقابلة
(3) في النسخة في النسخة الحلبية الا بنية) وهو تصحيف من الناسخ
(4) سقط لفظ (مسألة) من النسخة اليمنية وكذلك الحلبية
173
1279 مسألة ولا يخلوا المطلوب بالدين (1) من أن يكون يوجد له ما يفي
بما عليه ويفضل له فهذا يباع من ماله ما يفضل عن حاجته فينصف منه غرماؤه وما تلف
من عين المال قبل أن يباع فمن مصيبته لا من مصيبة الغرماء لان حقوقهم في ذمته لا في شئ بعنيه
من ماله أو يكون كل ما يوجد له يفي بما عليه ولا يفضل له شئ أو لا يفي بما عليه فهذان يقضى
بما وجد لهما للغرماء كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يباع لهم ان اتفقوا على ذلك فما تلف بعد
القضاء لهم بماله فمن مصيبة الغرماء ويسقط عنه من دينهم بقدر ذلك لان عين ماله قد صار
لهما ان شاءوا اقتسموه بالقيمة وان اتفقوا على بيعه بيع لهم وبالله تعالى التوفيق *
برهان ذلك أنه إذا وفى بعض ماله بما عليه فليس شئ منه أولى بان يباع في ذلك من
شئ آخر غيره فينظر أي ماله هو عنه في غنى فيباع وما لا غنى به عنه فلا يباع لان هذا
هو التعاون على البر والتقوى وترك المضارة، فإن كان كله لا غنى به عنه أقرع على أجزاء
المال فأيها خرجت قرعته بيع فيما ألزمه *
1280 - مسألة - ويقسم مال المفلس الذي يوجد له بين الغرماء بالحصص
بالقيمة كما يقسم الميراث على الحاضرين الطالبين الذين حلت آجال حقوقهم فقط ولا
يدخل فيهم حاضر لا يطلب. ولا غائب لم يوكل. ولا حاضر أو غائب لم يحل أجل
حقه طلب أو لم يطلب لان من لم يحل أجل حقه فلا حق له بعد ومن لم يطلب فلا يلزم أن
يعطى ما لم يطلب وقد وجب فرضا انصاف الحاضر الطالب فلا يحل مطله بفلس فما
فوقه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للغرماء الحاضرين: (خذوا ما وجدتم) فإذا أخذوه
فقد ملكوه فلا يحل أخذ شئ مما ملكوه، وهو قول أبى سليمان. وأبي حنيفة *
وأما الميت يفلس فإنه يقضى لكل من حضر أو غاب طلبا أو لم يطلبا، ولكل ذي
دين كان إلى أجل مسمى أو حالا لان الآجال تحل كلها بموت الذي له الحق أو الذي عليه
الحق لما ذكرناه في كتاب القرض، وأما من لم يطلب فلقول الله تعالى في المواريث:
(من بعد وصيته يوصى بها أو دين) فلا ميراث إلا بعد الوصية والدين فواجب
اخراج الديون إلى أربابها والوصايا إلى أصحابها ثم يعطى الورثة حقوقهم فيما أبقى،
وبالله تعالى التوفيق *
1281 - مسألة - واقرار المفلس بالدين لازم مقبول ويدخل مع الغرماء لان
الاقرار واجب قبوله وليس لأحد ابطاله بغير نص قرآن. أو سنة فان أقر بعد أن
قضى بماله للغرماء لزمه في ذمته ولم يدخل مع الغرماء في مال قد قضى لهم به وملكوه قبل



(1) في النسخة رقم 16 (بالديون)
174
اقراره وبالله التوفيق *
1282 - مسألة - وحقوق الله تعالى مقدمة على حقوق الناس فيبدأ بما فرط
فيه من زكاة أو كفارة في الحي. والميت، وبالحج في الميت فإن لم يعم قسم ذلك على كل
هذه الحقوق بالحصص لا يبدي منها شئ على شئ، وكذلك ديون الناس ان لم يف
ماله بجميعها أخذ كل واحد بقدر ماله مما وجد لما ذكرنا في كتاب الحج من قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم (دين الله أحق أن يقضى) * (واقضوا الله فهو أحق بالوفاء) * (كتاب
الله أحق وشرط الله أوثق) *
1283 - مسألة - ومن فلس من حي أو ميت فوجد انسان سلعته التي باعها بعينها
فهو أولى بها من الغرماء وله أن يأخذها، فإن كان قبض من ثمنها شيئا أكثره أو أقله رده
وان شاء تركها وكان أسوة الغرماء، فان وجد بعضها لا كلها فسواء وجد أكثرها أو
أقلها لا حق له فيها وهو أسوة الغرماء ولا يكون مفلسا من له من أين ينصف جميع
الغرماء ويبقى له فضل إنما المفلس من لا يبقى له شئ بعد حق الغرماء، وأما من وجد
وديعته. أو ما غصب منه. أو ما باعه بيعا فاسدا. أو أخذ منه بغير حق فهو له ضرورة
ولا خيار له في غيره لان ملكه لم يزل قط عن هذا، وأما من وجد سلعته التي باعها بيعا
صحيحا أو أقرضها فمخير كما ذكرنا *
برهان ذلك ما رويناه من طريق زهير بن معاوية. والليث بن سعد. ومالك. وهشيم.
وحماد بن زيد. وسفيان بن عيينة. ويحيى بن سعيد القطان. وحفص بن غياث كلهم عن
يحيى بن سعيد الأنصاري قال: أخبرني أبو بكر بن محمد بن عمر وبن حزم أن عمر بن عبد العزيز
أخبره أن أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أخبره انه سمع أبا هريرة يقول:
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدرك ماله بعينه عتد رجل أو انسان قد أفلس فهو أحق
به من غيره (1)) اللفظ لزهير ولفظ سائرهم نحوه لا يخالفه في شئ من المعنى *
ومن طريق أبى عبيد نا هشيم أنا يحيى بن سعيد الأنصاري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو
ابن حزم عن عمر بن عبد العزيز عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من وجد عين متاعه عند رجل قد أفلس فهو أحق به
ممن سواه من الغرماء) * ومن طريق مسلم نا ابن أبي عمر نا هشام بن سليمان المخزومي
عن ابن جريج حدثني ابن أبي حسين ان أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أخبره أن عمر
ابن عبد العزيز حدثه عن حديث أبي بكر بن عبد الرحمن عن حديث أبي هريرة عن النبي



(1) الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما
175
صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي يعدم (إذا وجد عنده المتاع ولم يفرقه انه لصاحبه الذي باعه) *
ورويناه أيضا من طريق شعبة. وهشام الدستوائي. وسعيد بن أبي عروبة كلهم
عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم *
ومن طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو نقل تواتر وكافة
لا يسع أحدا خلافه، وهذا عموم لمن مات أو فلس حيا. وبيان جلى أنه ان فرق منه شئ
فهو أسوة الغرماء وعموم لمن تقاضى من الثمن شيئا أو لم يتقاض منه شيئا، وبه قال جمهور
السلف * روينا من طريق أبى عبيد نا إسماعيل بن جعفر عن محمد بن أبي حرملة عن سعيد
ابن المسيب قال: أفلس مولى لام حبيبة فاختصم بفيه إلى عثمان رضي الله عنه فقضى أن
من كان اقتضى من حقه شيئا قبل أن يتبين افلاسه فهو له ومن عرف متاعه بعينه فهو له *
ومن طريق أبى داود نا محمد بن بشار نا أبو داود - هو الطيالسي - نا ابن أبي ذئب عن أبي
المعتمر عن عمر بن خلدة (1) قال: أتينا أبا هريرة في صاحب لنا أفلس فقال:
(لأقضين بينكم (2) بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من أفلس أو مات فوجد
رجل متاعه بعينه فهو أحق به) * ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة
عن هشام بن عروة عن أبيه إذا أفلس الرجل فوجد الرجل متاعه بعينه فهو أحق به *
وصح عن عطاء إذا أدركت مالك بعينه كما هو قبل أن يفرق منه شئ فهو لك وان
فرق بعضه فهو بين الغرماء بالسوية * ومن طريق معمر عن ابن طاوس عن أبيه ان وجد
سلعته بعينها وافرة فهو أحق بها وإن كان المشترى قد استهلك منها شيئا قليلا أو كثيرا
فالبائع أسوة الغرماء، وقاله ابن جريج عن عطاء * ومن طريق حماد بن سلمة عن داود
ابن أبي هند عن الشعبي قال: المبتاع لو أفلس لكان البائع أحق بمتاعه * وعن الحسن
هو أحق بها من الغرماء، وقد اختلف في هذا عن الشعبي.
والحسن *
قال أبو محمد: وقولنا في هذا هو قول الأوزاعي. وعبيد الله بن الحسن. وأحمد
ابن حنبل. وإسحاق بن راهويه: وداود، وقد روى في هذا خلاف، فروينا من طريق
وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن خلاس بن عمرو عن علي بن أبي طالب قال:
هو فيها أسوة الغرماء إذا وجدها بعينها إذا مات الرجل وعليه دين وعنده سلعة قائمة
لرجل بعينها فهو فيها أسوة الغرماء، وهو قول إبراهيم النخعي. والحسن: ان من أفلس
أو مات فوجد: انسان سلعته التي باع بعينها هو فيها أسوة الغرماء، وقال الشعبي



(1) في جميع النسخ (عمرو بن خلدة) بزيادة واو، وهو غلط صححناه من كتب تراجم
الرجال
(2) في سنن أبي داود (فيكم)
176
فيمن أعطى انسانا ما لا مضاربة فمات فوجد كيسه بعينه: فهو والغرماء فيه سواء، وقول
أبي حنيفة. وابن شبرمة. ووكيع كقول إبراهيم، وصح عن عمر بن عبد العزيز ان من
اقتضى من ثمن سلعته شيئا ثم أفلس فهو أسوة الغرماء، وهو قول الزهري، وقال
قتادة: من وجد بعض سلعته قل أو كثر فهو أحق بها من سائر الغرماء، وقال مالك:
هو أحق بها أو بما وجد منها قبض من الثمن شيئا أو لم يقبض هو أحق من الغرماء في التفليس
في الحياة وأما بعد الموت فهو أسوة الغرماء فيها، وقال الشافعي: ان وجها أو بعضها
فهو أحق بها أو بالذي وجد منها من الغرماء ولم يخص حياة من موت قال: فإن كان قبض
من الثمن شيئا فهو أحق بما قابل ما بقي له فقط، وقال أحمد: هو أحق بها في الحياة وأما في
الموت فهو أسوة الغرماء *
قال أبو محمد: أما من ذهب إلى قول أبي حنيفة فإنهم جاهروا بالباطل وقالوا: إنما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن وجد وديعته أو ما غصب منه *
قال على: وهذا كذب مجرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قد جاء النص كما أوردنا عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه لصاحبه الذي باعه، وزاد بعضهم في تعمد الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بما يشهد برقة دينه وصفاقة وجهه فقال: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أحق بسلعته
من قبض المشترى ما اشترى بغير اذن بائعه وهو مفلس فيكون البائع أحق بما باع حتى
ينصف من الثمن أو يباع له دون الغرماء، ومن اشترى سلعة في مرضه ببينة وقبضها ثم
أقر بدين ثم مات فصاحب السلعة أحق بها من الغرماء المقر لهم فيقال له: لعله أراد بنى
تميم خاصة أو أهل جرجان خاصة، ومثل هذا من التخليط لا يأتي به ذو دين ولا ذو عقل
ولا ينسب هذا الهوس وهذا الباطل الذي أتى به هذا الجاهل إلى النبي صلى الله عليه وسلم الا من
خذله الله تعالى، وقال بعضهم: لعله من لفظ الراوي فقلنا: من استجاز خلاف النبي
صلى الله عليه وسلم لم يعجز في كل حديث يأتي أن يقول: لعله من لفظ الراوي فيبطل الاسلام بذلك *
واحتج بعضهم بقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) وبحكم النبي صلى الله عليه وسلم
(بأنه لا يحل مال مسلم الا بطيب نفسه) فهذا الاحتجاج عليهم لان ما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم
فهو الحق وهو الذي تطيب به نفس المؤمن وإنما الباطل والضلال قضاؤهم بمال المسلم
للغاصب الفاسق وللكافر الجاحد، إذ يقولون: ان كراء الدور المغصوبة (1) للغاصب
وان أخذه الكفار من أموال المسلمين فحلال لهم فلو اتقوا الله تعالى لكان أولى بهم،
واحتجوا بخبرين موضوعين، أحدهما من رواية أبى عصمة نوح بن أبي مريم قاضى مرو



(1) في النسخة رقم 16 (الدار المغصوبة)
177
عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أفلس الرجل ووجد رجل متاعه فهو بين
غرمائه) وأبو عصمة كذاب مشهور بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسلم، والآخر من رواية صدقة بن خالد عن عمر بن قيس سندل عن ابن أبي مليكة
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (من باع بيعا فوجده بعينه وقد أفلس
الرجل فهو ماله بين غرمائه) وعمر بن قيس ضعيف جدا، ثم لو صحا وقد أعاذ الله تعالى
من ذلك لكان الثابت عن أبي هريرة زائدا وكان هذان موافقين لمعهود الأصل والاخذ
بالزائد هو الواجب الذي لا يجوز غيره، والعجب من أصلهم الخبيث أن الصاحب
إذا روى رواية ثم خالفها دل ذلك على بطلانها، وقد صح عن أبي هريرة خلاف هذين
الاثرين المكذوبين المرضوعين، فهلا جعلوا ذلك علة فيهما ولكن أمورهم معكوسة
لأنهم يردون السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل غسل الإناء من ولوغ
الكلب سبعا. وغير ذلك بالروايات المكذوبة في أن الراوي لها تركها ثم لا يرون رد
الروايات الموضوعة بان من أضيفت إليه صح عنه خلافها، فتعسا لهذه العقول ونحمد
الله على السلامة، وقالوا: لا يخلوا المشترى من أن يكون مالك ما اشترى أو لم يملكه فإن كان
لم يملكه فشراؤه باطل وأنتم لا تقولون هذا، وإن كان قد ملكه فلا يجوز أن يكون
للبائع فيه رجوع وهو للغرماء كلهم كسائر ماله *
قال أبو محمد: اعترضوا بهذا في الشفعة أيضا فالامر سواء لكن يا هؤلاء مثل هذا
لا يعارض به رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى فيه: (وما كان
لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) والذي يقول فيه
ربه تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) إنما يعارض به من قال: (الباطل برأيه الفاسد
فجعل شراء المسلم من الحربي ما غنمه من المسلمين شراء صحيحا يملكه الا أن يريد الأول أخذه
بالثمن فهو أحق به فيقال له: هل ملك المشتري من الحربي ما اشتراه أو لم يملكه؟ فإن كان اشتراه
وملكه فلم يكون الذي غنم منه أحق به بالثمن أو بغير الثمن؟ وإن كان لم يملكه فهذا قولنا لا قولكم،
ومن جعل للواهب أن يرجع فيما وهب فيقال له: هل ملك الموهوب ما وهب له أم لم
يملك؟ فإن كان لم يملكه فلم يحلون له الانتفاع. والوطئ. والبيع؟ وإن كان ملكه فبأي
شئ يرجع فيه من قد بطل ملكه عنه؟ فهذا كان أولى بهم من الاعتراض على رسول الله
صلى الله عليه وسلم بآرائهم المنتنه التي لا تساوى رجيع كلب * وروينا من طريق أبى عبيد أنه ناظر في
هذه المسألة محمد بن الحسن فلم يجد عنده أكثر من أن قال: هذا من حديث أبي هريرة

178
قال على: نعم هو والله من حديث أبي هريرة البر الصادق لامن حديث مثل محمد
ابن الحسن الذي قيل لعبد الله بن المبارك: من أفقه أبو يوسف. أو محمد بن الحسن؟
فقال: قل: أيهما أكذب *
قال أبو محمد: والعجب أنهم يقولون: من باع سلعة فلم يقبضها المشترى حتى
فلس فالبائع أحق بها! وهذا هو الذي أنكروا، ولا فرق بين من قبض وبين من لم يقبض،
وأما من فرق بين الموت. والحياة، وبين أن يدفع من الثمن شيئا أو لا يدفع منه شيئا فإنهم
احتجوا بآثار مرسلة * منها من طريق مالك. ويونس بن عبيد عن الزهري عن أبي بكر
ابن عبد الرحمن: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) * وإسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن
ابن أبي مليكة: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم) * ومسند من طريق إسماعيل بن عياش. وبقية
كلاهما عن الزبيدي عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي هريرة: (ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم)، وبقية. وإسماعيل ضعيفا * وآخر من طريق إسحاق
ابن إبراهيم بن جوتى عن عبد الرزاق عن مالك عن ابن شهاب عن أبي بكر بن عبد الرحمن
عن أبي هريرة: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل باع رجلا متاعا
فأفلس المبتاع ولم يقبض الذي باع من الثمن شيئا فان وجد البائع سلعته بعينها فهو أحق
بها وان مات المشترى فهو أسوة الغرماء (1)) فان إسحاق بن إبراهيم بن جوتى مجهول
وهذا غير معروف من حديث مالك، وخبر آخر من طريق عبد الرزاق عن وكيع عن
هشام الدستوائي عن قتادة عن بشير بن نهيك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم مثل حديث الزهري هكذا لم يذكر متنه ولا لفظه، ثم هو منقطع لان
قتادة لم يسمعه من بشير بن نهيك إنما سمعه من النضر بن أنس عن بشير بن نهيك عن
أبي هريرة هكذا رويناه من طريق شعبة. وسعيد بن أبي عروبة. والدستوائي كلهم
عن قتادة بمثل قولنا كما أوردناه قبل، فسقط كل ما شغبوا به، ثم لو صحت هذه الآثار
لكانت كلها مخالفة لقول مالك. والشافعي لان في جميعها الفرق بين الموت. والحياة،
والشافعي لا يفرق بينهما، وفى جميعها الفرق بين أن يكون قبض من الثمن شيئا وبين أن
لا يكون قبض ومالك لا يفرق بينهما، فحصل قولهما مخالفا لكل الآثار *
واحتجوا أيضا بان قالوا: ذمة الميت قد انقطعت وذمة الحي قائمة قلنا: فكان
ماذا؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفرق بينهما بل سوى بينهما كما أوردنا قبل *
قال على: وأما إذا لم يجد الا بعض سلعته فلم يجدها بعينها وإنما جاء النص إذا وجدها



(1) الحديث في الموطأ غير موصول
179
بعينها ولم يفرقها المشترى كما أوردنا قبل، ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه
وبالله تعالى التوفيق *
1284 - مسألة - ومن غصب آخر ما لا أو خانه فيه أو أقرضه
فمات ولم يشهد
له به ولا بينة له أو له بينة فظفر للذي حقه قبله بمال أو ائتمنه عليه سواء كان من نوع
ما له عنده أو من غير نوعه، وكل ذلك سواء وفرض عليه أن يأخذه ويجتهد في معرفة
ثمنه، فإذا عرف أقصاه باع منه بقدر حقه فإن كان في ذلك ضرر فان شاء باعه وان
شاء أخذه لنفسه حلالا، وسواء كان ما ظفر له به جارية أو عبدا أو عقار أو غير ذلك،
فان وفى بماله قبله فذاك (1) وان لم يف بقي حقه فيما لم ينتصف منه وان فضل فضل
رده إليه أو إلى ورثته فإن لم يفعل ذلك فهو عاص لله عز وجل الا أن يحلله ويبريه فهو
مأجور، وسواء كان قد خاصمه أو لم يخاصمه استحلفه أو لم يستحلفه (2) فان طولب
بذلك وخاف ان أقر أن يغرم فلينكر وليحلف وهو مأجور في ذلك، وهو قول الشافعي.
وأبي سليمان. وأصحابهما، وكذلك عندنا كل من ظفر لظالم بمال ففرض عليه أخذه
وانصاف المظلوم منه *
برهان ذلك قول الله تعالى: (وان عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) وقوله تعالى
(ولمن أنتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس
ويبغون في الأرض بغير الحق) وقوله تعالى: (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون
وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفى وأصلح فأجره على الله) وقوله تعالى: (والحرمات
قصاص) وقوله تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم)
وقوله تعالى: (الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من
بعد ما ظلموا)، ومن طريق أبى داود نا أحمد بن يونس نا زهير بن معاوية نا هشام
ابن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين: (انه هندا أم معاوية جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح وانه لا يعطيني ما يكفيني وبنى فهل على من جناح ان
آخذ من ماله شيئا؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك (3) بالمعروف) وقد ذكرنا قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي أصيب في ثمار ابتاعها: (خذوا ما وجدتم وليس لكم
إلا ذلك)، وهذا اطلاق منه صلى الله عليه وسلم لصاحب الحق على ما وجد للذي
له عليه الحق * ومن طريق البخاري نا عبد الله بن يوسف نا الليث - هو ابن سعد - حدثني



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية (فذلك)
(2) في النسخة رقم 16 (استخلفه أو لم يستخلفه) وهو تصحيف
(3) في سنن أبي داود (وبنيك) بدل (وولدك)
180
يزيد - هو ابن أبي حبيب - عن أبي الخير - هو مرثد بن عبد الله اليزني - عن عقبة بن عامر
الجهني [قال] (1): (قلنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: انك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى
فيه؟ فقال [لنا] عليه السلام: ان نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا
فخذوا منهم حق الضيف) وهو قول علي بن أبي طالب. وابن سيرين * روينا من طريق
خالد الحذاء عنه أنه قال: إن أخذ الرجل منك شيئا فخذ منه مثله * ومن طريق سفيان
الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي قال: إن أخذ منك شيئا فخذ منه مثله *
ومن طريق عبد الرزاق عن المعتمر بن سليمان التيمي عن داود بن أبي هند عن الشعبي
قال: لا تخن من خانك فان أخذت منه مثل ما أخذ منك فليس عليك بأس * وعن عطاء
حيث وجدت متاعك فخذه *
قال أبو محمد: وأما قولنا: ان لم يفعل فهو عاص لله تعالى فلقول الله عز وجل: (وتعاونوا
على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) فمن ظفر بمثل ما ظلم فيه هو أو مسلم.
أو ذمي فلم يزله عن يد الظالم ويرد إلى المظلوم حقه فهو أحد الظالمين لم يعن علي البر والتقوى بل
أعان على الاثم والعدوان هذا أمر يعلم ضرورة، وكذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من رأى منكم منكرا أن يغيره بيده ان استطاع) فمن قدر على كف الظلم وقطعه واعطاء كل
ذي حق حقه فلم يفعل فقد قدر على إنكار المنكر فلم يفعل فقد عصى الله عز وجل وخالف
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الا أن يحلله من حق نفسه أحسن بلا خلاف، والدلائل على هذا
تكثر جدا، وخالفنا في هذا قوم، فقالت طائفة: لا يأخذ منه شيئا، وقالت طائفة: ان ظفر
بعين ماله فليأخذه والا فلا يأخذ غيره، وقالت طائفة: ان وجد من نوع ما أخذ منه فليأخذ
والا فلا يأخذ غير نوعه، واحتجت هذه الطوائف بما رويناه من طريق يوسف بن ماهك
قال: كنت أكتب لفلان نفقة أيتام كان وليهم فغالطوه بألف درهم فاداها إليهم فأدركت
لهم من مالهم مثلها قلت: أقبض الألف الذي ذهبوا بها منك قال: لا حدثني أبي انه سمع
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أد إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) *
ونحوه عن طلق بن غنام عن شريك. وقيس - هو ابن الربيع - عن أبي حصين عن أبي
صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك
ولا تخن من خانك) * ومن طريق عبد بن حميد عن هاشم بن القاسم عن المبارك بن فضالة
عن الحسن قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (كان لي حق على رجل فجحدني
فدان له عندي حق أفا جحده؟ قال: لا أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك) *



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 264
181
ومن طريق حماد بن زيد عن أيوب عن رجل من بنى سدوس يقال له: ديسم قلنا
لبشير بن الخصاصية: لنا جيران ما تشذ لنا قاصية الا ذهبوا بها وانه يمضى لنا من أمواله
أشياء فنذهب بها قال: لا *
قال أبو محمد: ما نعلم لهم حجة غير ما ذكرنا وكل هذا لا شئ، أما حديث فلان عن
أبيه ناهيك بهذا السند ليت شعري من فلان؟ ونبرأ إلى الله تعالى من كل دين أخذ عن
فلان الذي لا يدرى من هو ولا ما اسمه ولا من أبوه ولا اسمه، والآخر طلق بن غنام عن
شريك. وقيس بن الربيع وكلهم ضعيف، والثالث مرسل وفيه المبارك بن فضالة وليس
بالقوى، وحديث بشير عن رجل يسمى ديسم مجهول، ثم لو صحت لما كان فيها حجة لان
نصها لا تخن من خانك وأد الأمانة إلى من ائتمنك وليس انتصاف المرء من حقه خيانة
بل هو حق واجب وانكار منكر وإنما الخيانة أن تخون بالظلم والباطل ولا حق
لك عنده لا من افترض الله تعالى عليه أن يخرج إليك من حقك أو من مثله ان عدم حقك
وليس رد المظلمة أداء أمانة بل هو عون على الخيانة ثم لا حجة في هذه الأخبار الا لمن
منع من الانتصاف جملة، وأما من قسم فأباح اخذ ما وجد من نوع ما له فقط فمخالف
لهذه الآثار ولغيرها وبالله تعالى التوفيق * تم كتاب التفليس والحمد لله رب العالمين (1) *
بسم الله الرحمن الرحيم * كتاب الإجارات والاجراء
1285 مسألة الإجارة جائزة في كل شئ له منفعة فيؤاجر لينتفع به ولا
يستهلك عينه * روينا من طريق مسلم نا إسحاق بن منصور أنا يحيى بن حماد نا أبو عوانة
عن سليمان الشيباني - هو أبو إسحاق - عن عبد الله بن السائب انهم سمعوا عبد الله
ابن معقل يقول: زعم ثابت (2) - هو ابن الضحاك -: (أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة [وقال: لا بأس بها] 3)) *
قال على: قد صح سماع عبد الله بن معقل من ثابت بن الضحاك، وقد جاءت في
الإجارات آثار، وبإباحتها يقول مهور العلماء الا أن إبراهيم بن علية قال: لا تجوز
لأنها أكل مال بالباطل *
قال على: هذا باطل من قوله وقد استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أرقط دليلا إلى مكة *



(1) إلى هنا تم الجزء الثالث من كتاب المحلى النسخة التي نعبر عنها باليمنية وهي نسخة
الفاضل الغيور الشيخ محمد حسين نصيف
(2) في صحيح مسلم ج 1 ص 455 (قال: (دخلنا على عبد الله بن معقل فسألناه عن المزارعة فقال زعم ثابت) الخ
(3) الزيادة من صحيح مسلم
182
1286 - مسألة - والإجارة ليست بيعا وهي جائزة في كل ما لا يحل بيعه كالحر.
والكلب. والسنور. وغير ذلك ولو كانت (1) بيعا لما جازت إجارة الحر، والقائلون إنها
بيع يجيزون إجارة الحر فتناقضوا، ولا يختلفون في أن الإجارة إنما هي الانتفاع بمنافع
الشئ المؤاجر التي لم يخلق بعد ولا يحل بيع ما لم يخلق بعد فظهر فساد هذا القول *
1287 - مسألة - ولا يجوز إجارة ما تتلف عينه أصلا مثل الشمع للوقيد. والطعام
للاكل. والماء للسقي به. ونحو ذلك لان هذا بيع لا إجارة، والبيع هو تملك العين،
والأجرة لا تملك بها العين *
1288 - مسألة - ومن الإجارات ما لا بد فيه من ذكر العمل الذي يستأجر عليه
فقط ولا يذكر فيه مدة كالخياطة. والنسج. وركوب الدابة إلى مكان مسمى ونحو ذلك،
ومنها ما لابد فيه من ذكر المدة كسكنى الدار. وركوب الدابة. ونحو ذلك، ومنه
ما لابد فيه من الامرين معا كالخدمة ونحوها فلابد من ذكر المدة والعمل لان الإجارة
بخلاف ما ذكرنا مجهولة وإذا كانت مجهولة فهي أكل مال بالباطل، والإجارة على تعليم
القرآن والعلم جائزة لان كل ذلك داخل في عموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤاجرة *
1289 - مسألة - ومن استأجر حرا أو عبدا من سيده للخدمة مدة مسماة بأجرة
مسماة فذلك جائز، وليستعملهما فيما يحسنانه ويطيقانه بلا اضرار بهما * روينا من
طريق البخاري نا يحيى بن بيكر نا الليث بن سعد عن عقيل قال: قال ابن شهاب: أخبرني
عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين [رضي الله عنها] (2) قالت: (استأجر رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلا من بنى الديل هاديا خريتا وهو على دين [كفار] (3) قريش
ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال) *
1290 - مسألة - ولا يجوز اشتراط تعجيل الأجرة ولا تعجيل شئ منها ولا اشتراط
تأخيرها إلى أجل ولا تأخير شئ منها كذلك ولا يجوز أيضا اشتراط تأخير الشئ
المستأجر ولا تأخير العمل المستأجر له طرفة عين فما فوق ذلك لأنه شرط ليس في كتاب
الله تعالى فهو باطل، ومن هذا استئجار دار مكتراة. أو عبد مستأجر. أو دابة مستأجرة.
أو عمل مستأجر. أو غير ذلك كذلك قبل تمام الإجارة التي هو مشغول فيها لان في هذا العقد
اشتراط تأخير قبضه الشئ المستأجر أو العمل المستأجر له، وقد أجاز بعض الناس إجارة
ما ذكرنا قبل انقضاء مدته باليومين ومنع من أكثر وهذا تحكم فاسد ودعوى باطل بلا برهان،



(1) في النسخة رقم 16 (فلو كانت)
(2) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 181
(3) الزيادة من صحيح البخاري
183
وليس إلا حرام فيحرم جملة أو حلال فيحل جملة، وقالوا: هو في المدة الطويلة غرر فقلنا:
وهو أيضا في الساعة غرر ولا فرق إذ لا يدرى أحد ما يحدث بعد طرفة عين الا الله تعالى،
وأيضا فيكلفون إلى تحديد المدة (1) التي لا غرر فيها والمدة التي فيها غرر، وان يأتوا بالبرهان
على ذلك والا فهم قائلون في الدين ما لا علم لهم به، فان تأخر كل ذلك بلا شرط فلا بأس
وبالله تعالى التوفيق *
1291 - مسألة - وموت الأجير. أو موت المستأجر. أو هلاك الشئ المستأجر.
أو عتق العبد المستأجر. أو بيع الشئ المستأجر من الدار. أو البعد. أو الدابة. أو غير
ذلك أو خروجه عن ملك مؤاجره بأي وجه خرج كل ذلك يبطل عقد الإجارة فيما
بقي من المدة خاصة قل أو كثر وينفذ العتق. والبيع والاخراج عن الملك بالهبة.
والاصداق. والصدقة *
برهان ذلك قول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا عليها) وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) وإذا مات المؤاجر فقد صار ملك الشئ المستأجر
لورثته أو للغرماء وإنما استأجر المستأجر منافع ذلك الشئ والمنافع إنما تحدث شيئا بعد
شئ فلا يحل له الانتفاع بمنافع حادثة في ملك من لم يستأجر منه شيئا قط، وهذا هو
أكل المال بالباطل جهارا، ولا يلزم الورثة في أموالهم عقد ميت قد بطل ملكه عن ذلك
الشئ ولو أنه آجر منافع حادثة في ملك غيره لكان ذلك باطلا بلا خلاف وهذا هو
ذلك بعينه، وأما موت المستأجر فإنما كان عقد صاحب الشئ معه لا مع ورثته فلا حق
له عند الورثة ولا عقد له معهم ولا ترث الورثة منافع لم تخلق بعد ولا ملكها مورثهم
قط، وهذا في غاية البيان وبالله تعالى التوفيق، وهو قول الشعبي. وسفيان الثوري.
والليث بن سعد. وأبي حنيفة. وأبي سليمان وأصحابهما * ومن طريق ابن أبي شيبة نا
عبد الله بن إدريس الأودي عن مطرف بن طريف عن الشعبي قال: ليس لميت شرط *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الصمد - هو ابن عبد الوارث - عن حماد بن سلمة
عن حميد عن الحكم بن عتيبة فيمن آجر داره عشر سنين فمات قبل ذلك قال: تنتقض
الإجارة، وقال مكحول: قال ابن سيرين: واياس بن معاوية: لا تنتقض، وقال عثمان
البتي. ومالك. والشافعي. وأصحابهما لا تنتقض الإجارة بموتهما ولا بموت أحدهما،
وأقصى ما احتجوا به أن قالوا: عقد الإجارة قد صح فلا يجوز أن ينتقض الا ببرهان
قلنا: صدقتم وقد جئناكم بالبرهان، وقالوا: فكيف تصنعون في الاحباس؟ قلنا:



(1) في النسخة الحلبية (فيكلفون ان يحدوا المدة)
184
رقبة الشئ المحبس لا مالك لها الا الله وإنما للمحبس عليهم المنافع فقط فلا تنتقض
الإجارة بموت أحدهم ولا بولادة من يستحق بعض المنفعة لكن ان مات المستأجر انتقضت
الإجارة لما ذكرنا من أن عقده قد بطل بموته ولا يلزم غيره إذ النص من القرآن قد أبطل
ذلك بقوله عز وجل: (ولا تكسب كل نفس الا عليها) (فان قالوا): قد ساقى رسول الله
صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود وملكها للمسلمين وبلا شك فقد مات من المسلمين قوم ومن اليهود
قوم والمساقاة باقية قلنا: إن هذا الخبر حق ولا حجة لهم فيه بل هو حجة لنا عليهم لوجوه أربعة *
أو لها ان ذلك العقد لم يكن إلى أجل محدود بل كان مجملا يخرجونهم إذا شاؤوا ويقرونهم
ما شاؤوا كما نذكره في المساقاة إن شاء الله تعالى ولست الإجارة هكذا *
والثاني انه إن كان لم ينقل الينا تجديد عقده صلى الله عليه وسلم أو عامله الناظر على تلك الأموال مع
ورثة من مات من يهود وورثة من مات من المسلمين فلم يأت أيضا ولا نقل انه اكتفى بالعقد
الأول عن تجديد آخر فلا حجة لهم فيه ولا لنابل لا شك (1) في صحة تجديد العقد في ذلك *
والثالث أنهم لا يقولون بما في هذا الخبر، ومن الباطل احتجاج قوم بخبر لا يقولون
به على من يقول به وهذا معكوس *
والرابع أن هذا الخبر إنما هو في المساقاة والمزارعة وكلا منا ههنا في الإجارة وهي أحكام
مختلفة وأول من يخالف بينهما فالمالكيون والشافعيون المخالفون لنا في هذا المكان فلا يجيزان
المزارعة أصلا قياسا على الإجارة ولا يريان للمساقاة حكم الإجارة، فمن المحال ان لا يقيسوا
الإجارة عليهما وهم أهل القياس ثم يلزموننا أن نفيسها عليهما ونحن نبطل القياس،
وبالله تعالى التوفيق *
وأما البيع. والهبة. والعتق. والاصداق وغير ذلك فان الله تعالى يقول: (وأحل
الله البيع) ويقول: (والمصدقين والمصدقات) ويقول: (وآتوا النساء صدقاتهن
نحلة وحض على العتق فعم تعالى ولم يخص، فكل ذلك في كل ما يملكه المرء فإذا نفذ
كل ذلك فيه فقد خرج عن ملك مالكه فإذا خرج عن ملكه فقد بطل عقده فيه إذ لا حكم
له في مال غيره ولا يحل للمستأجر منافع حادثة في ملك غير مؤاجره وخدمة حر لم يعاقده
قط لأنها حرام عليه لأنها بغير طيب نفس مالكها وبغير طيب نفس الحر فهو أكل مال بالباطل
فان ذكروا قول الله تعالى: (أوفوا بالعقود) وهذا عقد لازم حق قلنا: نعم هو مأمور
بالوفاء بالعقد في ماله لا في مال غيره بل هو محرم عليه التصرف في مال غيره، (فان قالوا)
اخراجه للشئ الذي آجر من ملكه ابطال للوفاء بالعقد الذي هو مأمور بالوفاء به قلنا:
وقولكم لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما أصلا اما أن تمنعوه من اخراجه عن



(1) في النسخة رقم 16 (بل لا يشك)
185
ملكه بالوجوه التي أباح الله تعالى له اخراجه بها عن ملكه بسبب عقد الإجارة واما أن
تبيحوا له اخراجه عن ملكه بالوجوه التي أباح الله تعالى له اخراجه بها عن ملكه لابد
من أحدهما، فان منعتموه اخراجه عن ملكه بالوجوه التي أباح الله تعالى له اخراجه
بها عن ملكه كنتم قد خالفتم الله عز وجل وحرمتم ما أحل وهذا باطل، وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله عز وجل من
اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق وشرط
الله أوثق) فصح يقينا أن شرطهما في عقد الإجارة لا يمنع ما في كتاب الله تعالى من
إباحة البيع والهبة والصدقة والا صداق، وأن شرط الله تعالى في إباحة كل ذلك أحق
من شرطهما في عقد الإجارة وأوثق ومتقدم له فإنما يكون عقدهما الإجارة على جواز
ما في كتاب الله تعالى لا على المنع منه ومخالفته، وان قلتم: بل نجيز له كل ذلك ويبقى عقد
الإجارة مع كل ذلك قلنا: خالفتم قول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها)،
فأوجبتم أن تكسب على غيره وأن ينفذ عقده في مال غيره وخالفتم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم و سلم
(إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فأبحتم للمستأجر مال غيره وأبحتم له مال من لم
يعقد معه قط فيه عقدا: ومنعتم صاحب الحق من حقه وهذا حرام. وأوجبتم للبائع
أن يأخذ إجارة على منافع حادثة في مال غيره. وعن خدمة حر لا ملك له عليه، وهذا
أكل مال بالباطل وأكل إجارة مال حرام عليه عينه والتصرف فيه. وهذا كله ظلم، وباطل
بلا شك، وقولنا هذا هو قول الشعبي: والحسن البصري. وسفيان الثوري: وغيرهم *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الوهاب الثقفي عن خالد الحذاء عن اياس بن معاوية
فيمن دفع غلامه إلى رجل يعلمه ثم أخرجه قبل انقضاء شرطه قال: يرد على معلمه ما أنفق
عليه * ومن طريق ابن أبي شيبة نا غندر عن شعبة عن الحكم بن عتيبة فيمن أجر غلامه سنة
فأراد أن يخرجه قال: له أن يأخذه؟ قال حماد: ليس له اخراجه الا من مضرة (1) *
وروينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن الحسن البصري قال: البيع
يقطع الإجارة؟ قال أيوب: لا يقطعها قال معمر: وسألت ابن شبرمة عن البيع
أيقطع الإجارة؟ قال نعم، قال عبد الرزاق: وقال سفيان الثوري: الموت والبيع
يقطعان الإجارة *
قال أبو محمد: وقال مالك. وأبو يوسف. والشافعي: ان علم المشترى بالإجارة
فالبيع صحيح ولا يأخذ الشئ الذي اشترى الا بعد تمام مدة الإجارة، وكذلك العتق



(1) في بعض النسخ (الا من تضرة)
186
نافذ والهبة وعلى المعتق ابقاء الخدمة وتكون الأجرة في كل ذلك للبائع والمعتق.
والواهب (1) قالوا: فإن لم يعلم بالبيع فهو مخير بين انفاذ البيع وتكون الإجارة للبائع
أورده لأنه لا يمتنع من الانتفاع بما اشترى وهذا فاسد بما أوردنا آنفا * وقال أبو حنيفة:
قولين، أحدهما ان للمستأجر نقض البيع، والآخر أنه مخير بين الرضا بالبيع وبين
أن لا يرضى به فان رضى به بطلت اجارته وان لم يرض به كان المشترى مخيرا بين امضاء
البيع والصبر حتى تنقضي مدة الإجارة وبين فسخ البيع لتعذر القبض (2) *
قال أبو محمد: هذان قولان في غاية الفساد والتخليط لا يعضدهما قرآن. ولا سنة.
ولا رواية سقيمة. ولا قول أحد نعلمه قبل أبي حنيفة. ولا قياس. ولا رأى سديد،
وليت شعري إذا جعل للمستأجر الخيار في فسخ البيع أترونهم يجعلون له الخيار أيضا
في رد المعتق أو امضائه؟ ان هذا لعجب! أو يتناقضون في ذلك؟ ولا يحل في شئ مما ذكرنا
من خروج الشئ المستأجر عن ملك المؤاجر ببيع. أو عتق: أو هبة. أو صدقة. أو
اصداق أن يشترط على المعتق وعلى من صار إليه الملك بقاء الإجارة لأنه شرط ليس
في كتاب الله تعالى فهو باطل *
1292 - مسألة - وكذلك ان اضطر المستأجر إلى الرحيل عن البلد أو اضطر
المؤاجر إلى ذلك فان الإجارة تنفسخ إذا كان في بقائها ضرر على أحدهما كمرض مانع.
أو خوف مانع. أو غير ذلك لقول الله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم
إليه) وقال تعالى: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) وهو قول أبي حنيفة * روينا من
طريق عبد الرزاق نا سفيان الثوري قال: سئل الشعبي عن رجل استأجر دابة إلى مكان
فقضى حاجته دون ذلك المكان؟ قال: له من الأجرة (3) بقدر المكان الذي انتهى
إليه * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن قتادة فيمن اكترى دابة إلى أرض معلومة
فأبى أن يخرج قال قتادة: إذا حدث نازلة يعذر بها (4) لم يلزمه الكراء *
1293 - مسألة - وكذلك ان هلك الشئ المستأجر فان الإجارة تنفسخ (5)،
ووافقنا على هذا أبو حنيفة. ومالك. والشافعي، وقال أبو ثور: لا تنفسخ الإجارة
بهذا أيضا بل هي باقية إلى أجلها والأجرة كلها واجبة للمؤاجر على المستأجر *



(1) في النسخة رقم 16 (وللمعتق وللواهب)
(2) في النسخة رقم 14 (وبين فسخ البيع والصبر حتى تنقضي لتعذر القبض) وهي زيادة حشو أدرجها الناسخ سهوا لأنه إذا فسخ البيع فلا معنى لصبره حتى تنقضي الإجارة
(3) في النسخة الحلبية (من الاجر)
(4) في النسخة الحلبية (إذا جاءت منزلة يعذر بها) وهو تصحيف
(5) في النسخة رقم 14 (تبطل)
187
قال أبو محمد: وهذا خطأ لأنه أكل مال بالباطل، وقاس أبو ثور ذلك على البيع
ولقد يلزم من رأى الإجارة كالبيع أن يقول بهذا، ولا فرق بين ابقاء مالك. والشافعي
الإجارة بموت المؤاجر. والمستأجر وبين ابقاء أبي ثور إياها بهلاك الشئ المستأجر
حتى قال مالك: من استؤجرت دابته إلى بلد بعينه فمات المستأجر بالفلاة ان الإجارة
باقية في ماله وان من الواجب أن يؤتى المؤاجر ثمن نقله كنقل الميت ينقله إلى ذلك البلد،
وهذا عجب ما مثله عجب! لا سيما مع ابطاله بعض الإجارة بجائحة تنزل كاستعذار. أو
قحط فاحتاط في أحد الوجهين ولم يحتط في الآخر (1) ولا تبطل إجارة بغير ما ذكرنا،
وقد روى عن شريح. والشعبي وصح عنهما ان كل واحد من المستأجر والمؤاجر ينقض
الإجارة إذا شاء قبل تمام المدة وان كره الآخر وكانا يقضيان بذلك ولا نقول بهذا لأنه
عقد عقداه في مال يملكه المؤاجر فهو مأمور بانفاذه، وكذلك معاقده ما داما حيين
وما دام ذلك الشئ في ملك من أجره (2) وبالله تعالى التوفيق *
1294 - مسألة - وجائز استئجار العبيد. والدور. والدواب وغير ذلك إلى
مدة قصيرة أو طويلة إذا كانت مما يمكن بقاء المؤاجر. والمستأجر. والشئ المستأجر
إليها، فإن كان لا يمكن البتة بقاء أحدهم إليها لم يجز ذلك العقد وكان مفسوخا أبدا *
برهان ذلك أن بيان المدة واجب فيما استؤجر لا لعمل معين فإذ هو كذلك فلا
فرق بين مدة ما وبين ما هو أقل منها أو أكثر منها، والمفرق بين ذلك مخطئ بلا شك لأنه
فرق بلا قرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قول صاحب أصلا. ولا قول تابع
نعلمه. ولا قياس. ولا رأى له وجه يعقل، والمخاوف لا تؤمن في قصير المدد كما لا تؤمن
في طويلها، وأما ان عقدت الإجارة إلى مدة يوقن أنه لابد من أن يخترم أحدهما دونها
أو لابد من ذهاب الشئ المؤاجر دونها فهو شرط متيقن الفساد بلا شك لأنه اما عقد منهما
على غيرهما وهذا لا يجوز، وإما عقد في معدوم وذلك لا يجوز وبالله تعالى التوفيق *
ولقد كان يلزم من يرى الإجارة لا تنتقض بموت أحدهما من المالكيين. والشافعيين
أو لا تنتقض بهلاك الشئ المستأجر ممن ذهب مذهب أبي ثور أن يجيز عقد الإجارة في الأرض
وغيرها إلى ألف عام. وإلى عشرة آلاف عام. وأكثر ولكن هذا مما تناقضوا فيه وبالله
تعالى نتأيد * وقد جاء النص بالإجارة إلى أجل مسمى كما روينا من طريق البخاري نا سليمان



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية (في احدى الجهتين ولم يحتط في الأخرى)
(2) في النسخة الحلبية وكذلك رقم 14 (في ملك مؤجره) والمعنى واحد *
188
ابن حرب نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر [رضي الله عنهما] (1)
قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء
فقال: من يعمل لي من غدوة (2) إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود إلى صلاة الظهر
ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى ثم
قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم) وذكر الحديث *
1295 - مسألة - وجائز استئجار المرأة ذات اللبن لا رضاع الصغير مدة مسماة *
برهان ذلك قول الله تعالى: (فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) *
1296 - مسألة - ولا يجوز استئجار شاة. أو بقرة. أو ناقة. أو غير ذلك
لا واحدة ولا أكثر للحلب أصلا لان الإجارة إنما هي في المنافع خاصة لا في تملك الأعيان
وهذا تملك اللبن وهو عين قائمة فهو بيع لا إجارة، وبيع ما لم ير قط ولا تعرف صفته
باطل، وهو قول أبي حنيفة. والشافعي، ولم يجز مالك إجارة الشاة ولا الشاتين للحلب
وأجاز إجارة القطيع من ذوات اللبن للحلب وأجاز استئجار البقرة للحرث واشتراط
لبنها وهذا كله خطأ وتناقض لأنه فرق بين القليل والكثير بلا برهان أصلا، ثم لم
يأت بحد بين ما حرم وما حلل فمزج الحرام بالحلال بغير بيان وهذا كما ترى *
وفرض على كل من حلل وحرام ان يبين للناس ما يحرم عليهم مما يحل لهم إن كان يعرف ذلك
فإن لم يعرفه فالسكوت هو الواجب الذي لا يحل غيره، ثم أجاز ذلك في الرأس الواحد من
البقر وهذا تناقض فاحش، وكذلك أجاز كراء الدار تكون فيها الشجرة أو النخلة
واستثناء ثمرتها وإن لم تكن فيها حين الإجارة ثمرة إذا كانت الثمرة أقل من ثلث الكراء
وإلا فلا يجوز، ولا يعرف هذا التقسيم عن أحد قبله ولا دليل على صحته شئ منه، ولئن كان
الكثير مما ذكرنا حلالا فالقليل من الحلال حلال، وإن كان حراما فالقليل من الحرام
حرام، وهذا بعينه أنكروا على الحنيفيين إذ أباحوا القليل مما يكسر كثيره وقد
وافقونا على أنه لا يحل كراء الطعام ليؤكل فما الفرق بين ذلك وبين ما أباحوه من
كراء الدار بالثمرة التي لم تخلق فيها لتؤكل وبين كراء الغنم لتحلب؟ فان قالوا: قسنا
ذلك على استئجار الظئر قلنا: القياس كله باطل ثم لو كان حقا لكان ههنا باطلا لان
أصح القياس ههنا إن يقاس استئجار الشاة الواحدة للحلب على استئجار الظئر الواحدة



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 183
(2) في النسخة رقم 16 (من غدوة النهار) بزيادة لفظ النهار ولم توجد في البخاري ولا في جميع النسخ، والحديث مطول اختصره المصنف كما أشار إلى ذلك
189
للرضاع فحرمتم ذلك ثم قسمتم حيث لا تشابه بينهما من البقرة للحرث ومن القطيع
الكثير عدده، والعلة المانعة عندهم من إجارة الرأس الواحد للحلب موجودة في الظئر
ولا فرق، وما رأينا أجهل بالقياس ممن هذا قياسه، وبالله تعالى التوفيق *
1297 - مسألة - ولا تجوز إجارة الأرض أصلا لا للحرث فيها. ولا للغرس
فيها. ولا للبناء فيها. ولا لشئ من الأشياء أصلا لا لمدة مسماة قصيرة ولا طويلة.
ولا لغير مدة مسماة لا بدنانير. ولا بدراهم. ولا بشئ أصلا، فمتى وقع فسخ أبدا،
ولا يجوز في الأرض إلا المزارعة بجزء مسمى مما يخرج منها أو المغارسة كذلك فقط،
فإن كان فيها بناء قل أو كثر جاز استئجار ذلك البناء وتكون الأرض تبعا لذلك البناء
غير داخلة في الإجارة أصلا *
برهان ذلك ما رويناه من طريق مسلم نا عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد حدثني أبي
عن جدي ثنى عقيل بن خالد عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم بن عبد الله بن عمر
قال: لقى عبد الله بن عمر رافع به خديج فسأله؟ فقال له رافع: سمعت عمى - وكانا قد
شهدا بدرا - يحدثان [أهل الدار] (1): (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض)
فذكر الحديث وفيه: (ان ابن عمر ترك كراء الأرض) *
قال أبو محمد: أهل بدر كلهم عدول * روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن
سفيان الثوري عن يحيى بن سعيد عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن جده رافع
ابن خديج قال: جاء جبريل أو ملك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تعدون من شهد
بدرا فيكم؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيارنا قال: كذلك هم عندنا) *
قال على: ومن روينا عنه المنع من كراء الأرض جملة جابر بن عبد الله. ورافع
ابن خديج: وابن عمر. وطاوس. ومجاهد. والحسن *
قال على: وعند ذكرنا للمزارعة إن شاء الله تعالى نتقصى ما شغب به من أباح كراء
الأرض ونقض كل ذلك بحول الله تعالى وقوته *
1298 - مسألة - ولا يجوز استئجار دار ولا عبد ولا دابة ولا شئ أصلا
ليوم غير معين. ولا لشهر غير معين. ولا لعام غير معين لان الكراء لم يصح على
شئ لم يعرف فيه (2) المستأجر حقه فهو أكل مال بالباطل وعقد فاسد، وبالله تعالى التوفيق *
1299 - مسألة - وكل ما عمل الأجير شيئا مما استؤجر لعمله استحق من
الأجرة بقدر ما عمل فله طلب ذلك وأخذه وله تأخيره بغير شرط حتى يتم عمله أو يتم



(1) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 454 وهو فيه مطول
(2) في النسخة رقم 16 (منه)
190
منه جملة ما لان الأجرة إنما هي على العمل فلكل جزء من العمل جزء من الأجرة،
وكذلك كل ما استغل المستأجر الشئ الذي استأجر فعليه من الإجارة بقد ذلك أيضا،
وكما ذكرنا للدليل الذي ذكرنا، وبالله تعالى التوفيق *
1300 - مسألة - وجائز الاستئجار بكل ما يحل ملكه وان لم يحل بيعه كالكلب
والهر. والماء. والثمرة التي لم يبد صلاحها. والسنبل الذي لم ييبس فيستأجر الدار بكلب
معين. أو كلب موصوف في الذمة. وبثمرة قد ظهرت ولم يبد صلاحها. وبماء موصوف
في الذمة أو معين محرز، أو بهر كذلك لان الإجارة ليست بيعا وإنما نهى في هذه الأشياء
عن البيع، وقياس الإجارة على البيع باطل لو كان القياس حقا فكيف وهو كله باطل؟
لأنهم موافقون لنا على إجارة الحر نفسه وتحريمهم لبيعه ولان البيع تمليك للأعيان بالنقل
لها عن ملك آخر والإجارة تمليك منافع لم تحدث بعد، وبالله تعالى التوفيق *
1301 - مسألة - والإجارة الفاسدة ان أدركت فسخت أو ما أدرك منها، فان
فاتت أو فات شئ منها قضى فيها أو فيما فات منها بأجر المثل لقول الله تعالى: (والحرمات
قصاص) فمن استغل (1) مال غيره بغير حق فهي حرمة انتهكها فعليه أن يقاص بمثله
من ماله، وبالله تعالى التوفيق *
1302 - مسألة - ولا تجوز الإجارة على الصلاة. ولا على الاذان لكن اما أن
يعطيهما الامام من أموال المسلمين على وجه الصلة وإما أن يستأجرهما أهل المسجد على
الحضور معهم عند حلول أوقات الصلاة فقط مدة مسماة فإذا حضر تعين الأذان والإقامة
على من يقوم بهما، وكذلك لا تجوز الإجارة على كل واجب تعين على المرء من
صوم. أو صلاة. أو حج. أو فتيا. أو غير ذلك. ولا على معصية أصلا لان كل ذلك
أكل مال بالباطل لان الطاعة المفترضة لابد له من عملها والمعصية فرض عليه اجتنابها
فأخذ الأجرة (2) على ذلك لا وجه له فهو أكل مال بالباطل، وكذلك تطوع المرء عن
نفسه لا يجوز أيضا اشتراط أخذ مال عليه لأنه يكون حينئذ لغير الله تعالى *
روينا من طريق ابن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن أشعث - هو ابن عبد الملك الحمراني -
عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال: كان آخر ما عهد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن لا أتخذ
مؤذنا يأخذ على أذانه أجرا *
1303 - مسألة - وجائز للمرء أن يأخذ الأجرة على فعل ذلك عن غيره مثل أن



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية (فمن استعمل)
(2) في النسخة رقم 16 (فأخذ الإجارة)
191
يحج عنه التطوع. أو يصلى عنه التطوع. أو يؤذن عنه التطوع: أو يصوم عنه التطوع
لان كل ذلك ليس واجبا على أحدهما ولا عليهما، فالعامل يعمله عن غيره لا عن نفسه فلم
يطع ولا عصى، وأما المستأجر فأنفق ماله في ذلك تطوعا لله تعالى فله أجر ما اكتسب بماله *
1304 - مسألة - ولا تجوز الإجارة في أداء فرض من ذلك الاعن عاجز أو ميت
لما ذكرنا في كتاب الحج. وكتاب الصيام من النصوص في ذلك وجواز أن يعمله المرء
عن غيره فالاستئجار في ذلك جائز لأنه لم يأت عنه نهى فهو داخل في عموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم
بالمؤاجرة، وأما الصلاة المنسية. والمنوم عنها. والمنذورة فهي لازمة للمرء إلى حين
موته فهذه تؤدى عن الميت، فالإجارة في أدائها عنه جائزة، وأما المتعمد تركها فليس عليه
أن يصليها إذ ليس قادرا عليها إذ قد فاتت فلا يجوز أن يؤدى عنه ما ليس هو مأمورا بأدائه،
وبالله تعالى التوفيق *
1305 - مسألة - ولا تجوز الإجارة على النوح ولا على الكهانة لأنهما معصيتان
منهى عنهما لا يحل فعلهما ولا العون عليهما فالإجارة على ذلك. أو العطاء عليه معصية.
وتعاون على الاثم والعدوان *
1306 - مسألة - ولا تجوز الإجارة على الحجامة ولكن يعطى على سبيل طيب
النفس له طلب ذلك فان رضى والا قدر عمله بعد تمامه لا قبل ذلك وأعطى ما يساوى،
وكذلك لا تحل الإجارة على انزاء الفحل أصلا لا نزوة ولا نزوات معلومة، فإن كان
العقد إلى أن تحمل الأنثى كان ذلك أبلغ في الحرام والباطل وأكل السحت. لما روينا
من طريق شعبة عن المغيرة بن مقسم قال: سمعت ابن أبي نعم (1) قال: سمعت أبا هريرة
يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام. وثمن الكلب. وعسب الفحل) *
وروينا النهى عن عسب الفحل وكسب الجحام من طرق كثيرة ثابتة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وقال أبو حنيفة والشافعي. وأحمد. وأبو سليمان: لا تجوز الإجارة على
ضراب الفحل * وروينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن شوذب
أبى معاذ قال: قال لي البراء بن عازب: لا يحل عسب الفحل * ومن طريق الأعمش عن
عطاء بن أبي رباح قال: قال أبو هريرة (أربع من السحت. ضراب الفحل. وثمن
الكلب. ومهر البغي. وكسب الحجام) وقال عطاء: لا تعطه على طراق الفحل أجرا



(1) هو بضم أوله وسكون ثانيه، واسمه عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي أبو الحكم
الكوفي، ووقع في النسخة رقم 16 والنسخة الحلبية (ابن أبي نعيم) بزيادة ياء آخر
الحروف وهو غلط
192
الا أن لا تجد من يطرقك وهو قول قتادة *
قال أبو محمد: وأباح مالك الأجرة (1) على ضراب الفحل كرات مسماة وما نعلم
لهم حجة أصلا لا من نص ولا من نظر، ورووا رواية فاسدة موضوعة من طريق عبد
الملك بن حبيب - وهو هالك - عن طلق بن السمح (2) ولا يدرى من هو؟ عن عبد الجبار
ابن عمر وهو ضعيف أن ربيعة أباح ذلك، وذكره عن عقيل بن أبي طالب أنه كان له تيس
ينزيه بالأجرة *
قال أبو محمد: قد أجل الله قدر عقيل في نسبه وعلو قدره عن أن يكون تياسا يأخذ الأجرة
على قضيب تيسه، وأما أجرة الحجام فقد ذكرنا عن أبي هريرة تحريمها، وروى
عن عثمان أمير المؤمنين أيضا عن غيره من الصحابة رضي الله عنهم، وروينا عن ابن
عباس إباحة كسبه * واحتج من أباحه بما روينا من طريق شعبة عن حميد الطويل عن
أنس قال: (دعاء النبي صلى الله عليه وسلم غلاما فحجمه (3) فامر له بصاع أو صاعين وكلم فيه
فخفف من خراجه) *
قال أبو محمد: فاستعمال الخبرين واجب فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه عن غير مشارطة
فكانت مشارطته لا تجوز، ولأنه أيضا عمل مجهول، ولا خلاف في أن ذلك الحديث ليس
على ظاهره لان فيه النهى عن كسب الحجام جملة وقد يكسب من ميراث. أو من سهم
من المغنم. ومن ضيعة. ومن تجارة وكل ذلك مباح له بلا شك، ولم تحرم الحجامة قط
بلا خلاف ولا بدله من كسب يعيش منه والا مات ضياعا، فصح ان كسبه بالحجامة
خاصة هو المنهى عنه فوجب أن يستثنى من ذلك فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون حلالا
حسنا ويكون ما عداه حراما كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا معمر بن سالم
عن أبي جعفر - هو ابن محمد بن علي بن الحسين - قال: لا بأس بأن يحتجم الرجل ولا يشارط،
وهو قول أبى سليمان. وأصحابنا *
1307 - مسألة - والإجارة جائزة على تعليم القرآن. وعلى تعليم العلم مشاهرة
وجملة، وكل ذلك جائز، وعلى الرقى. وعلى نسخ المصاحف. ونسخ كتب العلم لأنه لم
يأت في النهى عن ذلك نص بل قد جاءت الإباحة كما روينا من طريق البخاري نا أبو محمد
سيدان بن مضارب الباهلي نا أبو معشر البراء [هو صدوق] (4) يوسف بن يزيد حدثني
عبيد الله بن الأخنس أبو مالك عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن نفرا من أصحاب رسول الله



(1) في النسخة رقم 16 (الإجارة)
(2) هو بفتح أوله وسكون ثانيه وفى آخره حاء مهملة
(3) في النسخة رقم 16 (يحجمه)
(4) الزيادة من صحيح البخاري ج 7 ص 241
193
صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من
راق؟ [إن في الماء رجلا لديغا أو سليما] (1 فانطلق رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على
شاء فبرأ فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجرا [حتى
قدموا المدينة] فقالوا: يا رسول الله أخذ على كتاب الله أجرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ان أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله، والخبر المشهور (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج
امرأة من رجل بما معه من القرآن) (2) أي ليعلمها إياه، وهو قول مالك. والشافعي.
وأبي سليمان، وقال أبو حنيفة. والحسن بن حي: لا تجوز الأجرة على تعليم القرآن،
واحتج له مقلدوه بخبر رويناه من طريق قاسم بن أصبغ نا عبد الله بن روح نا شبابة - هو ابن
ورقاء - نا أبو زيد عبد الله بن العلاء الشامي نا بشر بن عبيد الله عن أبي إدريس الخولاني
قال: كان عند أبي بن كعب ناس يقرئهم من أهل اليمن فأعطاه أحدهم قوسا يتسلحها
في سبيل الله تعالى فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتحب أن تأتى بها في عنقك يوم القيامة
نارا) * ورويناه أيضا من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع. وحميد بن عبد الرحمن
[الرؤاسي] (3) عن المغيرة بن زاد الموصلي عن عبادة بن نسي قاضى الأردن عن الأسود
ابن ثعلبة عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قصة القوس * وأيضا من طريق
أبى داود عن عمرو بن عثمان نا بقية نا بشر (4) بن عبد الله بن يسار عن عبادة بن نسي
عن جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله * ومن طريق سعيد
ابن منصور عن إسماعيل بن عياش عن عبد ربه بن سليمان بن عمير بن زيتون عن الطفيل
ابن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه عرض له ذلك في القوس مع أبي بن كعب وفيه زيادة
(أنه قال: يا رسول الله انا نأكل من طعامهم قال: أما طعام صنع لغيرك فحضرته فلا بأس
ان تأكله وأما ما صنع لك فان أكلته فإنما تأكله بخلاقك) * ومن طريق ابن أبي شيبة نا
محمد بن ميسر (5) أبو سعد عن موسى بن علي بن رباح عن أبيه ان أبي بن كعب غداه
رجل كان يقرئه القرآن فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن كان شئ يتحفك به فلا خير
فيه وإن كان من طعامه وطعام أهله فلا بأس به) * ومن طريق ابن أبي شيبة نا عفان بن
مسلم نا أبان بن يزيد العطار حدثني يحيى بن أبي كثير عن زيد - هو ابن أبي سلام - عن أبي سلام
- هو ممطور الحبشي - عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل) سمعت رسول الله



(1) الزيادة من صحيح البخاري
(2) الحديث في الصحيحين وغيرهما
(3) الزيادة من سنن أبي داود
(4) في النسخة رقم 16 (بشير) بزيادة ياء آخر الحروف وهو غلط
(5) في النسخة الحلبية (بن قيس) وفى رقم 16 (بن مسروق) وهو غلط
194
صلى الله عليه وسلم يقول: تعلموا القرآن ولا تعلوا عنه (1) ولا تجفوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكبروا
به ولا تستكثروا به) ورويناه عن عوف بن مالك من قوله مثل هذا أنه قال في قوس أهداها
انسان إلى من كان يقرئه: (أتريدان تعلق قوسا من نار) * وصح عن عبد الله بن مغفل
أنه أعطاه الأمير ما لا لقيامه بالناس في رمضان فأبى وقال: إنا لا نأخذ للقرآن أجرا *
ومن طريق سعيد بن منصور نا خالد بن عبد الله - هو الطحان - عن سعيد بن اياس الجريري
عن عبد الله بن شقيق قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون بيع المصاحف وتعليم
الغلمان بالأرش ويعظمون ذلك، وصح عن إبراهيم أنه كره أن يشترط المعلم وأن يأخذ
أجرا على تعليم القرآن * ومن طريق شعبة. وسفيان كلاهما عن أبي إسحاق الشيباني عن أسير
ابن عمرو قال شعبة روايته: أن عمار بن ياسر أعطى قوما قرء وا القرآن في رمضان فبلغ ذلك
عمر فكرهه، وقال سفيان في روايته: ان سعد بن أبي وقاص قال: من قرأ القرآن ألحقته على
الفين فقال عمر أو يعطى على كتاب الله ثمنا؟ وصح عن عبد الله بن يزيد. وشريح لا تأخذ
لكتاب الله ثمنا * ومن طريق حماد بن سلمة عن عبد الله بن عثمان القرشي عن بلال بن سعد
الدمشقي عن الضحاك بن قيس أنه قال لمؤذن معلم كتاب الله: انى لا بغضك في الله لأنك تثغنى
في اذانك وتأخذ لكتاب الله أجار، وكره ابن سيرين الأجرة على كتاب المصاحف، وعن
علقمة أنه كره ذلك أيضا *
قال أبو محمد: هذا كل ما احتجوا به. وقد ذكرنا عن سعد. وعمار الآن انهما أعطيا
على قراءة القرآن * وروينا من طريق ابن أبي شيبة عن صدقة الدمشقي عن الوضين
ابن عطاء قال: كان بالمدينة ثلاثة معلمين يعلمون الصبيان فكان عمر بن الخطاب يرزق كل
واحد منهم خمسة عشر كل شهر * ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا مهدي بن ميمون
ابن سيرين قال: كان بالمدينة معلم عنده من أبناء أولياء الفخام فكانوا يعرفون حقه في
النيروز والمهرجان *
قال أبو محمد: محمد بن سيرين أدرك أكابر الصحابة وأخذ عنهم. أبي بن كعب (2).
وأبا قتادة فمن دونها * ومن طريق ابن أبي شيبة نا يزيد بن هارون أنا شعبة عن الحكم
ابن عتيبة قال: ما علمت أحدا كره أجر المعلم، وصح عن عطاء. وأبى قلابة إباحة أجر
المعلم على تعليم القرآن، وأجاز الحسن. وعلقمة في أحد قوليه الأجرة على نسخ المصاحف *
قال أبو محمد: أما الأحاديث في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يصح منها شئ، أما حديث أبي
إدريس الخولاني أن أبي بن كعب فمنقطع لا يعرف لأبي إدريس سماع من أبى، والآخر



(1) في النسخة رقم 16 (ولا تغلوا عنه)
(2) هو بالنصب بدل من أكابر الصحابة
195
أيضا منقطع لان علي بن رباح لم يدرك أبي بن كعب * وأما حديث عبادة بن الصامت
فاحد طرقه عن الأسود بن ثعلبة وهو مجهول لا يدرى قاله علي بن المديني. وغيره، والآخر
من طريق بقية وهو ضعيف، والثالثة من طريق إسماعيل بن عياش وهو ضعيف، ثم هو
منقطع أيضا * وأما حديث عبد الرحمن بن شبل ففيه أبو راشد الحبراني وهو مجهول ثم لو
صحت لكانت كلها قد خالفها أبو حنيفة. وأصحابه لأنها كلها إنما جاءت فيما أعطى بغير
أجرة ولا مشارطة وهم يجيزون هذا الوجه فموهوا بايراد أحاديث ليس فيها شئ مما
منعوا وهم مخالفون لما فيها فبطل كل ما في هذا الباب، والصحابة رضي الله عنهم قد اختلفوا
فبقي الاثران الصحيحان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللذان أوردنا لا معارض
لهما وباله تعالى التوفيق *
1308 - مسألة - والإجارة جائزة على التجارة مدة مسماة في مال مسمى أو هكذا
جملة كالخدمة. والوكالة. وعلى نقل جواب المخاصم طالبا كان أو مطلوبا. وعلى جلب
البينة وحملهم إلى الحاكم. وعلى تقاضى اليمين. وعلى طلب الحقوق. وعلى المجئ بمن
وجب احضاره لأن هذه كلها أعمال محدودة داخلة تحت أمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالمؤاجرة *
1309 - مسألة - وإجارة الأمير من يقضى بين الناس مشاهرة جائزة لما ذكرنا *
1310 - مسألة - ولا تجوز مشارطة الطبيب على البرء أصلا لأنه بيد الله تعالى
لا بيد أحد وإنما الطبيب معالج ومقو للطبيعة بما يقابل الداء ولا يعرف كمية قوة الدواء
من كمية قوة الداء فالبرء لا يقدر عليه إلا الله تعالى *
1311 - مسألة - وجائز أن يستأجر الطبيب لخدمة أيام معلومة لأنه عمل
محدود فان أعطى شئ عند البرء بغير شرط فحلال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم
بأخذ ما أعطى المرء من غير مسألة *
1312 - مسألة - ولا تجوز الإجارة على حفر بئر البتة سواء كانت الأرض
معروفة أو لم تكن لأنه قد يخرج فيها الصفاة الصلدة والأرض المنحلة الرخوة والصليبة،
وهذا عمل مجهول، وقد يبعد الماء في موضع ويقرب فيما هو إلى جانبه وإنما يجوز ذلك في استئجار
مياومة ثم يستعمله فيها في حفر البئر لأنه عمل محدود معلوم يتولى منه حسب ما يقدر عليه،
وبالله تعالى التوفيق *
1313 - مسألة - ولا يجوز أن يشترط على المستأجر للخياطة احضار الخيوط.
ولا على الوراق القيام بالحبر. ولا على البناء القيام بالطين أو الصخر أو الجيار وهكذا

196
في كل شئ، وهو قول أبي حنيفة. والشافعي. وأبي سليمان لأنه إجارة وبيع معاقد
اشترط أحدهما مع الآخر فحرم ذلك من وجهين، أحدهما أنه شرط ليس في كتاب الله
تعالى فهو باطل، والثاني أنه بيع مجهول وإجارة مجهولة لا يدرى ما يقع من ذلك للبيع
ولا ما يقع منه للإجارة فهو أكل مال بالباطل، فان تطوع كل من ذكرنا باحضار
ما ذكرنا عن غير شرط جاز ذلك لأنه فعل خير، وأما استئجار البناء وآلاته. والنجار
وآلاته. والوراق وأقلامه. وجمله (1) وسكينه. وملزمته. ومحبرته، والخياط وإبرته
وجمله فكل ذلك جائز حسن لأنها جارة واحدة كلها، فإن كان شئ من ذلك لغيره لم
يجز لأنه لا يدرى ما يقع من ذلك لتلك الآلة ولا ما يقع للعامل فهو أكل مال بالباطل
وبالله تعالى التوفيق، وأما الصباغ فإنما استؤجر لا دخال الثوب في قدره فقط *
1314 - مسألة - ومن استأجر دارا. أو عبدا. أو دابة. أو شيئا ما ثم أجره
بأكثر مما استأجره به أو بأقل أو بمثله فهو حلال جائز، وكذلك الصائغ المستأجر لعمل
شئ فيستأجر هو غيره ليعمله له بأقل أو بأكثر أو بمثله فكل ذلك حلال والفضل جائز
لهما إلا أن تكون المعاقدة وقعت على أن يسكنها بنفسه. أو يركبها بنفسه. أو يعمل العمل
بنفسه فلا يجوز غير ما وقعت عليه الإجارة لأنه لم يأت نهى عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وهي
مؤاجرة وقد أمر عليه السلام بالمؤاجرة وبالله تعالى التوفيق *
1315 - مسألة - والإجارة بالإجارة جائزة كمن أجر سكنى دار بسكنى دار
أو خدمة عبد بخدمة عبد. أو سكنى بخدمة عبد أو بخياط كل ذلك جائز لأنه لم يأت نص
بالنهي عن ذلك وهو قول مالك، وقال أبو حنيفة: لا يجوز كراء دار بكراء دار ويجوز
بخدمة عبد، وهذا تقسيم فاسد *
بقية الكلام في المسألة التي قبل هذه
قال على: روينا من طريق ابن أبي شيبة نا عباد بن العوام عن عمر بن عامر عن قتادة عن
نافع عن ابن عمر أنه قال فيمن استأجر أجيرا فأجره بأكثر مما استأجره قال ابن عمر: الفضل
للأول * ومن طريق وكيع نا شعبة عن قتادة عن ابن عمر أنه كرهه، وصح عن إبراهيم
أنه قال: يرد الفضل هو ربا، ولم يجزه مجاهد ولا اياس بن معاوية. ولا عكرمة،
وكرهه الزهري بعد إن كان يبيحه، وكرهه ميمون بن مهران. وابن سيرين. وسعيد
ابن المسيب. وشريح. ومسروق: ومحمد بن علي. والشعبي. وأبو سلمة بن عبد الرحمن



(1) الجلم - بالتحريك - الذي يحزبه الشعر والصوف
197
وأباحه سليمان بن يسار. وعروة بن الزبير. والحسن. وعطاء *
قال أبو محمد: احتج المانعون من ذلك بأنه كالربا وهذا باطل بل هي إجارة صحيحة، ولا
فرق بين من ابتاع بثمن وباع بأكثر وبين من اكترى بشئ وأكرى بأكثر، والمالكيون
يشنعون بخلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف وهذا مما تناقضوا فيه لان ابن عمر لم
يجزه ولا يعرف له في ذلك مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، وممن قال بقول أبي حنيفة
في ذلك الشعبي *
قال على: هذا قول لا دليل على صحته والتقليد لا يجوز، والعجب أنهم قالوا: يتصدق
بالفضل! وهذا باطل لأنه إن كان حلالا فلا يلزمه أن يتصدق به الا ان يشاء وإن كان حراما
عليه فلا يحل له أن يتصدق بما لا يملك، وبالله تعالى التوفيق *
1316 مسألة وتنقية المرحاض على الذي ملأه لا على صاحب الدار، ولا
يجوز اشتراطه على صاحب الدار لان على من وضع كناسة أو زبلا أو متاعا في أرض غيره
التي هي مال غيره لم يجز له ذلك وعليه أن يزيله عن المكان الذي لا حق له فيه واشتراطه على
صاحب الدار باطل من وجهين، أحدهما انه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل،
والثاني انه مجهول القدر فهو شرط فاسد، وبالله تعالى التوفيق *
1317 مسألة فإن كان خانا يبيتون فيه ليلة ثم يرحلون فعلى صاحب الخان
احضار مكان فارغ للخلاء ان شاء والا يتبرزوا في الصعدات ان أبى من ذلك *
1318 - مسألة - والأجرة على كنس السكنف جائزة وهو الظاهر من أقوال أبي حنيفة
. ومالك. والشافعي. وأبي سليمان لعموم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاجرة على
أننا روينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو عوانة عن الفضيل بن طلحة أن ابن عمر قال لرجل
كناس للعذرة: أخبره أنه منه تزوج. ومنه كسب. ومنه حج فقال له ابن عمر: أنت
خبيث وما كسبت خبيث وما تزوجت خبيث حتى تخرج منه كما دخلت فيه، قال سعيد
ابن منصور: انا مهدي بن ميمون عن واصل مولى أبى عيينة عن عمرو بن هرم عن عبد الحميد
ابن محمود أنه سمع ابن عباس وقد قال له رجل: انى كنت رجلا كساحا أكسح هذه الحشوش
فأصبت مالا فتزوجت منه وولد لي فيه وحججت فيه فقال له ابن عباس: أنت ومالك
خبيث. وولدك خبيث ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف. فأين الحنيفيون والمالكيون
عن هذا إن طردوا أقوالهم؟ ولا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم
*
1319 - مسألة - وجائزا عطاء الغزل للمنسج بجزء مسمى منه كربع. أو ثلث.
أو نحو ذلك فان تراضيا علي أن ينسجه النساج معا ويكونا معا شريكين فيه جاز ذلك

198
وان أبى أحدهما لم يلزمه وكان للنساج من الغزل الذي سمى له أجرة بمقدار ما ينسج من
الاجر حتى يتم نسجه ويستحق جميع ما سمى له، وكذلك يجوز اعطاء الثوب للخياط (1)
بجزء منه مشاع أو معين. واعطاء الطعام للطحين بجزء منه كذلك، واعطاء الزيتون
للعصير كذلك. وكذلك الاستئجار لجميع هذه الزيوت المحدودة بجزء منها كذلك كل
ذلك جائز، وكذلك استئجار الراعي لحراسة هذه الغنم بجزء منها مسمى كذلك أيضا،
ولا يجوز بجزء مسمى من النسل الذي لم يولد بعد لان كل ما ذكر نا قبل فهي إجارة محدودة في
شئ موجود قائم، ولا تجوز الإجارة بما لم يخلق بعد لأنه غرر لا يدرى أيكون أم لا؟ *
روينا من طريق ابن أبي شيبة نا محمد بن أبي عدى عن ابن عون سألت محمد بن سيرين
عن دفع الثوب إلى النساج بالثلث ودرهم أو بالربع أو بما تراضيا عليه؟ قال: لا أعلم
به بأسا * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان قال: أجاز الحكم إجارة الراعي للغنم
بثلثها أو ربعها، وهو قول ابن أبي ليلى، وروى عن الحسن أيضا * نا ابن أبي شيبة نا ابن علية
عن ليث عن عطاء مثل قول ابن سيرين * نا ابن أبي شيبة نا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري
مثل قول ابن سيرين. وعطاء * نا ابن أبي شيبة نا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد
قال: سألت أيوب السختياني. ويعلي بن حكيم عن الرجل يدفع الثوب إلى النساج بالثلث
والربع؟ فلم يريا به بأسا * نا ابن أبي شيبة نا زيد بن الحباب عن أبي هلال عن قتادة قال:
لا بأس أن يدفع إلى النساج بالثلث. والربع * نا ابن أبي شيبة نا عبدة بن سليمان
عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: لا بأس بان يعالج الرجل
النخل ويقوم عليه بالثلث. والربع ما لم ينفق هو منه شيئا * نا ابن أبي شيبة نا ابن علية
عن أيوب السختياني عن الفضيل عن سالم قال: النخل يعطى من عمل فيه منه، وهو
قول ابن أبي ليلى والأوزاعي. والليث، وكره كل ذلك إبراهيم. والحسن في أحد قوليه
ولم يجزه أبو حنيفة. ولا مالك. ولا الشافعي *
1320 - مسألة - وجائز كراء السفن كبارها وصغارها بجزء مسمى مما يحمل
فيها مشاع في الجميع أو متميز، وكذلك الدواب. والعجل ويستحق صاحب السفينة
من الكراء بقدر ما قطع من الطريق عطب أو سلم لأنه عمل محدود، وقال مالك: لا كراء
له إلا إن بلغ *
قال على: وهذا خطأ واستحلال تسخير السفينة بلا أجرة وبلا طيب نفس صاحبها
ولا فرق بين السفينة. والدابة في ذلك، وقوله في هذا قول لا يعضده قرآن ولا سنة



(1) في النسخة رقم 16 (للخياطة)
199
ولا رواية سقيمة. ولا قول أحد قبله نعلمه، ولا قياس، ولا رأى له وجه، وكذلك
استئجار خدمة المركب جائز ولهم من الأجرة بقدر ما عملوا عطب المركب أو سلم،
وبالله تعالى التوفيق *
1321 - مسألة - فان هال البحر وخافوا العطب فليخففوا الأثقل فالأثقل،
ولا ضمان فيه على أهل المركب لأنهم مأمورون بتخليص أنفسهم، قال الله تعالى:
(ولا تقتلوا أنفسكم) وقال تعالى: (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) فمن فعل ما أمر
به فهو محسن، قال الله تعالى: (ما على المحسنين من سبيل) وقال مالك: يضمن ما كان
للتجارة ولا يضمن ما سيق للاكل. والقنية ولا يضمن شئ من ذلك من لا مال له في
المركب، وهذا كله تخليط لا يعضده دليل أصلا، وقول لا نعلم أحدا تقدمه قبله، وبالله
تعالى التوفيق، فإن كان دون الأثقل ما هو أخف منه فإن كان في رمى الأثقل كلفة يطول
أمرها ويخاف غرق السفينة فيها ويرجى الخلاص برمى الأخف رمى الأخف
حينئذ لما ذكرنا، وأما من رمى الأخف وهو قادر على رمى الأثقل فهو ضامن لما رمى
من ذلك لا يضمنه معه غيره لقول النبي صلى الله عليه وآله: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام)
ولا يرمى حيوان الا لضرورة يوقن معها بالنجاة برميه ولا يلقى انسان أصلا لا مؤمن
ولا كافر لأنه لا يحل لاحد دفع ظلم عن نفسه بظلم من لم يظلمه والمانع من القاء ماله
المثقل للسفينة ظالم لمن فيها فدفع الهلاك عن أنفسهم بمنعه من ظلمهم فرض *
1322 - مسألة - واستئجار الحمام جائز ويكون البئر. والساقية تبعا، ولا يجوز
عقد إجارة مع الداخل فيه لكن يعطى مكارمة فإن لم يرض صاحب الحمام بما أعطى الزم
بعد الخروج ما يساوى بقاؤه فيه فقط لان مدة بقائه قبل أن يستوفيه مجهولة ولا يجوز عقد
الكراء على عمل مجهول لأنه أكل مال بالباطل لجهلهما بما يتراضيان به، وبالله تعالى التوفيق *
1323 - مسألة - ومن استأجر دارا فإن كانت فيها دالية. أو شجرة لم يجز دخلوها
في الكراء أصلا قل خطرها أم كثر ظهر حملها أو لم يظهر طاب أو لم يطب لأنها قبل أن
تخلق الثمرة وقبل أن تطيب لا يحل فيها عقد أصلا الا المساقاة فقط وبعد ظهور الطيب
لا يجوز فيها إلا البيع لا الإجارة لان الإجارة لا تلمك بها العين ولا تستهلك أصلا،
والبيع تملك به العين والرقبة فهو بيع بثمن مجهول. وإجارة بثمن مجهول فهو حرام من
كل جهة وهو قول أبي حنيفة. والشافعي: وأبي سليمان *
1324 - مسألة - وإجارة المشاع جائزة فيما ينقسم. وما لا ينقسم من الشريك
ومن غير الشريك ومع الشريك ودونه وهو قول مالك. والشافعي. وأبى يوسف.

200
ومحمد بن الحسن: وأبي سليمان. وغيرهم، وقال أبو حنيفة: لا تجوز إجارة المشاع لا ما ينقسم
ولا ما لا ينقسم الا من الشريك وحده، وقال: لا يجوز رهن المشاع كان مما ينقسم أو مما
لا ينقسم لا عند الشريك فيه ولا عند غيره فان ارتهن اثنان معا رهنا من واحد جاز ذلك،
وقال: لا تجوز هبة المشاع إن كان مما ينقسم كالدور والأرضين ويجوز فيها لا ينقسم كالسيف
واللؤلؤة ونحو ذلك، وأجاز بيع المشاع ما انقسم وما لا ينقسم من الشريك وغير الشريك
ولم يجز زفر إجارة المشاع لا من الشريك ولامن غيره، وهذه تقاسيم في غاية الفساد
والدعوى بالباطل والتناقض بلا دليل أصلا ولا نعلمها عن أحد قبل أبي حنيفة، ولا حجة
لهم في ذلك الا أن قالوا: الانتفاع بالمشاع غير ممكن الا بالمهايأة وفى ذلك انتفاع
بحصة شريكة *
قال أبو محمد: وهذا داخل عليهم في البيع وفى التملك ولا فرق وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤاجرة
ولم يخص مشاعا من غير مشاع وما ينطق عن الهوى إن هو الا وحى يوحى وما كان ربك
نسيا، وقد تم الدين ولله الحمد ونحن في غنى عن رأى أبي حنيفة وغيره، وبالله تعالى التوفيق *
1325 - مسألة - ولا ضمان على أجير مشترك أو غير مشترك ولا على صانع أصلا
الا ما ثبت أنه تعدى فيه أو أضاعه والقول في كل ذلك ما لم تقم عليه بينة قوله مع يمينه فان
قامت عليه بينة بالتعدي أو الإضاعة ضمن وله في كل ذلك الأجرة فيما أثبت انه كان عمله فإن لم
تقم بينة حلف صاحب المتاع انه ما يعلم أنه عمل ما يدعى انه عمله ولا شئ عليه حينئذ،
وبرهان ذلك قول الله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) فمال الصانع والأجير
حرام على غيره فان اعتدى أو أضاع لزمه حينئذ أن يعتدى عليه بمثل ما اعتدى والإضاعة
لما يلزمه حفظه تعد وهو ملزم حفظ ما استعمل فيه بأجر أو بغير اجر لنهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال وحكمه عليه السلام بالبينة على من ادعى وباليمين على المطلوب إذا
أنكر، ومن طلب بغرامة مال أو ادعى عليه ما يوجب غرامة فهو المدعى عليه فليس عليه
الا اليمين بحكم الله عز وجل والبينة على من يدعى لنفسه حقا في مال غيره *
وقد اختلف الناس في هذا فقالت طائفة: كما قلنا * روينا من طريق شعبة عن حماد بن أبي
سليمان عن إبراهيم النخعي قال: لا يضمن الصائغ ولا القصار، أو قال الخياط وأشباهه *
ومن طريق حماد بن سلمة أنا جبلة بن عطية عن يزيد بن عبد الله بن موهب قال في حمال
استؤجر لحمل قلة عسل فانكسرت قال: لا ضمان عليه * ومن طريق ابن أبي شيبة نا أزهر
السمان عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين انه كان لا يضمن الأجير الا من تضييع *
ومن طريق ابن أبي شيبة عن إسماعيل بن سالم عن الشعبي قال: ليس على أجير المشاهرة

201
ضمان * ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان الثوري عن مطرف بن طريف
عن الشعبي قال: لا يضمن القصار الا ما جنت يده * ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي نا
سفيان الثوري عن مطرف عن الشعبي قال: يضمن الصانع ما أعنت بيده ولا يضمن
ما سوى ذلك * ومن طريق ابن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن أشعث عن ابن سيرين
عن شريح انه كان لا يضمن الملاح غرقا ولا خرقا * ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الأعلى
عن يونس بن عبيد عن الحسن البصري قال: إذا أفسد القصار فهو ضامن وكان لا يضمنه
غرقا ولا خرقا ولا عدوا مكابرا *
قال أبو محمد: وهذا نص قولنا * ومن طريق سعيد بن منصور عن مسلم بن خالد عن
ابن أبي نجيح عن طاوس انه لم يضمن القصار * ومن طريق عبد الرزاق نا معمر قال:
قال ابن شبرمة: لا يضمن الصانع الا ما أعنت بيده، وقال قتادة: يضمن إذا ضيع *
وبه إلى عبد الرزاق نا سفيان الثوري ان حماد بن أبي سليمان كان لا يضمن أحدا من
الصناع وهو قول أبي حنيفة. والشافعي. وزفر. وأبي ثور. وأحمد. وإسحاق.
والمزني. وأبي سليمان، وقالت طائفة: الصناع كلهم ضامنون ما جنوا وما لم يجنوا *
روينا من طريق عبد الرزاق عن بعض أصحابه عن الليث بن سعد عن طلحة بن سيعد
عن بكير بن عبد الله بن الأشج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمن الصناع يعنى من عمل
بيده * ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن خلاس بن عمرو قال: كان علي بن أبي طالب
يضمن الأجير * وصح من طريق ابن أبي شيبة نا حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن
أبيه أن عليا كان يضمن القصار. والصواغ وقال: لا يصلح الناس الا ذلك، وروى عنه
أنه ضمن نجارا، وصح عن شريح تضمين الأجير. والقصار. وعن إبراهيم أيضا تضمين
الصناع، وكذلك عن عبد الله بن عتبة بن مسعود. وعن مكحول انه كان يضمن كل أجير
حتى صاحب الفندق الذي يحبس للناس دوابهم، وهو قول ابن أبي ليلى حتى أنه ضمن
صاحب السفينة إذا عطبت الأمتعة التي تلفت فيها، وقالت طائفة: يضمن كل من أخذ أجرا،
وروى ذلك عن علي وعن عبد الرحمن بن يزيد وغيرهما، وقالت طائفة: يضمن الأجير
المشترك وهو العالم وهو الذي استؤجر على الاعمال ولا يضمن الخاص وهو الذي
استؤجر لمدة ما، وهو قول أبى يوسف. ومحمد بن الحسن، وروى عن إبراهيم يضمن
الأجير المشترك ولم يأت عنه لا يضمن الخاص، وقالت طائفة: يضمن الصانع
ما غاب عليه الا أن يقيم بينة انه تلف بعينه من غير فعله فلا يضمن ولا يضمن ما ظهر أصلا
الا أن تقوم عليه بينة بأنه تعدى وهو قول مالك بن أنس

202
قال أبو محمد: أما قول مالك فما نعلم له حجة أصلا لا من قرآن. ولا سنة. ولا رواية
سقيمة. ولا قول أحد قبله. ولا من قياس، وما كان هكذا فلا وجه له ولم نجد لهم شبهة
الا أنهم قالوا: إنما فعلنا ذلك احتياطا للناس فقلنا لهم: فضمنوا الودائع احتياط الناس،
فقد صح عن عمر بن الخطاب انه ضمنها أنس بن مالك، وأيضا فمن جعل المستصنعين أولى
بالاحتياط لهم من الصناع والكل مسلمون، ولو عكس عاكس عليهم قولهم لما كان
بينه وبينهم فضل كمن قال: بل أضمن ما ظهر الا أن تأتى بينة على أن الشئ تلف من غير
فعله وتعديه ولا أضمن ما بطن الا ان تقوم بينة عدل بأنه هلك من تعديه بل لعل هذا القول
أحوط في النظر، وكذلك قول أبى يوسف. ومحمد [بن الحسن] (1)، وهذا كما ترى
خالفوا فيه عمر (2). وعلي بن أبي طالب ولا يعرف لهما من الحصابة مخالف رضي الله عنهم
وهم يعظمون مثل هذا إذا وافق آراءهم (3) والقوم أصحاب قياس بزعمهم وقد قال بعضهم
من أصحاب القياس: وجدنا ما يدفعه الناس بعضهم إلى بعض من أموالهم ينقسم اقساما
ثلاثا لا رابع لها، فقسم ينتفع به الدافع وحده لا المدفوع إليه فقد اتفقنا انه لا ضمان في
بعضه كالوديعة فوجب رد كل ما كان من غيرها إليها، وقسم ينتفع به الدافع والمدفوع
إليه فقد اتفقنا على أنه لا ضمان في بعضه كالقراض فوجب رد ما كان من غيره إليه ودخل
في ذلك الرهن وما دفع إلى الصناع، وقسم ثالث ينتفع به المدفوع إليه وحده فقد اتفقنا في
بعضه على أنه مضمون كالقرض فوجب أن تكون العارية مثله *
قال أبو محمد: لو صح قياس في العالم لكان هذا ولكنهم لا الآثار اتبعوا ولا القياس
عرفوا، وبالله تعالى التوفيق *
1326 - مسألة - ولا تجوز الإجارة الا بمضمون مسمى محدود في الذمة، أو
بعين معينة متميزة معروفة الحد والمقدار وهو قول عثمان رضي الله عنه وغيره *
قال أبو محمد: وقال مالك: يجوز كراء الأجير بطعامه، واحتجوا بخبر عن
أبي هريرة كنت أجيرا لابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي *
قال أبو محمد: قد يكون هذا تكارما من غير عقد لازم وأما العقود المقتضى بها فلا
تكون الا بمعلوم، والطعام يختلف فمنه اللين. ومنه الخشن. ومنه المتوسط، ويختلف
الادم، وتختلف الناس في الاكل اختلافا متفاوتا فهو مجهول لا يجوز وبالله تعالى التوفيق *
تمت الإجارة بحمد الله *



(1) الزيادة من النسخة الحلبية
(2) في النسخة الحلبية (وهذا مما خالفوا فيه كلهم عمر) الخ
(3) في النسخة رقم 14 والحلبية (أهواءهم)
203
بسم الله الرحمن الرحيم *
كتاب الجعل في الآبق وغيره
1327 - مسألة - لا يجوز الحكم بالجعل على أحد فمن قال لآخر: ان جئتني بعبدي
الآبق فلك على دينار أو قال: إن فعلت كذلك وكذا فلك على درهم أو ما أشبه هذا (1)
فجاءه بذلك، أو هتف وأشهد على نفسه من جاءني بكذا فله كذا فجاءه به لم يقض عليه
بشئ ويستحب لو وفى بوعده، وكذلك من جاءه بآبق فلا يقضى له بشئ سواء عرف
بالمجئ بالإباق أو لم يعرف بذلك الا أن يستأجره على طلبه مدة معروفة أو ليأتيه به من
مكان معروف فيجب له ما استأجره به، وأوجب قوم الجعل وألزموه الجاعل
واحتجوا بقول الله تعالى: (أوفوا بالعقود) وبقول يوسف صلى الله عليه وسلم وخدمته عنه (قالوا:
نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وبحديث الذي رقى على قطيع من
الغنم وقد ذكرناه في الإجارات فأغنى عن اعادته *
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم فيه، أما قول الله تعالى: (أوفوا بالعقود)
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام)
وقال تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة
من أمرهم) فصح أنه ليس لأحد أن يعقد في دمه ولا في ماله ولا في عرضه ولا في بشرته عقدا
ولا أن يلتزم في شئ من ذلك حكما الا ما جاء النص بايجابه باسمه أو بإباحته باسمه، فصح
أن العقود التي أمر الله تعالى بالوفاء بها إنما هي العقود المنصوص عليها بأسمائها وان كل
ما عداها فحرام عقده، وأيضا فان الله عز وجل يقول: (ولا تقولن لشئ انى فاعل ذلك
غدا الا أن يشاء الله) فصح أن من التزم أن يفعل شيئا ولم يقل: إن شاء الله فقد خالف أمر الله
تعالى وإذ خالف أمر الله تعالى لم يلزمه عقد خالف فيه أمر ربه عز وجل بل هو معصية يلزمه
أن يستغفر الله عز وجل منه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا
فهو رد) فان قال: الا أن يشاء الله فقد علمنا يقينا علم ضرورة إذ قد عقد ذلك العقد بمشيئة
الله عز وجل ثم لم ينفذه ولا فعله فان الله تعالى لم يشأه إذ لو شاءه الله لأنفذه وأتمه فلم يخرج
عن ما التزم من كون ذلك العقدان شاءه الله تعالى أنفذه وأتمه والا فلا، وأيضا فان
المخالفين لنا في هذا لا يرون جميع العقود لازمة ولا يأخذون بعموم الآية التي احتجوا بها
بل يقولون فيمن عقد على نفسه أن يصبغ ثوبه أصفر أو أن يمشى إلى السوق أو نحو
هذا: أنه لا يلزمه فقد نقضوا احتجاجهم بعمومها ولزمهم أن يأتوا بالحد المفرق بين



(1) في النسخة الحلبية (أو ما أشبه ذلك)
204
ما يلزمونه من العقود وبين ما لا يلزمونه، وبالبرهان على صحة ذلك الحدو ذلك الفرق
وإلا فقولهم مردود لأنه دعوى بلا برهان وما كان هكذا فهو باطل قال الله تعالى: (قل
هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين) *
والعجب أن المخالفين لنا: يقولون: ان وكد كل عقد عقده بيمين لم يلزمه الوفاء
به وإنما فيه الكفارة ان لم يف به فقط ثم يلزمونه إياه إذا لم يؤكده فتراهم كلما أكد العاقد
عقده انحل عنه وإذا لم يؤكده لزمه وهذا معكوس وبالله تعالى التوفيق، وأما قول
يوسف عليه السلام فلا يلزم لوجوه، أحدها ان شريعة من قبلنا من الأنبياء عليهم السلام
لا تلزمنا قال تعالى: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضلت على
الأنبياء بست فذكر عليه السلام منها وأرسلت إلى الناس كافة) (1) وقال عليه السلام أيضا:
(أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي) فذكر عليه السلام منها (وكان النبي يبعث إلى قومه
خاصة وبعثت إلى الناس عامة) (2)، روينا هذا من طريق جابر. والذي قبله من طريق
أبي هريرة، فإذ قد صح هذا فلم يبعثوا الينا وإذ لم يبعثوا الينا فلا يلزمنا شرع لم نؤمر به
وإنما يلزمنا الايمان بأنهم رسل الله تعالى وان ما أتوا به لازم لمن بعثوا إليه فقط، وأيضا فان
المحتجين بهذه الآية أول مخالف لها لأنهم لا يلزمون من قال: لمن جاءني بكذا حمل بعير
الوفاء بما قال لان هذا الحمل لا يدرى مما هو أمن لؤلؤ. أو من ذهب. أو من رماد. أو
من تراب ولا أي البعران هو؟ ومن البعران الضعيف الذي لا يستقل بعشرين صاعا.
ومنهم القوى والصحيح الذي يستقل بثلاثمائة صاع، ولا أشد مجاهرة بالباطل ممن يحتج
بشئ هو أول مخالف له على من لم يلتزم قط ذلك الأصل، وأيضا فحتى لو كان هذا في شريعتنا
لما كان حجة علينا لأنه ليس في هذه الآية الزام القضاء بذلك وإنما فيها انه جعل ذلك
الجعل فقط وليس هذا مما خالفناهم فيه فبطل تعلقهم بالآيتين جميعا (3) ولله تعالى الحمد *
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الراقي فصحيح الا أنه لا حجة لهم فيه لأنه ليس فيه الا
إباحة أخذ ما أعطى الجاعل على الرقية فقط، وهكذا نقول وليس فيه القضاء على الجاعل
بما جعل ان أبى أن يعطيه فسقط كل ما احتجوا به وبالله تعالى التوفيق *
(فان قيل) انه وعد قلنا: قد تكلمنا في الوعد والاخلاف في آخر كتاب النذور
بما فيه كفاية وكلامنا ههنا فيه بيان انه ليس كل وعد يجب الوفاء به وإنما يجب الوفاء بالوعد
بالواجب الذي افترضه الله تعالى فقط ولا يلزمه أحدا ما التزمه لكن ما ألزمه الله تعالى



(1) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 147 من طريق أبي هريرة
(2) هو في الصحيحين
(3) في النسخة الحلبية (بالاثنين يقينا) وفى النسخة رقم 14 (بالآيتين يقينا)
205
على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فهو الذي يلزم سواء التزمه المرء أو لم يلتزمه وبالله تعالى نتأيد *
ومن العجائب أن الملزمين الوفاء بالجعل يقولون: انه لا يلزم المجعول له أن يفعل
ما جعل له فيه ذلك الجعل وهم بزعمهم أصحاب أصول يردون إليها فروعهم ففي أي الأصول
وجدوا عقدا متفقا عليه أو منصوصا عليه بين اثنين يلزم أحدهما ولا يلزم الآخر؟
وقال مالك: ما جاء بالآبق فإن كان ممن يعرف بطلب الإباق انه يجعل له على قدر قرب الموضع
وبعده فإن لم يكن ذلك شأنه ولا عمله فلا جعل له لكن يعطى ما اتفق عليه فقط، وقال أبو حنيفة
لا يجب الجعل في شئ الا في رد الآبق فقط العبد. والأمة سواء فمن رد آبقا أو آبقة من مسيرة
ثلاث ليال فصاعدا فله على كل رأس أربعون درهما فان رد هما من أقل من ثلاث رضخ له ولا
يبلغ بذلك أربعين درهما فان جاء بأحد هما من مسيرة ثلاث ليال فصاعدا وهو يساوى أربعين
درهما فأقل نقص من قيمته درهم واحد فقط، ثم رجع أبو يوسف: ومحمد بن الحسن عن هذا
القول فقال محمد: ينقص من قيمته عشرة دراهم، وقال أبو يوسف: له أربعون درهما
ولو لم يساو الا درهما واحدا *
قال أبو محمد: أما قول مالك فخطأ لا برهان على صحته أصلا لأنه تفريق بين ما لا فرق
بينه بلا برهان لا من قرآن. ولا من سنة. ولا من رواية سقيمة. ولا من قول صاحب.
ولا قياس. ولا رأى له وجه، وما نعلم هذا القول عن أحد قبله، ويلزم عليه ان من
كان بناء فمر على حائط مائل فأصلحه وبناه أن له أجرة عليه فإن لم يكن بناء وبناه فلا أجرة (1)
له، وكذلك من نسج غزلا لآخر لم يأمره به فإن كان نساجا فله الأجرة وان لم يكن
نساجا فلا أجرة له والباب يتسع ههنا جدا، فاما أن يتزيدوا من التحكم في أموال الناس
بالباطل واما أن يتناقضوا لابد من أحدهما، وأما قول أبي حنيفة وأصحابه ففي غاية الفساد
والتخليط لأنهم حدوا حدا لم يأت به قط قرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة. ولا
قول صاحب. ولا تابع. ولا أحد نعلمه قبلهم. ولا قياس. ولا رأى يعقل، ثم فيه من
التخاذل، ما لا يخفى على ذي مسكة عقل وهم قد قالوا: من قتل جارية تساوى مائة ألف
درهم فصاعدا أو أقل إلى خمسة آلاف درهم لم يكن عليه الا خمسة آلاف غير خمسة
دراهم، ومن قتل عبدا يساوى عشرين ألف درهم فصاعدا أو أقل إلى عشرة آلاف درهم
لم يكن عليه الا عشرة آلاف درهم غير عشرة دراهم ثم سووا في جعل الآبق بين المرأة
والرجل وأسقط أبو حنيفة درهما من قيمته ان لم يساو أربعين درهما فهلا أسقط من ثمن
الذكر عشرة دراهم ومن ثمن الأمة خمسة دراهم كما فعل في القتل؟ أو هلا أسقط هنا لك



(1) في النسخة رقم 14 (فلا أجر له) فيها
206
درهما كما أسقط هنا؟ وليت شعري من أين قصدوا إلى الدرهم؟ ولعله بغلى أيضا كالذي
حد به النجاسات، وهلا حد بنصف درهم أو بربع درهم أو بفلس؟ ثم ايجاب أبى يوسف
أربعين درهما في جعله وان لم يساو الا درهما فيا لله ويا للمسلمين من أضل طريقة. أو أبعد
عن الحقيقة: أو أقل مراقبة ممن يعارض حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المصراة في أن ترد
وصاع تمر لحماقتهم وآرائهم المنتنة! فقالوا: أرأيت إن كان اشتراها بنصف صاع تمر؟
ثم يوجب مثل هذا في الجعل الذي لم يصح فيه سنة قط، وهلا إذ حمقوا ههنا؟ قالوا في
المصراة: يردها وقيمتها من صاع تمر إن كانت أقل من صاع الا تمرتين أو الانصف مد
أو نحوه ذلك، ثم موهوا بأنهم اتبعوا في ذلك أثرا مرسلا. وروايات عن الصحابة رضي الله عنهم
وكذبوا في ذلك كله بل خالفوا الأثر المرسل في ذلك وخالفوا كل رواية رويت
في ذلك عن صاحب أو تابع على ما نذكر إن شاء الله تعالى *
وأعجب شئ دعواهم أن الاجماع قد صح في ذلك فإن كان اجماعا فقد خالفوه ومن
خالف الاجماع عندهم كفر، فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير وان لم يكن اجماعا
فقد كذبوا على الأمة كلها وعلى أنفسهم انظر كيف كذبوا على أنفسهم * روينا من طريق
ابن أبي شيبة نا حفص - هو ابن غياث - عن ابن جريج عن عطاء - أو ابن أبي مليكة. وعمرو
ابن دينار قالا جميعا: ما زلنا نسمع (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في العبد الآبق يوجد خارجا
من الحرم دينارا أو عشرة دراهم) * ومن طريق وكيع نا ابن جريج عن ابن أبي مليكة
وعمرو بن دينار قالا جميعا: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآبق إذا جئ به خارج الحرم
دينارا * ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن عمرو بن دينار قال: (قضى البنى صلى الله عليه وسلم
في الآبق يوجد في الحرم عشرة دراهم) وهذا خلاف قول الطائفتين مع قولهما ان المرسل
كالمسند ولا مرسل أصح من هذا لان عمرا. وعطاء. وابن أبي مليكة ثقات أئمة نجوم،
وكلهم أدرك الصحابة فعطاء أدرك عائشة أم المؤمنين وصحبها فمن دونها (1)، وابن أبي
مليكة أدرك ابن عباس. وابن عمر. وأسماء بنت أبي بكر. وابن الزبير وسمع منهم
وجالسهم، وعمر وأدرك جابرا. وابن عباس وصحبهما لا سيما مع قول اثنين منهما لا نبال
أيهما كانا انهما ما زالا يسمعان ذلك، فهان عند هؤلاء مخالفة كل ذلك تقليدا لخطأ أبي حنيفة
. ومالك، وسهل عندهم في رد السنن الثابتة بتقليد رواية شيخ من بنى كنانة عن عمر
البيع عن صفقة أو خيار. وسائر المرسلات الواهية إذا وافقت رأى أبي حنيفة ومالك، فمن
أضل ممن هذه طريقته في دينه ونعوذ بالله من الخذلان * ومن طريق ابن أبي شيبة نا محمد بن يزيد



(1) في النسخة رقم 14 (فمن بعدها)
207
عن أيوب أبى العلاء عن قتادة وأبى هاشم كلاهما قال: إن عمر بن الخطاب قضى في جعل الآبق
إذا أصيب في غير مصره أربعين درهما فان أصيب في المصر فعشرين درهما أو عشرة دراهم *
ومن طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبى نا يزيد بن هارون نا الحجاج بن أرطاة
عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب في جعل الآبق دينار أو
اثنا عشر درهما وهذا كله خلاف قول المالكيين والحنيفيين * ومن طريق أحمد بن حنبل
وابن أبي شيبة قالا جميعا: نا يزيد بن هارون عن الحجاج بن أرطاة عن الحصين
ابن عبد الرحمن عن الشعبي عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب قال في جعل الآبق
دينار أو اثنا عشر درهما زاد أحمد في روايته إذا كان خارجا من المصر، وهذا كله خلاف
قول المالكيين. والحنيفيين * ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان الثوري عن أبي
إسحاق قال: أعطيت الجعل في زمن معاوية أربعين درهما، وهذا خلاف قول
الحنيفيين. والمالكيين، تم ليس فيه ان معاوية قضى بذلك ولا أنه قضى بذلك على
أبي إسحاق ولا في أي شئ أعطاه وظاهره انه تطوع بذلك ولا يدرى في أي شئ فلا
متعلق لهم بهذا أصلا ولعله أعطاه في جعل شرطي وكله عليه زياد ظلما * ومن طريق محمد
ابن عبد السلام الخشني نا محمد بن المثنى نا أبو عامر العقدي عن سفيان الثوري عن ابن رباح
عبد الله بن رباح عن أبي عمرو الشيباني قال: أتيت عبد الله بن مسعود بإباق أو بآبق فقال
الاجر. والغنيمة قلت: هذا الاجر فما الغنيمة؟ قال: من كل رأس أربعون درهما *
ومن طريق وكيع نا سفيان الثوري عن عبد الله بن رباح عن أبي عمر والشيباني أن
رجلا أصاب آبقا بعين التمر فجاء به فجعل فيه ابن مسعود أربعين درهما *
ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة نا شيخ عن أبي عمرو الشيباني أن
ابن مسعود سئل عن جعل الآبق فقال: إذا كان خارجا من الكوفة فأربعين وإذا
كان بالكوفة فعشرة، هذا كل ما روى فيه عن الصحابة رضي الله عنهم، وكله مخالف
لأبي حنيفة. ومالك ولم يحد ابن مسعود ولا أحد قبله مسيرة ثلاث بأربعين درهما ثم
كل ذلك لا يصح *
أما عن عمر فأحد الطريقين منقطع، والأخرى والتي عن علي فكلاهما عن الحجاج
ابن أرطاة وهو ساقط، والتي عن ابن مسعود عن شيخ لا يدرى من هو، وعن عبد الله
ابن رباح القرشي وهو غير مشهور بالعدالة، وأما التابعون فصح عن شريح. وزياد
ان الآبق ان وجد في المصر فجعل واجده عشرة دراهم. وان وجد خارج المصر فأربعون
درهما، وروى هذا أيضا عن الشعبي وبه يقول إسحاق بن راهويه وهذا خلاف

208
قول أبي حنيفة، ومالك، وصح عن عمر بن عبد العزيز ما رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا
الضحاك بن مخلد عن ابن جريج أخبرني ابن أبي مليكة أن عمر بن عبد العزيز قضى في جعل
الآبق إذ أخذ (1) على مسيرة ثلاث ثلاثة دنانير، ومن طريق عبد الرزاق عن معمر قضى
عمر بن عبد العزيز في الآبق في يوم دينارا وفى يومين دينارين وفى ثلاثة أيام ثلاثة دنانير فما زاد
على أربعة فليس له الا أربعة، وهذا كله خلاف قول أبي حنيفة. ومالك * ومن طريق
أحمد بن حنبل نا محمد بن سلمة عن أبي عبد الرحيم عن زيد بن أبي شيبة عن حماد بن أبي سليمان
عن إبراهيم النخعي قال: جعل الآبق قد كان يجعل فيه وهو الذي يعمل فيه أربعون
درهما، فهذا عموم وخلاف قول أبي حنيفة. ومالك، وقد جاء عن إبراهيم خلاف هذا
ومثل قولنا، وقال أحمد بن حنبل: ان وجد في المصر فلا شئ وان وجد خارج المصر
فأربعون درهما *
قال أبو محمد: فهم ثلاثة من الصحابة لم يصح عن أحمد منهم، وهم أيضا مختلفون وهم
خمسة من التابعين مختلفون فلم يستح الحنيفيون من دعوى الاجماع من الصحابة على جعل
الآبق ولم يصح عن أحد منهم قط ولا جاء الا عن ثلاثة فقط كما ذكرنا وقد خالفوهم مع ذلك
ثم لم يكن عندهم اجماعا اجماعهم بيقين على المساقاة في خيبر إلى غير أجل وقد اتفقوا بلا شك
على ذلك عصر النبي صلى الله عليه وسلم وعصر (2) أبى بكر. وعمر رضي الله عنهم ولا بالوا بمخالفة
أكثر من ضعف هذا العدد من الصحابة رضي الله عنهم، صح عنهم القصاص من اللطمة.
من ضربة بالسوط. والمسح على الجوربين. والعمامة. وغير ذلك، ثم قد روينا خلاف
هذا كله عن بعض الصحابة والتابعين كما روينا من طريق عبد الرزاق عن الحسن بن عمارة
عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي بن أبي طالب في الإباق قال: المسلمون
يرد بعضهم على بعض * ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن إسرائيل عن إبراهيم بن
مهاجر عن إبراهيم النخعي قال: المسلم يرد على المسلم يعنى في الآبق * ومن طريق وكيع
نا سفيان عن جابر عن الحكم بن عتيبة قال في الآبق المسلم: يرد على المسلم، وهو قول
الشافعي. والأوزاعي. والليث. والحسن بن حي. وأبي سليمان. وأحد قولي أحمد بن
حنبل كلهم يقول: لا جعل في الآبق * وروينا من طريق وكيع نا مسعر - هو ابن كدام -
عن عبد الكريم قال: قلت لعبد الله بن عتبة: أيجتعل في الآبق؟ قال: نعم قلت: الحر
قال: لا * ومن طريق وكيع نا إسرائيل عن جابر عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد



(1) في النسخة رقم 16 (إذا أخذه)
(2) في النسخة رقم 16 (على ذلك بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وعصر) والخ
209
ابن أبي بكر قال: إن لم يعطه جعلا فليرسله في المكان الذي أخذه *
قال أبو محمد: قال الله تعالى: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء
بينهم)، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وقال الله تعالى: (وتعاونوا على
البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) ففرض على كل مسلم حفظ مال أخيه إذا
وجده ولا يحل له أخذ ماله بغير طيب نفسه (1) فلا شئ لمن أتى بآبق لأنه فعل فعلا هو فرض
عليه كالصلاة والصيام وبالله تعالى التوفيق، ولو أعطاه بطيب نفسه لكان حسنا، ولو أن
الامام يرتب لمن فعل ذلك عطاء لكان حسنا، وبالله تعالى التوفيق *
تم كتاب الجعل بحمد الله [وعونه] (2)
كتاب المزارعة والمغارسة
1329 - مسألة - الاكثار من الزرع والغرس حسن وأجر ما لم يشغل ذلك
عن الجهاد، وسواء كان كل ذلك في أرض العرب أو الأرض التي أسلم أهلها عليها. أو
أرض الصلح. أو أرض العنوة المقسومة على أهلها أو الموقوفة بطيب الأنفس لمصالح
المسلمين * روينا من طريق البخاري نا قتيبة [بن سعيد] (3) نا أبو عوانة عن قتادة عن أنس
ابن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل
منه طائر أو انسان أو بهيمة الا كان له به صدقة) * ورويناه أيضا من طريق الليث أنه
سمع أبا الزبير انه سمع جابرا عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله، فعم عليه السلام ولم يخص، وكره
مالك الزرع في أرض العرب وهذا خطأ وتفريق بلا دليل، واحتج لهذا بعض مقلديه
بما رويناه من طريق البخاري نا عبد الله بن يوسف نا عبد الله بن سالم الحمصي نا محمد بن زياد
الألهاني عن أبي أمامة الباهلي أنه رأى سكة وشيئا من آلة الحرث فقال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: لا يدخل هذا بيت قوم الا دخله الذل (4)) *
قال أبو محمد: لم تزل الأنصار كلهم وكل من قسم له النبي صلى الله عليه وسلم أرضا من فتوح
بني قريظة ومن أقطعه أرضا من المهاجرين يزرعون ويغرسون بحضرته صلى الله عليه وسلم، وكذلك
كل من أسلم من أهل البحرين. وعمان. واليمن. والطائف فما حض عليه السلام قط
على تركه، وهذا الخبر (5) عموم كما ترى لم يخص (6) به غير أهل بلاد العرب من أهل



(1) في النسخة رقم 16 (طيب نفس)
(2) الزيادة من النسخة الحلبية
(3) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 208
(4) هو في صحيح البخاري ج 3 ص 208
(5) في النسخة رقم 16 (فهذا)
(6) في النسخة رقم 14 (ولم يخص)
210
بلاد العر ب وكلامه عليه السلام لا يتناقض، فصح أن الزرع المذموم الذي يدخل الله
تعالى على أهله الذل هو ما تشوغل به عن الجهاد وهو غير الزرع الذي يؤجر صاحبه
وكل ذلك حسنه ومذمومه (1) سواء، كان في أرض العرب أو في أرض العجم إذا لسنن
في ذلك على عمومها، واحتجوا أيضا بما روينا من طريق أسد بن موسى عن محمد بن راشد عن
مكحول ان المسلمين زرعوا بالشام فبلغ عمر بن الخاطب فأمر باحراقه وقد ابيض فأحرق،
وان معاوية تولى حرقه * ومن طريق أسد بن موسى عن شرحبيل بن عبد الرحمن
المرادي أن عمر بن الخطاب قال لقيس بن عبد يغوث المرادي: لا آذن لك بالزرع الا
أن تقر بالذل وأمحو اسمك من العطاء، وان عمر كتب إلى أهل الشام من زرع واتبع
أذناب البقر ورضى بذلك جعلت عليه الجزية *
قال أبو محمد: هذا مرسل، وأسد ضعيف، ويعيذ الله أمير المؤمنين من أن يحرق
زروع المسلمين ويفسد أموالهم، ومن أن يضرب الجزية على المسلمين، والعجب ممن
يحتج بهذا وهو أول مخالف له *
1330 - مسألة - ولا يجوز كراء الأرض بشئ أصلا لا بدنانير ولا بدراهم.
ولا بعرض. ولا بطعام مسمى ولا بشئ أصلا ولا يحل في زرع الأرض الا أحد ثلاثة
أوجه اما أن يزرعها المرء بآلته وأعوانه وبذره وحيوانه، واما أن يبيح لغيره زرعها
ولا يأخذ منه شيئا فان اشتركا في الآلة والحيوان. والبذر. والأعوان دون أن يأخذ منه
للأرض كراء فحسن، واما أن يعطى أرضه لمن يزرعها ببذره وحيوانه وأعوانه وآلته
بجزء ويكون لصاحب الأرض مما يخرج الله تعالى منها مسمى إما نصف وإما ثلث أو
ربع أو نحو ذلك أكثر أو أقل، ولا يشترط على صاحب الأرض البتة شئ من كل
ذلك ويكون الباقي للزارع قل ما أصاب أو كثر فإن لم يصب شيئا فلا شئ له ولا شئ
عليه فهذه الوجوه جائزة فمن أبى فليمسك أرضه *
برهان ذلك اننا قد روينا عن الأوزاعي عن عطاء عن جابر بن عبد الله أن رسول (2) الله
صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فان أبى فليمسك أرضه (3)) *
ومن طريق رافع بن خديج عن عمه ظهير بن رافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله *
ومن طريق رافع عن عم له بدري عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله * ومن طريق البخاري نا
سليمان بن حرب نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر [رضى الله



(1) في النسخة رقم 14 (أو مذمومه)
(2) في النسخة رقم 16 (عن رسول الله) الخ
(3) هو في صحيح البخاري ج 3 ص 217
211
عنهما] (1) انه كان يكرى مزارعه قال: فذهب إلى رافع بن خديج وذهبت معه [فسأله]
فقال رافع: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض * ومن طريق مسلم نا محمد
ابن حاتم نا معلى بن منصور الرازي نا خالد - هو الحذاء - نا الشيباني - هو أبو إسحاق - عن بكير بن الأخنس عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يؤخذ للأرض أجر أو حظ (2)) * ومن طريق مسلم نا أبو توبة - هو الربيع بن نافع - نا
معاوية - هو ابن سلام - عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف
عن أبي هريرة قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كانت له أرض
فليزرعها أو ليمنحها أخاه فان أبى فليمسك أرضه (3)) * ومن طريق ابن وهب نا
مالك [بن أنس] (4) عن داود بن الحصين أن أبا سفيان مولى ابن أبي أحمد أخبره أنه
سمع أبا سعيد الخدري يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة
والمحاقلة قال: والمحاقلة كراء الأرض) * ومن طريق حماد بن سلمة نا عمرو بن دينار
قال: سمعت عبد الله بن عمر بن الخطاب يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسلم عن كراء الأرض) * فهؤلاء شيخان بدريان. ورافع بن خديج. وجابر.
وأبو سعيد. وأبو هريرة. وابن عمر كلهم يروى عن النبي عليه السلام النهى عن
كراء الأرض جملة وأنه ليس الا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها غيره أو يمسك
أرضه فقط، فهو نقل (5) تواتر موجب للعلم المتيقن فأخذ بهذا طائفة من السلف كما
روينا من طريق ابن وهب أخبرني عمرو - هو ابن الحارث - أن بكيرا - هو
ابن الأشج - حدثه قال: حدثني نافع مولى ابن عمر انه سمع ابن عمر يقول: كنا نكري
أرضنا ثم تركنا ذلك حين سمعنا حديث رافع بن خديج (6) * ومن طريق ابن أبي شيبة
نا وكيع عن عكرمة بن عمار عن عطاء عن جابر انه كره كراء الأرض * من طريق أبى
داود السجستاني قرأت على سعيد بن يعقوب الطالقاني قلت: أحدثكم عبد الله بن المبارك
عن سعيد أبى شجاع حدثني عيسى بن سهل (7) بن رافع قال: إني يتيم في حجر جدي رافع
ابن خديج وحججت معه فجاءه أخي عمران بن سهل قال: أكرينا أرضنا فلانة بمائتي درهم



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 217 والحديث فيه مطول
(2) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 452
(3) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 453
(4) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 453 واقتصر المصنف على بعضه في التفسير
(5) في النسخة رقم 16 (فهذا نقل)
(6) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 453
(7) وقع في سنن أبي داود (عثمان بن سهل) والصواب ما هنا كما هو في سنن النسائي *
212
فقال: دعه فان النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن كراء الأرض) * وعن عمى رافع نحوه *
ومن التابعين كما رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان عن منصور عن مجاهد
قال: لا يصلح من الزرع الا أرض تملك رقبتها أو أرض يمنحها رجل * وعن عبد الرحمن بن مهدي
عن سفيان بن منصور عن مجاهد أنه كره إجارة الأرض * وبه إلى وكيع عن يزيد
ابن إبراهيم. وإسماعيل بن مسلم عن الحسن أنه كره كراء الأرض * ومن طريق عبد
الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه انه كان يكره كراء الأرض البيضاء * ومن طريق
عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري أن عكرمة مولى ابن عباس قال: لا يصلح
كراء الأرض * ومن طريق أحمد بن شعيب انا عمرو بن علي نا أبو عاصم نا عثمان بن مرة
قال: سالت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق عن كراء الأرض؟ فقال (1) رافع بن خديج:
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض *
قال أبو محمد: فأفتى من استفتاه بالنهي عن كراء الأرض * ومن طريق ابن الجهم
نا إبراهيم الحربي نا خلاد بن أسلم نا النضر بن شميل عن هشام بن حسان قال: كان
محمد بن سيرين يكره كراء الأرض بالذهب. والفضة * وبه إلى إبراهيم الحربي نا
داود بن رشيد نا الوليد بن مسلم نا الأوزاعي قال: كان عطاء. ومكحول. ومجاهد.
والحسن البصري يقولون: لا تصلح الأرض البيضاء بالدرهم ولا بالدنانير ولا معاملة
الا أن يزرع الرجل أرضه أو يمنحها * ومن طريق شعبة نا أبو إسحاق السبيعي عن الشعبي
عن مسروق أنه كان يكره الزرع قال الشعبي: فذلك الذي منعني ولقد كنت من أكثر
أهل السواد ضيعة، وهذا يقتضى ولابد ضرورة أنهما كانا يكرهان إجارة الأرض جملة *
فهؤلاء عطاء. ومجاهد. ومسروق. والشعبي. وطاوس. والحسن. وابن سيرين.
والقاسم بن محمد كلهم لا يرى كراء الأرض أصلا لا بدنانير ولا بدراهم ولا بغير ذلك.
فصح النهى عن كراء الأرض جملة ثم وجدنا قد صح ما رويناه من طريق البخاري نا إبراهيم
ابن المنذر نا أنس بن عياض عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمرانه أخبره أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع أو ثمر (2) * ومن طريق البخاري
نا موسى بن إسماعيل نا جويرية - هو ابن أسماء - عن نافع عن عبد الله بن عمر قال: أعطى
النبي صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها * ومن
طريق مسلم نا ابن رمح أنا الليث - هو ابن سعد - عن محمد بن عبد الرحمن عن نافع عن



(1) سقط لفظ (قال) من النسخة رقم 14 وهو موجود في سنن النسائي ج 7 ص 39
(2) في صحيح البخاري ج 3 ص 211 (من ثمر أو زرع) والحديث مطول فيه
213
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعتملوها من
أموالهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم نصف ثمرها (1) * ومن طريق مسلم حدثني محمد بن رافع
نا عبد الرزاق أنا ابن جريج حدثني موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: لما ظهر
رسول الله صلى الله عليه وسلم على خيبر أراد اخراج اليهود عنها فسألوه عليه السلام أن يقرهم بها
على أن يكفوا عملها ولهم نصف الثمر؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: نقركم بها على
ذلك ما شئنا فقروا بها حتى أجلاهم عمر (2) * ففي هذا أن آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى أن مات كان اعطاء الأرض بنصف ما يخرج منها من الزرع ومن الثمر ومن الشجر،
وعلى هذا مضى أبو بكر. وعمر وجميع الصحابة رضي الله عنهم معهما فوجب استثناء الأرض
ببعض ما يخرج منها من جملة ما صح النهى عنه من أن تكرى الأرض أو يؤخذ لها أجر
أو حظ، وكان هذا العمل المتأخر ناسخا للنهي المتقدم عن اعطاء الأرض ببعض ما يخرج
منها لان النهى عن ذلك قد صح فلولا أنه قد صح لقلنا: ليس نسخا لكنه استثناء من جملة
النهى ولولا أنه فد صح ان رسول الله صلى الله عليه وسلم مات على هذا العمل لما قطعنا بالنسخ لكن
ثبت أنه آخر عمله عليه السلام، فصح أنه نسخ صحيح متيقن لا شك فيه وبقى النهى عن
الإجارة جملة بحسبه إذ لم يأت شئ ينسخه ولا يخصصه البتة إلا بالكذب البحث أو الظن
الساقط الذي لا يحل استعماله في الدين *
فان قيل: إنما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهى عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ. وعن
أن تكرى بثلث أو ربع، وصح أنه أعطاها بالنصف فأجيزوا اعطاءها بالنصف خاصة
وامنعوا من اعطائها بأقل أو أكثر * قلنا: لا يجوز هذا لأنه إذا أباح عليه السلام إعطاءها
بالنصف لهم والنصف للمسلمين وله عليه لاسلام فبضرورة الحس. والمشاهدة يدرى
كل أحدان الثلث. والربع. وما دون ذلك وفوق ذلك من الاجزاء (3) مما دون النصف
داخل في النصف فقد أعطاها عليه السلام بالربع وزيادة. وبالثلث وزيادة، فصح أن
كل ذلك مباح بلا شك وبالله تعالى التوفيق *
قال أبو محمد: وممن أجاز اعطاء الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها * روينا من طريق
ابن أبي شيبة نا ابن أبي زائدة عن حجاج عن أبي جعفر محمد بن علي قال: عامل رسول الله
صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر ثم أبو بكر. وعمر. وعثمان. وعلى * وروينا من طريق البخاري



(1) في صحيح مسلم ج 1 ص 456 (شطر ثمرها)
(2) الحديث اختصره المصنف
(3) في النسخة رقم 16 (من الأجرة) وهو تصحيف من الناسخ
214
قال: عامل عمر بن الخطاب الناس على إن جاء عمر بالبذر [من عنده] (1) فله الشطر
وان جاءوا بالبذر فلهم كذا * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن الحارث بن
حصيرة (2) حدثني صخر بن الوليد عن عمرو بن صليع (3) أن رجلا قال لعلي بن أبي طالب:
أخذت أرضا بالنصف أكرى أنهارها وأصلحها وأعمرها قال على: لا بأس بها قال عبد
الرزاق: كراء الأنهار هو حفرها * ومن طريق حماد بن سلمة عن خالد الحذاء أنه سمع
طاوسا يقول: قدم علينا معاذ بن جبل فأعطى الأرض على الثلث والربع فنحن نعملها
إلى اليوم *
قال أبو محمد: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ باليمين على هذا العمل * ومن طريق
عبد الرزاق قال سفيان الثوري عن منصور بن المعتمر عن مجاهد قال كان ابن عمر يعطى
أرضه بالثلث، وهذا عنه في غاية الصحة، وقد ذكرنا عنه رجوعه عن إباحة كراء الأرض *
ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن كليب بن وائل قال: سألت ابن عمر؟ فقلت:
أرض تقبلتها ليس فيها نهر جار ولا نبات عشر سنين بأربعة آلاف درهم كل سنة كريت
أنهارها وعمرت فيها قراها وأنفقت فيها نفقة كثيرة وزرعتها لم ترد على رأس مالي
زرعتها من العالم المقبل فاضعف قال ابن عمر: لا يصلح لك الا رأس مالك * ومن طريق
ابن أبي شيبة نا يحيى بن أبي زائدة. وأبو الأحوص كلاهما عن كليب بن وائل قلت لابن
عمر: رجل له أرض. وماء ليس له بذر ولا بقر فأعطاني أرضه بالنصف فزرعتها ببذري
وبقري ثم قاسمته قال: حسن * ومن طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص وعبيد الله
ابن اياد بن لقيط كلاهما عن كليب بن وائل مثله أيضا، فهذان اسنادان في غاية الصحة -
عن ابن عمر أنه سأله كليب ابن وائل عن كراء الأرض بالدراهم فلم يجزه ولا أجاز له
ما أصاب فيها زيادة على قدر (4) ما انفق، وسأله عن أخذها بالنصف مما يخرج فيها لا يجعل
صاحيها فيها لا بذرا ولا عملا ويكون العمل كله على العامل والبذر؟ فأجازه، وهذا
هو نفس قولنا ولله الحمد * ومن طريق سفيان. وأبى عوانة (5). وأبى الأحوص
وغيرهم كلهم عن إبراهيم بن مهاجر عن موسى بن طلحة بن عبيد الله انه شاهد جارية سعد



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 211
(2) هو بفتح الحاء المهملة وكسر الصاد المهملة ووقع. في النسخة رقم 14 (حضيرة) بالضاد المعجمة وهو تصحيف، وفى النسخة الحلبية (عن الحارث عن حصيرة) وهو غلط
(3) هو بالصاد المهملة مصغرا ووقع في النسخة الحلبية (ضليع) بالضاد المعجمة وهو تحريف (4) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية (على قدر زيادة)
(5) في النسخة الحلبية (عن أبي عوانة) وهي زيادة مضرة
215
ابن أبي وقاص. وعبد الله بن مسعود يعطيان أرضهما على الثلث * ومن طريق حماد بن سلمة
عن الحجاج بن أرطاة عن عثمان بن عبد الله بن وهب عن موسى بن طلحة ان خباب بن الأرت.
وحذيفة بن اليمان. وابن مسعود كانوا يعطون أرضهم البياض على الثلث. والربع،
فهؤلاء أبو بكر. وعمر. وعثمان. وعلى. وسعد. وابن مسعود. وخباب. وحذيفة.
ومعاذ بحضرة جميع الصحابة *
ومن التابعين من طريق عبد الرزاق نا معمر أخبرني من سأل القاسم بن محمد
ابن أبي بكر الصديق عن الأرض تعطى بالثلث. والربع؟ فقال: لا باس به، وقد
ذكرنا قبل نهيه عن كراء الأرض وهذا نص قولنا * ومن طريق ابن أبي شيبة نا
الفضيل بن عياض عن هشام - هو ابن حسان - عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق.
وابن سيرين انهما كانا لا يريان بأسا أن يعطى أرضه على أن يعطيه الثلث. أو الربع.
والعشر ولا يكون عليه من النفقة شئ * ومن طريق أحمد بن شعيب النسائي أنا محمد
ابن عبد الله بن المبارك نا زكريا بن عدي أنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار قال: كان
طاوس يكره أن يؤاجر أرضه بالذهب. والفضة ولا يرى بالثلث والربع بأسا (1) وهذا
نص قولنا * ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة أن سعيد بن المسيب. وابن سيرين كانا
لا يريان بأسا بالإجارة على الثلث. والربع - يعنى في الأرض -، وقد ذكرنا نهى
ابن سيرين عن كراء الأرض فقوله هو قولنا * ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد عن
اياس بن معاوية أن عمر بن عبد العزيز كتب أن أعطوا الأرض على الربع والثلث والخمس
إلى العشر ولا تدعوا الأرض خرابا * ورويناه أيضا من طريق ابن أبي شيبة قال: نا
حفص بن غياث. وعبد الوهاب: الثقفي قال حفص: عن يحيى بن سعيد الأنصاري،
وقال عبد الوهاب: عن خالد الحذاء ثم اتفق يحيى. وخالد عن أن عمر بن عبد العزيز أمر
باعطاء الأرض بالثلث والربع * ومن طريق وكيع نا شريك عن عبد الله بن عيسى
قال: كان لعبد الرحمن بن أبي ليلى أرض بالفوارة (2) فكان يدفعها بالثلث. والربع
فيرسلني فأقاسمهم * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر سألت الزهري عن اعطاء الأرض
بالثلث. والربع فقال: لا بأس بذلك * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري
أخبرني قيس بن مسلم عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال:
ما بالمدينة أهل بيت هجرة الا وهم يعطون أرضهم بالثلث والربع * ومن طريق عبد الرزاق



(1) الأثر في سنن النسائي ج 7 ص 3 مطولا
(2) هي بفتح الفاء وبتشديد الواو قرية يجنب الظهران
216
نا وكيع أخبرني عمرو بن عثمان بن موهب قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي بن الحسين
يقول: آل أبي بكر. وآل عمر. وآل على يدفعون أرضهم بالثلث. أو الربع * ومن طريق
ابن أبي شيبة نا الفضل بن دكين عن بكير بن عامر عن عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد قال:
كنت أزار ع بالثلث والربع وأحمله إلى علقمة. والأسود فلو رأيا به بأسا لنهياني عنه *
وروينا ذلك أيضا عن عبد الرحمن بن يزيد. وموسى بن طلحة بن عبيد الله وهو قول
ابن أبي ليلى. وسفيان الثوري. والأوزاعي. وأبى يوسف، ومحمد بن الحسن. وابن
المنذر، واختلف فيها عن الليث وأجازها أحمد. وإسحاق الا أنهما قالا: ان البذر يكون
من عند صاحب الأرض وإنما على العامل البقر. والآلة. والعمل، وأجازها بعض
أصحاب الحديث ولم يبال من جعل البذر منهما *
قال أبو محمد: في اشتراط النبي صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر أن يعملوها بأموالهم بيان أن البذر
والنفقة كلها على العامل ولا يجوز أن يشترط شئ من ذلك على صاحب الأرض لان كل
ذلك شرط (1) ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، فان تطوع صاحب الأرض بان
يقرض العامل البذر أو بعضه أو ما يبتاع به البقر أو الآلة أو ما يتسع فيه من غير شرط
في العقد فهو جائز لأنه فعل خير والقرض أجر وبر، وبالله تعالى التوفيق *
واتفق أبو حنيفة. ومالك. والشافعي، وأبو يوسف. ومحمد. وزفر. وأبو
سليمان على جواز كراء الأرض، واختلفوا فيه أيضا. وفى المزارعة فأجاز كل من ذكرنا
حاشا مالكا وحده كراء الأرض بالذهب والفضة وبالطعام المسمى كيله في الذمة ما لم يشترط
أن يكون مما تخرجه تلك الأرض وبالعروض كلها، وقال مالك: بمثل ذلك الا انه لم
يجز كراء الأرض بشئ مما يخرج منها ولا بشئ من الطعام وان لم يخرج منها كالعسل.
والملح. والمرى. ونحو ذلك، وأجاز كراءها بالخشب. والحطب وإن كانا يخرجان
منها، وهذا تقسيم لا نعرفه عن أحد قبله. وتناقض ظاهر وما نعلم لقوله هذا (2) متعلقا
لا من قرآن. ولا من سنة صحيحة. ولا رواية سقيمة. ولا من قول متقدم. ولا قياس.
ولا رأى له وجه - يعنى استثناءه العسل والملح واجازته الخشب والحطب - ومنع أبو
حنيفة وزفر اعطاء الأرض بجزء مسمى مما يزرع فيها بوجه من الوجوه، وقال مالك:
لا يجوز اعطاء الأرض بجزء مسمى مما تخرج الأرض الا أن تكون أرض وشجر
فيكون مقدار البياض من الأرض ثلث مقدار الجميع ويكون السواد مقدار الثلثين من



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية (لأنه شرط)
(2) في النسخة رقم 16 (لقوله ههنا)
217
الجميع فيجوز حينئذ أن تعطى بالثلث والربع والنصف على ما يعطى به ذلك السواد، وقال
الشافعي: لا يجوز اعطاء الأرض بجز مسمى مما تخرج إلا أن يكون في خلال الشجر
لا يمكن سقيها ولا عملها الا بعمل الشجر وحفرها وسقيها فيجوز حينئذ اعطاؤها بثلث.
أو ربع. أو نصف على ما تعطى به الشجر، وقال أبو بكر بن داود: لا يجوز اعطاء
الأرض بجزء مسمى مما يخرج منها الا أن تعطى هي والشجر في صفقة واحدة فيجوز
ذلك حينئذ *
قال أبو محمد: حجة جميعهم في المنع من ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم و سلم عن اعطاء الأرض
بالنصف. والثلث. والربع *
قال على: ولسنا نخارجهم الآن (1) في ألفاظ ذلك الحديث بل نقول: نعم قد صح عن
النبي صلى الله عليه وسلم انه نهى عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ وقال: من كانت له أرض فليزرعها
أو ليزرعها فان أبى فليمسك أرضه، وهذا نهى عن اعطائها بجزء ما يخرج منها لكن
فعله عليه السلام في خيبر هو الناسخ على ما بينا قبل، فأما أبو حنيفة فخالف الناسخ وأخذ
بالمنسوخ، وأما مالك. والشافعي. وأبو سليمان فحيرهم فعلى النبي صلى الله عليه وسلم في أرض خيبر
فأخرجوه على ما ذكرناه عنهم، وكل تلك الوجوه تحكم، ويقال لمن قلد مالكا: من
أين لكم تحديد البياض بالثلث؟ ولم يأت قط في شئ من الاخبار تحديد ثلث ولا دليل
عليه ومثل هذا في الدين لا يجوز، ويقال لهم: ماذا تريدون بالثلث؟ أثلث المساحة؟ أو
ثلث الغلة؟ أم ثلث القيمة؟ فإلى أي وجه مالوا (2) من هذه الوجوه قيل لهم: ومن أين
خصصتم هذا الوجه دون غيره؟ والغلة قد تقل وتكثر والقيمة كذلك، وأما المساحة
فقد تكون مساحة قليلة أعظم غلة أو أكثر قيمة من أضعافها، وأيضا فان خيبر لم تكن
حائطا واحدا ولا محشرا واحدا ولا قرية واحدة ولا حصنا واحدا بل كانت حصونا كثيرة
باقية إلى اليوم لم تتبدل منها الوطيح. والسلالم. وناعم. والقموص. والكتيبة. والشق.
والنطاه. وغيرها، وما الظن ببلد أخذ فيه القسمة مائتا فارس وأضعافهم من الرجالة
فتمولوا منها وصاروا أصحاب ضياع فمن أين لمالك تحديد الثلث؟ وقد كان فيها بياض
لا سواد فيه وسواد لا بياض فيه وبياض وسواد فما جاء قط في شئ من الآثار تخصيص
ما خصه، فان قال: قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم الثلث والثلث كثير قلنا: نعم وأنتم جعلتم
في هذه المسألة الثلث قليلا بخلاف الأثر ثم يقال لهم وللشافعي: من أين لكم أن رسول الله



(1) في النسخة رقم 16 (قال على نعارضهم الآن) الخ والكلام عليها لا يتم
(2) في النسخة رقم 16 (فبأي وجه قالوا)
218
صلى الله عليه وسلم إنما أعطى أرض خيبر بنصف ما يخرج منها لأنها كانت تبعا للسواد؟ وهل يعلم
هذا أحد إلا من أخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك عن نفسه والا فهو غفلة ممن قاله وقطع
بالظن؟ وأما بعد التنبيه عليه فما هو الا الكذب البحث عليه صلى الله عليه وسلم، وإنما الحق الواضح
فهو أنه عليه السلام أعطى أرضها بنصف ما يخرج منها من زرع وأعطى نخلها وثمارها
كذلك فنحن نقول: هذا سنة وحق أبدا ولا نزيد ونعلم أنه ناسخ لما تقدمه مما لا يمكن الجمع
بينهما بظاهرهما، وكذلك أيضا يقال لمن قال بقول أبى بكر بن داود سواء بسواء،
والعجب أن بعضهم قال: المخابرة مشتقة من خيبر فدل أنها بعد خيبر *
قال أبو محمد: ولو علم هذا القائل (1) قبيح ما أتى به لاستغفر الله تعالى منه ولتقنع
حياء منه أما علم الجاهل أن خيبر كان هذا اسمها قبل مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وان المخابرة كانت تسمى بهذا الاسم كذلك. وان اعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بنصف
ما يخرج منها من زرع أو ثمر كان إلى يوم موته عليه السلام واتصل كذلك بعد موته عليه
السلام؟ فكيف يسوغ لذي عقل أو دين أن يقول: إن نهيه عليه السلام عن المخابرة كان
بعد ذلك؟ أترى عهده عليه السلام أتانا من الآخرة بعد موته عليه السلام بالنهي عنها؟
أما هذا من السخف. والتلوث. والعار ممن ينسب إلى العلم ويأتي بمثل هذا الجنون؟ فصح
يقينا كالشمس أن النهى عن المخابرة وعن اعطاء الأرض بما يخرج منها كان قبل أمر خيبر
بلا شك، وبالله تعالى التوفيق *
واحتج المجيزون للكراء بحديث ثابت بن الضحاك (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن المزارعة وأمر بالمؤاجرة وقال: لا بأس بها) * وبالخبر الذي رويناه من طريق
مسلم نا إسحاق - هو ابن راهويه - أنا عيسى بن يونس نا الأوزاعي عن ربيعة بن أبي
عبد الرحمن حدثني حنظلة بن قيس الزرقي (2) قال: سألت رافع بن خديج عن كراء
الأرض بالذهب والفضة؟ (3) فقال: لا بأس به إنما كان الناس يؤاجرون على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم على الماذيانات. وأقبال الجداول (4) وأشياء من الزرع فيهلك هذا
ويسلم هذا [ويسلم هذا ويهلك هذا فلم يكن للناس كراء الا هذا فلذلك زجر عنه] فأما
شئ معلوم مضمون فلا بأس به، وهذان خبران صحيحان، وبما روينا من طريق البخاري



(1) في النسخة الحلبية (قائل هذا)
(2) هو بضم الزاي وفتح الراء نسبة إلى بنى زريق بطن من الأنصار، وفى صحيح مسلم ج 1 ص 457 (الأنصاري) بدل (الزرقي) وهو صحيح أيضا
(3) في صحيح مسلم (بالورق) بدل (بالفضة) والورق الفضة
(4) الماذيانات جمع ماذيان هو النهر الكبير وليس اللفظ بعربي، والاقبال الأوائل والرؤس وهو جمع قبل
219
نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - نا سفيان - هو ابن عيينة - قال عمرو - هو ابن دينار -:
قلت لطاوس: لو تركت المخابرة فان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها فما يزعمون فقال لي طاوس:
ان أعلمهم - يعنى ابن عباس - أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ولكن قال: لان يمنح
أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجا معلوما (1)، وهذا أيضا خبر صحيح * وبخبر
رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن عبد الرحمن بن إسحاق عن أبي عبيدة بن عمار
ابن ياسر عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن الوليد بن أبي الوليد عن عروة بن
الزبير قال: قال زيد بن ثابت: يغفر الله لرافع بن خديج انا والله أعلم بالحديث منه إنما
أتاه رجلان قد اقتتلا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن كان هذا شأنكم فلا تكروا المزارع *
قال على: فقلنا لهم: أما حديث زيد فلا يصح ولكنا نسامحكم فيه فنقول: هبكم أنه
قد صح فان رافعا لا يثبت عليه الوهم بمثل هذا بل نقول: صدق زيد وصدق رافع وكلاهما
أهل الصدق والثقة، وإذ حفظ زيد في ذلك الوقت ما لم يسمعه رافع فقد سمع رافع أيضا
مرة أخرى ما لم يسمعه زيد وليس زيد بأولى بالتصديق (2) من رافع ولا رافع أولى
بالتصديق من زيد بل كلاهما صادق * وقد روى النهى عن الكراء جملة للأرض جابر
وأبو هريرة. وأبو سعيد. وابن عمرو فيهم من هو أجل من زيد ثم نقول لهم: إن غلبتم
هذا الخبر على حديث النهى عن الكراء فغلبوه على النهى عن المخابرة ولا فرق، وهكذا
القول في حديث ابن عباس لأنه يقول: لم ينه عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول جابر. وأبو هريرة.
وأبو سعيد. وابن عمر: نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل صادق وكل إنما أخبر (3)
بما عنده، وابن عباس لم يسمع النهى وهؤلاء سمعوه فمن أثبت أولى ممن نفى ومن قال: إنه
علم أولى ممن قال لا أعلم (4)، وأما خبر حنظلة بن قيس عن رافع فالذي فيه إنما هو من
كلام رافع - يعنى قوله -: وأما شئ مضمون فلا *
وقد اختلف عن رافع في ذلك كما أوردنا قبل، وروى عنه سليمان بن يسار النهى عن
كرائها بطعام مسمى فلم أجزتموه؟ ورواية حنظلة عن رافع شديدة الاضطراب وعلى
كل حال فالزائد علما أولى، وقد روى عمران بن سهل بن رافع. وابن عمر. ونافع. وسليمان
ابن يسار. وأبو النجاشي (5) وغيرهم النهى عن كرى الأرض جملة عن رافع بن خديج



(1) في النسخة رقم 16 (خراجا معلوما) وما هنا موافق لما في صحيح البخاري
ج 3 ص 212 والحديث فيه تقديم وتأخير
(2) في النسخة رقم 14 (بالصدق)
(3) في النسخة رقم 16 (وكل أخبرنا)
(4) في النسخة رقم 16 (لم أعلم)
(5) في النسخة رقم 16 (وابن النجاشي) وهو تصحيف، واسمه عطاء بن صهيب الأنصاري مولى رافع بن خديج *
220
خلاف ما روى عنه حنظلة وكلهم أوثق من حنظلة فالزائد أولى * وأما حديث أمر
بالمؤاجرة فنعم هو صحيح وقد صح نهيه صلى الله عليه وسلم، وخبر الإباحة موافق لمعهود الأصل،
وخبر النهى زائد فالزائد أولى ونحن على يقين من أنه صلى الله عليه وسلم حين نهى عن الكراء فقد
حرم ما كان مباحا من ذلك بلا شك ولا يحل أن يترك اليقين للظن، ومن ادعى أن
الإباحة التي قد تيقنا بطلانها (1) قد عادت فهو مبطل وعليه الدليل، ولا يجوز ترك اليقين
بالدعوى الكاذبة وليس الا تغليب النهى فبطل الكراء جملة والمخابرة جملة أو تغليب
الإباحة فيثبت الكراء جملة والمخابرة جملة كما يقول أبو يوسف. ومحمد. وغيرهما *
وأما التحكم في تغليب النهى في جهة وتغليب الإباحة في أخرى بلا برهان فتحكم الصبيان.
وقول لا يحل في الدين وبالله تعالى التوفيق * وأما قول مالك فان مقلديه احتجوا له بحديث
عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن رافع بن أسيد بن ظهير عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن كراء الأرض قلنا: يا رسول الله إذا نكريها بشئ من الحب قال لا قال: نكريها
بالتبن فقال: لا قال: وكنا نكريها على الربيع الساقي قال: لا ازرعها أو امنحها أخاك (2) *
وبحديث مجاهد قال: رافع نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتقبل الأرض ببعض
خرجها (3) * وبما رويناه من طريق عن يعلي بن حكيم عن سليمان بن يسار أن رافع بن
خديج قال: إن بعض عمومته أتاهم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام
مسمى) * وبما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم نا عمى قال:
نا أبى عن محمد بن عكرمة عن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة عن سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي
وقاص قال: كان أصحاب المزارع يكرون مزارعهم (4) في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم
مما يكون على السواقي من الزرع فجاؤوا [رسول الله صلى الله عليه وسلم] (5) يختصمون فنهاهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكروا بذلك وقال: اكروا بالذهب والفضة) * ورويناه أيضا من
طريق عبد الملك بن حبيب عن ابن الماجشون عن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن سعيد
ابن المسيب عن سعد بن أبي وقاص قال: أرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في كراء الأرض
باذهب. والورق * ومن طريق سفيان بن عيينة نا يحيى بن سعيد الأنصاري أنا حنظلة
ابن قيس الزرقي أنه سمع رافع بن خديج يقول: كنا نقول للذي نحابره: لك هذه القطعة



(1) في النسخة رقم 16 (قد سقنا بطلانها) والصواب، ما هنا بدليل ما بعده
(2) هو في سنن النسائي ج 7 ص 33
(3) في النسخة رقم 16 (ببعض خراجها)
(4) في سنن النسائي ج 7 ص 41 فيه تقديم وتأخير
(5) الزيادة من سنن النسائي
221
ولنا هذه القطعة نزرعها فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ذلك فأما بورق فلم ينه * ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن طارق بن عبد
الرحمن عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما يزرع
ثلاثة. رجل له أرض فهو يزرعها أو رجل منح أرضا فهو يزرعها. أو رجل استكرى
أرضا بذهب أو فضة *
قال أبو محمد: أما الحديث الأول فسنده ليس بالنير ثم لو صح لكان حجة لنا عليهم
لا حجة لهم لان الذي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو النهى عن كراء الأرض جملة والمنع من غير
زريعتها من قبل صاحبها أو من قبل من منحها وهذا خلاف قولهم * وأما حديث مجاهد
عن رافع فلا خلاف في أنه لم يسمعه من رافع ثم لو صح لكان فيه النهى عن كراء الأرض
ببعض ما يخرج منها وهو خلاف لقولهم من قبل أنهم يمنعون من كرائها بالعسل والملح
وليسا مما يخرجان منها ويجيزون كراءها بالحطب والخشب وهما من بعض ما يخرج منها
فقد خالفوه من وجهين فزادوا فيه ما ليس فيه وأخرجوا منه ما فيه وأيضا فان
الذهب. والفضة من بعض ما يخرج من الأرض وهم يجيزون الكراء بهما وبالرصاص
والنحاس وكل ذلك خارج منها، فان قالوا: إنما منع النبي عليه السلام من كرائها (1)
بما يخرج من تلك الأرض بعينها قلنا: هاتوا دليلكم على هذا التخصيص وإلا فلفظ
الخبر على عمومه فسقط قولهم جملة في هذا الخبر، ثم أيضا فنحن نقول بما فيه ثم نستثني
منه ما صح نسخه بيقين من إعطائنا الأرض بجزء مما يخرج منها مسمى ونمنع من غير ذلك فهو
حجة لنا لا لهم * وأما خبر سليمان بن يسار فعليهم لا لهم لان فيه أن يزرعها أو يزرعها فقط
وهكذا روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني زياد بن أيوب نا ابن علية أنا أيوب - هو
السختياني - عن يعلي بن حكيم عن سليمان بن يسار عن رافع بن خديج أن رجلا من عمومته
قال لهم: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحاقل بالأرض أو نكريها بالثلث والربع والطعام
مسمى وأمر رب الأرض أن يزرعها أو يزرعها وكره كراءها وما سوى ذلك (2) *
وأما خبر حنظلة عن رافع فقد ذكرنا أنه من قول رافع - يعنى قوله: فاما بورق فلم ينه -
وقد صح عن رافع ما ذكرنا أنه من قول رافع قبل من نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك حتى أبطل كراء
أرض بنى أبيه بالدراهم، وهذه الرواية أولى لوجوه. أحدها أنها مسندة إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وتلك موقوفة على رافع، والثاني أن هذه غير مضطرب فيها وتلك مضطرب فيها



(1) في النسخة رقم 16 (إنما يمنع كراءها) والمؤدى واحد الا أن ما هنا أوضح وأصرح
(2) هو في سنن النسائي ج 7 ص 42 اختصره المصنف
222
على رافع، وثالثها - أن الذين رووا عموم النهى عن رافع - ابن عمر. وعثمان. وعمران.
وعيسى ابنا سهل بن رافع. وسليمان بن يسار. وأبو النجاشي، وكلهم أوثق من حنظلة
ابن قيس فسقط تعلقهم بهذا الخبر * وأما خبر سعد بن أبي وقاص فأحد طريقيه عن
عبد الملك بن حبيب الأندلسي وهو هالك عن عبد الملك بن الماجشون وهو ضعيف *
والأخرى من طريق محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة (1) وهو مجهول لا يدرى من هو فسقط
التعلق به * وأما خبر طارق عن سعيد عن رافع فان ابن أبي شيبة رواه كما أوردنا عن أبي
الأحوص فوهم فيه لأننا رويناه من طريق قتيبة بن سعيد. والفضل بن دكين.
وسعيد بن منصور كلهم عن أبي الأحوص عن طارق بن عبد الرحمن عن سعيد بن المسيب
عن رافع بن خديج قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال: إنما يزرع
ثلاثة. رجل له أر ض فهو يزرعها. أو رجل منح أرضا فهو يزرع ما منح. أو رجل
استكرى أرضا بذهب أو فضة) فكان هذا الكلام مخزولا (2) عن كلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم فظن ابن أبي شيبة أنه من جملة كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزله وأبقى السند، وقد
جاء هذا الخبر عن طارق من طريق من هو أحفظ من أبى الأحوص مبينا أنه من كلام
سعيد بن المسيب كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أخبرني محمد بن علي [وهو ابن ميمون] (3)
نا محمد نا سفيان عن طارق قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول لا يصلح من الزرع غير ثلاث (4)
أرض تملك (5) رقبتها. أو منحة: أو أرض بيضاء تستأجرها بذهب أو فضة *
قال على: وأيضا فلو صح أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لكانوا مخالفين له لان فيه النهى
عن كل كراء في الأرض إلا بذهب. أو فضة وأنتم تبيحونها بكل عرض في العالم حاشا
الطعام أو ما أنبتت الأرض (6) فقد خالفتموها كلها، فان ادعوا ههنا اجماعا من القائلين
بكراء الأرض بالذهب والفضة على أن ما عدا الذهب والفضة كالذهب والفضة - فما
يبعد عنهم التجاسر والهجوم على مثل هذا - أكذبهم ما رويناه من طريق سعيد بن منصور
نا أبو الأحوص عن عبد الكريم الجزري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لا تكرى
الأرض البيضاء إلا بالذهب والورق، وهذا إسناد صحيح جيد، (فان قالوا): قسنا على
الذهب والفضة ما عداهما قلنا: فقيسوا اعطاءها بالثلث والربع على المضاربة، فان قالوا:



(1) في تهذيب التهذيب (ويقال: ابن أبي لبيبة)
(2) أي منقطعا
(3) الزيادة من سنن النسائي ج 7 ص 41
(4) في سنن النسائي (لا يصلح الزرع غير ثلاث)
(5) في النسائي (يملك) وكذا (يستأجرها) بالياء فيهما
(6) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية (أو ما تنبت الأرض)
223
قد صح النهى عن ذلك قلنا: فقد صح النهى عن أن يؤخذ للأرض أجرا وحظ، ونص عليه
السلام على أن ليس له إلا أن يزرعها صاحبها أو يمنحها أو يمسك أرضه فقط، فظهر
فساد هذا القول جملة وانهم لم يتعلقوا بشئ أصلا واعلموا أنه لم يصح كراء الأرض بذهب
أو فضة عن أحد من الصحابة إلا عن سعد. وابن عباس، وصح عن رافع بن خديج. وابن
عمر، ثم صح رجوعه ابن عمر عنه وصح عن رافع المنع منه أيضا *
قال أبو محمد: فلم يبق إلا تغليب الإباحة في كرائها بكل عرض وكل شئ مضمون من
طعام أو غيره وبالثلث والربع كما قال سعد بن أبي وقاص. وأبو يوسف. ومحمد بن الحسن.
وأحمد بن حنبل. واسحق. وغيرهم، أو تغليب المنع جملة كما فعل رافع بن خديج. وعطاء.
ومكحول. ومجاهد. والحسن البصري. وغيرهم، أو أن يغلب النهى حيث لم يوقن أنه نسخ
ويؤخذ بالناسخ إذا تيقن كما فعل ابن عمر. وطاوس. والقاسم بن محمد. ومحمد بن سيرين.
وغيرهم، فنظرنا في ذلك فوجدنا من غلب الإباحة قد أخطأ لان معهود الأصل في ذلك
هو الإباحة على ما روى رافع وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم عليهم وهم يكرون مزارعهم)
وقد كانت المزارع بلا شك تكرى قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد مبعثه هذا أمر لا يمكن
أن يشك فيه ذو عقل، ثم صح من طريق جابر. وأبي هريرة. وأبي سعيد. ورافع.
وظهير البدري. وآخر من البدريين. وابن عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء
الأرض جملة) فبطلت الإباحة بيقين لا شك فيه، فمن ادعى أن المنسوخ قد رجع وأن يقين
النسخ قد بطل فهو كاذب مكذب قائل ما لا علم له به وهذا حرام بنص القرآن إلا أن يأتي
على ذلك ببرهان ولا سبيل له إلى وجوده أبدا إلا في اعطائها بجزء [مسمى] (1) مما يخرج
منها فإنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بخيبر بعد (2) النهى بأعوام وأنه بقي على
ذلك إلى أن مات عليه السلام، فصح أن النهى عن ذلك منسوخ بيقين وان النهى عما عدا
ذلك باق بيقين، وقال تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) فمن المحال أن ينسخ حكم قد
بطل ونسخ ثم لا يبين الله تعالى علينا أنه قد بطل وأن المنسوخ قد عاد وإلا فكان الدين
غير مبين وهذا باطل وبالله تعالى التوفيق، فارتفع الاشكال والحمد لله كثيرا *
1331 - مسألة - والتبن في المزارعة بين صاحب الأرض وبين العامل على
ما تعاملا عليه لأنه مما أخرج الله تعالى منها *
1332 - مسألة - فان تطوع صاحب الأرض بأن يسلف العامل بذرا أو دراهم
أو يعينه بغير شرط جاز لأنه فعل خير وتعاون على بر وتقوى، فإن كان شئ من ذلك



(1) الزيادة من النسخة الحلبية
(2) في النسخة رقم 16 (قبل) وهو غلط
224
عن شرط في نفس العقد بطل العقد وفسخ لأنه شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وعقد
رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الذين دفع إليهم خيبر إنما كان كما أوردنا قبل أن يعملوها بأموالهم
وبالله تعالى التوفيق *
1333 - مسألة - فان اتفقا تطوعا على شئ يزرع في الأرض فحسن وان لم
يذكرا شيئا فحسن لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكر لهم شيئا من ذلك ولأنهى عن ذكره فهو
مباح، ولابد من أن يزرع فيها شئ ما فلا بد من ذكره إلا أنه إن شرط شئ من ذلك في
العقد فهو شرط فاسد وعقد فاسد لأنه ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل إلا أن يشترط
صاحب الأرض أن لا يزرع فيها ما يضر بأرضه أو شجره إن كان له فيها شجر فهذا واجب
ولابد لان خلافه فساد وإهلاك للحرث قال الله تعالى: (إن الله لا يحب المفسدين)
وقال تعالى: (ليهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) فاهلاك الحرث بغير الحق
لا يحل وبالله تعالى نتأيد، فهذا شرط في كتاب الله تعالى فهو صحيح لازم *
- 1334 - مسألة - ولا يحل عقد المزارعة إلى أجل مسمى لكن هكذا مطلقا
لان هكذا عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا مضى جميع الصحابة رضي الله عنهم وكذلك
أخرجهم عمر رضي الله عنه إذ شاء في آخر خلافته فكان اشتراط مدة في ذلك شرطا
ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وخلاف لعمله عليه لاسلام، وقد قال عليه السلام: (من
عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وقد قال مخالفون بذلك (1) في المضاربة *
1335 - مسألة - وأيهما شاء ترك العمل فله ذلك لما ذكرنا وأيهما مات بطلت
المعاملة لان الله تعالى يقول: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) فان أقر وارث صاحب
الأرض العامل ورضى العامل فهما على ما تراضيا عليه، وكذلك إن أقر صاحب الأرض
ورثة العامل برضاهم فذلك جائز على ما جرى عليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده من
الصحابة رضي الله عنهم بلا خلاف من أحد منهم في ذلك وبالله تعالى التوفيق *
1336 - مسألة - وإذا أراد صاحب الأرض إخراج العامل بعد ان زرع أو
أراد العامل الخروج بعد ان زرع بموت أحدهما أو في حياتهما فذلك جائز وعلى العامل خدمة
الزرع كله ولابد وعلى ورثته حتى يبلغ مبلغ الانتفاع به من كليهما لأنهما على ذلك تعاقدا
العقد الصحيح فهو لازم لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو في كتاب الله تعالى فهو صحيح
لازم. وعقد يلزم الوفاء به وبالله تعالى التوفيق، وما عداه إضاعة للمال وإفساد للحرث وقد
صح النهى عنه *



(1) في النسخة رقم 14 (ذلك)
225
1337 - مسألة - فان أراد أحدهما ترك العمل وقد حرث. وقلب. وزبل
ولم يزرع فذلك جائز ويكلف صاحب الأرض للعامل أجر مثله فيما عمل وقيمة زبله إن
لم يجد له زبلا مثله إن أراد صاحب الأرض إخراجه لأنه لم تتم بينهما المزارعة التي يكون
كل ما ذكرنا ملغى بتمامها، وقال تعالى: (والحرمات قصاص) فعمله حرمة فلابد له من
أن يقتص بمثلها والزبل ماله فلا يحل إلا بطيب نفسه وبالله تعالى التوفيق *
1338 - مسألة (1) - فلو كان العامل هو المريد للخروج فله ذلك ولا شئ له
فيما عمل وان أمكنه أخذ زبله بعينه أخذه والا فلا شئ له لأنه مختار للخروج ولم يتعد عليه
صاحب الأرض في شئ ولا منعه حقا له فهو مخير بين تمام عمله وتمام شرطه والخروج (2)
باختياره ولا شئ له لأنه لم يتعد عليه بغير طيب نفسه في شئ، وبالله تعالى التوفيق *
1339 - مسألة - ومن أصاب منهما تجب فيه الزكاة فعليه الزكاة ومن
قصر نصيبه عن ما فيه الزكاة (3) فلا زكاة عليه، ولا يحل اشتراط الزكاة من أحدهما على
الآخر لقول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)
ولكل أحد حكمه، واشتراط اسقاط الزكاة عن نفسه ووضعها على غيره (4) شرط
للشيطان ومخالفة لله تعالى فلا يحل أصلا وبالله تعالى التوفيق، وقد كانا قادرين على الوصول
إلى ما يريدان من ذلك (5) بغير هذا الشرط الملعون وذلك بأن يكونا يتعاقدان على أن
لأحدهما أربعة أعشار الزرع أو أربعة أخماس الثلث أو نحو هذا فيصح العقد *
1340 - مسألة - وإذا وقعت المعاملة فاسدة رد إلى مزارعه مثل تلك
الأرض فيما زرع فيها سواء كان أكثر مما تعاقد أو أقل *
برهان ذلك أنه لا يحل في الأرض أخذ أجر ولاحظ الا المزارعة بجزء مشاع مسمى
مما يخرج الله تعالى منها فإذ ذلك كذلك فهو حق الأرض فلا تجوز إباحة الأرض وما
أخرجت للعامل بغير طيب نفس صاحب الأرض لقول الله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل) ولا يجوز إباحة بذر العالم وعمله لصاحب الأرض بغير طيب نفسه لذلك
أيضا فيردان إلى مثل حق كل واحد منهما مما أخرج الله تعالى منها لقول الله تعالى:
(والحرمات قصاص) فالأرض حرمة محرمة من مال صاحبها وبشرته فله ومن حقه أن
يقتص بمثل حق مثلها مما اباحه الله تعالى في المعاملة فيها، وبذر الزارع وعمله حرمة محرمة



(1) سقط هنا لفظ (مسألة) من النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية
(2) في النسخة رقم 16 (اتمام العمل وتمام شرطه أو الخروج)
(3) في النسخة رقم 16 (عن ما يلزم من الزكاة)
(4) في النسخة رقم 16 (عن غيره) وهو تحريف
(5) في النسخة رقم 16 (من غير ذلك)
226
من ماله وبشرته فله ومن حقه أن يقتص بمثل حق مثل ذلك مما أباحه الله تعالى في المعاملة
فوجب ما قلنا ولابد وبالله تعالى التوفيق *
المغارسة
1341 - مسألة - من دفع أرضا له بيضاء إلى إنسان ليغرسها له لم يجز ذلك
الا بأحد وجهين إما بأن تكون النقول أو الأوتاد أو النوى أو القضبان لصاحب الأرض
فقط فيستأجر العامل لغرسها وخدمتها والقيام عليها مدة مسماة ولابد بشئ مسمى أو بقطعة
من تلك الأرض مسماة محوزة أو منسوبة القدر مشاعة في جميعها فيستحق العامل بعمله
في كل ما يمضى من تلك المدة ما يقابلها مما استؤجر به فهذه إجارة كسائر الإجارات، واما
بأن يقوم العامل بكل ما ذكرنا وبغرسه وبخدمه وله من ذلك كله (1) ما تعاملا عليه
من نصف أو ثلث أو ربع أو جزء مسمى كذلك ولا حق له في الأرض أصلا فهذا جائز
حسن الا أنه لا يجوز الا مطلقا لا إلى مدة أصلا، وحكمه في كل ما ذكرنا قبل حكم المزارعة
سواء سواء في كل شئ لا تحاش منها شيئا *
1342 - مسألة - فان أراد العامل الخروج قبل أن ينتفع فيما غرس بشئ
وقبل أن تنمى له فله ذلك ويأخذ كل ما غرس وكذلك ان أخرجه صاحب الأرض لأنه لم
ينتفع بشئ فإن لم يخرج حتى انتفع ونما ما غرس فليس له الا ما تعاقدا عليه لأنه قد انتفع
بالأرض فعليه حقها وحقها هو ما تعاقدا عليه *
برهان ذلك هو ما ذكرناه في أول كلامنا في المزارعة من اعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر
اليهود على أن يعملوها بأنفسهم وأموالهم ولهم نصف ما يخرج منها من زرع أو ثمر ونصف
ما يخرج (2) منها هكذا مطلقا، وكذلك روينا من طريق حماد بن سلمة عن عبيد الله
ابن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر لليهود على أن لهم الشطر
من كل زرع. ونخل. وشئ) وهذا عموم لكل ما خرج منها بعمله من شجر أو زرع
أو ثمر وكل ذلك داخل تحت العمل بأنفسهم وأموالهم، ولا فرق بين غرس أو زرع
أو عمارة شجر، وبالله تعالى التوفيق *
وبالضرورة يدرى كل ذي تمييز أن خيبر وفيها نحو ألفي عامل ويصاب فيها نحو
ثمانين ألف وسق تمر وبقيت بأيديهم أزيد من خمسة عشر عاما أربعة أعوام من حياة النبي



(1) في النسخة رقم 16 (من كل ذلك)
(2) في النسخة رقم 16 (ونصف ما خرج) وما هنا أنسب بلفظ الحديث
227
صلى الله عليه وسلم وعامين ونصف عام مدة أبى بكر وعشرة أعوام من خلافة عمر رضي الله عنهما
حتى أجلاهم في آخر عام من خلافته فلابد أن فيهم من غرس فيما بيده من الأرض فكان
بينهم وبين أصحاب الأصول (1) من المسلمين بلا شك، وقال مالك: المغارسة هو أن
يعطى الأرض البيضاء ليغرسها من ماله ما رأى حتى يبلغ شبابا ما ثم له ما تعاقدا عليه من
رقبة الأرض ومن رقاب ما غرس *
قال أبو محمد: وهذا لا يجوز أصلا لأنه إجارة مجهولة لا يدرى في كم يبلغ ذلك الشباب
ولعلها لا تبلغه ولا يدرى ما غرس ولا عدده، وأعجب شئ قوله: حتى تبلغ شبابا ما
والغروس تختلف في ذلك اختلافا شديدا متباينا لا ينضبط البتة فقد يشب بعض ما غرس
ويبطل البعض ويتأخر شباب البعض، فهذا أمر لا ينحصر أبدا فيما يغرس ولعله لا يغرس
له الا شجرة واحدة أو اثنتين فيكلف لذلك استحقاق نصف أرض عظيمة فهو بيع
غرر بثمن مجهول. وبيع. وإجارة معا. وأكل مال بالباطل. وإجارة مجهولة.
وشرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل قد جمع هذا القول كل بلاء وما نعلم أحدا
قاله قبله ولا لهذا القول حجة لا من قرآن. ولا من سنة. ولا من رواية سقيمة.
ولا من قول صاحب. ولا تابع نعلمه. ولا من قياس. ولا من رأى له وجه، وما كان
هكذا لم يجز القول به، وبالله تعالى التوفيق *
1343 - مسألة - ومن عقد مزارعة أو معاملة في شجر أو مغارسة فزرع العامل
وعمل في الشجر وغرس ثم انتقل ملك الأرض أو الشجر إلى غير المعاقد بميراث أو بهبة
أو بصدقة أو باصداق أو ببيع، فأما الزرع ظهر أو لم يظهر فهو كله للزارع وللذي كانت
الأرض له على شرطهما وللذي انتقل ملك الأرض إليه أخذهما بقطعه أو قلعه في أول
إمكان الانتفاع به لا قبل ذلك لأنه لم يزرع إلا بحق والزرع بلا خلاف هو غير الأرض
الذي انتقل ملكها إلى غير مالكها الأول، وأما المعاملة في الشجر ببعض ما يخرج منها
فهو ما لم يخرج غير متملك لاحد فإذا خرج فهو لمن الشجر له فان أراد إبقاء العامل على
معاملته فله ذلك وإن أراد تجديد معاملة فلهما ذلك وإن أراد اخراجه فله ذلك وللعامل
على الذي كان الملك له أجره مثل عمله لأنه عمل في ملكه بأمره، وأما الغرس فللذي انتقل
الملك إليه إقراره على تلك المعاملة أو أن يتفقا على تجديد أخرى فان أراد إخراجه فله
ذلك وللغارس قلع خصته مما غرس كما لو أخرجه الذي كان عامله أو لا على ما ذكرنا قبل
وبالله تعالى التوفيق، وأما إذا انتقل الملك بعد ظهور الثمرة فالثمرة بين العامل وبين الذي



(1) في النسخة رقم 16 (وبين أصحاب الأرض)
228
كان الملك له على شرطهما لا شئ فيها للذي انتقال الملك إليه، وبالله تعالى التوفيق *
[تم كتاب المزارعة والمغارسة والحمد لله رب العالمين] * (1)
بسم الله الرحمن الرحيم * كتاب المعاملة في الثمار
1344 - مسألة - المعالمة فيها سنة، وهي أن يدفع المرء أشجاره أي شجر كان من
نخل. أو عنب. أو تين. أو ياسمين. أو موز. أو غير ذلك لا تحاش شيئا مما يقوم على
ساق ويطعم سنة بعد سنة لمن يحفرها ويزبلها ويسقيها إن كانت مما يسقى بسانية. أو ناعورة
أو ساقية، ويأبر النخل. ويزبر الدوالي. ويحرث ما احتاج إلى حرثه ويحفظه حتى يتم
ويجمع أو ييبس إن كان مما ييبس أو يخرج دهنه إن كان مما يخرج دهنه أو حتى يحل بيعه
إن كان مما يباع كذلك على سهم مسمى من ذلك الثمر أو مما تحمله الأصول كنصف (2)
أو ثلث. أو ربع. أو أكثر أو أقل كما قلنا في المزارعة سواء سواء *
برهان ذلك ما ذكرناه هنا لك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر، ورويناه من طريق
أبى داود نا أحمد بن حنبل نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد نا أبى عن محمد بن إسحاق حدثني
نافع مولى ابن عمر عن عبد الله بن عمر قال: قال عمر بن الخطاب للناس. (أيها الناس (3)
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عامل يهود خيبر على أننا نخر جهم إذا شئنا فمن كان له مال فليلحق
به فانى مخرج يهود فأخرجهم) *
قال أبو محمد: وبهذا يقول جمهور الناس إلا أننا روينا عن الحسن. وإبراهيم كراهة
ذلك، ولم يجزه أبو حنيفة ولا زفر وأجازه ابن أبي ليلى. وسفيان الثوري. والأوزاعي.
وأبو يوسف. ومحمد. والشافعي. ومالك. وأحمد. وأبو سليمان. وغيرهم، وأجازه
مالك في كل شجر قائم الأصل إلا فيما يخلف ويجنى (4) مرة بعد أخرى كالموز.
والقصب. والبقول فلم يجزه فيما ولا أجاز ذلك أيضا في البقول الا في السقي خاصة ولم
يجزه الشافعي في أشهر قوليه الا في النخل. والعنب فقط، ومن أصحاب أبي سليمان من لم
يجز ذلك الا في النخل فقط *
قال أبو محمد: من منع من ذلك الا في النخل وحده. أو في النخل والعنب. أوفى
بعض دون بعض. أو في سقى دون بعل فقد خالف الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا
قبل ودخلوا في الذين أنكروا على أبي حنيفة فلا معنى لقولهم، واحتج بعض المقلدين



(1) الزيادة من النسخة الحلبية
(2) في النسخة رقم 16 (بنصف)
(3) في سنن أبي داود (أن عمر قال: أيها الناس)
(4) في النسخة رقم 16 (ويجئ) وهو غلط
229
لأبي حنيفة بأن قالوا: لا تجوز الإجارة الا بأجرة معلومة *
قال أبو محمد: ليست المزارعة ولا اعطاء الشجر ببعض ما يخرج منها إجارة
والتسمية في الدين إنما هي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى قال تعالى: (ان
هي الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) ويقال لهم: هلا أبطلتم
بهذا الدليل بعينه المضاربة قلتم: إنها إجارة بأجرة مجهولة؟ فان قالوا: إن المضاربة
متفق عليها قلنا: ودفع الأرض يجزء مما يخرج منها ودفع الشجر مما يخرج منها متفق
عليه بيقين من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعمل جميع أصحابه رضي الله عنهم لا تحاش منهم أحدا
فما غاب منهم عن خيبر الا معذور بمرض أو ضعف أو ولاية تشغله ومع ذلك فكل من
غاب بأحد هذه الوجوه فقد عرف أمر خيبر واتصل الامر فيها عاما بعد عام إلى آخر
خلافة عمر فهذا هو الاجماع المتيقن المقطوع عليه لا ما يدعونه من الباطل والظن الكاذب
في الاجماع على المضاربة التي لا تروى الا عن ستة من الصحابة رضي الله عنهم فاعترضوا
في أمر خيبر بان قالوا: لا يخلوا أهل خيبر من أن يكونوا عبيدا أو أحرارا فإن كانوا عبيدا
فمعاملة المرء لعبده بمثل جائز، وإن كانوا أحرارا فيكون الذي أخذ منهم بمنزلة الجزية
لأنه لم يأت في شئ من الاخبار أنه عليه السلام قد أخذ منهم جزية ولا زكاة *
قال أبو محمد: وهذا مما جروا فيه على الكذب والبهت والتوقح البارد أما قولهم:
لا يخلوا أهل خيبر من أن يكونوا عبيد ا فكيف انطلقت ألسنتهم بهذا وهم أول مخالف
لهذا الحكم؟ فلا يختلفون في أن أهل العنوة أحرار وأنه (1) ان رأى الامام إرقاقهم
فلا بد فيهم من التخميس والبيع لقسمة أثمانهم، ثم كيف استجازوا أن يقولوا. لعلهم
كانوا عبيدا وقد صح أن عمر أجلاهم بحضرة الصحابة رضي الله عنهم عن عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم باخراج اليهود عن جزيرة العرب فكيف يمكن أن يستجيز عمر تفويت عبيد
المسلمين وفيهم حظ لليتامى والأرامل؟ ان من نسب هذا إلى عمر لضال مضل بل إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح أنه عليه السلام أراد اجلاءهم فرغبوا في اقرارهم فأقرهم على
أن يخرجهم إذا شاء المسلمون وهو عليه السلام لا يجوز أن ينسب إليه تضييع رقيق
المسلمين، ومن المحال أن يكونوا عبيد الله عليه السلام خاصة لأنه عليه السلام ليس له من
المغنم الا خمس الخمس وسهمه مع المسلمين، وقد قال قوم: والصفى ولم يقل أحد من أهل
الاسلام: ان جميع من ملك عنوة عبيد له عليه السلام، ثم لو أمكن أن يكون ما زعموا
من الباطل وكانوا له عبيدا لكان قد أعتقهم بلا شك كما روينا من طريق البخاري نا إبراهيم



(1) في النسخة رقم 16 (وانهم) وهو تصحيف
230
ابن الحرث نا يحيى بن أبي بكير نا زهير - هو ابن معاوية الجعفي - نا أبو إسحاق - هو السبيعي -
عن عمرو بن الحارث [ختن رسول الله] (1) وأخي أم المؤمنين جويرية بنت الحارث
قال: (ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته دينارا ولا درهما ولا عبدا
ولا أمة ولا شيئا الا بغلته البيضاء وسلاحه وأرضا جعلها صدقة) وقد قسم عليه السلام
من أخذ عنوة بخيبر كما روينا من طريق مسلم نا زهير بن حرب نا إسماعيل بن علية
عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا خيبر فذكر
الحديث وفيه: (قال: فأصبناها عنوة وجمع السبي فجاءه دحية فقال: يا رسول الله أعطني
جارية من السبي قال: اذهب فخذ جارية فأخذ صفية بنت حيى (2)) وذكر الحديث *
قال أبو محمد: وكانت الأرض كلها عنوة وصالح أهل بعض الحصون على الأمان
فنزلوا ذمة أحرارا، وقد صح من حديث عمر قول كما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فصح
أن الباقين بها أحرار، وأما قولهم: ان ذلك المأخوذ منهم كان مكان الجزية فكلام من
لا يتقى الله تعالى، وكيف يجوز أن يكون ذلك النصف مكان الجزية؟ وإنما كان حقوق
أرباب الضياع المقسومة عليهم الذي عومل اليهود على كفايتهم العمل والذين خطبهم
عمر كما ذكرنا وأمرهم أن يلحقوا بأموالهم فلينظروا فيها إذ أراد اجلاء اليهود عنها،
والآثار بهذا متواترة متظاهرة كالمال الذي حصل لعمر بها فجعله صدقة، وكقول
ابن عمر في سبب اجلاء اليهود: خرجنا إلى خيبر فتفرقنا في أموالنا وكان اعطاء أمهات
المؤمنين بعض الأرض والماء وبعضهن الأوساق وان بقايا أبناء المهاجرين لبها إلى اليوم
على مواريثهم، فظهر هذيان هؤلاء النوكى * والعجب أنهم قالوا: لو كان اجماعا لكفر
أبو حنيفة وذفر! فقلنا: عذرا بجهلهما كما يعذر من قرأ القرآن فأخطأ فيه وبدله وزاد
ونقص وهو يظن أنه على صواب، وأما من قامت الحجة عليه وتمادى معاندا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فهو كافر بلا شك، وشغب أصحاب الشافعي بأن قالوا: لما صحت المساقاة في النخل وجب
أن يكون أيضا في العنب لان كليهما فيه الزكاة ولا تجب الزكاة في شئ من الثمار (3) غيرهما *
قال أبو محمد: وهذا فاسد وقياس بارد، ويقال لهم: لما كان ثمر النخل ذا نوى
وجب أن يقاس عليه كل ذي نوى أو لما كان ثمر النخل حلوا وجب أن يقاس عليه كل حلو
والا فما الذي جعل وجوب الزكاة حجة في إعطائها بسهم من ثمارها؟ وقالوا أيضا: ان
ثمر النخل ظاهر يحاط به وكذلك العنب *



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 4 ص 46 (1) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 403
(2) في النسخة الحلبية (من الثمر)
231
قال على: وكذلك التين. والفستق وغير ذلك، وأما منع المالكيين من ذلك في
الموز والبقل فدعوى بلا دليل، فان قالوا: لفظ المساقاة يدل على السقي فقلنا: ومن سمى
هذا العمل مساقاة حتى تجعلوا هذه اللفظة حجة؟ ما علمناها عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم. ولا عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم وإنما نقولها معكم مساعدة فقط، وبالله
تعالى التوفيق، وقد كان بخيبر بلا شك بقل وكل ما ينبت في أرض العرب من الرمان.
والموز. والقصب. والبقول فعاملهم عليه السلام على نصف كل ما يخرج منها، وبالله
تعالى التوفيق *
1345 - مسألة - ولا يجوز أن يشترط على صاحب الأرض في المزارعة.
والمغارسة. والمعاملة في ثمار الشجر لا أجير ولا عبد ولا سانية ولا قادوس. ولا حبل.
ولا دلو. ولا عمل. ولا زبل. ولا شئ أصلا، وكل ذلك على العامل لشرط رسول الله
صلى الله عليه وسلم عليهم أن يعملوها من أموالهم فوجب العمل كله على العامل،
فلو تطوع صاحب الأصل (1) بكل ذلك أو ببعضه فهو حسن لقول الله تعالى: (ولا
تنسوا الفضل بينكم *
1346 - مسألة - وكل ما قلنا (2) في المزارعة فهو كذلك ههنا لا تحاش
شيئا من تلك المسائل فأغنى عن تكرارها وبالله تعالى التوفيق
1347 - مسألة - ولا يجوز أن يشترط في المزارعة واعطاء الأصول بجزء
مسمى مما يخرج منها مشاع في جميعها على العامل بناء حائط. ولا سد ثلمة. ولا حفر
بئر ولا تنقيتها. ولا حفر عين ولا تنقيتها. ولا حفر سانية ولا تنقيتها. ولا حفر
نهر. ولا تنقيته، ولا عمل صهريج. ولا اصلاحه. ولا بناء دار. ولا اصلاحها.
ولا بناء بيت. ولا اصلاحه. ولا آلة سانية. ولا خطارة. ولا نا عورة لان كل ذلك
شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، فان تطوع بشئ من ذلك بغير شرط جاز
لان السنة إنما وردت بان الشرط عليهم أن يعتملوها بأموالهم وبأنفسهم فقط، وكل
هذا ليس من عمل الأرض ولا من عمل الشجر في شئ، وأما آلة الحرث والحفر كلها
وآلة السقي كلها. وآلة التقليم. وآلة التذبيل والداب والاجراء فكل ذلك على
العامل ولابد لأنه لا يكون العمل الواجب عليهم الا بذلك فهو عليهم وبالله تعالى التوفيق *
[تم كتاب المعاملة في الثمار والحمد لله رب العالمين] (3)



(1) في النسخة رقم 16 (صاحب الأرض)
(2) في النسخة الحلبية (ما قلنا)
(3) الزيادة من النسخة الحلبية
232
كتاب احياء الموات. والاقطاع. والحمى. والصيد يتوحش
ومن ترك ماله بمضيعة. أو عطب ماله في البحر
1348 مسألة كل أرض لا مالك لها ولا يعرف أنها عمرت في الاسلام
فهي لمن سبق إليها وأحياها سواء باذن الامام فعل ذلك أو بغير اذنه لا اذن في ذلك للامام
ولا للأمير ولو أنه بين الدور في الأمصار، ولا لاحد أن يحمى شيئا من الأرض
عمن سبق إليها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أن الامام أقطع انسانا شيئا لم يضره ذلك ولم
يكن له أن يحميه ممن سبق إليه فإن كان احياؤه لذلك مضرا بأهل القرية ضررا ظاهرا لم
يكن لاحد أن ينفرد به لا باقطاع الامام ولا بغيره كالملح الظاهر. والماء الظاهر.
والمراح. ورحبة السوق. والطريق. والمصلى. ونحو ذلك، وأما ما ملك يوما ما باحياء
أو بغيره ثم دثر وأشغر (1) حتى عاد كأول حاله فهو ملك لمن كان له يجوز لاحد تملكه
بالاحياء أبدا، فان جهل أصحابه فالنظر فيه إلى الامام ولا يملك الا باذنه *
وقد اختلف الناس في هذا فقال أبو حنيفة: لا تكون الأرض لمن أحياها الا باذن
الامام له في ذلك، وقال مالك: أما ما يتشاح الناس فيه مما يقرب من العمران فإنه
لا يكون لاحد الا بقطيعة الامام وأما حمى ما كان في الصحارى وغير العمران فهو لمن
أحياه فان تركه يوما ما حتى عاد كما كان فقد صار أيضا لمن أحياه وسقط عنه ملكه (2)
وهكذا قال في الصيد يتملك ثم يتوحش فإنه لمن أخذه فإن كان في أذنه شنف (3) أو نحو
ذلك فالشنف للذي كان له والصيد لمن أخذه، وقال الحسن بن حي: ليس الموات الا في
أرض العرب فقط، وقال أبو يوسف: من أحيا الموات فهو له ولا معنى لاذن الامام الا
ان حد الموات عنده ما إذا وقف المرء في أدنى المصر إليه ثم صاح لم يسمع فيه فما سمع فيه
الصوت لا يكون الا باذن الامام، وقال عبد الله بن الحسن. ومحمد بن الحسن. والشافعي
وأبو ثور. وأبو سليمان. وأصحابه: كقولنا، فأما من ذهب مذهب أبي حنيفة فاحتجوا
بخبر من طريق عمرو بن واقد عن موسى بن يسار عن مكحول عن جنادة بن أبي أمية قال:
نزلنا دابق (4) وعلينا أبو عبيدة بن الجراح فقتل حبيب بن مسلمة قتيلا من الروم فأراد
عبيدة أن يخمس سلبه فقال له حبيب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل السلب للقاتل، فقال له



(1) هو بالغين المعجمة أي خلا، وفى النسخة الحلبية (أشعر) بالعين المهملة وهو تصحيف
(2) في النسخة رقم 16 (سقط ملكه عنه)
(3) هو بفتح أوله وسكون ثانيه القرط الذي يعلق في شحمة الأذن
(4) بكسر الباء وقد تفتح قرية قرب حلب
233
معاذ بن جبل: مه يا حبيب انى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إنما للمرء ما طابت به
نفس إمامه، وقالوا: لما كان الموات ليس أحد أولى به من أحد أشبه ما في بيت المال
ما نعلم لهم شبهة غير هذا *
قال على: أما الأثر فموضوع لأنه من طريق عمرو بن واقد وهو متروك باتفاق من
أهل العلم بالآثار، ثم هو حجة عليهم لأنهم أول من خالفه فأباحوا الصيد لمن أخذه بغير
اذن الامام، فان ادعوا اجماعا كذبوا لان في التابعين من منع من الصيد في دار الحرب
وجعله من المغنم ولا يعارض بمثل هذا الأثر الكاذب حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلب
للقاتل وبالأرض لمن أحياها، وأما تشبيههم ذلك (1) بما في بيت المال فهو قياس
والقياس كله باطل لان ما في بيت المال أموال مملوكة اخذت بجزية أو بصدقة أو من بيت
مال كان له رب فلم يعرف ولا يجوز أن يشبه ما لم يعرف أكان له رب أم لم يكن له رب
بما يوقن أنه كان له رب، ولو كان الامر بالقياس حقا لكان قياس الأرض الموات
التي لم يكن لها رب بالصيد والحطب أولى وأشبه ولكن لا النصوص يتبعون ولا القياس
يحسنون، ثم لو صح هذا الخبر الموضوع لكان حجة لنا لان النبي صلى الله عليه وسلم قد قضى
بالموات لمن أحياه وهو عليه السلام الامام الذي لا امامة لمن لم يأتم به وهو الذي قال فيه
تعالى. (يوم ندعو كل أناس بامامهم) فهو إمامنا نشهد الله (2) تعالى على ذلك، وجميع
عباده لا امام لنا دونه ونسأل الله أن لا يدعوا نا مع امام غيره، فمن اتخذ إمامه دونه عليه السلام
يغلب حكمه على حكمه عليه السلام فسيرد ويعلم ونحن إلى الله منه برآء *
وأما قول مالك فظاهر الفساد لأنه قسم تقسيما لا نعلمه عن أحد قبله ولا جاء به قرآن.
ولا سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قياس، وأعجب شئ فيه! انه لم يجعل الموات القريب
الذي لم يكن له قط مالك لمن أحياه وقد جعله الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ثم جعل المال
المتملك الذي حرمه الله تعالى في القرآن وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (ان دماءكم
وأموالكم عليكم حرام) فجعلها ملكا لمن أخذها كالقول الذي ذكرنا عنه في الموات يعمر
ثم يتشغر ومثل الصيد يتوحش وما وجب سقوط الملك، بالتوعر والتوحش (3)
لا بقرآن ولا بسنة ولا برواية سقيمة. ولا بقياس. ولا برأي له وجه) وأيضا فلا يخلو
ما قرب من العمران أو تشاح فيه الناس من أن يكون فيه ضرر على أهل القرية والمصر
أو لا ضرر فيه عليهم فإن كان فيه ضرر فما للامام أن يقطعه أحدا ولا أن يضربهم وان



(1) في نسخة (في ذلك)
(2) في النسخة رقم 14 (يشهد)
(3) في النسخة رقم 16 (سقوط الملك بالتشغر) الخ، يقال شغر البلد إذا خلا من الناس
234
كان لا ضرر فيه عليهم فأي فرق بينه وبين البعيد عن العمران؟ فصح أن لا معنى للامام في
ذلك أصلا، وكذلك تقسيم أبى يوسف. والحسن بن حي ففاسد أيضا لأنه قول بلا برهان
فهو ساقط *
قال أبو محمد: وبرهان صحة قولنا ما رويناه من طرق أحمد بن شعيب النسائي نا
يونس بن عبد الأعلى نا يحيى - هو ابن بكير - عن الليث - هو ابن سعد - عن عبيد الله بن أبي جعفر
عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل - هو أبو الأسود - عن عروة بن الزبير عن عائشة أم
المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد فهو أحق بها) *
ومن طريق البخاري نا يحيى بن بكير نا الليث عن عبيد الله بن أبي جعفر عن محمد بن
عبد الرحمن عن عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عمر أرضا ليست لاحد فهو أحق بها) قال عروة * وقضى به عمر بن الخطاب *
قال أبو محمد: هذا الخبر هو نص قولنا وهو المبطل لقول من لم يجعل ذلك الا باذن
غير النبي صلى الله عليه وسلم اما عموما واما في مكان دون مكان، ولقول من قال: من عمر أرضا قد
عمرت ثم أشغرت فهي للذي عمرها آخرا قال الله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا
قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم) فصح أن كل قضية قضاها رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وكل عطية أعطاها عليه السلام فليس لأحد يأتي بعده لا امام ولا غيره أن
يعترض فيها ولا أن يدخل فيها حكما وقد اتصل كما ترى أن عمر قضى بذلك ولا يعرف له
مخالف من الصحابة رضي الله عنهم * ومن طريق أبى داود نا محمد بن المثنى نا عبد الوهاب -
هو ابن عبد المجيد الثقفي - نا أيوب - هو السختياني - عن هشام بن عروة عن أبيه عن
سعيد [بن زيد] (1) بن عمرو بن نفيل عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال من أحيا أرضا ميتة
فهي له وليس لعرق ظالم حق) * ومن طريق أحمد بن شعيب أنا يونس بن عبد الأعلى أنا
ابن وهب أخبرني حياة بن شريح عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير
أنه قال: العرق الظالم هو الرجل يعمر الأرض الخربة وهي للناس قد عجزوا عنهما فتركوها
حتى خرجت *
قال أبو محمد: فهذا عروة سمى هذه الصفة عرق ظالم وصدق عروة وهذا [هو] (2)
الذي إباحة المالكيون، وروينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن يحيى بن أيوب.
وعلي بن مسلم قال محمد بن يحيى: نا عبد الوهاب - هو ابن عبد المجيد الثقفي - نا أيوب - هو
السختياني -، وقال علي بن مسلم: نا عباد بن عباد المهلبي ثم اتفق أيوب. وعباد كلاهما



(1) الزيادة من سنن أبي داود
(2) زيادة لفظ (هو) من النسخة رقم 16
235
عن هشام بن عروة عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجروا ما أكلت العوافي منها فهو له صدقة) *
قال على: لا معنى لاخذ رأى الامام في الصدقة ولا ما فيه أجر، ولو أراد المنع من ذلك
لكان عاصيا لله تعالى * ومن طريق أبى داود نا أحمد بن عبدة الآملي (1) نا عبد الله بن
عثمان نا عبد الله بن المبارك أنا نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير
قال: (أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الأرض أرض الله والعباد عباد الله ومن أحيا
مواتا فهو أحق به جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاءوا بالصلوات عنه * ومن طريق
أبى داود نا ابن السرح (2) نا ابن وهب أخبرني يونس - هو ابن يزيد - عن ابن شهاب
عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة الليثي (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: لا حمى الا لله ولرسوله)) فصح أن ليس للامام أن يحمى شيئا من الأرض
عن أن تحيا * ومن طريق أبى داود نا أحمد بن سعيد الدارمي نا وهب بن جرير بن حازم
عن أبيه عن ابن إسحاق عن يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه (أن رجلا غرس نخلا في أرض
غيره فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الأرض بأرضه وأمر صاحب النخل أن يخرج
نخله منها)) قال عروة: حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكبر ظني انه أبو
سعيد الخدري فأنا رأيت الرجل يضرب في أصول للنخل (3) *
قال أبو محمد: هذا هو الحق الذي لا يجوز غيره وعروة لا يخفى عليه من صحت صحبته
ممن لم تصح، وقد اعتمر من مكة إلى المدينة مع عمر بن الخطاب وأدركه فمن دونه لا قول
مالك: إنه ان لم ينتفع بالشجر ان قلعت كان لغارسها قيمتها مقلوعة أحب أم كره وتركت
لصاحب الأرض أحب أم كره وما يزالون يقضون للناس بأموال الناس المحرمة عليهم
بغير برهان والمتعدي وان ظلم فظلمه لا يحل أن يظلم فيؤخذ من ماله ما لم يوجب الله تعالى
ولا رسوله صلى الله عليه وسلم أخذه ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه * ومن طريق أبى عبيد
حدثني أحمد بن خالد الحمصي عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر
عن أبيه قال: كان عمر بن الخطاب يخطب على هذا المنبر يقول: يا أيها الناس من أحيا أرضا ميتة
فهي له، وجاء أيضا عن علي فهذا بحضرة الصحابة علانية لا ينكره أحد منهم * ومن طريق
أبى عبيد نا أحمد بن عثمان عن عبد الله بن المبارك عن حكيم بن زريق قال: قرأت كتاب
عمر بن عبد العزيز إلى أبى من أحيا أرضا ميتة ببنيان أو حرث ما لم تكن من أموال قوم



(1) هو بالمد وضم الميم
(2) واسمه أحمد بن عمرو
(3) المصنف تصرف في بعض ألفاظ الحديث
236
ابتاعوها أو أحيوا بعضا وتركوا بعضها فأجز للقوم ايحاءهم وأما ما كان مكشوفا فلجميع
المسلمين (1) يأخذون منه الماء أو الملح أو يريحون فيه دوابهم فلأنهم (2) قد ملكوه
فليس لأحد أن ينفرد به * وروينا من طريق سفيان بن عيينة عن عمرو بن يحيى بن قيس
المازني عن أبيه عن أبيض بن حمال - هو المازني - قال: (استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
معدن الملح الذي بمأرب فاقطعنيه قيل له: انه بمنزلة الماء العد (3) قال: فلا إذا *
قال أبو محمد: فان قيل: فقد أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقطع أبو بكر. وعمر.
وعثمان. وماوية فما معنى اقطاعهم؟ قلنا: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الذي له الحمى
والاقطاع والذي لو ملك انسانا رقبة حر لكان له عبدا وأما من دونه عليه السلام فقد
يفعلون ذلك قطعا للتشاح والتنازع ولا حجة في أحد دونه عليه السلام *
قال أبو محمد: وليس المرعى متملكا بل من أحيا فيه فهو له، ويقال لأهل الماشية:
أعزبوا وأبعدوا في طلب المرعى وإنما التملك بالاحياء فقط وبالله تعالى التوفيق، والرعي
ليس احياءا ولو كان احياءا لملك المكان من رعاه وهذا باطل متيقن في اللغة وفى الشريعة *
واحتج بعض المالكيين لقولهم في الصيد المتوحش باسخف معارضة سمعت، وهو
أنه قال: الصيد إذا توحش بمنزلة من أخذ ماء من بئر متملكة (4) في وعائه فانهرق
الماء في البئر أيكون شريكا بذلك في الماء الذي في البئر؟ *
قال أبو محمد: البئر وآخذ الماء منها لا يخلو أن تكون مباحة أو متملكة فإن كانت
مباحة فله أن يأخذ منها أضعاف ما انهرق له ان شاء وله أن يترك ان شاء كما يترك الناس
ما لا قيمة له عندهم من أموالهم ويبيحونه لمن أخذه كالنوى. والتبن. والزبل. ونحو ذلك، ولو أن صاحب كل ذلك لم يطلقه ولا أباح أخذه لاحد لكان ذلك له ولما حل لاحد أخذه
فلا يحل مال أحد قل أو كثر الا بإباحته له أو حيث اباحته الديانة عن الله تعالى، وقد نص
رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن من اقتطع بيمينه حق مسلم أوجب الله له النار
ولو كان قضيبا من أراك، فأيما أكثر عندهم - وهم أصحاب قياس بزعمهم - قضيب أراك
أو أيل. أو حمار وحش يساوى كل واحد منهما مالا أو أرض تساوى الأموال؟ وإن كانت
البئر متملكة فلا يخلوا آخذا لماء منها من أن يكون محتاجا إلى ما أخذ أو غير محتاج فإن كان
محتاجا فله أن يأخذ منها مثل ما انهرق له أو أكثر أو أضعافه إذا احتاج إليه، وإن



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية (لجميع المسلمين)
(2) في النسخة الحلبية لأنهم)
(3) هو الدائم الذي لا انقطاع لمادته، ووقع في النسخة الحلبية بعد قوله العد (المر)
ولم يذكر في النهاية
(4) في النسخة رقم 14 (فيتملكه))
237
كان (1) غير محتاج لم يجز له أخذ شئ من مائها لا ما قل ولا ما كثر، فظهر هذر
هذا الجاهل وتخليطه *
1349 مسألة والاحياء هو قلع ما فيها من عشب أو شجر أو نبات
بنية الاحياء لا بنية أخذ العشب والاحتطاب فقط. أو جلب ماء إليها من نهر. أو من
عين. أو حفر بئر فيها لسقيها منه. أو حرثها. أو غرسها. أو تزبيلها. أو ما يقوم مقام
التزبيل من نقل تراب إليها. أو رماد. أو قلع حجارة. أو جرد تراب ملح عن وجهها
حتى يمكن بذلك حرثها. أو غرسها. أو أن يختط عليها بحظير للبناء فهذا كله إحياء
في لغة العرب التي بها خاطبنا الله تعالى على لسان نبيه (2) صلى الله عليه وسلم فيكون له بذلك ما أدرك
الماء في فوره وكثرته من جميع جهات البئر. أو العين. أو النهر. أو الساقية قد ملكه
واستحقه لأنه أحياه، ولا خلاف في ضرورة الحس واللغة أن الاحتطاب وأخذ
العشب للرعي ليس إحياءا وما تولى المرء (3) من ذلك بأجرائه وأعوانه فهو له لا لهم
لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) *
1350 مسألة ومن خرج في أرضه معدن فضة. أو ذهب. أو نحاس.
أو حديد. أو رصاص. أو قزدير. أو زئبق. أو ملح. أو شب. أو زرنيخ أو كحل. أو
ياقوت. أو زمرد. أو بجادى. أو رهوبى. أو بلور. أو كذان. أو أي شئ كان فهو له
ويورث عنه وله بيعه ولا حق للامام معه فيه ولا لغيره وهو قول أبي حنيفة. والشافعي.
وأبي سليمان وقال مالك: تصير الأرض للسلطان *
قال أبو محمد: وهذا باطل لقول الله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) ولقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم
(من أحياء أرضا ميتة فهي له ولعقبه) ولقول عليه السلام: (من
غصب شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين)) ولقوله عليه السلام:
(إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فليت شعري بأي وجه تخرج أرضه التي ملك
بإرث أو التي أحيا عن يده من أجل وجود المعدن فيها؟ وما علمنا لهذا القول
متعلقا لا من قرآن. ولا من سنة. ولا رواية سقيمة. ولا من قول أحد قبله نعلمه. ولا من
قياس. ولا من رأى سديد. ونسأله عن مسجد ظهر فيه معدن أو لو ظهر معدن في
المسجد الحرام أو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في مقبرة للمسلمين؟ أيكون للامام
أخذ المسجد الحرام وأخذ مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمقبرة فيمنع الناس من كل ذلك



(1) في النسخة الحلبية (فإن كان)
(2) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية ((لسان رسوله) الخ
(3) في النسخة الحلبية (المؤمن)
238
ويقطعها من أراد؟ أف أف لهذا القول وما قاد إليه *
1351 - مسألة - ومن ساق ساقية أو حفر بئرا أو عينا فله ما سقى كما قدمنا ولا يحفر
أحد بحيث يضر بتلك العين أو تلك البئر أو بتلك الساقية أو ذلك النهر أو بحيث يجلب
شيئا من مائها عنها فقط لا حريم لذلك أصلا غير ما ذكرنا لأنه إذا ملك تلك الأرض
فقط ملك ما فيها من الماء فلا يجوز أخذ ماله بغير حق * وروينا من طريق إسماعيل بن علية
عن رجل عن سعيد بن المسيب * ومن طريق محمد بن مسلم الطائفي عن يحيى بن سعيد
الأنصاري عن سعيد بن المسيب (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حريم البئر المحدثة خمس
وعشرون ذراعا وحريم البئر العادية خمسون ذراعا) * وعن سعيد بن المسيب.
ويحيى بن سعيد الأنصاري من قولهما مثل ذلك * وعن أبي هريرة. والشعبي. والحسن
حريم البئر أربعون ذراعا لاعطان الإبل والغنم * وعن ابن المسيب حريم بئر الزرع
ثلاث مائة ذراع، قال الزهري: سمعت الناس يقولون: حريم العين خمسمائة ذراع *
وعن عكرمة حريم ما بين العينين مائتا ذراع وليس عند مالك في ذلك حد، وقال
أبو حنيفة: حريم بئر العطن أربعون ذراعا وحريم بئر الناضح ستون ذراعا من كل جهة
إلا أن يكون حبلهما أطول، وحريم العين خمسمائة ذراع، ولا يعلم لأبي حنيفة سلفا في
قوله في بئر الناضح، وقد خالف المرسل في هذا الحكم، وقال يحيى بن سعيد في قوله المذكور:
هو السنة، والمالكيون يحتجون في أصابع المرأة بقول سعيد بن المسيب: هي السنة فهلا
احتجوا ههنا بقول يحيى بن سعيد: هي السنة؟ *
1352 - مسألة - وأما الشرب من نهر غير متملك فالحكم أن السقي للأعلى فالأعلى
لاحق للأسفل حتى يستوفى الاعلى حاجته وحق ذلك أن يغطى الماء وجه الأرض حتى
لا تشربه ويرجع للجدار أو السياج ثم يطلقه ولا يمسكه أكثر، وسواء كان الاعلى أحدث
ملكا أو إحياء من الأسفل أو مساويا له أو أقدم منه، ولا يتملك شرب نهر غير متملك أصلا
ولاشرب سيل وتبطل الدول والقسمة فيها وان تقادمت الا أن يكون قوم حفروا ساقية
وبنوها فلهم أن يقتسموا ماءها بقدر حصصهم فيها *
برهان ذلك ما رويناه من طريق أبى داود نا أبو الوليد - هو الطيالسي - نا الليث -
هو ابن سعد - عن الزهري عن عروة بن الزبير عن عبد الله بن الزبير قال: (خاصم
الزبير رجلا في شراج الحرة التي يسقون بها فقال الأنصاري للزبير: سرح الماء يمر فأبى
[عليه] (1) الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [للزبير] (2) اسق يا زبير ثم أرسل إلى



(1) الزيادة من سنن أبي داود، والحديث مختصر
(2) الزيادة من سنن أبي داود
239
جارك فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق ثم احتبس الماء (1) حتى يرجع إلى الجدر) *
1353 مسألة ومن غرس أشجارا فله ما أظلت أغصانها عند تمامها فان
انتثرت على أرض غيره أخذ بقطع ما انتثر منها على أرض غيره * روينا من طريق
أبى داود نا محمود بن خالد ان محمد بن عثمان حدثهم قال: نا عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي -
عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه عن أبي سعيد الخدري: (قال: اختصم [إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم] (2) رجلان في حريم نخلة (3) فأمر عليه السلام بجريدة من جريدها فذرعت
فقضى بذلك) يعنى بمبلغها (4) أما انتثارها على أرض غيره فلقول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فلا يحل لاحد الانتفاع بمال غيره الا ما دامت نفسه له
طيبة بذلك وبالله تعالى التوفيق *
1354 مسألة ومن ترك دابته بفلاة ضائعة فأخذها انسان فقام عليها فصلحت
أو عطب في بحر أو نهر فرمى البحر متاعه فأخذه انسان أو غاص عليه انسان فأخذه فكل
ذلك لصاحبه الأول ولا حق فيه لمن أخذ شيئا منه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم
وأموالكم عليكم حرام) وقد جاء في ذلك خلاف كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا هشيم
أنا منصور - هو ابن المعتمر - عن عبيد الله (5) بن حميد الحميري قال: سمعت الشعبي
يقول: من قامت عليه دابته فتركها فهي لمن أحياها فقلت له: عمن يا أبا عمرو؟ قال: إن
شئت عددت لله كذا وكذا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم * ومن طريق سعيد بن منصور
نا خالد - هو ابن عبد الله الطحان الواسطي - أنا مطرف هو - ابن طريف - عن الشعبي في
رجل سيب دابته فأخذها رجل فأصلحها فقال الشعبي: هذا قد قضى فيه إن كان سيبها في
كلا. وأمن. وماء فصاحبها أحق بها وإن كان سيبها في مخافة أو مفازة (6) فالذي أخذها
أحق بها * ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو أسامة عن عثمان بن غياث (7) قال: سئل
الحسن عمن ترك دابته بأرض قفر فأخذها رجل فقام عليها حتى صلحت؟ قال: هي
لمن أحياها، قال: وسئل الحسن عن السفينة تغرق في البحر فيها متاع لقوم شتى؟ فقال:



(1) في سنن أبي داود (ثم احبس الماء)
(2) الزيادة من سنن أبي داود
(3) أي في أرض حول النخلة قريبا منها
(4) أي بقدر قامتها وذرعها، وجاء التصريح بذلك في سنن أبي داود (فوجدت سبعة أذرع) وفى رواية (خمسة أذرع)
(5) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية (عبد الله) مكبرا وهو غلط صححناه من تهذيب التهذيب (6) في النسخة رقم 14 والحلبية (في مفازة أو مخافة)
(7) في النسخة رقم 16 (عثمان بن عتاب) وهو تصحيف
240
ما ألقى البحر على ساحله ومن غاص على شئ فاستخرجه فهو له *
قال أبو محمد: وهو قول الليث ولقد كان يلزم من شنع بقول الصاحب لا يعرف له
مخالف أن يقول بقول الشعبي. والحسن لأنه عن جماعة من الصحابة لا يعرف له مخالف منهم *
1354 - مسألة - (1) ولا يلزم من وجد متاعه إذا أخذه أن يؤدى إلى الذي وجده
عنده ما أنفق عليه لأنه لم يأمره بذلك فهو متطوع بما أنفق * روينا من طريق سعيد بن
منصور نا هشيم أنا داود بن أبي هند عن الشعبي أن رجلا أضل بعير اله نضوا فأخذه رجل
فأنفق عليه حتى صلح وسمن فوجده صاحبه عنده فخاصمه إلى عمر بن عبد العزيز فقضى
له بالنفقة ورد الدابة إلى صاحبها قال الشعبي: أما أنا فأقول: يأخذ ماله حيث وجده
سمينا أو مهزولا ولا شئ عليه *
(المرفق)
1355 - مسألة - ولكل أحد أن يفتح ما شاء في حائطه من كوة أو باب
أو أن يهدمه إن شاء في دار جاره أو في درب غير نافذ أو نافذ ويقال لجاره: ابن في حقك
ما تستر به على نفسك الا أنه يمنع من الاطلاع فقط وهو قول أبي حنيفة. والشافعي.
وأبي سليمان، وقال مالك: يمنع من كل ذلك *
قال أبو محمد: وهذا خطأ لان كل ذي حق أولى بحقه، ولا يحل للجار أن ينتفع
بحائط جاره إلا حيث جاء النص بذلك، ولا فرق بين أن يهدم حائطه فلا يكلف بنيانه
ويقول لجاره: استر على نفسك ان شئت وبين أن يهدم هو حائط نفسه، ولا فرق بين
السقف والاطلاع منه وبين قاع الدار والاطلاع منه، ولا فرق بين فتح كوة للضوء
وبين فتحها هكذا (1) وكلا الامرين يمكن الاطلاع منه ولم يأت قط قرآن. ولا سنة.
ولا رواية سقيمة. ولا قول صاحب يمنع المرء من أن يفتح في حقه وفى حائطه ما شاء، فان
احتجوا بالخبر (لا ضرر ولا ضرار) فهذا خبر لا يصح لأنه إنما جاء مرسلا أو من
طريق فيها زهير بن ثابت وهو ضعيف إلا أن معناه صحيح، ولا ضرر أعظم من أن يمنع
المرء من التصرف في مال نفسه مراعاة لنفع غيره فهذا هو الضرر حقا، وأما الاطلاع
فمنعه واجب لما روينا من طريق البخاري نا علي بن عبد الله بن المديني نا سفيان بن عيينة
نا أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم: (لو أن امرءا اطلع
عليك بغير إذن فحذفته بعصا ففقأت عينه لم يكن عليك جناح) * ورويناه أيضا من طريق
أخرى (بحصاة) (2) وهو أصح *



(1) وقع في صفحة 210 غلط في رقم 1329 وتسلسل إلى هنا
(2) في النسخة رقم 14 (بين فتحها لذلك)
(3) رواية النسخة المطبوعة (بحصاة) ج 9 ص 19
241
1356 مسألة وليس لأحد أن يرسل ماء سقفه أو داره على أرض جاره
أصلا فان أذن له كان له الرجوع متى شاء لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم
وأموالكم عليكم حرام) فاطلاقه ماء داره على أرض جاره تصرف منه في مال غيره وهو
عليه حرام والاذن في ذلك إنما هو ما دام إذنا لأنه لم يملكه الرقبة والاذن في شئ ما اليوم
غير ما لم يؤذن له فيه غدا بلا شك وبالله التوفيق *
1357 مسألة ولا يجوز لاحد أن يدخن على جاره لأنه أذى وقد حرم
الله تعالى أذى المسلم، ولكل أحد أن يعلي بنيانه ما شاء وإن منع جاره الريح
والشمس لأنه لم يباشر منعه بغير ما أبيح له، ولكل أحد أن يبنى في حقه ما شاء من
حمام. أو نرن. أو رحى. أو كمد (1) أو غير ذلك إذ لم يأت نص بالمنع من شئ من ذلك *
1358 مسألة ولا يحل لاحد أن يمنع جاره من أن يدخل خشبا في
جداره ويجبر على ذلك أحب أم كره إن لم يأذن له، فأن أراد صاحب الحائط
هدم حائطه كان له ذلك وعليه أن يقول لجاره: دعم خشبك أو انزعه فانى أهدم
حائطي، ويجبر صاحب الخشب على ذلك لما روينا من طريق مالك عن ابن شهاب عن
الأعرج عن أبي هريرة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يمنع أحدكم جاره أن يغرز خشبة
في جداره ثم يقول أبو هريرة: مالي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين
أكتافكم) (2) فهذا قول أبي هريرة ولا يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم
وهو قول أصحابنا، وقال أبو حنيفة. ومالك: ليس له أن يضع خشبة في جدار جاره *
قال أبو محمد: وهذا خلاف مجرد للخبر وما نعلم لهم حجة أصلا الا أن بعضهم ذكر
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) *
قال على: الذي قال هذا هو الذي قال ذلك وقوله كله حق وعن الله تعالى، وكله واجب
علينا السمع له والطاعة وليس بعضه معارضا لبعض قال الله تعالى: (وما كان لمؤمن
ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) والذي قضي بالشفعة
واسقاط الملك بعد تمامه. وابطال الشراء بعد صحته. وقضى بالعاقلة. وان يغرموا ما لم
يجنوا. وأباح أموالهم في ذلك أحبوا أم كرهوا هو الذي قضى بأن يغرز الجار خشبه في
جدار جاره ونهى عن منعه من ذلك، ولو أنهم استعملوا هذا الحكم حيث أباحوا ثمر
النخل وكراء الدار المغصوبة كل ذلك لمن اشتراه من الغاصب بالباطل لكان أولى بهم،



(1) كذا في جميع النسخ
(2) ورواه أيضا أبو داود في سننه من طريق مسدد. وابن أبي خلف عن سفيان عن الزهري الخ
242
والواجب استعمال جميع السنن فنقول: أموالنا حرام على غيرنا إلا حيث أباحها الذي
حرمها، وقال بعضهم: قد روى هذا الخبر خشبة بالنصب على أنها واحدة فقلنا: فأنتم
لا تجيزون له لا واحدة ولا أكثر من واحدة فأي راحة لكن في هذه الرواية؟ وكل خشبة
في العالم فهي خشبة وليس للجار منع جاره من أن يضعها في جداره فالحكم واحد في كلتا
الروايتين وبالله تعالى التوفيق *
1359 مسألة وكل من ملك ماء في نهر حفره أو ساقية حفرها أو عين استخرجها
أو بئر استنبطها فهو أحق بماء كل ذلك ما دام محتاجا إليه، ولا يحل له منع الفضل بل يجبر على بذله
لمن يحتاج إليه ولا يحل له أخذ عوض عنه لا ببيع ولا غيره لما روينا من طريق جرير عن
الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنع فضل الماء ليمنع به
الكلأ) ومن طريق أبى داود. نا النفيلي (1) نا داود بن عبد الرحمن العطار عن عمرو بن
دينار عن أبي المنهال عن إياس بن عبد قال: (نهى (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع فضل الماء) *
1360 مسألة وما غلب عليه الماء من نهر أو نشع. أو سيل فاستغار (3) فهو
لصاحبه كما كان فان انتقل عنه يوما ما ولو بعد ألف عام فهو له ولورثته، وما رمى النهى من أحد
عدوتيه (4) إلى أخرى فهو باق بحسبه كما كان لمن كان له، وقال المالكيون: بخلاف
ذلك وهذا باطل لان تبدل (5) مجرى الماء لا يسقط ملكا عن مالكه ولا يحل ما لا
محرما لمن حرمه الله تعالى عليه، وهذا حكم في الدين بلا برهان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) *
1361 مسألة ولا تكون الأرض بالاحياء الا لمسلم وأما الذمي فلا لقول
الله تعالى: (ان الأرض لله يورثها من يشاء من عباده) وقوله تعالى: (ان الأرض يرثها
عبادي الصالحون) ونحن أولئك لا الكفار، فنحن الذين أورثنا الله تعالى الأرض
فله الحمد كثيرا (6) *



(1) هو عبد الله بن محمد شيخ أبى داود السجستاني
(2) في سنن أبي داود (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى) الخ، والحديث الذي قبل هذا أيضا في سنن أبي داود بالسند الذي ذكره المصنف
(3) في النسخة الحلبية (فاستعذر)
(4) تثنية عدوة بضم العين وكسرها جانب النهر وحافته
(5) في النسخة رقم 16، تبديل،
(6) تم الجزء الثالث من كتاب المحلى من النسخة رقم 14 وقد ذكر ناسخها ومصححها تاريخ كتابتها انها لخمس بقين من جمادى الأولى سنة ثمانين وسبعمائة ولله الحمد والمنة
243
بسم الله الرحمن الرحيم * كتاب الوكالة
1362 مسألة الوكالة جائزة في القيام على الأموال. والتذكية. وطلب الحقوق
واعطائها. وأخذ القصاص في النفس فما دونها وتبليغ الانكاح. والبيع. والشراء.
والإجارة. والاستئجار، كل ذلك من الحاضر. والغائب سواء ومن المريض والصحيح
سواء، وطلب الحق كله واجب بغير توكيل الا أن يبرئ صاحب الحق من حقه *
برهان ذلك بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم الولاة لا قامة الحدود. والحقوق على الناس.
ولاخذ الصدقات وتفريقها، وقد كان بلال على نفقات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان
له نظار على أرضه بخيبر. وفدك، وقد روينا في كتاب الأضاحي من طريق الليث
عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر [الجهني] عن رسول الله صلى الله عليه وآله
انه أعطاه غنما يقسمها بين أصحابه، وذكرنا في الحج من طريق سفيان بن عيينة عن
ابن أبي نجيح عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال: (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن أقوم على بدنه وأن أقسم جلودها وجلالها) * ومن طريق أبى داود نا عبيد الله بن سعد
ابن إبراهيم بن سعد نا [عمى - هو يعقوب بن إبراهيم نا] (1) أبى - هو إبراهيم بن سعد - عن
محمد بن إسحاق عن أبي نعيم وهب بن كيسان قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: أردت
الخروج إلى خيبر فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت وكيلي بخيبر (2) فخذ منه
خمسة عشر وسقا فان ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته (3)) وفى هذا الخبر
تصديق الرسول إذا علم الوالي بصدقه (4) بغير بينة * ومن طريق مسلم نا سلمة
ابن شبيب نا الحسن بن أعين نا معقل عن أبي قزعة الباهلي عن أبي نضرة عن أبي
سعيد الخدري فذكر حديث التمر، وان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بيعوا تمرها
واشتروا لنا من هذا * ومن طريق أبى داود نا حجاج بن أبي يعقوب (5) الثقعي حدثنا
معلى بن منصور نا عبد الله بن المبارك حدثنا معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير
عن أم حبيبة أم المؤمنين أنها كانت تحت عبيد الله بن جحش فمات بأرض الحبشة
فزوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم وأمهرها عنه أربعة آلاف وبعث بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
مع شرحبيل بن حسنة، وهذا خبر منقول نقل الكافة، وأمر عليه السلام بأخذ القود



(1) الزيادة من سنن أبي داود والحديث اختصره المصنف
(2) سقط الفظ (خيبر) من النسخة رقم 14
(3) هو العظم الذي بين ثغرة النحر والعاتق
(4) في النسخة رقم 16 (بتصديقه)
(5) في النسخة رقم 14 (نا حجاج نا يعقوب) وهو غلط
244
وبالرجم وبالجلد: وبالقطع * ومن طريق أبى داود نا عبيد الله بن عمر بن ميسرة نا حماد
ابن زيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن سهل بن أبي حثمة. ورافع
ابن خديج أن محيصة بن مسعود. وعبد الله بن سهل انطلقا إلى خيبر (1) فتفرقا في
البخل فقتل عبد الله بن سهل فاتهموا اليهود فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل وابنا عمه
حويصة ومحيصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) فتكلم عبد الرحمن في أمر أخيه وهو أصغرهم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الكبر الكبر أو قال: ليبدأ الأكبر فتكلما في أمر صاحبهما)،
وقال أبو حنيفة: لا اقبل توكيل حاضر ولا من كان غائبا على أقل من مسيرة ثلاث
إلا أن يكون الحاضر أو من ذكرنا مريضا إلا برضى الخصم، وهذا خلاف السنة
وتحديد بلا برهان (3) وقول لا نعلم أحدا قاله قبله * وقال المالكيون: لا نتكلم
في الحقوق إلا بتوكيل صاحبها وهذا باطل لما ذكرنا. ولقول الله تعالى: (كونوا
قوامين بالقسط شهدا لله) وقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على
الاثم والعدوان) فواجب بما ذكرنا انكار الظلم وطلب الحق لحاضر وغائب ما لم
يترك حقه الحاضر سواء بتوكيل أو بغير توكيل، وطلب الحق قد وجب ولا يمنع
من طلبه قول القائل لعل صاحبه لا يريد طلبه ويقال له: قد أمر الله تعالى بطلبه فلا
يسقط هذا اليقين ما يتوقعه بالظن *
1363 مسألة ولا تجوز وكالة على طلاق ولا على عتق ولا على تدبير. ولا على
رجعة ولا على اسلام ولا على توبة ولا على إقرار ولا على إنكار ولا على عقد الهبة. ولا على
العفو. ولا على الابراء ولا على عقد ضمان. ولا على ردة. ولا على قذف. ولا على صلح.
ولا على إنكاح مطلق بغير تسمية المنكحة والناكح لان كل ذلك إلزام حكم لم
يلزم قط. وحل عقد ثابت. ونقل ملك بلفظ، فلا يجوز أن يتكلم أحد عن أحد إلا حيث
أوجب ذلك نص ولا نص على جواز الوكالة في شئ من هذه الوجوه، والأصل ان
لا يجوز قول أحد على غيره ولا حكمه على غيره لقول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس
الا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى) وكل ما ذكرنا كسب على غيره وحكم بالباطل فلا
يمضيه أحد على أحد وبالله تعالى التوفيق *
1364 مسألة ولا يحل للوكيل تعدى ما أمره به موكله فان فعل لم ينفذ فعله
فان فات ضمن لقول الله تعالى: (ولا تعتدوا انه لا يحب المعتدين ولقوله تعالى: (فمن



(1) في سنن أبي داود (قبل خيبر)
(2) في سنن أبي داود (فأتوا النبي الخ)
(3) في النسخة رقم 16 (بلا دليل)
245
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى علكيم) فوجب من هذا أن من أمره موكله
بأن يبتاع له شيئا بثمن مسمى أو يبيعه له بثمن مسمى فباعه أو ابتاعه بأكثر أو بأقل ولو
بفلس فما زاد لم يلزم الموكل ولم يكن البيع له أصلا ولم ينفذ البيع لأنه لم يؤمر بذلك، فلو
وكله على أن يبيع له أو يبتاع له فان ابتاع له بما يساوى أو باع بذلك لزم والا فهو مردود،
وكذلك من ابتاع لآخر أو باع له بغير أن يأمره لم يلزم في البيع أصلا ولا جاز للآخر
امضاؤه لأنه امضاء باطل لا يجوز وكان الشراء لازما للوكيل وما عدا هذا فقول بلا
برهان. وحكم بالباطل * واحتج قوم في إجازة ذلك بحديث عروة البارقي. وحكيم
ابن حزام (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر كل واحد منهما بأن يبتاع له شاة بدينار فابتاع شاتين
فباع أحدهما بدينار وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبالشاة) وهما خبران منقطعان لا يصحان *
1365 - مسألة - وفعل الوكيل نافذ فيما أمر به الموكل لازم (1) للموكل ما لم يصح
عنده أن موكله قد عزله فإذا صح ذلك عنده لم ينفذ حكمه من حينئذ ويفسخ ما فعل، وأما
كل ما فعل مما أمره به الموكل من حين عزله إلى حين بلوغ الخبر إليه فهو نافذ طالت المدة
بين ذلك أو قصرت، وهكذا القول في عزل الامام للأمير. وللوالي. والقاضي، ووفى
عزل هؤلاء لمن جعل إليهم أن يولوه ولا فرق لان عزله بغير أن يعلمه بعد أن ولاه وأطلقه
على البيع وعلى الابتياع وعلى التذكية. والقصاص. والانكاح لمسماة ومسمى خديعة (2)
وغش قال الله تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون الا أنفسهم) وقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (من غشنا فليس منا: فعزله له باطل الا أن يقول أو يكتب إليه أو يوصى إليه
إذا بلغك رسولي فقد عزلتك فهذا صحيح لان له أن يتصرف في حقوق نفسه كما يشاء فإذا
بلغه فقد صح عزله وليس للخصم أن يمنع من يخاصمه من عزل وكيله وتولية آخر لان
التوكيل في ذلك قد صح ولا برهان على أن للخصم منعه من عزل من شاء وتولية من شاء *
(فان قيل): ان في ذلك ضررا على الخصم قلنا: لا ضرر عليه في ذلك أصلا بل
الضرر كله هو المنع من تصرف المرء في طلب حقوقه بغير قرآن أوجب ذلك. ولا سنة،
وهذا هو الشرع الذي لم بأذن الله تعالى به *
1366 مسألة والوكالة تبطل بموت الموكل بلغ ذلك إلى الوكيل أو لم يبلغ
بخلاف موت الامام فإنه ان مات فالولاة كلهم نافذة أحكامهم حتى يعزلهم الامام الوالي،
وذلك لقول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا عليها) والمال قد انتقل بموت الموكل
إلى ورثته فلا يجوز في مالهم حكم من لم يوكلوه وليس كذلك الامام لان المسلمين لابد



(1) في النسخة رقم 16 (نافذ)
(2) قوله خديعة هو خبر عن قوله قبل (لان عزله)) الخ
246
لهم ممن يقوم بأمرهم وقد قتل أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم بمؤتة كلهم فتولى الامر
خالد بن الوليد من غير أن يؤمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رجع بالمسلمين وصوب عليه
السلام ذلك، وقد مات عليه السلام وولاته باليمن. ومكة. والبحرين وغيرها فنفذت
أحكامهم قبل أن يبلغهم موته عليه السلام ولم يختلف في ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم
وبالله تعالى التوفيق *
كتاب المضاربة وهي القراض
1367 مسألة - القراض كان في الجاهلية. وكانت قريش أهل تجارة لا معاش
لهم من غيرها وفيهم الشيخ الكبير الذي لا يطيق السفر. والمرأة. والصغير. واليتيم
فكانوا وذو والشغل والمرض (1) يعطون المال مضاربة لمن يتجر به يجزء مسمى
من الربح فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في الاسلام وعمل به المسلمون عملا متيقنا لا خلاف
فيه ولو وجد فيه خلاف ما التفت إليه لأنه نقل كافة بعد كافة إلى زمن (2) رسول الله
صلى الله عليه وسلم وعلمه بذلك، وقد خرج صلى الله عليه وسلم في قراض بمال خديجة رضي الله عنها *
1368 مسألة والقراض إنما هو بالدنانير. والدراهم ولا يجوز بغير ذلك
الا بأن يعطيه العرض فيأمره ببيعه بثمن محدود وبأن يأخذ الثمن فيعمل به قراضا لان
هذا مجمع عليه وما عداه مختلف فيه ولا نص بايجابه. ولا حكم لاحد في ماله إلا بما أباحه
له النص، وممن منع من القراض بغير الدنانير. والدراهم الشافعي. ومالك. وأبو حنيفة.
وأبو سليمان. وغيرهم *
1369 مسألة - ولا يجوز القراض إلى أجل مسمى أصلا الا ما جاء به نص.
أو اجماع، ولا يجوز أن يشترط عبدا يعمل معه أو أجيرا يعمل معه أو جزءا من الربح
لفلان لأنه شرط ليس في كتاب الله عزو جل فهو باطل، وأما المالكيون. والشافعيون
فتناقضوا ههنا فقالوا في القراض كما قلنا. وقالوا في المساقاة: لا تجوز البتة الا إلى أجل
مسمى، وكذلك قالوا في المزارعة في الموضع الذي أجازوها فيه ولا فرق بين شئ من
ذلك مع خلافهم في المزارعة. والمساقاة السنة الواردة في ذلك وتركوا القياس أيضا،
وبالله تعالى التوفيق *
1370 - مسألة ولا يجوز القراض الا بأن يسميا السهم الذي يتقارضان



(1) في النسخة رقم (فكانوا وذو الشغل. والمريض) الخ. وفى النسخة الحلبية
(والصغير وذو الشغل والمريض فكانوا) الخ
(2) في النسخة رقم 14 (إلى زمان)
247
عليه من الربح كسدس. أو ربع. أو ثلث. أو نصف. أو نحو ذلك ويبينا ما لكل واحد
منهما من الربح لأنه ان لم يكن هكذا لم يكن قراضا ولا عرفا ما يعمل العامل عليه فهو
باطل وبالله تعالى التوفيق *
1371 مسألة ولا يحل للعامل أن يأكل من المال شيئا ولا أن يلبس
منه شيئا لا (1) في سفر ولا في حضر * روينا من طريق (2) عبد الرزاق عن سفيان
الثوري عن هشام بن حسان عن ابن سيرين قال: ما أكل المضارب فهو دين عليه وصح
عن إبراهيم. والحسن أن نفقته من جميع المال قال إبراهيم: وكسوته كذلك قال ابن
سيرين ليس كذلك، وقولنا ههنا هو قول الشافعي. وأحمد. وأبي سليمان، وقال
أبو حنيفة. ومالك: أما في الحضر فكما قلنا وأما في السقر فيأكل منه ويكتسى منه
ويركب منه بالمعروف إذا كان المال كثيرا وإلا فلا إلا أن مالكا قال له: في الحضر أن
يتغذى منه بالافلس، وهذا تقسيم في غاية الفساد لأنه بلا دليل وليت شعري ما مقدار
المال الكثير الذي أباحوا هذا فيه وما مقدار القليل الذي منعوه فيه وهذا كله باطل
لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فلا يجوز اشتراطه فإن لم يشترط فهو أكل مال
بالباطل، ثم أيضا يعود المال إلى الجهالة فلا يدرى ما يخرج منه ولا ما يبقى منه وقليل
الحرام حرام ولو أنه مقدار ذرة وكثير الحلال حلال ولو أنه الدنيا وما فيها، فان
قالوا هو ساع (3) في مصلحة المال قلنا نعم فكان ماذا؟ وإنما هو ساع لربح يرجوه
فإنما يسعى في حظ نفسه *
1372 مسألة - وكل ربح ربحاه فلهما أن يتقاسماه فان يفعلا وتركا الا مر بحسبه
ثم خسر في المال فلا ربح للعامل وأما إذا اقتسما الربح فقد ملك كل واحد منهما ما صار
له فلا يسقط ملكه عنه لأنهما على هذا تعاملا وعلى أن يكون لكل واحد منهما حظ من
الربح فإذا اقتسماه فهو عقدهما المتفق على جوازه فإن لم يقتسماه فقد تطوعا بترك حقهما
وذلك مباح *
1373 مسألة ولا ضمان على العامل فيما تلف من المال ولو تلف كله ولا
فيما خسر فيه ولا شئ له على رب المال إلا أن يتعدى أو يضيع فيضمن لقول رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام).



(1) سقط لفظ (لا) من النسخة رقم 14
(2) الجار والمجرور سقط النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية
(3) في النسخة رقم 16 (انه ساع)
(4) في لنسخة رقم 14 (في حفظ) وهو غلط
248
1374 مسألة وأيهما أراد ترك العمل فله ذلك ويجبر العامل على بيع
السلع معجلا خسر أو ربح لأنه لا مدة في القراض فإذ ليس فيه مدة فلا يجوز
أن يجبر الا بي منهما على التمادي في عمل لا يريده أحدهما في ماله ولا يريده الآخر في
عمله ولا يجوز التأخير في ذلك لأنه لا يدرى كم يكون التأخير؟ وقد تسمو قيمة السلع
وقد تنحط فايجاب التأخير في ذلك خطأ ولا يلزم أحدا أن يبيح ماله لغيره ليموله به،
والعجب ممن ألزم ههنا إجبار صاحب المال على الصبر حتى يكون للسلع سوق ليمون
بذلك العامل من مال غيره وهو لا يرى إجباره على تدارك من يموت جوعا من ذوي
رحمه أو غيرهم بما يقيم رمقه: وهذا عكس الحقائق وبالله تعالى التوفيق *
1375 مسألة وإن تعدى العامل فربح فإن كان اشترى في ذمته ووزن
من مال القراض فحكمه حكم الغاصب وقد صار ضامنا للمال إ تلف (1) أو لما تلف
منه بالتعدي ويكون الربح له لان الشرى له، وإن كان اشترى بمال القراض نفسه
فالشرى فاسد مفسوخ فإن لم يوجد صاحبه البائع منه فالربح للمساكين لأنه مال لا يعرف
له صاحب، وهذا قول النخعي. والشعبي. وحماد بن أبي سليمان. وابن شبرمة. وأبي سليمان
وبالله تعالى التوفيق *
1376 - مسألة - وأيهما مات بطل القراض أما في موت صاحب المال فلان
المال قد صار للورثة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام)
وأما في موت العامل فلقول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس إلا عليها) وعقد الذي له المال إنما كان مع الميت لا مع وارثه إلا أن عمل العامل بعد موت صاحب المال
ليس تعديا وعمل الوارث بعد موت العامل إصلاح للمال (2) وقد قال الله تعالى:
(وتعاونوا على البر والتقوى) فلا ضمان على العامل ولا على وارثه إن تلف المال بغير
تعد ويكون الربح كله لصاحب المال أو لوارثه ويكون للعامل ههنا أو لورثته أجر مثل
عمله فقط لقوله تعالى: (والحرمات قصاص) فحرمة عمله يجب له أن يقاص بمثلها لأنه
محسن معين على بر وبالله تعالى التوفيق *
1377 - مسألة - وان اشترى العامل من مال القراض جارية فوطئها فهو زان عليه
حد الزنا لان أصل الملك لغيره وولده منها رقيق لصاحب المال، وكذلك ولد الماشية.



(1) في النسخة رقم 16 (وان تلف) بزيادة. واو ولا شئ، وسقطت جملة ((ان
تلف) من النسخة الحلبية
(2) في النسخة رقم 14 (وعلى الوارث بعد موت العامل اصلاح المال) والصواب ما هنا لان الكلام الذي بعده يعين ما هنا والآية كذلك
249
وممر الشجر، وكرى الدور لأنه شئ حدث في ماله وإنما للعامل حظه من الربح فقط ولا
يسمى ربحا إلا ما نمى بالبيع فقط وبالله تعالى التوفيق *
كتاب الاقرار
1378 - مسألة - من أقر لآخر أو لله تعالى بحق في مال. أو دم. أو بشرة وكان
المقر عاقلا بالغا غير مكره وأقر إقرارا تاما ولم يصله بما يفسده فقط لزمه ولا رجوع له
بعد ذلك، فان رجع لم ينتفع برجوعه وقد لزمه ما أقربه على نفسه من دم. أو حد. أو مال،
فان وصل الاقرار بما يفسده بطل كله ولم يلزمه شئ لا من مال. ولا قود. ولا حد مثل
أن يقول: لفلان على مائة دينار، أو يقول: قذفت فلانا بالزنا، أو يقول: زنيت،
أو يقول: قتلت فلانا أو نحو ذلك فقد لزمه فان رجع عن ذلك يلتفت، فان قال: كان
لفلان على مائة دينار وقد قضيته إياها، أو قال: قذفت فلانا وأنا في غير عقلي، أو قتلت
فلانا لأنه أراد قتلى ولم أقدر على دفعه عن نفسي، أو قال: زنيت وأنا في غير عقلي أو نحو
هذا فان هذا كله يسقط ولا يلزمه شئ، والحر. والعبد. والذكر، والأنثى ذات
الزوج. والبكر ذات الأب. واليتيمة فيما ذكرنا سواء، وإنما هذا كله إذا لم تكن (1)
بينة فإذا كانت البينة فلا معنى للانكار ولا للاقرار * روينا من طريق مسلم نا هداب بن
خالد نا همام - هو ابن يحيى - نا قتادة عن أنس أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين
فسألوها من صنع هذا بك؟ فلان فلان حتى ذكروا يهوديا فأومأت برأسها فاخذ اليهودي
فأقر فامر به (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة * ومن طريق مسلم نا
محمد بن رمح أنا لليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة [ابن
مسعود] (3) عن أبي هريرة. وزيد بن خالد الجهني فذكر الحديث وفيه قول القائل:
ان ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته وأنى أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه
بمائة شاة ووليدة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب
الله الوليدة والغنم رد وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام اغد يا أنيس على امرأة هذا فان اعترفت
فارجمها فغدا عليها فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت، فقتل عليه السلام بالاقرار
ورجم به ورد به المال ممن كان بيده إلى غيره، وأما إذا وصل به ما يفسده فلم يقر بشئ ولا يجوز
أن يلزم بعض اقراره ولا يلزم سائره لأنه لم يوجب ذلك قرآن. ولا سنة. ولا اجماع *



(1) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية (ما لم تكن بينة)
(2) سقط لفظ به من النسخة رقم 16 وهو موجود في صحيح مسلم ج 2 ص 27
(3) الزيادة من صحيح مسلم ج 2 ص 36.
250
وقد تناقض ههنا المخالفون فقالوا: إن قال: له على دينار الأربع دينار فهو كما قال،
وان قال: ابتعت منه داره بمائة دينار فأنكر الآخر البيع وقال: قد أقر لي بمائة دينار
وادعى ابتياع داري فإنهم لا يقضون عليه بشئ أصلا وهذا تناقض ظاهر، وقال مالك:
من قال: أحسن الله جزاء فلان فإنه (1) أسلفني مائتي دينار وأمهلني حتى أديتها كلها
إليه فإنه لا يقضى لذلك الفلان عليه بشئ إن طلبه بهذا الاقرار، ولا يختلفون فيمن قال:
قتلت رجلا مسلما الآن أمامكم أو قال: أخذت من هذا مائة دينار الآن بحضرتكم فإنه
لا يقضى عليه بشئ ولم يقولوا: انه أقر ثم ندم ولا أخذوا ببعض قوله دون بعض وهذا
تناقض ظاهر * روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد
ابن أبي بكر الصديق أن رجلا استضاف ناسا من هذيل فأرسلوا جارية تحتطب فأعجبت
الضيف فتبعها فأرادها فامتنعت فعاركها فانفلتت فرمته بحجر ففضت كبده فمات فأتت
أهلها فأخبرتهم فاتوا عمر بن الخطاب فأخبروه فقال عمر: قتيل الله لا يودى والله أبدا *
ومن طريق حماد بن سلمة عن ثابت البناني. وحمد. ومطرف كلهم عن عبد الله
ابن عبيد بن عمير قال. غزا رجل فخلف على امرأته رجل من يهود فمر به رجل من المسلمين
عند صلاة الفجر وهو يقول:
وأشعث غره الاسلام منى * خلوت بعرسه ليل التمام
أبيت على ترائبها ويمسي * على جرداء لاحقة الحزام
كأن مجامع الربلات منها * قيام ينهضون إلى فئام (2)
فدخل عليه فضربه بسيفه حتى قتله (3) فجاءت اليهود يطلبون دمه فجاء الرجل فأخبره
بالامر فأبطل عمر بن الخطاب دمه * ومن طريق محمد بن المثنى نا عبد الله بن إدريس الأودي
نا عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي موسى الأشعري قال: أتيت وأبا باليمن بامرأة فسألتها؟
فقالت: ما تسأل عن امرأة حبلى ثيب من غير بعل أما والله ما خاللت خليلا ولا
خادنت خدنا مذ أسلمت ولكني بينما أنا نائمة بفناء بيتي فوالله ما أيقظني الا الرجل حين
ركبني وألقى في بطني مثل الشهاب فقال فكتبت فيها إلى عمر [بن الخطاب] فكتب إلى
أن وافنى بها وبناس من قومها فوافيته بها في الموسم فسأل عنها قومها؟ فأثنوا خيرا
وسألها فأخبرته كما أخبرتني فقال عمر: شابة تهامية تنومت قد كان ذلك يفعل فمارها



(1) سقط لفظ (فإنه) من النسخة رقم 14
(2) الترائب عظام الصدر، والربلات جمع ربلة باطن الفخذ يسكن ويحرك قال الأصمعي: الأفصح التحريك، والفئام الجماعة من الناس
(3) في النسخة رقم 16 (حتى مات)
251
عمر وكساها وأوصى بها قومها خيرا، هذا خبر في غاية الصحة * ومن طريق حماد بن
سلمة عن عامر بن أبي الحكم عن الحسن أن رجلا رأى مع امرأته رجلا فقتله فارتفعوا
إلى عثمان بن عفان فأبطل دمه * ومن طريق حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن
سعيد بن المسيب. وسليمان بن يسار قالا جميعا: ان رجلا أتى امرأة ليلا فجعلت تستصرخ
فلم يصرخها أحد فلما رأت ذلك قالت: رويدك حتى أستعد وأتهيأ فأخذت فهرا (1)
فقامت خلف الباب فلما دخل ثلغت (2) به رأسه فارتفعوا إلى الضحاك بن قيس فأبطل دمه *
ومن طريق حماد بن سلمة أخبرنا أبو عقبة أن رجلا ادعى على رجل ألف درهم ولم
تكن له بينة فاختصما إلى عبد الملك بن يعلى فقال: قد كانت له عندي ألف درهم فقضيته (3)
فقال: أصلحك الله قد أقر فقال له عبد الملك بن يعلى: ان شئت أخذت بقوله أجمع وان
شئت أبطلته أجمع، عبد الملك بن يعلى من التابعين ولى قضاء البصرة * ومن طريق عبد
الرزاق عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه قال: من أقر بشئ في يده فالقول قوله *
ومن طريق حماد بن سلمة عن اياس بن معاوية قال: كل من كان في يده شئ فالقول فيه
قوله، وقولنا فيما ذكرنا هو قول عثمان البتي. وأبي سليمان. وأحد قولي الشافعي، وأما
الرجوع عن الاقرار فكلهم متفق على ما قلنا الا في الرجوع عن الاقرار بما يوجب الحد
فان الحنيفيين. والمالكيين قالوا: إن رجع لم يكن عليه شئ وهذا باطل والقوم أصحاب
قياس بزعمهم فهلا قاسوا الاقرار بالحد على الاقرار بالحقوق سواه؟ وأيضا فان الحد
قد لزمه باقراره فمن ادعى سقوطه برجوعه فقد ادعى ما لا برهان له به، واحتجوا بشيئين.
أحدهما (4) حديث ما عز. والثاني أن قالوا: إن الحدود تدرأ بالشبهات *
قال على: أما حديث ما عز فلا حجة لهم فيه أصلا لأنه ليس فيه ان ما عزا رجع عن
الاقرار البتة لا بنص. ولا بدليل. ولا فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن
رجع عن اقراره قبل رجوعه أيضا البتة فكيف يستحل مسلم أن يموه على أهل
الغفلة بخبر ليس فيه شئ مما يزعم؟ وإنما روى عن بعض الصحابة أنه قال: كنا نتحدث ان
ما عزاء والغامدية لو رجعا بعد اعترافهما أو لم يرجعا [بعد اعترافهما] لم يطلبهما هكذا رويناه
من طريق أبى أحمد الزبيري عن بشير بن المهاجر عن ابن بريدة عن أبيه أنه قال هذا
القول، وهذا ظن والظن لا يجوز القطع به، وقول القائل: لو فعل فلان كذا لفعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرا كذا ليس بشئ إذ لم يفعل ذلك الفلان ولا غيره ذلك الفعل



(1) هو حجر ملء الكف يذكر ويؤنث والجمع أفهار
(2) أي شدخته
(3) في النسخة رقم 16 (فقضيتها)
(4) في النسخة رقم 14 (بسنتين إحداهما) الخ وما هنا أوضح *
252
قط ولا فعله عليه السلام قط، وقد قال جابر: أنا أعلم الناس بأمر ماعز إنما قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (هلا تركتموه وجئتموني به) ليستثبت (1) رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فاما لترك
حد فلا * هذا نص كلام جابر فهو أعلم بذلك ولم يرجع ما عز قط عن اقراره إنما قال: ردوني
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فان قومي قتلوني وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم غير قاتلي هكذا روينا كل ما ذكرنا من طريق أبى داود نا عبيد الله بن عمر بن ميسرة
نا يزيد بن زريع عن محمد بن إسحاق أن عاصم بن عمر بن قتادة قال: حدثني (2) حسن
ابن محمد بن علي بن أبي طالب أن جابر بن عبد الله قال له: كل ما ذكرنا على نصفه، فبطل
تمويههم بحديث ما عز * وأما ادرؤا الحدود بالشبهات فما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قط من
طريق فيها خير ولا نعلمه أيضا جاء عنه عليه السلام أيضا لا مسندا ولا مرسلا وإنما هو قول
روى عن ابن مسعود. وعمر فقط، ولو صح لكانوا أول مخالف له لان الحنيفيين.
والمالكيين لا نعلم أحدا أشد إقامة للحدود بالشبهات منهم، فالمالكيون يحدون في الزنا
بالرجم. والجلد بالحبل فقط وهي منكرة وقد تستكره وتوطأ بنكاح صحيح لم يشتهر
أو وهي في غير عقلها، ويقتلون (3) بدعوى المريض أن فلانا قتله وفلان منكر ولا
بينة عليه، ويحدون في الخمر بالرائحة وقد تكون رائحة تفاح أو كمثرى شتوي، ويقطعون
في السرقة من يقول: صاحب المنزل بعثني في هذا لشئ وصاحب المنزل مقر له بذلك،
ويحدون في القذف بالتعريض وهذا كله هو إقامة الحدود بالشبهات * وأما الحنيفيون
فإنهم يقطعون من دخل مع آخر في منزل إنسان للسرقة فلم يتول أخذ شئ ولا اخراجه
وإنما سرق الذي دخل فيه فقط فيقطعونهما جميعا في كثير لهم من مثل هذا قد تقصيناه
في غير هذا المكان، فمن أعجب شأنا ممن يحتج بقول قائل دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم
هو أول مخالف لما احتج به من ذلك، وأما تسويتنا بين الحر. والعبد. والذكر.
والأنثى ذات الأب البكر وغير البكر. واليتيمة. وذات الزوج فلان الدين واحد على الجميع
والحكم واحد على الجميع الا أن يأتي بالفرق بين شئ من ذلك قرآن أو سنة. ولا قرآن. ولا سنة
ولا قياس. ولا اجماع على الفرق بين شئ مما ذكرنا (4) وبلا خلاف من أحد
من أهل الأرض من المسلمين في أن الله تعالى خاطب كل من ذكرنا خطابا قصد به إلى
كل واحد منهم في ذات نفسه بقوله تعالى: (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على



(1) في النسخة رقم 16 (ليتثبت) وما هنا موافق لما في سنن أبي داود
(2) في النسخة رقم 16 (أخبرني) وما هنا موافق لما في سنن أبي داود
(3) في النسخة رقم 16 والحلبية (فيقبلون) وهو تصحيف
(4) في النسخة رقم 14 (من ذلك)
253
أنفسكم أو الوالدين والأقربين) فكل من ذكرنا مأمور بالاقرار بالحق على نفسه،
ومن الباطل المتيقن أن يفترض عليهم ما لا يقبل منهم، وقد قال قوم: ان (1) إقرار
العبد بما يوجب الحد لا يلزم لأنه مال فإنما هو مقر في مال سيده والله تعالى يقول: (ولا
تكسب كل نفس إلا عليها) *
قال على: هو وإن كان مالا فهو انسان تلزمه أحكام الديانة، وهذه الآية حجتنا
في ذلك لأنه كاسب على نفسه باقراره، وقد وافقونا لو أن أجيرا أقر على نفسه بحد للزمه،
وفى اقراره بذلك إبطال اجارته ان أقر بما يوجب قتلا أو قطعا وليس بذلك كاسبا على
غيره وبالله تعالى التوفيق *
1379 مسألة وباقراره مرة يلزم كل ما ذكرنا من حد. أو قتل. أو مال،
وقال الحنيفيون: لا يلزم الحد في الزنا إلا باقرار أربع مرات، وقال أبو يوسف:
لا يلزم في السرقة الا باقرار مرتين وأقاموا ذلك مقام الشهادة، وقال مالك. والشافعي.
وأبو سليمان. كقولنا * واحتج الحنيفيون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رددما عزا أربع مرات *
قال على: قد صح هذا وجاء أنه ردده أقل، وروى أكثر وإنما ردده عليه السلام
لأنه اتهم عقله. واتهمه أنه لا يدرى ما الزنا؟ هكذا في نص الحديث أنه قال: استنكهوه
هل شرب خمرا؟ أو كما قال عليه السلام، وانه عليه السلام بعث إلى قومه يسألهم عن عقله؟
وأنه عليه السلام قال له: أتدري ما الزنا؟ لعلك غمزت أو قبلت، فإذ قد صح هذا كله ولم
يأت قط في رواية صحيحة ولا سقيمة أنه عليه السلام قال: لا يحد حتى يقر أربع مرات
فلا يجوز أن يزاد هذا الشرط فيما تقام به حدود الله تعالى، والقوم أصحاب قياس بزعمهم
فيلزمه إذ أقاموا الاقرار مقام البينة في بعض المواضع أن يقيموه مقامها في كل موضع
فلا يقضوا على أحد أقر بمال حتى يقر مرتين وهم لا يفعلون (2) هذا، وقد قتل رسول الله
صلى الله عليه وسلم اليهودي الذي قتل الجارية باقرار غير مردد والقتل أعظم الحدود وبالله تعالى التوفيق *
1380 مسألة واقرار المريض في مرض موته وفى مرض أفاق منه لوارث
ولغير وارث نافذ من رأس المال كاقرار الصحيح ولا فرق * روينا من طريق عبد الرزاق
نا بعض أصحابنا عن الليث بن سعد عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال: إذا أقر المريض
في مرضه بدن لرجل فإنه جائز. فعم ابن عمر لم يخص * ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية
عن ليث عن طاوس قال: إذا أقر لوارث بدين جاز - يعنى في المرض - * وبه إلى ابن
علية عن عامر الأحول قال: سئل الحسن عنه؟ فقال: احملها إياه ولا أتحملها عنه *



(1) سقط لفظ (ان) من النسخة رقم 14
(2) في النسخة رقم 16 (لا يقولون)
254
ومن طريق ابن أبي شيبة نا زيد بن الحباب نا حماد بن سلمة عن قيس بن سعد عن عطاء
فيمن أقر لوارث بدين قال: جائز * ومن طريق ابن أبي شيبة نا عمر بن أيوب الموصلي
عن جعفر - هو ابن برقان - عن ميمون - هو ابن مهران - إذا أقر بدين في مرضه فأرى
أن يجوز عليه لأنه لو (1) أقربه - وهو صحيح - جازوا أصدق ما يكون عند موته، وهذا
هو قول الشافعي. وأبى سلمان. وأصحابهما * وقالت طائفة: لا يجوز اقرار المريض
أصلا كما روينا عن ابن أبي شيبة نا وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال: لا يجوز
إقرار المريض بالدين وهو قول ياسين الزيات الا أنه قال: هو من الثلث، وقسمت
طائفة كما روينا عن شريح أنه كان يجيز اعتراف المريض عند موته بالدين لغير الوارث
ولا يجيزه للوارث الا ببينة وهو قول إبراهيم. وابن أذينة صح ذلك عنهما، ورويناه
أيضا عن الحكم. والشعبي وهو قول أبي حنيفة الا أن دين الصحة عنده مقدم على دين
المرض، واتفقوا على أن اقرار الصحيح للوارث ولغير الوارث بالدين جائز من رأس
المال كان له ولد أو لم يكن، وقال مالك. وأبو حنيفة: ان أقر المريض لوارث فأفاق من
مرضه فهو لازم له من رأس ماله، واختلف عن مالك في ذلك ان مات من ذلك المرض
فرواية ابن القاسم عنه أنه لا يجوز ذلك الاقرار، وروى أبو قرة عن مالك لا يجوز الا
في الشئ اليسير الذي يرى (2) أنه لا يؤثر به لتفاهته، وروى عن مالك أيضا انه ان أقر
لوارث بار به لم يجز اقراره له فان أقر لوارث عاق جاز اقراره له كالأجنبي، وقال في اقراره
لزوجته بدين أو مهر: فإنه إن كان له ولد من غيرها ولم يعرف له انقطاع إلى الزوجة ولا
ميل إليها فاقراره لها جائز من رأس المال فان عرف له ميل إليها وكان بينه وبين ولده من غيرها
تفاقم لم يجز اقراره لها قال: وليس سائر الورثة في ذلك كالزوجة لأنه لا يتهم في الزوجة إذا
لم يكن له إليها ميل أن يصرف ماله عن ولده إليها قال: فان ورثه بنون أو اخوة لم يجز اقراره
لبعضهم دون بعض في مرضه فإن لم يترك الا ابنة وعصبة فأقر لبعض العصبة جاز ذلك،
وقال: ولا يجوز اقراره لصديقه الملاطف إذا ورثه أبواه أو عصبته فان ورثه ولد
أو ولد ولد جاز اقراره له *
قال أبو محمد: هذه أقوال مبينة - بلا خلاف - على الظنون الزائغة على التهمة الفاسدة
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فان الظن أكذب الحديث) وقال الله تعالى: (إن
يتبعون الا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا) وكل هذه الأقوال لا تحفظ عن أحد
قبله، ولا يخلو اقرار المريض عندهم إذا اتهموه فيه من أن يكون عندهم هبة أو يكون



(1) في النسخة رقم 16 (لأنه إذا)
(2) في النسخة رقم 16 (والذي يرى)
255
وصية فإن كان هبة فالهبة عندهم لبعض الورثة دون بعض جائزة من رأس المال وما جاء
قط فرق بين هبة مريض ولا هبة صحيح، وإن كان وصية فوصية الصحيح. والمريض
سواء لا تجوز الا من الثلث، فظهر ان تفريقهم فاسد * فان ذكروا حديث عتق الستة
الأعبد واقراع النبي صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة فليس هذا من الاقرار
في شئ (1) أصلا والاقرار إنما هو اخبار بحق ذكره. وليس عطية أصلا. ولا وصية،
وحديث الستة الأعبد سنذكره إن شاء الله تعالى في العتق باسناده مبينا وبالله تعالى التوفيق *
1381 مسألة ومن قال: هذا الشئ لشئ في يده كان لفلان ووهبه لي
أو قال: باعه منى صدق ولم يقض عليه بشئ لما ذكرنا قبل، ولان الأموال. والاملاك
بلا شك منتقلة من يد إلى يد هذا أمر نعلمه يقينا، فلو قضى عليه ببعض إقراره هنا دون
سائره (2) لوجب اخراج جميع أملاك الناس عن أيديهم أو أكثرها لأنك لا تشك (3)
في الدور. والأرضين: والثياب المجلوبة (4). والعبيد. والدواب انها كانت قبل
من هي بيده لغيره بلا شك وان أمكن في بعض ذلك أن ينتجه فان الام وأم الام بلا
شك كانت لغيره، وكذلك الزريعة مما بيده مما ينبت فظهر فساد هذا القول جملة،
فان قامت بينة في شئ مما بيده مما أقر به أو مما لم يقربه أنه كان لغيره قضى به لذلك الغير (5)
حينئذ ولم يصدق على انتقال ما قامت به البينة لانسان بعينه البتة الا ببينة وهذا متفق عليه،
وقد حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضى بالبينة للمدعى *
1382 مسألة ومن قال: لفلان عندي مائة دينار دين ولى عنده مائة
قفيز قمح، أو قال: الا مائة قفيز تمر أو نحو ذلك أو إلا جارية ولا بينة عليه بشئ ولا له قوم
القمح الذي ادعاه فان ساوى المائة الدينار التي أقر بها أو ساوى أكثر فلا شئ عليه وان
ساوى أقل قضى بالفضل فقط للذي أقر له *
برهان ذلك أنه لم يقر له قط اقرارا تاما بل وصله بما أبطل به أول كلامه فلم يثبت له
قط على نفسه شيئا، ولو جاز ان يؤخذ ببعض كلامه دون بعض لوجب أن يقتل من
قال لا إله إلا الله لان نصف كلامه إذا انفرد كفر صحيح وهو قوله لا اله فيقال له: كفرت
ثم ندمت، وهذا فاسد جدا، ولوجب أيضا أن يبطل الاستثناء كله بمثل هذا لأنه ابطال



(1) في النسخة رقم 16 ورقم 14 (في سبب)
(2) في النسخة رقم 14 (دون بعض)
(3) في النسخة رقم 16 (لا يشك)
(4) في النسخة الحلبية (الثياب المحلوبة) فكتب ناسخها بهامشها هكذا وجد في الأصل والأظهر (الشاة المحلوبة) اه‍ وليس كذلك بل هو تصحيف في لفظ (المحلوبة) فقط
(5) في النسخة رقم 16 (قضى له بذلك الغير) وهو غلط
256
لما أثبته بأول كلامه قبل أن يستثنى ما استثنى، وقد قال قوم: إنما يجوز الاستثناء من نوع
ما قبله لا من نوع غيره *
قال أبو محمد: وهذا باطل لان الله تعالى يقول: (انى لا يخاف لدى المرسلون الا
من ظلم) وقال تعالى: (فجسد الملائكة كلهم أجمعون الا إبليس) فاستثنى إبليس من
الملائكة وليس منهم بل من الجن الذين ينسلون والملائكة لا تنسل، واستثنى تعالى:
(من ظلم) من المرسلين وليسوا من أهل صفتهم، وقال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس * الا اليعافير والا العيس
وليس اليعافير. والعيس من الأنيس وقد استثناهم الشاعر الفصيح العربي *
كتاب اللقطة. والضالة. والآبق
1383 - مسألة - من وجد ما لا في قرية. أو مدينة. أو صحراء في أرض العجم
أو أرض العرب العنوة أو الصلح مدفونا أو غير مدفون الا أن عليه علامة أنه من ضرب
مدة الاسلام أو وجد ما لا قد سقط أي مال كان فهو لقطة، وفرض عليه أخذه وان يشهد
عليه عدلا واحدا فأكثر ثم يعرفه ولا يأتي بعلامته لكن تعريفه هو أن يقول في المجامع
الذي يرجو وجود صاحبه فيها أو لا يرجو: من ضاع له مال فليخبر بعلامته فلا يزال كذلك
سنة قمرية فان جاء من يقيم عليه بينة أو من يصف عفاصه (1) ويصدق في صفته ويصف
وعاءه ويصدق فيه ويصف رباطه ويصدق فيه، ويعرف عدده ويصدق فيه. أو يعرف
ما كان له من هذا، أما العدد. والوعاء إن كان لا عفاص له ولا وكاء، أو العدد إن كان
منثورا في غير وعاء دفعها إليه كانت له بينة أو لم تكن ويجبر الواجد على دفعه إليه ولا ضمان
عليه بعد ذلك، ولو جاء من يثبته ببينة فإن لم يأت أحد يصدق في صفته بما ذكرنا (2)
ولا بينة (3) فهو عند تمام السنة مال من مال الواجد غنيا كان أو فقيرا يفعل فيه ما شاء ويورث
عنه إلا أنه متى قدم من يقيم فيه بينة أو يصف شيئا مما ذكرنا فيصدق ضمنه له إن كان
حيا أو ضمنه له الورثة إن كان الواجد له ميتا، فإن كان ما وجد شيئا واحدا كدينار واحد.



(1) قال أبو عبيد: العفاص هو الوعاء الذي يكون فيه النفقة إن كان جلدا أو خرقة أو
غير ذلك ولذلك سمى الجلد الذي يلبس رأس القارورة العفاص لأنه كالوعاء لها
(2) في النسخة رقم 16 (في وصفه ما ذكرنا) وفى الحلبية (في صفة ما ذكرنا)
(3) في النسخة رقم 14 (ولا ببينة)
257
أو درهم واحد. أو لؤلؤة واحدة. أو ثوب واحد. أو أي شئ كان كذلك لا رباط له. ولا
وعاء. ولا عفاص فهو للذي يجده من حين يجده ويعرفه. أبدا طول حياته فان جاء من يقيم
عليه بينة فقط ضمنه له فقط هو أو ورثته بعده والا فهو له أو لورثته يفعل فيه ما شاء من
بيع أو غيره، وكذلك ورثته بعده ولا يرد (1) ما أنفذوا فيه، فإن كان ذلك في حرم مكة
حرسها الله تعالى أو في رفقة قوم ناهضين إلى العمرة أو الحج عرف أبدا ولم يحل له تملكه بل
يكون موقوفا فان يئس بيقين عن معرفة صاحبه فهو في جمع مصالح المسلمين *
برهان ذلك ما رويناه من طريق مسلم ني إسحاق بن منصور نا عبيد الله بن موسى العبسي
عن شيبان عن يحيى - هو ابن أبي كثير - أخبرني أبو سلمة - هو ابن عبد الرحمن بن عوف -
أخبرني أبو هريرة قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام فتح مكة فقال: (إن الله حبس عن مكة
الفيل وسلط عليها نبيه (2) والمؤمنين ألا وانها لم تحل لاحد قبلي ولم تحل لاحد بعدي ألا
وانها أحلت لي ساعة من النهار ألا وانها ساعتي هذه حرام لا يخبط شوكها ولا يعضد شجرها
ولا يلتقط ساقطتها إلا منشد) *
قال أبو محمد: مكة هي الحرم كله فقط وهي ذات الحرمة المذكورة لا ما عدا الحرم
بلا خلاف، ورويناه أيضا عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا، ومن طريق مسلم ني أبو
الطاهر أنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن يحيى بن
عبد الرحمن بن حاطب عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
لقطة الحاج (3) *
قال أبو محمد: الحج في اللغة هو القصد ومنه سميت المحجة محجة، فالقاصد من بيته إلى
الحج أو العمرة هو فاعل للقصد الذي هو الحج إلى أن يتم جميع أعمال حجه أو عمرته لقول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) فإذا تمت فليس حاجا
لكنه كان حاجا وقد حج وبالله تعالى التوفيق * وروينا هذا عن عمر بن الخطاب. وابن
المسيب * روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا الأسود بن شيبان عن أبي نوفل - هو
ابن أبي عقرب - عن أبيه أنه أصاب بدرة بالموسم على عهد عمر بن الخطاب فعرفها فلم
يعرفها أحد فأتى بها عمر عند النفر وقال له: قد عرفتها فاغنها عنى (4) قال: ما أنا بفاعل
قال: يا أمير المؤمنين فما تأمرني؟ قال: أمسكها حتى توافي بها الموسم قابلا ففعل فعرفها



(1) في النسخة رقم 14 (ولا يردوا)
(2) في صحيح مسلم ج 1 ص 384 (رسوله) والحديث مطول اختصره المصنف واقتصر على محل الشاهد منه
(3) هو في صحيح مسلم ج 2 ص 44
(4) أي اصرفها عنى)، وفى نسخة رقم 16 (فأغبها عنى) وهو تصحيف
258
فلم يعرفها أحد فأتى بها عمر فأخبره أنه قد وافاه بها كما أمره وعرفها فلم يعرفها أحد وقال
له: أغنها عنى قال له عمر: ما أنا بفاعل ولكن ان شئت أخبرتك بالمخرج منها أو سبيلها
ان شئت تصدقت بها فان جاء صاحبها خيرته فان اختار المال رددت عليه المال وكان
الاجر لك وان اختار الاجر كان لك نيتك، فهذا فعل عمر في لقطة الموسم، وفعل
في لقطة غير الموسم ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أخبرني إسماعيل
ابن أمية أن معاوية بن عبد الله بن بدر الجهني أخبره أن أباه عبد الله - قال إسماعيل:
وقد سمعت أن له صحبة - أقبل من الشام فوجد صرة فيها ذهب مائة فأخذها فجاء بها إلى عمر
ابن الخطاب فقال له عمر: انشدها الآن على باب المسجد ثلاثة أيام ثم عرفها سنة فان
اعترفت والا فهي لك قال: ففعلت فلم تعرف فقسمتها بنى امرأتين لي *
ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن قتادة قال: كنت أطواف بالبيت
فوطئت على ذهب. أو فضة فلم آخذه فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال. بئس
ما صنعت كان ينبغي لك ان تأخذه تعرفه سنة فان جاء صاحبه رددته إليه والا تصدقت
به على ذي فاقة ممن لا تعول، وقال في لقطة غير الحرم ما رويناه من طريق عبد الرزاق
عن ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية أن زيد بن الأخنس الخزاعي أخبره أنه قال
لسعيد بن المسيب: وجدت لقطة أفأتصدق بها؟ قال: لا تؤجر أنت ولا صاحبها قلت:
أفأدفعها إلى الامراء؟ قال: إذا يأكلونها أكلا سريعا قلت: وكيف تأمرني؟ قال:
عرفها سنة فان اعترفت والا فهي لك كما لك، فهذا سعيد بن المسيب يقول: بايجاب أخذ
اللقطة ولا بد، ويراها بعد الحول قد صارت من مال الملتقط الا لقطة مكة، وقولنا في لقطة
مكة هو قول عبد الرحمن بن مهدي. وأبى عبيدنا بذلك أحمد بن محمد بن الجسور قال: نا
محمد بن عيسى بن رفاعة نا علي بن عبد العزيز نا أبو عبيد عن عبد الرحمن بن مهدي بذلك، وعن أبي
عبيد من قوله، وأما ما عدا لقطة الحرم. والحاج فلما روينا من طريق أبى داود نا
مسدد نا خالد - هو الحذاء - عن أبي العلاء - هو يزيد بن عبد الله بن الشخير - عن مطرف
- هو ابن عبد الله بن الشخير - عن عياض بن حمار المجاشعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
من أخذ (1) لقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب فان وجد صاحبها
فليردها عليه والا فهو مال الله عز وجل يؤتيه من يشاء * ورويناه من طريق هشيم عن
خالد الحذاء باسناده فقال: فليشهد ذوي عدل *
قال أبو محمد: وزاد مسدد كما ذكرنا وليس شكا، ولا يجور أن يحمل شئ



(1) في سنن أبي داود (من وجد)
259
مما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم على أنه شك الا بيقين أنه شك والا فظاهره الاسناد *
ومن طريق حماد بن سلمة عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سئل عن اللقطة فقال: أعرف عفاصها وعدتها ووعاءها فان
جاء صاحبها فعرفها فادفعها إليه والا فهي لك) * ومن طريق مسلم حدثني أبو الطاهر
[أحمد بن عمرو بن السرح] (1) نا ابن وهب نا الضحاك بن عثمان عن أبي النضر - هو مولى
عمر بن عبيد الله - عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن اللقطة؟ فقال: عرفها سنة فإن لم تعترف فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها فان
جاء صاحبها فأدها إليه) * ومن طريق حماد بن سلمة نا سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة
(أن أبي بن كعب قال له: انه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اللقطة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
اعرف عددها ووكاءها ووعاءها ثم استمتع بها فان جاء صاحبها فعرف عددها ووكاءها
ووعاءها فاعطها إياه وإلا فهي لك) *
وأما الشئ الواحد الذي لا وكاء له ولا عفاص ولا وعاء فلان رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنما أمر بتعريف السنة فيما له عدد. وعفاص. ووكاء أو بعض هذه فأما ما لا عفاص
له. ولا وعاء. ولا وكاء. ولا عدد فهو خارج من هذا الخبر وحكمه في حديث عياض
ابن حمار فحكمه أن ينشد ذلك أبدا لقوله عليه السلام: (ولا يكتم ولا يغيب) ولقوله
عليه السلام: (هو مال الله يؤتيه من يشاء) فقد آتاه الله واجده (2) روينا من طريق
أحمد بن شعيب أنا محمد بن رافع ناحجين بن المثنى نا عبد العزيز - هو ابن أبي سلمة - الماجشون
عن عبد الله بن الفضل عن سلمة بن كهيل قال: كان سويد بن غفلة. وزيد بن صوحان
وثالث معهما في سفر فوجد أحدهم - هو سويد بلا شك - سوطا فأخذه فقال له صاحباه
ألقه فقال: استمتع به فان جاء صاحبه أديته إليه خير من أن تأكله السباع فلقي أبى
ابن كعب فذكر ذلك له فقال: أصبت وأخطئا * ففي هذا أن أبي بن كعب رأى
وجوب أخذ اللقطة *
قال أبو محمد: فيما ذكرنا اختلاف، فمن ذلك أن قوما قالوا: لا تؤخذ اللقطة
أصلا، وقال آخرون: مباح أخذها وتركها مباح، فأما من نهى عن أخذها (3)
فلما ذكرنا آنفا، وكما روينا عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن جعفر بن
ربيعة أن الوليد بن سعد حدثه قال: كنت مع ابن عمر فرأيت دينارا فذهبت لآخذه



(1) الزيادة من صحيح مسلم ج 2 ص 44
(2) في النسخة رقم 16 (فقد أتاه من أخذه) وفى النسخة الحلبية (فقد أتاه واخذه) ولا يخفى ما فيهما
(3) في النسخة رقم 16 (عن اللقطة)
260
فضرب ابن عمر يدي وقال: مالك وله اتركه * ومن طريق قابوس بن أبي ظبيان عن
أبيه عن ابن عباس لا ترفع اللقطة لست منها في شئ تركها خير من أخذها * ومن طريق
سفيان الثوري عن إبراهيم بن عبد الأعلى سئل سعيد بن جبير عن الفاكهة توجد في الطريق؟
قال: لا تؤكل إلا باذن ربها * وعن الربيع بن خيثم إنه كره أخذ اللقطة * وعن شريح
أنه مر بدرهم فتركه، وقال أبو حنيفة. ومالك: كلا الامرين مباح والأفضل أخذها،
وقال الشافعي مرة: أخذها أفضل ومرة قال: الورع تركها *
قال أبو محمد: أما من أباح كلا الامرين فما نعلم له حجة أصلا، فان حملوا أمره عليه
السلام بأخذها على الندب قيل لهم: فاحملوا أمره بتعريفها على الندب ولا فرق، فان
قالوا: أموال الناس محرمة قلنا: واضاعتها محرمة ولا فرق، وأما من منع من أخذها
فإنهم احتجوا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فقلنا لهم:
نعم وما أمرناه باستحلالها أصلا لكن أمرناه بالمفترض عليه من حفظها وترك اضاعتها
المحرمة عليها ثم جعلناها له حيث جعلها له الذي حرم أموالنا علينا إلا بما أباحها لنا لا يجوز
ترك شئ من أوامره صلى الله عليه وسلم فهو أولى بنا من أنفسنا، وقد كفر من وجد في نفسه حرجا مما
قضى، واحتجوا أيضا بحديث المنذر بن جرير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يأوى الضالة
الاضال) (1)، وبحديث أبي مسلم الجرمي أو الحرمي عن الجارود عن النبي صلى الله عليه وسلم (قال: ضالة المسلم حرق النار)، وهذان خبران لا يصحان لان المنذر بن جرير. وأبا
مسلم الجرمي أو الحرمي غير معروفين، لكن (ضالة المسلم حرق النار) قد صح من
طريق أخرى وهذا لفظ مجمل فسره سائر الآثار، وهو خبر رويناه من طريق حماد بن
سلمة عن حميد عن الحسن عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه أنه سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ضوال الإبل؟ فقال عليه السلام: ضالة المسلم حرق النار، وهم أول مخالف فامروا
بأخذ ضوال الإبل ثم لو صحا لما كان لهم فيهما حجة لان إيواء الضالة بخلاف ما أمر به النبي
صلى الله عليه وسلم حرق النار وضلال بلا شك، وما أمرناه قط بايوائها مطلقا لكن بتعريفها وضمانها
في الأبد، وقد جاء بهذا حديث أحسن من حديثهم كما روينا من طريق ابن وهب حدثني
عمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي سالم الجيشاني عن زيد بن خالد الجهني عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم [أنه قال]: (من أخذ لقطة (2) فهو ضال ما لم يعرفها)، ومنها



(1) الحديث في سنن أبي داود بلفظ (من آوى ضالة) الخ
(2) الحديث بهذا السند ومتنه في صحيح مسلم ج 2 ص 45 الا أن قوله (من أخذ لقطة) بدل ما هنا
(3) قال الخطابي: ليس هذا بمخالف للاخبار التي جاءت في أخذ اللقطة وذلك أن اسم الضالة لا يقع على
الدراهم والدنانير والمتاع ونحوها وإنما الضال اسم للحيوان التي تضل عن أهلها كالإبل
والبقر والطير وما في معناها فإذا وجدها المرء لم يحل له أن يعرض لها ما دامت بحال تمنع
بنفسها وتستقل بقوتها حتى يأخذها صاحبها اه‍
261
مدة التعريف، وقد روينا عن عمر رضي الله عنه التعريف ثلاثة أيام على باب المسجد ثم
سنة، وبه يقول الليث بن سعد، ويحتج لهذا القول بما روينا من طريق أحمد بن شعيب
أنا يزيد بن محمد بن عبد الصمد (1) نا علي بن عياش نا الليث - هو ابن سعد - حدثني من
أرضى عن إسماعيل بن أمية عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن يزيد مولى المنبعث
عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - وقد سئل عن الضالة -:
اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها ثلاثة أيام على باب المسجد فان جاء صاحبها فادفعها إليه
وان لم يأت فعرفها سنة فان جاء صاحبها والا فشأنك بها)، وهذا حديث هالك لان الليث
لم يسم من أخذ عنه وقد يرضى الفاضل من لا يرضى، وهذا سفيان الثوري يقول: لم أرا أصدق
من جابر الجعفي وجايز مشهور بالكذب، ثم هو خطأ لأنه قال فيه: عن عبد الله بن
يزيد (2) وإنما هو عن يزيد لا عن عبد الله بن يزيد، ووجه آخر كما روينا من طريق حماد
ابن سلمة أنا يحيى بن سعيد - هو الأنصاري - عن معاوية بن عبد الله بن بدر قال: وجد
أبى في مبرك بعير مائة دينار فسأل عمر بن الخطاب عن ذلك؟ فقال له: عرفها عاما
فعرفها عاما فلم يجد لها عارفا فقال له عمر: عرفها ثلاثة أعوام فلم يجد لها عارفا فقال
له عمر: هي لك * ويحتج لهذا بما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن قدامة نا جرير
عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة قال: قال لي أبي بن كعب التقطت صرة
فيها مائة دينار فأتيت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: عرفها حولا فعرفتها حولا فقلت:
يا رسول الله قد عرفتها حولا فقال: عرفها سنة أخرى فعرفتها سنة أخرى ثم قلت:
يا رسول الله عرفتها سنة فقال: عرفها سنة أخرى فعرفتها سنة أخرى ثم أخبرته عليه السلام
بذلك فقال: انقطع بها واعرف وكاءها وخرقتها واحص عددها فان جاء صاحبها قال
جرير: لم أحفظ ما بعد هذا، وهكذا رويناه من طريق زيد بن أبي أنيسة. وعبيد الله بن
عمر الرقيين كلاهما عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم *
قال أبو محمد: هذا حديث ظاهره صحة السند إلا أن سلمة بن كهيل أخطأ فيه بلا شك
لأننا رويناه من طريق حماد بن سلمة عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن
كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه: فلم أجد لها عارفا عامين أو ثلاثة * وروينا من طريق



(1) في النسخة رقم 14 (عن عبد الصمد) وهو غلط
(2) كذلك رواه مسلم بن الحجاج في صحيحه بسنده (عن يزيد) كما قال المصنف
262
عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن عبد الله بن الفضل عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة
عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه: عرفها عاما قال: فعرفتها فلم تعترف
فرجعت فقال: عرفها عاما مرتين أو ثلاثا، فهذا شك من سلمة بن كهيل، ثم رويناه
من طريق مسلم بن الحجاج قال: حدثني أبو بكر بن نافع نا غندر نا شعبة عن سلمة بن
كهيل قال: سمعت سويد بن غفلة قال: لقيت أبي بن كعب فذكر الحديث (وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال له: عرفها حولا فعرفتها فلم أجد من يعرفها ثم أتيته
فقال: عرفها حولا فلم أجد من يعرفها ثم أتيته فقال: عرفها حولا فلم أجد من
يعرفها، وذكر باقي الحديث، قال شعبة: فلقيته بعد ذلك بمكة فقال: لا أدرى ثلاثة
أحوال أو حول واحد (1)) فهذا تصريح من سملة بن كهيل بالشك والشريعة
لا تؤخذ بالشك * ورويناه أيضا من طريق مسلم حدثني عبد الرحمن بن بشر (2)
العبدي نا بهز - هو ابن أسد - نا شعبة أنا سلمة بن كهيل قال: سمعت سويد بن غفلة فاقتص
الحديث قال شعبة: فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاما واحدا *
فصح أن سلمة بن كهيل تثبت واستذكر فثبت على عام واحد بعد أن شك فصح أنه
وهم ثم استذكر فشك ثم استذكر فتيقن وثبت وجوب تعريف العام وبطل تعريف
ما زاد والحمد لله رب العالمين *
قال أبو محمد: وههنا أثران آخران. أحدهما رويناه من طريق عبد الرزاق عن أبي
بكر - هو ابن أبي ميسرة - عن شريك بن عبد الله عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد
الخدري: (أن عليا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدينار وجده في السوق فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
عرفه ثلاثا ففعل فلم يجد أحدا يعترفه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كله) فذكر الحديث كله وفى
آخره: (فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام) لهذا الحديث *
قال أبو محمد: لا ندري من كلام من هذه الزيادة، وهذا خبر سوء لأنه من طريق
ابن أبي سبرة وهو مشهور بوضع الحديث، والكذب، عن شريك (3) وهو مدلس
يدلس المنكرات عن الضعفاء إلى الثقات، وروى من طريق إسرائيل عن عمر بن عبد الله ابن يعلى عن جدته حكيمة عن أبيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم قال: (من التقط لقطة يسيرة
درهما أو حبلا أو شبه ذلك فليعرفه ثلاثة أيام فإن كان فوق ذلك فليعرفه ستة أيام) وهذا



(1) هو في صحيح مسلم ج 2 ص 44
(2) في النسخة رقم 16 (بشير) وهو غلط
(3) في النسخة رقم 14 (على شريك) وهو تصحيف قبيح لأنه يوهم ان الجار والمجرور متعلق
(بوضع) وهذا فاسد كما لا يخفى
263
لا شئ. إسرائيل ضعيف وعمر بن عبد الله مجهول. وحكيمة (1) عن أبيها أنكر وأنكر،
ظلمات بعضها فوق بعض *
قال أبو محمد: روينا عن مالك. والشافعي. وأبي سليمان. والأوزاعي تعريف
اللقطة سنة وهو القول الظاهر عن أبي حنيفة، وقد روى عنه خلافه، وروى عن عمر
ابن الخطاب أيضا تعريف القطة ثلاثة أشهر، وروى أيضا عنه من طريق شريك عن أبي
يعقوب العبدي عن أبي شيخ العبدي عن زيد بن صوحان العبدي أن عمر أمر أن
يعرف قلادة التقطها أربعة أشهر فان جاء من يعرفها والا وضعها في بيت المال، فهذه عن
عمر رضي الله عنه خمسة أقوال، وروى أبو نعيم عن سفيان الثوري من التقط درهما فإنه
يعرفه أربعة أيام، وقال الحسن بن حي. وأبو حنيفة في رواية هشام بن عبيد الله الرازي
عن محمد بن الحسن عنه: ان ما بلغ عشرة دراهم فصاعدا فإنه يعرف سنة، واختلفا
فيما كان أقل فقال الحسن بن حي: يعرف ثلاثة أيام، وقال أبو حنيفة: يعرف على قدر
ما يرى الملتقط، وهذه آراء فاسدة كما ترى، ومنها دفع اللقطة إلى من عرف العفاص.
والوكاء. والعدد. والوعاء فقال. مالك. وأبو سليمان كما قلنا، وقال أبو حنيفة.
والشافعي: لا يدفعها إليها بذلك فان فعل ضمنها لأنه قد يسمع صاحبها يصفها فيعرف
صفتها فيأتي بها، واحتجوا في ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب البينة على المدعى
واليمين على المدعى عليه، ونهى عن أن يعطى أحد بدعواه، وقال عليه السلام: (شاهداك
أو يمينه ليس لك غير ذلك) *
قال أبو محمد: هذا كله حق والذي قاله هو الذي أمر بأن تعطى اللقطة من عرف
العفاص. والوكاء. والعدد. والوعاء وليس كلامه متعارضا ولا حكمه متناقضا ولا
يحل ضرب بعضه ببعض ولا ترك بعضه وأخذ بعض فكله حق وكله وحى من عند
الله عز وجل، وهم مجمعون معنا على أن المدعى عليه إن أقر قضى عليه بغير بينة فقد
جعلوا للمدعى شيئا غير الشاهدين أو يمين المدعى عليه، فان قالوا: قد صح الحكم بالاقرار
قلنا: وقد صح دفع اللقطة بأن يصف المدعى وكاءها. وعددها. وعفاصها. ووعاءها
ولا ترق، وليس كل الأحكام توجد في خبر واحد ولا تؤخذ من خبر واحد ولكن
تضم السنن بعضها إلى بعض ويؤخذ بها كلها، ولو أن الحنيفيين اعترضوا أنفسهم بهذه
الاعتراضات في قبولهم امرأة واحدة في عيوب النساء. والولادة ولو عارضوا أنفسهم



(1) قال ابن حجر في تلخيص الحبير: وزعم ابن حزم ان عمر مجهول وزعم هو
وابن القطان ان حكيمة ويعلى مجهولان وهو عجب منهما لان يعلى صحابي معروف اه‍
264
بهذا في حكمهم للزوجين يختلفان في متاع البيت ان ما أشبه أن يكون للرجال كان للرجل
مع يمينه وما أشبه أن يكون للنساء كان للمرأة بيمينها بغير بينة، ولا يحكمون بذلك في
الأخت والأخ يختلفان في متاع البيت الذي هما فيه، ولو عارضوا أنفسهم بهذا الاعتراض
في قولهم: إن من ادعى لقيطا هو وغيره فأتى بعلامات في جسده قضى له به ولا يقضون
بذلك فيمن ادعى مع آخر عبدا فأتى أحدهما بعلامات في جسده، وفى قولهم: لو أن
مستأجر الدار تداعى مع صاحب الدار في جذوع موضوعة في الدار وأحد مصراعين
في الدار أن تلك الجذوع إن كانت تشبه الجذوع التي في البناء والمصراع القائم كان كل
ذلك لصاحب الدار بلا بينة، وسائر تلك التخاليط التي لا تعقل، ثم لا يبالون بمعارضة
أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم بآرائهم الفاسدة، واما الشافعي فإنه قضى في القتيل يوجد في
محلة أقوام أعداء له ان المدعين بقتله عليه يحلفون خمسين يمينا ثم يقضى لهم بالدية فأعطاهم
بدعواهم، فان قالوا: إن السنة جاءت بهذا قلنا لهم: والسنة جاءت بدفع القطة إلى من عرف
عفاصها. ووكاءها. وعددها. ووعاءها ولا فرق، وقالوا: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فان جاء صاحبها فادها إليها قلنا: نعم وصاحبها هو الذي أمر عليه السلام بدفعها إليه
إذا وصف ما ذكرنا، وأما قولهم: قد يسمعها متحيل فيقال لهم: وقد تكذب الشهود
ولا فرق، وقالوا: قد قال أبو داود السجستاني: هذه الزيادة - فان عرف عفاصها.
ووكاءها. وعددها فادفعها إليه - غير محفوظة *
قال أبو محمد: وهذا لا شئ ولا يجوز أن يقال فيما رواه الثقات مسندا: هذا أغير
محفوظ، ولا يعجز أحد عن هذه الدعوى فميا شاء من السنن الثوابت، وقد أخذ الحنيفيون
بزيادة جاءت في حديث حماد بن سلمة في الزكاة وهي ساقطة غير محفوظة ولو صح اسنادها
ما قلنا فيه: غير محفوظ، وأخذوا بخبر الاستسعاء وقد قال من هو أجل من أبى داود:
وليس الاستسعاء محفوظا وإنما هو من كلام ابن أبي عروبة، وأخذوا بالخبر (من ملك ذا رحم
محرمة فهو حر) وجمهور أصحاب الحديث يقولون: انه غير محفوظ، وأخذ الشافعي في
زكاة الفطر باللفظة التي ذكرها من لا يعتد به: (ممن تعولون) وهي بلا شك ساقطة غير
محفوظة ولو صحت من طريق الاسناد ما استحللنا أن نقول فيها: غير محفوظة ثم نقول:
أخطأ أبو داود في قوله: هي غير محفوظة بل هي محفوظة لأنها لو لم يروها إلا حماد
ابن سلمة وحده لكفى لثقته وامامته وكيف وقد وافقه عليها سفيان الثوري عن ربيعة
عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد الجهني عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسفيان أيضا عن سلمة
ابن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فبطل قول من قال:

265
هي غير محفوظة بل هي مشهورة محفوظة، ومنها تملك اللقطة بعد الحول روينا قولنا عن
عمر بن الخطاب وغيره كما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا أبو عبيدة بن أبي السفر
نا أبو أسامة عن الوليد بن كثير عن عمرو بن شعيب عن عمرو. وعاصم ابني سفيان بن عبد
الله عن أبيهما أنه التقط عيبة (1) فأتى بها عمر بن الخطاب فأمره أن يعرفها حولا ففعل ثم أخبره
فقال: هي لك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا بذلك قلت: لا حاجة لي بها وأمر بها فألقيت في
بيت المال، وقد صح عن عمر من طرق جمة. وعن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم *
ومن طريق ابن عمر أنه رأى تمرة مطروحة في السكة فأخذها فالكها * وعن علي بن أبي
طالب أنه التقط حب رمان فاكله * وعن ابن عباس من وجد لقطة من سقط المتاع سوطا
أو نعلين. أو عصا أو يسيرا من المتاع فليستمتع به ولينشده فإن كان ودكا فليأتدم به ولينشده
وإن كان زادا فليأكله ولينشده فان جاء صاحبه فليغرم له، وهو قول روى أيضا عن
طاوس. وابن المسيب. وجابر بن زيد. وعطاء في أحد قوليه. والشافعي. وأبي سليمان.
وغيرهم، وقالت طائفة: يتصدق بها فان عرفت خير صاحبها بين الاجر والضمان *
روينا ذلك أيضا عن عمر. وعلى. وابن مسعود. وابن عباس. وابن عمر قال:
لا آمرك أن تأكلها، وعن طاوس أيضا. وعكرمة وهو قول أبي حنيفة. والحسن بن
حي. وسفيان، واحتج هؤلاء بما روى من طريق البزار نا خالد بن يوسف نا أبى نا
زياد بن سعد نا سمى عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
اللقطة؟ فقال: لا تحل اللقطة فمن التقط شيئا فليعرفه سنة فان جاء صاحبه فليرده إليه وان
لم يأت فليتصدق به فان جاء فليخيره بين الاجر وبين الذي له) *
قال أبو محمد: وهذا لا شئ لان يوسف بن خالد. وأباه مجهولان ثم لو صح لم يكن لهم
فيه حجة لان قوله لا تحل اللقطة حق ولا تحل قبل التعريف وأمره بالصدقة بها مضموم
إلى أمره عليه السلام باستنفاقها وبكونها من جملة ماله إذ لو صح هذا لكان (2) بعض أمره
عليه السلام أولى بإطاعة من بعض ولا يحل مخالفة شئ من أوامره عليه السلام لآخر منها
بل كلها حق واجب استعماله ونحن لم نمنع واجدها من الصدقة بها إن أراد فيحتج علينا بهذا
فبطل تعلقهم بهذا الخبر لو صح فكيف وهو لا يصح؟ فان ادعوا إجماعا على الصدقة بها
كذبوا لما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن جريج أن زيد بن الأخنس الخزاعي أخبره
أنه قال لسعيد بن المسيب: وجدت لقطة أفأتصدق بها؟ قال: لا تؤجر أنت ولا صاحبها
قلت: أفأدفعها إلى الامراء؟ قال: إذا يأكلونها أكلا سريعا قلت: فكيف تأمرني؟



(1) هو زبيل من أدم وما يجعل فيه الثياب
(2) في النسخة رقم 14 والحلبية (لما كان) وهو غلط
266
قال: عرفها سنة فان اعترفت والا فهي لك، والعجب أن بعضهم احتج لمذهبه (1)
الخطأ في هذا بقول الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) *
قال على: احتجاج هذا الجاهل بهذه الآية في هذا المكان (2) دليل على رقة دينه
إذ جعل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم باطلا ولو كان له دين لما عارض حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولو أنه جعل هذه المعارضة لقولهم الملعون: ان الغاصب لدور المسلمين وضياعهم يسكنها
ويكريها فالكراء له حلال واحتراث ضياعهم له حلال لا يلزمه في ذلك شئ، وقولهم:
من اشترى شيئا شراء فاسدا فقد ملكه ملكا فاسدا وأبا حواله التصرف فيما اشترى
بالباطل بالوطئ: والعتق وسائر أقوالهم الخبيثة لكانوا قد وافقوا، ثم أعجب شئ (3)
أمرهم بالصدقة بها فان جاء صاحبها ضمنوا المساكين ان وجدوهم فعلى أصلهم هو أيضا
أكل مال بالباطل، وأي فرق بين أن يأكلها الواجد وضمانها عليه وبين أن يأكلوها المساكين
وضمانها عليهم؟ فإن لم يوجدوا فعليه لأن كان أحد الوجهين أكل مال بالباطل فان الآخر
أكل مال بالباطل ولا فرق، ولا كان أحدهما أكل مال بحق فان الآخر أكل مال بالحق
ولا فرق إذ الضمان في العاقبة في كلا الوجهين ولكنهم قوم لا يعقلون * واحتجوا بما ذكرنا
قبل أنه لا يصح من ضالة المسلم حرق النار. ولا يأوى الضالة الاضال ولو صحا لكانا عليهم
أعظم حجة لأنهم يبيحون أخذ ضوال الإبل التي فيها ورد النص المذكور فاعجبوا لهذه
العقول!، وأعجب شئ احتجاجهم ههنا برواية خبيثة رواها أبو يوسف عن عبد الملك بن
العرزمي عن سلمة بن كهيل أن أبي بن كعب ثم ذكر باقي الحديث وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال له: فإنك ذو حاجة إليها *
قال أبو محمد: هذا منقطع لان سلمة لم يدرك أبيا ثم العرزمي ضعيف جدا،
وأبو يوسف لا يبعد عنه فمن أضل ممن يرد ما رواه سفيان الثوري. وحماد بن سلمة كلاهما
عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأخذ بما رواه
أبو يوسف المغموز عن العرزمي الضعيف عن سلمة عن أبي وهو لم يلق (4) أبيا قط ففي
مثل هذا فليعتبر أولو الابصار، ثم لو صحت لهم هذه الزيادة التي لا تصح لما كان لهم فيها
حجة لأنه ليس فيها الا إباحة اللقطة للمحتاج ولسنا ننكر هذا بل هو قولنا وليس فيها منع
الغنى منها لا بنص ولا بدليل، ثم العجب كله رد هم كلهم في هذا المكان نفسه حديث على



(1) في النسخة رقم 16 (يحتج لمذهبه)
(2) في النسخة رقم 16 (هذا الموضع)
(3) في النسخة رقم 16 (وأعجب شئ)
(4) في النسخة رقم 16 (هو لم يدرك)
267
ابن أبي طالب في التقاطه الدينار وإباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم له استنفاقه بان قالوا (1):
هو مرسل ورواه شريك وهو ضعيف فالمرسل الذي يرويه الضعيف لا يجوز الاخذ
به إذا خالف رأى أبي حنيفة والمرسل الذي رواه العرزمي وهو الغاية في الضعف لا يجوز
تركه إذا وافق رأى أبي حنيفة والله لتطولن ندامة من هذا سبيله في دينه يوم لا يغنى
الندم عنه شيئا، وما هذه طريق من يدين بيوم الحساب لكنه الضلال والاضلال نعوذ
بالله من الخذلان، ثم قد كذبوا بل قد روى حديث على من غير طريق شريك وأسند
من طريق أبى داود نا جعفر بن مسافر التنيسي نا ابن أبي فديك ناموسي بن يعقوب الزمعي
- هو موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة - عن أبي حازم عن سهل بن سعد
أخبره أن علي بن أبي طالب وجد الحسين والحسن يبكيان من الجوع فخرج فوجد دينارا
بالسوق فجاء به إلى فاطمة فأخبرها فقالت له: اذهب إلى فلان اليهودي فخذلنا دقيقا
فذهب إلى اليهودي فاشترى به دقيقا فقال اليهودي: أنت ختن هذا الذي يزعم أنه
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم قال: فخذ دينارك ولك الدقيق فخرج
على حتى جاء به فاطمة فأخبرها فقالت له: [اذهب إلى فلان الجزار] (2) فخذلنا بدرهم لحما فذهب فرهن الدينار بدرهم لحم فجاء به فعجنت ونصبت وخبزت وأرسلت
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجاءهم فقالت له: يا رسول الله أذكر لك فان رأيته لنا حلالا أكلنا
وأكلت معنا من شأنه كذا وكذا فقال عليه السلام: كلوا باسم الله فأكلوا فبينما هم مكانهم
إذا غلام ينشد الله تعالى والاسلام الدينار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
فدعى له [فسأله] (3) فقال: سقط منى في السوق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي
اذهب إلى الجزار فقل له: ان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك: ارسل إلى
بالدينار ودرهمك على فأرسل به فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا بينة (4) *
قال أبو محمد: هذا خبر خير من خبرهم وهو عليه السلام. وعلى. وفاطمة. والحسن. والحسين رضي الله عنهم لا تحل لهم الصدقة أغنياء كانوا أو فقراء، وقد أباح في هذا الخبر
شراء الدقيق بالدينار فإنما أخذه ابتياعا ثم أهدى إليه اليهودي الدينار، وكذلك رهن الدينار
في اللحم، والخبر الصحيح يكفي من كل هذا * روينا من طريق البخاري نا محمد بن يوسف
أنا سفيان عن منصور بن المعتمر عن طلحة بن مصرف عن أنس بن مالك [رضي الله عنه] (5)



(1) في النسخة رقم 16 (فان قالوا)
(2) الزيادة من سنن أبي داود
(3) الزيادة من سنن أبي داود
(4) قوله (بلا بينة) غير موجود في سنن أبي داود
(5) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 251
268
قال مر: (رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمرة مطروحة في الطريق فقال: لولا أنى أخاف أن تكون من
الصدقة لأكلتها) فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم غنى لا فقير بشهادة الله تعالى له إذ يقول (ووجدك
عائلا فأغنى) يستحل أكل اللقطة وإنما توقع أن تكون من الصدقة فقال بعضهم: هذا
على تحقيق الصفة إنها من الصدقة (1) لأنها لقطة، وهذا كلام إنسان عديم عقل وحياء
ودين لأنه كلام لا يعقل وخلاف لمفهوم لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب مجاهر به باردغث،
وأعجب شئ قول بعضهم: قد صح الاجماع على أنه لا يعطيها غنيا غيره فكان هو كذلك *
قال أبو محمد: لا شئ أسهل من الكذب المفضوح عند هؤلاء القوم ثم كذبهم
إنما هو على الله تعالى. وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى جميع أهل الاسلام. وعلى العقول والحواس
ليث شعري متى اجمع معهم على هذا ومن أجمع معهم على هذا أبقية الجندل. والكثكث (2)
وأين وجدوا هذا الاجماع؟ بل كذبوا في ذلك وإذا أدخلت اللقطة في ملكه بانقضاء
الحول الذي عرفها فيه فان أعطاها غنيا أو أغنياء أو قارون لو وجده حيا أو سليمان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان في عصره لكان ذلك مباحا لا شئ من الكراهية فيه، وقالوا:
قد شك يحيى بن سعيد في أمر الملتقط بأن يستنفقها أهو من قول يزيد مولى المنبعث؟
أو من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وقطع مرة أخرى على أنه من قول يزيد قلنا: وقد
أسنده يحيى أيضا وهذا كله صحيح فيه لأنه سمعه مرة مسندا وسمع يزيد يقول: من فتياه
أيضا ثم يقول: لكن ربيعة لم يشك في أنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك
أيضا لم يشك بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم،
روى مالك. وسفيان الثوري عن ربيعة عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد عن
النبي صلى الله عليه وسلم (فان جاء صاحبها والا فشأنك بها) وروى حماد بن سلمة عن
ربيعة عن يزيد عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم ([فان جاء صاحبها والا
فشأنك بها) * وروى حماد بن سلمة عن ربيعة عن يزيد عن زيد بن خالد عن النبي عليه السلام
فان جاء صاحبها فعرفها فادفعها إليه والا فهي لك * وروى سفيان بن عيينة ان ربيعة
اخبره ان يزيد مولى المنبعث حدثه عن زيد بن خالد عن النبي عليه السلام] (3) أنه سئل
عن اللقطة؟ فقال. عرفها سنة فان اعترفت وإلا فاخلطها بمالك * ورويناه من طريق
سعيد بن منصور نا عبد العزيز بن محمد - هو الدراوردي - سمعت ربيعة يحدث عن
يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث، وفى



(1) في النسخة رقم 16 (على تحقيق الصدقة إنما هي الصدقة)
(2) هو فتات الحجارة والتراب
(3) هذه الزيادة سقطت من النسخة رقم 16 والنسخة الحلبية
269
آخره (فان جاء صاحبها فأدها إليه وإلا فاصنع بها ما تصنع بمالك) ورواه أبو النضر
مولى عمر بن عبيد الله عن بسر بن سعيد عن زيد بن خالد الجهني عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في اللقطة قال: (عرفها سنة فإن لم تعترف فاعرف عفاصها. ووكاءها
ثم كلها فان جاء صاحبها فادها إليه) * ورواه حماد بن سلمة انا سلمة بن كهيل عن سويد
ابن غفلة ان أبي بن كعب قال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم له في اللقطة: (فان جاء صاحبها
فعرف عددها. ووكاءها. ووعاءها فأعطها إياه والا فهي لك) وعلى هذا دل حديث
عياض بن حمار. وأبي هريرة لا مثل تلك الملفقات المكذوبة من مرسل. ومجهول.
ومن لا خير فيه وبالله تعالى التوفيق *
وقد جاء خبر من طريق لا يزال المخالفون يحتجون بها إذا وافقتهم روينا من طريق
ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن رجلا
أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف ترى ما وجد في الطريق الميتاء أو في القرية المسكونة؟ قال:
عرف سنة فان جاء باغية فادفعه إليه والا فشأنك به فان جاء طالبها يوما من الدهر فادها
إليه وما كان في الطريق غير الميتاء وفى القرية غير المسكونة ففيه وفى الركاز الخمس)
وأما نحن فهذه صحيفة لا نأخذ بها فهذا حكم القطة من غير الحيوان *
وأما الضوال من الحيوان فلها ثلاثة أحكام، أما الضأن والمعز فقط كبارها وصغارها
توجد بحيث يخاف عليها الذئب أو من يأخذها من الناس ولا حافظ لها ولا هي بقرب
ماء منها فهي حلال لمن أخذها سواء جاء صاحبها أو لم يجئ وجدها حية. أو مذبوحة.
أو مطبوخة أو مأكولة لا سبيل له عليها * وأما الإبل القوية على الرعى. وورود الماء
فلا يحل لاحد أخذها وإنما حكمها أن تترك ولابد فمن أخذها ضمنها ان تلفت عنده بأي
وجه تلفت وكان عاصيا بذلك الا أن يكون شئ من كان ما ذكرنا من لقطة أو ضالة يعرف
صاحبها فحكم كل ذلك ان ترد إليه ولا تعريف في ذلك، وأما كل ما عدا ما ذكرنا من
إبل لا قوة بها على ورود الماء والرعي وسائر البقر. والخيل. والبغال. والحمير.
والصيود كلها المتملكة والا باق من العبيد والإماء وما أضل صاحبه منها والغنم التي
تكون ضوال بحيث لا يخاف عليها الذئب ولا انسان وغير ذلك كله ففرض أخذه
وضمه وتعريفه أبدا، فان يئس من معرفة صاحبها أدخلها الحاكم أو واجدها في جميع
مصالح المسلمين وبالله تعالى التوفيق *
سواء كان كل ما ذكرنا مما أهمله صاحبه لضرورة أو لخوف. أو لهزال.

270
أو مما ضل ولا فرق * برهان ذلك ما رويناه من طريق البخاري نا قتيبة [بن سعيد] (1)
نا إسماعيل بن جعفر عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى المنبعث عن زيد بن خالد
الجهني: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل (2) عن اللقطة؟ فقال: عرفها
سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها فان جاء ربها فادها إليه فقال:
يا رسول الله فضالة الغنم؟ قال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب قال: يا رسول الله
فضالة الإبل؟ فغضب عليه السلام حتى احمرت وجنتاه [أو احمر وجهه] (3) وقال (4)
مالك ولها معها حذاؤها وسقاؤها حتى يلقاها ربها) * ومن طريق البخاري نا إسماعيل
ابن عبد الله بن أبي أويس نا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن يزيد مولى
المنبعث أنه سمع زيد بن خالد الجهني يقول: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
كيف ترى في ضالة الغنم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذها فإنما هي لك أو لأخيك
أو للذئب فقال: كيف ترى في ضالة الإبل؟ قال: دعها فان معها حذاءها وسقاءها
ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها) (5) فأمر عليه السلام بأخذ ضالة الغنم التي
يخاف عليها الذئب أو العادي ويترك الإبل التي ترد الماء وتأكل الشجر، وخصها بذلك
دون سائر القطعات والضوال فلا يحل لاحد خلاف ذلك *
قال أبو محمد: وأما ما عرف ربه فليس ضالة لأنها لم تضل جملة بل هي معروفة وإنما
الضالة ما ضلت جملة فلم يعرفها صاحبها أين هي؟ ولا عرف واجدها لمن هي وهي التي أمر
عليه السلام بنشدها وبقى حكم الحيوان كله حاشى ما ذكرنا موقوفا على قول الله تعالى:
(وتعاونوا على البر والتقوى) ومن البر والتقوى احراز مال المسلم أو الذمي، وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فلا يحل لاحد من مال أحد إلا
ما أحله الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم * روينا من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري
عن سعيد بن المسيب قال: كتب عمر بن الخطاب إلى عماله لا تضموا الضوال فلقد كانت
الإبل تتناتج هملا وترد المياه لا يعرض لها أحد حتى يأتي من يعترفها فيأخذها حتى إذا
كان عثمان كتب أن ضموها وعرفوها جاء من يعترفها والا فبيعوها وضعوا أثمانها
في بيت المال فان جاء من يعترفها فادفعوا إليهم الأثمان *
ومن طريق ابن وهب أخبرني أنس بن عياض (6) عن سلمة بن وردان سألت سالم بن



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 253
(2) في صحيح البخاري (ان رجلا سأل رسول الله) الخ
(3) الزيادة من صحيح البخاري
(4) في صحيح البخاري (ثم قال)
(5) الحديث في صحيح البخاري ج 3 ص 250 مطولا اختصره المصنف
(6) في النسخة رقم 16 (أنيس بن عياض) وهو غلط
271
عبد الله بن عمر عن الشاة توجد بالأرض التي ليس بها أحد فقال لي: عرفها دنا لك فان عرفت
فادفعها إلى من عرفها وإلا فشاتك وشاة الذئب فكلها * ومن طريق وكيع حدثنا سلمة
ابن وردان قال: سألت سالم بن عبد الله بن عمر عن ضالة الإبل؟ فقال: معها سقاؤها
وحذاؤها دعها إلا أن تعرف صاحبها فتدفعها إليه * وروينا من طريق عبد الرزاق عن
معمر: وسفيان الثوري كلاهما عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته قال: جاءت امرأة
إلى عائشة أم المؤمنين فقالت: إني وجدت شاة فقالت: اعلفي واحلبي وعرفي ثم عادت
إليها ثلاث مرات فقالت: تريدين أن آمرك بذبحها * ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو
الأحوص عن زيد بن جبير أنه سمع ابن عمر يقول لرجل سأله عن ضالة وجدها: فقال له
ابن عمر: أصلح إليها وانشد قال: فهل على أن شربت من لبنها قال: ما أرى عليك في
ذلك * وقال أبو حنيفة. وأصحابه: تؤخذ ضالة الإبل كما تؤخذ غيرها، وقال الشافعي:
ما كان من الخيل. والبقر. والبغال قويا يرد الماء ويرعى لم يأخذ قياسا على الإبل وما
كان منها ومن سائر الحيوان لا يمتنع أخذ (1)، وقال أبو حنيفة. والشافعي: من أخذ
ضالة من الغنم فعليه ضمانها إن أكلها، وقال مالك: أما ضالة الغنم فما كان بقرب
القرى فلا يأكلها ولكن يضمنها إلى أقرب القرى فيعرفها هنالك وأما ما كان في
الفلوات والمهامه فإنه يأكلها أو يأخذها فان جاء صاحبها فوجدها حية فهو أحق بها
وإن وجدها مأكولة فلا شئ له ولا يضمنها له واجدها الذي أكلها، واختلف أصحابه
فيها إن وجدها مذبوحة لم تؤكل بعد قال: وأما البقر فان خيف عليها السبع فحكمها
حكم الغنم وإن لم يخف عليها السبع فحكمها حكم الإبل يترك كل ذلك ولا يعترض له ولا
يؤخذ، وأما الخيل. والبغال. والحمير. فلتعرف ثم يتصدق بها *
قال أبو محمد: أما تقسيم مالك فخطأ لأنه لم يتبع النص إذ فرق بين أحوال وجود
ضالة الغنم وليس في النص شئ من ذلك وكذلك تفريقه بين وجود الشاة صاحبها
حية أو مأكولة فليس في الخبر شئ من ذلك أصلا لا بنص ولا بدليل ولا القياس طرد
ولا قول متقدم التزم لان القياس أن لا يبيح الشاة لواجدها أصلا كما لا يبيح سائر اللقطات
إلا أن كان فقير أبعد تعريف عام ولا نعلم فرقة هذه عن أحد قبلة ولا نعلم لقوله حجة
أصلا، وأما أبو حنيفة فإنه خالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم كله جهارا فمنع من الشاة جملة
وأمر بأخذ ضالة الإبل وقد غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك غضبا احمر له وجهه ونعوذ
بالله من ذلك، فاما هو - يعنى أبا حنيفة - فيعذر لجهله بالآثار، وأما هؤلاء الخاسرون فوالله



(1) في النسخة رقم 14 (أخذه)
272
ما لهم عذر بل هم قد أقدموا على ما أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم علانية فحصلوا في
جملة من قال الله تعالى فيهم: (ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه) فما
أخوفنا عليهم من تمام الآية لان الحجة قد قامت عليهم، (فان قالوا): ان الأموال حرام على
غير أهلها وواجب حفظها فلا نأخذ بخلاف ذلك بخبر واحد قلنا لهم: قد أخذ تم بذلك
الخبر بعينه فما أنكرتموه نفسه فأمرتم باتلافها بالصدقة بها بعد تعريف سنة فمرة صار
عندكم الخبر حجة ومرة صار عندكم باطلا وهو ذلك الخبر بعينه فما هذا الضلال؟ وقد
روينا لهم عن أم المؤمنين. وابن عمر إباحة شرب لبن الضالة وهم لا يقولون بذلك،
وأما الشافعي فنقض أصله ولم ير أخذ الشاة وأقحم في حكم الخبر ما ليس فيه فألحق
بالإبل ما لم يذكر في النص وجعل ورود الماء ورعى الشجر علة قاس عليها ولا دليل
له على صحة ذلك، وان الشاة لترد الماء وترعى ما أدركت من الشجر كما تفعل
الإبل ويمتنع منها ما لم تدركه كما يمتنع على الإبل ما لا تدركه وان الذنب ليأكل البعير كما يأكل
الشاة ولا منعة عند البعير منه وإنما يمتنع منه البقر فقط هذا أمر معلوم بالمشاهدة، وقالوا:
قول النبي صلى الله عليه وسلم. (هي لك أو لأخيك أو للذئب) ليس تمليكا للذئب فكذلك ليس
تمليكا للواجد فقلنا: هذا باطل من قولكم لان الذنب لا يملك والواجد يملك و الواجد
مخاطب والذئب ليس مخاطبا وقد أمر الواجد بأخذها فزيادتكم كاذبة مردودة عليكم وبالله
تعالى التوفيق * فظهر سقوط هذه الأقوال كلها بتيقن وان كل واحد منهم أخذ ببعض الخبر
وجعله حجة وترك بعضه ولم يره حجة، واختلفوا في ذلك فاخذ هذا ما ترك هذا وترك
هذا ما أخذ الآخر، وهذا ما لا طريق للصواب إليه أصلا وبالله تعالى التوفيق، ولئن كان
الخبر حجة في موضع فإنه لحجة في كل ما فيه الا أن تأتى مخالفة له بناسخ متيقن، وإن كان
ليس حجة في شئ منه فكله ليس حجة، والتحكم في أوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يجوز وبالله تعالى التوفيق *
كتاب اللقيط
1384 مسألة ان وجد صغير منبوذ ففرض على بحضرته أن يقوم به
ولابد لقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان)
ولقول الله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) ولا إثم أعظم من اثم من
أضاع (1) نسمة مولودة على الاسلام صغيرة لا ذنب لها حتى تموت جوعا وبردا



(1) في النسخة رقم 14 (ولا اثم أعظم من إضاعة) الخ
273
أو تأكله الكلاب هو قاتل نفس عمدا بلا شك، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(من لا يرحم الناس لا يرحمه الله) *
1385 مسألة واللقيط حر ولا ولاء عليه لاحد لان الناس كلهم أولاد آدم
وزوجه حواء عليهما السلام وهما حران وأولاد الحرة أحرار بلا خلاف من أحد فكل
أحد فهو حر (1) إلا أن يوجب نص قرآن. أو سنة ولا نص فيهما يوجب ارقاق اللقيط،
وإذ لارق عليه فلا ولاء لاحد عليه لأنه لا ولاء الا بعد صحته رق على المرء أو على أب له
قريب أو بعيد يرجع إليه بنسبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الولاء لمن أعتق) وهذا قول
أبي حنيفة. ومالك. والشافعي، وداود، وقد صح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
ما رويناه من طريق مالك عن ابن شهاب عن سنين أبى جميلة أنه وجد منبوذا فأتى به إلى عمر بن
الخاطب فقال له عمر: هو حر وولاؤه لك ونفقته من بيت المال * وروينا أيضا هذا
عن شريح أنه جعل ولاء اللقيط لمن التقطه، وصح عن إبراهيم النخعي ما رويناه من طريق
محمد بن جعفر نا شعبة عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال: اللقيط عبد، وقد روينا
هذا عن عمر بن الخطاب كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان عن سليمان -
هو أبو إسحق الشيباني - عن حوط عن إبراهيم النخعي قال: قال عمر: هم مملوكون -
يعنى اللقطاء - (2) * ومن طريق ابن أبي شيبة نا سفيان - هو ابن عيينة - عن عمرو
ابن دينار عن الزهري عن رجل من الأنصار قال: إن عمرا أعتق لقيطا * ومن طريق
ابن أبي شيبة نا وكيع نا الأعمش عن زهير العبسي أن رجلا التقط لقيط فأتى به على
ابن أبي طالب فاعتقه *
قال أبو محمد: لا يعتق الا مملوك قال على: فان قيل: قد رويتم من طريق ابن أبي شيبة
نا وكيع نا شعبة قال: سألت حماد بن أبي سليمان، والحكم عن اللقيط؟ فقالا جميعا:
هو حر فقلت: عمن؟ فقال الحكم: عن الحسن عن علي، ورويتم عن وكيع عن
سفيان عن زهير بن أبي ثابت. وموسى الجهني قال موسى: رأيت ولد زنا ألحقه على
في مائه، وقال زهير عن ذهل بن أوس عن تميم بن مسيح قال: وجدت لقيطا فاتيت به على
ابن أبي طالب فالحقه في مائه، قلنا: ليس في هذا خلاف لما ذكر نا قبل لان قول عمر هو حر
وقول الحسن عن علي هو حر إذا ضم إلى ما روى عنهما من أن كل واحد منهما أعتق اللقيط
مع ما روى عن عمر من أنهم مملوكون وأن ولاءه لمن وجده اتفق كل ذلك على أن قولهما



(1) قوله (فكل أحد فهو حر) سقط من النسخة رقم 14
(2) في النسخة رقم 16 (هو مملوك - يعنى اللقيط -)
274
رضي الله عنهما هو حر انه اعتاق منهما له في ذلك الوقت، وان العجب ليطول ممن ترك
السنة الثابتة لرواية شيخ من بنى كنانة عن عمر بن الخطاب أنه قال: (البيع عن صفقة
أو خيار) ولو سمعنا هذا من عمر لما كان خلافا للسنة في أن البيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا
أو يخير أحدهما الآخر بل كأن يكون موافقا للسنة، فالصفقة التفرق والخيار التخيير ثم
لا يجعل ما روى سنين - وله صحبة - عن عمر حجة وما رواه إبراهيم النخعي حجة عن عمر،
وهو والله أجل وأوضح من شيخ من بنى كنانة، ولا يعرف لعمر. وعلى ههنا مخالف من
الصحابة رضي الله عنهم لا سيما وقد جاء أثرهم أبدا يأخذون بما دونه وهو ما رويناه من
طريق محمد بن الجهم نا عبد الكريم بن الهيثم نا يزيد بن عبد ربه نا محمد بن حرب الخولاني
نا عمر بن رؤبة (1) قال: سمعت عبد الواحد النصرى (2) يقول: سمعت واثلة بن
الأسقع يقول: (ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: تحرز المرأة ثلاثة مواريث. لقيطها. وعتيقها.
وولدها الذي لاعنت عليه) *
قال أبو محمد: عمر بن رؤبة. وعبد الواحد النصرى مجهولان ولو صح لقلنا به
وأما هم فلا يبالون بهذا ولا أحد إلا وهو أعرف وأشهر من شيخ من بنى كنانة وقد تركوا
السنة الثابتة لروايته، فان قالوا: وبأي وجه (3) يرق واصله الحرية؟ قلنا: يا سبحان
الله يا هؤلاء: ما أسرع ما نسيتم أنفسكم أو لستم القائلين: إن رجلا قرشيا لو لحق بدار
الحرب مرتدا هو وامرأته القرشية مرتدة فولدت هنا لك أولادا فان أولادهم أرقاء
مملوكون يباعون، وقال الحنيفيون: ان تلك القرشية تباع وتتملك أوليس الرواية عن
ابن القاسم إما عن مالك واما على ما عرف من أصل مالك إن أهل دار الحرب لو صاروا ذمة
سكانا بيننا وبأيديهم رجال ونساء من المسلمين أحرار وحرائر أسروهم وبقوا على الاسلام
في حال أسرهم فإنهم مملوكون لأهل الذمة من اليهود والنصارى يتبايعونهم متى شاءوا،
وهذا منصوص عنه في المستخرجة، فأيما أشنع وأفظع هذا كله: أو ارقاق لقيط لا يدرى
من أمه أحرة أم أمة؟ حتى لقد أخبرني محمد بن عبد الله البكري التدميري (4) وما علمت
فيهم أفضل منه ولا أصدق عن شيخ من كبارهم أنه كان يفتى أن التاجر. أو الرسول إذا



(1) في النسخة رقم 14 (عمرو بن رؤبة) وهو غلط
(2) هو بالصاد المهملة
(3) في النسخة رقم 16 (فبأي وجه)
(4) بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الدال المهملة وكسر الميم وسكون الياء المنقوطة آخر الحروف بعدها راء نسبة إلى تدمير وهي من بلاد الأندلس، ووقع في النسخة رقم 16 (التدمري) باسقاط الياء آخر الحروف نسبة إلى تدمر وهي بلدة في الشام وهو غلط
275
دخل دار الحر ب فاعطوه أسراء من أحرار المسلمين وحرائرهم عطية فهم عبيد وإماء له
يطأ ويبيع كسائر ما يملك، وشاه وجه هذا المفتى ومن اتبعه على هذا *
قال أبو محمد: وروينا عن إبراهيم قولا آخر كما روينا من طريق ابن أبي شيبة
نا وكيع عن سفيان الثوري عن منصور عن إبراهيم النخعي في اللقيط قال: له نيته ان
نوى أن يكون حرا فهو حر وان نوى أن يكون عبدا فهو عبد، وقولنا بأنه لارق عليه
هو قول عمر بن عبد العزيز. وعطاء. والشعبي. والحكم. وحماد، ورويناه أيضا
عن إبراهيم وعهدنا بهم يقولون فيما خالف الأصول. والقياس إذا وافق آراءهم:
مثل هذا لا يقال بالرأي فهلا قالوا ههنا هذا؟ وبالله تعالى التوفيق *
1386 مسألة وكل ما وجد مع اللقيط من مال فهو له لان الصغير يملك
وكل من يملك فكل ما كان بيده فهو له وينفق عليه منه *
1387 مسألة وكل من ادعى أن ذلك اللقيط ابنه من المسلمين حرا كان.
أو عبدا صدق ان أمكن أن يكون ما قال حقا فان تيقن كذبه لم يلتفت * برهان ذلك أن
الولادات لا تعرف الا بقول الآباء والأمهات وهكذا انساب الناس كلهم ما لم يتيقن
الكذب، وإنما قلنا - للمسلمين - للثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: (كل مولود يولد
على الفطرة وعلى الملة) وقوله عليه السلام عن ربه تعالى في حديث عياض بن حمار
المجاشعي: (خلقت عبادي حنفاء كلهم) ولقوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من
ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا يوم
القيامة انا كنا عن هذا غافلين) فان ادعاه كافر لم يصدق لان في تصديقه اخراجه عن
ما قد صح له من الاسلام ولا يجوز ذلك الا حيث أجازه النص ممن ولد على فراش كافر
من كافره فقط ولا فرق بين حر. وعبد فيما ذكرنا * وقال الحنيفيون: لا يصدق العبد
لان في تصديقه ارقاق الولد وكذبوا في هذا ولد العبد من الحرة حر لا سيما على أصلهم
في أن العبد لا يتسرى، وأما نحن فقد قلنا: إن الناس على الحرية ولا تحمل امرأة العبد
الا على أنها حرة فولده حر حتى يثبت انتقاله عن أصله وبالله تعالى التوفيق *
بسم الله الرحمن الرحيم * كتاب الوديعة
1388 مسألة فرض على من أودعت عنده وديعة حفظها وردها إلى صاحبها
إذا طلبها منه لقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى) ولقوله تعالى: (ان الله
يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) ومن البر حفظ مال المسلم أو الذمي، وقد صح

276
نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وهذا عموم لمال المرء ومال غيره *
1389 مسألة فان تلفت من غير تعد منه ولا تضييع لها فلا ضمان عليه فيما
لأنه إذا حفظها ولم يتعد ولا ضيع فقد أحسن والله تعالى يقول: (ما على المحسنين من سبيل)، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فمال هذا
المودع حرام على غيره ما لم يوجب أخذه منه نص، وقد صح عن عمر بن الخطاب تضمين
الوديعة، وروى عنه (1) وعن غيره أن لا تضمن *
1390 مسألة وصفة حفظها هو أن يفعل فيها من الحفظ ما يفعل بماله وان
لا يخالف فيها ما حد له صاحبها الا أن يكون فيما حد له يقين هلاكها فعليه حفظها لان
هذا هو صفة الحفظ وما عداه هو التعدي في اللغة ومعرفة الناس، وبالله تعالى التوفيق *
1391 مسألة فان تعدى المودع في الوديعة أو أضاعها فتلفت لزمه ضمانها
ولو تعدى على بعضها دون بعض لزمه ضمان ذلك البعض الذي تعدى فيه فقط لأنه في
الإضاعة أيضا متعد لما أمر به، والتعدي هو التجاوز في اللغة التي نزل بها القرآن وبها
خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى يقول: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى
عليكم) فيضمن ضمان الغاصب في كل ما ذكرنا في حكم الغصب، وبالله تعالى التوفيق *
1392 مسألة والقول في هلاك الوديعة أو في ردها إلى صاحبها أو في دفعها
إلى من أمره صاحبها بدفعها إليه قول الذي أودعت عنده مع يمينه سواء دفعت إليه ببينة
أو بغير بينة لان ماله محروم كما ذكرنا فهو مدعى عليه وجوب غرامة وقد حكم رسول الله
صلى الله عليه وسلم بأن اليمين (2) على من ادعى عليه وهو قول أبي حنيفة. والشافعي. وأبي سليمان *
وههنا خلاف في مواضع * منها أن مالكا فرق بين الثقة وغير الثقة فرأى أن لا يمين على
الثقة وهذا خطأ لان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجب اليمين على من ادعى عليه لم يفرق بين
ثقة وغير ثقة، والمالكيون موافقون لنا في أن نصرانيا. أو يهوديا. أو فاسقا من
المسلمين معلن الفسق يدعى دينا على صاحب من الصحابة رضي الله عنهم ولا بينة له وجبت
اليمين (3) على الصاحب، ولا فرق بين دعوى جحد الدين وبين دعوى جحد الوديعة أو
تضييعها، والمقرض مؤتمن على ما أقرض وعلى ما عومل فيه كما أن المودع مؤتمن ولا
فرق، وفرق أيضا بين الوديعة تدفع ببينة وبينها إذا دفعت بغير بينة فرأى ايجاب الضمان
فيها إذا دفعت ببينة، وهذا لا معنى له لأنه لم يأت بالفرق بين ذلك قرآن. ولا سنة،



(1) في النسخة رقم 16 (ورويت عنه)
(2) في النسخة رقم 14 (باليمين)، سقط جمل في هذا الموضع من النسخة الحلبية
(3) في النسخة رقم 14 (لوجبت اليمين)
277
والايمان لا تسقط والغرامة لا تجب الا حيث أوجبها الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم،
أو حيث أسقطها الله تعالى. أو رسوله صلى الله عليه وسلم * وفرق قوم بين قول المودع هلكت
الوديعة فصدقوه اما ببينة واما بغير بينة وبين قوله: قد صرفتها إليك فألزموه الضمان،
وكذلك في قوله: أمرتني بدفعها إلى فلان فضمنوه *
قال أبو محمد: وهذا خطأ لأنه لم يأت بالفرق بين ذلك قرآن. ولا سنة، والوجه
في هذا هو أن كل ما قاله المودع مما يسقط به عن نفسه الغرامة ولا تخرج عين (1) الوديعة
عن ملك المودع فالقول قوله مع يمينه لان ماله محرم الا بقرآن أو سنة، سواء كانت.
الوديعة معروفة للمودع ببينة أو بعلم الحاكم أو لم تكن، ولا فرق بين شئ مما فرقوا بينه
بآرائهم الفاسدة (2) وأما إذا ادعى المودع شيئا ينقل به الوديعة عن ملك المودع إلى
ملك غيره فإنه ينظر فإن كانت الوديعة لا تعرف للمودع الا بقول المودع فالقول أيضا
قول المودع مع يمينه في كل ما ذكر له من أمره إياه ببيعها: أو الصدقة بها. أو بهبتها.
أو انه وهبها له وسائر الوجوه ولا فرق لأنه لم يقر لي بشئ في ماله ولا بشئ في ذمته لا بدين
ولا بتعد ولا قامت له عليه بينة بحق ولا بتعد وماله محرم على غيره، وأما إن كانت
الوديعة معروفة العين للمودع بينة أو بعلم الحاكم فان المودع مدع نقل ملك المودع
عنها فلا يصدق الا ببينة وقد أقر حينئذ في مال غيره بما قد منع الله تعالى منه إذ يقول: (ولا
تكسب كل نفس إلا عليها) فهو ضامن وبالله تعالى التوفيق *
1393 مسألة وإن لقى المودع من أودعه في غير الموضع الذي أودعه فيه
ما أودعه فليس له مطالبته بالوديعة، ونقل الوديعة بالحمل والرد على المودع لا على المودع
وإنما على المودع أن لا يمنعها من صاحبها فقط لان بشرته وماله محرمان وهذا بخلاف
الغاصب. والمتعدي في الوديعة أو غيرها وأخذ المال بغير حق فرده على المتعدى والغاصب
وأخذه بغير حق إلى صاحبه حيث لقيه من بلاد الله تعالى لان فرضا عليه الخروج من
الظلم والمطل في كل أو ان ومكان وبالله تعالى التوفيق *
كتاب الحجر
1394 مسألة لا يجوز الحجر على أحد في ماله الا على من لم يبلغ أو على مجنون
في حال جنونه فهذان خاصة لا ينفذ لهما أمر في مالهما فإذا بلغ الصغير وأفاق المجنون جاز



(1) في النسخة رقم 16 (ولا يخرج ملك)
(2) سقط لفظ (الفاسدة) من النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية
278
مر هما في مالهما كغيرهما، ولا فرق سواء في ذلك كله (1) الحر. والعبد. والذكر.
والأنثى. والبكر ذات الأب. وغير ذات الأب. وذات الزوج. والتي لا زوج لها
فعل كل من ذكرنا في أموالهم من عتق. أو هبة. أو بيع. أو غير ذلك نافذ إذا وافق
الحق من الواجب. أو المباح، ومردود فعل كل أحد في ماله إذا خالف المباح أو
الواجب ولا فرق ولا اعتراض لأب ولا لزوج ولا لحاكم في شئ من ذلك الا ما كان
معصية لله تعالى فهو باطل مردود، ومن معصية الله تعالى الصدقة. والعطية بما لا يبقى
بعده للمتصدق أو الواهب غنى، فان أراد السيد إبطال فعل العبد في ماله فليعلن بانتزاعه
منه ولا يجوز للعبد حينئذ تصرف في شئ منه *
برهان ذلك ما رويناه من طريق أبى داود نا أحمد بن عمرو بن السرح نا ابن وهب
أخبرني جرير بن حازم عن سليمان الأعمش عن أبي ظبيان وهو حصين بن جندب الجنبي (2)
عن ابن عباس أن علي بن أبي طالب قال لعمر بن الخطاب: أو ما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون المغلوب على عقله [حتى يفيق] (3). وعن النائم
حتى يستيقظ. وعن الصبي حتى يحتلم)؟ * ومن طريق أبى داود نا موسى بن إسماعيل نا
وهيب - هو ابن خالد - عن خالد الحذاء عن أبي الضحى عن علي بن أبي طالب عن النبي
صلى الله عليه وسلم نحوه، أبو ظبيان ثقة لقى علي بن أبي طالب وسمع منه. ومن ابن عباس *
ومن طريق أبى داود أيضا نا عثمان بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة عن
حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي عن الأسود عن عائشة أم المؤمنين: (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى يستيقظ. وعن المبتلى حتى يبرأ. وعن
الصبي حتى يكبر) *
قال على: معنى ثلاث ثلاث نفوس (4) وقال تعالى: (لن تنالوا البر حتى تنفقوا
مما تحبون) وقال تعالى: (والمصدقين والمصدقات) وقال تعالى: (جاهدوا بأموالكم
وأنفسكم في سبيل الله) وقال تعالى: (ما سلككم في سقر قالوا: لم نك من المصلين ولم نك
نطعم المسكين) وحض على العتق، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)
وقال تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) وقال تعالى:
(وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) فصح أن كل أحد مندوب إلى فعل الخير. والصدقة.
والعتق. والنفقة في وجوه البر ليقي نفسه بذلك نار جهنم، ولا خلاف في أن كل من



(1) في النسخة رقم 16 (في كل ذلك)
(2) نسبة إلى جنب قبيلة في اليمن
(3) الزيادة من سنن أبي داود، والحديث فيه مطول
(4) في النسخة رقم 16 (ثلاث أنفس)
279
ذكرنا من عبد. وذات أب. وبكز. وذات زوج مأمورون منهيون متوعدون
بالنار. مندوبون موعودون بالجنة فقراء إلى إنقاذ أنفسهم منها كفقر غيرهم سواء سواء
ولا مزية فلا يخرج من هذا الحكم الا من أخرجه النص ولم يخرج النص الا المجنون
ما دام في حال جنونه. والذي لم يبلغ إلى أن يبلغ فقط، فكان المفرق بين من ذكرنا
فيطلق بعضا على الصدقة. والهبة. والنكاح ويمنع بعضا بغير نص مبطل محرم ما ندب
الله تعالى الله مانع من فعل الخير *
قال على: وروينا عن محمد بن جعفر غندر نا شعبة عن المغيرة عن إبراهيم النخعي
قال: لا يحجر على حر * وحدثني أحمد بن عمر العذري نا أبو ذر الهروي نا عبد الله بن أحمد
ابن حمويه السرخسي نا إبراهيم بن خزيم نا عبد بن حميد نا أبو عاصم الضحاك بن مخلد عن عبد
الله بن عون عن محمد بن سيرين أنه كان لا يرى الحجر على الحر شيئا، وهو قول جماعة من
الصحابة رضي الله عنهم. وقول مجاهد. وعبيد الله بن الحسن. وغيره، وقال أبو حنيفة:
لا يحجر على حر لا لتبذير ولا لدين ولا لتفليس ولا لغيره، ولا يرى حجر القاضي عليه لازما
ويرى تصرفه في ماله واقراره بعد حجر القاضي عليه لازما [ويرى تصرفه في ماله واقراره
بعد حجر القاضي] (1) وقبله سواء كل ذلك نافذ الا أنه زاد فقال: من بلغ ولم يؤنس
منه رشد (2) حيل بينه وبين ماله الا أنه ان باع شيئا كثر أو قل نفذ بيعه وإن أقر فيه كثر
أو قل نفذ اقراره حتى إذا تمت له خمس وعشرون سنة دفع إليه ماله وان لم يؤنس منه رشد *
وهذه الزيادة في غاية الفساد، أول ذلك أنه لا نعلم أحدا قال بها قبله، وأيضا فإنه قول متناقض
لأنه إذا جاز بيعه واقراره فأي معنى للمنع له من ماله هذا تخليط لا نظير له، ثم تحديده
بخمس وعشرين سنة من احدى عجائب الدنيا: وما ندري بأي وجه يستحل في الدين منع
مال واطلاقه بمثل هذه الآراء بغير اذن من الله تعالى؟ وأعجب شئ احتجاج بعض من
خذله الله تعالى بتقليده إياه فقال: يولد للمرء من اثنى عشر عاما ونصف فيصير أبا ثم
يولد لابنه كذلك فيصير جدا وليس بعد الجد منزلة *
قال أبو محمد: وهذا كلام أحمق بارد ويقال له: هبك أنه كما تقول فكان ماذا؟ ومتى
فرق الله (3) تعالى بين من يكون جدا وبين من يكون أبا في أحكام مالهما، وفى أي عقل
وجدتم هذا؟ وأيضا فقد يولد له من اثنى عشر عاما ولابنه كذلك فهذه أربعة وعشرون
عاما، وأيضا فبعد الجد أبو جد فبلغوه هكذا إلى سبع وثلاثين سنة أو إلى أربعين سنة



(1) الزيادة من النسخة الحلبية
(2) في النسخة رقم 14 (الرشد)
(3) في النسخة رقم 14 (وما فرق)
280
لقول الله تعالى: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة) فظهر فساد هذه الزيادة جملة
وبالله تعالى التوفيق *
وذهب آخرون إلى الحجر (1) فقال مالك: من كان يخدع في البيوع ولا يحسن ضبط
ماله حجر عليه فلم ينفذ له عتق. ولا صدقة. ولا بيع. ولا هبة. ولا نكاح ولا يكون
وليالا بنته في النكاح (2) وكل ما أخذه قرضا لم يلزمه أداؤه ولا قضى عليه به وان رشد
بعد ذلك وقال: ما فعل قبل أن يحجر القاضي عليه ففعله نافذ غير مردود إلى أن يحجر
القاضي عليه وأجاز لوليه أن يدفع نفقة شهر ونحو ذلك، قال: فان ظهر منه الرشد لم
يكن بذلك نافذ الامر حتى يفك القاضي عنه الحجر وأجاز لمن لم يحجر عليه اعطاء كل ما يملك
في ضربة وفى مرات وأنفذه عليه، وهذا خطأ ظاهر وتناقض شديد في وجوه جمة * أحدها
وأعظمها ابطاله أعماله البر التي ندب الله تعالى إليها وجعلها منقذات من النيران كالعتق.
والصدقة، وابطاله البيع الذي أباحه الله تعالى وهذا صد عن سبيل الله تعالى وتعاون على
الاثم والعدوان لا على البر والتقوى بغير برهان لا من قرآن. ولا سنة * وثانيها ابطاله
الولاية لمن جعلها الله تعالى وليا لها في الانكاح فإن كان عندهم في حكم الصغير. والمجنون
اللذين هما غير مخاطبين ولا مكلفين انقاذ أنفسهما من النار ولا ولاية لهما فليسقطوا عنه
الصلاة والصوم وإن كان عندهم مكلفا مخاطبا مأمورا منهيا مندوبا موعودا متوعدا فما
بالهم (3) يحولون بينه وبين ما ندبه الله تعالى إليه وجعله في يديه من الولاية بقوله تعالى:
(وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) وما الذي أسقط عنه هذا
الخطاب وأوقع عليه الخطاب بالصلاة. والصوم. والتحريم والتحليل. وإقامة الحدود؟
وما ندري ما هذا؟ فان قالوا: لو علمنا أنه يقصد بذلك الله تعالى لم نمنعه قلنا لهم: ما علمكم
بهذا منه ولا جهلكم به منه الا كعلمكم به وجهلكم من غيره ممن تطلقونه على كل ذلك
وتنفذونه منه ولعله أبعد من تقوى الله تعالى. وأقل اهتبالا بالذين. وأطغى من هذا الذي
حلتم بينه وبين ما يقربه من ربه تعالى بالظنون الكاذبة * وثالثها ابطالهم أموال الناس التي
يأخذها بالبيع أو القرض اللذين أباحهما الله عز وجل، وهذه عظيمة من العظائم ما ندري
أين وجدوا هذا الحكم؟ ونعوذ بالله منه، وهذا ايكال للمال بالباطل وقد حرم الله
تعالى هذا أيضا (4)، وإذا أسقطوا عنه حقوق الناس اللازمة له من أثمان البيع ورد القرض



(1) أي إلى القول بمشروعية الحجر
(2) في النسخة رقم 16 وكذلك بهامش نسخة رقم 14 (في الانكاح)
(3) في النسخة رقم 14 (فمالهم)
(4) في النسخة رقم 16 (هذا نصا) *
281
بنص القرآن فليسقطوا عن قصاص الجنايات في أموال الناس ودمائهم والا فقد
تناقضوا أقبح تناقض وهذا هو التعاون على الاثم والعدوان جهارا * ورابعها وهو أفحشها
في التناقض انفاذه ما فعل من التبذير المفسد حقا وبيوع الغبن (1) قبل أن يحجر عليه
القاضي ورده ما فعل من الصدقة والعتق بعد حجر القاضي عليه فكان حكم القاضي
أنفذ من حكم الله تعالى ولا كرامة لوجه القاضي كائنا من كان فما جعل الله تعالى قط حكم
القاضي محللا ولا محرما إنما القاضي منفذ بسلطانه على من امتنع فقط لا خصلة له غيرها
ولا معنى سوى هذا والا فليأتونا بآية. أو سنة بخلاف هذا ويأبى الله من ذلك، وهذا
كله لا ندري من أين أخذوه؟ * وخامسها إبطاله جميع أفعاله وإن كانت رشد اما لم يفك
القاضي عنه الحجر وهذه كالتي قبلها * وسادسها اجازته أن يعطيه الولي نفقة شهر يطلق
يده عليها فليث شعري من أين خرج هذا التقسيم العجيب؟ وما الفرق بين اطلاق يده
على نفقة شهر وبين اطلاقها على نفقة سنة أو نفقة سنتين؟ فان قالوا: نفقة شهر قليلة قلنا:
قد يكون مال تكون نفقة شهر فيه كثيرا ويكون مال نفقة عشرة أعوام فيه قليلا،
ولا يخلو دفع ماله إليه من أن يكون واجبا. أو حراما فإن كان واجبا فدفعه كله إليه
واجب. وإن كان حراما فقليل الحرام حرام، وهذا بعينه أنكروا على أصحاب أبي حنيفة
في اباحتهم قليل المسكر وتحريمهم كثيره * وسابعها انفاذهم أفعال الفساق الظلمة المتعدين
على المسلمين بكل بائقة المبتاعين للخمور المنهمكين في أجر الفسق إذا كانوا جماعين
للمال من أي وجه أمكن بالظلم وغيره فيجيزون بيعهم وشراءهم وهباتهم وإن كانت في
الأغلب والأظهر لغير الله تعالى، وان أتى ذلك على كل ما يملكونه وبقوا بعده فقراء
متكففين فانفذوا منه التبذير الذي حرم الله تعالى والبسط الذي يقعد عليه بعده ملوما
محسورا وردهم العتق والصدقة بدرهم وإن كان ذا مال عظيم ممن يخدع في البيوع
ويصفونه بأنه لا يحسن ضبط ماله فأي تناقض أفحش ممن يجعل أصله بزعمه ضبط المال
وحفظه؟ ثم يجيزون من واحد اعطاء ماله كله حتى يبقى هو وعياله جاعة وينفذونه عليه
ويمنعون آخر من عتق عبد وصدقة بدرهم وابتياع فاكهة يأكلها ووراءه من المال ما يقوم
بأمثاله وأمثال عياله، ثم يجعلون أصله بزعمهم دفع الخديعة له عن ماله وهم يجيزون الخديعة
المكشوفة في المال العظيم لغيره، فما هذا البلاء وما هذا التخاذل وكم هذا التناقض؟
والحكم في الدين بمثل هذه الأقوال بلا قرآن. ولا سنة. ولا قول صاحب. ولا
قياس. ولا رأى له وجه يعقل ونعوذ بالله من البلاء *
وقال الشافعي بمثل هذا كله الا



(1) في النسخة رقم 14 (وبيوع العين) وهو تصحيف
282
أنه قال: إن كان مفسدا فجميع أفعاله مردودة حجر عليه القاضي أو لم يحجر وإذا
رشد فجميع أفعاله نافذة حل عنه القاضي الحجر أو لم يحل، وكل ما أدخلنا على مالك
يدخل عليه حاشا ما يدخل في هذين الوجهين فقط *
قال أبو محمد: والحق الواضح هو ما قلناه وهو أن كل بالغ مخاطب مكلف أحكام
الشريعة فحكمهم كلهم سواء في أنهم مندوبون إلى الصدقة والعتق مباح لهم البيع والنكاح
والشراء، محرم عليهم اتلاف المال بالباطل وإضاعته والخديعة عنه والصدقة بما لا يبقى
لهم غنى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصدقة عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول) وكما قال عليه
السلام: (الدين النصيحة قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين
وعامتهم) وكما قال عليه السلام: (ليس منا من غشنا) وكما قال الله تعالى:
(يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم) وكما قال تعالى: (ولا تبذر تبذيرا)
وكما قال تعالى: (ولا تجعل يدك مفلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما
محسورا) وكل من تصدق وأعتق وفعل الخير عن ظهر غنى نفذ ولم يحل رده، وكل
من أعتق وتصدق عن غير ظهر غنى رد وبطل لأنه لا طاعة الا ما أمر الله تعالى به ولا
معصية الا ما نهى الله عنه فالصدقة بما لا يبقى غنى معصية والصدقة بما يبقى غنى طاعة،
وكل من باع أو اشترى فخدع أو خدع فمردود لان الله تعالى حرم الخديعة والغش،
وكل من باع أو اشترى فلم يغبن ولا غش (1) فنافذ لان الله تعالى أباح البيع، وكل
من أنفق في معصية فلسا فما فوقه فمردود، وكل من أنفق كما أمر قل أو كثر فنافذ لازم،
وما أباح الله تعالى قط ابطال حق ولا المنع من إطاعة من أجل معصية عصاها ذلك
الممنوع أو خيف أو يعصيها ولم يعص بعد كما لم يبح أو تنفذ معصية وأن يمضى باطل (2)
من أجل باطل عمل به ذلك المخل ومعصيته بل الباطل مبطل قل وجوده من المرء أو
كثر والحق نافذ قل وجوده من المرء أو كثر، هذا هو الذي جاء به القرآن والسنن
وشهدت له العقول وما عدا هذا فباطل (3) لا خفاء به. و تناقض لا يحل. وقول
مخالف للقرآن. والسنن. والعقول * وقال محمد بن الحسن: ان أعتق المحجور نفذ
عتقه وعلى العبد ان يسعى له في قيمته فكانت هذه طريفة جدا ولا ندري من أين استحل
الزام العبد السعي ههنا في هذه الغرامة؟ * وقال أبو سليمان. وأصحابنا: من بلغ مبذرا
فهو على الحجر كما كان لأنه محجور عليه بيقين فلا يفك عنه الا بيقين آخر قالوا:



(1) في النسخة رقم 16 (فلم يغش ولا غبن) وفى النسخة رقم 14 (فلم يغبن ولا غبن) وما هنا أظهر
(2) في النسخة رقم 14 (يمضى باطلا)
(3) في النسخة رقم 16 (فضلال)
283
فان رشد ثم ظهر تبذيره لم يحجر عليه لكن ينفذ من أفعاله ما وافق الحق ويرد ما خالف
الحق كغيره سواء *
قال على: أما قولهم: قدر لزمه الحجر بيقين فلا ينحل عنه إلا بيقين آخر فقول صحيح
واليقين قد ورد وهو أمر الله تعالى له بالصدقة وأن يتقى النار بالعتق وباطلاقه على البيع
إذا بلغ وعلى النكاح إذا كان مخاطبا بسائر الشرائع ولا فرق *
قال أبو محمد واحتج المخالفون بأشياء يجب إيرادها وبيان فاسد احتجاجهم بها
ووضعهم النصوص في غير مواضعها. وبيان ذلك بحول الله تعالى وقوته *
قال أبو محمد: قالوا: قال الله عز وجل: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح
فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) قالوا: فإنما أمر الله تعالى بان ندفع إليهم
أموالهم مع إيناس الرشد منهم لا في غير هذه الحال، وقال تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء
أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) فنهى
عز وجل عن إيتاء السفهاء المال ولم يجعل لهم إلا أن يرزقوا منها في الاكل ويكسوا ويقال
لهم قول معروف) وقال عز وجل: (فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا
يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) فأوجب الولاية على السفيه. والضعيف، وقال
تعالى: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما) وقال تعالى:
(ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا اخوان الشياطين) وقال تعالى: (ولا تسرفوا إنه
لا يجب المسرفين) فحرم الله تعالى السرف. والتقتير. والتبذير، وقال تعالى: (ولا تجعل
يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا) هذا كل ما ذكروا
من القرآن وكله حجة لنا عليهم ومخالف لأقوالهم على ما نبين إن شاء الله تعالى ما نعلم لهم
من القرآن حجة غير هذا أصلا * وذكروا من السنة الخبر الصحيح عن المغيرة بن شعبة
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة المال) وذكروا خبرا رويناه من طريق أبى عبيد
نا عمرو بن هارون عن يحيى بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن أبيه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل كان عنده يتيم فحال بينه وبين أن يتزوج فزنى فالاثم بينهما) ما نعلم
لهم خبرا غير هذين وكلاهما حجة لنا عليهم ومخالف لأقوالهم على ما نبين [بعد هذا] (1)
إن شاء الله تعالى، وذكروا عن الصحابة رضي الله عنهم ما روينا عن هشام بن عروة عن
أبيه أن علي بن أبي طالب أتى عثمان بن عفان فقال له: ان ابن جعفر اشترى بيعا كذا وكذا
فاحجر عليه فقال الزبير: أنا شريكه في البيع فقال عثمان: كيف أحجر على رجل في بيع



(1) الزيادة من النسخة رقم 14
284
شريكه فيه الزبير؟ * ومن طريق أبى عبيد حدثني عفان بن مسلم عن حماد بن زيد عن هشام
ابن حسان عن ابن سيرين قال قال عثمان لعلى: ألا تأخذ على يدي ابن أخيك - يعنى عبد الله
ابن جعفر - وتحجر عليه؟ اشترى سبخة بستين ألفا ما يسرني أنها لي بنعلى (1) * وما رويناه
من طريق أبى عبيد نا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن الزهري عن الطفيل بن الحارث قال:
بلغ ابن الزبير أن عائشة أم المؤمنين أرادت بيع رباعها فقال: لتنتهين أو لأحجرن عليها *
ومن طريق أبى عبيد نا سعيد بن الحكم بن أبي مريم عن عبد الله بن لهيعة عن أبي الأسود
محمد بن عبد الرحمن بن نوفل عن عروة بن الزبير قال: كان عبد الله بن الزبير إذا نشأ منا ناشئ
حجر عليه * ومن طريق الحجاج بن أرطاة عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن ابن عباس
أنه سئل عن الشيخ الكبير ينكر عقله أيحجر عليه؟ قال نعم * ومن طريق يزيد بن هرمز (2)
عن ابن عباس أنه كتب إلى نجدة بن عويمر وكتبت تسألني عن اليتيم متى ينقضي يتمه
فلعمري أن الرجل لتنبت لحيته وانه لضعيف الاخذ لنفسه ضعيف العطاء منها وإذا أخذ
لنفسه من مصالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم وأنه لا ينقطع عن اليتيم اليتيم حتى يبلغ
ويؤنس منه رشد، وإذا بلغ النكاح وأونس منه رشد دفع إليه ماله فقد انقضى عنه يتمه * قال أبو محمد: جمعنا هذه الألفاظ كلها لأنها كلها مما رويناه من طرق كلها راجع إلى يزيد
ابن هرمز عن ابن عباس فاقتصر نا على ذكر من روى جميعها عنه فقط وكلها صحيح السند *
ومن طريق فيها شريك عن سماك (3) عن عكرمة عن ابن عباس (فان آنستم منهم
رشدا) قال: اليتيم يدفع إليه ماله بحلم وعقل ووقار ما نعلم عن الصحابة رضي الله عنهم
شيئا غير هذا، وكله مخالف لقولهم وحجة عليهم وأكثره موافق لقولنا * وعن التابعين
عن الحسن البصري (فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) قال: صلاح
في دينه وحفظ لماله * وعن الشعبي إن كان الرجل ليشمط (4) وما أونس منه رشد *
وروينا مثل قولهم عن شريح. والقاسم بن محمد. وربيعة. وعطاء * وروينا
عن الضحاك أنه لا يدفع إليه ماله حتى يؤنس منه صلاح إلا أنه لم يأت عن شريح ولا عن
القاسم منعه من عتق. وصدقة. وبيع. لا يضر ماله إنما جاء ذلك عن ربيعة. وعطاء فقط *
قال على: ما نعلم لهم عن التابعين غير هذا وبعضه موافق لقولنا *
قال أبو محمد: أما قول الله تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم



(1) عزى هذا الحديث الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير إلى أبى عبيد في كتاب
الأموال ونسخ هذا الكتاب نادرة جدا
(2) في النسخة رقم 16 (يزيد بن هارون) وهو غلط
(3) في النسخة رقم 16 (عن سالم) وهو خطأ
(4) الشمط الشيب
285
منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم) فينبغي أن يعرف ما الرشد الذي أمر الله تعالى من أو نس
منه بدفع ماله إليه فنظرنا في القرآن الذي هو المبين لنا ما ألزمنا الله تعالى إياه فوجدناه كله
ليس الرشد فيه الا الدين. وخلاف الغى فقط لا المعرفة بكسب المال أصلا قال تعالى:
(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغى فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك
بالعروة الوثقى) وقال تعالى: (أولئك هم الراشدون) وقال تعالى: (وما أمر فرعون
برشيد) فصح أن من بلغ مميزا للايمان من الكفر فقد أونس منه الرشد الذي لا رشد
سواه أصلا فوجب دفع ماله إليه وما يشك مؤمن ولا كافر أن فرعون وأصحابه كانوا
أشد عناية بالمال وأضبط له وأكثر وأعرف بوجوه جمعه من موسى عليه السلام وأن
فرعون لم يكن قط مغبونا في ماله ولقد أتى موسى عليه السلام. والخضر عليه السلام إلى
أهل قرية فاستطعماهم فأبوا أن يضيفوهما فباتا ليلتهما بغير قرى وما بلغ فرعون في
ملكه قط هذا المبلغ، وكذلك لا شك في أن المقنطر من قريش كأبي لهب. والوليد
ابن المغيرة. وابن جدعان كانوا أبصر وأسرع إلى كسب المال من أي وجه أمكن من
مساعاة الإماء. والربا وغير ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم * روينا من طريق مسلم نا أبو بكر
ابن أبي شيبة. وعمرو الناقد قالا جميعا: حدثنا أسود بن عامر (1) نا حماد بن سلمة عن
هشام بن عروة. وثابت البناني قال هشام: عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين وقال ثابت:
عن أنس ثم اتفق أنس. وأم المؤمنين فذكرا حديث تلقيح النخل وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم) (2) فصح ان الرشد ليس هو كسب المال ولا منعه من
الحقوق ووجوه البر بل هذا هو السفه وإنما الرشد طاعة الله تعالى وكسب المال من
الوجوه التي لا تثلم الدين ولا تخلق العرض وانفاقه في الواجبات وفيما يتقرب به إلى
الله تعالى للنجاة من النار. وابقاء ما يقوم بالنفس والعيال على التوسط والقناعة فهذا
هو الرشد، وقال تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق
وان يروا كل آية لا يؤمنوا بها وان يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وان يروا سبيل
الغى يتخذوه سبيلا) وهكذا كل مكان في القرآن ذكر فيه الرشد، وكذلك لم نجد في شئ
من لغة العرب أن الرشد هو الكيس في جمع (3) المال وضبطه فبطل تأويلهم في الرشد
بالآية. وفى دفع المال بايناسه، وصح أنها موافقة لقولنا وان مراد الله تعالى يقينا بها
إنما هو أن من بلغ عاقلا مميزا مسلما وجب دفع ماله إليه وجاز فيه من جميع أفعاله ما يجوز



(1) في النسخة رقم 16 (سويد بن عامر) وهو غلط
(2) هو في صحيح مسلم ج 2 ص 223
(3) في النسخة رقم 14 (في كسب)
286
من فعل سائر الناس كلهم ويرد من أفعاله ما يرد من أفعال سائر الناس كلهم ولا فرق،
وان من بلغ غير عاقل ولا مميز للدين لم يدفع إليه ماله ولو كان الذي قالوا في الرشد وفى
السفه قولا صحيحا - ومعاذ الله من ذلك - لكان طوائف من اليهود. والنصارى. وعباد
الأوثان ذوي رشد ولكان طوائف من المسلمين سفهاء وحاش لله من هذا، وأما قوله
تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) الآية. وقوله تعالى: (فإن كان الذي عليه الحق
سفيها أو ضعيفا) فان السفه في لغة العرب التي نزل بها القرآن وبها خوطبنا لا يقع الا على
ثلاثة معان لا رابع لها أصلا، أحدها البذاء والسب باللسان وهم لا يختلفون ان من
هذه صفته لا يحجر عليه في ماله فسقط الكلام في هذا الوجه، والوجه الثاني الكفر
قال الله عز وجل: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم
هم السفهاء) وقال تعالى حاكيا عن موسى عليه السلام: أنه قال لله تعالى: (أتهلكنا بما
فعل السفهاء منا) يعنى كفرة بني إسرائيل، وقال تعالى: (سيقول السفهاء من الناس
ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) وقال تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم الا من
سفه نفسه) وقال تعالى حاكيا عن مؤمني الجن الذين صدقهم ورضى عنهم قولهم:
(وانه كأن يقول سفيهنا على الله شططا) فهذا معنى ثان ولا خلاف منهم ولا منافي ان
الكفار لا يمنعون أموالهم وان معاملتهم في البيع والشراء وهباتهم جائز كل ذلك، وان
قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) وقوله تعالى: (فإن كان الذي عليه الحق
سفيها أو ضعيفا) لم يرد به تعالى قط الكفار ولا ذوي البذاء في ألسنتهم * والمعنى الثالث
وهو عدم العقل الرافع للمخاطبة كالمجانين والصبيان فقط، وهؤلاء باجماع منا ومنهم
هم الذين أراد الله تعالى في الآيتين وان أهل هذه الصفة لا يؤتون أموالهم لكن يكسون
فيها ويرزقون ويرفق بهم في الكلام ولا يقبل إقرارهم لكن يقر عنهم وليهم الناظر
لهم فصح هذا بيقين، فمن قال: إن من يغبن في البيع ولا يحسن حفظ ماله وإن كان
عاقلا مخاطبا بالدين مميزا له داخل في اسم السفه المذكور في الآيتين فقد قال: الباطل
وقال على الله تعالى: ما لا علم له به وقفا ما لا علم له به وما لا برهان له على صحته، وهذا كله
حرام لا يحل القول به، قال تعالى: (وان تقولوا على الله مالا تعلمون) وقال تعالى:
(قل: هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) فإذ لا برهان لهم فليسوا صادقين فيه بلا شك،
فصح أن الآيتين موافقتان لقولنا مخالفتان لقولهم، وما سمى الله تعالى قط في القرآن ولا
رسوله صلى الله عليه وسلم ولا العربي الجاهل بكسب ماله أو المغبون في البيع سفيها، والسفيه الذي
ذكر في الآية هو الذي لا عقل له لجنونه والضعيف الذي لا قوة له قال تعالى: (ثم جعل

287
من بعد قوة ضعفا) والذي لا يستطيع أن يمل هو من به آفة في لسانه تمنعه كخرس أو نحو ذلك
ولا يجوز أن يفسر كلام الله تعالى الا بكلامه أو بكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بلغة العرب التي أخبر
الله تعالى أنه أنزل بها القرآن وباليقين الذي لا شك فيه أنه مراد الله تعالى فهذه طريق النجاة
وأما بالظنون وما لا برهان عليه فمعاذ الله من هذا * روينا من طريق سعيد بن منصور
نا جرير عن منصور عن مجاهد في قوله الله تعالى: (فان آنستم منه رشدا) قال: العقل
لا يدفع إلى اليتيم ماله وان شمط حتى يؤنس منه رشد، وهذا هو الحق المتيقن *
ومن طريق سعيد بن منصور أبا يونس عن الحسن في قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء
أموالكم) قال: السفهاء الصغار والنساء هن السفهاء (1) * وبه إلى سعيد بن منصور نا
عون بن موسى سمعت معاوية بن قرة يقول: عودوا النساء لا فإنها سفيهة ان أطعتها
أهلكتك * ومن طريق إسماعيل بن إسحاق عن يحيى بن عبد الحميد الحماني نا أبى وحميد
الرؤاسي. وعبد الله بن المبارك قال الرؤاسي: عن الحسن بن صالح عن السدى رده إلى
عبد الله قال في قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) قال: النساء. والصبيان،
وقال ابن المبارك عن إسماعيل عن أبي مالك: النساء. والصبيان، قال: وقال أبى عن
سلمة بن نبيط عن الضحاك: قال: النساء والصبيان * وبه إلى إسماعيل نا نصر بن علي.
ومحمد بن عبد الله بن نمير قال نصر: نا أبو أحمد عن ابن أبي غنية (2) عن الحكم بن عتيبة،
وقال ابن نمير: نا أبى نا الأعمش عن مجاهد، ثم اتفق الحكم. ومجاهد في قول الله تعالى:
(ولا تؤتوا السفهاء أموالكم) قالا جميعا: النساء والصبيان (3) * وبه إلى إسماعيل نا
يحيى بن خلف نا أبو عاصم عن عيسى نا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى:
(ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما) قال: نهى الرجال أن يعطوا
النساء أموالهم والسفهاء من كن أزواجا. أو أمهات. أو بنات * وبه إلى إسماعيل نا يحيى بن
عبد الحميد الحماني نا شريك عن سالم عن سعيد - هو ابن جبير - (ولا تؤتوا السفهاء
أموالكم) قال: النساء *
قال أبو محمد: فاتفق الحسن. والحكم. ومعاوية بن قرة. ومجاهد. والضحاك.
وسعيد بن جبير. وأبو مالك. وعبد الله، أما ابن مسعود وهو الأظهر. وأما ابن
عباس على أن النساء سفهاء وأنهن من المراد في هذه الآية، وصرح مجاهد بأنهن الأمهات



(1) في النسخة رقم 16 (والنساء من السفهاء)
(2) هو بفتح الغين المعجمة وكسر النون وتشديد التحتانية، وفى النسخة الحلبية (ابن أبي عبيد) وهو تصحيف
(3) في النسخة رقم 14 (والولدان)
288
والزوجات. والبنات فأين المشنعون بخلاف الجمهور؟ وجميع الحاضرين من المخالفين لنا
في هذه المسألة مخالفون لهذا القول *
قال أبو محمد: أما الصبيان فنعم وأما النساء فلا لأنه لم يأت قرآن ولا سنة بأنهن سفهاء
بل قد ذكرهن الله تعالى مع الرجال في أعمال البر فقال: (والمتصدقين والمتصدقات) وفى
سائر أعمال البر فبطل تعلقهم بهذه الآية والحمد لله رب العالمين * وأما تحريمه تعالى التبذير.
والاسراف. وبسط اليد كل البسط فحق وهو قولنا وهم مخالفون لكل ذلك جهلا
فيجيزون من الذي لا يخدع في البيع اعطاء ماله كله اما صدقة واما هبة لشاعر أو في صداق
امرأة نعم حتى أنه ليكتب لها على نفسه بعد خروجه لها عن جميع ماله الدين الثقيل
وهذا هو التبذير المحرم والاسراف المحرم وبسط اليد كل البسط حتى يقعد ملوما محسورا
ونحن نمنع من هذا كله ونبطله ونرده، ثم يمنعون آخرين من الصدقة بدرهم في حياته
ومن عتق عبده وإن كان له مائة عبد، وينفذون وصيتهم وان عظمت بعد موتهم
ويحجرون الصدقة والعتق باليسير والكثير على من يخدع (1) في البيع ولا يحجرون على
من يبتاع الخمور. ويعطى أجر الفسق. وينفق على الندمان. وفى القمار وان أكثر ذلك
إذا كان بصيرا بكسب المال من ظلم وغير ظلم ضابطا له من حق وغير حق ومانعا من زكاة
وصدقة، وهذه تناقضات في غاية السماجة. وظهور الخطأ بغير وجه يعرف، فمرة يطلقون
اتلاف المال جملة في الباطل ومرة يحتاطون فيردون صدقة درهم وعتق رقبة لا ضرر
على المال فيهما (2) ومرة يجيزون الخديعة في الألوف في البيع ولا يكرهونها ويقولون:
البيع خدعة، ومرة يبطلون البيع الصحيح الذي لا خديعة فيه خوف أن يخدع مرة
أخرى، وهذا في التناقض كالذي قبله، وفى القول بما لا يعقل ولا يشهد له قرآن. ولا
سنة. ولا معقول. ولا رأى سديد، وأما نحن فنرد الخديعة والغش (3) حيث وجدا
وممن وجد اقلا أم كثرا ونجيز البيع الصحيح الذي لا خديعة فيه حيث وجد وممن وجد
ونرد كل عطية في باطل قلت أم كثرت ونمضي كل عطية في حق قلت أم كثرت، وبهذا
جاءت النصوص وله شهدت العقول والآراء الصحاح (4) التي إليها ينتمون وبها في
دين الله تعالى يقضون، والحمد لله رب العالمين *
قال أبو محمد: ونحن نفسر بعون الله تعالى التبذير. والاسراف. وبسط اليد



(1) في النسخة رقم 16 (والكثير ممن يخدع) وفى النسخة الحلبية (والكثير من
يخدع)
(2) في النسخة رقم 16 والحلبية (فيها)
(3) في النسخة رقم 16 (والغبن)
(4) في النسخة رقم 16 (والأدلة الصحاح) *
289
كل البسط التي حرم الله تعالى وزجر عنها لا كتفسيرهم الذي لا يفهمونه ولا يفهمونه
أصلا، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم *
قال على: هذه الأعمال المحرمة معناها كلها واحد ويجمعه (1) ان كل نفقة أباحها
الله تعالى وأمر بها كثرت أم قلت فليست اسرافا ولا تبذيرا ولا بسط اليد كل البسط
لأنه تعالى لا يحل ما حرمت معا فلا شك في أن الذي أباح هو غير الذي نهى عنه وهو نفس
قولنا ولله الحمد، وكل نفقة نهى الله تعالى عنها قلت أم كثرت فهي الاسراف والتبذير
وبسط اليد كل البسط لأنه لا شك في أن الذي نهى الله تعالى عنه مفسرا هو الذي نهنئ عنه
مجملا ولله الحمد كثيرا، وبهذا جاءت الآثار * روينا من طريق إسماعيل بن إسحاق
نا محمد بن كثير أنا سليمان بن كثير عن حصين عن عكرمة عن ابن عباس أنه قال في المبذر:
هو الذي ينفق في غير حق * ومن طريق يحيى بن سيعد القطان عن سفيان الثوري عن أبي
العبيدين (2) عن ابن مسعود في قول الله تعالى: (ولا تبذر تبذيرا) قال: الانفاق
في غير حقه * ومن طريق ابن وهب أخبرني خالد بن حميد عن عقيل بن خالد عن الزهري
انه كأن يقول في قول الله تعالى: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط)
قال: لا تمنعه من حق ولا تنفقه في باطل، قال الزهري: وكذلك قوله تعالى: (والذين
إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) *
قال أبو محمد: فصح أن هذه الآيات هي نص قولنا (3) وانهم مخالفون لها
أوضح خلاف * قال على: كل شراء لمأكول. أو ملبوس. أو مركوب، وكل عتق
وصدقة وهبة أبقى غنى فهو حلال. والحلال هو غير التبذير والاسراف وبسط اليد
كل البسط، والحلال لا يجوز رده وكل ما لم يبق غنى من كل ذلك مما ليس بالمرء عنه
غنى فهو الاسراف والتبذير وبسط اليد كل البسط فهو كله باطل ممن فعله مردود،
وهكذا كله نفقة في محرم كالخمر. وأجرة الفسق. والقمار وغير ذلك قل أو كثر وبالله
تعالى التوفيق، فبطل عنهم (4) كل ما تعلقوا به من القرآن، وأما نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال فحق وهو قولنا، واضاعته هو صبه في الطريق أو انفاقه في
محرم كما قلنا في التبذير والاسراف وبسط اليد *
برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه آنفا في المزارعة: (من كانت له



(1) في النسخة رقم 16 (يجمعه) بدون واو
(2) هو بلفظ التثنية واسمه معاوية ابن سبرة السوائي
(3) في النسخة رقم 14 (هي نص ما نقول)
(4) سقط لفظ (عنهم) من النسخة رقم 14
290
أرض فليزرعها أو فليزرعها أخاه فان أبى فليمسك أرضه) فلم يجعل عليه السلام ترك
الأرض لا تعمر إضاعة للمال إذا لم يحتج صاحبها إلى ذلك، وما نعلم خلافا في أن ترك التزيد
من كسب المال لمن معه الكفاف له ولعياله مباح وان اقباله حينئذ على العمل للآخرة
أفضل من إكبابه على طلب التزيد من المال، فظهر فساد قولهم من كل وجه، وأعجب
شئ قولهم: ان من لم يثمر ماله فهو سفيه، ثم أباحوا لمن تعدى فأكل أموال الناس
ظلما أو غصبا وبالبيع وبأي وجه أمكنه فلما طلب بالحقوق وأخذ ما وجد له أو لم يوجد
له شئ (1) ان يقعد مكانه فلا يتكسب شيئا ينصف منه أهل الحقوق قبله وهذه ضد
الحقائق، مرة يمنعونه من الصدقة. والعتق. والبيع لأنه لا يحسن تثمير ماله، ومرة
يطلقون له أن لا يثمر ماله وان أضر ذلك بأهل الحقوق قبله، فوا خلافاه *
روينا من طريق محمد بن المثنى نا يعلي بن عبيد الطنافسي نا محمد بن سوقه نا ابن سعيد
ابن جبير قال. سئل أبى عن إضاعة المال؟ فقال: أن يرزقك الله تعالى مالا فتنفقه فيما
حرم عليك *
قال أبو محمد: أولاد سعيد بن جبير هم ثلاثة عبد الله وعبد الملك. وإسحاق
كلهم ثقات مشاهير فأيهم كان فهو ثقة، وقد روينا عن مالك ان الاسراف هو النفقة في
المعاصي فظهر أن هذا الخبر هو قولنا وانه مخالف لقولهم، وأما الخبر الآخر: (أيما
رجل كان عند يتيم فحال بينه وبين أن يتزوج فزنى فالاثم بينهما) فلو صح لكان
أعظم حجة عليهم وأضد خلافا لقولهم لأنه ليس فيه الا نهى الولي عن أن يحول بين اليتيم
وبين التزويج بأشد الوعيد وهذا هو قولهم لأنهم يأمرون ولى اليتيم بأن يحول بينه
وبين التزويج ويردون زواجه إن تزوج بعير اذن وليه حتى يكون وليه هو الذي
يزوجه ممن أراد الولي لا ممن أراد المولى عليه، فأي عجب أعجب من احتجاج قوم (2)
بما هو أعظم حجة عليهم فبطل أن يكون لهم متعلق بشئ من القرآن. أو بشئ من
السنن. أو برواية أصلا، ولاح أن القرآن. والسنن مخالفان لأقوالهم ههنا، وأما
الروايات عن الصحابة رضي الله عنهم فكلها لا حجة لهم فيها بل هي عليهم، أما الرواية
عن عثمان من قوله لعلى: الا تحجر على ابن أخيك وتأخذ على يده اشترى سبخة بستين
ألفا ما أحب أنها لي بنعلي؟ فلا شك في أن ابن جعفر لم يحجر عليه قط فإن كان الحجر
واجبا فلم تركه عثمان ولم يحجر عليه حتى يخرج ذلك مخرج (3) الرأي يراه؟ فصح



(1) في النسخة رقم 16 (أخذ ما وجد له أو لم يؤخذ له شئ)
(2) في النسخة رقم 14 (من قوم يحتجون) الخ
(3) في النسخة رقم 16 (حتى أخرجه مخرج)
291
أنه لم ير الحجر واجبا (1) ولو رآه على. أو عثمان واجبا لما حل لهما أن لا يمضياه، وهذا
خبر ناقص رويناه بتمامه من طريق حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد
ابن سيرين أن عثمان قال لعلي: خذ على يد ابن أخيك اشترى سبخة آل فلان بستين
ألفا ما أحب أنها لي بنعلي فأقل قال: فجزأها عبد الله بن جعفر ثمانية أجزاء وألقى فيها
العمال فأقبلت الأرض فمر بها عثمان فقال: لمن هذه؟ قالوا: لعبد الله بن جعفر فقال: يا ابن
أخي ولني جزءين منها فقال عبد الله بن جعفر: لا والله حتى تأتيني بالذين سفهتني عندهم
فيطلبون إلى ففعل فقال: والله لا أنقصك جز أين منها من مائة وعشرين ألفا قال عثمان:
قد أخذتهما فصح أن ذلك القول كان من عثمان رأى قد رجع عنه لأنه لم يحجر عليه أصلا
ما بين انكاره للشراء إلى أن أقبلت الأرض * وأما الرواية الأخرى عن علي أنه ذكر لعثمان
أنه يحجر على عبد الله بن جعفر في بيع ابتاعه فقال له الزبير: أنا شريكه فيه فرواية ننكرها
جدا، ولا يخلوا ذلك البيع من أن يكون يوجب الحجر على صاحبه أو لا يوجبه فإن كان
يوجب الحجر فالحجر واجب على الزبير كما هو على عبد الله وإن كان لا يوجب الحجر
على الزبير فما يوجبه على عبد الله ولا على غيره، وقد أعاذ الله عثمان رضي الله عنه من أن
يكون يترك حقا واجبا من أجل ان الزبير في الطريق وقد أعاذ الله الزبير رضي الله عنه
من أن يحول بين الحق وبين انفاذه وقد أعاذه الله عليا رضي الله عنه في أن يتكلم فيما لم يتبين له *
فان قيل: إنما ترك عثمان الحجر على عبد الله من أجل الزبير لأنه علم أن الزبير لا يخدع في
البيع فعلم بدخول الزبير فيه انه بيع لا يحجر في مثله قلنا: فقد مشى على في خطأ إذا أراد الحجر
في بيع لا يجوز الحجر فيه وصح بهذا كله أنه رأى ممن رآه منهم وقد خالفهم عبد الله بن جعفر
فلم ير الحجر على نفسه في ذلك وهو صاحب من الصحابة فبطل تعلقهم بهذين الخبرين *
وأما الرواية عن ابن الزبير فطامة الأبد لا ندري (2) كيف استحل مسلم أن يحتج بخطيئة.
ووهلة. وزلة كانت من ابن الزبير والله تعالى يغفر له إذ أراد مثله في كونه من أصاغر
الصحابة أن يحجر على مثل أم المؤمنين التي أثنى الله تعالى عليها أعظم الثناء في نص القرآن
وهو لا يكاد يتجزى منها في الفضل عند الله تعالى، وهذا خبر رويناه من طريق عبد الرزاق
عن معمر عن الزهري عن عوف بن الحارث ابن أخي عائشة أم المؤمنين لامها أن عائشة
أم المؤمنين حدثت: (أن عبد الله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته: والله لتنتهين عائشة
أو لأحجرن عليها فقالت عائشة: أو قال هذا؟ قالوا: نعم فقالت عائشة: هو لله على
نذر ان لا أكلم ابن الزبير كلمة أبدا ثم ذكر الحديث بطوله وتشفعه إليها وبكاه لعبد الرحمن



(1) في النسخة رقم 14 (لم يره واجبا)
(2) في النسخة رقم 14 (ما ندري))
292
ابن الأسود بن عبد يغوث. والمسور بن مخرمة الزهريين حتى كلمته (1) وأعتقت في نذرها
ان لا تكلمه أربعين رقبة *
قال أبو محمد: قد بلغت به عائشة رضي الله عنها الانكار حيث بلغته (2) فلا يخلو
الامر من أن يكون ابن الزبير أخطأ وأصابت هي وهو كذلك بلا شك فلا يحتج بقول
أخطأ فيه صاحبه، أو يكون ابن الزبير أصاب وأخطأت هي، ومعاذ الله من هذا ومن
أن تكون أم المؤمنين توصف بسفه وتستحق أن يحجر عليها نعوذ بالله من هذا القول،
فصح أن ابن الزبير أخطأ في قوله وعلى كل حال فقد اختلفت الصحابة في ذلك وادا اختلفوا
فالواجب الرجوع إلى القرآن. والسنة كما أمر الله تعالى، وفى القرآن. والسنة إباحة
البيع الذي لا خديعة فيه ولا غش والحض على الصدقة. والعتق فيما أبقى غنى والمنع مما
عدا ذلك، فواجب امضاء ذلك كله من كل من فعله لان الكل مندوب إلى ذلك ومباح
له ذلك وواجب رد كل بيع فيه خديعة وغش وكل صدقة وعطية لم يبق بعدهما غنى من
كل من فعله لان الكل منهى عن ذلك وبالله تعالى التوفيق *
وأما الروايات عن ابن عباس فلا حجة لهم في شئ منها لأنه ليس فيها إلا أنه قد تنبت
اللحية لمن هو ضعيف الاخذ والاعطاء وانه إذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس (3)
فقد انقضى يتمه وهكذا نقول إذا عقل الرشد من الفتى (4) فقد أخذ لنفسه باصلح ما يأخذ
الناس فإنما هم - كما أوردنا - سبعة. عثمان وعلى. والزبير. وابن الزبير. وأم المؤمنين.
وعبد الله بن جعفر. وابن عباس، وقد روينا أيضا في ذلك كلاما موافقا لقولنا نذكره
في آخر الباب إن شاء الله عز وجل، ثلاثة منهم روى عنهم الإشارة بالحجر ولا مزيد ولا
بيان عنهم ولا عن أحد منهم ما صفة ذلك الحجر، فإن كان هو رد البيع الذي فيه الغبن
فهكذا نقول وهذا هو قولنا لا قول المخالفين، وهم عثمان. وعلى. وابن الزبير، وعلى كل
حال فليس فيه رد صدقة ولا عتق ولا نكاح ولا بيع لا غبن فيه، وثلاثة منهم جاء عنهم
انكار الحجر والقول به، وهم عائشة. وابن جعفر. والزبير، وأما ابن عباس فليس عنه
شئ يوافق المخالفين لنا بل إنما قال في الشيخ الذي ينكر عقله أنه يحجر عليه وهذا قولنا
نفسه فيمن تغير عقله فهم مختلفون كما أوردنا ولو اتفقوا فما في أحد حجة دون رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وكم قصة خالفوا فيها أكثر من هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم لا مخالف
لهم منهم؟ وأقرب ذلك هذه المسألة نفسها فإنه لم يأت عن أحد من الصحابة قطعا



(1) في النسخة رقم 16 (حين كلمته) وهو تصحيف
(2) في النسخة رقم 16 (حيث بلغت)
(3) في النسخة رقم 16 (ما يأخذه الناس)
(4) في النسخة رقم 14 (من الغى)
293
ما ذكروه من ابطال العتق ورد الصدقة في المحجور فبطل أن يكون لهم موافق من الصحابة
في هذه المسألة، وقد خالفوا أكثر من هذا العدد في المسح على الجوربين ونحو ذلك *
وأما التابعون فقد اختلفوا كما ذكرنا فما الذي جعل قول عطاء. والقاسم. وربيعة.
وشريح أولى من قول إبراهيم. وابن سيرين. وعمر بن عبد العزيز؟ هذا وليس عن
القاسم. وشريح ابطال صدقة. ولا عتق. ولا بيع وإنما عنهما امساك ماله عنه فقط
وإنما جاء ابطال البيع. والعتق. والنكاح عن ربيعة. وعطاء فقط وقد جاء كما أوردنا
عن سبعة من التابعين وواحد من الصحابة أن السفهاء هم النساء، وهم الحسن. والحكم.
ومعاوية بن قرة. وأبو مالك. والضحاك. ومجاهد. وسعيد بن جبير فخالفوهم كلهم،
فمن جعل قول اثنين من التابعين قد خالفهم ثلاثة (1) منهم حجة ولم يجعل قول سبعة
منهم حجة، وأما الحسن. والشعبي فليس فيما روى عنهما شئ يخالف قولنا أصلا لان
الحسن قال: الرشد صلاح الدين وحفظ المال وكذلك نقول وكل مسلم فله حظ من
الصلاح ولا يستوعب صلاح الدين أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بد من نقص عنه ومن
لم ينفق ماله في معصية فقد حفظه، وقال الشعبي: إن الرجل ليشمط وما أونس منه رشد
وصدق قد يبلغ الشيخ وهو مجنون فبطل أن يكون لهم متعلق أصلا * وروينا من طريق
عبد الرزاق عن معمر عن عبد الكريم الجزري قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدى بن عدي
الكندي مهما أقلت السفهاء فيه من شئ فلا تقلهم في ثلاث. عتق. وطلاق. ونكاح *
قال أبو محمد: ونقول لهم: متى تحجرون على المرء؟ أبأول مرة يغبن فيها في البيع
أم بأن يغبن مرة بعد مرة؟ فان قالوا: بأول مرة قلنا: فما على الأرض أحد الا وهو عندكم
مستحق للحجر عليه إذ لا سبيل أن يوجد أحد يبيع ويشترى الا وهو يغبن، وان قالوا (2)
بل للمرة بعد المرة قلنا: حدوا لنا العدد الذي من بلغه فسخ منعه من البيع وفسخ عتقه
ونكاحه وردت صدقته، فهذه عظائم لا تستسهل مطارفة ولا مسامحة بل النار في
طرفها، فان حدوه كلفوا البرهان وكانوا قد زادوا تحكما بالباطل في دين الله تعالى، وان لم
يحدوا في ذلك حدا كانوا قد أقروا بأنهم لا يدرون متى يلزمهم الحكم بما به يحكمون ولا متى
لا يلزمهم وأنهم يحكمون بالجهالات والعمى، وكذلك نسألهم متى يحجرون عليه إذا غبن
بما يزيد على ما يتغابن الناس به بمثله أم إذا غبن بالكثير فان قالوا: بل بما يزيد على ما يتغابن الناس
بمثله قلنا: ما على أديم الأرض أحد إلا وهو مستحق للحجر عندكم إذ ليس أحد الا وقد



(1) في النسخة رقم 14 (قد خالفوهم ثلاثة)
(2) في النسخة رقم 14 (فان قالوا)
294
يغبن (1) بهذا القدر ممن يبيع ويشترى، وان قالوا: بل بأكثر من ذلك كلفوا أن يبينوا
الحد الذي عنده تجب هذه العظائم من فسخ بيوعه وأن لا يعدى عليه فيما أكل من أموال الناس
بالشراء ومنع الثمن. وان ترد صدقاته. وعتقه. ونكاحه ومتى لا تجب فان حدوا
زادوا شنعا وحكما بالباطل وان لم يحدوا كانوا حاكمين بما لا يدرون، وفى هذا ما فيه،
ويكفى من هذا انهم لا يقدرون - إلى منتهى الأبد - على أن يأتوا برواية معروفة غير موضوعة
في الوقت على أنه كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد أبى بكر ولا عهد عمر. نعم ولا عهد
عثمان. ولا عهد علي رضي الله عنهم انسان مسلم يفهم الدين يمنع بالحجر من صدقة. وعتق.
ونكاح لا يضر شئ من ذلك بما له ولا من بيع لا غبن فيه هذا ما لا يجدونه أبدا، فأف
لكل شريعة تفطن لها من بعدهم، وبالله تعالى التوفيق *
ومن طوام الدنيا وشنعها قولهم: ان المحجور عليه لا يكفر في ظهاره. ولا في وطئه
في رمضان. ولا في قتله الخطأ. ولا في أيمانه الا بالصيام وإن كان صاحب أموال لا يحصيها
الا الله تعالى خلافا للقرآن. والسنن وهم يلزمونه الزكاة. والنفقات على الأقارب وعلى
الزوجة فهل بين الامرين فرق؟ وقد جاء ايجاب العتق فيما ذكرنا في القرآن كما جاءت
الزكاة سواء سواء، فليت شعري من أين خرج هذا التقسيم الفاسد؟ ان هذا العجب *
قال أبو محمد: وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل قولنا مما يبطل قولهم كما روينا من طريق
أحمد بن شعيب أنا يوسف بن حماد نا عبد الأعلى عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن
أنس: (أن رجلا كان في عقدته (2) ضعف وان أهله [أتوا النبي صلى الله عليه وسلم] (3) فقالوا:
يا نبي الله احجر عليه فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه فقال: يا نبي الله انى لا أصبر عن البيع
فقال عليه السلام: إذا بعت فقل لا خلابة (4)) * ومن طريق مالك بن أنس عن
عبد الله بن دينار عن [عبد الله] (5) بن عمر قال: ذكر رجل لرسول الله (6) صلى الله عليه وسلم
انه يخدع في البيع (7) فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا بايعت فقل: لا خلابة قال:
فكان الرجل إذا بايع يقول: لا خلابة) * ومن طريق قاسم بن أصبغ نا محمد بن وضاح
نا حامد بن يحيى البلخي نا سفيان بن عيينة نا محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: (ان



(1) في النسخة رقم 14 (الا وهو قد يغبن)
(2) بضم العين المهملة وسكون القاف أي في رأيه ونظره في مصالح نفسه وغيره، وفى النسخة رقم 14 (في عقله) وما هنا موافق لما في سنن النسائي ج 7 ص 25
(3) الزيادة من سنن النسائي
(4) أي لا خديعة، والخلابة الخديعة بالقول اللطيف
(5) الزيادة من الموطأ ج 2 ص 171
(6) في الموطأ (ان رجلا ذكر لرسول الله)
(7) في الموطأ المطبوع سنة 1343 (في البيوع)
295
منقذا سقع في رأسه مأمومة (1) في الجاهلية فخبلت لسانه فكان يخدع في البيع فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بع وقل: لا خلابة ثم أنت بالخيار ثلاثا من بيعك قال ابن عمر:
فسمعته يقول: إذا بايع لا خذابة لا خذابة) *
قال على: هذان أثران (2) في غاية الصحة وما يقول بعد سماعهما بالحجر على من
يخدع في البيوع أو بانفاذ بيع فيه خديعة الا ذا هل عن الحق مقدم على العظائم لان رسول الله
صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إلى قولهم: احجر عليه ولا حجر عليه ولا منعه من البيع بل جعل له الخيار
فيما اشترى ثلاثا وأمره أن لا يبايع الا ببيان أن لا خلابة وهكذا نقول ولله الحمد *
ومن طريق البخاري نا يحيى بن بكير نا الليث بن سعد عن عقيل بن خالد قال ابن شهاب:
أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين قالت في حديث طويل عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذكرت فيه اتيانه إلى المدينة إذ هاجر من مكة: (ثم ركب - تعنى رسول الله
صلى الله عليه وسلم - ناقته فسار حتى بركت عند مسجده عليه السلام بالمدينة وهو يصلى فيه يومئذ
رجال من المسلمين وكان مربدا للتمر لسهيل وسهل [غلامين] (3) يتيمين في حجر أسعد
ابن زرارة ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا فقالا:
بل نهبه لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما ثم بناه
مسجدا) فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أنهما في حجر غيرهما يتيمان فلم يساومه ولا شاوره
ولا ابتاعه منه بل ساومهما وأنفذ بيعهما فيه ولم يجعل للذي كانا في حجره في ذلك أمرا،
فان قيل: لم يقبل هبتهما إياه قلنا: قد فعل مثل ذلك بأبى بكر قبل ذلك بأقل من شهر
أو شهر إذ أراد عليه السلام الهجرة فقدم إليه أبو بكر رضي الله عنه إحدى ناقتين له وقال
له: هي لك يا رسول الله فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يركبها إلا بالثمن فابتاعها منه، فرده
عليه السلام هبة اليتيمين كرده هبة أبى بكر ولا فرق ليس لان ذلك لا يجوز منهم، وبرهان
هذا (4) اجازته عليه السلام بيعهما ولا خلاف بين المخالفين لنا في أن من لم يحجر عليه
بيعه لم يحجر عليه هبته في هذا المكان، وإنما فرقوا بين الهبة والبيع في المريض. والمرأة
ذات الزوج وفى المحاباة فيما زاد على الثلث خاصة، وهذا أثر صحيح لا مغمز فيه، وعقيل



(1) أي ضرب في رأسه فشج حتى بلغت المأمومة وهي أم الدماغ، وفى النهاية (ان منقذا
صقع - بالصاد المهملة - آمة في الجاهلية أي شج شجة بلغت أم رأسه
(2) في النسخة رقم 14 (أثران صحيحان)
(3) الزيادة من صحيح البخاري ج 5 ص 160، والمربد السطح وأهل المدينة يسمون الموضع الذي يجفف فيه التمر مربدا وهو الجرن في لغة أهل نجد اه‍ من الصحاح للجوهري
(4) في النسخة رقم 14 (برهان ذلك)
296
أحد المختصين بالزهري المتحققين به الملازمين له، وكذلك عروة بعائشة رضي الله عنها
* وقد روينا خبرا لو ظفروا بمثله لبغوا كما روينا من طريق أبى داود نا أحمد بن
صالح نا يحيى بن محمد المديني نا عبد الله بن خالد بن سعيد بن أبي مريم عن سعيد بن عبد الرحمن
ابن رقيش أنه سمع شيوخه من بنى عمرو بن عوف ومن خاله عبد الله بن أبي أحمد قال: قال
علي بن أبي طالب: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتم بعد احتلام) *
قال أبو محمد: وأقل ما في هذا الأثر أن يكون موقوفا على علي بن أبي طالب فهو خلاف
لما تعلقوا به عنه في الحجر الذي لا بيان فيه أنه موافق لقولهم على كل حال، ونا أحمد بن
عمر بن أنس العذري نا أبو ذر الهروي نا عبيد الله بن محمد بن إسحاق بن حبابة ببغداد نا
عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي نا مصعب بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد
الله بن الزبير بن العوام نا أبى عن ربيعة بن عثمان عن زيد بن أسلم (أنه سمع عمر بن الخطاب
يقول لصهيب: يا صهيب ما فيك شئ أعيبه عليك إلا ثلاث خصال ولولا هن ما قدمت
عليك أحدا فقال له صهيب: ما هن فإنك طعان؟ فقال عمر بعد كلام: أراك تبذر مالك
وتكتنى باسم نبي وتنتسب عربيا ولسانك أعجمي فقال له صهيب: أما تبذيري مالي فما
أنفقه إلا في حقه وأما اكتنائي فان رسول الله صلى الله عليه وسلم كناني بابى يحيى أفأتركها لقولك؟
وأما انتسابي إلى العرب فان الروم سبتني وأنا صغير فانى لا أذكر أهل أبياتي ولو انفلقت
عنى روثه لانتسبت إليها) فهذا عمر يرى فعل صهيب تبذيرا ولم يحجر عليه، وفى هذا
كفاية وبالله تعالى التوفيق *
1395 مسألة والمريض مرضا يموت منه أو يبرأ منه. والحامل مذ تحمل
إلى أن تضع أو تموت. والموقوف للقتل بحق في قود أو حد أو بباطل. والأسير عند
من يقتل الاسرى أو من لا يقتلهم. والمشرف على العطب. والمقاتل بين الصفين كلهم
سواء، وسائر الناس في أموالهم ولا فرق في صدقاتهم. وبيوعهم. وعتقهم. وهباتهم
وسائر أموالهم، وقال قوم: بالحجر على هؤلاء فيما زاد على الثلث، وقال أبو سليمان.
وأصحابنا: كقولنا الا في العتق خاصة فقط فإنهم قالوا: عتق المريض خاصة دون سائر
من ذكرنا لا ينفذ إلا من الثلث سواء أفاق من مرضه أو مات منه أي مرض كان *
وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا علي بن مسهر نا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي
عن مسروق أنه سئل عمن أعتق عبدا له في مرضه وليس له مال غيره؟ فقال مسروق:
أجيزه برمته شئ جعله الله لا أرده، وقال شريح أجيز ثلثه واستسعيه في ثلثيه قال الشعبي
قول مسروق أحب إلى في الفتيا وقول شريح أحب إلى في القضاء، وقول النخعي كقول:

297
شريح * ومن طريق قتادة عن الحسن عن ابن مسعود فيمن أعتق عبدا له في مرضه لا مال
له غيره قال: أعتق ثلثه * ومن طريق معمر عن عبد الرحمن بن عبد الله عن القاسم
ابن عبد الرحمن أن رجلا اشترى جارية في مرضه فأعتقها عند موته فجاء الذين باعوها
بثمنها فلم يجدوا له مالا فقال ابن مسعود: أسعى في ثمنك * ومن طريق الحجاج بن
أرطاة عن قتادة عن الحسن سئل على عمن أعتق عبدا له عند موته وليس له مال
غيره وعليه دين؟ قال: يعتق ويسعى في القيمة، وقال النخعي فيمن أعتق عبدا عند موته
لا مال له غيره وعليه دين: أنه يسعى في قيمته فيقضى الدين فان فضل شئ فله ثلثه
وللورثة ثلثاه، وقال الحسن. وعطاء: عتق المريض من الثلث وهو قول قتادة.
وسعيد بن المسيب. وأبان بن عثمان. وسليمان بن موسى. ومكحول، ثم اختلفوا فمن
مرق منه ما زاد على الثلث ومن معتق لجميعه ويستسعيه فيما زاد على الثلث، وأما بيعه
وشراؤه فروينا من طريق سفيان الثوري عن جابر الجعفي عن الشعبي في المريض يبيع
ويشترى قال: هو في الثلث وان مكث عشر سنين، وأما الحامل فروينا من طريق سفيان
الثوري عن جابر الجعفي عن الشعبي عن شريح أنه كان يرى ما صنعت الحامل في حملها
من الثلث قال سفيان: ونحن لا نأخذ بهذا بل نقول: ما صنعت فهو جائز الا أن تكون
مريضة من غير الحمل أو يدنو مخاضها يريد أن يضر بها الطلق (1)، وقال عطاء: ما صنعت
الحامل في حملها فهو وصية قلت: أرأى؟ قال: بل سمعناه وهو قول قتادة: وعكرمة،
وقال الحسن. والنخعي. ومكحول. والزهري: عطية الحامل كعطية الصحيح *
ومن طريق ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه سمع
القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق قال: ما أعطت الحامل لوارث. أو لزوج فمن رأس
مالها الا أن تكون مريضة وقال ربيعة: كذلك الا أن تثقل أو يحضرها نفاس،
قال ابن وهب: وأخبرت بهذا أيضا عن ابن المسيب. ويحيى بن سعيد. وابن حجيرة
الخولاني وهو قول أحمد. واسحق، وقال النخعي. ومكحول. ويحيى بن سعيد الأنصاري
والأوزاعي. وعبيد الله بن الحسن. والشافعي في عطية الحامل كقول سفيان الثوري،
وهو قول أبي حنيفة، وروى عن سعيد بن المسيب عطية الغازي من الثلث، وقال
مكحول: بل من رأس ماله الا أن تقع المسايفة (2) وعطية راكب البحر كذلك،
وقال الحسن: هو كالصحيح وكذلك راكب البحر، ومن كان في بلد قد وقع فيه



(1) في النسخة رقم 14 (وأن يضريها الطلق)
(2) بالفاء، وهي المجالدة والتضارب بالسيوف، وفى النسخة رقم 14 (المسابقة) بالباء الموحدة بعدها قاف وهو تصحيف
298
الطاعون، وقال مكحول: كذلك في راكب البحر ما لم يهج البحر، وقال الحسن في اياس
ابن معاوية لما حبسه الحجاج: ليس له من ماله الا الثلث فقال اياس إذ بلغه قوله: ما فقه
أحد الا ساء ظنه بالناس، وقال الشعبي: ما صنع المسافر فمن الثلث من حيث يقع رحله
في الغرز، قال النخعي: بل من رأس المال، وقال الزهري: ما صنع الأسير فمن الثلث،
وقال أبو حنيفة: ليس للمريض أن يقضى بعض غرمائه دون بعض ورأوا محاباته في البيع
وهباته. وصدقاته. وعتقه كل ذلك من الثلث ان مات من ذلك المرض الا أن العتق ينفذ
كله ويستسعى فيما لا يحمله الثلث منه فان أفاق من ذلك المرض نفذ كل ذلك من رأس
ماله، وأما المحصور. والواقف في صف الحرب فكالصحيح، وأما الذي يقدم للقتل في
قصاص. أو رجم فكالمريض، ومن اشترى ابنه في مرضه الذي مات فيه فان خرج من
ثلثه عتق وورثه وان لم يخرج من ثلثه عتق ولم يرثه واستسعى فيما زاد على الثلث كسائر
الورثة، فان أقر بولد أمته في مرض موته لحق به (1) وورثه وان وطئ أمة في مرض
موته فحملت فهي أم ولد من رأس ماله ويرثه ولدها ووافقه على ذلك كله أبو يوسف. ومحمد
إلا أن الذي يشترى ولده في مرضه ولا يحمله الثلث فإنهما قالا: يرثه على كل حال ويستسعى
فيما يقع من قيمته للورثة فيأخذونه وقالوا كلهم: إنما هذا في المرض المخيف كالحمى الصالب.
والبرسام. والبطن. ونحو ذلك ولم يروا ذلك في الجذام. ولا حمى الربع. ولا السل.
ولا من يذهب ويجئ في مرضه، وقال مالك: كقول أبي حنيفة في كل ما ذكرنا إلا في
الحامل فان أفعالها عنده كالصحيح إلى أن تتم ستة أشهر فإذا أتمتها فأفعالها في مالها كالمريض
حتى أنه منعها من مراجعة زوجها الذي طلقها طلاقا بائنا واحدة أو اثنتين وإلا الاستسعاء
فلم يره بل أرق ما لم يحمل الثلث منه والا فيمن اشترى ابنه في مرضه ولم يحمله الثلث فإنه
أعتق منه ما حمل الثلث وأرق الباقي، وقال الشافعي. وسفيان الثوري: للمريض أن
يقضى بعض غرمائه دون بعض وقال الشافعي: فعل المريض مرضا مخيفا من الثلث فان
أفاق فمن رأس ماله، واختلف قوله في الذي يقدم للقتل فمرة قال: هو كالصحيح ومرة
قال: هو كالمريض *
قال أبو محمد: أما قول مالك. وأبي حنيفة: انه ليس للمريض أن يقضى بعض غرمائه
دون بعض فخطأ في تفريقهما في ذلك بين الصحيح. والمريض، والحق في ذلك هو أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بأن يعطى كل ذي حق حقه فهو في أنصافه بعض غرمائه دون بعض
معطى ذلك الذي أنصف حقه ومن فعل ما أمر به فهو محسن والاحسان لا يرد، فإن كان



(1) في النسخة رقم 16 (لحقه)
299
الذي لم ينصفه حاضرا طالبا حقه فهو عاص في أنه لم ينصفه وهما قضيتان أصاب في إحداهما
وظلم في الأخرى والحق لا يبطله ظلم فاعله في قصة أخرى. وحق الغريم إنما هو في ذمة
المدين لا في عين ماله ما دام حيا لم يفلس، فإذ ذلك كذلك فقد نفذ الذي أعطى ما أعطاه
بحق (1) ولزمه أن ينصف من بقي إذ حقه في ذمته لا في عين ما أعطى الآخر ولم يأت (2)
نص في الفرق بين صحيح. ومريض، وما نعلم لهما في قولهما هذا سلفا، وأما قولهما فيمن
اشترى ولده في مرضه فلم يحمله الثلث انه لا يرثه فان حمله الثلث عتق وورث فقول في غاية
الفساد والمناقضة، ولا نعلم لهما فيه سلفا متقدما لأنه إن كان وصية فالوصية للوارث
لا تجوز فينبغي على أصلهم أن لا ينفذ عتقه أصلا حمله الثلث أو لم يحمله، وقد قال بهذا
بعض الشافعيين، وقال آخرون منهم: الشراء فاسد لأنه وصية لوارث وإن كان ليس
وصية فما باله لا يرث وقد صار حرا بملك أبيه لم ثم مناقضتهم في المريض يطأ أمته
فتحمل انها من رأس ماله حرة ويرثه ولدها، فان قالوا: حملها ليس من فعله قلنا:
لكن وطئه لها من فعله واقراره بولدها من فعله، وعتق الولد في كل حال ليس من فعله:
وأما قول مالك في الحامل فقول أيضا لا نعلم له فيه سلفا، واحتج له بعض مقلديه بقول
الله تعالى: (فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما) * قال أبو محمد: وهذا ايهام منهم للاحتجاج بما لا حجة لهم فيه أصلا لان الله تعالى لم
يقل: ان الأثقال لم تكن الا بتمام ستة أشهر فظهر تمويههم بما ليس لهم فيه متعلق، ثم
ليت شعري من لهم بأن الأثقال جملة يدخلها في حكم المريض وقد يحمل الحمال حملا ثقيلا
فلا يكون بذلك في حكم المريض عندهم، فان قالوا: قد تلد لستة أشهر قلنا: وقد تسقط
قبل ذلك والاسقاط أخوف من الولادة أو مثلها فظهر فساد هذا القول جملة وبالله
تعالى التوفيق * قال على: ثم نأخذ بحول الله تعالى وقوته في قول من قال: بأن أفعال
المريض ومن خيف عليه الموت من الثلث *
قال أبو محمد: احتجوا بالخبر الثابت المشهور من طريق ابن سيرين. وأبى المهلب
كلاهما عن عمران بن الحصين: (أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال
غيرهم فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فاعتق اثنين وأرق أربعة)
وجاء في بعض الروايات أنه عليه السلام قال فيه قولا شديدا * وبالخبر الصحيح الثابت
من طريق مالك. وابن عيينة. وإبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد



(1) في النسخة رقم 14 (فقد نفذ للذي أعطى مما أعطاه بحق)
(2) في النسخة رقم 16 (إذ لم يأت)
300
ابن أبي وقاص عن أبيه قال: (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي فقلت:
يا رسول الله فقد بلغني من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني الا ابنة لي أفأتصدق بثلثي
مالي؟ قال عليه السلام: لا قلت: فالشطر قال: لا ثم قال عليه السلام: الثلث
والثلث كثير انك ان تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس (1))
وذكر باقي الخبر قالوا: فلم يأذن له عليه السلام بالصدقة بأكثر من الثلث *
وبخبر رويناه من طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا يزيد بن محمد العقيلي نا حفص
ابن عمر بن ميمون (2) عن ثور بن يزيد عن مكحول عن الصنابحي عن أبي بكر الصديق
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله قد تصدق عليكم بثلث أموالكم عند موتكم رحمة لكم وزيادة
في أعمالكم وحسناتكم) * ومن طريق سليمان بن موسى سمعت: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: جعل لكم ثلث أموالكم زيادة في أعمالكم) * ومن طريق معمر عن أيوب عن أبي
قلابة (قال النبي صلى الله عليه وسلم في خبر عن الله تعالى أنه قال: جعلت لك طائفة من مالك عند
موتك أرحمك به) * ومن طريق معمر عن قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ابتاعوا
أنفسكم من ربكم أيها الناس ألا انه ليس لا مرئ شئ الا لا أعرفن امرءا بخل بحق الله
حتى إذا حضره الموت أخذ يذعذع ماله (3) ههنا وههنا) * ومن طريق وكيع عن
طلحة - هو ابن عمرو المكي - عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان
الله تصدق عليكم بالثلث من أموالكم عند وفاتكم زيادة لكم في أعمالكم) *
ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا حجاج عن العلاء بن بدر عن أبي يحيى المكي
أن رجلا أعتق غلاما له عند موته ليس له مال غيره وعليه دين فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يسعى في قيمته * ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا خالد عن أبي قلابة عن رجل من
بنى عذرة أن رجلا منهم أعتق غلاما عند موته ولم يكن له مال غيره فرفع ذلك إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأعتق منه الثلث واستسعى في الثلثين، وقالوا: (4) قد صح عن أبي بكر أنه
قال لعائشة رضي الله عنها عند موته: (إني كنت نحلتك جاد عشرين وسقا من مالي
فلو كنت جددتيه وحزتيه (5) لكان لك وإنما هو اليوم مال الوارث) قالوا: فأخبر أبو بكر
بحضرة الصحابة أن من قارب الموت فماله مال الوارث، وقالوا: قد جاء ما أوردنا عن علي
. وابن مسعود ولا مخالف لهما يعرف من الصحابة رضي الله عنهم فهو اجماع،



(1) أي يستعطون باكفهم الناس)
(2) في النسخة رقم 14 (حفص بن عمرو ابن ميمون) وهو غلط
(3) أي يفرقه
(4) في النسخة رقم 14 (وقال) والسياق يعين ماهنا
(5) جد النخل - بالدال المهملة - يجده أي صرمه وقطعه
301
وقالوا: قسناه على الوصية *
قال أبو محمد: هذا كل ما شغبوا به وكله لا حجة لهم فيه، أما حديث رجل من بنى
عذرة فمرسل وعن مجهول ثم لو صح لكان مخالفا لقول مالك. والشافعي لأنهما لا يريان
الاستسعاء، وأما خبر أبي يحيى المالكي فهالك لأنه مرسل وعن حجاج وهو ساقط،
ثم لو صح لكان مخالفا لقول مالك. والشافعي * وأما حديث أبي هريرة ففيه طلحة بن
عمرو المكي وهو كذاب * وأما حديث قتادة فمرسل ثم لو صح لم يكن لهم فيه حجة لان
البخل بحق الله تعالى لا نخالفهم انه لا يحل وان ذعذعة المال ههنا وههنا لا تجوز عندنا
لا في صحة ولا في مرض فليس ذلك الخبر مخالفا (1) لقولنا * وأما حديث أبي قلابة
فمرسل، وكذلك حديث سليمان بن موسى * وأما حديث أبي بكر فسنده غير مشهور
ولا ندري حال حفص بن عمر بن ميمون ثم لو صح هو وجميع الآثار التي ذكرنا لم يكن
لهم في شئ منهما حجة أصلا لأنه ليس فيها كلها الا أن الله عز وجل تصدق علينا عند
موتنا بثلث أموالنا، فهذا يخرج على أنه الوصية التي هي بلا خلاف نافذة بعد الموت
ومعروف في اللغة التي بها خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العرب تقول: كان أمر كذا عند
موت فلان وارتدت العرب عند موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وولى عمر عند موت أبى بكر
هذا أمر معروف مشهور، فجميع هذه الأخبار خارجة على هذا أحسن خروج. وموافقة
لقولنا على الحقيقة حاشا خبر العلاء بن بدر عن أبي يحيى المكي فإنه لا يخرج لا على
قولنا ولا على قول أحد منهم فليس لهم أن يحتجوا بخبر يخالفونه لان أبا حنيفة يقول:
إن كان الدين لا يستغرق جميع قيمة العبد فإنما يسعى في الدين فقط ثم في ثلثي ما يبقى
من قيمته بعد الدين فقط وهو قولنا إذا أوصى بعتقه ونحن نقول: إن كان الدين
يستغرق جميع قيمته فالعتق باطل وهو قول مالك. والشافعي، فكل طائفة منهم قد
خالفت ذلك الحديث ثم جميعهم مخالف لجميع هذه الآثار لأنه ليس فيها إلا عند موته
وعند موتكم وليس في شئ منها ذكر لمرض أصلا فالمرض شئ زادوه بآرائهم ليس
في شئ من الآثار نص منه ولا دليل عليه، وقد يموت الصحيح فجأة ومن مرض خفيف
فاقتصارهم على المرض من أين خرج؟ وهلا راعوا ما جاءت به الآثار من لفظ عند موته؟
فجعلوا من فعل ذلك عند موته صحيحا فعله أو مريضا من الثلث وجعلوا ما فعلوا
في صحته أو مرضه مما تأخر عند موته من رأس ماله * فظهر أن جميع هذه الآثار مخالفة
لقولهم وانها من النوع الذي احتجوا به لأقوال لهم ليس منها شئ فيما احتجوا له به،



(1) في النسخة رقم 14 (موافقا) وهو غلط
302
وهذا ايهام منهم قبيح وتدليس في الدين فسقط تعلقهم بها * وأما حديث سعد فانا
رويناه من طريق سفيان الثوري عن سعد بن إبراهيم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص
عن أبيه، ومن طريق معمر عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه * ومن طريق مروان
ابن معاوية الفزاري عن هاشم بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص عن عامر بن سعد عن أبيه *
ومن طريق عبد الملك بن عمير عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه *
ومن طريق أيوب السختياني عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد الرحمن عن ثلاثة
من ولد سعد كلهم عن سعد * ومن طريق قتادة عن يونس بن جبير (1) عن محمد بن سعد
ابن أبي وقاص عن أبيه * ومن طريق عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن سعد
ابن أبي وقاص * ومن طريق وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن سعد. وعائشة
أم المؤمنين كلهم قال في هذا الخبر: أفأوصي بمالي أو بثلثي مالي يا رسول الله؟ ثم بنصفه
وهو خبر واحد، فصح ان الذين رووا لفظ (أفا تصدق) عن الزهري إنما عنوا به الوصية
بلا شك لا الصدقة في حال الحياة لأنه كله خبر واحد عن مقام واحد عن رجل واحد في
حكم واحد، وكل وصية صدقة وليس كل صدقة وصية، نعم وروينا (2) هذا الخبر
من طريق أبى داود نا أبو الوليد الطيالسي قال: نا عبد العزيز بن الماجشون. وإبراهيم
ابن سعد كلاهما عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال: (مرضت مرضا شديدا
فأشفيت منه فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله ان لي ما لا كثيرا وإنما
ترثني ابنة لي واحدة أفأتصدق بمالي كله؟ قال: لا قلت: فأوصى بالشطر قال: لا
قلت: يا رسول الله فبم أوصى؟ قال: الثلث والثلث كثير انك ان تدع ورثتك أغنياء
خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) فروى مالك. وابن عيينة عن الزهري عن
عامر بن سعد عن أبيه أفأتصدق؟ وروى إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عامر بن سعد
عن أبيه مرة أفأتصدق ومرة أفأوصي؟، وروى معمر. وسعد بن إبراهيم عن عامر
ابن سعد عن أبيه أفأوصي؟ وليسا دون مالك. وابن عيينة، واتفق سائر من ذكرنا
على لفظ أوصى فارتفع الاشكال جملة، وأيضا فليس في هذا الخبر نص ولا دليل
بوجه من الوجوه على أن ذلك الحكم في المرض خاصة دون الصحة، فمن قال: إنه في المرض
خاصة فقد كذب وقول (3) رسول الله صلى الله عليه وآله ما لم يقل، وهذا من أكبر الكبائر،
وأيضا فقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن سعدا سيبرأ وتكون له آثار في الاسلام فبطل أن



(1) في النسخة رقم 16 (عن يونس بن جبر) وهو غلط، وهو يونس بن جبير الباهلي
أبو غلاب البصري
(2) في النسخة رقم 16 (روينا) بدون واو
(3) هو بتشديد الواو
303
يكون ذلك حكم المرض الذي يموت المرء منه * روينا من طريق أبى داود نا عثمان
ابن محمد بن أبي شيبة نا جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم قائما فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك إلى قيامه الساعة الا أخبر به حفظه من
حفظه ونسيه من نسيه قد علم أصحابي هؤلاء أنه ليكون منى (1) الشئ فأعرفه فأذكره كما
يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه فإذا رآه عرفه *
قال أبو محمد: وسعد قد فتح أعظم الفتوح وأنزل ملك الفرس عن سريره
وافتتح قصوره. ودوره. ومدائنه فبطل أن يكون لهم بهذا الخبر متعلق أصلا،
وأما خبر عمران بن الحصين في الستة الاعبد فأولى الناس أن لا يحتج به أبو حنيفة.
وأصحابه الذي لا يستحيون من أن يقولوا: انه قمار وأنه فعل باطل. وحكم جور شاه
وجه من قال ذلك (2) في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبقي الكلام فيه مع المالكيين.
والشافعيين. وأصحابنا القائلين به *
قال على: فنقول وبالله التوفيق: انه لا حجة لهم فيه أصلا لوجوه ثلاثة، أولها انه
ليس فيه الا العتق وحده فاقحامهم (3) مع العتق جميع أفعال المريض خطأ وتعد لحدود
الله تعالى والقياس باطل ولو كان حقا لكان ههنا باطلا لأنهم يفرقون بين حكم العتق
وسائر الأحكام فيوجبون فيمن أعتق شقصا له من عبد أن يقوم عليه باقية فيعتقه ولا يرون
فيمن تصدق بنصف عبده أو أوقف (4) نصف داره. أو نصف فرسه. أو تصدق
بنصف ثوبه. أو بنصف ضيعته أن يقوم عليه باقي ذلك وينفذ فعله في جميعه، فمن أين
وجب أن يقاس على العتق ههنا ولم يجب أن يقاس عليه هنا لك؟ ان هذا لتحكم فاسد *
والوجه الثاني أنه ليس فيه من فعل المريض كلمة ولا دلالة ولا إشارة بوجه من
الوجوه إنما فيه أعتق عند موته فكان الواجب عليهم أن يجعلوا هذا الحكم فيمن أعتق
عند موته صحيحا أو مريضا فمات اثر ذلك لا فيمن أعتق مريضا أو صحيحا ثم تراخى
موته فان هذا لم يعتق عند موته بلا شك، وهذا مما خالفوا فيه الخبر الذي احتجوا به
فيما فيه وأقحموا فيه ما ليس فيه واحتجوا به فيما ليس فيه منه شئ ء أصلا، وهذه قبائح
موبقة نعوذ بالله منها * والثالث أن هذا الخبر حجة لنا عليهم قاطعة لان هذا الانسان



(1) في النسخة رقم 16 (منه)
(2) في النسخة رقم 16 (من قال هذا)
(3) في النسخة رقم 16 (فايجابهم)
(4) قال الجوهري في صحاحه: وقفت الدار للمساكين وقفا وأوقفتها
بالألف لغة رديئة وليس في الكلام أوقفت الأحرف واحد أوقفت عن الامر الذي
كنت فيه أي أقلعت وكل شئ أمسكت عنه تقول: أوقفت اه‍
304
لم يبق لنفسه شيئا أصلا هكذا في الحديث أنه لم يكن له مال غيرهم، وهذا عندنا مردود
الفعل صحيحا كان أو مريضا، ولا يجوز لاحد في ماله عتق تطوع. ولا صدقة تطوع. ولا
هبة يبت بها إلا فيما أبقى غنى كما قال عليه السلام: (الصدقة عن ظهر غنى) وقد أبطل رسول
الله
صلى الله عليه وسلم عتق انسان صحيح لم يكن له مال غيره كما روينا من طريق البخاري. وأحمد بن
شعيب قال البخاري: نا عاصم بن علي وقال أحمد: انا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم
نا أبى وعمى - هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد - ثم اتفق عاصم. وسعد. ويعقوب
أبناء إبراهيم قالوا كلهم: نا ابن أبي ذئب عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله
أن رجلا أعتق عبدا له لم يكن له مال غيره فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم وابتاعه منه نعيم بن
النحام قال الزهريون في روايتهم: فرده عليه السلام فهذا إسناده كالشمس لا يسع
أحدا خلافه، فصح أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رد عتق أولئك الاعبد لان معتقهم لم يكن
له مال غيرهم، وكان عتقه عليه السلام لثلثهم والله أعلم كما روى في بعض الأخبار أنه
عليه السلام قال لكعب بن مالك إذ جعل على نفسه إذ تاب الله عليه: (يجزيك من
ذلك الثلث) وإن كان هذا اللفظ لا يصح لكن أنه عليه السلام قال له: أمسك عليك
بعض مالك فأمسك سهمه بخيبر، فقد يكون ذلك المعتق له في أربعة منهم غنى، وبرهان
هذا أن الرواية الثانية في ذلك الخبر أنه عليه السلام إنما أعتق اثنين وأرق أربعة ولم
يذكر قيمة، والثلث عند المحتجين بهذا الخبر لا يكون هكذا أصلا ولا يكون الا بالقيمة *
ووجه رابع وهو أننا روينا هذا الخبر من طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن
راهويه - وابن أبي عمر كلاهما عن الثقفي - هو عبد الوهاب بن عبد المجيد - عن أيوب
السختياني عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين أن رجلا أوصى عند
موته فاعتق ستة مملوكين لم يكن له مال غيرهم فدعا بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم [فجزأهم أثلاثا
ثم أقرع بينهم] (1) فأعتق اثنين وأرق أربعة وقال له: قولا شديدا) فصح أن ذلك
العتق إنما كان وصية ولا خلاف أنها من الصحيح والمريض سواء لا تجوز إلا بالثلث،
فإن كانت الروايتان حديثا واحدا وهو الأظهر الذي لا يكاد يمكن ولا يجوز غيره
فقد ارتفع الكلام وبطل تعلقهم به وإن كانا خبرين وهذا ممكن بعيد فكلاهما لنا وموافق لقولنا
ومخالف لقولهم، وعلى كل حال فليس في شئ منه ذكر لمرض ولا لفعل في مرض
أصلا ولا لان الرد إنما كان لان العتق وقع في مرض وبالله تعالى التوفيق * فبطل
عنهم كل ما موهوا به من الآثار التي هم أول مخالف لها وعادت كلها لنا عليهم حجة *



(1) الزيادة من صحيح مسلم ج 2 ص 23
305
وأما ما رووا في ذلك عن الصحابة رضي الله عنهم فكذلك أيضا وإنما هم ثلاثة
أبو بكر. وعلى. وابن مسعود، فاما أبو بكر فإنما تعلقوا عنه بقوله. وإنما هو اليوم مال
الوارث (1) وهذا لا متعلق لهم به أصلا لأنه لا يختلف اثنان وهم معنا أيضا في أنه رضي الله عنه
إنما عنى أنه مال الوارث بعد موته وانه لم يعن بذلك أن مال المريض الذي يموت من ذلك
المرض للوارث ما دام شئ من الروح في المريض، ولا خلاف في أن أسماء لو ماتت
إذ قال أبو بكر هذا القول لها لما ورث عبد الله. وعروة. والمنذر أولادها من مال
أبى بكر حبة خردل ولا قيمتها فما فوق ذلك، ولو كان مال المريض قد صار ما لا للوارث
في مرضه لورثه عنه ان مات ورثته في حياة المريض وهذا لا يقوله أحد ولا أحمق. ولا
عاقل، وأيضا فلا خلاف منا ومنهم في أن الوارث لو وطئ أمة المريض قبل موته لكان
زانيا يحد حيث يحد لو وطئها وهو صحيح ولا فرق، وانه لو سرق من ماله قبل موته شيئا
في مثله القطع قطعت يده حيث تقطع يده لو سرق منه وهو صحيح، فظهر تمويههم وبردهم
وتدليسهم في الدين بأيها مهم الباطل من اغتر بهم وأحسن الظن بطرقهم، فان أتونا في
صرف الاخبار التي ذكرنا قبل عن ظاهرها ببرهان مثل هذا وجب الانقياد للحق وان لم
يأتونا إلا بالكذب البحت وبالظن الفاسد وبالتمويه الملبس فعار ذلك وناره لا زمان لهم
لا لنا وبالله تعالى التوفيق، فبطل تعلقهم بخبر أبي بكر رضي الله عنه جملة *
وأما الخبر عن ابن مسعود فمرسل لان الحسن. والقاسم بن عبد الرحمن لم يدركاه ثم لو
صح لما كان لهم فيه حجة لان في احدى الروايتين عنه أنه ابتاعها في مرضه فأجاز بيعه وأعتقها
عند موته فأمرها بان تسعى في ثمنها للغريم، وفى الأخرى أعتق عبده في مرضه لا مال له
غيره، فقال ابن مسعود: عتق ثلثه، والقول في هذا كالقول في بعض الأخبار المتقدمة
من أنه إنما رد ذلك لأنه لم يكن له مال غيره فراعى ما أبقى له غنى * وقد روينا من طريق
ابن أبي شيبة نا حفص - هو ابن غياث - عن حجاج عن القاسم بن عبد الرحمن قال:
أعتقت امرأة جارية لها ليس لها مال غيرها فقال عبد الله بن مسعود: تسعى في قيمتها،
فهذا عبد الله قد رأى السعي في قيمتها إذ لم يكن (2) له مال غيرها ولم يذكران ذلك كان
في مرض أصلا فعاد فعل ابن مسعود لو صح حجة عليهم، فكيف ولا حجة في قول أحد
ولا نعله دون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فبطل تعلقهم بابن مسعود ولاح خلافهم له *
وأما الرواية عن علي فمنقطعة لان الحسن لم يسمع من على شيئا ثم لو صحت لما كان لهم
بها متعلق أصلا لأنه لم يقل علي رضي الله عنه انه إنما فعل ذلك لأنه أعتقه في مرضه البتة



(1) في النسخة رقم 14 (مال وارث) وما هنا موافق لما تقدم
(2) في النسخة رقم 16 (إذا لم يكن)
306
ولا في تلك الرواية ذكر أن ذلك كان في مرض (1) لا بنص ولا بدليل وإنما فيه انه أعتقه
عند موته فقط، والأظهر أن عليا إنما أوجب الاستسعاء في ذلك لأنه لم يكن له مال غيره
وعليه دين، فهذا هو نص الخبر وهو قولنا لا قولهم كلهم، وكذلك نقول بالاستسعاء في
هذا إذا فضل من قيمة العتق عن الدين شئ قل أو كثر وليس في ذلك الخبر خلاف لهذا فلاح
ولله الحمد كثيرا ان كل ما احتجوا به من أثر صحيح أو سقيم أو عن صاحب فليس منه شئ
أصلا موافقا لقولهم. وان ايرادهم لكل ذلك تمويه. وايهام بالباطل. والظن الكاذب،
وأن كله أو أكثره حجة لنا وموافق لقولنا والحمد لله رب العالمين *
وأما احتجاجهم بالتابعين ودعواهم الاجماع في ذلك فغير منكر من استسهالهم
الكذب على جميع أهل الاسلام، وقد أوردنا في صدر هذه المسألة بأصح طريق عن مسروق
خلاف قولهم. وان عتق المريض من رأس ماله وان مات من مرضه ذلك. وانه إنما قال
بذلك لأنه شئ جعله لله تعالى فلا يرد، فصح أن كل ما فعله المريض لله تعالى فمات من
مرضه أو عاش فمن رأس ماله عند مسروق فظهر كذبهم في دعوى الاجماع فكيف وإنما
جاءت في ذلك آثار عن أربعة عشر من التابعين فقط؟ شريح. والشعبي. والنخعي.
وسعيد بن المسيب. والقاسم. وسالم. والزهري. وربيعة. ويحيى بن سعيد الأنصاري
وعكرمة. ومكحول. وعطاء. والحسن. وقتادة أكثر ذلك لا يصح عنهم لأنها من
طريق جابر الجعفي ومثله، ثم هم مختلفون فمنهم من رأى المسافرين حين يضع رجله
في الغرز لا ينفذ له أمر في مال الا من ثلثه، ومنهم من يرى ذلك في الحامل جملة، ومنهم
من يرى ذلك في الأسير جملة، والمالكيون. والحنيفيون. والشافعيون مخالفون لكل
هذا، ثم قولهم في تقسيم الأمراض مخالف لجميعهم، فإن كان هؤلاء إجماعا فقد أقروا
على أنفسهم بخلاف الاجماع وإن كان ليس اجماعا فلا حجة لهم في قول من دون الصحابة
إذا لم يكن اجماعا عندهم فكيف وقد روينا عن مسروق. والشعبي خلاف هذا، وروينا
من طريق محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن ابن أبي ليلى عن الحكم
ابن عتيبة عن إبراهيم النخعي قال: إذا أبرأت المرأة زوجها من صداقها في مرضها فهو جائز،
وقال سفيان: لا يجوز، فصح أن إبراهيم إنما عنى مرضها الذي تموت منه ولم يراع ثلثا
ولا رآه وصية * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر قال: كتب عمر بن عبد العزيز في الرجل
يتصدق بماله كله قال: إذا وضع ماله كله في حق فلا أحد أحق بماله منه وإذا أعطى بعض



(1) في النسخة رقم 16 (في المرض)
307
الورثة دون بعض (1) فليس له إلا الثلث *
قال أبو محمد: لا يخلو عمر بن عبد العزيز من أن يكون أراد الصحيح. والمريض
معا أو المريض وحده أو الصحيح وحده، فإن كان أراد الصحيح فقط فقد رد فعله في صدقته
بما له كله وإن كان أراد المريض فقد أمضى فعله في ماله كله فهذا خلاف ظاهر *
ومن طريق حماد بن سلمة عن أيوب السختياني. وعبيد الله بن عمر كلاهما عن نافع
أن رجلا رأى فيما يرى النائم أنه يموت إلى ثلاثة أيام فطلق نساءه طلقة طلقة وقسم
ماله فقال عمر بن الخطاب له: أجاءك الشيطان في منامك فأخبرك أنك تموت إلى ثلاثة
أيام فطلقت نساءك وقسمت مالك؟ رده ولو مت لرجمت قبرك كما يرجم قبر أبى رعال؟
فرد ماله ونساءه، وقال له عمر: ما أراك تلبس إلا يسيرا حتى تموت *
ومن طريق حماد بن سلمة نا يونس بن عبيد عن محمد بن سيرين أن امرأة رأت فيما يرى
النائم انها تموت إلى ثلاثة أيام فشذبت مالها (2) وهي صحيحة ثم ماتت في اليوم الثالث
فأمضى أبو موسى الأشعري فعلها، فإن كان للموقن بالموت حكم المريض في ماله فقد
أمضاه أبو موسى فهذا خلاف قولهم، وإن كان له حكم الصحيح فقد رده عمر ولم يمض
منه ثلثا ولا شيئا وهذا خلاف قولهم وبالله تعالى التوفيق * ومن أقبح (3) مجاهرة
ممن يجعل مثل من ذكرنا قبل اجماعا ثم لا يبالي بمخالفة أبى بكر. وعمر. وعثمان.
وخالد بن الوليد. وأبي موسى. وابن الزبير. وغيرهم. وطوائف من التابعين في القصاص
من اللطمة وضربة السوط لا مخالف لهم يعرف من الصحابة، ومثل هذا كثير جدا
قد تقصينا منه جزءا صالحا في موضع آخر، وأما قولهم: قسنا ذلك على الوصية
فالقياس كله باطل ثم لو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل لان الوصية إنما تنفذ بعد
الموت وهي من المريض. والصحيح سواء بلا خلاف لا تجوز إلا في الثلث فما دونه
فإذا قيس فعل المريض عليها وجب أن يكون في الحياة فعل المريض كفعل الصحيح
سواء سواء، وأيضا لو كان القياس حقا لكان لا شئ أشبه بشئ وأولى بأن يقاس
عليه من شيئين شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما * وقد روينا من طريق أحمد بن شعيب
أنا قتيبة نا أبو الأحوص عن أبي حبيبة عن أبي الدرداء (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
الذي يعتق عند الموت كالذي يهدى بعد ما يشبع) *
قال على: ولا يختلفون في أن الذي يهدى بعد ما يشبع فهديته من رأس ماله،



(1) في النسخة رقم 14 (وإذا أعطى الورثة بعضهم دون بعض)
(2) أي فرقته
(3) في النسخة رقم 16 (ولا أقبح)
308
فإن كان القياس حقا فالمعتق عند الموت مثله سواء سواء فواجب أن يكون من رأس
ماله قال تعالى: (وأنفقوا مما رزقنا كم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب
لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصالحين ولن يؤخر الله نفسا إذا
جاء أجلها) وهذا نص جلى لا يحتمل تأويلا على جواز الصدقة للصحيح والمريض ما لم
يأته الموت ويجئ حلول أجله دون تأخير قريب أو بعيد ولكنهم لا النصوص
يتبعون ولا القياس يحسنون، وأيضا فلا خلاف بينهم أصلا في أن ما اشتراه المريض
من فاكهة. ولحم. ونحو ذلك مما هو عنه في غنى وما تصدق بنه على سائل بالباب
فإنه من رأس ماله، فلو كان فعله في مرضه من الثلث لكان هذا من الثلث بل لو لم يكن
له من ماله إلا لثلث في مرضه الذي يموت منه لما وجب أن يعد أكله ونفقته على نفسه
وعياله إلا من الثلث لان باقي ذلك لا حكم له فيه وهم لا يقولون بهذا، فظهر من تخاذلهم
وتناقضهم وفساد أقوالهم في هذه المسألة ما بعضه يكفي، وبالله تعالى التوفيق *
1396 مسألة وكذلك لا يجوز الحجر أيضا على امرأة ذات زوج. ولا
بكر ذات أب. ولا غير ذات أب، وصدقتهما. وهبتهما نافذ كل ذلك من رأس المال
إذا حاضت كالرجل سواء سواء، وهو قول سفيان الثوري. وأبي حنيفة. والشافعي.
وأبي ثور. وأبي سليمان. وأصحابهم، وقال مالك: ليس لذات الزوج الا الثلث فقط
تهبه وتتصدق به أحب زوجها أم كره، فإذا مضت لهامدة جاز لها في ثلث ما بقي أيضا
أن تفعل فيه ما شاءت أحب زوجها أم كره وهكذا أبدا، فإن كان ذلك قريبا من فعلها
في الثلث الأول فسخ فان زادت على الثلث رد الكل أوله عن آخره بخلاف المريض ان
شاء زوجها ان يرده وان أنفذه نفذ، فان خفى ذلك عن زوجها حتى تموت أو يطلقها
نفذ كله، قال المغيرة بن عبد الرحمن صاحبه: بل لا يرد الزوج الا ما زاد على الثلث
فقط وينفذ لها الثلث كالمريض قال مالك: فان وهبت لزوجها مالها كله نفذ ذلك وأما
بيعها وابتياعها فجائز أحب زوجها أم كره إذا لم يكن فيه محاباة. قال: وأما البكر فمحجورة
على كل حال ذات أب كانت أو غير ذات أب لا يحوز لها فعل في مالها ولا في شئ منه ولا
أن تضع عن زوجها من الصداق وان عنست (1) حتى تدخل بيت زوجها ويعرف من
حالها فان وهبت قبل أن تتزوج ثم تزوجت كان لها أن ترجع فيما وهبت الا إن كان
يسيرا قال: وأما التي كان لها زوج ثم تأيمت فكالرجل في نفاذ حكمها في مالها كله (2) *
(هامش) * (1) يقال: عنست المرأة فهي عانس وعنست - بتشديد النون - فهي معنسة إذا كبرت
وعجزت في بيت أبويها (2) في النسخة رقم 16 (في نفاذ حكمها في ماله كله) (*)

309
وأما المتقدمون فروينا عنهم أقوالا روينا من طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن إسماعيل ابن خالد. وزكريا بن أبي زائدة كلاهما عن الشعبي عن شريح قال: عهد إلى عمر بن الخطاب
أن لا أجيز عطية جارية حتى تلد ولدا أو تحول في بيتها حولا * ومن طريق سعيد بن منصور
نا هشيم نا إسماعيل بن أبي خالد نا الشعبي قال: قال شريح: أمرني عمر بن الخطاب أن
لا أجيز لجارية مملكة عطية حتى تحيل في بيت زوجها (1) حولا أو تلد ولدا قال: فقلت
للشعبي: كتب إليه عمر فقال: بل شافهه به مشافهة * ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن أبي زائدة
عن مجالد عن الشعبي قال: قرأت كتاب عمر إلى شريح بذلك، وذلك أن جارية من
قريش قال لها أخوها وهي مملكة، تصدقي على بميراثك من أبيك ففعلت ثم طلبت ميراثها
فرده عليها * ورويناه أيضا من طريق الحجاج بن المنهال حدثنا يزيد بن زريع عن داود
ابن أبي هند عن خلاس بن عمر وقال: وكتب عمر بن الخطاب لا تجيزوا نحل امرأة بكر
حتى تحيل حولا في بيت زوجها أو تلد ولدا *
قال أبو محمد: وهو قول شريح كما روينا من طريق حماد بن سلمة عن قتادة. وأيوب
السختياني. وهشام بن حسان كلهم عن محمد بن سيرين أن شريحا قال في المرأة إذا وهبت
من مالها فإنه لا تجوز لها هبتها حتى تلد ولدا أو تبلغ انى ذلك (2) وهو سنة * ومن طريق
ابن أبي شيبة عن أبي داود الطيالسي عن سعيد بن عبد الرحمن عن الحسن. ومحمد بن سيرين
قال محمد: لا تجوز لا مرأة عطية حتى تحول حولا أو تلد ولدا فقال الحسن: حتى تلد
ولدا أو تبلغ أنى ذلك * ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبيد الله بن عثمان بن الأسود عن عطاء
ومجاهد قالا جميعا: لليتيمة خناقان (3) لا يجوز لها شئ في مالها حتى تلد ولدا أو تمضى عليها سنة
في بيت زوجها، وهو قول قتادة. والشعبي الا أنه اختلف عنه إذا عنست قبل ذلك فروينا عنه
من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت للشعبي: أرأيت ان عنست أيجوز يعنى
هبتها؟ قال: نعم * وروينا عنه من طريق ابن أبي زائدة عن إسماعيل بن أبي خالد قلت للشعبي:
أرأيت ان عنست؟ قال: لا يجوز كلاهما من طريق ابن أبي شيبة عن وكيع وابن أبي زائدة
ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن المغيرة عن الشعبي قال: إذا حالت في بيتها حولا
جاز لها ما صنعت قال المغيرة: وقال إبراهيم: إذا ولدت الجارية أو ولد مثلها جازت هبتها وهو
قول الأوزاعي. وأحمد بن حنبل. وإسحاق بن راهويه. وقول آخر روى عن أنس
ابن مالك وهو أنه لا يجوز لذات زوج عطية في شئ من مالها الا باذن زوجها *



(1) في النسخة رقم 16 (في بيتها)
(2) أي حين ذلك وسقط لفظ (انى ذلك) من النسخة رقم 16
(3) هو تثنية خناق بكسر أوله وأصله حبل يخنق به استعير إلى الضيق والمنع
310
ومن طريق العرزمي عبد الملك عن عطاء عن أبي هريرة قال: لا يحل للمرأة أن
تتصدق من بيت زوجها الا باذنه وان صفية بنت أنى عبيد كانت لا تعتق - ولها ستون
سنة - إلا باذن ابن عمر * قال أبو محمد: هذا ليس فيه دليل على أنه كان لا يرى لها ذلك جائزا دون اذنه لكنه
على حسن الصحبة فقط * وروينا من طريق سفيان بن عيينة عن عبد الله بن طاوس
عن أبيه قال: لا تجوز لامرأة عطية الا باذن زوجها، وقد روى هذا عن الحسن.
ومجاهد وهو قول الليث بن سعد فلم يجز لذات الزوج عتقا ولا حكما في صداقها ولا
غيره إلا باذن زوجها الا الشئ اليسير الذي لابد لها منه في صلة رحمن أوما يتقرب
به إلى الله عزو جل *
وممن روى عنه مثل قولنا كما روينا من طريق مسلم نا محمد بن عبيد الغبرى (1) نا حماد
ابن زيد عن أيوب السختياني عن ابن أبي مليكة أن أسماء بنت أبي بكر الصديق قالت: كنت
أخدم الزبير خدمة البيت وأسوس فرسه كنت أحتش له وأقوم عليه فلم يكن شئ أشد
على من سياسة الفرس ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم سبى فأعطاها خادما ثم ذكرت حديثا وفيه
أنها باعتها قالت: فدخل الزبير وثمنها في حجري فقال: هبيها إلي قالت: أنى لكن
تصدقت بها * فهذا الزبير. وأسماء بنت الصديق قد أنفذت الصدقة بثمن خادمها وبيعها
بغير إذن زوجها ولعلها لم تكن تملك شيئا غيرها أو كان أكثر ما معها كما روينا من طريق
أحمد بن شعيب أنا الحسن بن محمد - هو ابن الصباح - عن حجاج - هو ابن محمد الأعور -
عن ابن جريج (2) أخبرني ابن أبي مليكة عن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أسماء بنت أبي
بكر [أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت]: (3): (يا نبي الله ليس لي شئ الا ما أدخل على
الزبير فهل على جناح في أن أرضخ مما يدخل علي؟ قال: ارضخي (4) ما استطعت ولا توكى (5)
فيوكى عليك) فلم ينكر الزبير ذلك * وروينا من طريق حماد بن سلمة أنا يونس بن
عبيد عن محمد بن سيرين أن امرأة رأت فيما يرى النائم أنها تموت إلى ثلاثة أيا فأقبلت
على ما بقي من القرآن عليها فتعلمته وشذبت ما لها وهي صحيحة فلما كان يوم الثالث دخلت على
جاراتها فجعلت تقول: يا فلانة أستودعك الله وأقرأ عليك السلام فجعلن يقلن لها: لا تموتين
اليوم لا تموتين اليوم إن شاء الله فماتت فسأل زوجها أبا موسى الأشعري عن ذلك؟ فقال



(1) هو بضم الغين المعجمة بعدها باء موحدة مفتوحة، وفى نسخة رقم 16 (محمد
ابن أبي عبيد الغبرى) وهو غلط
(2) في سنن النسائي ج 5 ص 74 (قال قال ابن جريج)).
(3) الزيادة من سنن النسائي
(4) هو براء وضاد معجمة - العطية القليلة
(5) أي لا تبخلي
311
له أبو موسى، أي امرأة كانت امرأتك فقال: ما أعلم أحدا كان أحرى منها (1) أن
تدخل الجنة الا الشهيد ولكنها فعلت ما فعلت وهي صحيحة، فقال أبو موسى: هي كما
تقول فعلت ما فعلت وهي صحيحة (2) فلم يرده أبو موسى * ومن طريق حماد بن سلمة
عن عدى بن عدي الكندي قال: كتبت إلى عمر بن عبد العزيز أسأله عن المرأة تعطى من
ما لها بغير اذن زوجها؟ فكتب أما هي سفيهة أو مضارة فلا يجوز لها وأما هي غير سفيهة
ولا مضارة فيجوز (3) * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن سماك بن الفضل قال:
كتب عمر بن عبد العزيز في امرأة أعطت من مالها إن كانت غير سفيهة ولا مضارة فأجز
عطيتها (4) * وعن ربيعة أنه قال: لا يحال بين المرأة وبين ان تأتى القصد في مالها في حفظ
روح (5). أو صلة رحم. أوفى مواضع المعروف إذا لم يجز للمرأة أن تعطى من مالها
شيئا كان خيرا لها أن لا تنكح وانها إذا تكون بمنزلة الأمة * ومن طريق حماد بن سلمة
عن قيس - هو ابن سعد - قال: قال عطاء بن أبي رباح: تجوز عطية المرأة في مالها *
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني عن ابن سيرين قال: إذا
أعطت المرأة الحديثة السن ذات الزوج قبل السنة عطية فلم ترجع حتى تموت فهو
جايز * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري قال: إذا أعطت المرأة من مالها
في غير سفه ولا ضرار جازت عطيتها وان كره زوجها *
قال أبو محمد: أما قول مالك فما نعلم له متعلقا لا من القرآن. ولا من السنن.
ولا من رواية سقيمة. ولا من قول صاحب. ولا تابع. ولا أحد قبله نعلمه الا رواية
عن عمر بن عبد العزيز قد صح عنه خلافها كما ذكرنا آنفا ولم يأت عنه أيضا تقسيمهم
المذكور ولا عن أحد نعلمه. ولا من قياس. ولا من رأى له وجه بل كل ما ذكرنا مخالف
لقوله ههنا على ما نبين إن شاء الله تعالى، والرواية عن عمر رويناها (6) من طريق
عبد الزراق عن معمر عن الزهري قال: جعل عمر بن عبد العزيز للمرأة إذا قالت:
أريد أن أصل ما أمر الله به وقال زوجها: هي تضارني فأجاز لها الثلث في حياتها،
وهم قد خالفوا عمر بن عبد العزيز في سجوده: (إذا السماء انشقت) وفى عشرات من القضايا،
وهم قد خالفوا ههنا عمر بن الخطاب. وأنس بن مالك. وأبا هريرة. وأبا موسى



(1) في النسخة رقم 16 (أدنى منها)
(2) سقط هنا جمل من النسخة الحلبية
(3) في النسخة رقم 14، والنسخة الحلبية (فإنه يجوز)
(4) في النسخة رقم 16 (فأقر عطيتها)
(5) في النسخة رقم 16 (في حفظ زوج) وكذلك النسخة الحلبية
(6) في النسخة رقم 16 والحلبية (روينا)
312
الأشعري. والزبير. وأسماء. وجميع الصحابة على ما نذكر إن شاء الله تعالى. وشريحا.
والشعبي. والنخعي. وعطاء. وطاوسا. ومجاهدا. والحسن. وابن سيرين.
وقتادة. وعمر بن عبد العزيز. وغيرهم، و العجب من تقليدهم عمر رضي الله عنه في
امرأة المفقود. وفى ما يدعونه عليه من الحد في الخمر ثمانين. ومن تأجيل العنين سنة.
ومن تحريمه على من تزوج في العدة ودخل أن يتزوجها في الأبد وقد خالفه غيره من الصحابة
في كل ذلك ورجع هو عن بعض ذلك، ثم لم يقلدوه ههنا، وهلا قالوا ههنا: مثل
هذا لا يقال بالرأي كما قالوه في كثير مما ذكرنا، فان عمر ومن ذكرنا معه أبطلوا فعل
المرأة جملة قبل أن تلد أو تبقى في بيت زوجها سنة ثم أجازه (1) بعد ذلك جملة ولم يجعل
للزوج في شئ من ذلك مدخلا ولاحد ثلثا من أقل ولا من أكثر * وأما الحنيفيون
فيلزمهم مثل هذا سواء سواء لأنهم قلدوا عمر في حد الخمر. وفى تأجيل العنين سنة
وفيما ادعوا عليه من شرب النبيذ المسكر وكذبوا في ذلك فهلا قلدوه ههنا وقالوا: مثل
هذا لا يقال بالرأي، ولكن القوم في غير حقيقة، ونحمد الله تعالى على نعمه *
قال أبو محمد: وموه المالكيون بأن قالوا: صح عن النبي صلى الله عليه وسلم (تنكح المرأة
لما لها وجمالها وحسبها ودينها) قالوا: فإذا نكحها لما لها فله في مالها متعلق وقالوا: قسناها على
المريض. والموصى *
قال على: وهذا تحريف للسنة عن مواضعها وأغث ما يكون من القياس وأشده
بطلانا، أما الخبر المذكور فلا مدخل فيه لشئ من قولهم في إجازة الثلث وابطال ما زاد
وإنما يمكن أن يتعلق به من يذهب (2) إلى ما روى عن أبي هريرة. وأنس. وطاوس.
والليث تعلقا مموها أيضا على ما نبين إن شاء الله تعالى * وأما قياسهم المرأة على المريض
فهو قياس للباطل على الباطل احتجاج للخطأ بالخطأ، ثم لو صح لهم في المريض
ما ذهبوا إليه لكانوا قد أخطأوا من وجوه * أحدها أن المرأة صحيحة وإنما احتاطوا
بزعمهم على المريض لا على الصحيح، وقياس الصحيح على المريض باطل عند كل من
يقول بالقياس لأنهم إنما يقيسون الشئ على مثله لا على ضده * والثاني أنه لا علة
تجمع بين المرأة الصحيحة وبين المريض ولا شبه بينهما أصلا، والعلة عند القائلين به اما
على علة جامعة بين الحكمين واما على شبه بينهما * والثالث أنهم يمضون فعل
المريض في الثلث ويبطلون ما زاد على الثلث وههنا يبطلون الثلث وما زاد على



(1) في النسخة رقم 14 (ثم أجازوه) وهو لا يناسب قوله بعد: ولم يجعل
(2) في النسخة رقم 16 (من ذهب)
313
الثلث فقد أبطلوا قياسهم * والرابع أنهم يجيزون للمرأة ثلثا بعد ثلث ولا
يجيزون ذلك للمريض فجمعوا في هذا الوجه مناقضة القياس. وابطال أصلهم في الحياطة
للزوج لأنها لا تزال تعطى ثلثا بعد ثلث حتى تذهب المال إلا ما لا قدر له وهذا تخليط لا نظير
له، فان قالوا: قسناها على الموصى قلنا: المنفذ غير الموصى ودخل عليهم كل ما أدخلناه
آنفا في قياسهم على المريض، فان قالوا: إن للزوج طريقا في مالها إذ قد تتزوج بالمال
فسنذكر ما يفسد به هذا القول إن شاء الله تعالى إثر هذا في كلامنا على من يمنعها من الحكم في
شئ من مالها لان هذا الاحتجاج إنما هو لهم لا للمالكيين بل هو عليهم لأنه لو صح لكان موجبا
للمنع من قليل ما لها وكثيره لكن نسألهم عن الحرة لها زوج عبد والكافرة لها زوج مسلم والتي
تسلم تحت كافر هل لهؤلاء منعهن من الصدقة بأكثر من الثلث أم لا؟ فان قالوا: لا تناقضوا
وان قالوا: نعم زادوا أخلوقة، فان قالوا: هي محتاجة إلى ما يتقرب به إلى الله عز وجل
فلم يجز منعها من جميع مالها وكان الثلث قليلا قلنا: هذا يفسد من وجوه، أحدها أنها
إن كانت محتاجة إلى ما يتقرب به إلى الله تعالى فما الذي أوجب أن تمنع من التقرب إلى الله
تعالى بالكثير الزائد على الثلث كغيرها ولا فرق؟ وثانيها أن نقول لهم: والمحجور
السفيه محتاج باقراركم إلى ما يتقرب إلى الله تعالى به كما توجبون عليه الصلاة. والصيام.
والزكاة والحج. وسائر الشرائع فأبيحوا له الثلث أيضا بهذا الدليل السخيف نفسه، فان
قالوا: المرأة ليست سفيهة قلنا: فأطلقوها على مالها ودعوا هذا التخليط بما لا يعقل *
وثالثها (أن النبي صلى الله عليه وآله قال: الثلث والثلث كثير) فقلتم: أنتم أنه قليل وحسبكم هذا
الذي نستعيذ الله من مثله، ورابعها أن الثلث عند كم مرة كثير فتردونه كالجوائح ومرة
قليل فتنفذونه مثل هذا الموضع وشبهه، فكم هذا التناقض والقول في دين الله تعالى بمثل
هذه الآراء؟ وخامسها أن حجة الزوج في مالها كحجة الولد. أو الوالد. أو الأخ بل
ميراث هؤلاء أكثر لان الزوج مع الولد ليس له الا الربع وللولد ثلاثة الأرباع،
والوالد. والولد كالزوج في أنهم لا يحجبهم أحد عن الميراث أصلا فامنعوها مع الولد.
والوالد من الصدقة بأكثر من الثلث بهذا الاحتياط الفاسد لا سيما وحق الأبوين فيما أوجب
عندهم وعندنا من حق الزوج لان الأبوين ان افتقرا قضوا بنفقتهما وكسوتهما
واسكانهما وخدمتهما عليها في مالها أحبت أم كرهت، ولا يقضون للزوج في مالها بشئ
ولو مات جوعا وبردا، فكيف احتاطوا للأقل حقا ولم يحتاطوا للأكثر حقا فلاح
فساد هذا القول الذي لا ندري كيف ينشرح صدر من له أدنى تمييز لتقليد من أخطأ فيه
الخطأ الذي لا خفاء به وخالف فيه كل متقدم نعلمه الا رواية عن عمر بن عبد العزيز

314
قد صح عنه خلافها ليس أيضا في تقسيمهم ذلك (1) وبالله تعالى التوفيق * وأما من منعها من
أن تنفذ في مالها شيئا إلا باذنه فإنهم احتجوا بالخبر المذكور وبقوله تعالى: (الرجال
قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) *
وبما رويناه من طريق الليث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قيل لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: أي النساء خير؟ قال: الذي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر
ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره * وبما حدثناه أحمد بن عمر نا محمد بن أحمد بن
نوح الأصبهاني نا عبد الله بن محمد بن الحسن المديني نا محمد بن إسماعيل الصائغ نا
الحسن بن عبد الغفار بن داود نا موسى بن أعين عن ليث بن أبي سليم عن عبد الملك قال
الصائغ: ليس هو العرزمي عن عطاء عن ابن عمر سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم ما حق الزوج على
زوجته (2)؟ قال: (لا تصدق الا باذنه فان فعلت كان له الاجر وكان عليها الوزر) *
ومن طريق عمرو بن شعيب أن أباه حدثه عن عبد الله بن عمرو بن العاص: (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة خطب فقال: تجوز لامرأة عطية في مالها الا باذن زوجها) *
ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن رجل وعن عبد الله بن طاوس قال الرجل:
عن عكرمة وقال ابن طاوس: عن أبيه، ثم اتفقا: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
لا يحل (3) لامرأة شئ في مالها الا باذن زوجها) هذا لفظ طاوس، ولفظ عكرمة
(في مالها شئ) ما نعلم لهم شيئا غير هذا أصلا، وكل هذه النصوص - الآية والاخبار -
ما صح منها وما لم يصح فحجة على المالكيين ومبطل لقولهم في إباحة الثلث ومنعهم مما زاد،
فاما الخبر (تنكح المرأة لأربع) فليس فيه الغبيط بذلك ولا الحض عليه ولا اباحته
فضلا عن غير ذلك بل فيه الزجر عن أن تنكح لغير الدين لقوله عليه السلام في هذا الخبر
نفسه: (فاظفر بذات الدين) فقصر أمره على ذات الدين فصار من نكح للمال غير محمود
في نيته تلك، ثم هبك أنه مباح مستحب أي دليل فيه على أنها ممنوعة من مالها بكونه أحد
الطماعين في مال لا يحل له منه شئ الا ما يحل من ماله جاره؟ وهو ما طابت له به نفسها ونفس
جاره ولا مزيد، وأيضا فان الله تعالى افترض في القرآن والسنة التي أجمع أهل الاسلام
عليهما اجماعا مقطوعا به متيقنا أن على الأزواج نفقات الزوجات وكسوتهن واسكانهن
وصدقاتهن وجعل لهن الميراث من الرجال كما جعله للرجال (4) منهن سواء سواء فصار
بيقين من كل ذي مسكة عقل حق المرأة في مال زوجها واجبا لازما حلالا يوما بيوم



(1) في النسخة رقم 16 (ليس لها في تقسيمهم في ذلك)
(2) في النسخة رقم 14 (على الزوجة)
(3) في النسخة رقم 14 (لا يجوز)
(4) في النسخة رقم 16 (للرجل) فيهما *
315
وشهرا بشهر وعاما بعام وفى كل ساعة وكرة الطرف لا تخلو ذمته من حق لها في ماله بخلاف
منعه من مالها جملة. وتحريمه عليه إلا ما طابت له نفسها به ثم ترجو من ميراثه بعد الموت
كما يرجو الزوج في ميراثها ولا فرق، فإن كان ذلك موجبا للرجل منعها من مالها فهو للمرأة
أوجب وأحق في منعه من ماله الا باذنها لان لها شركا واجبا في ماله وليس له في مالها الا
التب والزجر فيا للعجب في عكس الأحكام. فإن لم يكن ذلك مطلقا لها منعه من ماله خوف
أن يفتقر فيبطل حقها اللازم فأبعد والله وأبطل أن يكون ذلك موجبا له منعها من مال
لا حق له فيه ولاحظ الاحظ الفيل من الطيران، والعجب كل العجب من اطلاقهم له المنع من
مالها أو من شئ منه وهو لو مات جوعا أو جهدا أو هزالا أو بردا لم يقضوا له في مالها
بنواة يزدردها ولا بجلد يستتر به فكيف استجازوا هذا؟ ان هذا لعجب! فبطل تعلقهم
بهذا الخبر جملة *
وأما قول الله تعالى: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض
وبما أنفقوا من أموالهم) فان الله تعالى لم يخص بهذا الكلام زوجا من أب ولا من أخ،
ثم لو كان فيها نص على الأزواج دون غيرهم لما كان فيها نص ولا دليل على أن له منعها
من مالها ولا من شئ منه، وإنما كأن يكون فيه أن يقوموا بالنظر في أموالهن وهم لا يجعلون
هذا للزوج أصلا بل لها عندهم أن توكل في النظر في مالها من شاءت على رغم أنف زوجها
ولا خلاف في أنها لا ينفذ عليها بيع زوجها لشئ من مالها لا ما قل ولا ما كثر لا لنظر
ولا لغيره ولا ابتياعه لها أصلا، فصارت الآية مخالفة لهم فيما يتأولونه فيها، وصح
أن المراد بقول تعالى: (الرجال قوامون على النساء) ما لا خلاف فيه من وجوب نفقتهن
وكسوتهن عليهم، فذات الزوج على الزوج وغير ذات الزوج ان احتاجت على أهلها
فقط وبالله تعالى التوفيق، فصارت الآية حجة عليهم وكاسرة لقولهم *
وأما حديث أبي هريرة فان يحيى بن بكير رواه عن الليث وهو أوثق الناس فيه عن
ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه: (ولا تخالفه في
نفسها وماله بما يكره) وهكذا رويناه أيضا من طريق أحمد بن شعيب انا عمرو بن علي
نا يحيى - هو ابن سعيد القطان - نا ابن عجلان نا سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة:
(سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خير النساء؟ قال: التي تطيع إذا أمر وتسر إذا نظر وتحفظه
في نفسها وماله) (1) ثم لو صح ومالها دون معارض لما كان لهم في تلك الرواية متعلق
لان هذا اللفظ إنما فيه الندب فقط لا الايجاب وإنما الطاعة في الطاعة والمنع من الصدقة



(1) الذي يظهر أن المصنف أتى بالرواية معنى لا لفظا انظر سنن النسائي ج 6 ص 68
316
وفعل الخير ليس طاعة بل هو صد عن سبيل الله تعالى فبطل تعلقهم بهذا الخبر *
وأما خبر ابن عمر فهالك لان فيه موسى بن أعين وهو مجهول. وليث بن أبي سليم
وليس بالقوى * وأما حديث عبد الله بن عمرو فصحيفة منقطعة، ثم لو صح لكان منسوخا
بخبر ابن عباس الذي نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى * وأما خبر طاوس. وعكرمة
فمرسلان فبطل كل ما شغبوا به، وبالله تعالى التوفيق *
قال أبو محمد: فإذ قد سقطت هذه الأقوال فالتحديد الوارد عن عمر رضي الله عنه
ومن اتبعه في أن لا يجوز لها عطية إلا بعد أن تلد أو تبقى في بيت زوجها سنة فلا حجة
في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما افترض الله تعالى الرجوع عند التنازع إلى
القرآن. والسنة لا إلى قول أحد دون ذلك، وبالله تعالى التوفيق *
قال على: فبطلت الأقوال كلها إلا قولنا ولله تعالى الحمد * ومن الحجة لقولنا
قول الله تعالى: (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها) فبطل بهذا منعها من مالها طمعا
في أن يحصل للمانع بالميراث أبا كان أو زوجا، وقول الله تعالى: (والمتصدقين
والمتصدقات) وقال تعالى: (وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي. أحد كم الموت)
فلم يفرق عز وجل بين الرجال في الحض على الصدقة وبين امرأة. ورجل، ولا بين
ذات أب بكر. أو غير ذات أب ثيب. ولا بين ذات زوج. ولا أرملة، فكان التفريق
بين ذلك باطلا متيقنا وظلما ظاهرا ممن قامت الحجة عليه في ذلك فقلد، وبالله تعالى التوفيق *
وقد ذكرنا في صدر هذا الباب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بالصدقة
ولم يشترط عليها إذن الزبير ولا ثلثا فما دون فما فوق بل قال لها: (ارضخي ما
استطعت ولا توكى فيوكى عليك) * ومن طريق سفيان بن عيينة نا أيوب السختياني
سمعت عطاء قال: سمع ابن عباس يقول: أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم لصلى (1) قبل
الخطبة ثم خطب فرأى أنه لم يسمع النساء فأتاهن فذكرهن ووعظهن وأمرهن بالصدقة
وبلال قائل بثوبه فجعلت المرأة تلقى الخاتم والخرص والشئ *
ومن طريق مسلم نا أبو الربيع الزهراني نا حماد - هو ابن زيد - نا أيوب السختياني عن
محمد بن سيرين عن أم عطية عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه أمر أن يخرج في العيدين العواتق
وذوات الخدور) (2) * ومن طريق مسلم نا قتيبة نا إسماعيل بن جعفر عن داود
ابن قيس عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح العامري عن أبي سعيد الخدري (أن



(1) في النسخة رقم 16 (شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى) وما هنا موافق لما
في صحيح مسلم ج 1 ص 241
(2) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 242
317
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى ويوم الفطر وكأن يقول: تصدقوا تصدقوا
وكان أكثر من يتصدق النساء (1) فهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم النساء بالصدقة عموما نعم
وجاء (ولو من حليكن وفيهن العواتق المخدرات ذوات الآباء. وذوات الأزواج) فما
خص منهن بعضا دون بعض وفيهن المقلة. والغنية فما خص مقدارا دون مقدار، وهذا
آخر فعله عليه السلام. وبحضرة جميع الصحابة. وآثار ثابتة، ولله تعالى الحمد *
1397 مسألة وللمرأة حق زائد وهو أن لها أن تتصدق من مال زوجها أحب
أم كره وبغير اذنه غير مفسدة وهي مأجورة بذلك، ولا يجوز له أن يتصدق من مالها بشئ
أصلا الا باذنها قال تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا عليها) فبطل بهذا حكم أحد في مال
غيره، ثم وجب أن يخص من ذلك ما خصه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا
من طريق أسماء بنت أبي بكر الصديق في الباب الذي قبل هذا * وروينا من طريق مسلم نا
محمد بن رافع نا عبد الرزاق نا معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا باذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد الا باذنه
وما أنفقت من كسبه من غير أمره فان نصف أجره له) * ومن طريق أحمد بن شعيب
أخبرني أحمد بن حرب نا أبو معاوية عن الأعمش عن سفيان عن عائشة أم المؤمنين
قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غيره مفسدة كان له
أجره بما كسب ولها مثله بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينقص من أجورهم
شئ) * ورويناه أيضا من طريق محمد بن جعفر نا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت
أبا وائل يحدث عن عائشة أم المؤمنين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تصدقت المرأة من
بيت زوجها كان لها أجر وللزوج مثل ذلك. وللخازن مثل ذلك ولا ينقص كل واحد
[منهما] (2) من أجر صاحبه شيئا) *
قال أبو محمد أبو وائل أدرك الجاهلية وأدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغير منكر أن
يسمعه من أم المؤمنين ومن مسروق عنها أيضا *
قال على: واعترض بعض الجهال في هذه الآثار القوية برواية تشبهه من طريق العرزمي
عن عطاء عن أبي هريرة (لا يحل للمرأة أن تتصدق من بيت زوجها بغير اذنه) وهذا
جهل شديد لأنه لا يصح عن أبي هريرة لضعف العرزمي ثم لو صح فلا يعارض قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم برأي من دونه الا فاسق، فان قالوا: أبو هريرة روى هذا وهو تركه قلنا: قد
مضى الجواب وإنما افترض علينا الانقياد لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم لا للباطل الذي لم يصح



(1) هو في صحيح مسلم مطولا ج 1 ص 242
(2) الزيادة من سنن النسائي ج 5 ص 65
318
عمن دونه نعم ولا لما صح عمن دونه، والحجة في رواية أبي هريرة لا في رأيه، وقد
أفردنا لما تنقاضوا في هذا المكان بابا ضخما فكيف وقد صح عن غير أبي هريرة
القول بهذا؟ كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي
خالد عن قيس بن أبي حازم عن امرأته أنها كانت عند عائشة أم المؤمنين فسألتها امرأة
هل تتصدق المرأة من بيت زوجها؟ فقالت عائشة: نعم ما لم تق مالها بماله *
فان ذكروا ما روينا من طريق عبد الرزاق عن إسماعيل بن عياش عن شرحبيل بن
مسلم الخولاني عن أبي أمامة الباهلي: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تنفق المرأة
شيئا من بيت زوجها الا باذن زوجها قيل: يا رسول الله ولا الطعام؟ قال: ذلك أفضل
أموالنا) * وما روينا من طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن مورق العجلي (أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم سألته امرأة ما يخل من أموال أزواجهن؟ قال: الرطب تأكلينه وتهدينه) *
ومن طريق حماد بن سلمة عن يونس بن عبيد عن زياد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله: الا أنه قال
: (الرطب) بفتح الراء واسكان الطاء وفى الأول بضم الراء وفتح الطاء *
قال أبو محمد: فهذا كله لا شئ حديث عبد الرزاق عن إسماعيل بن عياش وهو
ضعيف عن شرحبيل بن مسلم (1) وهو مجهول لا يدرى من هو لا يعارض بمثله الثابت
من طريق أسماء. وعائشة. وأبي هريرة المتواتر عنهم من طريق ابن أبي مليكة.
وعباد بن عبيد الله بن الزبير. وفاطمة بنت المنذر عن أسماء. ومسروق. وشقيق
عن عائشة. والأعرج. وهمام بن منبه عن أبي هريرة هذا نقل تواتر يوجب العلم في
أعلام مشاهير بمثل هذا السقوط والضعف الذي لو أنفرد عن معارض لم يحل الاخذ
به، والآخران مرسلان على أن فيهما خلافا لقول المخالف لان فيه إباحة الرطب جملة
وقد تعظم قيمته، وقد رويت مراسيل (2) أحسن من هذا بخلاف قولهم كما روينا
من طريق الحجاج بن المنهال نا يزيد بن زريع نا يونس بن عبيد عن الحسن: (قال
رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صاحبتي تتصدق من مالي وتطعم من طعامي قال: أنتما شريكان
قال: أرأيت انها نهيتها عن ذلك؟ قال: لها ما نوت ولك ما بخلت) * ومن طريق
ابن عباس ان امرأة قالت له: آخذ من مال زوجي فأتصدق به؟ قال: الخبز والتمر
قالت: فدراهمه قالت: أتحبين أن يتصدق عليك قالت: لا قال: فلا تأخذي دراهمه
الا باذنه أو نحو هذا * قال على: يكفي من هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غير مفسدة)،



(1) شرحبيل بن مسلم ضعفه ابن معين وقال أحمد من ثقات الشاميين أنظره في تهذيب
التهذيب
(2) في النسخة رقم 14 (مرسل) وما هنا موافق لما ذكره بعد
319
فهذا يجمع البيان كله، وقال تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) وقال تعالى:
(وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم)
فمن خالف هذا لم يلتفت إليه وبالله تعالى التوفيق *
1398 مسألة والعبد في جواز صدقته. وهبته. وبيعه. وشرائه كالحر،
والأمة كالحرة ما لم ينتزع سيدهما مالهما * برهان ذلك ما ذكرناه قبل من أمر الله تعالى
بالصدقة. وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بها. وقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم
ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون * وأنفقوا مما رزقناكم
من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول: رب لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن
من الصالحين) وقوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) ولا خلاف في أن العبد.
والأمة مخاطبان بالاسلام وشرائعه ملزمان بتخليص أنفسهما والتقرب إلى الله تعالى بصالح
الاعمال موعدان بالجنة متوعدان بالنار كالأحرار ولا فرق، فالتفريق بينهما خطأ
الا حيث جاء النص بالفرق بينهما *
قال على: أما المالكيون ففحش اضطرابهم ههنا وذلك (1) أنهم أباحوا التسري بإذن مولاه
والله تعالى يقول: (والذين هم لفروجهم حافظون الاعلى أزواجهم أو ما ملكت
أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فاؤلئك هم العادون) ولا خلاف بين
أحد في أن العبدان وطئ أمة سيده فإنه زان فيقال للمالكيين: لا تخلو هذه السرية التي
أبحتم فرجها للعبد من أن يكون ملك يمينه فهذا قولنا فقد صح ملكه لماله وظهر
تناقضهم (2) أو تكون ليست ملك يمينه وإنما هي ملك يمين سيده فهو زان عاد،
وهذا ما لا مخرج منه وإذا ملكها فقد ملك بلا شك ثمنها الذي اشتراها به والذي يبيعها به،
وقال تعالى: (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم
من فتياتكم المؤمنات والله أعلم بايمانكم بعضكم من بعض فانكحوهن باذن أهلهن وآتوهن
أجورهن بالمعروف) فأمر تعالى باعطاء الأمة صداقها وجعله ملكا لها وحقا لها والله
تعالى لا يأمر بن يعطى أحد مال غيره فصح أنهن مالكات كسائر النساء الحرائر ولا فرق *
وأما الحنيفيون. والشافعيون فقالوا: لا يملك العبد أصلا ولم يبيحوا له التسري
الا أن الشافعيين تناقضوا أيضا لأنهم أوجبوا عليه نفقة زوجه وكسوتها فلولا أنه
يملك لما جاز أن يلزم غرامة نفقة وكسوة من لا يجوز أن يملك ولا من لا يمكن أن يملك



(1) في النسخة رقم 14 (وهو) بدل (وذلك)
(2) في النسخة رقم 16 (تناقضكم) وما هنا أنسب لما قبله
320
وأما الحنيفيون فلم يوجبوا عليه نفقة أصلا لكن جعلوه بزواجه جانيا جناية توجب أن
يقضى برقبته لزوجته فينفسخ النكاح إذا ملكته فهل سمع بابرد من هذه الوساوس
المضادة لأحكام القرآن. والسنن. والمعقول بلا دليل أصلا؟ * واحتج المانعون من
ملك العبد بان ذكروا قول الله تعالى: (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ ومن
رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه) *
قال أبو محمد: وقالوا: العبد لا يرث ولا يورث فصح أنه لا يملك وقالوا: العبد
سلعة من السلع ما نعلم لهم شيئا غير هذا أصلا وكله لا حجة لهم فيه، أما قول الله تعالى:
(ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شئ) فلا حجة لهم فيه لوجوه * أو لها أنه لم يقل
الله تعالى: ان هذه صفة كل عبد مملوك وإنما ذكر من المماليك من هذه صفته، وقد قال تعالى:
(وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شئ وهو كل على مولاه أينما يوجهه
لا يأت بخير) فهل يجب من هذا أن تكون هذه صفة كل أبكم أو أن يكون الأبكم لا يملك
شيئا؟ هذا ما لا يقولونه، ولا فرق بين ورود الآيتين، ونحن لا ننكر أن يكون في
الأحرار وفى العبيد من لا يملك شيئا لفقره ولا يقدر على شئ ولكن ليس كلهم كذلك *
والثاني هو أن هذه الآية ليس فيها نص ولا دليل ولا إشارة على ذكر ملك ولا مال وإنما
فيها أنه لا يقدر على شئ فإنما فيها نفى القدرة. والقورة فقط إما بضعف واما بمرض أو
نحو ذلك * والثالث أنهم إذا أسقطوا ملكه بهذا الآية فأحرى بهم أن يسقطوا عنه بها
الصلاة والصوم لأنهما شيئان، وفيها أنه لا يقدر على شئ فوضح فساد تعلقهم بها جملة *
وأما قولهم: إن العبد لا يرث ولا يورث فنعم لان السنة وردت بذلك وليس في هذا
دليل (1) على أنه لا يملك، والعمة لا ترث وليس ذلك دليلا على أنها لا تملك ويخص
الله تعالى بالميراث من شاء كما قال تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين)
وقال تعالى: (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) فدخل في هذا بنو البنات وخرجوا
من الأولى ولم يكن في ذلك دليل على أنهم ليسوا لنا أولادا، وأما قولهم: العبد سلعة فنعم
فكان ماذا؟ إن كانوا من أجل أنه سلعة جعلوه لا يملك فليسقطوا عنه الصلاة. والطهارة.
والصوم. والحدود لان السلع لا يلزمها شئ من ذلك *
قال أبو محمد: يكفي من هذا قول الله تعالى: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين
من عبادكم وإمائكم أن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله) فقد وعدهم الله تعالى بالغنى وأخبر
أن الفقر والغنى جائزان على العبيد. والإماء، ولا يجوز أن يوصف بالفقر الا من يملك



(1) في النسخة رقم 14 (وليس ذلك دليلا)
321
فيعدم مرة ويستغنى أخرى وأما من لا يملك أصلا فلا يجوز أن يوصف بفقر ولا بغنى
كالإبل. والقر. والسباع. والجمادات، وهذا واضح والقرآن. والسنن في أكثر
عهودهما شاهد كل ذلك بصحة قولنا ههنا إذ لم يأت فرق في شئ من الأوامر بالفرق (1)
في الأموال بين حر. وعبد، وبالله تعالى التوفيق * وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
يجيب دعوة المملوك فلو لم يكن مالكا لما له لم يجب عليه السلام دعوته، وقد قبل هدية
سلمان وهو مملوك واكلها عليه السلام كما أخبرنا أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن مفرج نا
إبراهيم بن أحمد بن فراس نا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري نا إسحاق بن راهويه أنا
يحيى بن آدم نا ابن إدريس - هو عبد الله - نا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة (2)
عن محمود بن لبيد عن ابن عباس حدثني سلمان الفارسي من فيه قال: كنت من أهل أصبهان
واجتهدت في المجوسية ثم ذكر الحديث بطوله وأنه عامل ركبا من كلب على أن يحملوه
إلى أرضهم قال: فظلموني فباعوني (3) عبدا من رجل يهودي ثم باعه ذلك اليهودي
من يهودي من بني قريظة، ثم ذكر قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة قال: فلما أمسيت جمعت
ما كان عندي ثم خرجت حتى جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بقبا ومعه نفر من أصحابه
فقلت: كان عند شئ وضعته للصدقة رأيتكم أحق الناس به فجئتكم به فقال عليه السلام:
كلوا وأمسك هو ثم تحول عليه السلام إلى المدينة فجمعت شيئا ثم جئت فسلمت عليه
فقلت: رأيتك لا تأكل الصدقة وكان عندي شئ أحب أن أكرمك به هدية فأكل هو
وأصحابه ثم أسلمت ثم شغلني الرق حتى فاتني بدر ثم قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: كاتب،
وذكر الحديث فقد أجاز عليه السلام صدقة العبد. وهديته ولا حجة في أحد دونه وبالله
تعالى التوفيق، نعم وأجازها معه عليه السلام الحاضرون من أصحابه (4) ولا مخالف
لهم من الصحابة أصلا، واحتج بعضهم بقول الله تعالى: (ضرب لكم مثلا من
أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء) *
قال أبو محمد: ولا حجة لهم فيها لأننا لم نخالفهم في أن عبيدنا لا يملكون أموالنا ولاهم
شركاء لنا فيها وإنما خالفناهم هل يملكون أموالهم وكسبهم أم لا؟ * *
قال أبو محمد: وأما انتزاع السيد مال عبده فمباح وقد جاءت السنة بذلك في الغلام
الذي حجم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خراجه؟ فأخبر فأمر عليه



(1) في النسخة رقم 16 والنسخة الحلبية (بالقرب) وهو تصحيف
(2) في النسخة رقم 14 (عن عاصم بن عمر بن حبيب بن قتادة) وما هنا موافق لما في تهذيب التهذيب
ج 5 ص 53
(3) في النسخة رقم 14 (وباعوني)
(4) في النسخة رقم 14 (من الصحابة)
322
السلام بأن يخفف عنه، فصح أن للسيد أخذ كسب عبده فإذا قال السيد: قد انتزعت
كسبك فقد سقط ملك العبد عنه وصار للسيد وبالله تعالى التوفيق *
1399 مسألة وأما من لم يبلغ أو بلغ وهو لا يميز ولا يعقل. أو ذهب
تمييزه بعد أن بلغ مميزا فهؤلاء غير مخاطبين ولا ينفذ لهم أمر في شئ من مالهم (1) لما
ذكرنا من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رفع القلم عن ثلاث فذكر الصبي حتى يبلغ. والمجنون
حتى يبرأ) فإن كان المجنون يفيق تارة ويعقل ويجن أخرى جاز فعله في الساعات التي
يفيق فيها وبطل فعله في الساعات التي يجن فيها لما ذكرنا آنفا ولأنه مخاطب في ساعات عقله
غير مخاطب في ساعات جنونه *
قال على: ومن حجر عليه ماله لصغر. أو جنون فسواء كان عليه وصى من أب أو
من قاض كل من نظر له نظرا حسنا في بيع أو ابتياع أو عمل ما فهو نافذ لازم لا يرد وان
أنفذ عليه الوصي ما ليس نظرا لم يجز لقول الله تعالى: (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله)
ولقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) ولقول الله
تعالى: (إنما المؤمنون اخوة فأصلحوا بين أخويكم) وقوله تعالى: (المؤمنون
والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه
ولا يسلمه) فصح أن كل مسلم فهو ولى لكل مسلم وأنه مأمور بالنظر له بالأحوط.
وبالقيام له بالقسط. وبالتعاون على البر والتقوى، فكل بر وتقوى أنفذه المسلم للصغير
والذي لا يعقل (2) فهو نافذ بنص القرآن ولم يأت قط نص بافراد الوصي بذلك ورد
ما سواه، فان قيل: فأجيزوا هذا في الصغير الذي له أب قلنا: نعم هكذا نقول ولو
أن أباه يسئ له النظر لمنع من ذلك، فان قالوا: فأجيزوا هذا من المسلمين بعضهم على
بعض بهذا الدليل نفسه قلنا: منعنا (3) من ذلك قول الله تعالى: (ولا تكسب كل
نفس إلا عليها) فالمخاطب المكلف المتملك ماله لا يجوز لاحد أن يكسب عليه غيره
وأما من ليس مخاطبا ولا مكلفا ولا مملكا ماله فلا شك في أن غيره هو المأمور باصلاح
ماله، فمن سارع إلى ما أمر به من ذلك فهو حقه وكذلك الغائب الذي يضيع ماله،
فكل من سبق إلى حسن النظر فيه نفذ ذلك الا فيما يمنع منه (4) إذا قدم وكان لا ضرر
في ترك انفاذه فهذا ليس لأحد انفاذه عليه لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق *
1400 مسألة ولا يجوز أن يدفع إلى من لم يبلغ شئ من ماله ولا نفقة



(1) في النسخة رقم 14 (من أموالهم)
(2) في النسخة رقم 16 (للصغير الذي لا يعقل)
(3) في النسخة رقم 16 (يمنعنا)
(4) في النسخة رقم 16 (منع منه)
323
يوم فضلا عن ذلك الا ما يأكل في وقته وما يلبس لطرد الحر والبرد من لباس مثله ويوسع عليه في كل ذلك *
1401 مسألة ومن باع ما وجب بيعه لصغير. أو لمحجور غير مميز. أو لمفلس.
أو لغائب (1) بحق. أو ابتاع لهم ما وجب ابتياعه. أو باع في وصية الميت. أو ابتاع
من نفسه للمحجور. أو للصغير. أو لغرماء المفلس. أو للغائب. أو باع لهم من
نفسه فهو سواء كما لو ابتاع لهم من غيره أو باع لهم من غيره ولا فرق، ان لم يحاب نفسه (2)
في كل ذلك ولا غيره جاز وان حابى نفسه أو غيره بطل لأنه مأمور بالقيام بالقسط والتعاون
على البر فإذا فعل ما أمر به فهو محسن وإذ هو محسن فما على المحسنين من سبيل، ولم يأت
قط نص قرآن. ولا سنة بالمنع من ابتياع ممن ينظر له (3) لنفسه أو يتشرى له من نفسه *
فان قيل: إن ابن مسعود قد منع من ذلك كما روينا من طريق عبد الرزاق عن سفيان عن أبي
إسحاق عن صلة بن زفر قال: جاء رجل إلى ابن مسعود على فرس فقال: إن عمى
أوصى إلى بتركته وهذا منها أفأشتريه؟ قال: لا ولا تستقرض من أموالهم شيئا قلنا:
قد روينا ما حدثناه أبو سعيد الجعفري قال: نا أبو بكر محمد بن علي المقرى نا أحمد بن محمد
ابن إسماعيل النحوي عن الحسن بن غليب بن سعيد عن يوسف بن عدي نا أبو الأحوص
نا أبو إسحاق عن يرفا مولى عمر بن الخطاب قال: قال لي عمر بن الخطاب: أنزلت مال
الله تعالى منى بمنزلة مال اليتيم ان احتجت إليه أخذت منه فإذا أيسرت قضيت، فهذا
عمر لا ينكر الاستقراض من مال اليتيم، وكذلك صح عن ابن عمر أيضا ولا فرق بين
أخذ مال اليتيم قرضا ورد مثله بعد ذلك وبين ابتياعه بمثل ثمنه وقيمته واعطاء مثله نقدا *
فان قالوا: يتهم في ذلك قلنا: ويتهم أيضا أنه يدلس أيضا فيما يبتاع له من غيره
أو يبيعه له من غيره فيأكل ويخون في الامرين ولا فرق بين من استجاز عين الوصية ومن
في ولايته فيما يبتاع له من نفسه أو ما يشترى منه لنفسه وبين أن يستجيز ذلك فيما يبتاع له
من غيره أو يبيع له من غيره وما جعل الله قط بين الامرين فرقا يعقل * وقال أبو حنيفة:
لا يبتاع لنفسه من مال يتيمه شيئا، وروى هذا عن الشافعي، وقال أبو حنيفة مرة
أخرى: ان ابتاع منه بأكثر من القيمة جاز وأما بالقيمة فأقل فلا، وقال مالك: يحمل
إلى السوق فان بلغ أكثر بطل عقده والا فهو له لازم * والعجب أنهم منعوا من هذا
وأجازوا أن يرهن عن نفسه مال يتيمه، وأباح المالكيون أن يعتق عبد يتيمه، وهذا



(1) في النسخة الحلبية (أو للغائب)
(2) في النسخة رقم 16 (وان لم يحاب نفسه)
(3) في النسخة رقم 14 (من أن يبتاع من ينظر له)
324
تناقض وعكس للحقائق، وقال بقولنا أبو يوسف. وأبو سليمان. وسفيان الثوري
في أحد قوليه، فعلى كل حال قد خالفوا ابن مسعود وبالله تعالى التوفيق *
1402 مسألة مستدركة، ولا يحل للوصي أن يأكل من مال من إلى نظره
مطارفة لكن ان احتاج استأجره له (1) الحاكم بأجرة مثل عمله لقول الله تعالى: (ولا
تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن) فان ذكروا قول الله تعالى: (ومن كان فقيرا
فليأكل بالمعروف) قلنا: قد قال بعض السلف: ان هذا الاكل المأمور به إنما هو في
مال نفسه لا في مال اليتيم وهو الأظهر لان الله تعالى يقول: (ان الذين يأكلون أموال
اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) فهي حرام أشد التحريم
الا على سبيل الأجرة أو البيع اللذين أباحهما الله تعالى وبالله تعالى التوفيق (2) *
* (هامش) (1) لفظ (له) سقط من النسخة رقم 14 (2) إلى هنا انتهى كتاب الحجر، وقد ذكر المصنف في كتابه
الايصال مسائل كثيرة وفروعا في الفقه زيادة على ما في كتاب المحلى فنسخها كاتب النسخة الحلبية وألحقها
بكتاب المحلى ونبه على ذلك، ولما كانت مشتملة على أحكام فقهية نافعة ألحقتها هنا الا انى فصلتها عن أصل الكتاب
وجعلنا مستقلة خوف اختلاطها بالأصل وهي هذه * (*)
*
زيادة من الايصال في الاكل من مال اليتيم للوصي والقاضي * قال على: ذهب أبو حنيفة
إلى أنه لا يأكل منه شيئا في الحضر قال: فان سافر من أجله أخذ ما يحتاج إليه *
قال على: هذا تقسيم فاسد لا دليل على صحته وذهب مالك إلى أنه لا يأكل منه الا الشئ
اليسير كالحلب والتمر إن كان غنيا وإن كان فقيرا فليأكل بقدر حاجته، وذهب آخرون إلى أنه
لا يحل له أن يأكل من مال اليتيم شيئا روى ذلك عن ابن عباس وهو قول أبى سليمان وأصحابنا *
قال على: فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب الرد إلى كلام الله وما صح من كلام رسوله
عليه السلام كما افترض الله علينا إذ يقول: (فان تنازعتم في شئ فردوه إلى الله والرسول
ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر) ففعلنا فوجدنا الله تعالى يقول: (يسألونك عن اليتامى
قل اصلاح لهم خير وان تخالطوهم فاخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله
لأعنتكم) وقال تعالى: (وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا
فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها اسرافا وبدرا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف
ومن كان فقيرا فيأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا)
وقال تعالى: (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى
أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) وقال تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون
في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) وقال تعالى: (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن

325
حتى يبلغ أشده) وقال تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)
فصح أن كل ما تلونا من الآيات متفق غير مختلف مضموم بعضه إلى بعض ككلمة واحدة
لا يحل غير ذلك لا ترك بعضه وأخذ بعضه ولا ضرب بعضه ببعض، ووجدناه تعالى يقول
مخاطبا لنبيه عليه السلام: (لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال تعالى مخبرا عنه عليه السلام:
(وما ينطق عن الهوى ان هو إلا وحى يوحى) روينا من طرق مسلم حدثني هارون بن سعيد
الأيلي نا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن ثور بن يزيد عن أبي الغيث عن أبي هريرة
. (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال
الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق وأكل مال اليتيم وأكل الربا والتولي
يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) * ومن طريق أحمد بن شعيب أنا
إسحاق بن منصور أنا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن محمد بن عجلان حدثني سعيد بن أبي
سعيد - هو المقبري - عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم إني اخرج حق الضعيفين
اليتيم والمرأة) * ومن طريق أحمد بن شعيب أيضا أخبرني محمد بن بكار نا محمد - هو ابن
مسلمة - عن المقبري عن أبيه عن شريح الخزاعي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني
أخرج حق السفيهين حق اليتيم وحق المرأة) وكل هذا صحيح ثابت * ومن طريق أبى
داود نا عثمان بن أبي شيبة نا جرير بن عطاء عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل
الله تعالى (إنما يأكلون في بطونهم نارا) الآية انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه
وشرابه من شرابه فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم
فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: (ويسألونك عن اليتامى قل: اصلاح لهم
خير وان تخالطوهم فاخوانكم) فخلطوا اطعامهم بطعامه وشرابهم بشرابه *
قال على: هذا كل نص ورد في ذلك مما يصح وهو كله ولله الحمد متفق لا اختلاف في شئ
منه، وذلك أنه قد صح تحريم أموال اليتامى والوعيد بالنار في بطونهم وصلى السعير على آكلها
فكان هذا تحريما للدنو منها جملة الا بالتي هي أحسن وهو حفظها وانماؤها وإيتاؤه إياها فقط
وليس أكلها ولا تملكها شئ منها التي هي أحسن بل التي هي أسوأ بلا خلاف ومن عند عن
الحق هنها فإنه موافق لنا في أنها التي هي أسوأ في أموال الأجنبيين والوعيد بالنار على أموال
اليتامى أشد منه على أموال غيرهم فظهر تناقض المخالفين في هذا * وصح قولنا والحمد لله رب
العالمين، وكذلك قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا) فصح أن
كل ما قل أو كثر من مال اليتيم من الكبائر والحوب بنص القرآن، وكذلك نص حديثه
عليه السلام الذي ذكرنا فإنه أخبر أن أكل مال اليتيم من الموبقات المقرونة بالشرك والقتل

326
قال على: فلم يبق الا الآيتين اللتين تعلق بهما من تعلق فوجب النظر فيهما مضمومتين
إلى هذه الآيات الأخر ولابد لا مفردتين عنها لما نص الله تعالى عليه من أن كلامه لا اختلاف
فيه فصح أنه كله شئ واحد *
قال على: فإذ لابد من ضم تينك الآيتين إلى سائر هذه الآيات وهذا الحديث فلابد في
ذلك من أحد وجهين لا ثالث لهما اما أن يكون في تينك الآيتين استثناء بإباحة في بعض
ما حرم في هذه الآيات الأخر فيستثنى ما فيها ويوقف عنده وأما أن لا يكون فيهما استثناء
شئ مما في هذه الآيات الأخر فيكون حكم الجميع واحدا ومن تعدى هذين الوجهين فهو مخالف
للقرآن متحكم في دين الله تعالى برأيه، وهذا عظيم جدا ونسأل الله التوفيق *
قال على: فنظرنا في الآية التي فيها قول الله تعالى: (ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان
فقيرا فليأكل بالمعروف) فوجدناه تعالى أمر الغنى بالاستعفاف جملة فبطل بهذا قول من
أباح للغنى أكل ما قل أو كثر من مال اليتيم ووجدناه قد أمر الفقير أن يأكل بالمعروف
ولم يقل تعالى: ما الشئ الذي يأكل فلم يحل لاحد أن يتحكم في ذلك برأيه فيكون قائلا على الله
تعالى ما لا علم له به، وهذا مقرون بالشرك قال تعالى: (قل إنما حرم ربى الفواحش ما ظهر
منها وما بطن وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وان
المقدم على هذا بعد ساعة هذه الآية لجرئ هالك نعوذ بالله من الخذلان *
قال على: فلم يكن في معنى هذه الآية وما أمر الله تعالى فيها الا قولان لا ثالث لهما أحدهما
قول من قال: فليأكل بالمعروف أي من مال اليتيم، والثاني قول من قال: فليأكل بالمعروف
أي من مال نفسه لا من مال اليتيم وانها وصية للفقير ان لا نحرمه في النفقة من نفقته التي
رزقه الله تعالى إياه عن يده وفقره *
قال على: يوجب النظر في الصحيح من هذين القولين ليؤخذ به وفى الباطل منهما
فيطرح ويرفض فنظرنا في قول من قال: إن مراد الله تعالى بذلك إباحة الاكل له من
مال اليتيم فوجدناه دعوى بلا دليل وما كان هكذا فهو باطل وحرام أن ينسب إلى
الله عز وجل فسقط هذا القول لتعريه من البرهان وقد قال تعالى: (قال هاتوا برهانكم
ان كنتم صادقين) ثم إذ قد سقط هذا القول فقد صح القول الثاني إذ ليس في الآية الا هذان
القولان فلو لم يكن لنا دليل الا هذا الكفى لأنه برهان ضروري صحيح فكيف والبرهان على
صحته واضح قاطع مقطوع على صحته بيقين لا شك فيه وهو انه لا يحل أن ينسب إلى الله تعالى
شئ من الأحكام يقال فيه هذا مراد الله عز وجل الا بنص أو اجماع متيقن ونحن على يقين
وثقة من أن أموال اليتامى محرمة على الوصي بيقين ونحن على يقين من إباحة مال الوصي لنفسه

327
بلا شك فنحن ان قلنا: إن مراد الله تعالى باطلاقه للفقير أن يأكل بالمعروف إنما هو من مال
نفسه كنا على يقين وصحة من أن الله تعالى قد أراد هذا واباحته بلا شك، وكان من نسب إلى
الله تعالى ما لا يشك في صحته محسنا مصيبا صادقا فوجب الوقوف عند هذا الذي لا تبعة على
قائله فيه ووجدنا من أخبر ان مراد الله تعالى بقوله: (فليأكل بالمعروف) انه من
مال اليتيم مخالف ليقين تحريمه تعالى أموال اليتامى ناسبا إلى الله تعالى برأيه ما لا علم
له به، وهذا حرام لا يحل، فبطل هذا القول جملة والحمد لله رب العالمين *
نا أبو سعيد الفتى نا أبو بكر محمد بن علي بن الأدفوى نا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل
ابن النحاس عن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى نا قبيصة عن سفيان الثوري عن
الأعمش عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس في قوله تعالى: (ومن كان غنيا
فليستعفف) قال ابن عباس: معناه لا يأكل من مال اليتيم قال: (ومن كان فقيرا فليأكل
بالمعروف) قال ابن عباس: يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم وبه إلى ابن النحاس
نا جعفر بن مجاشع نا إبراهيم بن إسحاق نا إبراهيم بن عبد الله نا حجاج - هو ابن محمد - عن
ابن جريج عن عطاء الخراساني عن ابن عباس نسخت الظلم والاعتداء ونسختها: (ان
الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا) *
قال على: كلتا الروايتين عن ابن عباس متفقة مؤديتان إلى منع الوصي الغنى والفقير
من أكل شئ من مال اليتيم وبه نقول، والرواية عن عمر بن الخطاب وعن ابنه رضي الله عنهم
ا في الاستقراض موافقة لقولنا في أنه احراز لمال اليتيم، فحصل قولنا وهو قول الصحابة
رضي الله عنهم *
(فان قيل): كيف تقولون هذا؟ وأنتم تقولون: الفقير هو الذي لا يملك شيئا
أصلا، قلنا وبالله تعالى التوفيق هو كما قلنا ليس في قولنا هنا مناقضة لما قدمنا لأننا قد علمنا
أن كل حي في الأرض فلولا انه له رزق رزقه الله تعالى إياه مياومة ما عاش قال الله تعالى:
(خلقكم ثم رزقكم) فإذ لابد من رزق يعاش به فما ذلك الرزق قلنا: إنه يأكل
بالمعروف وهواما من عمل أو صدقة أو احتشاش وما أشبه ذلك * وروينا من طريق
البخاري انه عليه السلام قال للرجل الذي أراد أن يتزوج المرأة التي عرضت نفسها عليه.
(التمس شيئا ولو خاتما من حديد فلم يجد فقال: أمعك من القرآن شئ قال: نعم)
الحديث، فهذا رجل يعلم النبي صلى الله عليه وسلم انه لا شئ معه غير ازاره لا ما يلبس ولا ما يفضل
عنه ولا خاتم حديد فما فوقه وبيقين يدرى انه قد أكل ما أقام قوته ولولا ذلك ما قدر على
النكاح ولا على المشي إذ مشى يلتمس شيئا فلم يجدو هو في غاية الفقر، فمثل هذا أن يأكل

328
بسم الله الرحمن الرحيم * كتاب الاكراه
1403 مسألة الاكراه ينقسم قسمين. اكراه على كلام. واكراه على فعل،
فالاكراه على الكلام لا يجب به شئ وان قاله المكره كالكفر. والقذف. والاقرار.
والنكاح. والانكاح. والرجعة. والطلاق. والبيع. والابتياع. والنذر.
والايمان. والعتق. والهبة. واكراه الذمي الكتابي على الايمان وغير ذلك لأنه في قوله ما أكره
عليه إنما هو حاك للفظ الذي أمر أن يقوله ولا شئ على الحاكي بلا خلاف، ومن فرق
بين الامرين فقد تناقض قوله، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات ولكل
امرئ ما نوى) فصح أن كل من أكره على قول ولم ينوه مختار اله فإنه لا يلزمه *
والاكراه على الفعل ينقسم قسمين، أحدهما كل ما تبيحه الضرورة كالأكل.
فيما رزقه تعالى من قوته الذي يمسك حياته بالمعروف ولا يحرق فيه *
قال على: ثم رجعنا إلى الآية التي هي (وان تخالطوهم فاخوانكم) والحديث المأثور
في ذلك وهو صحيح فوجدنا هما ليس فيهما إباحة أكل شئ من مال اليتيم أصلا للوصي وإنما
فيهما إباحة المخالطة فقط وهي ضم طعامهم مع طعامه فقط ونحن لا نمنع من هذا إذا لم
يستزد مؤاكل اليتيم على مقدار ما جعل، وقد ذكرنا في كتاب الأطعمة نهية عليه السلام
عن القران الا أن يستأذن صاحبه فحرم بهذا الاستزادة من مال المؤاكل الا باذنه واليتيم
لا اذن له ما لم يبلغ فحرمت الاستزادة من طعامه ما قل أو كثر، وفى نص الآية بيان
لذلك جلى وهو قوله تعالى: (وان تخالطوهم فاخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح) فصح
يقينا أن الفساد في المخالطة محظور وأن الاصلاح فيها حسن، والاصلاح هو أن يتجافى
لليتيم عن زيادة على قدر طعامه فهذا اصلاح لا شك فيه وأن يقتصر على مقدار طعامه فقط،
والافساد هو أن يستوفى جميع طعامه ويتزيد من مال اليتيم، وهذا هو نص قولنا والحمد
لله رب العالمين * قال على: وأما قول المالكيين: وتقسيم الحنيفيين فخال من موافقة
نص. أو سنة صحيحة أو قياس. أو قول صاحب وبالله تعالى التوفيق * قال على: فان
أبى الوصي من النظر لليتيم ولم يجد الحاكم من ينظر له حسبة فليستأجر له وكيلا ناظرا وهذا
إنما هو حظ لليتيم فهذا جائز بلا خلاف لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمؤاجرة وأما من عمل
له حسبة فلا يحل له أن يأكل من ماله شيئا فيكون أكل مال اليتيم بالباطل وبالله تعالى التوفيق *
(انتهى من كتاب الايصال)

329
والشرب فهذا يبيحه الاكراه لان الاكراه ضرورة فمن أكره (1) على شئ من هذا
فلا شئ عليه لأنه أتى مباحا له اتيانه، والثاني ما لا تبيحه الضرورة كالقتل. والجراح.
والضرب. وافساد المال فهذا لا يبيحه الاكراه فمن أكراه على شئ من ذلك لزمه القود
والضمان لأنه أتى محرما عليه اتيانه، والاكراه هو كل ما سمى في اللغة إكراها وعرف
بالحسن أنه اكراه كالوعيد بالقتل ممن لا يؤمن منه انفاذ ما توعد به. والوعيد بالضرب
كذلك. أو الوعيد بالسجن كذلك. أو الوعيد بافساد المال كذلك. أو الوعيد في مسلم
غيره بقتل. أو ضرب. أو سجن. أو افساد مال لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو
المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) *
1404 مسألة فمن أكره على شرب الخمر. أو أكل الخنزير. أو الميتة.
أو الدم. أو بعض المحرمات. أو أكل مال مسلم. أو ذمي فمباح له أن يأكل. ويشرب
ولا شئ عليه لاحد ولا ضمان لقول الله عز وجل: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا
ما اضطررتم إليه) وقوله تعالى: (فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه) ولقوله تعالى:
(فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم) فإن كان المكره على أكل مال مسلم له مال
حاضر فعليه قيمة ما أكل (2) لان هكذا هو حكم المضطر فإن لم يكن له مال حاضر فلا
شئ عليه فيما أكل لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق * فان قيل: فهلا أبحتم قتل النفس للمكره
والزنا. والجراح والضرب. وافساد المال بهذا الاستدلال؟ قلنا: لان النص لم
يبح له قط أن يدفع عن نفسه ظلما بظلم غيره ممن لم يتعد عليه وإنما الواجب عليه دفع الظالم
أو قتاله لقوله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان)
ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده إن استطاع فإن لم يستطع
فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الايمان ليس وراء ذلك من الايمان شئ)
فصح أنه لم يبح له قط العون على الظلم لا لضرورة ولا لغيرها وإنما فسح له ان عجز في أن
لا يغيره بيده ولا بلسانه وبقى عليه التغيير بقلبه ولا بد والصبر لقضاء الله تعالى فقط
وأبيح له في المخمصة (3) بنص القرآن الأكل والشرب وعند الضرورة (4) وبالله
تعالى التوفيق *



(1) في النسخة رقم 16 (ومن أكره)
(2) في النسخة رقم 16 (له مال حاضر معه فعليه بالاكل)
(3) أي مجاعة تورث خمص البطن أي ضموره
(4) في النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية (عند الضرورة) بدون واو، والظاهر ما هنا فيكون أباح له ذلك في حالتين عند المخمصة وعند الضرورة والله أعلم
330
1405 مسألة فلو أمسكت امرأة حتى زنى بها أو أمسك رجل فأدخل إحليله
في فرج امرأة فلا شئ عليه ولا عليها سواء انتشر أو لم ينتشر. أمنى أو لم يمن. أنزلت
هي أو لم تنزل لأنهما لم يفعلا شيئا أصلا، والانتشار والامناء فعل الطبيعة الذي خلقه
الله تعالى في المرء أحب أم كره لا اختيار له في ذلك *
1406 مسألة ومن كان في سبيل معصية كسفر لا يحل. أو قتال لا يحل فلم
يجد شيئا يأكله الا الميتة. أو الدم. أو خنزيرا. أو لحم سبع. أو بعض ما حرم عليه لم
يحل له أكله الا حتى يتوب فان تاب فليأكل حلالا وان لم يتب فان أكل أكل حراما وان
لم يأكل فهو عاص لله تعالى بكل حال، وهذا قول الشافعي (1). وأبي سليمان،
وقال مالك: يأكل *
قال أبو محمد: وهذا خلاف للقرآن بلا كلفة لان الله تعالى لم يبح له ذلك الا في حال يكون فيها غير متجانف لاثم. ولا باغيا. ولا عاديا، وأكله ذلك عون على الاثم
والعدوان وقوة له على قطع الطريق. وفساد السبيل. وقتل المسلمين وهذا عظيم جدا،
فقالوا: (2) معنى قوله تعالى: (غير باغ ولا عاد) أي غير باغ في الاكل ولا عاد فيه فقلنا:
هذا الباطل والقول على الله تعالى بزيادة في القرآن بلا برهان، وهذا لا يحل أصلا لأنه
تحريف للكلم عن مواضعه، فان قالوا: (3) قد قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) فهو
ان لم يأكل قاتل نفسه فقلنا: قول الله حق وما أمرناه قط بقتل نفسه بل قلنا له: افعل
ما افترض الله عليك من التوبة واترك ما حرم عليك من السعي في الأرض بالفساد. والبغي
وكل في الوقت حلالا طيبا، فان أضفتم إلى خلافكم القرآن الإباحة له أن لا يتوب وأمره
بان يصر على الفساد في الأرض فما أردنا منكم الا أقل من هذا * وقال الحنيفيون: لا يلزم
الاكراه على البيع. ولا على الشرى. ولا على الاقرار. ولا على الهبة. ولا على الصدقة،
ولا يجوز عليه شئ من ذلك * قالوا: فان اكراه على النكاح. أو الطلاق. أو الرجعة. أو
العتق، أو النذر. أو اليمين لزمه كل ذلك وقضى عليه به وصح ذلك النكاح. وذلك
الطلاق. وذلك العتق. وتلك الرجعة. ولزمه ذلك النذر. وتلك اليمين * وروينا من
طريق حماد بن سلمة نا عبد الملك بن قدامة الجمحي حدثني أبي أن رجلا تدلى بحبل ليشتار عسلا
فخلفت له امرأته لتقطعن الحبل أو ليطلقنها ثلاثا فطلقها ثلاثا فلما خرج أتى عمر بن الخطاب
فأخبره فقال له عمر: ارجع إلى امرأتك فان هذا ليس طلاقا * ومن طريق حماد بن سلمة



(1) في النسخة رقم 16 (وهو قول الشافعي)
(2) في النسخة رقم 16 (وقالوا)
(3) في النسخة رقم 16 (فقالوا)
331
عن حميد عن الحسن أن علي بن أبي طالب قال: ليس لمستكره طلاق، قال الحسن:
وأخذ رجلا أهل امرأته نطلقها إن لم يبعث بنفقتها إلى شهر فجاء الأجل ولم يبعث شيئا
فخاصموه إلى علي فقال: اضطهدتموه حتى جعلها طالقا (1) فردها عليه * ومن طريق
الحجاج بن المنهال نا هشيم نا عبد الله بن طلحة الخزاعي نا أبو يزيد المدني (2) عن ابن
عباس أنه قال: ليس لمكره طلاق، وصح أيضا عن ابن عمر من طرق أنه لم يجز طلاق
المكره * ومن طريق ثابت الأعرج قال: سألت كل فقيه بالمدينة عن طلاق المكره؟
فقالوا: ليس بشئ ثم أتيت ابن الزبير. وابن عمر فردا على امرأتي، وكان قد أكره على
طلاقها ثلاثا، وصح هذا أيضا عن جابر بن زيد. والحسن. وعطاء. وطاوس. وشريح.
وعمر بن عبد العزيز: وهو قول مالك. والأوزاعي. والشافعي. وأحمد. وأبي سليمان.
وجميع أصحابهم، وصح إجازة طلاق المكره أيضا عن ابن عمر، وروى عن عمر. وعلى.
ولم يصح عنهما، وصح عن الزهري. وقتادة: والنخعي. وسعيد بن جبير * واحتج
المجيزون لذلك بعموم قوله تعالى: (فان طلقها فلا تحل له من بعد) الآية *
قال أبو محمد: وهذا تمويه منهم لان الله تعالى الذي قال هذا هو الذي قال: (ولكن
يواخذكم بما كسبت قلوبكم) والمكره لم يطلق قط إنما قيل له: قل: هي طالق ثلاثا
فحكى قول المكره له فقط، والعجب من تخليطهم وقلة حيائهم يحتجون بعموم هذه
الآية في إجازة طلاق المكره ثم لا يجيزون بيع المكره والله تعالى يقول: (وأحل الله
البيع وحرم الربا) فان قالوا: البيع لا يكون الاعن تراض قلنا: والطلاق لا يكون
الا عن رضى من المطلق ونية له بالنصوص التي قدمنا، ثم قد خالفوا هذا العموم
ولم يجيزوا طلاق الصبي ولا طلاق النائم، فان قالوا: ليس هذان مطلقين قلنا:
ولا المكره مطلقا *
وأطراف شئ أنهم احتجوا ههنا فقالوا: البيع يرد بالعيب فقلنا: نعم ولكن بعد
صحة فاخبرونا هل وقع بيع المكره صحيحا أم لا؟ فان قلتم: وقع صحيحا فلا سبيل إلى رده
الا برضاهما أو بنص في ذلك، وان قلتم: لم يقع صحيحا وهو قولهم قلنا: فقياسكم ما لم
يصح على ما صح باطل في القياس لأنه قياس الشئ (3) على ضده وعلى ما لا يشبهه، وقلنا لهم
أيضا: وكذلك الطلاق من المكره وقع باطلا واحتجوا باخبار فاسدة * منها ما رويناه
من طريق أبى عبيد نا إسماعيل بن عياش حدثني الغازي بن جبلة الجبلاني عن صفوان



(1) في النسخة رقم 14 والحلبية (حتى جعلها عليه)
(2) في النسخة رقم 16 (أبو زيد المديني) وهو غلط صححناه من تهذيب التهذيب
(3) في النسخة رقم 14 (قياس للشئ)
332
ابن عمران الطائي (أن رجلا جعلت امرأته سكينا على حلقه وقالت: طلقني ثلاثا أو لأذبحنك
فناشدها الله تعالى فأبت فطلقها ثلاثا فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا قيلولة في
الطلاق) * ورويناه أيضا من طريق نعيم بن حماد عن بقية عن الغازي بن جبلة (1) عن
صفوان الطائي عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البنى صلى الله عليه وسلم (2)، وهذا كله
لا شئ لان إسماعيل بن عياش. وبقية ضعيفان. والغازي بن جبلة مجهول. وصفوان
ضعيف ثم هو مرسل * وذكروا حديثا من طريق مطين عن حسين بن يوسف التميمي
وهو مجهول عن محمد بن مروان وهو مجهول عن عطاء بن عجلان عن عكرمة عن ابن عباس عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله) *
قال أبو محمد: وهذا قلة حياء منهم أن يحتجوا برواية عطاء بن عجلان وهو
مذكور بالكذب ثم هم يقولون: ان الصاحب إذا روى خبرا وخالفه فذلك دليل على
سقوط ذلك الخبر وإنما روى هذا من طريق ابن عباس، وقد روينا من طريق عبد الرزاق
عن عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير قال: إن ابن عباس لم ير طلاق
المكره فيلزمهم على أصلهم الفاسد أن يسقطوا كل هذه الأخبار لان ابن عباس روى
بعضها وخالفه كما فعلوا فيما كذبوا فيه على أبي هريرة من تركه ما روى هو وغيره من
الصحابة رضي الله عنهم من غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ولكنهم قوم لا يعقلون،
وأيضا فهم أول مخالف لهذا الخبر لأنهم لا يجيزون طلاق النائم يتكلم في نومه بالطلاق.
ولا طلاق الصبي وليسا معتوهين ولا مغلوبين على عقولهما، ويقولون فيمن قال
لامرأته في غضب: أنت خلية. أو بائن. أو برية. أو حرام. أو أمرك بيدك ونوى طلقة
واحدة فهي لازمه وان نوى ثلاثا فهي لازمة. وان نوى اثنتين لزمت واحدة ولم
تلزم الأخرى، فمن أرق دينا ممن يحتج بخبر هو أول مخالف له على من لا يراه حجة أصلا *
واحتجوا بالآثار الواردة: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد) *
قال أبو محمد: وهي آثار واهية كلها لا يصح منها شئ، ثم لو صحت لم يكن لهم فيها



(1) هو - بالزاي وفى بعض النسخ بالراء - قال الذهبي في الميزان: وغازي بالزاي
وقيده بعض الأئمة بالراء، قال الحافظ ابن حجر في لسان الميزان وهو كذلك في كتاب
العقيلي
(2) ذكر الحافظ ابن حجر الحديث في لسان الميزان ولفظه (أن رجلا كان نائما فأخذت امرأته السكين فقالت: طلقني والا ذبحتك فطلقها فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
فقال: لا قيلولة في الطلاق) قال ابن عدي: ليس له الا هذا الحديث الواحد، وقال
البخاري حديثه منكر في طلاق المكره *
333
حجة أصلا لان المكره ليس مجدا في طلاقه ولا هاز لا فخرج أن يكون لهم حكم في ذلك *
قال على: وأي عجب أكثر ممن يحتج بهذه الأكذوبات التي هي اما من رواية كذاب
أو مجهول. أو ضعيف. أو مرسلة ثم يعترض على ما رويناه من طريق الربيع بن
سليمان المؤذن عن بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
(عفى لامتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فان قال: سأل عبد الله بن أحمد
ابن حنبل أباه عن هذا الحديث فقال له: إنه رواه شيخ عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي.
ومالك قال مالك: عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال الأوزاعي: عن عطاء عن
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال أحمد: هذا كذب. وباطل ليس يروى إلا عن الحسن
عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاعجبوا للعجب! إنما كذب أحمد رحمه الله من روى هذا الخبر من
طريق مالك عن نافع عن ابن عمر، * ومن طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء
عن ابن عباس وصدق أحمد في ذلك. فهذا لم يأت قط من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر
ولا من طريق الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس إنما جاء من طريق
بشر بن بكر عن الأوزاعي عن عطاء عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن بدل الأسانيد
فقد أخطأ أو كذب ان تعمد ذلك * ثم العجب كله عليهم هذا الخبر بأنه مرسل من طريق
الحسن وهم يحتجون في هذه المسألة نفسها بانتن ما يكون من المراسيل أما هذا عجب! ثم
قالوا: كيف يرفع عن الناس ما استكرهوا عليه وقد وقع منهم؟ وهذا اعتراض على رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثم حملهم قلة الدين وعدم الحياء على مثل هذا الاعتراض الذي هو عائد عليهم
بذاته كما هو عائد في رفعهم (1) الاكراه في البيع. والشراء. والاقرار. والصدقة، ثم
هو كلام سخيف منهم لأنه لم يقل عليه السلام قط: ان المكره لم يقل ما أكره على أن يقوله
ولا انه لم يفعل ما أكره على فعله لكنه أخبر عليه السلام أنه رفع عنه حكم كل ذلك كما رفع
عن المصلى فعله بالسهو في السلام. والكلام. وعن الصائم أكله. وشربه. وجماعه
سهوا. وعن البائع مكرها بيعه وبالله التوفيق *
قال أبو محمد: وكل ماء وهوا به في هذا فهو مبطل لقولهم في إبطال بيع المكره
وابتياعه. واقراره. وهبته. وصدقته مثل قولهم: اننا وجدنا المكرهة على ارضاع
الصبي خمس رضعات يحرمها عليه ويحرم عليه ما يحرم عليه من جهتها لو أرضعته طائعة *
قال على: وهذا عليهم في الاكراه على البيع. والابتياع. والصدقة. والاقرار،



(1) في النسخة رقم 16 (رفعه) وفى النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية سقط
لفظ (عائد) منهما
334
ثم نقول لهم: ان الرضاع لا يراعى فيه نية بل رضاع المجنونة. والنائمة كرضاع العاقلة
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) فلا مدخل للإرادة في
الرضاع ولا هو عمل أمرت به فيراعى فيه نيتها، وقالوا: وجدنا من أكره على وطئ
امرأة ابنه يحرمها على الابن *
قال أبو محمد: وهذا عليهم في البيع. والصدقة. والاقرار، وجوابنا نحن انه ان أخذ
فرجه فادخل في فرجها لم يحرم شيئا لأنه لم ينكحها واما أن تهدد أو ضرب حتى جامعها
بنفسه قاصدا فهو زان مختار قاصد وعليه الحد وتحرم لأنه لا حكم للاكراه ههنا *
قال على: ونقول لهم: هبكم أنكم وجدتم في الطلاق. والعتق هذه الآثار المكذوبة
فأي شئ وجدتم في النكاح؟ وبأي شئ ألزمتموه؟ وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ابطاله
كما روينا من طريق مالك عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد عن أبيه عن عبد الرحمن.
ومجمع ابني يزيد بن جارية (1) الأنصاري عن خنساء بنت خدام (2) [الأنصارية] (3)
ان أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحه *
ومن طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن داود المصيصي نا الحسين بن محمد نا جرير
ابن حازم عن أيوب السختياني عن عكرمة عن ابن عباس: (أن جارية بكرا أتت النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت: إن أبى زوجني وهي كارهة فرد النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها) وهذان سندان في غاية
الصحة لا معارض لهما *
قال أبو محمد: فمن حكم بامضاء نكاح مكره. أو طلاق مكره. أو عتق مكره
فحكمه مردود ابدا، والواطئ في ذلك النكاح وبعد ذلك الطلاق وبعد ذلك العتق
أن تزوج المطلقة والمعتقة زان يجلد ويرجم إن كان محصنا ويجلد مائة ويغرب عاما إن كان
غير محصن، والعجب أنهم لا يرون الاكراه على الردة تبين الزوجة والردة عندهم
تبينها، وهذا تناقض منهم في اجازتهم الطلاق بالكره *
1407 مسألة ومن أكره على سجود لصنم. أو لصليب فليسجد لله تعالى
مبادرا إلى ذلك ولا يبالي في أي جهة كان ذلك الصنم. والصليب قال الله تعالى: (فأينما
تولوا فثم وجه الله) *
1408 مسألة ولا فرق بين اكراه السلطان. أو اللصوص. أو من ليس



(1) وقع في النسخ (حارثة) بالحاء المهملة وهو غلط
(2) هو بالخاء المعجمة والدال المهملة هكذا ضبطه السيوطي في تنوير الحوالك، وضبطه في تعليقه على السنن وفى بعض النسخ (خذام) بالذال المعجمة وكذلك في أسد الغابة
(3) الزيادة من الموطأ ج 2 ص 69
335
سلطانا كل ذلك سواء في كل ما ذكرنا لان الله تعالى لم يفرق بين شئ من ذلك ولا
رسوله صلى الله عليه وسلم *
1409 - مسألة - وقال الحنيفيون: الاكراه بضرب سوط أو سوطين أو
حبس يوم ليس اكراها، قال أبو محمد: وهذا تقسيم فاسد لأنه لم يأت به قرآن. ولا
سنة. ولا معقول، والضرب كله سوط ثم سوط إلى مائة ألف أو أكثر، وهم يشنعون
بقول الصاحب الذي لا يعرف له مخالف، وقد روينا من طريق شعبة قال: نا أبو حيان
يحيى بن سعد التيمي عن أبيه قال: قال لي الحارث بن سويد سمعت عبد الله بن مسعود يقول:
ما من ذي سلطان يريد أن يكلفني كلا ما يدرأ عنى سوطا أو سوطين الا كنت متكلما به،
ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف *
1410 - مسألة - واحتجوا في الزام النذر. واليمين بالكره بحديث فاسد من
طريق حذيفة ان المشركين أخذوه - وهو يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر - فأحلفوه أن
لا يأتي محمد افحلف فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: نفى لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم *
قال أبو محمد: وهو حديث مكذوب وما كان المشركون المانعون عن النبي صلى الله عليه وسلم
قط في طريق بدر وحذيفة (1) لم يكن من أهل مكة إنما هو من أهل المدينة حليف للأنصار،
ونص القرآن يخبر بأنهم لم يجتمعوا ببدر عن وعد ولا علم بعضهم ببعض حتى قرب
العسكران ولم يكن بينهم الا كثيب رمل فقط، ومثلهم احتج بمثل هذا وحاش لله أن
يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بانفاذ عهد (2) بمعصية، ليت شعري لو عاهدوا انسانا على أن
لا يصلى أو أن يأتي أمه أكان يلزمهم هذا عندهم؟ ان هذا العجب! ونعوذ بالله من الخذلان *
كتاب البيوع
1411 - مسألة - البيع قسمان: إما بيع سلعة حاضرة مرثية مقبلة بسلعة كذلك
أو بسلعة بعينها غائبة معروفة موصوفة أو بدنانير أو بدراهم كل ذلك حاضر مقبوض.
أو إلى أجل مسمى. أو حالة في الذمة وان لم يقبض * والقسم الثاني بيع سلعة بعينها غائبة
معروفة أو موصوفة بمثلها. أو بدنانير. أو بدراهم كل ذلك حاضر مقبوض أو إلى أجل
مسمى أو حالة في الذمة وان لم يقبض * أما بيع الحاضر المرئى المقلب بمثله أو بدنانير
أو دراهم حاضرة مقبوضة أو إلى أجل مسمى أو حالة في الذمة فمتفق على جوازه *
(هامش) * (1) في النسخة رقم 16 (فحذيفة) (2) في النسخة رقم 16 (بإيفاء عهد) (*)

336
وأما بيع سلعة غائبة بعينها مرئية موصوفة معينة ففيه خلاف (1) فأحد قولي
الشافعي المنع من بيع الغائب جملة وقال مرة: هو جائز وله خيار الرؤية، وقال مرة:
مثل قولنا في جواز بيع الغائب وجواز النقد فيه ولزوم البيع إذا وجد على الصفة التي وقع
البيع عليها بلا خيار (2) في ذلك، وأجاز مالك بيع الغائبات الا أنه لم يجز النقد فيها
جملة في أحد قوليه رواه ابن وهب عنه وأجاز ابن القاسم عنه النقد في الضياع والدور
قربت أم بعدت، وأما العروض فإنه أجاز النقد فيه إن كان قريبا ولا يجوز إن كان بعيدا *
وقال أبو حنيفة: بيع الغائبات جائز موصوفة وغير موصوفة والنقد في ذلك جائز الا
أن الخيار للمشترى إذا رأى ما اشترى فله حينئذ أن يريد البيع وأن يمضيه سواء وجده كما
وصف له أو وجده بخلاف ما وصف له، وله الخيار أيضا في فسخ البيع أو امضائه قبل أن
يرى ما اشترى، ولو أشهد على نفسه انه قد أسقط ماله من الخيار وانه قد أمضى البيع والتزمه
لم يلزمه شئ من ذلك وهو بالخيار كما كان، فإذا رأى وجه الجارية التي اشترى وهي
غائبة ولم يقلب سائرها فقد لزمته وسقط خياره ولا يردها الا من عيب، وكذلك القول
في العبد سواء سواء قال: فان اشترى دابة غائبة فرأى عجزها فقد لزمته وإن لم ير سائرها
ولا يردها إلا من عيب، وكذلك سائر الحيوان حاشا بني آدم، قال: فان اشترى
ثيابا غائبة أو حاضرة مطوية فرأى ظهورها ومواضع طيها ولم ينشرها فقد لزمته وسقط
خياره ولا يردها الا من عيب، قال: فان اشترى ثيابا هروية في جراب أو ثيابا زطية (3)
في عدل. أو سمنا في زقاق، أو زيتا كذلك. أو حنطة ى غرارة. أو عروضا مما لا يكال
ولا يوزن. أو حيوانا ولم ير شيئا من ذلك فان له خيار الرؤية حتى يرى كل ما اشترى
من ذلك، ولو رأى جميع الثياب الا واحدا منها أو جميع الدواب الا واحدا منها فله
فسخ البيع ان شاء، وسواء وجد كل ما رأى كما وصف له بخلاف ما وصف له الا السمن
والزيت. والحنطة فإنه إن رأى بعض ذلك فكان ما لم ير منه مثل الذي رأى
فقد لزمه البيع وسقط خياره، قال: فان ابتاع دارا فرآها من خارجها ولم يرها من
داخل فقد لزمته وسقط خيار الرؤية ولا يردها الا من عيب، وروى عن زفر انه
لا يسقط خياره الا حتى يرى مع ذلك شيئا من أرضها، وقال أبو يوسف: لمس الأعمى لباب
الدار ولحائطها يسقط خياره ويلزمه البيع ولا يردها الا من عيب، قال أبو حنيفة.
وأصحابه: وليس له أن يرد البيع إذا رأى ما ابتاع الا بمحضر البائع فلو اشترى اثنان



(1) في النسخة رقم 16 (اختلاف)
(2) في النسخة رقم 16 (لا خيار)
(3) منسوبة إلى الزط جيل أسود في السند، وفى النسخ (رطبة)) وهو تصحيف
337
شراءا واحدا شيئا غائبا فرأياه فرد أحدهما البيع وأجازه الآخر فلا يجوز الرد إلا
أن يرداه معا قالوا: فان أرسل رسولا ليقبض له ما اشترى فرأى الرسول الشئ المبيع
وقبضه فالمشترى باق على خياره فلو وكل وكيلا فرأى الوكيل الشئ المبيع وقبضه فقد
سقط خيار المشترى في قول أبي حنيفة ولم يسقط عند أبي يوسف. ومحمد، وقال
بو حنيفة مرة: الخيار أيضا للبائع إذا باع ما لم يركما للمشترى ثم رجع عن ذلك *
قال أبو محمد: وروى في ذلك عن السلف [وفى ذلك] (1) أثر، وهو أن عثمان
باع من طلحة رضي الله عنهما أرضا بالكوفة فقيل لعثمان: انك قد غبنت فقال عثمان:
لي الخيار لأني بعت ما لم أر، وقال طلحة: بل لي الخيار لأني اشتريت ما لم أر فحكما
بينهما جبير بين مطعم فقضى أن الخيار لطلحة لا لعثمان، وقال ابن شبرمة: بخيار الرؤية
للبائع وللمشتري معا كما روى عن عثمان * ومن طريق ابن أبي شيبة نا هشيم عن إسماعيل
ابن سالم. ويونس بن عبيد. والمغيرة قال إسماعيل: عن الشعبي. وقال يونس: عن
الحسن. وقال المغيرة: عن إبراهيم ثم اتفقوا كلهم فيمن اشترى شيئا لم ينظر إليه كائنا
ما كان قالوا: هو بالخيار ان شاء اخذ وان شاء ترك، وقال إبراهيم: هو بالخيار وان
وجده كما شرط له، وروى أيضا عن مكحول وهو قول الأوزاعي. وسفيان الثوري،
والنقد عندهم في كل ذلك جائز، وخالفهم غيرهم كما روينا من طريق الحجاج بن المنهال
عن حماد بن سلمة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين قال: إذا ابتاع الرجل البيع
ولم يره ونعت له فوافق النعت وجب في عنقه، قال الحجاج: وحدثنا حماد بن زيد
عن أيوب عن ابن سيرين: إذا ابتاع البيع ولم يره فوصفه له البائع فجاء على الوصف
فهو له، وقال الحسن: هو بالخيار إذا رآه، قال أيوب: ولا أعلم رجلا اشترى بيعا لم
يره فوصفه له البائع فوجده على ما وصفه له فرده عليه إلا هو من الظالمين *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير عن المغيرة عن الحارث العكلي فيمن اشترى العدل
من البر فنظر بعض التجار إلى بعضه فقد وجب عليه إذا لم ير عوارا فيما لم ينظر إليه *
ومن طريق شعبة عن الحكم. وحماد فيمن اشترى عبدا قد رآه بالأمس ولم يره
يوم اشتراه قالا جميعا: لا يجوز حتى يراه يوم اشتراه *
قال أبو محمد: هذا كل ما نعلمه عن المتقدمين، فاما أقوال أبي حنيفة التي (2) ذكرنا
فأقوال في غاية الفساد لا تؤثر عن أحد من أهل الاسلام قبله نعنى الفرق بين ما يسقط
الخيار مما يرى من الرقيق. ومما يرى من الدواب. ومما يرى من الثياب الزطية في الوعاء



(1) الزيادة من النسخة رقم 14
(2) في النسخة رقم 16 (فاما قول أبي حنيفة الذي) وهو غلط
338
وما يرى من الثياب التي ليس في عدل. وما يرى من السمن. والزيت. والحنطة.
والدور، وكل ذلك وساوس لاحظ لها في شئ من العقل ولا لها مجاز على القرآن. ولا السنن
ولا الروايات الفاسدة. ولا قول أحد من السلف. ولا من قياس لا جلى ولا خفى.
ولا من رأى له حظ من السداد، وما كان هكذا فلا يحل لاحد القول به *
وأما قولا مالك جميعا فكذلك أيضا سواء سواء ولا نعلمهما من أحد قبله ومالهم
شبهة أصلا الا أن بعضهم ادعى العمل في ذلك وهذا باطل لأنهما عنه قولان كما ذكرنا
كلاهما مخالف لصاحبه فإن كان العمل على أحدهما فقد خالف العمل في قوله الآخر
وخلاف المرء لما يراه حجة قاطعة في الدين عظيم جدا وليس في الممكن أن يكون العمل
على كليهما، وأيضا فان تحديده جواز النقد إن كان المبيع قريبا ومنعه من النقد إن كان
المبيع بعيدا وهو لم يحد مقدار البعد الذي يحرم فيه النقد من القرب الذي يجوز فيه النقد
عجب جدا! وأي عجب أعجب ممن يحرم ويحلل ا ثم لا يبين لمن يتبعه العمل المحرم ليجتنبه
من المحلل ليأتيه *
واحتج بعض مقلديه في المنع من النقد في ذلك وهو قول الليث بان قال: إن نقد في ذلك
ثم وجده على خلاف ما وصف له فرد البيع كان البائع قد انتفع بالثمن مدة فصار ذلك
سلفا جر منفعة *
قال أبو محمد: وهذا الاحتجاج أفسد من القول الذي احتج له ونقول لهم: نعم
فكان ماذا؟ وما صار قط سلفا جر منفعة بل هو بيع كسائر البيوع ولا فرق، ثم أين
وجدتم المنع من سلف جر منفعة في أي كتاب الله عز وجل وجدتم ذلك؟ أم في أي سنة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أم في أي قول صاحب؟ ثم العجب كله أنه ليس على ظهر الأرض
سلف الا وهو يجر منفعة للمستسلف ولولا أنه ينتفع به ما استسلفه، فما سمعنا بابزد ولا
بأغث من هذا القول، ثم لو كان ما ذكروا لوجب بذلك ابطال جميع البيوع كلها لأنه
لا بيع في العالم الا وهذه العلة موجودة فيه لأنه لا بيع الا وممكن أن يستحق فيرد أو يوجد
فيه عيب فيرد به فهلا منعوا النقد في كل بيع من أجل ذلك؟ لأنه إذا رد صار البائع قد رد
إلى المشترى الثمن بعد أن انتفع به فيصير سلفا جر منفعة، وما ندري كيف يستجيز ذو ورع
أن يغر قوما من المسلمين بمثل هذا الاحتجاج الفاسد؟ ونسأل الله العافية، فسقط هذا
القول جملة * وأما قول الشافعي في المنع من بيع الغائب (1) فان أصحابه احتجوا له بنهي
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر. وعن الملامسة. والمنابذة لا نعلم لهم حجة غير هذا أصلا،



(1) في النسخة رقم 14 (بيع الغائبات)
339
ولا حجة لهم فيه لان بيع الغائب إذا وصف عن رؤية. وخبرة. ومعرفة وقد صح
ملكه لما اشترى فأين الغرر؟ فان قالوا: قد تهلك السلعة قبل حين البيع فيقع البيع فاسدا
قلنا: وقد تستحق السلعة فيقع البيع فاسدا ولا فرق فأبطلوا بهذا النوع من الغرر كل
بيع في الأرض فلا غرر ههنا أصلا الا كالغرر في سائر البيوع كلها ولا فرق *
وأما المنابذة. والملامسة فروينا من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن عبد الأعلى نا
المعتمر بن سليمان [قال] (1) سمعت عبيد الله - هو ابن عمر - عن خبيب بن عبد الرحمن
عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه نهى عن بيعتين المنابذة والملامسة
وزعم أن الملامسة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك ثوبي بثوبك ولا ينظر واحد منهما
إلى ثوب الآخر ولكن يلمسه لمسا، والمنابذة أن يقول: أنبذ ما معي وتنبذ ما معك
ليشترى أحدهما من الآخر ولا يدرى كل واحد منهما كم مع الآخر ونحو من ذا) *
ومن طريق أحمد بن شعيب أنا أبو داود الطيالسي نا يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم
ابن عبد الرحمن بن عوف نا أبى عن صالح - هو أبن كيسان - عن ابن شهاب أن عامر (2)
ابن سعد بن أبي وقاص أخبره أن أبا سعيد الخدري [رضي الله عنه] قال، (نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الملامسة، والملامسة لبس الثوب لا ينظر إليه. وعن المنابذة، والمنابذة طرح
الرجل ثوبه إلى الرجل قبل أن يقلبه (3)) *
قال أبو محمد: وهذا حرام بلا شك، وهذا تفسير أبي هريرة، وأبي سعيد رضي الله عنهم
ا، وهما الحجة في الشريعة. واللغة ولا مخالف لهما في هذا التفسير، وليس
هذا بيع غائب البتة بل هو بيع حاضر فظهر تمويه من احتج منهم بهذين الخبرين *
قال على: الا أن هذين الخبرين هما حجة على أبي حنيفة في اجازته بيع الغائب
والحاضر (4) غير موصوفين ولا مرئيين *
قال على: ومما يبطل قول الشافعي انه لم يزل المسلمون يتبايعون الضياع بالصفة وهي
في البلاد البعيدة وقد بايع عثمان ابن عمر رضي الله عنهم ما لا لعثمان بخيبر بمال لابن عمر
بوادي القرى وهذا أمر مشهور، فان احتجوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عندك
قلنا: نعم والغائب هو عند بائعه لا مما ليس عنده لأنه لا خلاف في لغة العرب في صدق
القائل عندي ضياع. وعندي دور. وعندي رقيق ومتاع غائب وحاضر إذا كان كل



(1) الزيادة من سنن النسائي ج 7 ص 261
(2) في النسخة رقم 14 (عن عامر) وما هنا موافق لما في سنن النسائي ج 7 ص 261
(3) هذا الحديث ذكر في سنن النسائي بغير هذا الاسناد ولا أدرى ممن الوهم والله أعلم
(4) في النسخة رقم 16 (بالحاضر)
340
ذلك في ملكه وإنما ليس عند المرء ما ليس في ملكه فقط وإن كان في يده، والبرهان على
فساد قول الشافعي هذا هو قول الله تعالى: (وأحل الله البيع) وقول تعالى: (ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فبيع الغائب بيع داخل
فيما أحله الله تعالى، وفى التجارة التي يتراضى بها المتبايعان فكل ذلك حلال إلا بيعا
حرمه الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن. والسنة الثابتة، ومن الباطل المتيقن
أن يكون الله تعالى يحرم علينا بيعا من البيوع فيجمل لنا إباحة البيع جملة ولا يبينه لنا
على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم المأمور بالبيان، هذا أمر قد أمناه ولله تعالى الحمد لقوله تعالى:
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها) وليس في وسعنا أن نعرف ما حرم الله علينا. وما أحله لنا.
وما أوجبه علينا إلا بورود النص بذلك، وما نعلم للشافعي في المنع من بيع الغائبات
الموصوفات سلفا، فان قيل: فأين قول الحكم. وحماد الذي رويتموه آنفا؟ قلنا: إنهما
لم يمنعا من بيع الغائب إنما منعا من بيع ما لم يره المشترى يوم الشراء وقد يراه في أول
النهار ويغيب بعد ذلك فلم يشترطا حضوره في حين عقد البيع ولا يحل أن يقول أحد ما لم
يقل بالظن الكاذب وبالله التوفيق *
قال على: فسقطت هذه الأقوال كلها وبقى قول من أوجب خيار الرؤية جملة على
ما روينا عن إبراهيم. والحسن. والشعبي. ومكحول. وأحد قولي الشافعي فوجدناهم
يذكرون أثرا رويناه من طريق وكيع عن الحسن بن حي عن الحسن البصري (أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى بيعا فهو بالخيار حتى ينظر إليه)
قال أبو محمد: وهذا مرسل ولا حجة في مرسل، ثم لو صح لما كان لهم فيه حجة لأنه
ليس فيه أن له الخيار إذا وجده (1) كما وصف له وظاهره قطع الخيار بالنظر فهو مخالف
لقول أبي حنيفة جملة وبالله تعالى التوفيق، وهذا مما تركه المالكيون وهم يقولون بالمرسل لأنهم
لا يجعلون له خيارا قبل أن يراه أصلا * وذكروا ما روينا (2) من طريق سعيد بن منصور
عن إسماعيل بن عياش عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم عن مكحول (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه ان شاء أخذه وان شاء رده) (3)
وإسماعيل ضعيف. وأبو بكر ابن مريم مذكور بالكذب، ومرسل مع ذلك، ثم لو
صح لم يكن لهم فيه حجة لأنه يحتمل أن يريد له رده ان وجده بخلاف ما وصف له *
1412 مسألة فان وجد مشترى السلعة الغائبة ما اشترى كما وصف له فالبيع



(1) في النسخة رقم 14 (ان وجده)
(2) في النسخة رقم 14 (ما رويناه)
(3) في النسخة رقم 16 (تركه)
341
له لازم وان وجده بخلاف ذلك فلا بيع بينهما الا بتجديد صفة أخرى (1) برضاهما
جميعا * برهان ذلك أنه اشترى شراء صحيحا إذا وجد الصفة كما اشترى كما ذكرنا آنفا فان وجد
الصفة (2) بخلاف ما عقد الابتياع عليه فبيقين ندري انه لم يشتر تلك السلعة التي وجد
لأنه اشترى سلعة بصفة كذا لا سلعة بالصفة التي وجد فالتي وجد غير التي اشترى بلا شك
من أحد فإن لم يشترها فليست له، فان قيل: فألزموا البائع احضار سلعة بالصفة التي باع
قلنا: لا يحل هذا لأنه إنما باع عينا معينة لا صفة مضمونة فلا يجوز الزامه احضار (3)
ما لم يبع، فصح أن عقده فاسد لأنه لم يقع على شئ أصلا وبالله تعالى التوفيق * وهذا
قول أبى سليمان. وغيره *
1413 مسألة فان بيع شئ (4) من الغائبات بغير صفة ولم يكن مما عرفه
البائع لا برؤية ولا بصفة من يصدق ممن رأى ما باعه ولا مما عرفه للمشترى برؤية أو بصفة
من يصدق فالبيع فاسد مفسوخ أبدا لا خيار في جوازه أصلا. ويجوز ابتياع المرء
ما وصفه له البائع صدقه أو لم يصدقه، ويجوز بيع المرء ما وصفه له المشترى صدقه أو لم
يصدقه فان وجد المبيع بتلك الصفة فالبيع لازم وان وجد بخلافها فالبيع باطل ولابد *
وأجاز الحنيفيون بيع العين المجهولة غير الموصوفة وجعلوا فيها خيار الرؤية كما
ذكرنا، وقولنا في أنه لا يجوز الا بمعرفة وصفه هو قول مالك في بعض ذلك أو قول
أبى سليمان. وغيرهما *
قال أبو محمد: واحتج الحنيفيون لقولهم بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى
عن بيع الحب قبل أن يشتد، قالوا: ففي هذا إباحة بيعه بعد اشتداده وهو في أكمامه بعد
لم يره أحد ولا تدرى صفته *
قال على: وهذا مما موهوا به وأوهموا أنه حجة لهم وليس كذلك لأنه ليس في هذا
الخبر الا النهى عن بيعه قبل اشتداده فقط وليس فيه إباحة بيعه بعد اشتداده ولا المنع من
ذلك فاعجبوا لجرأة هؤلاء القوم على الله تعالى بالباطل: إذ احتجوا بهذا الخبر ما ليس فيه
منه شئ وخالفوه فيما جاء فيه نصا، فهم يجيزون بيع الحب قبل أن يشتد على شرط
القطع فيا لضلال هذه الطريقة *
قال أبو محمد: وعجب آخر: أنهم كذبوا في هذا الخبر فاقحموا فيه ما ليس فيه منه
نص ولا أثر من إباحة بيع الحب بعد أن يشتد ثم لم يقنعوا بهذه الطامة حتى أوجبوا بهذا



(1) في النسخة رقم 16 (صفقة أخرى)
(2) في النسخة رقم 14 (صفة)
(3) في النسخة رقم 16 (باحصار)
(4) في النسخة رقم 16 (فان بيع شيئا)
342
الخبر ما ليس فيه له ذكر ولا إشارة إليه بوجه من الوجوه من بيع الغائبات التي لا تعرف
صفاتها ولا عرفها البائع ولا المشترى ولا وصفها لهما أحد ثم لم يلبثوا أن نقضوا ذلك
ككرة الطرف (1) فحرموا بيع لحم الكبش قبل ذبحه. والنوى دون التمر قبل أكله.
وبيع الزيت في الزيتون قبل عصره. وبيع الألبان في الضروع، واحتجوا في ذلك بأنه
كله مجهول لا تدرى صفته وهذا موق (2) وتلاعب بالدين نعوذ بالله من مثله *
قال على: ونحن نجيز بيع الحب بعد اشتداده كما هو في أكمامه بأكمامه. وبيع الكبش
حيا ومذبوحا كله لحمه مع جلده. وبيع الشاة بما في ضرعها من اللبن، وبيع النوى مع
التمر لأنه كله ظاهر مرئي ولا يحل بيعه دون أكمامه لأنه مجهول لا يدرى أحد صفته ولا
بيع اللحم دون الجلد. ولا النوى دون التمر. ولا اللبن دون الشاة كذلك *
قال أبو محمد: ولا يخلو بيع كل ذلك قبل ظهوره من أن يكون اخراجه مشترطا على
البائع أو على المشترى أو عليهما أو على غيرهما أولا على أحد فإن كان مشترطا على البائع
أو على المشترى فهو بيع بثمن مجهول. وإجارة بثمن مجهول وهذا باطل لان البيع
لا يحل بنص القرآن الا بالتراضي والتراضي بضرورة الحس لا يمكن أن يكون الا
بمعلوم لا بمجهول، فكذلك إن كان مشترطا عليهما أو على غيرهما، وأيضا فان كل
ذلك شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل فإن لم يشترط على أحد فهو (3) أكل مال
بالباطل حقا لأنه لا يصل إلى أخذ ما اشتراه *
قال على: والبرهان على بطلان بيع ما لم يعرف برؤية ولا بصفة صحة نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، وهذا عين الغرر لأنه لا يدرى ما اشترى أو باع (4)، وقول
الله تعالى: (الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) ولا يمكن أصلا وقوع التراضي
على ما لا يدرى قدره ولا صفاته وإنما فرقنا بين صفة البائع للمشترى أو المشترى للبائع
صدق أحدهما الآخر أو لم يصدقه فأجزنا البيع بذلك وبين صفة غيرهما فلم يجزه إلا
ممن يصدقه الموصوف له فلان صفة البائع للمشترى أو صفة المشترى للبائع عليها (5)
وقع البيع وبها تراضيا، فان وجد المبيع كذلك علمنا أن البيع وقع صحيحا على حق وعلى
ما يصح به التراضي والا فلا، وأما إذا وصفه لهما غيرهما ممن لا يصدقه الموصوف له فان



(1) هو بسكون الراء والمعنى أسرع ما يكون
(2) هو - بضم الميم وسكون الواو - حمق في غبارة
(3) في النسخة رقم 14 (فهذا)
(4) في النسخة رقم 16 (وما باع)
(5) في النسخة رقم 16 والنسخة الحلبية (عليهما) والضمير على نسختنا هذه يرجع إلى صفة البائع أو المشتري، وعلى النسختين يرجع إلى الصفتين معا
343
البيع ههنا لم يقع على صفة أصلا فوقع العقد على مجهول من أحدهما أو من كليهما وهذا
حرام لا يحل فان وصفه من صدقه الموصوف له فالتصديق يوجب العلم فإنما اشترى ما علم
أو باع البائع ما علم فالعقد صحيح والتراضي صحيح، فان وجد المبيع كذلك علم أن
البيع انعقد على صحة وان وجد بخلاف ذلك علم أن البيع لم ينعقد على صحة كما لو وجده
قد استحال عما عرفه عليه ولا فرق وبالله تعالى التوفيق *
1414 مسألة وجائز بيع الثوب الواحد المطوى أو في جرابه أو الثياب
الكبيرة كذلك إذا وصف كل ذلك فان وجد كل ذلك كما وصف فالبيع لازم والا فالبيع
باطل * قال على: التفريق بين الواحد. والكثير خطأ وليس إلا حرام فقليله وكثيره
حرام أو حلال فقليله وكثيره حلال، وهذا بعينه هو لو أو شنعوا على الحنيفيين في اباحتهم
قليل المسكر وتحريمهم كثيره ولا يقبل مثل هذا الا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط وما نعلم
لهم شيئا شغبوا به الا أنهم قالوا: أمر الثوب الواحد يسهل نشره وتقليبه وطيه وهذا
يصعب في الكثير فقلنا لهم: وأين وجدتم هذه الشريعة أن تكون صعوبة العمل تبيح
المحرمات والبيوع المحرمة؟ ثم نقول لهم: ما تقولون في ثوبين مدرجين في جراب أو
جرابين؟ فان أباحوا ذلك سألناهم عن الثلاثة ثم عن الأربعة ثم نزيدهم هكذا واحدا فواحدا؟ فان حرموا سألناهم عن الدليل على تحليل ما أحلوا من ذلك وتحريم ما حرموا.
وعن الدليل على صعوبة ما جعلوه لصعوبته حلالا وعلى سهولة ما جعلوه لسهولته حراما،
وهذا ما لا سبيل إليه، وأيضا فرب ثياب يكون نشرها وطيها أسهل من نشر ثوب واحد
وطيه هذا أمر يعرف ضرورة كالمروى المجلوب من بغداد الذي لا يقدر على إعادة
طيه بعد نشره الا واحد بين ألوف وإنما الحكم في ذلك كوجوه صحة التراضي بعلمها
بالصفة وارتفاع الغرر في عقد البيع عن الجهالة فقط وبالله تعالى التوفيق *
1415 مسألة وفرض على كل متبايعين لما قل أو كثر أن يشهدا على تبايعهما
رجلين أو رجلا وامرأتين من العدول فإن لم يجدا عدولا سقط فرض الاشهاد كما ذكرنا
فإن لم يشهدا وهما يقدران على الاشهاد فقد عصيا الله عز وجل والبيع تام فإن كان البيع
بثمن إلى أجل مسمى ففرض عليهما مع الاشهاد المذكور أن يكتباه فإن لم يكتباه فقد
عصيا الله عز وجل والبيع تام فإن لم يقدرا على كاتب فقد سقط عنهما فرض الكتاب (1) *
برهان ذلك قول الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب



(1) في النسخة رقم 14 (فرض الكاتب)
344
وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها
أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعد واستشهدوا شهيدين من رجالكم
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر
إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو
كبيرا إلى اجله ذلكم أقسط عند الله وأقوام للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا إلا أن تكون
تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم
ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله ولله بكل
شئ عليم وان كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فان أمن بعضكم بعضا فليؤد
الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه ولا تكتموا الشهادة) *
قال أبو محمد: فهذه أوامر مغلظة مؤكدة لا تحتمل تأويلا، أمر بالكتاب في المداينة
إلى أجل مسمى وبالاشهاد في ذلك في التجارة المدارة كما أمر الشهداء أن لا يأبوا أمرا
مستويا فمن أين صار عند هؤلاء القوم أحد الأوامر فرضا والآخر هملا؟ وأخبر تعالى
أن الكتاب ان ضار - ولا شك في أن امتناعه من الكتاب مضارة وان امتناع الشاهد
من الشهادة إذ دعى - فسوق، ثم أكد تعالى أشد تأكيد ونهانا ان نسأم كتاب ما أمرنا
بكتابه صغيرا كان أو كبيرا وأخبر تعالى ان ذلك أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى
من أن لا نرتاب، وأسقط الجناح في ترك الكتاب خاصة دون الاشهاد في التجارة المدارة
ولم يسقط الجناح في ترك الكتاب فيما كان دينا إلى أجل مسمى، وبهذا جاءت السنة
كما روينا من طريق غندر عن شعبة عن فراس الخارفي (1) عن الشعبي عن أبي بردة
ابن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال: ثلاثة يدعون الله تعالى فلا يستجاب لهم وذكر
فيهم ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه، وقد أسنده معاذ بن المثنى عن أبيه عن شعبة
عن فراس عن الشعبي عن أبي بردة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم * ومن طريق إسماعيل بن إسحاق
القاضي نا علي بن عبد الله - هو ابن المديني - أخبرنا المؤمل بن إسماعيل نا سفيان الثوري
عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قول الله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتم) قال مجاهد:
كان ابن عمر إذا باع بنقد أشهد وإذا باع بنسيئة كتب وأشهد * ومن طريق إسماعيل
نا علي بن عبد الله نا حسان بن إبراهيم الكرماني نا إبراهيم - هو ابن ميمون الصائغ - عن
عطاء بن أبي رباح قال: تشهد على كل شئ تشتريه وتبيعه ولو كان بدرهم أو بنصف



(1) هو - بخاء معجمة في أوله وراء وفاء بعدها ياء النسبة - نسبة إلى خارف بطن من همدان،
وفى النسخة رقم 16 (الحازمي) وهو غلط
345
درهم أو بربع درهم أو أقل فان الله تعالى يقول: (وأشهدوا إذا تبايعتم) نا أبو سعيد
الفتى نا محمد بن علي الادفوى نا أحمد بن محمد بن إسماعيل بن النحاس النحوي نا جعفر بن مجاشع
نا إبراهيم بن إسحاق نا شجاع نا هشيم عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي قال:
(أشهد إذا بعت وإذا اشتريت ولو على دستجة بقل، قال ابن النحاس: وقال محمد
ابن جرير الطبري: لا يحل لمسلم إذا باع واشترى إلا أن يشهد وإلا كان مخالفا لكتاب
الله عز وجل، وهكذا إن كان إلى أجل فعليه أن يكتب ويشهد إذا وجد كاتبا، وهو
قول جابر بن زيد. وغيره * ومن طريق إسماعيل بن إسحاق نا يحيى بن خلف نا أبو عاصم
- هو الضحاك بن خلف - عن عيسى نا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله تعالى: (ولا يأب
كاتب) قال: وأوجب على الكاتب أن يكتب، وكل هذا قول أبى سليمان. وأصحابنا *
وذهب الحنيفيون. والمالكيون. والشافعيون إلى أنه ليس الاشهاد المذكور
ولا الكتاب المذكور المأمور به واجبا ولا يلزم الكاتب أن يكتب * روينا عن أبي
سعيد الخدري أنه قرأ هذه الآية فلما بلغ إلى قول الله تعالى: (فان أمن بعضكم بعضا
فليؤد الذي اؤتمن أمانته) قال: نسخت هذه الآية ما قبلها *
قال أبو محمد: الظاهر من قول أبي سعيد رضي الله عنه انها [إنما] (1) نسخت
الامر بالرهن لأنه هو الذي قبلها متصلا بها ولا يجوز أن يظن بأبي سعيد أنه يقول: إن
ها نسخت كل ما كتب قبلها من القرآن ولا كل ما نزل قبلها من القرآن فإذ لا شك
في هذا فلا يجوز أن يدخل في قول أبي سعيد أنها نسخت الامر بالاشهاد والكتاب بالدعوى
البعيدة الفاسدة بلا برهان الا أنه قد روى هذا عن الحسن. والحكم، وروى عن الشعبي
ان الامر بكل ذلك ندب وهو قول أبى قلابة. وصفوان بن محرز. وابن سيرين *
قال أبو محمد: دعوى النسخ جملة لا يجوز الا ببرهان متيقن لان كلام الله تعالى إنما ورد
ليؤتمر له ويطاع بالعمل به لا لتركه والنسخ يوجب الترك فلا يجوز لاحد أن يقول في
شئ أمره الله تعالى به هذا لا تلزمني طاعته الا بنص آخر عن الله عز وجل أو عن رسوله
عليه السلام بابه قد نسخ والا فالقول بذلك لا يجوز، وكذلك دعوى الندب باطل
أيضا الا ببرهان آخر من النص كذلك لان معنى الندب ان شئت فافعل وان شئت فلا
تفعل ولا يفهم في اللغة العربية من لفظة افعل (2) لا تفعل ان شئت الا ببرهان يوجب ذلك
فبطلت الدعوتان معا بيقين لا اشكال فيه، وليت شعري ما الفرق بين قول الله تعالى:
(فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) وبين قوله تعالى: (ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا



(1) الزيادة من النسخة رقم 14
(2) في النسخة رقم 14 (من لفظ افعل)
346
أو كبيرا إلى أجله)؟ وقد قال المالكيون في ذلك: هو فرض وقالوا ههنا: هو ندب تحكما
بلا برهان، وكذلك قوله تعالى: (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) وقد قال الشافعيون:
انه فرض وقالوا ههنا: هو ندب تحكما بلا دليل، وكذلك قوله تعالى: (مقام إبراهيم
ومن دخله كان آمنا) فقال الحنيفيون: هذا فرض ولا يقام بمكة حد، وقالوا ههنا: هو
ندب تحكما بلا حجة، وأي فرق بين أمره تعالى بالاشهاد. والكتاب وبين أمره تعالى بما
أمر في كفارة الايمان. وكفارة الظهار. وحكم الايلاء. وحكم اللعان. وسائر أوامر
القرآن؟ ونعوذ بالله من أن نجعل القرآن عضين فنوجب بعضا ونلغي بعضا * فان ذكروا
قول الله تعال: (فان أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) قلنا: هذا مردود على
ما يتصل به من الرهن ولا يجوز أن يحمل على اسقاط وجوب الامر بالاشهاد. والكتاب
بالدعوى بلا برهان، وكذلك من قال: هو فرض على الكفاية لان كل ذلك دعوى
عارية من البرهان وما كان بهذه الصفة فهو باطل مطرح قال تعالى: (قل هاتوا برهانكم
ان كنتم صادقين) ومن أطراف شئ مبادرتهم إذا ادعوا في شئ من أوامر القرآن انه
ندب فقلنا لهم: ما برهانكم على هذه الدعوى؟ قالوا: قول الله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا)
(فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) فقلنا لهم: ان هذا لعجب! ليت شعري في أي دين
وجدتم أم في أي عقل انه إذا صح في أمر من أوامر الله تعالى انه منسوخ أو أنه ندب
وجب أن تحمل سائر أوامره تعالى على أنها منسوخة وعلى أنها ندب؟ فما سمع بأعجب من هذا
الاحتجاج الفاسد! إذ قصدوا به هدم القرآن بلا برهان، ولا فرق بين فعلهم هذا ههنا
وبين من قصد إلى أي آية شاء من القرآن فقال: هي منسوخة فإذا قيل له: ما برهانك
على ذلك قال: نسخ الله تعالى الاستقبال إلى بيت المقدس ونسخه لاعداد المتوفى عنها سنة *
قال أبو محمد: ونحن لا ننكر وجود النسخ (1) في بعض الأوامر أو كونه على الندب
أو على الخصوص إذا جاء نص آخر ببيان ذلك وأما بالدعوى فلا، فإذا صح في أمر من
القرآن أو السنة انه منسوخ. أو مندوب. أو مخصوص بنص آخر قلنا بذلك ولم نتعده
بهذا الحكم إلى ما لم يأت فيه دليل يصرفه عن موضوعه ومقتضاه *
قال على: واحتجوا بالخبر المأثور من طريق الزهري عن عمارة بن خزيمة بن ثابت أن
عمه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليعطيه
الثمن
فاسرع النبي صلى الله عليه و سلم وأبطأ الاعرابي فطفق رجال يساومون الاعرابي بالفرس وزيد على
السوم فنادى الاعرابي النبي صلى الله عليه وسلم ان كنت مبتاعا هذا الفرس فابتعه والا بعته فقال له



(1) في النسخة رقم 14 (وجوه النسخ)
347
النبي صلى الله عليه وسلم. أوليس قد ابتعته منك؟ قال الاعرابي: والله ما بعتكه هلم شهيدا يشهد
أنى بايعتك فقال خزيمة: أنا أشهد أنك بايعته فاقبل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: بم تشهد؟ قال:
بتصديقك فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة شهادة رجلين * ومن طريق حماد بن سلمة
عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت نحوه وزاد فيه فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
اللهم إن كان كذب فلا تبارك له فيها فأصبحت شاصية برجلها (1) فقالوا: (2) فهذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاع ولم يشهد *
قال أبو محمد: هذا لا حجة لهم فيه لوجوه، أو لها انه خبر لا يصح لأنه راجع
إلى عمارة بن خزيمة وهو مجهول، والثاني أنه لو صح لما كانت لهم فيه حجة لأنه ليس
فيه ان الامر تأخر مقدار مدة يمكن فيها الاشهاد فلم يشهد عليه السلام وإنما فيه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع منه الفرس ثم استتبعه ليوفيه الثمن فأسرع عليه السلام وأبطأ
الاعرابي والبيع لا يتم الا بالتفرق بالأبدان ففارقه النبي صلى الله عليه وسلم ليتم البيع والا فلم
يكن تم بعد وإنما يجب الاشهاد بعد تمام البيع، صحته لا قبل أن يتم، والثالث أنه حتى
لو صح لهم الخبر وهو لا يصح ثم صح فيه انه عليه السلام ترك الاشهاد وهو قادر عليه
بعد تمام البيع وهذا لا يوجد أبدا فليس فيه انه كان بعد نزول الآية ونحن نقر بأن
الاشهاد إنما وجب بنزول الآية لا قبل نزولها ولا يجوز ترك يقين حكم الله عز وجل بظن
كاذب لا يحل القطع به فبطل تعلقهم بهذا الخبر جملة *
قال أبو محمد: وعهدنا بهم يقولون: بخلاف هذا الخبر لان جميعهم يقول: لا يحكم
الحاكم لنفسه * وفى المسند من طريقي هذا الخبر أنه حكم عليه السلام لنفسه، فمن عجائب
الدنيا تركهم الحكم بخبر فيما ورد فيه واحتجاجهم به في ما ليس منه فيه أثر. ولا نص.
ولا دليل * فان قالوا: أخذنا بالمرسل في أنه عليه السلام ردها قلنا: وما الذي جعل
المرسل من هذا الخبر أقوى من المسند، ثم ليس في المرسل أنه عليه السلام ردها لوجوب
الحكم بردها بل قد يهبها عليه السلام له كما أخبر عن نفسه المقدسة أنه لا يسأله أحد
ما لا تطيب به نفسه فيعطيه إياه الا لم يبارك له فيه فهذا حسن واعطاء حلال والدعاء عليه
بالعقوبة لكذبه ولا يجوز غير ذلك لو صح الخبر [فكيف - وهو لا يصح] (3) أصلا
لأنه لا يحل لمسلم أن يظن برسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه أطلق يد الفاسق على حرام وهو يعلمه
حراما إذا كأن يكون معينا على الاثم والعدوان. وعلى أخذ الحرام عمدا وظلما



(1) أي رافعة رجلها وهو عيب واضح
(2) في النسخة رقم 14 (قالوا)
(3) قوله (فكيف وهو لا يصح) سقط من النسخة رقم 14 والنسخة الحلبية والظاهر حذفه
348
والله تعالى يقول: (ولا تعاونوا على الاثم والعدوان) ومن نسب هذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقد خرج عن الاسلام * وعهدنا بالحنيفيين لا يستحيون من مخالفة الخبر الثابت في أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم باليمين مع الشاهد لأنه بزعمهم خلاف ما في القرآن وردوا الخبر
الثابت في تغريب الزاني سنة لأنه زيادة على ما في القرآن وقالوا: لا نأخذ بخبر الواحد إذا
كان زائدا على ما في القرآن وفعلوا هذا كلهم في جلد المحصن مع الرجم ثم لا يبالون ههنا
بالاخذ بخبر ضعيف لا يصح مخالف بزعمهم لما في القرآن فكيف ولو صح لما كان فيه
خلاف للقرآن على ما بيناه؟ وبالله تعالى التوفيق *
قال أبو محمد: وقد زاد بعضهم في الهذر والتخليط فأتوا باخبار كثيرة صحاح كموته
عليه السلام - ودرعه مرهونة في ثلاثين صاعا من شعير - وكابتياعه البكر من عمر. والجمل
من جابر، وابتياع بريرة. وابتياع صفية بسبعة أو رؤس. والعبد بالعبدين. والثوب
بالثوبين إلى الميسرة، وكل خبر ذلك فيه أنه عليه السلام باع أو ابتاع قالوا: وليس فيها
ذكر الاشهاد (1)، وكل ذلك لا متعلق لهم بشئ منه لان جميعها ليس في شئ منها انه
عليه السلام لم يشهد ولا أنه أشهد، ووجدنا أكثرها ليس فيها ذكر ثمن فيلزمهم على هذا
أن يجيزوا البيع بغير ذكر ثمن لأنه مسكوت عنه كما سكت عن ذكر الاشهاد وليس ترك
ذكر جميع الأحكام في كثير من الاخبار بمسقط لها كما أن قوله تعالى: (كلوا واشربوا)
ليس فيه. إباحة ما حرم من المآكل. والمشارب بل النصوص كلها مضموم بعضها إلى بعض
مأخوذ بما في كل واحد منها وان لم تذكر في غيره منها وما عدا هذا ففساد في العقل وافساد
للدين: ودعاوى في غاية البطلان، وأيضا فإنهم مهما خالفونا في وجوب الاشهاد:
والكتاب فإنهم مجمعون معنا على أنهما فعل حسن مندوب إليه، فإن كان السكوت عن
ذكر الاشهاد في هذه الأخبار دليلا على سقوط وجوبه فهو دليل على سقوط اختياره
لأنه عليه السلام لا يترك الأفضل في جميع أعماله للأدنى * ومن عجائبهم احتجاجهم بهذه
الآية - يعنى الحنيفيين والمالكيين - في مخالفتهم السنة في أن لا بيع بين المتبايعين الابعد التفرق فقالوا: قال الله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتم) ولم يذكر التفرق، ثم أبطلوا
حكم هذه الآية باخبار أخر ليس فيها ذكر الاشهاد، وهذا باب يبطل به لو صح جميع
الدين أوله عن آخره لأنهم لا يعدمون نصوصا أخر لم يذكر فيها ما في تلك الأحاديث
فيبطلون لذلك أحكامها، وهكذا أبدا كل ما ورد نص لم يذكر فيه سائر الأحكام
وجب بطلان ما لم يذكر فيه ثم يبطل حكم ذلك النص أيضا لأنه لم يذكر أيضا في نص



(1) في النسخة رقم 16 (ذكر اشهاد)
349
آخر، وهذه طريق من سلكها فلم يزد على أن أثبت فساد دينه وقلة حيائه وضعف عقله
ونعوذ بالله من الخذلان * فان قالوا: هذا مما تعظم به البلوى فلو كان واجبا ما خفى (1)
على كثير من العلماء قلنا: هبكم موهتم بهذا في اخبار الآحاد أترون هذا يسوغ لكم
في القرآن الذي لم يبق من لم يعلمه؟ وهلا قلتم هذا لأنفسكم في قول من قال منكم: لا يتم
البيع إلا بالتسليم المبيع وهذا أمر تعظم به البلوى ولا يعرفه أكثر الناس وفى قول من
قال منكم: لا يتم البيع الا بالتفرق، وهذا أمر تعظم به البلوى ولا يعرفه كثير من الناس، وفى
قول من قال منكم: بعهدة الرقيق في السنة والثلاث. وبالجوائح في الثمار وهي أمور تكثر
بها البلوى ولا يعرفها غير القائلين بذلك منكم فظهر التحكم بالباطل في أقوالهم واستدلالهم
وبالله تعالى التوفيق * وإنما قلنا: إنه ان ترك الاشهاد. والكتاب فقد عصى الله تعالى والبيع
تام فالمعصية لخلافه أمر الله تعالى بذلك، وأما جواز البيع فلان الاشهاد والكتاب عملان
غير البيع وإنما أمر الله تعالى بهما بعد تمام البيع وصحته فإذا تم البيع لم تبطله معصية حدثت بعده
ولكل عمل حكمه: (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) *
1416 مسألة ولا يجوز البيع الا بلفظ البيع. أو بلفظ الشراء. أو بلفظ
التجارة. أو بلفظ يعبر به في سائر اللغات عن البيع، فإن كان الثمن ذهبا أو فضة غير
مقبوضين لكن حالين أو إلى أجل مسمى جاز أيضا بلفظ الدين أو المداينة ولا يجوز
شئ من ذلك بلفظ الهبة. ولا بلفظ الصدقة. ولا بشئ غير ما ذكرنا أصلا *
برهان ذلك قول الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) وقوله تعالى: (ولا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقوله تعالى:
(إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) فصح أن ما حرم الله تعالى فهو حرام وما
أحل فهو حلال، فمتى أخذ مال بغير الاسم الذي أباح الله تعالى به أخذه كان باطلا
بنص القرآن * وصفة البيع والربا واحدة والعمل فيهما واحد وإنما فرق بينهما الاسم
فقط إنما هما معاوضة مال بمال أحدهما حلال طيب والآخر حرام خبيث كبيرة من
الكبائر قال تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال: أنبئوني
بأسماء هؤلاء ان كنتم صادقين قالوا: سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا) وقال تعالى: (إن
هي الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان) فصح أن الأسماء كلها
توقيف من الله تعالى لا سيما أسماء أحكام الشريعة التي لا يجوز فيها الاحداث ولا تعلم الا
بالنصوص ولا خلاف بين الحاضرين منا ومن خصومنا في أن امرءا لو قال لآخر:



(1) في النسخة رقم 14 (لما خفى)
350
أقرضني هذا الدينار وأقضيك دينارا إلى شهر كذا ولم يحدو قتا فإنه حسن، وأجر. وبر.
وعندنا ان قضاه دينارين أو نصف دينار فقط ورضى كلاهما فحسن، ولو قال له: بعني
هذا الدينار بدينار إلى شهر ولم يسم أجلا فإنه ربا. وإثم. وحرام. وكبيرة من
الكبائر. والعمل واحد وإنما فرق بينهما الاسم فقط، وكذلك لو قال رجل لامرأة: أبيحي
لي جماعك متى شئت ففعلت ورضى وليها لكان ذلك زنا ان وقع يبيح الدم في بعض
المواضع، ولو قال لها: أنكحيني نفسك ففعلت ورضى وليها لكان حلالا. وحسنا. وبرا،
وهكذا عندنا في كل شئ، وأما لفظ الشرى فلما روينا من طريق البخاري نا علي بن عياش
نا أبو غسان محمد بن مطرف حدثني محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله [رضي الله عنهم
ا] (1) (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله امرءا سمحا إذا باع وإذا
اشترى وإذا اقتضى) *
1417 مسألة وكل متبايعين صرفا أو غيره فلا يصح البيع بينهما أبدا وان
تقابضا السلعة والثمن ما لم يتفرقا بأبدانهما من المكان الذي تعاقدا فيه البيع ولكن واحد
منهما ابطال ذلك العقد أحب الآخر أم كره ولو بقيا كذلك دهرهما الا أن يقول أحدهما
للآخر: لا تبال أيهما كان القائل بعد تمام التعاقد: اختر أن تمضى البيع أو أن تبطله فان
قال: قد أمضيته فقد تم البيع بينهما تفرقا أو لم يتفرقا وليس لهما ولا لأحدهما فسخه
الا بعيب ومتى ما لم يتفرقا (2) بأبدانهما ولا خير أحدهما الآخر فالمبيع باق على ملك
البائع كما كان والثمن باق على ملك المشتري كما كان ينفذ في كل واحد منهما حكم الذي هو
على ملكه لا حكم الآخر *
برهان ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رويناه من طريق البخاري نا أبو النعمان - هو
محمد بن الفضل غارم - نا حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن نافع عن ابن عمر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر وربما
قال: أو يكون بيع خيار) (3) * ومن طريق أحمد بن شعيب أنا محمد بن علي بن حرب أنا
محرز بن الوضاح عن إسماعيل - هو ابن جعفر - عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا الا أن يكون البيع كان عن خيار فإن كان البيع
كان (4) عن خيار فقد وجب البيع *



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 121
(2) في النسخة رقم 16 (وأما ما لم يتفرقا)
(3) هو في صحيح البخاري ج 3 ص 134
(4) لفظ (كان) سقط من سنن النسائي ج 7 ص 248
351
قال أبو محمد: هذا يبين أن الخيار المذكور إنما هو قول أحدهما للآخر: اختر
لا عقد البيع على خيار مدة مسماة لأنه قال عليه السلام: إن كان البيع عن خيار فقد وجب
البيع وهذا خلاف حكم البيع المعقود على خيار مدة عند القائلين به * ومن طريق يحيى
ابن سعيد القطان نا عبيد الله بن عمر (1) أخبرني نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا أو يكون خيارا) وهكذا رواه هشيم عن يحيى بن سعيد
الأنصاري عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا بيع بينهما، وهكذا رويناه عن
إسماعيل بن جعفر. وسفيان الثوري. وشعبة كلهم عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا بيع بينهما حتى يتفرقا) * ومن طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد عن الليث
ابن سعد حدثه عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تبايع الرجلان فكل
واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فان خير أحدهما
الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وان تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما
البيع فقد وجب البيع) (2) *
قال أبو محمد: هذا الحديث يرفع كل اشكال. ويبين كل اجمال. ويبطل التأويلات
المكذوبة التي شغب بها المخالفون * ومن طريق محمد بن عبد الملك بن أيمن نا محمد بن
إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة نا ابن جريج قال: أملى على نافع في ألواحي
قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايع المتبايعان البيع
فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار) قال نافع:
فكان ابن عمر إذا ابتاع البيع فأراد أن يجب له مشى قليلا ثم رجع * ومن طريق مسلم نا محمد
ابن المثنى. وعمرو بن علي قال ابن المثنى: نا يحيى بن سعيد القطان وقال عمرو بن علي: نا
عبد الرحمن بن مهدي ثم اتفق يحيى. وعبد الرحمن كلاهما عن شعبة عن قتادة عن أبي
الخليل - هو صالح بن أبي مريم - عن عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد
المطلب عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم: (قال البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فان صدقا وبينا
بورك لهما في بيعهما وان كذبا وكتما محق بركة بيعهما) * ورويناه أيضا من طريق همام
ابن يحيى - وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة باسناده * ومن طريق أبى التياح عن عبد الله بن
الحارث باسناده، وهذه أسانيد متواترة متظاهرة منتشرة توجب العلم الضروري *
ومن طريق أبى داود السجستاني نا مسدد نا حماد بن زيد عن جميل بن مرة عن



(1) في النسخة رقم 14 (عبيد الله بن عمير) وهو غلط
(2) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 447، وكذلك ما بعده
352
أبى الوضئ قال: غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا فرسا لغلام ثم أقاما بقية
يومهما وليلتهما فلما أصبحا من الغد حضر الرحيل (1) قام إلى فرسه ليسرجه فندم
فاتى الرجل ليأخذه بالبيع فأبى أن يدفعه إليه فقال له: بيني وبينك أبو برزة صاحب
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالا له: هذه القصة
فقال: أترضيان أن أقضى بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(البيعان بالخيار ما لم يتفرقا) قال هشام بن حسان. قال جميل بن مرة قال أبو برزة.
ما أراكما افترقتما *
قال أبو محمد: أبو الوضئ - هو عباد بن نسيب تابعي ثقة - سمع علي بن أبي طالب.
وأبا هريرة وأبا برزة، فهؤلاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الصحابة، وعنهم الأئمة
من التابعين ومن بعدهم * نا محمد بن سعيد بن عمر بن نبات قال: نا عبد الله بن محمد بن قاسم
القلعي نا محمد بن أحمد الصراف ببغداد نا بشر بن موسى بن صالح بن شيخ بن عمير الأسدي
نا عبد الله بن الزبير الحميدي نا سفيان - هو ابن عيينة - نا بشر بن عاصم الثقفي قال: سمعت سعيد
ابن المسيب يحدث عن أبي بن كعب قال: إن عمر بن الخطاب. والعباس بن عبد المطلب
تحاكما إليه في دار للعباس إلى جانب المسجد أراد عمر أخذها ليزيدها في المسجد فأبى العباس
فقال لهما أبى: لما أمر سليمان ببناء بيت المقدس كانت أرضه لرجل فاشتراها منه سليمان
فلما اشتراها قال له الرجل: الذي أخذت منى خير أم الذي أعطيتني قال سليمان: بل الذي
أخذت منك قال: فانى لا أجيز البيع فرده فزاده ثم سأله فأخبره فأبى أن يجيزه فلم يزل
يزيده ويشترى منه فيسأله فيخيره فلا يجيز البيع حتى اشتراها منه بحكمه على أن لا يسأله
فاحتكم شيئا كثير افتعاظمه سليمان فأوحى الله إليه ان كنت إنما تعطيه من عندك فلا تعطه
وان كنت إنما تعطيه من رزقنا فأعطه حتى يرضى بها فقضى بها للعباس * وروينا من طريق
البخاري قال الليث - هو ابن سعد -: حدثني عبد الرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب
عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه (2) قال: بعت من أمير المؤمنين عثمان مالا بالوادي بمال
له بخيبر فلما تبايعنا رجعت على عقبى حتى خرجت من بيته خشية أن يرادني البيع (3)
وكانت السنة أن المتبايعين بالخيار حتى يفترقا (4) * ومن طريق الليث أيضا عن
يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: قال عبد الله بن عمر: كنا



(1) أي آن وقت الرحيل للجيش
(2) سقط لفظ (عن أبيه) من صحيح البخاري ج 3 ص 137
(3) أي يطلب استرداده
(4) في النسخة رقم 16 (ما لم يتفرقا) وما هنا موافق لصحيح البخاري
353
إذا تبايعنا كان كل واحد منا بالخيار ما لم يتفرق المتبايعان فتبايعت أنا وعثمان بن عفان
فبعته مالا لي بالوادي بمال له بخيبر فلما بايعته طفقت أنكص على عقبى القهقرى خشية
أن يرادني عثمان البيع قبل أن أفارقه * فهذا ابن عمر يخبر بان هذا مذهب الصحابة وعملهم.
ومذهب عثمان بن عفان لأنه خشي أن يراده البيع قبل التفرق بالأبدان، فلو لم يكن ذلك مذهب
عثمان ما خاف ابن عمر ذلك منه ويخبر بان ذلك هو السنة * وروينا ذلك أيضا عن أبي هريرة.
وأبى زرعة بن عمرو بن جرير. وطاوس كما روينا عن عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن أبي
عتاب عن أبي زرعة أن رجلا ساومه بفرس له فلما بايعه خيره ثلاثا ثم قال: اختر
فخير كل واحد منهما صاحبه ثلاثا، ثم قال أبو زرعة: سمعت أبا هريرة يقول: هذا
البيع عن تراض، فهذا عمر. والعباس يسمعان أبيا يقضى بتصويب رد البيع بعد عقده
فلا ينكران ذلك فصح أنهم كلهم قائلون بذلك ومعهم عثمان. وأبو هريرة. وأبو برزة.
وابن عمر. والصحابة جملة رضي الله عنهم * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان بن عيينة
عن سليمان الأحول سمعت طاوسا يحلف بالله ما التخيير الا بعد البيع * ومن طريق سعيد
ابن منصور نا هشيم أنا محمد بن علي السلمي سمعت أبا الضحى يحدث أنه شهد شريحا اختصم
إليه رجلان اشترى أحدهما دارا من الآخر بأربعة آلاف فأوجبها له ثم بداله في بيعها قبل
أن يفارق صاحبه فقال: لا حاجة لي فيها فقال البائع: قد بعتك وأوجبت لك فاختصما
إلى شريح فقال شريح: هو بالخيار ما لم يتفرقا، قال محمد بن علي: وشهدت الشعبي يقضى
بهذا * ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير عن مغيرة عن الشعبي أن رجلا اشترى برذونا
فأراد أن يرده قبل أن يتفرقا فقضى الشعبي أنه قد وجب عليه فشهد عنده أبو الضحى أن شريحا
أتى في مثل ذلك فرده على البائع فرجع الشعبي إلى قول شريح * وروينا أيضا من طريق معمر
عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أنه شهد شريحا يقضى بين المختصمين اشترى أحدهما
من الآخر بيعا فقال: إني لم أرضه وقال الآخر: بل قد رضيته فقال شريح: بينكما
أنكما تصادرتما عن رضى بعد البيع أو خيار أو يمينه بالله ما تصادرتما عن رضى بعد البيع
ولا خيار، وهو قول هشام بن يوسف. وابنه عبد الرحمن، وقال البخاري: هو قول
عطاء بن أبي رباح. وابن أبي مليكة، وهو قول الحسن. وسعيد بن المسيب. والزهري.
وابن أبي ذئب. وسفيان الثوري. وسفيان بن عيينة. والأوزاعي. والليث. وعبيد
الله بن الحسن القاضي. والشافعي. وأبي ثور. وجميع أصحابه. وإسحاق بن راهويه.
وأحمد بن حنبل. وأبى عبيد. وأبي سليمان. ومحمد بن نصر المروزي. ومحمد بن جرير
الطبري. وأهل الحديث. وأهل المدينة كما روينا من طريق ابن أيمن نا عبد الله بن أحمد

354
ابن حنبل قال: قال لي أبى: بلغني عن ابن أبي ذئب أنه بلغه قول مالك بن أنس: ليس البيعان
بالخيار فقال ابن أبي ذئب: هذا حديث موطوء بالمدينة - يعنى مشهورا - *
قال أبو محمد الا أن الأوزاعي قال: كل بيع فالمتبايعان فيه بالخيار ما لم يتفرقا
بأبدانهما إلا بيوعا ثلاثة. المغنم. والشركاء في الميراث يتقاومونه. والشركاء في التجارة
يتقاومونها، قال الأوزاعي: وحد التفرق أن يغيب كل واحد منهما عن صاحبه حتى
لا يراه، وقال أحمد: كما قلنا إلا أنه لا يعرف التخيير ولا يعرف الا التفرق بالأبدان
فقط، وهذا الشعبي قد فسخ قضاءه بعد ذلك ورجع إلى الحق فشذ عن هذا كله أبو حنيفة.
ومالك. ومن قلدهما وقالا: البيع يتم بالكلام وان لم يتفرقا بأبدانهما ولا خير أحدهما
الآخر وخالفوا السنن الثابتة. والصحابة، ولا يعرف لمن ذكرنا منهم مخالف أصلا وما
نعلم لهم من التابعين سلفا إلا إبراهيم وحده كما رويناه من طريق سعيد بن منصور نا هشيم
عن المغيرة عن إبراهيم قال: إذا وجبت الصفقة فلا خيار * ومن طريق ابن أبي شيبة
نا وكيع نا سفيان عن مغيرة عن إبراهيم قال. البيع جائز وان لم يتفرقا، ورواية مكذوبة
موضوعة عن الحجاج بن أرطاة وكفى به سقوطا عن الحكم عن شريح قال: إذا كلم الرجل
بالبيع وجب عليه البيع، والصحيح عن شريح هو موافقة الحق كما أوردنا قبل من رواية
أبى الضحى. وابن سيرين عنه، ولعمري أن قول إبراهيم ليخرج على أنه عنى كل صفقة
غير البيع لكن الإجارة. والنكاح. والهبات فهذا ممكن لأنه لم يذكر البيع أصلا فحصلوا
بلا سلف، وقوله: البيع جائز وان لم يتفرقا صحيح وما قلنا: إنه غير جائز ولا قال، هو:
انه لازم وإنما قال: إنه جائز *
قال أبو محمد: وموهوا بتمويهات في غاية الفساد، منها أنهم قالوا: معنى التفرق أي
بالكلام فقلنا: لو كان كما يقولون لكان موافقا لقولنا ومخالفا لقولكم لان قول المتبايعين
آخذه بعشرة فيقول الآخر: لا ولكن بعشرين لا شك عند كل ذي حسن سليم أنهما
متفرقان بالكلام فإذا قال أحدهما بخمسة عشر وقال الآخر: نعم قد بعتكه بخمسة عشر فالآن
اتفقا ولم يتفرقا فالآن وجب الخيار لهما إذ لم يتفرقا بنص الحديث فاذهبوا كيف شئتم
من عارض الحق بلج (1) وافتضح، وأيضا فنقول لهم: قولكم. التفرق بالكلام كذب
ودعوى بلا برهان لا يحل القول بهما في الدين، وأيضا فرواية الليث عن نافع عن ابن
عمر التي أوردنا رافعة لكل شغب ومبينة أنه التفرق عن المكان بالأبدان ولابد، وقال
بعضهم: معنى المتبايعين ههنا إنما هما (2) المتساومان كما سمى الذبيح ولم يذبح وقال



(1) بلج الرجل بلوجا وتبليجا أعيا
(2) في النسخة رقم 14 (انهما))
355
كما قال تعالى: (فبلغن أجلهن) إنما أراد تقاربن بلوغ أجلهن، وقال آخرون منهم:
إنما أراد بقوله عليه السلام: (ما لم يتفرقا) إنما هو ما بين قول أحدهما قد بعتك سلعتي
هذه بدينار فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر قد قبلت ذلك وبين قوله لصاحبه قد ابتعت سلعتك
هذه بدينار فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر: قد بعتكها بما قلت، وقال آخرون: إنما هو ما بين
قول القائل بعني سلعتك بدينار فهو بالخيار ما لم يقل له الآخر: قد فعلت وبين قول
القائل اشتر منى سلعتي هذه بدينار فله الخيار ما لم يقل له الآخر قد فعلت * فجواب هذه
الأقوال كلها واضح مختصر وهو أن يقال: كذب قائل هذا وأفك وأثم لأنه حرف كلام
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مواضعه بلا برهان أصلا لكن مطارفة ومجاهرة بالدعوى الباطل،
فمن أين لكم هذه الأقوال؟ ومن أخبركم بان هذا هو مراده عليه السلام؟ وأما قولكم:
كما سمى الذبيح ولم يذبح فما سماه الله تعالى قط ذبيحا ولا صح ذلك أيضا قط عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هكذا فإنما هو قول مطلق عامي لا حجة فيه وإنما أطلق ذلك من
أطلق مسامحة أو لأنه حمل الخليل عليه السلام السكين على حلقه وهذا فعل يسمى من فاعله
ذبحا وما نبالي عن هذه التسمية لأنها لم يأت بها قط قرآن. ولا سنة فلا يقوم بها حجة في
شئ أصلا * وأما قوله تعالى: (فبلغن أجلهن) فصدق الله تعالى وكذب من قال: إنه
تعالى أراد المقاربة حاش لله من هذا، ولو كان ما ظنوه لكان الامساك والرجعة
لا يجوز إلا في قرب بلوغ الأجل لا قبل ذلك وهذا باطل بلا خلاف. وتأويل الآية
موافق لظاهرها بلا كذب ولا تزيد وإنما أراد تعالى بلا شك بلوغ المطلقات أجل العدة
بكونهن فيها من دخولهن إياها إلى اثر الطلاق إلى خروجهن عنها وهذه المدة كلها للزوج
فيها الرجعة والأسماك بلا خلاف أو التمادي على حكم الطلاق، وحتى لو صح لهم
ما أطلقوا فيه الباطل لكان لا متعلق لهم به لأنه ليس (1) إذا وجد كلام قد صرف عن
ظاهره بدليل وجب أن يصرف كل كلام عن ظاهره بلا دليل، وفى هذا افساد التفاهم
والمعقول والشريعة كلها، فكيف ورواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي
عليه السلام قال: (كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا) فاضح لهذا الكذب كله ومبطل
لتخصيص بعض من يقع عليه اسم بيع من سائر من يقع عليه هذا الاسم، وقالوا: هذا التفريق
المذكور في الحديث هو مثل التفريق المذكور في قوله تعالى: (وإن يتفرقا يغن الله كلا من
سعته) فقلنا: نعم بلا شك وذلك التفرق المذكور في الآية تفرق بالقول يقتضى التفرق
بالأبدان ولابد، والتفرق المذكور في الحديث كذلك أيضا تفرق بالقول يقتضى التفرق



(1) في النسخة الحلبية (إذ ليس)
356
بالأبدان ولابد وأنتم تقولون: إن التفرق المراعى فيما يحرم به الصرف أو يصح إنما هو
تفرق الأبدان فهلا قلتم عن هذا ههنا: ان التفرق المذكور في هذا الخبر هو أيضا تفرق
الأبدان لولا التحكم البارد حيث تهوون، وموهوا بقول الله تعالى: (إلا أن تكونن تجارة عن
تراض منكم) فأباح تعالى الاكل بعد التراضي قالوا: وهذا دليل على صحة الملك بالعقد *
قال أبو محمد: الذي أتانا بهذه الآية هو الذي من عنده ندري ما هي التجارة المباحة
لنا مما حرم علينا وما هو التراضي الناقل للملك من التراضي الذي لا ينقل الملك؟ ولولاه لم
نعرف شيئا من ذلك، وهو الذي أخبرنا أن العقد ليس بيعا ولا هو تجارة ولا هو تراضيا
ولا ينقل ملكا إلا حتى يستضيف إليه التفرق عن موضعهما أو التخيير فهذا هو البيع.
والتجارة. والتراضي لا ما ظنه أهل الجهل بآرائهم بلا برهان لكن بالدعوى الفاسدة،
واحتجوا بقول الله تعالى: (أوفوا بالعقود) وهذا حق الا أن الذي أمرنا بهذا على لسان نبيه
هو تعالى الآمر لرسوله عليه السلام أن يخبر نا أنه لا يصح هذا العقد ولا يتم ولا يكون عقدا
إلا بالتفرق عن موضعهما أو بأن يخير أحدهما الآخر بعد التعاقد وإلا فلا يلزم الوفاء بذلك
العقد وهم مجمعون معنا على أنه لا يلزم أحدا الوفاء بكل عقد عقده بل أكثر العقود حرام
الوفاء بها كمن عقد على نفسه أن يزني أو أن يشرب الخمر نعم وأكثر العقود لا يلزم الوفاء
به عندهم وعندنا كمن عقد أن يشترى أو أن يبيع أو أن يغنى أو أن يزفن (1) أو أن ينشد شعرا،
فصح يقينا أنه لا يلزم الوفاء بعقد أصلا إلا عقدا أتى النص بالوفاء به (2) باسمه وعينه وهم
يقولون - يعنى الحنيفيين - أن من بايع آخر شيئا غائبا وتعاقدا اسقاط خيار الرؤية انه عقد
لا يلزم والمالكيون يقولون: من ابتاع ثمرة واشترط أن لا يقوم بجائحة وعقد ذلك على
نفسه فإنه عقد لا يلزمه فأين احتجاجهم بقول الله تعالى: (أوفوا بالعقود)؟ فان قالوا: هذه
عقود قامت الأدلة على أنه لا يلزم الوفاء بها قلنا: وعقد البيع عقد قد قام البرهان حقا على
أنه لا يلزم الوفاء به إلا بعد التفرق بالأبدان أو بعد التخيير بخلاف الأدلة الفاسدة التي
خصصتم بها ما خصصتم من العقود المذكورة، وموهوا أيضا بقول الله تعالى: (واشهدوا
إذا تبايعتم) وان الحياء القليل في وجه من احتج بهذه الآية في هذا المكان لوجوه،
أو لها أنهم أول مخالف لهذه الآية فيما وردت فيه من وجوب الاشهاد فكيف يستحلون
الاحتجاج بأنهم قد عصوا الله تعالى فيها وخالفوها ولم يروها حجة في وجوب الاشهاد
في البيع؟ والثاني أنه ليس في الآية نص ولا دليل على بطلان التفرق المذكور في الخبر
ولاذكر منه أصلا * والثالث أن نص الآية إنما هو ايجاب الاشهاد إذا تبايعنا والذي



(1) الزفن الرقص واللعب
(2) سقط لفظ (به)) من النسخة رقم 14
357
جاء نا بهذه الآية - ولولاه لم ندر ما البيع المباح من المحرم البتة - هو الذي أخبرنا أنه
لا بيع أصلا إلا بعد التفرق عن موضعهما أو النخيير، فصح يقينا أن قول الله تعالى:
(وأشهدوا إذا تبايعتم) إنما هو أمر بالاشهاد بعد التفرق أو التخيير الذي لا بيع بينهما
أصلا الا بعد أحدهما وان رغمت أنوف المخالفين؟ ثم موهوا بايراد أخبار ثابتة وغير
ثابتة مثل قوله عليه السلام: (إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه) والقول فيه كالقول في الآية
سواء سواء لأنه لا بيع بينهما إلا بعد التفرق أو التخيير والا فلم يبتع المبتاع أصلا ولا باع
البائع البتة، ومثل من باع عبدا وله مال فما له للبائع ومثل من باع نخلا قد أبرت فثمرتها
للبائع إلا أن يشترطها المبتاع، ومثل النهى عن بيع الطعام حتى يجرى فيه الصاعان، وإذا
اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع، وأخبار كثيرة جاء فيها ذكر البيع والقول فيها
كلها كما قلنا آنفا ان كل هذه الأحكام إنما وردت في البيع والذي أمر بما صح منها هو
الذي أخبر وحكم وقال: إنه لا بيع بين المتبايعين ما كانا معا ولم يتفرقا أو خيرا أحدهما
الآخر فتبا لمن عصاه، والعجب أن أكثر هذه الأخبار هم مخالفون لما في نصوصها فلم
يقنعوا بذلك حتى أضافوا إلى ذلك غرور من أحسن الظن في أن أوهموهم ما ليس فيها منه
شئ أصلا، ولا فرق بينهم في احتجاجهم بكل ما ذكرنا في ابطال السنة الثابتة من أن لا بيع
بين المتبايعين الا بعد التفرق بالأبدان أو التخيير وبين من احتج بها في إباحة كل بيع لم
يذكر فيها من الربا. والغرر. والحصاة. والملامسة. والمنابذة وغير ذلك بل هو كله عمل
واحد نعوذ بالله منه، ومن عجائبهم احتجاجهم في هذا بالخبر الثابت من أنه لا يجزى ولد
والد إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه *
قال أبو محمد: ولولا أن القوم مستكثرون من الباطل. والخديعة في الاسلام لمن اغتر
بهم لم يخف عليهم هذا التطويل بلا معنى ونعم الخبر صحيح وما اشترى قط أباه من لم
يفارق بائعه ببدنه ولا خيره بعد العقد ولا ملكه قط بل هو في ملك بائعه كما كان حتى
يخيره المبتاع أو يفارقه ببدنه فحينئذ يعتق عليه والا فلا بنص حكم الله تعالى على لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم * وذكروا أيضا (المسلمون عند شروطهم) وهذا خبر مكذوب لأنه
إنما رواه كثير بن زيد وهو ساقط ومن هو دونه. أو مرسل عن عطاء، ثم لو صح
لكان حجة لنا عليهم لان شروط المسلمين ليست كل شرط بلا خلاف بل إنما هي الشروط
المأمور بها أو المباحة بأسمائها في القرآن. وصحيح السنن، ولو كان ما أوهموا به لكان
شرط الزنا. و القيادة. وشرب الخمر. والربا شروطا لوازم وحاش لله من هذا
الضلال، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل كتاب

358
الله أحق وشرط الله أوثق) فشرط الله تعالى هو التفرق بالأبدان بعد العقد للبيع أو
التخيير والا فلا شرط هنالك يلزم أصلا، وأعجب شئ احتجاج بعضهم بان من باع
بيعا على أنه ثابت بلا خيار أن الخيار ساقط *
قال أبو محمد: ليت شعري من وافقهم على هذا الجنون لا ولا كرامة بل لو أن متبايعين
عقدا بيعهما على اسقاط الخيار الواجب لهما قبل التفرق بأبدانهما وقبل التخيير لكان
شرطا ملعونا وعقدا فاسدا وحكم ضلال لأنهما اشترطا ابطال ما أثبته الله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم). وموهوا أيضا بان قالوا: لما كان عقد النكاح. وعقد الطلاق. وعقد الإجارة،
والخلع. والعتق. والكتابة تصح ولا يراعى فيها اتفرق بالأبدان وجب مثل ذلك في البيع *
قال أبو محمد: وهذا قياس والقياس كله باطل ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين
الباطل لاجماعهم معنا على أن كل حكم من هذه التي ذكروا له (1) أحكام وأعمال مخالفة
لسائرها لا يجوز أن يجمع بينهما فيه، فالبيع ينتقل فيه ملك رقبة المبيع وثمنه وليس ذلك
في شئ من الأحكام التي ذكروا، والنكاح فيه إباحة فرج كان محرما بغير ملك رقبته
ولا يجوز فيه اشتراط خيار أصلا ولا تأجيل، وهم يجيزون الخيار المشترط في البيع
والتأجيل ولا يرون قياس أحدهما على الآخر في ذلك جائزا، والطلاق تحريم فرج
محلل اما في وقته واما إلى مدة بغير نقل ملك ولا يجوز فيه اشتراط خيار بعد ايقاعه أصلا
بخلاف البيع، والإجارة إباحة منافع بعوض لا تملك به الرقبة بخلاف البيع ويجوز
في الحر بخلاف البيع وهي إلى أجل ولا بد إما معلوم واما مجهول إن كان في عمل محدود
بخلاف البيع، والخلع طلاق بمال لا يجوز فيه عندهم خيار مشترط بخلاف البيع.
والعتق كذلك. والكتابة، فظهر سخف قياسهم هذا وانه هوس وتخليط * وكم
قصة لهم في التخيير في الطلاق أوجبوا فيه الخيار ما داما في مجلسهما وقطعوه بالتفرق (2)
بأبدانهما حيث لم يوجبه قط رب العالمين. ولا رسوله عليه السلام. ولا قول صاحب.
ولا معقول. وقياس شبه به لكن بالآراء الفاسدة؟ ثم أبطلوه حيث أوجبه الله
تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فنحمد الله تعالى على السلامة مما ابتلاهم به، وقال بعضهم:
التفرق بالأبدان في الصرف قبل القبض يبطل العقد فمن المحال أن يكون ما يبطل العقد
هو الذي يثبته *
قال على: وهذا كلام في غاية الفساد ولا ننكر هذا إذا جاء به النص فقد وجدنا النقد (3)



(1) في النسخة رقم 16 (لها)
(2) في النسخة رقم 14 (بالتفريق)
(3) في النسخة رقم 16 (التفرق)
359
وترك الأجل يفسد السلم عندهم ويصحح البيوع التي يقع فيها الربا حتى لا تصح إلا به فكيف
والمعنى فيما راموا الفرق بينه واحد؟ وهو أن المتصارفين لم يملكا شيئا ولا تبايعا أصلا قبل
التقابض، وكل متبايعين فلم يتم بينهما بيع أصلا قبل التفرق أو التخيير متصارفين كانا أو غير
متصارفين، فان تفرق كل من ذكرنا بأبدانهم قبل ما يتم به البيع فمن كان قد عقد عقدا أبيح له
تم له بالتفرق ومن كان لم يعقد عقدا أبيح له فليس ههنا شئ يتم له بالتفرق، وقالوا أيضا
متعقبين لكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم رادين عليه: المتبايعان إنما يكونان متبايعين ما داما في حال
العقد لا بعد ذلك كالمتضاربين والمتقاتلين (1)، فمن المحال أن يكونا متبايعين متفاسخين معا *
قال أبو محمد: وهذا كلام من لا عقل له. ولا علم. ولا دين. ولا حياء لأنه سفسطة
باردة ونعم فان المتبايعين لا يكونان متبايعين إلا في حين تعاقدهما لكن عقدهما بذلك
ليس بشئ ولا يتم الا بالتفرق أو التخيير بعد العقد كما أمر من لا يحرم دم أحد الا باتباعه
أو بجزية يغرمها إن كان كتابيا وهو صاغر * ومن طريف نوادرهم احتجاجهم في معارضة
هذا الخبر بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البيعان بالخيار
ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله) قالوا:
فالاستقالة لا تكون إلا بعد تمام البيع وصحة انتقال الملك *
قال على: قبل كل شئ فهذا حديث لا يصح ولسنا ممن يحتج لنفسه بما لا يصح وقد أعاذنا
الله تعالى من ذلك ولو صح لكان موافقا لقولنا إلا في المنع من المفارقة خوف الاستقالة
فقط فلسنا نقول به لان الخبر المذكور لا يصح ولو صح لقلنا بما فيه من تحريم المفارقة على
هذه النية وليست الاستقالة المذكورة في هذا الخبر ما ظن هؤلاء الجهال وإنما هي فسخ
النادم منهما للبيع رضى الآخر أم كره لان العرب تقول استقلت من علتي واستقلت ما فات عنى
إذا استدركه، والبرهان على صحة قولنا هذا وعلى فساد تأويلهم وكذبه هو أن المفارقة بالأبدان
لا تمنع من الاستقالة التي حملوا الخبر عليها بل هي (2) ممكنة ابدا ولو بعد عشرات أعوام فكان
الخبر على هذا لا معنى له ولا حقيقة ولا فائدة، فصح أنها الاستقالة التي تمنع منها المفارقة بلا
شك وهي التفرق بالأبدان الموجب للبيع المانع من فسخه ولابد لا يمكن غير هذا ولا
يحتمل لفظ الخبر معنى سواه البتة، فصار هذا الخبر ثقلا عليهم على ثقل لأنهم صححوه
وخالفوا ما فيه وأبا حوا له مفارقته خشي أن يستقيله أو لم يخش *
قال على: هذا كل ما موهوا به وكله عائد عليهم ومبدى تخاذل علمهم (3) وقلة فهمهم



(1) في النسخة الحلبية (والمتقابلين)
(2) في النسخة رقم 16 (إذ هي)
(3) في النسخة رقم 14 (لتخاذل علمهم)
360
ونحن إن شاء الله تعالى نذكر ما هو أقوى شبهة لهم ونبين جسم التعلق به لمن عسى أن يفعل
ذلك وبالله تعالى التوفيق * روينا من طريق البخاري قال: وقال الحميدي عن سفيان بن
عيينة نا عمرو عن ابن عمر [رضي الله عنهما قال]: (1) (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر
فكنت على بكر صعب لعمر فكان يغلبني فيتقدم أمام القوم فيزجره عمرو يرده [ثم
يتقدم فيزجره عمر ويرده] فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: بعنيه قال: هو لك يا رسول الله
قال: بعنيه فباعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال [النبي صلى الله عليه وسلم]: هو لك يا عبد الله بن عمر
تصنع به ما شئت) قالوا: فهذا بيع صحيح لا تفرق فيه وهبة لما ابتاع عليه السلام قبل
التفرق بلا شك *
قال أبو محمد: هذا خبر لا حجة لهم فيه لوجوه * أو لها أنه وان لم يكن فيه تفرق فقد
يكون فيه التخيير بعد العقد وليس السكوت عنه بمانع من كونه لان صحة البيع تقتضيه
ولابد ولم يذكر في هذا الخبر ثمن أيضا فينبغي لهم أن يجيزوا البيع بغير ذكر ثمن أصلا
لأنه لم يذكر فيه ثمن، فان قالوا: لابد من الثمن بلا شك لان البيع لا يصح الا به قلنا: ولابد
من التفرق أو التخيير لان البيع لا يكون بيعا ولا يصح أصلا إلا بأحدهما ولا فرق
بينهم في احتجاجهم بهذا الخبر في اسقاط حكم ما لم يذكر فيه من التخيير بعد العقد وبين من
احتج به في البيع بالمحرمات لأنه لم يذكر فيه ثمن أصلا وهذه أهبة لما ابتيع قبل القبض
بخلاف رأى الحنيفيين فهو حجة عليهم، وكذلك القول في الاشهاد سواء سواء *
والوجه الثاني أنه (2) حتى لو صح لهم أنه لم يكن في هذا البيع تخيير ولا إشهاد أصلا -
وهو لا يصح أبدا - فمن لهم أن هذه القصة كانت بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بيعين لا بيع
بينهما حتى يتفرقا أو يخير أحدهما الآخر؟ وبعد أمر الله تعالى بالاشهاد، ومن ادعى
علم ذلك فهو كذاب أفك يتبوء - إن شاء الله تعالى - مقعده من النار لكذبه على رسول الله
صلى الله عليه وسلم، فإن كان هذا الخبر قبل ذلك كله فنحن نقول: إن البيع حينئذ كان يتم بالعقد
وان لم يتفرقا ولا خير أحدهما الآخر وان الاشهاد لم يكن لازما وإنما وجب كل ما ذكرنا
حين الامر به لا قبل ذلك، وأما نحن فنقطع بان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالف أمر ربه تعالى
ولا يفعل ما نهى عنه أمته هذا ما لا شك فيه عندنا ومن شك في هذا أو أجاز كونه فهو
كافر نتقرب إلى الله تعالى بالبراءة منه، وكذلك نقطع بأنه عليه السلام لو نسخ ما أمرنا
به لبينه حتى لا يشك عالم بسنته في أنه قد نسخ ما نسخ وأثبت ما أثبت، ولو جاز غير هذا -
وأعوذ بالله - لكان دين الاسلام فاسدا لا يدرى أحد ما يحرم عليه ما يحل له مما أوجب



(1) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 136
(2) سقط لفظ (انه) من النسخة رقم 14
361
ربه تعالى عليه حاش لله من هذا، ان هذا لهو الضلال المبين الذي يكذبه الله
تعالى إذ يقول: (تبيانا لكل شئ) * (ولتبين للناس ما نزل إليهم) وقد تبين الرشد من
الغى والدين كله رشد وخلاف كل شئ منه غي، فلو لم يتبين كل ذلك لكان الله تعالى
كذبا والرسول عليه السلام لم يبين ولم يبلغ (1) والدين ذاهبا فاسدا، وهذا هو
الكفر المحض ممن أجاز كونه * والوجه الثالث أنهم يقولون: ان الراوي من الصحابة
أعلم بما روى. وابن عمر هو راوي هذا الخبر وهو الذي كان لا يرى البيع يتم إلا بالتفرق
بالأبدان فهو على أصلهم أعلم بما روى، وسقط على أصلهم هذا تعلقهم بهذا الخبر جملة
والحمد لله رب العالمين، وقال بعضهم: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ومن الغرر أن
يكون لهما خيار لا يدريان متى ينقطع *
قال أبو محمد: وهذا كلام فاسد من وجوه * أحدها أن العقد قبل التفرق بالأبدان.
أو التخيير ليس بيعا أصلا لا بيع غرر ولا بيع سلامة كما قال عليه السلام: (أنه لا بيع
بينهما ما كان معا) فهو غير داخل في بيع الغرر المنهى عنه * والوجه الثاني انه ليس كما قالوا:
من أن لهما خيارا لا يدريان متى ينقطع بل أيهما شاء قطعه قطعه في الوقت بأن يخير صاحبه
فاما يمضيه فيتم البيع وينقطع الخيار واما يفسخه فيبطل حكم العقد (2) وتماديه. أو بأن
يقوم فيفارق صاحبه كما كان يفعل ابن عمر، فظهر برد هذا الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالرأي السخيف. والعقل الهجين * والوجه الثالث أنه لا يكون غررا شئ أمر به رسول
الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يأمر بما نهى عنه معا حاش له من ذلك وإنما الغرر ما أجازه هؤلاء
بآرائهم الفاسدة من بيعهم اللبن الذي لم يخلق في ضروع الغنم شهرا أو شهرين. وبيع الجزر
المغيب في الأرض الذي لم يره انسى ولاعرف صفته ولا أهو جزر أم هو معفون مسوس
لا خير فيه. وبيع أحد ثوبين لا يدرى أيهما هو المشتري. والمقاثى التي لم تخلق. والغائب الذي
لم يوصف ولا عرف فهذا هو الغرر المحرم المفسوخ الباطل حقا، فان ذكروا ما رويناه
من طريق ابن أبي شيبة عن هاشم بن القاسم عن أيوب بن عتبة اليمامي عن أبي كثير السحيمي
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا من بيعهما أو يكون بيعهما بخيار) *
قال أبو محمد: وهذا عجب جدا لأنه عليهم لو صح، والتفرق من البيع لا يكون إلا
بأحد أمرين لا ثالث لهما إما بتفرق الأبدان فيتم البيع حينئذ ويتفرقان منه حينئذ لا قبل
ذلك وإما أن يتفرقا منه بفسخه وإبطاله لا يمكن غير هذا، فكيف وأيوب بن عتبة ضعيف
لا نرضى الاحتجاج بروايته أصلا وإن كانت لنا، وأتى بعضهم بطامة تدل على رقة دينه.



(1) في النسخة رقم 16 (ولا بلغ)
(2) في النسخة رقم 16 (حكم البيع)
362
وضعف عقله فقال: معنى ما لم يفترقا إنما أراد ما لم يتفقا كما يقال للقوم: على ماذا افترقتم؟ أي
على ما ذا اتفقتم فأراد على ما ذا افترقتما عن كلامكما *
قال أبو محمد: وهذا باطل من وجوه * أولها ان هذه دعوى كاذبة بلا دليل ومن
لكم بصرف هذا للفظ إلى هذا التأويل؟ وما كان هكذا فهو باطل * والثاني أن يقول:
هذا هو السفسطة بعينه ورد الكلام إلى ضده أبدا ولا يصح مع هذا حقيقة ولا يعجز أحد
عن أن يقول: كذلك في كل ما جاء عن القرآن. والسنن، وهذه سبيل الروافض إذ
يقولون: ان الجبت والطاغوت إنما هما انسانان بعينهما وأن تذبحوا بقرة أنما هي فلانة
بعينها * والثالث أن نقول لهم: فكيف ولو جاز هذا التأويل لكان ما رواه الليث عن نافع
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم (إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا
وكان جميعا أو يخير أحدهما الآخر فان خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع
وان تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع) مكذبا لهذا التأويل
الكاذب المدعى بلا دليل. ومبينا أن التفرق الذي به يصح البيع لا يكون البتة على رغم
أنوفهم الا بعد التبايع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا كما ظن أهل الجهل من أنه في حال التبايع
ومع آخر كلامهما *
قال أبو محمد: وهذا مما خالفوا فيه طائفة من الصحابة لا يعرف لهم منهم مخالف، وهم
يعظمون هذا وهذا مما خالفوا فيه جمهور العلماء الا رواية عن إبراهيم ثم جاء بعضهم
بعجب! وهو أنهم زادوا في الكذب فأتوا برواية رويناها من طريق عطاء أن عمر قال:
البيع صفقة أو خيار، وروى أيضا من طريق الشعبي أن عمر * وعن الحجاج بن أرطاة أن
عمر قال: إنما البيع عن صفقة أو خيار والمسلم عند شرطه * ومن طريق الحجاج بن
أرطاة عن محمد بن خالد بن الزبير عن شيخ من بنى كنانة أن عمر قال: البيع عن صفقة
أو خيار ولكل مسلم شرطه *
قال أبو محمد: من عجائب الدنيا ومن البرهان على البراءة من الحياء الاحتجاج بهذه
الروايات في معارضة السنن وكلها عليهم لوجوه * أولها أنه ليس شئ منها يصح لأنها
مرسلات. أو من طريق الحجاج بن أرطاة وهو هالك. عن شيخ من بنى كنانة وما
أدراك ما شيخ من بنى كنانة؟ ليت شعري أبهذا يحتجون إذا وقفوا في عرصة القضاء يوم
القيامة؟ عياذك اللهم من التلاعب بالدين، ثم لو صحت لما كان لهم فيها متعلق لأنه ليس في
شئ منها ابطال ما حكم به الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من أنه لا بيع إلا بعد التفرق
أو التخيير، وكلام عمر هذا لو سمعناه من عمر لما كان خلافا لقولنا لان الصفقة ما صح من

363
البيع بالتفرق والخيار ما صح من البيع بالتخيير كما قال عليه السلام وحكم ان لا بيع بين
البيعين الا بان يتفرقا أو يخير أحدهما الآخر فكيف وقد صح عن عمر مثل قولنا نصا؟ كما
روينا من طريق مسلم نا قتيبة نا ليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن مالك بن أوس
ابن الحدثان قال: أقبلت أقول: من يصطرف الدراهم فقال طلحة بن عبيد الله [وهو عند
عمر بن الخطاب] (1): أردنا ذهبك ثم جئنا إذا جاء خادمنا نعطيك ورقك فقال له عمر:
كلا والله لتعطينه ورقة أو لتردن إليه درهمه (2)، فهذا عمر يبيح له رد الذهب بعد تمام
العقد وترك الصفقة، فان قيل: لم يكن تم البيع بينهما قلنا: هذا خطأ لان هذا خبر رويناه
من طريق مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان النصرى (3) أنه أخبره أنه
التمس صرفا بمائة دينار قال: فدعاني طلحة بن عبيد الله فتراوضنا (4) حتى اصطرف منى وأخذ
ذهبه فقلبها (5) في يده ثم قال: حتى يأتيني خازني من الغابة وعمر يسمع فقال عمر:
والله لا تفارقه حتى تأخذه فهذا بيان أن الصرف قد كان قد انعقد بينهما فصح أن عمر
وبحضرته طلحة وسائر الصحابة يرون فسخ البيع قبل التفرق بالأبدان، ثم لو صح عن
عمر ما ادعوه ما كان في قوله حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عليه، وكم قصة خالفوا فيها
عمرو معه السنة أوليس معه؟ أول ذلك (6) هذا الخبر نفسه فإنهم رووا عن عمر كما ترى
(والمسلم عند شرطه) وهم يبطلون شروطا كثيرة جدا ونسوا خلافهم لعمر في قوله: الماء
لا ينجسه شئ. وأخذه الصدقة من الرقيق من كل رأس عشرة دراهم أو دينارا. وايجابه
الزكاة في ناض اليتيم. وتركه في الخرص في النخل ما يأكل أهله. والمسخ على العمامة،
وأزيد من مائة قضية فصار ههنا الظن الكاذب في الرواية الكاذبة عن عمر حجة في رد
السنن فكيف وقد روينا هذه الرواية نفسها من طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة
عن خالد بن محمد بن خالد بن الزبير أن عمر بن الخطاب قال: إنه ليس بيع الاعن صفقة
وتخاير هكذا بواو العطف وهذا مخالف لقولهم. وموافق لقولنا وموجب أن عمر لم ير
البيع الا ما جمع العقد والتخيير سوى العقد، وقد ذكرناه عن عمر أيضا قبل من طريق
صحيحة، فظهر فساد تعلقهم من كل جهة، وذكر بعضهم قول ابن عمر الثابت عنه: ما أدركت



(1) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 456
(2) في صحيح مسلم (ذهبه) والحديث مطول اختصره المصنف
(3) في النسخة الحلبية (البصري) وهو تصحيف وما هنا موافق لما في موطأ مالك ج 2 ص 137
(4) أي تجاذبنا
(5) في الموطأ (وأخذ الذهب يقلبها) والحديث مطول اختصره المصنف كما اختصر حديث مسلم المذكور قبله
(6) في النسخة رقم 16 (فأول ذلك)
364
الصفقة حيا مجموعا فهو من المبتاع رويناه من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن
الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه *
قال أبو محمد: وهذا من عجائبهم لأنهم أول مخالف لهذا الخبر فالحنيفيون يقولون:
بل هو من البائع ما لم يره المبتاع أو يسلمه إليه البائع. والمالكيون يقولون: بل إن كان
غائبا غيبة بعيدة فهو من البائع، فمن أعجب ممن يحتج بخبر هو عليه لا له ويجاهر هذه
المجاهرة؟ وما في كلام ابن عمر هذا شئ يخالف ما صح عنه من أن البيع لا يصح الا
بالتفرق بالأبدان (1) فقوله: ما أدركت الصفقة إنما أراد البيع التام بلا شك * ومن
قوله المشهور عنه: أنه لا بيع يتم البتة إلا بالتفرق بالأبدان أو بالتخيير بعد العقد *
قال على: فظهر عظيم فحشهم في هذه المسألة وعظيم تناقضهم فيها وهم يقولون: ان
المرسل كالمسند وبعضهم يقول: بل أقوى منه ويحتجون به إذا وافقهم، وقد روينا من
طريق عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل
الخيار بعد البيع) *
قال أبو محمد: وقد ذكرنا عن طاوس أن التخيير ليس الا بعد البيع وهم يقولون: الراوي
أعلم بما روى * ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا قاسم الجعفي عن أبيه عن ميمون
ابن مهران قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيع عن تراض والتخيير بعد الصفقة ولا يحل لمسلم
أن يغبن مسلما) فهذا مرسلان من أحسن المراسيل مبطلان لقولهم الخبيث المعارض
للسنن فأين هم عنه؟ لكنهم يقولون ما لا يفعلون كبر مقتا عند الله أن يقولوا: ما لا يفعلون
نعوذ بالله من مقته * قال على: وقد ذكرنا أن بعض أهل الجهل والسخف قال: هذا
خبر جاء بألفاظ شتى فهو مضطرب * قال على: وقد كذب بل ألفاظه كلها ثابتة منقولة
نقل التواتر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس شئ منها مختلفا (2) أصلا لكنها ألفاظ يبين
بعضها بعضا كما أمر عليه السلام ببيان وحى ربه تعالى *
1418 - مسألة فان قيل: فهلا أوجبتم التخيير في البيع ثلاث مرات؟
لما رويتموه من طريق هشام الدستوائي عن قتادة عن الحسن عن سمرة (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: البيعان بالخيار حتى يتفرقا ويأخذ كل واحد منهما من البيع ما هوى أو يتخايران
ثلاث مرار (3)) * ومن طريق البخاري نا إسحاق أبا حيان نا همام نا قتادة عن أبي
الخليل عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: البيعان



(1) في النسخة رقم 14 (بتفرق الأبدان)
(2) في النسخة رقم 16 (مخالفا)
(3) في النسخة رقم 16 (ثلاث مرات)
365
بالخيار حتى يتفرقا قال همام: وجدت في كتابي (يختار ثلاث مرار فان صدقا وبينا
بورك لهما في بيعهما وان كذبا وكتما فعسى أن يربحا ربحا ويمحقا بركة بيعهما (1)
وهكذا رويناه من طريق عفان عن همام أيضا قلنا: رواية الحسن عن سمرة مرسلة لم
يسمع منه الا حديث العقيقة وحده، وأما رواية همام فإنه لم يحدث بهذه اللفظة وإنما
أخبر أنه وجدها في كتابه ولم يلتزمها ولا رواها ولا أسندها، وما كان هكذا فلا
يجوز الاخذ به ولا تقوم به حجة، وقد روى هذا الخبر همام عن أبي التياح عن عبد
الله بن الحارث عن حكيم فلم يذكر فيه ثلاث مرات، ورواه شعبة. وسعيد بن أبي عروبة.
وحماد بن سلمة كلهم عن قتادة باسناده ولفظ فلم يذكر أحد منهم ثلاث مرار، وقد
حدثنا هشام بن سعيد الخير (2) نا عبد الجبار بن أحمد المقرى نا الحسن بن الحسين بن عبد ربه
النجيرمى (3) نا جعفر بن محمد الأصبهاني نا يونس بن حبيب (4) الزبيري نا أبو داود
الطيالسي نا شعبة. وهمام كلاهما عن قتادة قال شعبة في حديثه: سمع صالحا أبا الخليل
يحدث عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا فان صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما وان كذبا وكتما محق (5) بركة
بيعهما) قال أبو داود: وحديث همام مثل هذا (6) فارتفع الاشكال وثبت همام على ترك
هذه اللفظة ولم يقل إذ وجدها في كتابه أنها من روايته، ووالله لو ثبت همام عليها من
روايته أو غيره من الثقات لقلنا بها لأنها كانت تكون زيادة *
1419 مسألة فان تبايعا في بيت فخرج أحدهما عن البيت أو دخل حنية في
البيت فقد تفرقا وتم البيع أو تبايعا في حنية فخرج أحدهم إلى البيت فقد تفرقا وتم البيع
فلو تبايعا في صحن دار فدخل أحدهما البيت فقد تفرقا وتم البيع، فلو تبايعا في دار أو خص
فخرج أحدهما إلى الطريق أو تبايعا في طريق فدخل أحدهما دارا أو خصا فقد تفرقا وتم
البيع، فان تبايعا في سفينة فدخل أحدهما البليج أو الخزانة أو مضى إلى الفندقوق أو صعد
الصاري فقد تفرق وتم البيع، وكذلك لو تبايعا في أحد هذه المواضع فخرج أحدهما إلى
السفينة فقد تم البيع إذ تفرقا، فان تبايعا في دكان فزال أحدهما إلى دكان آخر أو خرج إلى



(1) هو في صحيح البخاري ج 3 ص 136
(2) في النسخة رقم 14 (سعد الخير)
(3) في النسخة رقم 16 والنسخة الحلبية (عن عبدويه النجيرمي)
(4) في النسخة رقم 14 (نا يوسف بن حبيب) صححناه من تهذيب التهذيب
(5) في سنن أبي داود (محقت) (6) في سنن أبي داود ليس كما قال المصنف بل ما فيه هكذا (قال أبو داود: وكذلك رواه سعيد ابن أبي عروبة وحماد وأما همام فقال: حتى يتفرقا أو يختار ثلاث مرات)
366
الطريق فقد تم البيع وتفرقا، ولو تبايعا في الطريق فدخل أحدهما الدكان فقد تم البيع وتفرقا،
فلو تبايعا في سفر أو في فضاء فلهما لا يفترقان إلا بأن يصير بينهما حاجز يسمى تفريقا في
اللغة أو بأن يغيب عن بصره في الرفقة أو خلف ربوة. أو خلف شجرة. أو في حفرة، وإنما
يراعى ما يسمى في اللغة تفريقا فقط وبالله تعالى التوفيق *
1420 مسألة فلو تنازع المتبايعان فقال أحدهما. تفرقنا وتم البيع أو قال:
خيرتني أو قال: خيرتك فاخترت أو اخترت تمام البيع وقال الآخر: بل ما تفرقنا حتى فسخت
وما خيرتني ولا خيرتك أو أقر بالتخيير وقال: فلم اختر أنا أو قال: أنت تمام البيع فإن كانت
السلعة المبيعة معروفة للبائع بينة أو بعلم الحاكم ولا نبال حينئذ في يد من كانت منهما ولا في
يد من كان الثمن منهما أو كانت غير معروفة إلا أنها في يده والثمن عند المشترى فان القول
في كل هذا (1) قول مبطل البيع منهما كائنا من كان مع يمينه لأنه مدعى عليه عقد بيع لا
يقربه ولا بينة عليه به فليس عليه الا اليمين بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمين على المدعى عليه،
فإن كانت السلعة في يد المشترى وهي غير معروفة للبائع وكان الثمن عند البائع بعد فالقول
قول مصحح البيع منهما كائنا من كان مع يمينه لأنه مدعى عليه نقل شئ عن يده ومن كان
في يده شئ فهو في الحكم له فليس عليه الا اليمين، فلو كانت السلعة والثمن معا في يد أحدهما
فالقول قوله مع يمينه لأنه مدعى عليه كما قلنا وبالله تعالى التوفيق * وهكذا القول في كل
ما اختلف فيه المتبايعان مثل أن يقول أحدهما: ابتعته بنقد ويقول الآخر: بل بنسيئة أو
قال أحدهما: بكذا وكذا أو قال الآخر: بل أكثر، أو قال أحدهما: بعرض وقال
الآخر: بعرض آخر أو بعين أو قال أحدهما: بدنانير وقال الآخر بل بدراهم. أو قال
أحدهما بصفة كذا وذكر ما يبطل به البيع وقال الآخر: بل بيعا صحيحا، فإن كان في قول
أحدهما إقرار للآخر بزيادة اقرارا صحيحا ألزم ما أقر به ولابد، فإن كانت السلعة بيد
البائع والثمن بيد المشترى فهنا هو كل واحد منهما مدعى عليه فيحلف البائع بالله ما بعتها منه كما
يذكر ولا بما يذكر ويحلف المشترى بالله ما باعها منى بما يذكر ولا كما يذكر ويبرأ كل
واحد منهما من طلب الآخر ويبطل ما ذكرا من البيع * وذهب قوم إلى أن البيعين إذا
اختلفا تراد البيع دون أيمان وهو قول ابن مسعود. والشعبي، وأحمد بن حنبل كما روينا
من طريق عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن معن بن عبد الرحمن عن القاسم بن عبد الرحمن
ابن عبد الله بن مسعود أن ابن مسعود باع من الأشعث بن قيس بيعا فاختلفا في الثمن فقال
ابن مسعود: بعشرين وقال الأشعث: بعشرة فقال له ابن مسعود: اجعل بيني وبينك



(1) في النسخة رقم 14 (في كل ذلك) وفى النسخة الحلبية (في هذا كله)
367
رجلا فقال له الأشعث: أنت بيني وبين نفسك قال ابن مسعود: فانى أقول بما قضى به
رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم: (إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال رب المال أو يترادان البيع)
وروى عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود أنه قال: يحلف البائع فان شاء المشترى أخذ وان
شاء ترك ولم يذكر عليه يمينا: وقال قوم: إن كانت السلعة قائمة تحالفا وفسخ البيع وإن
كانت قد هلكت فالقول قول المشترى مع يمينه هذا إذا لم تكن هنالك بينة، وهو قول
حماد بن أبي سليمان. وأبي حنيفة. وأبى يوسف. ومالك، وقال إبراهيم. والثوري.
والأوزاعي في المستهلكة: بذلك * وقال قوم: إذا اختلف المتبايعان حلفا جميعا فان
حلفا أو نكلا فسخ البيع وان حلف أحدهما ونكل الآخر قضى بقول الذي حلف سواء
كانت قائمة أو مستهلكة، وهو قول شريح. والشافعي. ومحمد بن الحسن الا أنهما قالا:
يترادان ثمن المستهلكة، وقال عطاء: يرد البيع الا أن يتفقا، وقال زفر بن الهذيل في السلعة
القائمة يتحالفان ويترادان واما المستهلكة فان اتفقا على أن الثمن كان من جنس واحد
فالقول قول المشترى فان اختلفا في الجنس تحالفا وترادا قيمة المبيع، وقال أبو سليمان.
وأبو ثور: القول في ذلك قائمة كانت السعلة أو مستهلكة قول المشترى مع يمينه *
قال أبو محمد: فأما قول ابن مسعود والشعبي. واحمد فإنهم احتجوا بالحديث الذي
ذكرنا فيه ورويناه بلفظ آخر وهو إذا اختلف المتبايعان فالقول ما قال البائع والمبتاع
بالخيار فاللفظ الأول رويناه كما ذكرناه، ورويناه أيضا من طريق حفص بن غياث عن أبي
عميس أخبرني عبد الرحمن بن محمد بن قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس عن أبيه عن جده
قال ابن مسعود * ومن طريق أبى عميس أيضا عن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث عن
أبيه عن جده قال ابن مسعود * ومن طريق هشيم انا ابن أبي ليلى هو محمد بن عبد الرحمن القاضي
عن القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أن ابن مسعود، وأما اللفظ الثاني
فرويناه من طريق ابن عجلان عن عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن ابن مسعود *
قال أبو محمد: وهذا كله لا حجة فيه ولا يصح شئ منه لأنها كلها مرسلات، وعبد الرحمن
ابن عبد الله بن مسعود كان له إذ مات أبوه رضي الله عنه ست سنين فقط لم يحفظ منه كلمة
والراوي عنه أيضا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ، وعبد الرحمن بن
محمد بن الأشعث ظالم من ظلمة الحجاج لا حجة في روايته، وأيضا فلم يسمع منه أبو عميس
شيئا لتأخر سنه عن لقائه، وأيضا فهو خطأ وإنما هو عبد الرحمن بن محمد بن قيس بن محمد
ابن الأشعث وهو مجهول ابن مجهول، وأيضا محمد بن الأشعث لم يسمع من ابن مسعود
فبطل التعلق به جملة، وأما قول أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود فإنه يحتج له بما روينا من

368
طريق أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن الحسين نا حجاج - هو ابن محمد - قال ابن جريج:
أخبرني إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عبيدة أنه سمع أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود
يقول: قال ابن مسعود: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في المتبايعين سلعة يقول أحدهما: أخذتها
بكذا وكذا وقال الآخر: بعتها بكذا وكذا بأن يستحلف البائع ثم يختار المبتاع فان شاء
أخذ وان شاء ترك) * ورويناه أيضا من طريق إسماعيل بن أمية عن عبد الملك بن عبيدة عن
ابن لعبد الله بن مسعود عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا لا شئ لان أبا عبيدة بن عبد الله
ابن مسعود سئل أتذكر من أبيك شيئا؟ قال: لا ولكم يكن لعبد الله رضي الله عنه من الولد إلا
أبو عبيدة وهو أكبر هم. وعبد الرحمن تركه ابن ست سنين. وعتبة وكان أصغر هم. وعبد الملك
ابن عبيدة المذكور مجهول فسقط هذا القول *
قال أبو محمد: وأما سائر الأقوال فلا حجة لهم أصلا لا سيما من فرق بين السلعة القائمة
والمستهلكة ومن حلف المشترى فإنه لا يوجد ذلك في شئ من الآثار أصلا الا انهم أطلقوا
اطلاقا سامحوا فيه قلة الورع - يعنى الحنيفيين والمالكيين - فلا يزالون يقولون في كتبهم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة فإنهما يتحالفان ويترادان)
وهذا لا يوجد أبدا لا في مرسل ولا في مسند لا في قوى ولا في ضعيف الا أن يوضع للوقت *
قال على: وهذا مما تناقضوا فيه فخالفوا المرسل المذكور وخالفوا ابن مسعود ولا
يعرف له مخالف من الصحابة رضي الله عنهم، واحتج بعضهم لقولهم في ذلك بأن قال: لما
كان كلاهما مدعيا ومدعى عليه وجب عليهما اليمين جميعا فان البائع يدعى على المشترى ثمنا أو
عقدا لا يقر به المشترى والمشترى يدعى على البائع عقدا لا يقربه البائع *
قال أبو محمد: ليس هذا في كل مكان كما ذكروا لان من كان بيده شئ لا يعرف لغيره
وقال له إنسان: هذا لي بعته منك بمثقالين وقال الذي هو في يده: بل ابتعته منك بمثقال وقد
أنصفتك فان الذي الشئ بيده ليس مدعيا علي الآخر بشئ أصلا لان الحكم أن كل ما بيد
المرء فهو له فان ادعى فيه مدع حلف الذي هو بيده وبرئ ولم يقر له قط بملكه اقرارا مطلقا
فليس البائع ههنا مدعى عليه أصلا، وقد عظم تناقضهم ههنا لا سيما تفريقهم بين السلعة القائمة
والمستهلكة فهو شئ لا يوجبه قرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قول صاحب. ولا
قياس. ولا معقول. ولا رأى له وجه، ويعارضون بما احتج له أصحابنا. وأبو ثور في قولهم:
ان القول قول المشترى على كل حال مع يمينه لأنهما جميعا قد اتفقا على البيع وعلى انتقال
الملك إلى المشترى ثم ادعى البائع على المشترى بما لا يقر له به المشترى، وهذا أشبه بأصول
الحنيفيين. والمالكيين من أقوالهم في الاقرار

369
قال أبو محمد: وليس هذا أيضا صحيحا لان البائع لم يوافق المشترى قط على ما ادعاه في
ماله وإنما أقر له بانتقال الملك وبالبيع على صفقة لم يصدقه المشترى فيها فلا يجوز أن يقضى
للمشترى باقرار هو مكذب له فصح أن القول ما قلناه من أن كل ما كان بيد انسان فهو له الا
أن تقوم بملكه بينة لغيره وهو قول اياس بن معاوية وبهذا جاءت السنة * والعجب من ايهام
الحنيفيين. والمالكيين. والشافعيين. انهم يقولون بالحديث المذكور وهم قد خالفوه
جملة كما أوردنا لا سيما الشافعيين فإنهم يقولون: لا يجوز الحكم بالمرسل ثم أخذواهها
بمرسل وليتهم صدقوا في أخذهم به بل خالفوه وتناقضوا كلهم مع ذلك في فتاويهم في
فروع هذه المسألة تناقضا كثيرا * وبالله تعالى التوفيق * وأعجب شئ في هذا تحليف
المالكيين للبائع. والمشترى بان يحلف البائع بالله لقد بعتكها بكذا وكذا وبان يحلف
المشترى بالله لقد اشتريتها منك بكذا وكذا فيجمعون في هذا أعجوبتين: إحداهما
تحليفهما على ما يدعيانه لا على نفى ما يدعى به كل واحد منهما على الآخر، والأخرى أنهم
يحلفونهما كذلك ثم لا يعطونهما ما حلفا عليه فأي معنى لتحليفهما بذلك؟ وإنما يحلف
المدعى عليه على نفى ما ادعى عليه به ويبرأ، وأما هم ومن يرى رد اليمين فإنه يحلف المدعى
على ما ادعى ويقضون له به) ونقضوا ههنا أصولهم أقبح نقض وأفسده بلا دليل أصلا،
وقالوا أيضا: ان ادعى أحدهما صحة العمل والآخر فساده القول قول مدعى الصحة ولا
يدرى من أين وقع لهم هذا؟، وبالله تعالى التوفيق *
1420 مسألة وكل بيع وقع بشرط خيار للبائع أو للمشترى أو لهما جميعا
أو لغيرهما خيار ساعة أو يوم أو ثلاثة أيام أو أكثر أو أقل فهو باطل تخيرا انفاذه أو لم
يتخيرا فان قبضه المشترى باذن بائعه فهلك في يده بغير فعله فلا شئ عليه فان قبضه بغير
اذن صاحبه لكن بحكم حاكم أو بغير حكم حاكم ضمنه ضمان الغصب، وكذلك ان أحدث
فيه حدثا ضمنه ضمان التعدي، وقال أبو حنيفة: بيع الخيار جائز لكل واحد منهما
ولهما معا ولانسان غيرهما فان رد الذي له الخيار البيع فهو مردود وان أمضاه فهو ماض الا
أنه لا يجيز مدة الخيار أكثر من ثلاثة أيام لكن ثلاثة أيام فأقل، فان اشترط الخيار أكثر
من ثلاثة أيام بطل البيع، فان تبايعا بخيار ولم يذكرا مدة فهو إلى ثلاثة أيام، وخالفه
أبو يوسف. ومحمد فقالا: الخيار جائز إلى ما تعاقداه طالت المدة أم قصرت واتفقوا في
كل ما عدا ذلك، والنقد جائز عندهم في بيع الخيار بتطوع المشترى لا بشرط أصلا فان
تشارطا النقد فسد البيع فان مات الذي له الخيار في مدة الخيار فقد لزمه البيع فان تلف الشئ
في مدة الخيار فإن كان الخيار للمشترى فقد لزمه البيع بذلك الثمن وإن كان الخيار للبائع

370
فعلى المشترى قيمته لا ثمنه وللذي له الخيار منهما انفاذ الرضى بغير محضر الآخر وليس له
أن يرد البيع إلا بمحضر الآخر، وزكاة الفطر ان تم البيع بالرضى (1) على المشترى وان
لم يتم البيع بالرد على البائع *
قال أبو محمد: وهذه وساوس. وأحكام لا يعرف لها أصل وأقسام وأحكام
لا تحفظ عن أحد قبله، وقال مالك: بيع الخيار جائز كما قال أبو حنيفة. وأصحابه الا
أن مدة الخيار عنده تختلف أما في الثوب فلا يجوز الخيار عنده إلا يومين فأقل فما زاد فلا
خير فيه وأما الجارية فلا يجوز الخيار عنده فيها الا جمعة فأقل فما زاد فلا خير فيه ينظر
إلى خبرها. وهيئتها. وعملها، وأما الدابة فيوم فأقل أو سير البريد فأقل، وأما الدار
فالشهر فأقل وإنما الخيار عنده ليستشير ويختبر البيع (2) وأما ما بعد من أجل الخيار فلا
خير فيه لأنه غرر، ولا يجوز عنده النقد في بيع الخيار لا بشرط ولا بغير شرط فان تشارطاه
فسد البيع، فان مات الذي له الخيار فورثته يقومون مقامه، فان تلف المبيع في يد
المشترى من غير فعله في مدة الخيار فهو من مصيبة البائع ولا ضمان على المشترى سواء كان
الخيار للمشترى أو للبائع أولهما أو لغيرهما وللذي له الخيار الرد والرضى بغير محضر
الآخر وبمحضره، وزكاة الفطر على البائع في كل ذلك، قال: فان انقضى أمد الخيار
ولم يرد ولا رضى فله الرد بعد ذلك بيوم فإن لم يرد في هذا القدر لزمه البيع، وهذه أقوال
في الفساد كالتي قبلها ولا تحفظ عن أحد قبله وتحديدات في غاية الفساد لان كل ما ذكرنا
من الجارية. والثوب. والدار. والدابة قد يختبر ويستشار فيه في أقل من المدد التي
ذكروا وفى أقل من نصفها وقد يخفى من عيوب كل ذلك أشياء في أضعاف تلك المدد،
فكل ذلك شرع لم يأذن الله تعالى به ولا أوجبته سنة. ولا رواية ضعيفة. ولا قياس.
ولا قول متقدم. ولا رأى له وجه، وليت شعري ما قولهم إن كان الخيار لا جنبي فمات في
أمد الخيار أيقوم ورثته (3) مقامه في ذلك أم لا؟ فان قالوا: لا تناقضوا وجعلوا الخيار
مرة يورث ومرة لا يورث وان قالوا: نعم قلنا: فلعلهم صغار. أو سفها. أو غيب.
أو لا وارث له فيكون الخيار للامام أو لمن شاء الله هذه لعجائب! * وقال الشافعي:
يجوز الخيار لأحدهما ولهما معا ولا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، واختلف قوله في
التبايع على أن يكون الخيار لأجنبي فمرة أجازه ومرة أبطل البيع به الا على معنى
الوكالة والنقد جائز عنده في بيع الخيار فان مات الذي له الخيار فورثته يقومون مقامه فان



(1) سقط لفظ (بالرضى 9) من النسخة رقم 14
(2) في النسخة رقم 16 (وتخيير للمبيع)
(3) في النسخة رقم 16 (وارثه)
371
تلف الشئ في يد المشترى في مدة الخيار فإن كان الخيار للبائع أولهما معا فعلى المشترى
ضمان القيمة وإن كان الخيار للمشترى فقد لزمه البيع بالثمن الذي ذكرا وللذي له الخيار
عنده أن يرد وان يرضى بغير محضر الآخر وبمحضره، واحتج هو. وأبو حنيفة في أن
الخيار لا يكون أكثر من ثلاث بخبر المصراة. وبخبر الذي كان يخدع في البيوع فجعل
له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثا وأمره أن يقول إذا باع: لا خلابة، واحتج الحنيفيون
في ذلك بما روينا من طريق الحذافي محمد بن يوسف قال: أخبرني محمد بن عبد الرحيم بن
شروس أخبرني حفص بن سليمان الكوفي أخبرني أبان عن أنس أن رجلا اشترى بعيرا
واشترط الخيار أربعة أيام فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم البيع وقال: إنما الخيار ثلاثة أيام،
قال الحذافي: وحدثنا عبد الرزاق نا رجل سمع أبانا يقول: عن الحسن: (اشترى
رجل بيعا وجعل الخيار أربعة أيام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيع مردود وإنما الخيار
ثلاثة أيام) *
قال أبو محمد: أما احتجاج أبي حنيفة. والشافعي بحديث منقذ وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل
له الخيار ثلاثة أيام فيما اشترى فعجب عجيب جدا أن يكونا أول مخالف لهذا الحديث،
وقولهما بفساد بيعه جملة إن كان يستحق الحجر ويخدع في البيوع أو جواز بيعه جملة ولا
يرده إلا من عيب إن كان لا يستحق الحجر فكيف يستحل ذو ورع أن يعصى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيما أمر به ثم يقوله ما لم يقل مع ذلك، وليس في هذا الخبر بيع وقع بخيار من المتبايعين
لأحدهما أولهما وفى هذا نوزعوا فوا أسفاه عليهم * وأما احتجاج أبي حنيفة بحديث المصراة
فطامة من طوام الدهر وهو أول مخالف له وزار عليه (1) وطاعن فيه مخالف كل ما فيه،
فمرة يجعله ذو التورع منهم منسوخا بتحريم الربا وكذبوا في ذلك ما للربا ههنا مدخل،
ومرة يجعلونه كذبا ويعرضون بأبي هريرة والله تعالى يجزيهم بذلك في الدنيا والآخرة وهم
أهل الكذب لا الفاضل البر أبو هريرة رضي الله عنه وعن جميع الصحابة وكب الطاعن علي
أحد منهم لوجهه ومنخريه ثم لا يستحيون من أن يحتجوا به فيما ليس فيه منه شئ
لأنهم إنما يريدون نصر تصحيح بيع وقع بشرط خيار للبائع أو للمشترى أولهما معا أو
لغيرهما وليس من هذا كله في خبر المصراة أثر. ولا نص. ولا إشارة. ولا معنى، فأي عجب
أكثر من هذا!، وأما حديثا الحذافي المسند. والمرسل فهما من طريق أبان بن يزيد الرقاشي
وهو هالك مطرح، والمسند من طريق حفص بن سليمان الكوفي وهو هالك أيضا متروك،
وأما المرسل فعن رجل لم يسم فهما فضيحة وشهوة لا يأخذ بهما في دينه إلا محروم
* (هامش) (1) يقال زرى عليه فعله عابه (*)

372
التوفيق، ولعمري لقد خالف المالكيون ههنا أصولهم (1) فإنه لا مؤنة عليهم من الاخذ
بمثلها في الدناءة والرذالة إذا وافق تقليدهم وقالوا: أيضا قد اتفقنا على جواز الخيار ثلاثا
واختلفنا فميا زاد *
قال أبو محمد: وهذا كذب ما وفقوا قط على ذلك، وهذا مالك لا يجيز الخيار في الثوب
الا يومين فأقل ولا في الدابة الا اليوم فأقل فبطل كل ما موهوا به وبالله تعالى التوفيق *
ويعارضون بالخبر الذي فيه النهى عن تلقى الركبان فمن تلقى شيئا من ذلك فصاحبه بالخيار
إذا أتى السوق وهو خبر صحيح وفيه الخيار إلى دخول السوق ولعله لا يدخله إلا بعد عام
فأكثر، وسنذكره باسناده بعد هذا إن شاء الله تعالى، فظهر فساد أقوال هؤلاء جملة وانها
آراء أحدثوها متخاذلة لا أصل لها ولا سلف لهم فيها * وقال ابن أبي ليلى: شرط الخيار في
البيع جائز لهما أو لأحدهما أو لأجنبي ويجوز إلى أجل بعيد أو قريب * وقال الليث: يجوز
الخيار إلى ثلاثة أيام فأقل * وقال الحسن بن حي: يجوز شرط الخيار في البيع ولو شرطاه
أبدا فهو كذلك لا أدرى ما الثلاث الا أن المشترى ان باع ما اشترى بخيار فقد رضيه
ولزمه وإن كانت جارية بكرا فوطئها فقد رضيها ولزمته * وقال عبيد الله بن الحسن:
لا يعجبني شرط الخيار الطويل في البيع إلا أن الخيار للمشترى ما رضى البائع * وقال ابن
شبرمة. وسفيان الثوري. لا يجوز البيع إذا شرط فيه الخيار للبائع أو لهما، وقال سفيان:
البيع فاسد بذلك فان شرط الخيار للمشترى عشرة أيام أو أكثر جاز، وروينا في ذلك عن
المتقدمين آثارا كما روينا من طريق وكيع نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي قال:
اشترى عمر فرسا واشترط حبسه ان رضيه وإلا فلا بيع بينهما بعد فحمل عمر عليه رجلا فعطب
الفرس فجعلا بينهما شريحا فقال شريح لعمر: سلم ما ابتعت أورد ما أخذت فقال عمر:
قضيت بمر الحق * وروينا عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمر وبن دينار عن
عبد الرحمن بن فروخ عن أبيه قال: اشترى نافع بن عبد الحارث من صفوان بن أمية بن
خلف دارا للسجن بأربعة آلاف فان رضى عمر فالبيع بيعه وان لم يرض (2) فلصفوان
أربعمائة درهم فأخذها عمر * وبه إلى سفيان الثوري عن عبد الله بن دينار قال: سمعت ابن
عمر يقول: كنت ابتاع ان رضيت حتى ابتاع عبد الله بن مطيع نجيبة ان رضيها فقال: إن
الرجل ليرضى ثم يدعى فكأنما أيقظني فكان يبتاع ويقول: ها ان اخذت * ومن طريق
عبد الرزاق أنا ابن جريج أخبرني سليمان بن البرصاء قال: بايعت ابن عمر بيعا فقال لي: إن
جاءتنا نفقتنا إلى ثلاث ليال فالبيع بيعنا وان لم تأتنا نفقتنا إلى ذلك فلا بيع بيننا وبينك ولك سلعتك



(1) في النسخة رقم 16 (أقوالهم)
(2) في النسخة رقم 14 (وان عمر لم يرض)
373
قال أبو محمد: لا نعلم عن الصحابة رضي الله عنهم في بيع الخيار شيئا غير هذا وهو كله
خلاف لا قوال أبي حنيفة. ومالك. والشافعي، وهذه عندهم بيوع فاسدة مفسوخة
فأين تهويلهم بالصاحب الذي لا يعرف له مخالف؟ نعم وان عرف له مخالف، وأين ردهم
السنة الثابتة في أن لا بيع بين أحد من المتبايعين حتى يتفرقا أو يخير أحدهما الآخر بعد البيع
برواية شيخ من بنى كنانة عن عمر البيع عن صفقة أو خيار؟ وليس في هذا لو صح خلاف
للسنة بل قد صح عن عمر وغير عمر من الصحابة موافقة السنة في ذلك وإجازة رد البيع قبل
التخيير والتفرق ثم هان عليهم ههنا خلاف عمل عمر بن الخطاب. ونافع بن الحارث.
وصفوان بن أمية وكلهم صحابة العمل المشهور الذي لا يمكن أن يخفى بحضرة الصحابة
بالمدينة. ومكة ولا يعرف لهم في ذلك مخالف ولا عليهم منهم منكر ممن يجيز البيع بشرط
الخيار أصلا بأصح طريق وأثبته في أشهر قصة، وهي ابتياع دار للسجن (1) بمكة، وما
كان قبل ذلك بها للسجن دار أصلا، ثم فعل ابن عمر. وابن مطيع وهما صاحبان يبتاعان
كما ترى بخياران أخذا إلى غير مدة مسماة، وعمر قبل ذلك. وصفوان. ونافع يتبايعون (2)
على الرضى إلى غير مدة مسماة لا يعرف لهم في ذلك مخالف ممن يجيز البيع بشرط خيار
فاعجبوا لأقوال هؤلاء القوم *
وأما التابعون فروينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن ابن طاوس عن أبيه
في الرجل يشترى السلعة على الرضى قال: الخيار لكليهما حتى يفترقا عن رضى * وبه إلى
معمر عن أيوب عن ابن سيرين إذا بعت شيئا على الرضى فلا تخلط الورق بغيرها حتى
تنظر أيأخذ أم يرد * ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس عن الحسن قال: إذا
أخذ الرجل من الرجل البيع على أنه فيه بالخيار فهلك منه فإن كان سمى الثمن فهو له ضامن
وان لم يسمه فهو أمين ولا ضمان عليه * وعن شريح ما ذكرنا قبل ما نعلم في هذا عن أحد من
التابعين غير ما ذكرنا وكله مخالف لقول أبي حنيفة. ومالك. والشافعي لأنه ليس في شئ
منه ذكر مدة أصلا، وفى قول الحسن جواز ذلك بغير ذكر ثمن، وفى قول ابن سيرين جواز
النقد فيه ولم يخص بشرط ولا بغير شرط، وأما قول طاوس فموافق لقولنا لأنه قطع بان
كل بيع يكون فيه شرط خيار فان الخيار يجب فيه للبائع وللمشتري حتى يتفقا فصح أنه
ليس هو عنده بيعا أصلا وانه باق على حكمه كما كان، وهذا قولنا فصح بقينا أن أقوال من
ذكرنا مخالفة لكل ما روى في ذلك عن صاحب أو تابع وأنهما لا سلف لهم فيها، وتفريق
سفيان. وابن شبرمة من كون الخيار للبائع أو لهما فلم يجيزاه وبين أن يكون الخيار



(1) في النسخة رقم 14 (دار السجن)
(2) في النسخة رقم 16 (يبتاعون)
374
للمشترى وحده فاجازه سفيان لا معنى له لأنه لم يأت بالفرق بين ذلك قرآن. ولا سنة.
ولا رواية سقيمة. ولا قول متقدم. ولا قياس. ولا رأى له وجه، وليس إلا جواز
كل ذلك أو بطلان كل ذلك، وقد روينا بطلان ذلك عن جماعة من السلف كما روينا من
طريق عبد الرزاق نا سفيان الثوري عن عاصم بن عبيد الله عن القاسم بن محمد بن أبي بكر
الصديق أن عائشة أم المؤمنين كرهت ان تباع الأمة بشرط * ومن طريق عبد الرزاق
نا معمر عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود قال: أراد ابن مسعود
ان يشترى جارية يتسراها من امرأته فقالت: لا أبيعكها حتى اشترط عليك ان اتبعتها
نفسي فانا أولى بالثمن فقال ابن مسعود: حتى أسأل عمر فسأله فقال له عمر: لا تقربها وفيها
شرط لاحد * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن عمرو بن مسلم قال: سألت عكرمة
مولى ابن عباس عن رجل أخذ من رجل ثوبا؟ فقال: اذهب به فان رضيته أخذته فباعه
الآخذ قبل أن يرجع إلى صاحب الثوب فقال عكرمة: لا يحل له الربح * ومن طريق
عبد الرزاق عن ابن جريج قال: قال عطاء: كل بيع فيه شرط فليس بيعا، وقال طاوس
بما ذكرنا قبل *
قال أبو محمد: هذا كله عند كل ذي حس سليم أوضح في ابطال البيع بشرط الخيار من
دعواهم أن عمر مخالف للسنة في أن لا بيع بين المتبايعين حتى يتفرقا بما لم يصح عنه من قوله:
البيع عن صفقة أو خيار، ومن دعواهم مثل ذلك على ابن عمر في قوله: ما أدركت الصفقة
حيا مجموعا فمن البائع وليس في هذا إشارة إلى خلاف السنة المذكورة بل قد صح عنهما
موافقة السنة في ذلك *
قال على: فإن كان ما روى عن الصحابة. والتابعين في ذلك اجماعا فقد خالفوه فهم
مخالفون للاجماع كما أقروا على أنفسهم وان لم يكن اجماعا فلا حجة في قول لم يأت به نص
ولا اجماع، فان احتجوا في إباحة بيع الخيار بما روى (المسلمون عند شروطهم) فهذا
لا يصح لأنه عن كثير بن زيد وهو مطرح باتفاق ولا يحل الاحتجاج بما روى *
ومن طريق أخرى عن كذاب عن مجهول عن مجهول مرسل مع ذلك (1) * وعن عطاء
مرسل ولو صح مع ذلك لما كان لهم فيه متعلق أصلا لان شروط المسلمين ليس هي كل
ما اشترطوه ولو كان ذلك للزم شرط الزنا. والسرقة وهم قد أبطلوا أكثر من ألف
شرط أباحها غيرهم وإنما شروط المسلمين الشروط التي جاء القرآن. والسنة باباحتها
نصا فقط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) *



(1) في النسخة رقم 16 (مرسلا مع ذلك)
375
قال على: فان احتج من يجيز بالخيار بما قد ذكرناه من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(كل بيعين لا بيع بينهما حتى يتفرقا الا بيع الخيار) فلا حجة لهم فيه لان أيوب عن
نافع عن ابن عمر قد بين ذلك الخيار ما هو وانه قول أحدهما للآخر: اختر، وبينه
أيضا الليث عن نافع عن ابن عمر بمثله، وأوضحه إسماعيل بن جعفر عن نافع عن ابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون البيع عن خيار فإن كان
البيع عن خيار فقد وجب البيع) فصح ضرورة أن هذا الخيار إنما هو التخيير من
أحدهما للآخر فقط * وذكروا أيضا خبر المصراة وسنذكره في هذا الكتاب باسناده
إن شاء الله تعالى، وان رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الخيار لواجدها ثلاثا فان رضيها أمسكها
وان كرهها ردها ورد معها صاعا من تمر * وخبر منقذ إذ أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن
يقول إذا باع أو ابتاع: لا خلابة ثم جعل له الخيار ثلاثا، وقد ذكرناه في كتاب الحجر
من ديواننا هذا (1)، وخبر تلقى السلع [الركبان] (2) والنهى عنه وانه صلى الله عليه وسلم جعل
للبائع الخيار إذ دخل السوق وبالخيار في رد البيع يوجد فيه العيب *
قال أبو محمد: وكل هذا لا حجة لهم في شئ منه، واحتجاجهم به في إباحة بيع
الخيار إثم وعار لان خبر المصراة إنما فيه الخيار للمشترى أحب البائع أم كره لا برضى
منه أصلا ولا بأن يشترط في حال عقد البيع فكيف يستجيز ذو فهم أن يحتج بهذا
الخيار في إباحة بيع يتفق فيه البائع والمشترى على الرضى بشرط خيار لأحدهما أو لكليهما
أو لغيرهما؟ * وأما خبر منقذ فكذلك أيضا لأنه إنما هو خيار يجب لمن قال عند التبايع:
لا خلابة بائعا كان أو مشتريا سواء رضى بذلك معامله أو لم يرض لم يشترطه الذي
جعل له في نفس العقد، فأي شبه بين هذين الحكمين وبين خيار يتفقان برضاهما على
اشتراطه لأحدهما أو لغيرهما وكلهم لا يقول بهذا الخير أصلا؟ * وأما خبر تلقى السلع
فكذلك أيضا إنما هو خيار جعل للبائع أحب المشترى أم كره لم يشترطاه في العقد وهو
أيضا خيار إلى غير مدة محدودة وكلهم لا يجيز هذا أصلا، فأي عجب يفوق قول قوم
يبطلون الأصل ولا يجيزون القول به ويصححون القياس عليه في ما لا يشبهه ويخالفون
السنن فيما جاءت فيه ثم يحتجون بها فيما ليس فيها منه أثر ولا دليل ولا معنى؟! فخالفوا
الحقائق جملة ونحمد الله تعالى على ما من به من التوفيق (فان قالوا): لما جاز في هذه الأخبار
في أحدها الخيار للبائع. وفى الآخر الخيار للمشترى. وفى الثالث الخيار للمرء بائعا كان
أو مشتريا وكان في الشفعة الخيار لغير البائع والمشترى بغير أن يشترط في العقد شئ



(1) هو في هذا الجزء ص 295
(2) الزيادة من النسخة رقم 16
376
من ذلك من غير أن يلتفت رضى الآخر أو رضى البائع والمشترى كان إذا اشترطاه
بتراضيهما لأحدهما أو لهما أو لغيرهما أحرى أن يجوز قلنا: هذا حكم الشيطان لا حكم
الله عز وجل، وهذا هو تعدى حدود الله تعالى الذي قال الله تعالى: (ومن يتعد حدود
الله فقد ظلم نفسه) وتلك دعوى منكم لا برهان على صحتها بل البرهان قائم على بطلانها
بقوله تعالى: (شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) وما تدرون أنتم ولا غير كم من
أين قلتم بدعوا كم هذه؟ ثم لو صح القياس لكان هذا منه عين الباطل لان القياس عند
القائلين به لا يصح تشبيه المشبه الا حتى يصح المشبه به وليس منكم أحد يصحح حكم
شئ من هذه الأخبار الا المصراة. والشفعة فقط فكيف تستحلون أن تحكموا بحكم
لأنه يشبه حكما لا يجوز العمل به؟ وهل سمع بأحمق من هذا العمل؟ والذين يصححون
منكم حكم المصراة لا يختلفون في أنه لا يجوز القياس على ما فيه من رد صلاع تمر (1)
مع الشئ الذي يختار الراد رده فمن أين جاز عندكم القياس على بعض ما في ذلك الخبر
وحرم القياس على بعض ما فيه؟ أليس هذا مما تحتار فيه أو هام العقلاء؟، وكذلك
الشفعة إنما هي للشريك عندكم أو للجار فيما بيع من مشاع في العقار خاصة فمن أين وقع
بكم يا هؤلاء ان تحرموا القياس على ذلك ما بيع أيضا من المشاع في غير العقار للشريك
أيضا؟ ولو صح قياس في الدهر لكان هذا أوضح قياس وأصحه لتساويهما في العلة والشبه
عند كل ناظر ثم تقيسون عليه ما لا يشبهه أصلا من اشتراط اختيار للبائع أو للمشترى
أولهما أو لأجنبي وهو ضد ذلك الحكم جملة. فذلك للشريك وهذا لغير الشريك.
وذلك في المشاع وهذا في غير المشاع. وذلك مشترط وهذا غير مشترط، وذلك إلى
غير مدة وهذا إلى مدة، فما هذا التخليط. والخبط؟ وأما الخيار في رد المبيع فالقول
فيه كالقول في خيار الشفعة سواء سواء من أنه لا شبه بينه وبين اشتراط الخيار في البيع
بوجه من الوجوه لما قلنا آنفا، فظهر فساد احتجاجهم جملة بالاخبار. وبالقياس وبالله
تعالى التوفيق، وأي قول أفسد من قول من يبطل الخيار الذي أوجبه الله تعالى على لسان
رسوله صلى الله عليه وسلم للمتبايعين قبل التفرق بأبدانهما وقبل أن يخير أحدهما الآخر فيختار
امضاءا أوردا والخيار الواجب لمن قال عند البيع: لا خلابة، والخيار لمن باع سلعته
ممن تلقاها إذا دخل السوق، والخيار الواجب لمن ابتاع مصراة، والخيار الواجب
لمن باع شركا (2) من مال هو فيه شريك ثم أوجب خيارا لم يوجبه الله تعالى قط



(1) في النسخة رقم 16 (وعلى خبر من رد صاع تمر)
(2) في النسخة رقم 14 (لمن باع بيع شرك) وفى النسخة الحلبية (لمن بيع شرك)
377
ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن البرهان على بطلان كل بيع يشترط فيه) خيار للبائع أو
للمشترى أو لهما أو لغير هما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست
في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل وان اشترطه مائة مرة وإن كان
مائة شرط كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل كتاب الله أحق وشرط الله أوثق) *
وكان اشتراط الخيار المذكور شرطا ليس في كتاب الله تعالى ولا في شئ من سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيها لكان في كتاب الله تعالى لان الله تعالى أمر في كتابه بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم
فوجب بطلان الشرط المذكور (2) يقينا وإذ هو باطل فكل عقد لم يصحح إلا بصحة
ما لم يصح فلا صحة له بلا شك، فوجب بطلان البيع الذي عقد على شرط خيار كما ذكرنا قال
الله تعالى: (ان الله لا يصلح عمل المفسدين) *
قال أبو محمد: وعهدنا بهم يفتخرون باتباع المرسل وأنه كالمسند * وقد روينا من
طريق أبى بكر بن أبي شيبة نا إسماعيل بن علية عن أيوب السختياني عن أبي قلابة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتفرق بيعان الاعن تراض) وهذا من أحسن المراسل فأين هم عنه
وفيه النهى عن بقاء الخيار بعد التفرق؟ ونسألهم عن بيع الخيار هل زال ملك بائعه عنه
وملكه المشترى له أم لا إذا اشترط الخيار للبائع أولهما؟ فان قالوا: لا فهو قولنا وصح أنه
لا بيع هنالك أصلا لان البيع نقل ملك البائع وايقاع ملك المشتري وان قالوا: نعم قلنا:
فالخيار لا معنى له ولا يصح في شئ قد صح ملكه عليه وأقوالهم تدل على خلاف هذا، فان
قالوا: (3) قد باع البائع ولم يشتر المشترى بعد قلنا: هذا تخليط وباطل لا خفاء به لأنه
لا يكون (4) بيع إلا وهنالك بائع ومبتاع وانتقال ملك، وهكذا إن كان الخيار للبائع
فقط فمن المحال أن ينعقد بيع على المشترى ولم ينعقد ذلك البيع على البائع فإن كان الخيار لهما
أو لأجنبي فهذا بيع لم ينعقد لا على البائع ولا على المبتاع فهو باطل والقوم أصحاب قياس
بزعمهم، وقد أجمعوا على أن النكاح بالخيار لا يجوز فهلا قاسوا على ذلك البيع وسائر
ما أجازوا فيه الخيار، كما فعلوا في معارضة السنة بهذا القياس نفسه في ابطالهم الخيار بعد
البيع قبل التفرق فلا النصوص التزموا ولا القياس طردوا، والدلائل على ابطال بيع الخيار
تكثر ومناقضاتهم فيه جمة وإنما أقوالهم فيه دعاوى بلا برهان مختلفة متدافعة كما ذكرناها
قبل، وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة رقم 16 (شرط فيه)
(2) في النسخة رقم 14 (الشروط المذكورة) وهو لا يناسب قوله بعد (وإذ هو باطل)
(3) في النسخة رقم 16 (وان قالوا)
(4) في النسخة رقم 16 (لأنه لا يصح)
378
1421 مسألة وكل بيع صح وتم فهلك المبيع اثر تمام البيع فمصيبته من
المبتاع ولا رجوع له على البائع، وكذلك كل ما عرض فيه من بيع أو نقص سواء في كل
ذلك كان المبيع غائبا أو حاضرا أو كان عبدا أو أمة فجن أو برص أو جذام أثر تمام البيع (1)
فما بعد ذلك أو كان ثمرا قد حل بيعه فاجيح كله أو أكثره أو أقله فكل ذلك من المبتاع ولا
رجوع له على البائع بشئ وهو قول أبى سليمان. والشافعي. وأصحابهما *
وقال أبو حنيفة: على البائع تسليم ما باع فان هلك قبل أن يسلمه فمصيبته من البائع، وقال
مالك: بقولنا الا في الرقيق والثمار خاصة فإنه قال: ما أصاب الرقيق في ثلاثة أيام
بعد بيع الرأس من إباق. أو عيب. أو موت. أو غير ذلك فمن مصيبة البائع فإذا
انقضت برئ البائع الا من الجنون. والجذام. والبرص فان هذه الادواء الثلاثة
ان أصاب شئ منها الرأس المبيع (2) قبل انقضاء عام من حين ابتياعه كان له الرد بذلك
قال: ولا يقضى بذلك إلا في البلاد التي جرت عادة أهلها بالحكم بذلك فيها، وأما
البلاد التي لم تجر عادة أهلها بالحكم بذلك فيها فلا يحكم عليهم بذلك قال: ومن باع بالبراءة
بطل عنه حكم العهدة وأسقطها جملة فيما باعه السلطان لغريم أو من مال يتيم وأجاز النقد في
عهدة السنة ولم يجزه في عهدة الثلاث، قال: وأما الثمار فمن باع ثمرة أي ثمرة كانت بعد
أن يحل بيعها والمقائى فإذا أجيح من ذلك الثلث فصاعدا رجع بذلك على البائع فان اجيح
ما دون الثلث بما قل أو كثر فهو من مصيبة المشترى ولا رجوع له على البائع قال: فإن كان
بقلا فاصابته جائحة قلت أو كثرت فإنه يرجع بذلك على البائع واختلف قوله في الموز
فمرة قال: هو بمنزلة الثمار في مراعاة الثلث ومرة قال: هو بمنزلة البقل في الرجوع
بقليل الجائحة وكثيرها، ومرة قال: لا يرجع بجائحة أصابته كله أو أكثره أو أقله *
قال أبو محمد: أما ايجاب التسليم فما نعلم فيه للحنيفيين حجة أصلا لا من قرآن: ولا
من سنة. ولا رواية ضعيفة. ولا قول صاحب. ولا قياس. ولا رأى سديد وإنما على
البائع أن لا يحول بين المشترى وبين قبض ما باع منه فقط فان فعل صار عاصيا وضمن ضمان
الغصب فقط ولا يحل أن يلزم أحد حكما لم يأت به قرآن، ولا سنة قال تعالى: (شرعوا
لهم من الدين ما لم يأذن به الله) فسقط هذا القول. * وأما قول مالك في الرقيق فان مقلديه
يحتجون له بما رويناه من طريق أبى داود نا مسلم بن إبراهيم نا ابان - هو ابن يزيد العطار -
عن قتادة عن الحسن البصري عن عقبة بن عامر الجهني (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: عهدة
الرقيق ثلاثة أيام 9) * ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة نا عبدة. ومحمد بن بشر عن سعيد



(1) في النسخة رقم 16 (تمام بيعه)
(2) في النسخة رقم 14 (ان أصاب شئ من الرأس المبيع)
379
ابن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(عهدة الرقيق ثلاث) وقالوا: إنما قضى بعهدة الثلاث لأجل حمى الربع لأنها لا تظهر في أقل
من ثلاثة أيام، وذكروا ما رويناه من طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو
ابن حزم انه سمع أبان بن عثمان بن عفان. وهشام بن إسماعيل بن هشام يذكران في خطبتهما
عهدة الرقيق في الأيام الثلاثة من حين يشترى العبد أو الوليدة (1) وعهدة السنة
ويأمران بذلك * ومن طريق ابن وهب عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: قضى
عمر بن عبد العزيز في عبد اشترى فمات في الثلاثة الأيام فجعله عمر من الذي باعه، قال
ابن وهب: وحدثني يونس عن ابن شهاب قال: القضاة منذ أدركنا يقضون في الجنون
والجذام. والبرص سنة، قال ابن شهاب: وسمعت سعيد بن المسيب يقول: العهدة من
كل داء عضال نحو الجنون. والجذام. والبرص سنة، قال ابن وهب: وأخبرني
ابن سمعان قال: سمعت رجالا من علمائنا منهم يحيى بن سعيد الأنصاري يقولون: لم تزل
الولاة بالمدينة في الزمان الأول يقضون في الرقيق بعهدة السنة من الجنون. والجذام.
والبرص ان ظهر بالمملوك شئ في ذلك قبل أن يحول الحول عليه فهو رد إلى البائع
ويقضون في عهدة الرقيق بثلاث ليال فان حدث في الرأس في تلك الثلاث حدث من موت أو
سقم فهو من الأول وإنما كانت عهدة الثلاث من الربع ولا يستبين الربع إلا في ثلاث ليال *
هذا كل ما شغبوا به وما نعلم لهم في ذلك شيئا غير ما أوردنا وكله لا حجة لهم في
شئ منه، أما الحديثان فساقطان لان الحسن لم يسمع من عقبة بن عامر شيئا قط ولا
سمع من سمرة الا حديث العقيقة فصارا منقطعين ولا حجة في منقطع * وقد روينا هما
بغير هذا اللفظ لكن كما روينا من طريق ابن وهب أخبرني مسلمة بن علي عمن حدثه عن
عقبة بن عامر الجهني قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عهدة الرقيق أربعة أيام أو ثلاثة) *
ومن طريق قاسم بن اصبغ نا محمد بن الجهم نا عبد الوهاب - هو ابن عطاء الخفاف -
أنا هشام عن قتادة عن الحسن عن عقبة بن عامر قال: عهدة الرقيق أربع ليال *
ومن طريق حماد بن سلمة عن زياد الأعلم عن الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(لا عهدة الا بعد أربعة أيام) *
قال أبو محمد: وهذا مما نقضوا فيه أصولهم فان الحنيفيين يقولون: المنقطع.
والمتصل سواء، وقد تركوا ههنا هذه الأخبار وما عابوها الا بالانقطاع فقط،
والمالكيون تركوا ههنا الاخذ بالزيادة فهلا جعلوا العهدة أربع ليال بالآثار التي



(1) في النسخة (أو الأمة)
380
أوردنا فظهر تناقضهم وأنهم لا يثبتون على أصل *
قال على: وأما نحن فنقول: إن الله تعالى افترض على رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين لنا
ما نزل إلينا وما ألزمنا إياه ولم يجعل علينا في الدين من حرج، وقول القائل: عهدة الرقيق
ثلاث كلام لا يفهم ولا تدرى العهدة ما هي في لغة العرب وما فهم قط أحد من قول قائل
عهدة الرقيق ثلاثة أيام أن معناه ما أصاب الرقيق المبيع في ثلاثة أيام، فمن مصيبة البائع
ولا يعقل أحد هذا الحكم من ذلك اللفظ، فصح يقينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقله قط
ولو قاله لبين علينا ما أراد به، ولا يفرح الحنيفيون بهذا الاعتراض فإنه إنما يسوغ
ويصح على أصولنا لا على أصولهم لان الحنيفيين إذ رزقهم الله تعالى عقولا كهنوا بها
ما معنى الكذب المضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن البتيراء حتى فهموا أن
البتيراء هي أن يوتر المرء بركعة واحدة لا بثلاث على أن هذا لا يفهمه انسى ولا جنى من
لفظة البتيراء، ولم يبالوا بالتزيد من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاخبار عنه بما لم
يخبر به عن نفسه، فما المانع لهم من أن يكهنوا أيضا ههنا معنى العهدة؟ فما بين الامرين (1)
فرق، وأما نحن فلا نأخذ ببيان شئ من الدين الا من بيان النبي صلى الله عليه وسلم فقط فهو الذي
يقوم به حجة الواقف غدا بين يدي الله تعالى لا بما سواه * وأما المالكيون فهم أصحاب
قياس بزعمهم وقد جاء الحكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة في البيع فقاسوا عليه الشفعة
في الصداق بآرائهم، وجاء النص بتحديد المنع من القطع في سرقة أقل من ربع دينار فقاسوا
عليه الصداق ولم يقيسوا عليه الغصب (2) وهو أشبه بالسرقة من النكاح عند كل
ذي مسكة عقل، وقد جاء النص بالربا في الأصناف الستة فقاسوا عليها الكمون.
واللوز. فهلا قاسوا ههنا على خبر العهدة في الرقيق سائر الحيوان؟ ولكن لا النصوص
يلتزمون ولا القياس يحسنون *
ومن طرائفهم ههنا أنهم قاسوا من أصدق امرأته عبدا أو ثمرة بعد أن بدا صلاحها
فمات العبد أو أبق أو أصابه عيب قبل انقضاء ثلاثة أيام وأجيحت الثمرة بأكثر من
الثلث فللمرأة القيام بالجائحة ولا قيام لها في العبد بعهدة الثلاث فكان هذا طريفا جدا،
وكلا الامرين تعلقوا فيه بخبر وعمل ولا فرق * وأما احتجاجهم بأن عهدة الثلاث
إنما جعلت من أجل حمى الربع فلا يخلو من أن تكون هذه العلة مخرجة من عند أنفسهم
أو مضافة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد من أحدهما، فان أضافوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان ذلك كذبا بحتا موجبا للنار، وإن كانوا أخرجوها من عند أنفسهم قلنا لهم: فلم



(1) في النسخة رقم 16 (فما بين الاثرين)
(2) في النسخة رقم 16 (الغاصب)
381
تعديتم بالحكم بذلك إلى الإباق. والموت. وسائر العيوب التي يقرون بأنها حادثة
بلا شك كذهاب العين من رمية ونحو ذلك؟ فهذا عجب جدا! وليس هذا موضع قياس
لافتراق العلة، وأيضا فان كنتم فعلتم ذلك لهذه العلة فنراكم قد اطرحتم الخبر الوارد
في ذلك واقتصرتم على علة في غاية الفساد *
وأما الآثار التي شغبوا بها فلا متعلق لهم بشئ منها لأنه لا حجة في أحد دون رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وأيضا فان هشام بن إسماعيل ممن لا نعلمه تجب الحجة بروايته فكيف بخطبته؟ *
وأما خطبة أبان بن عثمان بذلك فعهدنا بهم قد خالفوا أبانا في قوله: ان البتة في الطلاق
واحدة وفى ابطاله طلاق السكران وغير ذلك فمرة يكون حكم ابان حجة ومرة لا يكون
حجة وهذا تخليط شديد وعمل لا يحل * وأما عمر بن عبد العزيز فالرواية عنه بذلك ساقطة
لأنها من طريق ابن أبي الزناد وأول من ضعف روايته فمالك وهو ضعيف جدا وهم قد
اطرحوا حكم عمر بن عبد العزيز الثابت عنه والسنة معه في أمره الناس علانية بالسجود
في (إذا السماء انشقت) وغير ذلك من أحكامه كثير جدا، فالآن صار حجة وهنا لك
ليس حجة ما أقبح هذا العمل في الديانة * وأما قول يحيى بن سعيد الأنصاري فمن رواية
ابن سمعان وهو مذكور بالكذب لا تحل الرواية عنه * وأما قول الزهري. وسعيد بن
المسيب فصحيح عنهما ولا حجة في الدين في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقول سعيد
مخالف لهم لأنه رأى عهدة السنة من كل داء عضال ولم يخص الجنون. والجذام. والبرص
فقط، وقد علم كل ذي حس أنه الاكلة والحربة والادرة من الادواء العضال فبطل كل
ما موهوا به وما نعلم لهم في عهدة السنة من الادواء المذكورة أثرا أصلا. ولاقول
صاحب. ولا قياسا، وقال بعضهم: هذه الادواء لا تظهر ببيان إلا بعد عام *
قال أبو محمد: وهذه دعوى كاذبة. وقول بلا برهان وما كان هكذا فحكمه الاطراح
ولا يحل الاخذ به، وما علم هذا قط لا في طب. ولا في لغة عربية. ولا في شريعة *
قال على: وذكروا أيضا ما رويناه من طريق الحجاج بن المنهال نا همام عن
قتادة أنه كأن يقول: إن رأى عيبا في ثلاث ليال رد بغير بينة وان رأى عيبا بعد ثلاث
لم يرد (1) الا بينة * ومن طريق حماد بن سلمة عن حميد عن عبد الملك بن يعلى فيمن ابتاع
غلاما فوجده مجنونا قال: إن ظهر ذلك في السنة فإنه يستحلف البائع لقد باعه وما به جنون
وإن كان بعد السنة فيمينه بالله على علمه، وذكر بعضهم (2) ان عمر بن الخطاب. وابن



(1) في النسخة رقم 16 (لم يرده)
(2) في النسخة رقم 14 (وقال بعضهم)
382
الزبير سئلا عن العهدة فقالا: لا نجد أمثل من حديث حبان بن منقذ (1) إذا كان يخدع في البيوع
فجعل له النبي صلى الله عليه وسلم الخيار ثلاثا ان شاء أخذ وان شاء رد، وخبرا عن علي بن أبي طالب
أجل الجارية بها الجذام والداء سنة *
قال على: وكل هذا لا حجة لهم فيه، أما خبر عمر. وابن الزبير فلا بيان فيه بأنهما يقولان
بقولهم أصلا بل فيه انه خلاف قولهم لأنهما بنياه على حديث حبان بمن منقذ والمالكيون
مخالفون لذلك الخبر، فقول عمر. وابن الزبير حجة عليهم ولا وفاق (2) فيه لقولهم أصلا
لأنه إنما فيه الخيار بين الرد والاخذ فقط دون ذكر وجود عيب، ولا فيه تخصيص للرقيق
دون سائر ذلك فهو حجة عليهم لالهم، ونحن نقول بهذا إذا قال المشترى: ما أمر منقذ
أن يقوله * وأما خبر على فليس فيه أيضا شئ يدل على موافقة قولهم ولا ذكر رد أصلا وإنما
يموهون بالخبر يكون فيه لفظ كبعض ألفاظ قولهم فيظن من لا ينعم النظر أن ذلك الخبر
موافق لقولهم وليس هو كذلك بل هو مخالف لقولهم في الأكثر أو لا موافق ولا مخالف
كذلك أيضا *
قال أبو محمد: وقد روى ابن جريج أنه سأل الزهري عن عهدة الثلاث والسنة؟ فقال.
ما علمت فيه أمرا سالفا، قال ابن جريج: وسألت عطاء عن ذلك فقال: لم يكن فيما مضى
عهدة في الأرض قلت فما ثلاثة أيام؟ قال: لا شئ *
قال على: قال الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى)
فمن الباطل أن تكون جارية ملكها لزيد وفرجها له حلال ويكون ضمانها على خالد حاش لله
من هذا، وقد صح عن ابن عمر ما أدركت الصفقة حيا مجموعا فهو من المبتاع ولا يعلم له مخالف
من الصحابة رضي الله عنهم * رويناه من طريق ابن وهب عن يونس بن يزيد عن الزهري
عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه وهذا يبطل عهدة الثلاث. والسنة وبالله تعالى التوفيق *
قال أبو محمد: ثم نقول لهم: أخبرونا عن الحكم بعهدة الثلاث والسنة أسنة هو وحق أم
ليس سنة ولا حقا ولا بد من أحدهما؟ فان قالوا: هو سنة وحق قلنا: فمن أين استحللتم أن لا
تحكموا بها في البلاد التي اصطلح أهلها على ترك الحكم بها فيها ومتى رأيتم سنة يفسح للناس
في تركها ومخالفتها حاش لله من هذا، وان قالوا: ليست سنة ولاحقا قلنا: فبأي وجه استحللتم
أن تأخذوا بها أموال الناس المحرمة فتعطوها غيرهم (3) بالكره منهم؟ ولعل المحكوم عليه فقير



(1) ذكر الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير ان ذلك الرجل الذي كان يخدع في البيوع هو حبان بن
منقد - بفتح الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة - وقيل إن القصة كانت المنقذ والد حبان قال النووي وهو
الصحيح وهو في ابن ماجة وتاريخ البخاري وبه جزم ابن عبد الحق والله أعلم
(2) في النسخة رقم 14 (لا وفاق)
(3) في النسخة رقم 16 لغيرهم
383
هالك والمحكوم له غنى أشر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام)
ففسختم البيوع الصحيحة بما ليس سنة ولا حقا إذا أبحتم ترك الحكم بالسنة والحق ولا
مخلص لكم من أحدهما وهذا كما ترى * وأما قول مالك في الجوائح فإنه لا يعرف عن أحد قبله
مما ذكرنا عنه من التقسيم بن الثمار. والمقائي. وبين البقول. والموز، ولا يعضد قوله
في ذلك قرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة أصلا. ولا قول أحد ممن سلف. ولا قياس.
ولا رأى له وجه، ولهم في تخصيص الثلث آثار ساقطة (1) نذكرها أيضا
إن شاء الله تعالى ونبين وهيها، وقولنا في هذا هو قول أبي حنيفة. وسفيان الثوري.
وأبى سلميان. وأحد قولي الشافعي. وقول جمهور السلف كما روينا من طريق أبى عبيدة
نا عبد الله بن صالح عن الليث بن سعد أخبرني أبو بكر بن سهل بن حنيف أن أهل بيته
كانوا يلزمون المشترى الجائحة، قال الليث: وبلغني عن عثمان بن عفان أنه قضى بالجائحة
على المشترى *
قال أبو محمد: وذهب أحمد بن حنبل: وأبو عبيد. والشافعي في أول قوله إلى حط
الجائحة في الثمار عن المشترى قلت أو كثرت وهذا قول له متعلق باثر صحيح نذكره إن شاء الله
تعالى ونبين وجهه وحكمه بحول الله تعالى وقوته * روينا من طريق مسلم بن الحجاج نا محمد
ابن عباد نا أبو ضمرة عن ابن جريج عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو بعت من أخيك ثمرا فاصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا
بم تأخذ مال أخيك بغير حق (2)؟) * ومن طريق مسلم نا بشر بن الحكم نا سفيان - هو
ابن عيينة - عن حميد [الأعرج] (3) عن سليمان بن عتيق عن جابر بن عبد الله (أن النبي
صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح) *
قال على: وهذان أثران صحيحان، وقالوا أيضا: على بائع الثمرة (4) اسلامها
إلى المشترى طيبة كلها فإذا لم يفعل سقط عن المشترى بمقدار ما لم يسلم إليه كما يلزم *
ومن طريق ابن وهب عن أنس بن عياض أن أبا إسحاق مقدما مولى أم الحكم بنت
عبد الحكم حدثه أن عمر بن عبد العزيز قضى بوضع الجوائح (5) * وبه إلى ابن وهب
عن عثمان بن الحكم عن ابن جريج عن عطاء قال: الجوائح كل ظاهر مفسد من مطر أو برد
أو ريح أو حريق أو جراد *
قال أبو محمد: ان لم يأت ما يبين أن هذين الخبرين المذكورين على غير ظاهرهما والا



(1) في النسخة رقم 16 (آراء ساقطة)
(2) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 457
(3) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 458
(4) في النسخة رقم 16 (على البائع للثمرة)
(5) في النسخة رقم 14 (الجائحة)
384
فلا يحل خلاف ما فيهما، وعلى كل حال فلا حجة فيهما لقول مالك بن هما حجة عليه لأنه
ليس فيهما تخصيص ثلث من غيره فنظرنا هل جاء في هذا الحكم غير هذين الخبرين؟ فوجدنا
ما روينا من طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد نا ليث بن سعد عن بكير - هو ابن الأشج - عن
عياض بن عبد الله بعن أبي سعيد الخدري قال: أصيب رجل [في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1)
في ثمار ابتاعها فكثر دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تصدقوا عليه فتصدق الناس عليه
فلم يبلغ ذلك وفاء دينه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لغرمائه] (2): خذوا ما وجدتم
وليس لكم إلا ذلك) فأخرجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من ماله كله لغرمائه ولم يسقط عنه
لأجل الجائحة شيئا فنظرنا في هذا الخبر مع خبري جابر المتقدمين فوجدنا خبرين من
طريق جابر. وأنس قد وردا ببيان تتألف به هذه الأخبار كلها بحمد الله تعالى كما روينا
من طريق مسلم حدثني أبو الطاهر انا ابن وهب أخبرني مالك عن حميد الطويل عن أنس
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمر حتى يزهى (3) قالوا: وما يزهى قال تحمر أرأيت
إذا منع (4) الله الثمرة بم تستحل مال أخيك؟) * ومن طريق أحمد بن شعيب أخبرنا
قتيبة نا سفيان - هو ابن عيينة - عن حميد الأعرج عن سليمان بن عتيق عن جابر: (ان النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع [الثمر] (5) السنين) فصح بهذين الخبرين أن الجوائح التي أمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعها هي التي تصيب ما بيع من الثمر سنين وقبل أن يزهى وان الجائحة
التي لم يسقطها وألزم المشترى مصيبتها، وأخرجه عن جميع ماله بها هي التي تصيب الثمر المبيع
بعد ظهور الطيب فيه وجواز بيعه وبالله تعالى التوفيق * وأيضا فان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: (لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا) فلم يخص
عليه السلام شجرا في ورقه من ثمر موضوع في الأرض (6) وهم يخصون ذلك بآرائهم،
فقد صح خلافهم لهذا الخبر وتخصيصهم له وبطل احتجاجهم به على عمومه والاخذ
فيه (7)، وأمر بوضع الجوائح ولم يذكر في ثمر ولا في غيره ولا في أي جائحة هو،
فصح أنهم مخالفون له أيضا وبطل أن يحتجوا به على عمومه وصار قولهم وقولنا في
هذين الخبرين سواء في تخصيصهم الا أنهم خصوهما بلا دليل *
قال أبو محمد: والخسارة لانحطاط السعر جائحة بلا شك وهم لا يضعون عنه شيئا لذلك،
وأما قولهم على البائع أن يسلمها طيبة إلى المشترى فباطل ما عليه ذلك إنما عليه أن يسلم إليه ما باع



(1) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 258
(2) الزيادة من صحيح مسلم
(3) في صحيح مسلم ج 1 ص 458 عن بيع الثمرة حتى تزهى
(4) في صحيح مسلم وقال إذا منع
(5) الزيادة من سنن النسائي ج 7 ص 266
(6) في النسخة رقم 14 فلم يخص عليه السلام ثمرا في شجر من ثمر موضوع في الأرض
(7) في النسخة رقم 14 والاخر فيه
385
منه بيعا جائزا فقط إذ لم يوجب عليه غير ذلك نص ولا اجماع، وهذا مما خالف فيه المالكيون
القياس. والأصول إذ جعلوا ما لا ربحه وملكه لزيد وخسارته على عمر والذي لا يملكه *
قال على: وأما الآثار الواهية التي احتج بها مقلد ومالك فروينا من طريق عبد الملك
ابن حبيب الأندلسي نا مطرف عن أبي طوالة (1) عن أبيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
إذا أصيب ثلث الثمر فقد وجب على البائع الوضيعة) قال عبد الملك: وحدثني أصبغ بن
الفرج عن السبيعي (2) عن عبد الجبار بن عمر عن ربيعة الرأي (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر
بوضع الجائحة إذ بلغت ثلث الثمر فصاعدا) قال عبد الملك: وحدثني عبيد الله بن موسى
عن خالد بن اياس عن يحيى بن سعيد عن أبي الزبير عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
خمس من الجوائح الريح. والبرد. والحريق. والجراد. والسيل) *
قال أبو محمد: هذا كله كذب. عبد الملك مذكور بالكذب. والأول مرسل مع
ذلك. والسبيعي مجهول لا يدرى أحد من هو؟ وعبد الجبار بن عمر ضعيف وهو أيضا
مرسل فسقط كل ذلك. وخالد بن إياس ساقط، ثم لو صح لما كان فيه أمر باسقاط
الجوائح أصلا لا بنص ولا بدليل الا أن الحنيفيين الذين يحتجون بروايات الكذابين
ومرسلاتهم كمبشر بن عبيد الحلبي. وجابر الجعفي وغيرهما فلا عذر لهم في أن لا يأخذوا
بهذه المراسيل، وهذا مما تناقضوا فيه، وذكر المالكيون عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما رويناه من طريق عبد الملك بن حبيب نا ابن أبي أويس عن الحسين بن عبد الله بن ضميرة (3)
عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب أنه كان يقضى بوضع الجائحة إذا بلغت ثلث الثمر فساعدا *
ومن طريق ابن حبيب أيضا حدثني الحذافي عن الواقدي عن موسى بن إبراهيم التيمي
عن أبيه عن سليمان بن يسار قال: باع عبد الرحمن بن عوف من سعد بن أبي وقاص عنبا له
فأصابه الجراد فأذهبه أو أكثره فاختصما إلى عثمان فقضى على عبد الرحمن برد الثمن إلى
سعد، قال الواقدي: وكان سهل بن أبي حثمة. وعمر بن عبد العزيز. والقاسم. وسالم.
وعلي بن الحسين. وسليمان بن يسار. وعطاء بن أبي رباح يرون الجائحة موضوعة عن
المشترى إذا بلغت الثلث فصاعدا *
قال أبو محمد: هذا كله باطل لأنه كله من طريق عبد الملك بن حبيب ثم الحسين
ابن عبد الله بن ضميرة مطرح متفق على أن لا يحتج بروايته، وأبوه مجهول، والواقدي
مذكور بالكذب، ثم لو صح حديث عثمان لكان فيه أن عبد الرحمن بن عوف لم يرد
الجائحة وان أتت على الثمر كله أو أكثره، وإذا وقع الخلاف فلا حجة في قول بعضهم دون



(1) في النسخة رقم 16 (عن ابن أبي طوالة)
(2) في النسخة رقم 14 (الشعبي) وهو غلط
(3) في النسخة رقم 16 (ضمرة) وهو غلط
386
بعض، والثابت في هذا عن ابن عمر رضي الله عنه وهو عالم أهل المدينة في عصره ما حدثناه
عبد الله بن يوسف نا أحمد بن فتح نا عبد الوهاب نا أحمد بن محمد نا أحمد بن علي نا مسلم
ابن الحجاج نا محمد بن المثنى نا محمد بن جعفر نا شعبة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحه فقيل لابن عمر: ما صلاحه؟
قال: تذهب عاهته) *
قال أبو محمد: تأملوا هذا فان ابن عمر روى نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر قبل
بدو صلاحه وفسر ابن عمر بأن بدو صلاح الثمر هو ذهاب عاهته، فصح يقينا أن العاهة
وهي الجائحة لا تكون عند ابن عمر الاقبل بدو صلاح الثمر وانه لا عاهة ولا جائحة بعد
بدو صلاح الثمر وهذا هو نص قولنا والحمد لله رب العالمين، ولا يصح غير هذا عن أحد
من الصحابة رضي الله عنهم * ومن تناقض المالكيين في هذا انهم يقولون فيمن باع ثمرا
قد طاب أكله وحضر جداده فأجيح كله أو بعضه: لم يسقط عنه لذلك شئ من الثمن
وهذا خلاف كل ما ذكرنا آنفا من الموضوعات جملة * فان احتجوا في ذلك بقول النبي
صلى الله عليه وسلم: (الثلث والثلث كثير) قلنا: نعم هذا في الوصية ولكن من أين لكم أن الكثير
من الجوائح يوضع دون القليل حتى تحدوا ذلك بالثلث؟ وأنتم تقولون في غنى له مائة
ألف دينار ابتاع ثمرا بثلاثة دراهم فأجيح في ثلث الثمرة ثم باع الباقي بدينار: انه
توضع عنه الجائحة، وتقولون في مسكين ابتاع ثمرة بدينار فذهب ربعها ثم رخص
الثمر فباع الباقي بدرهم: انه لا يحط عنه شئ والكثير والقليل إنما هما بإضافة كما ترى لا
على الاطلاق، ثم لو يلبثوا أن تناقضوا أسمج تناقض وأغثه وأبعده عن الصواب
للمرأة ذات الزوج أن تحكم في الصدقة بالثلث من مالها فأقل بغير رضى زوجها ولا يجوز لها
ذلك فيما كان أكثر من الثلث الا باذن زوجها فجعلوا الثلث ههنا قليلا كما هو دون الثلث (1)
وجعلوه في الجائحة كثيرا بخلاف ما دونه، ثم قالوا: إن اشترط المحبس مما حبس الثلث
فما زاد بطل الحبس فان اشترط أقل من الثلث جاز وصح الحبس فجعلوا الثلث ههنا كثيرا
بخلاف ما دونه، ثم قالوا: من باع سيفا محلى بفضة أو مصحفا كذلك يكون ما عليهما
من الفضة ثلث قيمة الجميع فأقل فهذا قليل ويجوز بيعه بالفضة وإن كان ما عليهما (2)
من الفضة أكثر من الثلث لم يجز أن يباعا بفضة أصلا فجعلوا الثلث ههنا قليلا في حكم
ما دونه، وأباحوا أن يستثنى المرء من ثمر شجره ومن زرع أرضه إذا باعها مكيلة تبلغ
الثلث فأقل ومنعوا من استثناء ما زاد على الثلث فجعلوا الثلث ههنا قليلا في حكم ما دونه،



(1) في النسخة رقم 14 كما هو دونه
(2) في النسخة رقم 16 فإن كان ما عليها
387
ثم منعوا من باع شاة واستثنى من لحمها لنفسه أرطالا أن يستثنى منها مقدار ثلثها فصاعدا
وأباحوا له أن يستثنى منها أرطالا أقل من الثلث تجعلوا الثلث ههنا كثير بخلاف ما دونه،
ثم أباحوا لمن اكترى دارا فيها شجر فيها ثمر لم يبد صلاحه أن يدخل الثمر في كراء الدار
إن كان الثلث بالقيمة منه ومن كراء الدار ومنعوا من ذلك إذا كان الثلث فأكثر فجعلوا
الثلث ههنا قليلا في حكم ما دونه، ثم جعلوا العشر قليلا وما زاد عليه كثيرا فقالوا فيمن
أمر آخر بأن يشترى له خادما (1) بثلاثين دينارا فاشتراها له بثلاثة وثلاثين دينارا:
انها تلزم الآمر لان هذا قليل، قالوا: فان اشتراها له بأكثر لم يلزم الآمر لأنه كثير
وهذا يشبه اللعب فيا للناس أبهذه الآراء تشرع الشرائع وتحرم وتحلل وتباع (2)
الأموال المحرمة وتعارض السنن؟ حسبنا الله ونعم الوكيل * وروينا من طريق ابن وهب
عن عثمان بن الحكم عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال: لا جائحة فيما أصيب (3) دون
ثلث رأس المال * ومن طريق عبد الرزاق حدثنا معمر أخبرني من سمع الزهري قال:
قلت له: ما الجائحة؟ قال: النصف *
قال على: فهذا الزهري لا يرى الجائحة الا النصف، وهذا يحيى بن سعيد فقيه
المدينة لا يرى الجائحة الا في الثمن لا في عين الثمرة وكل ذلك خلاف قول مالك
وبالله تعالى التوفيق *
1421 مسألة وبيع العبد الآبق عرف مكانه أو لم يعرف جائز، وكذلك بيع الجمل
الشارد عرف مكانه أو لم يعرف، وكذلك الشارد من سائر الحيوان ومن الطير المتفلت (4)
وغيره إذا صح الملك عليه قبل ذلك والا فلا يحل بيعه، وأما كل ما لم يملك أحد بعد فإنه ليس
أحد أولى به من أحد فمن باعه فإنما باع ما ليس له فيه حق فهو أكل مال بالباطل وأماما عدا ذلك
من كل ما ذكرنا فقد صح ملك مالكه له وكل ما ملكه المرء فحكمه فيه نافذ بالنص ان شاء وهبه
وان شاء باعه وان شاء أمسكه وان مات فهو موروث عنه لا خلاف في أنه ماله وموروث عنه،
فاما الذي حرم بيعه وهبته؟، وقد أبطلنا قبل قول من فرق بين الصيد يتوحش وبين الإبل والغنم
والبقر والخيل يتوحش، وكذلك لا فرق بين الصيد من السمك ومن الطير ومن النحل ومن
ذوات الأربع كل ما ملك من ذلك فهو مال من مال مالكه بلا خلاف من أحد، فمن أدعى
سقوط الملك عنه بتوحشه أو برجوعه إلى النهر أو البحر فقد قال الباطل وأحل حراما بغير دليل
لا من قرآن. ولا من سنة. ولا من رواية سقيمة. ولا من قول صاحب. ولا من قياس.
ولا من تورع. ولا من رأى يعقل، فان قال قائل: فإنه لا يعرفه أبدا صاحبه ولا غير صاحبه



(1) في النسخة رقم 14 جارية وهي أخص من الحادم
(2) في النسخة رقم 16 وتباح وما هنا أنسب
(3) سقط لفظ أصيب من النسخة رقم 14
(4) في النسخة رقم 16 المتغلب
388
قلنا: فكان ماذا؟ ومن أين وجب عندكم سقوط ملك المسلم عن ماله بجهله بعينه؟ وبأنه
لا يميزه وما الفرق بين هذا وبين العبد يأبق فلا تميزه صورته أبدا والبعير كذلك والفرس
كذلك؟ أفترون الملك يسقط عن كل ذلك من أجل أنه لا يميزه أحد أبدا لا صاحبه ولا
غيره؟ ولئن كان الناس لا يعرفونه ولا يميزونه فان الله تعالى يعرفه ويميزه لا يضل ربى
ولا ينسى بل هو عز وجل عارف به وبتقلبه ومثواه كاتب لصاحبه أجر ما نيل منه وما
يتناسل منه في الأبد، وما الفرق بين هذا وبين الأرض تختلط فلا تحاز ولا تميز؟ أترون
الملك يسقط عنها بذلك؟ حاش لله من هذا بل الحق اليقين ان كل ذلك باق على ملك
صاحبه إلى يوم البعث، ونحن وان حكمنا فيما يئس من معرفة صاحبه بالحكم الظاهر
من أنه في جميع مصالح المسلمين أو للفقراء. والمساكين، أو لمن سبق إليه من المؤمنين
فإنه لا يسقط بذلك حق صاحبه ولو جاء يوما وثبت أنه حقه لصرفناه إليه وهو لقطة من
اللقطات يملكه من قضى له بنص حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يأتي صاحبه ان جاء، ومنع
قوم من بيع كل ذلك وقالوا: إنما منعنا من بيعه لمغيبه *
قال على: وقد أبطلنا بعون الله تعالى هذا القول وأتينا بالبرهان على وجوب بيع
الغائبات، ومنع قوم من ذلك واحتجوا بأنه لا يقدر على تسليمه وهذا لا شئ لان التسليم
لا يلزم (1) ولا يوجبه قرآن. ولا سنة. ولا دليل أصلا وإنما اللازم أن لا يحول
البائع بين المشترى وبين ما اشترى منه فقط فيكون ان فعل ذلك عاصيا ظالما، ومنع آخرون
من ذلك واحتجوا بأنه غرر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر *
قال أبو محمد: ليس هذا غررا (2) لأنه بيع شئ قد صح ملك بائعه عليه وهو معلوم
الصفة والقدر فعلى ذلك يباع ويملكه المشترى ملكا صحيحا فان وجده فذلك وان لم يجده
فقد استعاض الاجر الذي هو خير من الدنيا وما فيها وربحت صفقته، ولو كان هذا غررا
لكان بيع الحيوان كله حاضرة وغائبه غررا لا يحل ولا يجوز لأنه لا يدرى مشتريه
أيعيش ساعة بعد ابتياعه أم يموت ولا يدرى أيسلم أم يسقم سقما قليلا يحيله أو سقما كثيرا
يفسده أو أكثره؟ وليس ما يتوقع في المستأنف غرر الان الاقدار تجرى بما لا يعلم ولا يقدر
على رده، ولأنه غيب قال الله تعالى: (قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب الا الله)
وقال تعالى: (وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم) وإنما الغرر ما عقد على جهل
بمقداره وصفاته حين العقد، فان قالوا: فلعله ميت حين العقد أوقد تغيرت صفاته
قلنا: هو على الحياة التي قد صحت له حتى يوقى موته وعلى ما تيقن من صفاته حتى يصح



(1) في النسخة رقم 16 (لا يلزمه)
(2) في النسخة رقم 16 (ليس شئ من هذا غررا)
389
تغييره فان صح موته ردت الصفقة وان صح تغيره فكذلك أيضا، ولئن قلتم: ان
هذا يمنع من بيعه فامنعوا من بيع كل غائب من الحيوان ولو أنه خلف الجدار إذ لعله
قد مات للوقت حين عقد الصفقة أو تغير بكسر. أو وجع. أو عور، نعم وامنعوا من
يبع البيض. والجوز. واللوز. وكل ذي قشر إذ لعله فاسد ولا فرق بين شئ من
ذلك وإنما الغرر ما أجزتموه من بيع المغيبات التي لم يرها أحد قط من الجزر. والبقل. والفجل
ولعلها مستاسة أو معفونة، وما إجازة بعضكم من بيع ما لم يخلق بعد من بطون المقاثى التي
لعلها لا تخلق أبدا. ومن لبن الغنم شهرين أو ثلاثة ولعلها تموت أو تحارد فلا يدر لها
شخب (1). ومن بيع لحم شاة مذبوحة لم تسلخ بعد فلا يدرى أحد من خلق الله تعالى
ما صفته، فهذا وأشباهه هو بيع الغرر المحرم، وقد أجزتموه لا ما صح ملكه وعرفت
صفاته، وقال بعضهم: أنما منعنا من ذلك بالنص الوارد فيه فقلنا: تلك آثار مكذوبة
لا يحل الاحتجاج بها ولو صحت لكنا أبدر إلى الاخذ بها منكم * وهي كما روينا من طريق
عبد الرزاق عن يحيى بن العلاء عن جهضم بن عبد الله عن محمد بن زيد العبدي عن شهر بن
حوشب الأشعري عن أبي سعيد الخدري (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع العبد وهو
آبق. وعن ان تباع المغانم قبل أن تقسم. وعن بيع الصدقات قبل أن تقبض) *
ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة نا حاتم بن إسماعيل عن جهضم بن عبد الله عن محمد بن إبراهيم
الباهلي عن محمد بن زيد عن شهر بن حوشب عن أبي سعيد (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراء
ما في بطون الانعام حتى تضع. وعن ما في ضروعها إلا بكيل. وعن شراء البعد الآبق. وعن
شراء المغانم حتى تقسم. وعن شراء الصدقات حتى تقبض. وعن ضربة الغائص) *
قال أبو محمد: جهضم. ومحمد بن إبراهيم. ومحمد بن زيد العبدي مجهولون. وشهر متروك،
ثم لو صححوه فهو دمار عليهم لأنهم مخالفون لما فيه وكلهم - يعنى الحاضرين من خصومنا -
يجيزون بيع الأجنة في بطون الأمهات مع الأمهات، والمالكيون يجيزون بيع اللبن
الذي لم يخلق بعد والذي في الضروع بغير كيل لكن شهرين أو نحو ذلك، ويجيزون شراء
المغانم قبل أن تقسم بل هو الواجب عندهم والأولى؟ والحنيفيون يجيزون أخذ القيمة
عن الصدقة الواجبة وهذا هو بيع الصدقة قبل أن تقبض، وهذا بيع الغرر حقا لأنه
لا يدرى ما باع ولا أيها باع ولا قيمة ماذا أخذ فهو أكل المال بالباطل حقا. والغرر
حقا، والحرام حقا *
واحتجوا بخبر فيه يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف فيه النهى عن بيع السمك في الماء ثم



(1) يقال: حاردت الإبل - بالحاء المهملة - حرادا أي قلت ألبانها والحرود من التوق القليلة الدر، والشنخب
بالضم ما امتد من اللبن حين يحلب، وفى بعض النسخ (تجارد) بالجيم وهو غلط
390
لو صح لما كان لهم فيه حجة لأنه إنما يكون نهيا عن بيعه قبل أن يصاد وهكذا نقول كما حملوا
خبرهم في النهى عن بيع الآبق على أنه في حال إباقه لا وهو مقدور عليه * ومن عجائب الدنيا
احتجاجهم بخبر هم أول مخالف له وحرموا به ما ليس فيه من بيع الجمل الشارد، فان قالوا: قسنا
الجمل الشارد على العبد الآبق قلنا: القياس كله باطل ثم نقول للحنيفيين: هلا قستم الجمل الشارد
في ايجاب الجعل فيه على الجعل في العبد الآبق؟ فان قالوا: لم يأت الأثر إلا في الآبق: قلنا: ولا
جاء هذا الأثر الساقط أيضا الا في الآبق *
قال على: وروينا عن سنان بن سلمة. وعكرمة أنهما لم يجيزا بيع العبد الآبق قال عكرمة:
ولا الجمل الشارد، وممن روينا عنه مثل قولنا ما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا عبدة بن سليمان
عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه اشترى بعيرا وهو شارد * قال على: ما نعلم له مخالفا
من الصحابة رضي الله عنهم، وهذا اسناد في غاية الصحة والثقة وهم يعظمون خلاف مثل
هذا إذا وافقهم ويجعلونه اجماعا، وعهدنا بالحنيفيين والمالكيين يقولون إذا روى الصحاب
خبرا وخالفه: فهو أعلم بما روى وهو حجة في ترك الخبر، وقد روينا من طريق وكيع عن موسى
ابن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر) وقد
صح عن ابن عمر إباحة بيع الجمل الشارد فلو كان عنده غرر اما خالف ما روى هذا لازم لهم على أصولهم والا فالتناقض حاصل وهذا أخف شئ عليهم * ومن طريق ابن أبي شيبة
نا جرير عن المغيرة عن الشعبي عن شريح أن رجلا أتاه فقال: إن لي عبدا آبقا وأن رجلا
يساومني به أفأبيعه منه قال: نعم فإنك إذ رأيته فأنت بالخيار إن شئت أجزت البيع وان شئت
لم تجزه، قال الشعبي: إذا أعلمه منه ما كان يعلم منه جاز بيعه ولم يكن له خيار * ومن طريق حماد
ابن سلمة عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين أن رجلا أبق غلامه فقال له رجل: بعني غلامك
فباعه منه ثم اختصما إلى شريح فقال شريح: إن كان أعلمه مثل ما علم فهو جائز * ومن طريق
عبد الرزاق نا معمر عن أيوب السختياني قال: أبق غلام لرجل فعلم مكانه رجل آخر فاشتراه
منه فخاصمه إلى شريح بعد ذلك قال ابن سيرين: فسمعت شريحا يقول له: أكنت أعلمته مكانه
ثم اشتريته؟ فرد البيع لأنه لم يكن أعلمه *
قال أبو محمد: وهذا صحيح لان كتمانه مكانه وهو يعلمه أيهما علمه فكتمه غش وخديعة
والغش. والخديعة يرد منهما البيع * ومن طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن زيد عن أيوب
السختياني أن محمد بن سيرين كان لا يرى بأسا بشراء العبد الآبق إذا كان علمهما فيه واحدا *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو سعد (1) عن ابن جريج عن ابن طاوس عن أبيه انه كان



(1) في النسخة رقم 14 أبو سعيد
391
لا يرى بأسا أن يشترى الرجل الدابة الغائبة إذا كان قد رآها ويقول: إن كانت صحيحة فهي
لي ولم يخص غير شاردة من شاردة والشاردة غائبة، وممن أجاز بيع الجمل الشارد. والعبد
الآبق عثمان البتي. وأبو بكر بن داود. وأصحابنا وبالله تعالى التوفيق *
1422 مسألة وبيع المسك في نافجنه مع النافجة. والنوى في التمر مع التمر. وما
في داخل البيض مع البيض. والجوز. واللوز. والفستق. والصنوبر. والبلوط. والقسطل. وكل
ذي قشر مع قشره كان عليه قشران أو واحد، والعسل مع الشمع في شمعه. والشاة المذبوحة
في جلدها مع جلدها جائز كل ذلك، وهكذا كل ما خلقه الله تعالى كما هو مما يكون ما في داخله
بعضاله، وكذلك الزيتون بما فيه من الزيت. والسمسم بما فيه من الدهن: والإناث
بما في ضروعها من اللبن. والبر. والعلس في أكمامه مع الأكمام وفى سنبله مع السنبل كل
ذلك جائز حسن، ولا يحل بيع شئ مغيب في غيره مما غيبه الناس إذا كان مما لم يره أحد لامع
وعائه ولا دونه، فإن كان مما قد رؤى جاز بيعه على الصفة كالعسل. والسمن في ظرفه.
واللبن كذلك. والبر في وعائه. وغير ذلك كله. والجزر. والبصل. والكراث.
والسلجم. والفجل قبل أن يقلع، وقال الشافعي: ما له قشران فلا يجوز بيعه حتى
يزال القشر الاعلى *
قال أبو محمد: كل جسم خلقه الله تعالى فله طول، وعرض. وعمق قال تعالى: (وأحل
الله البيع) وكل ما ذكرنا فكذلك بيعه بنص القرآن جائز، وقد أجمعوا وصحت السنن
المجمع عليها على جواز بيع التمر. والعنب. والزبيب. وفيها النوى وأن النوى داخل في
البيع، وأجمعوا على جواز بيع البيض كما هو وإنما الغرض منه ما في داخله ودخل القشر
في البيع بلا خلاف من أحد، وكذلك الزيتون بما فيه من الزيت. والسمسم بما فيه من
الدهن. والشاة المذبوحة كما هي فليت شعري ما الفرق بين ذلك وبين ما اختلفوا فيه
المسك في نافجنه مع النافجة. والعسل في شمعه مع الشمع؟ ولا سبيل إلى فرق لا في قرآن.
ولا في سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قول صاحب. ولا تابع. ولا قياس. ولا معقول. ولا رأى يصح، وكل ذلك بيع قد أباحه الله تعالى ولم يخص منه شيئا، وقد قال تعالى: (وقد
فصل لكم ما حرم عليكم) فلو كان حراما لفصله الله تعالى لنا فإذا لم يفصله فهو منصوص على
تحليله، فان قالوا: هو غرر قلنا: أوليس على قولكم هذا سائر ما ذكرنا غررا أيضا؟ والا
فما الفرق، وأما الحق فإنه ليس شئ منه غررا لأنه جسم واحد خلقه الله عز وجل كما هو
وكل ما في داخله بعض لجملته، وأما قول الشافعي فظاهر الفساد لأنه لا فرق في مغيب المعرفة

392
بصفة (1) ما في القشر بين كونه في قشر واحد وبين كونه في قشرين أو أكثر، وهو قد
أجاز بيع البيض في غلافين بالعيان إحداهما القشر الظاهر وهو القيض والثاني الغرقئ،
ولا غرض للمشترى إلا فيما فيهما لا فيهما مع أنه قول لا نعلمه عن أحد قبله، فان قيل: إن
ما قدرنا على إزالته من الغرر فعلينا أن نزيله قلنا: وانكم لقادرون على إزالة القشر الثاني
فأزيلوه ولابد لأنه غرر، فان قالوا: في ذلك ضرر على اللوز. والجوز. والقسطل.
والبلوط قلنا: لا ما فيه ضرر على البلوط. ولا على القسطل. ولا على اللوز في الأكثر
وأيضا فلا ضرر على التمر في إزالة نواه، وأيضا فما علمنا حراما يحله خوف ضرر على فاكهة
لو خيف عليها ولو أن امرءا له رطب لا ييبس ولم يجد من يشتريه منه الا بتمر يابس لما حل له
بيعه خوف الضرر، وكذلك لو أن امرءا خاف عدوا ظالما على ثمرته ولم يكن بدا صلاحها
لم يحل له بيعها خوف الضرر عليها *
1423 مسألة ومن هذا بيع الحامل بحملها إذا كانت حاملا من غير سيدها
لان الحمل خلقه الله عز وجل من منى الرجل ومنى المرأة ودمها فهو بعض أعضائها وحشوتها
ما لم ينفخ فيه الروح قال تعالى: (ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة
في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا
العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين) فبيعها بحملها كما هي جائز وهي
وحملها للمشترى، فإذا نفخ فيه الروح فقد اختلف أهل العلم فقالت طائفة: هو بعد ذلك
غيرها لأنها أنثى وقد يكون الجنين ذكرا وهي فرده (2) وقد يكون في بطنها اثنان وقد تكون هي
كافرة وما في بطنها مؤمنا. وقد يموت أحدهما ويعيش الآخر. ويكون أحدهما معيبا والآخر
صحيحا. ويكون أحدهما أسود والآخر أبيض ولو وجب عليها قتل لم تقتل هي حتى تلد، فصح
أنه غيرها فلا يجوز دخوله في بيعها، وهكذا في إناث سائر الحيوان حاش اختلاف الدين
فقط أو القتل فقط * فقال آخرون: هو كذلك الا أنه حتى الآن مما خلقه الله تعالى فيها
وولده منها ولم يزايلها بعد فحكمه في البيع كما كان حق يزايلها، وليس كونه غير ها وكون اسمه غير
اسمها وصفاته غير صفاتها بمخرج له عما كان له من الحكم إلا بنص وارد في ذلك، وهذا النوى
هو بلا شك غير التمر وإنما يقال: نوى التمر وصفاته غير صفات التمر واسمه غير اسم التمر وكذلك
قشر البيض أيضا، وكذلك بيض ذات البيض قبل أن تبيضه، وكل ذلك جائز بيعه كما هو لان
الله تعالى خلق كل ذلك كما هو وما زال الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعلمه يبيعون التمر
ويتواهبونه ويبيعون البيض ويتهادونه من بيض الدجاج. والضباب. والنعام، ويتبايعون



(1) في النسخة رقم 16 (نصفه) وهو تصحيف
(2) في النسخة رقم 14 (فردة)
393
العسل ويتهادونه كما يشتارونه في شمعه ويتبايعون إناث الضأن. والبقر. والخيل. والمعز.
والإبل. والإماء. والظباء حوامل وغير حوامل، ويغنمون كل ذلك ويقتسمونهن
ويتوارثونهن ويقتسمونهن كما هن فما جاء قط نص بأن للأولاد حكما آخر قبل الوضع فيع
الحامل بحملها جائز كما هو ما لم تضعه *
قال على: وهذا هو الصواب عندنا وبه نقول لأنه كله باب واحد وعمل واحد، وبالله
تعالى التوفيق *
1424 مسألة وليس كذلك ما تولى المرء وضعه في الشئ كالبذر يزرع.
والنوى يغرس فان هذا شئ أو دعه المرء في شئ آخر مباين له بل هذا ووضعه الدراهم
والدنانير في الكيس. والبر في الوعاء. والسمن في الاناء سواء ولا يدخل حكم أحدهما
في الآخر، ومن باع من ماله شيئا لم يلزمه بيع شئ آخر غيره وإن كان مقرونا معه
ومضافا إليه فمن باع أرضا فيه بذر مزروع ونوى مغروس طهرا أو لم يظهرا فكل ذلك
للبائع ولا يدخل في البيع لما ذكرنا، وقال مالك: أما ما ظهر نباته فلا يدخل في البيع من
الزرع خاصة وأما ما لم يظهر فهو في البيع *
قال أبو محمد: وهذا فرق فاسد لأنه لا دليل على صحته لا من قرآن. ولا من سنة.
ولا من رواية سقيمة. ولا من قياس. ولا من قول أحد من السلف. ولا من احتياط.
ولا من رأى له وجه بل القرآن يبطل هذا بقوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) ووجدنا البذر. والنوى ما لا للبائع بلا
شك فلا يحل لغيره أخذه الا برضى الذي ملكه له وبالله تعالى التوفيق *
1425 مسألة ولا يحل بيع شئ من المغيبات المذكورة كلها دون ما عليها
أصلا لا يحل بيع النوى أي نوى كان قبل اخراجه واظهاره دون ما عليه. ولا بيع المسك
دون النافجة قبل اخراجه من النافجة. ولا بيع البيض دون القشر قبل اخراجه عنه. ولا
بيع حب الجوز. واللوز. والفستق. والصنوبر. والبلوط. والقسطل. والجلوز،
وكل ذي قشر دون قشرة قبل اخراجه من قشرة. ولا بيع العسل دون شمعه قبل اخراجه
من شمعه. ولا لحم شاة مذبوحة دون جلدها قبل سلخها. ولا بيع زيت دون الزيتون قبل
عصره ولا بيع شئ من الادهان دون ما هو فيه قبل اخراجه منها ولا بيع حب البر دون
أكمامه قبل اخراجه منها. ولا بيع سمن من لبن قبل اخراجه. ولا بيع لبن قبل حلبه أصلا
ولا بيع الجزر. والبصل. والكراث: والفجل قبل قلعه لا مع الأرض ولا دونها
لان كل ذلك بيع غرر لا يدرى مقداره ولا صفته ولا رآه أحد فيصفه، وهو أيضا أكل مال

394
بالباطل قال الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض
منكم) وبالضرورة يدرى كل أحد أنه لا يمكن البتة وجود الرضى على مجهول وإنما يقع التراضي
على ما علم وعرف فإذ لا سبيل إلى معرفة صفات كل ما ذكرنا ولا مقداره فلا سبيل إلى التراضي
به وإذ لا سبيل إلى التراضي به فلا يحل بيعه وهو أكل مال بالباطل، وأما الجزر. والبصل.
والكراث. والفجل فكل ذلك شئ لم يره قط أحد ولا تدرى صفته فهو بيع غرر وأكل
مال بالباطل إذا بيع وحده وأما بيعه بالأرض معا فليس مما ابتدأ الله تعالى خلقه في الأرض
فيكون بعضها وإنما هو شئ من مال الزارع لها أو دعه في الأرض كما لو أودع فيها شيئا من
سائر ماله ولا فرق فما لم يستحل البذر عن هيئته فبيعه جائز مع الأرض ودونها لأنه شئ
موصوف معروف القدر وقد رآه بائعه أو من وصفه له فبيعه جائز لان التراضي به ممكن
وأما إذا استحال عن حاله فقد بطل أن يعرف كيف هو وما صفته وليس هو من الأرض
ولكنه شئ مضاف إليها فهو مجهول الصفة جملة ولا يحل بيع مجهول الصفة بوجه من
الوجوه لأنه بيع غرر حتى يقلع ويرى وبالله تعالى التوفيق * وممن أبطل بيع هذه المغيبات
في الأرض الشافعي. وأحمد بن حنبل. وأبو سليمان، وقد تناقض الحاضرون من
مخالفينا في كثير مما ذكرنا فأجاز أبو حنيفة بيع لحم الشاة مذبوحة قبل السلخ وأوجب
السلخ على البائع وأجاز بيع البر دون التبن والأكمام قبل أن يدرس ويصفى وجعل الدرس
والتصفية على البائع، وأجاز بيع الجزر. والبصل. وغير ذلك مغيبا في الأرض،
وأوجب على البائع أن يقلع منه أنموذجا قدر ما يريه المشترى (1) فان رضيه كان على
المشترى قلع سائره فلو أن المشترى يتولى بنفسه قلع أنموذج منه فلم يرضه لم يلزمه البيع
فلو قلع منه أكثر من أنموذج فقد لزمه البيع أحب أم كره، وقال أبو يوسف: لا أجيز
البائع ولا المشترى على قلع شئ من ذلك فان تشاحا أبطلت البيع، فان قلع المشترى
منه أقل ما يقع في المكاييل (2) فله الخيار في امضاء أو فسخ، فان قلع أكثر من ذلك
فقد لزمه البيع كله *
قال أبو محمد: ان في هذا لعجبا ليت شعري من أين وجب أن يجبر البائع على
الدرس. والتصفية. والسلخ ولا يجبر على قلع الجزر. والبصل. والكراث.
والفجل؟ وهل سمع بأسخف من هذا التقسيم؟ وليت شعري ما هذا الأنموذج الذي
لا هو لفظه عربية من اللغة التي بها نزل القرآن وخاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولا لفظة شرعية ثم صار يشرع بها أبو حنيفة الشرائع فيحرم ويحلل فعلى الأنموذج العفاء



(1) في النسخة رقم 16 (قدر ما يراه المشترى)
(2) في النسخة رقم 14 (مكايل)
395
وصفع القفاء وعلى كل شريعة تشرع بالأنموذج، ثم تحديد (1) أبى يوسف ذلك بأقل
ما يقع في المكاييل وقد يتخذ الباعة مكاييل صغارا جدا وما عهدنا بالجزر. ولا الفجل يقعان
في الكيل فمن أين خرج له تحديد هذه الشريعة بهذا الحد الفاسد ونحمد الله تعالى على السلامة؟
وليت شعري من أين وقع لهم جواز بيع هذه المغيبات دون الأرض؟ ومنعوا من بيع الجنين
دون أمه وكلا الامرين سواء لا فرق بين شئ منهما وكلاهما غرر وبيع مجهول، ثم
أطرف من هذا كله منعهم من بيع الصوف على ظهور الغنم وذراع محدودة من هذا الطرف
من هذا الثوب من أوله إلى آخره، أو ذراع محدود إلى طرفه من خشبة حاضرة وحلية
هذا السيف دون جفنه ونصله ورأوا هذا غررا وعملا مشترطا يفسد البيع وكذبوا
في ذلك، ولم يروا الدرس. والتصفية. والسلخ غررا ولا عملا مشترطا يفسد البيع
فهل لأصحاب هذه (2) الأقوال المتخاذلة حظ من العلم؟ ثم أجازوا بيع القصيل على القطع
والثمرة التي لم يبد صلاحها على القطع، وأجازوا بيع جذل نخلة (3) على ظهر الأرض
ولم يروا قطعه غررا ولا عملا مشترطا يفسد البيع وهل يشك ذو مسكة من عقل في أن
ادخال الجلم إلى حاشية محدودة من ثوب وقطعة وقلع حلية على غمد سيف لا يتعذر على
غلام مراهق أسهل وأخف من درس ألف كر وتصفيتها ومن سلخ ناقة؟ ولكن هذا
مقدار نظر هم وفقههم، وقال بعضهم: الصوف ينمى ولا يدرى أين يقع القطع منه ومن
الثوب فقلنا: والجذل ينمى ولا يدرى أين يقع القطع منه ولا فرق، فان قالوا: قد صح
عن ابن عباس المنع من بيع الصوف على ظهور الغنم (4) ولا يعرف له مخالف من
الصحابة رضي الله عنهم قلنا: وقد صح عن ابن عمر ما أدركت الصفقة مجموعا حيا فمن
البائع ولا يعرف له مخالف من الصحابة (5) فخالفتموه، فما الذي جعل أحدهما أولى
من الآخر؟ وقالوا: لو أن أرضا تكسيرها معلوم مائة ذراع في مثلها أو دارا كذلك فباع
صاحبها منها عشرة أذرع في مثلها مشاعا في جميعها لم يجز ذلك فلو باع منها عشرة أسهم
من مائة سهم مشاعا في جميعها جاز ذلك، وهذا تخليط ناهيك به وتحريم شئ واباحته
بعينه وكلا الامرين إنما هو بيع العشر مشاعا ولم يجيزوا بيع نصل السيف وحمائله
ونصف حليته مشاعا وقالوا: هذا ضرر فليت شعري أي ضرر في هذا؟، وأما المالكيون
فأجازوا بيع الصوف على ظهور الغنم ووفقوا في ذلك الا أنهم قالوا: إن أخذ في جزازه
وإلا فلا، وأجازوا بيع لبن الغنم الكثيرة شهرين فأقل وهذا قول ظاهر الفساد لأنه
بيع شئ لم يخلق وبيع غرر، ومنعوا من بيع لبن شاة واحدة كله، وقالوا: هذا غرر



(1) في النسخة رقم 14 (ثم تحرى)
(2) في النسخة رقم 14 (فهل صحب هذه)
(3) جذل النخلة أصلها
(4) في النسخة رقم 16 (على ظهر الغنم)
(5) في النسخة رقم 14 (ولا مخالف له من الصحابة)
396
وقد تموت فقلنا: وقد تموت الكثيرة أو يموت بعضها، ونسألهم عن بيع لبن شاتين
كذلك فان منعوا من ذلك سألناهم عن لبن ثلاث شياه ولا نزال نزيد هم واحدة فواحدة
حتى يحدوا ما يحرمون مما يحللون، ثم نسألهم عن الفرق وذلك ما لا سبيل إليه، وأجازوا
بيع بطون المقاثي. والياسمين: وجزات القصيل قبل أن يخلق الله تعالى ذلك كله ولم
يروه غررا، ورأوا بيع العبد الآبق. والجمل الشارد: والمال المغصوب غررا فيا لهذه
العجائب!، وأجازوا بيع لحم الشاة وهي حية دون جلدها، وأجازوا استثناء أرطال
يسيرة من لحمها للبائع الثلث فأقل، ومنعوا من استثناء أكثر فليت شعري من أي أعضائها
تكون تلك الأرطال وهي مختلفة الصفات والقيم؟ قالوا: فان استثنى الفخذ أو الكبد أو
البطن لم يجز فان استثنى الرأس والسواقط قال: أن كان مسافرا جازوا إن كان غير مسافر
لم يجز فكانت هذه أعاجيب لا نعلم تقسيمها عن أحد قبله وأقوالا متناقضة لا يعضدها
قرآن. ولا سنة. ولا قول متقدم. ولا قياس، وأجازوا بيع الجزر. والبصل.
والجل المغيبة في الأرض *
قال أبو محمد: واحتج بعضهم على في ذلك بقول الله تعالى: (يؤمنون بالغيب)
فقلت: فأبح بهذه الآية بيع الجنين في بطن أمه دون أمه لأنه من الايمان بالغيب، وهذا
احتجاج نسأل الله السلامة من مثله في تحريف كلام الله تعالى عن مواضعه إلى ما ليس فيه
منه شئ * روينا من طريق عبد الرحمن بن مهدي نا سفيان الثوري عن أبي إسحاق
السبيعي عن عكرمة عن ابن عباس قال: لا تشتروا الصوف على ظهور الغنم ولا
اللبن في ضروعها * ومن طريق الحجاج بن المنهال نا ملازم بن عمرو نا زفر بن يزيد
ابن عبد الرحمن عن أبيه وكان من جلساء أبي هريرة قال: سألت أبا هريرة عن
بيع اللبن في ضروع الغنم؟ فقال: لا خير فيه وسألته عن الشاة بالشاتين إلى أجل؟
فقال: لا إلا يدا بيد * ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة عن المغيرة عن إبراهيم
النخعي قال: كانوا يكرهون أن يشترى اللبن في ضروع الشاة، وكرهه مجاهد. وطاوس،
وروى عن طاوس أنه أجازه بالكيل فقط، وروى عن سعيد بن جبير إجازة بيع اللبن
في الضروع. والصوف على ظهور الغنم، وروى عن الحسن أنه أجاز بيع لبن الشاة
جملة أشهر (1) ولم يجزه أبو حنيفة. ولا الشافعي. ولا أحمد. ولا إسحاق ولا أبو سليمان،
فهذا صاحبان لا يعرف لهما من الصحابة رضي الله عنهم مخالف أصلا، وإبراهيم يذكر
ذلك عمن أدرك وهما أكابر التابعين وهم يعظمون مثل هذا إذا وافق آراءهم * واحتجوا



(1) في النسخة رقم 16 (لشهر)
397
في هذا بجواز إجارة الظئر (1) للرضاع فقلنا: أفي إجارة تكلمنا معكم أم في بيع؟
والإجارة غير البيع لأننا نؤاجر الحرة للرضاع ولم نبتع منها لبنها أصلا، ثم أغرب شئ
احتجاجهم في هذا بما ذكرنا من إجارة الظئر وهم يحرمون بيع لبن الشاة الواحدة.
والبقرة الواحدة. والناقة الواحدة. وهذا أشبه بإجارة الظئر الواحدة وإنما يجيزون
ذلك في الغنم الكثيرة فاعجبوا لسخافة هذا القياس وشدة تناقضه إذ حرموا ما يشبه ما قاسوا
على اباحته وأباحوا قياسا عليه ما لا يشبهه *
قال أبو محمد: فان زاد الصوف فهما متداعيان والقول قول البائع مع يمينه إن كانت
الغنم معروفة له أو في يده فإن لم تكن معروفة له وكانت في يد الآخر فالقول قول الآخر مع
يمينه، فإن كانت في أيديهما أو في غير أيديهما معا فحكمهما (2) حكم المتداعيين في الشئ
يكون بأيديهما أو بغير أيديهما على ما نذكر إن شاء الله تعالى في التداعي في الأقضية
وبالله تعالى التوفيق *
1426 مسألة وأما بيع الظاهر دون المغيب فيها فحلال الا أن يمنع من شئ
منه نص فجائز بيع الثمرة واستثناء نواها وبيع جلد النافجة دون المسك الذي فيها.
والجراب. والظروف كلها دون ما فيها. وقشر البيض. واللوز. والجوز. والجلوز.
والفستق. والبلوط. والقسطل: وكل قشر لا تحاش شيئا دون ما تحتها، وبيع الشمع
دون العسل الذي فيه، وبيع التبن دون الحب الذي فيه، وجلد الحيوان المذبوح
أو المنحور دون لحمه أو دون عضو مسمى منها، وبيع الأرض دون ما فيها من بذر
أو خضروات مغيبة أو ظاهرة. ودون الزرع الذي فيها. ودون الشجر الذي فيها.
والحيوان اللبون دون لبنه الذي اجتمع في ضروعه ولا يحل استثناء لبن لم يحدث بعد
ولا اجتمع في ضروعه (3) ويجوز بيع الحامل دون حملها سواء نفخ فيه الروح أو لم
ينفخ، ولا يحل بيع حيوان حي واستثناء عضو منه أصلا، ويجوز بيع عصارة الزيتون
والسمسم دون الدهن قبل عصره، ولا يحل بيع جلد حيوان حي دون لحمه، ولا دون
عضو مسمى منه أصلا ولا يجوز بيع مخيض لبن قبل أن يمخض ولا الميش (4)
قبل أن يخرج *
برهان كل ما ذكرنا قول الله تعالى: (وأحل الله البيع) وقوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم
عليكم) فكل بيع لم يأت في القرآن ولا في السنة تحريمه باسمه مفصلا فهو حلال بنص كلام الله
تعالى، وكل ما ذكرنا فمال للبائع وملك له يبيع منه ما شاء فهو من ماله ويمسك منه ما شاء فهو



(1) هي المرضعة غير ولدها
(2) في النسخة رقم 14 (فحكمها)
(3) في النسخة رقم 16 (في الضرع)
(4) الميش حلب نصف ما في الضرع فإذا جاوز النصف فليس بميش
398
من ماله، فما ظهر من ماله ورؤى أو وصفه من رآه فبيعه جائز ويمسك ما لم يره هو ولا غيره
لأنه لا يحل بيع المجهول كما قدمنا أو لأنه لا يريد بيعه فذلك له وإن كان مرئيا (1) حاضرا
أو موصوفا غائبا، وأما قولنا: لا يحل استثناء لبن لم يحدث بعد فلانه إنما يحدث إذا أحدثه
الله تعالى في مال غيره فلا يحل له أن يشترط من مال غيره شيئا إلا أن يكون الثمن فيما باع
فقط لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإنما منعنا من بيع حيوان إلا عضوا
مسمى منه * وأجز نا بيع الحامل دون حملها فان ذلك (2) الحيوان لا يخلو من أن يكون
من بني آدم أو من سائر الحيوان فإن كان من سائر الحيوان فاستثناء العضو المعين منه أكل
مال بالباطل لأنه لا ينتفع به إلا بذبحه ففي هذا البيع اشتراط ذبح ذلك الحيوان على بائع
العضو منه أو على بائعه إلا عضوا منه وهذا شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل وإن كان
ذلك الحيوان من بني آدم فكذلك أيضا وهو إضاعة للمال جملة وهذا مما يوافقنا [عليه] (3)
الحاضرون كلهم من خصومنا * وأما الحمل. والصوف. والوبر. والشعر. وقرن الايل
وكل ما يزايل الحيوان بغير مثلة ولا تعذيب فكما قدمنا انه مال لبائعه يبيع من ماله ما شاء
ويمسك ما شاء إلا أن يكون في ذلك إضاعة مال أو مثلة بحيوان أو إضرار به فلا يحل لصحة
النهى عن المثلة وعن تعذيب الحيوان وبالله تعالى التوفيق *
وأما منعنا من بيع المخيض دون السمن قبل المخض ومن بيع الميش دون الجبن قبل عصره
فلانه لا يرى ولا يتميز ولا يعرف مقداره فقد يخرج المخض والعصير قليلا وقد يخرج
كثيرا وهذا بخلاف بيع عصارة الزيتون والسمسم دون الدهن قبل العصر لان الزيتون.
والسمسم. واللوز. والجوز كل ذلك مرئي معروف وإنما الخافي فهو الدهن فقط ولا يحل
بيعه قبل ظهوره ويجوز استثناؤه لأنه ابقاء له في ملك مالكه وهذا مباح حسن وبالله
تعالى التوفيق *
وقد جاءت في هذا آثار روينا من طريق سعيد بن منصور نا حبان بن علي نا محمد بن
إسحاق عن نافع عن ابن عمر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر) * ومن طريق
ابن أبي شيبة عن ابن إدريس - هو عبد الله - عن عبيد الله بن عمر عن أبي الزناد عن الأعرج
عن أبي هريرة (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر) وقد أباحه (4) بعض السلف كما
روينا من طريق ابن أبي شيبة نا عباد بن العوام عن هشام - هو ابن حسان - عن ابن سيرين
عن شريح أنه كان لا يرى بأسا ببيع الغرر إذا كان علمهما فيه سواء، وكما روينا من طريق
ابن أبي شيبة نا ابن علية - هو إسماعيل بن إبراهيم - عن عبد الله بن عون عن محمد بن سيرين



(1) في النسخة رقم 16 (قريبا)
(2) في النسخة رقم 16 (لان ذلك)
(3) الزيادة من النسخة الحلبية
(4) في النسخة رقم 16 (وقد أجازه)
399
قال: لا أعلم ببيع الغرر بأسا * ومن طريق سعيد بن منصور نا حبان بن علي نا المغيرة عن إبراهيم قال: من الغرر ما يجوز ومنه ما لا يجوز فأما ما يجوز فشراء السلعة المريضة أما مالا
يجوز فشراء السمك في الماء، وقد روينا إجازة بيع السمك في الماء قبل أن يتصيد عن عمر بن
عبد العزيز وبه يقول (1) ابن أبي ليلى *
قال أبو محمد: لا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي ذكر إبراهيم ليس شئ
منه غررا أما المريضة فكل الناس يمرض ويموت وقد يموت الصحيح فجأة ويبرأ المريض
المدنف فلا غرر ههنا أصلا، وأما السمك في الماء فإن كان قد ملك قبل فليس بيعه غرر إبل
هو بيع صحيح وقد وافقنا الحاضرون من خصومنا على أن بركة في دار لانسان صغيرة صاد
صاحبها سمكة (2) ورماها فيها (3) حية فان بيعها فيها جائز، وأما ما لم يملك من السمك بعد فلم
يجز بيعه لأنه غرر حتى لو كانت السمكة مقدورا عليها بالضمان ما حل بيعها وإنما حرم
لأنه بيع ما ليس له وهذا أكل مال بالباطل * وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة نا قرة بن
سليمان عن محمد بن فضيل عن أبيه عن ابن عمر فيمن باع أمة واستثنى ما في بطنها قال: له ثنياه،
وقد صح هذا أيضا عن ابن عمر في العتق * وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا هشيم عن
المغيرة عن إبراهيم النخعي قال: من باع حبلى أو أعتقها واستثنى ما في بطنها فله ثنياه فيما
قد استبان خلقه فإن لم يستبن خلقه فلا شئ له *
قال على: سواء استبان خلقه أو لم يستبن له ثنياه لما قد ذكرناه من أنه ماله يستثنيه ان
شاء فلا يبيعه أو يدخل في صفقة أمه لأنه بعضها ما لم ينفخ فيه الروح ومن جملتها بعد نفخ
الروح فيه ولكن من استثنى حمل الحامل الذي باع كما ذكرنا فما ولدت إن كانت من بني آدم
إلى تسعة أشهر غير ساعة فهو له الا أن يوقن أن حملها به كان بعد البيع فلا شئ له لأنه حدث
في مال غيره وينظر في سائر الحيوان كذلك فما ولدت لا قصى ما يلد له ذلك الحيوان فهو
للذي استثناه وما ولدت لأكثر فليس له لما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق * ومن طريق ابن أبي
شيبة نا هشيم عن يونس عن الحسن البصري انه كان يجيز ثنيا الحمل في البيع ولا يجيزه في العتق،
وهو قول أبى سليمان. وأبي ثور في البيع والعتق، وهو كما أوردنا قول صاحب لا يعرف
له من الصحابة مخالف وهم يعظمون مثل هذا إذا وافق تقليدهم * وروينا من طريق ابن أيمن
نا عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبى نا عبد الرحمن بن مهدي نا عباد بن عباد بن حبيب بن المهلب -
ثقة مأمون - عن عبيد الله بن عمر عن نافع مولى ابن عمر قال: أعتق ابن عمر أمة له واستثنى
ما في بطنها، وبه يقول عبيد الله بن عمر * ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن سعيد - هو



(1) في النسخة رقم 16 (وهو قول)
(2) في النسخة رقم 14 (سمكا)
(3) أي في الدار وهي مؤنثة
400
القطان عن هشام - هو ابن حسان - عن محمد بن سيرين فيمن أعتق أمته (1) واستثنى ما في بطنها فقال: له ثنياه * ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن يمان عن سفيان - هو
الثوري - عن جابر. ومنصور بن المعتمر. وابن جريج قال جابر: عن الشعبي. وقال منصور:
عن إبراهيم. وقال ابن جريج: عن عطاء ثم اتفق الشعبي. وإبراهيم النخعي. وعطاء
قالوا كلهم: إذا أعتقها واستثنى ما في بطنها فله ثنياه * وبه إلى ابن أبي شيبة نا حرمي بن عمارة
ابن أبي حفصة عن شعبة قال: سألت الحكم. وحماد بن أبي سليمان عن ذلك - يعنى من
أعتق أمته واستثنى ما في بطنها - فقالا جميعا: ذلك له * نا حمام نا عبد الله بن محمد بن علي
الباجي نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا أحمد بن مسلم نا أبو ثور نا أسباط نا سفيان الثوري (2)
عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم النخعي قال: من كاتب أمته واستثنى ما في بطنها فلا بأس
بذلك * وبه يقول أبو ثور. وأحمد بن حنبل في العتق. والبيع، وبه يقول أيضا اسحق.
وأبو سليمان، فهؤلاء جمهور التابعين الحسن. وابن سيرين. وإبراهيم. والشعبي.
وعطاء: والحكم بن عتيبة. وحماد بن أبي سليمان بعضهم في البيع. وبعضهم في العتق.
وبعضهم في الامرين معا وما نعلم الآن مخالفا لهم الا الزهري وقال بقولنا في هذا من الفقهاء
كما ذكرنا عبيد الله بن عمر. وأحمد. وأبو ثور. وإسحاق. وأبو سليمان. وغيرهم،
وليت شعري أين هم عن حجتهم بالمسلمين عند شروطهم؟ * وأما استثناء الجلد والسواقط
فروينا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي نا أصبغ عن ابن وهب عن الليث بن سعد
عن عمارة بن غزية عن عروة بن الزبير: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر
مهاجرين إلى المدينة اشتريا من راعى غنم شاة وشرطا له إهابها) *
قال أبو محمد: هذا باطل عبد الملك هالك. وعمارة ضعيف ثم هو مرسل، ثم لو صح
لكان منسوخا لأنه كما ترى قبل الهجرة، وقد جاء النهى عن بيع الغرر بعد ذلك، وبيع
لحم شاة حية غرر لأنه لا يدرى أهزيل أم سمين. أو ذو عاهة أم سالم، ثم من لهم أن ذلك
إنما جاز لأجل السفر فان هذا ظن (3) لا يصح * فان قالوا: كان في سفر قلنا: وكان
في طريق المدينة فلا تجيزوه في غيره * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن جابر
الجعفي عن الشعبي عن زيد بن ثابت أن رجلا باع بقرة واشترط رأسها ثم بداله فأمسكها
فقضى له زيد بشروى (4) رأسها قال سفيان: نحن نقول: البيع فاسد * ومن طريق
عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثنا أبي نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن نسير



(1) في النسخة رقم 16 أمة
(2) في النسخة رقم 14 عن سفيان الثوري
(3) في النسخة رقم 14 فهذا ظن
(4) شروى الشئ مثله
401
ابن ذعلوق (1) عن عمرو بن راشد الأشجعي أن رجلا باع بختية واشترط ثنياها فبرئت
فرغب فيها فاختصما إلى عمر بن الخطاب فقال: اذهبا إلى علي فقال على: اذهب بها إلى السوق
فإذا بلغت أفضل ثمنها فاعطوه حساب ثنياها من ثمنها * ورويناه من طريق وكيع عن
سفيان الثوري عن نسير بن ذعلوق عن عمرو بن راشد أن رجلا باع بعيرا مريضا واستثنى
جلده فبرأ البعير فقال على: يقوم البعير في السوق ثم يكون له شراوه (2) *
ومن طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي حدثني أصبغ عن ابن وهب عن إسماعيل
ابن عياش اشترى رجل رأس جمل ونقد ثمنه واشترى آخر بقيته ونقد ثمنه لينحراه فعاش الجمل وصلح فقال مشترى الجمل لمشتري الرأس: إنما لك ثمن الرأس فاختصما إلى شريح
فقال شريح: هو شريكك فيه بحصة ما نقد وبحكم شريح هذا يأخذ عثمان البتي. وأحمد.
وإسحاق ولم يجز مالك استثناء الجلد والرأس الا في السفر لا في الحضر فخالف كل من
ذكرنا ولم يجزه أبو حنيفة. ولا الشافعي أصلا، وأجاز الأوزاعي استثناء اليد أو الرأس
أو الجلد عند الذبح خاصة وكرهه ان تأخر الذبح، والحنيفيون. والمالكيون يعظمون
خلاف الصاحب الذي لا يعرف له مخالف منهم وخالفوا ههنا زيد بن ثابت. وعمر
ابن الخطاب ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف، وأما المالكيون فإنهم رأوا فيمن باع
بعيرا واستثنى جلده فاستحياه الذي اشتراه ان له شروى جلده أو قيمته هذا في السفر
خاصة، وهذا خلاف حكم عمر. وعلى. وزيد لأنهم حكموا بذلك مطلقا لم يخصوا
سفرا من حضر، وروينا مثل قولنا عن بعض السلف كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا
أبو الأحوص عن أبي حمزة قلت لإبراهيم: أبيع الشاة واستثنى بعضها قال: لا ولكن
قل: أبيعك نصفها * قال ابن أبي شيبة: نا عبد الصمد بن أبي الجارود (3) سألت جابر بن زيد
عمن باع بيعا واستثنى بعضه قال: لا يصح ذلك *
1427 مسألة ومن باع ممن ذكرنا الظاهر دون المغيب أو باع مغيبا يجوز
بيعه، بصفة كالصوف في الفراش. والعسل في الظرف. والثوب في الجراب فإنه إن كان
المكان للبائع فعليه تمكين (4) المشترى من أخذ ما اشترى ولا بد وإلا كان
غاصبا مانع حق وعلى المشترى إزالة ماله عن مكان غيره وإلا كان غاصبا للمكان مانع حق،
فإن كان المكان للمشترى فعلى البائع نزع ماله عن مكان غيره والا كان ظالما مانع حق،
فإن كان المكان لهما جميعا فأيهما أراد تعجيل انتفاعه بمتاعه فعليه أخذه ولا يجبر الآخر



(1) نسير - بنون في أوله بعدها سين مهملة - مصغر أو ذعلوق بدال معجمة في أوله، وفى النسخة رقم 16 (بشر
ابن ذعلوق) وهو غلط
(2) أي مثله
(3) في النسخة رقم 16 (عبد الصمد بن أبي المخارق) وهو غلط
(4) في النسخة رقم 14 (فعليه أن يمكن)
402
على ما لا يريد تعجيله من أخذ متاعه، فإن كان المكان لغيرهما فعليهما جميعا أن ينزع
(1) كل واحد منهما ماله من مكان غيره وإلا فهو ظالم مانع حق لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان
دماءكم وأموالكم عليكم حرام) ولقوله صلى الله عليه وسلم: إذا قال سلمان لأبي الدرداء: (اعط كل
ذي حق حقه فصدقه عليه السلام. وصوب قوله) فمن باع تمرا دون نواها فأخذ التمرة
وتخليصها من النوى على المشترى لأنه مأمور بأخذ متاعه ونقله وترك النوى مكانه إن
كان المكان للبائع فان أبى أجبر واستؤجر عليه من يزيل التمر عن النوى ولا يكلف البائع
ذلك إلا أن يشاء لأنه لا يلزمه فتح ثمرة غيره ولا أن يعمل له فيه عملا فإن كان المكان
للمشترى فان أراد المشترى قلع ثمرته فله ذلك ولا يترك غيره يؤثر له فيها أثر الا يريده فان
أبى المشترى من ذلك فعلى البائع اخراج نواه ونقله على ألطف ما يمكن ولا شئ عليه، فان
تعدى ضمن مقدار تعديه في إفساد الثمرة فإن كان المكان لهما فكما قلنا: أيهما أراد تعجيل
أخذ متاعه فله أخذه فان أراد ذلك الذي له النوى كان له إخراج نواه بألطف ما يمكن إذ لابد له
من ذلك ولا شئ عليه لأنه فعل مباحا له فان تعدى (2) ضمن فإن كان المكان لغيرهما أجبرا
جميعا على العمل معا في تخليص كل واحد منهما ماله وهكذا القول في نافجة المسك.
والظروف دون ما فيها. والقشور دون ما فيها. والشمع دون العسل. والتين دون الحب.
وجلد الحيوان المذبوح أو المنحور. ولحمة الزيتون. والسمسم وكل ذي دهن، وأما من باع
الأرض دون البذر. أو دون الزرع. أو دون الشجر. أو دون البناء فالحصاد على الذي
له الزرع. والقلع على الذي له الشجر. والبناء والقطع أيضا عليه لان فرضا عليه إزالة
ماله عن أرض غيره، ومن باع الحيوان دون اللبن أو دون الحمل فالحلب على الذي له
اللبن ولابد وأجرة القابلة عليه أيضا لان واجبا عليه إزالة لبنه عن ضرع (3) حيوان
غيره وليس على صاحب الحيوان الا امكانه من ذلك فقط لا خدمته في حلب لبنه، وكذلك
على الذي له ملك الولد العمل في العون في أخذ مملوكه أو مملوكته من بطن أمة غيره بما أبيح
له من ذلك، ومن باع سارية خشب أو حجر في بناء فعلى المشترى قلع ذلك بألطف ما يقدر
عليه من التدعيم (4) لما حول السارية من البناء وهدم ما حواليها مما لابد له من هدمه ولا
شئ عليه في ذلك لان له أخذ متاعه كما يقدر، ومن هو مأمور بشئ وبعمل في شئ
فلا ضمان عليه لأنه بفعل ما يفعل من ذلك محسن وقد قال الله تعالى: (ما على المحسنين من
سبيل إنما السبيل على الذي يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق) فان تعدى
ضمن لما ذكرنا *



(1) في النسخة رقم 16 (أن ينتزع)
(2) في النسخة رقم 14 (وان تعدى)
(3) في النسخة رقم 16 وعن ضروع
(4) في النسخة رقم 16 (بألطف ما يقدر وليس عليه من التدعيم)
403
1428 مسألة (1) - ومن باع صوفا أو وبرا أو شعرا على الحيوان فالجز على الذي
له الصوف. والشعر. والوبر لان عليه إزالة ماله عن مال غيره ومكان الشعر. والوبر.
والصوف وهو جلد الحيوان فعلى الذي له كل ذلك إزالة ماله عن مكان غيره وعلى الذي
له المكان أن يمكنه من ذلك فقط، وكذلك من اشترى خابية في بيت فعليه اخراجها
وله (2) أن يهدم من باب البيت ما لا بدله من هدمه لاخراج الخابية ولا ضمان عليه
في ذلك إذ لا سبيل له إلى عمل ما كلف الا بذلك وبالله تعالى التوفيق *
1429 مسألة ولا يحل بيع تراب الصاغة أصلا بوجه من الوجوه لأنه إنما
يقصد المشترى ما فيه من قطع الفضة والذهب وهو مجهول لا يعرف فهو غرر وقد نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر *
1430 مسألة وكل ما نخله الغبارون من التراب أو استخرجه غسالو الطين
من الطين. أو استخرج من تراب الصاغة فهو لقطة ما أمكن أن يعرف كالفص. أو الدينار.
أو الدرهم فما زاد فتعريفه كما ذكرنا في اللقطة ثم هو للملتقط (3) مضمونا لصاحبه ان
جاء وما كان منه لا يمكن أن يعرف صاحبه أبدا من قطعة (4) أو غير ذلك فهو حلال
لواجده على ما ذكرنا في كتاب اللقطة وبالله تعالى التوفيق *
1431 مسألة وأما تراب المعادن فما كان منه معدن ذهب فلا يحل بيعه البتة
بوجه من الوجوه لان الذهب فيه مخلوق في خلاله مجهول المقدار، فلو كان الذهب الذي فيه
مرئيا كله محاطا به جاز بيعه بما يجوز به بيع الذهب على ما نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى،
وما كان من تراب معدن فضة جاز بيعه بدراهم وبذهب نقدا والى أجل والى غير أجل
وبالعرض نقدا وجاز السلم فيه، وكذلك تراب سائر المعادن لأنه ليس فيه شئ من
الفضة أصلا وإنما هو تراب محض لا يصير فضة إلا بمعاناة وطبخ فيستحيل بعضه فضة
كما يستحيل الماء ملحا والبيض فراريج. والنوى شجرا ولا فرق (5) *
1432 مسألة وبيع القصيل قبل أن يسنبل جائز وللبائع أن يتطوع للمشترى
بتركه ما شاء إلى أن يرعاه أو إلى أن يحصده أو إلى أن يبيس بغير شرط، فان غفل عنه حتى
زاد فيه أولادا من أصله لم تكن ظاهرة إذا اشتراه فاختصما فيها فأيهما أقام البينة بمقدار
المبيع قضى بها ولم يكن للمشترى إلا القدر الذي اشترى وكانت الزيادة من الأولاد للبائع
فإن لم تكن له بينة حلفا وقسمت الزيادة التي يتداعيانها بينهما، وأما السنبل. والخروب.



(1) سقط لفظ (مسألة) من النسخة رقم 16
(2) في النسخة رقم 16 (وعليه)
(3) في النسخة رقم 14 (لملتقطه)
(4) في النسخة رقم 16 (من فضة)
(5) إلى هنا انتهى المجلد الرابع من كتاب المحلى من النسخة رقم 16 نسأل الله التوفيق لاتمامه
404
والحب فللمشتري على كل حال، وكذلك ما زاد في طوله فإذا سنبل الزرع لم يحل بيعه
أصلا لا على القطع ولا على الترك إلا حتى يشتد فإذا اشتد حل بيعها حينئذ *
برهان صحة بيع القصيل قبل أن يسنبل قول الله تعالى (وأحل الله البيع) وقوله
تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فالبيع
كله حلال الا بيعا منع منه نص قرآن أو سنة: ولم يأت في منع بيع الزرع مذ ينبت إلى
أن يسنبل نص أصلا * وبرهان تحريم بيعه إذا سنبل إلى أن يشتد ما رويناه من طريق
مسلم نا علي بن حجر. وزهير بن حرب قالا جميعا: نا إسماعيل بن علية عن أيوب السختياني
عن نافع عن ابن عمر قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو وعن
السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة نهى البائع والمشترى) (1) * ومن طريق أبى داود
نا الحسن بن علي نا أبو الوليد - هو الطيالسي - عن حماد بن سلمة عن حميد عن أنس (أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد) ولا يصح غير هذا أصلا،
وهكذا روينا عن جمهور السلف * روينا من طريق وكيع نا إسرائيل بن يونس عن
جابر عن الشعبي عن مسروق عن عمر بن الخطاب. وعبد الله بن مسعود قالا جميعا: لا يباع
النخل حتى يحمر ولا السنبل حتى يصفر * ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن أيوب
السختياني عن ابن سيرين قال: نهى عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها وعن السنبل حتى
يبيض * ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن عاصم عن ابن سيرين
قال: لا يشترى السنبل حتى يبيض * ومن طريق وكيع نا الربيع - هو ابن صبيح - عن
الحسن أنه كره بيع السنبل حتى يبيض * ومن طريق ابن أبي شيبة نا علي بن مسهر عن أبي
إسحاق الشيباني قال: سألت عكرمة عن بيع القصيل فقال: لا بأس فقلت: إنه يسنبل
فكرهه، وهذا هو نفس قولنا فلم يستثن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ منع من بيع السنبل حتى
يشتد أو يبيض جواز بيعه على الحصاد وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحى يوحى وما كان
ربك نسيا، وكذلك عمر بن الخطاب. وابن مسعود لا مخالف لهما نعلمه من الصحابة
رضي الله عنهم *
قال أبو محمد: فان حصد السنبل رطبا لم يجز بيعه أيضا لأنه سنبل يمكن فيه بعد أن
يشتد ويبيض، وكذلك ان صفى فصار حبا ولا فرق للنهي عن ذلك أيضا، فإن كان
ان ترك لم ييبس ولكن يفسد جاز بيعه لأنه قد خرج عن الصفة التي جاء النهى عن بيع ما هي
فيه والسنبل في لغة العرب معروف وهو في القمح. والشعير. والعلس: والدخن. والسلت



(1) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 448
405
وسائر ما يسمى في اللغة سنبلا *
1433 - مسألة - وأما بيع القصيل قبل أن يسنبل على القطع فجائز لان فرضا
على كل أحد أن يزيل ما له عن أرض غيره وأن لا يشغلها به فهذا شرط واجب مفترض
فان تطوع له رب الأرض بالترك من غير شرط فحسن لان لكل أحد إباحة أرضه لمن
شاء ولما شاء مما لم ينه عنه، فان زاد فلصاحب المال أن يتطوع له بالزيادة لأنه ماله يهبه لمن
شاء ما لم يمنعه قرآن. أو سنة، والهبة فعل خير وفضل قال الله تعالى: (وافعلوا الخير)
وقال تعالى: (ولا تنسوا الفضل بينكم) فان أبى فالبينة فإن لم تكن بينة فهما متداعيان في
الزيادة وهي بأيديهما معا فكل واحد يقول: هي لي فيحلفان لان كل واحد منهما مدعى
عليه ثم يبقى لكل أحد ما بيده لبراءته من دعوى خصمه بيمينه وبالله تعالى التوفيق *
ومنع أبو حنيفة. ومالك. والشافعي من بيع القصيل حتى يصير حبا يابسا ولم
يأت بهذا نص أصلا، ثم تناقضوا فأجازوا بيعه على القطع، وكل هذا بلا برهان أصلا
لامن قرآن. ولا من سنة. ولا قول صاحب. ولا قياس. ولا رأى له وجه، ولا
دليل لهم على ما منعوا من ذلك ولا على ما أباحوا منه * وقال سفيان الثوري. وابن أبي
ليلى: لا يجوز بيع القصيل لا على القطع ولا على الترك، وقول هؤلاء أطرد وأصح في
السنبل قبل أن يشتد، واختلفوا ان ترك الزرع فزاد فقال مالك: ينفسخ البيع جملة،
وقال أبو حنيفة: للمشترى المقدار الذي اشترى ويتصدق بالزيادة، ويروى عنه (1) أنه رجع
فقال: للمشترى المقدار الذي اشترى، وأما الزيادة فللبائع، وقال الشافعي: البائع مخير
بين أين يدع له الزيادة فيجوز البيع والهبة معا أو يفسخ البيع، وقال أبو سليمان: الزيادة
للمشترى مع ما اشترى *
قال أبو محمد: أما فسخ مالك للبيع فقول لا دليل على صحته أصلا، ولأي معنى يفسخ
بيعا وقع على صحة باقراره؟ هذا ما لا يجوز الا بقرآن: أو سنة، وأما أول قولي أبي حنيفة
فخطأ لان الزيادة إذ جعلها للمشترى فلأي شئ يأمره بالصدقة بها دون أن يأمره بأن
يتصدق بالقدر الذي اشترى وكلاهما له، وأما القول الذي رجع إليه من أن الزيادة للبائع
فصحيح إذا قامت البينة بها وبمقدار ما اشترى، وأما قول الشافعي فظاهر الخطأ لأنه
إذ جعل الزيادة للبائع فلأي معنى أجبره على هبتها للمشترى أو فسخ البيع؟ ولأي دليل
منعه من طلب حقه والخصام فيه والبقاء عليه؟ فهذه آراء القوم كما ترى في التحليل
والتحريم، وأما قول أبى سليمان: ان الزيادة للمشترى فخطأ لان المشترى إنما اشترى قدرا



(1) في النسخة رقم 14 (وروى عنه)
406
معلوما فله ما حدث في العين الذي اشترى وللبائع ما زاد فيما استبقى لنفسه ولم يبعه من
المشترى فالزيادة في طول الساق للبائع لما ذكرنا لأنه ليس للمشترى الا زرع ما اشترى فقط
وإنما تأتى الزيادة من الأصل، وأما السنبل. والحب. والنور. والورق. والتبن.
والخروب فللمشتري لأنه في عين ماله حدث، وقد جاء في هذا عن بعض التابعين ما روينا
من طريق عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير قال: لا بأس ببيع الشعير للعلف قبل
أن يبدو صلاحه إذا كان يحصده من مكانه فان غفل عنه حتى يصير طعاما فلا بأس به *
1434 مسألة ويجوز بيع ما ظهر من المقاثى وإن كان صغيرا جدا لأنه يؤكل
ولا يحل بيع ما لم يظهر بعد من المقاثى. والياسمين. والنور. وغير ذلك، ولا جزة ثانية من
القصيل لان كل ذلك بيع ما لم يخلق ولعله لا يخلق وان خلق فلا يدرى أحد غير الله تعالى
ما كميته ولا ما صفاته فهو حرام بكل وجه. وبيع غرر. وأكل مال بالباطل، وأجاز
مالك كل ذلك (1)، وما نعلم له في تخصيص هذه الأشياء سلفا ولا أحد اقاله غيره قبله
ولا حجة، واحتج بعضهم باستئجار الظئر وهذا تحريف لكلام الله تعالى عن موضعه،
وأين الاستئجار من البيع ثم أين اللبن المرتضع من القثاء. والياسمين؟ وهم يحرمون
بيع لبن شاة قبل حلبه ولا يقيسونه على الظئر ثم يقيسون عليه بيع القثاء. والنور.
والياسمين قبل أن يخلق * روينا (2) من طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس بن عبيد
عن الحسن انه كره بيع الرطاب جزتين جزتين * وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا شريك
عن المغيرة عن إبراهيم النخعي. والشعبي قالا جميعا: لا بأس ببيع الرطاب جزة جزة *
ومن طريق وكيع عن بريد (3) بن عبد الله بن أبي بردة قال: سألت عطاء بن أبي رباح
عن بيع الرطبة جزتين؟ فقال: لا تصلح إلا جزة * ومن طريق وكيع عن محمد بن مسلم
عن ابن أبي نجيح (4) عن مجاهد أنه كره بيع القضب والحناء إلا جزة وكره بيع الخيار
والخربز (5) الا جنية * ومن طريق وكيع عن إسرائيل عن جابر عن ابن أشوع.
والقاسم أنهما كرها بيع الرطاب الاجزة وهو قول أبي حنيفة. والشافعي. وأحمد.
وأبي سليمان. وغيرهم *
1435 - مسألة - فلو باعه المقثاة (6) بأصولها والموز بأصوله وتطوع له بابقاء
كل ذلك في أرضه بغير شرط جاز ذلك فإذا ملك ما ابتاع كان له كل ما تولد فيه لأنه تولد
في ماله وله أخذه بقلع كل ذلك متى شاء لأنه أملك بماله ولا يحل له اشتراط ابقاء ذلك



(1) في النسخة رقم 16 (ذلك كله)
(2) سقط لفظ (روينا) من النسخة رقم 14
(3) في النسخة رقم 14 (يزيد) وهو غلط
(4) في النسخة رقم 14 (عن محمد بن سليمان عن أبي مجح) وهو غلط فيهما
(5) هو بكسر الحاء المعجمة بعدها راء البطيخ بالفارسية
(6) في النسخة رقم 16 القثاء
407
في أرضه مدة مسماة أو غير مسماة لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، فان
احتجوا بالمسلمين عند شروطهم قلنا: هذا لا يصح وأنتم تصححونه فأين أنتم عنه في
منعكم جواز بيع القصيل على شرط الترك واباحتكم بيعه بشرط القطع وكلاهما شرط
مجرد لم يأت به نص قرآن. ولا سنة أصلا ففرقتم بلا دليل وبالله تعالى التوفيق *
1436 - مسألة - وبيع الأمة وبيان أنها حامل من غير سيدها لكن من زوج أو
زنا أو اكراه بيع صحيح سواء كانت رائعة أو وخشا (1) كان البيع في أول الحمل أو في
وسطه أو في آخره، وقال مالك: يجوز في الوخش ولا يجوز في الرائعة وهذا قول لا دليل
عليه أصلا وما نعلم أحدا سبقه إليه أصلا، وقال تعالى: (وأحل الله البيع) وما خص حاملا
من حائل. ولا رائعة من وخش. ولا امرأة من سار إناث الحيوان وما كان ربك نسيا *
1437 - مسألة - وبيع السيف دون غمدة جائز. وبيع الغمددون النصل جائز.
وبيع الحلية دونهما جائزة، وبيع نصفها مشاع أو ثلثها أو عشرها أو شئ منها بعينه كل
ذلك جائز وأحل الله البيع، ومنع أبو حنيفة من بعض ذلك وما نعلم أحدا قاله قبله وما
نعلم له دليلا أصلا وبالله تعالى التوفيق، وكذلك بيع قطعة من ثوب أو من خشبة معينة
محدودة جائز، وأحل الله البيع *
1438 - مسألة - وبيع حلقة الخاتم دون الفص جائز وقلع الفص حينئذ على
البائع وبيع الفص دون الحلقة جائز. وقلع الفص حينئذ على المشترى لان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (ان دماءكم وأموالكم عليم حرام) والفصل في الحلقة فهي مكان للفص، ففرض
على الذي له الفص اخراج الفص من مال غيره (2) وليس له أن يشغل مال غيره بغير
اذنه، وليس على صاحب الحلقة الا امكانه من ذلك فقط وأن لا يحول بينه وبين ماله،
والمتولي اخراج الفصل توسيع الحلقة بما لا بد منه في استخراج متاعه ولا ضمان عليه لأنه
فعل ما هو مأمور بفعله فان تعدى ضمن، وهكذا القول في الجذع يباع دون الحائط
أو الحائط يباع دونه. والشجرة دون الأرض أو الأرض دون الشجرة ولا فرق (3)
وبالله تعالى التوفيق *
1439 - مسألة - ومن باع شيئا فقال المشترى: لا أدفع الثمن حتى أقبض ما ابتعت وقال
البائع: لا أدفع حتى أقبض أجبرا معا على دفع المبيع والثمن معا لأنه ليس أحدهما أحق
بالانصاف والانتصاف من الآخر وبيد كل واحد منهما حق للآخر وفرض على كل
واحد منهما أن يعطى الآخر حقه فلا يجوز أن يخص أحدهما بالتقدم، وفعل ذلك جور.



(1) الرائع الجواد، والوخش من الناس الرذل يستوى فيه المذكر والمؤنث والواحد والجمع
(2) في النسخة رقم 16 عن ملك غيره
(3) سقط لفظ ولافرق من النسخة رقم 14
408
وحيف. وظلم، وهذا قول أصحابنا و عبيد الله بن الحسن (1) *
1440 - مسألة - فان أبى المشترى من أن يدفع الثمن مع قبضه لما اشترى وقال:
لا أدفع الثمن الا بعد ان أقبض ما اشتريت فللبائع أن يحبس ما باع حتى ينتصف وينصف
معا فان تلف عنده من غير تعد منه فهو مصيبة المشترى وعليه دفع الثمن ولا ضمان على
البائع فيما هلك عنده من غير تعديه لأنه احتبس بحق قال الله تعالى: (فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) الا أن يكون في بعض ما حبس (2) وفاء بالثمن فإنه
يضمن ما زاد على هذا المقدار لأنه متعد باحتباسه أكثر مما تعدى عليه فيه الآخر، هذا
إن كان مما يمكن أن ينقسم فإن كان مما لا يمكن قسمته الا بفساده أو حط ثمنه فلا ضمان
عليه أصلا، فلو قال البائع: لا أدفع الا بعد قبض الثمن ودعاه المشترى إلى أن يقبض
ويدفع معا فأبى فهو ههنا ضامن لأنه متعد باحتباسه ما حبس وقد دعى إلى الانصاف
فانى وبالله تعالى التوفيق *
1441 - مسألة - ومن قال حين يبيع أو يبتاع: لا خلابة فله الخيار ثلاث ليال
بما في خلالهن من الأيام ان شاء رد بعيب أو بغير عيب أو بخديعة أو بغير خديعة، وبغبن
أو بغير غبن وان شاء أمسك فإذا انقضت الليالي الثلاث بطل خياره ولزمه البيع ولارد
له الا من عيب أو وجده (3)، والليالي الثلاث مستأنفة من حين العقد فان بايع قبل
غروب الشمس بقليل أو كثير ولو من حين طلوعها فإنه يستأنف الثلاث مبتدأة وله
الخيار أيضا في يومه ذلك * وان بايع بعد غروب الشمس فله الخيار من حينئذ إلى مثل
ذلك الوقت من الليلة الرابعة * حدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن
نا محمد بن إسماعيل الترمذي نا الحميدي نا سفيان بن عيينة نا محمد بن إسحاق عن نافع عن ابن عمر
قال: إن منقذا سفع في رأسه في الجاهلية مأمومة فحبلت لسانه فكان إذا بايع خدع في البيع
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بايع وقل: لا خلابة ثم أنت بالخيار) * نا أحمد بن قاسم
نا أبى قاسم بن محمد بن قاسم نا جدي قاسم بن أصبغ نا محمد بن وضاح نا حامد بن يحيى (4) البلخي
نا سفيان بن عيينة نا محمد بن إسحاق عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر قال: (إن منقذ اسفع
في رأسه مأمومة في الجاهلية فخبلت لسانه فكان يخدع في البيع فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بع وقل: لا خلابة ثم أنت بالخيار ثلاثا من بيعك) قال ابن عمر: فسمعته يقول إذا بايع:
لاخذابة لاخذابة *



(1) في النسخة رقم 14 ابن الحسين وهو غلط
(2) في النسخة رقم 16 ما احتبس
(3) في النسخة رقم 14 ولا رد له من عيب إلا إذا وجده
(4) في النسخة رقم 14 جابر بن يحيى وهو تحريف
409
1442 - مسألة - فإن لم يقدر على أن يقول: لا خلابة قالها كما يقدر لآفة بلسانه (1)
أو لعجمة فان عجز جملة قال: بلغته ما يوافق معنى لا خلابة وله الخيار المذكور أحب البائع
أم كره * برهان ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر منقذا أن يقولها وقد علم أنه لا يقول الا
لاخذابة، وقال تعالى: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) *
1443 - مسألة - فان رضى في الثلاث وأسقط خياره لزمه البيع وذلك أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار ثلاثا فلو كان لا يلزمه الرضى ان رضى في الثلاث لكان
إنما جعل له عليه السلام الخيار في الرد فقط لا في الرضى وهذا باطل لان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أجمل له الخيار فكان عموما لكل ما يختار من رضى أورد، ولو كان الخيار لا ينقطع
باسقاطه إياه واقراره (2) بالرضى لوجب أيضا ضرورة أن لا ينقطع خياره وان رد البيع
حتى ينقضي الثلاث وهذا محال، فظاهر اللفظ ومعناه أن له الخيار مدة الثلاث ان شاء
رد فيبطل البيع ولا رضى له بعد الرد وان شاء رضى فيصح البيع ولا رد له بعد الرضى لا يحتمل
أمره عليه السلام غير هذا أصلا فإن لم يلفظ بالرضى ولا بالرد لم يجز أن يجبر على شئ
من ذلك وبقى على خياره إلى انقضاء الثلاث ان شاء رد وان شاء أمسك فان انقضت الثلاث
ولم يرد فقد لزمه البيع لأنه بيع صحيح جعل له الخيار في رده ثلاثا لا أكثر فإن لم يبطله
فلا ابطال له بعد الثلاث الا من عيب كسائر البيوع وبقى البيع بصحته لم يبطل، وبالله
تعالى التوفيق *
1444 - مسألة - فان قال لفظا غير لا خلابة لكن أن يقول: لا خديعة أو لا غش
أو لا كيد أو لا غبن أو لا مكر أو لا عيب أو لا ضرر أو على السلامة. أو لا داء ولا غائلة.
أو لا خبث أو نحو هذا لم يكن له الخيار المجعول لمن قال: لا خلابة لكن ان وجد شيئا مما
بايع على أن لا يعقد بيعه عليه بطل البيع وان لم يجده لزمه البيع *
برهان ذلك ان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر في الديانة بأمر ونص فيه بلفظ ما لم يجز تعدى
ذلك اللفظ إلى غيره سواء كان في معناه أو لم يكن ما دام قادرا على ذلك اللفظ الا بنص
آخر يبين أن له ذلك لأنه عليه السلام قد حد في ذلك حدا فلا يحل تعديه قال الله تعالى:
(ومن يعص الله ورسوله ويتعدى حدوده يدخله نارا خالدا فيها) وقال تعالى: (وما
ينطق عن الهوى إن هو الا وحى يوحى)، وقال تعالى: (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه)
ولو جاز غير هذا الجاز الاذان بأن يقول: العزيز أجل. ليس لنا رب الا الرحمن. أنت
ابن عبد الله بن عبد المطلب مبعوث من الرحمن. هلموا [إلى] (3) نحو الظهر هلموا نحو البقاء



(1) في النسخة رقم 14 لا آفة لسانه
(2) في النسخة رقم 14 واقرار
(3) الزيادة من النسخة رقم 16
410
العزيز أعظم ليس لنا رب الا الرحيم *
قال أبو محمد: من أذن هكذا فحقه أن يستتاب فان تاب والا قتل لأنه مستهزئ
بآيات الله عز وجل متعد لحدود الله (1)، ولا فرق بين ما ذكرناه وبين ما أمر به عليه
السلام في ألفاظ الصلاة. والاذان. والإقامة. والتلبية. والنكاح. والطلاق.
وسائر الشريعة وعلى المفرق الدليل والا فهو مبطل، وأما من أجاز محالفة الألفاظ المحدودة
من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاذن. والإقامة وأجاز تنكيسها. وقراءة القرآن في الصلاة
بالأعجمية وهو فصيح بالقرآن فما عليه أن يقول بتنكيس الصلاة فيبدؤها بالتسليم ثم بالعقود.
والتشهد، ثم بالسجود، ثم بالركوع، ثم بالقيام، ثم بالتكبير ويقرأ في الجلوس.
ويتشهد في القيام. وأن يصوم الليل في رمضان. ويفطر النهار ويحيل الحج. ويبدل
ألفاظ القرآن بغيرها مما هو في معناها ويقدم ألفاظه ويؤخرها ما لم يفسد المعنى. ويكتب
المصحف كذلك. ويقرأ في الصلاة كذلك. ويقرئ الناس كذلك. ويبدل الشرائع
ونحن نبرأ إلى الله تعالى من كل ذلك ومن أن نتعدى شيئا مما حده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الينا لا علم لنا إلا ما علمنا ونحمد الله كثيرا على ذلك *
وقد وافقنا كثير من مخالفينا أن لفظ البيع لا ينوب عن لفظ السلم، وهذا منقذ المأمور باللفظ المذكور لم ير أن يتعداه إلى غيره وإن كان في معناه بل قاله كما أمر. وكما قدر.
وكما كلف. ونسأل المخالف لنا (2) في هذا عن الفرق بين الألفاظ المأمور بها في الأحكام
وبين الأوقات المأمور بها في الأحكام. وبين المواضع المأمور بها في الأحكام. وبين
الأحوال والأعمال المأمور بها في الأحكام ولا سبيل له إلى فرق أصلا فان سوى بين الجميع
في الايجاب وفق وهو قولنا وان سوى بين الجميع في جواز التبديل كفر بلا خلاف وبدل
الدين كله وخرج عنه وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم البراء بن عازب دعاء يقوله وفيه (آمنت بكتابك الذي
أنزلت ونبيك الذي أرسلت) فذهب البراء يستذكره (3) فقال: وبرسولك الذي
أنزلت ونبيك الذي أرسلت فقال له عليه السلام: (ونبيك الذي أرسلت) فلم يدعه أن
يبدل لفظة مكان التي أمره بها والمعنى واحد، ومنم أعجب وأضل ممن يجيز تبديل لفظ
أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقول: إن قال الشاهد: أخبرك أو أعلمك باني أعلم أن
(4) لهذا عند هذا دينارا أنها ليست شهادة ولا يحكم بها حتى يقول: أشهد فاعجبوا لعكس
هؤلاء القوم للحقائق! * وأما الألفاظ الاخر فهي ألفاظ معروفة المعاني بايع



(1) في النسخة رقم 16 (لحدوده)
(2) في النسخة رقم 14 (ونسأل المخالفين لنا) ويوهنه ما سيأتي بعد ولا سبيل له
(3) في النسخة رقم 16 (يستذكرها) أي الجملة من الدعاء، ومرجع الضمير على ماهنا الدعاء
(4) لفظ أن سقط من النسخة رقم 14
411
عليها فله ما بايع عليه ان وجده كذلك لأنه ما تراضيا عليه كما قال الله تعالى: (إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم) فان وجد غير ما تراضيا به في بيعه فلم يجد ما باع ولا
ما ابتاع وليس له غير ذلك فلا يحل له من مال غيره ما لم يبايعه فيه عن تراض منهما، وهذا
بين وبالله تعالى التوفيق *
1445 مسألة - وكل شرط وقع في بيع منهما أو من أحدهما برضى الآخر فإنهما
ان عقداه قبل عقد البيع أو بعد تمام البيع بالتفرق بالأبدان. أو بالتخيير. أو في أحد
الوقتين - يعنى قبل العقد أو بعده - ولم يذكراه في حين عقد البيع فالبيع صحيح تام والشرط
باطل لا يلزم (1)، فان ذكرا ذلك الشرط في حال عقد البيع (2) فالبيع باطل مفسوخ
والشرط باطل أي شرط كان لاتحاش شيئا الا سبعة شروط فقط فإنها لازمة والبيع
صحيح ان اشترطت في البيع، وهي اشتراط الرهن فيما تبايعاه إلى أجل مسمى. واشتراط
تأخير الثمن إن كان دنانير أو دراهم إلى أجل مسمى، واشتراط أداء الثمن إلى الميسرة وان لم
يذكرا أجلا، واشتراط صفات المبيع التي يتراضيانها معا ويتبايعان ذلك الشئ على
أنه بتلك الصفة، واشتراط أن لا خلابة، وبيع العبد أو الأمة فيشترط المشترى ما لهما
أو بعضه مسمى معينا أو جزءا منسوبا مشاعا في جميعه سواء كان ما لهما مجهولا كله أو معلوما
كله أو معلوما بعضه مجهولا بعضه، أو بيع أصول نخل فيها ثمرة قد أبرت قبل الطيب
أو بعده فيشترط المشترى الثمرة لنفسه أو جزءا معينا منها أو مسمى مشاعا في جميعها،
فهذه ولا مزيد وسائرها باطل كما قدمنا كمن باع مملوكا بشرط العتق أو أمة بشرط الايلاد.
أو دابة واشترط ركوبها مدة مسماة قلت أو كثرت أوا إلى مكان مسمى قريب أو بعيد
أو دارا واشترط سكناها ساعة فما فوقها أو غير ذلك من الشروط كلها *
برهان ذلك ما رويناه من طريق مسلم بن الحجاج نا أبو كريب محمد بن العلاء الهمداني
نا أبو أسامة - هو حماد بن أسامة - نا هشام بن عروة عن أبيه قال: أخبرتني عائشة أم المؤمنين
فذكرت حديثا قالت فيه: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله وأثنى عليه [بما
هو أهله] (3) ثم قال: أما بعد فما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان
من شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل وإن كان مائة شرط كتاب الله أحق
وشرط الله أوثق (وذكر باقي الخبر * ومن طريق أبى داود حدثنا القعنبي. وقتيبة بن
سعيد قالا جميعا: نا الليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير قال: إن
عائشة أم المؤمنين أخبرته (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فقال: ما بال أناس يشترطون



(1) في النسخة رقم 16 (فلم يلزم)
(2) في النسخة رقم 16 (في حال العقد)
(3) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 440
412
شروطا ليست في كتاب الله من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وان اشترط
مائة مرة شرط الله أحق وأوثق (1)، فهذا الأثر كالشمس صحة وبيانا يرفع الاشكال
كله، فلما كانت الشروط كلها باطلة غير ما ذكرنا كان كل عقد من بيع أو غيره عقد على
شرط باطل باطلا ولابد لأنه عقد على أنه لا يصح (2) الا بصحة الشرط والشرط
لا صحة له فلا صحة لما عقد بان لا صحة له الا بصحة ما لا يصح *
قال أبو محمد: وأما تصحيحنا الشروط السبعة التي ذكرنا فإنها منصوص على
صحنها وكل ما نص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه (3) فهو في كتاب الله عز وجل قال تعالى:
(وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال تعالى: (وما ينطق عن الهوى ان
هو الا وحى يوحى) وقال تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) فاما (4) اشتراط
الرهن في البيع إلى أجل مسمى فلقوله تعالى: (ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) * وأما
اشتراط الثمن إلى أجل مسمى فلقول الله تعالى: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى
فاكتبوه) وأما اشتراط أن لا خلابة فقد ذكرنا الخبر في ذلك قبل هذا المكان بنحو
أربع مسائل (5) وأما اشتراط الصفات التي يتبايعان عليها من السلامة: أو من أن
لا خديعة ومن صناعة البعد. أو الأمة. أو سائر صفا ت المبيع فلقول الله تعالى: (ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فنص تعالى على التراض منهما
والتراضي لا يكون الا على صفات المبيع، وصفات الثمن ضرورة * وأما اشتراط الثمن إلى
الميسرة فلقول الله تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) * وروينا من طريق شعبة
أخبرني عمارة ابن أبي حفصة عن عكرمة عن عائشة أم المؤمنين: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث
إلى يهودي قدمت عليه ثياب ابعث إلى بثوبين إلى الميسرة) وذكر باقي الخبر * وأما مال البعد.
أو الأمة واشتراطه واشتراط ثمر النخل المؤبر فلما روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر
عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من باع عبدا
وله مال فما له للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ومن باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع الا أن
يشترط المبتاع *
قال أبو محمد: ولو وجدنا خبرا يصح في غير هذه الشروط باقيا غير منسوخ لقلنا به
ولم نخالفه، وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم هذين الشرطين إذ قد ذكرنا غيرهما والحمد لله
رب العالمين، وقد ذكرنا رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء قال: كل بيع فيه
شرط فليس بيعا *



(1) الحديث في سنن أبي داود مطولا اختصره المؤلف
(2) في النسخة رقم 14 (لأنه عقد مالا يصح)
(3) سقط لفظ عليه من النسخة رقم 14
(4) في النسخة رقم 14 (وأما)
(5) ذكر في ص 376
413
قال على: فان احتج معارض لنا بقول الله تعالى: (أوفوا بالعقود) وقوله تعالى: ((أوفوا بعهد الله إذا عاهدتم) بما روى: (المسلمون عند شروطهم) قلنا [وبالله تعالى
التوفيق] (1) أما أمر الله تعالى بالوفاء بالعقود لا يختلف اثنان في أنه ليس على عمومه
ولا على ظاهره، وقد جاء القرآن بأن نجتنب نواهي الله تعالى ومعاصيه فمن عقد على معصية
فحرام عليه الوفاء بها فإذا لا شك في هذا فقد صح أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو
باطل والباطل محرم فكل محرم فلا يحل الوفاء به، وكذلك قوله تعالى: (وأوفوا
بعهد الله إذا عاهدتم) فلا يعلم ما هو عهد الله إلا بنص وارد فيه وقد علمنا أن كل عهد نهى
الله عنه فليس هو عهد الله تعالى بل هو عهد الشيطان فلا يحل الوفاء به، وقد نص رسول الله
صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل والباطل لا يحل الوفاء به *
وأما الأثر في ذلك فإننا رويناه من طريق ابن وهب حدثني سليمان بن بلال نا كثير
ابن زيد عن الوليد بن رباح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون عند
شروطهم)) * ورويناه أيضا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي حدثني الحزامي عن
محمد بن عمر عن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عمر بن عبد العزيز قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون على شروطهم 9) * ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى
ابن أبي زائدة عن عبد الملك عن عطاء بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المسلمون عند شروطهم) *
ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة عن الحجاج بن أرطاة عن خالد بن محمد عن شيخ من بنى
كنانة سمعت عمر يقول: المسلم عند شرطه * ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن عيينة عن يزيد
ابن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم قال عمر بن الخطاب: (ان
مقاطع الحقوق عند الشروط 9) * ومن طريق ابن أبي شيبة نا حفص بن غياث عن جعفر بن محمد
عن أبيه عن علي قال: المسلمون عند شروطهم *
قال أبو محمد: كثير بن زيد هو كثير بن عبد الله بن عمرو (2) بن زيد هالك متروك
باتفاق، والوليد بن زباح مجهول، والآخر عبد الملك بن حبيب هالك، ومحمد بن عمر
هو الواقدي مذكور بالكذب، وعبد الرحمن بن محمد مجهول لا يعرف. ومرسل أيضا،
والثالث مرسل أيضا، والذي من طريق عمر فيه الحجاج بن أرطاة وهو هالك، وخالد
ابن محمد مجهول. وشيخ من بنى كنانة، والآخر فيه إسماعيل بن عبيد الله ولا أعرفه، وخبر
على مرسل، ثم لو صح كل ما ذكرنا لكان حجة لنا وغير مخالف لقولنا لان شروط
المسلمين هي الشروط التي أباحها الله لهم لا التي نهاهم عنها، وأما التي نهو عنها فليست



(1) الزيادة من النسخة الحلبية
(2) في النسخة رقم 14 (ابن عمر) وهو غلط
414
شروط المسلمين، وقد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل شرط ليس في كتاب الله تعالى
فهو باطل وإن كان مائة شرط أو اشترط مائة مرة وانه لا يصح لمن اشترطه فصح أن كل
شرط ليس في كتاب الله تعالى فباطل فليس هو من شروط المسلمين فصح قولنا بيقين ثم إن
الحنيفيين. والمالكيين. والشافعيين أشد الناس اضطرابا وتناقضا في ذلك لأنهم
يجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء في أنها باطل ليست في كتاب الله عز وجل
ويجيزون شروطا ويمنعون شروطا كلها سواء في أنها حق لأنها في كتاب الله تعالى،
فالحنيفيون. والشافعيون يمنعون اشتراط المبتاع مال العبد. وثمرة النخل المؤبر ولا
يجيزون له ذلك البتة الا بالشراء على حكم البيوع، والمالكيون. والحنيفيون.
والشافعيون لا يجيزون البيع إلى الميسرة ولا شرط قول: لا خلابة عند البيع وكلاهما
في كتاب الله عز وجل لأمر النبي (1) صلى الله عليه وسلم بهما وينسون ههنا (2): (المسلمون
عند شروطهم) وكلهم يجيز بيع الثمرة التي لم يبد صلاحها بشرط القطع وهو شرط ليس
في كتاب الله تعالى بل قد صح النهى عن هذا البيع جملة، ومثل هذا كثير *
قال أبو محمد: ولا يخلوا كل شرط اشترط في بيع أو غيره من أخذ ثلاثة أوجه
لا رابع لها اما إباحة مال لم يجب في العقد. واما ايجاب عمل. وأما المنع من عمل والعمل
يكون بالبشرة أو بالمال فقط وكل ذلك حرام بالنص قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم
وأموالكم وأبشاركم عليكم حرام) وأما المنع من العمل فان الله تعالى يقول: (لم تحرم
ما أحل الله لك) فصح بطلان كل شرط جمله الا شرطا جاء النص من القرآن أو السنة
بإباحته، وههنا أخبار نذكرها ونبينها إن شاء الله تعالى لئلا يعترض بها جاهل أو مشغب *
حدثني محمد بن إسماعيل العذري القاضي بسرقسطة نا محمد بن علي الرازي المطوعى نا
محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري نا جعفر بن محمد الخلدي نا عبد الله بن أيوب بن زاذان
الضرير نا محمد بن سليمان الذهلي نا عبد الوارث - هو ابن سعيد التنوري - قدمت مكة
فوجدت بها أبا حنيفة. وابن أبي ليلى. وابن شبرمة فسألت أبا حنيفة عمن باع بيعا
واشترط شرطا؟ فقال: البيع باطل والشرط باطل، ثم سألت ابن أبي ليلى عن ذلك؟
فقال البيع جائز والشرط باطل، ثم سألت ابن شبرمة عن ذلك؟ فقال: البيع جائز
والشرط جائز فرجعت إلى أبي حنيفة فأخبرته بما قالا فقال: لا أدرى ما قالا - حدثنا
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط) البيع
باطل والشرط باطل، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بما قالا فقال: لا أدرى ما قالا - حدثنا



(1) في النسخة رقم 16 (امر النبي)
(2) في النسخة رقم 14 هنا
415
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أم المؤمنين (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اشترى بريرة
واشترطي لهم الولاء) البيع جائز والشرط باطل، فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بما قالا
فقالا: لا أدرى ما قالا نا مسعر بن كدام عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله (أنه
باع من رسول الله صلى الله عليه وسلم جملا واشترط ظهره إلى المدينة) البيع جائز * والشرط جائز *
وههنا خبر رابع رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا زياد بن أيوب نا ابن علية نا أيوب
السختياني نا عمرو بن شعيب حدثني أبي عن أبيه عن أبيه (1) حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن
العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن) وبه يأخذ أحمد بن حنبل فيبطل البيع إذا كان فيه شرطان ويجيزه إذا كان
فيه شرط واحد، وذهب أبو ثور إلى الاخذ بهذه الأحاديث كلها فقال: إن اشترط البائع
بعض ملكه كسكنى الدار مدة مسماة أو دهره كله أو خدمة العبد كذلك. أو ركوب
الدابة كذلك. أو لباس الثوب كذلك جاز البيع والشرط لان الأصل له والمنافع له فباع
ما شاء وأمسك ما شاء، وكل بيع اشترط فيه ما يحدث في ملك المشتري فالبيع جائز
والشرط باطل كالولاء ونحوه، وكل بيع اشترط فيه عمل أو مال على البائع أو عمل المشترى
فالبيع والشرط باطلان معا *
قال أبو محمد: هذا خطأ من أبي ثور لان منافع ما باع البائع من دار. أو عبد. أو دابة.
أو ثوب أو غير ذلك فإنما هي له ما دام كل ذلك في ملكه فإذا خرج عن ملكه فمن الباطل
والمحال أن يملك ما لم يخلقه الله تعالى بعد من منافع ما باع فإذا أحدثها الله تعالى فإنما أحدثها
الله تعالى في ملك غيره فهي ملك لمن حدثت [عنده] (2) في ملكه فبطل توجيه أبي ثور،
وكذلك باقي تقسيمه لأنه دعوى بلا برهان *
وأما قول أحمد فخطأ أيضا لان تحريم رسول الله صلى الله عليه وسلم الشرطين (3) في بيع ليس
مبيحا لشرط واحد ولا محرما له لكنه مسكوت عنه في هذا الخبر فوجب طلب حكمه في غيره
فوجدنا قوله صلى الله عليه وسلم: (كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) فبطل الشرط الواحد
وكل ما لم يعقد الا به وبالله تعالى التوفيق، وبقى حديث بريرة. وجابر في الجمل فنقول
وبالله تعالى التوفيق: اننا روينا ما حدثناه محمد بن سعيد بن نبات نا محمد بن أحمد بن مفرج
نا عبد الله بن جعفر بن الورد نا يحيى بن أيوب بن بادي العلاف نا يحيى بن بكير نا الليث
ابن سعد عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة قالت: (جاءتني بريرة فقالت: كاتبت
أهلي على تسع أواق في كل عام أوقية فاعينيني فقالت عائشة: ان أحب أهلك (4) أن أعدها لهم



(1) سقط لفظ (عن أبيه) الثاني من سنن النسائي ج 7 ص 295
(2) الزيادة من النسخة رقم 16
(3) في النسخة رقم 14 (للشرطين)
(4) في النسخ كلها (ان أحبوا أهلك)
416
عدة واحدة ويكون لي ولاؤك فعلت فعرضتها عليهم فأبوا الا أن يكون الولاء لهم
(1) فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فسألها فأخبرته فقال: خذيها واشترطي لهم الولاء فإنما
الولاء لمن أعتق ففعلت فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية في الناس فحمد الله عز وجل ثم قال:
ما بال رجال يشترطون شروطا ليس في كتاب الله عز وجل ما كان من شرط ليس في
كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق) وذكر باقي الخبر *
ومن طريق البخاري نا أبو نعيم نا عبد الواحد بن أيمن نا أبى قال: دخلت
على عائشة [رضي الله عنها] (2) فقالت: دخلت بريرة - وهي مكاتبة - وقالت: اشتريني
واعتقيني قالت: نعم قالت: لا تبيعوني حتى يشترطوا ولائي فقالت عائشة: لا حاجة
لي بذلك فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتريها وأعتقيها ودعيهم يشترطوا ما شاءوا
فاشترتها عائشة فأعتقتها واشترط أهلها الولاء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولاء لمن
أعتق وإن كان مائة شرط) (3) *
قال أبو محمد: فالقول في هذا الخبر هو على ظاهره دون تزيد ولا ظن كاذب مضاف
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تحريف اللفظ وهو ان اشترط الولاء على المشترى في المبيع للعتق
كان لا يضر البيع شيئا وكان البيع على هذا لشرط جائزا حسنا مباحا وإن كان الولاء مع
ذلك للمعتق، وكان اشتراط البائع الولاء لنفسه مباحا غير منهى عنه ثم نسخ الله عز وجل
ذلك وأبطله إذ خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك كما ذكرنا فحينئذ حرم أن يشترط هذا الشرط
أو غيره جملة الا شرطا في كتاب الله تعالى لاقبل ذلك أصلا، وقد قال تعالى: (وما كان
لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وقال تعالى:
(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) *
برهان ذلك أنه عليه السلام قد أباح ذلك وهو عليه السلام لا يبيح الباطل ولا يغر
أحدا ولا يخدعه، فان قيل: فهلا أجزتم البيع بشرط العتق في هذا الحديث؟ قلنا: ليس
فيه اشتراطهم عتقا أصلا (4) ولو كان لقلنا به، وقد يمكن أنهم اشترطوا ولاءها ان
أعتقت يوما ما أو ان أعتقتها إذ إنما في الحديث أنهم اشترطوا ولاءها لأنفسهم فقط
ولا يحل أن يزاد في الاخبار شئ لا لفظ ولا معنى فيكون من فعل ذلك كاذبا الا اننا نقطع
ونبت أن البيع بشرط العتق لو كان جائزا لنص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وبينه، فإذ لم
يفعل فهو شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولا فرق بين البيع بشرط العتق وبين بيعه



(1) في النسخة رقم 14 أن يكون لهم الولاء
(2) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 304 والحديث فيه مطول اختصره المصنف
(3) في صحيح البخاري وان اشترطوا مائة شرط
(4) في النسخة رقم 14 عتقا أصلا
417
بشرط الصدقة. أو بشرط الهبة. أو بشرط التدبير وكل ذلك لا يجوز.
وأما حديث جابر فإننا رويناه من طريق البخاري نا أبو نعيم نا زكريا سمعت عامرا
الشعبي يقول: حدثني جابر بن عبد الله أنه كان يسير على جمل له قد أعيا فمر النبي صلى الله عليه وسلم
فضربه فدعا له فسار سيرا (1) ليس يسير مثله ثم قال: بعنيه بأوقية قلت: لاثم قال:
بعنيه بأوقية فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي فلما قدمنا أتيته بالجمل ونقدني ثمنه ثم انصرفت
فأرسل على إثرى فقال: ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك) * ومن طريق مسلم نا
ابن نمير نا أبى نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن عامر الشعبي حدثني جابر بن عبد الله فذكر
هذا الخبر وفيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: بعنيه فبعته بأوقية واستثنيت عليه
حملانه إلى أهلي فلما بلغت أتيته بالجمل فنقدني ثمنه ثم رجعت (2) فأرسل في أثرى فقال:
أتراني ما كستك لآخذ جملك خذ جملك ودراهمك فهو لك) * ومن طريق أحمد بن شعيب
انا محمد بن العلاء نا أبو معاوية عن الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن جابر بن عبد الله فذكر
هذا الخبر وفيه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ما فعل الجمل بعينه قلت: يا رسول الله
بل هو لك (3) قال: لابل بعينه قلت: لابل هو لك قال [لابل] (4) بعينه قد أخذته
بأوقية أركبه فإذا قدمت المدينة فأتنا به فلما قدمت المدنية جئته به فقال لبلال [يا بلال] (5)
زن له أوقية وزده قيراطا) هكذا رويناه من طريق عطاء عن جابر *
قال أبو محمد: روى هذا أن ركوب جابر الجمل كان تطوعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم،
واختلف فيه على الشعبي. وأبى الزبير فروى عنهما عن جابر انه كان شرطا من جابر، وروى
عنهما أنه كان تطوعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فنحن نسلم لهم انه كان شرطا ثم نقول لهم وبالله
تعالى التوفيق: انه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قد أخذته بأوقية، وصح عنه عليه السلام
أنه قال: أتراني ما كستك لآخذ جملك ما كنت لآخذ جملك فخذ جملك ذلك فهو مالك كما
أوردنا آنفا، فصح يقينا أنهما أخذان، أحدهما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآخر لم
يفعله بل انتفى عنه ومن جعل كل ذلك أخذا واحدا فقد كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم في كلامه
وهذا كفر محض فإذا لابد من أنهما أخذان لان الاخذ الذي أخبر به عليه السلام عن
نفسه هو بلا شك غير الاخذ الذي انتفى عنه البتة، فلا سبيل (6) إلى غير ما يحمل عليه
ظاهر الخبر وهو انه عليه السلام أخذه وابتاعه ثم تخير قبل التفرق ترك (7) أخذه،



(1) في صحيح البخاري ج 4 ص 30 فسار بسير
(2) في النسخة رقم 16 ثم إن رجعت وما هنا موافق لما في صحيح مسلم ج 1 ص 470
(3) في سنن النسائي ج 7 ص 299 قلت، بل هو لك يا رسول الله
(4) لزيادة من سنن النسائي
(5) الزيادة من سنن النسائي
(6) في النسخة رقم 16 (إذ لا سبيل)
(7) في النسخة رقم 14 (وترك)
418
وصح أن في حال المماكسة كان ذلك أيضا في نفسه عليه السلام لأنه عليه السلام أخبره أنه لم
يماكسه ليأخذ جمله فصح أن البيع لم يتم فيه قط فإنما اشترط جابر ركوب جمل نفسه فقط
وهذا هو مقتضى لفظ الاخبار إذا جمعت ألفاظها، فإذ قد صح أن ذلك البيع لم يتم ولم
يوجد في شئ من ألفاظ ذلك الخبر أصلا أن البيع تم بذلك الشرط فقد بطل أن يكون
في هذا الخبر حجة في جواز بيع الدابة واستثناء ركوبها أصلا وبالله تعالى التوفيق *
فأما الحنيفيون. والشافعيون فلا يقولون بجواز هذا الشرط أصلا فإنما الكلام بيننا
وبين المالكيين فيه فقط، وليس في هذا الخبر تحديد يوم ولا مسافة قليلة من كثيرة ومن
ادعى ذلك فقد كذب، فمن أين خرج لهم تحديد مقدار دون مقدار؟ ويلزمهم إذ لم
يجيزوا بيع الدابة على شرط ركوبها شهرا ولا عشرة أيام، وأبطلوا هذا الشرط
وأجازوا بيعها واشتراط ركوبها مسافة يسيرة أن يحدوا المقدار الذي يحرم به ما حرموه
من ذلك المقدار الذي حللوه هذا فرض عليهم والا فقد تركوا من اتبعهم في سخنة عينه
وفى ما لا يدرى لعله يأتي حراما (1) أو يمنع حلالا، وهذا ضلال مبين، فان حدوا في
ذلك مقدارا ما سئلوا عن البرهان في ذلك إن كانوا صادقين؟ فلاح فساد هذا القول بيقين
لا شك فيه، ومن الباطل المتيقن أن يحرم الله تعالى علينا ما لا يفصله لنا من أوله لآخره
لنجتنبه ونأتي ما سواه إذا كان تعالى يكلفنا ما ليس في وسعنا من أن نعلم الغيب وقد أمننا
الله تعالى من ذلك (فان قالوا): ان في بعض ألفاظ الخبر أن ذلك كان حين دنوا من المدينة
قلنا: الدنو يختلف ولا يكون الا بالإضافة فمن أتى من تبوك فكان من المدينة على ست
مراحل أو خمس فقد دنا منها، ويكون الدنو أيضا على ربع ميل وأقل أو أكثر فالسؤال
باق عليكم بحسبه، وأيضا فان هذه اللفظة إنما هي في رواية سالم بن أبي الجعد وهو إنما روى
أن ركوب جابر كان تطوعا من النبي صلى الله عليه وسلم وشرطا، وفى رواية المغيرة عن الشعبي عن
جابر دليل على أن ذلك كان في مسيرهم مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى غزاة، وأيضا فليس فيه أن
النبي صلى الله عليه وسلم منع من ذلك الشرط إلا في مثل تلك المسافة فإذ لم يقيسوا على تلك المسافة
سائر المسافات فلا تقيسوا على تلك الطريق سائر الطرق (2) ولا تقيسوا على اشتراط
ذلك في ركوب جمل سائر الدواب والا فأنتم متناقضون متحكمون بالباطل، وإذ قستم
على تلك الطريق سائر الطرق. وعلى الجمل سائر الدواب فقيسوا على تلك المسافة سائر
المسافات كما فعلتم في صلاته عليه السلام راكبا متوجها إلى خيبر إلى غير القبلة فقستم على
تلك المسافة سائر المسافات فلاح أنهم لا متعلق لهم في هذا الخبر أصلا وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة رقم 14 (يأتي محرما)
(2) في النسخة رقم 16 (سائر الطريق)
419
وقد جاءت عن الصحابة رضي الله عنهم آثار في الشروط في البيع خالفوها * فمن ذلك
ما رويناه من طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: قال
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: وددنا لو أن عثمان بن عفان. وعبد الرحمن بن
عوف قد تبايعا حتى ننظر (1) أيهما أعظم جدا في التجارة فاشترى عبد الرحمن بن عوف
من عثمان فرسا بأرض أخرى بأربعين ألفا أو نحوها ان أدركتها الصفقة وهي سالمة ثم
أجاز قليلا ثم رجع فقال: أزيدك ستة آلاف ان وجدها رسولي سالمة قال: نعم فوجدها
رسول عبد الرحمن قد هلكت وخرج منها بالشرط الآخر، قيل للزهري: فإن لم يشترط
قال: فهي من البائع * فهذا عمل عثمان. وعبد الرحمن بحضرة الصحابة رضي الله عنهم
وعلمهم لا مخالف لهم يعرف منهم ولم ينكر ذلك سعيد وصوبه الزهري، فخالف
الحنيفيون. والمالكيون. والشافعيون كل هذا وقالوا: لعل الرسول يخطئ أو يبطئ
أو يعرضه عارض فلا يدرى متى يصل وهم يشنعون مثل هذا إذا خالف تقليدهم *
ومن طريق وكيع نا محمد بن قيس الأسدي عن عون بن عبد الله عن عتبة بن مسعود
قال: إن تميما الداري باع داره واشترط سكناها (2) حياته وقال: إنما مثلي مثل أم
موسى رد عليها ولدها وأعطيت أجر رضاعها * ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن أبي
إسحاق السبيعي عن مرة بن شراحيل قال: باع صهيب داره من عثمان واشترط
سكناها، وبه يأخذ أبو ثور فخالوه ولا مخالف لذلك من الصحابة ممن يجيز الشرط
في البيع، وقد ذكرنا قبل ابتياع نافع بن عبد الحرث دارا بمكة للسجن من صفوان
بأربعة آلاف على أن رضى عمر فالبيع تام فإن لم يرض فلصفوان أربعمائة فخالفوهم
كلهم * ومن طريق يحيى بن سعيد القطان عن عبيد الله بن عمر أخبرني نافع عن ابن عمر انه
اشترى بعيرا بأربعة أبعرة على أن يوفوه إياها بالربذة وليس فيه وقت ذكر الايفاء فخالفوه *
ومن طريق حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن النعمان بن حميد قال: أصاب عمار
ابن ياسر مغنما فقسم بعضه وكتب إلى عمر يشاوره فتبايع الناس إلى قدوم الراكب،
وهذا عمل عمار والناس بحضرته فخالفوه، وأما نحن فلا حجة عندنا في أحد دون
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالله تعالى التوفيق، وحكم على بشرط الخلاص. وللحنيفيين.
والمالكيين. والشافعيين تناقض عظيم فيما أجازوه من الشروط في البيع وما منعوا منه
فيها قد ذكرنا بعضه ونذكر في مكان آخر إن شاء الله تعالى ما يسر الله تعالى لذكره لان
الامر أكثر من ذلك وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة 14 حتى نعلم
(2) في النسخة 16 سكناه
420
1446 مسألة وكل من باع بيعا فاسدا فهو باطل ولا يملكه المشترى وهو باق
على ملك البائع وهو مضمون على المشترى ان قبضه ضمان الغصب سواء سواء، والثمن
مضمون على البائع ان قبضه ولا يصححه طول الأزمان ولا تغير الأسواق ولا فساد
السلعة ولا ذهابها ولا موت المتبايعين أصلا، وقال أبو حنيفة في بعض ذلك كما قلنا، وقال
في بعض ذلك: من باع بيعا فاسدا فقبضه المشترى فقد ملكه ملكا فاسدا وأجاز عتقه فيه،
وقال مالك في بعض ذلك: كما قلنا، وقال في بعض ذلك: ان من البيوع الفاسدة بيوعا تفسخ
الا أن يطول الامر أو تتغير الأسواق فتصح حينئذ *
قال أبو محمد: وهذان قولان لا خفاء بفسادهما على من نصح نفسه، أما قول أبي حنيفة:
فقد ملكه ملكا فاسدا فكلام في غاية الفساد وما علم أحد قط في دين الله تعالى ملكا فاسدا
إنما هو ملك فهو صحيح أو لا ملك فليس صحيحا، وما عدا هذا فلا يعقل، وإذ أقروا أن
الملك فاسد فقد قال تعالى: (والله لا يحب الفساد) فلا يحل لا حد أن يحكم بانفاذ مالا
يحبه الله عز وجل، وقال تعالى: (ان الله لا يصلح عمل المفسدين) فمن أجاز شيئا نص الله
تعالى على أنه لا يصلحه فقد عارض الله تعالى في حكمه وهذا عظيم جدا، وقد احتج
بعضهم في هذا بحديث بريرة *
قال أبو محمد: هذا احتجاج فاسد الدين ونبرأ إلى الله تعالى ممن نسب إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه أنفذ الباطل وأجاز الفاسد والله ما تقر على هذا نفس مسلم، واحتج
بعضهم بأن البائع سلطه عليه *
قال أبو محمد: ليس لأحد أن يسلط غيره على شئ من ماله بما لم يأذن الله تعالى فيه
فليجيزوا على هذا أن يسلطه على وطئ أم ولده وأمته، وهذه ملاعب وضلال لاخفاء
به (1) * وأما قول مالك فأول ما يقال لمن قلده: حدوا لنا المدة التي إذا مضت صح البيع
الفاسد عندكم بمضيها والا فقد ظللتم وأظللتم، وحدوا لنا تغير الأسواق الذي أبحتم به
المحرمات فان زيادة نصف درهم وحبة ونقصان ذلك تغير سوق بلا شك، فان أجازوا
صحة الفاسد بهذا المقدار فقد صح كل بيع فاسد لأنه لابد من تقلب القيم بمثل هذا أو شبهه
في كل يوم، ثم نسألهم الدليل على ما قالوه من ذلك ولا سبيل إليه لا من قرآن. ولا من
سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قول أحد يعرف قبله. ولا قياس. ولا رأى له وجه بل
هو إباحة أكل المال بالباطل، فان ذكروا في ذلك حديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم
(الحلال بين والحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير الناس فمن ترك ما اشتبه عليه
(هامش) * (1) كذا في جميع النسخ والراجح بها، وهذه عادة المصنف في أن يذكر الضمير مذكر أو يكون مرجعه
مؤنثا أو جمعا (*)

421
كان لما سواه أترك واستبرأ لدينه وعرضه) أو كلاما هذا معناه قلنا: أنتم أول مخالف لهذا
الخبر لأنكم ان قلتم: انكم إنما حكمتم بهذين الحكمين فيما اشتبه عليكم تحريمه من
تحليله قلنا: إما كذبتم واما صدقتم فان كنتم كذبتم فالكذب حرام ومعصية وجرحة،
وان كنتم صدقتم فما أخذتم بما في الحديث الذي احتججتم به من اجتناب القول والحكم
فيما اشتبه عليكم بل جسرتم أشنع الجسر فنقلتم الاملاك المحرمة وأبحتم الأموال المحظورة
فيما أقررتم بألسنتكم أنه لم يتبين لكم تحريمه من تحليله فخالفتم ما في ذلك الخبر جملة، وان
قلتم حكمنا بذلك حيث ظننا انه حرام ولم نقطع بذلك قلنا: قد حرم الله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم هذا عليكم، قال تعالى: (ان تتبعون الا الظن وان الظن لا يغنى من الحق شيئا) وذم
قوما حكموا فيما ظنوه ولم يستيقنوه، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فان الظن
أكذب الحديث) والفرض على من ظن ولم يستيقن أن يمسك فلا يحكم ولا يتسرع فيما
لا يقين عنده فيه فإذا تيقن حكم حينئذ *
قال أبو محمد: قال الله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) وقال تعالى: (تبيانا لكل
شئ) وقال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا
ليس عليه أمرنا فهو رد) * وروينا من طريق أبى بكر بن أبي شيبة نا يزيد بن هارون نا حماد بن سلمة
عن قتادة أن أبا موسى الأشعري قال: لا ينبغي لقاض أن يقضى حتى يتبين له الحق كما يتبين
الليل من النهار فبلغ ذلك عمر بن الخطاب فقال: صدق أبو موسى *
قال على: المفتى قاض لأنه قد قضى بوجوب ما أوجب وتحرم ما حرم أو إباحة
ما أباح، فمن أيقن تحريم شئ بنص من القرآن أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت فليحرمه
وليبطله أبدا، ومن أيقن بإباحته بنص كما ذكرنا فليبحه ولينفذه (1) أبدا، ومن أيقن
بوجوب شئ بنص كما ذكرنا فليوجبه به ولينفذه أبدا وليس في الدين قسم رابع أصلا، وما لم
يتبين له حكمه من النص المذكور فليمسك عنه وليقل كما قالت الملائكة: (لا علم لنا الا
ما علمتنا) وما عدا هذا فضلال نعوذ بالله منه، قال تعالى: (فما بعدا لحق إلا الضلال) *
1447 مسألة ومن ابتاع عبدا أو أمة لهما مال فما لهما للبائع إلا أن يشترطه
المبتاع فيكون له ولا حصة له من الثمن كثر أو قل ولا له حكم البيع أصلا، فإن كان في مال
العبد أو الأمة ذهب كثيرا وقليل وقد ابتاع الأمة أو العبد بذهب أقل من ذلك الذهب أو
مثله أو أكثر نقدا أو حالا في الذمة أو إلى أجل جاز كل ذلك، وكذلك إن كان فيه فضة
ولا فرق، فان اطلع على عيب في العبد أو الأمة رده أوردها والمال له لا يرده معه، فان



(1) سقط لفظ (ولينفذه) من النسخة 14
422
وجد بالمال عيبا لا يرد العبد من أجل ذلك ولا الأمة فان باع نصف عبده أو نصف أمته
أو جزءا مسمى مشاعا فيهما منهما جاز ذلك ويجوز هنا اشتراط المال أصلا، وكذلك
لو باع نصيبه من عبد بينه وبين آخر ولا فرق، فلو باع اثنان عبدا بينهما جاز للمشترى
اشتراط المال لان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك بلفظ الاشتراط كما قدمنا،
والاشتراط غير البيع (1) فليس له حكم البيع ولم يخص عليه السلام معلوما من مجهول
ولا مقدارا من مقدار ولا مالا من مال فلا يجوز تخصيص شئ من ذلك، وقد ملك المال
بالشرط الصحيح وليس مما دخل في صفقة الرد (2) فليس عليه رده بعيب فيه ولا بعيب
في المبيع، ومن باع نصف عبد مشاع أو نصف عبده فلم يشتر المشترى عبدا وإنما جعل
عليه السلام اشتراط المال لمن اشترى عبدا وإذا اشترى عبدا من اثنين فقد ابتاع عبدا
فله اشتراط المال، وهذا كله قول أصحابنا، وقال مالك كقولنا في اشتراط الذهب.
والفضة. والمجهول. والكثير. والقليل، وقال أبو حنيفة. والشافعي: لا يجوز ذلك
الا بحكم البيوع وهذا خلاف للحديث مجرد، فرد واما أباح الله تعالى من الشروط
وأجازوا ما أبطل الله تعالى منها * ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا عبيد الله بن عمر
عن نافع عن ابن عمر عن عمر أنه قال: من باع عبدا وله مال فما له للبائع إلا أن يشترط المبتاع *
ومن طريق سعيد بن منصور نا أبو الأحوص نا أشعث بن أبي الشعثاء قال: باع رجل
غلامه ولم يشترط واحد منهما ماله فوجد للغلام مال فقضى به شريح للبائع * ومن طريق
سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس. ومغيرة. وأبو إسحاق الشيباني وبعض أصحابنا عن
الشعبي عن شريح، قال يونس. عن الحسن، وقال مغيرة: عن إبراهيم، قال الشيباني:
عن الشعبي عن شريح، وقال بعض أصحابنا: عن الشعبي، ثم اتفقوا كلهم الحسن.
والنخعي. وشريح. والشعبي على أن من باع عبدا وله مال فماله للمشترى ولا حجة في أحد
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالله تعالى التوفيق *
1448 مسألة وللمبتاع أن يشترط شيئا مسمى بعينه من مال العبد أو الأمة
وله أن يشترط ثلثا أو ربعا أو نحو ذلك، ومنع من ذلك مالك. وأبو سليمان وقالا: لا يجوز
أن يشترط. الا الجميع أو يدع *
قال أبو محمد: وهذا خطأ لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل فماله للبائع
إلا أن يشترط كله المبتاع وبعض المال مال فهو داخل في نص مقتضى لفظه عليه السلام،
وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة رقم 16 خلاف البيع
(2) في النسخة رقم 14 في صفة الرد
423
1449 - مسألة - فان قيل: إنما جاء النص في العبد فمن أين قلتم بذلك في الأمة؟
قلنا: لفظة العبد تقع في اللغة العربية على جنس العبيد والإماء لان العرب تقول عبد وعبدة،
والعبد اسم جنس كما تقول: الانسان والفرس والحمار وبالله تعالى التوفيق * وان أحق
الناس بان يعكس عليه هذا الاعتراض ويلزم هذا السؤال من فرق بين العبد. والأمة
في الحكم فرأى الزنا في الأمة عيبا يجب به الرد ولم يره في العبد الذكر عيبا يجب به الرد من
الحنيفيين، ومن رأى أن للرجل أن يجبر أمته على النكاح ولا يجبر العبد الذكر على النكاح
من المالكيين، فإن كانت الأمة في استثناء مالها في البيع إنما وجب قياسا على العبد فليقيسوها
عليه في الرد بالعيب وفى الاكراه في النكاح والا فقد تحكموا *
1450 مسألة ومن باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع الا أن يشترطها المبتاع
والتأبير في النخل هو أن يشقق الطلع ويذر فيه دقيق الفحال (1) وأما قبل الابار فالطلع
للمبتاع ولا يجوز في ثمرة النخل إلا الاشتراط فقط وأما البيع فلا حتى يصير زهوا فإذا أزهى جاز فيه الاشتراط مع الأصول وجاز فيها البيع مع الأصول ودون الأصول
وليس هذا الحكم الا في النخل المأبور وحده كما جاء النص، ولو ظهرت ثمرة النخل
بغير إبار لم يحل اشتراطها أصلا لأنه خلاف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما سائر الثمار فان
من باع الأصول وفيها ثمرة قد ظهرت أو لم يبد (2) صلاحها فالثمرة ضرورة ولا بد
للبائع لا يحل بيعها لامع الأصول ولا دونها ولا اشتراطها أصلا، ولا يجوز لمشتري
الأصول أن يلزم البائع قلع الثمرة أصلا الا حتى يبدو صلاحها فإذا بدا صلاحها فله أن
يلزمه أخذ ما يمكن النفع فيه بوجه ما من الوجوه ولا يلزم أخذ ما لا يمكن الانتفاع به
بوجه من الوجوه، وأما تخصيص النخل بما ذكرنا فلان النص لم يرد الا فيها فقط مع
وجود الابار والقياس باطل. والتعليل بظهور الثمرة باطل لأنه دعوى كاذبة بلا دليل،
وأما قولنا: لا يجوز في ثمرة النخل الا الاشتراط فقط ما لم تزه فلما ذكرنا قبل من نهى النبي
صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى تزهى وتحمر فلا يجوز بيعها قبل أن تزهى أصلا وأباح عليه
السلام اشتراطها فيجوز ما أجازه عليه السلام ويحرم ما نهى عنه وما ينطق عن الهوى
إن هو إلا وحى يوحى ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه * وقاس الشافعيون.
والمالكيون سائر الثمار على النخل وأجازوا هم. والحنيفيون بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
وقبل أن تزهى على القطع أو مع الأصول، وهذا خلاف نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإباحة ما حرم وما عجز عليه السلام قط عن أن يقول إلا على القطع أو مع الأصول وما قاله



(1) فحال النخل هو ما كان من ذكوره فحلا لإناثه
(2) في النسخة رقم 14 ولم يبد
424
عليه السلام قط فهو شرع لم يأذن به الله تعالى * وممن منع بيع الثمرة قبل بدو صلاحها
جملة لا بشرط القطع ولا بغيره سفيان الثوري. وابن أبي ليلى * روينا من طريق مسلم نا
يحيى بن يحيى عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها نهى البائع والمشترى (1)) * ورويناه أيضا من طريق
أيوب. وعبيد الله بن عمر. وموسى بن عقبة. ويحيى بن سعيد كلهم عن نافع عن ابن عمر عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم * ورويناه أيضا من طريق إسماعيل بن جعفر. وشعبة كلاهما
عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تبيعوا الثمر حتى يبدو
صلاحه) * ورويناه أيضا من طريق ابن شهاب عن سالم عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم *
ومن طريق أبى الزبير. وعمرو بن دينار كلاهما عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم *
ومن طريق سعيد بن المسيب. وأبى سلمة بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم، فصار نقل تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الصحابة، والى
التابعين وفيمن دونهم، فان قطع شئ من الثمرة فإن كان ان ترك أزهى إن كان بلحا أو بسرا
أو ظهر فيه الطيب إن كان من سائر الثمار لم يحل بيعه حتى يصير في الحال التي أباح رسول الله
صلى الله عليه وسلم بيعه فيها، فإن كان ان ترك لم يره أبدا ولا ظهر فيه الطيب أبدا حل بيعه
بعد القطع لاقبله لأنه حينئذ قد خرج عن الصفة التي أحل رسول الله صلى الله عليه وسلم
جواز بيعه إليها وبيقين يدرى كل ذي فهم وتمييز أن نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
بيع ثمرة النخل حتى تزهى وعن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها إنما هو بلا شك فيما ان ترك
أزهى أو ظهر صلاحه (2) لا يمكن غير ذلك، وأما ما لا يمكن أن يصير إلى الازهاء أبدا
ولا أن يبدو صلاحه أبدا فليس هو الذي نهى عليه السلام عن بيعه حتى يزهى أو حتى
يبدو صلاحه فإذ ليس هو المنهى عن بيعه فقد قال الله تعالى: (وأحل الله البيع) وأما قولنا:
لا يجوز لمشتري الأصول ان يأخذ البائع بقلع ثمرته قبل أن يمكنه الانتفاع بها فللثابت
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق المغيرة بن شعبة أنه عليه السلام (نهى عن
إضاعة المال) والبائع لم يتعد في كون ثمرته في أصولها فيكون هو المضيع لما له، وكذلك
القول فيمن باع أرضا وفيها بذر له ونوى ولم يبع البذر ولا النوى فليس لمشتري
الأرض أخذه بقلع ذلك الا حتى يصير النبات في أول حدود الانتفاع به في وجه ما فليس
له حينئذ أن يغل أرض غيره ولا شجر غيره بمتاعه بغير اذن صاحب الأصل،
وباله تعالى التوفيق *



(1) في صحيح مسلم ج 1 ص 448 (البائع والمبتاع)
(2) في النسخة 16 (وظهر صلاحه)
425
1451 - مسألة - وأما بعد ظهور الطيب في ثمرة النخل فإنه يجوز فيها الاشتراط
إن بيعت الأصول ويجوز فيها البيع مع الأصول ودونها أما الاشتراط فلوقوع الصفة
عليها (1) وهي قوله عليه السلام: (قد أبرت) فهذه ثمرة قد أبرت * وأما جواز بيعها مع
الأصول ودونها فلاباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعها إذا أزهت وبالله تعالى التوفيق *
1452 مسألة ومن باع أصول نخل وفيها ثمرة قد أبرت فللمشتري أن يشترط
جميعها ان شاء أو نصفها أو ثلثها أو جزءا كذلك مسمى مشاعا في جميعها أو شيئا منها معينا
فان وجد بالنخل عيبا ردها ولم يلزمه رد الثمرة لان بعض الثمرة ثمرة وقوله عليه السلام:
(وفيها ثمرة قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع) يقع على كل ما كان منها
يسمى ثمرة للنخل والاشتراط غير البيع فلا يرد ما اشترط من أجل رده لما اشترى إذ لم
يوجب ذلك نص قرآن. ولا سنة، فلو اشترى ثمرة النخل بعد ظهور الطيب أو ثمر
أشجار غير النخل ثم وجد بالأصول عيبا فردها أو وجد بالثمرة عيبا فردها، فإن كان
اشترى الثمرة مع الأصول صفقة واحدة رد الجميع ولا بد أو أمسك الجميع ولابد لأنها
صفقة واحدة، فلو كان اشترى الثمرة في صفقة أخرى لم يردها ان رد الأصول بعيب
ولا يرد الأصول الا ان رد الثمرة بعيب، فلو اشترى الأصول من النخل واشترط الثمرة
أو بعضها فوجد البيع فاسدا فوجب رده رد الثمرة ولابد وضمنها إن كان أتلفها أو تلفت
لان رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبح الاشتراط الا للمبتاع ولا يكون مبتاعا الا من
قد صح بيعه، وأما من لم يصح بيعه فليس هو الذي جعل له النبي صلى الله عليه وسلم
اشتراط الثمرة فإذ ليس هو ذلك فحرام عليه ما اشترطه بخلاف أمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو متعد قال تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) *
1453 مسألة ومن باع نخلة أو نخلتين وفيها ثمر قد أبر لم يجز للمبتاع اشتراط
ثمرتها أصلا ولا يجوز ذلك الا في ثلاثة فصاعدا، ومن باع حصة له مشاعة في نخل فإن كان
يقع له في حصته منها لو قسمت ثلاث نخلات فصاعدا جاز للمبتاع اشتراط الثمرة والا
فلا والثمرة في كل ما قلنا للبائع ولابد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من باع
نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطه المبتاع) فلم يحكم عليه السلام بذلك إلا
في نخل، وأقل ما يقع عليه اسم نخل ثلاث فصاعد الان لفظ التثنية الواقع على اثنين معروف
في اللغة التي بها نزل القرآن وخاطبنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول لفظ الجمع (2)
إنما يقع على الثلاث فصاعدا، فان ذكروا قول الله تعالى: (قد صغت قلوبكما) قلنا:



(1) في النسخة 14 الصفقة عليها
(2) في النسخة 14 وأقل لفظ الجمع
426
المعروف عند العرب أن كل اثنين من اثنين فإنه يخبر عنه بلفظ الجمع وقد قال الراجز (1)
ومهمهين قذفين مرتين * ظهراهما مثل ظهور الترسين
(فان قيل): الجمع ضم شئ إلى شئ فالاثنان جمع قلنا: هذا باطل ولو كان كما
قلتم لجاز أن نخبر عن الواحد بلفظ الجمع فيقال: زيد قاموا والرجل قتلوا لان الواحد أيضا
أجزاء مجموع بعضها إلى بعض، وبالله تعالى التوفيق *
1454 مسألة ولا يحل بيع سلعة على أن يوفيه الثمن في مكان مسمى ولا على (2)
أن يوفيه السلعة في مكان مسمى لأنه شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل لكن يأخذه
البائع بايفائه الثمن حيث هما أو حيث وجده هو أو وكيله من بلاد الله تعالى إن كان الثمن
حالا (3) لأمر الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم باعطاء كل ذي حق
حقه، وليس على البائع إلا أن لا يحول (4) بين المشترى وبين ما باع (5) منه فقط
وبالله تعالى التوفيق *
1455 مسألة ولا يحل بيع جارية بشرط أو توضع على يدي عدل حتى
تحيض رائعة كانت أو غير رائعة والبيع بهذا الشرط فاسد، فان غلب على ذلك فبيعه تام
وهو قول أبي حنيفة. والشافعي. وأبي سليمان، وأوجبه مالك في الرائعة ولم يوجبه في
غير الرائعة، وهذا أول التناقض. وفساد القول لان غير الرائعة توطأ كما توطأ الرائعة
وتحمل كما تحمل الرائعة، ثم أعظم التناقض قولهم: ان الحيض لا يكون براءة من الحمل
وان الحامل قد تحيض فقلنا لهم: يا هؤلاء فلأي معنى أوجبتم منع المشترى من جاريته
وأوجبتم هذا الشرط الفاسد الذي لم يوجبه قرآن. ولا سنة. ولا رواية فاسدة.
ولا قول صاحب. ولا قياس. ولا تورع. ولا رأى يعقل؟ وأنتم تقولون: انها إذا حاضت
أسلمت إليه وحل له التلذذ منها فيما فوق المئزر وحل له وطؤها بعد الطهر، وممكن عندكم
أن تكون حاملا من البائع حينئذ، فأي فرق بين ما أبحتم له الآن وبين ما منعتموه منه
قبل أن تحيض وخوف الحمل. وفساد المبيع موجود في كلتا الحالتين؟ فأي عجب أعجب
من هذا! ولا خلاف بيننا وبينكم في أنه ان ظهر بها حمل بعد الحيض وبعد إباحتكم له
وطئها فولدته لأقل من ستة أشهر فان البيع مفسوخ وهي مردودة إلى البائع (6) وولدها
به لاحق إن كان قد أقر بوطئها ولم يدع استبراء، فأي منفعة للمواضعة أو أي معنى لها؟
فان قالوا: لانما اتبعنا النص الوارد لا توطأ حائل حتى تحيض قلنا: كلا بل خالفتم هذا
النص بعينه لأنكم فرقتم بين الرائعة وغير الرائعة وليس هذا في الخبر ولا قاله أحد نعلمه



(1) في النسخة 16 الشاعر
(2) في النسخة 16 ولا يحل
(3) في النسخة 16 إن كان الثمن مؤجلا وهو غلط
(4) في النسخة 14 الا ان يحول هو خطأ
(5) في النسخة 14 وبين ما باعه
(6) في النسخة 16 مردودة البائع
427
قبلكم، وفرقتم بين البكر وغير البكر وليس ذلك في الخبر وليس لكم ان تدعوا ههنا
اجماعا فان الحنيفيين يقولون: ان البكر وغير البكر سواء لا توطأ واحدة منهما حتى
تحيض أو حتى تستبرئ بما تستبرئ به التي لا تحيض وهذا خبر لم يصح (1) ولو صح
لقلنا به لكنا (2) نقول: لا يبيعها (3) حتى يستبرئها بحيضة ولا يطؤها المشترى حتى
يستبرئها كذلك احتياطا (4) خوف الحمل فقط فان أيقنا أن بها حملا من البائع فالبيع
حرام إن كانت (5) أم ولده وإن كان الحمل من غيره فالبيع حلال والوطئ حرام حتى
تضع وتطهر وهو مؤتمن على ذلك كائتمانه على ما حرم عليه من وطئ الحائض. والنفساء
ولا فرق إذ لم يأت نص بغير ذلك، ولا فرق بين ائتمانه على التي اشترى وبين ائتمانكم
من تضعونها عنده لذلك، وأنتم لا تفرقون بين الثقة وبين غير الثقة ههنا وفرقتم بين
الرائعة وغير الرائعة وهذا تخليط وتناقض، وأما الحكم فيها ان ظهر بها حمل فسنذكره
إن شاء الله تعالى في كتاب الاستبراء ببرهانه، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم *
1456 مسألة ولا يحل بيع عبد أو أمة على أن يعطيهما البائع كسوة قلت
أو كثرت، ولا بيع دابة على أن يعطيها البائع إكافها أو رسنها أو بردعتها، والبيع بهذا
الشرط باطل مفسوخ لا يحل فمن قضى عليه بذلك قسرا فهو ظلم لحقه (6) والبيع جائز *
برهان ذلك أنه شرط ليس في كتاب الله عز وجل فهو باطل. وقال تعالى: (ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام) فسمى الله تعالى أخذ المرء مال غيره من
غير تراض بالتجارة باطلا وحرمه إذ نهى عنه وعلى لسان رسوله عليه السلام أيضا،
والكسوة مال البائع ولم يبعها برضى منه فلا يحل أخذها منه أصلا، وهذا قول أبي حنيفة.
والشافعي. وأبي سليمان. وأصحابهم، وقال مالك: يجبر على كسوة مثلها للشتاء ان بيعت
في الشتاء وعلى كسوة مثلها في الصيف ان بيعت في الصيف كسوة تجوز الصلاة في مثلها
فكانت هذه شريعة لم يأت بها قرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قياس. ولا رأى
سديد. ولا قول أحد نعلمه قبله - نعنى بهذا التقسيم - وقد روى عن ابن عمر كل حلى وكسوة
على الأمة عرضت فيها للبيع فهي داخلة في البيع وهم لا يقولون بهذا، فان قالوا: كسوتها
من مالها قلنا: تناقضتم ههنا في موضعين. أحدهما أنها إن كانت من مالها فقد أجزتم
اشتراط بعض مالها وهذا حرام عندكم، والثاني أن نقول لكم: كيف هي من مالها وأنتم
تجبرون البائع على احضارها أحب أم كره من حيث شاء؟ ثم هبكم أن الكسوة من مال



(1) في النسخة 16 (لا يصح)
(2) في النسخة رقم 14 (ولكنا)
(3) في النسخة 14 (لا يبيعهما)
(4) في بعض النسخ اختيارا
(5) في النسخة 16 وكانت
(6) في النسخة 16 (فهو ظلم له)
428
الأمة أترون البرذعة والرسن من مال الحمار والبغل إذ قلتم: لا يباع الا و معه برذعة
ورسن؟ ثم من أين لم تقولوا بهذا في السرج. واللجام؟ وهذه أعاجيب وشنع لا ندري
من أين خرجت، وهلا أوجبتم عليه نفقة شهر أو شهرين تصحبها إياها كما أوجبتم عليه
كسوة عام أو نصف عام؟ وما [ندري] الفرق بين الكسوة والنفقة بل النفقة
أو كدلانها لا تعيش دونها، فان قالوا: مشتريها ينفق عليها قلنا: ومشتريها يكسوها
أيضا كما يلزمه أن يكسو زوجته ولا يلزم أباها ولا أخاها الذي يزوجها كسوتها مذ تتزوج،
فان قالوا: أيبيعها عريانة؟ قلنا: أيبيعها جائعة ولا فرق؟ وقال بعضهم: الكسوة ركن
من أركانها فقلنا: هذا كذب وحمق معا، وما علمنا للانسان أركانا تكون الكسوة بعضها،
فان ادعوا عمل أهل المدينة قلنا: كذب من قال هذا، ومن الباطل المتيقن أن تكون هذه
الشريعة عند أهل المدينة ثم يكتمها عمر. وعثمان. وعلى. ومعاوية. والحسن. وعبد الله
ابن الزبير رضي الله عنهم حتى لا يدريها أحد الا مالك ومن قلده، وبالله تعالى التوفيق *
1457 مسألة ولا يحل بيع سلعة لآخر بثمن يحده له صاحبها فما استزاد على
ذلك الثمن فلمتولي البيع * روينا من طريق ابن أبي شيبة نا هشيم عن عمرو بن دينار عن عطاء
عن ابن عباس أنه كان لا يرى بأسا أن يعطى الرجل الرجل الثوب فيقول: بعه بكذا فما
ازددت فلك، ولا يعرف له من الصحابة في ذلك مخالف، وأجازه شريح. والحكم.
والشعبي. والزهري. وعطاء * وقد روينا من طريق محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي
عن حماد بن زيد عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين انه كان لا يرى بأسا أن يعطى
الرجل الرجل الثوب أو الشئ فيقول له: ما ازددت على كذا أو كذا فهو لك * وبه
إلى عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة. وسفيان الثوري كلاهما عن المغيرة بن مقسم عن
إبراهيم النخعي انه كره ذلك وكرهه الحسن. وطاوس *
قال أبو محمد: هذا شرط ليس في كتاب الله تعالى [فهو باطل]، فان باعه المأمور
على هذا الشرط فالبيع باطل لأنها وكالة فاسدة ولا يجوز بيع شئ الا بتولي صاحبه
أو بوكالة صحيحة وإلا فهو عمل فاسد فلو قال له: بعه بكذا وكذا فان أخذت أكثر فهو
لك فليس شرطا والبيع صحيح وهي عدة لا تلزم ولا يقضى بها لأنه لا يحل مال أحد بغير
رضاه والرضا لا يكون إلا بمعلوم وقد يبيعه بزيادة كثيرة لا تطيب بها نفس صاحب
السلعة إذا علم مقدارها وبالله تعالى التوفيق *
1458 - مسألة - ولا يحل بيع شئ غير معين من جمله مجتمعة لا بعدد ولا بوزن
* (هامش ش) * (1) الزيادة من النسخة 16 (2) في النسخة 14 (لاعيش) (3) في النسخة 16 (لاحد) (4) في النسخة
16 (عن ابن عباس قال فلا نرى) الخ (5) الزيادة من النسخة 16 (6) في النسخة 14 (فالبيع فاسد) (*)

429
ولا بكيل كمن باع رطلا. أو قفيزا. أو صاعا. أو مديا (1). أو أوقية من هذه الجملة
من التمر. أو البر. أو اللحم. أو الدقيق. أو كل مكيل في العالم. أو موزون كذلك، وكمن باع ثلاثة من هذه البيض أو أربعة. أو أي عدد كان. أو من كل ما يعد. أو كمن
باع ذراعا أو ذراعين أو نحو ذلك من كل ما يذرع سواء استوت ابعاض كل ذلك أو لم
تستو وإنما تجب أولا المساومة فإذا تراضيا كال أو وزن أو ذرع أو عد، فإذا تم ذلك
تعاقد البيع حينئذ على تلك العين المكيلة أو الموزونة. أو المذروعة. أو المعدودة ثم
بقي التخيير من أحدهما للآخر فيمضي أو يرد. أو يتفرقا بأبدانهما بزوال أحدهما
عن الآخر كما قدمنا قبل، فلو تعاقدا البيع قبل ما ذكرنا من الكيل. أو الوزن. أو
العد. أو الذرع لم يكن بيعا وليس بشئ، وأجازه المالكيون فيما استوت أبعاضه كالدقيق
واللحم. والتمر. والزبيب ونحو ذلك، ولم يجيزوه (2) فيما اختلفت أبعاضه كالبطيخ.
والقثاء. والبيض. والجواري. والحيتان. وسائر الحيوان. والجوهر. ونحو ذلك،
وأجاز أبو حنيفة بيع ثوب بغير عينه من ثوبين أو من ثلاثة يختاره المشترى ولم يجزه من
أربعة أثواب، وهذا تخليط ناهيك به *
برهان صحة قولنا قول الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم) فحرم الله تعالى أخذ المرء مال غيره بغير تراض منهما وسماه باطلا،
وبضرورة الحس يدرى كل أحدان التراضي لا يمكن البتة إلا في معلوم متميز وكيف ان
قال البائع: أعطيك من هذه الجهة وقال المشترى: بل من هذه الآخرى كيف العمل؟
ومن جعل أحدهما بالاجبار على ما يكره من ذلك أولى من الاخر وهذا ظلم لاخفاء به *
وبرهان آخر وهو نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر ولا غرر أكثر من أن لا يدرى
البائع أي شئ هو الذي باع ولا يدرى المشترى أي شئ اشترى وهذا حرام بلا شك *
وبرهان ثالث وهو انهم كلهم مجمعون معنا فيمن عقد مع آخر بيعا على هذه الجهة
أو هذه الأخرى أو اشترى منه اما هذه الجهات أو هذه الأخرى فإنه بيع باطل مفسوخ
لا يحل، وهذا نفسه هو الذي أجازوا ههنا لا نقول: إنه تشبيه بل نقول: هو نفسه ولابد *
وبرهان رابع وهو ان السلم عند أبي حنيفة. ومالك لا يجوز حالا والسلم عندهم إنما هو
يعقد على ذرع ما. أو عدد ما. أو كيل ما. أو وزن ما، ولا يجوز عندهم ولا عند
الشافعيين في بعض صبرة بعينها وهذا هو نفسه الذي منعوا منه، وقولنا ههنا: هو قول
أبى سليمان. وأصحابنا، وما نعلم للمخالفين حجة أصلا. لامن قرآن: ولا سنة. ولا
(هامش) (1) هو بضم الميم وسكون الدال المهملة القفيز الشامي وهو غير المد (2) في النسخة 14 ولم يجزه وهو غلط (*)

430
رواية سقيمة. ولا نذكره الآن من قول متقدم. ولا من قيسا. ولا من تورع أصلا *
ومن عجائب الدنيا إجازة الحنيفيين هذا البيع ومنعهم من بيع ذراع من هذا الثوب محدود
في هذه الجهة إما في ذراع واما في عرض الثوب أو في طوله فأجازوا المجهول. والمنكر،
ومنعوا مما لمعروف وبالله تعالى التوفيق:
1459 - مسألة - ولا يحل بيع المرء جملة مجموعة إلا كيلا مسمى منها أو إلا وزنا
مسمى منها أو إلا عددا مسمى منها أي شئ كان، وكذلك لا يحل أن يبيع هذا الثوب
أو هذه الخشبة إلا ذرعا مسمى منها، وكذلك لا يحل بيع الثمرة بعد طيبها واستثناء مكيلة
مسماة منها. أو وزن مسمى منها. أو عدد مسمى منها أصلا قل ذلك أو كثر، ولا يحل بيع
نخل من أصولها أو ثمرتها على أن يستثنى منها نخلة بغير عينها لكن يختارها المشترى، هذا
كله حرام مفسوخ أبدا محكوم فيما قبض منه كله بحكم الغصب وإنما الحلال في ذلك أن
يستثنى من الجملة ان شاء أي جملة كانت حيوانا أو غيره أو من الثمرة نصف كل ذلك مشاعا
أو ثلث كل ذلك مشاعا أو ثلثي كل ذلك أو أكثر أو أقل جزءا مسمى نسوبا مشاعا في
الجميع، أو يبيع جزءا كذلك من الجملة مشاعا أو يستثنى منها عينا معينة محوزة كثرت
أم قلت. أو يبيع منها عينا معينة محوزة كثرت أم قلت، فهذا هو الحق الذي لا خلاف من
أحد في جوازه إلا في مكان واحد نذكره إن شاء الله تعالى، وأجاز مالك بيع مائة نخلة
يستثنى منها عشر نخلات بغير عينها، وكذلك من الغنم ومنع من ذلك في الكثير، وأجاز
بيع الثمرة واستثناء مكيلة منها تكون الثلث فأقل فان استثنى أكثر من الثلث لم يجز،
وقال مالك: إن ابتاع ثمر أربع نخلات من حائط بغير عينها لكن يختارها المبتاع لم يجز
فلو ابتاعها كذلك بأصولها جاز إذا لم يكن فيها ثمر كالعروض، وأجاز للبائع أن يبيع
ثمر حائطه ويستثنى منه (1) ثمر أربع نخلات بغير عينها لكن يختارها البائع، أجاز
هذا بعدان توقف فيه أربعين ليلة، وأجاز ذلك في الغنم وكرهه ابن القاسم في النخل قال:
فان وقع أجزته لقول مالك *
قال أبو محمد: في هذه الأقوال عبرة لمن اعتبر من التفريق بين البائع. والمشترى
في اختيار الثمر، ومن الفرق بين اختيار المشترى لثمر أربع نخلات فمنع منه وبين
اختيار البائع له فأجازه، وليت شعري ما قوله في ست نخلات أو سبع ونزيده هكذا واحدة
واحدة فاما يتمادى على الإباحة واما يمنع فيكلفوا (3) البرهان على ما حرموا وما حللوا



(1) في النسخة 16 منها
(2) في النسخة 16 التفريق
(3) كذا في جميع النسخ - والذي يناسب قوله قبل وليت شعري ما قوله فإنه أفرد الضمير، وقوله فاما يتمادى كذلك أفرده - افراد الضمير فيه فتنبه
431
أو يتحيروا فلا يدروا ما يحللون وما يحرمون ولابد من أحد هذه الوجوه ضرورة
مم نسألهم عما أجازوا في الأربع نخلات فنقول: أتجيزون ذلك إن لم يكن في الحائط إلا
خمس نخلات؟ فان أجازوه سألناهم من أين خصوا الأربع نخلات بالإجازة دون ما هو
أكثر أو أقل؟ فان منعوا زدناهم في عدد نخل الحائط نخلة نخلة، وهذه تخاليط
لا نظير لها، وهذا يبطل دعواهم في عمل أهل المدينة إذ لو كان ذلك عملا ظاهرا ما احتاج
إلى أن يتوقف فيه أربعين ليلة، وان في إجازة ابن القاسم العمل الذي منع منه ان وقع من اجل
إجازة مالك له لعجبا، ونحمد الله على عظيم نعمته علينا في تيسيرنا لطاعة كلامه وكلام رسوله
صلى الله عليه وسلم وتنفيرنا عن تقليد ما دون ذلك حمدا كثيرا كما هو أهله، واما الحنيفيون.
والشافعيون فإنهم منعوا من هذا كله *
قال أبو محمد: وتناقضوا ههنا أقبح تناقض لأنه لا فرق بين ما حرموا ههنا من بيع جملة
واستثناء مقدار منها بغير عينه وبين ما أجازوا في المسألة التي (3) قبل هذه من بيع بعض
جملة بكيل أو بوزن أو بعدد بغير عينه فهو ذلك نفسه ونحمد الله تعالى على السلامة، وكلا
الامرين بيع بعض جملة وامساك بعضها وأحل الله البيع، وقد فصل لكم ما حرم عليكم *
واما المكان الذي اختلفن فيه مما ذكرنا فان المالكيين منعوا من بيع جملة الا ثلثيها
وقالوا: لا يجوز الاستثناء الا في الأقل *
قال على: وهذا باطل لأنه لم يوجب ما قالوه لا قرآن: ولا سنة. ولا رواية سقيمة.
ولا قول صاحب: ولا قياس. ولا رأى له وجه. ولا لغة أصلا، وأيضا فان استثناء
الأكثر أو الأقل نما هو منع بعض الجملة فقط دون سائرها ولا خلاف في جواز هذا،
وهو الذي منعوا منه نفسه بعينه (4) * وروينا من طريق حماد بن سلمة عن الحجاج بن
أرطاة سألت أبا بكر بن أبي موسى عن الرجل يبيع بيعا ويستثنى نصفه؟ فكرهه، الحجاج
هالك * ومن طريق حماد بن سلمة عن عثمان البتي قال: إذا استثنى البائع نصفا ونقد المشترى
نصفا فهو بينهما نصفان * ومن طريق محمد بن المثنى نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان
الثوري عن منصور. والأعمش كلاهما عن إبراهيم النخعي انه كان لا يرى بأسا أن يبيع
السلعة ويستثنى نصفها *
قال أبو محمد: برهان صحة قولنا ههنا هي البراهين التي أوردنا في ال‍ مسألة التي
قبلها سواء سواء، وههنا برهان زائد وهو ما روينا من طريق أحمد بن شعيب أنا زياد بن
أيوب نا عباد بن العوام نا سفيان بن حسين نا يونس بن عبيد عن عطاء بن أبي رباح عن



(1) في النسخة 16 فلابد
(2) في النسخة 14 وان
(3) سقط لفظ التي من النسخة 14
(4) سقط لفظ (بعينه) من النسخة 14
(5) في النسخة 14 (قولنا هذا هنا)
432
جابر بن عبد الله (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا حتى تعلم) فصح أن الاستثناء
لا يحل (2) الا معلوما من معلوم، فان قيل: فقد رويتم من طريق حماد بن زيد عن
أيوب السختياني عن أبي الزبير. وسعيد بن ميناء عن جابر بن عبد الله قال: (نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة. والمحاقلة. والمعاومة. والمخابرة) قال أحدهما: بيع
السنين وهي المعاومة وهي الثنيا قلنا: هذا تفسير لا تقوم به حجة لأنه من كلام أبى الزبير
ورأيه. أو كلام سعيد بن ميناء ورأيه ولا حجة في كلام أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والثنيا لفظة معروفة عربية قال تعالى: (كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين
ولا يستثنون) وإنما الثنيا استثناء شئ من شئ فقط، ومن المحال الباطل المتيقن أن يكون
للثنيا معنى غير هذا فينهانا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لا يبينها علينا حاش لله من هذا، وهو
الذي افترض الله تعالى عليه أن يبين لنا ديننا *
قال أبو محمد: وقد جاءت في الثنيا آثار روينا من طريق ابن أبي شيبة نا إسماعيل بن
علية. وابن أبي زائدة كلاهما عن عبد الله بن عون عن القاسم بن محمد قال: ما كنا نرى
بالثنيا بأس لولا أن ابن عمر كرهها، وكان عندنا مرضيا، قال ابن علية: قال ابن عون:
فتحدثنا أن ابن عمر كأن يقول: لا أبيع هذه النخلة ولا هذه النخلة *
قال على: سمع ابن عون هذا الخبر من القسام بن محمد * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان
الثوري عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن يعقوب بن إبراهيم عن سعيد بن المسيب قال: يكره
ان يبيع النخل ويستثنى منه كيلا معلوما قال سفيان: ولكن يستثنى هذه النخلة وهذه النخلة *
ومن طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن زيد نا أيوب - هو السختياني - عن عمرو
ابن شعيب أنه سأل سعيد بن المسيب عن الثنيا فكرهها إلا أن يستثنى نخلات معلومات
قال عمرو: ونهاني سعيد أن أبرأ من الصدقة إذا بعت * ومن طريق أبن أبي شيبة نا ابن
علية عن أيوب السختياني عن عمرو بن شعيب قال: قلت لسعيد بن المسيب: أبيع ثمرة
أرضى واستثنى؟ قال: لا تستثن إلا شجرا معلوما ولا تبرأن من الصدقة قال أيوب: فذكرته
لمحمد بن سيرين فكأنه أعجبه * ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو الأحوص عن أبي حمزة
قلت لإبراهيم: أبيع الشاة واستثنى بعضها؟ قال: لا ولكن قل: أبيعك نصفها *
ومن طريق ابن أبي شيبنا نا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن منصور عن إبراهيم
قال: لا بأس ببيع السلعة ويستثنى نصفها * ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الأعلى
عن يونس عن الحسن فيمن باع ثمره ارضه فاستثنى كرا قال: كان يعجبه أن يعلم



(1) في سنن النسائي ج 7 ص 296 (ان النبي) والحديث فيه مطول اختصره المصنف
(2) في النسخة 14 لا يصح
(3) هو بكسر الميم ومد النون
(4) في النسخة 14 (واستثناه نصفها)
433
تخلا * ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن أبي زائدة عن يزيد - هو ابن إبراهيم - عن
ابن سيرين أنه كان لا يرى بأسا ان يبيع ثمرته ويستثنى نصفها ثلثا ربعها *
قال أبو محمد: واحتج المالكيون بما روينا من طريق عبد الرزاق حدثنا معمر سمعت
الزبير بن عدي سمعت ابن عمر وهو يبيع ثمرة له فقال: أبيعكموها بأربعة آلاف وطعام
الفتيان الذين يعملونها * ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل بن
مجمع عن سالم بن عبد الله بن عمر أنه كان لا يرى بأس ان يبيع ثمرته ويستثنى منها مكيلة
معلومة * ومن طريق مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ان جده محمد
ابن عمرو باع ثمر حائط له يقال له: الا فراق بأربعة آلاف درهم واستثنى منه بثمانمائة
درهم تمرا وما نعلم لهم غير هذا، فالرواية عن ابن عمر هم أول مخالف لهما لان طعام الفتيان
إن كان مستثنى من الثمرة فهو مجهول لا يدرى ما يكون نوعه ولا مقدار ما يكون فإن كان
مضافا على المشترى إلى الثمن فكذلك أيضا، والمالكيون لا يجيزون شيئا من هذين
الوجهين فقد خالفوه، والصحيح عن ابن عم مثل قولنا كما أوردنا آنفا * وأما حديث
سالم فلم يخص ثلثا من أقل ولا من أكثر والمالكيون لا يجيزون أكثر من الثلث فقد
خالفوه * وأما حديث محمد بن عمرو بن حزم فإنما استثنى من ثمر باعه بأربعة آلاف
ممرا بثمانمائة درهم وهم الخمس فإنما استثنى خمس ما باع وهذا جائز حسن، فلاح أنه لا سلف
لهم أصلا فيما قالوه من ذلك، وقد روينا المنع من الاستثناء جمله كما روينا من طريق ابن أبي
شيبة نا عبد الصمد بن أبي الجارود قال: سألت جابر بن زيد عمن باع شيئا واستثنى
بعضا؟ قال: لا يصلح ذلك *
قال أبو محمد: إن كان عنى مجهولا فصحيح وإن كان عنى جملة الاستثناء
فخطأ لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح الثنيا إذا علمت ولا حجة في أحد معه عليه السلام *
1460 - مسألة - ولا يحل لاحد أن يبيع مال غيره بغير اذن صاحب المال له في
بيعه فان وقع فسخ أبدا سواء كان صاحب المال حاضرا يرى ذلك أو غائبا ولا يكون سكوته
رضى بالبيع طالت المدة أم قصرت ولو بعد مائة عام أو أثر بل يأخذ ماله أبدا هو وورثته
بعده ولا يجوز لصاحب المال أن يمضى ذلك البيع أصلا إلا أن يتراضى هو والمشترى على
ابتداء عقد بيع فيه وهو مضمون على من قبضه ضمان الغصب، وكذلك لا يلزم أحدا
شراء غيره له الا ان يأمره بذلك فان اشترى له دون أمره فالشراء للمشترى ولا يكون للذي
اشتراه له أراد كونه له أو لم يرد إلا بابتداء عقد شراه مع الذي اشتراه إلا الغائب الذي



(1) في النسخة 16 (نخلاه)
(2) في النسخة 16 فيصح
434
يوقن بفساد شئ من ماله فسادا يتلف به قبل أن يشاور فإنه يبيعه له الحاكم أو غيره ونحو
ذلك ويشترى لأهله ما لا بد لهم منه ويجوز ذلك أو ما بيع عليه بحق واجب لينتصف
غريم منه، أو في نفقة من تلزمه نفقته فهذا لازم له حاضرا كان أو غائبا رضى أم سخط *
برهان ذلك قول الله تعالى: (ولا تكسب كل نفس الا عليها) وقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (ان دماءكم وأموالكم وأعراضكم وأبشاركم عليكم حرام) فليس لأحد أن
يحل ما حرم الله تعالى من ماله. ولا من بشرته. ولا من عرضه: ولا من دمه إلا بالوجه
الذي أباحه به نص القرآن. أو السنة، ومن فعل ذلك فهو مردود لقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) والسكوت ليس رضى الا من اثنين فقط،
أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم المأمور بالبيان الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من
خلفه الذي لا يقر على باطل، والذي ورد النص بان ما سكت عنه فهو عفو جائز، والذي
لا حرام الا ما فصل لنا تحريمه ولا واجب إلا ما أمرنا به فما لم يأمرنا به ولأنها نا عنه فقد
خرج عن أن يكون فرضا أو حراما فبقي أن يكون مباحا ولابد، فدخل سكوته الذي
ليس أمرا ولا نهيا في هذا القسم ضرورة * والثاني البكر في نكاحها للنص الوارد في ذلك
فقط، وأما كل من عدا ما ذكرنا فلا يكون سكوته رضى حتى يقر بلسانه بأنه راض به
منفذ، ويسأل من قال: إن سكوت من عدا هذين رضى ما الدليل على صحة قولكم: ان
الرضى يكون بالسكوت وان الانكار لا يكون الا بالكلام؟ ومن أين قلتم ذلك؟ فان
ادعوا نصا كذبوا وان ادعوا علم ضرورة كابروا لان جمهور الناس مخالفون لهم في
ذلك وهم لا يعرفون الضرورة التي يدعون ولا فرق بين دعواهم على غيرهم على الضرورة
ههنا وبين دعوى غيرهم عليهم علم الضرورة في بطلان ذلك، وفى أن الانكار يكون
بالسكوت وأن الرضى لا يكون الا بالكلام فبطلت الدعوتان لتعارضهما ولم يبق الا
أن الساكت ممكن أن يكون راضيا وممكن أن يكون غير راض، وهذا هو الذي لا شك
فيه، والرضا يكون بالسكوت وبالكلام، والانكار يكون بالسكوت وبالكلام،
فإذ ذلك كذلك فإنما هو الظن فقط ولا تحل الأموال المحرمة بالظن قال تعالى: (ان
الظن لا يغنى من الحق شيئا) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فان الظن أكذب
الحديث)، فان قالوا: قسنا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى نكاح البكر قلنا: القياس
باطل ثم لو كان حقا لكان ههنا في غاية الباطل لان من عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسكت (1)
تقية أو تدبيرا في أمره وترويه أو لأنه يرى أن سكوته لا يلزمه به شئ وهذا هو الحق،



(1) في النسخة 16 ولم يبق الا الساكت
435
ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتقى في الله تعالى أحد ا ولا يحكم في شئ من الدين بغير الوحي من
ربه تعالى، ولا يجوز له السكوت (1) على الباطل فلا ينكره لأنه كأن يكون غير مبين وقد
أمره الله تعالى بالبيان والتبليغ (2) والامر بالواجبات وتفصيل الحرام فسكوته خارج
عن هذين الوجهين وليس غيره كذلك، وطول المدد لا يعيد الباطل حقا أبدا ولا الحق
باطلا، ويلزم المخالف لهذا أن من قيل له: يا كافر فسكت أنه قد لزمه حكم الكفر،
ومن قيل له: انك طلقت امرأتك فسكت أن يلزمه الطلاق، وان من قتل ولده - وهو
يرى - فسكت انه قد بطل طلبه ولزمه الرضى وهم لا يقولون بشئ من هذا * وقال
أبو حنيفة. وأصحابه: من باع مال آخر بغير أمره فلصاحب المال إجازة ذلك أو رده،
واحتجوا بالخبر الثابت عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي استأجر
أجيرا بفرق من ذرة فأعطيته فأبى فعمدت إلى ذلك الفرق فزرعته حتى اشتريت منه
بقرا وراعيها ثم جاء فقال: يا عبد الله أعطني حقي فقلت: انطلق إلى تلك البقر
وراعيها فقال: أتستهزئ بي قلت: ما استهزئ بك ولكنها لك فذكر الخبر وان
الله فرج عنهم الصخرة المطبقة على فم الغار، فان هذا خبر لا حجة لهم فيه لوجوه
بل هو حجة عليهم ومبطل لقولهم، فأولها أن ذلك كان فيمن قبلنا ولا تلزمنا شرائعهم *
والثاني انه ليس فيه ان الإجارة كانت بفرق ذرة بعينه بل ظاهره انه كان
بفرق ذرة في الذمة فإذ ذلك كذلك فلم يبع له شيئا بل باع ماله ثم تطوع بما أعطاه وهذا
حسن وهو قولنا * والثالث أنه حتى لو كان فيه أنه كان فرقا بعينه وانه كان في الاسلام
لما كان لهم فيه حجة لأنه أعطاه أكثر من حقه فرضى وأبرأه من عين حقه، وكلاهما
متبرع بذلك من غير شرط، وهذا جائز عندنا حسن جدا، وأما كونه حجة عليهم فان فيه
أنه عرض عليه حقه فأبى من أخذه وتركه ومضى فعلى أصلهم قد بطل حقه إذ سكت عن
أخذه فلا طلب له فيه بعد ذلك * واحتجوا بما رويناه من طريق ابن أبي شيبة نا سفيان
ابن عيينة عن شعيب بن غرقدة عن عروة البارقي: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاه دينارا
يشترى له به شاة قال: فاشتريت له شاتين فباع أحدا هما بدينار فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار
وشاة فدعا له بالبركة) * ورويناه أيضا من طريق أبى داود نا الحسن بن الصباح نا أبو المنذر
نا سعيد بن زيد نا الزبير بن الحرث عن أبي لبيد عن عروة الباقرقى فذكره * ومن طريق
ابن أبي شيبة عن وكيع عن سفيان عن أبي حصين عن رجل من أهل المدينة عن حكيم
ابن حزام: (ان النبي صلى الله عليه وسلم بعثه ليشترى له أضحية بدينار فاشتراها ثم باعها بدينارين



(1) في النسخة 16 سكت 2 في النسخة 16 بالبيان بالتبليغ
436
فاشترى شاة بدينار وجاء بدينار فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة وأمره أن يتصدق
بالدينار) هذا كل ما موهوا به وكله لا شئ *
أما حديث حكيم فعن رجل لم يسم ولا يدرى من هو من الناس والحجة في دين الله تعالى
لا تقوم بمثل هذا * وأما حديث عروة فأحد طريقيه عن سعيد بن زيد أخي حماد بن زيد
وهو ضعيف، وفيه أيضا أبو لبيد وهو لمازة (1) بن زبار وليس بمعروف العدالة،
والطريق الأخرى معتلة وإن كان ظاهرها الصحة وهي أن شبيب بن غرقدة لم يسمعه من
عروة كما روينا من طريق أبى داود السجستاني نا مسدد نا سفيان - هو ابن عيينة - عن شبيب
ابن غرقدة حدثني الحي (2) عن عروة [يعنى ابن الجعد البارقي] قال. (أعطاه
النبي صلى الله عليه وسلم دينارا ليشترى له أضحية أو شاة فاشترى اثنتين فباع إحداهما بدينار فأتاه
بشاة ودينار فدعا له بالبركة) فحصل منقطعا فبطل الاحتجاج به، ثم لو صح حديث
حكيم. وعروة لم يكن لهم فيهما حجة لأنه إذ أمره عليه السلام ان يشترى له شاة فاشترى
له شاتين صار الشراء لعروة بلا شك لأنه إنما اشترى كما أراد لا كما أمره النبي صلى الله عليه وسلم ثم
وزن دينار النبي صلى الله عليه وسلم إما مستقرضا له ليرده واما متعديا فصار الدينار في ذمته بلا شك
ثم باع شاة نفسه بدينار فصرفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم كما لزمه (5) وأهدى إليه الشاة فهذا
كله هو ظاهر الخبر ولى فيه أصلا لا بنص ولا بدليل (6) على أن الشراء جوزه النبي
صلى الله عليه وسلم والتزمه فلا يجوز القول بما ليس في الخبر * وأما خبر حكيم فإنه تعدى في بيع
الشاة فلزمه ضمانها فابتاعها بدينار كما أمر وفضل دينار فأمره عليه السلام بالصدقة
إذ لم يعرف صاحبه *
قال أبو محمد: ثم نسألهم عمن باع مال غيره فنقول: أخبرونا هل ملك المشتري
ما اشترى وملك صاحب الشئ المبيع الثمن بذلك العقد أم لا، ولا بد من أحدهما، فان قالوا:
لا وهو الحق وهو قولنا فمن الباطل أن لا يصح عقد حين عقده ثم يصح في غير حين عقده
الا أن يأمر بذلك الذي لا يسئل عما يفعل فنسمع ونطيع لله تعالى، وأما من يسئل عما
يفعل فلا يقبل منه مثل هذا أصلا إذ لم يوجب الله تعالى قبوله منه، وان (7) قالوا: قد
ملك المشتري ما اشترى وملك الذي له الشئ المبيع الثمن قلنا: فمن أين جعلتم له ابطال عقد
قد صح بغير أن يأتي بذلك قرآن. ولا سنة؟ وهذا لا يحل لأنه تحكم في دين الله تعالى،



(1) بكسر اللام وتخفيف الميم وبزاي؟ وزبار بفتح الزاي وتشديد الباء للوحدة وآخره راء
(2) بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتانية أي القبيلة، وهم غير معروفين كما صرح به البيهقي والخطابي
(3) الزيادة من سنن أبي داود
(4) في سنن أبي داود زيادة لم يذكرها المصنف وهي فكان لو اشترى ترابا لربح فيه
(5) في النسخة 16 (ألزمه)
(6) في النسخة 14 (لا نص ولا دليل)
(7) في النسخة 14 (فان)
437
وقولنا في هذا هو قول أحمد بن حنبل روينا عنه أن من بيعت داره وهو ساكت فان ذلك
لا يجوز حتى يرضى أو يأمر أو يأذن في بيع داره وهو قول أبى سليمان. وجميع أصحابنا،
وهو قول الشافعي الا أنه اختلف عنه فيمن بيع ماله (1) فعلم بذلك فروى عنه أنه
باطل ولابد (2) وروى عنه أن له ان يجيز ذلك ان شاء ولم يختلف عنه في أن السكوت ليس
رضى أصلا، وأما أبو حنيفة فان السكوت عنده لا يكون إقرارا الا في خمسة مواضع،
أحدها من رأى عبده يبيع ويشترى كما يفعل المأذون له في التجارة فيسكت فان العبد يصير
بذلك مأذونا له والشفعة يعلمها الشفيع فيسكت ولا يشهد على أنه طالب لها فسكوته اسقاط
لحقه في الطلب والانسان يباع وهو حاضر عالم بذلك، ثم يقال له: قم مع مولاك فيقوم
فهذا إقرار منه بالرق وان لم يتكلم به والبائع للشئ بثمن حال فيقبضه المشترى والبائع ساكت
فهذا اذن منه في القبض، والبكر في النكاح *
قال أبو محمد: هذه (3) الأربعة وجوه باطل وتخليط ودعوى بلا دليل لا من
قرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قول متقدم. ولا قياس. ولا رأى سديد
يفرق بينها وبين غيرها وما كان هكذا فان القول لا يحل به، وأما مالك فإنه قال: من رأى
ما له يباع فسكت فقد لزمه البيع أمة كانت المبيعة أو عبدا أو غير ذلك، ومن غصب ماله
فمات الغاصب فرأى ماله يقسم فسكت فان حقه قد بطل، ومن ادعى عليه بدين فسكت فقد
لزمه ما ادعى به عليه (4) ولم ير السكوت عن طلب الدين - وان رآه يقسم - مسقطا
لحقه في الطلب، ولا رأى السكوت عن طلب الشفعة رضى باسقاطها الا حتى تمضى له سنة
فسكوته بعد السنة رضى باسقاطها عنده، ولم ير سكوت من تتزوج (5) امرأته بحضرته
طلاقا ولا أنها بانت عنه بذلك، وهذه مناقضات لا دليل على صحة شئ منها لا من نص ولا
من قول أحد تقدمه. ولا من رواية سقيمة. ولا من قياس. ولا من رأى له وجه،
وأعجب ذلك أنه لم ير سكوت البكر العانس رضى بالنكاح الا حين تنطق بالرضى وهذا
خلاف النص جهارا، ورأي على من رأى داره تبنى وتهدم ويتصرف فيها أجنبي فسكت
عشر سنين فأكثر أنها قد خرجت عن ملكه بذلك، وان سكت عن ذلك أقل من سبع
سنين انها لم تخرج عن ملكه بذلك، واختلف عنه في سكوته سبع سنين. أو ثمان سنين.
أو تسع سنين فروى عنه أن كل ذلك قطع لحقه، وروى عنه أنه ليس ذلك قطعا لحقه
ولم ير سكوت المرء عن ذلك لبعض أقاربه قطعا لحقه الا بعد سبعين سنة، وهذه أقوال كما ترى
نعوذ بالله منها، ففيها إباحة الأموال المحرمة جزافا وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة 14 باع ماله وهو غلط
(2) الزيادة من النسخة 16
(3) سقط لفظ (هذه) من النسخة 14
(4) في النسخة 14 ما ادعى عليه فيه
(5) في النسخة 14 من تزوج
438
1461 مسألة ولا يجوز بيع شئ لا يدرى بائعه ما هو وان دراه المشترى
ولا ما لا يدرى المشترى ما هو وان دراه البائع. ولا ما جهلاه جميعا، ولا يجوز البيع
الا حتى يعلم البائع والمشترى ما هو ويرياه جميعا أو يوصف لهما عن صفة من رآه وعلمه
كمن اشترى زبرة يظنها قزديرا فوجد ها فضة، أو فصا لا يدرى أزجاج هو أم ياقوت
فوجده ياقوتا أم زمردا أو زجاجا وهكذا في كل شئ، وسواء وجده أعلى مما ظن أو
أدنى أو الذي ظن كل ذلك باطل مفسوخ أبدا لا يجوز لهما تصحيحه بعد علمهما به الا بابتداء
عقد برضاهما معا والا فلا وهو مضمون على من قبضه ضمان الغضب *
برهان ذلك قول الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون
تجارة عن تراض منكم) ولا يمكن ببديهة العقل. وضرورة الحس رضى (2) بما لا يعرف
ولا يكون الرضى إلا بمعلوم المائية، ولا شك في أنه ان قال: رضيت انه قد لا يرضى إذا
علم ما هو وإن كان دينا جدا، وقد سمى الله تعالى ما لم يكن عن تراض أكل مال بالباطل،
وأيضا فهو بيع غرر لان (3) لا يدرى ما ابتاع ولا ما باع، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن بيع الغرر وهذا أعظم الغرر، وهذا قول الشافعي. وأبي سليمان، وقد ذكرنا عن
مالك إجازة هذا البيع وهو قول لا دليل على صحته أصلا * ومن عجائب الدنيا اجازته
هذا البيع الفاسد ومنعه من بيع صبرة مرئية محاط بها علم البائع مكيلتها ولم يعلم المشترى
مكيلتها (4) وهذا عجب لا نظير له، وبالله تعالى التوفيق *
1462 مسألة ولا يحل بيع شئ بأكثر مما يساوى ولا بأقل مما يساوى إذا
اشترط البائع أو المشترى السلامة الا بمعرفة البائع والمشترى معا بمقدار الغبن في ذلك
ورضاهما به، فان اشترط أحدهما السلامة ووقع البيع كما ذكرنا ولم يعلما قدر الغبن أو
علمه غير المغبون منهما ولم يعلمه المغبون فهو بيع باطل مردود مفسوخ أبدا مضمون على
من قبضه ضمان الغب وليس لهما إجازته الا بابتداء عقد فإن لم يشترطا السلامة ولا
أحدهما ثم وجد غبن علي أحدهما ولم يكن علم به فللمغبون انفاذ البيع أورده، فان فات
الشئ المبيع رجع المغبون منهما بقدر الغبن وهو قول أبي ثور. وقول أصحابنا الا أنهم
قالوا: لا يجوز رضاهما بالغبن أصلا، وقال أبو حنيفة: ومالك. والشافعي: لا رجوع
للبائع ولا للمشترى بالغبن في البيع كثر أو قل، وذكر ابن القصار عن مالك أن البيع إذا
كان فيه الغبن مقدار الثلث فان يرد *
برهان صحة قولنا قول الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون



(1) بضم أوله وسكون ثانيه القطعة
(2) في النسخة 14 كون رضى
(3) في النسخة 14 ولأنه وهو غلط
(4) في النسخة 16 مكيلها في الموضعين
439
تجارة عن تراض منكم) ولا يكون التراضي البتة الاعلى معلوم القدر ولا شك في أن من
لم يعلم بالغبن ولا بقدره فلم يرض به، فصح أن البيع بذلك أكل مال بالباطل، وقوله
تعالى: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم) فحرم عز وجل الخديعة،
ولا يمترى أحد في أن بيع المرء بأكثر مما يساور ما باع ممن لا يدرى ذلك خديعة للمشترى،
وأن بيع المرء بأقل مما يساوى ما باع وهو لا يدرى ذلك خديعة للبائع، والخديعة حرام
لا تصح * وما روينا عن أبي داود نا أحمد بن حنبل نا سفيان بن عيينة عن العلاء بن عبد
الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يبيع طعاما فسأله
كيف تبيع؟ فأخبره فأوحى الله تعالى إليه [أن] (1) أدخل يدك فيه فادخل يده فيه فإذا هو مبلول
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من غش) * وقال عليه السلام: (ان دماءكم وأموالكم
عليكم حرام) * ومن طريق عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن سهيل بن أبي
صالح عن عطاء بن يزيد الليثي عن تميم الداري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة
الدين النصيحة الدين النصيحة قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله. ولكتابه
وللأئمة. ولجماعة المسلمين) ونهى النبي صلى الله عليه وسلم وسلم عن النجش في البيع برهان صحيح
على قولنا ههنا لأنه نهى بذلك عن الغرور. والخديعة في البيع جملة بلا شك يدرى الناس
كلهم أن من أخذ من آخر فيما يبيع منه أكثر مما يساوى بغير علم المشترى ولا رضاه ومن
أعطاه آخر فيما يشترى منه أقل مما يساوى بغير علم البائع ولا رضاه فقد غشه ولم ينصحه،
ومن غش ولم ينصح فقد أتى حراما، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه
أمرنا فهو رد) فصح أنه باطل مردود بنص أمره عليه السلام، وهو قول السلف كما
روينا من طريق حماد بن زيد نا أيوب. وهشام - هو ابن حسان - كلهم عن محمد بن سيرين
أن رجلا قدم المدينة بجواري فنزل على ابن عمر فذكر الحديث، وفيه أنه باع جارية
من ابن جعفر ثم جاء الرجل إلى ابن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن غبنت بسبعمائة درهم فاتى
ابن عمر إلى عبد الله بن جعفر فقال: إنه غبن بسبعمائة درهم فاما أن تعطيها إياه واما أن
ترد عليه بيعه فقال ابن جعفر: بل نعطيها إياه، فهذا ابن جعفر. وابن عمر قد رأيا رد
البيع من الغبن في القيمة * ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن يونس بن عبيد عن رجل عن جرير بن عبد الله البجلي أنه ساوم رجلا بفرس فسامه فسامه الرجل خمسمائة درهم
ان رأيت ذلك فقال له جرير: فرسك خير من ذلك ولك ستمائة حتى بلغ ثمانمائة وهو
يقول: إن رأيت ذلك فقال جرير: فرسك خير من ذلك ولا أزيدك فقال له الرجل:



(1) الزيادة من سنن أبي داود
440
خذها فقيل له: ما منعك أن تأخذها بخمسمائة؟ فقال: جرير: لأنا بايعنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم على أن لا نغش أحدا أو قال: مسلما، وعن ابن عمر ليس لي غش * ومن طريق عبد
الرحمن بن مهدي عن سفيان الثوري عن زبيد اليامي عن ميسرة عن ابن عمر وقد ذكرناه
قبل في باب ما لا يتم البيع إلا به من التفرق * ومن طريق سفيان بن عيينة نا بشر بن عاصم
الثقفي سمع سعيد بن المسيب بحديث عن أبي بن كعب أن عمر بن الخطاب. والعباس بن
عبد المطلب تحاكما إليه في دار كانت للعباس إلى جانب المسجد أراد عمر أخذها ليزيدها
في المسجد وأبى العباس فقال أبي بن كعب لهما: لما أمر سليمان ببناء بيت المقدس كانت
أرضه لرجل فاشتراها سليمان منه فلما اشتراها قال له الرجل: الذي أخذت منى خير أم
الذي أعطيتني؟ قال سليمان: بل الذي أخذت منك قال: فانى لا أجيز البيع فرده فزاده
ثم سأله؟ فأخبره فأبى أن يجيزه وذكر الحديث، فهذا أبى يورد هذا على سبيل الحكم به
بحضرة عمر بن الخطاب. والعباس رضي الله عنهم فيصوبان قوله، فهؤلاء عمر. وابنه.
والعباس. وعبد الله بن جعفر. وأبى. وجرير ولا مخالف (1) لهم من الصحابة رضي الله عنهم
يرون رد البيع من الخديعة في نقصان الثمن عن قيمة المبيع * ومن طريق وكيع
عن إسرائيل عن جابر عن القاسم بن عبد الرحمن أنه رد البيع من الغلط ولم يرده الشعبي
وقال: البيع خدعة *
قال أبو محمد: والعجب كله من أقوالا لحاضرين من خصومنا فإنهم يردون البيع
من العيب يحط من الثمن يوجد فيه لأنه عندهم غش ثم يجيزون البيع وقد غش فيه بأعظم
الغش وأخذ فيه منه أكثر من ثمنه، وهذا عجب جدا! وتناقض سمج، وعجب آخر وهو
انهم يردون البيع من العيب يوجد فيه وإن كان قد أخذه المشترى بقيمته معيبا ولا يردون
البيع إذا غبن البائع فيه الغبن العظيم فلا ندري من أين وقع لهم هذه العناية بالمشترى؟
وهذا الحنق على البائع، ان هذا لعجب لا نظير له! وعجب ثالث وهو انهم - فعنى المالكيين
والشافعيين - يحجرون على الذي يخدع في البيوع حتى يمنعوه من العتق. والصدقة ومن
البيع الصحيح الذي لا غبن (2) فيه ويردون كل ذلك وهم ينفذون مع ذلك تلك البيوع
التي غبن فيها ولا يردونها، فلئن كانت تلك البيوع التي خدع فيها حقا وجائزة فلأي
معنى حجر واعليه من أجلها وهي حق وصحيحة ولئن كانت تلك البيوع التي خدع فيها
باطلا وغير جازئة فلأي معنى يجيزونها ان هذه لطوام فاحشة. وتخليط سمج. وخلاف
مجرد لكل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ذكر له منقذ وانه يخدع في البيوغ فلم يحجر



(1) في النسخة 16 لا مخالف
(2) في النسخة 16 لاغش
441
عليه لكن أمره أن يقول: لا خلابة عند البيع وجعل له الخيار ثلاثا في إنفاذ البيع أورده،
فأبطل عليه السلام الخلابة وأنفذ بيوعه الصحاح والتي يختار انفاذها بعد المعرفة بها ولم
يحجر عليه وهذا عكس كل ما يحكمون به، وحسبنا الله ونعم الوكيل *
1463 مسألة (1) فمن غبن في بيع اشترط فيه السلامة فهو بيع مفسوخ لان
بيع الغش بيقين هو غير بيع السلامة الذي لا غش فيه هذا. أمر يعلم بالمشاهدة، فإذ هو
كذلك فالبيع المنعقد بينهما في الباطن ليس هو الذي عقد عليه مشترط السلامة (2) ولا
يحل أن يلزم غير ما عقد عليه ولا يحل له أن يتمسك بما لم يعقد عليه بيعه الذي تراضى به لان مال الآخر حرام عليه الا ما تراضى معه، وكذلك ماله على الآخر أيضا، وأما إذا علم
بقدر الغبن كلاهما وتراضيا جميعا به فهو عقد صحيح. وتجارة عن تراض. وبيع لا داخلة
فيه، وأما إذا لم يعلما أو أحدهما بقدر الغبن ولم يشترطا السلامة ولا أحدهما فله الخيار
إذا عرف في رد أو امساك لان البيع وقع سالما على الجملة فهو بيع صحيح ثم وجدنا النبي
صلى الله عليه وسلم قد جعل الخيار لمن قال: لا خلابة ثلاثا ان شاء أمسك وانشاء رد فوجب أن لا يحل
ما تزيد فيه الخادع على المخدوع الا بعلم المخدوع وطيب نفسه فان رضى بترك حقه (3)
فذلك له وان أبى لم يجزله أخذ ما ابتاع بغير رضى البائع فله أن يرده، وقد صح الاجماع
المقطوع به على أن له الرد، واختلف الناس هل له الامساك أم لا؟ وقد قال الله تعالى:
(الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فصح أنه إذا رضى ما ابتاع فذلك، وبالله
تعالى التوفيق *
قال على: والقيمة قيمتان باتفاق جميع أهل الاسلام قديما وحديثا، فقد كان التجار
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيعون ما يشترون طلب الربح هذا أمر متيقن، فقيمة يبتاع
بها التجار السلع لا يتجاوزونها الا لعلة، وقيمة يبيع بها التجار السلع لا يحطون عنها ولا
يتجاوزونها إلا لعلة، فهاتان القيمتان تراعيان لكل قيمة (4) في حالها *
قال أبو محمد: واحتج أصحابنا في ابطالهم البيع بأكثر مما يساوى وان علما جميعا
بذلك وتراضيا به (5) بأن قالوا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال قالوا (6):
والمشترى الشئ بأكثر من قيمته والبائع له (7) بأقل من قيمته كلاهما مضيع لماله، قالوا:
ولا يجوز اخراج المال عن الملك إلا بعوض أجر من الله تعالى فهو أفضل عوض، وأما
بعوض من اعراض الدنيا كعمل في الإجارة. أو عرض في التجارة. أو ملك بضع في



(1) سقط الفظ مسألة من النسخة 16 والنسخة الحلبية
(2) في النسخة 16 بشرط السلامة
(3) في النسخة 16 بتركه حقه
(4) في النسخة 16 كل قيمة
(5) في النسخة 14 وتراضياه
(6) في النسخة 14 قال وهو غلط
(7) في النسخة 16 للشئ
442
النكاح. أو انحلال ملكه في الخلع. ونحو ذلك مما جاءت به النصوص، قالوا: ومن باع
ثمرة بألف دينار أو ياقوتة بفلس فان هذا هو التبذير. والسرف. وبسط اليد كل البسط.
وأكل المال بالباطل * قال أبو محمد: لا حجة لهم غير ما ذكرنا *
قال أبو محمد: فنقول لهم وبالله تعالى التوفيق: ان الذي قلتم إنما هو فيما لا يعلم
بقدره واما إذا علم بقدر الغبن وطابت به نفسه فهو بربربه معامله بطيب نفسه فهو مأجور
لأنه فعل خيرا وأحسن إلى إنسان وترك له مالا أو أعطاه مالا وليس التبذير. والسرف.
وإضاعة المال. وأكله بالباطل إلا ما حرمه الله عز وجل على ما بينا في كتاب الحجر من
ديواننا هذا، وأما التجارة عن تراض فما حرمها الله تعالى قط بل أباحها *
قال أبو محمد: وإنما يجوز من التطوع بالزيادة في الشراء ما أبقى غنى لأنه معروف
من البيع، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل معروف صدقة) وقال عليه السلام: (الصدقة
عن ظهر غنى) وأما ما لم يبق غنى فمردود لا يحل لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا
ليس عليه أمرنا فهو رد) *
قال على: ومما يبين صحة قولنا ما رويناه من طريق مسلم نا أبو كامل - هو فضيل بن حسين
الجحدري - نا عبد الواحد بن زياد نا الجريري عن أبي نضرة عن جابر بن عبد الله [قال]:
(كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [في سفر] فتختلف نا ضحى فذكر الحديث وفيه (فما زال يزيدني
ويقول: والله يغفر لك) *
قال أبو محمد: فلا يخلو أول عطاء أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمل من أن يكون هو
قيمة الجمل أو أقل من قيمته أو أكثر من قيمته فإن كان قيمته فقد زاده بعد ذلك، وفى هذا
جواز البيع بالزيادة على القيمة عن رضاهما معا، وإن كان أعطاه أو لا أقل من القيمة أو
أكثر فهذا هو قولنا وهو عليه السلام لا يسوم بما لا يحل ولا يخدع ولا يغر ولا يغش،
فهذا نفس قولنا ولله الحمد، وكذلك قوله عليه السلام: (لا يسم أحدكم على سوم أخيه)
فيه إباحة المساومة وهي عند كل من يدرى اللغة العربية معروفة وهي أن يسأل أحدهما
ثمنا يعطيه الآخر أقل فلو كان اعطاء أقل من القيمة أو طلب أكثر منها طلبا باطلا لما أباحه
الله تعالى على لسان رسوله، فصح أن كل ذلك جائز إذا عرفاه وعرفا مقداره وتراضيا
معا به ولم يكن خديعة ولا غشا، وكذلك ما جعل عليه السلام لمنقذ من الخيار في رد
البيع أو امضائه وكان يخدع في البيوع، فيه إجازة البيع الذي فيه الخديعة إذا رضيها
المخدوع وعرفها، وكذلك الذي روينا من طريق مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله



(1) في النسخة 14 غير هذا أصلا
(2) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 470
443
ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سئل عن الأمة إذا زنت؟ فقال: إذا زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت
فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير أو بحبل من شعر) فأباح عليه السلام بيعها
بحبل من شعر إذا رضى بائعها بذلك، وقد أجاز أصحابنا الذي أنكروا ههنا في حس مس
إذ أجازوا بيع عبد بعشرة دنانير واشتراط ماله وهو أنه عشرة آلاف دينار ولم
ينكروه أصلا وكيف ينكرونه ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد أباحه جملة؟ وهذا
أخذ مال بغير صدقة ولا عوض *
قال أبو محمد: وليس في شئ من هذه الأخبار متعلق لمن أجاز البيع الذي فيه الخديعة
المحرمة والغش المحرم من الغبن (1) الذي لا يدريه المغبون لأنه ليس فيها دليل على شئ
من ذلك إنما فيها جواز ذلك إذا علمه الراضي به في بيعه فقط ولا يجوز الرضا بمجهول
أصلا لأنه يمتنع في الجبلة محال في الخلقة، وقد يقول المرء: رضيت رضيت فيما لا يعلم
قدره فإذا وقف عليه لم يرضه أصلا، هذا أمر محسوس في كل أحد وفى كل شئ *
قال على: واحتج المذكورون بما روينا من طريق عبد الملك بن حبيب الأندلسي قال:
بلغني عن ابن عمر أنه كأن يقول: إذا بعث بمن يبتاع له سلعة أرثم أنفه (2) * ومن طريق
ابن حبيب حدثني عبد العزيز الأويسي. وعبد الملك بن مسلمة عن إسماعيل بن عياش عن
عمرو بن المهاجر عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: وددت أنى لا أبيع شيئا ولا ابتاعه إلا
بطحت بصاحبه، وبما ذكرنا عن الشعبي من قوله (3): البيع خدعة *
قال أبو محمد. هذا كله باطل، وابن حبيب متروك، ثم هو عن ابن عمر بلاغ كاذب،
ثم لو صح لما فهم منه أحد إباحة غبن. ولا خديعة إنما معنى أر ثم أنفه خذ أفضل ما عنده،
وهذا مباح إذا تراضيا بذلك وأعطاه إياه بطيب نفسه * وأما حديث عمر بن عبد العزيز
فإسماعيل بن عياش لا شئ، وكم قصة خالفوا فيها عمر بن عبد العزيز؟ كسجوده في (إذا
السماء انشقت) واباحته بيع السمك في الماء قبل أن يصاد. وعشرات من القضايا،
فمن الباطل أن يكون ما صح عنه ليس حجة وما لم يصح عنه حجة، وبالله تعالى التوفيق *
والذي جاء من طريق الشعبي هو من طريق جابر الجعفي وقد خالفه القاسم. وغيره،
ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وآله *
1464 - مسألة - ولا يجوز البيع بثمن مجهول ولا إلى أجل مجهول كالحصاد.
والجداد. والعطاء. والزريعة. والعصير. وما أشبه هذا، وهو قول أبي حنيفة.



(1) في النسخة 14 والغش المحرم وليس المحرم من الغبن الخ
(2) قال الجوهري في صحاحه، رثمت انفه إذا كسرته حتى أدميته ورثمت المرأة أنفها بالطيب طلته ولطخته
(3) في النسخة 14 وبما ذكرنا من قول الشعبي الخ
444
والشافعي. وأبي سليمان لان كل ما ذكرنا يتقدم بالأيام ويتأخر (1)، فالحصاد. والجداد
يتأخران أياما إن كان المطر متواترا ويتقدمان بحر الهواء وعدم المطر، وكذلك العصير،
وأما الزريعة فتتأخر شهرين وأكثر لعدم المطر، وأما العطاء فقد ينقطع جملة، وأيضا
فكل ذلك شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإنما يجوز الأجل إلى ما لا يتأخر ساعة
ولا يتقدم كالشهور العربية والعجمية، أو كطلوع الشمس أو غروبها، أو طلوع القمر
أو غروبه، أو طلوع كوكب مسمى أو غروبه، فكل هذا محدود الوقت عند من يعرفها
قال الله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) حاشا ما ذكرنا من
المبيع إلى الميسرة فهو حق للنص في ذلك ولأنه حكم الله تعالى في كل من لا يجد أداء دينه،
ولا يجوز الأجل إلى صوم النصارى أو اليهود أو فطرهم ولا إلى عيد من أعيادهم لأنها من
زينتهم ولعلهم سيبدو لهم فيها فهذا ممكن، وقال الشافعي. لا يجوز الأجل الا بالأهلة
فقط وذكر هذه الآية. وقول الله عز وجل: (ان عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا
في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) *
قال أبو محمد: قال الله عز وجل: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) فعم
تعالى كل أجل مسمى ولم يخص فكانت هذه الآية زائدة على تينك الآيتين والزيادة لا يحل
تركها وليس في تينك الآيتين منع من عقد الآجال (2) إلى غير الأهلة ولا إباحة فواجب
طلب حكم ذلك من غيرهما فان وجد ما يدل على جوازه قيل به والا فلا، وهذا (3) قول
الحسن بن حي. وأبي سليمان وأصحابنا، وأباح مالك البيع إلى العطاء فيما خلا قال:
واما اليوم فلا لأنه ليس الآن معروفا وكان معروفا قبل ذلك وأجاز البيع إلى الحصاد.
والجداد. والعصير قال: وينظر إلى عظم ذلك وكثرته لا إلى أوله ولا إلى آخره *
قال أبو محمد: ما نعلم في الجهالة أكثر من هذا التحديد ولا غرر أعظم منه * قال على:
وقد تبايع الناس بحضرة عمار ومن معه من الصحابة رضي الله عنهم إلى قدوم الراكب
فخالف الحنيفيون. والمالكيون ذلك وهم يشنعون بأقل من هذا إذا وافق تقليدهم، ونسوا في
هذا الباب احتجاجهم بالأثر الوارد (المسلمون عند شروطهم)) ومن غرائب احتجاجهم
أن كلتا الطائفتين ذكرت الخبر الذي رويناه من طريق ابن وهب عن جرير بن حازم عن أبي
إسحاق السبيعي عن أم يونس أن عائشة أم المؤمنين قالت لها أم محبة أم ولد زيد بن أرقم:
يا أم المؤمنين أنى بعت زيد بن أرقم عبدا إلى العطاء بثمانمائة درهم فاحتاج إلى الثمن
فاشتريته منه قبل محل الأجل بستمائة فقالت عائشة: بئس ما شريت وبئس ما اشتريت
(هامش) (1) في النسخة 14 تتأخر الأيام وتتقدم (2) في النسخة 16 الأجل (3) في النسخة 14 وهو (*)

445
أبلغي زيدا انه قد بطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ان لم يتب فقالت: أرأيت ان تركت
وأخذت السمائة؟ قالت: نعم فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف) فقال الحنيفيون.
والمالكيون: بتحريم البيع المذكور تقليد العائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ولم يقلدوا زيد
ابن أرقم في جوازه، وقالوا: مثل هذا القول عن أم المؤمنين لا يكون إلا عن توقيف من
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقولوا: ان فعل زيد لا يكون الا عن توقيف من رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم
لان ما كان طريقه التوقيف فليست هي أولى بالقول من زيد بن أرقم، والتزم الحنيفيون
هذا الاحتجاج في البيع إلى العطاء ولم يرضه المالكيون فيه فقلنا لهم: يا هؤلاء أين أنتم
عن هذا الاحتجاج الكاذب في كل ما تركتم فيه التوقيف الصريح من أن كل بيعين لا بيع
بينهما ما لم يتفرقا الا أن يخير أحدهما الآخر، والنهى عن بيع الثمر قبل أن يبدو صلاحه
فأبحتموه على القطع، والنهى عن بيع الماء فأبحتموه وسائر التوقيفات الثابتة؟ فهان عليكم
تركها لآرائكم المجردة. وتأويلاتكم الفاسدة، ثم التزمتم القول بظن كاذب لا يحل القول به
ان ههنا توقيفا من رسول الله صلى الله عليه وسلم كتمته أم المؤمنين ولم تبلغه، وهذا هو الكذب على
رسول الله صلى الله عليه وسلم المكشوف وقبيح الوصف لام المؤمنين رضي الله عنها، فان قالوا:
تركنا دليل النصوص لتأويل تأولناه واجتهاد رأيناه فقلنا: ومن أباح لكم ذلك وحظره
على زيد بن أرقم - وقلامة ظفره والله قبل أن تفارقه - خير من أبي حنيفة. ومالك. وكل
من اتبعهما؟ وهو الذي صدقه الله تعالى في القرآن، وحتى لو كان ههنا نص ثابت بخلاف قوله
فمن أحق بالتأويل منه في أن يعذر في ذلك لو أخطأ مجتهدا في خلاف القرآن كما تأول
ابن مسعود أن لا يتيمم الجنب ولا يصلى ولو لم يجد الماء شهرا، وكما تأول عمر إذ خطب
فمنع الزيادة في الصداق على خمسمائة درهم. وإذا أعلن بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمت ولا يموت
حتى يكون آخرنا، وأم المؤمنين رضي الله عنها إنما قالت هذا القول إن كانت قالته أيضا
فلم يرو ذلك عنها من يقوم بنقله حجة، وان العجب ليطول ممن رد رواية فاطمة بنت قيس
المهاجرة المبايعة عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم يلزم الناس الحجة برواية أم يونس. وأم محبة، فلا
أكثر من أم يونس. وأم محبة لرأى رأته أم المؤمنين خالفها فيه زيد بن أرقم *
قال أبو محمد: واحتج من أباح البيع إلى العطاء بما رويناه من طريق الحجاج بن أرطاة
عن عطاء. وجعفر بن عمرو بن حريث قال عطاء: كان ابن عمر يشترى إلى العطاء، وقال
جعفر عن أبيه: ان دهقانا بعث إلى علي بن أبي طالب ثوب ديباج منسوج بالذهب فابتاعه منه
عمرو بن حريث إلى العطاء بأربعة آلاف درهم، قال حجاج: وكان أمهات المؤمنين
يتبايعن إلى العطاء * ومن طريق إسرائيل عن جابر الجعفي عن الشعبي لا بأس بالبيع إلى

446
العطاء * وعن ابن أبي شيبة نا أبو بكر عن نوح بن أبي بلال اشترى منى علي بن الحسين
طعاما إلى عطائه *
قال على: كل هذا عن حجاج بن أرطاة وناهيك به ضعفا، وعن جابر وهو دون حجاج
بدرج، ولا أدرى نوح بن أبي هلال من هو؟ ولقد كان يلزم الحنيفيين المحتجين برواية
حجاج بن أرطاة في أن العمرة تطوع أن يحتجوا ههنا بروايته، ولقد كان يلزمهم إذ قلدوا
أم المؤمنين فيما خالفها فيه زيد بن أرقم أن يقلدوها ههنا ومعها صواحبها أمهات المؤمنين
وعلى. وعمرو بن حريث، وأيضا عمار بن ياسر وغيره، ولكن القوم متلاعبون *
قال على: وروينا من طريق سفيان بن عيينة عن عبد الكريم الجزري عن عكرمة عن
ابن عباس لا يسلم إلى عصير ولا إلى العطاء ولا إلى العطاء ولا إلى الاندر - يعنى البيدر - * ومن طريق وكيع
عن سفيان الثوري عن بكير بن عتيق عن سعيد بن جبير لا تبع (1) إلى الحاصد. ولا إلى
الجداد. ولا إلى الدراس ولكن سم شهرا * ومن طريق ابن أبي شيبة نا محمد بن أبي عدى
عن عبد الله بن عون سئل محمد بن سيرين عن البيع إلى العطاء؟ قال: لا أدرى ما هو *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير عن منصور عن إبراهيم أنه كره الشراء إلى العطاء
والحصاد ولكن يسمى شهرا * ومن طريق ابن أبي شيبة نا حميد بن عبد الرحمن عن الحسن
ابن صالح بن حي عن المغيرة عن الحكم أنه كره البيع إلى العطاء، وهو قول سالم بن عبد الله
ابن عمر. وعطاء * 1465 مسألة ولا يحل لاحد أن يسوم على سوم آخر ولا أن يبيع على بيعه،
المسلم. والذمي سواء، فان فعل فالبيع مفسوخ، فان وقف سلعة لطلب الزيادة أو قصد
الشراء ممن باعه لا من إنسان بعينه لكن محتاطا لنفسه جازت المزايدة حينئذ هذا إذا لم
يبتد بسوم آخر فقط فان بدأ بمساومة انسان بعينه فلم يزده المشترى على أقل من القيمة
ووقف على ذلك فلغيره أن يبلغه إلى القيمة وأكثر حينئذ، وكذلك لو طلب البائع
أكثر من القيمة ولم يجب إلى القيمة أصلا فلغيره حينئذ أن يعرض على المشترى سلعته
بقيمتها (2) وبأقل *
برهان ذلك ما رويناه من طريق مالك عن نافع. وأبى الزناد قال أبو الزناد: عن الأعرج
عن أبي هريرة، وقال نافع: عن ابن عمر ثم اتفق أبو هريرة. وابن عمر كلاهما عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يبع بعضكم على بيع بعض) * ومن طريق عبد الرزاق عن
معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يزيد



(1) في النسخة 16 (لا يبع) يرجح ماهنا قوله بعد ولكن سم شهرا
(2) في النسخة 16 سلعة بعينها
(3) الحديث في موطأ مالك ج 2 ص 170 مطولا اختصره المصنف واقتصر على محل الشاهد منه
447
أحدكم على بيع أخيه) * قال على: هذا خبر معناه الامر لأنه لو كان معناه الخبر لكان
كذبا لوجود خلافه، والكذب مقطوع ببعده عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يجيزه عليه الا كافر
حلال دمه * ومن طريق شعبة عن الأعمش عن أبي صالح - هو السمان - عن أبي هريرة:
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يسم المسلم على سوم المسلم) * قال على: هذا بعض ما في
حديث أبي هريرة. وابن عمر لان البيع على البيع يدخل فيه السوم ضرورة لأنه لا يمكن
البيع البتة الا بعد سوم ولا يكون السوم البتة الا للبيع وإلا فليس سوما فإذا حرم
البيع حرم السوم عليه وإذا حرم السوم حرم البيع ضرورة ولا يجوز السوم بمالا يجوز
بيعه كبيع الحر والسوم فيه، وفى الربا، وبهذا قال بعض الصحابة رضي الله عنهم *
قال أبو محمد: وقال مالك: إنما هذا إذا ركنا وتقاربا وهذا تفسير لا يدل عليه لفظ
الحديث، فأما من أوقف سلعته طلب الزيادة فيه (1) أو طلب بيعا يستر خصه فليس
مساوما لانسان بعينه فلا يلزمه هذا النهى، وأما من رأى المساوم أو المبايع لا يريد الرجوع
إلى القيمة لكن يريد غبن صاحبه بغير علمه فهذا فرض عليه نصيحة المسلم فقد خرج عن
هذا النهى أيضا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصحية) * وروينا من طريق وكيع
عن حزام بن هشام الخزاعي عن أبيه شهدت عمر بن الخطاب باع إبلا من إبل الصدقة فيمن
يزيد * ومن طريق حماد بن سلمة عن أبي جعفر الخطمي عن المغيرة بن شعبة أنه باع
المغانم فيمن يزيد * ومن طريق ابن أبي شيبة نا معتمر بن سليمان عن الأخضر بن عجلان عن أبي
بكر الحنفي عن أنس بن مالك عن رجل من الأنصار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم باع حلسا
وقدحا فيمن يزيد *
1466 مسألة ولا يحل النجش وهو أن يريد البيع فينتدب انسان للزيادة في
البيع وهو لا يريد الشراء لكن ليغتر غيره فيزيد بزيادته فهذا بيع إذا وقع بزيادة على القيمة
فللمشتري الخيار وإنما العاصي والمنهى هو الناجش، وكذلك رضى البائع ان رضى بذلك،
والبيع غير النجش وغير الرضى بالنجش، وإذ هو غير هما فلا يجوز أن يفسخ بيع [صح] (2)
بفساد شئ غيره ولم يأت نهى قط عن البيع الذي ينجش فيه الناجش بل قال الله تعالى: (وأحل
الله البيع) * وروينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر قال: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن النجش) * ومن طريق عبد الرزاق عن إسماعيل بن عياش عن عبيد بن مهاجر قال: بعث
عمر بن عبد العزيز عبيد بن مسلم يبيع السبي (3) فلما فرغ أتى عمر فقال له: ان البيع كان
كاسدا لولا أنى كنت أزيد عليهم وأنفقه فقال له عمر: كنت تزيد عليهم ولا تريد أن



(1) سقط لفظ (فيه) من النسخة 14
(2) الزيادة من النسخة 16
(3) في النسخة 16 شيئا وهو تحريف
448
تشترى قال: نعم فقال عمر: هذا نجش، والنجش لا يحل ابعث مناديا ينادى أن البيع
مردود وأن النجش لا يحل *
1468 مسألة (1) ولا يحل لاحد تلقى الجلب سواء خرج لذلك أو كان ساكنا
على طريق الجلاب، وسواء بعد موضع تلقيه أم قرب، ولو أنه على السوق على ذراع فصاعدا
لا لأضحية. ولا لقوت ولا لغير ذلك أضر ذلك بالناس أو لم يضر، فمن تلقى جلبا أي
شئ كان فاشتراه فان الجالب بالخيار إذا دخل السوق متى ما دخله ولو بعد أعوام في إمضاء
البيع أورده، فان رده حكم فيه بالحكم في البيع برد العيب لا في المأخوذ بغير حق، ولا يكون
رضى الجالب إلا بان يلفظ بالرضى لا بان يسكت علم أو لم يعلم، فان مات المشترى فالخيار
للبائع باق، فان مات البائع قبل أن يرد أو يمضى فالبيع تام *
برهان ذلك ما روينا من طريق مسلم نا ابن نمير - هو محمد بن عبد الله بن نمير - نا أبى عن
عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى ان تتلقى السلع (3)
حق تبلغ الأسواق) * ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة نا عبد الله بن المبارك عن التيمي
- هو سليمان - عن أبي عثمان النهدي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تلقى
البيوع * وروينا نحوه مسندا صحيحا من طريق ابن عباس (4)، ومن طريق على أيضا *
ومن طريق مسلم حدثنا ابن أبي عمر نا هشام بن سليمان عن ابن جريج أخبرني هشام
القردوسي (5) - هو ابن حسان - عن ابن سيرين قال: سمعت أبا هريرة يقول: (ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تلقوا الجلب فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار) *
ومن طريق أبى داود نا الربيع بن نافع أبو توبة حدثنا عبيد الله بن عمرو الرقى عن أيوب
السختياني عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة (ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقى الجلب
فان تلقاه متلق فاشتراه فصاحب السلعة بالخيار إذا وردت السوق) *
قال أبو محمد: هذا نقل تواتر رواه خمسة من الصحابة، ورواه عنهم الناس وبهذا قال
السلف * روينا من طريق عبد الرزاق نا معمر عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن
أبي هريرة نهى عن تلقى الجلب فمن تلقى جلبا فاشترى منه فالبائع بالخيار إذا وقع السوق،
وهذا نص قولنا ولا يعرف له من الصحابة رضي الله عنهم مخالف لا سيما هذه الطريق التي



(1) تنبيه حصل غلط سهوا في رقم المسائل من ابتداء صفحة 370 فرقمت المسألة 1420 وحقها أن تكون
1421، وفى صحفة 388 فرقمت المسألة 1421 وحقها أن تكون 1423 وتسلسل هذا إلى هنا فاستدرك
في هذه المسألة
(2) في النسخة 16 (عن تلقى السلع) وما هنا موافق لما في صحيح مسلم ج 1 ص 444
(3) في النسخة 16 (السوق)
(4) في النسخة 16 (ابن مسعود)
(5) هو بالقاف المضمومة نسبة إلى قراديس درب بالبصرة ينسب إلى أبى حي من اليمن، والحديث في صحيح مسلم ج 1 ص 444
449
كأنها الشمس * ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو هلال نا محمد بن سيرين قال: كان يكره
أن يتلقى الجلب خارج البلد فإذا تلقى الجلب خارجا من البلد فرب الجلب بالخيار إذا قدم
إن شاء باع وان شاء امسك، وهذا أيضا نص قولنا * ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن المبارك
عن أبي جعفر الرازي عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال: لا تلقوا البيوع بأفواه السكك *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو داود الطيالسي عن اياس بن دغفل قرئ علينا كتاب عمر بن
عبد العزيز لا تلقوا الركبان * وممن نهى عن تلقى الركبان الجالبين جملة الليث. والحسن
ابن حي. وأحمد بن حنبل. وإسحاق. والشافعي. وأبو سليمان. وأصحابهم، وقال الشافعي.
وأبو سليمان: بايجاب الخيار للبائع إذا قدم السوق، ونهى عنه الأوزاعي إن كان بالناس
إليه حاجة، وأباحه أبو حنيفة جملة الا أنه كرهه ان أضر ذلك بأهل البلد دون أن يحظره،
وأجازه بكل حال، وهذا خلاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وخلاف صاحبين لا يعرف لهما من
الصحابة مخالف، وهم يعظمون مثل هذا إذا وافق تقليدهم، وما نعلم لأبي حنيفة في هذا القول
أحدا قاله قبله، وقال مالك: لا يجوز ذلك للتجارة خاصة ويؤدب من فعل ذلك في نواحي
المصر فقط ولا بأس بالتلغى لابتياع القوت من الطعام والأضحية، وهذه تقاسيم مخالفة
للسنة الواردة في ذلك ولا نعلمها عن أحد قبل مالك أصلا *
قال أبو محمد: وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيار للبائع بيان بصحة البيع الا أن
للبائع خيارا في رده أو امضائه، والخيار لا يكون البتة ولا يجوز الا لمن جعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم له، ومن جعله يورث فقد تعدى ما حد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس الخيار ما لا يورث
ولو ورث لكان لأهل الوصية منه نصيبهم، وقال سفيان الثوري: تلقى السلع منهى عنه
من تلقاها بحيث لا تقصر الصلاة إليه فان تلقاها بحيث تقصر الصلاة فصاعدا فلا بأس بذلك *
قال على: فهذا تقسيم فاسد لأنه دعوى بلا برهان، وقال الليث: ينزع من المشترى
ويرد إلى البائع فان مات نزعت من المشترى وبيعت في السوق ودفع ثمنها إلى البائع *
قال أبو محمد: احتج من أجاز تلقى الركبان (1) بما رويناه من طريق البخاري
عن موسى بن إسماعيل عن جويرية عن نافع عن ابن عمر [رضي الله عنهما] (2) قال: كنا نتلقى
الركبان فنشتري منهم الطعام فها نا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن نبيعه حتى يبلغ به سوق الطعام) *
ومن طريق البخاري نا إبراهيم بن المنذر نا أبو ضمرة - هو أنس بن عياض - نا موسى
ابن عقبة عن نافع عن ابن عمر: (انهم كانوا يشترون الطعام من الركبان على عهد
رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم فيبعث عليهم من يمنعهم أن يبيعوه حيث اشتروه حتى ينقلوه حيث



(1) في النسخة 14 من أباح تلقى السلع وفى النسخة الحلبية من أجاز تلقى السلع وما هنا موافق للفظ الحديث
(2) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 151
(3) في صحيح البخاري ج 3 ص 139 على عهد النبي الخ
450
يباع الطعام) * ومن طريق ابن أيمن نا هشام نا أبو صالح حدثني الليث بن سعد حدثني
ابن غنج (1) عن نافع عن ابن عمر أنه حدثه (أنهم كانوا يشترون الطعام على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم من الركبان فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانهم الذي ابتاعوه فيه حتى ينقلوه
إلى سوق الطعام) *
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لستة وجوه، أحدها أن المحتجين بهذا هم (2)
القائلون بأن الصاحب إذا روى خبرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم خالفه أو حمله على تفسير ما فهو أعلم
بما فسر وقوله حجة في رد الخبر، وابن عمر هو راوي هذا الخبر وقد صح عنه الفتيا بترك التلقي
كما أوردنا آنفا والاخذ بما روى من النهى عن التلقي * وثانيها أن هذين خبران هم أول مخالف
لنا فيهما فلا كراهة عندهم في بيع الطعام حيث ابتاعه، ولا أسوأ طريقة ممن يحتج بحجة هو أول
مبطل لها ومخالف لموجبها * والثالث أنهما موافقان لقولنا لان معنى نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه حتى يبلغوا به سوق الطعام هو نهى للبائع أن يبيعه وللمشتري أن يبتاعه
حتى يبلغ به السوق، ومشهور غير منكور في لغة العرب بعت بمعنى ابتعت ويخرج
خبر موسى بن عقبة على هذا أيضا، وأنه عليه السلام نهى البائعين أن يبيعوه في مكانهم
الذي ابتاعه المشترون منهم، وهذا معنى صحيح لا داخلة فيه * والرابع أنه حتى لو كان فيهما
نص على جواز تلقى الركبان وليس ذلك فيهما لكان النهى ناسخا ولا بد بيقين لا شك فيه
لان التلقي كان مباحا بلا شك قبل النهى فكان هذان الخبران موافقين للحال المتقدمة بلا
شك، وباليقين يدرى كل ذي فهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نهى عن التلقي فقد بطلت الإباحة
بلا شك فقد بطل حكم هذين الخبرين ونسخ لو صح فهيما إباحة التلقي فكيف وليس ذلك
فيهما؟ وهذا برهان قاطع لا محيد عنه، ومن ادعى عود حكم قد نسخ فقد كذب وقفا مالا
علم له به وادعى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يبين كما أمر وان الدين مختلط لا يدرى أحد
حرامه من حلاله من واجبه وحاش لله من هذا * وخامسها أن يضم هذا الخبران إلى اخبار
النهى فيكون البائعون تخيروا امضاء البيع فأمر المبتاعون بنقله (3) حينئذ إلى السوق
فتتفق الاخبار كلها ولا تحمل على التضاد * وسادسها اننا روينا هذا الخبر ببيان صحيح رافع
للاشكال من طريق من هو أحفظ وأضبط من جويرية كما روينا من طريق البخاري
نا مسدد نا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله - هو ابن عمر - حدثه نافع عن عبد الله
ابن عمر قال: كانوا يبتاعون (4) الطعام في أعلى السوق ويبيعونه في مكانه (5) فنهاهم



(1) هو - بفتح الغين المعجمة والنون في آخر جيم - محمد بن عبد الرحمن
(2) في النسخة 14 به
(3) في النسخة 16 (وأمر المتبايعون أن ينقلوه)
(4) في النسخة 14 والنسخة 16 يتبايعون وما هنا موافق لما في صحيح البخاري ج 3 ص 151 (5) في صحيح البخاري في مكانهم
451
النبي (1) صلى الله عليه وسلم أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه * ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة.
ومحمد بن عبد الله بن نمير قال ابن أبي شيبة: نا علي بن مسهر، وقال أبو بكر: نا أبى ثم اتفق
علي بن مسهر. وعبد الله بن نمير كلاهما عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: (كنا
نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه (2))
فهذا يبين أن البيع كان في السوق الا أنه في أعلاه وفى الجزاف خاصة فنهى المشترون (3)
عن ذلك، واحتج أيضا بعضهم بشئ طريف جدا وهو أنه ذكر رواية عن هشام القردوسي
عن ابن سيرين عن أبي هريرة وفيه فمن اشتراه فهو بالخيار، وقال: إن هذا اللفظ يوجب
الخيار للمشترى أيضا *
قال أبو محمد: وهذا مما جروا به على عادتهم الخبيثة في الايهام والتمويه بأنهم يحتجون وهم
لا يأتون بشئ لان هذا الذي قاله هذا القائل باطل ولو جاء بهذا اللفظ لكان مجملا تفسره
رواية أيوب عن ابن سيرين عن أبي هريرة لهذا الخبر نفسه وان الخيار إنما هو للبائع
وهكذا قال أبو هريرة. وابن سيرين في فتياهما، ثم هبك لو صح خيار آخر للمشترى
فأي منفعة لهم في هذا؟ وهم لا يقولون بهذا، فلو كان ههنا حياء. أو ورع لردع عن
التمويه بمثل هذا مما هو كله عليهم *
قال أبو محمد: وقال بعض الناس: إنما أمر عليه السلام بهذا حياطة للجلاب دون
أهل الحضر * قال على: وقال بعضهم: بل حياطة على أهل الحضر دون الجلاب *
قال أبو محمد: وكلا القولين فاسد وما حياطة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الحضر الا كحياطته
للجلاب سواء سواء قال الله تعالى: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم
حريض عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم) فهو عليه السلام ذو رأفة ورحمة بالمؤمنين كما
وصفه ربه تعالى، ولم يفرق بين المؤمنين من أهل الحضر والمؤمنين من الجالبين وكلهم
مؤمنون فكلهم (4) في رأفته ورحمته سواء ولكنها الشرائع يوحيها إليه باعثه عز وجل
فيؤديها كما أمر لا يبدلها من تلقاء نفسه ولا ينطق عن الهوى، ولا علة لشئ من أحكام الشريعة
إلا ما قاله الله عز وجل: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) * (ولا يسئل عما يفعل وهم
يسألون) * (لا معقب لحكمه) وما عدا هذا فباطل وافك مفترى، فان قال قائل: فما
يقولون في خبر ابن عمر المذكور وهو صحيح وأنتم المنتسبون إلى القول بالسنن؟ قلنا:
نعم ولله الحمد كثيرا وسنذكر الحكم الذي في هذه الخبر من نقل الطعام عن موضع ابتياعه
وأنه في الجزاف خاصة بعد هذا إن شاء الله تعالى من خبر آخر، وأما هذا الخبر الذي



(1) في صحيح البخاري رسول الله
(2) الحديث اختصره المصنف انظر ج 1 ص 446
(3) في النسخة 16 فنهى المشترى
(4) في النسخة 14 (وكلهم)
452
ذكرنا ههنا فهو كما ذكرنا ولابد اما أمر للبائعين (1) وهم الركبان الجالبون له بان نهوا
عن ذلك البيع هنا لك ونهى المشترون (2) عن التلقي واما انه مفسوخ بالنهي عن التلقي
أو في الجزاف خاصة كما في خبر عبيد الله لابد من أحد هذه الأمور لما ذكرنا، ولا يحتمل
غير هذين الوجهين أصلا، وبالله تعالى التوفيق *
1469 مسألة ولا يجوز أن يتولى البيع ساكن مصر أو قرية أو مجشر
لخصاص (3) لا في البدو ولا في شئ مما يجلبه الخصاص إلى الأسواق. والمدن. والقرى
أصلا ولا ان يبتاع له شيئا لا في حضر ولا في بدو، فان فعل فسخ البيع والشراء أبدا
وحكم فيه بحكم الغصب ولا خيار لاحد في امضائه لكن يدعه يبيع لنفسه أو يشترى لنفسه
أو يبيع له خصاص مثله ويشترى له كذلك لكن يلزم الساكن في المدينة. أو القرية.
أو المجشر أن ينصح للخصاص في شرائه وبيعه ويدله على السوق ويعرفه بالأسعار ويعينه
على رفع سلعته ان لم يرد بيعها وعلى رفع ما يشترى، وجائز للخصاص أن يتولى البيع.
والشراء لساكن المصر. والقرية. والمجشر، وجائز لساكن المصر. والقرية. والمجشر (4)
أن يبيع ويشترى لمن هو ساكن في شئ منها *
برهان ذلك ما رويناه من طريق مسلم نا زهير بن حرب نا سفيان بن عيينة عن الزهري
عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه نهى أن يبيع حاضر لباد) (5) *
ومن طريق مسلم نا يحيى بن يحيى أنا هشيم عن يونس بن عبيد عن ابن سيرين عن أنس بن
مالك قال: نهينا أن يبيع حاضر لباد وإن كان أخاه أو أباه * ومن طريق مسلم نا إسحاق
ابن إبراهيم - هو ابن راهويه - نا عبد الرزاق أنا معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس
قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد) قال طاوس:
فقلت لابن عباس: ما قوله حاضر لباد؟ قال: لا يكون (6) له سمسارا * ومن طريق أحمد
ابن شعيب أنا إبراهيم بن الحسن نا حجاج - هو ابن محمد - قال: قال ابن جريج: أخبرني
أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يبع (7) حاضر
لباد دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) * ومن طريق ابن أبي شيبة نا شبابة عن ابن أبي
ذئب حدثني مسلم الخياط عن ابن عمر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حاضر لباد)
فهذا نقل خمسة من الصحابة بالطرق الثابتة فهو نقل تواتر، وبه تأخذ الصحابة رضي الله عنهم كما روينا آنفا عن ابن عباس مفسرا مبينا * ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع



(1) في النسخة 16 أمر البائعين
(2) في النسخة 16 المشترى
(3) الخصاص جمع خص هو البيت من القصب أي صاحبه
(4) يقال أصبح بنو فلان جشرا إذا كانوا يبيتون مكانهم في الإبل لا يرجعون إلى بيوتهم
(5) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 445
(6) في صحيح مسلم ج 1 ص 445 (لا يكن)
(7) في سنن النسائي (لا يبيع) على الخير
453
عن سفيان الثوري عن أبي موسى عن الشعبي كان المهاجرون يكرهون بيع حاضر لباد؟
قال الشعبي: وانى لا فعله (1) *
قال أبو محمد: الأولى أن يحمل عليه قول الشعبي وانى لأفعله أي انى أكرهه كما كرهوه *
ومن طرق سعيد بن منصور نا سفيان بن عيينة عن مسلم الخياط أنه سمع أبا هريرة ينهى أن
يبيع حاضر لباد * ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن عيينة عن مسلم الخياط أنه سمع أبا هريرة
يقول: نهى أن يبيع حاضر لباد، وسمع عمر يقول: لا يبيع حاضر لباد * ومن طريق وكيع
عن سفيان الثوري عن أبي حمزة عن إبراهيم النخعي قال: قال عمر بن الخطاب: دلوهم على
السوق دلوهم على الطريق وأخبروهم بالسعر * ومن طريق أبى داود سمعت حفص بن عمر
يقول: نا أبو هلال نا محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: كان يقال: لا يبع حاضر لباد
وهي كلمة جامعة لا يبيع له شيئا ولا يبتاع له شيئا * ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو أسامة
عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين عن أنس قال: لا يبع حاضر لباد * ومن طريق أبى داود
نا موسى بن إسماعيل نا حماد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سالم المكي أن أعرابيا حدثه أنه
قدم بجلوبة [له] (2) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل على طلحة بن عبيد الله فقال له طلحة:
ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يبيع حاضر لباد، ولكن اذهب إلى السوق فانظر من يبايعك
فشاورني حتى آمرك أو أنهاك * فهؤلاء المهاجرون جملة. وعمر بن الخطاب. وأنس. وابن عباس. وأبو هريرة.
وطلحة لا مخالف لهم يعرف من الصحابة رضي الله عنهم، وهو قول عطاء. وعمر بن
عبد العزيز * وروينا عن بعض التابعين خلافه (3) * روينا عن الحسن أنه كان لا يرى
بأسا أن يشترى من الاعرابي للاعرابي قيل (4) له: فيشترى منه للمهاجر؟ قال: لا *
ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم نا أبو حرة (5) سمعت الحسن يقول: اشترى للبدوي
ولا تبع له * ومن طريق ابن أبي شيبة نا أبو داود - هو الطياسى - عن اياس بن دغفل قرئ
علينا كتاب عمر بن عبد العزيز لا يبع حاضر لباد * ومن طريق سعيد بن منصور نا سفيان عن
ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيع حاضر لباد لأنه أراد أن
يصيب المسلمون من غرتهم فأما اليوم فلا بأس، وقال عطاء: لا يصلح اليوم * ومن طريق
وكيع عن ابن خثيم قلت لعطاء: قوم من الاعراب يقدمون علينا أفنشتري لهم؟ قال: لا بأس *
ومن طريق وكيع عن سفيان الثوري عن المغيرة عن إبراهيم قال: كان يعجبهم أن يصيبوا



(1) في النسخة 16 لا أفعله وهو غلط
(2) الزيادة من سنن أبي داود، والجلوية بفتح الجيم ما يجلب للبيع من كل شئ
(3) في النسخة 14 خلافا
(4) لفظ له سقط من النسخة 14
(5) هو بالحاء المهملة واسمه واصل بن عبد الرحمن البصري وفى النسخة 14 أبو جرة بالجيم وهو تصحيف
454
من الاعراب رخصة، وهو قول الأوزاعي، وسفيان الثوري. وأحمد. وإسحاق.
والشافعي. وأبي سليمان. ومالك. والليث، قال (1) الأوزاعي: لا يبيع له ولكن يشير
عليه وليست الإشارة بيعا الا أن الشافعي قال: إن وقع البيع لم يفسخ، وقال الليث. ومالك:
لا يشير عليه، وقال مالك: لا يبع الحاضر أيضا لأهل القرى ولا بأس بأن يشترى
الحضار للبادي إنما منع من البيع له فقط، ثم قال: لا يبع مدني لمصري ولا مصري لمدني
ولكن يشير كل واحد منهما على الآخر ويخبره بالسعر، وقال أبو حنيفة: يبيع الحاضر
للبادي لا بأس بذلك *
قال أبو محمد: أما فسخنا للبيع فإنه بيع محرم من إنسان منهى عن ذلك البيع وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) وناقض الشافعي ههنا إذ لم
يبطل هذا البيع وأبطل سائر البيوع المنهى عنها بلا دليل مفرق، وأما من قال: إن النهى
عن ذلك ليصاب غرة من البدوي وأنه نظر للحاضرة فباطل حاش لرسول الله صلى الله
عليه وسلم من هذا، وهو الذي قال فيه ربه تعالى: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) وأهل
البدو مؤمنون كاهل الحضر فنظره وحياطته عليه السلام للجميع سواء، ويبطل هذا
التأويل الفاسد من النظر الصحيح ان ذلك لو كان نظرا لأهل الحضر لجاز للحاضر أن
يبيع للبادي من البادى وأن يشترى منه لنفسه وكلا الامرين لا يجوز، فصح أن هذه علة
فاسدة وأنه لا علة لذلك أصلا الا الانقياد لأمر الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم *
وأما قول مالك فخطأ من جهات، أما تفريقه بين البيع للبادي فمنع منه وبين الشراء له
فاباحه فخطأ ظاهر لان لفظة لا يبع يقتضى أن لا يشترى له أيضا كما قال أنس بن مالك وهو
حجة في اللغة وفى الدين، والعرب تقول: بعت بمعنى اشتريت قولا مطلقا وإذا اشترى
له من غيره فقد باع من ذلك الغير له يقينا بلا تكلف ضرورة، وقد قال تعالى: (فاسعوا
إلى ذكر الله وذروا البيع) فحرموا الشراء كما حرموا البيع وأحلوا ههنا الشراء له
وحرموا البيع له، وأما قول مالك: لا يبع لأهل القرى فخطأ لان اسم البادى لا يقع
عند العرب على ساكن في المدن البتة وإنما يقع على أهل الأخبية. والخصوص المنتجعين
مواقع القطر للرعي فقط، وأما تفريقه بين من كان من أهل الدين بمنزلة أهل المدن
وبين سائر أهل القرى فخطأ ثالث بلا دليل أصلا * وأما قوله، لا يبع مدني لمصري
ولا مصري لمدني فخطأ رابع لا دليل عليه البتة ولا نعلم أحدا قاله قبله، وإنما تفريقه بين
المدني والمصري فرأى أن يشير كل واحد منهما على الآخر ولا يبيع له ولم ير أن يشير



(1) في النسخة 16 (وقال)
455
حاضر على أعرابي ولا يبيع له فخطأ خامس بلا دليل * فهذه وجوه خمسة مخالفة للخبر
المذكور لا دليل على صحة شئ منها لا من قرآن. ولا من سنة. ولا من رواية سقيمة. لا
من قياس: ولا من رأى له وجه. ولا من قول أحد قبله (1) لا صاحب. ولا تابع،
وأما قوله: لا يشير الحاضر على البادى فان من قال بهذا احتج بما روى في بعض هذه الأخبار
من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض) *
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه أصلا ولا في هذا اللفظ ما توهموه من الميل
على أهل البادية. لا نص. ولا أثر. ولا شبهة بوجه من الوجوه لأنه عليه السلام لم يقل: دعوا
الحاضرين يرزقهم الله من أهل البادية إنما قال: دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض
وأهل البدو من الناس كما أهل الحضر سواء سواء ولا فرق، فيدخل في هذا اللفظ رزق
الله تعالى للبادي من الحاضر. والبادي من البادي وللحاضر من البادى وللحاضر من الحاضر
دخولا مستويا لا مزية لشئ من ذلك على شئ آخر منه فبطل ذلك الظن الكاذب،
ولا يحل من بيع البادى والحاضر الا ما يحل من بيع الحاضر للحاضر ولا فرق *
فان قالوا: إنما نهى عن أن يبيع له قسنا على ذلك أن لا يشير عليه قلنا: القياس كله
باطل ولو كان حقا لكان هذا منه عين الباطل لأنكم تركتم أن تمنعوا من الشراء له قياسا
على البيع له وهو بيع مثله وقستم الإشارة على البيع وليست منه في ورد ولا صدر، ولا
يختلفون في أن امرءا لو شاور آخر بعد النداء للجمعة في بيع فأشار عليه لم يحرج ولا أتى مكروها
ولو باع أو اشترى لعصى الله تعالى وان من حلف أن لا يبيع فأشار في أمر بيع لم يحنث، وقد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة لله ولرسوله ولكتابه وللأئمة
ولجماعة المسلمين) والبادي من المسلمين فالنصيحة له فرض، ولو أراد الله تعالى أن
لا يشار عليه لنص على ذلك كما نص على البيع على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم،
وقد ذكرنا النصيحة للبادي آنفا من طريق عمر بن الخطاب. وطلحة بن عبيد الله ولا
مخالف لهما في ذلك من الصحابة، وقد جاء في ذلك أثر كما روينا من طريق سعيد بن منصور
نا حماد بن زيد عن عطاء بن السائب عن حكيم بن أبي يزيد عن أبيه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض فإذا استنصح الرجل
أخاه فلينصح له) * وأما أبو حنيفة فلم يحتج إلى تطويل لكن خالف رسول الله صلى
الله عليه وسلم في نهيه عن أن يبيع حاضر لباد بنقل التواتر، وخالف ما جاء في ذلك
عن الصحابة رضي الله عنهم دون أن يعرف لهم منهم مخالف وهم يشنعون بأقل من هذا،



(1) في النسخة 16 (نعلمه)
456
فمن أعجب ممن يرد هذه الآثار المتواترة المتظاهرة الصحاح من السنن. وعن الصحابة
ثم يقلد آثارا واهية مكذوبة في جعل الآبق فلا يعللها ولا يتأول فيها هذا؟ وهم يطلقون
في أصولهم ان الأثر وإن كان ضعيفا فهو أقوى من النظر وحسبنا الله ونعم الوكيل *
1470 مسألة. فإن كان في حائط أنواع من الثمار من الكمثرى. والتفاح.
والخوخ. وسائر الثمار فظهر صلاح شئ منها من صنف دون سائر أصنافه جاز بيع كل
ما ظهر من أصناف ثمار ذلك الحائط وإن كان لم يطلب بعد إذا بيع كل ذلك صفقة واحدة
فان أراد بيعه صفقتين لم يجز بيع ما لم يبد فيه شئ من الصلاح وإن كان قد بدا صلاح ذلك
الصنف بعد حاشا ثمر النخل والعنب فقط فإنه لا يجوز بيع شئ منه لا وحده ولا مع غيره
إلا حتى يزهى ثمر النخل ويبدأ سواد العنب أو طيبه *
برهان ذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها، ولا
يخلو هذا الصلاح الذي به يحل بيع الثمار بعد تحريمه من أن يكون عليه السلام أراد به ابتداء
ظهور الطيب في شئ منه أو تناهى الطيب في جميعه أو له عن آخره. أو في أكثره. أو في
أقله. أو في جزء مسمى منه كنصف. أو ثلث. أو ربع. أو عشر. أو نحو ذلك لابد
ضرورة من أحد هذه الوجوه، فمن المحال الممتنع الذي لا يمكن أصلا أن يريد
عليه السلام أكثره أو أقله أو جزءا مسمى منه ثم لا ينص على ذلك ولا يبينه وقد افترض
الله عز وجل عليه البيان فلا سبيل إلى أن يكلفنا شرعا لا ندري ما هو لأنه كأن يكون
عليه السلام مخالفا لأمر ربه تعالى له بالبيان، وهذا ما لا يقوله مسلم، وأيضا فان ذلك
كأن يكون تكليفا لنا مالا نطيقه من معرفة ما لم نعرف به وقد أمننا الله تعالى من ذلك بقوله
تعالى: (لا يكلف الله نفسا الا وسعها) فبطلت هذه الوجوه بيقين لامرية فيه ولم يبق إلا
وجهان فقط، إما ظهور الصلاح في شئ منه وان قل. واما عموم الصلاح لجميعه فنظرنا
في لفظه عليه السلام فوجدناه حتى يبدو صلاحه فصح أنه ظهور الصلاح وبصلاح حبة
واحدة يطلق عليه في اللغة أنه قد بدا صلاح هذا الثمر، فهذا مقتضى لفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ولو أنه عليه السلام أراد صلاح جميعه لقال: حتى يصلح جميعه، وأيضا فان جميع الثمار
يبدو صلاح بعضه ثم يتتابع صلاح شئ شئ منه فلا يصح آخره الا ولو ترك أوله لفسد وضاع
بلا شك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال، وأيضا فلا نعرف أحدا (1) قال
هذا قديما ولا حديثا، وما زال الناس يتبايعون الثمار كل عام عملا عاما فاشيا ظاهرا بعلم
رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ثم كذلك كل عام في جميع أقطار أهل الاسلام ما قال قط أحد: إنه



(1) في النسخة 4 (فلا يعرف أحد)
(2) في النسخة 16 (بعلمه عليه السلام)
457
لا يحل بيع الثمر إلا حتى يتم صلاح جميعه حتى لا يبقى منه ولا حبة واحدة *
قال أبو محمد: فإذ الامر كما ذكرنا فبيع ثمار الحائط الجامع لأصناف الشجر صفقة واحدة بعد ظهور الطيب في شئ منه جائز وهو قول الليث بن سعد لأنه بيع ثمار قد بدا
صلاحها ولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان ذلك لا يجوز الا في صنف واحد،
ولو كان ذلك هو اللازم لما أغفل عليه السلام بيانه، وأما إذا بيع الثمر صفقتين فلا يجوز
بيع ما لم يبد فيه شئ من الصلاح بعد سواء كان من صنف قد بدا الصلاح في غيره أو من
صنف آخر لأنه بيع ثمرة لم يبد صلاحها وهذا حرام، وإنما رد رسول الله صلى الله عليه
وسلم الضمير - وهو الهاء الذي في صلاحه - إلى الثمر المبيع المذكور في الخبر بلا شك فصح
ما قلناه يقينا، وأما النخل. والعنب فقد خصهما نص آخر وهو نهيه عليه السلام عن
بيع ثمر النخل حتى تزهى أو تحمر، وعن بيع العنب حتى يسود أو يبدو صلاحه بدخوله في
سائر الثمار وإن كان (1) مما لا يسود، فلا يجوز بيع شئ من ثمار النخل والعنب الا حتى
يصير المبيع منهما في حال الازهاء أو ظهور الطيب فيه نفسه بالسواد أو بغيره، وبالله
تعالى التوفيق *
1471 مسألة ولا يحل بيع فراخ الحمام في البرج مدة مسماة كسنة. أو ستة
أشهر. أو نحو ذلك لأنه بيع ما لم يخلق. وبيع غرر لا يدرى كم يكون. ولا أي صفة يكون
فهو أكل مال بالباطل، وإنما الواجب في الحلال في ذلك بيع ما ظهر منها بعد أن يقف البائع
أو وكيله. والمشترى أو وكيله عليها وان لم يعرفا أو أحدهما عددها أو يرها أحد من
ذكرنا فيقع البيع بينهما على صفة الذي رآها (2) منهما، فان تداعيا بعد ذلك في فراخ
فقال المشترى: كانت موجودة حين البيع فدخلت فيه، وقال الآخر: لم تكن موجودة
حينئذ ولا بينة حلفا معا وقضى بها بينهما لأنها في أيديهما معا هي بيد المشترى بحق الشراء
للفراخ التي في البرج وهي بيد صاحب الأصل بحق ملكه للأصل من الأمهات والمكان
وبالله تعالى التوفيق، والا إن كان المشترى قبض كل الفراخ وعرف ذلك ثم ادعى أنه بقي
له شئ هنا لك فهو للبائع وحده مع يمينه لأنه مدعى عليه فيما بيده *
1472 مسألة وجائز بيع الصغار من جميع الحيوان حين تولد ويجبر كلاهما
على تركها مع الأمهات إلى أن يعيش دونها عيشا لا ضرر فيه عليها، وكذلك يجوز بيع
البيض المحضونة ويجبر كلاهما على تركها إلى أن تخرج وتستغني عن الأمهات *
برهان ذلك قول الله عز وجل: (وأحل الله البيع) وأما ترك كل ذلك إلى أن يستغنى عن



(1) في النسخة 14 (إن كان)
(2) في النسخة 16 رآه
458
الأمهات فلقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان)
والنهى عن إضاعة المال. والوعيد الشديد على من عذب الحيوان وأصبرها، وإزالة الصغار
عن الأمهات قبل استغنائها عنها عذاب لها وقتل الا من ذبحها للاكل فقط على ما ذكرنا
في كتاب ما يحل أكله وما يحرم وإزالة البيض بعد أن تغيرت بالحضن عن حالها إضاعة للمال *
1473 مسألة ولا يحل بيع شئ من ثمر النخل من البلح. والبسر. والزهو.
والمنكث. والحلقان. والمعو. والمعد. والثغد. والرطب بعضه ببعض من صنفه أو
من صنف آخر منه ولا بالثمر لا متماثلا ولا متفاضلا لا نقدا ولا نسيئة لا في رؤس
النخل ولا موضوعا في الأرض، ويجوز بيع الزهو. والرطب بكل شئ يحل بيعه
حاشا ما ذكرنا نقدا وبالدراهم والدنانير نقدا ونسيئة حاشا العرايا في الرطب وحده،
ومعناها ان يأتي أو ان الرطب ويكون قوم يريدون ابتياع الرطب للاكل فأبيح لهم
أن يبتاعوا رطبا في رؤس النخل بخرصها تمرا فيما دون خمسة أوسق يدفع التمر إلى صاحب
الرطب ولابد ولا يحل بتأخير ولا في خمسة أو سق فصاعدا ولا بأقل من خرصها تمرا ولا
بأكثر فان وقع بما قلنا: إنه لا يجوز فسخ أبدا وضمن ضمان الغصب *
برهان ذلك ما روينا من طريق مسلم نا ابن نمير: وزهير بن حرب قالا جميعا: نا
سفيان بن عيينة نا الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) عن
بيع الثمر بالتمر) * ومن طريق مسلم نا عبد الله بن مسلمة القعنبي نا سليمان بن بلال عن
يحيى بن سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل
دارهم منهم سهل بن أبي حثمة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع التمر بالتمر وقال: ذلك
الربا) (2) * وصح أيضا من طريق رافع بن خديج. وأبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(النهى عن بيع التمر بالتمر) والثمر يقتضى الأصناف التي ذكرنا، وصح النهى عن ذلك
عن سعيد بن أبي وقاص، ولم يجز سعيد بن المسيب قفيز رطب بقفيز من جاف، وهو
قول مالك. والشافعي. والليث. وأبى يوسف. ومحمد بن الحسن. وأبي ثور.
وأبي سليمان، وهو الخارج من أقوال سفيان. وأحمد. وإسحاق، وأجاز أبو حنيفة
بيع الرطب بالتمر كيلا بمثله نقدا ولم يجزه متفاضلا ولا نسيئة وقال: إنما يحرم بيع الثمر
الذي في رؤوس النخل خاصة بالتمر ولم يجز ذلك لا في العرايا ولا في غيرها، واحتج
له مقلدوه بما صح من طريق ابن عمر (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة، والمزابنة أن
يباع ما في رؤس النخل من ثمر بتمر مسمى بكيل ان زاد فلى وان نقص فعلى) ومثله مسندا



(1) في صحيح مسلم ج 1 ص 448 (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى) الخ والحديث فيه مطول
(2) الحديث في صحيح مسلم ج 1 ص 449 مطولا
459
أيضا من طريق أبي سعيد الخدري * ومن طريق عطاء عن جابر بن عبد الله أنه فسر لهم
المزابنة أنها بيع الرطب في النخل بالتمر كيلا *
قال أبو محمد: لا حجة لهم في شئ من هذه الأخبار لأننا لم ننازعهم في تحريم الرطب في
رؤس النخل بالتمر كيلا نعم وغير كيل، ولا نازعناهم في أن هذا مزابنة فاحتجاجهم
بها تمويه وايهام ضعيف وليس في شئ من هذه الأخبار ولا غيرها انه لا يحرم من بيع الثمر
بالتمر الا هذه الصفة فقط ولا في شئ من هذا ان ما عدا هذا فحلال لكن كل ما في هذه الأخبار
فهو بعض ما في حديث ابن عمر الذي صدرنا به، وبعض ما في حديث سهل بن أبي
حثمة. ورافع. وأبي هريرة، وتلك الأخبار جمعت ما في هذه (1) وزادت عليها
فلا يحل ترك ما فيها من زيادة الحكم من أجل أنها لم تذكر في هذه الأحاديث كما أن قول
الله تعالى: (منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ليس حجة في إباحة
الظلم في غيرها، وهكذا جميع الشرائع أولها عن آخرها ليست كل شريعة مذكورة في
كل حديث، وأيضا فإننا نقول لهم: من أين قلتم: ان المراد في تلك الأخبار التي فيها النهى
عن بيع الثمر بالتمر إنما هو ما ذكر في هذه الأخبار الأخر من النهى عن بيع الثمر في رؤس
النخل بالتمر، وما برهانكم على ذلك؟ وهل زدتمونا على الدعوى المجردة الكاذبة شيئا؟
ومن أين وجب ترك عموم تلك الأخبار الثابتة من أجل أنه ذكر ى هذه بعض ما في تلك؟
فإنهم (2) لا سبيل لهم إلى دليل أصلا لا قوى. ولا ضعيف فحصلوا على الدعوى فقط،
فان ادعوا اجماعا على ما في هذه كذبوا * وقد روينا من طريق ابن أبي شيبة نا ابن المبارك
عن عثمان بن حكيم عن عطاء عن ابن عباس قال: الثمر بالتمر على رؤس النخل مكايلة إن
كان بينهما ديار أو عشرة دراهم فلا بأس به، وهذا خبر صحيح، وعثمان بن حكيم ثقة
وسائر من فيه أئمة أعلام، وقد فسر ابن عمر المزابنة كما روينا من طريق مالك عن نافع
عن ابن عمر (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر المزابنة. والمزابنة بيع الثمر بالتمر كيلا.
وبيع الكرم بالزبيب كيلا) * وحدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن
أيمن نا بكر - هو ابن حماد - نا مسدد نا يحيى - هو ابن سعيد القطان - عن عبيد الله بن عمر
أخبرني نافع (3) عن ابن عمر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمزابنة
اشتراء الثمر بالتمر واشتراء العنب بالزبيب كيلا) فمن جعل تفسير ابن عمر باطلا
وتفسير جابر. وأبي سعيد صحيحا (4) بل كلاهما حق وكل ذلك مزابنة منهى عنها،



(1) في النسخة 14 هذا
(2) في النسخة 16 (فإنه)
(3) في النسخة 14 (بن عمر عن نافع)
(4) إذا كان قوله فمن جعل استفهاما يكون قوله بعد صحيحا تاما، وإذا كان اسما موصولا مبتدءا أو شرطا فالكلام غير تام وكثيرا ما يقع مثل ذلك في كلام المصنف وتقديره (فغير صحيح) يدل عليه ما بعده والله أعلم
460
وما عدا هذا فضلال وتحكم في دين الله تعالى بالباطل * والعجب كله من إباحة أبي حنيفة
ومن قلده دينه ما قد نص رسول الله صلى الله عليه وسلم على النهى عن من بيع الرطب بالتمر. وبيع
التمر بالتمر. وتحريمه ما لم يحرمه الله تعالى قط ولا رسوله صلى الله عليه وسلم ولا جاء قط عنه نهى
من بيع الجوز على رؤس أشجاره بالجوز المجموع، وهذا عجب جدا! وما رأينا قط
سنة مضاعة الا والى جنبها بدعة مذاعة ونعوذ بالله من الخذلان * واحتجوا أيضا بان
قالوا: لا يخلوا الرطب. والتمر من أن يكونا جنسا واحدا أو جنسين فإن كانا جنسا
واحدا فالتماثل في الجنس الواحد جائز لا باحة رسول الله صلى الله عليه وسلم التمر بالتمر مثلا بمثل
وإن كانا جنسين فذلك فيهما أجوز لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اختلفت
الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) *
قال أبو محمد: فنقول لهم: الذي أباح التمر بالتمر متماثلا يدا بيد وأمرنا إذا
اختلفت الأصناف أن نبيع كيف شئنا إذا كان يدا بيد هو الذي نهانا عن بيع الرطب بالتمر
جملة. وعن بيع التمر بالتمر، وأخبرنا أنه الربا وليست طاعته في بعض ما أمر به واجبة وفى بعضه
غير واجبة هذا كفر ممن قاله بل طاعته في كل ما أمر به واجبة لكن يا هؤلاء أين كنتم عن
هذا الاستدلال الفاسد الذي صححتموه وعارضتم به سنة الله تعالى ورسوله عليه السلام؟
إذ حرمتم برأيكم الفاسد بيع الدقيق بالحنطة أو بالسويق جملة فلم تجيزوه لا متفاضلا ولا
متماثلا. ولا نقدا. ولا نسيئة. ولا كيلا. ولا وزنا، وهلا قلتم لأنفسكم: لا يخلوا الدقيق
والحنطة. والسويق من أن تكون جنسا واحدا أو جنسين أو ثلاثة أجناس، فإن كانت
جنسا واحدا فالتماثل في الجنس الواحد جائز لإباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم الحنطة بالحنطة
مثلا بمثل، وإن كانت جنسين أو ثلاثة فذلك فيها أجوز لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا
اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) فهذا المكان أولى بالاعتراض
وبالرد وبالاطراح لاقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكمه، فقال قائل منهم: التفاضل في الدقيق
بالحنطة موجود في الوقت وأما في الرطب بالتمر فلا يوجد إلا بعد الوقت فقلنا: فكان
ماذا لو كان ما قلتم حقا؟ ومن أين وجب مراعاة التفاضل في الوقت أو بعده؟ فكيف
والذي قلتم باطل؟ لان المماثلة بالكيل موجودة في الرطب بالتمر كما هي موجوده في الدقيق
بالسويق. وفى الدقيق بالحنطة في الوقت فلا تفاضل فيهما أصلا وإنما كان التفاضل موجودا
في الدقيق بالسويق فيما خلا وبطل الآن ولا يقطع أيضا بهذا فبطل فرقكم الفاسد، وأيضا فإنما
أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم التمر بالتمر مثلا بمثل، وبالمشاهدة ندري أن الرطب ليس مثلا للتمر
في صفاته * واحتجوا أيضا بأن قالوا: بيع التمر الحديث بالتمر القديم جائز وهو ينقص

461
عنه فيما بعد فقلنا: نعم فكان ماذا؟ ومتى جعلنا لكم علة المنع من بيع الرطب بالتمر إنما هي
نقصانه إذا يبس؟ حاشا لله أن يقول هذا لان الأثر الذي من طريق سعد الذي فيه أينقص
الرطب إذا جف (1) لا يصح لأنه من رواية زيد بن أبي عياش وهو مجهول، ولو صح
لاذعنا له ولقلنا به، وهذا التعليل منكم باطل وتخرص في دين الله تعالى لم يأت به قرآن.
ولا سنة وإنما هو الطاعة لله تعالى ولرسوله عليه السلام فقط: (فليحذر الذين يخالفون
عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) ونقول لمن ادعى التعليل وانه هو الحكمة
وما عداه عبث: أخبرونا ما علة تحريم الميتة. والدم. ولحم الخنزير. والخامسة في
النكاح. وسائر الشرائع؟ فلا سبيل لهم إلى وجود شئ أصلا فمن أين وجب أن
تعلل بعض الشرائع بالدعاوي الكاذبة ولا تعلل سائرها؟ وما نعلم لأبي حنيفة سلفا قبله
في إباحة الرطب بالتمر ممن يحرم الربا في غير النسيئة، وقال مالك: بيع الرطب بالرطب
جائز وهذا خطأ لنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر بالتمر، وقال الشافعي كقولنا وبالله
تعالى التوفيق، وأما العرايا روينا من طريق نافع عن ابن عمر قال: كانت العرايا أن يعرى
الرجل في ماله النخلة والنخلتين *
قال على: ليس في هذا بيان حكم العرايا، وروينا عن موسى بن عقبة أنه قال: العرايا
نخلات معلومات يأتيها فيشتريها، وروينا عن يزيد بن ثابت. ويحيى بن سعيد الأنصاري.
ومحمد بن إسحاق أنها النخلة والنخلتان والنخلات تجعل للقوم فيبيعون ثمرها بخرصها تمرا،
وقال سفيان بن حسين. وسفيان بن عيينة. والأوزاعي. وأحمد بن حنبل مثل هذا إلا أنهم
خصوا بذلك المساكين يجعل لهم ثمر النخل فيصعب عليهم القيام عليها فأبيح لهم أن يبيعوها بما
شاءوا من التمر * وروينا عن عبد ربه بن سعيد الأنصاري أن العرية الرجل يعرى النخلة أو
يستثنى من ماله النخلة أو النخلتين يأكلها فيبيعهما بمثل خرصهما تمرا، وقال أبو حنيفة: العرية
أن يهب الرجل رجلا آخر ثمرة نخلة أو نخلتين ثم ببدو له فيعطيه مكان ثمر ما أعطاه تمرا
يابسا فيخرج بذلك عن اخلاف الوعد، وقال مالك: العرية أن يهب الرجل لآخر ثمر
نخلة أو نخلتين أو نخلات من ماله ويكون الواهب ساكنا بأهله في ذلك الحائط فيشق عليه
دخول المعرى في ذلك الحائط فله أن يبتاع منه ذلك الثمر بخرصه تمرا إلى الجداد، ولا يجوز
عنده إلا نسيئة ولابد، وأما يدا بيد فلا، وأما قول الشافعي فإنه قال: العرية أن يأتي أو ان
الرطب وهناك قوم فقراء لا مال لهم ويريدون ابتياع رطب يأكلونه مع الناس ولهم فضول
تمر من أقواتهم فأبيح لهم أن يشتروا الرطب بخرصها من التمر فيما دون خمسة أوسق تقدا



(1) في النسخة 16 (إذا يبس)
462
ولابد، وأما قولنا الذي ذكرنا فهو قول يحيى بن سعيد الأنصاري. وأبي سليمان وروينا
من طريق مسلم نا محمد بن رمح بن المهاجر نا الليث بن سعد عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال:
العرية أن يشترى الرجل ثمر النخلات لطعام أهله رطبا بخرصها تمرا (1) *
قال أبو محمد: أما قول ابن عمر. وموسى بن عقبة فلا بيان فيهما، وأما قول زيد بن
ثابت وأحد قولي يحيى بن سعيد. وابن إسحاق. وسفيان بن حسين. والأوزاعي. وأحمد
فإنه يحتج له بما روينا من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر عن زيد بن ثابت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم رخص لصاحب العرية أن يبيعها بخرصها من التمر (2) *
قال على: ليس لهم في هذا الحديث حجة أصلا وإنما فيه أن صاحب الرطب هو الذي
يبيعه بخرصه تمرا ونحن هكذا نقول، وجائز عندنا أن نبيع الرطب كذلك الذي هو له
والنخل معا، وجائز أن نبيعه أيضا كذلك من مالك (3) الرطب وحده بهبة أو بشراء أو
بميراث أو بإجازة أو باصداق، فهذا الخبر موافق لقولنا ولله الحمد، وليس فيه إلا صفة البائع
فقط وليس فيه من هو المشترى، وأما من ذهب مذهب عبد ربه بن سعيد فإنه يحتج له بما رويناه
من طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا أبو أسامة عن الوليد بن كثير حدثني بشير بن يسار
مولى بنى حارثة أن رافع بن خديج. وسهل بن أبي حثمة حدثاه (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن المزابنة الثمر بالتمر إلا أصحاب العرايا فإنه أذن لهم) (4) *
قال أبو محمد: وهذا لا حجة لهم فيه لأنه ليس فيه بيان قولهم لا بنص ولا بإشارة ولا
بدليل وإنما فيه أن أصحاب العرايا أذن لهم في التمر بالتمر فقط وهكذا نقول فبطل أن يكون
لشئ من هذين القولين في شئ من هذين الخبرين حجة (5) ثم نظرنا في قول الشافعي فوجدناه
دعوى بلا برهان وإنما ذكر فيه حديثا لا يدرى أحد منشأه ولا مبدأه ولا طريقه ذكره
أيضا بغير اسناد فبطل أن يكون فيه حجة وحصل قوله دعوى بلا برهان - نعنى تخصيصه
ان الذين أبيح لهم ابتياع الرطب بخرصه تمرا انماهم من لا شئ لهم يبتاعون به الرطب
ليأكلوه فقط - ثم نظر نا في قول مالك فوجدنا قوله: ان العرية هي ثمر نخل تجعل لآخرين،
وقوله: ان الذين جعلوه يسكنون بأهليهم في الحائط الذي فيه تلك النخل وقوله: ان
أصحاب النخل ينادون بدخول الذين جعل لهم تلك النخل أقوالا ثلاثة لا دليل على شئ
منها. لا في قرآن. ولا في سنة. ولا في رواية سقيمة. ولا في قول صاحب. ولا تابع.
ولا قياس. ولا لغة. ولا رأى له وجه، وما نعلمه عن أحد قبله، ثم الشنعة (6) والأعجوبة



(1) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 449 بأطول من هذا
(2) سقط لفظ (من التمر) من الموطأ ج 2 ص 125
(3) في النسخة 14 (من ملك)
(4) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 450
(5) سقط لفظ (حجة) من النسخة 14
(6) في النسخة 16 ثم السفه
463
العظيمة قوله: ان ذلك لا يجوز الا نسيئة إلى الجداد ولا يجوز نقدا أضلا، وهذا هو
الربا المحرم جهارا ثم إلى أجل مجهول ولا نعلم هذا عن أحد قبله، وهو حرام مكشوف
لا يحل أصلا وإنما حل ههنا الرطب بالتمر بالنص الوارد فيه فقط، ووجدنا النسيئة
فيما فيه الربا حراما بكل وجه فلما حل بيع التمر بالتمر ههنا لم يجز الا يدا بيد ولا بد لأنه
لا بيع الا إما نقدا واما نسيئة فالنسيئة حرام لأنه ربا في كل ما يقع فيه الربا بلا خلاف.
- ولأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى - يعنى اشتراط تأخيره فهو باطل فلم يبق الا النقد
فلم يجز غيره وبالله تعالى التوفيق * ثم نظر نا في قول أبي حنيفة فوجدناه أبعد (1) الأقوال لأنه
خالف جميع الآثار كلها جهارا وأتى بدعوى لا دليل عليها ولا نعلم أحدا قال بها قبله، والخبر
في استثناء جواز بيع الرطب بالتمر لأهل العرايا خاصة منقول نقل التواتر رواه رافع
وسهل. وجابر. وأبو هريرة، وزيد وابن عمر في آخرين سواهم كل من سمينا هو عنهم
في غاية الصحة فخالفوا ذلك بآرائهم الفاسدة *
والبرهان لصحة قولنا هو ما رويناه من طرق جمة كلها ترجع إلى مالك أن داود
ابن الحصين حدثه عن أبي سفيان مولى ابن أبي أحمد عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم رخص في بيع العرايا بخرصها فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق)
يشك داود *
قال أبو محمد: فاليقين واقع فيما دون خمسة أوسق بلا شك فهو مخصوص فيما حرم
من بيع التمر بالتمر ولا يجوز ان يباح متيقن الحرام بشك، ولو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أباح ذلك في خمسة أوسق لحفظه الله تعالى حتى يبلغ الينا مبينا وتقوم به الحجة فلم يفعل
الله تعالى ذلك فأيقنا أنه لم يبحه نبيه عليه السلام قط في خمسة أوسق لكن فيما دونها بيقين،
وبالله تعالى التوفيق *
فلا يجوز لاحد أن يبلغ بذلك في عام واحد في صفقة واحدة ولا في صفقات خمسة
أوسق أصلا لا البائع ولا المشترى (2) لأنه يخالف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم * ومن طريق
مسلم بن الحجاج نا يحيى بن يحيى - هو النيسابوري - أنا سليمان بن بلال عن يحيى بن
سعيد الأنصاري أخبرني نافع أنه سمع [عبد الله] (3) بن عمر يحدث ان زيد بن ثابت
حدثه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في العرية يأخذها أهل البيت بخرصها تمرا يأكلونها
رطبا) * ومن طريق مسلم نا عبد الله بن مسلمة القعنبي نا سليمان بن بلال عن يحيى بن
سعيد الأنصاري عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل دارهم



(1) في النسخة 14 أفسد
(2) في النسخة رقم 16 لا لبائع ولا لمشتر
(3) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 449
464
منهم سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) (أنه نهى عن بيع التمر بالتمر وقال: ذلك
الربا تلك المزابنة الا أنه رخص في بيع العرية والنخلة والنخلتين يأخذها أهل البيت
بخرصها تمرا يأكلونها رطبا) *
قال أبو محمد: تحديد النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة ما دون خمسة أو سق يقضى
على هذه الأحاديث لأنه إن كان في النخلتين خمسة أو سق لم يجز وإن كان في النخلات أقل
من خمسة أوسق جاز ذلك فيها لان تحديد الخمسة الأوسق زيادة حكم. وزيادة حد. وزيادة
بيان لا يجوز تركها وبالله تعالى التوفيق *
1474 مسألة فمن ابتاع كذلك رطبا للاكل ثم مات فورثت عنه. أو مرض.
أو استغنى عن أكلها إلا أنه حين اشتراها كانت نيته أكلها بلا شك فقد ملك الرطب ملكا
صحيحا ويفعل فيه ما شاء من بيع أن غيره وبالله تعالى التوفيق *
1475 مسألة ولا يجوز حكم العرايا المذكور في شئ من الثمار غير ثمار النخل
كما ذكرنا، ولا يجوز بيع شئ من الثمار سوى ثمر النخل بخرصها أصلا لا في رؤس النخل
ولا مجموعة في الأرض أصلا، ولا يحل أن يباع العنب بالزبيب كيلا لا مجموعا ولا في
عوده ولا بيع الزرع بالحنطة لما روينا من طريق مسلم حدثنا يحيى بن معين. وهارون
ابن عبد الله قالا: نا أبو أسامة نا عبيد الله - هو ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر قال: (نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة والمزابنة بيع ثمر النخل بالتمر كيلا وبيع الزبيب بالعنب
كيلا. وعن كل ثمر بخرصه * ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا محمد بن بشر نا
عبيد الله - هو ابن عمر - عن نافع عن ابن عمر أنه أخبره (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن بيع الزرع بالحنطة كيلا) * ومن طريق مسلم نا قتيبة نا الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر
(نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المزابنة أن يبيع ثمر حائطه إن كانت نخلا بتمر كيلا وإن كان
كرما أن يبيعه بزبيب كيلا وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام) (2) *
1476 مسألة فإن كان ثمر ما عدا ثمر النخل جاز أن يباع بيابس ورطب من
صنفه ومن غير صنفه بأكثر منه وبأقل ومثله، وان يسلم في جنسه وغير جنسه ما لم يكن
بخصره كما ذكرنا وما لم يكن زبيبا كيلا بعنب لان الله تعالى قال: (وأحل الله البيع) وقال
تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) فلو كان حراما لفصل لنا تحريمه (وما كان ربك
نسيا) فان قيل: قد نهى عن الرطب باليابس وروى أنه عليه السلام سأل: أينقص الرطب
إذا يبس؟ فقيل: نعم فنهى عن بيعه بالتمر قلنا: أما أينقص الرطب إذا يبس فان مالكا.



(1) في صحيح مسلم (أن رسول الله) الخ
(2) في النسخة 16 (بكيل من طعام) وما هنا موافق لما في صحيح مسلم ج 1 ص 450
465
وإسماعيل بن أمية روياه عن عبيد الله بن يزيد عن زيد أبي عياش عن سعد، وقال
مالك مرة: زيادة أبى عياش مولى بنى زهرة وهو رجل مجهول لا يدرى من هو،
ثم لو صح لما وجب أن يكون ذلك علة لغير ما نص عليه فيه من الرطب بالتمر وحده
لأنه كأن يكون تعديا لحدود الله عز وجل، ومن العجب العجيب أن يكون صح عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا إلا السن والظفر أما السن فإنه عظم
وأما الظفر فإنه مدى الحبشة) (1) فخالفه (2) الحنيفيون. والمالكيون ولا يرون العظمية علة
لما يمنع من أن يزكى به ولا يرى الشافعيون كون الذي يزكى به من مدى الحبشة علة في منع الذكاة به
إلا في الظفر وحده، ثم يجعلون ما لم يصح عنه من (أينقص الرطب إذا يبس) علة في جميع
الثمار وأي عجب أعجب من هذا!، وأما الرطب باليابس فلا يصح أصلا لأنه أثر رويناه من
طريق أبى صالح عبد الله بن صالح كاتب الليث وهو ضعيف عن الليث بن سعد عن أسامة
ابن زيد وهو ضعيف وغيره وهو مجهول عن عبد الله بن يزيد مولى الأسود بن سفيان عن أبي
سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: (سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن رطب بتمر؟ فقال: أينقص الرطب؟ قالوا: نعم قال: لا يباع الرطب
باليابس) ومثل هذا لا يحل الاحتجاج به ولو صح لما ترددنا في الاخذ به، والعجب من
الحنيفيين الآخذين بكل ضعيف. ومرسل كالوضوء من القهقهة في الصلاة. والوضوء
بالنبيذ. وغير ذلك! ثم يخالفون هذا المرسل. وهذا الضعيف، وأيضا فان الشافعيين.
والمالكيين المدعين الاخذ بهذا الخبر قد خالفوه لأنهم يبيحون بيع الرطب من التمر.
والتين. والعنب باليابس من غير جنسه، وهذا خلاف لعموم الخبر، فان قالوا: إنما
أريد بذلك ما كان من جنسه قلنا: وما دليلكم على ذلك؟ وما الفرق بينكم وبين أبي حنيفة
القائل: إنما أريد بذلك ما كان في رؤس أشجاره فقط؟ وهل هي إلا دعوى بدعوى
بلا برهان؟ وحسبنا الله ونعم الوكيل * وروينا من طريق ابن أبي شيبة نا يحيى بن أبي زائدة
عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري قال: (نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة. والمزابنة. فالمحاقلة في الزرع والمزابنة
في النخل) هذا نص لفظ أبي سعيد رضي الله عنه وهذا نص قولنا لأنه لم ير المزابنة إلا في
النخل وحده لا في سائر الثمار والحمد لله رب العالمين، وما نعلم له من الصحابة رضي الله عنهم
مخالفا * ومن طريق مسلم نا عبد الله بن مسلمة القعنبي نا سليمان بن بلال عن يحيى - هو ابن سعيد
الأنصاري - عن بشير بن يسار عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [من



(1) هي جمع مدية وهي السكين
(2) في النسخة 16 فخالف
466
أهل دارهم] (1) منهم سهل بن أبي حثمة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى
عن بيع التمر بالتمر وقال: ذلك الربا تلك المزابنة الا أنه رخص في بيع العرية) وذكر
الحديث * ومن طريق مسلم نا محمد بن رمح نا الليث بن سعد عن نافع عن ابن عمر قال:
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المزابنة ان يبيع ثمر حائطه إن كانت نخلا
بتمر كيلا وإن كان كرما أن يبيعه بزبيب كيلا. وإن كان زرعا أن يبيعه بكيل طعام)) (2) *
قال أبو محمد: لا مزابنة الا ما بين النبي صلى الله عليه وسلم ثم الصحابة رضي الله عنهم
بعده أنه مزابنة ولا ما عدا ذلك فباطل وخطأ متيقن بلا شك وبالله تعالى التوفيق *
1477 - مسألة - فان قال قائل: فأنتم المنتمون إلى الاخذ بما صح من الآثار وقد
رويتم من طريق ابن وهب أخبرني ابن جريج عن عطاء. وأبى الزبير عن جابر قال: (نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتى يطيب ولا يباع شئ منه إلا بالدنانير. والدراهم)
ورويتموه أيضا من طريق سفيان بن عيينة عن ابن جريج عن عطاء عن جابر عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم، وهذا خبر في غاية الصحة قلنا وبالله تعالى التوفيق: نعم لان الثمار كلها إذا يبست
جدت أو لم تجد فهي ثمار قد طابت بلا خلاف من أحد ولا خلاف في اللغة، وقد صح عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر ببيع التمر بالتمر يدا بيد كيلا بكيل مثلا بمثل وأمر ببيعه بغير
صنفه كيف شئنا، فصح النص على جواز بيع التمر بما شئنا مما يحل بيعه فكان ما في هذا مضافا
إلى ما في خبر جابر المذكور وزائدا عليه فكان ذلك لا تبيعوا الثمر إذا طاب إلا بالدنانير
والدراهم. وبما شئتم حاشا ما نهيتم عنه، وهذا هو الذي لا يجوز غيره، وقد صح الاجماع
المتيقن المقطوع به على أن جميع الثمار بعد طيبها حكمها فيما يباع مما يجوز حكم التمر، وهذا
برهان صحيح وبالله تعالى التوفيق، وما نعلم أحدا منع من بيع التمر بغير الدنانير والدراهم (3)
وبالله تعالى التوفيق *
1478 مسألة الربا، والربا لا يكون إلا في بيع. أو قرض. أو سلم، وهذا
ما لا خلاف فيه من أحد لأنه لم تأت النصوص الا بذلك ولا حرام الا ما فصل تحريمه قال الله
تعالى: (خلق لكم ما في الأرض جميعا) وقال تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) وقال
تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) *
1479 - مسألة - والربا لا يجوز في البيع. والسلم الا في ستة أشياء فقط. في التمر.
والقمح. والشعير. والملح. والذهب. والفضة، وهو في القرض في كل شئ فلا يحل
اقراض شئ ليرد إليك أقل ولا أكثر ولا من نوع آخر أصلا لكن مثل ما أقرضت



(1) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 449
(2) الحديث في صحيح مسلم ج 1 ص 450 وفيه بعض تغيير في ألفاظه
(3) في النسخة 16 (بغير الدينار والدراهم)
467
في نوعه ومقدار، على ما ذكرنا في كتاب القرض من ديواننا هذا فأغنى عن اعادته، وهذا
اجماع مقطوع به، والفرق بين البيع والسلم وبين القرض هو أن البيع. والسلم يكونان
في نوع بنوع آخر وفي نوع بنوعه ولا يكون القرض الا في نوع بنوعه ولابد، وبالله
تعالى التوفيق، وكذلك الذي ذكرنا من وقوع الربا في الأنواع الستة المذكورة في البيع
والسلم فهو اجماع مقطوع به وما عدا الأنواع المذكورة فمختلف فيه أيقع فيه الربا أم لا؟ *
والربا من أكبر الكبائر قال تعالى: (الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا: إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم
الربا) وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا ان كنتم مؤمنين
فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) * ومن طريق مسلم نا هارون بن سعيد
الأيلي نا ابن وهب أخبرني سليمان بن بلال عن ثور بن زيد (1) عن أبي الغيث عن أبي هريرة
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات [قيل: يا رسول الله وما هن؟] (2)
قال: الشرك بالله. والسحر. وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق. وأكل مال اليتيم. وأكل
الربا. والتولي يوم الزحف. وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات) * ومن طريق
مسلم نا عثمان بن أبي شيبة نا جرير - هو ابن عبد الحميد - عن المغيرة بن مقسم نا إبراهيم -
هو النخعي - عن علقمة بن قيس عن ابن مسعود قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل
الربا وموكله) (3) *
قال أبو محمد: فإذ أحل الله تعالى البيع وحرم الربا فواجب طلب معرفته ليجتنب،
وقال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم الا ما اضطررتم إليه) فصح أن ما فصل لنا
بيانه على لسان رسوله عليه السلام من الربا أو من الحرام فهو ربا وحرام وما لم يفصل
لنا تحريمه فهو حلال لأنه لو جاز أن يكون في الشريعة شئ حرمه الله تعالى ثم لم يفصله
لنا ولا بينه رسوله عليه السلام لكان تعالى كاذبا في قوله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم
عليكم) وهذا كفر صريح ممن قال به، ولكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاصيا
لربه تعالى إذ أمره بالبيان فلم يبين (4) فهذا كفر متيقن ممن أجازه * وممن قال:
لا ربا الا في الأصناف المذكورة طاوس. وقتادة. وعثمان البتي. وأبو سليمان.
وجميع أصحابنا، واختلف الناس في هذا فقالت طائفة: ان هذه الأصناف الستة
إنما ذكرت لتكون دلالة على ما فيه الربا مما سواها مما يشبهها في العلة التي حيثما وجدت
كان ما وجدت فيه ربا، ثم اختلفوا في تلك العلة وكل طائفة منها تبطل علة



(1) في النسخة 14 (عن ثور بن يزيد) وهو غلط
(2) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 27
(3) الحديث في صحيح مسلم ج 1 ص 469 بأطول من هذا
(4) في النسخة 16 (ولم يبين)
468
الآخرين أو تنفيها فقالت طائفة: هي الطعم. واللون * روينا من طريق ابن وهب عن
يونس بين يزيد قال: سئل ابن شهاب عن الحمص بالعدس اثنان بواحد يدا بيد؟ فقال
ابن شهاب: كل شئ خالف صاحبه باللون. والطعم فلا أراده الا شبه الطعام، قال
ابن وهب: وبلغني عن ابن مسعود. ويحيى بن سعيد الأنصاري. وربيعة مثله *
قال أبو محمد: فنظرنا في هذا فوجدناه قولا بلا دليل فسقط، وقد بين ابن شهاب
أنه رأى منه والرأي إذا لم يسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم فهو خطأ بلا شك، وقالت طائفة: هي
وجوب الزكاة كما روينا من طريق ابن وهب عن عبد الجبار بن عمر عن ربيعة بن أبي
عبد الرحمن أنه كان لا يرى بأسا بالتفاحتين بالتفاحة. والخوخ مثل ذلك. وكل ما لم تجز
فيه الزكاة فنظر نا في هذا فوجدناه أيضا قولا بلا دليل ووجدنا الملح لا زكاة فيه. والربا
يقع فيه بالنص فبطل *
قال على: ولا يعجز من قلد ربيعة في هذا عمار قدر عليه مالك. والشافعي بزيادتهم في
علتهم كما قال الشافعي: علة الربا الطعم. والتثمين، وقول مالك: علة الربا الادخار
فيما يؤكل والتثمين فهل هذا الا كقول من قلد ربيعة علة الربا بما فيه الزكاة والملحية؟
وهل هي الا دعوى كدعوى كلاهما بلا برهان؟ وقالت طائفة: بغير ذلك كما روينا من
طريق عبد الرزاق نا عبد الله بن كثير عن شعبة سألت الحكم بن عتيبة عمن اشترى خمسة
عشر جريبا من أرض بعشرة أجربة فقال: لا بأس به وكرهه حماد بن أبي سليمان ولا
ندري ما علته في ذلك ولعلها الجنس، فلم يجز التفاضل في جنس واحد كائنا ما كان والله
أعلم الا أنها دعوى ليست غيرها أصح منها ولا هي بأضعف من غيرها، وقد روى
مثله (1) عن سعيد بن جبير وهو انه جعل علة الربا تقارب المنفعة في الجنس الواحد أو
الجنسين، وقد روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا الربيع بن صبيح عن محمد بن سيرين
قال: إذا اختلف النوعان فلا بأس إذا كان (2) يدا بيد واحدا باثنين *
قال أبو محمد: وهذه أعم العلل فيلزم من قال منهم: بالعلة العامة أن يقول بها،
وقال المالكيون: علة الربا هي الاقتيات. والادخار في الجنس فما كان يدخر مما يكون
قوتا في الاكل فالربا فيه نقدا ونسيئة، وما كان لا يقتات ولا يدخر فلا يدخل الربا فيه يدا
بيد، وإن كان جنسا واحدا لكن يدخل فيه الربا في النسيئة إذا كان جنسا واحدا، وهذه
هي علة المتقدمين منهم، ثم رغب عنها المتأخرون منهم لأنهم وجدوها تفسد عليهم لان
الثوم. أو البصل. والكراث. والكرويا. والكسبر. والخل. والفلفل، نعم



(1) في النسخة 14 (مثاله)
(2) في النسخة 14 بما كان
469
والملح الذي جاء فيه النص ليس منه شئ يكون قوتا أصلا بل بعضه يقتل إذا أكل منه مثل
نصف وزن ما يؤكل مما يتقوت به كالملح. والفلفل فلو أن انسانا أكل رطل فلفل في جلسة
لقتله بلا شك، وكذلك الملح. والخل الحاذق، وكذلك الثوم، ووجدوها تفسد عليهم
أيضا في اللبن. والبيض فإنهما لا يمكن ادخارهما، والربا عندهم يدخل فيهما، ووجدوها
أيضا تفسد عليهم في الكمون. والشونيز. والحلبة الرطبة. والكسبر والكرويا ليس
شئ من ذلك قوتا والربا عندهم في كل ذلك، فلما رأوا هذه العلة كذلك وهي علة من
قلدوه دينهم اطرحوها ولم تكن عيهم مؤنة في استخراج غيرها بآرائهم ليستقيم لهم
آراؤهم في الفتيا عليها فقال بعضهم: إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى القوت وهو البر
وأدون القوت وهو الملح ليدل على أن حكم ما بينهما كحكمهما *
قال أبو محمد: هذا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم مجرد بلا كلفة، وما ندري كيف ينشرح
صدر مسلم لا طلاق مثل هذا على الله تعالى. وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ولو أطلق هذا المطلق
مثله على سائس حماره بغير أن يخبره به عن نفسه لكان كاذبا مجرحا بذلك فكيف على
الله تعالى وعلى نبيه عليه السلام؟ اللهم لك الحمد على عظيم نعمتك في تنفيرنا عن مثل هذا
وشبهه، ثم لم يرض سائرهم هذه العلة وقالوا: ليس الملح دون (1) الأقوات بل الحاجة
إليه أمس منها إلى الثوم. والحلبة الرطبة. والشونيز فارتادوا غيرها كمن يتحكم في بيدر
تمره يأخذ ما استحسن ويترك ما لم يستحسن، فقالوا: العلة في الربا مختلفة فمنها الاقتيات
والادخار كما قال أسلافهم قياسا على البر والشعير، ومنها الحلاوة. والادخار كالزبيب
والتين. والعسل قياسا على التمر، ومنها التأدم. والادخار قياسا على الملح، وهذا
تعليل استصنعه لهم محمد بن عبد الله (2) بن صالح الأبهري، وهذا تعليل يفسد عليهم
لان السلجم (3) والباذنجان. والقرع. والكرنب، والرجلة. والقطف. والسلق.
والجزر. والقنبيط. واليربز إدام الناس في الأغلب، وكثير من ذلك يدخر ولا يقع
الربا فيه عندهم كاللفت. والجزر. والباذنجان، بل كل ذلك يجوز منه اثنان بواحد
يدا بيد من جنس واحد فاطرح بعضهم هذه العلة ولم تعجبه لما ذكرنا فزاد فيها بان قال:
ومنها الحلاوة. والادخار مما يتفكه به. ويصلح للقوت فلم يرض غيره منهم هذه العلة
وقال: ليست بشئ لان الفلفل. والثوم. والكرويا. والكمون ليس شئ منها
يتفكه به ولا يصلح للقوت ولا يتأدم به ولا هو حلو، وأيضا فان العناب. والإجاص المزبب
والكمثرى المزبب. والمخيطاء كلها حلو يتفكه به ويصلح لقوت، ولا يدخل الربا في



(1) في النسخة 14 (أدون)
(2) سقط جملة (بن عبد الله) من النسخة 14
(3) في النسخة 14 (بان السلجم)
470
شئ منه عندهم فاحتاج إلى استعمال علة أخرى فقال: العلة هي الاقتيات. والادخار
وما يصلح به الطعام المتقوت به ليصح (1) له فيما ظن ادخال الكمون. والكرويا.
والبصل. والثوم. والكراث. والفلفل. والخل فيما يقع فيه الربا قياسا على الملح
لان الطعام يصلح بكل ذلك (2) *
قال أبو محمد: وهذه أفسد العلل التي ذكروا وإن كانت كلها فاسدة واضحة البرهان،
برهان ذلك أن اصلاح الطعام بما ذكرنا من التوابل. والخضراوات. والخل لا يشبه
اصلاحه بالملح أصلا لان الطعام المطبوخ ان لم يصلح بالملح لم يؤكل صلا ولا يقدر
عليه أحد الا من قارب الموت من الجوع أو خافه، واما اصلاحه بالتابل. والخضراوات
المذكورة فما بالطعام إلى شئ منه حاجة الا عن بذخ (3) وأشر، وأيضا فان كل ذي
حسن سليم في العالم يدرى بضرورة الحس ان اصلاح الطعام بالكرويا، والكمون.
والفلفل. والكسبر. والشونيز. كاصلاحه بالدارصيني. والخولنجان. والقرفة.
والسنبل. والزعفران ولا فرق بل اصلاحه بهذه أطيب له وأعبق. وأصلح منه بتلك
والربا عندهم لا يدخل في هذه، وبلا شك ان الضرورة في اصلاح الطعام بالماء أشد وأمس
والربا عندهم لا يدخل في الماء بالماء وما نعلم لهم علة غير ما ذكرنا، وهذه العلل كلها ذكر
بعضها عبد الله بن أبي زيد القيرواني، وذكر سائرها ابن القصار. وعبد الوهاب بن علي
ابن نصر في كتبهم مفرقة ومجموعة *
قال أبو محمد: وكلها فاسد بما ذكرنا من التخاذل وبأنها موضوعة مستعملة، ويقال
لهم: ما الفرق بين علتكم هذه وبين من قال: بل علة الربا ما كان ذا سنبل قياسا على البر:
والشعير، وما كان ذا نوى قياسا على التمر، وما كان طعمه ملحيا قياسا على الملح. وما كان
معدنيا قياسا على الذهب. والفضة، فان قالوا: لم يقل بهذا أحد قلنا: ولا قال بعللكم
أحد قبلكم، فان قال قائل: هذه أيضا يكون مثلكم، وأيضا فمن أين خرج لكم أن
تعللوا البر. والشعير. والتمر. والملح؟ ولا تعللون الذهب. والفضة وكلها جاء النص
به سواء، فمن أين هذا التحكم يا هؤلاء؟ وهل هذا إلا شبه اللعب؟ وليس هذا
مكان دعوى اجماع فقد علل الحنيفيون الذهب والفضة بالوزن وعللوا الأصناف
الأربعة بالكيل *
قال على: وغيرهم لم يعلل شيئا من ذلك ولا بد من تعليل الجميع والقياس عليه أو ترك
تعليل الجميع وترك القياس عليه والاقتصار على ما جاء به النص فقط وهذا ما لا مخلص لهم



(1) في النسخة 14 (ليصلح)
(2) في النسخة 16 (بذلك كله)
(3) هو بالتحريك الفخر والتطاول، والأشر البطر، وقيل أشد البطر
471
منه أصلا وقد أجهد نا أنفسنا في أن نجد لنظارهم شيئا يقوون به شيئا من هذه العلل يمكن ايراده
وإن كان شغبا فما قدر نا عليه في شئ من كتبهم وجهدنا أن نجد لهم شيئا نورده وان لم يوردوه
كما نفعل بهم وبكل من خالفنا فإنهم وإن كانوا لم ينتبهوا له فلا يبعد أن ينتبه له منتبه فيشغب به
فما قدرنا على ذلك، وأيضا فإننا لم نجد لما لك في تعليله المذكور الذي عليه بنى أقواله في الربا
سلفا البتة لا من صاحب: ولا من تابع. ولا من أحد قبله، ولهم تخاليط عظيمة في أقوالهم
في الربا تقصيناها في غير هذا المكان ولم نذكرها ههنا لأنه كتاب مختصر لكن يكفي من
ايرادها أن ينظر كل ذي فهم كيف تكون أقوال بنيت (1) على هذه القواعد وفروع
أنشئت من هذه الأصول؟ وبالله تعالى التوفيق *
وقالت طائفة منهم أبو ثور. ومحمد بن المنذر. والنيسابوري وهو قول الشافعي في
أول قوليه: علة الربا هي الاكل. والشرب. والكيل. والوزن. والتثمين، فما
كان مما يوكل أو يشرب أو يكال أو يوزن لم يجز منه من جنس واحد واحد باثنين لا يدا
بيد ولا نسيئة وكذلك الذهب والفضة، وما كان يكال. أو يوزن مما لا يؤكل ولا
يشرب، أو كان يؤكل أو يشرب مما لا يكال ولا يوزن فلا ربا فيه يدا بيد والتفاضل فيه
جائز، فأجازوا الأترج في الأترج متفاضلا نسيئة، وكذلك كل ما لا يوزن ولا
يكال مما يؤكل أو يشرب وكل ما يكال أو يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب ولا هو ذهب
ولا فضة، وهذا القول صح عن سعيد بن المسيب ذكره مالك عن أبي الزناد عنه في موطأه
ولا نعلمه على أحد قبل سعيد ولا عن غيره من أهل عصره، وحجة أهل هذا القول أنهم
ادعوا الاجماع عليه قالوا: وما عداه فمختلف فيه ولا دليل على وجوب الربا فيما
عاما ذكرنا *
قال أبو محمد: ودعواهم ههنا باطل لان من ادعى الاجماع على أهل الاسلام وفيهم
الجن. والانس في مسألة لم يرو فيها قول عن ثمانية من الصحابة أصلا أكثرها باطل لا يصح.
ولا عن ثلاثة عشر من التابعين أصلا على اختلاف شديد بينهم فقد ادعى الباطل فكيف
والخلاف في هذا أشهر من الشمس؟ لان مالكا ومن وافقه لا يرون الربا في الماء ولا في
كل ما يكال أو يوزن مما يؤكل ويشرب إذا لم يكن مقتاتا مدخرا، فلا يرون الربا في
التفاح. ولا في العناب. ولا في حب القنب. ولا في زريعة الكتان. ولا في الكرنب.
ولا في غير ذلك وكله يوزن أو يكال ويؤكل فبطل هذا الاجماع المكذوب، وما وجدنا
لهم حجة غير هذا أصلا ولا قدرنا على أن نأتي لهم بغير ها فبطل هذا القول لتعريه من البرهان



(1) في النسخة 16 (ثبتت)
472
وبالله تعالى التوفيق *
وقالت طائفة: علة الربا إنما هي الطعم في الجنس أو الجنسين. والتثمين في الجنس
أو الجنسين فما كان يؤكل. ويشرب فلا يجوز متفاضلا أصلا ولا بنسيئة أصلا وإنما
يجوز فيه التماثل نقدا فقط إذا كان في جنس واحد فإن كان من جنسين جاز فيه التماثل
والتفاضل نقدا، ولم يجز فيهما النسيئة، وما كان لا يؤكل ولا يشرب ولا هو ذهب ولا
فضة فالتماثل والتفاضل والنقد والنسيئة جائز فيه جنسا كان أو جنسين فأجاز رطل حديد
برطلي حديد إلى أجل، وكذلك في كل ما لا يؤكل ولا يشرب ولا هو ذهب ولا فضة،
ومنع من بيع رطل سقمونيا برطلي سقمونيا، وكذلك كل ما يتداوى به لأنه يطعم على
وجه ما، وهو قول الشافعي الآخر وعليه يعتمد أصحابه وإياه ينصرون، واحتج أهل هذه المقالة
بالخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطعام بالطعام مثلا بمثل) من طريق معمر
ابن عبد الله العدوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم *
قال أبو محمد: هكذا رويناه من طريق مسلم نا هارون بن معروف أنا عبد الله بن وهب
أخبرني عمرو - هو ابن الحرث - أن أبا النضر حدثه ان بسر بن سعيد حدثه عن معمر
ابن عبد الله العدوي قال: (كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الطعام
بالطعام مثلا بمثل (1)) *
قال على: وحرفه بعض متأخريهم ممن لا علم له بالحديث ولا ورع له يحجزه عن أن
يتكلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لم يقله ولا جاء عنه وبما لاعلم له به فأطلقه اطلاقا بلا
اسناد (2) فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يباع الطعام بالطعام الا مثلا بمثل) *
قال أبو محمد: وهذا كذب بحت وتعمد لوضع الحديث ان لم يكن خطأ من جاهل،
وما جاء هكذا قط ولا يوجد أبدا من طريق غير موضوعة *
قال أبو محمد: ولا حجة لهم في الخبر المذكور لأنه إنما فيه الطعام بالطعام مثلا بمثل
وليس فيه المنع عند مثلا بأكثر ولا اباحته إنما هو مسكوت عنه فوجب طلبه من غير هذا
الخبر، وأيضا فان لفظة الطعام لا تطلق في لغة العرب الا على البر وحده كما روينا من طريق
أبي سعيد الخدري - وهو حجة في اللغة - كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر
صاعا من طعام أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من أقط فلم يوقع اسم الطعام
الاعلى البر وحده، وأيضا فإذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطعام بالطعام مثلا بمثل)
موجبا عندكم للمنع من بيع الطعام بالطعام أكثر من مثل بمثل فاجعلوا - ولابد - اقتصاره



(1) الحديث في صحيح مسلم ج 1 ص 467 مطولا ذكر المصنف محل الشاهد منه
(2) في النسخة 14 بلا سند
473
عليه السلام على ذكر الأصناف الستة مانعا من وقوع (1) الربا فيما عداها والا فقد تناقضتم *
(فان قالوا): فما الفائدة في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم (2): (الطعام بالطعام مثلا
بمثل)؟ قلنا: أعظم الفائدة إن كنتم تتعدون باسم الطعام إلى كل ما يؤكل فان فيه إبطال
قول المالكيين: لا يجوز تفاحة بتفاحة إلا حتى يوقن أيهما أكبر. ولا الخضر بالخضر
إلا حتى يوفن أيها أكثر وإن كان لا يتعدى بلفظة الطعام البر ففيه إباحة بيع بر فاضل
بأذني وفاضل وأدنى بمتوسط إذا تماثلت في الكيل، وأيضا فلا يطلق عربي ولا مستعرب
على السقمونيا اسم طعام لا باطلاق ولا بإضافة، فان قالوا: قد تؤكل في الأدوية قلنا:
والصندل قد يؤكل في الأدوية والطين الأرميني. والأحمر. والطفل كذلك والسبد.
واللؤلؤ. وحجر اليهود كذلك، فأوقعوا الربا في كل ذلك وهم لا يفعلون هذا نعم وفى
الناس من يأكل أظفاره. وشعر لحيته: والرق أكلا ذريعا فأوقعوها في الطعام وأدخلوا
الربا فيها لأنهما قد يؤكلان (3) أيضا، واحتجوا أيضا بما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي نا
ابن مفرج نا محمد بن أيوب الرقى نا أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار نا يوسف بن موسى
نا محمد بن فضيل نا محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار.
وأبى سلمة بن عبد الرحمن كلاهما عن أبي سعيد الخدري قال: (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم
طعاما مختلفا فتبايعناه بيننا بزيادة فنها نا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذه إلا كيل بكيل) *
وبما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أخبرني إبراهيم بن الحسن نا حجاج - هو ابن محمد -
قال: قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (لا تباع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام ولا الصبرة من الطعام بالكيل من
الطعام المسمى (4)) فهذان حديثان صحيحان الا انهما لا حجة لهم فيهما لان اسم الطعام
لا يقع كما قلنا عند العرب مطلقا الا على البر فقط كما ذكرنا عن أبي سعيد الخدري آنفا *
(فان قيل): فقد قال الله عز وجل: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم
وطعامكم حل لهم) فأراد تعالى ذبائحنا وذبائحهم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة
بحضرة طعام)) قلنا: لا نمنع من وقوع اسم الطعام على غير البر بإضافة أو بدليل من
النص على أن هذا الاحتجاج هو على الشافعيين لالهم لأنهم لا يختلفون في أحد قوليهم ان
ذبائح أهل الكتاب وذبائحنا جائز بعضها ببعض متفاضلا، وفى قولهم الثاني: إنه لا يجوز
بيع شئ منها بشئ أصلا حتى ييبس، وهذان القولان مخالفان لاحتجاجهم باطلاق اسم



(1) في النسخة 16 (من ذكر)
(2) في النسخة 14 قوله عليه السلام
(3) كذا في جميع النسخ بالتثنية، والظاهر (لأنها قد تؤكل) لان الضمير راجع إلى الأظفار. والشعر، والرق - وهو الجلد الرقيق - وهي أصناف ثلاثة تنبه والله أعلم
(4) في سنن النسائي ج 7 ص 270 بالكيل المسمى من الطعام
474
الطعام على اللحوم وغيرها *
قال أبو محمد: وهذان الخبران مخالفان لقول مالك. وأبي حنيفة جملة ان حملاهما على
أن الطعام واقع على كل ما يؤكل مبطلان لقولهما في الربا وبالله تعالى التوفيق * وأما حديث أبي
سيعد فكما قلنا ويبطل أيضا احتجاجهم به بأنه قد رواه عن ابن إسحاق من هو أضبط
وأحفظ من ابن فضيل قتيبة كما روينا من طرق ابن أبي شيبة نا ابن نمير - هو عبد الله - نا
محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري
(قال: قسم فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاما من التمر مختلفا بعضه أفضل من بعض فذهبنا نتزايد
فيه فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الا كيلا بكيل) فبطل تعلقهم بذلك، وأيضا فإنه لا خلاف
بيننا وبينهم في أن ذلك الطعام الذي فرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم إنما كان صنفا واحدا
اما تمرا. واما شعيرا: واما برا: أو غير ذلك لان فيه نهيهم عن أن يبيعوه بعضه ببعض
بزيادة هذا ما لا شك فيه فإذا هو كذلك فتسميته بالطعام ليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
فيمكن لهم أن ينازعونا في معناه ثم يحملوه على عمومه إنما هو من كلام أبي سعيد، وقد
أخبرنا عن أبي سعيد أنه لا يطلق اسم الطعام الا على البرثم لا يماروننا في أن حكم ذلك
الخبر إنما هو في ذلك المقسوم هذا نص مقتضى لفظ الخبر يقينا ضرورة ولابد فلا حجة
لهم فيه في جميع أصناف ما يريدون أن يسموه طعاما الا بقياس فاسد ينازعون فيه وهم
لا يدعون معرفة ما كان من صنف ذلك الطعام فيمكنهم عندنا أن يحتجوا علينا به لو
صح لهم أنه لم يكن برا. ولا تمرا. ولا شعيرا ويبطل تعلقهم به إن كان برا. أو تمرا. أو
شعيرا لان هذا هو قولنا في هذه الأصناف الثلاثة فبطل تعلقهم بخبر أبي سعيد بيقين
لا امكان في سواه ولله تعالى الحمد، واستدركنا في حديث جابر ما رويناه من طريق أحمد
ابن شعيب قال: ونا به إبراهيم بن الحسن مرة أخرى فقال: نا حجاج قال: قال ابن جريج:
أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
الصبرة من التمر لا يعلم مكيلتها (1) بالكيل المسمى من التمر، فقد أخبر أحمد بن شعيب
أن إبراهيم بن الحسن حدثهم بذلك الحديث مرة أخرى فأخبر عنه أنه هو ذلك الحديث
نفسه، وصح أن إبراهيم بن الحسن حدث به مرة على ما هو معناه عنده ومرة على ما سمعه
وأيضا فان حجاج بن محمد لم يذكر فيه أنه سمعه من ابن جريج [فظاهره الانقطاع] (2) *
وقد رويناه مسندا صحيحا من طريق مسلم بن الحجاج قال: نا [أبو الطاهر] (3) أحمد بن
عمرو بن السرح أنا ابن وهب أخبرني ابن جريج أن أبا الزبير أخبره أنه سمع (4) جابر



(1) في سنن النسائي ج 7 ص 270 (مكيلها)
(2) الزيادة من النسخة 14
(3) الزيادة من صحيح مسلم ج 2 ص 447
(4) في صحيح مسلم قال: سمعت
475
ابن عبد الله يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلتها
بالكيل المسمى من التمر)، قال مسلم: وناه أيضا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه -
أنا روح بن عبادة نا ابن جريج أنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: (نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم) فذكر مثله الا أنه لم يقل بالكيل المسمى في آخر الحديث، فهذا هو
المتصل الصحيح، وصح بهذا كله أن إبراهيم بن الحسن أخطأ فيه مرة واستدرك أخرى
أو حدث به مرة على معناه عنده ومرة كما سمعه كما رواه غيره وبالله تعالى التوفيق، فبطل
التعلق بهذين الخبرين جملة، فان موهوا بما رويناه من طريق ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي
الزبير عن جابر قال: كنا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعطى الصاع من حنطة
بستة أصوع من تمر فاما سوى ذلك من الطعام فيكره ذلك إلا مثلا بمثل، فهذا لا شئ
لأنه من طريق ابن لهيعة وهو ساقط، ثم لو صح لكان موقوفا على جابر وليس عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم هو مخالف لقول المالكيين. والشافعيين. والحنيفيين جملة
لأنهم لا يمنعون من التفاضل في التمر مع غير البر ولا يقتصرون في إباحة التفاضل في البر
بالتمر خاصة كما في هذا الخبر، هذا كل ما يمكن أن يحتجوا به قد تقصيناه *
وذكروا في ذلك عمن دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روينا من طريق ابن وهب عن يونس
ابن يزيد عن ابن شهاب الزهري بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: لا بأس أن تتبايعوا يدا بيد
ما اختلفت ألوانه من الطعام يريد التمر بالقمح والتمر بالزبيب * ومن طريق عبد الرزاق
نا معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أنه قال: ما اختلفت ألوانه من الطعام
فلا بأس به يدا بيد البر بالتمر. والزبيب بالشعير وكرهه نسيئة، وكان يكره الطعام
أن يباع شئ منه بشئ نظرة * ومن طريق الحجاج بن المنهال نا الربيع بن صبيح
عن عطاء بن أبي رباح أنه كان يكره أن يشترى شيئا من الفاكهة ما يكال بشئ من
الطعام نسيئة *
قال أبو محمد: أما قول عمر فمنقطع ثم لو صح (1) فقد روى عن عمر خلافه كما نذكر
في ذكرنا قول أبي حنيفة إن شاء الله تعالى، ثم ليس فيه بيان بمنعه (2) من النظرة فيما عدا
الستة الأصناف فبطل تعلقهم به، وأما حديث ابن عمر فلا حجة فيه وهو صحيح لأنه
كراهية لا تحريم ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد روى عنه خلافه على
ما نذكر إن شاء الله تعالى في ذكرنا أقوال أبي حنيفة فعاد حجة عليهم لأنه خلاف قولهم،
ثم كم قصة خالفوا فيها عمر. وابن عمر كتوريث عمر المطلقة ثلاثا في المرض، وقول عمر:



(1) في النسخة 16 (ولو صح)
(2) سقط لفظ بمنعه من النسخة 16
476
وابن عمر فيمن أكل بظن أنه ليل فإذا به قد طلع الفجر إن صومه (1) تام ولا قضاء عليه،
وفى توريث ذوي الأرحام. وفي أن لا يقتل أحد قودا بمكة. وفى أن لا يحج أحد على بعير
جلال. وفى غير ما قصة، فكيف ولم يأت عن عمر. وابنه رضي الله عنهما وعن عطاء ههنا
الا الكراهية فقط لا التحريم الذي يقدمون عليه بلا برهان أصلا؟ * وقد حدثنا محمد
ابن سعيد بن نبات نا عبد الله بن نصر نا قاسم بن أصبغ نا ابن وضاح نا موسى بن معاوية نا وكيع
نا سفيان الثوري عن بعض أصحابه عن ابن عمر قال: إنه ليعجبني أن يكون بين الحلال.
والحرام ستر من الحرام، وقد جاء عن عمر أنه خاف أن يزيد فيما نهى عنه من الربا أضعاف
الربا المحرم خوفا من الوقوع فيه على ما روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا يزيد بن زريع
عن داود بن أبي هند عن عامر الشعبي أن عمر بن الخطاب قام خطيبا فقال: إنا والله ما ندري
لعلنا نأمركم بأمور لا تصلح لكم ولعلنا ننهاكم عن أمور تصلح لكم وانه كان من آخر
القرآن نزولا آيات الربا فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لنا فدعوا ما يريبكم
إلى ما لا يريبكم *
قال على: حاش لله من أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين الربا الذي توعد فيه أشد
الوعيد. والذي أذن الله تعالى فيه بالحرب ولئن كان لم يبينه لعمر فقد بينه لغيره وليس
عليه أكثر من ذلك ولا عليه أن يبين كل شئ لكن أحد لكن إذا بينه لمن يبلغه فقد بلغ
ما لزمه تبليغه * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عيسى بن المغيرة عن الشعبي
قال: قال عمر بن الخطاب: تركنا تسعة أعشار الحلال مخافة الربا، فبطل أن يكون لهم
متعلق في شئ مما ذكرنا، وحصل قولهم لا سلف لهم فيه أصلا ولا نعرفه عن أحد قبلهم *
وقالوا: إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ستة أصناف أربعة مأكولة واثنتين هما ثمن الأشياء فقسنا على
المأكولة كل مأكول ولم نقس على الأثمان شيئا فقلنا: هذا أول الخطأ إن كان القياس
باطلا فما يحل لكم أن تقيسوا على الأربعة المأكولة المذكورة غيرها وإن كان القياس
حقا فما يحل لكم أن تدعوا الذهب. والفضة دون أن تقيسوا عليهما كما فعلتم في الأربعة
المأكولة ولا فرق فقيسوا على الذهب والفضة كل موزون كما فعل أبو حنيفة. أو كل
معدني، فان أبيتم وعللتم الذهب والفضة بالتثمين قلنا: هذا عليكم لا لكم لان كل شئ
يجوز بيعه فهو ثمن صحيح لكل شئ يجوز بيعه باجماعكم مع الناس على ذلك، ولا
ندري من أين وقع لكم الاقتصار بالتثمين على الذهب. والفضة ولا نص في ذلك ولا قول
أحد من أهل الاسلام؟ وهذا خطأ في غاية الفحش. ولازم للشافعيين. والمالكيين



(1) في النسخة 16 فان صومه
477
لزوما لا انفكاك منه، وأيضا فما الذي جعل علتكم بأولى من علة الحنيفيين الذين عللوا الأربعة
الأصناف بالكيل. والذهب. والفضة بالوزن وقالوا: لم يذكر عليه السلام الا
مكيلا أو موزونا، وهذا ما لا مخلص لهم (1) منه وحاش لله أن يكون ههنا علة لم يبينها
الله في كتابه ولا على لسان رسوله عليه السلام بل تركنا في ضلال ودين غير تام ووكلنا
إلى ظنون أبي حنيفة. ومالك. والشافعي التي (2) لا معنى لها هذا أمر لا يشك فيه
ذو عقل والحمد لله رب العالمين، وقالت طائفة: علة (3) الربا هي الكيل والوزن في جنس واحد
أو جنسين فقط فإذا كان الصنف مكيلا بيع بنوعه كيلا بمثله يدا بيد ولم يحل فيه التفاضل
ولا النسيئة وجاز بيعه بنوع آخر من المكيلات متفاضلا يدا بيد ولا يجوز فيه النسيئة، وإذا
كان موزونا جاز بيعه بنوعه وزنا بوزن نقدا ولا يجوز فيه التفاضل ولا النسيئة وجاز
بيعه بنوع آخر من الموزونات متفاضلا يدا بيد ولا يجوز فيه النسيئة إلا في الذهب.
والفضة خاصة فإنه يجوز أن يباع بهما سائر الموزونات نسيئة (4) وجاز بيع المكيل
بالموزون متفاضلا ومتماثلا نقدا ونسيئة كاللحم بالبر أو كالعسل بالتمر أو الزبيب
بالشعير وهكذا في كل شئ، وهو قول أبي حنيفة. وأصحابه، وقد رغب بعض المتأخرين
منهم عن هذه العلة بسبب انتقاضها عليهم في الذهب والفضة بسائر (5) الموزونات فلجأ
إلى أن قال: علة الربا هي وجود الكيل. أو الوزن فيما يتعين فما زادونا بهذا الا جنونا
وكذبا بدعواهم ان الدنانير. والدراهم لا تتعين وهذه مكابرة العيان، وأيضا فان علة
الذهب (6) والفضة عندهم تتعين وهم يجيزون تسليمه فيما يوزن فلم ينتفعوا بهذه الزيادة
السخيفة في إزالة تناقضهم، ثم أتوا بتخاليط تشبه ما يأتي به من يغل لفساد عقله: قد
تقصيناها في هذا المكان الا أن منها مخالفتهم السنة المتفق عليها من كل من يرى الربا في غير
النسيئة فأجاز والتمرة بالتمرتين يدا بيد ويلزمهم أن يجيزوا تسليم ثلاث حبات من قمح
في حبتين من تمر، وهذا خروج عن الاجماع المتيقن *
قال أبو محمد: واحتجوا لقولهم هذا بما رويناه من طريق مسلم نا ابن قعنب عن سليمان - يعنى
ابن بلال - عن عبد المجيد بن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث أن
أبا هريرة. وأبا سعيد حدثاه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدى الأنصاري
فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل تمر خيبر هكذا؟ قال:
لا والله يا رسول الله انا لنشتري الصاع بالصاعين من الجمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:



(1) سقط لفظ (لهم) من النسخة 14
(2) سقط لفظ التي من النسخة 14
(3) في النسخة 16 طوائف
(4) في النسخة 14 (بنسيئة)
(5) في النسخة 14 سائر
(6) في النسخة رقم 14 فان حلي الذهب
478
لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان) (1)
فاحتجوا بهذه اللفظة وهي قوله: كذلك الميزان * ومن طريق عبد الرزاق نا معمر عن
يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد (قال: دخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم على بعض أهله فوجد عندهم تمرا أجود من تمرهم فقال: من أين هذا؟ فقالوا:
أبدلنا صاعين بصاع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصلح صاعين بصاع ولا درهمين بدرهم) *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو بن علقمة الليثي عن أبي سلمة
ابن عبد الرحمن عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يصلح درهم بدرهمين
ولا صاع بصاعين) وهذان خبران صحيحان الا أنه لا حجة لهم فيهما على ما نبين إن شاء الله
تعالى * وبما رويناه من طريق وكيع نا أبو جناب (2) عن أبيه عن ابن عمر قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - عند هذه السارية وهي يومئذ جذع نخلة -: (لا تبيعوا الدينار
بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين ولا الصاع بالصاعين انى أخاف عليكم الرما - والرما
الربا - زاد بعضهم فقال إليه رجل فقال: يا رسول الله الرجل يبيع الفرس بالأفراس.
والنجيب (3) بالإبل قال: لا بأس إذا كان يدا بيد) * وبما حدثناه أحمد بن محمد الطلمنكي نا ابن
مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري نا إسحاق بن إبراهيم - هو
ابن راهويه - نا روح نا حيان بن عبيد الله وكان رجل صدق قال: سألت أبا مجلز عن الصرف؟
فقال: يدا بيد كان ابن عباس لا يرى به بأسا ما كان منه يدا بيد فاتاه أبو سعيد فقال له: ألا
تتق الله حتى متى يأكل الناس الربا؟ أو ما بلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: التمر بالتمر.
والحنطة بالحنطة. والشعير بالشعير. والذهب بالذهب. والفضة بالفضة يدا بيد عينا بعين
مثلا بمثل فما زاد فهو ربا؟ ثم قال: وكذلك ما يكال ويوزن أيضا فقال ابن عباس لأبي
سعيد: جزاك الله الجنة ذكرتني أمرا قد كنت أنسيته فانا أستغفر الله وأتوب إليه، فكان
ينهى عنه بعد ذلك، وهذا كل ما احتجوا به ولا حجة لهم في شئ منه *
أما حديث ابن أبي زائدة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي سعيد فإنه رواه عن محمد
ابن عمرو من هو أحفظ من ابن أبي زائدة وأوثق فزاد فيه بيانا كما حدثنا أحمد بن محمد الطلمنكي
نا ابن مفرج نا إبراهيم بن أحمد بن فراس نا أحمد بن محمد بن سالم النيسابوري نا إسحاق بن
راهويه أنا الفضيل بن موسى. والنضر بن شميل قالا جميعا: نا محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن
عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرزقنا تمرا
من تمر الجمع فنستبدل تمرا أطيب منه ونزيد في السعر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصلح



(1) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 467
(2) هو بالجيم وسيأتي قريبا ان اسمه يحيى بن أبي حية، وفى النسخ
(أبو حباب بحاء مهملة بعدها باء موحدة وهو غلط
(3) هو الفاضل من كل حيوان
479
هذا لا يصلح صاعين بصاع ولا درهمان بدرهم ولا الدينار بدينارين ولا الدرهم
بالدرهم لا فضل بينهما الا ربا) *
قال أبو محمد: فقوله عليه السلام: (لا يصلح هذا لا يصلح صاعين بصاع) إشارة
إلى التمر المذكور في الخبر لا يمكن غير ذلك أصلا بدأ عليه السلام فقال: لا يصلح مشيرا
إلى فعلهم ثم ابتدأ الكلام فقال: هذا لا يصلح صاعين بصاع فهذا ابتداء، ولا يصلح صاعين
بصاع جملة في موضع خبر الابتداء وانتصب صاعين بصاع على التمييز لا يجوز غير ذلك
أصلا لأنه لو قال عليه السلام: لا يصلح هذا ثم ابتدأ الكلام بقوله: لا يصلح صاعين بصاع
دون أن يكون في يصلح الثانية ضمير راجع إلى مذكور أو مشار إليه لكان لحنا لا يجوز البتة *
ومن الباطل المقطوع به أن يكون عليه السلام يلحن ولا يحل إحالة لفظ الخبر ما دام
يوجد له وجه صحيح فبطل تعلقهم بهذا الخبر ولله تعالى الحمد * وأما حديث سعيد بن المسيب
عن أبي سعيد. وأبي هريرة الذي فيه (وكذلك الميزان) فإنهم جسروا ههنا على الكذب
البحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قطعوا بأنه عليه السلام أراد أن يقول: لا يحل التفاضل في كل
جنس من الموزونات بجنسه ولا النسيئة فاقتصر من هذا كله على أن قال: وكذلك الميزان *
قال أبو محمد: إنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيان وأما بالاشكال في الدين والتلبيس في
الشريعة فمعاذ الله من هذا وليس في التلبيس. والاشكال أكثر من أن يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن يحرم كل جنس ما يكال بشئ من جنسه متفاضلا أو نسيئة وكل جنس مما يوزن بشئ من
جنسه متفاضلا أو نسيئة فيقتصر من بيان ذلك علينا وتفصيله لنا على أن يقول في التمر الذي
اشترى بتمر أكثر منه: لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل أو بيعوا هذا واشتروا بثمنه من هذا،
وكذلك الميزان وما خلق الله قط أحدا يفهم تلك الصنفين من هذا الكلام، ولا ركب الله
تعالى قط هذا الكلام على تلك الخرافتين ولو أن انسانا من الناس أراد تلك الشريعتين اللتين
احتجوا لهما بهذا الكلام فعبر عنهما بهذا الكلام لسخر منه ولما عده من يسمعه الا ألكن
اللسان. أو ما جنا من المجان. أو سخيفا من النوكى، أفلا (1) يستحيون من هذه الفضائح
الموبقة عند الله تعالى المخزية في العاجل ولكنا نقول قولا نتقرب به إلى الله تعالى ويشهد لصحته
كل ذي فهم من مخالف ومؤالف: وهو أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكذلك الميزان قول مجمل
مثل قول الله تعالى: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) نؤمن بكل ذلك ونطلب بيانه من
نصوص أخر ولا نقدم بالظن الكاذب. والدعوى الآفكة على أن نقول: أراد الله تعالى
كذا وكذا وأراد رسوله عليه السلام معنى كذا لا يقتضيه ذلك اللفظ بموضوعه



(1) في النسخة 16 أولا
480
في اللغة فطلبنا ذلك فوجدنا حديث عبادة بن الصامت. وأبى بكرة. وأبي هريرة قد بين فيها
مراده عليه السلام بقوله ههنا (وكذلك الميزان) وهو تفسيره عليه السلام هنا لك أنه لا يحل
الذهب بالذهب الا وزنا بوزن ولا الفضة بالفضة إلا وزنا بوزن فقطعنا أن هذا هو مراد
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (وكذلك الميزان) وشهدنا بشهادة الله تعالى أنه عليه السلام لو
أراد غير هذا لبينه ووضحه حتى يفهمه أهل الاسلام ولم يكلنا إلى ظن أبي حنيفة ورأيه الذي
لا رأى أسقط منه ولا إلى كهانة أصحابه الغثة التي حلوانهم عليها الخزية فقط قال تعالى: (لتبين
للناس ما نزل إليهم) (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) فسقط تمويههم بهذا الخبر ولله تعالى
الحمد، والعجب كل العجب من قولهم في البين الواضح من نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرطب
بالتمر: أنه إنما أراد التي في رؤس النخل وليس هذا في شئ من الاخبار لان ذلك خبر وهذا
آخر ويأتون إلى مجمل لا يفهم أحد منه الا ما فسره عليه السلام في مكان آخر فيزيدون فيه
ويفسرونه بالباطل وبما لا يقتضيه لفظه عليه السلام أصلا * وأما حديث يحيى بن أبي كثير
عن أبي سلمة عن أبي سعيد لا يصلح صاعين بصاع فإنهم قالوا: هذا عموم لكل مكيل *
قال أبو محمد: وهذا خبر اختصره معمر عن يحيى بن أبي كثير أو وهم فيه بيقين لا اشكال
فيه فرواه ابن أبي زائدة عن محمد بن عمر وأووهم فيه على ما ذكرنا قبل لان هذا خبر رواه عن
يحيى بن أبي كثير باسناده الأوزاعي. وهشام الدستوائي. وشيبان بن فروخ وليس هشام
والأوزاعي دون معمر ان لم يكن هشام أحفظ منه * فرويناه من طريق مسلم حدثني
إسحاق بن منصور نا عبيد الله (1) بن موسى عن شيبان * ومن طريق أحمد بن شعيب أنا هشام
ابن أبي عمار عن يحيى بن حمزة نا الأوزاعي * وحدثنا حمام نا عباس بن أصبغ نا محمد
ابن عبد الملك بن أيمن نا بكر بن حماد نا مسدد نا بشر بن المفضل نا هشام - هو الدستوائي -
كلهم عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي سعيد الخدري: (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا صاعي تمر بصاع. ولا صاعي حنطة بصاع. ولا درهمين
بدرهم (2)) قال الأوزاعي في روايته عن يحيى بن أبي كثير: حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن
حدثني أبو سعيد الخدري وهذا هو خبر محمد بن عمرو نفسه *
قال أبو محمد: فاسقط معمر ذكر التمر. والحنطة، ومن البيان الواضح على خطأ
معمر الذي لا شك فيه ايراده اللحن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر بقوله: لا يصلح
صاعين بصاع ووالله ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قط الا أن يشير إلى شئ فيكون ضميره
في لا يصلح لا سيما والأوزاعي يذكر سماع يحيى بن أبي كثير من أبى سلمة. وسماع أبى سلمة



(1) في النسخة 16 عبد الله وهو غلط
(2) في صحيح مسلم ج 1 ص 468 ولا درهم بدرهمين
481
من أبي سعيد لم يذكر ذلك معمر وهذا لا يكدح عندنا شيئا الا إذا كان خبرا واحدا
اختلف فيه الرواة فان رواية الذي ذكر السماع أولى لا سيما ممن ذكر بتدليس ثم لو صح لهم
لفظ ابن أبي زائدة. ومعمر بلا زيادة من غيرهما ولا بيان من سواهما لما كان لهم فيه حجة
لوجهين، أحدهما أنه ليس فيه ذكر جنس واحد ولا جنسين أصلا وهم يجيزون صاعي
حنطة بصاع تمر وبكل ما ليسا من جنس واحد، وهذا خلاف عموم الخبر * فان قالوا:
فسر هذا أخبار أخر قلنا: وكذلك فسرت أخبار أخر ما أجمله معمر، والوجه الثاني
أن يقول: هذا في القرض لا في البيع نعم لا يجوز في القرض صاعان بصاع في شئ من الأشياء
كلها وأما البيع فلا لان الله تعالى قول: (وأحل الله البيع) فان ادعوا اجماعا كذبوا
لأنهم يجيزون صاعي شعير بصاع بر والناس لا يجيزونه كلهم بل يختلفون في اجازته،
وصاعي حمص بصاع لبياء ولا اجماع ههنا فمالك لا يجيزه * فان قالوا: قد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم) قلنا: صح أنه عليه السلام قال:
فإذا اختلف هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد، فإنما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الأصناف التي سمى في الحديث الذي ذكر هذا اللفظ في آخره ولا يحل أن ينسب
إليه عليه السلام قول بظن كاذب، ويكفى من هذا أنهم مجمعون معنا على أن لفظة لا صاعين
بصاع ليست على عمومها فقالوا هم: في كل مكيل من جنس واحد وقلنا نحن: هو في
الأصناف المنصوص عليها فدعوى كدعوى، وبرهاننا نحن صحة النص على قولنا وبقى قولهم
بلا برهان (1) فبطل تعلقهم بهذا الخبر ولله تعالى الحمد * وأما حديث ابن عمر فساقط
لأنه عن أبي جناب - وهو يحيى بن أبي حية الكلبي - ترك الرواية عنه يحيى القطان.
وعبد الرحمن بن مهدي وضعف وذكر بتدليس، ثم هو عن أبيه وهو مجهول جملة فبطل
التعلق به، ثم لو صح لكان القول فيه كالقول في غيره مما ذكرنا آنفا مما خالفوا فيه عمومه *
وأما حديث أبي سعيد الخدري الذي أوردنا من طريق حيان بن عبيد الله عن أبي مجلز
فلا حجة فيه لأنه منقطع كما أوردنا لم يسمعه لا من أبي سعيد. ولا من ابن عباس وذكر
فيه أن ابن عباس تاب ورجع عن القول بذلك وهذا الباطل (2) وقول من بلغه خبر لم
يشهده (3) ولا أخذه عن ثقة، وقد روى رجوع ابن عباس أبو الجوزاء رواه عنه سليمان
ابن علي الربعي وهو مجهول لا يدرى من هو، وروى عنه أبو الصهباء أنه كرهه، وروى
عنه طاوس ما يدل على التوقف، وروى الثقة المختص به خلاف هذا كما حدثنا حمام نا عباس
ابن أصبغ نا محمد بن عبد الملك بن أيمن نا عبد الله بن أحمد بن حنبل نا أبى هشيم أنا أبو بشر -



(1) في النسخة 14 بلا دليل
(2) في النسخة 16 وهذا لقول بالباطل
(3) في النسخة 16 لم يسنده
482
هو جعفر بن أبي وحشية - عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: ما كان الربا قط
في هاء وهات، وحلف سعيد بن جبير بالله ما رجع عنه حتى مات، ثم هو أيضا من رواية
حيان بن عبيد الله وهو مجهول ثم لو انسند حديث أبي مجلز المذكور لما كانت لهم فيه حجة
لان اللفظ الذي تعلقوا به من (وكذلك ما يكال ويوزن) ليس من كلام رسول الله
صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام أبي سعيد لو صح، وهو أيضا عنه منقطع لان هذا خبر رواه نافع.
وأبو صالح السمان. وأبو المتوكل الناجي. وسعيد بن المسيب. وعقبة بن عبد الغافر.
وأبو نضرة. وأبو سلمة بن عبد الرحمن. وسعيد الجريري. وعطاء بن أبي رباح كلهم عن
أب سعيد الخدري، وكلهم ذكروا أنهم سمعوه منه، وكلهم متصل الأسانيد بالثقات
المعروفين إليهم ليس منهم أحد ذكر هذا اللفظ (1) فيه وهو بين في الحديث المذكور نفسه
لأنه لما تم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو مجلز: ثم قال فابتدأ الكلام المذكور
من ذكر: (وكذلك كل ما يكال ويوزن) مفصولا عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
وسلم، وما يبعد أن يكون من كلام أبى مجلز وهو الأظهر فبطل من كل جهة، ولا يحل
أن ينسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام بالظن الكاذب *
قال أبو محمد: ثم العجب كله من احتجاجهم فيما ليس فيه منه نص ولا دليل
ولا أثر، وخلافهم ليقين ما فيه منسوبا مبينا أنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم و سلم، وقد صح من
غير هذا الخبر أنه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم (التمر بالتمر. والحنطة بالحنطة. والشعير
بالشعير. والذهب بالذهب. والفضة بالفضة يدا بيد عينا بعين) فقالوا هم جهارا: نعم
ويجوز غير عين بغير عين و يجوز عين بغير عين، نعم يجوز تمرة بتمرتين وبأكثر فهل
بعد هذه الفضائح فضائح؟ أو يبقى مع هذا دين أو حياء من عار أو خوف نار نعوذ بالله
من الضلال والدمار *
قال أبو محمد:: وما يبين غاية البيان أن هذا اللفظ - نعنى وكذلك ما يكال ويوزن -
ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم قطعا ببرهان واضح وهو أيضا مبطل لعلتهم بالوزن. والكيل
من طريق ضرورة الحس وبديهة العقل وصادق النظر فان من الباطل البحت أن يكون عليه
السلام يجعل علة الحرام في الربا الوزن. والكيل. والتفاضل فيه وباعثه عز وجل يعلم
وهو عليه السلام يدرى وكل ذي عقل يعرف أن حكم المبيعات يختلف في البلاد أشد
اختلاف فما يوزن في بلدة يكال في أخرى كالعسل. والزيت. والدقيق. والسمن. يباع
الزيت والعسل ببغداد والكوفة وزنا ولا يباع شئ منها بالأندلس إلا كيلا، ويباع السمن



(1) في النسخة 14 هذه اللفظة
483
والدقيق في بعض البلاد كيلا ولا يباعان عندنا إلا وزنا والتين يباع برية كيلا ولا يباع
بإشبيلية وقرطبة الا وزنا وكذلك سائر الأشياء، ولا سبيل إلى أن يعرف كيف كان يباع
ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أصلا، فحصل الربا لا يدرى ما هو حتى يجتنب
ولا ما ليس هو فيستعمل (1)، وصار الحرام والحلال في دين الله تعالى أمشاجا مختلطين
لا يعرف هذا من هذا أبدا، وحصلت الأنواع المبيعة كلها التي يدخلون فيها الربا لا يدرون
كيف يدخل الربا فيها؟ ولا كيف يسلم منه؟ نبرأ إلى الله تعالى من دين هذه صفته هيهات
أين هذا القول الكاذب؟ من قول الله تعالى الصادق: (اليوم أكملت لكم دينكم) ومن قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم هل بلغت؟ قالوا: اللهم نعم قال: اللهم اشهد) *
فان رجعوا إلى أن يجعلوا لأهل كل بلد عادته حصل الدين لعبا إذا شاء أهل بلد ان
يستحلوا الحرام ردوا كل ما كانوا يبيعونه بكيل إلى الوزن و ما كانوا يبيعونه بوزن
إلى كيل (2) فحل لهم باختيارهم ما كان حراما أمس من التفاضل بين الكيلين أو بين
الوزنين ما شاء الله كان وهذا بعينه أيضا يدخل على المالكيين. والشافعيين لأنهم إذا
أدخلوا الربا في المأكول كله أو في المدخر المقتات سألناهم عن الأصناف المبيعة من ذلك
وليست صنفا. ولا صنفين بل هي عشرات كثيرة باي شئ يوجبون فيها التماثل أبا لكيل
أم بالوزن؟ فايا ما قالوا صاروا متحكمين بالباطل ولم يكونوا أولى من آخر يقول
بالوزن فيما قالوا هم فيه بالكيل أو بالكيل فيما قالوا هم فيه بالوزن فأين المخلص؟ أم كيف
يبيع الناس ما أحل لهم من البيع؟ أم كيف يجتنبون ما حرم عليهم من الربا؟ وهذا من
الخطأ الذي لا يحيل على من يسره الله تعالى لنصيحة نفسه * وذكروا في ذلك عمن تقدم
ما روينا من طريق ابن وهب عن مخرمة بن بكير عن أبيه سمعت عمرو بن شعيب قال: كتب
عمر بن الخطاب إلى أبى موسى الأشعري أن لا يباع الصاع بالصاعين إذا كان مثله وإن كان
يدا بيد فان اختلف فلا بأس وإذا اختلف في الدين فلا يصلح. وكل شئ يوزن
مثل ذلك كهيئة المكيال * ومن طريق يحيى بن سعيد القطان نا صدقة بن المثنى نا
جدي - هو رباح بن الحرث - أن عمار بن ياسر قال في المسجد الأكبر: العبد خير من
العبدين. والأمة خير من الأمتين. والبعير خير من البعيرين. والثوب خير من الثوبين
فما كان يدا بيد فلا بأس به إنما الربا في النساء (3) الا ما كيل أو وزن *
قال أبو محمد: وزاد بعضهم في هذا الخبر فلا يباع صنف منه بالصنف الآخر الا
مثلا بمثل * ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم ان ابن



(1) في النسخة رقم 16 حتى يستعمل
(2) في النسخة 16 بكيل إلى وزن
(3) في النسخة 14 النسيئة
484
عمر كان لا يرى بأسا فيما يكال يدا بيد واحدا باثنين إذا اختلف ألوانه * ومن طريق
عبد الرزاق عن معمر عن حماد بن أبي سليمان (1) عن النخعي. وعن رجل عن الحسن قالا
جميعا: سلف ما يكال فيما يوزن ولا يكال. وسلف ما يوزن ولا يكال فيما يكال ولا يوزن *
ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن إبراهيم النخعي
قال: ما كان من بيع واحد يكال مثلا بمثل فإذا اختلفت فزد وازدد يدا بيد، وإن كان
شيئا واحدا يوزن فمثلا بمثل فإذا اختلف فزد وازدد يدا بيد * ومن طريق عبد الرزاق
عن معمر عن الزهري قال: كل شئ يوزن فهو يجرى مجرى الذهب والفضة وكل شئ
يكال فهو يجرى مجرى البر. والشعير * فاما الرواية (2) عن عمر فمنقطعة. وعن الحسن
كذلك، وأما قول عمار فغير موافق لقولهم لكنهم موهوا به لأنه (3) لا يخلو قوله:
الا ما كيل أو وزن من أن يكون استثناه من النساء الذي هو ربا أو يكون استثناء مما قال: إنه
لا بأس به ما كان يدا بيد ولا سبيل إلى وجه ثالث، فإن كان استثناه من النساء الذي
هو ربا فهو ضد مذهبهم عينا وموجب أنه لا ربا الا فيما يكال أو يوزن في النسيئة، فإن كان
استثناه مما لا بأس به يدا بيد فهو أيضا ضد مذهبهم وموجب أنه لا يجوز ما كيل بما
وزن يدا بيد، وأما الزيادة التي زادوها فلا يباع صنف منه بالصنف الآخر الا مثلا بمثل
فهو ضد مذهبهم عيانا بكل حال، وأما قول ابن عمر فصحيح عنه وقد صح عنه خلافه كما
ذكرنا في ذكرنا قول الشافعي فليس أحد قوليه بأولى من الآخر مع أنه ليس فيه كراهية
التفاضل فيما يكال ولا يوافقه سائر أقوالهم وما وجدنا قولهم يصح عن أحد قبلهم الا
عن النخعي. والزهري فقد فبطل كل ما موهوا به من الآثار، فان قالوا: لم ينص عليه
السلام الا على مكيل. وموزون قلنا: ما الفرق بين هذا وبين من قال: لم ينص عليه
السلام الا على مأكول أو ثمن، أو من قال: لم ينص عليه السلام الا على مقتات مدخر
ومعدني وما يصلح به الطعام، أو من قال: لم ينص عليه السلام الا على ما يزكى وعلى مالح
الطعم فقط، أو من قال: لم ينص عليه السلام الا على نبات. ومعدني. وجامد؟ فأدخل
الربا في كل ما ينبت كالصبر وغير ذلك وأسقطه عن اللبن وما يتصرف منه وعن العسل.
واللحم. والسمك فليس بعض هذه الدعاوى أولى من بعض، وكل هذا إذا تعدى به
ما ورد فيه النص فهو تعد لحدود الله تعالى، وما عجز رسول الله صلى الله عليه وسلم قط عن أن يبين
لنا مراده وحاش له من أن يكلنا في أصعب الأشياء من الربا المتوعد فيه بنار جهنم في
الآخرة والحرب به في الدنيا إلى هذه الكهانات الكاذبة. والظنون الآفكة ظلمات بعضها



(1) في النسخة 16 سفيان وهو تصحيف
(2) في النسخة 14 (فالرواية)
(3) في النسخة 16 (انه)
485
فوق بعض، ونحمد الله على السلامة *
وعهدنا بهم يقولون: نحن على يقين من وجوب قطع اليد في عشرة دراهم وغير
موقنين بوجوب قطعها في أقل، ونحن موقنون بتحريم عصير العنب إذا أسكر ولم
نوقن بتحريم ما عداه، ونحن موقنون بالقصر في ثلاث ولا نوقن به في أقل فلا نقول بشئ
من ذلك حيث لا نوقنه، فهلا قالوا ههنا: نحن موقنون بالربا في الأصناف المنصوص
عليها ولسنا على يقين منه في غيرها فلا نقول به حيث لا يقين معنا فيه؟؟ ولو فعلوا هذا ههنا
وتركوا هنالك لوفقوا لأنهم كانوا يتبعون السنن وبالله تعالى التوفيق، ثم لم يلبثوا ان نقضوا
علتهم أقبح نقض فأجازوا تسليف الذهب. والفضة فيما يكال. وما يوزن، وأجازوا
بيع آنية نحاس بآنية نحاس أو وزن منها ولم يجيزوا ذلك في آنية الذهب. والفضة وكل
ذلك سواء عندهم في دخول الربا فيه، ثم أجازوا بيع قمح بعينه بقمح بغير عينه. أو تمر بعينه
بتمر بغير عينه. أو شعير بعينه بشعير بغير عينه فيقبض الذي بغير عينه ثم يفترقان قبل
قبض الذي بعينه، وحرموا ذلك في ذهب بعينه بذهب بغير عينه وفى فضة بعينها بفضة بغير عينها
ولا فرق بين شئ من ذلك لا في نص. ولا في معقول، فأباحوا الربا جهارا ونعوذ بالله من
الخذلان، فبطلت علة هؤلاء وبطل قولهم يقينا * (*)
1480 مسألة قال أبو محمد: وههنا أشياء ذكرها القائلون بتعليل حديث
الربا كلهم وهي أنهم ذكروا ما روينا من طريق وكيع نا إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم بن جابر
عن عبادة بن الصامت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول: الذهب بالذهب. والفضة
بالفضة. الكفة بالكفة حتى خلص إلى الملح) قالوا: فهذا يدل على أنه عليه السلام
ذكر غير ذلك *
قال أبو محمد: وهذا باطل لوجوه * أولها أن هذا اللفظ لم يروه الا حكيم بن جابر
وهو مجهول * والثاني أنه قد أسقط من هذا الخبر ذكر البر. والتمر. والشعير فبطل
تقديرهم أنه ذكر أصنافا لم يذكرها غيره من الرواة * والثالث أن هذا الخبر رويناه من
طريق بكر بن حماد عن مسدد عن يحيى بن سعيد القطان عن إسماعيل بن أبي خالد عن حكيم
ابن جابر عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه: (حتى خص الملح) فلاح أنه
لم يذكر غير تلك الأصناف * والرابع أن من الباطل المتيقن أن يذكر عليه السلام شرائع
مفترضة فيسقط ذكرها عن جميع الناس أولهم عن آخرهم من غير نسخ هذا خلاف قول
الله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى)، وقوله تعالى:
(انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) ولو جاز هذا لكان الدين لم يكمل والشريعة (*)

486
فاسدة قد ضاعت منها عنا أشياء ولكنا مكلفين مالا نقدر عليه ومأمورين بما لا ندريه أبدا،
وهذه ضلالات ناهيك بها وباطل لا خفاء به * وذكروا ما روينا من طريق ابن وهب
عن يزيد بن عياض عن إسحاق بن عبد الله عن جبير عن مالك بن أوس بن الحدثان أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: (التمر بالتمر. والزبيب بالزبيب. والبر بالبر. والسمن
بالسمن. والزيت بالزيت. والدينار بالدينار. والدرهم بالدرهم لا فضل بينهم) * قال أبو محمد: وهذا حديث موضوع مكذوب لا تحل روايته الا على بيان فضيحته
لان مالك بن أوس لا يعرف له سماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجبير
ابن أبي صالح مجهول لا يدرى من هو، وإسحاق بن عبد الله - هو الفروي - متروك،
ويزيد بن عياض - هو ابن جعدبة - مذكور بالكذب ووضع الأحاديث، ثم لو
صح لم يكن لهم فيه حجة في ايجاب علة أصلا وإنما كأن يكون فيه زيادة ذكر الزيت.
والسمن. والزبيب فقط، وأيضا فلو صح لكان المالكيون مخالفين له لأنهم يجيزون
الدرهم بأوزن منه على سبيل المعروف ولكان الحنيفيون مخالفين له لأنهم يجيزون ثلاث
تمرات بست تمرات. وعشر حبات بر بثلاثين حبة بر، وكذلك في الشعير. والملح
والزبيب. والملح، ولا يحل تحريم حلال خوف الوقوع في الحرام فيستعجل من فعل
ذلك المعصية والوقوع في الباطل خوف أن يقع فيه غيره * ومن طريق وكيع نا إبراهيم
ابن يزيد عن أبي الزبير عن جابر أنه كره مدى ذرة بمد حنطة نسيئة، إبراهيم متروك متهم
وهذا كراهية (1) لا تحريم، ولا يدرى هل كره الكيل أو الطعام؟ وقد ذكرنا كل قول
روى في هذا الباب عن المتقدمين وبينا خلافهم لها وأنهم قالوا في ذلك بأقوال لاتحفظ عن أحد قبلهم، وأعجب شئ مجاهرة من لادين له بدعوى الاجماع على وقوع الربا فيما عدا
الأصناف المنصوص عليها، وهذا كذب مفضوح من قريب، والله ما صح الاجماع
في الأصناف المنصوص عليها فكيف في غيرها، أوليس ابن مسعود وابن عباس
يقولان: لا ربا فيما (2) كان يدا بيد؟ وعليه كان عطاء. وأصحاب ابن عباس. وفقهاء
أهل مكة * وقد روينا من طريق سعيد بن منصور نا أبو معاوية نا الأعمش عن إبراهيم
التيمي عن الحرث بن سويد عن عبد الله بن مسعود قال: لا ربى فيما كان يدا بيد والماء
من الماء * ومن طريق أبى بكر بن أبي شيبة نا وكيع نا سفيان - هو الثوري - عن
ابن جريج عن عطاء قال: لا بأس بأن يسلم ما يكال فيما يكال وما يوزن فيما يوزن إنما
هو طعام بطعام، وهذا نفس قولنا ومخالف لجميع قول هؤلاء، وقد صح عن طلحة بن



(1) في النسخة 16 (وهذه كراهية)
(2) في النسخة 16 (لا ربا إلا فيما)
487
عبيد الله إباحة بيع ذهب بفضة يقبض أحدهما ويتأخر قبض الآخر إلى أجل غير مسمى
ولا يقدرون فيما عدا الستة الأصناف في الربا على كلمة الا عن سبعة من الصحابة رضي الله عنهم
مختلفين كلهم مخالف لأقوال أبي حنيفة. ومالك. والشافعي، ليس عن أحد منهم رواية
توافق أقوال هؤلاء صحيحة ولا سقيمة، وعن نحو اثنى عشر من التابعين مختلفين أيضا
كذلك مخالفين لأقوالهم الا إبراهيم وحده فإنه وافق قوله أصل أبي حنيفة، وأيضا
فأكثر الروايات التي ذكرنا عن الصحابة والتابعين فواهية لا تصح، فمن يجعل مثل هذا
إجماعا إلا من لادين له ولا عقل وبالله تعالى التوفيق * ووجدنا لبشر بن غياث المريسي
قولا غريبا وهو أن تسليم كل جنس في غير جنسه جائز كالذهب في الفضة. والفضة في
الذهب. والقمح في الشعير. والتمر في الملح. وكل صنف منها في غيره وأن الربا لا يقع
إلا فيما بيع بجنسه فقط، ثم لا ندري أعم كل جنس في العالم قياسا على المنصوصات وهو
الأظهر من قوله؟ أو خص المنصوصات فقط، وهذا قول مخالف لما صح عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلا وجه للاشتغال به * (*)
1481 مسألة (1) قال على: فإذ قد بطلت هذه الأقوال كلها فالواجب أن
نذكر البرهان على صحة قولنا بعون الله تعالى * روينا من طريق مسلم نا قتيبة بن سعيد قال:
نا الليث - هو ابن سعد - عن ابن شهاب عن مالك بن أوس بن الحدثان أنه قال: أقبلت
أقول: من يصطرف الدراهم؟ فقال طلحة بن عبيد الله - هو عند عمر بن الخطاب -: أرنا
ذهبك ثم جئنا (2) إذا جاء خادمنا نعطك ورقك فقال عمر بن الخطاب: كلا والله لتعطينه
ورقه أو لتردن إليه ذهبه فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الورق بالذهب ربا الاهاء
وهاء (3) والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء. والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء. والتمر بالتمر
ربا إلا هاء وهاء) * ومن طريق مسلم نا عبيد الله بن عمر القواريري نا حماد بن زيد عن
أيوب السختياني عن أبي قلابة نا أبو الأشعث عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم (ينهى عن بيع الذهب بالذهب. والفضة بالفضة. والبر بالبر. والشعير بالشعير
والتمر بالتمر. والملح بالملح إلا سواء بسواء عينا بعين فمن زاد أو ازداد فقد أربى) (4) *
ومن طريق مسلم نا إسحاق بن إبراهيم - هو ابن راهويه - عن عبد الوهاب بن عبد المجيد
الثقفي عن أيوب السختياني بنحوه * ومن طريق أحمد بن شعيب نا محمد بن المثنى نا عمرو
ابن عاصم نا همام - هو ابن يحيى - نا قتادة عن أبي الخليل عن مسلم المكي عن أبي الأشعث



(1) سقط لفظ (مسألة) من النسخة 14
(2) في صحيح مسلم ج 1 ص 465 (تم ائتنا)
(3) لفظه كجاء أي هاك وأهل الحديث يقولون بالقصر، وقال الخطابي، الصواب المد، وقال غيره، الوجهان جائزان والمد أشهر وهو حال أي الا مقولا منهما أي من المتعاقدين فيه خذو خذ أي يدا بيد
(4) الحديث في صحيح مسلم ج 1 ص 465 مطولا
488
الصنعاني عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب نبره
وعينه وزنا بوزن. والفضة بالفضة تبره وعينه وزنا بوزن. والملح بالملح. والتمر بالتمر.
والبر بالبر. والشعير بالشعير كيلا بكيل فمن زاد (1) أو ازداد فقد أربى، ولا بأس
ببيع الشعير بالبر والشعير أكثرهما يدا بيد) *
قال أبو محمد: عمرو بن عاصم أنصاري ثقة معروف، وأبو الخليل هو صالح بن أبي
مريم ثقة، ومسلم المكي هو مسلم بن يسار الخياط مولى عثمان رضي الله عنه ثقة،
وقد روينا هذا أيضا من طرق صحاح فلا ربا إلا فيما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
المأمور بالبيان وما عدا ذلك فحلال وما كان ربك نسيا وبالله تعالى التوفيق *
1483 مسألة ولا يحل أن يباع قمح بقمح الا مثلا بمثل كيلا بكيل يدا بيد
عينا بعين، ولا يحل أن يباع شعير بشعير الا كذلك، ولا يحل أن يباع تمر بتمر الا
كذلك، ولا يحل أن يباع ملح بملح الا كذلك، وسواء معدنيه أو ما ينعقد منه من الماء
كل ذلك لا يباع بعضه ببعض الا كما ذكرنا، وكذلك أصناف القمح فهي كلها قمح
الاعلى. والأدنى. والوسط سواء فيما قلنا، وكذلك أقسام الشعير، وكذلك أقسام
التمر فان تأخر قبض أحد العينين فهو ربا حرام مفسوخ أبدا محكوم فيه بحكم الغصب
سواء تأخر طرفه عين أو أكثر، والكثير والقليل من كل ما ذكرنا سواء فيما وصفنا،
ولا يحل شئ مما ذكرنا من نوعه وزنا بوزن ولا وزنا بكيل ولا جزافا بجزاف.
ولا جزافا بكيل. ولا جزافا بوزن لان كل هذا مقتضى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي ذكرنا، ومفهومه وموضوعه في اللغة التي بها خاطبنا وبالله تعالى التوفيق * وقال أبو حنيفة. والشافعي: جائز أن يباع منها شئ بغير عينه بمعين وبغير معين
وجائز أن يتأخر التقابض عن وقت العقد ما لم يفترقا بأبدانهما وان طال ذلك، وهذا
خلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم * روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا يزيد
ابن إبراهيم نا محمد بن سيرين قال: نبئت أن عمر بن الخطاب قام يخطب فقال: يا أيها الناس
ألا ان الدرهم بالدرهم والدينار بالدينار عين بعين سواء سواء مثلا بمثل، فهذا عمر بحضرة
الصحابة لا يجيز في الدراهم والدنانير إلا عينا بعين ويرى أنها تتعين ولا يعرف له في ذلك
مخالف من الصحابة فخالفوه *
1484 مسألة وجاز بيع كل صنف مما ذكرنا بالأصناف الاخر منها متفاضلا
ومتماثلا وجزافا وزنا وكيلا كيف ما شئت إذا كان يدا بيد، ولا يجوز في ذلك التأخير



(1) في سنن النسائي ج 7 ص 277 (والشعير بالشعير سواء بسواء مثلا بمثل فمن زاد) الخ
489
طرفة عين فأكثر لا في بيع ولا في سلم، وهذا مقتضى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا
وهو متفق عليه الا مالكا فإنه لم يجز بيع الشعير بالقمح الا متماثلا كيلا بكيل، وأجازه
أبو حنيفة. والشافعي. وأبو سليمان كما قلنا * برهان صحة قولنا ما روينا من طريق مسلم
نا أبو كريب نا ابن فضيل - هو محمد - عن أبيه عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن
أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (التمر بالتمر. والحنطة بالحنطة. والشعير بالشعير.
والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد واستزاد فقد أربى إلا ما اختلفت ألوانه) *
ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة عن وكيع نا سفيان الثوري عن خالد الحذاء
عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الذهب
بالذهب. والفضة بالفضة. والبر بالبر. والشعير بالشعير. والتمر بالتمر. والملح بالملح
مثلا بمثل يدا بيد سواء بسواء (1) فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم
إذا كان يدا بيد)، وقد ذكرنا قبل هذه بمسألة نصه عليه السلام على جواز بيع الشعير
بالبر متفاضلا ولا حجة في قول أحد دون رسول (2) الله صلى الله عليه وسلم * ومن طريق أحمد
ابن شعيب نا محمد بن عبد الله بن بزيع (3) نا يزيد نا سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين عن
مسلم بن يسار. وعبد الله بن عبيد (4) - هو ابن هرمز - قالا جميعا: إن عبادة بن الصامت
حدثهم (قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب. والورق بالورق. والبر
بالبر. والشعير بالشعير. والتمر بالتمر إلا مثلا بمثل يدا بيد، وأمرنا أن نبيع الذهب
بالورق والورق بالذهب. والبر بالشعير. والشعير بالبر يدا بيد كيف شئنا) زاد أحدهما
في حديثه الملح بالملح ولم يقله الآخر (5)، فهذا أثر متواتر رواه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أبو هريرة. وعبادة بن الصامت، ورواه عن أبي هريرة أبو زرعة بن عمرو
ابن جرير. وأبو حازم، ورواه عن عبادة بن الصامت أبو الأشعث الصنعاني. وعبد الله
ابن عبيد، ورواه عن أبي الأشعث أبو قلابة. ومسلم بن يسار، ورواه عن مسلم بن يسار
أبو الخليل. وابن سيرين، ورواه عن هؤلاء الناس * واحتج المالكيون بما روينا
من طريق ابن وهب عن عمرو بن الحرث أن أبا النضر حدثه أن بسر بن سعيد حدثه عن
معمر بن عبد الله أنه أرسل غلامه بصاع قمح وقال: بعه ثم اشتر به شعيرا فذهب الغلام
فأخذ صاعا وزيادة بعض صاع فلما جاء قال له معمر: لم فعلت ذلك؟ انطلق فرده ولا



(1) في صحيح مسلم ج 1 ص 466 تقديم وتأخير
(2) في النسخة 14 أحد غيره عليه السلام
(3) في النسخة 14 (بزيغ) بالغين المعجمة وهو تصحيف
(4) في سنن النسائي ج 7 ص 274 عبد الله بن عتيك وهو صحيح أيضا لأنه
يقال له: ابن عتيك. وابن عتيق أيضا انظر تهذيب التهذيب ج 5 ص 212
(5) سقط بعض ألفاظ من الحديث من رواية المصنف له
490
تأخذن إلا مثلا بمثل فأنى كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الطعام بالطعام مثلا
بمثل قيل: فإنه ليس مثله قال: إني أخاف أن يضارع * وبما رويناه من طريق مالك
عن نافع عن سليمان بن يسار قال: قال عبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث لغلامه خذ
من حنطة. أهلك [طعاما] (1) فابتع بها شعيرا ولا تأخذ إلا مثله * ومن طريق ابن أبي
شيبة نا أبو داود الطيالسي عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير قال: أرسل عمر
ابن الخطاب غلاما له بصاع من بر يشترى له به صاعا من شعير وزجره أن زادوه أن يزداد *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا شبابة عن ليث عن نافع عن سليمان بن يسار عن سعد
ابن أبي وقاص مثل هذا * ومن طريق مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد عن معيقيب مثل
هذا أيضا، وهو قول أبى عبد الرحمن السلمي صح عنه ذلك وروى ولم يصح عن القاسم.
وسالم. وسعيد بن المسيب، وصح عن ربيعة وأبى الزناد. والحكم بن عتيبة. وحماد
ابن أبي سليمان. والليث بن سعد قالوا: فهؤلاء عمر. وسعد. ومعيقيب. وعبد الرحمن
ابن الأسود. ومعمر بن عبد الله خمسة من الصحابة رضي الله عنهم * قال على. وجسر
بعضهم فقال: لا يعرف لهم مخالف من الصحابة، وجسر آخر منهم فادعى إجماع
السلف في ذلك *
قال على: ما لهم حجة غير هذا أصلا، فاما حديث معمر فهو حجة عليه لأنهم يسمون
التمر طعاما ويبيحون فيه التفاضل بالبر فقد خالفوا الحديث على تأويلهم باقرارهم ولا
حجة لهم أصلا فيه لأنه ليس فيه الا الطعام بالطعام مثلا بمثل وهذا مما لا نخالفهم فيه وفى
جوازه وليس فيه أن الطعام لا يجوز بالطعام الا مثلا بمثل بل هذا مسكوت عنه جملة في
خبر معمر. ومنصوص على جوازه في خبر أبي هريرة. وعبادة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فبطل تعلقهم به جملة وعاد حجة عليهم، وأما قول معمر من رأيه فلا متعلق لهم فيه لأنه قد
صرح بان الشعير ليس مثل القمح لكن تخوف أن يضارعه فتركه احتياطا لا ايجابا، وأما
عن عمر فمنقطع، وكذلك عن معيقيب، وكم قصة خالوا فيها عمر. وسعدا. وأكثر
من هذا العدد من الصحابة كالمسح على العمامة. وعلى الجوربين. والقود من الضربة.
واللطمة، وغير ذلك في كثير لا يعرف لهم فيه مخالف من الصحابة رضي الله عنهم نعم
ومعهم السنن الثابتة وقد خالف من ذكرنا طائفة من الصحابة رضي الله عنهم كما روينا من
طريق ابن أبي شيبة نا يزيد بن هارون عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن مسلم بن يسار
عن أبي الأشعث الصنعاني أن عبادة بن الصامت قال: لا بأس ببيع الحنطة بالشعير والشعير



(1) الزيادة من الموطأ ج 2 ص 144
491
أكثر منه يدا بيد ولا يصلح نسيئة، فهذا عبادة أسنده وأفتى به * ومن طريق ابن أبي شيبة
نا عبد الأعلى عن عمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر كان لا يرى بأسا فيما يكال واحدا
باثنين يدا بيد إذا اختلفت ألوانه * ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن فضيل عن أشعث عن أبي
الزبير عن جابر بن عبد الله قال: إذا اختلف النوعان فلا بأس بالفضل يدا بيد *
فهذه أسانيد أصح من أسانيد هم بخلاف قولهم وهو قول ابن مسعود. وابن عباس
بلا شك أنه صح عنهما أنه لا ربا في التفاضل أصلا وإنما الربا في النسيئة * ومن طريق عبد
الرزاق عن سفيان الثوري عن المغيرة بن مقسم عن إبراهيم النخعي أنه لم ير بأسا بجريبين
من شعير بجريب من بر * ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير عن المغيرة بن مقسم عن الشعبي
قال المغيرة: سألته وإبراهيم عن أربعة أجربة من شعير بجريبين من حنطة فقالا جميعا:
لا بأس به * ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد الأعلى عن معمر عن الزهري أنه كان لا يرى بأسا
ببيع البر بالشعير يدا بيد أحدهما أكثر من الآخر * ومن طريق ابن أبي شيبة نا الفضل بن دكين
عن أنيس (1) بن خالد التميمي (2) قال: سألت عطاء عن الشعير بالحنطة اثنين بواحد
يدا بيد فقال: لا بأس به، فهؤلاء خمسة من الصحابة رضي الله عنهم صح عنهم جواز
التفاضل في البر بالشعير، وطائفة من التابعين وهو قول سفيان. وأبي حنيفة.
والشافعي، وأبي ثور. وأحمد بن حنبل. وإسحاق. وأبي سليمان، وإذا اختلف
الناس فالمردود إليه هو القرآن. والسنة. وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز
التفاضل في البر. والشعير كما ذكرنا فلا قول لاحد معه، والعجب من مالك إذا يجعل
ههنا وفى الزكاة البر والشعير والسلت صنفا واحدا ثم لا يجيز لمن يتقوت البر اخراج
الشعير أو السلت في زكاة الفطر، وقوله:. أن يخرج كل أحد مما يأكل وهذا تناقض
فاحش، وعجب آخر وهو أنه يجمع بين الذهب. والفضة في الزكاة ويرى اخراج
أحدهما عن الآخر في الزكاة المفروضة ويجيز ههنا أن يباع الذهب بالفضة متفاضلين،
وهذا تناقض لا خفاء به، وما علم قط أحد لا في شريعة. ولا في لغة. ولا في طبيعة أن الشعير
بر ولا أن البر شعير بل كل ذلك يشهد أنهما صنفان مختلفان كاختلاف التمر. والزبيب.
والتين، ولا يختلفون في أن من حلف لا يأكل برا فأكل شعيرا أو لا يأكل شعيرا فأكل برا
أو أن لا يشترى برا فاشترى شعيرا أو أن لا يشترى شعيرا فاشترى برا فإنه لا يحنث،
فهذه تناقضات فاحشة لا وجه لها أصلا. لا من قرآن. ولا سنة. ولا رواية سقيمة.
ولا قياس وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة 14 (عن أنس) وهو غلط
(2) في النسخة 16 التيمي وهو غلط صححناه من لسان الميزان
492
1485 مسألة وجائز بيع الذهب بالفضة سواء في ذلك الدنانير بالدراهم
أو بالحلي أو بالنقار، والدراهم بحلي الذهب وسبائكه. وتبره والحلي من الفضة بحلي الذهب
وسبائكه. وسبائك الذهب وتبره بنقار الفضة يدا بيد ولا بد عينا بعين ولابد متفاضلين
ومتماثلين وزنا بوزن وجزافا بجزاف ووزنا بجزاف في كل ذلك لاتحاش شيئا ولا يجوز
التأخير في ذلك طرفة عين لا في بيع ولا في سلم ويباع الذهب بالذهب سواء كان دنانير.
أو حليا. أو سبائك. أو تبرا وزنا بوزن عينا بعين يدا بيد لا يحل التفاضل في ذلك أصلا
ولا التأخير طرفة عين لا بيعا ولا سلما، وتباع الفضة بالفضة دراهم أو حليا أو نقارا وزنا
بوزن عينا بعين يدا بيد ولا يجوز التفاضل في ذلك أصلا ولا التأخير طرفة عين لا بيعا ولا
سلما، ولا تجوز برادة أحدهما بمثلها من نوعها كيلا أصلا لكن بوزن ولا بد، ولا نبالي
كان أحد الذهبين أجود من الآخر بطبعه أو مثله، وكذلك في الفضتين، وهذا مجمع عليه
الا ما ذكرنا عن طلحة بن عبيد الله، والا بيع الفضة بالفضة أو الذهب بالذهب فان ابن عباس.
وابن مسعود ومن وافقهما أجازوا فيهما التفاضل يدا بيد، والا أن أبا حنيفة. والشافعي
أجازا بيع كل ذلك بغير عينه وأجازا تأخير القبض ما لم يتفرقا بأبدانهما وقد ذكرناه عن
عمر قبل هذا بخلاف قولهم، والا ان مالكا لا يجيز الجزاف في الدنانير ولا في الدراهم بعضها
ببعض ويجيزه في المصوغ من أحدهما بالمصوغ من الآخر، ويجيز اعطاء درهم بدرهم
أوزن منه على سبيل المكارمة *
فأما قول مالك هذا. وقول أبي حنيفة. والشافعي فلا حجة لشئ منها لا من قرآن.
ولا من سنة. ولا من رواية سقيمة. ولا من قياس. ولا من قول صاحب بل هو خلاف
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا آنفا من امره عليه السلام أن نبيع الفضة بالذهب كيف
شئنا يدا بيد * وأما قول ابن عباس فإنه احتج بما رويناه من طريق أحمد بن شعيب أنا محمد
ابن منصور عن سفيان الثوري عن عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال: باع شريك لي ورقا
بنسيئة [فجاءني فأخبرني] (1) فقلت: هذا لا يصلح فقال: قد والله بعته في السوق
وما عابه (2) على أحد فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال: قدم [علينا] رسول الله صلى الله عليه وسلم
[المدينة] ونحن نبيع هذا البيع فقال: ما كان يدا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا
[ثم قال لي: ائت زيد بن أرقم] فأتيت زيد بن أرقم فسألته فقال: مثل ذلك * ومن طريق
أحمد بن شعيب أنا قتيبة نا سفيان - هو ابن عيينة - عن عمرو - هو ابن دينار - عن أبي صالح
السمان أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول في حديث: أن ابن عباس قال له أسامة بن زيد:



(1) الزيادة من سنن النسائي ج 7 ص 280
(2) في النسخة 14 فما عابه
493
أخبرني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنما الربا في النسيئة (1) * ومن طريق سعيد بن منصور
حدثني أبو معاوية - هو محمد بن حازم الضرير - عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن الحرث
ابن سويد قال: قال عبد الله بن مسعود. لا ربا في يد بيد والماء من الماء، وصح عن ابن عمر
أنه قال بقول ابن عباس ثم رجع عنه * وروينا من طريق حجاج به المنهال نا جرير بن حازم
قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن الصرف؟ فقال: يا بنى ان وجدت مائة درهم بدرهم
قدا فخذه *
قال أبو محمد: حديث عبادة. وأبي هريرة. وعمر. وأبي سعيد في أن الأصناف
الستة كل صنف منها بصنفه ربا إن كان في أحدهما زيادة على وزن الآخر هو زائد حكما على
حديث أسامة. والبراء. وزيد، والزيادة لا يحل تركها وبالله تعالى التوفيق *
1486 مسألة وجائز بيع القمح والشعير. والتمر والملح بالذهب أو بالفضة
يدا بيد ونسيئة، وجائز تسليم الذهب أو الفضة بالأصناف التي ذكرنا لان النص جاء بإباحة
كل ذلك وبالله تعالى التوفيق *
1487 مسألة وأما القرض فجائز في الأصناف التي ذكرنا وغيرها وفى كل
ما يتملك ويحل إخراجه عن الملك ولا يدخل الربا فيه إلا في وجه واحد فقط، وهو
اشتراط أكثر مما أقرض. أو أقل مما أقرض. أو أجود مما أقرض. أو أدنى مما أقرض
وهذا مجمع عليه، وهو في الأصناف الستة منصوص عليه كما أوردنا بأنه ربا وهو فيما
عدا ها شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، ويجوز إلى أجل مسمى ومؤخرا بغير
ذكر أجل لكن حال في الذمة متى طلبه صاحبه أخذه، وقال مالك: لا يأخذه إلا بعد مدة
ينتفع فيها المستقرض بما استقرض، وهذا خطأ لأنه لم يأت به قرآن. ولا سنة. ولا رواية
سقيمة. ولا قياس. ولا قول أحد نعلمه قبله، وأيضا فإنه حد فاسد لان الانتفاع لا يكون
الا في ساعة (2) فما فوقها، وقال الله تعالى: (ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها)
والقرض أمانة ففرض أداؤها إلى صاحبها متى طلبها وبالله تعالى التوفيق *
1488 مسألة فإن كان مع الذهب شئ غيره أي شئ كان من فضة أو غيرها
ممزوج به أو مضاف فيه أو مجموع إليه في دنانير أوفى غيرها لم يحل بيعه مع ذلك الشئ ولا
دونه بذهب أصلا لا بأكثر من وزنه ولا بأقل ولا بمثله الا حتى يخلص الذهب وحده
خالصا، وكذلك إن كان مع الفضة شئ غيرها كصفر. أو ذهب. أو غيرهما ممزوج بها
أو ملصق معها أو مجموع إليها لم يحل بيعها مع ذلك الشئ ولا دونه بفضة أصلا دراهم



(1) الحديث في سنن النسائي أطول من هذا
(2) في النسخة 14 لان الانتفاع يكون في ساعة
494
كانت أو غير دراهم لا بأكثر من وزنها ولا بأقل ولا بمثل وزنها إلا حتى تخلص الفضة
وحدها خالصة، سواء في كل ما ذكرنا السيف المحلى. والمصحف المحلى. والخاتم فيه
الفص. والحلي فيه الفصوص. أو الفضة المذهبة.
أو الدنانير فيها خلط صفر أو فضة.
أو الدراهم فيها خلط ما، ولا ربا في غير ما ذكرنا أصلا وكذلك إن كان في القمح شئ من
غيره مخلوط به أو مضاف إليه من دغل أو غيره لم يجز بيعه بذلك الشئ ولا دونه بقمح
صاف أصلا، وكذلك القول في الشعير فيه شئ غيره أو معه شئ غيره فلا يحل بيعه
بشعير محض وفى التمر يكون معه أو فيه شئ غيره أو معه فلا يحل بيعه بتمر محض، وكذلك
القول في الملح يكون فيه أو معه شئ غيره فلا يحل بيعه بملح صاف، وإنما هذا كله إذا ظهر
أثر الخلط في شئ مما ذكرنا، وأما ما لم يؤثر ولا ظهر له فيه عين ولا نظر أيضا فحكمه حكم
المحض لان الأسماء إنما هي موضوعة على حسب الصفات التي بها تنتقل الحدود *
برهان ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يباع الذهب والفضة بشئ من نوعهما الا عينا بعين
وزنا بوزن، وأن لا يباع شئ من الأصناف الأربعة بشئ من نوعه إلا كيلا بكيل عينا
بعين، فإذا كان في أحد الأنواع المذكورة خلط أو شئ مضاف إليه فلا سبيل إلى بيعه
بشئ من نوعه عينا بعين ولا كيلا بكيل ولا وزنا بوزن لأنه لا يقدر على ذلك أصلا، فقال
من أجاز ذلك: إذا علمنا وزنه أو كيله جاز بيعه بشئ من نوعه أكثر وزنا أو كيلا منه
فيكون مقدار وزنه به أو مقدار كيله كذلك ويكون الفضل بذلك الشئ، مثال ذلك
دينار فيه حبة فضة فيباع بدينار ذهب صرف فيكون من هذا الدينار الصرف دينار غير
حبة بإزاء الذهب الذي في ذلك الدينار الذي فيه حبة فضة ويكون ما زاد (1) على ذلك من
ذهب هذا الدينار بالحبة الفضة، وكذلك الدرهم يكون فيه ربعه أو ثلثه أو نصفه صفرا
فيباع بدرهم فضة محضة فيكون ما في هذا الدرهم من الفضة بإزاء وزنه من ذلك الدرهم
الآخر من الفضة ويكون الصفر الذي مع هذه الفضة بإزاء ما بقي من ذلك الآخر من الفضة
وهكذا في الأربعة الأصناف الباقية *
قال أبو محمد: فقلنا: إن كنتم تخلصتم بهذه النية من الوزن فلم تتخلصوا من
التعيين لأنه يعرف أي فضة هذا الدرهم بعتم بفضة ذلك الآخر، وقد افترض رسول الله
صلى الله عليه وآله أنه لا يحل ذلك الا عينا بعين فكيف وقد ورد في هذا نص؟ كما
روينا من طريق مسلم نا أبو الطاهر [أحمد بن عمرو بن سرح] (2) انا ابن وهب أخبرني
أبو هانئ الخولاني أنه سمع علي بن رباح [اللخمي] يقول: سمعت فضالة بن عبيد يقول:



(1) في النسخة 16 (فيكون بإزائه)
(2) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 467
495
(أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها ذهب وخرز (1) وهي من المغانم تباع
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده ثم قال لهم عليه السلام:
الذهب بالذهب وزنا بوزن) * ومن طريق أبى داود نا محمد بن العلاء نا ابن المبارك
عن سيعد بن يزيد - هو أبو شجاع - عن خالد بن أبي عمران (2) عن حنش الصنعاني عن
فضالة بن عبيد الأنصاري قال: (أتى رسول الله (3) صلى الله عليه وسلم عام خيبر بقلادة فيها ذهب
وخرز ابتاعها رجل بتسعة دنانير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حتى تميز بينه وبينه فقال:
إنما أردت الحجارة فقال عليه السلام: لا حتى تميز بينهما فرده حتى ميز بينهما)، فهذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلتفت نيته في أنه إنما كان غرضه الخرز ويكون الذهب (4) تبعا
ولا راعى كثرة ثمن من قلته، وأوجب التمييز والموازنة ولا بد، وفى هذا خلاف نذكر
منه طرفا إن شاء الله تعالى * روينا من طريق شعبة نا عمارة بن أبي حفصة عن المغيرة بن
حنين سمعت علي بن أبي طالب - وهو يخطب - إذا أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ان
بأرضنا قوما يأكلون الربا قال على: وما ذلك؟ قال: يبيعون جامات مخلوطة بذهب
وفضة بورق فنكس على رأسه وقال: لا أي لا بأس به * ومن طريق سعيد بن منصور
نا جرير بن عبد الحميد عن السماك بن موسى عن موسى بن أنس بن مالك عن أبيه أن عمر
أعطاه آنية خسروانية مجموعة بالذهب فقال عمر: اذهب فبعها واشترط رضانا فباعها
من يهودي بضعف وزنها ثم أخبر عمر فقال له عمر: اذهب فاردده لا إلا بزنته * ومن
طريق سعيد بن منصور نا هشيم عن مجالد عن الشعبي أن عبد الله بن مسعود باع نفاية بيت
المال زيوفا وقسيانا (5) بدراهم دون وزنها * ومن طريق ابن أبي شيبة نا شريك
ابن عبد الله عن إبراهيم بن مهاجر عن إبراهيم النخعي قال: كان خباب قينا وكان ربما
اشترى السيف المحلى بالورق * ومن طريق ابن أبي شيبة نا عبد السلام بن حرب عن يزيد
الدالاني عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب قال: كنا نبيع السيف المحلى بالفضة ونشتريه *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن إسرائيل عن عبد الأعلى عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال: لا بأس ببيع السيف المحلى بالدراهم، فهؤلاء عمر. وعلى، وأنس. وابن
مسعود. وطارق. وابن عباس. وخباب الا أن عليا. وخبابا. وابن مسعود. وطارقا.
وابن عباس لم يخصوا بأكثر مما فيها من الفضة ولا أقل، وعمر راعى وزن الفضة وألغى
الذهب الا أنه أجاز الصرف بخيار رضاه بعد افتراق المتصارفين، وأنس وحده راعى



(1) في صحيح مسلم (فيها خرز وذهب)
(2) في النسخة 16 أبي عمرو) وهو غلط
(3) في سنن أبي داود (اتى النبي) الخ
(4) في النسخة 14 (وكون الذهب)
(5) هو جمع قسى الردئ كصبيان وصبي، يقال قست الدراهم تقسوا إذا زافت
496
أكثر من الوزن وأجاز الخيار في الصرف * وممن بعدهم روينا من طريق أحمد بن حنبل عن
يحيى بن أبي زائدة أخبرني ابن أبي غنية سألت الحكم بن عتيبة ألف درهم وستين درهما بألف
درهم وخمسة دنانير؟ فقال: لا بأس به ألف بألف والفضل بالدنانير * ومن طريق
عبد الرزاق نا معمر. وسفيان الثوري. وحى بن عمر قال معمر: عن قتادة عن الحسن
البصري، وقال سفيان: عن المغيرة عن إبراهيم النخعي، وقال حي: عن عبد الكريم
أبى أمية (1) عن الشعبي ثم اتفق الحسن. وإبراهيم، والشعبي قالوا كلهم: لا بأس
بالسيف فيه الحلية. والمنطفة. والخاتم ان يبتاعه بأكثر مما فيه أو بأقل ونسيئة * ومن طريق
عبد الرزاق نا هشيم عن مغيرة سألت إبراهيم النخعي عن الخاتم أبيعه نسيئة فقال (2):
أفيه فص؟ فقلت (3): نعم فكأنه هون فيه * ومن طريق ابن أبي شيبة نا عثمان بن مطر عن
هشام - هو ابن حسان - وسعيد بن أبي عروبة قال هشام: عن ابن سيرين وقال سعيد: عن
قتادة ثم اتفق ابن سيرين. وقتادة أنه لا بأس بشراء السيف المفضض. والخوان المفضض.
والقدح بالدراهم * ومن طريق شعبة قال: سألت حماد بن أبي سليمان عن السيف المحلى يباع
بالدراهم؟ فقال: لا بأس به، وروى هذا عن سليمان بن موسى. ومكحول أيضا *
ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم انا حصين - هو أبو عبد الرحمن - عن الشعبي أنه
كان لا يرى بأسا بالسيف المحلى يشترى نقدا ونسيئة ويقول فيه: الحديد. والحمائل * وروينا
من طريق شعبة أنه سأل الحكم بن عتيبة عن السيف المحلى يباع بالدراهم؟ فقال: إن كانت
الدراهم أكثر من الحلية فلا بأس به * وروينا مثله أيضا عن الحسن. وإبراهيم وهو قول
سفيان، وروينا عن إبراهيم قولا ثالثا كما روينا من طريق سعيد بن منصور نا جرير عن مغيرة
عن إبراهيم في الذهب والفضة يكونان جميعا قال: لا يباع الا بوزن واحد منهما *
قال أبو محمد: كأنه يلغى الواحد وقال الأوزاعي: إذا كانت الحلية تبعا وكان الفضل
في النصل جاز بيعه بنوعه نقدا وتأخيرا، وقال مالك: إن كانت فضة السيف المحلى بالفضة.
أو المصحف كذلك. أو المنطقة كذلك. أو خاتم الفضة كذلك يقع في الثلث من قيمتها مع
النصل. والغمد. والحمائل. ومع المصحف. ومع الفص، وكان حلي النساء من الذهب
أو الفضة يقع الفضة أو الذهب في ثلث قيمة الجميع مع الحجارة فأقل جاز بيع كل ذلك بنوعه
أكثر مما فيه ومثله وأقل نقدا ولا يجوز نسيئة، فإن كانت أكثر من الثلث لم يجز أصلا،
وهذا تناقض عظيم لان التفاضل حرام كالتأخير ولا فرق فان منع من أحدهما فليمنع من
الآخر وان أجاز أحدهما لأنه تبع فليجز الآخر أيضا لأنه تبع، وتحديده الثلث عجب آخرا



(1) في النسخة رقم 16 عبد العزيز بن أبي أمية وفى النسخة الحلبية عبد الكريم بن أبي أمية
(2) في النسخة رقم 14 قال
(3) في النسخة رقم 14 قلت
497
وما عقل قط أحد أن وزن عشرة أرطال فضة تكون ثلث قيمة ما هي فيه يكون قليلا ووزن
درهم فضة يكون نصف قيمة ما هي فيه يكون كثيرا، وهذا فاسد من القول جدا ولا دليل
على صحته لا من قرآن. ولا من سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قول أحد قبله نعلمه. ولا
قياس. ولا رأى له وجه ولا احتياط، وقال أيضا: لا يجوز بيع غير ما ذكرنا يكون فيه فضة
أو ذهب بنوع ما فيه منهما قل أو كثر كالسكين المحلاة بالفضة أو الذهب، والسرج كذلك،
وكل شئ كذلك إلا أن يكون ما فيه من الفضة أو الذهب إذا نزع لم يجتمع منه شئ له بال
فلا بأس حينئذ ببيعه بنوع ما فيه من ذلك نقدا وبتأخير وكيف شاء *
قال أبو محمد: شئ له بال كلام لا يحصل، وحبة ذهب أو فضة لها بال عند
المساكين نعم وعند التجار وعند أكثر الناس، ولا يحل عنده ولا عندنا تزيدها في الموازنة
فميا فيه الربا، ثم تفريقه بين السيف. والمصحف. والخاتم. والمنطقة. وحلي النساء في
ذلك. وبين السرح. واللجام (1) والمهاميز. والسكين. وغير ذلك عجب جدا! *
فان قالوا: لان ما ذكرنا قبل مباح اتخاذه قلنا: والدنانير مباح اتخاذها فأجيزوا
بيعها مع غيرها بذهب إذا كانت ثلث القيمة فأقل، وأجاز مالك بدل الدنانير المحضة
بالدنانير المغشوشة بالصفر أو الفضة كثر الغش أم قل كان الثلث أو أكثر أو أقل مثلا
بمثل، وكذلك أجاز بدل الدراهم المغشوشة بالصفر وغيره بالدراهم الفضة المحضة مثلا
بمثل كان الغش الثلث أو أكثر أو أقل، قال: فإن كان ذلك باسم البيع لم يجز وهو يرى
في المغشوشة الزكاة إذا بلغ وزنها بغشها (2) مائتي درهم أو بلغ وزن الدنانير عشرين دينارا
وإن كانت الفضة أو الذهب فيهما أقل من العشر، وهذا تناقض آخر ولئن كان حكمها حكم
الصافية في وجوب الزكاة فيها وكانت ورقا فان بيع بعضها ببعض جائز لأنها شئ واحد وورق
ولئن كان بيع بعضها ببعض لا يجوز لأنها ليست شيئا واحدا ولا هي ورق فان الزكاة فيها
لا تجب لذلك سواء سواء، ثم الفرق بين البدل، وبين البيع عجب آخر ما سمعناه عن أحد
قبله ولا ندري من أين قاله؟ ولئن كان للبدل هنا غير حكم البيع ليجوزن الدينار بالدينارين
على البدل لا على اسم البيع وهذه عجائب (3) كما تسمع، وقال أبو حنيفة: كل شئ محلى
بفضة أو ذهب فجائز بيعه بنوع ما فيه من ذلك إذا كان الثمن أكثر مما في المبيع من الفضة
أو الذهب ولا يجوز بمثل ما فيه من ذلك ولا بأقل، قال ولابد من قبض ما يقع للفضة أو
للذهب من الثمن قبل التفرق فكان هذا طريفا جدا ومخالفا للسنة كما ذكرنا قبل *
وقال أبو حنيفة في الدراهم المغشوشة: إن كان الثلثان هو الصفر وكانت الفضة الثلث



(1) في النسخة رقم 16 الخاتم
(2) في النسخة رقم 16 (بعينها)
(3) في النسخة رقم 14 (وهذا عجب)
498
ولا يقدر على تخليصها لأنه لا يدرى ان خلصت أيبقى الصفر أم يحترق؟ فلا بأس ببيعها بوزن
جميعها فضة محصة وبأكثر من وزن جميعها أيضا ولا يجوز بيعها بمثل الفضة التي فيها ولا بأقل
منها قال: فإن كان نصفها صفرا أو نصفها فضة فإن كانت الفضة هي الغالبة جاز بيعها بوزن
جميعها من الفضة المحضة ولا تباع بأكثر من ذلك من الفضة وإن لم يكن أحدهما غالبا
للآخر جاز بيعها حينئذ بمثل وزن جميعها فضة محضة وبأكثر وبأقل بعد أن تكون
فضة الثمن أكثر من الفضة التي في الدراهم فإن لم يدر أي الفضتين أكثر التي هي ثمن أم التي
في الدراهم؟ فالبيع فاسد، قال: فإن كان ثلثا الدراهم فضة وثلثها صفرا لم يجز ان تباع بالفضة
المحضة الا مثلا بمثل لا بأقل ولا بأكثر، وهذه وساوس لو قالها صبي في أول فهمه ليئس من
فلاحه ولو جب أن يستعد له بغل ونعوذ بالله من البلاء، وما لهذه الأحكام وجه أصلا لا
من قرآن. ولا من سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قياس. ولا رأى سديد. ولا احتياط.
ولا سمعت عن أحد قبله، وحسبنا الله ونعم الوكيل * والعجب أنه مرة رأى الثلث ههنا قليلا
ومرة رأى الربع كثيرا فيما ينكشف من بطن الحرة في الصلاة ومرة رأى مقدار الدرهم
البغلي كثيرا فيما ينكشف من فخذها أو دبرها ومرة رأى النصف قليلا. ومرة رأى
مقدار ثلاثة أصابع من جميع الرأس كثيرا، وهذه تخاليط لا تعقل وتحكم في دين
الله تعالى بالباطل *
قال أبو محمد: وروى مثل قولنا عن طوائف من السلف كما روينا من طريق
ابن أبي شيبة نا وكيع عن محمد بن عبد الله الشعيثي (1) عن أبي قلابة عن أنس قال: اتانا
كتاب عمر بن الخطاب ونحن بأرض فارس لا تبيعوا سيوفا فيها حلقة فضة بالدراهم *
ومن طريق سعيد بن منصور نا مهدي بن ميمون عن محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب
حدثني يحيى الطويل عن رجل من همدان قال: سألت علي بن أبي طالب فقلت: يا أمير
المؤمنين انه يكسد على الورق أفأصرفه بالزيادة والنقصان؟ قال: ذلك الربا العجلان *
ومن طريق سعيد بن منصور نا جرير عن مغيرة بن مقسم عن أبيه عن رجل من
السمانين قال: قال علي بن أبي طالب: إذا كان لاحدكم دراهم لا تنفق فليبتع بها ذهبا
وليبتع بالذهب ما شاء * ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم عن مجالد عن الشعبي أن
عبد الله بن مسعود باع نفاية بيت المال زيوفا وقسيان (2) بدراهم دونها وزنها فنهاه
عمر عن ذلك وقال: أو قد عليها حتى يذهب ما فيها من حديد أو نحاس وتخلص ثم بع
الفضة بوزنها * ومن طريق مسلم بن الحجاج حدثني أبو الطاهر نا ابن وهب عن عمرو



(1) هو - بشين معجمة في أوله مضمومة ثم عين مهملة وآخرة ثاء مثناة - محمد بن عبد الله بن المهاجر النصرى
ويقال العقيلي الدمشقي وفى النسخة رقم 16، والنسخة الحلبية الشعبي وهو تصحيف
(2) سبق تفسيره قريبا
499
ابن الحرث أن عامر بن يحيى [المعافري] (1) أخبرهم عن حنش بن عبد الله الصنعاني
أنه كان مع فضالة بن عبيد في غزوة فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق وجوهر
فأدرت أن اشتريها فسألت (2) فضالة ابن عبيد؟ فقال: إنزع ذهبها فاجعله في كفة
واجعل ذهبك في كفة ثم لا تأخذن الا مثلا بمثل فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم ذكر
الحديث * ومن طريق وكيع نا فضيل بن غزوان عن نافع قال: كان ابن عمر لا يبيع
سرجا ولا سيفا فيه فضة حتى ينزعه ثم يبيعه وزنا بوزن * فهؤلاء عمر. وعلى. وابن
عمر. وفضالة بن عبيد * ومن التابعين كما روينا من طريق ابن أبي شيبة نا عبد الاعلي بن عبد الأعلى
عن معمر عن الزهري أنه كان يكره أن يشترى السيف المحلى بفضة ويقول:
اشتره بالذهب يدا بيد * ومن طريق ابن أبي شيبة نا إسماعيل بن إبراهيم - هو ابن علية -
عن أيوب السختياني أن محمد بن سيرين كان يكره شراء السيف المحلى الا بعرض *
ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا يونس عن ابن سيرين أنه كأن يقول: إذا
كانت الحلية فضة اشتراها بالذهب وإن كانت الحلية ذهبا اشتراها بالفضة وإن كانت
ذهبا وفضة فلا يشتريها بذهب ولا فضة واشتراها بعرض * ومن طريق سعيد بن منصور
نا هشيم أنا الشيباني - هو أبو إسحاق - عن الشعبي عن شريح أنه أتى بطوق ذهب فيه
جوهر فقال شريح: أزيلوا الذهب من الجوهر فبيعوا الذهب يدا بيد وبيعوا الجوهر
كيف شئتم * ومن طريق وكيع نا زكريا - هو ابن أبي زائدة - عن الشعبي قال: سئل
شريح عن طوق ذهب فيه فصوص اتباع بدنانير؟ قال: تنزع الفصوص ثم يباع
الذهب بالذهب وزنا بوزن * ومن طريق عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. وقتادة
قال قتادة: عن ابن سيرين ثم اتفق ابن سيرين. والزهري قالا جميعا. يكره أن يباع الخاتم
فيه فضة بالورق * ومن طريق حماد بن سلمة عن حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي
أنه كان يكره أن يشترى ذهب وفضة بذهب، وقال حماد: فيمن أراد أن يشترى ألف
درهم بمائة دينار ودرهم فمنع من ذلك وقال: لا ولكن اشتر ألف درهم غير درهم بمائة
دينار، وكل ما قلناه فهو قول الشافعي. وأحمد. وجمهور أصحابنا وبالله تعالى التوفيق *
1489 مسألة فإن كان ذهب وشئ آخر غير الفضة معه أو مركبا فيه جاز
بيعه كما هو مع ما هو معه ودونه بالدراهم يدا بيد ولا يجوز نسيئة، وكذلك الفضة معها
شئ آخر غير الذهب أو مركبا فيها أو هي فيه جاز بيعها مع ما هي معه أو دونه بالدنانير
يدا بيد ولا يجوز نسيئة، وكذلك القمح معه تمر أو ملح أو شئ آخر فجائز بيعه مع الآخر



(1) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 467
(2) في النسخة رقم 16 (وأرسلت) وما هنا موافق لما في صحيح مسلم
500
أو دونه بشعير يدا بيد ولا يجوز نسيئة (1)، وكذلك الشعير معه تمر أو ملح أو غير
ذلك فجائز بيعه وما معه أو دونه بقمح نقدا لا نسيئة، وكذلك التمر معه شعير أو ملح
أو غير ذلك فجائز بيعه معه أو دونه بقمح نقدا لا نسيئة، وكذلك الملح معه قمح أو شعير
أو غير ذلك فجائز بيعه بالتمر نقدا لا بنسيئة *
برهان ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا
كيف شئتم إذا كان يدا بيد) فسقطت الموازنة والمكايلة. والمماثلة. وبقى النقد فقط
وبالله تعالى التوفيق * روينا من طريق حماد بن سلمة نا الحجاج بن أرطاة عن جعفر بن
عمرو بن حريث أن أباه اشترى من علي بن أبي طالب ديباجة ملحمة بذهب بأربعة
آلاف درهم بنساء فأحرقها فأخرج منها قيمة عشرين ألف درهم، وأجاز ربيعة بيع
سيف محلى بفضة بذهب إلى أجل *
قال على: لا حجة في قول أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما تناقض فيه
المالكيون: والحنيفيون خالفوا عمل على. وعمرو بن حريث بحضرة الصحابة
رضي الله عنهم *
1490 مسألة وأما الدراهم المنقوشة والدنانير المغشوشة فإنه ان تبايع اثنان
دراهم مغشوشة قد ظهر الغش فيها بدراهم مغشوشة قد ظهر الغش فيها فهو جائز إذا
تعاقدا البيع على أن الصفر الذي في هذه بالفضة التي في تلك والفضة التي في هذه بالصفر
الذي في تلك فهذا جائز حلال سواء تبايعا ذلك متفاضلا. أو متماثلا. أو جزافا بمعلوم
أو جزافا بجزاف لان الصفر بالفضة حلال، وكذلك ان تبايعا دنانير مغشوشة بدنانير
مغشوشة قد ظهر الغش في كليهما على هذه الصفة، فان تبايعا ذهب هذه بفضة تلك وذهب
تلك بفضة هذه فهذا أيضا حلال متماثلا. ومتفاضلا. وجزافا نقدا ولابد لأنه ذهب
بفضة فالتفاضل جائز والتناقد فرض، وبالله تعالى التوفيق *
1491 مسألة وجائز بيع القمح بدقيق القمح. وسويق القمح. وبخبز القمح
ودقيق القمح بدقيقه وبسويقه. وبخبزه. وسويقه بسويقه وبخبزه. وخبز القمح بخبز
القمح متفاضلا كل ذلك. ومتماثلا. وجزافا، والزيتون بالزيت والزيتون، والزيت
بالزيت. والعنب بالعنب وبالعصير وبخل العنب والزبيب بالخل يدا بيد وان يسلم كل
ما ذكرنا بعضه في بعض. وكذلك دقيق الشعير بالقمح وبالشعير وبدقيق الشعير وبخبزه.
والتين بالتين. والزبيب بالزبيب. والأرز بالأرز كيف شئت متفاضلا. ومتماثلا ويسلم



(1) في النسخة رقم 14 (نظرة)
501
بعضه في بعض ولا ربا البتة ولا حرام إلا في الأصناف الستة التي قدمنا. وفى العنب بالزبيب
كيلا ويجوز ووزنا كيف شئت، وفى الزرع القائم بالقمح كيلا، فإن كان الزرع ليس قمحا
ولا شعيرا ولا سنبل بعد فقد جاز بيعه بالشعير كيلا وبكل شئ ما عدا القمح كيلا، وأجاز
المالكيون السويق من القمح بالقمح متفاضلا، وأجاز الحنيفيون خبز القمح بالقمح
متفاضلا وكل ذلك أصله القمح ولا فرق *
برهان ذلك ما أوردنا قبل من أنه لا ربا ولا حرام الا ما نص عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا) وقال تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وأباح رسول الله صلى الله عليه وسلم السلف في كيل معلوم.
أو وزن معلوم إلى أجل معلوم، وقال الله تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) فصح
بأوضح من الشمس أن كل تجارة. وكل بيع: وكل سلف في كيل معلوم أو وزن معلوم
إلى أجل معلوم: فحلال مطلق لامرية في ذلك إلا ما فصل الله تعالى لنا تحريمه على لسان
رسوله عليه السلام، ونحن نشهد بشهادة الله تعالى ونبت ونقطع بان الله تعالى لم يحرم على
عباده شيئا كتمه عنهم ولم يبينه رسوله عليه السلام لهم وأنه تعالى لم يكلنا فيما حرم علينا
إلى ظنون أبي حنيفة. ومالك. والشافعي. وأو غيرهم. ولا إلى ظنوننا. ولا إلى ظن
أحد ولا إلى دعاوى لا برهان عليها، وما وجدنا عن أحد قبل مالك المنع من بيع الزيتون
بالزيت ثم اتبعه عليه الشافعي وإن كان لم يصرح به، وأجازه أبو حنيفة وأصحابه إذا كان
الزيت أكثر مما في الزيتون من الزيت وإلا فلا، فان قالوا: هي مزابنة قلنا: قلت: الباطل
قد فسر المزابنة أبو سعيد الخدري. وجابر بن عبد الله وابن عمر رضي الله عنهم وهم أعلم
الناس باللغة وبالدين فلم يذكروا شيئا من هذه الوجوه فيه أصلا، فان قالوا: قسنا ذلك
على الرطب بالتمر. والزبيب بالعنب كيلا قلنا: القياس كله باطل ثم هذا منه عين الباطل
لان الزبيب هو عين العنب نفسه الا أنه يبس، والتمر هو عين الرطب (1) إلا أنه يابس
والزيت هو شئ آخر غير الزيتون (3) لكنه خارج منه كخروج اللبن من الغنم والتمر
من النخل وبيع كل ذلك بما يخرج منه جائز بلا خلاف، فهذا أصح في القياس لو صح
القياس يوما ما، وقد ذكرنا أقوالهم المختلفة المتناقضة وكل قول منها يكذب قول
الآخر (3) ويبطله ويشهد عليه بالخطأ كل ذلك بلا برهان والحمد لله رب العالمين
على عظيم نعمه علينا كثيرا، وهذا قول أبى سليمان. وأصحابنا * ومن طريق (4) ابن أبي شيبة
نا عبيدة بن حميد عن مطرف - هو ابن طريف - عن الشعبي أنه سئل عن السويق



(1) في النسخة رقم 14 (هو أرطب)
(2) في النسخة رقم 14 ((آخر سوى الزيتون)
(3) في النسخة رقم 10 (قول الآخرين)
(4) في النسخة رقم 14 أخر هذا السند وقدم ما بعده عليه
502
بالحنطة؟ فقال: إن لم يكن ربا فهو ريبة * ومن طريق ابن أبي شيبة نا جرير عن ليث
عن مجاهد قال: لا بأس بالحنطة بالسويق والدقيق بالحنطة والسويق فلم يشترط المماثلة،
وقد ذكرنا أقوال الصحابة ومن بعدهم في المزابة فأغنى عن تكراره *
1492 مسألة ومن كان له عند آخر دنانير. أو دراهم. أو قمح. أو شعير. أو ملح
أو تمر. أو غير ذلك مما لا يقع فيه الربا أي شئ كان لاتحاش شيئا اما من بيع
واما من قرض. أو من سلم. أو من أي وجه كان ذلك له عنده حالا كان أو غير حال
فلا يحل له أن يأخذ منه شيئا من غير ماله عنده أصلا، فان أخذ دنانير عن دراهم
أو دارهم عن دنانير أو شعيرا عن بر أو دراهم عن عرض أو نوعا عن نوع لا تحاش
شيئا فهو فيما يقع فيه الربا ربا محض وفيما لا يقع فيه الربا حرام بحت وأكل مال
بالباطل، وكل ذلك مفسوخ مردود أبدا محكوم فيه بحكم الغصب الا أن لا يقدر على
الانتصاف البتة فيأخذ ما أمكنه مما يحل تملكه لا تحاش شيئا بمقدار حقه ولا مزيد
فهذا حلال له *
برهان ذلك ما ذكرنا قبل من تحريم النبي صلى الله عليه وسلم الذهب. والفضة. والبر. والتمر.
والشعير. والملح إلا مثلا بمثل عينا بعين، ثم قال عليه السلام (فإذا اختلفت هذه
الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد) والعمل الذي وصفنا ليس يدا بيد بل أحدهما
غائب ولعله لم يخرج من معدنه بعد فهو محرم بنص كلامه عليه السلام، وأيضا فروينا من
طريق مسلم نا محمد بن رمح نا الليث بن سعد عن نافع أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول: (أبصرت
عيناي وسمعت أذناي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: للا تبيعوا الذهب بالذهب ولا تبيعوا
الورق بالورق الا مثلا بمثل ولا تشفوا بعضه على بعض ولا تبيعوا شيئا غائبا منه بناجز
إلا يدا بيد) (1) * ومن طريق البخاري نا حفص بن عمر - هو الحوضى - نا شعبة أخبرني
حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت أبا المنهال قال: سألت البراء بن عازب. وزيد بن أرقم
عن الصرف فكلاهما يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينا (2)) *
وذهب مالك. وأبو حنيفة. والشافعي في أحد قوليه وأصحابنا إلى جواز أخذ الذهب
من الورق والورق من الذهب. واحتجوا في ذلك بما رويناه من طريق قاسم بن أصبغ نا
جعفر بن محمد نا عفان بن مسلم نا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن
ابن عمر قال: (قلت: يا رسول الله أبيع الإبل بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم
وآخذ الدنانير وآخذ هذه من هذه فقال: (3) لا بأس أن تأخذها بسعر يومها) *



(1) هو في صحيح مسلم ج 1 ص 465
(2) هو في صحيح البخاري ج 3 ص 155
(3) في النسخة رقم 16 قال
503
قال أبو محمد: وهذا خبر لا حجة فيه لوجوه، أحدها أن سماك بن حرب ضعيف
يقبل التلقين شهد عليه بذلك شعبة وأنه كأن يقول له: حدثك فلان عن فلان؟ فيقول:
نعم فيم سئل عنه، وثانيها أنه قد جاء هذا الخبر بهذا السند ببيان غير ما ذكروا كما روينا
من طريق أحمد بن شعيب أنا قتيبة نا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن سعيد بن جبير عن
ابن عمر قال: كنت أبيع الذهب بالفضة أو الفضة (1) بالذهب فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأخبرته بذلك فقال: إذا بايعت صاحبك فلا تفارقه وبينك وبينه لبس، وهذا معنى
صحيح وهو كله خبر واحد * وثالثها أنه لو صح لهم كما يريدون لكانوا مخالفين له لان
فيه اشتراط أخذها بسعر يومها وهم يجيزون أخذها بغير سعر يومها فقد اطرحوا ما يحتجون
به، ومما يبطل قولهم ههنا أنه قد صح النهى عن بيع الغرر وهذا أعظم ما يكون من الغرر
لأنه بيع شئ لا يدرى أخلق بعد أم لم يخلق ولا أي شئ هو والبيع لا يجوز إلا في عين معينة
بمثلها والا فهو بيع غرر وأكل مال بالباطل والسلم لا يجوز الا إلى أجل فبطل أن يكون
هذا العمل بيعها أو سلما فهو أكل مال بالباطل، وأيضا فان هدا الخبر إنما جاء في البيع فمن
أين أجازوه في القرض؟ وقد فرق بعض القائلين به بين القرض في البيع في ذلك واحتجوا
من فعل السلف في ذلك بما روينا من طريق وكيع نا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن
سعيد مولى الحسن قال: أتيت ابن عمر أتقاضاه فقال لي: إذا خرج خازننا أعطيناك فلما
خرج بعثه معي إلى السوق وقال: إذا قامت على ثمن فان شاء أخذها بقيمتها أخذها *
ومن طريق الحجاج بن المنهال نا أبو عوانة نا إسماعيل السدى عن عبد الله البهى عن
يسار بن نمير قال: كان لي على رجل دراهم فعرض على دنانير فقلت: لا آخذها حتى
أسأل عمر فسألته فقال: إئت بها الصيارفة فأعرضها فإذا قامت على سعر فان شئت فخذها
وإن شئت فخذ مثل دراهمك، وصحت إباحة ذلك عن الحسين البصري. والحكم. وحماد.
وسعيد بن جبير باختلاف عنه. وطاوس: والزهري. وقتادة. والقاسم بن محمد،
واختلف فيه عن إبراهيم. وعطاء *
قال أبو محمد: وروينا المنع من ذلك عن طائفة من السلف * روينا من طريق مالك
عن نافع عن ابن عمر قال: إن عمر بن الخطاب قال: لا تبيعوا الذهب بالورق أحدهما غائب
والآخر ناجز (2) هذا صحيح * ومن طريق وكيع عن عبد الله بن عوف عن ابن سيرين عن
عبد الله بن مسعود أنه كان يكره اقتضاء الذهب من الورق والورق من الذهب *
ومن طريق سعيد بن منصور نا هشيم أنا الشيباني - هو أبو إسحاق - (3) عن عكرمة



(1) في النسخة رقم 14 والفضة وما هنا موافق لما في سنن النسائي ج 7 ص 282
(2) هو في الموطأ ج 2 ص 136 مطولا
(3) في النسخة رقم 16 هو ان إسحاق وهو غلط
504
عن ابن عباس أنه كره اقتضاء الذهب من الورق والورق من الذهب، وهذا صحيح
ومن طريق سفيان بن عيينة عن سعد بن كدام قال: حلف لي معن - هو ابن عبد الرحمن بن
عبد الله بن مسعود - أنه وجد في كتاب أبيه بخطه قال عبد الله بن مسعود: معاذ الله أن نأخذ دراهم
مكان دنانير أو دنانير مكان دراهم * ومن طريق عبد الرزاق نا سفيان بن عيينة عن عمرو
ابن دينار أخبرني أبو المنهال عبد الرحمن بن مطعم أن عبد الله بن عمر قال له: نهانا أمير المؤمنين
- يعنى أباه - أن نبيع الدين بالعين وهذا في غاية الصحة * ومن طريق حماد بن زيد نا أيوب
السختياني عن محمد بن سيرين أن زينب امرأة ابن مسعود باعت جارية لها اما بذهب واما بفضة
فعرض عليها النوع الآخر فسئل عمر؟ فقال: لتأخذ النوع الذي باعت به * ومن طريق سعيد
ابن منصور نا خالد بن عبد الله - هو الطحان - عن الشيباني - هو أبو إسحاق - عن محمد
ابن زيد عن ابن عمر فيمن باع طعاما بدراهم أيأخذ بالدراهم طعاما؟ فقال: لا حتى تقبض
دراهمك ولم يقل ابن عمر بإباحة ذلك في غير الطعام * ومن طريق ابن أبي شيبة نا علي بن مسهر
عن أبي إسحاق الشيباني عن محمد بن زيد عن ابن عمر فيمن أقرض دراهم أيأخذ بثمنها طعاما؟
فكرهه * ومن طريق محمد بن المثنى نا مؤمن بن إسماعيل نا سفيان الثوري عن الزبير بن عدي
عن إبراهيم النخعي أنه كره اقتضاء الدنانير من الدراهم والدراهم من الدنانير * ومن طريق
أحمد بن شعيب نا محمد بن بشار نا وكيع نا موسى بن نافع عن سعيد بن جبير أنه كره (1) أن
يأخذ الدنانير من الدارهم والدراهم من الدنانير * ومن طريق ابن أبي شيبة نا ابن علية عن يونس
- هو ابن عبيد - عن أنس بن سيرين قال قال لي أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود: لا تأخذ
الذهب من الورق يكون لك على الرجل ولا تأخذن الورق من الذهب * ومن طريق ابن أبي
شيبة نا وكيع بن علي بن المباك عن يحيى - هو ابن أبي كثير - عن أبي سلمة - هو ابن عبد الرحمن
ابن عوف - أنه كره أن يكون لك عند آخر قرض دراهم فتأخذ منه دنانير * ومن طريق
ابن أبي شيبة نا عبد الاعلي بن عبد الأعلى عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين فيمن كانت له
على آخر دراهم فأخذ منها ثم أراد أن يأخذ بقيمتها دنانير فكرهه * ومن طريق ابن أبي
شيبة نا مروان بن معاوية - هو الفزاري - عن موسى بن عبيدة أخبرني عطاء مولى عمر
ابن عبد العزيز أنه ابتاع من برد مولى سعيد بن المسيب ناقة بأربعة دنانير فجاء يلتمس حقه.
فقلت: عندي دراهم ليس عندي دنانير فقال: حتى استأمر سعيد بن المسيب فاستأمره.
فقال له سعيد: خذ منه دنانير عينا فان أبى فموعده الله دعه * ومن طريق ابن أبي شيبة نا يحيى
ابن سعيد القطان عن ابن حرملة قال: بعت جزورا بدراهم إلى الحصاد فلما حل قضوني



(1) في سنن النسائي ج 7 ص 282 (انه كان يكره)
505
حنطة. وشعيرا. وسلتا فسألت سعيد بن المسيب؟ فقال: لا يصلح لا تأخذ إلا الدراهم (1) فهؤلاء عمر. وابن عباس. وابن مسعود. وابن عمر. والنخعي. وسعيد
ابن جبير. وأبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود. وأبو سلمة بن عبد الرحمن. وابن سيرين.
وابن المسيب، وهذا مما تركوا فيه القرآن في تحريمه أكل المال بالباطل لخبر ساقط مضطرب،
وقولنا هو أحد قولي الشافعي. وقول ابن شبرمة، وأما إذا لم يقدر على الانتصاف فقد
قال تعالى: (وجزاء سيئة سيئة مثلها) وقال تعالى: (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل.
ما اعتدى عليكم) فهذا عموم لكل ما أمكن الممنوع حقه أن ينتصف به. أو بأن يوكل غريمه على
بيع ماله عنده. وبأن يبتاع له ما يريد فهذا جائز وبالله تعالى التوفيق * 1493 مسألة واستدركنا مناقضات لهم يعارضون بها ان شنعوا علينا
ببيع القمح بدقيقه ودقيق غيره متفاضلا وتسليم أحدهما في الآخر، وكذلك دقيق القمح
بدقيق القمح، وبالخبز. والزيت بالزيتون وبالزيت. واللبن باللبن وبالجبن والسمن
وكل شئ ما عدا ما ورد به النص من السنة ولا شنعة في شئ منه لأننا لم نتعد حدود الله
تعالى ولا حرمنا ما لم يحرمه الله تعالى ولا رسوله عليه السلام وإنما الشنيع (2) فيما نذكره
إن شاء الله تعالى، قال مالك: يجوز بيع الدقيق من القمح بالقمح كيلا بكيل مثلا بمثل
يدا بيد قال: ولا يجوز دقيق القمح بدقيق القمح كيلا بكيل لكن وزنا بوزن مثلا بمثل *
قال على: فإن كان دقيق القمح نوعا واحدا مع القمح فما يحل أن يبيع دقيق قمح بدقيق
قمح الا كيلا بكيل كما يبيع (3) الدقيق بالقمح لأنهما قمح معا وإن كان دقيق القمح
صنفا غير القمح فواجب أن يجيزه بالقمح متفاضلا، وأجاز القمح بسويق القمح متفاضلا
فأي فرق بين دقيق قمح بقمح وبين سويق قمح بقمح؟ وأعجب من هذا احتجاجهم
في ذلك بان السويق دخلته صنعة فقلنا. فكان ماذا؟ ومن أين وقع لكم الفرق بأنه
دخلته صنعة؟ نعم والدقيق أيضا دخلته صنعة. ولا فرق، وقالوا أيضا: إنما يراعى
تقارب المنافع فقلنا: وهذا أيضا من أين وقع لكم؟ ومن أين وجب لكم أن تراعوا
تقارب المنافع؟ وهل هي الا دعوى بلا برهان؟ وقول لم تسبقوا إليه. وتعليل فاسد،
وأيضا فان المنافع في جميع المأكولات واحدة لسنا نقول: متقاربة بل شئ واحد وهو
طرد الجوع أو التأدم. أو التفكه. أو التداوي ولا مزيد، ومنعوا من الحنطة المبلولة
باليابسة، وأجازوا الحنطة المقلية باليابسة وكلتاهما مختلفة مع الأخرى، ومنعوا من
الدقيق بالعجين وقد دخلت العجين صنعة، وأباحوا القمح بالخبز من القمح متفاضلا



(1) في النسخة رقم 16 (الا دراهم)
(2) في النسخة رقم 16 (وإنما الشنع)
(3) في النسخة رقم 14 (أن نبيع)
506
ومنعوا من اللبن بالسمن جملة، نعم ومنعوا من اللبن بالجبن وهل الجبن من اللبن الا
كالخبز من القمح؟ ومنعوا من بيع لبن شاة بشاة لبون لبون إلا أنه لا لبن الآن في ضرعها
لأنه قد استنقذ بالحلب، وأجازوا بيع النخل بالتمر إذا كانت لا تمر فيها، واحتجوا
بان اللبن يخرج من ضرع الشاة وأن السمن يعمل من اللبن فقلنا: والتمر يخرج من
النخل. والخبز يعمل من القمح، ومنعوا من بيع العنب بالعصير وأجازوه بالخل وهذه
عجائب لا نظير لها ولو تقصيناها (1) لا تسع الامر في ذلك وفيما ذكرنا كفاية، وهو
كله كما ذكرنا لا يعرف عن أحد قبل مالك، وكذلك لا يحفظ عن أحد قبل مالك المنع
من بيع الزيت بالزيتون يدا بيد متفاضلا ومتماثلا * وأما الحنيفيون فإنهم أباحوا الربا
المنصوص عليه جهارا فاحلوا بيع تمرة بتمرتين وحرموا بيع رطل كتان اسود أخرش
لا يصلح إلا لقلفطة المراكب برطل كتان أبيض مصري أملس كالحرير، وكذلك حرموا
بيع رطل قطن طيب غزلي برطل قطن خشن لا يصلح إلا للحشو، وقالوا: القطن كله صنف
واحد والكتان كله صنف واحد، قالوا: وأما الثياب المعمولة من القطن فأصناف
مختلفة يجوز في بعضها ببعض التفاضل والنسيئة فأجازوا بيع ثوب قطن مروى خراساني
بثوبي قطن مروى بغدادي نقدا ونسيئة، قالوا: وأما غزل القطن في كل ذلك فصنف
واحد لا يجوز فيه التفاضل ولا النسيئة، وقالوا: شحم بطن الكبش صنف وشحم
ظهره وشحم سائر جسده صنف آخر فأجازوا بيع رطلين من شحم بطنه برطل من
شحم ظهره نقدا، قالوا: والية الشاة صنف وسائر لحمها صنف آخر فجائز بيع رطل من
أليتها برطلين من سائر لحمها، قالوا: ولا يجوز بيع رطل من لحم كبش الا برطل من
لحمه ولا مزيد وزنا بوزن نقدا ولابد، وأجازوه برطلين من لحم الثور نقدا ولابد،
وأما لحم الإوز. ولحم الدجاج فيجوز من كل واحد منهما رطل برطلين من نوعه فأجازوا
رطل لحم دجاج برطلين من لحم دجاج نقدا أو برطلين (2) من لحم الإوز نقدا ونسيئة
وقالوا: النسيئة في كل ما يقع فيه الربا من التمر والبر والشعير. وغير ذلك إنما هي ما اشترط
فيه الأجل في حين العقد وأما ما تأخر قبضه إلى أن تفرقا ولم يكن اشترط فيه التأخير فلا
يضر البيع في ذلك شيئا الا في الذهب. والفضة فقط فان تأخر القبض فيهما ربا اشترط
أو لم يشترط *
ومن عجائب الدنيا اجازته الرطب بالتمر ومتعه من الدقيق أو السويق بالقمح جملة فلم
يجزه أصلا فلو عكس قوله لا صاب، وهذه كلها وساوس. وسخافات. ومناقضات



(1) في النسخة رقم 16 (ولو تقصينا هذا)
(2) في النسخة رقم 16 (وبرطلين)
507
لا دليل عليها وأقوال لا تحفظ من أحد قبله ونسأل الله العافية *
وأما الشافعيون فإنهم منعا من رطل سقمونيا برطلين من سقمونيا لأنها عندهم
من المأكولات، وأباحوا وزن درهم زعفران بوزن درهمين منه نقدا ونسيئة لأنه
لا يؤكل عندهم، ولم يجيزوا بيع عسل مشتار بشمعه كما هو بعسل مشتار بشمعه كما هو
أصلا إلا حتى يصفى كلاهما، وأجازوا بيع الجوز بقشره بالجوز بقشره واحتجوا في
ذلك بان اخراج العسل من شمعه صلاح له وإخراج الجوز واللوز من قشره ونزع النوى
من التمر فساد له فقلنا: كلا ما الصلاح فيما ذكرتم إلا كالفساد فيما وصفتم، وما في ذلك
صلاح ولا في هذا فساد ولو كان فسادا لما حل أصلا لان الله تعالى يقول: (والله لا يحب
الفساد) وهذه أيضا مناقضات ظاهرة. وأقوال لا نعلم أحدا سبقهم إليها وبالله تعالى
التوفيق، ولا نعلم أحدا قبل أبي حنيفة منع من بيع الزيت بالزيتون يدا بيد سواء كان أكثر
ما في الزيتون من الزيت أو مثله أو أقل *
قال أبو محمد: والحقيقة التي تشهد لها اللغة والشريعة. والحسن فهو أن الدقيق
ليس قمحا ولا شعيرا لا في اسمه لا في صفته ولا في طبيعته، (1) فهذه الدواب تطعم الدقيق
والخبز فلا يضرها بل ينفعها، وتطعم القمح فيهلكها والدبس ليس تمرا لا في لغة. ولا في
شريعة ولا في مشاهدة. ولا في اسمه. ولا في صفاته، والماء ليس ملحا لأنه يجوز الوضوء
بالماء ولا يجوز بالملح وليس توليد الله تعالى شيئا من شئ بموجب أن المتولد هو الذي عنه
تولد، فنحن خلقنا من تراب. ونطفة. وماء ولسنا نطفة ولا ترابا ولا ماء، والخمر متولدة
من العصير وهي حرام والعصير حلا واللبن متولد عن الدم واللبن حلال والدم حرام،
والعذرة تستحيل ترابا حلالا طيبا والدجاجة تأكل الميتة والدم فيصيران فيها لحما حلالا
طيبا، والخل متولد من الخمر وهو حلال وهي حرام، وأما حلي الذهب والفضة فهما ذهب
وفضة باسميهما وصفاتهما وطبيعتهما في اللغة وفى الشريعة [واحد] (2) (ومن يتعد حدود
الله فقد ظلم نفسه *
1494 مسألة ومن باع ذهبا بذهب بيعا حلالا أو فضة بفضة كذلك أو فضة
بذهب كذلك مسكوكا بمثله أو مصوغين أو مصوغا بمسكوك. أو تبرا أو نقارا فوجد أحدهما
بما اشترى من ذلك عيبا قبل أن يتفرقا بأبدانهما وقبل أن يخير أحدهما الآخر فهو بالخيار إن
شاء فسخ البيع وان شاء استبدل لأنه لم يتم بينهما بيع بعد فإنما هو مستأنف لبيع عن تراض أو
تارك على ما ذكرنا قبل وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة رقم 16 (في طبعه)
(2) الزيادة من النسخة رقم 16
508
1495 مسألة فان وجد العيب بعد التفرق بالأبدان أو بعد التخيير واختيار
الخير اتمام البيع فإن كان العيب من خلط وجده من غير ما اشترى لكن كفضة أو صفر في
ذهب أو صفر أو غيره في فضة فالصفقة كلها مفسوخة مردودة كثرت أم قلت قل ذلك
الخلط أم كثر لأنه ليس هو الذي اشترى ولا الذي عقد عليه الصفقة فليس هو الذي تراضى
بالعقد عليه وقد تفرقا قبل صحة البيع، ولا يجوز فميا يقع فيه الربا الا صحة البيع بالتفرق ولا خيار
في امضائها لأنه لم يأت بذلك نص وبالله تعالى التوفيق *
1496 مسألة وكذلك لو استحق بعض ما اشترى أقله أو أكثره أو لو تأخر
قبض شئ مما تبايعا قل أو كثر لأن العقد لم يتم صحيحا وما لم يصح فهو فاسد وكل عقد اختلط
الحرام فيه بالحلال فهو عقد فاسد لأنه لم يعقد صحة الحلال منه الا بصحة الحرام وكل ما لا صحة
له الا بصحة ما لا يصح فلا صحة له ولا يحل (1) أن يلزم ما لم يرض به وحده دون غيره *
1497 مسألة فإن كان العيب في نفس ما اشترى ككسر أو كان الذهب ناقص
القيمة بطبعه والفضة كذلك كالذهب الأشقر والأخضر بطبعه، فإن كان اشترط السلامة
فالصفقة كلها مفسوخة لأنه وجد غير ما اشترى فلا يحل له مال غيره مما لم يعقد عليه بيعا وإن كان
لم يشترط السلامة فهو مخير بين امساك الصفقة كما هي ولا رجوع له بشئ واما فسخها
كلها ولابد لأنه اشترى العين فهو عقد صحيح ثم وجد غبنا والغبن إذا رضيه البائع وعرف
قدره جائز لا كراهية فيه على ما قدمنا قبل، ولا يحل له تبعيض الصفقة لأنه لم يتراض البيع
مع صاحبه الا على جميعها فليس له غير ما تراضيا به معا لقول الله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم
بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن دماءكم
وأموالكم عليكم حرام) فلا يحل له من مال غيره الا ما تراضيا به معا *
قال أبو محمد: وهذا مكان اختلف فيه الخلف والسلف فروينا من طريق الحجاج
ابن المنهال نا حفص بن غياث بن الأشعث الحمزاني عن عكرمة عن ابن عباس فيمن يشترى
الدراهم ويشترط إن كان فيها زائف أن يرده أنه كره (2) الشرط وقال: ذلك له إن لم يشترط *
قال على: ظاهر هذا رد البيع لأنه لو أراد رد الزائف وحده لذكر بطلان ما قابله
وصحة العقد (3) في سائر الصفقة أو لذكر الاستدلال ولم يذكر من ذلك كله شيئا فلا
يجوز أن يقول ما لم يقل، فقول ابن عباس هو قولنا * ومن طريق الحجاج بن المنهال نا
همام (4) - هو ابن يحيى - قال: زعم ابن جريج: أن ابن عمر اشترى دراهم بدنانير
فأخطأوا فيها بدرهم مستوق فكره أن يستبدله، وهذا منقطع ولا نعلم أحدا من الحاضرين



(1) في النسخة رقم 16 ولا يصح
(2) في النسخة رقم 16 وانه كره
(3) في النسخة رقم 14 وصح العقد
(4) في النسخة رقم 16 هشام وهو تصحيف
509
قال به، ولا نعلم الآن عن الصحابة رضي الله عنهم غير ما ذكرنا، وقال سفيان الثوري: هو
مخير بين أن يستبدله وبين أن ينقض الصرف في مقدار ما وجد رديئا فقط، قال الأوزاعي.
والليث. والحسن بن حي يستبدل كل ما وجد زائفا قل أو كثر، قال ابن حي: والستوق كذلك *
قال على: الستوق هو المغشوش بشئ غيره مثل أن يكون الدرهم كله رصاصا أو يكون
الدينار كله فضة أو نحاسا، والزائف الردئ من طبعه والذي فيه غش، وقال أبو حنيفة:
ان وجد بعد التفرق نصف الجميع فأكثر زيوفا فليس له أن يستبدل البتة لكن ان رد
الزيوف بطل الصرف في مقدارها من الصفقة (1) وصح فما سواها، وظاهر قوله: إن
له أن لا يرد فان وجدها أقل من النصف فله أن يمسك وله ان يستبدل ما وجد زائفا فقط ولا
يفارقه حتى يقبض البدل فان فارقه قبل القبض انتقض الصرف فيما لم يقبض ولو أنه درهم أو
أكثر وصح فيما قبض ولو أنه درهم أو أقل، فإن كان الذي وجد ستوقا انتقض الصرف في
مقداره فقط ولو لم يكن الا درهما واحدا فأكثر وصح في باقي الصفقة ويكون هو والبائع
شريكين في الدينار الذي انتقض الصرف في بعضه *
قال أبو محمد: ليت شعري أي بعض منه انتقض (2) فيه الصرف وأي بعض منه صح
فيه الصرف، وهذا المجهول والغرر بعينه، وروى عنه أنه حد ما يستبدله مما لا يجوز فيه
الاستبدال بالثلث وهذا قول لا نعلمه عن أحد قبله. وتقسيم في غاية الفساد بلا برهان.
وحكم الحرام والحلال في الكثير والقليل منهما سواء الا أن يأتي قرآن أو سنة بفرق وتحديد
فالسمع والطاعة، وقال أبو يوسف. ومحمد بن الحسن يستبدل ما وجد زائدا أو ستوقا
قل أو كثر * قال على: هذا باطل لأنه يصير ذهب بفضة أو بذهب أو فضة بفضة غير
يد بيد وهذا الربا المحض، وقال زفر: ينتقض الصرف ولا بد فيما وجد قل أو كثر ويصح
في السالم قل أو كثر *
قال على: هذا تبعيض صفقة لم يقع العقد قط على بعضها دون بعض فهو أكل مال
بالباطل، وقال مالك: ان وجد ستوقا أو زائفا فإن كان درهما أو أكثر ما لم يتجاوز
صرف دينار انتقض الصرف في دينار واحد وصح في سائر الصفقة فان وجد من ذلك
ما يكون صرفه أكثر من دينار أو دينارين أو دنانير انتقض الصرف فيما قابل ما وجده (3)
فان شرع الانتقاض في دينار انتقض ذلك الدينار *
قال على: ليت شعري أي دينار هو الذي ينتقض وأيها هو الذي لا ينتقض؟ هذا
بيع الغرر. والمجهول. وأكل المال بالباطل، ثم عجب آخر وهو اجازته بعض الصفقة



(1) في النسخة رقم 14 من الفضة
(2) في النسخة رقم 14 بطل
(3) في النسخة رقم 14 ما وجد
510
دون بعضها وابطاله صرف جميع الدينار الذي شرع الانتقاض في بعضه وهذا تناقض
ظاهر وكلاهما تبعيض لما لم يتراضيا بتبعيضه في العقد. وقول لا نعلمه عن أحد قبله،
وللشافعي قولان، أحدهما أن الصرف كله ينتقض، والثاني أنه يستبدل كقول الليث.
والأوزاعي. والحسن بن حي، وهذا مما خالفوا فيه قول صاحبين لا يعرف لهما مخالف
من الصحابة رضي الله عنهم *
1498 مسألة ومن الحلال المحض بيع مدين من تمر أحدهما جيد غاية والآخر
ردئ غاية بمدين من تمر أجود منهما أو أدنى منهما. أو دون الجيد منهما. وفوق الردئ
منهما. أو مثل أحدهما. أو بعضهما جيد والبعض ردئ كل ذلك سواء وكل ذلك جائز،
وكذلك القول في دنانير بدنانير. وفى دراهم بدراهم. وفى قمح بقمح. وفى شعير بشعير
وفى ملح بملح ولا فرق لإباحة النبي صلى الله عليه وسلم كل صنف مما ذكرنا بصنفه مثلا بمثل في
المكايلة في القمح. والشعير. والتمر. والملح. والموازنة في الذهب والفضة * وقد روينا
من طريق مسلم نا القعنبي نا سليمان بن بلال عن عبد المجيد بن سهيل (1) بن عبد الرحمن بن
عوف أنه سمع سعيد بن المسيب يحدث أن أبا هريرة. وأبا سعيد الخدري حدثاه (أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بنى عدى الأنصاري فاستعمله على خيبر فقدم بتمر جنيب فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله انا لنشتري الصاع
بالصاعين من الجمع فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعلوا ولكن مثلا بمثل أو بيعوا هذا
واشتروا بثمنه من هذا وكذلك الميزان) فأباح عليه السلام نصا بيع الجنيب من التمر وهو
المتخير كله بالجمع من التمر وهو الذي جمع جيدا ورديئا ووسطا، ومنع بعض الناس من
مدين من تمر أحدهما جيد والآخر ردئ (2) بمدين من تمر متوسطين أدنى من الجيد
وأجود من الردئ، واحتجوا في ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب المماثلة في التمر بالتمر *
قال أبو محمد: لا حجة لهم في هذا لأنهم موافقون لنا في جواز صاع تمر ردئ بصاع
تمر جيد وليس مثله، فصح أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد المماثلة في الكيل أو في الوزن فقط
وهذا ما لا خلاف فيه من أحد، (3) واحتجوا بأحاديث صحاح في الجنيب بالجمع فيها
بيعوا الجمع واشتروا بثمنه من الجنيب وهذا لا حجة لهم فيه لان الخبر الذي ذكرنا زائد



(1) في النسخة رقم 14 (عبد الحميد بن سهيل) قال ابن عبد البر ان بعض الرواة عن مالك سماه عبد الحميد ونسب
ذلك ليحيى بن يحيى الليثي وعبد الله بن نافع، قال الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب قلت وهو في البخاري عن
عبد الله بن يوسف عبد المجيد كالجمهور، وسهيل (بالتصغير في جميع النسخ وكذلك في صحيح مسلم ج 1 ص 467
وكذلك في الخلاصة، وفى تهذيب التهذيب (سهل) والله أعلم
(2) في النسخة رقم 14 (والثاني ردئ)
(3) في النسخة رقم 16 (بين أحد)
511
على تلك الأخبار حكما ولا يحل ترك زيادة العدل، وعمدة حجتهم أنهم قالوا: إنما البائع
ههنا للمدين اللذين أحدهما جيد والآخر ردئ بان يعطى الجيد أكثر من مد من المتوسط
وأن يعطى الأردأ بأقل من مد من المتوسط فحصل التفاضل *
قال أبو محمد: وهذا في غاية الفساد لأنه ليس كما قالوا، وحتى لو أنه أراد ذلك
لكان عمله مخالفا لإرادته فحصلوا على التكهن. والظن الكاذب وإنما يراعى في
الدين الكلام والعمل فإذا جاء كما أمر الله تعالى ورسوله عليه السلام فما نبالي بما في
قلوبهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لم أبعث لا شق عن قلوب الناس) فان قالوا:
فقد قال عليه السلام: (الأعمال بالنيات) قلنا: نعم ولكن من لكم بأن هذين نويا
ما ذكرتم وهذا منكم ظن سوء (1) بمسلم لم يخبر كم بذلك عن نفسه، وليس في الظلم
أكثر من أن تفسدوا صفقة مسلم بتوهمكم أنه أراد الباطل وهو لم يخبر كم ذلك
فقط عن نفسه ولا ظهر من فعله الا الحلال المطلق ويلزمكم على هذا إذا رأيتم من يشترى
تمرا أو تينا أو عنبا أو تفسخوا صفقته وتقولوا له: إنما تنوى (2) فيه عمل الخمر منه ومن اشترى
ثوبا أن تفسخوه وتقولوا له: إنما تريد تلبسه في المعاصي، ومن اشترى سيفا أن تفسخوا
وتقولوا: إنما تريد به قتل المسلمين، وهذا هوس لا نظير له ولا فرق بين شئ من هذا وبين
ما أفسدتم به المسألة المتقدمة * روينا من طريق الحجاج بن المنهال نا حماد بن زيد نا أيوب
الخستياني قال: كان محمد بن سيرين يأتي بالدراهم السود الجياد وبالنفاية يأخذ بوزنها غلة *
قال على: السود أجود من الغلة والنفاية أدنى من الغلة وهذا نفس مسألتنا *
1499 مسألة ومن صارف آخر دنانير بدراهم فعجز عن تمام مراده
فاستقرض من مصارفه أو من غيره ما أتم به صرفه فحسن ما لم يكن عن شرط في الصفقة
لأنه لم يمنع من هذا قرآن ولا سنة *
1500 مسألة ومن باع من آخر دنانير بدراهم فلما تم البيع بينهما بالتفرق
أو التخير اشترى منه أو من غيره بتلك الدراهم دنانير تلك أو غيرها أقل أو أكثر فكل
ذلك حلال ما لم يكن عن شرط لان كل ذلك عقد صحيح وعمل منصوص على جوازه،
وأما الشرط فحرام لأنه شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل، ومنع من هذا قوم
وقالوا: أنه باع منه دنانير بدنانير متفاضلة فقلنا: هذا كذب وما فعل (3) قط شيئا
من ذلك بل هما صفقتان ولكن أخبرونا هل له أن يصارفه بعد شهر أو سنة بتلك الدراهم
وتلك الدنانير عن غير شرط؟ فمن قولهم نعم فقلنا لهم: فأجزتم التفاضل والنسيئة معا



(1) في النسخة رقم 14 (سوء ظن)
(2) في النسخة رقم 16 (إنما ينوى)
(3) في النسخة رقم 16 (ما فعل)
512
ومنعتم من النقد هذا عجب لا نظير له، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا آنفا الامر ببيع التمر
الجمع بسلعة ثم يبتاع بالسلعة جنيبا من التمر، وهذا هو الذي منعوا نفسه * ومن طريق الحجاج
ابن المنهال نا يزيد بن إبراهيم - هو التستري - نا محمد بن سيرين قال: خطب عمر بن الخطاب
فقال: ألا ان الدرهم بالدرهم. والدينار بالدينار عينا بعين سواء بسواء مثلا بمثل فقال له
عبد الرحمن بن عوف: تزيف علينا أو راقنا (1) فنعطي الخبيث ونأخذ الطيب فقال عمر: لا
ولكن ابتع بها عرضا فإذا قبضته وكان لك فبعه واهضم ما شئت وخذ أي نقد شئت، فهذا
عمر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم لا مخالف له منهم يأمر ببيع الدراهم أو الدنانير بسلعة ثم
يبيعها (2) بما شاء من ذلك أثر ابتياعه للعرض ولم يقل من غير من تبتاع منه العرض * روينا من
طريق سعيد بن منصور نا هشيم عن سليمان بن بشير قال أعطاني الأسود بن يزيد دراهم وقال لي:
اشتر لي بها دنانير ثم اشتر لي بالدنانير دراهم كذا وكذا قال: فبعتها من رجل فقبضت
الدنانير وطلبت في السوق حتى عرفت السعر فرجعت إلى بيعتي (3) فبعتها منه بالدراهم التي
أردت فذكرت ذلك للأسود بن يزيد فلم يربه بأسا *
قال أبو محمد: وكرهه ابن سيرين وروينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: إنما الربا
على من أراد أن يربى وينسئ رويناه من طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن يونس
ابن عبيد عن ابن سيرين عن عمر * قال على: ومن عجائب حججهم هنا أنهم قالوا: إنما أراد
بالربا دراهم بأكثر منها فتخيل بأن صرفها بدنانير ثم صرف الدنانير بدراهم فقلنا: بارك الله
فيه من ورع خائف لمقام ربه ولمن خاف مقام ربه جنتان، أراد الربا فتركه وهرب عنه إلى
الحلال هذا فاضل جدا وعمل جيد لاعدمناه فنراكم جعلتم المعروف منكرا، وهل هذا الا
كمن أراد الزنا بامرأة فلم يفعل لكن تزوجها أو اشتراها إن كانت أمة فوطئها أما هذا محسن
مطيع لله تعالى؟ *
1501 مسألة والتواعد في بيع الذهب بالذهب أو بالفضة وفى بيع الفضة
بالفضة. وفى سائر الأصناف الأربعة بعضها ببعض جائز تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا لان
التواعد ليس بيعا، وكذلك المساومة أيضا جائزة تبايعا أو لم يتبايعا لأنه لم يأت نهى عن شئ
من ذلك، وكل ما حرم علينا فقد فصل باسمه قال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم)
فكل ما لم يفصل لنا تحريمه فهو حلال بنص القرآن إذ ليس في الدين الافرض أو حرام أو
حلال فالفرض مأمور به في القرآن والسنة والحرام مفصل باسمه في القرآن والسنة،
وما عدا هذين فليس فرضا ولا حراما فهو بالضرورة حلال إذ ليس هنا لك قسم رابع



(1) في النسخة رقم 16 تزيف على أوراق وفى نسخة تزيف علينا أوراق
(2) في النسخة رقم 16 ثم يبيعه
(3) في النسخة رقم 14 بيعي
513
وبالله تعالى التوفيق *
1502 مسألة ولا يحل بدل دراهم بأوزن منها لا بالمعروف ولا بغيره، وهذا
هو المنكر لا المعروف لأنه خلاف ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي بكر. وعمر. وابن عمر،
وقد ذكرنا هذا آنفا عن عمر بحضرة الصحابة رضي الله عنهم وهو قول الناس، وأجاز ذلك
مالك وما نعلم له موافقا قبله ممن رأى الربا في النقد (1) *
1503 مسألة ولا يحل بيع آنية ذهب ولا فضة إلا بعد كسرها لصحة نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عنها وقد ذكرناه في كتاب الطهارة فلا يحل تملكها فإذ لا يحل تملكها فلا يحل
بيعها لأنها أكل مال بالباطل وبالله تعالى التوفيق *
1504 مسألة وجائز أن يبتاع المرء نصف درهم بعينه. أو نصف دراهم
بأعيانها. أو نصف دينار كذلك. أو نصف دنانير بأعيانها مشاعا يبتاع الفضة بالذهب.
والذهب بالفضة ويتفقان على اقرارها عند أحدهما أو عند أجنبي، ولا يجوز في ذلك ذهب
بذهب أصلا ولا فضة بفضة أصلا لأنه يصير عينا بغير عين، وهذا لا يحل الا عينا بعين على
ما قدمنا، وأما الذهب بالفضة مشاعا فلم يأت بالنهي عنه نص وما كان بك نسيا *
1505 مسألة ولا يحل بيع بدينار الا درهما فان وقع فهو باطل مفسوخ لأنه
اخراج لقيمة الدرهم من الدينار فصار استثناء مجهولا إذ باع بدينار الا قيمة درهم منه فإن كان
ت قيمة الدرهم معلومة عندهما فهو باطل أيضا لأنهما شرطا اخراج الدرهم بعينه من الدينار
وهذا محال لأنه ليس هو بعضا للدينار فيخرج منه فهو باطل بكل حال، وقولنا هو قول عطاء.
والنخعي. ومحمد بن سيرين، وأجازه أبو سلمة بن عبد الرحمن، وبالله تعالى التوفيق *
1506 مسألة والربا في كل ما ذكرنا بين العبد وسيده كما هو بين الأجنبيين.
وبين المسلم. والذمي. وبين المسلم. والحربي. وبين الذميين كما هو بين المسلمين ولا فرق *
روينا من طريق قاسم بن أصبغ نا بكر بن حماد نا مسدد نا حفص بن غياث عن أبي العوام
البصري عن عطاء كان ابن عباس يبيع من غلمانه النخل السنتين والثلاث فبعث إليه جابر
ابن عبد الله أما علمت نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا؟ فقال ابن عباس: بلى ولكن
ليس بين العبد وبين سيده ربا، وهو قول الحسن. وجابر بن زيد. والنخعي. والشعبي.
وسفيان الثوري. وعثمان البتي. والحسن بن حي. والليث. وأبي حنيفة. والشافعي،
وإنما قاله هؤلاء على أصلهم الذي قد تقدم افسادنا له من أن العبد لا يملك وذكرنا أن ابن عمر
يرى العبد يملك، وهذا جابر قد أنكر ذلك على ابن عباس، وروينا من طريق ابن أبي شيبة



(1) في النسخة رقم 16 في النقدين
514
نا إسحاق بن منصور نا هريم عن أبي إسحاق عن عبد الله بن شداد قال: مر الحسين بن علي رضي الله عنهم
ا براع فأهدى الراعي إليه شاة فقال له الحسين: حر أنت أم مملوك؟ فقال: مملوك
فردها الحسين عليه فقال له المملوك: انها لي فقبلها منه ثم اشتراه واشترى الغنم فأعتقه وجعل
الغنم له * فهذا الحسين تقبل هدية المملوك إذ أخبره أنها له، وقد ذكرنا مثل ذلك عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيما سلف من كتابنا هذا وهو الحجة البالغة لا من سواه، وإذ حرم الله تعالى الربا
وتوعد فيه فما خص عبدا من حر وما كان ربك نسيا، والعجب أن الشافعي. وأبا حنيفة
لا يجيزان أن يبيع المرء مال نفسه من نفسه فإن كان مال البعد لسيده فقد نقضوا أصلهم وأجازوا
له بيع مال نفسه من نفسه، وإن كان مال العبد ليس للسيد ما لم يبعه أو ينتزعه فقد أجازوا
الربا صراحا * وأما الكفار فان الله تعالى يقول: (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل
منه) وقال تعالى: (حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله) وقال تعالى: (وأن احكم بينهم
بما أنزل الله) فصح أن كل ما حرم علينا فهو حرام عليهم، ونسأل من خالفنا أيلزمهم دين
الاسلام ويحرم عليهم ما هم عليه من خلافه؟ وهل هم على باطل أم لا؟ فان قالوا: لا يلزمهم
دين الاسلام، ولا يحرم عليهم ما هم عليه من خلافه وأنهم ليسوا على باطل كفروا بلا مرية،
وإن قالوا: يلزمهم دين الاسلام وحرام عليهم ما هم عليه من خلافه وهم على باطل قالوا: الحق
ورجعوا إلى قولنا ولزمه (1) إبطال الباطل وفسخ الحرام فيهتدى (2) بهدى الله تعالى أو
الاقرار على نفسه بأنه ينفذ الحكم بالباطل ويجيز الحرام ومال أردنا منه كل هذا، فان قالوا:
ما هم عليه من الكفر أشد قلنا: إن الذي هم عليه من الكفر لا يفسح لهم في إعلانه، وقد جاء
النص بأن لا نجبرهم على الصلاة. والزكاة. والصيام. والحج، وكذلك جاء بأن نحكم بينهم
بما أنزل الله له فلا يحل ترك أحد النصين للآخر وبالله تعالى التوفيق، وقال أبو حنيفة: لا بأس
بالربا بين المسلم. والحربي وهذا عظيم جدا *
1507 مسألة وجائز بيع اللحم بالحيوان من نوع واحد كانا أو من نوعين وكذلك
يجوز بيع اللحم باللحم من نوع واحد أو من نوعين متفاضلا. ومتماثلا، وجائز تسليم
اللحم في اللحم كذلك، وتسليم الحيوان في اللحم كلحم كبش بلحم كبش متفاضلا
ومتماثلا يدا بيد وإلى أجل، وكذلك باللحم من غير نوعه أيضا. وكتسليم كبش في أرطال
لحم كبش أو غيره إلى أجل كل ذلك جائز حلال، قال الله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا)
وقال تعالى: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) فهذا كله بيع لم يفصل تحريمه، وأما اللحم
باللحم فلم يأت نهى عنه أصلا لا صحيح ولا سقيم من أثر، وأما اللحم بالحيوان فجاء فيه



(1) هكذا في الأصول ومقتضى السياق أن يقول (ولزمهم)
(2) في النسخة رقم 14 (ونهتدى)
515
أثر لا يصح، وهذا كله قول أبى سليمان. وأصحابنا، وروى عن ابن عباس وهو
قول سفيان الثوري *
واختلف الحاضرون على فرق، فطائفة منعت من بيع اللحم بالحيوان جملة أي لحم
كان لا تحاش شيئا باي حيوان كان لا تحاش شيئا حتى منعوا من بيع العبد باللحم،
وهذا قول الشافعي، واختلف قوله في اللحم باللحم فروى عنه أن جميع لحوم الحيوان
كلها طائره ووحشيه. والانعام كلها صنف واحد، وروى عنه أن لحم كل نوع صنف
على حياله ولم يختلف عنه في أنه لا يباع لحم بلحم أصلا حتى يتناهى جفافه ويبسه، فعلى
أحد قوليه لا يباع قديد غنم بقديد إبل أو بقديد دجاج أو أوز الا مثلا بمثل، وعلى
القول الثاني انه لا يباع قديد غنم بقديد غنم إلا يدا بيد مثلا بمثل، وجائز أن يباع
بقديد البقر متفاضلا يدا بيد، وقال أبو حنيفة: جائز بيع اللحم بالحيوان على كل حال
جائز كل ذلك كقولنا سواء بسواء * وقال محمد بن الحسن جائز بيع لحم شاة بشاة حية إذا كان
اللحم أكثر من لحم الشاة الحية فإن كان مثله أو أقل لم يجز، وأجاز بيع لحم شاة ببقرة حية
كيف شاؤوا، وأجاز أبو حنيفة. وأصحابه بيع لحم شاة بلحم شاة متماثلا نقدا ولابد، وكذلك
لحم كل صنف بلحم من صنفه، وأباحوا التفاضل يدا بيد في كل لحم بلحم من غير صنفه،
والبقر عندهم صنف: والغنم صنف آخر. والإبل صنف ثالث، وكذلك كل
حيوان في صنفه إلا الحيتان فإنها كلها عنده صنف واحد والا لحوم الطير فرأوا بيع
بعضها ببعض متفاضلا يدا بيد لا نسيئة كلحم دجاج بلحم دجاج. أو بلحم صيد. أو غير ذلك.
ورأي شحم البطن من كل حيوان صنفا غير لحمه وغير شحم ظهره ورأي الالية صنفا
آخر غير اللحم والشحم، وهذه وساوس لا نظير لها. وأقوال لا تعقل ولا تعلم عن أحد قبله *
وقال مالك: ذوات الأربع كلها صنف واحد البقر. والغنم. والإبل. والأرانب.
والأيايل. وحمر الوحش. وكل ذي أربع فلا يحل لحم شئ منها بحي منها فلم يجز
بيع لحم أرنب حي بلحم جمل أصلا ولا لحم جمل بلحم كبش إلا مثلا بمثل يدا بيد،
وكذلك سائر ذوات الأربع، ورأي الطير كله صنفا واحدا. الدجاج والحمام.
والنعام. والإوز. والحجل. والقطا. وغير ذلك. فلم يجز أيضا لحم شئ منها بحي منها
وإن كان من غير نوعه وأجاز في لحم بعضها ببعض التماثل يدا بيد ومنع من التفاضل فلم
يجز التفاضل في لحم دجاج بلحم حبارى، وهكذا في كل شئ منها، ورأي الحيتان كلها
صنفا واحدا كذلك أيضا، ورأي الجراد صنفا رابعا على حياله هذا وهو عنده صيد من
الطير يجيزه المحرم، وحرم القديد النيئ باللحم المشوى وحرمهما جميعا باللحم النبي.

516
الطري، وأجاز كل شئ من هذه الثلاثة الأصناف (1) باللحم المطبوخ من صنفها متفاضلة
ومتماثلة يدا بيد، وأجاز اللحم المطبوخ بعسل باللحم المطبوخ بابن متماثلا ومنع فيه من
التفاضل، وأجاز شاة مذبوحة بشاة مذبوحة على التحري وهذا ضد أصله، وهذه أقوال
في غاية الفساد ولا نعلم أحدا قالها قبله. ولو تقصينا تطويلهم ههنا وتناقضهم لطال جدا وفى
هذا كفاية لمن نصح نفسه *
قال أبو محمد: واحتج الشافعيون بما رويناه من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن
سعيد بن المسيب (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحيوان باللحم) * ومن طريق الحجاج
ابن المنهال نا عبد الله بن عمر (2) النميري عن يونس بن يزيد الأيلي عن الزهري قال:
سمعت سعيد بن المسيب يقول: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبتاع الحي بالميت) قال
الزهري: فلا يصلح لحم بشاة حية * ومن طريق عبد الرزاق عن إبراهيم بن أبي يحيى عن
صالح مولى التوأمة عن ابن عباس أن رجلا أراد أن يبيع جزءا من لحم بعير بشاة فقال
أبو بكر الصديق: لا يصلح هذا، وصح عن سعيد بن المسيب أن لا يباع حي بمذبوح
وأنه لا يجوز بعير بغنم معدودة إن كان يريد البعير لينحره، وقال: كان من ميسر
أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة، وقال أبو الزناد: أدركت الناس ينهون عن بيع اللحم
بالحيوان ويكتبونه في عهود العمال في زمن أبان بن عثمان. وهشام بن إسماعيل، وذكره
ابن أبي الزناد عن الفقهاء السبعة وأنهم كانوا يعظمون ذلك ولا يترخصون فيه *
قال أبو محمد: أما الخبر في ذلك فمرسل لم ينسند قط، والعجب من قول الشافعي: إن
المرسل لا يجوز الاخذ به ثم أخذ ههنا بالمرسل (3). ثم عجب آخر من الحنيفيين القائلين:
المرسل كالمسند ثم خالفوا هذا المرسل الذي ليس في المراسيل أقوى منه [يعظمون
هذا] (4) وهذا مما خالف فيه الحنيفيون جمهور العلماء، ثم المالكيون فعجب ثالث
لأنهم احتجوا بهذا الخبر وأوهموا أنهم أخذوا به وهم قد خالفوه لأنهم أباحوا لحم
الطير بالغنم وهذا خلاف الخبر واما هو موافق لقول الشافعي، وقد خالف مالك
أيضا ههنا ما روى عن الفقهاء السبعة. وعمل الولاة بالمدينة وهذا يعظمونه جدا إذا
وافق رأيهم، واحتجوا بخبر أبي بكر وهو من رواية ابن أبي يحيى إبراهيم، وأول من أمر
أن لا تؤخذ روايته فما لك، ثم عن صالح مولى التوأمة وأول من ضعفه فما لك فيا لله ويا للمسلمين
إذا روى الثقات خبرا يخالف رأيهم تحيلوا بالأباطيل في رده وإذا روى من يشهدون



(1) في النسخة رقم 14 (أصناف)
(2) في النسخة رقم 14 (عبد الله بن عمير) بالتصغير وهو غلط صححناه من تهذيب التهذيب
(3) قال مصحح النسخة رقم 14، قلت وعجب آخر من الشافعي فإنه يقول بمراسيل
سعيد ثم يقول: إني تتبعتها فوجدتها مسانيد وهذا مرسل لم يسند قط
(4) الزيادة من النسخة رقم 16
517
عليه بالكذب ما يوافقهم احتجوا به فأي دين يبقى مع هذا؟ فان قال الشافعيون: مراسيل
سعيد بن المسيب حجة بخلاف غيره - وقد قالوه - قلنا لهم: الساعة صارت حجة فدونكم
ما رويناه من طريق سعيد بن منصور نا حفص بن ميسرة عن ابن حرملة عن سعيد بن المسيب
قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع الحيوان بالمفاطيم من الغنم فقولوا به والا فقد
تلا عبتم واتقوا الله وقد رويت في هذه آثار أيضا بزيادة فروينا مر طريق حماد بن سلمة -
حدثنا عبد الكريم عن يزيد بن طلق أن رجلا نحر جزورا فجعل يبيع العضو بالشاة
وبالقلوص إلى أجل فكره ذلك ابن عمر * ومن طريق وكيع نا إسرائيل عن عبد الله بن
عصمة سمعت ابن عباس وسئل عمن اشترى عضوا من جزور قد نحرت برجل عناق وشرط
على صاحبها أن يرضعها حتى تفطم؟ فقال ابن عباس: لا يصلح *
قال أبو محمد: هذا شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل * وروينا من طريق
عبد الرزاق نا معمر عن يحيى بن أبي كثير عن رجل عن ابن عباس قال: لا بأس أن
يباع اللحم بالشاة، فان قيل: هذا عن رجل قلنا: وخبر أبي بكر عن ابن أبي يحيى (1)
وليس بأوثق ممن سكت عنه كائنا من كان * ومن طريق عبد الرزاق عن سفيان الثوري
لا بأس بالشاة القائمة بالمذبوحة *
1508 مسألة ومن ابتاع شيئا أي شئ كان مما يحل بيعه حاش القمح فلا (2)
يحل له أن يبيعه حتى يقبضه وقبضه له هو أن يطلق يده عليه بأن لا يحال (3) بينه وبينه فإن لم يحل
بينه وبينه مدة ما قلت أم كثرت ثم حيل بينه وبينه بغصب أو غيره حل له بيعه لأنه قد قبضه
وله أن يهبه وأن يؤاجر به وأن يصدقه وأن يقرضه. وأن يسلمه. وأن يتصدق به قبل أن
يقبضه وقبل أن تطلق يده عليه فان ملك شيئا ما أي شئ كان مما يحل بيعه بغير البيع لكن بميراث
أو هبة. أو قرض. أو صداق. أو صدقة. أو سلم. أو أرش. أو غير ذلك جاز له بيعه
قبل أن يقبضه وأن يتصرف فيه بالاصداق. والهبة: والصدقة حاش القمح وأما القمح
فإنه بأي وجه ملكه من بيع. أو هبة. أو صدقة. أو صداق. أو إجارة. أو أرش. أو
سلم. أو قرض. أو غير ذلك فلا يحل له بيعه حتى يقبضه كما ذكرنا بأن لا يحال بينه وبينه فإن كان
اشترى القمح خاصة جزافا فلا يحل له بيعه حتى يقبضه كما ذكرنا وحتى ينقله ولابد عن
موضعه الذي هو فيه إلى مكان آخر قريب ملاصق أو بعيد، فإن كان اشترى القمح خاصة
بكيل لم يحل له أن يبيعه حتى يكتاله فإذا اكتاله حل له بيعه وان لم ينقله عن موضعه، ولا يحل
له تصديق البائع في كيله وحتى لو اكتاله البائع لنفسه بحضرته وهو يراه ويشاهده ولابد من



(1) في النسخة رقم 16 (أبى بكر بن أبي يحيى) وهو غلط، والخبر تقدم آنفا، وابن أبي يحيى اسمه إبراهيم
(2) في النسخة رقم 14 فإنه لا
(3) في النسخة رقم 14 (بأن يحال)
518
أن يكتاله المشترى لنفسه وجائز له في كل ما ذكرنا أن يهبه. وأن يصدقه وأن يؤاجر به
وأن يصالح وأن يتصدق به وأن يقرضه قبل أن يكتاله وقبل أن ينقله جزافا اشتراه أو بكيل
وليست هذه الأحكام في غير القمح أصلا *
برهان ذلك ما روينا من طريق قاسم بن أصبغ نا أحمد بن زهير بن حرب نا أبى نا حيان
ابن هلال نا همام بن يحيى نا يحيى بن أبي كثير أن يعلي بن حكيم حدثه أن يوسف بن ماهك حدثه
أن حكيم بن حزام حدثه أنه قال: (يا رسول الله انى رجل أشتري هذه البيوع فما يحل لي منهما
مما يحرم على؟ قال: يا ابن أخي إذا ابتعت بيعا فلا تبعه حتى تقبضه) فهذا عموم لكل بيع
ولكل ابتياع وتخصيص لهما مما ليس بيعا ولا ابتياعا وجواب منه عليه السلام إذ سئل عما يحل
مما يحرم، فان قيل: فان هذا الخبر مضطرب لأنكم رويتموه من طريق خالد بن الحرث
الهجيمي (1) عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير قال: حدثني رجل من إخواننا
حدثني يوسف بن ماهك أن عبد الله بن عصمة الجشمي حدثه أن حكيم بن حزام حدثه
فذكر هذا الخبر (2)، وعبد الله بن عصمة متروك قلنا: نعم الا أن همام بن يحيى رواه كما
أوردنا قبل عن يحيى بن أبي كثير فسمى ذلك الرجل من الذي لم يسمه هشام وذكر أنه
يعلي بن حكيم ويعلى ثقة وذكر فيه أن يوسف سمعه من حكيم بن حزام وهذا صحيح
فإذا سمعه من حكيم فلا يضره أن يسمعه أيضا من غير حكيم عن حكيم، فصار حديث خالد بن
الحرث لغوا كان أو لم يكن بمنزلة واحدة، فان قيل: فقد رويتم من طريق مالك عن عبد الله
ابن دينار عن ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه) * ومن طريق
سفيان بن عيينة نا عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أما الذي نهى عنه رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يباع حتى يقبض فهو الطعام قال ابن عباس برأيه: ولا أحسب كل شئ إلا مثله
قلنا: نعم هذان صحيحان: الا أنهما بعض ما في حديث حكيم بن حزام فحديث حكيم بن حزام
دخل فيه الطعام وغير الطعام فهو أعم فلا يجوز تركه لان فيه حكما ليس في خبر ابن عباس.
وابن عمر، فان قيل: قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رويتم من طريق أحمد بن شعيب أخبرني
زياد بن أيوب نا هشيم أنا أبو بشر - هو ابن أبي وحشية - عن يوسف بن ماهك عن حكيم بن
حزام (قلت: يا رسول الله يسألني المرء البيع ليس عندي ما أبيعه منه ثم ابتاع له من السوق؟
فقال عليه السلام: لا تتبع ما ليس عندك) (3) قلنا: نعم وبه نقول وهو بين كما تسمع إنما
[هو] (4) نهى عن بيع ما ليس في ملكك كما في الخبر نصا وإلا فكل ما يملكه المرء فهو عنده



(1) هو بضم الهاء وفتح الجيم مصغرا نسبة إلى هجيم بن عمرو، وفى النسخة رقم 16 الجحيمي وهو تصحيف
(2) في النسخة رقم 16 هذا الحديث
(3) الحديث في سنن النسائي ج 7 ص 289 أطول من هذا
(4) الزيادة من النسخة رقم 16
519
ولو أنه بالهند يقول: عندي ضيعة سرية وعندي فرس فاره (1)، وسواء عندنا كان مغصوبا
أو لم يكن هو عند صاحبه أي في ملكه وله، فان قيل: فإنكم رويتم من طريق أبى داود
نا زهير بن حرب نا إسماعيل - هو ابن علية - عن أيوب السختياني حدثني عمرو بن شعيب حدثني أبي
عن أبيه عن أبيه (2) حتى ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا ربح ما لم يضمن ولا بيع ما ليس عندك) قلنا: نعم هذا
صحيح وبه نأخذ ولا نعلم لعمرو بن شعيب حديثا مسندا إلا هذا وحده. وآخر في الهبات
رواه عن طاوس عن ابن عباس. وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في المنع من الرجوع في الهبات
إلا الوالد فيما أعطى ولده، وليس في هذا الخبر إلا الذي في حديث حكيم بن حزام من النهى
عن بيع ما ليس لك فقط، وبالله تعالى التوفيق *
وممن قال بقولنا في هذا ابن عباس كما أوردناه، وكما روينا من طريق عبد الرزاق عن ابن
جريج أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لا تبع بيعا حتى تقبضه * ومن طريق
عبد الرزاق عن معمر عن أيوب السختياني قال عبد الرحمن بن عوف. والزبير لعمر: أنه
تزيف علينا أو راق فنعطي الخبيث ونأخذ الطيب قال: فلا تفعلوا ولكن انطلق إلى
البقيع فبع ورقك بثوب أو عرض فإذا قبضت وكان لك فبعه وذكر الخبر، فهذا عمر
يقول بذلك ويبين أن القبض هو الذي يكون الشئ للمرء، وقولنا في هذا كقول الحسن.
وابن شبرمة، وذهب قوم إلى أن هذا الحكم إنما هو في الطعام فقط - يعنى أن لا يباع
قبل أن يقبض - وذهب آخرون إلى أنه فيما يكال أو يوزن فقد كما روينا من طريق
يحيى بن سعيد القطان نا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عبد ربه عن أبي عياض عن
عثمان بن عفان لا بأس إذا اشترى الرجل البيع ان يبيعه قبل أن يقبضه ما خلا الكيل
والوزن * ومن طريق حماد بن سلمة عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا
أن يبتاع الرجل بيعا لا يكال ولا يوزن أن يبيعه قبل أن يقبضه * ومن طريق عبد الرزاق
عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: لا بأس بأن يشترى شيئا لا يكال ولا يوزن
بنقد ثم يبيعه قبل أن يقبضه (3) وهو قول الحكم. وإبراهيم. وحماد بن أبي سليمان،
وذكره النخعي عمن لقى، وقال عطاء: جائز بيع كل شئ (4) قبل أن يقبض، وقال
أبو حنيفة: كل ما ملك بعقد ينتقض العقد بهلاكه فلا يجوز بيعه قبل قبضه كالبيع.
والإجارة الا العقار فجائز بيعه قبل قبضه قال: وكل ما ملك بعقد لا ينتقض العقد
بهلاكه فجائز بيعه قبل قبضه كالصداق. والجعل. والخلع ونحوه، وهذا قول لا نعلمه



(1) أي نشيط حاد قوى
(2) جملة عن أبيه الثانية سقطت من النسخة رقم 14 وما هنا موافق لما في سنن أبي داود
(3) في النسخة رقم 14 (قبل القبض)
(4) في النسخة رقم 16 (بيع كل ذلك شئ) وهي زيادة لا معنى
520
عن أحد قبله * وقال مالك: كل ما يؤكل. والماء فلا يحل بيعه قبل أن يقبض وما عدا هذين
فجائز بيعه قبل أن يقبض، وقال مرة أخرى: كل ما يؤكل فقط وأما الماء فبيعه جائز قبل
قبضه وجعل في كلا قوليه زريعة الفجل الأبيض. وزريعة الجزر. وزريعة السلق لا يباع
شئ منها قبل القبض فقلنا: هذا لا يأكله أحد أصلا، وهذا الذي أنكرتم على الشافعي في
ادخاله السقمونيا فيما يؤكل فقالوا: إنه يخرج منها ما يؤكل فقلنا: والشجر يخرج منها
ما يؤكل فامنعوا من بيعها قبل القبض فانقطعوا، وما نعلم قولهم هذا كله كما هو عن أحد قبلهم *
وخالف الحنيفيون. والمالكيون ههنا كل قوى روى عن الصحابة رضي الله عنهم،
وأما الشافعي فلم يجز بيع ما ملك ببيع. أو نكاح. أو خلع قبل القبض أصلا وهذا قول
فاسد بلا دليل، فان قالوا: قسنا النكاح. والخلع على البيع قلنا: القياس كله باطل، ثم
لو صح لكان هذا منه عين الباطل لان النكاح يجوز بلا مهر يذكر أصلا، ولا يجوز البيع
بلا ثمن يذكر، والنكاح لم يملك بصداقه رقبة شئ أصلا والخلع كذلك بخلاف البيع فظهر
فساد هذا القول وبالله تعالى التوفيق * وأما حكم القمح فالذي ذكرنا قبل هذا في الكلام المتصل
بهذا من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أما الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباع حتى
يقبض فهو الطعام فهذا تخصيص للطعام في البيع خاصة وعموم له بأي وجه ملك، فان قيل:
من أين خصصتم القمح بذلك دون سائر الطعام؟ قلنا: لان اسم الطعام في اللغة التي بها
خاطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطلق هذا إلا على القمح وحده وإنما يطلق على غيره بإضافة،
وقد قال تعالى: (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم) فأراد عز وجل
الذبائح لا ما يأكلون (1) فإنهم يأكلون الميتة. والدم. والخنزير ولم يحل لنا شئ من
ذلك قط، وقال الله عز وجل: (ان الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه
فإنه منى) فذكر تعالى الطعم في الماء بإضافة ولا يسمى الماء طعاما، وقال لقيط بن معمر
الايادي - جاهلي فصيح - في شعر له مشهور:
لا يطعم النوم الا ريث يبعثه * هم يكاد جواه يحطم الضلعا
فأضاف الطعم إلى النوم والنوم ليس طعاما بلا شك، وقد ذكرنا قول عبد الله بن معمر
وكان طعامنا يومئذ الشعير فذكر الطعام في الشعير في إضافة لا باطلاق، وقد ذكرنا (2)
من طريق أبي سعيد الخدري قوله: كنا نخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر صاعا
من طعام صاعا من شعير صاعا من تمر صاعا من زبيب صاعا من أقط، فلم يطلق الطعام الا على
القمح وحده لاعلى الشعير ولا على غيره، وروينا من طريق الحجاج بن المنهال نا يزيد



(1) في النسخة رقم 14 لا ما يؤكل
(2) في النسخة رقم 14 وقد روينا
521
ابن إبراهيم نا محمد بن سيرين قال: عرض على عبد الله بن عتبة بن مسعود زيتا له فقلت له: ان أصحاب الزيت قل ما يستوفون حتى يبيعون فقال: إنما سمى الطعام أي إنما أمر بالبيع بعد
الاستيفاء في الطعام فلم ير الزيت طعاما، وأبو سعيد الخدري. وعبد الله بن عتبة بن مسعود
حجتان في اللغة قاطعتان لا سيما وعبد الله هذلي قبيلة مجاورة للحرم فلغتهم لغة قريش، وممن
قال بقولنا: ان الطعام (1) باطلاق إنما هو القمح وحده أبو ثور، وأما القمح يشترى
جزافا فلا يحل بيعه حتى يقبض وينقل عن موضعه فلما رويناه من طريق البخاري نا إسحاق -
هو ابن راهويه - نا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن
أبيه [رضي الله عنه] (2) قال: رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعوه حتى يؤوه إلى رحالهم * ورويناه من طريق مسلم نا محمد بن عبد الله
ابن نمير نا أبى نا عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اشترى
طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه [قال] (3) وكنا نشتري الطعام من الركبان جزافا فنهانا
رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نبيعه حتى ننقله من مكانه) * ومن طريق مسلم نا أبو بكر بن أبي شيبة نا
عبد الأعلى عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر أنهم كانوا يضربون
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا طعاما جزافا أن يبيعوه في مكانه حتى يحولوه *
قال أبو محمد: ولا يمكن أن يكون غيره عليه السلام يضرب المسلمين بالمدينة على
شريعة يؤمرون بها في الأسواق بغير علمه أصلا، فصح أنه جرم كبير لا يرخص فيه (4)
فان قيل: إن في بعض ما رويتم حتى يؤوه إلى رحالهم قلنا: نعم وكل مكان رحله إليه فهو
رحل له إذا كان مباحا له أن يرحله إليه، فان قيل: فقد رويتم هذا الحديث عن مالك عن
نافع عن ابن عمر فلم يذكر فيه الجزاف قلنا: عبيد الله بن عمر ان لم يكن فوق مالك
والا فليس هو دونه أصلا، وقد رواه عن نافع فذكر فيه الجزاف، ورواه الزهري
عن سالم كما أوردنا فذكر فيه الجزاف، وهو خبر (5) واحد بلا شك، وجمهور الرواة
عن مالك لهذا الحديث في الموطأ وغيره ذكروا فيه عنه الجزاف كما ذكره عبيد الله عن
نافع. والزهري عن سالم وإنما أسقط ذكر الجزاف القعنبي. ويحيى فقط فصح أنهما وهما فيه
بلا شك لأنه يتعين خبر واحد وبالله تعالى التوفيق، وإنما كان يصح الاخذ برواية القعنبي.
ويحيى لو أمكن أن يكونا خبرين اثنين عن موطئين (6) مختلفين، وقولنا ههنا هو قول
الشافعي. وأبي سليمان ولم يقل به مالك ولا نعلم لمقلده ولا له حجة أصلا وبالله تعالى التوفيق *



(1) في النسخة رقم 16 (بان الطعام)
(2) الزيادة من صحيح البخاري ج 3 ص 141
(3) الزيادة من صحيح مسلم ج 1 ص 446
(4) في النسخة رقم 14 (لا ترخص فيه)
(5) في النسخة رقم 16 وهذا خبر
(6) في النسخة
522
وأما القمح يبتاعه المرء بكيل فلا يحل له بيعه حتى يكتاله لنفسه ثم يكتاله الذي يبيع منه ولابد
سواء حضرا كلاهما كيله قبل ذلك أو لم يحضرا فلما روينا من طريق أحمد بن عمرو بن
عبد الخالق البزار نا محمد بن عبد الرحيم نا مسلم - هو ابن إبراهيم - نا مخلد بن الحسين الأزدي
عن هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع
الطعام حتى يجرى فيه الصاعان فيكون لصاحبه الزيادة وعليه النقصان) * وروينا من طريق
أبى بكر بن أبي شيبة نا شريك عن ابن أبي ليلى عن محمد بن بيان عن ابن عمر أنه سئل عمن اشترى
الطعام وقد شهد كيله؟ قال: لا حتى يجرى فيه الصاعان * ومن طريق ابن أبي شيبة نا محمد بن
فضيل عن مطرف - هو ابن طريف - قلت للشعبي: أكون شاهد الطعام وهو يكال فاشتريه
آخذه بكيله؟ فقال: مع كل صفقة كيلة * ومن طريق ابن أبي شيبة نا مروان بن معاوية عن زياد
مولى آل سعيد قلت لسعيد بن المسيب: رجل ابتاع طعاما فاكتاله أيصلح لي أن اشتريه
بكيل الرجل؟ قال: لا حتى يكال بين يديك، وصح عنه أنه قال فيه: هذا ربا *
ومن طريق ابن أبي شية نا زيد بن الحباب عن سوادة بن حيان سمعت محمد بن سيرين سئل
عن رجلين اشترى أحدهما طعاما والآخر معه؟ فقال: قد شهت البيع والقبض فقال: خذ
منى ربحا وأعطنيه فقال: لا حتى يجرى فيه الصاعان فتكون لك زيادته وعليك نقصانه (1) *
ومن طريق ابن أبي شيبة نا وكيع عن عمر أبى حفص قال: سمعت الحسن البصري وسئل
عمن اشترى طعاما ما وهو ينظر إلى كيله؟ قال: لا حتى يكليه * ومن طريق عبد الرزاق
عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال في السنة التي مضت: ان من ابتاع طعاما
أو ودكا كيلا أن يكتاله (2) قبل أن يبيعه فإذا باعه اكتيل منه أيضا إذا باعه كيلا،
وهو قول عطاء بن أبي رباح. وأبي حنيفة. والشافعي. وأحمد بن حنبل. وإسحاق،
وأبي سليمان، وقال مالك: إذا بيع بالنقد فلا بأس بان يصدق البائع في كيله ولا يكتاله
ويكره ذلك في الدين، وهذا قول لا نعلمه عن أحد قبله وخالف فيه صاحبا لا يعرف له
مخالف منهم، وخالف فيه جمهور العلماء وما نعلم لقوله حجة أصلا لا من نص قرآن. ولا
سنة. ولا رواية سقيمة. ولا قياس. ولا رأى له وجه، فان قيل: فقد رويتم من طريق
أبى داود عن محمد بن عوف الطائي نا أحمد بن خالد الوهبي نا محمد بن إسحاق عن أبي الزناد
عن عبيد بن حنين عن ابن عمر قال: ابتعت زيتا في السوق فلما استوجبته لقيني رجل
أعطاني به ربحا حسنا فأردت أن أضرب على يدي فاخذ رجل من خلفي بذراعي فالتفت
فإذا زيد بن ثابت فقال: لا تبعه حيث ابتعته حتى تحوزه إلى رحلك فان رسول الله



(1) في النسخة رقم 16 (فتكون له زيادته وعليه نقصانه)
(2) في النسخة رقم 14 (أن يكيله)
523
صلى الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تتباع حتى تحوزها التجار إلى رحالهم قلنا: هذا رواه
أحمد بن خالد (1) الوهبي وهو مجهول، وبالله لو صح عندنا لسارعنا إلى الاخذ به نحمد
الله على ما يسرنا له من ذلك كثيرا، وكل ما ذكرناه في هذا المسائل فمن فعل خلاف
ذلك فسخ أبدا، فإن كان قد بلغه الخبر ضرب كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه ابن
عمر قال عليه السلام: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)
خاتمة الطبع
تم - ولله الحمد - طبع الجزء الثامن من كتاب المحلى على ما أوجبه القرآن. والسنن
الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأليف المحقق والحافظ المدقق الفقيه الامام ناصر السنة
ومميت البدعة. صاحب السيف والقلم أبى محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم رحمه
الله وجعل الجنة مأواه المتوفى سنة 456 ه‍ ويتلوه إن شاء الله تعالى بحوله وقوته الجزء
التاسع منه مفتتحا (مسألة والشركة والإقالة. والتولية كلها بيوع مبتدأة) الخ أسأل
الله العظيم أن يوفقني إلى اتمامه وغيره من الكتب الثمينة النافعة وارجوه أن يمتعني
برؤيته جل جلاله في الآخرة وأن يدخلني مع حبيبه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة انه
سميع قريب وبالإجابة جدير



(1) هو أحمد بن خالد بن موسى، ويقال ابن محمد الوهبي الكندي أبو سعيد بن أبي مخلد الحمصي وفيه كلام انظر
تهذيب التهذيب ج 1 ص 26
524
/ 1