كتاب الأربعين نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

كتاب الأربعين - نسخه متنی

سلیمان بن عبدالله بحرانی؛ محقق: مهدی رجایی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: كتاب الأربعين
المؤلف: الشيخ الماحوزي
الجزء:
الوفاة: 1121
المجموعة: مصادر الحديث الشيعية ـ القسم العام
تحقيق: السيد مهدى رجائي
الطبعة: الأولى
سنة الطبع: 1417
المطبعة: أمير - قم
الناشر:
ردمك:
ملاحظات:
الأربعون حديثا
في إثبات إمامة أمير المؤمنين عليه السلام
للعلامة الفقيه المحدث
الشيخ سليمان بن عبد الله الماحوزي البحراني
1075 - 1121 هجري قمري
تحقيق
السيد مهدي الرجائي

1
هوية الكتاب:
الكتاب: الأربعون حديثا
المؤلف: الشيخ سليمان الماحوزي البحراني
المحقق: السيد مهدي الرجائي
المطبعة: مطبعة أمير الطبعة: الأولى
تاريخ الطبع: 1417 ه‍ ق
عدد الطبع: 1000 نسخة
الناشر: المحقق

2
العنوان: قم - صندوق بريد - 753 - 37185 - تلفون 73207
الجمهورية الاسلامية الإيرانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمد
وآله الطاهرين، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.
قد اتجه علماء الشيعة اتجاها ملحوظا في جميع الميادين العلمية منذ أقدم
عصورهم، وامتد نشاطهم وحركتهم الفكرية إلى كل ما كان هناك من علوم معروفة،
وشمل نشاطهم إلى جانب الفقه وأصوله والكلام وعلوم القرآن واللغة والأدب،
سوى ذلك من العلوم الأخرى، ونجد هذا النشاط بارزا على مؤلفاتهم الكثيرة التي
تعكس اتجاههم العلمي ونشاطهم الفكري.
والانصاف يحتم علينا أن لا ننسى لهم ما قاموا به من الأدوار الكبيرة في الحركة
الثقافية في الأحقاب الماضية، وما ساهم به اتجاههم هذا الممعن بحثا، الذي جاب
مناطق الانسان والحياة في الحضارة الاسلامية وإقامة دعائمها على أسس قويمة
منتجة.
انه لمن المدهش حقا أن نجد كثيرا من مفكري الشيعة وعلمائهم قد سبقوا
عصورهم بأجيال بمعلوماتهم ونظرياتهم وآثارهم، وتركوا حقائق علمية مثيرة.
ومن أجل علماء الشيعة ومفكريهم والذي برز في جميع هذه الميادين العلمية، هو
المحدث الفقيه المتكلم الرجالي، المحقق المدقق الموالي لأهل البيت (عليهم السلام) والمدافع عن
حريم العصمة والطهارة، الشيخ سليمان بن عبد الله البحراني الماحوزي قدس الله
سره وأسكنه الله بحبوحات جناته، وجزاه الله عن الاسلام وأهله خير الجزاء.

3
حياة المؤلف
نسبه:
هو الشيخ أبو الحسن شمس الدين سليمان بن العالم الشيخ عبد الله بن علي بن
حسن بن أحمد بن يوسف بن عمار البحراني الستراوي الماحوزي الدونجي.
والستري كما في أنوار البدرين، أو الستراوي كما في اللؤلؤة نسبة إلى سترة
ناحية بالبحرين، فيها عدة قرى. وفي الكتابين: أصله من قرية الخارجية احدى
قرى سترة.
والماحوزي نسبة إلى الماحوز بالحاء المهملة والزاي، وفيها مولده ومسكنه، ثم
سكن البلاد القديم وبها توفي، ونقل منها إلى الدونج كما سيأتي.
والدونجي نسبة إلى الدونج بالجيم بعد النون، وهي مدفن المترجم.
وسبب انتقاله إلى البلاد القديم هو ما ذكره في أنوار البدرين، قال: كان في الزمن
القديم في الأغلب إذا صار رئيس الحسبة الشرعية من غير البلاد ينقله أهل البلاد
إليها، وهي عمدة البحرين، ومسكن العلماء الأعلام والتجار والحكام والأدباء
وذوي الأقدار، وهي مسكن آبائنا الأخيار.
الاطراء عليه:
كان المحقق البحراني من أعاظم علماء الشيعة، ومشهورا بينهم بالتتبع والتحقيق
والتأليف، وأثنى عليه أرباب التراجم والمعاجم بالاطراء والثناء الفاخر، ومجدوه
بكل التمجيد بما يستحقه، فإليك نص من وقفت عليه:

4
قال تلميذه المحدث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح البحراني: كان هذا الشيخ
أعجوبة في الحفظ والدقة وسرعة الانتقال في الجواب والمناظرات، وطلاقة اللسان،
لم أر مثله قط، وكان ثقة في النقل ضابطا، اماما في عصره، وحيدا في دهره، أذعنت
له جميع العلماء، وأقر بفضله جميع الحكماء، وكان جامعا لجميع العلوم، علامة في
جميع الفنون، حسن التقرير، عجيب التحرير، خطيبا، شاعرا، مفوها، وكان أيضا
في غاية الانصاف، وكان أعظم علومه الحديث والرجال والتواريخ، منه أخذت
الحديث وتلمذت عليه، ورباني وقربني وآواني، واختصني من بين أقراني، جزاه
الله عني خير الجزاء بحق محمد وآله الأزكياء (1).
وقال المحدث الفقيه الشيخ يوسف البحراني في اللؤلؤة: علامة الزمان، ونادرة
الأوان، وهذا الشيخ قد انتهت إليه رئاسة بلاد البحرين في وقته (2).
وقال المحقق المجدد الوحيد البهبهاني في تعليقته على منهج المقال: هو الفاضل
الكامل المحقق المدقق الفقيه النبيه نادر العصر والزمان (3).
وقال العلامة السيد عبد الله الجزائري في اجازته الكبيرة عند ذكر مشائخ الشيخ
المحدث الشيخ عبد الله السماهيجي: يروي عن جماعة كثيرة من فضلاء البحرين
وغيرهم، أعظمهم شأنا الشيخ سليمان بن عبد الله المتقدم ذكره، وقد أثنى عليه في
مصنفاته وإجازاته ثناء بليغا، ووصفه بغاية الوصف والحفظ والذكاء وحسن
التقرير، وسمعت والدي رحمه الله يصفه بمثل ذلك أيضا في أيام حياته، ويقول: ليس
في بلاد العرب والعجم أفضل منه.
وسئل يوما أيهما أفضل الشريف أبو الحسن أو الشيخ سليمان؟ فقال: أما الشريف
أبو الحسن فقد مارسته كثيرا في أصفهان وفي المشهد، وفي بلادنا لما قدم الينا وأقام



(1) لؤلؤة البحرين ص 8.
(2) لؤلؤة البحرين ص 7.
(3) التعليقة على منهج المقال ص 13.
5
عندنا مدة مديدة، فرأيته في غاية الفضل والإحاطة وسعة النظر. وأما الشيخ سليمان
فلم أره، ولكن الذي بلغني من حاله بالاستفاضة والتسامع أنه أشد ذكاء، وأدق
نظرا، وأكثر استحضارا لمدارك الأحكام الفقهية، وأكثر جوابا في المعضلات، مع
غاية الرزانة والتحقيق، ولما بلغه وفاته... تألم كثيرا وقال: ثلم في الاسلام ثلمة لا
يسدها شئ إلى يوم الدين (1).
وقال الرجالي أبو علي الحائري في منتهى المقال: مولانا العالم الرباني، والمقدس
الصمداني، المعروف بالمحقق البحراني قدس الله فسيح تربته وأسكنه بحبوحة
جنته (2).
وقال العلامة الخوانساري في الروضات: وبالجملة فهذا الشيخ المتبحر الجليل
من أعاظم علماء الطائفة وأجلاء فقهائها، وحسب الدلالة على غاية فضيلة الرجل
وامتيازه في القابلية والاستعداد، وجودة القريحة من بين قاطبة الأمثال والأقران،
مسلميته عندهم، وشهرته لديهم بالتمامية، مع قصر العمر ونقصان البقاء (3).
وقال المحدث الجليل الشيخ حسين النوري في الفيض القدسي: الشيخ الجليل
العلامة الرباني الزاهد الورع التقي المحقق المدقق (4).
وقال الشيخ علي البلادي في الأنوار: علامة العلماء الأعلام، وحجة الاسلام،
وشيخ المشائخ الكرام، اولي النقض والابرام، المحقق المدقق العلامة الثاني (5).
وقال الشيخ مبارك الجارودي في مقدمة رسالة علماء البحرين للمؤلف: العلم
العالم الكامل الألمعي الفاضل الواصل، علامة هذا العصر والزمان الشيخ



(1) الإجازة الكبيرة ص 207.
(2) منتهى المقال ص 105.
(3) روضات الجنات 4: 21.
(4) الفيض القدسي المطبوع في البحار 105: 91. وراجع مستدرك الوسائل 3: 388.
(5) أنوار البدرين ص 150.
6
الطاهر (1).
أحواله ونشأته العلمية:
قال المترجم في آخر رسالته فهرست علماء البحرين (ص 79): حفظت
الكتاب الكريم ولي سبع سنين تقريبا وأشهر، وشرعت في كتب العلوم ولي عشر
سنين، ولم أزل مشتغلا بالتحصيل إلى هذا الان، وهو العام التاسع والتسعون والألف
من الهجرة النبوية.
ولم يذكر لنا أصحاب التراجم عن نشأته العلمية أكثر ما ذكره المترجم عن نفسه
وعن حياته العلمية، نعم قال المحقق البحراني في اللؤلؤة (ص 10): وكان يدرس
يوم الجمعة في المسجد بعد الصلاة في الصحيفة الكاملة السجادية، وحلقته مملوءة
من الفضلاء المشار إليهم وغيرهم، وفي سائر الأيام في بيته.
وقال أيضا: قد انتهت إليه رئاسة البحرين في وقته.
وقال الشيخ عبد الزهراء العويناتي في أحوال المترجم: انتهت إليه رئاسة
البحرين بعد وفاة السيد هاشم الكتكاني التوبلاني في عام (1107) أو (1109)
على اختلاف أقوال المؤرخين، وعمره آنذاك اما (32) واما (34) حولا.
قال الماحوزي في بعض فوائده: دخلت على شيخنا العلامة السيد هاشم التوبلي
زائرا مع والدي قدس سره، فلما قمنا معه لنودعه وصافحته لزم يدي وعصرها
وقال لي: لا تفتر عن الاشتغال، فان هذه البلاد عن قريب ستحتاج إليك.
والظاهر أن المقصود من الرئاسة التي يتكلم عنها مترجموه هي الزعامة الدينية
من تدريس وافتاء وقضاء، وكل ما يمس الحالة الاجتماعية بالشعب البحراني، وقد



(1) رسالة علماء البحرين للمترجم ص 67.
7
يقوم بأعباء الدفاع السياسي والعسكري عن البحرين عندما تتعرض لأي قلاقل
أمنية، بل ربما تكون سلطته في أوساط المجتمع هي النافذة: اما شيخ الاسلام،
أو الوالي اللذان تنصبهما الحكومة الصفوية الفارسية المحتلة للبحرين في تلك الأزمان،
فوظيفتهما قد تصل إلى حدود التمثيل السياسي والعسكري للدولة المسيطرة، كي
تعطي البحرين عنوان التابعية لها أمام الدولتين المجاورتين العمانية والعثمانية وبقية
الدول الاستعمارية.
وبعد تصديه للزعامة سكن مدينة البلاد القديم، لأن الأكثر إذا انتهت إليهم
رئاسة البحرين ولم يكن من سكنة هذه المدينة نقله أهلها إليها لكونها في ذلك
الزمان هي عمدة البحرين وموطن الوجهاء والتجار والعلماء وذوي الأقدار.
ثم قال: لقد وقف الماحوزي ناقدا للوالي الفارسي آنذاك المدعو ب‍ (كلب علي) من
دون أن تدخل قلبه رهبة تمنعه من صب حمم كلمات المجابهة عليه بلهجة قاسية
شديدة اللذع، حيث كان هذا الوالي جائرا طاغيا، لكن للأسف لا نعلم هل كان هو
الوالي في حقبة تسنم الماحوزي لزعامة أهل البحرين أم كان واليا في السنوات التي
قبلها، بيد أننا نستفيد من أبياته التالية أنه ليس بالشخص اللاابالي، بل إذا اضطره
الأمر إلى قول كلمة الحق فإنه لن يخشي في الصدوع بها لومة لائم أيا كان ذلك
الشخص الذي تصدى له، فنراه في أبياته ينشدها حيا الوالي (كلب علي) مع القاء
اللوم على تمكين أهل البحرين لهذا الشخص في ولايتهم، فيقول:
لما تعدوا طورهم * أهل أوال في المعاصي
وغدوا يحاكون الكلاب * بلا انتفاع واقتناص
ولى عليهم حاكما * كلب الهراش بلا خلاص
فرمى نبال وباله * نحو الأداني والأقاصي
سافر إلى موطن العجم فارس، وربما في سفرته هذه التقى بالعلماء، منهم الشيخ
المجلسي الاصفهاني صاحب موسوعة بحار الأنوار حيث أعجب به، واستجاز منهم

8
ما كانوا يروونه، والظاهر أنها لم تكن قصيرة، وإنما استغرقت مدة بحيث تعلم فيها
الماحوزي اللغة الفارسية بطلاقه، واستطاع أن يترجم بعض الكتب إلى لغته العربية،
كما لاحظنا في قائمة تآليفه.
لقد خاض غمار المناظرات مع مجموعة من العلماء الكبار، كشيخه وصهره محمد
بن ماجد الماحوزي، وشيخه الاخر الشيخ أحمد بن محمد بن يوسف الخطي مما يدل
- وعناوين تصانيفه التي يتضح منها استنتاجاته لآراء شاذة - على أنه كان ذا رأي
في المسائل، ولم يعجز عن مناقشة جهابذة العلماء ومن يتتلمذ عليهم.
مشائخه ومن روى عنهم:
1 - الشيخ أحمد بن محمد بن يوسف بن صالح الخطي البحراني.
2 - الشيخ جعفر بن الشيخ علي بن سليمان القدمي.
3 - الشيخ سليمان بن علي بن سليمان بن راشد بن أبي ظبية الأصبعي.
4 - الشيخ صالح بن عبد الكريم الكرزكاني.
5 - الشيخ محمد بن أحمد بن ناصر الحجري.
6 - الشيخ محمد بن ماجد بن مسعود المسعودي الماحوزي.
7 - الشيخ محمد باقر بن محمد تقي المجلسي صاحب البحار.
8 - السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل الكتكاني.
تلامذته ومن روى عنه:
1 - الشيخ أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صالح بن عصفور الدرازي.
2 - الشيخ أحمد بن الشيخ عبد الله بن حسن بن جمال البلادي.

9
3 - الشيخ حسن بن عبد الله بن علي الستري الماحوزي أخو المترجم.
4 - الشيخ حسين بن الشيخ محمد بن جعفر الماحوزي.
5 - الشيخ عبد الله بن صالح بن جمعة السماهيجي.
6 - السيد عبد الله بن علوي عتيق الحسين الغريفي البلادي.
7 - الشيخ عبد الله أبو الجلابيب بن الشيخ علي بن أحمد البلادي.
8 - السيد علي بن إبراهيم بن علي بن إبراهيم آل أبي شبانة الموسوي المنوي.
9 - الشيخ محمد بن يوسف بن كنبار الضبيري النعيمي.
10 - السيد مير محمد حسين الخواتون آبادي.
11 - الشيخ محمد رفيع البيرمي اللامي.
12 - الشيخ يوسف بن علي بن فرج المنوي.
13 - الشيخ يوسف بن محمد علي العين داري.
تأليفه القيمة:
كتب المترجم مؤلفات ورسائل كثيرة، قد تجاوزت جهود الفرد الواحد تمثل
اضطلاعه بجوانب المعرفة الشاملة، وقد يعجب المرء من وفرة تأليفه ذات المواضيع
المختلفة والمعارف المتعددة، على الرغم من قصر عمره الشريف، وهي:
1 - أجوبة مسائل الشيخ ناصر الجارودي.
2 - الأربعون حديثا في اثبات امامة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وهو هذا الكتاب.
3 - أزهار الرياض، كشكول في ثلاثة مجلدات.
4 - الإشارات.
5 - أعلام الأنام بعلم الكلام.
6 - إقامة الدليل في نصرة الحسن بن أبي عقيل في عدم نجاسة الماء القليل.

10
7 - أنوار الهدى في مسألة البداء.
8 - ايضاح الغوامض في شرح رسالة الفرائض.
9 - ايقاظ الغافلين.
10 - البرهان القاطع.
11 - بلغة المحدثين في الرجال مطبوع.
12 - تعريب رسالة في الرد على العامة في الإمامة.
13 - التعليقة على الاثني عشرية لصاحب المعالم.
14 - التعليقة على أربعين الشيخ البهائي.
15 - التعليقة على الاستبصار.
16 - التعليقة على تلخيص الأقوال للاسترآبادي.
17 - التعليقة على تهذيب الأحكام.
18 - التعليقة على خلاصة الأقوال للعلامة الحلي.
19 - التعليقة على رجال ابن داود.
20 - التعليقة على مباحث الإمامة من المواقف.
21 - التعليقة على مدارك الأحكام.
22 - التعليقة على مشرق الشمسين للشيخ البهائي.
23 - التعليقة على المعالم.
24 - التعليقة على وجيزة العلامة المجلسي
25 - تنبيه النائم.
26 - جواب السؤال عن مسألة البداء.
27 - جواب السؤال عن جواز التولي عن الجائر.
28 - جواهر البحرين.
29 - الدر النظيم في التوكل والرضا والتفويض والتسليم.

11
30 - دقائق الأسرار.
31 - ديوان أشعاره.
32 - ذخيرة يوم المحشر في فساد نسب عمر.
33 - الرسالة السبعة السيارة.
34 - الرسالة الشمسية في رد الشمس لمولانا أمير المؤمنين (عليه السلام).
35 - الرسالة الصلاة العملية.
36 - الرسالة الصومية.
37 - رسالة ضوء النهار.
38 - الرسالة الغراء في أسرار الصلاة.
39 - رسالة في آداب البحث.
40 - رسالة في الأحبار والتكفين.
41 - رسالة في أحوال أجلاء الأصحاب.
42 - رسالة في الأدناس.
43 - رسالة في استحقاق المنتسب بالأم إلى هاشم الخمس.
44 - رسالة في الاستخارات.
45 - رسالة في استقلال الأب بالولاية على البكر البالغ الرشيد في التزويج.
46 - رسالة في اعراب تبارك الله أحسن الخالقين.
47 - رسالة في أفضلية التسبيح على الحمد في أخيرتي الرباعية وثالثة المغرب.
48 - رسالة في ايمان أبي طالب عليه السلام.
49 - رسالة في البئر والبالوعة.
50 - رسالة في تحريم الارتماس دون نقضه للصوم.
51 - رسالة في تحقيق كون الوضع جزء من السجود.
52 - رسالة في جواز تحليل أحد الشريكين الأمة لصاحبه.

12
53 - رسالة في جواز التطيب بالزباد.
54 - رسالة في جواز تقليد الميت.
55 - رسالة في جواز الحكومة الشرعية.
56 - رسالة في جواز خلو الزمن من الفقيه.
57 - رسالة في حرمة تسمية صاحب الزمان عليه السلام.
58 - رسالة في حكم الحدث أثناء الغسل.
59 - رسالة في خواص يوم الجمعة، أنهى الخصوصيات إلى ست ومائتين
خصوصية.
60 - رسالة في الرد على من استبعد بقاء المهدي (عليه السلام).
61 - رسالة في سبب تساهل الأصحاب في أدلة السنن.
62 - رسالة في شرح كلمة لا إله إلا الله.
63 - رسالة في الطلاق البذلي.
64 - رسالة في طلاق الغائب.
65 - رسالة في العدالة.
66 - رسالة في عدم جواز السهو على النبي (عليه السلام).
67 - رسالة في علم المناظرة.
68 - رسالة في الغيبة.
69 - رسالة في الفجر الصادق.
70 - رسالة في فضائح بني أمية.
71 - رسالة في القرعة.
72 - رسالة في محمد بن إسماعيل.
73 - رسالة في الشيخ محمد بن علي الصدوق.
74 - رسالة في محمد بن علي بن ماجيلويه.

13
75 - رسالة في مقدمة الواجب.
76 - رسالة في نجاسة أبوال الدواب الثلاث.
77 - رسالة في واجبات الصلاة وما لابد منه.
78 - رسالة في وجوب الذكر في سجدتي السهو.
79 - رسالة في وجوب الطهارات الثلاث لغيرها خصوصا الجنابة.
80 - رسالة في وجوب صلاة الجمعة.
81 - رسالة في وجوب غسل يوم الجمعة.
82 - رسالة في وجوب القنوت.
83 - رسالة في وجود الكلي الطبيعي.
84 - الرسالة المحمدية.
85 - الرسالة المنطقية وشرحها.
86 - الرسالة النحوية.
87 - السر المكتوم في حكم تعلم النجوم.
88 - السلافة البهية في الترجمة الميثمية.
89 - الشافي في الحكمة النظرية.
90 - شرح اثنا عشرية البهائي.
91 - شرح الباب الحادي عشر.
92 - شرح تهذيب الأصول.
93 - شرح خطبة الاستسقاء.
94 - شرح حديث نية المؤمن خير من عمله.
95 - الشهاب الثاقب في الرد على النواصب.
96 - شهادة الأعداء لسيد الأولياء.
97 - شروق الأنوار.

14
98 - صوب - سوط صوب - النداء في تحقيق البداء.
99 - العشرة الكاملة في الاجتهاد والتقليد.
100 - غاية الطالب في اثبات الوصية لعلي بن أبي طالب عليه السلام.
101 - فحائل الاعجاز في التعمية والالغاز.
102 - فهرست آل بابويه وأحوالهم.
103 - فهرست علماء بحرين.
104 - الفوائد الحسان في أخبار صاحب الزمان عليه السلام.
105 - الفوائد النجفية.
106 - قوة الاحياء في تلخيص الاحياء.
107 - كشف القناع عن حقيقة الاجماع.
108 - كنه الصواب وفصل الخطاب في أحكام أهل الكتاب والنصاب.
109 - مجمع المناقب.
110 - المسائل الخلافية في الحج.
111 - معراج أهل الكمال إلى معرفة أحوال الرجال، طبع بتحقيقنا سنة 1412.
112 - مناسك الحج مختصرة.
113 - مناسك الحج مختصرة أخرى.
114 - منظومة في علم الكلام.
115 - ناظمة الشتات فيما يستحب تأخيره عن أوائل الأوقات.
116 - نظم الباب الحادي عشر.
117 - نفخة العبير في طهارة البير.
118 - النكت البديعة في فرق الشيعة.
119 - النكت السنية في المسائل المازنية في النحو.
120 - هداية القاصدين إلى أصول الدين.

15
121 - اليواقيت في لعن الطواغيت.
122 - التعليقة على شرح الدراية للشهيد الثاني، ذكرها في المعراج.
123 - رسالة في الرؤية، ذكرها في المعراج.
هذه جملة ما عثرت عليها من تآليفه القيمة، ولعل هناك عدة أخرى من الكتب
والرسائل، كما أنه له قدس سره إجازات إلى عدة من تلامذته ومعاصريه، ومع
الأسف جدا أن المعراج والبلغة والفهرست هي المطبوعة من تصانيفه، فبقية آثاره لا
زالت مخطوطة، بل لم نعثر على جملة كثيرة منها، ولعلها مبثوثة ومختفية في زوايا
المكتبات الشخصية، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق رجالا لكشف هذه الآثار
القيمة وتحقيقها واخراجها إلى عالم النور، والله الموفق والمعين.
أشعاره الرائعة:
كان المترجم علامة في جميع الفنون، حسن التقرير، عجيب التحرير، خطيبا،
شاعرا مفوها، كذا وصفه تلميذه الشيخ السماهيجي قدس سره.
وقال في لؤلؤة البحرين (ص 9): وكان شيخنا المذكور شاعرا مجيدا، وله شعر
كثير متفرق في ظهور كتبه وفي المجاميع، وكتابه أزهار الرياض ومراثي على
الحسين عليه السلام جيدة.
ولقد هممت في صغر سني بجمع أشعاره وترتيبها على حروف المعجم في ديوان
مستقل، وكتبت كثيرا منها الا أنه حالت الأقضية والأقدار بخراب البحرين بمجئ
الخوارج إليها وترددهم مرار عليها حتى افتتحوها قهرا، وجرى ما جرى من
الفساد، وتفرق أهلها منها في أقطار كل بلاد انتهى.
وقال في أنوار البدرين (152) بعد نقل عبارة اللؤلؤة قلت: قد جمع أشعاره كلها
في ديوان مستقل تلميذه السيد علي آل أبي شبانة بإشارته، كما ذكره ابنه السيد أحمد

16
في تتمة الأمل. ومن جملة أشعاره هي:
نفسي بآل رسول الله هائمة * وليس إذ همت فيهم ذاك من سرف
كم هام بهم قبلي جهابذة * قضية الدين لا ميلا إلى الصلف
لا غروهم أنجم العليا بلا جدل * وهم عرانين بيت المجد والشرف
شم المعاطس من أولاد حيدرة * من البتول تجافوا وصمة الكلف
سباق غايات أرباب السباق وهم * جواهر القدس تزري لؤلؤ الصدف
بهم عزامي وفيهم فكرتي ولهم * عزيمتي وعليهم في الهوى لهفي
فلست عن مدحهم دهري بمشتغل * ولست عن حبهم عمري بمنصرف
وفيهم لي آمال اؤملها * في الحشر إذ تنشر الأعمال في الصحف
وله أيضا في ذكر النواصب:
خلع النواصب ربقة الايمان * فصلاتهم وزناهم سيان
قد جاء ذا في واضح الآثار عن * آل النبي الصفوة الأعيان
وله أيضا:
قل للثريا هل رأت لي خلة * لما ارتقيت لها وبت ضجيعها
ان أمحلت أرض أقول لأهلها * اني لأرضكم أكون ربيعها

17
وله أيضا:
قد كنت في شرخ الشباب بصحة * ونعمة طابت بها الأكوان
الروض أنف بالمكارم والعلا * والحوض من نعمائها ملآن
ذهبت ولم أعرف لها أقدارها * والماء يعرف قدره الظمآن
وله أيضا:
اني وان لم يطب بين الورى عملي * فلست أنفك مهما عشت عن أملي
وكيف أقنط من عفو الاله ولي * وسيلة عنده حب الإمام علي
إلى غيرها، وان أردت نبذة أخرى من أشعاره فراجع أعيان الشيعة وأنوار
البدرين.
ولادته ووفاته:
قال المترجم في آخر رسالته فهرست علماء البحرين (ص 79): ان مولدي في
شهر رمضان من السنة الخامسة والسبعين والألف على ما سمعته من والدي دام ظله
في ليلة النصف من شهر رمضان بطالع عطارد.
وتوفي في اليوم السابع عشر من شهر رجب للسنة الحادية والعشرين بعد المائة
والألف، وعمره آنذاك أربع وأربعون سنة وعشرة أشهر.
ودفن في مقبرة الشيخ ميثم بن المعلى جد الشيخ ميثم العلامة المشهور، بقرية
الدونج بالنون والجيم من قرى الماحوز، نقل من بيت سكناه البلاد القديم إليها لكونه
منها.

18
حول الكتاب:
هذا الكتاب الذي بين يديك من الكتب القيمة التي ألفت في اثبات امامة أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد جمع المؤلف أربعين حديثا من أحاديث أهل
السنة الدالة على اثبات إمامته وخلافته (عليه السلام) بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وناقش آراءهم
السخيفة حول الإمامة.
قال المحقق البحراني في اللؤلؤة (ص 10): ومنها كتاب أربعين الحديث في
الإمامة من طرق العامة، وقد كان عندي ثم ذهب في بعض الوقائع التي وقعت علي
وعلى كتبي، وهذا الكتاب من أحسن مصنفاته، ونقل شيخنا المحدث الصالح أنه
أهداه للشاه سلطان حسين حيث أنه صنفه باسمه، فأعطاه ألفي درهم يعني عشرين
تومانا، قال: وما أنصفه.
وقال المحقق الطهراني في الذريعة (1: 418): الأربعون حديثا في الإمامة من
طرق العامة وبيان دلالتها مشروحة، للعلامة أبي الحسن سليمان بن الشيخ عبد الله
بن علي بن الحسن بن أحمد بن يوسف بن عمار الماحوزي البحراني صاحب البلغة
والمعراج، ومن تلاميذ العلامة المجلسي، والمتوفى سنة (1121) ذكره في اجازته
للمولى محمد رفيع البيرمي سنة (1111) وفي اجازته للمولى عبد الله السماهيجي.
ثم قال: وهو موجود في خزانة كتب الشيخ أحمد بن صالح آل طعان البحراني كما
حدثني به، وذكر أن اسمه مدارج اليقين في شرح الأربعين انتهى.
أقول: لم يتحقق صحة هذا الاسم، ولعله أوهمه عبارة المؤلف في مقدمة الكتاب،
حيث قال: فلم أزل أتدرج في مدارج اليقين انتهى.
اختار المؤلف في كتابه هذا أربعين حديثا كلها من كتب أهل السنة الدالة على
امامة مولانا أمير المؤمنين عليه السلام، وتنادي بجلالة قدره وعظمته، وتخبر بأن التمسك

19
بالعترة الطاهرة موجب للفوز في الآخرة.
وذكر في ذيل أكثرها أخبارا اخر بمعناها، ونبه في معظمها على وجه دلالتها
وحقيقة مغزاها، وأطلق عنان القلم في بعضها حق الاطلاق، وسجل على المخالفين
في دفع ترهاتهم الغير الرائجة عند الجهابذة الحذاق.
ولعمري أن هذا الكتاب من الكتب القيمة المؤلفة في موضوعه، وفيه تحقيقات
وتدقيقات وتتبعات لم أرها في غير هذا الكتاب، ولقد خدم التشيع بتأليفه هذا
الكتاب القيم، فجزاه الله خير الجزاء.
أقول: وجاء في الصفحة الأولى من النسخة المخطوطة لفضيلة الشيخ حلمي
السنان القطيفي ما هذا نصه: أخبرني بعض الاخوان الصادقين، عن العالم الفاضل
الشيخ ياسين البحراني رحمه الله أنه وقع في بعض السنين في أصفهان وباء عظيم هلك
فيه خلق كثير، فرأى بعض الصالحين أحد الأولياء أو أحد الأئمة الطاهرين يقول له:
لا يرتفع عنكم هذا الوباء الا أن تكتبوا من كتاب الأربعين للشيخ سليمان البحراني
أربعين نسخة، فأمر الپادشاه أن تكتب، فارتفع عنهم الوباء.
منهج التحقيق:
قمت بأعباء استنساخ الكتاب ومقابلته مع النسخة المخطوطة لخزانة مكتبة
المرحوم آية الله العظمى المرعشي النجفي قدس سره، والنسخة مستنسخة في حياة
المؤلف بيد أحد تلامذته، وهو الشيخ يوسف بن محمد علي العين الداري في سنة
(1117) ه‍ ق
وقال في آخر الكتاب في وصف أستاذه: قطب دائرة أعيان الأعيان، وعمدة
العلماء على الاطلاق في هذا الزمان، وخليفة خلفائه امناء الرحمان، شيخنا ومفيدنا
وأستاذنا وأميرنا ورئيسنا.

20
وأصل النسخة محفوظة في خزانة المكتبة برقم: 169.
ثم بعد الاستنساخ والمقابلة مع النسخة المذكورة، عثرت على نسخة مخطوطة
قيمة، مكتوبة قريبة من عصر المؤلف قدس سره وعليها تملكات بعض أساطين
العلم من علماء البحرين والقطيف، كالشيخ محمد بن الشيخ مبارك بن علي بن ناصر
بن حميدان الجارودي في سنة (1252) والشيخ حسن بن محمد بن مبارك بن علي،
والشيخ درويش علي بن إبراهيم طوق، والشيخ منصور بن محمد علي بن محمد
الجشي، وغيرهم، وهذه النسخة من متملكات مكتبة المحقق فضيلة الشيخ حلمي
السنان القطيفي حفظه الله، فقمت ثانيا بمقابلة الكتاب مع هذه النسخة النفيسة.
وقد بذلت الوسع والطاقة في تحقيق الكتاب، وتصحيحه، واستخراج المصادر
المنقولة منها. وأرجو من العلماء والأفاضل الكرام الذين يراجعون الكتاب أن
يتفضلوا علينا بما لديهم من النقد وتصحيح ما لعلنا وقعنا فيه من الأخطاء
والاشتباه، فان الانسان محل الخطأ والنسيان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
السيد مهدي الرجائي
مولد الزهراء عليها السلام - 1415 ه‍ ق
قم المشرفة - ص ب 753 - 37185

21
الصفحة الأولى من النسخة المرعشية

22
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي هدانا عند تفرق الأهواء للتمسك بالثقلين: كتاب الله، والعترة
الطاهرة، وألهمنا عند تشعب (1) المذاهب والآراء التشبث (2) بالعروة الوثقى
والحجة الظاهرة، وغرس في حدائق قلوبنا غرائس ألطافه، فما زالت حجتنا دامغة
للعقائد البائرة، مدحضة للمذاهب الحائرة، وغذانا في عالم ألست بربكم (3) بأغذية
محبة أهل البيت، وخلقنا من فاضل طينتهم الفاخرة.
والصلاة على محمد ذي المعاجز الباهرة، والبراهين القاهرة، والمعالم العامرة،
والأعراق الطاهرة، والأخلاق الزاهرة، وآله النجوم السائرة، والأفلاك الدائرة.
أما بعد: فيقول الفقير إلى اللطف السبحاني، المعتصم بالامداد الرباني أبو الحسن
سليمان بن عبد الله البحراني (4): إن الله سبحانه وله الحمد هداني إلى الصراط
المستقيم، وسلك بي المنهاج القويم، والسبيل المقيم، ووفقني عند اختلاف الأهواء
واضطراب الآراء للتمسك بأهل بيت نبيه الطاهرين، وأيدني بعناياته الربانية، فلم



(1) التشعب: التفرق.
(2) التشبث: التعلق.
(3) إشارة إلى قوله تعالى (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم
على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى). الأعراف: 172.
(4) في الصحاح (2: 585): البحرين بلد، والنسبة إليه بحراني. وقال الأزهري: إنما ثنوا
البحرين، لأن في ناحية قراها بحيرة على باب الأحساء وقرى هجر، بينها وبين البحر
الأخضر الأعظم عشرة فراسخ، وقدرت البحيرة ثلاثة أميال في مثلها، ولا يغيض ماؤها،
وهو راكد زعاق، وهذه النواحي كلها بلاد العرب، وهي وراء البصرة تتصل بأطراف
الحجاز، وهي على ساحل البحر المتصل باليمن والهند، بالقرب من جزيرة قيس بن عميرة.
كذا في تاريخ ابن خلكان (2: 150) وفيه نظر لا يخفى على المتتبع (منه).
23
أزل أتدرج في مدارج اليقين.
وقد وفقني الله سبحانه لمطالعة جملة من كتب المخالفين وأصحتهم، وملاحظة
طائفة من دساتير هؤلاء المخذولين، ومصنفات أجلتهم، مثل معجم أبي القاسم
الطبراني (1)، ومطالب السؤول لكمال الدين محمد بن طلحة الشامي الشافعي (2)،
والفصول المهمة لنور الدين علي بن محمد المكي المالكي (3)، وكفاية الطالب للشيخ
أبي عبد الله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي (4)، والصواعق المحرقة لابن حجر



(1) المراد به المعجم الأوسط، وله المعجم الأصغر والأكبر، وهو من مشائخ شيخنا أبي
جعفر محمد بن علي بن بابويه، وله مع أبي الجعابي قصة عجيبة مذكورة في تاريخ دمشق و
غيره، وقد أوردناها في الأزهار (منه).
وأبو القاسم هو سليمان بن أحمد بن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني، كان حافظ
عصره، رحل في طلب الحديث من الشام إلى العراق والحجاز ومصر وبلاد الجزيرة
الفراتية، وأقام في الرحلة ثلاثا وثلاثين رحلة، وسمع الكثير، وعدد شيوخه ألف شيخ، وله
المصنفات الممتعة النافعة الغريبة، منها المعاجم الثلاثة، وهي أشهر كتبه، ولد سنة ستين
ومائتين بطبرية الشام، وتوفي بأصفهان سنة ستين وثلاثمائة.
(2) هو محمد بن طلحة بن محمد بن الحسن القرشي العدوي النصيبي الشافعي، محدث فقيه
أصولي عارف بعلم الحروف والأوفاق، سمع بنيسابور من المؤيد، وولي القضاء بنصيبين،
ثم الخطابة بدمشق، وحدث ببلاد كثيرة، ولد سنة (582) ه‍ ق، وتوفي بحلب سنة (652).
(3) هو نور الدين علي بن محمد بن أحمد بن عبد الله المالكي المكي الشهير بابن الصباغ،
كان من أعلام المذهب المالكي في زمانه، ذو نباهة واسعة في العلوم العربية والفقه و
الأصول، واطلاع غزير في علم الحديث، ومن أهل الأمانة في النقل والرواية، وله
مؤلفات كثيرة منها كتابه الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة (عليهم السلام)، ولد سنة (784) بمكة
وتوفي سنة (855).
(4) هو الشيخ العلامة، فقيه الحرمين، مفتي العراقين، محدث الشام، صدر الحفاظ، أبو
عبد الله محمد بن يوسف بن محمد القرشي الشافعي الكنجي، توفي سنة (658).
24
المكي، (1) وفرائد السمطين للحموي (2)، وجامع الأصول لابن الأثير (3) الجزري
الشافعي (4)، وغيرها.
فوجدتها مشتملة على أحاديث، فخرجتها (2) غير كاذب، وعددها يفوت وهم
الحاذق والحاسب، تصرح بامامة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) وخلافته، وتنادي
بجلالة قدره وعظمته، وتخبر بأن التمسك بالعترة الطاهرة موجب للفوز في الآخرة،
وأنهم كسفينة نوح وباب حطة، وناهيك بها منقبة فاخرة، ومكرمة واضحة ظاهرة.
فأحببت أن أجمع مختصرا محتويا على لمع من الأخبار، مشتملا على غرر من تلك
الآثار.
هذا وأفواج العوائق المتراكمة تمنع عن تحقيق المرام، وأمواج العلائق المتلاطمة
تحجب عن نيل ذلك المقام، والدهر يماطل كما يماطل الغريم، وحوادث الأقدار لا
تنام ولا تنيم.
فذكرت - بتوفيق الله عز مجده وسلطانه - طائفة من تلك الأخبار في هذه



(1) هو أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد العسقلاني، الشهير بابن حجر،
محدث، مؤرخ، أديب، شاعر، زادت تصانيفه التي معظمها في الحديث والتاريخ والأدب و
الفقه على مائة وخمسين مصنفا، ولد بمصر سنة (773) وتوفي سنة (852).
(2) هو إبراهيم بن محمد بن المؤيد بن حموية الجويني، كان دينا وقورا، مليح الشكل،
جيد القراءة، وعلى يده أسلم غازان الملك، وأكثر الرواية عن جماعة بالعراق والشام و
الحجاز، ولد سنة (644) وتوفي بخراسان سنة (730).
(3) هو أبو السعادات المبارك بن الأثير صاحب كتاب النهاية وغريب الحديث (منه).
(4) هو المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري ثم
الموصلي الشافعي، يكنى أبا السعادات، ويلقب مجد الدين، ويعرف بابن الأثير، كان عالما
فاضلا، قد جمع بين علم العربية والقرآن والنحو واللغة والحديث والفقه، ولد سنة
(544) وتوفي سنة (606).
(5) في (س): فجر حجتها.
25
الرسالة، ورسمت جملة مقنعة من تلك الآثار في هذه المقالة.
واخترت منها أربعين حديثا، عملا بما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) من قوله: (من حفظ على
أمتي أربعين حديثا (1) مما يحتاجون إليه في أمور دينهم، بعثه الله عز وجل يوم
القيامة فقيها عالما) (2).
وهذا الحديث مستفيض بين الفريقين، مشهور عند القبيلتين، بل نظمه بعضهم في
سلك الأخبار المتواترة، ورواه بمتون متقاربة وأسانيد متغايرة (3).
ثم اني ذكرت في ذيل أكثرها أخبارا اخر بمعناها، ونبهت في معظمها على وجه
دلالتها، وحقيقة مغزاها، وأطلقت عنان القلم في بعضها حق الاطلاق،
وسجلت (4) على المخالفين في دفع ترهاتهم (5) الغير الرائجة عند الجهابذة الحذاق.
وحيث خرج - بتوفيق الله - من القوة إلى الفعل، وحان حين ختامه، وبرزت
أزهاره من أكمامه، أحببت أن يعلو قدره، ويسموا في سماء الرفعة بدره.



(1) ذكر بعض أصحابنا أن المراد أربعون حديثا في أهل البيت (عليهم السلام).
(2) رواه العلامة المتقي الهندي بطرق متكثرة في كتابه كنز العمال 10: 224 - 225. (3) راجع كتاب الخصال للصدوق ص 541 - 544. روى العامة عن أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من حفظ على أمتي أربعين حديثا من سنتي أدخلته يوم
القيامة في شفاعتي.
وعن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من نقل عني إلى من لم يلحقني من
أمتي أربعين حديثا، كتب في زمرة العلماء، وحشره في جملة الشهداء، ومن كذب علي
متعمدا فليتبوء مقعده من النار.
وروى القضاعي في صدر كتاب الشهاب عنه صلوات الله عليه وآله أنه قال: من حفظ
من أمتي أربعين حديثا سماه الله تعالى في السماء وليا، وفي الأرض فقيها، وكنت له
شفيعا (منه).
(4) مأخوذ من تسجيل القاضي (منه).
(5) الترهات: الأباطيل، واحدتها ترهة، اللسان.
26
فرسمت على صفائح سبيكته سامي ألقاب من ألقى إليه الملك مقاليده، وملكه
المجد طريفه وتليده (1)، وسمت باسمه رؤوس المنابر في الآفاق، واستوى في سماء
الرفعة على سرير الملك بالإرث والاستحقاق المخصوص من العناية السبحانية
بالنفس القدسية، المكرم من الحضرة الربانية بالألطاف الخفية، والرئاسة الانسية،
مزيح ظلم الظلم عن بساط البسيطة بكواكب مواكبه، ومجلي غمام الغموم بشموس
غرائب الرغائب من نفائس مواهبه.
إذا تغلغل فكر المرئ في طرف * من مجده غرقت فيه خواطره
حلو خلائقه شوس حقائقه * تحصى الحصى قبل أن تحصى مآثره
وليس بدعا فان البحر راحته * جودا وان عطاياه جواهره
أعظم ملوك الأرض شأنا، وأعلاهم منزلا ومكانا، الذي تفتخر أعاظم
السلاطين باستلام سدة بابه، وتتبجح (2) أكابر الخواقين بتعفير الوجوه على تراب
أعتابه، وهو السلطان بن السلطان بن السلطان، أبو المظفر شاه سلطان حسين بها
درخان، خلد الله سبحانه على مفارق الأنام ظل سلطنته القاهرة، وأطلع في سماء
الرفعة والجلال شموس إقباله الزاهرة، وأجرى آثار معاليه على صفحات الأيام،
وربط أطناب دولته بأوتاد الخلود والدوام.
وخدمت به حضرته العلية التي تطوف بكعبتها الرجال، وتشد إليها الرحال،
ولا زالت محط رحال الأكابر والأفاضل، ومخيم أرباب الماثر والفضائل.
فان صادف من الحضرة السلطانية محل القبول، فهو حري بأن يسير في الآفاق
مسير الصبا والقبول، والله سبحانه أسأل أن يديم بهجة الدنيا بدوام أيامه وإدامة
انعامه، وأن يجعل دولته المنيعة ممتدة الأطناب، مرتفعة الأعلام، إلى ظهور



(1) التالد: المال القديم الأصلي الذي ولد عندك، وهو نقيض الطارف (منه). (2) التبجح: بالجيم المشددة بعد الباء الموحدة ثم الحاء المهملة بمعنى الافتخار (منه).
27
الصاحب المنتظر (ع)، انه تعالى القادر على ما يشاء، وبيده أزمة الأشياء، وهو
حسبي ونعم الوكيل.
الحديث الأول
[حديث من كنت مولاه فعلي مولاه]
روى أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني (1) في معجمه، وهو عندي بنسخة
صحيحة جدا (2)، قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن كيسان الثقفي المدني
الاصفهاني سنة تسع وتسعين ومائتين، حدثنا إسماعيل بن عمرو البجلي، حدثنا
مسعر، عن طلحة بن مصرف، عن عمير بن سعد، قال: شهدت عليا على المنبر
ناشدا (3) أصحاب رسول الله (ص): من سمع رسول الله (ص) يقول يوم غدير خم ما
قال؟ فليشهد، فقام إثنا عشر رجلا منهم أبو هريرة وأنس بن مالك، فشهدوا أنهم
سمعوا رسول الله (ص) يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد



(1) الطبراني: بفتح الطاء المهملة و الباء الموحدة والراء وبعد الألف نون، نسبة إلى طبرية
الشام، وأما النسبة إلى طبرستان فالطبري، قاله ابن خلكان (2: 407) وغيره (منه).
(2) بطريقنا إلى شيخنا الصدوق أبي جعفر محمد بن علي بن بابويه القمي روح الله روحه،
نروي أحاديث هذا الشيخ، وهو من شيوخ العامة وثقاتهم، روى عنه الصدوق في الأمالي
أحاديث كثيرة (منه).
(3) المناشدة: أن يقول نشدتكم الله، أي: سألتكم به، وأنشدكم الله وبالله، أي: أقسم
عليكم به، ويقال: نشدته نشدة ونشدانا وناشدته مناشدة. وتعديته إلى مفعولين
شائعة: إما لتضمنه معنى التذكير، أو لأنه بمنزلة دعوت، حيث قالوا: نشدتك الله وبالله، كما
قالوا: دعوت زيدا وبزيد. كذا في النهاية الأثيرية (5: 53) وغيرها. وأما نشدتك بالله
فخطأ (منه).
28
من عاداه (1).
أقول: هذا من الأحاديث المشهورة (2)، وقوله صلى الله عليه وآله (من كنت
مولاه فعلي مولاه) من الأخبار المستفيضة التي لم ينفرد أحد بايرادها دون أحد،
بل أوردوها أصحاب الأصحة جميعهم بطرق متعددة ومتون متقاربة حتى نزلت
منزلة المتواتر الذي لا يتداخله الريب، ولا يتطرق إليه اللبس، بل هومن أعلى
مراتبه عند التحقيق، كما يشهد به الاستقراء والتتبع لمسانيد الخصوم وأصحتهم (1).
روى أحمد بن حنبل، وهو من عمدة محدثي القوم وأحد أئمتهم في مسنده، وموفق
الخوارزمي (4) في مناقبه، عن ابن عباس، عن بريدة الأسلمي، قال: غزوت مع
علي (ع) إلى اليمن، فرأيت منه جفوة، فقدمت على النبي (صلى الله عليه وآله)، فذكرت عليا
(ع) فنقصته، فرأيت وجه رسول الله (ص) قد تغير، وقال: يا بريدة ألست أولى
بالمؤمنين من أنفسهم (5)؟ قلت: بلى يا رسول الله، قال: من كنت مولاه فعلي



(1) رواه عن الطبراني ابن المغازلي في المناقب ص 26 - 27 برقم: 38، وأبو نعيم في حلية
الأولياء 5: 26 - 27 ط دار الفكر، وأيضا في كتابه أخبار أصفهان 1: 107 ط ليدن.
(2) روى حديث المناشدة بهذا السند والمتن جماعة من أعلام السنة، منهم الحافظ
النسائي في الخصائص ص 22 ط مصر، وابن كثير في البداية والنهاية 5: 211 ط القاهرة،
والحافظ نور الدين الهيثمي في مجمع الزوائد (صلى الله عليه وآله): 108 ط القاهرة، وابن حجر في الكاف
الشاف 26: 29 ط مصر وغيرهم.
(3) راجع تفصيل ذلك إلى كتاب إحقاق الحق ج 2: 426 - 465 و ج 3: 322 - 327 و
ج 6: 225 - 304 و ج 16: 559 - 587 و ج 21: 1 - 93.
(4) هو الشيخ الصدوق المعظم أخطب خطباء خوارزم موفق بن أحمد المكي تلميذ الامام
الزمخشري، واستاد العلامة المطرزي، وبطريقنا إلى الشيخ الجليل أسعد بن عبد القاهر
نروي كتب هذا الشيخ ومصنفاته (منه).
(5) تقديم المقدمة الأولى، وهو قوله (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ينادي على أن
المراد بالأولى الأولى بالتصرف المطلق، كما يأتي بيانه في حديث الغدير (منه)
29
مولاه (1).
وروى أحمد بن حنبل أيضا في مسنده، عن ابن عباس، عن بريدة الأسلمي،
قال: بعثنا النبي (ص) مع علي في سرية (2)، فلما قدمنا قال: كيف رأيتم صحابة
صاحبكم؟ قال: فأنا شكوته أو شكاه غيري، فرفعت رأسي وكنت رجلا
مكبابا (3)، فإذا النبي (ص) قد احمر وجهه، قال هو يقول: من كنت وليه فعلي
وليه (4).
وروى الترمذي في صحيحه - وهو من عظماء القوم وأساطين محدثيهم - عن
عمران بن الحصين، قال: بعث النبي (صلى الله عليه وآله) جيشا، واستعمل عليهم علي بن أبي
طالب (ع)، فمشي في السرية وأصاب جارية، فأنكروا عليه، وتعاقد عليه أربعة
من أصحاب رسول الله (ص)، فقالوا: إذا لقينا النبي (صلى الله عليه وآله) أخبرناه بما صنع علي، وان
المسلمون إذا رجعوا من سفر بدأوا بالنبي (صلى الله عليه وآله) فسلموا عليه، ثم انصرفوا إلى
رحالهم.
فلما قدمت السرية سلموا على النبي (صلى الله عليه وآله)، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول الله
ألم تر إلى علي بن أبي طالب صنع كذا وكذا، فأعرض عنه النبي (صلى الله عليه وآله)، فقام الثاني
فقال مثل مقالته، فأعرض عنه، ثم قام الثالث فقال مثل مقالتهما، فأعرض عنه، ثم
قام الرابع فقال مثل ما قالوا، فأقبل النبي (صلى الله عليه وآله) والغضب يعرف في وجهه وقال: ما



(1) رواه أحمد بن حنبل في كتاب المناقب كما في إحقاق الحق 6: 261، والمناقب
للخوارزمي ص 79 ط تبريز، ومناقب ابن المغازلي ص 24 - 25، و مستدرك الحاكم 3:
110، وميزان الاعتدال 2: 142، وابن كثير في البداية و النهاية 5: 209.
(2) السرية: أصغر من الجيش، قيل: أقلها خمسة وأكثرها أربعمائة. وقال شيخنا البهائي
في الأربعين: السرية القطعة من الجيش من خمسة إلى ثلاثمائة أو أربعمائة انتهى (منه).
(3) المكب: الكثير النظر إلى الأرض كالمكباب.
(4) مسند أحمد بن حنبل 5: 350 و 358.
30
تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي (1)؟ ان عليا مني
وأنا منه، وهو ولي كل مؤمن بعدي (2).
وروى أحمد بن حنبل في المسند المذكور عن بريدة، قال: بعث
النبي (صلى الله عليه وآله) بعثين (3) إلى اليمن، على أحدهما علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعلى الاخر
خالد بن الوليد، فقال صلى الله عليه وآله: إذا التقيتم فعلي على الناس، وإذا افترقتما
فكل واحد منكما على جنده.
قال: فلقينا زبيد (4) من أهل اليمن فاقتتلنا، فظهر المسلمون على المشركين،
فقتلنا المقاتلة، وسبينا الذرية، فاصطفى علي من السبي امرأة لنفسه، قال بريدة



(1) استفهام انكاري (منه).
(2) صحيح الترمذي 5: 590 - 591 برقم: 3713. ورواه عز الدين عبد الحميد بن أبي
الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة (2: 450 ط مصر) مع تعبير لا يخل بالمراد وزيادة،
وهذا لفظه:
بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) خالد بن الوليد في سرية، وبعث عليا (عليه السلام) في سرية أخرى، و
كلتاهما إلى اليمن، وقال: ان اجتمعتا فعلي على الناس، وان افترقتما فكل واحد منكما على
جنده، فاجتمعا وأغارا وسبيا سباء وأخذا أموالا وقتلا ناسا، وأخذ علي (عليه السلام) جارية
اختصها لنفسه، فقال خالد بن الوليد لأربعة من المسلمين، منهم بريدة الأسلمي: أن اسبقوا
لرسول الله (صلى الله عليه وآله) فاذكروا له كذا وكذا أمورا عددها على علي.
فسبقوا إليه، فجاء واحد منهم من جانبه، فقال: ان عليا فعل كذا وكذا، فأعرض عنه،
فجاء بريدة الأسلمي، فقال: يا رسول الله علي فعل كذا وكذا وأخذ جارية لنفسه، فغضب
(عليه السلام) حتى احمر وجهه وقال: دعوا لي عليا يكررها، ان عليا مني وأنا منه، وان حظه في
الخمس أكثر مما أخذ، وهو ولي كل مؤمن ومؤمنة بعدي.
ثم قال ابن أبي الحديد: رواه أحمد في المسند غير مرة، ورواه في كتاب فضائل علي ما
رواه أكثر المحدثين (منه).
(1) قولهم (بعث في بعث فلان) أي: في جيشه الذي بعث فيه، والبعوث: الجيوش.
(2) في المسند: بني زيد.
31
كتب معي خالد بن الوليد إلى النبي (صلى الله عليه وآله) يخبره بذلك.
فلما أتيت النبي (صلى الله عليه وآله) دفعت الكتاب فقرئ عليه، فرأيت الغضب في وجهه،
فقلت: يا رسول الله هذا مكان العائذ بك، بعثتني مع رجل وأمرتني أن أطيعه
ففعلت ما أرسلت به، فقال: يا بريدة لا تقع في علي، فإنه مني وأنا منه، وهو وليكم
بعدي (1).
وهذه الأخبار صريحة في إمامته وخلافته، وظاهرة في تعيينه للخلافة، لا
ينكرها الامن يريد تغطئه وجه الحق بالخلف، وستر نور الشمس بالكف (2)



(1) مسند أحمد بن حنبل 5: 356. قوله (وهو وليكم بعدي) أقول: هذا كما ترى نص في
إمامته (عليه السلام)، ورده ابن حجر في صواعقه (ص 26) بأن في طريقه الأجلح، قال: وان
وثقه ابن معين، لكن ضعفه غيره على أنه شيعي.
وأنت خبير بأنه مع اعترافه بتوثيق ابن معين له فلا وجه لرده، لأن المفهوم من كلام
أعلامهم، كالتفتازاني في التلويح، والفخر الرازي في المحصول وغيرهما، أنه من أضبط
محدثيهم وأعلمهم بالرجال، وقد اثنا عليه النووي في كتاب تهذيب الأسماء واللغات ثناء
عظيما، وكذا غيره من أئمتهم.
فليت شعري كيف ترك ابن حجر الاعتماد على تزكيته هنا مع اعتماده عليها في غير
موضع؟ ما هذا الا عناد صريح. وأما قدحه فيه بالتشيع، فعلى تقدير تمامه، فليس مذهب
التشيع قادحا في الرواية، كما صرح به الذهبي في كتاب ميزان الاعتدال في ترجمة أبان بن
تغلب وغيره من أئمتهم (منه).
(2) ومن أطرف أحوالهم وأعجب ما رأيت من عنادهم أن ابن حجر المكي في
صواعقه (ص 26) أجاب عن هذا الخبر، بأن الراوي يجوز أن يكون رواه بالمعنى بحسب
عقيدته، قال: وعلى تقدير أنه رواه بلفظه يتعين تأويله على ولاية خاصة، نظير قو له
(صلى الله عليه وآله): أقضاكم علي. على أنه ان لم يحتمل التأويل فالاجماع على ولاية أبي بكر قاض
بالقطع بحقيتها لأبي بكر وبطلانها لعلي، لأن مفاد الاجماع قطعي، ومفاد خبر الواحد ظني،
هذا حاصل كلامه.
وليت شعري كيف ذهب عليه، وعلى أي تقدير الرواية بالمعنى كما احتمله فالمدعى
حاصل، لأن المحققين منهم على جواز الرواية بالمعنى للضابط العارف بمعاني الألفاظ، و
حينئذ لا يتجه الاحتمال.
على أن احتمال الرواية بالمعنى على عقيدة الراوي خاصة إذا كان قادحا في الاحتجاج
بالأخبار لم يختص بهذا الخبر، بل يجري في جميع الأخبار، ولا أحد يلتزم ذلك، لأدائه إلى
انسداد التمسك بجميع الأخبار.
والحمل على ولاية خاصة غير مستقيم، لما فيه من التحكم، ولاطلاق الولاية فيقتضي
العموم، ولأن المطلق ينصرف إلى الكامل وهي الإمامة، والحمل على ولاية القضاء لا
يستقيم بامامة غيره، لأن تعبير القاضي إلى الامام اجماعا، ولم يدع أحد أن القاضي كان
بعده (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) بالنص والخليفة غيره (منه).
32
وليس يصح في الأفهام شئ * إذا احتاج النهار إلى دليل
ولنعم ما قال الفاضل الجليل والوزير السعيد بهاء الدين علي بن عيسى بن أبي
الفتح الأربلي (1)، من عظماء علمائنا، في كتابه كشف الغمة، وهو كتاب حسن لم
يعمل مثله.
حيث قال ما نصه: ومن أغرب الأشياء وأعجبها أنهم يقولون: انه (صلى الله عليه وآله) قال في
مرضه: مروا أبا بكر يصلي بالناس، وهو نص (2) في توليته الأمر، وتقليده أمر



(1) كان عالما فاضلا محدثا ثقة شاعرا أديبا منشأ، جامعا للفضائل والمحاسن، وكان وزيرا
لبعض الملوك، وكان ذا ثروة وشوكة عظيمة، فترك الوزارة واشتغل بالتأليف والتصنيف
والعبادة والرياضة في آخر أمره، توفي ببغداد سنة (693).
(2) في المحصول للفخر الرازي والمستصفى للغزالي: ان الصحابة قاسوا الخلافة على التقديم
للصلاة، وأنت تعلم أنه ينافي كونه نصا. ولا يذهب عليك أنه قياس من غير جامع معتد
به، كيف؟ وقد رووا عنه (صلى الله عليه وآله) قال: صلوا خلف كل بر وفاجر، واتفقوا على جواز الصلاة
خلف الفاسق والمبتدع، ولم ينقل اشتراط العدالة في امام الصلاة الا عن عبد الله البصري
من المعتزلة.
وقد رووا في أصحتهم أنه (صلى الله عليه وآله) صلى خلف عبد الرحمن بن عوف، ولم يدع أحد دلالته
على الخلافة، مع استحقاقه ما فيه من الزيادة من اقتداء الرسول به، فتأمل في مناقب ضاتهم
بعين البصيرة (منه).
33
الأمة، وهو على تقدير صحته لا يدل على ذلك، ومتى سمعوا حديثا في أمر
علي (عليه السلام) نقلوه على وجهه وصرفوه عن مدلوله، فأخذوا في تأويله بما هو أبعد
محتملاته، منكبين (1) عن المفهوم من صريحه، وطعنوا في راويه وضعفوه، وإن كان
من أعيان رجالهم، وذوي الأمانة في غير ذلك عندهم (2) انتهى ملخصا.
وسيأتي بسط الكلام في خبر الغدير، واستيفاء البحث فيه، وتقرير دلالته على
إمامته (عليه السلام) في الحديث الخامس عشر إن شاء الله تعالى.
الحديث الثاني
[قوله (صلى الله عليه وآله) هؤلاء حامتي وأهل بيتي]
أبو القاسم الطبراني في معجمه، قال: أخبرنا أحمد بن محمد بن مجاهد الاصفهاني،
حدثنا عبد الله بن عمر بن أبان، حدثنا زافر، عن طعمة بن عمرو الجعفري (3)، عن
أبي الجحاف (4) داود بن أبي عوف، عن شهر بن حوشب، قال: لقيت أم سلمة
أعزيها على الحسين بن علي (عليهما السلام).
فقالت: دخل علي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فجلس على منامة لنا، فجاءت فاطمة
بشئ فوضعته، فقال: ادعي لي حسنا وحسينا وابن عمك عليا، فلما اجتمعوا عنده
قال: هؤلاء حامتي وأهل بيتي، فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (5).



(1) نكب عن الطريق: عدل عنه (منه).
(2) كشف الغمة 1: 99.
(3) في (س): الجعفي.
(4) بالجيم قبل الحاء المهملة (منه).
(5) المعجم الصغير للطبراني 1: 65. وراجع إحقاق الحق 18: 366 - 373.
34
أقول: المنامة (1) هنا الدكان، وفي غيره هو القطيفة، قاله الهروي في كتاب
الغريبين.
والقطيفة: دثار مخمل، قاله الجوهري في صحاحه (2).
والخمل: هدب القطيفة، ونحوها أخملها جعلها ذات خمل، قاله الفيروزآبادي في
القاموس (3).
والحامة بالحاء المهملة وتشديد الميم: خاصة الرجل من أهله وولده.
الحديث الثالث
[نزول آية التطهير في أصحاب الكساء (ع):]
الطبراني في الكتاب المذكور، قال: حدثنا الحسن بن أحمد بن حبيب الكرماني
بطرسوس، حدثنا أبو الربيع الزهراني، حدثنا عمار بن محمد، عن سفيان
الثوري، عن أبي الجحاف داود بن أبي عوف، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد
الخدري (4)، في قوله عز وجل (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت
ويطهركم تطهيرا) (5) قال: نزلت في خمسة: في رسول الله صلى الله عليه وآله،



(1) لا يخفى أنه يمكن حمل المنامة هنا على المعنى الثاني وهو القطيفة، وإن كان الأول أولى
(منه).
(1) صحاح اللغة 4: 1417.
(2) القاموس 3: 371.
(3) الخدري بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة والراء المهملة بعدها: نسبة إلى بني
خدرة من الأنصار، واسمه سعد بن مالك، وهو من المرضيين عندنا، منسوب إلى بني
خدرة بضم الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة والراء المهملة أخيرا (منه).
(4) الأحزاب: 33.
35
وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين رضي الله عنهم (1).
أقول: الأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا (2).
روى أحمد بن حنبل في المناقب عن أبي سعيد الخدري نحوه (3).
وروى مسلم في صحيحه عن عائشة (4)، قالت: خرج النبي صلى الله عليه وآله
ذات غداة وعليه مرط مرحل (5) من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي (عليهما السلام)
فأدخله فيه، ثم جاء الحسين (عليه السلام) فأدخله فيه، ثم جاءت فاطمة عليها السلام
فأدخلها فيه، ثم جاء علي (عليه السلام) فأدخله فيه، ثم قال (عليه السلام): (إنما يريد الله ليذهب
عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (6).
وروى أحمد بن حنبل في مسنده عن أم سلمة، قالت: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في
بيتي إذ قال الخادم (7): ان عليا وفاطمة بالسدة، قالت: فقال: قومي فتنحي عن
أهل بيتي.
قالت: فقمت فتنحيت عن البيت قريبا، فدخل علي والحسن والحسين:



(1) المعجم الصغير للطبراني 1: 134.
(2) راجع تفصيل ذلك إلى إحقاق الحق 2: 502 - 553 و 3: 513 - 531 و 9: 1 - 69 و
18: 359 - 383.
(3) ينابيع المودة ص 108 ط اسلامبول عن مناقب أحمد، ورواه الزمخشري في الكشاف
في تفسير آية المباهلة (منه).
(4) ورواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين قال: الحديث الرابع والستون من المتفق
عليه في الصحيحين من مسند عائشة عن مصعب بن شيبة، عن صفية بنت شيبة، عن
عائشة قالت: خرج النبي (صلى الله عليه وآله) ذات غداة وعليه مرط مرحل إلى آخره (منه).
(5) المرط بكسر الميم وسكون الراء المهملتين: الكساء. والمرحل بالمهملتين: الذي قد
نقش فيه تصاوير الرحال (منه).
(6) صحيح مسلم 4: 1883 برقم: 2424 باب فضائل أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله).
(7) الخادم يقال على الذكر والأنثى. والسدة: باب الدار، قاله الجوهري (منه).
36
وهما صغيران، فوضعهما في حجره فقبلهما، واعتنق عليا بإحدى يديه، وفاطمة
باليد الأخرى، وقبل فاطمة وقبل عليا، وأغدق (1) عليهم خميصة (2) سوداء،
وقال: اللهم إليك لا إلى النار وأهل بيتي، قالت أم سلمة فقلت: وأنا يا رسول الله،
قال: وأنت على خير (3).
وأورده الشيخ نور الدين علي بن محمد المعروف بابن الصباغ المكي المالكي، نقلا
عن المسند في الفصول المهمة (4)، والفاضل الأربلي في كشف الغمة (5).
وروى أحمد أيضا عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يمر بباب
فاطمة عليها السلام ستة أشهر إذا خرج إلى الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت إنما
يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا (6).
قال الحاكم في المستدرك: هذا حديث صحيح الاسناد على شرط مسلم ولم
يخرجه (7).
وروى أحمد في المسند باسناده عن شداد بن عمارة، قال: دخلت على واثلة بن
الأسقع وعنده قوم، فذكروا عليا (عليه السلام) وشتموه وشتمته معهم، فلما قاموا قال لي: لم
شتمت هذا الرجل؟ قلت: رأيت القوم شتموه فشتمته.
قال: ألا أخبرك بما رأيت عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقلت: بلى، قال: أتيت فاطمة



(1) أغدق أي: أسبل، يقال: أغدقت المرأة قناعها أرسلته، وأغدق الليل: أرخى
سدوله (منه).
(2) الخميصة: كساء أسود مربع له علمان، فإن لم يكن له علمان فليس بخميصة (منه).
(3) إحقاق الحق 9: 145 عن مناقب أحمد بن حنبل.
(4) الفصول المهمة ص 25 عن مسند أحمد بن حنبل.
(5) كشف الغمة 1: 45.
(6) مسند أحمد بن حنبل 3: 259 ط مصر.
(7) المستدرك 3: 146 - 147 - و 2: 416.
37
عليها السلام أسألها عن علي (عليه السلام) فقالت: توجه إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فجلست أنتظره
حتى جاء النبي (صلى الله عليه وآله)، فجلس ومعه فاطمة وحسن وحسين آخذا كل واحد منهما
بيده حتى دخل، فأدنى عليا (عليه السلام) وفاطمة عليها السلام، فأجلسهما بين يديه
وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذه، ثم لف عليهم ثوبه - أو قال:
كساء - ثم تلا هذه الآية (إنما يريد الله) الآية (1).
وذكر الترمذي في جامعة: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان من وقت نزول هذه الآية إلى
قريب ستة اشهر إذا خرج إلى الصلاة يمر بباب فاطمة عليها السلام ثم يقول (صلى الله عليه وآله):
(إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت) الآية (2).
وروى الترمذي أيضا في الجامع عن عمر بن أبي سلمة ربيب رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
قال: نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس
أهل البيت) الآية، في بيت أم سلمة، فدعا النبي صلى الله عليه وآله فاطمة وحسنا
وحسينا فجللهم بكساء، وعلى (عليه السلام) خلف ظهره، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل البيتي
فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت أم سلمة: وانا معهم يا رسول الله،
قال: أنت على مكانك وأنت على خير (3).
وروى الترمذي أيضا عن أم سلمة ان النبي (صلى الله عليه وآله) جلل الحسن والحسين وفاطمة
كساء، وقال: اللهم هؤلاء أهل البيتي وحامتي اذهب عنهم الرجس وطهرهم
تطهيرا، قالت أم سلمة: وانا معهم يا رسول الله؟ قال: انك على خير. ثم قال
الترمذي: هذا حسن صحيح (4).



(1) إحقاق الحق 9: 3 عن تفسير الثعلبي، ومجمع الزوائد 9: 167 عن أحمد، ينابيع
المودة ص 229 عن أحمد في مسنده.
(2) صحيح الترمذي 5: 328 مع اختلاف يسير.
(3) صحيح الترمذي 5: 328 و 621 - 622.
(4) صحيح الترمذي 5: 656 - 657، وفيه زيادة قوله: وهو أحسن شئ روي في هذا
الباب.
38
وأخرج معناه الحاكم في المستدرك انها نزلت في بيت أم سلمة إلى اخره، وقال:
هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجه (1).
وروى الواحدي من عظمائهم في كتابه المسمى بأسباب النزول يرفعه بسنده إلى
أم سلمة رضي الله عنها انها قالت: كان النبي (صلى الله عليه وآله) في بيتها يوما، فاتته فاطمة ببرمة
فيها عصيدة (2)، فدخلت بها عليه، فقال لها: ادعي زوجك وابنيك.
فجاء علي والحسن والحسين (عليهم السلام)، فدخلوا وجلسوا يأكلون والنبي صلى الله عليه وآله
جالس على دكة تحته كساء خيبري، قالت: وانا في الحجرة قريبا منهم،
فاخذ النبي (صلى الله عليه وآله) الكساء فغشاهم به، ثم قال: اللهم هؤلاء أهل البيتي
وخاصتي، فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.
قالت: فأدخلت رأسي البيت وقلت: انا معكم يا رسول الله؟ قال: انك إلى
خير، فأنزل الله تبارك وتعالى (إنما يريد الله ليذهب) الآية (3).
وروى أحمد بن حنبل في مسنده باسناده إلى شهر بن حوشب، عن أم سلمة ان
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة: اتيني بزوجك وابنيك، فجاءت بهم فالقى عليهم
كساء فدكياء (4)، قالت: ثم وضع يده عليهم وقال: ان هؤلاء آل محمد فاجعل
صلواتك وبركاتك على محمد وال محمد انك حميد مجيد، قالت أم سلمة: فرفعت



(1) مستدرك الحاكم 3: 146.
(2) في النهاية الأثيرية (3: 246): في حديث خولة (قربت له عصيدة) هو دقيق يلت
بالسمن ويطبخ، يقال: عصدت العصيدة واعصدتها، اي: اتخذتها (منه).
(3) أسباب النزول ص 267 ط مصر، وراجع إحقاق الحق 18: 371 عنه.
(4) اي: منسوبا إلى فدك بفتحتين، قال النووي في التهذيب الأسماء واللغات: انها من
مدية النبي (صلى الله عليه وآله) مرحلتان، وقيل: ثلاث (منه).
39
الكساء لادخل معهم فجذبه من يدي وقال: انك على خير (1).
وروى أيضا باسناده عن عطاء بن أبي رياح، قال: حدثني من سمع أم سلمة
تذكر ان النبي (صلى الله عليه وآله) كان في بيتها، فاتته فاطمة عليها السلام ببرمة فيها
حريرة (2) فدخلت بها عليه، فقال: لي زوجك وابنيك.
قال: فجاء غلي والحسن والحسين (عليهم السلام)، فدخلوا وجلسوا يأكلون من تلك
الحريرة وهو وهم على منام له على دكان (3) تحته كساء الخيبري.
قالت: وانا في الحجرة أصلي، فأنزل الله هذه الآية الكريمة (إنما يريد الله
ليذهب عنكم) الآية، قالت: فاخذ فضل الكساء وكساهم به، ثم اخرج يده
فالوي (4) بها إلى السماء، وقال: هؤلاء أهل البيتي وخاصتي، اللهم اذهب عنهم
الرجس وطهرهم تطهيرا، قالت: فأدخلت رأسي وقلت: انا منكم يا رسول الله،
قال: انك إلى خير انك إلى خير (5).
وروى أيضا باسناده إلى شهر بن حوشب، قال: قالت أم سلمة زوجة
النبي (صلى الله عليه وآله) حين جاء نعي الحسين (عليه السلام) (6) لعنت أهل العراق، فقالت: قتلوه قتلهم
الله، وغروه وأذلوه لعنهم الله، فاني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد جاءته فاطمة غداة
ببرمة (7) وقد صنعت له فيها عصيدة تحملها في طبق حتى وضعتها بين يديه، فقال



(1) مسند أحمد بن حنبل 6: 304 ط القاهرة.
(2) الحريرة: دقيق يطبخ بلبن أو دسم.
(3) الدكان: الدكة المبنية للجلوس عليها، والنون مختلف فيها، فمنهم من يجعلها أصلا، و
منهم من يجعلها زائدة. النهاية
(4) الوى بثوبة اشتر به.
(5) إحقاق الحق 9: 26 - 27 عنه.
(6) اي: خبر شهادته (عليه السلام).
(7) البرمة بضم الباء الموحدة والراء المهملة، وهي القدر مطلقا، وجمعها برام، وهي في
الأصل المتخذة من الحجر المعروف بالحجاز واليمن (منه).
40
لها: أين ابن عمك؟ قال: هو في البيت، قال: اذهبي فادعيه واثنتي بابنيه.
قالت: فجاءت تقود ابنيها كل واحد منهما بيد وعلي يمشي معهم (1) حتى دخلوا
على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأجلسهما في حجرة، وجلس علي عن يمينه، وجلست
فاطمة على يساره.
قالت أم سلمة: فاجتذب من تحتي كساء خيبريا كان بساطا لنا على الميامة في
المدينة، فلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله) واخذ بشماله طرفي الكساء والوى بيده إلى ربه
عز وجل، وقال: اللهم هؤلاء أهل بيتي اذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا
قلت: يا رسول الله الست من أهلك؟ قال: بلى، قالت: فأدخلني في الكساء بعد ما
قضى دعاءه لابن عمه على وابنيه ابنته فاطمة (2).
قلت: قوله (عليه السلام) في جواب أم سلمة (بلى) مصادم للأخبار الصحيحة المستفيضة
الساقة الناطقة بخروجها من أهل بيته، مع أنه إنما يدل على أنها من أهله لامن أهل بيته
، كم لا يخفى.
ومن الاخبار المصرحة بخروج نسائه من أهل البيت ما رواه الحميدي في الجمع
بين الصحيحين في مسند زيد بن أرقم من عدة ي رق عنه (صلى الله عليه وآله) قال: قام
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فينا خطيبا بماء يدعى خما (3) بين مكة ومدينة، فحمد الله وأثناء
عليه ووعظ وذكر.
ثم قال: اما بعد أيها الناس إنما يوشك ان تأتيني رسل ربي فأجيب وانا
تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله
واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه.
ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، فقلنا: من أهل بيته نساؤه؟ قال ثم



(1) في المسند: في اثرهما.
(2) مسند أحمد بن حنبل 6: 298.
(3) غدير خم موضع على ثلاثة أميال من الجحفة بين الحرمين. القاموس.
41
قال: ان المراد تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها، فترجع إلى أبيها
وقومها (1).
وبالجملة فكونهم: هم المرادين من أهل البيت لا غير مما لا ينبغي الشك
فيه، لتواتره بين الخاصة والعامة.
تحقيق حال وتفصيل اجمال:
هذه الأخبار كما ترى تشهد بأنهم عليم السلام المعنيون بأهل البيت في آية
التطهير (2)، دون غيرهم من الأقارب، وتنادي بخروج النساء وانحطاطهن عن



(1) الطرائف لابن طاووس ص 122 عن الجمع بين الصحيحين، وإحقاق الحق 9: 323
عنه، ومسلم في صحيحه 4: 1874.
قال الحموي في كتابه فرائد السمطين (1: 35): قال الامام العلامة فخر الدين محمد بن
عمر الرازي: جعل الله أهل بيت نبيه محمد (صلى الله عليه وآله) مساويا له في خمسه أشياء: الأول: في
المحبة، قال الله تعالى (فاتبعوني يحببكم الله) وقال لأهل بيته (قل لا أسألكم عليه اجرا الا
المودة في القربى).
والثاني: في تحريم الصدقة، قال عليه السلام: حرمت الصدقة علي وعلى أهل بيتي.
والثالث: في الطهارة، قال الله تعالى (طه × ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) وقال لأهل
بيته: (ويطهركم تطهيرا).
والرابع: في السلام، قال: السلام عليك أيها النبي، وقال في أهل بيته (سلام على آل
ياسين).
والخامس: في الصلاة على الرسول وعلى الآل، كما في آخر التشهد (منه).
(2) قال الشيخ الجليل شمس الاسلام محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني في تفسير
متشابهات آيات القرآن (2: 62) في تفسير هذه الآية الكريمة: أجمع المفسرون والمحدثون
أنها نزلت في أهل البيت (عليهم السلام) وقال عكرمة والكلبي: نزلت في النساء. أما عكرمة، فهو
خارجي. وأما الكلبي، فهو كذاب. وقد تعلق من نصرهما بقوله تعالى (فأسر بأهلك
بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحدا الا امرأتك).
أقول: هو تعلق ضعيف جدا، للفرق بين الأهل وأهل البيت لغة وعرفا (منه).
42
هذه المرتبة الجليلة والمنزلة العلية.
فلا تركن إلى ما ذكرته العاملة الناصبة في بعض تفاسيرهم وأصولهم من نزول
هذه الآية الكريمة في شأن أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) بدلالة السياق وشهادة صدر الآية
وعجزها، فإنه من جملة تحريفاتهم الباطلة السخيفة، وهو غلط دراية ورواية.
أما الرواية، فللأخبار التي نقلناها من كتبهم وأصحتهم من نزولها في شأن
ساداتنا صلوات الله عليهم لا غير، وخروج النساء وانحطاطهن عن هذه الرتبة
الجليلة، فدفعها بالراح مكابرة وعناد (1).
وأما الدراية، فلقضية تذكير الضمير، لأنه لو كان نزولها في حق نسائه (صلى الله عليه وآله) لقيل:
يذهب عنكن ويطهركن بالتأنيث، كما قيل فيما قبلها وما بعدها. فلما كان نزولها في
أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، أعني: الحجج صلوات الله عليهم وسلامه، جاء الضمير على
التذكير، لأنهما متى اجتمعا غلب التذكير، خصوصا مع كثرة الذكور، وملائمة
السياق وصدر الآية وعجزها لا يجديهم نفعا، إذ الخروج من حكم إلى آخر كثير في
القرآن جدا (2)، كما نبه عليه شيخنا الشهيد في أوائل الذكرى (3)، لا سيما بعد قيام
القرينة، وهو تذكير الضمير مع تأنيثه قبل وبعد، وشهادة النصوص الصحيحة
المستفيضة.



(1) واحتج الجبائي - على ما نقله عنه الشيخ ابن شهرآشوب - على دخول النساء بقوله
تعالى (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت) فإنه يدل على أن زوجة الرجل من أهل بيته.
ورده (قدس سره بأن جماعة من المفسرين قالوا: انه إنما جعلت سارة من أهل بيت إبراهيم (عليه السلام) لما
كانت بنت عمه (منه).
(2) لا سيما وترتب الآية على ما هو الان لم يتحقق عندنا أنه من جهته (عليه السلام) أو جهة نوابه
(عليهم السلام)، بل يفهم من أخبار كثيرة أنه عثماني فتأمل (منه).
(3) الذكرى ص 3 الطبع الحجري.
43
وبهذا يسقط ما ذكره القطب الفالي (1) في التقريب وغيره، من أن في الآية
الكريمة دلالة على دخول نسائه في أهل البيت (2)، بل يظهر دلالتها على عكس ما
قالوه، هذا مع مصادمته ما ذكروه للأخبار الصحيحة المتواترة.
ثم لا يخفى عليك أن الآية صريحة الدلالة على عصمتهم سلام الله عليهم، لأن
الرجس لغة كل متقذر وكل مأثم والنجس، والثالث غير لائق هنا، اللهم الا أن يراد
به الأخباث المعنوية وهي الذنوب، فيرجع حينئذ إلى الأولين.
وعلى أيهما حمل تم المطلوب، وهو الاستدلال بها على عصمتهم (عليهم السلام)، لأن اللام
في الرجس: إما للجنس، أو للاستغراق، إذ لا عهد خارجي، والعهد الذهني غير
مناسب لمقام البلاغة.
وعلى التقديرين يلزم اذهاب كل ما فيه قذارة أو أوجب اثما. أما على الأول،
فلأن نفي الماهية نفي لكل جزئياتها من الخطأ وغيره. وأما على الثاني، فأظهر.
وبعض محققي علمائنا المتأخرين (3) جزم بالأول. ويمكن ترجيح الثاني، لأن
اللام تحمل على الاستغراق إذا لم يكن ثمة عهد خارجي، كما تقرر في محله، كيف
ومقام المدح أعدل شاهد على إرادة نفي جميع أفراد الرجس.
فان قلت: الذي عليه محققوا الأصوليين أن المفرد المعرف لا يفيد العموم، وهو
الذي اختاره العلامة والمحقق وغيرهما من فحول أصحابنا.
قلت: الظاهر من كلام جمع من الأصوليين أنه لا مجال لانكار إفادة المفرد المعرف
العموم في بعض الموارد حقيقة، كيف؟ ودلالة أداة التعريف على الاستغراق حقيقة



(1) شارح اللباب (منه).
(2) وفي التفسير المنسوب إلى الجلالين فسر أهل البيت في الآية بالنساء حسب، وهو من
التعصبات، وكتب أخبارهم طامحة مجازفته (منه).
(3) هو شيخنا البهائي (قدس سره)، ويشبه أن يكون النزاع في هذه اللام كالنزاع الواقع من
العلمين النحريرين سعد الدين التفتازاني وسيد المحققين في لام الحمد (منه).
44
مما لا يتجه انكاره.
بل قال المحقق الشيخ حسن بن الشهيد الثاني في المعالم: ان دلالة أداة التعريف
على الاستغراق حقيقة وكونه أحد معانيها مما لا يظهر فيه خلاف بينهم، قال:
والكلام إنما هو في دلالته على العموم مطلقا، بحيث لو استعمل في غيره كان مجازا على
حد صيغ العموم التي هذا شأنها (1) انتهى.
ولي فيه نظر (2)، على (3) أن القرائن الحالية قائمة في الأحكام الشرعية غالبا على



(1) معالم الأصول ص 105.
(2) لأن المفهوم من المحصول انكار ذلك مطلقا في جميع المفردات، ومن الأحكام للآمدي
انكار قوم من الأصوليين كون اللام حقيقة في الاستغراق في مادة من المواد حتى في الجمع
أيضا، فقوله مما لا يظهر وخلاف محل البحث (منه).
(3) قال الفاضل الشيخ حسن في المعالم (ص 105 - 106): ان القرائن الحالية قائمة في
الأحكام الشرعية غالبا على إرادة العموم منه، حيث لا عهد خارجي، كما في قوله تعالى
(وأحل الله البيع وحرم الربا) وقوله (عليه السلام): إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ. ونظائره.
ووجه قيام القرينة على ذلك امتناع إرادة الماهية والحقيقة، إذ الأحكام الشرعية إنما
تجري على الكليات باعتبار وجودها. وحينئذ فإما أن يراد الوجود الحاصل لجميع
الأفراد، أو لبعض غير معين، لكن إرادة البعض ينافي الحكمة، إذ لا معنى لتحليل بيع من
البيوع، وتحريم فرد من الربا، وعدم تنجيس قدر الكر من بعض الماء، إلى غير ذلك من
موارد استعماله في الكتاب والسنة، فتعين في هذا كله إرادة الجميع، وهو معنى العموم. ولم
أر أحدا تنبه لذلك من متقدمي الأصحاب سوى المحقق (قدس سره) انتهى كلامه زيد اكرامه.
وهو في غاية الجودة، وما أورده عليه بعض الأفاضل من أن معنى إرادة الجميع في
الصور المذكورة، لا يدل على استعمال اللام في العموم، وكونه حقيقة فيه، بل إنما يدل على
إرادة العموم هنا من اللام، فيجوز كون اللام مستعملة في معناها المطلق.
ويفهم تحقق هذا المطلق في ضمن العموم من القرينة المذكورة، ولا يستلزم كونها
حقيقة فيه غير وارد، إذا المدعى إرادة العموم من اللفظ المذكور بمعونة القرينة، فيصح
الاستدلال به على العموم.
فلا يجدي نفي دلالة المفرد المعرف على العموم نفعا حينئذ، إذا الغرض من ذلك عدم كونه
منتضما في سلك الصيغ الموضوعة للعموم لا عدم إفادته العموم ولو بالقرينة، كما أفاده
في أول كلامه، وليس المدعى كونه في الصورة المذكورة حقيقة في العموم، أو أن (قدس سره) العموم
معنى مجازي كما ظنه، فتأمل وانصف (منه).
45
إرادة العموم منه حيث لا عهد خارجي، كما في قوله تعالى (وأحل الله البيع وحرم
الربا) (1) وقوله (عليه السلام): إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شئ (2)، وغيرها لامتناع
إرادة الماهية والحقيقة من حيث هي هي. فإما أن يراد جميع أفرادها، أو بعضها من
غير تعيين، لكن إرادة الثاني تنافي الحكمة، فتعين إرادة الجميع.
وقد تنبه لذلك المحقق الحلي من أصحابنا في مختصر الأصول، فإنه قال: ولو قيل
إذا لم يكن ثم معهود وصدر من حكيم، فان قرينة حاله تدل على الاستغراق لم ينكر
ذلك (3).
واقتفى أثره شيخنا الشهيد الثاني في شرح الشرائع، وولده الفاضل في المعالم (4) ومن المخالفين العلامة التفتازاني في التلويح، ومن أئمة العربية نجم الأئمة، وفاضل
الأمة المحقق الرضي الأسترآبادي قدس سره في شرح الكافية الحاجبية، فإنه ذكر
فيه أنه متى لم تقم قرينة مقالية ولا حالية على إرادة الخصوص مبهما أو معينا، فاللام
للاستغراق.
قال: لأنه إذا ثبت كون اللفظ دالا على ماهية خارجية، فإما أن يكون لجميع
أفرادها، أو بعضها، ولا واسطة بينهما في الوجود الخارجي، بل يمكن تصورها في
الذهن خالية عن الكلية والبعضية، لكن كلامنا في المشخصات الخارجية، لأن
الألفاظ موضوعة بإزائها لا لما في الذهن، وإذا لم تكن للبعضية لعدم دليلها - أي:



(1) البقرة: 275.
(2) فروع الكافي 3: 2 ح 2 والتهذيب 1: 39 و 226.
(3) معارج الأصول للمحقق ص 87.
(4) معالم الأصول ص 106.
46
التنوين - وجب كونه للكل، فعلي هذا قوله عليه الصلاة والسلام (الماء طهور) أي:
كل الماء (والنوم حدث) أي: كل النوم، إذ ليس في الكلام قرينة البعضية لا مطلقة
ولا معينة انتهى كلامه زيد اكرامه.
ولقائل أن يقول أيضا: ان المفرد المحلى بلام الجنس، وإن لم يدل على العموم في
صورة الوجود والاثبات، الا أنه يدل عليه في صورة النفي والعدم، وذلك لأن عدم
الجنس ونفيه إنما يتحقق بعدم كل فرد من أفراده، إذ لو دخل فرد منها في الوجود
لدخل الجنس فيه في ضمنه، لوجود الكلي الطبيعي بوجود فرد من أفراده، وليس
الأمر كذلك في صورة الاثبات، إذ وجود الجنس يتحقق بوجود فرد من أفراده،
اللهم الا مع قيام القرائن الحالية أو المقالية على إرادة العموم.
ثم لا يخفي عليك ما في الآية الكريمة من المؤكدات (1) واللطائف، كما يعلمه
الحاذق في علم المعاني والبيان، وقد نبه عليه الشهيد في أوائل الذكرى (2)، وعلى
هذا يكون منطوق الآية الكريمة على أبلغ وجه، وأكده عدم جواز تلوث ذيول أهل
البيت (عليهم السلام) بالأرجاس الصورية والمعنوية، والأقذار القلبية والبدنية، للقطع بأن
صغائر الذنوب أرجاس ككبائرها، وبواطن الرذائل أقذار كظواهرها (3).
فان قلت: فأي فائدة في قوله تعالى (ويطهركم تطهيرا) بعد قوله (ليذهب



(1) كتقديم لفظة (إنما) الدالة على الاختصاص، والتعبير عن الإرادة بالفعل المضارع
المشعر بالاستمرار والدوام، والاتيان باللام المزيد للتأكيد، كما صرح به نجم الأئمة وابن
هشام وغيرهما، والاختصاص على صيغة النداء، وارفاق ذلك بقوله (ويطهركم) وهو
التنزيه عن الاثم وعن كل قبح، كما نقل عن ابن فارس في المجمل، وتأكيده بالمصدر وهو
تطهيرا، إلى غير ذلك من المؤكدات واللطائف (منه).
(2) الذكرى ص 5.
(3) التطهير: التنزيه عن الاثم وعن كل قبيح، وقد نقل ذلك عن الامام اللغوي أحمد بن
فارس في المجمل وغيره، فتدل أيضا على عصمتهم (عليهم السلام) (منه).
47
عنكم الرجس أهل البيت)؟
قلت: لعل فائدته التنبيه على طهارة قلوبهم القدسية عن جميع الكدورات
الكونية، والظلمات الهيولانية، والعلائق الدنية، وخلو أسرارهم عن التلوت بغير
الحضرة الأحدية السبحانية، ولهذا لم يكتف بالفعل وحده، بل أكده بالمصدر تقريرا
له وتحقيقا وحسما لمادة الشك على أبلغ وجه، كما بيناه مستوفى في شروق الأنوار،
وفي دقائق الأسرار، وغيرهما من مؤلفاتنا ومجموعاتنا.
جوهرة:
استنبط المحقق الفيلسوف سلطان المحققين محمد بن محمد الطوسي عطر الله مرقده
من كلمات هذه الآية الكريمة أسماء الأئمة المعصومين سلام الله عليهم مع
النبي (صلى الله عليه وآله) بطريق الزبر والبينات المتعارف بين أهل الجفر.
تبصرة
في حقيقة العصمة وأن الامام يجب أن يكون معصوما
خلافا للعاملة الناصبة
العصمة لغة: المنع. وفي الاصطلاح: لطف خفي يمتنع من أفيض عليه معه عن فعل
القبائح والاخلال بالواجبات لا على جهة الوجوب الرافع للقدرة، كما توهمه من لا
تحقيق له، بل بمعنى أنه إذا فعله الله سبحانه بالمكلف اختار الطاعات واجتنب
المعاصي البتة، وحينئذ يكون وقوع المعصية عن المعصوم ممكنا بالنظر إلى قدرته،

48
ممتنعا بالنظر إلى عدم داعيه ووجود صارفه (1).
فأهل العصمة هم الذين أعانهم الله سبحانه على قهر نفوسهم الأمارة بالسوء
أكمل قهر وأتمه، حتى صارت أسيرة في أيدي نفوسهم العاقلة، فلم تتلوث ذيولهم
بالمحارم، ولم تتشبث عزائمهم بالأكدار والمآثم، فهم خواص الخواص وأقطاب اولي
الاخلاص، وهم أهل الاستقامة المطلقة الشاملة، والعدالة الحقيقة الكاملة.
قال بعض الأعلام (2) من علمائنا العظام ونعم ما قال: إن العصمة هي العدالة
المطلقة الموجبة لارتكاب الصراط المستقيم، والنهج القويم، الذي يصل صاحبه (3)
بالأنوار القدسية والأسرار الجبروتية، المانعة من الميل إلى جانبي الافراط والتفريط
القاهرة لدواعي الشهوة والغضب الحاكمة (4) من الوقوع على خلاف مقتضاها،
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده على وفق حكمته وطبق مراده.
وأما العدالة، فإنها لا تكون مانعة من الوقوع في المعصية، لأن المراد من العدالة
الخاصة التجنب عن المعاصي الشرعية، وفعل الواجبات التكليفية، ومن هو
موصوف بذلك جائز منه الخروج عن مقتضاها، ووقوع ضدها منه عند غرض من
الأغراض بسبب استيلاء القوة الشهوية والغضبية عليه.
وهذا لا ينكره عاقل، لأن هذه العدالة لا تقتضي قهر دواعي الشهوة والغضب،
وحينئذ جاز وقوع المعصية منهم وخروجهم بها عن مقتضى العدالة، ولا يكون



(1) المراد أن المعصية منهم (عليهم السلام) ممكنة بالامكان الذاتي، وغير ممكنة بالامكان
الوقوعي، فان لهم شهوة وغضب، ولكنهم (عليهم السلام) يصرفونها إلى ما خلقنا لأجله، كالنكاح
والجهاد مع أعداء الدين، وليس لهم دواع إلى صرفها في المعاصي، وبهذا كانوا أفضل من
الملائكة لفقدانهم القوتين (منه).
(2) هو صاحب المجلي (منه) وهو الشيخ المحقق ابن أبي جمهور الأحسائي.
(3) في المجلي: الذي لا يصل إليه الا الشاذ النادر المؤيد صاحبه.
(4) في المجلي: الحاسمة.
49
مجرد الاتصاف بالعدالة الخاصة محصلا، لوجوب كون ما وقع منهم موافقا للقواعد
العقلية والقوانين الشرعية (1).
ثم قال (2): وقد تقرر في الحكمة الحقة أن النفس بالطبع منجذبة إلى محبة مشاهدة
النور الأكمل، فكل ما كان الكمال أتم والنور أعظم والنفس أطهر عن علائق
الجسمانيات، كان الانجذاب إليه أسرع، والنفس له أطوع، والميل والدواعي
بواسطته أتم.
وإذا كان الحال على ما قررناه، لا جرم وجب أن يكون الامام موصوفا بالعصمة
التي هي العدالة المطلقة والاستقامة الوسطى، ليتحقق له الكمال الأعلى والنور
الأسنى، ليعم (3) الانتفاع به، ويحصل كمال الجدوى لجميع الخلق عامهم وخاصهم،
فإنه الغاية القصوى من الولاية، والغرض الأقصى من الخلافة، وتمام المتابعة بقوة
الانجذاب.
وهو بشدة العزم وقوة الداعي الحاصل عن العلم والتحقيق بالكمال المطلوب لكل
عاقل بسبب المعرفة التامة باتصافه بالكمال الأتم، والشرف الأعلى، ومتى لم يحصل
ذلك لم يحصل المقصود من الولاية، فضاعت الفائدة منها، وتعطل وجودها، ولم
يحصل تمام مسماها، فلا تكون حينئذ ولاية.
فتلخص أن الامام لو لم يكن معصوما لما تحقق الغرض المقصود منه، لأجل عدم
الانتفاع به بواسطة عدم الانجذاب إليه، لعدم تحقق كماله (4) المستلزم لعدم الأخذ بقوله
والانتفاع بسيرته، لحصول نقصه عن درجات الكمال المساوية لسائر الرعية،
وعدم تميزه عنهم، فلم يتحقق له المزية عليهم الموجبة لتعظيمهم له، فلا يتم ما طلب



(1) المجلي ص 348 ط سنة 1329 ه‍ ق.
(2) هذا الكلام مذكور في المجلي لابن أبي جمهور الأحسائي أيضا (منه).
(3) في المجلي: ليتم.
(4) في المجلي: كماليته.
50
منه ونصب لأجله.
وكل ذلك مخالف لما تقرر في الحكمة المتقنة، بل يلزم من عدم اتصاف الولي
بالعصمة قبح نصبه عقلا وشرعا، فيتحقق وجوب عصمة الامام (1).
ومن أحسن ما استدل به أصحابنا على هذا المطلب قوله تعالى (لا ينال عهدي
الظالمين) (2) وتقريره: أنه تعالى بشر خليله سلام الله عليه بالإمامة بقوله (اني
جاعلك للناس إماما) فقال: لفرط سروره بمكانها (ومن ذريتي) (3) فأجابه الله



(1) المجلي ص 335 - 336.
(2) البقرة: 124. الاستدلال بهذه الآية مشهور بين أصحابنا، وقد أوردته في منضومتي
في الكلام، فقلت:
وان ترد ارغام كل ضد فاتل عليه لا ينال عهدي
اعترض ابن حجر في صواعقه أن الظالم شرعا هو العاصي، وغير المعصوم قد يكون
محفوظا، فلا يصدر عنه ذنب، أو يصدر عنه ويتوب عنه حالا توبة نصوحا، فالآية لا
تتناوله وإنما تتناول العاصي. على أن العهد في الآية كما يحتمل الإمامة العظمى، يحتمل أن
يراد به النبوة أو الإمامة في الدين، أو نحوها من مراتب الكمال.
ولا يخفى عليك ما فيه، إذ اللازم من الآية عدم قابلية من اتصف بالظلم في الجملة في
نفس الأمر للإمامة، فيلزم اشتراط العلم بعدم ذلك، وهو إنما يحصل بالنسبة إلى المعصوم. و
أما العدالة فلا يقطع بعدم حصول الكفر فضلا عن الفسق، وليس معنى الظالم مظنون الظلم
أو معلومه، بل هو من اتصف بالظلم في نفس الأمر، ومناط قابلية الإمامة العلم بعدمه. و
أما قوله (ان العهد يحتمل أن يراد به النبوة) إلى آخر كلامه، فيظهر جوابه مما أوردناه في
التنبيه (منه).
(3) قال صاحب الكشاف (1: 309): وهو عطف على الكاف، كأنه قال: وجاعل
بعض ذريتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيدا انتهى.
وفي الكشف جعل واجعل بعض ذريتي، لكنه عدل عنه إلى المنزل... من المبالغة جعله
من تتمة كلام المتكلم، كأنه يتحقق مثل المعطوف فيه، وجعل نفسه كالنائب عن المتكلم،
وفيها في العدول عن لفظ الأمر من المبالغة في الثبوت، ومن مراعاة الأدب في التعادي عن
صورة الأمر، وفيه من الاختصار الواقع موقعه ما يروق كل ناظر.
ثم نقل عن المصنف في الجواب أنه كعطف التلقين، وعنه في قوله (ومن كفر فأمتعه) أنه
عطف التلقين، وقال: راعيت الأدب في الأول تعاديا غير جعله تعالى... انتهى. ولنا هاهنا
بحث طويل حررناه في بعض فوائدنا (منه).
51
سبحانه بقوله (لا ينال عهدي الظالمين). فوجب أن يريد بالعهد الإمامة (1)
المقدم ذكرها، ليتطابق الجواب والسؤال.
فإذا ثبت أن الظالم لا ينال الإمامة انعكس بعكس النقيض إلى قولنا كل من ينال
الإمامة ليس بظالم، وكل مذنب ظالم، لأن الظلم في الأصل هو انتقاص الشئ.
وقيل: وضع الشئ في غير موضعه، ومنه قولهم (من أشبه أباه فما ظلم) أي: فما
وضع الشئ في غير موضعه، كذا ذكره حجة الاسلام الطبرسي في مجمع البيان (2).
وقيل: هو التعدي عن حدود الله تعالى لقوله تعالى (ومن يتعد حدود الله فقد
ظلم نفسه) (3).
ولا شك أن فعل الصغيرة ولو كانت نادرة خروج عن الاستقامة والطاعة، وانه
نقص ووضع في غير المحل وتعد عن الحدود (4)، إذ حدود الله هي الأوامر والنواهي،
وأيضا ترك حكم الله ورفضه لا يتفاوت فيه الحال في الصغر والكبر، فإنه يكون



(1) من الغريب ما رأيته في كتاب تفسير متشابهات الآيات (2: 26 - 27)
لابن شهرآشوب المازندراني منقولا عن أبي الحسين البصري: أنه لا يخلو: إما أن يكون الله
تعالى نفى أن ينال الإمامة الكافر في حال كفره، أو من كان كافرا ثم أسلم، فالأول لا يجوز
بالاجماع، وإبراهيم (عليه السلام) لا يسأل ذلك، فلم يبق الا الثاني، وقد ثبت أن أبا بكر والعباس
قد أسلما بعد الكفر، فقد خرجا عن الإمامة، فلابد أن يكون الامام عليا (عليه السلام) انتهى.
وهذا نص في صحة عقيدة أبي الحسين، ورجوعه عن الاعتزال، ورأيت في بعض
شروح الياقوت نحوه، والله العالم (منه).
(2) زبدة البيان ص 47 للمحقق الأردبيلي عنه.
(3) الطلاق: 1.
(4) لا يخفى أن المشهور من الآية: ان تعد من حدود الله ظلم، وهذا مما لا كلام فيه. وأما
تفسير الظلم بالتوري حتى أن كل ظلم تعد بحدود الله، فمما لا تدل عليه الآية (منه).
52
عاصيا، لا سيما بالنسبة إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام).
على أن بعض العلماء ذهب إلى أن الذنوب كلها كبائر (1) لاشتراكها في مخالفة
الأمر والنهي، وإن كان بعضها أكبر من بعض، والكبر والصغر عنده أمران
إضافيان، فيصدق الصغير والكبير على الذنب بالنسبة إلى ما فوقه وما تحته، ينتج
أن من ينال الإمامة ليس بمذنب، وكل من ليس بمذنب معصوم، ينتج أن من ينال
الإمامة معصوم.
وقد نطق البيضاوي هنا بالحق، حيث قال في تفسير الآية التي نحن فيها: انها
تدل على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعثة، وان الفاسق لا يصلح للإمامة (2).
ولصاحب الكشاف في هذا المقام كلام جيد، وهذا لفظه: قالوا في هذا دليل على
أن الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف يصلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته، ولا
تجب طاعته، ولا يقبل خبره، ولا يقدم للصلاة (3)، وكان أبو حنيفة يفتي سرا
بوجوب نصرة زيد بن علي وحمل المال إليه والخروج معه على اللص الثعلب المسمى
بالامام والخليفة، كالدوانيقي (4) وأشباهه.
قالت له امرأة: أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم ومحمد ابني عبد الله بن



(1) هذا هو الذي نسبه الشيخ الطوسي (قدس سره) في العدة الأصولية في بحث العمل بخبر الواحد
إلى أصول أصحابنا، قال، (رحمه الله) وعلى أصولنا أن كل خطأ وقبيح كبيرة، فلا يمكن أن يقال:
خطأهم كان صغيرة، لأنا نحيط على ما يذهب إليه المعتزلة انتهى.
ونحوه في التبيان، وصرح به الطبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان بأنه مذهب جميع أصحابنا الإمامية
، ولنا في هذا المقام بحث طويل أوردناه في رسالتنا المعمولة في العدالة (منه).
(2) تفسير البيضاوي 1: 111.
(3) فيه دلالة على اشتراط عدالة امام الصلاة، كما هو مذهب أصحابنا قدس الله أرواحهم
ولم ينقل ذلك عن أحد منهم الا عن أبي عبد الله البصري من المعتزلة (منه).
(4) هو أبو جعفر عبد الله المنصور ثاني خلفاء بني العباس، وبواقيهم من نسله، لقب
بالدوانيقي لأنه زاد في الخراج دانقا (منه).
53
الحسن حتى قتل، فقال: ليتني مكان ابنك. وكان يقول في المنصور وأشياعه:
لو رادوا بناء مسجد وأرادوني على عد آجره لما فعلت.
وعن ابن عيينة (1): لا يكون الظالم إماما قط، وكيف يجوز نصب الظالم للإمامة؟
والامام إنما هو لكف الظلمة، فإذا نصب من كان ظالما في نفسه، فقد جاء المثل
السائر: من استرعى الذئب ظلم (2) انتهى كلام صاحب الكشاف (3).
ولا يخفى عليك أن ما ذكره البيضاوي مبني على أن فاعل الكبيرة وقتا ما يصدق
عليه أنه ظالم في الجملة، وقد نفى الله تعالى العهد الذي هو الإمامة مطلقا عمن صدق
عليه أنه ظالم في الجملة ولو في الماضي.
ولا يخفى أن ذلك إنما يتم على تقدير كون المشتق حقيقة في من اتصف بالمبدأ وقتا
ما، وهذا لا يوافق ما عليه أصحابه من اشتراط بقاء المبدأ في صدق المشتق حقيقة،
وهو الذي صرح باختياره في منهاجه. اللهم الا أن يقال: من المعلوم هنا إرادة
المعنى المذكور، وإن كان مجازا. وفيه ما فيه.
وعلى أي تقدير فالتقريب (4) أن قضية الآية الكريمة أن من كان ظالما، أي:
اتصف بالظلم، أو يتصف بالظلم بالفعل، أو بالامكان على الخلاف بين أهل المعقول
لا تناله الإمامة مطلقا، وهذا النفي الاستغراقي عام منسحب على الأوقات كلها،
فتخصيصه بوقت دون آخر يحوج إلى مخصص معتد به ليتجه الخروج به عن ظاهره،
وليس فليس.



(1) اسمه سفيان من علماء المخالفين ومحدثيهم، قال في الخلاصة: ليس من أصحابنا (منه).
(2) أي: ظلم الشاة أو الذئب. قال في الكشف: كلا الوجهين سائغ، والأول أظهر، و
الثاني أبلغ انتهى. ولا يبعد أن يراد كان من الظالمين بطي الكشح عن التعلق، ولا ريب أنه
أبلغ كما تقرر في صناعة البيان (منه).
(3) الكشاف 1: 309.
(4) سوق الدليل على وجه يستلزم المطلوب (منه).
54
وأنت خبير بأن اللازم من ذلك أن من اتصف بفسق ما وقتا ما لا يجوز أن يكون
نبيا أو إماما، فيلزم وجوب عصمتهم من أول العمر إلى آخره من الكبائر وغيرها
على رغمه ورغم أصحابه، وكأن هذا الكلام إنما صدر منه بغير روية، وأجراه الله
على لسانه ليكون حجة عليه وفضيحة له عند الله وعند الناس.
ويفهم من كلام صاحب الكشاف اشتراط العدالة في القاضي والشاهد والراوي
وامام الجماعة، مع أنه حنفي المذهب، وذلك لا يلائم مذهب الحنفية.
مع أنه قد أورد عليه أن الواسطة بين الظالم والعدل ثابتة، فلا يلزم من نفي
صلاحية الأول للإمامة اشتراط العدالة في الامام، الا أن يضم إلى ذلك مقدمة
أجنبية، وهي أن كل من لم يجوزها للفاسق لم يجوزها لغير العدل، والفصل خرق
للاجماع المركب (1).
وقد يجاب بأنه لا واسطة بحسب الواقع بين وصفي العدالة والفسق، لأن العدالة
هي الملكة النفسانية المانعة عن فعل الكبائر والاصرار على الصغائر ومنافيات
المروة، فان كانت حاصلة فذاك، والا لزم الفسق، وتوسط مجهول الحال إنما هو بين
من علم فسقه أو عدالته.
ولي في هذا الجواب نظر، لأن فقد الملكة المذكورة إن كان فسقا ولو كان بفقد
بعض مقتضياتها كالمروة مثلا، لم يلزم أن يكون من اتصف بالفقد المذكور ظالما،
وهذا بين لا سترة به.
وكيف يتوهم أن فقد المروة ظلم؟ مع عدم ايجاب لوازم المروة شرعا، وعدم
تعلق التكليف بها، وقضية الآية إنما هو عدم جواز كون الظالم إماما، والواسطة بين
الظالم والعدل متحققة على هذا التقدير، وان لم يلزم من مجرد فقد الملكة المذكورة



(1) في ثبوت الاجماع المركب نظر، خصوصا بالنسبة إلى الرواية، فان المنقول عن أبي
حنيفة قبول رواية المجهول دون الفاسق، كما في المحصول وغيره (منه).
55
الفسق، فكانت دائرة الاعتراض أوسع (1)، كما لا يخفى.
على أن بعض الأفاضل المعاصرين في حواشي المعالم ادعى ثبوت الواسطة بين
العدالة والفسق، قال: لأن العدالة عندهم هي الملكة المذكورة، والفسق عندهم
هو الخروج عن الطاعة مع الايمان، فيتجه الواسطة، وهي عدم الخروج عن الطاعة
مع عدم المروة، فإنهما قد يجتمعان.
ولقائل أن يقول، إن المعتبرين للمروة في العدالة يدعون التلازم بين ملكة
التقوى وبين المروة (2)، ويجعلون انفكاك ملكة التقوى عنها ممتنعا، وحينئذ فلا يلزم
الواسطة.
وأما الذين لم يعتبروا فيها ذلك، كالعلامة في المختلف، والشيخ المفيد، والمحقق في
موضع من الشرائع، فاندفاع الاشكال عنهم أوضح.



(1) إذ اللازم حينئذ ثبوت الواسطة بين الفاسق والعدل، فضلا عن ثبوتها بين العالم و
العدل، فلا تغفل (منه).
(2) دعوى التلازم بين ملكة التقوى والمروة، أو بينها وبين ملكة العدالة، ممنوعة غير
مسموعة، إذ لا ريب في امكان حصول ملكة التقوى بدونها، وقد اقتفينا في النسبة إليهم
دعوى التلازم اثر بعض المتأخرين 1، وهو لا يخلو من نظر، لعدم العثور على ذلك في
كلامهم.
بل صرح الشهيد في شرح الارشاد بعدم التلازم، حيث قال في مباحث الزكاة: والمراد
بالعدالة هنا - يعني: في مستحق الزكاة - على القول باعتبارها فيه هيئة راسخة تبعث على
ملازمة التقوى، بحيث لا يقع منه كبيرة، ولا يصر على صغيرة، فان وقعت استدركت
بالتوبة، فلم يعتبر المروة.
ونبه بقوله (هنا) على أن العدالة في غير هذا المحل يعتبر فيها المروة. وهذا التفصيل
صرح في عدم التلازم، مع أنه لا يخلو من تحكم.
ويظهر من المدارك الميل إلى التفرقة المذكورة، قال: لأن الدليل إنما دل على منع فاعل
المعصية، وعدم المروة ليس بمعصية، وان أخل بالعدالة انتهى.
وفيه بحث، وقد حررناه في هذا المقام في رسالتنا المعمولة في العدالة (منه).
56
تنبيه:
الظاهر من الآية الكريمة كون المراد بالعهد الإمامة، لما أسلفنا من مطابقة الجواب
للسؤال، وهو المروي عن الباقر والصادق (عليهما السلام)، فلا يتجه الاستدلال بها على
اشتراط العدالة في امام الجماعة، إذ الإمامة المطلوبة هي الرئاسة العامة في الدين
والدنيا، فتشمل النبوة والإمامة بالمعنى الأخص.
اللهم الا أن يقال: إن المسؤول وإن كان هو الخلافة والإمامة المطلقة، الا أنه لا
يبعد أن يكون المراد بالعهد ما هو أعم منها، فكأنه قال: ما أجوز تفويض أمري إلى
الظالم، وانه ظلم كما يفهم من الكشاف.
وتجويز امامة الفاسق للجماعة تفويض أمر عظيم إليه، كما قاله المحقق الأردبيلي
في آيات الأحكام (1).
وفيه تأمل، لما فيه من البعد، ولحصول التخالف بين السؤال والجواب في الجملة،
ولأن الأمر مجمل غير متضح، ولمنع كون امامة الفاسق للجماعة لو قيل بتجويزها
تفويضا إليه، فتدبر.
تكميل نفعه جليل:
من الأدلة التي استدل بها أصحابنا على وجوب كون الامام معصوما واثبات
الإمامة للمعصومين (عليهم السلام) قوله تعالي (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع



(1) زبدة البيان في أحكام القرآن ص 46.
57
الصادقين) (1) وقد ذكره المحقق الطوسي (قدس سره) في التجريد، والشهيد في أوائل
الذكرى (2) وغيرهما.
وقد روى محمد بن الحسن الصفار في كتاب بصائر الدرجات باسناده عن بريد
العجلي، عن الباقر (عليه السلام) في تفسير هذه الآية ما يؤيد ما فهمه أصحابنا رضي الله
عنهم، منها قال: سألته عن قول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع
الصادقين) قال: إيانا عني (3).



(1) التوبة: 119.
(2) الذكرى ص 5.
(3) بصائر الدرجات ص 31، باب في الأئمة أنهم الصادقون. روي نحو ذلك عن مولانا
الرضا (عليه السلام). وذكر مولانا المفيد (رحمه الله)، في الفصول التي جمعها السيد المرتضى (رحمه الله): أنه قد
جاءت آثار كثيرة مستفيضة بذلك.
وقال (قدس سره) في تقرير ذلك: قد ثبت أن الله سبحانه دعا المؤمنين في هذه الآية إلى اتباع
الصادقين، والكون معهم فيما يقتضيه الدين، وثبت أن المنادي به يجب أن يكون
غير المنادى إليه، لاستحالة أن يدعى الانسان إلى الكون مع نفسه والاتباع لها.
فلا يخلو أن يكون الصادقون الذين دعا الله تعالى إلى اتباعهم جميع من صدق وكان
صادقا، حتى يعمهم اللفظ ويستغرق جنسهم، أو يكونوا بعض الصادقين.
وقد تقدم افسادنا لمقال من زعم أنه عم الصادقين، لأن كل مؤمن فهو صادق بايمانه،
فكان يجب بذلك أن يكون الدعاء للانسان إلى اتباع نفسه، وذلك محال على ما ذكرناه.
وان كانوا بعض المؤمنين دون بعض، فلا يخلو من أن يكونوا معهودين معروفين،
فتكون الألف واللام للعهد، أو يكونوا غير معروفين معهودين، فان كانوا معهودين فيجب
أن يكونوا معروفين غير مختلف فيهم، فتأتي الروايات بأسمائهم والإشارة إليهم خاصة، و
أنهم طائفة معروفة عند من سمع الخطاب من الرسول (صلى الله عليه وآله).
وفي عدم ذلك دليل على بطلان من ادعى أن هذه الآية نزلت في جماعة غير من ذكرناه
كانوا معهودين. وان كانوا غير معهودين، فلابد من الدلالة عليهم ليمتازوا ممن يدعي
مقامهم، والا بطلت الحجة لهم، وسقط تكليف اتباعهم.
وإذا ثبت أنه لابد من الدليل عليهم، ولم يدع أحد من الفرق دلالة على غير من ذكرناه،
ثبت أنها فيهم خاصة، لفساد خلو الآية كلها من تأويلها وعدم أن يكون القصد إلى أحد
منهم بها. انتهى. وهو تقرير حسن غير المذكور من الذكرى (منه).
راجع: الفصول المختارة ص 99 - 100 ط النجف الأشرف.
58
ووجه الاستدلال بها أنه تعالى أمر كافة المؤمنين بالكون مع الصادقين، ومن
المعلوم المستبين أنه ليس المراد به الكون معهم بأجسامهم، بل المعنى لزوم طرائقهم
ومتابعتهم في عقائدهم وأقوالهم وأفعالهم، والمراد بالصادقين من يعلم صدقه في
نفس الأمر في كل شئ، بدلالة حذف المتعلق، وغير المعصوم لا يعلم صدقه كذلك،
فلا يجب الكون معه، وهذا التقرير مذكور في الذكرى (1).
وأيضا فمن المعلوم المستبين أن الله تعالى لا يأمر عموما بمتابعة من يعلم صدور
الفسق والمعاصي منه مع نهيه عنها، فلابد من أن يكونوا معصومين لا يخطأون في
شئ البتة حتى تجب متابعتهم في جميع الأمور، وقد أجمعت الأمة على أن خطاب
القرآن عام لجميع الأزمنة لا يختص بزمان دون زمان، لا بمعنى دخول من لم يحضر
الخطاب من طبقات الأمة المعدومين حال الخطاب فيه أصالة، فإنه مذهب الحنابلة
وشذوذ من غيرهم، بل بمعنى انسحاب الأحكام إليهم البتة، فإنه من ضروريات
الدين، كما بيناه في أوائل رسالة الجمعة، وحينئذ فلابد من وجود معصوم في كل
زمان ليصح أمر مؤمني كل زمان بمتابعته.
فان قيل: يجوز أن يؤمر في كل زمان بمتابعة الصادقين الكائنين في زمن
الرسول (صلى الله عليه وآله)، فلا يتم وجود المعصوم في كل زمان، كما هو مدعى الأمامية.
قلت: لا شك أن المفهوم من الآية تعدد الصادقين، أي: المعصومين، قضية لصيغة
الجمع، وعلى القول بالتعدد يتعين (2) القول بما عليه الامامية، إذ لا قائل من ا لامة



(1) الذكرى ص 5، في الوجه الثاني من الإشارة السابعة.
(2) في (س): يتعدد.
59
بتعدد المعصومين في زمن الرسول (صلى الله عليه وآله) مع خلو سائر الأزمنة عنهم (3)



(1) وفي كتاب الفصول من العيون والمحاسن (ص 100) من كلام شيخنا المفيد، أنه
استدل أيضا على أن المراد بالصادقين الأئمة (عليهم السلام)، بأن الأمر ورد باتباعهم على الاطلاق،
وذلك يوجب عصمتهم وبراءة ساحتهم، والأمان من زللهم، بدلالة اطلاق الأمر
باتباعهم.
والعصمة توجب النص على صاحبها بلا ارتياب، فإذا اتفق مخالفونا على نفي العصمة و
النص عمن ادعوا له تأويل هذه الآية، فقد ثبت أنها في الأئمة (عليهم السلام)، لوجود النقل بالنص
عليهم، والا خرج الحق عن أمة محمد (صلى الله عليه وآله) وذلك فاسد.
مع أن في القرآن دليلا على ما ذكرناه، وهو أن سبحانه قال: (ليس البر أن تولوا
وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب
والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وفي الرقاب و
أقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء و
حين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون).
فجمع الله تعالى هذه الخصال كلها، ثم شهد لمن كانت فيه بالصدق والتقى على الاطلاق،
فكان مفهوم معنى الآيتين الأولى وهذه الثانية أن اتبعوا الصادقين الذين باجتماع هذه
الخصال التي عددناها فيهم استحقوا اطلاق الصادقين.
ولم نجد أحدا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) اجتمعت فيه هذه الخصال الا أمير المؤمنين
علي (عليه السلام)، فوجب أنه الذي عناه الله بالآية، وأمر فيها باتباعه، والكون معه فيما يقتضيه
الدين، وذلك أنه ذكر الايمان بالله جلت عظمته واليوم الآخر والملائكة والنبيين.
فكان أمير المؤمنين (عليه السلام) أول الناس ايمانا به، وبما وصف من الأخبار المتواترة بأنه أول
من أجاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الذكور. ولقول النبي (صلى الله عليه وآله) لفاطمة: زوجتك أقدمهم
اسلاما وأكثرهم علما.
وقول أمير المؤمنين (عليه السلام): أنا عبد الله وأخو رسول الله، لم يقلها أحد قبلي ولا يقولها
أحد بعدي الا كذاب مفتر، صليت قبلهم سبع سنين. وقوله (عليه السلام) وقد بلغه عن الخوارج
مقال أنكره: أم يقولون: ان عليا يكذب، فعلى من أكذب؟ أعلى الله؟ فأنا أول من عبده، أم
على رسول الله؟ فأنا أول من آمن به وصدقه ونصره.
ثم أردف الوصف الذي تقدم الوصف بايتاء المال على حبه ذوي القربى واليتامى و
المساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، ووجدنا ذلك لأمير المؤمنين (عليه السلام) بالتنزيل
، وتواترت الأخبار به على التفصيل، قال الله عز اسمه (ويطعمون الطعام على حبه
مسكينا ويتيما وأسيرا) واتفقت الرواة من الفريقين الخاصة والعامة على أن الآية بل
السورة نزلت في أمير المؤمنين (عليه السلام) وزوجته فاطمة وابنيه (عليهم السلام).
وقال تعالى (الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار) الآية، وجاءت الرواية
مستفيضة بأن المعني بها أمير المؤمنين (عليه السلام)، ولا خلاف أنه (عليه السلام) أعتق من كد يده جماعة لا
يحصون كثرة، ووقف أراضي كثيرة وعينا استخرجها وأحياها بعد موتها، فانتظم
الصفات على ما ذكرناه.
ثم أردف ذلك بقوله (وأقام الصلاة وآتى الزكاة) فكان هو المعني بها، بدلالة قوله
تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) واتفق أهل النقل على أنه (عليه السلام) المزكي في حال ركوعه.
ثم أعقب ذلك بقوله عزو جل (والموفون بعهدهم إذا عاهدوا) وليس أحد من
الصحابة الا من نقض العهد في الظاهر، أو تقول عليه ذلك الا أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه لا
يمكن أحدا أن يزعم أنه نقض ما عاهد عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله) من النصرة والمواساة،
فاختص بهذا الوصف.
ثم قال: (والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس) ولم يوجد أحد صبر مع
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الشدائد غير أمير المؤمنين (عليه السلام) فإنه باتفاق وليه وعدوه لم يول دبرا،
ولم يفر من قرن ولا هاب في الحرب خصما.
فلما استكمل هذه الخصال بأسرها قال الله سبحانه: (أولئك الذين صدقوا) يعني به
أن المدعو إلى اتباعه من جملة الصادقين، وهو من دل عليه اجتماع الخصال فيه، وذلك أمير
المؤمنين (عليه السلام).
وإنما عبر عنه بحرف الجمع تعظيما له وتشريفا، إذ العرب تضع لفظ الجمع على الواحد إذا
أرادت أن تدل على نباهة وعلو قدره وشرفه ومحله، وإن كان قد يستعمل في من لا يراد
به ذلك إذا كان الخطاب يتوجه إليه ويعم غيره بالحكم. ولو جعلنا المعنى في لفظ الجمع
بالعبارة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) لذلك لكان وجها، لأن الحكم جار في من يليه من الأئمة
: (عليهم السلام) على ما شرحناه (منه).
60
هذا مع قطع النظر وطي الكشح عما في الاحتمال المذكور من البعد عن الظاهر

61
ومنافرة النظم، كما لا يخفى على ذوي الأفهام السليمة والأذواق المستقيمة.
نقض وإبرام وكلام على كلام امام العوام:
قال إمام المخالفين الفخر الرازي في تفسيره الكبير في تفسير هذه الآية: انه تعالى
أمر المؤمنين بالكون مع الصادقين، ومتى وجب الكون مع الصادقين، فلابد من
وجود الصادقين، لأن الكون مع الشئ مشروط بوجود ذلك الشئ، فهذا يدل
على أنه لابد من وجود الصادقين في كل وقت، وذلك يمنع من اطباق الكل على
الباطل، فوجب ان أطبقوا على شئ أن يكونوا محقين، فهذا يدل على أن اجماع
الأمة حجة.
فان قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن المراد بقوله (كونوا مع الصادقين) أي: كونوا
على طريقة الصالحين، كما أن الرجل إذا قال لولده، كن مع الصالحين، لا يفيد الا
ذلك.
سلمنا ذلك لكن نقول: إن هذا الأمر كان موجودا في زمان الرسول (صلى الله عليه وآله)، وكان
هذا أمرا بالكون مع الرسول (صلى الله عليه وآله)، فلا يدل على وجود صادق في سائر الأزمنة.
سلمنا ذلك لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك الصادق هو المعصوم الذي يمتنع خلو
زمان التكليف عنه كما تقوله الشيعة؟
والجواب عن الأول: أن قوله تعالى (كونوا مع الصادقين) أمر بموافقة (1)
الصادقين، ونهي عن مفارقتهم، وذلك مشروط بوجود الصادقين، وما لا يتم
الواجب الا به فهو واجب، فدلت هذه الآية على وجود الصادقين.
وقوله (انه محمول على أن يكونوا على طريقة الصادقين) فنقول: انه عدول عن



(1) في (س): بمرافقة.
62
الظاهر من غير دليل.
قوله (هذا الأمر مختص بزمان الرسول) قلنا: هذا باطل لوجوه:
الأول: أنه ثبت بالتواتر الظاهر من دين محمد (صلى الله عليه وآله) أن التكاليف المذكورة في
القرآن متوجهة على المكلفين إلى قيام القيامة، فكان الأمر في هذا التكليف كذلك.
والثاني: أن الصيغة تتناول الأوقات كلها، بدليل صحة الاستثناء.
والثالث: لما لم يكن الوقت المعين مذكورا في لفظ الآية، لم يكن حمل الآية على
البعض أولى من حملها على الباقي، فإما أن لا يحمل على شئ من الأوقات، فيفضي
إلى التعطيل وهو باطل، أو على الكل وهو المطلوب.
والرابع: أن قوله (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله) أمر لهم بالتقوى، وهذا الأمر
إنما يتناول من يصح منه أن لا يكون متقيا، وإنما يكون كذلك لو كان جائز الخطأ،
فكانت الآية دالة على أن من كان جائز الخطأ وجب كونه مقتديا بمن كان واجب
العصمة، وهم الذين حكم الله بكونهم صادقين.
وترتب الحكم في هذا يدل على أنه إنما وجب على جائز الخطأ كونه مقتديا به،
ليكون مانعا لجائز الخطأ عن الخطأ، وهذا المعنى قائم في جميع الأزمان، فوجب
حصوله في كل الأزمان.
قوله (لم لا يجوز أن يكون المراد هو كون المؤمن مع المعصوم الموجود في كل
زمان؟) قلنا: نحن نعترف بأنه لابد من معصوم في كل زمان، الا أنا نقول: إن ذلك
المعصوم هو مجموع الأمة، وأنتم تقولون: ان ذلك المعصوم واحد منهم.
فنقول: هذا الثاني باطل، لأنه تعالى أوجب على كل واحد من المؤمنين أن
يكونوا مع الصادقين، وإنما يمكنه ذلك لو كان عالما بأن ذلك الصادق من هو؟ لأن
الجاهل بأنه من هو، فلو كان مأمورا بالكون معه كان ذلك تكليف ما لا يطاق، لأنا
لا نعلم انسانا معينا موصوفا بوصف العصمة والعلم بأنا لا نعلم هذا الانسان حاصل
بالضرورة.

63
فثبت أن قوله (كونوا مع الصادقين) ليس أمرا بالكون مع شخص معين، ولما
بطل هذا بقي أن المراد منه الكون مع جميع الأمة، وذلك يدل على أن قول مجموع
الأمة حق وصواب، ولا نعني بقولنا الاجماع حجة الا ذلك (1). انتهى كلامه.
أقول: العجب من قول هذا الناصب كيف يقرب من الحق تارة، ويبعد عنه
بمراحل أخرى، فالحمد لله الذي أجرى على لسانه في أثناء كلامه ما يكفينا في ابرام
منقوضه ونقض ابرامه (2). ولنشير (3) إلى ما في كلامه من الخلل الفاضح والتهافت
الواضح.
فنقول: ان كلامه هذا فاسد الاعتبار ناقص العيار.
أما أولا، فلأنه قد اعترف بأنه سبحانه إنما أمر بذلك لحفظ الأمة عن الخطأ في كل
زمان، ومن المعلوم أن الاجماع متعذر أو متعسر الحصول في أكثر الأعصار، مع
انتشار علماء الاسلام في الأمصار، والاطلاع عليه أصعب، كما بيناه في أوائل رسالة
الجمعة، وليس له أن يقول المتمسك إنما هو الاجماع في الأعصار الماضية، لأن ذلك
مما لا يتيسر الاطلاع عليه غالبا.
وأيضا فقد اعترف بأنه لابد من معصوم في كل زمان، الا أنه ادعى أن ذلك
المعصوم هو مجموع الأمة.
وأما ثانيا، فلأن الاجماع على تقدير تسليم تحققه وامكان العلم به في تلك (4)



(1) التفسير الكبير 16: 220 - 221.
(2) المراد من منقوضه كون المراد من الصادقين المعصومين الموجودين في الأعصار الذين
يمتنع خلو زمان التكليف عن واحد منهم. ومن ابرامه كون المراد منهم الاجماعات الواقعة
في الأعصار، فتبصر حذرا عن الزلة (منه).
(3) في (س): ولنشر.
(4) في (س): كل.
64
الأزمنة لا يتحقق الا في شذوذ من المسائل (1).
وأما ثالثا، فإنه من المعلوم المستبين أن المأمورين بالكون غير من أمروا بالكون
معهم، وعلى ما زعمه يلزم اتحادهما، وفي هذا تأمل، إذ المأمور بالكون الكلي
العددي والمأمور بالكون معهم المجموعي، فلا يلزم اتحادهما، لكن اطلاق الصادقين
على المجموع من حيث المجموع من جهة الاجتماع مما لا يجوزه (2) من مارس كلام
البلغاء.
وأما رابعا، فلأن المراد بالصادقين: إما الصادقون في الجملة، فيصدق على جميع
المسلمين، لصدقهم في الجملة، أو دائما، والأول لا يجوز ارادته، لأنه يقتضي أن
يكونوا مأمورين باتباع كل فرد فرد من أفراد المسلمين، كما هو قضية عموم الجمع
المحلى باللام، فتعين الثاني، وبه يتم التقريب، إذ قد عرفت فساد ما اختاره من
اطلاقه الصادقين على المجموع من حيث هومن جهة الاجتماع.
وأما خامسا، فلأن ما ذكره من عدم العلم بالمعصوم وادعاؤه الضرورة عليه
سخيف جدا، لأن عدم علمه بذلك ناشئ عن التعصب والتصلب في مذهبه
وتقصيره في طلب الحق.
ولو جانب التعسف والعناد، وسلك منهاج الرشد والسداد، لاجتنى ثمر



(1) والمؤمنون مأمورين أن يكونوا مع الصادقين في جميع الأحكام الشرعية الأصلية و
الفرعية، بدليل صحة الاستثناء، ولأن المقصود من ذلك وجوب اقتداء جائز الخطأ
بالمعصوم ليكون مانعا عن الخطأ، كما اعترف به، وهذا عام شامل لجميع الأحكام لا يصح
تخصيصه بمسألة دون أخرى كما لا يخفى (منه).
(2) فان مجموع الأمة من حيث المجموع شئ واحد لا يصح اطلاق الجمع عليه، وكل
واحد من الأشخاص أجزاء لهذا المجموع لا جزئيات له، واطلاق لفظ الجمع على شئ
باعتبار أجزائه غير معروف، فلا يصح أن يراد من الصادقين المجموع من حيث هو، فيكون
المراد المجموع الأفرادي، أي: كل واحد من أفراد الأمة، والمأمور بالكون أيضا كذلك، فيلزم
الاتحاد (منه).
65
الاجتهاد، وذاق حلاوة الأمنية بعد طول الجياد، مع أن كل مبتدع في الدين يمكنه أن
يتمسك بهذه الشبهة الواهية في عدم وجوب اختيار الحق، والتعبد بالشرائع الحقة،
والجواب عن الكل واحد، والله الهادي.
وقد استدل العلامة الحلي عطر الله مرقده في المناهج (1) والألفين (2) وكشف
الحق (3) بأدلة أخرى، فليرجع إليها من أراد زيادة التحقيق، والله الهادي إلى سواء
الطريق.
تتميم:
نقل الشيخ الصدوق رحمه الله في كتابه علل الشرائع ومعاني الأخبار، عن محمد
بن أبي عمير، قال: ما سمعت ولا استفدت عن هشام بن الحكم في طول صحبتي له
شيئا أحسن من كلامه في صفة عصمة الامام، فاني سألته يوما عن الامام
أهو معصوم؟ فقال: نعم، فقلت: ما صفة العصمة فيه؟ وبأي شئ تعرف؟
فقال: ان جميع الذنوب لها أربعة أوجه لا خامس لها: الحرص، والحسد،
والغضب، والشهوة، فهذه منفية عنه لا يجوز أن يكون حريصا على هذه الدنيا وهي
تحت خاتمه، لأنه خازن المسلمين، فعلى ماذا يحرص؟ ولا يجوز أن يكون حسودا،
لأن الانسان إنما يحسد من فوقه، وليس فوقه أحد، فكيف يحسد من هو دونه؟
ولا يجوز أن يغضب لشئ من أمور الدنيا، الا أن يكون غضبه لله عز وجل، فان
الله قد فرض عليه إقامة الحدود أن لا تأخذه في الله لومة لائم، ولا رأفة في دين الله



(1) مناهج اليقين ص 323 ط سنة 1416.
(2) الألفين ص 78.
(3) نهج الحق وكشف الصدق ص 190.
66
حتى يقيم حدود الله عز وجل.
ولا يجوز أن يتبع الشهوات، ويؤثر الدنيا على الآخرة، لأن الله عز وجل حبب
إليه الآخرة، كما حبب الينا الدنيا، فهو ينظر إلى الآخرة كما ننظر إلى الدنيا، فهل
رأيت أحدا يترك وجها حسنا لوجه قبيح، ونعمة دائمة لدنيا فانية (1).
وقال بعض الكاملين بعد نقل هذا الخبر أقول: الظاهر لمن له أدنى نصيب من
البصيرة أن الحارس المنصوب من الله عز وجل مجده لحراسة الأرض، بحيث يهلك
أهلها بهلاكه، يجب أن يكون معصوما من الخطأ والخطل والذنوب، مأمونا عن
الخيانة والزلل والعيوب، لأن الملك المتيقظ الماهر لا ينصب الجائر لحراسة خزائنه في
الدهور، فكيف ملك الملوك العالم بما في الصدور؟.
ويشهد بهذا ما هو المروي عن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: ان الله خلق السماء
وجعل لها سكانا وحرسا، ألا وان حرس السماء النجوم، فإذا هلك النجوم هلك
أهل السماء، وخلق الأرض وجعل لها سكانا وحرسا، ألا وان حرس الأرض أهل
بيتي، فإذا هلك أهل بيتي هلك أهل الأرض. (2)
الحديث الرابع
[حديث الثقلين]
الطبراني في معجمه قال: حدثنا الحسن بن محمد بن مصعب الأشناني الكوفي، نا
عباد بن يعقوب الأسدي، نا أبو عبد الرحمن المسعودي، عن كثير النواء، عن عطية



(1) معاني الأخبار ص 133 ح 3، وعلل الشرائع ص 204 - 205، وفي الكتابين بعد
قوله (لوجه قبيح) هكذا: وطعاما طيبا لطعام مر، وثوبا لينا لثوب خشن، ونعمة دائمة
باقية لدنيا زائلة فانية.
(2) بحار الأنوار 27: 308 - 310، رواه بعدة طرق عن رسول الله (صلى الله عليه وآله).
67
العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اني تارك فيكم الثقلين
أحدهما أكبر من الاخر، كتاب الله عز وجل حبل ممدود من السماء إلى الأرض،
وعترتي أهل بيتي، وانهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (1).
أقول: هذا الخبر من المشهورات (2)، وفيه دلالة قاطعة على عصمة
العترة (عليهم السلام) لحكمه (عليه السلام) بأنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ومعلوم أنه يستلزم
عصمتهم.
وقد فسر العترة بأهل بيته (عليهم السلام)، وقد تقدم تحقيق معناه، وأنهم هم أصحاب
العباء سلام الله عليهم. وإنما سمي الكتاب والعترة بالثقلين، لعظم شأنهما بالنسبة إلى
من عداهما، والعرب تطلق على ما له نفاسة وشأن اسم الثقل، قاله في القاموس،
قال: ومنه الحديث اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي (3).
أقول: ومنه سمي الجن والإنس ثقلين، لعظم شأنهما بالنسبة إلى ما في الأرض من
الحيوانات.
وقيل: سميا بذلك لرزانة رأيهما. وقيل: لأنهما مثقلان بالتكاليف.
وروى الفاضل الجليل علي بن عيسى في كشف الغمة عن زيد بن أرقم (4)، قال:
لما أقبل النبي (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع ونزل بغدير الجحفة بين مكة والمدينة، فأمر



(1) المعجم الصغير للطبراني 1: 131 ط المدينة
(2) راجع إحقاق الحق 4: 436 - 443 و 9: 309 375 و 18: 261 - 289.
(3) القاموس 3: 342.
(4) قلت: وروى مسلم في صحيحه (4: 1873) عن زيد بن أرقم (رضي الله عنه) قال: قام فينا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر
يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، واني تارك فيكم الثقلين، أولهما كتاب الله فيه الهدى
والنور، فتمسكوا بكتاب الله عز وجل وارغبوا فيه، ثم قال: وأهل بيتي أذكركم الله في أهل
بيتي ثلاث مرات. ورواه غيره من أئمة العامة بعبارات شتى يشترك في وجوب التمسك
بالكتاب وأهل البيت (عليهم السلام) (منه).
68
بالدوحات (1) فقم ما تحتهن ونادى بالصلاة جامعة.
قال: فخرجنا إلى النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم شديد الحر، وان منا من يجعل رداءه تحت
قدميه من شدة الرمضاء (2)، حتى انتهينا إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، فأمر النبي (صلى الله عليه وآله) فصلى بنا،
ثم انصرف.
فقال: الحمد لله نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا،
الذي لا هادي لمن أضل، ولا مضل لمن هدي، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن
محمدا عبده ورسوله.
أما بعد أيها الناس أنه لم يكن لنبي من العمر (3) الا نصف عمر الذي كان قبله (وان عيسى لبث في قومه أربعين سنة، ألا واني قد شرعت في العشرين الأواني،
ألا واني أوشك أن أفارقكم، واني مسؤول وأنتم (5) مسؤولون هل بلغت؟ فما أنتم
قائلون؟
فقام من كل ناحية مجيب يقولون: نشهد أنك عبد الله ورسوله، وأنك قد بلغت
رسالاته، وجاهدت في سبيله، وصدعت بأمره، وعبدته حتى أتاك اليقين، فجزاك
خير ما جزى نبيا عن أمته.



(1) الدوحات جمع الدوحة: الشجرة العظيمة.
(2) الرمضاء: هي الأرض تشتد وقع الشمس عليها، وقد رمض يومنا يرمض: اشتد
حره.
(3) لا يخفى أن المراد بالعمر ليس المعنى المتعارف، بل مدة الدعوة والنبوة إلى آخر العمر
بدلالة آخر الكلام، فلا تغفل (منه).
(4) لا يخفى أنه (عليه السلام) قد بعث بعد الأربعين، فمدة العمر بين أمته بعد الدعوة ثلاث و
عشرون سنة، وحينئذ فلا يتم قوله (انه لم يكن لنبي من العمر الا نصف عمر الذي كان
قبله) فلعله (صلى الله عليه وآله) لم يعتد بالثلث الأولى، لخفاء أمر النبي (صلى الله عليه وآله) جدا، أو لسلوكه مسلك
المجللة والمداراة والتقية في الجملة في الغالب (منه).
(5) في المصدر: وأنكم.
69
ثم قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده
ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، والبعث بعد الممات حق، وتؤمنون بالكتاب
كله؟ قالوا: بلى.
قال: فاني أشهد الله قد صدقتم ثم صدقتم (1)، ألا واني فرطكم على الحوض
وأنتم تبعي (2)، توشكون أن تردوا علي الحوض، فأسألكم حين تلقونني عن ثقلي
كيف خلفتموني فيهما؟.
قال: فعيل (3) علينا فلم ندر ما الثقلان حتى قام رجل من المهاجرين، فقال:
بأبي (4) أنت وأمي ما الثقلان؟ قال: الأكبر منهما كتاب الله سبب طرف بيد الله
تعالى وطرف بأيديكم، فتمسكوا به ولا تزلوا ولا تضلوا، والأصغر منهما عترتي لا
تقتلوهم ولا تقهروهم، فاني سألت اللطيف الخبير أن يردا علي الحوض فأعطاني،
فقاهرهما قاهري، وخاذلهما خاذلي، ووليهما وليي، وعدوهما عدوي.
ثم أعاد: ألا وانه لم تهلك أمة قبلكم حتى تدين بأهوائها وتظاهر على نبيها،
وتقتل من قام بالقسط منها، ثم أخذ بيد علي (عليه السلام) فرفعها وقال: من كنت وليه فعلي



(1) لعل المراد صدقتم في المشهود به، وهو الخبر الذي تعلقت به الشهادة، وإن كان
خلاف الظاهر، إذ لو رجع إلى الاخبار بالشهادة لم يستقم التعميم، لأن كثير أمتهم منافقون،
اللهم الا أن يوجه الخطاب إلى المؤمنين، وربما يؤيده قوله (فقام من كل ناحية مجيب) ولا
تغفل (منه).
(2) في المصدر: معي.
(3) العيل محركة: عرضك حديثك وكلامك على من لا يريده وليس من شأنه، كأنه لم
يهتد لمن يريده فعرضه على من لا يريده، قاله في القاموس (4: 23) والمراد أنا لم نهتد لما
أراده (منه).
(4) الباء في (بأبي) باء التعدية عند بعض النحاة، وهي في الحقيقة باء العوض، نحو هذا
بهذا، و (ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون) والظرف متعلق بمحذوف، والتقدير أفديك بأبي
وأمي، والغالب حذفه (منه).
70
وليه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (1).
وهذا الخبر نقل من طرق المخالفين، وهو من أحاديث الغدير، وإنما ذكرناه في هذا
المقام لتضمنه لذكر الثقلين.
وقال العلامة التفتازاني في شرح المقاصد: فان قيل: قال (عليه السلام): اني تارك فيكم
الثقلين، كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، وأهل بيتي
إلى آخر الحديث. وقال: اني تارك فيكم ما ان أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله
وعترتي أهل بيتي. ومثله يشعر بفضلهم على العالم وغيره.
قلت: نعم لاتصافهم بالعلم والتقوى مع شرف النسب، ألا ترى أنه (عليه السلام) قرنهم
بكتاب الله في كون التمسك بهم منقذا من الضلالة، ولا معنى للتمسك بالكتاب الا
الأخذ بما فيه الهداية، فكذا في العترة (2) انتهى.
وهو منه انصاف لعله صدر منه بغير روية، والا فمع الجزم بكون التمسك بهم منقذا
من الضلال، فلزم عصمتهم وإمامتهم على رغمه ورغم أصحابه.
جوهرة فاخرة:
قال كمال الدين محمد بن طلحة الشامي في كتابه مطالب السؤول: وهذا الرجل
كان شيخا مشهورا وفاضلا مذكورا.
قال الشيخ الجليل بهاء الدين علي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة: أظنه مات
في سنة أربع وخمسين وستمائة، وحاله في ترفعه وزهده وتركه وزارة الشام،
وانقطاعه ورفضه الدنيا، حال معلومة قرب العهد بها، وفي انقطاعه عمل هذا



(1) كشف الغمة في معرفة الأئمة 1: 48 - 49.
(2) شرح المقاصد 5: 302 - 303 ط عالم الكتب.
71
الكتاب وكتاب الدائرة، وكان شافعي المذهب من أعيانهم ورؤسائهم، ما نصه:
العترة (1) هي العشيرة. وقيل: هي الذرية، وقد وجد الأمران فيهم (عليهم السلام)،
فإنهم عشيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وذريته. أما العشيرة (2)، فالأهل الأدنون وهم كذلك.
وأما الذرية، فان أولاد بنت الرجل ذريته، ويدل عليه قوله تعالى عن
إبراهيم (عليه السلام) (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك
نجزي المحسنين × وزكريا وعيسى ويحيى والياس كل من الصالحين) (3) فجعل
عيسى من ذرية إبراهيم (عليه السلام)، ولم يتصل به الا من جهة مريم (4) انتهى كلامه.
وقال علي بن عيسى نور الله مرقده بعد نقله أقول: مشيدا لما قاله الشيخ كمال
الدين، وذلك بما أورده صاحب كتاب الفردوس (5)، عن جابر بن عبد الله، عن
النبي (صلى الله عليه وآله) أن الله تعالى جعل ذرية كل نبي في صلبه، وأنه تعالى جعل ذريتي في
صلب علي (6) (عليه السلام).



(1) للعامة اختلافات كثيرة في العترة، قال ابن الأثير في النهاية (3: 177): فيه (خلفت
فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي) عترة الرجل: أخص أقاربه. وعترة النبي (صلى الله عليه وآله)
بنو عبد المطلب. وقيل: أهل بيته الأقربون، وهم علي وأولاده. وقيل: عترته الأقربون و
الأبعدون منهم انتهى.
ولا يخفى ما فيه، فان الأخبار في أصحتهم وكتبهم المعتمدة المستفيضة ناطقة بأن المراد
بالعترة أهل بيته الطاهرين سلام الله عليهم، فلا مجال لمخالفتها. وأبعد الكل دخول الأقربين
والأبعدين، فإنه مما يقطع بفساد الأقربون والأبعدون عن الدين (منه).
(2) في الكشف: أما العترة.
(3) الأنعام: 84 - 85.
(4) كشف الغمة 1: 53.
(5) هو ابن شيرويه الديلمي، من أعاظم محدثيهم (منه).
(6) فردوس الأخبار 1: 207 برقم: 616 ط دار الكتاب العربي.
72
ونقلت مما أخرجه الفراء المحدث (1) عن عمر، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: كل
قوم فعصبتهم لأبيهم الا أولاد فاطمة، فاني أنا عصبتهم وأنا أبوهم (2). انتهى كلامه
أعلى الله مقامه.
قلت: والمذكور في كتب الفروع أنه لو أوصى بشئ لعشيرته، كان لأقرب الناس
إليه، وهو أحد القولين للغويين والفقهاء.
وفي القاموس: عشيرة الرجل بنو أبيه الأدنون أو قبيلته (3).
وكلام الشيخ كمال الدين بن طلحة ناظر إلى المعنى الأول من المعنيين المذكورين
في القاموس، والعلامة في كتبه فسر العشيرة بالقرابة مطلقا نظرا إلى العرف.
والتحقيق أن العترة هم أهل البيت صلوات الله عليهم.
وقد نقل صاحب الصراط المستقيم عن ابن مردويه الحافظ أنه أورد في كتاب
المناقب من مائة وثلاثين طريقا أن العترة علي وفاطمة والحسنان (عليهم السلام)، ويدخل
فيهم بقية الأئمة تغليبا، والله العالم.
الحديث الخامس
[قوله (صلى الله عليه وآله) مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح]
الطبراني في معجمه، قال: حدثنا الحسين بن أحمد بن منصور سجادة البغدادي، نا
عبد الله بن داهر الرازي، نا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش (4)، عن أبي



(1) كشف الغمة 1: 53 - 54 ط سنة 1381 ق
(2) القاموس: 2: 90.
(3) الأعمش اسمه سليمان بن مهران، وثقه ابن حجر والذهبي وغيرهما، يعرف بأنه
شيعي، وأصحابنا أهملوا حاله، وهو عجيب (منه).
73
إسحاق، عن حنش بن المعتمر، أنه سمع أبا ذر الغفاري يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يقول: مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك،
ومثل باب حطة في بني إسرائيل (1).
الحديث السادس
[حديث السفينة]
الطبراني في معجمه، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن محمد بن ربيعة الكلابي
أبو مليك (2) الكوفي، نا أبي، نا عبد الرحمن بن أبي حماد المقري، عن أبي سلمة
الصائغ، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنما
مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركب فيها (3) نجا، ومن تخلف عنها غرق،
وإنما مثل أهل بيتي فيكم كمثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له (4).
أقول: هذان الخبران يشهدان بالإمامة لأهل بيته (عليهم السلام)، ويناديان بوجوب
اتباعهم صلوات الله عليهم، والأخبار بهذا المعنى متظافرة.
روى نور الدين علي بن محمد المالكي المعروف بابن الصباغ في الفصول المهمة،
عن رافع مولى أبي ذر (رضي الله عنه).، قال: صعد أبو ذر على عتبة باب الكعبة، وأخذ
بحلقة (5) الباب، وأسند ظهره إليه، وقال: يا أيها الناس من عرفني فقد عرفني،



(1) المعجم الصغير للطبراني 1: 139 ط المدينة.
(2) في المعجم: أبو كميل.
(3) في المعجم: من ركبها نجا
(4) المعجم الصغير للطبراني 2: 22.
(5) الحلقة بالتسكين: حلقة الدرع والباب. وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء
حلقة بالتحريك، كذا في الصحاح (4: 1462) (منه).
74
ومن أنكرني فأنا أبو ذر.
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركبها نجا،
ومن تخلف عنها زخ (1) في النار. وسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: اجعلوا أهل بيتي
منكم مكان الرأس من الجسد، ومكان العينين من الرأس، فان الجسد لا يهتدي الا
بالرأس، ولا يهتدي الرأس الا بالعينين (2).
وروى الحاكم في المستدرك وحكم بصحته عن أبي ذر، وهو آخذ بباب الكعبة،
قال: من عرفني فقد عرفني، ومن أنكرني فأنا أبو ذر، سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: ألا
أن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها هلك (3).
وروى الفقيه الشافعي ابن المغازلي (4) عدة أحاديث دالة على ما دل عليه
الحديثان، من أنهم (عليهم السلام) كسفينة نوح.
فمنها: باسناده إلى بشر بن المفضل، قال: سمعت الرشيد يقول: سمعت المهدي
يقول: سمعت المنصور يقول: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها
هلك (5).
ومنها: ما رواه باسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله)
أنه قال: مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها



(1) قال ابن الأثير في النهاية (2: 298): فيه (مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب
فيها نجا، ومن تخلف عنها زخ به في النار) أي: دفع ورمي، يقال: زخه يزخه زخا انتهى
(منه) أقول: وفي الفصول: زج.
(2) الفصول المهمة ص 26 ط النجف الأشرف.
(3) مستدرك الحاكم 3: 150 - 151 ط دار المعرفة.
(4) اسمه علي بن محمد الجلابي، من أعاظم ثقاتهم ومحدثيهم.
(5) المناقب لابن المغازلي ص 132، برقم: 173.
75
غرق (1).
ومنها: ما رواه أيضا في كتابه المذكور باسناده من طريقين إلى ابن المعتمر، والى
سعيد بن مسيب (2) بروايتهما معا، عن أبي ذر، قال: قال رسول الله 9: مثل أهل
بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق (3).
ومنها: ما رواه أيضا باسناده إلى سلمة بن الأكوع، عن أبيه، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح، من ركبها نجا (4).
ومما ينادي نداء مسمعا لمن له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، بوجوب التمسك
بهم والاقتداء بآثارهم، ما رواه الثعلبي في تفسيره في تفسير قوله تعالى (اهدنا
الصراط المستقيم) عن مسلم بن حسان، قال: سمعت أبا بريدة يقول: الصراط
محمد وآله (5).
قلت: ويشهد له ما ورد عن أئمتنا (عليهم السلام) من أن المغضوب عليهم في الآية هم
النصاب، والضالون اليهود والنصارى، كما رواه علي بن إبراهيم بن هاشم، من
عظماء أصحابنا وثقاتهم في تفسيره، بطريق حسن، عن حريز، عن أبي عبد الله



(1) المناقب ص 134، برقم: 176.
(2) مسيب بضم الميم وفتح السين المهملة وتشديد الياء المثناة من تحت: إما بفتحها وهو
المشهور بين المحدثين، أو كسرها وهو المنقول عن سعيد، فقد نقل أنه يغضب إذا فتحت
الياء، وكان يتولى سيب الله من سيب أبي (منه).
(3) المناقب ص 133 و 134، برقم: 175 و 177.
(4) المناقب ص 132 - 133، برقم: 174.
(5) الكشف والبيان للثعلبي مخطوط. ويؤيده ما رواه محمد بن مؤمن الشيرازي، وهو
من أعيان المخالفين في تفسيره، باسناده عن الحسن البصري أنه كان يقرأ الحرف هذا صراط
علي مستقيم، قلت للحسن: ما معناه؟ قال: يقول: هذا صراط علي بن أبي طالب
الخبر (منه).
76
جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام) (1).
وروى أيضا في الكتاب المذكور عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة عنه (عليه السلام) قال:
المغضوب عليهم النصاب، والضالين الشكاك الذين لا يعرفون الامام (2).
وهذا أولى مما اشتهر بين المفسرين من تفسير المغضوب عليهم باليهود،
والضالين بالنصارى، ومما قاله بعض المفسرين من أن المغضوب عليهم العصاة في
الفروع المخالفون في الاعتقادات.
وذكر أمين الاسلام أبو علي الطبرسي (رحمه الله)، في تفسيره الكبير الموسوم بمجمع البيان
لصراط المستقيم تفاسير أربعة، رابعها: أنه النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة القائمون مقامه، قال:
وهو المروي في أخبارنا (3). وهذا هوما نقلناه عن الثعلبي.
ومما يصرح بوجوب التمسك بهم وينادي بجلالة قدرهم وعلو شأنهم، ما رواه
الحاكم في مستدركه وحكم بصحته، عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: خذوا عني
من قبل أن تشاب الأحاديث بالباطل، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنا الشجرة،
وفاطمة فرعها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها، وشيعتنا ورقها، وأصل
الشجرة في جنة عدن، وسائر ذلك في الجنة (4).
وما رواه الثعلبي أيضا في تفسيره في تفسير قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه



(1) تفسير القمي 1: 29.
(2) تفسير القمي 1: 29. وروى العياشي في تفسيره (1: 24 ح 28) عن رجل عن ابن
أبي عمير رفعه في قوله تعالى (غير المغضوب عليهم وغير الضالين) هكذا نزلت، قال:
المغضوب عليهم فلان وفلان وفلان والنصاب، والضالين الشكاك الذين لا يعرفون
امامهم (منه).
(3) مجمع البيان 1: 28.
(4) مستدرك الحاكم 3: 160.
77
أجرا الا المودة في القربى) (1) قال: نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي وفاطمة والحسن
والحسين (عليهم السلام) وقال: أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم (2).
وما رواه أحمد بن حنبل في مسنده، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): النجوم أمان
لأهل السماء، فإذا ذهبت ذهبوا، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل
بيتي ذهب أهل الأرض (3).
وهذا يدل على ما عليه أصحابنا روح الله أرواحهم وقدس أشباحهم من عدم
جواز خلو العصر عن المعصوم: إما ظاهر مشهور، أو خائف مستور، وسنحقق
ذلك في الحديث السادس والثلاثين إن شاء الله تعالى.
وروى صدر الأئمة من فحول عظمائهم، وهو موفق بن أحمد المكي في كتابه
باسناده إلى علي (عليه السلام) وابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله) نحوه (4).
ودلالة هذه الآية على امامتهم: ظاهرة، إذ ليست الإمامة الا الرئاسة
العامة الموجبة لتعين اقتداء الأمة بمن اتسم بها، وقد نطقت هذه الأخبار بوجوب
الاقتداء بهم (عليهم السلام) والتمسك بهم، فلا تغفل.
الحديث السابع
[حديث المنزلة]
الطبراني في معجمه، حدثنا محمد بن محمد بن عقبة الشيباني الكوفي، ثنا الحسن



(1) الشورى: 23.
(2) رواه أحمد بن حنبل في مسنده 2: 442، والحاكم في المستدرك 3: 149، وابن كثير
في البداية والنهاية 8: 205، والخطيب في تاريخه (عليه السلام): 136 وغيرهم.
(3) ينابيع المودة ص 20، وراجع إحقاق الحق 18: 328.
(4) مقتل الحسين للموفق الخوارزمي ص 18 ط النجف الأشرف.
78
بن علي الحلواني، نا ناصر بن حماد أبو الحارث الوراق، ثنا شعبة، عن يحيى بن
سعيد الأنصاري، عن سعيد بن المسيب، عن سعد بن أبي وقاص، أن النبي (صلى الله عليه وآله)
قال لعلي (عليه السلام): أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي (1).
أقول: هذا الخبر من الأخبار المتواترة (2) التي لا شك فيها، وقد رواه أحمد بن
حنبل من عدة طرق، فمنها: ما يرفعه إلى سعيد بن المسيب، قال: حدثنا مصعب بن
سعد بن أبي وقاص، عن أبيه سعد، قال: دخلت على سعد (3).
ورواه البخاري في صحيحه في باب مناقب علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال:
حدثني محمد بن بشار، حدثنا غندر، عن شعبة، عن سعد، قال: سمعت إبراهيم بن
سعد عن أبيه، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من
موسى (4).
فقلت: حديث حدثته عنك فحدثنيه حين استخلف النبي (صلى الله عليه وآله) عليا على المدينة،
قال: فغضب سعد وقال: من حدثك به؟ فكرهت أن أحدثه أن ابنه حدثنيه فيغضب
عليه.



(1) المعجم الصغير ص 169 ط الدهلي. وأورد ابن حجر في صواعقه (ص 72) من عدة
طرق: أخرج الشيخان عن سعد بن أبي وقاص، وأحمد، والبزاز، عن أبي سعيد الخدري،
والطبراني عن أسماء بنت عميس، وأم سلمة، وحبيش بن جنادة، وابن عمر، وابن
عباس، وجابر بن سمرة، وعلي، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
خلف علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله تخلفني في نساء والصبيان؟
فقال: أما ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟ انتهى. ولم
أجد في المخالفين أشد نصبا وعداوة للطائفة من ابن حجر هذا أحرقه الله بصواعقه (منه).
(2) راجع حول تواتر الخبر إلى إحقاق الحق 5: 132 - 234 و 16: 1 - 97 و 21: 150 -
220.
(3) مسند أحمد بن حنبل 3: 88 ط دار المعرف بمصر.
(4) صحيح البخاري 4: 208 ط. استانبول.
79
ثم قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين خرج في غزاة تبوك استخلف عليا (عليه السلام) على
المدينة، فقال علي: يا رسول الله ما كنت أوثر أن تخرج في وجه الا وأنا معك، فقال:
أوما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي. وفي بعض
روايات أحمد بن حنبل الا النبوة (1).
ورواه الحميدي في المجمع بين الصحيحين في الحديث الثامن من المتفق عليه من
عدة طرق (2).
قال صاحب الطرائف قدس الله روحه وتابع كراماته وفتوحه ما نصه: وفي
صحيح البخاري من الجزء الخامس من سادس كراس، وهو نصف الجزء من
النسخة المنقول منها: أن النبي (صلى الله عليه وآله) خرج إلى تبوك واستخلف عليا (عليه السلام)، فقال:
أتخلفني في النساء والصبيان؟ فقال: ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من
موسى الا أنه لا نبي بعدي (3).
ورواه البخاري أيضا في صحيحه في الجزء الرابع [على حد ربعه الأخير من
النسخة المنقول منها (4). ورواه مسلم في صحيحه في الجزء الرابع] (5) على حد
كراسين من آخره من النسخة المنقول منها.
وأسنداه معا عن عدة طرق، وفي بعض رواياتهما في الحديث المذكور عن سعد بن
أبي وقاص أن ابن المسيب قال لسعد: أنت سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول ذلك لعلي؟



(1) الطرائف للسيد بن طاووس ص 51 عن مسند أحمد بن حنبل، وإحقاق الحق عن
فضائل أحمد بن حنبل 5: 157.
(2) الطرائف ص 51 عنه.
(3) صحيح البخاري 5: 129.
(4) صحيح البخاري 4: 208.
(5) ما بين المعقوفتين من الطرائف وساقطة عن النسخة المخطوطة.
80
فوضع إصبعيه في اذنيه وقال: نعم والا فاسكتا (1).
ورواه أيضا مسلم في صحيحه في الجزء الرابع في باب مناقب أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب (عليه السلام) من عدة طرق، وقيل للراوي: أنت سمعته؟ - يعني من
النبي (صلى الله عليه وآله) - قال: نعم والا فصمتا (2).
ورواه الشافعي ابن المغازلي في كتاب المناقب من أكثر من عشرة طرق، فمنها:
ما اتفق عليه هو وأحمد بن حنبل يرفعانه إلى إسماعيل بن أبي خالد عن قيس، قال:
سأل رجل معاوية عن مسألة، فقال: سل عنها علي بن أبي طالب (عليه السلام) فإنه
أعلم (3)، قال له: يا أمير المؤمنين قولك فيها أحب إلي من قول علي.
فقال: بئس ما قلت، ولؤم ما جئت به، كيف كرهت رجلا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يغره العلم غرا، ولقد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا
أنه لا نبي بعدي، ولقد كان عمر بن الخطاب يسأله فيأخذ عنه، ولقد شهدت عمر إذا
أشكل عليه شئ قال: هاهنا علي؟ (4) قم لا أقام الله رجليك.
وزاد ابن المغازلي فقال: ومحى اسمه من الديوان (5).



(1) صحيح مسلم 4: 1870 و 1871. ط دار احياء الكتب العربية.
(2) صحيح مسلم 2: 19 ط. محمد على صبيح بمصر.
(3) ويقرب من هذا ما نقله الفاضل صاحب الكشف، من أن أول من تكلم بالمثل
المشهور - قضية ولا أبا حسن لها - معاوية، كان يقولها إذا استقبله أمر لا يقوم بكفايته،
يريد به علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أخذا من قول عمر بن الخطاب (أقضانا علي) على ما
رواه البخاري، ثم قال أقول: ويروى مرسلا عن النبي (صلى الله عليه وآله) يملأ في حديث طويل انتهى
(منه).
(4) الظاهر أنه استفهام بحذف أداته، والغرض السؤال عنه (عليه السلام) ليرجع إليه، ويحتمل
كونه اخبارا، والمعنى أنه إذا أشكل عليه شئ من السؤال قال: هاهنا يعني عندكم علي
فارجعوا إليه (منه).
(5) المناقب لابن المغازلي ص 34.
81
وقد صنف القاضي أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي - وهو من أعيان
رجالهم - كتابا سماه ذكر الروايات عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لأمير المؤمنين علي بن أبي
طالب (عليه السلام): أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي، وبيان طرقها
واختلاف وجوهها.
رأيت هذا الكتاب من نسخة ثلاثين ورقة عتيقة عليها رواية، تاريخ الرواية سنة
خمس وأربعين وأربعمائة، روى التنوخي حديث أنت مني بمنزلة هارون من موسى
الا أنه لا نبي بعدي، عن عمر بن الخطاب، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود.
وعبد الله بن عباس، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وأبي هريرة، وأبي سعيد
الخدري، وجابر بن سمرة، ومالك بن الحويرث، والبراء بن عازب، وزيد بن أرقم،
وأبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وعبد الله بن أبي أوفى، وأخيه زيد بن أبي أوفى،
وابن شريحة (1).
وحذيفة بن أسيد، وأنس بن مالك، وأبي برزة (2) الأسلمي، وأبي أيوب
الأنصاري، وعقيل بن أبي طالب، وحبش بن جنادة السلوني، ومعاوية بن أبي
سفيان، وأم سلمة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله)، وأسماء بنت عميس، وسعيد بن المسيب،
ومحمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)، وحبيب بن أبي ثابت، وفاطمة بنت علي،
وشرحبيل بن سعد.
قال التنوخي: كلهم عن النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم شرح الروايات بأسانيدها وطرقها (3).
انتهى كلام صاحب الطرائف، أفاض الله عليه رواشح المراحم وسوانح العواطف.
وسيأتي في الحديث الثالث والعشرين نقل هذا الخبر، أعني قوله (أنت مني بمنزلة



(1) في الطرائف: وأبي سريحة.
(2) في الطرائف: وأبي بريدة.
(3) الطرائف في معرفة المذاهب ص 51 - 54 المطبوع بتحقيقنا سنة 1399 ه‍ ق.
82
هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي) في جملة حديث طويل أخذناه من صحيحي
مسلم والترمذي، وسنحقق دلالته على الإمامة في ذيله إن شاء الله تعالى.
تبصرة:
قد تواترت الروايات في أصحة القوم ومسانيدهم عن سعد بن أبي وقاص لهذا
الخبر الشريف (1).
ورووا عنه أيضا أنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: علي مع الحق والحق مع
علي، يدور معه حيث دار، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (2).
وهذا كما ترى ناطق بإمامته، شاهد بعصمته سلام الله عليه، وقد استفاض النقل
واشتهر عن سعد المذكور مجانبته لأمير المؤمنين (عليه السلام).
وذكر الفاضل الجليل أبو عبد الله محمد بن إدريس الحلي في سرائره أنه امتنع عن
بيعته (عليه السلام) يوم بويع (عليه السلام) بعد قتل عثمان مع أسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، وعبد
الله بن عمر، وهذا منه من جملة العجائب الدالة على نفاقه وعدم تصديقه
للرسول (صلى الله عليه وآله) في أقواله، وأنه إنما أظهر الاسلام خوفا.
ونعم ما قال العالم الرباني والعارف الصمداني كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم
البحراني (3) في الاستغاثة في شأنه، حيث قال: وأما سعد بن أبي وقاص، فرجل



(1) راجع إحقاق الحق 5: 132 - 168.
(2) راجع إحقاق الحق 5: 623 - 638 و 16: 385 - 397.
(3) جرينا على ما هو المعروف بين المتأخرين من نسبة هذا الكتاب إلى الشيخ كمال الدين
المذكور، والتأمل والاعتبار الصحيح يقتضي أن الكتاب المذكور لأبي القاسم علي بن أحمد
الكوفي. قيل: وهو من الغلاة، وقد ذكره النجاشي رحمه الله في كتابه وعد من كتبه هذا
الكتاب مسميا له بالبدع المحدثة.
ورأيت في شيراز نسخة من الكتاب المذكور، تاريخ كتابتها قبل مولد كمال الدين الشيخ
ميثم البحراني، وقد نسب الكتاب في آخرها إلى أبي القاسم المذكور. ومن تأمل الكتاب
بعين البصيرة لم يريبه فيما قلناه. وعلى كل حال فالكلام المنقول في غاية المتانة، والعاقل
ينظر إلى ما قال لا إلى من قال، ويعرف الرجال بالحق لا الحق بالرجال (منه).
83
يروي عنه العام والخاص أنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في علي: من كنت
مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره،
واخذل من خذله وأنه قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: علي مع الحق والحق مع
علي، يدور معه حيث دار لن يفترقا حتى يراد علي الحوض.
وهذا وجد عنه في رواية جميع أصحاب الحديث حتى قد أودعوه كتابا لهم يعرف
بكتاب السنة، ثم رووا عنه بعد هذا كله أن عليا (عليه السلام) دعاه إلى نصرته والخروج معه
في حروبه، فامتنع عليه وقال له: ان أعطيتني سيفا يعرف المؤمن من الكافر فيقتل
الكافر وينبو عن المؤمن خرجت معك. قد جعل أصحاب الحديث من الحشوية في
مناقبه في ورعه بزعمهم.
وهذا قول من لم يؤمن بالله ولا برسوله، لأنه ان لم يعرف المؤمن من الكافر
بزعمه، فقد شهد أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول في علي (عليه السلام) ما قد رواه، وليس
يخلو حال سعد في خذلانه لعلي (عليه السلام) بقعوده، أن يكون استحق بهذا القول من
رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللعنة، ولم يتخوف من مخالفته.
أو يكون ظن في نفسه أن دعوة الرسول غير مستجابة في ذلك ولا موجبة، ومن
ظن هذا وقصد الوجه الأول، فقد خرج من كل دين الله جل اسمه، ولا وجه آخر
يتأول في هذا المعنى بغير هذين الوجهين.
وكذلك أيضا حاله فيما شهد به من قوله أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: علي مع
الحق والحق مع علي يدور معه حيث دار، لا يخلو من أن يكون كذب على

84
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كذب علي فليتبوء (1) مقعده من
النار.
أو أن يكون الراوون عن سعد هذا الخبر كذبوا على سعد، فان أقروا بالكذب
على سعد، لزمهم أيضا تكذيبهم فيما رووا عن الرسول من الشهادة للعشرة بالجنة
وفي غيره من جميع رواياتهم، حتى لا يصححوا عن سلفهم شيئا من الرواية، وكفى
بهذا خزيا عند من له فهم.
أو أن يكون سعد لم يصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) في اخباره، فيكفر بغير خلاف.
أو أن يكون سعد علم بذلك وتيقنه كما قال الرسول، فتهاون بالحق وعانده، ومن
تهاون به وعانده فقد كرهه، ومن كره الحق كان ممن قال الله فيه (ذلك بأنهم كرهوا
ما أنزل الله فأحبط أعمالهم) (2) لأن جميع ما أنزل الله في كتابه وبعث به رسوله
فهو الحق، لقوله تعالى (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق) (3) وقوله
(وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك الا مبشرا ونذيرا) (4).
ومن كان هذا صفته كان إلى صفات الكفر أقرب منه إلى صفات الايمان، وكانت
الشهادة له بالنار أحرى من الشهادة له بالجنة (5). انتهى كلامه أعلى الله مقامه.
قلت: وله مع معاوية حديث في هذا المعنى يتضمن انكار معاوية عليه خذلانه



(1) المراد لينزل منزلا منها، ويقال: تبوأت منزلا أي: نزلته واتخذته المنزول، قال الله
تعالى (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) أي: اتخذا. و (مقعده) مفعول به. ومن الناس من
يوهم أن الفعل غير متعد، فتمحل نصب مقعده ما ينبو عنه الذوق السليم من حمله على أنه
مفعول له، وهو في غاية البعد عن الإصابة (منه).
قوله (ومن الناس) المراد به مولانا صدر الدين في شرح أصول الكافي (منه).
(2) محمد 9: (صلى الله عليه وآله).
(3) التوبة: 33.
(4) الاسراء: 105.
(5) الاستغاثة ص 63 - 64.
85
لعلي (عليه السلام)، وتقاعده عن نصرته، مع روايته هذه الروايات في شأنه، وهو ما أورده
الحافظ طراز المحدثين أحمد بن موسى بن مردويه من عظماء حفاظهم، ونقله عنه
الفاضل الجليل بهاء الدين علي بن عيسى الأربلي الوزير في كتابه كشف الغمة عن
ابن عباس.
قال: أقبل معاوية على سعد، فقال: وأنت يا سعد الذي لم تعرف حقنا من باطل
غيرنا، فتكون معنا أو علينا، قال سعد: اني لما رأيت الظلمة قد غشيت الأرض
قلت لبعيري: هخ (1)، فأنخته حتى إذا أسفرت (2) مضيت، قال: والله لقد قرأت
المصحف فما وجدت فيه هخ.
فقال: أما إذا أبيت فاني سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي (عليه السلام): أنت مع الحق والحق
معك. قال: لتجيئن (3) بمن سمعه معك أو لأفعلن، قال: أم سلمة.
قال: فقام وقاموا معه حتى دخلوا على أم سلمة، قال: فبدأ معاوية فتكلم،
فقال: يا أم المؤمنين ان الكذابة قد كثرت على النبي (صلى الله عليه وآله)، فلا يزال قائل يقول قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لم يقل، وان سعدا روى حديثا زعم أنك سمعتيه معه، قالت: ما
هو؟ قال: زعم أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعلي: أنت مع الحق والحق معك.
قالت: صدق في بيتي قاله، قال: فأقبل على سعد وقال: الان أنت ألوم (4) ما
كنت عندي، والله لو سمعت هذا من النبي (صلى الله عليه وآله) ما زلت خادما لعلي حتى أموت (5).
قال جامع الأحاديث عفى الله عنه: فليتعجب العاقل من سعد ونفاقه وتناقض
كلامه، حيث أجاب معاوية أولا بما هو صريح في شكه في الحق وعدم معرفته لأهله،



(1) كلمة يتكلم بها عند إناخة البعير.
(2) في الكشف: استقرت.
(3) في الكشف: لتجيئني.
(4) في الكشف: ألزم.
(5) كشف الغمة 1: 144 ط سنة 1381 ه‍ ق.
86
حيث قال: اني لما رأيت الظلمة قد غشيت الأرض إلى آخر كلامه، وهو ينادي
بشكه ويصرح بعدم معرفته امامه، ومن لم يعرف امامه مات ميتة جاهلية، كما
رواه الجميع (1).
ثم قال ثانيا: أما إذا أبيت فاني سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول لعلي: أنت مع الحق والحق
معك. وهذا الذي رواه يشهد بعصمته، وعدم جواز الخطأ عليه، وينادي بوجوب
اتباعه، وأن الحق معه لا مع خصومه، وهو يناقض مقاله الأول.
فالعجب منه - أخزاه الله تعالى وخذله - كيف خذله (عليه السلام) وتأخر عن نصرته،
وامتنع عن بيعته يوم بايعه المهاجرون والأنصار وسائر المسلمين بعد قتل عثمان،
وعلل بما لا يشفي غليلا ولا يجدي نفعا، أم والله بارئ النسم وفاطر اللوح والقلم
ما ترك سعد - لعنه الله - نصرته (عليه السلام) الا حسدا ونفاقا غريزيا وكفرا بما أنزل الله على
رسوله، لأنه كان أحد الستة أصحاب الشورى، وكان يرجو الخلافة بعد عثمان.
وأعجب من كل عجب أنهم مع هذه الأفعال الشنيعة الصادرة عنه، وخذلانه
للامام العادل، وامتناعه عن بيعته، مع اعترافه بأن الحق معه، رووا في كتبهم أنه قد
بشره الرسول (صلى الله عليه وآله) في عشرة (2).
ثم ليتعجب العاقل من معاوية حيث تجاهل عن فضائل علي (عليه السلام) ومعرفة حقه،
وهو أعرف الناس بحقه، وأشدهم اطلاعا على فضائله ومناقبه وجلالة قدره وعلو
شأنه، كما بيناه في رسالتنا الموسومة بشهادة الأعداء لسيد الأولياء.
ثم ليتعجب العاقل من قوله (وأنت يا سعد الذي لم تعرف حقنا من باطل غيرنا



(1) كنز العمال 1: 464 و 6: 14863.
(2) وهم الخلفاء الأربعة، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، و
طلحة، والزبير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو عبيدة الجراح. روى أصحاب الحديث و
صححه الترمذي عن سعيد ذلك، والراوي من جملة العشرة، فلا يوثق بقوله، لأنه تزكية
لنفسه، وقد بسطنا الكلام في ابطال هذا الخبر في بعض رسائلنا (منه).
87
فتكون معنا أو علينا) يسم نفسه مع كونه رئيس الطلقاء ومدة المنافقين بالحق،
ويسم عليا (عليه السلام) مع أنه سلطان سلسلة الأولياء وعمدة أساطين الأوصياء، وباب
مدينة علم سيد الأنبياء، بالباطل عتوا عن الحق، واستكبارا ونفورا واصرارا، كأنه
في شك من نفاق نفسه وكفره، وعدم صلوحه لمقام ولاية جيش أو سرية، فضلا عن
الرئاسة العامة والسياسة الدينية والدنيوية.
ومما يشهد بكفره ونفاقه: ما أورده الفاضل الجليل بهاء الدين علي بن عيسى
الأربلي الوزير في كتابه كشف الغمة، ناقلا له عن كتاب الموفقيات للزبير بن بكار
الزبيري، الذي ألفه للأمير الموفق أبي أحمد طلحة الملقب بالناصر بن المتوكل أخي
المعتمد وولي عهده، ونصبهما ظاهر كما بينه في كشف الغمة.
حدث الزبير بن بكار المذكور عن رجاله، عن مطرف (1) بن المغيرة بن شعبة،
قال: وفدت مع أبي المغيرة على معاوية، فكان أبي يأتيه فيتحدث عنده، ثم
ينصرف إلي، فيذكر معاوية ويذكر عقله ويعجب مما يرى منه، إذ جاء ذات ليلة
فأمسك عن العشاء، ورأيته مغتما.
فانتظرته ساعة، وظننت أنه لشئ حدث فينا أوفي عملنا، فقلت: ما لي أراك
مغتما منذ الليلة؟ فقال: يا بني جئت من عند أخبث الناس، قلت: وما ذاك؟.
قال: قلت له وقد خلوت به - يعني معاوية -: انك قد بلغت سنا، فلو أظهرت
عدلا وبسطت خيرا، فإنك قد كبرت، فلو نظرت إلى اخوتك من بني هاشم
فوصلت أرحامهم، فوالله ما عندهم اليوم شئ تخافه.
فقال: هيهات هيهات ملك أخوتيم فعدل وفعل ما فعل، فوالله ما عدا أن هلك
فهلك ذكره، الا أن يقول قائل أبو بكر، ثم ملك أخو بني عدي، فاجتهد وشمر عشر
سنين، فوالله ما عدا أن هلك فهلك ذكره، الا أن يقول قائل عمر، ثم ملك عثمان فملك



(1) في الأصل: معارف.
88
رجل لم يكن أحد مثله، وفعل ما فعل وعمل به ما عمل، فوالله ما عدا أن هلك
فهلك ذكره وذكر ما فعل به.
وان أخا بني هاشم يصاح به في كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله،
فأي عمل يبقى بعد هذا لا أم لك لا والله الا دفنا دفنا.
فانظر وفقك الله سبحانه إلى قول معاوية في النبي (صلى الله عليه وآله) وعقيدته فيه بما ينادي
بكفره (1) ويشهد بنفاقه.
وروى الزبير بن بكار أيضا في الكتاب المذكور عن رجاله، عن الحسن البصري
أنه قال: أربع خصال في معاوية لو لم يكن فيه الا واحدة لكانت موبقة: ابتزاؤه على
هذه الأمة بالسفهاء حتى ابتزها بغير مشورة منهم وفيهم بقايا الصحابة وذووا
الفضيلة. واستخلافه ابنه يزيد من بعده سكيرا خميرا، يلبس الحرير، ويلعب
بالطنابير. ودعاؤه زيادا وقد قال النبي (صلى الله عليه وآله): الولد للفراش وللعاهر الجحر. وقتله
حجر بن عدي وأصحابه، فيا ويله من حجر وأصحاب حجر (2).
ثم فليعجب (3) العاقل المتأمل من قوله لسعد عند رواية الخبر المذكور - أعني:
قوله (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): أنت مع الحق والحق معك -: ولتجيئن بمن سمعه معك



(1) ورأيت في كتاب الواضح تأليف يوحنا النصراني المرتد: أنه قد تواترت الروايات أنه
مات نصرانيا والصليب في عنقه. قال: وقد روي أن علي بن الحسين كان ذات يوم جالسا
مع أصحابه، فذكروا معاوية، فقال بعضهم: صلى الله عليه، فقال علي: لا صلى الله عليك و
لا عليه، قال: ولم؟ قال: تصلي على من مات نصرانيا والصليب في عنقه.
ثم قال علي بن الحسين: أخبرني الحسين أنه كان يرى الصليب في عنق معاوية أكثر
مجالسه، وان بعض مواليه أخبره أنه كان أكثر الليل يصلي مستقبل المشرق، قال: ولقد
استقبلوه به إلى القبلة عند موته، فقال: حرفوني إلى المشرق انتهى كلامه. وجعله من
دلائل عقله (منه).
(2) كشف الغمة 1: 418 - 419.
(3) في (س): ليعجب.
89
أو لأفعلن، تهديدا له بالأذى والقتل، مع أنه أحد العشرة المبشرة بالجنة عندهم،
وأحد الستة أصحاب الشورى، فكيف يتلقاه معاوية بهذا الأذى والتهديد؟
والشك في خبره بل التكذيب.
ولعمري أن معاوية أعرف من سعد بحقيقة هذا الخبر، وإنما أراد بهذا الكلام
التلبيس على العوام الذين هم منتظمون في سلك الأنعام، بل هم أضل سبيلا.
ثم العجب العجاب من قوله (لو سمعت هذا من النبي (صلى الله عليه وآله) ما زلت خادما لعلي
حتى أموت) ولعمري أنه تلبيس سخيف، وتدليس طفيف، ولا يروج عند من له
أدنى مسكة وأقل حظ من البصيرة، إذ على تقدير تسليم ما ادعاه من عدم سماع
الخبر المذكور، يتوجه عليه أنه لا فرق بين سماعه من الرسول (صلى الله عليه وآله) شفاها عنه،
وبين ثبوته عنه بخبر الثقة.
وإذا كان سعد من أوثق الصحابة عندهم، وأحد العشرة المبشرين بالجنة في
زعمهم، وأحد الستة أصحاب الشورى، كان من الواجب على معاوية قبول خبره
والعمل به، كيف؟ وقد وافقته على هذا الخبر أم سلمة رضي الله عنها، وهي زوج
الرسول وأم المؤمنين، فدل ذلك على أن ما ذكره تلبيس محض وتمويه بحت (1).
والتحقيق أن حديث الحق مع علي وعلي مع الحق، من الأخبار المستفيضة
المتواترة، التي لا يتطرق إليها الريب ولا يعارضها الشك، وقد رواه المخالفون في
أصحتهم ومسانيدهم بطرق عديدة، وأسانيد متغايرة (2).
روى العبدري في الجمع بين الصحاح الستة في الجزء الثالث منه في مناقب أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من صحيح البخاري عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: رحم الله



(1) البحت بالباء الموحدة والحاء المهملة والتاء المثناة الفوقانية: الصرف الخالص من كل
شئ، كذا في القاموس (منه).
(2) راجع إحقاق الحق 5: 623 - 638 و 16: 385 - 397.
90
عليا، اللهم أدر الحق معه حيث دار (1).
ورواه أحمد بن موسى بن مردويه في كتاب المناقب من عدة طرق.
فمنها: باسناده إلى محمد بن أبي بكر، قال: حدثتني عائشة أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: الحق مع علي وعلي مع الحق، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (2).
ومنها: باسناده إلى الأصبغ بن نباته، قال: لما أصيب زيد بن صوحان يوم
الجمل، أتاه علي (عليه السلام) وبه رمق، فوقف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
وهو لما به، فقال: رحمك الله يا زيد، فوالله ما عرفتك الا خفيف المؤونة كثير المعونة.
قال: فرفع رأسه وقال: وأنت رحمك الله، فوالله ما عرفتك الا بالله عارفا،
وبآياته عارفا، ما قاتلت معك من جهل، ولكني سمعت حذيفة بن اليمان يقول:
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: علي أمير البررة، وقاتل الكفرة (3)، منصور من
نصره، مخذول من خذله، وأن الحق معه يتبعه، ألا فميلوا معه (4).
ومنها: باسناده إلى ثابت مولى أبي ذر، عن أم سلمة، قالت: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله)
يقول: علي مع القرآن والقرآن معه، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (5).
والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا، وفيما ذكرناه كفاية، والله الهادي.



(1) الطرائف ص 102 عنه، وإحقاق الحق 5: 626 عنه.
(2) الطرائف ص 102 - 103 عنه، وإحقاق الحق 5: 640 عنه.
(3) في الطرائف: الفجرة.
(4) الطرائف ص 103 عن المناقب، ورواه الخوارزمي في مناقبه ص 111.
(5) الطرائف ص 103 عن مناقب ابن مردويه، ورواه الكنجي في كفاية الطالب ص
253، وابن عساكر في تاريخه 2: 120.
91
الحديث الثامن
[عهد النبي (صلى الله عليه وآله) إلى علي (عليه السلام) سبعين عهدا لم يعهده إلى غيره]
الطبراني في معجمه، قال: حدثنا محمد بن سهل بن الصباح الصفار الأصبهاني،
نا أحمد بن الفرات الرازي [نا سهل بن عبدويه] (1) نا عمرو بن أبي قيس، عن
مطرف بن ظريف، عن المنهال بن عمرو، عن النهمي، عن ابن عباس، قال: كنا
نتحدث أن النبي (صلى الله عليه وآله) عهد إلى علي بسبعين (2) عهدا لم يعهده إلى غيره (3).
أقول: هذا الخبر كما ترى شاهد على اختصاصه به (صلى الله عليه وآله)، وكونه وصيه وخليفته
بعده، والا فكيف يخصه بالعهود؟ وهو من آحاد الرعية والخليفة آخر غيره،
والخليفة هو الخليق بأن يعهد إليه العهود، ويخص بالأسرار المصونة عن الأغيار.
وهذه العهود المذكورة في الخبر يمكن أن تكون متعلقة بما يفعله بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)



(1) ما بين المعقوفتين ساقطة من الأصل.
(2) قال صاحب الكشف: روي عن علي بن عيسى أنه قال: العرب تبالغ في السبع و
السبعين، فان التعديل في نصب العقد وهو خمسة، فإذا زيد عليها واحد كان الأولى المبالغة،
وإذا زيد اثنان كان لأقصاها، ولذلك قيل للأسد: سبع، كأنه ضوعف قوته سبع مرات.
وقال القاضي: قد شاع استعمال السبعة والسبعين والسبعمائة ونحوها في التكثير،
لاشتمال السبعة على جملة أقسام العدد، فكأنه العدد بأسره.
وقال صاحب الايجاز: السبعة أكمل الأعداد، لجمعها معاني الأعداد، ولأن السبعة أول
عدد تام، لأنها تعادل أجزائها الصحيحة، إذ نصفها ثلاثة، وثلثها اثنان، وسدسها واحد،
وجملتها ستة، وهي مع الواحد سبع، فكانت كاملة، إذ ليس بعد التمام الا الكمال، ثم
سبعون غاية الغاية، إذ الآحاد غايتها العشرات (منه).
(3) ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق لابن عساكر 2: 499، وحلية الأولياء 1: 68، و
مجمع الزوائد (صلى الله عليه وآله): 113، رووا جميعا عن الطبراني.
92
من صبره على الهوان في مدة ولاية الثلاثة المتلصصين، والتسليم لأمر الله سبحانه،
وصبره على اغتصاب فدك والعوالي منه ومن زوجته بضعة الرسول (صلى الله عليه وآله)، ونزع
قميص الخلافة عنه جورا وعتوا، وقتال القاسطين والناكثين والمارقين وما يحذو هذا
الحذو.
ويمكن أن يتعلق بالعلوم الإلهية والأحكام الدينية.
ولعل الاقتصار على السبعين ليس للتحديد والتوقيت، لأنها صارت مثلا في
الكثرة، كما قال سبحانه (ان تستغفر لهم سبعين مرة) (1) الآية. ومعلوم أنه ليس
المراد حقيقة العدد، بل المراد المبالغة في كثرة الاستغفار، كما نص عليه أئمة العربية
والمفسرين، والله أعلم.
الحديث التاسع
[ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في محبة أهل بيته (عليهم السلام)]
الطبراني في معجمه، قال: حدثنا محمد بن محمد بن خلاد الباهلي البصري، نا
نصر بن علي الجهضمي، نا علي بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي، عن
أخيه موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي، عن علي بن
الحسين، عن أبيه، عن علي (عليهم السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن والحسين، فقال:



(1) التوبة: 80. وروى العياشي في التفسير (2: 100) في تفسير الآية المذكورة عن
العباس بن هلال، عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: ان الله تعالى قال لمحمد (صلى الله عليه وآله): (ان
تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) فاستغفر لهم مائة مرة ليغفر لهم، فأنزل الله
(سواء عليهم استغفرت لهم أو لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم) الحديث.
وروى العامة أنه (صلى الله عليه وآله) قال: والله لأزيدن على السبعين. وهما ينافيان ما عليه أئمة
التفسير والأصول (منه).
93
من أحب هذين وأباهما وأمهما، كان معي في درجتي يوم القيامة (1).
أقول: هذا الخبر من المشهورات بين القوم، المستفيضة المنقولة في مسانيدهم
وأصحتهم، وهو ينادي بجلالتهم، ويشهد بمزيد كراماتهم، حتى جعل محبهم في
درجة خاتم النبيين، ومن كان نبيا وآدم بين الماء والطين، وحسبك بها درجة كبرى
لا يلقاها الا ذو حظ عظيم.
ومن الأخبار الواردة في هذا المعنى من طرقهم، ما رواه الثعلبي (2) في تفسير
قوله تعالى (قل لا أسألكم عليه أجرا الا المودة في القربى) (3) باسناده عن جرير
بن عبد الله البجلي، قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
من مات على حب آل محمد مات شهيدا، ألا ومن مات على حب آل محمد مات
مغفورا له، ألا ومن مات على حب آل محمد مات تائبا، ألا ومن مات على حب آل
محمد مات مؤمنا مستكملا للايمان، ألا ومن مات على حب آل محمد بشره ملك
الموت بالجنة ثم منكر ونكير.
ألا ومن مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت
زوجها، ألا ومن مات على حب آل محمد جعل الله زوار قبره ملائكة الرحمة، ألا
ومن مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا ومن مات على بغض
آل محمد جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله، ألا ومن مات على



(1) المعجم الصغير للطبراني ص 199 ط الدهلي. ورواه أحمد بن حنبل في مسنده 1: 77
ط مصر، والخطيب في تاريخه 13: 287. وراجع حول مصادر الرواية إلى إحقاق الحق 9:
174 - 180.
(2) في الرسالة السعدية للعلامة الحلي عطر الله مرقده، نقل الخبر المذكور عن الزمخشري
في الكشاف، وهو سهو (منه). أقول: ليس بسهو بل رواه في الكشاف (3: 403 ط مصر
و 3: 467 ط انتشارات آفتاب طهران) ذيل الآية الشريفة.
(3) الشورى: 23.
94
بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة (1).
وهذا الخبر كما تراه قاطع الدلالة على جلالة قدرهم وعلو منزلتهم عند الحق جل
مجده وعز شأنه، حتى بلغ محبهم بحبهم بهذه الرتبة السنية، ونال بيمن مودتهم هذه
المقامة العلية، وما هو الا برهان اني (2) على امامتهم وكمال ولايتهم، ودليل قطعي
على طهارتهم وعصمتهم، ووجوب التمسك بهم والاقتفاء بآثارهم، والاهتداء
بمنارهم.
ومما يناسب هذين الخبرين ويقاربهما في المدلول: ما رواه الشافعي ابن المغازلي
الفقيه في كتابه باسناده إلى جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ذات يوم
بعرفات وعلي تجاهه، ادن مني يا علي خلقت أنا وأنت من شجرة، فأنا أصلها،
وأنت فرعها، والحسن والحسين أغصانها، فمن تعلق بغصن منها أدخله الله الجنة (3).
وما رواه ابن المغازلي الشافعي أيضا في كتابه باسناده إلى عبد الله بن عباس
رضوان الله عليه، قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه
فتاب عليه، قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ألا تبت علي
فتاب عليه (4).
قلت: وهذا بعينه ما رويناه عن أهل البيت (عليهم السلام) في معنى الآية.
قال أمين الاسلام أبو علي الطبرسي في تفسيره الكبير الموسوم بمجمع البيان ما
نصه: وقيل: وهي رواية تختص بأهل البيت (عليهم السلام)، أن آدم رأى مكتوبا على
العرش أسماء مكرمة معظمة، فسأل عنها، فقيل له: هذه أسماء أجل الخلق منزلة عند



(1) إحقاق الحق (صلى الله عليه وآله): 487 عن تفسير الثعلبي ورواه ابن الصباغ في الفصول المهمة ص
110 وابن حجر في الصواعق ص 203.
(2) الآني هو الاستدلال بالمعلول على العلة (منه).
(3) المناقب ص 90 و 297.
(4) المناقب ص 63.
95
الله، والأسماء: محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، فتوسل آدم إلى ربه
بهم في قبول توبته ورفع منزلته (1) انتهى.
وفي قوله (وهي رواية تختص بأهل البيت (عليهم السلام)) نظر، لما نقلناه عن كتاب
المناقب لابن المغازلي الفقيه من أجل عظمائهم (2) من حديث ابن عباس المطابق
لرواية أهل البيت (عليهم السلام).
وروى أبو المؤيد الخوازمي في المناقب عن ابن عمر، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
من أحب عليا قبل الله تعالى منه صلاته وصيامه وقيامه، واستجاب دعاءه، ألا
ومن أحب عليا أعطاه الله تعالى بكل عرق في بدنه مدينة في الجنة.
ألا ومن أحب آل محمد آمن من الحساب والميزان والصراط، ألا ومن مات
على حب آل محمد فأنا كفيله بالجنة مع الأنبياء، ألا ومن أبغض آل محمد جاء يوم
القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة الله (3).
وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أول من اتخذ علي بن
أبي طالب (عليه السلام) أخا من أهل السماء إسرافيل، ثم ميكائيل، ثم جبرئيل (عليهم السلام)، وأول
من أحبه من أهل السماء حملة العرش، ثم رضوان خازن الجنة، ثم ملك الموت، وان
ملك الموت يترحم على محبي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كما يترحم على
الأنبياء (عليهم السلام) (4).



(1) مجمع البيان 1: 89.
(2) قد نقل ابن حجر وهو من عظماء الناصبة في صواعقه عن ابن المغازلي أحاديث، فما
ذكره بعض متأخري النواصب - خذلهم الله تعالى - من أن ابن المغازلي غير معروف ولعله
من علماء الإمامية، غلط محض (منه).
(3) المناقب للخوارزمي ص 72 - 73 ط قم.
(4) المناقب للخوارزمي ص 72، برقم: 49.
96
وعن الحسن البصري، عن عبد الله، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا كان يوم
القيامة صعد علي بن أبي طالب (عليه السلام) على الفردوس، وهو جبل قد على في الجنة،
وفوقه عرش رب العالمين، ومن سفحه (1) يتفجر أنهار الجنة، وتتفرق في الجنة،
وهو جالس على كرسي من نور يجري بين يديه التسنيم، لا يجوز أحد الصراط الا
ومعه براءة بولايته وولاية أهل بيته ليشرف على الجنة، فيدخل محبيه الجنة
ومبغضيه النار (2).
وروى أبو المؤيد أيضا في كتاب المناقب عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: يا
علي لو أن عبدا عبد الله تعالى مثل ما أقام نوح في قومه، وكان له مثل أحد ذهبا،
فأنفقه في سبيل الله تعالى، ومد في عمره حتى حج ألف عام على قدميه، ثم قتل
مظلوما بين الصفا والمروة، ثم لم يوالك، لم يشم رائحة الجنة ولم يدخلها (3).
قلت: وقد روى أصحابنا عن أئمتنا صلوات الله عليهم ما يطابق ذلك.
روى أبو حمزة الثمالي في الصحيح، قال: قال لنا علي بن الحسين (عليهما السلام): أي البقاع
أفضل؟ قلت: الله ورسوله وابن رسوله أعلم، فقال: ان أفضل البقاع ما بين الركن
والمقام، ولو أن رجلا عمر ما عمر نوح في قومه ألف سنة الا خمسين عاما يصوم
النهار ويقوم الليل في ذلك المكان، ثم لقى الله تعالى بغير ولايتنا لم ينتفع بذلك
شيئا (4).
وروى ثقة الاسلام في الكافي عن زرارة، عن الباقر (عليه السلام) أنه قال: أما لو أن
رجلا قام ليله وصام نهاره، وتصدق بجميع ماله، وحج جميع عمره، ولم يعرف
ولاية ولي الله فيواليه، ويكون جميع أعماله بدلالته إليه، ما كان له على الله حق في



(1) سفح الجبل: أصله وأسفله.
(2) المناقب للخوارزمي ص 71، برقم: 48.
(3) المناقب للخوارزمي ص 67 - 68، برقم: 40.
(4) من لا يحضره الفقيه 2: 245، برقم: 2313.
97
ثوابه، ولا كان من أهل الايمان (1).
وقد نظم هذا المعنى العلامة الفيلسوف أفضل المتأخرين ورئيس المحققين،
نصير الدين محمد بن محمد الطوسي قدس الله سره وبجنان الخلد سره في هذه
القطعة: (2)
لو أن عبدا أتى بالصالحات غدا * وزار كل نبي مرسل وولي
وصام ما صام صواما بلا ملل * وقام ما قام قواما بلا كسل
وحج كم حجة لله واجبة * وطاف بالبيت حاف غير منتعل
وطار في الجو لا يأوي إلى أحد * وغاص في البحر مأمونا من البلل
وأكسى اليتاما من الديباج كلهم * وأطعمهم من لذيذ البر بالعسل
وعاش في الناس آلافا مؤلفة * عار من الذنب معصوما من الزلل
فليس في الحشر يوم البعث ينفعه * الا محبة أمير المؤمنين علي
أقول: وقد روى محمد بن مسلم في الصحيح (3) ما هو أبلغ من ذلك، فإنه تضمن
بطلان عبادات المخالفين وعدم انتفاعهم بشئ منها، وهو الذي عليه أصحابنا
المحققون، وقد حققنا ذلك في رسالتنا الموسومة بكنه الصواب وفصل الخطاب في
أحكام أهل الكتاب والنصاب.



(1) أصول الكافي 2: 19 ح 5.
(2) كذا نسبه الشهيد الثالث الشوشتري في مجالس المؤمنين، والفاضل الجليل قطب الدين
محمد بن الشيخ علي الاهيجاني في كتاب محبوب القلوب، إلى أفضل الحكماء قدس سره
(منه).
(3) وهو ما رواه الكليني في أصول الكافي 1: 183 - 184، قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام)
يقول: كل من دان الله بعبادة يجهد فيها نفسه ولا امام له من الله فسعيه غير مقبول، إلى أن
قال: واعلم يا محمد أن أئمة الجور وأتباعهم لمعزولون عن دين الله قد ضلوا وأضلوا،
فأعمالهم التي يعملونها كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على
شئ وذلك هو الضلال البعيد.
98
وفقهه اشتراط ولاية أهل البيت (عليهم السلام) ومحبتهم في صحة العبادات، كما
هو منطوق هذه الأخبار التي سردناها.
ومن المعلوم عند المتيقظ المتفطن أن المرجئة والمجبرة ومن يحذو حذوهم خالون
عن الشرط، عاطلون من هذه الحلية البهية، لامتزاج محبة الطواغيت الثلاثة الذين
هم أعداء أهل البيت صلوات الله عليهم بلحمهم ودمهم، وصديق العدو أحد
الأعداء كعدو الصديق.
وقد قرر المحقق نصير الملة والدين محمد بن محمد الطوسي قدس الله روحه، فيما
نقل عنه دليلا على بغضهم لأهل البيت (عليهم السلام) هكذا تقريره: المخالفون يبغضون كل
من أبغض أبا بكر وعمر وعثمان كائنا من كان، عرف باسمه ونسبه أم لا،
وأئمتنا (عليهم السلام) أبغضوا أبا بكر وعمر وعثمان بغضا ظاهرا، ونسبوا إليهم جميع الشرور
والقبائح التي وقعت بين الأمة، ينتج أنهم يبغضون أئمتنا (عليهم السلام).
والأولى قطعية، والثانية متواترة وان أنكرها الخصم، فان الحق لا يخرج
بالانكار عن كونه حقا، وحينئذ يكونون كفارا، كما أوعبنا الكلام فيه في رسالتنا
المذكورة، والله الهادي.
وبهذا وضح لك أن ما ذكره الإمام الرازي، من عظماء المخالفين وأجلاء
فضلائهم، في تفسيره الكبير الموسوم بمفاتيح الغيب، من أن أصحاب المرجئة
المخذولين المسمين بأهل السنة والجماعة هم المحبون لعلي (عليه السلام)، وهم الناجون الذين
ليسوا بالمفرطين الغالين والمبغضين القالين.
محض كذب وغرور وبهتان، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد، إذ مصداق المحبة
الحقيقة المتابعة والاقتداء بآثاره صلوات الله عليه وآله وسلم، والاهتداء بمناره
الواضح، بل التحقيق أنهم ناصبون لأهل البيت (عليهم السلام)، متبعون للطواغيت

99
المتلصصة، كما بينا في رسالتنا المذكورة، وفي كتابنا الموسوم بمعراج أهل الكمال (1)
وغيرهما من مؤلفاتنا.
وقد روى الصدوق قدس الله روحه في كتابه علل الشرائع والأحكام، باسناده
إلى علي بن خسرم، قال: سمعت أحمد بن حنبل من عظماء المخالفين وأحد أئمتهم
يقول: لا يكون الرجل سنيا من أهل السنة والجماعة حتى يبغض عليا (عليه السلام) بغضا
قليلا (2).
وأظن أني وجدت نحوه في كتاب وفيات الأعيان، تأليف ابن خلكان في
التاريخ (3)، من أساطين علمائهم، وهذا ينادي على كفرهم وبغضهم لأهل
البيت (عليهم السلام).
ومما ينطق بذلك ما شاهدته غير مرة من علمائهم وعوامهم استحلال دماء محبي
أهل البيت (عليهم السلام) وأموالهم، وانقباض وجوههم وتكدر طباعهم واختلاط أمزجتهم
عند سماعهم فضائلهم ومناقبهم:، وفي تفصيل ما شاهدته منهم طول يؤدي نقله
إلى الاملال.
وما يشهد بذلك أن المذكور في تواريخهم وسيرهم أن أول من سماهم بأهل السنة



(1) معراج أهل الكمال ص 168 المطبوع بتحقيقنا سنة 1412 ه‍ ق.
(2) وروى عطر الله مرقده في الكتاب باسناده إلى إبراهيم بن محمد بن سفيان أنه قال: إنما
كانت عداوة أحمد بن حنبل مع علي بن أبي طالب (عليه السلام) لأن جده ذا الثدية الذي قتله أمير
المؤمنين (عليه السلام) يوم النهروان كان رئيس الخوارج (منه).
أقول: لعل الصدوق 1 أورد هذين الحديثين المذكورين في المتن والهامش في ذيل باب
علة عداوة بني أمية لبني هاشم، وفي المطبوع من العلل بياض، راجع علل
الشرائع ص 243.
(3) ذكر ابن خلكان الشامي في تاريخه (وفيات الأعيان 3: 355) المذكور في ترجمة علي
بن القرشي أن التسنن مع محبة علي (عليه السلام) لا يجتمعان، وجعل هذا عذرا لعلي بن الجهم
المذكور في بغضه أمير المؤمنين (عليه السلام) (منه).
100
والجماعة معاوية أو يزيد ابنه.
ذكر ابن بطة في الإبانة أن معاوية سمى سنة أربعين سنة اجتماع الناس عليه سنة
وجماعة.
وذكر الكرابيسي وهو من أهل الظاهر: أنه إنما سمى هذا الاسم يزيد بن معاوية لما
دخل رأس الحسين (عليه السلام)، فكان كل من دخل من ذلك الباب سمي سنيا.
وذكر العسكري من عظمائهم وذوي الأمانة عندهم أن معاوية سمى ذلك العام
عام السنة.
وذكر ابن عبد ربه في كتاب العقد، قال: لما صالح الحسن (عليه السلام) معاوية سمي ذلك
العام الجماعة (1).
أقول: إذا كان هذا أصل هذه التسمية، فقد صدق أحمد بن حنبل في قوله (لا
يكون الرجل من أهل السنة والجماعة حتى يبغض عليا (عليه السلام)) (2) ولعمري أن الفرع
المذكور مع أصله مما يشهد عليهم بالكفر والضلالة، وينادي بانتظامهم في سلك أهل
النصب والجهالة.
ومما يشهد عليهم بالنصب والبغض لأهل البيت (عليهم السلام) منع أكثر علمائهم من لعن
يزيد بن معاوية لعنه الله تعالى، واتفاقهم على عدم جواز لعن معاوية (3)، واعتقاد



(1) الطرائف ص 205 عن ابن بطة والكرابيسي والعسكري وابن عبد ربه.
(2) ونقل القاضي الشوشتري في مجالس المؤمنين وإحقاق الحق عن فضلاء ما وراء النهر
أنهم قالوا: لابد من بغض علي (عليه السلام) بقدر حبة شعير في التسنن، وبالجملة فبغضهم مما لا
ينبغي الريب فيه (منه).
(3) قال التفتازاني في شرح العقائد: لم ينقل عن السلف المجتهدين والعلماء الصالحين
جواز اللعن على معاوية واخوانه، لأن غاية أمرهم البغي والخروج على الإمام العادل، و
هو لا يوجب اللعن.
وإنما اختلفوا في يزيد بن معاوية، حتى ذكر في الخلاصة وغيره أنه لا ينبغي اللعن عليه
ولا على الحجاج، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) نهى عن لعن المصلين، ومن كان من أهل القبلة، وما
نقل من لعن النبي (صلى الله عليه وآله) لبعض من أهل القبلة، فلما أنه يعلم من أحوال الناس ما لا يعلمه
غيره.
وبعضهم أطلق اللعن عليه لما أنه كفر حين أمر بقتل الحسين (عليه السلام)، واتفقوا على جواز
اللعن على من قتله أو أمر به أو أجازه ورضي به.
والحق أن رضا يزيد بقتل الحسين (عليه السلام)، واستبشاره بذلك، وإهانته أهل بيت النبي ما
تواتر معناه، وإن كان تفاصيله آحاد، فنحن لا نتوقف في شأنه، بل في ايمانه، لعنة الله عليه
وعلى أنصاره وأعوانه انتهى.
فتراه إنما نقل الخلاف في لعن يزيد لعنه الله، ونقل الاتفاق على المنع من لعن معاوية لعنه
الله، مع ما صدر عنه من قتل عظماء الصحابة، وما تواتر عنه من اهانته لأهل بيت رسول
الله (صلى الله عليه وآله)، واعلانه بسب أمير المؤمنين (عليه السلام) على المنابر. وبالجملة فكفره مما لا ريب فيه،
لعنة الله عليه وعلى من يشك في جواز لعنه (منه).
101
جلالته، واختلاق محاسن له هو عار منها، مع ما صدر من معاوية من الخروج على
الإمام العادل (عليه السلام)، وقتل عظماء المؤمنين، كعمار بن ياسر وأضرابه، وقتل حجر بن
عدي، وتقمصه بقميص الخلافة ظلما وعدوانا، واعلانه بسب أمير المؤمنين (عليه السلام)
على المنابر.
وقد تقدم فيما نقلناه عن الموفقيات للزبير بن بكار الزبيري ما ينادي بكفره،
وجحوده للرسول (صلى الله عليه وآله)، وحسده له (صلى الله عليه وآله).
وما صدر عن يزيد - لعنه الله - من قتل الحسين (عليه السلام)، وهو سيد شباب أهل
الجنة، وأحد أهل العباء وأصحاب المباهلة وآية التطهير، وأي كفر أعظم من قتل
الحسين (عليه السلام)، وهتك حرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبناته، وسبيهن وحملهن على أقتاب
الجمال بغير وطاء إلى الشام، وقتله الأنصار بالحرة، وغيرها من الوقائع الفضيعة
والبدع الشنيعة.
وقد روى الزمخشري من عظماء الحنفية في كتابه ربيع الأبرار أن سيدنا (صلى الله عليه وآله)
رأى يوما أبا سفيان راكبا على حمار، وقد جره يزيد من أمامه، ومعاوية قد ساقه

102
من خلفه، فقال صلوات الله وتسليماته عليه وآله: لعن الله الراكب والقائد
والسائق (1).
ورواه العلامة الحلي - قدس الله روحه - في كتابه منهاج الكرامة، عن عبد الله بن
عمر، قال: أتيت النبي (صلى الله عليه وآله)، فسمعته يقول: يطلع عليكم رجل يموت على غير
سنتي، فطلع معاوية، فقام النبي (صلى الله عليه وآله) يوما يخطب، فأخذ معاوية بيد ابنه يزيد
وخرج ولم يسمع الخطبة، فقال صلوات الله وتسليماته عليه: لعن الله القائد
والمقود (2).
وروى الشيخ الجليل أبو جعفر الكليني في كتاب الروضة من جامعه الكافي عن
ابن محبوب، عن عبد الله بن سنان، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: ثلاثة هم
أشرار (3) الخلق، ابتلي بهم خيار الخلق: أبو سفيان بن حرب قاتل رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وعاداه، ومعاوية ابنه قاتل عليا (عليه السلام) وعاداه، ويزيد بن معاوية قاتل الحسين (عليه السلام)
وعاداه حتى قتله (4).
أقول: ومن هنا قال العارف الحكيم السنائي (5) بالنظم الفارسي:
داستان پسر هند مگر نشنيدى * كه ازووسه كس اوبه پيمبر چه رسيد
أو بنا حق داماد پيمبر بستد * پسر اوسر فرزند پيمبر ببريد
پدر اولب ودندان پيمبر بشكست * مادر اوجگر عم پيمبر بمكيد
بر چنين قوم تولعنت نكنى شرمت باد * لعن الله يزيدا وعلى آل يزيد



(1) ربيع الأبرار 4: 400.
(2) منهاج الكرامة ص 64 المطبوع على هامش الألفين.
(3) في الكافي: شرار.
(4) الروضة من الكافي 8: 234 برقم: 311.
(5) صاحب كتاب الحديقة، وأشعاره في غاية النفاسة، وهذه الأبيات تدل على تشيعه
(منه).
103
ومن أعجب العجائب اعتذار العلامة التفتازاني الحنفي من فحول عظمائهم في
شرح المقاصد عن منعهم لعن يزيد لعنه الله، حيث قال: فان قيل: من علماء المذهب
من لم يجوز اللعن على يزيد، مع علمهم بأنه يستحق ما يربو على ذلك ويزيد. قلنا:
تحاميا أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى (1) انتهى كلامه عليه ما يستحق.
وهذا يشعر بأن امتناعهم عن لعن يزيد ليس تزكية له، وتبعيدا عن أن ينتظم في
سلك أهل اللعنة، بل لأنهم علموا أن ولايته من قبل أبيه، فترجع مفاسده إليه، وهو
من قبل عمر وعثمان، وهما من قبل أبي بكر، فترجع المفاسد إليه في الحقيقة، فلو
لعنوا يزيدا لبدعه الفضيعة، لزمهم لعن هؤلاء الطواغيت الذين هم أئمتهم، ولقد
أنصف التفتازاني كل الانصاف في هذا المقام.
ومما يشهد بما ذكره ما رواه البلاذري من عظماء علمائهم في تاريخه، قال: لما قتل
الحسين بن علي (عليهما السلام) كتب عبد الله بن عمر إلى يزيد بن معاوية: أما بعد فقد عظمت
الرزية وجلت المصيبة، وحدث في الاسلام حدث عظيم، ولا يوم كيوم الحسين.
فكتب إليه يزيد: أما بعد يا أحمق فانا جئنا إلى بيوت منجدة، وفرش ممهدة،
ووسائد منضدة، فقاتلنا عليها، فان يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن كان لغيرنا
فأبوك أول من سن هذا وابتز واستأثر بالحق على أهله.
وكذا نقله صاحب الطرائف نور الله مرقده عن البلاذري (2)، والله العالم
بالحقائق.



(1) شرح المقاصد 5: 217.
(2) الطرائف في معرفة المذاهب ص 247.
104
تنبيه:
قد استفاضت الأخبار عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: حب علي حسنة لا تضر معها سيئة،
وبغضه سيئة لا ينفع معها حسنة (1). وقد رده الأعور في شبهه، وأجبنا عن تلك
الشبهة في مقام آخر مفرد، وأشرنا إلى بعض تلك الأجوبة في الشهاب الثاقب.
ومن تلك الأجوبة ما ذكره شيخنا أبو عبد الله المفيد قدس الله روحه في ارشاده:
أن الله تعالى آلا على نفسه أن لا يطعم النار لحم رجل أحب عليا (عليه السلام) وان ارتكب
الذنوب الموبقات وأراد الله أن يعذبه عليها، كان ذلك في البرزخ وهو القبر ومدته،
حتى إذا ورد القيامة وردها وهو سالم من عذاب الله، فصارت ذنوبه لا تضره ضررا
يدخله النار، قال: وبهذا جاء الأثر عن أحد آل محمد (عليهم السلام) (2).
وأحسن منه ما اختاره بعض الأعاظم من أصحابنا، وهو أن محبة علي (عليه السلام)
توجب الايمان الخاص والتشيع بقول مطلق، وحينئذ لا يضر معه سيئة، لأن
العصيان في غير الأصول الخمسة لا يوجب الخلود في النار، بل المفهوم من أخبارنا
الواردة عن أئمتنا (عليهم السلام) أن ذنوب الشيعة الإمامية مغفورة.
روى الشيخ المفيد طاب ثراه في أماليه، عن صفوان الجمال أنه قال: دخلت على
الصادق سلام الله عليه، فقلت: جعلت فداك سمعتك تقول: شيعتنا في الجنة، وفي
الشيعة أقوام يذنبون ويرتكبون القبائح، ويشربون الخمور، ويتمتعون في دنياهم.
فقال (عليه السلام): نعم أهل الجنة، أن الرجل من شيعتنا لا يخرج من الدنيا حتى يبتلي
بسقم، أو بمرض، أو بدين، أو بجار يؤذيه، أو بزوجة سوء، فان عوفي من ذلك كله



(1) راجع مصادر الحديث إلى إحقاق الحق 7: 257 - 259 و 17: 233 - 234.
(2) لم أعثر عليها في الارشاد.
105
شدد الله عليه النزع حتى يخرج من الدنيا ولا ذنب عليه.
فقلت: لابد من رد المظالم.
فقال سلام الله عليه: ان الله جعل حساب خلقه يوم القيامة إلى محمد وعلي
صلوات الله وتسليماته عليهما، فكلما كان على شيعتنا حسبناه من الخمس في أموالهم،
وكل ما كان بينهم وبين خالقهم استوهبناها لهم حتى لا يدخل أحد من شيعتنا
النار (1).
ونقل الفاضل الجليل الشيخ إبراهيم بن سليمان القطيفي (2) - عطر الله مرقده - في
كتابه المسمى بالفرقة الناجية، عن كتاب البشارة لشيعة علي (عليه السلام) حديثا أرجى من
الأول.
وهو أن سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل يوما على علي بن أبي طالب سلام الله عليه،
فقال: ما رأيتك أقبلت علي مثل هذا الاقبال.
فقال صلوات الله وسلامه عليه: جئت لأبشرك، اعلم أن هذه الساعة نزل علي
جبرئيل (عليه السلام) وقال لي: الحق يقرؤك السلام ويقول: بشر عليا وشيعته أن الطائع
والعاصي منهم من أهل الجنة، فلما سمع مقالته خر لله ساجدا، ثم رفع يديه إلى
السماء، وقال: شهد الله علي أني وهبت حسناتي لشيعتي.
فقالت فاطمة (عليها السلام): شهد الله علي أني وهبت لشيعة علي نصف حسناتي، فقال
الحسن والحسين (عليهما السلام) أيضا كذلك، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما أنتم بأكرم مني شهد
الله علي أني وهبت لشيعة علي نصف حسناتي، فأوحى الله عز وجل إلى رسوله: ما



(1) لم أعثر على الحديث في الأمالي، ورواه العلامة المجلسي في البحار 68: 114 - 115
ح 33.
(2) قال في أمل الآمل (2: 8): فاضل عالم فقيه محدث، له كتب، منهل كتاب الفرقة
الناجية حسن، توفي بالغري من المتأخرين، وراجع حول كتابه هذا إلى الذريعة 16:
177 - 178.
106
أنتم بأكرم مني اني غفرت لشيعة علي ومحبيهم ذنوبهم (1).
وقد ورد في تفسير أهل البيت (عليهم السلام) أن عليا (عليه السلام) قال لعبد الله بن يحيى: الحمد
لله الذي جعل تمحيص ذنوب شيعتنا في الدنيا بمحبتهم، لتسلم بها (2) طاعاتهم،
واستحقوا عليها ثوابها، فقال عبد الله بن يحيى: يا أمير المؤمنين وانا لا نجازى
بذنوبنا الا في الدنيا؟.
قال: نعم، أما سمعت قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، ان
الله يطهر شيعتنا من ذنوبهم في الدنيا بما يبتليهم به من المحن بما يغفره لهم، فان الله
تعالى يقول: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (3)
حتى إذا وردوا القيامة توفرت عليهم طاعاتهم وعباداتهم.
وان أعداء محمد (صلى الله عليه وآله) وأعدائنا يجازيهم عن طاعة تكون منهم في الدنيا وإن كان
لا وزن لها، لأنه لا اخلاص معها حتى إذا وافوا القيامة حملت عليهم ذنوبهم
وبغضهم لمحمد وآله وأخيار أصحابه فقذفوا في النار.
ولقد سمعت محمدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: انه كان فيما مضى قبلكم رجلان
أحدهما مطيع لله مؤمن، والاخر كافر به مجاهر بعداوة أوليائه وموالاة أعدائه،
وكل واحد منهما ملك عظيم في قطر من الأرض.
فمرض الكافر فاشتهى سمكة في غير أوانها، لأن ذلك الصنف من السمك كان في
ذلك الوقت في اللجج بحيث لا يقدر عليه أحد، فآيسته الأطباء من نفسه وقالوا:
استخلف على ملكك من يقوم به، فان شفاءك في هذه السمكة التي اشتهيتها ولا
سبيل إليها، فبعث الله ملكا وأمره أن يزعج تلك السمكة إلى حيث يسهل أخذها،



(1) رواه المولى محمد صالح الترمذي في المناقب المرتضوية ص 206 ط بمبئ، عن كتاب
بشائر المصطفى، كما في إحقاق الحق 7: 164.
(2) في (س): لهم.
(3) الشورى: 30.
107
فأخذت له تلك السمكة، فأكلها وبرئ من مرضه وبقي في ملكه سنين بعدها.
ثم إن ذلك الملك المؤمن مرض في وقت كان جنس ذلك السمك بعينه لا يفارق
الشطوط التي يسهل أخذه منها، وكانت علته مثل علة الكافر، فاشتهى تلك
السمكة ووصفها له الأطباء، وقالوا: طب نفسا فهذا أوانها تؤخذ لك فتأكل منها
وتبرئ، فبعث الله ذلك الملك وأمره أن يزعج جنس تلك السمكة عن الشطوط
إلى اللجج لئلا يقدر عليه، فلم توجد حتى مات المؤمن بحسرته (1).
فتعجب الملائكة من ذلك وأهل ذلك البلد حتى كادوا يفتنون، لان الله تعالى
سهل على الكافر ما لا سبيل إليه، وعسر على المؤمن ما كان السبيل إليه مسهلا.
فأوحى الله تعالى إلى ملائكة السماء والى نبي ذلك الزمان في الأرض: اني أنا الله
الكريم المتفضل القادر، لا يضرني ما أعطي، ولا ينفعني ما أمنع، ولا أظلم أحدا
مثقال ذرة.
فأما الكافر، فإنما سهلت له أخذ السمكة في غير أوانها، ليكون جزاء على حسنة
كان عملها، إذ كان حقا أن لا أبطل لأحد حسنة حتى يرد القيامة، ولا حسنة في
صحيفته ويدخل النار بكفره. ومنعت العابد تلك السمكة بعينها لخطيئة صدرت
منه، فأردت تمحيصها عنه بمنع تلك الشهوة واعدام ذلك الدواء حتى يأتيني ولا ذنب
عليه فيدخل الجنة.
فقال عبد الله بن يحيى: يا أمير المؤمنين قد أفدتني وعلمتني (2).
والأخبار في هذا المعنى كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية، والله الهادي.



(1) في البحار: من شهوته.
(2) بحار الأنوار 67: 232 - 234 ح 48 عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام).
108
الحديث العاشر
[قوله (صلى الله عليه وآله) أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم]
الطبراني في معجمه، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن النضر الأزدي ابن بنت
معاوية بن عمرو، ثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي، نا أسباط بن نضر، عن
السدي، عن صبيح مولى أم سلمة، عن زيد بن أرقم، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي
وفاطمة وحسن وحسين: أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم (1).
أقول: هذا الخبر من الأخبار المشهورة المستفيضة (2)، وقد رواه أحمد بن حنبل
في مسنده (3)، وغيره من فحول علمائهم.
ولا يخفى على المتأمل المنصف أنه يدل على امامتهم وعصمتهم، وكمال ولايتهم،
ووجوب الاقتداء بهم، وأن محاربهم محارب الرسول (صلى الله عليه وآله)، ومحارب الرسول كافر
قطعا.
فهو يدل دلالة قاطعة على كفر معاوية وابنه يزيد وطلحة والزبير وعائشة وجميع
محاربيهم.
والعجب من مخالفينا يودعون أصحتهم وكتبهم ومسانيدهم هذه الأخبار
الشاهدة بفضائحهم، الناطقة بقبائحهم، ويعترفون بصحتها واستفاضتها، ولا
يستحون مما يلحقهم من عار ايرادها، وعدم التعويل على مفادها، والله المستعان.



(1) المعجم الصغير للطبراني 2: 3 ط المدينة، والمعجم الكبير 5: 207 ط بغداد.
(2) راجع إحقاق الحق 6: 161 - 174 و 18: 411 - 413.
(3) مسند أحمد بن حنبل 2: 442 ط مصر.
109
الحديث الحادي عشر
[قوله (صلى الله عليه وآله) علي مع القرآن والقرآن معه]
الطبراني في معجمه، قال: حدثنا عباد بن سعيد الجعفي الكوفي، نا محمد بن عثمان
أبي البهلول الكوفي، نا صالح بن أبي الأسود، عن هاشم بن البريد، عن أبي سعيد
التيمي، عن ثابت مولى أبي ذر، عن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: سمعت
النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: علي مع القرآن والقرآن معه، لا يفترقا حتى يردا علي الحوض (1).
أقول: هذا الحديث يكاد يبلغ حد التواتر أو بلغه (2). رواه الإمام أبو المؤيد
الخوارزمي في كتاب المناقب عن أم سلمة رضي الله عنها، والمتن بحاله (3).
ورواه أيضا عنها بطريق آخر، قالت: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: علي مع القرآن
والقرآن مع علي، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض (4).
وروى أيضا في الكتاب المذكور عن شهر بن حوشب، قال: كنت عند أم سلمة
فسلم رجل، فقيل: من أنت؟ فقال: أبو ثابت مولى أبي ذر، قالت: مرحبا
بأبي ثابت ادخل، فدخل فرحبت به وقالت: أين طار قلبك حين طارت القلوب
مطائرها؟ قال: مع علي بن أبي طالب (عليه السلام).
قالت: وفقت والذي نفس أم سلمة بيده، لقد سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: علي مع
القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، ولقد بعثت ابني عمر



(1) المعجم الصغير 1: 255 ط المدينة.
(2) راجع حول بلوغه حد التواتر إلى إحقاق الحق 5: 639 - 645 و 16: 398 - 401 و
20: 403 - 404 و 21: 386 - 389 وغيرها.
(3) إحقاق الحق عن مناقب ابن مردويه 5: 640، ولم أعثره في مناقب الخوارزمي.
(4) المناقب للخوارزمي ص 107 ط تبريز.
110
وأخي عبد الله بن أبي أمية وأمرتهما أن يقاتلا مع علي (عليه السلام) من قاتله، ولولا أن
النبي 9 أمرنا أن نقر في حجالنا وفي بيوتنا لخرجت حتى أقف في صف
علي (عليه السلام) (1).
والأخبار في هذا المعنى أكثر من أن تحصى، وهي ناطقة بإمامته (عليه السلام)، مفصحة
حق الافصاح عن كمال ولايته وحقية خلافته.
وقوله (عليه السلام) (علي مع القرآن والقرآن معه) نص قاطع وبرهان واضح على عدم
جواز الخطأ عليه سلام الله عليه، كما لا يجوز على مصاحبه، أعني: القرآن الكريم
والذكر الإلهي الحكيم، إذ المعية من الجانبين دائمة، قضية لقوله (عليه السلام) (لن يفترقا حتى
يردا علي الحوض).
فلا يرد ما قيل: إن القضية مطلقة عامة، فلا يتم التقريب، على أنه مع قطع النظر
عن جملة (لن يفترقا) لا يفهم من قضية المعية عند الاطلاق في المقامات الخطابية
بحسب العرف الا الدوام، بل المراد بها هنا هي الضرورة الذاتية أو الأزلية (2)، كما لا
يخفى على من له أدنى مسكة، ولو جعلت القضية المذكورة احدى المطلقات لم يختص
الحكم المذكور بعلي (عليه السلام)، وهو ظاهر.
فان قلت: ما السر في قوله (والقرآن معه) بعد قوله (علي مع القرآن) والمعية



(1) المناقب للخوارزمي ص 107 ط تبريز.
(2) وهي الحاصلة أزلا وأبدا، والأزل: دوام الوجود في الماضي. والأبد: دوام الوجود
في المستقبل. والضرورة الذاتية هي الحاصلة مما دامت ذات الموضوع موجودة، و
الضرورة الأزلية أخص، لأن الضرورة متى تحققت أزلا وأبدا يتحقق ما دام ذات الموضوع
موجودة من دون عكس.
ولا يخفى أنه مع تعميم الوجود بحيث يشمل المحقق والمقدر لا يظهر التفاوت بالعموم و
الخصوص، وان دعوى الأزلية مما لا يتجه ظاهرا مع حدوث الموضوع الا بنوع من
التأويل، بأن يراد القريب إليها حيث تعددت لو أراد الادعاء بدلالة المقامات
الخطابيات (منه).
111
من النسب المتكررة، ففي الأول غنى عن الثانية، إذ المعية من الجانبين البتة؟.
قلت: لعل السر في هذا التكرير المبالغة في تحقق المعية، والاشعار وتبيين الصريح
من الرغوة في ذلك بدوامها وتقريرها على وجه الاطلاق وطريق العموم، فوزانه
وزان التأكيد اللفظي.
ويخطر بالبال العليل أن السر فيه أن مدلول القضية الأولى مصاحبته (عليه السلام)
للقرآن، وهو ليس بنص في المراد من عصمته (عليه السلام)، لاحتمال أن يراد به مداومته
لقراءته وتعاهده ونحوهما، فدفع الاحتمال المذكور بالقضية الثانية (1).
ووجه اندفاعه بها أمران:
أحدهما: أن المصاحب اسم مفعول باعتباره من حيث هو كذلك ينبغي أن يكون
هو أكمل المتصاحبين والمؤثر منهما بالقصد، كما يقال: صحبت الأمير، ولا يقال
صحبني إلا نادرا بنوع من التوسع.
وحينئذ فاسناد المصاحبة بالاعتبار المذكور إلى القرآن لا يحسن حمله على
مداومته (عليه السلام) لدرسه وقراءته والتهجد به، كما احتمل في الأولى، لأن هذا القدر
يستدعي كونه (عليه السلام) مصاحبا له اسم فاعل وانه مصحوب، إذ ماله إلى مدلول القضية
الأولى ومفاد الجملة السابقة، فكيف صار مصاحبا وقد كان مصحوبا بالاعتبار
المذكور؟
وحينئذ يتعين حمله على أنه ناص على إمامته قاطع على خلافته، مصدق لما
حكم به، شاهد بعصمته غير مفارق له في حال من الأحوال، وهو بهذا الاعتبار
يحسن جعله مصاحبا اسم فاعل، ويحسن جعله (عليه السلام) مصحوبا، وذلك ما أردناه،



(1) وربما خطر بالبال أيضا في وجه التكرار الايذان بأن كل واحد منهما أصل برأسه
مستعمل، وأنهما متلازمان، وكل منهما مصدق للاخر، ولو اقتصر على الجملة لأشعر بأنه
بعينه (عليه السلام) للقرآن، وأنه ليس أصلا مستقلا. وهذا الوجه لطيف (منه).
112
وفي هذا دقة وخفاء، فتأمله (1).
الثاني: أن معنى القضية الأولى مداومة مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) لدرس القرآن،
والتفكر في معانيه، والعمل بمقتضاه، وتمييز محكمه من متشابهه، ومجمله من مبينه،
وناسخه من منسوخه، وغيرها من مقاصده، وان أفعاله (عليه السلام) وأقواله مطابقة لما
فيه.
ولو كان هذا معنى الثانية لزم التأكيد، والتأسيس خير منه، لأن الحمل على
الإفادة أولى من الحمل على الإعادة، فوجب حمل الثانية على تصديق القرآن له، و
دلالته على إمامته وخلافته ووجوب الاقتداء بآثاره والاقتفاء لمناره ترجيحا
للتأسيس على التأكيد، والإفادة على الإعادة، والله العالم.
الحديث الثاني عشر
[علي (عليه السلام) سيد المؤمنين وامام المتقين وقائد الغر المحجلين]
الطبراني في معجمه، قال: حدثنا محمد بن مسلم بن عبد العزيز الأشعري
الأصبهاني، نا مجاشع بن عمرو بهمدان سنة خمس وثلاثين ومائتين، نا عيسى بن
سوادة الرازي، نا هلال بن أبي حميد الوزان، عن عبد الله بن عكيم الجهني، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ان الله أوحى إلي في علي ثلاثة أشياء ليلة أسري بي: انه سيد
المؤمنين، وامام المتقين، وقائد الغر المحجلين (2).



(1) لابتنائه على مقدمات، وربما تتطرق إليها المنع، ولأن الأكملية في المصاحب اسم
مفعول ان تمت فإنما يتم في مادة الصحبة لا فيما تستفاد من كله من ما ضاهاها، ثم الأكملية
مجملة ولو لواحد مطلقة لم يتعاكس كما لا يخفى واحدها في الجملة، والتعاكس باختلاف
الاعتبارين مما لا دليل عليه، وقد بدت عن ذلك بنوع من العناية (منه).
(2) المعجم الصغير للطبراني 2: 88 ط المدينة المنورة.
113
أقول: هذا من الأخبار المستفيضة المروية في أكثر مسانيدهم وأصحتهم (1)،
وهو صريح في الإمامة، إذ لا معنى لسيد المؤمنين الا من يسودهم ويسوسهم،
وليس معنى الامام الا ذلك، لأنه ذو الرئاسة العامة في الدين والدنيا بالنيابة عن
النبي (صلى الله عليه وآله).
وقوله (عليه السلام) (وامام المتقين) تأكيد لذلك، فان الامام حقيقة شرعية أو عرفية في
المعنى المذكور، وان أبيت الحمل على هذا المعنى وحملته على معناه اللغوي، تمت
دلالته أيضا على إمامته (عليه السلام) بالمعنى المصطلح، إذ مفاد التركيب الإضافي حينئذ أنه
من يقتدي به المتقون في الأقوال والأفعال، ويأخذون منه معالم الحرام والحلال،
وهل هذا الا معنى الامام، كما لا يخفى على اولي الأفهام.
فان قلت: الامام بالمعنى المصطلح هومن يقتدي به جميع الأمة برها وفاجرها في
أمور دينهم، ويعولون عليه في مهمات دنياهم، ولا يختص بالمتقين دون غيرهم، فما
فائدة الإضافة المذكورة؟
قلت: أولا الفائدة في الإضافة الايذان باستحقاقه للإمامة، وضربه فيها بالعرف
الأقوى، وأخذه من سهامها بالرقيب والمعلى، فأضافه إلى المتقين ليفهم أن أهل
التقوى والصلاح من الأمة يقتدون به في جميع الأحكام، ويرجعون إليه في عامة
المهام، ويعولون على أقواله وأفعاله في الحلال والحرام لمعرفتهم بجلالة قدره وشأنه،
وفلج (2) حجته، وسطوع برهانه، وإحاطتهم علما بنص الله سبحانه ورسوله عليه
بالإمامة والوصية نصوصا جلية وخفية.
وأما من عداهم، فلا عبرة باقتدائهم واقتفائهم، فإنهم أرقا شهواتهم وعبيد



(1) راجع إحقاق الحق 4: 11 و 53، و 15: 21 - 42 وغيرها.
(2) أفلجه: أظفره وبرهانه قومه وأظهره. القاموس.
114
أهوائهم، همج (1) رعاع (2) أتباع كل ناعق، كمه (3) أبصار بصائرهم عن
اشراق (4) فجره المستطير الصادق، لا جرم أنهم تركوه ترك ظبي (5) ظله (6)،
وحرموا وبل معارفه وعلومه وطله.
وثانيا: أن الإمامة بمعنى وجوب الاقتداء به مطلقا، عام النسبة إلى جميع الأمة
كما ذكر السائل، وهو يتم على إرادة المعنى العرفي. وأما المعنى اللغوي، فمقتضاه من
يقتدى به بالفعل، ومعلوم أن الاقتداء المطلق الفعلي الوقوعي خاص بالمتقين،
فالإضافة على بابها من إفادة الاختصاص، ولا ينافيه عموم وجوب الاقتداء
المطلق لكل آحاد الأمة، فتأمل (7).



(1) الهمج: ذباب صغير كالبعوض يسقط على وجوه الغنم والحمير المهزولة، واحدته
بهاء والحمقى. القاموس.
(2) الرعاع بالمهملات وفتح أوله: العوام والسفلة وأمثالهم (منه).
(3) الكمه محركة: العمى يولد به الانسان أو عام كمه كفرح عمي. القاموس.
(4) استشراق - خ ل.
(5) هذا مثل يضرب لشدة النفور، لأن الظبي إذا نفر من شئ لا يعود إليه، كذا في
القاموس. ومنه: ان ترك سكون الدار لا يفتحها، كما وهم الجوهري (منه).
(6) الظل هو الكناس لأنه يستظل به، في الصحاح والقاموس: يضرب لأجل النفور،
لأن الظبي إذا نفر من شئ لا يعود إليه أبدا. قال صاحب الكشف: وأصله للترك الكلي، و
لذا جئ به مصغرا ليدل على النفار الطبيعي وعدم التهدي. وقيل: يضرب في هجر الرجل
صاحبه، واستحسنه صاحب الكشف (منه).
(7) وجهه: أن اللازم حينئذ اقتداء المتقين بالفعل به، وهو لا يدل على وجوب الاقتداء
على وجه العموم الذي هو معنى الامام بالمصطلح، فلا يتم التقريب.
ويمكن دفعه بأن يقال: إن اقتداء المتقين به مطلقا، والمتبحرين في الأقوال والأفعال و
الأخلاق وغيرها لا يكون الا للامام قطعا، فبمعرفة هذه المقدمة تتم التقريب، كما أشرنا
إليه سابقا (منه).
115
وثالثا: أن الإضافة المذكورة لأن المتقين هم المنتفعون بالعبر (1) المتبعون للأثر،
المستعدون للامتثال، لا للتخصيص على حد ما قاله أئمة التفسير في قوله تعالى (يا
أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) (2) الآية، أن فائدة
التخصيص بالمؤمنين مع أن الكفار مخاطبون بالفروع عندنا وعند محققي المخالفين
هو أنهم المستعدون للامتثال، المتهيأون لنيل مزية الخلاص من عهدة التكليف، فلا
تغفل.
الحديث الثالث عشر
[لعلي (عليه السلام) عصا يوم القيامة يذود بها المنافقين عن الحوض]
الطبراني في معجمه، قال: حدثنا محمد بن زيدان الكوفي بمصر سنة خمس وثمانين
ومائتين، نا سلام بن سليمان المدائني، نا شعبة، عن زيد العمي، عن أبي الصديق
الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي معك يوم
القيامة عصا من عصي الجنة تذود بها المنافقين عن حوضي (3).
أقول: لا يبعد عندي أن يراد بالمنافقين الجاحدون لامامته المكذبون بخلافته،
وقد بينا فيما سبق أن الذين جحدوا إمامته ونقضوا بيعته وكل من يحذو حذوهم
ناصبون منافقون. وسنقرر ذلك فيما يأتي إن شاء الله تعالى مستوفى.
والخبر من شواهد إمامته وجلالته وأدلة خلافته وأفضليته على سائر الصحابة،
كما لا يخفى.



(1) في (س): الغير.
(2) المائدة: 6.
(3) المعجم الصغير للطبراني 2: 89 ط المدينة المنورة.
116
الحديث الرابع عشر
[قوله (صلى الله عليه وآله) علي وصيي في عترتي وأهل بيتي وأمتي من بعدي]
الحافظ أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه (1) من عظمائهم، قال: أخبرنا أبو بكر
أحمد بن محمد السري بن يحيى التميمي، حدثنا المنذر بن محمد بن المنذر، حدثنا أبي،
عن عمي الحسين بن يوسف بن سعيد بن أبي الجهم، حدثني أبي، عن أبان بن
تغلب (2) عن علي بن محمد بن المنذر (3)، عن أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله)، وكانت
من ألطف نسائه وأشدهن له حبا، قال: وكان لها مولى يحضنها ورباها، وكان لا
يصلي صلاة الا سب عليا (عليه السلام) وشتمه، فقالت له: يا أبت ما حملك على سب علي؟
قال: لأنه قتل عثمان وشرك في دمه.
قالت له: لولا أنك مولاي وربيتني وانك عندي بمنزلة والدي ما حدثتك بسر
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولكن اجلس حتى أحدثك عن علي (عليه السلام) وما رأيته في حقه، قد
أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكان يومي، وإنما كان يصيبني في تسعة أيام يوم واحد.
فدخل النبي (صلى الله عليه وآله) وهو متخلل في أصابع علي (عليه السلام) واضعا يده عليه، فقال: يا
أم سلمة أخرجي عن البيت وأخليه لنا، فخرجت وأقبلا يتناجيان، وأسمع الكلام
ولا أدري ما يقولان، حتى قلت: قد انتصف النهار، فأقبلت وقلت: السلام عليكم
ألج يا رسول الله؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): لا تلجي وارجعي مكانك.
ثم تناجيا طويلا حتى قام عمود الظهر، فقلت: قد ذهب يومي وشغله علي،
فأقبلت أمشي حتى وقفت على الباب، وقلت: السلام عليكم ألج؟ فقال



(1) قال في الطرائف (ص 24): انه حجة عند الأربعة المذاهب (منه).
(2) أبان بن تغلب وثقه الذهبي في كتابه ميزان الاعتدال، وذكر أنه من الامامية (منه).
(3) في الطرائف: المنكدر.
117
النبي 9: لا تلجي، فرجعت وجلست مكاني حتى إذا قلت: قد زالت الشمس
الان يخرج إلى الصلاة، فيذهب يومي ولم أر يوما قط أطول منه، فأقبلت أمشي
حتى وقفت، فقلت: السلام عليكم ألج؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله): نعم فلجي.
فدخلت وعلي واضع يده على ركبتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أدنى فاه من اذن
النبي (صلى الله عليه وآله)، وفم النبي (صلى الله عليه وآله) على اذن علي يتساران، وعلي يقول: أفأمضي وأفعل؟
والنبي (صلى الله عليه وآله) يقول: نعم، فدخلت وعلي معرض وجهه عني حتى دخلت وخرج.
فأخذني النبي (صلى الله عليه وآله) وأقعدني في حجره، وأصاب مني ما يصيب الرجل من أهله
من اللطف والاعتذار، ثم قال: يا أم سلمة لا تلوميني، فان جبرئيل (عليه السلام) أتاني من
الله تعالى بما هو كائن بعدي، وأمرني أن أوصي به عليا من بعدي، وكنت جالسا بين
جبرئيل وبين علي، جبرئيل عن يميني وعلي عن شمالي.
فأمرني جبرئيل (عليه السلام) أن آمر عليا بما هو كائن بعدي إلى يوم القيامة، فاعذريني
ولا تلوميني، ان الله عز وجل اختار من كل أمة نبيا، واختار لكل نبي وصيا، فأنا
نبي هذه الأمة، وعلي وصيي في عترتي وأهل بيتي وأمتي من بعدي.
فهذا ما شهدت من علي، الان يا أبتاه فسبه أودعه، فأقبل أبوها يناجي الليل
والنهار، اللهم اغفر لي ما جهلت من أمر علي، فان وليي ولي علي، وعدوي عدو
علي، وتاب المولى توبة نصوحا، وأقبل فيما بقي من عمره يدعو الله أن يغفر له (1).
أقول: هذا الخبر من الأخبار الواضحة الدلالة على إمامته (عليه السلام)، والناصة على
خلافته ووصيته، وقد أورده صاحب الطرائف عطر الله مرقده ناقلا له عن ابن
مردويه من عظمائهم، ثم قال بعد ايراده له ما نصه:
قال عبد المحمود: فهذه شهادة صريحة منهم بوصية علي (عليه السلام)، وكمال لم يبلغ إليه



(1) الطرائف ص 24 - 26 عن ابن مردويه، وإحقاق الحق 4: 76 عنه.
118
أحد من القرابة والصحابة، ولا ادعاه ولا ادعي له (1). انتهى كلامه زيد اكرامه.
أقول: والأخبار المصرحة بوصيته (عليه السلام) كثيرة.
منها: ما رواه العز المحدث الحنبلي، وهو عبد الرزاق بن رزق الله بن أبي بكر
الموصلي، مرفوعا إلى أنس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): علي أخي وصاحبي وابن
عمي، وخير من أترك بعدي، يقضي ديني وينجز موعدي (2).
وعن أنس، عن سلمان قال: قلت: يا رسول الله عمن نأخذ بعدك؟ وبمن نثق؟
قال: فسكت عني حتى سألت عشرا، ثم قال: يا سلمان ان وصيي وخليفتي وأخي
ووزيري وخير من أخلفه بعدي علي بن أبي طالب، يؤدي عني وينجز
موعدي (3).
ومنها: ما رواه الشافعي ابن المغازلي في مناقبه في تفسير (والنجم إذا
هوى) يرفعه إلى ابن عباس (رضي الله عنه)، قال: كنت جالسا مع فتية من بني هاشم عند
النبي (صلى الله عليه وآله) إذ انقض كوكب، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من انقض هذا النجم في منزله
فهو الوصي من بعدي.
فقام فتية من بني هاشم فنظروا، فإذا الكوكب قد انقض في منزل علي بن
أبي طالب (عليه السلام)، فقالوا: يا رسول الله غويت في حب علي، فأنزل الله تعالى
(والنجم إذا هوى × ما ضل صاحبكم وما غوى - إلى قوله: بالأفق الأعلى) (4).
ومنها: ما رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند عائشة، عن الأسود
بن يزيد، قال: ذكروا عند عائشة أن عليا كان وصيا. وفي رواية أزهر أنهم قالوا:



(1) الطرائف في معرفة المذاهب ص 26 المطبوع بتحقيقنا.
(2) كشف الغمة 1: 157 عن العز المحدث، وهو صديق صاحب كشف الغمة يروي عنه
كثيرا.
(3) كشف الغمة 1: 157 عنه.
(4) المناقب لابن المغازلي ص 310، برقم: 353.
119
انه وصي فلم تكذبهم، بل ذكرت أنها ما سمعت ذلك من النبي (صلى الله عليه وآله) حين وفاته (1).
ومنها: ما رواه الثعلبي في تفسير قوله تعالى (وأنذر عشيرتك الأقربين) (2)
يرفع الحديث إلى البراء بن عازب، قال: لما نزلت (وأنذر عشيرتك
الأقربين) جمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بني عبد المطلب، وهم يومئذ أربعون رجلا، الرجل
منهم يأكل المسنة ويشرب العس (3).
فأمر عليا (عليه السلام) أن يدخل شاة، فأدناها (4)، ثم قال: ادنوا بسم الله، فدنا القوم
عشرة عشرة، فأكلوا حتى صدروا، ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعة، ثم قال
لهم: اشربوا بسم الله، فشربوا حتى رووا، فبدرهم أبو لهب وقال: هذا ما سحركم به
الرجل.
فسكت النبي (صلى الله عليه وآله) فلم يتكلم، ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك الطعام
والشراب، ثم أنذرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بني عبد المطلب اني أنا النذير إليكم
من الله ولبشير، جئتكم بما لم يجئ به أحدكم، جئتكم بالدنيا والآخرة، فأسلموا
وأطيعوا واهتدوا (5)، ومن يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووارثي ووصيي
بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم، وأعاد القول ثلاثا، في كل
ذلك يسكت القوم ويقول علي بن أبي طالب (عليه السلام): أنا، فقال: أنت، فقام القوم وهم
يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد امر عليك (6).



(1) الطرائف ص 23 عن الجمع بين الصحيحين.
(2) الشعراء: 214.
(3) العساس ككتاب: الأقداح العظام، الواحد عس بالضم. القاموس.
(4) في الطرائف: فأدمها.
(5) في الطرائف: تهتدوا.
(6) الطرائف في معرفة المذاهب ص 20 - 21 عن تفسير الثعلبي وإحقاق الحق 3: 386
عنه.
120
ورواه أحمد بن حنبل في مسنده مع تغاير يسير (1).
ومنها: ما رواه ابن خالويه (2) في كتاب الال، عن عبد الله بن مسعود، قال:
خرج النبي (صلى الله عليه وآله) من بيت زينب بنت جحش حتى أتى بيت أم سلمة، فجاء داق
فدق الباب، فقال: يا أم سلمة قومي فافتحي له، قالت: فقلت: ومن هذا يا رسول
الله؟ الذي بلغ من خطره أن أفتح له الباب وأتلقاه بمعاصمي (3)، وقد انزل في
بالأمس آيات من كتاب الله.
فقال: يا أم سلمة ان طاعة الرسول طاعة الله، وان معصية الرسول معصية الله،
فان بالباب رجلا ليس بنزق (4) ولا خرق (5)، وما كان ليدخل منزلا حتى لا
يرى (6) حسا، وهو يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله.
قالت: ففتحت الباب، فأخذ بعضادتي الباب، ثم جئت حتى دخلت الخدر،
فلما لم يسمع وطأي دخل، ثم سلم على النبي (صلى الله عليه وآله).
ثم قال (صلى الله عليه وآله): يا أم سلمة - وأنا من وراء الخدر - أتعرفين هذا؟ فقلت: نعم هذا
علي بن أبي طالب، فقال: هو أخي، سجيته سجيتي (7)، ولحمه من لحمي، ودمه من
دمي، يا أم سلمة هذا قاضي عداتي من بعدي، فاسمعي واشهدي.
يا أم سلمة هذا وليي من بعدي، فاسمعي واشهدي، يا أم سلمة لو أن رجلا عبد



(1) مسند أحمد بن حنبل 1: 111 ط مصر.
(2) اسمه الحسين بن أحمد، من أعاظم الامامية وأهل الأدب (منه).
(3) المعصم كمنبر: موضع السوار من اليد. القاموس.
(4) نزق كفرح وضرب: طاش وخف عند الغضب. القاموس.
(5) الأخرق: الأحمق أو من لا يحسن الصنعة كالخرق ككتف. القاموس.
(6) في الكشف: لا يسمع.
(7) السجية: الخلق والطبيعة.
121
الله تعالى ألف سنة بين الركن والمقام ولقى الله مبغضا لهذا أكبه (1) الله في النار (2).
وقد رواه الخطيب في كتاب المناقب، وفيه زيادة: ودمه من دمي وهو علي،
اسمعي واشهدي، وهو قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين بعدي، فاسمعي واشهدي،
هو والله محيي سنتي، اسمعي واشهدي، لو أن عبدا عبد الله ألف عام من بعد ألف عام
بين الركن والمقام، ولقى الله مبغضا لعلي أكبه الله على منخريه في نار جهنم (3) وأخرجه صاحب (4) الوسيلة في المجلد الخامس في فضل الصحابة، عن علقمة
بن عبد الله، كما رواه الخطيب بأدنى تغاير، الا أن فيه: وهو يبغض عليا وعترته.
وبالجملة فالأخبار متواترة ناطقة باثبات الوصية والخلافة له (عليه السلام)، وقد ذكرنا
منها نحوا من ثلاثمائة حديث في رسالتنا الموسومة بغاية الطالب في اثبات الوصية
لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، وسنذكر إن شاء الله تعالى في الأحاديث الآتية ما فيه
كفاية.
والعجب من مخالفينا أنهم يروون هذه الأخبار المستفيضة الدالة على كونه (صلى الله عليه وآله)
قد وصى أمير المؤمنين (عليه السلام)، وجعله وصيه وقاضي عداته وخليفته، في كتبهم
وأصحتهم ومسانيدهم وسيرهم وتواريخهم، ثم ينكرون ما نقلوه، ويعدلون عما
صححوه، ويقولون: انه (صلى الله عليه وآله) مات ولم يوص إلى أحد، وينسبون إليه خلاف ما
توجبه العقول عليه، ونقيض ما أمر به وندب إليه.
وما أحسن ما قاله بعض (5) علمائنا في هذا المقام في معرض التشنيع على هؤلاء
العوام المنتظمين في سلك الأنعام، حيث قال ما نصه: واني لأستطرف من الأربعة



(1) كبه: قلبه وصرعه كأكبه. القاموس.
(2) كشف الغمة 1: 91 - 92 عن كتاب الال لابن خالويه.
(3) كشف الغمة 1: 92 عن المناقب.
(4) هو عمر بن محمد المعروف بالملا (منه).
(5) هو العالم العابد الزاهد السيد ابن طاووس.
122
المذاهب اقدامهم تارة على ترك العمل بوصايا نبيهم محمد (صلى الله عليه وآله)، التي تضمنتها
أخبارهم الصحاح المتقدم ذكر بعضها، واقدامهم تارة على تقبيح ذكر نبيهم فيما
نسبوه صلوات الله عليه وآله إلى اهمال رعيته وأمته، وانه توفي وتركهم بغير وصية
بالكلية.
وقد روى مسلم في صحيحه في الجزء الثالث من أجزاء ستة في الثلث الأخير منه
في كتاب الوصية، باسناده إلى ابن شهاب، عن أبيه أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ما
حق امرئ مسلم له شئ يوصي فيه يبيت ثلاث ليال الا ووصيته عنده مكتوبة.
وروى نحو ذلك من عدة طرق (1).
فكيف تقبل العقول أن النبي (صلى الله عليه وآله) يقول ما لا يفعل، وقد تضمن كتاب الله تعالى
أيضا (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا
تعقلون) (2) قال الله تعالى عمن هو دون محمد (صلى الله عليه وآله) من الأنبياء (وما أريد أن
أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) (3).
فكيف يأمر نبينا (صلى الله عليه وآله) بالوصية ولو في الشئ اليسير، ويتركها هو في الأمر
الكثير والجم الغفير؟ لا سيما وقد رووا أن الله تعالى عرفه ما يحدث في أمته من
الاختلاف العظيم، كما استفاضت به أخبارهم، ونطقت به آثارهم. ما هكذا تقتضي
صفات السياسة المرضية، وعموم الرحمة الإلهية، وثبوت الشفقة المحمدية.
وكيف يصدق عاقل أو جاهل أن محمدا (صلى الله عليه وآله) ترك الأمة بأسرها كبيرها
وصغيرها، غنيها وفقيرها، عالمها وجاهلها، في ظلم الحيرة والاختلاف والاهمال
والضلال، لقد أعاذه الله من هذه، ولقد نسبوه إلى غير صفاته الشريفة، وما عرفوا



(1) صحيح مسلم 3: 1250.
(2) البقرة: 44.
(3) هود: 88.
123
أو عرفوا وجحدوا حقوق ذاته المعظمة المنيفة (1). انتهى كلامه ملخصا.
وهو كلام متين، وستسمع لنا كلاما مستوفى في الحديث الحادي والعشرين.
تنبيه:
روى الشيخ أبو جعفر الطوسي شيخ طائفتنا ورئيس أصحابنا في الأمالي هذا
الخبر على وجه مغاير لما أوردناه، عن ابن مردويه من المخالفين، وهذه صورته:
قال: بلغ أم سلمة أن عبدا لها يبغض عليا (عليه السلام) ويتناوله، فأحضرته وقالت له:
يا بني سمعت عنك كذا وكذا، فقال: نعم، فقالت: اجلس مكانك ثكلتك أمك حتى
أحدثك بحديث سمعته من النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم اختر لنفسك.
انه كان ليلتي من النبي (صلى الله عليه وآله)، فأتيت الباب وقلت: أدخل يا رسول الله؟ فقال:
لا، فاكتأبت كآبة (2) شديدة، مخافة أن يكون ردني من سخطة، أو نزل في شئ من
السماء، ثم جئت ثانية فجرى ما جرى في الأولى، فأتيته الثالثة فأذن لي، وقال لي:
ادخلي.
فدخلت وعلي (عليه السلام) جاث بين يديه وهو يقول: فداك أبي وأمي يا رسول الله إذا
كان كذا وكذا فما تأمرني؟ قال: اصبر، فأعاد القول ثانية، وهو يأمره بالصبر،
فأعاد القول ثالثة وهو يأمره بالصبر، فأعاد القول الرابعة، فقال (صلى الله عليه وآله): يا علي إذا
كان ذلك منهم فسل سيفك وضعه على عاتقك واضرب قدما قدما حتى تلقاني
وسيفك شاهر يقطر من دمائهم.
ثم التفت (صلى الله عليه وآله) إلي وقال: ما هذه الكآبة يا أم سلمة؟ فقلت: للذي كان من ردك



(1) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ص 164 - 165 المطبوع بتحقيقنا.
(2) في الأمالي والكشف: فكبوت كبوة.
124
إياي يا رسول الله، فقال: والله ما رددتك عن موجدة، وانك لعلى خير من الله
ورسوله، ولكن أتيتيني وجبرئيل عن يميني وعلي عن شمالي، وجبرئيل يخبرني عن
الأحداث التي تكون بعدي، وأمرني أن أوصي بذلك عليا.
يا أم سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن أبي طالب أخي في الدنيا والآخرة، يا أم
سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن أبي طالب وزيري في الدنيا ووزيري في الآخرة،
يا أم سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن أبي طالب حامل لوائي في الدنيا وحامل
لوائي في الآخرة لواء الحمد غدا يوم القيامة.
يا أم سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن أبي طالب وصيي وخليفتي من بعدي
وقاضي عداتي والذائد عن حوضي، يا أم سلمة اسمعي واشهدي هذا علي بن
أبي طالب امام المتقين، وقائد الغر المحجلين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.
قلت: يا رسول الله من الناكثون؟ قال: الذين يبايعونه بالمدينة وينكثون
بالبصرة. قلت: من القاسطون؟ قال: معاوية وأصحابه من أهل الشام. قلت: من
المارقون؟ قال: أصحاب النهروان، فقال مولى أم سلمة: فرجت عني فرج الله
عنك، والله لا سببت عليا أبدا (1).
وأورد هذا الخبر أيضا الفاضل الجليل بهاء الدين علي بن عيسى الأربلي عطر
الله مرقده في كتابه كشف الغمة، ثم قال بعد ايراده له ما نصه:
أقول: أبعد الله هذا العبد، وأبعد داره، ولا قرب منزله، ولا أدنى قراره، لأنه
حين كان مبغضا لعلي (عليه السلام) كان ذا عقيدة ذميمة وطريقة غير مستقيمة، فلما عرف
الصواب تاب عن سبه ولم يمل إلى صحبه، ولا قال أعتقد ما يجب من حبه وأكون
معه ومن حزبه، وهل يرضى بذلك الا من غطى الله على عينيه وقلبه.



(1) أمالي الشيخ الطوسي ص 424 - 426 ط قم مع اختلاف في بعض الألفاظ، ورواه
الماتن هنا عن كشف الغمة عن الأمالي، فلاحظ.
125
ورضي الله عن أم المؤمنين أم سلمة، فقد أدت الأمانة في مقالها، وقدمت هذه
الشهادة أمام ارتحالها عن الدنيا وانتقالها وستجني رحمها الله ورضي عنها ثمرة
أعمالها (1). انتهى كلامه زيد اكرامه.
وأنا أقول: الظاهر أن هذه القصة هي التي حكاها طراز المحدثين أحمد بن موسى بن
مردويه، وأن هذا العبد هو المولى الذي رباها، وقد تضمن حديث ابن مردويه أنه
تاب توبة نصوحا، وأنه كان يقول: اللهم اغفر لي ما جهلت من أمر علي، فان وليي
ولي علي وعدوي عدو علي.
وهذه - كما ترى - توبة صادقة صحيحة، ومحبة خالصة صريحة، فما ذكره الفاضل
الأربلي غير وارد عليه، ودعاؤه عليه غير متوجه إليه، والله العالم بالحقائق.
درة ثمينة:
قوله (عليه السلام) في هذا الحديث (إذا كان كذا وكذا فما تأمرني؟ فقال: بالصبر) الظاهر
أنه كناية عما جرى عليه وعلى أهل بيته وزوجته فاطمة (عليها السلام) من الأمور الفضيعة
من أول الطواغيت الثلاثة، ومن تابعه من السفهاء.
من كف يده عن الخلافة والإمامة، واكراهه على البيعة للجبت، وغصب
فاطمة (عليها السلام) ميراثها من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنعها فدكا والعوالي، وضربها بالسوط،
وعزمهم (2) على احراق بيتها صلوات الله عليها وعلى أبيها وبنيها، وغيرها من
الأمور المنكرة الفضيعة والأحوال الشنيعة.
وقوله (عليه السلام) الثانية مثل ذلك، وأمره له (صلى الله عليه وآله) بالصبر، هو كناية عما جرى عليه



(1) كشف الغمة في معرفة الأئمة 1: 400 - 401 ط سنة 1381 ه‍ ق.
(2) والصحيح: واحراقهم بيتها.
126
بعد موت الجبت من اغتصاب حقه من الإمامة ثانيا، حيث أوصى بها إلى
الطاغوت الفظ الغليظ من غير مشورة أهل المشورة، ورضا أهل النجدة والسابقة
من عظماء الصحابة.
وما جرى عليه من اللص الثاني من الوقائع العجيبة والبدع الغريبة، من
منعهم (عليهم السلام) من الخمس، وتزوجه بأم كلثوم قهرا واكراها، ومنعه عن المتعتين: متعة
الحج ومتعة النساء، واسقاطه حي على خير العمل من الأذان، وقتله سعد بن
عبادة، وغيرها من البدع.
واعادته (عليه السلام) القول المذكور في الثالثة وأمره (صلى الله عليه وآله) بالصبر، كناية عما جرى عليه
من الأحوال المنكرة بعد قتل الثاني، من جعله الشورى في جملة ستة، لا ينالون
شاؤه، ولا يدركون مداه وغايته، وتخاذل الصحابة عنه، وبيعتهم بخديعة عبد
الرحمن بن عوف لنعثل (1).
وما جرى منه من البدع التي لا يفي الحصر بذكرها: من عفوه عن عبد الله بن
عمر قاتل هرمزان، وعدم أخذه الحد من الوليد بن عقبة، وقد شرب الخمر وقامت
عليه البينة العادلة بأنه قد قآها في المحراب، ومنعه المراعي من الجبال والأودية،
وأخذه عليها المال من المسلمين، وايوائه طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحكم بن أبي
العاص عمه وابنه مروان، وجعله مروان كاتبه وصاحب تدبيره.



(1) قال ابن الأثير في نهايته (5: 79 - 80): في حديث مقتل عثمان (لا يمنعك مكان ابن
سلام أن تسب نعثلا) كان أعداء عثمان يسمونه نعثلا، تشبيها برجل من مصر كان طويل
اللحية اسمه نعثل. وقيل: النعثل الشيخ الأحمق وذكر الضباع. ومنه حديث عائشة (اقتلوا
نعثلا قتل الله نعثلا) تعني عثمان، وهذا كان منها لما غاضبته وذهبت إلى مكة. انتهى.
والعجب من الناصبة أنهم يروون مثل هذه الفضائح لأئمتهم ويودعونها أصحتهم و
مسانيدهم وكتب عربيتهم، ولا يبالون بما تقتضيه من سخافة طريقتهم وبطلان
عقيدتهم (منه).
127
وضربه عبد الله بن مسعود لما امتنع من دفع مصحفه إليه حتى كسر له ضلعان،
وحمل من موضعه وهو لما به عليل، فبقي أياما ومات من ذلك، واحراقه المصاحف،
وضربه عمار بن ياسر رضي الله عنه حتى أصابه فتق، ونفيه أبا ذر رضي الله عنه إلى
الربذة وغيرها، وقد صبر (عليه السلام) كما أمره سيد الأنبياء (صلى الله عليه وآله) في هذه الوقائع الشنيعة
والأحوال الفضيعة.
واعادته (عليه السلام) القول في الرابعة، فأجاب (صلى الله عليه وآله) بقوله: (يا علي إذا كان ذلك
منهم فسل سيفك وضعه على عاتقك) كناية عما وقع بعد بيعته (عليه السلام) بعد قتل عثمان،
من انبثاق (1) بثوق البدع، ونجوم (2) نجم الفتن من الناكثين لبيعته، وهم: طلحة
والزبير وعائشة وأهل البصرة، والقاسطين وهم أصحاب معاوية وأهل الشام،
والمارقين وهم الخوارج لعنهم الله أجمعين، فإنه (عليه السلام) قد ابلي العذر في قتالهم كما
قال (صلى الله عليه وآله).
هذا ما خطر ببالي العليل في معنى الكلام، ولعله (عليه السلام) أراد معنى آخر لم يهتد
نظري الكليل إليه، ولم يعثر فكري العليل عليه، والله أعلم بحقيقة الحال.
جوهرة غالية:
قد يسأل المخالفون عن مسالمته (عليه السلام) لأئمتهم الثلاثة المتلصصة، وعدم منازعتهم
ومحاربتهم ومعارضتهم، ومحاربته لأهل البصرة وفيهم عائشة وطلحة والزبير،
ومحاربته لأهل صفين مرة بعد أخرى.
وقالوا: لو كان كما ذكرتم من أنه إنما ترك المنازعة والمحاربة للخلفاء الثلاثة لعدم



(1) انبثق الفجر والسيل عليهم: أقبل.
(2) أي: ظهور علم الفتن.
128
المكنة، لاتجه أن يقال: لم لا أبلى وأعذر واجتهد؟ فإنه إذا لم يصل إلى مراده بعد
الاعذار والاجتهاد كان معذورا.
ثم قالوا: أوليس هو (عليه السلام) حارب أهل البصرة وفيهم عائشة زوجة
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وطلحة والزبير، ومكانهما من الاختصاص والصحبة والتقدم
مكانهما، ولم يحشمه ظاهر هذه الأحوال من كشف القناع في حربهم، حتى أتى على
نفوس أكثر أهل العسكر.
وهو المحارب (عليه السلام) لأهل صفين مرة بعد أخرى، مع تخاذل أصحابه وتواكل
أنصاره، وهو أنه في أكثر مقاماته ومواقفه لا يغلب في ظنه الظفر، ولا يرجو لضعف
من معه النصر، وكان مع ذلك كله مصمما ماضيا قدما لا تأخذه في الله لومة لائم،
ولم يظهر منه شئ من ذلك مع من تقدم والحال عندكم واحدة، بل لو قلنا كانت
أغلظ وأفحش، لأنها كانت مفتاح الشر، ورأس الخلاف، وسبب التبديل والتغيير
على زعمكم.
وقد أجاب أصحابنا عن ذلك بوجوه صحيحة وطرق مليحة.
منها: ما ذكره أبو القاسم الأجل المرتضى علم الهدى ذو المجدين عطر الله مرقده
في كتابه تنزيه الأنبياء، وملخصه: أن الأئمة (عليهم السلام) معصومون عندنا من كبائر
الذنوب وصغائرها، للدليل العقلي القاطع، وقد أشرنا إليه فيما سبق، فمتى ورد عن
أحدهم (عليهم السلام) ما ظاهره أنه ذنب أو خطيئة، وجب أن نصرفه عن ظاهره، ونحمله
على ما يوجبه الدليل العقلي.
ولما ثبت أن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) امام معصوم عن الخطأ والزلل، وجب
حمل جميع أفعاله على الوجه الصحيح المحسن، والنمط المصحح المسوغ، فان علمنا
وجهه على وجه التفصيل فذاك، والا كفانا في ذلك الأمر الاجمالي والعلم الحملي،
بأن الظاهر غير مراد أنه ذو محمل صحيح ووجه سائغ.
ثم قال نور الله ضريحه: وهذه الجملة كافية في جميع المشتبه من أفعال

129
الأئمة (عليهم السلام) وأقوالهم (1) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.
ومنها: ما أجاب به قدس الله سره في الكتاب المذكور على التفصيل باطناب
وتطويل واكثار من الأسؤلة والأجوبة، ونحن نذكر هنا محصله ونختصر مطوله، لأن
نقله يؤدي إلى الاطناب، ويخرج عن موضوع الكتاب.
فنقول: من شرط انكار المنكر التمكن والقدرة، وأن لا يغلب في ظن المنكر أن
انكاره يؤدي إلى وقوع ضرر به لا يتحمل، ولا يخاف من انكاره وقوع ما هو
أفحش منه وأقبح، وهذه شروط قد شهدت بها الأدلة العقلية، ووافقنا عليها
المخالفون.
وإذا كان الأمر على هذا، فتركه (عليه السلام) الانكار على الطواغيت الثلاثة ومحاربته،
مبني على عدم تمكنه وخوفه من الضرر العظيم العائد إليه في نفسه وولده والى شيعته.
ويجوز أن يكون لخوفه من ارتداد القوم عن الدين وخروجهم عن الاسلام،
ونبذهم شعار الشريعة الإلهية، فلا جرم كان الاغضاء أصلح في الدين إذا كان
الانكار البليغ والمعارضة البالغة تجر إلى ضرر عظيم لا يتلافى، ومشقة شديدة لا
تنحسم (2).
قلت: ويؤيده ما نقله الشيخ العالم عز الملة والحق والدين الشيخ حسن المهلبي
الحلي (3) في الأنوار البدرية، عن بعض كتب المخالفين، وهو أن سيدة النساء



(1) تنزيه الأنبياء ص 133 ط نجف.
(2) تنزيه الأنبياء ص 133 - 134.
(3) قال في أمل الآمل (2: 78): فاضل عالم محقق مدقق، له كتاب الأنوار البدرية في رد
شبه القدرية انتهى. أقول: وكتابه هذا رد على الشبهات التي أوردها الشيخ يوسف بن
مخزوم الأعور المقصودي الواسطي في حدود سنة (700) في كتابه المؤلف في الرد على
الامامية، وألف الشيخ المهلبي هذا الكتاب بأمر الشيخ الأجل الفاضل جمال الدين أبي
العباس أحمد بن فهد الحلي، وفرغ منه سنة (840) والكتاب لا زال مخطوطا.
130
فاطمة (عليها السلام) عاتبته على ما حصل لها من القهر بمنعها ارثها، حتى قالت له: ما كنت
شجاعا الا بأبي، فأمهلها حتى أذن المؤذن، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن
محمدا رسول الله، وجذب بعض ذي الفقار وقال لها: أيما أحب إليك ذكر أبيك هكذا
إلى يوم القيامة أم تعود جاهلية؟ فقالت: رده يا أبا الحسن.
وهذا بعينه ذكره ابن أبي الحديد المعتزلي في آخر شرح نهج البلاغة.
ثم قال (1) قدس الله روحه: ثم قد ذكرنا في كتابنا في الإمامة من أسباب الخوف
وامارات الضرر التي تناصرت بها الروايات ووردت من الجهات المختلفة ما فيه
مقنع للمتأمل، وانه (عليه السلام) غولط في الأمر وسوبق إليه وانتهزت غرته (3)، واغتنمت
الحال التي كان فيها متشاغلا بتجهيز النبي (صلى الله عليه وآله) وسعى القوم إلى سقيفة بني ساعدة،
وجرى لهم فيها مع الأنصار ما جرى، فتم لهم عليه، كما اتفق من بشر بن سعد ما تم
وظهر.
وإنما توجه لهم من قهرهم الأنصار ما توجه، أن الاجماع قد انعقد على البيعة،
وأن الرضا وقع من جميع الأمة، وروسل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومن تأخر معه من بني
هاشم وغيرهم مراسلة بليغة، وألزموا بالبيعة الزاما لا اختيار فيه تهددوه على
التأخر بأنواع التهديدات وأصناف التوعدات، وهذه امارات بل دلالات قاطعة
على أن الضرر في الانكار على القوم شديد والخطب عظيم.
بل نقول: إذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) قد نص على أمير المؤمنين بالإمامة والوصية في
مقامات شتى ومواضع متعددة بكلام لا يحتمل التأويل، ثم إنهم مع سماعهم
النصوص واستفاضتها بينهم على وجه لا يجحده ذو تحصيل أقبلوا بعد وفاته (صلى الله عليه وآله)
بلا فصل يتنازعون في الأمر تنازع من لم يعهد إليه بشئ فيه، ولم يسمع نصا على



(1) أي: السيد الجليل المرتضى علم الهدى 1.
(2) الغرة: الغفلة. والانتهاز: الاغتنام (منه).
131
الإمامة، لأن المهاجرين قالوا: نحن أحق بالأمر، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) منا ولكيت
وكيت، والأنصار قالوا: نحن آويناه ونصرناه، فمنا أمير ومنكم أمير. والنص لا
يذكر فيما بينهم، ولم يطل العهد عليهم، فينسوه أو يتناسوه ولا يتناسى.
فعلم أنهم قد وطنوا نفوسهم على نبذ العهود، واطراح النصوص، ومخالفة
الرسول (صلى الله عليه وآله)، وتغيير ما أطد، وهدم ما أسس ومهد، وتواطئوا على مخالفة نبيهم
وجحود امامهم، والتعويل على أهوائهم السخيفة وآرائهم الضعيفة.
واستبان أنهم ما أقدموا على ذلك الأمر الفضيع والخطب الشنيع الا وهم على
غيره من الضرر العظيم أشد اقداما، فأي طمع يبقى في نزوعهم لوعظ أو تذكير.
على أنا لا نسلم أنه صلوات الله عليه لم يقع منه انكار على وجه من الوجوه، فان
الرواية متظافرة بأنه (عليه السلام) لم يزل يتظلم ويتألم ويشكو أنه مظلوم ومقهور في مقام بعد
مقام، وخطاب بعد خطاب، وقد ذكرنا تفصيل هذه الجملة في كتابنا الشافي في
الإمامة، وأوردنا طرفا مما روي في هذا الباب.
وبينا أن كلامه في هذا المعنى ترتب في الأحوال بحسب ترتبها في الشدة واللين،
وكان المسموع من كلامه (عليه السلام) في أيام أبي بكر، لا سيما في صدرها وعند ابتغاء البيعة
له ما لم يكن مسموعا في أيام عمر، ثم صرح (عليه السلام) وقوى تعريضه في أيام عثمان، ثم
انتهت الحال في أيام تسليم الأمر إليه إلى أنه (عليه السلام) ما كان يخطب خطبة ولا يقف
موقفا الا ويتظلم فيه بالألفاظ المختلفة والوجوه المتباينة، حتى اشترك في معرفة ما
في نفسه الولي والعدو، والقريب والبعيد.
فأما محاربة أهل البصرة، ثم أهل صفين، فلا يجري مجرى التظاهر بالانكار على
المتقدمين عليه صلوات الله عليه وآله، لأنه (عليه السلام) وجد على هؤلاء أعوانا وأنصارا
يكثر عددهم، ويرجى النصرة والظفر بمثلهم، لأن الشبهة في فعلهم وبغيهم كانت

132
زائلة عن جميع الأماثل وذوي البصائر، ولم يشتبه أمرهم الا على أغنام وطغام (1)
لا اعتبار لهم ولا فكر في نصرة مثلهم وتعين الغرض في قتالهم ومجاهدتهم للأسباب
التي ذكرناها.
وليس هذا ولا شئ منه موجودا في من تقدم، بل الأمر فيه بالعكس مما ذكرناه،
لأن الجمهور والعدد الجم الغفير كانوا على موالاتهم وتعظيمهم وتصويبهم في أقوالهم
وأفعالهم، فبعض للشبهة، وبعض للانحراف عن أمير المؤمنين والمحبة لخروج الأمر
عنه، وبعض لطلب الدنيا وحطامها ونيل الرئاسات فيها.
فمن جمع بين الحالتين وسوى بين الوقتين كمن جمع بين المتضادين، فكيف يقال
هذا ويطلب منه (عليه السلام) من الانكار على من تقدم مثل ما وقع منه متأخرا في صفين
والجمل، وكل من حارب معه (عليه السلام) في هذه الحروب الا القليل كانوا قائلين بامامة
المتقدمين عليه صلوات الله عليه، وفيهم من يعتقد تفضيلهم على سائر الأمة، فكيف
ينتصر ويتقوى في اظهاره الانكار على من تقدم بقوم هذه صفتهم (2) انتهى كلامه
ملخصا.
وهو في غاية المتانة، وسيأتي في الحديث الثاني والعشرين تفصيل الأحوال التي
جرت يوم السقيفة، وتفصيل الدلالات القاطعة على الاكراه، وشدة التقية ووفور
الأعداء، وارتداد أكثر الصحابة، وتخاذلهم، وقلة الناصر منهم، فترقبه.
ومما يشهد بأن تركه (عليه السلام) لمنازعة المتلصصين والطواغيت الثلاثة وعدم محاربتهم
لهم ليس الا لعدم المكنة، وان امساك يده كان مصلحة للدين واحتياطا للمسلمين،
ما روي عنه (عليه السلام) أنه قال: اني أغضيت وصبرت اقتداء بالأنبياء: مثل جلوس



(1) أي: من لا عقل له ولا معرفة، وقيل: هم أوغاد الناس وأراذلهم، كذا في النهاية (3:
128) (منه).
(2) تنزيه الأنبياء ص 134 - 138.
133
نوح، حيث قال: (رب اني مغلوب فانتصر) (1) ومثل قول لوط (عليه السلام) (لو أن لي
بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) (2) وقول حزقيل لموسى (عليه السلام) (ان الملأ يأتمرون
بك ليقتلوك) (3) وقول هارون لموسى (عليه السلام) (ان القوم استضعفوني وكادوا
يقتلونني) (4) وقوله لنبينا (صلى الله عليه وآله) حين اشتد عليه الأمر بمكة (وإذ يمكر بك الذين
كفروا) (5) الآية. (6) (7).



(1) القمر: 10.
(2) هود: 80.
(3) القصص: 20.
(4) الأعراف: 150.
(5) الأنفال: 30.
(6) الاحتجاج 1: 279 - 280. ط النجف الأشرف.
(عليه السلام)) روى الصدوق عطر الله مرقده في كتاب علل الشرائع (ص 148 - 149) عن ابن
مسعود قال: احتجوا في مسجد الكوفة، فقالوا: ما بال أمير المؤمنين (عليه السلام) لم ينازع الثلاثة،
كما نازع طلحة والزبير وعائشة ومعاوية؟ فبلغ ذلك عليا (عليه السلام) فأمر أن ينادى بالصلاة
جامعة، فلما احتجوا صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
معاشر الناس انه بلغني عنكم كذا وكذا، قالوا: صدق أمير المؤمنين قد قلنا ذلك، قال:
فان لي بستة الأنبياء أسوة فيما فعلت، قال الله عز وجل (لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة) قالوا: ومن هم يا أمير المؤمنين؟.
قال: أولهم إبراهيم (عليه السلام) إذ قال لقومه (واعتزلكم وما تدعون من دون الله) فان قلتم:
ان إبراهيم اعتزل قومه لغير مكروه أصابه منهم فقد كفرتم، وان قلتم: اعتزلهم لمكروه رآه
منهم فالوصي أعذر.
ولي بابن خالته لوط أسوة، إذ قال لقومه (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد)
فان قلتم: ان لوطا كانت له بهم قوة فقد كفرتم، وان قلتم لم يكن له قوة فالوصي أعذر.
ولي بيوسف (عليه السلام) أسوة، إذ قال (رب السجن أحب إلي مما تدعونني إليه) فان قلتم: ان
يوسف دعا ربه وسأله السجن لسخط ربه فقد كفرتم، وان قلتم: انه أراد بذلك لئلا يسخط
ربه عليه فاختار السجن، فالوصي أعذر.
ولي بموسى (عليه السلام) أسوة، إذ قال: (ففرت منكم لما خفتكم) فان قلتم: ان موسى فر من
قومه بلا خوف كان منهم فقد كفرتم، وان قلتم: ان موسى خاف منهم فالوصي أعذر.
ولي بأخي هارون (عليه السلام) أسوة، إذ قال لأخيه (يا بن أم ان القوم استضعفوني وكادوا
يقتلونني) فان قلتم: لم يستضعفوه ولم يشرفوا على قتله فقد كفرتم، وان قلتم: استضعفوه
وأشرفوا على قتله فلذلك سكت عنهم، فالوصي أعذر.
ولي بمحمد (صلى الله عليه وآله) أسوة حين فر من قومه ولحق بالغار من خوفهم وأنامني على فراشه،
فان قلتم: فر من قومه لغير خوف منهم فقد كفرتم، وان قلتم: خافهم وأنامني على فراشه و
لحق هو بالغار من خوفهم، فالوصي أعذر. (منه).
134
وفي الديوان المنسوب إليه سلام الله عليه:
اغمض عيني عن أمور كثيرة * واني على ترك الغموض قدير
وما عن عمى اغضي ولكن لربما * تعامى وأغضى المرء وهو بصير (1)
والمروي أن يحيى بن أكثم القاضي ناظر مولانا أبو جعفر الجواد (عليه السلام) في مجلس
المأمون، فقال القاضي: انه (عليه السلام) قدم الثلاثة المتلصصة على نفسه وسمع لهم وأطاع.
فقال أبو جعفر (عليه السلام): أوما علمت أن أنبياء الله وأوصياءهم في تقية إلى وقتنا
هذا، أوما علمت أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فر من الكفر لما أرادوا قتله، ولم يكشف الغطاء
على المنافقين، فصلى على عبد الله بن أبي، وأنزل الله فيهم سورة بأسرها، فقال
عز وجل (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يشهد أن المنافقين
لكاذبون) (2) وقال (ولتعرفنهم في لحن القول) (3) فلم يكشف الغطاء عنهم،
وأخفاهم حتى صاروا إلى الله، فقال تعالى (ان المنافقين في الدرك الأسفل من
النار) (4).



(1) ديوان الإمام علي (عليه السلام) ص 54 ط الأعلمي.
(2) المنافقون: 1.
(3) محمد (صلى الله عليه وآله): 30.
(4) النساء: 145.
135
وكذلك أبونا (عليه السلام) اتبع آثار الأنبياء، وأظهر الهدنة (1) مع أعدائه خوفا على
نفسه وعلى الدين، إذ لم يقدر على الإنكار عليهم، لاجتماع الناس على الباطل
واحتفالهم (2) على اعلاء كلمته، وابراز الضلالة من أكمامها، ولولا ذلك لحدث أمر
عظيم، وبرزت الشرور من أغلافها، وحل به وبشيعته من أنواع النوائب التي تتصل
مادتها إلى يوم القيامة (3).
وأقول: انه على ما بيناه وذكرناه في تأويل الحديث المنقول عن الأمالي يسقط
السؤال المذكور بالكلية، لأنه إذا كان تركه الانكار والمحاربة في ولاية اللصوص
الثلاثة المتقدمين ومحاربته لأهل البصرة وصفين والنهروان عهدا معهودا من
النبي (صلى الله عليه وآله) كما علمته، ووصية سابقة منه سلام الله عليه وآله، لم يكن للايراد المذكور
محل، لأن عهده (صلى الله عليه وآله) بذلك لا يستند إلى الرأي والاجتهاد، لما حققناه في الكتب
الأصولية من أنه (صلى الله عليه وآله) لم يتعبد بالرأي والاجتهاد، وانه غير لائق بشأنه لأنه لا
ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى.
وذهب أكثر المخالفين إلى جواز الاجتهاد عليه (صلى الله عليه وآله). واختلفوا في وقوعه، فقال
به قوم، وأنكره آخرون، وتوقف فيه ثالث، وهو خيرة الغزالي في المستصفى، وقد
دللنا على حقية ما اخترناه في شرحنا على تهذيب الأصول، وإذا كان وحيا من الله
سبحانه لم يتجه السؤال، لتوجهه إلى حضرة من لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.
ويروى أن ابن عباس (رحمه الله)، سأله (عليه السلام) يوم اكره على بيعة أبي بكر، فقال له: أين
شجاعتك التي كانت في زمن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلم يجبه حتى إذا كان يوم الجمل
أجابه، وقال: يا بن عباس أتذكر يوما قلت لي كذا وكذا، فقال صلوات الله عليه:
لو قاتلت القوم وقتلتهم لم يكن معنا اليوم من هؤلاء أحد.



(1) الهدنة بالضم: المصالحة كالمهادنة.
(2) الاحتفال: الاجتماع كما في القاموس (منه).
(3) راجع بحار الأنوار 8: 145 - 156 ط الحجري.
136
وهذا الجواب منه يتعطف إلى ما ذكرناه فيما سبق من الاحتياط للمسلمين،
والنظر لحفظ دعائم الدين، الا أن الفرق بينهما لا يكاد يخفى على المحصل، والله العالم.
ختام
في صفة لواء الحمد
روى الخوارزمي في المناقب: أن النبي (صلى الله عليه وآله) آخى بين المسلمين، فقال: يا علي
أنت أخي وأنت مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي، أما علمت يا
علي أني أول من يدعى به يوم القيامة، يدعى بي فأقوم عن يمين العرش في ظله،
فأكسي حلة خضراء من حلل الجنة.
ألا واني أخبرك يا علي أن أمتي أول الأمم يحاسبون يوم القيامة، ثم أنت أول من
يدعى لقرابتك مني ومنزلتك عندي، ويدفع إليك لوائي، فتسير به بين السماطين
وآدم وجميع الخلق يستظلون به يوم القيامة، وطوله مسيرة ألف سنة، سنانه ياقوتة
حمراء، وقضيبه فضة بيضاء، وزجه درة خضراء، له ثلاث ذوائب من نور: ذؤابة في
المشرق، وذؤابة في المغرب، والثالثة وسط الدنيا.
مكتوب عليه ثلاثة أسطر، الأول: بسم الله الرحمن الرحيم، والثاني: الحمد لله
رب العالمين، والثالث: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وطول كل سطر مسير ألف
سنة.
وتسير بلوائي، والحسن عن يمينك، والحسين عن يسارك، حتى تقف بيني وبين
إبراهيم (عليه السلام) في ظل العرش، ثم تكسي حلة خضراء، ثم ينادي مناد من تحت
العرش: نعم الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي، أبشر يا علي فإنك تكسي

137
إذا كسيت، وتدعى إذا دعيت، وتحيى إذا حييت (1).
وأورد هذا الخبر أيضا الفاضل الجليل بهاء الدين علي بن عيسى الأربلي في كتابه
كشف الغمة (2).
وقد استفاضت الأخبار بأنه (عليه السلام) حامل لواء الحمد يوم القيامة، وقد أورده
المخالفون في كتبهم ومصنفاتهم (3).
قال بعض أصحاب الكمال: الظاهر أن من أراد أن يستظل بظلال رأفته (صلى الله عليه وآله)
وشفاعته، وحاول السلامة عن حر غضب الله جل شأنه وسخطه، والاستظلال
بظل عرشه يوم لا ظل الا ظله، لم يتيسر له ما يحاوله، ويستتم له ما يريده الا بمتابعة
حامل لوائه (عليه السلام) وقابل رشحات ولائه.
ولا يخفى أن لكل متبوع لواء يعرف به، قدوة حق كان أو أسوة باطل، لأن اللواء
الصوري هي الراية العظيمة يرفع لرئيس الجيش. وأما اللواء المعنوي، فهي المرتبة
الكلية لجميع المراتب من الكمال، ولا مقام من مقامات عباد الله الصالحين أرفع
وأعلى من مقام الحمد دونه منتهى سائر المقامات.
ولما كان سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحمد الخلائق في الدنيا والآخرة، أعطاه الله لواء
الحمد، ليأوي إلى لوائه الأولون والآخرون، واليه الإشارة بقوله (صلى الله عليه وآله) (آدم ومن
دونه تحت لوائي) وعلي صلوات الله عليه هو حامل ذلك اللواء، إذ لم يطق أحد من
أصحابه وقرابته (صلى الله عليه وآله) حمل أسرار تلك المرتبة السنية الرفيعة، لأنه (عليه السلام) أقرب
الناس صورة ومعنى إليه (صلى الله عليه وآله)، وأكمل النفوس القدسية بعد الكامل المطلق.
وأما غيره من الصحابة والأرقاب، فأكثرهم عاطل من حلية القرب المعنوي،
مقصور على الصوري، وبين الحالين بون بعيد. وما أحسن ما قال بعض شعراء



(1) المناقب للخوارزمي ص 140 برقم: 159 مع اختلاف يسير.
(2) كشف الغمة 1: 294 - 295.
(3) راجع إحقاق الحق 4: 264 - 271، و 6: 560 - 562، و 7: 378 وغيرها.
138
العجم في تحقير القرب الصوري المجرد، وانه غير نافع بل مضر في الحقيقة:
دون شود از قرب بزرگان خراب * جيفه دهد بوى بدان آفتاب
وقد خرجنا بهذا التطويل إلى الاطناب، وتجاوزنا موضوع الكتاب، الا أن الحق
أحق بالحماية في كل باب، والمستعان ملهم الحق والصواب.
الحديث الخامس عشر
[حديث الغدير]
الحافظ أبو الفتوح أسعد بن أبي الفضائل بن خلف العجلي، من فحول محدثي
العامة وعظمائهم وأساطينهم، في موجزه الذي ألفه في فضل الخلفاء الأربعة، يرفعه
بسنده إلى حذيفة بن أسيد الغفاري، وعامر بن ليلى بن ضمرة، قالا: لما صدر
رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع ولم يحج غيرها، أقبل حتى أتى الجحفة، فنهى عن
شجرات متقاربة بالبطحاء (1) أن لا ينزل تحتهن أحد، فلما أخذ القوم منازلهم بعث
إليهن، فقم (2) ما تحتهن حتى إذا ثوب (3) بالصلاة صلاة الظهر، فصلى بالناس
تحتهن، وذلك يوم غدير خم.
ثم بعد فراغه من الصلاة قال: أيها الناس قد نبأني اللطيف الخبير أنه لم يعمر نبي
الا نصف عمر النبي الذي قد كان قبله، واني لأظن اني ادعى وأجيب، واني مسؤول
وأنتم مسؤولون، هل بلغت؟ فما أنتم قائلون؟ قالوا: قد بلغت وجهدت ونصحت،
فجزاك الله خيرا.
قال: ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، وان جنته حق،



(1) البطحاء: مسيل واسع فيه دقاق الحصا، كالأبطح والبطيحة. القاموس.
(2) قم البيت كنسه، والقمامة بالضم: الكناسة. القاموس.
(3) التثويب بالثاء المثلثة والباء الموحدة: الدعاء إلى الصلاة. القاموس.
139
وان ناره حق، والبعث بعد الموت حق؟ قالوا: بلى نشهد، قال: أشهد، ثم قال: أيها
الناس ألا تسمعون ألا فان الله مولاي وأنا أولى بكم من أنفسكم، ألا ومن كنت
مولاه فعلي مولاه، وأخذ بيد علي ورفعها حتى نظرها القوم، ثم قال: اللهم وال من
والاه وعاد من عاداه (1).
أقول: هذا الخبر الشريف قد تضمن واقعة الغدير (2)، كالخبر الأول الذي نقلناه
في أول الكتاب عن معجم أبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، وقد تقدم فيما سبق
خبران آخران يتضمنان هذه الواقعة أيضا، ومسانيد القوم وأصحتهم تشتمل على
طرق كثيرة لهذا الخبر بمتون متغايرة ومداليل متقاربة، وعبارات مختلفة مطولة
ومختصرة (3).
وقد رواه محمد بن جرير الطبري (4) صاحب التأريخ من خمس وسبعين طريقا،



(1) الفصول المهمة ص 41 ط النجف عن موجز أبي الفتوح، ورواه ابن الأثير في أسد الغابة
3: 92 ط مصر عن حذيفة وعامر.
(2) ونقل ابن طاووس في طرائفه عن محمد بن علي بن شهرآشوب في نخبه عن جده شهرآشوب
قال: سمعت أبا المعالي الجويني يتعجب ويقول: شاهدت مجلدا في بغداد في يدي
صحاف فيه روايات غدير خم مكتوب ما عليه: المجلدة الثامنة والعشرون من طرق
قوله (من كنت مولاه فعلي مولاه) ويتلوه في المجلدة التاسعة والعشرون. ونقل صاحب
مجالس المؤمنين عن تاريخ عماد الدين لابن كثير نحوه (منه).
(3) راجع إحقاق الحق 2: 426 - 465، و 3: 322 - 327، و 6: 225 - 304، و 21:
1 - 93، وكفانا في هذا الباب ما ألفه العلامة المجاهد الشيخ عبد الحسين الأميني 1 في كتابه
القيم الغدير في عشرين مجلد.
(4) وذكر ابن كثير الشامي الشافعي في تاريخه الكبير في ترجمة محمد بن جرير الطبري
الشافعي أنه جمع أحاديث غدير خم كتابا كبيرا يشتمل على مجلدتين وكتابا في أحاديث
الطير، ونقل عن أبي علي العطار الهمداني أنه قال: أنا أروي هذا الحديث عن مئتي و
خمسين طريقا، وقد ألف الجزري الشافعي رسالة في تواتر الحديث المذكور، كذا في إحقاق الحق
ومجالس المؤمنين (منه).
140
وأفرد له كتابا سماه كتاب الولاية.
وروى أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد الحافظ المعروف بابن عقدة من مائة
وخمسة وعشرين طريقا، وأفرد له كتابا، وذكر الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن
الطوسي عطر الله مرقده في كتاب الاقتصاد (1) وغيره نحوه.
ورواه الفقيه ابن المغازلي الشافعي في كتاب المناقب من اثني عشر طريقا، ثم
قال بعد روايته له: هذا حديث صحيح عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وقد روى حديث يوم
غدير خم نحو مائة نفس منهم العشرة (2) وهو حديث ثابت لا أعرف له علة، تفرد
علي بهذه الفضيلة لم يشركه فيها أحد. انتهى كلامه (3).
فمن روايات الفقيه ابن المغازلي باسناده إلى جابر بن عبد الله الأنصاري، قال:
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمنى واني لأدناهم إليه في حجة الوداع، قال: لا ألفينكم
ترجعون بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، وأيم الله لئن فعلتموها لترفني في
الكتيبة التي تضاربكم.
ثم التفت إلى خلفه، فقال: أو علي أو علي أو علي ثلاثا، فرأينا أن جبرئيل (عليه السلام)
غمزه، فأنزل الله تعالى على اثر ذلك (فاما نذهبن بك فانا منهم منتقمون) بعلي بن
أبي طالب (أو نرينك الذي وعدناهم فانا عليهم مقتدرون) (4) ثم نزلت
(فاستمسك بالذي أوحي إليك) في أمر علي (انك على صراط مستقيم) (5)



(1) الاقتصاد للشيخ الطوسي ص 216.
(2) وفي الصواعق المحرقة لابن حجر رواه عن النبي (صلى الله عليه وآله) ثلاثون صحابيا وان كثيرا من
طرقه صحيح أو حسن (منه).
(3) المناقب لابن المغازلي ص 27.
(4) الزخرف: 41 - 42.
(5) المؤمنون: 93 - 94.
141
وان عليا لعلم للساعة لك ولقومك وسوف تسألون عن علي بن أبي طالب (1).
ومنها: ما رواه في كتابه المذكور باسناده إلى الوليد بن صالح، عن ابن امرأة زيد
بن أرقم، قال: أقبل نبي الله (صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع حين نزل بغدير الجحفة بين مكة
والمدينة، وساق الخبر بتمامه (2). وقد نقلناه فيما سبق في الحديث الرابع عن زيد بن
أرقم من كتاب كشف الغمة.
ومنها: ما رواه باسناده إلى عطية العوفي، قال: رأيت ابن أبي أوفى في دهليز له
بعد ما ذهب بصره، فسألته عن حديث، فقال: انكم يا أهل الكوفة فيكم ما فيكم،
قال: قلت: أصلحك الله اني لست منهم ليس عليك عار، قال: أي حديث؟ قال:
قلت: حديث علي بن أبي طالب يوم غدير خم.
فقال: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجته يوم غدير خم، وقد أخذ بعضد
علي (عليه السلام)، فقال: أيها الناس ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا:
بلى يا رسول الله، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه (3).
وروى الثعلبي في تفسيره أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال ذلك بعد ما نزلت آية (يا أيها
الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك وان لم تفعل فما بلغت رسالته) (4) (5).
وذكر أيضا الفقيه ابن المغازلي الشافعي في المناقب باسناده إلى جابر بن عبد الله



(1) المناقب لابن المغازلي ص 274 - 275 برقم: 321. قال السيد الجليل رضي الدين
بن طاووس في الطرائف: وكأن اللفظ المذكور في ذلك بعضه قرآنا وبعضه تأويل، وهو
مبني على أن القرآن لم يغير، كما هو مذهب جمع من أصحابنا، منهم علم الهدى والشيخ
الطبرسي وغيرهما، وفي المسألة كلام طويل حررناه في محل مفرد (منه).
(2) المناقب لابن المغازلي ص 16 - 18 برقم: 23.
(3) المناقب لابن المغازلي ص 24 برقم: 34.
(4) المائدة: 67.
(5) الطرائف ص 152 عن تفسير الثعلبي، والغدير 1: 217 - 218 عنه.
142
الأنصاري فيما حضره وسمعه عن النبي (صلى الله عليه وآله) في ذلك اليوم، حيث تنحى أصحابه
عنه بعد فراغه من مبعثه ونصه على علي (عليه السلام) بالإمامة بعده، فخاف (عليه السلام) أن يكونوا
كرهوا ذلك.
فقال جابر: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزل بخم فتنحى الناس عنه، ونزل معه علي بن
أبي طالب (عليه السلام) فشق ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله) تأخر الناس، فأمر عليا فجمعهم، فلما
اجتمعوا قام فيهم وهو متوسد يد علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فحمد الله وأثنى عليه.
ثم قال: أيها الناس أنه قد كرهت تخلفكم عني حتى خيل إلي أنه ليس شجرة
أبغض إليكم من الشجرة التي تليني، ثم قال: لكن علي بن أبي طالب أنزله الله مني
بمنزلتي منه، فرضي الله عنه كما أنا عنه راض، فإنه لا يختار على قربي ومحبتي شيئا،
ثم رفع يده وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من
عاداه.
قال: فابتدر الناس إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبكون ويتضرعون ويقولون: يا رسول
الله ما تنحينا عنك الا كراهية أن نثقل عليك، فنعوذ بالله من سخط الله وسخط
رسوله، فرضي رسول الله (صلى الله عليه وآله) عنهم عند ذلك (1).
وروى الزهري (2) من ثقات القوم وعظمائهم، قال: لما حج رسول الله (صلى الله عليه وآله)
حجة الوداع وعاد قاصدا المدينة قام بغدير خم، وهوما بين مكة والمدينة، وذلك في
اليوم الثامن عشر من شهر ذي الحجة الحرام وقت الهاجرة (3)، فقال: أيها الناس
اني مسؤول وأنتم مسؤولون هل بلغت؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت ونصحت، قال:
وأنا أشهد أني بلغت ونصحت.



(1) المناقب لابن المغازلي ص 25 - 26 برقم: 37. وأورده الترمذي ونقله عنه ابن
الصباغ المكي المالكي في الفصول المهمة (منه).
(2) هو محمد بن مسلم بن شهاب من أئمتهم وعظمائهم (منه).
(3) الهاجرة: نصف النهار عند زوال الشمس إلى الظهر، أو من عند زوالها إلى العصر.
143
ثم قال: أيها الناس أليس تشهدون أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قالوا:
نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: وأنا أشهد مثل ما شهدتم.
ثم قال: أيها الناس قد خلفت فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله
وأهل بيتي، ألا وان اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض،
حوضي ما بين بصرى (1) وصنعاء (2)، عدد آنيته عدد النجوم، ان الله سائلكم كيف
خلفتموني في كتابه وفي أهل بيتي.
ثم قال: أيها الناس من أولى الناس بالمؤمنين؟ قالوا: الله ورسوله أولى
بالمؤمنين، يقول ذلك ثلاث مرات، ثم قال في الرابعة وأخذ بيد علي: اللهم من كنت
مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، يقولها ثلاث مرات، ألا
فليبلغ الشاهد الغائب (3).
وروى عمدة محدثيهم أحمد بن حنبل في مسنده عن البراء بن عازب، قال: كنا
مع النبي (صلى الله عليه وآله) في سفر، فنزل بغدير خم، فنودي فينا الصلاة جامعة، وكسح
لرسول الله (صلى الله عليه وآله) تحت الشجرتين، فصلى الظهر وأخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
فقال: ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى، قال: اللهم من
كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، قال: فلقيه عمر بن
الخطاب بعد ذلك، فقال له: هنيئا لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل
مؤمن ومؤمنة (4).



(1) بصرى كحبلى: بلدة بالشام. القاموس.
(2) صنعاء: بلد باليمن كثير الأشجار والمياه تشبه دمشق، وببلدة بباب دمشق.
القاموس.
(3) كشف الغمة 1: 49 - 50 عن الزهري.
(4) مسند أحمد بن حنبل 4: 281 ط مصر.
144
وروى الحافظ أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الشافعي هذا الحديث بلفظه
مرفوعا إلى البراء بن عازب رضي الله عنه (1).
وروى أحمد بن حنبل أيضا في المسند، باسناده إلى زيد بن أرقم، قال: قال
ميمون بن عبد الله، قال: قال زيد بن أرقم وأنا أسمع: نزلنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بواد
يقال له: وادي خم، فأمر بالصلاة فصلاها.
قال: فخطبنا وظلل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) بثوب على شجرة من الشمس، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): ألستم تعلمون؟ أو لستم تشهدون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا:
بلى، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (2).
وروى أيضا في الكتاب المذكور عن أبي ليلى الكندي أنه سأل زيد بن أرقم عن
قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال زيد: نعم قالها
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أربع مرات (3).
وروى فيه أيضا باسناده إلى زاذان أبي عمر، قال: سمعت عليا في الرحبة وهو
ينشد الناس: من سمع النبي (صلى الله عليه وآله) وهو يقول ما قال، فقام ثلاثة عشر رجلا،
فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال
من والاه وعاد من عاداه (4).
وروى الفقيه ابن المغازلي الشافعي في كتابه باسناده إلى عمير بن سهل (4)، قال:



(1) إحقاق الحق 6: 235 عنه.
(2) مسند أحمد بن حنبل 4: 372.
(3) الطرائف ص 150 ح 228 عن مسند أحمد بن حنبل، وإحقاق الحق 6: 226 عن
مناقب أحمد بن حنبل.
(4) مسند أحمد بن حنبل 1: 84، والطرائف ص 151 عنه، وإحقاق الحق 6: 314 عن
مناقبه.
(5) وكذا هو على الصواب في بعض النسخ وفي نسخة الطرائف التي تحضرنا نقلا عن
كتاب ابن المغازلي (منه) أقول: وفي كتاب المناقب والطرائف: عميرة بن سعد.
145
شهدت عليا على المنبر ناشدا أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله): من سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يوم غدير خم يقول ما قال فليشهد، فقام اثنا عشر رجلا منهم أبو سعيد الخدري
وأبو هريرة وأنس بن مالك، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من كنت
مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (1).
وظني أن هذا الخبر هو الخبر الأول الذي نقلناه من معجم أبي القاسم الطبراني
بدليل اتحاد المتن، فيكون الصواب عمير بن سعد، والله أعلم بالحقائق.
وروى أحمد بن حنبل أيضا في الكتاب المذكور باسناده إلى أبي الطفيل، قال:
خطب علي (عليه السلام) الناس في الرحبة، ثم قال، أنشد الله كل امرئ مسلم سمع
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول يوم غدير خم ما سمع لما قام، فقام ثلاثون رجلا من الناس -
وقال أبو نعيم: فقام أناس كثير - فشهدوا حين أخذ بيده، فقال للناس: أتعلمون أني
أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: نعم يا رسول الله، فقال: من كنت مولاه فهذا
مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (2).
وباسناده إلى شعبة بن أبي إسحاق، قال: اني سمعت عمر وذكر الحديث وزاد
فيه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من
نصره، وأحب من أحبه، وابغض من أبغضه (3).
وباسناده إلى سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه وربيعة الجرشي، أنه ذكر علي
عند رجل وعنده سعد بن أبي وقاص، فقال سعد: أتذكر عليا ان له مناقب أربع لأن
تكون لي واحدة منهن أحب إلي من كذا وكذا - وذكر حمر النعم - قوله لأعطين
الراية، وقوله أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وقوله من كنت مولاه فعلي مولاه،



(1) المناقب لابن المغازلي ص 26 برقم: 38، والطرائف ص 148 ح 223.
(2) مسند أحمد بن حنبل 4: 370.
(3) الطرائف ص 150 عن مسند أحمد بن حنبل، وإحقاق الحق 6: 335 عن مناقبه.
146
ونسي سفيان واحدة (1).
قلت: لعل التي نسيها سفيان هي نزول آية المباهلة في شأنه وابنيه وزوجته، يدل
على ذلك الحديث الثالث والعشرون (2) الذي سنذكره إن شاء الله تعالى منقولا عن
صحيحي مسلم والترمذي، والرجل المذكور في هذا الحديث هو معاوية، بدلالة
التصريح به في الخبر المشار إليه، والله أعلم.
وروى طراز المحدثين أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ باسناده إلى
أبي سعيد الخدري أن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا الناس إلى غدير خم، أمر بما كان تحت الشجرة
من الشوك فقم، وذلك يوم الخميس، ثم دعا الناس إلى علي، فأخذ بضبعه
فرفعها (1)، حتى نظر الناس إلى بياض ابط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ثم لم يفترقا حتى نزلت
هذه الآية (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام
دينا) (4).
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): الله أكبر على اكمال الدين واتمام النعمة ورضا الرب
برسالتي، والولاية لعلي، ثم قال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من
والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.
فقال حسان بن ثابت: يا رسول الله أتأذن لي أن أقول أبياتا من الشعر؟ قال:
قل، فقال حسان: يا معشر مشيخة قريش اسمعوا شهادة رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
والأبيات هذه:
يناديهم يوم الغدير نبيهم * بخم واسمع بالنبي مناديا
بأني مولاكم نعم ونبيكم * فقالوا ولم يبدوا هناك التعاميا



(1) الطرائف ص 151 عن مسند أحمد بن حنبل، وإحقاق الحق 4: 462.
(2) بل الرابع والعشرون.
(3) في الطرائف: بضبعيه فرفعهما.
(4) المائدة: 3.
147
إلهك مولانا وأنت ولينا * ولن تجدن منا لك اليوم عاصيا (1)
فقال قم يا علي فإنني * رضيتك من بعدي اماما وهاديا
هناك دعا اللهم وال وليه * وكن للذي عادا عليا معاديا
قال: فلقيه عمر بن الخطاب بعد ذلك، فقال له: هنيئا لك يا بن أبي طالب
أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة (2).
قلت: وقد نقل هذه الأبيات لحسان بن ثابت أبو عبد الله محمد بن عمران
المرزباني في كتاب سرقات الشعر (3)، وهو من عظمائهم، وقد ينقل بعدها بيتان
آخران، وهما:
ومن كنت مولاه فهذا وليه * وكن للذي عادا عليا معاديا
فخص بها دون البرية كلها * عليا وسماه الوزير المؤاخيا
وروى ابن المغازلي الفقيه الشافعي في كتاب المناقب، باسناده إلى أبي هريرة،
قال: من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجة، كتب الله له صيام ستين شهرا، وهو
يوم غدير خم، لما أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: ألست بأولى
بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلي يا رسول الله، قال: فمن كنت مولاه فعلي مولاه،
فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا بن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كل
مؤمن ومؤمنة، فأنزل الله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي
ورضيت لكم الإسلام دينا) (4).
قلت: وهذا يوافق ما رواه أبو بكر بن مردويه الحافظ في كتابه في تفسير هذه
الآية الكريمة، وهو بعينه المروي عن أئمتنا صلوات الله عليهم.



(1) في الطرائف: ولا تجدن في الخلق للأمر عاصيا.
(2) الطرائف ص 146 - 147 عن ابن مردويه.
(3) في الطرائف: مرقاة الشعر.
(4) المناقب لابن المغازلي ص 19 برقم: 24.
148
قال أمين الاسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي في تفسيره الكبير الموسوم
بمجمع البيان بعد ما نقل عن المفسرين من المخالفين ما تخرصوه وتأولوا عليه الآية
الكريمة بأهوائهم من الأقوال الباطلة التي لا تستند إلى أثر نبوي، ولا تعتضد بخبر
معصومي ما نصه: والمروي عن الامامين أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) أنه إنما نزلت
هذه الآية بعد أن نصب النبي (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) علما للأنام يوم غدير خم عند منصرفه
من حجة الوداع، قالا: وهي آخر فريضة أنزلها الله تعالى، ثم لم ينزل بعدها
فريضة (1) انتهي.
ثم إنه (قدس سره) روى نحو ذلك من طريق المخالفين، فقال: حدثنا السيد العالم أبو الحمد
مهدي بن نزار الحسيني، قال: حدثني أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الحسكاني،
قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي، قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني، قال: حدثنا
أبو أحمد البصري، قال: حدثنا أحمد بن عمار بن خالد، قال: حدثنا يحيى بن عبد
الحميد الحماني.
قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري،
أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لما نزلت هذه الآية، قال: الله أكبر على اكمال الدين، واتمام
النعمة، ورضا الرب برسالتي، وولاية علي بن أبي طالب من بعدي وقال: من كنت
مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه، وانصر من نصره،
واخذل من خذله.
وقال علي بن إبراهيم في تفسيره: حدثني أبي، عن صفوان، عن العلاء ومحمد بن
مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام)، قال: كان نزولها بكراع (2) الغميم، فأقامها
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالجحفة (3) انتهي.



(1) مجمع البيان 2: 159.
(2) كراع كأمير: واد بين الحرمين على مرحلتين من مكة، وضم عينه وهم. القاموس.
(3) مجمع البيان 2: 159.
149
وروى الترمذي عن زيد بن أرقم (رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كنت
مولاه فعلي مولاه (1) (2).
وقال أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي في كتابه سر العالمين وكشف
الدارين (3)، وقد ألفه في أواخر عمره ما حكايته: لكن أسفرت الحجة عن وجهها،
وأجمع الجماهير على قوله صلوات الله وسلامه عليه في غدير خم: من كنت مولاه
فعلي مولاه، فقال عمر: بخ بخ لك يا بن أبي طالب، لقد أصبحت مولاي ومولى كل
مؤمن ومؤمنة.
فهذا نص وتسليم ورضا وتحكيم، ثم بعد هذا غلب الهوى لحب الرئاسة، وحمل
عمود الخلافة، وعقود البنود، وخفقان الهوى في قعقعة الرايات، واشتباك ازدحام
الخيول، وفتح الأمصار، فسقاهم كأس الهوى، فعاد الخلاف الأول، فنبذوه وراء
ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون (4). انتهى كلامه (5).



(1) صحيح الترمذي 5: 591 برقم: 3713، الطبعة الجديدة.
(2) واعترف به أيضا علاء الدولة السمناني من فضلائهم في رسالة اللعن، وذكر أنه
صريح في النص عليه بالإمامة الحقيقية والخلافة الإلهية (منه).
(3) في مقالته الرابعة التي وضعها لتحقيق أمر الخلافة بعد الأبحاث وذكر الاختلافات فيها
(منه).
(4) سر العالمين ص 21 ط النجف الأشرف.
(5) ثم قال باثر كلامه المنقول: ولما مات رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال وقت وفاته: ايتوني بدواة و
بياض لأزيل عنكم اشكال الأمر، وأذكر لكم من المستحق لها بعدي؟ قال عمر: دعوا
الرجل فإنه ليهجر، وقيل: ليهذي.
ثم قال: فإذا بطل تعلقكم بتأويل النصوص، فعدتم إلى الاجماع، وهذا منقوض أيضا،
فان العباس وأولاده وعليا وزوجته لم يحضروا حلقة البيعة، وخالفكم أصحاب السقيفة
في مبايعة الخزرجي.
ودخل محمد بن أبي بكر على أبيه في مرض موته، فقال: يا بني ائت بعمك عمر لأوصي
له بالخلافة، فقال: يا أبت أكنت على حق أو على باطل؟ فقال: على حق، فقال: أوص بها
لأولادك إن كان حقا، ثم خرج إلى علي (عليه السلام) وجرى ما جرى.
وقوله على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله): أقيلوني أقيلوني فلست بخيركم وعلي فيكم. أفقال
هزلا أم جدا أم امتحانا؟ فإن كان هزلا فالخلفاء منزهون عن الهزل، وان قال جدا فهذا
نقص للخلافة، وان قال امتحانا فالصحابة لا يليق بهم الامتحان انتهى كلامه (منه).
150
هذا مع أنه المعروف عندهم بأنه حجة الاسلام، بل جعله ابن الأثير وغيره من
مجددي مذهب الشافعية في المائة الخامسة.
فانظر وفقك الله إليه كيف أنصف من نفسه، واعترف بالحق الصريح، وسلك
المنهاج الصحيح، فهذا إن كان مذهبه فذاك.
وقد ذكر جمع من متأخري أصحابنا أنه قد هبت عليه نسمات العناية السبحانية،
وفاضت عليه رشحات الهداية الربانية في أواخر عمره، فدان بالحق الصراح،
وانتظم في سلك الامامية رضوان الله عليهم. وممن صرح بذلك الشهيد الثالث
الشوشتري في مجالس المؤمنين (1)، ومولانا محسن الكاشي في المحجة البيضاء (2) (3).
وان لم يكن مذهبه، فقد أنطقه الله بالحق، وأجرى لسانه بالصدق، وقال ما
يكون عليه حجة في الدنيا والآخرة، ونطق بما لو اعتقد غيره لكان خصيمه في
محشره، فان الله تعالى عند لسان كل قائل، فلينظر القائل ما يقول، وأصعب الأمور
وأشقها أن يذكر الانسان شيئا يستحق به الجنة، ثم يكون ذلك موجبا لدخوله النار،
نعوذ بالله من ذلك.
أحرم منكم بما أقول وقد * نال به العاشقون من عشقوا
صرت كأني ذبالة نصبت * تضئ للناس وهي تحترق



(1) مجالس المؤمنين 2: 192.
(2) ذكر مولانا محسن الكاشي في المحجة البيضاء أن ابن الجوزي الحنبلي ذكر في بعض
تصانيفه أن الغزالي ترفض في آخر عمره، وأظهر رفضه في كتاب سر العالمين انتهى (منه).
(3) وهو اللائح أيضا من كلام الشيخ بدر الدين العاملي في رسالته المعمولة في
الشفاعة (منه).
151
وقد روى هذا الحديث النقاش من أئمتهم في تفسيره، والشيخ شهاب الدين
أبو حفص عمر بن محمد السهروردي من عظماء علمائهم في أعلام الهدى وعقيدة
أرباب التقى.
وروى الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي في كتابه المسمى بأسباب
النزول، يرفعه إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: نزلت هذه الآية (يا أيها الرسول
بلغ ما انزل إليك من ربك) يوم غدير خم في علي بن أبي طالب (عليه السلام) (1).
قلت: وهذا يطابق ما روي عن أئمتنا صلوات الله عليهم. روى أبو النضر محمد
بن مسعود العياشي في تفسيره، باسناده عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن
الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس وجابر بن عبد الله، قالا: أمر الله محمدا (صلى الله عليه وآله)
أن ينصب عليا للناس، فيخبرهم بولايته، فتخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقولوا
حابى (2) ابن عمه، وأن يطعنوا في ذلك عليه (3)، فأوحى إليه هذه الآية، فقام (عليه السلام)
بولايته يوم غدير خم (4).
ورواه أمين الاسلام الطبرسي عطر الله مرقده عن السيد أبي الحمد، عن الحاكم
أبي القاسم الحسكاني، باسناده عن ابن أبي عمير في كتاب شواهد التنزيل لقواعد
التفضيل.
ثم قال عطر الله مرقده: وفيه أيضا بالاسناد المرفوع إلى حنان (5) بن علي
الغنوي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في علي (عليه السلام)، فأخذ
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده، فقال: اللهم من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه



(1) أسباب النزول ص 150 ط مصر.
(2) في التفسير: حامى. وفي نسخة: خابى، وفي أخرى: جاءنا.
(3) هذا يدل على أنه (صلى الله عليه وآله) يعلم من أصحابه ضعف اليقين وقلة الايمان (منه).
(4) تفسير العياشي 1: 331 - 332 برقم: 152.
(5) في المجمع: حيان.
152
وعاد من عاداه.
وقد أورد هذا الخبر أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره
باسناده مرفوعا إلى ابن عباس، قال: نزلت هذه الآية في علي (عليه السلام) أمر النبي (صلى الله عليه وآله)
أن يبلغ، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام)، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه،
اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (1).
ثم قال نور الله مرقده وقدس سره: وقد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر وأبي
عبد الله (عليهما السلام) أن يستخلف عليا، فكان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من
أصحابه، فأنزل الله سبحانه هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره بأدائه (2).
انتهى كلامه زيد اكرامه.
قلت: وتفسير الآية الكريمة على هذا الوجه أولى مما نقل عن الحسن، من أنه
تعالى بعث النبي (صلى الله عليه وآله) برسالة ضاق بها ذرعا، وكان يهاب قريشا، فأزال الله تعالى
بهذه الآية تلك الهيبة عن الحسن.
وعن عائشة: من أنه أريد إزالة التوهم من أن النبي (صلى الله عليه وآله) كتم شيئا من الوحي
للتقية، مع أن ما ذكره الحسن يمكن تطبيقه على ما ذكرناه، والعمل على الرواية
المستفيضة بين الثقلين لا على الرأي المحض.
وذكر جعفر بن بشير والشعبي أن سورة المائدة كلها مدنية الا قوله تعالى (اليوم
أكملت لكم دينكم) الآية، فإنه نزل والنبي (صلى الله عليه وآله) واقف على راحلته في حجة
الوداع.



(1) ونقل الثعلبي في تفسيره عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر (عليه السلام) أنه قال: معنى قو له
تعالى (بلغ ما انزل إليك من ربك) الآية، بلغ ما انزل إليك من ربك في فضل علي بن أبي
طالب (عليه السلام) أمر النبي (صلى الله عليه وآله) أن يبلغ فيه، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيد علي (عليه السلام) وقال: من
كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه وعاد من عاداه (منه).
(2) مجمع البيان 2: 223.
153
ونقل عن ابن عباس ومجاهد أنها مدنية (1) بأسرها، وحينئذ فما ذكره الحسن لا
يتم الا على ما ذكرناه، فليتأمل.
ونقل أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره أن سفيان بن عيينة (2) سئل عن قول الله
عز وجل (سأل سائل بعذاب واقع) (3) في من نزلت؟ فقال للسائل: لقد سألتني
عن مسألة ما سألني عنها أحد قبلك، حدثني جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما كان بغدير خم نادى الناس فاجتمعوا، فأخذ بيد علي (عليه السلام)
وقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، فشاع ذلك وطار في البلاد.
فبلغ ذلك الحارث بن النعمان الفهري، فأتى النبي (صلى الله عليه وآله) على ناقة له، فأناخ ناقته
ونزل عنها، فقال: يا محمد أمرتنا أن نشهد أن لا إله إلا الله، وانك رسول الله،
فقبلنا منك، وأمرتنا بأن نصلي خمسا فقبلنا منك، وأمرتنا بالزكاة فقبلنا منك،
وأمرتنا بأن نصوم رمضان فقبلنا منك، وأمرتنا بالحج فقبلنا منك، ثم لم ترض بهذا
حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله، فقلت من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شئ



(1) فان قيل: إن السورة مكية كما في التفاسير، فلا يكون المراد بالآية ما ذكرتم، والا
لكانت مدنية، أو ما بين مكة والمدينة، بل الأولى أنها نزلت في النضر بن الحارث، كما هو
منقول عن مجاهد، أو في أبي جهل كما تفسير القاضي.
لأنا نقول: كون السورة مكية غير متفق عليه، والخبر المذكور يدافعه. وعلى تقدير
تسليمه، فلعل الاطلاق كونها مكية تغليبا، أو أنها نزلت في الجحفة، ولقربها من مكة
شرفها الله تعالى أطلق عليها كونها مكية، أو هو اخبار من الله سبحانه بوقوع السؤال
المذكور في المستقبل، ومضي الفعل لتحقق وقوعه (منه).
(2) وقد أورد هذا الخبر الشيخ الجليل أبو الفتح الرازي عطر الله مرقده من عظماء
أصحابنا في تفسيره (منه).
(3) ونقله الحموي عن الامام أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي، قال: قرأت على شيخنا
الأستاذ أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره، أن سفيان بن عيينة سئل عن قول الله عز وجل
(سأل سائل) إلى آخر الحديث (منه).
154
منك أم من الله عز وجل؟.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): والذي لا إله إلا الله هو (1) أن هذا من أمر الله عز وجل، فولى
الحارث بن النعمان يريد راحلته وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فأمطر
علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر
سقط على هامته، فخرج من دبره فقتله، فأنزل الله تعالى (سأل سائل بعذاب
واقع * للكافرين ليس له دافع × من الله ذي المعارج) (2).
وقد أورد هذا الخبر نور الدين علي بن محمد المكي المالكي المشهور بابن الصباغ
في الفصول المهمة (3) وغيره.
وروى أبو إسحاق الثعلبي أيضا وابن الصباغ في الفصول، عن أمير المؤمنين علي
بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: عممني رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم بعمامة، فسدل
طرفها على منكبي، وقال: ان الله تعالى أمدني يوم بدر وحنين بملائكة معتمين بهذه
العمامة (4).
قلت: وقد روى نحو هذا الخبر الحافظ أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن
عقدة في كتابه الذي أفرده في هذا الخبر وطرقه، وسماه كتاب الولاية، فذكره في
ترجمة عبد الله بن بشر المازني من طريقين إلى عبد الله بن بشر (5)
قال في الأول: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم غدير خم إلى علي (عليه السلام) فعممه وأسدل



(1) في الطرائف (ص 152 - 153) نقلا عن تفسير الثعلبي: والذي نفسي بيده ولا ا له الا
هو. وفي الفصول المهمة كما هنا (منه).
(2) الطرائف ص 152 - 153 عن تفسير الثعلبي.
(3) الفصول المهمة ص 42 ط النجف الأشرف.
(4) الفصول المهمة ص 42.
(5) كذا في الأصل، ولعل الصحيح: بسر، راجع أسد الغابة 3: 133، وميزان الاعتدال
2: 396، وتهذيب التهذيب 5: 158.
155
العمامة بين كتفيه، وقال: هكذا أيدني ربي يوم حنين بالملائكة معممين قد أسدلوا
العمائم، وذلك حجز بين المسلمين وبين المشركين، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) معتمد على
قوس له عربية، فبصر برجل في آخر القوم وبيده قوس فارسية، فقال: ملعون
حاملها، عليكم بالقوس (1) العربية ورماح القنا (2)، فإنها بها أيد الله لكم دينكم
ومكن لكم في البلاد.
وقال في الحديث الاخر: عمم رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا يوم غدير خم عمامة أسدلها
بين كتفيه، وقال: هكذا أيدني ربي بالملائكة، ثم أخذ بيده، فقال: أيها الناس من
كنت مولاه فهذا مولاه، والى الله من والاه وعادى الله من عاداه.
وقد أورد هذين الخبرين نقلا عن كتاب الولاية جمال السالكين وقدوة
الناسكين السيد العلامة رضي الدين علي بن موسى قدس الله روحه في كتاب
الأمان من أخطار الأزمان (3) وبالجملة فالذي وضح عندي وظهر لدي أن هذا
الخبر من المتواترات، بل هو في أعلى طبقاتها.
فقول القوشجي في شرح التجريد: انه غير صحيح، ولم ينقله الثقات. مما يشهد
عليه بمحوضة جهالته، وينادي بصرافة غوايته وسذاجة ضلالته، وما ظننت أن
أحدا من العوام يقدم على هذا الكلام فضلا عمن يدعي الانتظام في سلك الأعلام،
والانخراط في عقد اولي الأفهام، ويتصدى لمقام النقض والابرام.
وكيف لا يكون الأمر كذلك؟ وقد حضرني في هذا الوقت من طرق هذا الخبر
الواردة من جهتهم نحو من مائة طريق، أو يزيد على ذلك. وأما أصحابنا، فقد رووه
من أكثر من مائتي طريق كما بيناه في مكان مفرد.
ولا يخفى على من له أدنى حظ من البصيرة أنه صريح في الإمامة، بل نص فيها



(1) في الأمان: بالقسي.
(2) القنا من الرماح: ما كان أجوف القصبة.
(3) الأمان من أخطار الأسفار والأزمان ص 103 ط مؤسسة آل البيت.
156
غير قابل للتأويل، وان المراد بالمولى فيه هو الأولى بالتصرف.
فان قلت: كيف يكون نصا فيما ذكرتم، ولفظة (المولى) مشتركة بين معان
متعددة.
منها بمعنى الأولى، ومنه قوله تعالى في حق المنافقين (مأواكم النار هي
مولاكم) (1) أي: أولى بكم، ذكره البيضاوي (2) والزمخشري (3) وغيرهما.
ومنها: الناصر، قال الله تعالى (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وان الكافرين
لا مولى لهم) (4) أي: لا ناصر لهم.
ومنها: بمعنى الوارث، قال الله تعالى (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان
والأقربون) (5) أي: وارثا، قاله ابن الصباغ المالكي في فصوله المهمة (6)، والمحقق
الأردبيلي في آيات الأحكام (عليه السلام)).
ومنها: العصبة، قال الله تعالى (واني خفت الموالي من ورائي) (8) أي:
خشيت عصبتي التي هي باقية بعدي تأخذ ارثي.
ومنها: الصديق قال الله تعالى (يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا) (9) أي:
حميم عن حميم، وصديق عن صديق.
ومنها: المعتق، والجار، وابن العم، ومع الاشتراك لا يكون نصا ولا ظاهرا في



(1) الحديد: 15.
(2) أنوار التنزيل للبيضاوي 2: 497.
(3) الكشاف 4: 64.
(4) محمد 9: 11.
(5) النساء: 33.
(6) الفصول المهمة ص 43.
(7) زبدة البيان في أحكام القرآن ص 644.
(8) مريم: 5.
(9) الدخان: 41.
157
الإمامة.
قلت: من كان له حظ من الادراك والشعور إذا خلع ربقة التقليد والعصبية لا
يشتبه عليه أن المراد بالمولى في الحديث المذكور هو الأولى بالتصرف.
أما أولا، فلأنه معنى مشهور بين أهل اللغة متداول بينهم، ذكره أبو عبيدة وغيره
من أئمة أهل اللغة. وفي الخبر: أيما امرأة نكحت بغير اذن مولاها (1). أي: الأولى
بها والمالك لتدبير أمرها، وقال الأخطل في حق عبد الملك يمدحه:
فأصبحت مولاها من الناس كلها * وأحرى قريش أن تهاب وتحمدا
وتقول: السيد مولى العبد، أي: الأولى بأمره وقال أبو العباس محمد بن يزيد
المبرد في كتاب العبارة عن صفات الله تعالى: أصل الولي الذي هو أولى أي: أحق،
ومثله المولى، نقله عنه أمين الاسلام أبو علي الطبرسي في تفسيره الكبير (2).
والمنقول عن الفراء في كتاب معاني القرآن نحوه. وهو بهذا المعنى اسم لا صفة،
ليعترض بأنه من صيغة اسم التفضيل، وانه لا يستعمل استعماله.
وأما ثانيا، فلأن صدر الخبر يدل على إرادة هذا المعنى، وهو قوله (صلى الله عليه وآله) (ألست
أولى بكم من أنفسكم) ومعنى كونه (صلى الله عليه وآله) أولى بالمؤمنين من أنفسهم: إما كونه أحق
بتدبيرهم، وحكمه عليهم أنفذ من حكمهم على أنفسهم خلاف ما حكم به، لوجوب
طاعته التي هي مقرونة بطاعة الله تعالى، كما نقل عن أبي زيد، أو أنه أولى بهم في
الدعوة، فإذا دعاهم النبي (صلى الله عليه وآله) إلى شئ ودعتهم أنفسهم إلى خلافه كانت طاعته
أولى بهم من طاعة أنفسهم، كما نقل عن ابن عباس وعطاء، أو أن حكمه عليهم أنفذ
من حكم بعضهم على بعض.
وهذه الوجوه نقلها شيخنا أمين الاسلام الطبرسي - عطر الله مرقده - في كتاب



(1) عوالي اللآلي 1: 306.
(2) مجمع البيان 2: 209.
158
مجمع البيان (1) في تفسير قوله تعالى (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) (2)
والجامع بينها إرادة الأولى بالتصرف المطلق في أحكام الدين والدنيا، فتقدم
هذه المقدمة التي هي كالقاعدة الممهدة، والضابطة المقررة على الجملة التي نحن بصدد
الكلام عليها من أقوم الشواهد، وأدل الدلائل على أن المراد بالمولى هو الأولى
بالتصرف المطلق بعده (صلى الله عليه وآله)، والا لم يكن لتقدم تلك المقدمة والعطف عليها بالفاء
المفرعة، كما جاء في بعض الطرق المذكورة في مناقب الفقيه ابن المغازلي معنى وفائدة
معتد بها.
وأيضا فالمولى في مقدم الشرطية لا يراد به الا الأولى بالتصرف جزما، والا
لكان كلاما مزدولا، وقولا مغسولا منحولا، فيتعين إرادة هذا المعنى في تالي القضية
ليحسن التفريع ويسوغ الترتب والتلازم المستفاد من الشرطية، فلا تغفل.
وكذا التأمل في الخبر الأول الذي أورده أبو الفتوح في موجزه، ويشهد بذلك
وينادي به، حيث قال (صلى الله عليه وآله) فيه: أيها الناس ان الله مولاي وأنا أولى بكم من
أنفسكم، ألا ومن كنت مولاه فعلي مولاه.
لأنه ابتدأ (صلى الله عليه وآله) بالاخبار بأن المتصرف في أمره كله، والمالك لأزمة شؤونه،
هو الواجب المطلق والمعبود بالحق جل شأنه، ليستفاد منه أنه (صلى الله عليه وآله) في كل أحواله
وعامة تصرفاته متابع للوحي الإلهي، ومشايع للأمر الرباني، وانه لا ينطق عن
الهوى ان هو الا وحي يوحى.
ولعل تأكيده ب‍ (أن) والجملة الاسمية، مع أن الحكم المذكور مما لا ريب فيه،
لتنزيل الصحابة بمنزلة المنكرين لهذا الحكم، لتثاقلهم عن الحق وكراهتهم
لنصبه (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) علما للناس، حتى كأنهم ينكرون أنه وحي من الله سبحانه،



(1) مجمع البيان 4: 338.
(2) الأحزاب: 6.
159
ويزعمون أنه حابا ابن عمه، وأخبار الخصوم صريحة في كراهة الصحابة لتعيينه
له (عليه السلام)، فيمكن ادعاء أن التأكيد مقتضى الظاهر، فتأمل.
ثم إنه ثنا ذلك بالاخبار بأنه (صلى الله عليه وآله) هو المتصرف في شؤونهم والمتولي لأحكام
دينهم ودنياهم، فقال: وأنا أولى بكم من أنفسكم.
ثم ثلث بالاخبار بأن أمير المؤمنين وباب مدينة العلم أولى بالتصرف في كل من
هو (صلى الله عليه وآله) أولى به من نفسه، وقدم عليه المقدمتين الأولتين لما يعلمه منهم من أنهم لا
تطيب أنفسهم بتقديمه (عليه السلام) عليهم، فسجل عليهم بهما، وقطع بهما عرق الاختيار،
وحسم بهما مادة الرجوع إلى الأهواء الشيطانية، وأوجب التسليم إلى الله سبحانه
والى الرسول (صلى الله عليه وآله)، وعدم التعرض لنقض شئ مما أبرمناه، وهذا واضح عند
المتأمل بعين البصيرة.
وكذا التأمل في الخبر الذي رواه ابن المغازلي الفقيه في كتاب المناقب، عن جابر
بن عبد الله الأنصاري (1)، فإنه نص صريح في إمامته (عليه السلام)، لا سيما قوله في آخره:
وان عليا لعلم للساعة لك ولقومك وسوف تسألون عن علي (عليه السلام).
ومن تأمل في الخبر الذي رواه الزهري لم يذهب عليه أنه صريح في الإمامة بل
نص فيها، حيث استفسر النبي (صلى الله عليه وآله) فيه الصحابة عن أولى الناس بالمؤمنين أربع
مرات، وفي كل مرة يجيبونه بأن الله ورسوله أولى بالمؤمنين، كل ذلك تأكيدا للحجة
وقطعا للأعذار، ولو كان المراد بالمولى أحد تلك المعاني الاخر لم يحتج إلى هذه
التأكيدات البليغة والاستفسارات الكثيرة، كما لا يخفى على ذي البصيرة الثاقبة.
وأما ثالثا، فلأن الصحابة فهموا من ذلك ما فهمناه، وتحققوا أن مراده هو ما
رسمناه دون بقية معانيه، لأنهم هنوا عليا (عليه السلام) بذلك على وجه بليغ، والتهنأة غير



(1) ورواه الخطيب في كتابه تاريخ بغداد، باسناده إلى أبي هريرة، كما رواه ابن المغازلي
(منه).
160
مستحسنة لو أريد غير هذا المعنى، بل تهنأة عمر بن الخطاب صريحة في إرادة هذا
المعنى، أعني قوله (بخ بخ لك يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن
ومؤمنة) كما ذكره أبو حامد الغزالي في كتابه سر العالمين، وقد سبقت حكايته،
ورواه أبو بكر بن مردويه الحافظ، وأبو عبد الله المرزباني وغيرهما.
ومما ينطق بفهمهم هذا المعنى الخبر الذي رواه أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره عن
سفيان بن عيينة، المتضمن لنزول قوله تعالى (سأل سائل بعذاب واقع) في
الحارث بن النعمان الفهري، ومحاورته للرسول في ذلك، وقوله له (صلى الله عليه وآله): ثم لم ترض
بذلك حتى رفعت بضبعي (1) ابن عمك تفضله علينا، فقلت من كنت مولاه فعلي
مولاه، فهذا شئ منك أم من الله عز وجل؟ فإنه صريح في إرادة الأولى بالتصرف،
كما لا يخفى على من له ذوق صحيح وفهم صريح.
ولو كان المراد به الناصر أو الصديق أو نحوهما، لم يغضب الحارث بن النعمان
الفهري من ذلك، ولم يكن فيه تفضيل لعلي (عليه السلام) على الصحابة، حتى يقول: ثم لم
ترض بذلك حتى رفعت بضبعي ابن عمك تفضله علينا. وقوله (فهذا شئ منك أو
من الله) أدل دليل على ذلك، كما لا يخفى وأصرح. وقد روى النقاش (2) هذا الخبر
أيضا.
وأما رابعا، فلأن غير ذلك من معاني المولى غير صالحة هاهنا، لاستحالة أن
يقوم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ذلك الوقت الشديد الحر ويدعو الناس ويخبرهم بأشياء لا
مزيد فائدة فيها، بأن يقول: من كنت ناصره أو صديقه أو معتقه أو ابن عمه فعلي
كذلك، مع أن الولاية والنصرة والمحبة عامة في جميع المؤمنين، كما قال سبحانه



(1) الضبع بالسكون: العضد، والجمع أضباع. والعضد: ما بين المرفق والكتف. المصباح.
(2) هو أبو بكر محمد بن الحسن بن زياد، وقد ذكره الخطيب في تاريخ بغداد وأثنى
عليه (منه).
161
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (1).
ومن تأمل هذه القصة بعين البصيرة لم يخالجه الشك ولم يعترضه الريب فيما
حققناه، ولم ينزل (عليه السلام) بالناس على غير ماء ولا كلاء وقت الهاجرة ويصعد على
منبر من الرحال الا لأمر جليل القدر عظيم الشأن، وهو نصبه للإمامة لا مجرد اظهار
محبته ونصرته.
وأما خامسا، فلأن ما رووه في تلك الحالة من نزول قوله تعالى (اليوم أكملت
لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) وقوله (عليه السلام): الحمد
لله على تمام النعمة وكمال الدين ورضا الرب برسالتي، والولاية لعلي، كما رواه ا بن
المغازلي في كتابه، وأبو القاسم الحسكاني في شواهده، وأبو بكر بن مردويه الحافظ في
مناقبه، ورواه أصحابنا عن أئمتنا (عليهم السلام) يشهد بإرادة الإمامة والنص على الخلافة،
كما لا يخفى على المتأمل المنصف.
وكذا ما رواه أبو الحسن الواحدي في كتابه أسباب النزول، عن أبي سعيد
الخدري، وأبو إسحاق الثعلبي، عن ابن عباس، والعياشي عن ابن عباس، وجابر
بن عبد الله الأنصاري، من نزول هذه الآية (يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من
ربك) في علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم غدير خم، وأمره (صلى الله عليه وآله) بنصبه له (2).



(1) التوبة: 71.
(2) قال السيد المرتضى (رحمه الله) في الشافي (2: 261): أما الدلالة على صحة خبر الغدير، فما
يطالب بها الا متعنت لظهوره وانتشاره، وحصول العلم لكل من سمع الاخبار به، وما
المطالب بتصحيح خبر الغدير والدلالة عليه الا كالمطالب بتصحيح غزوات النبي (صلى الله عليه وآله)
الظاهرة المشهورة، وأحواله المعروفة، وحجة الوداع نفسها، لأن ظهور الجميع وعموم
العلم به بمنزلة واحدة.
وبعد فان الشيعة قاطبة تنقله وتتواتر به، وأكثر رواة أصحاب الحديث ترويه
بالأسانيد المتصلة، وجميع أصحاب السير ينقلونه عن أسلافهم خلفا عن سلف، نقلا بغير
اسناد مخصوص، كما نقلوا الوقائع والحوادث الظاهرة.
وقد أورده مصنفوا الحديث في جملة الصحيح، فقد استبد هذا الخبر بما لا يشركه فيه
سائر الأخبار، لأن الأخبار على ضربين، أحدهما: لا يعتبر في نقله الأسانيد المتصلة
كالخبر عن وقعة بدر وخيبر والجمل وصفين وما جرى مجرى ذلك من الأمور الظاهرة
التي نقلها الناس قرنا بعد قرن بغير اسناد وطريق مخصوص.
والضرب الاخر: يعتبر فيه اتصال الاسناد كأخبار الشريعة. وقد اجتمع في خبر
الغدير الطريقان معا مع تفرقهما في غيره من الأخبار، على أن ما اعتبر في نقله من أخبار
الشريعة اتصال الأسانيد لو فتشت عن جميعه، لم تجد رواية الا الآحاد، وخبر الغدير قد
رواه بالأسانيد الكثيرة المتصلة الجمع الكثير، فمزيته ظاهرة.
ومما يدل على صحة الخبر اطباق علماء الأمة على قبوله، ولا شبهة فيما ادعيناه من
الاطباق، لأن الشيعة جعله الحجة في النص على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالإمامة، و مخالفوا
الشيعة تأولوه على خلاف الإمامة على اختلاف تأويلاتهم، فمنهم من يقول: انه يقتضي
كونه الأفضل. ومنهم من يقول: انه يقتضي موالاته على الظاهر والباطن. وآخرون
يذهبون فيه إلى ولاء العتق ويجعلونه سببه ما وقع من زيد بن حارثة وابنه أسامة من
المشاجرة، إلى غير ذلك من ضروب التأويلات والاعتقادات.
وما نعلم أن فرقة من فرق الأمة ردت هذا الخبر واعتقدت بطلانه، وامتنعت من قبوله،
وما تجمع الأمة عليه لا يكون الا حقا عندنا وعند مخالفينا، وان اختلفنا في العلة و
الاستدلال. انتهى كلامه زيد اكرامه (منه).
162
وقد كنت في حداثة سني أتعجب من استفاضة هذا الخبر عند أساطين محدثي
المخالفين وفحول عظمائهم، وعدولهم عن محجته الواضحة وسبله اللائحة، وأقول:
كيف يخفى على عاقل ما قصده (عليه السلام) من هذه الواقعة؟ وكيف يستحسن أن ينسب
رسول الملك الديان إلى ما يجري مجرى الهذيان.
واجتمعت مع بعض الفضلاء المحجوبين عن حقائق اليقين، فجرت هذه القصة في
البين، فقال: ان المخالفين ينكرون هذا الخبر، كما يحكى أن ابن أبي داود (1) منع



(1) وابن أبي داود جاهل ناصب عشيق، كان يعشق الصبيان وبه مات، كما هو مذكور
في التواريخ، مجسم خبيث، وانكار الضروريات غير مستبعد منه (منه).
163
صحته، والجاحظ في العثمانية طعن في رواته، فلا يكون مجمعا عليه بينهم، وفي دلالته
على المطلوب خفاء.
فذكرت له أن ابن أبي داود تنصل من القدح فيه، وتبرأ مما قذفه محمد بن جرير
الطبري حين اخراجه للحديث من سبعين طريقا، والجاحظ إنما طعن في بعض
رواته لا فيه، وتلوت عليه من أخبار العامة المتضمنة لواقعة الغدير جملة غالبة
تنادي بالخلافة وتصرح بالإمامة (1)، والله الهادي.
وقد بسطنا الكلام في هذا الخبر وذكرنا ما وقفنا عليه من الطرق، وأخرجناه من
طرق الفريقين في كتاب مفرد وسميناه بالبرهان القاطع.
وبما حققناه ظهر سقوط ما ذكره ابن الأثير في النهاية الموضوعة في غريب
الحديث في تأويل الخبر، حيث قال: المراد بالمولى في الخبر المعتق، وحكي عن
بعضهم أن سبب ذلك أن أسامة قال لعلي (عليه السلام): لست مولاي، إنما مولاي
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من كنت مولاه فعلي مولاه (2).



(1) وقال السيد قدس الله روحه أيضا (2: 265): وقد استدل قوم على صحة الخبر بما
تظاهرت به الروايات من احتجاج أمير المؤمنين (عليه السلام) في الشورى على الحاضرين في جملة
ما عدده من فضائله ومناقبه وما خصه الله تعالى به، حين قال: أنشدكم الله هل فيكم أحد
أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بيده فقال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم وال من والاه، و
عاد من عاداه غيري؟ فقال القوم: اللهم لا.
فإذا اعترف به من حضر الشورى من الوجوه، واتصل أيضا بغيرهم من الصحابة ممن
لا يحضر الموضع، كما اتصل به سائر ما جرى ولم يكن من أحد نكير له، ولا اظهار الشك
فيه، مع علمنا بتوفر الدواعي على اظهار ذلك لو كان ذلك الخبر بخلاف ما حكمنا عليه من
الصحة، فقد وجب القطع على صحته انتهى كلامه زيد اكرامه.
ولا يخفى أن كل واحد من الوجهين يفيد بانفراده القطع بصحة الخبر في الجملة، فكيف
مع اجتماعهما (منه).
(2) نهاية ابن الأثير 5: 228 - 229.
164
وفيما قدمناه كفاية في اسقاط هذا الوهم وابطال الشبهة، وحديث الغدير المروي
في أسانيدهم وأصحتهم نص في خلافه.
ومن البعيد بل من المقطوع بفساده أن يقوم (صلى الله عليه وآله) في هذا الوقت الشديد الحر،
وينزل في غير كلاء وماء للتنبيه على هذا المعنى السخيف، ولم يدع أحد من محدثي
العامة هذه القصة السخيفة، ولم نقف عليها في شئ من مصنفاتهم سوى النهاية التي
هي نهاية الغواية وغاية العماية.
وبعض المخالفين نقل أن تلك القصة المختلقة (1) مع زيد لا أسامة، وهذا يزيد
فاسدا بأن زيدا قتل في سرية مؤتة (2) سنة ثمان من الهجرة، وهذا الكلام في حجة
الوداع سنة عشر، فأين أحدهما من الاخر. ولو سلم صحة هذه القصة المختلقة
بوجهها، لجاز أن يكون قال (عليه السلام) ذلك لهذا السبب في وقت آخر غير يوم الغدير.
ثم نقول لهذا الرجل الجاهل والمتجاهل: انه على هذا التقدير، فالخبر يدل على
إمامته (عليه السلام)، واستحقاقه للخلافة، لأن حقيقة الحديث غير مرادة قطعا، لأن من
أعتقه رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يكون علي (عليه السلام) معتقا له على سبيل الحقيقة.
فإما أن يقال: إنه كناية عن فرط الاتحاد وزيادة الاختصاص، الموجبة
لتساويهما في جميع الأمور والتصرفات.
أو يقال: المراد بالمولى هو الأولى بالتصرف، وهو الذي يساعد عليه كمال
بلاغته (عليه السلام)، كما ورد عنه (صلى الله عليه وآله) من قوله: أوتيت جوامع الكلم (3). والحق أنه في
إمامته (عليه السلام) كالشمس في رابعة النهار.



(1) الاختلاق: الكذب.
(2) مؤتة بالهمز: أرض بالشام، وهي التي قتل بها جعفر بن أبي طالب، كذا في فصيح
تغلب. وفي القاموس: مؤتة بالضم والهمز موضع بمشارف في الشام، وهي التي قتل بها
جعفر بن أبي طالب، وبها كانت تعمل السيوف (منه).
(3) عوالي اللآلي 4: 120، برقم: 194.
165
وما أحسن ما قال الشيخ الأديب علي بن أحمد الفنجكردي (رحمه الله):
لا تنكرن غدير خم انه * كالشمس في اشراقها بل أظهر
ما كان مرفوعا باسناد إلى * خير البرية أحمد لا ينكر
فيه امامة حيدر وكماله * وجلاله حتى القيامة يذكر
أولى الأنام بأن يوالي المرتضى * من نأخذ الأحكام عنه ونأثر (1)
ولقد أجاد الكميت بن زيد (رحمه الله) في قوله:
ويوم الدوح دوح غدير خم * أبان له الولاية لواطيعا
ولكن الرجال تبايعوها * فلم أر مثلها خطرا منيعا (2)
فلم أبلغ بهم لعنا ولكن * أساء بذاك أولهم صنيعا
فصار لذاك أقربهم لعدل * إلى جور وأحفظهم مضيعا
أضاعوا أمر قائدهم فضلوا * وأقومهم لذي الحدثان ريعا (3)
تناسوا حقه وبغوا عليه * بلا ترة وكان لهم قريعا
فقل لبني أمية حيث حلوا * وان خفت المهند والقطيعا
أجاع الله من أشبعتموه و * أشبع من بجوركم أجيعا
بمحمود (4) السياسة هاشمي * يكون حيا لامته ربيعا
وليثا في المشاهد غير نكس * لتقويم البرية مستطيعا
يقيم أمورها ويذب عنها * ويترك جدبها أبدا مريعا (5)



(1) الغدير للعلامة الأميني 4: 319.
(2) في الغدير: مبيعا.
(3) الريع بالكسر: كل طريق. القاموس.
(4) في الغدير: بمرضي.
(5) الغدير 2: 180 - 181.
166
جوهرة سنية وحكاية بهية:
قال الشيخ الجليل أبو الفتوح الرازي في تفسيره: ان يوما من أيام الغدير جاء
الشبلي، وهو من أعاظم تلامذة الجنيد، وأكابر عظماء الصوفية، إلى بعض العلويين
لتهنأة يوم الغدير، فقال له: أيها السيد أتدري لماذا رفع جدك سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)
يد أبيك مولانا علي (عليه السلام) يوم الغدير عند قوله (صلى الله عليه وآله) (من كنت مولاه فعلي مولاه).
فسكت السيد ساعة، ثم قال: لا أدري وجهه.
فقال الشبلي: ان النسوان اللاتي لم يعرفن جمال يوسف (عليه السلام) ولم يرينه لمن زليخا
وقلن امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا انا لنراها في ضلال مبين،
فأرادت زليخا أن تظهر نبذا من جماله سلام الله عليه.
فأحضرتهن في دارها، وأجلستهن في بيت من بيوتها، وألبست يوسف (عليه السلام)
أجمل الثياب وأفخرها، وقالت له: ان لهذا البيت بابين، فادخل من أحدهما
وأخرج من الاخر، وقالت للنسوان: أريد أن أريكن حبيبي يوسف، فإذا دخل
البيت فأهدين له هدية، فقلن: ما نهدي له؟ فدفعت بيد كل واحدة منهن أترجة
وسكينا، وقالت لهن: إذا دخل يوسف قطعن له من الأترج وأعطينه.
فلما دخل يوسف (عليه السلام) البيت وشاهدن غرته السنية، واكتحلن بطلعته البهية،
وأردن قطع الأترج، فقطعن أيديهن لغاية الحيرة، ونهاية الدهشة من جماله، وقلن:
حاش لله ما هذا بشرا ان هذا الا ملك كريم، فقالت لهن زليخا: فذلكن الذي لمتنني
فيه، ومن هنا قال من قال بالفارسية:
اگر ببينى ودست از ترنج بشناسى * روا بود كه ملامت كنى زليخا را
فسيدنا رسول الله صلوات الله وتسليماته عليه أشار في رفع يده سلام الله عليه في
يوم الغدير بأن هذا الرجل هو الرجل الذي إذا كلمتكم في شأنه بكلام، أو صوبت

167
رأيه بحديث، أظهرتم الكراهة، وأطلتم لسانكم بالملامة، فاليوم انظروا بعين البصر
والبصيرة، ان الله عز وجل بماذا يأمرني في حقه، وكيف ارتفع شأنه وأمره عليكم.
انتهى كلامه.
وهو مما يستوجب أن يكتب بالنور على صفحات خدود الحور، ولعمري أنه في
صحة عقيدة الشبلي وصفاء طويته واخلاصه لأهل بيت الرسالة أوضح من فلق
الصبح، مع أن المعروف بين المؤرخين أنه من جملة المخالفين، والله أعلم.
تبصرة:
استفاضت الأخبار من طرق المخالفين بفضيلة يوم الغدير، حتى روى ابن
المغازلي باسناده إلى أبي هريرة أن صيامه يعدل ستين شهرا (1).
وروى مسلم في صحيحه في المجلد الثالث، عن طارق بن شهاب، قال: قالت
اليهود لعمر: لو علمنا معشر اليهود نزلت هذه الآية (اليوم أكملت لكم دينكم
وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا) ونعلم اليوم الذي أنزلت فيه
لاتخذنا ذلك اليوم عيدا (2).
قال صاحب الطرائف بعد نقل هذا الخبر: وكذا كان يجب على أهل الاسلام أن
يكون ذلك اليوم عظيما عندهم، فأضاعه المخالفون لأهل البيت: إما عداوة وحسدا،
أو لغير ذلك. وما رأيت من أهل الاسلام من يحفظ اليوم وتعيين السنة التي كان فيها،
وتعيين الشهر والأسبوع واسم اليوم المذكور الا أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم (3) على



(1) المناقب لابن المغازلي ص 19. ورواه الخطيب أيضا في تاريخ بغداد (منه)
(2) صحيح مسلم 4: 2312 برقم: 3017، وفيه: فقال عمر: اني لأعلم حيث أنزلت، و
أي يوم أنزلت، وأين رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث أنزلت الحديث.
(3) في أوائل كتاب ربيع الأبرار للزمخشري الحنفي: ان ليلة الغدير معظمة عند الشيعة،
محياة بالعبادة والتهجد، وهي الليلة التي قال في يومها رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كنت مولاه فعلي
مولاه (منه).
168
التحقيق (1) انتهى.
قلت: وقد روينا عن أئمتنا (عليهم السلام) أن هذا اليوم هو العيد الأكبر، وانه أفضل أيام
السنة، وقد روي أن صومه كفارة ستين سنة (2).
وفي رواية أخرى: أن صومه يعدل ستين شهرا من أشهر الحرم (3).
وعن الصادق (عليه السلام): أن صيام يوم غدير خم يعدل صيام عمر الدنيا لو عاش
انسان، ثم صام ما (4) عمرت الدنيا، لكان له ثواب ذلك، وصيامه يعدل عند الله
عز وجل في كل عام مائة حجة ومائة عمرة مبرورات متقبلات (5).
وعنه (عليه السلام): من فطر فيه مؤمنا كان كمن فطر ألف ألف في غيره، والدرهم فيه
بألف ألف درهم (6). والأخبار في فضله لا تحصى.
تتمة:
يستحب في هذا اليوم صلاة ركعتين قبل الزوال بنصف ساعة، يقرأ في كل ركعة
الحمد مرة، وقل هو الله أحد عشر مرات، وآية الكرسي إلى قوله تعالى (هم فيها
خالدون) (عليه السلام)) عشر مرات، والقدر عشر مرات، روي ذلك عن الصادق (عليه السلام).



(1) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ص 147 المطبوع بتحقيقنا.
(2) المصباح للشيخ الطوسي ص 679.
(3) المصباح ص 680 والاقبال ص 472.
(4) (ما) ظرفية زمانية (منه).
(5) الاقبال ص 476.
(6) الاقبال ص 476.
(7) جرينا على اثر بعض الأعلام في تحديد آية الكرسي هنا، والا فالنص خال عن
التحديد بذلك، ونحوه في المصباح، والأظهر أن آخرها (العلي العظيم) وهو المنقول عن
جماعة من مشائخنا، أولهم الشهيد الثاني (قدس سره)، ونقله بعض الثقات عن الشيخ الصالح
الشيخ فخر الدين بن طريح رحمه الله (منه).
169
قال (عليه السلام): من اغتسل وصلى فيه ركعتين كذلك، عدلت عند الله عز وجل مائة
ألف حجة، ومائة ألف عمرة، وما سأل الله عز وجل حاجة من حوائج الدنيا
والآخرة الا قضيت له كائنة ما كانت الحاجة (1).
ويستحب أن تصلي صلاته جماعة على الأصح (2) في الصحراء، بعد أن يخطب
الامام بهم، ويعرفهم فضل هذا اليوم، فإذا انقضت الخطبة تصافحوا وتهانوا.
وقد ورد عنهم (عليهم السلام) أنه ينبغي أن يقال في تهنأته: الحمد لله الذي أكرمنا بهذا
اليوم، وجعلنا من الموفين بعهده الذي عهده الينا وميثاقه الذي واثقنا به من ولاية
ولاة أمره والقوام بقسطه، ولم يجعلنا من الجاحدين والمكذبين بيوم الدين (3).
فائدة:
خم (4) بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم اسم لغيضة (2) على ثلاثة أميال من
الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيضة: فيقال: غدير خم، ذكره الشيخ نور



(1) الاقبال ص 476.
(2) وفاقا للمحقق الشيخ علي قدس سره في الرسالة الجعفرية، والفاضل الجليل مولانا محسن
الكاشي في خلاصة الأذكار، ورواه أبو الصلاح، وقد حققنا ذلك في الفروع (منه).
(3) الاقبال للسيد ابن طاووس ص 476 الطبع الحجري.
(4) وقال صاحب معجم البلدان: خم اسم موضع غدير واقع بين مكة والمدينة في الجحفة
. وقال بعضهم: انه على ثلاثة أميال من الجحفة. وقال الحازمي: انه واد بين مكة والمدينة
عند الجحفة وهناك غدير (منه).
(5) الغيضة بالفتح: الأجمة ومجتمع الشجر.
170
الدين المكي المالكي في الفصول المهمة، نقلا عن الشيخ محي الدين النووي (3).
الحديث السادس عشر
[نزول آية (إنما وليكم) في شأن علي (عليه السلام)]
أبو إسحاق أحمد بن محمد الثعلبي في تفسيره يرفعه بسنده، قال: بينما عبد الله بن
عباس جالس قريبا من بئر زمزم يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو يحدث الناس إذ
أقبل رجل متلثم، فوقف فجعل عبد الله بن عباس لا يقول قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الا
قال الرجل قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال ابن عباس: سألتك بالله من أنت؟.
فقال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أبو ذر الغفاري،
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) بهاتين والا صمتا يقول: علي قائد البررة وقاتل الكفرة،
منصور من نصره، مخذول من خذله.
وصليت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوما من الأيام صلاة الظهر، فسأل سائل في
المسجد، فلم يعطه أحد شيئا، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم اشهد أني
سألت في مسجد نبيك محمد (صلى الله عليه وآله)، فلم يعطني أحد شيئا، وكان علي (عليه السلام) في الصلاة
راكعا، فأومئ إليه بخنصره اليمنى وفيها خاتم، فأقبل السائل فأخذ الخاتم من
خنصره، وذلك بمرأى من النبي (صلى الله عليه وآله) وهو في المسجد.
فرفع رسول الله (صلى الله عليه وآله) طرفه إلى السماء وقال: اللهم ان أخي موسى (عليه السلام) سألك
فقال: (رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري) إلى آخر الآية، فأنزلت عليه
قرآنا (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما بآياتنا) (2)



(1) الفصول المهمة ص 42 - 43.
(2) القصص: 35.
171
اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك، اللهم اشرح لي صدري، ويسر لي أمري، واجعل لي
وزيرا من أهلي، عليا اشدد به ظهري.
قال أبو ذر الغفاري: فما استتم دعاؤه حتى نزل عليه جبرئيل (عليه السلام) من عند الله
عز وجل، قال: يا محمد اقرأ (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (1) (2).
أقول: هذا الخبر من الأخبار المستفيضة، وقد رواه الثعلبي من طرق متعددة،
وهو يدل على الإمامة من جهات متعددة.
منها: قوله (قائد البررة) فان القائد هو الرئيس الذي يقود الجيش. قال ابن
الأثير في النهاية: في حديث علي (عليه السلام) (قريش قادة ذادة) أي يقودون الجيوش،
وهو جمع قائد (3) انتهى.
فمعنى كونه (عليه السلام) قائد البررة هو رئاسته عليهم، ووجوب اقتدائهم المطلق به،
وهو مصداق الإمامة. وسر اضافته إلى البررة أنهم الفائزون برتبة متابعته المطلقة
القائمون بوظيفة طاعته. وأما الهمج (4) الرعاع أتباع كل ناعق، فلا يؤبه بهم ولا
يلتفت إليه.
ومنها قوله (عليه السلام) بعد ذكر حكاية موسى وهارون: اللهم اشرح لي صدري،
ويسر لي أمري، واجعل لي وزيرا من أهلي عليا. فإنه ظاهر في الإمامة، وصريح في
أفضليته على سائر الصحابة، كما لا يخفى على ذي البصيرة الثاقبة، لأن الوزير هو



(1) المائدة: 55.
(2) الطرائف ص 47 - 48 عن تفسير الثعلبي، وإحقاق الحق 4: 59 - 60 عنه.
(3) نهاية ابن الأثير 4: 119.
(4) الهمج جمع همجه، وهو ذباب صغير يسقط على وجوه الحيوانات وأعينها، استعير
هذا اللفظ للجهلة تحقيرا لهم. والرعاع بالمهملات وفتح أوله: العوام والسفلة و
أمثالهم (منه).
172
الذي يوازره، فيحمل عنه ما حمله من الأثقال، والذي يلتجئ الأمير إلى رأيه
وتدبيره فهو ملجئ له ومفزع، قاله ابن الأثير في النهاية (1).
ومعلوم أن معنى الحديث حينئذ أنه (عليه السلام) سأل من الله تعالى أن يجعل عليا (عليه السلام)
حاملا لأثقاله، وملجى يلجئ إلى امداده، وهي مزية جليلة لم تحصل لأحد من
الصحابة.
ومنها: نزول الآية المذكورة في شأنه، وهي تدل على الإمامة دلالة صريحة. فهنا
مقامان:
المقام الأول
في استفاضة نزول الآية في شأنه
وهو أمر لا يمكن جحده، فقد قال الثعلبي في تفسير الآية الكريمة: قال السدي
وعتبة بن أبي حكيم وغالب بن أبي عبد الله: إنما عنى بهذه الآية علي بن أبي
طالب (عليه السلام)، لأنه مر به سائل وهو راكع في المسجد، فأعطاه خاتمه (2).
وكذلك قال جار الله الزمخشري الحنفي المعتزلي في كتاب الكشاف في التفسير (3) وروى صاحب كتاب الجمع بين الصحاح الستة من علمائهم في الجزء الثالث في
تفسير سورة المائدة قوله تعالى (إنما وليكم الله ورسوله) الآية من صحيح
النسائي عن ابن سلام، قال: أتيت رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلت: ان قومنا حادونا لما
صدقنا الله ورسوله، وأقسموا أن لا يكلمونا، فأنزل الله تعالى (إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا) الآية.



(1) نهاية ابن الأثير 5: 180.
(2) الطرائف ص 47 عنه.
(3) الكشاف 1: 624.
173
ثم أذن بلال لصلاة الظهر، فقام الناس يصلون، ومن بين ساجد وراكع إذ سأل
سائل، فأعطى علي (عليه السلام) خاتمه السائل وهو راكع، فأخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقرأ
علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) (إنما وليكم الله ورسوله - إلى قوله - الغالبون) (1).
ورواه الشافعي ابن المغازلي من خمس طرق، فمنها: عن عبد الله بن عباس
(رضي الله عنه) قال: مر سائل بالنبي (صلى الله عليه وآله) وفي يده خاتم، قال: من أعطاك هذا الخاتم؟ قال:
ذاك الراكع وكان علي يصلي، فقال: الحمد لله الذي جعلها في وفي أهل بيتي (2).
ومن روايات الشافعي ابن المغازلي في المعنى يرفعه إلى علي بن عابس، قال:
دخلت أنا وأبو مريم على عبد الله بن عطاء، قال أبو مريم: حدث عليا بالحديث
الذي حدثني به عن أبي جعفر، قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر عليه ابن
عبد الله بن سلام، قلت: جعلت فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب؟ قال: لا،
ولكنه صاحبكم علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله (ومن
عنده علم الكتاب) (3) (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) (4) (إنما
وليكم الله ورسوله) الآية (5).
وقال أخطب خوارزم في الفصل السابع عشر في بيان ما أنزل الله من الآيات في
شأنه (عليه السلام) أنه خير الأنام، إلى قوله: فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله): (إنما وليكم الله ورسوله -
إلى قوله - وهم راكعون).
ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله) خرج إلى المسجد والناس ما بين قائم وراكع، فبصر بسائل،



(1) الطرائف ص 48 - 49 عن الجمع بين الصحاح الستة. وراجع إحقاق الحق 14: 22،
وذخائر العقبى ص 102، وينابيع المودة ص 218.
(2) المناقب ص 312، برقم: 356.
(3) الرعد: 43.
(4) هود: 17.
(5) المناقب لابن المغازلي ص 314 برقم: 358.
174
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): هل أعطاك أحد شيئا؟ فقال: نعم خاتما من ذهب، فقال له
النبي (صلى الله عليه وآله) من أعطاكه؟ فقال: ذلك القائم، وأومئ بيده إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): على أي حال أعطاك؟ قال: أعطاني وهو راكع، فكبر النبي (صلى الله عليه وآله)
ثم قرأ (ومن يتول الله ورسوله) الآية، فأنشأ حسان بن ثابت في ذلك شعرا:
أبا حسن تفديك نفسي ومهجتي * وكل بطئ في الهوى ومسارع
أيذهب مدحي في المحبين ضائعا * وما المدح في جنب الاله بضائع
فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعا * فدتك نفوس القوم يا خير راكع
فأنزل فيك الله خير ولاية * فبينها في محكمات الشرائع (1)
وقال أبو الفضائل الطبرسي عطر الله مرقده في مجمع البيان: حدثنا السيد
أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني، قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني،
قال: حدثني أبو الحسن محمد بن القاسم الفقيه الصيدلاني، قال: أخبرنا أبو محمد عبد
الله بن محمد الشعراني، قال: حدثنا أبو علي أحمد بن علي بن رزين البياشاني، قال:
حدثنا المظفر بن الحسين الأنصاري، قال: حدثنا السندي بن علي الوراق، قال:
حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية
بن ربعي، قال: بينا عبد الله بن عباس جالس على شفير زمزم، إلى آخر الحديث
المنقول عن الثعلبي آنفا.
ثم قال: وروى أبو بكر الرازي في كتاب أحكام القرآن على ما حكاه المغربي عنه
والرماني والطبري أنها نزلت في علي (عليه السلام) حين تصدق بخاتمه وهو راكع، وهو قول
مجاهد والسدي، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام)، وجميع علماء أهل
البيت (عليهم السلام).
وقال الكلبي: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه لما أسلموا، فقطعت اليهود



(1) المناقب للخوارزمي ص 264 - 265 ط قم.
175
موالاتهم، فنزلت الآية. وفي رواية عطاء قال عبد الله بن سلام: يا رسول الله أنا
رأيت عليا تصدق بخاتمه وهو راكع فنحن نتولاه.
وقد رواه لنا السيد أبو الحمد، عن أبي القاسم الحسكاني بالاسناد المتصل المرفوع
إلى أبي صالح، عن ابن عباس، قال: أقبل عبد الله بن سلام ومعه نفر من قومه ممن
قد آمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله)، فقالوا: يا رسول الله ان منازلنا بعيدة، وليس لنا مجلس ولا
متحدث دون هذا المجلس، وان قومنا لما رأونا آمنا بالله ورسوله وصدقناه رفضونا،
وآلوا على نفوسهم أن لا يجالسونا ولا يناكحونا ولا يكلمونا، فشق ذلك علينا،
فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله) (إنما وليكم الله ورسوله) الآية.
ثم إن النبي (صلى الله عليه وآله) خرج إلى المسجد والناس بين قائم وراكع، فبصر بسائل، فقال
النبي عليه وآله السلام، هل أعطاك أحد شيئا؟ قال: نعم خاتم من فضة، فقال النبي
(صلى الله عليه وآله): من أعطاكه؟ قال: ذلك القائم وأومأ بيده إلى علي (عليه السلام)، فقال النبي (صلى الله عليه وآله):
على أي حال أعطاك؟ قال: أعطاني وهو راكع، فكبر النبي (صلى الله عليه وآله) ثم قرأ (ومن
يتول الله ورسوله والذين آمنوا فان الله حزب الله هم الغالبون) فأنشأ حسان بن
ثابت يقول في ذلك، وذكر الأبيات السابقة بأدنى تغيير.
ثم قال: وفي حديث إبراهيم بن الحكم بن ظهير أن عبد الله بن سلام أتى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع رهط من قومه، فشكوا إلى الله ما لقوا من قومهم، فبينا هم
يشكون إذ نزلت هذه الآية، وأذن بلال فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى المسجد وإذا
مسكين يسأل، فقال عليه وآله السلام: ماذا أعطيت؟ قال: خاتم من فضة، قال:
من أعطاكه؟ قال: ذلك القائم، فإذا هو علي (عليه السلام)، قال: على أي حال أعطاكه؟
قال: أعطاني وهو راكع، فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقال (ومن يتول الله
ورسوله) الآية (1).



(1) مجمع البيان 2: 210 - 211.
176
وفي كتاب سر العالمين لأبي حامد الغزالي: أن الخاتم الذي تصدق به علي (عليه السلام)
على السائل خاتم سليمان بن داود (عليهما السلام)، وقع إلى جماعة، فأهدوه إلى سيد
المرسلين، فأعطاه (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام)، وان السائل هو جبريل (عليه السلام) بأمر الملك
العلام في صورة المسكين، وكان ذلك عند صلاة الظهر، ونزلت الآية الكريمة في ذلك
بعد الفراغ (1).
وقال الفاضل النيسابوري في تفسيره المشهور، بعد ما ذكر القصة وسبب نزول
الآية في شأنه (عليه السلام) قال: والمناقشة في هذا الأمر تطويل بلا طائل (3) انتهى.
مشيرا بذلك إلى أنه لا مجال للمناقشة في هذا الأمر، ونعم ما قال.
وقال الفاضل علي القوشجي في شرح التجريد: انها نزلت باتفاق المفسرين في
علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين أعطى السائل خاتمه وهو راكع في صلاته انتهى.
المقام الثاني
في تقرير دلالتها على إمامته (عليه السلام)
وهو يتوقف على تمهيد مقدمات: الأولى: أن كلمة (إنما) للحصر باجماع أهل
العربية وشهادة الاستعمال، وقد بينا ذلك في كتبنا الأصولية.
الثانية: أن المراد بالولي هو الأولى بالتصرف والتدبير، واستعمال الولي في هذا
المعنى شائع لغة وشرعا وعرفا.
قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب له في صفات الله تعالى: أصل الولي



(1) سر العالمين ص 182.
(2) تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيشابوري 6: 170، المطبوع على هامش
تفسير الطبري.
177
الذي هو أولى أي: أحق بالتصرف (1). وذكر نحوه الفراء في كتاب معاني القرآن.
وقال حجة الإسلام أبو الفضائل الطبرسي في مجمع البيان: الولي هو الذي يلي
تدبير الأمر، فيقال: فلان ولي المرأة إذا كان يملك تدبير نكاحها، وولي الدم من كان
إليه المطالبة بالقود، والسلطان ولي أمر الرعية، ويقال: ولي عهد المسلمين، قال
الكميت يمدح عليا (عليه السلام):
ونعم ولي الأمر بعد وليه * ومنتجع التقوى ونعم المؤدب (2)
فكل هذه الاستعمالات تفيد أنه الأولى بالتصرف، وهو حقيقة في هذا المعنى
بشهادة الآية والاستعمال، فيكون في غيره مجازا، لأن المجاز خير من الاشتراك، كما
تقرر في الأصول.
وأيضا فلا يجوز أن يراد به هنا الصديق، لأن الكلام يكون حينئذ مغسولا
متهافتا عاريا عن الفائدة، ويستحيل صدوره عن الواجب الوجود ومنبع الحكم
جل برهانه وعظم شأنه، ولا الناصر لأن نصرة المؤمنين عامة، بدليل قوله تعالى
(والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (3) والمراد هنا بعض مخصوص من
المؤمنين، يشهد به الأخبار التي أوردناها، فإنها تنادي بإرادة المعنى الأول.
الثالثة: أن المراد بالذين آمنوا هنا بعض المؤمنين لوجهين:
الأول: أنه تعالى وصفهم بوصف غير حاصل لجميعهم، وهو إيتاء الزكاة في حال
الركوع، إذ الجملة حالية باتفاق المفسرين لا معطوفة، للزوم التأكيد بغير فائدة،
ولصراحة الأخبار التي سردناها في إرادة الحالية، ولصيرورة الكلام متهافتا معقدا
حينئذ، كما هو واضح.
الثاني: أن الضمير المذكور - أعني: الكاف والميم - مراد به كل المؤمنين، بدلالة



(1) مجمع البيان 2: 209 عنه.
(2) مجمع البيان 2: 209.
(3) التوبة: 71.
178
الآية التي قبل هذه، وهي قوله سبحانه (يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن
دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين
يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله
واسع العليم) (1) وحينئذ يمتنع إرادة الجميع قطعا، للزوم أن يكون كل واحد وليا
لنفسه، فتعين إرادة البعض، وهو المطلوب.
الرابعة: أن المراد بذلك البعض هو مولانا علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لاتفاق
المفسرين من الفريقين على ذلك، كما اعترف به القوشجي من فضلاء المخالفين
وغيره، واستفاضت به الأخبار من طرقهم، كما أسلفناه في المقام الأول.
وإذا تقررت هذه المقدمات تلخص منها أنه صلوات الله عليه وعلى أبنائه
الطاهرين أولى بالمؤمنين، والمتصرف في شؤونهم الدينية والدنيوية، الناهض
بأعباء الرئاستين الصورية والحقيقية، ولا نعني بالأمام الا ذلك.
تذنيب: (2)
اعترض علي القوشجي في شرح التجريد على هذا الاستدلال، بمنع كون الولي
بمعنى المتصرف في الدين والدنيا والأحق بذلك على ما هو خاصة الامام، بل الناصر
والمولى والمحب، بدلالة ما قبل الآية، وهو قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا
تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض) (3) وولاية اليهود
والنصارى المنهي عن اتخاذها ليست على التصرف والإمامة، بل النصرة والمحبة
وما بعدها، وهو قوله تعالى (ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فان حزب الله



(1) المائدة: 54.
(2) في (س): تنبيه.
(3) المائدة: 51.
179
هم الغالبون) (1) فان المتولي هاهنا بمعنى المحبة والنصرة دون الإمامة، فيجب أن
يحمل ما بينهما أيضا على النصرة لتلائم أجزاء الكلام.
ثم قال: على أن الحصر إنما يكون نفيا لما وقع فيه تردد ونزاع، ولا خفاء في أن
ذلك عند نزول الآية لم تكن امامة الأئمة الثلاثة. وأيضا ظاهر الآية ثبوت الولاية
بالفعل في الحال، ولا شبهة في أن امامة علي (عليه السلام) إنما كانت بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، والقول
بأنه كانت له ولاية التصرف في أمر المسلمين في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) أيضا مكابرة،
وصرف الآية إلى ما يكون في المآل دون الحال لا يستقيم في حق الله تعالى ورسوله.
وأيضا (الذين) صيغة جمع لا تصرف إلى الواحد الا بدليل، وقول المفسرين أن
الآية نزلت في حق علي (عليه السلام) لا يقتضي اختصاصها واقتصارها عليه، ودعوى
انحصار الأوصاف فيه مبنية على جعل (وهم راكعون) حالا من ضمير يؤتون،
وليس بلازم، بل يحتمل العطف بمعنى أنهم يركعون في صلاتهم لا كصلاة اليهود
خالية عن الركوع، أو بمعنى أنهم خاضعون. انتهى كلامه أخزاه الله.
وأنت خبير بأنه لا يساغ لحمل الولي على الناصر والمحب، كما بيناه في المقام
الثاني، إذ لا معنى للحصر حينئذ، كما سلف شرحه. وكون الولي في الآية السابقة
بمعنى المحب والناصر على تقدير تسليمه لا يقتضي كونه هنا أيضا كذلك.
هذا مع بعد الآية المذكورة عما نحن بصدد الكلام عليها، وكذا الآية المتأخرة، و
لا يلتفت إلى مجرد قصد تناسب الآي المتباعدة مع تضافر النصوص، واجماع
المفسرين على نزولها فيه (عليه السلام) الدال على اختصاصه بها، المانع من إرادة الناصر
والمحب، وهو نقل في أول كلامه اجماع المفسرين على أنها نزلت في حقه (عليه السلام) حين
تصدق بخاتمه في الصلاة راكعا.
والأخبار المستفيضة بل المتواترة من طرقهم - كما نقلنا فيما سبق - صريحة في



(1) المائدة: 56.
180
ذلك، وفي اختصاصه (عليه السلام) بالأوصاف المذكورة، والحصر المذكور إضافي بالنسبة
إلى من يتوقع أنه ولي مثله في ذلك الزمان، ويكفي في صحة الحصر علمه تعالى بأنه
يقع فيه التردد، بل يجزم أكثر الأمة بخلافه.
وأيضا فان أئمة الكفر لعنهم الله قد ظهر منهم في زمانه (صلى الله عليه وآله) الطمع في الخلافة
والتشاور للامارة. وقد تضافرت أخبار أهل البيت (عليهم السلام) بأنهم لم يؤمنوا أصلا،
وإنما أظهروا الوفاق وأخفوا النفاق، وكان (عليه السلام) يصرح تارة ويعرض أخرى بامامة
علي (عليه السلام)، وينص على خلافته بعده، فيجدهم قد نبضت عروق حسدهم طمعا
منهم في الرئاسة الدنية الدنيوية الجزئية، فضلا عن الرئاسة الكلية.
ومما يدل على حسدهم له (عليه السلام) وطمعهم في الامارة ما رواه المخالفون في
أصحتهم، وأورده البخاري ومسلم في صحيحيهما: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال يوم خيبر:
لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله،
فبات الناس يخوضون ليلتهم أيهم يعطاها.
فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل منهم يرجو أن يعطاها،
فقال (صلى الله عليه وآله): أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: يا رسول الله أرمد، فقال: أرسلوا إليه،
فاتي به فبصق في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع الحديث (1).
وفي صحيح مسلم: قال عمر بن الخطاب: فما أحببت الامارة الا يومئذ،
فتساورت لها رجاء أن ادعى لها (2).
قال نور الدين علي بن محمد المكي المالكي في كتابه الفصول المهمة في معرفة
الأئمة، بعد نقل ذلك ما نصه: قالت العلماء: قوله (تساورت لها) بالسين المهملة أي:
تطاولت لها وحرصت عليها حتى أبديت وجهي وتصديت لذلك ليتذكرني، قالوا:



(1) صحيح البخاري 4: 207.
(2) صحيح مسلم 4: 1872.
181
إنما كانت محبة عمر لها لما دلت عليه من محبة الله تعالى ومحبة رسوله ومحبتهما له،
والفتح على يديه، قاله الشيخ عبد الله اليافعي في كتابه المرهم (3) انتهى.
وسيأتيك إن شاء الله تعالى في كتابنا هذا ما يثلج الغليل، ويشفي العليل، بما
يصرح بكفرهم ونفاقهم وردهم على الرسول في حياته، واضمارهم الحسد لوصيه
وباب مدينة علمه.
وما ذكره من أن مقتضى الآية ثبوت الولاية بالفعل في الحال واضح السقوط، إذ
لا محذور في اخباره تعالى بأنه الامام، وان كانت الإمامة بعد موته (صلى الله عليه وآله) بغير فصل،
وأي وصمة في ذلك؟ وأي بأس؟ ولا يلزم كون ولاية الله ورسوله ليست حالية،
كما توهمه مكابرة، إذ ولايتهما غير مقيدة بوقت. وأما ولايته، فهي معلقة على
وفاته (صلى الله عليه وآله).
وأيضا فلنا أن نلتزم أن له ولاية التصرف في حياة النبي (صلى الله عليه وآله). ودعوى أن هذه
الدعوى مكابرة، مكابرة وعناد، لأنه قد قام الدليل القاطع على عصمته (عليه السلام) من
أول عمره إلى آخره، وحينئذ فيجب على الأمة طاعته في أوامره ونواهيه، لأنه لا
ينطق عن الهوى، بل عن الرسول (صلى الله عليه وآله)، كما يشهد به عصمته (عليه السلام)، فيجب امتثال
أوامره ونواهيه، والأخبار شاهدة بذلك.
كما في الأخبار التي تضمنت أنه (صلى الله عليه وآله) جعله وزيرا له، وقد تقدم ذكر بعضها.
ومعلوم أن الوزير له التصرف في أمور الرعية، لكن لا بالاستقلال بل بالنيابة عن
الملك والتبعية له، كما في الأخبار الناطقة بأنه قال (عليه السلام): انه (عليه السلام) منه بمنزلة هارون
من موسى.
ومعلوم أن لهارون التصرف في الرعية في حياة موسى (عليه السلام)، لقوله (اجعل لي
وزيرا من أهلي * هارون أخي * اشدد به أزري * وأشركه في أمري) وقوله



(1) الفصول المهمة ص 38.
182
تعالى (سنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا فلا يصلون اليكما) وشواهد
ذلك كثيرة، وليس في ذلك محذور، ولا يلزم من تصرفه في الأمة حينئذ بالتبعية
كونه شريكا حقيقيا في النبوة والرئاسة المطلقة، بعد اتفاق المفسرين واستفاضة
الأخبار الصريحة بنزولها في شأنه (عليه السلام) ووجود أداة الحصر.
ولا معنى لجعل (وهم راكعون) عطفا، أو جعل راكعون بمعنى خاضعون. هذا مع
أن الركوع حقيقة شرعية في الانحناء المخصوص، فحمله على الخضوع مجاز يحتاج
إلى دليل قائم وأنى له به.
والصلاة حقيقة شرعية في ذات الركوع والسجود، فذكر الركوع بعدها تكرار
محض يوجب تهافت الكلام واختلال النظام، إذ على ما ذكره لا معنى لتوسط
(ويؤتون الزكاة) في البين، كما لا يخفى على من له انس بفن البيان.
واجماع المفسرين على نزولها في شأنه حين تصدق بخاتمه في صلاته، نص في
حالية الجملة، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة.
وكلام الواحدي من عظماء المخالفين صريح في اجماع المفسرين على حالية الجملة،
حيث قال: استدل أهل العلم بهذه الآية على أن العمل القليل لا يقطع الصلاة، وان
دفع الزكاة إلى السائل في الصلاة جائز مع نية الزكاة انتهى.
ومعلوم أن الاستدلال المذكور مبني على جعل الجملة حالية، كما لا يخفى.
وقوله (الذين صيغة جمع لا ينصرف إلى الواحد الا بدليل) واضح السقوط،
لأن لفظة (الذين) وان كانت موضوعة للجمع، الا أن استعمالها في الواحد في
مواضع التفخيم مما لا مجال للتردد فيه، ولا ينكره الا مكابر مباهت، كالقوشجي
وأمثاله من السوفسطائية.
على أن سيدنا الأجل المرتضى علم الهدى - قدس الله روحه ونور الله ضريحه -
ذكر في الشافي أنه لا يمتنع أن يكون بالعرف وكثرة الاستعمال قد دخلت في أن
تستعمل في الواحد المعظم أيضا على سبيل الحقيقة دون المجاز.

183
يدل على ذلك أن قوله تعالى (انا أرسلنا نوحا إلى قومه) (1) وما أشبهه من
الألفاظ، لا يصح أن يقال: إنه مجاز. وكذلك قول أحد الملوك: نحن الذين فعلنا كذا،
لا يقال إنه خارج عن الحقيقة، لأن العرف قد ألحقه بباب الحقيقة، ولا شك في أن
العرف يؤثر في الكلمات هذا التأثير، كما أثر في لفظة (غائط) وما أشبهها، فهي
حقيقة عرفية وان كانت مجازا لغويا (2).
وأيضا فقد ورد في أخبارنا أنه قد وقع مثل هذا الفعل من الأئمة الأحد عشر
صلوات الله عليهم، وأنهم مرادون معه من الذين آمنوا.
روى ثقة الاسلام في الكافي باسناده عن أحمد بن عيسى، عن أبي عبد الله (عليه السلام)
في قول الله عز وجل (إنما وليكم الله ورسوله الذين آمنوا) قال: إنما يعني أولى
بكم، أي: أحق بكم وبأموركم من أموالكم وأنفسكم (3)، الله ورسوله والذين
آمنوا، يعني: عليا وأولاده الأئمة (عليهم السلام) إلى يوم القيامة.
ثم وصفهم الله عز وجل فقال: (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم
راكعون) وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) في صلاة الظهر، وقد صلى ركعتين وهو راكع
وعليه حلة قيمتها ألف دينار، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) كساه إياها، وكان النجاشي أهداها
إليه، فجاء سائل فقال: السلام عليك يا ولي الله وأولى بالمؤمنين من أنفسهم،
تصدق على مسكين، فطرح الحلة إليه، وأومئ بيده إليه أن احملها.
فأنزل الله عز وجل هذه الآية، وصير نعمة أولاده بنعمه، فكل من بلغ من أولاده
مبلغ الإمامة يكون بهذه النعمة مثله، فيتصدقون وهم راكعون، والسائل الذي سأل
أمير المؤمنين (عليه السلام) من الملائكة، والذين يسألون الأئمة (عليهم السلام) من أولاده يكونون



(1) نوح: 1.
(2) الشافي 2: 226 - 227.
(3) في الكافي: وبأموركم وأنفسكم وأموالكم.
184
من الملائكة (1).
وما تضمنه هذا الخبر من أنه (عليه السلام) تصدق بحلة قيمتها ألف دينار، لا ينافي ما
رويناه ورواه المخالفون من أنه (عليه السلام) تصدق بخاتم، لجواز وقوع الصدقة في حالة
الصلاة مرتين، بل ثلاثا أو أكثر، وفي التعبير في الآية الكريمة بالمضارع الدال على
الاستمرار شهادة بذلك.
وقوله (لا ينصرف إلى الواحد الا بدليل) قلت: أي دليل أوضح وحجة أقوم
من اجماع المفسرين، بل جميع أهل العلم، كما ذكره الواحدي وغيره، واعترف به
القوشجي المخذول، واستفاضت النصوص على نزولها فيه، وصراحة كلام الجميع،
ونصوص الخصوم في جعل الجملة حالية من فاعل يؤتون.
قال بعض الأفاضل ونعم ما قال: الذي يقتضيه سلاسة النظم القرآني، ورشاقة
الأسلوب الفرقاني، هو أن الجملة حالية لا معطوفة، بل المفهوم من قول القائل فلان
يعطي وهو ضاحك، ليس الا أنه يعطي في هذه الحال، لا ثبوت الأمرين له في
وقتين، حتى لو قال الناطق بالكلام المذكور: اني لم أرد الا ثبوت الضحك له في غير
وقت الاعطاء، لكان خارجا عن سلسلة البلغاء، ولكان كلامه مغسولا متهافتا
واقعا في غير موقعه، ونسبة مثل ذلك إلى الذكر الحكيم الإلهي مما لا ينبغي لذي
مسكة التزامه انتهى.
والاجماع الذي نقله الواحدي ناطق بحالية الجملة، وكون الركوع بالمعنى
الشرعي لا بمعنى الخضوع.
وقوله أخزاه الله (وقول المفسرين أنها نزلت في حق علي (عليه السلام)) كلام طريف
عجيب يضحك الثكلى، وما كنت أظن صدور مثله عن مثله، لأن كلام المفسرين كما
أحطت به خبرا ينادي بحالية الجملة، وكون الركوع بالمعنى الشرعي، ويصرح بأن



(1) أصول الكافي 1: 288 - 289 ح 3.
185
الآية الكريمة نزلت في مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) فلا مساغ لما ذكره من منع انحصار
الأوصاف في أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومثله لا يخفى عليه هذا، الا أن التعصب لمذهبه
الفاسد والعناد حمله على ارتكاب الشطط بتكثير السواد وتضييع المداد فيما
هو بمراحل عن السداد، والله ولي التوفيق والرشاد.
جوهرة فاخرة:
أورد بعض النواصب - خذله الله - أنكم رويتم أن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان إذا
دخل في صلاة يغيب حال اشتغاله بالصلاة عن ذاته وصفاته وأحواله، وليس له
حينئذ شعور بما سوى الحق حتى لو قرض جسده بالمقاريض لم يشعر بذلك أصلا،
وانهم كانوا يستخرجون النصال من جسده الشريف حال اشتغاله بالصلاة، فلا
يحس بذلك، فكيف أحس بالسائل ودفع إليه الخاتم؟
وقد أجاب (1) بعض (2) الأكابر عن هذا الايراد، فقال:
يعطي ويمنع لا تلهيه سكرته * عن النديم ولا يلهو عن الكأس
أطاعه سكرة حتى تمكن من * فعل الصحاة فهذا أفضل الناس



(1) قال الشيخ الفاضل محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي جمهور الأحسائي (قدس سره) في شرح زاد
المسافرين ما نصه: حاصل الجواب أنه (عليه السلام) في تلك الحالة وإن كان كما ذكره السائل، لكنه
حصل منه التفات حتى أدرك السائل وسؤاله ولا يلزم منه التفاته إلى غير الحق، لأنه فعل
فعلا نهايته يعود إلى الحق، فكان كالشارب الذي فعل حال سكرته فعلا موافقا لفعل
الصحاة لم يلهه ذلك عن نديمه ولا عن كأسه، ولا خرج بذلك الفعل عن سكرته انتهى
(منه).
(2) وجدت في بعض الكتب أن المجيب أيضا من المخالفين، وهو ابن الجوزي الحنبلي
(منه).
186
وتحقيق الجواب أنه (عليه السلام) لا يطمح في حال الصلاة إلى غير المعبود بالحق، ولا
المام له بغيره، ولا شعور له بما عداه الا من حيث انتسابه إليه جل شأنه، ولهذا كان
شاعرا بالعبادة نفسها، محافظا على أركانها وأذكارها، لكن لا من حيث ذواتها، بل
من حيث أنها وصلة إليه جل مجده، ولا ريب أن الالتفات إلى السائل من هذه
الجهة، فلا ينافي شعوره به والتفاته إليه استغراته في التوجه إلى جناب الربوبية،
والانقطاع بشراشره إلى حضرة الألوهية، كما توهمه الناصب بوهمه العليل، والله
الهادي إلى سواء السبيل.
الحديث السابع عشر
[المناقب الثمانية لعلي (عليه السلام)]
ابن المغازلي الفقيه الشافعي باسناده في كتاب المناقب، يرفعه إلى أبي أيوب
الأنصاري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرض مرضه، فدخلت عليه فاطمة (عليها السلام) تعوده،
وهو ناقة من مرضه، فلما رأت ما برسول الله (صلى الله عليه وآله) من الجهد والضعف خنقتها العبرة
حتى جرت دمعتها.
فقال لها: يا فاطمة إن الله تعالى اطلع إلى الأرض اطلاعة، فاختار منها أباك
فبعثه نبيا، ثم اطلع إليها الثانية فاختار منها بعلك، فأوحى الله تعالى إلي فأنكحته
إياك واتخذته وصيا، أما علمت أن لكرامة الله إياك زوجك أعظمهم حلما، وأقدمهم
سلما، وأعلمهم علما، فسرت بذلك (عليها السلام) واستبشرت.
ثم قال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة له ثمانية أضراس ثواقب: ايمان بالله
وبرسوله، وحكمته، وتزويجه فاطمة، وسبطاه الحسن والحسين، وأمره بالمعروف،
ونهيه عن المنكر، وقضاؤه بكتاب الله تعالى.
يا فاطمة انا أهل بيت أعطينا سبع خصال لم يعطها أحد من قبلنا - أو قال:

187
الأنبياء - ولا يدركها أحد من الآخرين غيرنا: نبينا أفضل الأنبياء وهو أبوك،
ووصينا أفضل الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا خير الشهداء (1) وهو حمزة، ومنا من
له جناحان يطير بهما في الجنة حيث يشاء وهو جعفر ابن عمك، ومنا سبطا هذه
الأمة وهما ابناك، ومنا والذي نفسي بيده مهدي هذه الأمة (2).
أقول: وروى هذا الخبر أيضا الدارقطني (3) صاحب الجرح والتعديل من أئمة
الحديث من المخالفين، وأبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في
كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان بزيادة ونقصان غير قادحين، عن أبي
هارون (4) العبدي، قال: أتيت أبا سعيد الخدري، فقلت له: هل شهدت بدرا؟ قال:
نعم، فقلت: ألا تحدثني بما سمعته من رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي وفضله؟.
فقال: بلى أخبرك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) مرض مرضة نقه منها، فدخلت عليه
فاطمة (عليها السلام) وأنا جالس عن يمين النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما رأت فاطمة ما
برسول الله (صلى الله عليه وآله) من الضعف بدت دموعها على خدها، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما
يبكيك يا فاطمة؟ قالت: أخشى الضيعة يا رسول الله.
فقال: يا فاطمة ان الله تعالى اطلع على الأرض اطلاعة على خلقه، فاختار منهم
أباك فبعثه نبيا، ثم اطلع ثانية فاختار منهم بعلك، فأوحى الله إلي أن أنكحه فاطمة،
فأنكحته إياك واتخذته وصيا، أما علمت أنك لكرامة الله تعالى إياك زوجك
أغزرهم علما، وأكبرهم حلما، وأقدمهم سلما، فاستبشرت، فأراد رسول الله (صلى الله عليه وآله)



(1) لعل المراد خير الشهداء الذين استشهدوا، أو المراد غير المعصومين، والا فخير
الشهداء مطلقا الحسين (عليه السلام) (منه).
(2) المناقب لابن المغازلي ص 101 - 102 برقم: 144.
(3) منسوب إلى دار القطن محلة بالكوفة وكان من الحفظة حتى أنه حفظ دواوين كثيرة
منها ديوان السيد الحميري (منه).
(4) هو عمارة بن جوين (منه).
188
أن يزيدها من مزيد الخير الذي قسمه الله تعالى لمحمد (صلى الله عليه وآله).
قال: فقال لها: يا فاطمة لعلي ثمانية أضراس - يعني: مناقب -: ايمان بالله تعالى،
ورسوله، وحكمته، وزوجته، وسبطاه الحسن والحسين، وأمره بالمعروف، ونهيه
عن المنكر.
يا فاطمة انا أهل بيت أعطينا ست خصال لم يعطها أحد من الأولين ولا يدركها
أحد من الآخرين غيرنا: نبينا خير الأنبياء، ووصينا خير الأوصياء والأصفياء
وهو بعلك، وشهيدنا خير الشهداء وهو حمزة عم أبيك، ومنا سبطا هذه الأمة وهما
ابناك، ومنا مهدي الأمة الذي يصلي خلفه عيسى، ثم ضرب على منكب
الحسين (عليه السلام) وقال: من هذا مهدي هذه الأمة (1).
ورواه نور الدين علي بن محمد المكي المالكي في الفصول المهمة في الفصل
الثاني عشر في ذكر القائم (عليه السلام) (2).
وفي هذا الحديث مقامان:
المقام الأول: في بيان ما لعله يحتاج إلى البيان:
(وهوناقه) أي: قريب العهد بالمرض مشرف على الصحة.
قال ابن الأثير في النهاية: فيه، يعني في الحديث (قالت أم المنذر: دخل علينا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومعه علي (عليه السلام) وهوناقه) نقه المريض ينقه فهو ناقة إذا برأ وأفاق،
وكان قريب العهد بالمرض ولم يرجع إليه كمال صحته وقوته (3) انتهى.
(من الجهد) أي: الضعف والمشقة، وبالضم الوسع والطاقة، قاله في النهاية
الأثيرية (4). والجهد بالفتح أيضا الهزال والمرض، قاله في القاموس (5).



(1) ذخائر العقبى ص 136. والحافظ الكنجي في البيان الباب التاسع منه.
(2) الفصول المهمة ص 296.
(3) نهاية ابن الأثير 5: 111.
(4) نهاية ابن الأثير 1: 320.
189
وأجهد فلانا المرض وجهد البلاء هي الحالة الشاقة، قاله في النهاية (6).
(خنقتها العبرة) بفتح العين المهملة وسكون الموحدة والراء المهملة أخيرا:
الدمعة قبل أن تفيض، أو تردد البكاء في الصدر، أو الحزن بلا بكاء، قاله في
القاموس (عليه السلام)).
(اطلع إلى الأرض) الاطلاع الاشراف من مكان عال، وهو هنا مجاز عن علمه
سبحانه بخصوصياتها وسكانها وملاحظتها بعين عنايته.
(ثمانية أضراس) فسره (عليه السلام) بالمناقب، ويحتمل أن يكون المفسر الراوي،
وهو استعارة من أحد الأسنان، لأن تلك المناقب توجب مضيه في الأمور، وتشهد
أنه ناقد (8) العزيمة، وكل أمر عظيم جليل عجيب يسمى ضرسا، يقال: فلان
ضرس من الأضراس، أي: داهية من الدواهي
المقام الثاني: الخبر المذكور يدل على إمامته (عليه السلام) من وجوه متعددة:
منها: قوله (عليه السلام) (ثم اطلع الثانية فاختار منها بعلك) فإنه يدل على أنه أفضل
الأمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، فيكون هو الامام، لقبح تقديم المفضول على الفاضل (أفمن
يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي الا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون) (9)
(قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) (10) والمخالف في ذلك مكابر.
والعجب من ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة، حيث نسب تقديم
الملاعين الثلاثة على أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى الله سبحانه، معترفا بأفضليته (عليه السلام)



(5) القاموس 1: 286.
(6) نهاية ابن الأثير 1: 320.
(7) القاموس 2: 83.
(8) في (س): نافد.
(9) يونس: 35.
(10) الزمر: 9.
190
عليهم، فقال في خطبة الشرح المذكور: وقدم المفضول على الفاضل لمصلحة
اقتضاها التكليف (1). وهو في غاية السخافة، لأنه نسب ما هو قبيح عقلا إلى الله
عز وجل، مع أنه عدلي المذهب، فقد خالف مذهبه.
وأيضا فكيف نسب التقديم إليه تعالى؟ مع اعترافه في الشرح المذكور بالنص
على أمير المؤمنين (عليه السلام) بالإمامة والوصية، وان بيعة أبي بكر كانت بالغلبة والاكراه
(قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين) (2).
والعجب أنه حمل الشكايات الواردة منه (عليه السلام) من الصحابة والتظلم منهم في
الخطبة الشقشقية وغيرها على ذلك المعنى، وانه كان أولى بها لأفضليته عليهم، وان
كانت امامتهم صحيحة، لجواز تقديم المفضول للمصلحة المذكورة.
وهذا كما ترى محمل سخيف جدا لا وجه له، لأن هذا التقديم ان كانت من الله
تعالى لم يحسن منه (عليه السلام) الشكاية مطلقا، لأن الشكاية حينئذ تكون ردا على الله
تعالى، والرد عليه سبحانه على حد الكفر المحض والشرك البحت، فلا يصح نسبة
ذلك إلى سيد الوصيين وأفضل الصحابة أجمعين، وباب مدينة علم سيد المرسلين.
وإن كان من الخلق، فإن كان هذا التقديم لمصلحة عامة علم بها جميع الخلق غير
مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، فهو أوضح فسادا من أن ينبه عليه، لما فيه من نسبته (عليه السلام)
إلى الجهل بما عرفه عامة الخلق، وإن كان لا لمصلحة، كان تقديما بمجرد التشهي،
والشكاية حينئذ على حقيتها (3) لا على ما توهمه.
وبالجملة فحمل الشكايات المذكورة على الوجه المذكور مما لا وجه له، وسيأتي
تحقيق ذلك أيضا على الوجه البسط إن شاء الله تعالى.
ومنها: قوله (عليه السلام) (واتخذته وصيا) فإنه يدل على الإمامة والخلافة. والأخبار



(1) شرح نهج البلاغة 1: 3.
(2) البقرة: 111.
(3) (س): حقيقتها.
191
الدالة على اثبات الوصية له (عليه السلام) كثيرة جدا.
منها: ما رواه ابن المغازلي من عظماء الشافعية باسناده عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه
قال: لكل نبي وصي ووارث، وان وصيي ووارثي علي بن أبي طالب (1).
وروى ابن المغازلي في الكتاب المذكور، باسناده إلى نافع مولى ابن عمر: قال:
قلت لابن عمر: من خير الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: ما أنت وذاك لا أم لك،
ثم قال: أستغفر الله خيرهم بعده من كان يحل له ما يحل له، ويحرم عليه ما يحرم
عليه، قال: من هو؟ قال: علي سد أبواب المسجد وترك باب علي، وقال له: لك في
هذا المسجد ما لي وعليك فيه ما علي، وأنت وارثي ووصيي تقضي ديني وتنجز
عداتي، وتقتل على سنتي، كذب من زعم أنه يبغضك ويحبني (2).
ومنها: ما رواه في الكتاب المذكور باسناده، قال: دخل الأعمش على المنصور
وهو جالس للمظالم، فلما بصر به قال: يا سليمان تصدر، قال: أنا صدر حيث
جلست، ثم قال: حدثني الصادق (عليه السلام)، قال: حدثني الباقر (عليه السلام)، قال حدثني
السجاد (عليه السلام)، قال: حدثني الشهيد أبي أبو عبد الله (عليه السلام)، قال: حدثني أبي وهو
الوصي علي بن أبي طالب (عليه السلام)، قال: حدثني النبي (صلى الله عليه وآله)، قال: أتاني جبرئيل (عليه السلام)
آنفا، فقال: تختموا بالعقيق، فإنه أول حجر شهد لله تعالى بالوحدانية، ولي بالنبوة،
ولعلي بالوصية، ولولده بالإمامة، ولشيعتنا (3) بالجنة.
قال: فاستدار الناس بوجوههم نحوه، فقيل له: تذكر قوما فتعلم من لا نعلم،
فقال: الصادق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والباقر
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، والسجاد علي بن الحسين، والشهيد



(1) المناقب لابن المغازلي ص 201 برقم: 238.
(2) المناقب لابن المغازلي ص 261 برقم: 309.
(3) في المناقب: ولشيعته.
192
الحسين بن علي، والوصي هو التقي علي بن أبي طالب (عليهم السلام) (1).
وهذا الخبر صريح في الإمامة غير قابل للتأويل بوجه، وهو من روايات الفقيه
علي بن المغازلي الشافعي من عظمائهم.
ومنها: ما رواه أيضا في الكتاب المذكور عن جابر عنه (صلى الله عليه وآله) قال: اني كنت أنا
وعلي نورا بين يدي الله عز وجل، فلما خلق الله آدم (عليه السلام) ركب ذلك النور في صلبه،
فلم يزل في نبي واحد حتى افترقنا من خلف عبد المطلب، ففي النبوة وفي علي
الخلافة (2).
وفي خبر خزيمة: حتى قسمه جزئين: جزءا في صلب عبد الله، وجزءا في صلب
أبي طالب، فأخرجني نبيا، وأخرج عليا اماما (3).
وقال عبد الحميد بن أبي الحديد الحنفي المعتزلي في شرح نهج البلاغة، بعد ذكر
أخبار مما يتضمن لفظ الوصية لعلي (عليه السلام): لو أردنا أن نأتي بجميع ما ورد من
الروايات في هذا الباب لأملأنا الطوامير.
وقد صنف جماعة من العلماء كتبا في اثبات الوصية له (عليه السلام)، منهم أبو الحسن علي
بن الحسين المسعودي الهذلي (4) صاحب كتاب مروج الذهب، ومنهم: الشيخ الفقيه



(1) المناقب لابن المغازلي ص 281 برقم: 326.
(2) المناقب ص 88.
(3) المناقب ص 89. وأورد هذا الخبر عبد الحميد بن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة في
الجزء التاسع هكذا: كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عز وجل قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر
ألف عام، فلما خلق آدم (عليه السلام) قسم ذلك فيه فجعله جزئين فجزء أنا وجزء علي.
قال: رواه أحمد في المسند، وذكره صاحب كتاب الفردوس وزاد فيه: ثم انتقلنا حتى
صرنا في عبد المطلب فكان الوصية (منه).
(4) علي بن الحسين بن علي المسعودي أبو الحسن الهذلي، له كتب في الإمامة وغيرها،
منها كتاب في اثبات الوصية لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو صاحب مروج الذهب و
خلاصة الأقوال (منه).
193
ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله) (زوجك أغزرهم علما وأكبرهم حلما وأقدمهم سلما) فان من
كان كذلك كان هو المستحق للرئاسة العامة والإمامة الكبرى، وكيف يصح تقديم
جاهل غبي صرف معظم عمره في عبادة الأصنام، والاستقسام بالأزلام على باب
مدينة العلم والحكمة، ومبرئ الأبرص والأكمه.
وقد اتفقت كلمة النواصب على أنه (عليه السلام) أعلم الصحابة وأعظمهم تبحرا في العلوم
الشرعية واللدنية، حتى قال الغزالي من عظماء أئمة الشافعية، وقد لقبوه بحجة
الاسلام، وقالوا: انه قد بلغ درجة الاجتهاد المطلق، في رسالة العلم اللدني ما نصه:
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أدخل لسانه في في، فانفتح في قلبي ألف
باب من العلم، وفتح لي من كل باب ألف باب.
وقال أيضا (عليه السلام): لو ثنيت لي الوسادة وجلست عليها لحكمت بين أهل التوراة
بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وأهل الفرقان بفرقانهم، وهذه المرتبة لا
تنال بمجرد التعلم، بل يتمكن المرأ في هذه المرتبة بقوة العلم اللدني.
وكذا قال (عليه السلام) لما حكى عن عهد موسى (عليه السلام) أن شرح كتابه كان أربعين حملا:
لو أذن الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله) لأشرح في شرح الفاتحة حتى يبلغ أربعين وقرا.
قال الغزالي: وهذه الكثرة والسعة والافساح (1) في العلم لا يكون الا علم عن
اللدني (2).
وقال أيضا في كتاب المنقذ من الضلال ما هذا لفظه: والعاقل يقتدي بسيد العقلاء



(1) في الطرائف: والافتتاح. والافساح من الفسحة وهي السعة (منه).
(2) الطرائف ص 136 عن رسالة العلم اللدني للغزالي. ونعم ما قال صاحب الطرائف بعد
نقل ما حكيناه عن الغزالي حيث قال: أقول أنا: فهل ترى كان ذلك لأحد من الصحابة أو
القرابة، أو بلغ إليه أحد من علماء الاسلام، وكيف في العقول والأفهام تقديم أبي بكر وعمر
وعثمان على علي (عليه السلام) لولا جهل الجاهلين وغلط القائلين (منه).
194
وقال أيضا في كتاب المنقذ من الضلال ما هذا لفظه: والعاقل يقتدي بسيد العقلاء
علي (عليه السلام)، حيث قال: لا يعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله (1) فشهد
أنه (عليه السلام) سيد العقلاء (2). وسيأتي بسط الكلام في سعة علمه (عليه السلام) في الحديث الثامن
والثلاثين وما بعده بتوفيق الله تعالى.
وقد استفاضت الأخبار من طرق المخالفين بأنه (عليه السلام) أول من أسلم، وأنه لم
يشرك بالله طرفة عين.
روى أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه من عظماء محدثيهم في كتاب المناقب،
باسناده إلى عبد الله بن الصامت، عن أبي ذر (رضي الله عنه)، قال: دخلنا على
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقلنا: من أحب أصحابك إليك؟ فإن كان أمر كنا معه، وان كانت
نائبة كنا من دونه، قال: هذا علي أقدمكم سلما واسلاما (3).
وفي هذا الخبر نص على إمامته وخلافته، لقول أبي ذر (فإن كان أمر كنا معه،



(1) الطرائف ص 136 عن المنقذ من الضلال.
(2) وقال صاحب الفتح المبين من أعاظم المخالفين: اعلم أن اليقين هو الايمان في الحقيقة،
كما رواه امام الأئمة محمد بن إسماعيل البخاري في الصحيح عن ابن مسعود: اليقين الايمان
كله. وكان يقينه (عليه السلام) أعلى مراتب اليقينات وأيقنها، إذ اليقين علم وعين وحق، ولكل
من هذه المراتب الثلاث درجات متفاوتة وطبقات متعددة، وهو (عليه السلام) أكمل في تلك
المراتب كلها.
ثم قال: أما في المراتب العلمية القرآنية، فلقوله (صلى الله عليه وآله): القرآن مع علي وعلي مع القرآن.
وقوله (صلى الله عليه وآله): أقضاكم علي. وقوله (عليه السلام): وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا
ينحدر عني السيل ولا يرقا إلي الطير.
وهذا يفيد كونه (عليه السلام) أقضى وأعلم، كما قال (صلى الله عليه وآله): أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي
طالب الحديث. ولهذا كانت الصحابة يرجعون إليه في أحكام الكتاب ويأخذون عنه
الفتاوي، وقد دللهم على زللهم، كما قال عمر بن الخطاب في عدة مواطن: لولا علي لهلك
عمر انتهى (منه).
(3) الطرائف ص 23 عن مناقب ابن مردويه.
195
وان كانت نائبة كنا من دونه) وهذا من خواص الامام، فيجب حمل الجواب على ما
يطابق السؤال قضاء لحق البلاغة المصطفوية المشار بقوله (صلى الله عليه وآله): أوتيت جوامع
الكلم (1).
وروى أحمد بن حنبل في مسنده يرفعه إلى عبد الله بن العباس (رضي الله عنه) أنه قال: ان
عليا أول من أسلم (2).
وروى أحمد بن حنبل أيضا في المسند عن زيد بن أرقم أنه قال: أول من صلى
مع النبي (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (3).
ورواه الثعلبي وابن المغازلي أيضا (4).
وروى أحمد بن حنبل في مسنده: أن عليا (عليه السلام) صلى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) سبع
سنين قبل أن يصلي معه أحد (5).
وروى الفقيه الشافعي ابن المغازلي عن أبي أيوب الأنصاري عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه
قال: صلت الملائكة علي وعلى علي سبع سنين، وذلك لم يرفع إلى السماء شهادة أن
لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله الا مني ومنه (6).
وروى الثعلبي في تفسيره: أن أول ذكر آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله) وصدقه علي بن
أبي طالب صلوات الله عليه. قال الثعلبي: وهو قول ابن عباس، وجابر، وزيد بن



(1) عوالي اللآلي 4: 120 برقم: 194.
(2) الطرائف ص 18 ح 4 عن مسند أحمد بن حنبل، وإحقاق الحق (عليه السلام): 501 عن مناقب
أحمد.
(3) الطرائف ص 18 ح 5 عن مسند أحمد، وإحقاق الحق 7: 515 عن مناقب أحمد.
(4) المناقب لابن المغازلي ص 14 برقم: 18.
(5) الطرائف ص 19 ح 6 عن مسند أحمد، ورواه عنه الطبري في ذخائر العقبى ص 60.
(6) المناقب لابن المغازلي ص 14 برقم: 19.
196
وروى الثعلبي أيضا في التفسير: أن أبا طالب قال لعلي (عليه السلام): يا بني ما هذا الذي
أنت عليه؟ قال: يا أبت آمنت بالله ورسوله، وصدقته فيما جاء به، وصليت معه لله،
فقال له: أما أن محمدا لا يدعو الا إلى خير فألزمه (1).
وروى الفقيه ابن المغازلي في تفسير قوله تعالى (والسابقون السابقون) (2) من
كتاب المناقب، عن ابن عباس، قال: سبق يوشع بن نون إلى موسى (عليه السلام)،
وصاحب يس إلى عيسى (عليه السلام)، وسبق علي بن أبي طالب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى
محمد (صلى الله عليه وآله) (3).
وذكر نور الدين علي بن محمد المكي في الفصول المهمة: أنه لما نشأ علي بن أبي
طالب (عليه السلام) وبلغ سن التمييز أصاب أهل مكة جدب شديد وقحط مؤلم، أجحف
بذي المروءة، وأضر بذوي العيال إلى الغاية، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعمه العباس -
وكان أيسر بني هاشم -: يا عم ان أخاك أبا طالب كثير العيال، وقد أصاب الناس
ما ترى، فانطلق بنا إلى بيته لنخفف من عياله، فتأخذ أنت رجلا وأنا رجلا
فنكفلهما، قال العباس: افعل.
فانطلقا حتى أتيا أبا طالب، فقالا: انا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى
ينكشف عن الناس ما هم فيه، فقال لهما أبو طالب: إذا تركتما لي عقيلا وطالبا فاصنعا
ما شئتما، فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا فضمه إليه، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه.
فلم يزل علي (عليه السلام) مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله) نبيا، فاتبعه
علي (عليه السلام) وآمن به وصدقه، وكان عمره إذ ذاك في السنة الثالثة عشرة من عمره ولم
يبلغ الحلم.
ثم قال: وأكثر الأقوال وأشهرها أنه لم يبلغ الحلم، وأنه أول من أسلم وآمن



(1) الطرائف ص 19 - 20 عنه.
(2) الواقعة: 10.
(3) المناقب لابن المغازلي ص 320 برقم: 365.
197
يبلغ الحلم.
ثم قال: وأكثر الأقوال وأشهرها أنه لم يبلغ الحلم، وأنه أول من أسلم وآمن
برسول الله (صلى الله عليه وآله) من الذكور.
ثم قال: وقد أشار علي بن أبي طالب (عليه السلام) إلى ذلك في أبيات قالها ورواها عنه
الثقات (1)، وهي هذه:
محمد النبي أخي وصهري * وحمزة سيد الشهداء عمي
وجعفر الذي يضحي ويمسي * يطير مع الملائكة ابن أمي (2)
وبنت محمد سكني وعرسي * منوط لحمها بدمي وعظمي
سبقتكم إلى الاسلام طرا (3) * صغيرا ما بلغت أوان حلمي
فويل ثم ويل ثم ويل * لمن يلقى الاله غدا بظلمي (4)
وروى في الكتاب المذكور عن يحيى بن عفيف الكندي، قال: حدثني أبي، قال:
كنت جالسا مع العباس بن عبد المطلب بمكة في المسجد قبل أن يظهر أمر
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فجاء شاب فنظر إلى السماء حتى خصت وطلعت الشمس (5)، ثم
استقبل الكعبة فقام يصلي، فجاء غلام فقام عن يمينه، ثم جاءت امرأة فقامت
خلفهما، فركع الشاب وركع الغلام والمرأة، ثم رفع فرفعا، ثم سجد فسجدا، فقلت:



(1) هذه الأبيات مشهورة مجمع على نسبتها إليه (عليه السلام)، وفي الديوان المرتضوي وغيره
مذكورة، وفيها زيادة هذا البيت:
وأوجب لي ولايته عليكم رسول الله يوم غدير خم
ولعل عذر ابن الصباغ في عدم التعرض لهذا البيت واسقاطه من البين هو ما فيه من
احتجاجه (عليه السلام) بالنص عليهم (منه).
(2) هذا البيت غير موجود في الفصول المهمة.
(3) في المصدر: طفلا.
(4) الفصول المهمة لابن الصباغ ص 32 ط النجف الأشرف.
(5) في الفصول المهمة: فنظر إلى السماء حين حلقت الشمس.
198
يا بن عباس أمر عظيم أمر عظيم (1).
فقال العباس: أتعرف هذا الشاب؟ قلت: لا، قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد
المطلب ابن أخي، أتدري من هذا الغلام؟ قلت: لا، قال: هذا علي بن أبي طالب
ابن أخي، ثم قال: أتدري من هذه الامرأة؟ قلت: لا، قال: هذه خديجة بنت
خويلد، ان ابن أخي هذا حدثني أن ربه رب السماوات والأرض أمره بهذا الدين
وهو عليه، ولا والله ما على ظهر الأرض اليوم على هذا الدين غير هؤلاء.
وكان عفيف الكندي يقول بعد أسلم ورسخ في الاسلام: ليتني كنت رابعا
لهم (2)
وبالجملة فقد تواترت الأخبار من الطرفين بأنه (عليه السلام) أول من أسلم، وانه لم
يشرك بالله طرفة عين، وانه أسلم قبل أن يبلغ الحلم، والملاعين الثلاثة المتلصصة
طال ما سجدوا للأصنام واستقسموا بالأزلام، فكيف يدعى مساواتهم له (عليه السلام) (يا
أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون) (3).
وما أورده الأعور الواسطي (4) الأبتر من أراذل النصاب في هذا المقام: من أن
معنى كونه لم يشرك بالله طرفة عين، هو أنه أسلم قبل البلوغ، فلا يكون ذلك من
خصائصه، لأن سائر أطفال الصحابة الذين طرأ عليهم الاسلام، بل كل مولود ولد
من المسلمين إلى يوم القيامة الصالح منهم والطالح، لم يشرك بالله طرفة عين. وأيضا



(1) التكرار غير مذكور في المصدر.
(2) الفصول المهمة ص 33 - 34.
(3) آل عمران: 71.
(4) هو الشيخ يوسف بن مخزوم الأعور الواسطي، ألف كتابا وأودع فيه شبها لابطال
مذهب الإمامية، فألف أصحابنا رضوان الله عليهم كتبا في رده، منها كتاب الأنوار البدرية
في كشف شبه القدرية، تقدم النقل عنه في هذا الكتاب، ومنها كتاب التوضيح الأنور و
سيأتي.
199
راجحا على ايمان البالغ.
في غاية السقوط ونهاية الفساد.
أما أولا، فلأن تفسير عدم الشرك بالله طرفة عين بالاسلام قبل البلوغ غير
صحيح، بل هو خطأ صريح،، لأن تفسير الشئ يجب أن يكون بما يساويه في
الصدق، وهاهنا ليس كذلك، لوجود كل منهما دون الاخر في من أسلم حين البلوغ
ولم يشرك ومن أسلم قبله وأشرك.
وأما ثانيا، فلأن الخاصة هنا هو المجموع المركب من كونه أول من أسلم، وأنه لم
يشرك بالله طرفة عين، وأطفال المسلمين لا يصدق عليهم ذلك، كما توهمه أعمى
القلب وأكمه البصر. بل المجموع مختص به لا يشركه فيه غيره، فان خديجة وان
كانت أول من أسلم من النساء، الا أن الخاصة الثانية ليست حاصلة فيها.
وأما ثالثا، فلأنا لو سلمنا حصول ذلك في من طرأ عليه الاسلام من الأطفال،
فلا يخرج عن أن يكون من خصائصه بالنسبة إلى الملاعين الثلاثة المتلصصين.
وأما رابعا، فلأن الحكم بعد الشرك طرفة عين على جميع آحاد الأطفال حكم
غير صحيح ان أريد به نفس الأمر. وان أريد الظاهر لم يقدح في الاختصاص، لأن
المراد أنه (عليه السلام) لم يشرك أصلا
طرفة عين باعتبار الواقع ونفس الأمر، كما تواترت به
الأخبار، لا باعتبار الظاهر كما فهمه، فأورد ما أورده بوهمه الفاسد وفهمه الكاسد،
وان الشياطين ليوحون إلى أوليائهم وان أطعتموهم انكم لخاسرون.
وأما خامسا، فلأن الشرك والارتداد يمكن على كل من لم يكن معصوما، فكيف
يدعى حصول تلك الخاصة في جميع آحاد أطفال المسلمين، قل هاتوا برهانكم ان
كنتم صادقين.
وأما سادسا، فلأنه يلزم على اعتقاده الفاسد أن يكون نفسه كافرا، لأنه قرر في
كتابه أن من ادعى علم الغيب، فهو كافر، وان علم الغيب مخصوص بالله تعالى وهو

200
وهو قد ادعاه
قال الشيخ الفاضل الشيخ الخضر (1) 1 في التوضيح الأنور في الرد على هذا
الخبيث الأعور: وان أردت ترتيب شكل (2) بديهي الانتاج على نظم طبيعي ظاهر
الاستنتاج، فقل الأعور ادعى علم الغيب، وكل من ادعى علم الغيب فهو كافر،
فالأعور كافر. أما الكبرى فباعترافه. وأما الصغرى، فلقوله لأن سائر أطفال
الصحابة الذين طرأ الاسلام عليهم بل كل مولود من المسلمين إلى يوم القيامة
الصالح منهم والطالح لم يشرك بالله طرفة عين، ومن أين له ذلك؟ انتهى.
وهو في غاية الجودة.
وأما سابعا، فلأن دعواه الاجماع على عدم صحة ايمان طفل الكافر مطلقا غلط
محض، فان المنقول (3) عن أبي حنيفة صحة اسلام الصبي قبل البلوغ الشرعي (4).
قال جمال المحققين آية الله في العالمين العلامة الحلي 1 في شرح التجريد في



(1) هو الشيخ خضر بن محمد بن علي الرازي الحبلرودي، كان عالما فاضلا ماهرا محققا
مدققا اماميا، صحيح الاعتقاد، وله كتب في الإمامة، منها كتابه التوضيح الأنور بالحجج
الواردة لدفع شبه الأعور، والكتاب غير مطبوع بعد، والكتاب جاهز للطبع بتحقيقنا، و
تقدم في هذا الكتاب النقل عن كتاب الأنوار البدرية في كشف شبه القدرية، وهو رد على
كتاب شبه الأعور.
(2) من الضرب المتداول من الشكل الأول (منه).
(3) وهو أيضا مصرح به في الكفاية من كتب المخالفين المعتبرة عندهم (منه).
(4) ونسب العلامة التفتازاني وهو من عظماء متأخريهم في التلويح القول بتكليف الصبي
بالايمان إلى كثير من مشائخهم، فقال: قد ذهب كثير من المشائخ حتى الشيخ أبو منصور
إلى أن الصبي العاقل يجب عليه معرفة الله تعالى، لأنها بكمال العقل، فالبالغ والصبي سواء
في ذلك، وإنما عذر في عمل الجوارح لضعف البنية بخلاف عمل القلب.
ثم قال: ومعنى ذلك أن كمال العقل يعرف الوجوب، والموجب هو الله تعالى، بخلاف
مذهب المعتزلة، فان العقل عندهم موجب بذاته، وكما أن العبد موجد لأفعاله انتهى.
فالعجب من الخبيث الأعور حيث خفي عليه مذهب أصحابه (منه).
201
مباحث الإمامة: ان الصبي قد يكون رشيدا كامل العقل قبل سن البلوغ، فيكون
مكلفا، ولهذا حكم أبو حنيفة بصحة اسلام الصبي (1) انتهى.
وقد حقق جماعة من فضلاء أصحابنا أن المعارف الخمس الدينية والعقائد
الكلامية واجبة على المميز (2)، وان لم يكن بالغا البلوغ الشرعي، وكيف تكون



(1) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص 388 ط قم.
(2) قد صرح الشيخ عطر الله مرقده في كتاب اللقطة من كتاب الخلاف (3: 591) أن
المراهق إذا أسلم حكم باسلامه، ونقله عن أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، ونقل عن
الشافعي عدم الحكم باسلامه، وعن بعض أصحابه الحكم باسلامه ظاهرا.
وقد صرح التفتازاني في التلويح بأن مذهب أبي حنيفة وأصحابه صحة اسلام المميز، و
دعوى الأعور الأبتر الاجماع على خلاف ذلك جهالة محضة، ومكابرة من غير مرية.
ومن العجب غفلته عن مذهب أصحابه، فان مذهب الشافعي وأصحابه أن أقل البلوغ
تسع سنين، ومذهب أبي حنيفة احدى عشرة سنة.
وقد صرح الشافعي بأنه أسلم علي (عليه السلام) وكان سنه لا ينقص عن تسع، على اختلافهم
فيه، فان منهم من قال: ان له حينئذ عشر سنين، ومنهم من قال: تسع سنين، ومنهم من
قال: احدى عشرة سنة، ذكر هذه الاختلافات الشيخ في الكتاب المذكور.
ثم قال: قال الواقدي: وأصح ما قيل إنه ابن احدى عشرة سنة. روى محمد بن الحنفية
أنه قال: قتل علي (عليه السلام) في السابع والعشرين من شهر رمضان، وكان له ثلاث وستون
سنة، ولا خلاف أنه قتل سنة أربعين من الهجرة.
فلما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة كان لعلي (عليه السلام) ثلاث عشرة سنة، وأقام النبي (صلى الله عليه وآله)
بمكة دون ثلاثة عشرة سنة، ثم هاجر إلى المدينة، فبان بهذا أنه كان لعلي (عليه السلام) احدى
عشرة سنة.
وقال أبو الطيب الطبري: وجدت في فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل أن قتادة روى
عن الحسن أن عليا صلوات الله عليه وآله أسلم وله خمس عشرة سنة، قال: وأما البيت
الذي ينسب إليه من قوله (غلاما ما بلغت أوان حلمي) يحتمل أن يكون قال: غلاما قد
بلغت أوان حلمي، انتهى ما نقله الخلاف عن أصحاب الشافعي.
وبهذا أجابوا عن استدلال أصحاب أبي حنيفة باسلام علي (عليه السلام) حيث قالوا: كان غير
مانع وقد حكم باسلامه، فنقضوا عنه بما نقل عنهم، فقد اتفق الفريقان على اعتبار اسلام
علي (عليه السلام) والحكم بصحته على رغم الأعور الأبتر، ويأبى الله الا أن يتم نوره ولو كره
المشركون (منه).
202
واجبة عليه ولا تصح منه؟.
وممن صرح بذلك الشهيد الثاني عطر الله مرقده في بعض رسائله الكلامية (1)،
والشيخ المحقق الخضر في شرح الباب الحادي عشر، والشيخ الفاضل محمد بن علي
بن إبراهيم بن أبي جمهور في شرح زاد المسافرين.
والشيخ الجليل المقداد بن عبد الله السيوري الأسدي في التنقيح في كتاب
الوصايا، قال عطر الله مرقده في الكتاب المذكور: التحقيق أن قوة التمييز والتعقل
ليس حصولها مشروطا بزمان البلوغ الشرعي، وهو أحد الثلاثة المتقدمة، لجواز
الحصول قبل ذلك، ولهذا كان الدليل مقتضيا للتكليف بالتكاليف العقلية عند
حصول تلك القوة، واستحقاق الثواب في مقابل القيام بتلك التكاليف (2) انتهى.
وهو الحق الذي يقتضيه النظر، كما بيناه في شرحنا الذي وضعناه على النافع شرح
الباب الحادي عشر.
وأما ثامنا، فلأنا لو تنزلنا وسلمنا أن اسلام الصبي غير معتد به، فلا يخفى أن
الأخبار المتواترة الدالة على صحة اسلامه وكمال ايمانه وثبات يقينه واعتداد
النبي (صلى الله عليه وآله) بايمانه، مخصصة لعموم القضية المذكورة، ويشهد لذلك أنه (عليه السلام) افتخر
على الصحابة بذلك، فقال: أنا الصديق الأكبر، آمنت قبل أن آمن أبو بكر،
وأسلمت قبل أن أسلم. وقال (عليه السلام) في الأبيات المشهورة عنه التي حكاها نور الدين
المكي المالكي في الفصول المهمة، وذكر أن الثقات رووها عنه:



(1) راجع حقائق الايمان للشهيد الثاني ص 135 المطبوع بتحقيقنا.
(2) التنقيح الرائع 2: 366.
203
سبقتكم إلى الاسلام طرا صغيرا ما بلغت أوان حلمي (1)
ولم يعارضه أحد من الصحابة، بل وافقوا على ذلك، وهو اجماع منهم على أن
اسلامه صحيح في أعلى مراتب الصحة، وايمانه كامل في أقصى مراتب الكمال،
ويقينه في أعلى مراتب اليقين، والا لم يتم الافتخار.
وأما تاسعا، فلأن أخبارنا قد وردت بايمان أبي طالب، وأنه لم يشرك قط، بل
كان على دين عيسى (عليه السلام)، وحين بعث محمد (صلى الله عليه وآله) آمن به وصدقه، بل استفاضت
الأخبار بأنه (عليه السلام) عالم بنبوته قبل بعثته، مصدق برسالته قبل ولادته.
ومما يشهد بذلك ما رواه ثقة الاسلام في كتاب الكافي، عن عبد الله بن مسكان،
قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ان فاطمة بنت أسد جاءت إلى أبي طالب تبشره بمولد
النبي (صلى الله عليه وآله)، فقال أبو طالب: اصبري سبتا أبشرك بمثله الا النبوة. وقال: السبت
ثلاثون سنة. الخبر (2) (3).



(1) الفصول المهمة ص 32، وفيه طفلا مكان طرا.
(2) أصول الكافي 1: 452 ح 1.
(3) ونقل الشيخ الجليل محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني في تفسير متشابهات
الآيات (2: 64 - 66) عن دلائل النبوة وتاريخ بغداد وتفسير الثعلبي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال
عند وفاة أبي طالب: وصلتك رحم وجزيت خيرا، كفلتني صغيرا وحضنتني كبيرا، و
جزيت عني خيرا،، ثم أقبل على الناس فقال: أم والله لأشفعن لعمي شفاعة يعجب لها
الثقلان فدعا له، وليس للنبي (صلى الله عليه وآله) أن يدعو بعد الموت لكافر، لقوله تعالى (ولا تصل
على أحد منهم مات أبدا) ولقد كان إبراهيم (عليه السلام) قال (رب اغفر لي ولوالدي) فلما
تبين له أنه عدو لله تبر أمنه، ثم قبل الشفاعة له والشفاعة لا تكون الا لمؤمن، لقوله (ولا
يشفعون الا لمن ارتضى).
ثم إنه أمر عليا من بين أولاده الحاضرين بتغسيله وتكفينه ومواراته دون عقيل و
طالب، ولم يكن من أولاده من آمن في تلك الحال الا علي وجعفر، وكان جعفر في بلاد
الحبشة، ولو كان كافرا لما أمر ابنه المؤمن بتوليته، ولكان الكافر أحق به.
ومما يدل على ايمان أبي طالب اخلاصه في الوداد لرسول (صلى الله عليه وآله) والنصرة له بقلبه و
ينقص عنه.
ومن أشعاره الدالة على ايمانه ما يزيد على ثلاثة آلاف بيت، يكاشف فيها من يكاشف
النبي (صلى الله عليه وآله)، ويصحح نبوته منها قوله لبني هاشم:
أوصى بنصر النبي الخير مشهده * عليا ابني وعم الخير عباسا
وقوله لحمزة:
صبرا أبا يعلي على دين أحمد * وكن مظهرا للدين وفقت صابرا
فقد سرني إذ قلت انك مؤمن * فكن لرسول الله في الله ناصرا
وقوله لابنه طالب:
أترى أراه واللواء أمامه * وعلي ابني للواء معانق
وكتب إلى النجاشي:
تعلم أبيت اللعن ان محمدا * نبي كموسى والمسيح بن مريم
أتى بالهدى مثل الذي أتيا به * فكل بحمد الله يهدي ويعصم
وقوله لما تحصن في الشعب:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا * نبيا كموسى خط في أول الكتب
إلى غير ذلك من أشعاره القيمة التي تنبي عن ايمانه واعتقاده الراسخ (منه).
204
وما رواه أيضا عطر الله مرقده في الكتاب المذكور، عن المفضل بن عمر، قال:
سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لما ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فتح لامنة بياض فارس
وقصور الشام، فجاءت فاطمة بنت أسد أم أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أبي طالب
ضاحكة مستبشرة، فأعلمته ما قالت آمنة، فقال لها أبو طالب: تتعجبين من هذا،
انك تحبلين وتلدين بوصيه ووزيره (1).
وما رواه عطر الله مرقده أيضا في الحسن، عن هشام بن سالم، عن أبي
عبد الله (عليه السلام) قال: ان مثل أبي طالب مثل أصحاب الكهف، أسروا الايمان وأظهروا
الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرتين (2).



(1) أصول الكافي 1: 454 ح 3.
(2) أصول الكافي 1: 448 ح 28.
205
الشرك، فآتاهم الله أجرهم مرتين (1).
وقال شيخنا الطبرسي رحمه الله: قد ثبت اجماع أهل البيت: على ايمانه
رضي الله عنه، واجماعهم حجة (2)، لأنهم أحد الثقلين اللذين أمر النبي (صلى الله عليه وآله)
بالتمسك بهما. ثم نقل عن الطبري وغيره من علمائهم الأخبار والأشعار الدالة على
ايمانه مما لا يحتمل نقله المقام.
وبالجملة فقد تظافرت أخبار المخالفين بايمانه رضي الله عنه، فلا يضر انكار
الأعور الأبتر، ولنا في ايمانه رضي الله عنه رسالة جيدة جدا، أكثرنا فيها الأدلة
والبراهين، فليراجع إليها من أراد تحقيق الحال.
وأما عاشرا، فلأن المقصود هنا تفضيل أمير المؤمنين (عليه السلام) باعتبار توحيده
الكامل على من أشرك بالله وعبد الأصنام، لا تفضيل الايمان على الايمان، كما
توهمه الأعور العديم العرفان. تلك عشرة كاملة.
المقام الثالث: ما تضمنه الخبران من قوله (صلى الله عليه وآله) (ومنا والذي نفسي بيده مهدي
هذه الأمة) وفي الخبر الثاني (ثم ضرب على منكب الحسين (عليه السلام) وقال: من هذا
مهدي هذه الأمة) قد استفاضت به الأخبار من طرق المخالفين وبلغت حد التواتر.



(1) أصول الكافي 1: 448 ح 28.
(2) وذكر ابن الأثير الجزري الشافعي في كتابه جامع الأصول أن أهل البيت (عليهم السلام) أجمعوا
على ايمانه، واجماعهم حجة، كما تقرر في الأصول. ونقل ابن أبي الحديد في شرح نهج
البلاغة أن الامامية وأكثر الزيدية وكثيرا من المعتزلة مثل أبي القاسم البلخي وأبي جعفر
الإسكافي وغيرهما على أنه رضي الله عنه مؤمن. ونقل عن ابن عساكر من عظماء المخالفين
القول بايمانه، وشواهد ايمانه كثيرة، وقد أشرنا إلى نبذة مقنعة منها في الرسالة المذكورة، و
لله در الشيخ عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي حيث مدح أبا طالب رضي الله عنه وابنه:
ولولا أبو طالب وابنه لما مثل الدين شخصا وقاما
فذلك بمكة آوى وحاما وهذا بيثرب خاض الحماما
إلى آخر الأبيات (منه).
206
وقد جمع الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الاصفهاني من أعيان المخالفين (1)
أربعين حديثا في أمر المهدي خاصة (2)، وصنف الشيخ أبو عبد الله محمد بن يوسف
بن محمد الكنجي الشافعي في ذلك كتابا، سماه البيان في أخبار صاحب الزمان.
روى الشيخ أبو عبد الله في كتابه هذا باسناده عن رزين بن عبد الله، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطي اسمه
اسمي (3). هكذا أخرجه أبو داوود في سننه (4).
وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لو لم يبق من الدهر الا يوم
واحد لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملأها عدلا كما ملئت جورا. أخرجه في سننه
أيضا (5).
وروى أبو داوود والترمذي في سننهما، كل واحد منهما يرفعه إلى أبي سعيد
الخدري، قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: المهدي مني أجلى (6) الجبهة، أقنى (عليه السلام)).
الأنف، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما. وزاد أبو داوود: ويملك
سبع سنين. وقال: حديث ثابت حسن صحيح (8).
ورواه أبو القاسم الطبراني في معجمه ((صلى الله عليه وآله))، وكذلك غيره من أئمة الحديث.



(1) وبعض أصحابنا تشبه عليه حاله، فعده من علماء الإمامية، وهو غلط فضيع (منه).
(2) وأوردها بتمامها الشيخ الجليل علي بن عيسى الأربلي في كشف الغمة 2: 467 - 475.
(3) البيان في أخبار آخر الزمان ص 308 ط النجف
(4) سنن أبي داوود 4: 151 ط السعادة بمصر.
(5) سنن أبي داوود 4: 151.
(6) الأجلى: الحسن الوجه الأنزع. القاموس.
(7) وقنا الأنف: ارتفاع أعلاه واحد يداب وسطه وسبوغ طرفه أو نتو وسط القصبة و
ضيق المنخرين، وهو أقنى وهي قنواء. القاموس.
(8) سنن أبي داوود 4: 152، والفصول المهمة ص 274 عن سنن أبي داوود والترمذي.
((صلى الله عليه وآله)) الجامع الصغير 2: 579 ط مصر.
207
الدري، واللون منه لون عربي، والجسم جسم إسرائيلي، يملأ الأرض عدلا كما
ملئت جورا، يرضى بخلافته أهل السماوات والأرض والطير في الجو، يملك عشر
سنين (1).
وباسناده عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المهدي طاووس أهل
الجنة (2).
ومما رواه أبو داوود أيضا يرفعه إلى أم سلمة رضي الله عنها، قالت: سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: المهدي من عترتي من ولد فاطمة (3).
ومن ذلك ما رواه القاضي أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي في كتابه المسمى
بشرح السنة، وأخرجه مسلم والبخاري في صحيحيهما، يرفعه كل واحد منهما
بسنده إلى أبي هريرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم
وامامكم منكم (4).
ومن ذلك ما أخرجه أبو داوود والترمذي في سننهما يرفعانه بسندهما إلى عبد الله
بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد لطول الله
ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من أمتي ومن أهل بيتي، يواطي اسمه اسمي، يملأ
الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما (5).
ومن ذلك ما رواه أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي يرفعه بسنده إلى



(1) فردوس الأخبار 4: 496 برقم: 6940 الطبعة المحققة.
(2) فردوس الأخبار 4: 497 برقم 6941.
(3) سنن أبي داوود 4: 151.
(4) مصابيح السنة 2: 141 ط مصر، وصحيح مسلم 1: 94 ط مصر، والفصول المهمة
ص 294 عن الصحيحين.
(5) سنن أبي داوود 4: 151، وصحيح الترمذي (صلى الله عليه وآله): 74 ط الصاوي بمصر، والفصول
المهمة ص 294 عن سنن الترمذي وأبي داوود.
208
أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): نحن ولد (1) عبد المطلب سادة الجنة:
أنا وحمزة وجعفر وعلي والحسن والحسين والمهدي (4).
وعن علقمة بن عبد الله، قال: بينما نحن عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أقبل فئة من بني
هاشم، فلما رآهم النبي (صلى الله عليه وآله) اغرورقت عيناه وتغير لونه، قال: قلت: مالك يا
رسول الله نرى في وجهك شيئا نكرهه؟.
قال النبي (صلى الله عليه وآله): انا أهل بيت اختار الله تعالى لنا الآخرة على الدنيا، وان أهل
بيتي سيلقون من بعدي تشريدا وتطريدا، حتى يأتي قوم من قبل المشرق ومعهم
رايات سود، فيسألون الحق فلا يعطونه، فيقاتلون، فينصرون، فيعطون ما سألوا،
فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي، فيملأها قسطا كما ملئت جورا،
فمن أدرك ذلك منهم فليأتينهم ولو حبوا على الثلج. أخرجه الحافظ أبو نعيم (3).
وروى الحافظ أبو نعيم أيضا بسنده عن ثوبان، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا
رأيتم الرايات السود قد أقبلت من خراسان، فآتوها ولو حبوا على الثلج، فان فيها
خليفة الله المهدي (4).
والأخبار الواردة بهذا المعنى لا تحصى كثرة، ومن أراد الوقوف عليها فليطالع:
كتاب البيان للكنجي الشافعي، والأربعين لأبي نعيم الحافظ، والفصول المهمة لنور
الدين علي بن محمد المكي، ومطالب السؤول للشيخ كمال الدين بن طلحة الشامي



(1) ولد منصوب على الاختصاص (منه).
(2) الفصول المهمة ص 294 عن تفسير الثعلبي.
(3) الفصول المهمة ص 294 عن الحافظ أبي نعيم.
(4) الأربعون حديثا في ذكر المهدي، الحديث السادس والعشرون. والفصول المهمة
ص 295 عنه.
209
الشافعي وغيرها (1)، وقد تضمن كثير منها كونه (عليه السلام) من ولد فاطمة (عليها السلام)، وأنه من
ولد الحسين (عليه السلام).
ومخالفونا قد اضطربوا هنا اضطرابا كثيرة، فمنهم من أقر به (عليه السلام) وانه موجود،
ووافقنا على أن الإمام الثاني عشر م ح م د بن العسكري (عليه السلام)، لتواتر ذلك عن
آبائه (عليهم السلام)، واطباق الشيعة على ذلك، وهم أعرف بهذا الشأن، ومنهم الشيخ كمال
الدين بن طلحة في مطالب السؤول، وابن الخشاب الحنبلي في تاريخ مواليد ووفيات
أهل البيت (عليهم السلام)، والشيخ نور الدين المكي في الفصول المهمة. ومنهم من قال: انه لم
يوجد بعد. ومنهم من زعم أنه المسيح (عليه السلام).
والقول الثالث أوضح فسادا من أن ينبه عليه، لمدافعته الأخبار المتواترة من
الطرفين المستفيضة بين القبيلين.
وقد ذكر بعض علماء المخالفين في كتاب (2) ألفه في أخبار المهدي (عليه السلام) نحوا من
مائة وعشرة أحاديث، أكثرها بل كلها الا ما نذر ينادي بأنه (عليه السلام) من العترة
الطاهرة، ومن أهل البيت (عليهم السلام)، ومن ولد فاطمة (عليها السلام)، ومن ولد الحسين (3) (عليه السلام).
ومنها: ما نقله عن الجمع بين الصحاح الستة، باسناده عن أبي إسحاق، قال:
قال علي (عليه السلام) ونظر إلى ابنه الحسين (عليه السلام) وقال: ان ابني هذا سيد، كما سماه
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وسيخرج من صلبه رجل باسم نبيكم، يشبهه في الخلق، ولا يشبهه



(1) راجع تفصيل ذلك إلى المجلد الثالث عشر من كتاب إحقاق الحق.
(2) وهو كتاب كشف المخفي في مناقب المهدي للشيخ يحيى بن الحسن بن بطريق الحلي
صاحب كتاب العمدة والمستدرك، وهو من أجلة علماء الإمامية، راجع كتاب الطرائف
للسيد ابن طاووس ص 179.
(3) راجع حول مصادر هذه الروايات عن كتب أهل السنة إلى كتاب إحقاق الحق المجلد
الثالث عشر.
210
في الخلق، يملأ الأرض عدلا (1).
وأخبار اخر تؤدي هذا المؤدى، تركنا نقلها لأدائها إلى التطويل، وقد أفردنا
لاستيفائها كتابا ضخما سميناه بالفوائد الحسان في أخبار صاحب الزمان.
وأما القول الثاني، فمما ينادي بفساده اجماع الشيعة رضوان الله عليهم، وتواتر
أخبارهم بولادته صلوات الله عليه وعلى آبائه، على نحو ولادة إبراهيم
وموسى (عليهما السلام)، وغيرهما ممن اقتضت المصلحة تستر ولادته.
وقد استفاضت الأخبار عنهم باسمه ونسبه، وإنما عرفه الشيعة رضوان الله عليهم
دون غيرهم، لاختصاصهم بآبائه (عليهم السلام)، وتلزمهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) وعترته (عليهم السلام)، فان
كل من تلزم بقوم كان أعرف بأحوالهم وأسرارهم من الأجانب (2)، كما أن
أصحاب الشافعي أعرف بحاله من أصحاب غيره.
هذا مع أن مخالفينا قد رووا ما يشهد بما عليه أصحابنا، من نسبه، واسمه،
ووجوده، وبقائه، وأنه ولد أبي محمد الحسن العسكري (عليه السلام) الثاني عشر من
الأئمة (عليهم السلام).
كما رواه المسمى عندهم صدر الأئمة أخطب خوارزم موفق بن أحمد المكي في
كتابه، قال: حدثنا فخر القضاة نجم الدين أبو منصور محمد بن الحسين بن محمد
البغدادي فيما كتب إلي من همدان، قال: أبلغنا الامام الشريف نور الهدى أبو طالب
الحسن بن محمد الزينبي، قال: أخبرنا امام الأئمة محمد بن أحمد بن شاذان، قال:
حدثنا أحمد بن محمد بن عبد الله الحافظ، قال: حدثنا علي بن سنان الموصلي، عن



(1) الطرائف ص 177 برقم: 279 عن الجمع بين الصحاح الستة.
(2) وقد أنصف المحقق التفتازاني، حيث اعترف بما يلزم من الاعتراف به الاعتراف بما
ذكرناه في شرح شرح المختصر للحاجبي في مبحث اختلاف الصحابة في بيع أم الولد، فقال
مستدلا على أن مذهب مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) جواز بيعها: ان الشيعة نقلوا جواز بيعها،
وهم أعلم بمذهبه (منه).
211
أحمد بن محمد بن صالح، عن سلمان بن محمد، عن زياد بن مسلم، عن عبد الرحمن،
عن زيد بن جابر (1)، عن سلامة، عن أبي سليمان (2) راعي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال:
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: ليلة أسري بي إلى السماء قال لي الجليل جل
جلاله: (آمن الرسول بما انزل إليه من ربه) فقلت: (والمؤمنون) قال: صدقت
يا محمد، من خلفت في أمتك؟ قلت: خيرها، قال: علي بن أبي طالب؟ قلت: نعم
يا رب.
قال: يا محمد اني اطلعت إلى الأرض اطلاعة فاخترتك منها، فشققت لك اسما
من أسمائي، فلا اذكر في موضع الا ذكرت معي، فأنا المحمود وأنت محمد، ثم اطلعت
الثانية، فاخترت منها عليا وشققت له اسما من أسمائي، فأنا الأعلى وهو علي.
يا محمد اني خلقتك وخلقت عليا وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولده من
سنخ نوري، وعرضت ولايتكم على أهل السماوات والأرض، فمن قبلها كان عندي
من المؤمنين، ومن لم يقبلها (3) كان من الكافرين.
يا محمد لو أن عبدا من عبيدي عبدني حتى ينقطع أو يصير كالشن البالي، ثم أتاني
جاحدا لولايتكم ما غفرت له حتى يقر بولايتكم. يا محمد تحب أن تراهم؟ فقلت:
نعم يا رب، فقال لي: التفت عن يمين العرش.
فالتفت فإذا بعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، وعلي بن الحسين، ومحمد بن
علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي
بن محمد، والحسن بن علي، ومحمد بن الحسن المهدي في ضحضاح (4) من نور قياما



(1) كذا في الطرائف، وفي المقتل: عبد الرحمن بن يزيد بن جابر.
(2) في المصدر: عن أبي سلمى.
(3) في المصدر: ومن جحدها.
(4) الضحضاح في الأصل، من رق من الماء على وجه الأرض ما يبلغ الكعبين، فاستعاره
للنور المتألف (منه).
212
يصلون وهو في وسطهم - يعني: المهدي (عليه السلام) - كأنه كوكب دري.
وقال: يا محمد هؤلاء الحجج، وهو الثائر من عترتك، وعزتي وجلالي أنه الحجة
الواجبة لأوليائي والمنتقم من أعدائي (1).
وبالإسناد عن الإمام محمد بن أحمد بن علي بن شاذان، قال: حدثنا محمد بن
علي بن الفضل، عن محمد بن القاسم، عن عباد بن يعقوب، عن موسى بن عثمان،
عن الأعمش، قال: حدثني أبو إسحاق، عن الحارث وسعيد بن بشر، عن علي بن
أبي طالب (عليه السلام).
قال: قال رسول الله 9: أنا واردكم، وأنت يا علي الساقي، والحسن الذائد،
والحسين الامر، وعلي بن الحسين الفارط، ومحمد بن علي الناشر، وجعفر بن محمد
السائق، وموسى بن جعفر محصي المحبين والمبغضين وقامع المنافقين، وعلي بن
موسى مزين المؤمنين، ومحمد بن علي منزل أهل الجنة درجاتهم، وعلي بن محمد
خطيب شيعته ومزوجهم الحور العين، والحسن بن علي سراج أهل الجنة
يستضيؤون به، والمهدي شفيعهم يوم القيامة حيث لا يأذن الله الا لمن يشاء
ويرضى (2).
وبالاسناد السابق عن ابن شاذان، قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن علي العلوي
الطبري (3)، عن أحمد بن عبد الله، حدثني جدي أحمد بن محمد، عن أبيه، عن حماد
بن عيسى، عن عمر بن أذينة، قال: حدثنا أبان بن أبي عياش، عن سليم بن قيس
الهلالي، عن سلمان المحمدي، قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله) وإذا الحسين (عليه السلام) على



(1) مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي ص 95 - 96 ط النجف، وينابيع المودة ص 486
ط اسلامبول، والطرائف ص 172 - 173 عن الخوارزمي.
(2) مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي ص 94 - 95، والطرائف ص 174 برقم: 271.
(3) هو الناصر للحق المعروف بالأطروش.
213
فخذه، وهو يقبل عينيه ويلثم فاه، ويقول: أنت (1) سيد ابن سيد أبو السادة، أنت
امام ابن امام أبو الأئمة، أنت حجة ابن حجة، أبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم
قائمهم (2).
وهذه الأخبار كما ترى صريحة في معتقد الفرقة الناجية الامامية رضوان الله
عليهم، وناطقة بأن الأئمة: اثنا عشر، وأن القائم (عليه السلام) هو الثاني عشر، وأنه ابن
العسكري (عليه السلام).
ولعمري أن المخالفين لو تركوا رواية هذه الأخبار الناطقة بفساد مذهبهم وصحة
عقيدة خصومهم لكانوا أعذر، فالحمد لله الذي أنطقهم وأجرى أقلامهم بما هو حجة
عليهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، فما يتفوه بعض المخذولين
منهم من انكار وجوده (عليه السلام) وبقائه، مكابرة محضة واستبعاد بحت.
ومحققوهم ككمال الدين بن طلحة الشامي، ونور الدين المكي، ونصر بن علي
الجهضمي، وابن الخشاب الحنبلي، وعبد الرحمن الجامي في دلائل النبوة، وملا
حسين الكاشفي (3) في روضة الشهداء وغيرهم، قد وافقونا على وجوده وبقائه،
وأنه ابن العسكري (عليه السلام)، وهو الذي عليه أكابر الصوفية، كصدر الدين القونوي
والحموي وغيرهما.
ارشاد ورفع استبعاد:
ولد مولانا المهدي (عليه السلام) بسر من رأى ليلة النصف من شعبان سنة خمس وخمسين



(1) في المصدر: انك.
(2) مقتل الحسين (عليه السلام) للخوارزمي ص 146، والطرائف ص 174 برقم: 272.
(3) إنما نظمنا ملا حسين الكاشفي في سلك المخالفين بناء على الظاهر من حاله في زوائده و
جواهره، والا فلا يبعد أن يكون من الامامية (منه).
214
ومائتين من الهجرة، هذا هو الصحيح، وعليه اعتمد ثقة الاسلام محمد بن يعقوب
الكليني في الكافي (1)، وغيره من عظماء أصحابنا. ومن المخالفين نور الدين علي بن
محمد المكي المالكي في كتاب الفصول المهمة (2).
وروى ثقة الاسلام في الكافي أيضا عن الحسين بن محمد الأشعري، عن معلى بن
محمد، عن أحمد بن محمد، قال: خرج عن أبي محمد (عليه السلام) حين قتل الزبيري: هذا
جزاء من افترى على الله في أوليائه، زعم أنه يقتلني وليس لي عقب، فكيف رأى
قدرة الله، وولد له ولد فسماه م ح م د سنة ست وخمسين ومائتين (3).
والمعلى بن محمد ضعيف مضطرب المذهب، لا اعتماد على ما ينفرد به، وجزم
شيخنا المعاصر (4) - خلد الله ظلال إفاداته - بعدم قدحه في صحة الخبر، لأنه من
مشايخ الإجازة. وفيه نظر حررناه في تعليقات الخلاصة، والاعتماد على الأول.
وسنه إلى عامنا هذا، وهو العام الخامس بعد المائة والألف من الهجرة النبوية،
ثمانمائة واحدى وخمسون سنة.
وقال الشيخ أبو عبد الله المفيد في الارشاد: الإمام القائم بعد أبيه الحسن (عليه السلام) ابنه
المسمى باسم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، المكنى بكنيته، ولم يخلف أبوه ولدا ظاهرا ولا غائبا
غيره (5)، وخلفه غائبا مستترا.
وكان سنه عند وفاة أبيه خمس سنين، آتاه الله فيها الحكمة وفصل الخطاب،
وآتاه الحكمة كما آتاها يحيى صبيا، وجعله اماما في حال الطفولية، كما جعل



(1) أصول الكافي 1: 514.
(2) الفصول المهمة ص 292.
(3) أصول الكافي 1: 514 ح 1.
(4) هو المحدث الجليل العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي 1 المتوفى ستة 1110 ق.
(5) وأما ما ذكره الحسين بن أحمد الحضيني في كتاب الهداية مما يخالف ذلك من أن
للعسكري ولد غير القائم (عليه السلام) مما لا يلتفت إليه، مع كونه صاحب مقالة غاليا (منه).
215
عيسى بن مريم (عليه السلام) في المهد نبيا، وللنص عليه من الأئمة (عليهم السلام) واحدا واحدا إلى
أبيه (عليه السلام)، ونص أبوه عليه عند ثقاته وخواص شيعته، وكان الخبر بغيبته ثابتا قبل
وجوده، وبدولته مستفيضا قبل غيبته، وهو صاحب السيف من أئمة الهدى (عليهم السلام)
يقوم بالسيف.
قال الله سبحانه (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة
وجعلهم الوارثين) إلى قوله (ما كانوا يحذرون) (1) وقال سبحانه (ولقد كتبنا
في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) (2).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث الله رجلا من أهل
بيتي، يواطئ اسمه اسمي، يملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت ظلما وجورا (3) (4) وعن زارة قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: الأئمة اثنا عشر كلهم من آل
محمد (عليهم السلام) علي بن أبي طالب وأحد عشر من ولده (5).
والنصوص الواردة عليه من آبائه صلوات الله عليهم متواترة، ومن أرادها
فليقف عليها في كتاب الكافي (6)، وارشاد المفيد (عليه السلام))، وكتاب كمال الدين وتمام النعمة
في اثبات الغيبة ورفع الحيرة لرئيس المحدثين محمد بن علي بن بابويه القمي (8)،
وكتاب ملاء الغيبة في طول الغيبة للشيخ جمال الدين أبي عبد الله محمد بن إبراهيم



(1) القصص: 5 - 6.
(2) الأنبياء: 105.
(3) مسند أحمد بن حنبل 1: 376، والفصول المهمة ص 291، وسنن أبي داوود 4: 106.
(4) الارشاد 2: 339 - 341.
(5) الارشاد 2: 347.
(6) أصول الكافي 1: 525 - 535.
(7) الارشاد 2: 345 - 350.
(8) اكمال الدين للصدوق ص 256 - 384.
216
الشهير بالنعماني (1)، وكتاب الغيبة للشيخ أبي جعفر الطوسي (2) وغيرها.
واستبعد أكثر مخالفينا تعميره (عليه السلام) إلى هذا القدر، وهو استبعاد محض لا يعارض
الأدلة القاهرة العقلية الدالة على عدم جواز خلو عصر من الأعصار عن معصوم
يكون ناطقا عن الله سبحانه، كيلا تبطل حجج الله وبيناته.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث كميل بن زياد النخعي: اللهم بلى لا تخلو
الأرض من قائم لله بحجة: إما ظاهر مشهور، أو مستور مغمور (3)، لئلا تبطل حجج
الله وبيناته (4).
ولا يجوز التعويل على الاستبعاد المحض، والاستغراب البحت، واطراح الأدلة
القطعية العقلية والسمعية المتواترة المروية من طرق المخالف والمؤالف، مع شمول
قدرة الله سبحانه لجميع الممكنات، وعمومها للمقدورات وخوارق العادات، وقد
اتفق أطول من عمره (عليه السلام) في الأمم الماضية بكثير، كنوح، وشعيب، والخضر،
والياس، والسامري، وفرعون وغيرهم.
قال الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي في كتاب البيان في
أخبار صاحب الزمان، بعد أن أكثر الأدلة على كونه (عليه السلام) حيا باقيا منذ غيبته إلى
الان ما نصه: ولا امتناع في بقائه كبقاء عيسى بن مريم والخضر والياس من
أولياء الله تعالى، وبقاء الأعور الدجال وإبليس اللعين من أعداء الله، وهؤلاء قد
ثبت بقاؤهم بالكتاب والسنة.
أما عيسى (عليه السلام)، فالدليل على بقائه قوله تعالى (وان من أهل الكتاب الا



(1) كتاب الغيبة للنعماني ص 57 - 102.
(2) كتاب الغيبة للشيخ الطوسي ص 127 - 156.
(3) في النهج: أو خائفا مغمورا.
(4) نهج البلاغة ص 497 رقم الحديث: 147.
217
ليؤمنن به قبل موته) (1) ولم يؤمن به منذ نزول الآية إلى يومنا هذا أحد، فلابد أن
يكون هذا في آخر الزمان.
وأما السنة، فما رواه مسلم في صحيحه، عن ابن سمعان في حديث طويل في
قضية الدجال، قال: فينزل عيسى بن مريم عند المنارة البيضاء بين مهرودتين (2)،
واضعا كفيه على أجنحة ملكين (3).
وأيضا ما تقدم من قوله (عليه السلام): كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وامامكم منكم؟.
وأما الخضر والياس، فقد قال ابن جرير الطبري: الخضر والياس باقيان
يسيران في الأرض.
وأيضا ما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري، قال: حدثنا
رسول الله (صلى الله عليه وآله) حديثا طويلا عن الدجال، وكان فيما حدثنا أن قال: يأتي وهو محرم
عليه أن يدخل نقاب (4) المدينة، فينتهي إلى بعض السباخ التي تلي المدينة، فيخرج
إليه يومئذ رجل هو خير الناس، أو من خير الناس، فيقول الدجال: ان قتلت هذا



(1) النساء: 159.
(2) قال ابن الأثير في النهاية (5: 258): في حديث عيسى (عليه السلام) (انه ينزل بين
مهرودتين) أي: في شقتين أو حلتين. وقيل: الثوب المهرود الذي يصبغ بالورس ثم
بالزعفران، فيجئ لونه مثل لون زهرة الحوذانة. قال القتيبي: هو خطأ من النقلة، وأراه
مهروتين أي: صفراوين، يقال: هريت العمامة إذا لبستها صفراء، وكأن فعلت منه هروت،
فإن كان محفوظا بالدال فهو الهرد: الشق، وخطئ ابن قتيبة في استدراكه واشتقاقه.
قال ابن الأنباري: القول عندنا في الحديث (بين مهرودتين) يروى بالدال والذال، أي:
بين ممصرتين، على ما جاء في الحديث، ولم نسمعه الا فيه، وكذلك أشياء كثيرة لن تسمع
الا في الحديث. والممصرة من الثياب: التي فيها صفرة خفيفة. وقيل: المهرود يصبغ بالعروق، والعروق يقال لها الهرد. انتهى (منه).
الثوب الذي
(3) صحيح مسلم 4: 2253، قطعة من الحديث برقم: 2137.
(4) النقاب جمع نقب، وهو الطريق بين الجبلين، أراد أنه لا يدخل طرق المدينة (منه).
218
ثم أحييته أتشكون في الأمر؟ فيقولون: لا، فيقتله ثم يحييه، ثم يقول حين يحييه:
والله ما كنت فيك قط أشد بصيرة مني الان، قال: فيريد الدجال أن يقتله فلن
يسلط عليه. وقال إبراهيم بن سعد: يقال إن هذا الرجل هو الخضر (1) وهذا لفظ
مسلم في صحيحه كما سقناه سواء.
وأما الدليل على بقاء إبليس اللعين، فآي الكتاب العزيز، وهو قوله تعالى (قال
رب فانظرني إلى يوم يبعثون × قال فإنك من المنظرين) (2).
وأما بقاء المهدي (عليه السلام)، فقد جاء بالكتاب والسنة. أما الكتاب، فقد قال سعيد
بن جبير في تفسير قوله تعالى (ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) (3)
قال: هو المهدي من ولد فاطمة (عليها السلام). وأما من قال: انه عيسى (عليه السلام)، فلا تنافي بين
القولين، إذ هو مساعد للمهدي (عليه السلام) على ما تقدم.
وقد قال مقاتل بن سليمان ومن تابعه من المفسرين في قوله تعالى (وانه لعلم
للساعة) (4) قال: هو المهدي يكون في آخر الزمان، وبعد خروجه يكون امارات
ودلالات الساعة وقيامها انتهى.
وقد نقله عنه أيضا نور الدين المكي المالكي في فصوله (5).
وحكى السيد الجليل ذو الكرامات الباهرة والمآثر الظاهرة أبو القاسم رضي
الدين علي بن طاووس (6) عطر الله مرقده في بعض كتبه (عليه السلام)) ما حاصله: انه اجتمع



(1) صحيح مسلم 4: 2256 برقم: 2938.
(2) الحجر: 37، وص: 80.
(3) التوبة: 33، والصف: (صلى الله عليه وآله).
(4) الزخرف: 61.
(5) الفصول المهمة ص 299 - 300.
(6) هذا السيد له كرامات باهرة، أوردنا شطرا منها في بعض مجموعاتنا (منه).
(7) هو كتاب كشف المحجة (منه).
219
يوما في بغداد مع بعض فضلائها، فانجر الكلام إلى ذكر الإمام المهدي (عليه السلام) وما
تدعيه الامامية من حياته في هذه المدة الطويلة، فشنع ذلك الفاضل وأنكره انكارا
بليغا.
قال السيد (رحمه الله): فقلت له: انك تعلم أنه لو حضر اليوم رجل وادعى أنه يمشي على
الماء، لاجتمع لمشاهدته كل أهل البلد، فإذا مشى على الماء وعاينوه قضوا تعجبهم
منه، ثم لوجاء في اليوم الثاني آخر وقال: أنا أمشي على الماء أيضا، فشاهدوا مشيه
عليه لكان تعجبهم أقل من الأول، فإذا جاء في اليوم الثالث آخر وادعى أنه يمشي
على الماء أيضا، فربما لا يجتمع للنظر إليه الا قليل ممن شاهد الأولين، فإذا مشى
سقط التعجب بالكلية.
فإذا جاء رابع وقال: أنا أمشي على الماء كما مشوا، فاجتمع عليه جماعة ممن
شاهدوا الثلاثة الأول، ثم أخذوا يتعجبون منه تعجبا زائدا على تعجبهم الأول
والثاني والثالث، لتعجب العقلاء من نقص عقولهم وخاطبوهم بما يكرهون.
وهذا بعينه حال المهدي (عليه السلام)، فإنكم رويتم أن إدريس (عليه السلام) حي موجود في
السماء من زمانه إلى الان، ورويتم أن الخضر كذلك في الأرض حي موجود من
زمانه إلى الان، ورويتم أن عيسى (عليه السلام) حي موجود في السماء، وأنه سيعود إلى
الأرض إذا ظهر المهدي (عليه السلام) ويقتدي به.
فهذه ثلاثة نفر من البشر قد طالت أعمارهم زيادة على المهدي (عليه السلام)، فكيف لا
تتعجبون منهم؟ وتتعجبون أن يكون لرجل من ذرية النبي (صلى الله عليه وآله) أسوة بواحد منهم،
وتنكرون أن يكون من جملة آياته (صلى الله عليه وآله) أن يعمر واحد من عترته وذريته زيادة
على ما هو المتعارف من الأعمار في هذا الزمان (1) انتهى.
وقال عطر الله مرقده في الطرائف: وأما استبعاد من يستبعد منهم ذلك لطول



(1) كشف المحجة ص 55 - 56 ط النجف الأشرف.
220
عمره الشريف، فما يمنع من ذلك الا جاهل بالله وقدرته، وباخبار نبينا وعترته،
أو عارف يعاند بالجحود، كما حكى الله تعالى عن قوم فقال (وجحدوا بها
واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا) (1).
فكيف يستبعد بطول الأعمار؟ وقد تواترت كثير من الأخبار بطول عمر جماعة
من الأنبياء وغيرهم من المعمرين، وهذا الخضر باق على طول السنين، وهو عبد
صالح من بني آدم (عليه السلام)، ليس بنبي ولا حافظ شريعة، ولا بلطف في بقاء التكليف،
فكيف يستبعد طول حياة المهدي (عليه السلام)؟ وهو حافظ شريعة جده محمد (صلى الله عليه وآله) ولطف
في بقاء التكليف، وحجة في أحد الثقلين اللذين قال النبي (صلى الله عليه وآله) فيهما: انهما لن يفترقا
حتى يردا علي الحوض. والمنفعة ببقائه في حالتي ظهوره واختفائه أعظم من المنفعة
بالخضر.
وكيف يستبعد طول عمر المهدي (عليه السلام) من يصدق بالقرآن؟ وقد تضمن من قصة
أصحاب الكهف أعجب من هذا، لأنهم مضى لهم فيما تضمنه القرآن ثلاثمائة سنين
وازدادوا تسعا، وهم أحياء كالنيام، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم (وتحسبهم
أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال) (1) لئلا تبلي جنوبهم بالأرض.
فهؤلاء مجوفون محتاجون إلى طعام وشراب، وقد بقوا هذه المدة بنص القرآن
بغير طعام ولا شراب مما يأكل الناس، وبقوا بمقتضى ما تقدم من الخبر السالف عند
ذكر قصة أصحاب الكهف إلى زمان محمد نبيهم (صلى الله عليه وآله)، حين بعث الصحابة على
البساط للسلام عليهم، ويبقون - كما رواه الثعلبي - إلى زمن المهدي (عليه السلام) على الصفة
التي تضمنها القرآن من الحياة بغير طعام مألوف ولا شراب معروف، فأيما أعجب
بقاء هؤلاء، أو بقاء المهدي (عليه السلام)؟ (3) انتهى كلامه أعلى الله مقامه، وهو جيد مفيد



(1) النمل: 14.
(2) الكهف: 18.
(3) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ص 185 - 186 المطبوع بتحقيقنا.
221
جدا.
وبعض الحذاق من الأطباء جوز بقاء الانسان باعتبار مزاجه الطبيعي ما يقرب
من هذه المدة ويزيد عليها (1).
وأما المنجمون، فقالوا: أكثر ما يعطي كوكب واحد من العمر من حيث هو مائة
وعشرون سنة، وجاز أن ينضم إليه عندهم أسباب اخر فتتضاعف العطية، قالوا:
في مثل أن يتفق في طالع كثرة الهيلاجات فيه، والكدخدايات كلها في أوتاد الطالع
ناظرة إلى بيوتها ونظر السعود لها بالتثليث أو التسديس، وتكون النحوس ساقطة،
وحينئذ يحكمون لصاحب الطالع بطول العمر، وقد نقلنا جملة من كلامهم في رسالة
أفردناها في الرد على من استبعد بقاءه (عليه السلام).
وذكر السيد الجليل رضي الدين المذكور في كتابه فرج المهموم في معرفة الحلال
والحرام من علم النجوم: أن بعض أكابر المنجمين وقف على زائجة مولد مولانا
المهدي (عليه السلام)، فقال: انه يعمر عمرا طويلا جدا (2).
وبالجملة فليس للمخالفين الا الاخلاد إلى الاستبعاد المحض والتخمين الكاذب،



(1) قال الفاضل الأقسرائي في شرح الموجز: وأما سن الشيخوخة، فقد حكم بعض
الناس بأنه أكثره ستون سنة، لأن سن الكمال إذا انتهى في الأربعين، فبالحري أن لا يمتد سن
النقصان أكثر من ضعفه، والمجموع مائة وعشرون، وهو المشاهد من أكثر العمر في سكان
وسط المعمورة، ولكن الحق أن البرهان دال على وجوب الموت لا على مقدار أكثر العمر.
وما ذكره من الحكم على كون زمان النقصان ضعف زمان الكون لا دليل عليه، وقد
اعترف أرباب التنجيم بانكار الزيادة على مائة وعشرين سنة، حتى أن أبا الريحان حكى
عن ما شاء الله أنه: يمكن أن يعيش الانسان تسعمائة وستين سنة، وهو القرآن الأظم انتهى.
وقد نقلت أقوال المنجمين وحكاياتهم وتصريحات الأطباء وغيرهم في رسالة عملتها في
الغيبة (منه).
وما شاء الله اسم حكيم، وقيل: هو يوسف الصديق (عليه السلام) (منه).
(2) فرج المهموم ص 37 ط النجف.
222
يريدون ليطفؤا نور الله بأفواههم ويأبى الله الا أن يتم نوره ولو كره المشركون.
اكمال وقطع اشكال
تحقيق حول حديث من مات ولم يعرف امام زمانه
مات ميتة جاهلية
من الأخبار المستفيضة المتفق عليها بين علماء الاسلام قوله (صلى الله عليه وآله): من مات ولم
يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية (1) (2).
واستقامته ظاهرة على مذهب أصحابنا قدس الله أرواحهم، من عدم خلو
الأرض من حجة ناطق عن الله تعالى، معصوم في الأقوال والأفعال والتقريرات
من أول عمره إلى آخره، لأن امام زماننا - كما سلف - هو مولانا الحجة المهدي (عليه السلام).
وما أورده المخالفون من أنه إذا لم يمكن التوصل إليه وأخذ المسائل الدينية عنه،
فأي ثمرة تترتب على مجرد معرفته حتى يكون من مات ولم يكن عارفا به، فقد مات
ميتة جاهلية.



(1) أصول الكافي 2: 20 و 21.
(2) لا يخفى أن هذا الخبر يدل على ما عليه أصحابنا رضوان الله عليهم، من أن الإمامة من
أصول الدين لا من فروعه، لا كما تقول الزيدية وأهل السنة. ووجه الدلالة أنه يدل على
كون الجهل بالامام موجبا للهلاك الدائم، إذ الميتة الجاهلية تقتضيه.
وقد صرح القاضي البيضاوي في المنهاج في مباحث الأخبار بأنها من الأصول، وتبعه
جماعة من شارحي كتابه، ونقل صاحب إحقاق الحق عطر الله مرقده عن بعض الحنفية أنه
حكم بكفر من لا يقول بامامة أبي بكر، وهو يدل على أنها عنده من الأصول.
أقول: في الدلالة عندنا بل والأدلة الدالة على أن الإمامة من الأصول كثير جدا (منه).
223
فهو واضح السقوط، إذ ليست الثمرة منحصرة في مشاهدته، وأخذ المسائل عنه،
بل نفس التصديق بوجوده (عليه السلام)، وانه خليفة الله في الأرض، أمر مطلوب لذاته،
ولكن من أركان الايمان، كتصديق من كان في عصر النبي (صلى الله عليه وآله) بوجوده ونبوته.
وقد روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري أن النبي (صلى الله عليه وآله) ذكر المهدي (عليه السلام)،
فقال: ذلك الذي يفتح الله عز وجل على يديه مشارق الأرض ومغاربها، يغيب عن
أوليائه غيبة لا يثبت فيها الا من امتحن الله قلبه للايمان، قال جابر: فقلت: يا
رسول الله هل لشيعته انتفاع به في غيبته؟ فقال (صلى الله عليه وآله): اي والذي بعثني بالحق نبيا
انهم ليستضيؤون بنوره وينتفعون بولايته في غيبته، كانتفاع الناس بالشمس وان
علاها السحاب (1).
والعجب أن المخالفين حملوا امام الزمان (2) في الخبر المذكور على صاحب
الشوكة (3) من ملوك الدنيا كائنا من كان، عالما كان أو جاهلا، عادلا أو فاسقا.
ومن المعلوم أنه لا ثمرة لمعرفة الجاهل الفاسق، ليكون من مات ولم يعرفه فقد
مات ميتة جاهلية، وكيف يتوهم من له أدنى مسكة أن يكون معرفة شياطين بني
أمية وبني العباس المستهترين بالنرد والكأس والشطرنج السفاكين الهتاكين
فريضة؟ (4) وان جاهلها لو مات مات ميتة جاهلية، نعوذ بالله من الحور بعد



(1) إحقاق الحق 13: 259 عنه.
(2) وحمله الشيخ قطب الدين الشيرازي صاحب المكاتيب في بعض مكاتيبه على
السلطان، وفي بعضها على المرشد الكامل المسلك للسالكين إلى الله تعالى. فان أ راد الامام
المعصوم، كما يقتضيه التوفيق بين كلاميه، فمرحبا بالوفاق، والا لزم التهافت، وورد على
أول كلاميه ما أوردناه في الكتاب، وعلى ثانيهما أنه خلاف الاجماع، وعنده أن مخالف
الاجماع كافر، كما صرح به في مكاتيبه، ونقله عن القاضي عياض في الشفا (منه).
(3) وأكثرهم حمل الامام على ذي الشوكة مطلقا، وهو الذي اختاره عظماؤهم كالعلامة
التفتازاني وغيره (منه).
(4) والعجب أن مخالفينا رووا في كتبهم وأصحتهم عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: الخلافة بعدي
ثلاثون سنة، ثم تصير ملكا، رواه جم غفير من فضلائهم، منهم الامام نور الدين المالكي
في الفصول المهمة، والعلامة التفتازاني في شرح عقائد النسفي، بل قال النسفي في عقائده ما
نصه: والخلافة ثلاثون سنة ثم بعدها ملك.
فجعله من جملة العقائد والأصول، وهذا يقتضي أن لا يكون معاوية ومن تلاه من
الأمويين والمروانيين والعباسيين أئمة، بل ملوكا ظالمين ولصوصا متسلطين، وقد صرح به
جمع منهم صاحب الفصول المهمة، وأشار إليه العلامة التفتازاني في شرح العقائد.
ولا يخفى أن هذا يدافع حملهم الامام في قوله (صلى الله عليه وآله) (من مات ولم يعرف امام زمانه
مات ميتة جاهلية) على ذي الشوكة مطلقا (منه).
224
الكور (1)، والضلالة بعد الهداية.
ولما استشبع بعض المحققين من مخالفينا هذا الالتزام (2)، ذهب إلى أن المراد
بالامام في الحديث هو الكتاب العزيز، وهو أوضح فسادا من أن ينبه عليه، فان
إضافة الامام إلى زمان ذلك الشخص يشعر بتبديل الأئمة في كل الأزمنة، والقرآن
العزيز لا تبدل له بحمد الله على كرور الأعصار.
وأيضا فما المراد بمعرفة الكتاب التي إذا لم تكن حاصلة في الانسان مات ميتة
جاهلية؟ ان أريد بها معرفة ألفاظه أو الاطلاع على معانيه لم يقل به أحد، ولو قيل به
لاشكل الأمر على أكثر الناس، بل أدى إلى اختلال النظام، فان تكليف جميع آحاد
الأمة بذلك مقتض للحرج العظيم، والمشقة الكثيرة مؤد إلى تعطيل المعاش،
واختلال نظام النوع. وان أريد مجرد التصديق بوجوده، ورد عليهم ما أوردوه على
أصحابنا.
وأيضا فقد اعتذر (3) محققوهم عن سبق أبي بكر وعمر إلى سقيفة بني ساعدة،



(1) أي: من النقصان بعد الزيادة، أو من فساد أمورنا بعد صلاحها.
(2) في (س): الالزام.
(3) هذا الاعتذار مذكور في الشرح الجديد للتجريد، وفي شرح الاصفهاني، و
غيرهما (منه).
225
والاشتغال بالخلافة عن تجهيز الرسول (صلى الله عليه وآله)، بأن مبادرتهما لذلك إنما هي
لقوله (صلى الله عليه وآله) (من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية) وهذا يدل على أن
ليس المراد القرآن، وان المراد من لم يعرف امام زمانه بالمصطلح.
جوهرة فاخرة:
اختلف علماؤنا في سبب غيبته (عليه السلام)، فقال جمع منهم: لا يجوز نسبته إلى الله
تعالى لحكمته، والامام لطف، فلا يليق بحكمته منعه، ولا إلى الامام لعصمته، فلا
يكون الاخلال من جهته، لعدم جواز الاخلال بالواجب عليه، فيكون السبب من
الرعية. فبكثرة عدوه منهم، وقلة ناصره، وتسلط شياطين الانس وسلاطين الجور
على أطراف الربع المعمور وجوانبه، خاف على نفسه، ودفع الضرر عن النفس
واجب، فاختفى عنهم.
وذلك بعد لزوم الحجة للخلق، وكشف الحقيقة، وإزاحة العلة، وسد طرق
الأعذار عليهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، إذ ليس الواجب
على الله سبحانه سوى ايجاد الامام وتعيينه، وقد فعل ذلك، والواجب على الامام
قبول الإمامة وتحمله لأعبائها، وقد فعله أيضا، والواجب على الأمة متابعة الامام
وقبول أحكامه وامتثال أوامره ونواهيه وطاعته ونصرته على أعدائه، وهم لم
يفعلوا ذلك، فكانت الحجة لهم لازمة، لأنهم منعوا نفسهم اللطف الحافظ للشريعة.
وقال بعض الأعلام: انا لما أثبتنا أنه تعالى عدل حكيم لا يفعل قبيحا، ولا يخل
بواجب، وان أفعال الله تعالى معللة بالأغراض والمصالح، كان ذلك موجبا لاعتقاد
أن جميع أفعاله تعالى مشتملة على الغرض الصحيح، وان لم نعلم كنه ذلك الغرض
وحقيقة تلك الحكمة، إذ لا سبيل لنا إلى معرفة حقائق جميع الأشياء، لعجز القوة
البشرية عن ادراك جميع ذلك.

226
ثم قال: وحينئذ نقول: جاز أن يكون الغيبة لأمر خفي ومصلحة استأثر الله
تعالى بعلمها، ولا يجب علينا البحث عن حقيقة تلك المصلحة والاطلاع على كنهها،
كما في خلق الحيات والمؤذيات.
وقال بعض المتأخرين: ان السبب في غيبته (عليه السلام) استخلاص المؤمنين من
أصلاب المنافقين، محتجا بأنه (عليه السلام) إنما يظهر بالقيام بالسيف واظهار الدعوة، فحينئذ
لا يقبل ايمان نفس لم تكن آمنت من قبل، لأن قيامه من اشراط الساعة وعلاماتها،
مستشهدا بقوله تعالى (يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا ايمانها لم تكن
آمنت من قبل أو كسبت في ايمانها خيرا) (1) وقال: ان تلك الآية هو الإمام (عليه السلام).
فائدة:
ابتداء الغيبة الصغرى بعد وفاة مولانا أبي محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)،
وكانت وفاة العسكري (عليه السلام) يوم الجمعة لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة ستين
ومائتين، وحينئذ فيكون غيبة مولانا المهدي (عليه السلام) وهو ابن خمس سنين، وهذا هو
الصحيح (2).
وقال نور الدين علي بن محمد المكي المالكي في الفصول المهمة: انه غاب في
السرداب والحرس عليه، وكان ذلك سنة ست وسبعين ومائتين من الهجرة، وتزعم
الشيعة أنه دخل السرداب في دار أبيه وأمه تنظر إليه، فلم يخرج إليها بعد ذلك،
وعمره يومئذ تسع سنين. وذكر ابن الأزرق في تاريخ ميافارقين أنه دخل السرداب
سنة خمس وسبعين ومائتين وعمره سبع عشرة سنة (1) انتهى.



(1) الانعام: 158.
(2) كما ذكره الشيخ المفيد، في الارشاد (منه).
(3) الفصول المهمة ص 293.
227
وما ذكره من أن ابتداء الغيبة سنة ست وسبعين ومائتين وهم. نعم ذكر جمع من
عظماء أصحابنا أن ابتداءها سنة ست وستون ومائتين، وهذا يوافق ما نقله عن
الشيعة رضي الله عنهم، من أن عمره إذ ذاك تسع سنين، وما ذكرناه نحن أوضح،
لأنه بعد موت أبيه لم يصل إليه الا آحاد قليلون، فلا يدافع الغيبة.
وكان له (عليه السلام) في الغيبة الصغرى أبواب مرضيون وسفراء ممدوحون.
قال الشيخ الجليل أحمد بن أبي طالب (1) الطبرسي (2) في كتاب الاحتجاج: وأما
الأبواب المرضيون والسفراء الممدوحون في زمن الغيبة:
فأولهم الشيخ الموثوق به أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري، نصبه أولا أبو الحسن
علي بن محمد العسكري (عليه السلام)، ثم ابنه أبو محمد الحسن بن علي العسكري (عليه السلام)،
فتولى القيام بأمورهما حال حياتهما (عليهما السلام)، ثم قام بعد ذلك بأمر صاحب
الزمان (عليه السلام)، وكانت توقيعاته وجوابات المسائل تخرج على يده.
فلما مضى لسبيله قام ابنه أبو جعفر محمد بن عثمان مقامه، وناب منابه في جميع
ذلك.
فلما مضى لسبيله قام بذلك أبو القاسم الحسين بن روح من بني نوبخت.
فلما مضى هو قام مقامه أبو الحسن علي بن محمد السمري. ولم يقم منهم أحد



(1) حكى لي بعض الثقات أنه وجد في كتاب المناقب لابن شهرآشوب ما معناه: وجدت
كتاب الاحتجاج لأبي طالب الطبرسي بخطه. وهو يدافع ما اشتهر من أنه أحمد بن
أبي طالب، اللهم الا أن يكون أبو طالب كنية لأحمد بن أبي طالب، والله أعلم (منه).
(2) الطبرسيون من أصحابنا كثيرون، والمشهور منهم أربعة: حجة الاسلام أبو علي
الفضل بن الحسن الطبرسي صاحب التفاسير وأعلام الورى والآداب الدينية. وابنه
صاحب مكارم الأخلاق. وأحمد بن أبي طالب صاحب الاحتجاج، ومن أصحابنا من
نسب الاحتجاج إلى أبي علي صاحب التفسير. والفاضل الجليل الحسن بن علي صاحب
الكامل الذي ألفه للصاحب بهاء الدين الجويني، وله أيضا تحفة الأبرار (منه).
228
بذلك الا بنص عليه من قبل صاحب الزمان صلوات الله عليه، ونصب صاحبه
الذي تقدم عليه، ولم تقبل الشيعة قولهم الا بعد ظهور آية معجزة تظهر على يد كل
واحد منهم من قبل صاحب الأمر صلوات الله عليه تدل على صدق مقالتهم وصحة
نيابتهم.
فلما حان رحيل أبي الحسن السمري عن الدنيا وقرب أجله، قيل له: إلى من
توصي؟ فأخرج توقيعا إليهم نسخته:
بسم الله الرحمن الرحيم، يا علي بن محمد السمري أعظم الله أجر اخوانك فيك،
فإنك ميت ما بينك وبين ستة أيام، فاجمع أمرك، ولا توص إلى أحد يقوم مقامك
بعد وفاتك، فقد وقعت الغيبة التامة، فلا ظهور الا بعد اذن الله تعالى ذكره، وذلك
بعد طول الأمد وقسوة القلوب، وامتلاء الأرض ظلما وجورا، وسيأتي إلى شيعتي
من يدعي المشاهدة، ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو
كذاب مفتر، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم.
فنسخوا هذا التوقيع وخرجوا من عنده، فلما كان اليوم السادس عادوا إليه وهو
يجود بنفسه، فقال له بعض الأصحاب: من وصيك بعدك؟ فقال: لله أمر هو بالغه
وقضى، فهذا آخر كلام سمع منه رضي الله عنه وأرضاه (1). انتهى كلامه زيد اكرامه.
أقول: وكان وفات أبي الحسن السمري قدس الله روحه بالنصف من شعبان سنة
ثمان وعشرين وثلاثمائة، وبه انتهت مدة الغيبة الصغرى.
ختام:
قال الشيخ محي الدين بن عربي، وهو من أكابر صوفية المخالفين، كما يظهر لمن



(1) الاحتجاج 2: 296 - 297 ط النجف الأشرف.
229
تتبع كلامه في الفتوحات المكية، في الكتاب المذكور في الباب الثلاثمائة والستة
والستين ما نصه: ان لله خليفة (1) يخرج من عترة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ولد فاطمة
(عليها السلام) يواطئ اسمه اسم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، جده الحسين بن علي (عليهما السلام)، يبايع بين
الركن والمقام، يشبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الخلق - بفتح الخاء - وينزل عنه في الخلق -
بضم الخاء - أسعد الناس به أهل الكوفة، يعيش خمسا أو سبعا أو تسعا، يضع الجزية،
ويدعو إلى الله بالسيف، ويرفع المذاهب، فلا يبقى الا الدين الخالص، أعداؤه مقلدة
العلماء أهل الاجتهاد، لما يرونه يحكم بخلاف ما ذهب إليه أئمتهم، فيدخلون كرها
تحت حكمه خوفا من سيفه، وتفرح به عامة المسلمين أكثر من خواصهم.
يبايعه العارفون من أهل الحقائق عن شهود وكشف بتعريف الهي، له رجال
الهيون يقيمون دعوته وينصرونه، ولولا أن السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله، ولكن
الله يظهره بالسيف والكرم، فيطمعون ويخافون ويقبلون حكمه من غير ايمان،
ويضمرون خلافه، ويعتقدون فيه إذا حكم فيهم بغير مذهب أئمتهم أنه على ضلال
في ذلك.
لأنهم يعتقدون أن أهل الاجتهاد وزمانه قد انقطع، وما بقي مجتهد في العالم، وان
الله لا يوجد بعد أئمتهم أحدا له درجة الاجتهاد. وأما من يدعي التعريف الإلهي
بالأحكام الشرعية، فهو عندهم مجنون فاسد الخيال (2).
هذا كلامه، وهو صريح الدلالة على ما عليه أصحابنا رضوان الله عليهم، من
جهات عديدة (3) لا تخفى على من تأملها بعين البصيرة، وتناولها بيد غير قصيرة.



(1) ظاهر قوله (ان لله خليفة) يشعر بأنه موجود، كما عليه أصحابنا ومحققوا المخالفين لا
أنه سيوجد (منه).
(2) الفتوحات المكية 3: 327 ط بيروت.
(3) منها قوله (ان لله خليفة) ومنها (أسعد الناس به أهل الكوفة) وقوله (أ عداؤه
مقلدة العلماء) وقوله (لولا أن السيف بيده لأفتى الفقهاء بقتله) (منه).
230
الحديث الثامن عشر
[جريان سفينة نوح ببركة أسماء أصحاب الكساء:]
السيد الجليل ذو الكرامات والمقامات رضي الدين علي بن موسى بن جعفر بن
محمد الطاووس العلوي الفاطمي نور الله تربته ورفع في عليين رتبته، في كتاب
الأمان من أخطار الأزمان، قال: رويت عن شيخي محمد بن النجار متقدم أهل
الحديث بالمدرسة المستنصرية، وكان محافظا على مقتضى عقيدته، فيما رواه لنا من
الأخبار النبوية، من كتابه الذي جعله تذييلا على تاريخ الخطيب، فقال في ترجمة
الحسن بن أحمد المحمدي أبي محمد العلوي ما هذا لفظه:
حدث عن القاضي أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن (1) بن خلاد الرامهرمزي،
وأبي عبد الله الغالبي، وبكر بن أحمد بن مخلد، روى عنه أبو عبد الله الحسين بن
الحسن بن زيد الحسيني القصبي، أنبأنا القاضي أبو الفتح محمد (2) بن أحمد بن بختيار
الواسطي، قال: كتب إلي أبو جعفر (3) محمد بن الحسن بن محمد الهمداني، قال:
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن الحسن بن زيد الحسيني القصبي بقراءتي عليه بجرجان
قال: حدثنا الشريف أبو محمد الحسن بن أحمد العلوي المحمدي ببغداد، في شهر
رمضان من سنة خمس وعشرين وأربعمائة.
قال: حدثنا القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد، وبكر بن أحمد
بن مخلد، وأبو عبد الله الغالبي، قالوا: حدثنا محمد بن هارون المنصوري العباسي،
حدثنا أحمد بن شاكر، حدثنا يحيى بن أكثم القاضي، حدثنا المأمون، عن عطية



(1) في الأصل: أبي عبد الرحمن.
(2) في الأصل: أبو الفتح عن محمد.
(3) في الأصل: كتبت إلى أبي جعفر.
231
العوفي، عن ثابت البناني.
عن أنس بن مالك، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: لما أراد الله عز وجل أن يهلك قوم
نوح (عليه السلام) أوحى الله إليه أن شق ألواح الساج، فلما شقها لم يدر ما يصنع بها، فهبط
جبرئيل (عليه السلام) وأراه هيئة السفينة، ومعه تابوت فيه مائة ألف مسمار وتسعة
وعشرون ألف مسمار.
فسمر بالمسامير كلها السفينة، إلى أن بقيت خمسة مسامير، فضرب بيده إلى
مسمار منها، فأشرق في يده وأضاء، كما يضئ الكوكب الدري في أفق السماء، فتحير
من ذلك نوح (عليه السلام)، وأنطق الله ذلك المسمار بلسان طلق ذلق، فقال: علي اسم خير
الأنبياء محمد بن عبد الله، فهبط عليه جبرئيل فقال له: يا جبرئيل ما هذا المسمار
الذي ما رأيت مثله؟ قال: هذا باسم خير الأولين والآخرين محمد بن عبد الله،
أسمره في أولها على جانب السفينة اليمنى.
ثم ضرب بيده على مسمار ثان، فأشرق وأنار، فقال نوح (عليه السلام): وما هذا المسمار
؟ قال: مسمار أخيه وابن عمه علي بن أبي طالب، فأسمره على جانب السفينة اليسار في
أولها.
ثم ضرب بيده إلى مسمار ثالث، فزهر وأشرق وأنار، فقال: هذا مسمار فاطمة،
فأسمره إلى جانب مسمار أبيها.
ثم ضرب بيده إلى مسمار رابع، فزهر وأنار، فقال: هذا مسمار الحسن، فأسمره
إلى جانب مسمار أبيه.
ثم ضرب بيده إلى مسمار خامس، فأشرق وأنار وبكى، فقال: يا جبرئيل وما
هذه النداوة؟ فقال: هذا مسمار الحسين بن علي سيد الشهداء، فأسمره إلى جانب
مسمار أخيه.

232
ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): (وحملناه على ذات ألواح ودسر) (1) قال النبي (صلى الله عليه وآله):
الألواح خشب السفينة ونحن الدسر، لولانا ما سارت السفينة بأهلها.
قال السيد الجليل بعد نقله: يقول أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن
محمد الطاووس مصنف هذا الكتاب: وإنما ذكرت هذا الحديث لأنه برواية محمد بن
النجار الذي هومن أعيان أهل الحديث من الأربعة المذاهب وثقاتهم، وممن لا يتهم
فيما يرويه من فضائل أهل البيت: وعلو مقاماتهم، وما رأيته ولا رويته من
طرق شيعتهم إلى الان (2). انتهى كلامه نور الله مرقده.
أقول: فتأمل أرشدك الله بتوفيقه إلى هذا الخبر، وانظر إلى علو درجات أهل
البيت ومقاماتهم، وانظر كيف كان نجاة سفينة نوح (عليه السلام) بأهلها، وهم أصل كل من
بقي من ولد آدم (عليه السلام) ببركاتهم.
فالعجب من النواصب والمرجئة كيف جحدوا مقاماتهم، وقدموا عليهم الجبت
والطاغوت، افتراءا على الله، واجتراءا عليه جل برهانه، وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنعا.
الحديث التاسع عشر
[حديث المؤاخاة]
الترمذي في صحيحه بسنده عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما آخى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين صحابته، جاءه علي (عليه السلام) وعيناه تدمعان، فقال: يا رسول الله
آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فسمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أنت



(1) القمر: 13.
(2) الأمان من أخطار الأسفار والأزمان ص 118 - 120 ط قم.
233
أخي في الدنيا والآخرة (1).
أقول: أخبار القوم في دساتيرهم وأصحتهم متطابقة على هذا المضمون، وقد
رواه أبو داوود من عظمائهم في سننه (2).
وروى الفقيه أبو الحسن بن المغازلي الشافعي عن أنس، قال: لما كان يوم
المباهلة وآخى النبي (صلى الله عليه وآله) بين المهاجرين والأنصار، وعلي (عليه السلام) واقف يراه ويعرف
مكانه، ولم يواخ بينه وبين أحد، فانصرف علي (عليه السلام) باكي العين، فافتقده النبي (صلى الله عليه وآله)
فقال: ما فعل أبو الحسن؟ قالوا: انصرف باكي العين يا رسول الله، قال: بلال اذهب
فأتني به.
فمضى بلال إلى علي (عليه السلام) وقد دخل منزله باكي العين، فقالت فاطمة (عليها السلام): ما
يبكيك لا أبكى الله عينيك؟ فقال: ان النبي (صلى الله عليه وآله) آخى بين المهاجرين والأنصار
وأنا واقف يراني ويعرف مكاني ولم يؤاخ بيني وبين أحد، فقالت: لا يحزنك انه لعله
إنما أدخرك لنفسه، فقال بلال: يا علي أجب رسول الله.
فأتى علي (عليه السلام) فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): ما يبكيك يا أبا الحسن؟ فقال: آخيت بين
المهاجرين والأنصار يا رسول الله وأنا واقف تراني وتعرف مكاني ولم تؤاخ بيني
وبين أحد، قال: إنما ادخرتك لنفسي ألا يسرك أن تكون أخا نبيك؟ فقال: بلى يا
رسول الله وأنى لي بذلك.
فأخذه بيده فأرقاه المنبر وقال: اللهم هذا مني وأنا منه الا أنه مني بمنزلة هارون
من موسى، ألا من كنت مولاه فعلي مولاه، قال: فانصرف علي قرير العين، فأتبعه
عمر بن الخطاب وقال: بخ بخ يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن وكل
مسلم (3).



(1) صحيح الترمذي 5: 595 برقم: 3720 مع اختلاف يسير.
(2) مستدرك الحاكم 3: 14.
(3) الطرائف ص 148 - 149 عن مناقب ابن المغازلي، وهذا الحديث لم أعثره في المناقب
المطبوع.
234
وروى ضياء الدين الخوارزمي في مناقبه، وهو من فحول عظمائهم وأساطين
علمائهم، عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنه)، قال: لما آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين أصحابه
من المهاجرين والأنصار، وهو أنه آخى بين أبي بكر وعمر، وآخى بين عثمان بن
عفان وعبد الرحمن بن عوف، وآخى بين طلحة والزبير، وآخى بين أبي ذر
الغفاري والمقداد، ولم يؤاخ بين علي بن أبي طالب وبين أحد منهم، خرج مغضبا
حتى أتى جدولا من الأرض وتوسد ذراعه ونام فيه تسفي الريح عليه.
فمر عليه النبي (صلى الله عليه وآله)، فوجده على تلك الصفة، فوكزه برجله وقال له: قم فما
صلحت الا أن تكون أبا تراب، أغضبت حين آخيت بين المهاجرين والأنصار، ولم
أواخ بينك وبين أحد منهم، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه
لا نبي بعدي، ألا من أحبك فقد حف بالأمن والايمان، ومن أبغضك أماته الله ميتة
جاهلية (1).
وروى أحمد بن حنبل في مسنده، عن عمر بن عبد الله، عن أبيه، عن جده، أن
النبي (صلى الله عليه وآله) آخى بين الناس وترك عليا (عليه السلام) حتى بقي آخرهم لا يرى له أخا، فقال:
يا رسول الله آخيت بين الناس وتركتني، فقال (صلى الله عليه وآله): إنما تركتك لنفسي، أنت أخي
وأنا أخوك، وان ذكرك أحد فقل أنا عبد الله وأخو رسوله، لا يدعيها بعدك الا
كذاب (2).
وبالاسناد عن زيد بن أبي أوفى، قال: دخلت على النبي (صلى الله عليه وآله)، وذكر قصة
مؤاخاة النبي (صلى الله عليه وآله) بين الصحابة، فقال علي (عليه السلام): لقد ذهبت روحي وانقطع ظهري
حين رأيته، فقلت: فعلت بأصحابك ما فعلت غيري، فإن كان من سخط علي فلك



(1) أرجح المطالب ص 12 ط لاهور عن الخوارزمي، ومجمع الزوائد 9: 111.
(2) الطرائف ص 63 عن مسند أحمد، ورواه الطبري في رياض النضرة 2: 168، و
الفصول المهمة ص 38 - 39 عن مناقب الخوارزمي.
235
العتبى والكرامة، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): والذي بعثني بالحق نبيا ما اخترتك الا لنفسي،
فأنت مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي،
فقال (عليه السلام): وما أرث منك يا رسول الله؟
فقال: ما ورث الأنبياء قبلي، كتاب الله وسنة نبيهم، وأنت معي في قصري في
الجنة مع ابنتي فاطمة، وأنت أخي ورفيقي، ثم تلا النبي (صلى الله عليه وآله) (اخوانا على سرر
متقابلين) (1) المتحابون في الله ينظر بعضهم إلى بعض (2).
وبالاسناد عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عليا (عليه السلام) كان يقول في حياة
النبي (صلى الله عليه وآله): ان الله تعالى يقول عن نبيه (أفإن مات أو قتل) (3) والله لأقاتلن على
ما قاتل عليه حتى أموت، والله اني أخوه ووليه وابن عمه ومن أحق به مني (4).
وروى الدارقطني مرفوعا إلى ابن عمر، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام): أنت
أخي في الدنيا والآخرة (5).
ومن مناقب الفقيه أبي الحسن ابن المغازلي الشافعي بالاسناد، عن حذيفة بن
اليمان، قال: آخى النبي (صلى الله عليه وآله) بين المهاجرين والأنصار، فكان يؤاخي بين الرجل
ونظيره، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: هذا أخي، قال حذيفة:
فرسول الله (صلى الله عليه وآله) سيد المرسلين، وامام المتقين، ورسول رب العالمين الذي ليس له
شبه ولا نظير، وعلي أخوه (6).
أقول: والأخبار في هذا المعنى كثيرة جدا، وقد تضمن كتاب كشف الغمة للوزير



(1) الحجر: 47.
(2) إحقاق الحق 3: 304 عن مسند ومناقب أحمد بن حنبل.
(3) آل عمران: 144.
(4) الرياض النضرة 2: 226 عن مناقب أحمد بن حنبل.
(5) الفصول المهمة ص 38، والمناقب لابن المغازلي ص 37 ح 57 عن الدارقطني.
(6) المناقب لابن المغازلي ص 38 - 39 برقم: 60.
236
الجليل الكامل علي بن عيسى الأربلي، والفصول المهمة لنور الدين بن الصباغ المكي
المالكي، ومطالب السؤول للشيخ كمال الدين محمد بن طلحة الشامي الشافعي،
ومناقب الفقيه ابن المغازلي الشافعي، وغيرها، جملة مقنعة منها لا يسع ذكرها المقام
، وهي كما ترى ناطقة بالإمامة، صريحة في النص عليه بالخلافة.
قال يحيى بن الحسن البطريق ونعم ما قال: قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) (أنت
أخي في الدنيا والآخرة) أراد بذلك غاية المدح له، ونهاية المبالغة في علو المنزلة،
لأنه (صلى الله عليه وآله) لما آخى بين المرء ونظيره لم يجد لعلي (عليه السلام) نظيرا، فهو نظيره من وجوه:
نظيره في الأصل، بدليل شاهد النسب الصريح بينهما بلا ارتياب.
ونظيره في العصمة، بدليل قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل
البيت ويطهركم تطهيرا) (1).
ونظيره في أنه ولي الأمة، بدليل قوله تعالى (إنما وليكم الله ورسوله والذين
آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) (2).
ونظيره في الأداء والتبليغ، بدليل الوحي الوارد عنه (عليه السلام) يوم اعطاء سورة براءة
لغيره، فنزل جبرئيل (عليه السلام) وقال: لا يؤديها الا أنت أو من هو منك، فاستعادها منه
وأداها علي (عليه السلام) بوحي من الله تعالى في الموسم كما يأتي.
ونظيره في كونه مولى الأمة، بدليل قوله (صلى الله عليه وآله): من كنت مولاه فعلي مولاه، كما
تقدم نقله من عدة طرق.
ونظيره في مماثلة نفسهما، وان نفسه (عليه السلام) قامت مقام نفسه (صلى الله عليه وآله)، لأن الله تعالى
جعله نفس الرسول (صلى الله عليه وآله)، بدليل قوله تعالى (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من
العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل



(1) الأحزاب: 33.
(2) المائدة: 55.
237
فنجعل لعنة الله على الكاذبين) (1) فجعل نفس علي (عليه السلام) نفسه (صلى الله عليه وآله)، لأنه (صلى الله عليه وآله) قال:
تعالوا، والداعي لا يدعو نفسه وإنما يدعو غيره، فثبت أن المراد بنفسه في الدعاء
نفس علي (عليه السلام) كما سيجئ بيانه ان ساء الله تعالى.
ونظيره في فتح بابه (عليه السلام) في المسجد، كفتح باب النبي (صلى الله عليه وآله)، وجوازه في المسجد
كجوازه، ودخوله المسجد جنبا كدخوله، كما سنذكره فيما بعد (2).
قلت: ونظيره في المن على أهل البصرة كمن رسول الله (صلى الله عليه وآله) على أهل مكة.
ونظيره في الحج قرانا، ومساق الهدي، واحرامه بما أحرم به رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
حيث قال: اللهم احلالا كاحلال نبيك.
ونظيره في كونه أبا للأرواح والنفوس في النشأة الروحية مثله، كما قال (صلى الله عليه وآله): أنا
وعلي أبوا هذه الأمة. نقله صاحب رسائل اخوان الصفا.
ونظيره في العروج، فإنه (صلى الله عليه وآله) عرج على البراق، كما استفاضت به الأخبار،
وهو (عليه السلام) عرج بصعوده على كتف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فعروجه (عليه السلام) في مسقط رأسه
منكبي، وعروج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلكي. وفي قوله سلام الله عليه في كيفية الواقعة
(اني لو شئت لنلت أفق السماء) إشارة جلية منه إلى ذلك المقام، وتلويح بل تصريح
بنيل فلك المرام، ومنها قال بعض الشعراء بالفارسية:
أي سوره هل أتى شده تاج على * وى هردوجهان به علم محتاج على
آن عرش مجيد گشته معراج رسول * وين كتف رسول گشته معراج على
وبالجملة فبينهما صلوات الله عليهما تشاكل في جميع الأمور والأحكام والأحوال
القدسية والمقامات الإلهية، الا ما استثناه من الأمر الذي لا نظير له (صلى الله عليه وآله) فيه، وهو
النبوة بقوله (صلى الله عليه وآله) (الا أنه لا نبي بعدي) فلذلك صح من النبي (صلى الله عليه وآله) أن يجعله أخاه



(1) آل عمران: 61.
(2) العمدة لابن البطريق ص 172 - 173 ط قم.
238
في الدنيا والآخرة، لما ثبت له من هذه المشاكلة العامة والمشابهة التامة.
ولابن الصباغ المالكي (1) هنا كلام سخيف، قال: الاخوة وحقيقتها بين
الشخصين كونهما مخلوقين من أصل واحد، وهذه الحقيقة منتفية هاهنا، فان
النبي (صلى الله عليه وآله) أبوه عبد الله وأمه آمنة، وأبوه أبو طالب وأمه فاطمة بنت أسد، فتعين
صرف حقيقة الاخوة إلى لوازمها، ومن لوازمها المناصرة والمعاضدة والاشفاق،
وتحمل المشاق والمحبة والمودة، فمعنى قوله (أنت أخي في الدنيا والآخرة) اني
ناصرك وعضدك وشفيق عليك ومعتن بك (2) انتهى كلامه السخيف.
وهو منه في نهاية الغرابة، فاني وجدته غير مشارك في الانصاف ومحبة أهل
البيت (عليهم السلام)، فالعجب منه كيف حمل الاخوة على النصرة والشفقة، وخفي عليه أن
المراد بها المماثلة، كما يفهمه من تأمل هذه القصة بعين البصيرة، ومن قول حذيفة بن
اليمان (فكان يؤاخي بين الرجل ونظيره) وقوله (صلى الله عليه وآله) في حديث زيد بن أبي أوفى
المذكور في مسند أحمد بن حنبل (ما اخترتك الا لنفسي، فأنت مني بمنزلة هارون
من موسى الا أنه لا نبي بعدي وأنت أخي ووارثي) إلى آخره.
ومن كان له ذوق صحيح وتأمل صائب، وخلع ربقة تقليد الاباء والأجداد من
عنقه، لا يرتاب في أن المراد من هذه القصة ليس الا بيان استحقاقه (عليه السلام) للإمامة،
والنص عليه بالخلافة، والائذان بجلالة قدره، وأنه مماثل لخاتم الأنبياء في مقاماته
الربانية، ودرجاته العرفانية، وأنه (عليه السلام) الانسان المتأله العارف بالأسرار اللاهوتية،
والبشر المتقدس الفائز بالخواص القدسية، والمتسم بصفات الحضرة النبوية
المحمدية.
ولقد أجاد الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا في رسالة المعراج، حيث قال: أمير



(1) في الفصول المهمة (منه).
(2) الفصول المهمة ص 44 ط النجف.
239
المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مركز الحكمة، وفلك الحقيقة، وخزانة العقل، ولقد
كان بين الصحابة كالمعقول بين المحسوس (1) انتهى.
الحديث العشرون
[التصريح بالخلافة في كلام الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)]
محمد بن جرير الطبري، من عظماء محدثيهم في كتاب المستنير، عن الحسن بن
محمد بن جمل، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق،
عن عائشة، قالت: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الخليفة بعدك؟ قال: خاصف النعل،
قلت: ومن خاصف النعل يا رسول الله؟ قال: انظري، فنظرت فإذا هو علي بن
أبي طالب.
أقول: هذا كما ترى نص في الإمامة، غير قابل للتأويل بوجه.
وفي الصحاح الستة لرزين العبدري من الجزء الثالث في ذكر غزاة الحديبية من
سنن أبي داوود وصحيح الترمذي (2)، والاسناد الأول قال: لما كان يوم الحديبية



(1) معراج نامه للشيخ الرئيس ابن سينا ص 94 ط مشهد.
(2) أورد الترمذي في صحيحه (5: 592: برقم: 3715) ما يقاربه وهو: عن ربعي بن
خراش، حدثنا علي بن أبي طالب بالرحبة، قال: لما كان يوم الحديبية خرج الينا ناس من
المشركين فيهم سهيل بن عمرو، وأناس من رؤساء المشركين، فقالوا: يا رسول الله خرج
إليك ناس من أبنائنا واخواننا وأرقائنا، وليس لهم فقه في الدين، وإنما خرجوا فرارا من
أموالنا وضياعنا فارددهم الينا.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا معشر قريش لتنتهن أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم
بالسيف على الدين من قد امتحن الله قلبه على الايمان، قالوا: من هو يا رسول الله؟ فقال له
أبو بكر: من هو يا رسول الله؟ وقال عمر: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل، و
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أعطى عليا نعله يخصفها.
قال: ثم التفت الينا علي فقال: ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده
من النار. وهذا حديث حسن صحيح غريب (منه).
240
خرج الينا أناس من المشركين من رؤسائهم، فقالوا: قد خرج إليكم من أبنائنا
وأرقائنا، وإنما خرجوا فرارا من خدمتنا فارددهم الينا، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يا معشر
قريش لتنتهن عن مخالفة أمر الله، أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم بالسيف،
قد امتحن الله قلوبهم للتقوى.
قال بعض أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله): من أولئك يا رسول الله؟ قال: منهم خاصف
النعل، وكان (صلى الله عليه وآله) قد أعطى عليا (عليه السلام) نعله يخصفها (1).
وفي مسند أحمد بن حنبل عن علي (عليه السلام): أن سهيل بن عمرو أتى النبي (صلى الله عليه وآله)
فقال: يا محمد ان قوما لحقوا بك فارددهم علينا، فغضب (صلى الله عليه وآله) حتى رؤي الغضب في
وجهه، ثم قال: لتنتهن يا معشر قريش، أو ليبعثن الله رجلا منكم، امتحن الله قلبه
بالايمان، يضرب رقابكم على الدين.
قيل: يا رسول الله أبو بكر؟ قال: لا، قيل: فعمر؟ قال: لا ولكنه خاصف النعل
في الحجرة، قال علي (عليه السلام): أما اني سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: لا تكذبوا علي، فمن
كذب علي متعمدا أولجته النار (2).
وبالاسناد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لتنتهن أو لأبعثن عليهم رجلا يمضي فيهم
أمري، يقتل المقاتلة، ويسبي الذرية، فقال أبو ذر: فما راعني الا برد كف عمر في
حجزتي من خلفي وقال: من تراه يعني؟ قلت: ما يعنيك ولكن يعني خاصف النعل
يعني عليا (عليه السلام) (3).



(1) العمدة لابن بطريق ص 226، والطرائف ص 70 كلاهما عن الجمع بين الصحاح
الستة.
(2) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2: 649 برقم: 1105.
(3) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2: 571 برقم: 966.
241
وفي هذه الأخبار المتضمنة لخصف النعل كلها دلالة على استحقاقه (عليه السلام) للإمامة.
قال يحيى بن الحسن البطريق: ان النبي (صلى الله عليه وآله) إنما قال ذلك تنويها بذكر
أمير المؤمنين (عليه السلام) ونصا عليه من وجوه:
منها: أنه ولي الأمة بعده، لأنه قال: يضرب رقابكم على الدين بعد قوله
(امتحن الله قلبه للايمان) وجعل ذلك ببعث الله سبحانه له لا من قبل نفسه، وهذا
نص منه (صلى الله عليه وآله) ومن الله سبحانه على علي (عليه السلام) باستحقاقه استيفاء حق الله تعالى ممن
كفر، ولا يستحق ذلك بعد النبي (صلى الله عليه وآله) الا الامام.
ودليل صحته قوله (صلى الله عليه وآله) في خبر من هذه الأخبار (مني أو قال: مثل نفسي)
فدل على أن المراد بذلك التنويه باستحقاق الولاء لكونه مثل نفسه في استحقاق
الولاء.
ويزيده بيانا قول عمر بن الخطاب وقسمه بالله تعالى أنه ما اشتهى الامارة الا
يومئذ، والمتهنأ لا يطلب ما هو دون قدره، بدليل قوله تعالى (ولا تتمنوا ما فضل
الله به بعضكم) (1) فالتمني يكون بما فضل به البعض لا بما استووا فيه.
ويزيده بيانا ما تقدم في الخبر من قول أبي بكر: أنا هويا رسول الله؟ قال: لا،
فقال عمر: أنا هويا رسول الله؟ قال: لا. ولو لم يعلما أن ذلك كان علامة من
رسول الله (صلى الله عليه وآله) تدل على مستحق الخلافة والأمر بعده ما تطاولا إلى طلب ذلك.
فان قيل: انهما إنما طلبا ذلك لأنه أمر محبوب إلى كل أحد أن يكون قد امتحن الله
قلبه للايمان لا لموضع استحقاق الأمر بعده.
قلنا: الذي يدل على أنه لاستحقاق الولاء دون ما عداه قوله (صلى الله عليه وآله): ان منكم من
يقاتل على تأويل القرآن، كما قاتلت على تنزيله. فجعل القتالين سواء، لأنه (صلى الله عليه وآله)
ذكرهما بكاف التشبيه، لأن انكار التأويل كانكار التنزيل، لأن منكر التنزيل



(1) النساء: 32.
242
جاحد لقبوله، ومنكر التأويل جاحد لقبول العمل به، فهما سواء في الجحود، وليس
مرجع قتال الفريقين الا إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، أو إلى من قام مقامه، فدل على أن الكناية
إنما كانت لاستحقاق الإمامة (1). انتهى كلامه أعلى الله مقامه.
الحديث الحادي والعشرون
[ما ورد في محبة الإمام علي (عليه السلام) وأهل بيته (عليهم السلام)]
نور الدين علي بن محمد المكي المالكي في الفصول المهمة، قال: روى الحافظ
عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في كتابه معالم العترة النبوية مرفوعا إلى فاطمة،
قالت: خرج علينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية عرفة، وقال: ان الله عز وجل باهى بكم
وغفر لكم عامة، ولعلي خاصة، واني رسول الله إليكم غير محاب لقرابتي، ان
السعيد كل السعيد من أحب عليا في حياته وبعد موته.
ورواه الطبراني أيضا في معجمه عن فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وزاد فيه: ان الشقي
كل الشقي من أبغض عليا في حياته وبعد موته (2).
أقول: الأخبار في هذا المعنى تبلغ حد التواتر، وهي ناطقة بإمامته وخلافته، إذ
مصداق المحبة طاعة المحبوب، كما قال الله سبحانه (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله) (3) فليس معنى وجوب محبته الا وجوب طاعته، والاقتداء به في
الأحكام، والرجوع إليه في المهام.
ومن الأخبار المصرحة بهذا المضمون ما رواه الترمذي والنسائي عن زر بن
حبيش، قال: سمعت عليا (عليه السلام) يقول: والذي فلق الحبة وبرأ النسمة أنه لعهد النبي



(1) العمدة لابن بطريق الحلي ص 226 - 227.
(2) الفصول المهمة ص 125 ط النجف.
(3) آل عمران: 31.
243
الأمي أنه لا يحبني الا مؤمن، ولا يبغضني الا منافق (1).
وعن أبي سعيد الخدري، قال: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله 9
الا ببغضهم عليا (2).
وعن الحارث الهمداني، قال: جاء علي (عليه السلام) حتى صعد المنبر، فحمد الله تعالى
ثم قال: قضاء قضاه الله تعالى على لسان نبيكم (عليه السلام) لا يحبني الا مؤمن، ولا
يبغضني الا منافق، وقد خاب من افترى (3).
ومن كتاب المناقب لأبي المؤيد، عن أبي بردة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونحن
جلوس ذات يوم: والذي نفسي بيده لا يزال قدم عن قدم يوم القيامة حتى يسأل
الله تبارك وتعالى الرجل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن جسده فيما أبلاه،
وعن ماله مما كسبه وفيما أنفقه، وعن حبنا أهل البيت، فقال له عمر: ما آية حبكم؟
فوضع يده على رأس علي (عليه السلام) وهو جالس إلى جانبه، وقال: آية حبي حب هذا
من بعدي (4).
ومن كتاب الفردوس عن معاذ، عن النبي (صلى الله عليه وآله): حب علي حسنة لا تضر معها
سيئة، وبغضه سيئة لا تنفع معها حسنة (5).
وقد تقدم لنا في نحو هذا الخبر كلام طويل في الحديث التاسع.



(1) صحيح الترمذي 5: 601 برقم: 3736.
(2) صحيح الترمذي 5: 593 برقم: 3717.
(3) الفصول المهمة ص 125 - 126.
(4) الفصول المهمة ص 125.
(5) فردوس الأخبار 2: 227 برقم: 2547.
244
الحديث الثاني والعشرون
[قوله (صلى الله عليه وآله): علي قائد الغر المحجلين]
السيد الجليل ذو المقامات والكرامات والمفاخر زين السالكين، وقدوة
المتعبدين، وخلاصة آل طه ويس، أبو القاسم علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن
محمد الطاووس في كتابه المسمى بكتاب اليقين في اختصاص مولانا علي (عليه السلام) بإمرة المؤمنين
، قال الحافظ أبو بكر بن مردويه، وهو من عظماء علماء الجمهور.
وقد رأيت مدحه في كتاب معجم البلدان، لياقوت بن عبد الله الحموي في ترجمة
اسكاف، ما هذا لفظه: وممن ينسب إليها أبو بكر بن مردويه، ومات بإسكاف سنة
اثنين وخمسين وثلاثمائة، وكان ثقة (1).
وذكر الحافظ أسعد بن عبد القاهر في كتاب رشح الولاء في شرح الدعاء في اسناد
الحديث المتضمن لوصف مولانا علي (عليه السلام) بأنه امام المتقين، عن أبي بكر بن مردويه
أنه الامام الحافظ طراز المحدثين أبو بكر بن أحمد بن موسى بن مردويه (2).
وذكر أخطب خطباء خوارزم موفق بن أحمد المكي في كتاب المناقب في الفصل
التاسع عشر في فضائل شتى، في جملة اسناده إلى أبي بكر أحمد بن مردويه ما هذا
لفظه: طراز المحدثين أحمد بن مردويه (3).
وهذا لفظ حديثه من كتاب مناقب مولانا علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن ابن
عباس، قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) في صحن الدار وإذا رأسه في حجر دحية بن خليفة
الكلبي، فدخل علي (عليه السلام)، فقال: السلام عليك كيف أصبح رسول الله، فقال: بخير،
قال له دحية: اني لأحبك، وان لك مدحة أزفها إليك، أنت أمير المؤمنين، وقائد
الغر المحجلين، أنت سيد ولد آدم ما خلا النبيين والمرسلين، لواء الحمد بيدك يوم



(1) كشف الغمة 1: 340 - 341 عنه.
(2) كشف الغمة 1: 341 عنه.
(3) المناقب للخوارزمي ص 313 ط قم.
245
القيامة، تزف أنت وشيعتك مع محمد وحزبه إلى الجنان رواء (1)، قد أفلح من
تولاك، وخسر من تخلاك، محبوا محمد محبوك، ومبغضو محمد مبغضوك، لن تنالهم
شفاعة محمد، ادن مني يا صفوة الله.
فأخذ النبي (صلى الله عليه وآله)، فوضعه في حجره، فانتبه فقال: ما هذه الهمهمة؟ فأخبره
الحديث، فقال: لم يكن دحية الكلبي كان جبرئيل (عليه السلام) سماك باسم سماك الله سبحانه
وتعالى به، وهو الذي ألقي محبتك في قلوب المؤمنين، ورهبتك في صدور الكافرين.
ثم قال السيد الجليل قدس الله روحه بعد نقل هذا الخبر ما نصه: ان من ينقل هذا
عن الله تعالى جل جلاله برسالة جبرئيل (عليه السلام) عن محمد (صلى الله عليه وآله)، لمحجوج يوم القيامة
بنقله إذا حضر بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله) وسأله يوم القيامة عن مخالفته لما نقله واعتمد
عليه (2).
قال جامع هذه الأحاديث أبو الحسن سليمان بن عبد الله البحراني: ان السيد
المذكور قدس الله سره قد نقل مضمون هذا الخبر، أعني: نصه (صلى الله عليه وآله) بأنه أمير
المؤمنين في الكتاب المذكور من ثلاثمائة طريق، كلها من طرق المخالفين، من كتاب
ابن مردويه وغيره. وقد ذكر الفاضل الجليل بهاء الدين علي بن عيسى الأربلي في
كتابه كشف الغمة (3) جملة منها، ونحن أيضا نذكر منها نبذة، فان الثمرة الواحدة تدل
على الشجرة، والا فحصر النصوص الواردة في حقه ومدائحه ليس في طاقة البشر.
ففيه ومن كتاب ابن مردويه، عن أنس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أنس
اسكب لي وضوء أو ماء، فتوضأ (صلى الله عليه وآله) وصلى ثم انصرف، فقال: يا أنس أول من
يدخل علي اليوم أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وخاتم الوصيين، وامام الغر
المحجلين، فجاء علي (عليه السلام) حتى ضرب الباب، فقال: من هذا يا أنس؟ فقلت: هذا



(1) في المصدر: إلى الجنان زفا زفا.
(2) اليقين للسيد ابن طاووس ص 9 - 10 الباب الأول، ط النجف.
(3) كشف الغمة 1: 340 - 348 ط سنة 1381 قم.
246
علي، قال: افتح له، فدخل (1).
وعن ابن مردويه يرفعه إلى بريدة، قال: أمرنا النبي (صلى الله عليه وآله) أن نسلم على
علي (عليه السلام) بإمرة المؤمنين (2).
وبالاسناد عن سالم مولى علي (عليه السلام)، قال: كنت مع علي (عليه السلام) في أرض له وهو
حرثها، حتى جاء أبو بكر وعمر فقالا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله
وبركاته، فقيل: كنتم تقولون في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) ذلك؟ فقال عمر: هو أمرنا
بذلك (3).
ومن مناقب ابن مردويه عن عبد الله، قال: دخل علي (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله)
وعنده عائشة، فجلس بين النبي (صلى الله عليه وآله) وبين عائشة، فقالت: ما كان لك مجلس غير
فخذي، فضرب النبي (صلى الله عليه وآله) على ظهرها فقال، مه لا تؤذيني في أخي، فإنه
أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين يوم القيامة، يقعد على الصراط
فيدخل أولياءه الجنة، ويدخل أعداءه النار (4).
وعنه عن أنس، قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله) في بيت أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقال: يا
أم حبيبة اعتزلينا فانا على حاجة، ثم دعا بوضوء فأحسن الوضوء، ثم قال: ان
أول من يدخل من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيد العرب، وخير المؤمنين (5)،
وأولى الناس بالناس. قال أنس: فجعلت أقول: اللهم اجعله رجلا من الأنصار.
قال: فدخل علي (عليه السلام) فجاء يمشي حتى جلس إلى جنب النبي (صلى الله عليه وآله)، فجعل
النبي (صلى الله عليه وآله) يمسح وجهه بيده، ثم مسح بها وجه علي بن أبي طالب، فقال علي (عليه السلام):



(1) اليقين ص 10، الباب الثاني.
(2) اليقين ص 10، الباب الثالث.
(3) اليقين ص 11، الباب الرابع.
(4) اليقين ص 11، الباب الخامس.
(5) في المصدر: الوصيين.
247
وما ذاك يا رسول الله؟ قال: انك تبلغ رسالتي من يأتي بعدي، وتؤدي عني،
وتسمع الناس صوتي، وتعلم الناس من كتاب الله ما لا يعلمون (1).
ومن المناقب عن أنس، قال: كنت خادما للنبي (صلى الله عليه وآله)، فبينا أنا يوما أوضيه إذ
قال: يدخل رجل وهو أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وأولى الناس بالمؤمنين،
وقائد الغر المحجلين، قال أنس: اللهم اجعله رجلا من الأنصار، فإذا هو علي بن
أبي طالب (عليه السلام) (2).
ومن المناقب أيضا عن أنس، قال: بينا أنا عند النبي (صلى الله عليه وآله) إذ قال: الان يدخل
سيد المسلمين، وأمير المؤمنين، وخير الوصيين، وأولى الناس بالنبيين، إذ طلع علي
بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال (3) النبي (صلى الله عليه وآله) فأخذ (4) يمسح العرق من جبهته ووجهه،
ويمسح به وجه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ويمسح العرق عن وجه علي (عليه السلام) ويمسح به
وجهه، فقال له علي (عليه السلام): يا رسول الله نزل في شئ؟
قال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي، أنت
أخي ووزيري، وخير من أخلف بعدي، تقضي ديني، وتنجز موعدي، وتبين لهم
ما اختلفوا فيه من بعدي، وتعلمهم من تأويل القرآن ما لم يعلموا، وتجاهدهم على
التأويل كما جاهدتهم على التنزيل (5).
ومن حلية الأولياء لأبي نعيم الحافظ، وشرح ابن أبي الحديد للنهج، عن أنس
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا أنس اسكب لي وضوء، ثم قام فصلى ركعتين، ثم



(1) اليقين ص 12، الباب السادس.
(2) اليقين ص 13، الباب السابع.
(3) صوابه (فقام) لكن في النسخة التي تحضرنا (فقال) وهو تحريف (منه).
أقول: وفي المطبوع من كتاب اليقين جملة (فقال النبي (صلى الله عليه وآله)) غير موجودة.
(4) في المصدر: فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله).
(5) اليقين ص 13، الباب الثامن.
248
قال: أول من يدخل عليك من هذا الباب امام المتقين، وسيد المسلمين، ويعسوب
المؤمنين، وخاتم الوصيين، وقائد الغر المحجلين، قال أنس: اللهم اجعله رجلا من
الأنصار وكتمت دعائي، فجاء علي (عليه السلام)، فقال: (صلى الله عليه وآله): من جاء يا أنس؟ فقلت:
علي، فقام إليه مستبشرا، فاعتنقه ثم جعل يمسح عرق وجهه، فقال علي (عليه السلام): يا
رسول الله لقد رأيت منك اليوم تصنع بي شيئا ما صنعته بي قبل، قال: وما يمنعني
وأنت تؤدي عني، وتسمعهم صوتي، وتبين لهم ما اختلفوا فيه بعدي (1).
ومن المناقب عن أبي رافع مولى عائشة، قال: كنت غلاما أخدمها، فكنت إذا
كان النبي (صلى الله عليه وآله) عندها أكون قريبا اعاطيها، قال: فبينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندها ذات
يوم إذ جاء جاء فدق الباب، فخرجت إليه فإذا جارية معها اناء مغطى، قال:
فرجعت إلى عائشة فأخبرتها، فقالت: ادخلها، فدخلت، فوضعته (2) عائشة بين
يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فجعل يأكل وخرجت الجارية، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ليت أمير
المؤمنين وسيد المسلمين وامام المتقين عندي يأكل معي، فجاء جاء فدق الباب،
فخرجت إليه فإذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: فرجعت فقلت: هذا علي، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): ادخله، فلما دخل قال له النبي (صلى الله عليه وآله): مرحبا وأهلا لقد تمنيتك مرتين،
حتى لو أبطأت علي لسألت الله عز وجل أن يأتي بك، اجلس فكل معي (3).
ومن المناقب عن أنس بن مالك، قال: بينا أنا عند النبي (صلى الله عليه وآله) إذ قال: يطلع
الان، قلت: فداك أبي وأمي من ذا؟ قال: سيد المسلمين، وأمير المؤمنين، وخير
الوصيين، وأولى الناس بالنبيين، قال: فطلع علي، ثم قال لعلي (عليه السلام): أما ترضى أن
تكون مني بمنزلة هارون من موسى (4).



(1) حلية الأولياء 1: 63.
(2) في اليقين: فدخلت فوضعته بين يدي عائشة فوضعته الخ.
(3) اليقين ص 14، الباب التاسع.
(4) اليقين ص 14، الباب العاشر.
249
وعن الحافظ ابن مردويه، عن داود بن أبي عوف، قال: حدثني معاوية بن
ثعلبة الليثي، قال: ألا أحدثك بحديث لم يختلط؟ قلت: بلى، قال: مرض أبو ذر،
فأوصى إلى علي (عليه السلام)، فقال بعض من يعوده: لو أوصيت إلى عمر كان أجمل
لوصيتك من علي، قال: والله لقد أوصيت إلى أمير المؤمنين حقا حقا أمير المؤمنين،
والله انه للربيع الذي يسكن إليه، ولو قد فارقكم لأنكرتم الناس وأنكرتم الأرض،
قال: قلت: يا أبا ذر! انا لنعلم أن أحبهم إلى النبي أحبهم إليك، قال: أجل، قلت:
قل لنا فأيهم أحب إليك؟ قال: هذا الشيخ المظلوم المضطهد حقه، يعني علي بن أبي
طالب (1).
وعن أبي ذر من طريق أخرى من كتاب المناقب، قال معاوية بن ثعلبة: مرض
أبو ذر مرضا شديدا حتى أشرف على الموت، فأوصى إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
فقيل له: لو أوصيت إلى عمر بن الخطاب كان أجمل لوصيتك من علي، فقال أبو ذر:
أوصيت والله إلى أمير المؤمنين حقا حقا وانه لولي (2) الأرض الذي يسكن
إليه (3) (4)
قال السيد العلامة رضي الدين (قدس سره): ومما نقلت من تاريخ الخطيب مرفوعا إلى
ابن عباس رضي الله عنه قال: قال الله (صلى الله عليه وآله): ليس في القيامة راكب غيرنا ونحن



(1) اليقين ص 15 - 16، الباب الثاني عشر.
(2) في المصدر: لربي.
(3) اليقين ص 16، الباب الثالث عشر.
(4) وروى ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة أنه لما نزل (إذا جاء نصر الله والفتح)
بعد انصرافه عليه أفضل الصلاة والسلام من غزاة حنين، جعل يكثر سبحان الله أستغفر
الله، ثم قال: يا علي أنه قد جاء ما وعدت به جاء الفتح ودخل الناس في الدين الله أفواجا،
وانه ليس أحد أحق منك بمقامي لقدمك في الاسلام، وقربك مني، وصهرك وعقدك سيدة
نساء العالمين، وقبل ذلك ما كان من أبي طالب عندي حين نزل القرآن (منه).
250
أربعة، قال: فقام عمه العباس فقال: فداك أبي وأمي ومن؟ فقال: أما أنا فعلى دابة
الله البراق، وأما أخي صالح فعلى ناقة الله التي عقرت، وعمي حمزة أسد الله وأسد
رسوله فعلى ناقتي العضباء.
وأخي وابن عمي علي بن أبي طالب على ناقة من نوق الجنة، مدلجة الظهر،
رجلها من زمرد أخضر، مضبب بالذهب الأحمر، رأسها من الكافور الأبيض،
وذنبها من العنبر الأشهب، وقوائمها من المسك الأذفر، وعنقها (1) من لؤلؤ عليها
قبة من نور، باطنها عفو الله، وظاهرها رحمة الله، بيده لواء الحمد، فلا يمر بملأ من
الملائكة الا قالوا: هذا ملك مقرب، أو نبي مرسل، أو حامل عرش رب العالمين.
فينادي مناد من لدن العرش - أو قال: من بطنان العرش -: ليس هذا ملكا
مقربا، ولا نبيا مرسلا، ولا حاملا عرش رب العالمين، هذا علي بن أبي طالب (عليه السلام)،
أمير المؤمنين، وامام المتقين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات رب العالمين، أفلح من
صدقه، وخاب من كذبه، ولو أن عبدا عبد الله بين الركن والمقام ألف عام ألف عام،
حتى يكون كالشن البالي ولقى الله مبغضا لآل محمد أكبه الله على منخريه في
جهنم (2).
ومن مناقب الموفق بن أحمد الخوارزمي مرفوعا إلى علي (عليه السلام) قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): لما أسري بي إلى السماء إلى سدرة المنتهى، وقفت بين يدي ربي
عز وجل، فقال لي: يا محمد؟ قلت: لبيك وسعديك، قال: لقد بلوت خلقي فأيهم
رأيت أطوع لك؟ قال: قلت: يا رب عليا، قال صدقت يا محمد، فهل اتخذت
لنفسك خليفة يؤدي عنك ويعلم عبادي من كتابي ما لا يعلمونه؟ قال: قلت:
اختر لي فان خيرتك خيرتي.



(1) في المصدر: وعرفها.
(2) اليقين ص 18 - 19، الباب السادس عشر.
251
قال: اخترت لك عليا فاتخذه لنفسك خليفة ووصيا، ونحلته حلمي وعلمي،
وهو أمير المؤمنين حقا، لم ينلها أحد قبله وليست لأحد بعده، يا محمد علي راية
الهدى وامام من أطاعني ونور أوليائي، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه
فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني، فبشره بذلك يا محمد.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله) قلت: يا رب فقد بشرته، فقال: أنا عبد الله وفي قبضته، ان
يعاقبني فبذنوبي لم يظلمني شيئا، وان يتمم لي وعدي فهو مولاي، فأجل رب قلبه،
واجعل ربيعه الايمان به، قال: قد فعلت ذلك غير أني مختصه بشئ من البلاء لم
أختص به أحدا من أوليائي، قال: رب أخي وصاحبي، قال: قد سبق علمي أنه
مبتلى، ولولا علي لم يعرف حزبي ولا أوليائي ولا أولياء رسلي (1).
ومن مناقب الخوارزمي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): هذا علي
بن أبي طالب لحمه من لحمي، ودمه من دمي، وهو مني بمنزلة هارون من موسى الا
أنه لا نبي بعدي.
وقال (صلى الله عليه وآله): يا أم سلمة اسمعي واشهدي هذا علي أمير المؤمنين، وسيد المسلمين،
وعيبة علمي، وبابي الذي أوتي منه، أخي في الدين، وخدني في الآخرة، ومعي في
السنام الأعلى (2).
ومن مناقب الخوارزمي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان
النبي (صلى الله عليه وآله) في بيته، فغدا عليه علي (عليه السلام) بالغداة، فكان لا يحب أن يسبقه عليه أحد،
فدخل فإذا النبي (صلى الله عليه وآله) في صحن الدار وإذا رأسه في حجر دحية الكلبي (3). وذكر
نحوا من الحديث الذي نقلناه عن أبي بكر بن مردويه الحافظ.
أقول: والأخبار في هذا المعنى متواترة، تزيد على ما يعتبر في التواتر. والعجب



(1) اليقين ص 23، الباب الثاني والعشرون عن مناقب الخوارزمي ص 303 - 304.
(2) اليقين ص 24، الباب الثالث والعشرون عن مناقب الخوارزمي ص 142.
(3) اليقين ص 24، الباب الرابع والعشرون عن مناقب الخوارزمي ص 323 ط قم.
252
من خصومنا أنهم يروون في كتبهم ومصنفاتهم هذه الأخبار الشاهدة على ضلالتهم،
الناطقة بغوايتهم وعمايتهم، ولا يستحيون من عار نقلهم واطراحها، وإذا كلموا في
ذلك قالوا: انها أخبار آحاد، وهذا مما يضحك الثكلى، إذ قدمنا أن السيد الجليل
رضي الدين بن طاووس أوردها عن ثلاثمائة طريق.
وليت شعري كيف ذهب عليهم أنه إذا لم يكن هذه الطرق المشفوعة بألوف في
معناها من طرق الخاصة متواترة معنى، فلا تواتر حينئذ، ولا يمكن ادعاه في مادة
من المواد، ومعجزات نبينا (صلى الله عليه وآله) من هذا القبيل، فان التزموا ذلك لم تنهض لهم
حجة على الملاحدة واليهود والنصارى، وغيرهم من أهل الأهواء، وحسبك به
شناعة.
وقد حكى الفاضل الجليل بهاء الدين علي بن عيسى الأربلي في كتابه كشف
الغمة: أنه باحث بعض علمائهم من مدرسي مذهب أحمد بن حنبل، قال: فأوردت
عليه حديثا من مسند امامه، فقال: أحاديث المسند لم يلتزم أحمد فيها الصحة، فلا
تكون حجة علي، فأوردت عليه مثل ذلك من صحيح الترمذي، فطعن في رجل من
رجاله، فقلت له: أتعذر وأمتنع البحث معكم، فقال: كيف؟ قلت: لأنكم تطعنون
فيما نورده نحن وفيما توردونه أنتم عن مشائخكم وأئمتكم، فكيف يتحقق بيننا بحث،
أو تقوم ما ندعيه حجة؟ (1) انتهى.
وربما قال بعضهم: ان هذه الأخبار ظنية المتن، فلا تنهض بمعارضة الاجماع
الذي هو حجة قطعية، المنعقد على امامة أبي بكر وخلافته.
وأقول: أولا كيف ينعقد الاجماع؟ وأكابر الصحابة لم يحضروا السقيفة، ولم
يرضوا ببيعة أبي بكر، كسعد بن عبادة، وابنه قيس بن سعد، والعباس بن عبد
المطلب، وهو عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأبنائه، ومولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، وولديه



(1) كشف الغمة 1: 340.
253
سيدي شباب أهل الجنة، وسلمان، وأبي ذر، والمقداد، وعمار، وأسامة بن زيد،
وبلال بن رباح مؤذن الرسول، والبراء بن عازب (1)، وعبد الله بن مسعود،
ودحية الكلبي، وغيرهم ممن يطول تعداده من أكابر الصحابة وفضلائهم.
وفي الديوان المنسوب إلى مولانا سلام الله عليه:
فان كنت بالشورى ملكت أمورهم * فكيف بهذا والمشيرون غيب
وان كنت بالقربى حججت خصيمهم * فغيرك أولى بالنبي وأقرب (2)
قوله (عليه السلام) (والمشيرون غيب) يدل على أن المشار إليهم من أكابر الصحابة
وأهل الفضل والجلالة لم يحضروا السقيفة أصلا، فكيف يتصور انعقاد الاجماع، لأن
لفظ (المشيرون) الواقع في كلامه سلام الله عليه جمع محلى باللام، وهو يفيد
الاستغراق عند المحققين من أهل العربية، فيكون معنى كلامه (عليه السلام) أن كل من له
أهلية الشورى والاجماع ومن يعتنى بشأنه من الصحابة كان غائبا ولم يكن حاضرا
عند الشورى في السقيفة السخيفة، فلا يمكن اثبات خلافة الطواغيت بالاجماع
والشورى.
قال امام المشككين ومقدام المخالفين فخر الدين محمد بن عمر بن الخطيب
الرازي الشافعي الأشعري في كتابه نهاية العقول: ان الاجماع لم ينعقد في زمن
أبي بكر أصلا، إذ كان سعد بن عبادة مع كونه من أفاخم الصحابة مخالفا لذلك، حتى
أنه لم يحضر جمعهم أصلا، وكان تظاهره بذلك مستمرا طول خلافة أبي بكر، فلما
توفي أبو بكر واستخلف عمر وكان غليظا شديد الايذاء للمؤمنين (3)، فانهزم منه



(1) روى الفاضل الطبرسي رحمه الله في الكامل البهائي، باسناده إلى إسحاق بن جعفر أنه
قال: سمعت عشرة من أخيار التابعين يقولون: سمعنا البراء بن عازب يقول: أنا برئ ممن
تقدم على علي (عليه السلام) في الدنيا والآخرة (منه).
(2) ديوان الإمام علي (عليه السلام) ص (صلى الله عليه وآله).
(3) تأمل في قوله في شأن عمر (وكان غليظا شديد الايذاء للمؤمنين) بعين
البصيرة لتطلع على دأبه، وقوله (فانهزم منه سعد بن عبادة) وليت شعري إذا كان الحال
على هذا المنوال، فكيف يدعي حصول البيعة من جميع الصحابة بالاختيار؟ فاعتبروا يا
اولي الأبصار (منه).
254
سعد بن عبادة مهاجرا من المدينة خائفا، فتوفي خارج المدينة، فتم انعقاد الاجماع.
انتهى.
وهو صريح في عدم انعقاد الاجماع على إمامته أصلا في وقت من الأوقات فكيف
ببيعته؟ وكيف تنعقد بيعة لمن هو في بيعة غيره؟ أليس رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد وجه
أبا بكر وعمر وغيرهما في جيش أسامة بن زيد قبل وفاته؟ وأمرهم يسمعون له
ويطيعون ويصلون بصلاته ويأتمرون بأمره.
وقال صلوات الله وسلامه عليه: نفذوا جيش أسامة، ولا يتخلفن أحد الا من
كان عاصيا لله ورسوله، فلما صار أسامة بعسكره على أميال من المدينة بلغهم مرض
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فرجع أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، فلما دخلوا على
رسول الله (صلى الله عليه وآله) تغير لونه، وقال: اني لا آذن لأحد أن يتخلف عن جيش أسامة،
وهم أبو بكر بالرجوع إلى أسامة واللحوق به فمنعه عمر.
فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفعلوا ما فعلوا، قال عمر لأبي بكر: اكتب إلى أسامة
يقدم إليك، فان قدومه إليك يقطع الشنعة (1) عنا، فكتب إليه أبو بكر:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أبي بكر خليفة رسول الله إلى أسامة بن زيد،
أما بعد إذا أتاك كتابي هذا فاقبل إلي أنت ومن معك، فان المسلمين قد أجمعوا علي،
وولوني أمرهم، فلا تتخلف فتعصي ويأتيك ما تكره، والسلام.
فأجابه أسامة وكتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله أسامة بن زيد
عامل رسول الله (صلى الله عليه وآله) على غزاة الشام إلى أبي بكر بن أبي قحافة، أما بعد فقد أتاني
كتابك ينقض أوله آخره، ذكرت في أوله أنك خليفة رسول الله، وفي آخره أن



(1) هي بالضم: القباحة والفضاحة.
255
الناس قد أجمعوا عليك وولوك أمرهم ورضوا بك.
واعلم أني ومن معي من المهاجرين والأنصار، ما رضيناك ولا وليناك أمرنا،
فاتق الله ربك، وإذا قرأت كتابي هذا أقدم إلى امامك الذي بعثك معه النبي (صلى الله عليه وآله) و
لا تعصه، وانظر أن تدفع الحق إلى أهله، فإنهم أحق منك، وقد علمت ما قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في علي (عليه السلام) يوم الغدير، وما طال العهد فتنساه.
وانظر أن تلحق بمركزك ولا تتخلف، فتعصي الله ورسوله، استخلفني عليكم ولم
يعزلني، وقد علمت كراهية رسول الله (صلى الله عليه وآله) لرجوعكم عني إلى المدينة، وقال: لا
يتخلف أحد عن جيش أسامة الا كان عاصيا لله ورسوله.
فيا لك الويل يا بن أبي قحافة تعدل نفسك بعلي بن أبي طالب، وهو وارث
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووصيه وابن عمه وأبو ولديه، فاتق الله أنت وصاحبك، فإنه لكما
بالمرصاد، وأنتما منه في غرور، والذي بعث محمدا بالحق ما تركت أمة وصي رسولها
ولا عصوا عهده الا استوجبوا من الله اللعنة والسخط.
فلما وصل الكتاب إلى أبي بكر هم أن يخلعها من عنقه، فقال له عمر: لا تخلع
قميصا قمصك الله فتندم، فقال: يا عمر أكفر بعد اسلامي، فألح عليه عمر، وقال:
اكتب وأمر فلانا وفلانا جماعة من أصحاب رسول الله فكتبوا إليه أن أقدم ولا تفرق
جماعة المسلمين.
فلما وصلتهم كتبهم قدم المدينة ووصل إلى علي (عليه السلام)، فعزاه برسول الله (صلى الله عليه وآله)
وبكى بكاء شديدا، وضم الحسن والحسين (عليهما السلام) إلى صدره، وقال: يا علي ما هذا؟
قال سلام الله عليه: كما ترى، قال: فما تأمرني؟ فأخبره بما عهد إليه رسول الله (صلى الله عليه وآله)
من تركهم حتى يجد أعوانا.
ثم أتى أبو بكر أسامة وسأله البيعة، فقال له أسامة: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أمرني
عليك، فأنت من أمرك علي؟ والله لا أطيعك أبدا، ولا حللت لك عهدي، فلا صلاة

256
لك الا بصلاتي (1).
وذكر الفاضل ابن أبي جمهور في كتاب المجلي: أن دحية الكلبي كان كثير السفر
إلى الشام، فلم يحضر موت النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما قدم من سفره وبلغه الخبر، قال: من
الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقيل له: ابن أبي قحافة، فقال متعجبا: وكيف ذلك؟
وما فعل علي (عليه السلام)؟ وهو صاحبه يوم الغدير وغيره لنص الرسول، فقيل: ها هو
حاضر في بيته، ولم يصل إلى ذلك ولم يتمكن.
فجاء حتى دخل المسجد وأبو بكر جالس والى جنبه عمر، والمسلمون حافون
بهما، فقال دحية: ما الذي أوصلك يا أبا بكر هذا المقام؟ وليس هولك، وإنما هو
لغيرك، وكيف جلست هذا المجلس وصاحبه حاضر؟ ألست سمعت كما سمعنا؟
وشهدت كما شهدنا؟ أما كنت حاضرا يوم الغدير؟ وقد نص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على
ابن عمه بالخلافة والإمامة، وحذر من مخالفته، وأمرنا وعامة المسلمين بطاعته،
مالك وهذا المقام؟ وكيف وصلت إليه ولست من أهله؟
فقال له عمر: يا أبا عمارة انك غبت وحضرنا، ولم تشهد كما شهدنا، وان الأمر
يحدث بعده الأمر، فقال دحية: لا والله لم يحدث بعد ذلك الأمر أمر، وإنما فعلتم ما
فعلتم خلافا على الله ورسوله، ألا اني أشهدكم ان سكني المدينة علي حرام، ثم إن
دحية ارتحل بأهله إلى الشام، فلم يزل بها حتى مات (2).
ونقل شيخنا الشهيد الثاني قدس الله روحه، عن الشيخ أبي جعفر الطوسي في
الاختيار: أنه روي عن هشام بن سالم، عن أبي عبد الله، عن أبي البختري، قال:
حدثنا عبد الله بن الحسن بن الحسن أن بلالا أبى أن يبايع أبا بكر (3)، وان عمر أخذ



(1) راجع حول تخلف أبي بكر وعمر عن جيش أسامة إلى بحار الأنوار 8: 256 - 259
الطبع الحجري.
(2) المجلي ص 416 - 417 الطبع الحجري.
(3) في تعليقات شيخنا الشهيد الثاني على الخلاصة: بلال بن رباح أبو عبد الله، شهد بدرا
واحدا والخندق والمشاهد كلها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) مؤذن النبي (صلى الله عليه وآله)، لم يؤذن لأحد بعد
النبي (صلى الله عليه وآله) فيما روي الا مرة واحدة في قدمة قدمها لزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) طلب إليه
الصحابة ذلك، فأذن لهم ولم يتم الأذان.
مات بدمشق سنة عشرين، وقيل: سنة احدى وعشرين، وقيل: سنة ثمان عشرة و
هو ابن بضع وستين سنة، ودفن بالباب. وقال علي بن عبد الرحمن: ان بلالا مات بحلب و
دفن على باب الأربعين (منه).
257
بتلابيبه، فقال له: يا بلال هذا جزاء أبي بكر منك أن أعتقك فلا تجئ تبايعه (1).
فقال: إن كان أبو بكر أعتقني لله فليدعني له، وإن كان أعتقني لغير ذلك فها
أنا ذا (2)، وأما بيعته فما أبايع أحدا لم يستخلفه رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وبيعة ابن عمه في
أعناقنا إلى يوم القيامة (3)، فقال له عمر: لا أبا لك لا تقم عندنا، فارتحل إلى الشام،
وتوفي بدمشق بالطاعون، ودفن بالباب الصغير، وله شعر (4) في المعنى، كذا وجد



(1) في الفقيه (1: 283 - 284) روى أبو بصير عن أحدهما (عليهما السلام) أنه قال: ان بلالا كان
عبدا صالحا، فقال، لا أؤذن لأحد بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فترك حينئذ حي على خير
العمل (منه).
(2) وفي الاستيعاب لبعض عظماء المخالفين: انه لما توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) أراد بلال الرحلة
إلى الشام، فمنعه أبو بكر وأمره بملازمته والأذان له، فقال بلال له: ان كنت أعتقتني لله
فاتركني أمضي حيث أردت، وان كنت أعتقتني لنفسك فامتنع ما تريد، فتركه. وذكر
الفاضل الطبرسي في الكامل البهائي أن بلالا امتنع عن بيعة أبي بكر والأذان له (منه).
(3) ورأيت في الذكرى في مباحث النوافل: روي أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لبلال: حدثني
بأرجى عمل عملته في الاسلام، فاني سمعت نعليك بين يدي في الجنة، فقال: ما عملت
عملا أرجى عندي من أنني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار الا صليت بذلك الطهور
ما كتب لي أن أصلي. وحينئذ فلا وجه لتوقف بعضهم في جلالة قدر بلال (منه).
(4) الشعر المذكور على ما نقله القاضي الشوشتري في مجالس المؤمنين هو قوله:
تالله لا لأبي بكر نحوت ولو * لا لله قامت على أوصالي الصنع
الله بوأني خيرا وأكرمني * وإنما الخير عند الله متسع
لا تلقني تبوعا كل مبتدع * فلست مبتدعا مثل الذي ابتدع
258
منسوبا إليه 1.
وروى الفقيه رشيد الدين محمد بن علي بن شهرآشوب المازندراني في كتاب
المناقب في فضل آل أبي طالب: أن أبا بكر لما بويع للخلافة يوم السقيفة اجتمعوا في
أول جمعة، وقام أبو بكر على منبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) يخطب، فقام إليه علي (صلى الله عليه وآله)
وذكره بحقه وما هو الواجب له، وما قاله رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حقه يوم الغدير وغيره
من المواقف التي نص فيها، وبين لهم بذلك وجوب الخلافة له من بعده، وأنه القائم
بالأمر دون من عداه، وذكره بإقامة الله وعيد الآخرة.
ثم إنه سلام الله عليه استشهد جماعة من الصحابة، فقال: رحم الله امرئ سمع
مقالة رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الغدير، فليقم وليشهد بما سمع، فقام يومئذ من المسجد
اثنا عشر رجلا، ستة من المهاجرين، وستة من الأنصار، فشهدوا بحضرة الجماعة بما
قاله النبي (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير، وما أكده من الوصية في حقه (عليه السلام).
وقالوا: يا أبا بكر رد الحق إلى أهله، انك سمعت كما سمعنا، وشهدت كما شهدنا،
أما تذكر قول النبي (صلى الله عليه وآله) لك ولعمر لما سلم على علي بإمرة المؤمنين، فقلتما أفبأمر من
الله ورسوله؟ فقال صلوات الله وتسليماته عليه: نعم، فقمتما، أما أنت يا أبا بكر
فقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وأما أنت يا عمر فقلت: بخ بخ لك يا بن أبي
طالب، أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة، خف الله يا أبا بكر وانصف
الرجل، ولا تظلم أهل البيت حقهم، ولا تسلبهم ملكهم الذي جعل الله لهم، وتكلم
كل واحد بكلام يشبه هذا الكلام، حتى أفحم على المنبر، ولم يستطع أن يرد جوابا.
فلما فرغ القوم من كلامهم قال أبو بكر: أيها الناس أقيلوني فلست بخيركم وعلي
فيكم، فقام إليه عمر عجلا، وقال: لا نقيلك ولا نستقيلك، قدمك رسول الله علينا
في حياته، فكيف لا نقدمك بعد وفاته؟
ثم قال: يا لكع إذا كنت لا تقوم بحجة فلم أقمت نفسك في هذا المقام؟ والله لقد
هممت أن أخلعها منك وأجعلها في أبي عبيدة، ثم أنزله من المنبر وخرجوا من

259
المسجد، ولم ينتظم في ذلك اليوم أمر جماعتهم (1) انتهى ملخصا.
وبالجملة فالاجماع لم ينعقد أصلا، ومدعيه مكابر محجوج بما ذكرناه، وامتناع
سعد بن عبادة عن البيعة مشهور لا يكاد ينكر، وقد كان حاضرا في تلك السقيفة
السخيفة، حتى قال عمر: اقتلوا سعدا قتل الله سعدا، فقال سعد لأهله: احملوني عن
موضع الفتنة، فحمل من بينهم وادخل منزله ولم يبايع.
وثانيا: أنه على تقدير تسليم الاجتماع الظاهري، فهو إنما يكون حجة لو لم
يعارضه نص من لا ينطق عن الهوى، ولا يجوز الاجتهاد والبيعة بالاختيار، مع
حصول النص القاطع، وتعيينه (صلى الله عليه وآله) باب مدينة علمه للإمامة، كما وردت به
الأخبار المتواترة التي نقلنا شطرا منها.
وثالثا: أن المفهوم من مطالعة السير والتواريخ وكتب حديث الخاصة والعامة أن
انعقاد البيعة لأبي بكر لم يكن بالاختيار، بل بالحيلة والمكر والقهر والغلبة والخديعة.
فقد نقل أهل السير أنه لما صفق عمر وأبو عبيدة يديهما على يد أبي بكر بالبيعة،
وسلما عليه بالخلافة، تابعهم جماعة المنافقين والطلقاء ممن حضر السقيفة، وألزموا
سائر المسلمين ومن لم يحضرها بالمبايعة، ولم يرخصوا لأحد منهم في تركها طوعا
كان أو كرها.
ومما ينطق بذلك ما رواه الفاضل الجليل ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة
عن البراء بن عازب أنه قال: لم أزل محبا لأهل البيت:، فلما مات النبي (صلى الله عليه وآله)
أخذني ما يأخذ الوالهة من الحزن، فخرجت من منزلي لأنظر ما يكون من أمر
الناس، فإذا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة سائرين ومعهم جماعة من الطلقاء والمنافقين
، وعمر شاهر سيفه، وكل من مروا به من المسلمين قالوا له: بايع أبا بكر فقد بايعه
الناس، فيبايع شاء ذلك أولم يشأ.



(1) لم أعثر عليه في المناقب.
260
الله عذابه وضاعف عقابه.
فانظر أيدك الله كيف عميت عين بصيرته، وكمهت حدقة فكرته، حتى جعل
بيعة الواحد والاثنين موجبا للخلافة مثبتا للإمامة، قاتله الله تأدت به المكابرة إلى
جعله الواحد اجماعا وحجة قاطعة، فخالف في ذلك ما عليه كافة الأصوليين
والمتكلمين.
أليست الفروع مع سهولة الخطب فيها لا تثبت بالواحد والاثنين؟ بل لابد من
اجماع أهل الحل والعقد عليها، فكيف تثبت به الإمامة التي هي قائمة مقام النبوة
وجارية مجراها الا في تلقي الوحي من الجناب الإلهي جل شأنه؟
قال كمال الدين محمد بن طلحة الشامي الشافعي في كتابه مطالب السؤول: لا
رتبة أعظم من الخلافة، ولا أعلى من مقامها، ولا حكم لملك في الملة الاسلامية الا
وهو مستفاد من أحكامها، ولا ذو إيالة ولا ولاية الا وهو منقاد لسيرة زمامها،
واقف في تصرفاتها بين نقضها وإبرامها، فهي المنصب الأعلى والمتصف بها صاحب
الدنيا والأمر والنهي متصل بأسبابه والجاه والمال، محصل من أبوابه، والنباهة
والشهرة تستفاد من اقترابه، والتقدم والتأخر يرتاد من ارضائه واغضابه،
وهو خليفة النبي (صلى الله عليه وآله) في أمته لإقامة أحكامه وآدابه انتهى.
فليت شعري كيف طبع الشيطان على قلب هذا المتعصب العنيد، فالتزم انعقادها
وثبوتها بالواحد والاثنين.
ومن أعجب العجائب قوله (لم يقم دليل من عقل ولا سمع على اشتراط الاجماع)
وأي دليل قام له على الاكتفاء بالواحد في هذا الأمر الخطير والمنصب الجليل؟ ونحن
في عويل من ثبوتها بالاجماع، وقد نوهنا على أنها لا تثبت بغير النص وما يجري
مجراه في كتابنا.
وأظن أن الذي حداه عليه عدم تحقق الاجماع على خلافة أصحابه اللصوص
الثلاثة، كما ينبئ عنه قوله: لعلمنا أن الصحابة مع صلابتهم في الدين اكتفوا به، كعقد

262
عمر لأبي بكر وعبد الرحمن لعثمان انتهى.
وهذا تصريح منه بعدم انعقاد الاجماع عليهما، فارتبك واحتال لمذهبه الفاسد،
واكتفى بعقد الواحد، وهو في مكان من الفساد، كما لا يخفى على ذوي الرشاد، وقد
أوعبنا الكلام في هذا المقام في معلقاتنا على مبحث الإمامة من المواقف.
تكميل
في ذكر واقعة السقيفة على سبيل الاختصار (1)
في أنه (عليه السلام) امتنع عن بيعة أبي بكر، واظهار الشكاية منه وأخويه، واحتجاجه
عليهم بمناقبه الفاخرة والنصوص الظاهرة.
قال بعض الأكابر من المخالفين: خلاصة واقعة السقيفة، أنه لما قبض
رسول الله (صلى الله عليه وآله) اجتمعت جماعة من الأنصار في سقيفة بني ساعدة، وهي صفة كانوا
يجتمعون بها، فخطبهم سعد بن عبادة، ومدحهم في خطبته، وحرضهم على طلب
الإمامة، ثم قال: أنجز الله لنبيكم الوعد وتوفاه، فشدوا أيديكم بهذا الأمر فأنتم
أحق الناس (2)، فأجابوه جميعا أن أصبت ولن نعدو أن نوليك.



(1) اعلم أن ما ذكرناه من خلاصة واقعة السقيفة هو الموافق لما نقله المخالفون، والذي نقله
أصحابنا كالفاضلين الطبرسيين في الكامل والاحتجاج يخالف ذلك، كما هو بين لمن طالع
الكتابين، وإنما اقتصرنا على نقل الخصوم، لأنا أردنا الزامهم والاحتجاج عليهم (منه).
(2) المفهوم من كلام الفاضل الجليل الحسن بن علي بن محمد بن الحسن الطبرسي في
الكامل البهائي الذي صنفه للصاحب الأعظم خواجة بهاء الدين محمد الجويني، أن سعدا لما
أرادت الأنصار مبايعته أبى ذلك وقال: لا أبيع ديني بالدنيا، وقد سمعت نص النبي (صلى الله عليه وآله)
على ابن عمه علي (عليه السلام).
فلما قال سعد هذا المقال مالت أكثر الأنصار إلى أبي بكر، وقويت شوكته، فبايعوه و
امتنع سعد وقومه عن البيعة، ولم يقدروا على اجباره، لكثرة عشيرته وجلالة قدره في
الأنصار، حتى انتهت الخلافة إلى عمر، فألزمه البيعة وألح عليه الحاحا، فامتنع سعد.
فأخذ عمر يقبل الذروة والعار في مكيدته، ويتعمد الحيلة في بيعته، حتى قال له قيس
بن سعد: اني لك ناصح مشفق فاقبل نصيحتي، ان سعدا أقسم بالله أن لا يبايع ولا يمكنكم
اجباره على البيعة الا أن تقتلوه، ولا تمكنوا من قتله حتى تقتلوا جميع الخزرج، وقتل
الخزرج منوط بقتل الأوس، وقتل الأوس منوط بقتل جملة بطون اليمن، وهذا مما لا سبيل
لكم إليه، فتركه عمر.
ثم إن سعدا خرج إلى الشام لحاجة له، وقد كان خالد بن الوليد بالشام، فبينا سعد في
ليلة من الليالي قد خرج من محلة له إلى قرية أخرى ادشعر به خالد، فانتهز الفرصة وكان
حاذقا في الرماية، فقصده في جماعة من أصحابه من رماتهم، فقتلوه، ثم تخوفوا من شناع
العامة وخافوا من طلب الخزرج بثأره، فقالوا: قتله الجن، ووضعوا هذين البيتين على
لسانهم:
نحن قتلنا سيد الخزرج * سعد بن عبادة
ورميناه بسهمين * فلم يخط فؤاده
(منه).
263
فبلغ هذا الخبر أبا بكر وعمر، فجاءا مسرعين إلى السقيفة، فقال أبو بكر للأنصار:
ألم تعلموا أنا معاشر المهاجرين أول الناس اسلاما، ونحن عشيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
وأنتم أنصار الدين واخواننا في كتاب الله، ثم قالت الأنصار: فمنا أمير ومنكم أمير،
فقال عمر: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد.
وبعد تفاقم الحال، وكثرة القيل والقال القريب إلى القتال، قال عمر وأبو عبيدة
لأبي بكر: لا ينبغي لأحد من الناس أن يكون فوقك، وأنت صاحب الغار وثاني
اثنين، وأمرك رسول الله بالصلاة، فأنت أحق بهذا الأمر، فبايعاه وبايعه بشر بن
سعد الخزرجي من الأنصار حسدا لسعد، وخوفا أن يصير الأمر إليه، فبايعه القوم
ممن حضر السقيفة (1).
ولما انتهت إلى مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنباء السقيفة، قال: ما قالت الأنصار؟



(1) راجع تاريخ الطبري 3: 199 - 201.
264
قالوا: قالت: منا أمير ومنكم أمير، قال (عليه السلام): فهلا احتججتم عليهم بأن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أوصى بأن يحسن إلى محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، قالوا: وما في
هذا من الحجة عليهم؟ فقال سلام الله عليه: لو كانت الامارة فيهم لم تكن الوصية
بهم.
ثم قال: فماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول، فقال (عليه السلام):
احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة، وأراد صلوات الله عليه بالثمرة نفسه وأهل بيته،
بمعنى أنهم ان كانوا أولى بالخلافة لكونهم شجرة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنحن أولى منهم
لكوننا ثمرته، وللثمرة اختصاص بالقرب لكونها مقصودة بالذات من الشجرة
وغرسها.
وقد نقل عنه (عليه السلام) كلام في هذا المعنى، وهو قوله: ان كانت الخلافة في قريش فأنا
أحق بها، وان لم تكن في قريش فالأنصار على دعواهم. وهذا منه صلوات الله عليه
على طريق الالزام، والا فهو المنصوص بالنصوص المتواترة، فلا حاجة به إلى هذه
الاستدلالات، وقد اتفق أهل التواريخ على أنه (عليه السلام) لم يبايع أبا بكر يوم السقيفة.
وقال محمد بن جرير الطبري في تأريخه: انه لم يبايع أصلا، ولو أنه بايعه كما بايع
غيره لما وقع الخلاف في هذه الأمة في أمره سلام الله عليه خاصة من بين الصحابة،
وما هموا بقتله، وجمعوا الحطب على بابه، وهموا باحراق بيته (1) وفيه ولداه سيدا



(1) قلت: وروى ابن عبد ربه، وهو رجل مغربي من أعيان المخالفين وممن لا يتهم في
روايته عندهم، قال في الجزء الرابع من كتاب العقد الفريد (3: 63 ط مصر) عند ذكر
الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر ما هذا لفظه: فأما علي والعباس، فقعدا في بيت فاطمة حتى
بعث اليهما أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهما من بيت فاطمة، وقال له: ان أبيا فقاتلهما،
فأقبل بقبس من نار على أن يضرم عليهما البيت، فلقيته فاطمة فقالت: يا بن الخطاب
أجئت لتحرق ديارنا؟ فقال: نعم. قال صاحب الطرائف (ص 239) وروى نحو ذلك
مصنف كتاب الغرر وأنفاس الجواهر (منه).
265
شباب أهل الجنة، وريحانتا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وفاطمة سيدة نساء العالمين سلام الله
عليهم أجمعين، ومنعوهم ميراثهم، وغلبوهم على خمسهم (1).
والمذكور في الجمع بين الصحيحين للحميدي من عظمائهم أنه (عليه السلام) لم يبايع الا
بعد ستة أشهر (2). وهذا على تقدير صحته لا ينافي ما قلناه، لأن الظاهر أنه بمحض
الاكراه والاجبار، وأماراته كثيرة:
منها: هجومهم على بيت فاطمة (عليها السلام)، وجمعهم الحطب لاحراقه.
ومنها: أمرهم قنفذا لعنه الله بضربها لما حالت بينهم وبين الباب، حتى كان ذلك
سببا لاسقاط حمل كان سماه النبي (صلى الله عليه وآله) محسنا.
ومنها: كسرهم سيف الزبير ودفعهم في صدر المقداد وغيرها.
وكل ذلك رواه الثقات من أهل السير من المخالفين، منهم الواقدي، والواحدي،
وابن أبي الحديد، ومحمد بن جرير الطبري في تأريخه وغيرهم (3).
وروي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: ما رحمت أحدا كرحمتي علي بن



(1) تاريخ الطبري 3: 198.
(2) الطرائف ص 238 عن الجمع بين الصحيحين.
(3) ذكر الطبري في تاريخه (3: 198) قال: أتى عمر بن الخطاب منزل علي (عليه السلام) فقال:
والله لأحرقن عليكم أو لتخرجن للبيعة، فخرج عليه الزبير معتقلا بسيفه، فعثر فسقط
السيف من يده، فهرول عليه فأخذه.
وذكر الواقدي أن عمر جاء إلى علي (عليه السلام) في عصابة، فيهم أسيد بن حصين، وسلمة بن
أسلمة الأشهلي، فقال: أخرجوا أو لنحرقها عليكم.
وذكر ابن جيرانه في عذره فقال: قال زيد بن أسلم: كنت ممن حمل الحطب مع عمر إلى
باب فاطمة حين امتنع علي وأصحابه أن يبايعوا، فقال عمر لفاطمة: أخرجي من البيت، و
الا أحرقته ومن فيه، قال: وفي البيت علي والحسن والحسين وجماعة من أصحاب
النبي (صلى الله عليه وآله)، قالت فاطمة: تحرق على ولدي؟ قال: أي والله أو ليخرجن وليبايعن (منه).
راجع الطرائف ص 238 - 239.
266
أبي طالب (عليه السلام)، وقد جئ به إلى أبي بكر ليبايعه، فقيل له: بايع، فقال: وان لم أفعل
فمه؟ فقيل: اذن والله نضرب الذي فيه عيناك، قال علي (عليه السلام): ان تقتلوني فأنا
عبد الله وأخو رسوله، فقال عمر: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسول الله فالتراب
بفيك، فقال (عليه السلام): يا بن صهاك لولا كتاب من الله سبق لعلمت أينا الأذل، فاصفر
وجه عمر ولم يقدر أن يتكلم (1).
ومن الأخبار المصرحة بشكايته منهم، ما رواه صاحب كتاب العاقبة من
عظماء الشافعية: أنه (عليه السلام) قال: أنا أول من يجثو بين يدي الله للخصومة مع الثلاثة.
وروى جماعة من مشاهير رواة الفريقين: أن عليا (عليه السلام) لما امتنع من المبايعة له،
جلس هو وعمر وجماعة من أصحابهما يديرون الفكر في أمره (عليه السلام)، وما يكيدونه
به، فقال لهم خالد بن الوليد: ان شئتم قتلته، فقال أبو بكر: أو تفعل ذلك يا خالد؟
قال: نعم، فقال له: افعل ذلك إذا كان وقت صلاة الصبح، صل إلى جانبه وسيفك
تحت ثيابك، فإذا جلس للتشهد فاقتله، والعلامة بيني وبينك عند التسليم بعد
التشهد قبله، فقال خالد: أفعل ذلك غدا.
فأتى خالد وقام إلى جانب علي (عليه السلام) وسيفه معه، وكان الرجل يتفكر في صلاته
في عاقبة ذلك، فخطر بباله أنه إذا قتل خالد عليا (عليه السلام) ثارت الفتنة، وأن بني هاشم
يقتلونه.
فلما فرغ من التشهد التفت أبو بكر إلى خالد قبل السلام، وقال: لا يفعلن خالد
ما أمرته به ثم سلم، فقال علي (عليه السلام) لخالد: أو كنت فاعلا؟ قال: نعم لولا أنه نهاني.
فمد أمير المؤمنين (عليه السلام) يده إلى عنقه بإصبعين وعصره بهما حتى كادت عيناه
تسقطان، وجعل خالد يضرب بيديه ورجليه حتى أحدث في ثيابه، ولم يقدر أحد
أن يخلصه منه، وكل ما قرب منه أحد رمقه بعينه فيبعد خيفة منه: فقال أبو بكر لعمر:



(1) راجع بحار الأنوار 8: 53 الطبع الحجري.
267
هذه مشورتك المنكوسة.
وكان سلام الله عليه إذا غضب وقام عرق الغضب بين عينيه تنحاه الصحابة، فلم
يقدر أحد على القرب منه، والتجأوا إلى عمه العباس (1)، فشفع إليه في خالد،
فأطلقه لأجله بعد أن كادت نفسه تتلف، وقد افتضح بين القوم.
أقول: هذه الواقعة من أوضح الدلائل على ردتهم، وكفرهم، وانقلابهم،
واستحلالهم لقتله صلوات الله عليه، وبلوغهم المبلغ الفضيع في الجبر والاكراه،
والتمرد على الله عز مجده.
وهذا الخبر مروي عند الكل، حتى أن بعض الشافعية استدل بهذه الواقعة على
جواز الكلام قبل التسليم في الصلاة للضرورة، اعتمادا على فعل أبي بكر ونهيه خالدا
عما واطأه عليه من قتله لمولانا (عليه السلام). وقال آخرون: لا يجوز ذلك، فان أبا بكر قال
ذلك بعد أن سلم في نفسه.
وأما شكاياته (عليه السلام) من هؤلاء الثلاثة المتلصصين، فقد نقلها المخالف والمؤالف،
وكتاب نهج البلاغة مشحون بها.
ومن ذلك قوله (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية (2): أما والله لقد تقمصها فلان (3) وانه
ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى (4)، ينحدر عني السيل (5) ولا يرقى إلي



(1) في بعض التواريخ: فالتجأوا إلى ابن عباس، وكأنه سهو (منه).
(2) نهج البلاغة ص 48 - 50 رقم الخطبة: 3.
(3) المراد بفلان أبو بكر. وفي بعض النسخ (لقد تقمصها ابن أبي قحافة) والضمير في
(تقمصها) راجع إلى الخلافة لمعهوديتها، أو سبق ذكرها (منه).
(4) قطب الرحى هو ما تدور عليه، ولا يتم الانتفاع بها الا به، وشبه نفسه به لأن
الخلافة لا تقوم ولا يتم الانتفاع بها بدونه كحال القطب من الرحى (منه).
(5) هذا كناية عن ارتفاع محله وعظم شأنه. وكذا قوله (ولا يرقى إلي الطير) فان الجبال
الشامخة جدا لا يبيت عليها الطير، بل ينحدر عنها السيل إلى الوهاد، وكذا لا يرقى إليها
الطير، وهذا كناية عن أفضليته (عليه السلام) على من نازعه الخلافة، وان نسبته (عليه السلام) إليه كنسبة
الجبال الشامخة إلى الوهاد (منه).
268
الطير.
ومنها: قوله فيها: فصبرت وفي العين قذى (1)، وفي الحلق شجى، أرى تراثي
نهبا.
ومنها: قوله فيها: فواعجبا بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لاخر بعد وفاته.
ومنها: قوله: فصيرها في حوزة خشناء، يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر
العثار فيها والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة ان أشنق لها خرم، وان أسلس
لها تقحم.
ومنها: قوله: فصبرت على طول المدة، وشدة المحنة، حتى مضى لسبيله، فجعلها
في ستة زعم أني أحدهم، فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب في مع الأول منهم،
حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر.
ومنها: قوله: فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الاخر لصهره مع هن وهن، حتى
قام ثالث القوم.
ومنها: قوله: ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم وراقهم زبرجها.
ومنها: قوله: أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة
بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء ألا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب
مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم
عندي أهون من عفطة عنز.
أقول: وهذه الخطبة من مشهورات خطبه، لا يشك فيها الا مكابر قليل
البضاعة. ومن مخذولي العامة وجهالهم من أنكر انتساب هذه الخطبة له (عليه السلام)، وكأنه
لما وجد فيها الطعن العظيم على أئمتهم الطواغيت الثلاثة.



(1) القذى ما يقع في العين فيؤذيها كلغبار ونحوه. والشجى ما ينشب في الحلق من عظم و
نحوه (منه).
269
وهذه جهالة منه أو تجاهل (1)، فان هذه الخطبة على ما ذكره الشارحان لنهج
البلاغة، أعني: الشيخ الفاضل عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي، والعالم الرباني
والعارف الصمداني كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، قد اشتهرت بين
العلماء قبل وجود السيد الرضي.
قال الشارحان نقلا عن مصدق بن شبيب النحوي أنه قال: لما قرأت هذه الخطبة
على شيخي أبي محمد بن الخشاب، قلت: ان الناس ينسبونها إلى الشريف الرضي،
فقال: لا والله ومن أين للرضي هذا الكلام وهذا الأسلوب؟ فقد رأينا نظمه ونثره
لا يقرب من هذا الكلام، ولا ينتظم في سلكه، على أني رأيت هذه الخطبة بخطوط
العلماء الموثوق بنقلهم من قبل أن يخلق أبو الرضي فضلا عنه (2).
ثم قال العالم الرباني والفاضل البحراني في شرحه: وقد وجدتها في موضعين
تاريخهما قبل مولد الرضي بمدة: أحدهما في كتاب الانصاف لأبي جعفر بن قبة تلميذ
أبي القاسم الكعبي، أحد شيوخ المعتزلة، وكانت وفاته قبل مولد الرضي. والثاني:
أني وجدتها في نسخة عليها خط الوزير أبي الحسن علي بن محمد بن الفرات، وكان



(1) ومنهم من أنكر شكاياته (عليه السلام) مطلقا، والحق أن ذلك افراط في القول، لأن المناقشة
التي كانت بين الصحابة في أمر الخلافة معلومة بالضرورة لكل من يسمع أخبارهم و
تشاجرهم في السقيفة، وتخلف علي (عليه السلام) ووجوه بني هاشم عن البيعة أمر ظاهر لا يدفعه
الا جاهل أو معاند.
وإذا ثبت أنه (عليه السلام) ناقش في هذا الأمر، كان الظن غالبا بوجود الشكاية منه وان لم
تسمع منه، فضلا عن أن الشكاية قد بلغت مبلغ التواتر المعنوي بألفاظ مختلفة وعبارات
متعددة، بحيث يعلم بالضرورة حصولها وأنها لا تكون بأسرها كذبا، كما نبه عليه جماعة
من أصحابنا، منهم الشيخ كمال الدين ميثم البحراني في شرح النهج، وطائفة من مخا لفينا،
منهم الشيخ عبد الحميد بن أبي الحديد، والله الهادي (منه).
(2) شرح نهج البلاغة للبحراني 1: 252. وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 1: 205.
270
وزير المقتدر بالله، وذلك قبل مولد الرضي بنيف وستين سنة (1) انتهى.
أقول: وأنا قد وجدتها في موضعين آخرين قبل زمان الرضي، وهما كتابا
العلل (2) ومعاني الأخبار (3) للشيخ الصدوق رئيس المحدثين محمد بن علي بن
بابويه القمي بسند معنعن. وبالجملة فهذه الخطبة مما يقطع بكونه من كلامه (عليه السلام).
ومن جملة شكاياته قوله (عليه السلام): واعجبا أتكون الخلافة بالصحابة ولا تكون
بالصحابة والقرابة (4).
ومنها: قوله (عليه السلام) في النهج: لنا حق ان أعطيناه، والا ركبنا اعجاز الإبل وان
طال السرى (5) والاعجاز جمع عجز، واعجاز الإبل مؤخرها. والسري سير الليل.



(1) شرح نهج البلاغة 1: 252 - 253.
(2) علل الشرائع ص 150 - 151 ط النجف.
(3) معاني الأخبار ص 360 - 362 وفيه تفسير للخطبة فراجع.
(4) نهج البلاغة ص 502 رقم الحديث: 190.
(5) قال ابن الأثير في النهاية (3: 185): ومنه حديث علي (لنا حق ان نعطه نأخذه، و
ان نمنعه نركب أعجاز الإبل وان طال السرى) الركوب على أعجاز الإبل شاق، أي: ان
منعنا حقنا ركبنا مركب المشقة صابرين عليها وان طال الأمد.
وقيل: ضرب أعجاز الإبل مثلا لتأخره عن حقه الذي كان يراه له وتقدم غيره عليه،
وأنه يصبر على ذلك وان طال أمده، أي: ان قدمنا للإمامة تقدمنا، وان اخرنا صبرنا على
الأثرة وان طالت الأيام.
وقيل: يجوز أن يريد وان نمنعه نبذل الجهد في طلبه، فعل من يضرب في ابتغاء طلبته
أكباد الإبل، ولا يبالي باحتمال طول السرى. والأولان الوجه، لأنه سلم وصبر على
التأخر ولم يقاتل، وإنما قاتل بعد انعقاد الإمامة له.
أقول: تأمل أيدك الله في كلام هؤلاء العوام الذين هم أضل من الأنعام، كيف أظهروا
فضائح أئمتهم ونقلوا هذه الشكايات عنه (عليه السلام) واعترفوا بها، وصرحوا بأنه (عليه السلام) جعل
الإمامة حقه، فالعجب منهم كل العجب، فما هم في ذلك الا كالباحث عن حتفه بظلفه
(منه).
271
قال السيد الرضي (رضي الله عنه): هذا من لطيف الكلام وفصيحه، ومعناه: انا ان لم نعط
حقنا كنا أذلاء، وذلك أن الرديف يركب عجز البعير، كالعبد والأسير ومن يجري
مجراهما (1).
وقد ذكر أبو عبيد الهروي في الغريبين أن المعنى: أن لنا حقا إن نعطه نأخذه، وإن
نمنعه صبرنا على المشقة والمضرة، مثل راكب عجز البعير، أو معناه: أنه إذا منعنا
حقنا تأخرنا وتقدم غيرنا علينا، فكنا كالراكب رديفا لغيره.
وقال الأزهري: لم يرد (عليه السلام) ركوب المشقة، ولكنه ضرب أعجاز الإبل مثلا
لتأخره عن غيره في حقه من الإمامة وتقدم غيره عليه، وأراد ان منعنا حقنا من
الخلافة وأخرنا عن ذلك صبرنا، وان طالت الأيام.
وقيل: يجوز أن يريد وان نمنعه نبذل الجهد في طلبه فعل من يضرب في ابتغاء
طلبه أكباد الإبل، ولا يبالي باحتمال طول السرى.
ورده ابن الأثير الجزري الشافعي في نهاية، بأنه سلم وصبر على التأخر ولم
يقاتل، وإنما قاتل بعد انعقاد الإمامة له (2). وفيه نظر، إذ بذل الجهد لا يتعين بالقتال
وينحصر فيه، كما لا يخفى.
أقول: وهذا مما اتفق على نقله أهل الغريب على اختلاف تفاسيرهم، ولا ربية في
صراحته في شكايته (عليه السلام) منهم، وهذا الكلام قاله (عليه السلام) يوم السقيفة. وقال
المخالفون: انه قاله يوم الشورى بعد وفاة عمر واجتماع الجماعة لاختيار واحد من
الستة.
ولبعض متأخري علمائنا لهذا الكلام حل آخر، محصله: أن المفهوم من
كلامه (عليه السلام) أن الأمر بالأخرة يرجع إليه، ويدل عليه قول (ركبنا) لأن الركوب



(1) نهج البلاغة ص 472، رقم الحديث: 22.
(2) نهاية ابن الأثير 3: 185 - 186.
272
كناية عن الوصول إلى المقصود، وان مدة ركوب المتقمصين للخلافة لما كانت محفوفة
بالظلم والعدوان كانت كالليل المظلم لعدم إنارتها حقيقة، فان الظلم ظلمات يوم
القيامة، ولذا كنا عنه بسير الليل، فقال: وان طال السرى انتهى.
وهو وجه لطيف في نفسه، وإن كان بعيدا بالنسبة إلى ظاهر الكلام.
وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لما كان من أمر أبي بكر وبيعة
الناس له وفعلهم بعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ما فعلوا، لم يزل أبو بكر يظهر له (عليه السلام)
الانبساط، ويرى منه (عليه السلام) انقباضا، فكبر ذلك على أبي بكر، فأحب لقاءه في
الخلوة للاعتذار إليه، بأن الناس اجتمعوا عليه وقلدوه أمرهم، وليس له في ذلك
جناية.
فدعاه يوما وخلا معه، فقال: والله يا أبا الحسن ما كان هذا الأمر مواطاة مني
ورغبة فيما وقعت فيه ولا حرصا عليه، ولا ثقة بنفسي فيما تحتاج إليه الأمة،
وتظهر لي الكراهة فيما صرت فيه، وتنظر إلي بعين السأمة.
فقال له علي (عليه السلام): فما حملك عليه إذ لم ترغب فيه ولم تحرص عليه، ولا وثقت
بنفسك في القيام بما يحتاج إليه.
فقال أبو بكر: حديث سمعته عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تجتمع أمتي على الضلالة.
فلما رأيت اجتماعهم اتبعت حديثه وأعطيتهم الإجابة، ولو علمت أن أحدا يتخلف
لامتنعت عن ذلك.
فقال علي (عليه السلام): أفكنت من الأمة أولم أكن؟ وكذلك العصابة مثل سلمان وعمار
وأبي ذر والمقداد وسعد بن عبادة ومن معه من الأنصار؟
قال: كل من الأمة.
فقال علي (عليه السلام): فكيف تحتج بالحديث مع تخلف هؤلاء عنك؟
قال أبو بكر: ما علمت تخلفهم الا بعد ابرام الأمر والخوض فيه، ولو كنت قعدت
عن ذلك لتفاقم الأمر وارتدت العرب عن الدين، فلما خفت ذلك أجبتهم إلى ما

273
التمسوا مني.
فقال (عليه السلام): أجل، ولكن أخبرني عن الذي يستحق الأمر بماذا يستحقه؟
فقال أبو بكر: بالصدق، والنصيحة، والوفاء، وقمع المداهنة، والمحاباة، وحسن
السيرة، واظهار العدل، والعلم بالكتاب والسنة وفصل الخطاب، مع الزهد في
الدنيا، وقلة الرغبة فيها، وانصاف المظلوم من الظالم القريب والبعيد، ثم سكت.
فقال علي (عليه السلام): والسابقة والقرابة، فقال علي (عليه السلام): هل تجد في نفسك هذه
الخصال أم في؟ قال: بل فيك يا أبا الحسن.
فلم يزل أمير المؤمنين (عليه السلام) يعد مناقبه التي جعلها الله له دون غيره، حتى قال
أبو بكر: أنت أحق الناس بهذا الأمر والمقام مني. فقال سلام الله عليه: فما الذي
غرك عن الله ورسوله وعن دينه؟ وأنت خلو مما يحتاج إليه أهل دينه؟
فبكى أبو بكر وقال: صدقت يا أبا الحسن، أنظرني هذا اليوم لأدبر ما أنا فيه،
وخرج من عنده وخلا بنفسه يومه، ولم يأذن لأحد بالدخول عليه، وعمر يتردد في
الناس لما بلغه من خلوته بعلي (عليه السلام).
فبات أبو بكر ليلته، فرأى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في منامه متمثلا في مسجده، فقام إليه
أبو بكر فسلم عليه، فولى وجهه عنه، فقال أبو بكر: يا رسول الله أمرت بأمر لم
أفعله، فقال: أرد عليك السلام وقد عاديت من والاه الله ورسوله، رد الحق إلى
أهله، قال: فقلت: من أهله؟ فقال: من عاتبك عليه بالأمس.
فأصبح أبو بكر وخرج إلى علي (عليه السلام)، فقال: أبسط يدك أبايعك وأخبرك بما
رأيت في منامي البارحة، قال ابن عباس: فمد علي سلام الله عليه يده وبايعه
أبو بكر، وسلم الأمر إليه، وقص علينا الرؤيا، وكتبنا من لفظه.
وقال أبو بكر: نخرج إلى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) لأخبر الناس بما جرى بيني
وبين رسول الله، فخرجوا إليه، فنادى الصلاة جامعة، وصعد المنبر وحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: معاشر الناس وليتكم ولست بخيركم، أقيلوني أقيلوني.

274
فقام إليه عمر وقال: والله والله لا أقلناك ولا استقلناك، فحطه عن منبره وقال:
يا خليفة رسول الله إياك والاغترار بسحر بني هاشم، فليس هذا بأول سحرهم،
فلم يزل يخدعه حتى رده عن رأيه وعزمه، وأمره بالثبات على ما هو عليه والقيام
به، ووافى أمير المؤمنين (عليه السلام) حتى جلس إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فمر به عمر فقال:
يا علي دون الذي ترومه وتريده خرط القتاد وسيوف حداد، فعلم بالأمر فقام
ورجع إلى بيته وهو يتلو هذه الآية (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة) (1).
ومن شكاياته (عليه السلام) في الديوان المنسوب إليه سلام الله إليه:
لنا ما تدعون بغير حق * إذا ميز الصحاح من المراض
عرفتم حقنا فجحدتموه * كما عرف السواد من البياض
كتاب الله شاهدنا عليكم * وقاضينا الاله فنعم قاض (2)
والشارح الشافعي الميبدي قال في ترجمة كلامه هذه الرباعية:
أي قوم كه حق ما گرفتيد به زور * فردا چه جواب حق بگوييد به كور
ديديد وشنيديد كه ما بر حقيم * از بهر چه ساختيد خود را كر وكور
ومما ينطق بشكاياته ما رواه الحكم بن مروان (3)، عن جبير بن حبيب، قال:



(1) رواه الصدوق في الخصال ص 548 - 553، والطبرسي في الاحتجاج 1: 157 - 185
ط النجف، والعلامة المجلسي في البحار 8: 79 - 81 الطبع الحجري.
(2) ديوان الإمام علي (عليه السلام) ص 59 ط بيروت.
(3) بعد تأليف الكتاب ببرهة اطلعت على هذا الخبر في الجزء الثاني من
الطرائف (ص 424) منقولا من طرق المخالفين، وهذا لفظه في الكتاب المذكور، بعد أن ذكر
أن عليا (عليه السلام) وسائر بني هاشم امتنعوا عن البيعة، وإنما بايعوا بالاكراه، وانهم كانوا
يعتقدون اضلال المتقدمين على علي (عليه السلام)، وقد شهد علماء من الأربعة المذاهب بتصديقهم
واعترفوا بذلك:
فمن ذلك ما رووه في المعنى الموصوف ما هو موجود في خزانة الكتب بالرباط المعروف
بالتربة الأخلاطية بالجانب الغربي من بغداد في ورقة من رق ملحقة بآخر كتاب أعلام
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، تأليف المأمون من خلفاء بني العباس، وتاريخ الكتاب المذكور سنة
احدى وخمسين ومائتين ما نسخته عن الحكم بن مروان وساق الخبر كما هنا (منه).
275
نزل بعمر بن الخطاب نازلة قام لها وقعد وترنح وتقطر، ثم قال: معشر المهاجرين ما
عندكم فيها؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين أنت المفزع والمترع.
فغضب ثم قال: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا، أما والله أنا وإياكم
لنعرف ابن بجدتها (1) والخبير بها، قالوا: كأنك أردت ابن أبي طالب، قال: وأنى
يعدل بي عنه، وهل طفحت (2) جرة بمثله؟ قالوا: فلو بعثت إليه، قال: هيهات هنا
شمخ من هاشم، ولحمة من الرسول، واثرة من علم يؤتى لها ولا يأتي، امضوا بنا
إليه.
فمضوا نحوه وأفضوا إليه وهو في حائط له عليه ثياب، يتوكأ على مسحاته (3)،
وهو يقول: (أيحسب الانسان أن يترك سدى × ألم يك نطفة من مني يمنى × ثم كان
علقة فخلق فسوى) (4) ودموعه تهمي على خديه، فأجهش القوم لبكائه، ثم
سكن وسكنوا.
فسأله عمر عن مسألته، فأصدر إليه بجوابها، فلوى عمر يديه، ثم قال: أما والله
لقد أرادك الحق ولكن أبى قومك، فقال سلام الله عليه: يا أبا حفص خفض عليك
من هنا ومن هنا (ان يوم الفصل كان ميقاتا) (5) فانصرف وقد أظلم وجهه، وأنما
ينظر من ليل.



(1) ابن بجد بالباء الموحدة والجيم والدال المهملة: العالم بالشئ والدليل الهادي ومن لا
يبرح عن قولها، كذا في القاموس (منه).
(2) طفح الاناء طفوحا: امتلأ حتى يفيض.
(3) في العدة: عليه تبان يتركل على مسحاته.
(4) القيامة: 36 - 38.
(5) النبأ: 17.
276
هكذا نقل الشيخ الجليل جمال العارفين أبو العباس أحمد بن فهد الحلي، في
عدة الداعي (1). وفي هذا كفاية لمن أنصف من نفسه.
الحديث الثالث والعشرون
[قوله (صلى الله عليه وآله): علي راية الهدى وامام
الأولياء ونور من أطاعني...] الشيخ الامام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في
كتابه كفاية الطالب، قال: أخبرنا عبد اللطيف بن محمد بن علي القبيطي ببغداد،
والشريف أبو تمام علي بن أبي الفخار بن الواثق بالله بالكرخ، قالا: حدثنا أبو الفتح
محمد بن عبد الباقي المعروف بابن النبطي (2)، حدثنا أحمد بن أحمد الحداد، حدثنا
الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله، حدثنا أبو بكر الطلحي، حدثنا محمد بن علي بن
رحيم، حدثنا عباد بن سعيد الجعفي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي بهلول، حدثنا
صالح بن الأسود، عن أبي المطهر الرازي، عن الأعمش الثقفي، عن سلام الجعفي،
عن أبي بردة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ان الله تعالى عهد إلي عهدا في علي،
فقلت: يا رب بينه لي، فقال: اسمع، قلت: سمعت، فقال: ان عليا راية الهدى، وامام
الأولياء، ونور من أطاعني، وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين، من أحبه أحبني، ومن
أبغضه أبغضني، فبشره بذلك.
فجاء علي (عليه السلام) فبشرته، فقال: يا رسول الله أنا عبد الله وفي قبضته، فان يعذبني
فبذنوبي، وان يتم الذي بشرتني به فالله أولى بي، قال: فقلت: اللهم أجل قلبه،



(1) عدة الداعي ص 101 - 102، والطرائف ص 424.
(2) في المصدر: البطي.
277
واجعل ربيعه الايمان، فقال الله عز وجل: قد فعلت به ذلك، ثم إنه رفع إلي أنه
سيخصه من البلاء بشئ لم يخص به أحدا من أصحابي، فقلت: يا رب أخي
وصاحبي، فقال: ان هذا شئ قد سبق أنه مبتلى ومبتلى به. أخرجه الحافظ في
الحلية (1).
قال الفاضل الجليل علي بن عيسى (2) في كتابه كشف الغمة: قرأت كتاب كفاية
الطالب على مصنفه أبي عبد الله الكنجي بإربل في مجلسين آخرهما الخميس سادس
عشر جمادي الآخرة من سنة ثمان وأربعين وستمائة، وأجازه لي وخطه بذلك
عندي (3) انتهى.
أقول: هذا الخبر صريح في إمامته صلوات الله عليه وتسليماته، غير قابل
للتأويل.
وتقرير ذلك: أن الراية هي العلم المقتفى، وقد شبهه (عليه السلام) في اشتهار قدره
ووجوب اقتفاء آثاره والاهتداء بمناره بالراية، فقال مؤكدا بأن واسمية الجملة،
لتردد المنافقين في الحكم المذكور عنادا، أو لصدوره عن مزيد نشاط أن عليا (عليه السلام)
راية الهدى.
ثم صرح بما أراده من النص عليه بالإمامة وتعيينه للخلافة بقوله (وامام
الأولياء) فجعله قدوة للأولياء المقربين من الحضرة السبحانية المنسلخين عن
الكدورات الظلمانية.
وهذا يؤيد ما عليه أئمة الكشف والعرفان وعظماء علماء الطريقة والصوفية
المتألهة، من أنه (عليه السلام) قطب دائرة الأولياء، وهو المسمى عندهم بقطب الأقطاب،



(1) كفاية الطالب ص 22 - 23 ط النجف الأشرف.
(2) هو الوزير السعيد، ترك الوزارة وتزهد ورغب عن الدنيا، ولتركه الوزارة قصة
غريبة أوردها الشيخ البهائي (ره) في الكشكول (منه).
(3) كشف الغمة 1: 108 ط قم.
278
واللوح المحفوظ، وأحد الأبوين الروحانيين.
وقد بين بعض المحققين من علمائنا (1) كون ولايته (عليه السلام) هي الولاية المطلقة التي
تستمد منها سائر الولايات الخاصة، وذكرناه نحن في غير هذا المقام، ولكل مقام
كلام، ولكل كلام أقوام.
وقوله (ونور من أطاعني) تأكيد في التنصيص على إمامته، والتصريح بخلافته،
لافادته أنه النور الإلهي، المظهر للغوامض الدينية، الهادي إلى المقامات العرفانية
والأسرار الاسلامية، يهتدي به المطيعون للأوامر السبحانية، ويقتدي به المؤيدون
بالألطاف الربانية.
وقوله (وهو الكلمة التي ألزمتها المتقين) فيه إشارة إلى أنه كلمة التقوى المذكورة
في قوله تعالى (وألزمهم كلمة التقوى) (2) الآية.
واطلاق الكلمة عليه صلوات الله عليه اطلاق شايع غير منكر، كاطلاقها على
عيسى (عليه السلام). وقد ورد في بعض الأخبار أن كلماته تعالى هم الأئمة
المعصومون (عليهم السلام) (3). وفي خبر آخر: أن كلمات الله التامة هم الأنبياء والأولياء
سلام الله عليهم (4) (5)



(1) هو العالم الرباني كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني في شرح الإشارات (منه).
(2) الفتح: 26.
(3) بحار الأنوار 24: 184.
(4) راجع بحار الأنوار 24: 179.
(5) في كتاب الواحدة عن الباقر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): ان الله تبارك وتعالى
أحد واحد تفرد في وحدانيته، ثم تكلم بكلمة فصارت نورا، ثم خلق من ذلك النور
محمدا (صلى الله عليه وآله) وخلقني وذريتي، ثم تكلم بكلمة فصارت روحا فأسكنه الله في ذلك النور
وأسكنه في أبداننا، فنحن روح الله وكلماته، فبنا احتجب عن خلقه الحديث وفيه طول
(منه).
279
قال الشيخ الفاضل عبد السميع الحلي (1) نور الله مرقده في بعض رسائله
الكلامية، في مبحث الكلام، بعد أن فسر الكلام بما فسره به المتكلمون من أصحابنا
من الحروف والأصوات المنظومة المسموعة من جسم كثيف، كالشجرة التي
خاطبت موسى (عليه السلام) ما هذا لفظه:
وكما يطلق الكلام على ما ذكرناه، كذا يطلق على مجموع الكائنات، فإنه سبحانه
قد سمى بعض مخلوقاته بالكلمات، ولهذا قال تعالى (وكلمته ألقاها إلى مريم) (1) وقد ورد في الحديث: أن كلمات الله التامة هم الأنبياء والأولياء.
ثم قال قدس الله روحه: وإذا علم هذا من جهة النقل، جاز للعقل أن يسمي كل
موجود كلمة، وهذه الكلمات تسمى بالافاقية، ويسمى مجموع العالم كتابا، لكونه
جامعا لسائر الكلمات، كما يسمى القرآن كتابا، لاشتماله على جميع الكلمات القرآنية،
ولهذا قال عز من قائل (لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد
كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا) (3).
ولا شك أن الكلمات القرآنية تنفد بنصف وقية من الحبر، وإذا لم يمكن حمل هذه
الآية على ظاهرها وجب تأويلها، وهو: إما بحملها على معاني الكلمات القرآنية،
لأن كل آية لها ظهر وبطن وحد ومطلع إلى سبعة أبطن.
وقيل: إلى سبعين بطنا، ولهذا بدأ أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس في شرح باء



(1) ذكر بعض الفضلاء في رسالته التي وضعها في عد مشاهير الامامية، أن الشيخ المذكور
من عظماء تلامذة الشيخ الكامل أبي العباس أحمد بن فهد الحلي (منه).
أقول: وقال في الرياض (3: 121): فقيه فاضل عالم متكلم جليل، وكان من أكابر
تلامذة ابن فهد الحلي، ثم ذكر له كتاب تحفة الطالبين في معرفة أصول الدين، قال: حسن
الفوائد، وله كتاب الفوائد الباهرة في مسألة الإمامة. وكلاهما مخطوط.
(2) النساء: 171.
(3) الكهف: 109.
280
البسملة من أول الليل إلى آخره، ولم يتم شرحها، ثم قال: والله لو شئت لأوقرت
من شرحها سبعين بعيرا، فعلم من ذلك أنه لا نهاية لمعاني القرآن، والبحر الواحد
أو الأبحر السبعة متناهية.
وإما أن تحمل الآية على الكلمات الافاقية، ولا شك في عدم تناهيها بحسب
الأشخاص، لأنه تعالى لم يزل خلاقا دنيا وآخرة، فكلامه شامل للتأويلين ومنطبق
عليها انتهى.
وما ذكره جيد الا أنه ينبغي أن نعلم أنه لم يوجد في النقل اطلاق كلامه على سائر
الموجودات (1)، ولا تسمية كل موجود كلمة، بل إنما يطلق الكلمة على الكمل من
الأولياء والأنبياء كعيسى (عليه السلام)، فلا تغفل.
وقوله (ألزمتها) معناه ألزمت المتقين بطاعتها واقتفائها والائتمام بها والرجوع
إليها في المهام والأخذ لمسائل الحلال والحرام، وهو تنصيص عليه بالإمامة، كما لا
يخفى.



(1) نعم في الأبيات المشهورة المنسوبة إلى مولانا سيد الوصيين وأمير المؤمنين (عليه السلام)، و
هو صريح في تسمية الانسان كتابا، والأبيات هي هذه:
دواؤك فيك وما تبصر * وداؤك منك وما تشعر
وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر
وهي في الديوان المرتضوي (ص 145) مذكورة، وعلى الألسنة مشهورة، وقد ذكرها
جمع من عظماء الفريقين، كشيخنا البهائي في شرح الأربعين، والمحقق الجامي في شرح
الفصوص وغيرهما (منه).
281
الحديث الرابع والعشرون
[المناقب الثلاثة لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)]
مسلم والترمذي في صحيحيهما، عن سعد بن أبي وقاص أن معاوية قال له: ما
منعك أن تسب أبا تراب؟ قال: أما ما ذكرت فثلاث قالهن له رسول الله (صلى الله عليه وآله) فلن
أسبه، ولأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم.
سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول وقد خلفه في بعض مغازيه، فقال علي (عليه السلام):
خلفتني مع النساء والصبيان، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أما ترضى أن تكون مني
بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي.
وسمعته يقول (صلى الله عليه وآله) يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله، ويحبه
الله ورسوله، فتطاولنا إليها، فقال (صلى الله عليه وآله): ادعوا لي عليا، فاتي به أرمد، فبصق في
عينه، فبرئ، فدفع إليه الراية، ففتح الله على يديه.
ولما نزلت هذه الآية (قل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم)
الآية، دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا وفاطمة وحسنا وحسينا (عليهم السلام) وقال: اللهم هؤلاء
أهلي (1).
أقول: هذا الخبر مشهور، وقد أورده الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الكنجي
في كتابه كفاية الطالب كما أوردناه، ثم قال: هكذا رواه مسلم في صحيحه وغيره من
الحفاظ (2).
وأورده أيضا نور الدين علي بن محمد المالكي المعروف بابن الصباغ في الفصول



(1) صحيح مسلم 4: 1871 باب فضائل علي (عليه السلام)، وصحيح الترمذي 5: 596 برقم:
3724.
(2) كفاية الطالب ص 28 - 29 ط النجف.
282
المهمة (1).
وقد تضمن ثلاثة أحاديث: حديث المنزلة، وحديث المحبة، وحديث المباهلة،
وكلها دالة على الأفضلية والإمامة، وقد بلغت حد التواتر.
حديث المنزلة
أما حديث المنزلة، فهو حديث مشهور نقله أساطين المخالفين ومحدثوهم، كأحمد
بن حنبل، ومسلم بن الحجاج، وأبي عبد الله الحميدي، ورزين العبدري، وغيرهم
كما سلف نقله في الحديث السابع (2).
وتقرير الاستدلال به على الإمامة من وجوه:
أحدها: أنه يدل على جميع المنازل الثابتة لهارون من موسى سوى النبوة
لعلي (عليه السلام) من النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ لو لم يكن اللفظ محمولا على كل المنازل لما صح
الاستثناء، ومن المنازل الثابتة لهارون من موسى استحقاق القيام مقامه بعد وفاته
لو عاش بعده، وذلك أنه كان خليفة لموسى في حياته، بدليل قوله (اخلفني في
قومي).
ولا معنى للخلافة الا القيام مقام المستخلف في التصرفات التي له، فوجب أن
يكون خليفة له بعد موته على تقدير بقائه، والا لكان عزله موجبا لنقصه والنفرة
عنه، وهو غير جائز على الأنبياء.
الثاني: أن من منازل هارون بالنسبة إلى موسى (عليه السلام) أنه كان شريكا له في
الرسالة، ومن لوازمه استحقاق الطاعة بعد وفاة موسى (عليه السلام) لو بقي، فوجب أن



(1) الفصول المهمة ص 126 - 127.
(2) وتقدم فيه مصادر هذا الحديث من كتب أهل السنة فراجع.
283
يثبت ذلك لعلي (عليه السلام)، الا أنه امتنع الشركة في الرسالة، فوجب أن يبقى مفترض
الطاعة على الأمة بعد النبي (صلى الله عليه وآله).
الثالث: أن هارون (عليه السلام) لما كانت نبوته ثابتة، لا جرم كان معصوما، فيجب على
موسى (عليه السلام) أن يقدمه على غير المعصوم عقلا، لقبح تقديم غير المعصوم على المعصوم
عقلا وحينئذ فيجب أن يكون هارون بحيث لو بقي لكان اماما وخليفة.
الرابع: أن اليهود وغيرهم نقلوا أن موسى (عليه السلام) نص عليه وجعله وصيه وخليفته
بعده، فلما مات جعل الوصاية في يوشع بن نون، وأوصى إليه بأسرار التوراة
والألواح، وذلك على سبيل الوديعة لا على سبيل الاستقرار ليوصلها إلى ولدي
هارون شبر وشبير، وهو يدل على أن هارون لو عاش بعده لكان خليفة بدل يوشع
بن نون، وقد أثبت (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) منه جميع منازل هارون من موسى (عليه السلام) فيلزم
المدعى.
اعترض القاضي الناصب في المواقف أولا بمنع صحة الحديث، وهو جهالة أو
تجاهل سبقه إليها الآمدي. وهو منهما عجيب، لأنا قد بينا في كتابنا الموسوم
بالشهاب الثاقب في الرد على النواصب كونه مشهورا مستفيضا بين الفريقين، بالغا
حد التواتر، وأوردناه من طرقهم وأسانيدهم في كتبهم وأصحتهم بما يزيد على حد
التواتر، وأوردنا في ذيل الحديث السابع ما يشهد باستفاضته وتواتره.
والمحقق الشريف في شرحه للمواقف قال: ان المحققين على أنه صحيح، وإن كان
من قبيل الآحاد. وهو أيضا جهالة منه ونصب (1).
وقد نقل جماعة من علمائنا (2) أنه كان من الامامية، وهذا الكلام منه ونحوه مما



(1) اللهم الا أن يكون اعتقاده مخالفا لكلامه، فقد ذكر في مجالس المؤمنين أنه ألف الكتب
المذكور لبعض امراء المخالفين من أهل شيراز. وهو عذر ركيك (منه).
(2) منهم الفاضل العلامة الشيخ خضر الرازي، وهو تلميذ ابنه العلامة مير شمس الدين
محمد. ومنهم الشيخ الجليل الشيخ محمد بن أبي جمهور الأحسائي في رسالته التي وضعها في
مجالسه مع الفاضل الهروي. ومنهم القاضي مير نور الدين الشوشتري في مجالس المؤمنين و
مصائب النواصب. وصرح آخرون بكونه من المخالفين، منهم الفاضل السمناني في شرح
الأربعين، والله أعلم (منه).
284
ذكره في شرح المواقف ينادي بنصبه وتعصبه في الأباطيل. وقد صرح العلامة (قدس سره)
وغيره بتواتره، وقد بينا ذلك مستوفى في الشهاب الثاقب.
وثانيا: بأنه لا عموم له في المنازل، بل المراد استخلافه على قومه في قوله
(اخلفني) كاستخلافه (عليه السلام) على المدينة في غزاة تبوك ولا يلزم دوامه، فان قوله
(اخلفني) لا عموم له، ولا يكون حينئذ عدم دوامه ولا عزله إذا انتقل إلى مرتبة
أعلى، وهو الاستقلال بالنبوة منفرا.
وهذا أيضا من جهالاته وأباطيله، إذ لو لم يكن المراد جميع المنازل لما حسن
الاستثناء، لأن الاستثناء اخراج ما لولاه لدخل بأدوات مخصوصة، وحيث لا
اخراج لم يكن الاستثناء حقيقة بل مجازا، لأن الأصل في الاستثناء الاتصال.
وتجويز الشارح (1) الجديد جعله منقطعا، عن الحق بمعزل لما بيناه، على أن
التحقيق الذي يقتضيه النظر، وصرح به جماعة من أعاظم علماء العربية، كبدر الدين
بن مالك وغيره، أن الاستثناء المنقطع هو اخراج ما لولاه لدخل في حكم دلالة
المفهوم، وعلى هذا فالعموم لازم جزما، والا لم يصح الاستثناء فتدبر.
وقوله (ولا يلزم دوامه فان قوله اخلفني لا عموم له) منظور فيه، إذ عدم
التقييد يشهد بالعموم قطعا، والا لم يستفد منه سوى الخلافة لحظة واحدة، هذا
خلف، على أن ما ذكرناه من تقرير الاستدلال ونقلناه من اليهود يكذب ما قاله
أعمى الله قلبه.
وقوله (ولا يكون حينئذ عدم دوامه) أوهن من بيت العنكبوت، لأنا نقول: مع
قطع النظر عن استمرار النبوة والاستقلال بالرسالة، فمن منازله أن يكون خليفة



(1) ملا علي القوشجي، وهو متعصب جاهل بالأخبار، معاند شديد العناد (منه).
285
قطعا بعد وفاة موسى (عليه السلام)، للطرق التي ذكرناها، فعزله أو عدم دوام خلافته يكون
نقصا البتة، على أن ما ذكرناه سابقا يبطل ما قاله.
وثالثا: بأن الظاهر متروك لو حمل على إرادة عموم المنازل، بل لابد من
تخصيص العموم، لأن من منازل هارون كونه أخا نسبا ونبيا، وهذا من أفحش
جهالاته وأبرد خيالاته، لأن العام المخصوص حجة في الباقي عند المحققين من
الأصوليين، وهو الذي صرح باختياره في شرح المختصر للحاجبي، وأيضا فالمراد
الاخبار بمنازله المعنوية لا النسبية، إذ لا خفاء فيها، ولا يجهلها أحد من الناس.
وقوله (ان من منازل هارون كونه نبيا) سهو صريح وغلط فضيع، لأن تفارقهما
في النبوة لا يؤدي إلى ترك ظاهر الخبر من عموم المنازل لحصول استثناء النبوة في
الخبر، حيث قال: الا أنه لا نبي بعدي.
حديث الراية والمحبة
وأما حديث الراية والمحبة، فمشهور بين المخالفين.
قال نور الدين بن الصباغ في الفصول المهمة ما نصه: وفي صحاح البخاري
ومسلم وغيرهما من الصحاح أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال يوم خيبر (1): لأعطين الراية غدا
رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فبات الناس
يخوضون ليلتهم أيهم يعطاها؟
فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل منهم يرجو أن يعطاها، فقال



(1) في بعض الكتب المعتبرة المعمولة في البلدان والقرى: أن خيبر هي بلد بني عنزة في
جهة الشمال والشرق على المدينة على نحو ست مراحل، وخيبر بلغة اليهود الحصن. وقيل:
أول من سكن فيها رجل من بني إسرائيل اسمه خيبر فسميت به، ولها نخيل كثيرة، وكان
في صدر الاسلام دار بني القريضة والنضير (منه).
286
النبي (صلى الله عليه وآله): أين علي بن أبي طالب؟ فقيل: يا رسول الله أرمد، قال: فأرسلوا إليه،
فاتي به فبصق في عينيه، فدعا له فبرئ حتى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.
قال علي (عليه السلام): أقاتلهم يا رسول الله حتى يكونوا مثلنا؟ قال: أنفذ على رسلك
حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الاسلام، فأخبرهم بما يجب عليهم فيه، فوالله
لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم، قال: فمضى ففتح الله على
يديه (1)، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
وكان علي أرمد العين يبتغي * دواء فلما لم يحس مداويا
شفاه رسول الله منه بتفلة * فبورك مرقيا وبورك راقيا
وقال سأعطي الراية اليوم فارسا * كمينا شجاعا في الحروب محاميا
يحب إلها والإله يحبه * به يفتح الله الحصون الأوابيا
فخص بها دون البرية كلهم * عليا وسماه الولي المؤاخيا
وفي صحيح مسلم قال عمر بن الخطاب، فما أحببت الامارة الا يومئذ،
فتساورت لها رجاء أن ادعى لها (2).
قال العلماء: فتساورت لها بالسين المهملة، أي: تطاولت لها وحرصت عليها
حتى أبديت وجهي وتصديت لذلك ليذكرني، قالوا: وإنما كانت محبة عمر لها لما دلت
عليه من محبة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله) ومحبتهما له والفتح على يديه، قال ذلك الشيخ
عبد الله بن أسعد اليافعي في كتاب المرهم (3). انتهى كلام صاحب الفصول المهمة.
ورأيت مثل ما نقله في مواضع من كتبهم وأصحتهم، منها كتاب مصابيح الأنوار



(1) صحيح البخاري 4: 207، وصحيح مسلم 4: 1872، ومسند أحمد بن حنبل
5: 333.
(2) صحيح مسلم 4: 1871 - 1872.
(3) الفصول المهمة ص 37 - 38، واليافعي هو صاحب التاريخ المشهور، وهو من عظ ماء
الشافعية (منه).
287
بتغيير ما من الصحاح، عن سهل بن سعد أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال يوم خيبر:
لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله، فلما أصبح
الناس غدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) كلهم يرجون أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي
طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فبصق
رسول الله (صلى الله عليه وآله) في عينيه، فبرئ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال
علي (عليه السلام): يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال: أنفذ على رسلك، وساق
الحديث على نحو ما تقدم بحيث لا يتغير به المعنى (1).
وقال القاضي الناصب في المواقف: انه (صلى الله عليه وآله) بعد ما بعث أبا بكر وعمر إلى خيبر،
فرجعا منهزمين، فقال (صلى الله عليه وآله): لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله ورسوله كرار غير
فرار، وأعطاها عليا (عليه السلام).
وقال المحقق الشريف في شرحه: انه روي أنه (عليه السلام) بعث أبا بكر أولا فرجع
منهزما، وبعث عمر فرجع كذلك، فغضب النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك، فلما أصبح خرج إلى
الناس ومعه رايته، فقال: لأعطين إلى آخره، فتعرض له المهاجرون، فقال عليه
الصلاة والسلام: أين علي؟ فقيل: انه أرمد العين، فتفل في عينيه ودفع إليه الراية
انتهى.
وبالجملة فهذا خبر مستفيض بين الخاصة والعامة، متلقى (2) بالقبول عند كل
الأمة بحيث لم ينكره أحد، وهو يدل على اختصاصه (عليه السلام) من بين الصحابة بهذه
المزية، وهو قوله (يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله) وهذا يدل على أفضليته
على سائر الصحابة وأقربيته منهم إلى الله عز شأنه، واختصاصه بالإمامة دونهم.
وقول عمر المنقول في صحيح مسلم (فما أحببت الامارة الا يومئذ فتساورت)



(1) صحيح البخاري 5: 76 - 77، والطرائف ص 56 عن الصحاح والمسانيد.
(2) في (س): متلقيا.
288
إلى آخر كلامه، نص صريح في فهمه هذا المعنى، وفي قيام عرق الحسد في وجهه،
وخوض الصحابة في من يعطاها، ورجاء كل منهم أن يكون هو المعني، كما نطقت به
الأخبار التي نقلناها شواهد صدق على أن المراد اختصاص هذا الوصف به (عليه السلام)
وعلى فهمهم أن من قيل فيه هذا القول لا يشق غباره ولا يدرك شأوه، وأنه أفضل
الصحابة وأحقهم بالإمامة.
وما نقله الناصبان المعاندان القاضي في المواقف والشريف في شرحه، من انهزام
أبي بكر وعمر وفرارهما من الزحف، وغضب النبي (صلى الله عليه وآله) لذلك شاهدا صدق على
فسقهما، واقترافهما للكبيرة، وخروجهما عن الصلاحية لامارة عسكر ورئاسة
جيش، فكيف يصلحان للإمامة التي هي الرئاسة العامة في أمور الدين والدنيا
والخلافة العظمى والسياسة الكبرى؟
وما نقله ابن الصباغ المالكي عن اليافعي الشافعي، أنه نقل عن علمائهم
وشياطينهم أنهم قالوا: إنما كان محبة عمر لها لما دلت عليه من محبة الله ورسوله،
ومحبتهما له أدل دليل على اختصاصه (عليه السلام) بهذا الوصف على تقدير تسليم ذلك، والا
فالتحقيق أن حب الطاغوت للامارة يومئذ إنما هو لارتماسه في الكدورات الشهوية،
وانهماكه في اللذات الدنيوية، فان حب الدنيا رأس كل خطيئة.
ومن أعجب العجائب وأغرب الغرائب أن القاضي المتعصب الناصب في المواقف
أورد هذا الخبر من طرق القائلين بقوله بكونه صلوات الله عليه أفضل الصحابة،
وهم الشيعة وأكثر متأخري المعتزلة ومن وافقهم، وقرره المحقق الشريف بأن ذلك
الذي حكيناه يدل على أن ما وصفه به لا يوجد في غيره، ويلزم منه أن يكون
أفضل ممن عداه.
ثم أجاب القاضي بأن نفي هذا المجموع عمن سواه لا يجب أن يكون بنفي كل جزء
منه، بل يجوز أن يكون بنفي كونه كرارا غير فرار، ولا يلزم حينئذ الا فضيلة مطلقا
بل في كونه كرارا غير فرار، كذا قرره الشريف.

289
وهو منهما جهالة أو تجاهل، فان المفهوم من هذه الواقعة، والمستفاد من الأخبار
التي سردناها، اختصاصه (عليه السلام) بكل وصف من تلك الصفات، وما نقلناه عن
اليافعي وابن الصباغ في توجيه قول عمر (ما أحببت الامارة) إلى آخر كلامه
يشهد بذلك.
ثم نقول لهذين المتجاهلين: انه على ما ذكرتم يلزم اختصاصه (عليه السلام) بكونه كرارا
غير فرار، ومعلوم أنه يستلزم اتصاف من عداه بصفة الفرار من الزحف والانهزام
منه، وهو معصية فضيعة وكبيرة موبقة، فيكون أفضل ممن عداه جزما.
ثم نقول: انهزام الجبت والطاغوت وفرارهما: إما أن يكون جائزا، أو حراما،
فعلى الأول لا معنى لغضبه (عليه السلام)، وتعريضه بفرارهما بقوله (كرار غير فرار) فان في
هذا الكلام تعريضا ظاهرا بهما إذ فرا من الزحف، وأيضا فقد قام الدليل القاطع على
تحريم الفرار من الزحف، وعلى الثاني كيف يتصور صلاحيتهما للإمامة مع ظهور
فسقهما؟ وكيف يتصور كونهما أفضل منه (عليه السلام)؟ وهذا واضح ولله الحمد.
جوهرة من جواهر الأفكار لا من جواهر البحار:
كل من كان ذا ذوق سليم وذهن مستقيم وديانة وافرة وقريحة نيرة ظاهرة،
وخلع عن عنقه قلادة التقليد للآباء والأجداد، وتحرى سلوك شارع الرشاد ومنهج
السداد، لا يشتبه عليه أن قصده (عليه السلام) بارساله اللصين المتمردين، مع أنه يعلم بعاقبة
حالهما، لأن ارسالهما أولا بالوحي من الجانب الإلهي، إذ هولا ينطق عن الهوى ان
هو الا وحي يوحى، ليس الا اظهار فضيحتهما وتبيين نقصانهما، ليظهر لكل من له
قلب حديد (1)، أو ألقى السمع وهو شهيد، انتظامهما في سلك أهل الكبائر، وعدم



(1) أي: ذكي (منه).
290
صلوحهما للإمامة الكبرى، وارتقاء المنابر، وانهما بمعزل عن الصلاحية لامارة على
عسكر أو سرية، فكيف يصلحان للرئاسة العامة الدينية والدنيوية.
وان الخليق بهذا المقام، والحقيق بالنقض والابرام، هو ذلك القرم الهام، والبحر
القمقام (1)، الذي لم يتلوث ذيله بكدورات الآثام، ولم تعرف له هزيمة ولا نكول في
موقف ولا مقام، وان وصفه (صلى الله عليه وآله) لهذا القرم الهمام بالأوصاف العامة يجري مجرى
الهذيان، فلا يليق نسبته إلى كلام رسول الملك الديان.
وان جميع من سواه ممن يطمح إليه الأبصار، وتثنى عليه الخناصر، سالكون
مسالك التلبيس، وناهجون مناهج إبليس، ليسوا ممن أحبه الله تعالى وأدناه إلى
حضرة قربه، وسقاه كؤوس لطفه وحبه (2)، وان مطمح نظرهم هي الدنيا الدنية،
والزهرات الردية، والشهوات البدنية، الا نفرا قليلا (3) لم يصلحوا لهذا الأمر الجليل
الشأن.
ويؤيد هذا الذي ذكرناه ما رواه أبو عمرو الكشي قدس روحه في كتاب الرجال.
عن علي بن الحكم، عن سيف بن عميرة، عن أبي بكر الحضرمي، قال: قال
أبو جعفر (عليه السلام): ارتد الناس الا ثلاثة نفر: سلمان، وأبو ذر، والمقداد، فقلت: فعمار؟
قال: كان جاض جيضة (4) ثم رجع، ثم قال: ان أردت الذي لم يشك ولم يدخله



(1) أي: البحر العظيم (منه).
(2) فيه دلالة على أن محبة الله سبحانه لعبده هو فيضان الألطاف عليه، وكشف الحجاب
عن قلبه، حتى يطئ بساط القرب، ويروى من كأس الحب، وقد بسطنا في ذلك في
حواشينا على كتاب الأربعين (منه).
(3) كالأركان الأربعة ومن شاكلهم (منه).
(4) بالجيم والضاد المعجمة، هذا هو المسموع من المشائخ والثابت في النسخ الصحيحة،
أي: حاد عن الحق وعدل ثم رجع. قال في القاموس: جاض عن كذا يجيض جيضا: حاد و
عدل. وضبطها بعض الأصحاب حاص بالمهملتين، فهو أيضا بالمعنى المذكور. وأما ضبطها
بالحاء المهملة والضاد المعجمة مأخوذ من الحيض الدم المعروف على سبيل التشبيه في
القذارة، كما اتفق لصاحب كتاب محبوب القلوب 1، فهو يجري مجرى دم الحيض في
القذارة، وقد بسطنا الكلام فيه في حواشينا على الخلاصة (منه).
291
شئ فالمقداد. فأما سلمان، فإنه عرض في قلبه أن عند أمير المؤمنين (عليه السلام) اسم الله
الأعظم، ولو تكلم به لأخذتهم الأرض. وأما أبو ذر، فأمره أمير المؤمنين (عليه السلام)
بالسكوت، ولم تأخذه في الله لومة لائم، فأبى الا أن يتكلم (1).
وهذا الخبر مما يدلك على ضعف ايمان أكثر الصحابة، ومن ثم تطرق إليه الفتور
الذي عبر عنه (عليه السلام) بالارتداد تجوزا ومبالغة.
فظهر اختصاصه (عليه السلام) بدرجة المحبة ومزيد الاخلاص، واستبان انفراده
بدرجات اليقين، وطبقات الاختصاص.
ثم ليس نصبه (عليه السلام) في غزاة تبوك، واستخلافه (صلى الله عليه وآله) على المدينة، وقوله له (عليه السلام)
(ان المدينة لا تصلح الا بي أو بك) كما رواه الفريقان، الا بمنزلة النص عليه
بالإمامة، وتعيينه للخلافة. ولعمري أنهم قد فهموا ذلك، ولكن طبع الشيطان على
قلوبهم، فعولوا على أهوائهم السخيفة، وخيالاتهم الضعيفة، وهم يحسبون أنهم
يحسنون صنعا.
ومن أعجب العجائب أن عمدة عظمائهم، وواسطة عقد فضلائهم أبا حامد
الغزالي (2) الملقب عندهم بحجة الاسلام، ذكر في كتابه المسمى بالمستصفى: أن
الصحابة إنما بايعوا أبا بكر، لأنهم قاسوا الإمامة العامة على امامة الصلاة (3)،
لأنه (عليه السلام) قدمه يصلي بالناس.



(1) اختيار معرفة الرجال 1: 51 - 52 برقم: 24.
(2) هذا بناء على ظاهر حاله واعتقاد معظم مخالفينا، والا فقد قيل برجوعه إلى الحق، كما
أسلفناه فيما سبق في ذيل الحديث الخامس عشر (منه).
(3) هذا هو الذي عليه جمهور المخالفين، بل لم يخالف فيه أحد منهم الا أبا عبد الله البصري
(منه).
292
وأقول: يا سبحان الله كيف قاسوا الإمامة العامة على الإمامة في الصلاة؟ مع أن
مذهبهم جواز الصلاة خلف كل أحد، برا كان أو فاجرا (1)، وقد نقلوا أنه (صلى الله عليه وآله)
صلى خلف عبد الرحمن بن عوف. ولم يتفطنوا لما قصده (عليه السلام) في هذه الوقائع التي
ذكرناها من النص على باب مدينة علمه بالإمامة والخلافة كما بيناه، ان هذا الا
تهافت ظاهر ونفاق واضح.
وقد بينا في صحفنا وكتبنا أن ما نقلوه من صلاة أبي بكر بالناس في مرض
الرسول (صلى الله عليه وآله) ليس باذنه (صلى الله عليه وآله) ولا أمره، واستوعبنا ذلك في الشهاب الثاقب، والله
الهادي.
تبصرة
في قصة خيبر على وجه الاجمال
ليظهر للناظر المتأمل جلالة قدره (عليه السلام)، ونباهة شأنه، وسمو مكانه، وتبريزه
على أقرانه.
قال الشيخ الجليل والفاضل النبيل والوزير السعيد بهاء الدين علي بن عيسى
الأربلي في كتابه كشف الغمة: روى محمد بن يحيى الأزدي، عن مسعدة بن اليسع،
وعبد الله (2) بن عبد الرحيم، عن عبد الملك بن هشام، ومحمد بن إسحاق، وغيرهم
من أصحاب الآثار، قالوا: لما دنا النبي (صلى الله عليه وآله) من خيبر قال للناس: قفوا، فوقفوا،
فرفع يديه إلى السماء، وقال: اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب



(1) حتى أن المعتزلة منهم مع ذهابهم إلى أن الفاسق غير مؤمن جوزوا الصلاة خلفه، كما
ذكره العلامة التفتازاني في شرح عقائد النسفي، قال: لما أن شرط الإمامة عندهم عدم الكفر
لا وجود الايمان، بمعنى التصديق والاقرار والأعمال انتهى (منه).
(2) في المصدر: وعبيد الله.
293
الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، أسألك خير هذه القرية
وخير ما فيها، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، ثم نزل (صلى الله عليه وآله) تحت شجرة، وأقمنا
بقية يومنا ومن غده.
فلما كان نصف النهار نادى مناد النبي (صلى الله عليه وآله)، فاجتمعنا إليه، فإذا عنده رجل
جالس، فقال: ان هذا جاءني وأنا نائم، فسل سيفي وقال: يا محمد من يمنعك مني
اليوم؟ قلت: الله يمنعني منك، فشام السيف (1) وهو جالس كما ترون لا حراك (به، فقلنا: يا رسول الله لعل في عقله شيئا، فقال: نعم دعوه، ثم صرفه ولم يعاقبه.
وحاصر خيبر بضعا (3) وعشرين ليلة، وكانت الراية لعلي (عليه السلام)، فعرض له رمد
أعجزه عن الحرب، وكان المسلمون يناوشون (4) اليهود من يدي حصونهم
وجنباتها.
فلما كان ذات يوم فتحوا الباب، وكانوا قد خندقوا على أنفسهم، وخرج مرحب
برجله، فدعا النبي (صلى الله عليه وآله) أبا بكر، فقال له: خذ هذه الراية، فأخذها في جمع من
المهاجرين واجتهد ولم يغن شيئا، وعاد يؤنب قومه الذين اتبعوه ويؤنبونه. فلما
كان من الغد تعرض لها عمر، فسار بها غير بعيد، ثم رجع يجبن أصحابه ويجبنونه.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ليست هذه الراية لمن حملها، جيؤوني بعلي بن أبي طالب،
فقيل له: انه أرمد، فقال: أرونيه رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله،
فيأخذها بحقها ليس بفرار.
فجاؤوا بعلي (عليه السلام) يقودونه إليه، فقال: ما تشتكي يا علي؟ قال: رمدا ما أبصر
معه، وصدعا برأسي، فقال له: اجلس وضع رأسك على فخذي، ففعل علي (عليه السلام)



(1) شام سيفه: سله وغمده أيضا من الأضداد، والمراد هنا هو الثاني (منه).
(2) الحراك بالفتح: الحركة.
(3) بضع في العدد بكسر الباء وبعض العرب يفتحها، وهو ما بين الثلاث إلى التسع (منه).
(4) المناوشة: المناولة، والمناوشة في القتال تداني الفريقين وأخذ بعضهم بعضا.
294
ذلك، فدعا له النبي (صلى الله عليه وآله) وتفل في يده ومسحها على عينيه ورأسه، فانفتحت عيناه،
وسكن الصداع، وقال في دعائه له: اللهم قه الحر والبرد، وأعطاه الراية وكانت
بيضاء.
وقال: امض بها، وجبرئيل معك، والنصر أمامك، والرعب مبثوث في صدور
القوم، واعلم يا علي أن اليهود يجدون في كتابهم أن الذي يدمر عليهم اسمه اليا، فإذا
لقيتهم فقل أنا علي بن أبي طالب، فإنهم يخذلون إن شاء الله تعالى.
قال علي (عليه السلام): فمضيت بها حتى أتيت الحصن، فخرج مرحب وعليه درع ومغفر
وحجر قد ثقبه مثل البيضة على رأسه، وهو يقول:
قد علمت خيبر أني مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
فقلت:
أنا الذي سمتني أمي حيدرة * كليث غابات شديد قسورة (1) (2)
أكيلهم بالسيف كيل السندرة (3)



(1) الحيدرة: الأسد وبه سمي الرجل حيدرة، قال علي بن أبي طالب (عليه السلام) يوم الخيبر (أنا
الذي سمتني أمي حيدرة) يقال، ان أمه فاطمة بنت أسد ولدته وأبو طالب غائب، فسمته
أسدا باسم أبيها، فلما قدم أبو طالب كره هذا الاسم وسماه عليا، فذكر علي تسمية أمه له في
رجزه، قاله ابن حجر في التهذيب (منه).
(2) قال ابن الأثير في النهاية (1: 354): في حديث علي (عليه السلام) (أنا الذي سمتني أمي
حيدرة) الحيدرة: الأسد، سمي به لغلظ رقبته، والياء زائدة. قيل: لما ولد علي (عليه السلام) كان
أبوه غائبا فسمته أمه أسد باسم أبيها، فلما رجع سماه عليا. وأراد بقوله (حيدرة) أنها سمته
أسدا، وقيل: بل سمته حيدرة انتهى (منه).
(3) قال في النهاية (2: 408): في حديث علي (عليه السلام) (أكيلكم بالسيف كيل السندرة)
أي: أقاتلكم قتلا واسعا ذريعا. السندرة: مكيال واسع وقيل: يحتمل أن يكون اتخذ من
السندرة، وهي شجرة يعمل منها النبل والقسي. والسندرة أيضا العجلة. والنون زائدة،
وذكرها الهروي في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها انتهى (منه).
295
واختلفا بضربتين، فبدرته ضربة علي (عليه السلام)، فقد الحجر والمغفر ورأسه، حتى
وقع السيف في أضراسه وخر صريعا.
وروي أن أمير المؤمنين (عليه السلام) لما قال: أنا علي بن أبي طالب، قال حبر منهم:
غلبتم وما انزل على موسى، فخامرهم رعب شديد، ورجع من كان مع مرحب،
وأغلقوا باب الحصن، فصار إليه علي (عليه السلام) وعالجه حتى فتحه (1)، وأكثر الناس لم
يعبروا الخندق، فأخذ (عليه السلام) الباب وجعله جسرا على الخندق حتى عبروا، فظفروا
بالحصن وأخذوا الغنائم، ولما انصرفوا دحا به بيمناه أذرعا، وكان يغلقه عشرون
رجلا (2).
حديث المباهلة
وأما حديث المباهلة (3)، فقد ذكره الفريقان، وأورده مخالفونا في سيرهم



(1) روي عنه (عليه السلام) أنه قال: والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسمانية، بل بقوة ربانية. رواه
الشيخ الفاضل ابن أبي جمهور الأحسائي في شرح زاد المسافر (منه).
(2) كشف الغمة 1: 213 - 125.
(3) كانت المباهلة في اليوم الرابع والعشرين من شهر ذي الحجة على الأظهر، وهو اليوم
الذي تصدق فيه علي (عليه السلام) بخاتمه وهو راكع. ويستحب فيه الصوم والابتهال ولبس
الثوب النظيف وزيارة النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، والاجتهاد في الدعاء، وصلاة يوم
الغدير، وأعماله كثيرة مذكورة في مواضعها.
وقد اشتمل هذا اليوم على كرامات كثيرة:
منها: أنه أول مقام فتح الله فيها باب المباهلة في هذه الآية الفاضلة عند جحود حججه و
بيناته.
ومنها: أنه أول يوم أظهره الله تعالى فيه لنبيه (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) العزة ولمن حاجه من
أهل الكتاب الجزية والذلة.
ومنها: انه أول يوم ظهرت فيه امارات العذاب بالمنكرين لأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله).
ومنها: انه أول يوم أشرقت شمسه بنور التصديق للنبي (صلى الله عليه وآله) وتفريق أعدائه.
ومنها: أنه أول يوم أظهر الله تعالى فيه تخصيص أهل البيت (عليهم السلام) لعلو مقامهم.
ومنها: أنه كشف الله تعالى لعباده أن الحسنين (عليهما السلام) مع صغر سنهما أفضل من أكابر
الصحابة المجاهدين بين يدي النبي (صلى الله عليه وآله).
ومنها: أنه ظهر فيه أن عليا (عليه السلام) نفس النبي (صلى الله عليه وآله)، وأن فاطمة (عليها السلام) أرجح من نساء
الأمة، وأن كل من تأخر عن مقام المباهلة دونهم (عليهم السلام).
ومنها: أن يوم المباهلة أبلغ في تصديق النبي (صلى الله عليه وآله) من التحدي بالقرآن، لأنه (صلى الله عليه وآله) لما
تحداهم به قالوا: (لو نشاء لقلنا مثل هذا) ويوم المباهلة ما أقدموا على دعوى الجحود
للعجز عن مباهلته وظهور حجته. وقد نبه على ذلك السيد الجليل رضي الدين ابن
طاووس في كتاب الاقبال (منه).
296
وتفاسيرهم وأصحتهم، ولم ينكره أحد منهم ولا من غيرهم من الفرق والطوائف.
قال نور الدين ابن الصباغ في الفصول المهمة ما نصه: آية المباهلة هي قوله تعالى
(ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون × الحق
من ربك فلا تكن من الممترين × فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل
تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم) (1).
وكان سبب نزول هذه الآية أنه لما قدم وفد نجران على رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخلوا
عليه مسجده بعد صلاة العصر وعليهم ثياب الحبرات وأردية الحرير لابسين الحلل،
متختمين بخواتيم الذهب، يقول من رآهم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله): ما رأينا قبلهم
وفدا مثلهم.
وفيهم ثلاثة من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم، وهم: العاقب واسمه عبد المسيح،
كان أمير القوم وصاحب رأيهم ومشورتهم، لا يصدرون الا عن رأيه. والسيد وهو
الأيهم، وكان ثمالهم وصاحب رأيهم ومجتمعهم.



(1) آل عمران: 59 - 61.
297
وأبو حارثة (1) بن علقمة، وكان أسقفهم وامامهم، وصاحب مدارسهم، وكان
رجلا من العرب من بني بكر بن وائل، ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه
، وبنوا له الكنائس ومولوه وأخدموه، لما علموه من صلابته في دينهم، وقد كان
يعرف أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وشأنه وصفته بما علمه من الكتب المتقدمة، ولكنه حمله
جهله على الاستمرار في النصرانية لما رأى من تعظيمه ووجاهته عند أهلها.
فتكلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مع أبي حارثة (2) بن علقمة والعاقب عبد المسيح،
وسألهما وسألاه، ثم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعد أن تكلم مع هذين الحبرين منهم
دعاهم (3) إلى الاسلام، فقالوا: قد أسلمنا، فقال: كذبتم انه يمنعكم من الاسلام
ثلاثة أشياء: عبادتكم الصليب، وأكلكم الخنزير، وقولكم ان لله ولدا، فقالوا: هل
رأيت ولدا بغير أب؟ فمن أبو عيسى؟ فأنزل الله تعالى (ان مثل عيسى عند الله
كمثل آدم خلقه من تراب) الآية.
فلما نزلت هذه الآية مصرحة بالمباهلة دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفد نجران للمباهلة،
وتلا عليهم الآية، فقالوا: حتى ننظر في أمرنا ونأتيك غدا، فلما خلا بعضهم ببعض،
قالوا للعاقب صاحب مشورتهم: ما ترى من الرأي؟ فقال: والله لقد عرفتم يا
معاشر النصارى أن محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم (4)،
ولله ما لاعن قوم قط نبيا (5) الا هلكوا عن آخرهم، فاحذروا كل الحذر أن تكون
آفة الاستئصال منكم، وان أبيتم الا الف دينكم والإقامة عليه، فوادعوا الرجل
وأعطوه الجزية، ثم انصرفوا إلى مقركم.



(1) في المصدر: وأبو حاتم.
(2) في المصدر: أبي حاتم.
(3) في المصدر: مع هذين الحبرين اللذين هما العاقب وعبد المسيح.
(4) في المصدر: من عند صاحبكم.
(5) في المصدر: نبيهم.
298
فلما أصبحوا جاؤوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فخرج وهو محتضن الحسين آخذا بيد
الحسن، وفاطمة خلفه، وعلي خلفهم، وهو يقول: اللهم هؤلاء أهل بيتي، إذا أنا
دعوت أمنوا.
فلما رأى وفد نجران ذلك وسمعوا قوله، قال كبيرهم: يا معشر النصارى اني
لأرى وجوها لو سألت من الله أن يزيل جبلا لأزاله، لا تبتهلوا (1) فتهلكوا، ولا
يبقى على وجه الأرض نصراني منكم إلى يوم القيامة، فاقبلوا الجزية، فقبلوا الجزية
ثم انصرفوا.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي نفسي بيده أن العذاب قد نزل على أهل نجران،
ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير، ولاضطرم الوادي عليهم نارا، ولاستأصل الله
نجران وأهله حتى الطير على الشجر، ولم يحل الحول على النصارى حتى هلكوا.
ثم قال ابن الصباغ في الفصول بعد نقل القصة، وسبب نزول هذه الآية: قال جابر
بن عبد الله رضي الله عنه: (أنفسنا وأنفسكم) محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام)
(وأبناءنا) الحسن والحسين (ونساءنا) فاطمة صلوات الله عليهم أجمعين.
وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى، وقال: صحيح على شرط
مسلم. ورواه أبو داوود الطيالسي عن شعبة، عن الشعبي مرسلا. وروي عن ابن
عباس والبراء بن عازب رضي الله عنهما نحو ذلك (2) انتهى كلام صاحب الفصول.
وفي هذه القصة بيان لفضل علي بن أبي طالب (عليه السلام) وجلالته واستحقاقه الإمامة
من بين الصحابة، وظهور معجز النبي (صلى الله عليه وآله)، فان النصارى علموا بأنهم متى باهلوه
حل بهم العذاب، لمعرفتهم بشأنه ونبوته، فقبلوا الصلح ودخلوا تحت الهدنة.
وان الله تعالى أبان أن عليا (عليه السلام) هو نفس النبي (صلى الله عليه وآله) كاشفا بذلك عن بلوغه



(1) في المصدر: لا تباهلوا.
(2) الفصول المهمة ص 23 - 25 ط النجف الأشرف.
299
نهاية الفضل ومساواته للنبي (صلى الله عليه وآله) في الكمال والعصمة من الآثام، وأن الله سبحانه
جعله وزوجته وولديه حجة لنبيه (صلى الله عليه وآله)، وبرهانا على دينه، ونص على الحكم بأن
الحسن والحسين (عليهما السلام) أبناؤه، وأن فاطمة (عليها السلام) نساؤه، المتوجهة إليهم الذكر
والخطاب في الدعاء إلى المباهلة والاحتجاج، وهذا فضل لم يشاركهم فيه أحد من
الأمة، ولا قاربهم في هذه المزية أحد من الصحابة.
وقال العلامة قدس سره في منهاجه: اتفق الناس على أن المراد بالنفس في هذه الآية
هو علي (عليه السلام)، ولا يريد اتحاد النفس، فان ذلك محال، بل المراد المساواة، والمساوي
للأفضل الذي هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) يكون لا شك أفضل.
وقد يمكن الاستدلال بهذا على ثبوت الولاء مطلقا من غير توسط الأفضلية،
بأن تقول: انه مساوي لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، فثبت له الولاية ثبت لمساويه (1). انتهى
كلامه أعلى الله مقامه.
وهو جيد متين. وما أورده عليه بعض المخذولين من أنه ان أريد المساواة من
جميع الوجوه يلزم خلاف الاجماع، لأن المسلمين مجمعون على أن النبي (صلى الله عليه وآله) أفضل
منه قطعا.
نعم نقل عن بعض الغلاة القول بالمساواة، وكيف يتحقق المساواة مع
انفراده (صلى الله عليه وآله) عنه بالنبوة والرسالة والخواص. وان أريد المساواة في الجملة لم يدل
على الأفضلية قطعا، إذ لا يصدق أن مساوي الأفضل بهذا المعنى أفضل، وان أخذ
المساوي الذي هو موضوع الكبرى على الاطلاق أي من كل وجه، لم يتحد الحد
الأوسط، فلا ينتج القياس. وكذا يتجه على التقرير الثاني المطروح منه حديث
الأفضلية نحو ذلك.



(1) منهاج الكرامة للعلامة الحلي: البرهان العاشر من المنهج الثاني في الأدلة المأخوذة من
القرآن.
300
في غاية السقوط ونهاية الفتور، لأن أقرب المجازات الممكنة إلى الحقيقة
والتساوي في كل شئ، فيخرج منه ما قام الدليل على استثنائه، كالنبوة والخواص،
وأفضليته (صلى الله عليه وآله) على جميع أمته من هذا القبيل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
وقال القاضي الناصب العضدي في المواقف في معرض الجواب عن الاستدلال
بالآية الكريمة على أفضليته (عليه السلام) على سائر الصحابة ما هذا لفظه: وقد يمنع أن المراد
علي وحده، بل جميع أقربائه وخدمه النازلون منزلة نفسه داخلون فيه، يدل عليه
صيغة الجمع. انتهى كلامه.
وهو جهل منه، أو تجاهل عظيم، فإنه لا خلاف بين الأمة على اختلاف نحلها
وعقائدها وتفاوت مذاهبها في أنه (عليه السلام) وحده هو المراد بأنفسنا من دون سائر
الأقارب، كما يشهد به تتبع تفاسيرهم وسيرهم وأصحتهم وكتب أخبارهم.
كصحيحي مسلم والبخاري، وصحيح الترمذي، ومستدرك الحاكم، والجمع بين
الصحاح الستة للعبدري، وصواعق ابن حجر، وجامع الأصول لأبي السعادات
ابن الأثير الجزري الشافعي، ومسند أحمد بن حنبل، ومناقب ابن مردويه،
والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي، ومناقب الفقيه ابن المغازلي الشافعي
وغيرهم.
وهو أيضا بعينه مصرح به في تفاسيرهم، كالكشاف للعلامة محمود بن عمر
الزمخشري المعتزلي الحنفي، وتفسير الثعلبي، وتفسير أبي بكر النقاش، وتفسير
البيضاوي القاضي، والتقريب للعلامة الفالي المشهور بالقطب السيرافي، وتفسير
الإمام محمد بن الخطيب الرازي وغيرها. وفي سيرهم المشهورة، كسيرة عبد الملك
بن هشام وغيرها نحوه (1).



(1) راجع حول هذه المصادر إلى كتاب إحقاق الحق 3: 46 - 75، و 9: 70 - 91، و 14:
131 - 148، و 18: 389 - 390، و 20: 84 - 87 وغيرها.
301
فالعجب كل العجب من هذا الناصب حيث أنكر ذلك ورام ستره، وهل تستر
الشمس بالكف، أو يشتبه الحق بالخلف.
ومن أعجب العجائب جمود المحقق الشريف على هذا المحال، وقبضه عنان الكلام
على ذلك المقال الواضح الاختلاق (1)، ولا غرو فان عين الرضا كليلة عن كل عيب
وان ظهر، وحب الشئ يصم السمع ويعمي البصر، وقد صدق من قال: الناس
كلهم أكياس، فإذا جاؤوا إلى الأديان افتضح الأكثرون.
وأما تعلقه بالجمع، فهو أوهن من بيت العنكبوت.
أما أولا، فلأن استعمال الجمع في الواحد شائع ذائع لا سبيل لانكاره والتردد
فيه، ولا سيما عند قصد التعظيم، بل جوز سيدنا الأجل ذو المجدين علم الهدى
المرتضى - عطر الله مرقده - في الشافي كونه حينئذ حقيقة عرفية، وإن كان مجازا
لغويا، وقد حكينا ذلك عنه في ذيل الحديث السادس عشر.
وقد ذكر جمع من أئمة الأصول والعربية والتفسير: أن المراد بالناس في قوله تعالى
(الذين قال لهم الناس ان الناس قد جمعوا لكم) (2) هو نعيم بن مسعود الأشجعي،
وعلى كل حال فلا كلام في وجوب المصير إلى المجاز عند تعذر الحقيقة.
وأما ثانيا، فلأنه يجوز أن يكون المراد هنا النبي (صلى الله عليه وآله) وعليا (عليه السلام)، كما يدل عليه
خبر جابر المتقدم، وهو منقول من صحيح مسلم، ومستدرك الحاكم، وفصول المهمة
لابن الصباغ وغيرها، وحينئذ يكون حقيقة على القول بأن أقل الجمع اثنان، وهو
مذهب مالك وجماعة وعمر وزيد بن ثابت.
فان قلت: الداعي لا يدعو نفسه؟
قلت: يجوز أن يراد بدعائه (صلى الله عليه وآله) لنفسه الدعاء القلبي والحث النفسي، ويكون



(1) في (س): الاختلال.
(2) آل عمران: 173.
302
المراد به النشاط في المباهلة وجمع الهمة.
فان قلت: يلزم حينئذ استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وهو غير جائز عند
محققي الأصوليين؟
قلت: لا نسلم لزوم ذلك، بل يجوز أن يكون من قبيل عموم المجاز.
هذا والتحقيق هو الجواب الأول، وهو المطابق لأكثر الأخبار وكلام المفسرين،
وفي الجواب الثاني تكلف بعيد، ومنافرة تامة للأخبار المستفيضة ونصوص
المفسرين.
قال الثعلبي في تفسيره: أبناءنا الحسن والحسين، ونساءنا فاطمة، وأنفسنا علي
بن أبي طالب انتهى. وبمثله صرح غيره.
في تفسير الآية الكريمة:
قال العلامة الزمخشري في الكشاف، وهو من أئمة المعتزلة وعظماء الحنفية، وكان
يتمدح بالاعتزال، وذكر أهل التاريخ أنه جاور بمكة المشرفة عشرين سنة، حتى
لقب بجار الله، وهو من فحول المخالفين، كثير التصانيف، ما نصه:
يقال: بهلة الله على الكاذب منا ومنكم، والبهلة بالضم والفتح: اللعنة، وبهله
الله: لعنه وأبعده من رحمته من قولك أبهله إذا أهمله، وناقة باهل لا صرار عليها،
وأصل الابتهال هذا، ثم استعمل في كل دعاء ويجتهد فيه وان لم يكن التعانا.
وروي أيضا أنه لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر، فلما تخالوا قالوا
للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى؟ قال: والله يا معاشر النصار أن
محمدا نبي مرسل، ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا
قط، فعاش كبيرهم، ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن، فان أبيتم الا إلف
دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

303
فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله) وقد غدا محتضنا الحسين، وآخذا بيد الحسن، وفاطمة تمشي
خلفه، وعلي يمشي خلفها، وهو يقول: إذا أنا دعوت فأمنوا.
فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى اني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل بها
جبلا عن مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني
إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، وأن نقرك على دينك
ونثبت على ديننا.
قال: إذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم،
فأبوا، فقال: فاني أناجزكم، فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة، ولكن نصالحك على
أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا، على أن نؤدي إليك في كل عام ألفي حلة
في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد، فصالحهم على ذلك.
وقال: والذي نفسي بيده ان الهلاك قد تدلى على أهل نجران، ولو لاعنوا لمسخوا
قردة وخنازير، ولاضطرم عليهم الوادي نارا، ولاستأصل الله تعالى نجران وأهله
حتى الطير على رؤوس الشجر، ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى هلكوا.
وعن عائشة: أن النبي (صلى الله عليه وآله) خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود، فجاء
الحسن فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله، ثم فاطمة، ثم علي، ثم قال: (إنما يريد
الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).
فان قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة الا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه، وذلك
أمر يختص به دون غيره وبمن يكاذبه، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟
قلت: ذلك آكد للدلالة على ثقته بحاله، واستيقانه بصدقه، حتى استجرأ على
تعريض أعزته وأفلاذ كبده، وأحب الناس إليه لذلك، ولم يقتصر على تعريض
نفسه له وعلى ثقته أيضا بكذب خصمه، وهلاكه مع أحبته وأعزته هلاك
الاستئصال ان تمت المباهلة.
وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب، وربما فداهم الرجل

304
بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل، ومن ثم كانوا يسوقون منهم (1) الظغائن في
الحروب لتمنعهم من الهرب، ويسمون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق، وقدمهم
في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منازلهم (2)، وليؤذن بأنهم
مقدمون على الأنفس مفدون بها.
وفيه دليل لا شئ أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (عليهم السلام)، وفيه برهان
واضح على صحة نبوة النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه لم يرو أحد من مخالف ولا موافق أن
النصارى أجابوا إلى المباهلة (3). انتهى كلامه.
فانظر بعين التأمل والانصاف تعرف منه الصراط السوي، ولعمري لقد أجاد فيما
أفاد، لكن ما ذكره في وجه ضم أصحاب الكساء صلوات الله عليهم في المباهلة غير
خال عن تقصير، لأن العلة التي ذكرها تجري في أزواجه وسائر بناته وأقاربه
وعمه، وهولا يقول بالعموم، بل كلامه صريح في الخصوص كما لا يخفى.
ولعل مراده أن أعز الناس عليه وأحبهم إليه هم هؤلاء:، فلهذا باهل بهم،
بخلاف الأزواج فإنهن ليست بتلك المثابة، ولا من فرسان تلك الحلبة، لقصورهن
صورة ومعنى، وتأخرهن من ذلك المقام الأسنى، وكذلك سائر الأقارب، لأن مجرد
القرب الصوري غير نافع إذا لم يجامعه القرب المعنوي والاتصال الروحاني، كما
ذكرناه في ذيل الحديث الرابع عشر.
والأولى أن يقال: الوجه في ذلك هو مشاركتهم (عليهم السلام) له (صلى الله عليه وآله) في العصمة
والولاية، واستجابة الدعوة، والتنويه بشأنهم، والدلالة على جلالة قدرهم، وسمو
مكانهم، وقربهم من الحضرة السبحانية، والساحة الصمدانية، والنص على



(1) في الكشاف: مع أنفسهم.
(2) في الكشاف: منزلتهم.
(3) الكشاف 1: 434.
305
مشاركتهم له في استحقاق الطاعة الكلية، والرئاسة المطلقة الإلهية (1)، والسياسة
الدينية والدنيوية، كما لا يخفى.
وقد ذكر أبو بكر النقاش في تفسيره شفاء الصدور ما هذا لفظه: قوله تعالى (قل
تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم) الآية، قال أبو بكر: جاءت الأخبار بأن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذ بيد الحسن (عليه السلام)، وحمل الحسين (عليه السلام) على صدره - ويقال: بيده
الأخرى - وعلي (عليه السلام) معه، وفاطمة (عليها السلام) من ورائهم.
فحصلت هذه الفضيلة للحسن والحسين (عليهما السلام) من بين جميع أبناء أهل بيت
الرسول (صلى الله عليه وآله) وأبناء أمته، وحصلت هذه الفضيلة لفاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) من
بين بنات النبي وبنات أهل بيته وبنات أمته، وحصلت هذه الفضيلة لأمير المؤمنين
علي (عليه السلام) من بين أقارب رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن بين أهل بيته وأمته، بأن جعله
رسول الله (صلى الله عليه وآله) كنفسه يقول: أنفسنا وأنفسكم.
جرير، عن الأعمش، قال: كانت المباهلة ليلة احدى وعشرين من ذي الحجة،
وكان تزويج فاطمة (عليها السلام) يوم خمسة وعشرين من ذي الحجة، وكان يوم غدير خم
يوم ثمانية عشر من ذي الحجة (2) انتهى كلامه.
فائدة جليلة:
هذه الأخبار المستفيضة الناطقة بأن المراد بالأبناء في الآية الكريمة الحسن
والحسين (عليهما السلام) تدل دلالة قاطعة على أنهما (عليهما السلام) ولدا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتنادي
بذلك، والأخبار العاضدة لذلك لا تحصى كثرة:



(1) في (س): البهية.
(2) الطرائف ص 43 - 44 عن تفسير شفاء الصدور للنقاش.
306
منها: قوله (صلى الله عليه وآله) في حق الحسين (عليه السلام) في الخبر المشهور، ابني هذا امام ابن امام
أخو امام الخبر.
ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله) في حقه وحق أخيه الحسن (عليه السلام): ابناي هذان امامان قاما أو
قعدا (1).
ومنها: قوله تعالى (ومن ذريته داود وسليمان - إلى قوله - وعيسى
والياس) (2) ومعلوم أن عيسى لا ينسب له الا بأمه.
ومنها: ما رواه الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي من عظماء المخالفين،
مرفوعا إلى سفيان بن الحارث الثقفي، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو مقبل على
الناس مرة وعلى الحسن (عليه السلام) مرة أخرى، فيقول: ان ابني هذا سيد ولعل الله أن
يصلح به بين فئتين من المسلمين عظيمتين. أخرجه ابن الصباغ المالكي في الفصول
المهمة (3).
ومنها: ما رواه النسائي باسناده عن عبد الله بن شداد، عن أبيه، قال: خرج
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لصلاة العشاء وهو حامل حسنا، فتقدم النبي (صلى الله عليه وآله) للصلاة، فوضعه
ثم كبر وصلى وسجد بين ظهراني صلاته سجدة فأطالها، قال: فرفعت رأسي فإذا
الصبي على ظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو ساجد، فرجعت إلى سجودي، فلما قضى
رسول الله 9 صلاته قال الناس: يا رسول الله سجدت بين ظهراني صلاتك
سجدة، فأطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر وأنه يوحي إليك، قال: كل ذلك لم
يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى نزل (4).



(1) بحار الأنوار 44: 2.
(2) الأنعام: 84 - 85.
(3) الفصول المهمة ص 153.
(4) الفصول المهمة ص 154 عن النسائي، وراجع حول مصادر هذا الحديث إلى إحقاق الحق
11: 72 - 75.
307
ومنها: قوله (صلى الله عليه وآله): لا تزرموا ابني - يعني: الحسن (عليه السلام) أي لا تقطعوا عليه -
بوله، لما بال في حجره. أخرجه ابن الأثير في النهاية (1)، والزمخشري في الفائق (2).
والجوهري في الصحاح (3)، ومن أصحابنا الشهيد الثاني عطر الله مرقده في شرح
اللمعة (4).
ومنها: ما رواه الإمام الطبرسي - عطر الله مرقده - في الاحتجاج، عن أبي أحمد
هاني بن محمد العبدي، قال: حدثني أبو محمد ورفعه إلى موسى بن جعفر (عليهما السلام) في
جملة حديث طويل يحتوي على سؤالات الرشيد العباسي له (عليه السلام) وجواباته عنها،
إلى أن قال (عليه السلام) فيه:
ثم قال لي - يعني الرشيد -: لم جوزتم للعامة والخاصة أن ينسبوكم إلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويقولون لكم: يا بني رسول الله، وأنتم بنو علي، وإنما ينسب المرء إلى
أبيه، وفاطمة إنما هي وعاء، والنبي جدكم من قبل أمكم؟
فقلت: يا أمير المؤمنين لو أن النبي (صلى الله عليه وآله) نشر، فخطب إليك كريمتك، هل كنت
تجيبه؟ قال: سبحان الله ولم لا أجيبه؟ بل أفتخر على العرب والعجم وقريش بذلك.
فقلت له: لكنه لا يخطب إلي ولا أزوجه. فقال: ولم؟ فقلت: لأنه ولدني ولم يلدك،
فقال: أحسنت يا موسى.
ثم قال: كيف قلتم انا ذرية النبي؟ والنبي لم يعقب، وإنما العقب بالذكر لا الأنثى،
وأنتم ولد الابنة ولا يكون ولدها عقبا له؟
فقلت: أسألك بحق القرابة والقبر ومن فيه الا أعفيتني عن هذه المسألة، فقال: لا
أو تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي، وأنت يا موسى يعسوبهم وامام زمانهم، كذا



(1) نهاية ابن الأثير 2: 301.
(2) الفائق للزمخشري 1: 526 ط مصر.
(3) صحاح اللغة 5: 1941.
(4) شرح اللمعة 3: 185.
308
انهي إلي، ولست أعفيك في كل ما أسألك عنه حتى تأتيني بحجة من كتاب الله، وأنتم
تدعون معشر ولد علي أنه لا يسقط عنكم منه شئ ألف ولا واو الا تأويله عندكم،
واحتججتم بقوله عز وجل (ما فرطنا في الكتاب من شئ) (1) واستغنيتم عن
رأي العلماء وقياسهم.
فقلت: تأذن لي في الجواب؟ قال: ها ت، فقلت: أعوذ بالله من الشيطان
الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم (ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف
وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين × وزكريا ويحيى وعيسى كل من
الصالحين) (2) من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ فقال: ليس لعيسى أب، فقلت: إنما
ألحقناه بذراري الأنبياء (عليهم السلام) من طريق مريم (عليها السلام)، وكذلك ألحقنا بذراري
النبي (صلى الله عليه وآله) من قبل امنا فاطمة (عليها السلام)، أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال: هات.
قلت: قول الله عز وجل (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا
ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله
على الكاذبين) ولم يدع أحد أنه أدخله النبي (صلى الله عليه وآله) تحت الكساء عند مباهلة
النصارى الا علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) فأبناءنا الحسن
والحسين، ونساءنا فاطمة، وأنفسنا علي بن أبي طالب (2) الحديث.
وهو صريح في أنهما (عليهما السلام) ابنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وكذلك جميع الأئمة (عليهم السلام).
ومنها: ما رواه الشيخ أبو جعفر الطوسي، في الصحيح، عن محمد بن مسلم،
عن أحدهما (عليهما السلام) أنه قال: لو لم يحرم على الناس أزواج النبي (صلى الله عليه وآله) لقوله تعالى (ما
كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا) (3) حرم على



(1) الأنعام: 38.
(2) الأنعام: 84 - 85.
(3) الاحتجاج 2: 163 - 165.
(4) الأحزاب: 53.
309
الحسن والحسين (عليهما السلام)، لقوله الله عز وجل (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من
النساء) (1) (2). دل الخبر المذكور على أنه (صلى الله عليه وآله) أبوهما حقيقة، فيكونان ابنين له
حقيقة للنصائف.
ومنها: ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده، باسناده إلى المستطل، قال: ان عمر
بن الخطاب خطب إلى علي (عليه السلام) أم كلثوم، فاعتل بصغرها، فقال له: لم أكن أريد
الباه، ولكن سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: كل حسب ونسب منقطع يوم القيامة ما
خلا حسبي ونسبي، وكل قوم فان عصبتهم لأبيهم ما خلا ولد فاطمة، فاني أنا
أبوهم وعصبتهم (3). وبالجملة فشواهد ذلك لا تحصى كثرة.
ونقل الفاضل الجليل الحسن بن علي بن محمد الطبرسي في كتابه تحفة الأبرار عن
الشافعي الموافقة على ذلك، ونقله حجة الاسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي
عطر الله مرقده في تفسيره الكبير (4)، عن أبي بكر الرازي، وهو من عظماء المخالفين،
ونقل صاحب تحفة الأبرار عن أبي حنيفة أنه أنكر ذلك، لأن ولد البنت ليس بولد
حقيقة، لقول الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
ثم شنع عليه بأنه ترك الكتاب والأخبار وأطرحهما، وعول على بيت أعرابي
جلف جاف، وهو في موضعه، وفي دلالة البيت على المدعى نظر.
ومن هنا يظهر متانة ما ذهب إليه سيدنا الأجل علم الهدى عطر الله مرقده، من
استحقاق المنتسب بالأم إلى هاشم الخمس كالمنتسب بالأب، وهو الذي اختاره ابن
حمزة، لما تظافرت عليه الأدلة التي قدمناها وغيرها من كون ولد البنت ولدا حقيقة،



(1) النساء: 22.
(2) تهذيب الأحكام (عليه السلام): 281 ح 26، والاستبصار 3: 155 ح 2.
(3) الطرائف ص 76 عن مسند أحمد وذخائر العقبى ص 121 عن مناقب أحمد.
(4) مجمع البيان 1: 452.
310
ولا وجه لرفض جميع تلك الأدلة المتعاضدة واطراح تلك الأخبار المستفيضة بمجرد
خبر واحد مرسل، وقد حققنا هذه المسألة في رسالة مفردة.
ومن أصحابنا من وافق على كون ولد البنت ابنا حقيقة، ولم يوافق على
استحقاق الخمس، وهو اللائح من الشيخ الشهيد في اللمعة، فإنه في كتاب الخمس
منها اعتبر الانتساب إلى هاشم بالأب (1)، وفي كتاب الوقف قال: إذا وقف على
أولاده اشترك أولاد البنين والبنات، ومعلوم أنه مبني على كون ابن البنت ابنا
حقيقة، كما صرح به شيخنا الشهيد الثاني في شرحها (2).
ومن أراد الوقوف على تحقيق الحال والإحاطة بالأقوال، فليرجع إلى رسالتنا
المشار إليها.
جوهرة فاخرة:
نقل حجة الاسلام أبو علي الفضل الطبرسي - عطر الله مرقده - في تفسيره الكبير
عن ابن أبي علان، وهو أحد أئمة المعتزلة أنه قال: ان كون المراد بالأبناء في الآية
المذكورة الحسن والحسين (عليهما السلام) يدل على أنهما (عليهما السلام) كانا مكلفين، إذ المباهلة لا
يجوز الا مع البالغين (3).
وهو في غاية الغرابة ان أراد ما هو الظاهر من كلامه من بلوغهما (عليهما السلام) في تلك
الحال، كما فهمه عنه حجة الاسلام عطر الله مرقده، لاتفاق أهل التواريخ والسير
على أنهما حينئذ غير بالغين، وقد صرح بذلك جمع من الأصوليين، منهم الإمام الرازي
في المحصول، وجماعة من مختصري كلامه.



(1) شرح اللمعة 2: 80 - 82.
(2) شرح اللمعة 3: 184 - 185.
(3) مجمع البيان 1: 452 - 453.
311
وقال الفاضل نور الدين ابن الصباغ في الفصول المهمة: ان الحسن (عليه السلام) ولد ليلة
النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة (1).
وقال في موضع آخر: انه يوم وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله) كان ابن سبع سنين (2).
وقال: ان الحسين (عليه السلام) ولد لثلاث (3) خلون من شعبان المكرم سنة أربع من
الهجرة، وان له وقت وفاة النبي (صلى الله عليه وآله) ست سنين وشهورا (4).
وقال ثقة الاسلام محمد بن يعقوب الكليني: ولد الحسن بن علي (عليهما السلام) في شهر
رمضان في سنة بدر سنة اثنتين من الهجرة، وروي أنه ولد في سنة ثلاث انتهى (5).
وقال: ولد الحسين (عليه السلام) في سنة ثلاث (6).
وبالجملة فالقول ببلوغهما والحال هذه، بل حال موت الرسول (صلى الله عليه وآله) مما ينادي
على قائله بجهالته بالتواريخ والأخبار والسير. وأما قوله (ان المباهلة لا تجوز الا مع
البالغين) فهي دعوى عارية من الدليل، بل الدليل قائم على خلافها.
قال شيخنا الطبرسي، رحمه الله ان صغر السن ونقصانها عن حد بلوغ الحلم لا ينافي
كمال العقل، وإنما جعل بلوغ الحلم حدا لتعلق الأحكام الشرعية، وقد كان
سنهما (عليهما السلام) في تلك الحال سنا لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقول، على أن عندنا
يجوز أن يخرق الله العادات للأئمة، ويخصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم، فلو صح أن
كمال العقل حينئذ غير معتاد في تلك السن، لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم،



(1) الفصول المهمة ص 151.
(2) الفصول المهمة ص 166.
(3) في المصدر: لخمس.
(4) الفصول المهمة ص 170 و 199.
(5) أصول الكافي 1: 461.
(6) أصول الكافي 1: 463.
312
ودلالة على مكانهم من الله تعالى، واختصاصهم به (1). ومما يؤيده من الأخبار
قول النبي (صلى الله عليه وآله): ابناي هذان امامان قاما أو قعدا (2) انتهى.
وقد تقدم في ذيل الحديث السابع عشر في بحث اسلام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما
ينفعك في تحقيق هذا المقام.
تكملة:
قال حجة الاسلام الطبرسي - عطر الله مرقده - في التفسير المذكور في تفسير
نساءنا في الآية: اتفقوا أن المراد به فاطمة (عليها السلام)، لأنه لم يحضر المباهلة غيرها من
النساء، وهذا يدل على تفضيل الزهراء (عليها السلام) على جميع النساء.
ويعضده ما جاء في الخبر أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها.
وقال (عليه السلام): ان الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها. وقد صح عن حذيفة أنه
قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أتاني ملك فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل
الجنة أو نساء أمتي.
وعن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة، قالت: أسر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى فاطمة (عليها السلام)
شيئا فضحكت، فسألتها، فقالت: قال لي: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه
الأمة، فضحكت لذلك (3) انتهى.
أقول: ويشهد بذلك أيضا ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده، عن حذيفة بن



(1) لتأييدهم من الجناب الأقدس الإلهي بالكشف والالهام، بحيث يتساوى كبيرهم و
صغيرهم، كما اعترف به ابن حجر العسقلاني في فتح الباري في شرح صحيح البخاري و
غيره (منه).
(2) مجمع البيان 1: 453.
(3) مجمع البيان 1: 453.
313
اليمان، قال: سألتني أمي متى عهدك بالنبي؟ فقلت لها: منذ كذا وكذا ذكرت مدة
طويلة، فنالت مني وسبتني، فقلت لها: دعيني فاني آتي النبي (صلى الله عليه وآله) واصلي معه
المغرب لا أدعه حتى يستغفر لي ولك.
قال: فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله) فصليت معه المغرب والعشاء، ثم انفتل (صلى الله عليه وآله) من صلاته
فتبعته، فعرض له في طريقه عارض فناجاه، ثم ذهب فتبعته، فسمع مشيي خلفه،
فقال: من هذا؟ فقلت: حذيفة، فقال: مالك؟ فحدثته بحديثي الذي بيني وبين أمي،
فقال: غفر الله لك ولأمك.
ثم قال: ما رأيت العارض الذي عرض لي؟ فقلت: بلى يا رسول الله، قال: هو
ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قط قبل هذا الليلة، استأذن ربه في أن يسلم
علي ويبشرني أن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وان فاطمة سيدة نساء
العالمين (1).
وروى فيه أيضا عن عائشة، قالت: أقبلت فاطمة تمشي وكأن مشيها مشية
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: مرحبا بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه، وأسر إليها حديثا،
فبكت، فقلت، استخصك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بحديثه ثم تبكين، ثم أسر إليها حديثا
فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحا أقرب من حزن، فسألتها عما قيل لها.
قالت: ما كنت لأفشي سر رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) فسألتها،
فقلت: أسر إلي، فقال: ان جبرئيل (عليه السلام) كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة،
وانه عارضني به العام مرتين، ولا أراه الا قد حضر أجلي، وانك أول أهل بيتي بي
لحوقا ونعم السلف أنا لك، فبكيت لذلك، فقال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء
هذه الأمة، أو نساء المؤمنين، فضحكت لذلك (2).



(1) الفصول المهمة ص 145 - 146 عن مسند أحمد بن حنبل.
(2) الفصول المهمة ص 146 عن مسند أحمد.
314
وروى نور الدين المالكي في الفصول المهمة، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): أول شخص يدخل علي الجنة فاطمة بنت محمد (1).
وروى الحافظ عبد العزيز الأخضر الجنابذي في كتابه معالم العترة النبوية، عن
النبي (صلى الله عليه وآله) قال: إذا كان يوم القيامة قيل: يا أهل الجمع غضوا أبصاركم حتى تمر
فاطمة بنت محمد، فتمر وعليها ريطتان خضراوان، وفي بعض الروايات:
حمراوان (2).
ومن الكتاب المذكور قالت عائشة، ألا يسرك أني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول:
سيدات نساء أهل الجنة أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم، وفاطمة بنت
محمد، وخديجة بنت خويلد. وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون (3).
ومن الكتاب المذكور باسناده، عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: حسبك من نساء
العالمين مريم ابنت عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (4).
ومنه مرفوعا إلى قتادة، عن أنس أيضا، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): خير
نسائها مريم، وخير نسائها فاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون (5).
وقال نور الدين المالكي المكي في الفصول المهمة: وروي باللفظ الصريح عن
أصحاب الصحيح يرويه كل من البخاري ومسلم والترمذي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه
قال: كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء الا مريم بنت عمران، وآسية بنت
مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد (6).



(1) الفصول المهمة ص 145.
(2) الفصول المهمة ص 145.
(3) الفصول المهمة ص 145.
(4) الفصول المهمة ص 145.
(5) الفصول المهمة ص 145.
(6) الفصول المهمة ص 145.
315
ومن الفصول أيضا عن مجاهد، قال: خرج النبي (صلى الله عليه وآله) وهو آخذ بيد فاطمة (عليها السلام)
فقال: من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة
مني، وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمن آذاها فقد آذاني، ومن
آذاني فقد آذى الله (1).
ومنه أيضا عن الأصبغ بن نباته، عن أبي أيوب الأنصاري، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، ثم
ينادي مناد من بطنان العرش، ان الجليل جل جلاله يقول: نكسوا رؤوسكم
وغضوا أبصاركم، فان هذه فاطمة بنت محمد تريد أن تمر على الصراط (2).
ومنه عن أبي سعيد الخدري في حديثه عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه مر في السماء السابعة (3)
قال: فرأيت فيها لمريم ولأم موسى ولآسية امرأة فرعون ولخديجة بنت خويلد
قصورا من ياقوت، ولفاطمة بنت محمد سبعين قصرا من مرجان أحمر مكللا
باللؤلؤة، وأبوابها وأسترتها من عود (4).
وبالجملة فمناقبها لا تستقصى، وفضائلها ومفاخرها يجل عن العد والاحصاء،
لأنها فتيلة سراج الملة المحمدية، ومشكاة الأنوار الإلهية، والبضعة الحقيقية من
الحضرة المقدسة النبوية.



(1) الفصول المهمة ص 146.
(2) الفصول المهمة ص 147.
(3) في الفصول: الرابعة.
(4) الفصول المهمة ص 147.
316
الحديث الخامس والعشرون
[ورود علي (عليه السلام) وشيعته على الحوض الكوثر]
الشيخ الامام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشافعي في
كتاب كفاية الطالب، عن أبي ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يرد علي
الحوض راية علي أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين، فأقوم فآخذ بيده فيبيض
وجهه ووجوه أصحابه، فأقول: ما خلفتموني في الثقلين بعدي؟ فيقولون: تبعنا
الأكبر وصدقناه، ووازرنا الأصغر ونصرناه وقاتلنا معه، فأقول: ردوا رواء
مرويين، فيشربون شربة لا يظمأون بعدها أبدا، وجه امامهم كالشمس طالعة،
ووجوههم كالقمر ليلة البدر، أو كأضواء نجم في السماء (1).
أقول: هذا الخبر مستفيض مشهور، نقله الشيخ الجليل بهاء الدين علي بن
عيسى الأربلي في كتابه كشف الغمة (2)، وهو نص صريح على الإمامة، وبرهان
واضح على الخلافة.
والقائد هو الرئيس الذي يقود الجيش، كما تقدم في الحديث السادس عشر.
والغر جمع الأغر من الغرة، وهو بياض يكون في وجه الفرس، ويطلق على
الشرفاء والعظماء المشهورين.
والمحجل في الأصل هو الفرس الذي يرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد،
ويجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين، لأنهما مواضع الأحجال وهي الخلاخيل
والقيود، قاله ابن الأثير في النهاية، ثم قال: ولا يكون التحجيل باليد واليدين ما لم



(1) كفاية الطالب ص 24.
(2) كشف الغمة في معرفة الأئمة 1: 108 - 109.
317
يكن معها رجل ورجلان (1).
وحينئذ يجوز أن يجعل الغر المحجلون (2) كناية عن القرب والزلفى وجلالة القدر
والشأن، لأن الأغر المحجل أكرم أنواع الفرس عند العرب. ويحتمل أن يقال: إنه
كناية عن طهارتهم وملازمتهم للوضوء والعبادات.
قال ابن الأثير في النهاية أيضا: أي بيض مواضع الوضوء من الأيدي
والأقدام (3).
ويحتمل أنهما علامتان لأهل القرب والزلفى يوم القيامة في الوجه والأقدام، والله
أعلم.
الحديث السادس والعشرون
[مناقب أصحاب الكساء وفضلهم (عليهم السلام)]
الشيخ الحافظ مسعود بن ناصر السجستاني، من فحول عظمائهم وأساطين
محدثيهم، باسناده عن ربيعة السعدي، قال: أتيت حذيفة بن اليمان وهو في مسجد
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال لي: من الرجل؟ قلت: ربيعة السعدي، فقال لي: مرحبا بأخ
لي قد سمعت به ولم أر شخصه قبل اليوم، حاجتك؟ قلت: ما جئتك في طلب غرض
من الأغراض الدنيوية، ولكني قدمت من العراق من عند قوم افترقوا خمس فرق،
فقال حذيفة: سبحان الله تعالى، وما دعاهم إلى ذلك والأمر واضح بين، وما
يقولون؟
قال: قلت: فرقة تقول أبو بكر أحق بالأمر وأولى بالناس، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله)



(1) نهاية ابن الأثير 1: 346.
(2) في (س): المحجلين.
(3) نهاية ابن الأثير 1: 346.
318
سماه الصديق، وكان معه في الغار. وفرقة تقول عمر بن الخطاب، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: اللهم أعز الدين بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، فقال حذيفة: الله تعالى أعز
الدين بمحمد (صلى الله عليه وآله) ولم يعزه بغيره.
وقالت فرقة أبو ذر الغفاري رضي الله عنه، لأن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: ما أظلت الخضراء ولا
أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر، فقال حذيفة: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله)
أصدق منه وأخير، وقد أظلته الخضراء وأقلته الغبراء. وفرقة تقول سلمان
الفارسي، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: أدرك العلم الأول والعلم الاخر، وهو بحر لا
ينزف، وهو منا أهل البيت، ثم اني سكت.
فقال حذيفة: ما منعك من ذكر الفرقة الخامسة؟ قال: قلت: لأني منهم وإنما
جئت مرتادا لهم وقد عاهدوا الله أن لا يخالفونك وأن ينزلوا عند أمرك.
فقال: يا ربيعة اسمع مني وعه واحفظه وقه، وبلغ الناس عني، اني رأيت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أخذ الحسين بن علي (عليهما السلام) ووضعه على منكبه، وجعل يقي بعقبه،
وهو يقول: أيها الناس انه من استكمال حجتي على الأشقياء من بعدي التاركين
ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ألا وان التاركين ولاية علي بن أبي طالب هم
المارقون من ديني، أيها الناس هذا الحسين بن علي خير الناس جدا وجدة، جده
رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيد ولد آدم، وجدته خديجة سابقة نساء العالمين إلى الايمان بالله
ورسوله، وهو الحسين خير الناس أبا واما، أبوه علي بن أبي طالب وصي رسول
رب العالمين، ووزيره وابن عمه، وأمه فاطمة بنت محمد رسول الله.
وهذا الحسين خير الناس عما وعمة، عمه جعفر بن أبي طالب المزين بالجناحين
يطير بهما في الجنة حيث يشاء، وعمته أم هاني بنت أبي طالب، وهذا الحسين خير
الناس خالا وخالة، خاله القاسم بن رسول الله، وخالته زينب بنت محمد رسول الله
صلوات الله عليهم أجمعين.
ثم وضعه عن منكبه ودرج بين يديه، ثم قال: أيها الناس هذا الحسين جده في

319
الجنة، وجدته في الجنة، وأبوه في الجنة، وأمه في الجنة، وعمه في الجنة، وعمته في
الجنة، وخاله في الجنة، وخالته في الجنة، وهو في الجنة، وأخوه في الجنة.
ثم قال: أيها الناس انه لم يعط أحد من ذرية الأنبياء الماضين ما أعطي
الحسين (عليه السلام)، ولا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليهم السلام).
ثم قال: أيها الناس لجد الحسين خير من جد يوسف، فلا تخالجنكم الأمور، فان
الفضل والشرف والمنزلة والولاية ليست الا لرسول الله وذريته وأهل بيته، فلا
يذهبن بكم الأباطيل.
قال الشيخ الحافظ مسعود بن ناصر السجستاني: هذا الحديث حسن (1).
أقول: هذا الخبر كما ترى نص في إمامته (عليه السلام)، وكونه أحق بالأمر من غيره من
الصحابة، وفي جلالة قدر أهل البيت (عليهم السلام)، لا سيما أبا عبد الله الحسين (عليه السلام)، وهو
خبر مشهور أورده السيد الجليل ذو الكرامات والمقامات رضي الدين ابن
طاووس 1 في الجزء الأول من الطرائف، وفيه مقامات:
المقام الأول
في بيان ما لعله يحتاج إلى البيان
(ما أظلت الخضراء) أي: ألقت عليه ظلها، والخضراء: السماء. ويمكن ضبطه
بالطاء المهملة، أي: أشرقت عليه.
(ولا أقلت الغبراء) أي: حملت الأرض.
(على ذي لهجة) اللهجة: اللسان، ولهج بالشئ إذا ولع به، قاله ابن الأثير في



(1) الطرائف ص 118 - 120 عن السجستاني، والبحار 23: 111 - 112.
320
النهاية (1).
(وعه) أمر وعى يعي، أي: حفظ وفهم، والهاء للسكت، أو ضمير راجع إلى
متقدم حكما، أي: ما أقول لك، والأول أولى.
(هم المارقون من ديني) أي: الخارجون من الملة. قال ابن الأثير في النهاية: في
حديث الخوارج (يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية) أي يجوزونه
ويخرقونه، كما يخرق السهم الشئ المرمي به ويخرج منه (2) انتهى.
(ودرج بين يديه) درج الصبي دروجا ودرجانا: مشى.
(فلا تخالجنكم) أي: لا تقطعنكم ولا تخامرنكم الشبه.
المقام الثاني
في دفع شبهة الفرقة الأولى
أما قولهم إن رسول الله (صلى الله عليه وآله) سماه الصديق الأكبر، فهو كذب محض اختلقوه،
وبهتان بحت افتروه، وكيف يسمى بالصديق من لم يؤمن بالله طرفة عين، كما رواه
أصحابنا عن أئمتنا (عليهم السلام)، أنه وصاحبه عمر لم يؤمنا قط، وإنما أظهرا الاسلام طمعا.
روى رئيس المحدثين أبو جعفر محمد بن بابويه في كمال الدين وتمام النعمة،
والشيخ الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي في كتاب الاحتجاج، عن سعد بن عبد
الله القمي، أن بعض النواصب سأله عن اسلامهما كان عن طوع ورغبة، أو كان عن
اكراه واجبار؟
قال سعد: فاحترزت عن جوابه وقلت في نفسي: ان كنت أجبته بأنه كان عن



(1) نهاية ابن الأثير 4: 281.
(2) نهاية ابن الأثير 4: 320.
321
طوع، فيقول: لا يكون على هذا الوجه ايمانهما عن نفاق. وان قلت: عن اكراه
واجبار، لم يكن في ذلك الوقت للاسلام قوة حتى يكون اسلامهما باكراه واجبار
وقهر [فرجعت عن هذا الخصم على حال ينقطع كبدي] (1) فأخذت طومارا
وكتبت بضعا وأربعين مسألة من المسائل الغامضة التي لم يكن عندي جوابها،
وقلت: أدفعها إلى صاحب مولاي أبي محمد الحسن (عليه السلام) الذي كان في قم أحمد بن
إسحاق.
فلما طلبته كان هو قد ذهب، فمشيت على اثره، فأدركته وقلت الحال معه، فقال
لي: جئ معي إلى سر من رأى حتى نسأل عن هذه المسائل مولانا الحسن بن
علي (عليهما السلام). وساق الحديث إلى أن قال، ذكر أنه (عليه السلام) أمره بسؤال مولانا
المهدي (عليه السلام) عن تلك المسائل، وهو في ذلك الوقت طفل، فسأله عنها.
إلى أن قال (عليه السلام): وأما ما قال لك الخصم بأنهما أسلما طوعا أو كرها، لم لم تقل بل
أنهما أسلما طمعا، وذلك أنهما يخالطان اليهود ويخبران بخروج محمد (صلى الله عليه وآله) واستيلائه
على العرب من التوراة والكتب المتقدمة (2)، وملاحم قصة محمد (صلى الله عليه وآله)، ويقولون
لهما: يكون استيلاؤه على العرب كاستيلاء بخت نصر على بني إسرائيل، الا أنه
يدعي النبوة، ولا يكون من النبوة في شئ.
فلما ظهر أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فساعدا معه على شهادة أن لا إله إلا الله وأن
محمدا رسول الله طمعا أن يجدا من جهة ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولاية بلد إذا انتظم
أمره، وحسن حاله، واستقامت ولايته.
فلما أيسا من ذلك وافقا على أمثالهما ليلة العقبة، وتلثما مثل من تلثم منهم، فنفروا
بدابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لتسقطه ويصير هالكا بسقوطه بعد أن صعد العقبة في من



(1) الزيادة من الاحتجاج.
(2) في الاحتجاج: المقدسة.
322
صعد، فحفظ الله تعالى نبيه من كيدهم، ولم يقدروا أن يفعلوا شيئا، وكان حالهما
كحال طلحة والزبير إذ جاءا عليا (عليه السلام) وبايعاه طمعا أن تكون لكل واحد منهما
ولاية، فلما لم يكن ذلك وأيسا من الولاية نكثا بيعته وخرجا عليه حتى آل أمر كل
واحد منهما إلى ما يؤول أمر من ينكث العهود والمواثيق (1).
وقد ذكر جمع منهم أن هذه التسمية ليست من جهة الرسول (صلى الله عليه وآله)، وهو المفهوم
من كلام العلامة التفتازاني في شرح عقائد النسفي، وهو المصرح به في الطرائف (2)
وغيره.
قال صاحب الطرائف في الجزء الثاني ونعم ما قال: ومن طريف أمورهم أنهم
رووا في صحاحهم أن نبيهم (صلى الله عليه وآله) قال: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على
ذي لهجة أصدق من أبي ذر. ولم يرووا مثل ذلك لأحد من الصحابة، ومع ذلك لم
يسموه صديقا، وسمعت في كتابهم وصف جماعتهم بالتصديق، فقال: (والذين
آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم
والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم) (3) ولم يسموا كل واحد من
أولئك صديقا.
ورووا فيما تقدم من هذا الكتاب من مسند أحمد بن حنبل، وكتاب ابن شيرويه،
وكتاب ابن المغازلي، عن نبيهم (صلى الله عليه وآله) أنه قال: الصديقون ثلاثة: حبيب النجار،
وهو مؤمن آل يس. ومؤمن آل فرعون، وهو خربيل، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام)،
وان علي بن أبي طالب (عليه السلام) أفضلهم (4).
وما نراهم أطلقوا على هؤلاء الثلاثة أو على أحدهم لفظ الصديق، والعجب أن



(1) كمال الدين للصدوق ص 456 - 463، والاحتجاج للطبرسي 2: 269 - 275.
(2) الطرائف ص 404.
(3) الحديد: 19.
(4) المناقب لابن المغازلي ص 246.
323
يكون علي بن أبي طالب (عليه السلام) أفضل الصديقين ولا يسمونه صديقا، ويكون أول
من صدق نبيهم (صلى الله عليه وآله) وآمن به، كما تقدم في رواياتهم، وأنه كان يقول على رؤوس
المنابر وبمجمع الأشاهد، كما رووا: أنا الصديق الأكبر، ولم يسموه مع ذلك الصديق،
وخصصوا هذه اللفظة بأبي بكر دون غيره من سائر الصديقين، ان هذا مما تنفر عقول
المستبصرين (1) انتهى كلامه. وهو في موضعه.
وما ذكره التفتازاني في شرح العقائد في وجه تسميته بالاسم المذكور، من أنه
صدق النبي (صلى الله عليه وآله) في النبوة من غير تعليم، وفي المعراج بلا تردد.
مع تسليمه لا يقتضي تخصيصه بالاسم المذكور، لأن أمير المؤمنين (عليه السلام) وخديجة
قد سبقاه بالاسم والتصديق المذكور. وقد أسلفنا في ذيل الحديث السابع عشر أن
مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أول من أسلم، وأوردنا جملة متفرقة من الأخبار من
طرق الناصبة.
وقال الناصب الفضولي الخنجي في نقضه لكتاب كشف الحق ونهج الصدق: ان
الباقر (عليه السلام) سمى أبا بكر صديقا.
كما سماه الفاضل الجليل علي بن عيسى الأربلي في كتاب كشف الغمة أنه (عليه السلام)
سئل عن حلية السيف، فقال: لا بأس به، وقد حلى أبو بكر الصديق سيفه، قال
السائل: قلت: أنت تقول الصديق؟! قال: فوثب وثبة واستقبل الكعبة، وقال: نعم
الصديق نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله تعالى قولا في الدنيا ولا في
الآخرة (2).
وزعم أنه من طرق أصحابنا، وكأنه لم يتأمل في الكتاب المذكور بعض التأمل،
فان الخبر في الكتاب المذكور منقول من طرق المخالفين من كتاب صفوة الصفوة لابن



(1) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ص 405 المطبوع بتحقيقنا.
(2) كشف الغمة 2: 147.
324
الجوزي الحنبلي، لا من طرقنا كما زعمه.
وقد نقله نور الدين المالكي في الفصول المهمة، عن كتاب ابن الجوزي، فقال:
ومن كتاب صفوة الصفوة لابن الجوزي، عن عروة بن عبد الله، قال: سألت
أبا جعفر محمد بن علي عن حلية السيف (1).
فنسبة الحديث المذكور إلى أصحابنا فرية ما فيه مرية، وهكذا دأبه وضع
المفتريات واختلاق الأباطيل. ولو صح أنه (عليه السلام) قال ذلك، لكان على وجه التقية،
والتقية رحمة للشيعة.
وقد قال الصادق (عليه السلام): التقية ديني ودين آبائي (2).
وقال (عليه السلام): لا دين لمن لا تقية له (3).
وروي عن نصر الخثعمي أنه قال: من عرف من أمرنا أنا لا نقول الا حقا
فليكتف بما يعلم منا، فان سمع منا خلاف ما يعلم فليعلم أن ذلك دفاع منا عنه (4)
والأخبار الواردة على سبيل التقية أكثر من أن تحصى.
هذا ويحتمل أن يكون مراده (عليه السلام) بالصديق عليا (عليه السلام)، لأنه الصديق حقيقة، كما
تقدم بيانه، واستفاضت به الأخبار من طرقهم، ولما توهم الراوي أنه أراد أبا بكر
لشيوع اطلاق الصديق عليه زاد لفظ أبي بكر، فهو من الحكاية لا المحكي، ومثل هذا
يقع كثيرا في الحكايات والمحاورات.
ثم إنه بناء على التوهم المذكور استبعد ذلك الاطلاق منه (عليه السلام)، لمنافرة
شعارهم (عليهم السلام)، وما هو معلوم ضرورة من مذهبهم، فقال: تقول الصديق،
فأجابه (عليه السلام) بقوله (نعم) إلى آخر كلامه، مريدا به عليا (عليه السلام)، وهو تورية حسنة



(1) الفصول المهمة ص 217.
(2) أصول الكافي 2: 219 ح 11.
(3) أصول الكافي 2: 217 ح 2.
(4) أصول الكافي 1: 65 - 66 ح 6.
325
لطيفة، وسلوك هذا السبيل من التورية في كلامهم (عليهم السلام) أكثر من أن يحصى.
هذا مع أنه لا ضرورة لنا إلى تأويله، لأنه من روايات ابن الجوزي الحنبلي،
وهو بل أكثر أهل الخلاف لا يتحاشون عن الكذب واختلاق الأخبار. ومنهم من
يعتقد جوازه للترغيب والترهيب، وهم الكرامية وبعض المتصوفة ومن يحذو
حذوهم.
وحكى القرطبي في المغنم، عن بعض أهل الرأي أن ما وافق القياس الجلي، جاز
أن يعزى إلى النبي (صلى الله عليه وآله).
وقد نقل القاضي الشريف الشوشتري في مجالس المؤمنين في ترجمة عبيد الله بن
محمد الإسماعيلي، من تواطئ أهل الهراة على الكذب ما يقضي منه العجب.
أما الشبهة الثانية، فتقريرها: أن أبا بكر صاحب النبي (صلى الله عليه وآله) في الغار، ولم يصحبه
أحد سواه، فيكون أفضل الصحابة، وأولى بالخلافة من غيره، وقد تقرر الشبهة بأن
الله تعالى سماه صاحبا، فقال: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن) (1) فيكون أفضل
الأمة.
والجواب عن التقرير الأول: أنهم رووا أن الرسول (صلى الله عليه وآله) لم يستصحبه ولا أعلمه
بخروجه، ولا أذن له في متابعته.
روى محمد بن جرير الطبري - وهو من أعيان علمائهم وفحول محدثيهم، أثنى
عليه النووي في كتابه تهذيب الأسماء واللغات، وبالغ في اطرائه، وذكر في مدحه
والثناء عليه، وذكر أحواله نحوا من ورقين - في تأريخه في الجزء الثالث: أن أبا بكر
أتى عليا (عليه السلام) فسأله عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فأخبره أنه لحق بالغار من ثور، وقال:
إن كان لك فيه حاجة فألحقه، فخرج أبو بكر مسرعا فلحق بنبي الله (صلى الله عليه وآله) في
الطريق، فسمع جرس أبي بكر في ظلمة الليل، فظنه من المشركين، فأسرع



(1) التوبة: 40.
326
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فانقطع قبال نعله (1)، ففلق ابهامه حجر فكثر دمها وأسرع السعي،
فخاف أبو بكر أن يشق على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فرفع صوته وتكلم، فعرفه
رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين أتاه فلحقه، فانطلقا ورجل رسول الله 9 تسيل دما حتى
انتهى إلى الغار مع الصبح فدخلاه (2).
وهذا كما ترى يشهد بأنه ما كان عنده علم من توجه النبي (صلى الله عليه وآله) من مكة إلى
المدينة، وأن النبي (صلى الله عليه وآله) ستر ذلك عنه، كما ستره عن أعدائه من المشركين، وأنه ما
عرف توجه النبي (صلى الله عليه وآله) الا من علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ولم يمكنه المقام بعد
النبي (صلى الله عليه وآله) خوفا من الكفار.
وروى أحمد بن حنبل في مسنده عن ابن عباس حديثا طويلا يتضمن عشر
خصال جليلة، دل بها النبي (صلى الله عليه وآله) على منزلة علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقول في جملته:
فشرى علي نفسه، لبس ثوب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فجاء أبو بكر وعلي (عليه السلام) نائم، قال
أبو بكر: فحسبت أنه نبي الله، فقلت: يا نبي الله، فقال له علي (عليه السلام): ان
رسول الله (صلى الله عليه وآله) انطلق نحو بئر ميمون فأدركه، قال: فانطلق أبو بكر فدخل معه
الغار (3).
وهو كالخبر الأول في الدلالة على أن النبي (صلى الله عليه وآله) ما عرف أبو بكر أمره، ولا أطلعه
على سره، ولا صحبه إلى الغار، ولا تبعه معه إلى الغار باذنه، ولا دخوله معه فيه
بقوله.
قال صاحب الطرائف: ما أحسن هذه الرواية عند الشيعة. وأما قولهم فيها أن
عليا (عليه السلام) أشار على أبي بكر بادراكه، فلا تصدق الشيعة بذلك، ويروون خلاف



(1) أي: زمام نعله (منه).
(2) تاريخ الطبري 2: 245.
(3) الطرائف ص 408 عن مسند أحمد بن حنبل.
327
هذا (1) انتهى.
ولو سلمنا أنه (صلى الله عليه وآله) استصحبه وأمره بالخروج معه كما يقول الخصم، لم يدل على
جلالة قدره، أو محبة النبي (صلى الله عليه وآله) له، بل ربما دل على ضد ذلك، فقد روى مخالفونا
أيضا أنه (صلى الله عليه وآله) إنما استصحبه إلى الغار خوفا منه أن يدل عليه الكفار.
وروى ذلك أبو القاسم ابن الصباغ في كتاب النور والبرهان، فإنه روى فيه
مرفوعا، عن أحمد (2) بن إسحاق، قال: قال حسان: قدمت مكة معتمرا وناس من
قريش يقذفون أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فنام علي على فراشه وخشي من ابن
أبي قحافة أن يدلهم عليه، فأخذه معه ومضى إلى الغار. كذا حكاه صاحب الطرائف
عطر الله مرقده (3). وهذا هو الوجه اللائق باستصحاب هذا المنافق.
والعجب من النواصب كيف يستحسنون رواية مثل هذا وايداعه كتبهم
ومصنفاتهم، ثم يدعون أنه أفضل الأمة، وأنه الخليفة بالحق بعد الرسول (صلى الله عليه وآله)، ما
هذا الا من تعصب جاهلي، وتحكم شيطاني استولى على قلوبهم المنكوسة، وران
على بصائرهم المطموسة.
قال في الطرائف: وقال صاحب هذا الكتاب في باب الهجرة إلى المدينة، رفعه
إلى سعيد بن المسيب، عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال سعيد: فقلت لعلي بن
الحسين (عليهما السلام): قد كان أبو بكر مع الرسول (صلى الله عليه وآله) حين انتقل إلى المدينة، فأين فارقه؟
فقال: ان أبا بكر لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى قبا، فنزل بها ينتظر قدوم علي (عليه السلام)،
قال له أبو بكر: انهض بنا إلى المدينة، فان القوم قد فرحوا بقدومك، وهم
يستبشرون اقبالك إليهم، فانطلق بنا ولا تقم هاهنا تنتظر عليا، فما أظنه أن تنتظره
شهرا ولا دهرا.



(1) الطرائف ص 409 - 410.
(2) في الطرائف: محمد.
(3) الطرائف ص 410.
328
فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): كلا بفيك الحجر ما أسرعه يقدم، ولا أزيل قدما حتى
يقدم علي ابن عمي وأخي في الله، وأحب أهل بيتي إلي، فقد وقاني بنفسه من
المشركين، وخفت غيره أن يدلهم علي.
فغضب عند ذلك أبو بكر واشمأز وجهه ودخله من ذلك حسد لعلي (عليه السلام)، وكان
أول عداوة بدت منه لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأسرها في نفسه حقدا، فانطلق حتى دخل
المدينة وحده، وتخلف رسول الله (صلى الله عليه وآله) ينتظر قدوم علي بن أبي طالب (عليه السلام).
ثم قال صاحب الطرائف قدس الله روحه: قال عبد المحمود: وفي هذا الحديث ما
يكشف لك عن السرائر، وينبهك عن الحق الباهر، ان كنت من أهل البصائر
وتخاف من اليوم الآخر (1).
وهو كما قال عطر الله مرقده، وبعد اللتيا والتي فليس مجرد الاستصحاب في
السفر دليلا على الفضيلة بوجه، فان الرجل يستصحب في سفره العبد والخادم، وان
كانا فاسقين ممقوتين عنده.
ولو سلم لم يدل على الأفضلية وهو المدعى، ولو سلم لم يدل على الإمامة، لأنهم لم
يشترطوا في الامام كونه أفضل أهل زمانه، ومنهم من لم يشترط عدالته.
قال العلامة التفتازاني في شرح العقائد: لا يشترط أن يكون الامام أفضل أهل
زمانه، لأن المساوي في الفضيلة بل المفضول الأقل علما وعملا ربما كان أعرف
بمصالح الأمة ومفاسدها، وأقدر على القيام بواجبها، وخصوصا إذا كان نصب
المفضول أدفع للشر وأبعد عن إثارة الفتنة، ولهذا جعل عمر الإمامة شورى بين
ستة، مع القطع بأن بعضهم أفضل من البعض.
ثم قال: ولا ينعزل الامام بالفسق والجور وظلم عباد الله، لأنه قد ظهر الفسق
وانتشر الجور من الأئمة والامراء بعد الخلفاء الراشدين، وكانوا ينقادون لهم،



(1) الطرائف ص 410 - 411.
329
ويقيمون الجمع والأعياد باذنهم، ولا يرون الخروج عليهم، ولأن العصمة ليست
شرط للإمامة ابتداء، فبقاء أولى. انتهى كلامه.
وأما التقرير الثاني، فهو أوهن من بيت العنكبوت، لأن مطلق الصحبة لا فضيلة
فيها، لأن القرآن الكريم قد تضمن جعل الكافر صاحب المؤمن أو النبي في مواضع:
منها قوله تعالى (قال له صاحبه وهو يحاوره) (1) الآية. ومنها قوله تعالى (قل
إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من
جنة) (2).
وقد روى الطبرسي رحمه الله في الاحتجاج باسناده عن الأعمش في مناظرة
أبي جعفر محمد بن النعمان مؤمن الطاق مع ابن أبي حذرة، أن ابن أبي حذرة استدل
على أفضلية أبي بكر بآية الغار، فقال له أبو جعفر رضي الله عنه في جوابه: أخبرني هل أنزل
الله سكينته على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى المؤمنين في غير الغار؟ قال ابن أبي حذرة:
نعم، قال أبو جعفر: قد أخرج صاحبك في الغار من السكينة وخصه بالحزن،
ومكان علي (عليه السلام) في هذه الليلة أفضل من مكان صاحبك في الغار، فقال الناس:
صدقت (3).
احتجاج الشيخ المفيد على عمر بن الخطاب
وهاهنا حكاية طريفة، ورؤيا عجيبة رآها شيخنا المتقدم أبو عبد الله المفيد عطر
الله مرقده، يتضمن مناظرته لعمر بن الخطاب في الاستدلال بالآية الكريمة، أحببت
ايرادها هنا لما اشتملت عليه من الفوائد الكثيرة والمباحث الجليلة.



(1) الكهف: 37.
(2) سبأ: 46.
(3) الاحتجاج للشيخ الطبرسي 2: 145 ط النجف.
330
قال الشيخ الجليل أحمد بن أبي طالب الطبرسي - عطر الله مرقده - في
الاحتجاج: حدث الشيخ أبو علي الحسن بن محمد الرقي بالرملة في شوال سنة ثلاث
وعشرين وأربعمائة، عن الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رحمه الله أنه
قال: رأيت في المنام سنة من السنين، كأني قد اجتزت في بعض الطرق، فرأيت
حلقة دائرة وفيها أناس كثيرة، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذه حلقة فيها رجل يقص،
فقلت: ومن هو؟ قالوا: عمر بن الخطاب.
ففرقت الناس ودخلت الحلقة، فإذا أنا برجل يتكلم على الناس بشئ لم
أحصله، فقطعت عليه الكلام، وقلت: أيها الشيخ أخبرني ما وجه الدلالة على فضل
صاحبك أبي بكر عتيق ابن أبي قحافة من قول الله تعالى (ثاني اثنين إذ هما في
الغار)؟.
فقال: وجه الدلالة على فضل أبي بكر من هذه الآية في ستة مواضع:
الأول: أن الله تعالى ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) وذكر أبا بكر، فجعله ثانيه، فقال: (ثاني
اثنين إذ هما في الغار).
والثاني: أنه وضعهما بالاجتماع في مكان واحد لتأليفه بينهما، فقال: (إذ هما في
الغار).
والثالث: أنه أضاف إليه بذكر الصحبة ليجمعه بينهما بما يقتضي الرتبة، فقال:
(إذ يقول لصاحبه).
والرابع: أنه أخبر عن شفقة النبي (صلى الله عليه وآله) ورفقه به لموضعه عنده، فقال: (لا
تحزن).
والخامس: أنه أخبر أن الله تعالى معهما على حد سواء ناصرا لهما ودافعا عنهما،
فقال: (ان الله معنا).
والسادس: أنه أخبر عن نزول السكينة على أبي بكر، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم
تفارقه السكينة قط، فقال: (فأنزل الله سكينته عليه) فهذه ستة مواضع تدل على

331
فضل أبي بكر من آية الغار، لا يمكنك ولا لغيرك الطعن فيها.
فقلت له: حبرت بكلامك في الاحتجاج لصاحبك عنه، واني بعون الله سأجعل
جميع ما أتيت به كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف.
أما قولك ان الله تعالى ذكر النبي (صلى الله عليه وآله) وجعل أبا بكر ثانيه، فهو اخبار عن العدد،
ولعمري لقد كانا اثنين، فما في ذلك من الفضل، فنحن نعلم ضرورة أن مؤمنا
ومؤمنا، أو مؤمنا وكافرا اثنان، فما أرى لك في ذكر العدد طائلا تعتمده.
وأما قولك انه وصفهما بالاجتماع في المكان الواحد لتأليفه بينهما، فإنه كالأول،
لأن المكان يجمع المؤمن والكافر، كما يجمع العدد المؤمنين والكافرين. وأيضا فان
مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) أشرف من الغار، وقد جمع المؤمنين والمنافقين والكفار، وفي ذلك
قوله عز وجل (فما للذين كفروا قبلك مهطعين عن اليمين وعن الشمال عزين) (1)
وأيضا فان سفينة نوح (عليه السلام) قد جمعت النبي والشيطان والبهيمة والكلب، فالمكان لا
يدل على ما أوجبت من الفضيلة، فبطل فضلان.
وأما قولك انه أضاف إليه بذكر الصحبة، فإنه أضعف من الفضلين الأولين، لأن
اسم الصحبة يجمع بين المؤمن والكافر، والدليل على ذلك قوله تعالى (قال له
صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك
رجلا) (2) وأيضا اسم الصحبة تطلق بين العاقل والبهيمة، والدليل على ذلك من
كلام العرب الذي نزل القرآن بلسانهم، فقال الله عز وجل (وما أرسلناك من
رسول الا بلسان قومه) (3) انهم قد سموا الحمار صاحبا، فقالوا:
ان الحمار مع الحمار مطية * فإذا خلوت به فبئس الصاحب
وأيضا فقد سموا الجماد مع الحي صاحبا، فقالوا ذلك في السيف شعرا:



(1) المعارج: 37.
(2) الكهف: 37.
(3) إبراهيم: 4.
332
زرت هندا وذاك غير اختيان * ومعي صاحب كتوم اللسان
يعني: السيف. فإذا كان اسم الصحبة يقع بين المؤمن والكافر، وبين العاقل
والبهيمة، وبين الحيوان والجماد، فأي حجة لصاحبك فيه؟.
وأما قولك أنه قال: (لا تحزن) فإنه وبال عليه ومنقصة له، ودليل على خطئه،
لأن قوله (لا تحزن) نهي، وصورة النهي قول القائل (لا تفعل) لا يخلو: أن يكون
الحزن وقع من أبي بكر طاعة، أو معصية. فإن كان طاعة، فان النبي (صلى الله عليه وآله) لا ينهى
عن الطاعات، بل يأمر بها ويدعو إليها. وإن كان معصية، فقد نهاه النبي (صلى الله عليه وآله)، وقد
شهدت الآية بعصيانه بدليل أنه نهاه.
وأما قولك أنه قال (ان الله معنا) فان النبي (صلى الله عليه وآله) قد أخبر أن الله معه، وعبر عن
نفسه بلفظ الجمع، كقوله (انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون) (1) وقد قيل في هذا
أيضا: ان أبا بكر قال: يا رسول الله حزني على أخيك علي بن أبي طالب ما كان منه،
فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): لا تحزن ان الله معنا، أي: معي ومع أخي علي بن أبي طالب.
وأما قولك ان السكينة نزلت على أبي بكر، فإنه ترك للظاهر، لأن الذي نزلت
عليه السكينة هو الذي أيده الله بالجنود، وكذا يشهد ظاهر القرآن في قوله (فأنزل
الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها) فإن كان أبو بكر هو صاحب السكينة،
فهو صاحب الجنود، وفي هذا اخراج للنبي (صلى الله عليه وآله) من النبوة.
على أن هذا الموضع لو كتمته عن صاحبك كان خيرا له، لأن الله تعالى أنزل
السكينة على النبي (صلى الله عليه وآله) في موضعين كان معه قوم مؤمنون فشركهم فيها، فقال في
أحد الموضعين (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة
التقوى) (2) وقال في الموضع الاخر (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى



(1) الحجر: (صلى الله عليه وآله).
(2) الفتح: 26.
333
المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها) (1) ولما كان في هذا الموضع خصه وحده
بالسكينة، قال: (فأنزل الله سكينته عليه) فلو كان معه مؤمن لشركه معه في
السكينة، كما شرك من ذكرنا قبل هذا من المؤمنين، فدل اخراجه من السكينة على
اخراجه من الايمان، فلم يحر جوابا وتفرق الناس، واستيقظت من نومي (2).
المقام الثالث
في ابطال ما تعلقت به الفرقة الثانية
أول ما يرد عليهم أن هذا الحديث موضوع مختلق، كما يفهم من قول
حذيفة رضي الله عنه: ان الله تعالى أعز الدين بمحمد (صلى الله عليه وآله) ولم يعزه بغيره.
ومما يشهد بوضعه أن عمر بن الخطاب في الجاهلية خامل الذكر لا يؤبه به ولا
يلتفت إليه، ولم يكن له نجدة ولا نباهة، وقد ذكر المخالفون أنه كان في الجاهلية نخاس
للحمير، وانه كان في غاية الدناءة، وانه بغير رشده، وان أباه الخطاب كان حطابا،
وانه قطع في السرقة في سوق عكاظ، وكان عمر يسمى في الجاهلية عميرا، تهكما
وسخرية، وقد نقلنا ذلك في رسالتنا المعمولة في فساد نسبه الموسومة بالذخيرة يوم
المحشر، فمن كان هذا شأنه وحاله كيف يعز الاسلام به، ما هذا الا اختلاق من أهل
النفاق، وافتراء من ذوي الشقاق.
وذكر الفاضل الجليل الحسن بن علي الطبرسي في تحفة الأبرار (3): أن اقتران
عمر بأبي جهل في هذا الخبر يشهد بضد ما ادعاه الخصم، وينادي باشتراكهما في
الضلال، وهو كما قال: ولو دل هذا الخبر على فضيلة عمر لدل على فضيلة أبي جهل،



(1) التوبة: 26.
(2) الاحتجاج 2: 325 - 329 ط النجف
(3) هذا الكتاب مخطوط لم يطبع بعد، ولم أظفر على نسخته
334
لانتظامهما في سلك.
والذي يظهر لي أن الخبر المذكور على تقدير صحته ودونها خرط القتاد، لا يدل
على جلالة عمر ولا فضيلته، بل الوجه في دعائه (صلى الله عليه وآله) أن هذين الملعونين لما اشتركا
في البذاءة وخبث اللسان، وإهانة أهل الاسلام والسفاهة عليهم، وتساويا في قبح
الأخلاق وايذاء الرسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصحابه والاستهزاء بهم، كما يعلم من مطالعة
السير، أحب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يدخل واحد منهما في ظاهر الاسلام، ليكون في
مقابلة الاخر، فقد دل من لا سبقة (1) له، ويسلم المسلمون من تعاونهما
واستظهارهما بالوقاحة والسفاهة، ويسلم من شره وفتنته، مع أنهم قد رووا أن الله
سبحانه أعز السلام بعلي (عليه السلام) دون غيره من الصحابة.
نقل الطبرسي - عطر الله مرقده - في تحفة الأبرار عن الصالحاني من عظمائهم، أنه
روى في كتاب المجتبى، أن النبي (صلى الله عليه وآله) تعلق بأستار مكة يوم الفتح، وقال: اللهم
أرسل إلى مشركي قريش من بني أمية عمي من يعضدني، فنزل جبرئيل (عليه السلام)
بالغضب،
فقال: يا محمد ألم يعضدك ربك بسيف من سيوفه على أعدائك علي بن أبي طالب،
فلا يزال دينك قائما به ما بلغ حتى يثلمه رجل من بني أمية، أقسم ربك قسما ليرهقه
صعودا ويسفيه صديدا.
وعن الكسائي في قصص الأنبياء: مكتوب على ساق العرش: لا إله إلا الله،
محمد رسول الله أيدته، ونصرته بعلي (2).
وفي كتاب المناقب لأبي بكر بن مردويه، ومجتبى الصالحاني، ومنتهى المآرب
للقطان الاصفهاني، والتفسير المستخرج من التفاسير الاثني عشر للشيخ الحافظ



(1) في (س): سفيه.
(2) رواه الذهبي في ميزان الاعتدال 2: 18، والعسقلاني في لسان الميزان 3: 238، و
القندوزي في ينابيع المودة ص 238، والطبري في الرياض النضرة 2: 172، والهيتمي في
مجمع الزوائد (صلى الله عليه وآله): 121.
335
محمد بن مؤمن الشيرازي: ان هذه الآية (فان حسبك الله هو الذي أيدك بنصره
والمؤمنين) (1) نزلت في علي (عليه السلام)، وانه هو المراد بالمؤمنين (2).
المقام الرابع
في دفع شبهة الفرقة الثالثة
أول ما يرد عليهم أن المعلوم من حال أبي ذر رضي الله عنه ائتمامه بمولانا
أمير المؤمنين (عليه السلام)، واقتداؤه به وانتظامه في سلك أتباعه.
وقد روى المخالفون عنه أخبارا كثيرة صريحة في ذلك، وانه (عليه السلام) هو وصي
رسول الله (صلى الله عليه وآله) والخليفة من بعده:
منها: الحديث السادس عشر الذي رواه الثعلبي في تفسيره، والحديثان
المذكوران في ذيل الحديث الثاني والعشرين المنقولان عن مناقب أبي بكر بن
مردويه، حيث قال فيهما: انه (عليه السلام) أمير المؤمنين حقا حقا، وانه أحب الناس إلى
النبي (صلى الله عليه وآله)، وانه الشيخ المظلوم المضطهد حقه، وانه الربيع الذي يسكن إليه.
ومنها: الحديث الخامس والعشرون المتقدم.
ومنها: ما رواه ابن المغازلي الشافعي باسناده عنه رضي الله عنه، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): من ناصب عليا الخلافة بعدي، فهو كافر وقد حارب الله ورسوله،
ومن شك في علي فهو كافر (3).
وروى الشيخ الأجل أبو الفتوح الرازي في تفسيره: قوله تعالى (ان الله اصطفى
آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع



(1) الأنفال 62.
(2) رواه الحسكاني في شواهد التنزيل 1: 223، وإحقاق الحق 3: 194 - 195.
(3) المناقب لابن المغازلي ص 46 برقم: 68.
336
عليم) (1) عن معروف بن خربوذ، عن ابن عباس، قال: كنت في سنة من السنين
في موسم الحج، فرأيت رجلا على هيئة الأعراب عليه عمامة سوداء، فكلما حدثت
بحديث حدث به.
ثم قال: معاشر الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا انبؤه باسمي،
أنا جندب ين جنادة البدري الغفاري، أنا صاحب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، سمعته يقول في
هذا المكان، والا صمت أذناي (ان الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل
عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم).
فأما الذرية فمن نوح، والآل من إبراهيم، والسلالة من إسماعيل، والعترة الهادية
والذرية الطاهرة من محمد (صلى الله عليه وآله)، والصديق الأكبر علي بن أبي طالب، فأيتها الأمة
المتحيرة بعد نبيها لو قدمتم من قدمه الله ورسوله، وأخرتم من أخره الله ورسوله، لما
عال ولي الله، ولما طاش سهم في سبيل، ولا اختلف الأمة بعد نبيها الا كان تأويلها
عند أهل البيت، فذوقوا بما كسبتم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (2).
وروى الشيخ أبو الفتوح الكراجكي في كتابه كنز الفوائد، باسناده عن ابن
عباس، قال: رأيت أبا ذر الغفاري متعلقا بحلقة بيت الله الحرام، وهو يقول: أيها
الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته باسمي، أنا جندب بن جنادة
أبو ذر الغفاري، اني رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) في العام الماضي، وهو آخذ بهذه الحلقة،
وهو يقول:
أيها الناس لو صمتم حتى تكونوا كالأوتاد، وصليتم حتى تكونوا كالحنايا،
ودعوتم حتى تقطعوا اربا اربا، ثم بغضتم علي بن أبي طالب أكبكم الله في النار، قم
يا أبا الحسن فضع خمسك في خمسي - يعني: كفك في كفي - فان الله اختارني وإياك



(1) آل عمران: 34.
(3) روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن للشيخ أبي الفتوح الرازي 4:
286 - 287 ط مشهد.
337
من شجرة واحدة، أنا أصلها وأنت فرعها، فمن قطع فرعها أكبه الله على وجهه في
النار، علي سيد المسلمين، وامام المتقين، يقتل الناكثين والمارقين والجاحدين، علي
مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي (1).
وبالجملة فاختصاصه بأمير المؤمنين (عليه السلام) واقتداؤه به واعتقاده إمامته وظلم من
تقدمه، مما لا سبيل إلى جحده وانكاره.
ثم إن الخبر المذكور عام مخصوص بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) قطعا، والى
هذا أشار حذيفة رضي الله عنه بقوله (ان رسول الله (صلى الله عليه وآله)) إلى آخر كلامه.
فمحصل كلامه أن هذا الخبر ليس على عمومه، بل هو مخصوص بالنبي (صلى الله عليه وآله) قطعا
فيكون مخصوصا بأمير المؤمنين (عليه السلام)، لأنه يثبت له جميع ما يثبت له (صلى الله عليه وآله) الا النبوة،
لأنه نفسه بنص آية المباهلة، فاستثناؤه (صلى الله عليه وآله) من العموم يستلزم اخراج
أمير المؤمنين (عليه السلام).
ويمكن أن يكون مراد حذيفة رضي الله عنه أن هذا العموم لا ريب في أنه مخصوص
بغيره (صلى الله عليه وآله) للبراهين القاهرة العقلية والنقلية الدالة على أنه (صلى الله عليه وآله) أصدق من أبي ذر،
فيكون مخصوصا بغير أمير المؤمنين (عليه السلام) للبراهين القطعية الدالة على أنه (عليه السلام) أفضل
من أبي بكر.
والحاصل أنه كما خص العموم بالأدلة المنفصلة بغير النبي (صلى الله عليه وآله)، فكذا يجب
تخصيصه بغيره (عليه السلام) بغير ما ذكر.
ويحتمل أن يكون مراده أن هذا العموم مخصوص بغير النبي 9 قطعا واجماعا،
فيضعف الاحتجاج به، حتى ذهب جمع من الأصوليين إلى أنه حينئذ ليس بحجة
أصلا، فلا يعارض الأدلة القطعية الناطقة بإمامته (عليه السلام)، وانه أفضل الناس بعد
رسول الله (صلى الله عليه وآله).



(1) كنز الفوائد 2: 180 - 181 ط بيروت.
338
وليس مراد حذيفة ما يوهمه ظاهر كلامه من القدح في الخبر المذكور، وانه غير
صحيح، لأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قد أظلته الخضراء وأقلته الغبراء، وهو أصدق من
أبي ذر، فلا يصدق العموم، لأن الخبر المذكور مستفيض مروي بأسانيد صحيحة،
وقد اتفق عليه الفريقان، ولأن ما ذكره إنما ينهض بالتخصيص، ولا يستلزم كون
الخبر غير صحيح.
وروى أصحابنا عن أئمتنا (عليهم السلام) في سبب هذا الخبر خبرا ناطقا بأن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنما فوه به في هذا الخبر ووصفه بالصدق، لأنه أخبر الصحابة بأن
أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل الأمة، وقسيم الجنة والنار، وصديق هذه الأمة وفاروقها،
وحجة الله عليها، فكذبوه وسألوا النبي (صلى الله عليه وآله) عن ذلك، فقال: ما أظلت الخضراء و
لا أقلت الغبراء - يعني: من أولئك القوم - على ذي لهجة أصدق من أبي ذر. رواه
الصدوق عطر الله مرقده في كتاب علل الشرائع والأحكام، باسناده عن عباد بن
صهيب، عن الصادق (1) (عليه السلام).
وهذا يدفع ما تعلقت به الفرقة المذكورة، ويحسم مادته بالكلية.
وروى - عطر الله مرقده - في الكتاب المذكور وجها آخر يحسم تعلق الخصم
بالخبر المذكور، ويؤدي إلى المحجة البيضاء والطريقة الغراء.
روى - عطر الله مرقده - باسناده عن أنس بن مالك، قال: أتى أبو ذر يوما إلى
مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقال: ما رأيت كما رأيت البارحة، قالوا: وما رأيت
البارحة؟ قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) ببابه، فخرج ليلا وأخذ بيد علي بن
أبي طالب وقد خرجا إلى البقيع، فما زلت أقفو أثرهما إلى أن أتيا مقابر مكة، فعدل
إلى قبر أبيه، فصلى عنده ركعتين، فإذا بالقبر قد انشق وإذا بعبد الله جالس
وهو قول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فقال: من وليك يا أبت؟



(1) علل الشرائع ص 177 - 178.
339
فقال: ومن المولى يا بني؟ قال: هو هذا علي، قال: وان عليا وليي، قال: فارجع
إلى روضتك.
ثم عدل إلى قبر أمه، فصنع به كما صنع عند قبر أبيه، وإذا بالقبر قد انشق، فإذا
هي تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك نبي الله ورسوله، فقال لها: من وليك يا
أماه؟ فقالت: من المولى يا بني؟ فقال: هو هذا علي بن أبي طالب، فقالت: وان عليا
وليي، فقال: ارجعي إلى حفرتك وروضتك.
فكذبوه ولببوه، وقالوا: يا رسول الله كذب عليك، فقال: وما كان من ذلك؟
قالوا: ان جندب حكى عنك كيت وكيت، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ما أظلت الخضراء وما
أقلت الغبراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر (1).
وبالجملة فما تعلقت به هذه الفرقة مع مراغمتها للاجماع ومصادمتها للأدلة
القاطعة والبراهين القاهرة في غاية السقوط.
المقام الخامس
في ابطال شبهة الفرقة الرابعة
مما يبطل ما ذكروه ما هو المعلوم ضرورة من حال سلمان رضي الله عنه من كونه من
خاصة خواص أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأحد الأركان الأربعة، وامتناعه عن بيعة
أبي بكر مما لا سبيل إلى انكاره.
وانكاره على من تقدم على أمير المؤمنين (عليه السلام) مشهور، وقوله بالفارسية (دانى
وندانى، كردى ونكردى، دانى چه كردى، حق از صاحب حق بردى) (1)



(1) علل الشرائع ص 176 - 177.
(2) الاحتجاج 1: 99.
340
مستفيض، كما في تحفة الأبرار وغيرها.
وقد ذكر ابن قتيبة من عظماء المخالفين وفحولهم ثمانية عشر رجلا من الصحابة،
وقال: انهم رافضة، وعد منهم سلمان الفارسي. ولاختصاصه بأهل البيت (عليهم السلام)
قال (صلى الله عليه وآله): سلمان منا أهل البيت (1).
وروى المخالفون عنه رضي الله عنه أحاديث ناطقة بأنه (صلى الله عليه وآله) نص على أمير المؤمنين (عليه السلام)
بالوصية والخلافة، وقد أسلفنا في ذيل الحديث الرابع عشر خبرا نقلناه عن الغر
المحدث الحنبلي، عن أنس، عن سلمان أيضا في إمامته (عليه السلام) ووصيته وخليفته، وفي
ذيل الحديث الثاني والعشرين آخر نحوه، فتذكرهما.
وروى الطبرسي - عطر الله مرقده - في الاحتجاج، عن سليم بن قيس الهلالي،
عن سلمان رضي الله عنه أن عليا (عليه السلام) حمل فاطمة (عليها السلام) على حمار ليلا وأخذ بيد ابنيه الحسن
والحسين (عليهما السلام)، فلم يدع أحدا من أهل بدر من المهاجرين والأنصار الا أتاه في
منزله، وذكر حقه ودعاه إلى نصرته.
فما استجاب له من جميعهم الا أربعة وأربعون رجلا، فأمرهم أن يصبحوا بكرة
محلقين رؤوسهم معهم سلاحهم، وقد بايعوه على الموت، فأصبح ولم يوافه منهم
أحد غير أربعة، قلت لسلمان: من الأربعة؟ قال: أنا وأبو ذر والمقداد والزبير بن
العوام، ثم أتاهم من الليلة الثانية فناشدهم، فقالوا: نصحبك بكرة، فما وفا له منهم
أحد غيرنا، ثم الليلة الثالثة، فما وافا أحد غيرنا الحديث (2).
وروى فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام) عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: خطب
الناس سلمان الفارسي رحمه الله بعد أن دفن النبي (صلى الله عليه وآله) بثلاثة أيام، فقال: ألا يا أيها
الناس اسمعوا عني حديثي ثم اعقلوه (3) عني، ألا واني أوتيت علما كثيرا، فلو



(1) اختيار معرفة الرجال 1: 52 برقم: 25.
(2) الاحتجاج 1: 107 ط النجف.
(3) في الأصل: اعلموه.
341
حدثتكم بكل ما أعلم من فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) لقال طائفة منكم: هو مجنون
وقالت طائفة أخرى: اللهم اغفر لقاتل سلمان.
ألا ان لكم منايا، تتبعها البلايا، ألا وان عند علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
علم المنايا، وعلم البلايا، وميراث الوصايا، وفصل الخطاب، وأصل الأنساب،
على منهاج هارون بن عمران من موسى (عليه السلام)، إذ يقول له رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنت
وصيي في أهلي، وخليفتي في أمتي، وأنت مني بمنزلة هارون من موسى، ولكنكم
أخذتم بسنة بني إسرائيل، فأخطأتم الحق وأنتم تعلون (1)، أما والله لتركبن طبقا عن
طبق على سنة بني إسرائيل حذو النعل بالنعل القذة بالقذة.
أما والذي نفس سلمان بيده لو وليتموه عليا لأكلتم من فوقكم ومن تحت
أرجلكم (2)، ولو دعوتم الطير في جو السماء لأجابكم، ولو دعوتم الحيتان من
البحر لأتتكم، ولما عال ولي الله، ولا طاش لكم سهم من فرائض الله، ولا اختلف
اثنان في حكم الله، ولكن أبيتم فوليتموها غيره، فأبشروا بالبلايا، واقنطوا من
الرخاء (3)، وقد نابذتكم على سواء، فانقطعت العصمة فيما بيني وبينكم من الولاء،
عليكم بآل محمد (عليهم السلام)، فإنهم القادة إلى الجنة، والدعاة إليها يوم القيامة، عليكم
بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب.
فوالله لقد سلمنا عليه بالولاية وإمرة المؤمنين مرارا جمة مع نبينا، كل ذلك يأمرنا
به ويؤكده علينا، فما بال القوم عرفوا فضله فحسدوه، وقد حسد قابيل هابيل
فقتله، أو كفارا قد ارتدت أمة موسى بن عمران، فأمر هذه الأمة كأمر بني إسرائيل،
فأين يذهب بكم؟
أيها الناس ويحكم ما أنا وأبو فلان وفلان أجهلتم أم تجاهلتم؟ أم حسدتم أم



(1) في المصدر: فأنتم تعلمون ولا تعلمون.
(2) في المصدر: أقدامكم.
(3) في الأصل: الرجاء.
342
تحاسدتم؟ والله لترتدن كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف، يشهد الشاهد
على الناجي بالهلكة، ويشهد الشاهد على الكافر بالنجاة.
ألا واني أظهرت أمري، وسلمت لنبيي، واتبعت مولاي ومولى كل مؤمن
ومؤمنة عليا أمير المؤمنين، وسيد الوصيين، وقائد الغر المحجلين، وامام الصديقين
والشهداء والصالحين (1).
وقال العلامة - عطر الله مرقده - في خلاصة الأقوال: سلمان الفارسي مولى
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، يكنى أبا عبد الله، أول الأركان الأربعة، حاله عظيم جدا مشكور
لم يرتد (2) انتهى.
وبالجملة فانتظامه في سلك خواصه وأتباعه (عليه السلام) مما لا مجال لانكاره، ولا سبيل
إلى ستر ضوء نهاره. وأما أنه رضي الله عنه أدرك العلم الأول وأدرك العلم الاخر، فإنما
يدل على غزارة علمه، وهو مما لا كلام فيه، ولكن نسبة علمه رضي الله عنه إلى علم أمير
المؤمنين (عليه السلام) كالقطرة من البحر، والشذرة من عقد النحر، كما ستطلع عليه إن شاء الله.
جوهرة ثمينة:
روى ثقة الاسلام في الكافي باسناده عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد الله (عليه السلام)
قال: ذكرت التقية يوما عند علي بن الحسين (عليهما السلام)، فقال: والله لو علم أبو ذر ما في
قلب سلمان لقتله، ولقد آخى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بينهما، فما ظنكم بسائر الخلق، ان علم
العلماء صعب مستصعب، لا يحتمله الا نبي مرسل، أو ملك مقرب، أو عبد مؤمن



(1) الاحتجاج 1: 149 - 152 ط النجف.
(2) رجال العلامة الحلي ص 84.
343
امتحن الله قلبه للايمان، فقال: وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرئ منا أهل
البيت، فلذلك نسبته إلى العلماء (1).
وهذا الخبر ينادي بجلالة قدر سلمان رضي الله عنه، وغزارة علمه ونباهة شأنه، وقد ذكر
أصحابنا - عطر الله مراقدهم - فيه وجوها، كما في الغرر والدرر (2) لعلم الهدى عطر
الله مرقده، وأظهر ما قيل فيه: ان ضمير الفاعل المستتر في (قتله) يعود إلى
أبي ذر رضي الله عنه، والبارز يعود إلى سلمان، أي: لقتل أبو ذر سلمان، والسر فيه أن بعض
العلوم والمعارف مما لا تقبله طباع أكثر الناس الواقفين على الظواهر ولا تروج
عندهم، لقصورهم عن معرفة حقيقتها، فيحكمون بكفر ذويها ووجوب قتله،
لتقاعد بصائرهم عن كنه الباطن، وانهارهم في رواية الظاهر.
وفي الخبر النبوي: ان من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه الا أهل المعرفة بالله.
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب
الأرشية في الطوى البعيدة (3).
وقال (عليه السلام) في حديث كميل: ان هاهنا لعلما جما - وأشار بيده إلى صدره - لو
أصبت له حملة (4).
وحيث كان سلمان رضي الله عنه آخذا من ذلك القبيل بالحظ الجليل، فائزا من العلوم
العليا بالرقيب والعلى، شاربا من الينبوع النبوي، مقتبسا من المشكاة المرتضوية،
عارجا إلى معارج الأسرار التي يجب صونها عن الأغيار، وقد ورد في شأنه أنه
محدث، وكان أبو ذر رضي الله عنه منحصرا في زاوية العلوم الظاهرية، فنسبته إلى سلمان



(1) أصول الكافي 1: 401 ح 2.
(2) لم يوجد في أكثر النسخ من الكتاب المذكور هذا الخبر والكلام عليه، ويوجد في
بعضها (منه).
(3) نهج البلاغة ص 52 رقم الخطبة: 5.
(4) نهج البلاغة ص 496 رقم الحديث: 147.
344
كنسبة موسى (عليه السلام) إلى الخضر، كما صرح به العالم الرباني كمال الدين ميثم البحراني
في شرح الإشارات.
فلو اطلع أبو ذر رضي الله عنه على ما في قلب سلمان من العلوم الحقيقية والحقائق
الباطنية، لكفره واستحل قتله، كما أن موسى (عليه السلام) لما اطلع على كنه الأمر في خرق
السفينة، وقتل الغلام، وبناء الجدار، قابل الخضر بالانكار، ووسمه بسمة العار.
وفي بعض الأخبار: لو علم أبو ذر ما في بطن سلمان من الحكمة لكفره. رواه المحقق
ومولانا محسن الكاشاني في المحجة البيضاء.
وقد تقدم فيما نقلناه من الاحتجاج قول سلمان رضي الله عنه: لو حدثتكم بكل ما أعلم
من فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) لقالت طائفة منكم هو مجنون، وقالت طائفة أخرى:
اللهم اغفر لقاتل سلمان. وهذا يزيد الوجه المذكور قربا وقوة.
ومما ينسب إلى مولانا زين العابدين (عليه السلام) هذه الأبيات:
اني لأكتم من علمي جواهره * كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن * إلى الحسين ووصى قبله الحسنا
يا رب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي * يرون أقبح ما يأتونه حسنا
ويحتمل أن يكون الضمير الفاعل عائد إلى (ما) الموصولة، أو الموصوفة في قوله
(ما في بطن سلمان) والبارز المفعول يعود إلى أبي ذر، أي: لقتل العلم الذي في بطن
سلمان أبا ذر لعدم احتماله له، لخفاء حقيقته عليه، أو لعدم احتماله وكتمانه لضيق
حوصلته عن ذلك فيبديه فيوقعه في الهلكة والقتل. وحيث كان سلمان رضي الله عنه عارفا
بغوامض اسراره، مستضيئا بأشعته وأنواره، أمكنه احتماله. وفي عجز الحديث
أعني: قول (عليه السلام) (ان علم العلماء صعب مستصعب) تأييد لهذا التوجيه.
وإنما أوردنا هذا الخبر وشرحه، لما تضمنه من غزارة علم سلمان رحمة الله عليه،
وجلالة قدره، ولأن هذا الخبر قد أشكل على كثير الطلبة، ففي بيانه وشرحه فائدة

345
عامة مع مناسبته المقام مناسبة تامة.
المقام السادس
في قول (صلى الله عليه وآله) ألا وان التاركين ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام)
هم المارقون من ديني
نص هذا الكلام ينادي بأبلغ وجه على كفر النواصب، إذ حقيقة الولاية الاتباع
والائتمام، كما أشار إليه جل مجده وسلطانه بقوله (قل ان كنتم تحبون الله
فاتبعوني) (1) والأخبار الناطقة بكفرهم أكثر من أن تحصى.
منها: ما نقله السيد الجليل رضي الدين ابن طاووس رضي الله عنه في الطرائف، عن
كتاب ابن مردويه، وهو الثقة عندهم، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن كامل، وأحمد بن
محمد، عن عمر بن سعيد الأخمشي (2)، قال: حدثنا عبيد بن كثير العامري، قال:
حدثنا محمد بن علي الصير في، قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل اليشكري، عن
شريك، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): علي خير
البشر فمن أبى فقد كفر (3).
وتقريب الاستدلال أنه دل بمنطوقه على كفر من أبى كونه (عليه السلام) خير البشر،
والمخالفون يأبون ذلك ويقولون: ان الشياطين الثلاثة المتلصصة خير منه.
ومنها ما رواه ابن المغازلي عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من ناصب
عليا الخلافة بعدي فهو كافر (4). الحديث.



(1) آل عمران: 31.
(2) في الطرائف: الأخمس.
(3) الطرائف ص 87 - 88.
(4) المناقب لابن المغازلي ص 46 برقم: 68.
346
وقد تقدم في المقام الثاني، لأن المراد بالشك فيه (عليه السلام) الشك في أنه الخليفة بعد
النبي (صلى الله عليه وآله)، فإذا كان الشاك في ذلك كافرا فما ظنك بالجاحد؟
ومنها: ما رواه أحمد بن حنبل في مسنده، والشافعي ابن المغازلي في المناقب من
عدة طرق: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: يا أيها الناس من آذى عليا فقد آذاني (1).
وزاد ابن المغازلي عن النبي (صلى الله عليه وآله): يا أيها الناس من آذى عليا فقد آذاني، ان
عليا أولكم ايمانا وأوفاكم بعهد الله، يا أيها الناس من آذى عليا بعث يوم القيامة
يهوديا أو نصرانيا، فقال جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: يا رسول الله وان
شهدوا أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقال (صلى الله عليه وآله): يا جابر كلمة يحتجزون بها ألا
تسفك دماؤهم ولا تؤخذ أموالهم وأن لا يعطوا الجزية عن أيد وهم صاغرون (2).
ومعلوم أن من أخرجه من مقامه وزعم أن اللصوص الثلاثة المتمردة أئمته، وأنه
من رعيتهم يجب عليه طاعتهم، وأن محاربه مؤمن مثاب، بل خليفة بالحق، مع قوله
(صلى الله عليه وآله): حربك يا علي حربي. فقد أمعن في أذاه، وانتظم في سلك أعداه (3).
ومنها: ما رواه أحمد بن مردويه الحافظ الثقة عندهم، قال: حدثنا أحمد بن
عبد الله بن الحسين، حدثنا عبد العزيز بن يحيى البصري، أخبرني أبو أحمد، حدثنا
مغيرة بن محمد المهلبي، حدثنا عبد الرحمن بن صالح الأزدي، حدثنا علي بن هاشم
بن البريد، حدثنا جابر بن يزيد الجعفي، عن صالح بن ميثم، عن أبيه، قال: سمعت
ابن عباس رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: من لقي الله تعالى وهو جاحد
ولاية علي بن أبي طالب (عليه السلام) لقي الله وهو عليه غضبان، لا يقبل الله منه شيئا من
أعماله، فيوكل به سبعون ملكا يتفلون في وجهه، ويحشره الله تعالى أسود الوجه
أزرق العين.



(1) مسند أحمد بن حنبل 3: 483.
(2) المناقب لابن المغازلي ص 52 برقم: 76. ورواه الحاكم في المستدرك 3: 122.
(3) في (س): في سلك اعداد أعداه.
347
قلنا: يا بن عباس أينفع حب علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الآخرة؟
قال: قد تنازع أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حبه حتى سألنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
فقال: دعوني حتى أسأل الوحي، فلما هبط جبرئيل (عليه السلام) سأله، فقال: أسأل ربي
عز وجل عن هذا، فرجع إلى السماء، ثم هبط إلى الأرض، فقال: يا محمد ان الله
يقرأ عليك السلام، وقال: أحب عليا فمن أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني
يا محمد، حيث تكن يكن علي، وحيث يكن علي يكن محبوه، وان اجترحوا وان
اجترحوا (1).
ومن المعلوم الذي لا مرية فيه أن من نزله عن مقامه الذي جعله الله فيه وقدم
عليه من لا يقاس بفعله من آحاد العوام الذين هم أضل من الأنعام، واعتقد أنهم
أفضل منه (عليه السلام)، وأجل مقدارا وأعلى منارا، وأنه (عليه السلام) من آحاد رعيتهم، وأن من
حاربه في الجمل وصفين مؤمنون، وأنهم في أعلى مراتب العدالة، وأسمى طبقات
الجلالة، وأنهم مثابون على حربه (عليه السلام).
وأطبقوا على عدم جواز لعن معاوية، كما صرح به علامتهم التفتازاني في شرح
العقائد، وأكثرهم على عدم جواز لعن ابنه يزيد، مع ما ظهر منهما من عداوتهما
لأهل البيت (عليهم السلام) واستئصالهم، وجعلهما سب أمير المؤمنين (عليه السلام) والسبطين سنة
وشعارا.
فمن كان حاله على هذا المنوال، فكيف يتصور نظمه في سلك أوليائه (عليه السلام) ومحبيه
وأتباعه، ان هذا الا غرور محض من قائلة، وحمق بحت من مدعيه، هيهات هيهات،
بل هم والله - يمينا بارة - من أنصب النصاب، وأعظمهم نصبا وعداوة، كما أشرنا إليه
في ذيل الحديث التاسع، وقد بسطنا الكلام في هذا المقام في المعراج، وفي رسالتنا
فصل الخطاب وكنه الصواب.



(1) الطرائف ص 156 برقم: 243 عن ابن مردويه.
348
ومن الأخبار الناطقة بذلك من طريق أهل البيت (عليهم السلام) ما رواه الصدوق - عطر
الله مرقده - في كتاب علل الشرائع والأحكام في باب نوادر العلل والأحكام،
باسناده عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس الناصب من نصب لنا
أهل البيت، لأنك لا تجد رجلا يقول أنا أبغض محمدا وآل محمد، ولكن الناصب من
نصب لكم وهو يعلم أنكم تتولونا وأنكم من شيعتنا (1).
ومعلوم أن نصبهم لنا كالشمس في رابعة النهار، وهو دال على نصبهم
لأئمتنا (عليهم السلام)، وناهيك دليلا على ذلك ما هو المشاهد منهم من اعراضهم عن مناقب
أهل البيت:، وانقباض وجوههم عند سماع مدائح أحد الأئمة:، وانكارهم
زيارة قبورهم، وهجورهم لمشاهدهم، وتيمنهم بيوم عاشوراء وتصافحهم فيه،
واستعمالهم فيه الزينة.
ومنعهم لعن قاتله يزيد بن معاوية، كما في الخلاصة وغيرها، بل صرح بعض
عظمائهم بأنه خليفة وامام بالحق، لانعقاد الاجماع عليه بعد قتل الحسين (عليه السلام)،
ولنص أبيه معاوية عليه، وأخذه البيعة له في حياته، وتأولوا قتله الحسين (عليه السلام) تارة
بأنه صدر عن خطأ في الاجتهاد، والمخطئ في الاجتهاد مأجور لا مأزور، وتارة
بمنع رضاه بقتله وانكاره أمره به، وهذا انكار للضروريات، كما اعترف به علامتهم
التفتازاني في شرح العقائد.
وفي مستطرفات الشيخ الجليل أبي عبد الله محمد بن إدريس الحلي - عطر الله
مرقده - التي استطرفها من أصول الامامية في آخر سرائره فيما استطرفه من كتاب
مسائل الرجال ومكاتباتهم مولانا أبا الحسن علي بن محمد الهادي (عليه السلام) في جملة
مسائل محمد بن علي بن عيسى، قال: كتبت إليه أسأله عن الناصب هل احتاج في
امتحانه إلى أكثر من تقديمه الجبت والطاغوت واعتقاد امامتهما؟ فرفع الجواب: من



(1) علل الشرائع ص 601 ح 60.
349
كان على هذا فهو ناصب (1).
قال بعض المحققين (2) قدس سره ونعم ما قال: لا عداوة أعظم ممن قدم المنحط عن
مراتب الكمال، المنخرط في سلك الأغبياء والجهال، على من تسنم أوج الجلال،
حتى شك في أنه هو الله المتعال.
وقد ذكر القاضي الشوشتري في مجالس المؤمنين وإحقاق الحق: أن ابن خلكان
الشامي من عظمائهم ذكر في تاريخه وفيات الأعيان في ترجمة علي بن الجهم القرشي
ما حاصله: أن التسنن ومحبة علي (عليه السلام) لا يجتمعان (3).
ونقل الصدوق قدس سره في علل الشرائع والأحكام، عن أحمد بن حنبل صاحب
المذهب: أن بغض علي شرك في التسنن (4)، كما أوردناه في ذيل الحديث التاسع،
وقد أوعبنا البحث في ذلك في الرسالة المشار إليها.
لا يخفى ما في الخبر المذكور من الدلالة على عظم فضيلة أهل البيت (عليهم السلام) عموما،
وعلى عظم فضيلة مولانا الحسين (عليه السلام) خصوصا، ولعمري أنهم سلام الله عليهم
شجرة النبوة، وموضع الرسالة ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، ومعدن العلم،
ومنار الهدى، والحجج على أهل الدنيا، خزائن أسرار الوحي والتنزيل، ومعادن
جواهر العلم والتأويل، الامناء على الحقائق، والخلفاء على الخلائق، أولو الأمر
الذين امر بطاعتهم.
وأهل الذكر الذين حث على مسائلتهم، والموالي الذين امر الناس بموالاتهم
ومتابعتهم، وأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا،
والراسخون في العلم، الذين عندهم علم القرآن كله تأويلا وتفسيرا، أحد السببين



(1) السرائر 3: 583 ط قم.
(2) هو شيخنا الشهيد الثاني في شرح الارشاد (منه).
(3) وفيات الأعيان لابن خلكان 3: 355.
(4) لعله أورده في علل الشرائع ص 243 وفي المطبوع من العلل بياض في هذه الصفحة.
350
اللذين من تعلق بهما فاز وسعد، وثاني الثقلين اللذين من تمسك بهما أسفر عن حمد
السرى صباحه، كمثل سفينة نوح من ركبها نجى، ومن تخلف عنها غرق.
الذين إذا نطقوا نطقوا بالصواب، وأتوا بالحكمة وفصل الخطاب، قد والله صعدوا
ذرى الحقائق بأقدام النبوة والولاية، ونوروا سبع طبقات أعلام الفتوى بالهداية،
ليوث الوغا، وغيوث الندى، وطعناء العدى، وفيهم السيف والقلم في العاجل،
ولواء الحمد والعلم في الأجل، خلفاء الدين، وخلفاء النبيين، ومصابيح الأمم،
ومفاتيح الكرم، فالكليم لبس حلة الاصطفاء لما عهدوا منه الوقاء، وروح القدس
في جنان الصاغورة ذاق من حدائقهم الباكورة، وشيعتهم الفرقة الناجية والفئة
الزاكية.
فمن ذا يشق غبارهم؟ ومن ذا يحذو حذوهم أو ينال فخرهم؟ هيهات هيهات من
أمحل المحالات من ينال كمالهم، ومن أوضح الممتنعات النسج على منوالهم، ومن
دون نيل عشر معشار مناقبهم خرط القتاد، فإنها مقامات علية لا تنال بوفور
الاجتهاد، ولا تدرك بجودة الاستعداد.
أين الوصول إلى سعاد ودونها * لجج البحار ودونهن قفار (1)
بل هي قميص لم تفصل على قد كل ذي قد، ونتائج لم يحصل مقدماتها جد كل ذي
جد. ومن هنا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد من الناس،
فيما رواه المخالف والمؤالف (2).
قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ المعتزلي، وهو من فحول الناصبة وشياطين
المعتزلة ما هذا لفظه: صدق علي (عليه السلام) في * قوله (نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد من
الناس) كيف يقاس بقوم فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والأطيبان علي وفاطمة،



(1) في (س): قلل الجبال.
(2) ذخائر العقبى ص 17، وينابيع المودة ص 21، ومقتل الحسين للخوارزمي ص 18،
والصواعق المحرقة ص 233، والشرف المؤبد ص 29، ورشفة الصادي ص 78 وغيرها.
351
والسبطان الحسن والحسين، والشهيدان أسد الله حمزة وذو الجناحين جعفر، وسيد
الوادي عبد المطلب، وساقي الحجيج العباس، وحليم البطحاء والنجدة أبو طالب.
وليس الخير الا فيهم، والأنصار أنصارهم، والمهاجر من هاجر إليهم ومعهم،
والصديق من صدقهم، والفاروق من فرق بين الحق والباطل فيهم، والحواري
حواريهم، وذو الشهادتين لأنه شهد لهم، وليس الخير الا فيهم ولهم ومنهم ومعهم.
وأبان رسول الله (صلى الله عليه وآله) أهل بيته بقوله: اني تارك فيكم الثقلين الخليفتين: كتاب
الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، نبأني اللطيف الخبير أنهما
لن يفترقا حتى يردا علي الحوض (1).
ولو كانوا كغيرهم لما قال عمر لما طلب مصاهرة علي (عليه السلام): اني سمعت
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: كل سبب ونسب منقطع الا سببي ونسبي (2).
فأما علي (عليه السلام)، فلو أردنا ذكر أيامه الشريفة، وأوقاته (3) الكريمة، ومناقبه
السنية، لأملأنا الطوامير الطوال، العرق صحيح، والمنشأ كريم، والشأن عظيم،
والعمل جسيم، والعلم كثير، والبيان عجيب، واللسان خطيب، والصدر رحيب،
فأخلاقه وفق أعراقه، وحديثه يشهد لقديمه (4) انتهى كلامه.
قلت: وروى ابن حجر في الصواعق المحرقة أخبارا كثيرة في فضائل أهل البيت
عموما، وفي فضائل علي والحسن والحسين (عليهم السلام) خصوصا، ولا بأس بذكر نبذة
منها، ولنقتصر على اثني عشر حديثا:
الأول: أخرج أحمد والمحاملي والذهبي وغيرهم عن عائشة، قالت: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال جبرئيل (عليه السلام): قلبت مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد



(1) تقدم مصادر هذا الحديث عن كتب القوم.
(2) ذخائر العقبى ص 121، والمناقب لابن المغازلي ص 108.
(3) في الكشف: مقاماته.
(4) كشف الغمة 1: 30 - 31 عن الجاحظ.
352
رجلا أفضل من محمد (صلى الله عليه وآله)، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها، فلم أجد بني أب
أفضل من بني هاشم (1).
الثاني: أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن واثلة: أن النبي صلى الله عليه وآله قال: ان الله
اصطفى كنانة من بني إسماعيل، واصطفى من بني كنانة قريش، واصطفى من قريش
بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم.
وفي رواية: ان الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم واتخذه خليلا، واصطفى من ولد
إبراهيم إسماعيل، واصطفى من ولد إسماعيل نزارا، ثم اصطفى من نزار مضر، ثم
اصطفى من مضر كنانة، ثم اصطفى من كنانة قريشا، ثم اصطفى من قريش بني
هاشم، ثم اصطفى من بني هاشم بني عبد المطلب، ثم اصطفاني من بني
عبد المطلب (2).
الثالث: أخرج أبو يعلى، عن سلمة بن الأكوع: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: النجوم أمان
لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لامتي (3).
الرابع: أخرج الحاكم عن أبي ذر: أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: ان مثل أهل بيتي
فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجى، ومن تخلف عنها هلك.
وفي رواية للبزاز عن ابن عباس، وعن الزبير، والحاكم عن أبي ذر أيضا: مثل
أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجى، ومن تخلف عنها غرق (4). وقد أوردنا نحو
هذا الخبر فيما سبق.
الخامس: أخرج الترمذي عن حذيفة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: ان هذا ملك لم
ينزل إلى الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم علي ويبشرني أن فاطمة



(1) الصواعق المحرقة ص 113 ح 33 الطبعة الحجرية.
(2) الصواعق المحرقة ص 112 ح 31.
(3) الصواعق المحرقة ص 111 ح 12.
(4) الصواعق المحرقة ص 111 ح 2.
353
سيدة نساء أهل الجنة، وان الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة (1).
السادس: أخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم وابن حبان: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال فيهم: أنا حرب لمن حاربهم، وسلم لمن سالمهم (2).
السابع: أخرج أحمد والترمذي عن علي (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من
أحبني وأحب هذين وأمهما وأباهما كان معي في درجتي يوم القيامة (3).
الثامن: أخرج أبو بكر في الغيلانيات عن أبي أيوب رضي الله عنه: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال:
إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: يا أهل الكتاب نكسوا رؤوسكم،
وغضوا أبصاركم حتى تمر فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله) على الصراط، فتمر مع سبعين ألف
جارية كمر البرق (4).
التاسع: أخرج أحمد بن حنبل والترمذي والحاكم، عن ابن الزبير أن النبي (صلى الله عليه وآله)
قال: إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها، وينصبني ما ينصبها (5).
العاشر: أخرج البخاري ومسلم عنها أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال لها: يا فاطمة ألا
ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين (6).
الحادي عشر: أخرج ابن عساكر عن علي (عليه السلام)، وعن ابن عمر، وابن ماجة
والحاكم عن ابن عمر، والطبراني عن قرة، وعن مالك بن الحويرث، والحاكم عن
أبي مسعود: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: ابناي هذان الحسن والحسين سيدا شباب أهل



(1) الصواعق المحرقة ص 111 - 112 ح 15.
(2) الصواعق المحرقة ص 112 ح 16.
(3) الصواعق المحرقة ص 112 ح 18.
(4) الصواعق المحرقة ص 113 ح 1 من الفصل الثالث.
(5) الصواعق المحرقة ص 114 ح 5.
(6) الصواعق المحرقة ص 114 ح 6.
354
الجنة، وأبوهما خير منهما (1).
الثاني عشر: أخرج الترمذي، عن أنس بن مالك، أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أحب
أهل بيتي إلي الحسن والحسين (2).
وبالجملة فمآثرهم (3) (عليه السلام) لا تحصى كثرة فبخ بخ للمنتمي إليهم نسبا ومعنى،
وطوبى للمتفرع من دوحتهم العليا وبحارهم الأسنى، ولله در القائل:
إذا شمخت في ذروة المجد هاشم * فعماه منها جعفر وعقيل
فما كل جد في الرجال محمد * وما كل أم في النساء بتول
ولقد أجاد وطبق المفصل في هذا المعنى علي بن محمد العلوي الحماني في قوله:
رأت بيتي على رغم الملاح * هو البيت المقابل للصراح
ووالدي المشار به إذا ما * دعا الداعي بحي على الفلاح
وقال العباس بن الحسين بن عبيد الله بن العباس بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وقالت قريش لنا مفخر * رفيع على الناس لا ينكر
لقد صد قوا لهم فضلهم * وبينهم رتب تقصر
فأدناهم رحما بالنبي * إذا فخروا فبه المفخر
بنا الفخر منكم على غيركم * فأما علينا فلا تفخروا
ففضل النبي عليكم لنا * أقروا به بعد ما أنكروا
فان طرتم بسوى مجدنا * فان جناحكم الأقصر
رواه عنهما علم الهدى عطر الله مرقده في الفصول (4)، ولله در سيدنا الأجل
المرتضى علم الهدى المذكور في افتخاره ومباهاته بنسبه إلى المصطفى والمرتضى في



(1) الصواعق المحرقة ص 114 ح 11.
(2) الصواعق المحرقة ص 114 - 115 ح 24.
(3) في (س) فمفاخرهم.
(4) الفصول المختارة ص 20 - 21 ط النجف، وهو المسمى بالعيون والمحاسن.
355
قوله:
الله أعلم أن المجد من أربى * وان تماديت في غي وفي لعب
اني لمن معشر إن جمعوا لعلي * تفرعوا من نبي أو وصي نبي
وان شككت فسائل عن بني هممي * تجده في مهمات الأنجم الشهب
وكل منهم اغترف من بحر جده أمير المؤمنين وسيد الوصيين صلوات الله عليه
عند مناظرته قريشا
محمد النبي أخي صنوي * وحمزة سيد الشهداء عمي
الأبيات (1). وقد أوردناها في ذيل الحديث السابع عشر نقلا عن الامام
نور الدين المكي المالكي في الفصول المهمة (2)، وهي مذكورة في الديوان المنسوب
إليه صلوات الله عليه. وذكر بعض فضلاء المخالفين: أن هذه الأبيات مجمع على
نسبتها إليه (عليه السلام).
ومما أنشده أبو نواس الحسين بن هاني في الامام الثامن أبو الحسن الرضا (عليه السلام)
على ما حكاه الصدوق عطر الله مرقده في العيون الرضوية:
مطهرون نقيات ثيابهم * تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
من لم يكن علويا حين تنسبه * فماله من قديم الدهر مفتخر
فالله لما بدا خلقا فأتقنه * صفاكم واصطفاكم أيها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم * علم الكتاب وما جاءت به السور (3)
وفي الفصول المختارة التي اختارها الشريف المرتضى 1 من كتاب العيون
والمحاسن للشيخ الأعظم أبي عبد الله المفيد قدس سره ونور قبره، قيل
لزين العابدين (عليه السلام): بما فضلتم الناس وسدتموهم يا بن رسول الله؟ فقال (عليه السلام): ان



(1) الفصول المختارة ص 78 ط النجف.
(2) الفصول المهمة ص 32.
(3) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 2: 143.
356
الناس كلهم لا يخلون من أن يكونوا أحد ثلاثة: إما رجل أسلم على يد جدنا
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فهو مولى لنا ونحن ساداته، والينا يرجع بالولاء، أو رجل قاتلنا
فقتلناه، فمضى إلى النار، أو رجل أخذنا عنه الجزية عن يد وهو صاغر، ولا رابع
للقوم، فأي فضل لم نحزه وشرف لم نحصله؟ (1).
وفي الروضة من الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، كان أبو عبد الله (عليه السلام) إذا ذكر
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: بأبي وأمي وقومي وعشيرتي، عجب للعرب كيف لا تحملنا
على رؤوسهم، والله عز وجل يقول: (وكنت على شفا حفرة من النار فأنقذكم
منها) (2) وبرسول الله أنقذوا (3).
قلت: وكأنما عناهم القائل بقوله:
الناس أرض في السماحة والندى * وهم إذا عد الكرام سماء
لو أنصفوا كانوا لادم وحده * وتفردت بولادهم حواء
وما أحسن ما قيل فيهم:
لمثل علاهم ينتهي المجد والفخر * وعند نداهم يخجل الغيث والبحر
وعمر سواهم في العلى مثل يومهم * إذا ما على قدرا ويومهم عمر
وأيامهم بيض إذا اسود حادث * وأسيافهم حمر وأكنافهم خضر
ملكتم فلا عدوى حكمتم فلا هوى * علمتم فلا دعوى علوتم فلا كبر
وذكركم في كل شرق ومغرب * على الناس تبلى كلما يلي الذكر
وكيف يتأتى للقلم واللسان الإحاطة بكنه هذا الشأن؟ وكيف ينال النجم راحة
لامس؟.
روى الحاكم النيشابوري، وهو من ثقات رجال المخالفين وفحول علمائهم، في



(1) الفصول المختارة من العيون والمحاسن ص 25 ط قم.
(2) آل عمران: 103.
(3) روضة الكافي 8: 266 ح 388.
357
كتاب تاريخ نيشابور، في ترجمة هارون الرشيد، نحو هذا الخبر، على ما حكاه عنه
صاحب الطرائف عطر الله مرقده.
قال: ذكر هارون، رفعه إلى ميمون الهاشمي إلى الرشيد، قال: جرى ذكر آل
أبي طالب (عليهم السلام) عند الرشيد، فقال: يتوهم على العوام أني أبغض عليا وولده، والله
ما ذلك كما تظنون، والله تعالى يعلم شدة حبي لعلي والحسن والحسين (عليهم السلام)
ومعرفتي بفضلهم، ولكنا طلبنا بثأرهم، حتى أفضى الله بهذا الأمر الينا، فقربناهم
وخلطناهم، فحسدونا وطلبوا ما في أيدينا، وسعوا في الأرض فسادا.
والله لقد حدثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه، قال: كنا
ذات يوم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذ أقبلت فاطمة (عليها السلام) وهي تبكي، فقال لها: فداك
أبوك ما يبكيك؟ قالت: ان الحسن والحسين خرجا، فما أدري أين باتا؟ فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) يا بنية الذي خلقهما هو ألطف بهما مني ومنك، ثم رفع النبي (صلى الله عليه وآله)
رأسه ويده، فقال: اللهم ان كانا أخذا برا أو بحرا، فاحفظهما وسلمهما.
فهبط جبرئيل (عليه السلام)، وقال: يا محمد لا تهتم ولا تحزن، فهما فاضلان في الدنيا
والآخرة، وأبوهما خير منهما، وهما في حظيرة بني النجار نائمان، وقد وكل بهما
ملكا يحفظهما.
فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتبعه أصحابه حتى أتوا الحظيرة، فإذا الحسن (عليه السلام) معانق
بالحسين (عليه السلام)، وإذا الملك الموكل بهما احدى جناحيه تحتهما، والأخرى فوقهما وقد
أظلهما به: فانكب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقبلهما حتى انتبها من نومهما، فجعل الحسن (عليه السلام)
على عاتقه الأيمن، والحسين (عليه السلام) على عاتقه الأيسر، وجبرئيل (عليه السلام) معه حتى
خرجا من الحظيرة، والنبي (صلى الله عليه وآله) يقول: والله لأشرفكما كما شرفكم الله.
فتلقاه أبو بكر فقال: يا رسول الله ناولني أحد الصبيين حتى أحمله، فقال
النبي (صلى الله عليه وآله): نعم المطية مطيهما، ونعم الراكبان هما، وأبوهما خير منهما، حتى أتى
المسجد وأمر بلالا، فنادى بالناس فاجتمع الناس في المسجد، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله)

358
على قدميه وهما على عاتقيه.
فقال: يا معاشر الناس ألا أدلكم على خير الناس جدا وجدة؟ قالوا: بلى يا
رسول الله، قال: الحسن والحسين، جدهما رسول الله سيد المرسلين، وجدتهما
خديجة بنت خويلد سيدة نساء أهل الجنة.
ألا أدلكم على خير الناس أبا واما؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: الحسن
والحسين، أبوهما علي بن أبي طالب، وأمهما فاطمة بنت خديجة سيدة نساء العالمين.
أيها الناس ألا أدلكم على خير الناس عما وعمة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال:
الحسن والحسين، عمهما جعفر بن أبي طالب، وعمتهما أم هاني بنت أبي طالب.
أيها الناس ألا أدلكم بخير الناس خالا وخالة؟ فقالوا: بلى يا رسول الله، قال:
الحسن والحسين، خالهما القاسم بن رسول الله، وخالتهما زينب بنت رسول الله.
ثم قال: اللهم انك تعلم أن الحسن والحسين في الجنة، وأباهما في الجنة، وأمهما في
الجنة، وعمهما في الجنة، وعمتهما في الجنة، وخالهما في الجنة، وخالتهما في الجنة، ومن
أحبهما في الجنة، ومن أبغضهما في النار.
قال سليمان: وكان يحدثنا هارون وعيناه تدمعان وحنقته العبرة (1).
وأورده صاحب كتاب فرائد السمطين من أئمة المخالفين عن هارون الرشيد على
هذه الساقة، ثم قال بعد ايراده: قال الإمام أبو عثمان: هذا الحديث غريب
عجيب (2).



(1) الطرائف في معرفة مذاهب الطوائف ص 91 - 93.
(2) فرائد السمطين 2: 91 - 93.
359
الحديث السابع والعشرون
[الكلمات المكتوبة على أبواب الجنة والنار]
صاحب كتاب فرائد السمطين، وهو الامام الحموي من أئمة المخالفين، عن
عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لما أسري بي إلى السماء أمر بعرض
الجنة والنار علي، فرأيتهما جميعا، رأيت الجنة وألوان نعيمها، ورأيت النار وألوان
عذابها.
فلما رجعت قال جبرئيل (عليه السلام): هل قرأت يا رسول الله ما كان مكتوبا على
أبواب الجنة؟ وما كان مكتوبا على أبواب النار؟ فقلت: لا، فقال جبرئيل (عليه السلام): ان
للجنة ثمانية أبواب، على كل باب منها أربع كلمات، كل كلمة منها خير من الدنيا وما
فيها لمن تعلمها واستعملها، وان للنار سبعة أبواب، على كل باب منها ثلاث كلمات،
كل كلمة خير من الدنيا وما فيها لمن تعلمها وعرفها.
قلت: يا جبرئيل ارجع معي لأقرأها، فرجع معي جبرئيل (عليه السلام)، فبدأ بأبواب
الجنة، فإذا على الباب الأول مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله،
لكل شئ حيلة وحيلة طيب العيش في الدنيا أربع خصال: القناعة، ونبذ الحقد،
وترك الحسد، ومجالسة أهل الخير.
وعلى باب الثاني منها مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، على ولي الله،
لكل شئ حيلة وحيلة السرور في الآخرة أربع خصال: مسح رأس اليتيم (1)،
والتعطف على الأرامل، والسعي في حوائج المسلمين، وتعهد (2) الفقراء والمساكين.



(1) في المصدر: اليتامى.
(2) في المصدر: تفقد.
360
وعلى الباب الثالث منها مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله،
لكل شئ حيلة، وحيلة الصحة في الدنيا أربع خصال: قلة الكلام، وقلة المنام،
وقلة المشي، وقلة الطعام.
وعلى الباب الرابع منها مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله،
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليبر بوالديه، ومن كان
يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليسكت.
وعلى الباب الخامس منها مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله،
من أراد أن لا يذل فلا يذل، ومن أراد أن لا يشتم فلا يشتم، ومن أراد أن لا يظلم
فلا يظلم، ومن أراد أن يستمسك بالعروة الوثقى، فليستمسك بقول الله لا إله إلا الله
، محمد رسول الله، علي ولي الله.
وعلى الباب السادس منها مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي
الله، من أحب أن يكون قبره واسعا فسيحا، فلينق المساجد. ومن أحب أن لا يأكله
الديدان تحت الأرض، فليكنس المساجد. ومن أحب أن لا يظلم لحده، فلينور
المساجد. ومن أحب أن يبقي طريا تحت الأرض فلا يبلى جسده، فليشتر (1) بسط
المساجد.
وعلى الباب السابع منها مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله،
بياض القلب في أربع خصال: في عيادة المريض، واتباع الجنائز، وشراء أكفان
الموتى، ودفع القرض.
وعلى الباب الثامن منها مكتوب: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، علي ولي الله،
من أراد الدخول من هذه الأبواب الثمانية، فليتمسك بأربع خصال: الصدقة،



(1) في المصدر: فلينشر.
361
والسخاء، وحسن الأخلاق، وكف الأذى عن عباد الله عز وجل.
ثم جئنا إلى أبواب النار، فإذا على الباب الأول منها مكتوب ثلاث كلمات: لعن
الله الكذابين، لعن الله الباخلين، لعن الله الظالمين.
وعلى الباب الثاني منها مكتوب ثلاث كلمات: من رجا الله سعد، ومن خاف الله
آمن، والهالك المغرور من رجا سوى الله وخاف غيره.
وعلى الباب الثالث منها مكتوب ثلاث كلمات: من أراد أن لا يكون عريانا في
القيامة: فليكس الجلود العارية. ومن أراد أن لا يكون جائعا يوم القيامة، فليطعم
الجوعان في الدنيا. ومن أراد أن لا يكون عطشانا في القيامة، فليسق العطشان في
الدنيا.
وعلى الباب الرابع منها مكتوب ثلاث كلمات: أذل الله من هان الاسلام، أذل
الله من أهان أهل بيت نبي الله، أذل الله من أعان الظالمين على ظلم المخلوقين.
وعلى الباب الخامس منها مكتوب ثلاث كلمات: لا تتبع الهوى، فان الهوى
يجانب الايمان. ولا تكثر منطقك فيما لا يعنيك، فتسقط من عين ربك. ولا تكن عونا
للظالمين، فان الجنة لم تخلق للظالمين.
وعلى الباب السادس منها مكتوب ثلاث كلمات: أنا حرام على المتهجدين، أنا
حرام على الصائمين، أنا حرام على المتصدقين.
وعلى الباب السابع منها مكتوب ثلاث كلمات: حاسبوا نفوسكم (1) قبل أن
تحاسبوا، وبخوا نفوسكم قبل أن توبخوا، وادعوا الله عز وجل قبل أن تردوا عليه و
لا تقدرون على ذلك (2).
أقول: الخبر الشريف يدل دلالة واضحة على أفضلية علي (عليه السلام) على من عدا



(1) في المصدر: أنفسكم.
(2) فرائد السمطين 1: 239 - 241.
362
الرسول، والا لم يكن لذكر اسمه (عليه السلام) بعد الرسول (صلى الله عليه وآله) دون غيره من الأنبياء
والأوصياء والصحابة مزيد فائدة، كما لا يخفى على ذي مسكة.
وقد نقل صاحب كتاب فرائد السمطين هذا الخبر من كتاب فضائل الخلفاء
الأربعة للحافظ أبو نعيم الاصفهاني.
الحديث الثامن والعشرون
[التنصيص على أسماء الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)]
صاحب كتاب فرائد السمطين عن مجاهد، قال: قال ابن عباس رضي الله عنه: سمعت
النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: ان لله تبارك وتعالى ملكا يقال له: دردائيل، كان له ستة عشر
ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح هواء، والهواء كما بين السماء إلى الأرض، فجعل
يوما يقول في نفسه: أفوق ربنا جل جلاله شئ؟ فعلم الله ما قال، فزاده أجنحة
مثلها، فصار له اثنان وثلاثون ألف جناح، ثم أوحى الله جل جلاله إليه أن طر،
فطار مقدار خمسين عاما، فلم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش.
فلما علم الله تعالى اتعابه، أوحى إليه: أيها الملك عد إلى مكانك، فأنا عظيم ولا
أو صف بمكان، فسلب الله أجنحته ومقامه من صفوف الملائكة.
فلما ولد الحسين بن علي (عليهما السلام)، وكان مولده عشية الخميس ليلة الجمعة، أوحى
الله عز وجل إلى مالك خازن النار: أن أخمد النار (1) على أهلها لكرامة مولود ولد
لمحمد في دار الدنيا. وأوحى الله تبارك وتعالى إلى رضوان خازن الجنان: أن
يزخرف الجنان ويطيبها لكرامة مولود ولد لمحمد (صلى الله عليه وآله) في دار الدنيا. وأوحى الله
تبارك وتعالى إلى الحور العين: أن تزينوا وتزاوروا لكرامة مولود لمحمد (صلى الله عليه وآله) في



(1) في المصدر: النيران.
363
دار الدنيا. وأوحى الله إلى الملائكة: أن قوموا صفوفا بالتسبيح والتحميد والتكبير
لكرامة مولود ولد لمحمد في دار الدنيا.
وأوحى الله عز وجل إلى جبرئيل (عليه السلام): أن اهبط إلى نبيي محمد في ألف قبيل -
والقبيل ألف ألف - من الملائكة على خيول بلق مسرجة ملجمة عليها قباب الدر
والياقوت، ومعهم ملائكة يقال لهم الروحانيون بأيديهم حراب من نور أن هنوا
محمدا (صلى الله عليه وآله) بمولوده. وأخبره يا جبرئيل بأني قد سميته الحسين، فهنئه وعزه وقل له:
يا محمد يقتله شر أمتك على شر الدواب، فويل للقاتل، وويل للسائق، وويل
للقائد، وقاتل الحسين أنا برئ منه وهو مني برئ، لأنه لا يأتي يوم القيامة أحد
الا وقاتل الحسين أعظم جرما منه، قاتل الحسين يدخل النار يوم القيامة مع الذين
يزعمون أن مع الله إلها آخر، والنار أشوق إلى قاتل الحسين ممن أطاع الله إلى الجنة.
قال: فبينا جبرئيل (عليه السلام) يهبط من السماء إلى الدنيا إذ مر بدردائيل، فقال له
دردائيل: يا جبرئيل ما هذه الليلة في السماء؟ هل قامت القيامة على أهل الدنيا؟
قال: لا ولكن ولد لمحمد مولود في دار الدنيا، وقد بعثني الله عز وجل إليه لأهنئه
بمولوده، فقال له الملك: يا جبرئيل بالذي خلقني وخلقك إذا هبطت إلى محمد فاقرأه
مني السلام، وقل له: بحبي (1) هذا المولود عليك الا سألت ربك أن يرضي عني ويرد
علي أجنحتي ومقامي من صفوف الملائكة.
فهبط جبرئيل (عليه السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) فهنأه كما أمره الله عز وجل وعزاه، فقال له
النبي (صلى الله عليه وآله): تقتله أمتي؟ فقال له: نعم يا محمد، فقال النبي صلى الله عليه وآله: ما هؤلاء بأمتي أنا
برئ منهم والله برئ منهم، قال جبرئيل (عليه السلام): وأنا برئ منهم يا محمد، فدخل
النبي (صلى الله عليه وآله) على فاطمة (عليها السلام) فهنأها وعزاها، فبكت فاطمة (عليها السلام)، ثم قالت: يا ليتني
لم ألده، قاتل الحسين في النار، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): وأنا أشهد بذلك يا فاطمة، ولكنه



(1) في المصدر: بحق.
364
لا يقتل حتى يكون منه امام يكون منه الأئمة الهادية.
قال (عليه السلام): والأئمة من بعدي: الهادي علي، والمهتدي الحسن، والعدل الحسين،
والناصر علي بن الحسين، والسفاح محمد بن علي، والنفاع جعفر بن محمد، والأمين
موسى بن جعفر، والمؤتمن علي بن موسى، والإمام محمد بن علي، والفعال علي بن
محمد والعلام الحسن بن علي، ومن يصلي خلفه عيسى بن مريم (عليهم السلام)، فسكنت
فاطمة (عليها السلام) من البكاء.
ثم أخبر جبرئيل النبي (صلى الله عليه وآله) بقصة الملك وما أصيب به، قال ابن عباس: فأخذ
النبي (صلى الله عليه وآله) الحسين (عليه السلام)، ثم قال: اللهم بحق هذا المولود عليك لا بل بحقك عليه
وعلى جده محمد وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب إن كان للحسين بن علي
وابن فاطمة عندك قدر فارض عن دردائيل ورد عليه أجنحته ومقامه من صفوف
الملائكة، فرد الله تعالى أجنحته ومقامه، فالملك ليس يعرف في الجنة الا بأن يقال:
هذا مولى الحسين بن علي ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).
أقول: في هذا الحديث الشريف مقامات:
المقام الأول
في بيان ما لعله يحتاج إلى البيان
(ما بين الجناح إلى الجناح هواء) أي: فرجة وخلاء. وفي كتاب مجرد الصحاح
للمعداني: الهواء ما بين السماء والأرض.
(على خيول بلق) بضم الباء الموحدة وسكون اللام جمع أبلق، وهو ما لونه
البلقة، وهو سواد وبياض، كذا في مجرد المعداني.



(1) فرائد السمطين 2: 151 - 154.
365
(ومعهم ملائكة يقال لهم الروحانيون) بضم الراء المهملة نسبة إلى الروح.
قال الجوهري في الصحاح: وزعم أبو الخطاب أنه سمع من العرب من يقول في
النسبة إلى الملائكة والجن روحاني بضم الراء، وللجمع روحانيون. وزعم أبو عبيدة
أن العرب تقوله لكل شئ فيه روح، ثم قال: ومكان روحاني بالفتح أي طيب (1)
انتهى.
وأنت خبير أنه يمكن ضبطه بالفتح بهذا المعنى، وكأن هذا الصنف من الملائكة
أطيب ريحا.
المقام الثاني
في مناقب الإمام الحسين (عليه السلام)
لا يخفى ما في هذا الخبر من الدلالة القاطعة على عظم فضل مولانا الحسين (عليه السلام)
من جهات عديدة، ولا غرو فإنه يتيمة عقود الأولياء، ودوحة سادات الأوصياء.
وقد روى أبو عبد الله محمد بن إدريس الحلي - عطر الله مرقده - في المستطرفات
التي ختم به كتاب السرائر في الأحاديث المنتزعة من جامع أحمد بن محمد بن
أبي نصر البزنطي عنه، عن عيان مولى سدير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعن رجل من
أصحابنا، عن أبيه، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: وذكر غير واحد من أصحابنا أن
أبا عبد الله (عليه السلام) قال: ان فطرس (2) كان ملكا يطيف بالعرش، فتلكأ في شئ من



(1) صحاح اللغة 1: 367.
(2) في دعاء اليوم الثالث من شعبان: وعاد فطرس بمهده، فنحن عائذون بقبره من بعده.
وذكر أبو الحسين علي بن محمد الضمري في كتاب الأوصياء: ان فطرس كان ملكا من
ملائكة الله تعالى، أرسله الله تعالى في أمر، فأبطأ فيه، فكسر جناحه وأزاله عن مقامه، و
أهبطه إلى جزيرة من جزائر البحر يمكث فيها ألف عام، وكان صديقا لجبرئيل (عليه السلام).
فلما ولد الحسين (عليه السلام) أمر الله تعالى جبرئيل (عليه السلام) ومعه ألف ملك أن ينزلوا ويهنئوا
بالحسين (عليه السلام)، فنزل جبرئيل (عليه السلام) ومر على فطرس، فقال له: قد ولد لمحمد (صلى الله عليه وآله) في هذه
الليلة مولود، فبعثني الله تعالى في ألف ملك لأهنئه، فقال: يا جبرئيل استأذن ربك في حملي
إليه لعله يدعو لي.
واستأذن جبرئيل ربه سبحانه في حمله، فأذن له، فحمله على جناحه ووضعه بين يدي
النبي (صلى الله عليه وآله)، فلما أدى جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) رسالة التهنئة، نظر النبي (صلى الله عليه وآله) إلى
فطرس، وسأل جبرئيل عن قصته، فأخبره بها.
فالتفت النبي (صلى الله عليه وآله) إلى فطرس، وأمره أن يمسح جناحه على الحسين (عليه السلام)، ففعل ذلك
فطرس، فرد الله عليه حالته الأولى في الحال.
فلما نهض قال له النبي (صلى الله عليه وآله): إلى أين؟! قال: إلى مقامي الذي كنت فيه، فقال النبي
(صلى الله عليه وآله): ان الله قد شفعني فيك فألزم أرض كربلاء وأخبرني كل من يزور الحسين إلى يوم
القيامة، هذا فطرس عتيق الحسين (عليه السلام) (منه).
366
أمر الله، فقص جناحه ورمي به على جزيرة من جزائر البحر.
فلما ولد الحسين بن علي (عليهما السلام) هبط جبرئيل (عليه السلام) إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يهنأه
بولادة الحسين (عليه السلام)، فمر به فعاد بجبرئيل، فقال: قد بعثت إلى محمد (صلى الله عليه وآله) أهنيه
بمولود ولد له، فان شئت حملتك إليه، فقال: قد شئت، فحمله فوضعه بين يدي
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبصبص بإصبعه إليه، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): امسح جناحك
بحسين، فمسح جناحه بحسين، فعرج (1).
ووجدت في الجزء الثاني عشر من كتاب شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار
الأبرار، ما صورته: وعن أحمد بن إسماعيل باسناده عن محمد بن علي (عليهما السلام) أنه
قال: بعث الله عز وجل أملاكا، فأبطأ أحدهم، فأوهى الله جناحه، فسقط على
جزيرة من جزائر البحر.
فلما دنا مولد الحسين (عليه السلام) بعث الله جبرائيل (عليه السلام) ببشارته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)،



(1) السرائر 3: 580.
367
فمر بذلك الملك، فقال له: أيها الملك الطيب ريحه الحسن وجهه الكريم على ربه، ألا
تدعو لي ربك أن يطلق جناحي هذا الواهي.
قال له جبرائيل: ليس ذلك لي، ولكني أرسلت إلى من هو أكرم عند الله مني،
وسأسأله أن يدعو الله لك، فلما بشر جبرائيل (عليه السلام) النبي (صلى الله عليه وآله) بمولد الحسين صلوات
الله عليه قال له: يا محمد اني مررت بملك على جزيرة من جزائر البحر قد وهي
جناحه، فسألني أن أدعو الله له، فقلت: اني أرسلت إلى من هو أكرم على الله مني
وسأسأله أن يدعو الله لك.
قال: فدعا الله له النبي (صلى الله عليه وآله)، فأوحى الله إلى جبرائيل (عليه السلام) أن يأمر ذلك الملك
أن يدف دفيفا إلى المولود - يعني الحسين (عليه السلام) - فيمسح جناحه الواهي به فإنه يصح
ففعل، فصح جناحه وعرج إلى السماء (1).
وروى بعض (2) عظماء أصحابنا عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما أراد
الله تعالى أن يهب لفاطمة الزهراء الحسين (عليه السلام) وكان مولده في رجب في اثني عشرة
ليلة خلت منه، فلما وقعت في طلقها أوحى الله عز وجل إلى لعيا، وهي حوراء من
حور الجنة، وأهل الجنان إذا أرادوا أن ينظروا إلى شئ حسن نظروا إلى لعيا، قال:
ولها سبعون ألف وصيفة، وسبعون ألف قصر، وسبعون ألف مقصورة، وسبعون ألف
غرفة مكللة بأنواع الجواهر والمرجان، وقصر لعيا أعلى من تلك القصور، ومن كل
قصر (3) في الجنة، وإذا أشرفت على الجنة نظرت جميع ما في الجنة، وأضاءت الجنة
من ضوء خدها وجبينها.
فأوحى الله إليها: أن اهبطي إلى دار الدنيا إلى بنت حبيبي محمد فآنسي لها.
وأوحى الله إلى رضوان خازن الجنان: أن زخرف الجنة وزينها كرامة لمولود يولد



(1) شرح الأخبار في فضائل الأئمة الأطهار 3: 114 - 115.
(2) هو الشيخ فخر الدين بن طريح النجفي المتوفى سنة 1085 ه‍ ق.
(3) في المصدر: القصور.
368
في دار الدنيا. وأوحى الله إلى الملائكة: أن قوموا صفوفا بالتسبيح والتقديس
والثناء على الله تعالى. وأوحى إلى جبرئيل وميكائيل وإسرافيل (عليهم السلام): أن اهبطوا
إلى الأرض في قنديل من الملائكة. قال ابن عباس: والقنديل ألف ألف ملك.
قال: فبينما هبطوا من سماء إلى سماء، وإذا في السماء الرابعة ملك يقال له:
صلصائيل، له سبعون ألف جناح، قد نشرها من المشرق إلى المغرب، وهو شاخص
نحو العرش، لأنه ذكر في نفسه، فقال: ترى الله يعلم ما في قرار هذا البحر وما يسير
في ظلمة الليل وضوء النهار، فعلم الله تعالى ما في نفسه فأوحى الله تعالى إليه: أن
أقم مكانك لا تركع ولا تسجد عقوبة لك لما فكرت، قال: فهبط لعيا على
فاطمة (عليها السلام) وقالت لها: مرحبا بك يا بنت محمد كيف حالك؟ قالت لها: بخير، ولحق
فاطمة (عليها السلام) الحياء من لعيا، ما تدري ما تفرش لها، فبينما هي متفكرة إذ هبطت
حوراء من الجنة ومعها درنوك من درانيك الجنة، فبسطته في منزل فاطمة (عليها السلام)،
فجلست عليه لعيا.
ثم إن فاطمة (عليها السلام) ولدت بالحسين (عليه السلام) في وقت الفجر، فقبلته لعيا وقطعت
سرته، ونشفته بمنديل من مناديل الجنة، وقبلت عينيه، وتفلت في فيه، وقالت له:
بارك الله فيك من مولود، وبارك في والديك، وهنأت الملائكة جبرائيل، وهنأ
جبرائيل محمدا صلى الله عليه وآله سبعة أيام بلياليها.
فلما كان في اليوم السابع، قال جبرائيل: يا محمد آتنا بابنك هذا حتى نراه، قال:
فدخل النبي (صلى الله عليه وآله) على فاطمة (عليها السلام)، فأخذ الحسين (عليه السلام) وهو ملفوف بقطعة صوف
صفراء، فأتى به إلى جبرائيل (عليه السلام)، فحله وقبل بين عينيه وتفل في فيه، وقال: بارك
الله فيك من مولود،. بارك في والديك، يا صريع كربلاء، ونظر إلى الحسين (عليه السلام)،
وبكى وبكى النبي (صلى الله عليه وآله) وبكت الملائكة، وقال له جبرائيل: اقرأ فاطمة ابنتك
السلام، وقل لها تسميه الحسين، فقد سماه الله جل الله اسمه، وإنما سمي الحسين لأنه لم
يكن في زمانه أحسن منه وجها.

369
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جبرائيل تهنأني وتبكي؟ قال: نعم يا محمد آجرك الله
في مولودك هذا، فقال: يا حبيبي جبرائيل ومن يقتله؟ قال: شر أمة من أمتك،
يرجون شفاعتك، لا أنالهم الله ذلك، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): خابت أمة قتلت ابن بنت
نبيها، قال جبرائيل: خابت ثم خابت من رحمة الله، وخاضت في عذاب الله
عز وجل.
ودخل النبي (صلى الله عليه وآله) على فاطمة (عليها السلام) فأقرأها من الله السلام، وقال لها: يا بنية
سميه الحسين فقد سماه الله الحسين، فقالت: من مولاي السلام واليه يعود السلام،
والسلام على جبرائيل، وهنأها النبي (صلى الله عليه وآله) وبكى.
فقالت له: يا أباه تهنأني وتبكي؟ قال: نعم يا بنية آجرك الله في مولودك هذا،
فشهقت شهقة وأخذت في البكاء، وساعدتها لعيا ووصائفها، وقالت: يا أبتاه من
يقتل ولدي وقرة عيني وثمرة فؤادي؟ قال: شر أمة من أمتي يرجون شفاعتي، لا
أنالهم الله ذلك، قالت فاطمة (عليها السلام): خابت أمة قتلت ابن بنت نبيها، قالت لعيا:
خابت ثم خابت من رحمة الله، وخاضت في عذابه، يا أبتاه اقرأ جبرائيل عني
السلام، وقل له: في أي موضع يقتل؟
قال: في موضع يقال له كربلاء، فإذا نادى الحسين فلم يجبه أحد منهم، فعلى
القاعد عن نصرته لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، الا أنه لن يقتل حتى يخرج من
صلبه تسعة من الأئمة، ثم سماهم بأسمائهم إلى آخرهم، وهو الذي يخرج آخر الزمان
مع عيسى بن مريم، فهؤلاء مصابيح الرحمن، وعروة الاسلام، محبهم يدخل الجنة،
ومبغضهم يدخل النار.
قال: وعرج جبرائيل وعرجت الملائكة وعرجت لعيا، فلقيهم الملك صلصائيل،
فقال: يا حبيبي أقامت القيامة على أهل الأرض؟ قال: لا، ولكن هبطنا إلى
الأرض فهنأنا محمدا (صلى الله عليه وآله) بولده الحسين (عليه السلام)، قال: حبيبي جبرائيل فاهبط إلى
الأرض وقل له: يا محمد اشفع إلى ربك في الرضا عني، فإنك صاحب الشفاعة،

370
قال: فقام النبي (صلى الله عليه وآله) ودعا بالحسين (عليه السلام) فرفعه بكلتا يديه إلى السماء، وقال: اللهم
بحق مولودي هذا عليك الا رضيت عن الملك، فإذا النداء من قبل العرش: يا محمد
قد فعلت وقدرك عندي كبير عظيم.
قال ابن عباس: والذي بعث محمدا بالحق نبيا أن صلصائيل يفتخر على الملائكة
أنه عتيق الحسين (عليه السلام)، ولعيا تفتخر على الحور العين بأنها قابلة الحسين (عليه السلام) (1).
والأخبار في مناقبه (عليه السلام) لا تحصى.
وقد أخرج الترمذي في صحيحه بسنده عن سلمى الأنصارية، قالت: دخلت
على أم سلمة زوجة النبي (صلى الله عليه وآله) وهي تبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قالت: رأيت الان
النبي (صلى الله عليه وآله) في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب، فقلت: مالك يا رسول الله؟ قال:
شهدت قتل الحسين آنفا (2).
وأخرج الترمذي بسنده عن يعلى بن مرة، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): حسين
مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط (3).
وأخرج البخاري والترمذي في صحيحيهما عن ابن عمر، وقد سأله رجل عن دم
البعوضة، فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق، قال: انظروا إلى هذا يسألني عن
دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي، وسمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: هما ريحانتاي من
الدنيا (4).
وفي خبر آخر أنه سأله عن المحرم يقتل الذباب، فقال: يا أهل العراق تسألوني
عن قتل الذباب وقد قتلتم الحسين ابن رسول الله، وذكر الحديث، وفي آخره: وهما



(1) المنتخب للطريحي ص 146 - 148 ط النجف.
(2) صحيح الترمذي 5: 615 برقم: 3771.
(3) صحيح الترمذي 5: 617 برقم: 3775.
(4) صحيح البخاري (عليه السلام): 74 و 4: 217، وصحيح الترمذي 5: 615 برقم: 3770.
371
سيدا شباب أهل الجنة (1).
وأخرج الترمذي أيضا أن النبي (صلى الله عليه وآله) أبصر حسنا وحسينا، فقال: اللهم إني
أحبهما فأحبهما (2).
وروى أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي بسنده في كتاب صفة الصفوة عن النبي (صلى الله عليه وآله)
أنه قال: ان هذين ابناي فمن أحبهما فقد أحبني - يعني: الحسن والحسين - (3).
وأخرج الترمذي في صحيحه والشيخ كمال الدين محمد بن طلحة الشامي
الشافعي في كتاب مطالب السؤول، عن حذيفة بن اليمان أنه قال لامه: دعيني آتي
النبي (صلى الله عليه وآله) فاصلي معه المغرب، وأسأله أن يستغفر لي ولك، فأتيته وصليت معه
المغرب، ثم قال: فصلى حتى صلى العشاء، ثم انفتل فتبعته فسمع صوتي، فقال: من
هذا؟ قلت: حذيفة، قال: ما حاجتك؟ قلت: تستغفر لي ولأمي، فقال: غفر الله لك
ولامك ان هذا ملك لم ينزل الأرض قط من قبل هذه الليلة، استأذن ربه أن يسلم
علي ويبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب
أهل الجنة (4).
وبالجملة فمفاخره (عليه السلام) أغزر من قطر المطر، وأكثر من عدد النجوم والشجر،
ومن أين يقدر المتصدي لجمعها على الإحاطة بأقطارها، والخوض كما يحبب في
غمارها، وهل ذلك الا طلب متعذر ومحاولة مستحيل.
وليس يصح في الأذهان شئ * إذا احتاج النهار إلى دليل
لكني اكتفيت بقليل من كثير، ويسير من غزير، وقطرة من سحاب، ونقطة من



(1) الفصول المهمة ص 172.
(2) صحيح الترمذي 5: 619 برقم 3782.
(3) راجع: مجمع الزوائد (صلى الله عليه وآله): 180، ونظم درر السمطين ص 205، وينابيع المودة ص
209 وغيرها.
(4) صحيح الترمذي 5: 619 برقم: 3781.
372
عباب.
المقام الثالث
دلالة الحديث على كفر قاتل الحسين (عليه السلام)
قوله (وقاتل الحسين أنا برئ منه وهو مني برئ) صريح الدلالة على كفر قاتل
الحسين (عليه السلام)، وأنه أعظم الخليقة جرما، والأخبار بذلك لا تحصى كثرة.
وروى الحموي في فرائد السمطين عن الإمام علي بن موسى الرضا، حدثني أبي
موسى بن جعفر، قال: حدثني أبي جعفر، قال: حدثني أبي محمد بن علي، قال:
حدثني أبي علي بن الحسين، قال: حدثني أبي الحسين بن علي، قال: حدثني أبي
علي بن أبي طالب: قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ان موسى بن عمران رفع يده،
فقال: يا رب ان أخي هارون مات فاغفر له، فأوحى الله عز وجل إليه: يا موسى لو
سألتني في الأولين والآخرين لأجبتك ما خلا قاتل الحسين بن علي، فاني أنتقم له
منه (1).
وبهذا الاسناد إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ان قاتل
الحسين في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل النار، وقد شد يداه ورجلاه
بسلاسل من نار منكس في النار حتى يقع قعر جهنم، وله ريح تتعوذ أهل النار من
شدة ريح نتنه، وهو فيها خالد ذائق العذاب الأليم، كلما نضجت جلودهم بدل الله
عليهم الجلود، حتى يذوقوا العذاب الأليم، لا يفتر عنهم ساعة، ويسقى من حميم
جهنم، الويل لهم من عذاب الله عز وجل (2).



(1) فرائد السمطين 2: 263 برقم: 531.
(2) فرائد السمطين 2: 264 برقم: 532.
373
وبهذا الاسناد إليه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): تحشر ابنتي فاطمة يوم
القيامة ومعها ثياب مصبوغة بدم الحسين، فتتعلق بقائمة من قوائم العرش، فتقول:
يا عدل احكم بيني وبين قاتل ابني، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فيحكم لابنتي ورب
الكعبة (1).
وهو يدل على كفر يزيد لعنه الله وجواز لعنه، ورجحانه على رغم أنف الناصبة،
وأي كفر أعظم من قتل ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ وهتك حرمه، وسبيهن وحملهن على
أقتاب الجمال بغير وطاء، وقتل الأنصار بالحرة؟ وغيرها من وقائعه الفضيعة
وبدعه الشنيعة.
وروى الزمخشري من الحنفية في كتاب ربيع الأبرار: أن النبي (صلى الله عليه وآله) رأى يوما
أبا سفيان راكبا على حمار، وقد جر يزيد من أمامه، ومعاوية قد ساقه من ساقه من
خلفه، فقال صلوات الله عليه: لعن الله الراكب والقائد والسائق (2).
وقال العلامة التفتازاني من عظماء الحنفية في شرح العقائد النسفية بعد نقل
الخلاف بينهم في جواز لعنه لعنه الله: واتفقوا على جواز اللعن على من قتله (عليه السلام)،
أو أمر به، أو أجازه، أو رضي به. والحق أن رضا يزيد بقتل الحسين (عليه السلام)
واستبشاره بذلك واهانته أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) مما تواتر معناه، وإن كان تفاصيله
آحاد، فنحن لا نتوقف في شأنه بل في عدم ايمانه لعنة الله عليه وعلى أنصاره وأعوانه
انتهى.
وقال في شرح المقاصد: ان ما جرى من الظلم على أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) من
الظهور بحيث لا مجال فيه للاخفاء، ومن الشناعة بحيث لا اشتباه على الآراء، إذ
يكاد يشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له الأرض والسماء، وتنهدم منه الجبال،



(1) فرائد السمطين 2: 265 - 266 برقم: 533.
(2) ربيع الأبرار للزمخشري 4: 400.
374
وتنشق منه الصخور، ويبقى سوء عمله على كر الشهور ومر الدهور، فلعنة الله على
من باشر، أو رضي، أو سعى، ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.
ثم قال: فان قيل: من علماء المذهب من لا يجوز اللعن على يزيد مع علمهم بأنه
يستحق ما يربو على ذلك ويزيد.
قلنا: تحاميا عن أن يرتقى إلى الأعلى فالأعلى، كما هو شعار الروافض على ما
يروى في أدعيتهم، ويجري في أنديتهم، فرأى المعتنون بأمر الدين الجام العوام
بالكلية طريقا إلى الاقتصاد في الاعتقاد، وبحيث لا تزل الأقدام عن السواء، ولا
تضل الأفهام بالأهواء، والا فمن يخفى عليه الجواز والاستحقاق؟ وكيف لا يقع
عليهما الاتفاق؟
وهذا هو السر فيما نقل عن السلف من المبالغة في مجانبة أهل الضلال، وسد طريق
لا يؤمن أن يجر إلى الغواية في المآل، مع علمهم بحقيقة الحال وجلية المقال، وقد
كشف لنا ذلك حين اضطربت الأحوال واسترابت (1) الأهوال، وحيث لا متسع و
مجال، والمشتكى إلى الله عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال (2) انتهى كلامه.
وهو يعطي أن امتناعهم عن لعن يزيد ليس تزكية له وتنزيها عن أن ينتظم في
سلك الملاعين، بل لأنهم علموا أن المفاسد الصادرة منه راجعة إلى أبيه، لأن ولايته
من قبله مع علمه بعدم صلوحه لها، وهو من قبل عمر وعثمان، وهما من قبل أبي بكر،
فترجع المفاسد كلها إليه في الحقيقة، فلو لعنوا يزيد لبدعه الفضيعة لانجر الأمر إلى
لعن هؤلاء الطواغيت. ولقد أنصف التفتازاني في هذا الكلام كل الانصاف على رغم
أنفه.
وبالجملة فأصل جميع هذه المفاسد الممتدة الرواق، والفتن المشيدة النطاق،



(1) في المصدر: واشرأبت.
(2) شرح المقاصد 5: 311 - 312 ط بيروت.
375
المنتشرة في الآفاق، القائمة بأهلها على ساق من تلك البيعة التي عقدها عمر بن
الخطاب لأبي بكر الخباط الحطاب، وذلك الحائل الذي حال بين النبي (صلى الله عليه وآله) وبين
كتابة ذلك الكتاب المستطاب (1).
ويؤيد ذلك ما رواه أبو الصلاح (2) من أصحابنا عن بشير، قال: سألت
أبا جعفر (عليه السلام) عن أبي بكر وعمر، فلم يجبني، ثم سألته فلم يجبني، فلما كان في الثالثة
قلت: جعلت فداك أخبرني عنهما، قال (عليه السلام): ما قطرت قطرة من دمائنا ودماء
أحد من المسلمين الا هي في أعناقهما إلى يوم القيامة (3).
وأنسب بهذا المقال ما قيل في شأن فلان بن فلان:
لعنت كه أين جفا از پيش اوست * خون مظلومان دشت كربلاء از پيش اوست (4)



(1) قد روى الكشي باسناده حديثا عن الورد بن زيد، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام):
جعلني الله فداك قدم الكميت، فقال: ادخله، فسأله الكميت عن الشيخين؟ فقال: له أبو
جعفر (عليه السلام): ما أهريق دم ولا حكم يحكم غير موافق لحكم النبي (صلى الله عليه وآله) الا وهو في
أعناقهما، فقال الكميت: الله أكبر الله أكبر حسبي حسبي.
وبالاسناد عن داود بن النعمان، قال: دخل الكميت على أبي عبد الله (عليه السلام) - إلى آن قال:
فقال الكميت: يا سيدي أسألك عن مسألة وكان متكئا، فاستوى جالسا وكسر في صدره
وسادة، ثم قال: سل، قال: أسألك عن الرجلين؟ فقال: يا كميت بن زيد ما أهريق في
الاسلام محجمة من دم ولا اكتسب مال من غير حله، ولا نكح فرج حرام الا وذلك في
أعناقهما إلى يوم يقوم قائمنا، ونحن معاشر بني هاشم نأمر كبارنا بسبهما والبراءة منهما
(منه) اختيار معرفة الرجال 2: 461 - 465 برقم: 361 و 363.
(2) هو الشيخ العلامة تقي الدين الحلبي، كان من مشاهير تلامذة السيد المرتضى ومن
الثقات الأثبات، وله عدة كتب منها تقريب المعارف في علم الكلام.
(3) بحار الأنوار 8: 248 الطبعة الحجرية عن تقريب المعارف.
(4) وأشد مناسبة منه هذا:
بد كردن شمر هم زبد كردن اوست * خون شهدا تمام بر گردن اوست
376
وذكر ابن خلكان الشامي في تاريخه وفيات الأعيان في ترجمة أبي الحسن علي
بن محمد بن علي الطبري الشافعي المعروف بالكيا: أنه سئل عن يزيد بن معاوية،
فقال: انه لم يكن من الصحابة، لأنه ولد في زمن عمر بن الخطاب.
وأما قول السلف، ففيه لأحمد قولان تلويح وتصريح، ولمالك قولان تلويح
وتصريح، ولأبي حنيفة قولان تلويح وتصريح، ولنا قول واحد التصريح دون
التلويح، وكيف لا يكون كذلك؟ وهو اللاعب بالنرد، والمتصيد بالفهود، ومدمن
الخمر، وشعره في الخمر معلوم، ومنه قوله:
أقول لصحب ضمت الكأس شملهم * وداعي صبابات الهوى يترنم
خذوا بنصيب من نعيم ولذة * فكل وان طال المدى يتصرم
وكتب فصلا طويلا، ثم قلب الورقة وكتب: لو مددت ببياض لمددت العنان في
مخازي هذا الرجل، وكتب فلان بن فلان.
ثم قال ابن خلكان: وقد أفتى الإمام أبو حامد الغزالي في مثل هذه المسألة بخلاف
ذلك، فإنه سئل عمن صرح بلعن يزيد هل يحكم بفسقه أم هل يكون ذلك مرخصا
له؟ وهل كان مريدا قتل الحسين (عليه السلام) أم كان قصده الدفع؟ وهل يسوغ الترحم
عليه أو السكوت عنه أفضل؟ ينعم بإزالة الاشتباه مثابا.
فأجاب: لا يجوز لعن المسلم أصلا، ومن لعن مسلما فهو الملعون، وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وآله: المسلم ليس بلعان. ولا يجوز لعن البهائم، وقد ورد النهي عن
ذلك، وحرمة المسلم أعظم من حرمة الكعبة بنص النبي (صلى الله عليه وآله)، ويزيد صح اسلامه،
وما صح قتله الحسين، ولا أمره ولا رضاه بذلك، ومهما لم يصح ذلك منه لا يجوز أن
يظن ذلك به، فان إساءة الظن بالمسلم حرام.
ومن زعم أن يزيد أمر بقتل الحسين أو رضي به، فينبغي أن يعلم أن به غاية
الحماقة، فان من قتل من الأكابر والوزراء والسلاطين في عصره لو أراد أن يعلم
حقيقة من الذي أمر بقتله، أو من الذي رضي به، ومن الذي كرهه، لم يقدر على

377
ذلك، وإن كان قد قتل في جواره وزمانه وهو يشاهده، فكيف ولو كان في بلد بعيد
وفي زمن قديم قد انقضى، فكيف يعلم ذلك فيما انقضى عليه قريب من أربعمائة سنة
في مكان بعيد، وقد تطرق التعصب في الواقعة، فكثرت فيها الأحاديث من
الجوانب، فهذا أمر لا يعرف حقيقته أصلا، وإذا لم يعرف وجب احسان الظن به.
ومع هذا لو ثبت على مسلم أنه قتل مسلما، فمذهب أهل الحق أنه ليس بكافر،
والقتل ليس بكفر بل هو معصية، وإذا مات القاتل فربما مات بعد التوبة، والكافر لو
تاب من كفره لم يجز لعنه، فكيف من تاب عن قتل، ولم يعرف أن قاتل الحسين مات
قبل التوبة، وهو الذي يقبل التوبة عن عباده، فاذن لا يجوز لعن أحد ممن مات من
المسلمين، ومن لعنه كان فاسقا عاصيا لله تعالى.
ولو جاز لعنه فسكت عنه لم يكن عاصيا بالاجماع، بل لو لم يلعن إبليس طول
عمره لا يقال له في القيامة: لم لا تلعن إبليس؟ ويقال لللاعن: لم لعنت؟ ومن أين
عرفت أنه مطرود ملعون؟ والملعون هو المبعد من الله عز وجل، وهو غيب لا يعرف
الا في من مات كافرا، فان ذلك علم بالشرع.
وأما الترحم عليه، فهو جائز بل مستحب، بل هو داخل في قولنا في كل صلاة
(اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات) فإنه كان مؤمنا والله أعلم، كتبه الغزالي (1).
أقول: هذا نصب عظيم من الغزالي لأهل البيت (عليهم السلام)، وانكار للضروريات،
ودفع للمتواترات بالراح، فان رضا يزيد - لعنه الله - بقتل الحسين (عليه السلام) وأمره به
وبسط الأموال على الأنطاع، وامداده ابن زياد بالجيوش والعساكر، مما تواتر
وأجمعت عليه التاريخ والسير على اختلاف مذاهبهم وتفاوت معتقداتهم ونحلهم.
وقد صنف ابن الجوزي الحنبلي كتابا في جواز لعنه، سماه الرد على المتعصب العنيد



(1) وفيات الأعيان لابن خلكان 3: 287 - 289.
378
المانع من لعن يزيد (1)، وأكثر فيه الأدلة والشواهد على كفره لعنه الله.
وقد أوردنا جملة مقنعة في رسالتنا المعمولة في لعن الطواغيت الموسومة
باليواقيت. ونقل أهل التاريخ والسير أبياته اللامية التي أولها:
يا غراب البين أزمعت فقل * إنما تندب أمرا قد فعل
الناطقة بفرحه وكفره وعدم تصديقه الرسول، بين لا يدفع، ومكشوف لا يتلفع.
وذكر العلامة المطرزي في شرح المقامات في شرح المقامة الأربعين منها البيت
الأخير، وهو قوله:
لست من خندف ان لم أنتقم * من بني أحمد ما كان فعل
وهو من أدل الدلائل على كفره وارتداده لعنه الله، وجعله قتل الحسين (عليه السلام)
وهتك حرمه مثل قتل سائر المسلمين كفر عظيم ونصب شديد، والأخبار المستفيضة
من طرقهم مصرحة بكفر قاتل الحسين (عليه السلام) ناطقة بأنه أعظم الخليقة جرما.
والعجب من هذا الناصب كيف بلغ بالنصب إلى هذا المبلغ الفضيع، والمقام
الشنيع؟ وما كنت أظن أن من له من الاسلام أدنى نصيب أن يرتكب هذا المرتكب
الغريب، فليضحك عليه كثيرا.
وقد قيل: إن الغزالي أدركته السعادة الإلهية والرحمة الربانية قبل موته، وقد
نبهنا على ذلك في صدر الكتاب، والله الهادي إلى الصواب على رغم النصاب ذوي
الأذناب.



(1) وقد طبعت هذه الرسالة أخيرا.
379
المقام الرابع
في أن الخبر المذكور صريح في
مذهب الإمامية رضوان الله عليهم
وهو أن الامام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم الأحد عشر من
ذريته، مع أنه من طرقهم، وقد أسلفنا في ذيل الحديث السابع عشر أخبارا ناطقة
بذلك اجمالا وتفصيلا، كلها من طرقهم.
ولعمري أنهم لو تركوا رواية مثل هذه الأخبار الناطقة بفساد مذهبهم السخيف،
وضلال اعتقادهم الطفيف، لكانوا أعذر، فالحمد لله الذي أنطقهم بما هو حجة
عليهم، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.
ومما ينطق أيضا بفساد مذهبهم الأخبار الناطقة بأن الأئمة اثنا عشر على وجه
الاجمال، وهي أخبار متعددة بلغت حد التواتر المعنوي.
منها: ما رواه (1) البخاري في صحيحه في الجزء الثالث من أجزاء ثمانية، بأسناده
إلى جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: يكون من بعدي اثنا عشر أميرا،



(1) هذا الخبر رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، والسجستاني في السنن، و الخطيب
في التاريخ، وأبو نعيم في الحلية، بأسانيدهم عن جابر بن سمرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال:
لا يزال الاسلام عزيزا إلى الثنى عشر خليفة كلهم من قريش.
ورواه أحمد بن حنبل في مسند من أربع وثلاثين طريقا. وروي الخطيب في تاريخ
بغداد عن حماد بن سلمة، عن أبي الطفيل، وروى الليث بن سعد في أماليه، باسناده عن
سفيان الأصبحي، كلاهما عن عبد الله بن عمر، قال: سمعت رسول (صلى الله عليه وآله) يقول: يكون
من بعدي اثنا عشر خليفة (منه).
380
فقال كلمة لم أسمعها، قال أبي: أنه قال: كلهم من قريش (1).
ومنها: ما رواه البخاري أيضا في صحيحه، بأسناده إلى ابن عيينة، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا، ثم تكلم
النبي (صلى الله عليه وآله) بكلمة خفيت علي، فسألت أبي ماذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: كلهم
من قريش (2).
ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه في الجزء الرابع، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله): ان هذا
الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلم بكلام خفي علي،
فقلت: ماذا قال؟ فقال: كلهم من قريش (3).
ورواه مسلم في صحيحه من طريق آخر مثل رواية البخاري عن ابن عيينة
بألفاظه ومعانيه (4).
ومنها: ما رواه مسلم أيضا في صحيحه في رواية سماك بن حرب رفعه إلى
النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا يزال أمر الاسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم من
قريش (5).
ومنها: ما رواه أبو داود في صحيحه باسناده عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا يزال الدين
ظاهرا حتى تقوم الساعة ويكون عليكم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش (6).
وروى الحميدي في الجمع بين الصحيحين هذه الأحاديث من طريق عبد الملك
بن عمير، وطريق شعبة، وطريق ابن عيينة، وطريق سماك بن حرب، وطريق



(1) صحيح البخاري 8: 127 ط استانبول.
(2) صحيح البخاري (صلى الله عليه وآله): 81 ط مصر.
(3) صحيح مسلم 3: 1452 برقم: 1821.
(4) صحيح مسلم 3: 1453 ح 8.
(5) صحيح مسلم 3: 1453 ح 7.
(6) سنن أبي داود 4: 150 ط مصر.
381
عدي بن حاتم، وطريق الشعبي، وطريق خضر (1) بن عبد الرحمن.
وأورده رزين العبدري في الجمع بين الصحاح الستة من طرق متعددة وأسانيد
متكثرة، وجميع هذه الطرق تتضمن أن عدتهم اثني عشر خليفة، واثني عشر أميرا
كلهم من قريش (2) (3).



(1) في الطرائف: حصين.
(2) الطرائف ص 171 - 172 عنه، وراجع إحقاق الحق 13: 1 - 48.
(3) وبالجملة فالأخبار الواردة في هذا المعنى متواترة. قال الشيخ الأجل محمد بن علي بن
شهرآشوب المازندراني في تفسير متشابهات الآيات (2: 56) ما نصه: ومن رواة النص
عليهم ما حدثني جماعة بأسانيدهم عن سليم بن قيس الهلالي، وأبي حازم الأعرج، و
السائب بن أبي أوفى، وعليم الأزدي، وأبي مالك، والقاسم، عن سلمان الفارسي. وروى
محمد بن عمار، وأبو الطفيل، وأبو عبيدة، عن عمار بن ياسر. وروى سعيد بن المسيب، و
الحارث بن الحنش بن المعتمر، عن أبي ذر.
وروى أحمد بن عبد الله بن زيد بن سلام، عن حذيفة بن اليمان. وروى عطية العوفي، و
أبو هارون العبدي، وسعيد بن المسيب، والصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، وروى
جابر الجعفي وواثلة بن الأسقع، والقاسم بن حسان، ومحمد الباقر (عليه السلام) عن جابر
الأنصاري. وروى سعيد بن جبير، وأبو صالح، ومجاهد، وعطاء، والأصبغ، وسليمان بن
علي بن عبد الله بن عباس، عن ابن عباس. وروى عطاء بن السائب عن أبيه، ومسروق،
وقيس بن عبد، وحنش بن المعتمر، عن ابن مسعود.
وروى أبو الطفيل، وأبو جحيفة، وهشام، عن حذيفة بن أسيد. وروى محمد بن زياد،
ويزيد بن حسان، والواضحي، والسدي، عن زيد بن أرقم. وروى مكحول، والأجلح،
وخالد بن معدان، وأبو سليمان الضبي، وإبراهيم بن علبه، والقاسم، عن واثلة بن الأسقع.
وروى الأجلح الكندي، وأبو سليمان الضبي، والقاسم، عن أسعد بن زرارة.
وروى سعيد بن المسيب، عن سعد بن مالك. وروى أبو عبد الله الشامي، ومطرف بن
عبد الله، والأصبغ، عن عمران بن الحصين. وروى القاسم بن حسان، وأبو الطفيل، عن
زيد بن ثابت. وروى زياد بن عقبة، وعبد الملك بن عمير، وسماك بن حرب، والأسود
بن سعيد، وعامر الشعبي، عن جابر بن سمرة.
وروى هشام بن زيد، وأنس بن سيرين، وحفصة بن سيرين، وأبو العالية، والحسن
البصري، عن أنس بن مالك. وروى أبو سعيد المقتري، وعبد الرحمن الأعرج، وأبو صالح
السمان، وأبو مريم، وأبو سلمة، عن أبي هريرة. وروى المفضل بن حصين، وعبد الله بن
مالك، وعمرو بن عثمان، عن عمر بن الخطاب.
وروى أبو الطفيل الكناني، وشقيق الأصبحي، عن عبد الله بن عمر. وروى شعبة، عن
قتادة، عن الحسن البصري، عن أبي سلمة، عن عائشة. وروى عماد الذهبي، وابن جبير،
عن مقلاص، عن أم سلمة. وروى أبو جحيفة، وأبو قتادة، وهما صحابيان، كلهم عن
النبي (صلى الله عليه وآله) في روايات متفقات المعاني، أن الأئمة اثنا عشر، مهدناها في المناقب.
ثم قال، ومن رواة هذا العدد: الثوري، والأعمش، والرقاشي، وعكرمة، ومجالد، و
غندر، وابن عون، وأبو معاوية، وأبو أسامة، وأبو عوانة، وأبو كريت، وعلي بن الجعد،
وقتيبة بن سعد، وأبو بكر بن أبي شيبة، ومحمد بن زياد الغلابي، ومحمود بن غيلان، و
زياد بن علاقة، وحبيب بن ثابت. انتهى.
فقد اشتهرت طرق هذه الأخبار على ألسنة المخالفين، وبلغت حد التواتر، وقامت
الحجة للامامية - رضوان الله عليهم - على ألسنة أعدائهم، لأنه ليس في الأمة من ادعى هذا
العدد سوى الامامية، وما أدى إلى خلاف الاجماع يحكم بفساده (منه).
382
وروى أحمد بن حنبل في مسنده في المجلد الثالث منه عن مسروق، قال: كنت
عند عبد الله بن مسعود، فأتاه رجل فقال: يا بن مسعود هل حدثكم نبيكم كم
يكون من بعده من خليفة؟ قال: نعم كعدة نقباء بني إسرائيل (1).
وهذه الأخبار ناطقة بأن الفرقة الناجية هي الامامية دون سائر الفرق، إذ لم
ينقل أحد من فرق المسلمين باثني عشر خليفة سواهم.
وأما العامة والزيدية، فأئمتهم لا تنحصر بعد ولا تنتهي إلى حد. والإسماعيلية
مسبعة (2) أو يزيدون على الاثني عشر، كما جوزناه في النكت البديعة في فرق
الشيعة. والواقفية إنما يقولون بامامة سبعة. والكيسانية يقولون بامامة ثلاثة، ومنهم



(1) مسند أحمد بن حنبل 1: 398 و 406.
(2) في (س): سبعة.
383
من زاد واحدا أو اثنين. والناووسية بستة. والفطحية بثلاثة عشر بإضافة عبد الله
إلى الأئمة الباقين، كما ذكره شيخنا الشهيد الثاني في شرح الشرائع في كتاب النكاح.
وبالجملة فلم يقل أحد من الفرق بهذا العدد سوى الاثنا عشرية، فهي الفرقة
الناجية والطائفة الزاكية.
قال الوزير السعيد والفاضل العميد أبو الحسن علي بن عيسى الأربلي 1 في
كشف الغمة، بعد ذكر هذه الأخبار ونعم ما قال: ونحن نطالبهم - يعني المخالفين - بعد
نقل هذه الأخبار بتعيين هذه (1) الاثني عشر، فلابد لهم من أحد أمرين: إما تعيين
هذه العدة في غير الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام)، ولا يمكنهم ذلك، لأن ولاة هذا الأمر من
الصحابة وبني أمية وبني العباس يزيدون على الخمسين.
وإما أن يقروا ويسلموا أن الأخبار الواردة في هذا الباب واهية ضعيفة غير
مصححة، ولا يحل أن يعتمد عليها، فنحن نرضى منهم به ونشكرهم عليه، لما
يترتب لنا عليه من المصالح العزيزة والفوائد الكثيرة.
أو يلتزموا لقسم ثالث، وهو الاقرار بالأئمة الاثني عشر، لانحصار ذلك في هذه
الأقسام، وهذا الالزام يلزم الزيدية كما يلزمهم، وهذا الزام لا محيص لهم عنه متى
استعملوا الانصاف، وسلكوا طريق الحق، وعدلوا عن سنن المكابرة والمباهتة،
وتركوا بنيات الطريق.
وقد خلصنا نحن عن هذه العهدة، فان الأئمة الاثني عشر قد تعينوا عندنا
بنصوص واضحة جلية لاشك فيها ولا لبس، ولم نحتج في الاقرار بهم والاعتراف
بإمامتهم إلى استنباط ذلك من كتبهم (2). انتهى كلامه أعلى الله مقامه.
وقد تحير المخالفون في الجواب عن هذا الاشكال الوارد على مذهبهم السخيف



(1) في المصدر: هؤلاء.
(2) كشف الغمة 1: 57 - 58.
384
ورأيهم الطفيف.
فقال جلال الدين السيوطي الشافعي في كتاب فصل الخطاب وتاريخ الخلفاء:
المراد بالاثني عشر في الأخبار السابقة الخلفاء الأربعة، والحسن والحسين، وسبعة
من بني أمية على الترتيب، قال: وبعد ذلك يكون ملكا لا خلافة.
وهو مما يضحك الثكلى، فإنه لا يحسن ممن يؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظم
يزيد بن معاوية الخمار السفاك الهتاك قاتل الحسين (عليه السلام) وأنصاره وبني عمه، وسابي
نساء أهل البيت (عليهم السلام) في سلك الخلفاء بالحق، وكذا مروان بن الحكم، مع أنه لعنه
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، كما رواه الزمخشري في الكشاف (1).
وكيف يحسن أيضا من ذي مسكة أن يدعي أن معاوية بن أبي سفيان خليفة
بالحق، منصوص عليه من النبي (صلى الله عليه وآله)؟ مع ما أبدع في الدين من البدع الفضيعة
الشنيعة، واعلانه بلعن أمير المؤمنين (عليه السلام) وشتمه على المنابر، وجعله ذلك سنة
جارية، ولم تزل مستمرة إلى زمان عمر بن عبد العزيز.
وقد صرح صاحب الكشاف بلعنه وأتباعه، في تفسير قوله تعالى (ان الله يأمر
بالعدل والاحسان) (2) الآية، وهذه عبارته: وحين أسقطت من الخطب لعنة
الملاعين على أمير المؤمنين (عليه السلام) أقيمت هذه الآية مقامها، ولعمري أنها كانت
فاحشة ومنكرا وبغيا، ضاعف الله لمن سنها غضبا ونكالا وخزيا، إجابة لدعوة نبيه
وعاد من عاداه (3). انتهى.
قال المحشي: يريد بلعنه الملاعين من لعن عليا من بني أمية وبني مروان، والذي
أسقط لعنه عمر بن عبد العزيز، والذي سن ذلك معاوية انتهى.
ويظهر منه في مواضع من الكشاف بغضه، وأنه ما كان على الحق، وما كان



(1) الكشاف 3: 522.
(2) النحل: 90.
(3) الكشاف 2: 425.
385
جهاده مع علي (عليه السلام) باجتهاده، ولا كان معذورا فيه بل متعمدا عالما.
منها: ما ذكره في آخر سورة يونس عند قوله تعالى (واصبر حتى يحكم الله
وهو خير الحاكمين) (1) قال ما هذا لفظه: روي أن أبا قتادة تخلف عن تلقي معاوية
حين قدم المدينة وقد تلقته الأنصار، ثم دخل عليه من بعد فقال له: مالك لم تلقنا؟
قال: لم تكن عندنا دواب، قال: فأين النواضح؟ قال: قطعناها في طلبك وطلب
أبيك يوم بدر، وقد قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا معشر الأنصار انكم ستلقون بعدي
أثرة، قال معاوية: فماذا قال؟ قال: فاصبروا حتى تلقوني، قال: فاصبر، قال: اذن
نصبر، فقال عبد الرحمن بن حسان:
ألا أبلغ معاوية بن حرب * أمير الظالمين نثا كلامي
بأنا صابرون فمنظروكم * إلى يوم التغابن والخصام (2)
ومن كان هذا حاله كيف يدعي خليفة بالحق ومطاعنه كثيرة، وقد أشرنا إلى
بعضها في صدر الكتاب في ذيل الحديث التاسع، وقد نقلنا عن كتاب الموفقيات ما
هو صريح في كفره لعنه الله، وحسده الرسول (صلى الله عليه وآله).
وقد روى العامة عنه أيضا أنه كان يبذل الجوائز العظيمة لمن يروي حديثا في
فضائل الخلفاء الثلاثة، أوفي مذمة علي (عليه السلام)، أو يحول مناقبه (عليه السلام) إلى أحدهم.
وقد نقل الشيخ عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني في شرح نهج البلاغة، عن
أبي جعفر الإسكافي، وهما من أكابر علماء المخالفين: أن معاوية بذل لسمرة بن
جندب مائة ألف درهم حتى يروي أن هذه الآية نزلت في علي (عليه السلام) (ومن الناس
من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى
سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) (3) وأن



(1) يونس: 109.
(2) الكشاف 2: 256 - 257.
(3) البقرة: 204.
386
الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى (ومن الناس من يشري نفسه
ابتغاء مرضاة الله والله رؤوف بالعباد) (1) فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف فلم يقبل،
فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل (2).
وقال علامتهم التفتازاني في التلويح في مباحث خبر الواحد ما نصه: ان حديث
الجهر بالتسمية مشهور، حتى أن أهل المدينة احتجوا به على مثل معاوية، وردوه
على ترك الجهر بالتسمية، وهو مروي عن أبي هريرة وعن أنس (3)، الا أنه
اضطربت رواياته فيه بسبب أن عليا كان يبالغ في الجهر، وحاول معاوية وبنوا أمية
محو آثاره، فبايعوا على الترك فخاف أنس انتهى.
وقد صرح جمع من عظمائهم، منهم: العلامة النسفي في عقائده، والتفتازاني في
شرحها، بأن معاوية ليس خليفة بل ملكا، وظاهر الناصب الخنجي في نقض كشف
الحق ونهج الصدق أن هذا القول هو المشهور المنصور عندهم.
وذكر الفاضل الجليل نور الدين المالكي في الفصول المهمة أنه لما تم الصلح لمعاوية
واجتمع عليه الناس، دخل عليه سعد بن أبي وقاص، وقال: السلام عليك أيها
الملك، فتبسم معاوية وقال: يا أبا إسحاق ما عليك لو قلت يا أمير المؤمنين، فقال:
والله أني لا أحب أني وليتها بما قد وليتها به، روى ذلك صاحب تاريخ البديع (4) انتهى.
ومما يبطل (5) تأويل الجلال الجلال أنه على ما ذكره يكون ثاني عشر الخلفاء



(1) البقرة: 207.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4: 73.
(3) ورأيت نحوه في تفسير الفاضل النيسابوري (منه).
(4) الفصول المهمة ص 164.
(5) ومن شواهد بطلانه أنه على ذلك التقدير يكون من جملة العدد المذكور يزيد لعنه الله،
وقد شرحنا بعض أحواله الخبيثة، ومروان بن الحكم، وهو الطريد بن الطريد، طرده
رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونفاه، فردهما عثمان إلى المدينة، ونفى أبا ذر رضي الله عنه إلى الربذة.
وروى الدميري الشافعي في موضعين من كتاب حياة الحيوان، والحاكم في كتاب الفتن
والملاحم من المستدرك، عن عبد الرحمن بن عوف، أنه كان لا يولد لأحد مولود الا اتي به
إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فيدعو له، فادخل مروان بن الحكم، فقال: هو الوزغ بن الوزغ، الملعون بن
الملعون. وفي حديث عائشة أن أبا مروان لعنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومروان في صلبه. وكل
ذلك من المتفق على صحته وقبوله. وذكر بعض النقاد أن بني أمية كانوا يمسخون وزغا عند
حلول الأجل بهم.
وروى الحاكم في كتابه المذكور: أن الحكم بن أبي العاص أبا مروان استأذن على النبي
(صلى الله عليه وآله) فعرف صوته، فقال: ائذنوا له لعنة الله عليه وعلى من خرج من صلبه الا المؤمن
منهم، وقليل ما هم يشرفون في الدنيا ويضعون في الآخرة ذووا مكر وخديعة، ومالهم في
الآخرة من خلاق (منه).
387
الوليد بن يزيد، وقد أطبق أهل التاريخ والسير على أنه كان زنديقا، وذكروا أنه
تفأل يوما من المصحف، فخرج فاله (واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد) (3)
فرمى المصحف من يده وأمر أن يجعل هدفا ورماه بالنشاب وأنشد:
تهددني بجبار عنيد * وها أنا ذاك جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر * فقل يا رب مزقني الوليد
فانظر أيدك الله إلى هذا الجلال كيف التزم كونه خليفة بالحق مكابرة وعنادا (2) ولما استبشع ذلك بعضهم ممن تأخر عن الجلال الجلال، قال: الستة الباقون
ينبغي أن يكونوا من خيار بني أمية وبني العباس، فوسع دائرة الاعتراض وزاد في



(1) إبراهيم: 15.
. (2) ومن جملة العدد المذكور: عبد الملك بن مروان، وكان جائرا ظلوما مقداما على سفك
الدماء، أتته البشرى بالخلافة وهو يقرأ في المصحف، فأطبقه وقال: هذا فراق بيني وبينك.
وكان يلقب برشح الحجارة لبخله، وكان عماله سفاكين هتاكين منهمكين في الشرور و
القبائح، كالحجاج وأخيه والمهلب بن أبي صفرة وغيرهم، وقد بسطنا الكلام في
فضائحهم وشرورهم في رسالة مفردة (منه).
388
الطنبور نغمة أخرى، والتزم التحكم البحت والتخمين الصرف، وخرج عن
الاجماع من حيث لا يدري.
فانا قد تتبعنا أقوالهم فوجدناها أربعة:
الأول: كون الخلافة ثلاثين سنة، وهو قول النسفي في عقائده، والمالكي في
فصوله (1)، وبعدها يكون ملكا.
الثاني: القول بامامة بعض بني أمية، كعمر بن عبد العزيز، وجميع بني العباس،
واليه مال التفتازاني أخيرا في شرح العقائد، قال: لأن أهل الحل والعقد قد كانوا
متفقين على خلافة الخلفاء العباسيين وبعض المروانية كعمر بن عبد العزيز انتهى.
الثالث: اخراج يزيد بن معاوية لكفره، والقول بصحة امامة الباقين وخلافة بني
العباس، وهو ظاهر ابن الجوزي.
الرابع: المشهور بينهم، وهو الذي نسبه أفضل المحققين نصير الملة والدين الطوسي
في قواعد العقائد إلى جميع أهل السنة القول بصحة امامة معاوية ومن بعده من بني
أمية وبني مروان وجميع العباسية.
قال المحقق الطوسي في الكتاب المذكور: وأما أهل السنة فيقولون بوجوب نصب الإمام
على من يقدر على ذلك، لاجماع السلف عليه، وذهبوا إلى أن الامام يعرف
إما بنصب من يجب أن يقبل قوله كنبي أو امام، أو بإجماع المسلمين عليه.
وكان الامام بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالاجماع أبا بكر، ثم عمر بنص أبي بكر، ثم
عثمان بنص عمر على جماعة أجمعوا على إمامته، ثم عليا المرتضى باجماع المعتبرين
من الصحابة، وهؤلاء هم الخلفاء الراشدون، ثم وقعت الخلافة بين الحسن (عليه السلام)
ومعاوية، وصالحه الحسن (عليه السلام) واستقرت الخلافة عليه، ثم على من بعده من بني
أمية وبني مروان، ثم انتقلت الخلافة إلى بني العباس، وأجمع أكثر أهل الحل والعقد



(1) الفصول المهمة ص 164.
389
عليهم، وانساقت الخلافة فيهم إلى عهدنا الذي جرى فيه ما جرى (1).
ونقل الزمخشري في كتاب الكشاف عن أبي حنيفة صاحب المذهب، أنه كان
يفتي سرا بوجوب نصرة زيد بن علي، والخروج معه على المنصور. وهذا يدل على
اشتراط عدالة الامام، وهو المنقول عن سفيان بن عيينة، وهو مختار صاحب
الكشاف والقاضي البيضاوي.
وعلى كل حال فتأويل هذا الناصب الجاهل خارق لاجماع المخالفين، واحداث
لقول آخر عليل خال عن المأخذ والدليل، وقد اعترف بضعف هذين التأويلين
وأمثالهما ملا فصيح الدشتبياضي من فضلاء النواصب في بعض رسائله، حيث قال
بعد نقلها: هذا ما قالوه ولكن لا مقنع فيه.
ومما يبطل جميع تأويلاتهم ما نقلناه في ذيل الحديث السابع عشر من الأخبار
الناطقة بتفصيل الأئمة (عليهم السلام) على وفق معتقد الفرقة الناجية رضوان الله عليهم،
ونحوها هذا الخبر الذي نحن بصدد الكلام عليه.
ويبطلها أيضا حديث السدي الذي أورده في تفسيره، وهو من قدماء عظمائهم
وثقاتهم، قال: لما كرهت سارة مكان هاجر، أوحى الله تعالى إلى إبراهيم
الخليل (عليه السلام) وقال: انطلق بإسماعيل وأمه حتى تنزله البيت التهامي - يعني مكة - فاني
ناشر ذريته وجاعلهم ثقلا على من كفر بي، وجاعل منهم نبيا عظيما، ومظهره على
الأديان، وجاعل من ذريته اثني عشر عظيما، وجاعل ذريته عدد نجوم السماء (2).
وروى أحمد بن حنبل في مسنده، عن العباس بن عبد المطلب، قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): يملك من ولدي اثني عشر خليفة، ثم يخرج المهدي من بعدي،
يصلح الله أمره في ليلة واحدة (3).



(1) قواعد العقائد ص 462 ط طهران.
(2) الطرائف ص 172 عن تفسير السدي، وإحقاق الحق (عليه السلام): 478 عنه.
(3) راجع إحقاق الحق 13: 74، والصواعق المحرقة ص 97.
390
والتراخي في قوله (عليه السلام) (ثم يخرج المهدي) إما رتبي أو حقيقي، للتراخي الظاهر
بين ملكه في زمن الغيبة وبين ملكه بعد الخروج، ولا دلالة فيه على خلاف معتقد
الفرقة الناجية كما يتوهم.
وروى ابن حجر في الصواعق المحرقة عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: في كل خلف من أمتي
عدول من أهل بيتي ينفون عن هذا الدين تحريف الضالين وانتحال المبطلين،
وتأويل الجاهلين، ألا وان أئمتكم وفدكم إلى الله عز وجل، فانظروا من
توفدون (1) (2).
وبالجملة فالاعتراف بالعجز عن الجواب أليق من التفوه بأمثال هذه الهذيانات،
والتعلق بأذيال هذه المكابرات.
المقام الخامس
في تسمية الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) بأسمائهم
والاقتصار في الثاني عشر (عليهم السلام) على مجرد وصفه، تنبيه على مرجوحية التلفظ
باسمه صلوات الله عليه. وقد تضافرت الأخبار عن العترة الطاهرة سلام الله عليهم
بالنهي عن ذلك وظاهرها التحريم.
منها: ما رواه ثقة الاسلام في الكافي، والصدوق في كتاب علل الشرائع
والأحكام، باسنادهما عن أبي هاشم الجعفري، قال: سمعت أبا الحسن



(1) الصواعق المحرقة ص 141.
(4) قلت: هذا الخبر رويناه عن أئمتنا، رواه ثقة الاسلام في الكافي (1: 32 ح 2) عن
أبي البختري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) وليس فيه (ألا وان أئمتكم وفدكم). ورواه الشهيد
الثاني في أوائل الذكرى، ولفظه هكذا: في كل خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ينفي عن
هذا الدين تحريف الغالين وانتحال المبطلين (منه).
391
العسكري (عليه السلام) يقول: الخلف من بعدي الحسن ابني، وكيف لكم بالخلف من بعد
الخلف؟ قلت: ولم جعلني الله فداك؟ فقال: لأنكم لا ترون شخصه، ولا يحل لكم
ذكره باسمه، قلت: فكيف نذكره؟ قال: فقولوا، الحجة من آل محمد (صلى الله عليه وآله)
أجمعين (1). ورواه المفيد في ارشاده (2).
وروى ثقة الاسلام في الكافي باسناده عن أبي عبد الله الصالحي، قال: سألني
أصحابنا بعد مضي أبي محمد أن أسأل عن الاسم والمكان، فخرج الجواب: ان دللتم
على الاسم أذاعوه، وان عرفوا المكان دلوا عليه (3).
وروى فيه أيضا بطريق صحيح عن علي بن رئاب، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
صاحب هذا الأمر لا يسميه باسمه الا كافر (4).
وروى فيه أيضا عن الريان بن الصلت، قال: سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول
وسئل عن القائم (عليه السلام)، فقال: لا يرى جسمه ولا يسمى اسمه (5).
وفي بعض الأخبار: ولا يسميه باسمه في محفل من الناس الا كافر (6). وفي
بعضها: إذا وقع الاسم وقع الطلب.
وممن نص على تحريم تسميته (عليه السلام) باسمه الصدوق (عليه السلام))، وهو ظاهر ثقة الاسلام في
الكافي (8). وهو صريح كلام المفيد (9)، والشيخ أبي علي الطبرسي في كتاب أعلام



(1) أصول الكافي 1: 328 ح 3 وص 332 ح 1، وعلل الشرائع ص 245 ح 5.
(2) الارشاد 2: 320.
(3) أصول الكافي 1: 333 ح 2.
(4) أصول الكافي 1: 333 ح 4.
(5) أصول الكافي 1: 333 ح 3.
(6) اكمال الدين ص 482 و 648.
(7) اكمال الدين ص 648.
(8) حيث عقد له بابا عنونه بباب في النهي عن الاسم وأورد فيه ما نقلناه عنه ولم يورد ما
ينافيه (منه).
392
الورى باعلام الهدى (1).
وتعجب منهما الفاضل الجليل والوزير السعيد علي بن عيسى بن أبي الفتح
الأربلي في كشف الغمة، فقال: من العجب أن الشيخ الطبرسي والشيخ المفيد
رحمهما الله، قالا: لا يجوز ذكر اسمه ولا كنيته، ثم يقولان: اسمه اسم النبي (صلى الله عليه وآله) وكنيته
كنيته عليهما الصلاة والسلام، وهما يظنان أنهما لم يذكرا اسمه ولا كنيته، وهذا
عجيب، والذي أراه أن المنع من ذلك إنما كان في وقت الخوف عليه والطلب له (عليه السلام)
والسؤال عنه، وأما الان فلا (2) انتهى.
أقول: والظاهر انعكاس التعجب، إذ الأخبار المستفيضة المعتبرة مطلقة في
التحريم، أو عامة لجميع الأوقات وجميع الأشخاص، فتخصيصها بما ذكره من غير
مقتض له عجيب، وخصوص العلة وهو الخوف لو سلم عليته لم يستلزم خصوص
الحكم، لعدم اطراد العلة، كما تقرر في محله.
والمتجه هو التحريم، وبه جزم سيد الحكماء الإلهيين مولانا محمد باقر الداماد (3)
عطر الله مرقده. والمنقول عن شيخنا البهائي جوازه في هذه الأعصار، كما ذكره
الفاضل الأربلي، وقد حققنا المقام في رسالة مفردة.
الحديث التاسع والعشرون
[مماثلته (عليه السلام) مع الأنبياء (عليهم السلام) في الصفات المحمودة]
البيهقي في كتابه المصنف في فضائل الصحابة، يرفعه بسنده إلى النبي (صلى الله عليه وآله) أنه



(9) الارشاد 2: 339.
(1) إعلام الورى ص 393.
(2) كشف الغمة 2: 519 - 520. ط قم.
(3) شرعة التسمية للسيد الداماد ص 24.
393
قال: من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، والى نوح في تقواه، والى إبراهيم في حلمه،
والى موسى في هيبته، والى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب (1).
أقول: وفي مناقب الخوارزمي، عن أبي الحمراء، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: من أراد
أن ينظر إلى آدم (عليه السلام) في علمه، والى نوح (عليه السلام) في فهمه، والى يحيى بن زكريا (عليه السلام)
في زهده، والى موسى بن عمران (عليه السلام) في بطشه، فلينظر إلى علي بن أبي طالب (2).
قال أحمد بن الحسين البيهقي: لم أكتبه الا بهذا الاسناد (3)، فقد ثبت لعلي (عليه السلام) ما
ثبت لهم صلوات الله عليهم من الصفات المحمودة، واجتمع فيه ما تفرق.
الحديث الثلاثون
[عجز البشر عن عد فضائل الإمام علي (عليه السلام)]
الخوارزمي في مناقبه، عن مجاهد، عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لو أن
الغياض أقلام، والبحر مداد، والجن حساب، والانس كتاب، ما أحصوا فضائل
علي بن أبي طالب (4).
أقول: والاخبار الناطقة بهذا المعنى كثيرة جدا:
منها: ما رواه الامام الحموي في كتاب فرائد السمطين، عن عيسى بن
عبد الرحمن، عن أبيه، عن جده، قال رجل لابن عباس: سبحان الله ما أكثر مناقب
علي وفضائله! أني لأحسبها ثلاثة آلاف، فقال ابن عباس: أولا تقولوا انها إلى



(1) إحقاق الحق 15: 612 عن البيهقي.
(2) المناقب للخوارزمي ص 245 ط تبريز.
(3) هذا الخبر أورده الشيخ عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة، و
القوشجي في شرح التجريد (منه).
(4) المناقب للخوارزمي ص 32 ط قم.
394
ثلاثين ألفا أقرب. ورواه الخطيب الخوارزمي في مناقبه، قال: أنبأني الحافظ
أبو العلاء الهمداني مرفوعا إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنه (1).
وروى أيضا في المناقب بالاسناد عن علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ان
الله جعل لأخي علي فضائل لا تحصى كثرة، فمن ذكر فضيلة من فضائله مقرا بها غفر
الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ومن كتب فضيلة من فضائله لم تزل الملائكة تستغفر
له ما بقي لتلك الكتابة رسم، ومن استمع فضيلة من فضائله غفر له الذنوب التي
اكتسبها بالاستماع، ومن نظر إلى كتاب من فضائله غفر له الذنوب التي اكتسبها
بالنظر. ثم قال (صلى الله عليه وآله): النظر إلى وجه أمير المؤمنين عبادة، وذكره عباده، ولا يقبل
الله ايمان عبد الا بولايته (2).
وفي الكتاب المذكور بالاسناد عن الحسين بن علي بن أبي طالب، عن علي (عليهما السلام)،
عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لو حدثت بكل ما أنزل الله في علي ما وطئ على موضع من
الأرض الا اخذ ترابه إلى الماء (3).
الحديث الحادي والثلاثون
[توسل آدم (عليه السلام) بأصحاب الكساء (عليهم السلام)]
الحموي في كتاب فرائد السمطين، باسناده عن أبي هريرة، عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه
قال: لما خلق الله آدم أبا البشر ونفخ فيه من روحه، التفت آدم يمنة العرش، فإذا في
النور خمسة أشباح سجدا وركعا، قال آدم: يا رب هل خلقت أحدا من طين قبلي؟
قال: لا يا آدم، قال: فمن هؤلاء الخمسة الذين أراهم في هيئتي وصورتي؟



(1) المناقب ص 33.
(2) المناقب للخوارزمي ص 32.
(3) المناقب ص 311.
395
قال: هؤلاء خمسة من ولدك لولاهم ما خلقتك، هؤلاء خمسة شققت لهم خمسة
أسماء من أسمائي، لولاهم ما خلقت الجنة ولا النار، ولا العرش ولا الكرسي، ولا
السماء ولا الأرض، ولا الملائكة ولا الجن ولا الانس.
فأنا المحمود وهذا محمد، وأنا العالي وهذا علي، وأنا الفاطر وهذه فاطمة، وأنا
ذو الاحسان وهذا الحسن، وأنا المحسن وهذا الحسين، آليت بعزتي أنه لا يأتيني
أحد بمثقال ذرة من خردل من بغض أحدهم الا أدخلته ناري ولا أبالي، يا آدم
هؤلاء صفوتي من خلقي، بهم أنجيهم وبهم أهلكم، فإذا كان لك إلي حاجة فبهؤلاء
توسل.
فقال النبي (صلى الله عليه وآله): نحن سفينة النجاة من تعلق بها نجا ومن حاد عنها هلك، فمن
كان له إلى الله حاجة فليسأل بنا أهل البيت (1).
أقول: أمثال هذه الأخبار لا تحصى كثرة، وفيها دلالة قاطعة على أفضليته (عليه السلام)
بل أفضلية زوجته فاطمة (عليها السلام) وولديه الحسن والحسين (عليهما السلام)، على من عدا
النبي (صلى الله عليه وآله) حتى اولي العزم (2)، والأخبار به مستفيضة، وقد أفردها بعض أصحابنا



(1) فرائد السمطين 1: 36 - 37.
(2) قال الشيخ المفيد: استدل أكثر أصحابنا على أن أمير المؤمنين (عليه السلام) أفضل من كافة
البشر سوى النبي (صلى الله عليه وآله) من ثلاثة أوجه: بكثرة الثواب، وظاهر الأعمال، والمنافع الدينية
بالأعمال. فالأول مثل قوله (صلى الله عليه وآله) (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وإذا ثبت أنه أفضل البشر،
وجب أن يليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في الفضل، بدلالة الحكم بأنه منه في آية المباهلة
بالاجماع، وقد علم لم يرد بالنفس بأنه قوام الجسد من الدم السائل والهواء ونحوه، ولم يرد
نفس ذاته، إذ كان لا يصح دعاء الانسان نفسه إلى نفسه ولا إلى غيره، فلم يبق الا أنه أراد
المثل والعدل في كل حال، الا ما أخرجه الدليل.
ومن ذلك أنه جعله في الأحكام حبه وبغضه وحروبه سواء مع نفسه بلا فصل، وقد
علم أنه لم يضع الحكم في ذلك للمحاباة، بل وضعه على الاستحقاق، فوجب أن يكون
مساويا له في الأحكام كلها الا ما أخرجه الدليل. ومن ذلك ثبوت المحبة له بالاجماع في
حديث الطير والراية والوفاة.
ومن ذلك اشتهار الأخبار في درجاته يوم القيامة، وقد ثبت أن القيامة محل الجزاء، و
ان الترتيب فيها بسبب الأعمال، وإذا كان مضمون هذه الأخبار تفيد تقدم أمير المؤمنين
على كافة الخلق سوى رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كرامة الثواب، وفي ذلك على أنه أفضل من
سائرهم في الأعمال.
وذكر العلامة رحمه الله في جوابات السيد السعيد مهنا بن سنان المدني: ان الشيعة استدلوا
بالقرآن على أن أمير المؤمنين (عليه السلام) مساو للنبي (صلى الله عليه وآله)، لقوله تعالى (وأنفسنا وأنفسكم) و
المراد به علي (عليه السلام) والاتحاد محال، فينبغي أن يكون المساواة، ولا شك أن محمدا (صلى الله عليه وآله)
أشرف من غيره من الأنبياء، فيكون مساويه كذلك انتهى. وظاهره كما ترى أنه (عليه السلام)
أفضل من جميع ما عدا النبي (صلى الله عليه وآله) (منه).
396
بالتصنيف.
وقال العلامة الحلي: أجمعت الامامية أن عليا (عليه السلام) بعد نبينا أفضل من الأنبياء
غير اولي العزم، وفي تفضيله عليهم خلاف، وأنا في ذلك من المتوقفين انتهى.
أقول: لا ينبغي التوقف في ذلك بعد تصريح الأخبار به، وفي هذا الخبر وغيره
شهادة قاطعة به، واستبعاد المخالفين ذلك دفع للأخبار بالراح.
وقول بعضهم في بعض مؤلفاته: قد نقل العلامة التفتازاني في شرح المقاصد،
وشرح العقائد النسفية، والعلامة الدواني في شرح العقائد العضدية، الاجماع على أن
كل نبي أفضل من ولي. ونقل عن بعض كتبهم الفقهية التصريح بكفر من فضل وليا
على نبي، قال: ولعلهم يرون تكفير مخالف الاجماع القطعي، أو ظنوا تلك الأفضلية
من ضروريات الدين. أوهن من بيت العنكبوت.
أما أولا، فلأن ما ادعاه من اجماع غيرنا لا يقوم حجة علينا، وأي اعتداد
باجماع لم يدخل فيه أهل البيت (عليهم السلام) وعلماؤهم.
وأما ثانيا، فلأن ما ذكره مجرد استبعاد بلا دليل عليه بوهمه العليل، والله الهادي
إلى سواء السبيل.

397
وأما ثالثا، فلأن بعض (1) المحققين من علمائنا المتأخرين ذكر أن الذي ذهب إليه
الفرقة الناجية رضوان الله عليهم، من أن أمير المؤمنين والأئمة من أولاده (عليهم السلام)
أعظم وأفضل من جميع الأنبياء والأولياء، إنما هو بمعنى أن مرتبته ومرتبة هؤلاء
الأئمة من حيث الولاية أعظم من مرتبة هؤلاء الأنبياء والرسل من حيث الولاية،
قال: وقد صرح بذلك من أصحابنا المتألهين السيد العارف المحقق الأوحدي حيدر
بن علي الآملي في كتابه الموسوم بجامع الأسرار ومنبع الأنوار، واليه أشار الشيخ
الكامل (2) محي الدين بن العربي في الفص العزيزي والفص النبوي من كتاب
فصوص الحكم.
وأما رابعا، فلأن تعلقه بتصريح الفقهاء الأربعة بكفر من فضل وليا على نبي إلى
آخر كلامه، لا يسمن ولا يغني من جوع، إذ قولهم وبولهم عندنا على حد سواء.
واعلم أن لبعض (3) علمائنا المحققين في هذا المقام كلاما على طريقة أهل الكشف
والعرفان، وهو أن المراتب الثابتة لمولانا أمير المؤمنين والحسن والحسين (عليهم السلام) من
الله تعالى ومن النبي (صلى الله عليه وآله)، ثابتة لهم بطريق ثبوت الولاية لهم من روحانية
النبي (صلى الله عليه وآله)، المعطي لهم مراتبهم في العوالم الثلاثة، لأنه قطب الكل.
وإذا عرفت أن كل واحد من الأولياء إنما يأخذ ما يأخذه بواسطة روحانية نبيه،
وجب أن يكونوا أفضل من الأنبياء، وأكمل وأتم في مقام الوحدة، بسبب مشاهدة
الأنوار المحمدية والاستضاءة بها، لانعكاس شعاع مرآته على مرائي نفوسهم،
بسبب المقابلة الموجبة لاستعداد أنفسهم لقبول فيض نوره.
ولا عجب من أفضلية الولي المتفرع من النبي الكامل القائم مقامه، والمشاهد



(1) هو القاضي الشوشتري في مصائب النواصب (منه).
(2) وصف ابن العربي بالشيخ الكامل من كلام ذلك الفاضل، فتأمل (منه).
(3) هو الشيخ الفاضل ابن أبي جمهور الأحسائي في المجلي، وفي كلامه مناقشات ليس هذا
موضع الكلام عليها (منه).
398
لمعارجه والمطلع على جميع مقاماته الشهودية وأحواله الملكوتية على النبي القاصر
عن الكمال الجمعي، الناقص عن الاطلاع على حقائق مقامات الكامل، وكيفيات
معارجه وتطوره بالأطوار الشهودية الجمعية.
فالولي المشاهد من مرآة النبي الكامل بواسطة انعكاسها على مرآة نفسه
المستعدة لقبولها بالضرورة يكون أتم جمعية، وأكمل مشاهدة، وأوسع دائرة،
وأقوى اطلاعا من ذلك النبي المحجوب عن المشاهدات الجمعية، حتى أن الواحد
منهم يكون حاويا لمقامات اولي العزم بسبب ملاحظة الأحوال المحمدية، فيكون
أكمل حتى من اولي العزم.
وهو بين لما تقرر من أن الولي إنما يأخذ ما يأخذه بواسطة روحانية نبيه، وانه به
يشهد ومنه يعرف، فلما كان نبينا (صلى الله عليه وآله) صاحب الجمعية الكاملة وأولياؤه منه
يشهدون وبه يعرفون (1)، كانوا مساوين له باعتبار الانعكاس الحاصل من مرآته
إلى مرائي مشاهداتهم، وهو (عليه السلام) أكمل من اولي العزم.
فالمشاهد المقابل لمرآته بالاستعداد التام المنعكس عليه شعاعها يكون كذلك
بواسطة التشبه التام، فيكون حال الواحد منهم كحاله في مشاهداته مقامات اولي
العزم، والارتقاء عنها إلى مشاهدته مقاماته الحاوية لمقاماتهم وزيادة خصائصه
الجمعية.
ان قيل: كيف يكون المحتاج في الوصول إلى المقامات الشهودية إلى واسطة
موصلة إليها حتى يكون بها مشاهدا، ولولاها لما حصل المشاهدة أفضل وأكمل ممن
لم يحتج إلى تلك الواسطة، بل يشهد المقامات العلوية باستعداده من غير أن يحتاج
إلى من يتوصل به، وأيضا كيف صح أفضلية من لم يصل إلى مقام النبوة لانحجابه
على من وصل إليه ولم ينحجب عنه بحجاب؟



(1) في (س): ومنه يغرفون.
399
يجاب عن الأول: بأنه لا مانع من التفضيل، لتساوي الكل في الاحتياج إلى
المشاهدات الإلهية إلى روحانية النبي، لأنه معطي الكل مقاماتهم في العوالم الثلاثة،
فلما كان أولياؤه لهم مزيد الاختصاص به، وشدة الاطلاع على القطب المحمدي،
كانوا بذلك أشد اطلاعا على المقامات، وأكثر جمعية لتلك المشاهدات، فلا عجب
من أكمليتهم وأفضليتهم على من لم يكن له ذلك الاختصاص، ولم يكن له النظر إلى
ذلك القطب، ولا شدة الاطلاع على تلك المقامات.
وعن الثاني: بأن انحجابهم عن اسم النبوة ما كان لقصورهم عن مراتب الأنبياء،
لا في مقام الوحدة، ولا في مقام الكثرة، بل لتأخرهم عن الخاتم بالوجود الصوري
الموجب لحجبهم عن الاسم دون مقتضاه، بخلاف من عداهم من الأنبياء، لتقدم
وجودهم الصوري على الخاتم، فلم يك ثم مانع من اطلاق الاسم، لوصولهم إلى
المقامات الموجبة لهم اطلاقه، ولا يلزم من ذلك أفضليتهم على المحجوبين عن الاسم
لمانع منع من اطلاقه، لمساواتهم لهم في المقامات التي ثبتت لها الاسم لغير المحجوبين
عنه وزيادتهم عليه بالتشرف بالقطب المحمدي، فثبت لهم الأفضلية عليهم.
فان قلت: إذا كان الكل إنما شاهد ما شاهده، ووصل ما وصل إليه من المقامات
بسبب روحانية القطب المحمدي (صلى الله عليه وآله)، فتساوى الكل في ذلك، فمن أين جاء
التفضيل؟
قلت: ان الأنبياء لما كانوا في الوجود الصوري أسبق من القطب، كان أخذهم
عنه إنما هو باعتبار صورته المعنوية النورية الحاصلة في عالم العقول، من حيث أنه
عقل الكل ونفس الكل المندرج فيه اجمالا ما هو فيما تحته من العوالم مفصلا.
وأما أولياؤه، فلتأخر وجودهم الصوري عن وجوده الصوري، كان أخذهم ما
أخذوه عنه باعتبار المقامين معا، فشاركوا الأنبياء في المقام الأول، واختصوا دونهم
بالمقام الثاني الذي هو مقام التفصيل، لأنه لما نزل إلى عالم الطبيعة بالصورة الانسانية
فصل فيه ما أجمل هناك، وظهر فيه مقامات الوحي الملكي ما لم يكن ثم، لأنه هناك

400
في مقام المشاهدة الحقيقية الحاجبة عن مشاهدة عالم الأجرام، للاشتغال بما هناك
عنها.
ولهذا كان مقام الاخبار بمغيبات عالم الكون والفساد ليس هومن المقامات
العلوية، ولا من خواص أهل الله، لأنهم لعلو هممهم يتنزهون عن ذلك، لأن
مطلوبهم إنما هو المشاهدة الحقة والاستغراق في جناب القدس، وهو جناب مدهش
مشغل عما سواه، ولهذا احتاج الأنبياء في تدبير النوع الانساني إلى الوحي
المنزل (1) على أيدي الملائكة لتعريف الحوادث الكونية.
فأولياؤه عليه وعليهم السلام يشاهدون منه جميع ذلك على التفصيل، فتخلقوا
بجميع أخلاقه التي وصفها الله تعالى بالعظيم في قوله (وانك لعلى خلق عظيم) (2) والعظيم لا يقول في شئ أنه عظيم الا إذا كان في غاية ما يكون من العظمة، واقتدوا
به في جميع مسالكه الاجمالية والتفصيلية، ثم حصل لهم مع تمام النسب المعنوي
الحاصل لهم بسبب التشبه التام، والتخلق الحقيقي بجميع أخلاقه النسب الصوري
والقرب اللحمي والدموي.
فاشتركت المواد واتحدت الصور، فكانوا في الحقيقة هم هو وهو هم باعتبار
النسبتين، فصاروا بذلك أهل الجمعية التامة والمقامات العامة، فتحقق لهم مزيد
الفضل والاختصاص بالكمالات الحقيقية على من سواهم من سائر الأنبياء
والأولياء، كما تحقق له (عليه السلام) ذلك من غير فرق.
فافهم مقاماتهم الإلهية وخصائصهم النبوية، وانها مقامات عزيزة الاحكام
عزيزة المرام، فاعرفها جدا تكن عارفا بهم حق المعرفة التي وجبت عليك
بقوله (صلى الله عليه وآله): من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة جاهلية. انتهى كلامه أعلى الله



(1) النازل - خ ل.
. (2) القلم: 4.
401
مقامه.
وأورد على قوله (ان الختمية مانعة من اطلاق اسم النبي (صلى الله عليه وآله) على الأولياء من
آله (عليهم السلام)) ايرادان:
الأول: يلزم أن لا يكون قبل نبينا (صلى الله عليه وآله) ولي غير نبي، وبطلانه ظاهر.
الثاني: أن النبوة ليست عبارة عن مجرد الكمالات المخصوصة حتى يقال: إن
المسمى حاصل في الأولياء بدون اسم النبوة، بل النبوة عبارة عن دعوى حقيقة
الرسالة عن الله تعالى مع اظهار المعجزة، ولا يعتبر في الامام ذلك.
وأجيب عن الأول: بأنا لا نقول إن معنى النبي حاصل في كل ولي، كيف؟
والاستعدادات متفاوتة، وتحقق معنى النبوة إنما يقتضي حدا معينا من الاتصاف
بالكمالات، فالأولياء السابقون الذين حرموا اطلاق اسم النبوة عليهم إنما حرموا
لانحطاط درجتهم عن مرتبة معنى النبوة.
وعن الثاني: أن مفهوم النبوة ليس ما ذكر، بل مفهومه على ما في الشرح الجديد
للتجريد وغيره من الكتب الكلامية هو كون الانسان مبعوثا من الحق إلى الخلق (1).
وأيضا كلامنا في صفات النفس، وفي الكمالات التي هي معنى النبوة وحقيقته
ومبادي لاطلاقه على المتصف بها، وظاهر أن تلك الدعوى واظهار المعجزة، بل
نفس البعث إلى الخلق ليس حقيقة النبوة ولا من صفات النفس، بل هي لوازم
وعلامات لتلك الحقيقة، فالتعريف بها من باب التعريف باللازم، وإنما حقيقته
هو الحالة الكاملة التي يمكن معها تلك الدعوى والاظهار بإذن الله تعالى، وتلك
الحالة حاصلة لأئمتنا (عليهم السلام).
ولي في هذا نظر، لأن نفي النبوة عنهم (عليهم السلام) من ضروريات المذهب، وعلى ما



(1) تأمل فيه فإنه غير مطابق لما عليه الأصحاب، ولا للأخبار الواردة في هذا
الباب (منه).
402
ذكره يكون حاصلا لهم، وان منع من اطلاق الاسم، ولا يخفى ما فيه.
الحديث الثاني والثلاثين
[جوابه (عليه السلام) عن أسئلة الشاب اليهودي]
الامام الحموي في كتاب فرائد السمطين، عن أبي الطفيل (1)، قال: شهدت
جنازة أبي بكر يوم مات، وشهدت عمر يوم بويع (2)، وعلي (عليه السلام) جالس ناحية، إذ
أقبل غلام يهودي عليه ثياب حسان، وهو من ولد هارون، حتى قام على رأس
عمر، فقال: يا أمير المؤمنين أنت أعلم هذه الأمة بكتابهم وأمر نبيهم؟ قال: فطأطأ
عمر رأسه، فقال: أجبني، وأعاد عليه القول، فقال عمر: وما ذاك؟ قال: اني جئتك
مرتادا لنفسي شاكا في ديني، فقال: دونك هذا الشاب، قال: ومن هو؟ قال: هو
علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو أبو الحسن والحسين ابني
رسول الله (صلى الله عليه وآله) (3).
فأقبل اليهودي على علي (عليه السلام) فقال: أكذلك أنت؟ قال: نعم، قال: اني أريد أن
أسألك عن ثلاث وثلاث وواحدة، قال: فتبسم علي (عليه السلام) وقال: يا هاروني ما
منعك أن تقول سبعا، قال: أسألك عن ثلاث ان علمتهن سألت عما بعدهن، وان لم
تعلمهن علمت أنه ليس فيكم علم.
قال علي (عليه السلام): ألا فاني أسألك بالذي تعبد ان أنا أجبتك في كل ما تريد لتدعن
دينك ولتدخلن في ديني؟ قال: ما جئت الا لذلك، قال: فسل.



(1) هو آخر من بقي من الصحابة على ما ذكره جماعة، وكان كيسانيا واسمه عامر بن
واثلة (منه).
(2) في المصدر: حين بويع.
(3) في المصدر زيادة: وزوج فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
403
قال: فأخبرني عن أول قطرة على وجه الأرض أي قطرة هي؟ وأول عين
فاضت على وجه الأرض أي عين هي؟ وأول شئ اهتز على وجه الأرض أي
شئ هو؟ فأجابه أمير المؤمنين (عليه السلام)، قال: فأخبرني الاخر.
قال: أخبرني عن محمد (صلى الله عليه وآله) كم بعده من امام عدل؟ وفي أي جنة يكون؟ ومن
يساكنه معه في جنته؟ فقال: يا هاروني ان لمحمد (صلى الله عليه وآله) من الخلفاء اثنا عشر اماما
عدلا (1)، لا يضرهم من خذلهم، ولا يستوحشون بخلاف من خالفهم، وانهم
أرسب في الدين من الجبال الرواسي في الأرض. ومسكن محمد (صلى الله عليه وآله) في جنته مع
أولئك الاثني عشر اماما (2)، قال: صدقت والله الذي لا إله إلا هو، اني لأجدها في
كتب أبي هارون كتبه بيده وأملاه موسى بن عمران (عليه السلام).
قال: فأخبرني عن الواحدة، أخبرني عن وصي محمد كم يعيش من بعده؟ وهل
يموت أو يقتل؟ قال: يا هاروني يعيش بعده ثلاثين سنة لا يزيد يوما ولا ينقص
يوما، ثم يضرب ضربة هاهنا - يعني: قرنه - فتخضب هذه من هذا.
قال: فصاح الهاروني وقطع تسبيحه وهو يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وأنك وصيه، ينبغي أن تفوق ولا تفاق،
وأن تعظم ولا تصغر، ثم مضى به علي (عليه السلام) إلى منزله، فعلمه معالم الدين (3).
أقول: هذا الخبر صريح الدلالة على معتقد الفرقة الناجية رضوان الله عليهم،
والتقريب ما سبق.



(1) في المصدر: عادلا.
(2) في المصدر: اماما العدل.
(3) فرائد السمطين 1: 354 - 355 برقم: 280.
404
الحديث الثالث والثلاثون
[حديث البساط والتسليم على أصحاب الكهف]
الفقيه أبو الحسن علي بن محمد الخطيب الطيب الجلالي الشافعي المعروف بابن
المغازلي في مناقبه، وأبو إسحاق الثعلبي في تفسيره، باسنادهما عن أنس بن مالك،
قال: أهدي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بساط من خندف (1)، فقال لي: يا أنس أبسطه،
فبسطته، قال: ثم قال: ادع العشرة، فدعوتهم، فلما دخلوا أمرهم بالجلوس على
البساط، ودعا عليا (عليه السلام) فناجاه طويلا، ثم رجع علي (عليه السلام) فجلس على البساط،
ثم قال: يا ريح احملينا، فحملتنا الريح.
قال: فإذا البساط يدف بنا دفيفا، ثم قال: يا ريح ضعينا، فوضعتنا، ثم قال
علي (عليه السلام): أتدرون في أي مكان أنتم؟ قلنا: لا، قال: هذا موضع الكهف والرقيم
قوموا فسلموا على اخوانكم، قال أنس: فقمنا رجلا رجلا، فسلمنا عليهم، فلم
يردوا علينا السلام.
فقام علي (عليه السلام) فقال: السلام عليكم يا معشر الصديقين والشهداء، فقالوا:
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، فقال لهم: ما بالكم لم تردوا على إخواني؟
فقالوا: انا معشر الصديقين لا نكلم بعد الموت الا نبيا أو وصيا.
ثم قال: يا ريح احملينا، فحملتنا تدف بنا دفيفا، ثم قال: يا ريح ضعينا،
فوضعتنا، فإذا نحن بالحرة، قال: فقال علي (عليه السلام): ندرك النبي (صلى الله عليه وآله) بآخر ركعة (2)،
فتوضينا وأتيناه، فإذا النبي (صلى الله عليه وآله) يقرأ في آخر ركعة (أم حسبت أن أصحاب



(1) في المصدر: بهندف.
(2) لعل المراد آخر ركعة من الثنائية، أو من الأولتين، والله أعلم (منه).
405
الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا) (1) (2).
وزاد الثعلبي في هذا الحديث على ابن المغازلي، قال: فصاروا إلى رقدتهم إلى
آخر الزمان عند خروج المهدي (عليه السلام)، وقال: ان المهدي (عليه السلام) يسلم عليهم فيحييهم
الله عز وجل، ثم يرجعون إلى رقدتهم، فلا يقومون إلى يوم القيامة (3).
أقول: هذا الحديث مستفيض رواه الفريقان، وقد ذكره جماعة من أعاظم
أصحابنا قدس الله أرواحهم.
منهم: صاحب كتاب الثاقب في المناقب، وهذا لفظه عطر الله مرقده: وأما
تسخير الريح لسليمان، وهوما قال الله سبحانه وتعالى (ولسليمان الريح غدوها شهر
ورواحها شهر) (4) فان سليمان (عليه السلام) لما أراد أن يركب الريح أمر بفرش البساط،
ووضع عليه سريره، ووضع عليه الكراسي حول السرير، وجلس وزراؤه وقواده
على الكراسي حول السرير، وجلس هو فوق البساط، وأمر الريح بأن تحمل
البساط وحمل ما فوقه، وتسير غدوة مسيرة شهر، وترجع رواحا مثله.
وان الله سبحانه وتعالى أعطى أئمتنا (عليهم السلام) مثل ذلك، وهوما حدث به معمر، عن
الزهري، عن قتادة، عن أنس، قال: كنا جلوسا في المسجد عند النبي (صلى الله عليه وآله) وقد
كان أهدي إليه بساط، فقال لي، ادع علي بن أبي طالب، فدعوته، ثم أمرني أ ن
أدعو أبا بكر وعمر وجميع أصحابه، فدعوتهم كما أمرني نبي الله (صلى الله عليه وآله)، وأمرني أن
أبسط البساط، فبسطته.
ثم أقبل على علي (عليه السلام)، فأمره بالجلوس على البساط، وأمر أبا بكر وعمر وعثمان
بالجلوس مع أمير المؤمنين (عليه السلام)، فجلست مع من جلس، فلما استقر بنا المجلس



(1) الكهف: (صلى الله عليه وآله).
(2) المناقب لابن المغازلي ص 232 - 234 برقم: 280.
(3) الطرائف ص 83 - 84 عنهما.
(4) سبأ: 12.
406
أقبل (صلى الله عليه وآله) على علي (عليه السلام) وقال: يا أبا الحسن قل يا ريح الصبا احمليني والله خليفتي
عليك وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال أنس: فنادى أمير المؤمنين (عليه السلام) كما أمره النبي (صلى الله عليه وآله)، فوالذي بعث
محمدا (صلى الله عليه وآله) بالحق نبيا ما كان الا هنيئة (1) حتى صرنا في الهواء، ثم نادى: يا ريح
الصبا ضعيني، فإذا نحن في الأرض، فأقبل علي (عليه السلام) وقال: يا معاشر الناس
أتدرون أين أنتم؟ وبمن حللتم؟ فقالوا: لا.
فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): أنتم عند أصحاب الكهف والرقيم الذين كانوا من
آياتنا عجبا، فمن أحب أن يسلم على القوم فليقم، فأول من قام أبو بكر فسلم على
القوم، فلم يردوا عليه جوابا، ثم قام عمر فلم يردوا عليه جوابا (1)، إلى أن قام
أمير المؤمنين (عليه السلام) فنادى: السلام عليكم أيها الفتية أصحاب الكهف والرقيم الذين
كانوا من آياتنا عجبا، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته أيها الامام وابن
عم سيد الأنام محمد عليه وآله السلام.
فلما سمع القوم كلامهم لأمير المؤمنين (عليه السلام) قالوا: يا أبا الحسن بحق ابن عمك
محمد (صلى الله عليه وآله) سل القوم ما بالهم سلمنا عليهم فلم يردوا علينا الجواب.
فقال (عليه السلام): أيتها الفتية ما بالكم لم تردوا السلام على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
فقالوا: يا أبا الحسن قد أمرنا أن لا نسلم الا على نبي أو وصي نبي، وأنت خير
الوصيين وابن عم خير النبيين، وأنت أبو الأئمة المهتدين (3)، وزوجتك سيدة نساء
العالمين من الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين إلى جنات النعيم.
فلما استتم القوم كلامهم أمر بالجلوس على البساط، ثم نادى: يا ريح الصبا



(1) في المصدر: هنيهة.
(2) في المصدر: فلم يزالوا يقومون واحدا بعد واحد، ويسلمون ولم يردوا عليهم جوابا.
(3) في المصدر: المهديين.
407
احمليني، فإذا نحن في الهواء، ثم نادى: يا ريح الصبا ضعيني، فإذا نحن في الأرض (1)
في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد صلى ركعة واحدة، وصلينا معه تلك الركعة وما فات
بعده، وسلمنا على النبي (صلى الله عليه وآله)، فأقبل (صلى الله عليه وآله) علينا بوجهه الكريم، وقال: أتحدثني
أو أحدثك؟ فقلت: الحديث منك أحسن، فحدثني حتى كأنه كان معنا، وفي
الحديث طول (2). انتهى كلامه زيد اكرامه.
وأشار الفقيه قطب الدين سعيد بن عبد الله الراوندي - عطر الله مضجعه - في
الموازاة بين المعجزات من كتاب الخرائج والجرائح إلى هذه القصة اجمالا (3)،
والسيد الجليل ذو الكرامات والمقامات والمجاهدات رضي الدين ابن طاووس عطر
الله مرقده في كتاب الطرائف، أورد الخبر المذكور نقلا عن ابن المغازلي والثعلبي (1)،
وهاهنا مقامات:
المقام الأول
في بيان امكان ظهور خوارق العادات عنه
وعن أبنائه الطاهرين: وبيان سببه
قال العالم الرباني والعارف الصمداني كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني
في أوائل شرح النهج: واجب على من أهله الله سبحانه لاستشراق أنواره إذا سمع أن
وليا من الأولياء أتى بفعل ليس في وسع غيره من أبناء نوعه الاتيان بمثله،



(1) هنا زيادة سقطت من الأصل.
(2) الثاقب في المناقب ص 172 - 175 للفقيه الجليل عماد الدين أبي جعفر محمد بن علي
الطوسي المعروف بابن حمزة صاحب الوسيلة من أعلام القرن السادس الهجري.
(3) الخرائج والجرائح 1: 210.
(4) الطرائف ص 83 - 84.
408
كالامساك عن الطعام المدة المديدة التي ليست في وسع أبناء نوعه، وكالتحريك
أو الحركة (1) الخارجة عن وسع مثله، كما يشاهد من طوفانات تقع باستدعائهم
وزلازل واستنزال عقوبات، وخسف بقوم حق عليهم القول، واستشفاء المرضى،
واستسقاء العطشى، وخشوع (2) عجم الحيوانات وغيرها، أن لا يبادر إلى
التكذيب، فإنه عند الاعتبار يجد تلك الأمور ممكنة في الطبيعة.
أما الامساك عن القوت، فتأمل امكانه فينا بل وجوده عند عروض عوارض
غريبة لنا: إما بدنية كالأمراض الحادة، وإما نفسانية كالخوف والغم.
وسبب الامساك في حال المرضى. أما في الأمراض البدنية، فان القوى الطبيعية
تشتغل بهضم المواد الرديئة عن تحريك المواد المحمودة، فتجد المواد المحمودة حينئذ،
محفوظة قليلة التحلل، غنية عن طلب البدل لما يتحلل، فربما انقطع الغذاء عن
صاحبها مدة لو انقطع مثله عنه في غير حالته تلك عشر تلك المدة هلك، وهو مع
ذلك محفوظ الحياة.
وأما النفسانية، فإنه قد يعرض بعروض الخوف للخائف سقوط الشهوة، وفساد
الهضم، والعجز عن الأفعال الطبيعية التي كان متمكنا منها قبل الخوف، لوقوف
القوى الطبيعية عن أفعالها بسبب اشتغال النفس بما أهمها عن الالتفات إلى تدبير
البدن.
وإذا عرفت امكان ذلك بسبب العوارض الغريبة، فاعلم أن تحققه في حق
العارف هو توجه نفسه بالكلية إلى عالم القدس، المستلزم لتشييع القوى البدنية لها،
وذلك أن النفس المطمئنة إذا راضت القوى البدنية، انجذبت القوى خلفها في مهماتها
التي تنزعج إليها، واشتداد ذلك الانجذاب لشدة ذلك الجذب.



(1) في المصدر: وكالتحريك على الحركة.
(2) وفي المصدر: وخضوع.
409
فإذا اشتد الاشتغال عن الجهة المولى عنها، وقفت الأفعال الطبيعية المتعلقة
بالقوى النباتية، فلم يكن من التحليل الا دون ما يكون في حال المرض،
لاختصاص المرض في بعض الصور بما يقتضي الاحتياج إلى الغذاء، كتحلل
رطوبات البدن بسبب عروض الحرارة الغريبة المسماة بسوء المزاج الحار، لأن
الغذاء إنما يكون لسد بدل ما يتحلل من تلك الرطوبات، وشدة الحاجة إلى الغذاء
إنما يكون بحسب كثرة التحلل، وكقصور القوى البدنية بسبب المرض المضاد لها.
وإنما الحاجة إلى حفظ تلك الرطوبات لحفظ تلك القوى، إذ كانت مادة الحرارة
الغريزية المقتضية لتعادل الأركان التي لا تقوم تلك القوى الا معه، وشدة الحاجة
إلى ما يحفظ تلك القوى إنما هي بحسب شدة فتورها.
وأما العرفان، فإنه مختص بأمر يوجب الاستغناء عن الغذاء، وهو سكون البدن
عند اعراض القوى البدنية عن أفعالها حال متبايعتها للنفس، وانجذابها خلفها حال
توجهها إلى الجناب المقدس، وتطعمها بلذة معارفة الحق، واليه الإشارة بقوله (عليه السلام):
اني لست كأحدكم أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني.
وإذا عرفت ذلك ظهر أن المرض وان اقتضى الامساك الخارق للعادة الا أن
العرفان بذلك الاقتضاء أولى.
وأما القدرة على الحركة التي تخرج عن وسع مثله، فهي أيضا ممكنة.
وبيانها: انك علمت أن مبدأ القوى البدنية هو الروح الحيواني، فالعوارض
الغريبة التي تعترض للانسان تارة يقتضي انقباض الروح بحركة إلى داخل،
كالخوف والحزن، وذلك يقتضي انحطاط القوى وسقوطها، وتارة يقتضي حركته إلى
خارج كالغضب، أو انبساطا معتدلا كالفرح المطرب والانتشار المعتدل، وذلك
يقتضي ازدياد القوة ونشاطها.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أنه لما كان فرح العارف ببهجة الحق أتم وأعظم من فرح
من عداه بما عداه، وكانت الغواشي التي تغشاه وتحركه اعتزازا بالحق وحمية ربانية

410
أعظم مما يعرض لغيره، لا جرم كان اقتداره على حركة غير مقدورة لغيره أمكن.
وأما السبب في الأمور الباقية، فهو أنه قد ثبت في غير هذا الموضع أن تعلق
النفس بالبدن ليس تعلق انطباع فيه، وإنما هو على وجه أنها مدبرة له مع تجردها (ثم إن الهيئات النفسانية قد تكون مبادي لحدوث الحوادث.
وبيانه: أما أولا، فلأنك تشاهد انسانا يمشي على جذع ممدود على الأرض،
ويتصرف عليه كيف شاء، ولو عرض ذلك الجذع بعينه على جدار عال لوجدته عند
المشي عليه راجفا متزلزلا يواعده وهمه بالسقوط مرة بعد أخرى، لتصوره وانفعال
يزله عن وهمه حتى ربما سقط.
وأما ثانيا، فلأن الأمزجة تتغير عن العوارض النفسانية كثيرا، كالغضب
والخوف والحزن والفرح وغير ذلك، وهو ضروري.
وأما ثالثا، فلأن توهم المرض أو الصحة قد يوجب ذلك، وهو أيضا ضروري.
إذا عرفت ذلك فنقول: انه لما كانت الأمزجة قابلة لهذه الانفعالات عن هذه
الأحوال النفسانية، فلا مانع أن يكون لبعض النفوس خاصة لأجلها يتمكن من
التصرف في عنصر هذا العالم، بحيث تكون نسبتها إلى كلية العناصر كنسبة أنفسنا
إلى أبدانها، فيكون لها حينئذ تأثير في اعداد المواد العنصرية لأن يفاض عليها
صور الأمور الغريبة التي تخرج عن وسع مثلها.
فإذا انضمت إلى ذلك الرياضات، فانكسرت سورة الشهوة والغضب، وبقيتا
أسيرتين في يد القوة العاقلة، فلا شك أنها حينئذ تكون أقوى على تلك الأفعال،
وتلك الخاصية: إما بحسب المزاج الأصلي، أو بحسب مزاج طار غير مكتسب،
أو بحسب الكسب والاجتهاد في الرياضة وتصفية النفس.
والذي يكون بحسب المزاج الأصلي، فذوا المعجزات من الأنبياء، أو الكرامات



(1) لنا في تجرد النفس كلام ليس هذا مظنه (منه).
411
من الأولياء، فان انضم إليها الاجتهاد في الرياضة بلغت الغاية القصوى في ذلك
الكمال.
وقد يغلب على مزاج من له هذه الخاصية أن يستعملها في طرف الشر وفي الأمور
الخبيثة، ولا يزكي نفسه كالساحر، فيمنعه خبثه عن الترقي إلى درجة الكمال (1).
هذا كلامه زيد اكرامه.
ثم قال العالم الرباني ميثم البحراني أيضا في شرح النهج: اعلم أن الشرط الأول
للنبوة أن يكون الشخص مأمورا من السماء باصلاح النوع (2)، ثم من لواحق مرتبة
الأنبياء أمور:
الأول: أن يستغنوا في أكثر علومهم من معلم بشري، بل يحصل لهم بحسب
قواهم الحدسية الشريفة البالغة، وشدة اتصال نفوسهم بالحق سبحانه.
الثاني: أن يكون هيولي العالم طوعا لما أرادوا من الأمور العجيبة الخارقة للعادة،
كالخسف والتحريكات والتسكينات.
الثالث: أن يتمكنوا من الاخبار عن المغيبات والأمور الجزئية الواقعة، إما في



(1) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 1: 85 - 87.
(2) في كلام الشيخ المقتول: ان النبوة كمال النفس الانسانية بالاطلاع على الحقائق و
التحلي بالملكات الفاضلة، والتأييد من عالم النور، بحيث يتخصص بأفعال يعجز عنه بنو
النوع، ويكون مأمورا من الملأ الأعلى بتكميل النوع، والقيد الأخير مخصوص بالأنبياء و
لا يوجد في غيرهم.
وأما سائر القيود، كخوارق العادات والاطلاع على الحقائق، فيعمهم وغيرهم،
كالأولياء والحكماء المتألهين، بل قد يكون بعض الأولياء أكثر اطلاعا على بعض الحقائق
من بعض الأنبياء، فان كثيرا من محققي علماء هذه الأمة ربما ترجحوا في الحقائق على بعض
أنبياء بني إسرائيل، واحتياج موسى (عليه السلام) إلى خضر يشهد في ظاهر الحال على ذلك، و
أيضا استفادة داود من لقمان مشهور وفي الكتب مسطور. نقله عنه العلامة جلال الدين
الدواني في شرح الهياكل، وفيه نظر (منه).
412
الماضي، أوفي المستقبل.
والشرط الأول هو العمدة في تمييز درجة الأنبياء عن غيرهم، ولا شك أن
اختصاصهم به إنما هو لشدة اتصالهم، فاذن هم أشد اتصالا بالمبدأ الأول، وأكمل
قوة من غيرهم، وكذلك اختلاف مراتبهم عائد أيضا إلى تفاوت نفوسهم في قربها
من المبدأ واتصالها به. وأما باقي الخصال، فقد يشاركهم فيها الأولياء وتجتمع فيهم،
والى هذا المعنى أشار النبي (صلى الله عليه وآله) بقوله: علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل.
وكأن التفاوت بين المعجزة والكرامة إنما يرجع إلى أن الخصال المذكورة ان
صدرت عمن له الشرط الأول سميناها معجزا، وان صدرت عن غيرهم كانت في
حقه كرامة (1) انتهى.
أقول: فيه نظر، أما أولا فلأن قوله (ولا شك أن اختصاصهم به إنما هو لشدة
اتصالهم، فاذن هم أشد اتصالا بالمبدأ الأول) على اطلاقه غير صحيح، لأن
أئمتنا (عليهم السلام) أشد اتصالا وأكمل قوة، فما ذكره إنما يطابق مذاق المخالفين.
وأما ثانيا، فلأن المعجز عندنا هو الخارق للعادة المطابق للدعوى المقرون
بالتحدي، سواء صدر عن نبي أو خليفته، وما ذكره إنما يتجه على مذاق القوم أيضا،
وهو منه عجيب، وكرامات الأولياء جائزة عندنا وواقعة (2)، خلافا لأكثر المعتزلة
والأستاذ أبي إسحاق والحليمي من الأشاعرة، وقصة مريم وقصة آصف وأصحاب
الكهف شواهد بذلك، وتعلق الخصم بعدم تمييزها عن المعجزة، فلا تكون المعجزة
دالة على النبوة، ضعيف جدا، لأنها تتميز بالتحدي مع ادعاء النبوة، وتحرير المسألة
في علم الكلام.



(1) شرح نهج البلاغة للبحراني 1: 87 - 88.
(2) وقد بسطنا الكلام في ذلك في حواشينا على شرح الباب (منه).
413
المقام الثاني
ما يستفاد من حديث البساط
من تأمل بعين البصيرة وتخلص عن رق التقليد للاسلاف وتحرى سلوك محجة
الحق وجادة الانصاف، علم أنه ليس الغرض من هذه الواقعة الا النص على مولانا
أمير المؤمنين (عليه السلام) بالإمامة والوصية، والتسجيل على الطواغيت المتلصصين وقطع
عرق تعلقاتهم، وليعلموا أن وصيته وامامته مما لا يحوم حولهما شك، ولا يعتريهما
ريب، حيث أخبر بهما الصديقون من الأمم السالفة.
ولتنحسم مادة التهم التي تتسارع إلى بصائرهم الضعيفة من أنه (صلى الله عليه وآله) إنما فضله
عليهم وحباه بالإمامة والوصية دونهم لقربه منه محاباة، لا بأمر الحق عز شأنه،
وليشاهدوا ما خص به من الكرامات الإلهية والمقامات السبحانية، والدرجات
الباسقة التي لا تنالها أيدي الآمال، وتلوث ذيولها بكدورات أهل الضلال، وقد
تضمن من كرامته (صلى الله عليه وآله) أنحاء.
منها: تسخير الرياح له كسليمان (عليهما السلام).
ومنها: سرعة سيرها بهم حتى أدركوا الصلاة مع النبي (صلى الله عليه وآله)، وهذا مما لم يتفق
لغيره (عليه السلام).
ومنها: تكليمه الفتية أهل الكهف ومخاطبتهم إياه.
ومنها: شهادتهم له بالوصية، حيث قالوا: انا معشر الصديقين والشهداء لا نكلم
بعد الموت الا نبيا أو وصيا.
ومنها: اخباره (عليه السلام) بالغيب حين أخبر أنهم يدركون النبي (صلى الله عليه وآله) في آخر ركعة.
والعجب من الطواغيت المتلصصة والشياطين المتمردة حيث شاهدوا هذه
النصوص الجلية، وعاينوا هذه الكرامات السنية والمقامات العلية، فقابلوها

414
بالجحود والانكار والعتو والاستكبار، ولم تفدهم تلك الآيات الباهرة الا زيادة
الكفر والنفاق، ولم تعطهم تلك البراهين القاهرة الا محض اللجاج والشقاق.
الحديث الرابع والثلاثون
[في تحسر النبي (صلى الله عليه وآله) من عدم متابعة
أصحابه لوصاية علي (عليه السلام)]
الامام الحموي في كتاب فرائد السمطين، عن جابر بن عبد الرحمن بن
عوف (1)، عن عبد الله بن مسعود، قال: كنت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد أصحر (2)
فتنفس الصعداء، فقلت: يا رسول الله مالك قد تنفست؟ قال: يا بن مسعود نعيت
إلي نفسي، فقلت: استخلف يا رسول الله، قال: من؟ قلت: أبا بكر، فسكت.
ثم تنفس، فقلت: مالي أراك تتنفس يا رسول الله؟ قال: نعيت إلي نفسي، قلت:
استخلف يا رسول الله، قال: من؟ قلت: عمر بن الخطاب، فسكت.
ثم تنفس، فقلت: مالي أراك تتنفس يا رسول الله؟ قال: نعيت إلي نفسي، قلت:
استخلف، قال: من؟ قلت: علي بن أبي طالب، قال: أوه ولن تفعلوا إذا أبدا، والله
لئن فعلتموه ليدخلنكم الجنة (3).
أقول: تأمل أرشدك الله بعين البصيرة في هذا الخبر المروي من طرقهم تجد فيه
شفاء العليل، والهداية إلى سواء السبيل، فإنه يدل على أمور:
منها: عدم لياقة اللصوص الثلاثة للخلافة، ألا تراه (صلى الله عليه وآله) كيف سكت لما ذكر
الجبتين وعاد إلى التنفس الناشي عن الشفقة على الأمة والامتحان لما يعلم مكابدتهم



(1) في المصدر: عن ميناء مولى عبد الرحمن بن عوف.
(2) في المصدر: أضجر.
(3) فرائد السمطين 1: 267 - 268 برقم: 209.
415
له من الأهوال بعده.
ولما ذكر له عليا (عليه السلام) تأوه لعلمه بأنهم لا يطيعونه ولا ينقادون له، وأكد ذلك
بقوله (ولن تفعلوا إذا أبدا) وبالغ في التأكيد والترغيب بقوله (والله لئن فعلتموه
ليدخلنكم الجنة) تسجيلا عليهم وتفريعا وحسما لمواد التعليقات الفاسدة والأعذار
الواهية.
ومنها: سلوكه (صلى الله عليه وآله) مسلك التقية، حيث لم يصرح بعدم صلوح الجبتين للخلافة
الحقيقية والرسالة الدينية والدنيوية، بل أعرض عن ذلك وأشعره به بتأوه ثالثا عند
ذكره عليا (عليه السلام).
والسر في ذلك أنه (صلى الله عليه وآله) كرر النص عليه (عليه السلام) بالإمامة والوصية على وجه لا
يقبل التأويل، وبين الصريح من الرغوة في مواضع متعددة ومجالس متبددة، تارة
بالوصف، وأخرى بالتسمية، وثالثة بالتعريض، وآونة (1) بالتصريح، وطورا
بالخطابة والترغيب، وطورا بالوعظ والترهيب.
ويجدهم مع ذلك لا يفيدهم ذلك التكرير الا نبض عروق الحسد والعناد،
واستحكام أسباب الفتنة والفساد، حتى كأن نصه (صلى الله عليه وآله) ليس حجة قاطعة للعذر
عندهم، ولا مدركا منتجا لسكون النفس واطمئنان القلب لديهم، كما يعلم من تتبع
سيرهم وأخبارهم، فلا جرم كان الأحرى حينئذ سلوك مسلك المجارات وارخاء
العنان، كما لا يخفى على ذوي الأذهان.
ومنها: أن ترك بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) والخروج عن ربقة طاعته ناش عن فرط
العصبية والعناد، وشدة العداوة وعدم التقيد بقيود الشرع، كما يدل عليه الحديث
بالفحوى، ويشهد به تأوهه (صلى الله عليه وآله) أخيرا، وقوله (ولن تفعلوه إذا أبدا) تقريعا لهم
وتهجينا وتسجيلا عليهم في ذلك وتقبيحا.



(1) جمع أوان (منه).
416
ومن العجب أن ابن مسعود مع روايته هذا الخبر ونحوه من الأخبار الناطقة
بإمامته (عليه السلام) التي أودعناها رسالتنا الموسومة بشهادة الأعداء لسيد الأولياء، والى
اللصوص المتمردة والطواغيت الثلاثة، واعتقد امامتهم وتولى من قبلهم الأعمال،
كما هو مذكور في التواريخ والسير.
وذكر أبو عمر والكشي رضي الله عنه في كتاب الرجال أنه سئل الفضل بن شاذان عن ابن
مسعود وحذيفة، فقال: لم يكن حذيفة كابن مسعود، لأن حذيفة كان زكيا، وابن
مسعود خلط ووالى القوم ومال معهم وقال بهم (1).
الحديث الخامس والثلاثون
[في حديث رد الشمس للإمام علي (عليه السلام)]
الفقيه ابن المغازلي الشافعي في كتاب المناقب، باسناده أن النبي (صلى الله عليه وآله) كان يوحى
إليه ورأسه في حجر علي (عليه السلام)، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللهم ان عليا كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس،
فرأيتها غربت ثم رأيتها طلعت بعد ما غابت (2).
وروى ابن المغازلي أيضا في المناقب مثله عن أبي رافع، قال: فردت الشمس
على علي (عليه السلام) بعد ما غابت حتى رجعت لصلاة العصر في الوقت، فقام علي (عليه السلام)
يصلي العصر، فلما قضى صلاة العصر غابت الشمس وإذا النجوم مشتبكة (3).
أقول: هذا الخبر مستفيض (4)، وقد أورده غير واحد من فحول الناصبة، منهم



(1) اختيار معرفة الرجال 1: 178 - 179 برقم: 78.
(2) المناقب لابن المغازلي ص 96 برقم: 140.
(3) المناقب لابن المغازلي ص 98 برقم: 141.
(4) راجع إحقاق الحق 5: 29 و 31 و 521 - 539 و 16: 315 - 331 و 21:
261 - 271.
417
الفقيه المذكور.
وروى الحموي في كتابه فرائد السمطين عن علي بن الحسين بن الحسن، عن
فاطمة بنت علي، عن أسماء بنت عميس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان رأسه في حجر
علي (عليه السلام)، فكره أن يحركه حتى غابت الشمس ولم يصل العصر، ففرغ
رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذكر علي (عليه السلام) أنه لم يصل العصر، فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يرد
عليه الشمس، فأقبلت الشمس ولها خوار حتى ارتفعت على قدر ما كانت وقت
العصر، قالت: فصلى ثم رجعت (1).
وأورده الأستاذ أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك في كتاب الفصول من تعليق
الأصول في عداد معجزات النبي (صلى الله عليه وآله) عن أسماء بنت عميس (2).
وأورده ابن حجر في الصواعق المحرقة، فقال: ومن كراماته الباهرة أن الشمس
ردت عليه لما كان رأس النبي (صلى الله عليه وآله) في حجره والوحي ينزل عليه وعلي لم يصل
العصر فما سرى عنه (صلى الله عليه وآله) الا وقد غربت الشمس، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): اللهم انه كان
في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس، فطلعت بعد ما غربت.
ثم قال: وحديث ردها صححه الطحاوي والقاضي (3) في الشفا، وحسنه شيخ
الاسلام أبو زرعة، وتبعه غيره وردوا على الذين قالوا إنه موضوع (4) انتهى.
قلت: وأشار إلى ذلك أيضا الشيخ تاج الدين (5) عبد الحميد بن أبي الحديد
المدائني في بعض قصائده التي في مدائحه (عليه السلام) بقوله:



(1) فرائد السمطين 1: 183 برقم: 146.
(2) لم أعثر على هذا الكتاب.
(3) المراد به القاضي عياض (منه).
(4) الصواعق المحرقة ص 76 ط الميمنية بمصر.
(5) عز الدين - خ ل.
418
امام هدى بالقرص آثر فاقتضى * له القرص رد القرص أبيض أزهرا
وروى أصحابنا أن الشمس ردت له مرتين: مرة في حياة الرسول (صلى الله عليه وآله) (1)،
ومرة بعد وفاته.
قال الصدوق عمدة الاسلام ورئيس المحدثين أبو جعفر محمد بن علي بن بابويه
قدس الله روحه في كتاب من لا يحضره الفقيه بعد نقل الرواية في رد الشمس لسليمان
بن داود ويوشع بن نون وصي موسى (عليه السلام) ما هذا لفظه: فقال النبي (صلى الله عليه وآله): يكون في
هذه الأمة كلما كان في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة (5)، وقال الله
عز وجل (سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا) (1) وقال
عز وجل (ولا تجد لسنتنا تحويلا) (4).
فجرت هذه السنة في رد الشمس على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)
مرتين: مرة في أيام رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومرة بعد وفاته (صلى الله عليه وآله).
أما في أيامه (صلى الله عليه وآله)، فروي عن أسماء بنت عميس أنها قالت: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله)



(1) وروى القصة الأولى الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري في قرب الإسناد
(ص 175) عن محمد بن عبد الحميد عن أبي جميلة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: صلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) العصر، فجاء علي (عليه السلام) ولم يكن صلاها، فأوحى الله عز وجل إلى رسول
الله (صلى الله عليه وآله) عند ذلك، فوضع رأسه في حجر علي (عليه السلام)، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن حجره حين
قام وقد غربت الشمس، فقال: يا علي أما صليت العصر؟ فقال: لا يا رسول الله، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله) اللهم ان عليا كان في طاعتك فاردد عليه الشمس، فردت عليه الشمس
عند ذلك.
وهي كما ترى - كما في الفقيه - خالية عن صلاته (عليه السلام) بالايماء، بل ظاهرهما وصريحهما
خلافه (منه).
(2) القذة بالضم ريش السهم جمع قذاذ - القاموس.
(3) الفتح: 23.
(4) الاسراء: 77.
419
نائم ذات يوم ورأسه في حجر علي (عليه السلام)، ففاتته العصر حتى غابت الشمس، فقال:
اللهم ان عليا كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس، قالت أسماء:
فرأيتها والله غربت ثم طلعت بعد ما غربت، ولم يبق جبل ولا أرض الا طلعت
عليه، حتى قام علي (عليه السلام) فتوضأ وصلى ثم غربت.
وأما بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنه روي عن جويرية بن مسهر أنه قال: أقبلنا مع
أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) من قتل الخوارج حتى إذا قطعنا في أرض بابل
حضرت الصلاة (1)، فنزل أمير المؤمنين (عليه السلام) ونزل الناس، فقال (عليه السلام): أيها الناس
ان هذه أرض ملعونة قد عذبت في الأرض ثلاث مرات - وفي خبر آخر: مرتين
وهي تتوقع الثالثة - وهي احدى المؤتفكات (2)، وهي أول أرض عبد فيها الوثن،
وانه لا يحل لنبي ولا وصي نبي أن يصلي فيها، فمن أراد منكم أن يصلي فليصل، فمال
الناس عن جنبي الطريق وركب هو بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومضى.
قال جويرية قلت: والله لأتبعن أمير المؤمنين (عليه السلام) ولأقلدنه صلاتي اليوم،
فمضيت خلفه، فوالله ما جزنا جسر سوراء حتى غابت الشمس، فشككت، فالتفت
إلي وقال: يا جويرية أشككت؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فنزل (عليه السلام) عن ناحيته
فتوضأ ثم قام، فنطق بكلام لا أحسنه الا كأنه بالعبراني، ثم نادى الصلاة، فنظرت
والله إلى الشمس وقد خرجت من بين جبلين لها صرير: فصلى العصر وصليت معه.
فلما فرغنا من صلاتنا عاد الليل كما كان، فالتفت إلي وقال: يا جويرية بن
مسهر ان الله عز وجل يقول: (فسبح باسم ربك العظيم) واني سألت الله عز وجل



(1) في الفقيه: صلاة العصر.
(2) المؤتفكات مدائن قوم لوط أهلكها الله بالخسف وقلبها عليهم من الإفك، وهو
القلب، قاله الطبرسي. وقال ابن الأثير: في حديث (البصرة احدى المؤتفكات) يعني انها
غرقت مرتين، فشبه غرقها بانقلابها (منه).
420
باسمه العظيم فرد علي الشمس (1).
وروى عطر الله مرقده في علل الشرائع والأحكام، باسناده عن عمارة بن
مهاجر، عن أم جعفر وأم محمد ابنتي محمد بن جعفر، عن أسماء بنت عميس وهي
جدتهما، قالت: خرجت مع جدتي أسماء بنت عميس وعمي عبد الله بن جعفر حتى
إذا كنا بالصهباء، قالت: كنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) في هذا المكان، فصلى
رسول الله (صلى الله عليه وآله) الظهر، ثم دعا عليا فاستعان في بعض حاجاته (2)، ثم جاءت العصر
فقام النبي (صلى الله عليه وآله) فصلى العصر، فجاء علي (عليه السلام) فقعد إلى جنب رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فأوحى الله عز وجل إلى نبيه (صلى الله عليه وآله)، فوضع رأسه في حجر علي (عليه السلام) حتى غابت
الشمس لا يرى شئ منها لا على الأرض ولا على الجبل، ثم جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله)
فقال لعلي (عليه السلام) هل صليت العصر؟ فقال: يا رسول الله أنبئت أنك لم تصل فلما
وضعت رأسك في حجري لم أكن لأحركه، فقال: اللهم ان هذا عبدك علي احتبس
نفسه على نبيك، فرد عليه شرقها، فطلعت الشمس، فلم يبق جبل ولا أرض الا
طلعت عليه الشمس، ثم قام علي (عليه السلام) وصلى ثم انكسفت (3).
وروى أيضا عطر الله مرقده في الكتاب المذكور، باسناده عن أم المقدام الثقفية،
قالت: قال لي جويرية بن مسهرة: قطعنا مع أمير المؤمنين (عليه السلام) جسر الفرات في
وقت العصر، فقال: هذه أرض معذبة لا ينبغي لنبي ولا وصي نبي أن يصلي فيها،
فمن أراد منكم أن يصلي فيها فليصل.
فتفرق الناس يمنة ويسرة يصلون، فقلت: والله لأقلدن هذا الرجل صلاتي اليوم
ولا أصلي حتى يصلي، فسرنا وجعلت الشمس تسفل، وجعل يدخلني أمر عظيم



(1) من لا يحضره الفقيه 1: 202 - 204. ثم قال الصدوق: وروي ان جويرية لما رأى
ذلك قال، وصي نبي ورب الكعبة.
(2) في العلل: حاجته.
(3) علل الشرائع ص 351 - 352 ح 3.
421
حتى وجبت الشمس وقطعنا الأرض، فقال: يا جويرية أذن، فقلت: تقول أذن
وقد غابت الشمس، فقال لي: أذن، فأذنت، ثم قال لي أقم فأقمت.
فلما قلت قد قامت الصلاة رأيت شفتيه يتحركان، وسمعت كلاما كأنه كلام
العبرانية، فارتفعت الشمس حتى صارت في مثل وقتها في العصر، فصلى، فلما
انصرفنا هوت إلى مكانها، فاشتبكت النجوم، فقلت: أنا أشهد أنك وصي
رسول الله (صلى الله عليه وآله): فقال: يا جويرية أما سمعت الله عز وجل يقول: فسبح باسم ربك
العظيم، فردها علي (1).
وذكر الشيخ أبو عبد الله المفيد في ارشاده، والطبرسي في أعلام الورى، وفي
منهاج الكرامة للعلامة الحلي قدس الله أسرارهم: روى جابر وأبو سعيد الخدري أن
رسول الله (صلى الله عليه وآله) نزل عليه جبرئيل يوما يناجيه من عند الله تعالى.
فلما تغشاه الوحي توسد فخذ أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلم يرفع رأسه إلى أن غابت
الشمس، وصلى علي (عليه السلام) بالايماء، فلما استيقظ النبي (صلى الله عليه وآله) قال له: سل الله تعالى
يرد عليك الشمس لتصلي العصر قائما، فدعا علي (عليه السلام) فردت الشمس وصلى
العصر قائما (2).
قلت: ولم أظفر بما يدل على أنه (عليه السلام) صلى بالايماء سوى هذا الخبر، وهو أنسب
وأوفق لكمال عصمته (عليه السلام).
وممن روى القضيتين معا الوزير السعيد بهاء الدين علي بن عيسى الأربلي في
كتاب كشف الغمة (3) (4).



(1) علل الشرائع ص 352 - 353 ح 4.
(2) الارشاد للشيخ المفيد 1: 345 - 346، أعلام الورى ص 180 - 181.
(3) كشف الغمة 1: 282 ط قم.
(4) وروى ابن أبي جمهور الأحسائي في المجلي (ص 399) القضيتين أيضا، الأولى كما في
منهاج الكرامة. والثانية على نمط غريب، وهذه عبارته: والثانية في زمان خلافته في
رجوعه من حرب صفين، فمر بأرض بابل وقت صلاة العصر، فقيل: ألا تصلي هاهنا صلاة
العصر؟ فقال: ان هذا أرض خسف وسخط لم يصل فيها نبي ولا ولي، واشتغل أصحابه
بتعبير العسكر، وعبر (عليه السلام) أول الناس إلى جانب الاخر، فصلى العصر وحده، وفات أكثر
الناس الصلاة معه لاشتغالهم بالعبور، فلم يفرغوا حتى غربت الشمس واشتبكت النجوم.
فكثر كلام الجيش في أمر صلاة العصر، حتى قال بعضهم: ان عليا لم يصل العصر،
فقال (عليه السلام): أتحبون أن تصلوا العصر في وقتها؟ فقالوا: نعم، فقال لمؤذنه: يا جويرية أذن
للعصر، فقال جويرية في نفسه، ثكلتك أمك يا جويرية أتأذن للعصر وقد اشتبكت
النجوم، فقال علي (عليه السلام): أذن للعصر يا جويرية، فأذن.
فما فرغ من أذانه حتى رجعت الشمس إلى موضعها في الفلك بيضاء، فقام (عليه السلام) فصلى
بأصحابه صلاة العصر حتى فرغ وهوت الشمس وهوى الكوكب المسرع، فهال الناس
ذلك وسمعوا لها عند غروبها صريرا كصرير المنشار انتهى.
ولم أجدها مطابقة في كتب أصحابنا التي وقعت إلي (منه).
422
وروى الصدوق - عطر الله مرقده - في علل الشرائع والأحكام قصة ثالثة في
ارتداد الشمس له (عليه السلام)، فإنه روى فيه باسناده عن محمد بن أبي عمير، عن حنان،
قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما العلة في ترك أمير المؤمنين (عليه السلام) لصلاة العصر
وهو يجب له أن يجمع بين الظهر والعصر فأخرها؟
قال: انه لما صلى الظهر التفت إلى جمجمة ملقاة، فكلمها أمير المؤمنين (عليه السلام)،
فقال: أيتها الجمجمة من أين أنت؟ فقالت: أنا فلان بن فلان ملك بلاد فلان، قال
لها أمير المؤمنين (صلى الله عليه وآله): قص علي الخبر وما كنت وما كان عصرك؟
فأقبلت الجمجمة تقص من خبرها وما كان في عصرها من خير وشر، فاشتغل
بها حتى غابت الشمس، فكلمها بثلاثة أحرف من الإنجيل لئلا تفقه العرب كلامها.
فلما فرغ من حكاية الجمجمة قال للشمس: ارجعي، قالت: لا أرجع وقد
أفلت، فدعا الله عز وجل، فبعث إليها سبعين ألف ملك معهم سبعون ألف سلسلة
حديد، فجعلوها في رقبتها وسحبوها على وجهها حتى عادت بيضاء نقية حتى

423
صلى (عليه السلام)، ثم هوت كهوي الكوكب، فهذه العلة في تأخير العصر (1).
وبالجملة فارتداد الشمس له (عليه السلام) وطلوعها بعد غيبتها أمر مشهور بين المسلمين،
بل هو في الحقيقة منتظم (2) في سلك المتواترات، وهو يدل على عظم عناية الله به،
وجلالة شأنه لديه، وفيضان ألطافه عليه، وفي ذلك يقول السيد الحميري، واسمه
إسماعيل بن محمد:
ردت عليه الشمس لما فاته * وقت الصلاة وقد دنت للمغرب
حتى تبلج نورها في وقتها * للعصر ثم هوت هوي الكوكب
وعليه قد ردت ببابل مرة * أخرى وما ردت لخلق معرب
الا ليوشع أوله من بعده * ولردها تأويل أمر معجب (3)
ونعم ما قال الصاحب الجليل والوزير النبيل كافي الكفاة إسماعيل بن عباد في هذا
المعنى:
كان النبي مدينة العلم التي * حوت الكمال وكنت أفضل باب
ردت عليك الشمس وهي فضيلة * ظهرت فلم تستر بلف نقاب
لم أحك الا ما روته نواصب * عادتك وهي مباحة الأسباب
ارشاد ورفع استبعاد:
اعلم أن كثيرا من المخذولين من النواصب استبعدوا هذه القصة وادعوا أنها
موضوعة استبعادا منهم لارتداد الشمس بعد غيبتها، وربما ادعى استحالته بعضهم،
وأنت تعلم أن دفع تلك الأخبار المستفيضة بل المتواترة بالتحكم المحض والاستبعاد



(1) علل الشرائع ص 351 ح 1.
(2) في (س): منظوم.
(3) كشف الغمة 1: 282 - 283.
424
الصرف، مما لا يقدم عليه ذو مسكة.
بل الظاهر أن ذلك الدفع والاستبعاد إنما صدر منهم عن نصب غريزي له (عليه السلام)
وتعصب طبيعي، كما هو ديدن أولئك الأقوام، والا فمن المعلوم المستبين عند من له
أدنى مسكة أن ذلك أمر ممكن عقلا من طرق كثيرة:
منها: أن تخلق الشمس في الموضع الذي أعادها إليه ابتداء، أو يهبط بعض
الأرض فتظهر الشمس، أو يخلق مثل الشمس في صورتها، ويحصل حكمها في صلاة
علي (عليه السلام) كحكم تلك الشمس، ويكون ذلك من خواصه، كما ذكره السيد الجليل
جمال العارفين وقدوة الناسكين ذو الكرامات والمقامات رضي الدين ابن طاووس
قدس الله روحه في الطرائف (1).
قلت: ولا مانع من الرد الحقيقي، فإنه أمر ممكن لا مانع منه.
وقال بعض الأفاضل: يجوز أن تكون تلك الشمس شمس عالم المثال (2)، وهو
عالم واسع الدائرة، ومنه تنشأ خوارق العادات، كما يحكى عن بعض الأولياء انه مع
اقامته ببلده كان من حاضري المسجد الحرام أيام الحج، وانه ظهر من بعض



(1) الطرائف ص 84.
(2) عالم المثال قد أثبته جماعة من الحكماء والصوفية، قالوا: وهو واسطة بين عالم
المجردات وعالم الماديات ليس في تلك اللطافة ولا في هذه الكثافة.
وقد نسب العلامة الشيرازي في شرح حكمة الاشراق القول بوجود هذا العالم إلى
الأنبياء والأولياء والمتألهين من الحكماء.
قال شيخنا البهائي رحمه الله: انه وان لم يقم على وجوده شئ من البراهين العقلية، لكنه قد
تأيد بالظواهر العقلية، وعرفه المتألهون بمجاهداتهم الذوقية، وتحققوه بمشاهداتهم
الكشفية، وأنت تعلم أن أرباب الارصاد الروحانية أعلى قدرا وأرفع شأنا من أصحاب
الارصاد الجسمانية، كما أنك تصدق هؤلاء فيما يلقونه إليك من خفايا الهيئات الفلكية،
فحقيق أن تصدق أولئك فيما يتلونه عليك من خبايا العلوم الملكية انتهى. وهو كما ترى (
منه).
425
جدران البيت، أو خرج من بيت مسدود الأبواب والكوات، وانه أحضر بعض
الأشخاص والثمار أو غير ذلك من مسافة بعيدة من زمان قريب.
ثم أطال الكلام في ذلك، ثم قال: ويكون حكم هذه الشمس حكم شمس العالم
المادي الحقيقي في حقه (عليه السلام).
أقول: هذا بعيد جدا، مع أنه لا ضرورة تلجئ إليه، ودون اثبات عالم المثال
خرط القتاد، والله الهادي إلى نجدة الرشاد.
والعجب من النواصب لا يستبعدون ارتداد الشمس ليوشع بن نون (عليه السلام)
ويعترفون به، ويقدحون في ارتدادها لأمير المؤمنين (عليه السلام).
هذا مع أن الأول إنما أورد في خبر واحد رواه الحميدي في الجمع بين الصحيحين
في الحديث الحادي والسبعين بعد المائتين من مسند أبي هريرة، قال: قال
رسول الله (عليه السلام): غزا نبي من الأنبياء، فقال لقومه: لا يتبعني من (1) ملك بضع امرأة
وهو يريد أن يبني بها ولم يبن بها، ولا أحد بنى بيوتا ولم يرفع سقوفها، ولا أحد
اشترى غنما أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغزوا، فدنا من القرية من صلاة العصر،
أو قريبا من ذلك، فقال للشمس: انك مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها علينا،
فحبست حتى فتح الله عليه (2).
والثاني مستفيض بل متواتر، فليت شعري كيف أذعنوا بالأول وطعنوا في
الثاني، وما هذا الا نصب شديد لا يخفى على من له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.



(1) في الطرائف: رجل.
(2) الطرائف ص 85 عن الجمع بين الصحيحين، وصحيح مسلم 3: 1366.
426
وهم وتنبيه:
توهم بعض من أصحابنا أن تركه (عليه السلام) صلاة العصر في الواقعتين المذكورتين إلى
أن غابت الشمس ينافي العصمة، إذ لا يجوز تأخير الصلاة إلى مضي وقتها، وحملوا
الأخبار على أن الشمس لم تغب بعد، وإنما خرج وقت العصر، فأعيدت إلى
موضعها في وقت الفضيلة.
وأول من ارتكب هذا التأويل الشيخ المحقق المدقق أبو عبد الله محمد بن إدريس
في سرائره، قال: لا يحل بأن يعتقد بأن الشمس غابت ودخل الليل وخرج وقت
العصر بالكلية وما صلى الفريضة، لأن هذا من معتقده جهل بعصمته (عليه السلام)، لأنه
يكون مخلا بالواجب المضيق عليه، وهذا لا يقوله من عرف إمامته واعتقد
عصمته (عليه السلام) (1) انتهى.
ووافقه شيخنا الشهيد الثاني عطر الله مرقده في روض الجنان (2).
وأنت خبير بما فيه، أما أولا فلأنه يجوز أن يكون (عليه السلام) مكلفا بتأخير الصلاة إلى
آخر وقتها حينئذ، ويكون ذلك من خواصه، كما أن ارتداد الشمس له بعد غيبتها
خاصة أخرى له، وأي مانع يمنع من ذلك؟ (3)
وأما ثانيا، فلأنه يجوز أن يكون متعبدا والحال هذه بالصلاة ايماء، ويكون ذلك
من خواصه أيضا، وفي الخبر المنقول عن منهاج الكرامة تصريح بذلك.
ويجوز أن يكون ذلك من باب الضرورة بالنسبة إلى القصة الأولى، والعذر كون



(1) السرائر 1: 265.
(2) روض الجنان 1: 228.
(3) وفي رواية ابن أبي جمهور للقصة الثانية أنه (عليه السلام) صلى العصر وان رجوع الشمس
ليصلي أصحابه العصر في وقتها، وحينئذ فلا اشكال (منه).
427
رأس رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حجره، وما المانع من كون ذلك عذرا؟
وأما ثالثا، فلأنه يجوز أن يكون (عليه السلام) عالما بأن الشمس سترد عليه ويعود وقتها،
فلا يكون مخلا بالواجب المضيق كما توهموه.
فان قلت: عودها بعد ذلك لا يجدي نفعا، لخروج الوقت بالغيبوبة، فلا يجدي
طلوعها بعدها.
قلت: دعوى فوات الوقت بغروبها مطلقا في حيز المنع، بل التحقيق أنه كما أن
ردها خصوصية له (عليه السلام)، كذلك ادراك العصر أداء بعد ردها خصوصية له وكرامة،
كما ذكره ابن حجر في الصواعق المحرقة، ثم قال: على أن في ذلك أعني: ان الشمس
إذا غربت ثم عادت هل يعود الوقت بعودها؟ تردد حكيته مع بيان المتجه منها في
شرح العباب في أوائل كتاب الصلاة (1) انتهى. (2)
قلت: ولم أقف لأحد من أصحابنا فيما أعلم على كلام في ذلك بنفي ولا اثبات،
فينبغي التدبر في ذلك.
وأما رابعا، فلأن الأخبار التي سردناها فيما سبق متطابقة على أنها قد غابت
صريحة في ذلك، بحيث لا تقبل ذلك التأويل العليل، فاطراحها بمجرد الاستبعاد
بعيد عن مشرب أهل السداد، لما فيه من مقابلة النص بالاجتهاد.
وهم وتنبيه:
المفهوم من النص الوارد في القصة الثانية وهي ارتداد الشمس له في أرض بابل
أنه يحرم عليه (عليه السلام) الصلاة في ذلك، وأنه لا يحل الصلاة في الأرض المذكورة لنبي



(1) الصواعق المحرقة ص 76.
(2) الذي يظهر لي أنه لا يعود الوقت لخروجه بالغروب بالنص والاجماع، فعوده يحتاج
إلى دليل وليس فليس والله أعلم (منه).
428
أو وصي نبي، وحينئذ يهون الخطب في ذلك، ويتضح العذر في التأخير.
ولا يلزم كونه (عليه السلام) مخلا بالواجب المضيق كما توهم، بل يكون تركه ذلك لعدم
تكليفه بالصلاة حينئذ، والا لزم اجتماع الوجوب والتحريم في شئ واحد
بالشخص، وحينئذ يكون تركه الصلاة كترك فاقد الطهورين، وليس في هذا ما
ينافي العصمة، وليس العلة في تأخير الصلاة كراهة الصلاة في أرض الخسف، كما
يفهمه كلام ابن إدريس، وان ذلك على وجه الكراهة لا التحريم.
أما أولا، فلأن مقتضى النصوص التحريم، حيث قال (عليه السلام): وانه لا يحل لنبي ولا
وصي نبي أن يصلي فيها. فان نفي الحل صريح في التحريم، والتخصيص بالنبي
ووصي النبي يزيده وضوحا، إذ تلك الكراهة عامة بزعمه فلا معنى للتخصيص.
وقوله (عليه السلام) بعد ذلك (فمن أراد أن يصلي فليصل) يرفع ما توهمه بالكلية، إذ
ترخيصه (عليه السلام) لهم في الصلاة فيها ونفي الحل بالنسبة إلى النبي ووصيه خاصة يبطل
ذلك الوهم.
وأما ثانيا، فلأن ما ادعاه من كراهة الصلاة في كل أرض خسف، في موضع
المنع، لعدم الدليل الدال على ذلك. ويلوح من شيخنا الشهيد الثاني نور الله ضريحه
في الذكرى التوقف في ذلك (1)، وهو في محله.
وما استدل به عليه من أنه (صلى الله عليه وآله) لما مر بالحجر قال: لا تدخلوا على هؤلاء



(1) قال 1 في الذكرى (ص 152) في بحث مكروهات المكان ما نصه: و
خامس عشرها أرض عذب أهلها، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) لما مر بالحجر قال: لا تدخلوا على
هؤلاء المعذبين الا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم. وليس في هذا دلالة على كراهية
الصلاة فيها. نعم روي أن عليا (عليه السلام) ترك الصلاة في أرض بابل لذلك حتى عبر وصلى في
الموضع المشهور بعد ما ردت له الشمس إلى وقت الفضيلة انتهى.
وربما يفهم من قوله (نعم روي) أنه حاول به الاستدلال على المدعى، كما هو ظاهر
الاستدراك، وهو مدفوع بما ذكرناه في الكتاب (منه).
429
المعذبين الا أن تكونوا باكين أن يصيبكم ما أصابهم. في غاية القصور، إذ ليس فيه
دلالة على كراهة الصلاة فيها بوجه، كما نبه عليه في الذكرى (1).
قال سبط ابن الجوزي من فحول المخالفين: وفي الباب حكاية عجيبة حدثني بها
جماعة من مشائخنا بالعراق: أنهم شاهدوا أبا منصور المظفر بن أردشير العبادي
الواعظ ذكر بعد العصر هذا الحديث، ونمقه بألفاظه وذكر فضائل أهل البيت، فغطت
سحابة الشمس وأظلم الأفق، حتى ظن الناس جميعا أنها قد غابت، فقام على المنبر
وأومأ إلى الشمس وأنشد:
لا تغربي يا شمس حتى ينتهي * مدحي لآل محمد ولنجله (2)
واثني عنانك ان أردت ثناءهم * أنسيت إن كان الوقوف لأجله
إن كان للمولى وقوفك فليكن * هذا الوقوف لخيله ولرجله
قالوا: فانجاب السحاب عن الشمس على الفور وطلعت الشمس (3).
وأورد هذه الحكاية أيضا ابن حجر في الصواعق المحرقة (4).
وأظن أني وجدتها في كتاب فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) من تصانيف العلامة
الحلي (5)، وعهدي بهذا الكتاب منذ عشر سنين.



(1) الذكرى ص 152 الطبعة الحجرية.
(2) في التذكرة: مدحي لآل المصطفى ولنجله.
(3) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي ص 53 ط النجف.
(4) الصواعق المحرقة ص 76.
(5) كشف اليقين للعلامة الحلي ص 167 والبحار 41: 191.
430
الحديث السادس والثلاثون
[التمسك والاقتداء بالامام أمير المؤمنين
وأولاده المعصومين (عليهم السلام)]
صاحب كتاب فرائد السمطين باسناده عن الإمام علي بن موسى الرضا، عن
أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قالوا: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أحب أن يتمسك بديني
ويركب سفينة النجاة بعدي، فليقتد بعلي بن أبي طالب، وليعاد عدوه، وليوال وليه،
فإنه وصيي وخليفتي على أمتي في حياتي وبعد وفاتي، وهو امام كل مسلم، وأمير
كل مؤمن بعدي، قوله قولي، وأمره أمري، ونهيه نهيي، وتابعه تابعي، وناصره
ناصري، وخاذله خاذلي.
ثم قال (صلى الله عليه وآله): من فارق عليا بعدي لم يرني ولم أره يوم القيامة، ومن خالف عليا
حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، ومن خذل عليا خذله الله يوم يعرض عليه، ومن
نصر عليا نصره الله يوم يلقاه ولقنه حجته عند المسألة.
ثم قال (صلى الله عليه وآله): والحسن والحسين اماما أمتي بعد أبيهما، وسيدا شباب أهل الجنة،
وأمهما سيدة نساء العالمين، وأبوهما سيد الوصيين، ومن ولد الحسين تسعة أئمة
تاسعهم القائم من ولدي، طاعتهم طاعتي، ومعصيتهم معصيتي، إلى الله أشكو
المنكرين لفضلهم، والمصغرين لحرمتهم بعدي، وكفى بالله وليا ونصيرا لعترتي وأئمة
أمتي، ومنتقما من الجاحدين حقهم، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (1).
أقول: هذا الخبر كما ترى واضح الدلالة على صحة عقيدة الفرقة الناجية،
بطلان ما عليه الفرق الباقية من جهات شتى وطرق متعددة، وقد ذكرنا فيما سبق



(1) فرائد السمطين 1: 54 - 55 برقم: 19.
431
أخبارا اخر لا تحصى كثرة بمعناه، وإنما أكثرنا في كتابنا هذا من الأخبار المتضمنة لهذا
المعنى، لأن هذا هو أس مذهبنا ومداره وميزانه الصحيح ومعياره، وهو مطمح
الكلام، ومجال البحث، ومرمى النظر، فما أجدره بالتكرار وما أحقه بالترداد، كما
قيل:
أعد ذكر نعمان لنا ان ذكره * هو المسك ما كررته يتضوع
الحديث السابع والثلاثون
[حديث المناشدة وما فيه من الدلائل على إمامته (عليه السلام)]
أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي الحافظ الشافعي، وهو من فحول
المحدثين من الشافعية كثير التصانيف، باسناده عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال:
كنت على الباب يوم الشورى، فارتفعت الأصوات بينهم، فسمعت عليا (عليه السلام) يقول:
بايع الناس أبا بكر وأنا والله أولى بالأمر وأحق به منه، فسمعت وأطعت مخافة أن
تصير الناس كفارا، ثم أنتم تريدون أن تبايعوا عثمان إذا لا أسمع ولا أطيع، ان عمر
جعلني مع خمسة نفر أنا سادسهم لا يعرف لي فضلي في الصلاح ولا يعرفونه لي،
كأنما نحن فيه شرع سواء، وأيم الله لو أشاء أن أتكلم لتكلمت، ثم لا يستطيع عربهم
ولا عجمهم ولا معاهد منهم ولا المشرك رد خصلة منها.
ثم قال: أنشدكم الله أيها الخمسة أمنكم أخو رسول الله غيري؟ قالوا: لا، قال:
أمنكم أحد له عم مثل عمي حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله؟ قالوا: لا،
قال: أمنكم أحد له ابن عم مثل ابن عمي رسول الله؟ قالوا: لا.
قال: أمنكم أحد له أخ مثل أخي المزين بالجناحين يطير مع الملائكة في الجنة؟
قالوا: لا، قال: أمنكم أحد له زوجة مثل زوجتي فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) سيدة
نساء هذه الأمة؟ قالوا: لا.

432
قال: أمنكم أحد له سبطان مثل الحسن والحسين سبطي هذه الأمة ابني رسول الله
غيري؟ قالوا: لا، قال: أمنكم أحد قتل مشركي قريش قبلي؟ قالوا: لا، قال:
أمنكم أحد أمر الله بمودته غيري؟ قالوا: لا، قال: أمنكم أحد غسل رسول الله (صلى الله عليه وآله)
غيري؟ قالوا: لا.
قال: أمنكم أحد سكن المسجد يمر فيه جنبا غيري؟ قالوا: لا، قال: أمنكم أحد
ردت عليه الشمس بعد غروبها حتى صلى العصر غيري؟ قالوا: لا، قال: أمنكم
أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين قرب إليه الطير فأعجبه: اللهم آتني بأحب خلقك
إليك يأكل معي من هذا الطير، فجئت أنا لا أعلم ما كان من قوله، فدخلت وقال:
والي يا رب والي يا رب غيري؟ قالوا: لا.
قال: أفيكم أحد كان أقتل للمشركين عند كل شديدة تنزل برسول الله (صلى الله عليه وآله)
غيري؟ قالوا: لا، قال: أفيكم أحد يأخذ الخمس سهم في الخاص وسهم في العام
غيري؟ قالوا: لا.
قال: أفيكم أحد يطهره كتاب الله غيري حتى سد النبي (صلى الله عليه وآله) أبواب المهاجرين
وفتح بابي إليه حتى قام إليه عماه حمزة والعباس وقالا: يا رسول الله سددت أبوابنا
وفتحت باب علي، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): ما أنا فتحت بابه ولا سددت أبوابكم، بل الله
فتح بابه وسد أبوابكم؟ قالوا: لا.
قال: أفيكم أحد تمم الله نوره من السماء حتى قال: (فلت ذا القربى حقه)
غيري؟ قالوا: لا، قال: أفيكم أحد ناجى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ست عشرة مرة غيري
حتى نزل (يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة)
قالوا: اللهم لا.
قال: أفيكم أحد ولي غمض رسول الله (صلى الله عليه وآله) غيري؟ قالوا: اللهم لا، قال:

433
أفيكم أحد آخر عهده برسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى وضعه في حفرته غيري؟ قالوا: اللهم
لا (1). وأورده الامام الحموي في فرائد السمطين (2).
ورواه أيضا أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في كتابه، وهو من أعيان أئمتهم.
ورواه أيضا صدر الأئمة أخطب خطباء خوارزم موفق بن أحمد المكي ثم
الخوارزمي في كتاب الأربعين، قال: عن الامام الطبراني، حدثنا علي بن سعيد
الرازي، حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا زافر بن سليمان، قال: حدثنا الحرث بن
محمد، عن أبي الطفيل عامر بن واثلة، قال، كنت على الباب يوم الشورى وساق
الخبر (3).
وفي رواية أخرى رواها ابن مردويه أنه قال في عثمان: ثم أنتم تريدون أن تبايعوا
عثمان إذا لا أسمع ولا أطيع.
وفي رواية أخرى عن صدر الأئمة موفق بن أحمد المكي (4) يرويها عن فخر
خوارزم العلامة محمود الزمخشري، باسناده إلى أبي ذر زيادة في مناشدة علي بن
أبي طالب (عليه السلام) لأهل الشورى، وهذا لفظها:
ناشدتكم الله تعالى هل تعلمون معاشر المهاجرين والأنصار أن جبرئيل (عليه السلام)
أتى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد لا سيف الا ذو الفقار ولا فتى الا علي هل تعلمون كان
هذا؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن جبرئيل (عليه السلام) نزل على النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا



(1) الطرائف ص 411 - 413.
(2) فرائد السمطين 1: 319 - 322.
(3) المناقب للخوارزمي ص 313 - 315.
(4) في الطرائف (ص 416) قال عبد المحمود: وقد روى صدر الأئمة عندهم موفق المكي
الخوارزمي أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) زاد على هذا يوم الشورى في المفاخرة لهم و
الاحتجاج عليهم، وأنه احتج بسبعين منقبة من مناقبه انتهى (منه).
434
محمد ان الله تبارك وتعالى يأمرك أن تحب عليا وتحب من يحبه، فان الله يحب عليا
ويحب من يحب عليا؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: لما أسري بي إلى السماء
السابعة رفعت إلي رفارف من نور، ثم رفعت إلي حجب من نور، فأوعد النبي (صلى الله عليه وآله)
الجبار لا إله إلا هو أشياء، فلما رجع من عنده نادى مناد من وراء الحجب: نعم
الأب أبوك إبراهيم، ونعم الأخ أخوك علي فاستوص به، أتعلمون معاشر
المهاجرين والأنصار كان هذا؟ فقال أبو محمد من بينهم - يعني: عبد الرحمن بن
عوف -: سمعتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) باذني هاتين والا فصمتا.
قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن أحدا كان يدخل المسجد جنبا غيري؟ قالوا:
اللهم لا، قال: فأنشدكم الله هل تعلمون أن أبواب المسجد سدها وترك بابي؟ قالوا:
اللهم نعم.
قال: هل تعلمون أني كنت إذا قاتلت عن يمين رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أنت مني
بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فهل تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين أخذ الحسن والحسين في المصارعة
جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: هي يا حسن، فقالت فاطمة: ان الحسين أصغر
وأضعف ركنا منه، فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): ألا ترضين أن أقول أنا هي يا حسن،
ويقول جبرئيل: هي يا حسين، فهل تحق لكم مثل هذه المنزلة؟ نحن الصابرون
ليقضي الله في هذه البيعة أمرا كان مفعولا.
ثم قال: وقد علمتم (1) موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والقرابة القريبة، والمنزلة



(1) من قوله (وقد علمتم موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله)) إلى آخر الكلام موجود في
الخطبة القاصعة من خطبه (عليه السلام) المذكورة في كتاب نهج البلاغة (منه) رقم الخطبة:
192، القاصعة.
435
الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد، يضمني إلى صدره، ويكنفني (1) في فراشه،
ويمسني جسده، ويشمني عرفه، وكان يمضغ الشئ ويلقمنيه، وما وجد لي كذبة في
قول ولا خطلة (2) في فعل، ولقد قرن الله به من لدن كان فطيما (3) أعظم ملك (4 ملائكته يسلك به طرق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره.
ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل (5) اثر أمه، يرفع لي في كل يوم علما من أخلاقه
وأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء (6)، فأراه ولا يراه غيري،
ولم يجمع بيت واحد في الاسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وآله) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور
الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.
ولقد سمعت رنة (عليه السلام)) الشيطان (8) حين نزل الوحي عليه (صلى الله عليه وآله)، فقلت: يا رسول
الله ما هذه الرنة؟ فقال: هذا الشيطان قد آيس من عبادته، انك تسمع ما أسمع
وترى ما أرى، الا أنك لست بنبي ولكنك وزير وانك لعلى خير.



(1) كنفه صانه وحفظه وحاطه وأعانه كأنفه - القاموس.
(2) الخطلة، السيئة من قول أو فعل (منه).
(3) فطم الصبي فصله عن الرضاع فهو مفطوم وفطيم (منه).
(4) قيل: المراد به جبرئيل (عليه السلام). وقيل: هو روح القدس (منه).
(5) الفصيل: ولد الناقة إذا فصل عن أمه، الجمع فصلان بالضم والكسر وككتاب -
القاموس.
(6) حراء بالمد والكسر يذكر ويؤنث ويصرف ويمنع (منه).
(7) الرنة: الصوت.
(8) قوله (ولقد سمعت رنة الشيطان) قال الشيخ كمال الدين ميثم البحراني في شرحه (4:
318): ان نفسه القدسية أخذت معنى الشيطان مقرونا بمعنى اليأس والحزن، وكسته
المتخيلة صورة حزين صارخ، وحطته إلى لوح الخيال، فصار مسموع الرنة له، كما رواه
النبي (صلى الله عليه وآله) انتهى. أقول: وفيه نظر، ولا وجه للعدول عن الظاهر (منه).
436
ولقد كنت معه (1) (صلى الله عليه وآله) حين أتاه الملأ من قريش، فقالوا: يا محمد انك قد
ادعيت عظيما لم يدعه آباؤك ولا أحد من أهل بيتك، ونحن نسألك أمرا ان أجبتنا
إليه وأريتنا علمنا أنك نبي ورسول، وان لم تفعل علمنا أنك ساحر كذاب، فقال
لهم (صلى الله عليه وآله): وما تسألون؟ قالوا: تدعو لنا هذه الشجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين
يديك، فقال (صلى الله عليه وآله): ان الله على كل شئ قدير، وان فعل الله لكم ذلك تؤمنون
وتشهدون بالحق؟ قالوا: نعم.
قال عليه الصلاة والسلام: فاني أراكم ما تطلبون، واني أعلم أنكم ما
تفيؤون (2) إلى خير، وان فيكم من يطرح في القليب (3) ومن يحزب الأحزاب.
ثم قال: يا أيتها الشجرة ان كنت تؤمن بالله واليوم الآخر وتعلمين أني
رسول الله، فانقلعي بعروقك حتى تقفي بين يدي بإذن الله، فوالله الذي بعثه بالحق لقد



(1) قال الشيخ كمال الدين ميثم البحراني في مختصر شرح النهج: في قوله (ولقد كنت
معه) إلى قوله (يعنونني) نقل لأربع معجزات للنبي (صلى الله عليه وآله)، وهو اخباره: ان السائلين لا
يفيؤون إلى خير، أي: لا يرجعون. وان منهم من يطرح في القليب، وهو قليب بدر، فمنهم
عتيبة، وشيبة ابنا ربيعة، وأمية بن عبد شمس، وأبو جهل، والوليد بن المغيرة، طرحوا
فيه بعد انقضاء الحرب، ومن يحزب الأحزاب كأبي سفيان، وعمرو بن عبد ود، وصفوان
بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل.
الثانية إجابة الشجرة لدعائه، وهو مشهور في كتب المحدثين، ونقله المتكلمون في
معجزاته (صلى الله عليه وآله).
الثالثة: إجابة نصفها لدعائه مع بقاء نصفها.
الرابعة: عود ذلك النصف إلى موضعه، وسره ما علمت أن نفوس الأنبياء (عليهم السلام) لها
التصرف في هيولي عالم الكون والفساد بفعل ما يخرج عن وسع مثلهم انتهى كلامه (منه)
اختيار مصباح السالكين ص 465 - 466 ط مشهد.
(2) أي: لا ترجعون (منه).
(3) القليب: البئر والعادية القديمة - القاموس.
437
انقلعت بعروقها، وجاءت ولها دوي عظيم شديد، وقصف كقصف (1) أجنحة الطير
حتى وقفت بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) وألقت بعضها الأعلى على رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وبعض أغصانها على منكبي، وكنت عن يمينه (صلى الله عليه وآله)، فلما نظر القوم إلى ذلك قالوا
علوا واستكبارا: فمرها فليأتيك نصفها ويبقي نصفها، فأمرها بذلك، فأقبل إليه
نصفها كأعجب اقبال وأشد دويا، وكادت تلف برسول الله (صلى الله عليه وآله)، قالوا كفرا وعلوا:
فمر هذا النصف فليرجع إلى نصفه كما كان، فأمره رسول الله (صلى الله عليه وآله) فرجع.
قلت أنا: لا إله إلا الله اني أول مؤمن بك يا رسول الله، وأول من آمن بأن
الشجرة فعلت ما فعلت بأمر الله تصديقا لنبوتك واجلالا لكلمتك، فقال القوم كلهم:
بل ساحر كذاب عجيب السحر خفيف فيه، وهل يصدقك في أمرك الا مثل هذا
يعنوني.
واني لمن القوم الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم، سيماهم (2) سيماء الصديقين،
وكلامهم كلام الأبرار، عمار الليل ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحبون
سنن الله وسنن رسوله، لا يستكبرون ولا يعلون ولا يفسدون قلوبهم في الجنان،
وأجسادهم في العمل (3).
وأورده الحموي في فرائد السمطين أيضا عن سليم بن قيس الهلالي قال: رأيت



(1) هذا الخطاب ونحوه من خطاب النباتيات على حد خطاب العقلاء، الظاهر أنه مجاز
باعتبار اجابته لدعوته كالعاقل، ويجوز على رأي الأشعري أن يكون حقيقة حيث لا
يجعلون الغيبة شرطا في الحياة وما يتعلق بها من السمع والفهم.
وأما على رأي المعتزلة، فقيل: الخطاب لله، فكأنه قال: اللهم ان كنت صادقا في
رسالتك فاجعل ما سألت من هذه الشجرة مصدقا لي، قاله الشيخ كمال الدين ميثم
البحراني (اختيار مصباح السالكين ص 466) أقول: ولا مانع من أن يكون الخطاب
حقيقة عندنا، كما بيناه في محل أبسط (منه).
(2) السيمة والسيماء والسمة بكسرهن: العلامة. القاموس.
(3) الطرائف ص 413 - 416، والخطبة القاصعة من نهج البلاغة برقم: 192.
438
عليا (عليه السلام) في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خلافة عثمان وجماعة يتحدثون ويتذاكرون
العلم والعفة، فذكروا قريشا وفضلها وسوابقها وهجرتها، وما قال فيها
رسول الله (صلى الله عليه وآله) من الفضل مثل قوله (الأئمة من قريش) وقوله (الناس مع
قريش (1) وقريش أئمة العرب) وقوله (لا تسبوا قريشا) وقوله (ان للقرشي قوة
رجلين من غيرهم) وقوله (من أبغض قريشا أبغضه الله) وقوله (من أراد هوان
قريش أهانه الله).
وذكروا الأنصار وفضلها وسوابقها ونصرتها، وما أثنى الله به عليهم في كتابه،
وما قال فيهم النبي (صلى الله عليه وآله) من الفضل، وذكروا ما قال في سعد بن عبادة، وغسيل
الملائكة، فلم يدعوا شيئا من فضلهم، حتى قال كل حي: منا فلان وفلان، وقالت
قريش: منا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومنا حمزة، ومنا جعفر، ومنا عبيدة بن الحارث،
وزيد بن حارثة، وأبو بكر، وعمر، وعثمان، وأبو عبيدة، وسالم، وابن عوف.
فلم يدعوا من الحيين أحدا من أهل السابقة الا سموه، وفي الحلقة أكثر من مائتي
رجل، فيهم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن
عوف، وطلحة، والزبير، وعمار، والمقداد، وأبو ذر، وهاشم بن عتبة، وابن عمر،
والحسن والحسين (عليهما السلام)، وابن عباس، ومحمد بن أبي بكر، وعبد الله بن جعفر.
ومن الأنصار: أبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو أيوب الأنصاري، وأبو الهيثم
بن التيهان، ومحمد بن سلمة (2)، وقيس بن سعد بن عبادة، وجابر بن عبد الله،
وأنس بن مالك، وزيد بن أرقم، وعبد الله بن أبي أوفى، وأبو ليلى ومعه ابنه عبد
الرحمن قاعد بجنبه غلام صبيح الوجه أمرد.
فجاء أبو الحسن البصري ومعه ابنه الحسن غلام أمرد صبيح الوجه معتدل



(1) في المصدر: الناس تبع لقريش.
(2) في المصدر: مسلمة.
439
القامة، فجعلت أنظر إليه والى عبد الرحمن بن أبي ليلى، فلا أدري أيهما أجمل، غير
أن الحسن أعظمهما وأطولهما.
فأكثر القوم في ذلك من بكرة إلى حين الزوال، وعثمان في داره لا يعلم بشئ مما
هم فيه، وعلي بن أبي طالب (عليه السلام) ساكت لا ينطق ولا أحد من أهل بيته.
فأقبل القوم عليه، فقالوا: يا أبا الحسن ما يمنعك أن تتكلم؟ فقال: ما من الحيين
أحد الا وقد ذكر فضلا وقال حقا، فأنا أسألكم يا معشر قريش والأنصار بمن
أعطاكم الله هذا الفضل؟ أبأنفسكم وعشائركم وأهل بيوتاتكم أم بغيركم؟ فقالوا:
أعطانا الله ومن به علينا بمحمد (صلى الله عليه وآله) وعترته لا بأنفسنا وعشائرنا ولا بأهل
بيوتاتنا.
فقال: صدقتم يا معشر قريش والأنصار ألستم تعلمون أن الذي نلتم من خير
الدنيا والآخرة بنا أهل البيت خاصة دون غيرهم؟ وان ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله)
قال: اني وأهل بيتي كنا نورا يسعى بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق الله عز وجل
آدم صلوات الله عليه بأربعة عشر ألف سنة.
فلما خلق آدم (عليه السلام) وضع ذلك النور في صلبه وأهبطه إلى الأرض، ثم حمله في
السفينة في صلب نوح (عليه السلام)، ثم قذف به في النار في صلب إبراهيم (عليه السلام).
ثم لم يزل الله تعالى ينقلنا من الأصلاب الكريمة إلى الأرحام الطاهرة، ومن
الأرحام الطاهرة إلى الأصلاب الكريمة من الاباء والأمهات، لم يلق واحد منهم
على سفاح قط، فقال أهل السابقة والقدمة وأهل بدر وأهل أحد: نعم قد سمعنا من
رسول الله صلى الله عليه وآله ذلك.
قال (عليه السلام): أنشدكم الله أتعلمون أن الله عز وجل فضل في كتابه السابق على
المسبوق في غير آية، واني لم يسبقني إلى الله عز وجل والى رسول الله (صلى الله عليه وآله) أحد من
الأمة؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: أنشدكم الله أتعلمون حيث نزلت (والسابقون الأولون من المهاجرين

440
والأنصار) (1) (والسابقون السابقون × أولئك المقربون) (2) سئل عنها
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: أنزلها الله تعالى ذكره في الأنبياء وأوصيائهم، فأنا أفضل
أنبياء الله ورسله، وعلي بن أبي طالب وصيي أفضل الأوصياء؟ قالوا: اللهم نعم.
قال: فأنشدكم الله أتعلمون حيث نزلت (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله
وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (3) وحيث نزلت (إنما وليكم الله ورسوله)
الآية وحيث نزلت (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) (4)
قال الناس: يا رسول الله أخاصة في بعض المؤمنين أم عامة لجميعهم؟
فأنزل الله عز وجل على نبيه (صلى الله عليه وآله) أن يعلمهم ولاة أمرهم، وأن يفسر لهم من
الولاية ما فسر لهم من صلاتهم وزكاتهم وحجهم بنصبي للناس بغدير خم، ثم
خطب وقال: أيها الناس ان الله أرسلني برسالة ضاق بها صدري، وما ظننت أن
الناس تكذبني، فأوعده ليبلغها أو ليعذبه (5).
ثم أمر فنودي بالصلاة جامعة، ثم خطب فقال: أيها الناس أتعلمون أن الله
عز وجل مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا
رسول الله، قال: قم يا علي فقمت، فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال
من والاه، وعاد من عاداه.
فقام سلمان فقال: يا رسول الله ولاء ماذا؟ فقال: ولاء كولائي، من كنت أولى
به من نفسه فعلي أولى به من نفسه، فأنزل الله تعالى ذكره (اليوم أكملت لكم
دينكم) فكبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: الله أكبر على تمام نبوتي وتمام دين الله وولاية



(1) التوبة: 100.
(2) الواقعة: 10.
(3) النساء: 59.
(4) التوبة: 16.
(5) في المصدر: ليعذبني.
441
علي بن أبي طالب.
فقام أبو بكر وعمر فقالا: يا رسول الله هؤلاء الآيات خاصة في علي بن
أبي طالب؟ قال: بل فيه وفي أوصيائي إلى يوم القيامة، قالا: يا رسول الله بينهم لنا،
قال: علي أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أمتي، وولي كل مؤمن
بعدي، ثم ابني الحسن، ثم الحسين: ثم تسعة من ولد ابني الحسين واحد بعد واحد،
القرآن معهم وهم مع القرآن، لا يفارقونه ولا يفارقهم حتى يردوا علي الحوض؟
فقالوا كلهم: اللهم نعم قد سمعنا ذلك وشهدنا كما قال سواء، وقال بعضهم: قد
حفظنا ما قلت ولم نحفظ كله، وهؤلاء الذين حفظوا أخيارنا وأفاضلنا، فقال
علي (عليه السلام): صدقتم ليس كل الناس يستوون في الحفظ، أنشد الله عز وجل من حفظ
ذلك من رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما قام فأخبر به.
فقام زيد بن أرقم والبراء بن عازب وسلمان وأبو ذر والمقداد وعمار، فقالوا:
نشهد لقد حفظنا قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو قائم على المنبر وأنت إلى جنبه، وهو
يقول: أيها الناس ان الله عز وجل أمرني أن أنصب لكم امامكم والقائم فيكم بعدي
وصيي وخليفتي والذي فرض الله عز وجل على المؤمنين في كتابه طاعته، فقرنه
بطاعته وطاعتي وأمركم بولايته.
واني راجعت ربي خشية طعن أهل النفاق وتكذيبهم، فأوعدني لتبلغنها أو ليعذبني
أيها الناس ان الله أمركم في كتابه بالصلاة وقد بينها لكم، والزكاة والصوم والحج،
فبينها لكم وفسرها لكم وأمركم بالولاية. الحديث (1).
وروى العلامة المطرزي في أوائل شرح المقامات الحريرية، عن ابن أبي الطفيل
عامر بن واثلة، قال: سمعت عليا (عليه السلام) يوم الشورى يقول: أنشدتكم الله أيها النفر
هل فيكم أحد وحد الله تعالى قبلي؟ قالوا: اللهم لا، قال: أنشدتكم الله هل فيكم



(1) فرائد السمطين 1: 313 - 316.
442
أحد قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنت مني بمنزلة هارون من موسى الا أنه لا نبي بعدي
غيري؟ قالوا: اللهم لا، إلى أن قال: سمعتم رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: عرضت علي
أمتي البارحة فاستغفرت لك ولشيعتك؟ فقالوا: اللهم نعم.
وفى الصواعق المحرقة لابن حجر: وأخرج الدارقطني أن عليا قال للستة الذين
جعل عمر الإمامة شورى بينهم كلاما طويلا، من جملته: أنشدكم الله هل فيكم أحد
قال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا علي أنت قسيم النار يوم القيامة غيري؟ قالوا: اللهم
لا (1).
وفي الخبر المذكور أولا أمور:
الأول: قوله (عليه السلام) (بايع الناس أبا بكر وأنا أولى بالأمر وأحق به فسمعت
وأطعت مخافة أن يصير الناس كفارا) حجة قاطعة على أنه (عليه السلام) إنما ترك الاصرار
على الانكار في خلافة أبي بكر شفقة على الأمة، وخوفا عليهم من الردة،
واستصلاحا وتقية.
وقد نقلنا في ذيل الحديث الرابع عشر، عن السيد الأجل علم الهدى ذي المجدين
عطر الله مرقده في كتاب تنزيه الأنبياء كلاما جيدا في هذا المقام محصله: ان
تركه (عليه السلام) الانكار والخلاف إنما هو لعدم تمكنه وخوفه من الضرر العظيم العائد إلى
نفسه وولده وشيعته، أو لخوفه من ارتداد القوم عن الدين وخروجهم عن الاسلام،
ونبذهم شعار الشريعة الإلهية، فلا جرم كان الاغضاء أصلح في الدين إذا كان
الانكار البليغ والمعارضة البالغة تجر إلى ضرر عظيم لا يتلافى، ومشقة شديدة لا
تحسم.
وأطال رحمه الله الكلام في الشافي في بيان أسباب الخوف وأمارات الضرر التي
تناصرت ووردت من الجهات المختلفة، وأورد ما فيه مقنع للمتأمل على عادته رضي الله عنه



(1) الصواعق المحرقة ص 75.
443
من سلوك الاطناب والتوضيح والاكثار من الأسئلة والأجوبة.
وذكر أنه (عليه السلام) غولط في الأمر وسوبق إليه وانتهزت غرته، واغتنمت الحال التي
كان فيها متشاغلا بتجهيز النبي (صلى الله عليه وآله)، وسعى القوم إلى سقيفة بني ساعدة، وجرى
لهم فيها مع الأنصار ما جرى من الكلام والنزاع، وتم لهم عليه لما اتفق من بشير بن
سعد ما تم، إلى آخر ما قاله قدس الله روحه في هذا المقام.
الأحاديث الواردة في سد الأبواب
الثاني: قوله (عليه السلام) (أمنكم أحد سكن المسجد يمر فيه جنبا) إلى آخره، هذا مما
تضافرت به الأخبار، وأورده شهاب الدين ابن حجر في الصواعق المحرقة وغيره،
وسيأتي في أحاديث سد الأبواب التصريح به.
الثالث: ما تضمنه الخبر المذكور من سده (صلى الله عليه وآله) الأبواب الا باب علي (عليه السلام)
مستفيض متواتر، رواه أحمد بن حنبل في مسنده عن زيد بن أرقم، قال: كان لنفر
من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أبواب شارعة في المسجد، فقال يوما: سدوا هذه
الأبواب الا باب علي، فتكلم في ذلك أناس، قال: فقام النبي (صلى الله عليه وآله)، فحمد الله وأثنى
عليه، ثم قال: أما بعد فاني أمرت بسد هذه الأبواب غير باب علي، فقال فيه
قائلكم، والله ما سددت شيئا ولا فتحته، ولكني أمرت بشئ فاتبعته (1).
وبالاسناد عن سهل بن أبي صالح، عن أبيه أن عمر بن الخطاب قال: لقد أوتي
علي بن أبي طالب ثلاثا لأن أكون أوتيتها أحب إلي من حمر النعم: جوار النبي (صلى الله عليه وآله)
في المسجد، والراية يوم خيبر، والثالثة نسيها سهل (1).



(1) مسند أحمد بن حنبل 4: 369، وفضائل الصحابة له 2: 581 ح 985.
(2) فضائل الصحابة 2: 659 ح 1123.
444
وبالاسناد عن ابن عمر قال: كنا نقول خير الناس أبو بكر وعمر، ولقد أوتي ابن
أبي طالب ثلاث خصال لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم: زوجه
النبي (صلى الله عليه وآله) ابنته وولدت له، وسد الأبواب الا بابه في المسجد، وأعطاه الراية يوم
خيبر (1).
ومن كتاب فرائد السمطين، عن بريدة الأسلمي، قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) بسد
الأبواب، فشق ذلك على أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فدعا بالصلاة جامعة حتى إذا
اجتمعوا صعد المنبر، فلم يسمع لرسول الله (صلى الله عليه وآله) تحميد وتعظيم في خطبة مثل
يومئذ، فقال: يا أيها الناس ما أنا سددتها ولا فتحتها، بل الله عز وجل سدها، ثم
قرأ (والنجم إذا هوى × ما ضل صاحبكم وما غوى × وما ينطق عن الهوى × ان
هو الا وحي يوحى) فقال رجل: دع لي كوة تكون في المسجد، فأبى وترك باب
علي مفتوحا، فكان يدخل ويخرج منه وهو جنب (2).
ومن الكتاب المذكور، عن عبد الله بن مسعود، قال: انتهى الينا رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ذات ليلة ونحن في المسجد جماعة بعد ما صلينا الضحى (3)، فقال: ما هذه الجماعة؟
قالوا: يا رسول الله قعدنا نتحدث منا من يريد الصلاة ومنا من ينام، فقال: ان
مسجدي هذا لا ينام فيه، انصرفوا إلى منازلكم، ومن أراد الصلاة فليصل في منزله
راشدا، ومن لم يستطع فلينم، فان صلاة السر تضعف على صلاة العلانية.
قال: فقمنا وتفرقنا وفينا علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقام معنا، قال: فأخذ بيد علي
وقال: أما أنت فإنه يحل لك في مسجدي ما يحل لي، ويحرم عليك ما يحرم علي،
فقال له حمزة بن عبد المطلب: يا رسول الله أنا عمك وأنا أقرب إليك من علي، قال:



(1) مسند أحمد بن حنبل 2: 26.
(2) فرائد السمطين 1: 205 - 206 برقم: 160.
(3) في المصدر: العشاء.
445
صدقت يا عم انه والله ما هو مني إنما هو عن الله عز وجل (1).
وروى أبو زكريا بن مندة الحافظ الاصفهاني في مسانيد المأمون، عن إبراهيم بن
سعيد الجوهري، قال: حدثني أمير المؤمنين المأمون، قال: حدثني أمير المؤمنين
الرشيد، قال: حدثني المهدي، قال: حدثني أمير المؤمنين المنصور: قال: حدثني
أبي، قال: حدثني أبي عبد الله بن عباس، قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي: أنت وارثي،
وقال: ان موسى سأل الله أن يطهر مسجدا لا يسكنه الا موسى وهارون وابنا
هارون، وأنا سألت الله أن يطهر مسجدا لك ولذريتك من بعدك.
ثم أرسل إلى أبي بكر أن سد بابك، فاسترجع وقال: فعل هذا بغيري؟ فقيل: لا،
فقال: سمعا وطاعة وسد بابه، وأرسل إلى عمر فقال: سد بابك، فاسترجع وقال:
فعل هذا بغيري؟ فقيل: بأبي بكر، فقال: ان لي بأبي بكر أسوة حسنة فسد بابه.
ثم ذكر رجلا آخر سد بابه وذكر كلاما له، ثم قال: فصعد النبي (صلى الله عليه وآله) المنبر،
فقال: ما أنا سددت أبوابكم ولا فتحت باب علي، ولكن الله سد أبوابكم وفتح باب
علي (2).
ورواه الفقيه الشافعي ابن المغازلي من ثمان طرق، فمنها: عن حذيفة بن أسيد
الغفاري، قال: لما قدم النبي (صلى الله عليه وآله) المدينة لم يكن لهم بيوت يسكنون فيها، وكانوا لا
يبيتون الا في المسجد، فقال لهم النبي (صلى الله عليه وآله): لا تبيتوا في المسجد فتحتلموا.
ثم إن القوم بنوا بيوتا حول المسجد وجعلوا أبوابها إلى المسجد، وان النبي (صلى الله عليه وآله)
بعث معاذ بن جبل فنادى أبا بكر، فقال: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمرك أن تخرج من
المسجد وتسد بابك الذي في المسجد، فخرج فقال: سمعا وطاعة (3)، وعلي على



(1) فرائد السمطين 1: 206 برقم: 161.
(2) الطرائف ص 61 ح 60 عنه، والعمدة لابن بطريق ص 176 - 177 عنه.
(3) هنا زيادة سقطت من الأصل وهي: فسد بابه وخرج من المسجد، ثم أرسل إلى عمر
فقال: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يأمرك أن تسد بابك الذي في المسجد وتخرج منه، فقال: سمعا و
طاعة لله ولرسوله، غير أني أرغب إلى الله تعالى في خوخة في المسجد، فأبلغه معاذ ما قاله
عمر، ثم أرسل إلى عثمان وعنده رقية فقال: سمعا وطاعة فسد بابه وخرج من المسجد، ثم
أرسل إلى حمزة 2 فسد بابه وقال: سمعا وطاعة لله ولرسوله.
446
ذلك يتردد ولا يدري هو ممن يقيم أو ممن يخرج، والنبي (صلى الله عليه وآله) قد بنا له بيتا في المسجد
بين أبياته، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): أسكن طاهرا مطهرا.
فبلغ رجلا (1) - سماه ابن المغازلي - قول النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله تخرجنا
وتمسك غلمان بني عبد المطلب، فقال له نبي الله (صلى الله عليه وآله): لو كان الأمر إلي ما جعلت من
دونكم من أحد، والله ما أعطاه إياه الا الله، وانك لعلى خير من الله ورسوله أبشر،
وبشره النبي (صلى الله عليه وآله) وقتل بأحد شهيدا.
ونفس بذلك رجال على علي، فوجدوا في أنفسهم تبين فضله عليهم وعلى
غيرهم من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)، فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله) فقام خطيبا وقال: ان رجالا
يجدون في أنفسهم أني أسكنت عليا في المسجد، والله ما أخرجتهم ولا أسكنته، ان
الله تعالى أوحى إلى موسى وأخيه (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم
قبلة وأقيموا الصلاة) وأمر موسى أن لا يسكن مسجده ولا ينكح فيه ولا يدخله
الا هارون وذريته.
وان عليا مني بمنزلة هارون من موسى، وهو أخي دون أهلي، ولا يجوز (2)
مسجدي لأحد أن ينكح فيه النساء الا علي وذريته، فمن شاء فهاهنا، وأومئ بيده
نحو الشام (3).
وفي الصواعق المحرقة لابن حجر: أخرج البزاز عن سعد، قال: قال



(1) وهو حمزة عم النبي (صلى الله عليه وآله)
(2) في المناقب: لا يحل.
(3) المناقب لابن المغازلي ص 254 - 255 برقم: 303.
447
رسول الله (صلى الله عليه وآله) لعلي: لا يحل لأحد أن يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك (1).
وهذه الأخبار كما ترى تدل على جواز لبثه (عليه السلام) في المسجد جنبا كالنبي (صلى الله عليه وآله)
وجواز نكاحه فيه.
وحديث حذيفة بن أسيد يدل على مشاركة الأئمة: من ولده في ذلك، وهي
مختصة بهم:، ولم يذكرها أصحابنا في خواصه (صلى الله عليه وآله)، وذكرها جلال الدين
السيوطي الشافعي وبدر الدين الدماميني من المخالفين في رسالتيهما المعمولتين في
خواصه (صلى الله عليه وآله).
الأحاديث الواردة في الطائر المشوي
الرابع: ما تضمنه من خبر الطائر المشوي مشهور مستفيض.
رواه أحمد بن حنبل في مسنده يرفعه إلى سفينة مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ان امرأة
من الأنصار أهدت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) طيرين بين رغيفين، فقدمت إليه الطيرين،
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اللهم آتني بأحب الخلق إليك والى رسولك، فجاء علي (عليه السلام)
فرفع صوته، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): من هذا؟ قلت: علي، قال: فافتح له، ففتحت
له، فأكل مع النبي (صلى الله عليه وآله) حتى فنيا (2).
وروى رزين العبدري في الجمع بين الصحاح الستة في الجزء الثالث في باب
مناقب أمير المؤمنين علي (عليه السلام) من صحيح أبي داود وهو صاحب السنن، باسناد
متصل عن أنس بن مالك، قال: كان عند النبي (صلى الله عليه وآله) طائر قد طبخ له، فقال: اللهم
آتني بأحب خلقك إليك يأكل معي، فجاء علي (عليه السلام) فأكل معه (1).



(1) الصواعق المحرقة ص 73 ح 13.
(2) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2: 560 برقم: 945.
(3) الطرائف ص 72 عنه، والعمدة ص 252 عنه، وإحقاق الحق 5: 320 عنه.
448
وروى الشافعي ابن المغازلي الخطيب في كتابه من نحو أكثر من ثلاثين طريقا،
منها: عن الزبير بن عدي، عن أنس، قال: أهدي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) طائر مشوي
، فلما وضع بين يديه، قال: اللهم آتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر،
قال: فقلت في نفسي: اللهم اجعله رجلا من الأنصار.
قال: فجاء علي (عليه السلام) فقرع الباب قرعا خفيفا، فقلت: من هذا؟ فقال: علي،
فقلت: ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) على حاجة، فانصرف، فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
وهو يقول الثانية: اللهم آتني بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر، فقلت
في نفسي: اللهم اجعله رجلا من الأنصار.
قال: فجاء علي (عليه السلام) فقرع الباب، فقلت: ألم أخبرك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) على
حاجة، فانصرف، قال: فرجعت إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو يقول الثالثة: اللهم آتني
بأحب خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر.
فجاء علي (عليه السلام) فضرب الباب ضربا شديدا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): افتح افتح
افتح، قال: فلما أبصره (1) رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: اللهم والي (2)، قال: فجلس مع
رسول الله (صلى الله عليه وآله) فأكل معه من الطير (3).
وفي بعض روايات ابن المغازلي: ان النبي (صلى الله عليه وآله) قال لعلي (عليه السلام): ما أبطأك؟ قال:
هذه ثالثة ويردني أنس، قال: يا أنس ما حملك على ما صنعت؟ قال: رجوت أن
يكون رجلا من الأنصار (4).
ولا يخفى أن هذه الأخبار تشهد بشهادة قاطعة بأنه (عليه السلام) أفضل الصحابة، والا لم
يكن أحبهم إلى الله والى رسوله، للجزم بأن المفضول المرجوح لا يكون أحب إلى



(1) في المناقب: نظر إليه.
(2) في المصدر: اللهم والي، اللهم والي، اللهم والي.
(3) المناقب لابن المغازلي ص 163 - 164 برقم: 193.
(4) المناقب ص 166.
449
الله والى رسوله من الفاضل الراجح، إذ ليست محبته سبحانه وتعالى من جنس المحبة
الحيوانية المزاجية، بل هي عبارة عن جذب العبد من حضيض البعد إلى أوج
القرب، ومن درك الحرمان إلى سعادة الوجدان، وتبليغه مرتبة الزلفى، ونظمه في
سلك المصطفين الأولياء، بسبب مبالغته في الطاعات، ومواظبته على العبادات،
واستقامة قوتيه العاقلة والعاملة، وتقييدهما بقيود الشرع الأقدس، كما أشار إليه
عز مجده بقوله تعالى (قل ان كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) (1) ومن
المستبين أنه على هذا التقدير لا يجوز أن يكون الأحب إلى الله مفضولا مرجوحا،
وهو بين لا سترة به.
ثم لا يخفى عليك أنه قد استفيد من مجموع الأخبار المذكورة أنه قد اتفق
للنبي (صلى الله عليه وآله) هذا المعنى في عدة أخبار لا تدافع بينها، وقد نبه على ذلك جماعة من
أصحابنا وغيرهم.
الخامس: قوله (عليه السلام) (أفيكم أحد يأخذ الخمس سهم في الخاص وسهم في العام)
الظاهر أن المراد أنه يأخذ من الغنيمة سهما كغيره من المجاهدين ومختص دونهم
بسهم من الخمس، والله أعلم.
السادس، قولهم في جواب استفهامه (عليه السلام) (اللهم نعم، اللهم لا) للتأكيد
والتقرير، واستعماله في كلام البلغاء أكثر من أن يحصى.
قال العلامة المطرزي في شرح المقامات: من ذلك ما قرأت في حديث عمر بن
سعد وقد أتاه رسول عمر وقال له: كيف تركت أمير المؤمنين؟ فقال، صالحا وهو
يقرؤك السلام، فقال له: ويحك لعله استأثر نفسه، فقال: اللهم لا، فقال: لعله فعل
كذا، قال: اللهم لا في حديث.
ثم ذكر بعض هذا الخبر كما أسلفناه، وذكر أيضا قول صاحب المقامات في المقامة



(1) آل عمران: 31.
450
الثالثة والأربعين: فناشدتك الله هل رأيت أسحر منك؟ فقال، اللهم لا.
ثم قال المطرزي: وكان المتكلم لقصده اثبات الجواب مشفوعا بذكر الله تعالى
ليكون أبلغ وأوقع وفي نفس السائل أنجع، وليعلم أنه على يقين من ايراده وتصييره
في اثباته قد جعل نفسه في معرض من أقبل على الله تعالى ليجيب عما سأله مثلا.
ولا شك أن من كانت هذه حاله لا يتكلم الا بما هو صدق ويقين وأحق وطريقه
أحرى أنهم يقولون بالله هل فعلت كذا؟ ونشدتك بالله أكان ذاك؟ فكما يعمدون
السؤال بهذه الدعائم من ذكر الله تعالى، كذلك حالهم في الجواب إذا أرادوا تقريره،
بل الجواب أحق وأحوج إلى فضل تقوية وزيادة اثبات لكونه مظنة الرد والانكار.
الحديث الثامن والثلاثون
[قوله (صلى الله عليه وآله) أنا مدينة العلم وعلي بابها]
ابن حجر في الصواعق المحرقة قال: أخرج البزاز والطبراني في الأوسط، عن
جابر بن عبد الله، والطبراني، والحاكم، والعقيلي، وابن عدي، وابن عمر،
والترمذي، عن علي، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا مدينة العلم وعلي بابها.
قال: وفي رواية: من أراد العلم فليأت الباب.
وفي أخرى: عن الترمذي عن علي: أنا دار الحكمة وعلي بابها.
وفي أخرى: عن ابن عدي: علي باب علمي (1) (2).
وفي فرائد السمطين، عن ابن عباس، عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: أنا مدينة العلم



(1) الصواعق المحرقة ص 73 الطبعة القديمة المصرية.
(2) ورواه القاضي مير حسين الميبدي الشافعي في مقدمة شرح الديوان المرتضوي، و
نقل عن الغزالي أنه روى عنه (صلى الله عليه وآله): أنا ميزان الحكمة وعلي كفتاه. وحكم بصحتهما (منه).
451
وعلي بابها، فمن أراد بابها فليأت عليا (1).
وفيه: عن كميل الصباحي (2)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنا دار الحكمة وعلي
بابها (3).
وقال ابن حجر في صواعقه: ان ابن الجوزي والنووي ذكرا أن الخبر المذكور
موضوع (4).
أقول: وهو نصب منهما وجهالة أو تجاهل، وقد ذكر متأخروا محدثيهم أن ابن
الجوزي قد تساهل في دعوى الوضع، فربما نظم الصحيح والحسن في الموضوع
تحكما، وكيف يكون موضوعا وقد تكرر وروده واخراجه في كتبهم المعتمدة، كما
سلف بيانه.
ونقل ابن حجر في الصواعق المحرقة عن الحاكم أنه قال: الحديث المذكور
صحيح، ونقل عن بعض المتأخرين المضطلعين من المحدثين أنه صوب كونه
حسنا (5).
وتحدلق بعض النصاب في بعض تؤاليفه (6)، فزعم أن عليا (عليه السلام) في الخبر صفة



(1) فرائد السمطين 1: 98 برقم: 67.
(2) كذا في الأصل وفي المصدر: عن سلمة بن كهيل، عن الصنابجي.
(3) فرائد السمطين 1: 99 برقم: 68.
(4) الصواعق المحرقة ص 73.
(5) الصواعق المحرقة ص 73.
(6) وقال العلامة الفيلسوف جلال الدين محمد الدواني الشافعي في آخر الرسالة الزوراء
(ص 88) في تحقيق أن شبح الشئ وحقيقته غير صورته الظاهرة في الحسن ونحوه، وأنها
تختلف حالها بحسب اختلاف المواطن ما نصه:
فإذا اعتقدت أن حقيقة ما تظهر في موطن في غير صورة عرضية محتاجة، وفي آخر
بصورة جوهرية مستغنية، فاجعل ذلك تأنيسا لك تكسر به صولة نبو طبعك عنه في بدو
النظر حتى يأتيك اليقين، وتشرف على حقيقة قول سيدنا المبعوث لتتميم بناء النبأ والانباء
(النوم أخو الموت) وقول صاحب سره وباب مدينة علمه علي عليه أفضل الصلاة و
السلام (الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا) وأورده أيضا قطب الدين الشيرازي الشافعي في
مكاتيبه (منه).
452
مشبهة لا علم، وان المراد وصف بابها بالعلو والارتفاع. وهو كما ترى في غاية
السخافة، فقوله (صلى الله عليه وآله) (فمن أراد المدينة فليأت الباب) وفي رواية ابن عباس (فمن
أراد بابها فليأت عليا).
وأنت خبير بأنه مع قطع النظر عن ذلك فحمله على ما زعمه ينافي البلاغة النبوية
وينافر النظم المحمدي الناشي عن مصدر الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة
ومولدها.
واعلم أن للعلماء في الحكمة أقوالا، منها: أنها علم الشرائع والأحكام. ومنها:
استقامة الحال عاجلا وآجلا. ومنها: بلوغ النفس إلى كمالها الممكن في جانبي العلم
والعمل.
وقيل: هي معرفة أحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر
الطاقة البشرية.
الحديث التاسع والثلاثون
[سعة علمه عليه السلام]
الحموي في فرائد السمطين، عن أبي البختري، قال: رأيت ابن عم
رسول الله (صلى الله عليه وآله) عليا (عليه السلام) صعد المنبر بالكوفة وعليه مدرعة كانت لرسول الله (صلى الله عليه وآله)،
متقلدا بسيف رسول الله (صلى الله عليه وآله)، متعمما بعمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي إصبعه خاتم
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقعد على المنبر وكشف عن بطنه، فقال: سلوني قبل أن تفقدوني،

453
فإنما بين الجوانح (1) مني علم جم، هذا سفط العلم، هذا لعاب (2) رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
هذا ما زقني (3) رسول الله (صلى الله عليه وآله) زقا من غير وحي أوحي إلي.
فوالله لو ثنيت لي وسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم، وأهل
الإنجيل بإنجيلهم، حتى ينطق الله التوراة والإنجيل، فتقول: صدق علي قد آتاكم بما
أنزل الله في وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون (4).
أقول: هذا الخبر من المستفيضات، وهو يدل على سعة علمه وفرط تبحره في
العلوم الإلهية، وعظم توغله في المقامات العلية والمراتب البهية.
وفي الصواعق المحرقة: أخرج ابن سعد عنه، قال: والله ما نزلت آية الا وقد
علمت في من نزلت وأين نزلت وعلى من نزلت، ان ربي وهب لي قلبا عقولا ولسانا
ناطقا.
وأخرج ابن سعد وغيره عن أبي الطفيل، قال: قال علي (عليه السلام): سلوني عن كتاب
الله، فإنه ليس آية الا وقد عرفت بليل نزلت أم نهار أم سهل أم جبل (5).
وروى مسلم في صحيحه في تأويل غافر أعني: حم تنزيل الكتاب، عن ابن
عباس رضي الله عنه، قال: كان علي (عليه السلام) يعرف بها الفتن. قال: وأراه زاد في الحديث:
وكل جماعة كانت في الأرض أو تكون في الأرض، وكل قرية كانت أو تكون في
الأرض.
وروي أن عليا (عليه السلام) قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني عن كتاب
الله، فما من آية الا وأعلم حيث نزلت بحضيض جبل أو سهل أرض، وسلوني عن



(1) الجوانح: الضلوع تحت التراب مما يلي الصدر واحدتها جانحة - القاموس.
(2) اللعاب كغراب: ما سال من الفم - القاموس.
(3) الزق: طعام الطير فرخه - القاموس.
(4) الفرائد السمطين 1: 341 برقم: 263.
(5) الصواعق المحرقة ص 76.
454
الفتن، فما من فتنة الا وقد علمت كبشها ومن يقتل فيها. رواه في الجزء الخامس من
صحيحه (1).
وروى أحمد بن حنبل في مسنده، عن سعد، قال: لم يكن أحد من أصحاب
النبي (صلى الله عليه وآله) يقول: سلوني الا علي بن أبي طالب (عليه السلام) (2).
وفي الصواعق المحرقة: أخرج ابن سعد، عن ابن عباس، قال: إذا حدثنا ثقة عن
علي بالفتيا لا نعدوها (3).
وأخرج عن سعيد بن المسيب، قال: كان عمر بن الخطاب يتعوذ بالله من معضلة
ليس لها أبو الحسن يعني: عليا (4).
وروى ابن المغازلي الشافعي باسناده عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): أتاني جبرئيل (عليه السلام) بدرنوك (5) من الجنة، فجلست عليه، فلما
صرت بين يدي ربي كلمني وناجاني، فما علمني شيئا الا وعلمته عليا (6)، وهو
باب مدينة علمي، ثم دعاه إليه فقال له: يا علي سلمك سلمي وحربك حربي،
وأنت العلم ما بيني وبين أمتي من بعدي (عليه السلام)).
وفي كتاب الأربعين للامام الرازي من فحول الأشعرية وأساطين الشافعية،
روى عنه (عليه السلام) أنه قال: لو كسرت لي وسادة، ثم جلست عليها، لقضيت بين أهل



(1) الطرائف ص 73 عن صحيح مسلم، والعمدة لابن بطريق ص 264 عنه.
(2) فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل 2: 646 برقم: 1098، والطرائف ص 74 عن
مسند أحمد، والعمدة ص 261 عنه.
(3) الصواعق المحرقة ص 76.
(4) الصواعق المحرقة ص 76.
(5) الدرنوك بالضم: ضرب من الثياب والبسط - القاموس.
(6) في المناقب: الا علمه علي.
(7) المناقب لابن المغازلي ص 50 برقم: 73.
455
التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل
الفرقان بفرقانهم، والله ما من آية نزلت في بحر ولا بر الا وأنا أعلم في من نزلت (1).
وفي فرائد السمطين عن أبي صالح الحنفي عن علي (عليه السلام) قال: قلت: يا رسول الله
وصني، قال: قل ربي الله ثم استقم، قال قلت: ربي الله وما توفيقي الا بالله عليه
توكلت واليه أنيب، قال: ليهنيك العلم أبا الحسن، لقد شربت العلم شربا ونهلته
نهلا (2).
وفيه أيضا عن سلمان رضي الله عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أعلم أمتي من بعدي علي بن أبي
طالب (3).
تنبيه:
طعن أبو هاشم في قوله (عليه السلام) (والله لو كسرت لي وسادة ثم جلست عليها لقضيت
بين أهل التوراة بتوراتهم وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم)
فقال: هذه الكتب منسوخة فكيف يجوز الحكم بها؟
وأجاب عنه جماعة منهم السيد المرتضى علم الهدى عطر الله مرقده، والفخر
الرازي في الأربعين الذي صنفه لولده بأجوبة عديدة:
منها: أن المراد شرح كمال علمه بتلك الأحكام المنسوخة على التفصيل
بالأحكام الناسخة لها الواردة في القرآن.
ومنها: أن قضاءه لليهود والنصارى بمكنون من الحكم والقضاء على وفق
أديانهم بعد بذل الجزية، وكأن المراد أنه لو جاز للمسلم ذلك لكان هو قادرا عليه.



(1) راجع: إحقاق الحق 7: 579 - 581.
(2) فرائد السمطين 1: 100 برقم: 69.
(3) فرائد السمطين 1: 97 برقم: 66.
456
ومنها: أن المراد أنه يستخرج من الكتب المذكورة نصوصا دالة على نبوة
محمد (صلى الله عليه وآله).
ومنها: أنه خرج مخرج الكناية عن كثرة احاطته بالعلوم وكمال تبحره (3).
ومن السوانح أن المراد الحكم بين فرق كل من أرباب الكتب المذكورة بحقيقة
المحق وابطال المبطل، كأن يحكم بين فرق اليهود الثلاث والسبعين بتعيين الفرقة
الناجية منها. وفي هذا لطف الا أنه بعيد.
وأبعد منه ما قيل: إن المراد لحكمت بين أهل هذه الكتب وبين أهل الفرقان أيهم
على الحق وأيهم على الباطل، ومرجعه إلى اثبات حقيقة أهل الفرقان من الكتب
المذكورة.
الحديث الأربعون
[ما ورد في علمه (عليه السلام) وانتساب جميع العلوم إليه (عليه السلام)]
صاحب كتاب فرائد السمطين عن علقمة عن عبد الله، قال: كنت عند النبي (صلى الله عليه وآله)
فسئل عن علي (عليه السلام)، فقال: قسمت الحكمة عشرة أجزاء، فاعطي على تسعة أجزاء
والناس جزء واحدا (2).
أقول: الأخبار المصرحة بسعة علمه (عليه السلام) وشدة احاطته بالعلوم الإلهية
والمعارف الحقيقية والأحكام الشرعية أكثر من أن تنحصر بعدا وتنتهي إلى حد، و
لا علينا لو أطلقنا عنان القلم في هذا المقام، وذكرنا جملة من تلك الأخبار المصرحة
بأعلمية ذلك الامام.



(1) الطرائف ص 517 عن أربعين الرازي.
(2) فرائد السمطين 1: 94 برقم: 63.
457
فنقول: أخرج ابن عساكر عن ابن مسعود قال: أفرض المدينة وأقضاها علي.
وأورده ابن حجر في الصواعق (1).
وفيها: أخرج الحاكم وصححه عن علي قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى اليمن،
فقلت: يا رسول الله بعثتني وأنا شاب أقضى بينهم ولا أدري ما القضاء، فضرب
بيده على صدري ثم قال: اللهم اهد قلبه وثبت لسانه، فوالله الذي فلق الحبة ما
شككت في قضاء بين اثنين (2).
وفيها: أخرج ابن سعد عن علي (عليه السلام) أنه قيل له: مالك أكثر أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وآله) حديثا؟ قال: اني إذا سألته أنبأني، وإذا سكت ابتدأني (3).
وفي كتاب فرائد السمطين، عن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب (عليهم السلام) عن أبيه، عن جده الحسين، عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال:
علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف باب كل باب يفتح لي ألف باب (4).
وروى الثعلبي في تفسير قوله تعالى (وتعيها اذن واعية) قال: قال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): سألت الله أن يجعلها اذنك يا علي، قال (عليه السلام): فما نسيت بعد ذلك
وما كان لي أن أنساه (5).
وروى نحو ذلك ابن المغازلي في كتابه باسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله) (6).
وروى الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي فيما أورده في كتابه واستخرجه من



(1) الصواعق المحرقة ص 76.
(2) الصواعق المحرقة 73 ح 10.
(3) الصواعق المحرقة ص 73 ح 11.
(4) فرائد السمطين 1: 101 برقم: 70.
(5) راجع: كفاية الطالب ص 110 و 236، وجامع البيان 29: 31، والطرائف ص 93
عن الثعلبي.
(6) المناقب لابن المغازلي ص 265 و 319.
458
التفاسير الاثني عشر، وهو من فحول علماء المخالفين في تفسير قوله تعالى (واسألوا
أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) (1) باسناده إلى ابن عباس، قال: يعني أهل البيت
محمدا وعليا (2) وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)، هم أهل الذكر والعلم والعقل
والبيان، هم أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة.
ورواه الحافظ محمد بن مؤمن من طريق آخر عن سفيان الثوري، عن السدي،
عن الحارث بأتم من هذه الألفاظ (3).
وروى الثعلبي في تفسير قوله تعالى (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده
علم الكتاب) (4) من طريقين، أن المراد من قوله تعالى (ومن عنده علم
الكتاب) هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) (5).
وقد رواه من طرق متعددة عنه (صلى الله عليه وآله) أنه قال: أقضاكم علي بن أبي طالب (6).
ومعلوم أن القضاء يحتاج إلى الإحاطة بجميع العلوم، فمن كان أقضى فهو أعلم.
وفي الصواعق المحرقة: أخرج ابن سعد عن سعيد بن المسيب قال: كان عمر بن
الخطاب يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن يعني عليا (عليه السلام) (عليه السلام)).
وفي الصواعق أيضا أنه (عليه السلام) ذكر عند عائشة فقالت: انه أعلم من بقي بالسنة (8).
وفيها أيضا: قال عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة: كان لعلي ما شئت من ضرس



(1) النحل: 43.
(2) في الطرائف: أهل بيت محمد وعلي...
(3) الطرائف ص 93 - 94 عنه، وإحقاق الحق 3: 482 عنه.
(4) الرعد: 43.
(5) الطرائف ص 99 عن الثعلبي.
(6) راجع: إحقاق الحق 4: 321 - 323.
(7) الصواعق المحرقة ص 76.
(8) الصواعق المحرقة ص 76.
459
قاطع في العلم، وكان له القدم في الاسلام والصهر برسول الله، والفقه في السنة،
والنجدة في الحرب، والجود في المال (1). وهاهنا مقامات:
المقام الأول
في كونه (عليه السلام) أعلم الناس واستاد العالمين اجمالا
من المعلوم أن قوله (صلى الله عليه وآله) (أنا مدينة العلم وعلي بابها) ليس المقصود منه الا أنه
هو المنبع الذي يفيض عنه العلوم الاسلامية، والأسرار الإلهية، واللطائف الحكمية
التي اشتمل عليها القرآن الكريم والسنة المقدسة، وهو مصدرها والمحيط بها.
لأن شأن المدينة لما تحتوي عليه كذلك ثبت أن عليا (عليه السلام) هو المفزع لتلك الأسرار
المصونة عن الأغيار، والمهتدي لتفاصيل جملها وأحكامها الكلية وحقائقها الحقيقية،
بحسب ماله من كمال الحدس، وفرط الذكاء، وقوة الاستعداد، وكثرة الملازمة
للأستاذ الكامل، وصفاء جوهر النفس في حد ذاتها بحيث تصير تلك الأسرار سهلة
التناول قريبة المأخذ لسائر الخلق، لأن الباب هو الجهة التي منها ينتفع الخلق من
المدينة، ويمكنهم تناول ما أرادوا منها.
والسبب في بلوغه (عليه السلام) هذا المبلغ تربية رسول الله (صلى الله عليه وآله) من أول عمره إلى أن
أعده لأعلى مراتب الكمالات النفسانية، كما ذكره (عليه السلام) في حديث المناشدة
المروي من طريق صدر الأئمة موفق بن أحمد المكي، عن فخر خوارزم الزمخشري.
وفي الخطبة القاصعة (2) من خطبه (عليه السلام) المذكورة في نهج البلاغة بقوله: وقد علمتم



(1) الصواعق المحرقة ص 76.
(2) القصع: ابتلاع جوع الماء والجرة، وهو ما يخرجه البعير للاجترار إلى الجوف، و
قصعه قصعا صغره وحقره. وقيل في وجه تسميتها بهذا الاسم: انه خطب بها أهل الكوفة
على ناقة تقصع بجرتها، فسميت الخطبة القاصعة، أي: الناقة القاصعة. وقيل: بل هي
مأخوذة من المعنى الثاني، لأن فيها قصع إبليس وتحقره (منه).
460
موضعي من رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره
وأنا وليد (1) يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسده، ويشمني
عرفه (2)، وكان يمضغ الشئ ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في
فعل (3). إلى آخر الكلام، حتى صار بهذه الرتبة أستاذ العالمين بعده (صلى الله عليه وآله).
قال الفخر الرازي في الأربعين: لا نزاع أن عليا (عليه السلام) كان في أصل الخلقة في غاية
الذكاء والفطنة والاستعداد للعلم، وكان محمد (صلى الله عليه وآله) أفضل العلماء، وكان علي (عليه السلام)
في غاية الحرص في طلب العلم، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) في غاية الحرص في تربيته وفي
ارشاده إلى اكتساب الفضائل.
ثم إن عليا (عليه السلام) من أول صغره في حجره (صلى الله عليه وآله)، وفي كبره صار ختنا له، وكان
يدخل إليه في كل الأوقات. ومن المعلوم أن التلميذ إذا كان في غاية الذكاء
والحرص على التعلم، وكان الأستاذ في غاية الفضل والحرص على التعليم.
ثم اتفق لمثل هذا التلميذ أن يتصل بمثل (4) هذا الأستاذ من زمان الصغر، وكان
ذلك الاتصال بخدمته حاصلا في كل الأوقات، فإنه يبلغ ذلك التلميذ مبلغا عظيما (انتهى.
وقد تلونا عليك من الأخبار المصرحة بأنه (عليه السلام) أعلم الناس بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)
ما فيه كفاية، والله ولي التوفيق والهداية.



(1) الوليد: المولود والصبي. القاموس.
(2) العرف: الريح طيبة أو منتنة، وأكثر استعمالها في الطيبة. القاموس.
(3) نهج البلاغة ص 300 رقم الخطبة 192.
(4) في المصدر: بخدمة.
(5) الأربعين للرازي ص 465.
461
المقام الثاني
في بيان ذلك تفصيلا
قال العالم الرباني في أوائل شرح النهج، وقبله الفخر الرازي في الأربعين: انا قد
تفحصنا عن أحوال العلوم بأسرها، فوجدنا أعظمها وأهمها هو العلم الإلهي، وقد
ورد في خطبة له (عليه السلام) من أسرار التوحيدات والنبوات والقضاء والقدر وأسرار
المعاد ما لم يأت في كلام أحد من أكابر العلماء وأساطين الحكمة، ثم وجدنا جميع فرق
الاسلام تنتهي في علومهم إليه.
أما المتكلمون: فاما معتزلة وانتسابهم إليه ظاهر، فان أكثر أصولهم مأخوذة من
ظاهر كلامه في التوحيد والعدل، وأيضا فإنهم ينتسبون إلى مشائخهم، كالحسن
البصري، وواصل بن عطاء، وكانوا منتسبين إلى علي (عليه السلام)، ومتلقفين عنه العلوم.
وإما أشعرية، ومعلوم أن أستاذهم أبو الحسن الأشعري، وكان تلميذا لأبي علي
الجبائي، الا أنه خالفه أخيرا في مواضع تعلمها من مذهبه.
وإما الشيعة، وانتسابهم إليه ظاهر، فإنهم يتلقفون العلوم عن أئمتهم، وأئمتهم
يأخذ بعضهم عن بعض إلى أن ينتهي إليه، وهو امامهم الأول.
وأما الخوارج، فهم وان كانوا في غاية من البعد عنه، الا أنهم ينتسبون إلى
مشايخهم، وقد كانوا تلامذة علي (عليه السلام).
وأما المفسرون، فرئيسهم ابن عباس رضي الله عنه، وقد كان تلميذا لعلي (عليه السلام).
وأما الفقهاء، فمذاهبهم المشهورة أربعة:
أحدها: مذهب أبي حنيفة، ومن المشهور أن أبا حنيفة قرأ على الصادق (عليه السلام)
وأخذ عنه الأحكام، وانتهاء الصادق (عليه السلام) إلى علي (عليه السلام) ظاهر.
الثاني: مذهب مالك، وقد كان مالك تلميذا لربيعة الرأي، وربيعة الرأي تلميذ
عكرمة، وعكرمة تلميذ ابن عباس، وابن عباس تلميذ لعلي (عليه السلام).

462
الثالث: مذهب الشافعي، وقد كان تلميذا لمالك، وقد علمت انتهاؤه إلى علي (عليه السلام).
الرابع: مذهب أحمد بن حنبل، وهو تلميذ الشافعي، فمرجع انتساب فقه الجميع
إلى علي (عليه السلام).
ومما يؤيد كماله في الفقه قول الرسول (صلى الله عليه وآله): أقضاكم علي. والأقضى لابد وأن
يكون أفقه وأعلم بقواعد الفقه وأصوله.
وأما الفصحاء، فمعلوم أن من ينتسب إلى الفصاحة بعده يملأون أوعية أذهانهم
من ألفاظه، ويضمونها كلامهم وخطبهم، فيكون منها بمنزلة درر العقود، كابن نباته
وغيره، والأمر في ذلك ظاهر.
وأما النحويون، فأول واضع للنحو أبو الأسود الدؤلي (1)، وكان ذلك
بارشاده (عليه السلام) له إلى ذلك. وبداية الأمر أن أبا الأسود سمع رجلا يقرأ ان الله برئ
من المشركين ورسوله، فأنكر ذلك وقال: نعوذ بالله من الحور بعد الكور، أي: من
نقصان الايمان بعد زيادته، وراجع عليا (عليه السلام) في ذلك، فقال له: نحوت أن أضع
للناس ميزانا يقومون به ألسنتهم، فقال له (عليه السلام): انح نحوه وأرشده إلى كيفية ذلك
الوضع وعلمه إياه.
وأما علماء الصوفية وأرباب العرفان، فنسبتهم إليه في تصفية الباطن وكيفية
السلوك إلى الله تعالى ظاهرة الانتهاء.
وأما علماء الشجاعة والممارسون الأسلحة والحروب، فهم أيضا ينتسبون إليه في
علم ذلك، فثبت بذلك أنه كان أستاذ الخلق وهاديهم إلى طريق الحق بعد



(1) قال الجلال السيوطي في المزار: قال أبو الطيب اللغوي: اختلف في اسمه، فقال عمرو
بن شيبة: اسمه عمرو بن سفيان بن ظالم وقال الجاحظ: اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان انتهى.
وقال أيضا: الدؤلي من ولد الدؤل بن مكي بن كنانة. قال السيرافي في طبقاته: قيل في دؤلي
بالفتح كما قيل في نمر نمري بالفتح استثقالا للكسرة. ويجوز تخفيف الهمزة فيقال: الدؤلي
بقلب الهمزة واوا لخفته، لأن الهمزة إذا فتحت قبلها ضمة حففت لقلبها واوا انتهى (منه).
463
رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومناقبه وفضائله أكثر من أن تحصى، وبالله التوفيق (2) انتهى.
المقام الثالث
في الإشارة إلى جملة من فضائله العجيبة الباهرة
وأحكامه الغريبة الزاهرة
منها: ما أورده الشيخ نور الدين المكي المالكي في الفصول المهمة: من أن
النبي (صلى الله عليه وآله) كان جالسا في المسجد وعنده أناس من الصحابة، إذ جاءه رجلان
يختصمان، فقال أحدهما: يا رسول الله ان لي حمارا ولهذا بقرة، وان بقرته نطحت
حماري فقتلته، فبدر رجل (2) من الحاضرين فقال: لا ضمان على البهائم، فقال
رسول الله (صلى الله عليه وآله): اقض بينهما يا علي.
فقال لهما علي (عليه السلام): أكان الحمار والبقرة موثقين أو كانا مرسلين؟ أم أحدهما
موثقا والاخر مرسلا؟ فقالا: كان الحمار موثقا والبقرة مرسلة وكان صاحبهما معهما،
فقال علي (عليه السلام): على صاحب البقرة الضمان، وذلك بحضرة النبي (صلى الله عليه وآله)، فقرر حكمه
وأمضى قضاؤه (3).
قلت: ورواه ابن حجر في الصواعق المحرقة.
ومنها: ما رواه في الفصول المهمة أيضا: من أن رجلا اتي به إلى عمر بن الخطاب،



(1) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 1: 78 - 79، والأربعين للرازي
ص 467 - 468.
(2) ذكر شيخنا 1 في بعض حواشيه أنه وجد في بعض الأخبار ما يدل على أن ذلك
القائل هو أبو بكر انتهى. ورأيت في المجلي لابن أبي جمهور الأحسائي قدس سره حديثا صرح فيه
بذلك، وأنه هو القائل بأنه لا ضمان على البهائم (منه).
(3) الفصول المهمة ص 34 - 35 ط النجف.
464
وكان أصدر منه أنه قال لجماعة من الناس وقد سألوه كيف أصبحت؟ قال: أصبحت
أحب الفتنة، وأكره الحق، وأصدق اليهود والنصارى، وأؤمن بما لم أره، وأقر بما لم
يخلق.
فرفع إلى عمر، فأرسل عمر إلى علي (عليه السلام) فلما جاءه أخبره بمقالة الرجل، فقال:
صدق يحب الفتنة، قال الله تعالى (إنما أموالكم وأولادكم فتنة) (1) ويكره الحق
يعني الموت، قال الله تعالى (وجاءت سكرة الموت بالحق) (2) ويصدق اليهود
والنصارى، قال الله تعالى (وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت
النصارى ليست اليهود على شئ) (3) ويؤمن بما لم يره يؤمن بالله، ويقر بما لم يخلق
يعني الساعة، فقال عمر: أعوذ بالله من معضلة لا علي لها (4).
ومنها: ما أورده في الكتاب المذكور من أنه وقعت واقعة حارت علماء وقتها
فيها، وهي أن رجلا تزوج بخنثى لها فرج كفرج الرجال وفرج كفرج النساء،
وأصدقها جارية كانت له، ودخل بالخنثى وأصابها، فحملت منه وجاءت بولد، ثم إن
الخنثى وطأت الجارية التي أصدقها لها الرجل، فحملت منها وجاءت بولد.
فاشتهرت قصتها ورفع أمرهما إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فسأل
عن حال الخنثى، فأخبر أنها تحيض وتطئ وتوطئ وتمني من الجانبين قد حبلت
وأحبلت، فصار الناس متحيري الأفهام في جوابها، وكيف الطريق إلى الحكم في
قضائها وفصل خطابها.
فاستدعى علي (عليه السلام) غلاميه برقا (5) وقنبرا، وأمرهما أن يذهبا إلى هذه الخنثى



(1) التغابن: 15.
(2) ق: 19.
(3) البقرة: 113.
(4) الفصول المهمة ص 35.
(5) في الفصول: يرفا.
465
ويعدا أضلاعها من الجانبين وينظرا، فان كانت متساوية فهي امرأة، وإن كان
الجانب الأيسر أنقص من الجانب الأيمن بضلع واحد فهو رجل.
فذهبا إلى الخنثى كما أمرهما (عليه السلام) وعدا أضلاعهما من الجانبين، فوجدا أضلاع
الجانب الأيسر أنقص من أضلاع الجانب الأيمن بضلع، فجاءا وأخبراه بذلك وشهدا
عنده به، فحكم على الخنثى بأنها رجل، وفرق بينهما وبين زوجتها (1).
قال نور الدين بعد نقل هذه القضية (2): ودليل ذلك أن الله تعالى لما خلق
آدم (عليه السلام) وحيدا أراد سبحانه وتعالى لاحسانه إليه ولخفاء حكمته فيه، أن يجعل له
زوجا من جنسه ليسكن كل واحد منهما إلى صاحبه، فلما نام آدم (عليه السلام) خلق الله
عز وجل من ضلعه القصير من جانبه الأيسر حواء، فانتبه فوجدها جالسة إلى
جانبه كأحسن ما يكون من الصور (3) فلذلك صار الرجل ناقصا من الجانب



(1) الفصول المهمة ص 35 - 36.
(2) في (س): القصة.
(3) رد بعض العلماء هذه الأخبار المتضمنة لخلق حواء من ضلع آدم الأقصر، وان
أضلاع الرجال أنقص بمخالفتها الاعتبار.
أقول: قد وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) أخبارا كثيرة بخلاف ذلك، وتكذيب ذلك
الأخبار في الفقيه والعلل وتفسير العياشي، وفي بعضها عن الباقر (عليه السلام) أنه سئل من أي
شئ خلق الله حواء؟ فقال: أي شئ يقولون هذا الخلق؟ قلت: يقولون: ان الله خلقها من
ضلع من أضلاع آدم، فقال: كذبوا يعجز أن يخلقها من غير ضلعه. ثم قال: أخبرني أبي عن
آبائه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ان الله تبارك وتعالى قبض قبضة من طين، فخلطها
بيمينه وكلتا يديه يمين، فخلق منها آدم ففضل فضلة من الطين فخلق منها حواء.
وفي العلل عنه (صلى الله عليه وآله) خلق الله عز وجل آدم من طين ومن فضلته وبقيته خلقت حواء.
وفي رواية أخرى: خلقت من باطنه ومن شماله ومن الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر.
وقال في الفقيه: وأما قول الله عز وجل (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من
نفس واحدة وخلق منها زوجها) والخبر الذي روي أن حواء خلقت من ضلع آدم
الأيسر صحيح، ومعناه من الطينة التي فضلت من ضلعه الأيسر، فلذلك صارت أضلاع
الرجال أنقص من أضلاع النساء بضلع.
ولبعض الفضلاء كلام في معنى خلقها من ضلعه الأيسر، وهو أنه إشارة إلى أن الجهة
الجسمانية الحيوانية في النساء أقوى منها في الرجال، والجهة الروحانية الملكية بالعكس من
ذلك، وذلك لأن اليمين مما يكن به عن عالم الملكوت الروحاني، والشمال مما يكن به عن
عالم الملك الجسماني، فالطين عبارة عن مادة الجسم، واليمين عبارة عن الروح ولا ملك الا
بملكوت، وهذا هو المعنى بقوله (عليه السلام) (وكلتا يديه يمين).
فالضلع الأيسر المنقوص من آدم كناية عن بعض الشهوات التي تنشأ من غيبة الجسمية
التي هي من عالم الخلق، وهو فضلة طينة المستنبط من باطنه التي صارت مادة لخلق حواء
فتنة في الحديث، على أن جهة الملكوت والأمر في الرجال أقوى من جهة الملك والخلق، و
بالعكس منها في النساء، فان الظاهر عنوان الباطن، وهذا هو السر في هذا النقص في أبدان
الرجال بالإضافة إلى النساء انتهى. وفيه ما لا يخفى فتأمل (منه).
466
الأيسر عن المرأة بالضلع، والمرأة كاملة الأضلاع من الجانبين، والأضلاع من
الجانبين، والأضلاع من الجانبين الكاملة أربعة وعشرون ضلعا، اثنى عشر في اليمين
واحدى عشر في الأيسر، وباعتبار هذه الحالة قيل للمرأة: ضلع أعوج.
وقد صرح النبي صلوات الله وسلامه عليه بأن المرأة خلقت من ضلع أعوج إذا
ذهبت بها تقيمها كسرتها، وان تركتها استمتعت بها على عوج، وقد نظم بعض
الأدباء ذلك فقال شعرا:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها * ألا ان تقويم الضلوع انكسارها
أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى * أليس عجيبا ضعفها واقتدارها
انتهى (1). قلت: وروى أصحابنا نحوا من ذلك على وجه أبسط.
وروى الصدوق عطر الله مرقده في كتاب من لا يحضره الفقيه بطريق حسن عن
عاصم بن حميد، عن محمد بن قيس (2)، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ان شريحا القاضي



(1) الفصول المهمة ص 36.
(2) محمد بن قيس هذا هو البجلي الثقة صاحب قضايا أمير المؤمنين (عليه السلام) بقرينة رواية
عاصم بن حميد عنه، كما يظهر من النجاشي، فلهذا نظم الحديث في سلك الحسن، حيث إن
الطريق إلى عاصم بن حميد حسن، وأكثر الأصحاب ينظمونه في سلك الضعيف، نظرا إلى
اشتراك محمد بن قيس بين الثقة وغيره (منه).
467
بينما هو في مجلس القضاء إذ أتته امرأة، فقالت: أيها القاضي اقض بيني وبين
خصمي، فقال لها: ومن خصمك؟ قالت: أنت، قال: أفرجوا لها، ففرجوا (3) لها،
فدخلت فقال: وما ظلامتك؟ فقالت: ان لي ما للرجال وما للنساء.
فقال شريح: ان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقضي على المبال، قالت: فاني أبول بهما جميعا
ويسكنان معا، قال شريح: والله ما سمعت بأعجب من هذا، قالت: وأعجب من
هذا، قال: وما هو؟ قالت: جامعني زوجي فولدت منه، وجامعت جاريتي فولدت
مني، فضرب شريح بإحدى يديه على الأخرى متعجبا.
ثم جاء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) وقص عليه القصة، فسألها أمير المؤمنين (عليه السلام) عن
ذلك، فقالت: هو كما ذكر، فقال: ومن زوجك؟ فقالت: فلان، فبعث إليه فدعاه،
فقال: أتعرف هذه؟ قال: نعم هذه زوجتي، فسأله عما قالت، فقال: هو كذلك،
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): لأنت أجرأ من راكب الأسد حين تقدم عليها بهذا الحال
ثم قال: يا قنبر أدخلها بيتا مع امرأة تعد أضلاعها، فقال زوجها: يا أمير المؤمنين
لا آمن عليها رجلا ولا أئتمن عليها امرأة.
فقال علي (عليه السلام): علي بدينار الخصي وكان من صالحي أهل الكوفة وكان يثق به،
فقال: يا دينار أدخلها بيتا وعرها من ثيابها ومرها أن تشد مئزرا وعد أضلاعها،
ففعل دينار ذلك، فكان أضلاعها سبعة عشر، تسعة من اليمين وثمانية من اليسار.
فألبسها علي (عليه السلام) ثياب الرجل والقلنسوة والنعلين وألقى عليها الرداء وألحقها
بالرجال، فقال زوجها: بنت عمي وقد ولدت مني تلحقها بالرجال، فقال: اني
حكمت عليها بحكم الله عز وجل، وان الله تعالى خلق حوراء من ضلع آدم الأيسر



(1) في الفقيه: فأفرجوا.
468
الأقصى، فأضلاع الرجال تنقص وأضلاع النساء تمام (1).
وما ذكر في هذا الخبر من عد الأضلاع يخالف ما نقلناه عن صاحب الفصول،
وما هنا هو الصحيح (2) لخروجه من العين الصافية، وأهل البيت أدرى بما فيه.
ووردت أحاديث اخر بهذا المعنى، وقد عمل عليها الشيخ المفيد وعلم الهدى
وابن إدريس (3)، وادعى المفيد والسيد الاجماع من الفرقة المحقة عليه.
وذهب الشيخ في الخلاف إلى اعتبار القرعة فيه (4) فان خرج الخنثى ذكرا أعطي
نصيب الذكر، وان خرج مؤنثا أعطي نصيب المرأة، لأنه أمر مشكل لا سبيل للعقل
إليه ولا نقل مقطوع به من اجماع ولا خبر متواتر ولا حديث صحيح، وكل أمر
كذلك فالمنقول عن أهل البيت (عليهم السلام) استعمال القرعة فيه (5).
والذي عليه الأكثر مثل الصدوقين وابن البراج وابن حمزة وسلار والعلامة
والشهيد وأكثر المتأخرين أنه يعطى نصف (6) نصيب ذكر وأنثى (عليه السلام)).



(1) من لا يحضره الفقيه 4: 327 - 328 برقم: 5704.
(2) ورواه الشيخ قدس سره في التهذيب لكن بطريق فيه جهالة، والعجب من بعض أصحابنا -
هو المحقق في الشرائع - حيث قدح فيه بذلك نظرا إلى ما في التهذيب، وغفل عما نقلناه عن
الفقيه، وحذا حذوه الشهيد الثاني في شرح الشرائع، ومولانا محسن الكاشاني، وهو كما
ترى (منه).
(3) الظاهر أن عمل السيد قدس سره وابن إدريس رحمه الله ليس على هذه الرواية، لأنهما لا يعملان
بالآحاد، اللهم الا أن يدعيا تواترها، وكان اعتمادها على ما زعماه من الاجماع، والحق أنه
غير ثابت والخلاف بدعوى الاجماع مجازفة (منه).
(4) الخلاف 4: 106 مسألة 116.
(5) في كيفية القسمة بناء على هذا القول طريقان، ذهب إلى كل قوم، أحدهما: أن يعطي
سهم أنثى ونصفه، والاخر أن يفرض مرة ذكرا ومرة أنثى، وتقسم الفريضة مرتين ويعطى
نصف النصيبين، ويختلف في بعض المواضع، كما إذا اجتمع معه ذكر وأنثى، فعلى الأول له
ثلاثة من تسعة، وعلى الثاني ثلاثة عشر من أربعين، فينقص ثلاث من واحد (منه).
(6) أي: نصف الأمرين، لامتناع أن يريد مجموعهما (منه).
469
لموثقة هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام) قال: قضى علي (عليه السلام) في الخنثى له ما
للرجال وله ما للنساء، قال: يورث من حيث يبول، فان بال منهما جميعا فمن حيث
سبق، فان خرج منهما سواء فمن حيث ينبعث، فان كانا سواء ورث ميراث الرجال
والنساء (8).
ولما رواه الصدوق - عطر الله مرقده - عن إسحاق بن عمار، عن جعفر بن محمد
عن أبيه (عليهما السلام) أن عليا (عليه السلام) كان يقول: الخنثى يورث من حيث يبول، فان بال منهما
جميعا، فمن أيهما سبق البول ورث منه، فان مات ولم يبل فنصف عقل المرأة ونصف
عقل الرجل (9).
ولتكافؤ الدعويين، مثلا إذا خلف ابنا وخنثى، فالابن يزعم أن له الثلثين
وللخنثى الثلث، والخنثى تدعي أن له النصف وللابن النصف، فيعصى الابن النصف،
إذ لا خلاف فيه، وكذا الثلث للخنثى يبقى سدس يدعيانه، وللترجيح فينصف.
وتحقيق المسألة واستيفاء البحث فيها موكول إلى شرحنا لرسالة الفرائض لأفضل
المحققين نصير الملة والحق والدين الطوسي قدس الله روحه وتابع فتوحه.
ومنها: ما رواه الحموي في كتاب فرائد السمطين عن أبي حرب بن الأسود أن
عمر اتي بامرأة وضعت لستة أشهر، فهم برجمها، فبلغ ذلك عليا (عليه السلام) فقال: ليس
عليها رجم، فبلغ ذلك عمر، فأرسل إليه يسأله، فقال علي (عليه السلام): (والوالدات



(1) الخلاف 4: 106 مسألة 116.
(2) في كيفية القسمة بناء على هذا القول طريقان، ذهب إلى كل قوم، أحدهما: أن يعطي
سهم أنثى ونصفه، والاخر أن يفرض مرة ذكرا ومرة أنثى، وتقسم الفريضة مرتين ويعطى
نصف النصيبين، ويختلف في بعض المواضع، كما إذا اجتمع معه ذكر وأنثى، فعلى الأول له
ثلاثة من تسعة، وعلى الثاني ثلاثة عشر من أربعين، فينقص ثلاث من واحد (منه).
(4) أي: نصف الأمرين، لامتناع أن يريد مجموعهما (منه).
(*) (عليه السلام) اعترض ابن إدريس رحمه الله على هذا القول، بأن صار أمره في الذكورة والأنوثة، لأنه
ليس طبيعة ثالثة - لقوله تعالى (يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور) وقوله تعالى
(خلق الزوجين الذكر والأنثى) إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حصر الحيوان في
الذكر والأنثى. ورد بدلالة الموثقة على ذلك، وعدم دلالة الآيات على الحصر، لأنها
خرجت مخرج الأغلب (منه).
(8) فروع الكافي 7: 157 ح 3. إلى هنا انتهى مقابلة الكتاب مع نسخة (س).
(9) من لا يحضره الفقيه 4: 326 برقم: 5701.
470
يرضعن أولاد هن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة (1)) وقال عز وجل
(وحمله وفصاله ثلاثون أشهر) (2) فستة أشهر حمله، وحولان تمام الرضاع لا حد
عليها، قال: فخلي عنها ثم ولدت بعد ذلك لستة أشهر (3).
ومنها: ما رواه في الكتاب المذكور أيضا: عن مسروق، قال: اتي عمر بامرأة
أنكحت في عدتها، ففرق بينهما، وجعل صداقها في بيت المال، وقال: لا أجيز مهرا
رد نكاحه، وقال: لا يجتمعان أبدا. زاد الشعبي: فبلغ ذلك عليا، فقال: لأن كانوا
جهلوا السنة لها المهر بما استحل من فرجها ويفرق بينهما، فإذا انقضت عدتها فهو
خاطب من الخطاب، فخطب عمر الناس وقال: ردوا الجهالات إلى السنة، ورجع
عمر إلى قول علي (عليه السلام) (4).
قلت: الصحيح أنه مع الدخول بالمعتدة تحرم مؤبدا، وان جهل العدة أو التحريم
أو كليهما، وكذا تحرم مؤبدا بالعقد وحده مع العلم بالعدة والتحريم لا مطلقا.
ومنها: ما رواه في الكتاب: عن رجل، عن ابن سيرين أن عمر سأل الناس كم
يتزوج المملوك؟ وقال لعلي (عليه السلام): إياك أعني يا صاحب المغافري - رداء كان عليه -
فقال: اثنتين (5).
ومنها: ما رواه في الكتاب المذكور: عن ابن عباس، قال: كنا في جنازة، قال
علي بن أبي طالب (عليه السلام) لزوج أم الغلام: أمسك عن امرأتك، فقال عمر: ولم يمسك
عن امرأته؟ اخرج ما جئت به، قال: نعم يا أمير المؤمنين يريد أن يستبرئ رحمها
لا يلقى فيه شيئا فليستوجب به الميراث من أخته ولا ميراث له فقال عمر: أعوذ



(1) البقرة: 233.
(2) الأحقاف: 15.
(3) فرائد السمطين 1: 346 - 347 برقم: 269.
(4) فرائد السمطين 1: 347 برقم: 270.
(5) فرائد السمطين 1: 348 برقم 271.
471
بالله من معضلة لا علي لها (1).
قلت: روى الثقة الجليل عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب قرب الإسناد عن
الصادق (عليه السلام) نحوه. والظاهر خروجه مخرج التقية.
ومنها: ما اختص بروايته المخالفون مما لا يجري الا على مذهبهم.
فمن ذلك ما ذكره الشيخ الجليل محمد بن طلحة الشامي الشافعي في كتابه مطالب
السؤول: من أن امرأة جاءت إليه وقد وضع رجله في الركاب، فقالت: يا أمير
المؤمنين ان أخي مات وخلف ستمائة دينار وقد دفعوا إلي من ماله دينارا واحدا،
فأسألك انصافي، فقال لها: أخوك له بنتان (2)؟ قالت: نعم، قال: لهما أربعمائة،
وخلف اما؟ قالت: نعم، قال: لها السدس مائة، وخلف زوجة؟ قالت: نعم، قال:
لها الثمن خمسة وسبعون دينارا، وخلف معك اثنى عشر أخا؟ قالت: نعم، قال:
لكل أخ ديناران ولك دينار، فقد أخذت حقك فانصرفي وركب، فسميت هذه
المسألة الدينارية (3).
ومنها: ما ذكره في الكتاب المذكور وغيره من كتبهم أنه (عليه السلام) كان على منبر
الكوفة، فقام إليه رجل وقال: يا أمير المؤمنين ان ابنتي قد مات زوجها ولها من
تركته الثمن وقد أعطوها التسع، فأسألك الانصاف، فقال: خلف صهرك بنتين؟
قال: نعم، قال: وأبواه باقيان؟ قال: نعم، قال: صار ثمنها تسعا فلا تطلب سواه
إرثا، ثم مضى في خطبته.
قال الشيخ كمال الدين ابن طلحة: فانظر إلى استحضار الأجوبة في أسرع من
رجع الطرف، واعلم أنه (عليه السلام) قد تجاوز غايات الوصف (4).



(1) فرائد السمطين 1: 348: برقم 272.
(2) في الكشف: خلف أخوك بنتين؟
(3) كشف الغمة 1: 132 عن مطالب السؤول.
(4) كشف الغمة 1: 132 ط قم.
472
قلت: وإنما كانت هاتان الروايتان من خواص المخالفين لما تضمنته الأولى من
توريث الاخوة مع وجود البنتين والام وهو تعصيب، ولما تضمنته الثانية من العول.
والمراد بالتعصيب اعطاء الفاضل عن سهام اولي السهام المقدرة العصبة، كما إذا
خلف الميت بنتا واحدة وله أخ أو ابن أخ، أو أختا واحدة وله عم أو ابن عم، فان
البنت لها النصف في المسألة الأولى، وكذا الأخت في الثانية، والنصف الباقي يكون
للأخ أو ابنه مع عدمه في المسألة الأولى، وللعم أو ابنه مع عدمه في المسألة الثانية،
وكذا غيرهما من المسائل مما يكون فيها فضل عن ذوي السهام. وعندنا أن الباقي
بعد ذوي السهام يكون لهم لا للعصبة، فيكون الباقي للبنت بالرد في الأولى، وكذا
للأخت في الثانية.
وأما العول، فهو ضد التعصيب، وهو زيادة السهام ونقصان التركة عنها على
وجه يحصل النقص على الجميع بالنسبة (1). وعندنا أنه على تقدير الزيادة يدخل
النقص على الأب والبنت والبنات والأخوات للأب والام أو للأب، وعليه اجماع
أهل البيت (عليهم السلام) وأخبارهم به متضافرة.
قال الباقر (عليه السلام): كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ان الذي أحصى رمل عالج (1)
ليعلم أن السهام لا تعول على ستة (2) لو يبصرون وجهها لم تجز ستة (3).



(1) بالحاق السهم الزائد بالفريضة وقسمتها على الجميع. والعول: إما من الميل، و
الفريضة حينئذ عالة على أهلها مائلة بالجور عليهم لنقصان سهامهم، أو من عال الرجل إذا
كثر عياله لكثرة السهام فيها، أو من عال إذا غلب لغلبة أهل السهام بالنقص (منه).
(2) عالج: موضع به رمل.
(3) قوله (لا تعول على ستة) أي: لا تزيد. قال بعض الأفاضل في بيان ذلك: ان مسألة
العول التي وقعت في زمن عمر كانت من ستة، وهي أن امرأة ماتت في عهده عن زوج و
أختين، وفريضتهم من ستة، لأن للزوج النصف من اثنين، وللأختين الثلثان من ثلاثة:
فتضربها فيها للتبائن، فتبلغ ستة، فللزوج نصفها ثلثه، وللأختين ثلثاها أربعة، فتعول
واحدا، والا فالعول قد يكون فيما فريضة غير الستة، وقد تعول الستة إلى ثمانية، كما إذا
كان معهم أخت لأم، والى تسعة بأن كان معهم أخت أخرى لام، والى عشرة كما إذا كان
معهم محجوبة وهكذا.
فأصل الفريضة فيما ذكر ستة، ولو أبصروا صرف وجوه هذه السهام لما تجاوزت الستة،
بأن يعطي الزوج في المثال الأول النصف ثلاثة، والأختان ثلاثة، فيقع النقص عليهما انتهى.
أقول ما أفاده قدس سره بعيد جدا، ويلزم منه تخصيص الانكار بمسألة شخصية أو جزئية، لا
بجميع مسائل العول مع عدم ثبوت ما ادعاه، من أن تلك المسألة أول ما وقع في زمان عمر،
وان زعم انحصار مسائل العول التي وقعت في زمانه في هذه المسألة، ففساده واضح.
والأظهر أن المراد أن السهام لا تزيد على الفروض الستة النصف والربع والثمن والثلثين
والثلث والسدس، ولو كانوا يبصرون وجوهها وما يقدم وما يؤخر لم ترد على الفروض
المذكورة ولم تحصل عول قط، إذ على العول تحصل سهام اخر غير هذه الفروض، فلا
ينحصر السهام في الستة، بل تزيد على ضعفها، فتأمل (منه).
473
وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: من شاء باهلته عند الحجر الأسود أن الله عز وجل
لم يذكر في كتابه نصفين وثلثا.
وقال أيضا: سبحان الله العظيم أترون أن الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في
مال نصفا ونصفا وثلثا، فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له
زفر: يا بن عباس فمن أول من أعال الفرائض؟ فقال: عمر لما التفت الفرائض عنده
ودفع بعضها بعضا، فقال: والله ما أدري أيكم قدم الله وأيكم أخر، وما أجد شيئا
هو أوسع من أن اقسم عليكم هذا المال بالحصص.
قال ابن عباس: وأيم الله لو قدمتم من قدم الله وأخرتم من أخر الله ما عالت
فريضة، فقال له زفر: فأيها قدم الله وأيها أخر؟ فقال: كل فريضة لم يهبطها الله الا
إلى فريضة، فهذا ما قدم الله.
وأما ما أخر الله، فكل فريضة إذا زالت عن فرضها ولم يكن لها الا ما يبقى،
فتلك التي أخر، فأما التي قدم فالزوج له النصف، فإذا دخل عليه ما يزيله عنه



(4) فروع الكافي 7: 79 ح 2.
474
رجع إلى الربع لا يزيله عنه شئ، ومثله الزوجة والام.
وأما التي أخر، ففريضة البنات والأخوات لها النصف والثلثان، فإذا أزالتهن
الفرائض عن ذلك لم يكن لهن الا ما بقي، فإذا اجتمع ما قدم الله وما أخر بدأ بما قدم
الله وأعطي حقه كاملا، فان بقي شئ كان لما أخر (1).
ومنها: ما ذكروه في الكتاب المذكور أنه رفع إليه (عليه السلام) أن شريحا القاضي قد مضى
في امرأة ماتت وخلفت زوجا وابني عم، أحدهما أخ لام، وقد أعطي الزوج
النصف، وأعطي الباقي لابن عمها الذي هو أخوها لامها وحرم الاخر.
فأحضره (عليه السلام) وقال: ما أمر بلغني عن قضائك في القضية المرأة المتوفاة؟ قال:
يا أمير المؤمنين قضيت بكتاب الله، وأجريت ابن العم لكونه أخا من أم مجرى
أخوين أحدهما من أب والاخر من أم.
فأنكر عليه علي (عليه السلام) وقال: أفي كتاب الله تعالى أن الباقي بعد الزوج لابن العم
الذي هو أخ من أم؟ قال: لا، قال: فقد قال الله تعالى (وإن كان رجل يورث
كلالة أو مرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منها السدس) فجعل للزوج النصف،
وأعطى الأخ من الام السدس، ثم قسم الباقي بين ابني العم، فحصل لابن العم الذي
هو أخ من الام الثلث، وابن العم الذي ليس بأخ السدس وللزوج نصفا، فتكملت
الفريضة، ورد قضاء الشيخ واستدركه (2).
قلت: ان هذه القسمة في هذه المسائل وقسمة الفرائض أوردها الشيخ كمال
الدين بن طلحة وغيره من علماء الجمهور، وليست مذهبا لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)،
ولكنه لشرفه ومحله من العلم ومكانه من الدين والفضل والجلالة والإحاطة
بالشريعة المطهرة والسنة النبوية المقدسة، يحب أهل كل طائفة أن ينبسوا إليه دقائق



(1) فروع الكافي 7: 79 - 80 ح 3.
(2) كشف الغمة 1: 134 - 135 عنه.
475
علومهم ومحاسن ما يجدونه في مذاهبهم، كما نبه عليه الوزير السعيد علي بن عيسى
الأربلي في كشف الغمة (1).
ويمكن أن يكون (عليه السلام) قد أفتى بها على مذهبهم تقية، فإنه (عليه السلام) كان ممنوعا في
أيام خلافته عن كثير من إراداته الدينية، حتى أنه أراد عزل شريح وقال له: غرب
ذهنك، وعلت سنك، وارتشى ابنك، فلم يتمكن من عزله والاستبدال به، وكم
مثلها مما منع (عليه السلام) أن يجريه على الحق الذي لا لبس فيه، حتى قيل له رأيك مع رأي
عمر أحب الينا من انفرادك. ولما قيل له ذلك قال لعبيدة السلماني: اقضوا كما كنتم
تقضون فاني أكره الخلاف، وكان عبيدة هذا قاضيا.
ومن جملة قضاياه الباهرة ما رواه الخطيب الخوارزمي في المناقب، قال: حدثني
الامام العلامة فخر خوارزم أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري مرفوعا إلى الحسن
أن عمر بن الخطاب اتي بامرأة مجنونة حبلى قد زنت، فأراد أن يحدها، فقال له
علي (عليه السلام): أما سمعت ما قاله النبي (صلى الله عليه وآله)؟ قال: وما قال؟ قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
رفع القلم عن ثلاثة عن المجنون حتى يبرأ، وعن الغلام حتى يدرك، وعن النائم حتى
يستيقظ، فخلى عنها (2).
ومن قضاياه العجيبة ما رواه كمال الدين بن طلحة في الكتاب المذكور أنه (عليه السلام)
حاكم بالكوفة يهوديا في درع، والدرع بيد اليهودي، فأنكر اليهودي دعواه، فطالبه
شريح بمن يشهد بها، فشهد الحسن بن علي (عليهما السلام) بالدرع، فرد شريح شهادته، وقال:
يا أمير المؤمنين كيف أقبل شهادة ابنك لك، والولد لا تقبل شهادته لوالده،
فقال (عليه السلام): في أي كتاب وأي سنة وجدت أن شهادة الولد لا تقبل؟ ثم عزله عن
القضاء، وأخرجه إلى قرية تركه بها نيفا وعشرين يوما، ثم أعاده إلى مكانه



(1) كشف الغمة 1: 135 - 136.
(2) المناقب للخوارزمي ص 80 برقم: 64.
476
وولايته.
قال كمال الدين بن طلحة: وكشف سر هذه الواقعة وما وقع من علي (عليه السلام) في حق
شريح أنه لم يدع الدرع لنفسه، وإنما ادعاه لبيت المال، فإنه نائب المسلمين والامام
القائم بمصالحهم، فادعى الدرع لهم وشهد الحسن (عليه السلام) بها لهم، فظن شريح أنها
لعلي (عليه السلام) وان الحسن (عليه السلام) شهد بها له، فأدبه لتركه الفحص وتدقيق النظر، فان
ذلك يوجب التعطيل للحقوق وايصالها إلى غير مستحقها.
ثم قال ابن طلحة: ومن العجائب والغرائب أن جماعة من العلماء منهم إسحاق
بن راهويه، وأبو ثور، وابن المنذر، والمزني، وأحمد بن حنبل في أحد الروايات عنه
لما بلغهم هذه القصة، وما اعتمد علي (عليه السلام) مع شريح، استدلوا بذلك على جواز
شهادة الولد لوالده، وجعلوا ذلك مذهبا لهم، وأجروه مجرى شهادة الأخ لأخيه،
استنادا إلى هذه الواقعة، واستدلالا بفعله (عليه السلام)، وغفلوا عن سرها وحقيقة
أمرها (1) انتهى.
ومنها: ما رواه الحافظ أسعد بن إبراهيم الأربلي من أعيان المخالفين، عن شيخه
سلطان المحدثين أبي الخطاب بن دحية، يرفعه إلى شريح الخضرمي، عن كعب
الأحبار، قال: بينما رجلان جالسان في زمن عمر بن الخطاب إذ مر بهما رجل مقيد
وهو عبد لبني نوفل، فتحاروا في ثقل قيده، وقدر كل واحد وزنه حزرا، فقال
أحدهما: امرأته طالق ثلاثا ان لم يكن وزنه كما قلت، وحلف الاخر مثل ذلك،
واستشكل الأمر بينهما، وحلف كل واحد بطلاق زوجته، فمضيا إلى مولى العبد
وعرفاه الحديث وسألاه عن وزن القيد أو يفك القيد، فحلف بالطلاق أن لا يفكه،
فمضيا إلى عمر بن الخطاب وقصا عليه ذلك، قال: اذهبوا إلى علي وقصوا عليه
القصة.



(1) كشف الغمة 1: 135 عن ابن طلحة.
477
فلما حضروا عنده دعا بجفنة ثم صب فيها ماء وقال: ارفعوا القيد بخيط وادخلوا
القيد ورجليه في الجفنة، ثم صبوا فيها الماء حتى تمتلئ، ففعلوا وامتلأت وقال:
ارفعوا القيد فرفعوا القيد حتى خرج من الماء ثم دعا بزبر من حديد، فوضعها في
الماء حتى تراجع الماء إلى موضعه حتى كأن القيد فيه، ثم قال: زنوا هذا الحديد فإنه
وزن القيد، وبلغ عمر ما جرى من علي (عليه السلام) فقال: الحق لا يعطى الحق قالها ثلاثا.
ومن جواباته العجيبة عن المسائل المعضلة ما ذكره العالم الرباني كمال الدين ميثم
بن علي بن ميثم البحراني في شرح الخطبة الشقشقية عن أبي الحسن الكندي أن
رجلا من أهل السواد ناوله كتابا وهو يخطب الخطبة المذكورة وكان فيه عدة مسائل:
إحداها: ما الحيوان الذي خرج من بطن حيوان آخر وليس بينهما نسب؟
فأجاب (عليه السلام) بأنه يونس بن متى خرج من بطن الحوت.
الثانية: ما الشئ الذي قليله مباح وكثيره حرام؟ فقال (عليه السلام): هو نهر طالوت
لقوله تعالى (الا من اغترف غرفة بيده) (1).
الثالثة: ما العبادة التي ان فعلها واحد استحق العقوبة، وان لن يفعلها استحق
العقوبة أيضا؟ فأجاب بأنها صلاة السكارى.
الرابعة: الطائر الذي لا فرخ له ولا فرع ولا أصل؟ فقال: هو طائر عيسى في
قوله تعالى (إذ تخلق من الطين كهيئة الطير باذني فتنفخ فيه فيكون طيرا
باذني) (2).
الخامسة: رجل عليه من الدين ألف درهم وله في كيسه ألف درهم، فضمنه
ضامن بألف درهم، فحال عليهما الحول، فالزكاة على أي المالين تجب؟ فقال: ان
ضمن الضامن بإجازة من عليه الدين فلا زكاة عليه، فان ضمنه من غير اذنه



(1) البقرة: 249.
(2) المائدة: 110
478
فالزكاة مفروضة في ماله.
السادسة: حج جماعة ونزلوا في دار من دور مكة وأغلق واحد منهم باب الدار
وفيها حمام، فمتن من العطش قبل عودهم إلى الدار، فالجزاء على أيهم يجب؟
فقال (عليه السلام): على الذي أغلق الباب ولم يخرجهن ولم يضع لهن ماء.
السابعة: شهد شهداء أربعة على محصن بالزنا فأمرهم الامام برجمه، فرجمه
واحد منهم دون الثلاثة الباقين ووافقهم قوم أجانب، فرجع من رجمه عن شهادته
والمرجوم لم يمت، ثم مات فرجع الآخرون عن شهادتهم عليه بعد موته، فعلى من
تجب ديته؟ فقال: يجب على من رجمه من الشهود ومن وافقه.
الثامنة: شهد شاهدان من اليهود على يهودي أنه أسلم، فهل تقبل شهادتهما أم
لا؟ فقال: لا تقبل شهادتهما لأنهما يجوزان تغيير كلام الله وشهادة الزور.
التاسعة: شهد شاهدان من النصارى على نصراني أو مجوسي أو يهودي أنه أسلم،
قال: تقبل شهادتهما لقول الله سبحانه (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين
قالوا انا نصارى) (1) الآية ومن لا يستكبر عن عبادة الله لا يشهد شهادة الزور.
العاشرة: قطع رجل يد آخر، فحضر أربعة شهود عند الامام وشهدوا على قطع
يده وأنه زنا وهو محصن، فأراد الامام أن يرجمه فمات قبل الرجم، فقال: على من
قطع يده دية يده حسب، ولو شهدوا أنه سرق نصابا، لم تجب دية يده على
قاطعها (2).
وقد أفرد بعض علمائنا لقضاياه العجيبة كتابا ضخما، وفيما أوردناه كفاية.



(1) المائدة: 82.
(2) شرح نهج البلاغة ص 269 - 270.
479
المقام الرابع
في صدور الاخبار بالأمور الغيبية عنه
وهي أكثر من أن تحصى، وقد أوردنا جملة مقنعة في كتابنا مجمع المناقب. والذي
ينبغي أن نذكر هنا التنبيه على أنه كان لنفسه القدسية استعداد بأن تنتقش بالأمور
الغيبية عن إفاضة جود الله تعالى، وفرق بين هذا وبين علم الغيب الذي لا يعلمه الا
الله، فان المراد به هو العلم الذي لا يكون مستفادا من سبب يفيده، ومن المعلوم أن
ذلك إنما يصدق في حق الله تعالى، إذ كل علم لذي علم عداه فهو مستفاد من جوده:
إما بواسطة، أو بغير واسطة، فلا يكون علم الغيب، وإن كان اطلاعا على أمر غيبي
لا يتأهل للاطلاع عليه كل الناس، بل يختص بنفوس خصت بعناية إلهية، كما قال
تعالى شأنه (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى) (1).
وبهذا التحقيق يسقط ما أورده بعضهم من أن اخباره بالمغيبات ليس بعلم ألهمه
الله إياه وأفاضه عليه، بل الرسول (صلى الله عليه وآله) أخبره بوقائع جزئية من ذلك، وحينئذ لا
يبقى بينه وبين غيره فرق في ذلك، فان الواحد منا لو أخبره الرسول (صلى الله عليه وآله) بشئ من
ذلك لكان له أن يخبر بما قال الرسول، وان وقع المخبر به على وفق قوله.
ويدل على ذلك قوله (عليه السلام) بعد وصف الأتراك، وقد قال له بعض أصحابه في ذلك



(1) الجن: 26.
(2) لقمان: 34.
480
يكون للنار حطبا أوفي الجنان للنبيين مرافقا، فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد
الا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه (صلى الله عليه وآله) فعلمنيه ودعا لي بأن يعيه صدري،
وتنضم (1) عليه جوانحي (2).
وهذا تصريح بأنه تعليم من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وذلك لأنه (عليه السلام) نفى أن يكون ما
قاله علم غيب، لأنه مستفاد من جود الله تعالى.
وقوله (عليه السلام) (وإنما هو تعلم من ذي علم) إشارة إلى وساطة تعليم الرسول (صلى الله عليه وآله)
وهو اعداد نفسه على طول الصحبة بتعليمه وارشاده إلى كيفية السلوك وأسباب
التطويع والرياضة حتى استعد للانتقاش بالأمور الغيبية والاخبار عنها، وليس
التعليم هو ايجاد العلم، وإن كان أمرا قد يلزمه ايجاد العلم، فتعين إذا أن تعليم
رسول الله (صلى الله عليه وآله) له لم يكن مجرد توفيقه على الصور الجزئية، بل اعداد نفسه بالقوانين
الكلية والضوابط الجملية.
ولو كانت الأمور التي تلقاها عن الرسول (صلى الله عليه وآله) صورا جزئية لم يحتج إلى مثل
دعائه في فهمه لها، فان فهم الصور الجزئية أمر ممكن في حق من له أدنى فهم، وإنما
يحتاج إلى الدعاء واعداد الأذهان له بأنواع الاعدادات هو الأمور الكلية العامة
(1) لقمان: 34.
للجزئيات، وكيفية انشعابها عنها، وتفريعها وتفصيلها وأسباب تلك الأمور المعدة.
كذا حققه العالم الرباني قد سره في شرح النهج، وهو جيد متين.
ثم قال عطر الله مرقده: ومما يؤيد ذلك قوله (عليه السلام) (علمني رسول الله (صلى الله عليه وآله) ألف
باب من العلم، فانفتح من كل باب ألف باب) وقول الرسول (صلى الله عليه وآله) (أعطيت
جوامع الكلام وأعطي علي جوامع العلم) والمراد من الانفتاح ليس الا التفريع
وانشعاب القوانين الكلية عما هو أهم منها، وبجوامع العلم ليس الا ضوابطه



(1) في النهج: وتضطم.
(2) نهج البلاغة ص 186، رقم الكلام: 128.
481
وقوانينه.
وفي قوله (وأعطي) بالبناء للمفعول دليل ظاهر على أن المعطي لعلي جوامع
العلم ليس هو النبي (صلى الله عليه وآله)، بل الذي أعطاه ذلك هو الذي أعطى النبي (صلى الله عليه وآله) جوامع
الكلام، وهو الحق سبحانه وتعالى، وأما الأمور التي عددها الله تعالى، فهي من
الأمور الغيبية.
وقوله (لا يعلمها أحد الا الله) كقوله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا
هو) وهو يحتمل كما في قوله (عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا الا من ارتضى
من رسول) (1) انتهى كلامه أعلى الله مقامه.
فتأمله بعين البصيرة، وتناوله بيد غير قصيرة، وعلى هذا المقام فلنقطع الكلام
حامدين لله سبحانه على توفيقه للاتمام، والفوز بسعادة الاختتام، ومصلين على
سيد الأنام محمد وآله البررة الكرام إلى يوم القيامة.
تم تأليفه على يد مؤلفه الفقير إلى لطف الله سليمان بن عبد الله بن علي بن حسن
بن أحمد بن يوسف بن عمار، عمر الله سبحانه أوقاته بالطاعات، ووفقه لتلافي ما
فات من القربات، بليلة الخميس وهي الثالثة من شهر ذي القعدة الحرام عام ستة
ومائة وألف هجرية صلوات الله على مهاجرها وآله الطاهرين إلى يوم الدين.
وجاء في آخر النسخة المرعشية: قد بلغنا الغاية من رقم هذا الكتاب المشتمل
على الأخبار التي هي أصل الايمان، ووصلنا النهاية من نظم الجواهر الحسان،
الفائقة اللؤلؤة والمرجان، المزينة بأنواع الجمان، من صفات سادات الأكوان،
صلوات الله وسلامه عليهم ما أضاء النيران، وذلك تأليف قطب دائرة أعيان
الأعيان، وعمدة العلماء على الاطلاق في هذا الزمان، وخليفة خلفائه امناء الرحمن،
شيخنا ومفيدنا وأستاذنا وأميرنا ورئيسنا الشيخ سليمان بن الأواه الشيخ عبد الله



(1) شرح نهج البلاغة لابن ميثم البحراني 1: 84 - 85 ط طهران.
482
العارج لدار الرضوان، نسألك اللهم أن تمده منك بالفضل والمن والشفاء والاحسان
بحق محمد وآله الأعيان.
وكتب العبد الفقير إلى ربه الباري يوسف بن محمد علي عين داري، بيمناه في
اليوم الخامس عشر من الشهر الحادي عشر من العام السابع عشر من المائة الثانية
بعد الألف الخالية الماضية.
وتم استنساخ هذا الكتاب الشريف تحقيقا وتصحيحا وتعليقا عليه في اليوم
الرابع عشر من محرم الحرام سنة (1415) ه‍ ق على يد العبد الفقير السيد مهدي
الرجائي في بلدة قم المقدسة.

483
/ 1