عمدة القاري (جزء 6) نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

عمدة القاري (جزء 6) - نسخه متنی

محمود بن احمد عینی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
توضیحات
افزودن یادداشت جدید
الكتاب: عمدة القاري
المؤلف: العيني
الجزء: 6
الوفاة: 855
المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ قسم الفقه
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة: بيروت - دار إحياء التراث العربي
الناشر: دار إحياء التراث العربي
ردمك:
ملاحظات:
بسم الله الرحمن الرحيم
((باب هل يلتفت لأمر ينزل به أو يرى شيئا أو بصاقا في القبلة))
-
أي: هذا باب ترجمته: هل يلتفت... إلى آخره، أي: هل يلتفت المصلي في صلاته لأمر ينزل به مثل ما إذا خاف من سقوط جدار أو قصد حية أو سبع له؟ قوله: (أو يرى شيئا) قدامه أو من جهة يمينه أو من جهة يساره، وليس هو بمقيد أن يكون من جهة القبلة فقط، لأنه لا يلزم تقييد المعطوف عليه بما هو قيد في المعطوف. قوله: (أو بصاقا) عطف على: شيئا، تقديره: أو رأى بصاقا في جهة القبلة فالتفت إليه، وجواب: هل، محذوف تقديره: يلتفت، لدلالة ما في الباب عليه.
وقال سهل التفت أبو بكر رضي الله تعالى عنه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم
مطابقته لقوله في الترجمة: (أو يرى شيئا) فإن أبا بكر التفت لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وسهل هو: ابن سعد بن مالك الأنصاري الخزرجي، هو وأبوه صحابيان. وهذا أخرجه البخاري في: باب من دخل ليؤم الناس، من رواية أبي حازم عنه في إمامة أبي بكر، رضي الله تعالى عنه.
753 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر أنه قال رأى النبي صلى الله عليه وسلم نخامة في قبلة المسجد وهو يصلي بين يدي الناس فحتها ثم قال حين انصرف إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يتنخمن أحد قبل وجهه في الصلاة.
مطابقته للترجمة في الجزء الثالث منها، وهو قوله: (أو بصاقا). فإن قلت: المذكور في الترجمة البصاق، وفي الحديث النخامة، وأين التطابق؟ قلت: المقصود مطابقة أصل الحديث، فإنه أخرج حديث نافع عن ابن عمر هذا أيضا في: باب حك البزاق باليد من المسجد، ولفظه: عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى بصاقا في جدار القبلة فحكه). الحديث، ولأن حكم البصاق والنخامة واحد من حيثية تعين إزالتهما على أن الصحيح أن النخامة هي الفضلة الخارجة من الصدر، وقد استوفينا الكلام في الأبواب التي فيها حك البزاق باليد، وحك النخامة بالحصى، فقوله: (وهو يصلي) جملة حالية. قوله: (بين يدي الناس)، قال بعضهم: هذا يحتمل أن يكون متعلقا بقوله: (وهو يصلي) أو بقوله: (رأى نخامة). قلت: ظاهر التركيب يقتضي تعلقه بقوله: (وهو يصلي) لأن العامل في الظرف هو قوله: (يصلي) قوله: فحتها) بالتاء المثناة من فوق أي: حكها وأزالها. قوله: (ثم قال حين انصرف) ظاهر التركيب يقتضي أن يكون الحت وقع منه صلى الله عليه وسلم داخل الصلاة، وفي رواية مالك عن نافع عن ابن عمر المذكور آنفا غير مقيد بحال الصلاة، وكذلك هو أخرج هناك أحاديث عن أبي هريرة وأبي سعيد وأنس، رضي الله تعالى عنهم، وليس في واحد منها قيد بحال الصلاة. فإن قلت: ما وجه هذه الرواية المقيدة بحال الصلاة؟ أوليس هذا عمل يفسد الصلاة؟ قلت: العمل اليسير لا يفسد

2
الصلاة، وهو كبصاقه في ثوبه في الصلاة، ورد بعضه على بعض، ونظيره ما رواه الترمذي من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: (جئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في البيت والباب عليه مغلق، فمشى حتى فتح لي ثم رجع إلى مكانه)، وقال: هذا حديث حسن غريب، وهو محمول على أنه مشى أقل من ثلاث خطوات لقربة من الباب، وفتحه الباب أيضا محمول على أنه فتحه بيده الواحدة، وذلك لأن الفتح باليدين عمل كثير فتفسد به الصلاة، وعن هذا قال أصحابنا: لو غلق المصلي الباب لا تفسد صلاته، ولو فتحها فسدت، لأن الفتح يحتاج غالبا إلى المعالجة باليدين، وهو عمل كثير، بخلاف الغلق، حتى لو فتحها بيده الواحدة لا تفسد. قوله: (قبل وجهه)، بكسر القاف وفتح الباء الموحدة، وهو على سبيل التشبيه أي: كأنه قبل وجهه، فيكون التنخم قبل الوجه سوء أدب. قوله: (فلا يتنخمن)، بالنون المؤكدة الثقيلة، أي: فلا يرمين النخامة قبل وجهه وهو في الصلاة.
ورواه موسى بن عقبة وابن أبي رواد عن نافع
أي: روى الحديث المذكور موسى بن عقبة بن أبي عياش الأسدي المديني، ووصله مسلم عن هارون بن عبد الله: حدثنا حجاج قال: قال ابن جريج: عن موسى بن عقبة وابن أبي رواد عن نافع قوله: (وابن أبي رواد) أي: رواه أيضا ابن أبي رواد، واسمه: عبد العزيز، واسم أبي رواد، بفتح الراء وتشديد الواو وفي آخره دال مهملة: ميمون مولى آل المهلب بن أبي صفرة العتكي، ووصله أحمد في (مسنده): عن عبد الرزاق عن عبد العزيز بن أبي رواد المذكور عن نافع أيضا.
754 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث بن سعد عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك قال بينما المسلمون في صلاة الفجر لم يفجأهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كشف ستر حجرة عائشة فنظر إليهم وهم صفوف فتبسم يضحك ونكص أبو بكر رضي الله تعالى عنه على عقبيه ليصل له الصف فظن أنه يريد الخروج وهم المسلمون أن يفتتنوا في صلاتهم فأشار إليهم أتموا صلاتكم فأرخى الستر وتوفي من آخر ذلك اليوم..
مطابقته للترجمة من حيث إن الصحابة لما كشف عليه صلى الله عليه وسلم الستر التفتوا إليه، وذلك لأن الحجرة كانت عن يسار القبلة، فالناظر إلى إشارة من هو فيها يحتاج إلى أن يلتفت، ولولا التفاتهم ما رأوا إشارته، فصدق عليه الجزء الثاني من الترجمة.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، ويحيى بن بكير، بضم الباء الموحدة: هو يحيى بن عبد الله بن بكير المخزومي المصري، والليث هو ابن سعد المصري، وعقيل، بضم العين: هو ابن خالد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.
والحديث أخرجه البخاري في المغازي أيضا: عن سعيد بن عفير عن الليث به، وقد مر الكلام مستوفى في هذا الحديث في: باب أهل العلم والفضل أحق بالإمامة.
قوله: (لم يفجأهم) هو عامل في قوله: (بينما) قوله: (كشف) حال بتقدير: قد، وكذا قوله: (نظر إليهم). قوله: (وهم صفوف)، جملة اسمية حالية. قوله
: (يضحك) حال مؤكدة أي غير منتقلة، ومثلها لا يلزم أن تكون مقررة لمضمون جملة، ويجوز أن تكون حالا مقدرة. قوله: (ونكص) أي: ورجع. قوله: (ليصل له)، من الوصول لا من الوصل، و: الصف، منصوب بنزع الخافض أي: إلى الصف. قوله: (فظن)، بالفاء السببية أي: نكص بسبب ظنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الخروج إلى المسجد. قوله: (وهم المسلمون) أي: قصدوا إن يفتتنوا أي: يقعوا في الفتنة، أي: في فساد صلاتهم وذهابها فرحا بصحة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرورا برؤيته. قوله: (وتوفي من آخر ذلك اليوم)، ويروى: فتوفي، بالفاء، وفي رواية هناك: وتوفي من يومه). وقال ابن سعد: توفي حين زاغت الشمس. فإن قلت: كيف يلتئم هذا؟ قلت: قال الداودي: معناه من بعد أن رأوه، لأنه توفي قبل انتصاف النهار.

3
95
((باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت))
أي: هذا باب في وجوب القراءة في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وإنما ذكر السفر لئلا يظن أن المسافر يترخص له ترك القراءة كما يرخص له في تشطير الرباعية. قوله: (وما يجهر فيها) على صيغة المجهول عطف على قوله: (في الصلاة)، والتقدير: ووجوب القراءة أيضا فيما يجهر فيها. وقوله: (وما يخافت) على صيغة المجهول أيضا عطف على ما يجهر، والتقدير: ووجوب القراءة أيضا فيما يخافت أي يستر.
وحاصل الكلام أن القراءة واجبة في الصلوات كلها سواء كان المصلي في الحضر أو في السفر، وسواء كانت الصلاة فيما يجهر بالقراءة فيها أو يسر، وسواء كان المصلي إماما أو مأموما. وقيد المأموم على مذهبه لأن عند الحنفية لا تجب القراءة على المأموم، لأن قراءة الإمام قراءة له، وإنما لم يذكر المنفرد لأن حكمه حكم الإمام.
755 حدثنا موسى قال حدثنا أبو عوانة قال حدثنا عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال شكا أهل الكوفة سعدا إلى عمر رضي الله تعالى عنه فعزله واستعمل عليهم عمارا فشكوا حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي فأرسل إليه فقال يا أبا إسحاق إن هؤلاء يزعمون أنك لا تحسن تصلي قال أبو إسحاق أما أنا والله فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أخرم عنها أصلي صلاة العشاء فأركد في الأوليين وأخف في الأخريين قال ذاك الظن بك يا أبا إسحاق فأرسل معه رجلا أو رجالا إلى الكوفة فسأل عنه أهل الكوفة ولم يدع مسجدا إلا سأل عنه ويثنون عليه معروفا حتى دخل مسجدا لبني عبس فقام رجل منهم يقال له أسامة بن قتادة يكني أبا سعدة قال أما إذ نشدتنا فإن سعدا كان لا يسير بالسرية ولا يقسم بالسوية ولا يعدل في القضية قال سعد أما والله لأدعون بثلاث اللهم إن كان عبدك هذا كاذبا قام رياء وسمعة فأطل عمره وأطل فقره وعرضه للفتن قال وكان بعد إذا سئل يقول شيخ كبير مفتون أصابتني دعوة سعد. قال عبد الملك فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر وإنه ليتعرض للجواري في الطرق يغمزهن
مطابقته للترجمة في قوله: (فإني كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولا نزاع في قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته دائما، وهو يدل على وجوب القراءة، لكن التطابق إنما يكون في الجزء الأول من الترجمة وهو قوله: (وجوب القراءة للإمام. وقوله: (ما أخرم عنها) أي: عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، يدل على الجزء الخامس والسادس من الترجمة، وهو: الجهر فيما يجهر والمخافتة فيما يخافت، ولا نزاع أنه صلى الله عليه وسلم كان يجهر في محل الجهر ويخفي في محل الإخفاء، وهذا القول يدل أيضا على الجزء الثالث والرابع، لأنه يدل على أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يترك القراءة في الصلاة في الحضر ولا في السفر، لأنه لم ينقل تركه أصلا، ولم يبق من الترجمة إلا الجزء الثاني، وهو: قراءة المأموم، فلا دلالة في الحديث عليه، وبهذا التقدير يندفع اعتراض الإسماعيلي وغيره، حيث قالوا: لا دلالة في حديث سعد على وجوب القراءة، وإنما فيه تخفيفها في الأخريين عن الأوليين، وقال ابن بطال: وجه دخول حديث سعد في هذا الباب أنه لما قال: أركد وأخف، علم أنه لا يترك

4
القراءة في شيء من صلاته، وقد قال: إنها مثل صلاته صلى الله عليه وسلم قلت: هذا قريب مما ذكرنا، ولكن لا يدل على وجوب القراءة على المأموم. وقال الكرماني فإن قلت: ما وجه تعلقه بالترجمة؟ قلت: وجهه أن ركود الإمام يدل على قراءته عادة، فهو دال على بعض الترجمة انتهى. قلت: ليس الأمر كذلك، بل يدل على كل الترجمة ما خلا قوله: المأموم، فمن أمعن النظر فيما قالوا وفيما قلت عرف أن الوجه هو الذي ذكرته على ما لا يخفى.
ذكر الرجال المذكورين فيه الأول: موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي. الثاني أبو عوانة، بفتح العين المهملة: واسمه الوضاح، بفتح الواو وتشديد الضاد المعجمة وبعدالألف حاء مهملة: ابن عبد الله اليشكري، مات سنة ست وسبعين ومائة في ربيع الأول. الثالث: عبد الملك بن عمير مصغر عمرو بن سويد الكوفي، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن جماعة من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، مات سنة ست وثلاثين ومائة في ذي الحجة، وكان على قضاء الكوفة. الرابع: جابر بن سمرة بن جنادة العامري السوائي، يكنى أبا خالد، وقيل: أبو عبد الله، له ولأبيه صحبة، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة حديث وستة وأربعون حديثا، اتفقا على حديثين، وانفرد مسلم بستة وعشرين، وهو ابن أخت سعد بن أبي وقاص، سكن الكوفة وابتنى بها دارا، وتوفي في أيام بشر بن مروان على الكوفة بها، وقيل: توفي سنة ست وستين أيام المختار. الخامس: سعد بن أبي وقاص، واسم أبي وقاص: مالك بن أهيب، ويقال: وهيب بن عبد مناف أبو إسحاق الزهري، أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، مات في قصره بالعقيق على عشرة أميال من المدينة، وحمل على رقاب الناس إلى المدينة ودفن بالبقيع سنة خمس وخمسين، وهو المشهور، وهو آخر العشرة المبشرة وفاة، واختلف في عمره، فأنهى ما قيل: ثلاث وثمانون سنة. السادس: عمر بن الخطاب. السابع: عمار بن ياسر العبسي أبو اليقظان، قتل بصفين سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وتسعين سنة، وصلى عليه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه. الثامن: أسامة
بن قتادة. التاسع: الرجل الذي بعثه سعد في قوله: فأرسل معه رجلا، وهو: محمد بن مسلمة بن خالد الحارثي الأنصاري، فيما ذكره الطبري وسيف، وحكى ابن التين أن عمر، رضي الله تعالى عنه، أرسل في ذلك عبد الله بن أرقم، وروي ابن سعد من طريق مليح بن عوف قال: بعث عمر محمد بن مسلمة وأمرني بالمسير معه، وكنت دليلا بالبلاد، فهؤلاء ثلاثة أنفس. وقوله في الحديث: أو بعث معه رجالا، وأقل الجمع ثلاثة، فيحتمل أن يكون هؤلاء الرجال هم هؤلاء الثلاثة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري في الصلاة أيضا عن سليمان بن حرب عن شعبة عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي، وعن موسى بن إسماعيل وأبي النعمان، فروايتهما كلاهما عن أبي عوانة. وأخرجه مسلم فيه عن محمد بن المثنى عن ابن مهدي عن شعبة به. وعن أبي كريب عن محمد بن بشر عن مسعر عن عبد الملك بن عمير وأبي عون الثقفي به، وعن يحيى بن يحيى عن هشيم وعن قتيبة وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير عن عبد الملك بن عمير به. وأخرجه أبو داود فيه عن حفص بن عمر عن شعبة به، وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي عن يحيى عن شعبة به، وعن حماد بن إسماعيل بن إبراهيم عن أبيه عن داود الطائي عن عبد الملك بن عمير في معناه.
ذكر معناه: قوله: (شكا أهل الكوفة)، أي: بعض أهل الكوفة، لأن كلهم ما شكوه، وفيه مجاز من إطلاق اسم الكل على البعض، وفي رواية زائدة عن عبد الملك في صحيح أبي عوانة: (ناس من أهل الكوفة)، وكذا في مسند إسحاق بن راهويه عن جرير عن عبد الملك، وسمي الطبري وسيف عنهم جماعة وهم: الجراح بن سنان وقبيصة واربد الأسديون، وروى عبد الرزاق عن معمر عن عبد الملك عن جابر بن سمرة قال: (كنت جالسا عند عمر، رضي الله تعالى عنه، إذا جاء أهل الكوفة يشكون إليه سعد ابن أبي وقاص حتى قالوا: إنه لا يحسن الصلاة). وأما الكوفة فذكر الكلبي أنها إنما سميت الكوفة بجبل صغير اختطت عليه مهرة، فهم حوله، وكان مرتفعا فسهلوه اليوم، وكان يقال له: كوفان، وكان عاشر كسري يجلس عليه وفي (الزاهر) لابن الأنباري: سميت كوفة لاستدارتها، أخذا من قول العرب: رأيت كوفانا وكوفانا بضم الكاف وفتحها، للرملة المستديرة، ويقال: سميت كوفة لاجتماع الناس بها، من قولهم: قد تكوف الرجل يتكوف تكوفا. إذا ركب بعضه بعضا. ويقال: الكوفة أخذت من الكوفان، يقال: هم في كوفان، أي: في بلاء وشر، ويقال: سميت كوفة لأنها قطعة من البلاد، من قول العرب: قد أعطيت

5
فلانا كيفة، أي: قطعة. يقال: كفت أكيف كيفا إذا قطعت، فالكوفة فعلة من هذا، والأصل فيها: كيفة، فلما سكنت الياء وانضم ما قبلها جعلت واوا. وقال قطرب: يقال: القوم في كوفان أي: محرقون في أمر يجمعهم. وقال أبو القاسم الزجاجي: سميت كوفة بموضعها من الأرض، وذلك أن كل رملة يخالطها حصباء تسمى كوفة. وقال آخرون: سميت كوفة لأن جبل سانيد يحيط بها كالكفاف عليها، وقال ابن حوقل: الكوفة على الفرات وبناؤها كبناء البصرة، مصرها سعد بن أبي وقاص، وهي خطط لقبائل العرب وهي خراج بخلاف البصرة، لأن ضياع الكوفة قديمة جاهلية وضياع البصرة إحياء موات في الإسلام، وفي (معجم ما استعجم): سميت الكوفة لأن سعدا لما افتتح القادسية نزل المسلمون الإكار، فإذا هم أليق، فخرج فارتاد لهم موضع الكوفة، وقال: تكوفوا في هذا الموضع أي: اجتمعوا. وقال محمد بن سهل: كانت الكوفة منازل نوح عليه الصلاة والسلام، وهو الذي بنى مسجدها. وقال اليعقوبي في كتابه: هي مدينة العراق الكبرى والمصر الأعظم وقبة الإسلام ودار هجرة المسلمين، وهي أول مدينة اختط المسلمون بالعراق في سنة أربع عشرة، وهي على معظم الفرات ومنه تشرب أهلها، ومن بغداد إليها ثلاثون فرسخا. وفي (تاريخ الطبري): لما احتوى المسلمون الأنبار كتب سعد إلى عمر، رضي الله تعالى عنه، يخبره بذلك، فكتب إليه: أنظر فلاة إلى جانب البحر فارتاد المسلمون بها منزلا، فبعث سعد رجلا من الأنصار يقال له: الحارث بن سلمة، ويقال: عثمان بن الحنيف، فارتاد لهم موضعا من الكوفة. وفي (الصحاح): الكوفة الرملة الحمراء، وبها سميت الكوفة. قوله: (عمارا) هو عمار بن ياسر، وقد ذكرناه. وقال خليفة: استعمل عمارا على الصلاة وابن مسعود على بيت المال وعثمان بن الحنيف على مساحة الأرض. قوله: (فشكوا) قال بعضهم: ليست هذه: الفاء، عاطفة على: فعزله، بل هي تفسيرية، إذ الشكوى كانت سابقة على العزل. قلت: الفاء، إذا كانت تفسيرية لا تخرج عن كونها عاطفة، وليست الفاء ههنا عطفا على: فعزله، وإنما هي عطف على قوله: (شكا أهل الكوفة)، عطف تفسير. وقوله: ((فعزله واستعمل عليهم عمارا) جملة معترضة. قوله: (حتى ذكروا أنه لا يحسن يصلي)، هذا يدل على أن شكواهم كانت متعددة، منها قصة الصلاة، وصرح في رواية: (فقال عمر: لقد شكوك في كل شيء حتى في الصلاة). ومنها: ما ذكره ابن سعد وسيف: أنهم زعموا أنه حابى في بيع خمس باعه، وأنه صنع على داره بابا مبوبا من خشب، وكان السوق مجاورا له، فكان يتأذى بأصواتهم، فزعموا أنه قال: لينقطع الصويت. ومنها: ما ذكره سيف: أنهم زعموا أنه كان يلهيه الصيد عن الخروج في السرايا. وقال الزبير بن بكار في كتاب (النسب): رفع أهل الكوفة عليه أشياء كشفها عمر فوجدها باطلة، ويشهد لذلك قول عمر في وصيته. فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة، وكان عمر، رضي الله تعالى عنه، أمر سعد بن أبي وقاص على قتال الفرس في سنة أربع عشرة، ففتح الله تعالى العراق على يديه ثم اختط الكوفة سنة سبع عشرة، واستمر عليها أميرا، إلى سنة إحدى وعشرين في قول خليفة بن خياط، وعند الطبري: سنة عشرين، فوقع له مع أهل الكوفة ما وقع. قوله: (فأرسل إليه فقال: يا أبا إسحاق)، فيه حذف تقديره: فوصل إليه، أي: الرسول، فجاء إلى عمر. وأبو إسحاق كنية سعد، كنى بذلك بأكبر أولاده، وهذا تعظيم من عمر له، وفيه دلالة على أنه لم تقدح فيه الشكوى عنده. قوله: (أما إنا والله) كلمة: اما، بالتشديد وهي للتقسيم، وفيه مقدر لأنه لا بد لها من قسيم تقديره: أما هم فقالوا ما قالوا، وأما أنا فأقول: إني كنت كذا.. ولفظة: والله لتأكيد الخبر في نفس السامع، وكان القياس أن يؤخر لفظة: والله، عن الفاء، ولكن يجوز تقديم بعض ما هو في حيزها عليها، والقسم ليس أجنبيا وجواب القسم محذوف، وقوله: (فإني كنت)، يدل عليه، ويروى: إني كنت، بدون الفاء. قوله: (صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) بالنصب أي: صلاة مثل صلاته صلى الله عليه وسلم. قوله: (ما أخرم)، بفتح الهمزة وكسر الراء، أي: لا أنقص وما أقطع، وحكى ابن التين عن بعض الرواة أنه بضم أوله. وقال بعضهم: جعله من الرباعي. قلت: ليس من الرباعي، بل هو من مزيد الثلاثي، لأن الاصطلاح هكذا عند أهل الصرف.
قوله: (صلاة العشاء)، كذا هو ههنا بالإفراد، وفي الباب الذي بعده: صلاتي العشاء، بالتثنية، والعشي، بكسر الشين وتشديد الياء، كذا هو في رواية الأكثرين في الموضعين، وفي رواية الكشميهني: (بعد صلاتي العشاء)، والمراد من صلاتي العشاء الظهر والعصر، ولا يبعد أن يقال: صلاتي العشاء بالمد، ويكون المراد: المغرب والعشاء، ورواه أبو داود الطيالسي في (مسنده) عن أبي عوانة بلفظ: (صلاتي العشاء)، ووجه تخصيص صلاة العشاء بالذكر من بين الصلوات لاحتمال كون شكواهم

6
منه في هذه الصلوات، أو لأنه لما لم يهمل شيئا من هذه التي وقتها وقت الاستراحة، ففي غيرها بالطريق الأولى، قاله الكرماني، ولكن يقال مثله في الظهر لأنه وقت القائلة، والعصر لأنه وقت المعاش، والصبح لأنه وقت لذة النوم، والأقرب أن يقال: الوجه هو أن شكواهم كانت في صلاتي العشي، فلذلك خصصهما بالذكر. قوله: (فأركد)، بضم الكاف أي: أسكن وأمكث في الأوليين، أي: الركعتين الأوليين، يقال: ركد يركد ركودا، إذا ثبت ودام، ومنه الماء الراكد أي: الساكن الدائم، وركدت السفينة سكنت من الاضطراب، وركد الريح سكن، وفي رواية لمسلم: (وأمد في الأوليين) بدل: فأركد، وهو بمعناه أي: أطول وأمد، ثم الظاهر أن مده وتطويله كان بكثرة القراءة، ولا يقال: كان ذلك بما هو أعم من القراءة كالركوع والسجود، لأن القيام ليس محلا للدعاء ولا لمجرد السكوت، وإنما هو محل القراءة. قوله: (وأخف) بضم الهمزة وكسر الخاء المعجمة من باب الإفعال، يقال: أخف الرجل في أمره يخف فهو مخف، وفي الكشميهني: أحذف، بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وكسر الذال المعجمة: أي أحذف التطويل، وليس المراد حذف أصل القراءة، وفيه خلاف نذكره إن شاء الله تعالى. وكذا وقع في رواية الدارمي عن موسى بن إسماعيل شيخ البخاري بلفظ: أحذف، ووقع في رواية الإسماعيلي من رواية محمد بن كثير عن شعبة: احذم، بالميم موضع الفاء، من: حذم يحذم حذما إذا أسرع. وأصل الحذم الإسراع في كل شيء، ومنه حديث عمر، رضي الله تعالى عنه: (إذا أقمت فاحذم) أي: اسرع. قوله: (في الأخريين) أي الركعتين الأخريين. قوله: (ذاك الظن)، جملة اسمية من المبتدأ والخبر، ويروي: ذلك الظن، وقوله: (بك)، يتعلق بالظن، أي: هذا الذي تقوله يا أبا إسحاق هو الذي يظن بك، وفي رواية مسعر عن عبد الملك وأبي عون معا، فقال سعد: أتعلمني الأعراب الصلاة؟ أخرجه مسلم، وفيه دلالة على أن الذي شكوه كانوا جهالا، لأن الجهالة فيهم غالبة، والأعراب، بفتح الهمزة، ساكنو البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة، والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس ولا واحد له من لفظه، وسواء أقام بالبادية أو المدن. قوله: (فأرسل معه رجلا) أي: أرسل عمر مع سعد رجلا، وقد ذكرنا من هو الرجل. قال الكرماني: إن كان سعد غائبا فكيف خاطبه بقوله: (ذاك الظن بك)؟ وإن كان حاضرا فكيف قال: فأرسل إليه؟ ثم أجاب بقوله: كان غائبا أو لا ثم حضر. انتهى. قلت: لفظ الحديث: (فأرسل معه)، كما ذكرناه، ولا يتأتى ما ذكره إلا إذا كان اللفظ: فأرسل إليه، وليس كذلك. قوله: (أو رجالا) كذا هو بالشك، وفي رواية ابن عيينة: فبعث عمر رجلين، وقد ذكرناه. قوله: (يسأل عنه أهل الكوفة)، أي: يسأل عن سعد أهل الكوفة كيف حاله بينهم؟ ويروى: (فسأل عنه)، ووجه ذلك أنه معطوف على مقدر تقديره: فأرسل رجلا إلى الكوفة فانتهى إليها فسأل عنه، ومثل هذه الفاء تسمى: فاء الفصيحة، وأما وجهه على قوله: يسأل عنه، بلفظ المضارع الغائب فهو من الأحوال المقدرة المنتظرة، قوله: (ولم يدع) أي: لم يترك الرجل المبعوث المرسل مسجدا من مساجد الكوفة إلا سأل عنه، أي: عن سعد. قوله: (ويثنون معروفا) أي: والحال أن أهل الكوفة يثنون عليه معروفا، وهو كل أمر خير، وفي رواية ابن عيينة: فكلهم يثني عليه خيرا. قوله: (لبني عبس)، بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وفي آخره سين مهملة، وهو قبيلة كبيرة من قيس. قوله: (أما إذا نشدتنا) كلمة: أما، بالتشديد للتفصيل والتقسيم، والقسيم محذوف تقديره: أما غيري إذا أنشدتنا، أي: حين نشدتنا، فأثنوا عليه، وأما نحن إذا سألتنا فنقول كذا وكذا، ومعنى: نشدتنا أي: سألتنا بالله، يقال: نشدتك الله، سألتك بالله. قوله: (لا يسير بالسرية)، الباء فيه للمصاحبة، والسرية، بتخفيف الراء وتشديد الياء آخر الحروف، قطعة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة تبعث إلى العدو، وجمعها: السرايا، سموا بذلك لأنهم يكونون خلاصة العسكر وخيارهم، من الشيء السري أي: النفيس. وقيل: سموا ذلك لأنهم ينفذون سرا وخفية، وليس بالوجه، لأن: لام، السر: راء، وهذه: ياء، وقيل: يحتمل أن تكون صفة المحذوف، أي: لا يسير بالطريقة السرية أي: العادلة، والأولى أولى وأوجه لقوله بعد ذلك: لا يعدل، والأصل عدم التكرار، والتأسيس أولى من التأكيد، ويؤيده رواية جرير وسفيان بلفظ: (ولا ينفر في السرية). قوله: (في القضية)، أي: الحكومة والقضاء، وفي رواية جرير وسيف: في الرعية. قوله: (قال سعد)، وفي رواية جرير: (فغض سعد)، وحكى ابن التين أنه قال

7
له: أعلى تشجع: قوله: (أما والله)، بتخفيف الميم حرف استفتاح. قوله: (لأدعون)، اللام فيه للتأكيد، وكذلك نون التأكيد المثقلة أي: لأدعون عليك بثلاث دعوات. قوله: (قام) أي: في هذه القضية. قوله: (وسمعة)، بضم السين أي: ليراه الناس ويسمعون ويشهدون ذلك عنه، ليكون له بذلك ذكر. قوله: (فأطل عمره) مراده أن يطول في غاية بحيث يرد إلى أسفل السافلين ويصير إلى أرذل العمر، ويضعف قواه وينتكس في الخلق محنة لا نعمة، أو مراده: طول العمر مع طول الفقر، وهذا أشد ما يكون في الرجل، ويحصل الجواب بذلك عما قيل: الدعاء بطول العمر دعاء له لا دعاء عليه. قوله: (وأطل فقره) وفي رواية جرير: (وشد فقره)، وفي رواية سيف: (وأكثر عياله). وهذه الحالة بئست الحالة وفي: طول العمر مع الفقر وكثرة العيال. قوله: (وعرضه للفتن) أي: اجعله عرضة للفتن، أو أدخله في معرضها أي: أظهره بها. والحكمة في هذه الدعوات الثلاث أن أسامة بن قتادة المذكور نفى عن سعد الفضائل الثلاث التي هي أصول الفضائل وأمهات الكمالات، وهي: الشجاعة التي هي القوة الغضبية حيث قال: لا يسير بالسرية، والعفة: التي هي كمال القوة الشهوانية، حيث قال: لا يقسم بالسرية، والحكمة: التي هي كمال القوة العقلية، حيث قال: ولا يعدل في القضية، فالثلاثة تتعلق بالنفس والمال والدين، فقابل سعد هذه الثلاثة بثلاثة مثلها، فدعا عليه بما يتعلق بالنفس: وهو طول العمر، وبما يتعلق بالمال: وهو الفقر، وبما يتعلق بالدين: وهو الوقوع في الفتن. ثم إعلم أنه كان يمكن الاعتذار عن قوله: (ولا ينفر بالسرية)
بأن يقال: رأى المصلحة في إقامته ليرتب مصالح من يغزو ومن يقيم، أو كان له عذر مانع من ذلك، كما وقع له في القادسية، وكذا يمكن الاعتذار عن قوله: (ولا يقسم بالسوية)، بأن يقال: إن للإمام تفضيل بعض الناس بشيء يختص به لمصلحة يراها في ذلك، وأما قوله: (ولا يعدل في القضية) فلا خلاص عنه، لأنه سلب عنه العدل بالكلية، وذلك قدح في الدين. قوله: (فكان بعد)، ويروى: (وكان بعد)، بالواو أي: كان أسامة بعد ذلك، قيل: هذا عبد الملك بن عمير، بينه جرير في روايته. قوله: (إذا سئل)، على صيغة المجهول أي: إذا سئل أسامة عن حال نفسه، وفي رواية ابن عيينة إذا قيل له: كيف أنت؟ يقول: أنا شيخ كبير مفتون. فقوله: شيخ كبير خبر مبتدأ محذوف، وهو: أنا، كما قلنا، و: كبير، صفته، وقوله: مفتون، صفة بعد صفة. فقوله: شيخ كبير، إشارة إلى الدعوة الأولى، ومفتون، إلى الدعوة الثالثة، وإنما لم يشر إلى الدعوة الثانية وهي قوله: (وأطل فقره)، لأنها تدخل في عموم قوله: (أصابتني دعوة سعد)، وقد صرح بذلك في رواية الطبراني من طريق أسد بن موسى، وفي رواية أبي يعلى: عن إبراهيم بن حجاج كلاهما عن أبي عوانة، ولفظه: (قال عبد الملك: فأنا رأيته يتعرض للإماء في السكك، فإذا سألوه قال: كبير فقير مفتون). وفي رواية إسحاق عن جرير: (فافتقر وافتتن). وفي رواية: (فعمي واجتمع عنده عشر بنات، وكان إذا سمع بحسن المراة تشبث بها، فإذا أنكر عليه قال: دعوة المبارك سعد). وفي رواية ابن عيينة: (ولا تكون فتنة إلا وهو فيها). وفي رواية محمد بن حجادة: عن مصعب ابن سعد في هذه القصة، قال: وأدرك فتنة المختار، فقتل فيها. وعند ابن عساكر: وكانت فتنة المختار حين غلب على الكوفة من سنة خمس وستين إلى أن قتل سنة سبع وسبعين. قوله: (أصابتني دعوة سعد) إنما أفرد الدعوة، مع أنها كانت ثلاث دعوات، لأنه أراد بها الجنس، فكان سعد معروفا بإجابة الدعوة. روى الطبراني من طريق الشعبي قال: (قيل لسعد: متى أصبت الدعوة؟ قال: يوم بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم استجب لسعد)، وروى الترمذي وابن حبان والحاكم من طريق قيس بن أبي حازم عن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم استجب لسعد إذا دعاك). قوله: (من الكبر)، بكسر الكاف وفتح الباء الموحدة، قوله: (وإنه) أي: إن أسامة المذكور. قوله: (يغمزهن)، أي: يعصر أعضاءهن بالأصابع، وفيه أيضا إشارة إلى الفتنة، وإلى الفقر أيضا إذ لو كان غنيا لما احتاج إلى غمز الجواري في الطرق.
: ذكر ما يستنبط منه: وهو على وجوه:
: الأول: وجوب القراءة في الركعتين الأوليين من الصلوات وعدم وجوبها في الأخريين، واستدل بعض أصحابنا لأبي حنيفة، ومن قال بقوله في عدم وجوب القراءة في الأخريين بالحديث المذكور، وعن هذا قال صاحب (الهداية) وغيره: إن شاء قرأ في الأخريين وإن شاء سبح وإن شاء سكت، وهو المأثور عن علي وابن مسعود وعائشة، إلا أن الأفضل أن يقرأ. وقال أصحابنا: المصلي مأمور بالقراءة بقوله تعالى:: * (فاقرأوا ما تيسر منه) * (المزمل: 20). والأمر

8
لا يقتضي التكرار، فتتعين الركعة الأولى منها، وإنما أوجبناها في الثانية استدلالا بالأولى، لأنهما تتشاكلان من كل وجه، وقد ذكرنا فيما مضى أن القراءة في الصلاة مستحبة غير واجبة عند جماعة منهم الأحمر وابن علية والحسن بن صالح والأصم، وروى الشافعي عن مالك بإسناده عن محمد بن علي بن الحسين: أن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، صلى المغرب فلم يقرأ فيها شيئا، فقيل له، فقال: كيف كان الركوع والسجود؟ قالوا: حسن. قال: فلا بأس. قلنا هذا منقطع بين محمد بن علي وبين عمر، وفي إسناده أيضا مجهول. وفي (شرح مسند الشافعي) لأبن الأثير: روى الشعبي عن زياد بن عياض عن أبي موسى: صلى عمر فلم يقرأ شيئا فأعاد، قال: ورواه أبو معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن عمر: أنه صلى المغرب فلم يقرأ فأعاد، وروى الشافعي، فيما بلغه عن زيد بن حبان: عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الحارث عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال له رجل: إني صليت فلم أقرأ. قل: أتممت الركوع والسجود؟ قال: نعم. قال: تمت صلاتك. وقال ابن المنذر: روينا عن علي أنه قال: إقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين. وعن مالك رواية شاذة إن الصلاة صحيحة بدون القراءة، وقال ابن الماجشون: من ترك القراءة في ركعة من الصبح أو أي صلاة كانت تجزيه سجدتا السهو. وروى البيهقي عن زيد بن ثابت: القراءة في الصلاة سنة. وعن الشافعي في القديم: إن تركها ناسيا صحت صلاته. وفي (المصنف) من جهة أبي إسحاق عن علي وعبد الله بن مسعود، أنهما قالا: إقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين. وعن منصور، قال: قلت لإبراهيم: ما نفعل في الركعتين الأخريين من الصلاة؟ قال: سبح واحمد الله وكبر. وعن الأسود وإبراهيم والثوري كذلك.
الوجه الثاني: استدل بقوله: (أركد في الأوليين) من يرى تطويل الركعتين الأوليين على الأخريين في الصلوات كلها، وهو مذهب الشافعي، حكاه في (المهذب). وفي (الروضة): الأصح التسوية بينهما وبين الثالثة والرابعة، قال: والمختار تطويل أولى الفجر على الثانية وغيرها، وهو قول محمد بن الحسن والثوري وأحمد بن حنبل، وعند أبي حنيفة وأبي يوسف: لا يطيل الركعة الأولى على الثانية إلا في الفجر خاصة. وفي (شرح المهذب) لأصحابنا وجهان، أشهرهما: لا يطول، والثاني: يستحب تطويل القراءة في الأولى قصدا، وهو الصحيح المختار، واتفقوا على كراهة إطالة الثانية على الأولى إلا مالكا، فإنه قال: لا بأس أن يطيل الثانية على الأولى، مستدلا بأنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى: بسورة الأعلى، وهي تسع عشرة آية، وفي الثانية: بالغاشية وهي ست وعشرون آية. وفي الصلاة لأبي نعيم: حدثنا شيبان عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يطول في الركعة الأولى من الظهر والعصر والفجر، ويقصر في الأخرى، فإن جهر فيما يخافت فيه أو خافت فيما يجهر فيه، فعند أبي حنيفة يسجد للسهو، وعن أبي يوسف: إن جهر بحرف يسجد، وفي رواية عنه: إن زاد فيما يخافت فيه على ما يسمع أذنيه فتجب سجدتا السهو، والصحيح أنها تجب إذا جهر مقدار ما تجوز به الصلاة، وفي (المصنف): ممن كان يجهر بالقراءة في الظهر والعصر خباب بن الأرت وسعيد بن جبير والأسود وعلقمة، وعن جابر قال: سألت الشعبي وسالما وقاسما والحكم ومجاهدا وعطاء عن الرجل يجهر في الظهر والعصر؟ فقالوا: ليس عليه سهو. وعن قتادة: أن أنسا جهر فيهما فلم يسجد، وكذا فعله سعيد بن العاص إذ كان أميرا بالمدينة. وفي (التلويح): ويستدل لأبي حنيفة بما رواه أبو هريرة من
كتاب ابن شاهين بسند فيه كلام، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار فارجموه بالبعر). وفي (المصنف) عن يحيى بن كثير: (قالوا يا رسول الله: إن هنا قوما يجهرون بالقراءة بالنهار! فقال: ارموهم بالبعر). وعن الحسن وأبي عبيدة: صلاة النهار عجماء. وقال صاحب (التلويح): وحديث ابن عباس: صلاة النهار عجماء، وإن كان بعض الأئمة قال: هو حديث لا أصل له باطل، فيشبه أن يكون ليس كذلك لما أسلفناه.
الوجه الثالث: أن الإمام إذا شكا إليه نائبه بعث إليه واستفسره عن ذلك في موضع عمله عن أهل الفضل فيهم، لأن عمر، رضي الله تعالى عنه، كان يسأل عنه في المسجد أهل ملازمة الصلاة فيها. وفيه: جواز عزله وإن لم يثبت عليه شيء إذا اقتضت لذلك المصلحة. قال مالك: قد عزل عمر سعدا وهو أعدل من يأتي بعده إلى يوم القيامة، والذي يظهر أن عمر عزله حسما لمادة الفتنة. وفي رواية سيف، قال عمر، رضي الله تعالى عنه: لولا الاحتياط وأن لا يتقي من أمير مثل سعد لما عزلته. وقيل: عزله إيثارا

9
لقربه منه لكونه من أهل الشورى، وقيل: إن مذهب عمر أن لا يستمر بالعامل أكثر من أربع سنين. وقال المازري: اختلفوا هل يعزل القاضي بشكوى الواحد أو الاثنين أو لا يعزل حتى يجتمع الأكثر على الشكوى عنه.
الوجه الرابع: فيه خطاب الرجل بكنيته والاعتذار لمن سمع في حقه كلام يسوؤه.
الوجه الخامس: فيه جواز الدعاء على الظالم المعين بما يستلزم النقص في دينه، وليس هو من طلب وقوع المعصية، ولكن من حيث إنه يؤدي إلى نكاية الظالم وعقوبته. ألا ترى إلى موسى عليه الصلاة والسلام كيف دعا، وقال: * (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) * (يونس: 88).
756 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
مطابقته للترجمة غير ظاهرة لأن الترجمة أعم من أن تكون القراءة بالفاتحة أو بغيرها، والحديث يعين الفاتحة. وقال الكرماني: وفي الحديث دليل على أن قراءة الفاتحة واجبة على الإمام والمنفرد والمأموم في الصلوات كلها، فهو صريح في دلالته على جميع أجزاء الترجمة. قلت: ليس في الترجمة ذكر الفاتحة حتى يدل على ذلك، وإنما فيها ذكر القراءة، وهي أعم من الفاتحة وغيرها على ما ذكرنا. فإن قلت: له أن يقول: ذكرت القراءة وأردت بها الفاتحة من قبيل إطلاق الكل على الجزء. قلت: فحينئذ لا يبقى وجه المطابقة بين الترجمة وبين حديث سعد المذكور، وأيضا فيه ارتكاب المجاز من غير ضرورة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: علي بن عبد الله بن جعفر المديني البصري. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: محمد بن مسلم ابن شهاب الزهري. الرابع: محمود بن الربيع، بفتح الراء: ابن سراقة الخزرجي الأنصاري، ختن عبادة بن الصامت، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، عقل عن النبي، صلى الله عليه وسلم، مجة مجها في وجهه من دلو في بئر في دارهم وهو ابن خمس سنين، مر ذكره في: باب متى يصح سماع الصغير من كتاب العلم. الخامس: عبادة بن الصامت، بضم العين، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومكي ومدني. وفيه: عن محمود بن الربيع، وفي رواية الحميدي عن سفيان بن عيينة حدثنا الزهري سمعت محمود بن الربيع، وفي رواية مسلم: عن صالح عن ابن شهاب أن محمود بن الربيع أخبره أن عبادة بن الصامت أخبره، وبالتصريح بالإخبار يرد تعليل من أعله بالانقطاع لكون بعض الرواة أدخل بين محمود وعبادة رجلا: قلت هذا الرجل هو وهب بن كيسان وفي المستدرك قد أدخل بين محمود وعبادة وهب بن كيسان، فيما رواه الوليد ابن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز عن مكحول عن محمود عن وهب، وبين الدارقطني في (سننه): من حديث زيد بن واقد عن مكحول: إن دخول وهب فيه لأنه كان مؤذن عبادة، وأن محمودا ووهبا صليا خلفه يوما، فذكره. وقال: رجاله كلهم ثقات. ورواه أيضا من حديث ابن إسحاق عن مكحول به، وقال: إسناده حسن. وقاله أيضا البغوي.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم، ثلاثتهم عن سفيان وعن أبي الطاهر وحرملة وعن إسحاق بن إبراهيم وعن عبد بن حميد وعن الحسن الحلواني عن الزهري به. وأخرجه أبو داود فيه عن قتيبة وأبي الطاهر بن السرح، كلاهما عن سفيان به. وأخرجه الترمذي فيه عن ابن أبي عمر وعلي بن حجر كلاهما عن سفيان به. وأخرجه النسائي في الصلاة عن سويد بن نصر وفي فضائل القرآن عن محمود بن منصور عن سفيان به. وأخرجه ابن ماجة فيه عن هشام بن عمار وسهل بن أبي سهل وإسحاق بن إسماعيل، ثلاثتهم عن سفيان به.
ذكر ما يستنبط منه: استدل بهذا الحديث عبد الله بن المبارك والأوزاعي ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود على وجوب قراءة الفاتحة خلف الإمام في جميع الصلوات، وقال ابن العربي في (أحكام القرآن): ولعلمائنا في ذلك ثلاثة أقوال: الأول: يقرأ إذا أسر الإمام خاصة، قاله ابن القاسم. الثاني: قال ابن وهب وأشهب في (كتاب محمد): لا يقرأ. الثالث: قال محمد بن عبد الحكم: يقرؤها خلف الإمام، فإن لم يفعل أجزاه، كأنه رأى ذلك مستحبا، والأصح عندي وجوب قراءتها فيما أسر وتحريمها فيما جهر، إذا سمع قراءة الإمام، لما فيه من فرض الإنصات له

10
والاستماع لقراءته، فإن كان منه في مقام بعيد فهو بمنزلة صلاة السر. وقال أبو عمر في (التمهيد): لم يختلف قول مالك: إنه من نسيها أي: الفاتحة في ركعة من صلاة ذات ركعتين أن صلاته تبطل أصلا ولا تجزيه. واختلف قوله فيمن تركها ناسيا في ركعة من الصلاة الرباعية أو الثلاثية، فقال مرة: يعيد الصلاة ولا تجزيه، وهو قول ابن القاسم وروايته واختياره من قول مالك، وقال مرة أخرى: يسجد سجدتي السهو وتجزيه، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عنه. قال: وقد قيل: إنه
يعيد تلك الركعة ويسجد للسهو بعد السلام. قال: قال الشافعي وأحمد: لا تجزيه حتى يقرأ بفاتحة الكتاب في كل ركعة. وفي (المغني) وروي عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير أنهم قالوا: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب. وعن أحمد: إنها لا تتعين، وتجزيه قراءة آية من القرآن من أي موضع كان. وقال ابن حزم في (المحلى): وقراءة أم القرآن فرض في كل ركعة من كل صلاة، إماما كان أو مأموما، والفرض والتطوع سواء، والرجال والنساء سواء. وقال الثوري والأوزاعي في رواية، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد في رواية، وعبد الله بن وهب وأشهب: لا يقرأ المؤتم شيئا من القرآن ولا بفاتحة الكتاب في شيء من الصلوات، وهو قول ابن المسيب في جماعة من التابعين، وفقهاء الحجاز والشام على أنه: لا يقرأ معه فيما يجهر به وإن لم يسمعه ويقرأ فيما يسر فيه الإمام، ثم وجه استدلال الشافعي ومن معه بهذا الحديث، وهو أنه: نفى جنس الصلاة عن الجواز إلا بقراءة فاتحة الكتاب.
واستدل أصحابنا بقوله تعالى: * (فاقرؤا ما تيسر من القرآن) * (المزمل: 20). أمر الله تعالى بقراءة ما تيسر من القرآن مطلقا، وتقييده بالفاتحة زيادة على مطلق النص، وذا لا يجوز لأنه نسخ، فيكون أدنى ما ينطلق عليه القرآن فرضا لكونه مأمورا به، وأن القراءة خارج الصلاة ليست بفرض، فتعين أن يكون في الصلاة. فإن قلت: هذه الآية في صلاة الليل، وقد نسخت فرضيتها، وكيف يصح التمسك بها؟ قلت: ما شرع ركنا لم يصر منسوخا، وإنما نسخ وجوب قيام الليل دون فرض الصلاة وشرائطها وسائر أحكامها، ويدل عليه أنه أمر بالقراءة بعد النسخ بقوله: * (فاقرؤا ما تيسر منه) * (المزمل: 20). والصلاة بعد النسخ بقيت نفلا، وكل من شرط الفاتحة في الفرض شرطها في النفل، ومن لا فلا، والآية تنفي اشتراطها في النفل، فلا تكون ركنا في الفرض لعدم القائل بالفصل. فإن قلت: كلمة: ما، مجملة، والحديث معين ومبين، فالمعين يقضي على المبهم. قلت: كل من قال بهذا يدل على عدم معرفته بأصول الفقه، لأن كلمة: ما، من ألفاظ العموم يجب العمل بعمومها من غير توقف، ولو كانت مجملة لما جاز العمل بها قبل البيان كسائر مجملات القرآن، والحديث معناه أي: شيء تيسر، ولا يسوغ ذلك فيما ذكروه، فيلزم الترك بالقرآن والحديث، والعام عندنا لا يحمل على الخاص مع ما في الخاص من الاحتمالات. فإن قلت: هذا الحديث مشهور فإن العلماء تلقته بالقبول فتجوز الزيادة بمثله. قلت: لا نسلم أنه مشهور، لأن المشهور ما تلقاه التابعون بالقبول، وقد اختلف التابعون في هذه المسألة. ولئن سلمنا أنه مشهور فالزيادة بالخبر المشهور إنما تجوز إذا كان محكما، أما إذا كان محتملا فلا، وهذا الحديث محتمل، لأن مثله يستعمل لنفي الجواز، ويستعمل لنفي الفضيلة لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، والمراد نفي الفضيلة، كذا هو، ويؤكد هذا التأويل قوله تعالى: * (إنهم لا إيمان لهم) * (التوبة: 12). معناه أنه لا أيمان لهم موثوقا بها، ولم ينف وجود الأيمان منهم رأسا، لأنه قال: وإن نكثوا إيمانهم من بعد عهدهم) * (التوبة: 12). وعقب ذلك أيضا بقوله: * (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) * (التوبة: 13). فثبت أنه لم يرد بقوله: * (أنهم لا أيمان لهم) * (التوبة: 12). نفى الايمان أصلا، وإنما أراد به ما ذكرناه، وهذا يدل على إطلاق لفظة: لا، والمراد بها نفي الفضيلة دون الأصل، كما ذكرنا من النظير، وقال بعضهم: ولأن نفي الأجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة، ولأنه السابق إلى الفهم فيكون أولى، ويؤيده رواية الإسماعيلي من طريق العباس بن الوليد القرشي أحد شيوخ البخاري عن سفيان بلفظ: (لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب). قلت: لا نسلم قرب نفي الأجزاء إلى نفي الحقيقة، لأنه محتمل لنفي الأجزاء ولنفي الفضيلة، والحمل على نفي الكمال أولى، بل يتعين لأن نفي الأجزاء يستلزم نفي الكمال فيكون فيه نفي شيئين، فتكثر المخالفة فيتعين نفي الكمال، ودعواه التأييد بهذا الحديث الذي أخرجه الإسماعيل وابن خزيمة لا يفيده، لأن هذا ليس له من القوة ما يعارض ما أخرجه الأئمة الستة، على أن ابن حبان قد ذكر أنه لم يقل في خبر العلاء ابن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة إلا شعبة، ولا عنه إلا وهب بن جرير، وقال هذا القائل أيضا): وقد أخرج ابن خزيمة عن محمد بن الوليد القرشي عن سفيان حديث الباب، ولفظه: (لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب)، فلا يمنع أن يقال: إن قوله:

11
لا صلاة، نفي بمعنى النهي أي: لا تصلوا إلا بقراءة فاتحة الكتاب، ونظيره ما رواه مسلم من طريق القاسم عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، مرفوعا: (لا صلاة بحضرة الطعام...) فإنه في (صحيح ابن حبان) بلفظ: (لا يصلي أحدكم بحضرة الطعام). قلت: تنظيره بحديث مسلم غير صحيح، لأن لفظ حديث ابن حبان غير نهي بل هو نفي الغائب، وكلامه يدل على أنه لا يعرف الفرق بين النفي والنهي. وقال أيضا: استدل من أسقطها أي: من أسقط قراءة الفاتحة عن المأموم مطلقا يعني أسر الإمام أو جهر كالحنفية بحديث: (من صلى خلف الإمام فقراءة الإمام قراءة له)، لكنه حديث ضعيف عند الحفاظ، وقد استوعب طرقه وعلله الدارقطني وغيره. قلت: هذا الحديث رواه جماعة من الصحابة وهم: جابر بن عبد الله وابن عمر وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عباس وأنس بن مالك، رضي الله تعالى عنهم. فحديث جابر أخرجه ابن ماجة عنه قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فإن قراءة الإمام قراءة له). وحديث ابن عمر أخرجه الدارقطني في سننه عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة). وحديث أبي سعيد أخرجه الطبراني في (الأوسط) عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة). وحديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني في (سننه) من حديث سهل بن صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا نحوه سواء. وحديث ابن عباس أخرجه الدارقطني أيضا عنه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (يكفيك قراءة الإمام خافت أو جهر). وحديث أنس أخرجه ابن حبان في (كتاب الضعفاء): عن غنيم بن سالم عن أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)،. فإن قلت: في حديث جابر بن عبد الله جابر الجعفي وهو مجروح، كذبه أبو حنيفة وغيره، وفي حديث أبي سعيد إسماعيل بن عمر بن نجيح وهو ضعيف، وحديث ابن عمر موقوف، قال الدارقطني: رفعه وهم؛ وحديث ابن عباس عن أحمد هو حديث منكر: وقال الدارقطني حديث أبي هريرة لا يصح عن سهيل، وتفرد به محمد بن عباد وهو ضعيف، وفي حديث أنس غنيم بن سالم قال ابن حبان: هو مخالف الثقات في الروايات فلا تعجبني الرواية عنه، فكيف الاحتجاج؟ قلت: أما حديث جابر فله طرق أخرى يشد بعضها بعضا: منها طريق صحيح، وهو ما رواه محمد بن الحسن في (الموطأ) عن أبي حنيفة، قال: أخبرنا الإمام أبو
حنيفة حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر عن النبي، صلى الله عليه وسلم: (من صلى خلف الإمام فإن قراءة الإمام له قراءة). فإن قلت: هذا حديث أخرجه الدارقطني في (سننه) ثم البيهقي عن أبي حنيفة مقرونا بالحسن بن عمارة وعن الحسن بن عمارة وحده بالإسناد المذكور، ثم قال: هذا الحديث لم يسنده عن جابر بن عبد الله غير أبي حنيفة والحسن بن عمارة وهما ضعيفان، وقد رواه سفيان الثوري وأبو الأحوص وشعبة وإسرائيل وشريك وأبو خالد الدالاني وسفيان بن عيينة وغيرهم عن أبي الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي، صلى الله عليه وسلم، مرسلا، وهو الصواب. قلت: لو تأدب الدارقطني واستحيى لما تلفظ بهذه اللفظة في حق أبي حنيفة فإنه إمام طبق علمه الشرق والغرب، ولما سئل ابن معين عنه فقال: ثقة مأمون ما سمعت أحدا ضعفه، هذا شعبة بن الحجاج يكتب إليه أن يحدث وشعبة شعبة. وقال أيضا: كان أبو حنيفة ثقة من أهل الدين والصدق ولم يتهم بالكذب، وكان مأمونا على دين الله تعالى، صدوقا في الحديث، وأثنى عليه جماعة من الأئمة الكبار مثل عبد الله بن المبارك، ويعد من أصحابه، وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وحماد بن زيد وعبد الرزاق ووكيع، وكان يفتي برأيه والأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد وآخرون كثيرون، وقد ظهر لك من هذا تحامل الدارقطني عليه وتعصبه الفاسد، وليس له مقدار بالنسبة إلى هؤلاء حتى يتكلم في إمام متقدم على هؤلاء في الدين والتقوى والعلم، وبتضعيفه إياه يستحق هو التضعيف، أفلا يرضى بسكوت أصحابه عنه وقد روى في (سننه) أحاديث سقيمة ومعلولة ومنكرة وغريبة وموضوعة؟ ولقد روى أحاديث ضعيفة في كتابه (الجهر بالبسملة) واحتج بها مع علمه بذلك، حتى إن بعضهم استحلفه على ذلك فقال: ليس فيه حديث صحيح. ولقد صدق القائل:
* حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
* فالقوم أعداء له وخصوم
*

12
وأما قوله: وقد رواه سفيان الثوري... إلى آخره، فلا يضرنا، لأن الزيادة من الثقة مقبولة، ولئن سلمنا فالمرسل عندنا حجة، وجوابنا عن الأحاديث التي قالوا: في أسانيدها ضعفاء، إن الضعيف يتقوى بالصحيح ويقوي بعضها بعضا، وأما قوله في بعضها: فهو موقوف، فالموقوف عندنا حجة لأن الصحابة عدول، ومع هذا روى منع القراءة خلف الإمام عن ثمانين من الصحابة الكبار منهم: المرتضي والعبادلة الثلاثة وأساميهم عند أهل الحديث، فكان اتفاقهم بمنزلة الإجماع، فمن هذا قال صاحب (الهداية) من أصحابنا: وعلى ترك القراءة خلف الإمام إجماع الصحابة، فسماه إجماعا باعتبار اتفاق الأكثر، ومثل هذا يسمى إجماعا عندنا، وذكر الشيخ الإمام عبد الله بن يعقوب الحارني السيذموني في كتاب (كشف الأسرار): عن عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه قال: كان عشرة من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ينهون عن القراءة خلف الإمام أشد النهي: أبو بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وسعد ابن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهم. قلت: روى عبد الرزاق في (مصنفه): أخبرني موسى بن عقبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا ينهون عن القراءة خلف الإمام، وأخرج عن داود بن قيس عن محمد بن بجاد، بكسر الباء الموحدة وتخفيف الجيم، عن موسى بن سعد بن أبي وقاص قال: ذكر لي أن سعد بن أبي وقاص قال: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه حجر، وأخرج الطحاوي بإسناده عن علي، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: من قرأ خلف الإمام فليس على الفطرة، أراد أنه ليس على شرائط الإسلام، وقيل: ليس على السنة. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا في (مصنفه) عن أبي ليلى عن علي، رضي الله تعالى عنه: من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة. وأخرجه الدارقطني كذلك من طرق، وأخرجه عبد الرزاق في (مصنفه): عن داود بن قيس عن محمد بن عجلان عنه قال: قال علي: من قرأ مع الإمام فليس على الفطرة. قال: وقال ابن مسعود: ملىء فوه ترابا. قال: وقال عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: وددت أن الذي يقرأ خلف الإمام في فيه حجر. وفي (التمهيد): ثبت عن علي وسعد وزيد ابن ثابت أنه: لا قراءة مع الإمام لا فيما أسر ولا فيما جهر. وأخرج عبد الرزاق عن الثوري عن أبي منصور عن أبي وائل قال: قال جاء رجل إلى عبد الله، فقال: يا أبا عبد الرحمن أقرأ خلف الإمام؟ قال: أنصت للقرآن فإن في الصلاة شغلا وسيكفيك ذلك الإمام. وأخرجه الطبراني عن عبد الرزاق، وأخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) نحوه عن أبي الأحوص عن منصور.. إلى آخره. قلت: روى الطحاوي من حديث أبي إبراهيم التيمي قال: سألت عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، عن القراءة خلف الإمام فقال لي: إقرأ. قلت: وإن كنت خلفك؟ قال: وإن كنت خلفي. قلت: وإن قرأت؟ قال: وإن قرأت. وأخرج أيضا عن مجاهد، قال: سمعت عبد الله بن عمرو يقرأ خلف الإمام في صلاة الظهر من سورة مريم، ثم أجاب بقوله: وقد روى عن غيرهم من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، خلاف ذلك، ثم روى حديث على، رضي الله تعالى عنه، الذي ذكرنا آنفا. وأخرج حديث ابن مسعود الذي أخرجه عبد الرزاق الذي ذكرناه آنفا، ثم أخرج عن أبي بكرة: حدثنا أبو داود قال: حدثنا خديج بن معاوية عن أبي إسحاق عن علقمة عن ابن مسعود، قال: ليت الذي يقرأ خلف الإمام ملىء فوه ترابا. وأخرج أيضا عن يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني حيوة بن شريح عن بكر بن عمرو عن عبيد الله بن مقسم أنه سأل عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله، فقالوا: لا تقرأ خلف الإمام في شيء من الصلوات، ثم قال الطحاوي: فهؤلاء جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد أجمعوا على ترك القراءة خلف الإمام، وقد وافقهم على ذلك ما قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم مما قدمنا ذكره، وأشار به إلى أحاديث الصحابة الذين رووا ترك القراءة خلف الإمام. فإن قلت: أخرج البيهقي من حديث الجريري عن أبي الأزهر قال: سئل ابن عمر عن القراءة خلف الإمام، فقال: إني لأستحيي من رب هذه البنية أن أصلي صلاة لا أقرأ فيها بأم القرآن. قلت: هذه معارضة باطلة، فإن إسناد ما ذكره منقطع، والصحيح عن ابن عمر عدم وجوب القراءة خلف الإمام. فإن قلت: قوله: صلى الله عليه وسلم: (قراءة الإمام قراءة له)،
معارض لقوله تعالى:: * (فاقرؤا) * (المزمل: 20). أفلا يجوز تركه بخبر الواحد. قلت: جعل المقتدي قارئا بقراءة الإمام فلا يلزم الترك، أو نقول

13
إنه خص منه المقتدي الذي أدرك الإمام في الركوع فإنه لا يجب عليه القراءة بالإجماع، فتجوز الزيادة عليه حينئذ بخبر الواحد. فإن قلت: قد حمل البيهقي في (كتاب المعرفة) حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له)، على ترك الجهر بالقراءة خلف الإمام، وعلى قراءة الفاتحة دون السورة، واستدل عليه بحديث عبادة بن الصامت المذكور قلت: ليس في شيء من الأحاديث بيان القراءة خلف الإمام فيما جهر، والفرق بين الإسرار والجهر لا يصح لأن فيه إسقاط الواجب بمسنون على زعمهم، قاله إبراهيم بن الحارث فإن قلت: أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما من حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج فهي خداج فهي خداج غير تمام)، فهدا يدل على الركنية قلت: لا نسلم، لأن معناه: ذات خداج، أي: نقصان، بمعنى: صلاته ناقصة، ونحن نقول به، لأن النقصان في الوصف لا في الذات ولهذا قلنا بوجوب قراءة الفاتحة. فإن قلت: قوله تعالى:: * (فاقرؤا ما تيسر) * (االمزمل: 20). عام خص منه البعض، وهو ما دون الآية، فإن عند أبي حنيفة: أدنى ما يجزئ عن القراءة آية تامة، لأن ما دون الآية خارج بالإجماع، فإذا كان كذلك يجوز تخصيصه بخبر الواحد وبالقياس أيضا قلت: القرآن يتناول ما هو معجز عرفا، فلا يتناول ما دون الآية؟ فإن قلت: روى أبو داود: حدثنا ابن بشار حدثنا يحيى حدثنا جعفر عن أبي عثمان عن أبي هريرة، قال: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن أنادي أنه: لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد). قلت: هذا الحديث روي بوجوه مختلفة، فرواه البزار ولفظه: (أمر مناديا فنادى). وفي كتاب (الصلاة) لأبي الحسين أحمد بن محمد الخفاف: لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب فما زاد وفي (الصلاة) للفريابي: (أنادي في المدينة أن: لا صلاة إلا بقراءة أو بفاتحة الكتاب فما زاد) وفي لفظ: فناديت: (أن لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب) وعند البيهقي: (إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد) وفي (الأوسط): (في كل صلاة قراءة ولو بفاتحة الكتاب)، وهذه الأحاديث كلها لا تدل على فرضية قراءة الفاتحة، بل غالبها ينفي الفرضية، فإن دلت إحدى الروايتين على عدم جواز الصلاة إلا بالفاتحة دلت الأخرى على جوازها بلا فاتحة، فنعمل بالحديثين، ولا نهمل أحدهما بأن نقول بفرضية مطلق القراءة، وبوجوب قراءة الفاتحة، وهذا هو العدل في باب أعمال الأخبار، وأيضا في حديث أبي داود المذكور أمران: أحدهما: أن جعفرا المذكور في سنده هو جعفر بن ميمون فيه كلام حتى صرح النسائي أنه: ليس بثقة.: والثاني: أنه يقتضي فرضية ما زاد على الفاتحة، لأن معنى قوله: (فما زاد)، الذي زاد على الفاتحة، أو بقراءة الزيادة على الفاتحة، وليس ذاك مذهب الشافعي، وقد روى أبو داود من حديث عبادة بن الصامت يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا). قال سفيان: لمن يصلي وحده. قلت: معناه: لا صلاة كاملة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب زائدة على الفاتحة، وقال سفيان، هو ابن عيينة أحد رواة هذا الحديث، هذا لمن يصلي وحده، يعني في حق من يصلي وحده، وأما المقتدي فإن قراءة الإمام قراءة له، وكذا قاله الإسماعيلي في روايته: إذا كان وحده، فعلى هذا يكون الحديث مخصوصا في حق المنفرد فلم يبق للشافعية بعد هذا دعوى العموم. وحديث عبادة هذا أخرجه البخاري كما ذكر وليس فيه لفظة: فصاعدا. فإن قلت: قال البخاري في (كتاب القراءة خلف الإمام): وقال معمر عن الزهري: فصاعدا، وعامة الثقات لم تتابع معمرا في قوله: فصاعدا؟ قلت: هذا سفيان بن عيينة قد تابع معمرا في هذه اللفظة، وكذلك تابعه فيها صالح والأوزاعي وعبد الرحمن بن إسحاق وغيرهم كلهم عن الزهري فإن قلت: أخرج أبو داود عن القعنبي عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن...) الحديث، وقد ذكرناه عن قريب، وفيه: (فقلت: يا أبا هريرة إني أكون أحيانا وراء الإمام، قال: فغمز ذراعي وقال: إقرأ بها في نفسك يا فارسي...) الحديث، والخطاب لأبي السائب. وقال النووي: وهذا يؤيد وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، ومعناه: إقرأها سرا بحيث تسمع نفسك. قلت: هذا لا يدل على الوجوب، لأن المأموم مأمور بالإنصات لقوله تعالى: * (وأنصتوا) * (الأعراف: 204). والإنصات: الإصغاء، والقراءة سرا بحيث يسمع نفسه تخل بالإنصات، فحينئذ يحمل ذلك على أن المراد تدبر ذلك، وتفكره، ولئن سلمنا أن المراد هو القراءة حقيقة فلا نسلم أنه يدل على الوجوب، على أن بعض أصحابنا استحسنوا ذلك على سبيل الاحتياط في جميع الصلوات، ومنهم من استحسنها في غير الجهرية، ومنهم من رأى ذلك

14
إذا كان الإمام لحانا، ومما يؤيد ما ذهب إليه أصحابنا ما أخرجه أبو داود من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، بهذا الخبر، وزاد: (وإذا قرأ فأنصتوا)، رواه النسائي وابن ماجة والطخاوي، وهذا حجة صريحة في أن المقتدي لا يجب عليه أن يقرأ خلف الإمام أصلا على الشافعي في جميع الصلوات، وعلى مالك في الظهر والعصر. فإن قلت: قد قال أبو داود عقيب إخراجه هذا الحديث: وهذه الزيادة يعني: (إذا قرأ فأنصتوا) ليست بمحفوظة الوهم من أبي خالد أحد رواته، واسمه: سليمان بن حيان، بفتح الحاء وتشديد الياء آخر الحروف: وهو من رجال الجماعة. وقال البيهقي في (المعرفة): أجمع الحفاظ على خطأ هذه اللفظة، وأسند عن ابن معين في (سننه الكبير) قال: في حديث ابن عجلان وزاد: (وإذا قرأ فأنصتوا)، ليس بشيء، وكذا قال الدارقطني في حديث أبي موسى الأشعري: (وإذا قرأ الإمام فأنصتوا)، وقد رواه أصحاب قتادة الحفاظ عنه منهم: هشام الدستوائي وسعيد وشعبة وهمام وأبو عوانة وأبان وعدي بن أبي عمارة ولم يقل واحد منهم: (وإذا قرأ فأنصتوا قال: وإجماعهم يدل على وهمه، وعن أبي حاتم: ليست هذه الكلمة بمحفوظة، إنما هي من تخاليط ابن عجلان. قلت: في هذا كله نظر، أما ابن عجلان فإنه وثقه العجلي، وفي (الكمال): ثقة كثير الحديث، وقال الدارقطني: إن مسلما أخرج له في (صحيحه) قلت: أخرج له الجماعة البخاري مستشهدا وهو محمد بن عجلان المدني، فهذا زيادة ثقة فتقبل، وقد تابعه عليهما خارجة ابن مصعب ويحيى بن العلاء، كما ذكره البيهقي في (سننه الكبير) وأما أبو خالد فقد أخرج له الجماعة كما ذكرنا، وقال إسحاق ابن إبراهيم: سألت وكيعا عنه فقال: أبو خالد ممن يسأل عنه؟ وقال أبو هشام الرافعي: حدثنا أبو خالد الأحمر الثقة الأمين، ومع هذا لم ينفرد بهذه الزيادة، وقد أخرج النسائي كما ذكرنا هذا الحديث بهذه الزيادة من طريق محمد بن سعد
الأنصاري ومحمد بن سعد ثقة، وثقه يحيى بن معين، وقد تابع ابن سعد هذا أبا خالد، وتابعه أيضا إسماعيل بن أبان، كما أخرجه البيهقي في (سننه) وقد صحح مسلم هذه الزيادة من حديث أبي موسى الأشعري، ومن حديث أبي هريرة، وقال أبو بكر: لمسلم حديث أبي هريرة، يعني: (إذا قرأ فأنصتوا) قال: هو عندي صحيح، فقال: لم لا تضعه ههنا؟ قال: ليس كل شيء عني صحيح وضعته ههنا، وإنما وضعت ههنا ما أجمعوا عليه، وتوجد هذه الزيادة أيضا في بعض نسخ مسلم عقيب الحديث المذكور، وفي (التمهيد) بسنده عن ابن حنبل أنه صحح الحديثين، يعني: حديث أبي موسى وحديث أبي هريرة، والعجب من أبي داود أنه نسب الوهم إلى أبي خالد وهو ثقة بلا شك، ولم ينسب إلى ابن عجلان وفيه كلام، ومع هذا أيضا فابن خزيمة صحح حديث ابن عجلان.
757 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا يحيى عن عبيد الله قال حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فصلى فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد وقال ارجع فصل فإنك لم تصل فرجع فصلى كما صلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال إرجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا فقال والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره فعلمني فقال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا وافعل ذلك في صلاتك كلها..
مطابقته للترجمة تأتي بالاستئناس في الجزء السادس من الترجمة، وهو قوله: وما يخافت، لأنه صلى الله عليه وسلم أمر الرجل المذكور في هذا الحديث بالقراءة في صلاته وكانت صلاته نهارية، لأن أصل صلاة النهار على الإسرار إلا ما خرج بدليل كالجمعة والعيدين، وأصل صلاة الليل على الجهر، فإن خالف فعليه سجود السهو عندنا خلافا للشافعي، وقد مر الكلام فيه مستقصى. وقال ابن بطال: ومن لم يوجب السجود في ذلك أشبه بدليل حديث أبي قتادة الآتي فيما بعد، وكان يسمعنا الآية أحيانا وهو دال على القصد إليه والمداومة عليه، فإنه لما كان الجهر والإسرار من سنن الصلاة، وكان صلى الله عليه وسلم

15
قد جهر في بعض صلاة السر ولم يسجد لذلك، كان كذلك حكم الصلاة إذا جهر فيها لأنه لو اختلف الحكم في ذلك لبينه، ولا وجه لمذهب الكوفيين، إذ لا حجة لهم فيه من كتاب ولا سنة ولا نظر قلت: جهره صلى الله عليه وسلم بالقراءة في حديث أبي قتادة إنما كان لبيان جواز الجهر في القراءة السرية، فإن الإسرار ليس بشرط لصحة الصلاة، بل هو سنة، ويحتمل أن الجهر بالآية كان بسبق اللسان للاستغراق في التدبر. قوله: ولا وجه لمذهب الكوفيين.. إلى آخره، كلام واه لأن حجة الكوفيين في هذا الباب مواظبته صلى الله عليه وسلم في صلاة النهار على الإسرار وعلى الجهر في صلاة الليل في الفرائض، وفي حديث إمامة جبريل، عليه الصلاة والسلام، روى أنس أنه أسر في الظهر والعصر والثالثة من المغرب والأخريين من العشاء، وأصل الحديث في سنن الدارقطني من حديث قتادة: عن أنس، رضي الله تعالى عنه، وروى أبو داود في (مراسيله) عن الحسن في صلاة النبي خلف جبريل، عليه السلام: أنه أسر في الظهر والعصر والثالثة من المغرب والأخريين من العشاء ونحو ذلك. وقال بعضهم موضع الحاجة من حديث أبي هريرة هنا قوله: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن)، وكأنه أشار بإيراده عقيب حديث عبادة أن الفاتحة إنما تتحتم على من يحسنها وأن من لا يحسنها يقرأ ما تيسر عليه أو أن الإجمال الذي في حديث أبي هريرة يبينه تعين الفاتحة في حديث عبادة. انتهى. قلت: هذا كلام بعيد عن المقصود جدا تمجه الأسماع، فالبخاري وضع هذا الباب مترجما بترجمة لها ستة أجزاء، وأورد حديث أبي هريرة هذا لأجل الجزء السادس كما ذكرنا، فالوجه الأول الذي ذكره هذا القائل لا يناسب شيئا من الترجمة أصلا وهو كلام أجنبي. الوجه الثاني أبعد منه لأنه ذكر أن في حديث أبي هريرة في قوله: (ثم اقرأ ما تيسر معك) إجمالا، فليت شعري من قال: إن حد الإجمال يصدق على هذا؟ والمجمل هو ما خفي المراد منه لنفس اللفظ خفاء لا يدرك إلا ببيان من المجمل، سواء كان ذلك لتزاحم المعاني المتساوية الأقدام كالمشترك، أو لغرابة اللفظ كالهلوع، أو لانتقاله من معناه الظاهر إلى ما هو غير معلوم، كالصلاة والزكاة والربا، فانظر أيها المنصف النازح عن طريق الاعتساف هل يصدق ما قاله من دعوى الإجمال هنا؟ وهل ينطبق ما ذكره الأصوليون في حد المجمل على ما ذكره؟ فنسأل الله العصمة عن دعوى الأباطيل والوقوع في مهمة التضاليل.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: محمد بن بشار، بفتح الباء الموحدة وتشديد الشين المعجمة، وقد تكرر ذكره. الثاني: يحيى بن سعيد القطان. الثالث: عبيد الله بن عمر العمري. الرابع: سعيد المقبري. الخامس: أبوه أبو سعيد، واسمه كيسان الليثي الجندعي. السادس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: سعيد عن أبيه. قال الدارقطني: خالف يحيى فيه جميع أصحاب عبيد الله لأن كلهم رووه عن عبيد الله عن سعيد عن أبي هريرة، ولم يذكروا أباه، وقال الترمذي: وروى ابن نمير هذا الحديث عن عبيد الله عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، ولم يذكر فيه: عن أبيه عن أبي هريرة، وقال أبو داود: حدثنا القعنبي أخبرنا أنس يعني ابن عياض، وأخبرنا ابن المثنى قال: حدثني يحيى بن سعيد عن عبيد الله، وهذا لفظ ابن المثنى، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة، فذكر الحديث، ثم قال: قال القعنبي: عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة، وقال الدارقطني: يحيى حافظ يعتمد ما رواه فالحديث صحيح.
: ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن مسدد وفيه وفي الاستئذان عن محمد بن بشار. وأخرجه مسلم وأبو داود جميعا في الصلاة عن أبي موسى. وأخرجه الترمذي عن محمد بن بشار به. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن المثنى به، وقال: خولف يحيى، فقيل: سعيد عن أبي هريرة، وأما رواية سعيد عن أبي هريرة فأخرجها البخاري عن إسحاق بن منصور عن عبيد الله بن نمير في الاستئذان، وأبي أسامة في الأيمان والنذور. وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن نمير عن أبيه به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي أسامة وعبد الله بن نمير به. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن أنس بن عياض به. وأخرجه الترمذي فيه عن إسحاق بن منصور عن عبد الله بن نمير به. وأخرجه ابن ماجة فيه بتمامه. وفي الأدب ببعضه عن أبي بكر ابن أبي شيبة عن أبي أسامة
وللحديث المذكور طريق أخرى من غير رواية أبي هريرة أخرجها أبو داود والنسائي من رواية إسحاق بن أبي طلحة ومحمد بن إسحاق ومحمد بن عمرو ومحمد بن عجلان وداود بن قيس، كلهم عن علي بن أبي

16
يحيى بن خلاد بن رافع الزرقي عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع، ومنهم من لم يسم رفاعة، قال: عن عم له بدري، ومنهم من لم يقل: عن أبيه، ورواه النسائي والترمذي عن طريق يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن جده عن رفاعة، لكن لم يقل الترمذي: وفيه اختلاف آخر.
ذكر معناه: قوله:: (فدخل رجل)، هو خلاد بن رافع، جد علي بن يحيى أحد الرواة في حديث رفاعة بن رافع المذكور آنفا، وفي رواية ابن نمير: (فدخل رجل ورسول الله صلى الله عليه وسلم، جالس في ناحية المسجد). وفي رواية من رواية إسحاق بن أبي طلحة: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم، جالس ونحن حوله...) ووقع في رواية الترمذي والنسائي: (إذ جاء رجل كالبدوي فصلى فأخف صلاته)، وهذا لا يمنع تفسيره بخلاد، لأن رفاعة شبهه بالبدوي. قوله:: (فصلى)، قال الكرماني: أي الصلاة وليس المراد: فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم قلت: وقع في رواية النسائي من رواية داود بن قيس: ركعتين، ولو اطلع الكرماني على هذا لم يقل: وليس المراد فصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث يفسر بعضها بعضا قوله:: (فسلم على النبي، صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية له، على ما يجيء: (ثم جاء فسلم)، قوله:: (فرد)، أي: فرد النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وفي رواية ابن نمير في الاستئذان، فقال: وعليك السلام. قوله:: (فقال: ارجع)، ويروى: وقال، بالواو، وفي رواية ابن عجلان: (فقال: أعد صلاتك) قوله:: (فرجع فصلى)، بالفاء، ويروى: فرجع يصلي، بياء المضارع، على أن الجملة حال منتظرة مقدرة. قوله:: (ثلاثا) أي: ثلاث مرات، وفي رواية ابن نمير: (فقال في الثالثة) وفي رواية أبي أسامة: (فقال في الثانية أو الثالثة)، والرواية التي بلا ترديد أولى. قوله:: (فقال: والذي بعثك) ويروى: (قال: والذي بعثك)، بدون الفاء. قوله:: (فعلمني) وفي رواية يحيى بن علي: (فقال الرجل فأرني وعلمني فإنما أنا بشر أصيب وأخطىء. فقال: أجل) قوله:: (فقال: إذا)، ويروى: قال، بدون الفاء. قوله:: (إذا قمت إلى الصلاة فكبر)، وفي رواية ابن نمير: (إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر). وفي رواية يحيى بن علي: (فتوضأ كما أمرك الله تعالى ثم تشهد وأقم). وفي رواية إسحاق بن أبي طلحة عند النسائي: (إنها لم تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله فيغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين ثم يكبر الله ويحمده ويمجده). وفي رواية أبي داود: (ويثني عليه)، بدل: (ويمجده). قوله:: (ثم اقرأ ما تيسر معك)، ويروى: (بما معك)، بزيادة الباء الموحدة، ولم يختلف في هذا عن أبي هريرة. وأما في حديث رفاعة ففي رواية إسحاق التي ذكرناها الآن: (ويقرأ ما تيسر من القرآن مما علمه الله)، وفي رواية يحيى بن علي: (فإن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وكبره وهلله). وفي رواية محمد بن عمرو عند أبي داود: (ثم اقرأ بأم القرآن أو بما شاء الله). وفي رواية أحمد وابن حبان: (ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت). قوله:: (ثم اركع حتى تطمئن راكعا) أي: حال كونك راكعا. قوله:: (حتى تعتدل)، وفي رواية ابن ماجة: (حتى تطمئن قائما) قوله:: (وافعل ذلك) أي: المذكور من كل واحد من التكبير وقراءة ما تيسر والركوع والسجود والجلوس، وفي محمد بن عمر: (ثم اصنع ذلك في كل ركعة وسجدة). قوله:: (في صلاتك كلها) يعني: من الفرض والنفل.
ذكر ما يستنبط منه: وهو على وجوه: الأول: أن في قوله: (فرد)، دليلا على وجوب رد السلام على المسلم. وفيه: رد على ابن المنير حيث قال فيه: إن الموعظة في وقت الحاجة أهم من رد السلام، ولعله لم يرد عليه تأديبا على جهله، فيؤخذ منه التأديب بالهجر وترك رد السلام. قلت: الحامل له على ذلك عدم وقوفه على لفظه: فرد، لأن هذه اللفظة موجودة في الصحيحين في هذا الموضع، أو كأنه اعتمد على النسخة التي اعتمد عليها صاحب (العمدة)، فإنه ساق هذا الحديث بلفظ هذا الباب وليس فيه لفظة: فرد.
الثاني: قال عياض في قوله: (إرجع فصل فإنك لم تصل)، أن أفعال الجاهل في العبادة على غير علم لا تجزىء قلت: هذا الذي قاله إنما يمشي إذا كان المراد بالنفي نفي الإجزاء وليس كذلك، بل المراد منه نفي الكمال، لأنه صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث، وفي رواية القعنبي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: (إذا فعلت هذا فقد تمت صلاتك، وما انتقصت من هذا فإنما انتقصت من صلاتك). وقد سمى صلى الله عليه وسلم صلاته: صلاة، فدل على أن المراد من النفي نفي الكمال، وقال بعضهم: ومن حمله على نفي الكمال تمسك بأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمره بعد التعليم بالإعادة، فدل على إجزائها. والإلزام تأخير البيان، ثم قال: وفيه نظر، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمره في المرة الأخيرة بالإعادة فسأله التعليم فعلمه، فكأنه

17
قال له: أعد صلاتك على هذه الكيفية. انتهى. قلت: إنما أمره بالإعادة على الكيفية الكاملة ولا يستلزم ذلك نفي ذات الصلاة، فالنفي راجع إلى الصفة لا إلى الذات، والدليل عليه أن صلاته لو كانت فاسدة لكان الاشتغال بذلك عبثا، والنبي صلى الله عليه وسلم لا يقرر أحدا على الاشتغال بالعبث، وهذا هو الذي ذكره المتأخرون من أصحابنا نصرة لأبي حنيفة ومحمد في ذهابهما إلى أن الطمأنينة في الركوع والسجود واجبة وليست بفرض، حتى قال في (الخلاصة): إنها سنة عندهما، وقالوا: لأن الركوع هو الانحناء، والسجود هو الانخفاض لغة، فتتعلق الركنية بالأدنى منهما. وقالوا أيضا قوله تعالى: * (اركعوا واسجدوا) * (الحج: 77). أمر بالركوع والسجود، وهما لفظان خاصان يراد بهما الانحناء والانخفاض، فيتأدى ذلك بأدنى ما ينطلق عليه من ذلك، وافتراض الطمأنينة فيهما بخبر الواحد زيادة على مطلق النص، وهو نسخ، وذا لا يجوز. وأما الطحاوي الذي هو العمدة في بيان اختلاف العلماء في الفقه، فإنه لم ينصب الخلاف بين أصحابنا الثلاثة على هذا الوجه، فإنه قال في (شرح معاني الآثار): باب مقدار الركوع والسجود الذي لا يجزئ أقل منه، ثم روى حديث ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قال أحدكم في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاثا، فقد تم ركوعه. وذلك أدناه، وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثا، فقد تم سجوده، وذلك أدناه
). وأخرجه أبو داود والترمذي وابن ماجة، ثم قال: فذهب قوم إلى هذا، وأراد به إسحاق وداود وأحمد في رواية مشهورة، وسائر الظاهرية، فإنهم قالوا: مقدار الركوع والسجود الذي لا يجزئ أقل منه هو المقدار الذي يقول فيه: سبحان ربي العظيم سبحان ربي الأعلى، كل واحد ثلاث مرات، وخالفهم في ذلك آخرون، وأراد بهم: الثوري والأوزاعي وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا ومالكا والشافعي وعبد الله بن وهب وأحمد في رواية، فإنهم قالوا: مقدار الركوع والسجود أن يركع حتى يستوي راكعا، ومقدار السجود أن يسجد حتى يطمئن ساجدا، وهذا المقدار الذي لا بد منه ولا تتم الصلاة، إلا به، ثم روى حديث رفاعة بن رافع في احتجاجهم فيما ذهبوا إليه، ثم في آخر الباب قال: وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، ولم ينصب الخلاف بينهم مثل ما نصبه صاحب (الهداية) و (المبسوط) و (المحيط) وغيرهم:
* إذا قالت حذام فصدقوهافإن القول ما قالت حذام
*
وعن هذا أجيب عما قاله شراح (الهداية) في هذا الموضع، في شرحنا له: فمن أراد ذلك فليرجع إليه.
الثالث: إن قوله: (فكبر)، يدل على أن الشروع في الصلاة لا يكون إلا بالتكبير، وهو فرض بلا خلاف.
الرابع: إن قوله: (ثم اقرأ)، يدل على أن القراءة فرض في الصلاة.
الخامس: قوله: (ما تيسر)، يدل على أن الفرض مطلق القراءة، وهو حجة لأصحابنا على عدم فرضية قراءة الفاتحة، إذ لو كانت فرضا لأمره صلى الله عليه وسلم، لأن المقام مقام التعليم. وقال الخطابي قوله: (ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن)، ظاهره الإطلاق والتخيير، والمراد منه فاتحة الكتاب لمن أحسنها لا يجزيه غيرها، بدليل قوله: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب)، وهذا في الإطلاق كقوله تعالى: * (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) * (البقرة: 196). ثم قال: أقل ما يجرىء من الهدي معينا معلوم المقدار ببيان السنة وهو: الشاة. قلت: يريد الخطابي أن يتخذ لمذهبه دليلا على حسب اختياره بكلام ينقض أوله آخره، وحيث اعترف أولا أن ظاهر هذا الكلام الإطلاق والتخيير، وحكم المطلق أن يجري على إطلاقه، وكيف يكون المراد منه فاتحة الكتاب وليس فيه إجمال؟ وقوله: وهذا في الإطلاق كقوله تعالى... إلى آخره، ظاهر الفساد، لأن الهدى اسم لما يهدى إلي الحرم، وهو يتناول الإبل والبقر والغنم، وفيه إجمال، وأقل ما يجزئ: شاة، فيكون مرادا بالسنة بخلاف قوله: (ما تيسر معك من القرآن)، فإنه ليس كذلك، لأنه يتناول كل ما يطلق عليه القرآن، فيتناول الفاتحة وغيرها وليس فيه إجمال، وتخصيصه بفاتحة الكتاب من غير مخصص ترجيح بلا مرجح، وهو باطل، ولا يجوز أن يكون قوله: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) مخصصا، لأنه ينافي معنى التيسر، فينقلب إلى تعسر، وهذا باطل، ولا يجوز أن يكون مفسرا لأنه ليس فيه إبهام. ومن قال: إنه مجمل كالتيمي وغيره، وحديث عبادة مفسر، والمفسر قاض على المجمل فقد أبعد جدا لأنه لا يصدق عليه حد الإجمال كما ذكرنا عن قريب، وقال النووي: أما حديث: (اقرأ ما تيسر)، فمحمول على الفاتحة فإنها متيسرة، أو على ما زاد على الفاتحة بعدها، أو على من عجز عن الفاتحة قلت: هذا تمشية لمذهبه بالتحكم، وكل هذا خارج عن معنى كلام الشارع. أما قوله: فالفاتحة متيسرة، فلا يدل عليه تركيب الكلام أصلا، لأن ظاهره يتناول الفاتحة وغيرها مما ينطلق عليه اسم

18
القرآن، وسورة الإخلاص أكثر تيسرا من الفاتحة، فما معنى تعيين الفاتحة في التيسر؟ وهذا تحكم بلا دليل. وأما قوله: أو على ما زاد على الفاتحة، فمن أين يدل ظاهر الحديث على الفاتحة حتى يكون قوله: (ما تيسر) دالا على ما زاد على الفاتحة؟ ومع هذا إذا كان مأمورا بما زاد على الفاتحة يجب أن تكون تلك الزيادة أيضا فرضا، مثل قراءة الفاتحة، ولم يقل به الشافعي. وأما قوله: أو على من عجز عن الفاتحة، فحمله عليه غير صحيح، لأنه ما في الحديث شيء يدل عليه. وفي حديث رفاعة بن رافع: (ثم اقرأ إن كان معك قرآن، فإن لم يكن معك قرآن فاحمد الله وكبر وهلل). كذا في رواية الطحاوي، وفي رواية الترمذي: (فإن كان معك قرآن، فإقرأ وإلا فاحمد الله وكبره وهلله). وكيف يحمل قوله: (إقرأ ما تيسر) على من عجز عن الفاتحة وقد بين صلى الله عليه وسلم حكم العاجز عن القراءة مستقلا برأسه؟
السادس: في قوله: حتى تطمئن) في الموضعين، يدل على وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود.
السابع: قال الخطابي في قوله: (وافعل ذلك في صلاتك كلها) دليل على أن عليه أن يقرأ في كل ركعة، كما كان عليه أن يركع ويسجد في كل ركعة، وقال أصحاب الرأي: إن شاء أن يقرأ في الركعتين الأخريين قرأ، وإن شاء أن يسبح سبح، وإن لم يقرأ فيهما شيئا أجزأته، ورووا فيه عن علي بن أبي طالب أنه قال: يقرأ في الأوليين ويسبح في الأخريين من طريق الحارث عنه، وقد تكلم الناس في الحارث قديما، وطعن فيه الشعبي، ورماه بالكذب، وتركه أصحاب (الصحيح): ولو صح ذلك عن علي لم يكن حجة، لأن جماعة من الصحابة قد خالفوه في ذلك منهم: أبو بكر وعمر وابن مسعود وعائشة وغيرهم، رضي الله تعالى عنهم، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى ما اتبع فيه، بل قد ثبت عن علي من طريق عبيد الله بن أبي رافع أنه كان يأمر أن يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب. انتهى. قلت: إن سلمنا أن قوله ذلك دل على أن يقرأ في كل ركعة، فقد دل غيره أن القراءة في الأوليين قراءة في الأخريين، بدليل ما روي عن جابر بن سمرة قال: شكا أهل الكوفة سعدا.. الحديث، وفيه: (وأحذف في الأخريين)، أي: أحذف القراءة في الأخريين، وقد مر الكلام فيه مستوفى في هذا الباب، وتفسيرهم بقولهم: أقصر القراءة ولا أحذفها، خلاف الظاهر، وإن طعنوا في الرواية عن علي من طريق الحارث فقد روى عبد الرزاق في (مصنفه): عن معمر عن الزهري عن عبيد الله بن أبي رافع، قال: كان علي يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بأم القرآن وسورة، ولا يقرأ في الأخريين، وهذا إسناد صحيح،
وهذا ينافي قول الخطابي، بل قد ثبت عن علي، رضي الله تعالى عنه، من طريق عبيد الله.. الخ، وقوله: لأن جماعة من الصحابة قد خالفوه، غير مسلم، لأنه روي عن ابن مسعود مثله، على ما روى ابن أبي شيبة، قال: حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن علي وعبد الله أنهما قالا: قرأ في الأوليين وسبح في الأخريين، وكذا روى عن عائشة، وكذا روى عن إبراهيم وابن الأسود. وفي (التهذيب) لابن جرير الطبري: وقال حماد عن إبراهيم عن ابن مسعود، إنه كان لا يقرأ في الركعتين الأخريين من الظهر والعصر شيئا. وقال هلال بن سنان: صليت إلى جنب عبد الله بن يزيد فسمعته يسبح، وروى منصور عن جرير عن إبراهيم قال: ليس في الركعتين الأخريين من المكتوبة قراءة، سبح الله واذكر الله. وقال سفيان الثوري: إقرأ في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة، وفي الأخريين بفاتحة الكتاب أو سبح فيهما بقدر الفاتحة، أي: ذلك فعلت أجزأك، وإن سبح في الأخريين أحب إلي. فإن قلت: لم يبين في هذا الحديث بعض الواجبات: كالنية والقعدة الأخيرة وترتيب الأركان، وكذا بعض الأفعال المختلف في وجوبها كالتشهد في الأخير، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وإصابة لفظة السلام. قلت: قيل في جوابه: لعل هذه الأشياء كانت معلومة عند هذا الرجل، فلذلك لم يبينها قيل: يجوز أن يكون الراوي اختصر ذكر هذه الأشياء لأن المقام مقام التعليم، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولهذا قال الرجل في حديث رفاعة، فيما رواه الترمذي: (فأرني وعلمني فإنما أنا بشر أصيب وأخطىء). وقوله: (علمني)، يتناول جميع ما يتعلق بالصلاة من الواجبات القولية والفعلية. قلت: فيه تأمل، وقال ابن دقيق العيد: تكرر من الفقهاء الاستدلال بهذا الحديث على وجوب ما ذكر فيه، وعلى عدم وجوب ما لم يذكر، أما الوجوب فلتعلق الأمر به، وأما عدمه فليس لمجرد كون الأصل عدم الوجوب، بل لكون الباب موضع تعليم وبيان للجاهل، وذلك يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر. انتهى. قلت: إنما يقتضي انحصار الواجبات فيما ذكر أن لو لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم جميع الواجبات التي في الصلاة والذي لم

19
يذكره ظاهرا، أما اعتمادا على العلم بوجوبه قبل ذلك أو هو اختصار من الراوي: كما قيل، وقد ذكرناه. على أنا نقول: إذا جاءت صيغة الأمر في حديث آخر بشيء لم يذكر في هذا الحديث تقدم، ويعمل بها.
الثامن: فيه وجوب الإعادة على من يخل بشيء من الأركان، واستحباب الإعادة على من يخل بشيء من الواجبات للاحتياط في باب العبادات.
التاسع: فيه أن الشروع في النافلة ملزم، لأن الظاهر أن صلاة ذلك الرجل كانت نافلة.
العاشر: فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الحاي عشر: فيه حسن التعليم بالرفق دون التغليظ والتعنيف.
الثاني عشر: فيه إيضاح المسألة وتلخيص المقاصد.
الثالث عشر: فيه جلوس الإمام في المسجد وجلوس أصحابه معه.
الرابع عشر: فيه التسليم للعالم والانقياد له.
الخامس عشر: فيه الاعتراف بالتقصير، والتصريح بحكم البشرية في جواز الخطأ.
السادس عشر: فيه حسن خلقه صلى الله عليه وسلم ولطف معاشرته مع أصحابه.
السابع عشر: قال عياض: فيه حجة على من أجاز القراءة بالفارسية، لكون ما ليس بلسان العرب لا يسمى قرآنا. قلت: هذا الخلاف مبني على أن القرآن اسم للمعنى فقط، أو للنظم والمعنى جميعا، فمن ذهب إلى أنه اسم للمعنى احتج بقوله تعالى: * (وإنه لفي زبر الأولين) * (الشعراء: 196). ولم يكن القرآن في زبر الأولين بلسان العرب، وقوله: لكون ما ليس بلسان العرب لا يسمى قرآنا فيه نظر، لأن التوراة الذي أنزله الله تعالى على موسى، عليه الصلاة والسلام، يطلق على أنه قرآن وهو ليس بلسان العرب، وكذلك الإنجيل والزبور، لأن القرآن كلام الله تعالى قائم بذاته لا يتجزأ ولا ينفصل عنه، غير أنه إذا نزل بلسان العرب سمي قرآنا، ولما نزل على موسى، عليه السلام، سمي توراة، ولما نزل على عيسى، عليه الصلاة والسلام، سمي إنجيلا، ولما نزل على داود سمي زبورا. واختلاف العبارات باختلاف الاعتبارات.
الثامن عشر: فيه أن المفتي إذا سئل عن شيء وكان هناك شيء آخر يحتاج إليه السائل يستحب له أن يذكره له، وإن لم يسأله عنه، ويكون ذلك منه نصيحة له وزيادة خير.
التاسع عشر: فيه استحباب صبر الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر على من ينكر فعله أو يأمره بفعله، لاحتمال نسيان فيه أو تعقله فيتذكره، وليس ذلك من باب التقرير على الخطأ.
العشرون: السؤال الوارد فيه وهو أنه صلى الله عليه وسلم كيف سكت عن تعليمه أو لا؟ فقال التوربشتي: إنما سكت عن تعليمه أولا لأنه لما رجع لم يستكشف الحال من مورد الوحي، وكأنه اغتر بما عنده من العلم فسكت عن تعليمه زجرا له وتأديبا وإرشادا إلى استكشاف ما استبهم عليه، فلما طلب كشف الحال من مورده أرشده إليه، وقال النووي: إنما لم يعلمه أولا ليكون أبلغ في تعريفه وتعريف غيره بصفة الصلاة المجزئة، وقال ابن الجوزي: يحتمل أن يكون ترديده لتفخيم الأمر وتعظيمه عليه، ورأى أن الوقت لم يفته فأراد إيقاظ الفطنة للمتروك، وقال ابن دقيق العيد: ليس التقرير بدليل على الجواز مطلقا، بل لا بد من انتفاء الموانع، ولا شك أن في زيادة قبول التعلم لما يلقى إليه بعد تكرار فعله واستجماع نفسه وتوجه سؤاله مصلحة مانعة من وجوب المبادرة إلى التعلم، لا سيما مع عدم خوف الفوات، إما بناء على ظاهر الحال أو بوحي خاص.
((باب القراءة في الظهر))
أي: هذا باب في بيان حكم القراءة في صلاة الظهر. قال الكرماني: الظاهر أن المراد بها بيان قراءة غير الفاتحة قلت: العجب منه كيف يقول ذلك؟ وأين الظاهر الذي يدل على ما قاله؟ بل مراده الرد على من لا يوجب القراءة في الظهر، وقد ذكرنا أن قوما، منهم: سويد بن غفلة والحسن بن صالح وإبراهيم بن علية ومالك في رواية قالوا: لا قراءة في الظهر والعصر.
758 ح دثنا أبو النعمان قال حدثنا أبو عوانة عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة قال قال سعد كنت أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتي العشي لا أخرم عنها كنت أركد في الأوليين وأخف في الأخريين فقال عمر رضي الله تعالى عنه ذاك الظن بك. (انظر الحديث 755 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (كنت أركد في الأوليين)، لأن ركوده فيهما كان للقراءة. وقوله: (صلاة العشي) هي صلاة الظهر والعصر وقد مر هذا الحديث في الباب السابق بتمامه، أخرجه عن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة الوضاح اليشكري،

20
وههنا: عن أبي النعمان محمد بن الفضل السدوسي البصري عن أبي عوانة، وقد مر الكلام فيه مستقصى في الباب السابق.
قوله: (فأخف)، بضم الهمزة، ويروى: فأخفف، ويروى: (فأحذف).
759 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر بفاتحة الكتاب وسورتين يطول في الأولى ويقصر في الثانية ويسمع الآية أحيانا وكان يقرأ في العصر بفاتحة الكتاب وسورتين وكان يطول في الأولى وكان يطول في الركعة الأولى من صلاة الصبح ويقصر في الثانية..
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: أبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين. الثاني: شيبان بن عبد الرحمن. الثالث: يحيى بن أبي كثير. الرابع: عبد الله ابن أبي قتادة. الخامس: أبوه أبو قتادة الحارث بن ربعي، وهو المشهور.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعة في ثلاثة مواضع وفيه القول في موضعين وفيه عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، وفي رواية الجوزقي، من طريق عبيد الله بن موسى: عن شيبان التصريح بالإخبار ليحيى من عبد الله، ولعبد الله من أبيه، وكذا للنسائي من رواية الأوزاعي عن يحيى، لكن بلفظ التحديث فيهما، وكذا له من رواية أبي إبراهيم القتاد عن يحيى: حدثني عبد الله، فأمن بذلك تدليس يحيى.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن مكي بن إبراهيم عن هشام الدستوائي وعن أبي نعيم عن هشام ولم يذكر القراءة، وعن موسى بن إسماعيل عن همام، وعن محمد بن يوسف عن الأوزاعي، أربعتهم عن يحيى بن أبي كثير به. وأخرجه مسلم فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة وعن محمد بن المثنى. وأخرجه أبو داود فيه عن محمد ابن المثنى به، وعن الحسن بن علي، وعن مسدد عن يحيى وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة، وعن يحيى بن درست وعن عمران ابن يزيد وعن محمد بن المثنى، وأخرجه ابن ماجة فيه عن بشر بن هلال الصواف.
ذكر معناه: قوله: (الأوليين) تثنية الأولى. قوله: (وسورتين) أي: في كل ركعة سورة. قوله: (يطول) من التطويل. قوله: (في الثانية) أي: في الركعة الثانية. قوله: (ويسمع الآية)، وفي رواية: (ويسمعنا)، من الإسماع، وكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية الشيبان، وللنسائي من حديث البراء: (كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم الظهر فنسمع منه الآية بعد الآية من سورة لقمان والذاريات)، ولابن خزيمة من حديث أنس نحوه، ولكن قال: سبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية. قوله: (أحيانا) أي: في أحيان، جمع حين، وهو يدل على تكرر ذلك منه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: دليل على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من الأوليين من ذوات الأربع والثلاث، وكذلك ضم السورة إلى الفاتحة. وفيه: استحباب قراءة سورة قصيرة بكمالها، وأنها أفضل من قراءة بقدرها من الطويلة، وفي (شرح الهداية): إن قرأ بعض سورة في ركعة وبعضها في الثانية، الصحيح أنه لا يكره، وقيل: يكره ولا ينبغي أن يقرأ في الركعتين من وسط السورة، ومن آخرها، ولو فعل لا بأس به. وفي النسائي: (قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سورة المؤمنين إلى ذكر موسى وهارون، ثم أخذته سعلة ركع). وفي (المغني): لا تكره قراءة آخر السورة وأوسطها في إحدى الروايتين عن أحمد، وفي الرواية الثانية مكروهة. وفيه: أن الإسرار ليس بشرط لصحة الصلاة بل هو سنة. وفيه: في قوله: (وكان يطول الركعة الأولى من الظهر ويقصر في الثانية) ما يستدل به محمد على تطويل الأولى على الثانية في جميع الصلوات، وبه قال بعض الشافعية، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف: يسوي بين الركعتين إلا في الفجر، فإنه يطول الأولى على الثانية، وبه قال بعض الشافعية، وجوابهما عن الحديث: أن تطويل الأولى كان بدعاء الاستفتاح والتعود لا في القراءة، ويطول الأولى في صلاة الصبح بلا خلاف لأنه وقت نوم وغفلة. وفيه: دليل على جواز الاكتفاء بظاهر الحال في الإخبار دون التوقف على اليقين، لأن الطريق إلى العلم بقراءة السورة في السرية لا يكون إلا بسماع كلها، وإنما يفيد يقين ذلك لو كان في الجهرية، وكأنه مأخوذ من سماع

21
بعضها مع قيام القريبة على قراءة باقيها، قاله ابن دقيق العيد. وقيل: يحتمل أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخبرهم عقيب الصلاة دائما أو غالبا بقراءة السورتين. قلت: هذا بعيد جدا. وفيه: ما استدل به بعض الشافعية على جواز تطويل الإمام في الركوع لأجل الداخل. وقال القرطبي: ولا حجة فيه لأن الحكمة لا يعلل بها لخفائها أو لعدم انضباطها، ولأنه لم يكن يدخل في الصلاة يريد تقصير تلك الركعة، ثم يطيلها لأجل الآتي، وإنما كان يدخل فيها ليأتي بالصلاة على سنتها من
تطويل الأولى، فافترق الأصل والفرع، فامتنع الإلحاق. وفيه: ما استدل فيه أصحابنا الحنفية بإسقاط القراءة في الأخريين، لأن ذكر القراءة فيهما لم يقع، والله أعلم.
760 حدثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبي قال حدثنا الأعمش قال حدثني عمارة عن أبي معمر قال سألنا خبابا أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر قال نعم قلنا بأي شيء كنتم تعرفون قال باضطراب لحيته.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وعمر هو ابن حفص وأبوه حفص بن غياث، والأعمش هو سليمان، وعمارة، بضم العين: هو ابن عمير، وأبو معمر، بفتح الميمين: عبد الله بن سخبرة الأزدي الكوفي. وقد أخرج البخاري هذا في: باب رفع البصر إلى الإمام، عن موسى عن عبد الواحد عن الأعمش إلى آخره، وقد مر الكلام فيه مستوفى هناك.
وفيه: الحكم بالدليل، لأنهم حكموا باضطراب لحيته المباركة على قراءته، لكن لا بد من قرينة تعيين القراءة دون الذكر، والدعاء مثلا، لأن اضطراب لحيته يحصل بكل منهما، وكأنهم نظروه بالصلوات الجهرية لأن ذلك المحل منها هو محل القراءة لا الذكر والدعاء، وإذا انضم إلى ذلك قول أبي قتادة: كان يسمعنا الآية أحيانا، قوي الاستدلال.
97
((باب القراءة في العصر))
أي: هذا باب في بيان حكم القراءة في صلاة العصر.
761 حدثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر قال قلت ل خباب بن الأرت أكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر قال نعم قال قلت بأي شيء كنتم تعلمون قراءته قال باضطراب لحيته.
ذكر في هذا الباب حديثين: أحدهما: حديث خباب، والآخر: حديث أبي قتادة مختصرا، وقد ذكرهما في الباب الذي قبله، وقد مر الكلام فيهما. قوله: (قلت)، ويروى: (قلنا). قوله: (أكان؟) الهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار.
762 حدثنا المكي بن إبراهيم عن هشام عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة سورة ويسمعنا الآية أحيانا..
مطابقته للترجمة ظاهرة، ومكي بن إبراهيم بن بشير بن فرقد التميمي الحنظلي البلخي، ولد سنة ست وعشرين ومائة، وقال البخاري: مات سنة أربع عشرة أو خمس عشرة ومائتين، وهشام الدستوائي. قوله: (سورة سورة) كرر لفظ: السورة، ليفيد التوزيع على الركعات، يعني: يقرأ في كل ركعة من ركعتيهما سورة.
98
((باب القراءة في المغرب))
أي: هذا باب في بيان حكم القراءة في صلاة المغرب، والمراد تقدير القراءة لا إثباتها لكونها جهرية، بخلاف ما تقدم في: باب القراءة في العصر والقراءة في الظهر.

22
763 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال إن أم الفضل سمعته وهو يقرأ والمرسلات عرفا فقالت يا بني والله لقد ذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في المغرب (الحديث 763 طرفه في: 4429).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وابن شهاب هو: محمد بن مسلم الزهري.
وأخرجه البخاري أيضا في المغازي عن يحيى بن بكير. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وعن حرملة بن يحيى وعن إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن مالك. وأخرجه الترمذي فيه عن هناد. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة عن سفيان به مختصرا، وفي التفسير عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين. وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار، كلاهما عن سفيان به.
قوله: (إن أم الفضل)، هي: والدة ابن عباس الراوي عنها، وبذلك صرح الترمذي في روايته فقال: عن أمه أم الفضل واسمها: لبابة بنت الحارث زوجة العباس، وهي أخت ميمونة بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (سمعته)، أي: سمعت ابن عباس، وفيه التفات من الحاضر إلى الغائب، لأن القياس يقتضي أن يقال: سمعتني، وإنما لم يقل: إن أمي، لشهرتها بذلك. قوله: (وهو يقرأ)، جملة اسمية وقعت حالا، والضمير يرجع إلى ابن عباس، وفيه التفات أيضا من الحاضر إلى الغائب، لأن القياس يقتضي: وأنا أقرأ. وقال الكرماني: ويقرأ إما حال وإما استئناف، وعلى الحال يحتمل سماعها منه صلى الله عليه وسلم القرآن بعد ذلك، وعلى الاستئناف لا يحتمل. قوله: فقالت يا بني ويروى (فقلت) وبني بضم الباء تصغير ابن وهذا تصغير الشفقة والترحم قوله (لقد ذكرتني) بالتشديد، أي: ذكرتني شيئا نسيته. قال الكرماني: ويروى بالتخفيف، ويروى أيضا بقرآنك على وزن الفعلان، أراد به: بضم القاف وسكون الراء وبعد الألف نون. قوله: (هذه السورة)، منصوب بقوله: (بقراءتك)، على مختار البصريين، وبقوله: (ذكرتني)، على مختار الكوفيين. قوله: (إنها) أي: إن هذه السورة (لآخر ما سمعت
) ويروى: (ما سمعته) بزيادة ضمير المنصوب. فإن قلت: صرح عقيل في روايته عن ابن شهاب أنها آخر صلوات النبي صلى الله عليه وسلم، ذكره البخاري في باب الوفاة، ولفظه: (ثم ما صلى لنا بعدها حتى قبضه الله)، وذكر في: باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، إن الصلاة التي صلاها النبي، صلى الله عليه وسلم، بأصحابه في مرض موته كانت الظهر قلت: التوفيق بينهما أن الصلاة التي حكتها عائشة كانت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والصلاة التي حكتها أم الفضل كانت في بيته، كما رواه النسائي: (صلى بنا في بيته المغرب فقرأ المرسلات، وما صلى بعدها صلاة حتى قبض صلى الله عليه وسلم). فإن قلت: روى الترمذي: حدثنا هناد قال: أخبرنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن أمه أم الفضل قالت: خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب فقرأ بالمرسلات، فما صلاها بعد حتى لقي الله. وقال: حديث أم الفضل حديث حسن صحيح. قلت: يحمل قولها: خرج إلينا، على أنه خرج من مكانه الذي كان راقدا فيه إلى الحاضرين في البيت، فصلى بهم، فيحصل الالتئام بذلك في الروايات. وقال الترمذي: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في المغرب بالطور، وقد ذكره البخاري مسندا على ما يجيء عن قريب.
764 حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عروة بن الزبير عن مروان بن الحكم قال قال لي زيد بن ثابت ما لك تقرأ في المغرب بقصار المفصل وقد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بطولى الطوليين.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: أبو عاصم الضحاك بن مخلد، بفتح الميم: النبيل البصري.

23
الثاني: عبد الملك بن جريج. الثالث: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، بضم الميم، واسمه زهير بن عبد الله المكي الأحول، الرابع: عروة بن الزبير ابن العوام. الخامس: مروان بن الحكم بن العاص، أبو الحكم المدني. قال الذهبي: ولم ير النبي صلى الله عليه وسلم لأنه خرج إلى الطائف مع أبيه وهو طفل. السادس: زيد بن ثابت بن الضحاك الأنصاري.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول مكررا. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومكي ومدني. وفيه: عن ابن أبي مليكة، وفي رواية عبد الرزاق: عن ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة، ومن طريقه أخرجه أبو داود وغيره. وفيه: عن عروة. وفي رواية الإسماعيلي من طريق حجاج بن محمد عن ابن جريج: سمعت ابن أبي مليكة أخبرني عروة أن مروان أخبره.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه أبو داود أيضا في الصلاة عن أبي عاصم بن علي عن عبد الرزاق. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الأعلى عن خالد بن الحارث عن ابن جريج.
ذكر معناه: قوله: (قال لي زيد بن ثابت...) إلى آخره، قال: ذلك حين كان مروان أميرا على المدينة من قبل معاوية. قوله: (مالك؟) استفهام على سبيل الإنكار. قوله: (بقصار المفصل)، هكذا هو في رواية الكشميهني وفي رواية الأكثرين، بقصار، بالتنوين لقطعه عن الإضافة، ولكن التنوين فيه بدل عن المضاف إليه، أي بقصار المفصل. ووقع في رواية النسائي: بقصار السور، والمفصل السبع السابع، سمي به لكثرة فصوله، وهو من سورة محمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: من الفتح، وقيل: من قاف إلى آخر القرآن. وقصار المفصل من * (لم يكن) * (البينة: 1). إلى آخر القرآن، وأوساطه من * (والسماء ذات البروج) * (البروج: 1). إلى * (لم يكن) * (البينة: 1). وطواله من سورة محمد أو من الفتح إلى * (والسماء ذات البروج) * (البروج: 1). قوله (بطولى الطوليين) طولى، بضم الطاء على وزن: فعلى، تأنيث أطول، ككبرى تأنيث أكبر، ومعناه أطول السورتين الطويلتين. وقال التيمي: يريد أطول السورتين. وقوله: الطوليين، بضم الطاء تثنية طولى، وهكذا هو رواية الأكثرين. وفي رواية كريمة: (بطول الطوليين)، بضم الطاء وسكون الواو وباللام فقط، وقال الكرماني: المراد بطول الطوليين طول الطويلتين إطلاقا للمصدر، وإرادة للوصف، أي: كان يقرأ بمقدار طول الطوليين الذين هما البقرة والنساء والا عراف (قلت) لا يستقيم هذا لأنه يلزم منه أن يكون يقرأ بقدر السورتين، وليس هذا بمراد، ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة: بأطول الطوليين: آلمص
1764;، وفي رواية أبي داود قال: قلت: ما طول الطوليين؟ قال: الأعراف. قال: وسألت أنا ابن أبي مليكة فقال لي، من قبل نفسه: المائدة والأعراف. وبين النسائي في رواية له: أن التفسير من عروة، وفي رواية الجوزقي من طريق عبد الرحمن بن بشر عن عبد الرزاق مثل رواية أبي داود إلا أنه قال: الأنعام بدل المائدة. وعند أبي مسلم الكجي: عن أبي عاصم: يونس بدل الأنعام. أخرجه الطبراني وأبو نعيم في (المستخرج) فمن هذا عرفت أنهم اتفقوا على تفسير الطولى بالأعراف.
ووقع الاختلاف في الأخرى على ثلاثة أقوال، والمحفوظ منها الأنعام، وقال ابن بطال: البقرة أطول السبع الطوال، فلو أرادها لقال طول الطوال، فلما لم يردها دل على أنه أراد الأعراف لأنها أطول السور بعد البقرة، ورد عليه بأن النساء أطول من الأعراف. قلت: ليس للرد وجه، لأن الأعراف أطول السور بعد، لأن البقرة: مائتان وثمانون وست آيات، وهي ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة، وخمسة وعشرون ألف حرف وخمسمائة حرف. وسورة آل عمران: مائتا آية، وثلاثة آلاف وأربعمائة وإحدى وثمانون كلمة، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفا. وسورة النساء: مائة وخمس وسبعون آية، وثلاث آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة، وستة عشر ألفا وثلاثون حرفا. وسورة المائدة: مائة واثنتان وعشرون آية، وألف وثمانمائة كلمة وأربع كلمات، وأحد عشر ألفا وسبع مائة وثلاثة وثمانون حرفا. وسورة الأنعام: مائة وست وستون آية، وثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة، واثنا عشر ألف حرف وأربع مائة واثنان وعشرون حرفا. وسورة الأعراف، مائتان وخمس آيات عند أهل البصرة وست عند أهل الكوفة، وثلاث آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة، وأربعة عشر ألف حرف وعشرة أحرف. وقال
الكرماني: فإن قيل: البقرة أطول السبع الطوال أجيب بأنه: لو أراد البقرة لقال: بطولى الطوال، فلما لم يقل ذلك دل على أنه أراد الأعراف، وهي أطول السور بعد البقرة، ثم قال الكرماني: أقول: فيه نظر، لأن النساء هي الأطول بعدها. قلت: هذا غفلة منه وعدم تأمل، والجواب المذكور موجه، وقد عرفت التفاوت بين هذه السور الست فيما ذكرناه الأن.

24
ذكر ما يستفاد منه: فيه: حجة على الشافعي في ذهابه إلى أن وقت المغرب قدر ما يصلي فيه ثلاث ركعات، وهو قوله الجديد، وإذا قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الأعراف يدخل وقت العشاء قبل الفراغ منها، فتفوت صلاة المغرب، قاله الخطابي، ثم قال: وتأويله أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الركعة الأولى بقدر ما أدرك ركعة من الوقت، ثم قرأ باقيها في الثانية، ولا بأس بوقوعها خارج الوقت قلت: هذا تأويل فاسد، لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على هذا الوجه، وقال الكرماني: يحتمل أن يراد بالسورة بعضها قلت: وإلى هذا الوجه مال الطحاوي حيث قال: يدل على صحة هذا التأويل أن محمد بن خزيمة قد حدثنا، قال: حدثنا حجاج بن منهال، قال: حدثنا حماد عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله الأنصار أنهم: كانوا يصلون المغرب ثم ينتضلون، وروى أيضا من حديث أنس قال: (كنا نصلي المغرب مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرمي أحدنا فيرى موقع نبله). وروى أيضا من حديث علي بن بلال: قال: (صليت مع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار فحدثوني أنهم كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب ثم ينطلقون فيرتمون لا يخفى عليهم موقع سهامهم، حتى يأتوا ديارهم). وهو أقصى المدينة في بني سلمة، ثم قال: لما كان هذا وقت انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة المغرب استحال أن يكون ذلك قد قرأ فيها الأعراف، ولا نصفها. وقد أنكر على معاذ حين صلى العشاء بالبقرة مع سعة وقتها فالمغرب أولى بذلك، فينبغي على هذا أن يقرأ في المغرب بقصار المفصل، وهو قول أصحابنا ومالك والشافعي وجمهور العلماء، انتهى قلت: قيل: قراءة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليست كقراءة غيره، ألا تسمع قول الصحابي: ما صليت خلف أحد أخف صلاة من النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يقرأ بالستين إلى المائة. وقد قال. صلى الله عليه وسلم: (إن داود، عليه الصلاة والسلام، كان يأمر بدوابه أن تسرح فيقرأ الزبور قبل إسراجها). فإذا كان داود، عليه السلام، بهذه المثابة فسيدنا محمد، صلى الله عليه وسلم، أحرى بذلك وأولى، وأما إنكاره على معاذ فظاهر لأنه غيره. فإن قلت: قيل: لعل السورة لم يكمل إنزالها فقراءته إنما كانت لبعضها قلت: جماعة من المفسرين نقلوا الإجماع على نزول الأنعام والأعراف بمكة، شرفها الله تعالى، ومنهم من استثنى في الأنعام ست آيات نزلن بالمدينة.
وفيه: حجة لمن يرى باستحباب القراءة في صلاة المغرب بطولى الطوليين، وهم حميد وعروة بن الزبير وابن هشام والظاهرية، وقالوا: الأحسن أن يقرأ المصلي في المغرب بالسورة التي قرأها النبي، صلى الله عليه وسلم، نحو الأعراف والطور والمرسلات، ونحوها. وقال الترمذي: ذكره عن مالك أنه كره أن يقرأ في صلاة المغرب بالسور الطوال نحو: الطور والمرسلات، وقال الشافعي: لا أكره بل استحب أن يقرأ بهذه السور في صلاة المغرب، وقال ابن حزم في (المحلى): ولو أنه قرأ في المغرب الأعراف أو المائدة أو الطور أو المرسلات فحسن. قلت: فعلى هذا عند مالك: إذا كره قراءة نحو المرسلات والطور في المغرب، فإذا قرأ نحو الأعراف فالكراهة بالطريق الأولى، وإذا استحب الشافعي قراءة هذه السور في المغرب، فيدل ذلك على أن وقت المغرب ممتد عنده، وعن هذا قال الخطابي: إن للمغرب وقتين. وقال الطحاوي: المستحب أن يقرأ في صلاة المغرب من قصار المفصل. وقال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم قلت: هو مذهب الثوري والنخعي وعبد الله ابن المبارك وأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وأحمد ومالك وإسحاق. وروى الطحاوي من حديث عبد الله بن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالتين والزيتون). وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا، وفي سنده مقال، ولكن روى ابن ماجة بسند صحيح: (عن ابن عمر: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) * وروى أبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه في كتابه (أولاد المحدثين) من حديث جابر بن سمرة، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة: * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) *) وروى البزار في (مسنده) بسند صحيح عن بريدة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب والعشاء والليل إذا يغشى، والضحى، وكان يقرأ في الظهر والعصر بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك)، وروي في هذا الباب عن عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وعمران بن الحصين وأبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنهم، فأثر عمر أخرجه الطحاوي عن زرارة بن أبي أوفى، قال: أقرأني أبو موسى في كتاب عمر، رضي الله تعالى عنه، إليه: إقرأ في المغرب آخر المفصل، وآخر المفصل من * (لم يكن) * (البينة: 1). إلى آخر القرآن، وأثر ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن أبي عثمان النهدي، قال: (صلى بنا ابن مسعود المغرب فقرأ: قل هو الله أحد، فوددت أنه قرأ سورة البقرة من حسن صوته)، وأخرجه

25
أبو داود والبيهقي أيضا. وأثر ابن عباس أخرجه ابن أبي شيبة أيضا حدثنا وكيع عن شعبة عن أبي نوفل ابن أبي عقرب عن ابن عباس، قال: سمعته يقرأ في المغرب * (إذا جاء نصر الله والفتح) *. وأثر عمران بن الحصين أخرجه ابن أبي شيبة أيضا عن الحسن، قال: كان عمران بن الحصين يقرأ في المغرب: إذا زلزلت، والعاديات. وأثر أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، أخرجه عبد الرزاق في (مصنفه) عن أبي عبد الله الصنابحي أنه: صلى وراء أبي بكر المغرب، وقرأ في الركعتين الأوليين بأم القرآن وسورتين من قصار المفصل، ثم قرأ في الثالثة، قال: فدنوت منه حتى أن ثيابي لتكاد أن تمس ثيابه، فسمعته قرأ بأم القرآن وهذه الآية * (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) * حتى * (الوهاب) * (آل عمران: 8). وعن مكحول: أن قراءة هذه الآية في الركعة الثالثة كانت على سبيل الدعاء، وروي أيضا نحو ذلك عن التابعين، فقال ابن أبي شيبة في (مصنفه): أخبرنا وكيع عن إسماعيل بن عبد الملك قال: سمعت سعيد بن جبير يقرأ في المغربب مرة * (تنبىء أخبارها) * ومرة * (تحدث أخبارها) * (الزلزلة: 4). حدثنا وكيع عن ربيع، قال: كان الحسن يقرأ في المغرب: إذا زلزلت، والعاديات، لا يدعهما. أخبرنا
زيد بن الخباب عن الضحاك بن عثمان، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه، يقرأ في المغرب بقصار المفصل، أخبرنا وكيع عن محل، قال: سمعت إبراهيم يقرأ في الركعة الأولى من المغرب: * (لإيلاف قريش) * (قريش: 1). وأخرج البيهقي في (سننه) من حديث هشام بن عروة أن أباه كان يقرأ في المغرب بنحو مما يقرأون: والعاديات، ونحوها من السور فإن قلت: ما وجه الروايات المختلفة في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قلت: كان هذا بحسب الأحوال، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من حال المؤتمين في وقت أنهم يؤثرون التطويل فيطول، وفي وقت لا يؤثرون لعذر ونحوه، فيخفف، وبحسب الزمان والوقت.
99
((باب الجهر في المغرب))
أي: هذا باب في بيان حكم جهر القراءة في صلاة المغرب، واعتراض ابن المنير على هذه الترجمة والتي بعدها: بأن الجهر فيهما لا خلاف فيه ساقط، لأن البخاري وضع كتابه لبيان الأحكام من حيث هي مطلقا، ولم يقصره على بيان الخلافيات.
765 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن محمد بن جبير ابن مطعم عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: عبد الله بن يوسف التنيسي المصري، ومالك بن أنس، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، ومحمد بن جبير، بضم الجيم: ابن مطعم، بضم الميم وكسر العين، وأبوه جبير بن مطعم بن عدي قد مر في: باب من أفاض في كتاب الغسل.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وبصيغة الإخبار كذلك في موضع، وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: أن رواته ما بين مصري ومدني. وفيه: عن محمد بن جبير، وفي رواية ابن خزيمة من طريق سفيان: عن الزهري حدثني محمد بن جبير.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن محمود، وفي التفسير عن إسحاق بن منصور، وعن الحميدي عن ابن عيينة. وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك، وعن أبي بكر ابن أبي شيبة وزهير بن حرب، وعن حرملة وعن إسحاق بن إبراهيم وعن عبد بن حميد. وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن مالك. وأخرجه النسائي فيه وفي التفسير عن قتيبة وعن الحارث بن مسكين. وأخرجه ابن ماجة محمد بن الصباح.
ذكر معناه: قوله: (قرأ) وفي رواية ابن عساكر: (يقرأ)، بلفظ المضارع، وكذا هو في (الموطأ). قوله: (في المغرب) أي: في صلاة المغرب. قوله: (بالطور) أي: بسورة الطور. قال الطحاوي: يجوز أن يريد بقوله: (والطور) قرأ ببعضها، وذلك جائز في اللغة، يقال: فلان قرأ القرآن إذا قرأ بعضه، ويحتمل قرأ بالطور قرأ بكلها، فنظرنا في ذلك: هل يروى فيه شيء يدل على أحد التأويلين؟ فإذا صالح بن عبد الرحمن وابن أبي داود قد حدثانا قالا: نا سعيد بن منصور، قال: حدثنا هشيم عن الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه، قال: (قدمت المدينة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لأكلمه في أسارى بدر، فانتهيت إليه وهو يصلي

26
في أصحابه صلاة المغرب فسمعته يقول: * (إن عذاب ربك لواقع) * (الطور: 7). فكأنما صدع قلبي، فلما فرغ كلمته فيهم فقال شيخ: لو كان أتاني لشفعته فيهم). يعني: أباه مطعم بن عدي، فهذا هشيم قد روى هذا الحديث عن الزهري، فبين القصة على وجهها، وأخبر أن الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم هو قوله عز وجل: * (إن عذاب ربك لواقع) * (الطور: 7). فبين هذا أن قوله في الحديث الأول: (قرأ بالطور) إنما هو ما سمعه يقرؤه منها، وليس لفظ جبير إلا ما روى هشيم، لأنه ساق القصة على وجهها، فصار ما حكى فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم هو قراءته: * (إن عذاب ربك لواقع) * (الطور: 7). خاصة. انتهى.
وقال صاحب (التلويح): فيه نظر في مواضع: الأول: لما رواه ابن ماجة: (فلما سمعته يقرأ * (أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون) * (الطور: 35). إلى قوله: * (فليأت مستمعهم بسلطان مبين) * (الطور: 38). كاد قلبي يطير). ولما رواه السراج في كتابه بسند صحيح: (سمعته يقرأ في المغرب * (بالطور وكتاب مسطور في رق منشور) * (الطور: 1 و 3). الثاني: قوله: (رواه هشيم عن الزهري)، وخالفه الطبراني في (معجمه الصغير)، وإنما رواه عن إبراهيم بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده، وقال: لم يروه عن إبراهيم إلا هشيم، تفرد به عروة بن سعيد الربعي وهو ثقات، الثالث: قوله: (قال جبير: فانتهيت إليه وهو يصلي...) فيه نظر، لما ذكره محمد بن سعد من حديث نافع ابنه عنه، قال: (قدمت في فداء أسارى بدر، فاضطجعت في المسجد بعد العصر، وقد أصابني الكرى، فنمت، فأقيمت صلاة المغرب فقمت فزعا بقراءة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في المغرب: * (بالطور وكتاب مسطور) * (الطور: 1 و 3). فاستمعت قراءته حتى خرجت من المسجد، وكان يومئذ أول ما دخل الإسلام قلبي) انتهى. قلت: رواية البخاري أصح من غيره، وفي (الاستيعاب) روى جماعة من أصحاب ابن شهاب عنه: عن محمد بن جبير عن أبيه: المغرب والعشاء، وزعم الدارقطني أن رواية من روى عن ابن شهاب عن نافع بن جبير وهم.
وأما الطور فعن ابن عباس: الطور الجبل الذي كلم الله، عز وجل، موسى، عليه الصلاة والسلام، عليه لغة سريانية. وفي (المحكم): الطور الجبل، وقد غلب طور سيناء، على جبل بالشام، وهو بالسريانية: طورى، والنسبة إليه: طوري وطوراني، وزعم أبو عبيد البكري: أنه جبل ببيت المقدس ممتد ما بين مصر وأيلة سمي بطور إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، وهو طور سيناء وطور سينين، وفي (المتفق وضعا والمختلف صنفا) اختلفوا فيه، فقال قوم: هو جبل بقرب
أيلة: وقيل: هو جبل بالشام، وأما طور زيتا، بالقصر، فجبل بقرب رأس عين، وببيت المقدس أيضا جبل يعرف: بطور زيتا، وهو الذي جاء فيه الحديث: (مات بطور زيتا سبعون ألف نبي كلهم قتلهم الجوع). وهو شرقي وادي سلوان، وعلى مدينة طبرية يقال له: الطور، مطل عليها، وبأرض مصر جبل يقال له: الطور بين مصر وفاران، يشتمل على عدة قرى، وطور عبدين: اسم بليدة بنواحي نصيبين، وفي قبلي البيت المقدس جبل عال يقال له: الطور، فيه فيما يقال قبر هارون، عليه الصلاة والسلام.
ذكر ما يستنبط منه فيه: أن القراءة في صلاة المغرب جهرية، ولذلك وضع البخاري الباب، فإن أسر فيها إن كان عمدا يكون تاركا للسنة، وإن كان سهوا يجب عليه سجدتا السهو. وقد ذكرناه. وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب، وقد ذكرنا أن قراءته صلى الله عليه وسلم ليست كقراءة غيره، وله أحوال في ذلك كما ذكرناه. منها: أن قراءته في المغرب بالطور ونحوها يجوز أن تكون لبيان الجواز. ومنها: أن تكون لعلمه بعدم المشقة، ألا ترى كيف أنكر على معاذ، رضي الله تعالى عنه، لما طول الصلاة بافتتاحه بسورة البقرة، فقال له: (أفتان أنت يا معاذ؟ قالها مرتين، لو قرأت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، فإنه يصلي خلفك ذو الحاجة والضعيف والصغير والكبير)، رواه الطحاوي بهذا اللفظ، ورواه البخاري ومسلم أيضا كما ذكرناه في موضعه. وفيه: احتجاج من ذهب إلى أن المستحب قراءة السور التي قرأها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استقصينا الكلام فيه في الباب السابق.
100 باب الجهر في العشاء
أي: هذا باب في بيان حكم جهر القراءة في صلاة العشاء، وقال بعضهم: قدم ترجمة الجهر على ترجمة القراءة عكس ما وضع

27
في المغرب، ثم في الصبح، والذي في المغرب أولى، ولعله من النساخ قلت: المقصود الأعظم بيان الحكم لا الترتيب في الأبواب، وأيضا راعى المناسبة بين هذا الباب والباب الذي قبله لأنه في الجهر، ورعاية المناسبة مطلوبة.
154 - (حدثنا أبو النعمان قال حدثنا معتمر عن أبيه عن بكر عن أبي رافع قال صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إذا السماء انشقت فسجد فقلت له قال سجدت خلف أبي القاسم
فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه)
مطابقته للترجمة تفهم من قوله ' سجدت خلف أبي القاسم ' ولو لم يجهر النبي
بقراءته في هذه الصلاة لما سجد أبو هريرة خلفه
.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول أبو النعمان محمد بن الفضل. الثاني معتمر بلفظ اسم الفاعل من الاعتمار ابن سليمان. الثالث أبوه سليمان بن طرخان. الرابع بكر بن عبد الله المزني. الخامس أبو رافع بالفاء وبالعين المهملة واسمه نفيع الصائغ. السادس أبو هريرة
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في موضعين وفيه أربعة من الرجال بصريون وأبو رافع مدني وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض وهم سليمان بن معتمر سمع أنس بن مالك وبكر بن عبد الله روى عن أنس وابن عباس وابن عمر والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهم ونفيع أدرك الجاهلية ولم ير النبي
وروى عن جماعة من الصحابة وهو من كبار التابعين وبكر من أوساطهم وسليمان من صغارهم قال صاحب التلويح اعترض بعض شراح البخاري على البخاري بأن هذا الحديث ليس مرفوعا وهو غير وارد لأن رفعه ظاهر من متن الحديث وإنكار رفعه مكابرة.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في سجود القرآن عن مسدد وأخرجه مسلم في الصلاة عن عبيد الله بن معاذ ومحمد بن عبد الأعلى وعن أبي كامل الجحدري وعن عمرو الناقد وعن أحمد بن عبدة وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد عن معتمر به وأخرجه النسائي فيه عن حميد بن مسعدة عن سليم بن أحضر به
(ذكر معناه) قوله ' العتمة ' أي العشاء قوله ' فقلت له ' أي في شأن السجدة أي سألته عن حكمها قوله ' أبي القاسم ' هو النبي
قوله ' بها ' أي بالسجدة يدل عليها قوله ' فسجد ' كما في قوله تعالى * (اعدلوا هو أقرب للتقوى) * أي العدل أقرب للتقوى ويجوز أن تكون الباء بمعنى في أي أسجد فيها أي في السورة وهي * (إذا السماء انشقت) * كما يجيء في الرواية الآتية في الباب الذي يأتي فإنه فيه ' فلا أزال أسجد فيها ' كما يأتي ثم أن لفظة بها لم تقع في رواية أبي ذر قوله ' حتى ألقاه ' أي حتى ألقى أبا القاسم أي حتى أموت.
(ذكر ما يستفاد منه) فيه ثبوت سجدة التلاوة في سورة * (إذا السماء انشقت) * وهو حجة على مالك في قوله لا سجدة فيها وقال ابن المنير لا حجة فيه على مالك حيث كره السجدة في الفريضة يعني في المشهور عنه لأنه ليس مرفوعا ورد عليه بأنه مرفوع كما ذكرنا ويدل عليه أيضا رواية أبي الأشعث عن معتمر بهذا الإسناد بلفظ ' صليت خلف أبي القاسم فسجد بها ' أخرجه ابن خزيمة وكذلك أخرجه الجوزقي من طريق يزيد بن هارون عن سليمان التيمي بلفظ ' صليت مع أبي القاسم فسجد فيها ' (قلت) هذا حجة على مالك مطلقا سواء قرئت هذه في الفرض أو في النفل وسواء كان في الصلاة أو خارجها ثم اختلفوا هل هي سنة أو واجبة على ما يأتي واختلفوا أيضا في موضع السجدة فقيل * (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) * وقيل آخر السورة * وفيه جواز إطلاق لفظ العتمة على العشاء * وفيه ثبوت الجهر بالقراءة في صلاة العشاء وعليه تبويب البخاري * وفيه ذكر جواز ذكر النبي
بأبي القاسم وفي جواز تكني غيره بأبي القاسم خلاف * -

28
767 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن عدي قال سمعت البراء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فقرأ في العشاء في إحدى الركعتين بالتين والزيتون.
مطابقته للترجمة ظاهرة. وأبو الوليد: هو هشام بن عبد الملك الطيالسي، وشعبة هو ابن الحجاج، وعدي، بفتح العين وكسر الدال المهملتين وتشديد الياء: هو ابن ثابت الأنصاري، كلهم قد مروا. وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين والعنعنة في موضع والقول في موضعين وفيه السماع.
وأخرجه البخاري أيضا في التفسير عن حجاج بن منهال وعن خالد بن يحيى، وفي التوحيد عن أبي نعيم.. وأخرجه مسلم في الصلاة عن عبيد الله بن معاذ وعن قتيبة وعن محمد بن عبد الله بن نمير. وأخرجه أبو داود فيه عن حفص بن عمر عن شعبه به. وأخرجه الترمذي فيه عن هناد. وأخرجه النسائي فيه عن
إسماعيل بن مسعود وعن قتيبة عن مالك، وفي التفسير عن قتيبة عن ليث ومالك به. وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن محمد بن الصباح وعن عبد الله بن عامر.
قوله: (كان في سفر)، وفي رواية الإسماعيلي (كان في سفر فصلى العشاء ركعتين). قوله: (في إحدى الركعتين) وفي رواية النسائي: (في الركعة الأولى) قوله: (بالتين) أي: بسورة التين، وفي الرواية التي تأتي: والتين، على الحكاية.
وفيه: ثبوت بالجهر بالقراءة في صلاة العشاء، وعليه التبويب. وفيه: التخفيف في القراءة في السفر لأنه مظنة المشقة، وحديث أبي هريرة الماضي محمول على الحضر، فلذلك قرأ فيها من أوساط المفصل. وقال السفاقسي وغيره: هذه الأحاديث تدل على أنه لا توقيت في القراءة فيها، بل بحسب الحال. وعن مالك، يقرأ فيها أي في العشاء بالحاقة ونحوها. وقال أشهب: بوسط المفصل، وقرأ فيها عثمان، رضي الله تعالى عنه، بالنجم، وابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: بالذين كفروا. وأبو هريرة بالعاديات. وقال أصحابنا: يقرأ في الفجر أربعين آية سوى الفاتحة، وفي رواية: خمسين آية، وفي أخرى ستين إلى مائة. قال المشايخ: وهي أبين الروايات. قالوا: في الشتاء يقرأ مائة، وفي الصيف أربعين وفي الخريف خمسين أو ستين. وفي رواية الأصيلي: ينبغي أن يكون في الظهر دون الفجر والعصر قدر عشرين آية سوى الفاتحة.
101
((باب القراءة في العشاء بالسجدة))
أي: هذا باب في بيان حكم القراءة في صلاة العشاء بالسجدة أي: بالسورة التي فيها سجدة التلاوة.
768 حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثني التيمي عن بكر عن أبي رافع قال صليت مع أبي هريرة العتمة فقرأ إذا السماء انشقت فسجد فقلت ما هذه قال سجدت بها خلف أبي القاسم فلا أزال أسجد بها حتى ألقاه
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن قوله: (فسجد) يعني: سجدة التلاوة، والحديث مر في الباب الذي قبله، غير أن هناك: عن أبي النعمان عن معتمر عن أبيه سليمان عن بكر، وهنا: عن مسدد عن يزيد من الزياد ابن زريع تصغير زرع عن التيمي، وهو سليمان بن طرخان عن بكر بن عبد الله المزني عن أبي رافع الصائغ نفيع، وإنما كرر هذا الحديث لأمرين: أحدهما: للترجمة التي تتضمن القراءة بالسجدة، والآخر: لاختلاف بعض الرواة. قوله: (سجدت بها) ويروى: (فيها). قوله: (اسجد فيها)، وفي رواية الكشميهني (أسجد بها).
102
((باب القراءة في العشاء))
أي: هذا باب في بيان حكم القراءة في صلاة العشاء.

29
157 - (حدثنا خلاد بن يحيى قال حدثنا مسعر قال حدثنا عدي بن ثابت أنه سمع البراء رضي الله عنه قال سمعت النبي
يقرأ والتين والزيتون في العشاء وما سمعت أحدا أحسن صوتا منه أو قراءة)
مطابقته للترجمة ظاهرة وإنما كرر هذا الحديث لثلاثة أوجه. أحدها لأجل الترجمة التي تتضمن القراءة في العشاء. والثاني لاختلاف بعض الرواة فيه لأنه أخرجه فيما مضى عن أبي الوليد عن شعبة عن عدي عن البراء وهنا أخرجه عن خلاد بن يحيى بن صفوان أبي محمد السلمي الكوفي وهو من أفراد البخاري مات بمكة قريبا من سنة ثلاث عشرة ومائتين عن مسعر بكسر الميم وسكون السين المهملة ابن كدام الكوفي عن علي بن ثابت بالثاء المثلثة عن البراء والرجال كلهم كوفيون. والثالث لأجل الزيادة التي فيه وهي قوله ' ما سمعت أحدا أحسن صوتا منه ' قوله ' أو قراءة ' شك من الراوي أي أحسن قراءة منه
وفيه وجه آخر وهو أنه ذكر هناك عديا غير منسوب وههنا ذكره باسم أبيه وهناك بالعنعنة وههنا بالتحديث قوله ' والتين ' على سبيل الحكاية *
((باب يطول في الأوليين ويحذف في الأخريين))
أي هذا باب ترجمته يطول المصلي في الركعتين الأوليين من العشاء ويحذف أي يترك القراءة في الركعتين الأخريين
157 - (حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن أبي عون قال سمعت جابر بن سمرة قال قال عمر لسعد لقد شكوك في كل شيء حتى الصلاة قال أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو ما اقتديت به من صلاة رسول الله
قال صدقت ذاك الظن بك أو ظني بك)
مطابقته للترجمة ظاهرة وقد تقدم هذا الحديث في باب وجوب القراءة للإمام والمأموم مطولا وإنما ذكر بعضه ههنا بالإعادة لأربعة أوجه. الأول لاختلاف الإسناد لأنه أخرجه هناك عن موسى عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير عن جابر بن سمرة وههنا أخرجه عن سليمان بن حرب عن شعبة عن أبي عون محمد بن عبد الله الثقفي الكوفي الأعور. الثاني أن هناك بالعنعنة عن جابر وههنا بالسماع عنه. الثالث لأجل اختلاف الترجمة وهو ظاهر. الرابع لبعض الاختلاف في المتن بالزيادة والنقصان فاعتبر ذلك بالمراجعة إلى الموضعين قوله ' حتى الصلاة ' برفع الصلاة لأن حتى ههنا غاية لما قبلها بزيادة كما في قولهم مات الناس حتى الأنبياء والمعنى حتى الصلاة شكوك فيها فيكون ارتفاعه على الابتداء وخبره محذوف وهو ما قدرناه قوله ' ولا آلوا ' بمد الهمزة وضم اللام أي لا أقصر وأصله من ألا يألو يقال ما ألوت حقه أي ما قصرت قوله ' أو ظني بك ' شك من الراوي * -
104
((باب القراءة في الفجر))
أي: هذا باب في بيان حكم القراءة في صلاة الفجر.
وقالت أم سلمة قرأ النبي صلى الله عليه وسلم بالطور
هذا التعليق أسنده البخاري في كتاب الحج بلفظ: (طفت وراء الناس والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويقرأ بالطور)، وليس فيه بيان أن الصلاة حينئذ كانت الصبح، لكن تبين ذلك من رواية أخرى من طريق يحيى بن زكريا الفساني عن هشام ابن عروة عن أبيه، ولفظه: (إذا أقيمت الصلاة للصبح فطوفي)، وهكذا أخرجه الإسماعيلي من رواية حسان بن إبراهيم

30
عن هشام فإن قلت: أخرج ابن خزيمة من طريق وهب عن مالك، وابن لهيعة جميعا عن أبي الأسود هذا الحديث، قال فيه: قالت: وهو يقرأ، يعني العشاء الآخرة. قلت: هذه رواية شاذة، ويمكن أن يكون سياقه من ابن لهيعة، لأن ابن وهب رواه في (الموطأ) عن مالك فلم يعين الصلاة، وبهذا سقط الاعتراظ الذي حكاه ابن التين عن بعض المالكية حيث أنكر أن تكون الصلاة المفروضة صلاة الصبح، فقال: ليس في الحديث بيانها، والأولى أن تحمل على النافلة، لأن الطواف يمتنع إذا كان الإمام في صلاة الفريضة. انتهى. وأجيب: بأن هذا رد للحديث الصحيح بغير حجة، بل يستفاد من هذا الحديث جواز ما منعه.
771 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا سيار بن سلام قال دخلت أنا وأبي على أبي برزة الأسلمي فسألناه عن وقت الصلوات فقال كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر حين تزول الشمس والعصر ويرجع الرجل إلى أقصى المدينة والشمس حية ونسيت ما قال في المغرب ولا يبالي بتأخير العشاء إلى ثلث الليل ولا يحب النوم قبلها ولا الحديث بعدها ويصلي الصبح فينصرف الرجل فيعرف جليسه وكان يقرأ في الركعتين أو إحداهما ما بين الستين إلى المائة..
مطابقته للترجمة في قوله: (وكان يقرأ..) إلى آخره، وفيه إثبات القراءة في الفجر، ولأجل ذلك بوب البخاري هذا التبويب، مع أنه ذكر هذا الحديث في: باب وقت الظهر عند الزول، وأخرجه هناك: عن حفص بن عمر عن شعبة عن أبي المنهال عن أبي برزة، بفتح الباء الموحدة: واسمه نضلة بن عبيد، وأخرج ههنا: عن آدم بن أبي إياس إلى آخره، وقد ذكرنا هناك جميع ما يتعلق به.
قوله: (عن وقت الصلوات)، وفي رواية أبي ذر: (الصلاة)، بالإفراد، والمراد: المكتوبات. قوله: (وكان يقرأ...) إلى آخره، معناه: من الآيات ما بين الستين إلى المائة، وهذه الزيادة تفرد بها شعبة عن أبي المنهال، والشك فيه منه، وروى أبو داود من حديث عمرو بن حريث قال: (كأني أسمع صوت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الغداة. * (فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس) * (التكوير: 1 و 2). أراد أنه كان يقرأ: إذا الشمس كورت، وهي مكية وتسع وعشرون آية، وزاد أبو جعفر: * (فأين تذهبون) * (التكوير: 26). ومائة وأربعون كلمة، وخمس مائة وثلاثة وثلاثون حرفا. والخنس: النجوم التي تخنس بالنهار فلا ترى، وتكنس بالليل إلى مجاريها، أي: تستتر كما يكنس الظبا في المغار، وهي الكناس. وقال الفراء: هي النجوم الخمسة: زحل والمشتري والمريخ والزهرة وعطارد،. وروى مسلم من حديث قطبة بن مالك أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح: * (والنخل باسقات لها طلع نضيد) * (ق: 10). أراد أنه كان يقرأ سورة: ق والقرآن المجيد، وهي مكية، وهي خمس وأربعون آية، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة، وألف وأربعمائة وتسعون حرفا. ومعنى قوله: * (والنخل باسقات) * (ق: 10). يعني طوالا في السماء. وقيل: بسوقها استقامتها في الطول. وقيل: مواقير وحوامل وروى مسلم أيضا من حديث جابر بن سمرة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ الفجر بقاف) وكانت قراءته بعد تخفيف. وعند السراج: بقاف ونحوها. وفي لفظ: وأشباهها. وروى النسائي عن أم هشام بنت حارثة، قالت: ما أخذت قاف إلا من وراء النبي صلى الله عليه وسلم، كان يصلي بها الصبح. وروى ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: (أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليأمرنا بالتخفيف، وأن كان ليؤمنا بالصافات في الفجر). قلت: هي مكية، وهي مائة واثنتان وثلاثون آية، وثمان مائة وستون كلمة، وثلاثة آلاف وثمان مائة وستة وعشرون حرفا. وروى أبو داود عن رجل من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح بالروم أي: بسورة الروم، وهي مكية، وهي ستون آية، وثمان مائة وبع عشرة كلمة، وثلاثة آلاف وخمس مائة وأربعة وثلاثون حرفا، وروى أبو موسى المديني في (كتاب الصحابة): أن عمر الجهني قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم الصبح فقرأ فيها بسورة الحج وسجد فيها سجدتين. قلت: هي مكية إلا ست آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: * (هذان خصمان) * إلى قوله: * (وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط مستقيم) * (الحج: 19 24). وهي: ثمان وتسعون آية، وألف ومائتان وتسعون كلمة، وخمسة آلاف وخمسة

31
وتسعون حرفا. وقال الترمذي، رحمه الله في (جامعه): عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ في الصبح بسورة الواقعة، وروى عنه أنه كان يقرأ في الفجر من ستين آية إلى مائة. وروى السراج بسند صحيح عن البراء: (صلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فقرأ بأقصر سورتين في القرآن). فإن قلت: ما وجه هذه الاختلافات؟ قلت: قد ذكرنا فيما مضى أن هذه بحسب اختلاف الأحوال والزمان ألا يرى إلى ما روى الطبراني في (الأوسط) بسند صحيح: عن أنس قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر بأقصر سورتين من القرآن، وقال: إنما أسرعت لتفرغ الأم إلى صبيها، وسمع صوت صبي)؟ وروى أبو داود بسند صحيح: عن معاذ بن عبد الله عن رجل من جهينة: (سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح * (إذا زلزلت) * في الركعتين كلتيهما). وجاء مثل هذا الاختلاف أيضا من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وفي سنن البيهقي عن المعرور بن سويد: (صلى بنا عمر، رضي الله تعالى عنه، الفجر فقرأ آلمر
1764; ولإيلاف قريش). وفي: (وصلى أبو بكر صلاة الصبح بسورة البقرة في الركعتين كلتيهما). وقال الفرافصة بن عمير: ما أخذت سورة يوسف، عليه السلام، إلا من قراءة عثمان، رضي الله تعالى عنه، إياها في الصبح من كثرة ما يكررها. وفي (الموطأ) قال عامر بن ربيعة: قرأ عمر في الصبح سورة الحج وسورة يوسف، عليه السلام، قراءة بطيئة. وقال أبو هريرة: لما قدمت المدينة مهاجرا صليت خلف سباع بن عرفطة الصبح، فقرأ في الأولى سورة مريم، وفي الأخرى سورة: ويل للمطففين، ذكره ابن حبان في (صحيحه) ولم يسم سباعا. وعن عمر بن ميمون: لما طعن عمر صلى بهم ابن عوف الفجر فقرأ * (إذا جاء نصر الله) * (الفتح: 1). والكوثر، وذكر أن عمر قرأ في الصبح: بيونس وبهود، وقرأ عثمان، رضي الله تعالى عنه، بيوسف والكهف، وقرأ علي، رضي الله تعالى عنه، بالأنبياء، وقرأ عبد الله بسورتين إحداهما بنو إسرائيل، وقرأ معاذ بالنساء، وقال أبو داود الأودي: كنت أصلي وراء علي، رضي الله تعالى عنه، الغداة فكان يقرأ: إذا الشمس كورت، وإذا السماء انفطرت، ونحو ذلك من السور. وجاء مثل ذلك أيضا عن التابعين. وفي كتاب أبي نعيم: عن الحارث بن فضيل قال: أقمت عند ابن شهاب عشرا، فكان يقرأ في صلاة الفجر: تبارك، وقل هو الله أحد. وقال ابن بطال: وقرأ عبيدة بالرحمن، وإبراهيم بيسين، وعمر بن عبد العزيز بسورتين من طوال المفصل. وقال ابن بطال: وما ذكرنا من الاختلاف من السلف دل أنهم فهموا عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إباحة التطويل والتقصير، وأنه لا حد له في ذلك.
772 حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عطاء أنه سمع أبا هريرة رضي الله تعالى عنه يقول في كل صلاة يقرأ فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم وإن لم تزد على أم القرآن أجزأت وإن زدت فهو خير.
مطابقته للترجمة تفهم من قوله: (في كل صلاة يقرأ) لأن الترجمة في: باب القراءة في الفجر، وهو داخل في قوله: (كل صلاة). وقال بعضهم: وكأن المصنف قصد بإيراد حديثي أم سلمة وأبي برزة في هذا الباب بيان حالتي السفر والحضر، ثم ثلث بحديث أبي هريرة الدال على عدم اشتراط قدر معين قلت: ليس في حديث أبي برزة ما يدل على حكم القراءة في السفر أو الحضر، وإنما هو مطلق، ولم يكن إيراده حديث أبي هريرة، إلا أن صلاة الفجر لا بد لها من القراءة لدخولها تحت قوله: (في كل صلاة يقرأ)، وقد علم أن لفظة: كل، إذا أضيفت إلى النكرة تقتضي عموم الإفراد.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: مسدد بن مسرهد. الثاني: إسماعيل بن إبراهيم، هو المعروف بابن علية. الثالث: عبد الملك بن جريج. الرابع: عطاء ابن أبي رباح. الخامس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والإخبار كذلك في موضع وفي موضع بالإفراد. وفيه: السماع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: إسماعيل المذكور وقد تكلم فيه يحيى بن معين في حديثه عن ابن جريج خاصة، لكن تابعه عليه عبد الرزاق ومحمد بن بكر وغندر عند أحمد، وحبيب بن الشهيد وحبيب المعلم عند مسلم، وخالد بن الحارث

32
ورقية عند النسائي، وابن وهب عند ابن خزيمة، ثمانيتهم عن ابن جريج منهم من ذكر الكلام الأخير، ومنهم من لم يذكره. أما متابعة عبد الرزاق فأخرجها أحمد في (مسنده): عنه عن ابن جريج عن عطاء، قال: (سمعت أبا هريرة يقول: في كل صلاة قراءة فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفى عنا أخفينا عنكم، فسمعته يقول: لا صلاة إلا بقراءة). وأما متابعة حبيب المعلم فأخرجها مسلم: حدثنا يحيى بن يحيى قال: أخبرنا يزيد بن زريع عن حبيب المعلم (عن عطاء قال: قال أبو هريرة: في كل صلاة قراءة فما أسمعنا صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفى أخفيناه منكم، فمن قرأ بأم الكتاب فقد أجزأت منه، ومن زاد فهو أفضل). وأخرجه الطحاوي أيضا، وأخرجه أبو داود أيضا عن حبيب عن عطاء (إلى أخفينا عنكم). وأما متابعة رقية فأخرجها النسائي قال: حدثنا محمد بن قدامة، قال: حدثنا جرير عن رقية (عن عطاء قال: قال أبو هريرة: كل صلاة يقرأ فيها، فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم وما أخفاها أخفينا منكم). وأما متابعة ابن وهب فأخرجها الطحاوي: حدثنا يونس بن عبد الأعلى، قال: حدثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني ابن جريج عن عطاء قال: (سمعت أبا هريرة يقول: في كل الصلاة قراءة، فما أسمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما أخفاه علينا أخفيناه عليكم). وروى الطحاوي أيضا عن محمد بن النعمان، قال: حدثنا الحميد، قال: حدثنا سفيان عن ابن جريج عن عطاء نحوه. قيل: هذا الحديث موقوف. وأجيب: بأن قوله: (ما أسمعنا)، و (ما أخفى عنا) يشعر بأن جميع ما ذكره متلقى من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون للجميع حكم الرفع.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن عمرو الناقد وزهير بن حرب والنسائي عن محمد بن الأعلى، وأخرجه أيضا عن محمد بن قدامة كما ذكرناه الأن.
ذكر معناه: قوله: (في كل صلاة يقرأ) على صيغة المجهول، والجار والمجرور يتعلق بقوله: (يقرأ) أي: يجب أن يقرأ القرآن في كل الصلوات لكن بعضها
بالجهر وبعضها بالسر، فما جهر به رسول الله صلى الله عليه وسلم جهرنا به، وما أسر أسررنا به. ويروى: يقرأ على صيغة المعلوم، أي: يقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذا قاله الكرماني، وقيل: ويروى: (نقرأ) بالنون أي: نحن نقرأ. قوله: (فما أسمعنا) بفتح العين، وهي جملة من الفعل والمفعول، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله. قوله: (أسمعناكم) بسكون العين، جملة من الفعل والفاعل وهو: النون، والمفعول وهو: كم. قوله: (وما أخفى) كلمة: ما، موصولة وكذلك في: (فما أسمعنا). قوله: (وإن لم تزد) بتاء الخطاب، وقد بينه ما في رواية مسلم عن أبي خيثمة وغيره عن إسماعيل، (فقال له رجل: إن لم أزد؟). قوله: (على أم القرآن)، أي: الفاتحة، وسميت بها لاشتمالها على المعاني التي في القرآن، ولأنها أول القرآن، كما أن مكة سميت: أم القرى، لأنها أول الأرض وأصلها. قوله: (أجزأت) بلفظ الغيبة أي: أجزأت الصلاة، من الإجزاء، وهو الأداء الكافي لسقوط التعبد به، وحكى ابن التين لغة أخرى وهي: أجزت، بلا ألف أي: قضت. وقال الخطابي: جزى وأجزى، مثل: وفى وأوفى، وقال ابن قرقول: أجزت عنك عند القابسي، وعند غيره أجزأت. قوله: (فهو خير) أي: الزائد على أم القرآن خير، وفي رواية حبيب المعلم: (فهو أفضل). كما ذكرنا.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: وجوب القراءة في كل الصلوات. وفيه: رد على من أنكر وجوبها في الظهر والعصر. وفيه: الجهر فيما يجهر والإخفاء فيما يخفي، وفي رواية الطحاوي في هذا الحديث، قال أبو هريرة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يؤمنا فيجهر ويخافت، وكان جهره في بعض الصلوات كالمغرب والعشاء والصبح والجمعة وصلاة العيدين، وفي بعضها كان يسر كالظهر والعصر، وفي ثالثة المغرب وآخرتي العشاء، وفي الاستسقاء يجهر عند أبي يوسف ومحمد والشافعي وأحمد، وفي الخسوف والكسوف لا يجهر عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: فيهما الجهر، وقال الشافعي: في الكسوف يسر، وفي الخسوف يجهر. وأما بقية النوافل ففي النهار لا جهر فيها، وفي الليل يتخير. وقال النووي: وفي نوافل الليل، وقيل: يخير بين الجهر والإسرار. وفيه: ما استدل به الشافعية على استحباب ضم السورة إلى الفاتحة، وهو ظاهر الحديث، وعند أصحابنا يجب ذلك، وبه قال ابن كنانة من المالكية وحكي عن أحمد، وعندنا ضم السورة أو ثلاث من آيات من أي سورة شاء من واجبات الصلاة، وقد ورد فيه أحاديث كثيرة: منها: ما رواه أبو سعيد قال صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وسورة معها)، رواه ابن عدي في (الكامل)؛ وفي لفظ: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ الفاتحة وما تيسر). وفي لفظ: (لا تجزىء صلاة إلا بفاتحة الكتاب ومعها غيرها). وفي لفظ: وسورة في فريضة أو في غيرها). ورواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم، ولا صلاة لمن لا يقرأ بالحمد وسورة في فريضة أو في غيرها). وروى أبو داود من حديث أبي نضرة عنه. قال:

33
(أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر). ورواه ابن حبان في (صحيحه) ولفظه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقرأ الفاتحة وما تيسر). ورواه أحمد وأبو يعلى في (مسنديهما) وروى ابن عدي من حديث ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجزىء المكتوبة إلا بفاتحة الكتاب وثلاث آيات فصاعدا). وروى أبو نعيم في (تاريخ أصبهان) من حديث أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب وشئ معها). وقد عمل أصحابنا بكل الحديث حيث أوجبوا قراءة الفاتحة وضم سورة أو ثلاث آيات معها، لأن هذه الأخبار أخبار آحاد فلا تثبت بها الفرضية، وليس الفرض عندنا إلا مطلق القراءة. لقوله تعالى: * (فاقرؤا ما تيسر من القرآن) * (المزمل: 20). فأمر بقراءة ما تيسر من القرآن مطلقا، وتقييده بالفاتحة زيادة على مطلق النص، وذا لا يجوز فعملنا بالكل وأوجبنا قراءة الفاتحة وضم سورة أو ثلاث آيات معها، وقلنا: إن قوله: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب) مثل معنى قوله: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، وصح أيضا عن جماعة من الصحابة إيجاب ذلك، وقال بعضهم: وفي الحديث أن من لم يقرأ الفاتحة لم تصح صلاته، قلنا: لا تبطل صلاته، فإن تركها عامدا فقد أساء، وءن تركها ساهيا فعليه سجدة السهو. فإن قلت: ليس في حديث الباب حد في الزيادة؟ قلت: قد بينها في حديث ابن عمر المذكور آنفا.
105
((باب الجهر بقراءة صلاة الصبح))
أي: هذا باب في بيان الجهر بقراءة صلاة الصبح، وهو رواية أبي ذر، ولغيره: لصلاة الفجر، وفي بعض النسخ: باب الجهر بقراءة الصبح.
وقالت أم سلمة طفت وراء الناس والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويقرأ بالطور
قد ذكرنا في أول الباب الذي قبله أن هذا التعليق أسنده البخاري في كتاب الحج، وسيجئ بيانه إن شاء الله تعالى. قوله: (والنبي صلى الله عليه وسلم)، الواو فيه للحال، وكذا في قوله: (ويقرأ بالطور)، أي: بسورة الطور. وقال ابن الجوزي: يحتمل أن تكون الباء بمعنى: من، كقوله تعالى: * (عينا يشرب بها عباد الله) * (الإنسان: 6). أي: يشرب منها. قلت: فعلى هذا يحتمل أن تكون قراءته من بعد الطور لا الطور كلها، ولكن الذي قصد به البخاري ههنا إثبات جهر القراءة في صلاة الصبح، لأن أم سلمة سمعت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم وهي وراء الناس، وأما كون هذه الصلاة صلاة الصبح فقد بينا وجهه في أول الباب الذي قبله.
7773 حدثنا مسدد قال حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء وأرسلت عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا ما لكم فقالوا حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب قالوا ما حال بينكم وبين خعبر السماء إلا شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين ألى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا
هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهنالك حين رجعوا إلى قومهم وقالوا يا قومنا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا فأنزل الله تعالى عل نبيه صلى الله عليه وسلم قل أوحي إلي وإنما أوحي إليه قول الجن. (الحديث 773 طرفه في: 4921).

34
مطابقته للترجمة في قوله: (وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له).
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: مسدد. الثاني: أبو عوانة الوضاح اليشكري. الثالث: جعفر بن أبي وحشية، وكنيته: أبو بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: واسم أبي وحشية إياس. الرابع: سعيد بن جبير. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين بصري وواسطي وكوفي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه مسلم في الصلاة عن شيبان بن فروخ. وأخرجه الترمذي في التفسير عن عبد الله بن حميد. وأخرجه النسائي فيه عن أبي داود الحراني عن أبي الوليد مقطعا، وعن عمرو بن منصور.
ذكر معناه: قوله: (في طائفة)، ذكره الجوهري في باب: طوف، وقال: الطائفة من الشيء قطعة منه، وقوله تعالى: * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) * (النور: 2). قال ابن عباس: الواحد فما فوقه، وقال مجاهد: الطائفة الرجل الواحد إلى الألف. وقال عطاء: أقلها رجلان. قوله: (عامدين) أي: قاصدين، منصوب على الحال، في (الفصيح) في باب: فعلت، بفتح العين: عمدت للشيء أعمد إذا قصدت إليه. وفي (شرحه) للزاهد: عن ثعلب: أعمد عمدا: إذا قصدت له خيرا كان أو شرا. ومن العرب من يقول: عمدت أعمد عمدا وعمادا وعمدة، بمعناه وفي (الموعب): لابن التياني: عن الأصمعي لا يقال: عمدت، بكسر الميم. وفي (شرح الزاهد) وغيره: عمده وعمد إليه وعمد له عمودا، وزعم ابن دستويه أنه لا يتعدى إلا بحرف جر. قوله: (في سوق عكاظ) قال ابن السكيت: السوق أنثى، وربما ذكرت، والتأنيث أغلب لأنهم يحقرونها: سويقة. وفي (المحكم): والجمع أسواق، والسوقة لغة فيه، وفي (الجامع): اشتقاقها من سوق الناس إليها بضائعهم. وقال السفاقسي: سميت بذلك لقيام الناس فيها على سوقهم. قوله: (وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر). فإن قلت: هذه القضية كانت قبل الإسراء، وصلاة الفجر فرضت مع بقية الصلوات ليلة الإسراء؟ قلت: الراجح أن الإسراء كان قبل الهجرة بسنتين أو ثلاث، فتكون القضية بعد الإسراء. أو نقول: إنه، صلى الله عليه وسلم، كان يصلي قبل الإسراء قطعا، وكذلك أصحابه، ولكن اختلف هل افترض قبل الصلوات الخمس شيء من الصلوات أم لا؟ فيصح على قول من قال: إن الفرض أولا كان قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، فيكون إطلاق صلاة الفجر بهذا الاعتبار، لا لكونها إحدى الخمس المفروضة ليلة الإسراء. قوله: (عكاظ)، بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وفي آخره طاء معجمة. قال الأزهري: هو اسم سوق من أسواق العرب وموسم من مواسم الجاهلية كانت العرب تجتمع به كل سنة يتفاخرون بها، ويحضرها الشعراء فيتناشدون ما أحدثوا من الشعر. وعن الليث: سمي عكاظ عكاظا لأن العرب كانت تجتمع فيها فيعكظ بعضهم بعضا بالمفاخرة أي: يدعك. وقال غيره: عكظ الرجل دابته يعكظها عكظا إذا حبسها، وتعكظ القوم تعكظا إذا تحبسوا ينظرون في أمرهم، وبه سميت عكاظ. وفي (الموعب): كانوا يجتمعون بها في كل سنة فيقيمون بها الأشهر الحرم، وكان فيها وقائع مرة بعد أخرى. وفي (المحكم): قال اللحياني: أهل الحجاز يجرونها وتميم لا يجرون بها. وفي (الصحاح): هي ناحية مكة، كانوا يجتمعون بها في كل سنة فيقيمون شهرا. وقال ابن حبيب: هي صحراء مستوية لا علم فيها ولا جبل إلا ما كان من النصب التي كانت بها في الجاهلية، وبها من دماء البدن كالأرخام العظام، وقيل: هي ماء على نجد قريبة من عرفات. وقيل: وراء قرن المنازل بمرحلة من طريق صنعاء، وهي من عمل الطائف على بريد منها وأرضها لبني نضر، واتخذت سوقا بعد الفيل بخمس عشرة سنة، وتركت عام الحرورية بمكة مع المختار بن عوف سنة تسع وعشرين ومائة إلى هلم جرا. وقال أبو عبيدة: عكاظ فيما بين نخلة والطائف إلى موضع يقال له الفتق، به أموال ونخيل لثقيف، بينه وبين الطائف عشرة أميال، فكان سوق عكاظ يقوم صبيح هلال ذي القعدة عشرين يوما، وسوق مجنة يقوم بعده عشرة أيام. وسوق ذي المجاز يقوم هلال ذي الحجة. وزعم الرشاطي أنها كانت تقام نصف ذي القعدة إلى آخر الشهر، فإذا أهل ذو الحجة أتوا إذا المجاز وهي قريب من عكاظ فيقوم سوقها إلى يوم التروية، فيسيرون إلى منى، وقال ابن الكلبي: لم يكن بعكاظ عشور ولا خفارة. قوله: (وقد حيل)، بكسر الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف. يقال: حال الشيء بيني وبينك.. أي حجز، وأصل مصدره واوي، يعني من: الحول، وأصل: حيل

35
حول، نقلت كسرة الواو إلى ما قبلها بعد حذف الضمة منها فصار: حيل. قوله: (بين الشياطين) جمع: شيطان. قال الزمخشري: وقد جعل سيبويه نون: الشيطان، في موضع من كتابه أصلية، وفي آخر زائدة، والدليل على أصالتها قولهم: شيطان، واشتقاقه من: شطن، إذا بعد لبعده عن الصلاح والخير، أو من: شاط، إذا بطل إذا جعلت نونه زائدة، ومن أسمائه: الباطل. والشياطين: العصاة من الجن، وهم من ولد إبليس. والمراد أعتاهم وأغواهم، وهم أعوان إبليس ينفذون بين يديه في الإغواء. وقال الجوهري: كل عات متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان. وقال القاضي أبو يعلى: الشياطين مردة الجن وأشرارهم، ولذلك يقال للشرير: مارد وشيطان، وقال تعالى: * (شيطان مريد) * (الصافات: 7). وقال أبو عمر بن عبد البر: الجن منزلون على مراتب، فإذا ذكر الجن خالصا يقال: جني، وإن أريد به أنه ممن يسكن مع الناس: يقال: عامر، والجمع: عمار، وإن كان مما يعرض للصبيان يقال: أرواح، فإن خبث فهو شيطان، فإن زاد على ذلك فهو مارد، فإن زاد على ذلك وقوي أمره فهو عفريت، والجمع: عفاريت. انتهى. وفي الحديث المذكور ذكر وجود الجن ووجود الشياطين، ولكنهما نوع واحد، غير أنهما صارا صنفين باعتبار أمر عرض لهما، وهو الكفر والإيمان، فالكافر منهم يسمى بالشيطان، والمؤمن بالجن. قوله: (وأرسلت عليهم الشهب)، بضم الهاء: جمع الشهاب
، وهو شعلة نار ساطعة كأنها كوكب منقض، واختلف في الشهب: هل كانت يرمى بها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ لقوله تعالى: * (وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا) * إلى قوله: * (رصدا) * (الجن: 8 9). فذكر ابن إسحاق أن العرب أنكرت وقوع الشهب، وأشدهم إنكارا ثقيف،، وأنهم جاؤوا إلى رئيسهم عمرو بن أمية بعدما عمي فسألوه، فقال: انظروا إن كانت هي التي يهتدى بها في ظلمات البر والبحر فهو خراب الدنيا وزوالها، وإن كان غيرها فهو لأمر حدث، وإن الشياطين استنكرت ذلك وضربوا في الآفاق لينظروا ما موجبه، ونفس الآية الكريمة تدل على وجود حراسها بما شاء الله تعالى، إلا أنه قليل، وإنما كثر عند أبان مبعث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قالوا: ملئت حرسا شديدا لأنهم عهدوا حرسا، ولكنه غير شديد، ولأن جماعة من العلماء، منهم ابن عباس والزهري، قالوا: ما زالت الشهب مذ كانت الدنيا، يؤيده ما في (صحيح مسلم) من قوله صلى الله عليه وسلم: (ورمى بنجم ما كنتم تقولون أن كان مثل هذا في الجاهلية؟ قالوا: يموت عظيم أو يولد عظيم..) الحديث. وذكر بعضهم أن السماء كانت محروسة قبل النبوة، ولكن إنما كانت تقع الشهب عند حدوث أمر عظيم من عذاب ينزل أو إرسال رسول إليهم، وعليه تأولوا قوله تعالى: * (وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا) * (الجن: 10). وقيل: كانت الشهب مرئية معلومة، لكن رجم الشياطين وإحراقهم لم يكن إلا بعد نبوة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: كيف تتعرض الجن لإتلاف نفسها بسبب سماع خبر بعد أن صار ذلك معلوما لهم؟ أجيب: قد ينسيهم الله تعالى ذلك لينفذ فيهم قضاؤه، كما قيل في الهدهد: إنه يرى الماء في تخوم الأرض ولا يرى الفخ على ظهر الأرض، على أن السهيلي وغيره زعموا أن الشهاب تارة يصيبهم فيحرقهم، وتارة لا يصيبهم، فإن صح هذا فينبغي كأنهم غير متيقنين بالهلاك ولا جازمين به. وقال ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات، فلما ولد عيسى، عليه الصلاة والسلام، منعت من ثلاث سماوات، فلما ولد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منعت منها كلها. وقال ابن الجوزي، رحمه الله، الذي أميل إليه أن الشهب لم تر إلا قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استمر ذلك وكثر حين بعث، وعن الزهري: كانت الشهب قليلة فغلظ أمرها وكثرت حين البعثة. وقال أبو الفرج فإن قيل: أيزول الكوكب إذا رجم به؟ قلنا: قد يحرك الإنسان يده أو حاجبه فتضاف تلك الحركة إلى جميعه، وربما فصل شعاع من الكوكب فأحرق، ويجوز أن يكون ذلك الكوكب يفنى ويتلاشى. قوله: (فاضربوا) أي: سيروا في الأرض كلها، يقال: فلان ضرب في الأرض إذا سار فيها، وقال الله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض) * (النساء 101). أي: سرتم. قوله: (مشارق)، منصوب على الظرفية أي: في مشارق الأرض وفي مغاربها. قوله: (فانصرف أولئك)، أي: الشياطين الذين توجهوا ناحية تهامة، وهي بكسر التاء. وفي (الموعب): تهامة اسم مكة، وطرف تهامة من قبل الحجاز مدارج العرج، وأولها من قبل نجد مدارج عرق، فإذا نسب إليها يقال: تهامي، بفتح التاء، قاله أبو حاتم. وعن سيبويه، بكسرها. وفي (أمالي الهجري): آخر تهامة أعلام الحرم الشامي. وفي كتاب الرشاطي: تهامة ما ساير البحر من نجد، ونجد ما بين الحجاز إلى الشام إلى العذيب، والصحيح أن مكة من تهامة. وقال المدائني: جزيرة العرب خمسة أقسام: تهامة ونجد وحجاز وعروض

36
ويمن، أما تهامة فهي الناحية الجنوبية من الحجاز، وأما نجد فهي الناحية التي من الحجاز والعراق، وأما الحجاز فهو جبل يقبل من اليمن حتى يتصل بالشام، وفيه المدينة وعمان. وأما العروض فهي اليمامة إلى البحرين. قال: وإنما سمي الحجاز حجازا لأنه يحجز بين نجد وتهامة. ومن المدينة إلى طريق مكة إلى أن يبلغ مهبط العرج حجازا أيضا، وما وراء ذلك إلى مكة وجدة فهو تهامة. وقال الواقدي: الحجاز من المدينة إلى تبوك، ومن المدينة إلى طريق الكوفة. ومن وراء ذلك إلى أن يشارف أرض البصرة فهو نجد، وما بين العراق وبين وجرة وعمرة الطائف نجد، وما كان من وراء وجرة إلى البحر فهو تهامة، وما كان بين تهامة ونجد فهو حجاز، وقال قطرب: تهامة من قولهم: تهم البعير تهما، دخله حر، وتهم البعير إذا استنكر المرعى ولم يستمر به، ولحم تهم: خنز. ويقال: تهامة وتهومة. وقيل: سميت تهامة لأنها انخفضت عن نجد فتهم ريحها أي تغير، وعن ابن دريد: التهم شدة الحر وركود الريح، وسميت بها تهامة. قوله: (وهو بنخلة)، بفتح النون وسكون الخاء المعجمة: وهو موضع معروف ثمة، وبطن نخلة موضع بين مكة والطائف. وقال البكري: نخلة، على لفظ الواحدة من النخل: موضع على ليلة من مكة، وهي التي نسب إليها بطن نخلة، وهي التي ورد الحديث فيها ليلة الجن، وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث. قوله: (عامدين)، حال، وإنما جمع، وإن كان ذو الحال واحدا، باعتبار أن أصحابه معه، كما يقال: جاء السلطان، والمراد: هو واتباعه، أو جمع تعظيما له. قوله: (استمعوا له) أي: أنصتوا، والفرق بين السماع والاستماع أن باب الافتعال لا بد فيه من التصرف، فالاستماع تصرف بالقصد والإصغاء إليه، والسماع أعم منه. قوله: (فهناك)، ظرف مكان، والعامل فيه: قالوا. ويروى: (فقالوا)، بالفاء فالعامل: رجعوا، مقدرا يفسره المذكور. قوله: (أوحي إلي) وقرأ حيوة الأسدي: * (قل أوحي إلي) * (الجن: 1). وقال الزجاج في (المعاني): الأكثر أوحيت، ويقال: وحيت، فالأصل: وحى. إلى قوله: * (نفر من الجن) * (الجن: 1). قال الزجاج: هؤلاء النفر من الجن كانوا من نصيبين، وقيل: أنهم كانوا من اليمن، وقيل: إنهم كانوا يهودا. وقيل: إنهم كانوا مشركين. وذكر ابن دريد أن أسماءهم: شاصر وماصر والأحقب ومنشىء وناشىء، لم يزد شيئا. وفي (تفسير الضحاك): كانوا تسعة من أهل نصيبين، قرية باليمن غير التي بالعراق، وفي رواية عاصم عن زر بن حبيش: أنهم كانوا سبعة: ثلاثة من أهل حران، وأربعة من نصيبين، ذكره القرطبي في (تفسيره) وعند الحاكم: عن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه: هبطوا على النبي، صلى الله عليه وسلم، ببطن نخلة وكانوا تسعة: أحدهم زوبعة، وقال: صحيح الإسناد. وعند القرطبي: كانوا اثني عشر، وعن عكرمة: كانوا اثني عشر ألفا. وفي (تفسير النسفي): وقيل: كانوا من بني الشيبان، وهم أكثر الجن عددا، وهم عامة جنود إبليس. قوله: * (قرآنا عجبا) * (الجن: 1). أي: بديعا مبينا لسائر الكتب في حسن نظمه وصحة معانيه، قائمة فيه دلائل الإعجاز. وانتصاب: عجبا، على أنه مصدر وضع موضع التعجب وفيه مبالغة، والعجب ما خرج عن حد إشكاله، ونظائره قوله: * (يهدي إلى الرشد) * (الجن: 2). أي: يدعو إلى الصواب. وقيل: يهدي إلى التوحيد والإيمان. قوله: * (فآمنا به) * (الجن: 2). أي: بالقرآن.
قوله: * (ولن نشرك بربنا أحدا) * (الجن: 2). يعني: لما كان الإيمان بالقرآن إيمانا بالله عز وجل وبوحدانيته وبراءة من الشرك قالوا: * (لن نشرك بربنا أحدا) * (الجن: 2). قوله: (فأنزل) الله على نبيه: * (قل أوحي إلي) * (الجن: 1). أي: قل يا محمد، أي: أخبر قومك ما ليس لهم به علم، ثم بين فقال: * (أوحي إلي أنع استمع نفر من الجن) * (الجن: 1). وقال ابن إسحاق: لما أيس رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من خبر ثقيف انصرف عن الطائف راجعا إلى مكة حتى كان بنخلة، قام من جوف الليل يصلي. فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تعالى، وهم فيما ذكر لي سبعة نفر من أهل جن نصيبين، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص خبرهم عليه، فقال تعالى: * (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) * إلى قوله: * (أليم) * ثم قال تعالى: * (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن) * (الأحقاف: 29). إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة، وإلى هذا المعنى أشار البخاري بقوله: وإنما أوحي إليه قول الجن،، وأراد بقول الجن هم الذين قص خبرهم عليه.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه: الأول: في وقت صرف الجن إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وقبل الإسراء. وذكر الواقدي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الطائف لثلاث بقين من شوال وأقام خمسا وعشرين ليلة، وقدم مكة لثلاث وعشرين خلت من ذي القعدة يوم الثلاثاء، وأقام بمكة ثلاثة أشهر، وقدم عليه جن الحجون في ربيع الأول سنة إحدى

37
عشرة من النبوة. الثاني: أن الجن كانت متعددة وتعددت وفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة بعد الهجرة، وفي كلام البيهقي: أن ليلة الجن واحدة نظر. الثالث: في الحديث وجود الجن. قال إمام الحرمين في كتابه (الشامل): إن كثيرا من الفلاسفة وجماهير القدرية وكافة الزنادقة أنكروا الشياطين والجن رأسا، وقال أبو القاسم الصفار في (شرح الإرشاد): وقد أنكرهم معظم المعتزلة، وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم. وقال أبو بكر الباقلاني: وكثير من القدرية يثبتون وجود الجن قديما وينفون وجودهم الآن، ومنهم من يقر بوجودهم ويزعم أنهم لا يرون لرقة أجسادهم ونفوذ الشعاع. ومنهم من قال: إنهم لا يرون لأنهم لا ألوان لهم. وقال الشيخ أبو العباس ابن تيمية: لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن وجمهور طوائف الكفار على إثبات الجن، وإن وجد من ينكر ذلك منهم، كما يوجد في بعض طوائف المسلمين، كالجهمية والمعتزلة، من ينكر ذلك، وإن كان جمهور الطائفة وأئمتها مقرين بذلك، وهذا لأن وجود الجن تواترت به أخبار الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، تواترا معلوما بالاضطرار. الرابع: في ابتداء خلق الجن، وفي كتاب (المبتدأ): عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: خلق الله الجن قبل آدم بألفي سنة. وعن ابن عباس: كان الجن سكان الأرض والملائكة سكان السماء. وقال بعضهم: عمروا الأرض ألفي سنة. وقيل: أربعين سنة. وقال إسحاق بن بشر في (المبتدأ): قال أبو روق: عن عكرمة عن ابن عباس، قال: لما خلق الله شوما أبا الجن، وهو الذي خلق من مارج من نار، فقال تبارك وتعالى: تمن. قال أتمنى أن نرى ولا نرى، وأن نغيب في الثرى، وأن يصير كهلنا شابا، فأعطي ذلك، فهم يرون ولا يرون، وإذا ماتوا غيبوا في الثرى، ولا يموت كهلهم حتى يعود شابا، يعني: مثل الصبي ثم يرد إلى أرذل العمر. قال: وخلق الله آدم، عليه السلام، فقيل له: تمن فتمنى الحيل فأعطي الحيل. وفي (التلويح): وقد اختلف في أصلهم، فعن الحسن: أن الجن ولد إبليس، ومنهم المؤمن والكافر، والكافر يسمى شيطانا. وعن ابن عباس: هم ولد الجان وليسوا شياطين منهم الكافر والمؤمن، وهم يموتون، والشياطين ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس، واختلفوا في مآل أمرهم على حسب اختلافهم في أصلهم. فمن قال: أنهم من ولد الجان، قال: يدخلون الجنة بإيمانهم. ومن قال: إنهم من ذرية إبليس، فعند الحسن: يدخلونها، وعن مجاهد: لا يدخلونها. وقال: ليس لمؤمني الجن غير نجاتهم من النار. قال تعالى: * (ويجركم من عذاب أليم) * (الأحقاف: 46). وبه قال أبو حنيفة. ويقال لهم كالبهائم: كونوا ترابا، وفي رواية عن أبي حنيفة أنه تردد فيهم ولم يجزم. وقال آخرون: يعاقبون في الإساءة ويجازون في الإحسان كالأنس، وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى لقوله تعالى: * (ولكل درجات مما عملوا) * (الأنعام: 132). بعد قوله: * (يا معشر الجن والإنس) * (الأنعام: 130). الآيات. الخامس: فيه دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بالقراءة في صلاة الفجر، وعليه بوب البخاري. السادس: فيه دلالة على مشروعية الجماعة في الصلاة في السفر، وأنها شرعت من أول النبوة. السابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الأنس والجن، ولم يخالف أحد من طوائف المسلمين في أن الله تعالى أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الجن والإنس، لقوله عليه الصلاة والسلام: (بعثت إلى الناس عامة). في حديث جابر في (الصحيحين). قال الجوهري: الناس قد يكون من الإنس ومن الجن، وقد أخبر الله تعالى في القرآن أن الجن استمعوا القرآن، وأنهم آمنوا به كما في قوله تعالى: * (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن) * (الأحقاف: 29). إلى قوله: * (أولئك في ضلال مبين) * (الأحقاف: 32). ثم أمره الله أن يخبر الناس بذلك ليعلم الإنس بأحوالها وأنه مبعوث إلى الإنس والجن.
774 حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل قال حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال قرأ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر وسكت فيما أمر وما كان ربك نسيا ولقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة
مطابقته للترجمة تظهر من قوله: (قرأ النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمر)، لأن معناه: جهر بالقراءة فيما أمر بالقراءة، وإنما صح أن يقال: معنى قرأ: جهر بالقراءة، لأن معنى قسيمه، وهو قوله: (سكت فيما أمر)، أي: أسر فيما أمر بإسرار القراءة. ولا يقال: معنى سكت: ترك القراءة، لأنه صلى الله عليه وسلم كان لا يزال إماما، فلا بد له من القراءة سرا أو جهرا، وقد تظاهرت الأخبار وتواترت

38
الآثار أنه كان يجهر في أولى العشاء والمغرب وفي الصبح، فناسب الحديث الترجمة من حيث إن الفجر داخل في الذي جهر فيه. ومما يؤكد ما قلنا قول ابن عباس في آخر الحديث: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)، لأنه قد ثبت بالروايات أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح جهرا، فهو كان مأمورا بالجهر، ونحن
مأمورون بالأسوة به، فبين لنا الجهر، وهو المطلوب. فإن قلت: قال الإسماعيلي: إيراد حديث ابن عباس ههنا يغاير ما تقدم من إثبات القراءة في الصلاة، لأن مذهب ابن عباس ترك القراءة في السرية قلت: لا نسلم المغايرة المذكورة، بل إيراد هذا الحديث يدل على إثبات ذلك، لأنه احتج على ما ذكره في صدر الحديث بما ذكره في آخره من وجوب الإيتساء بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما ورد عنه، وقد ورد عنه الجهر والإسرار، على أنه قد روى عنه أبو العالية البراء ثبوت القراءة في الظهر والعصر، على خلاف ما روي عنه من نفي القراءة فيهما، وقد ذكرناه مستقصى فيما مضى.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: مسدد. الثاني: إسماعيل بن إبراهيم المعروف بابن علية. الثالث: أيوب السختياني. الرابع: عكرمة، مولى ابن عباس. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين بصري وكوفي ومدني..
وهذا الحديث من أفراد البخاري.
ذكر معناه: قوله: (فيما أمر)، بضم الهمزة، والآمر هو الله تعالى. قوله: (نسيا) بفتح النون وكسر السين وتشديد الياء، وأصله: نسي، بياءين، على وزن: فعيل:، فأدغمت الياء في الياء، وفعيل هنا بمعنى: فاعل، أي: وما كان ربك نسيا، أي: تاركا، لأن النسيان في اللغة الترك، قاله أبو عبيدة، قال الله تعالى: * (نسوا الله فنسيهم) * (التوبة: 67). وقال تعالى: * (ولا تنسوا الفضل بينكم) * (البقرة: 237). وقال الكرماني: فإن قلت: هذا الكلام من أي الأساليب؟ إذ النسيان ممتنع على الله تعالى؟ قلت: هو من أسلوب التجوز، أطلق الملزوم وأراد اللازم، إذ نسيان الشيء مستلزم لتركه. انتهى. قلت: هذا الذي قاله إنما يمشي إذا كان من النسيان الذي هو خلاف الذكر على ما لا يخفى. وقال أيضا: لم ما قلت: إنه كناية؟ ثم أجاب بأن شرط الكناية إمكان إرادة معناه الأصلي، وهنا ممتنع، وشرطها أيضا المساواة في اللزوم، وههنا الترك ليس مستلزما للنسيان، إذ قد يكون الترك بالعمد. هذا عند أهل المعاني. وأما عند الأصولي فالكناية أيضا نوع من المجاز. قلت: على ما ذكره أهل الأصول يجوز الوجهان، وقال الخطابي: لو شاء لله أن يترك بيان أحوال الصلاة وأقوالها حتى يكون قرآنا متلوا لفعل، ولم يتركه عن نسيان، ولكنه وكل الأمر في ذلك لنبيه صلى الله عليه وسلم، ثم أمرنا بالاقتداء به، وهو معنى قوله لنبيه صلى الله عليه وسلم: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * (النحل: 44). ولم تختلف الأمة في أن أفعاله التي هي بيان مجمل الكتاب واجبة، كما لم يختلفوا في أن أفعاله التي هي من نوم وطعام وشبههما غير واجبة، وإنما اختلفوا في أفعاله التي تتصل بأمر الشريعة مما ليس ببيان مجمل الكتاب، فالذي يختار إنها واجبة قوله: (أسوة)، بضم الهمزة وكسرها، قرىء بهما، ومعناها: القدوة.
106
((باب الجمع بين السورتين في الركعة والقراءة بالخواتيم وبسورة قبل سورة وبأول سورة))
أي: هذا باب في بيان حكم الجمع بين السورتين في الركعة الواحدة من الصلاة، وفي بيان قراءة الخواتيم، أي: خواتيم السور أي: أواخرها، وفي بيان حكم قراءة سورة قبل سورة، وهو أن يجعل سورة متقدمة على الأخرى في ترتيب المصحف، متأخرة في القراءة. وهذا أعم من أن تكون في ركعة أو ركعتين. قوله: (وبأول سورة)، أي: وبالقراءة بأول سورة، هذه الترجمة تشتمل على أربعة أجزاء، قد ذكر للثلاثة منها ما يطابقها من الحديث والأثر، ولم يذكر شيئا للجزء الثاني، وهو قوله: (والقراءة بالخواتيم)، قال بعضهم: وأما القراءة بالخواتيم فتؤخذ من إلحاق القراءة بالأوائل، والجامع بينهما أن كلاهما بعض سورة. قلت: الأولى أن يؤخذ ذلك من قول قتادة: كل كتاب الله، سبحانه وتعالى.

39
ويذكر عن عبد الله بن السائب قرأ النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنون في الصبح حتى إذا جاء ذكر موسى وهارون أو ذكر عيسى أخذته سعلة فركع
مطابقة هذا التعليق للجزء الرابع للترجمة، لأن الترجمة أربعة أجزاء: فالجزء الرابع هو قوله: وبأول سورة، والذي رواه عبد الله بن السائب يدل على أنه صلى الله عليه وسلم قرأ أول سورة المؤمنين إلى أن وصل إلى قوله: * (ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون) * (المؤمنون: 45). أخذته سعلة فقطع القراءة ولم يكمل السورة، فدل على أنه لا بأس بقراءة بعض سورة والاقتصار عليه من غير تكميل السورة، على ما يجيء بيانه الآن، وهذا التعليق ذكره البخاري بلفظ: يذكر، على صيغة المجهول، وهو صيغة التمريض لأن في إسناده اختلافا على ابن جريج، فقال عيينة: عنه عن أبي مليكة عن عبد الله السائب، قال أبو عاصم: عنه عن محمد بن عباد عن أبي سلمة ابن سفيان أو سفيان ابن أبي سلمة عن عبد الله بن السائب، ووصله مسلم في (صحيحه) وقال: حدثني هارون بن عبد الله، قال: حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج وحدثني محمد بن رافع، وتقاربا في اللفظ، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج: قال سمعت محمد بن جعفر بن عباد بن جعفر يقول: أخبرني أبو سلمة ابن سفيان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المسيب العابدي، عن عبد الله بن السائب قال: (صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بمكة فاستفتح سورة المؤمنين حتى جاء ذكر موسى وهارون، أو ذكر عيسى، عليهم الصلاة والسلام، شك محمد بن عباد أو واختلفوا عليه، أخذت النبي، صلى الله عليه وسلم، سعلة فركع وعبد الله بن السائب حاضر ذلك). وفي حديث عبد الرزاق فحذف: (فركع)، وفي حديثه: وعبد الله بن عمرو ولم يقل: ابن العاص، وعبد الله بن السائب ابن أبي السائب، واسمه: صيفي بن عابد، بالباء الموحدة: ابن عبد الله ابن عمر بن مخزوم القريشي المخزومي القاري) يكنى: أبا السائب، وقيل: أبو عبد الرحمن، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي بمكة قبل ابن الزبير بيسير، روي له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة أحاديث، وروى له مسلم
هذا الحديث فقط، وأخرج الطحاوي هذا الحديث عن عبد الله بن السائب، ولفظه: (حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة الفتح صلاة الصبح فاستفتح بسورة المؤمنين فلما أتى على ذكر موسى وعيسى أو موسى وهارون أخذته سعلة فركع). انتهى. وليس في إسناده ذكر عبد الله بن عمرو بن العاص، ولا ذكر عبد الله بن المسيب، بل فيه: عن أبي سلمة عن سفيان عن عبد الله بن السائب، وقال النووي: ابن العاص غلط عند الحفاظ، وليس هذا عبد الله بن عمرو بن العاص الصحابي المعروف، بل هو تابعي حجازي. وفي (مصنف عبد الرزاق): عن عبد الله بن عمرو القاري، وهو الصواب. قوله: (قرأ النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين) أي: سورة المؤمنين. قوله: (أو ذكر عيسى)، هو قوله تعالى: * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * (المؤمنون: 50). وفي رواية الطحاوي على ذكر موسى وعيسى هو قوله: * (ولقد آتينا موسى الكتاب لعلهم يهتدون) * (المؤمنون: 49). * (وجعلنا ابن مريم وأمه آية) * (المؤمنون: 50). قوله: (أخذته سعلة)، بفتح السين وضمها، وعند ابن ماجة: (فلما بلغ ذكر عيسى وأمه أخذته سعلة، أو قال: شهقة). وفي رواية: (شرقة)، بفتح الشين المعجمة وسكون الراء وفتح القاف. قوله في مسلم: (الصبح بمكة)، وفي رواية الطبراني: (يوم الفتح).
ذكر ما يستفاد منه: فيه: استحباب القراءة الطويلة في صلاة الصبح، ولكن على قدر حال الجماعة. وفيه: جواز قطع القراءة، وهذا لا خلاف فيه، ولا كراهة إن كان القطع لعذر، وإن لم يكن لعذر فلا كراهة أيضا عند الجمهور، وعن مالك في المشهور كراهته. وفيه: جواز القراءة ببعض السور، وفي (شرح الهداية): إن قرأ بعض سورة في ركعة وبعضها في الثانية الصحيح أنه لا يكره، وقيل: يكره، ويجاب عن حديث سعلته صلى الله عليه وسلم أنه إنما كان قراءته لبعضها لأجل السعلة، والطحاوي منع هذا الجواب في (معاني الآثار)، فقال عقيب رواية حديث السعلة: فإن قال قائل: إنما فعل ذلك للسعلة التي عرضت، قيل له: فإنه قد روي عنه أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر بآيتين من القرآن، وقد ذكرنا ذلك في: باب القراءة في ركعتي الفجر. انتهى. قلت: الذي ذكره في هذا الباب هو ما رواه عن ابن عباس، أنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في ركعتي الفجر في الأولى منهما: * (قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا) * (البقرة: 136). الآية، وفي الثانية: * (آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) * (آل عمران: 52).
وقرأ عمر في الركعة الأولى بمائة وعشرين آية من البقرة وفي الثانية بسورة من المثاني

40
مطابقته لجزء من أجزاء الترجمة غير ظاهرة، ولكنه يدل على تطويل القراءة في الركعة الأولى على القراءة في الركعة الثانية لأن التيمي فسر المثاني بما لم يبلغ مائة آية، وقيل: المثاني عشرون سورة، والمئون إحدى عشرة سورة، وقال أهل اللغة: سميت مثاني لأنها ثنت المئين، أي: أتت بعدها. وفي (المحكم): المثاني من القرآن ما ثنى مرة بعد مرة، وقيل: فاتحة الكتاب، وقيل: سور أولها البقرة وآخرها براءة. وقيل: القرآن العظيم كله مثاني، لأن القصص والأمثال ثنيت فيه، وقيل: سميت المثاني لكونها قصرت عن المئين وتزيد على المفصل، كأن المئين جعلت مبادئ، والتي تليها مثاني، ثم المفصل: وعن ابن مسعود وطلحة ابن مصرف: المئون إحدى عشرة سورة، والمثاني عشرون سورة، وقال صاحب (التلويح) ومن تبعه من الشراح: وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن عبد الأعلى عن الجريري عن أبي العلاء عن أبي رافع، قال: كان عمر، رضي الله تعالى عنه، يقرأ في الصبح بمائة من البقرة، ويتبعها بسورة من المثاني، أو: من صدور المفصل، ويقرأ بمائة من آل عمران ويتبعها بسورة من المثاني، أو من صدور المفصل. قلت: في لفظ ما ذكره البخاري فصل بقوله: في الركعة الأولى، وفي الثانية وفي رواية ابن أبي شيبة: لم يفصل، ويحتمل أن تكون قراءته بمائة من البقرة واتباعها بسورة من المفصل في الركعة الأولى وحدها، وفي الركعة الثانية كذلك، ويحتمل أن يكون هذا في الركعتين جميعا، فعلى الاحتمال الأول تظهر المطابقة بينه وبين الجزء الأول للترجمة. فإن قلت: الجزء الأول للترجمة الجمع بين السورتين، وهذا على ما ذكرت جمع بين سورة وبعض من سورة. قلت: المقصود من الجمع بين السورتين أعم من أن يكون بين سورتين كاملتين، أو بين سورة كاملة وبين شيء من سورة أخرى.
وقرأ الأحنف بالكهف في الأولى وفي الثانية بيوسف أو يونس وذكر أنه صلى مع عمر رضي الله تعالى عنه الصبح بهما
مطابقته للجزء الثالث للترجمة، وهي: أن يقرأ في الركعة الأولى سورة ثم يقرأ في الثانية سورة فوق تلك السورة. والأحنف، بفتح الهمزة وسكون الحاء المهملة وفتح النون وفي آخره فاء: ابن قيس بن معدي كرب الكندي الصحابي، وقد مر ذكره في: باب المعاصي، في كتاب الإيمان. قوله: (وذكر) أي: ذكر الأحنف (أنه صلى مع عمر) أي: وراء عمر، (الصبح) أي: صلاة الصبح (بهما)، أي: بالكهف في الأولى وبإحدى السورتين في الثانية أي: بيوسف أو يونس.
وهذا التعليق وصله أبو نعيم في (المستخرج): حدثنا مخلد بن جعفر حدثنا جعفر الفريابي حدثنا قتيبة حدثنا حماد بن زيد عن بديل عن عبد الله ابن شقيق، قال: (صلى بنا الأحنف بن قيس الغداء فقرأ في الركعة الأولى بالكهف، وفي الثانية بيونس، وزعم أنه صلى خلف عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فقرأ في الأولى بالكهف والثانية بيونس). وقال ابن أبي شيبة: حدثنا معتمر عن الزهري بن الحارث عن عبد الله بن قيس عن الأحنف، قال: (صليت خلف عمر الغداة فقرأ بيونس وهود ونحوهما). وعد أصحابنا هذا الصنيع مكروها، فذكر في (الخلاصة): وإن قرأ في الركعة سورة وفي ركعة أخرى سورة فوق تلك السورة أو فعل ذلك في ركعة فهو مكروه. قلت: فكأنهم نظروا في هذا إلى أن رعاية الترتيب العثماني مستحبة، وبعضهم قال: هذا في الفرائض دون النوافل، وقال مالك: لا بأس أن يقرأ سورة قبل سورة. قال: ولم يزل الأمر على ذلك من عمل الناس. وذكر في (شرح الهداية) أيضا: أنه مكروه. قال: وعليه جمهور العلماء، منهم أحمد. وقال عياض: هل ترتيب السور من ترتيب النبي، صلى الله عليه وسلم، أو من اجتهاد المسلمين؟ قال ابن الباقلاني: الثاني أصح القولين مع احتمالهما، وتأولوا النهي عن قراءة القرآن منكوسا على من يقرأ من آخر السورة إلى أولها، وأما ترتيب الآيات فلا خلاف أنه توقيف من الله تعالى على ما هو عليه الآن في المصحف.
وقرأ ابن مسعود بأربعين آية من الأنفال وفي الثانية بسورة من المفصل

41
مطابقته للجزء الرابع من الترجمة. وهو قوله: (بأول سورة)، فإن قلت: هذا لا يدل على أنه قرأ أربعين آية من أول الأنفال فإنه يحتمل أن يكون من أوله، ويحتمل أن يكون من أوسطه. قلت: هذا الأثر رواه سعد بن منصور بلفظ: (فافتتح الأنفال)، والافتتاح لا يكون إلا من الأول، أي: قرأ عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه، بأربعين آية من سورة الأنفال في الركعة الأولى، وقرأ في الركعة الثانية بسورة من المفصل، وهو من سورة القتال أو الفتح أو الحجرات أو قاف إلى آخر القرآن.
وهذا التعليق وصله عبد الرزاق بلفظه من رواية عبد الرحمن بن يزيد النخعي عنه، وأخرجه هو وسعيد بن منصور من وجه آخر عن عبد الرحمن بلفظ (فافتتح الأنفال حتى بلغ) * (ونعم النصير) * (الأنفال: 40). انتهى. وهذا الموضع هو رأس أربعين آية.
وقال قتادة فيمن يقرأ سورة واحدة في ركعتين أو يردد سورة واحدة في ركعتين كل كتاب الله
قوله: (وقال قتادة). هذا لا يطابق شيئا من أجزاء الترجمة، فكأن البخاري أورد هذا تنبيها على جواز كل ما ذكر من الأجزاء الأربعة في الترجمة، وغيرها أيضا لأنه قال: كل، أي: كل ذلك كتاب الله، عز وجل، فعلى أي وجه يقرأ هو كتاب الله تعالى فلا كراهة فيه، وذكر فيه صورتين: إحداهما: أن يقرأ سورة واحدة في ركعتين، بأن يفرق السورة فيهما. والثانية: أن يكرر سورة واحدة في ركعتين بأن يقرأ في الركعة الثانية السورة التي قرأها في الركعة الأولى. أما الصورة الأولى فلما روى النسائي، من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بسورة الأعراف فرقها في ركعتين)، وروى ابن أبي شيبة أيضا من حديث أبي أيوب، رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالأعراف في ركعتين)، وعن أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، أنه قرأ بالبقرة في الفجر في الركعتين. وقرأ عمر، رضي الله تعالى عنه، بآل عمران في الركعتين الأوليين من العشاء قطعها فيهما، ونحوه عن سعيد بن جبير وابن عمر والشعبي وعطاء. وأما الصورة الثانية فلما روى أبو داود: أخبرنا أحمد بن صالح أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن أبي هلال عن معاذ ابن عبد الله الجهني: (أن رجلا من جهينة أخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الصبح: إذا زلزلت، في الركعتين كلتيهما، فلا أدري أنسي رسول الله صلى الله عليه وسلم أم قرأ ذلك عمدا؟) وبهذا استدل بعض أصحابنا أنه إذا كرر سورة في ركعتين لا يكره، وقيل: يكره، وقد ذكر في (المبسوط): أنه لا ينبغي أن يفعل، وإن فعل فلا بأس به، والأفضل أن يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة كاملة في المكتوبة.
774 وقال عبيد الله عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه كان رجل من الأنصار يؤمهم في مسجد قباء وكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصلاة مما يقرأ به افتتح بقل هو الله أحد حتى يفرغ منها ثم يقرأ سورة أخرى معها وكان يصنع ذلك في كل ركعة فكلمه أصحابه فقالوا إنك تفتتح بهذه السورة ثم لا ترى أنها تجزئك حتى تقرأ بأخرى فإما أن تقرأ بها وإما أن تدعها وتقرأ بأخرى فقال ما أنا بتاركها إن أحببتم أن أؤمكم بذلك فعلت وإن كرهتم تركتكم وكانوا يرون أنه من أفضلهم وكرهوا أن يؤمهم غيره فلما أتاهم النبي صلى الله عليه وسلم أخبروه الخبر فقال يا فلان ما يمنعك أن تفعل ما يأمرك به أصحابك وما يحملك على لزوم هذه السورة في كل ركعة فقال أني أحبها فقال حبك إياها أدخلك الجنة.
مطابقته للجزء الأول من الترجمة، وهو الجمع بين السورتين في الركعتين، فإن الإمام في هذا الحديث كان إذا افتتح

42
الصلاة: بقل هو الله أحد، يقرأ سورة أخرى بعد فراغه، من: قل هو الله أحد، وكان يفعل ذلك ذلك في كل ركعة، وهذا هو الجمع بين السورتين في ركعة.
ذكر رجاله: وهم ثلاثة: الأول: عبيد الله بن عمر بن حفص عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم، وقد تكرر ذكره. الثاني: ثابت البناني. الثالث: أنس بن مالك. وهذا تعليق بصيغة التصحيح وصله الترمذي في (جامعه) عن محمد بن إسماعيل البخاري: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثني عبد العزير بن محمد عن عبيد الله بن عمرو عن ثابت عن أنس، رضي الله تعالى عنه، فذكره بنحوه، وقال: صحيح غريب من حديث عبيد الله عن ثابت.
ذكر معناه: قوله: (كان رجل من الأنصار) هو كلثوم بن هدم، كذا ذكره أبو موسى في (كتاب الصحابة)، والهدم، بكسر الهاء وسكون الدال: وهو من بني عمرو بن عوف سكان قباء، وعليه نزل النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم في الهجرة إلى قباء، وقيل: هو قتادة بن النعمان، وليس بصحيح، فإن في قصة قتادة أنه كان يقرؤها في الليل يرددها، ليس فيه أنه أم بها، لا في سفر ولا في حضر، ولا أنه سئل عن ذلك ولا بشر. قوله: (سورة يقرؤها) سورة، بالنصب لأنه مفعول: يفتتح، ويقرأ، في محل النصب لأنه صفة لسورة. قوله: (مما يقرأ به) أي: كلماافتتح بسورة افتتح بسورة: قل هو الله أحد، لا يقال: إذا افتتح بالسورة، كيف يكون الافتتاح: بقل هو الله أحد؟ لأن المراد إذا أراد الافتتاح بسورة افتتح أولا بسورة: قل هو الله أحد. قوله: (معها) أي: مع قل هو الله أحد. قوله: (فكان يصنع ذلك)، أي: الذي ذكره مع أنه، إذا افتتح بسورة افتتح أولا بقل هو الله أحد. قوله: (إنها لا تجزيك) أي: إن السورة التي تفتتح بها لا تجزيك، بفتح التاء ويروى بضم التاء، فالأول من: جزى يجزي أي: كفى، والثاني من: الإجزاء. قوله: (أن تدعها) أي: تتركها وتقرأ سورة أخرى غير قل هو الله أحد. قوله: (أخبروه الخبر)، وهو المعهود من ملازمته لقراءة سورة قل هو الله أحد. قوله: (ما يأمرك به أصحابك) معناه: ما يقول لك أصحابك، لأنه ليس هنا أمر مصطلح، لأن الأمر هو قول القائل لغيره: إفعل، على سبيل الاستعلاء. وقول الكرماني: إن الاستعلاء في الأمر لا يشترط غير موجه، وأما صورة الأمر الذي لا استعلاء فيه لا يسمى أمرا، وإنما يسمى التماسا، وكلمة: (ما) في: (ما يأمرك به) موصولة. وفي قوله: (ما يحملك؟) استفهامية، ومعناه: ما الباعث لك في التزام ما لا يلزم من قراءة سورة: قل هو الله أحد، في كل ركعة؟ قوله: (قال إني أحبها) أي: أحب سورة: قل هو الله أحد، وهو جواب لسؤال رسول الله، صلى الله عليه
وسلم. فإن قلت: السؤال شيئان، والجواب عن أيهما؟ فإن قلت: عن الثاني، ولا يكون عن الأول أيضا لأنهم خيروه بين قراءته لها فقط وقراءة غيرها. فلا يصح أن يقول: محبتي لها هو المانع من اختياري قراءتها فقط، وإنما ما أجاب عن الأول فقط لأنه يعلم منه، فكأنه قال: أقرؤها لمحبتي لها، وااقرأ سورة أخرى إقامة للسنة كما هو المعهود في الصلاة، فالمانع مركب من المحبة وعهد الصلوات. قوله: (حبك إياها) أي: حبك لسورة قل هو الله أحد، والحب مصدر مضاف إلى فاعله، وارتفاعه بالابتداء وخبره. قوله: (أدخلك الجنة) ومعناه: يدخلك الجنة، لأن الدخول في المستقبل، ولكنه لما كان محقق الوقوع فكأنه قد وقع فأخبر بلفظ الماضي.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: جواز الجمع بين السورتين في ركعة واحدة، وعليه جزء من التبويب، وإليه ذهب سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعلقمة وسويد بن غفلة وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في رواية، ويروى ذلك عن عثمان وحذيفة وابن عمر وتميم الداري، رضي الله تعالى عنهم. وقال قوم، منهم الشعبي وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وأبو العالية رفيع بن مهران: لا ينبغي للرجل أن يزيد في كل ركعة من صلاته على سورة مع فاتحة الكتاب، واحتجوا في ذلك بما رواه عبد الرزاق في (مصنفه): عن هشيم عن يعلى بن عطاء عن ابن لبيبة قال: قلت لابن عمر أو قال غيري: إني قرأت المفصل في ركعة. قال: أفعلتموها؟ إن الله تعالى لو شاء لأنزله جملة واحدة، فأعطوا كل سورة حظها من الركوع والسجود). وأخرجه الطحاوي أيضا من حديث يعلى بن عطاء، قاال: سمعت ابن لبيبة، قال: (قال رجل لابن عمر: إني قرأت المفصل في ركعة، أو قال: في ليلة. فقال ابن عمر: إن الله تبارك وتعالى لو شاء لأنزله جملة واحدة، ولكن فصله ليعطي كل سورة حظها من الركع والسجود). وأخرجه الطحاوي أيضا من حديث يعلى بن عطاء. وابن لبيبة: هو عبد الرحمن بن نافع بن لبيبة الحجازي، وثقه ابن حبان، وأجيب عن هذا بأن حديث ابن مسعود الآتي ذكره عن قريب وحديث عائشة

43
وحذيفة في هذا الباب يخالف هذا، فإذا ثبتت المخالفة يصار إلى أحاديث هؤلاء لقوتها واستقامة طرقها. أما حديث عائشة فرواه الطحاوي من حديث عبد الله بن شعبة، قال: (قلت لعائشة: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن السورة؟ قالت: المفصل، أي: نعم يقرن المفصل). وأخرجه أيضاابن أبي شيبة في مصنفه. وأما حديث حذيفة فأخرجه النسائي من حديث صلة بن زفر عن حذيفة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ البقرة وآل عمران والنساء في ركعة)، الحديث. وأخرجه الطحاوي أيضا. وفيه: دليل صريح على عدم اشتراط قراءة الفاتحة في الصلاة، وقال بعضهم: وأجيب بأن الراوي لم يذكر الفاتحة اعتناء بالعلم، لأنه لا بد منها فيكون معناه: افتتح بسورة بعد الفاتحة. انتهى. قلت: هذا خلاف معنى التركيب ظاهرا. وأيضا: إن أهل مسجد قباء أنكروا على هذا الأنصاري في جمعه بين السورتين في ركعة واحدة، الذي هو لم يكن يضر صلاتهم، فلو كانت قراءة الفاتحة شرطا لكانوا أنكروا أكثر من ذلك، بل كانوا أعادوا صلاتهم. وفيه: جواز تخصيص بعض القرآن للصلاة لميل النفس إليه ولا يعد ذلك هجرانا لغيره. وفيه: إشعار بأن سورة الإخلاص مكية. وفيه: ما يشعر أن الذي ينبغي أن يكون الإمام من أفضل القوم. وفيه: أن الصلاة تكره وراء من يكرهه القوم. وفيه: ما يدل على أن تبشيره صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل بالجنة على أنه رضي بفعله.
775 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال سمعت أبا وائل قال جاء رجل إلى ابن مسعود فقال قرأت المفصل الليلة في ركعة فقال هذا كهذ الشعر لقد عرفت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين في كل ركعة (الحديث 775 طرفان في: 4996، 5043).
مطابقته للجزء الأول من الترجمة، وهو الجمع بين السورتين في ركعة فقوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن)، إلى آخره، يدل على ذلك، وليس في هذا الباب حديث موصول غير هذا، فلذلك صدرت الترجمة بالجزء الذي دل عليه.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: آدم بن إياس، وشعبة بن الحجاج، وعمرو بن مرة، بضم الميم وتشديد الراء: ابن عبد الله الكوفي الأعمى، وأبو وائل شقيق بن سلمة.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: السماع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين عسقلاني وواسطي وكوفي..
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار، كلاهما عن غندر، وأخرجه النسائي فيه عن إسماعيل بن مسعود عن خالد بن الحارث.
ذكر معناه: قوله: (جاء رجل) هو نهيك بن سنان البجلي، سماه منصور في روايته عن أبي وائل عند مسلم، ونهيك، بفتح النون وكسر الهاء، وسنان، بكسر السين المهملة وبنونين بينهما ألف. قوله: (المفصل)، قد مر غير مرة أن المفصل من سورة القتال أو الفتح أو الحجرات أو قاف إلى آخر القرآن. قوله: (هذا) بفتح الهاء وتشديد الذال المعجمة من: هذ يهذ هذا، وفي (التهذيب) للأزهري: الهذ: سرعة القطع وسرعة القراءة. وقال ابن التياني: هذه القراءة سردها، وانتصابه على المصدرية، والتقدير: انهذ هذا، وحرف الاستفهام فيه محذوف تقديره: أهذا؟ والاستفهام على سبيل الإنكار، وهي ثابتة في رواية منصور عند مسلم، وإنما قال ذلك لأن تلك الصفة كانت عادتهم في إنشاد الشعر. وقال المهلب: إنما أنكر عليه عدم التدبر وترك الترسل لا جواز الفعل. قوله: (النظائر)، جمع نظيرة وهي السورة التي يشبه بعضها بعضا في الطول والقصر. وقال صاحب (التلويح): النظائر: المتماثلة في العدد، والمراد هنا المتقاربة، لأن الدخان ستون آية وعم يتساءلون أربعون آية. وقال بعضهم: النظائر السور المتماثلة في المعاني: كالموعظة أو الحكم أو القصص، لا المتماثلة في عدد الآي. ثم قال المحب الطبري: كنت أظن أن المراد أنها متساوية في العدد حتى اعتبرتها، فلم أجد فيها شيئا متساويا. قلت: هذا الذي قاله هذا القائل من أن المراد من النظائر السور المتماثلة في المعاني إلى آخره ليس كذلك، ولا دخل للتماثل في المعاني في هذا الموضع، وإنما المراد التقارب في المقدار، والذي يدل على هذا ما رواه الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا
هشام بن عبد الملك، قال: حدثنا أبو عوانة عن حصين، قال: أخبرني إبراهيم عن نهيك بن سنان

44
السلمي أنه أتى عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه، فقال: قرأت المفصل الليلة في ركعة. فقال: أهذا مثل هذا الشعر؟ أو نثرا مثل نثر الدقل؟ وإنما فصل لتفصلوه، لقد علمنا النظائر التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرن عشرين سورة الرحمن والنجم، على تأليف ابن مسعود كل سورتين في ركعة، وذكر الدخان وعم يتساءلون في ركعة، فقلت لإبراهيم: أرأيت ما دون ذلك كيف أصنع؟ قال: ربما قرأت أربعا في ركعة. انتهى. وهذا ينادي بأعلى صوته: إن المراد من النظائر السور المتقاربة في المقدار لا في المعاني، لأن ذكر فيه الرحمن والنجم، وهما متقاربان في المقدار، لأن الرحمن ست وسبعون آية. والنجم ثنتان وستون آية، وهي قريبة من سورة الرحمن في كونهما من النظائر. وكذا ذكر فيه الدخان وعم يتساءلون فإنهما أيضا متقاربان في المقدار، فإن الدخان سبع أو تسع وخمسون آية، وعم يتساءلون أربعون أو إحدى وأربعون آية. وقوله: (فقلت لإبراهيم: أرأيت ما دون ذلك كيف أصنع؟) معناه: ما دون السور الأربع المذكورة في المقدار، وهو الطول والقصر، وكيف أصنع؟ قال: ربما قرأت أربعا، أي: أربع سور من السور التي هي أقصر في المقدار من السور المذكورة التي هي: الرحمن والنجم والدخان وعم يتساءلون. قوله: (على تأليف ابن مسعود)، أراد به أن سورة النجم كان بحذاء سورة الرحمن في مصحف ابن مسعود، بخلاف مصحف عثمان. قوله: في لفظه أي: البخاري يقرن بينهن أي: بين النظائر، و: يقرن، بضم الراء وكسرها. قوله: (فذكر عشرين سورة) أي: فذكر ابن مسعود عشرين سورة التي هي النظائر، ولكن لم يفسرها ههنا، وقد فسرها في رواية أبي داود، قال: حدثنا عباد بن موسى حدثنا إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن علقمة والأسود، قالا: أتى ابن مسعود رجل فقال: إني أقرأ المفصل في ركعة. فقال: أهذا كهذا الشعر ونثرا كنثر الدقل؟ لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرن النظائر: السورتين في ركعة الرحمن والنجم في ركعة، واقتربت والحاقة في ركعة، والذاريات والطور في ركعة، والواقعة والنون في ركعة وسأل والنازعات في ركعة وويل للمطففين وعبس في ركعة والمدثر والمزمل في ركعة وهى أتى ولا أقسم في ركعة، وعم يتساءلون والمرسلات في ركعة. وإذا الشمس كورت والدخان في ركعة. فإن قلت: الدخان ليست من المفصل، فكيف عدها من المفصل؟ قلت: فيه تجوز، فلذلك قال في (فضائل القرآن من رواية وأصل): عن أبي وائل ثماني عشرة سورة من المفصل وسورتين من آل حم، حيث أخرج الدخان من المفصل، والتقدير فيه: وسورتين إحداهما من آل حم حتى لا يشكل هذا أيضا.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: النهي عن الهذ. وفيه: الحث على الترسل والتدبر، وبه قال جمهور العلماء، وقال القاضي: وأباحت طائفة قليلة الهذ. وفيه: جواز تطويل الركعة الأخيرة على ما قبلها والأولى التساوي فيهما إلا في الصبح، فالأفضل فيه تطويل الركعة الأولى على الثانية، وقد ذكرناه مع الخلاف فيه. وفيه: جواز الجمع بين السور لأنه إذا جاز الجمع بين السورتين فكذلك يجوز بين السور، والدليل عليه حديث عائشة حين سألها عبد الله بن شقيق: (أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع بين السور؟ قالت: نعم من المفصل). ولا يخالف هذا ما جاء في التهجد: أنه جمع بين البقرة وغيرها من الطوال، لأنه كان نادرا. وقال عياض، في حديث ابن مسعود: هذا يدل على أن هذا القدر كان قدر قراءته غالبا، وأما تطويله فإنما كان في التدبر والترسل، وأما ما ورد غير ذلك من قراءة البقرة وغيرها في ركعة فكان نادرا. وقال بعضهم: ليس في حديث ابن مسعود ما يدل على المواظبة، بل فيه أنه كان يقرن بين هذه السور المعينات إذا قرأ من المفصل. انتهى. قلت: آخر كلامه ينقض أوله، لأن لفظة: كان، تدل على الاستمرار، وهو يدل على المواظبة. وقال الكرماني: وفيه: دليل على أن صلاته صلى الله عليه وسلم من الليل كانت عشر ركعات، وكان يوتر بواحدة. قلت: لا نسلم أن ظاهر الحديث يدل على هذا، ولئن سلمنا ما قاله، ولكن من أين يدل على أن وتره كان ركعة واحدة؟ بل كان ثلاث ركعات، لأنه كان يصلي ثمان ركعات ركعتين ركعتين ثم يصلى ثلاث ركعات ركعات أخرى بتسليمة واحدة في آخرهن، فهذه هي وتره، صلى الله عليه وسلم، وسيجئ تحقيق هذا في أبواب الوتر إن شاء الله تعالى.
107
((باب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب))
أي: هذا باب ترجمته يقرأ المصلي في الركعتين الأخريين من ذوات الأربع بفاتحة الكتاب ولا يزيد عليها، وقال بعضهم:

45
وسكت عن ثالثة المغرب رعاية للفظ الحديث مع أن حكمها حكم الأخريين من الرباعية. قلت: لا يفهم من حديث الباب أن حكمها حكم الأخريين من الرباعية.
776 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا همام عن يحيى عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب ويسمعنا ويطول في الركعة الأولى ما لا يطول في الركعة الثانية وهكذا في العصر وهكذا في الصبح.
مطابقته للترجمة في قوله: (وفي الركعتين الأخريين بأم الكتاب)، والحديث قد مضى في باب القراءة في الظهر، أخرجه عن أبي نعيم عن شيبان عن يحيى إلى آخره، وهنا أخرجه عن موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي عن همام بن يحيى عن يحيى بن أبي كثير إلى آخره، فاعتبر التفاوت بين المتنين، وقد تكلمنا هناك على جميع ما يتعلق به. قوله: (في الأوليين)، أي: في الركعتين الأوليين. قوله: (وسورتين) أي: وكان يقرأ بسورتين في كل ركعة بسورة. قوله: (ويسمعنا)، بضم الياء من الإسماع، قوله: (ويطول) من التطويل. قوله: (ما لا يطيل) من الإطالة، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية كريمة: (ما لا يطول) من التطويل، وفي رواية المستملي والحموي: (ومما لا يطيل)، وكلمة: ما، في: (ما لا يطيل)، يحتمل أن تكون نكرة موصوفة أي: تطويلا لا يطيله في الثانية، وأن تكون مصدرية أي: غير إطالته في الثانية، فتكون هي مع ما في حيزها صفة لمصدر محذوف. قوله: (وهكذا في الصبح) التشبيه في تطويل الركعة الأولى فقط، بخلاف التشبيه في العصر، فإنه أعم منه. وقال الكرماني: فيه حجة على من قال: إن الركعتين الأخريين، إن شاء لم يقرأ الفاتحة فيهما؟ قلت: قوله: (وفي الأخريين بأم
الكتاب) لا يدل على الوجوب، والدليل على ذلك ما رواه ابن المنذر عن علي، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إقرأ في الأوليين وسبح في الأخريين، وكفى به قدوة، وروى الطبراني في (معجمه الأوسط): عن جابر، قال: (سنة القراءة في الصلاة أن يقرأ في الأوليين بأم القرآن وسورة، وفي الأخريين بأم القرآن). وهذا حجة على من جعل قراءة الفاتحة من الفروض، والله تعالى أعلم.
108
((باب من خافت القراءة في الظهر والعصر))
أي: هذا باب في بيان حكم من خافت أي أسر القراءة في صلاة الظهر وصلاة العصر، وفي رواية الكشميهني: من خافت بالقراءة.
777 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا جرير عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن أبي معمر قلت ل خباب أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر والعصر قال نعم قلنا من أين علمت قال باضطراب لحيته.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في الظهر والعصر سرا، لأن خبابا أخبر أنه قرأ فيهما، وأنه علم ذلك باضطراب لحيته المباركة، وقد مضى هذا الحديث في: باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة. وأخرجه هناك عن موسى بن إسماعيل عن عبد الواحد عن سليمان الأعمش إلى آخره، وههنا: عن قتيبة عن جرير بن عبد الحميد عن سليمان الأعمش، وقد مر بيان ما يتعلق به هناك. قوله: (أكان؟) الهمزة فيه على سبيل الاستخبار.
109
((باب إذا أسمع الإمام الآية))
أي: هذا باب ترجمته: إذا أسمع الإمام القوم الآية من الذي يقرؤه، وفي رواية الكشميهني: إذا سمع، بتشديد

46
الميم، من التسميع، والأول من الإسماع، وهذا في السرية. وجواب: إذا، محذوف، يعني: لا يضره ذلك خلافا لمن قال يسجد للسهو إن كان ساهيا، وخلافا لمن قال: يسجد مطلقا.
778 حدثنا محمد بن يوس قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبي كثير قال حدثني عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بأم الكتاب وسورة معها في الركعتين الأوليين من صلاة الظهر وصلاة العصر ويسمعنا الآية أحيانا وكان يطيل في الركعة الأولى..
مطابقته للترجمة في قوله: (ويسمعنا الآية أحيانا)، وقد مضى هذا الحديث في: باب القراءة في العصر، خرجه عن مكي بن إبراهيم عن هشام عن يحيى بن أبي كثير. وههنا: أخرجه عن محمد بن يوسف الفريابي عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي عن يحيى إلى آخره، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى.
110
((باب يطول في الركعة الأولى))
أي: هذا باب ترجمته يطول المصلي الركعة الأولى بالقراءة في جميع الصلوات وفي الصبح عند أبي حنيفة خاصة.
779 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا هشام عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطول في الركعة الأولى من صلاة الظهر ويقصر في الركعة الثانية ويفعل ذلك في صلاة الصبح..
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي في قوله: (كان يطيل في الركعة الأولى)، وقد مضى الحديث في: باب يقرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب عن قريب، أخرجه هناك: عن موسى بن إسماعيل عن همام عن يحيى إلى آخره، وههنا: عن أبي نعيم الفضل ابن دكين عن هشام الدستوائي، عن يحيى إلى آخره، وقد تقدم البحث فيه هناك.
111
((باب جهر الإمام بالتأمين))
أي: هذا باب في بيان حكم جهر الإمام وجهر الناس بالتأمين، على وزن: التفعيل، من: أمن يؤمن، إذا قال: آمين، وهو بالمد والتخفيف في جميع الروايات وعند جميع القراء كذلك. وحكى الواحدي عن حمزة والكسائي: الإمالة فيها، وفيها ثلاث لغات أخر، وهي شاذة: الأولى: القصر، حكاه ثعلب وأنكر عليه ابن درستويه. الثانية: القصر مع التشديد. والثالثة: المد مع التشديد، وجماعة من أهل اللغة قالوا: إنهما خطأ. وقال عياض: حكي عن الحسن المد والتشديد، قال: وهي شاذة مردودة، ونص ابن السكيت وغيره من أهل اللغة: على أن التشديد لحن العوام وهو خطأ في المذاهب الأربعة، واختلف الشافعية في بطلان الصلاة بذلك، وفي (التجنيس): ولو قال: آمين، بتشديد الميم، في صلاته تفسد، وإليه أشار صاحب (الهداية) بقوله: والتشديد خطأ فاحش، ولكنه لم يذكر هنا فساد الصلاة به، لأن فيه خلافا، وهو: أن الفساد قول أبي حنيفة، وعندهما: لا تفسد، لأنه يوجد في القرآن مثله، وهو قوله تعالى: * (ولا آمين البيت الحرام) * (المائدة: 2). وعلى قولهما الفتوى، وأما وزن: آمين، فليس من أوزان كلام العرب، وهو مثل: هابيل وقابيل. وقيل: هو تعريب همين. وقيل: أصله: يا الله استجب دعاءنا، وهو اسم من أسماء الله تعالى، إلا أنه أسقط اسم النداء، فأقيم المد مقامه، فلذلك أنكر جماعة القصر فيه، وقالوا: المعروف فيه المد. وروى عبد الرزاق عن أبي هريرة بإسناد ضعيف أنه اسم من أسماء الله تعالى. وعن هلال بن يساف التابعي مثله، وهو اسم فعل مثل: صه، بمعنى: أسكت. ويوقف عليه بالسكون، فإن وصل بغيره حرك لالتقاء الساكنين، ويفتح طلبا للخفة لأجل البناء: كأين وكيف. وأما معناه، فقيل: ليكن كذلك، وقيل: قبل. وقيل: لا تخيب رجاءنا. وقيل: لا يقدر على هذا غيرك،
وقيل: طابع الله على عباده يدفع به

47
عنهم الآفات، وقيل: هو كنز من كنوز العرش لا يعلم تأويله الا الله. وقيل: من شدد ومد، فمعناه: قاصدين إليك. ونقل ذلك عن جعفر الصادق. وقيل: من قصر وشدد فهي كلمة عبرانية أو سريانية، وعن أبي زهير النميري، قال: (وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل ألح في الدعاء فقال صلى الله عليه وسلم: وجب إن ختم، فقال رجل من القوم: بأي شيء يختم؟ قال: بآمين، فإنه إن ختم بآمين فقد وجب). رواه أبو داود. قلت: أبو زهير صحابي، وهو بضم الزاي وفتح الهاء. وفي (المجتبي): لا خلاف أن: آمين، ليس من القرآن حتى قالوا بارتداد من قال: إنه منه، وإنه مسنون في حق المنفرد والإمام والمأموم والقارىء خارج الصلاة، واختلف القراء في التأمين بعد الفاتحة إذا أراد ضم سورة إليها، والأصح أنه يأتي بها.
وقال عطاء آمين دعاء أمن بن الزبير ومن وراءه حتى إن للمسجد للجة
مطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إن عطاء لما قال: آمين، دعاه والدعاء يشترك فيه الإمام والمأموم، ثم أكد ذلك بما رواه عن ابن الزبير، رضي الله تعالى عنهما، وعطاء بن أبي رباح، وابن الزبير: هو عبد الله بن الزبير بن العوام، وهذا تعليق وصله عبد الرزاق عن ابن جريج: (عن عطاء قلت له: أكان ابن الزبير يؤمن على إثر أم القرآن؟ قال: نعم، ويؤمن من وراءة حتى إن للمسجد للجة، ثم قال: إنما آمين دعاء). ورواه الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج: (عن عطاء، قال: كنت أسمع الأئمة ابن الزبير ومن بعده يقولون: آمين، ويقول من خلفه: آمين، حتى إن للمسجد للجة). وفي (المصنف): حدثنا ابن عيينة قال: لعله عن ابن جريج عن عطاء: (عن ابن الزبير، قال: كان للمسجد رجة، أو قال: لجة، إذ قال الإمام * (ولا الضالين) *). وروى البيهقي عن خالد بن أبي أيوب (عن عطاء قال: أدركت مائتين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المسجد إذا قال الإمام * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * سمعت لهم رجة: بآمين) قوله: (حتى إن للمسجد للجة) كلمة: إن، بالكسر، وللمسجد أي: ولأهل المسجد، للجة: اللام الأولى للتأكيد، والثانية من نفس الكلمة، وبتشديد الجيم: وهي الصوت المرتفع، وكذلك اللجلجة، ويروى: (لجلبة)، بفتح الجيم واللام والباء الموحدة، وهي الأصوات المختلطة. وفي رواية البيهقي: لرجة، بالراء موضع اللام. قوله: (آمين دعاء) مبتدأ وخبر مقول القول. قوله: (أمن ابن الزبير) ابتداء كلام من إخبار عطاء)
وكان أبو هريرة ينادي الإمام لا تفتني بآمين
مطابقة هذا للترجمة من حيث إنه يقتضي أن يقول الإمام والمأموم كلاهما: آمين، ولا يختص به أحدهما. قوله: (لا تفتني)، بفتح التاء المثناة من فوق، هي تاء الخطاب، وضم الفاء وسكون التاء: من الفوات ومعناه: لا تدعني أن يفوت مني القول بآمين. ويروى: لا يسبقني، من السبق، وهكذا وصل ابن أبي شيبة هذا التعليق فقال: حدثنا وكيع حدثنا كثير بن زيد عن الوليد بن رباح (عن أبي هريرة أنه كان يؤذن بالبحرين فقال للإمام: لا تسبقني بآمين). وأخبرنا أبو أسامة عن هشام عن محمد عنه مثله. انتهى. وكان الإمام بالبحرين العلاء بن الحضرمي، وروى صاحب (المحلى): عن عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه كان مؤذنا للعلاء بن الحضرمي بالبحرين، فاشترط عليه أن لا يسبقه بآمين. وروى البيهقي من حديث أبي رافع أن أبا هريرة، كان يؤذن لمروان بن الحكم فاشترط أن لا يسبقه بالضالين، حتى يعلم أنه قد دخل الصف، فكان إذا قال مروان: * (ولا الضالين) * قال أبو هريرة: آمين، يمد بها صوته. وقال: إذا وافق تأمين أهل الأرض تأمين أهل السماء غفر لهم. وروي عن بلال نحو قول أبي هريرة أخرجه أبو داود: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه أخبرنا وكيع عن سفيان عن عاصم عن أبي عثمان (عن بلال أنه قال: يا رسول الله لا تسبقني بآمين). وقد أول العلماء قوله: لا تسبقني على وجهين: الأول: أن بلالا كان يقرأ الفاتحة في السكتة الأولى من سكتتي الإمام، فربما يبقى عليه شيء منها، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد فرغ منها فاستمهله بلال في التأمين بقدر ما يتم فيه قراءة بقية السورة، حتى ينال بركة موافقته في التأمين. الثاني: أن بلالا كان يقيم في الموضع الذي يؤذن فيه من وراء الصفوف، فإذا قال: قد قامت الصلاة، كبر النبي صلى الله عليه وسلم، فربما سبقه ببعض ما يقرؤه، فاستمهله بلال قدر ما يلحق القراءة والتأمين. قلت: هذا الحديث مرسل، وقال الحاكم في (الأحكام): قيل

48
إن أبا عثمان لم يدرك بلالا، وقال أبو حاتم الرازي: رفعه خطأ، ورواه الثقات عن عاصم عن أبي عثمان مرسلا، وقال البيهقي: وقيل عن أبي عثمان عن سلمان، قال: قال بلال، وهو ضعيف ليس بشيء. قلت: عاصم هو الأحول، وأبو عثمان هو عبد الرحمن ابن مل النهدي.
وقال نافع كان ابن عمر لا يدعه ويحضهم وسمعت منه في ذلك خيرا
مطابقته للترجمة من حيث إنه كان لا يترك التأمين، وهذا يتناول أن يكون إماما أو مأموما، وكان في الصلاة أو خارج الصلاة، وهذا التعليق وصله عبد الرزاق عن ابن جريج: أخبرني نافع أن ابن عمر كان إذا ختم أم القرآن قال: آمين، لا يدع أن يؤمن إذا ختمها، ويحضهم على قولها. قوله: (لا يدعه) أي: لا يتركه. قوله: (ويحضهم)، بالضاد المعجمة أي: يحثهم على القول بآمين، وأن لا يتركوا. قوله: (وسمعت منه) أي: من ابن عمر (في ذلك)، أي: في القول بآمين (خيرا)، بالياء آخر الحروف، وهي رواية الكشميهني، أي: فضلا وثوابا. وقال السفاقسي: أي خيرا موعودا لمن فعله. وفي رواية غيره: خيرا، بفتح الباء الموحدة، حديثا مرفوعا. ويستأنس في ذلك بما أخرجه البيهقي: كان ابن عمر إذا أمن الناس أمن معهم، ويروى: ذلك من السنة.
780 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما أخبراه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا أمن الإمام فأمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. وقال ابن شهاب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول آمين. (الحديث 780 طرفه في: 6402).
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه صلى الله عليه وسلم أمر القوم بالتأمين عند تأمين الإمام.
ورجاله قد ذكروه غير مرة، وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك في موضع واحد وبصيغة التثنية من الماضي في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع.
وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن يحيى بن يحيى، وأبو داود فيه عن القعنبي، والترمذي فيه عن أبي كريب عن زيد بن الحباب، والنسائي فيه وفي الملائكة عن قتيبة، خمستهم عن مالك عن الزهري.
ذكر معناه: قوله: (إذا أمن الإمام) أي: إذا قال الإمام: آمين، بعد قراءة الفاتحة (فأمنوا) أي: فقولوا: آمين. قوله: (فإنه) أي: فإن الشان. قوله: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة)، زاد يونس عن ابن شهاب عند مسلم: (فإن الملائكة تؤمن) قبل قوله: (فمن وافق)، كذا في رواية ابن عيينة: عن ابن شهاب عند البخاري في الدعوات، وقال ابن حبان في (صحيحه): (فإن الملائكة تقول: آمين)، ثم قال: يريد أنه إذا أمن كتأمين الملائكة من غير إعجاب ولا سمعة ولا رياء خالصا لله تعالى، فإنه حينئذ يغفر له. قلت: هذا التفسير يندفع بما في (الصحيحين): عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء، ووافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه). انتهى. وزاد فيه مسلم: (إذا قال أحدكم في الصلاة...) ولم يقلها البخاري وغيره، وهي زيادة حسنة نبه عليها عبد الحق في (الجمع بين الصحيحين)، وفي هذا اللفظ فائدة أخرى. وهي: اندراج المنفرد فيه، وغير هذا اللفظ إنما هو في الإمام وفي المأموم أو فيهما، والله أعلم.
واختلفوا في هؤلاء الملائكة، فقيل هم الحفظة، وقيل: الملائكة المتعاقبون، وقيل: غير هؤلاء لما روى البيهقي بلفظ: (إذا قال القارئ: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) *، وقال من خلفه: آمين، ووافق ذلك قول أهل السماء: آمين، غفر له ما تقدم من ذنبه). ورواه الدارمي أيضا في (مسنده) وقيل: هم جميع الملائكة، بدليل عموم اللفظ لأن الجمع المحلى باللام يفيد الاستغراق بأن يقولها الحاضرون من الحفظة ومن فوقهم حتى ينتهي إلى الملأ الأعلى، وأهل السماوات. قوله: (غفر له ما تقدم من ذنبه) ووقع في رواية بحر بن نصر: عن ابن وهب عن يونس في آخر هذا الحديث: (وما تأخر)

49
ذكرها الجرجاني في (أماليه) قيل: إنها شاذة لأن ابن الجارود روى في (المنتقى): عن بحر بن نصر بدون هذه الزيادة، وكذا في رواية مسلم عن حرملة، وفي رواية ابن خزيمة عن يونس بن عبد الأعلى، كلاهما عن ابن وهب بدون هذه الزيادة، والذي وقع في نسخة لابن ماجة: عن هشام بن عمار وأبي بكر ابن أبي شيبة، كلاهما عن ابن عيينة بإثبات هذه الزيادة غير صحيح، لأن ابن أبي شيبة قد روى هذا الحديث في (مسنده) و (مصنفه) بدون هذه الزيادة، وكذلك الحفاظ من أصحاب ابن عيينة مثل الحميدي وابن المديني وغيرهما رووا بدون هذه الزيادة، ثم قوله: (غفر)، ظاهره يعم غفران جميع الذنوب الماضية إلا ما يتعلق بحقوق الناس، وذلك معلوم من الأدلة الخارجية المخصصة لعمومات مثله، وأما الكبائر فإن عموم اللفظ يقتضي المغفرة، ويستدل بالعام ما لم يظهر المخصص.
قوله: (وقال ابن شهاب...) إلى آخره، صورته صورة إرسال لكن متصل إليه برواية عنه، وليس بتعليق، ووصله الدارقطني في (الغرائب) من طريق حفص بن عمر العدني عن مالك، وقال: تفرد به حفص ابن عمر، وهو ضعيف، ويؤيد ما ذكره ابن شهاب في هذا الحديث من حيث المعنى ما أخرجه النسائي في (سننه) من حديث الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * فقولوا: آمين، فإن الملائكة تقول: آمين، وإن الإمام يقول: آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن الإمام يؤمن، خلافا لمالك، كما قال بعضهم عنه، وفي (المعارضة) قال مالك: لا يؤمن الإمام في صلاة الجهر، وقال ابن حبيب: يؤمن، وقال ابن بكير: هو بالخيار، وروى الحسن عن أبي حنيفة أن الإمام لا يأتي به فإن قلت: ما جوابه عن الحديث على هذه الرواية؟ قلت: جوابه أنه إنما سمي الإمام مؤمنا باعتبار التسبب، والمسبب يجوز أن يسمى باسم المباشر، كما يقال: بنى الأمير داره، واستدل بعض المالكية لمالك أن الإمام لا يقولها بقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قال الإمام: * (ولا الضالين) * فقولوا: آمين)، لأنه صلى الله عليه وسلم قسم ذلك بينه وبين القوم، والقسمة تنافي الشركة، وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أمن الإمام) على بلوغ موضع التأمين، وقالوا: سنة الدعاء تأمين السامع دون الداعي، وآخر الفاتحة دعاء فلا يؤمن الإمام، لأنه داع. وقال القاضي أبو الطيب: هذا غلط بل الداعي أولى بالاستيجاب، واستبعد أبو بكر بن العربي تأويلهم لغة وشرعا، وقال: الإمام أحد الداعين وأولهم وأولاهم.
وفيه: أن المؤتم يقولها بلا خلاف.
وفيه: رد على الإمامية في قولهم: إن التأمين يبطل الصلاة، لأنه لفظ ليس بقرآن ولا ذكر. وقال السفاقسي: وزعمت طائفة من المبتدعة أن لا فضيلة فيها، وعن بعضهم: إنها تفسد الصلاة، وقال ابن حزم: يقولها الإمام سنة والمأموم فرضا.
وفيه أنه مما تمسك به الشافعي في الجهر بالتأمين، وذكر المزني في (مختصره): وقال الشافعي: لا يجهر الإمام في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة، والمأموم يخافت. وفي (الخلاصة) للغزالي: ومن سنن الصلاة أن يجهر بالتأمين في الجهرية، وفي (التلويح): ويجهر فيها المأموم عند أحمد وإسحاق وداود، وقال جماعة: يخفيها، وهو قول أبي حنيفة والكوفيين وأحد قولي مالك والشافعي في الجديد، وفي القديم: يجهر، وعن القاضي حسين عكسه، قال النووي: وهو غلط، ولعله من الناسخ، واحتج أصحابنا بما رواه أحمد وأبو داود الطيالسي وأبو يعلى الموصلي في (مسانيدهم) والطبراني في (معجمه) والدارقطني في (سننه) والحاكم في (مستدركه) من حديث شعبة عن سلمة بن كهيل عن حجر بن العنبس (عن علقمة بن وائل عن أبيه أنه: صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغ * (غير المغضوب
عليهم ولا الضالين) * قال: آمين، وأخفى بها صوته). ولفظ الحاكم في كتاب (القراءات): (وخفض بها صوته). وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. فإن قلت: روى أبو داود والترمذي عن سفيان عن سلمة بن كهيل عن حجر بن العنبس عن وائل بن حجر، واللفظ لأبي داود: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: * (ولا الضالين) * قال: آمين، ورفع بها صوته) ولفظ الترمذي: (ومد بها صوته)، وقال: حديث حسن، وروى أبو داود والترمذي من طريق آخر عن علي بن صالح، ويقال العلاء بن صالح الأسدي، عن سلمة بن كهيل عن حجر بن العنبس (عن وائل بن حجر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: صلى فجهر بآمين، وسلم عن يمينه وشماله وسكتا عنه). وروى النسائي: أخبرنا قتيبة حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عبد الجبار بن وائل (عن أبيه، قال: صليت

50
خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما افتتح الصلاة كبر...) الحديث، وفيه: (فلما فرغ من الفاتحة قال: آمين، يرفع بها صوته). وروى أبو داود وابن ماجة عن بشر بن رافع عن عبد الله ابن عم أبي هريرة، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * قال: آمين، حتى يسمع من الصف الأول)، وزاد ابن ماجة: (فيرتج بها المسجد). ورواه ابن حبان في (صحيحه) والحاكم في (مستدركه) وقال: على شرط الشيخين، ورواه الدارقطني في (سننه) وقال: إسناده صحيح. قلت: الذي رواه أبو داود والترمذي عن سفيان يعارضه ما رواه الترمذي أيضا عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن حجر أبي العنبس عن علقمة بن وائل عن أبيه، وقال فيه: (وخفض بها صوته). فإن قلت: قال الترمذي: سمعت محمد بن إسماعيل يقول: حديث سفيان أصح من حديث شعبة، وأخطأ شعبة في مواضع، فقال حجر أبي العنبس: وإنما هو حجر بن العنبس، ويكنى أبا السكن، وزاد فيه علقمة، وإنما هو حجر عن أبي وائل، وقال: خفض بها صوته، وإنما هو: مد بها صوته قلت: تخطئه مثل شعبة خطأ، وكيف وهو أمير المؤمنين في الحديث؟ وقوله: (هو حجر بن العنبس)، وليس بأبي العنبس، ليس كما قاله، بل هو أبو العنبس حجر بن العنبس، وجزم به ابن حبان في (الثقات)، فقال: كنيته كاسم أبيه، وقول محمد: يكنى أبا السكن، لا ينافي أن تكون كنيته أيضا أبا العنبس، لأنه لا مانع أن يكون لشخص كنيتان. وقوله: (وزاد فيه علقمة)، لا يضر، لأن الزيادة من الثقة مقبولة، ولا سيما من مثل شعبة. وقوله: وقال: وخفض بها صوته وإنما هو ومد بها صوته، يؤيد ما رواه الدارقطني عن وائل بن حجر قال: (صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعته حين قال * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * قال: آمين، فأخفى بها صوته) فإن قلت: قال الدارقطني: وهم شعبة فيه لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة بن كهيل وغيرهما رووه عن سلمة بن كهيل فقالوا: ورفع بها صوته، وهو الصواب، وطعن صاحب (التنقيح) في حديث شعبة هذا بأنه: قد روي عنه خلافه، كما أخرجه البيهقي في (سننه) عن أبي الوليد الطيالسي: حدثنا شعبة عن سلمة بن كهيل سمعت حجرا أبا العنبس يحدث (عن وائل الحضرمي أنه: صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلما قال: * (ولا الضالين) * قال: آمين، رافعا صوته)، قال: فهذه الرواية توافق رواية سفيان. وقال البيهقي في (المعرفة) إسناد هذه الرواية صحيح، وكان شعبة يقول: سفيان أحفظ. وقال يحيى بن معين: إذا خالف شعبة قول سفيان فالقول قول سفيان: قال: وقد أجمع الحفاظ: البخاري وغيره، أن شعبة أخطأ قلت: قول الدارقطني: وهم شعبة، يدل على قلة اعتنائه بكلام هذا القائل وإثبات الوهم له، لكونه غير معصوم موجود في سفيان، فربما يكون هو وهم، ويمكن أن يكون كلا الإسنادين صحيحا. وقد قال بعض العلماء: والصواب أن الخبرين بالجهر بها وبالمخافتة صحيحان، وعمل بكل منهما جماعة من العلماء. فإن قلت: قال ابن القطان في كتابه هذا: الحديث فيه أربعة أمور: اختلاف سفيان وشعبة في اللفظ وفي الكنية. وحجر لا يعرف حاله. واختلافهما أيضا حيث جعل سفيان من رواية حجر عن علقمة بن وائل عن وائل. قلت: الجواب عن الأول: لا يضر اختلا سفيان وشعبة، لأن كلا منهما إمام عظيم الشأن، فلا تسقط رواية أحدهما بروية الآخر، وما يقال من الوهم في أحدهما يصدق في الآخر، فلا ينتج من ذلك شيء. وعن الثاني: أيضا، لا يضر الاختلاف المذكور في الاسم والكنية، كما شرحناه الآن. وعن الثالث: أنه ممنوع، وكيف لا يعرف حاله وقد ذكره البغوي وأبو الفرج وابن الأثير وغيرهم في جملة الصحابة، ولئن نزلناه من رتبة الصحابة إلى رتبة التابعين فقد وجدنا جماعة أثنوا عليه ووثقوه، منهم: الخطيب أبو بكر البغدادي. قال: صار مع علي، رضي الله تعالى عنه، إلى النهروان وورد المدائن في صحبته، وهو ثقة احتج بحديثه غير واحد من الأئمة، وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال ابن معين: كوفي ثقة مشهور. وعن الرابع: إن دخول علقمة في الوسط ليس بعيب لأنه سمعه من علقمة أولا بنزول، ثم رواه عن وائل بعلو، بين ذلك الكجي في (سننه الكبير). وأما حديث أبي هريرة ففي إسناده بشر بن رافع الحارثي، وقد ضعفه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد وابن معين، وقال ابن القطان في كتابه: بشر بن رافع أبو الأسباط الحارثي ضعيف، وهو يروي هذا الحديث عن عبد الله ابن عم أبي هريرة، وأبو عبد الله هذا لا يعرف له حال، ولا روى عنه غير بشر، والحديث لا يصح من أجله، فسقط بذلك قول الحاكم: على شرط الشيخين، وتحسين الدارقطني إياه.
واحتج أصحابنا أيضا بما رواه محمد بن الحسن في كتاب الآثار: حدثنا أبو حنيفة حدثنا حماد بن أبي سليمان عن إبراهيم النخعي قال: (أربع

51
يخفيهم الإمام: التعوذ. وبسم الله الرحمن الرحيم. وسبحانك اللهم. وآمين). ورواه عبد الرزاق في (مصنفه): أخبرنا معمر عن حماد به فذكره إلا أنه قال عوض قوله: (سبحانك اللهم. اللهم ربنا لك الحمد). ثم قال: أخبرنا الثوري عن منصور عن إبراهيم قال: (خمس يخفيهن الإمام)، فذكرها وزاد: (سبحانك اللهم وبحمدك). وبما رواه الطبراني في (تهذيب الآثار): حدثنا أبو بكر ابن عياش عن أبي سعيد عن أبي وائل، قال: (لم يكن عمر وعلي، رضي الله تعالى عنهما، يجهران ببسم الله الرحمن الرحيم ولا بآمين)، وقالوا أيضا: آمين دعاء، والأصل في الدعاء الإخفاء.
وفيه: من الفضائل: تفضيل الإمامة، لأن تأمين الإمام يوافق تأمين الملائكة، ولهذا شرعت للإمام موافقته.
112
((باب فضل التأمين))
أي: هذا باب في بيان فضل القول بآمين.
781 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هرريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهن الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه (الحديث 782 طرفه في: 4475).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ورجاله قد تكرر ذكرهم، وأبو الزناد: عبد الله بن ذكوان، والأعرج هو: عبد الرحمن ابن هرمز.
وأخرجه النسائي أيضا في الصلاة وفي الملائكة عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم عن مالك.
قوله: (أحدكم) يتناول لكل من قرأ الفاتحة، سواء كان في الصلاة أو خارج الصلاة، وسواء كان الذي في الصلاة إماما أو مأموما، لأن الكلام مطلق، ولكن جاء في رواية لمسلم مقيدا بقوله: (إذا قال أحدكم في صلاته)، قال: بعضهم يحمل المطلق على المقيد. قلت: لا، بل يجري المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده، وكيف يحمل المطلق على المقيد وقد جاء في (مسند) أحمد من رواية همام: (إذا أمن القارئ فأمنوا)، فهذا يدل على أن التأمين مستحب إذا أمن مطلقا لكل من سمعه، سواء كان في الصلاة أو خارجها. قوله: (وقالت الملائكة في السماء)، يدل على أن الملائكة لا تختص بالحفظة. قوله: (فوافقت إحداهما الأخرى) يعني: وافقت كلمة تأمين أحدكم كلمة تأمين الملائكة. قوله: (من ذنبه) كلمة: من، فيه بيانية لا للتبعيض.
واستدل به بعض المعتزلة على تفضيل الملائكة على البشر، وسيجئ الجواب عن ذلك في: باب الملائكة، إن شاء الله تعالى، والله أعلم بحقيقة الحال، وإليه المآل.
113
((باب جهر المأموم بالتأمين))
أي: هذا باب في بيان جهر المأموم بلفظ: آمين، وراء الإمام، هكذا هو في رواية الأكثرين، ووقع في رواية المستملي والحموي: باب جهر الإمام بآمين، وفي بعض النسخ: بالتامين، ورواية الأكثرين أصوب، لأنه عقد بابا لجهر الإمام بالتأمين، وقد مر قبل الباب الذي قبل هذا الباب، ورواية: باب جهر الإمام، ههنا تقع مكررة.
782 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن سمي مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قال الإمام غير المغضوب عليهم ولا الضالين فقولوا آمين فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. (الحديث 782 طرفه في: 4475).
قال ابن المنير: مناسبة الحديث للترجمة من جهة أن في الحديث الأمر بقول: آمين، والقول إذا وقع به الخطاب مطلقا حمل على الجهر، ومتى أريد به الإسرار أو حديث النفس قيد بذلك. قلت: المطلق يتناول الجهر والإخفاء، وتخصيصه بالجهر والحمل عليه تحكم لا يجوز، وقال ابن رشيد: تؤخذ المناسبة من جهة أنه قال: إذا قال الإمام فقولوا، فقابل القول بالقول، والإمام إنما قال ذلك جهرا فكان الظاهر الاتفاق في الصفة قلت: هذا أبعد من الأول وأكثر تعسفا، لأن ظاهر الكلام أن لا يقولها الإمام كما روي عن مالك، لأنه قسم، والقسمة تنافي الشركة. وقوله: إنما قال ذلك جهرا، لا يدل عليه معنى الحديث

52
أصلا، فكيف يقول: فكان الظاهر الاتفاق في الصفة. والحديث لا يدل على ذات التأمين عن الإمام؟ فكيف يطلب الاتفاق في الصفة وهي مبنية على الذات؟ وقال ابن بطال: قد تقدم أن الإمام يجهر، وتقدم أن المأموم مأمور بالاقتداء به، فلزم من ذلك جهره بجهر قلت: هذا أبعد من الكل، والملازمة ممنوعة، فعلى ما قاله يلزم أن يجهر المأموم بالقراءة، ولم يقل به أحد، والكرماني أيضا ذكر هذا الوجه، فكأنه أخذه من ابن بطال فبطل عليه، ويمكن أن يوجه وجه لمناسبة الحديث للترجمة، وهو أن يقال: أما ظاهر الحديث فإنه يدل على أن المأموم يقولها، وهذا لا نزاع فيه، وأما أنه يدل على جهره بالتأمين، فلا يدل. ولكن يستأنس له بما ذكره قبل ذلك، وهو قوله: (أمن ابن الزبير)، إلى قوله: (خيرا).
ذكر رجاله: وهم خمسة قد مضى ذكرهم غير مرة، و: سمي، بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء آخر الحروف: مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، وأبو صالح: ذكوان الزيات.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: أن رواته كلهم مدنيون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: قد ذكرنا في: باب جهر الإمام والناس بالتأمين، أن مسلما وأبا داود والترمذي والنسائي أخرجوه، وكذلك ذكرنا جميع ما يتعلق به هناك. وقال الخطابي: هذا لا يخالف ما قال: إذا أمن الإمام فأمنوا، لأنه نص بالتعيين مرة، ودل بالتقدير أخرى، فكأنه قال: إذا قال الإمام: * (ولا الضالين) * وأمن، فقولوا: آمين. ويحتمل أن يكون الخطاب في حديث أبي صالح يعني حديث هذا الباب لمن تباعد من الإمام، فكان بحيث لا يسمع التأمين لأن جهر الإمام به أخفض من قراءته على كل حال فقد يسمع قراءته من لا يسمع تأمينه إذا كثرت الصفوف وتكاثفت الجموع. قلت: ذكر الخطابي الوجهين المذكورين بالاحتمال الذي لا يدل عليه ظاهر ألفاظ الحديثين، فإن كان يؤخذ هذا بالاحتمال، فنحن أيضا نقول: يحتمل أن الجهر فيه لأجل تعليمه الناس بذلك، لأنا لا ننازع في استحباب التأمين للإمام وللمأموم، وإنما النزاع في الجهر به، فنحن اخترنا الإخفاء لأنه دعاء، والسنة في الدعاء الإخفاء، والدليل على أنه دعاء قوله تعالى في سورة يونس: * (قد أجيبت دعوتكما) * (يونس: 89). قال أبو العالية وعكرمة ومحمد بن كعب والربيع بن موسى: كان موسى صلى الله عليه وسلم يدعو وهارون يؤمن، فسماهما الله تعالى: داعيين، فإذا ثبت أنه دعاء فإخفاؤه أفضل من الجهر به، لقوله تعالى: * (ادعوا ربك تضرعا وخفية) * (الأعراف: 55). على أنا ذكرنا أخبارا وآثارا فيما مضى
تدل على الإخفاء.
فإن قلت: تظاهرت الأحاديث بالجهر. منها: ما رواه الطبري في (التهذيب) من حديث علي، رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قال * (ولا الضالين) * قال آمين، ومد بها صوته)، ومنها: ما رواه البيهقي في (المعرفة): (عن ابن أم الحصين عن أمه: أنها صلت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: آمين، وهي في صف النساء). قلت: كذلك تظاهرت الآثار بالإخفاء، كما ذكرنا، وحديث الطبري فيه ابن أبي ليلى، وهو ممن لا يحتج به، والمعروف عنه أيضا بخلافه، وحديث ابن ماجة أيضا، قال البزار في (سننه): هذا حديث لم يثبت من جهة النقل، وحديث أم الحصين يعارضه حديث وائل: (أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قال: * (ولا الضالين) * قال: آمين، وخفض بها صوته)، والرجال أدرى بحال النبي صلى الله عليه وسلم من النساء، وقال النووي: في هذا الحديث دلالة ظاهرة على أن تأمين المأموم يكون مع تأمين الإمام لا بعده. قلت: بل الأمر بالعكس، لأن الفاء في الأصل للتعقيب، وقال أيضا: وأولوا: إذا أمن، بأن معناه: إذا أراد التأمين، جمعا بين الحديثين. قلت: لا خلاف بين الحديثين حتى يحتاج إلى هذا التأويل الذي هو خلاف الظاهر، لأن كلا منهما ورد في حالة، لأنه في حالة أمر المأموم بالتأمين وسكت عن تأمين الإمام، وفي حالة بين أن الإمام أيضا يؤمن، والمقصود استحباب التأمين للإمام وللمأموم، وثبت ذلك بالحديثين المذكورين. فافهم.
تابعه محمد بن عمر و عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: تابع سميا محمد بن عمرو بن علقمة الليثي، وأخرج هذه المتابعة البيهقي عن أبي طاهر الفقيه: أخبرنا أبو بكر القطان حدثنا أحمد بن منصور المروزي حدثنا النضر بن شميل أخبرنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

53
(إذا قال الإمام: * (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) * فقال من خلفه: آمين، ووافق ذلك قول أهل السماء: آمين، غفر له ما تقدم من ذنبه). ورواه أبو محمد الدارمي في (مسنده): عن يزيد بن هارون عن محمد بن عمرو به، ورواه أيضا عن يزيد بن هارون وابن خزيمة والسراج وابن حبان وغيرهم من طريق إسماعيل بن جعفر عن محمد بن عمرو به.
ونعيم المجمر عن أبي هريرة رضي الله عنه
عطف على: محمد بن عمرو، أي: تابع سميا أيضا، نعيم بن المجمر. وأخرجها البيهقي أيضا من طريق عبد الملك بن شعيب عن أبيه عن جده عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال (عن نعيم المجمر: صلى بنا أبو هريرة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ * (ولا الضالين) * قال: آمين. ثم قال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم). وقال: رواته ثقات، ورواه النسائي وابن خزيمة والسراج وابن حبان وغيرهم من طريق سعيد بن أبي هلال عن نعيم المجمر، قال: (صليت وراء أبي هريرة فقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم ثم قرأ بأم القرآن حتى بلغ: * (ولا الضالين) * فقال آمين. وقال الناس: آمين، ويقول كلما سجد: الله أكبر، وإذا قام من الجلوس في الاثنتين قال: الله أكبر، ويقول: إذا سلم: والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم). قلت: التشبيه لا عموم له، فلا يلزم أن يكون في جميع أجزاء الصلاة، بل في معظمها.
114
((باب إذا ركع دون الصف))
أي: هذا باب ترجمته: إذا ركع المصلي قبل وصوله إلى الصف، وقال بعضهم: كان اللائق إيراد هذه الترجمة في أبواب الإمامة. قلت: لا نسلم ذلك، لأن هذا حكم مصل يركع قبل وصوله إلى الصف، فعلى قوله: كان يلزم أن يذكر: باب إذا اسمع الإمام الآية، وهو المذكور قبل هذا الباب بأربعة أبواب، في أبواب الإمامة، فإنه متعلق بالإمامة. ولم يراع البخاري بين الأبواب من أي كتاب كان المناسبة التامة، ومع هذا فلا يخلو عن بعض مناسبة بين كل بابين مذكورين معا، وههنا يمكن أن يقال: المناسبة بين هذا الباب والأبواب التي قبله من حيث إن الركوع يكون بعد القراءة التي هي قراءة الفاتحة، لأنها هي الأصل عندهم، ويكون ختم الفاتحة بلفظ: آمين، وليس بين القراءة والركوع شيء آخر. وقال ابن المنير: هذه الترجمة مما نوزع فيها البخاري حيث لم يأت بجواب إذا، لإشكال الحديث واختلاف العلماء في المراد بقوله ولا تعد. انتهى. قلت: جواب: إذا، على كل حال محذوف، فيحتمل أن يقدر الجواب: يجوز، ويحتمل: لا يجوز، ولكن الظاهر: لا يجوز، لأن طريقته في القراءة خلف الإمام تشير إلى عدم الجواز.
783 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا همام عن الأعلم وهو زياد عن الحسن عن أبي بكرة أنه انتهى ألى النبي صلى الله عليه وسلم وهو راكع فركع قبل أن يصل إلى الصف فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال زادك الله حرصا ولا تعد.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي في قوله: (فركع قبل أن يصل إلى الصف).
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: موسى بن إسماعيل أبو سلمة المنقري التبوذكي، الثاني: همام على وزن فعال بالتشديد ابن يحيى. الثالث: الأعلم، على وزن أفعل الذي هو للتفضيل من العلم، بفتحتين، من علم علما إذا صار أعلم، وهو المشقوق الشفة العليا، لا من العلم، بكسر العين وسكون اللام. وقد فسر اسمه بقوله: وهو زياد، بكسر الزاي وتخفيف الياء آخر الحروف: ابن حسان، على وزن فعال بالتشديد. الرابع: الحسن البصري. الخامس: أبو بكرة، بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف، واسمه: نفيع بن الحارث بن كلدة، من فضلاء الصحابة بالبصرة.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: عن الأعلم، وفي رواية عفان عن همام: حدثنا زياد الأعلم، أخرجه ابن أبي شيبة. وفيه: زياد مذكور بلقبه وهو: الأعلم، لقب به لأنه كان مشقوق الشفة السفلى، قال بعضهم: هكذا السفلى وليس كذلك، بل الأعلم إنما يقال

54
للمشقوق الشفة العليا، كما ذكرناه. وفيه: عن الحسن عن أبي بكرة، بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف، أعله بعضهم بأن الحسن عنعنه، وقيل: إنه لم يسمع من أبي بكرة، وإنما يروي عن الأحنف عنه، ورد هذا الإعلال بما رواه النسائي: أخبرنا حميد بن مسعدة عن يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد عن زياد الأعلم، قال: أخبرنا الحسن أن أبا بكرة حدثه أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع فركع دون الصف. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصا ولا تعد. وفيه: أن رواته كلهم بصريون. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي، لأن زيادا من صغار التابعين، والحسن من كبارهم، رضي الله تعالى عنهم.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه أبو داود أيضا في الصلاة عن حميد بن مسعدة عن يزيد بن زريع عن سعيد ابن أبي عروبة عن زياد، وعن موسى بن إسماعيل عن حماد عن زياد. وأخرجه النسائي فيه عن حميد بن مسعدة به.
ذكر معناه: قوله: (أنه انتهى إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، وهو راكع)، أي: والحال أن النبي صلى الله عليه وسلم راكع. وفي رواية النسائي عن زياد: (أخبرنا الحسن أن أبا بكرة حدثه أنه دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم راكع). وفي رواية أبي داود عن الحسن: (أن أبا بكرة جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكع). وفي رواية الطحاوي: عن الحسن عن أبي بكرة، قال: (جئت ورسول الله صلى الله عليه وسلم راكع، وقد حفزني النفس فركعت دون الصف). قوله: (فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم) أي: فذكر ما فعله أبو بكرة من ركوعه دون الصف، وفي رواية أبي داود: (فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، قال: أيكم الذي ركع دون الصف ثم مشى إلى الصف؟ فقال أبو بكرة: أنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصا، ولا تعد). وفي رواية الطبراني من رواية حماد بن سلمة: (فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيكم دخل الصف وهو راكع؟) قوله: (زادك الله حرصا) أي: على الخير. قوله: (ولا تعد) قال السفاقسي عن الشافعي، يعني: لا تركع دون الصف. وقيل: لا تعد أن تسعى إلى الصلاة سعيا يحفزك في النفس. وقيل: لا تعد إلى الإبطاء. وقال الطحاوي: قوله: (لا تعد)، عندنا يحتمل معنين: يحتمل ولا تعد أن تركع دون الصف حتى تقوم في الصف، كما قد روى عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتى أحدكم الصلاة فلا يركع دون الصف حتى يأخذ مكانه من الصف). ويحتمل أي ولا تعد أن تسعى إلى الصف سعيا يحفزك فيه النفس، كما جاء عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، واتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا). وقال القاضي البيضاوي: يحتمل أن يكون عائدا إلى المشي إلى الصف في الصلاة، فإن الخطوة والخطوتين، وإن لم تفسد الصلاة، لكن الأولى التحرز عنها. ثم قوله: (ولا تعد) في جميع الروايات، بفتح التاء وضم العين: من العود. وقيل: روي بضم التاء وكسر العين: من الإعادة، فإن صحت هذه الرواية فمعناه: ولا تعد صلاتك.
ذكر ما يستفاد منه: قال الطحاوي: في هذا الحديث أنه ركع دون الصف فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الصلاة. انتهى. وروي عن ابن مسعود وزيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنهما: أنهما فعلا ذلك، ركعا دون الصف ومشيا إلى الصف ركوعا، وفعله عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وأبو سلمة وعطاء، وقال مالك والليث: لا بأس بذلك إذا كان قريبا قدر ما يلحق. وحد القرب فيما حكاه القاضي إسماعيل عن مالك: أن يصل إلى الصف قبل سجود الإمام. وقيل: يدب قدر ما بين الفرجتين. وفي (الغنية): ثلاث صفوف، وفي (الأوسط): من حديث عطاء ان ابن الزبير قال على المنبر: إذا دخل أحدكم المسجد والناس ركوع فليركع حين يدخل ثم يدب راكعا حتى يدخل في الصف، فإن ذلك السنة. قال عطاء: ورأيته يصنع ذلك، وفي (المصنف) بسند صحيح: عن زيد بن وهب، قال: (خرجت مع عبد الله من داره فلما توسطنا المسجد ركع الإمام فكبر عبد الله ثم ركع وركعت معه، ثم مشينا إلى الصف راكعين حتى رفع القوم رؤوسهم، فلما قضى الإمام الصلاة قمت لأصلي فأخذ بيدي عبد الله فأجلسني، وقال: إنك قد أدركت). وروي في (المصنف) أيضا: أن أبا أمامة فعل ذلك وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومجاهد والحسن. وقال أبو حنيفة: يكره ذلك للواحد ولا يكره للجماعة، ذكره الطحاوي.
وفيه: أن دخول أبا بكرة في الصلاة دون الصف لما كان صحيحا كانت صلاة المصلي كلها دون الصف صلاة صحيحة، وهو صلاة

55
المنفرد خلف الصف، وبه قال الثوري وعبد الله بن المبارك والحسن البصري والأوزاعي وأبو حنيفة والشافعي ومالك وأبو يوسف ومحمد، ولكن بأثم، إما الجواز فلأنه يتعلق بالأركان، وقد وجدت. وإما الإساءة فلوجود النهي عن ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لفرد خلف الصف)، ومعناه: لا صلاة كاملة، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا وضوء لمن لم يسم الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد)، وقال حماد ابن أبي سليمان وإبراهيم النخعي وابن أبي ليلى ووكيع والحكم والحسن بن صالح وأحمد وإسحاق وابن المنذر: من صلى خلف صف منفردا فصلاته باطلة. واحتجوا بالحديث المذكور، وقد أجبنا عنه. واحتجوا أيضا بحديث وابصة بن معبد الأشجعي: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى رجلا يصلي خلف الصف وحده، فأمره أن يعيد. قال سليمان: الصلاة). رواه أبو داود وغيره، وصححه أحمد وابن خزيمة. والجواب عنه أن في سنده اختلافا، بيانه أن الذي يرويه هلال بن يساف عن عمرو بن راشد عن وابصة، ومنهم من قال: هلال عن وابصة، وعن هذا قال الشافعي: لو ثبت الحديث لقلت به. وقال الحاكم: إنما لم يخرجه الشيخان لفساد الطريق إليه. وقال البزار عن عمرو بن راشد: ليس معروفا بالعدالة فلا يحتج بحديثه، وهلال لم يسمع من وابصة، فأمسكنا عن ذكره لإرساله. وقال أبو عمر: فيه اضطراب ولا تثبته جماعة.
فإن قلت: أخرج ابن ماجة في (سننه): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا ملازم بن عمرو عن عبد الله بن بدر وحدثني عبد الرحمن بن علي بن شيبان عن أبيه علي بن شيبان، وكان من الوفد، قال: (خرجنا حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه وصلينا خلفه، قال: ثم صلينا وراءه صلاة أخرى فقضى الصلاة، فرأى رجلا فردا يصلي خلف الصف قال: فوقف عليه نبي الله، صلى الله عليه وسلم، حتى انصرف قال: استقبل صلاتك، لا صلاة للذي خلف الصف). وأخرجه ابن حبان في (صحيحه) قلت: أخرجه البزار في (مسنده) وقال: عبد الله بن بدر، ليس بالمعروف، إنما حدث عنه ملازم بن عمرو ومحمد بن جابر، فأما ملازم فقد احتمل حديثه وإن لم يحتج به، وأما محمد بن جابر فقد سكت الناس عن حديثه، وعلي بن شيبان لم يحدث عنه إلا ابنع، وابنه هذا غير معروف، وإنما ترتفع جهالة المجهول إذا روى عنه ثقتان مشهوران، فأما إذا روى عنه من لا يحتج بحديثه لم يكن ذلك الحديث حجة،. ولا ارتفعت الجهالة. وأجاب الطحاوي عنه: أن معنى قوله: (لا صلاة للذي خلف الصف)، لا صلاة كاملة، لأن من سنة الصلاة مع الإمام اتصال الصفوف وسد الفرج، فإن قصر عن ذلك فقد أساء وصلاته مجزية ولكنها ليس بالصلاة المتكاملة، فقيل لذلك: لا صلاة له، أي: لا صلاة متكاملة. كما قال صلى الله عليه وسلم: (ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان...) الحديث، معناه: ليس هو المسكين المتكامل في المسكنة، إذ هو يسأل فيعطى ما يقوته ويواري عورته، ولكن المسكين الذي لا يسأل الناس ولا يعرفونه فيتصدقون عليه.
وقال الخطابي وفيه: دليل على أن قيام المأموم من وراء الإمام وحده لا يفسد صلاته، وذلك أن الركوع جزء من الصلاة، فإذا أجزأه منفردا عن القوم أجزأه سائر أجزائها، كذلك، إلا أنه مكروه لقوله: (فلا تعد)، ونهيه إياه عن العود إرشاد له في المستقبل إلى ما هو أفضل، ولو كان نهي تحريم لأمره بالإعادة.
وفيه: أن من أدرك الإمام على حال يجب أن يصنع كما يصنع الإمام، وقد ورد الأمر بذلك صريحا في (سنن سعيد بن منصور) من رواية عبد العزيز بن رفيع عن أناس من أهل المدينة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: من وجدني قائما أو راكعا أو ساجدا فليكن معي على الحالة التي أنا عليها). وفي الترمذي نحوه عن علي ومعاذ بن جبل مرفوعا، وفي إسناده ضعف، ولكنه يعتضد بما رواه سعيد بن منصور المذكور آنفا. والله أعلم.
115
((باب إتمام التكبير في الركوع))
أي: هذا باب ي بيان إتمام التكبير في الركوع. قال الكرماني فإن قلت: الترجمة تامة بدون لفظ: الإتمام، بأن يقول: باب التكبير في الركوع، فلا فائدة فيه، بل هو مخل لأن حقيقة التكبير لا تزيد ولا تنقص. قلت: المراد منه أن يمد التكبير الذي هو للانتقال من القيام إلى الركوع بحيث يتمه في الركوع بأن تقع وراء الله أكبر فيه، وإتمام الصلاة بالتكبير في الركوع، أو إتمام عدد تكبيرات الصلاة بالتكبير في الركوع. قلت: يجوز أن يكون المراد من: إتمام التكبير في الركوع، هو تبيين حروفه من غير

56
هذ فيه، والإتمام يرجع إلى صفته لا إلى حقيقته. فإن قلت: هذا لا بد منه في سائر تكبيرات الصلاة، فما معنى تخصيصه بالركوع هنا؟ ثم بالسجود في الباب الذي بعده؟ قلت: لما كان الركوع والسجود من أعظم أركان الصلاة خصهما بالذكر، وإن كان الحكم في تكبيرات غيرهما مثله فإن قلت: روى أبو داود من حديث عبد الرحمن بن أبزي، قال: (صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يتم التكبير)، فهذا يخالف الترجمة؟ قلت: روى البخاري في (التاريخ) عن أبي داود الطيالسي أنه قال: هذا عندنا حديث باطل، وقال الطبري والبزار: تفرد به الحسن بن عمران، وهو مجهول.
قال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: قال بإتمام التكبير في الركوع عبد الله بن عباس، وأشار بهذا إلى أن ابن عباس قال ذلك بالمعنى في الباب الذي يليه، وفي الباب الذي بعده، أما الأول: فهو قوله: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم عن أبي بشر عن عكرمة، قال: (رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع...) الحديث. وأما الثاني: فهو قوله: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة، قال: (صليت خلف شيخ بمكة فكبر اثنتين وعشرين تكبيرة...) الحديث.
وفيه مالك بن الحويرث
أي: في هذا الباب حديث مالك بن الحويرث، وسيأتي حديثه في: باب المكث بين السجدتين، وفيه: (فقام ثم ركع فكبر).
784 حدثنا أسحاق الواسطي قال حدثنا خالد عن الجريري عن أبي العلاء عن مطرف عن عمران بن حصين قال صلى مع علي رضي الله عنه فقال ذكرنا هذا الرجل صلاة كنا نصليها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أنه كان يكبر كلما رفع وكلما وضع
مطابقته للترجمة في قوله: (كان يكبر كلما رفع)، فإنه عبارة عن تكبير الركوع فإن قلت: الحديث يدل على مجرد التكبير، والترجمة على إتمام التكبير. قلت: لا شك أن تكبير النبي صلى الله عليه وسلم كان بإتمامه إياه في المعنى، فالترجمة تشمل الوجهين.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: إسحاق بن شاهين أبو بشر الواسطي. الثاني: خالد بن عبد الله الطحان. الثالث: سعيد بن إياس الجريري، بضم الجيم وفتح الراء الأولى. الرابع: أبو العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير، بكسر الشين وتشديد الخاء المعجمة. الخامس: مطرف، بضم الميم وفتح الطاء وكسر الراء المشددة وفي آخره فاء: هو أخو يزيد بن عبد الله المذكور. السادس: عمران بن الحصين، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، والإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن الأولين من الرواة واسطيان والبقية بصريون. وفيه: رواية الأخ عن الأخ، وهي رواية أبي العلاء عن أخيه مطرف. وقال البزار في (
سننه): هذا الحديث رواه غير واحد عن مطرف عن عمران، وعن الحسن عن عمران.
ذكر معناه: قوله: (صلى) أي: عمران. قوله: (مع علي) أي: ابن أبي طالب. قوله: (بالبصرة)، بتثليث الباء ثلاث لغات، ذكرها الأزهري، والمشهور الفتح، وحكى الخليل فيها ثلاث لغات أخرى: البصرة والبصرة والبصرة، الأولى بسكون الصاد، والثانية بفتحها، والثالثة بكسرها. وقال السمعاني: يقال لها: قبة الإسلام وخزانة العرب بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه، ولم يعبد الصنم قط على أرضها، وكان بناؤها في سنة سبع عشرة، وطولها فرسخان في فرسخ. وقال الرشاطي: البصرة في العراق، والبصرة أيضا مدينة في المغرب بقرب طنجة، وهي الآن خراب، والبصرة هي الحجارة الرخوة تضرب إلى البياض، وسميت البصرة بهذا لأن أرضها التي بين العقيق وأعلى المربد حجارة، والنسبة إليها: بصري وبصري بفتح الباء وكسرها، وكانت صلاة عمران مع علي، رضي الله تعالى عنهما، بالبصرة بعد وقعة الجمل. قوله: (ذكرنا)، بتشديد الكاف وفتح الراء، وهي جملة من الفعل والمفعول، والفاعل، هو قوله: (هذا الرجل)، وأراد علي بن أبي طالب. وقوله: (ذكرنا) يدل على أن التكبير قد ترك، وقد روى أحمد والطحاوي بإسناد صحيح عن أبي موسى الأشعري، قال: (ذكرنا علي صلاة كنا نصليها

57
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إما نسيناها وإما تركناها عمدا). قوله: (صلاة) بالنصب مفعول: ذكر، قوله: (كنا نصليها)، جملة في محل النصب على أنها صفة لقوله: (صلاة). قوله: (كلما رفع وكلما وضع) يعني: في جميع الانتقالات، ولكن خص منه الرفع من الركوع بالإجماع، فإنه شرع فيه التحميد.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن التكبير في كل خفض ورفع، وإليه ذهب عطاء بن أبي رباح والحسن البصري ومحمد بن سيرين وإبراهيم النخعي والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم، ويحكى ذلك عن ابن مسعود وأبي هريرة وجابر وقيس بن عبادة وآخرين، وكان عمر بن عبد العزيز ومحمد بن سيرين والقاسم وسالم بن عبد الله وسعيد بن جبير وقتادة لا يكبرون في الصلاة إذا خفضوا. وقال ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا أبو داود عن شعبة عن الحسن بن عمران أن عمر بن عبد العزيز كان لا يتم التكبير. حدثنا يحيى بن سعيد (عن عبيد الله بن عمر، قال: صليت خلف القاسم وسالم فكانا لا يتمان التكبير). حدثنا غندر عن شعبة عن عمر بن مرة، قال: (صليت مع سعيد بن جبير فكان لا يتم التكبير). حدثنا عبدة بن سليمان عن مسعر عن يزيد الفقير، قال: كان ابن عمر ينقص التكبير في الصلاة. وقال مسعر: إذا انحط بعد الركوع للسجود لم يكبر فإذا أراد أن يسجد الثانية لم يكبر، ويحكى عن عمر بن الخطاب أيضا. وأخرج عبد الرزاق في (مصنفه): عن إسماعيل بن عبد الله بن أبي الوليد قال: أخبرني شعبة بن الحجاج عن رجل عن ابن أبزي عن أبيه أن عمر بن الخطاب أمهم فلم يكبر هذا التكبير، ويحكى عن ابن عباس أيضا. وأخرج عبد الرزاق بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن يزيد، قال: صليت مع ابن عباس بالبصرة فلم يكبر هذا التكبير بالرفع والخفض. قلت: المشهور عن هؤلاء التكبير في الخفض والرفع، وروايات هؤلاء محمولة على أنهم تركوه أحيانا بيانا للجواز، أو الراوي لم يسمع ذلك منهم لخفا الصوت، وكانت بنو أمية يتركون التكبير في الخفض وهم مثل معاوية وزياد وعمر بن عبد العزيز. قال ابن أبي شيبة: حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم قال: أول من نقص التكبير زياد، وقال الطبري: إن أبا هريرة سئل: من أول من ترك التكبير إذا رفع رأسه وإذا وضعه؟ قال: معاوية. وقال أبو عبد الله العدني في (مسنده): حدثنا بشر بن الحارث حدثنا إسرائيل عن ثوير عن أبيه عن عبد الله قال: أول من نقص التكبير الوليد بن عقبة، فقال عبد الله: نقصوها نقصهم الله، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكبر كلما ركع وكلما سجد وكلما رفع رأسه، وعن بعض السلف: انه كان لا يكبر سوى تكبيرة الإحرام، وفرق بعضهم بين المنفرد وغيره.. فإن قلت: ما تقول في حديث عبد الرحمن بن أبزي الخزاعي: (أنه صلى مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان لا يتم التكبير)؟ رواه أبو داود والطحاوي؟ قلت: قالوا: إنه ضعيف ومعلول بالحسن بن عمران أحد رواته. قال الطبري: هو مجهول لا يجوز الاحتجاج به. وقال البخاري في (تاريخه)، عن أبي داود الطيالسي: إنه حديث باطل، وقد ذكرناه عن قريب فإن قلت: شكوت أبي داود والطحاوي يدل على الصحة عندهما؟ قلت: ولئن سلمنا صحته فالجواب ما ذكرناه عن قريب، وتأوله الكرخي على حذفه، وذلك نقصان صفة عدد، وأجاب الطحاوي: أن الآثار المتواترة على خلافه، وأن العمل على غيره. فإن قلت: تكبيرة الانتقالات سنة أم واجبة؟ قلت: اختلفوا فيه، فقال قوم: هي سنة، قال ابن المنذر: وبه قال أبو بكر الصديق وعمر وجابر وقيس بن عبادة والشعبي والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ومالك والشافعي وأبو حنيفة، ونقله ابن بطال أيضا عن عثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وابن الزبير ومكحول والنخعي وأبي ثور، وقالت الظاهرية وأحمد في رواية: كلها واجبة. وقال أبو عمر: قد قال قوم من أهل العلم: إن التكبير أنما هو أذن بحركات الإمام وشعار الصلاة وليس بسنة إلا في الجماعة، فأما من صلى وحده فلا بأس عليه أن يكبر. وقال سعيد بن جبير: إنما هو شيء يزين به الرجل صلاته، وقال ابن حزم في (المحلى): والتكبير للركوع فرض، وقول: سبحان ربي العظيم في الركوع فرض، والقيام إثر الركوع فرض لمن قدر عليه حتى يعتدل قائما، وقول: سمع الله لمن حمده، عند القيام من الركوع فرض، فإن كان مأموما ففرض عليه أن يقول بعد ذلك، ربنا لك الحمد، أو: ولك الحمد، وليس هذا فرضا على إمام ولا فذ، فإن قالاه كان حسنا وسنة، والتكبير لكل سجدة منها فرض، وقول: سبحان ربي الأعلى، في كل سجدة فرض، ووضع الجبهة واليدين والأنف والركبتين وصدور القدمين على ما هو قائم عليه مما أبيح له التصرف عليه فرض، كل ذلك، والجلوس بين السجدتين فرض، والطمأنينة فيه فرض، والتكبير

58
له فرض لا تجزىء صلاة لأحد من أن يدع من هذا كله عامدا، فإن لم يأت به ناسيا ألغى ذلك وأتى به كما أمر ثم سجد للسهو، فإن عجز عن شيء منه لجهل أو عذر مانع سقط عنه، وتمت صلاته. انتهى. وقال السفاقسي: واختلفوا فيمن ترك التكبير في الصلاة، فقال ابن القاسم: من أسقط ثلاث تكبيرات فأكثر، أو التكبير كله سوى تكبيرة الإحرام يسجد قبل السلام، وإن لم يسجد قبل السلام سجد بعده، وإن لم يسجد حتى طال بطلت صلاته. وفي (الموضحة): وإن نسي تكبيرتين سجد قبل أن
يسلم، فإن لم يسجد لم تبطل صلاته، وإن ترك تكبيرة واحدة فاختلف قوله: هل عليه سجود أم لا؟ وقال ابن عبد الحكم وأصبغ: ليس على من ترك التكبير سوى السجود، فإن لم يفعل حتى تباعد فلا شيء عليه. وفي (شرح المهذب): فلو ترك التكبير عمدا أو سهوا حتى ركع لم يأت به لفوات محله. وقال أصحابنا: لا يجب السجود بترك الأذكار: كالثناء والتعوذ وتكبيرات الركوع والسجود وتسبيحاتهما.
وفيه: في قوله: (يكبر كلما رفع وكلما خفض متعلق لأبي حنيفة وأصحابه أنه يكبر مع فعل الخفض والرفع، سواء لا يتقدمه ولا يتأخره فيما ذكره الطحاوي من غير مد، والشافعي يقول: ينحط للركوع وهو يكبر وكذا في الرفع وشبهه، ويمد التكبير إلى أن يصل إلى حد الراكعين وقيل: يحرم، والقولان جائزان في جميع تكبيرات الانتقالات، والصحيح المد، قاله في (شرح المهذب): فإن قلت: ما الحكمة في مشروعية التكبير في الخفض والرفع لكل مصل؟ قلت: قيل: إن المكلف أمر بالنية أول الصلاة مقرونة بالتكبير، وكان من حقه أن يستصحب النية إلى آخر الصلاة، فأمر أن يجدد العهد في أثنائها بالتكبير الذي هو شعار النية.
785 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه كان يصلي بهم فيكبر كلما خفض ورفع فإذا انصرف قال إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم.
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله قد ذكروا غير مرة، وابن شهاب هو: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري.
وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن يحيى بن يحيى عن مالك، والنسائي أيضا عن قتيبة عن مالك.
قوله: (يصلي بهم)، وفي رواية الكشميهني: (يصلي لهم). قوله: (فإذا انصرف)، أي: عن الصلاة. قوله: (إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني: في تكبيرات الانتقالات والإتيان به فيها.
116
((باب إتمام التكبير في السجود))
أي: هذا باب في بيان إتمام التكبير في السجود، والكلام فيه ما تقدم في أول الباب الذي قبله.
786 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد عن غيلان بن جرير عن مطرف بن عبد الله قال صليت خلف علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنا وعمران بن حصين فكان إذا سجد كبر وإذا رفع رأسه كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما قضي الصلاة أخذ بيدي عمران ابن حصين فقال قد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال لقد صلى بنا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم (انظر الحديث 784 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (فكان إذا سجد كبر).
ذكر رجاله: وهم خمسة: أبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي، وحماد هو ابن زيد، وغيلان بفتح الغين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف، وابن جرير بفتح الجيم، وطرف بضم الميم قد مضى عن قريب.
ذكر معناه: قوله: (صليت خلف علي)، قد مضى في الباب السابق أن ذلك كان بالبصرة، وكذا رواه سعيد بن منصور من رواية حميد بن هلال عن عمران، ووقع في رواية أحمد من رواية سعيد ابن أبي عروبة عن غيلان: بالكوفة، وكذا في رواية عبد الرزاق عن معمر عن قتادة وغير واحد عن مطرف، ويحتمل أن يكون ذلك وقع مرتين: مرة بالبصرة ومرة بالكوفة. قوله: (أنا) إنما ذكر هذه اللفظة ليصح العطف على الضمير الذي في: صليت، وهذا

59
على رأي البصريين. قوله: (فلما قضى الصلاة) أي: أداها، وليس المراد به القضاء الاصطلاحي. قوله: (قد ذكرني)، بتشديد الكاف، وفي رواية الكشميهني: (لقد ذكرني). قوله: (هذا)، أي: علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، وذلك لأنه كان يكبر في كل انتقالاته. قوله: (أو قال)، شك من أحد رواته، قيل: يحتمل أن يكون الشك من حماد، لأن أحمد رواه من رواية سعيد ابن أبي عروبة بلفظ: (صلى بنا مثل صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ولم يشك، وفي رواية قتادة: (عن مطرف قال عمران: ما صليت منذ حين أو منذ كذا وكذا أشبه بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الصلاة).
ذكر ما يستفاد منه: استدل البعض بقوله: (صليت خلف علي بن أبي طالب أنا وعمران) على أن موقف الاثنين يكون خلف الإمام خلافا لمن يقول يجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله. قلت: هذا استدلال غير تام، لأنه لم يذكر فيه أنه لم يكن معهما غيرهما. وفيه: خص بذكر السجود والرفع والنهوض من الركعتين فقط، وقد عم في رواية أبي العلاء إشعارا بأن هذه المواضع الثلاثة هي التي كان ترك التكبير فيها حتى تذكرها عمران بصلاة علي، رضي الله تعالى عنه. وفيه: قال ابن بطال: ترك التكبير فيما ترك التكبير يدل على أن السلف لم يتلقوه على أنه ركن من الصلاة، وقال بعضهم: ونقل الطحاوي الإجماع على: أن من تركه فصلاته تامة، وفيه نظر، لما تقدم عن أحمد، والخلاف في بطلان صلاته ثابت في مذهب مالك، إلا أن يريد إجماعا سابقا. قلت: لم يقل الطحاوي هكذا، وإنما قال: هذه الآثار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التكبير في كل رفع وخفض أولى من حديث عبد الرحمن بن أبزى، وأكثر تواترا، وقد عمل بها من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وعلي، رضي الله تعالى عنهم، وتواتر بها العمل إلى يومنا هذا لا ينكر ذلك منكر، ولا يدفعه دافع. انتهى. قلت: أراد بالآثار المروية التي أخرجها عن عبد الله بن مسعود وأبي مسعود البدري وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك، وأشار بهذا أيضا إلى أن من جملة أسباب الترجيح كثرة عدد الرواة وشهرة المروي حتى إذا كان أحد الخبرين يرويه واحد، والآخر يرويه اثنان، فالذي يرويه اثنان أولى بالعمل به. وقوله: وتواتر بها العمل.. إلى آخره، إشارة إلى أنه يصير كالإجماع، وفرق بين: كالإجماع والإجماع.
787 حدثنا عمرو بن عون قال حدثنا هشيم عن أبي بشر عن عكرمة قال رأيت رجلا عند المقام يكبر في كل خفض ورفع وإذا قام وإذا وضعع فأخبرت ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال أوليس تلك صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لا أم لك (الحديث 787 طرفه في: 788).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: عمرو، بفتح العين: ابن عون، بفتح العين أيضا ابن أوس السلمي الواسطي. الثاني: هشيم بن بشير السلمي الواسطي. الثالث: أبو بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: واسمه جعفر بن أبي وحشية، واسمه إياس الواسطي. الرابع: عكرمة، مولى ابن عباس. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: ثلاثة واسطيون متوالية. وفيه: عن أبي بشر، وفي رواية سعيد بن منصور، عن هشيم: أن أبا بشر حدثه.
ذكر معناه: قوله: (رأيت رجلا عند المقام) أي: مقام إبراهيم، عليه السلام، وفي رواية الإسماعيلي: (صليت خلف شيخ بالأبطح). وفي أول الباب الذي يلي هذا الباب: (صليت خلف شيخ بمكة)، وفي رواية السراج من طريق خبيب ابن الزبير عن عكرمة: (رأيت رجلا يصلي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم). فإن قلت: ما التوفيق بين هذه الروايات الأربع؟ قلت: أما أنه لا منافاة بين قوله: (بالمقام)، وبين قوله: (بمكة)، و: (بالأبطح)، لأن المقام والأبطح في مكة، لأنه يحتمل أنه صلى مرة بالمقام ومرة بالأبطح، ويصدق عليه أنه صلى بمكة، وأما بين قوله: (بمكة)، وبين قوله: (في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم)، منافاة ظاهرة، ولا يدفع إلا بالحمل على التعدد، أو يحمل قوله: (في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم) على الشذوذ. وقال بعضهم: فإن لم يحمل

60
على التجوز وإلا فهي شاذة، أي: رواية السراج. قلت: لا يصلح أن يكون مجازا لبعده وعدم العلاقة. قوله: (يكبر) جملة حالية، ويروى: (فكبر)، بالفاء على صيغة الماضي. قوله: (أوليس؟) الهمزة للاستفهام الإنكاري، ومعناه: تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، نفي النفي إثبات. قوله: (لا أم لك) هي كلمة تقولها العرب عند الزجر، وقال ابن الأثير: هو ذم وسب، أي: أنت لقيط لا تعرف لك أم. وقيل: قد يقع مدحا بمعنى التعجب منه. وفيه بع، ويقال: هذا ذم له حيث كان جاهلا بالسنة فيه.
117
((باب التكبير إذا قام من السجود))
أي: هذا باب في بيان حكم التكبير عند القيام من السجود
788 حدثنا موسى بن إسماعيل قال أخبرنا همام عن قتادة عن عكرمة قال صليت خلف شيخ بمكة فكبر ثنتين وعشرين تكبيرة فقلت لابن عباس إنه أحمق فقال ثكلتك أمك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم (انظر الحديث 787).
هذه الصلاة التي صلاها عكرمة كانت رباعية، لأنه لا يصح عدد التكبير الذي ذكره إلا إذا كانت الصلاة رباعية، وصرح بذلك الإسماعيلي في رواية سعيد بن أبي عروبة عن قتادة حيث قال: الظهر، وأما في الثنائية فهي إحدى عشرة تكبيرة، وهي: تكبيرة الإحرام وخمس في كل ركعة. وفي الثلاثية: سبع عشرة، وهي: تكبيرة الإحرام وتكبيرة القيام من التشهد الأول وخمس في كل منها، ففي الصلوات الخمس أربع وتسعون تكبيرة. قوله: (خلف شيخ): قد بين الطحاوي في روايته أن هذا الشيخ كان أبا هريرة، رضي الله تعالى عنه. قال: حدثنا ابن أبي داود، قال حدثنا مسدد قال: حدثنا عبد العزيز بن مختار، قال: أخبرنا عبد الله الداناج، قال: حدثنا عكرمة، قال: (صلى بنا أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه، فكان يكبر إذا رفع وإذا خفض، فأتيت ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، فأخبرته بذلك، فقال: أوليس ذلك سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم؟) ورواه أيضا هكذا أحمد في (مسنده) والطبراني في (معجمه). قوله: (إنه أحمق) أي: قليل العقل. قوله: (ثكلتك أمك)، بالثاء المثلثة وكسر الكاف: من الثكل، وهو فقدان المرأة ولدها، وهي كلمة كانت العرب تقولها عند الدعاء على أحد بأن تفقده أمه ويفقد هو أمه، لكنهم قد يطلقون ذلك ولا يريدون حقيقته، وإنما قال ابن عباس ذلك لعكرمة لأنه نسب ذلك الرجل الجليل الذي هو أبو هريرة في رواية غير البخاري إلى الحمق الذي هو غاية الجهل، وهو برئ من ذلك. قوله: (سنة أبي القاسم) برفع: سنة، لأنه خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هذه التي فعلها ذلك الشيخ من التكبير المعدود سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، ووقع بإظهار المبتدأ في رواية الإسماعيلي من رواية عبيد الله بن موسى عن همام عن قتادة.
وقال موسى حدثنا أبان قال حدثنا قتادة قال حدثنا عكرمة
موسى هو ابن إسماعيل المذكور شيخ البخاري الراوي عن همام، وأبان هو ابن يزيد القطان أي: روى موسى عن أبان أيضا مثل ما روى عن همام، وهو متصل عنده عن همام وأبان كلاهما عن قتادة وأشار بإفراده هماما لكونه على شرطه في الأصول، بخلاف أبان فإنه على شرطه في المتابعات، وفيه فائدة أخرى وهي: أن في رواية أبان تصريح قتادة بالتحديث عن عكرمة، وبمثله وقع في رواية الإسماعيلي من رواية سعيد بن أبي عروبة، وفي (التلويح)، وهو مخرج في كتاب (السنن) للبزار.
789 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث أنه سمع أبا هريرة يقول كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده حين يرفع صلبه من الركعة ثم يقول وهو قائم ربنا لك الحمد. قال عبد الله ولك الحمد ثم يكبر

61
حين يهوي ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه ثم يفعل ذلك في الصلاة كلها حتى يقضيها ويكبر حين يقوم من الثنتين بعد الجلوس.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم يكبر حين يرفع رأسه).
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: يحيى بن بكير، بضم الباء الموحدة، هو يحيى بن عبد الله بن بكير أبو زكريا المخزومي البصري. الثاني: الليث بن سعد. الثالث: عقيل، بضم العين: ابن خالد الأيلي. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام القرشي المخزومي المدني، أحد الفقهاء السبعة، قيل: اسمه محمد، وقيل: اسمه أبو بكر، وكنيته: أبو عبد الرحمن، والصحيح: أن اسمه وكنيته واحد. السادس: أبو هريرة رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد من الماضي في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي. قوله: (أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن)، كذا قال عقيل، وتابعه ابن جريج عن ابن شهاب عند مسلم، وقال مالك: عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وكذا أخرجه مسلم والنسائي مطولا من رواية يونس عن ابن شهاب، وتابعه معمر عن ابن شهاب عند السراج، وليس هذا الاختلاف قادحا، بل الحديث عند ابن شهاب عنهما معا كما سيأتي في: باب يهوي بالتكبير، من رواية شعيب عنه عنهما جميعا عن أبي هريرة.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن محمد بن رافع عن حجين بن المثنى عن الليث به وعن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري به. وأخرجه أبو داود فيه عن عبد الملك بن شعيب بن الليث بن سعد عن أبيه عن جده عن يحيى بن أيوب عن ابن جريج به. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن رافع عن حجين بن المثنى به.
ذكر معناه: قوله: (وهو قائم)، جملة حالية. قوله: (قال عبد الله بن صالح)، يعني: عبد الله بن صالح كاتب الليث، زاد في روايته عن الليث: الواو، في قوله: (ولك الحمد)، وأما باقي الحديث فاتفقا فيه. فإن قلت: لم لم يسقه عنهما معا مع أنهما شيخاه؟ قلت: لأن يحيى من شرطه في الأصول وابن صالح إنما يورده في المتابعات. قوله: (حين يهوي)، يقال: هوى بالفتح يهوى أي: سقط إلى أسفل. قوله: (بعد الجلوس)، أي: للتشهد.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أنه يكبر بعد إن يقوم. وفيه: أنه يكبر حين يركع. وفيه: حجة لمن قال: يجمع الإمام بين التسميع والتحميد، وهو مذهب الشافعي أيضا، وعند أبي يوسف ومحمد: يقول الإمام: ربنا لك الحمد في نفسه، وبه قال الثوري والأوزاعي وأحمد في رواية، وعند أبي حنيفة: لا يقول الإمام: ربنا لك الحمد، وبه قال مالك وأحمد في رواية، وحكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وأبي هريرة والشعبي، قال: وبه أقول، واحتجوا بما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس وأبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد). هذه قسمة وهي تنافي الشركة، وأجابوا عن حديث الباب: إنه محمول على انفراد النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة النفل توفيقا بين الحديثين، والمنفرد يجمع بينهما في الأصح وفيه الوجهان في التحميد، ففي بعض الروايات يقول: ربنا لك الحمد، وفي بعضها: ولك الحمد، وفي بعضها: اللهم ربنا لك الحمد، والكل في الصحيح. وقال الأصمعي: سألت أبا عمرو عن: الواو، في قوله: (ربنا ولك الحمد)، فقال: هذه زائدة، تقول العرب: يعني هذا الثوب! فيقول المخاطب: نعم، وهو لك بدرهم. فالواو زائدة، وقيل: عاطفة على محذوف، أي: ربنا حمدناك ولك الحمد. وقيل: للحال وفيه نظر. وفيه: أن التحميد يترتب على التسميع، لأن التحميد ذكر الاعتدال، والتسميع ذكر النهوض، وهذا الحديث في الحقيقة يفسر الأحاديث التي فيها التكبير في كل خفض ورفع التي تقدمت عن قريب.
811
((باب وضع الأكف على الركب في الركوعح))
أي: هذا باب في بيان وضع الأكف، وهو جمع: كف، على الركب جمع: ركبة، في حالة الركوع، يعني: يضع المصلي في حال

62
الركوع كفيه على ركبتيه، وأشار به إلى أن هذا هو السنة في هذه الحالة، وأن التطبيق منسوخ كما سنذكره، إن شاء الله تعالى.
وقال أبو حميد في أصحابه أمكن النبي صلى الله عليه وسلم يديه من ركبتيه
أبو حميد، بضم الحاء: اختلف في اسمه، فقيل: عبد الرحمن، وقيل: المنذر بن سعد بن المنذر، وقيل: المنذر بن سعد بن مالك، وقيل: المنذر ابن سعد بن عمرو الخزرجي الساعدي الصحابي، وقد مر في: باب فضل استقبال القبلة.
قوله: (في أصحابه) أي: في حضور أصحابه. وهذا التعليق خرجه البخاري مسندا في: باب سنة الجلوس في التشهد، مطولا، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
790 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن أبي يعفور قال سمعت مصعب بن سعد يقول صليت إلى جنب أبي فطبقت بين كفي ثم وضعتهما بين فخذي فنهاني أبي وقال كنا نفعله فنهينا عنه وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأمرنا أن نضع أيدينا على الركب).
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: أبو الوليد هشام بن عبد الملك الطيالسي البصري. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: أبو يعفور، بفتح الياء آخر الحروف وسكون
العين المهملة وضم الفاء بعدها واو ساكنة ثم راء: واسمه وقدان، بفتح الواو وسكون القاف وبالدال المهملة ثم بالألف والنون: العبدي الكوفي، والد يونس بن أبي يعفور، ويقال: اسمه واقد، والأول أشهر، وهو أبو يعفور الأكبر، وهو الصحيح، جزم به المزي وغيره، وزعم النووي: أنه يعفور الصغير عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس، وليس بشئ، لأن الصغير ليس مذكورا في الآخرين عن مصعب، ولا في أشياخ شعبة. الرابع: مصعب بن سعد بن أبي وقاص، أبو زرارة المدني، مات سنة ثلاث ومائة. الخامس: أبو سعد بن أبي وقاص، أحد العشرة المبشرة بالجنة.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: القول في أربعة مواضع أحدها بصيغة المضارع. وفيه: أن رواته ما بين بصري وكوفي ومدني. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي، فالتابعي الأول هو أبو يعفور، والثاني مصعب. وفيه: رواية الابن عن الأب.
ذكر من أخرجه غيره: أحرجه مسلم أيضا في الصلاة عن قتيبة وأبي كامل، كلاهما عن أبي عوانة، وعن خلف ابن هشام عن أبي الأحوص وعن ابن أبي عمر عن سفيان، ثلاثتهم عن أبي يعفور به، وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع وعن الحكم بن موسى عن عيسى بن يونس، كلاهما عن إسماعيل ابن أبي خالد. وأخرجه أبو داود فيه عن حفص بن عمر عن شعبة به، وأخرجه الترمذي عن قتيبة به. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة به وعن عمرو بن علي عن يحيى بن سعيد عن إسماعيل ابن أبي خالد به، وابن ماجة عن محمد بن عبد الله بن نمير عن محمد بن بشر عن إسماعيل به.
ذكر معناه: قوله: (فطبقت بين كفي) قال الكرماني: أي: جعلتهما على حد واحد وألزقتهما. قلت: طبقت من التطبيق، وهو أن يجمع بين أصابع يديه ويجعلهما بين ركبتيه في الركوع والتشهد. قوله: (كنا نفعله فنهينا عنه وأمرنا) أي: كنا نفعل التطبيق فنهينا عنه، بضم النون على صيغة المجهول، وكذلك: أمرنا، على صيغة المجهول. وقد علم أن قول الصحابي: كنا نفعل وأمرنا ونهينا، محمول على أنه أمر لله ولرسوله، ونهي عن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، لأن الصحابي إنما يقصد الاحتجاج به لإثبات شرع وتحليل وتحريم، وحكم يوجب كونه مشروعا، وقد اختلفوا في هذه الصيغ، والراجح أن حكمها الرفع لما ذكرنا. قوله: (أيدينا) أي: أكفنا، من باب إطلاق الكل وإرادة الجزء. وفي رواية مسلم من طريق أبي عوانة عن أبي يعفور بلفظ: (وأمرنا أن نضرب بالأكف على الركب).
ذكر ما يستفاد منه: استدل بهذا الحديث الثوري والأوزاعي وابن سيرين والحسن البصري وأبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأصحابهم: على أن المصلي إذا ركع يضع يديه على ركبتيه شبه القابض عليهما ويفرق بين أصابعه. واحتجوا

63
أيضا بما رواه الطحاوي من حديث أبي مسعود البدري: (ألا أريكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟) فذكر حديثا طويلا، قال: ثم ركع فوضع كفيه على ركبتيه، وفضلة أصابعه على ساقيه). وبما رواه وائل بن حجر، رضي الله تعالى عنه، قال: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ركع وضع يديه على ركبتيه)، رواه الطحاوي أيضا. وبما رواه أبو داود من حديث أبي صالح: عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: (اشتكى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا، فقال: استعينوا بالركب). وأخرجه الترمذي أيضا، ولفظه: (اشتكى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا، فقال: استعينوا بالركب). ورواه الطحاوي أيضا، ولفظه: (اشتكى الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم التفرج في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: (استعينوا بالركب). فإن قلت: لم يستدل أبو داود ولا الترمذي بهذا الحديث على وضع الأيدي بالركب في الركوع، أما أبو داود فإنه ذكره في: باب رخصة افتراش اليدين في السجود، وأما الترمذي فإنه ذكره في الاعتماد في السجود. قلت: قوله صلى الله عليه وسلم: (استعينوا بالركب)، أعم من أن يكون في الركوع أو في السجود، والمعنى: استعينوا بأخذ الأيدي على الركب، ولهذا أخرجه الطحاوي لأجل الاستدلال للجماعة المذكورين. واحتج أيضا بما رواه من حديث أبي حصين عثمان بن عاصم الأسدي عن أبي عبد الرحمن قال عمر، رضي الله تعالى عنه، (أمسكوا فقد سنت لكم الركب). وأخرجه الترمذي ولفظه: (قال لنا عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: إن الركب سنة لكم، فخذوا بالركب). وفي رواية له: (سنت لكم الركب فأمسكوا بالركب). قوله: (أمسوا)، أمر من الإمساس، والمعنى: أمسوا أيديكم ركبكم، فقد سنت لكم الركب، يعني: سن إمساسها والأخذ بها، وصورة الأخذ قد ذكرناها عن قريب. وفي (المغني) لابن قدامة: قال أحمد: ينبغي له إذا ركع أن يلقم راحتيه ركبتيه ويفرق بين أصابعه ويعتمد على ضبعيه وساعديه ويسوي ظهره ولا يرفع رأسه ولا ينكسه. ثم قال الطحاوي: هذه الآثار معارضة لما رواه إبراهيم عن علقمة والأسود: أنهما دخلا على عبد الله فقال: أصلى هؤلاء خلفكم؟ فقالا: نعم، فقام بينهما وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، ثم ركعنا فوضعنا أيدينا على الركب، فضرب أيدينا، فطبق ثم طبق بيديه، فجعلهما بين فخذيه، فلما صلى قال: هكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم). وبه أخذ إبراهيم وعلقمة والأسود وأبو عبيدة، ثم قال الطحاوي: ومع الآثار المذكورة من التواتر ما ليس مع حديث علقمة والأسود، فاعتبرنا في ذلك، فإذا أبو بكر قد حدثنا وساق حديث الباب، فقد ثبت به نسخ التطبيق، وإنه كان متقدما لما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من وضع اليدين على الركبتين، وقد روى ابن المنذر عن ابن عمر بإسناد قوي، قال: إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم مرة، يعني: التطبيق، وقال بعضهم: حمل حديث ابن مسعود على أنه لم يبلغه النسخ. قلت: ابن مسعود أسلم قديما وهو صاحب نعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يلبسه إياها إذا قام وإذا جلس أدخلها في ذراعه، وكان كثير الولوج على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يفارقه إلى أن مات رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكيف خفي عليه أمر وضع اليدين على الركبتين؟ وكيف لم يبلغه النسخ؟ وقد روى عبد الرزاق عن علقمة والأسود، قالا: (صلينا مع عبد الله فطبق، ثم لقينا عمر، رضي الله تعالى عنه، فصلينا معه فطبقنا، فلما انصرف قال: ذلك شيء كنا نفعله ثم ترك)، ولم يأمرهما عمر، رضي الله تعالى عنه، بالإعادة، فدل على أحد الشيئين: أحدهما: أن النهي الوارد فيه كراهة التنزيه لا التحريم. والآخر: يدل على التخيير، والدليل عليه ما رواه ابن أبي شيبة
في (مصنفه) من طريق عاصم بن ضمرة عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: إذا ركعت فإن شئت قلت هكذا، يعني وضعت يديك على ركبتيك، وإن شئت طبقت وإسناده حسن، فهذا ظاهر في أنه، رضي الله تعالى عنه، كان يرى التخيير. وقول بعضهم: إما لم يبلغه النهي وإما حمله على كراهة التنزيه، ليس بظاهر، لأن التخيير ينافي الكراهة، وقد وردت الحكمة في إيثار التفريج على التطبيق عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أورده سيف في (الفتوح) من رواية مسروق أنه سألها عن ذلك فأجابت بما محصله: إن التطبيق من صنيع اليهود، وأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه لذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه، ثم أمر في آخر الأمر بمخالفتهم، والله تعالى أعلم.
119
((باب إذا لم يتم الركوع))
أي: هذا باب ترجمته: إذا لم يتم المصلي ركوعه، وجواب: إذا محذوف تقديره: يعيد صلاته، وإنما لم يذكره ههنا اكتفاء بما ذكره في الباب

64
الذي يأتي عقيب الباب الذي يليه، وهو قوله: باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة، وإنما لم يذكر السجود مع أنه مثل الركوع لأنه ذكره بباب مستقل بقوله: باب إذا لم يتم السجود، ويأتي ذكره بعد ذكر أحد عشر بابا.
791 حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن سليمان قال سمعت زيد بن وهب قال رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع والسجود قال ما صليت ولو مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدا عليها.
مطابقته للترجمة ظاهرة، مع أن الحديث يشمل السجود أيضا، ولكنه كما ذكرنا أنه لما ذكر بابا مستقلا للسجود اكتفى في الترجمة بذكر الركوع.
ذكر رجاله: سليمان هو الأعمش، وزيد بن وهب أبو سلمان الجهني الكوفي خرج إلى النبي، صلى الله عليه وسلم، فقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق، مات سنة ست وتسعين، وقد مر في: باب الإبراد بالظهر، وحذيفة ابن اليمان، رضي الله تعالى عنه.
وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، والعنعنة في موضع. وفيه: السماع. وفيه: القول في أربعة مواضع.
والحديث أخرجه النسائي أيضا في الصلاة عن أحمد بن سليمان عن يحيى بن آدم عن مالك بن مغول عن طلحة ابن مصرف عنه نحوه. فإن قلت: ما حكم هذا الحديث؟ قلت: حكمه حكم الرفع، لأن الصحابي إذا قال: من السنة كذا، أو: سن كذا، كان الظاهر انصراف ذلك إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يخلو عن خلاف فيه.
ذكر معناه: قوله: (رأى رجلا) لم يعرف اسمه. قوله: (لا يتم الركوع والسجود)، وفي رواية عبد الرزاق: (فجعل ينقر ولا يتم ركوعه)، وفي رواية أحمد عن محمد بن جعفر عن شعبة: (فقال: مذ كم صليت؟ قال: منذ أربعين سنة). وفي رواية النسائي: (منذ أربعين عاما). ويشكل حمله على ظاهره لأن حذيفة مات سنة ست وثلاثين، فعلى هذا يكون ابتداء صلاة الرجل المذكور قبل الهجرة بأربع سنين أو أكثر، ولعل الصلاة لم تكن فرضت بعد، ويمكن أن البخاري لم يذكر ذلك لهذا المعنى قلت: يمكن أن يكون ذكر هذه المدة بطريق المبالغة، وقال بعضهم: لعله كان ممن كان يصلي قبل إسلامه ثم أسلم، فحصلت المدة المذكورة فيه من الأمرين، وفيه نظر لا يخفى. قوله: (ما صليت) قال بعضهم: هو نظير قوله صلى الله عليه وسلمللمسىء صلاته: (فإنك لم تصل)، وقال التيمي: أي ما صليت صلاة كاملة. قلت: فعلى هذا يرجع النفي إلى الكمال لا إلى حقيقة الصلاة، وهو الذي ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد، لأن الطمأنينة في الركوع ليست بفرض عندهما، خلافا لأبي يوسف. قوله: (ولو مت) بكسر الميم وضمها: من مات يمات، ومات يموت. قوله: (على غير الفطرة)، وقال الخطابي: الفطرة الملة، أراد بهذا الكلام توبيخه على سوء فعله ليرتدع في المستقبل من صلاته عن مثل فعله. كقوله صلى الله عليه وسلم: (من ترك الصلاة فقد كفر)، فإنما هو توبيخ لفاعله وتحذير له من الكفر أي: سيؤديه ذلك إليه إذا تهاون بالصلاة، ولم يرد به الخروج عن الدين، وقد تكون الفطرة بمعنى السنة، كما جاء: (خمس من الفطرة: السواك وأخواته). وقال: وترك إتمام الركوع وأفعال الصلاة على وجهين: أحدهما: إيجازها وتقصير مدة اللبث فيها. وثانيهما: الإخلال بأصولها واخترامها حتى لا تقع أشكالها على الصور التي تقتضيها أسماؤها في حق الشريعة، وهذا النوع هو الذي أراده حذيفة رضي الله تعالى عنه. قوله: (عليها)، أي: على الفطرة، وهذه اللفظة وقعت في رواية الكشميهني وليست بموجودة عند غيره.
ذكر ما يستفاد منه: استدل به أبو يوسف والشافعي وأحمد على أن الطمأنينة في الركوع والسجود فرض، وفي (التحفة): قال أبو يوسف: طمأنينة الركوع والسجود مقدار تسبيحة واحدة فرض، وفي الأسبيجابي: الطمأنينة ليست بفرض في ظاهر الرواية، وروي عن أبي يوسف أنها فرض. وقال إمام الحرمين: في قلبي شيء في وجوب الطمأنينة في الاعتدال، فلو أتى بالركوع الواجب فعرضت عليه علة من الانتصاب سجد في ركوعه وسقط عنه الاعتدال، فإن زالت العلة قبل بلوغ

65
جبهته الأرض وجب أن يرتفع وينتصب قائما ويعتدل ثم يسجد، وإن زالت بعد وضع جبهته على الأرض لم يرجع إلى الاعتدال، بل سقط عنه، فإن عاد إليه قبل تمام سجوده بطلت صلاته إن كان عالما بتحريمه. انتهى. وقال السرخسي: من ترك الاعتدال تلزمه الإعادة. وقال أبو اليسر: تلزمه الإعادة وتكون الثانية هي الفرض. وقال أبو حنيفة ومحمد: الطمأنينة ليست بفرض، وبه قال بعض أصحاب مالك، فإذا لم تكن فرضا فهي سنة، هذا في تخريج الجرجاني، وفي تخريج الكرخي: واجبة ويجب سجود السهو بتركها، وفي (الجواهر) للمالكية: لو لم يرفع رأسه من ركوعه وجبت الإعادة، وفي رواية ابن القاسم عن مالك، ولم تجب في رواية علي بن زياد. وقال ابن القاسم: من لم يرفع من الركوع والسجود رأسه ولم يعتدل يجزيه ويستغفر الله ولا يعود. وقال أشهب: لا يجزيه. قال أبو محمد: إن من كان إلى
القيام أقرب الأولى أن يجب، فإن قلنا بوجوب الاعتدال تجب الطمأنينة، وقيل: لا تجب. وبه استدل قوم على تكفير تارك الصلاة، لأن حذيفة نفى الإسلام عمن أخل ببعض أركانها، فيكون نفيه عمن أخل بها كلها أولى. وأجيب: بأن هذا من قبيل قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني وهو مؤمن). نفى عنه اسم الإيمان للمبالغة في الزجر، وتمام الجواب عنه بما ذكره الخطابي، وقد ذكرناه آنفا.
120
((باب استواء الظهر في الركوع))
أي: هذا باب في بيان استواء ظهر المصلي في حالة الركوع، يعني: من غير ميل رأسه عن البدن إلى جهة فوق ولا إلى جهة أسفل.
وقال أبو حميد في أصحابه ركع النبي صلى الله عليه وسلم ثم هصر ظهره
أبو حميد الساعدي، ذكر في: باب وضع الأكف على الركب في الركوع. قوله: (في أصحابه) أي: في حضورهم. قوله: (ثم هصر)، بفتح الهاء والصاد المهملة. أي: أماله، وفي رواية الكشميهني: (ثم حنى ظهره)، بالهاء المهملة والنون الخفيفة، ووقع في رواية أبي داود: (ثم هصر ظهره غير مقنع رأسه ولا صافح بخده) وهذا تعليق وصله البخاري مطولا في: باب سنة الجلوس في التشهد، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
121
((باب حد إتمام الركوع والإعتدال فيه والإطمأنينة))
أي: هذا باب في بيان حد إتمام الركوع والاعتدال فيه أي: في الركوع. قوله: (والإطمأنينة)، بكسر الهمزة وسكون الطاء وبعد الألف نون مكسورة ثم ياء آخر الحروف ساكنة ثم نون أخرى مفتوحة ثم هاء، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (والطمأنينة)، بضم الطاء، وهو الذي يستعمل، الذي ذكره أهل اللغة، لأن هذه اللفظة مصدران لا غير، يقال: اطمأن الرجل إطمينانا وطمانينة، أي: سكن، وهو مطمئن إلى كذا، وكذلك: اطبأن، بالباء الموحدة على الإبدال، وهو من مزيد الرباعي، وأصله: طمأن، على وزن: فعلل، فنقل إلى باب: افعلل، بالتشديد في اللام الأخيرة، فصار، اطمأن، وأصله: اطمأنن، فنقلت حركة النون الأولى إلى الهمزة وأدغمت النون في النون مثل: اقشعر، أصله: اقشعرر، ورباعيه: قشعر. وإنما ذكر لفظ باب هنا عند الكشميهني، وفصله عن الباب الذي قبله، وعند الباقين ليس فيه: باب، وإنما الجميع مذكور في ترجمة واحدة.
792 حدثنا بدل بن المحبر قال حدثنا شعبة قال أخبرني الحكم عن ابن أبي ليلى عن البراء قال كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم وسجوده وبين السجدتين وإذا رفع من الركوع ما خلا القيام والقعود قريبا من السواء.
مطابقته للترجمة على تقدير وجود الباب هنا من حيث إن في قوله: (قريبا من السواء) إشعارا بأن في قوله: (كان ركوع النبي صلى الله عليه وسلم) إلى قوله: (ما خلا القيام) تفاوتا، ويعلم أن فيه مكثا زائدا على أصل حقيقة الركوع والسجود وبين السجدتين وعند رفع رأسه من الركوع، والمكث الزائد هو الطمأنينة والاعتدال في هذه الأشياء فافهم.
ذكر

66
رجاله: وهم خمسة: الأول: بدل، بفتح الباء الموحدة والدال المهملة بعدها اللام: ابن المحبر، بضم الميم وفتح الحاء المهملة وتشديد الباء المفتوحة وفي آخره راء: ابن منبه التميمي، ثم اليربوعي أبو المنير البصري واسطي الأصل. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: الحكم، بفتح الحاء المهملة والكاف: ابن عتيبة الكوفي. الرابع: عبد الرحمن ابن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، كان أصحابه يعظمونه، كان أميرا، أدرك مائة وعشرين صحابيا. قال عبد الملك بن عمير: رأيت ابن أبي ليلى في حلقة فيها نفر من الصحابة يستمعون لحديثه وينصتون له، مات غرقا بنهر البصرة سنة ثلاث وثمانين. الخامس: البراء ابن عازب، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين والإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته كوفيون ما خلا بدل بن المحبر فإنه بصري. وفيه: أن شيخ البخاري وهو: بدل، من أفراده. وفيه: عن الحكم عن ابن أبي ليلى، وفي رواية مسلم التصريح بتحديثه له. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي، فالتابعي الأول هو الحكم، والثاني هو ابن أبي ليلى. وفيه: رواية ابن الصحابي عن الصحابي، فإن أبا ليلى صحابي واسمه: يسار بن بلال الأنصاري الأوسي، قتل بصفين مع علي، رضي الله تعالى عنه، وفي اسمه اختلاف، وكذا في اسم أبيه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن سليمان بن حرب عن شعبة وعن محمد بن عبد الرحمن عن أبي أحمد عن مسعر، كلاهما عن الحكم عنه به، وأخرجه مسلم فيه عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه وعن أبي موسى وبندار، كلاهما عن غندر عن شعبة به، وعن حامد بن عمر وأبي كامل، كلاهما عن أبي عوانة. وأخرجه أبو داود فيه عن حفص ابن عمر عن شعبة به وعن مسدد وأبي كامل، كلاهما عن أبي عوانة به، وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن محمد عن ابن المبارك وعن بندار عن غندر، كلاهما عن شعبة به، وأخرجه النسائي فيه عن يعقوب بن إبراهيم عن ابن علية وعن عبيد الله بن سعيد عن يحيى، كلاهما عن شعبة نحوه، وعن أحمد بن سليمان عن عمرو بن عون عن أبي عوانة بمعناه.
ذكر معناه: قوله: (ركوع النبي صلى الله عليه وسلم) اسم: كان و (سجوده) عطف عليه. قوله: (وبين السجدتين) عطف على: ركوع النبي صلى الله عليه وسلم، على تقدير المضاف أي: زمان ركوعه وسجوده وبين السجدتين، ووقت رفع رأسه من الركوع سواء، وإنما قدرنا هكذا ليستقيم المعنى به، ومعنى قوله: (
وبين السجدتين) أي: الجلوس بينهما. قوله: (وإذا رفع رأسه) كلمة: إذا، للوقت المجرد منسلخا عنه معنى الاستقبال. قوله: (ما خلا القيام والقعود)، بالنصب فيهما، لأن معنى: ما خلا، بمعنى إلا، يعني: إلا القيام الذي هو للقراءة، وإلا القعود الذي هو للتشهد، فإنهما كانا أطول من غيرهما. قوله: (قريبا من السواء) منصوب لأنه خبر: كان، وفيه إشعار بأن في هذه الأفعال المذكورة تفاوتا، وبعضها كان أطول من بعض.
ذكر ما يستفاد منه: احتج به بعضهم على أن الاعتدال والجلوس بين السجدتين لا يطولان، ورد بأنهما ذكرا بعينهما، فكيف يصح استثناؤهما بعد ذلك؟ وهل يصح أن يقال: رأيت زيدا وعمرا وبكرا وخالدا إلا زيدا وعمرا. فإن فيه التناقض، واحتج به أيضا بعضهم على استحباب تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين، وقال ابن بطال: هذه الصفة يعني الصفة المذكورة في الحديث أكمل صفات صلاة الجماعة، وأما صلاة الرجل وحده فله أن يطيل في الركوع والسجود أضعاف ما يطيل في القيام وبين السجدتين وبين الركعة والسجدة. وفي (التلويح). قوله: (قريبا من السواء)، يدل على أن بعضها كان فيه طول يسير على بعض، وذلك في القيام، ولعله أيضا في التشهد. وقال: وهذا الحديث يدل على أن الرفع من الركوع ركن طويل، وذهب بعضهم إلى أن الفعل المتأخر بعد ذلك التطويل قد ورد في بعض الأحاديث يعني عن جابر بن سمرة، وكانت صلاته بعد ذلك تخفيفا. وقال القرطبي: وهذا الحديث يدل على أن بعض الأركان أطول من بعض إلا أنها غير متباعدة إلا في القيام فإنه كان يطوله. واختلفوا في الرفع من الركوع: هل هو ركن طويل أو قصير؟ ورجح أصحاب الشافعي أنه ركن قصير، وفائدة الخلاف فيه أن تطويله يقطع الموالاة الواجبة في الصلاة، ومن هذا قال بعض الشافعية: إنه إذا طوله بطلت صلاته وقال بعضهم: لا تبطل حتى ينقله ركنا: كقراءة الفاتحة والتشهد.

67
122
((باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم الذي لا يتم ركوعه بالإعادة))
أي: هذا باب في بيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم للمصلي الذي لم يتم ركوعه بإعادة الصلاة
793 حدثنا مسدد قال أخبرني يحيى بن سعيد عن عبيد الله قال حدثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام فقال ارجع فصل فإنك لم تصل فصلى ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فصل فإنك لم تصل ثلاثا فقال والذي بعثك بالحق فما أحسن غيره فعلمني قال إذا قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها..
مطابقته للترجمة من حيث إن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الرجل بقوله: إرجع فصل فإنك لم تصل) أمر بالإعادة لكونه لم يتم الركوع والسجود. فإن قلت: ليس في الحديث بيان ما نقصه الرجل من الركوع ولا من السجود؟ قلت: الركوع والسجود من أعظم أركان الصلاة من حيث إن الصلاة لا تكون صلاة إلا بهما، فالظاهر أن الرجل لم يتم ركوعه ولا سجوده، فلذلك أمره بالإعادة، يدل عليه حديث رفاعة بن رافع في هذه القصة، رواه أبو داود والترمذي والنسائي، ولفظ الترمذي: (عن رفاعة بن رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بينما هو جالس في المسجد يوما قال رفاعة: ونحن معه، إذ جاءه رجل كالبدوي، فصلى فأخف صلاته ثم انصرف...) الحديث، فالظاهر أن معظم إخفافه كان في الركوع والسجود بحيث إنه لم يتمهما، وصرح بذلك ابن أبي شيبة في روايته هذا الحديث، ولفظه: (دخل رجل فصلى صلاة خفيفة لم يتم ركوعها ولا سجودها...)، الحديث، فعلى هذا طابق الحديث الترجمة من هذه الحيثية، وهذا المقدار كاف في ذلك.
ذكر رجاله: وهم ستة قد ذكروا غير مرة، وعبيد الله هو ابن عمر العمري. وقد أخرج البخاري من هذا الحديث فيما مضى في: باب وجوب القراءة للإمام والمأمومين، عن محمد بن بشار عن يحيى عن عبيد الله عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة إلى آخره نحوه، وأبوه أبو سعيد واسمه كيسان، وقد تكلمنا هناك على جميع ما يتعلق به من الأشياء.
123
((باب الدعاء في الركوع))
أي: هذا باب في بيان الدعاء في الركوع.
182 - (حدثنا حفص بن عمر قال حدثنا شعبة عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها قالت كان النبي
يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي)
مطابقته للترجمة ظاهرة.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول حفص بن عمر. الثاني شعبة بن الحجاج. الثالث أبو الضحى بضم الضاد المعجمة وفتح الحاء المهملة بالقصر واسمه مسلم بن صبيح بضم الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء وبالحاء المهملة الكوفي العطار التابعي مات في زمن خلافة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه. الرابع مسروق بن الأجدع الهمداني الكوفي. الخامس أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في موضعين وفيه أن رواته ما بين بصري وواسطي وكوفي وفيه أن شيخ البخاري من أفراده *

68
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن ابن بشار عن غندر وفي التفسير عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير وفي الصلاة أيضا
عن مسدد وفي التفسير أيضا عن حسن بن الربيع وأخرجه مسلم في الصلاة عن زهير بن حرب وإسحق بن إبراهيم وعن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب وعن محمد بن رافع عن يحيى وأخرجه أبو داود عن عثمان بن أبي شيبة به وأخرجه النسائي فيه عن إسماعيل بن مسعود وعن سويد بن نصر وفيه التفسير عن محمود بن غيلان عن وكيع وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن محمد بن الصباح عن جرير به
(ذكر من روى أيضا عن عائشة في هذا الباب) روى البزار في سننه عن عائشة ' أن النبي
كان يقول في سجوده ' يعني في صلاة الليل ' سجد وجهي للذي خلقه فشق سمعه وبصره بحوله وقوته ' وروى الطحاوي من حديث مسروق عن عائشة قالت ' كان رسول الله
يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك فاغفر لي فإنك أنت التواب ' وروي أيضا عن مطرف عن عائشة ' أن النبي
كان يقول في ركوعه وسجوده سبوح قدوس رب الملائكة والروح ' وأخرجه مسلم والنسائي أيضا وروى مسلم أيضا عن عائشة ' رأيت النبي
يقول وهو راكع أو ساجد سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت '
(ذكر من روى أيضا غير عائشة في هذا الباب) روى مسلم ' عن حذيفة صليت مع النبي
' فذكره وفيه ' ركع فجعل يقول سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ' وزاد ابن ماجة بسند ضعيف ' ثلاثا ثلاثا ' وروى مسلم أيضا عن علي رضي الله تعالى عنه فذكر صلاته قال ' وإذا ركع قال اللهم لك ركعت وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وإذا سجد قال لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره تبارك الله أحسن الخالقين ' وروى أحمد في مسنده ' عن ابن عباس بت عند ميمونة فرأيت النبي
يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم وفي سجوده ' وروى الطحاوي من حديث عقبة بن عامر الجهني قال ' لما نزلت فسبح باسم ربك العظيم قال النبي
اجعلوها في ركوعكم ولما نزلت سبحان ربي الأعلى قال النبي
اجعلوها في سجودكم ' وأخرجه أبو داود وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه وروى الطحاوي أيضا ' عن حذيفة أنه صلى مع رسول الله
ذات ليلة فكان يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ' وأخرجه الأربعة مطولا والدارقطني وروى أبو داود عن عوف بن مالك الأشجعي قال ' قمت مع رسول الله
ليلة فقام فقرأ سورة البقرة ' الحديث وفيه ' يقول في ركوعه سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة ' الحديث
(ذكر معناه) قوله ' سبحانك ' منصوب على المصدر وحذف فعله وهو أسبح ونحوه لازم وهو علم للتسبيح ومعناه التنزيه عن النقائص والعلم لا يضاف إلا إذا نكر ثم أضيف قوله ' وبحمدك ' أي وسبحت بحمدك أي بتوفيقك وهدايتك لا بحولي وقوتي والواو فيه إما للحال وإما للعطف الجملة على الجملة سواء قلنا إضافة الحمد إلى الفاعل والمراد من الحمد لازمه مجازا وهو ما يوجب الحمد من التوفيق والهداية أو إلى المفعول ويكون معناه وسبحت ملتبسا بحمدي لك قوله ' اللهم اغفر لي ' أي يا الله اغفر لي وإنما قال ذلك النبي
وإن كان غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر لبيان الافتقار إلى الله والإذعان له وإظهار العبودية والشكر وطلب الدوام أو الاستغفار عن ترك الأولى أو التقصير في بلوغ حق عبادته مع أن نفس الدعاء هو عبادة وهذا من رسول الله
عمل بما أمر به في قول الله تعالى * (فسبح بحمد ربك واستغفره) * على أحسن الوجوه (فإن قلت) إتيانه بهذا في الركوع والسجود ما حكمته (قلت) أما كونه في حال الصلاة فلأنها أفضل من غيرها وأما في تلك الحالتين فلما فيهما من زيادة خشوع وتواضع ليست في غيرهما والله تعالى أعلم
(ذكر ما يستفاد منه) فيه أن الذكر في الركوع والسجود سنة ولكن اختلفوا فقال الشافعي وأحمد وإسحاق وداود يدعو المصلي بما شاء من الأدعية المذكورة في الأحاديث السابقة في صلاته سواء كانت فرضا أو نفلا وقال ابن قدامة في المغني يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا فإن زاد دعاء مأثورا

69
أو ذكرا ثم ذكر مثل الأدعية المذكورة ههنا فحسن لأن النبي
قاله وقال البيهقي قال الشافعي يسبح كما أمر النبي
في حديث عقبة ويقول كما قال في حديث علي رضي الله تعالى عنه وقد مر حديثهما عن قريب وقال إبراهيم النخعي والحسن البصري وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد في رواية السنة للمصلي أن يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاث مرات وذلك أدناه وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات وذلك أدناه وقال الطحاوي قالوا لا ينبغي له أن يزيد في ركوعه على سبحان ربي العظيم يرددها ما أحب ولا ينبغي له أن ينقص في ذلك من ثلاث مرات ولا ينبغي له أن يزيد في سجوده على سبحان ربي الأعلى يرددها ما أحب ولا ينبغي له أن ينقص في ذلك من ثلاث مرات قوله ' يرددها ' أي يكرر كلمة سبحان ربي العظيم ما شاء فوق الثلاث غير أنه إذا كان إماما لا يزيد على الثلاث إلا بمقدار ما لا يحصل المشقة على القوم (قلت) هذا كله في الفرائض وأما في النوافل فلا بأس به لأن باب النفل أوسع وفي شرح الطحاوي يسبح الإمام ثلاثا وقيل أربعا ليتمكن المقتدي من الثلاث وعند الماوردي أدنى الكمال ثلاث والكمال إحدى عشرة أو تسع وأوسطه خمس وفي بعض شروح الهداية إن زاد على الثلاث حتى ينتهي إلى عشرة فهو أفضل عند الإمام وعندهما إلى سبع وعن بعض الحنابلة أدنى الكمال أن يسبح مثل قيامه وعند الشافعي عشرة وهو منقول
عن عمر بن الخطاب وروى أبو داود من حديث أنس قال ' ما صليت وراء أحد بعد رسول الله
أشبه صلاة به من هذا الفتى ' يعني عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال ' فحزرنا في ركوعه عشر تسبيحات ' قال صاحب التلويح في سنده مقال وفي المصنف حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن عون عن ابن مسعود قال ثلاث تسبيحات في الركوع والسجود وقال ابن المبارك عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن ميسرة قال بلغني أن عمر رضي الله عنه كان يقول في الركوع والسجود قدر خمس تسبيحات سبحان الله وبحمده وحدثنا وكيع عن سفيان عن عاصم بن أبي الضحى قال كان علي رضي الله عنه يقول في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا وفي سجوده سبحان ربي الأعلى ثلاثا. ثم اختلفوا في الأذكار في الركوع والسجود فقال أبو حنيفة ومالك والشافعي هي سنة فلو تركها لم يأثم وصلاته صحيحة سواء تركها سهوا أو عمدا لكن يكره عمدا وقال أحمد وإسحق هو واجب فإن تركه عمدا بطلت صلاته وإن نسيه لم تبطل زاد أحمد ويسجد للسهو وفي رواية عنه أنه سنة وقال ابن حزم هو فرض فإن نسيه يسجد للسهو * -
124
((باب ما يقول الإمام ومن خلفه إذا رفع رأسه من الركوع))
أي: هذا باب في بيان ما يقول الإمام والذي خلفه من القوم إذا رفع الإمام رأسه من الركوع، ووقع في شرح ابن بطال هكذا: باب القراءة في الركوع والسجود، وما يقول الإمام ومن خلفه.. إلى آخره، والذي ذكره ابن بطال غير مشهور، فلا فائدة في ذكر غير المشهور، ثم الاعتراض فيه. نعم ليس في الباب شيء يدل على ما يقوله من خلف الإمام، ولكن أجيب عنه بأنه قد قدم حديث: إنما جعل الإمام ليؤتم به، ويفهم منه أنه يوافق القوم الإمام فيما يقوله إذا رفع رأسه من الركوع، فكأنه اكتفى به عن إيراد حديث مستقل دال على ذلك صريحا. وقال الكرماني: الحديث لا يدل على حكم من خلف الإمام، ثم قال: يدل لكن بانضمام: (صلوا كما رأيتموني أصلي). قلت: كل هذا مساعدة للبخاري بضروب من التوجيهات، وهذا المقدار يحصل به الإقناع.
795 حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال سمع الله لمن حمده قال اللهم ربنا ولك الحمد وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا

70
ركع وإذا رفع رأسه يكبر وإذا قام من السجدتين قال الله أكبر
الترجمة شيئان: أحدهما: ما يقول الإمام! والآخر: ما يقول من خلفه. وحديث الباب لا يدل إلا على الجزء الأول صريحا، وعلى الثاني بالطريق الذي ذكرناه الآن.
ذكر رجاله: وهم أربعة، قد ذكروا غير مرة، وآدم ابن أبي إياس، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، واسم أبي ذئب: هشام، وقد مرت مباحث هذا في: باب التكبير إذا قام من السجود.
قوله: (اللهم ربنا)، هكذا هو في أكثر الروايات، وفي بعضها بحذف: اللهم، والأولى أولى لأن فيها تكرير النداء، كأنه قال: يا الله يا ربنا. قوله: (ولك الحمد) كذا ثبت بزيادة الواو في أكثر الطرق، وفي بعضها بحذف الواو، وقد مضى الكلام فيه مستوفى. قوله: (وإذا رفع رأسه) أي: من السجود لا من الركوع، وذكر البخاري هذا الحديث مختصرا، ورواه الإسماعيلي من وجه آخر عن ابن أبي ذئب، بلفظ: (وإذا قام من الثنتين كبر). ورواه الطيالسي بلفظ: (وكان يكبر بين السجدتين)، ورواه أبو يعلى، ولفظه: (وإذا قام من السجدتين)، كما في رواية البخاري، يحتمل أن يراد بهما حقيقتهما، وأن يراد بهما الركعتان مجازا. وقيل: الظاهر منهما الركعتان، وكذا قوله: (من الثنتين). قوله: (الله أكبر)، إنما قال هنا بالجملة الإسمية، وفي قوله (يكبر) بالجملة الفعلية المضارعية، لأن المضارع يفيد الاستمرار، والمراد منه ههنا شمول أزمنة صدور الفعل، أي: كان تكبيره ممدودا من أول الركوع والرفع إلى آخرهما، منبسطا عليهما، بخلاف التكبير للقيام فإنه لم يكن مستمرا. وقال الكرماني: فإن قلت: لم غير الأسلوب وقال هنا بلفظ: الله أكبر، وثمة بلفظ: التكبير؟ قلت: إما للتفنن، وإما لأنه أراد التعميم، لأن التكبير يتناول: الله أكبر، بتعريف الأكبر ونحوه: وقال بعضهم: والذي يظهر أنه من تصرف الرواة، ويحتمل أن يكون المراد تعيين هذا اللفظ دون غيره من ألفاظ التعظيم. قلت: الذي قاله الكرماني أولى من نسبة الرواة إلى التصرف في الألفاظ التي نقلت عن الصحابة، وهم أهل البلاغة. وقوله: ويحتمل... إلى آخره، احتمال غير ناشىء عن دليل، فلا عبرة به.
125
((باب فضل اللهم ربنا لك الحمد))
أي: هذا باب في بيان فضل قول: (اللهم ربنا لك الحمد). وفي رواية الكشميهني: (ربنا ولك الحمد) بالواو، وليس فيه لفظ: باب، في رواية أبي ذر والأصيلي.
796 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله قال إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد فإنه من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه (الحديث 796 طرفه في: 3228).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ورجال هذا الإسناد بعينه قد مروا في: باب جهر الإمام بآمين غير أن هناك: عن عبد الله بن مسلمة عن مالك، وهنا: عن عبد الله بن يوسف عن مالك، وأبو صالح هو: ذكوان السمان، ومباحثه قد تقدمت هناك. وقال بعضهم: استدل بقوله: (إذا قال الإمام) على أن الإمام لا يقول: ربنا لك الحمد، وعلى أن المأموم لا يقول: (سمع الله لمن حمده) لكون ذلك لم يذكر في هذه الرواية، كذا حكاه الطحاوي، وهو قول مالك وأبي حنيفة، وفيه نظر، لأنه ليس فيه ما يدل على النفي. قلت: لا نسلم ذلك
لأنه صلى الله عليه وسلم قسم التسميع والتحميد، فجعل التسميع للإمام والتحميد للمأموم، فالقسمة تنافي الشركة. فإن قلت: روى البخاري، رضي الله تعالى عنه، من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: (كان يكبر في كل صلاة...) الحديث، وفيه: (ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يقول: ربنا ولك الحمد..) الحديث. قلت: هذا كان قنوتا، وقد فعله ثم تركه، وإنما قلنا: إنه كان قنوتا لأن فيه: اللهم أنج الوليد بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، والمستضعفين من المؤمنين... إلى آخره. فإن قلت: روى البخاري أيضا من حديث أبي هريرة، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم ربنا ولك الحمد...) الحديث، فهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم كان يجمع بينهما، لا لعلة قنوت ولا لغيره. قلت: يمكن أن يكون هذا من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو منفرد، فافهم. وقال الكرماني إن النبي صلى الله عليه وسلم قالهما جميعا، والمأموم مأمور بمتابعته، لقوله: (صلوا

71
كما رأيتموني أصلي)، قلت: قوله: (قالهما جميعا) يحتمل أن يكون ذلك وهو منفرد، كما ذكرنا، وأبو حنيفة أيضا حمله على حالة الانفراد، والحديث حجة عليهم، لأنهم يقولون: المأموم مأمور بمتابعة الإمام، ثم يقولون: الإمام إذا ظهر محدثا يتم المأموم صلاته، فأين وجدت المتابعة؟
126
((باب))
لم تقع لفظة: باب، في رواية الأصيلي، وعلى روايته شرح ابن بطال، ووقع في رواية الأكثرين، لكن بلا ترجمة. وقال بعضهم: والراجح إثباته لأن الأحاديث المذكورة فيه لا دلالة فيها على فضل: اللهم ربنا لك الحمد، إلا بتكلف، فالأولى أن يكون بمنزلة الفصل من الباب الذي قبله. انتهى. قلت: لا نسلم دعوى التكلف في دلالة الأحاديث المذكورة بعد لفظة باب مجردا عن الترجمة على فضل: اللهم ربنا لك الحمد، لأنه لا يلزم أن تكون الدلالة صريحة، لأن الموضع الذي يكون فيه لفظ: باب، بمعنى الفصل يكون حكمه حكم الفصل، وحكم الفصل أن تكون الأشياء المذكورة بعده من جنس الأشياء المذكورة فيما قبله، ولا يلزم أن يكون التطابق بينهما ظاهرا صريحا، بل وجوده بحيثية من الحيثيات يكفي في ذلك، وههنا كذلك، لأن المذكور بعد قوله: باب، ثلاثة أحاديث: الأول: حديث أبي هريرة، والأصل فيه أنه صلاة كان فيها قنوت، والصلاة التي فيها القنوت قد ذكر فيها التسميع والتحميد معا، ويدل ذكر التحميد فيه على فضله، لأن الموضع كان موضع الدعاء، فدل هذا الحديث المختصر من الأصل على فضيلة التحميد من حيث أنه صلى الله عليه وسلم بينهما في الدعاء، والذي يدل على الفضل في الأصل صريحا يدل على المختصر منه دلالة. الثاني: حديث أنس الذي يدل على أن القنوت كان في المغرب والفجر، والكلام فيه كالكلام في حديث أبي هريرة. الثالث: حديث رفاعة بن رافع، رضي الله تعالى عنه، وفيه الدلالة على فضيلة التحميد صريحا، لأن ابتدار الملائكة إنما كان بسبب ذكر الرجل إياه. فإن قلت: لفظ: باب، هذا هل هو معرب أم مبني؟ قلت: الإعراب لا يكون إلا بعد العقد والتركيب، فلا يكون معربا، بل حكمه حكم أعداد الأسماء من غير تركيب. فافهم.
797 حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال لأقرب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكان أبو هريرة رضي الله تعالى عنه يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعد ما يقول سمع الله لمن حمده فيدعوا للمؤمنين ويلعن الكفار.
وجه ذكر هذا الحديث قد مضى ذكره الآن.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: معاذ بن فضالة، بفتح الفاء: أبو زيد البصري، مر ذكره في: باب النهي عن الاستنجاء باليمين. الثاني: هشام الدستوائي. الثالث: يحيى بن أبي كثير. الرابع: أبو سلمة بن عبد الرحمن. الخامس: أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: عن أبي سلمة وفي رواية مسلم: من طريق معاذ بن هشام عن أبيه عن يحيى: حدثني أبو سلمة. وفيه: أن رواته ما بين بصري ودستوائي ويماني ومدني.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن محمد بن المثنى. وأخرجه أبو داود فيه عن داود بن أمية. وأخرجه النسائي فيه عن سليمان بن مسلم البلخي.
ذكر معناه: قوله: (لأقربن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية مسلم: (لأقربن لكم)، وفي رواية الإسماعيلي (إني لأقربكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية النسائي: (إني لأقربكم شبها بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم). وقال الكرماني: (لأقربن) أي: والله لأقربكم إلى صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لأقرب صلاته إليكم. قلت: (لأقربن) بالباء الموحدة وبنون التأكيد، ومعناه: لآتينكم بما يشبهها وما يقرب منها. وفي نسخة من نسخ أبي داود: (لأقرئن، من القراءة)، ولم يظهر لي وجهها. وفي رواية الطحاوي: قال أبو هريرة: (لأرينكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم). قوله: (فكان أبو هريرة...) إلى آخره، قيل: المرفوع من هذا

72
الحديث وجود القنوت لا وقوعه في الصلوات المذكورة، فإنه موقوف على أبي هريرة، والظاهر أن جميعه مرفوع، يدل عليه: (لأقربن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية مسلم: (لأقربن لكم صلاة النبي صلى الله عليه وسلم)، ثم إنه فسر ذلك بقوله: (فكان أبو هريرة...) إلى آخره، و: الفاء فيه تفسيرية. قوله: (في الركعة الآخرة)، هذه رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (في الركعة الأخرى).
ذكر ما يستفاد منه: استدل به من يرى بالقنوت في الصلوات المذكور، وعند الظاهرية: القنوت فعل حسن في جميع الصلوات، وعند ابن سيرين وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق: القنوت في الفجر بعد الركوع، وحكاه ابن المنذر عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي، رضي الله تعالى عنهم، في قول، وعند مالك وابن أبي ليلى وأحمد في رواية: هو قبل الركوع. وعند أبي حنيفة: القنوت في الوتر خاصة قبل الركوع. وحكى ابن المنذر كذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وأبي
موسى الأشعري والبراء بن عازب وابن عمر وابن عباس وأنس وعمر بن عبد العزيز وعبيدة السلماني وحميد الطويل وعبد الله بن المبارك. وحكى ابن المنذر أيضا التخيير قبل الركوع وبعده عن أنس وأيوب ابن أبي نميمة وأحمد بن حنبل. وقال أبو داود، قال أحمد: كل ما روى البصريون عن عمر في القنوت فهو بعد الركوع، وروى الكوفيون قبل الركوع. وقال الترمذي: وقال أحمد وإسحاق: لا يقنت في الفجر إلا عند نازلة تنزل بالمسلمين، فإذا نزلت نازلة فللإمام أن يدعو لجيوش المسلمين. وقال سفيان الثوري: إن قنت في الفجر فحسن، وإن لم يقنت فحسن، واختار أن لا يقنت، ولم ير ابن المبارك القنوت في الفجر. وقال الطحاوي: حدثنا ابن أبي داود حدثنا المقدمي حدثنا أبو معشر حدثنا أبو حمزة عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود، قال: (قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهرا يدعو على عصية وذكوان، فلما ظهر عليهم ترك القنوت). وكان ابن مسعود لا يقنت في صلاته. ثم قال: فهذا ابن مسعود يخبر أن قنوت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقنته إنما كان من أجل من كان يدعو عليه، وأنه قد كان ترك ذلك فصار القنوت منسوخا، فلم يكن هو من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقنت. وكان أحد من روى عنه صلى الله عليه وسلم أيضا عبد الله بن عمر، ثم أخبر أن الله عز وجل نسخ ذلك حين أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم: * (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون) * (آل عمران: 128). فصار ذلك عند ابن عمر منسوخا أيضا، فلم يكن هو يقنت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينكر على من كان يقنت، وكان أحد من روى عنه القنوت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر، فأخبر في حديثه بأن ما كان يقنت به رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاء على من كان يدعو عليه، وأن الله عز وجل نسخ ذلك بقوله: * (ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم) * (آل عمران: 128). الآية ففي ذلك أيضا وجوب وجوب ترك القنوت في الفجر. فإن قلت: قد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت في الصبح بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف تكون الآية ناسخة لجملة القنوت؟ قلت: يحتمل أن يكون نزول هذه الآية لم يكن أبو هريرة علمه، فكان يعمل على ما علم من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقنوته إلى أن مات، لأن الحجة لم تثبت عنده بخلاف ذلك، ألا ترى إلى أن عبد الله بن عمر وعبد الرحمن ابن أبي بكر، رضي الله تعالى عنهم، لما علما بنزول هذه الآية وعلما كونها ناسخة لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يفعل تركا القنوت.
186 - (حدثنا عبد الله بن أبي الأسود قال حدثنا إسماعيل عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال كان القنوت في المغرب والفجر)
قد ذكرنا وجه إيراد هذا الحديث هنا في أول باب مجردا.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول عبد الله بن محمد ابن أبي الأسود واسم أبي الأسود حميد بن الأسود أبو بكر البصري مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين. الثاني إسماعيل بن علية. الثالث خالد بن مهران الحذاء. الرابع أبو قلابة بكسر القاف عبد الله بن زيد بن عمرو الجرمي. الخامس أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في موضعين وفيه أن رواته كلهم بصريون وفيه أن شيخ البخاري من أفراده والحديث أخرجه

73
البخاري أيضا في الوتر عن مسدد عن ابن علية قوله ' كان القنوت ' يعني في أول الأمر واحتج بهذا على أن قول الصحابي كنا نفعل كذا له حكم الرفع وإن لم يقيده بزمن النبي
قاله الحاكم. ثم اعلم أن عبارة كلام أنس تدل على أن القنوت كان في صلاة المغرب والفجر ثم ترك ويدل عليه ما رواه أبو داود حدثنا أبو الوليد حدثنا حماد بن سلمة عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك ' أن النبي
قنت شهرا ثم تركه ' انتهى وقوله ' ثم تركه ' يدل على أن القنوت كان في الفرائض ثم نسخ (فإن قلت) قال الخطابي معنى قوله ' ثم تركه ' أي ترك الدعاء على هؤلاء القبائل المذكورة في حديث ابن عباس أو ترك القنوت في الصلوات الأربع ولم يتركه في صلاة الفجر (قلت) هذا كلام متحكم متعصب بلا دليل فإن الضمير في تركه يرجع إلى القنوت الذي يدل عليه لفظ قنت وهو عام يتناول جميع القنوت الذي كان في الصلوات وتخصيص الفجر من بينها بلا دليل في اللفظ يدل عليه باطل وقوله ' أي ترك الدعاء ' لا يصح لأن الدعاء لم يمض ذكره في هذا الحديث ولئن سلمنا فالدعاء هو عين القنوت وما ثم شيء غيره فيكون قد ترك القنوت والترك بعد العمل نسخ (فإن قلت) روى عبد الرزاق في مصنفه أخبرنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أنس بن مالك ' قال ما زال رسول الله
يقنت في الفجر حتى فارق الدنيا ' ومن طريق عبد الرزاق رواه الدارقطني في سننه وإسحاق بن راهويه في مسنده (قلت) قال ابن الجوزي في العلل المتناهية هذا حديث لا يصح فإن أبا جعفر الرازي اسمه عيسى بن ماهان وقال ابن المديني كان يخلط وقال يحيى كان يخطئ وقال أحمد ليس بالقوي في الحديث وقال أبو زرعة كان يتهم كثيرا وقال ابن حبان كان ينفرد بالمناكير عن المشاهير انتهى. ورواه الطحاوي في شرح الآثار وسكت عنه إلا أنه قال وهو معارض بما روي عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه
إنما قنت شهرا يدعو على أحياء من العرب ثم تركه وروى الطبراني في معجمه حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا غالب بن فرقد الطحان قال كنت عند أنس بن مالك شهرين فلم يقنت في صلاة الغداة انتهى فهذا يدل على أن القنوت كان ثم نسخ إذ لو لم ينسخ لم يكن أنس يتركه (فإن قلت) قال صاحب التنقيح على التحقيق هذا الحديث أعني حديث عبد الرزاق المذكور آنفا أجود أحاديثهم وذكر جماعة وثقوا أبا جعفر الرازي (قلت) قال هو أيضا وإن صح فهو محمول على أنه ما زال يقنت في النوازل أو على أنه ما زال يطول في الصلاة فإن القنوت لفظ مشترك بين الطاعة والقيام والخشوع والسكوت وغير ذلك قال الله تعالى * (إن إبراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا) * وقال * (أمن هو قانت آناء الليل) * وقال * (ومن يقنت منكم لله ورسوله) * وقال * (يا مريم اقنتي) * وقال * (وقوموا لله قانتين) *
وقال * (وكل له قانتون) * وفي الحديث ' أفضل الصلاة القنوت '
799 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نعيم بن عبد الله المجمر عن علي بن يحيى بن خلاد الزرقي عن أبيه عن رفاعة بن رافع الزرقي قال كنا يوما نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال سمع الله لمن حمده قال رجل وراءه ربنا ولك الحمد حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه فلما انصرف قال من المتكلم قال أنا قال رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد بيناه في أول الباب.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعنبي. الثاني: مالك بن أنس. الثالث: نعيم، بضم النون، ابن عبد الله المجمر، بلفظ الفاعل من الإجمار، وقد مر ذكره في: باب فضل الوضوء، وهو صفة لنعيم ولأبيه أيضا. الرابع: علي بن يحيى بن خلاد، بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام وبالدال المهملة: الزرقي، بضم الزاي وفتح الراء وبالقاف: الأنصاري المدني: مات سنة تسع وعشرين ومائة. الخامس: أبوه يحيى بن خلاد بن رافع، حنكه النبي، صلى الله عليه وسلم. السادس: عمه رفاعة، بكسر الراء وتخفيف الفاء وبعد الألف عين مهملة:

74
ابن رافع، بالراء وبالفاء: ابن مالك الزرقي، شهد المشاهد، روي له أربعة وعشرون حديثا، للبخاري ثلاثة، مات زمن معاوية، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في خمسة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: عن علي بن يحيى، وفي رواية ابن خزيمة: أن علي بن يحيى حدثه. وفيه: أن رجاله كلهم مدنيون. وفيه: رواية الأكابر عن الأصاغر، لأن نعيما أكبر سنا من علي بن يحيى، وأقدم سماعا منه. وفيه: رواية ثلاثة من التابعين في نسق واحد، وهم من بين مالك والصحابي. وفيه: من وجه رواية الصحابي عن الصحابي، لأن يحيى بن خلاد مذكور في الصحابة، رضي الله تعالى عنهم.
والحديث أخرجه أبو داود أيضا عن القعنبي عن مالك. وأخرجه النسائي عن محمد بن مسلمة عن عبد الرحمن بن القاسم عن مالك به.
ذكر معناه قوله: (يوما)، يعني: في يوم من الأيام. قوله: (قال رجل وراءه) أي: وراء النبي، صلى الله عليه وسلم، ولفظ: وراءه، في رواية الكشميهني، وليس بموجود في رواية غيره، والمراد بهذا الرجل هو: رفاعة بن رافع راوي الخبر، قاله ابن بشكوال، واحتج في ذلك بما رواه النسائي وغيره: عن قتيبة عن رفاعة بن يحيى الزرقي عن عم أبيه معاذ بن رفاعة عن أبيه، قال: (صليت خلف النبي، صلى الله عليه وسلم، فعطست فقلت: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، انصرف فقال: من المتكلم في الصلاة؟ فلم يكلمه أحد، ثم قالها الثانية: من المتكلم في الصلاة؟ فقال رفاعة بن رافع: أنا يا رسول الله. قال: كيف قلت؟ قال: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه مباركا عليه كما يحب ربنا ويرضى، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا أيهم يصعد بها). انتهى. قيل: هذا التفسير فيه نظر لاختلاف القصة؟ وأجيب بأنه لا تعارض بين الحديثين لاحتمال أنه وقع عطاسه عند رفع رأس النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر نفسه في حديث الباب لقصد إخفاء عمله وطريق التجريد، ويجوز أن يكون بعض الرواة نسي اسمه وذكره بلفظ الرجل، وأما الزيادة التي في رواية النسائي فلاختصار الراوي إياها، فلا يضر ذلك. فإن قلت: ما هذه الصلاة التي ذكرها رفاعة بقوله: (كنا نصلي يوما)؟ قلت: بين ذلك بشر بن عمر الزهراني في روايته عن رفاعة أن هذه الصلاة كانت صلاة المغرب. قوله: (حمدا)، منصوب بفعل مضمر دل عليه. قوله: (لك الحمد). قوله: (طيبا) أي: خالصا عن الرياء والسمعة. قوله: (مباركا فيه)، أي: كثير الخير. وأما قوله في رواية النسائي: (مباركا عليه)، فالظاهر أنه تأكيد للأول:. وقيل: الأول بمعنى الزيادة والثاني بمعنى البقاء. قوله: (فلما انصرف) أي: من صلاته. قوله: (قال: من المتكلم؟) أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم من المتكلم بهذه الكلمات؟ قوله: (بضعة وثلاثين ملكا)، ويروى: بضعا وثلاثين)، والبضع، بكسر الباء وفتحها: هو ما بين الثلاث والتسع. تقول بضع سنين، وبضعة عشر رجلا وقال الجوهري، إذا جاوزت العشرة ذهب البضع، لا تقول: بضع وعشرون. قلت: الحديث يرد عليه لأنه صلى الله عليه وسلم أفصح الفصحاء، وقد تكلم به. فإن قلت: ما الحكمة في تخصيص هذا العدد بهذا المقدار؟ قلت قد استفتح علي ههنا من الفيض الإلهي أن حروف هذه الكلمات أربعة وثلاثون حرفا، فأنزل الله تعالى بعدد حروفها ملائكة، فتكون أربعة وثلاثين ملكا في مقابلة كل حرف ملك، تعظيما لهذه الكلمات، وقس على هذا ما وقع في رواية النسائي التي ذكرناها الآن، وعلى هذا أيضا ما وقع في حديث مسلم من رواية أنس: (لقد رأيت اثني عشر ملكا يبتدرونها). وفي حديث أبي أيوب عند الطبراني: (ثلاثة عشر)، فإن قلت: هؤلاء الملائكة غير الحفظة أم لا؟ قلت: الظاهر أنهم غيرهم، ويدل عليه حديث أبي هريرة، رواه البخاري ومسلم عنه مرفوعا: (ان لله ملائكة يطوفون في الطريق ويلتمسون أهل الذكر)، وقد يستدل بهذا أن بعض الطاعات قد يكتبها غير الحفظة. قوله: (قال: أنا)، أي: قال الرجل: أنا المتكلم يا رسول الله. فإن قلت: كرر صلى الله عليه وسلم سؤاله في رواية النسائي كما مر، والإجابة كانت واجبة عليه، بل وعلى غيره أيضا ممن سمع رفاعة، فإن سؤاله صلى الله عليه وسلم لم يكن لمعين. قلت: لما لم يكن سؤاله، صلى الله عليه وسلم، لمعين لم تتعين المبادرة بالجواب، لا من المتكلم ولا من غيره، فكأنهم انتظروا من يجيب منهم. فإن قلت:

75
ما حملهم على ذلك؟ قلت: خشية أن يبدو في حقه شيء، ظنا منهم أنه أخطأ فيما فعل، ورجاء أن يقع العفو عنه، والدليل على ظنهم ذلك ما جاء في رواية ابن قانع، من حديث سعيد بن عبد الجبار: عن رفاعة بن يحيى قال رفاعة: (فوددت أني أخرجت من مالي وأني لم أشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة). قوله: (يبتدرونها) أي: يسعون في المبادرة. يقال: ابتدروا الصلاح أي: سارعوا إلى أخذه، وفي رواية النسائي: (أيهم يصعد بها أول). وفي رواية الطبراني، من
حديث أبي أيوب: أيهم، يرفعها. قوله: (أيهم)، بالرفع على أنه مبتدأ وخبره هو قوله: (يكتبها)، ويجوز في: أيهم، النصب على تقدير: ينظرون أيهم يكتبها. وأي: موصولة عند سيبويه، والتقدير: يبتدرون الذي هو يكتبها أول. قوله: (أول)، مبني على الضم بأن حذف المضاف إليه منه، تقديره: أولهم، يعني: كل واحد منهم يسرع ليكتب هذه الكلمات قبل الآخر ويصعد بها إلى حضرة الله تعالى لعظم قدرها. ويروى: (أول) بالفتح ويكون حالا. فإن قلت: ما الفرق بين: يكتبها أول، وبين: يصعد بها؟ قلت: يحمل على أنهم يكتبونها ثم يصعدون بها. وقال الجوهري: أصل أول أو: آل، على وزن أفعل مهموز الوسط، فقلبت الهمزة واوا وأدغمت الواو في الواو، وقيل: أصله: وول، على فوعل، فقلبت الواو الأولى همزة، وإذا جعلته صفة لم تصرفه، تقول: لقيته عاما أول، وإذا لم تجعله صفة صرفته نحو: رأيته أولا.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: ثواب التحميد لله والذكر له. وفيه: دليل على جواز رفع الصوت بالذكر ما لم يشوش على من معه. وفيه: دليل على أن العاطس في الصلاة يحمد الله بغير كراهة، لأنه لم يتعارف جوابا، ولكن لو قال له آخر: يرحمك الله وهو في الصلاة فسدت صلاته، لأنه يجري في مخاطبات الناس، فكان من كلامهم. وبعضهم خصص الحديث بالتطوع وهو غير صحيح لما بينا أنه كان صلاة المغرب، وروي عن أبي حنيفة أن العاطس يحمد الله في نفسه ولا يحرك لسانه، ولو حرك تفسد صلاته، كذا في (المحيط): والصحيح خلاف، هذا كما ذكرنا. وفيه: دليل على أن من كان في الصلاة فسمع عطسة رجل لا يتعين عليه تشميته، ولهذا قلنا لو شمته تفسد صلاته.
127
((باب الإطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع))
أي: هذا باب في بيان الاطمئنان حين يرفع المصلي رأسه من الركوع. قوله: (الإطمأنينة) كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (باب الطمأنينة)، وهي الأصح، والموجودة في اللغة كما ذكرنا في: باب حد إتمام الركوع.
وقال أبو حميد رفع النبي صلى الله عليه وسلم فاستوى جالسا حتى يعود كل فقار مكانه
مطابقته للترجمة في قوله: (فاستوى)، معناه: فاستوى قائما. وقوله: (جالسا)، لم يقع إلا في رواية كريمة، وليس له وجه إلا إذا أريد بالجلوس السكون، فيكون من باب ذكر الملزوم وإرادة اللازم، ومفعول: رفع، محذوف تقديره: رفع رأسه من الركوع، والفقار، بفتح الفاء وتخفيف القاف جمع: فقارة الظهر، وهي خرزاته. والمعنى: حتى يعود جميع الفقار مكانه، وهذا التعليق وصله البخاري في: باب سنة الجلوس للتشهد، على ما يأتي إن شاء الله تعالى.
800 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن ثابت قال كان أنس ينعت لنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فكان يصلي فإذا رفع رأسه من الركوع قام حتى نقول قد نسي (الحديث 800 طرفه في: 821).
مطابقته للترجمة ظاهرة. وأبو الوليد: هشام بن عبد الملك الطيالسي. وهذا الحديث تفرد به البخاري، وساقه شعبة عن ثابت مختصرا، ورواه حماد بن زيد مطولا، كما يأتي في: باب المكث بين السجدتين. قوله: (ينعت)، بفتح العين: أي: يصف. قوله: (حتى نقول)، بالنصب: إلى أن نقول نحن قد نسي وجوب الهوى إلى السجود، هكذا فسره الكرماني. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المراد أنه نسي أنه في الصلاة، وأظن أنه وقت القنوت، حيث كان معتدلا. أو التشهد حيث كان جالسا. قلت: هذه الظنون كلها لا تليق في حق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما كان تطويله في استوائه قائما لأجل الطمأنينة والاعتدال.

76
801 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن البراء رضي الله تعالى عنه قال كان ركوع النبي وسجوده وإذا رفع رأسه من الركوع وبين السجدتين قريبا من السواء. (انظر الحديث 792 وطرفه).
مطابقه للترجمة من حيث إنه لما كان ركوعه صلى الله عليه وسلم ورفع رأسه منه قريبا من السواء، وكان يطمئن في ركوعه وكذلك كان يطمئن في رفع رأسه من ركوعه، طابق الترجمة من هذه الحيثية. وقد مضى هذا الحديث في: باب حد إتمام الركوع والاعتدال، غير أنه رواه هناك: عن بدل بن المحبر عن شعبة عن الحكم بن عتيبة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى... إلى آخره. وههنا: عن أبي الوليد عن شعبة.. إلى آخره. وذكر هناك. قوله: (ما خلا القيام والقعود)، ولم يذكره ههنا. وقد ذكرنا هناك جميع ما يتعلق به من الأشياء.
802 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة قال كان مالك بن الحويرث يرينا كيف كان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم وذاك في غير وقت صلاة فقام فأمكن القيام ثم ركع فأمكن الركوع ثم رفع رأسه فانصب هنية قال فصلى بنا صلاة شيخنا هذا أبي بريد وكان أبو يزيد إذا رفع رأسه من السجدة الآخرة استوى قاعدا ثم نهض
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم رفع رأسه فانصب هنية). وهذا الحديث أخرجه البخاري في: باب من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم عن موسى بن إسماعيل عن وهيب عن أيوب عن أبي قلابة، وههنا: عن سليمان بن حرب عن حماد ابن زيد عن أيوب السختياني عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، ولكن في المتن اختلاف كما ترى، وقد ذكرنا هناك ما يتعلق به من الأشياء، ونذكر ههنا ما لم نذكره هناك للاختلاف في المتن.
قوله: (في غير وقت الصلاة) ويروى: (في غير وقت صلاة)، بدون الألف واللام. قوله: (يرينا)، بضم الياء، من الإراءة. قوله: (وذاك) إشارة إلى فعله صلى الله عليه وسلم من الصلاة في غير وقتها، لأجل التعليم. قوله: (فأمكن) أي: مكن، يقال: مكنه الله من الشيء وأمكنه بمعنى واحد. قوله: (فانصب) بفتح
الصاد المهملة وتشديد الباء الموحدة. قال بعضهم: هو من الصب. قلت: ليس كذلك، بل هو من الإنصاب كأنه كنى عن رجوع أعضائه عن الانحناء إلى القيام بالانصباب، وهذه هي الرواية المشهورة، وهي رواية الأكثرين. وفي رواية الكشميهني: (فانصت)، بالتاء المثناة من فوق من: الإنصات، وهو السكوت. وقال الكرماني: يعني: لم يكبر للهوي في الحال، وقال بعضهم: فيه نظر، والأوجه أن يقال: هو كناية عن سكون أعضائه، عبر عن عدم حركتها بالإنصات، وذلك دال على الطمأنينة. انتهى. قلت: الذي قاله الكرماني هو الأوجه لأن تأخير تكبير الهوي دليل على الطمأنينة، فلا حاجة إلى جعل هذا كناية عن سكون أعضائه، ولا يصار إلى المجاز إلا عند تعذر الحقيقة، كما عرف في موضعه، وحكى ابن التين أن بعضهم ضبطه بالتاء المثناة من فوق المشددة، ثم قال: أصله: انصوت، فأبدل من الواو تاء، ثم أدغمت التاء في الأخرى، وقياس إعلاله: انصات، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها فانقلبت ألفا. قال: ومعنى إنصات: استوت قامته بعد الانحناء، هذا كلام من لم يذق شيئا من الصرف. وقاعدة الصرف لا تقتضي أن تبدل من الواو تاء، بل القاعدة في مثل: انصوت أن تقلب: الواو، ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها، وقد قال الجوهري: وقد أنصت الرجل إذا استوت قامته بعد الانحناء، كأنه أقبل شبابه. قال الشاعر:
* ونصر بن دهمان الهنيدة عاشها
* وتسعين أخرى ثم قوم فانصاتا
*
* وعاد سواد الرأس بعد بياضه
* وراجعه شرخ الشباب الذي فاتا
*
* وراجع أيدا، بعد ضعف وقوة،
* ولكنه من بعد ذا كله ماتا
*
وعن هذا عرفت أن ما حكاه ابن التين تصحيف، ووقع في رواية الإسماعيلي: (فانتصب قائما)، وهذا أظهر وأولى

77
من الكل. قوله: (هنية)، بضم الهاء وفتح النون وتشديد الياء آخر الحروف: أي شيئا قليلا، وقد مر تحقيق هذه اللفظة في: باب ما يقول بعد التكبير. قوله: (قال) أي: أبو قلابة. قوله: (صلاة شيخنا) أي: كصلاة شيخنا هذا، وأشار به إلى عمرو بن سلمة الجرمي، ولفظه في: باب من صلى بالناس وهو لا يريد إلا أن يعلمهم. قال: مثل شيخنا هذا، وكان الشيخ يجلس إذا رفع رأسه من السجود قبل أن ينهض في الركعة الأولى. قوله: (أبي بريد) كنيته عمور بن سلمة، وقد ذكره في ذلك بلفظ الشيخ فقط، وههنا ذكره بلفظ كنيته، ولم يذكر في ذاك ولا في هذا اسمه صريحا، ثم اختلفوا في ضبط هذه الكنية، ففي رواية الأكثرين: أبي يزيد، بفتح الياء آخر الحروف بعدها الزاي، وفي رواية الحموي وكريمة، بضم الباء الموحدة وفتح الراء، وكذا ضبطه مسلم في (الكنى) وقال الغساني: هو بالتحتانية والزاي، من الزيادة، وهكذا روي عن البخاري من جميع الطرق، إلا ما ذكره أبو ذر الهروي عن الحموي عن الفربري فإنه قال: أبي بريد، بضم الباء الموحدة. وقال عبد الغني بن سعيد لم أسمعه من أحد، إلا بالزاي، لكن مسلم أعلم بأسماء المحدثين. قوله: (فكان أبو بريد)، ويروى: (وكان)، بالواو قوله: (قاعدا)، حال من الضمير الذي في (استوى). قوله: (ثم نهض)، يقال: نهض ينهض نهضا ونهوضا: قام. ونهض النبت: استوى.
128
((باب يهوي بالتكبير حين يسجد))
أي: هذا باب ترجمته: يهوي المصلي بالتكبير وقت سجدته. قوله: (يهوي)، روي بضم الياء وفتحها، ومعنى يهوي: ينحط، يقال: هوى يهوي هويا، بالفتح إذا هبط، وهوى يهوى هويا بالضم إذا صعد. وقيل بالعكس، وفي صفته صلى الله عليه وسلم كأنما يهوي من صبب أي ينحط. وفي حديث البراق: (ثم انطلق يهوي) أي: يسرع، وهو يهوى هوى: إذا أحب.
وقال نافع كان ابن عمر يضع يديه قبل ركبتيه
مطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث اشتمالها عليه لأنها في الهوى بالتكبير إلى السجود، فالهوي فعل، والتكبير قول، فكما أن حديث أبي هريرة المذكور في هذا الباب يدل على القول، يدل أثر ابن عمر على الفعل، لأن للهوي إلى السجود صفتين: صفة قولية وصفة فعلية، فأثر ابن عمر إشارة إلى الصفة الفعلية، وأثر أبي هريرة إلى الفعلية والقولية جميعا، فهذا هو السر في هذا الموضع. وقول بعضهم: إن أثر ابن عمر من جملة الترجمة فهو مترجم به لا مترجم له، غير موجه، بل ولا يصح ذلك، لأنه إذا كان من جملة الترجمة يحتاج إلى شيء يذكره يكون مطابقا لها، وليس ذلك بموجود، ثم أن هذا الأثر المعلق أخرجه ابن خزيمة والحاكم والدارقطني والبيهقي والطحاوي من طريق عبد العزيز الدراوردي، فقال الطحاوي: حدثنا علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة، قال: حدثنا أصبغ بن الفرج، قال: حدثنا الدراوردي عن عبيد الله بن عمر عن نافع (عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: أنه إذا كان سجد بدأ بوضع يديه قبل ركبتيه، وكان يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك). ثم قال البيهقي: رواه ابن وهب وأصبغ بن الفرج عن عبد العزيز، ولا أراه إلا وهما، فالمشهور عن ابن عمر ما رواه حماد بن زيد وابن علية عن
أيوب عن نافع. عنه قال: (إذا سجد أحدكم فليضع يديه، فإذا رفع فليرفعهما فإن اليدين يسجدان كما يسجد الوجه). قلت: الذي أخرجه الطحاوي أخرجه ابن خزيمة في (صحيحه) والحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. والحديث الذي علله به فيه نظر، لأن كلا منهما منفصل عن الآخر. وقال الحازمي: اختلف أهل العلم في هذا الباب، فذهب بعضهم إلى أن وضع اليدين قبل الركبتين أولى، وبه قال مالك والأوزاعي والحسن. وفي (المغنى)، وهي رواية عن أحمد وبه قال ابن حزم وخالفهم في ذلك آخرون ورأوا وضع الركبتين قبل اليدين أولى. منهم: عمر بن الخطاب والنخعي ومسلم بن يسار وسفيان بن سعيد والشافعي وأحمد وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق وأهل الكوفة. وفي (المصنف) زاد: أبا قلابة ومحمد بن سيرين، وقال أبو إسحاق: كان أصحاب عبد الله إذا انحطوا للسجود وقعت ركبهم قبل أيديهم، وحكاه البيهقي أيضا عن ابن مسعود، وحكاه القاضي أبو الطيب عن عامة الفقهاء، وحكاه ابن بطال عن ابن وهب. قال: وهي رواية ابن شعبان عن مالك، وقال قتادة: يضع أهون ذلك عليه، وفي

78
الأسبيجاني عن أبي حنيفة: من آداب الصلاة وضع الركبتين قبل اليدين، واليدين قبل الجبهة، والجبهة قبل الأنف، ففي الوضع يقدم الأقرب إلى الأرض، وفي الرفع يقدم الأقرب إلى السماء: الوجه ثم اليدان ثم الركبتان، وإن كان لابس خف يضع يديه أولا.
803 حدثنا أبو اليمان قال حدثنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وأبو سلمة بن عبد الرحمن أن أبا هريرة كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة وغيرها في رمضان وغيره فيكبر حين يقوم ثم يكبر حين يركع ثم يقول سمع الله لمن حمده ثم يقول ربنا ولك الحمد قبل أن يسجد ثم يقول الله أكبر حين يهوي ساجدا ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود ثم يكبر حين يسجد ثم يكبر حين يرفع رأسه من السجود ثم يكبر حين يقوم من الجلوس في الاثنتين ويفعل ذلك في كل ركعة حتى يفرغ من الصلاة ثم يقول حين ينصرف والذي نفسي بيده إني لأقربكم شبها بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كانت هذه لصلاته حتى فارق الدنيا. قالا وقال أبو هريرة رضي الله عنه وكان رسول الله
حين يرفع رأسه يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد يدعو لرجال فيسميهم بأسمائهم فيقول اللهم أنج الوليد ابن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف وأهل المشرق يومئذ من مضر مخالفون له)
مطابقته للترجمة في قوله ' ثم يقول الله أكبر حين يهوي ساجدا '
(ذكر رجاله) وهم ستة كلهم ذكروا غيرة مرة وأبو اليمان الحكم بن نافع وشعيب بن أبي حمزة والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والإخبار كذلك في موضع والإخبار بصورة الإفراد في موضع وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه ثلاثة بالكنى وفيه الزهري يروى عن اثنين وفيه أن رواته ما بين حمصيين ومدنيين والحديث أخرجه أبو داود في الصلاة عن عمرو بن عثمان عن أبيه وأخرجه النسائي فيه عن نصر بن علي وسوار بن عبد الله
(ذكر معناه) قوله ' أن أبا هريرة كان يكبر ' وزاد النسائي من طريق يونس عن الزهري حين استخلفه مروان على المدينة قوله ' ثم يقول الله أكبر ' إنما قال هنا ' الله أكبر ' بالجملة الاسمية وفي سائر المواضع ' ثم يكبر ' بالجملة الفعلية المضارعية لأن سياق الكلام يدل على ما يدل عليه عقد الباب على هذا التكبير فأراد أن يصرح بما هو المقصود نصا على لفظة قوله ' حين ينصرف ' أي من الصلاة قوله ' إن كانت هذه لصلاته ' كلمة إن هذه مخففة من الثقيلة وأصلها أنه أي أن الشأن وقوله ' هذه ' اسم كانت إشارة إلى الصلاة التي صلاها أبو هريرة رضي الله تعالى عنه وقوله ' لصلاته ' خبر كانت واللام فيه للتأكيد وهي مفتوحة وقال أبو داود في سننه بعد أن روى هذا الحديث هذا الكلام الأخير يجعله مالك والزبيدي وغيرهما عن الزهري عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنه يعني يجعله مرسلا قاله بعضهم (قلت) هو قسم من أقسام المدرج ولكن لا يلزم من ذلك أن لا يكون الزهري رواه أيضا عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي أبو الحسين رضي الله تعالى عنهما أو أبو الحسن المدني وهو زين العابدين رضي الله تعالى عنه وقال أحمد بن عبد الله هو تابعي ثقة توفي بالمدينة سنة أربع وتسعين روى له الجماعة قوله ' قالا ' يعني أبا بكر بن عبد الرحمن وأبا سلمة المذكورين وهو موصول بالإسناد

79
المذكور إليهما قوله ' يدعو ' قال الكرماني هو خبر آخر أو هو عطف على بقول بدون حرف العطف (قلت) الأوجه أن يكون حالا من الضمير الذي في يقول من الأحوال المقدرة قوله ' الرجال ' أي من المسلمين واللام تتعلق بقوله ' يدعو ' قوله ' فيسميهم ' الفاء فيه للتفسير قوله ' أنج ' بفتح الهمزة أمر من أنجى ينجي إنجاء والأمر في مثل هذا التماس وطلب قوله ' الوليد ' بفتح الواو وكسر اللام في اللفظين والوليد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله المخزومي أخو خالد بن الوليد أسر يوم بدر كافرا فلما أفدي أسلم فقيل له هلا أسلمت قبل أن تفتدى فقال كرهت أن يظن بي أني أسلمت جزعا فحبس بمكة ثم أفلت من أسارتهم بدعاء رسول الله
ولحق برسول الله
وقال الذهبي أسره عبد الله بن جحش يوم بدر وذهبوا به إلى مكة فأسلم فحبسوه بمكة وكان رسول الله
يدعو له في القنوت ثم أنه نجا فتوصل إلى المدينة فمات بها في حياة رسول الله
قوله ' وسلمة بن هشام ' بالنصب عطفا على ما قبله أي أنج سلمة بن هشام بن المغيرة المذكور آنفا أخو أبي جهل وكان قديم الإسلام وعذب في الله ومنعوه أن يهاجر إلى المدينة قال الذهبي هاجر إلى الحبشة ثم قدم مكة فمنعوه من الهجرة وعذبوه ثم هاجر بعد الخندق وشهد مؤتة واستشهد بمرج الصفرة وقيل بأجنادين قوله ' وعياش ' بفتح العين وتشديد الياء آخر الحروف وبعد الألف شين معجمة ابن أبي ربيعة واسم أبي ربيعة عمرو بن المغيرة المذكور وهو أخو أبي جهل أيضا لأمه أسلم قديما وأوثقه أبو
جهل بمكة قتل يوم اليرموك بالشام وهؤلاء الثلاثة أسباط المغيرة كل واحد منهم ابن عم الآخر قوله ' والمستضعفين ' أي وأنج المستضعفين من المؤمنين وهو من قبيل عطف العام على الخاص عكس قوله ' وملائكته وجبريل ' قوله ' اشدد ' بضم الهمزة أمر من شد قوله ' وطأتك ' بفتح الواو وسكون الطاء المهملة وفتح الهمزة من الوطء وهو الدوس بالقدم في الأصل ومعناه ههنا خذهم أخذا شديدا ومنه قول الشاعر
* ووطئتنا وطأ على حنق
* وطأ المقيد ثابت الهرم
*
وكان حماد بن سلمة يرويه اللهم اشدد وطأتك على مضر الوطأ الإثبات والغمز في الأرض ومضر بضم الميم وفتح الضاد المعجمة ابن نزار بن معد بن عدنان وهو شعب عظيم فيه قبائل كثيرة كقريش وهذيل وأسد وتميم وضبة ومزبنة والضباب وغيرهم ومضر شعب رسول الله
واشتقاقه من اللبن المضير وهو الحامض قاله ابن دريد قوله ' اجعلها ' أي الوطأة قوله ' كسني يوسف ' أي كالسنين التي كانت في زمن يوسف عليه الصلاة والسلام مقحطة ووجه الشبه امتداد زمان المحنة والبلاء والبلوغ غاية الشدة والضراء وجمع السنة بالواو والنون شاذ من جهة أنه ليس لذوي العقول ومن جهة تغير مفرده بكسر أوله ولهذا جعل بعضهم حكمه كحكم المفردات وجعل نونه متعقب الإعراب كقول الشاعر
* دعاني من نجد فإن سنينه
* لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا
*
(ذكر ما يستفاد منه) فيه إثبات التكبير في كل خفض ورفع إلا في رفعه من الركوع يقول سمع الله لمن حمده. وفيه في قوله ' ثم يكبر حين يركع ' إلى آخره دليل على مقارنة التكبير لهذه الحركات وبسطه عليها فيبدأ بالتكبير حين يسرع في الانتقال إلى الركوع ويمده حتى يصل إلى حد الراكعين ثم يشرع في تسبيح الركوع ويبدأ بالتكبير حين يشرع في الهوى إلى السجود ويمده حتى يضع جبهته على الأرض ثم يشرع في تسبيح السجود. وفيه يبدأ في قوله سمع الله لمن حمده حتى يشرع في الرفع من الركوع ويمده حتى ينتصب قائما. ثم هل يجمع بين التسميع والتحميد قد ذكرنا الخلاف فيه وظاهر هذا الحديث أنه يجمع بينهما وعند أبي حنيفة يكتفي بالتسميع إن كان إماما وقد مر وجهه. وفيه أنه يشرع في التكبير للقيام من التشهد الأول ويمده حتى ينتصب قائما هذا مذهب العلماء كافة إلا ما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه كان لا يكبر للقيام من الركعتين حتى يستوي قائما وبه قال مالك وقال الخطابي فيه إثبات القنوت وأن موضعه عند الرفع من الركوع وقد قلنا أن هذا منسوخ وبينا وجهه. وقال وفيه أن تسمية الرجال بأسمائهم فيما يدعى لهم وعليهم لا تفسد الصلاة قلنا النسخ شمل الكل

80
805 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان غير مرة عن الزهري قال سمعت أنس بن مالك يقول سقط رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فرس وربما قال سفيان من فرس فجحش شقه الأيمن فدخلنا عليه نعوده فحضرت الصلاة فصلى بنا قاعدا وقعدنا. وقال سفيان مرة صلينا قعودا فلما قضى الصلاة قال إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا وإذا رفع فارفعوا وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد وإذا سجد فاسجدوا قال سفيان كذا جاء به معمر قلت نعم قال لقد حفظ كذا قال الزهري ولك الحمد حفظت من شقه الأيمن فلما خرجنا من عند الزهري قال ابن جريج وأنا عنده فجحش ساقه الأيمن..
مطابقته للترجمة تؤخذ بالتعسف، لأن قوله: (وإذا سجد فاسجدوا) يقتضي أن يسجد القوم حين يسجد الإمام، ولا يكون ذلك إلا بالهوي، وقد ذكرنا في أول الباب أن للهوي صفتين: قولية وفعلية، وحديث أنس هذا يدل على الصفة الفعلية، وحديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، السابق يدل عليهما جميعا، وكلاهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد علم أن هوي النبي صلى الله عليه وسلم إلى السجود كان مشتملا على الفعل والقول، وحديث أنس هذا أيضا يدل عليهما بهذه الطريقة، لأنه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة وأمورها. فافهم.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: علي بن عبد الله بن جعفر أبو الحسن المدني، يقال له: ابن المديني البصري، وقد مر غير مرة. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: تأكيد رواية سفيان عن الزهري بقوله: غير مرة، لأنه يدل على التكرار. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: أن رواته ما بين بصري ومكي ومدني.
وقد روى البخاري هذا الحديث في: باب إنما جعل الإمام ليؤتم به، عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن ابن شهاب عن أنس. وأخرجه أيضا عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، في هذا الباب، وقد ذكرنا فيه ما يتعلق به من الأشياء التي يحتاج إليها، ونذكر ههنا ما لم نذكر هناك.
فقوله: (ربما)، كلمة: ربما، في الأصل للتقليل، ولكن تستعمل كثيرا للتكثير. قوله: (من فرس) يعني بلفظ: من، لا بلفظ: عن، وفيه إشارة إلى محافظة علي بن عبد الله على الإتيان بألفاظ الحديث، وتنبيه على تثبته في هذا الباب. قوله: (فجحش)، بضم الجم وكسر الحاء المهملة أي: خدش، ووقع في قصر الصلاة عن ابن عيينة بلفظ: (جحش أو خدش) على الشك. قوله: (نعوده)، جملة وقعت حالا. قوله: (قعودا)، يجوز أن يكون مصدرا بمعنى: قاعدين، ويجوز أن يكون جمع قاعد، كالركوع جمع راكع، والسجود جمع ساجد. وعلى كل حال انتصابه على الحالية. قوله: (قال) أي: النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (معمر)،
بفتح الميمين ابن راشد البصري، أي: قال سفيان سائلا: من ابن المديني علي بن عبد الله المذكور مثل الذي رويته أنا؟ أورده معمر أيضا، وهمزة الاستفهام مقدرة قبل قوله: كذا، قوله: (قلت: نعم) القائل علي بن عبد الله. قوله: (قال: لقد حفظ) أي: قال سفيان: والله لقد حفظ معمر عن الزهري حفظا صحيحا مضبوطا. قوله: (كذا قال الزهري) أي: كما قال معمر قال الزهري: (ولك الحمد) أي: بالواو، وهذا تفسير وبيان لقوله: (كذا قال) أي: حفظ كما قال الزهري بالواو، وفيه إشارة إلى أن بعض أصحاب الزهري لم يذكروا الواو في: ولك الحمد، كما وقع في رواية الليث وغيره عن الزهري، وقد تقدم ذلك في: باب إيجاب التكبير. قوله: (حفظت)، أي: قال سفيان: حفظت من الزهري أنه قال فجحش من شقه الأيمن، (فلما خرجنا من عند الزهري قال ابن جريج)، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج: قوله: (وأنا عنده) أي: وأنا كنت عند الزهري، فقال: فجحش ساقه الأيمن، بلفظ الساق بدل الشق، وقال الكرماني: (وأنا عنده) عطف على مقدر، أو هو جملة حالية من فاعل قال مقدرا، إذ تقديره: قال

81
الزهري: وأنا عنده. ويحتمل أن يكون هو مقول سفيان لا مقول ابن جريج، والضمير حينئذ راجع إلى ابن جريج لا إلى الزهري، رضي الله تعالى عنه. قلت: يجوز الوجهان، ولكن الوجه الثاني هو الأوجه، ومقول ابن جريج هو قوله: (جحش...) إلى آخره.
129
((باب فضل السجود))
أي: هذا باب في بيان فضل السجود.
806 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبرهما أن الناس قالوا يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب قالوا لا يا رسول الله قال فهل تمارون في الشمس ليس دونها سحاب قالوا لا قال فإنكم ترونه كذلك يحشر الناس يوم القيامة فيقول من كان يعبد شيئا فليتبع فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبع القمر ومنهم من يتبع الطواغيت وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا فإذا جاء ربنا عرفناه فيأتيهم الله فيقول أنا ربكم فيقولون أنت ربنا فيدعوهم فيضرب الصراط بين ظهراني جهنم فأكون أول من يجوز من الرسل بأمته ولا يتكلم يومئذ أحد إلا الرسل وكلام الرسل يومئذ اللهم سلم سلم وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان قالوا نعم قال فإنها مثل شوك السعدان غير أنه لا يعلم قدر عظمها إلا الله تخطف الناس بأعمالهم فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثم ينجو حتى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السجود وحرم الله على النار أن تأكل أثرع السجود فيخرجون من النار فكل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود فيخرجون من النار قد امتحشوا فيصب عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل ثم يفرغ الله من القضاء بين العباد ويبقى رجل بين الجنة والنار وهو آخر أهل النار دخولا الجنة مقبلا بوجهه قبل النار فيقول يا رب اصرف وجهي عن النار قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها فيقول هل عسيت إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك فيقول لا وعزتك فيعطي الله ما يشاء من عهد وميثاق فيصرف الله وجهه عن النار فإذا أقبل به على الجنة رأي بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت ثم قال يا رب قدمني عند باب الجنة فيقول الله له أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي كنت سألت فيقول يا رب لا أكون أشقى خلقك فيقول فما عسيت إن اعطيت ذلك أن لا تسأل غيره فيقول لا وعزتك لا أسأل

82
غير ذلك فيعطي ربه ما شاء من عهد وميثاق فيقدمه إلى باب الجنة فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النضرة والسرور فيسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول يا رب أدخلني الجنة فيقول الله تعالى ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الذي أعطيت فيقول يا رب لا تجعلني أشقى خلقك فيضحك الله عز وجل منه ثم يأذن له في دخول الجنة فيقول له تمن فيتمنى حتى إذا انقطعت أمنيته قال الله عز وجل زد من كذا وكذا أقبل يذكره ربه عز وجل حتى إذا انتهت به الأماني قال الله تعالى لك ذلك ومثله معه. قال أبو سعيد الخدري لأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال الله عز وجل لك ذلك وعشرة أمثاله قال أبو هريرة لم أحفظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قوله لك ذلك ومثله معه. قال أبو سعيد الخدري إني سمعته يقول ذلك لك وعشرة أمثاله.
مطابقته للترجمة في قوله: (وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود) إلى قوله: فيخرجون).
الصلاة جزء 6 حتى ص 83
ذكر رجاله: وهم ستة كلهم قد ذكروا غير مرة، وأبو اليمان: الحكم بن نافع، والزهري: محمد بن مسلم.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وبصيغة الإخبار كذلك في موضع، وبصيغة الإفراد من الماضي في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين حمصيين ومدنيين. وفيه: ثلاثة من التابعين، وهم: الزهري وسعيد وعطاء.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في صفة الجنة عن أبي اليمان عن شعيب. وأخرجه مسلم في الإيمان عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي عن أبي اليمان به.
ذكر معناه وإعرابه: قوله: (هل نرى)، أي: هل نبصر، إذ لو كان بمعنى العلم لاحتاج إلى مفعول آخر، ولما كان للتقييد بيوم القيامة فائدة. قوله: (هل تمارون)، بضم التاء والراء، من المماراة من باب المفاعلة، وهي: المجادلة على مذهب الشك والريبة. وفي رواية الأصيلي، بفتح التاء والراء، وأصله: تتمارون من التماري من باب التفاعل، فحذفت إحدى التاءين كما في: * (نارا تلظى) * (الليل: 14). أصله: تتلظى، ومعنى التماري: الشك، من المرية بكسر الميم وضمها
، وقرئ بهما في قوله تعالى: * (فلا تك في مرية منه) * (هود: 17). قال ثعلب: هما لغتان، وثلاثي هذا اللفظ: مرىء معتل اللام اليائي، وقال الزمخشري: واشتقاقه من: مري الناقة، وقال الجوهري: مريت الناقة مريا إذا مسحت ضرعها لندر، وأمرت الناقة إذا أدر لبنا. قوله: (فإنكم ترونه) أي: ترون الله كذلك، أي: بلا مرية ظاهرا جليا، ولا يلزم منه المشابهة في الجهة والمقابلة وخروج الشعاع ونحوهه. لأنها أمور لازمة للرؤية عادة لا عقلا. قوله: (يحشر الناس)، ابتداء كلام مستقل بذاته. قوله: (فيقول)، أي: فيقول الله تبارك وتعالى، أو: فيقول القائل. قوله: (فليتبعه)، ويروى: (فليتبع)، بلا ضمير المفعول. قوله: (الطواغيت)، جمع طاغوت، قال ابن سيده: الطاغوت ما عبد من دون الله عز وجل، فيقع على الواحد والجمع والمذكر والمؤنث، ووزنه: فعلوت، وإنما هو: طغيوت، قدمت الياء قبل الغين وهي مفتوحة وقبلها فتحة فقلبت ألفا. انتهى. قلت: يعكر عليه. قوله: (فمنهم من يتبع الشمس ومنهم من يتبع القمر)، ووجه ذلك أنه يلزم التكرار، وقال القزاز: هو فاعول من: طغوت، وأصله: طاغوه، فحذفوا وجعلوا التاء كأنها عوض عن المحذوف، فقالوا: طاغوت، وإنما جاز فيه التذكير والتأنيث لأن العرب تسمي الكاهن والكاهنة طوغوتا، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم، فيما رواه جابر بن عبد الله عن الطاغوت التي كانوا يتحاكمون إليها، فقال: كانت في جهينة واحدة، وفي أسلم واحدة، وفي كل حي واحدة. وقيل: الطاغوت الشيطان. وقيل: كل معبود من حجر أو غيره فهو جبت وطاغوت. وفي (الغريبين): الطاغوت الصنم. وفي (الصحاح): هو كل رأس في الضلال. وفي (المغيث): هو الشيطان أو ما زين الشيطان لهم أن يعبدوه، وفي (تفسير الطبري):

83
الطاغوت الساحر، قاله أبو العالية ومحمد بن سيرين، وعن سعيد بن جبير وابن جريج: هو الكاهن. وفي (المعاني) للزجاج: الطاغوت مردة أهل الكتاب. وفي (ديوان الأدب): تاؤه غير أصلية. قوله: (وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها) أي: تبقى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والحال أن فيهم منافقيها، فهذا يدل على أن المنافقين يتبعون محمدا صلى الله عليه وسلم لما انكشف لهم من الحقيقة رجاء منهم أن ينتفعوا بذلك، لأنهم كانوا في الدنيا متسترين بهم فتستروا أيضا في الآخرة، واتبعوهم زاعمين الانتفاع بهم حتى ضرب بينهم بسور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. وقال القرطبي: ظن المنافقون أن تسترهم بالمؤمنين في الآخرة ينفعهم كما نفعهم في الدنيا جهلا منهم، فاختلطوا معهم في ذلك اليوم، ويحتمل أن يكونوا حشروا معهم لما كانوا يظهرون من الإسلام، فحفظ ذلك عليهم حتى ميز الله الخبيث من الطيب، ويحتمل أنه لما قيل: ليتبع كل أمة لما كانت تعبد، والمنافقون لم يعبدوا شيئا، فبقوا هنالك حيارى حتى ميزوا. وقيل: هم المطرودون عن الحوض المقول فيهم: سحقا سحقا. قوله: (فيأتيهم الله عز وجل). وفي رواية أخرى: (فيأتيهم في غير الصورة التي يعرفون فيقولون: نعوذ بالله منك). الإتيان هنا إنما هو كشف الحجب التي بين أبصارنا وبين رؤية الله عز وجل، لأن الحركة والانتقال لا تجوز على الله تعالى، لأنها صفات الأجسام المتناهية، والله تعالى لا يوصف بشيء من ذلك، فلم يكن معنى الإتيان إلا ظهوره عز وجل إلى أبصار لم تكن تراه ولا تدركه، والعادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان، فعبر به عن الرؤية مجازآ، لأن الإتيان مستلزم للظهور على المأتي إليه. وقال القرطبي: التسليم الذي كان عليه السلف أسلم. وقال عياض: إن الإتيان فعل من أفعال الله تعالى، سماه إتيانا، وقيل: يأتيهم بعض ملائكته. قال القاضي: وهذا الوجه عندي أشبه بالحديث، قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدوث الظاهرة عليه، أو يكون معناه: يأتيهم في صورة لا تشبه صفات الإل
1764; هية ليختبرهم، وهو آخر امتحان المؤمنين، فإذا قال لهم، هذا الملك أو هذه الصورة: أنا ربكم، ورأوا عليه من علامات المخلوق ما ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم، فيستعيذون بالله تعالى منه، وقال الخطابي: الرؤية هي ثواب الأولياء وكرامات لهم في الجنة غير هذه الرؤية، وإنما تعريضهم هذه الرؤية امتحان من الله تعالى ليقع التمييز بين من عبد الله وبين من عبد الشمس ونحوها، فيتبع كل من الفريقين معبوده، وليس ينكر أن يكون الامتحان إذ ذاك بعد قائما، وحكمه على الخلق جاريا حتى يفرغ من الحساب، ويقع الجزاء بالثواب والعقاب، ثم ينقطع إذا حققت الحقائق. واستقرت أمور المعاد، وأما ذكر الصورة فإنها تقتضي الكيفية والله منزه عن ذلك، فيأول إما بأن تكون الصورة بمعنى الصفة، كقولك: صورة هذا الأمر كذا، تريد صفته. وإما بأنه خرج على نوع من المطابقة، لأن سائر المعبودات المذكورة لها صورة: كالشمس وغيرها. قوله: (هذا مكاننا) جملة من المبتدأ والخبر، إنما قالوا: هذا مكاننا من أجل أن معهم من المنافقين الذين لا يستحقون الرؤية وهم عن ربهم محجوبون، فلما تميزوا عنهم ارتفع الحجاب، فقالوا عندما رأوه: أنت ربنا، وإنما عرفوا أنه ربهم حتى قالوا: أنت ربنا، إما بخلق الله تعالى فيهم علما به، وإما بما عرفوا من وصف الأنبياء لهم في الدنيا، وإما بأن جميع العلوم يوم القيامة تصير ضرورية. قوله: (فيأتيهم الله، عز وجل، فيقول: أنا ربكم)، إنما كرر هذا اللفظ لأن الأول: ظهور غير واضح لبقاء بعض الحجب مثلا، والثاني: ظهور واضح في الغاية، أبهم أولا ثم فسره ثانيا بزيادة بيان قولهم، وذكر المكان ودعوتهم إلى دار السلام. وقال الكرماني: أو يراد من الأول إتيان الملك ففيه إضمار. وقال: فإن قلت: الملك معصوم، فكيف يقول: أنا ربكم، وهو كذب؟ قلت: قيل: لا نسلم عصمته من مثل هذه الصغيرة، ولئن سلمنا ذلك فجاز لامتحان المؤمنين. وقال: فإن قلت: المنافقون لا يرون الله، فما توجيه الحديث؟ قلت: ليس فيه التصريح برؤيتهم، وإنما فيه أن الأمة تراه، وهذا لا يقتي أن يراه جميعها، كما يقال: قتله بنو تميم، والقاتل واحد منهم، ثم لو ثبت التصريح به عموما فهو مخصص بالإجماع، وسائر الأدلة، أو خصوصا فهو معارض بمثلها، وهذا من المتشابهات في أمثالها. والأمة طائفتان: مفوضة يفوضون الأمر فيها إلى الله تعالى جازمين بأنه منزه عن النقائص، ومأولة يأولونها على ما يليق به. قوله: (فيدعوهم) أي: فيدعوهم الله تعالى. قوله: (فيضرب الصراط)، ويروى: (ويضرب الصراط) بالواو، وفي بعض النسخ: (ثم يضرب الصراط)، والصراط: جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف، عليه ملائكة يحبسون العباد في سبع مواطن ويسألونهم عن سبع خصال: في الأول عن الإيمان، وفي الثاني عن الصلاة، وفي الثالث عن الزكاة، وفي الرابع عن شهر رمضان، وفي الخامس

84
عن الحج والعمرة، وفي السادس عن الوضوء، وفي السابع عن الغسل من الجنابة. قوله: (بين ظهراني جهنم)، كذا في رواية العذري، وفي رواية غيره: (بين
ظهري جهنم). وقال ابن الجوزي: أي على وسطها، يقال: نزلت بين ظهريهم وظهرانيهم، بفتح النون أي: في وسطهم متمسكا بينهم لا في أطرافهم، والألف والنون زيدتا للمبالغة. وقيل: لفظ الظهر مقحم ومعناه: يمد الصراط عليها. قوله: (فأكون أول من يجيز من الرسل بأمته)، بضم الياء وكسر الجيم، ثم زاي بمعنى: أول من يمضي عليه ويقطعه، يقال: أجزت الوادي وجزته: لغتان بمعنى، وقال الأصمعي: أجزته قطعته، وجزته مشيت عليه. وقال القرطبي: إذا كان رباعيا معناه: لا يجوز أحد على الصراط حتى يجوز صلى الله عليه وسلم، وأمته، فكأنه يجيز الناس. وفي (المحكم): جاز الموضع جوزا وجوزا وجوازا ومجازا، وجاوزه وأجاز جوازا وأجازه وأجاز غيره، وقيل: جازه سار فيه، وأجازه خلفه وقطعه، وأجازه: أنفذه. قوله: (ولا يتكلم يومئذ أحد) أي: لشدة الأهوال، والمراد: لا يتكلم في حال الإجازة وإلا ففي يوم القيامة مواطن يتكلم الناس فيها. وتجادل كل نفس عن نفسها. قوله: (سلم سلم)، هذا من الرسل لكمال شفقتهم ورحمتهم للخلق. قوله: (كلاليب)، جمع كلوب، بفتح الكاف وضم اللام المشددة. وفي (المحكم): الكلاب والكلوب: السفود، لأنه يعلق الشواء، ويتحلله هذه عن اللحياني، والكلاب والكلوب: حديدة مقطوفة كالخطاف. وفي (المنتهى) لأبي المعالي: الكلوب: المنشال. والخطاف، وكذلك الكلاب. قوله: (مثل شوك السعدان)، قال أبو حنيفة في (كتاب النبات): واحده سعدانة، وقال أبو زياد في (الأحرار): السعدان ضرب المثل به: مرعى ولا كالسعدان. وهي غبراء اللون حلوة يأكلها كل شيء، وليست كبيرة، ولها إذا يبست شوكة مفلطحة كأنها درهم، وهي شوكة ضعيفة. ومنابت السعدان السهول، وقيل: للسعدان شوك كحسك القطب مفلطح كالفلكة، وقال المبرد: هو نبت كثير الحسك، وقال الأخفش: لا ساق له. وفي (الجامع) للقزاز: شوك وحسك عريض. وقال الكرماني: هو نبت له شوك عظيم من كل الجوانب مثل الحسك، وهو أفضل مراعي الإبل ويقال: مرعى ولا كالسعدان. قوله: (لا يعلم قدر عظمها إلا الله) وفي بعض النسخ: (لا يعلم ما قدر عظمها إلا الله). وتوجيهه على هذا ما قال القرطبي،. وهو: أن يكون لفظ: قدر، مرفوعا على أنه مبتدأ، ولفظ: ما، استفهاما مقدما خبره: قال: ويجوز أن تكون: ما، زائدة ويكون: قدر، منصوبا على أنه مفعول: لا يعلم. قوله: (تخطف الناس)، قال ثعلب في (الفصيح): خطف بكسر العين في الماضي، وفتحها في المستقبل وحكى غلامه والقزاز عنه: خطف، بكسر العين في الماضي وكسرها في المستقبل، وحكاها الجوهري عن الأخفش. وقال: هي قليلة رديئة لا تكاد تعرف. قال: وقد قرأ بهما يونس في قوله تعالى: * (يخطف أبصاركم) * (البقرة: 20). وفي (الواعي): الخطف الأخذ بسرعة على قدر ذنوبهم. قوله: (من يوبق)، قال ابن قرقول: بباء موحدة عند العذري، ومعناه: يهلك، وهو على صيغة المجهول من: وبق الرجل إذا هلك، وأوبقه الله إذا أهلكه، وفي رواية الطبري: بثاء مثلثة من الوثاق، قوله: (من يخردل) أي: يقطع، يقال: خردات اللحم بالدال والذال: أي قطعته قطعا صغارا. وقال ابن قرقول: يخردل، كذا هو لكافة الرواة، وهو الصواب إلا الأصيلي فإنه ذكره بالجيم، ومعناه: الإشراف على السقوط والهلكة. وفي (المحكم): خردل اللحم قطع أعضاءه وأفراه. وقيل: خردل اللحم وقطعه وفرقه، والذال فيه لغة، ولحم خراديل، والمخردل المصروع. وفي (الصحاح): خردل اللحم أي: قطعه صغارا، وعند أبي عبيد الهروي: المخردل المرمى المصروع، والمعنى أنه تقطعه كلاليب الصلاط حتى يهوي إلى النار. وقال الليث وأبو عبيد: خردلت اللحم إذا فصلت أعضاءه، وزاد أبو عبيد: وخردلته بالدال والذال: قطعته وفرقته. قوله: (من أراد) كلمة: من، موصولة: أي: إذا أراد الله تعالى رحمة الذي أرادهم من أهل النار وهم المؤمنون الخلص، إذ الكافر لا ينجو أبدا من النار ويبقى خالدا فيها. قوله: (بآثار السجود)، اختلف في المراد بها، فقيل: هي الأعضاء السبعة، وهذا هو الظاهر، وقال عياض: المراد الجبهة خاصة، ويؤيد هذا ما في رواية مسلم: أن قوما يخرجون من النار يحترقون فيها ألا دارات وجوههم. قوله: (فكل ابن آدم) أي: فكل أعضاء ابن آدم. قوله: (إلا أثر السجود) أي: مواضع أثره. قوله: (قد امتحشوا)، بتاء مثناة من فوق مفتوحة وحاء مهملة وشين معجمة، ومعناه: احترقوا ويروى بضم التاء وكسر الحاء، وفي بعض الروايات صاروا حمما. وفي (المحكم): المحش: تناول من لهب يحرق الجلد ويبدي العظم. وفي (الجامع): محشته النار تمحشه محشا: إذا أحرقته.

85
وحكى: أمحشته. وقال الداودي: امتحشوا: انقبضوا واسودوا. قوله: (ماء الحياة) هو الذي من شربه أو صب عليه لم يمت أبدا. قوله: (كما تنبت الحبة)، بكسر الحاء هو: بزور الصحراء مما ليس بقوت، ووجه الشبه في سرعة النبات، ويقال: شبه نباته بنبات الحبة لبياضها ولسرعة نباتها لأنها تنبت في يوم وليلة، لأنها رويت من المياء وترددت في غثاء السيل. قوله: (في حميل السيل)، بفتح الحاء المهملة وكسر الميم، وهو ما جاء به السيل من طين ونحوه. قوله: (ثم يفرغ الله من القضاء)، اسناد الفراغ إلى الله ليس على سبيل الحقيقة، إذ الفراغ هو الخلاص عن المهام، والله تعالى لا يشغله شأن عن شأن، والمراد منه إتمام الحكم بين العباد بالثواب والعقاب. وقال القرطبي: معناه كمل خروج الموحدين من النار. قوله: (دخولا) نصب على التمييز، ويجوز أن يكون حالا، على أن يكون: دخولا، بمعنى: داخلا. قوله: (الجنة)، بالنصب على أنه مفعول: دخولا. قوله: (مقبلا) نصب على أنه حال من الأحوال المترادفة أو المتداخلة، ويروى: (مقبل)، بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو مقبل بوجهه إلى جهة النار. قوله: (قد قشبني)، بفتح القاف والشين المعجمة المخففة المفتوحة وبالباء الموحدة، وقال السفاقسي: كذا هو عند المحدثين، وكذا ضبطه بعضهم، والذي في اللغة الشين ومعناه سمني، وقال الفارابي في باب: فعل، بفتح العين من الماضي وكسرها من المستقبل، قشبه، أي: سقاه السم، وقشب طعامه أي: سمه. وفي (المنتهى) لأبي المعالي: القشب أخلاط تخلط للنسر فيأكلها فيموت، فيؤخذ ريشه. يقال له: ريش قشيب ومقشوب، وكل مسموم قشيب، وقال أبو عمر: القشب هو السم، وقشبه سقاه السم، وفي (النوادر) للهجري: ومعنى القشب هو السم لغير الناس، يقشب به السباع والطير فيقتلها. وفي (المحكم): القشب والقشيب: السم، والجمع أقشاب، وقشب له: سقاه السم، وقشب الطعام يقشبه قشبا: إذا لطخ بالسم. وفي (كتاب ابن طريف): أقشب الشيء إذا خالطه بما يفسده من سم أو غيره، وعند أبي حنيفة القشب: نبات يقتل الطير. وقال الخطابي: يقال قشبه الدخان إذا ملأ خياشيمه، وأخذ بكظمه وهو انقطاع نفسه، وأصله: خلط السم. يقال: قشبه إذا سمه، ومنه حديث عمر، رضي الله تعالى عنه، (أنه كان بمكة فوجد ريح طيب،
فقال: من قشبنا؟ فقال معاوية: يا أمير المؤمنين دخلت على أم حبيبة فطيبتني). قوله: (وأحرقني ذكاؤها) قال النووي: كذا وقع في جميع الروايات في هذا الحديث: (ذكاؤها) بالمد وبفتح الذال المعجمة ومعناه: لهبها واشتعالها وشدة وهجها، والأشهر في اللغة: ذكاها، مقصورا، وذكر جماعات أن المد والقصر لغتان. انتهى. قال صاحب (التلويح): وفيه نظر. قلت: ذكر وجه النظر وهو أنه عد كتبا عديدة في اللغة وشروح دواوين الشعراء، ثم قال: وكلهم نصوا على قصره لا يذكرون المد في ورد ولا صدر، حاشا ما وقع في (كتاب النبات) لأبي حنيفة الدينوري، فإنه قال في موضع السعار: حر النار وذكااؤها، وفي آخر: ولهبها ذكاء لهبها، وفي موضع آخر: مع ذكاء وقودها، وفي آخر: وقد ضربت العرب المثل بجمر الغضا لذكائه، ورد عليه أبو القاسم علي بن حمزة الأصبهاني فقال: كل هذا غلط، لأن ذكاء النار مقصور يكتب بالألف. لأنه من الواوي من قولهم: ذكت النار تذكو وذكو النار وذكاكها بمعنى، وهو التهابها. ويقال أيضا: ذكت النار تذكو ذكوا وذكوا، فأما ذكاء بالمد فلم يأت عنهم بالمد في النار، وإنما جاء في الفهم. قوله: (هل عسيت)، بفتح السين ذكره صاحب (الفصيح)، وفي (الموعب): لم يعرف الأصمعي: عسيت، بالكسر، قال: وقد ذكره بعض القراء وهو خطأ، وعن الفراء: لعلها لغة نادرة. وفي (شرح المطرزي) عن الفراء: كلام العرب العالي: عسيت، بفتح السين، ومنهم من يقول: عسيت، وقال ابن درستويه في كتابه: (تصحيح الفصيل): العامة تقول: عسيت، بكسر السين وهي لغة شاذة، وقال ابن السكيت في كتابه: (فعلت وأفعلت): عسيت، بالكسر لغة رديئة. وقال ابن قتيبة: ويقولون: ما عسيت، وإلأجود الفتح، كذا قاله ثابت (فيما يلحن فيه). وقال أبو عبيد بن سلام في كتابه (في القراءات): كان نافع يقرأ عسيتم، بالكسر، والقراءة عندنا بالفتح، لأنها أعرب اللغتين، ولو كانت: عسيتم، بالكسر لقرىء: عسى ربنا، أيضا، وهذا الحرف لا نعلمهم اختلفوا في فتحه، وكذلك سائر القرآن، ثم إعلم أن: عسى، من الآدميين يكون للترجي والشك، ومن الله للإيجاب واليقين. قوله: (ذلك) إشارة إلى الصرف الذي يدل عليه. قوله: (إصرف وجهي عن النار). قوله: (فيعطي الله) مفعوله محذوف أي: فيعطي الرجل المذكور. قوله: (ما شاء) ويروى (ما يشاء)، بياء المضارعة. قوله: (العهد والميثاق)، العهد: يأتي لمعان، بمعنى: الحفاظ، ورعاية الحرمة والذمة والأمان واليمين والوصية، والميثاق، العهد أيضا، وهو على وزن مفعال، من الوثاق، وهو في

86
الأصل حبل أو قيد يشد به الأسير أو الدابة. قوله: (بهجتها) أي: حسنها ونضارتها. قوله: (لا أكون أشقى خلقك) قال السفاقسي: كذا هنا... (لأكون) وفي رواية أبي الحسن: (لاأكونن)، والمعنى: إن أنت أبقيتني على هذه الحالة ولا تدخلني الجنة لأكونن أشقى خلقك الذين دخلوها، والألف زائدة يعني في قوله: (لا أكون أشقى خلقك) وقال الكرماني: قوله: (لا أكون أشقى خلقك) أي: كافرا، ثم قال: فإن قلت: كيف طابق هذا الجواب لفظ: (أليس قد أعطيت العهود)؟ قلت: كأنه قال: يا رب أعطيت، لكن كرمك يطمعني إذ لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. قوله: (فما عسيت إن أعطيت ذلك) كلمة: ما استفهامية، واسم: عسى، هو الضمير، وخبره هو قوله: (أن تسأل) وقوله: (إن أعطيت) جملة معترضة، وهو على صيغة المجهول، وقوله: (ذلك) مفعول ثان: لأعطيت، أي: إن أعطيت القديم إلى باب الجنة. وقوله: (غيره) مفعول (أن تسأل) أي: غير التقديم إلى باب الجنة. وكلمة: (إن) في: (إن أعطيت) مكسورة، وهي شرطية والتي في: (أن تسأل) مفتوحة مصدرية ويروى: (أن لا تسأل)، بزيادة لفظة: لا، ووجهها، إما أن تكون زائدة كما في قوله تعالى: * (لئلا يعلم أهل الكتاب) * (الحديد: 29). وإما أن تكون على أصلها، وتكون كلمة: (ما) في قوله: (فما عسيت) نافية، ونفي النفي إثبات. وقال الكرماني هنا فإن قلت: كيف يصح هذا من الله تعالى وهو عالم بما كان وما يكون؟ قلت: معناه أنكم يا بني آدم لما عهد عنكم نقض العهد أحقاء بأن يقال لكم ذلك، وحاصله أن معنى: عسى، راجع إلى المخاطب لا إلى الله تعالى. قوله: (فيقول: لا) أي: فيقول الرجل: لا يا رب لا أسأل غيره وحق عزتك. قوله: (فيعطي ربه) أي: فيعطي الرجل ربه ما شاء من العهد والميثاق. قوله: (فإذا بلغ بابها) أي: باب الجنة. قوله: (فرأى زهرتها) عطف على: بلغ، وجواب: إذا محذوف تقديره: فإذا بلغ إلى آخره سكت، ثم بين سكوته بقوله: (فيسكت)، بالفاء التفسيرية، ثم إن سكوته بمقدار مشيئة الله تعالى إياه، وهو معنى قوله: (فيسكت ما شاء الله أن يسكت) وكلمة: أن، هذه مصدرية أي: ما شاء الله سكوته. وقال الكلاباذي: إمساك العبد عن السؤال حياء من ربه، عز وجل، والله تعالى يحب سؤاله لأنه يحب صوته، فيباسطه بقوله: لعلك إن أعطيت هذا تسأل غيره؟ وهذه حال المقصر، فكيف حال المطيع، وليس نقض هذا العبد عهده وتركه أقسامه جهلا منه، ولا قلة مبالاة، بل علما منه بأن نقض هذا العهد أولى من الوفاء، لأن سؤاله ربه أولى من إبرار قسمه، لأنه علم قول نبيه صلى الله عليه وسلم: (من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير). قوله: (ويحك) كلمة رحمة، كما أن: ويلك كلمة عذاب، وقيل: هما بمعنى واحد. قوله: (ابن آدم) أي: يا ابن آدم. قوله: (ما أغدرك)، فعل التعجب، والغدر ترك الوفاء. قوله: (أليس قد أعطيت) على صيغة المعلوم. قوله: (غير الذي أعطيت) على صيغة المجهول. قوله: (فيضحك الله منه)، أي: من فعل هذا الرجل، والمراد من الضحك لازمه، وهو الرضى منه وإرادة الخير له، لأن إطلاق حقيقة الضحك على الله تعالى لا يتصور، وأمثال هذه الإطلاقات كلها يراد بها لوازمها. قوله: (تمن) أمر من التمني، ويروى: (تمن كذا وكذا). قوله: (حتى إذا انقطع) ويروى: (إذا انقطعت)، وقد علم أن إسناد الفعل إلى مثل هذا الفاعل يجوز فيه التذكير والتأنيث. قوله: (زد من كذا وكذا) أي: من أمانيك التي كانت لك قبل أن أذكرك بها. قوله: (أقبل)، فعل ماض من الإقبال، والضمير فيه يرجع إلى الله تعالى، وكذا الضمير المرفوع في قوله: (يذكره)، وقد تنازع هذان الفعلان في قوله: (ربه). فإن قلت: ما موقع هاتين الجملتين؟ أعني: (أقبل يذكره؟) قلت: بدل من قوله: قال الله عز وجل: زد قوله: (الأماني) جمع أمنية. قوله: (لك ذلك) أي: ما سألته من الأماني. قوله: (ومثله معه) جملة من المبتدأ والخبر وقعت حالا. قوله: (لك ذلك وعشرة أمثاله)، أي: وعشرة أمثال ما سألته، وهذا في خبر أبي سعيد الخدري، ووجه الجمع بين خبره وخبر أبي هريرة لأن في خبر أبي هريرة: ومثله، وفي خبر أبي سعيد: وعشرة أمثاله، هو أنه صلى الله عليه وسلم، أخبر أولا بالمثل، ثم اطلع على
الزيادة تكرما، ولا يحتمل العكس، لأن الفضائل لا تنسخ. وقال الكرماني: أعلم أولا بما في حديث أبي هريرة، ثم تكرم الله فزادها فأخبر به صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه أبو هريرة.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: إثبات الرؤية للرب عز وجل نصا من كلام الشارع، وهو تفسير قوله جل جلاله: * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) * (القيامة: 22، 23). يعني: مبصرة، ولو لم يكن هذا القول من الشارع بالرؤية نصا لكان ما في الآية كفاية لمن انصف، وذلك أن النظر إذا قرن بذكر الوجه لم يكن إلا نظر البصر، وإذا قرن بذكر القلوب كان بمعنى اليقين، فلا يجوز

87
أن ينقل حكم الوجوه إلى حكم القلوب.
واعلم أن أهل السنة اتفقوا على أن الله تعالى يصح أن يرى بمعنى: أنه ينكشف لعباده ويظهر لهم بحيث تكون نسبة ذلك الانكشاف إلى ذاته المخصوصة كنسبة الإبصار إلى هذه المبصرات المادية، لكنه يكون مجردا عن ارتسام صورة المرئي، وعن اتصال الشعاع بالمرئي، وعن المحاذاة والجهة والمكان، خلافا للمعتزلة في الرؤية مطلقا، وللمشبهة والكرامية في خلوها عن المواجهة والمكان.
احتجت المعتزلة فيما ذهبوا إليه بوجوه: الأول: بقوله تعالى: * (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) * (الأنعام: 103). والجواب عنه: إن معنى الإدراك ههنا الإحاطة، ونحن نقول أيضا: إن الإحاطة ممتنعة. وقال ابن بطال: الآية مخصوصة بالسنة. قلت: فيه نظر، والأولى ما قلنا. الثاني: بقوله تعالى: * (لن تراني) * (الأعراف: 143). فإن: لن، نفي للتأييد بدليل قوله: * (قل لن تتبعونا) * (الفتح: 15). فإذا ثبت عدم الرؤية في حق موسى، عليه الصلاة والسلام، ثبت في حق غيره أيضا لانعقاد الإجماع على عدم الفرق، والجواب عنه: إنا لا نسلم أن: لن، تدل على التأييد بدليل قوله: * (لن يتمنوه أبدا) * (البقرة: 95). مع أنهم يتمنونه في الآخرة. الثالث: بقوله تعالى: * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا) * (الشورى: 51). الآية، فإن الآية دلت على أن كل من يتكلم الله تعالى معه، فإنه لا يراه، فإذن ثبت عدم الرؤية في غير وقت الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفصل، والجواب: أن الوحي كلام يسمع بالسرعة وليس فيه دلالة تدل على كون المتكلم محجوبا عن نظر السامع.
وفيه: أن الصلاة أفضل الأعمال لما فيها من السجود، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه إذا سجد)، وفيه: فضيلة السجود، والباب مترجم بذلك. وفيه: بيان كرم أكرم الأكرمين ولطفه وفضله الواسع. وفيه: أن الصراط حق، والجنة حق، والنار حق، والحشر حق، والنشر حق، والسؤال حق.
130
((باب يبدي ضبعيه ويجافي في السجود))
أي: هذا باب ترجمته: يبدي المصلي، بضم الياء آخر الحروف وسكون الباء الموحدة: من الإبداء، وهو الإظهار، وفي المغرب: ابداء الضبعين: تفريجهما. وقال صاحب (الهداية): ويبدي ضبعيه لقوله صلى الله عليه وسلم: (وأبد ضبعيك) ويروى: (ابدد) من الإبداد وهو: المد قلت: هذا الحديث لم يرو هكذا مرفوعا، وقد بيناه في (شرحنا للهداية) قوله: ويروى (وأبدد)، ليس له أصل ولا وجود في كتب الحديث. قوله: (ضبعيه)، بفتح الضاد المعجمة وسكون الباء الموحدة تثنية: ضبع، وقيل: يجوز في الباء الضم أيضا، والضبع العضد، وقيل: ضبع الرجل وسطه وبطنه، وقيل: وسط العضد من داخل، وقيل: هي لحمة تحت الإبط. قوله: (ويجافي)، مفعوله محذوف أي: يجافي بطنه، أي: يباعده، وثلاثية: جفى، يقال: جفى السرج عن ظهر الفرس، وأجفيته أنا إذا رفعته، ويجافي جنبه عن الفراش أي: يباعد. قال تعالى: * (تتجافي جنوبهم عن المضاجع) * (السجدة: 16). أي: تتباعد.
وإعلم أن هذا الباب، والباب الذي بعده، قد ذكر هنا في كثير من النسخ، وسقطا في بعضها. وقال الكرماني وغيره: لأنهما ذكرا مرة قبل: باب استقبال القبلة قلت: لم يذكر هناك إلا قوله: باب يبدي ضبعيه ويجافي جنبيه في السجود، وأما الباب الثاني، فلم يذكر هناك بترجمة، فلذلك قيل: والصواب إثباتها ههنا.
807 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثني بكر بن مضر عن جعفر عن ابن هرمز عن عبد الله بن مالك ابن بحينة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه. (انظر الحديث 390 وطرفه).
مطابقته للترجمة من حيث إن تفريج المصلي بين يديه إلى أن يبدو بياض إبطيه لا يكون إلا بإبداء ضبعيه والحديث أخرجه البخاري هناك بهذا الإسناد بعينه، وبهذا المتن بعينه، غير أن هناك نسب شيخه إلى جده حيث قال: حدثنا يحيى بن بكير إلى آخره، وابن هرمز هو عبد الرحمن الأعرج، وقد ذكرنا هناك جميع ما يتعلق به من الأشياء. وقوله: (ابن بحينة) ليس صفة لمالك بل صفة لعبد الله، لأن بحينة اسم أمه، وقد ذكرناه هناك مستوفى.
وقال الليث حدثني جعفر بن ربيعة نحوه
هذا التعليق وصله مسلم من طريقه بلفظ: (كان إذا سجد فرج يديه عن إبطيه حتى إني لأرى بياض إبطيه).

88
131
((باب يستقبل القبلة بأطراف رجليه))
أي: هذا باب ترجمته: يستقبل المصلي القبلة بأطراف رجليه.
قاله أبو حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: قال: استقبال القبلة بأطراف رجليه، ذكره أبو حميد في حديثه على ما يأتي موصولا في: باب سنة الجلوس في التشهد، قريبا. وأبو حميد عبد الرحمن بن عمرو بن سعد، رضي الله تعالى عنه.
132
((باب إذا لم يتم السجود))
أي: هذا باب ترجمته: إذا لم يتم المصلي السجود.
808 حدثنا الصلت بن محمد قال حدثنا مهدي عن واصل عن أبي وائل عن حذيفة أنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده فلما قضى صلاته قال له حذيفة ما صليت قال وأحسبه قال ولو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم. (انظر الحديث 389 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد ذكر البخاري هذا الحديث في: باب إذا لم يتم الركوع قبل هذا الباب بإثني عشر بابا. وأخرجه عن حفص بن عمر عن شعبة عن سليمان، قال: سمعت زيد بن وهب، قال: رأى حذيفة رجلا لا يتم الركوع والسجود، فقال: ما صليت ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله محمدا، صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا هناك ما يتعلق به. وأبو وائل هو: شقيق.
133
((باب السجود على سبعة أعظم))
أي: هذا باب في بيان أن السجود في الصلاة على سبعة أعظم، والمراد من الأعظم هي الأعضاء المذكورة في حديث الباب، وفي حديث الباب الذي يليه أيضا.
196 - (حدثنا قبيصة قال حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أمر النبي
أن يسجد على سبعة أعضاء ولا يكف شعرا ولا ثوبا الجبهة واليدين والركبتين والرجلين)
مطابقته للترجمة من حيث المعنى لأن المراد من الأعظم الأعضاء كما ذكرنا على أن المذكور في أحد طريقي حديث ابن عباس لفظ الأعضاء مصرح على ما يجيء إن شاء الله تعالى.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول قبيصة بفتح القاف وكسر الباء الموحدة ابن عقبة بن عامر الكوفي. الثاني سفيان الثوري. الثالث عمرو بن دينار الرابع طاوس بن كيسان. الخامس عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في موضع واحد وفيه أن رواته ما بين كوفي ومكي ويماني.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة وعن موسى بن إسماعيل عن أبي عوانة وعن أبي النعمان عن حماد بن زيد كلهم عن عمرو بن دينار به وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن يحيى بن يحيى وعن محمد بن بشار وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد وأخرجه الترمذي والنسائي كلاهما عن قتيبة وأخرجه النسائي أيضا عن حميد بن مسعدة وأخرجه ابن ماجة عن بشر بن معاذ
(ذكر معناه) قوله ' أمر النبي
' على صيغة المجهول في جميع الروايات والمعنى أمر الله تعالى

89
النبي
وقال البيضاوي عرف ذلك بالعرف وذلك يقتضي الوجوب قيل فيه نظر لأنه ليس فيه صيغة الأمر (قلت) في رواية أبي داود عن ابن عباس عن النبي
قال ' أمرت ' قال حماد أمر نبيكم أن يسجد على سبعة ولا يكف شعرا ولا ثوبا انتهى فهذا قوله
' أمرت ' يدل على أن الله تعالى أمره والأمر من الله تعالى يدل على الوجوب وفي رواية مسلم ' أمرت أن أسجد على سبعة الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين ' (فإن قلت) رواية البخاري هذه تحتمل الخصوصية (قلت) روايته الأخرى التي ذكرها عقيب هذا الحديث وهي قوله ' أمرنا ' تدل على أنه لعموم الأمة. واختلف الناس فيما فرض على النبي
هل تدخل معه الأمة فقيل نعم والأصح لا إلا بدليل وقيل إذا خوطب بأمر أو نهي فالمراد به الأمة معه وهذا لا يثبت إلا بدليل ورواية ' أمرنا ' تدل على أن ابن عباس تلقاه عن النبي
إما سماعا منه وإما بلاغا عنه وبهذا يرد كلام الكرماني حيث قال ظاهره الإرسال أي ظاهر هذا الحديث ثم قال الكرماني (فإن قلت) بم عرف ابن عباس أنه أمر بذلك (قلت) إما بإخباره
له أو لغيره أو باجتهاده لأنه
ما ينطق عن الهوى انتهى (قلت) على تقدير إخباره
لابن عباس كيف يكون الحديث مرسلا وقد قال ظاهره الإرسال قوله ' ولا يكف شعرا ' عطف على قوله ' أن يسجد ' وفي رواية ' لا يكفت الثياب ولا الشعر ' والكفت والكف بمعنى واحد وهو الجمع والضم ومنه قوله تعالى * (ألم نجعل الأرض كفاتا) * أي نجمع الناس في حياتهم وموتهم والكفات بمعنى الكف قوله ' ولا ثوبا ' أي ولا
يكف ثوبا قوله ' الجبهة ' بالجر عطف بيان لقوله ' على سبعة أعضاء ' وما بعدها عطف عليها قوله ' واليدين ' يريد الكفين خلافا لمن زعم أنه يحمل على ظاهره لأنه لو حمل على ذلك لدخل تحت المنهي عنه الافتراش كافتراش السبع والكلب قوله ' والرجلين ' يريد أطراف القدمين وبين ذلك رواية ابن طاوس عنه كذلك قوله ' ولا يكف شعرا ولا ثوبا ' جملتان معترضتان بين قوله ' على سبعة أعضاء ' وبين قوله ' الجبهة '
(ذكر ما يستفاد منه) احتج به أحمد وإسحق على أنه لا يجزيه من ترك السجود على شيء من الأعضاء السبعة وهو الأصح من قولي الشافعي فيما رجحه المتأخرون خلاف ما رجحه الرافعي وهو مذهب ابن حبيب وكأن البخاري مال إلى هذا القول ولم يذكر الأنف في هذا الحديث وذكر الأنف في حديث آخر لابن عباس على ما يأتي عن قريب. واختلفوا في السجود على الأنف هل هو فرض مثل غيرها فقالت طائفة إذا سجد على جبهته دون أنفه أجزأه روي ذلك عن ابن عمر وعطاء وطاوس والحسن وابن سيرين والقاسم وسالم والشعبي والزهري والشافعي في أظهر قوليه ومالك وأبي يوسف وأبي ثور والمستحب أن يسجد على أنفه مع الجبهة وقالت طائفة يجزيه أن يسجد على أنفه دون جبهته وهو قول أبي حنيفة وهو الصحيح من مذهبه وروى أسد بن عمر وعنه لا يجوز الاقتصار على الأنف إلا من عذر وقال ابن بطال اختلف العلماء فيما يجزئ السجود عليه من الآراب السبعة بعد إجماعهم على أن السجود على الأرض فريضة وقال النووي أعضاء السجود سبعة وينبغي للساجد أن يسجد عليها كلها وأن يسجد على الجبهة والأنف جميعا وأما الجبهة فيجب وضعها مكشوفة على الأرض ويكفي بعضها والأنف مستحب فلو تركه جاز ولو اقتصر عليه وترك الجبهة لم يجزه هذا مذهب الشافعي ومالك والأكثرين وقال أبو حنيفة وابن القاسم من أصحاب مالك له أن يقتصر على أيهما شاء وقال أحمد وابن حبيب من أصحاب مالك يجب أن يسجد على الجبهة والأنف جميعا لظاهر الحديث وقال الأكثرون بل ظاهر الحديث أنهما في حكم عضو واحد لأنه قال في الحديث سبعة فإن جعلا عضوين صارت ثمانية وذكر الأنف استحبابا وذكر أصحاب التشريح أن عظمي الأنف يبتدئان من قرنة الحاجب وينتهيان إلى الموضع الذي فوق الثنايا والرباعيات فعلى هذا يكون الأنف والجبهة التي هي أعلى الخد واحدا وقال ابن بطال أن في بعض طرق حديث ابن عباس ' أمرت أن أسجد على سبعة أعظم منها الوجه ' (قلت) يؤيده قوله
وهو ساجد فيما رواه مسلم ' سجد وجهي للذي خلقه ' الحديث وأما اليدان والركبتان والقدمان فهل يجب السجود عليها فقال النووي فيه قولان للشافعي أحدهما لا يجب لكن يستحب استحبابا متأكدا والثاني يجب وهو الأصح وهو الذي رجحه الشافعي فلو أخل بعضو منها لم تصح

90
صلاته وإذا أوجبنا لم يجب كشف القدمين والركبتين وفي الكفين قولان للشافعي أحدهما يجب كشفه كالجبهة والأصح لا يجب وفي شرح الهداية السجود على اليدين والركبتين والقدمين غير واجب وفي الواقعات لو لم يضع ركبتيه على الأرض عند السجود لا يجزيه وقال أبو الطيب مذهب الشافعي أنه لا يجب وضع هذه الأعضاء وهو قول عامة الفقهاء وعند زفر وأحمد بن حنبل يجب وعن أحمد في الأنف روايتان وقال ابن القصار الإجماع حجة ووجدنا التابعين على قولين فمنهم من أوجب السجود على الجبهة والأنف. ومنهم من جوز الاقتصار على الجبهة ومن جوز الاقتصار على الأنف خرج عن إجماعهم (قلت) يشير بذلك إلى قول أبي حنيفة وما قاله غير موجه لأن المأمور به في السجدة وضع بعض الوجه على الأرض لأنه لا يمكن بكله فيكون بالبعض مأمورا والأنف بعضه فكما أن الاقتصار على الجبهة يجوز بلا خلاف لكونها بعض الوجه ومسجدا فكذا الاقتصار على الأنف لأنها بعض الوجه ومسجد إلا أنه يكره لمخالفته السنة وذكر الطبري في تهذيب الآثار أن حكم الجبهة والأنف سواء وقال أيوب نبئت عن طاوس أنه سئل عن السجود على الأنف فقال أليس أكرم الوجه وقال أبو هلال سئل ابن سيرين عن الرجل يسجد على أنفه فقال أوما تقرأ * (يخرون للأذقان سجدا) * فالله مدحهم بخرورهم على الأذقان في السجود فإذا سقط السجود على الذقن بالإجماع يصرف الجواز إلى الأنف لأنه أقرب إلى الحقيقة لعدم الفصل بينهما بخلاف الجبهة إذ الأنف فاصل بينهما فكان من الجبهة (فإن قلت) روى الدارقطني من حديث سفيان الثوري عن عاصم الأحول عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله
' لا صلاة لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين ' (قلت) قالوا الصحيح أنه مرسل (فإن قلت) أخرج ابن عدي في الكامل عن الضحاك بن حمزة عن منصور بن زاذان عن عاصم البجلي عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي
' من لم يلصق أنفه مع جبهته بالأرض إذا سجد لم تجز صلاته ' (قلت) أعله بالضحاك بن حمزة وأسند إلى النسائي ليس بثقة وقال ابن معين ليس بشيء (فإن قلت) أخرج الدارقطني عن ناشب بن عمرو الشيباني حدثنا مقاتل بن حيان عن عروة ' عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت أبصر رسول الله
امرأة من أهله تصلي ولا تضع أنفها بالأرض فقال يا هذه ضعي أنفك بالأرض فإنه لا صلاة لمن لم يضع أنفه بالأرض مع جبهته في الصلاة ' (قلت) قال الدارقطني ناشب ضعيف ولا يصح مقاتل عن عروة. وفيه كراهة كف الثوب والشعر وظاهر الحديث النهي عنه في حال الصلاة وإليه مال الداودي ورده عياض بأنه خلاف ما عليه الجمهور فإنهم كرهوا ذلك للمصلي سواء فعله في الصلاة أو قبل أن يدخل فيها. واتفقوا أنه لا يفسد الصلاة إلا ما حكي عن الحسن البصري وجوب الإعادة فيه وفي التلويح اتفق العلماء على النهي عن الصلاة وثوبه مشمر أو كمه أو رأسه معقوص أو مردود شعره تحت عمامته أو نحو ذلك وهو كراهة تنزيه فلو صلى كذلك فقد أساء وصحت صلاته واحتج الطبري في ذلك بالإجماع وقال ابن التين هذا مبني على الاستحباب فأما إذا فعله فحضرت الصلاة فلا بأس أن يصلي كذلك وعند أبي داود بسند جيد رأى أبو رافع الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهما يصلي وقد غرز ضفيرته في قفاه فحلها وقال سمعت النبي
يقول ذلك كفل الشيطان أو قال مقعد الشيطان يعني مغرز ضفيرته وفي المعرفة روينا في الحديث الثابت ' عن ابن عباس أنه رأى عبد الله بن الحارث يصلي ورأسه معقوص من ورائه فقام وراءه فجعل يحله وقال سمعت النبي
إنما مثل هذا كمثل الذي يصلي وهو مكتوف ' فدل الحديث على كراهة الصلاة وهو معقوص الشعر ولو عقصه وهو في الصلاة فسدت صلاته والعقص أن يجمع شعره
على وسط رأسه ويشده بخيط أو بصمغ ليتلبد وافق الجمهور من العلماء أن النهي لكل من يصلي كذلك سواء تعمده للصلاة أو كان كذلك قبلها لمعنى آخر وقال مالك النهي لمن فعل ذلك للصلاة والصحيح الأول لإطلاق الأحاديث. قيل الحكمة في هذا النهي عنه أن الشعر يسجد معه ولهذا مثله بالذي يصلي وهو مكتوف وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لرجل رآه يسجد وهو معقوص الشعر أرسله يسجد معك. وفيه من جملة أعضاء السجود اليدان فإن صلى وهما في الثياب فذكر ابن بطال الإجماع على جوازه وكرهه بعضهم لأن حكمهما حكم الوجه لا حكم الركبتين وللشافعي قولان في وجوب كشفهما *

91
197 - (حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا شعبة عن عمرو عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي
قال أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم ولا نكف ثوبا ولا شعرا)
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنها على سبعة أعظم ولفظ الحديث كذلك وهذا طريق آخر لحديث ابن عباس والمراد بالأعظم هي الأعضاء المذكورة في الحديث السابق وسمى كل عضو عظما وإن كان فيه عظام كثيرة ويجوز أن يكون من باب تسمية الجملة باسم بعضها
811 حدثنا آدم قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبد الله بن يزيد الخطمي قال حدثنا البراء بن عازب وهو غير كذوب قال كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فإذا قال سمع الله لمن حمده لم يحن أحد منا ظهره حتى يضع النبي صلى الله عليه وسلم جبهته على الأرض. (انظر الحديث 690 وطرفه).
قال الكرماني فإن قلت: كيف دلالته على الترجمة؟ قلت: العادة على أن وضع الجبهة، إنما هو باستعانة السبعة الباقية غالبا. قلت: هذا لا يخلو عن تعسف، والوجه فيه أنه إنما أورد هذا الحديث في هذا الباب للإشارة إلى أن السجدة بالجبهة أدخل في الوجوب من بقية الأعضاء، ولهذا لم يختلف في وجوبها بالجبهة، واختلف في غيرها من بقية السبعة كما ذكرنا.
ذكر رجاله: وهم خمسة قد ذكروا غير مرة، وآدم ابن أبي إياس، وإسرائيل بن يونس وأبو إسحاق، عمرو بن عبد الله الكوفي.
وهذا لحديث أخرجه البخاري في: باب متى يسجد من خلف الإمام، عن مسدد عن يحيى بن سعيد عن سفيان حدثني أبو إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن يزيد، قال: حدثني البراء.. إلى آخره. وقد ذكرنا هناك جميع ما يتعلق به من الإشياء.
قوله: (لم يحن)، بفتح الياء وكسر النون وضمها أي: لم يقوس ظهره. قوله: (أحد منا) ويروى: (أحدنا).
134
((باب السجود على الأنف))
أي: هذا باب في بيان حكم السجود على الأنف.
812 حدثنا معلى بن أسد قال حدثنا وهيب عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال قال النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة وأشار بيده على أنفه واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا نكفت الثياب والشعر.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهذا طريق آخر في حديث ابن عباس، وقد أخرجه البخاري من ثلاثة أوجه، وهذا هو الثالث: عن معلى بن أسد العمي أبو الهيثم البصري، عن وهيب، بضم الواو وفتح الهاء وسكون الياء: ابن خالد الباهلي البصري عن عبد الله بن طاووس عن أبيه طاووس عن عبد الله بن عباس، وقد مر البحث فيه، ونذكر ما يحتاج إليه هنا.
فقوله: (على سبعة أعظم) قد تكررت هنا كلمة: على، ولا يجوز جعلها صلة لفعل مكرر، إلا أن يقال: على الثانية بدل عن الأولى التي في حكم الطرح، أو تكون الأولى متعلقة بمحذوف، والتقدير: أسجد على الجبهة حال كون السجود على سبعة أعضاء. قوله: (وأشار بيده على أنفه)، جملة معترضة بين المعطوف عليه وهو: الجبهة، والمعطوف، وهو: اليدين، والغرض منها بيان أنهما عضو واحد، فدل على أنه صلى الله عليه وسلم سوى بين الجبهة والأنف، لأن عظمي الأنف يبتدئان من قرنة الحاجب وينتهيان عند الموضع الذي فيه الثنايا والرباعيات، وسقط بما ذكرنا سؤال من قال؛ المذكور في الحديث ثمانية أعظم لا سبعة. قوله: (واليدين) عطف على قوله: (على الجبهة)، وقد ذكرنا أن المراد بهما: الكفان.
135
((باب السجود على الأنف في الطين))
أي: هذا باب في بيان السجود على الأنف حال كونه في الطين، فكأنه أشار بهذه الترجمة إلى تأكد أمر السجود

92
على الأنف، وذلك لأنه لم يترك مع وجود الطين، ففي غيره أحرى أن لا يترك. قوله: (السجود على الأنف في الطين) كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي: باب السجود على الأنف، والسجود على الطين، والأول أوجه دفعا للتكرار.
813 حدثنا موسى قال حدثنا همام عن يحيى عن أبي سلمة قال انطلقت إلى أبي سعيد الخدري فقلت ألا تخرج بنا إلى النخل نتحدث فخرج فقال قلت حدثني ما سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر الأول من رمضان واعتكفنا معه فأتاه جبريل فقال إن الذي تطلب أمامك فاعتكف العشر الأوسط فاعتكفنا معه فأتاه جبريل فقال إن الذي تطلب أمامك فقام النبي صلى الله عليه وسلم خطيبا صبيحة عشرين من رمضان فقال من اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم فليرجع فإني رأيت ليلة القدر وإني نسيتها وإنها في العشر الأواخر في وتر وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء وكان سقف المسجد جريد النخل وما نرى في
السماء شيئا فجاءت قزعة فأمطرنا فصلى بنا النبي صلى الله عليه وسلم حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته تصديق رؤياه.
مطابقته للترجمة في قوله: (حتى رأيت أثر الماء) إلى آخره.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وموسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، وهمام بن يحيى، ويحيى بن أبي كثير، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وأبو سعيد الخدري سعد بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري في مواضع، في الصلاة في موضعين عن مسلم بن إبراهيم وههنا عن موسى بن إسماعيل وفي الصوم عن معاذ بن فضالة في الاعتكاف عن عبد الله بن منير وإسماعيل بن أبي أويس وعن إبراهيم بن حمزة وعن عبد الرحمن بن بشر. وأخرجه مسلم في الصوم عن قتيبة وعن ابن أبي عمر وعن محمد بن عبد الأعلى وعن عبد بن حميد وعن عبيد الله بن عبد الرحمن الدارمي وعن محمد بن المثنى وأخرجه أبو داود في الصلاة عن القعنبي عن مالك وعن محمد بن المثنى وعن محمد بن يحيى وعن مؤمل بن الفضل. وأخرجه النسائي في الاعتكاف عن قتيبة به وعن محمد بن عبد الأعلى مرتين وعن محمد بن مسلمة والحارث بن مسكين وعن محمد بن بشار، وأخرجه ابن ماجة في الصوم عن محمد بن عبد الأعلى وعن أبي بكر بن أبي شيبة.
ذكر معناه: قوله: (نتحدث) في محل النصب على أنه من الأحوال المقدرة. وقال الكرماني: بالرفع والجزم، قوله: (عشر الأول) بإضافة العشر إلى الأول، ويروى: العشر الأول. قوله: (أمامك)، بفتح الميم الثانية، في محل الرفع على الخبرية، تقديره أن الذي تطلبه هو قدامك. قوله: (فقام)، ويروى: (ثم قام). قوله: (خطيبا)، نصب على الحال، و: (صبيحة) نصب على الظرفية و: (رمضان) لا ينصرف. قوله: (مع النبي صلى الله عليه وسلم) أي: معي، وهو التفات على الصحيح، لأن المقام يقتضي التكلم. قوله: (فليرجع) أي: إلى الاعتكاف. قوله: (فإني رأيت) مشتق إما من الرؤية، وإما من الرؤيا بخلاف: رأيت، الذي بعده. فإنه من الرؤيا قطعا. ويروى: (فإني رئيت). قوله: (نسيتها)، من النسيان. ويروى: (أنسيتها) من: الإنساء، على صيغة المجهول، ويروى: (نسيتها)، بضم النون وتشديد السين. قوله: (في وتر)، بكسر الواو، وهو الفرد وبالفتح: الدخل، ولغة أهل الحجاز بالضد، وتميم تكسر الواو فيهما. وقال الطيبي. فإن قلت: لم خولف بين الأوصاف فوصف العشر الأول والأوسط بالمفرد والأخير بالجمع؟ قلت: تصور في كل ليلة من ليالي العشر الأخير ليلة القدر، فجمع، ولا كذلك في العشرين. قوله: (شيئا) أي: من السحاب. قوله: (قزعة) بفتح القاف والزاي المعجمة والعين المهملة: وهي واحدة القزع. وهي قطع من السحاب رقيقة. وقيل: هي السحاب المتفرق. (وأرنبته)، بفتح الهمزة وسكون الراء وفتح النون

93
والباء الموحدة بعدها التاء المثناة من فوق: وهي طرف الأنف، وتجمع على: أرانب، والألف فيه زائدة، ولهذا ذكره الجوهري في باب: رنب، قوله: (تصديق رؤياه)، بإضافة التصديق إلى الرؤيا، وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: أثر الطين والماء على جبهته هو تصديق رؤياه وتأويله.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: مشروعية الاعتكاف، وسيجئ الكلام فيه في: باب الاعتكاف. وفيه: أن ليلة القدر في أوتار العشر الأخير، وسيجئ الكلام فيه أيضا. وفيها: جواز السجدة في الطين، ولكن الحديث محمول على أنه كان شيئا يسيرا لا يمنع مباشرة بشرة الجبهة الأرض، ولو كان كثيرا لم تصح صلاته، وهذا هو قول الجمهور، واختلف قول مالك فيه، فروى أشهب عنه أنه: لا يجوز إلا السجود على الأرض، على حسب ما يمكنه. وقال ابن حبيب: مذهب مالك أن يومىء إلا عبد الله بن عبد الحكم فإنه كان يقول: يسجد عليه ويسجد فيه إذا كان لا يعم وجهه ولا يمنعه من ذلك. وقال ابن حبيب: وبالأول أقول: وإنما يومىء إذا كان لا يجد موضعا نقيا من الأرض، فإن طمع أن يدرك موضعا نقيا قبل خروج الوقت لم يجزه الإيماء في الطين. وقال الخطابي: (حتى رأيت أثر الطين) فيه دليل على وجوب السجدة على الجبهة، ولولا وجوبه لصانها عن لثق الطين. وفيه: استحباب أن لا يمسح إلى بعض ما يصيب جبهة الساجد من أثر الأرض وغبارها. وفيه: أن رؤيا الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، صادقة. وفيه: طلب الخلوة عند إرادة المحادثة لتكون أجمع للضبط. وفيه: الاستحداث عن الشيخ والالتماس منه. وفيه: موافقة القوم لرئيسهم في الطاعة المندوبة. والله تعالى أعلم.
136
((باب عقد الثياب وشدها ومن ضم إليه ثوبه إذا خاف أن تنكشف عورته))
أي: هذا باب في بيان عقد المصلي ثوبه وشدها. وفي بيان من ضم إليه ثوبه من المصلين إذا خاف أن تنكشف عورته، فكلمة: أن، مصدرية، والتقدير: خوف انكشاف عورته، وهو في الصلاة، فكأن البخاري أشار بهذا إلى أن النهي الوارد عن كف الثياب في الصلاة محمول على حالة غير الاضطرار. فإن قيل: ما وجه إدخال هذا الباب بين أبواب أحكام السجود؟ أجيب: من حيث إن الهوي إلى السجود والرفع منه يسهلان مع عقد الثياب وضمها، بخلاف إرسالها وسدلها. قلت: أشار به إلى أن في ضم الثوب أمنا من كشف العورة.
814 حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال كان الناس يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم وهم عاقدوا أزرهم من الصغر على رقابهم فقيل للنساء لا ترفعن رؤسكن حتى يستوي الرجال جلوسا (انظر الحديث 362 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة. وأخرج هذا الحديث في: باب إذا كان الثوب ضيقا: عن مسدد عن يحيى عن سفيان، قال: حدثنا أبو حازم عن سهل... الحديث. وأخرج ههنا: عن محمد بن كثير ضد القليل عن سفيان الثوري عن أبي حازم، بالحاء المهملة، سلمة بن دينار عن سهل بن سعد الساعدي، رضي الله تعالى عنه. وقد ذكرنا هناك جميع ما يتعلق به من الأشياء.
قوله: (وهم عاقدو أزرهم) أصله: عاقدون، فلما أضيف سقطت النون للإضافة، ويروى: (عاقدي أزرهم)، ووجهها أن يكون خبر: كان، محذوفا، أي: هم كانوا عاقدي أزرهم. ويجوز أن يكون منصوبا على الحال. أي: هم مؤتزرون حال كونهم عاقدي أزرهم، والأزر، بضم الهمز والزاي: جمع إزار. قوله: (من الصغر) أي: من أجل صغر أزرهم. قوله: (جلوسا) أي: جالسين. كانت النساء متأخرات عن صف الرجال، فنهين عن رفع رؤسهم حتى يستوي الرجال جالسين حتى لا يقع بصرهن على عوراتهم.
وفيه: الاحتياط في ستر العورة، والتوثق بحفظ السترة.
137
((باب لا يكف شعرا))
أي: هذا باب ترجمته: لا يكف المصلي شعرا. والمراد به شعر الرأس، وقد مر أن معنى الكف: الضم فإن قلت: قد أخرج

94
حديث هذا الباب من وجه آخر عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، فما وجه إدخاله بين أبواب أحكام السجود؟ قلت: له تعلق بالسجود من حيث إن الشعر يسجد مع الرأس إذا لم يكف. وأما حكمة النهي عن ذلك فهو ما قد ذكرناه عن أبي داود، فإنه روي من حديث أبي رافع أنه رأى الحسن بن علي، رضي الله تعالى عنهما، يصلي وقد غرز ضفيرته في قفاه، فحلها وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذلك مقعد الشيطان.
815 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد وهو ابن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبعة أعظم ولا يكف ثوبه ولا شعره..
مطابقته للترجمة ظاهرة، وما يتعلق به قد ذكرناه في: باب السجود على الأنف.
138
((باب لا يكف ثوبه في الصلاة))
أي: هذا باب ترجمته لا يكف المصلي ثوبه في الصلاة.
816 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا أبو عوانة عن عمر و عن طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أمرت أن أسجد على سبعة لا أكف شعرا ولا ثوبا.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وحديث ابن عباس هذا كما قد رأيته، قد أخرجه عن خمس طرق، ووضع لكل طريق ترجمة ففي الطريق الأول والرابع: أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الثاني: أمرنا، وفي الثالث والخامس: أمرت. وفي الأول: ولا يكف، وكذا في الرابع. وفي الثاني: لا نكف، بنون الجمع، وفي الثالث: ولا نكفت، وفي الخامس: لا أكف بصيغة المتكلم وحده، وفي الأول والخامس: الشعر مقدم، وفي البقية: الثوب مقدم، وفي الأول: على سبعة أعضاء، وفي البقية: على سبعة أعظم.
139
((باب التسبيح والدعاء في السجود))
أي: هذا باب في بيان التسبيح والدعاء في حالة السجدة، وقد تقدمت هذه الترجمة بحديثها فيما تقدم عن قريب، ولكن هناك: باب الدعاء في الركوع، والحديث هناك عن عائشة أيضا، كما نذكره الآن.
817 حدثنا مسدد قال حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني منصور عن مسلم عن مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأخرجه في: باب الدعاء في الركوع، عن حفص بن عمر عن شعبة عن منصور عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة.. إلى آخره نحوه، غير أن ههنا: يكثر أن يقول، وهناك: كان يقول، وههنا زيادة وهي قوله: يتأول القرآن، وههنا ذكر اسم أبي الضحى، وهو: مسلم بن صبيح، بضم الصاد المهملة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف، وفي آخره حاء مهملة. وهناك: اقتصر على ذكر كنيته، وهي أبو الضحى، بضم الضاد المعجمة وبالقصر، والإسناد ههنا أنزل من الإسناد الذي هناك، لأن بينه وبين عائشة هناك خمسة، وههنا ستة، لأنه يروي عن مسدد بن مسرهد عن يحيى القطان عن سفيان الثوري إلى آخره.
وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية، وقد ذكرنا هناك ما يتعلق به من الأشياء. قوله: (يتأول القرآن)، أي: يعمل ما أمر به في قول الله تعالى: * (فسبح بحمد ربك واستغفره) * (النصر: 3)..
140
((باب المكث بين السجدتين))
أي: هذا باب في بيان المكث، وهو اللبث بين السجدتين في الصلاة، وفي رواية الحموي (بين السجود).

95
818 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد عن أيوب عن أبي قلابة أن مالك بن الحويرث قال لأصحابه ألا أنبئكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وذاك في غير حين صلاة فقام ثم ركع فكبر ثم رفع رأسه فقام هنية ثم سجد ثم رفع رأسه هنية فصلى صلاة عمرو بن سلمة شيخنا هذا قال أيوب كان يفعل شيئا لم أرهم يفعلونه كان يقعد في الثالثة والرابعة. قال فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأقمنا عنده فقال لو رجعتم إلى أهليكم صلوا صلاة كذا في حين كذا صلوا صلاة كذا في حين كذا فإذا حضرت الصلاة فليؤذن أحدكم وليؤمكم أكبركم.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم رفع رأسه هنية)، وهذا الحديث أخرجه البخاري في: باب من قال ليؤذن في السفر مؤذن واحد: عن معلى بن أسد عن وهيب عن أيوب.. إلى آخره. وأخرجه أيضا في: باب إذا استووا في القراءة فليؤمهم أكبرهم، وأخرجه أيضا في مواضع قد بيناها في: باب من قال ليؤذن في السفر. وبينا أيضا من أخرجه غيره، وبينا أيضا بقية ما فيه من المباحث والفوائد. وأبو النعمان محمد بن الفضل السدوسي، وأيوب السختياني، وأبو قلابة، بكسر القاف: هو عبد الله بن زيد الجرمي.
قوله: (ألا أنبئكم) كلمة: ألا، للتنبيه، وأنبئكم من الإنباء وهو الإخبار. قوله: (صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، منصوب لأنه مفعول ثان. قوله: (قال): أي: أبو قلابة. قوله: (وذاك) إشارة إلى أبناء الذي يدل عليه أنبئكم قوله (في غير حنين صلاة) اي في غير وقت صلاة من الصلوات المفروضة قوله. (هنية)، بفتح النون وتشديد الياء آخر الحروف، أي: قليلا. وقد مر تفسيره في الأبواب المذكورة مستوفى. قوله: (شيخنا) بالجر لأنه عطف بيان لسلمة بن عمرو لمجرور بالإضافة. قوله: (كان) أي: الشيخ المذكور. قوله: (أو الرابعة) شك من الراوي، وبهذا يسقط سؤال من قال: لا جلوس للاستراحة في الركعة الرابعة، لأن بعدها الجلوس للتشهد، والمراد من ذلك جلسة الاستراحة، وهي تقع بين الثالثة والرابعة كما تقع بين الأولى والثانية، فكأنه قال: يقعد في آخر الثالثة، أو في أول ا لرابعة، والمعنى واحد، فشك الراوي: أيهما قال، وقال ابن التين: في رواية أبي ذر والرابعة، وأراه غير صحيح. قوله: (فأتينا) أي: قال مالك: فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: ما هذه الفاء؟ قلت: للعطف على شيء محذوف تقديره: أسلمنا فأتينا، أو: قومنا أرسلونا فأتينا، ونحو ذلك. قوله: (لو رجعتم) أي: إذا رجعتم، أو: إن رجعتم.
820 حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري قال حدثنا مسعر عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء قال كان سجود النبي صلى الله عليه وسلم وركوعه وقعوده بين السجدتين قريبا من السواء (انظر الحديث 7992 وطرفه).
أخرج البخاري هذا الحديث في: باب حد إتمام الركوع والاعتدال، فيه: عن بدل بن المحبر عن شعبة عن الحكم بن عتيبة إلى آخره، وقد مضى الكلام فيه هناك مستوفى.
820 حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله الزبيري قال حدثنا مسعر عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء قال كان سجود النبي صلى الله عليه وسلم وركوعه وقعوده بين السجدتين قريبا من السواء (انظر الحديث 7992 وطرفه).
أخرج البخاري هذا الحديث في: باب حد إتمام الركوع والاعتدال، فيه: عن بدل بن المحبر عن شعبة عن الحكم بن عتيبة إلى آخره، وقد مضى الكلام فيه هناك مستوفى.
821 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن ثابت عن أنس رضي الله تعالى عنه قال إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا قال ثابت كان أنس يصنع شيئا لم أركم تصنعونه كان إذا رفع رأسه من الركوع قام حتى يقول القائل قد نسي وبين السجدتين حتى يقول القال قد نسي. (انظر الحديث 800).
مطابقته للترجمة في قوله: (وبين السجدتين) إلى آخره، وبنحوه أخرجه من: باب الطمأنينة حين يرفع رأسه من الركوع: عن أبي الوليد عن شعبة عن ثابت. قال: (كان أنس بن مالك ينعت لنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم...) الحديث. قوله: (لا آلو)،

96
أي: لا أقصر. قوله: (قد نسي)، بفتح النون من النسيان وبضمها مع تشديد السين المكسورة، والخبر يدل على استحباب المكث بين السجدتين. قال ابن قدامة: والمستحب عند أحمد أن يقول بين السجدتين: رب اغفر لي، رب اغفر لي يكرره مرارا، انتهى، وعندنا: ليس بينهما ذكر مسنون لأن الاعتدال فيه تبع وليس بمقصود فلا يسن فيه، وما روي في ذلك فمحمول على التهجد، وعند داود وأهل الظاهر: أنه فرض إن تعمد تركه بطلت صلاته.
141
((باب لا يفترش ذراعيه في السجود))
أي: هذا باب ترجمته: لا يفترش المصلي ذراعيه أي: ساعديه، ويجوز في يفترش الجزم على النهي، والرفع على النفي، وهو أيضا بمعنى النهي.
وقال أبو حميد سجد النبي صلى الله عليه وسلم ووضع يديه غير مفترش ولا قابضهما
مطابقة هذا التعليق للترجمة ظاهرة، وهو قطعة من حديث مطول أخرجه في: باب سنة الجلوس في التشهد، يأتي بعد ثلاثة أبواب، وقال الخطابي: وضع اليدين في السجدتين غير مفترش فهو أن يضع كفيه على الأرض، ويقل ساعديه ولا يضعهما على الأرض. ويريد بقوله: (ولا قابضهما) أنه يبسط كفيه مدا ولا يقبضهما بأن يضم أصابعهما، ويحتمل أن يراد بذلك ضم الساعدين والعضدين فيلصقهما ببطنه، ولكن يجافي مرفقيه عن جنبيه. قوله: (ولا قابضهما) أي: وغير قابض اليدين بأن
لا يجافيهما عن جنبيه، بل يضمهما إليهما، وهذا الذي يسمى بالتخوية عند الفقهاء.
208 - (حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا محمد بن جعفر قال حدثنا شعبة قال سمعت قتادة عن أنس بن مالك عن النبي
قال اعتدلوا في السجود ولا ينبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب)
مطابقته للترجمة من حيث المعنى فإن معنى قوله ' ولا ينبسط ' ولا يفترش. ورجاله قد ذكروا غير مرة والحديث أخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن بندار وهو محمد بن جعفر وعن أبي موسى كلاهما عن غندر وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع وعن يحيى بن حبيب وأخرجه أبو داود عن مسلم بن إبراهيم وأخرجه الترمذي عن محمود بن غيلان وأخرجه النسائي عن محمد بن عبد الأعلى وإسماعيل بن مسعود.
(ذكر معناه) قوله ' عن أنس ' في رواية الترمذي التصريح بسماع قتادة له عن أنس قوله ' اعتدلوا ' أي كونوا متوسطين بين الافتراش والقبض والحاصل أن اعتدال السجود استقامته بين افتراش وتقبيض قوله ' ولا ينبسط ' كذا وهو بالنون الساكنة وفتح الباء الموحدة في رواية الأكثرين وفي رواية الحموي ' ولا يبتسط ' بسكون الباء الموحدة وفتح التاء المثناة من فوق من باب الافتعال وفي رواية ابن عساكر ' ولا يبسط ذراعيه ' بالباء الموحدة الساكنة فقط وهذه هي الأحسن وفي رواية الأكثرين تأمل لأن باب الانفعال لازم لا ينصب شيئا. والحكمة فيه أنه أشبه للتواضع وأبلغ في تمكين الجبهة من الأرض وأبعد من هيئات الكسالى فإن المنبسط يشبه الكسالى ويشعر حاله بالتهاون وقلة الاعتناء بها والإقبال عليها فلو تركه كان مسيئا مرتكبا لنهي التنزيه وصلاته صحيحة. واعلم أن أبا داود أخرج هذا الحديث وترجم له بقوله باب صفة السجود ثم ذكر هذا الحديث ثم قال باب الرخصة في ذلك ثم روى حديث أبي هريرة قال ' اشتكى أصحاب النبي
إلى النبي
مشقة السجود عليهم إذا انفرجوا فقال استعينوا بالركب ' وقال ابن عجلان أحد رواة هذا الحديث وذلك أن يضع مرفقيه على ركبتيه إذا طال السجود وأعيى. وفي التلويح وزعم أبو داود أن هذا كان رخصة وأما أبو عيسى فإنه فهم منه غير ما قاله ابن عجلان فذكره في باب ما جاء في الاعتماد إذا قام من السجود وروى الترمذي من حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر رضي الله تعالى عنه قال رسول الله
' إذا سجد أحدكم فليعتدل ولا يفترش ذراعيه افتراش الكلب ' وروى مسلم من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ' نهى النبي
أن يفترش الرجل ذراعيه افتراش السبع '

97
وروى ابن خزيمة من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه يرفعه ' إذا سجد أحدكم فلا يفترش يديه افتراش الكلب وليضم فخذيه ' وروى مسلم أيضا من حديث البراء قال
' إذا سجدت فضع كفيك وارفع مرفقيك ' وروى الحاكم من حديث عبد الرحمن بن شبل قال ' نهى النبي
عن نقرة الغراب وافتراش السبع وأن يوطن الرجل المكان ' (فإن قلت) الحديث المذكور عن قريب الذي أخرجه أبو داود عن أبي هريرة يعارض هذه الأحاديث قال الترمذي باب الرخصة في الإقعاء فذكر حديث ابن عباس ' الإقعاء على القدمين من سنة نبيكم محمد
' وحسنه وفي المشكل للطحاوي عن عطية العوفي قال رأيت العبادلة ابن عباس وابن عمر وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم يقعون في الصلاة ويراهم الصحابة فلا ينكرونه وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان يضع يديه إلى جنبيه إذا سجد (قلت) قال أبو داود كان هذا رخصة وقد ذكرناه وقال أحمد تركه الناس وقال القرطبي افتراش السبع لا شك في كراهته واستحباب نقيضها وقد روى مسلم ' عن ميمونة أن النبي
كان إذا سجد جافى يديه فلو أن بهمة أرادت أن تمر لمرت ' وفي لفظ ' خوى بيديه ' يعني جنح ' حتى يرى وضح إبطيه من ورائه ' وفي الصحيحين من حديث ابن بحينة ' كان إذا صلى فرج بين يديه حتى يبدو بياض إبطيه ' وعن ابن أقرم ' صليت مع النبي
فكنت أنظر إلى عفرتي إبطيه كلما سجد ' قال الترمذي حديث حسن ولا يعرف لابن أقرم غير هذا الحديث وقال صاحب التلويح ذكر البغوي له حديثا آخر في كتاب الصحابة في قوله تعالى * (تساقط عليك رطبا جنيا) * ولما ذكر أبو علي بن السكن في كتاب الصحابة عبد الله بن أقرم قال له رواية ثابتة ' وعن الحسن حدثنا أحمر صاحب رسول الله
قال إن كنا لنأوي للنبي
مما يجافي بيديه عن جنبيه ' وعن أبي هريرة ' كان النبي
إذا سجد رئي وضح إبطيه ' وقال الحاكم صحيح على شرطهما ' وعن ابن عباس من عنده أيضا أتيت النبي
من خلفه فرأيت بياض إبطيه وهو ممخ قد فرج يديه ' وأخرج ابن خزيمة في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه ' كان رسول الله
إذا سجد جافى حتى يرى بياض إبطيه ' وصححه أيضا أبو زرعة * -
142
((باب من استوى قاعدا في وتر من صلاته ثم نهض))
أي: هذا باب ترجمته: من استوى.. إلى آخره. قوله: (في وتر) أي: في الركعة الأولى والثالثة، لا الثانية والرابعة لأنهما يستعقبان الجلوس للتشهد.
823 حدثنا محمد بن الصباح قال أخبرنا هشيم قال أخبرنا خالد الحذاء عن أبي قلابة قال أخبرنا مالك بن الحويرث الليثي أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فإذا كان في وتر من صلاته لم ينهض حتى يستوي قاعدا
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: محمد بن الصباح، بفتح الصاد المهملة وتشديد الباء الموحدة: الدولابي البزاز، وهشيم بن بشير، بفتح الباء الموحدة، وخالد بن مهران الحذاء، وأبو قلابة عبد الله بن زيد.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار كذلك في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين بغدادي وهو شيخ البخاري وواسطي وبصري.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه أبو داود أيضا في الصلاة عن مسدد. وأخرجه الترمذي والنسائي جميعا فيه عن علي بن حجر عن هشيم.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: دليل للشافعية على ندبية جلسة الاستراحة. وقال الطحاوي: ليس في حديث أبي حميد جلسة الاستراحة، وساقه بلفظ: (فقام ولم يتورك)، وأخرجه أبو داود كذلك: قال الطحاوي: فلما تخالف الحديثان احتمل أن يكون ما فعله في حديث مالك بن الحويرث لعلة كانت به، فقعد من أجلها، لا لأن ذلك من سنة الصلاة. وقال أيضا: لو كانت هذه الجلسة مقصودة لشرع لها ذكر مخصوص. وقال الكرماني: الأصل عدم العلة، وأما تركه صلى الله عليه وسلم فلبيان جواز

98
الترك قلت: قوله: (لا تبادروني فإني قد بدنت) يدل على أن ذلك كان لعلة، ولأن هذه الجلسة للاستراحة والصلاة غير موضوعة لتلك، وقال بعضهم: إن مالك بن الحويرث هو راوي حديث: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، فحكاياته لصفات صلاة النبي صلى الله عليه وسلم داخلة تحت هذا الأمر. قلت: هذا لا ينافي وجود العلة لأجل هذه الجلسة، وبقولنا قال مالك وأحمد. وفي (التمهيد): اختلف الفقهاء في النهوض عن السجود إلى القيام، فقال مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: ينهض على صدور قدميه ولا يجلس، وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس، وقال النعمان ابن أبي عياش: أدركت غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك. وقال أبو الزناد: ذلك السنة، وبه قال أحمد ابن راهويه. وقال أحمد: وأكثر الأحاديث على هذا. قال الأثرم: رأيت أحمد ينهض بعد السجود على صدور قدميه ولا يجلس قبل أن ينهض. وروى الترمذي عن أبي هريرة قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهض في الصلاة على رؤوس قدميه)، ثم قال: والعمل عليه عند أهل العلم. وأخرج ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن عبد الله بن مسعود أنه كان ينهض في الصلاة على صدور قدميه ولم يجلس. وأخرج نحوه عن علي وابن عمر وابن الزبير وابن عباس ونحو ذلك. وأخرج أيضا عن عمر، رضي الله تعالى عنه.
143
((باب كيف يعتمد على الأرض إذا قام من الركعة))
أي: هذا باب ترجمته: كيف يعتمد المصلي على الأرض إذا قام من الركعة، أي: ركعة كانت، وفي رواية المستملي والكشميهني: من الركعتين. أي: الركعة الأولى والركعة الثانية.
824 حدثنا معلى بن أسد قال حدثنا وهيب عن أيوب عن أبي قلابة قال جاءنا مالك بن الحويرث فصلى بنا في مسجدنا هذا فقال إني لأصلي بكم وما أريد الصلاة ولكن أريد أن أريكم كيف رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصلي. قال أيوب فقلت لأبي قلابة وكيف كانت صلاته قال مثل صلاة شيخنا هذا يعني عمرو بن سلمة قال أيوب وكان ذلك الشيخ يتم التكبير وإذا رفع رأسه عن السجدة الثانية جلس واعتمد على الأرض ثم قام.
مطابقته للترجمة في قوله: (واعتمد على الأرض) ثم قال الكرماني: الترجمة لبيان كيفية الاعتماد لا لبيان نفس الاعتماد، فما وجه موافقة الحديث لها؟ قلت: فيه بيان الكيفية بأن يجلس أولا ثم يعتمد ثم يقوم. قال الفقهاء: يعتمد كما يعتمد العاجن للخمير. وقيل: المراد من الاعتماد أن يكون باليد، يدل عليه ما رواه عبد الرزاق عن ابن عمر: أنه كان يقوم إذا رفع رأسه من السجدة معتمدا على يديه قبل أن يرفعهما.
ورواة الحديث قد ذكروا غير مرة، ووهيب مصغرا: ابن خالد، وأيوب السختياني، وأبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي، وقد مر هذا الحديث في الباب الذي قبله، وفي الذي قبل قبله، وفيما مضى أيضا، وقد ذكرنا جميع ما يتعلق به. قوله: (لكني) ويروى: (لكن)، بدون نون الوقاية. قوله: (يتم التكبير) أي: كان يكبر عند كل انتقال غير الاعتدال لا ينقص من التكبيرات شيئا عند الانتقالات، أو كان يمده من أول الانتقال إلى آخره. قوله: (فإذا رفع)، ويروى: (وإذا رفع) بالواو. قوله: (من السجدة) كذا هو بكلمة: من رواية أبي ذر، وهي رواية الإسماعيلي أيضا، وفي رواية المستملي والكشميهني: (في السجدة)، وفي رواية غيرهم (عن السجدة) بكلمة: عن.
144
((باب يكبر وهو ينهض من السجدتين))
أي: هذا باب ترجمته: يكبر المصلي في حالة نهوضه من السجدتين، وأشار بهذا إلى أن التكبير عند القيام إلى الركعة الثالثة من التشهد الأول وقت النهوض من السجدتين، وعند بعضهم: وقت الاستواء، ونقل ذلك عن مالك، والكلام في الأولوية. فافهم.

99
وكان ابن الزبير يكبر في نهضته
هو عبد الله بن الزبير بن العوام، وقد غلب عليه هذا دون غيره من أولاد الزبير، وهذا تعليق وصله ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن عبد الوهاب الثقفي عن ابن جريج عن عمرو بن دينار: أن ابن الزبير كان يكبر لنهضته.
8225 حدثنا يحيى بن صالح قال حدثنا فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث قال صلى لنا أبو سعيد فجهر بالتكبير حين رفع رأسه من السجود وحين سجد وحين رفع وحين قام من الركعتين وقال هكذا رأيت النبي صلى الله عليه وسلم.
مطابقته للترجمة في قوله: (حين قام من الركعتين)، وهي حالة النهوض من السجدتين، وبهذا يرد على ابن المنير حيث قال: أجرى البخاري الترجمة وأثر ابن الزبير مجرى التبيين لحديثي الباب، لأنهما ليسا صريحين في أن ابتداء التكبير يكون مع أول النهوض. انتهى. بيان وجه الرد أن قول البخاري: باب يكبر.. إلى آخره، هو حاصل معنى قوله في الحديث: (وحين قام من الركعتين)، فالمطابقة تامة، ولم يقل: باب يكبر مع أول النهوض، حتى يصح كلام المنير. وقال ابن رشيد: في هذه الترجمة إشكال لأنه ترجم فيما مضى: باب التكبير إذا قام من السجود، وأورد فيه حديث ابن عباس وأبي هريرة، وفيهما التنصيص على أنه يكبر في حالة النهوض، وهو الذي اقتضته هذه الترجمة، فكأن ظاهرها التكرار. انتهى. قلت: لا نسلم أن في هذه الترجمة إشكالا، ولا يلزم مما ذكره التكرار، فقوله في: باب التكبير إذا قام من السجود، أعم من أن يكون من سجود الركعة الأولى أو الثانية أو الثالثة. وهذه الترجمة في التكبير عند القيام إلى الركعة الثالثة من بعد التشهد خاصة، وأما فائدة ذكر هذا بعد شمول الأعم إياه، فلأجل إيراده ههنا حديثي أبي سعيد وعلي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: يحيى بن صالح أبو زكريا الوحاظي الحمصي. الثاني: فليح، بضم الفاء: ابن سليمان بن أبي المغيرة، وكان اسمه: عبد الملك ولقبه فليح، فغلب على اسمه واشتهر به. الثالث: سعيد بن الحارث بن المعلى الأنصاري المدني، قاضيها. الرابع: أبو سعيد الخدري، واسمه: سعد بن مالك.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين حمصي ومدنيين.
وهذ الحديث تفرد به البخاري عن أصحاب الكتب، وذكر الإسماعيلي في روايته عن أبي يعلى: حدثنا أبو خيثمة حدثنا يونس حدثنا فليح عن سعيد سمعت هذا الحديث مطولا، ولفظه: (اشتكى أبو هريرة أو غاب فصلى أبو سعيد فجهر بالتكبير حين افتتح وحين ركع..) الحديث، وزاد في آخره: (فلما انصرف قيل له: قد اختلف الناس على صلاتك، فقام عند المنبر فقال: أيها الناس إني والله ما أبالي اختلفت صلاتكم أم لم تختلف، إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا يصلي). وذكر الحميدي في (الجمع بين الصحيحين) أن البرقاني خرجه في صحيحه بلفظ: (أن الناس قد اختلفوا في صلاتك). انتهى. والاختلاف بينهم كان في الجهر بالتكبير والإسرار به، وكان مروان وغيره من بني أمية يسرون، وكان أبو هريرة يصلي بالناس في إمارة مروان على المدينة.
وفيه دلالة على أن أبا هريرة كان يصلي خلاف صلاتهم، فروي في (الموطأ) عن أبي هريرة أنه كان يكبر في حال قيامه، وكذا روي عن ابن عمر وغيره، وقد تقدم في: في باب ما يقول الإمام ومن خلفه، من حديث أبي هريرة بلفظ: (وإذا قام من السجدتين قال: الله أكبر). والتوفيق بينهما أن يحمل على أن المعنى: إذا شرع في القيام.
826 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا غيلان بن جرير عن مطرف قال صليت أنا وعمران صلاة خلف علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه فكان إذا سجد كبر وإذا رفع كبر وإذا نهض من الركعتين كبر فلما سلم أخذ عمران بيدي فقال

100
لقد صلى بنا هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم أو قال لقد ذكرني هذا صلاة محمد صلى الله عليه وسلم. (انظر الحديث 784 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (وإذا نهض من الركعتين كبر)، والمراد من السجدتين في الترجمة الركعتان الأوليان، لأن السجدة تطلق على الركعة، من إطلاق الجزء على الكل، والكلام في هذا الحديث قد تقدم في: باب إتمام التكبير في الركوع، وغيلان، بفتح الغين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف، وجرير بفتح الجيم، ومطرف بضم الميم وفتح الطاء المهملة وكسر الراء: ابن عبد الله بن الشخير العامري.
145
((باب سنة الجلوس في التشهد))
أي: هذا باب في بيان سنة الجلوس في التشهد، والمراد من سنة الجلوس يحتمل أن تكون هيئته كالافتراش مثلا، ويحتمل أن تكون نفسه، وحديث الباب يصلح للأمرين. وقال الكرماني قلت: الجلوس قد يكون واجبا؟ قلت: المراد بالسنة الطريقة المحمدية، وهي أعم من المندوب.
وكانت أم الدرداء تجلس في صلاتها جلسة الرجل وكانت فقيهة
اسم أم الدرداء: خيرة بنت أبي حدرد، وقيل: هجيمة، وقد تقدمت في: باب فضل صلاة الفجر مع الجماعة، وأثرها الذي علقه البخاري وصله ابن أبي شيبة عن وكيع عن ثور عن مكحول أن أم الدرداء كانت تجلس في الصلاة كجلسة الرجل. قيل: يفهم من رواية ابن أبي شيبة أن أم الدرداء هذه هي الصغرى التابعية، لا أم الدرداء الكبرى الصحابية، لأن مكحولا أدرك الصغرى دون الكبرى. قلت: قال ابن الأثير: قد جعل ابن منده وأبو نعيم خيرة أم الدرداء الكبرى، وهجيمة واحدة، وليس كذلك، فإن الكبرى اسمها: خيرة، وأم الدرداء الصغرى اسمها: هجيمة، الكبرى لها صحبة والصغرى لا صحبة لها، هذا هو الصحيح وما سواه وهم. قلت: إطلاق البخاري: أم الدرداء، ههنا من غير تعيين يحتمل الكبرى والصغرى، ولكن احتمال الكبرى يقوى بقوله: (وكانت فقيهة). ثم قوله: (وكانت فقيهة) هل هو من كلام
البخاري أو غيره؟ فقال صاحب (التلويح) القائل: (وكانت فقيهة) هو البخاري، فيما أرى. وقال صاحب (التوضيح): الظاهر أنه قول البخاري، وقال بعضهم: ليس كما قال، وشيد كلامه بأن الدليل إذا كان عاما وعمل بعمومه بعض العلماء رجح به، وإن لم يحتج به بمجرده، وقد عرف من رواية مكحول أن المراد بأم الدرداء الصغرى التابعية لا الكبرى الصحابية، لأن مكحولا لم يدرك الكبرى، وإنما أدرك الصغرى. قلت: عبارة البخاري تحتمل الأمرين، ولكن الظاهر أنها الكبرى كما قال صاحب (التلويح) و (التوضيح)
[/ ح.
قوله: (جلسة الرجل)، بكسر الجيم، لأن الفعلة بالكسر إنما هي للنوع، فدل هذا على أن المستحب للمرأة أن تجلس في التشهد كما يجلس الرجل، وهو أن ينصب اليمنى ويفترش اليسرى، وبه قال النخعي وأبو حنيفة ومالك، ويروى عن أنس كذلك، وعن مالك أنها تجلس على وركها الأيسر وتضم بعضها إلى بعض قدر طاقتها، ولا تفرج في ركوع ولا سجود ولا جلوس، بخلاف الرجل، وقال قوم: تجلس كيف شاءت إذا تجمعت، وبه قال عطاء والشعبي، وكانت صفية، رضي الله تعالى عنها، تصلي متربعة، ونساء ابن عمر كن يفعلنه، وقال بعض السلف: كن النساء يؤمرن أن يتربعن إذا جلسن في الصلاة، ولا يجلسن جلوس الرجال على أوراكهن. وقال عطاء وحماد: تجلس كيف تيسر.
827 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن عبد الله بن عبد الله أنه أخبره أنه كان يري عبد الله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يتربع في الصلاة إذا جلس ففعلته وأنا يومئذ حديث السن فنهاني عبد الله بن عمر وقال إنما سنة الصلاة أن تنصب رجلك اليمنى وتثني اليسرى فقلت إنك تفعل ذلك فقال أن رجلي لا تحملاني.
مطابقته للترجمة في قوله: (إنما سنة الصلاة أن تنصب..) إلى آخره.
ورجاله مشهورون، وهم: عبد الله بن عبد الله بن

101
عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم، والعبد مكبر في الابن والأب معا، وهو تابعي ثقة سمي باسم أبيه وكني بكنيته. قوله: (أنه أخبره) صريح في أن عبد الرحمن بن القاسم روى عن عبد الله المذكور، وروى الإسماعيلي عن مالك عن عبد الرحمن ابن القاسم عن أبيه عن عبد الله، وكذا رواه ابن نافع والأكثرون عن القعنبي، فقالوا: عن أبيه، وعلم من رواية عبد الله بن مسلمة أن عبد الرحمن سمعه عن أبيه عن عبد الله، ثم لقي عبد الله وسمعه منه بلا واسطة، أو يكون عبد الرحمن سمعه من عبد الله وأبوه معه.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه أبو داود أيضا في الصلاة عن القعنبي وعن عبيد الله بن معاذ وعن عثمان بن أبي شيبة وعن هناد بن السري. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة عن الليث وعن الربيع بن سليمان.
ذكر معناه: قوله: (إنما سنة الصلاة) تدل على أن هذا الحديث مسند، لأن الصحابي إذا قال: سنة، فإنما يريد سنة النبي صلى الله عليه وسلم. إما بقوله أو بقوله أو بفعل شاهده، كذا قال ابن التين. قوله: (وأنا يومئذ)، الواو فيه ففحال. قوله: (أن تنصب) أي: لا تلصقه بالأرض. قوله: (ويثني) أي: يعطف، لم يبين فيه ما يصنع بعد ثنيها: هل يجلس فوقها أو يتورك؟ ووقع في (الموطأ): عن يحيى بن سعيد أن القاسم بن محمد أراهم الجلوس في التشهد، فنصب رجله اليمنى وثنى اليسرى وجلس على وركه اليسرى ولم يجلس على قدمه، ثم قال: أراني هذا عبد الله بن عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهم، وحدثني أن أباه كان يفعل ذلك، فظهر من رواية القاسم الإجمال الذي في رواية ابنه، وروى النسائي من طريق عمرو بن الحارث عن يحيى بن سعيد: أن القاسم حدثه عن عبد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: من سنة الصلاة أن تنصب اليمنى وتجلس على اليسرى. قوله: (تفعل ذلك) أي: التربع. قوله: (إن رجلي) كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية حكاها ابن التين: (إن رجلاي) ووجه هذه بوجهين: أحدهما: أن تكون: إن، بمعنى: نعم إفعل ذلك، ويكون حرف جواب، وقد ورد ذلك في كلام العرب نظما ونثرا، أما النظم ففي قوله:
* ويقلن شيب قد علاك
* وقد كبرت فقلت: إنه
*
وأما النثر، فقد قال عبد الله بن الزبير لمن قال: لعن الله ناقة حملتني إليك: إن وراكبها، أي: نعم ولعن راكبها. والوجه الثاني: أن يكون على لغة بني الحارث، فإنهم لا ينصبون بأن اسمها، وعليه قراءة: * (أن هذان لساحران) * (طه: 63). وقال الشاعر:
* إن أباها وأبا أباها
*
قوله: (لا تحملاني) روي بتشديد النون وبتخفيفها.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن السنة أن ينصب المصلي رجله اليمنى ويثني اليسرى. وقد اختلفوا في صفة الجلوس في الصلاة، فذهب يحيى بن سعيد الأنصاري والقاسم بن محمد وعبد الرحمن بن القاسم ومالك إلى: أن المصلي ينصب رجله اليمنى ويثني رجله اليسرى، ويقعد بالأرض في القعدة الأولى وفي الأخيرة، وهذا هو التورك
الذي ينقل عن مالك. وفي (الجواهر): المستحب في الجلوس كله الأول والأخير وبين السجدتين أن يكون توركا. وفي (التمهيد): المرأة والرجل سواء في ذلك عند مالك، وذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إلى: أن المصلي يفعل في القعود الأول مثل ما ذكرنا الآن، وإن كان في القعود الثاني يقعد على رجله اليسرى وينصب اليمنى. وقال أبو عمر: قال الشافعي: إذا قعد في الرابعة أماط رجليه جميعا فأخرجهما عن وركه الأيمن وأفضى بمقعدته إلى الأرض، واضجع اليسرى ونصب اليمنى في القعدة الأولى. وقال أحمد مثل قول الشافعي، إلا في الجلوس في الصبح، فإن عنده كالجلوس في ثنتين، وهو قول داوود. وقال الطبري: إن فعل هذا فحسن، وإن فعل هذا فحسن، لأن ذلك كله قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال النووي: الجلسات عند الشافعي أربع: الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة عقيب كل ركعة يعقبها قيام، والجلسة للتشهد الأول، والجلسة للتشهد الأخير، فالجميع يسن مفترشا إلا الأخيرة. فلو كان مسبوقا وجلس إمامه في آخر الصلاة متوركا جلس المسبوق مفترشا في تشهده، فإذا سجد سجدتي السهو تورك ثم سلم انتهى.
وعندنا: السنة أن يفترش رجله اليسرى ويجلس عليها وينصب اليمنى نصبا في القعدتين جميعا، وبه قال الثوري، واستدلوا بحديث عائشة في (صحيح مسلم) قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتتح الصلاة..) إلى أن قالت: (وكان يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى..) الحديث. وأما جلوس المرأة فهو التورك عندنا، وقال النووي: وجلوس المرأة كجلوس الرجل، وحكى القاضي عياض عن بعض السلف: أن سنة المرأة التربع، وعن بعضهم: التربع في النافلة، وقال أبو عمر: اختلفوا في التربع في النافلة وفي الفريضة للمريض، فأما الصحيح فلا يجوز له التربع في الفريضة

102
بإجماع العلماء، وروى ابن أبي شيبة عن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، قال: لأن أقعد على رضفتين أحب إلي من أن أقعد متربعا في الصلاة، وهذا يشعر بتحريمه عنده، ولكن المشهور عند أكثر العلماء أن هيئة الجلوس في التشهد سنة، وقال ابن بطال: روي عن جماعة من السلف أنهم كانوا يتربعون في الصلاة، كما فعله ابن عمر، منهم: ابن عباس وأنس وسالم وعطاء وابن سيرين ومجاهد، وجوزه الحسن في النافلة، وفي رواية: كرهه هو والحكم وابن مسعود.
828 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن خالد عن سعيد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء وحدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء أنه كان جالسا مع نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فذكرنا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو حميد الساعدي أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيته إذا كبر جعل يديه حذاء منكبيه وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه ثم هصر ظهره فإذا رفع رأسه استوى حتى يعود كل فقار مكانه فإذا سجد وضع يديه غير مفترش ولا قابضهما واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة فإذا جلس في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب الأخرى وقعد على مقعدته.
[بشر
مطابقته للترجمة في قوله: (إذا جلس في الركعتين..) إلى آخره.
ذكر رجاله: وهم تسعة: الأول: يحيى ابن بكير، بضم الباء الموحدة: هو يحيى بن عبد الله بن بكير أبو زكريا المصري. الثاني: الليث بن سعد. الثالث: خالد ابن يزيد الجمحي المصري. الرابع: سعيد بن أبي هلال الليثي المدني. الخامس: محمد بن عمرو بن حلحلة، بفتح المهملتين وسكون اللام الأولى: الديلي المدني. السادس: محمد بن عمرو بن عطاء بن عياش القرشي العامري المدني. السابع: يزيد، من الزيادة، ابن أبي حبيب أبو رجاء المصري، واسم أبي حبيب: سويد. الثامن: يزيد بن محمد القرشي. التاسع: أبو حميد الساعدي الأنصاري المدني، اسمه: عبد الرحمن، وقيل: المنذر.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في سبعة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رواته ما بين مصريين ومدنيين، فالثلاثة الأول منهم مصريون، فكذلك السابع، والبقية مدنيون. وفيه: أن خالدا من أقران شيخه. وفيه: إسنادان أحدهما: عن الليث عن خالد، والآخر: عن الليث عن يزيد ابن أبي حبيب. وفيه: أن بين الليث وبين محمد بن عمرو بن حلحلة في الرواية الأولى اثنين، وبينهما في الرواية الثانية واسطة واحدة. وفيه: أن يزيد ابن أبي حبيب من صغار التابعين. وفيه: إرداف الرواية النازلة بالرواية العالية على عادة أهل الحديث. وفيه: أن يزيد ابن محمد من أفراد البخاري. وفيه: أن الليث في الرواية الثانية يروي عن شيخين، كلاهما عن محمد بن عمرو بن حلحلة.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه أبو داود أيضا في الصلاة عن أحمد بن حنبل وعن مسدد وعن قتيبة عن ابن لهيعة وعن عيسى بن إبراهيم المصري. وأخرجه الترمذي فيه عن ابن المثنى وابن بشار وعن ابن بشار والحسن بن علي الخلال. وأخرجه النسائي فيه عن ابن بشار عن يحيى به وعن يعقوب بن إبراهيم، وأخرجه ابن ماجة عن بندار عن أبي بكر ابن أبي شيبة وعلي بن محمد.
ذكر معناه: قوله: (قال: وحدثنا) قائله هو يحيى بن بكير المذكور، قوله: (في نفر)، وفي رواية كريمة: (مع نفر)، بفتحتين، وهو اسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة، ما بين الثلاثة إلى العشرة، ولا واحد له من لفظه. وقال ابن الأثير: النفر رهط الإنسان وعشيرته. قوله: (من أصحاب رسول الله) كلمة: من، في محل الحال من: أي: حال كونهم من أصحاب

103
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولفظ: النفر، يدل على أنهم كانوا عشرة، يدل عليه أيضا رواية أبي داود وغيره: عن محمد بن عمرو بن عطاء، قال: سمعت أبا حميد الساعدي في عشرة من أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: أبو حميد من العشرة أو خارج منهم؟ قلت: يحتمل الوجهين بالنظر إلى رواية: في عشرة، وإلى رواية: مع عشرة، وكان من جملة العشرة: أبو قتادة الحارث بن ربعي في رواية أبي داود والترمذي، وسهل بن سعد وأبو أسيد الساعدي محمد بن سلمة
في رواية أحمد وغيره، وأبو هريرة في رواية أبي داود. قوله: (أنا كنت أحفظكم لصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية أبي داود: (قالوا: فلم؟ فوالله ما كنت بأكثرنا له تبعة ولا أقدمنا له صحبة). وفي رواية الترمذي: (إتيانا، ولا أقدمنا له صحبة). وفي رواية الطحاوي من حديث العباس بن سهل: (عن أبي حميد الساعدي أنه كان يقول لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم. قالوا: من أين؟ قال: رقبت ذلك منه حتى حفظت صلاته). وفي رواية أخرى له: (أنا أعلمكم بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: وكيف؟ فقال: اتبعت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: أرنا. قال: فقام يصلي وهم ينظرون). وزاد عبد الحميد بن جعفر في روايته: (قالوا: فأعرض)، وفي روايته عند ابن حبان: (استقبل القبلة ثم قال: الله أكبر). وزاد فليح ابن سليمان في روايته عند ابن خزيمة فيه ذكر الوضوء. قوله: (فجعل يديه حذو منكبيه) زاد ابن إسحاق: (ثم قرأ بعض القرآن). قوله: (ثم هصر ظهره)، بفتح الهاء والصاد المهملة أي: أماله في استواء من غير تقويس، وأصل الهصر: أن تأخذ رأس العود فتثنيه إليك وتعطفه. وفي (الصحاح): الهصر الكسر، وقد هصره وأهصره واهتصره بمعنى، وهصرت الغصن وبالغصن إذا أخذت برأسه وأملته، والأسد هيصر وهيصار، وفي رواية أبي داود: (ثم هصره ظهره غير مقنع رأسه ولا صافح بخده). قوله: (غيرمقنع) من الإقناع يعني: لا يرفع رأسه حتى يكون أعلى من ظهره، وقال ابن عرفة: يقال: أقنع رأسه إذا نصبه لا يلتفت يمينا ولا شمالا، وجعل طرفه موازيا لما بين يديه. قوله: (ولا صافح بخده) أي: غير مبرز بصفحة خده ولا مائل في أحد الشقين. قوله: (فإذا رفع رأسه استوى) زاد عيسى عند أبي داود (فقال: سمع الله لمن حمده اللهم ربنا لك الحمد، ورفع يديه). ونحوه لعبد الحميد وزاد: (حتى يحاذي بهما منكبيه معتدلا). قوله: (حتى يعود كل فقار) بفتح الفاء والقاف وبعد الألف راء جمع: فقارة، وهي عظام الظهر. وقال ابن قرقول: جاء عند الأصيلي هنا: (فقار)، بفتح الفاء وكسرها، ولا أعلم لذلك معنى، وعند ابن السكن: فقار، بكسر الفاء، ولغيره: فقار، وهو الصواب. وقال ابن التين: هو الصحيح، وهو الذي رويناه، وروينا في رواية أبي صالح عن الليث: (قفار)، بتقديم القاف وكسرها، وليس، لأنه جمع: قفر، وهي: المفازة. وفي (الجامع) للقزاز: الفقرة، بكسر الفاء، والفقارة بفتحها: إحدى فقار الظهر، وهي العظام المنتظمة التي يقال لها: خرز الظهر، فجمع الفقارة فقار، وجمع الفقرة: فقر، وقالوا: أفقرة، يريدون جمع: فقار، كما تقول: قذال وأقذلة. وفي (المحكم): الفقر والفقرة: ما انتضد من عظام الصلب من لدن الكاهل إلى العجب، والجمع: فقر وفقار. وقال ابن الاعرابي: أقل فقر البعير ثمان عشرة وأكثرها إحدى وعشرون، وفقار الإنسان سبع. وفي (نوادر) ابن الأعرابي رواية عن ثعلب: فقار الإنسان سبع عشرة وأكثر فقر البعير ثلاث وعشرون. وفي (المخصص) الفقر ما بين كل مفصلين، وقيل: الفقار أطراف رؤوس الفقر، وكل فقرة خرزة وفي (أمالي أبي إسحاق الزجاجي): هن سبع أمهات غير الصغار التوابع. وفي (كتاب الفصوص) لصاعد: هن أربع وعشرون، سبع منها في العنق وخمس منها في الصلب، واثنتي عشرة وهي الأضلاع. وقال الأصمعي: هن خمس وعشرون فقرة. قوله: (غير مفترش)، أي: غير مفترش يديه، وفي رواية ابن حبان من رواية عتبة بن أبي الحكم عن عباس بن سهل: (غير مفترش ذراعيه)، وفي رواية الطحاوي: (وإذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه، ولا مفترش ذراعيه). قوله: (ولا قابضهما) أي: ولا قابض يديه، وهو أن يضمهما إليه، وفي رواية فليح بن سليمان: (ونحى يديه عن جنبيه ووضع يديه حذو منكبيه). وفي رواية ابن إسحاق: (فاعلولى على جنبيه وراحتيه وركبتيه وصدور قدميه حتى رأيت بياض إبطيه، وما تحت منكبيه، ثم ثبت حتى اطمأن كل عظم منه، ثم رفع رأسه فاعتدل). قوله: (فإذا جلس في الركعتين) أي: الركعتين الأوليين ليتشهد، وفي رواية الطحاوي: (ثم جلس فافترش رجله اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قبلته ووضع كفه اليمنى على ركبته اليمنى، وكفه اليسرى على ركبته اليسرى، وأشار بأصبعه). وفي رواية عيسى بن عبد الله: (ثم جلس بعد

104
الركعتين حتى إذا هو أراد أن ينتهض إلى القيام قام بتكبيرة). قلت: هذا يخالف في الظاهر رواية عبد الحميد حيث قال: (ثم إذا قام من الركعتين كبر ورفع يديه كما كبر عند افتتاح الصلاة). قلت: التوفيق بينهما بأن يقول معنى قوله: (إذا قام أي: إذا أراد القيام أو شرع فيه. قوله: (فإذا جلس في الركعة الآخرة..) إلى آخره، في رواية عبد الحميد: (حتى إذا كانت السجدة التي يكون فيها التسليم)، وفي رواية عند ابن حبان: (التي تكون عند خاتمة الصلاة، أخر رجله اليسرى وقعد متوركا على شقه الأيسر). زاد ابن إسحاق في روايته: (ثم سلم). وفي رواية عيسى عند الطحاوي: (فلما سلم سلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، وعن شماله أيضا: السلام عليكم ورحمة الله) وفي رواية أبي عاصم عن عبد الحميد عند أبي داود وغيره (قالوا) أي: الصحابة المذكورون: (صدقت، هكذا كان يصلي). ذكر ما يستفاد منه: احتج الشافعي، رضي الله تعالى عنه، ومن قال بقوله أن هيئة الجلوس في التشهد الأول مغايرة لهيئة الجلوس في التشهد الأخير، وقد ذكرنا عن قريب اختلاف العلماء فيه. وقال الطحاوي: القعود في الصلاة كلها سواء، وهو أن ينصب رجله اليمنى ويفترش رجله اليسرى فيقعد عليها، ثم ذكر الاحتجاج في هذا بحديث وائل بن حجر الحضرمي، قال: (صليت خلف النبي، صلى الله عليه وسلم، فقلت: لأحفظن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فلما قعد للتشهد فرش رجله اليسرى ثم قعد عليها ووضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى ووضع مرفقه الأيمن على فخذه اليمنى، ثم عقد أصابعه وجعل حلقة بالإبهام والوسطى، ثم جعل يدعو بالأخرى). وأخرجه الطبراني أيضا. قلت: هذا الذي ذكره هو مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وبه قال الثوري وعبد الله بن المبارك وأحمد في رواية. فإن قلت: لا يتم الاستدلال للحنفية بالحديث المذكور، لأنه لم يذكر فيه إلا أنه فرش رجله اليسرى فقط. قلت: كثر الخلاف فيه فاكتفى بهذا المقدار، وأما نصب رجله اليمنى فقد ذكرهه ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا ابن إدريس عن عاصم بن كليب عن أبيه (عن وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس فثنى اليسرى ونصب اليمنى)، يعني في الصلاة. وحديث عائشة أيضا، وقد تقدم عن قريب. فإن قلت: من أين علم أن المراد من قوله: (فلما قعد للتشهد أفترش رجله اليسرى ثم قعد عليها) وهي القعدة الأخيرة؟ قلت: علم من قوله: (ثم جعل يدعو)، أن الدعاء في التشهد لا يكون إلا في آخر الصلاة، ثم أجاب الطحاوي عن حديث أبي حميد
الذي احتج به الشافعي وغيره بما ملخصه: أن محمد بن عمرو بن عطاء لم يسمع هذا الحديث من أبي حميد، ولا من أحد ذكر مع أبي حميد، وبينهما رجل مجهول، ومحمد بن عمرو ذكر في الحديث أنه حضر أبو قتادة وسنه لا يحتمل ذلك، فإن أبا قتادة قتل قبل ذلك بدهر طويل، لأنه قتل مع علي، رضي الله تعالى عنه، وصلى عليه علي، وقد رواه عطاف بن خالد عن محمد بن عمرو، فجعل بينهما رجلا. ثم أخرجه عن يحيى بن سعيد بن أبي مريم: حدثنا عطاف بن خالد حدثني محمد بن عمرو بن عطاء (حدثني رجل أنه: وجد عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا..) فذكر نحو حديث أبي عاصم، سواء فإن ذكروا تضعيف عطاف قيل لهم: وأنتم تضعفون عبد الحميد بن جعفر أكثر من تضعيفكم لعطاف، مع أنكم لا تطرحون حديث عطاف كله، إنما تصححون قديمه وتتركون حديثه، هكذا ذكره ابن معين في كتايه، وابن أبي مريم سماعه من عطاف قديم جدا، وليس أحد يجعل هذا الحديث سماعا لمحمد بن عمرو من أبي حميد إلا عبد الحميد، وهو عندكم أضعف، وقد اعترض بعضهم بأنه لا يضر الثقة المصرح بسماعه أن يدخل بينه وبين شيخه واسطة، إما لزيادة في الحديث وإما لتثبيت فيه، وقد صرح محمد بن عمرو بسماعه، وأن أبا قتادة اختلف في وقت موته، فقيل: مات سنة أربع وخمسين، وعلى هذا فلقاء محمد له ممكن. انتهى. قلت: هذا القائل أخذ كلامه هذا من كلام البيهقي، فإنه ذكره في (كتاب المعرفة) والجواب عن هذا: أن إدخال الواسطة إنما يصح إذا وجد السماع، وقد نفى الشعبي سماعه، وهو أمام في هذا الفن، فنفيه نفي وإثباته إثبات، ومبني نفيه من جهة تاريخ وفاته أنه قال: قتل مع علي، رضي الله تعالى عنه، كما ذكرناه، وكذا قال الهيثم بن عدي، وقال ابن عبد البر: هو الصحيح.
وفيه: رفع اليدين إلى المنكبين، وإليه ذهب الشافعي وأحمد، وقد قلنا إنه كان للعذر. وفيه: أن سنة الهيئة في الركوع، أن لا يرفع رأسه إلى فوق ولا ينكسه، ومن هذا قال صاحب (الهداية): ويبسط ظهره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع بسط ظهره، ولا يرفع رأسه

105
ولا ينكسه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركع لا يصوب رأسه ولا يقنعه.
وفيه: أن السنة أن يجافي بطنه عن فخذيه ويديه عن جنبيه.
وفيه: بيان هيئة الجلوس، وقد بيناها مع الخلاف فيها مستوفى. وفيه: بيان توجيه أصابع رجليه نحو القبلة.
وفيه: جواز وصف الرجل نفسه بكونه أعلم من غيره إذا أمن الإعجاب وأراد بيان ذلك عند غيره ممن سمعه، لما في التعليم والأخذ عن الأعلم.
وفيه: أنه كان يخفى على الكثير من الصحابة بعض الأحكام المتلقاة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وربما يذكره بعضهم إذا ذكر.
وسمع الليث يزيد بن أبي حبيب ويزيد بن محمد بن عمرو بن حلحلة وابن حلحلة من ابن عطاء
أشار بهذا إلى أن الليث بن سعد المذكور في سند الحديث المذكور الذي روي بالعنعنة عن يزيد بن أبي حبيب، ويزيد ابن محمد، وقد سمع منهما وأن عنعنته سماع. قال الكرماني: وسمع الليث، أي: قال يحيى بن بكير شيخ البخاري: سمع الليث.. إلى آخره، ورد عليه بعضهم بقوله: وهو كلام المصنف ووهم من جزم بأنه كلام يحيى بن بكير. قلت: الكرماني لم يجزم بهذا قطعا. وإنما كلامه يقتضي الاحتمال وفي قوله أيضا: وهو كلام المصنف، احتمال لا يخفى. قوله: (وابن حلحلة من ابن عطاء) أي: سمع محمد بن عمرو بن حلحلة عن محمد بن عمرو بن عطاء.
وقال أبو صالح عن الليث كل قفار
أبو صالح هذا هو عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد، وقد وهم الكرماني فيه حيث قال: أبو صالح هو عبد الغفار البكري، تقدم في كتاب الوحي، وأشار بهذا إلى أن أبا صالح قال في روايته عن الليث بإسناده الثاني عن اليزيدين المذكورين: كل قفار، بدون الإضافة إلى الضمير، وبتقديم القاف على الفاء كما في رواية الأصيلي، وقد وصل هذا التعليق الطبراني عن مطلب ابن شعيب وابن عبد البر من طريق القاسم بن أصبغ، كلاهما عن أبي صالح المذكور.
وقال ابن المبارك عن يحيى بن أيوب. قال حدثني يزيد بن أبي حبيب أن محمذ بن عمر و حدثه كل فقار
أي: قال عبد الله بن المبارك.. إلى آخره، ووصل هذا التعليق الجوزقي في (جمعه) وإبراهيم الحربي في (غريبه) وجعفر الفريابي في (صفة الصلاة) كلهم من طريق ابن المبارك بهذا الإسناد، ووقع عندهم بلفظ: (حتى يعود كل فقار منه)، بتقديم الفاء على القاف، وهي نحو رواية يحيى بن بكير شيخ البخاري بتقديم الفاء، ووقع في رواية الكشميهني وحده: (كل فقاره)، وقد بينا وجه الاختلاف فيه في شرح حديث الباب. وقال الكرماني: يعني وافق أبو صالح يحيى عن الليث في رواية: (كل فقار) بدون الضمير، وقال عبد الله بن المبارك، رضي الله تعالى عنه: (كل فقاره)، بالإضافة إلى الضمير، أو بتاء التأنيث على اختلاف، والأصوب الأوجه ما ذكرناه.
146
((باب من لم ير التشهد الأول واجبا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين ولم يرجع))
أي: هذا باب في بيان حكم من لم ير التشهد الأول في الجلسة الأولى من الثلاثية أو الرباعية، والمراد من التشهد تشهد الصلاة، وهو التحيات، سمي تشهدا لأن فيه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهو تفعل من الشهادة. فإن قلت: في التحيات أشياء غير التشهد، فما وجه التخصيص بلفظ التشهد؟ قلت: لشرفه على غيره من حيث إنه كلام به يصير الشخص مؤمنا ويرتفع عنه السيف، وينتظم في سلك الموحدين الذي به النجاة في الدنيا والآخرة، والبخاري ممن يرى عدم وجود التشهد الأول. وفي (التوضيح): أجمع فقهاء الأمصار، أبو حنيفة ومالك والثوري والشافعي وإسحاق والليث وأبو ثور: على أن التشهد الأول غير واجب، حاشا أحمد، فإنه أوجبه. كذا نقله ابن القصار، ونقله ابن التين أيضا عن الليث وأبي ثور. وفي (شرح الهداية): قراءة التشهد في القعدة الأولى واجبة عند أبي حنيفة،
وهو المختار والصحيح، وقيل: سنة وهو الأقيس، لكنه خلاف ظاهر الرواية،

106
وفي (المغني): إن كانت الصلاة مغربا أو رباعية فهما واجبان فيهما على إحدى الروايتين، وهو مذهب الليث وإسحاق لأنه صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه وأمر به في حديث ابن عباس بقوله: (قولوا التحيات لله) وجبره بالسجود حين نسيه، وقال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) وفي مسلم: عن عائشة، رضي الله تعالى عنها: (وكان يقول في كل ركعتين: التحية) وللنسائي من حديث ابن مسعود مرفوعا: (إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا: التحيات..) الحديث، وحديث المسئ وحديث رفاعة الذي مضى، وروي عن عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقول: من لم يتشهد فلا صلاة له. وحجة الجمهور هو قوله: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام من الركعتين، يعني قام إلى الثالثة وترك التشهد ولم يرجع إلى التشهد، ولو كان واجبا لوجب عليه التدارك حين علم تركه ما أتى به، بل جبره بسجود السهو. وقال التيمي: سجوده ناب عن التشهد والجلوس، ولو كانا واجبين لم ينب منابهما سجود السهو، كما لا ينوب عن الركوع وسائر الأركان، واحتج الطبري لوجوبه: بأن الصلاة فرضت أولا ركعتين، وكان التشهد فيها واجبا، فلما زيدت لم تكن الزيادة مزيلة لذلك. وأجيب بأن الزيادة لم تتعين في الأخريين بل يحتمل، أن تكونا هما الفرض الأول والمزيد هما الركعتان الأوليان بتشهدهما، ويؤيده استمرار السلام بعد التشهد الأخير كما كان، وفيه نظر يخفى.
829 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني عبد الرحمن بن هرمز مولى بني عبد المطلب وقال مرة مولى بني ربيعة بن الحارث أن عبد الله بن مالك ابن بحينة وهو من أزد شنوءة وهو حليف لبني عبد مناف وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر فقام من الركعتين الأوليين لم يجلس فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم..
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي أنه صلى الله عليه وسلم لما ترك التشهد الأول من صلاة الظهر الذي صلى بهم، لم يرجع إليه، فلو كان التشهد الأول واجبا لرجع إليه كما ذكرنا.
ذكر رجاله: وهم خمسة ذكروا: أبو اليمان الحكم بن نافع، وشعيب ابن أبي حمزة واسم أبي حمزة: دينار، والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وعبد الرحمن بن هرمز، بالهاء والميم المضمومتين بينهما راء ساكنة: هو الأعرج، وعبد الله بن مالك ابن بحينة، بضم الموحدة وفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون: وهو اسم أم عبد الله.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: أن الأولين من الرواة حمصيان والاثنان بعدهما مدنيان. وفيه: ذكر عبد الله ابن مالك باسم أبيه وبنسبته إلى أمه. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: شهادة الراوي التابعي أن عبد الله بن مالك من الصحابة. وفيه: ذكر الزهري عبد الرحمن بن هرمز أولا بمولى بني عبد المطلب، وثانيا بمولى بني ربيعة بن الحارث، ولا منافاة بينهما، لأنه ذكر أولا بجد مواليه الأعلى، وثانيا بمولاه الحقيقي، وهو ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وفيه: ذكر عبد الله بن مالك منسوبا إلى قبيلته وهو أزد شنوءة، وهي قبيلة مشهورة، وأزد، بفتح الهمزة وسكون الزاي بعدها الدال المهملة، وشنوءة، بفتح الشين المعجمة وضم النون وفتح الهمزة على وزن: فعولة. وفيه: أنه حليف لبني عبد مناف، وهو صحيح، لأن جده حالف المطلب بن عبد مناف.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد الله بن يوسف وعن قتيبة وفي السهو عن قتيبة وفي النذور عن آدم. وأخرجه مسلم فيه عن يحيى بن يحيى وعن قتيبة ومحمد بن رمح وعن أبي الربيع الزهراني، وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي وعن عمرو بن عثمان. وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة وعن أبي الطاهر وعن يحيى بن حبيب وعن سويد بن نصر وعن أبي داود الحراني وعن إسماعيل بن مسعود

107
وعن سليمان بن مسلم وعن محمود بن غيلان. وأخرجه ابن ماجة فيه عن عثمان بن أبي شيبة وعبد الله بن نمير.
ذكر معناه: قوله: (لم يجلس) جملة حالية أي: لم يجلس للتشهد، ووقع في رواية مسلم: (فلم يجلس) بالفاء، ووقع في رواية ابن عساكر: (ولم يجلس) بزيادة: واو. قوله: (حتى إذا قضى الصلاة) أي: أداها وتممها، والقضاء يأتي بمعنى الأداء كما في قوله تعالى وفيه: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) * (الجمعة: 10). أي: فإذا أديت. قوله: (وهو جالس) جملة حالية. قوله: (سجدتين) أي: سجدتي السهو.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن التشهد الأول غير واجب لقوله: (لم يجلس)، وقد ذكرنا الخلاف فيه مستقصى. وفيه: أن الإمام إذا سها واستمر به السهو حتى يستوي قائما في موضع قعوده للتشهد الأول تبعه القوم، قال الخطابي: فيه أن موضع سجدتي السهو قبل السلام، ومن فرق بأن السهو إذا كان من نقصان سجد قبل السلام، وإذا كان من زيادة سجد بعد السلام، لم يرجع فيما ذهب إليه إلى فرق صحيح. قلت: قوله: موضع سجدتي السهو قبل السلام، هو مذهب الشافعي وأحمد في رواية، وهو مذهب الزهري ومكحول وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي والليث بن سعد، وقال ابن قدامة في (المغني): السجود كله عند أحمد قبل السلام إلا في الموضعين اللذين ورد النص بسجودهما بعد السلام، وهما: إذا سلم من نقص في صلاته، أو تحرى الإمام فبنى على غالب ظنه، وما عداهما يسجد له قبل السلام، نص على هذا في رواية الأثرم. والجماعة المذكورون احتجوا بحديث الباب، وقول الخطابي: ومن فرق بأن السهو... إلى آخره، أشار به إلى مذهب مالك، فإنه فصل، وقال: إن سجود السهو للنقصان قبل السلام وللزيادة بعد السلام، وإليه ذهب أبو ثور أيضا ونفر من الحجازيين. وأجاب الكرماني عن قول الخطابي: لم يرجع فيما ذهب إليه إلى فرق صحيح، بأن الفرق صحيح، لأنه قال: السجود في النقصان لجبر ما فات له من الصلاة، فناسب أن يتداركه في نفس الصلاة، وفي الزيادة لترغيم الشيطان، فناسب خارج الصلاة. قلت: هذا دليل عقلي، فلم لم يقل في رده على الخطابي: إن مالكا عمل في النقصان بحديث ابن بحينة، وهو حديث الباب،
وبحديث معاوية أخرجه النسائي: (أنه صلى إمامهم فقام في الصلاة وعليه جلوس فسبح الناس فتم على قيامه ثم سجد سجدتين وهو جالس بعد أن أتم الصلاة، ثم قعد على المنبر فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من نسي شيئا من صلاته فليسجد مثل هاتين السجدتين). ورواه الطحاوي بأصرح منه، ولفظه: (أن معاوية صلى بهم فقام وعليه جلوس فلم يجلس، فلما كان في آخر السجدة من صلاته سجد سجدتين قبل أن يسلم، فقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع). وعمل في النقصان بحديث ذي اليدين وغيره، وقال الخطابي: وحديث ذي اليدين محمول على أن تأخيره صلى الله عليه وسلم بعد السلام كان عن سهو، وذلك أن الصلاة قد توالى فيها السهو والنسيان مرات في أمور شتى، فلم ينكر أن يكون هذا منها. انتهى. قلت: أشار به إلى الجواب عن حديث ذي اليدين الذي احتج به أصحابنا، على أن سجدتي السهو بعد السلام، وهذا غير سديد لأنه لا ضرورة إلى حمل تأخيره على السهو. وقال النووي: لأن جميع العلماء قائلون بجواز التقديم والتأخير، ونزاعهم في الأفضل، فتأخيره محمول على بيان الجواز. قلت: في قوله: ونزاعهم في الأفضل، فيه نظر، لأن القدوري قال: لو سجد للسهو قبل السلام، روي عن أصحابنا أنه: لا يجوز لأنه أداه قبل وقته، ولكن قال صاحب (الهداية): هذا الخلاف في الأولوية، وكذا قاله الماوردي في (الحاوي) وابن عبد البر وغيرهم، وأصحابنا احتجوا فيما ذهبوا إليه بحديث المغيرة بن شعبة قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسها، فنهض في الركعتين فسبحنا به، فمضى، فلما أتم الصلاة وسلم سجد سجدتي السهو). أخرجه الطحاوي والترمذي. وقال: هذا حديث حسن صحيح، وأخرجه أبو داود أيضا واحتجوا أيضا بأحاديث رويت عن جماعة من الصخابة فيها سجود السهو بعد السلام، وقد بينا ذلك في (شرحنا لمعاني الآثار) للحافظ أبي جعفر الطحاوي، ومثل مذهبنا مروي عن جماعة من الصحابة وجماعة من التابعين، أما الصحابة فهم: علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعمار بن ياسر وعبد الله بن الزبير وأنس بن مالك، رضي الله تعالى عنهم، وأما التابعون: فإبراهيم النخعي وابن أبي ليلى والحسن البصري، وهو مذهب سفيان الثوري أيضا.

108
147
((باب التشهد في الأولى))
أي: هذا باب في بيان التشهد في الجلسة الأولى من الثلاثية أو الرباعية. قال الكرماني: فإن قلت: الأولى في بيان عدم وجوب التشهد الأول والثانية في بيان مشروعية التشهد في الجلسة الأولى انتهى (قلت) ما الفرق بين ترجمة هذا الباب وترجمة الباب السابق؟ قلت: ويمكن أن يقال: الفرق بين الترجمتين أن الأولى في عدم وجوب التشهد، والثانية في وجوبه، لأن في حديث الباب: قام وعليه جلوس، والجلوس إنما هو للتشهد، فأخذت طائفة بالأولى وطائفة بالثانية، كما بيناه عن قريب
830 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا بكر عن جعفر بن أبي ربيعة عن الأعرج عن عبد الله بن مالك ابن بحينة قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقام وعليه جلوس فلما كان في آخر صلاته سجد سجدتين وهو جالس..
وجه الترجمة عرف الآن: وهو طريق آخر في حديث ابن بحينة، وبكر: هو ابن مضر، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز المذكور في سند حديث الباب الذي قبله، وعبد الله بن مالك ابن بحينة، وهو المذكور في السند السابق منتسبا إلى أمه، وههنا ذكر منتسبا إلى أبيه، وينبغي أن تكتب الألف في ابن بحينة إذا ذكر مالك، ويعرب إعراب عبد الله، وإذل لم يذكر مالك لا تكتب. قوله: (السلام علينا) أراد به الحاضرين من الامام والمأمومين والملائكة عليهم الصلاة والسلام قوله (وعليه جلوس) أي: جلسة التشهد الأول.
148
((باب التشهد في الآخرة))
أي: هذا باب في بيان التشهد في الجلسة الأخيرة.
217 - (حدثنا أبو نعيم قال حدثنا الأعمش عن شقيق بن سلمة قال قال عبد الله كنا إذا صلينا خلف النبي
قلنا السلام على جبريل وميكائيل السلام على فلان وفلان فالتفت إلينا رسول الله
فقال إن الله هو السلام فإذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإنكم إذا قلتموها أصابت كل عبد لله صالح بالسماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله)
مطابقته للترجمة لا تتأتى إلا باعتبار تمام هذا الحديث فإنه أخرجه تمامه في باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وهو قوله
في آخر الحديث ' ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو ' ومعلوم أن محل الدعاء في آخر الصلاة ومعلوم أن الدعاء لا يكون إلا بعد التشهد ويعلم من ذلك أن المراد من قوله ' فليقل التحيات لله ' إلى آخره هو التشهد في آخر الصلاة فحينئذ طابق الحديث الترجمة بهذا الاعتبار لا باعتبار ما قاله ابن رشيد فإنه قال ليس في حديث الباب تعيين محل القول لكن يؤخذ ذلك من قوله ' فإذا صلى أحدكم فليقل ' فإن ظاهر قوله ' إذا صلى ' أي أتم صلاته لكن تعذر الحمل على الحقيقة لأن التشهد لا يكون إلا بعد السلام فلما تعين المجاز كان حمله على آخر جزء من الصلاة أولى لأنه هو الأقرب إلى الحقيقة انتهى (قلت) لا نسلم تعذر الحمل على الحقيقة فإن حقيقة تمام الصلاة بالجلوس في آخرها لا بالسلام حتى إذا خرج بعد جلوسه مقدار التشهد من غير السلام لا تفسد صلاته لأن السلام محلل وما دام المصلي في الجلوس في آخر الصلاة فهو في حرمة الصلاة والسلام يخرجه عن هذه الحرمة فحينئذ يكون معنى قوله
' فإذا صلى أحدكم ' أي فإذا أتم صلاته بالجلوس في آخر الثنائية أو في آخر الثلاثية أو في آخر الرباعية فليقل التحيات لله إلى آخره فدل

109
على أن التشهد في آخر الصلاة واجب لقوله ' فليقل ' لأن مقتضى الأمر الوجوب
(ذكر رجاله) وهم أربعة قد ذكروا غير مرة وأبو نعيم هو الفضل بن دكين والأعمش هو سليمان وعبد الله هو ابن مسعود رضي الله تعالى عنه
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضع وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه عن شقيق وفي رواية يحيى التي تأتي بعد باب عن الأعمش حدثني شقيق ورجال الإسناد كلهم كوفيون.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن قبيصة عن سفيان وعن مسدد عن يحيى وعن عمرو بن حفص بن غياث عن أبيه وأخرجه مسلم فيه عن يحيى بن يحيى عن أبي معاوية وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد عن يحيى وأخرجه الترمذي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي وأخرجه النسائي فيه عن يعقوب بن إبراهيم وعمرو بن علي وعن سعيد بن عبد الرحمن وعن بشر بن خالد وفيه وفي النعوت عن قتيبة وفي التفسير عن قتيبة أيضا وأخرجه ابن ماجة في الصلاة عن أبي بكر بن خلاد وعن محمد بن عبد الله بن نمير وعن محمد بن يحيى الزهري
(ذكر معناه) قوله ' كنا إذا صلينا ' وفي رواية يحيى الآتية ' كنا إذا كنا مع النبي
في الصلاة ' وفي رواية أبي داود عن مسدد شيخ البخاري عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله قال ' كنا إذا جلسنا مع رسول الله
في الصلاة ' الحديث ومثله للإسماعيلي من رواية محمد بن خلاد عن يحيى قوله ' قلنا السلام على جبريل ' وفي رواية أبي داود ' قلنا السلام على الله قبل عباده ' وكذا وقع للبخاري في الاستئذان من طريق حفص بن غياث عن الأعمش وفي جبريل سبع لغات. الأولى على وزن تغشليل. الثانية جبرئل بحذف الياء. الثالثة جبريل بحذف الهمزة. الرابعة بوزن قنديل. الخامسة جبرءل بلام مشددة. السادسة جبرائيل بوزن جبراعيل. السابعة جبرائل بوزن جبراعل. ومعناه عبد الله ومنع الصرف فيه للتعريف والعجمة في ميكائيل خمس لغات. الأولى ميكال بوزن قنطار. الثانية ميكائيل بوزن ميكاعيل. الثالثة ميكائل بوزن ميكاعل. الرابعة ميكئل بوزن ميكعل. الخامسة ميكئيل بوزن ميكعيل. قال ابن جني العرب إذا نطقت بالأعجمي خلطت فيه قوله ' السلام على فلان وفلان ' وفي رواية ابن ماجة عن عبد الله بن نمير عن الأعمش ' يعنون الملائكة ' وفي رواية الإسماعيلي عن علي بن مسهر ' فنعد الملائكة ' وفي رواية السراج عن محمد بن فضيل عن الأعمش ' فنعد من الملائكة ما شاء الله ' قوله ' فالتفت إلينا رسول الله
' ظاهره أنه كلمهم بذلك في أثناء الصلاة وكذا وقع في رواية حصين عن أبي وائل وهو شقيق عند البخاري في أواخر الصلاة بلفظ ' فسمعه النبي
فقال قولوا ' ولكن بين حفص بن غياث في روايته المحل الذي خاطبهم بذلك فيه وأنه بعد الفراغ من الصلاة ولفظه ' فلما انصرف النبي
أقبل علينا بوجهه ' وفي رواية عيسى بن يونس أيضا ' فلما انصرف من الصلاة قال ' قوله ' إن الله هو السلام ' قال الكرماني (فإن قلت) هذا إنما يصح ردا عليهم لو قال السلام على الله (قلت) هذا الحديث مختصر مما سيأتي في باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وقال فيه ' قلنا السلام على الله فقال لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ' وحاصله أن النبي
أنكر التسليم على الله وعلمهم أن ما يقولونه عكس ما يجب أن يقال فإن كل سلامة ورحمة له ومنه وهو مالكها ومعطيها وقال الخطابي المراد أن الله هو ذو السلام فلا تقولوا السلام على الله فإن السلام منه بدىء وإليه يعود ومرجع الأمر في إضافة السلام إليه أنه ذو السلام من كل نقص وآفة وعيب ويحتمل أن يكون مرجعها إلى حظ العبد فيما يطلبه من السلامة عن الآفات والمهالك وقال النووي معناه أن السلام اسم من أسماء الله تعالى يعني السالم من النقائص وقيل المسلم أولياءه وقيل المسلم عليهم وقال ابن الأنباري أمرهم أن يصرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة وغناه سبحانه وتعالى عنها قوله ' فإذا صلى أحدكم فليقل ' بين حفص بن غياث في روايته محل القول ولفظه ' فإذا جلس أحدكم في الصلاة ' وفي رواية حصين عن أبي وائل ' إذا قعد أحدكم عن الصلاة ' وفي رواية النسائي من طريق أبي الأحوص عن عبد الله ' كنا لا ندري ما نقول في كل ركعتين وأن محمدا علم فواتح الخير وخواتمه فقال إذا قعدتم في كل ركعتين فقولوا ' وللنسائي من طريق الأسود عن عبد الله ' فقولوا في كل جلسة ' وفي رواية ابن خزيمة من وجه آخر عن الأسود عن

110
عبد الله ' علمني رسول الله
في وسط الصلاة وفي آخرها ' وزاد الطحاوي من هذا الوجه في أوله ' أخذت التشهد من في رسول الله
ولقنني كلمة كلمة ' وفي رواية أخرى للبخاري في الاستئذان من طريق أبي معمر عن ابن مسعود ' علمني رسول الله
التشهد وكفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن ' قوله ' التحيات ' جمع تحية ومعناه السلام. وقيل البقاء. وقيل العظمة. وقيل السلامة من الآفات والنقص. وقيل الملك. وقال الخطابي التحيات كلمات مخصوصة كانت العرب تحيي بها الملوك نحو قولهم أبيت اللعن وقولهم أنعم الله صباحا وقول العجم وزى ده هزار سأل أي عش عشرة آلاف سنة ونحوها من عاداتهم في تحية الملوك عند الملاقاة وهذه الألفاظ لا يصلح شيء منها للثناء على الله تعالى فتركت أعيان تلك الألفاظ واستعمل منها معنى التعظيم فقيل قولوا التحيات لله أي أنواع التعظيم لله كما يستحقه وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه في أسماء الله تعالى السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار الأحد الصمد قال التحيات لله بهذه الأسماء وهي الطيبات لا يحيى بها غيره واللام في لله لام الملك والتخصيص وهي للأول أبلغ وللثاني أحسن قوله ' والصلوات ' هي الصلوات المعروفة وهي الخمسة وغيرها وقال الأزهري الصلوات العبادات وقال الشيخ تقي الدين يحتمل أن يراد بها الصلوات المعهودة ويكون التقدير أنها واجبة لله تعالى ولا يجوز أن يقصد بها غيره أو يكون ذلك إخبارا عن قصد إخلاصنا الصلوات له أي صلواتنا مخلصة له لا لغيره ويجوز أن يراد بالصلوات الرحمة ويكون معنى قوله ' لله '
أي المتفضل بها والمعطي هو الله لأن الرحمة التامة لله لا لغيره قوله ' والطيبات ' أي الكلمات الطيبات مما طاب من الكلام وحسن أن يثنى به على الله تعالى دون ما لا يليق بصفاته وقال الشيخ تقي الدين وأما الطيبات فقد فسرت بالأقوال الطيبات ولعل تفسيرها بما هو أعم أولى أعني الطيبات من الأفعال والأقوال والأوصاف وطيب الأوصاف كونها صفة الكمال وخلوصها عن شوب النقص وقال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله التحيات العبادات القولية والصلوات العبادات الفعلية والطيبات العبادات المالية وقال البيضاوي والصلوات والطيبات بحرف العطف يحتمل أن يكونا معطوفين على التحيات وأن تكون الصلوات مبتدأ وخبره محذوف يدل عليه عليك والطيبات معطوفة عليها والواو الأولى لعطف الجملة على الجملة والثانية لعطف المفرد على المفرد وفي حديث ابن عباس لم يذكر العاطف أصلا انتهى (قلت) كل واحدة من الصلوات والطيبات مبتدأ وخبره محذوف تقديره والصلوات لله والطيبات لله فتكون هاتان الجملتان معطوفتين على الجملة الأولى وهي التحيات لله قوله ' السلام عليك أيها النبي ' قال النووي يجوز في السلام في الموضعين حذف اللام وإثباتها والإثبات أفضل (قلت) لم يقع في شيء من طرق حديث ابن مسعود بحذف اللام فإن كان مراده من الجواز من جهة العربية فله وجه وإن كان من جهة مراعاة لفظ النبي فلا وجه له نعم اختلف في حديث ابن عباس وهو من أفراد مسلم وقال الطيبي أصل سلام عليك سلمت سلاما عليك ثم حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه وعدل عن النصب إلى الرفع للابتداء للدلالة على ثبوت المعنى واستقراره وقال التوربشتي السلام بمعنى السلامة كالمقام والمقامة والسلام اسم من أسماء الله تعالى وضع المصدر موضع الاسم مبالغة والمعنى أنه سلام من كل عيب وآفة ونقص وفساد ومعنى قولنا السلام عليك الدعاء أي سلمت من المكاره وقيل معناه اسم السلام عليك كأنه يتبرك عليه باسم الله عز وجل (فإن قلت) ما الحكمة في العدول عن الغيبة إلى الخطاب في قوله ' عليك أيها النبي ' مع أن لفظ الغيبة هو الذي يقتضيه السياق كأن يقول السلام على النبي فينتقل من تحية الله إلى تحية النبي ثم إلى تحية النفس ثم إلى تحية الصالحين (قلت) أجاب الطيبي بما محصله نحن نتبع لفظ الرسول بعينه الذي علمه للصحابة ويحتمل أن يقال على طريقة أهل العرفان أن المصلين لما استفتحوا باب الملكوت بالتحيات أذن لهم بالدخول في حريم الحي الذي لا يموت فقرت أعينهم بالمناجاة فنبهوا على أن ذلك بواسطة نبي الرحمة وبركة متابعته فإذا التفتوا فإذا الحبيب في حرم الحبيب حاضر فأقبلوا عليه قائلين السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته (فإن قلت) ما الألف واللام في السلام عليك (قلت) قال الطيبي إما للعهد التقديري أي ذلك السلام الذي وجه إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام المتقدمة موجه إليك أيها النبي والسلام الذي وجه إلى الأمم السالفة من الصلحاء علينا وعلى إخواننا وإما للجنس أي حقيقة السلام الذي يعرفه كل أحد أنه ما هو وعمن يصدر وعلى

111
من ينزل عليك وعلينا وإما للعهد الخارجي إشارة إلى قول الله تعالى * (وسلام على عباده الذين اصطفى) * وقال الشيخ حافظ الدين النسفي يعني السلام الذي سلم الله عليك ليلة المعراج (قلت) فعلى هذا تكون الألف واللام فيه للعهد (فإن قلت) لم عدل عن الوصف بالرسالة إلى الوصف بالنبوة مع أن الوصف بالرسالة أعم في حق البشر (قلت) الحكمة في ذلك أن يجمع له الوصفين لكونه وصفه بالرسالة في آخر التشهد وإن كان الرسول البشري يستلزم النبوة لكن التصريح بها أبلغ وقيل الحكمة في تقديم الوصف بالنبوة أنها كذلك وجدت في الخارج لنزول قوله تعالى * (اقرأ باسم ربك) * قبل قوله * (يا أيها المدثر قم فأنذر) * قوله ' ورحمة الله ' الرحمة عبارة عن إنعامه عليه وهو المعنى الغائي لأن معناها اللغوي الحنو والعطف فلا يجوز أن يوصف الله به قوله ' وبركاته ' جمع بركة وهو الخير الكثير من كل شيء واشتقاقه من البرك وهو صدر البعير وبرك البعير ألقى بركه واعتبر منه معنى اللزوم وسمي محبس الماء بركة للزوم الماء فيها وقال الطيبي البركة ثبوت الخير الإلهي في الشيء سمي بذلك لثبوت الخير فيه ثبوت الماء في البركة والمبارك ما فيه ذلك الخير وقال تعالى * (وهذا ذكر مبارك) * تنبيها على ما تفيض منه الخيرات الإلهية ولما كان الخير الإلهي يصدر من حيث لا يحس وعلى وجه لا يحصى قيل لكل ما يشاهد فيه زيادة غير محسوسة هو مبارك أو فيه بركة قوله ' السلام علينا ' أراد بها الحاضرين من الإمام والمأمومين والملائكة عليهم الصلاة والسلام قوله ' وعلى عباد الله الصالحين ' الصالح هو القائم بما عليه من حقوق الله تعالى وحقوق العباد والصلاح هو استقامة الشيء على حالة كماله كما أن الفساد ضده ولا يحصل الصلاح الحقيقي إلا في الآخرة لأن الأحوال العاجلة وإن وصفت بالصلاح في بعض الأوقات لكن لا تخلو من شائبة فساد وخلل ولا يصفو ذلك إلا في الآخرة خصوصا لزمرة الأنبياء لأن الاستقامة التامة لا تكون إلا لمن فاز بالقدح المعلى ونال المقام الأسنى ومن ثم كانت هذه المرتبة مطلوبة للأنبياء والمرسلين قال الله تعالى في حق الخليل * (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) * وحكي عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه دعا بقوله * (توفني مسلما وألحقني بالصالحين) * قوله ' فإنكم إذا قلتموها ' إلى قوله ' والأرض ' جملة معترضة بين قوله ' وعلى عباد الله الصالحين ' وبين قوله ' أشهد أن لا إله إلا الله ' والضمير المنصوب في قلتموها يرجع إلى قوله ' وعلى عباد الله الصالحين ' وفائدة هذه الجملة المعترضة الاهتمام بها لكونه أنكر عليهم عد الملائكة واحدا واحدا ولا يمكن استيعابهم لهم مع ذلك فعلمهم لفظا يشمل الجميع مع غير الملائكة من النبيين والمرسلين والصديقين وغيرهم بغير مشقة وهذا من جوامع الكلم التي أوتيها النبي
وقد وردت هذه الجملة في بعض الطرق في آخر الكلام بعد سياق التشهد متواليا والظاهر أنه من تصرف الرواة والله أعلم قوله ' في السماء والأرض ' وفي رواية مسدد عن يحيى ' أو بين السماء والأرض ' والشك فيه من مسدد وفي رواية الإسماعيلي بلفظ ' من أهل السماء والأرض ' قوله ' أشهد أن لا إله إلا الله ' زاد ابن أبي شيبة من رواية أبي عبيدة عن أبيه ' وحده لا شريك له ' وسند ضعيف لكن ثبتت هذه الزيادة في حديث أبي موسى عند مسلم وفي حديث عائشة الموقوف في الموطأ وفي حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عند الدارقطني إلا أن سنده ضعيف وقد روى أبو داود من وجه آخر صحيح عن ابن عمر في التشهد ' أشهد أن لا إله إلا الله قال ابن عمر زدت فيها وحده لا شريك له ' وهذا ظاهره الوقف قوله ' وأشهد أن محمدا عبد ورسوله ' قال أهل اللغة يقال رجل محمد ومحمود إذا كثرت خصاله المحمودة وقال ابن الفارس وبذلك سمي نبينا
محمدا يعني لعلم الله تعالى بكثرة خصاله المحمودة (قلت) الفرق بين محمد وأحمد أن محمدا مفعل للتكثير وأحمد أفعل التفضيل والمعنى إذا حمدني أحد فأنت أحمد منهم
وإذا حمدت أحدا فأنت محمد والعبد الإنسان حرا كان أو رقيقا يذهب فيه إلى أنه مربوب لباريه عز وجل وجمعه أعبد وعبيد وعباد وعبد وعبدان وعبدان وأعابد جمع أعبد والعبدي والعبدي والعبوداء والعبدة أسماء الجمع وجعل بعضهم العباد لله وغيره من الجمع لله وللمخلوقين وخص بهم بالعبدى العبيد الذين ولدوا في الملك والأنثى عبدة والعبدل العبد ولامه زائدة
(ذكر ما يستفاد منه) وهو على وجوه. الأول فيما ورد من الاختلاف في ألفاظ التشهد روي في هذا الباب عن ابن

112
مسعود وابن عباس وعمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعائشة وعبد الله بن الزبير وجابر بن عبد الله وأبي سعيد الخدري وأبي موسى الأشعري ومعاوية وسلمان وسمرة وأبي حميد.
أما حديث ابن مسعود فقد رواه الستة عنه ولفظ مسلم قال ' علمني رسول الله
التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن فقال إذا قعد أحدكم في الصلاة فليقل التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين فإذا قالها أصابت كل عبد صالح في السماء والأرض أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ' انتهى زادوا في رواية إلا الترمذي وابن ماجة ' ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به '
وأما حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فأخرجه الجماعة إلا البخاري عن سعيد بن جبير وطاوس عن ابن عباس قال ' كان رسول الله
يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن وكان يقول التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله '
وأما حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأخرجه الطحاوي حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث ومالك بن أنس أن ابن شهاب حدثهما عن عروة بن الزبير ' عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يعلم الناس التشهد على المنبر وهو يقول قولوا التحيات لله الزاكيات لله والصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبد ورسوله ' وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة وعبد الرزاق في مصنفيهما (قلت) هذا موقوف ورواه أبو بكر بن مردويه في كتاب التشهد له مرفوعا
وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه أبو داود حدثنا نصر بن علي حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي بشر ' سمعت مجاهدا يحدث عن ابن عمر عن رسول الله
في التشهد التحيات لله الصلوات الطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته قال ابن عمر زدت فيها وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ' وأخرجه الدارقطني عن ابن أبي داود عن نصر بن علي وقال إسناده صحيح وأخرجه الطبراني في الكبير حدثنا أبو مسلم الكشي حدثنا سهل بن بكار حدثنا أبان بن يزيد عن قتادة عن عبد الله بن بابي ' عن ابن عمر عن النبي
في التشهد التحيات الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ' وأخرجه الطحاوي ولفظه ' التحيات لله الصلوات الطيبات السلام عليك أيها النبي السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ' إلا أن يحيى زاد في حديثه ' قال ابن عمر زدت فيها وبركاته وزدت فيها وحده لا شريك له ' ويحيى بن إسماعيل البغدادي أحد مشايخ الطحاوي وأخرجه البزار مرفوعا أيضا
وأما حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فأخرجه البيهقي في سننه عن القاسم عنها ' قالت هذا تشهد النبي
التحيات لله ' إلى آخره وفي رواية عنها ' أنها كانت تقول في التشهد في الصلاة في وسطها وفي آخرها قولا واحدا بسم الله التحيات لله الصلوات لله الزاكيات لله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وبعده لنا بيديه عد العرب '
وأما حديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما فرواه الطبراني في الكبير والأوسط من حديث ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد سمعت أبا الورد سمعت عبد الله بن الزبير يقول إن تشهد النبي
بسم الله وبالله خير الأسماء التحيات لله الصلوات الطيبات أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرا ونذيرا وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين اللهم اغفر لي واهدني هذا في الركعتين الأوليين ' قال الطبراني تفرد به ابن لهيعة (قلت) فيه مقال *

113
وأما حديث جابر بن عبد الله فأخرجه النسائي وابن ماجة والترمذي في العلل والحاكم من حديث أيمن بن نائل حدثنا أبو الزبير عن جابر قال ' كان رسول الله
يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن بسم الله وبالله التحيات لله والصلوات والطيبات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار ' وصححه الحاكم وقال النووي في الخلاصة وهو مردود فقد ضعفه جماعة من الحفاظ هم أجل من الحاكم وأتقن وممن ضعفه البخاري والترمذي والنسائي والبيهقي قال الترمذي سألت البخاري عنه فقال هو خطأ
وأما حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه فأخرجه الطحاوي من حديث أبي المتوكل عنه قال ' كنا نتعلم التشهد كما نتعلم السورة من القرآن ' ثم ذكر مثل تشهد ابن مسعود
وأما حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه فأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والطبراني مطولا وفيه ' فإذا كان عند القعدة فليكن من أول قول أحدكم أن يقول التحيات الطيبات الصلوات لله السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ' وأخرجه أحمد ولم يقل وبركاته ولا قال وأشهد قال وأن محمدا
وأما حديث معاوية رضي الله تعالى عنه فأخرجه الطبراني عنه ' أنه كان يعلم الناس التشهد وهو على المنبر عن النبي
التحيات لله والصلوات والطيبات ' إلى آخره مثل حديث ابن مسعود.
وأما حديث سلمان رضي الله تعالى عنه فأخرجه البزار في مسنده والطبراني في معجمه أخرجاه عن سلمة بن الصلت عن عمرو بن يزيد الأزدي عن أبي راشد قال ' سألت سلمان الفارسي عن التشهد فقال أعلمكم كما علمنيهن رسول الله
التحيات لله والصلوات والطيبات ' إلى آخره مثل حديث ابن مسعود لكن زاد لله بعد الطيبات وقال في آخره ' قلها في صلاتك ولا تزد فيها حرفا ولا تنقص منها حرفا ' وإسناده ضعيف
وأما حديث سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه فأخرجه أبو داود ولفظه ' قولوا التحيات لله الطيبات والصلوات والملك لله ثم سلموا على النبي وسلموا على أقاربكم وعلى أنفسكم ' وإسناده ضعيف قاله بعضهم وليس كذلك بل صحيح على شرط ابن حبان
وأما حديث أبي حميد فأخرجه الطبراني مثل حديث ابن مسعود ولكن زاد ' الزاكيات لله ' بعد ' الطيبات ' وأسقط واو الطيبات وإسناده ضعيف وفي الباب عن الحسين بن علي وطلحة بن عبيد الله وأنس وأبي هريرة والفضل بن عباس وأم سلمة وحذيفة والمطلب بن ربيعة وابن أبي أوفى رضي الله تعالى عنهم قالوا جملة من روى في التشهد من الصحابة أربعة وعشرون صحابيا
(الوجه الثاني) في ترجيح تشهد ابن مسعود رضي الله تعالى عنه على جميع روايات غيره قال الترمذي أصح حديث عن النبي
في التشهد حديث ابن مسعود والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين ثم أخرج عن معمر عن خصيف قال ' رأيت النبي
في المنام فقلت له إن الناس قد اختلفوا في التشهد فقال عليك بتشهد ابن مسعود ' وأخرج الطبراني في معجمه عن بشير بن المهاجر عن أبي بريدة عن أبيه قال ' ما سمعت في التشهد أحسن من حديث ابن مسعود وذلك أنه رفعه إلى النبي
' وقال الخطابي أصح الروايات وأشهرها رجالا تشهد ابن مسعود وقال ابن المنذر وأبو علي الطوسي قد روى حديث ابن مسعود من غير وجه وهو أصح حديث روي في التشهد عن النبي
وقال أبو عمر بتشهد ابن مسعود أخذ أكثر أهل العلم لثبوت فعله عن النبي
وقال علي بن المديني لم يصح في التشهد إلا ما نقله أهل الكوفة عن ابن مسعود وأهل البصرة عن أبي موسى وبنحوه قاله ابن طاهر وقال النووي أشدها صحة باتفاق المحدثين حديث ابن مسعود ثم حديث ابن عباس وقال البزار أصح حديث في التشهد حديث ابن مسعود وروى عنه عن نيف وعشرين طريقا ثم سرد أكثرها قال ولا أعلم في التشهد أثبت منه ولا أصح أسانيد ولا أشهر رجالا (قلت) هذا الطحاوي الجهبذ أخرج حديث ابن مسعود في كتابه شرح معاني آثار من اثنى عشر طريقا وسرد الجميع ثم قال في آخر الباب فلهذا الذي ذكرنا استحسنا ما روي عن عبد الله بتشديده في ذلك ولإجماعهم عليه إذ كانوا قد اتفقوا على أنه

114
لا ينبغي أن يتشهد إلا بخاص من التشهد يعني كلهم اتفقوا على أن التشهد لا يكون إلا بألفاظ مخصوصة ولا يكون بأي لفظ كان فإذا كان كذلك فالمتفق عليه أولى من المختلف فيه فصار كونه متفقا عليه دون غيره من مرجحاته لأن الرواة عنه من الثقات لم يختلفوا في ألفاظه بخلاف غيره وأن ابن مسعود تلقاه عن النبي
تلقيا فروى الطحاوي من طريق الأسود بن يزيد عنه قال ' أخذت التشهد من في رسول الله
ولقننيه كلمة كلمة ' وفي رواية أبي معمر عنه ' علمني رسول الله
التشهد وكفي بين كفيه ' ومن المرجحات ثبوت الواو في الصلوات والطيبات وهي تقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه فتكون كل جملة ثناء مستقلا بخلاف ما إذا حذفت فإنها تكون صفة لما قبلها وتعدد الثناء في الأول صريح فيكون أولى ولو قيل أن الواو مقدرة في الثاني. ومنها أنه ورد بصيغة الأمر بخلاف غيره فإنه مجرد حكاية
ومنها أن في رواية أحمد أن رسول الله
علمه التشهد وأمره أن يعلمه الناس ولم ينقل ذلك لغيره ففيه دليل على مزيته وقال الكرماني ذهب الشافعي إلى أن تشهد ابن عباس أفضل لزيادة لفظة المباركات فيه وهي موافقة لقول الله تعالى * (تحية من عند الله مباركة طيبة) *. وقال مالك تشهد عمر بن الخطاب أفضل لأنه علمه الناس على المنبر ولم ينازعه أحد فدل على تفضيله (قلت) وذهب بعضهم إلى عدم الترجيح منهم ابن خزيمة والجواب عن ترجيح الشافعي حديث ابن عباس بالزيادة أنها مختلف فيها وحديث ابن مسعود متفق عليه كما ذكرنا وحديث ابن عباس مذكور معدود في أفراد مسلم وأعلى درجة الصحيح عند الحفاظ ما اتفق عليه الشيخان ولو في أصله فكيف إذا اتفقا على لفظه فلم يكن ما ذكره سببا للترجيح على أن ابن مسعود قد أنكر على من زاد على ما رواه من لفظ النبي
وكونه موافقا لما في القرآن وجه من الترجيح فلا يفضل بذلك على الذي له وجوه من الترجيح والجواب عن ترجيح مالك تشهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه
موقوف عليه فلا يلحق المرفوع إلى النبي
وقال برهان الدين صاحب الهداية الأخذ بتشهد ابن مسعود أولى لأن فيه الأمر وأقله الاستحباب والألف واللام وهما للاستغراق وزيادة الواو لتجديد الكلام كما في القسم وتأكيد التعليم ومما روي في إنكار الزيادة ما رواه الطبراني في الأوسط من حديث العلاء بن المسيب عن أبيه قال كان ابن مسعود يعلم رجلا التشهد فقال عبد الله أشهد أن لا إله إلا الله فقال الرجل وحده لا شريك له فقال عبد الله هو كذلك ولكن ينتهي إلى ما علمنا وفي رواية البزار فقال عبد الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فقال الرجل وأن محمدا عبده ورسوله فأعادها عليه عبد الله مرارا كل ذلك يقول وأشهد أن محمدا عبده ورسوله والرجل يقول وأن محمدا عبده ورسوله فقال عبد الله كذا علمنا وقال ابن أبي شيبة في مصنفه حدثنا وكيع عن إسحاق بن يحيى عن المسيب بن رافع سمع ابن مسعود رجلا يقول في التشهد بسم الله فقال إنما يقال هذا على الطعام
(الوجه الثالث) في التشهد هل هو واجب أم سنة فقال الشافعي وطائفة التشهد الأول سنة والآخر واجب وقال جمهور المحدثين هما واجبان وقال أحمد الأول واجب والثاني فرض وقد استوفينا الكلام فيه في باب من لم ير التشهد الأول واجبا.
(الوجه الرابع) في أن السنة في التشهد الإخفاء لما روى الترمذي بإسناده إلى عبد الله بن مسعود من السنة أن يخفي التشهد وقال حسن غريب وعند الحاكم عن عبد الله من السنة أن يخفي التشهد وقال صحيح على شرط مسلم وأخرج ابن خزيمة في صحيحه عن عائشة قالت نزلت هذه الآية في التشهد * (ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها) * وقال الحاكم صحيح على شرط مسلم * -
149
((باب الدعاء قبل السلام))
أي: هذا باب في بيان الدعاء قبل أن يسلم المصلي، يعني: التشهد قبل السلام.
832 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرنا عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله كان يدعو في الصلاة اللهم إني أعوذ

115
بك من عذاب القبر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من فتنة المحيا وفتنة الممات اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم فقال له قائل ما أكثر ما تستعيذ من المغرم فقال إن الرجل إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف. قال محمد بن يوسف سمعت خلف بن عامر يقول في المسيح والمسيح مشدد ليس بينهما فرق وهما واحد أحدهما عيسى عليه السلام والآخر الدجال..
مطابقته للترجمة من وجهين: أحدهما: بالقرينة، وهي التي ذكرها الكرماني من حيث إن لكل مقام ذكرا مخصوصا، فتعين أن يكون مقامه بعد الفراغ من الكل، وهو آخر الصلاة. قلت: بيان ذلك أن للصلاة قياما وركوعا وسجودا وقعودا، فالقيام محل قراءة القرآن والركوع، والسجود لهما دعاءان مخصوصان، والقعود محل التشهد، فلم يبق للدعاء محل إلا بعد التشهد قبل السلام، وبهذا التقرير يندفع قول بعضهم عقيب نقله كلام الكرماني: وفيه نظر، لأن هذا هو محل الترتيب للبخاري، لكنه مطالب بدليل اختصاص هذا المحل بهذا الذكر، ولو أمعن هذا القائل في تأمل ما ذكرنا لما طلب الكرماني بما ذكره. والوجه الآخر: أن الأحاديث النبوية يفسر بعضها بعضا. وقد روي في بعض الطرق تعيين محل الدعاء، فأخرج ابن خزيمة من طريق ابن جريج: أخبرني عبد الله بن طاووس عن أبيه أنه: كان يقول بعد التشهد كلمات يعظمهن جدا، قلت: في المثنى كليهما؟ قالا: بل في التشهد الأخير: قلت: ما هي؟ قال: أعوذ بالله من عذاب القبر..) الحديث. قال ابن جريج: أخبرنيه عن أبيه عن عائشة مرفوعا. وروي من طريق محمد ابن أبي عائشة عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، مرفوعا: (إذا تشهد أحدكم فليقل..) فذكر نحوه، هذه رواية وكيع عن الأوزاعي عنه، وأخرجه أيضا من رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي بلفظ: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير..) فذكره، وفي رواي ابن ماجة: (إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ من أربع..) الحديث.
ذكر رجاله: وهم خمسة كلهم قد ذكروا غير مرة، وأبو اليمان الحكم بن نافع، وشعيب بن أبي حمزة، والزهري محمد بن مسلم.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، وبصيغة الإخبار كذلك في موضعين، وبالإفراد من الماضي في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في موضعين، وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابية. وفيه: التصريح بأن عائشة، رضي الله تعالى عنها، زوج النبي، صلى الله عليه وسلم. وفيه: أن الاثنين الأولين من الرواة حمصيان والآخران مدنيان.
وأخرجه البخاري أيضا عن أبي اليمان في الاستقراض. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي بكر عن إسحاق الصاغاني عن أبي اليمان به. وأخرجه أبو داود والنسائي عن عمرو بن عثمان عن بقية عن شعيب به.
ذكر معناه: قوله: (كان يدعو في الصلاة) أي: في آخر الصلاة بعد التشهد قبل السلام، بالقرائن التي ذكرناها. قوله: (من فتنة المسيح الدجال) الفتنة عبارة عن الابتلاء والامتحان، يقال: فتنته أفتنته فتنا وفتونا: إذا امتحنته. ويقال فيها: افتنه أيضا، وهو قليل. وقد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثم كثر حتى استعمل بمعنى الإثم والكفر والقتال والإحراق والإزالة والصرف عن الشيء والمسيح، بفتح الميم وكسر السين المهملة المخففة وفي آخره حاء مهملة: يطلق على عيسى ابن مريم، وعلى الدجال أيضا، ولكنه يفرق بالتقييد، وسمي الدجال بالمسيح لأن الخير مسح منه، فهو مسيح الضلالة. وقيل: سمي به لأن عينه الموحدة ممسوحة، ويقال: رجل ممسوح الوجه ومسيح، وهو أن لا يبقى على أحد شقي وجهه عين ولا حاجب إلا استوى. وقيل: لأنه يمسح الأرض، أي: يقطعها إذا خرج. وقال أبو
الهيثم: إنه مسيح على وزن: سكيت، وهو الذي مسح خلقه أي شوه، فكأنه هرب من الالتباس بالمسيح بن مريم، عليهما السلام، ولا التباس، لأن عيسى، عليه الصلاة والسلام إنما سمي مسيحا لأنه كان لا يمسح بيده المباركة ذا عاهة إلا برئ. وقيل: لأنه كان أمسح

116
الرجل لا أخمص له. وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بدهن. وقيل: المسيح الصديق، وقيل: هو بالعبرانية مشيحا، فعرب. وأما تسمية الدجال بهذا اللفظ فلأنه، خداع ملبس من الدجل، وهو الخلط، ويقال الطلي والتغطية، ومنه البعير المدجل أي: المدهون بالقطران، ودجلة نهر ببغداد سميت بذلك لأنها تغطي الأرض بمائها، وهذا المعنى أيضا في الدجال لأنه يغطي الأرض بكثرة أتباعه، أو يغطي الحق بباطله. وقيل: لأنه مطموس العين من قولهم: دجل الأثر إذا عفى ودرس، وقيل: من دجل أي: كذب، والدجال: الكذاب. قوله: (من فتنة المحيا وفتنة الممات)، والمحيا والممات كلاهما مصدران ميميان بمعنى: الحياة والموت، ويحتمل زمان ذلك، لأن ما كان معتلا من الثلاثي فقد يأتي منه المصدر والزمان والمكان بلفظ واحد. أما فتنة الحياة فهي التي تعرض للإنسان مدة حياته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأشدها وأعظمها، والعياذ بالله تعالى، أمر الخاتمة عند الموت، وأما فتنة الموت فاختلفوا فيها، فقيل: فتنة القبر، وقيل: يحتمل أن يراد بالفتنة عند الاحتضار أضيفت إلى الموت لقربها منه. فإن قلت: إذا كان المراد من قوله: (وفتنة الممات) فتنة القبر، يكون هذا مكررا، لأن قوله: (من عذاب القبر) يدل على هذا؟ قلت: لا تكرار، لأن العذاب يزيد على الفتنة، والفتنة سبب له، والسبب غير المسبب. قوله: (من المأثم) أي: الإثم الذي يجر إلى الذم والعقوبة، أو المراد هو الإثم نفسه، وضعا للمصدر موضع الاسم. قوله: (والمغرم) أي: الدين، يقال: غرم الرجل، بالكسر إذا أدان. وقيل: الغرم والمغرم، ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر بغير جناية منه، وكذلك ما يلزمه أداؤه، ومنه الغرامة، والغريم: الذي عليه الدين، والأصل فيه: الغرام، وهو الشر الدائم والعذاب. قوله: (فقال له قائل) أي: قال للنبي، صلى الله عليه وسلم، قائل سائلا عن وجه الحكمة في كثرة استعاذته من المغرم، فقال، صلى الله عليه وسلم: إن الرجل إذا عزم يعني إذا لحقه دين حدث فكذب بأن يحتج بشيء في وفاء ما عليه، ولم يقم به، فيصير كاذبا، ووعد فأخلف بأن قال لصاحب الدين: أوفيك دينك في يوم كذا، أو في شهر كذا، أو في وقت كذا، ولم يوف فيه، فيصير مخالفا لوعده، والكذب وخلف الوعد من صفات المنافقين، كما ورد في الحديث المشهور، فلولا هذا الدين عليه لما ارتكب هذا الإثم العظيم، ولما اتصف بصفات المنافقين. وكلمة: ما، في قوله: (ما أكثر ما تستعيذ) للتعجب، و: ما، الثانية مصدرية يعني: ما أكثر استعاذتك من المغرم، و: ما تستعيذ، في محل النصب. قوله: (حدث)، بالتشديد: جزاء الشرط. قوله: (وكذب). بالتخفيف عطف عليه. قوله: (ووعد) عطف على: حدث. قوله: (أخلف)، كذا هو في رواية الحموي، وفي رواية الأكثرين: (فأخلف)، بالفاء.
فإن قلت: قوله: (فتنة المحيا والممات) يشمل جميع ما ذكر، فلأي شيء خصصت هذه الأشياء الأربعة بالذكر؟ قلت: لعظم شأنها وكثرة شرها، ولا شك أن تخصيص بعض ما يشمله العام من باب الاعتناء بأمره لشدة حكمه، وفيه أيضا عطف العام على الخاص، وذلك لفخامة أمر المعطوف عليه وعظم شأنه، وفيه اللف والنشر الغير المرتب، لأن عذاب القبر داخل تحت فتنة الممات، وفتنة الدجال تحت فتنة المحيا. فإن قلت: ما فائدة تعوذه صلى الله عليه وسلم من هذه الأمور التي قد عصم منها؟ قلت: إنما ذلك ليلتزم خوف الله تعالى، ولتقتدي به الأمة، وليبين لهم صفة الدعاء. فإن قلت: سلمنا ذلك، ولكن ما فائدة تعوذه من فتنة المسيح الدجال، مع علمه بأنه متأخر عن ذلك الزمان بكثير؟ قلت: فائدته أن ينتشر خبره بين الأمة من جيل إلى جيل، وجماعة إلى جماعة، بأنه كذاب مبطل مفتر ساع على وجه الأرض بالفساد، مموه ساحر، حتى لا يلتبس على المؤمنين أمره عند خروجه، عليه اللعنة، ويتحققوا أمره ويعرفوا أن جميع دعاويه باطلة، كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون هذا تعليما منه لأمته أو تعوذا منه لهم. فإن قلت: يعارض التعوذ بالله عن المغرم ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر، يرفعه: (إن الله تعالى مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن فيما يكرهه الله تعالى)، وكان ابن جعفر يقول لخادمه: إذهب فخذ لي بدين، فإني أكره أن أبيت الليلة، إلا والله معي. قال الطبراني: وكلا الحديثين صحيح. قلت: المغرم الذي استعاذ منه إما أن يكون في مباح، ولكن لا وجه عنده لقضائه، فهو متعرض لهلاك مال أخيه، أو يستدين وله إلى القضاء سبيل غير أنه يرى ترك القضاء، وهذا لا يصح إلا إذا نزل كلامه صلى الله عليه وسلم على التعليم، لأمته، أو يستدين من غير حاجة طمعا في مال أخيه ونحو ذلك، وحديث جعفر فيمن يستدين لاحتياجه، احتياجا شرعيا ونيته القضاء، وإن لم يكن له سبيل إلى القضاء

117
في ذلك الوقت، لأن الأعمال بالنيات، ونية المؤمن خير من عمله.
قوله: (قال محمد بن يوسف) هو أبو عبد الله محمد بن يوسف ابن مطرف الفربري، أحد الرواة عن البخاري، يحكى البخاري عنه أنه قال: سمعت خلف بن عامر، يعني الهمداني، أحد الحفاظ أنه لم يفرق بين المسيح بالتخفيف والمسيح بالتشديد، وذكرنا عن أبي الهيثم أنه فرق بينهما، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: إثبات عذاب القبر ردا على المعتزلة ومن أنكره من غيرهم. وفيه: إثبات وجود الدجال وإثبات خروجه. وفيه: الاستعاذة من الفتن والشرور، والسؤال من الله تعالى دفعها عنه. وفيه: بشاعة الدين وشدته وتأديته الدائن إلى ارتكاب الكذب والخلف في الوعد اللذين هما من صفات المنافقين. وفيه: وجوب الاستعاذة من الدين لأنه يشين في الدنيا والآخرة. وعن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الدين راية الله في الأرض، فإذا أراد الله أن يذل عبدا وضعه في عنقه). رواه الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
833 حدثنا وعن الزهري قال أخبرني عروة أن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ في صلاته من فتنة الدجال..
هذا عطف على قوله: (شعيب عن الزهري)، وأشار به إلى أن الزهري روى الحديث المذكور مطولا ومختصرا، فالمطول هو الذي سبق قبله الذي استعاذ صلى الله عليه وسلم بالله فيه من الأشياء المذكورة، وههنا اقتصر على الاستعاذة من فتنة الدجال، وههنا زيادة ذكر السماع عن عائشة، رضي الله تعالى عنها عن النبي صلى الله
عليه وسلم.
ثم إعلم أن العلماء اختلفوا فيما يدعو به الإنسان في صلاته. فعند أبي حنيفة وأحمد: لا يجوز الدعاء إلا بالأدعية المأثورة أو الموافقة للقرآن العظيم، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن). رواه مسلم، وذكره ابن أبي شيبة عن أبي هريرة وطاووس ومحمد بن سيرين. وقال الشافعي ومالك: يجوز أن يدعو فيها بكل ما يجوز الدعاء به في خارج الصلاة من أمور الدنيا والدين، مما يشبه كلام الناس، ولا تبطل صلاته بشيء من ذلك عندهما. وقال ابن حزم بفرضية التعوذ الذي في حديث عائشة، لما ذكر مسلم عن طاووس أنه أمر ابنه بإعادة صلاته التي لم يدع بها فيها.
834 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمر و عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم.
مطابقته للترجمة من حيث الوجه الذي ذكرناه في الحديث السابق.
ورجاله قد ذكروا، وأبو الخير: مرثد بن عبد الله اليزني المصري، ومرثد، بفتح الميم وسكون الراء وفتح الثاء المثلثة وفي آخره دال مهملة، ويزن، بفتح الياء آخر الحروف والزاي وفي آخره نون: بطن من حمير، وتقدم ذكره في: باب إطعام الطعام من الإسلام.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن رجال إسناده كلهم سوى طرفيه مصريون. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي: فالتابعيان هما: يزيد بن أبي حبيب وأبو الخير. وفيه: رواية الصحابي عن الصحابي: وهو عبد الله بن عمرو بن العاص عن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الدعوات عن عبد الله بن يوسف. وأخرجه مسلم في الدعوات عن محمد بن رمح وقتيبة، وأخرجه الترمذي فيه عن قتيبة به. وأخرجه النسائي في الصلاة وفي

118
القنوت عن قتيبة به. وأخرجه ابن ماجة في الدعاء عن محمد بن رمح به، ورواه غير واحد فجعله من مسند عبد الله بن عمرو ابن العاص منهم: عمرو بن الحارث، خالف الليث فجعله من مسند عبد الله بن عمرو، ولفظه: (عن أبي الخير أنه سمع عبد الله ابن عمرو يقول: إن أبا بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، قال النبي صلى الله عليه وسلم...) هكذا رواه ابن وهب عن عمرو بن الحارث. وأما مقتضى رواية الليث بن سعيد عن يزيد ابن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو عن أبي بكر إلى آخره: أن الحديث من مسند أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، وأوضح من ذلك رواية أبي الوليد الطيالسي عن الليث، فإن لفظه: عن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه، قال: قلت: يا رسول الله... أخرجه البزار من طريقه، ولا يقدح هذا الاختلاف في صحة هذا الحديث. وقد أخرج البخاري طريق عمرو معلقة في الدعوات، وموصولة في التوحيد عن يحيى بن سلمان عن عمرو، وكذا أخرج مسلم الطريقين طريق الليث وطريق ابن وهب، وزاد مع عمرو بن الحارث رجلا مبهما، وبين ابن خزيمة في روايته أنه: عبد الله بن لهيعة.
ذكر معناه: قوله: (ادعو به)، جملة في محل النصب لأنها صفة لقوله: (دعاه) الذي هو منصوب على أنه مفعول ثان لقوله: (علمني). قوله: (في صلاتي)، ظاهره وعموم جميع الصلاة، ولكن المراد في حالة القعود بعد التشهد قبل الإسلام، كما حققنا هكذا فيما مضى، وقد قال الشيخ تقي الدين: لعله يترجح كونه فيما بعد التشهد لظهور العناية بتعليم دعاء مخصوص في هذا المحل، ونازعه بعضهم فقال: الأولى الجمع بينهما في المحلين المذكورين أي: السجود والتشهد. قلت: لا دليل له على دعوى الأولوية: بل الدليل الصريح قام على أن محله في الجلسة، وقد مضى بيانه في أول الباب الذي قبله. قوله: (ظلمت نفسي) يعني بإتيان ما يوجب العقوبة. قوله: (ظلما كثيرا) بالثاء المثلثة، ويروى بالباء الموحدة، وكذا هو في رواية مسلم. وقال النووي: فينبغي إن يقول: ظلما كبيرا كثيرا. قوله: (ولا يغفر الذنوب إلا أنت) جملة معترضة بين قوله: (ظلمت نفسي ظلما كثيرا) وبين قوله: (فاغفر لي مغفرة). وفائدة هذه الجملة الإشارة إلى الإقرار بأن الله هو الذي يغفر الذنوب، وليس ذلك لغيره. وفي الحقيقة: هو إقرار أيضا بالوحدانية، لأن من صفته غفران الذنوب هو الموصوف بالوحدانية، والتنوين في قوله: (مغفرة) يدل على أنه غفران لا يكتنه كنهه. قوله: (من عندك) إشارة إلى مزيد ذلك التعظيم، لأن ما يكون من عنده لا يحيط به وصف الواصفين. وقال ابن الجوزي: هو طلب مغفرة متفضل بها لا يقتضيها سبب من جهة العبد من عمل صالح وغيره، وحاصله: هب لي المغفرة وإن لم أكن أهلا لها بعملي، وكمل الكلام وختمه بقوله: (وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم). وفي هاتين الصفتين مقابلة حسنة لأن قوله: (الغفور) مقابل لقوله: (اغفر لي) وقوله: (الرحيم) مقابل لقوله: (ارحمني)، ولنا أن نقول: فيه لف ونشر مرتب.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: طلب التعليم من العالم في كل ما فيه خير، خصوصا الدعوات التي فيها جوامع الكلم. وفيه: الاعتراف بالتقصير ونسبة الظلم إلى نفسه. وفيه: الاعتراف بأن الله سبحانه هو المتفضل المعطي من عنده رحمة على عباده من غير مقابلة عمل حسن. وفيه: استحباب قراءة الأدعية في آخر الصلاة من الدعوات المأثورة أو المشابهة لألفاظ القرآن. وقال الكرماني: قالت الشافعية: يجوز الدعاء في الصلاة بما شاء من أمر الدنيا والآخرة ما لم يكن إثما قال ابن عمر: لأدعو في صلاتي حتى بشعير حماري وملح بيتي. انتهى. وقد ذكرنا فيما مضى أنه لا يدعو إلا بالأدعية المأثورة، أو بما يشبه ألفاظ القرآن، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن)، وهو من أفراد مسلم.
150
((باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب))
أي: هذا باب في بيان ما يتخير المصلي من الدعاء بعد فراغه من التشهد، يعني: قراءة التحيات، والحال أنه ليس بواجب. أشار بهذا إلى أن حديث الباب الذي فيه الأمر وهو قوله: (ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه) ليس للوجوب

119
وإنما هو للاستحباب. فإن قلت: المأمور به هو التخير، وهو لا ينافي وجوب أصل الدعاء؟ قلت: من الدليل في عدم وجوب أصل الدعاء حديث مسيء الصلاة، لأنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أمره بذلك.
151
((باب من لم يمسح جبهته وأنفه حتى صلى))
أي: هذا باب ترجمته: من لم يمسح.. إلى آخره، يعني: لم يمسح جبهته وأنفه من الماء والطين اللذين أصابا جبهته وأنفه، وهو في الصلاة حتى صلى صلاته، ولكن هذا محمول على أن ذلك كان قليلا لا يمنع التمكن من السجود، فإذا لم يمنع السجود يستحب أن يتركه إلى أن يفرغ من صلاته، لأن ذلك من باب التواضع لله تعالى، وحديث الباب يشهد بذلك.
قال أبو عبد الله رأيت الحميدي يحتج بهذا الحديث أن لا يمسح الجبهة في الصلاة
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، والحميدي، بضم الحاء: شيخه، وهو: عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله الزبير بن عبيد الله بن حميد الحميدي القرشي المكي، روى عنه البخاري في أول كتابه: الأعمال بالنيات، وفي غير موضع. قوله: (بهذا الحديث) أشار به إلى حديث الباب، وكأن البخاري أراد بإيراده ما نقله عن الحميدي أنه يرى في ذلك ما رآه الحميدي، وإليه ذهب جماعة من العلماء.
836 حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا هشام عن يحيى عن أبي سلمة قال سألت أبا سعيد الخدري فقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين في جبهته.
مطابقته للترجمة من حيث إن الحديث دل على أنه صلى الله عليه وسلم سجد في الماء والطين ولم يمسحهما حتى رأى أبو سعيد

120
أثر الطين في جبهته، وقد مر الكلام في هذا الحديث مستوفى بجميع تعلقاته في: باب السجود على الأنف في الطين، وهشام هو الدستوائي، ويحيى هو ابن أبي كثير.
152
((باب التسليم))
أي: هذا باب في بيان التسليم في آخر الصلاة، وإنما لم يشر إلى حكمه: هل هو واجب أم سنة؟ لوقوع الاختلاف فيه، لتعارض الأدلة. وقال بعضهم: ويمكن إن يؤخذ الوجوب من حديث الباب حيث جاء فيه: كان إذا سلم، لأنه يشعر بتحقيق مواظبته على ذلك. قلت: قام الدليل على أن التسليم في آخر الصلاة غير واجب، وأن تركه غير مفسدة للصلاة، وهو (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر خمسا، فلما سلم أخبر بصنيعه، فثنى رجله فسجد سجدتين)، رواه عبد الله بن مسعود، وأخرجه الجماعة بطرق متعددة، وألفاظ مختلفة. قال الطحاوي، رحمه الله: ففي هذا الحديث أنه أدخل في الصلاة ركعة من غيرها قبل التسليم، ولم ير ذلك مفسدا للصلاة، فدل ذلك أن السلام ليس من صلبها، ولو كان واجبا كوجوب السجدة في الصلاة لكان حكمه أيضا كذلك، ولكنه بخلافه، فهو سنة. انتهى. قلت: اختلف العلماء في هذا، فقال مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم: إذا انصرف المصلي من صلاته بغير لفظ التسليم فصلاته باطلة، حتى قال النووي: ولو اختل بحرف من حروف: السلام عليكم، لم تصح صلاته، واحتجوا على ذلك بقوله، صلى الله عليه وسلم: (تحليلها التسليم). رواه أبو داود: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع عن سفيان عن ابن عقيل عن محمد بن الحنفية عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم). وأخرجه الترمذي وابن ماجة أيضا. وأخرجه الحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه. وقال الترمذي: هذا الحديث أصح شيء في هذا الباب وأحسن. قلت: اختلفوا في صحته بسبب ابن عقيل، وهو: عبد الله بن محمد بن عقيل، فقال محمد بن سعد: هو من الطبقة الرابعة من أهل المدينة وكان منكر الحديث لا يحتجون بحديثه، وكان كثير العلم، وقال ابن المديني، عن بشر بن عمر الزهراني: كان مالك لا يروي عنه، وكان يحيى بن سعيد لا يروي عنه، وعن يحيى بن معين: ليس حديثه بحجة، وعنه: ضعيف الحديث، وعنه. ليس بذلك. وقال العجلي: تابعي مدني جائز الحديث. وقال النسائي: ضعيف. وقال الترمذي: صدوق، وقد تكلم فيه بعض أهل العلم من قبل حفظه، وعلى تقدير صحته أجاب الطحاوي عنه بما محصله أن عليا، رضي الله تعالى عنه: (من رابه إذا رفع رأسه من آخر سجدة فقد تمت صلاته)، فدل على أن معنى الحديث المذكور لم يكن على أن الصلاة لا تتم إلا بالتسليم، إذا كانت تتم عنده بما هو قبل التسليم، فكان معنى: تحليلها التسليم، التحليل الذي ينبغي أن تحل به لا بغيره، وجواب آخر: إن الحديث المذكور من أخبار الآحاد فلا يثبت به الفرض. فإن قلت: كيف أثبت فرضية التكبير به ولم يثبت فرضية التسليم؟ قلت: أصل فرضية التكبير في أول الصلاة بالنص، وهو قوله تعالى: * (وذكر اسم ربه فصلى) * (الأعلى: 15). وقوله: * (وربك فكبر) * (المدثر: 3). غاية ما في الباب: يكون الحديث بيانا لما يراد به من النص، والبيان به يصح كما في مسح الرأس، وذهب عطاء ابن أبي رباح وسعيد بن المسيب وإبراهيم وقتادة وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وابن جرير الطبري بهذا إلى: أن التسليم ليس بفرض حتى لو
تركه لا تبطل صلاته.
837 حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال حدثنا الزهري عن هند بنت الحارث أن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ومكث يسيرا قبل أن يقوم قال ابن شهاب فأري. والله أعلم أن مكثه لكي ينفذ النساء قبل أن يدركهن من انصرف من القوم..
مطابقته للترجمة في قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم).
ذكر رجاله: وهم خمسة: موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي، وإبراهيم ابن عبد الرحمن بن سعد بن إبراهيم بن عوف، والزهري هو محمد بن مسلم، وهند بنت الحارث، تقدمت في: باب العلم والعظة

121
بالليل، وأم سلمة هند بنت أبي أمية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته مدنيون ما خلا شيخ البخاري فإنه بصري. وفيه: رواية تابعي عن تابعية عن صحابية.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن أبي الوليد ويحيى بن قزعة وعن عبد الله بن محمد. وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن يحيى ومحمد بن رافع، وأخرجه النسائي عن محمد بن مسلمة عن ابن وهب، وأخرجه فيه عن أبي بكر ابن أبي شيبة.
ذكر معناه: قوله: (حتى يقضي تسليمه)، ويروى: (حين يقضي تسليمه)، أي: حين يتم تسليمه ويفرغ منه. قوله: (فأرى) بضم الهمزة أي: أظن أن مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسيرا لأجل نفاذ النساء وذهابهن قبل تفرق الرجال لئلا يدركهن بعض المتفرقين من الصلاة. قوله: (والله أعلم) جملة معترضة.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: خروج النساء إلى المساجد وسبقهن بالانصراف، والاختلاط بهن مظنة الفساد، ويمكث الإمام في مصلاه والحالة هذه، فإن لم يكن هناك نساء فالمستحب للإمام أن يقوم من مصلاه عقيب صلاته، كذا قاله الشافعي في (المختصر) وفي (الأحياء) للغزالي: إن ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، وصححه ابن حبان في غير (صحيحه). وقال النووي: وعللوا قول الشافعي بعلتين: إحداهما: لئلا يشك من خلفه هل سلم أم لا. الثانية: لئلا يدخل غريب فيظنه بعد في الصلاة فيقتدى به. وقال صاحب (التوضيح): لكن ظاهر حديث البراء بن عازب: (رمقت صلاة لنبي صلى الله عليه وسلم فوجدت قيامه فركعته فاعتداله بعد ركوعه فسجدته فجلسته بين السجدتين فسجدته فجلسته ما بين التسليم والانصراف قريبا من السواء). رواه مسلم، يعني: أنه لم يكن يثبت ساعة ما يسلم، بل كان يجلس بعد السلام جلسة قريبة من السجود. وقال الشافعي في (الأم): وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام، وإن أخر ذلك حتى ينصرف بعد الإمام أو معه كان ذلك أحب إلي. وفي (الذخيرة): إذا فرغ من صلاته أجمعوا أنه لا يمكث في مكانه مستقبل القبلة، وجميع الصلوات في ذلك سواء، فإن لم يكن بعدها تطوع إن شاء انحرف عن يمينه أو يساره وإن شاء استقبل الناس بوجهه، لا إذا لم يكن أمامه من يصلي، وإن كان بعد الصلاة سنن يقوم إليها، وبه نقول. ويكره تأخيرها عن أداء الفريضة فيتقدم أو يتأخر أو ينحرف يمينا أو شمالا. وعن الحلواني من الحنفية: جواز تأخير السنن بعد المكتوبة، والنص: أن التأخير مكروه، ويدعو في الفجر والعصر لأنه لا صلاة بعدهما، فيجعل الدعاء بدل الصلاة، ويستحب أن يدعو بعد السلام، وقال في (التوضيح) أيضا إذا أراد الإمام أن ينتقل في المحراب ويقبل على الناس للذكر والدعاء جاز أن ينتقل كيف شاء، وأما الأفضل فأن يجعل يمينه إليهم ويساره إلى المحراب. وقيل: عكسه، وبه قال أبو حنيفة.
ومن فوائد الحديث: وجوب غض البصر، ومكث الإمام في موضعه. ومكث القوم في أماكنهم.
153
((باب يسلم حين يسلم الإمام))
أي: هذا باب ترجمته: يسلم المأموم حين يسلم الإمام، وأشار بهذا إلى أن لا يتأخر المأموم في سلامه بعد الإمام متشاغلا بدعاء ونحوه، دل عليه أثر ابن عمر المذكور هنا، وفي هذا عن أبي حنيفة روايتان، في رواية: يسلم مع الإمام كالتكبير، وفي رواية: يسلم بعد سلام إمامه. وقال الشافعي: المصلي المقتدي يسلم بعد فراغ الإمام من التسليمة الأولى، فلو سلم مقارنا بسلامه إن قلنا: نية الخروج بالسلام شرط، لا يجزيه، كما لو كبر مع الإمام لا تنعقد له صلاة الجماعة، فعلى هذا تبطل صلاته. وإن قلنا: إن نية الخروج غير واجبة، فيجزيه كما لو ركع معه، وفي نية الخروج عن الصلاة بالسلام وجهان: أحدهما: تجب، والثاني لا تجب، كذا في تتمتهم. وذكر في (المبسوط): المقتدي يخرج من الصلاة بسلام الإمام. وقيل: هو قول محمد. أما عندهما يخرج بسلام نفسه، وتظهر ثمرة الخلاف في انتقاض الوضوء بسلام الإمام قبل سلام نفسه بالقهقهة، فعنده لا ينتقض خلافا لهما.
وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يستحب إذا سلم الإمام أن يسلم من خلفه

122
مطابقته للترجمة ظاهرة. وقيل: غير ظاهرة، لأن المفهوم من الترجمة أن يسلم المأموم مع الإمام، لأن سلامه إذا كان حين سلام الإمام يكون معه بالضرورة، والمفهوم من الأثر أن يسلم المأموم عقيب صلاة الإمام، لأن كلمة: إذا، للشرط، والمشروط يكون عقيبه. قلت: لا نسلم أن: إذا، ههنا للشرط، بل هي ههنا على بابها لمجرد الظرف، على أنه هو الأصل، فحينئذ يحصل التطابق بين الترجمة والأثر. فافهم.
838 حدثنا حبان بن موسى قال أخبرنا عبد الله أخبرنا معمر عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عتبان قال صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم فسلمنا حين سلم.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: حبان، بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة: ابن موسى أبو محمد المروزي، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين. الثاني: عبد الله بن المبارك المروزي. الثالث: معمر بن راشد البصري. الرابع: محمد بن مسلم الزهري. الخامس: محمود بن الربيع أبو محمد الأنصاري الحارثي، عقل مجة مجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، في وجهه من دنو في دارهم وهو ابن خمس سنين، وهو ختن عبادة بن الصامت، رضي الله تعالى عنه. السادس: عتبان، بكسر العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق وتخفيف الباء الموحدة، تقدم ذكره في: باب، إذا دخل بيتا يصلي.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: من رواته أولا مروزيان ثم بصري ثم مدني. وفيه: رواية التابعي عن الصحابي، يروي عن الصحابي.
وقد ذكرنا في: باب إذا دخل بيتا يصلي، أن البخاري أخرج هذا الحديث في (صحيحه) في أكثر من عشرة مواضع ذكرناها هناك، وذكرنا أيضا من أخرجه غيره.
154
((باب من لم يرد السلام على الإمام واكتفى بتسليم الصلاة))
أي: هذا باب في بيان من لم يرد السلام على الإمام، يعني بتسليمة ثالثة بين التسليمتين، واكتفى بتسليم الصلاة وهو التسليمتان، ويروى: من لم يردد السلام، من الترديد، وهو تكرير السلام. والحاصل من هذه الترجمة أن البخاري يرد بذلك على من يستحب تسليمة ثالثة على الإمام بين التسليمتين، وهم طائفة من المالكية، وقال ابن التين: يريد البخاري أن من كان خلف الإمام إنما يسلم واحدة ينوي بها الخروج من الصلاة، ولم يرد على الإمام ولا على من في يساره. وفيه نظر. وإنما أراد البخاري ما ذكرناه، والدليل على ذلك أن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، كان لا يرد على الإمام. وعن النخعي: إن شاء رد وإن شاء لم يرد. وفي (التوضيح): ومالك يرى أنه يرد، وبه قال ابن عمر في أحد قوليه، والشعبي وسالم وسعيد بن المسيب وعطاء. وقال ابن بطال: أظن البخاري أنه قصد الرد على من أوجب التسليمة الثانية. قلت: فيه نظر، والصواب ما ذكرناه.
واختلف العلماء في هذا الباب، فذهب عمر بن عبد العزيز والحسن البصري ومحمد بن سيرين والأوزاعي ومالك: إلى أن التسليم في آخر الصلاة مرة واحدة، ويحكى ذلك عن ابن عمر وأنس وسلمة بن الأكوع وعائشة رضي الله تعالى عنهم. واحتجوا في ذلك بحديث سعد ابن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يسلم من الصلاة بتسليمة واحدة: السلام عليكم). رواه الطحاوي في (شرح معاني الآثار) وأبو عمر بن عبد البر في (الاستذكار)، وذهب نافع بن عبد الحارث وعلقمة وأبو عبد الرحمن السلمي وعطاء ابن أبي رباح والشعبي والثوري والنخعي وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي وإسحاق وابن المنذر: إلى أن التسليم في آخر الصلاة ثنتان، مرة عن يمينة ومرة عن يساره، ويحكى ذلك عن أبي بكر الصديق، وعلي ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وعمار، رضي الله تعالى عنهم. وأخرج الطحاوي حديث التسليمتين عن ثلاثة عشر من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وهم: سعد وعلي وابن مسعود وعمار بن ياسر وعبد الله بن عمر وجابر بن سمرة والبراء بن عازب ووائل بن حجر وعدي بن عميرة الحضرمي وأبو مالك الأشعري وطلق بن علي وأوس ابن أبي أوس وأبو رمثة. قلت: وفي

123
الباب أيضا: عن جابر بن عبد الله وأبو سعيد الخدري وسهل بن سعد وحذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة ووائلة بن الأسقع وعبد الله بن زيد، رضي الله تعالى عنهم فهؤلاء عشرون صحابيا رووا عن رسول الله ت أن المصلي يسلم في آخر صلاته تسليمتين: تسليمة عن يمينة صلى الله عليه وسلم وتسليمة عن يساره. وأجاب ابن عمر عن حديث سعد ابن أبي وقاص: أنه وهم، وإنما الحديث كما رواه ابن المبارك بسنده عنه أنه صلى الله عليه وسلم: كان يسلم عن يمينه وعن يساره. وأجاب الطحاوي مثله بما محصله: أن رواية التسليمة الواحدة هي رواية الدراوردي، وأن عبد الله بن المبارك وغيره خالفوه في ذلك، ورووا عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يسلم تسليمتين.
ثم اختلفوا في السلام: هل هو واجب أم سنة؟ فعن أبي حنيفة أنه واجب، وعنه أنه سنة. وقال صاحب (الهداية): ثم إصابة لفظ السلام واجبة، عندنا، وليست بفرض، خلافا للشافعي. وفي (المغني): لابن قدامة: التسليم واجب لا يقوم غيره مقامه، والواجب تسليمة واحدة والثانية سنة، وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على أن صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة. وقال الطحاوي: قال الحسن بن حر: هما واجبتان، وهي رواية عن أحمد. وبه قال بعض أصحاب مالك. وقال الثوري: لو أخل بحرف من حروف: السلام عليكم، لم تصح صلاته. وفي (المغني): السنة أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله، وإن قال: وبركاته، أيضا فحسن، والأول أحسن. وإن قال: السلام عليكم، ولم يزد فظاهر كلام أحمد أنه يجزيه، وقال ابن عقيل: الأصح أنه لا يجزيه وإن نكس السلام فقال: وعليكم السلام، ولم يجزه. وقال القاضي: فيه وجه أنه يجزيه، وهو مذهب الشافعي. وقال ابن حزم: الأولى فرض، والثانية سنة حسنة لا يأثم تاركها.
8339 حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا معمر عن الزهري قال أخبرني محمود بن الربيع وزعم أنه عقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقل مجة مجها من دلو كان في دارهم.
840 قال سمعت عتبان بن مالك الأنصاري ثم أحد بني سالم قال كنت أصلي لقومي بني سالم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إني أنكرت بصري وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكانا حتى أتخذه مسجدا فقال أفعل إن شاء الله فغدا علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه بعد ما
اشتد النهار فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له فلم يجلس حتى قال أين تحب أن أصلي من بيتك فأشار أليه من المكان الذي أحب أن يصلي فيه فقام فصففنا خلفه ثم سلم وسلمنا حين سلم.
مطابقته للترجمة في قوله: (ثم سلم وسلمنا حين سلم)، وذلك من حيث إنه ليس فيه الرد على الإمام، لأن الذي يقتضي معناه أنه صلى الله عليه وسلم سلم وسلم القوم أيضا حين سلم، فيكون سلامهم بعد تمام سلامه صلى الله عليه وسلم، أو بعد تقدمه بلفظ بعض السلام. وقال الكرماني: وغرض البخاري أن يبين أن السلام لا يلزم أن يكون بعد سلام الإمام حتى لو سلم مع الإمام لا تبطل صلاته، نعم، لو تقدم عليه تبطل، إلا أنه ينوي المفارقة. قلت: هذا الذي قاله لا يطابق الترجمة، وإنما مراده أن المأموم لا يرد على الإمام بتسليمة ثالثة بين التسليمتين، كما ذكرناه في حديث الباب الذي قبله.
وهذا الحديث أخرجه البخاري في: باب المساجد في البيوت، بأطول منه: عن سعيد بن عفير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب.. إلى آخره، وههنا: عن عبدان وهو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة الأزدي أبو عبد الرحمن المروزي عن عبد الله بن المبارك عن معمر بن راشد عن محمد بن مسلم الزهري... إلى آخره.
قوله: (وزعم)، المراد من الزعم ههنا: القول المخقق، فإنه قد يطلق عليه وعلى الكذب وعلى المشكوك فيه، وينزل في كل موضع على ما يليق به. قوله: (مجة مجها من دلو). من: مج لعابه: إذا قذفه، وقيل: لا يكون مجة حتى يباعد بها، وانتصاب: مجة، على أنها مفعول: عقل. وقوله: (مجها من دلو) جملة في محل النصب على أنها صفة لمجة، وكلمة: (من)، بيانية. قوله: (كانت)، صفة موصوف محذوف أي: من بئر كانت في دارهم، والدلو دليل عليه،

124
قاله الكرماني. وقال بعضهم: الدلو، يذكر ويؤنث، فلا يحتاج إلى تقدير قلت: التقدير لا بد منه لأن الدلو لا يكون فيه ماء إلا من بئر ونحوه. قلت: كانت، بالتأنيث رواية أبي ذر، وفي رواية، جاءت: كان، بالتذكير، فعلى هذا لا حاجة إلى التقدير.
قوله: (الأنصاري)، بالنصب لأنه صفة: عتبان، المنصوب بقوله: (سمعت). قوله: (ثم أحد) بالنصب أيضا عطفا على الأنصاري، والتقدير: الأنصاري ثم السالمي، لأنه من بني سالم أيضا. قال بعضهم: هذا الذي يكاد من له أدنى ممارسة بمعرفة الرجال أن يقطع به، ثم قال: وقال الكرماني: يحتمل أن يكون عطفا على عتبان، يعني سمعت عتبان ثم سمعت أحد بني سالم أيضا. قال: والمراد به فيما يظهر: الحصين بن محمد الأنصاري، فكأن محمودا سمع من عتبان ومن الحصين. قال: وهو بخلاف ما تقدم في: باب المساجد في البيوت، أن الزهري هو الذي سمع محمودا، والحصين، ولا منافاة بينهما لاحتمال أن الزهري ومحمودا سمعا جميعا من الحصين، ولو وقع برفع أحد، بأن يكون عطفا على: محمود، لساغ ووافق الرواية الأولى، يعني: فيصير التقدير: قال الزهري: أخبرني محمود بن الربيع ثم أخبرني أحد بني سالم، أي: الحصين. انتهى. قال: وكان الحامل له على ذلك كله قول الزهري في الرواية السابقة: ثم سألت الحصين بن محمد الأنصاري، وهو أحد بني سالم، هناك. فكأنه ظن أن المراد بقوله: أحد بني سالم هنا، هو المراد بقوله: أحد بني سالم هناك، ولا حاجة لذلك، فإن عتبان من بني سالم أيضا، وهو: عتبان بن مالك بن عمرو بن العجلان بن زياد بن غنم بن سالم بن عوف، وعلى الاحتمال الذي ذكره إشكال آخر، لأنه يلزم منه أن يكون الحصين بن محمد هو صاحب القصة المذكورة، أو أنها تعددت له ولعتبان، وليس كذلك، فإن الحصين المذكور لا صحبة له، وقد ذكره ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل) ولم يذكر له شيخا غير عتبان. انتهى كلامه.
قلت: هذا القائل ذكر أولا شيئا، وهو حط على الكرماني في الباطن، ثم أظهره بعد ذلك بما لا يجديه من وجوه: الأول: أنه غير غالب عبارة الكرماني في النقل لتمشية كلامه، يتأمله من يقف عليه. الثاني: أن الكرماني ما جزم بما ذكره، بل إنما قال بالاحتمال، وباب الاحتمال مفتوح،. الثالث: أن قوله: فكأنه ظن.. إلى آخره، لا يتوجه الرد به، فإنه محل الظن ظاهر، أو العبارة تؤدي إلى ذلك ظاهرا، ثم توجيهه الرد بقوله: فإن عتبان من بني سالم أيضا غير موجه، لأن كون عتبان من بني سالم لا ينافي كون الحصين من بني سالم أيضا، ولا يمنع إخبار الزهري عنه أيضا. الرابع: أن قوله يلزم منه أن يكون الحصين بن محمد هو صاحب القصة المذكورة ليس كذلك، لأن الملازمة ممنوعة، لأن كون الحصين غير صحابي لا يقتضي الملازمة التي ذكرها، لأنه يحتمل أن يكون الحصين قد سمع القصة المذكورة من صحابي، والراوي طوى ذكره اكتفاء بذكر عتبان. الخامس: أن تأييد ما ادعاه بما ذكره عن ابن أبي حاتم غير سديد ولا محل له، لأن عدم ذكر ابن أبي حاتم للحصين شيخا غير عتبان لا يستلزم أن لا يكون له شيخ آخر أو أكثر، وهذا ظاهر.
قوله: (فلوددت) أي: فوالله لوددت. قوله: (اتخذه)، قال الكرماني بالرفع وبالجزم، لأنه وقع جوابا للمودة المفيدة للتمني. قوله: (اشتد النهار) أي: ارتفعت الشمس. قوله: (فأشار إليه) قال الكرماني: (فأشار) أي: النبي صلى الله عليه وسلم إلى المكان الذي هو المحبوب أن يصلي فيه، ويحتمل أن تكون: من، للتبعيض، ولا ينافي ما تقدم أيضا ثمة أنه قال: فأشرت، لإمكان وقوع الإشارتين منه ومن النبي صلى الله عليه وسلم إما معا وإما متقدما ومتأخرا. وقال بعضهم: والذي يظهر أن فاعل: أشار، هو: عتبان، لكن فيه التفات، إذ ظاهر السياق أن يقول: فأشرت... إلى آخره، وبهذا تتوافق الروايتان. قلت: الذي قاله الكرماني أولى وأحرى، لأن فيه إظهار معجزة النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث أشار إلى المكان الذي كان في قلب عتبان أن يصلي فيه، فأشار إليه قبل أن يعينه عتبان.
وبقية الكلام في هذا الحديث ذكرناها في: باب المساجد في البيوت.
155
((باب الذكر بعد الصلاة))
أي: هذا باب في بيان الذكر عقيب الفراغ من الصلاة.
841 حدثنا إسحاق بن نصر قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عمر و أن أبا معبد مولى ابن عباس أخبره أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخبره أن رفع الصوت

125
بالذكر حين ينصرف الناس من المكتوبة كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس كنت أعلم إذا انصرفوا بذلك إذا سمعته.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: إسحاق بن نصر وهو إسحاق بن إبراهيم بن نصر أبو إبراهيم السعدي البخاري، فالبخاري يروي عنه تارة بنسبته إلى أبيه ويقول: حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن نصر، وتارة ينسبه إلى جده ويقول: حدثنا إسحاق بن نصر. الثاني: عبد الرزاق بن همام. الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، بضم الجيم. الرابع: عمرو بن دينار. الخامس: أبو معبد، بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الباء الموحدة وفي آخره دال مهملة: واسمه نافذ، بالنون وبكسر الفاء وفي آخره ذال معجمة. السادس: عبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار كذلك في موضع واحد وبصيغة الإفراد من الماضي في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع، وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن رواته ما بين بخاري ويماني ومكي ومدني. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق: وأخرجه أبو داود فيه عن يحيى بن موسى البلخي عن عبد الرزاق.
ذكر معناه: قوله: (كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم) أي: على زمانه، ومثل هذا يحكم له بالرفع عند الجمهور خلافا لمن شذ في ذلك. قوله: (قال ابن عباس) هو موصول بالإسناد الأول كما في رواية مسلم عن إسحاق بن منصور عن عبد الرزاق به، قوله: (كنت أعلم) فيه إطلاق العلم على الأمر المستند إلى الظن الغالب. قوله: (بذلك) أي: برفع الصوت إذا سمعته، أي: الذكر، والمعنى: كنت أعلم انصرافهم بسماع الذكر.
ذكر ما يستفاد منه: استدل به بعض السلف على استحباب رفع الصوت بالتكبير والذكر عقيب المكتوبة، وممن استحبه من المتأخرين: ابن حزم، وقال ابن بطال: أصحاب المذاهب المتبعة وغيرهم متفقون على عدم استحباب رفع الصوت بالتكبير، والذكر، حاشا ابن حزم، وحمل الشافعي هذا الحديث على أنه جهر ليعلمهم صفة الذكر، لا أنه كان دائما. قال: واختار للإمام والمأموم أن يذكر الله بعد الفراغ من الصلاة، ويخفيان ذلك، إلا أن يقصد التعليم فيعلما ثم يسرا. وقال الطبري: فيه البيان على صحة فعل من كان يفعل ذلك من الأمراء والولاة، يكبر بعد صلاته ويكبر من خلفه، وقال غيره: لم أجد أحدا من الفقهاء قال بهذا إلا ابن حبيب في (الواضحة): كانوا يستحبون التكبير في العساكر والبعوث إثر صلاة الصبح والعشاء، وروى ابن القاسم عن مالك أنه محدث، وعن عبيدة، وهو بدعة. وقال ابن بطال: وقول ابن عباس: كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فيه دلالة أنه لم يكن يفعل حين حدث به، لأنه لو كان يفعل لم يكن لقوله معنى، فكان التكبير في إثر الصلوات لم يواظب الرسول، صلى الله عليه وسلم، عليه طول حياته، وفهم أصحابه أن ذلك ليس بلازم فتركوه خشية أن يظن أنه مما لا تتم الصلاة إلا به، فذلك كرهه من كرهه من الفقهاء. وفيه: دلالة أن ابن عباس كان يصلي في أخريات الصفوف لكونه صغيرا. قلت: قوله: (إذا انصرفوا) ظاهره أنه لم يكن يحضر الصلاة بالجماعة في بعض الأوقات لصغره.
842 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثنا عمر و قال أخبرني أبو معبد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال كنت أعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بالتكبير (انظر الحديث 841).
علي هو ابن المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار، ووقع في رواية الحميدي عن سفيان بصيغة الحصر ولفظه: (ما كنا نعرف انقضاء صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا بالتكبير)، وكذا أخرجه مسلم عن ابن أبي عمر عن سفيان. واختلف في كون ابن عباس قال ذلك، فقال عياض: الظاهر أنه لم يكن يحضر الجماعة، لأنه كان صغيرا ممن لا يواظب على ذلك، ولا يلزم به، فكان يعرف انقضاء الصلاة بما ذكره. وقال غيره: يحتمل أن يكون حاضرا في أواخر الصفوف، فكان لا يعرف انقضاءها بالتسليم، وإنما كان يعرفه بالتكبير. وقال ابن دقيق العيد: يؤخذ منه أنه لم يكن هناك مبلغ جهير الصوت يسمع من بعد. قوله:

126
(كنت أعرف) وفي الحديث السابق: (كنت أعلم)، وبين المعرفة والعلم فرق، وهو أن المعرفة تستعمل في الجزئيات والعلم في الكليات، ولكن: أعلم، هنا بمعنى: أعرف، ولا يطلب الفرق. فافهم. قوله: (التكبير) وفي الحديث الأول: بالذكر، فالذكر أعم من التكبير، والتكبير أخص، فيحتمل أن يكون قوله: (بالتكبير) تفسيرا لقوله: بالذكر، ومن هذا قال الكرماني: بالتكبير أي: بذكر الله.
قال علي حدثنا سفيان عن عمر و قال كان أبو معبد أصدق موالي ابن عباس قال علي واسمه نافذ
أشار البخاري، رضي الله تعالى عنه، بما نقله عن علي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار المذكورين قبله أن حديث أبي معبد هذا لا يقدح في صحته لأجل ما روى أحمد في (مسنده) هذا الحديث. ثم قال: وإنه يعني: أبا معبد قال بالتكبير، ثم ساقه به. قال عمرو: قد ذكرت لأبي معبد فأنكره، وقال: لم أحدثك بهذا. قال عمرو: فقد أخبرنيه قبل ذلك، وكذا وقع في رواية مسلم: قال عمرو: ذكرت ذلك لأبي معبد بعد وأنكره، وقال: لم أحدثك بهذا. قال عمرو: وقد أخبرنيه قبل ذلك، قال الشافعي، بعد أن رواه عن سفيان: كأنه نسيه بعد أن حدثه به. انتهى. فهذا يدل على أن مسلما كان يرى صحة الحديث، ولو أنكره راويه، إذا كان الناقل عنه عدلا، ولا شك أن عمرو بن دينار كان عدلا، وكذا لا شك أن أبا معبد كان عدلا، فلذلك قال عمرو، فيما حكاه عنه البخاري بواسطة علي وسفيان: كان أبو معبد أصدق موالي ابن عباس. قال الكرماني: فإن قلت: الصدق هو مطابقة الكلام للواقع على الصحيح، وذلك لا يقبل الزيادة والنقصان؟ قلت: الزيادة إنما هي بالنسبة
إلى أفراد الكلام، يعني إفراد كلامه الصدق أكثر من إفراد كلام سائر الموالي. واعلم أن قوله: وقال علي.. إلى آخره، زيادة لم تثبت إلا في رواية المستملي والكشميهني، واعلم أيضا أن الراوي إذا أنكر روايته لا يخلو إما أن يكون إنكار جحود وتكذيب للفرع بأن قال: كذبت علي، لم يعمل بهذا الخبر بلا خلاف بين الأئمة، أو يكون إنكار توقف لا إنكار تكذيب وجحود، بأن قال: لا أذكر أني رويت ذلك، هذا أو لا أعرفه، فقد اختلف فيه، فذهب أبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد في رواية إلى: أنه يسقط العمل به، كالوجه الأول، وهو مختار الكرخي والقاضي أبي زيد وفخر الإسلام، وذهب محمد ومالك والشافعي إلى: أنه لا يسقط العمل به، ونسيان الأصل لا يقدح فيه كما لو جن أو مات. وقيل: عدم الرواية بإنكار المروي عنه قول أبي يوسف. وقال محمد: لا تسقط الرواية بإنكاره، وهذا الخلاف بينهما فرغ اختلافهما في شاهدين شهدا على القاضي بقضية، والقاضي لا يذكر قضاءه، فإنه يقبل عند محمد، ولا يقبل عند أبي يوسف. وذكر الإمام فخر الدين في (المحصول) في هذه المسألة تقسيما حسنا، وهو أن رواي الفرع إما أن يكون جازما بالرواية أو لا، فإن كان جازما فالأصل إما أن يكون جازما بالإنكار أو لا، فإن كان الأول فقد تعارضا، فلا يقبل الحديث، وإن كان الثاني فإما أن يكون الأغلب على الظن إني رويته، أو الأغلب أني ما رويته، أو الأمران على السواء، أو لا يقول شيئا من ذلك، فالأشبه أن يكون الخبر مقبولا في جميع هذه الأقسام، وإن كان الفرع غير جازم بل يقول: أظن أني سمعت منك، فإن جزم الأصل: بأني ما رويته لك، تعين الرد، وإن قال: أظن إني ما رويته لك تعارضا، وإن ذهب إلى سائر الأقسام، فالأشبه قبوله، والضابط أنه إذا كان قول الأصل معادلا لقول الفرع تعارضا، وإذا ترجح أحدهما على الآخر فالمعتير الراجح.
843 حدثنا محمد بن أبي بكر قال حدثنا معتمر عن عبيد الله عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال جاء الفقراء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ذهب أهل الدثور من الأموال بالدرجات العلا والنعيم المقيم يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ولهم فضل من أموال يحجون بها ويعتمرون ويجاهدون ويتصدقون قال ألا أحدثكم بما إن أخذتم به أدركتم من سبقكم ولم يدرككم أحد بعدكم وكنتم خير من أنتم بين ظهرانيه إلا من عمل مثله تسبحون

127
وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين فاختلفنا بيننا فقال بعضنا نسبح ثلاثا وثلاثين ونحمد ثلاثا وثلاثين ونكبر أربعا وثلاثين فرجعت إليه فقال تقول سبحان الله والحمد لله والله أكبر حتى يكون كلهن ثلاثا وثلاثين. (الحديث 843 طرفه في: 6329).
مطابقته للترجمة ظاهرة وهي في قوله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صلاة ثلاثا وثلاثين).
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: محمد ابن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم، أبو عبد الله المعروف بالمقدمي البصري. الثاني: معتمر بن سليمان بن طرخان البصري. الثالث: عبيد الله، بضم العين: ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، المدني. الرابع: سمي، بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء آخر الحروف: مولى أبي بكر بن عبد الرحمن. الخامس: أبو صالح ذكوان الزيات المدني. السادس: أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: الأولان من رجاله بصريان والبقية مدنيون. وفيه: عبيد الله تابعي صغير ولا يعرف لسمي رواية عن أحد من الصحابة، فهو من رواية الكبير عن الصغير.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن عاصم ابن النضر، وأخرجه النسائي في اليوم والليلة عن محمد بن عبد الأعلى، كلاهما عن معتمر بن سليمان عنه به.
ذكر معناه: قوله: (جاء الفقراء)، وهو جمع فقير، ولم يعلم عددهم هنا، وجاء في رواية أبي داود من رواية محمد ابن أبي عائشة: عن أبي هريرة أن أبا ذر منهم، وأخرجه الفريابي في (كتاب الذكر) له من حديث أبي ذر نفسه، وجاء في رواية النسائي وغيره: أن أبا الدرداء منهم، وروى الترمذي من حديث مجاهد وعكرمة عن ابن عباس قال: (جاء الفقراء إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله إن الأغنياء يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ولهم أموال يعتقون ويتصدقون. قال: فإذا صليتم فقولوا: سبحان الله ثلاثا وثلاثين مرة، والحمد لله ثلاثا وثلاثين مرة، والله أكبر أربعا وثلاثين مرة، ولا إله إلا الله عشر مرات، فإنكم تدركون به من سبقكم، ولا يسبقكم من بعدكم). قوله: (ذهب أهل الدثور)، بضم الدال المهملة والثاء المثلثة جمع: دثر، بفتح الدال وسكون الثاء المثلثة: وهو المال الكثير. قال ابن سيده: لا يثنى ولا يجمع. وقيل: هو الكثير من كل شيء. وقال أبو عمر المطرز: إنه يثني ويجمع، ووقع عند الخطابي: أهل الدور، جمع: دار. وقال ابن قرقول: وقع في رواية المروزي: أهل الدور، يعني: مثل ما وقع في رواية الخطابي. قال: وهو تصحيف، وكلمة: من، في: من الأموال، بيانية تبين الدثور، ويجوز أن تكون: من الأموال، تأكيدا، ويجوز أن تكون وصفا. قوله: (العلى) بضم العين جمع: العلياء، وهي تأنيث: الأعلى. قوله: (والنعيم المقيم) النعيم: ما يتنعم به، والمقيم: الدائم، وذكر المقيم تعريض بالنعيم العاجل، فإنه قلما يصفو، وإن صفا فهو في صدد الزوال وسرعة الانتقال. وفي رواية محمد بن أبي عائشة عن أبي هريرة: (ذهب أصحاب الدثور بالأجور). وكذا في رواية مسلم من حديث أبي ذر، وفي رواية ابن ماجة من رواية بشر بن عاصم عن أبيه: (عن أبي ذر قال: قيل: يا رسول الله، وربما قال سفيان: قلت: يا رسول الله ذهب أهل الأموال والدثور بالأجور، يقولون كما نقول، وينفقون ولا ننفق. قال لي: ألا أخبركم بأمر إذا فعلتموه أدركتم من قبلكم وفتم من بعدكم؟ تحمدون الله في دبر كل صلاة، وتسبحون وتكبرون ثلاثا وثلاثين وأربعا وثلاثين. قال سفيان: لا أدري أيتهن أربع!) وروى البزار من رواية موسى بن عبيدة عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، قال: (اشتكى فقراء المؤمنين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فضل به أغنياؤهم، فقالوا: يا رسول الله إخواننا صدقوا تصديقنا، وآمنوا إيماننا، وصاموا صيامنا، ولهم أموال يتصدقون منها ويصلون منها الرحم وينفقونها في سبيل الله، ونحن مساكين لا نقدر على ذلك. فقال: ألا أخبركم بشيء إذا فعلتموه أدركتم مثل فضلهم؟ قولوا: الله أكبر في دبر كل صلاة إحدى عشرة مرة، والحمد لله مثل ذلك،
ولا إله إلا الله مثل ذلك، تدركون مثل فضلهم. ففعلوا ذلك، فذكروا للأغنياء، ففعلوا مثل ذلك، فرجع الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك، فقالوا: هؤلاء إخواننا فعلوا مثل ما نقول، فقال: * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) * (المائدة: 54، الحديد: 21، والجمعة: 4). يا معشر الفقراء، ألا يسركم أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، خمسمائة عام؟ وتلا موسى بن عبيدة:

128
* (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) * (الحج: 47). وروى أبو داود من رواية محمد ابن أبي عائشة عن أبي هريرة، قال: (قال أبو ذر: يا رسول الله ذهب أصحاب الدثور بالأجور..) الحديث، وذكر التكبير والتحميد والتسبيح ثلاثا وثلاثين، وزاد: (ويختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على شيء قدير، غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر). وروى النسائي في اليوم والليلة، من رواية عبد العزيز بن رفيع عن أبي صالح: (عن أبي الدرداء، قال: قلت: يا رسول الله ذهب أهل الأموال بالدنيا والآخرة، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويذكرون كما نذكر، ويجاهدون كما نجاهد، ولا نجد ما نتصدق به. قال: ألا أخبرك بشيء إذا أنت فعلته أدركت من كان قبلك ولم يلحقك من كان بعدك إلا من قال مثل ما قلت؟ تسبح الله دبر كل صلاة ثلاثة وثلاثين، وتحمده ثلاثا وثلاثين، وتكبر أربعا وثلاثين تكبيرة). قوله: (يحجون بها)، فإن قلت: وقع في رواية جعفر الفريابي من حديث أبي الدرداء: (ويحجون كما نحج). قلت: اشتراكهم في الحج كان في الماضي، وأما المتوقع فلا يقدر عليه إلا أصحاب الأموال غالبا، فإن جاءت رواية: ويحجون بها، بضم الياء من الإحجاج أي: يعينون غيرهم على الحج بالمال، فلا إشكال، وكذلك الجواب في قوله: (ويجاهدون)، ههنا في الدعوات من رواية ورقاء عن سمي: (وجاهدوا كما جاهدنا). قوله: (ويتصدقون)، ووقع في رواية مسلم من رواية ابن عجلان عن سمي: (ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق). قوله: (ألا) كلمة تنبيه وتحضيض. قوله: (بما إن أخذتم به؟) أي: بشيء إن أخذتموه أدركتم من سبقكم من أهل الأموال في الدرجات العلى؟ وليست كلمة: (بما)، في أكثر الروايات، كذا وقع في رواية الأصيلي بدون: بما، ولفظه: (ألا أحدثكم بأمر إن أخذتم..) وكذا في رواية الإسماعيلي. قوله: (به)، الضمير فيه يرجع إلى قوله: (بما)، لأن: ما، بمعنى: شيء كما ذكرناه، وسقطت أيضا هذه اللفظة في أكثر الروايات. قوله: (أدركتم)، جواب: إن، وقوله: (من سبقكم) في محل النصب لأنه مفعول: أدركتم، والمعنى: أدركتم من سبقكم من أهل الأموال الذين امتازوا عليكم بالصدقة والسبقية. وقال الكرماني: كيف يساوي قول هذه الكلمات مع سهولتها وعدم مشقتها الأمور الشاقة الصعبة من الجهاد ونحوه، وأفضل العبادات أحمزهما؟ قلت: أداء هذه الكلمات حقها الإخلاص، سيما الحمد في حال الفقر من أفضل الأعمال وأشقها، ثم إن الثواب ليس بلازم أن يكون على قدر المشقة، ألا ترى في التلفظ بكلمة الشهادة من الثواب ما ليس في كثير من العبادات الشاقة؟ وكذا الكلمة المتضمنة لتمهيد قاعدة خير عام، ونحوها؟ قال العلماء: إن إدراك صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لحظة خير وفضيلة لا يوازيها عمل، ولا تنال درجتها بشيء، ثم إن كانت نيتهم، لو كانوا أغنياء لعملوا مثل عملهم وزيادة، (ونية المؤمن خير من عمله)، فلهم ثواب هذه النية وهذه الأذكار. قوله: (لم يدرككم)، قال الكرماني: فإن قلت: لم لا يحصل لمن بعدهم ثواب ذلك؟ قلت: إلا من عمل استثناء منه أيضا، كما هو مذهب الشافعي في أن الاستثناء المتعقب للجمل عائد إلى كلها. قوله: (بين ظهرانيهم)، بفتح النون وسكون الياء آخر الحروف، وفي رواية كريمة وأبي الوقت: (بين ظهرانيه)، بالإفراد، ومعناه: أنهم أقاموا بينهم على سبيل الاستظهار والاستناد إليهم، وزيدت فيه الألف والنون المفتوحة تأكيدا، ومعناه: إن ظهرا منهم قدامه، وظهرا وراءه، فهو مكنون من جانبيه، ومن جوانبه إذا قيل: بين أظهرههم، ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم. قال الكرماني: فإن قلت: قال أولا: (أدركتم من سبقكم) يعني: تساوونهم، وثانيا: كنتم خير من أنتم بينهم)، يعني تكونون أفضل منهم، فتلزم المساواة وعدم المساواة على تقدير عدم عملهم مثله؟ قلت: لا نسلم أن الإدراك يستلزم المساواة، فربما يدركهم ويتجاوز عنهم. قوله: (إلا من عمل مثله) أي: إلا الغني الذي يسبح، فإنكم لم تكونوا خيرا منهم، بل هو خير منكم أو مثلكم نعم، إذا قلنا الاستثناء يرجع إلى الجملة الأولى أيضا، يلزم قطعا كون الأغنياء أفضل، إذ معناه: إن أخذتم أدركتم إلا من عمل مثله، فإنكم لا تدركونه. فإن قلت: فالأغنياء إذا سبحوا يترجحون فيبقى بحاله ما شكا الفقراء منه، وهو رجحانهم من جهة الجهاد وإخواته. قلت: مقصود الفقراء منه تحصيل الدرجات العلى والنعيم المقيم لهم أيضا، لا نفي زيادتهم مطلقا، قوله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون) كذا وقع في أكثر الأحاديث تقديم التسبيح على التحميد وتأخير التكبير، وفي رواية ابن عجلان: تقديم التكبير على التحميد خاصة، وفي حديث ابن ماجة: تقديم التحميد على التسبيح، فدل هذا الاختلاف على أن لا ترتيب فيها، ويدل عليه الحديث الذي فيه الباقيات الصالحات: (لا يضرك

129
بأيهن بدأت)، ولكن يمكن أن يقال: الأولى البداءة بالتسبيح لأنه يتضمن نفي النقائص عن الله سبحانه وتعالى، ثم التحميد لأنه يتضمن إثبات الكمال لله تعالى، لأن جميع المحامد له، ثم التكبير لأنه تعظيم، ومن كان منزها عن النقائص، ومستحقا لجميع المحامد يجب تعظيمه، وذلك بالتكبير، ثم يختم ذلك كله بالتهليل الدال على وحدانيته وانفراده تعالى وتقدس، وقوله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون) ثلاثة أفعال تنازعت في ظرف، أعني، قوله: (خلف كل صلاة) قوله: (خلف كل صلاة) وفي رواية للبخاري في الدعوات: (دبر كل صلاة)، وفي حديث أبي ذر: (إثر كل صلاة)، ويمكن أن يكون لفظ: (دبر)، تفسيرا للفظ: (خلف)، قوله: (صلاة) يشمل الفرض والنفل، ولكن حمله أكثر العلماء على الفرض، لأنه وقع في حديث كعب بن عجرة عند مسلم التقييد بالمكتوبة، فكأنهم حملوا المطلق على المقيد. قوله: (ثلاثا وثلاثين)، هذا اللفظ يحتمل أن يكون لمجموع هذا المقدار بحيث إنه يكون كل واحد منها أحد عشر، وأن يكون كل واحد يبلغ هذا العدد فهو مجمل، وتمام هذا الحديث مبين أن المقصود هو الثاني. قوله: (فاختلفنا بيننا) أي: في كل واحد ثلاثة وثلاثون؟ أو المجموع؟ أو أن تمام المائة بالتكبير؟ أو بغيره؟ فإن قلت: هذا الاختلاف وقع بين من ومن؟ قلت: ظاهر العباراة أنه وقع بين الصحابة، وأن القائل: (فاختلفنا) هو أبو هريرة، وكذا الضمير في: (رجعت) يرجع إلى أبي هريرة، والضمير في (إلى) يرجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن بين مسلم في روايته عن ابن عجلان عن سمي أن القائل: (فاختلفنا) هو: سمي، وأن الضمير
في (رجعت) يرجع إليه، والضمير في (إليه) يرجع إلى أبي صالح، وأن المخالف له بعض أهله، ولفظه: (قال سمي: فحدثت بعض أهلي هذا الحديث، فقال: وهمت). فذكر كلامه. قال: (فرجعت إلى أبي صالح)، والذي ذكره مسلم أقرب، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضا، فلذلك اقتصر صاحب (العمدة) على هذا، لكن مسلما لم يوصل هذه الزيادة، فإنه أخرج الحديث: عن قتيبة عن الليث ابن عجلان، ثم قال: زاد غير قتيبة في هذا الحديث عن الليث، فذكرها. قيل: يحتمل أن يكون هذا الغير شعيب بن الليث، فإن أبا عوانة أخرجه في (مستخرجه): عن الربيع بن سليمان عن شعيب، ويحتمل أن يكون سعيد بن أبي مريم، فإن البيهقي أخرجه من طريق سعيد؟ قلت: يحتمل أن يكون غيرهما، وقد روى ابن حبان هذا الحديث من طريق المعتمر بن سليمان بالإسناد المذكور فلم يذكر. قوله: (واختلفنا...) إلى آخره. قوله: (أربعا)، ويروى: (أربعة)، وإذا كان المميز غير مذكور يجوز في العدد التذكير والتأنيث. قوله: (منهن كلهن)، بكسر اللام، لأنه تأكيد للضمير المجرور. قوله: (ثلاث وثلاثون)، بالواو علامة الرفع، وهو اسم: كان، وفي رواية كريمة والأصيلي وأبي الوقت: (ثلاثا وثلاثين)، على أنه خبر: كان، واسمه محذوف، والتقدير: حتى يكون العدد منهن كلهن ثلاثا وثلاثين. فإن قلت: ما الحكمة في تعيين هذا العدد؟ أعني: ثلاثا وثلاثين؟ قلت: هنا قد تعين هذا العدد، وقد اختلفت الأعداد في الأحاديث الواردة في هذا الباب على وجوه مختلفة، فورد فيه كونه ثلاثا وثلاثين، كما في حديث أبي هريرة في هذا الباب، وكونه خمسا وعشرين، كما في حديث زيد بن ثابت، رضي الله تعالى عنه، أخرجه النسائي من رواية كثير بن أفلح عن زيد بن ثابت، قال: (أمروا أن يسبحوا دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، ويحمدوا ثلاثا وثلاثين، ويكبروا أربعا وثلاثين، فأتي رجل من الأنصار في منامه، قيل: أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تسبحوا دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وتحمدوا ثلاثا وثلاثين، وتكبروا أربعا وثلاثين؟ قال: نعم، فاجعلوها خمسا وعشرين، فاجعلوا فيها التهليل، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال: إجعلوها كذلك). وكونه إحدى عشرة، كما في بعض طرق حديث ابن عمر، وقد ذكرناه عن البزار، وكونه عشرا كما في حديث أنس، رضي الله تعالى عنه، رواه الترمذي والنسائي من رواية عكرمة بن عمار عن إسحاق بن عبد الله ابن أبي طلحة: (عن أنس بن مالك، قال: جاءت أم سليم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! علمني كلمات أدعو بهن في صلاتي. فقال: سبحي الله عشرا. واحمديه عشرا، وكبريه عشرا، ثم سلي حاجتك، يقول: نعم نعم). رواه البزار وأبو يعلى في (مسنديهما) وفيه: نعم نعم نعم، ثلاثا، وكذلك

130
في حديث عبد الله بن عمر، وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة من رواية عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خصلتان لا يحصيهما رجل مسلم إلا دخل الجنة...) الحديث. وفيه: (يسبح الله أحدكم في دبر كل صلاة عشرا، ويحمد عشرا، ويكبر عشرا). الحديث فهي خمسون ومائة باللسان، وألف وخمسمائة في الميزان، وكذلك في حديث سعد بن أبي وقاص، أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، من رواية موسى الجهني: عن مصعب بن سعد عن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يمنع أحدكم أن يسبح دبر كل صلاة عشرا، ويكبر عشرا ويحمد عشرا؟) وكذلك رواه علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، أخرجه أحمد في رواية عطاء بن السائب عن أبيه (عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما زوجه فاطمة...) الحديث، وفيه: (تسبحان لله في دبر كل صلاة عشرا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا)، وكذلك في حديث أم مالك الأنصارية، أخرجه الطبراني في (الكبير) من رواية عطاء بن السائب: عن يحيى بن جعدة عن رجل حدثه، (عن أم مالك الأنصارية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هنيئا لك يا أم مالك بركة عجل الله ثوابها، ثم علمها في دبر كل صلاة: سبحان الله عشرا، والحمد لله عشرا، والله أكبر عشرا). وكونه ستا، كما في حديث أنس في بعض طرقه، ومرة واحدة، كما في بعض طرق حديثه، أيضا، وكونه سبعين مرة كما في حديث زميل الجهني أخرجه الطبراني في (الكبير) من رواية أبي مشجعة بن ربعي الجهني: (عن زميل الجهني، قال: كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إذا صلى الصبح قال، وهو ثان رجله: سبحان الله وبحمده، واستغفر الله، إنه كان توابا، سبعين مرة، ثم يقول: سبعين بسبعمائة..) الحديث. وكونه مائة مرة كما في بعض طرق حديث أبي هريرة، أخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة، من رواية يعقوب بن عطاء: عن عطاء ابن أبي علقمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: (من سبح في دبر كل صلاة مكتوبة مائة، وكبر مائة وحمد مائة غفرت له ذنوبه، وإن كانت أكثر من زبد البحر).
ثم الجواب عن وجه الحكمة في تعيين هذه الأعداد أنه: يجب علينا أولا: أن نتمثل في ذلك وإن خفي علينا وجهه، لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو عن حكم. وثانيا: نقول بما أوقع الله تعالى في قلوبنا من أنواره التي يتجلى بها في الغوامض، وهو أن الاختلاف في هذه الأعداد الظاهر أنه بحسب اختلاف الأحوال والأزمان والأشخاص، فيمكن أن يقال: في الذكر مرة، إنها أدنى ما يقال، لأنها ما تحتها شيء. وفي الست: إن الأيام ستة، فمن ذكر ست مرات فكأنه ذكر في كل يوم منها مرة، فتستغرق أيامه ببركة الذكر. وفي العشر: كل حسنة بعشر أمثالها بالنص. وفي إحدى عشرة كذلك، ولكن زيادة الواحدة عليها للجزم بتحقق العشرة. وفي خمس وعشرين إن ساعات الليل والنهار أربع وعشرون ساعة، فمن ذكر خمسا وعشرين فكأنما ذكر في كل ساعة من ساعات الليل والنهار، والواحد الزائد للجزم بتحققها. وفي ثلاث وثلاثين إنها إذا ضوعفت ثلاث مرات تكون تسعا وتسعين، فمن ذكر بثلاث وثلاثين فكأنما ذكر الله بأسمائه التسعة والتسعين التي ورد بها الحديث. وفي سبعين إنه إذا ذكر الله بهذا العدد يحصل له سبعمائة ثواب، لكل واحد منها عشرة، وقد صرح بذلك في حديث زميل الجهني، وقد ذكرناه. وفي مائة: القصد فيها المبالغة في التكثير، لأنها الدرجة الثالثة للأعداد.
فإن قلت: إذا نقص من هذه الأعداد المعينة أو زاد، هل يحصل له الوعد الذي وعد له فيه؟ قلت: ذكر شيخنا زين الدين في (شرح الترمذي) قال: كان بعض مشايخنا يقول: إن هذه الأعداد الواردة عقيب الصلوات أو غيرها من الأذكار الواردة في الصباح والمساء وغير ذلك، إذا كان ورد لها عدد مخصوص مع ثواب مخصوص،
فزاد الآتي بها في أعدادها عمدا لا يحصل له ذلك الثواب الوارد على الإتيان بالعدد الناقص، فلعل لتلك الأعداد حكمة، وخاصة تفوت بمجاوزة تلك الأعداد وتعديها، ولذلك نهى عن الاعتداء في الدعاء. انتهى. قال الشيخ: فيما قاله نظر، لأنه قد أتى بالمقدار الذي رتب على الإتيان به ذلك الثواب، فلا تكون الزيادة مزيلة لذلك الثواب بعد حصوله عند الإتيان بذلك العدد. انتهى. قلت: الصواب هو الذي قاله الشيخ، لأن هذا ليس من الحدود التي نهى عن اعتدائها ومجاوزة أعدادها، والدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مائة مرة، لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به، إلا أحد قال مثل ما قال أو زاد عليه. فإن قلت: الشرط في هذا أن يقول: الذكر المنصوص عليه بالعدد متتابعا أم لا؟ والشرط أن يكون في مجلس واحد أم لا؟ قلت: كل منهما ليس بشرط، ولكن الأفضل أن يأتي به متتابعا، وأن يراعي الوقت الذي عين فيه.
ذكر ما يستفاد منه: من ذلك يتعلق بهذا الحديث المسألة المشهودة في التفضيل بين الغني الشاكر والفقير الصابر، فذهب الجمهور من الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر، لأن مدار الطريق على تهذيب النفس ورياضتها، وذلك مع الفقر أكثر

131
منه مع الغنى، فكان أفضل بمعنى أشرف. وذكر القرطبي: أن في هذه المسألة خمسة أقوال: فمن قائل بتفضيل الغني، من قائل بتفضيل الفقير. ومن قائل بتفضيل الكفاف. ومن قائل برد هذا إلى اعتبار أحوال الناس في ذلك. ومن قائل بالوقف لأنها مسألة لها غور، وفيها أحاديث متعارضة. قال: والذي يظهر لي أن الأفضل ما اختاره الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولجمهور صحابته، رضي الله تعالى عنهم، وهو الفقر غير المدقع، ويكفيك من هذا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام، وأصحاب الأموال محبوسون على قنطرة بين الجنة والنار يسألون عن فضول أموالهم. وقال ابن بطال عن المهلب في هذا الحديث: فضل الغني نصا لا تأويلا إذا استوت أعمال الغني والفقير فيما افترض الله تعالى عليهما، فللغني حينئذ فضل عمل البر من الصدقة ونحوها، مما لا سبيل للفقير إليه. قال: ورأيت بعض المتكلمين ذهب إلى أن الفضل المرتب على الذكر يخص الفقراء دون غيرهم، قال: وغفل عن قوله: (إلا من عمل مثله)، فخص الفضل لقائله كائنا من كان، وقال ابن دقيق العيد: ظاهر الحديث القريب من النص أنه فضل الغني وبعض الناس، تأوله بتأويل مستكره، قال: والذي يقتضيه النظر أنهما إن تساويا وفضلت العبادة المالية أن يكون الغني أفضل، وهذا لا شك فيه، وإنما النظر إذا تساويا وانفرد كل منهما بمصلحة ما هو فيه، أيهما أفضل؟ إن فسر الفضل بزيادة الثواب فالقياس يقتضي أن المصالح المتعدية أفضل من القاصرة، فيترجح الغني، وإن فسر بالأشرف بالنسبة إلى صفات النفس، فالذي يحصل لها من التطهير بحسب الفقر أشرف، فيترجح الفقر، ومن ثمة ذهب جمهور الصوفية إلى ترجيح الفقير الصابر.
ومن فوائد الحديث المذكور: أن العالم إذا سئل عن مسألة يقع فيها الخلاف أن يجيب بما يلحق به المفضول درجة الفاضل، ولا يجيب بنفس الفاضل، لئلا يقع الخلاف. ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أجاب بقوله: (ألا أدلكم على أمر تساوونهم فيه) وعدل عن قوله: نعم هو أفضل منكم بذلك. ومنها: المسابقة إلى الأعمال المحصلة للدرجات العالية لمبادرة الأغنياء إلى العمل بما بلغهم، ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم، فيستنبط منه أن قوله: (إلا من عمل)، عام للفقراء والأغنياء، والتأويل بغير ذلك يرد. ومنها: فضل الذكر عقيب الصلوات لأنها أوقات فاضلة ترتجي فيها إجابة الدعاء. ومنها: أن العمل القاصر قد يساوي المتعدي، خلافا لمن قال: إن المتعدي أفضل مطلقا قلت: ومما يؤيده أن الثواب الذي يعطيه الله تعالى لا يستحقه الإنسان بحسب الأذكار، ولا بحسب إعطاء الأموال، إنما هو * (فضل الله يؤتيه من يشاء) * (المائدة: 54، الحديد: 21، والجمعة: 4). ألا ترى إلى ما روي في (الصحيحين): عن أبي هريرة من رواية سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة: (أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم..) الحديث. وفيه: (قال أبو صالح: فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم * (ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء) * (المائدة: 54، الحديد: 21، والجمعة: 4). ومنها: يفهم منه أنه لا بأس أن يغبط الرجل الرجل على ما يفعله من أعمال البر، وأنه يتمنى أن لو فعل مثل ما فعله، ويتسبب في تحصيله لذلك أو لما يقوم مقامه من أعمال البر، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (لا حسد إلا في اثنتين..) الحديث. وأطلق هنا الحسد وأراد به الغبطة، فأما حقيقة الحسد فمذموم، وهو: تمني زوال نعمة المحسود، كحسد إبليس لآدم، عليه الصلاة والسلام، على تفضيل الله له عليه، وأما قوله تعالى: * (ولا تتمنوا ما فضل الله بعضكم على بعض) * (المائدة: 54). فهو تمني ما لا يمكن حصوله مما خص الله غيره به، كتمني النساء ما خص الله به الرجال من الإمامة والأذان، وجعل الطلاق إليهن، وكتمني أحد من هذه الأمة أن يكون نبيا بعدما أخبر الله تعالى أن نبينا، صلى الله عليه وسلم، خاتم الأنبياء.
844 ح دثنا محمد بن يوسف قال حدثنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن وراد كاتب المغيرة بن شعبة قال أملى علي المغيرة بن شعبة في كتاب إلى معاوية إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد..

132
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد بن يوسف الفريابي. الثاني: سفيان الثوري. الثالث: عبد الملك بن عمير، بضم العين، تقدم في: باب أهل العلم أحق بالإمامة. الرابع: وراد، بفتح الواو وتشديد الراء وفي آخره دال مهملة. الخامس: المغيرة بن شعبة.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: أن رجال إسناده كلهم كوفيون ما خلا محمد بن يوسف. وفيه: عن وراد، وفي رواية معتمر بن سليمان عن سفيان عند الإسماعيلي: حدثني وراد.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الاعتصام عن موسى عن أبي عوانة، وفي الرقاق عن علي بن مسلم وفي القدر عن محمد بن سنان وفي الدعوات عن قتيبة وفي الصلاة، وقال الحاكم: عن القاسم. وأخرجه مسلم في الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم وعن أبي بكر وأبي كريب وأحمد بن سنان وعن محمد بن حاتم وعن ابن أبي عمرو عن حامد بن عمرو عن محمد بن المثنى. وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن منصور وعن يعقوب بن إبراهيم وفي اليوم والليلة عن محمد بن قدامة وعن الحسن بن إسماعيل.
ذكر معناه: قوله: (أملى علي المغيرة)، وكان المغيرة إذ ذاك أميرا على الكوفة من قبل معاوية، وعند أبي داود: (كتب معاوية إلى المغيرة: أي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سلم من الصلاة؟ فكتب إليه المغيرة..). وعند ابن خزيمة: (يقول عند انصرافه من الصلاة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ثلاث مرات). وعند السراج: حدثنا زياد بن أيوب حدثنا محمد بن فضيل عن عثمان بن حكيم سمعت محمد بن كعب القرظي سمعت معاوية يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دبر كل صلاة، إذا انصرف: اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد). وفي لفظ: (إن الله لا مؤخر لما قدم، ولا مقدم لما أخر، ولا معطي لما منع ولا مانع لما أعطى، ولا ينفع ذا الجد منك الجد، ومن يرد الله به خيرا يفقهه في الدين). وفي لفظ: (إنه لا مؤخر لما قدمت، ولا مقدم لما أخرت..). الحديث كله بتاء الخطاب. فإن قلت: إن معاوية إذا كان قد سمع هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف يسأل عنه؟ قلت: أراد أن يستثبت ذلك، وينظر هل رواه غيره أو نسي بعض حروفه أو ما أشبه ذلك؟ كما جرى لجابر بن عبد الله في سؤاله عقبة بن عامر عن حديث سمعه، وأراد أن ينظر هل رواه غيره؟ قوله: (في دبر كل صلاة)، بضم الدال المهملة وضم الباء الموحدة وسكونها أي: عقيب كل صلاة مكتوبة، أي: فريضة، وفي رواية أخرى للبخاري: (كان يقولها في دبر كل صلاة)، ولم يقل: مكتوبة. قوله: (لا إله إلا الله..) إلى آخره، كلمة توحيد بالإجماع، وهي مشتملة على النفي والإثبات. فقوله: (لا إله)، نفي الألوهية عن غير الله. وقوله (إلا الله) إثبات الألوهية لله تعالى، وبهاتين الصفتين صار هذا كلمة التوحيد والشهادة. وقد قيل: إن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، وأبو حنيفة يقول: الاستثناء من النفي ليس بإثبات، واستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: (لا نكاح إلا بولي، ولا صلاة إلا بطهور)، فإنه لا يجب تحقق النكاح عند الولي، ولا يجب تحقق الصلاة عند الطهور، لتوقفه على شرائط أخر. وأوردوا عليه بأنه على هذا التقدير لا يكون كلمة التوحيد تاما لأنه يكون المراد منها نفي الألوهية عن غير الله تعالى، ولا يلزم منه إثبات الألوهية لله تعالى، وهذا ليس بتوحيد. والجواب عن هذا: أن معظم الكفار كانوا أشركوا وفي عقولهم وجود الإل
1764; ه ثابت، فسيق لنفي الغير، ثم يلزم منه وجوده تعالى.
ثم إعلم أن: إلا، ههنا بمعنى: غير، وخبر: لا، التي لنفي الجنس محذوف تقديره: لا إله موجود غير الله، ولهذا لم ينتصب إلا الله، لأن المستثنى إنما ينتصب إما وجوبا، وإما جوازا في مواضع مخصوصة، وقد عرف في موضعه، وأما إذا كانت: إلا، للصفة لم يجب النصب فيتبع الموصوف، والموصوف ههنا مرفوع وهو: موجود، فيتبع المستثنى موصوفه. قوله: (وحده)، نصب على الحال، تقديره: ينفرد وحده، فإن قلت: شرط الحال أن تكون نكرة وهذا معرفة؟ قلت: لأجل ذلك أول بما ذكرنا، وذلك كما في قوله: (وأرسلها العراك) أي: أرسل الحمار تعترك العراك. قوله: (لا شريك له)، تأكيد لقوله: (وحده)، لأن المتصف بالوحدانية لا شريك له. قوله: (له الملك)، بضم الميم بعم، وبكسرها يخص، فلذلك قيل: الملك من الملك بالضم، والمالك من الملك بالكسر،

133
وقيل: المالك أبلغ في الوصف لأنه يقال: مالك الدار ومالك الدابة، ولا يقال: ملك إلا لملك من الملوك. وقيل: ملك أبلغ في الوصف لأنك إذا قلت: فلان ملك هذه البلدة يكون كناية عن الولاية دون الملك، وإذا قلت: فلان مالك هذه البلدة كل ذلك عبارة عن الملك الحقيقي. وقال قطرب: الفرق بينهما أن ملكا الملك من الملوك، وأما مالك فهو مالك الملوك، وقد فسر الملك في القرآن على معان مختلفة، والمعنى ههنا: له جميع أصناف المخلوقات. قوله: (وله الحمد)، أي: جميع حمد أهل السماوات والأرض، وجميع أصناف المحامد التي بالأعيان والأعراض، بناء على أن الألف واللام لاستغراق الجنس عندنا، ولما كان الله مالك الملك كله استحق أن تكون جميع المحامد له دون غيره، فلا يجوز أن يحمد غيره. وأما قولهم: حمدت فلانا على صنيعه كذا، أو حمدت الجوهرة على صفائها، فذاك حمد للخالق في الحقيقة، لأن حمد المخلوق على فعل أو صفة حمد للخالق في الحقيقة. قوله: (وهو على كل شيء قدير)، من باب التتميم والتكميل، لأن الله تعالى، لما كانت الوحدانية له والملك له والحمد له، فبالضرورة يكون قادرا على كل شيء، وذكره يكون للتتميم والتكميل، والقدير اسم من أسماء الله تعالى: كالقادر والمقتدر، وله القدرة الكاملة الباهرة في السماوات والأرض قوله: (لما أعطيت) أي: الذي أعطيته، وكذلك التقدير في قوله: (لما منعت) أي: الذي منعته. قوله: (ولا ينفع ذا الجد) الجد، بالفتح: الغنى، كما فسره الحسن البصري على ما يأتي ذكره عن قريب، وكذا قال الخطابي، ويقال: هو الحظ والبخت والعظمة، وكلمة: من، بمعنى البدل، كقول الشاعر:
* فليت لنا من ماء زمزم شربة
* مبردة باتت على الطهيان
*
يريد: ليت لنا بدل ماء زمزم، والطهيان اسم لبرادة. قلت: الطهيان، بفتح الطاء المهملة والهاء والياء آخر الحروف: خشبة يبرد عليها الماء، ويروى:
فليت لنا من ماء حمنان شربة
و: حمنان، بفتح الحاء المهملة وسكون الميم وبالنونين بينهما ألف: اسم موضع. وقال الجوهري: معنى: منك، هنا: عندك، أي: لا ينفع ذا الغنى عندك غناه، إنما ينفعه العمل الصالح. وقال ابن التين: الصحيح عندي أنها ليست للبدل، ولا بمعنى: عند، بل هو كما يقول: لا ينفعك مني شيء إن أنا أردتك بسوء. وقال الزمخشري في (الفائق): من، فيه كما في قولهم: هو من ذاك، أي: بدل ذاك، ومنه قوله تعالى: * (لو نشاء لجعلنا منهم ملائكة) * (الزخرف: 60). أي: المحفوظ لا ينفعه حظه بدلك أي بدل طاعتك، وقال التوربشتي: لا ينفع ذا الغنى منك غناء، وإنما ينفعه العمل بطاعتك. فمعنى: منك، عندك، وقال ابن هشام: من، تأتي على خمسة عشر معنى، فذكر الأول والثاني والثالث والرابع، ثم قال: الخامس البدل نحو: * (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) * (التوبة: 38). * (لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون) * (الزخرف: 60). لأن الملائكة لا تكون من الأنس. ثم قال: (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي: ولا ينفع ذا الحظ حظه من الدنيا بدلك، أي: بدل طاعتك، أو بدل حظك، أي: بدل حظه منك. وقيل: ضمن: ينفع، بمعنى: يمنع، ومتى علقت من بالجد انعكس المعنى. وقال ابن دقيق العيد: قوله: (منك)، يجب أن يتعلق: بينفع، وينبغي أن يكون: ينفع، قد ضمن معنى: يمنع، وما قاربه، ولا يجوز أن يتعلق: منك، بالجد. كما يقال: حظي منك كثير، لأن ذلك نافع. ثم الجد، بفتح الجيم في جميع الروايات، ومعناه: الغنى، كما ذكرناه. وحكى الراغب: قيل: إن المراد بالجد أب الأب، وأب الأم، أي: لا ينفع أحدا نسبه، كقوله تعالى: * (فلا أنساب بينهم) * (المؤمنون: 101). وقال القرطبي: حكي عن ابن عمر والشيباني أنه رواه بالكسر، وقال: معناه لا ينفع ذا الاجتهاد اجتهده، وأنكره الطبري، وقال القزاز في توجيه إنكاره: الاجتهاد في العمل نافع لأن الله قد دعا الخلق إلى ذلك، فكيف لا ينفع عنده؟ قال: فيحتمل أن يكون المراد الاجتهاد في طلب الدنيا وتضييع أمر الآخرة. وقال غيره: لعل المراد إنه: لا ينفع بمجرده ما لم يقارنه القبول، وذلك لا يكون إلا بفضل الله ورحمته. وقال النووي: المشهور الذي عليه الجمهور فتح الجيم، ومعناه: لا ينفع ذا الغنى منك غناه، أو لا ينجيه حظك منه، وإنما ينفعه العمل الصالح.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: استحباب هذا الذكر عقيب الصلوات لما اشتمل عليه من ألفاظ التوحيد، ونسبة الأفعال إلى الله تعالى، والمنع والعطاء، وتمام القدرة وروى ابن خزيمة من حديث أبي بكر: (أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يقول في دبر الصلوات: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر وعذاب القبر). وروى

134
أيضا عن عقبة بن عامر، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إقرأ المعوذات في دبر كل صلاة). وعند النسائي: (إقرأ المعوذتين)، وفي (كتاب اليوم والليلة) لأبي نعيم الأصبهاني: (من قال حين ينصرف من صلاة الغداة، قبل أن يتكلم: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، عشر مرات، أعطي بهن سبع خصال، وكتب له عشر حسنات، ومحي عنه بهن عشر سيئات، ورفع له بهن عشر درجات، وكن له عدل عشر نسمات، وكن له عصمة من الشيطان وحرزا من المكروه، ولا يلحقه في يومه ذلك ذنب إلا الشرك بالله ومن قالهن حين ينصرف من صلاة المغرب أعطي مثل ذلك) وفي لفظ (من قال بعد الفجر ثلاث مرات، وبعد العصر: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو وأتوب إليه، كفرت ذنوبه، وإن كانت مثل زبد البحر). وعن أبي أمامة: (من قرأ آية الكرسي، وقل هو الله أحد، دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت). رواه ابن السني من حديث إسماعيل بن عياش عن داود بن إبراهيم الذهلي عن أبي أمامة. وفي (كتاب عمل اليوم والليلة) لأبي نعيم الحافظ من حديث القاسم عنه: (ما يفوت النبي صلى الله عليه وسلم في دبر صلاة مكتوبة ولا تطوع إلا سمعته يقول: اللهم اغفر لي خطاياي كلها، اللهم إهدني لصالح الأعمال والأخلاق إنه لا يهدي لصالحها ولا يصرف بسيئها إلا أنت) وروى الثعلبي في (تفسيره) من حديث أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوحى الله تعالى إلى موسى، عليه الصلاة والسلام: من داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة أعطيته أجر المتقين وأعمال الصديقين.
فائدة: قد دارت على ألسن الناس زيادة لفظ في حديث الباب، وهو: (ولا راد لما قضيت)، وهذه الزيادة في مسند عبد بن حميد، من رواية معمر عن عبد الملك بن عمير، لكن حذف قوله: (ولا معطي لما منعت).
وقال شعبة عن عبد الملك بهذا
أشار بهذا التعليق إلى أن شعبة أيضا روى الحديث المذكور عن عبد الملك بن عمير، كما رواه سفيان عنه، ووصله السراج في (مسنده): حدثنا معاذ بن المثنى، حدثني أبي عن شعبة عن عبد الملك بن عمير، قال: سمعت ورادا.. إلى آخره.
وقال الحسن الجد: غنى
أي: الحسن البصري، أشار بهذا إلى أن الحسن فسر لفظ. جد، في الحديث: بالغنى. قوله: (جد)، بالرفع بلا تنوين على سبيل الحكاية، وهو مبتدأ وخبره قوله: (غنى)، ووصله ابن أبي حاتم من طريق أبي رجاء، وعبد بن حميد من طريق سليمان التيمي، كلاهما عن الحسن في قوله تعالى: * (وإنه تعالى جد ربنا) * (الجن: 3). قال: غنى ربنا، ووقع في رواية كريمة: قال الحسن: الجد غنى، وهذا الأثر ليس بموجود في أكثر الروايات.
وعن الحكم عن القاسم بن مخيمرة عن وراد بهذا
هذا التعليق وصله السراج والطبراني وابن حبان عن شعبة، قال: حدثني الحكم بن عتيبة عن القاسم بن مخيمرة عن وراد.. إلى آخره كلفظ عبد الملك بن عمير، إلا أنهم قالوا فيه: إذا قضى صلاته وسلم قال.. إلى آخره، وهذا التعليق وقع هكذا مؤخرا عن أثر الحسن. في رواية أبي ذر، وفي رواية كريمة بالعكس، لأن قوله: (عن الحكم) معطوف على قوله: (عن عبد الملك)، وقوله: (قال الحسن: الجد غنى)، معترض بين المعطوف والمعطوف عليه.
156 باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم
أي: هذا باب ترجمة يستقبل الإمام الناس إذا سلم في آخر صلاته.
228 - (حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا جرير بن حازم قال حدثنا أبو رجاء عن سمرة بن جندب. قال كان النبي
إذا صلى صلاة أقبل علينا بوجهه)

135
مطابقته للترجمة ظاهرة لأن الإقبال إليهم بوجهه هو الاستقبال إياهم
(ذكر رجاله) وهم أربعة كلهم قد ذكروا وأبو رجاء بخفة الجيم وبالمد اسمه عمران بن تيم ويقال ابن ملحان العطاردي وفيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه القول في ثلاثة مواضع
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري مقطعا في الصلاة وفي الجنازة وفي البيوع وفي الجهاد وفي بدء الخلق وفي صلاة الليل وفي الأدب عن موسى بن إسماعيل وفي الصلاة وفي أحاديث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وفي التفسير وفي التعبير عن مؤمل بن هشام عن إسماعيل بن علية وأخرجه مسلم في الرؤيا عن محمد بن بشار عن بندار عن وهب بن جرير عن أبيه به مختصرا كما ها هنا وأخرجه الترمذي فيه عن بندار به مختصرا وقال حسن صحيح وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن عبد الأعلى وفي التفسير عن بندار. والحكمة في استقبال المأمومين أن يعلمهم ما كانوا يحتاجون إليه كذا قيل (قلت) فعلى هذا كان ينبغي أن يفعل هذا من كان حاله مثل حال النبي
من قصد التعليم والموعظة وقيل الحكمة فيه تعريف الداخل لأن الصلاة انقضت إذ لو استمر الإمام على حاله لأوهم أنه في التشهد مثلا * -
846 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن زيد بن خالد الجهني أنه قال صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة فلما انصرف أقبل على الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالو الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب وأما من قال بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكوكب..
مطابقته للترجمة في قوله: (فلما انصرف أقبل على الناس) أي: فلما انصرف من الصلاة استقبل الناس
ذكر رجاله: وهم خمسة قد ذكروا غير مرة، وعبيد الله بن عبد الله بتصغير العبد في الابن وتكبيره في الأب.
وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. غير أن صالح بن كيسان صرح بسماعه له من عبيد الله عند أبي عوانة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الاستسقاء عن إسماعيل بن أبي أويس عن مالك، وفي المغازي عن خالد بن مخلد وفي التوحيد عن مسدد مختصرا. وأخرجه مسلم في الإيمان عن يحيى بن يحيى عن مالك به. وأخرجه أبو داود في الطب عن القعنبي به. وأخرجه النسائي في الصلاة وفي اليوم والليلة عن قتيبة وعن محمد بن مسلمة.
ذكر معناه: قوله: (صلى لنا) أي: لأجلنا، ويجوز أن تكون: اللام، بمعنى: الباء، رضي الله تعالى عنه صلى بنا. قوله: (بالحديبية)، بضم الحاء المهملة وفتح الدال المهملة وسكون الياء آخر الحروف وكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف المخففة عند البعض وبتشديدها عند أكثر المحدثين، وفي كتاب (العلل) لعلي المديني: الحجازيون ويخففون الياء والعراقيون من المحدثين يشددونها، وقال ابن الأثير: الحديبية قرية قريبة من مكة سميت ببئر هناك، وهي مخففة، وكثير من المحدثين يشددونها. قلت: الصواب بالتخفيف لأنها تصغير: حدباء، سميت بشجرة هناك حدباء بعضها في الحل وبعضها في الحرم، وهي أبعد أطراف الحرم عن البيت، وهي الموضع الذي صد فيه المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن زيارة البيت. وفي الحديبية كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة. قال الرشاطي: وفي كتاب البخاري، قال الليث: عن يحيى عن ابن المسيب، قال: وقعت الفتنة الأولى يعني: بقتل عثمان، رضي الله تعالى عنه فلم تبق من أصحاب بدر واحدا، ثم وقعت الثانية، يعني الحرة، فلم تبق من أصحاب الحديبية أحدا، ثم وقعت الثالثة فلم ترتفع وللناس طباخ. قلت: الطباخ، بفتح الطاء المهملة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف خاء معجمة، وأصل الطباخ: القوة والسمن، ثم استعمل في غيره، فقيل: فلان لا طباخ له، أي: لا عقل له ولا خير عنده، والمعنى ههنا، أن الفتنة الثالثة لم تبق في الناس

136
من الصحابة أحدا، وكانت غزوة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة بلا خلاف، وممن نص على ذلك الزهري ونافع مولى ابن عمر وقتادة وموسى بن عقبة ومحمد بن إسحاق. قوله: (على إثر سماء)، بكسر الهمزة وسكون الثاء المثلثة على المشهور، وروي، بأثر سماء، بفتح الهمزة وفتح الثاء أيضا، وهو: ما يكون عقيب الشيء، والمراد من السماء: المطر، وأطلق عليها: سماء، لكونها تنزل من جهة السماء، وكل جهة علو تسمى: سماء. قوله: (كانت من الليل)، كذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية المستملي والحموي: (من الليلة) بالإفراد، والسماء تذكر وتؤنث إذا لم يرد بها المطر. فإن قلت: ههنا قد أريد بها المطر، فكان ينبغي أن تذكر؟ قلت: ذاك على لفظها لا معناها. قوله: (فلما انصرف) أي: من صلاته. قوله: (هل تدرون؟) استفهام على سبيل التنبيه، ووقع عند النسائي في رواية سفيان عن صالح: (ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة؟) وهذا من الأحاديث القدسية. قوله: (أصبح من عبادي)، هذه الإضافة فيه تدل على العموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر، بخلاف مثل الإضافة في قوله: * (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) * (الحجر: 42، والإسراء: 65). فإن الإضافة فيه للتشريف. قوله: (مؤمن بي وكافر)، يحتمل أن يكون المراد من الكفر كفر الشرك بقرينة مقابلته بالإيمان، ويقوي هذا ما رواه أحمد من رواية نصر بن عاصم الليثي عن معاوية الليثي مرفوعا: (يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقا من رزقه، فيصبحون مشركين يقولون: مطرنا بنوء كذا). وعن هذا قال القرطبي: معناه الكفر الحقيقي، لأنه
قابله بالإيمان حقيقة، وذاك في حق من اعتقد أن المطر من فعل الكواكب، ويحتمل أن يكون المراد به كفر النعمة إذا اعتقد أن الله تعالى هو الذي خلق المطر واخترعه، ثم تكلم بهذا القول، فهو مخطىء لا كافر، وخطؤه من وجهين: الأول: مخالفته للشرع. والثاني: تشبهه بأهل الكفر في قولهم، وذلك لا يجوز، لأنا أمرنا بمخالفتهم. فقال: (خالفوا المشركين وخالفوا اليهود)، ونهينا عن التشبه بهم، وذلك يقتضي الأمر بمخالفتهم في الأفعال والأقوال، فلو قال: نظير هذا اللفظ الممنوع منه يريد الإخبار عما أجرى الله به سنته جاز، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة). قوله: (بنوء كذا وكذا)، النوء، بفتح النون وسكون الواو وفي آخره همزة، قال الخطابي: النوء: الكوكب، ولذلك سموا نجوم منازل القمر: الأنواء، وإنما سمي النجم نوأ لأنه ينوء طالعا عند مغيب مقابله ناحية المغرب. وقال ابن الصلاح: النوء في أصله ليس نفس الكوكب، فإنه مصدر: ناء النجم إذا سقط وغاب، وقيل: أي نهض وطلع. وقال أبو عبيد: الأنواء ثمانية وعشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها، يسقط منها في كل ثلاث عشرة ليلة نجم في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر مقابله في المشرق من ساعته، وإنما سمي نوأ لأنه إذا سقط الساقط ناء الطالع، وذلك النهوض هو النوء، وانقضاء هذه الثمانية والعشرين مع انقضاء السنة، وكانت العرب في الجاهلية إذا سقط منها نجم وطلع آخر يقولون: لا بد أن يكون عند ذلك مطر أو ريح فيقولون: مطرنا بنوء كذا، أي: المطر كان من أجل أن الكوكب ناء، وأنه هو الذي هاجه. وقال ابن الأعرابي: الساقطة منها في المغرب هي: الأنواء، والطالعة منها هي: البوارح، وقال صاحب (المطالع): وقد أجاز العلماء أن يقال: مطرنا في نوء كذا، ولا يقال بنوء كذا، ويحكى عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقول: مطرنا بنوء الله تعالى، وفي رواية: مطرنا بنوء الفتح، ثم يتلو: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) * (فاطر: 2). وفي (الأنواء الكبير) لأبي حنيفة: الذي عندي في الحديث أن المطر كان من أجل أن الكوكب ناء، وأنه هو الذي هاجه. وأما من زعم أن الغيث يحصل عند سقوط الثريا فهذا، وما أشبهه، إنما هو إعلام للأوقات والفصول، وليس من وقت ولا زمن إلا وهو معروف بنوع من مرافق العباد يكون فيه دون غيره، وقد قال عمر للعباس، رضي الله تعالى عنهما، وهو يستسقي بالناس: يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم! كم بقي علينا من نوء الثريا؟ فإن العلماء يزعمون أنها تعترض بالأفق سبعا. قال ابن عباس، رضي الله تعالى عنه: لأمر أخطأ الله نوأها، يريد أخطأها الغيث، فلو لم يدلك على افتراق المذهبين في ذكر الأنواء، إلا هذان الخبران لكفى بهما دليلا. قوله: (مطرنا بنوء كدا وكذا) قد عرف أن كذا يرد على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون كلمتين باقيتين على أصلهما وهما: كاف، التشبيه. و: ذا، الإشارية، كقولك: رأيت زيدا فاضلا، ورأيت عمرا كذا، ويدخل عليها: هاء التنبيه كقوله تعالى: * (هكذا عرشك) * (النمل: 42). الثاني: أن تكون كلمة واحدة مركبة من كلمتين مكنيا بها عن غير عدد، كما جاء في الحديث: أنه يقال للعبد يوم القيامة: (أتذكر يوم كذا وكذا؟ فعلت كذا وكذا؟). والثالث: أن تكون كلمة واحدة مركبة مكنيا بها عن العدد، والذي ههنا من هذا القسم، وفي حديث أبي سعيد، رضي الله تعالى عنه، عند النسائي

137
(مطرنا بنوء المجدح)، بكسر الميم وسكون الجيم وفتح الدال بعدها حاء مهملة. ويقال: بضم أوله، وهو: الدبران، بفتح الدال المهملة وفتح الباء الموحدة بعدها راء، سمي بذلك لاستدباره الثريا، وهو نجم أحمر منير. وقال ابن قتيبة: كل النجوم المذكورة لها نوء، وغير أن بعضها أحمر وأغزر من غيره، ونوء الدبران غير محمود عندهم.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: طرح الإمام المسألة على أصحابه تنبيها لهم أن يتأملوا ما فيها من الدقة. وفيه: أن الله تعالى خلق لكل شيء سببا يضاف إليه، حكم، وفي الحقيقة الفاعل هو الله تعالى القادر على كل شيء. وفيه: أن الناس في الاعتقاد في هذا الباب على نوعين، كما قد بيناه. وفيه: بيان جلالة قدر النبي صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن الله عز وجل بلا واسطة.
847 حدثنا عبد الله سمع يزيد قال أخبرنا حميد عن أنس قال أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة ذات ليلة إلى شطر الليل ثم خرج علينا فلما صلى أقبل علينا بوجهه فقال إن الناس قد صلوا ورقدوا وإنكم لن تزالوا في صلاة ما انتظرتم الصلاة..
مطابقته للترجمة في قوله: (فلما صلى أقبل علينا بوجهه). ورجاله قد مضوا فيما مضى، وعبد الله بن المنير، بضم الميم وكسر النون قد مر في: باب الغسل والوضوء في المخضب، وفي بعض النسخ: منير، بدون الألف واللام، لأن الاسم إذا كان في الأصل صفة يجوز فيه الوجهان. وقد مر هذا الحديث في: باب وقت العشاء إلى نصف الليل، أخرجه عن عبد الرحيم المحاربي عن زائدة عن حميد عن أنس، رضي الله تعالى عنه. قوله: (ذات ليلة) لفظ: ذات، مقحم، أو هو من باب إضافة المسمى إلى اسمه، والألف واللام في: الناس، للعهد على غير الحاضرين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (في صلاة) أي: في ثوابها. قوله: (ما انتظرتم) أي: مدة انتظار الصلاة. والمعنى: أن الرجل إذا انتظر الصلاة فكأنه في نفس الصلاة.
157
((باب مكث الإمام في مصلاه بعد السلام))
أي: هذا باب في بيان مكث الإمام، أي: تأخره في مصلاه، أي: في موضعه الذي صلى فيه الفرض بعد السلام، أي: بعد فراغه من الصلاة بالسلام، ثم المكث أعم من أن يكون بذكر أو دعاء أو تعليم علم للجماعة أو لواحد منهم أو صلاة نافلة. ولم يبين البخاري حكم هذا المكث: هل هو مستحب أو مكروه؟ لأجل الاختلاف بين السلف على ما نبينه، إن شاء الله تعالى.
848 وقال لنا آدم حدثنا شعبة عن أيوب عن نافع قال كان ابن عمر يصلي في مكانه الذي صلى في الفريضة
قال الكرماني: قال لنا آدم، ولم يقل: حدثنا آدم، لأنه لم يذكره لهم نقلا وتحميلا، بل مذاكرة ومحاورة، ومرتبته أحط درجة من مرتبة التحديث. وقال بعضهم: هو
محتمل لكنه ليس بمطرد، لأني وجدت كثيرا مما قال فيه: قال لنا، في (الصحيح) قد أخرجه في تصانيف أخرى بصيغة: حدثنا. انتهى. قلت: الصواب ما ذكره الكرماني، أنه من باب المذاكرة، وهكذا قال صاحب (التوضيح): إنه من باب المذاكرة، والكرماني ما ادعى الاطراد فيه حتى يكون هذا محتملا، بل الظاهر منه أنه غير موصول ولا مسند، ولا يلزم من قوله: لأني وجدت كثيرا.. إلى آخره، أن يكون قد أسند أثر ابن عمر هذا في تصنيف آخر غيره بصيغة التحديث، ولهذا قال صاحب (التلويح): هذا التعليق أسنده ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أنه كان يصلي سبحته مكانه.
وقد اختلف العلماء في هذا الباب، فأكثرهم، كما نقله ابن بطال عنهم، على كراهة مكث الإمام إذا كان إماما راتبا، إلا إن يكون مكثه لعلة، كما فعله الشارع. قال: وهو قول الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: كل صلاة يتنفل بعدها يقوم، وما لا يتنفل بعدها كالعصر والصبح فهو مخير، وهو قول أبي مجلز: لاحق بن أبي حميد. وقال أبو محمد من المالكية: ينتقل في الصلوات كلها ليتحقق المأموم أنه لم يبق عليه شيء من سجود السهو ولا غيره، وحكى الشيخ قطب الدين الحلبي في (شرحه) هكذا: عن محمد بن الحسن، وذكره ابن التين أيضا، وذكر ابن أبي شيبة عن ابن مسعود وعائشة،

138
رضي الله تعالى عنهما، قالا: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام). وقال ابن مسعود أيضا: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قضى صلاته انتقل سريعا إما أن يقوم وإما أن ينحرف). وقال سعيد بن جبير: (شرق أو غرب ولا يستقبل القبلة). وقال قتادة: (كان الصديق إذا سلم كان على الرضف حتى ينهض)، وقال ابن عمر: الإمام إذا سلم قام. وقال مجاهد: قال عمر، رضي الله تعالى عنه: جلوس الإمام بعد السلام بدعة. وذهب جماعة من الفقهاء إلى أن الإمام إذا سلم قام، ومن صلى خلفه من المأمومين يجوز لهم القيام قبل قيامه إلا رواية عن الحسن والزهري، ذكره عبد الرزاق. وقال: لا تنصرفوا حتى يقوم الإمام. قال الزهري: إنما جعل الإمام ليؤتم به، وجماعة الناس على خلافهما. وروى ابن شاهين في كتاب (المنسوخ) من حديث سفيان عن سماك: (عن جابر: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة لم يبرح من مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء). ومن حديث ابن جريج عن عطاء (عن ابن عباس: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان ساعة يسلم يقوم، ثم صليت مع أبي بكر، رضي الله تعالى عنه، كان إذا سلم وثب من مكانه، وكأنه يقوم عن رضفة). ثم حمل ابن شاهين الأول على صلاة لا يعقبها نافلة، والثاني على مقابله.
ثم إعلم أن الجمهور على أن الإمام لا يتطوع في مكانه الذي صلى فيه الفريضة، وذكر ابن أبي شيبة عن علي، رضي الله تعالى عنه: لا يتطوع الإمام حتى يتحول من مكان أو يفصل بينهما بكلام، وكرهه ابن عمر للإمام، ولم ير به بأسا لغيره، وعن عبد الله بن عمر ومثله، وعن القاسم: أن الإمام إذا سلم فواسع أن يتنقل في مكانه. قال ابن بطال: ولم أجد لغيره من العلماء. قلت: ذكر ابن التين أنه قول أشهب.
وفعله القاسم
أي: فعل الصلاة النفل في المكان الذي صلى فيه الفريضة القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنهما. وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة: (عن معتمر عن عبيد الله بن عمر قال: رأيت القاسم وسالما يصليان الفريضة ثم يتطوعان في مكانهما).
ويذكر عن أبي هريرة رفعه لا يتطوع الإمام في مكانه ولم يصح
إنما قال: يذكر، بصيغة المجهول من المضارع لأنه صيغة التعليق التمريضي. قوله: (رفعه)، مضاف إلى الفاعل، وهو الضمير الراجع إلى أبي هريرة، وهو مرفوع بأنه مفعول ما لم يسم فاعله. قوله: (لا يتطوع الإمام)، جملة في محل النصب لأنها مفعول المصدر المذكور، أعني قوله: (رفعه). وذكر أبو داود وابن ماجة هذا بالمعنى، فقال أبو داود: حدثنا مسدد أخبرنا حماد وعبد الوارث عن ليث عن الحجاج بن عبيد عن إبراهيم بن إسماعيل عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم؟ قال عن عبد الوارث، أن يتقدم أو يتأخر أو عن يمينة أو عن شماله؟) زاد حماد: في الصلاة، يعني في السبحة. انتهى. يعني في التطوع، وبهذا استدل أصحابنا أن الرجل لا يتطوع في مكان الفرض، واليه ذهب ابن عباس وابن الزبير وأبو سعيد وعطاء والشعبي وقال صاحب المحيط ولا يتطوع في مكان الفرض لقوله صلى الله عليه وسلم: (أيعجز أحدكم إذا فرغ من صلاته أن يتقدم أو يتأخر بسبحته؟) ولأنه ربما يشتبه حاله على الداخل فيحسب أنه في الفرض فيقتدي به في الفرض، وأنه لا يجوز. قوله: (ولم يصح) من كلام البخاري، أي: لم يثبت هذا الحديث لضعف إسناده، لأن فيه إبراهيم بن إسماعيل. قال أبو حاتم: هو مجهول، وتفرد به ليث بن أبي سليم وهو ضعيف، واختلف عليه فيه، ولكن أبا داود لما رواه سكت عنه وسكوته دليل رضاه به. وفي (صحيح مسلم) ما يشده، وهو: أن معاوية، رضي الله تعالى عنه، رأى السائب بن يزيد ابن أخت نمر صلى بعد الجمعة في المقصورة. قال: فلما سلم الإمام قمت في مقامي فصليت، فأرسل إلي: لا تعد لما فعلت، إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمرنا بذلك.
849 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال حدثنا الزهري عن هند بنت الحارث عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم يمكث في مكانه يسيرا. قال ابن شهاب

139
فنرى والله أعلم لكي ينفذ من ينصرف من النساء..
مطابقته للترجمة ظاهرة وهي في قوله: (كان إذا سلم يمكث في مكانه يسيرا).
ذكر رجاله: وهم قد ذكروا غير مرة، والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وهند بنت الحارث، بالثاء المثلثة: تقدمت في: باب التسليم، وقبله في: باب العلم والعظة بالليل. والحديث أيضا مضى في: باب التسليم. قوله: (قال ابن شهاب)، هو الزهري، وهو موصول بالإسناد المذكور، قوله: (فنرى)، بضم النون
أي: نظن أن مكثه، صلى الله عليه وسلم في مكانه كان لأجل أن ينفد النساء المنصرفات من الصلاة إلى مساكنهن.
850 وقال ابن أبي مريم أخبرنا نافع بن يزيد قال أخبرني جعفر بن ربيعة أن شهاب كتب إليه. قال حدثتني هند بنت الحارث الفراسية عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وكانت من صواحباتها قالت كان يسلم فينصرف النساء فيدخلن بيوتهن قبل أن من ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم..
هذا طريق آخر في الحديث المذكور، وهو معلق وصله محمد بن يحيى الذهلي في (الزهريات). قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم فذكره إلى آخره. قوله: (الفراسية)، بكسر الفاء وتخفيف الراء وكسر السين المهملة وتشديد الياء آخر الحروف: نسبة إلى بني فراس، وهم بطن من كنانة، وفراس هو ابن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة. قال ابن دريد: فراس مشتق من الفرس، وهو دق العنق، وهذا كما رأيت ذكرها البخاري في الطريق الأول الموصول بلا نسبة حيث قال: عن هند بنت الحارث عن أم سلمة، وهنا الذي هو الطريق الثاني المعلق ذكرها بنسبتها إلى بني فراس، وذكرها في الطريق الثالث: عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب، كذلك: الفراسية، وذكرها في الطريق الرابع: عن عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري: القرشية في بعض الروايات، وفي أخرى الفراسية، وذكرها في الطريق الخامس: عن الزبيدي عن الزهري: الفراسية، وفي بعضها: القرشية مع زيادة ذكر في وصفها على ما يأتي. وذكرها في الطريق السادس: عن شعيب عن الزهري: القرشية. وقد ذكرها الفراسية في الطريق السابع: عن ابن أبي عتيق عن الزهري. وذكرها في الطريق الثامن: عن الليث عن يحيى بن سعيد عن ابن شهاب عن امرأة من قريش، وأشار البخاري بهذا إلى بيان الاختلاف في نسبة هند بنت الحارث المذكورة، والحاصل أن منهم من قال: الفراسية، ومنهم من قال: القرشية، والتوفيق بينهما من حيث قال: إن كنانة جماع قريش فلا مغايرة بين النسبتين، ومن قال: إن جماع قريش فهر بن مالك فيحمل على أن اجتماع النسبتين لهند يكون إحداهما بطريق الأصالة، والأخرى بطريق المحالفة، وقال الداودي: وليس هذا الاختلاف بمانع من أن تكون: فراسية من بني فراس، ثم من بني فارس، ثم من بني قريش، فنسبت مرة إلى أب من آبائها، ومرة إلى أب آخر، ومرة إلى غيره من آبائها، كما يقال في جابر بن عبد الله السلمي والأنصاري، وسعد بن ساعدة الساعدي والأنصاري، واعترض ابن التين على قول الداودي ثم من بني فارس، وقال: ما علمت له وجها لأن فارس أعجمي، وفراس وقريش عرب، وليس في البخاري ذكر فارس، ثم ذكر عن أبي عمر أنه قال: جعلت قرشية لما حالفها زوجها. قوله: (من صواحباتها) الصواحبات جمع: صواحب، وهو جمع الجمع، وليس بجمع: صاحبة، كما قال بعضهم. قوله: (كان يسلم) أي: النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب أخبرتني هند الفراسية

140
هذا التعليق وصله النسائي عن محمد بن سلمة عن عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد... إلى آخره، ولفظه: (أن النساء كن إذا سلمن قمن، وثبت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم، قام الرجال).
وقال عثمان بن عمر أخبرنا يونس عن الزهري حدثتني هند الفراسية
هذا التعليق وصله البخاري في: باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس، وهو الباب الخامس بعد هذا الباب، رواه عن عبد الله بن محمد عن عثمان بن عمر عن يونس عن الزهري إلى آخره، ففي رواية ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب: أخبرتني، وفي رواية عثمان: عن يونس عن الزهري: حدثتني، وقد ذكرنا الفرق بين اللفظين مستقصى في أوائل الكتاب.
وقال الزبيدي أخبرني الزهري أن هند بنت الحارث القرشية أخبرته وكانت تحت معبد بن المقداد وهو حليف بني زهرة وكانت تدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
الزبيدي، بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف: نسبة إلى زبيد، وهو: منبه بن صعب، وهو: زبيد الأكبر، وإليه ترجع قبائل زبيد. ومن ولده منبه بن ربيعة وهو زبيد الأصغر منهم: محمد بن الوليد الزبيدي هذا وهو صاحب الزهري. وهذا التعليق وصله الطبراني في (مسند الشاميين) من طريق عبد الله بن سالم عنه. وفيه: (أن النساء كن يشهدن الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سلم قام النساء فانصرفن إلى بيوتهن قبل أن يقوم الرجال). قوله: (معبد بن المقداد) معبد، بفتح الميم وسكون العين المهملة وفتح الباء الموحدة وفي آخره دال مهملة. والمقداد، بكسر الميم: ابن الأسود الصحابي. قوله: (وهو حليف) أي: معبد هو حليف لبني زهرة، وكان المقداد حليفا لكندة.
وقال شعيب عن الزهري حدثتني هند القرشية
شعيب هو ابن أبي حمزة، وهذا التعليق وصله محمد بن يحي في (الزهريات).
وقال ابن عتيق عن الزهري عن هند الفراسية
عتيق، بفتح العين المهملة: هو محمد بن عبد الله بن أبي عتيقة، وهذا التعليق أيضا موصول في (الزهريات)، وههنا يروي الزهري بالعنعنة.
وقال الليث حدثني يحيى بن سعيد حدثه عن ابن شهاب عن امرأة من قريش حدثته عن النبي صلى الله عليه وسلم
هذا غير موصول لأن هند بنت الحارث تابعية، وليست بصحابية، وفيه: رواية يحيى بن سعيد الأنصاري عن ابن شهاب من رواية الأقران. قوله: (عن امرأة) هي، هند بنت الحارث، وفي رواية الكشميهني: (أن امرأة من قريش).
158
((باب من صلى بالناس فذكر حاجة فتخطاهم))
أي: هذا باب ترجمته: من صلى بالناس.. إلى آخره، أشار بهذه الترجمة إلى أن المراد من المكث في المصلى بعد السلام في الباب الذي قبله إنما هو إذا لم تكن حاجة تدعو إلى القيام عقيب السلام على الفور، وأما إذا كانت حاجة تدعو إلى القيام من غير مكث يترك المكث كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث هذا الباب.
851 حدثنا محمد بن عبيد قال حدثنا عيسى بن يونس عن عمر بن سعيد قال أخبرني ابن أبي مليكة عن عقبة قال صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة العصر فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجر نسائه ففزع الناس من سرعته فخرج عليهم فرأى أنهم عجبوا من سرعته فقال ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسني فأمرت بقسمته.
مطابقته للترجمة في قوله: (فتخطى رقاب الناس).
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد بن عبيد، بضم العين:

141
ابن ميمون، وهو المشهور بمحمد بن أبي عباد، بفتح العين المهملة: القرشي: الثاني: عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي أحد الأعلام، كان يحج سنة ويغزو سنة، مات سنة سبع وثمانين ومائة بالحدث، بفتح الحاء والدال المهملتين وفي آخره ثاء مثلثة: وهي ثغر بناحية الشام. قلت: هو بلدة بالقرب من مرعش. الثالث: عمر بن سعيد بن أبي حسين المكي. الرابع: عبد الله بن أبي مليكة، الخامس: عقبة بن الحارث النوفلي، وهو أبو سروعة، بكسر السين وفتحها، ويقال بالفتح وضم الراء: أسلم قبل يوم الفتح، وهو الذي تولى قتل خبيب.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار كذلك في موضع واحد. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: ابن أبي مليكة عن عقبة، وفي رواية للبخاري في الزكاة من رواية أبي عاصم: عن عمر بن سعيد أن عقبة بن الحارث حدثه. وفيه: أن رواته ما بين كوفي ومكي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الزكاة وفي الاستئذان عن أبي عاصم النبيل، وفي الصلاة أيضا عن إسحاق بن منصور، وأخرجه النسائي في الصلاة عن أحمد بن بكار الحراني.
ذكر معناه: قوله: (فسلم ثم قام)، هكذا هو في رواية الكشميهني وفي رواية غيره: (فسلم فقام). قوله: (مسرعا)، نصب على الحال. قوله: (فتخطى) أي: فتجاوز، يقال: تخطيت رقاب الناس إذا تجاوزت عليهم، ولا يقال: تخطأت، بالهمزة. قوله: (ففزع الناس) بكسر الزاي أي: خافوا، وكانت تلك عادتهم إذا رأوا منه غير ما يعهدون خشية أن ينزل فيهم شيء يسوؤهم. قوله: (ذكرت شيئا من تبر)، في رواية روح عن عمر بن سعيد في أواخر الصلاة: (ذكرت وأنا في الصلاة)، وفي رواية أبي عاصم: (تبرا من الصدقة)، والتبر، بكسر التاء المثناة من فوق وسكون الباء الموحدة: ما كان من الذهب غير مضروب. وقال ابن دريد: التبر هو الذهب كله، وقيل: هو من الذهب والفضة وجميع جواهر الأرض ما استخرج من المعدن قبل أن يصاغ ويستعمل. وقيل: هو الذهب المكسور، ذكره ابن سيده. وفي كتاب (الاشتقاق) لأبي بكر بن السراج: أملى علينا ثعلب عن الفراء عن الكسائي، فقال: هذا تبر، للذهب المكسور والفضة المكسورة، ولكل ما كان مكسورا من الصفر والنحاس والحديد، وإنما سمي: ذهب المعدن تبرا، لأنه هناك بمنزلة التبرة، وهي عروق تكون بين ظهري الأرض مثل النورة وفيها صلابة، وزعم أصحاب المعدن: أن الذهب في المعدن بهذه المنزلة، كذا حكي عن الأصمعي والمبرد. وقال القزاز: وقيل: يسمى تبرا من التبير، وهو الهلاك والتبار، فكأنه قيل له ذلك لافتراقه في أيدي الناس وتبديده عندهم. وقيل: سمي بذلك لأن صاحبه يلحقه من التغرير ما يوجب هلاكه، وقيل: هو فعل من التبار وهو الهلاك. وفي (الصحاح): لا يقال تبر إلا للذهب، وبعضهم يقول للفضة أيضا. قوله: (يحبسني) أي: يشغلني التفكر فيه عن التوجه والإقبال على الله تعالى. قوله: (فأمرت بقسمته) في رواية أبي عاصم: (فقسمته).
ذكر ما يستفاد منه: فيه: إباحة التخطي رقاب الناس من أجل الضرورة التي لا غنى للناس عنها، كرعاف وحرقة بول أو غائط وما أشبه ذلك. وفيه: السرعة للحاجة المهمة. وفيه: أن التفكر في الصلاة في أمر لا يتعلق بها لا يفسدها ولا ينقص من كمالها. وفيه: جواز الاستنابة مع القدرة على المباشرة. وفيه: أن من حبس صدقة المسلمين من وصية أو زكاة أو شبههما يخاف عليه أن يحبس في القيامة لقوله صلى الله عليه وسلم: (فكرهت أن يحبسني)، يعني: في الآخرة ومنه قال ابن بطال: إن تأخير الصدقة يحبس صاحبها يوم القيامة. وفيه: أنه صلى الله عليه وسلم، كان لا يملك شيئا من الأموال غير الرباع، قاله الداودي.
159
((باب الإنفتال والإنصراف عن اليمين والشمال))
أي: هذا باب في بيان حكم الانفتال في آخر الصلاة، وهو أنه إذا فرغ من الصلاة ينفتل عن يمينة إن شاء أو عن شماله، ولا يتقيد بواحد منهما، كما دل عليه أثر أنس رضي الله تعالى عنه، يقال: فتلت الرجل عن وجهه فانفتل أي: صرفته فانصرف، فقال الجوهري: هو قلب: لفت، وقال: صرفت الرجل عني فانصرف، والذي يفهم من الاستعمال أن الانصراف أعم من الانفتال،

142
لأن في الانفتال لا بد من لفتة بخلاف الانصراف، فإنه يكون بلفتة وبغيرها، والألف واللام في: اليمين والشمال، عوض عن المضاف إليه، أي: عن يمين المصلي وعن شماله.
وكان أنس ينفتل عن يمينه وعن يساره ويعيب على من يتوخى أو من يعمد الانفتال عن يمينه
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهو تعليق وصله مسدد في (مسنده الكبير) من طريق سعيد عن قتادة قال: (كان أنس، رضي الله تعالى عنه، فذكره). وقال فيه: (ويعيب على من يتوخى ذلك أن لا ينفتل إلا عن يمينه، ويقول: يدور كما يدور الحمار). ويدل عليه ما رواه ابن ماجة بسند صحيح: عن عمر بن شعيب عن أبيه عن جده: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفتل عن يمينه وعن يساره في الصلاة). وكذلك ما رواه ابن حبان في (صحيحه) من حديث قبيصة بن هلب عن أبيه قال: (أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ينصرف عن جانبيه جميعا). وأخرجه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال: صح الأمران عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظ أبي داود: حدثنا أبو الوليد الطيالسي حدثنا شعبة عن سماك بن حرب عن قبيصة بن هلب، رجل من طي، عن أبيه أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينصرف مع شقيه، يعني مع جانبي، يعني تارة عن يمينه وتارة عن شماله. ولفظ الترمذي: حدثنا قتيبة حدثنا أبو الأحوص عن سماك بن حرب عن قبيصة بن هلب عن أبيه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤمنا فينصرف على جانبيه على يمينه وشماله) وقال: حديث حسن وعليه العمل عند أهل العلم أنه ينصرف على أي جانبيه شاء إن شاء عن يمينه وإن شاء عن يساره. ويروى عن علي، رضي الله تعالى عنه، أنه قال: إن كانت حاجته عن يمينه أخذ عن يمينه، وإن كانت حاجته عن يساره أخذ عن يساره. وهلب، بضم الهاء وسكون اللام، وقيل: الصواب فيه فتح الهاء وكسر اللام، وذكر بعضهم فيه: ضم الهاء وفتحها وكسرها، واسمه: يزيد بن عدي بن قنافة، ويقال: يزيد بن علي بن قنافة، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقرع، فمسح رأسه فنبت شعره فسمي: هلبا فإن قلت: روى مسلم عن أنس من طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدي، قال: (سألت أنسا: كيف انصرف إذا صليت؟ أعن يميني أو عن يساري؟ قال: أما أنا فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه). فهذا ظاهره يخالف أثر أنس المذكور. قلت: لا نسلم ذلك، لأنه لا يدل على منع الانصراف عن الشمال أيضا. غاية ما في الباب أنه يدل على أن أكثر انصرافه صلى الله عليه وسلم كان عن يمينه، وعيب أنس، رضي الله تعالى عنه، كان على من يتوخى ذلك، أي: يقصد ويتحرى ذلك، فكأنه يرى تحتمه ووجوبه. وأما إذا لم يتوخ ذلك فيستوي فيه الأمران، ولكن جهة اليمين تكون أولى. قوله: (يتوخى)، بتشديد الخاء المعجمة. قوله: (أو يعمد)، شك من الراوي.
852 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة عن سليمان عن عمارة بن عمير عن الأسود قال قال عبد الله لا يجعلن أحدكم للشيطان شيئا من صلاته يرى أن حقا عليه أن لا ينصرف إلا عن يمينه لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا ينصرف عن يساره (الحديث رقم (853) في صفحة 147).
مطابقته للترجمة من حيث أنه يدل على جواز الانصراف عقيب السلام من الصلاة من الجانبين، أما من جانب اليسار فصريح في ذلك، وأما من جانب اليمين فبقوله: (لا يجعلن أحدكم..) إلى آخره.
ذكر رجاله: وهم ستة: أبو الوليد هشام ابن عبد الملك، وشعبة بن الحجاج، وسليمان الأعمش، وعمارة، بضم العين وتخفيف الميم: ابن عمير، مصغر عمرو، والأسود بن يزيد النخعي، وعبد الله بن مسعود.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. والإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. رضي الله تعالى عنه عن عمارة وفي رواية أبي داود الطيالسي، عن شعبة عن الأعمش سمعت عمارة بن عمير. وفيه: ثلاثة من التابعين وهم: سليمان وعمارة والأسود كلهم كوفيون، وشعبة واسطي، وأبو الوليد شيخ البخاري بصري.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وعن إسحاق بن إبراهيم وعن علي بن خشرم، وأخرجه أبو داود في الصلاة أيضا عن مسلم بن إبراهيم عن شعبة. وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي. وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد عن وكيع وعن أبي بكر بن خلاد.

143
ذكر معناه: قوله: (لا يجعلن)، بنون التأكيد في رواية الكشميهني، وفي رواية غيره: (لا يجعل)، بدون النون. قوله: (شيئا من صلاته)، وفي رواية مسلم: (جزءا من صلاته). قوله: (يرى) بفتح الياء آخر الحروف بمعنى: يعتقد أو يرى، بضم الياء بمعنى: يظن، ووجه ارتباط هذه الجملة بما قبلها هو إما أن يكون بيانا للجعل، أو يكون استئنافا تقديره: كيف يجعل للشيطان من صلاته؟ فقال: يرى أن حقا عليه إلى آخره. قوله: (حقا) منصوب لأنه اسم، أن، قوله: (أن لا ينصرف) في محل الرفع على أنه خبر: أن، والمعنى: يرى أن واجبا عليه عدم الانصراف إلا عن يمينه والكرماني تكلف ههنا فقال: أن لا ينصرف، معرفة إذ تقديره: عدم الانصراف، فكيف وقع خبرا لأن واسمه نكرة؟ ثم أجاب بأن النكرة المخصوصة كالمعرفة، أو أنه من باب القلب، أي: يرى أن عدم الانصراف حق عليه انتهى. قلت: هذا تعسف، وظاهر الإعراب هو الذي ذكرته. وقال الكرماني: وفي بعض الروايات: أن، بغير التشديد فهي إما مخففة من الثقيلة، وحقا، مفعول مطلق. وفعله محذوف أي: قد حق حقا. وأن لا ينصرف، فاعل الفعل المقدر. وإما مصدرية. قلت: لم تصح رواية التخفيف حتى يوجه بهذا التوجيه. قوله: (كثيرا ينصرف عن يساره) انتصاب كثير على أنه صفة لصدر رأيت محذوفا. وقوله: (ينصرف) جملة حالية وفي رواية مسلم: (أكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن شماله). فإن قلت: روى مسلم عن أنس أنه قال: (أما أنا فأكثر ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينصرف عن يمينه)، وبينهما تعارض، لأن كلا منهما قد عبر بصيغة أفعل. قلت: قال النووي: يجمع بينهما بأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل تارة هذا وتارة هذا، فأخبر كل منهما بما اعتقد أنه الأكثر، وإنما كره ابن مسعود أن يعتقد وجوب الانصراف عن اليمين، وقد مر الكلام في حكم هذا الباب عن قريب مستقصى.
160
((باب ما جاء في الثوم النيء والبصعل والكراث وقول النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم أو البصل من الجوع أو غيره فلا يقربن مسجدنا))
أي: هذا باب في بيان ما جاء في أكل الثوم النيء وأكل البصل، والكراث. الثوم، بضم الثاء المثلثة. وقوله: (النىء)، بالجر: صفته أي: غير النضيج، هو بكسر النون بعدها ياء آخر الحروف ثم همزة. وقد تدغم الياء. قوله: (والبصل) أي: وما جاء في البصل. قوله: (والكراث)، أي: وما جاء في الكراث، وهو بضم الكاف وتشديد الراء. قوله: (وقول النبي صلى الله عليه وسلم) بالجر عطفا على قوله: (ما جاء)، أي: وما جاء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أكل البصل..) إلى آخره، وهذا أيضا، من جملة الترجمة وليس لفظ الحديث هكذا، بل هذا من تصرف البخاري وتجويزه، نقل الحديث بالمعنى. فإن قلت: ليس في أحاديث الباب ذكر الكراث فلم ذكره في الترجمة؟ قلت: قال بعضهم: كأنه أشار به إلى ما وقع في بعض طرق حديث جابر، وهذا أولى من قول بعضهم: إنه قاسه على البصل. انتهى. قلت: روى مسلم في (صحيحه) من حديث جابر قال: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الحاجة فأكلنا منه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أكل من هذه الشجرة المنتنة فلا يقربن مسجدنا). وفي (مسند الحميدي) بإسناد على شرط الصحيح: (سئل جابر عن الثوم فقال: ما كان بأرضنا يومئذ ثوم، إنما الذي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه البصل والكراث). وفي (مسند السراج): (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الكراث فلم ينتهوا، ثم لم يجدوا بدا من أكلها فوجد ريحها، فقال: ألم أنهكم..؟) الحديث. فالكراث إن لم يذكر صريحا في أحاديث الباب فيمكن أن نقول: إنه مذكور دلالة، فإن حديث جابر الذي يأتي فيه: (وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا..) الحديث، يدل على أن من جملة الخضرات التي لها ريح هو الكراث، وهو أيضا من البقول، فحينئذ تقع المطابقة بينه وبين قوله في الترجمة: والكراث، ووجود التطابق بين التراجم والأحاديث لا يلزم أن يكون صريحا دائما، يظهر ذلك بالتأمل، وهذا التوجيه أقرب من قول هذا القائل، كأنه أشار به إلى ما وقع في بعض طرق حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، وقوله: هذا أولى من قول بعضهم، أنه قاسه على البصل، أراد به صاحب (التوضيح) فإنه قاله هكذا، وهذا أبعد من الذي قاله. فإن قلت: قوله من الجوع لم يذكر صريحا في أحاديث الباب؟ قلت: لم يقع هذا إلا في كلام الصحابي، وهو في حديث جابر الذي ذكرناه الآن، وفيه: (فغلبتنا الحاجة)، ومن جملة الحاجة: الجوع، وأصرح منه ما وقع في حديث أبي سعيد: (لم نعد أن فتحت خيبر فوقعنا في هذه البقلة والناس

144
جياع)، الحديث رواه البيهقي وزعم أنه عند مسلم. قوله: (أو غيره)، أي: أو غير الجوع، مثل الأكل بالتشهي والتأدم بالخبز.
854 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عطاء قال سمعت جابر بن عبد الله قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من أكل من هاذه الشجرة يريد الثوم فلا يغشانا في مساجدنا قلت ما يعني به قال ما أراه يعني إلا نيئه. وقال مخلد بن يزيد عن ابن جريج إلا نتنه.
مطابقته للترجمة في قوله: (ما جاء في الثوم).
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر ابن اليمان أبو جعفر الجعفي البخاري المعروف بالمسندي، وإنما عرف به لأنه كان وقت الطلب يتتبع الأحاديث المسندة ولا يرغب في المقاطيع والمراسيل، مات في ذي القعدة سنة تسع وعشرين ومائتين. الثاني: أبو عاصم النبيل، واسمه الضحاك بن مخلد. الثالث: عبد الملك بن جريج. الرابع: عطاء ابن أبي رباح. الخامس: جابر بن عبد الله الأنصاري، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع أيضا في موضعين وبصيغة الإفراد من الماضي في موضع. وفيه: السماع. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين بخاري وبصري ومكي. وفيه: أن شيخه المسندي من أفراده. وفيه: أن أبا عاصم أيضا شيخه. فإنه روى عنه بواسطة، ويروي عنه أيضا بلا واسطة.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن محمد بن حاتم، وعن إسحاق بن إبراهيم، وعن محمد ابن رافع. وأخرجه الترمذي في الأطعمة عن إسحاق بن منصور. وأخرجه النسائي في الصلاة وفي الوليمة عن إسحاق بن منصور به، وعن محمد بن عبد الأعلى. ولما روى الترمذي حديث جابر هذا قال: وفي الباب عن عمرو أبي أيوب وأبي هريرة وأبي سعيد وجابر بن سمرة وقرة وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم. قلت: وفي الباب أيضا عن حذيفة وأبي ثعلبة الخشني والمغيرة بن شعبة وعلي وأنس وعبد الله بن زيد، رضي الله تعالى عنهم. فحديث عمر عند مسلم وغيره، وحديث أبي أيوب عند الترمذي، وحديث أبي هريرة عند مسلم، وحديث أبي سعيد عن مسلم أيضا، وحديث جابر بن سمرة عند الترمذي، وحديث قرة عند البيهقي، وحديث ابن عمر عند البخاري، ومسلم، وحديث حذيفة عند ابن حبان، وحديث أبي ثعلبة عند الطبراني في (الأوسط) وحديث المغيرة عند الترمذي، وحديث علي، رضي الله تعالى عنه، عند أبي نعيم في (الحلية): وحديث أنس عند البخاري وغيره، وحديث عبد الله بن زيد عند الطبراني.
ذكر معناه: قوله: (من هذه الشجرة) الشجرة واحدة الشجر والشجر النبات الذي له ساق، والنجم النبات الذي ينجم في الأرض لا ساق له كالبقول، ويقال عند العرب: كل شيء ينبت له أرومة في الأرض يخلف ما قطع من ظاهرها فهو شجر، وما ليس لها أرومة تبقى فهو نجم، والأرومة الأصل، فإن قلت: على ما ذكر كيف أطلق الشجر على الثوم ونحوه؟ قلت: قد يطلق كل منهما على الآخر، وتكلم أفصح الفصحاء به من أقوى الدلائل. وقال الخطابي، فيه: إنه جعل الثوم من جملة الشجر، والعامة إنما يسمون الشجر ما كان له ساق يحمل أغصانه دون ما يسقط على الأرض. قوله: (فلا يغشانا) من الغشيان، وهو المجيء والإتيان أي: فلا يأتنا، وإنما أثبتت الألف لأن الأصل: فلا يغشنا، كما هو في رواية كذا لأنه أجرى المعتل مجرى الصحيح، كما في قول الشاعر:
* إذا العجوز غضبت فطلق
* ولا ترضاها ولا تملق
*
وإما أن تكون الألف مولدة من إشباع الفتحة بعد سقوط الألف الأصلية بالجزم. قوله: (في مسجدنا) وفي رواية الكشميهني وأبي الوقت: (في مساجدنا)، بصيغة الجمع. قوله: (قلت: ما يعني به؟) أي: ما يقصد القائل هو عطاء ابن أبي رباح، يعني قال عطاء: قلت لجابر، رضي الله تعالى عنه: ما يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم به، أي: بالثوم أنضيجا أم نيا؟ قال جابر:

145
ما أراه، بضم الهمزة أي: ما أظنه صلى الله عليه وسلم يعني أي يقصد نيه، أي: ني الثوم. وقال بعضهم: وأظن السائل ابن جريج والمسؤول عطاء. قلت: الذي قلنا هو الأقرب والأوجه على ما لا يخفى، وبه جزم الكرماني.
قوله: (قال مخلد)، بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة: ابن يزيد من الزيادة أبو الحسن الحراني، مات سنة ثلاث وتسعين ومائة. قوله: (عن ابن جريج) يعني: يروي عن عبد الملك بن جريج: (إلا نتنه) بفتح النونين بينهما تاء مثناة من فوق ساكنة، يعني: قال بدل: نيه نتنه. وهو الرائحة الكريهة، وهذا التعليق يخالف ما رواه جماعة عن ابن جريج، فإن أبا عوانة رواه في (صحيحه) من طريق روح ابن عبادة: عن ابن جريج كما رواه أبو عاصم عن ابن جريج، وكذلك رواه عبد الرزاق عن ابن جريج نحوه، وكذلك رواه أبو نعيم في (المستخرج) من طريق ابن أبي عدي عن ابن جريج، فلفظ الكل: النيء، لا النتن.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: كراهة أكل الثوم النىء، ولا يحرم، أما الكراهة فلرائحته الكريهة، ولهذا قال: (من أكل من هذه الشجرة فلا يغشانا في مسجدنا)، وأما عدم الحرمة فلقوله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر الذي يأتي في هذا الباب: (كل فإني أناجي من لا تناجي). وقال ابن بطال. قوله صلى الله عليه وسلم: (من أكل) يدل على إباحة أكل الثوم، لأنه لفظ يدل على الإباحة، وتعقب بأن هذه الصيغة إنما تعطي الوجود لا الحكم، لأن معناه من وجد منه الأكل، وهو أعم من كونه مباحا أو غير مباح. قلت: فلا حاجة إلى الاستدلال على الإباحة بهذه الطريقة، فإن حديث جابر يدل على إباحته صريحا، وكذلك حديث أبي أيوب. رواه الترمذي: حدثنا محمود بن غيلان حدثنا أبو داود أنبأنا شعبة عن سماك بن حرب سمع جابر بن سمرة يقول: (نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب، وكان إذا أكل طعاما بعث إليه بفضله، فبعث إليه يوما بطعام ولم يأكل منه النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتى أبو أيوب النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فيه الثوم، فقال: يا رسول الله أحرام هو؟ قال: لا، ولكني أكرهه من أجل ريحه). وقال الترمذي أيضا: حدثنا محمد بن حميد حدثنا زيد بن الخباب عن أبي خلدة عن أبي العالية قال: الثوم من طيبات الرزق، وأبو خلدة اسمه: خالد بن دينار، وهو ثقة عند أهل الحديث، وقد أدرك أنس بن مالك وسمع منه، وأبو العالية اسمه: رفيع وهو الرباحي، وهو الذي ذكرنا أكله في الثوم النىء لأجل رائحته، وأما الثوم المطبوخ منه فلا يكره، لما روى أبو داود: حدثنا مسدد قال: حدثنا الجراح أبو وكيع عن أبي إسحاق عن شريك عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: (نهى عن أكل الثوم إلا مطبوخا). وروى أيضا عن حديث معاوية بن قرة عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن هاتين الشجرتين، وقال: من أكلهما فلا يقربن مسجدنا،، وقال: إن كنتم لا بد آكليهما فأميتوهما طبخا). ثم إن حديث الباب في الثوم فقط، وسيجئ حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، في هذا الباب: أن البصل مثل الثوم، وأن الخضرات من البقول التي لها رائحة كذلك، ويدخل فيه الكراث والفجل أيضا، ونص على الفجل في (المعجم الصغير) للطبراني، وذكره مع الثوم والكراث، ونقل ابن التين عن مالك قال: الفجل، إن كان يظهر ريحه فهو كالثوم، وقيده عياض بالجشاء. وفي (التوضيح): وشذ أهل الظاهر فحرموا هذه الأشياء لإفضائها إلى ترك الجماعة، وهي عندهم فرض عين، وتقريره أن يقال: صلاة الجماعة فرض عين، ولا يتم إلا بترك أكلها. وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فترك أكلها واجب، فتكون حراما. قلت: صرح ابن حزم منهم بأن أكلها حلال مع قوله بأن الجماعة فرض عين. وفيه: ترك الإتيان إلى المسجد عند أكل الثوم ونحوه، وهو بعمومه يتناول المجامع: كمصلى العيد والجنازة ومكان الوليمة، وحكم رحبة المسجد حكمه، لأنها منه، وخص القاضي عياض الكراهة بما إذا كان معهم غيرهم، أما إذا كان كلهم أكلوه فلا، ولكن ينبغي احترام الملائكة، وليس المراد بالملائكة الحفظة. قلت: العلة أذى الملائكة وأذى المسلمين، فيختص النهي بالمساجد وما في معناها، ولا يختص بمسجده صلى الله عليه وسلم، بل المساجد كلها سواء عملا برواية: مساجدنا، بالجمع وشذ من خصه بمسجده صلى الله عليه وسلم. ويلحق بما نص عليه في الحديث كل ما له رائحة كريهة من المأكولات وغيرها، وإنما خص الثوم هنا بالذكر، وفي غيره أيضا بالبصل والكراث لكثرة أكلهم بها، وكذلك ألحق بذلك بعضهم من بفيه بخر، أو به جرح له رائحة، وكذلك القصاب والسماك والمجذوم والأبرص أولى بالإلحاق، وصرح بالمجذوم ابن بطال، ونقل عن سحنون، لا أرى الجمعة عليه، واحتج بالحديث. وألحق بالحديث: كل من آذى الناس بلسانه في المسجد، وبه أفتى ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، وهو أصل في نفي كل ما يتأذى به ولا يبعد أن يعذر من كان معذورا بأكل ما له ريح كريهة، لما روى

146
ابن حبان في (صحيحه): عن المغيرة بن شعبة: (انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد مني ريح الثوم فقال من أكل الثوم؟ قال: فأخذت يده فأدخلتها، فوجد صدري معصوبا فقال: إن لك عذرا). وفي رواية الطبراني في (الأوسط): (اشتكيت صدري فأكلته). وفيه: (فلم يعنفه صلى الله عليه وسلم).
855 ح دثنا سعيد بن عفير قال حدثنا ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب زعم عطاء أن جابر بن عبد الله زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا أو قال فليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته وأن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقدر فيه خضرات من بقول فوجد لها ريحا فسأل فأخبر بما فيها من البقول فقال قربوها إلى بعض أصحابه كان معه فلما رآه كره أكلها قال كل فإني أناجي من لا تناجي
مطابقته للترجمة في الثوم والبصل.
ذكر رجاله: وهم ستة: سعيد هو ابن كثير بن عفير أبو عثمان المصري، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري، ويونس بن يزيد وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري وعطاء ابن أبي رباح.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: زعم في موضعين، قال الخطابي: لم يقل زعم على وجه التهمة، لكنه لما كان أمرا مختلفا فيه أتى بلفظ: زعم، لأن هذا اللفظ لا يكاد يستعمل إلا في أمر يرتاب فيه أو يختلف فيه، وقال الكرماني: زعم، أي: قال، لأن الزعم يستعمل للقول المحقق، وفي رواية الأصيلي: عن عطاء، وفي رواية لمسلم من وجه آخر: عن ابن وهب حدثني عطاء، وفي رواية أحمد بن صالح الآتية عن جابر لم يقل: زعم. قلت: دلت هذه الروايات أن: زعم، ههنا بمعنى: قال، كما ذكره الكرماني. وفيه: أن الاثنين الأولين من الرواة مصريان، والثالث والرابع مدنيان والخامس مكي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الاعتصام عن علي بن عبد الله وعن أحمد بن صالح. وأخرجه مسلم في الصلاة عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى. وأخرجه أبو داود في الأطعمة عن أحمد بن صالح. وأخرجه النسائي في الوليمة عن يونس بن عبد الأعلى.
ذكر معناه: قوله: (أو قال: فليعتزل مسجدنا) شك من الراوي، وهو الزهري، ولم تختلف الرواة عنه في ذلك. قوله: (وليقعد) بواو العطف، وفي رواية أبي ذر: (أو ليقعد)، بالشك وهو أخص من الاعتزال، لأنه أعم من أن يكون في البيت أو غيره. قوله: (وأن النبي، صلى الله عليه وسلم)، عطف على الإسناد المذكور، والتقدير: وحدثنا سعيد بن عفير بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم.. فيكون هذا حديثا آخر، وقال بعضهم: وقد تردد البخاري فيه، هل موصول أو مرسل؟ قلت: على التقدير الذي ذكرنا لا تردد فيه أنه موصول، لأن المعطوف في حكم المعطوف عليه. قوله: (أتي بقدر)، بكسر القاف، وهو القدر الذي يطبخ فيه الطعام، ويجوز فيه التذكير والتأنيث. وقال

147
بعضهم: والتأنيث أشهر، لكن الضمير في قوله: (فيه خضرات) يعود إلى الطعام الذي في القدر، فالتقدير: أتي بقدر من طعام فيه خضرات، ولهذا لما أعاد الضمير على القدر أعاده بالتأنيث حيث قال: (فأخبر بما فيها)، وحيث قال: (قربوها) انتهى. قلت: هذا تصرف فيه تعسف فلا يحتاج إلى تطويل الكلام، ولما جاز في القدر التذكير والتأنيث أعاد الضمير إليه تارة بالتذكير وتارة بالتأنيث نظرا إلى جواز الوجهين. قوله: (خضرات)، بضم الخاء وفتح الضاد المعجمتين: جمع خضرة، كذا هو في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره بفتح أوله وكسر ثانيه، وقال ابن التين: رويناه بفتح الخاء وكسر الضاد، وقال ابن قرقول: ضبطه الأصيلي بضم الخاء وفتح الضاد، والمعروف الأول. قوله: (من يقول) كلمة: من، فيه بيانية، ويجوز أن تكون للتبعيض. قوله: (فوجد) أي: النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (فذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: فأخبر) على صيغة المجهول أي: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما في القدر. قوله: (قربوها) الضمير فيه يجوز أن يرجع إلى الخضرات، ويجوز أن يرجع إلى القدر، ويجوز أن يرجع إلى البقول. قوله: (إلى بعض أصحابه). وقال الكرماني: هذا اللفظ نقل بالمعنى، إذ الرسول، صلى الله عليه وسلم، لم يقل بهذه العبارة، بل قال: قربوها إلى فلان، مثلا أو فيه محذوف، أي: قال قربوها مشيرا أو أشار إلى بعض أصحابه. انتهى. وقال بعضهم: والمراد بالبعض أبو أيوب الأنصاري ففي (صحيح مسلم) من حديث أبي أيوب في قصة نزول النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فكان يصنع للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فإذا جيء به إليه..) أي بعد أن يأكل النبي صلى الله عليه وسلم منه، (سأل عن موضع أصابع النبي صلى الله عليه وسلم فصنع ذلك مرة، فقيل له: لم تأكل،، وكان الطعام فيه ثوم، فقال: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا ولكن أكرهه). قلت: ليس فيه دليل على أن المراد من البعض أبو أيوب، لم لا يجوز أن يكون غيره من أصحابه؟ بل الظاهر أنه غيره، لأن رد طعامه إليه فيه ما فيه. فإن قلت: قوله: (كل)، خطاب لأبي أيوب، فذا يدل على أن المراد من البعض أبو أيوب. قلت: لا نسلم ذلك، لأنه يجوز أن يأمر بالتقريب إلى غيره، ويأمر بالأكل معه. على أنه جاء في حديث أم أيوب، (قالت: نزل علينا النبي صلى الله عليه وسلم فتكلفنا له طعاما فيه بعض البقول...) فذكر الحديث نحوه. وقال وفيه: (فكلوا فإني لست كأحد منكم، أخاف أن أوذي صاحبي)، فههنا أمر بالأكل للجماعة، وأبو أيوب منهم، وليس بمتعين. قوله: ((فإني أناجي من لا تناجي) أي: الملائكة، ويوضح ذلك ما رواه ابن خزيمة وابن حبان من وجه آخر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إليه بطعام من خضرات فيه بصل أو كراث، فلم ير فيه أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأبى أن يأكل فقال له: ما منعك؟ قال: لم أر أثر يدك. قال: أستحي من ملائكة الله وليس بمحرم).
ذكر ما يستفاد منه: من ذلك أن البعض استدل به على أن إقامة الفرض بالجماعة ليست بفرض، لأن أكل الثوم ونحوه جائز، ومن لوازمه الشرعية ترك الصلاة بالجماعة، وترك الجماعة في حق آكله جائز، ولازم الجائز جائز. وفيه: ما يدل على أن أكل الثوم ونحوه من الأعذار المرخصة في ترك حضور الجماعة. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون النهي خرج مخرج الزجر عن أكل هذه الأشياء، فلا يقتضي ذلك أن يكون عذرا في ترك الجماعة إلا أن تدعو إلى أكلها ضرورة، وعن هذا قال الخطابي: توهم بعضهم أن أكل الثوم عذر في التخلف عن الجماعة، وإنما هو عقوبة لا يحكم على فاعله إذا حرم فضل الجماعة. قلت: قوله: صلى الله عليه وسلم (قربوها إلى بعض أصحابه) ينفي الزجر. فإن قلت: الزجر متأخر عن الأمر بالتقريب بمدة كثيرة، لأن الأمر بالتقريب كان حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ومن جملة أحاديث الزجر حديث ابن عمر، وهو كان في غزوة خيبر في سنة ست قلت: سلمنا ذلك، ولكن قوله: صلى الله عليه وسلم (وليقعد في بيته) صريح على أن كل هذه الأشياء عذر في التخليف عن الجماعة، وأيضا ههنا علتان: إحداهما: أذى المسلمين. والثانية: أذى الملائكة، فبالنظر إلى العلة الأولى يعذر في ترك
الجماعة وحضور المسجد، وبالنظر إلى الثانية يعذر في ترك حضور المسجد، ولو كان وحده. ومنه: ما استدل به المهلب، وهو قوله: (فإني أناجي من لا تناجي): على أن الملائكة أفضل من البشر، وليس ذلك بصحيح، لأنه لا يلزم من تفضيل بعض أفراد الشيء على بعضه تفضيل الجنس على الجنس، وقد علم في موضعه. ومنه: ما استدل به بعضهم على أن أكل الثوم ونحوه كان حراما على النبي صلى الله عليه وسلم، وليس ذلك بصحيح، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أيوب المذكور: (وليس بمحرم)، يدل بعمومه على عدم التحريم مطلقا.
وقال أحمد بن صالح عن ابن وهب أتي ببدر قال ابن وهب يعني طبقا فيه خضرات

148
ولم يذكر الليث وأبو صفوان عن يونس قصة القدر فلا أدري هو من قول الزهري أو في الحديث
أشار بهذا إلى أن أحمد بن صالح المصري وهو أحد مشايخه، ومن الأفراد قد خالف سعيد بن عفير شيخه الذي روى عنه الحديث المذكور في لفظه: قدر، بالقاف حيث روى عن عبد الله بن وهب، وقال: أتي ببدر، بفتح الباء الموحدة وسكون الدال وفي آخره راء، ومخالفته إياه في هذه اللفظة فقط، ووافقه في بقية الحديث عن ابن وهب.
وقد أخرجه البخاري في الاعتصام وقال: حدثنا أحمد بن صالح، وذكر قول ابن وهب يعني طبقا فيه خضرات وكذا أخرجه أبو داود، ولكن أخر تفسير ابن وهب، فذكره بعد فراغ الحديث. وقال: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب، قال: حدثني عطاء بن أبي رباح أن جابر بن عبد الله، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من أكل ثوما أو بصلا فليعتزلنا، أو فليعتزل مسجدنا، أو ليقعد في بيته، وأنه أتى ببدر فيه خضرات من البقول فوجد لها ريحا، فسأل، فأخبر بما فيها من البقول، فقال: قربوها، إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكلها، قال: فإني أناجي من لا تناجي)، قال أحمد ابن صالح: ببدر، وفسره ابن وهب: بطبق. انتهى. ورجح جماعة من الشراح رواية أحمد بن صالح لكون عبد الله بن وهب فسر البدر بالطبق، فدل على أنه حدث به كذلك، وزعم بعضهم أن لفظة: بقدر، بالقاف تصحيف، لأنها تشعر بالطبخ، وقد ورد الإذن بأكل البقول مطبوخة، بخلاف الطبق فظاهره أن البقول كانت فيه نية. قلت: أخرجه مسلم عن أبي الطاهر وحرملة، كلاهما عن ابن وهب، فقال: بقدر، بالقاف والاستدلال على التصحيف بلفظ: الطبق، لا يتم لأنه يمكن أن ما كان فيه كان مطبوخا، فإنه لا مانع من ذلك. فافهم. وسمي الطبق بالبدر لاستدارته، تشبيها بالقمر عند كماله.
قوله: (ولم يذكر الليث وأبو صفوان عن يونس قصة القدر) أشار بهذا إلى أن الليث بن سعد وأبا صفوان عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن مروان الأموي رويا هذا الحديث عن يونس بن يزيد عن عطاء عن جابر، ولم يذكرا قصة القدر، وأما رواية الليث فإن الذهلي وصلها في (الزهريات) وأما رواية أبي صفوان فوصلها البخاري في الأطعمة عن علي بن المديني عنه، واقتصرا على الحديث الأول. قوله: (ولا أدري) هو من قول الزهري، أو في الحديث، أشار بهذا الكلام إلى أن ذكر قصة القدر هل هو من قول الزهري، بأن يكون مدرجا؟ أو هو مروي في الحديث المذكور؟ وقال الكرماني: لفظ: (لا أدري) يحتمل أن يكون قول ابن وهب أو البخاري أو سعيد بن عفير شيخ البخاري. وقال بعضهم: هو كلام البخاري، ووهم من زعم أنه كلام أحمد بن صالح. قلت: إن كان مراده من هذا الزاعم هو الكرماني فليس كذلك، فإن الكرماني ردد في القول بين الثلاثة المذكورين، ولم يذكر أحمد بن صالح إلا عند قوله: ولم يذكر، قال: ولعله قول أحمد، وإن كان مراده غير الكرماني من الشراح فهو محل الاحتمال، وليس محل الزعم. وقال الكرماني: فإن قلت: ما معنى كونه قول الزهري: أو كونه في الحديث؟ قلت: معناه أن الزهري نقله مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لم يروه يونس عن الليث وأبي صفوان، أو مسندا كما في الحديث، ولهذا نقله ابن وهب عن يونس عن الزهري.
856 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز قال سأل رجل أنسا ما سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول في الثوم فقال قال النبي صلى الله عليه وسلم من أكل من هاذه الشجرة فلا يقربن أو لا يصلين معنا. (الحديث 856 طرفه في: 5451).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: أبو معمر، بفتح الميمين: عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المقعد البصري. الثاني: عبد الوارث بن سعيد العنبري البصري. الثالث: عبد العزيز بن صهيب البناني البصري. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السؤال. وفيه: القول

149
في خمسة مواضع. وفيه: أن رجاله كلهم بصريون. وفيه: ذكر رجل لم يعرف اسمه.
وأخرجه البخاري أيضا في الأطعمة عن مسدد. وأخرجه مسلم في الصلاة عن شيبان.
ذكر معناه: قوله: (ما سمعت؟) بلفظ الخطاب، وكلمة: ما، استفهامية. قوله: (يقول في الثوم) ويروى: (يذكر في الثوم). قوله: (هذه الشجرة)، قد ذكرنا وجه إطلاق الشجرة على الثوم. قوله: (فلا يقربن)، بفتح الراء والباء الموحدة وبنون التأكيد المشددة. قوله: (ولا يصلين)، عطف عليه بنون التأكيد المشددة أيضا. قوله: (معنا)، بسكون العين وفتحها، ومعناه مصاحبا لنا.
ويستفاد منه: أن آكل الثوم لا يقرب أحدا حتى لا يتأذى برائحته، سواء في الصلاة أو خارجها. ويستفاد من قوله: (ولا يصلين معنا) جواز ترك الجماعة في المسجد وغيره، وليس فيه تقييد النهي بالمسجد، ولا تخصيص مسجد النبي، صلى الله عليه وسلم، بذلك.
161
((باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز وصفوفهم))
أي: هذا باب في بيان وضوء الصبيان، ولم يبين ما حكمه: هل هو واجب أو ندب؟ لأنه لو قال: واجب، لاقتضى أن يعاقب الصبي على تركه، وليس كذلك. ولو قال: ندب، لاقتضى صحة صلاته بغير وضوء، وليس كذلك. فأبهم ليسلم من ذلك والصبيان جمع: صبي. قال الجوهري: الصبي الغلام، والجمع: صبية وصبيان، وهو من الواوي، ولم يقولوا: أصبية استغناء بصبية. كما لم يقولوا: أغلمة استغناء بغلمة، وقال في الغلام: الغلام معروف. انتهى. قلت: ما دام الولد في بطن أمه فهو جنين، فإذا ولدته سمي صبيا ما دام رضيعا، فإذا فطم سمي غلاما إلى سبع سنين، ثم يصير يافعا إلى عشر حجج، ثم يصير حزورا إلى خمس عشرة سنة، ثم يصير فمدا إلى خمس وعشرين سنة، ثم يصير عنطنطا إلى ثلاثين سنة، ثم يصير صملا إلى خمسين سنة، ثم يصير شيخا إلى ثمانين سنة، ثم يصير هما بعد ذلك فانيا كبيرا، هكذا ذكر في كتاب (خلق الإنسان) عن الأصمعي وغيره. فإن قلت: روى أبو داود والترمذي وصححه ابن خزيمة والحاكم من طريق عبد الملك بن الربيع بن صبرة عن أبيه عن جده مرفوعا: (علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر). فهذا يدل على أن الصبي يطلق على من سنه سبع سنين، فكيف قيل: المولود سمي صبيا ما دام رضيعا؟ قلت: أفصح الفصحاء أطلق على ابن سبع سنين لفظ الصبي، وهو الذي يقبل، وعن هذا قال الجوهري: الصبي الغلام، وقد ذكرنا الآن أن المولود من حين يفطم يسمى غلاما إلى سبع سنين. قوله: (ومتى يجب عليهم الغسل) وبين ذلك في حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، الآتي عن قريب، فإنه قال: (الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)، فيفهم منه أن الاحتلام هو شرط لوجوب الغسل. فإن قلت: الحديث الذي ذكرته عن أبي داود وغيره يقتضي تعيين وقت الوضوء لتوقف الصلاة عليها: وإن لم يحتلم؟ قلت: لم يقل الجمهور بظاهره، فإنهم قالوا: لا تجب عليه إلا بالبلوغ، وقالوا: إن التعليم بالصلاة والضرب عليها عند عشر سنين للتدريب، وقال بظاهره قوم حتى قالوا: تجب الصلاة على الصبي للأمر بضربه على تركها، وهذه صفة الوجوب، وبه قال أحمد في رواية، والشافعي مال إليه. وقال البيهقي: الحديث المذكور منسوخ بحديث: (رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم). قوله: (والطهور)، من عطف العام على الخاص. قوله: (وحضورهم)، بالجر عطفا على قوله: (وضوء الصبيان)، قوله: (الجماعة) منصور بالمصدر المضاف إلى فاعله و: (العيدين) عطف عليه و: (الجنائز) بالنصب كذلك عطف على ما قبله. قوله: (وصفوفهم) بالجر أيضا، عطف على ما قبله أي: وصفوف الصبيان، والترجمة المذكورة مركبة من ستة أجزاء.
857 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثني غندر قال حدثنا شعبة قال سمعت سليمان الشيباني قال سمعت الشعبي. قال أخبرني من مر مع النبي صلى الله عليه وسلم على قبر منبوذ فأمهم وصفوا عليه فقلت يا أبا عمر و من حدثك فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه..
مطابقته للجزء الأول من الترجمة، وهو وضوء الصبيان، وللجزء الثالث وهو قوله: (وحضورهم الجماعة)، وللجزء السادس وهو

150
قوله: (وصفوفهم)، فإن ابن عباس كان في ذلك الوقت صغيرا طفلا وقد حضر الجماعة ودخل في صفهم وصلى معهم، ولم يكن صلى إلا بوضوء.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: محمد بن المثنى، هو محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن مالك بن أنس الأنصاري البصري. الثاني: غندر، بضم الغين المعجمة وسكون النون وفتح الدال المهملة وفي آخره راء: وهو لقب محمد بن جعفر البصري. الثالث: شعبة بن الحجاج. الرابع: سليمان بن أبي سليمان، واسمه: فيروز أبو إسحاق الشيباني الكوفي. الخامس: عامر الشعبي. السادس: صحابي لم يسم.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: السماع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد من الماضي. وفيه: القول في ستة مواضع. وفيه: أن شيخه منسوب إلى جده. وفيه: أن أحد الرواة مذكور بلقبه. وفيه: صحابي مجهول، ولكن جهالة الصحابي لا تضر صحة الإسناد. وفيه: أن الأولين من رواته بصريان، والثالث واسطي، والرابع كوفي، والخامس كذلك كوفي. وفيه: سليمان مميز بنسبته. وفيه: أن أحدهم يذكر كذلك بنسبته إلى قبيلته. وفيه: رواية التابعي عن التابعي، وهما سليمان والشعبي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الجنائز عن مسلم بن إبراهيم وسليمان ابن حرب وحجاج بن منهال، فرقهم أربعتهم عن شعبة، وفيه أيضا عن موسى بن إسماعيل. وأخرجه مسلم في الجنائز عن محمد ابن المثنى به وعن الحسن بن الربيع وأبي كامل الجحدري وعن إسحاق بن إبراهيم وعن عبيد الله بن معاذ وعن الحسن ابن الربيع ومحمد بن عبد الله بن نمير وعن يحيى بن يحيى وعن محمد بن حاتم وعن إسحاق بن إبراهيم وهارون بن عبد الله وعن أبي غسان محمد بن عمرو الرازي. وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن العلاء به. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع. وأخرجه النسائي فيه عن يعقوب بن إبراهيم وعن إسماعيل بن مسعود. وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد.
ذكر معناه: قوله: (من مر مع النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية الترمذي: حدثنا الشعبي (أخبرني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم)، قوله: (على قبر منبوذ)، بفتح الميم وسكون النون وضم الباء الموحدة وفي آخره ذال معجمة: أي على قبر منفرد عن القبور. وقال ابن الجوزي: وقد رواه قوم: (على قبر منبوذ)، بإضافة: قبر: إلى: منبوذ، وفسروه باللقيط. قال: وهذا ليس بشيء لأن في بعض الألفاظ: (أتى قبرا منبوذا). انتهى. قلت: يؤيد ما قاله رواية الترمذي: (ورأى قبرا منتبذا فصف أصحابه...) الحديث، وفي رواية الصحيح: (على قبر منبوذ)، على أن المنبوذ صفة للقبر، بمعنى: منفرد، كما ذكرنا. وقال الخطابي أيضا: إنه روي على وجهين: يعني بلإضافة والصفة. قال الحافظ الدمياطي: من رواه منونا فيهما على النعت أي: منتبذا عن القبور ناحية، يقال جلست: نبذة، بالفتح والضم أي: ناحية، ويرجع إلى معنى الطرح، فكأنه طرح في غير موضع قبور الناس، ومن رواه بغير تنوين على الإضافة فمعناه: قبر لقيط وولد مطروح،
والرواية الأولى أصح لأنه جاء في بعض طرق البخاري عن ابن عباس في التي كانت تقم المسجد.
ولما روى الترمذي حديث ابن عباس هذا قال: وفي الباب عن أنس وبريدة ويزيد بن ثابت وأبي هريرة وعامر بن ربيعة وأبي قتادة وسهل بن حنيف، رضي الله تعالى عنهم. قلت: وفي الباب أيضا عن جابر وأبي سعيد وأبي أمامة بن سهل. أما حديث أنس، فرواه مسلم عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على قبر)، ورواه ابن ماجة أيضا وزاد (بعدما دفن). وأما حديث بريدة فرواه ابن ماجة من رواية ابن بريدة عن أبيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على ميت بعدما دفن). وأما حديث يزيد بن ثابت، فرواه النسائي وابن ماجة من رواية خارجة بن زيد بن ثابت عن عمه يزيد بن ثابت (أنهم خرجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فرأى قبرا حديثا. قال: ما هذا؟ قالوا: هذه فلانة مولاة أبي فلان..) الحديث، وفيه: (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف الناس خلفه فكبر عليها أربعا). وأما حديث أبي هريرة، فمتفق عليه على ما يجيء إن شاء الله تعالى. وأما حديث عامر بن ربيعة فرواه ابن ماجة عنه (أن امرأة سوداء ماتت...) الحديث وفيه: (قال لأصحابه: صفوا عليها، وصلى عليها)،. وأما حديث أبي قتادة فرواه البيهقي عنه في وفاة البراء بن معرور، وصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على قبره). وأما حديث سهل بن حنيف فرواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عنه (أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأة فكبر أربعا). وأما حديث جابر فرواه النسائي عنه (أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قبر امرأة بعدما دفنت) وأما حديث أبي سعيد فراواه ابن ماجة عنه قال: (كانت سوداء تقم

151
المسجد...) الحديث، وفيه: (فخرج) أي: النبي صلى الله عليه وسلم صلى (بأصحابه فوقف على قبرها فكبر عليها والناس خلفه). وأما حديث أبي أمامة بن سهل فرواه النسائي عنه أنه قال: (مرضت امرأة من أهل العوالي) الحديث وفيه: (فأتى قبرها فصلى عليها فكبر أربعا). قال النووي في الخلاصة: وأبو أمامة له صحبة. وقال شيخنا زين الدين العراقي: له رؤية، وأما الصحبة فلا، وقال الذهبي في كتاب (تجريد الصحابة): أبو أمامة بن سهل بن حنيف اسمه: أسعد سماه، رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثه مرسل.
قوله: (وصفوا عليه) أي: على القبر. قوله: (فقلت: يا با عمرو) أصله يا أبا عمرو، حذفت الهمزة للتخفف، وأبو عمرو كنية الشعبي رحمه الله. قوله: (قال ابن عباس) أي: قال: حدثني ابن عباس، وفاعل قال: هو الذي مر مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: جواز الصلاة على القبر، قال أصحابنا: وإن دفن الميت ولم يصل عليه صلى على قبره، ولا يخرج منه ويصلي عليه ما لم يعلم أنه تفرق، هكذا ذكر في (المبسوط) وهذا يشير إلى أنه إذا شك في تفرقه وتفسخه يصلى عليه، وقد نص الأصحاب على أنه يصلي عليه مع الشك في ذلك، ذكره في (المفيد) و (المزيد) و (جوامع الفقه). وبقولنا: قال الشافعي وأحمد، وهو قول ابن عمر وأبي موسى وعائشة وابن سيرين والأوزاعي. ثم: هل يشترط في جواز الصلاة على قبره كونه مدفونا بعد الغسل؟ فالصحيح أنه يشترط، ورواه ابن سماعة عن محمد أنه: لا يشترط، وهذا الذي ذكرنا إذا دفن بعد الغسل قبل الصلاة عليه، وإذا دفنوه بعد الصلاة عليه ثم ذكروا أنهم لم يغسلوه، فإن لم يهيلوا التراب عليه يخرج ويغسل ويصلى عليه، وإن أهالوا التراب عليه لم يخرج. ثم: هل يصلى عليه ثانيا في القبر؟ ذكر الكرخي أنه: يصلى عليه، وفي (النوادر) عن محمد: القياس أن لا يصلى عليه، وفي الاستحسان: أن يصلى عليه، وفي (المحيط): لو صلى عليه من لا ولاية عليه يصلى على قبره والاعتبار في كونه قبل التفسخ غالب الظن، فإن كان غالب الظن أنه تفسخ لا يصلى عليه، وإلا يصلى عليه. وعن أبي يوسف يصلى عليه إلى ثلاثة أيام. وللشافعية: ستة أوجه: أولها: إلى ثلاثة أيام. ثانيها: إلى شهر كقول أحمد. ثالثها: ما لم يبل جسده. رابعها: يصلى عليه من كان من أهل الصلاة عليه يوم موته خامسها يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه يوم موته يصلي عليه أبدا، فعلى هذا تجوز الصلاة على قبور الصحابة ومن قبلهم اليوم، واتفقوا على تضعيفة. وممن صرح به الماوردي والمحاملي والفوراني والبغوي وإمام الحرمين والغزالي، وقال إسحاق: يصلي القادم من السفر إلى شهر، والحاضر إلى ثلاثة أيام. وقال سحنون من المالكية: لا يصلى على القبر، وقالت المالكية، في جواب الحديث المذكور بأنه: علل الصلاة على القبر في حديث أبي هريرة بأن هذه القبور ممتلئة على أهلها ظلمة، وأن الله ينورها بصلاتي عليهم. قالوا: فاثبت أن تنويرها بصلاته هو عليهم لا بصلاة غيره. وقال ابن حبان: ولو كان خاصا لزجر أصحابه أن يصطفوا خلفه ويصلوا معه على القبر، ففي ترك إنكاره أبين البيان أنه فعل مباح له ولأمته معا. فإن قلت: روى البخاري عن عقبة بن عامر، رضي الله تعالى عنه، أنه صلى الله عليه وسلم صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين؟ قلت: أجاب السرخسي في (المبسوط) وغيره: أن ذلك محمول على الدعاء، ولكنه غير سديد، لأن الطحاوي روى عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوما فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت، والجواب السديد أن أجسادهم لم تبل. وفي (الموطأ): أن عمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كان السيل قد حفر قبرهما وهما من شهداء أحد، فوجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، ولقتلهما ست وأربعون سنة. وفيه: أن اللقيط إذا وجد في بلاد الإسلام كان حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه، ونحوها من أحكام الدين، واستدل به قوم على كراهة الصلاة إلى المقابر لأنه جعل انتباذ القبر عن القبور شرطا في جواز الصلاة، وفيه نظر.
858 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان قال حدثني صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم..
مطابقته الجزء الثاني من الترجمة. وهو قوله: (متى يجب الغسل عليهم).
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: علي

152
بن عبد الله بن جعفر، أبو الحسن الذي يقال له: ابن المديني البصري. الثاني: سفيان بن عيينة. الثالث: صفوان بن سليم، بضم السين المهملة وفتح اللام: الإمام
القدوة ممن يستسقى به، يقولون: إن جبهته ثقبت من كثرة السجود، وكان لا يقبل جوائز السلطان، مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة. الرابع: عطاء بن يسار أبو محمد الهلالي، مولى ميمونة بنت الحارث زوج النبي، صلى الله عليه وسلم، مات سنة ثلاث ومائة. الخامس: أبو سعيد سعد بن مالك الخدري، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين، وبصيغة الإفراد من الماضي في موضع واحد. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده وأنه بصري وسفيان مكي وصفوان وعطاء مدنيان.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الصلاة عن عبد الله بن يوسف والقعنبي، كلاهما عن مالك. وفي الشهادات أيضا عن علي بن عبد الله. وأخرجه مسلم فيه عن يحيى بن يحيى عن مالك به. وأخرجه أبو داود في الطهارة عن القعنبي. وأخرجه النسائي في الصلاة عن قتيبة عن مالك به. وأخرجه ابن ماجة فيه عن سهل بن زنجلة عن سفيان به.
ذكر معناه: قوله: (واجب)، أي: متأكد في حقه، كما يقول الرجل لصاحبه: حقك واجب علي، أي متأكد، لا أن المراد الواجب المحتم المعاقب عليه، وشهد لصحة هذا التأويل أحاديث صحيحة غيره، كحديث سمرة: (من توضأ فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل)، وسيأتي الكلام فيه مبينا. قوله: (على كل محتلم) أي: بالغ مدرك.
ذكر ما يستفاد منه: احتج بظاهر هذا الحديث أهل الظاهر، وقالوا بوجوب غسل الجمعة، ويحكى ذلك عن الحسن البصري وعطاء ابن أبي رباح والمسيب بن رافع. وقال صاحب (الهداية): وقال مالك: لا أعلم أحدا أوجب غسل الجمعة إلا أهل الظاهر، فإنهم أوجبوه. ثم قال: روى ابن وهب عن مالك أنه سئل عن غسل يوم الجمعة أواجب هو؟ قال: حسن وليس بواجب، وهذه الرواية عن مالك تدل على أنه مستحب، وذلك عندهم دون السنة، وأجاب بعض أصحابنا عن هذا الحديث وعن أمثاله التي ظاهرها الوجوب: أنها منسوخة بحديث: (من توضأ فبها ونعمت ومن اغتسل فهو أفضل). فإن قلت: قال ابن الجوزي: أحاديث الوجوب أصح وأقوى، والضعيف لا ينسخ القوي. قلت: هذا الحديث رواه أبو داود في الطهارة، والترمذي والنسائي في الصلاة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، ورواه أحمد في (سننه) والبيهقي كذلك وابن أبي شيبة في (مصنفه) ورواه سبعة من الصحابة وهم: سمرة بن جندب عند أبي داود والترمذي والنسائي، وأنس عند ابن ماجة، وأبو سعيد الخدري عند البيهقي، وأبو هريرة عند البزار في (مسنده)، وجابر عند عبد بن حميد في (مسنده) وعبد الرزاق في مصنفه وإسحاق بن راهويه في (مسنده) وابن عدي في (الكامل) وعبد الرحمن بن سمرة عند الطبراني في (الأوسط) وابن عباس عند البيهقي في (سننه) فإن قلت: أفضلية الغسل على الوضوء تدل على الوجوب وإلا لثبتت المساواة قلت: السنة بعضها أفضل من بعض، فجاز أن يكون الغسل من تلك السنن. فإن قلت: ما ذكرنا مقتض وما ذكرتم ناف فالأول راجح. قلت: قوله: (فبها ونعمت)، نص على السنة، وما ذكرتم يحتمل أن يكون أمر إباحة فالعمل بما ذكرنا أولى.
859 حدثنا علي بن عبد الله قال أخبرنا سفيان عن عمر و قال أخبرني كريب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال بت عند خالتي ميمونة ليلة فنام النبي صلى الله عليه وسلم فلما كان في بعض الليل قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ من شن معلق وضوءا خفيفا يخففه عمر و ويقلله جدا ثم قام يصلي فقمت فتوضأت نحوا مما توضأ ثم جئت فقمت عن يساره فحولني فجعلني عن يمينه ثم صلى ما شاء الله ثم اضطجع حتى نفخ فأتاه المنادي يأذنه بالصلاة فقام معه إلى الصلاة فصلى ولم

153
يتوضأ قلنا إن ناسا يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم تنام عينه ولا ينام قلبه قال عمر و سمعت عبيد بن عمير يقول إن رؤيا الأنبياء وحي ثم قرأ إني أرى في المنام أني أذبحك...
مطابقته للجزء الأول للترجمة، فإن فيه وضوء ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، وهو قوله: (فتوضأت نحوا مما توضأ). وكان إذ ذاك صغيرا، وهذا الحديث بعينه بالإسناد المذكور مضى في أول: باب التخفيف في الوضوء، وعلي بن عبد الله المديني، وسفيان هو ابن عيينة، وعمرو هو ابن دينار، وقد ذكرنا هناك جميع ما يتعلق بهذا الحديث.
860 حدثنا إسماعيل قال حدثني مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ابن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته له فأكل منه فقال قوموا فلاصلي بكم فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم واليتيم معي والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين..
مطابقته للترجمة في قوله: (واليتيم معي)، لأن اليتيم دال على الصبي، إذ لا يتم بعد الاحتلام، وقد مضى هذا الحديث في: باب الصلاة على الحصير، أخرجه هناك: عن عبد الله بن يوسف عن مالك بن أنس، رضي الله تعالى عنه، وههنا أخرجه: عن إسماعيل ابن أبي أويس عن مالك، وقد بينا هناك جميع ما يتعلق به، ومليكة، بضم الميم، وقد مر الكلام فيه هناك مستقصى.
618 ح دثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله ابن عتبة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الإحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى إلى غير جدار فمررت بينع يدي بعض الصف فنزلت وأرسلت الأتان ترتع ودخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي أحد..
مطابقته للجزء الثالث والسادس للترجمة، والثالث في حضور الصبيان الجماعة، والسادس في قوله: (وصفوفهم)، وقد مر الكلام فيه مستقصى في: باب متى يصح سماع الصغير، فإنه أخرجه هناك: عن إسماعيل ابن أبي أويس عن مالك، وههنا: عن عبد الله بن مسلمة القعنبي.
862 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة قالت أعتم النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عياش حدثنا عبد الأعلى قال حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشاء حتى ناداه عمر قد نام النساء والصبيان فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنه ليس أحد من أهل الأرض يصلي هاذه الصلاة غيركم ولم يكن أحد يومئذ يصلي غير أهل المدينة.
مطابقته للترجمة فيما قاله الكرماني في لفظ الصبيان، لأن المراد منهم إما الحاضرون منهم في المسجد لصلاة الجماعة، وإما الغائبون، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل. انتهى. قلت: على تقدير كونهم غائبين لا يحصل المقصود، وقال ابن رشيد، وليس الحديث صريحا في ذلك، يعني في كونهم حاضرين في المسجد، إذ يحتمل أنهم ناموا في البيوت. انتهى. الظاهر من كلام عمر، رضي الله تعالى عنه، أنه شاهد النساء اللاتي حضرن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نمن وصبيانهن معهن، وكونهن في بيوتهن وصبيانهن معهن احتمال بعيد، ولولا فهم البخاري أنهن مع صبيانهن كن حضورا في المسجد لما ذكر هذا الحديث في هذا الباب الذي من

154
أجزاء ترجمته: (وحضورهم)، أي: وحضور الصبيان، كما ذكرنا. وهذا الحديث قد مضى في: باب فضل العشاء، أخرجه هناك: عن يحيى بن بكير عن الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، وأبو اليمان الحكم بن نافع وشعيب ابن أبي حمزة والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب، وقد مضى الكلام هناك فيما يتعلق به. قوله: (أعتم)، أي: أخر حتى اشتدت ظلمة الليل، وهي عتمته. قوله: (غيركم) بالرفع والنصب.
863 ح دثنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا سفيان قال حدثني عبد الرحمان بن عابس سمعت ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال له رجل شهدت الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم ولولا مكاني منه ما شهدته يعني من صغره أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت ثم خطب ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن أن يتصدقن فجعلت المرأة تهوي بيدها إلى علقها تلقي في ثوب بلال ثم أتى هو وبلال البيت..
مطابقته للجزء الأول للترجمة في قوله: (ما شهدته) يعني من صغره.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: عمرو بن علي بن بحر أبو حفص البصري الصيرفي. الثاني: يحيى القطان. الثالث: سفيان الثوري. الرابع: عبد الرحمن بن عابس، بالعين المهملة وبعد الألف باء موحدة وفي آخره سين مهملة: ابن ربيعة النخعي الكوفي، مات سنة عشر ومائة. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبصيغة الإفراد من الماضي في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن رواته ما بين بصري وكوفي.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في العيدين عن مسدد، وفيه عن عمرو بن العاص وعن أحمد بن محمد وفي الاعتصام عن محمد بن كثير. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن محمد بن كثير به. وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي به.
ذكر معناه: قوله: (شهدت) أي: حضرت الخروج إلى مصلى العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم قال: نعم، أي: شهدته. قوله: (ولولا مكاني منه) أي: من النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: لولا قربي ومنزلتي منه صلى الله عليه وسلم ما شهدته. قوله: (يعني من صغره) من كلام الراوي، وكلمة: من، للتعليل، وقال بعضهم: الضمير في: منه، يرجع إلى غير مذكور، وهو الصغر. قلت: هذا تعسف غير مؤد للمراد على ما لا يخفى، قال ابن بطال: يريد به أنه شهد معه النساء، ولولا صغره لم يشهدن معه. قال الكرماني: الأولى أن يقال: معناه لولا تمكني من الصغر وغلبتي عليه ما شهدته، يعني: كان قربه من البلوغ سببا لشهوده، وزاد على الجواب بتفصيل حكاية ما جرى إشعارا بأنه كان مراهقا ضابطا، أو: لولا منزلتي عنده ومقداري لديه لما شهدت لصغري. قوله: (أتي العلم)، بفتح العين واللام: وهو المنار والجبل والراية والعلامة، (وكثير بن الصلت)، هو أبو عبد الله، ولد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وله دار كبيرة بالمدينة قبلة المصلى للعيدين، وكان اسمه: قليلا، فسماه عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: كثيرا، وكان يعد في أهل الحجاز. وقال الذهبي: كثير بن الصلت ابن معدي الكندي، أخو زيد، روى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: أن كثير بن الصلت كان اسمه: قليلا، فسماه النبي صلى الله عليه وسلم: كثيرا، الأصح أن الذي سماه كثيرا عمر بن الخطاب. قوله: (وذكرهن)، بتشديد الكاف من التذكير. قوله: (تهوي بيدها إلى حلقها) أي: تمدها نحوه وتميلها إليه، يقال: أهوى يده وبيده إلى الشيء ليأخذه. قوله: (إلى حلقها)، بفتح اللام جمع: حلقة، وهي الخاتم لا فص له. قوله: (تلقي) من الإلقاء وهو الرمي، وفي رواية أبي داود: (فجعلن النساء يشرن إلى آذانهن وحلوقهن).
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن الصبي إذا ملك نفسه وضبطها عن اللعب وعقل الصلاة وشرع له حضور العيد وغيره. وفيه: المستحب للإمام أن يعظ النساء ويذكرهن إذا حضرن مصلى العيد، ويأمرهن بالصدقة. وفيه: الخطبة في صلاة العيد بعدها، وفي رواية أبي داود: (فصلى ثم خطب)، ولم يذكر أذانا ولا إقامة. قال: ثم أمر بالصدقة. وفيه: المستحب أن يصلى في الصحراء.

155
162
((باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس))
أي: هذا باب في بيان حكم خروج النساء إلى المساجد لأجل الصلاة. قوله: (بالليل) يتعلق بالخروج. قوله: (والغلس)، بفتح الغين المعجمة واللام: بقية ظلمة الليل. فإن قلت: لم يبين حكم هذا الخروج: هل هو جائز أو غير جائز؟ وهل هو لكل النساء أو لنساء مخصوصة؟ قلت: لما كان في هذا الباب خلاف بين الأئمة لم
يجزم بنفي ولا إثبات، وسنذكر الخلاف فيه، إن شاء الله تعالى.
864 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتمة حتى ناداه عمر نام النساء والصبيان فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما ينتظرها أحد غيركم من أهل الأرض ولا يصلى يومئذ إلا بالمدينة وكانوا يصلون العتمة فيما بين أن يغيب الشفق إلى ثلث الليل الأول..
مطابقته للترجمة في قولنا: (نام النساء)، ولولا فهم البخاري أن النساء كن حضورا في المسجد لما وضعه في هذا الباب بهذه الترجمة. وأما الحديث بعين هذا الإسناد فقد مضى في الباب السابق عن أبي اليمان.. إلى آخره، وبينهما بعض التفاوت في المتن.
قوله: (اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعتمة) بفتحتين، أي: أبطأ بها وأخرها. قوله: (الأول)، بالجر صفة الثلث لا الليل، وقد ذكرنا ما يتعلق به من جميع الأشياء، غير أن ههنا الترجمة في خروج النساء إلى المساجد، وقيده بالليل لينبه على أن حكم النهار خلاف الليل. فإن قلت: بعض الأحاديث مطلق. منها: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله). قلت: حمل المطلق في ذلك على المقيد، وبنى البخاري عليه الترجمة، وللعلماء فيه أقوال وتفاصيل. قال صاحب (الهداية): ويكره لهن حضور الجماعات. قالت الشراح: ويعني الشواب منهن. وقوله: الجماعات، يتناول الجمع والأعياد والكسوف والاستسقاء، وعن الشافعي: يباح لهن الخروج. قال أصحابنا: لأن في خروجهن خوف الفتنة وهو سبب للحرام، وما يفضي إلى الحرام فهو حرام، فعلى هذا قولهم: يكره، مرادهم يحرم، لا سيما في هذا الزمان لشيوع الفساد في أهله، قال: لا بأس وللعجوز أن تخرج في الفجر والمغرب والعشاء لحصول الأمن، وهذا عند أبي حنيفة، وعن أبي يوسف ومحمد: يخرجن في الصلوات كلها لأنه لا فتنة فيه لقلة الرغبة، ثم قالوا: إن حضورهن إما للصلوات أو لتكثير الجمع، فروى الحسن عن أبي حنيفة أن خروجهن للصلاة، يقمن في آخر الصفوف فيصلين مع الرجال لأنهن من أهل الجماعة تبعا للرجال، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أن خروجهن لتكثير السواد يقمن في ناحية ولا يصلين لأنه قد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم: مر الحيض بذلك فإنهن لسن من أهل الصلاة.
865 حدثنا عبيد الله بن موسى عن حنظلة عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن..
مطابقته للترجمة من حيث تقييده بالليل، وهو ظاهر.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: عبيد الله بتصغير العبد ابن موسى العبسي الكوفي. الثاني: حنظلة ابن أبي سفيان الجمحي من أهل مكة، واسم أبي سفيان: الأسود بن عبد الرحمن، ولم يذكر أكثر الرواة عن حنظلة. الثالث: سالم بن عبد الله بن عمر. الرابع: عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: أن رواته ما بين كوفي ومكي ومدني.
وأخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن محمد بن عبد الله بن نمير.
قوله: (بالليل)، كذا بهذا القيد في رواية مسلم وغيره، وقد اختلف فيه الزهري عن سالم أيضا، فأورده البخاري في: باب استئذان المرأة زوجها بالخروج

156
إلى المسجد، بغير تقييد بالليل، وكذلك مسلم من رواية يونس ين يزيد، وأحمد من رواية عقيل والسراج من رواية الأوزاعي كلهم عن الزهري بغير ذكر الليل، وقد قلنا: إن المطلق في ذلك محمول على المقيد، وفيه أنه ينبغي أن يأذن لها ولا يمنعها مما فيه منفعتها، وذلك إذا لم يخف الفتنة عليها ولا بها، وقد كان هو الأغلب في ذلك الزمان بخلاف زماننا هذا، فإن الفساد فيه فاش والمفسدون كثيرون. وحديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، الذي يأتي يدل على هذا، وعن مالك: إن هذا الحديث ونحوه محمول على العجائز. وقال النووي: ليس للمرأة خير من بيتها وإن كانت عجوزا. وقال ابن مسعود: المرأة عورة، وأقرب ما تكون إلى الله في قعر بيتها، فإذا خرجت استشرفها الشيطان. وكان ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، يقوم يحصب النساء يوم الجمعة يخرجهن من المسجد. وقال أبو عمرو الشيباني: سمعت ابن مسعود حلف فبالغ في اليمين: ما صلت امرأة صلاة أحب إلى الله تعالى من صلاتها في بيتها إلا في حجة أو عمرة، إلا امرأة قد يئست من البعولة. وقال ابن مسعود لامرأة سألته عن الصلاة في المسجد يوم الجمعة، قال: صلاتك في مخدعك أفضل من صلاتك في بيتك، وصلاتك في بيتك أفضل من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك أفضل من صلاتك في مسجد قومك. وكان إبراهيم يمنع نساءه الجمعة والجماعة. وسئل الحسن البصري عن امرأة حلفت إن خرج زوجها من السجن أن تصلي في كل مسجد تجمع فيه الصلاة بالبصرة ركعتين،، فقال الحسن: تصلي في مسجد قومها لأنها لا تطيق ذلك،، لو أدركها عمر، رضي الله تعالى عنه، لأوجع رأسها.
وفيه إشارة إلى أن الإذن المذكور لغير الواجب، لأنه لو كان واجبا لانتفى معنى الاستئذان، لأن ذلك إنما يتحقق إذا كان المستأذن مخيرا في الإجابة أو الرد.
تابعه شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: تابع عبيد الله بن موسى شعبة بن الحجاج عن سليمان الأعمش عن مجاهد عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وصلها أحمد في (مسنده) قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: أخبرنا شعبة... فذكره.
163
((باب *))
866 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا عثمان بن عمر قال أخبرنا يونس عن الزهري قال حدثتني هند بنت الحارث أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كن إذا سلمن من المكتوبة قمن وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال..
مطابقته للترجمة من حيث إنه يدل على أن النساء كن يخرجن إلى المساجد، ودلالته على ذلك أعم من أن يكون ذلك بالليل أو بالنهار، وعبد الله بن محمد هو المسندي الحافظ البصري، وعثمان بن عمر بن فارس البصري، ويونس بن يزيد والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب. والحديث مضى في: باب التسليم، وقد ذكرنا هناك جميع ما يتعلق به.
قوله: (وثبت) عطف على قوله: (قمن)، أي: كن إذا سلمن ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكانه بعد قيامهن. قوله: (ومن صلى) أي: ثبت أيضا من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال.
867 ح دثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك ح وحدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمان عن عائشة قالت إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس..
مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي خروج النساء إلى المساجد بالليل. وأخرجه من طريقين: الأول: عن عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك عن يحيى إلى آخره، والثاني: عن عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك، وقد مر الحديث في: باب كم تصلي المرأة من الثياب، وفي: باب وقت الفجر، وقد تكلمنا هناك بما فيه الكفاية.
قوله: (إن كان) إن: هذه مخففة من المثقلة أصله: أنه كان، أي: إن الشان، واللام في: (ليصلي) مفتوحة، وهي لام التأكيد. قوله: (متلفعات) حال من النساء أي: متلحفات، من التلفع وهو شد اللفاع

157
وهو ما يغطي الوجه ويتلحف به، والمروط: جمع مرط، بكسر الميم: وهو كساء من صوف أو خز يؤتزر به، والغلس، بفتح اللام: بقية ظلمة الليل.
868 حدثنا محمد بن مسكين قال حدثنا بشر قال أخبرنا الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأقوم إلى الصلاة وأنا أريد أن أطول فيها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه. (انظر الحديث 707).
مطابقته للترجمة تفهم من قوله: (كراهية أن أشق على أمه)، لأنه يدل على حضور النساء إلى المساجد مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أيضا أعم من أن يكون بالليل أو بالنهار، وقد مضى هذا الحديث في: باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، أخرجه هناك: عن إبراهيم بن موسى عن الوليد عن الأوزاعي... إلى آخره، والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمر.
قوله: (فأتجوز)، أي: أخفف. قوله: (كراهية)، نصب على التعليل، أي: لأجل كراهية أن أشق، ويروى مخافة أن أشق، وكلمة: أن، مصدرية، وقد مضى الكلام فيه هناك مستوفى.
250 - (حدثنا عبد الله بن يوسف. قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت لو أدرك رسول الله
ما أحدث النساء لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل قلت لعمرة أو منعن قالت نعم)
مطابقته للترجمة ظاهرة. ورجاله تكرر ذكرهم. وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن القعنبي عن سليمان بن بلال وعن محمد بن المثنى عن عبد الوهاب الثقفي وعن عمرو الناقد عن سفيان بن عيينة وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن أبي خالد الأحمر وعن إسحاق بن إبراهيم عن عيسى بن يونس وأخرجه أبو داود فيه عن القعنبي عن مالك ستتهم عن يحيى بن سعيد به
(ذكر معناه) قوله ' ما أحدث النساء ' في محل النصب على أنه مفعول أدرك أي ما أحدثت من الزينة والطيب وحسن الثياب ونحوها (قلت) لو شاهدت عائشة رضي الله تعالى عنهما ما أحدث نساء هذا الزمان من أنواع البدع والمنكرات لكانت أشد إنكارا ولا سيما نساء مصر فإن فيهن بدعا لا توصف ومنكرات لا تمنع. منها ثيابهن من أنواع الحرير المنسوجة أطرافها من الذهب والمرصعة باللآلىء وأنواع الجواهر وما على رؤوسهن من الأقراص المذهبة المرصعة باللآلىء والجواهر الثمينة والمناديل الحرير المنسوج بالذهب والفضة الممدودة وقمصانهن من أنواع الحرير الواسعة الأكمام جدا السابلة أذيالها على الأرض مقدار أذرع كثيرة بحيث يمكن أن يجعل من قميص واحد ثلاثة قمصان وأكثر ومنها مشيهن في الأسواق في ثياب فاخرة وهن متبخترات متعطرات مائلات متبخترات متزاحمات مع الرجال مكشوفات الوجوه في غالب الأوقات. ومنها ركوبهن على الحمير الغرة وأكمامهن سابلة من الجانبين في أزر رفيعة جدا. ومنها ركوبهن على مراكب في نيل مصر وخلجانها مختلطات بالرجال وبعضهن يغنين بأصوات عالية مطربة والأقداح تدور بينهن. ومنها غلبتهن على الرجال وقهرهن إياهم وحكمهن عليهم بأمور شديدة. ومنهن نساء يبعن المنكرات بالإجهار ويخالطن الرجال فيها. ومنهن قوادات يفسدن الرجال والنساء ويمشين بينهن بما لم يرض به الشرع. ومنهن صنف بغايا قاعدات مترصدات للفساد ومنهن صنف دائرات على أرجلهن يصطدن الرجال. ومنهن نصف سوارق من الدر والحمامات. ومنهن صنف سواحر يسحرن وينفثن في العقد ومنهن بياعات في الأسواق يتعايطن بالرجال. ومنهن دلالات نصابات على النساء. ومنهن صنف نوائح ودفافات يرتكبن هذه الأمور القبيحة بالأجرة. ومنهن مغنيات يغنين بأنواع الملاهي بالأجرة للرجال

158
والنساء ومنهن صنف خطابات يخطبن للرجال نساء لها أزواج بفتن يوقعنها بينهم وغير ذلك من الأصناف الكثيرة الخارجة عن قواعد الشريعة فانظر إلى ما قالت الصديقة رضي الله تعالى عنها من قولها لو أدرك رسول الله
ما أحدثت النساء وليس بين هذا القول وبين وفاة النبي
إلا مدة يسيرة على أن نساء ذلك الزمان ما أحدثن جزأ من ألف جزء مما أحدثت نساء هذا الزمان قوله ' كما منعت نساء بني إسرائيل ' يحتمل أن تكون شريعتهم المنع ويحتمل أن يكون منعن بعد الإباحة ويحتمل غير ذلك مما لا طريق لنا إلى معرفته إلا بالخبر قوله ' قلت لعمرة ' القائل يحيى بن سعيد قوله ' أو منعن ' بهمزة الاستفهام وواو العطف وفعل المجهول والضمير الذي فيه يعود إلى نساء بني إسرائيل قال الكرماني (فإن قلت) من أين علمت عائشة رضي الله تعالى عنها هذه الملازمة والحكم بالمنع وعدمه ليس إلا الله تعالى (قلت) مما شاهدت من القواعد الدينية المقتضية لحسم مواد الفساد والأولى في هذا الباب أن ينظر إلى ما يخشى منه الفساد فيجتنب لإشارته
إلى ذلك بمنع الطيب والتزين لما روى مسلم من حديث زينب امرأة ابن مسعود ' إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيبا ' وروى أبو داود من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال ' لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ولكن ليخرجن وهن تفلات ' وكذلك قيد ذلك في بعض المواضع بالليل ليتحقق الأمن فيه من الفتنة والفساد وبهذا يمنع استدلال بعضهم في المنع مطلقا في قول عائشة لأنها علقته على شرط لم يوجد فقالت لو رأى لمنع فيقال عليه لم ير ولم يمنع على أن عائشة رضي الله تعالى عنها لم تصرح بالمنع وإن كان ظاهر كلامها يقتضي أنها ترى المنع وأيضا فالإحداث لم يقع من الكل بل من بعضهم فإن تعين المنع فيكون في حق من أحدثت لا في حق الكل وقال التيمي فيه دليل على أنه لا ينبغي للنساء أن يخرجن من المساجد إذا حدث في النساء الفساد انتهى (قلت) الذي يعول عليه ما قلناه ولم يحدث الفساد في الكل قوله (تفلات) جمع تفلة بفتح التاء المثناة من فوق وكسر الفاء من التفل وهو سوء الرائحة يقال امرأة تفلة إذا لم تطيب ويقال رجل تفل وامرأة تفلة ومتفال (فإن قلت) لم قال ' لا تمنعوا إماء الله ' ولم يقل لا تمنوا نساءكم (قلت) لأنه لما قال مساجد الله راعى المناسبة فقال (إماء الله) وهو أوقع في النفس من لفظ النساء * -
164
((باب صلاة النساء خلف الرجال))
أي: هذا باب في بيان أن صلاة النساء خلف صفوف الرجال، لأن مبنى أمرهن على الستر وتأخرهن عن الرجال أستر لهن.
875 حدثنا يحيى بن قزعة قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن هند بنت الحارث عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سلم قام النساء حين يقضي تسليمه ويمكث هو في مقامه يسيرا قبل أن يقوم. قال نري والله أعلم أن ذلك كان لكي ينصرف النساء قبل أن يدركهن من الرجال..
مطابقته للترجمة من حيث إن صف النساء لو كان أمام الرجال أو بعضهم للزم من انصرافهن قبل أن يتخطينهم، وذلك منهي عنه. قلت: هذا على مذهبهم، وأما على مذهب الحنفية إذا تقدم صف من النساء على صف من الرجال يفسد ذلك صلاة هؤلاء الصف بتمامه، كما علم من مذهبهم في حكم المحاذاة، وهذا الحديث بعينه مضى في: باب التسليم، أخرجه هناك: عن موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، وههنا: عن يحيى بن قزعة، بالقاف والزاي والعين المهملة المفتوحات، وقد تسكن الزاي: المكي المؤذن عن إبراهيم بن سعد. قوله: (قال نرى) أي: قال الزهري، وهذا إدراج منه. قوله: (قبل أن يدركهن من الرجال)، ويروى: (قبل أن يدركهن أحد من الرجال).
252 - (حدثنا أبو نعيم قال حدثنا ابن عيينة عن إسحاق عن أنس رضي الله عنه قال صلى النبي
في بيت أم سليم فقمت ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا)

159
مطابقته للترجمة في قوله ' وأم سليم خلفنا ' فإنها صلت خلف الرجال وهم أنس ومن معه والحديث مضى في باب المرأة تكون وحدها صفا فإنه أخرجه هناك عن عبد الله بن محمد عن سفيان عن إسحاق عن أنس وههنا عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن سفيان إلى آخره نحوه قوله ' فقمت ' القائل أنس قوله ' ويتيم ' عطف عليه وفيه شاهد لمذهب الكوفيين في إجازة العطف على المرفوع المتصل بدون التأكيد وعلى مذهب البصريين يجب نصب المعطوف على أنه مفعول معه واليتيم المذكور اسمه ضميرة بضم الضاد المعجمة وقد مر في باب الصلاة على الحصير * -
165
((باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد))
أي: هذا باب في سرعة انصراف النساء من صلاة الصبح، وإنما قيدة بالصبح لأنه طول التأخير فيه يفضي إلى الإسفار، فالمناسب هو الإسراع، بخلاف العشاء فإنه يفضي إلى زيادة الظلمة، فلا يضر المكث. قوله: (مقامهن)، بفتح الميم بمعنى: قيامهن، وقلة توقفهن في المسجد خوفا من أن ينتشر الضياء ويعرفن حينئذ.
872 حدثنا يحيى بن موساى قال حدثنا سعيد بن منصور قال حدثنا فليح عن عبد الرحمان بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الصبح بغلس فينصرفن نساء المؤمنين لا يعرفن من الغلس أو لا يعرف بعضهن بعضا..
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مضى الحديث، وأخرجه ههنا: عن يحيى بن موسى البلخي، يقال له: خت، بفتح الخاء المعجمة وتشديد التاء المثناة من فوق. ويقال له: الختي، مات سنة أربعين ومائتين، و سعيد بن منصور من شيوخ البخاري، وقد روى عنه ههنا بالواسطة. قوله: (فينصرفن نساء المؤمنين)، هو علي لغة: أكلوني البراغيث، وهي لغة بني الحارث. وكذا قوله: (لا يعرفن بعضهن بعضا)، وهذا في رواية الحموي والكشميهني، وفي رواية غيرهما: (لا يعرف)، بالإفراد على الأصل. قوله: (المؤمنين) ذكر الكرماني أن في بعض النسخ: نساء المؤمنات، ثم قال: تأويله نساء الأنفس المؤمنات، أو الإضافة بيانية نحو: شجر
الأراك. وقيل: إن النساء بمعنى الفاضلات، أي فاضلات المؤمنات.
قال: وفيه دليل على وجوب قطع الذرائع الداعية إلى الفتنة وطلب إخلاص الفكر، لاشتغال النفس بما جبلت عليه من أمور النساء، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
((باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد))
أي هذا باب في بيان طلب المرأة الإذن من زوجها لأجل الخروج إلى المسجد للصلاة فيه
254 - (حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي
قال إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها)
مطابقته للترجمة ظاهرة (فإن قلت) الترجمة مقيدة بالخروج إلى المسجد والحديث مطلق (قلت) قال الكرماني إما أن تقيد بالحديث السابق قريبا أو أنه لما كان جائزا على الإطلاق فالخروج إلى موضع العبادة بالطريق الأولى (قلت) الحديث السابق هو المذكور في باب خروج النساء إلى المساجد بالليل فالبخاري أخرجه هناك عن عبيد الله بن موسى عن حنظلة عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر عن النبي
قال ' إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن ' وههنا أخرجه عن مسدد إلى آخره على وجه الإطلاق وهذا معناه العموم وفي معنى هذا الإذن للخروج إلى العيد وزيارة قبر ميت لها وإذا كان حق عليهن أن يأذنوا فيما هو مطلق لهن الخروج فيه فالإذن لهن فيما هو فرض عليهن أو يندب الخروج إليه أولى كخروجهن لأداء شهادة له منهن ولأداء فرض الحج وشبهه من الفرائض أو لزيارة آبائهن وأمهاتهن وذوي محارمهن والله أعلم بحقيقة الحال وإليه المرجع والمآل * -
166
((باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد))
أي: هذا باب في بيان طلب المرأة الإذن من زوجها لأجل الخروج إلى المسجد للصلاة فيه.
254 - (حدثنا مسدد قال حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه عن النبي
قال إذا استأذنت امرأة أحدكم فلا يمنعها)
مطابقته للترجمة ظاهرة (فإن قلت) الترجمة مقيدة بالخروج إلى المسجد والحديث مطلق (قلت) قال الكرماني إما أن تقيد بالحديث السابق قريبا أو أنه لما كان جائزا على الإطلاق فالخروج إلى موضع العبادة بالطريق الأولى (قلت) الحديث السابق هو المذكور في باب خروج النساء إلى المساجد بالليل فالبخاري أخرجه هناك عن عبيد الله بن موسى عن حنظلة عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر عن النبي
قال ' إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن ' وههنا أخرجه عن مسدد إلى آخره على وجه الإطلاق وهذا معناه العموم وفي معنى هذا الإذن للخروج إلى العيد وزيارة قبر ميت لها وإذا كان حق عليهن أن يأذنوا فيما هو مطلق لهن الخروج فيه فالإذن لهن فيما هو فرض عليهن أو يندب الخروج إليه أولى كخروجهن لأداء شهادة له منهن ولأداء فرض الحج وشبهه من الفرائض أو لزيارة آبائهن وأمهاتهن وذوي محارمهن والله أعلم بحقيقة الحال وإليه المرجع والمآل * -

160
11
((كتاب الجمعة))
هذا كتاب في بيان أحكام الجمعة، وقد ذكرنا فيما مضى: أن الكتاب يجمع الأبواب، والأبواب تجمع الفصول، وهذه الترجمة ثبتت في رواية الأكثرين، ولكن منهم من قدمها على البسملة، والأصل تقديم البسملة، وليست هذه الترجمة موجودة في رواية كريمة وأبي ذر عن الحموي، وهي، بضم الميم على المشهور، وحكى الواحدي إسكان الميم وفتحها، وقرئ بها في الشواذ، قاله الزمخشري. وقال الزجاج: قرىء بكسرها أيضا وقال الفراء: خففها الأعمش وثقلها عاصم وأهل الحجاز، وقال الأزهري: من ثقل اتبع الضمة الضمة، ومن خفف فعلى الأصل، والقراء قرءوها بالتثقيل. وفي (الموعب) لابن التياني: من قال بالتسكين قال في جمعه جمع، ومن قال بالتثقيل قال في جمعه جمعات.
ثم اختلفوا في تسمية هذا اليوم بالجمعة، فروي عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما، أنه قال: إنما سمي يوم الجمعة لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم، عليه الصلاة والسلام، وروى ابن خزيمة عن سلمان، رضي الله تعالى عنه، مرفوعا: (يا سلمان ما تدري يوم الجمعة؟ قلت: الله أعلم ورسوله أعلم. قال: به جمع أبوك أو أبوكم) وفي (الأمالي) لثعلب: إنما سمي يوم الجمعة لأن قريشا كانت تجتمع إلى قصي في دار الندوة. وقيل: لأن كعب بن لؤي كان يجمع فيه قومه فيذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم، ويخبرهم بأنه سيبعث منه نبي. وروى ذلك الزبير في (كتاب النسب) عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن مقطوعا. وفي كتاب (الداودي): سمي يوم الجمعة يوم القيامة لأن القيامة تقوم فيه الناس. وقال ابن حزم: وهو اسم إسلامي. ولم يكن في الجاهلية، إنما كانت تسمى في الجاهلية: العروبة، فسميت في الإسلام: الجمعة، لأنه يجتمع فيه للصلاة، اسما مأخوذا من الجمع، وفي تفسير عبد بن حميد: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن ابن سيرين قال: جمع أهل المدينة قبل أن يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وقبل أن تنزل الجمعة، وهم الذين سموها: الجمعة. وذلك أن الأنصار قالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وكذا للنصارى، فهلم فلنجهل يوما نجتمع فيه، ونذكر الله ونصلي ونشكره، فاجعلوه يوم العروبة، وكانوا يسمون يوم الجمعة: يوم العروبة، فاجتمعوا إلى أسعد فصلى بهم ركعتين وذكرهم فسموا: الجمعة، حين اجتمعوا إليه، وذبح لهم أسعد شاة فتغدوا وتعشوا من شاة، وذلك لقلتهم، فأنزل الله في ذلك بعد: * (إذا نودي
للصلاة من يوم الجمعة...) (الجمعة: 9). الآية. انتهى. وقال الزجاج والفراء وأبو عبيد وأبو عمرو: كانت العرب العاربة تقول ليوم السبت: شبار، وليوم الأحد: أول، وليوم الاثنين: أهون، وليوم الثلاثاء: جبار، وللأربعاء: دبار، وللخميس: مؤنس، وليوم الجمعة: العروبة، وأول من نقل العروبة إلى يوم الجمعة: كعب بن لؤي، ثم لفظ الجمعة بسكون الميم، بمعنى المفعول أي: اليوم المجموع فيه، وبفتحها بمعنى الفاعل، أي: اليوم الجامع للناس. قال الكرماني: فإن قلت: لم أنث الجمعة وهو صفة اليوم؟ قلت: ليست التاء للتأنيث، بل للمبالغة كما يقال: رجل علامة، أو: هي صفة للساعة.
1 باب فرض الجمعة
أي: هذا باب في بيان فرض الجمعة، واستدل على ذلك بقوله.
لقول الله تعالى * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذالكم خير لكم إن كنتم تعلمون) *
قد قلنا إنه استدل على فرضية صلاة الجمعة بقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) * (الجمعة: 9). الآية، ووقع ذكر الآية عند الأكثرين إلى قوله: * (وذروا البيع) * (الجمعة: 9). وفي رواية كريمة وأبي ذر، ساق جميع الآية. قوله: (* (إذا نودي للصلاة) *) (الجمعة: 9). أراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة، يدل على ذلك ما روى الزهري عن السائب بن يزيد: (كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذن واحد لم يكن له مؤذن غيره، وكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن على المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة، ثم كان أبو بكر، رضي الله تعالى عنه، كذلك وعمر، رضي الله تعالى عنه، كذلك حتى إذا كان عثمان، رضي الله تعالى عنه، وكثر الناس وتباعدت المنازل زاد أذانا، فأمر بالتأذين الأول على دار له بالسوق، يقال

161
له: الزوراء، فكان يؤذن له عليها، فإذا جلس عثمان، رضي الله تعالى عنه، على المنبر أذن مؤذنه الأول، فإذا نزل أقام الصلاة فلم يعب ذلك عليه). قوله: (من يوم)، بيان: لإذا، وتفسير له. وقيل: من يوم الجمعة أي: في يوم الجمعة، كقوله تعالى: * (أروني ماذا خلقوا من الأرض) * (فاطر: 240 والأحقاف: 40). أي: في الأرض قوله: (* (إلى ذكر الله) *) أي: إلى الصلاة، وعن سعيد بن المسيب: فاسعوا إلى ذكر الله إلى موعظة الإمام، وقيل إلى ذكر الله، إلى الخطبة والصلاة. قوله: (وذروا البيع) أي: اتركوا البيع والشراء، لأن البيع يتناول المعنيين جميعا، وإنما يحرم البيع عند الأذان الثاني، وقال الزهري: عند خروج الإمام. وقال الضحاك: إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء، وقيل: أراد الأمر بترك ما يذهل عن ذكر الله من شواغل الدنيا، وإنما خص البيع من بينها لأن يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم وبواديهم وينصبون إلى المصر من كل أوب، ووقت هبوطهم واجتماعهم واغتصاص الأسواق بهم إذا انفتح النهار وتعالى الضحى، ودنا وقت الظهيرة، وحينئذ تحر التجارة ويتكاثر البيع والشراء، فلما كان ذلك الوقت مظنة الذهول بالبيع عن ذكر الله، والمضي إلى المسجد، قيل لهم: بادروا تجارة الآخرة، واتركوا تجارة الدنيا، واسعوا إلى ذكر الله الذي لا شيء أنفع منه وأربح، وذروا البيع الذي نفعه يسير وربحه متقارب. قوله: (ذلكم) الكاف فيه حرف الخطاب، كالتاء في: أنت، وذلك للدلالة على أحوال المخاطبين وعددهم، فإذا أشرت إلى واحد مذكر وخاطبت مثله قلت: ذلك، وإذا خاطبت اثنين قلت: ذلكما، وإذا خاطبت جمعا قلت: ذلكم، وإذا خاطبت إناثا قلت: ذلكن. قوله: (فاسعوا فامضوا)، هذه في رواية أبي ذر الحموي وحده، وهو تفسير منه للمراد بالسعي هنا، بخلاف قوله في الحديث الآخر: (فلا تأتوها تسعون)، فإن المراد به الجري وفي تفسير النسفي: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * (الجمعة: 9). فامضوا إليه واعملوا له، وعن ابن عمر، رضي الله تعالى عنه: سمعت عمر، رضي الله تعالى عنه. يقرأ: فامضوا إلى ذكر الله، وعنه: ما سمعت عمر يقرؤها قط إلا: فامضوا إلى ذكر الله. وروى الأعمش عن إبراهيم: كان عبد الله يقرؤها: فامضوا إلى ذكر الله، ويقول: لو قرأتها: فاسعوا لسعيت حتى يسقط ردائي، وهي قراءة أبي العالية، وعن الحسن: ليس السعي على الأقدام ولقد نهوا أن يأتوا المسجد إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وعن قتادة: أنه كان يقول في هذه الآية: * (فاسعوا) *: أن: تسعى بقلبك وعملك، وهي المشي إليها. وقال الشافعي: السعي في هذا الموضع هو العمل، فإن الله يقول: * (إن سعيكم لشتى) * (الليل: 4). وقال تعالى: * (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى) * (النجم: 39). وقال تعالى) * (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها) *. (البقرة: 205)
[/ ح.
ثم فرضية الجمعة: باكتاب والسنة والإجماع ونوع من المعنى: أما الكتاب: فالآية المذكورة، والمراد من الذكر فيها الخطبة باتفاق المفسرين، والأمر للوجوب، فإذا فرض السعي إلى الخطبة التي هي شرط جواز الصلاة فإلى أصل الصلاة كان أوجب، ثم أكد الوجوب بقوله: (وذروا البيع) فحرم البيع بعد النداء، وتحريم المباح لا يكون إلا من أجل واجب.. وأما السنة: فحديث جابر وأبي سعيد قالا: (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم..). الحديث، وفيه: (واعلموا أن الله فرض عليكم صلاة الجمعة..) الحديث. رواه البيهقي. وروى أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الجمعة على من سمع النداء)، وعن حفصة، رضي الله تعالى عنها، أنه صلى الله عليه وسلم قال: (رواح الجمعة واجب على كل محتلم)، رواه النسائي بإسناد صحيح على شرط مسلم، قاله النووي. وأما الإجماع: فإن الأمة قد أجمعت من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى يومنا هذا على فرضيتها من غير إنكار، لكن اختلفوا في أصل الفرض في هذا الوقت، فقال الشافعي: في الجديد، وزفر ومالك وأحمد ومحمد في رواية: فرض الوقت الجمعة، والظهر بدل عنها. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف الشافعي، في القديم: الفرض هو الظهر، وإنما أمر غير المعذور بإسقاطه بأداء الجمعة. وقال محمد، في رواية: فرضه أحدهما غير عين، والتعيين إليه. وفائدة الخلاف تظهر في حر مقيم أدى الظهر في أول وقته يجوز مطلقا، حتى لو خرج بعد أداء الظهر إليها أو لم يخرج لم يبطل فرضه، لكن عند أبي حنيفة يبطل بمجرد السعي مطلقا،
وعندهما: لا يبطل إلا إذا أدرك، وعند الشافعي ومن معه: لا يجوز ظهره، سواء أدرك الجمعة أو لا، خرج إليها أولا. وأما المعنى فلأنا أمرنا بترك الظهر لإقامة الجمعة، والظهر فريضة ولا يجوز ترك الفرض إلا لفرض هو آكد منه، وأولى، فدل على أن الجمعة آكد من الظهر في الفرضية، فصارت الجمعة فرض عين. وقال الخطابي أكثر الفقهاء على أنها من فروض الكفاية. قال: هذا غلط، وحكى أبو الطيب عن بعض أصحاب الشافعي: غلط من قال إنها فرض كفاية. قلت: ابن كج يقول: إنها فرض كفاية،

162
وهو غلط ذكره في (الحلية) و (شرح الوجيز) وفي (الدراية): صلاة الجمعة فريضة محكمة جاحدها كافر بالإجماع.
1 - (حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب قال حدثنا أبو الزناد أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج مولى ربيعة بن الحارث حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله
يقول نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبع اليهود غدا والنصارى بعد غد)
مطابقته للترجمة في قوله ' هذا يومهم الذي فرض الله عليهم ' إلى آخره.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول أبو اليمان الحكم بن نافع. الثاني شعيب ابن أبي حمزة. الثالث أبو الزناد بكسر الزاي وبالنون عبد الله بن ذكوان. الرابع الأعرج. الخامس أبو هريرة.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين والإخبار كذلك في موضع والتحديث أيضا بصيغة الإفراد في موضع وفيه السماع في موضعين وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن رواته ما بين حمصيين وهما أبو اليمان وشعيب ومدنيين وهما أبو الزناد والأعرج وأخرجه مسلم عن عمرو الناقد وابن أبي عمر فرقهما وأخرجه النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن
(ذكر معناه وإعرابه) قوله ' نحن الآخرون السابقون ' في رواية ابن عيينة عن أبي الزناد عند مسلم ' نحن الآخرون ونحن السابقون ' ومعناه نحن الآخرون زمانا والسابقون يعني الأولون منزلة ويقال معناه نحن الآخرون لأجل إيتاء الكتاب لهم قبلنا ونحن السابقون لهداية الله تعالى لنا لذلك ويقال نحن الآخرون الذين جاءوا آخر الأمم والسابقون الناس يوم القيامة إلى الموقف والسابقون في دخول الجنة ويوضح ذلك ما رواه مسلم عن حذيفة قال رسول الله
' أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم السبت وكان للنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا الله تعالى ليوم الجمعة فجعل الجمعة والسبت والأحد كذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة المقضى لهم قبل الخلائق ' وقيل المراد بالسبق إحراز فضيلة اليوم السابق بالفضل وهو الجمعة وقيل المراد بالسبق السبق إلى القبول والطاعة التي حرمها أهل الكتاب فقالوا سمعنا وعصينا قوله ' بيد ' بفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وهو مثل غير وزنا ومعنى وإعرابا ويقال ميد بالميم وهو اسم ملازم للإضافة إلى أن وصلتها وله معنيان أحدهما غير إلا أنه لا يقع مرفوعا ولا مجرورا بل منصوبا ولا يقع صفة ولا استثناء متصلا وإنما يستثنى به في الانقطاع خاصة وقال ابن هشام ومنه الحديث ' نحن الآخرون السابقون بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا ' وفي مسند الشافعي بأيد أنهم وفي مجمع الغرائب بعض المحدثين يرويه بأيدانا أوتينا أي بقوة إنا أعطينا قال أبو عبيدة وهو غلط ليس له معنى يعرف وزعم الداودي أنها بمعنى على أو مع قال القرطبي إن كانت بمعنى غير فينصب على الاستثناء وإذا كانت بمعنى مع فينصب على الظرف وروى ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن الربيع عنه أن معنى بيد من أجل وكذا ذكره ابن حبان والبغوي عن المزني عن الشافعي وقال عياض هو بعيد وقال بعضهم ولا بعد فيه بل معناه إنا سبقنا بالفضل إذ هدينا للجمعة مع تأخرنا في الزمان بسبب أنهم ضلوا عنها مع تقدمهم انتهى (قلت) استبعاد عياض موجه ونفى هذا القائل البعد بعيد لفساد المعنى لأن بيد إذا كان بمعنى من أجل يكون المعنى نحن السابقون لأجل أنهم أتوا الكتاب وهذا ظاهر الفساد على ما لا يخفى ثم أكد هذا القائل كلامه بقوله ويشهد له ما وقع في فوائد ابن المقري في طرق أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ ' نحن الآخرون في الدنيا ونحن أول من يدخل الجنة لأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ' (قلت) هذا لا يصلح أن يكون شاهدا لما ادعاه لأن قوله لأنهم أوتوا الكتاب من قبلنا تعليل لقوله نحن الآخرون في الدنيا قوله ' أوتوا الكتاب ' أي أعطوه

163
والمراد من الكتب التوراة والإنجيل فتكون الألف واللام فيه للعهد وقال بعضهم اللام للجنس وهو غير صحيح قوله ' ثم هذا ' إشارة إلى يوم الجمعة قوله ' الذي فرض الله عليهم ' هو هكذا في رواية الحموي وفي رواية الأكثرين الذي فرض عليهم وقال ابن بطال ليس المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما فرض الله عليه وهو مؤمن وإنما يدل والله أعلم أنه فرض عليهم يوم الجمعة ووكل إلى اختيارهم ليقيموا فيه شريعتهم فاختلفوا في أي الأيام هو ولم يهتدوا ليوم الجمعة وجنح القاضي عياض إلى هذا ورشحه بقوله لو كان فرض عليهم بعينه لقيل فخالفوا بدل فاختلفوا وقال النووي يمكن أن يكونوا أمروا به صريحا فاختلفوا هل يلزم تعيينه أم يسوغ إبداله بيوم آخر فاجتهدوا في ذلك فأخطأوا وقال بعضهم ويشهد له ما رواه الطبراني بإسناد صحيح عن مجاهد في قوله * (إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه) * قال أرادوا الجمعة فأخطأوا وأخذوا السبت مكانه (قلت) كيف يشهد له هذا وهم أخذوا السبت لأنه جعل عليهم وإن كان أخذهم بعد اختلافهم فيه فخطئوهم في إرادتهم الجمعة ومع هذا استقروا على السبت الذي جعل عليهم وقيل يحتمل أن يكون فرض عليهم يوم الجمعة بعينه فأبوا ويدل عليه ما رواه ابن أبي حاتم من طريق أسباط بن نصر عن السدي التصريح بذلك ولفظه ' إن الله فرض على اليهود الجمعة فأبوا وقالوا يا موسى إن الله لم يخلق يوم السبت شيئا فاجعله لنا فجعله عليهم ' ولم يكن هذا ببعيد منهم لأنهم هم القائلون سمعنا وعصينا قوله ' فهدانا الله له ' يحتمل وجهين أحدهما أن يكون الله قد نص لنا عليه والثاني أن تكون الهداية إليه بالاجتهاد ويدل عليه
ما رواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب عن محمد بن سيرين وقد ذكرناه في كتاب الجمعة فإن فيه أن أهل المدينة قد جمعوا قبل أن يقدمها رسول الله
(فإن قلت) هذا مرسل (قلت) وله شاهد بإسناد حسن أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة من حديث كعب بن مالك قال ' كان أول من صلى بنا الجمعة قبل مقدم رسول الله
المدينة أسعد بن زرارة ' قوله ' تبع ' بفتح التاء المثناة والباء الموحدة جمع تابع كالخدم جمع خادم قوله ' اليهود غدا ' فيه حذف تقديره يعظم اليهود غدا أو اليهود يعظمون غدا فعلى الأول ارتفاع اليهود بالفاعلية وعلى الثاني بالابتداء ولا بد من هذا التقدير لأن ظرف الزمان لا يكون خبرا عن الجثة فحينئذ انتصاب غدا على الظرفية وكذلك الكلام في قوله ' والنصارى بعد غد ' والمراد من قوله ' غدا السبت ' ومن قوله ' بعد غد ' الأحد وإنما اختار اليهود السبت لأنهم زعموا أنه يوم قد فرغ الله منه عن خلق الخلق فقالوا نحن نستريح فيه عن العمل ونشتغل فيه بالعبادة والشكر لله تعالى واختار النصارى يوم الأحد لأنهم قالوا أول يوم بدأ الله فيه بخلق الخليقة فهو أولى بالتعظيم فهدانا الله لليوم الذي فرضه وهو يوم الجمعة
(ذكر ما يستفاد منه) في دليل على فرضية الجمعة وهو قوله ' فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له ' لأن التقدير فرض الله عليهم وعلينا فضلوا وهدينا ووقع في رواية مسلم عن أبي الزناد بلفظ ' كتب علينا ' وفيه أن الهداية والإضلال من الله تعالى كما هو قول أهل السنة * وفيه أن سلامة الإجماع من الخطأ مخصوص بهذه الأمة * وفيه دليل قوي على زيادة فضل هذه الأمة على الأمم السالفة * وفيه سقوط القياس مع وجود النص وذلك أن كلا منهما قال بالقياس مع وجود النص على قول التعيين فضلا * وفيه التفويض وترك الاختيار لأنهما اختارا فضلا ونحن علقنا الاختيار على من هو بيده فهدى وكفى * -
2
((باب فضل الغسل يوم الجمعة وهل على الصبي شهود يوم الجمعة أو على النساء))
أي: هذا باب في بيان فضل الغسل يوم الجمعة، ولهذه الترجمة ثلاثة أجزاء: الأول: فضل الغسل يوم الجمعة. الثاني: هل على الصبي شهود يوم الجمعة؟ أي: حضوره. الثالث: على النساء شهود يوم الجمعة؟ ثم إنه اقتصر على ذكر حكم الجزء الأول، وهو: الفضل، لأن معناه الترغيب فيه، والأدلة متفقة فيه، ولم يجزم بالحكم في الجزأين الأخيرين بل ذكره بالاستفهام. أما في حق الصبي فللإحتمال في دخولهم في عموم قوله: (إذا جاء أحدكم)، ولكنه خرج بقوله: (على كل محتلم)، وأما في حق النساء فلاحتمال دخولهن في العموم المذكور بطريق التبعية، ولكن عموم النهي في منعهن من حضور المساجد إلا بالليل يخرج حضورهن الجمعة، واعترض أبو عبد الملك على البخاري في الجزأين الأخيرين من الترجمة، لأنه ترجم بهما ثم أورد: (إذا

164
جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)، وليس فيه ذكر شهود ولا غيره. وأجاب ابن التين عنه: بأنه أراد سقوط الواجب عنهم، لأنه قال: وهل عليهم؟ فأبان بحديث: (غسل الجمعة واجب على كل محتلم)، أنها غير واجبة على الصبيان، ولم يجب عن سقوط الواجب عن النساء، ويجاب عن هذا بما ذكرنا.
877 وحدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل.
مطابقته للجزأين الأخيرين من الترجمة تفهم من الجواب عن اعتراض أبي عبد الملك.
ورجاله قد تكرر ذكرهم على هذا النسق.
وهذا الحديث أخرجه مسلم وغيره. ولفظ مسلم: (إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل). وفي رواية له: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل). وأخرجه الترمذي ولفظه: (من أتى الجمعة فليغتسل). وأخرجه النسائي عن قتيبة عن مالك نحو رواية البخاري سندا ومتنا، وفي لفظ مثل رواية مسلم الثانية، وفي لفظ نحو لفظ البخاري، وفي لفظ: (إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل). وأخرجه ابن ماجة ولفظه: عن ابن عمر، قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: من أتى الجمعة فليغتسل). وفي رواية لابن حبان في (صحيحه) وأبي عوانة في (مستخرجه): (من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل). ورواه ابن خزيمة بزيادة: (ومن لم يأتها فليس عليه غسل من الرجال والنساء). وأخرجه البزار من حديث عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى الجمعة فليغتسل). وروى البزار أيضا من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أتى الجمعة فليغتسل)، وروى ابن ماجة أيضا من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا يوم عيد جعله الله للناس، فمن جاء إلى الجمعة فليغتسل). وروى الطبراني من حديث أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من جاء منكم الجمعة فليغتسل). الحديث.
ذكر معناه: قوله: (إذا جاء أحدكم الجمعة)، ظاهره أن يكون الغسل عقيب المجيء، لأن الفاء للتعقيب، ولكن ليس ذلك المراد، وإنما المعنى: إذا أراد أحدكم الجمعة فليغتسل، وقد جاء مصرحا به في رواية الليث عن نافع، ولفظه: (إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة فليغتسل)، ونظير ذلك قوله تعالى: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) * (النحل: 98). تقديره: إذا أردت أن تقرأ القرآن فاستعذ، والظاهرية قالوا بظاهره في القراءة، وههنا لم يقولوا به لظاهر رواية الليث المذكورة، وقال الكرماني: (إذا جاء أحدكم) علم منه أن الغسل إنما هو للمجموع، وهذا عام للصبي وللنساء أيضا. فإن قلت: من أين يستفاد العموم؟ قلت: من لفظ: الأحد، المضاف. فإن قلت: ما وجه دلالته على شهودهما، وهذه شرطية، فلا يدل على وقوع المجيء؟ قلت: لفظة: إذا، لا تدخل إلا فيما كان وقوعه مجزوما به. انتهى. قلت: هذا الذي قاله بناء على أنه فهم من الاستفهام في الترجمة الجزم بالحكم، وليس كذلك على ما قررناه. قوله: (إذا جاء) المراد: بالمجيء هو: أن يحضر إلى
الصلاة أول إلى المكان الذي تقام فيه الجمعة، وذكر المجيء باعتبار الغالب وإلا فالحكم شامل لمن كان مجاورا للجامع أو مقيما به.
ذكر ما يستفاد منه: احتجت به الظاهرة على أن أول الأمر فيه للوجوب، وليس كذلك، لأن الأمر بالغسل ورد على سبب وقد زال السبب، فزال الحكم بزوال علته، لما رواه البخاري من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: (كان الناس مهنة أنفسهم، وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا في مهنتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم..) وسيأتي هذا في: باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس، وبعض أصحابنا قالوا: إن الحديث المذكور منسوخ بقوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فهو أفضل). واعترض بأنه ضعيف، فكيف يحكم أن الصحيح منسوخ به؟ قلت: هذا الحديث روي من سبعة أنفس من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وهم: سمرة بن جندب أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي عن قتادة عن الحسن عن سمرة، فذكره. وأنس عند ابن ماجة والطحاوي والبزار والطبراني، وأبو سعيد الخدري عند البيهقي والبزار، وأبو هريرة عند البزار، وابن عدي، وجابر عند ابن عدي في (الكامل)، وعبد الرحمن بن سمرة عند الطبراني، وابن عباس عند البيهقي في (سننه)، وقال الترمذي: حديث حسن. واختلف في سماع الحسن عن سمرة، فعن ابن المديني إمام هذا الفن: أنه سمع منه مطلقا،. ولئن سلمنا ما قاله المعترض فالأحاديث الضعيفة إذا ضم بعضها إلى بعض أخذت قوة فيما اجتمعت فيه من الحكم، كذا

165
قاله البيهقي وغيره، وقال المحققون من أصحابنا: إن حديث الكتاب خبر الواحد فلا يخالف الكتاب لأنه يوجب غسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس عند القيام إلى الصلاة مع وجود الحدث، فلو وجب الغسل لكان زيادة على الكتاب بخبر الواحد، وهذا لا يجوز لأنه يصير كالنسخ. فافهم قلت: إذا حملنا الأمر فيه على الاستحباب توفيقا بين الحديثين لا يحتاج حينئذ إلى شيء آخر. وقال الشافعي، رضي الله تعالى عنه: ومما يدل على أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالغسل يوم الجمعة فضيلة على الاختيار لا على الوجوب، حديث عمر حيث قال لعثمان: والوضوء أيضا؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بالغسل يوم الجمعة؟ فلو علما أن أمره على الوجوب لم يترك عمر عثمان حتى يرده ويقول له: إرجع فاغتسل. وقال ابن دقيق: في الحديث دليل على تعليق الأمر بالغسل بالمجيء إلى الجمعة، واستدل به لمالك في أنه يعتبر أن يكون الغسل متصلا بالذهاب، ووافقه الأوزاعي والليث والجمهور، قالوا: يجزئ من بعد الفجر. انتهى. قلت: قال صاحب (الهداية): ثم هذا الغسل، أي غسل يوم الجمعة، للصلاة عند أبي يوسف، يعني: لا يصل له الثواب إلا إذا صلى صلاة الجمعة بهذا الغسل، حتى لو اغتسل بعد الجمعة أو أول اليوم وانتقض ثم توضأ وصلى لا يكون مدركا كالثواب والغسل، وهو الصحيح، واحترز به عن قول الحسن بن زياد، فإنه قال: لليوم إظهارا لفضيلته، وبقوله قال داود، وفي (المبسوط): وهو قول محمد، وفي (المحيط): وهو رواية عن أبي يوسف، فعلى هذا عن أبي يوسف، فعلى هذا عن أبي يوسف روايتان، وقيل: تظهر الفائدة أيضا في هذا الخلاف فيمن اغتسل بعد الصلاة قبل الغروب، إن كان مسافرا، أو عبدا أو امرأة، أو ممن لا يجب عليه الجمعة، وهذا بعيد، لأن المقصود منه إزالة الرائحة الكريهة كيلا يتأذى الحاضرون بها، وذلك لا يتأتى بعدها، ولو اتفق يوم الجمعة ويوم العيد أو يوم عرفة وجامع ثم اغتسل ينوب عن الكل، وفي صلاة الجلابي: لو اغتسل يوم الخميس أو ليلة الجمعة استن بالسنة لحصول المقصود، وهو قطع الرائحة الكريهة.
878 حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال أخبرنا جويرية عن مالك عن الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن عمر بن الخطاب بينما هو قائم في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجل من المهاجرين الأولين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فناداه عمر أية ساعة هاذه قال إني شغلت فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين فلم أزد أن توضأت فقال والوضوء أيضا وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل (الحديث 878 طرفه في: 882).
مطابقته للترجمة تفهم من قوله: (والوضوء أيضا) لأن معناه: تركت فضيلة الغسل واقتصرت على الوضوء أيضا.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: عبد الله بن محمد بن أسماء، بفتح الهمزة وبالمد: الضبعي، بضم الضاد المعجمة وفتخ الباء الموحدة: البصري ابن أخي جويرية بن أسماء، مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين. الثاني: جويرية بن أسماء بن عبيد الضبعي البصري، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ومائة. الثالث: مالك بن أنس. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. السادس: أبوه عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي. وفيه: رواية الرجل عن ابن أخيه. وفيه: رواية الابن عن الأب. وفيه: أن الاثنين الأولين من الرواة والبقية مدنيون.
وأخرجه الترمذي في الصلاة: عن محمد بن أبان حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري (ح)، وحدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أخبرنا عبد الله بن صالح حدثني الليث عن يونس عن الزهري بهذا الحديث، وروى مالك هذا الحديث عن سالم قال: (بينما عمر يخطب يوم الجمعة)، فذكر الحديث. قال أبو عيسى: سألت محمدا عن هذا فقال: الصحيح حديث الزهري عن سالم عن أبيه، قال محمد: وقد روي عن مالك أيضا عن الزهري عن سالم عن أبيه نحو هذا الحديث. انتهى. قلت: البخاري أورد الحديث المذكور من رواية جويرية بن أسماء عن مالك، وهو عند رواة (الموطأ): عن مالك ليس فيه ذكر ابن عمر، وحكى الإسماعيلي عن البغوي، بعد أن أخرجه من طريق روح بن عبادة عن مالك، أنه لم يذكر في هذا الحديث أحد

166
عن مالك عبد الله بن عمر غير روح بن عبادة وجويرية، وقد تابعهما أيضا عبد الرحمن بن مهدي، أخرجه أحمد بن حنبل عنه بذكر: ابن عمر.
ذكر معناه: قوله: (بينا) أصله: بين، فأشبعت فتحة النون فصار: بينا، وربما يدخلها: ما، فيقال: بينما، وهما ظرفا زمان بمعنى المفاجأة، ويضافان إلى جملة من فعل وفاعل ومبتدأ وخبر، ويحتاجان إلى جواب يتم به المعنى، وجواب: بينا، هنا قوله: (إذا دخل رجل)، والأفصح أن يكون فيه: إذ وإذا، وفي رواية يونس ههنا: بينما، بالميم، وفي رواية المستملي والأصيلي وكريمة: (إذ دخل رجل)، وفي رواية غيرهم: (إذ جاء رجل)، والرجل هو: عثمان بن عفان، رضي الله
تعالى عنه، وقد سماه به ابن وهب وابن القاسم في روايتهما عن مالك في (الموطأ)، وكذلك سماه معمر في روايته عن الزهري، وكذا وقع في رواية ابن وهب عن أسامة ابن زيد عن نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما. وقال أبو عمر: لا أعلم فيه خلافا غير ذلك. قوله: (من المهاجرين الأولين) قال الشعبي: هم من أدرك بيعة الرضوان، وسأل قتادة عن سعيد بن المسيب فقال: هم من صلى إلى القبلتين. قال في (الكشاف): هم الذين شهدوا بدرا. قوله: (فناداه عمر)، أي: قال له: يا فلان. قوله: (أية ساعة هذه) أية، بتشديد الياء آخر الحروف، وهي كلمة يستفهم بها، وأنث: أية، لأجل: ساعة. فإن قلت: قد ذكرت في قوله تعالى: * (وما تدري نفس بأي أرض تموت) * (لقمان: 34). قلت: الأمران جائزان، يقال: أي امرأة جاءتك، وأية امرأة جاءتك. قال الزمخشري: قرىء: بأية أرض تموت، وشبه سيبويه تأنيث: أ، بتأنيث: كل، في قولهم: كلهن، والساعة اسم لجزء من الزمان مخصوص، ويطلق على جزء من أربعة وعشرين جزءا هي مجموع اليوم والليلة، ويطلق أيضا على جزء ما غير مقدر من الزمان، ولا يتحقق. وعلى الوقت الحاضر والهندسي بقسم اليوم على اثني عشر قسما، وكذا الليلة طالا أم قصرا، فيسمونه: ساعة. فإن قلت: ما هذا الاستفهام؟ قلت: استفهام توبيخ وإنكار، فكأنه يقول: لم تأخرت إلى هذه الساعة؟ وقد ورد التصريح بالإنكار في رواية أبي هريرة، فقال عمر: (لم تحتبسون عن الصلاة؟) وفي رواية مسلم: (فعرض به عمر، فقال: ما بال رجال يتأخرون بعد النداء؟) فإن قلت: هل صدر هذا كله عن عمر، رضي الله تعالى عنه؟ قلت: الظاهر ذلك، ولكن حفظ بعض الرواة ما لم يحفظ الآخر. فإن قلت: ما كان مراد عمر من هذه المقالة؟ قلت: التنبيه إلى ساعات التبكير التي وقع فيها الترغيب، لأنها إذا انقضت طوت الملائكة الصحف، كما ورد في الحديث. فإن قلت: هل فهم عثمان، رضي الله تعالى عنه، هذا من عمر، رضي الله تعالى عنه؟ قلت: نعم، فلذلك بادر إلى الاعتذار عن التأخير بقوله: (إني شغلت...) إلى آخره، وهو على صيغة المجهول، وقد بين شغله في رواية عبد الرحمن بن مهدي حيث قال: انقلبت من السوق فسمعت النداء، والمراد به الأذان بين يدي الخطيب. قوله: (فلم أنقلب إلى أهلي) الانقلاب: الرجوع من حيث جاء، وهو انفعال من: قلبت الشيء إذا كببته أوردته. قوله: (حتى سمعت التأذين)، وفي رواية أخرى: (النداء)، وهو بكسر النون أشهر من ضمها. قوله: (فلم أزد أن توضأت) كلمة: أن، هذه صلة زيدت لتأكيد النفي. قوله: (والوضوء أيضا؟) جاءت الرواية فيه بالواو وحذفها، وبنصب الوضوء ورفعهما. أما وجه وجود الواو فهو أن يكون للعطف على الإنكار الأول، وهو قوله: (أية ساعة هذه؟) لأن معنى الإنكار: ألم يكفك أن أخرت الوقت وفوت فضيلة السبق حتى اتبعته بترك الغسل والقناعة بالوضوء؟ فتكون هذه الجملة المبسوطة مدلولا عليها بتلك اللفظة. وقال القرطبي: الواو، عوض من همزة الاستفهام، كما قرأ ابن كثير: * (قال فرعون وآمنتم به) * (الأعراف: 123). وأما وجه حذف الواو فظاهر، ولكن يكون لفظ الوضوء بالرفع والنصب. أما وجه الرفع فعلى أنه مبتدأ قد حذف خبره، تقديره: الوضوء أيضا يقتصر عليه؟ ويجوز أن يكون خبرا محذوف المبتدأ تقديره: كفايتك الوضوء أيضا؟ وأما وجه النصب فهو على إضمار فعل التقدير: أتتوضأ الوضوء فقط؟ يعني: اقتصرت على الوضوء وحده؟ قوله: (أيضا) منصوب على أنه مصدر من: آض يئيض، أي: عاد ورجع. قال ابن السكيت: تقول فعلته أيضا إذا كنت قد فعلته بعد شيء آخر، كأنك أفدت بذكرهما الجمع بين الأمرين أو الأمور. قوله: (وقد علمت) جملة حالية أي: والحال أنك قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل لمن يريد المجيء إلى الجمعة.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: القيام للخطبة وأنه من سننها وأنه على المنبر. وفيه: تفقد الإمام رعيته وأمره لهم بمصالح دينهم وإنكاره على من أخل بالفضل. وفيه: مواجهة الإمام بالإنكار للتكبير ليرتدع من هو دونه بذلك. وفيه: أن الأمر

167
بالمعروف والنهي عن المنكر في أثناء الخطبة لا يفسدها. وفيه: الاعتذار إلى ولاة الأمور. وفيه: إباحة الشغل والتصرف يوم الجمعة قبل النداء، ولو أفضى ذلك إلى ترك فضيلة البكور إلى الجمعة، لأن عمر، رضي الله تعالى عنه، لم يأمر برفع السوق بعد هذه القصة، واستدل به مالك على أن السوق لا يمنع يوم الجمعة قبل النداء لكونها كانت في زمن عمر، رضي الله تعالى عنه، ولكون الذاهب إليها مثل عثمان، رضي الله تعالى عنه، وقد قلنا: إن وجوب السعي وحرمة البيع والشراء بالأذان الذي يؤذن بين يدي المنبر، لأنه هو الأصل، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر فقهاء الأمصار. ثم اختلف العلماء في حرمة البيع في ذلك الوقت، فعند أبي حنيفة وأصحابه والشافعي: يجوز البيع مع الكراهة، وعند مالك وأحمد والظاهرية: البيع باطل، وقد عرف في الفروع. وفيه: جواز شهود الفضلاء السوق ومعاناة التجر. وفيه: أن فضيلة التوجه إلى الجمعة إنما تحصل قبل التأذين، وقد استدل بعضهم بقوله: كان يأمر بالغسل، إن الغسل يوم الجمعة واجب، وهذا الاستدلال ضعيف لأنه لو كان واجبا لرجع عثمان حين كلمه عمر، رضي الله تعالى عنه، أو لرده عمر حين لم يرجع، فلما لم يرجع ولم يؤمر بالرجوع، ويحضرهما المهاجرون والأنصار، دل على أنه ليس بواجب. وهذه قرينة على أن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي فيه: فليغتسل، ليس أمر الإيجاب، بل هو للندب، وكذا المراد من قوله: واجب، أنه كالواجب، جمعا بين الأدلة.
879 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم..
مطابقته للجزء الثاني للترجمة من حيث إنه يدل على أن قوله: (على كل محتلم) يخرج الصبي والحديث بعينه أخرجه في: باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم، ولكن أخرجه هناك: عن علي بن عبد الله عن سفيان عن صفوان بن سليم عن عطاء ابن يسار عن أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، وههنا أخرجه: عن عبد الله بن يوسف التنيسي عن مالك.. إلى آخره، ولم تختلف رواة (الموطأ) على مالك في إسناده.
ورجاله مدنيون. وفيه: رواية تابعي عن تابعي عن صحابي. وقد ذكرنا بقية الكلام هناك.
3
((باب الطيب للجمعة))
أي: هذا باب في بيان حكم الطيب لأجل الجمعة، ولكن لم يجزم بحكمه للاختلاف فيه.
880 حدثنا علي قال حدثنا حرمي بن عمارة قال حدثنا شعبة عن أبي بكر بن المنكدر قال حدثني عمرو بن سليم الأنصاري قال أشهد على أبي سعيد قال أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم وأن يستن وأن يماس طيبا إن وجد قاال عمر و أما الغسل فأشهد أنه واجب وأما الاستنان والطيب فالله أعلم أواجب هو أم لا ولاكن هكذا في الحديث،.
مطابقته للترجمة في قوله: (وأن يمس طيبا).
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: علي بن المديني. الثاني: حرمي، بفتح الحاء والراء المهملتين وكسر الميم: ابن عمارة، بضم العين وتخفيف الميم، وقد مر ذكره في: باب * (فإن تابوا) * (التوبة: 5 و 11).. في كتاب الإيمان. الثالث: شعبة بن الحجاج. الرابع: أبو بكر بن المنكدر، بضم الميم وسكون النون: على صيغة اسم الفاعل من الإنكدار: ابن عبد الله بن ربيعة المديني. الخامس: عمرو، بفتح العين: ابن سليم، بضم السين المهملة وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف، وقد مر في: باب إذا دخل أحدكم المسجد. السادس: أبو سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع، وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: لفظ: أشهد، في موضعين، وأراد به الراوي تأكيدا لروايته وإظهارا لسماعه. وفيه: علي، بغير

168
ذكر نسبته إلى أبيه أو إلى بلده في رواية الأكثرين، وفي رواية ابن عساكر: علي بن عبد الله، بذكر أبيه. وفيه: أدخل بعضهم بين عمرو بن سليم وبين أبي سعيد رجلا، وقال الدارقطني: وقد اختلف على شعبة، فقال الباغندي: عن علي عن حرمي عنه عن أبي بكر عن عبد الرحمن ابن أبي سعيد عن أبيه، ورواه عثمان بن سليم: عن عمرو بن سليم عن أبي سعيد. فإن قلت: إذا كان الأمر كذلك، فكيف ذكره البخاري في صحيحه؟ قلت: لا يضره ذلك لأنه صرح بأن عمرا أشهد على أبي سعيد، ويحمل على أنه رواه أولا عنه ثم سمعه منه، وأنه رواه في حالتين، وهذه حجة قوية لتخريجه هذا في صحيحه. وفيه: أن رواته ما بين بصريين وواسطي ومدنيين.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الطهارة عن عمرو بن سواد عن ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن سعيد ابن أبي هلال وبكير بن الأشج، كلاهما عن أبي بكر بن المنكدر عن عمرو ابن سليم عن أبي سعيد، ولم يذكر عبد الرحمن. وأخرجه أبو داود فيه عن محمد بن سلمة عن ابن وهب، ولم يذكر السواك ولا الطيب، وقال في آخره: إلا أن بكيرا لم يذكر عبد الرحمن. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة بإسناده مثله، وعن هارون بن عبد الله عن الحسن بن سوار عن الليث نحوه.
ذكر معناه: قوله: (محتلم) أي: بالغ، وهو مجاز، لأن الاحتلام يستلزم البلوغ، والقرينة المانعة عن الحمل على الحقيقة أن الاحتلام إذا كان معه الإنزال موجب للغسل، سواء كان يوم الجمعة أو لا. قوله: (وأن يستن)، عطف على معنى الجملة السابقة، و: أن، مصدرية تقديره: والاستنان، وهو الاستياك، مأخوذ من: السن، يقال له: سننت الحديد حككته على المسن، وقيل له: الاستنان لازم لأنه إنما يستاك على الأسنان، وحاصله دلك السن بالسواك. قوله: (إن وجد)، متعلق: بيمس، أي: إن وجد الطيب يمسه، ويحتمل تعلقه: بأن يستن، وفي رواية مسلم: (ويمس من الطيب ما يقدر عليه). وفي رواية له: (ولو من طيب المرأة). وقال عياض: يحتمل قوله: (ما يقدر عليه)، إرادة التأكيد فيفعل ما أمكنه، ويحتمل إرادة الكثرة، والأول أظهر، ويؤيد قوله: (ولو من طيب المرأة)، لأنه يكره استعماله للرجل، وهو ما ظهر لونه وخفي ريحه، فإباحته للرجل لأجل عدم غيره يدل على تأكد الأمر في ذلك. قوله: (قال عمرو) وهو: ابن سليم راوي الخبر، وهو موصول بالإسناد المذكور إليه. قوله: (وأما الاستنان والطيب...) إلى آخره، أشار به إلى أن العطف لا يقتضي التشريك من جميع الوجوه، فكان القدر المشترك تأكيدا لطلب الثلاثة، وكأنه جزم بوجوب الغسل دون غيره للتصريح به في الحديث، وتوقف فيما عداه لوقوع الاحتمال فيه، وذكر الطحاوي والطبري: أنه صلى الله عليه وسلم لما قرن الغسل بالطيب يوم الجمعة، وأجمع الجميع على أن تارك الطيب يومئذ غير حرج إذا لم يكن له رائحة مكروهة يؤذي بها أهل المسجد، فكذا حكم تارك الغسل، لأن مخرجهما من الشارع واحد، وكذا الاستنان بالإجماع أيضا، وكذا هما وإن كان العلماء يستحبون لمن قدر عليه كما يستحبون اللباس الحسن. وقال ابن الجوزي: يحتمل إن يكون قوله: (وأن يستن...) إلى آخره من كلام أبي سعيد، خلطه الراوي بكلام النبي صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: لم أر هذا في شيء من النسخ ولا في المسانيد، ودعوى الإدراج فيه لا حقيقة لها. قلت: ظاهر التركيب يقتضي صحة ما قاله ابن الجوزي، وإن تكلفنا وجه صحة العطف فيما قبل قوله، ولكن هكذا في الحديث.
ذكر ما يستفاد منه: قال الخطابي: ذهب مالك إلى إيجاب الغسل، وأكثر الفقهاء إلى أنه غير واجب، وتأولوا الحديث على معنى الترغيب فيه والتوكيد لأمره حتى يكون كالواجب على معنى التشبيه، واستدلوا فيه بأنه قد عطف عليه الاستنان والطيب، ولم يختلفوا أنهما غير واجبين. قالوا: وكذلك المعطوف عليه. وقال النووي: هذا الحديث ظاهر في أن الغسل مشروع للبالغ سواء أراد الجمعة أو لا، وحديث: (إذا جاء أحدكم) في أنه لما أرادها سواء البالغ والصبي، فيقال في الجمع بينهما: إنه مستحب للكل ومتأكد في حق المريد، وآكد في حق البالغ ونحوه، ومذهبنا المشهور: أنه مستحب لكل مريد أتى، وفي وجه: للذكور خاصة، وفي وجه: لمن تلزمه الجمعة، وفي وجه: لكل أحد. وفي (المصنف): وكان ابن عمر يجمر ثيابه كل جمعة. وقال معاوية بن قرة: أدركت ثلاثين من مزينة كانوا يفعلون ذلك، وحكاه مجاهد عن ابن عباس

169
وعن أبي سعيد وابن مغفل وابن عمر ومجاهد نحوه، وخالف ابن حزم لما ذكر فرضية الغسل على الرجال والنساء، قال: وكذلك الطيب والسواك، وشرع الطيب لأن الملائكة على أبواب المساجد يكتبون الأول فالأول، فربما صافحوه أو لمسوه. واختلف في الاغتسال في السفر، فممن يراه؛ عبد الله بن الحارث وطلق بن حبيب وأبو جعفر محمد بن علي بن الحسين وطلحة ابن مصرف. وقال الشافعي: ما تركته في حضر ولا سفر وإن اشتريته بدينار، وممن كان لا يراه: علقمة وعبد الله بن عمرو وابن جبير بن مطعم ومجاهد وطاووس والقاسم بن محمد والأسود وإياس بن معاوية. وفي كتاب ابن التين عن طلحة وطاووس ومجاهد أنهم كانوا يغتسلون للجمعة في السفر، واستحبه أبو ثور.
قال أبو عبد الله هو أخو محمد بن المنكدر ولم يسم أبو بكر هذا رواه عنه بكير بن الأشج وسعيد بن أبي هلال وعدة وكان محمد بن المنكدر يكنى بأبي بكر وأبي عبد الله
أبو عبد الله: هو البخاري نفسه. قوله: (هو) أي: أبو بكر بن المنكدر المذكور في سند الحديث المذكور: هو أخو محمد بن المنكدر. ومحمد أيضا يكنى: بأبي بكر، ولكن سمي بمحمد وأبو بكر أخوه لم يسم وهو معنى قوله: (ولم يسم أبو بكر هذا)، والحاصل أن كلا من الأخوين المذكورين يكنى: بأبي بكر، ولكن الامتياز بينهما بتصريح اسم أحدهما وهو محمد، وأيضا هو يكنى بكنية أخرى، وهي: أبو عبد الله، وهو معنى قول البخاري: وكان محمد بن المكندر يكنى بأبي بكر وبأبي عبد الله وأخوه كنيته اسمه وليست له كنية غيرها. قوله: (روى عنه) أي: عن أبي بكر بن المكندر، كذا وقع بلفظ: روى عنه، في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره (رواه عنه) أي: روى الحديث المذكور عن أبي بكر بن المنكدر (بكير بن الأشج)، بضم الباء الموحدة مصغرر ومخفا: ابن عبد الله الأشج، بالشين المعجمة والجيم. قوله: (وسعيد بن أبي هلال) أي: وروى عن أبي بكر بن المنكدر سعيد بن أبي هلال، وقد مر سعيد في: باب فضل الوضوء، ولكن فرق بين روايتيهما. فرواية بكير موافقة لرواية شعبة في إسقاط لواسطة بين عمرو بن سليم وبين أبي سعيد الخدري، ورواية سعيد بن أبي هلال بواسطة بين عمرو بن سليم وبين أبي سعيد، كما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عمرو بن الحارث: أن سعيد بن أبي هلال وبكير بن الأشج حدثا عن أبي بكر بن المكندر عن عمرو بن سليم عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه، فذكر الحديث، وقال في آخره: إلا أن بكيرا لم يذكر عبد الرحمن، وكذلك أخرج أحمد من طريق ابن لهيعة: عن بكير، ليس فيه عبد الرحمن. قوله: (وعدة)، أي: وروى أيضا عن أبي بكر بن المنكدر عدة: جماعة أي: عدد كثير من الناس.
4
((باب فضحل الجمعة))
أي: هذا باب في بيان فضل الجمعة، وهذه اللفظة تشمل صلاة الجمعة ويوم الجمعة.
881 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر.
مطابقته للترجمة من حيث إن الذي يحضر الجمعة الذي هو عبادة بدنية كأنه يأتي أيضا بالعبادة المالية، فكأنه يجمع بين العبادتين: البدنية والمالية، وهذه الخصوصية للجمعة دون غيرها من الصلوات، فدل ذلك على فضل الجمعة، فناسب ترجمة

170
الباب بفضل الجمعة.
ذكر رجاله: وهم خمسة، وقد تكرر ذكرهم، وأبو صالح اسمه: ذكوان.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن قتيبة. وأخرجه أبو داود عن القعنبي. وأخرجه الترمذي عن إسحاق بن موسى عن معن بن عيسى. وأخرجه النسائي في الملائكة عن محمد بن سلمة والحارث بن مسكين، كلاهما عن أبي القاسم وفيه وفي الصلاة عن قتيبة، خمستهم عن مالك به. ورواه النسائي عن محمد بن عجلان عن سمي بلفظ آخر: (تقعد الملائكة على أبواب المسجد يكتبون الناس على منازلهم، فالناس فيه كرجل قدم بدنة، وكرجل قدم بقرة، وكرجل قدم شاة، وكرجل قدم دجاجة وكرجل قدم عصفورا وكرجل قدم بيضة). رواه مسلم والنسائي وابن ماجة من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم، فإذا خرج الإمام طويت الصحف واستمعوا الخطبة، فالمهجر إلى الصلاة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدي كبشا، حتى ذكر البيضة والدجاجة). ورواه النسائي من رواية معمر عن الزهري عن الأعرابي عبد الله عن أبي هريرة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد فكتبوا من جاء إلى الجمعة، فإذا خرج الإمام طوت الملائكة الصحف. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المهجر إلى الجمعة كالمهدي يعني بدنة، ثم كالمهدي بقرة، ثم كالمهدي شاة، ثم كالمهدي بطة، ثم كالمهدي دجاجة، ثم كالمهدي بيضة). وروى الطبراني في (الكبير) من حديث وائلة بن الأسقع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يبعث الملائكة يوم الجمعة على أبواب المسجد يكتبون القوم الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس، فإذا بلغوا السابع كانوا بمنزلة في قرب العصافير). وفي روايته مجهول، وروى أحمد في (مسنده) من حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المسجد فيكتبون الناس من جاء على منازلهم، فرجل قدم جزورا، ورجل قدم بقرة، ورجل قدم دجاجة. ورجل قدم بيضة. فإذا أذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر طويت الصحف فدخلوا المسجد يستمعون الذكر). وإسناده جيد. وفي كتاب (الترغيب) لأبي الفضل
الجوزي من حديث فرات بن السائب عن ميمون بن مهران عن ابن عباس مرفوعا: (إذا كان يوم الجمعة قد دفع إلى الملائكة ألوية حمد إلى كل مسجد يجمع فيه، ويحضر جبريل، عليه الصلاة والسلام، المسجد الحرام، مع كل ملك كتاب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، معهم أقلام من فضة وقراطيس من فضة يكتبون الناس على منازلهم: فمن جاء قبل الإمام كتب من السابقين، ومن جاء بعد خروج الإمام كتب: شهد الخطبة، ومن جاء حين تقام الصلاة كتب: شهد الجمعة، وإذا سلم الإمام تصفح الملائكة وجوه القوم، فإذا فقدوا منهم رجلا كان فيما خلا من السابقين قالوا: يا رب إنا فقدنا فلانا ولسنا ندري ما خلفه اليوم؟ فإن كنت قبضته فارحمه، وإن كان مريضا فاشفه، وإن كان مسافرا فأحسن صحابته ويؤمن من معه من الكتاب.
ذكر معناه: قوله: (من اغتسل)، يدخل فيه بعمومه كل من يصح منه التقرب، سواء كان ذكرا أو أنثى حرا أو عبدا. قوله: (غسل الجنابة)، بنصب اللام على أنه صفة لمصدر محذوف، أي: غسلا كغسل الجنابة، ويشهد بذلك رواية ابن جريج عن سمي عن عبد الرزاق: (فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة)، ووقع في رواية ابن ماهان: (من اغتسل غسل الجمعة)، واختلفوا في معنى، غسل الجنابة، فقال قوم: إنه حقيقة، حتى يستحب أن يواقع زوجته ليكون أغض لبصره وأسكن لنفسه. قالوا: ويشهد لذلك حديث أوس الثقفي، قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة: أجر صيامها وقيامها)، رواه أبو داود وغيره، وقال الترمذي: حديث أوس حديث حسن، وقال: معنى قوله: (غسل) وطئ امرأته قبل الخروج إلى الصلاة، يقال: غسل الرجل امرأته وغسلها مشددا ومخففا إذا جامعها، وفحل غسلة: إذا كان كثير الضراب، والأكثرون على أن التشبيه في قوله: (غسل الجنابة) للكيفية لا للحكم. قوله: (ثم راح) أي: ذهب أول النهار، ويشهد لهذا ما رواه أصحاب (الموطأ): عن مالك في: (الساعة الأولى). قوله: (ومن راح في الساعة الثانية) قال مالك: المراد بالساعات هنا لحظات لطيفة بعد زوال الشمس، وبه قال القاضي حسين وإمام الحرمين. والرواح عندهم بعد زوال الشمس، وادعوا أن هذا معناه في اللغة، وقال جماهير العلماء باستحباب

171
التبكير إليها أول النهار، وبه قال الشافعي وابن حبيب المالكي، والساعات عندهم من أول النهار، والرواح يكون أول النهار وآخره. وقال الأزهري: لغة العرب أن الرواح: الذهاب، سواء كان أول النهار أو آخره أو في الليل، وهذا هو الصواب الذي يقتضيه الحديث، والمعنى: لأن النبي صلى الله عليه وسلم، أخبر أن الملائكة تكتب من جاء في الساعة الأولى وهو كالمهدي بدنة، ثم من جاء في الساعة الثانية، ثم في الثالثة، ثم في الرابعة، ثم في الخامسة، وفي رواية النسائي: السادسة، فإذا خرج إمام طووا الصحف ولم يكتبوا بعد ذلك. ومعلوم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يخرج إلى الجمعة متصلا بالزوال، وهو بعد انقضاء الساعة السادسة، فدل على أنه لا شيء من الفضيلة لمن جاء بعد الزوال، ولأن ذكر الساعات إنما كان للحث على التبكير إليها والترغيب في فضيلة السبق وتحصيل الصف الأول وانتظارها والاشتغال بالتنفل والذكر، ونحو ذلك، وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال، ولا فضيلة لمن أتى بعد الزوال لأن النداء يكون حينئذ، ويحرم التخلف بعد النداء. قلت: الحاصل أن الجمهور حملوا الساعات المذكورة في الحديث على الساعات الزمانية، كما في سائر الأيام، وقد روى النسائي أنه، صلى الله عليه وسلم، قال: (يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة)، وأما أهل علم الميقات فيجعلون ساعات النهار ابتداءها من طلوع الشمس، ويجعلون الحصة التي من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس من حساب الليل، واستواء الليل والنهار عندهم إذا تساوى ما بين المغرب وطلوع الشمس، وما بين طلوع الشمس وغروبها، فإن أريد الساعات على اصطلاحهم فيكون ابتداء الوقت المرغب فيه لذهاب الجمعة من طلوع الشمس، وهو أحد الوجهين للشافعية. وقال الماوردي: إنه الأصح، ليكون قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب. وقال الروياني: إن ظاهر كلام الشافعي أن التبكير يكون من طلوع الفجر، وصححه الروياني، وكذلك صاحب (المهذب) قبله، ثم الرافعي والنووي، ولهم وجه ثالث: إن التبكير من الزوال كقول مالك، حكاه البغوي والروياني. وفيه وجه رابع حكاه الصيدلاني: إنه من ارتفاع النهار، وهو وقت الهجير. وقال الرافعي: ليس المراد من الساعات على اختلاف الوجوه الأربع والعشرين التي قسم اليوم والليلة عليها، وإنما المراد ترتيب الدرجات وفضل السابق على الذي يليه. قوله: (قرب بدنة) أي: تصدق ببدنة متقربا إلى الله تعالى، وقيل: المراد أن للمبادر في أول ساعة نظير ما لصاحب البدنة من الثواب ممن شرع له القربان، لأن القربان لم يشرع لهذه الأمة على الكيفية التي كانت للأمم الماضية. وقيل: ليس المراد بالحديث إلا بيان تفاوت المبادرين إلى الجمعة، وأن نسبة الثاني من الأول نسبة البقرة إلى البدنة في القيمة مثلا، ويدل عليه أن في مرسل طاووس، رواه عبد الرزاق: كفضل صاحب الجزور على صاحب البقرة، والبدنة تطلق على الإبل والبقر، وخصصها مالك بالإبل، ولكن المراد ههنا من البدنة الإبل بالاتفاق، لأنها قوبلت بالبقرة، وتقع على الذكر والأنثى. وقال بعضهم: المراد بالبدنة هنا الناقة بلا خلاف. قلت: فيه نظر، فكان لفظ: الهاء، فيه غره، وحسب أنه للتأنيث، وليس كذلك، فإنه للوحدة كقمحة وشعيرة ونحوهما من أفراد الجنس، سميت بذلك لعظم بدنها. وقال الجوهري: البدنة ناقة أو بقرة تنحر بمكة، سميت بذلك لأنهم كانوا يسمونها. وحكى النووي عن الأزهري، أنه قال: البدنة تكون من الإبل والبقر والغنم. قلت: هذا غلط، الظاهر أنه من النساخ، لأن المنقول الصحيح عن الأزهري، أنه قال: البدنة لا تكون إلا من الإبل، وأما الهدي فمن الإبل والبقر والغنم. قوله: (بقرة)، التاء فيها للوحدة. قال الجوهري: البقر اسم جنس، والبقرة تقع على الذكر والأنثى، وإنما دخله الهاء على أنه واحد من جنس، والبقرات جمع بقرة، والباقر جماعة البقر مع رعاتها، والبقر، وأهل اليمن يسمون البقرة: باقورة، وهو مشتق من: البقر، وهو: الشق فإنها تبقر الأرض أي: تشقها بالحراثة. قوله: (كبشا أقرن)، الكبش هو الفحل، وإنما وصف بالأقرن لأنه أكمل وأحسن صورة، ولأن القرن ينتفع به، وفيه فضيلة على الأجم. قوله: (دجاجة)، بكسر الدال وفتحها لغتان مشهورتان، وحكى الضم أيضا. وعن محمد بن حبيب: إنها بالفتح من الحيوان، وبالكسر من الناس. والدجاجة تقع على الذكر والأنثى، وسميت بذلك لإقبالها وإدبارها، وجمعها: دجاج ودجائج ودجاجات، ذكره ابن سيده. وفي (المنتهى) لأبي المعالي: فتح الدال في الدجاج أفصح من كسره، ودخلت الهاء في الدجاجة لأنه واحد من جنس،
مثل: حمامة وبطة ونحوهما، وكما جاءت الدال مثلثة في المفرد، فكذلك يقال في الجمع: الدجاج

172
والدجاج والدجاج. قوله: (بيضة)، البيضة واحدة من البيض، والجمع: بيوض، وجاء في الشعر: بيضات. قوله: (حضرت الملائكة)، بفتح الضاد وكسرها، والفتح أعلى.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: استحباب الغسل يوم الجمعة. وفيه: فضيلة التبكير، وقد ذكرنا حده عن قريب. وفيه: أن مراتب الناس في الفضيلة على حسب أعمالهم. وفيه: أن القربان والصدقة تقع على القليل والكثير، وقد جاء في النسائي بعد الكبش: بطة ثم دجاجة ثم بيضة، وفي أخرى: دجاجة ثم عصفور ثم بيضة، وإسنادهما صحيح. وفيه: إطلاق القربان على الدجاجة والبيضة لأن المراد من التقرب التصدق، ويجوز التصدق بالدجاجة والبيضة ونحوهما. وفيه: أن التضحية من الإبل أفضل من البقر لأن صلى الله عليه وسلم قدمها أولا وتلاها بالبقرة، وأجمعوا عليه في الهدايا واختلفوا في الأضحية فمذهب أبي حنيفة والشافعي والجمهور: أن الإبل أفضل ثم البقر ثم الغنم كالهدايا، ومذهب مالك: أن الغنم أفضل ثم البقر ثم الإبل، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين وهو فداء إسماعيل، عليه الصلاة والسلام، وحجة الجمهور حديث الباب مع القياس على الهدايا، وفعله صلى الله عليه وسلم لا يدل على الأفضلية بل على الجواز، ولعله لم يجد غيره، كما ثبت في (الصحيح) أنه صلى الله عليه وسلم: ضحى عن نسائه بالبقرة. فإن قلت: روى أبو داود وابن ماجة من حديث عبادة بن الصامت بإسناد صحيح أنه قال: (خير الأضحية الكبش الأقرن). قلت: مراده خير الأضحية من الغنم الكبش الأقرن، وقال إمام الحرمين: البدنة من الإبل ثم الشرع قد يقيم مقامها بقرة وسبعا من الغنم، وتظهر ثمرة هذا فيما إذا قال: لله علي بدنة، وفيه خلاف، الأصح تعين الإبل إن وجدت، وإلا فالبقر أو سبع من الغنم، وقيل: تتعين الإبل مطلقا وقيل يتخير مطلقا. وفيه: الملائكة المذكورون غير الحفظة، ووظيفتهم كتابة حاضريها، قاله الماوردي والنووي، وقال ابن بزيزة: لا أدري هم أم غيرهم؟ قلت: هؤلاء الملائكة يكتبون منازل الجائين إلى الجمعة مختصون بذلك، كما روى أحمد في (مسنده): عن أبي أمامة، رضي الله تعالى عنه: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تقعد الملائكة على أبواب المساجد فيكتبون الأول والثاني والثالث..) الحديث، والحفظة لا يفارقون من وكلوا عليهم، وروى أبو داود من حديث عطاء الخراساني، قال: (سمعت عليا، رضي الله تعالى عنه، على منبر الكوفة يقول: إذا كان يوم الجمعة غدت الشياطين براياتها إلى الأسواق فيرمون الناس بالترابيث أو الربائث، ويثبطونهم عن الجمعة، وتغدو الملائكة فتجلس على أبواب المسجد فيكتبون الرجل من ساعة والرجل من ساعتين حتى يخرج الإمام، فإذا جلس الرجل مجلسا يتمكن فيه من الاستماع والنظر فأنصت ولم بلغ كان كفلان من الأجر، فإن نأى حيث لا يستمع فأنصت ولم بلغ كان له كفل من الأجر، وإن جلس مجلسا يتمكن فيه من الاستماع والنظر فلغا ولم ينصت كان له كفل من وزر، ومن قال يوم الجمعة لصاحبه: مه، فقد لغى، فليس له في جمعته تلك شيء، ثم يقول في آخر ذلك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول ذلك). قال أبو داود: رواه الوليد بن مسلم عن ابن جابر، قال: بالربائث، وقال مولى امرأته أم عثمان ابن عطاء، ورواه أحمد من رواية الحجاج بن أرطاة عن عطاء الخراساني بلفظ: (وتقعد الملائكة على أبواب المسجد يكتبون الناس على قدر منازلهم السابق والمصلي والذي يليه حتى يخرج الإمام)، والربائث، بفتح الراء والباء الموحدة وآخره ثاء مثلثة: جمع ربيثة، وهو ما يحبس الإنسان ويشغله. وأما الترابيث فقال صاحب (النهاية): يجوز أن يكون جمع: تربيثة، وهي المرة الواحدة من التربيث، وقال الخطابي: وهذه الرواية ليست بشيء. وفيه: حضور الملائكة إذا خرج الإمام ليسمعوا الخطبة، لأن المراد من قوله: (يستمعون الذكر): هو الخطبة. فإن قلت: في الرواية الأخرى من (الصحيح): فإذا جلس الإمام طووا الصحف، فما الفرق بين الروايتين؟ قلت: بخروج الإمام يحضرون من غير طي، فإذا جلس الإمام على المنبر طووها. ويقال: ابتداء طيهم الصحف عند ابتداء خروج الإمام وانتهاؤه بجلوسه على المنبر، وهو أول سماعهم للذكر، والمراد به ما في الخطبة من المواعظ ونحوها.
5
((باب))
ثبت لفظ: باب، هكذا من غير ضم إلى شيء في أصل البخاري، وهو كالفصل من الباب الذي قبله، وقد ذكرنا أن

173
الأبواب تجمع الفصول، كما أن الكتب تجمع الأبواب، وهو غير معرب لأن المعرب جزء المركب إلا إذا جعلناه محذوف المبتدأ على تقدير: هذا باب، فحينئذ يكون معربا.
882 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن عمر رضي الله تعالى عنه بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ دخل رجل فقال عمر لم تحتبسون عن الصلاة فقال الرجل ما هو إلا أن سمعت النداء توضأت فقال ألم تسمعوا النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل. (انظر الحديث 878).
وجه مطابقة دخوله في باب فضل الجمعة من حيث إنكار عمر على هذا الداخل، وهو عثمان بن عفان، على ما ذكرناه مع جلالة قدره، لأجل احتباسه عن التبكير، فلولا عظم الفضيلة فيه لما أنكر عمر عليه بحضور الصحابة من المهاجرين والأنصار، فإذا ثبتت الفضيلة في التبكير إلى الجمعة ثبتت للجمعة بالطريق الأولى.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: أبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين. الثاني: شيبان، بفتح الشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف وبالباء الموحدة وبعد الألف نون: وهو ابن عبد الرحمن التميمي النحوي. الثالث: يحيى بن أبي كثير. الرابع: أبو سلمة بن عبد الرحمن. الخامس: أبو هريرة.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة

174
مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن الراويين الأولين كوفيان والثالث يماني والرابع مدني. وفيه: شيخ البخاري المذكور مذكور بكنيته، وشيخه مذكور مجردا. وفيه: أبو سلمة مذكور بكنيته وفي اسمه اختلاف، والأصح أن كنيته اسمه.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم. وأخرجه أبو داود في الطهارة عن أبي توبة الربيع بن نافع. وقد مر الكلام فيه مستوفى في: باب فضل الغسل يوم الجمعة، فإنه أخرج هناك من حديث ابن عمر عن عمر، رضي الله تعالى عنهما. قوله: (إذ دخل رجل)، سماه عبيد الله بن موسى في روايته عن شيبان أنه: عثمان بن عفان، وكذا سماه الأوزاعي في روايته عند مسلم، وكذا سماه حرب بن شداد في رواية الطحاوي، كلاهما عن يحيى بن أبي كثير. قوله: (لم تحتبسون عن الصلاة؟) أي: عن الحضور في أول وقتها. قوله: (النداء) أي: الأذان. قوله: (يقول)، ويروى: (قال).
6
((باب الدهن للجمعة))
أي: هذا باب في بيان حكم الدهن لأجل الجمعة، والدهن، بفتح الدال: مصدر من دهنت دهنا، وبالضم اسم، وههنا بالفتح، وإنما لم يجزم بحكمه للاختلاف فيه على ما نذكره.
883 حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري قال أخبرني أبي عن ابن وديعة عن سلمان الفارسي قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى. (الحديث 883 طرفه في: 910).
مطابقته للترجمة في قوله: (ويدهن من دهنه).
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: آدم بن أبي إياس. الثاني: محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، واسمه هشام القرشي العامري أبو الحارث المدني. الثالث: سعيد بن أبي سعيد واسمه: كيسان المقبري أبو سعيد المدني، والمقبري نسبة إلى مقبرة بالمدينة كان مجاورا بها. الرابع: أبو سعيد المقبري. الخامس: عبد الله بن وديعة بن حرام أبو وديعة الأنصاري المدني، قتل بالحرة. السادس: سلمان الفارسي، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن رواته كلم مدنيون. وفيه: ثلاثة من التابعين متوالية وهم: سعيد وأبوه وابن وديعة، وقد ذكر ابن سعد ابن وديعة من الصحابة، وكذا ذكره ابن منده، وعزاه لأبي حاتم. وقال الذهبي في (تجريد الصحابة): عبد الله ابن وديعة بن حرام الأنصاري، له صحبة، وروى عنه أبو سعيد المقبري، فعلى هذا يكون فيه: رواية تابعيين عن صحابيين. وفيه: رواية الابن عن الأب. وفيه: أن ابن وديعة ليس له في البخاري إلا هذا الحديث. وفيه: غمز الدارقطني على البخاري حيث قال: إنه اختلف فيه على سعيد المقبري، فرواه ابن أبي ذئب عنه هكذا، ورواه ابن عجلان عنه، فقال: عن أبي ذر، بدل سلمان، وأرسله أبو معشر عنه، فلم يذكر سلمان ولا أبا ذر، ورواه عبيد الله العمري عنه فقال: عن أبي هريرة. انتهى. قلت: رواية ابن عجلان من حديث أبي ذر أخرجها ابن ماجة فقال: أخبرنا سهل بن أبي سهل وحوثرة بن محمد قالا: أخبرنا يحيى بن سعيد القطان عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبيه عن عبد الله بن وديعة عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله، وتطهر فأحسن طهوره، ولبس من أحسن ثيابه، ومس ما كتب الله له من طيب أهله، ثم أتى الجمعة ولم يلغ ولم يفرق بين اثنين غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى). ورواية أبي معشر عن سعيد بن منصور، ورواية عبيد الله العمري عن أبي يعلى، ولا يرد كلام الدارقطني لأن رواية البخاري والطريقة التي فيها من اتقن الروايات وأحكمها، وغيرها لا يلحقها.
ذكر معناه: قوله: (لا يغتسل رجل..) إلى آخره، مشتمل على شروط سبعة لحصول المغفرة، وجاء في غيره من الأحاديث شروط أخرى على ما نذكرها إن شاء الله تعالى. الأول: الاغتسال يوم الجمعة، وفيه دليل على أنه يدخل وقت غسل الجمعة بطلوع الفجر من يومه، وهو قول جمهور العلماء. الثاني: التطهر، وهو معنى: (ويتطهر ما استطاع من الطهر)، وفي رواية الكشميهني: (من طهر) بالتنكير، ويراد به المبالغة في التنظيف، فلذلك ذكره في باب التفعل وهو للتكلف، والمراد به: التنظيف بأخذ الشارب وقص الظفر وحلق العانة، أو المراد بالاغتسال: غسل الجسد، وبالتطهر: غسل الرأس. أو المراد به: تنظيف الثياب، وورد ذلك في حديث أبي سعيد وأبي أيوب، فحديث أبي سعيد عند أبي داود ولفظه: (من اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه). وحديث أبي أيوب عند أحمد والطبراني، ولفظه: (من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه). الثالث: الادهان، وهو معنى قوله: (ويدهن من دهنه)، والمراد به: إزالة شعث الرأس واللحية به، ويدهن بتشديد الدال من باب الافتعال، لأن أصله: يتدهن، فقلبت التاء دالا وأدغمت الدال في الدال. الرابع: مس الطيب، وهو معنى قوله: (أو يمس من طيب بيته)، قيل: معناه إن لم يجد دهنا يمس من طيب بيته، وقيل: أو، بمعنى: الواو. وقال الكرماني: و: أو، في (أو يمس) لا ينافي الجمع بينهما. وقيل: بطيب بيته ليؤذن بأن السنة أن يتخذ الطيب لنفسه ويجعل استعماله عادة له، فيدخر في البيت بناء على أن المراد بالبيت حقيقته، ولكن في حديث عبد الله بن عمرو عند داود: (أو يمس من طيب امرأته)، والمعنى على هذا إن لم يتخذ لنفسه طيبا فليستعمل من طيب امرأته. وفي حديث سلمان عند البخاري ولفظه: (أو يمس من طيب بيته)، وقال شيخنا زين الدين في (شرح الترمذي): الظاهر أن تقييد ذلك بطيب المرأة والأهل غير مقصود، وإنما خرج مخرج الغالب، وإنما المراد بما سهل عليه مما هو موجود في بيته، ويدل عليه قوله في حديث أبي سعيد وأبي هريرة: (ويمس من طيب إن كان عنده). أي: في البيت سواء كان فيه طيب أهله أو طيب
امرأته. قوله: (ثم يخرج) زاد في حديث أبي أيوب عند ابن خزيمة: (إلى المسجد). الخامس: أن لا يفرق بين اثنين وهو معنى قوله: (فلا يفرق بين اثنين)، وهو كناية عن التبكير، أي: عليه أن يبكر فلا يتخطى رقاب الناس، كذا قاله الكرماني، ويقال: معناه لا يزاحم رجلين فيدخل بينهما، لأنه ربما ضيق عليهما خصوصا في شدة الحر واجتماع الأنفاس. السادس: يصلي ما شاء وهو معنى قوله: (ثم يصلي ما كتب له)، وفي حديث أبي الدرداء عند أحمد والطبراني، (وركع ما قضي له)، وفي حديث أبي أيوب عند أحمد والطبراني أيضا (فيركع إن بدا له). السابع: الإنصات، وهو معنى قوله: (ثم ينصت)، بضم الياء: من الإنصات. يقال: أنصت إذا سكت وأنصته إذا أسكته، فهو لازم ومتعد، والأول المراد هنا، ويروى: (ثم أنصت)، وفي أصول مسلم: (انتصت)، بزيادة التاء المثناة من فوق. قال عياض: وهو وهم، وذكر صاحب (الموعب) والأزهري وغيرهما: أنصت ونصت وانتصت، ثلاث لغات بمعنى واحد فلا وهم

175
حينئذ. قوله: (إذا تكلم الإمام) أي: إذا شرع في الخطبة. وفي حديث قرثع الضبي: (حتى يقضي صلاته)، ونحوه في حديث أبي أيوب.
وأما الزيادة على الشروط السبعة المذكورة. فمنها: المشي وترك الركوب، وفي حديث أبي الدرداء عند أحمد والطبراني في (الكبير): (من اغتسل يوم الجمعة) الحديث، وفيه: (ثم مشى إلى الجمعة)، ولا شك أن المشي في السعي إليها أفضل إلا أن يكون بعيدا عن إقامتها وخشي فوتها فالركوب أفضل، وهل المراد بالمشي في الذهاب إليها فقط أو الذهاب والرجوع؟ أما في الذهاب إليها فهو آكد، وأما في الرجوع فهو مندوب إليه أيضا. ومنها: ترك الأذى، ففي حديث أبي أيوب: (ولم يؤذ أحدا). فإن قلت: قوله: (فلا يفرق بين اثنين) يغني عن هذا؟ قلت: الأذى أعم من التفريق بين الاثنين، فيحتمل أن يكون الأذى في المسجد، وفي طريق المسجد، ويدل عليه ما في حديث أبي الدرداء: (ولم يتخط أحدا ولم يؤذ)، والعطف يقتضي المغايرة، فهو من ذكر العام بعد الخاص. ومنها: المشي إلى المسجد، وعليه السكينة. وفي حديث أبي أيوب: (ثم خرج وعليه السكينة حتى يأتي المسجد)، والمراد به: التؤدة في مشيه إلى الجمعة وتقصير الخطا. ومنها: الدنو من الإمام، كما جاء في رواية أبي داود والنسائي وابن ماجة، ثم المراد بالدنو من الإمام هل هو حالة الخطبة أو حالة الصلاة إذا تباعد ما بين المنبر والمصلى مثلا؟ الظاهر أن المراد حينئذ الدنو منه في حالة الخطبة لسماعها، وفي حديث ابن عباس عند البزار والطبراني في (الأوسط): (ثم دنا حيث يسمع خطبة الإمام)، والحديث ضعيف. ومنها: ترك اللغو، وفي حديث عبد الله بن عمر، وعند أبي داود: (ثم لم يتخط رقاب الناس ولم يلغ عند الموعظة كانت كفارة لما بينهما، ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا). وفي حديث أبي طلحة عند الطبراني في (الكبير) (وأنصت ولم يلغ في يوم الجمعة) الحديث. واللغو قد يكون بغير الكلام، كمس الحصى وتقليبه بحيث يشغل سمعه وفكره، وفي بعض الأحاديث: (ومن مس الحصى فقد لغا). ومنها: الاستماع، وهو إلقاء السمع لما يقوله الخطيب. فإن قلت: الإنصات يغني عنه؟ قلت: لا لأن الانصات ترك الكلام، والاستماع ما ذكرناه، وقد يستمع ولا ينصت بأن يلقي سمعه لما يقوله وهو يتكلم بكلام يسير أو يكون قوي الحواس بحيث لا يشتغل بالاستماع عن الكلام، ولا بالكلام عن الاستماع، فالكمال الجمع بين الإنصات والاستماع.
قوله: (ما بينه وبين الجمعة الأخرى) أي: ما بين يوم الجمعة هذا وبين يوم الجمعة الأخرى. قوله: (الأخرى) يحتمل الماضية قبلها والمستقبلة بعدها، لأن الأخرى تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بكسرها.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: استحباب الغسل يوم الجمعة، وقوله: (لا يغتسل..) إلى آخره، وهو محمول على الغسل الشرعي عند جمهور العلماء، وحكي عن المالكية تجويزه بماء الورد، ويرده قوله: صلى الله عليه وسلم في (الصحيح) (من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة). وفيه: استحباب تنظيف ثيابه يوم الجمعة. وفيه: استحباب الادهان والتطيب. وفيه: كراهة التخطي يوم الجمعة، وقال الشافعي: أكره التخطي إلا لمن لا يجد السبيل إلى المصلى إلا بذلك، وكان مالك لا يكره التخطي إلا إذا كان الإمام على المنبر. وفيه: مشروعية التنفل قبل صلاة الجمعة بما شاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلى ما كتب له). وفيه: وجوب الإنصات لورود الأمر بذلك، واختلف العلماء في الكلام: هل هو حرام أم مكروه كراهة تنزيه؟ وهما قولان للشافعي قديم وجديد، قال القاضي: قال مالك وأبو حنيفة وعامة الفقهاء: يجب الإنصات للخطبة. وحكي عن الشعبي والنخعي: أنه لا يجب إلا إذا تلى فيها القرآن، واختلفوا إذا لم يسمع الإمام هل يلزمه الإنصات كما لو سمعه؟ فقال الجمهور: يلزمه. وقال النخعي وأحمد والشافعي، في أحد قوليه: لا يلزمه. ولو لغا الإمام هل يلزمه الإنصات أم لا؟ فيه قولان. وفيه: أن المغفرة ما بينه وبين الجمعة الأخرى، مشروطة بوجود ما تقدم من الأمور السبعة المذكورة في الحديث فإن قلت: في حديث نبيشة: (يكون كفارة للجمعة التي تليها)، فما وجه الجمع بين الحديثين؟ قلت: يحتمل أن يحمل الحديثان على حالين، فإن كانت له ذنوب في الجمعة التي قبلها كفرت ما قبلها، فإن لم تكن له ذنوب فيها بأن حفظ فيها أو كفرت بأمر آخر إما بالأيام الثلاثة الزائدة على الأسبوع التي عينها في الحديث: (وزيادة ثلاثة أيام)، فتكفر عنه ذنوب الجمعة المستقبلة. فإن قلت: تكفير الذنوب الماضية: بالحسنات وبالتوبة وبتجاوز الله تعالى، فكيف يعقل تكفير الذنب قبل وقوعه؟ قلت: المراد عدم المؤاخذة به إذا وقع، ومنه ما ورد في مغفرة ما تقدم من الذنب وما تأخر، ومنه حديث أبي قتادة في (صحيح مسلم): (صيام يوم عرفة احتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده).

176
884 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال طاووس قلت لابن عباس ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال اغتسلوا يوم الجمعة واغسلوا رؤوسكم وإن لم تكونوا جنبا وأصيبوا من الطيب. قال ابن عباس أما الغسل فنعم وأما الطيب فلا أدري (الحديث 884 طرفه في: 885).
ليس في هذا الحديث ذكر الدهن ليطابق الترجمة، ولكن تأتي المطابقة من وجه آخر، وهو أن العادة استعمال الدهن بعد غسل الرأس، فكأن هذا أشعر به، ووجه آخر: أن الدهن ذكر في حديث طاووس هذا في رواية إبراهيم بن ميسرة، وإنما الزهري الذي لم يذكره، وزيادة الثقة الحافظ مقبولة، والحديث واحد، فكأنه مذكور أيضا في رواية الزهري تقديرا وإن لم يكن صريحا.
ورجال الحديث قد تكرر ذكرهم، وأبو اليمان هو الحكم بن نافع غالبا يروي عن شعيب بن أبي حمزة عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن طاووس. وأخرجه النسائي أيضا في الصلاة عن محمد بن يحيى بن عبد الله عن أبي اليمان به.
قوله: (ذكروا)، لم يسم طاووس من حدثه بذلك، والظاهر أنه أبو هريرة، لأن الطحاوي روى من طريق عمرو بن دينار عن طاووس عن أبي هريرة نحوه، وكذلك رواه ابن خزيمة وابن حبان. قوله: (واغسلوا رؤوسكم) إما تأكيد (لاغتسلوا) من باب ذكر الخاص بعد العام، وبيان لزيادة الاهتمام به، أو يراد بالأول: الغسل المشهور الذي هو كغسل الجنابة، وبالثاني: التنظيف من الأذى واستعمال الدهن. قوله: (وإن لم تكونوا جنبا)، عطف على مقدر تقديره: إن كنتم جنبا وإن لم تكونوا جنبا، ولفظ الجنب يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، فلذلك وقع خبرا لقوله: (وإن لم تكونوا). قوله: (وأصيبوا) أمر من الإصابة، وكلمة: من، في: من الطيب، للتبعيض قائم مقام المفعول أي: أصيبوا بعض الطيب، ومعناه: استعملوا. قوله: (فلا أدري) أي: فلا أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله، وهذا يخالف ما رواه ابن ماجة من رواية صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عبيد بن السباق عن ابن عباس مرفوعا: (من جاء إلى الجمعة فليغتسل وإن كان له طيب فليمس منه)، وصالح ضعيف، وخالفه مالك فرواه عن الزهري عن عبيد بن سباق مرسلا.
ومما يستفاد منه: أن الاغتسال يوم الجمعة للجنابة يجوز عن الجمعة، سواء نواه للجمعة أو لا. وقال ابن المنذر: أكثر من يحفظ فيه من أهل العلم يقولون: يجزئ غسلة واحدة للجنابة والجمعة. وقال ابن بطال: رويناه عن ابن عمر ومجاهد ومكحول والثوري والأوزاعي وأبي ثور، وقال أحمد: أرجو أن يجزيه، وهو قول أشهب وغيره، وبه قال المزني. وعن أحمد: أنه لا يجزيه عن غسل الجنابة حتى ينويها، وهو قول مالك في (المدونة): وذكره ابن عبد الحكم، وذكر ابن المنذر عن بعض ولد أبي قتادة أنه قال: من اغتسل للجنابة يوم الجمعة اغتسل للجمعة.
885 حدثنا إبراهيم بن موساى قال أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم في الغسل يوم الجمعة فقلت لابن عباس أيمس طيبا أو دهنا إن كان عند أهله فقال لا أعلمه. (انظر الحديث 884).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: إبراهيم بن موسى الفراء أبو إسحاق الرازي الحافظ. الثاني: هشام بن يوسف أبو عبد الرحمن قاضي صنعاء، مات سنة سبع وتسعين ومائة باليمن. الثالث: عبد الملك بن جريج. الرابع: إبراهيم بن ميسرة، بفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وفتح السين والراء المهملتين: الطائفي المكي التابعي. الخامس: طاووس اليماني. السادس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي. وفيه: أن رواته ما بين رازي وصنعاني ومكي وطائفي ويماني على نسق مذكور فيه.
وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن الحسن بن علي وعن محمد بن رافع وعن إسحاق بن إبراهيم وعن هارون بن عبد الله، الكل عن ابن جريج.
قوله: (أيمس طيبا؟) الهمزة فيه للاستفهام

177
وطيبا. منصوب بقوله: (يمس). قوله: (فقال)، أي: ابن عباس. قوله: (لا أعلمه) أي: لا أعلم أنه قول النبي، صلى الله عليه وسلم، ولا كونه مندوبا.
7
((باب يلبس أحسن ما يجد))
أي: هذا باب ترجمته يلبس من يجيء إلى الجمعة أحسن ما يجد من الثياب.
886 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن عمر بن الخطاب رأى حلة سبراء عند باب المسجد فقال يا رسول الله لو اشتريت هاذه فلبستها يوم الجمعة وللموفد إذا قدموا عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما يلبس هاذه من لا خلاق له في الآخرة ثم جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حلل فأعطى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه منها حلة فقال عمر يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني لم أكسكها لتلبسها فكساها عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أخا له بمكة مشركا..
مطابقته للترجمة من حيث إنه يدل على استحباب التجمل يوم الجمعة، والتجمل يكون بأحسن الثياب، وإنكاره صلى الله عليه وسلم على عمر، رضي الله تعالى عنه، لم يكن لأجل التجمل بأحسن الثياب، وإنما كان لأجل تلك الحالة التي أشار إليها عمر بشرائها من الحرير، وبهذا يرد على الداودي قوله: ليس في الحديث دلالة على الترجمة، لأنه لا يلزم أن تكون الدلالة صريحا، ولم يلتزم البخاري بذلك، وقد جرت عادته في التراجم بمثل ذلك، وبأبعد منه في الدلالة عليها. فافهم.
ذكر بقية الكلام فيه: أما رجاله فإنهم قد تكرر ذكرهم خصوصا على هذا النسق، وهذا السند من أعلى الأسانيد وأحسنها: مالك عن نافع عن ابن عمر.
وأما البخاري فإنه أخرجه في الهبة أيضا عن القعنبي، وأخرجه مسلم في اللباس عن يحيى ابن يحيى. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن القعنبي. وأخرجه النسائي فيه عن قتيبة، الكل عن مالك، رضي الله تعالى عنه، وهو من مسند ابن عمر، وجعله مسلم من مسند عمر لا ابنه.
وأما معناه فقوله: (حلة): هي الإزار والرداء، لا تكون حلة حتى تكون ثوبين، سواء كانا من برد أو غيره. وقال ابن التين: لا تكون حلة حتى تكون جديدة، سميت بذلك لحلها عن طيها، وقال أبو عبيد: الحلل برود اليمن، وتجمع على: حلال أيضا والأشهر: حلل. قوله: (سيراء)، بكسر السين المهملة وفتح الياء آخر
الحروف بعدها راء ممدودة، قال ابن قرقول: هو الحرير الصافي، فمعناه: حلة حرير، وعن مالك: السيراء شيء من حرير، وعن ابن الأنباري: السيراء الذهب، وقيل: هو نبت ذو ألوان وخطوط ممتدة كأنها السيور ويخالطها حرير، وقال الفراء: هي نبت، وهي أيضا ثياب من ثياب اليمن. وفي (الصحاح): برود فيها خطوط صفر. وفي (المحكم): قيل هو ثوب مسير فيه خطوط يعمل من القز. وفي (الجامع): قيل هي ثياب يخالطها حرير. وفي (العين): يقال: سيرت الثوب والسهم جعلته خطوطا. وفي (المغيث): برود يخالطها حرير كالسيور، فهو فعلاء من السير وهو: القد. وقال الطقرطبي: هي المخططة بالحرير، ذكره الخليل والأصمعي، ثم إعراب: حلة سيراء، ورواه بعضهم على الوصفية. قلت: فعلى هذا: حلة، بالتنوين، وسيراء، صفته وقيل: إن سيراء، بدل من: حلة، وليس بصفة. وقال الخطابي: حلة سيراء كناقة عشراء قلت: يعني بالتنوين، ولكن أهل العربية يختارون الإضافة. قال سيبويه: لم يأت فعلاء صفة، واختلفت الروايات في هذه اللفظة. فقال أبو عمر: قال أهل العلم: إنها كانت حلة من حرير، وجاء: من إستبرق وهو الحرير الغليظ، وقال الداودي: هو رقيق الحرير، وأهل اللغة على خلافه، وفي رواية أخرى: (من ديباج أو خز). وفي رواية: (حلة سندس)، وكلها دالة على أنها كانت حريرا محضا. وهو الصحيح لأنه هو المحرم. وأما المختلط فلا يحرم إلا أن يكون الحرير أكثر وزنا عند الشافعية، وعند الحنفية العبرة للحمة كما عرف في موضعه. قوله: (لو اشتريت هذه؟) يجوز أن تكون كلمة: لو، للشرط، ويكون جزاؤها محذوفا تقديره: لكان حسنا، ويجوز أن تكون للتمني فلا تحتاج إلى الجزاء. قوله: (فلبستها يوم الجمعة وللوفد؟) وفي رواية

178
للبخاري: (فلبستها للعيد وللوفود)، وفي رواية الشافعي: فلبستها للجمعة والوفود)، وهو جمع: وفد، والوفد جمع: وافد، وهو القادم رسولا وزائرا منتجعا أو مسترفدا. قوله: (إنما يليس هذه من لا خلاق له)، وفي رواية: (إنما يلبس الحرير)، ويلبس بفتح الباء الموحدة، والخلاق: الحظ والنصيب من الخير والصلاح. وقال ابن سيده: لا خلاق له، يعني: لا رغبة له في الخير. وقال عياض: وقيل: الحرمة، وقيل: الدين، فعلى قول من يقول: النصيب والحظ، يكون محمولا على الكفار، وعلى القولين الأخيرين يتناول المسلم والكافر. قوله: (منها)، أي: من الحلة السيراء، والضمير في: منها، الثاني يرجع إلى الحلل. قوله: (في حلة عطارد)، بضم العين المهملة وتخفيف الطاء المهملة وكسر الراء وفي آخره دال مهملة: وهو عطارد بن حاجب بن زرارة بن زيد بن عبد الله ابن درام بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة تسع وعليه الأكثرون، وقيل: سنة عشر، وهو صاحب الديباج الذي أهداه للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان كسرى كساه إياه فعجب منه الصحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذا). وقال الذهبي: له وفادة مع الأقرع والزبرقان، ذكره في (كتاب الصحابة) وكان عطارد يقيم بالسوق الحلل أي: يعرضها للبيع، فأضاف الحلة إليه بهذه الملابسة، وقال أبو عمر: قال أيوب: عن ابن سيرين: حلة عطارد أو لبيد على الشك. قوله: (فكساها عمر)، أي: فكسا الحلة التي أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم (أخا له بمكة مشركا) وانتصاب: أخا، على أنه مفعول ثان: لكسا، يقال: كسوته جبة، فيتعدى إلى مفعولين أحدهما غير الأول. قوله: (له) في محل النصب لأنه صفة لقوله: (أخا) تقديره أخا كائنا له، وكذلك: بمكة، في محل النصب، ومشركا أيضا نصب على أنه صفة بعد صفة. قيل: إنه أخوه من أمه. وقيل: أخوه من الرضاعة. وفي النسائي و (صحيح أبي عوانة): (فكساها أخا له من أمه مشركا)، واسمه: عثمان ابن حكيم، وقد اختلف في إسلامه، قاله بعضهم. قلت: وفي رواية للبخاري: أرسل بها عمر، رضي الله تعالى عنه، إلى أخ له من أهل مكة قبل أن يسلم، وهذا يدل على إسلامه بعد ذلك.
وأما الذي يستفاد منه: فعلى أوجه: الأول: فيه دلالة على حرمة الحرير للرجال، قال القرطبي، رحمه الله: اختلف الناس في لباس الحرير، فمن مانع ومن مجوز على الإطلاق، والجمهور من العلماء على منعه للرجال، وقد صح أنه، صلى الله عليه وسلم قال: (شققها خمرا بين نسائك)، وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم قال: (حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح: (وعن عمر، رضي الله تعالى عنه أنه خطب بالجابية فقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاث أو أربع). وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. الثاني: فيه جواز البيع والشراء على أبواب المساجد. الثالث: فيه مباشرة الصالحين والفضلاء البيع والشراء،. الرابع: فيه جواز ملك ما لا يجوز لبسه له، وجواز هديته وتحصيل المال منه، وقد جاء: (لتصيب بها مالا). الخامس: فيه ما كان صلى الله عليه وسلم عليه من السخاء والجود وصلة الإخوان والأصحاب بالعطاء. السادس: فيه صلة للأقارب الكفار والإحسان إليهم، وجواز الهدية إلى الكافر. السابع: فيه جواز إهداء الحرير للرجال لأنها لا تتعين للبسهم. فإن قلت: يؤخذ منه عدم مخاطبة الكفار بالفروع حيث كساه عمر، رضي الله تعالى عنه، إياه؟ قلت: هذه حجة الحنفية، فإن الكفار غير مخاطبين بالشرائع عندهم. وقالت الشافعية: يؤخذ منه ذلك لأنه ليس فيه الإذن، وإنما هو الهدية إلى الكافر، وقد بعث الشارع ذلك إلى عمر وعلي وأسامة، رضي الله تعالى عنهم، ولم يلزم منه إباحة لبسها لهم، بل صرح صلى الله عليه وسلم بأنه إنما أعطاها لينتفع بها بغير اللبس، حيث قال صلى الله عليه وسلم: (تبيعها وتصيب بها حاجتك). الثامن: فيه عرض المفضول على الفاضل ما يحتاج إليه من مصالحه التي لا يذكرها. التاسع: فيه أن من لبس الحرير في الدنيا من الرجال والنساء ظاهره أنه يحرم من ذلك في الآخرة، لأن كلمة: من، تدل على العموم وتتناول الذكور والإناث، لكن الحديث مخصوص بالرجال لقيام دلائل أخرى بإباحته للنساء، وأما مسألة الحرمان في الآخرة فمنهم من حمله على حقيقته، وزعم أن لابسه يحرم في الآخرة من لبسه سواء تاب عن ذلك أو لا، جريا على الظاهر، والأكثرون على أنه لا يحرم إذا تاب ومات على توبته. العاشر: فيه استحباب لبس الثياب الحسنة يوم الجمعة، وروى أبو داود من حديث ابن سلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما على أحدكم لو اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته؟). وروى ابن ماجة من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: قال رسول

179
الله صلى الله عليه وسلم: (ما على أحدكم، أن وجد سعة أن يتخذ ثوبين للجمعة سوى ثوبي مهنته؟) وروى ابن أبي شيبة بإسناد على شرط مسلم، عن أبي سعيد
مرفوعا: (إن من الحق على المسلم إذا كان يوم الجمعة السواك، وأن يلبس من صالح ثيابه، وأن يطيب بطيب إن كان).
8
((باب السواك يوم الجمعة))
أي: هذا باب في بيان استعمال السواك يوم الجمعة، والسواك اسم لما يدلك به الأسنان من العيدان، يقال: ساك فاه يسوكه إذا دلكه بالسواك، فإذ لم يذكر الفم. يقال: استاك، وقال الجوهري: السواك المسواك.
وقال أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم يستن
أبو سعيد هو الخدري، واسمه سعد بن مالك، وهذا تعليق وهو طرف من حديث أبي سعيد ذكره في: باب الطيب للجمة، وفي الحديث ذكر الجمعة، وبه يقع التطابق بين هذا المعلق والترجمة. قوله: (يستن) من الاستنان وهو الاستياك.
887 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أشق على أمتي أو على الناس لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة. (الحديث 887 طرفه في: 7240).
مطابقته للترجمة من حيث إن السواك عند كل صلاة، وصلاة الجمعة من كل صلاة.
ورجاله: قد ذكروا غير مرة، وأبو الزناد عبد الله بن ذكوان، والأعرج عبد الرحمن بن هرمز، وهذا الحديث رواه عن أبي هريرة جعفر بن ربيعة بلفظ: (على أمتي لأمرتهم بالسواك)، وعند النسائي من رواية قتيبة عن مالك: (مع كل صلاة)، وزعم أبو عمر أن رواية عبد الله بن يوسف عن مالك: (لولا أن أشق على المؤمنين أو على الناس لأمرتهم بالسواك)، وكذا قاله القعنبي وأيوب بن صالح ومعن، وزاد: (عند كل صلاة)، وكذلك قال قتيبة فيه: (عند كل صلاة)، ولم يقل: أو على الناس، وذكر أبو العباس أحمد بن طاهر في آخر كتابه (أطراف الموطأ) أن أبا هريرة قال: (لولا أن يشق على أمته لأمرهم بالسواك مع كل وضوء)، وأنه موقوف عند يحيى بن يحيى وطائفة، ورفعه روح وسعيد بن عفير ومطرف وجماعة عن مالك، قال، ورواية معن ومطرف وجويرية: (مع كل صلاة)، وأما الدارقطني فذكر في (الموطأ): أن ابن يوسف ومحمد بن يحيى قالا: (لولا أن أشق على أمتي أو على الناس) وقال معن: (على المؤمنين أو على الناس لأمرتهم بالسواك)، وزاد معن: (عند كل صلاة). انتهى. وكأن قول الدارقطني هو الصواب، كما ذكره البخاري وغيره، وادعى ابن التين أنه ليس في هذا الحديث في (الموطأ): (مع كل صلاة)، ولا قوله: (أو على الناس)، وقد ظهر لك خلافه، وقال صاحب (التوضيح): وفي الباب عن سبعة عشر صحابيا ذكرهم الترمذي. فإن قلت: كيف التوفيق بين رواية: عند كل وضوء، ورواية: عند كل صلاة؟ قلت: السواك الواقع عند الوضوء واقع للصلاة لأن الوضوء مشرع لها.
ذكر معناه: قوله: (لولا) كلمة لربط امتناع الثانية لوجود الأولى، نحو: لولا زيد لأكرمتك، أي: لولا زيد موجود، والمعنى ههنا، لولا مخافة أن أشق لأمرتهم أمر إيجاب، وإلا لانعكس معناها إذ الممتنع: المشقة، والموجود: الأمر. وقال القاضي البيضاوي: لولا، كلمة تدل على انتفاء الشيء لثبوت غيره، والحق أنها مركبة من: لو، الدالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره، و: لا، النافية، فدل الحديث على انتفاء الأمر لثبوت المشقة، لأن انتفاء النفي ثبوت، فيكون الأمر منفيا لثبوت المشقة. قوله: (أن أشق) كلمة: أن، مصدرية، وهي محل الرفع على الابتداء، وخبره محذوف واجب الحذف، والتقدير: لولا المشقة موجودة لأمرتهم. قوله: (أو على الناس)، شك من الراوي. قوله: (بالسواك) أي: باستعمال السواك، لأن السواك آلة.
ذكر الأحكام المتعلقة به: وهو على وجوه.
الأول: ان استعمال السواك، هل هو واجب أم سنة؟ فذهب أكثر أهل العلم إلى عدم وجوبه، بل ادعى بعضهم فيه الإجماع، وحكى الشيخ أبو حامد والماوردي عن إسحاق بن راهويه أنه قال:

180
هو واجب لكل صلاة فمن تركه عامدا بطلت صلاته، وعن داود: أنه واجب ولكنه ليس بشرط، واحتج من قال بوجوبه بورود الأمر به، فعند ابن ماجة في حديث أبي أمامة مرفوعا: (تسوكوا)، ولأحمد نحوه من حديث العباس، وقالوا: في حديث أبي هريرة المذكور دليل على أن الأمر للوجوب من وجهين: أحدهما: أنه نفي الأمر مع ثبوت الندبية، ولو كان للندب لما جاز النفي. والآخر: أنه جعل الأمر مشقة عليهم، وذلك إنما يتحقق إذا كان الأمر للوجوب، إذ الندب لا مشقة فيه لأنه جائز الترك. قلت: الجواب أن شيئا من الأحاديث المذكورة لم يثبت، وثبوت الندبية بدليل آخر، والحديث نفي الفرضية بما ذكرنا والسنية أو الندبية بدلائل أخرى. وقال الشافعي: فيه دليل على أن السواك ليس بواجب، لأنه لو كان واجبا لأمرهم به، شق عليهم أو لم يشق، والعجب من صاحب (الهداية) يقول: السواك سنة لأنه صلى الله عليه وسلم كان يواظب عليه، ولم يذكر شيئا من الأحاديث الدالة على المواظبة، وقد علم أن مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على فعل شيء يدل على أن ذلك واجب، وأعجب منه ما قاله الشراح (للهداية): أن المواظبة مع الترك دليل السنية، وقد دل على تركه حديث الأعرابي، فإنه لم ينقل فيه تعليم السواك، فلو كان واجبا لعلمه. قلت: فيه نظر من وجهين. الأول: أنهم لم يأتوا بحديث فيه تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم تركه في الجملة. والثاني: أن حديث الأعرابي لا يتم به استدلالهم، لأن العلماء اختلفوا في السواك، فقال بعضهم: هو من سنة الدين، وقال بعضهم: هو من سنة الوضوء، وقال آخرون: من سنة الصلاة. وقول من قال: إنه من سنة الدين أقوى، نقل ذلك عن أبي حنيفة. وفيه أحاديث تدل على ذلك. منها: ما رواه أحمد والترمذي من حديث أبي أيوب، رضي الله تعالى عنه: (أربع من سنن المرسلين: الختان والسواك والتعطر والنكاح) ورواه ابن أبي خيثمة وغيره من حديث فليح بن عبد الله عن أبيه عن جده نحوه، ورواه الطبراني من حديث ابن عباس
. ومنها: ما رواه مسلم من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها: (عشر من الفطرة...) فذكر فيها السواك. ومنها: ما رواه البزار من حديث أبي هريرة: (الطهارات أربع: قص الشارب وحلق العانة وتقليم الأظافر والسواك)، ورواه الطبراني من حديث أبي الدرداء.
الوجه الثاني: في بيان وقت الاستياك. فعند أكثر أصحابنا وقته وقت المضمضة، وذكر صاحب (المحيط) وغيره: إن وقته وقت الوضوء، إلا أن المنقول عن أبي حنيفة أنه من سنن الدين، فحينئذ يستوي فيه كل الأحوال، وذكر في (كفاية المنتهي): أنه يستاك قبل الوضوء، وعند الشافعي: هو سنة القيام إلى الصلاة وعند الوضوء وعند كل حال يتغير فيها الفم.
الوجه الثالث: في كيفية الاستياك: قال أصحابنا يستاك عرضا لا طولا، عند مضمضة الوضوء. وأخرج أبو نعيم من حديث عائشة، قالت: (كان صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا لا طولا). وفي (مراسيل) أبي داود (إذا استكتم فاستاكوا عرضا) وأخرج الطبراني بإسناده إلى بهز، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستاك عرضا). وعن إمام الحرمين أنه يمر السواك على طول الأسنان وعرضها، فإن اقتصر على أحدهما فالعرض أولى. وقال غيره من أصحاب الشافعي: يستاك عرضا لا طولا، ويأخذ السواك باليمنى، والمستحب فيه ثلاث بثلاث مياه.
الوجه الرابع: في أنه لا تقدير في السواك، بل يستاك إلى أن يطمئن قلبه بزوال النكهة واصفرار السن، ويقول عند الاستياك، اللهم طهر فمي ونور قلبي وطهر بدني وحرم جسدي على النار وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين. وفي (المحيط): العلك للمرأة يقوم مقام السواك لأن أسنانها ضعيفة يخاف منها السقوط، وهي ينقي الأسنان ويشد اللثة كالسواك.
الوجه الخامس: فيمن لا يجد السواك يعالج بالأصبع، لما روى البيهقي في (سننه) من حديث أنس، رضي الله تعالى عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجزئ من السواك الأصابع)، وضعفه. وروى الطبراني في (الأوسط) من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: (قلت: يا رسول الله! الرجل يدهن فوه أيستاك؟ قاال: نعم. قلت: كيف يصنع؟ قال: يدخل إصبعه في فيه).
الوجه السادس: فيما يستاك به وما لا يستاك به: المستحب أن يستاك بعود من أراك، وروى البخاري في (تاريخه) وغيره من حديث أبي خيرة الصباحي: (كنت في الوفد فزودنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأراك، وقال: استاكوا بهذا). وروى الطبراني في (الأوسط) من حديث معاذ بن جبل، رضي الله تعالى عنه، قال: (سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: (نعم السواك الزيتون من شجرة مباركة يطيب الفم ويذهب بالخفر وهو سواكي وسواك الأنبياء قبلي). وروى الحارث في (مسنده) عن ضمرة بن حبيب، قال: (نهى رسول الله، صلى الله عليه وسلم عن السواك بعود الريحان، وقال: إنه يحرك الجذام).
الوجه السابع: في

181
الحكمة في الاستياك: قال ابن دقيق العيد: الحكمة في استحباب الاستياك عند القيام إلى الصلاة كونها حال تقرب إلى الله تعالى، فاقتضى أن تكون حال كمال ونظافة إظهارا لشرف العبادة. وقد ورد من حديث علي، رضي الله تعالى عنه، عند البزار ما يدل على أنه لأمر يتعلق بالملك الذي يستمع القرآن من المصلي فلا يزال يدنو منه حتى يضع فاه على فيه، وروى أبو نعيم من حديث جابر برواة ثقات: (إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليستك، فإنه إذا قام يصلي أتاه ملك فيضع فاه على فيه فلا يخرج شيء من فيه إلا وقع في الملك). وروى القشيري بلا إسناد عن أبي الدرداء، رضي الله تعالى عنه، قال: (عليكم بالسواك فإن في السواك أربعا وعشرين خصلة أفضلها أن يرضى الرحمن، وتضاعف صلاته سبعا وسبعين ضعفا، ويورث السعة والغنى ويطيب النكهة ويشد اللثة ويسكن الصداع ويذهب وجع الضرس وتصافحه الملائكة لنور وجهه وبرق أسنانه)،
الوجه الثامن: في فضيلة السواك. منها: ما رواه أحمد وابن حبان من حديث عائشة، رضي الله تعالى عنه، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السواك مطهرة للفم مرضاة للرب). ومنها: ما رواه ابن حبان من حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، ولفظه: (عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب). ومنها: ما رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم والدارقطني وابن عدي والبيهقي في (الشعب) وأبو نعيم من حديث عروة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل الصلاة التي يستاك لها على الصلاة التي لا يستاك لها سبعون ضعفا). وقال أبو عمر: فضل السواك مجمع عليه لا اختلاف فيه، والصلاة عند الجميع به أفضل منها بغيره، حتى قال الأوزاعي: هو شطر الوضوء، ويتأكد طلبه عند إرادة الصلاة وعند الوضوء وقراءة القرآن والاستيقاظ من النوم وعند تغير الفم، ويستحب بين كل ركعتين من صلاة الليل ويوم الجمعة وقبل النوم وبعد الوتر وعند الأكل في السحر.
الوجه التاسع: في حديث الباب بيان ما كان النبي صلى الله عليه وسلم عليه من الشفقة على أمته لأنه لم يأمر بالسواك على سبيل الوجوب مخافة المشقة عليهم.
الوجه العاشر فيه: جواز الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه فيه نص، لكونه جعل المشقة سببا لعدم أمره، فلو كان الحكم متوقفا على النص لكان سبب انتفاء الوجوب عدم ورود النص لا وجود المشقة، فيكون معنى قوله: (لأمرتهم) أي: عن الله بأنه واجب. قلت: هذا احتمال بعيد، والظاهر أنه ترك الأمر به لخوف المشقة، والأمر منه صلى الله عليه وسلم أمر من الله في الحقيقة لأنه لا ينطق عن الهوى.
الثاني عشر: استدل به النسائي على استحباب السواك للصائم بعد الزوال لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (عند كل صلاة).
الثاني عشر: استدل بهذه اللفظة على استحباب السواك للفرائض والنوافل وصلاة العيد والاستسقاء والكسوف والخسوف لاقتضاء العموم ذلك.
الثالث عشر: قال المهلب فيه: إن السنن والفضائل ترتفع عن الناس إذا خشي منها الحرج على الناس، وإنما أكد في السواك لمناجاة الرب وتلقي الملائكة، فلزم تطهير
النكهة وتطييب الفم.
الرابع عشر فيه: إباحة السواك في المسجد لأن: عند، تقتضي الظرفية حقيقة فتقتضي استحبابه في كل صلاة، وعند بعض المالكية كراهته في المسجد لاستقذاره، والمسجد ينزه عنه.
888 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا شعيب بن الحبحاب قال حدثنا أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرت عليكم في السواك.
مطابقته للترجمة من حيث إن الإكثار في السواك الذي هو المبالغة في الحث عليه يتناول فعلها عند سائر الصلوات المكتوبة، والجمعة أقواها لأنها يوم ازدحام، فكما أن الاغتسال مستحب فيه لتنظيف البدن وإزالة الرائحة الكريهة رفعا لأذاها عن الناس، فكذلك تطهير النكهة، بل هو أقوى على ما لا يخفى، ولقد أبعد ابن رشيد في توجيه المطابقة بين الحديث وبين الترجمة، واستحسنه بعضهم حتى نقله في كتابه، فمن نظر فيه عرف وجه الاستبعاد فيه.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: أبو معمر، بفتح الميمين: عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، واسمه ميسرة التميمي البصري. الثاني: عبد الوارث بن سعيد وهو رواية. الثالث: شعيب بن الحبحاب، بفتح الحاءين المهملتين بينهما باء موحدة ساكنة وبعد الألف باء أخرى: أبو صالح البصري. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في كل الإسناد. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: أن رواته كلهم

182
بصريون. وفيه: أنه في أفراده، قاله صاحب (التوضيح) وليس كذلك، فإن النسائي أخرجه أيضا في الطهارة عن حميد بن مسعدة وعمران بن موسى عن عبد الوارث.
ذكر معناه: قوله: (أكثرت عليكم) أي: بالغت معكم في أمر السواك. وقال الكرماني: ويروى بصيغة المجهول من الماضي، أي: بولغت من عند الله. قال الجوهري، يقال: فلان مكثور عليه إذا نفذ ما عنده، وفي (التوضيح): معناه حقيق أن أفعل وحقيق أن تسمعوا وتطيعوا. قوله: (في السواك) أي: في استعمال السواك، هذا إذا كان المراد من السواك الآلة، وإذا كان المراد منه الفعل فلا حاجة إلى التقدير. فافهم.
889 حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن منصور وحصين عن أبي وائل عن حذيفة قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يشوص فاه. (انظر الحديث 245 وطرفه).
مطابقته للترجمة من حيث إن قيامه صلى الله عليه وسلم في الليل يحتمل أن يكون للصلاة، وهو الظاهر من حاله، صلى الله عليه وسلم، وكان يشوص فاه لأجل التنظيف، وقد علم من زيادة اهتمامه بالجمعة في تنظيفها، وكانت له مزية فضيلة، وكان السواك مستحبا لكل صلاة فكانت الجمعة أولى بذلك، خصوصا لأنه يوم ازدحام من الناس وحضور من الملائكة، فدلالته على مطابقته للترجمة من هذه الحيثية، وإن لم يكن صريحا، لأن الأمور الاعتبارية تراعى في مثل هذه المواضع.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: محمد بن كثير ضد القليل مر في: باب الغضب في الموعظة. الثاني: سفيان الثوري. الثالث: منصور بن المعتمر. الرابع: حصين، بضم الحاء المهملة وفتح الصاد المهملة: ابن عبد الرحمن مر في: باب الأذان بعد الوقت. الخامس: أبو وائل شقيق بن سلمة الكوفي. السادس: حذيفة بن اليمان، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد، والإخبار كذلك في موضع واحد. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: رواية واحد عن اثنين. وفيه: شيخ البخاري بصري والبقية كوفيون، وفيه: ثلاثة غير منسوبين وواحد مكي.
والحديث أخرجه البخاري في آخر كتاب الوضوء في: باب السواك، عن عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن أبي وائل عن حذيفة.. إلى آخره نحوه، وفي آخره بالسواك، وقد تكلمنا هناك على جميع ما يتعلق به من الأشياء.
قوله: (يشوص فاه) أي: يدلك أسنانه وينقيها. وقيل: هو أن يستاك من سفل إلى علو، وأصل الشوص الغسل، قاله ابن الأثير. ومنهم من فسر الشوص بأن يستاك طولا، وهو غير مرضي، والوجه ما ذكرناه.
9
((باب من تسوك بسواك غيره))
أي: هذا باب في بيان من تسوك بسواك غيره فكأنه يشير بحديث هذا الباب إلى جواز ذلك وإلى طهارة ريق بني آدم.
890 حدثنا إسماعيل قال حدثني سليمان بن بلال قال قال هشام بن عروة أخبرني أبي عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دخل عبد الرحمان بن أبي بكر ومعه سواك يستن به فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له أعطني هاذا السواك يا عبد الرحمان فأعطانيه فقصمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستن به وهو مستسند إلى صدري..
مطابقته للترجمة ظاهرة، فإنه صلى الله عليه وسلم تسوك بسواك عبد الرحمن، رضي الله تعالى عنه.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: إسماعيل بن أبي أويس. الثاني: سليمان بن بلال. الثالث: هشام بن عروة. الرابع: أبوه عروة بن الزبير بن العوام. الخامس: عائشة أم المؤمنين، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن رواته كلهم مدنيون. وفيه: أن رواية إسماعيل

183
عن سليمان بهذا الإسناد لم تعرف في غير طريق البخاري عنه، وإسماعيل يروي عنه أيضا كثيرا بواسطة.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في فضائل أبي بكر. وفي الجنائز بالإسناد المذكور عن إسماعيل، وأخرجه أيضا في الخمس والمغازي ومرضه صلى الله عليه وسلم وفضل عائشة، رضي الله تعالى عنها، وأخرجه مسلم في فضل عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر معناه: قوله: (دخل)، أي: دخل عبد الرحمن حجرة عائشة، رضي الله تعالى عنها، في مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (ومعه سواك)، جملة اسمية وقعت حالا، وكذلك قوله: (يستن به)، جملة فعلية حالية. أي: يستاك به من الاستنان، وقد مر عن قريب. قوله: (إليه) أي: إلى عبد الرحمن. قوله: (فقلت له) أي: قالت عائشة: فقلت لعبد الرحمن. قوله: (فقصمته) في هذه اللفظة ثلاث روايات. الأولى: بالقاف والصاد المهملة، وهي رواية الأكثرين أي: كسرته، فأبنت منه الموضع الذي كان عبد الله يستن منه، وأصل: القصم، الدق والكسر. ويقال لما يكسر من رأس السواك إذا قصم: القصامة، يقال: والله لو سألني قصامة سواك ما أعطيته، و: القصمة بالكسر: الكسرة. وفي الحديث: (استغنوا ولو من قصمة السواك). الرواية الثانية: بالفاء والصاد المهملة، فإنه كسر بإبانة. وقال ابن التين: هو في الكتب بصاد غير معجمة وقاف، وضبطه بعضهم بالفاء، والمعنى صحيح. الرواية الثالثة: بالقاف والضاد المعجمة، وهي رواية كريمة وابن السكن والمستملي والحموي، وهو من: القضم، بالقاف والضاد المعجمة، وهو الأكل بأطراف الأسنان، وقال ابن الجوزي: وهو الأصح. وكانت عائشة أخذته بأطراف أسنانها. وقال ثعلب: قضمت الدابة شعيرها، بكسر ثانيه، تقضم. وحكى الفتح في الماضي. قوله: (وهو مستند)، جملة اسمية وقعت حالا، ويروى: (وهو مستسند) فالأول من الاستناد من باب الافتعال، والثاني: من الاستسناد من باب الاستفعال.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: دليل على طهارة ريق بني آدم، وعن النخعي نجاسة البصاق. وفيه: دليل على جواز الدخول في بيت المحارم. وفيه: إصلاح السواك وتهيئته. وفيه: الاستياك بسواك غيره. وفيه: العمل بما يفهم عند الإشارة والحركات. وفيه: الدليل على تأكد أمر السواك في استعماله.
10
((باب ما يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة))
أي: هذا باب في بيان ما يقرأ في صلاة الفجر في صبح يوم الجمعة. وقوله: (يقرأ) على صيغة المجهول، ويجوز أن يكون على صيغة المعلوم، أي: يقرأ المصلي، وكلمة: ما، موصولة، ومنع بعضهم أن تكون استفهامية، ولا مانع مع ذلك على ما لا يخفى.
891 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا سفيان عن سعد بن إبراهيم عن عبد الرحمان هو ابن هرمز الأعرج عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة في صلاة الفجر ألم تنزيل السجدة وهل أتى على الإنسان (الحديث 891 طرفه في: 1068).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: كلهم قد ذكروا غير مرة، وأبو نعيم، بضم النون: الفضل بن دكين، وسفيان هو الثوري، وسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين وفي بعض النسخ: حدثنا محمد بن يوسف عن سفيان، وهي رواية كريمة، ومحمد بن يوسف هو الفريابي، وفي بعضها: حدثنا محمد بن يوسف أبو نعيم، كلاهما عن سفيان. وفيه: رواية التابعي عن التابعي وهما: سعد والأعرج. وفيه: الأولان من الرواة كوفيان والثالث والرابع مدنيان. فإن قلت: طعن سعد بن إبراهيم في روايته لهذا الحديث، ولهذا امتنع مالك عن الرواية عنه، والناس تركوا العمل به لا سيما أهل المدينة. قلت: لم ينفرد سعد به مطلقا، فقد أخرجه مسلم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله، وكذا ابن ماجة من حديث سعد بن أبي وقاص: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة ألم تنزيل، وهل أتى). وعن علي، رضي الله تعالى عنه، مرفوعا

184
مثله، رواه الطبراني، وعن ابن مسعود مثله أخرجه ابن ماجة والطبراني. وامتناع مالك من الرواية عنه ليس لأجل هذا الحديث، بل لكونه طعن في نسب مالك، وقولهم: إن الناس تركوا العمل به، غير صحيح، لأن ابن المنذر قال: أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين قالوا به.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن زهير بن حرب عن وكيع عن سفيان به وعن أبي الطاهر ابن السرح عن ابن وهب عن إبراهيم بن سعد عن أبيه به. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن بشار عن يحيى عن إبراهيم وعن عمرو بن علي عن ابن مهدي، كلاهما عن سفيان به، وأخرجه ابن ماجة فيه عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب به.
ذكر معناه: قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم)، قال الكرماني: قالوا مثل هذا التركيب يفيد الاستمرار. انتهى. قلت: أكثر العلماء على أن: كان، لا يقتضي المداومة، والدليل على ذلك ما رواه مسلم من حديث النعمان بن بشير، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة: ب * (سبح اسم ربك الأعلى) *. و * (هل أتاك حديث الغاشية) *. الحديث، وروى أيضا من حديث الضحاك بن قيس أنه سأل عن النعمان بن بشير: (ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ به يوم الجمعة؟. قال: سورة الجمعة، و * (هل أتاك حديث الغاشية) *. وروى الطحاوي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (
كان يقرأ في الجمعة بسورة الجمعة و * (إذا جاءك المنافقون) * فهذه الأحاديث فيها لفظة: كان، ولم تدل على المداومة، بل كان صلى الله عليه وسلم قرأ بهذا مرة وبهذا مرة، فحكى عنه كل فريق ما حضره، ففيه دليل على أن لا توقيت للقراءة في ذلك، وأن للإمام أن يقرأ في ذلك مع فاتحة الكتاب أي القرآن شاء. قوله: (في الفجر يوم الجمعة)، وفي رواية كريمة والأصيلي: (في الجمعة في صلاة الفجر). قوله: (آلم تنزيل الكتاب)، بضم اللام على الحكاية، وفي رواية كريمة: السجدة، وهو بالنصب على أنه عطف بيان. قوله: * (وهل أتى على الإنسان) *، وفي رواية الأصيلي زيادة: (* (حين من الدهر) *)، ومعناه: يقرأ في الركعة الأولى: * (ألم تنزيل) *، وفي الثانية: * (هل أتى على الإنسان) * وأوضح ذلك في رواية مسلم من طريق إبراهيم بن سعد بن إبراهيم عن أبيه بلفظ: (ألم تنزيل في الركعة الأولى، وفي الثانية * (هل أتى على الإنسان) *.
ذكر ما يستفاد منه: قال ابن بطال: ذهب أكثر العلماء إلى القول بهذا الحديث، روي ذلك عن علي وابن عباس، واستحبه النخعي وابن سيرين، وهو قول الكوفيين والشافعي وأحمد وإسحاق. وقالوا: هو سنة، واختلف قول مالك في ذلك، فروى ابن وهب عنه أنه لا بأس أن يقرأ الإمام بالسجدة في الفريضة، وروى عنه أشهب: أنه كره للإمام إلا أن يكون من خلفه قليل لا يخاف أن يخلط عليهم. قلت: الكوفيون مذهبهم كراهة قراءة شيء من القرآن مؤقتة لشيء من الصلوات أن يقرأ سودة السجدة وهل أتى في الفجر كل جمعة. وقال الطحاوي، رحمه الله تعالى: معناه إذ رآه حتما واجبا لا يجزئ غيره، أو رأى القراءة بغيرها مكروهة، أما لو قرأها في تلك الصلاة تبركا أو تأسيا بالنبي، صلى الله عليه وسلم، أو لأجل التيسير فلا كراهة. وفي (المحيط): بشرط إن يقرأ غير ذلك أحيانا لئلا يظن الجاهل أنه لا يجوز غيره. وقال المهلب: القراءة في الصلاة محمولة على قوله تعالى: * (فاقرؤا ما تيسر منه) * (المزمل: 20). وقال أبو عمر في (التمهيد): قال مالك: يقرأ في صلاة العيدين * (بسبح اسم ربك الأعلى) * و * (الشمس وضحاها) * ونحوهما، وفي (المغني) لابن قدامة: ويستحب أن يقرأ في الأولى من العيد * (بسبح) * وفي الثانية * (بالغاشية) * نص عليه أحمد. وقال الشافعي: فقرأ بقاف، واقتربت، لحديث أبي واقد الليثي، قال: (سألني عمر، رضي الله تعالى عنه، بما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العيدين؟ قلت: قاف، و * (اقتربت الساعة، وانشق القمر) *. رواه الطحاوي ومسلم، وأخرجه الأربعة مرسلا، واسم أبي واقد: الحارث بن مالك، وقيل: الحارث بن عوف، وقيل: عوف بن الحارث، وقال ابن حزم في (المحلى): واختيارنا هو اختيار الشافعي وأبي سليمان، وأما صلاة الجمعة فقد قال أبو عمر: اختلف الفقهاء فيما يقرأ به في صلاة الجمعة، فقال مالك: أحب إلي أن يقرأ الإمام في الجمعة * (هل أتاك حديث الغاشية) * مع سورة الجمعة. وقال مرة أخرى: أما الذي جاء به الحديث * (فهل أتاك حديث الغاشية) * مع سورة الجمعة، والذي أدركت عليه الناس * (سبح اسم ربك الأعلى) *. قال أبو عمر: محصل مذهب مالك أن كلتي السورتين قراءتهما مستحبة مع سورة الجمعة، فإن فعل وقرأ بغيرهما فقد أساء، وبئس ما صنع، ولا تفسد عليه بذلك صلاته، وقال الشافعي، وأبو ثور: يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الثانية

185
* (إذا جاءك المنافقون) * واستحب مالك والشافعي وأبو ثور وداود بن علي أن لا يترك سورة الجمعة على كل حال. فإن قلت: قد ثبتت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر يوم الجمعة بسورة السجدة، فهل ورد أنه سجد فيها أم لا؟ قلت: ذكر ابن أبي داود في (كتاب الشريعة) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، غدوت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في صلاة الفجر فقرأ سورة فيها سجدة فسجد. وروى الطبراني في (الصغير) من حديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد في صلاة الصبح في * (تنزيل) * السجدة، والله أعلم. وفي إسناد الأول أبان، ولا يدري من هو. والثاني ضعيف. فإن قلت: ما الحكمة في اختصاص يوم الجمعة بقراءة هذه السورة بعينها حتى إذا لم يقرأها يستحب أن يقرأ سورة فيها سجدة، وفي إضافة هل أتى) * إليها؟ قلت: الحكمة في ذلك الإشارة إلى ما في هاتين السورتين من ذكر خلق آدم وأحوال يوم القيامة، وأنها تقع يوم الجمعة.
11
((باب الجمعة في القرى والمدن))
أي: هذا باب في بيان حكم صلاة الجمعة في القرى والمدن، والقرى جمع قرية على غير قياس، قال الجوهري: لأن ما كان على فعلة، بفتح الفاء من المعتل، فجمعه ممدود مثل: ركوة وركاء، وظبية وظباء، فجاء القرى مخالفا لبابه لا يقاس عليه. ويقال القرية لغة يمانية، ولعلها جمعت على ذلك مثل لحية ولحى، والنسبة إليها: قروي. وقال ابن الأثير: القرية من المساكن والأبنية والضياع، وقد تطلق على المدن. وقال صاحب (المطالع): القرية المدينة وكل مدينة قرية لاجتماع الناس فيها، من: قريت الماء في الحوض أي: جمعته، والمدن، بضم الميم وسكون الدال: جمع مدينة، وتجمع أيضا على مدائن بالهمزة، وقد تضم الدال. واشتقاقها من: مدن بالمكان إذا أقام به، ويقال: وزنها فعيلة إذا كانت من مدن إذا أقام، ومفعلة إذا كانت من: دنت، أي: ملكت، وفلان مدن المدائن كما يقال مصر الأمصار. وسئل أبو علي الفسوي عن همز مدائن، فقال: إن كانت من: مدن، تهمز، وإن كانت من: دين، أي: ملك، لا تهمز، وإذا نسبت إلى مدينة الرسول قلت: مدني، والي مدينة منصور: مديني، وإلى مدائن كسرى، قلت: مدائني، للفرق بين النسب لئلا يختلط.
892 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا أبو عامر العقدي قال حدثنا إبراهيم بن طهمان عن أبي جمرة الضبعي عن ابن عباس أنه قال إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين. (الحديث 892 طرفه في: 4371).
مطابقته للجزء الأول من الترجمة إنما تتجه إذا كان المراد من: جواثى، أنها تكون قرية من قرى البحرين، وأما إذا كان: جواثى، اسم مدينة فالتطابق يكون للجزء الثاني من الترجمة، وسنحقق الكلام فيما يتعلق بجواثى.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد بن المثنى، بلفظ المفعول من التثنية بالثاء المثلثة، وقد مر في: باب حلاوة الإيمان. الثاني: أبو عامر العقدي واسمه: عبد الملك بن عمرو، والعقدي، بفتح العين المهملة وفتح القاف: نسبة إلى العقد، قوم من قيس وهم صنف من الأزد، مر في: باب أمور الإيمان. الثالث: إبراهيم بن طهمان، بفتح الطاء المهملة، مر في: باب القسمة وتعليق القنو في المسجد. الرابع: أبو جمرة، بفتح الجيم، واسمه: نصر بن عمران، والضبعي، بضم الضاد المعجمة وفتح الباء الموحدة وبالعين المهملة: نسبة إلى ضبيعة، أبو حي من بكر بن وائل. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن الأولين من الرواة بصريان والثالث هروي والرابع بصري. وفيه: عن ابن عباس، هكذا رواه الحفاظ من أصحاب إبراهيم بن طهمان عنه، وخالفهم المعافي بن عمران فقال: عن ابن طهمان عن محمد بن زياد عن أبي هريرة، أخرجه النسائي: قالوا: إنه خطأ من المعافي، على أنه يحتمل أن يكون لإبراهيم فيه إسنادان.
والحديث من أفراد البخاري، وأخرج أبو داود، وقال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله المخرمي لفظه، قالا: حدثنا وكيع عن إبراهيم بن طهمان عن أبي جمرة (عن ابن عباس قال: إن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة

186
لجمعة جمعت بجواثى)، قرية من قرى البحرين. قال عثمان: قرية من قرى عبد القيس.
ذكر معناه: قوله: (جمعت)، بضم الجيم وتشديد الميم، ويقال: جمع القوم تجميعا أي: شهدوا الجمعة وقضوا الصلاة فيها. وفي رواية أبي داود: (جمعت في الإسلام)، كما ذكرنا الآن. قوله: (بعد جمعة) وفي رواية للبخاري في أواخر المغازي: (بعد جمعة جمعت). قوله: (في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وفي رواية وكيع: بالمدينة، ووقع في رواية المعافي: بمكة، وهو خطأ بلا نزاع. قوله: (في مسجد عبد القيس)، هو علم لقبيلة كانوا ينزلون بالبحرين، وهو موضع قريب من بحر عمان بقرب القطيف والأحساء. قوله: (بجواثى)، بضم الجيم وتخفيف الواو وبالثاء المثلثة وبالقصر، ومنهم من يهمزها، وهي قرية من قرى البحرين، وهكذا وقع في رواية وكيع كما ذكرناه عن أبي داود، وفي رواية عثمان شيخ أبي داود: قرية من قرى عبد القيس، وكذا وقع في رواية الإسماعيلي من رواية محمد بن أبي حفصة عن ابن طهمان، وحكى ابن التين عن الشيخ أبي الحسن: أنها مدينة. وفي (الصحاح) للجوهري و (البلدان) للزمخشري: جواثى: حصن بالبحرين. وقال أبو عبيد البكري: وهي مدينة بالبحرين لعبد القيس، قال امرؤ القيس:
* ورحنا كأنا من جواثى عشية
* نعالى النعاج بين عدل ومحقب
*
يريد كأنا من تجار جواثى، لكثرة ما معهم من الصيد، وأراد كثرة أمتعة تجار جواثى. قلت: كثرة الأمتعة تدل غالبا على كثرة التجار، وكثرة التجار تدل على أن جواثى مدينة قطعا، لأن القرية لا يكون فيها تجار كثيرون غالبا عادة. فإن قلت: قد يطلق على المدينة اسم قرية، كما في قوله تعالى, * (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) * (الزخرف: 31). يعني: مكة والطائف، قلت: إطلاق لفظ: القرية، على المدينة باعتبار المعنى اللغوي، ولا يخرج ذلك عن كونه مدينة فلا يتم استدلال من يجيز الجمعة في القرى بهذا الوجه، كما سنذكره مستوفى عن قريب إن شاء الله تعالى.
ذكر ما يستفاد منه: استدلت الشافعية بهذا الحديث على أن الجمعة تقام في القرية إذا كان فيها أربعون رجلا أحرارا مقيمين، حتى قال البيهقي: باب العدد الذين إذا حضروا في قرية وجبت عليهم، ثم ذكر فيه إقامة الجمعة بجواثى. قلنا: لا نسلم أنها قرية، بل هي مدينة كما حكينا عن البكري وغيره، حتى قيل: كان يسكن فيها فوق أربعة آلاف نفس، والقرية لا تكون كذلك، وإطلاق القرية عليها من الوجه الذي ذكرناه. ولئن سلمنا أنها قرية فليس في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم اطلع على ذلك وأقرهم عليه، واختلف العلماء في الموضع الذي تقام فيه الجمعة، فقال مالك: كل قرية فيها مسجد أو سوق فالجمعة واجبة على أهلها، ولا يجب على أهل العمود وإن كثروا لأنهم في حكم المسافرين. وقال الشافعي وأحمد: كل قرية فيها أربعون رجلا أحرارا بالغين عقلاء مقيمين بها لا يظعنون عنها صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة، فالجمعة واجبة عليهم، وسواء كان البناء من حجر أو خشب أو طين أو قصب أو غيرها، بشرط أن تكون الأبنية مجتمعة، فإن كانت متفرقة لم تصح، وأما أهل الخيام فإن كانوا ينتقلون من موضعهم شتاء أو صيفا لم تصح الجمعة بلا خلاف، وإن كانوا دائمين فيها شتاء وصيفا وهي مجتمعة بعضها إلى بعض ففيه قولان: أصحهما: لا تجب عليهم الجمعة ولا تصح منهم، وبه قال مالك. والثاني: تجب عليهم وتصح منهم، وبه قال أحمد وداود: ومذهب أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه: لا تصح الجمعة إلا في مصر جامع أو في مصلى المصر، ولا تجوز في القرى، وتجوز في منى إذا كان الأمير أمير الحاج، أو كان الخليفة مسافرا. وقال محمد: لا جمعة بمنى ولا تصح بعرفات في قولهم جميعا. وقال أبو بكر الرازي في كتابه (الأحكام): اتفق فقهاء الأمصار على أن الجمعة مخصوصة بموضع لا يجوز فعلها في غيره لأنهم مجتمعون على أنها لا تجوز في البوادي، ومناهل الأعراب، وذكر ابن المنذر عن ابن عمر أنه كان يرى على أهل المناهل والمياه أنهم يجمعون.
ثم اختلف أصحابنا في المصر الذي تجوز فيه الجمعة، فعن أبي يوسف: هو كل موضع يكون فيه كل محترف، ويوجد فيه جميع ما يحتاج إليه الناس من معايشهم عادة، وبه قاض يقيم الحدود. وقيل: إذا بلغ سكانه عشرة آلاف، وقيل: عشرة آلاف مقاتل، وقيل: بحيث أن لو قصدهم عدو لأمكنهم دفعه، وقيل: كل موضع فيه أمير وقاض يقيم الحدود، وقيل: أن لو اجتمعوا إلى أكبر مساجدهم لم يسعهم، وقيل: أن يكون بحال يعيش كل محترف بحرفته من سنة إلى سنة من غير أن يشتغل بحرفة أخرى، وعن محمد: موضع مصرة الإمام فهو مصر حتى إنه لو بعث إلى قرية نائبا لإقامة الحدود والقصاص تصير مصرا، فإذا عز له ودعاه يلحق بالقرى،

187
ثم استدل أبو حنيفة على أنها لا تجوز في القرى بما رواه عبد الرزاق في (مصنفه)؛ أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن الحارث (عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع)، ورواه ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا عباد بن العوام عن حجاج عن أبي إسحاق عن الحارث، (عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: لا جمعة ولا تشريق ولا صلاة فطر ولا أضحى إلا في مصر جامع أو مدينة عظيمة)، وروى أيضا بسند صحيح: حدثنا جرير عن منصور عن طلحة عن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن أنه قال: قال علي، رضي الله تعالى عنه: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع). فإن قلت: قال النووي: حديث علي ضعيف متفق على ضعفه، وهو موقوف عليه بسند ضعيف منقطع؟ قلت: كأنه لم يطلع إلا على الأثر الذي فيه الحجاج بن أرطاة، ولم يطلع على طريق جرير عن منصور، فإنه سند صحيح، ولو اطلع لم يقل بما قاله، وأما قوله: متفق على ضعفه، فزيادة من عنده، ولا يدري من سلفه في ذلك، على أن أبا زيد زعم في (الأسرار): أن محمد بن الحسن قال: رواه مرفوعا معاذ وسراقة بن مالك، رضي الله تعالى عنهما. فإن قلت: في (سنن سعيد بن منصور): عن أبي هريرة أنهم كتبوا إلى عمر بن الخطاب، رضي الله تبارك وتعالى عنه، من البحرين يسألونه عن الجمعة، فيكتب إليهم: إجمعوا حيث ما كنتم. وذكره ابن أبي شيبة بسند صحيح بلفظ: جمعوا، وفي (المعرفة) أن أبا هريرة هو السائل، وحسن سنده، وروى الدارقطني عن الزهري، عن أم عبد الله الدوسية، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الجمعة واجبة على أهل كل قرية فيها إمام وإن لم يكونوا إلا أربعة). وزاد أبو أحمد الجرجاني: حتى ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة، وفي (المصنف): (عن مالك: كان أصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، في هذه المياه بين مكة والمدينة يجمعون). وروى أبو داود: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ابن إدريس عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل عن أبيه عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك، وكان قائد أبيه بعدما ذهب بصره، عن أبيه عن كعب بن مالك أنه: كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة، فقلت له: إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد ابن زرارة؟ قال: لأن أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له: نقيع الخضمات، قلت: كم أنتم يومئذ؟ قال: أربعون). وأخرجه أيضا ابن ماجة وابن خزيمة والبيهقي، وزاد: قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم. وفي (المعرفة): قال الزهري: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى المدينة ليقرئهم القرآن جمع بهم وهم اثنا عشر رجلا، فكان مصعب أول من جمع الجمعة بالمدينة بالمسلمين قبل أن يقدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال البيهقي: يريد الاثنا عشر النقباء الذين خرجوا به إلى المدينة وكانوا له ظهيرا. وفي حديث كعب: جمع بهم أسعد وهم أربعون، وهو يريد جميع من صلى معه ممن أسلم من أهل المدينة مع النقباء، وعن جعفر بن برقان، قال: كتب عمر بن عبد العزيز، رضي الله تعالى عنه، إلى عدي بن عدي. وأما أهل قرية ليسوا بأهل عمود فأمر عليهم أميرا يجمع بهم. رواه البيهقي قلت: الجواب عن الأول معناه: جمعوا حيث ما كنتم من الأمصار، ألا ترى أنها لا تجوز في البراري؟ وعن الثاني: أن رواته كلهم عن الزهري متروكون، ولا يصح سماع الزهري من الدوسية. وعن الثالث: أنه ليس فيه دليل على وجوب الجمعة على أهل القرى. وعن الرابع: أن فيه محمد بن إسحاق، فقال البيهقي: الحفاظ يتوقون ما ينفرد به ابن إسحاق، وهنا قد تفرد به، والعجب منه تصحيحه هذا الحديث، والحال أنه كان يتكلم في ابن إسحاق بأنواع الكلام. فإن قلت: قال الحاكم: إنه على شرط مسلم. قلت: ليس كما قال، لأن مداره على ابن إسحاق، ولم يخرج له مسلم إلا متابعة. وعن الخامس: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرهم بذلك ولا أقرهم عليه. وعن السادس: أنه: رأى عمر بن عبد العزيز ليس بحجة، ولئن سلمنا فليس فيه ذكر عدد، وقال عبد الحق في أحكامه: لا يصح في عدد الجمعة شيء فإن قلت: قال ابن حزم، في معرض الاستدلال لمذهبه: ومن أعظم البرهان أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المدينة، وإنما هي قرى صغار متفرقة، فبنى مسجده في بني مالك بن النجار وجمع فيه في قرية ليست بالكبيرة ولا مصر هناك. قلت: هذا ليس بشيء من وجوه: الأول: قد صحح قول علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه الذي هو أعلم الناس بأمر المدينة: لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع. الثاني: أن الإمام أي موضع حل جمع. الثالث: التمصير للإمام، فأي موضع مصر.
وأما معنى حديث أبي داود فقوله: (في هزم النبيت)، الهزم بفتح الهاء وسكون الزاي بعدها ميم: موضع بالمدية، و: النبيت، بفتح النون وكسر الباء الموحدة بعدها ياء آخر الحروف وفي آخره تاء مثناة من فوق: وهي حي من اليمن. قوله: (من حرة بني بياضة)، الحرة، بفتح الحاء المهملة وتشديد

188
الراء قرية على ميل من المدينة، وبنو بياضة بطن من الأنصار، منهم: سلمة بن صخر البياضي له صحبة، قوله: (في نقيع)، بفتح النون وكسر القاف وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره عين مهملة: بطن من الأرض يستنقع فيه الماء مدة، فإذا نضب الماء أنبت الكلأ، ومنه حديث عمر، رضي الله تعالى عنه: أنه حمى النقيع لخيل المسلمين، وقد يصحفه بعض الناس فيرويه بالباء الموحدة، و: البقيع، بالباء: موضع القبور، وهو بقيع الغرقد، قوله: (يقال له: نقيع الخضمات) بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين، قال ابن الأثير: نقيع الخضمات موضع بنواحي المدينة.
893 حدثنا بشر بن محمد المروزي قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري قال أخبرنا سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كلكم راع. وزاد الليث قال يونس كتب رزيق بن حكيم إلى ابن شهاب وأنا معه يومئذ بوادي القري هل ترى أن أجمع ورزيق عامل على أرض يعملها وفيها جماعة من السودان وغيرهم ورزيق يومئذ على أيلة فكتب ابن شهاب وأنا أسمع يأمره أن يجمع يخبره أن سالما حدثه أن عبد الله بن عمر يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كلكم راع وكلكم مسؤل عن رعيته الإمام راع ومسؤل عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤل عن رعيته والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤلة عن رعيتها والخادم راع في مال سيده ومسؤل عن رعيته قال وحسبت أن قال والرجل راع في مال أبيه ومسؤل عن رعيته وكلكم راع ومسؤل عن رعيته..
مطابقته للترجمة من حيث إن زريق بن حكيم، لما كان عاملا على طائفة، كان عليه أن يراعي حقوقهم ومن جملتها إقامة الجمعة، فيجب عليه إقامتها وإن كانت في قرية
، هكذا قرره الكرماني قلت: إنما تتجه المطابقة للجزء الثاني للترجمة، لأن القرية إذا كان فيها نائب من جهة الإمام يقيم الحدود يكون حكمها حكم الأمصار والمدن، كما ذكرناه عن قريب، عن محمد بن الحسن. وإن كان مراد الكرماني: أن هذا الحديث يدل على جواز إقامة الجمعة في القرى فلا يتم به استدلاله، والظاهر أن مراد البخاري هذا وليس كذلك، لأنه ليس في هذا الحديث ولا في الحديث الذي قبله مطابقة إلا للجزء الثاني من الترجمة على الوجه الذي قررناه، وإنما مطابقتها للجزء الأول وليس فيه خلاف، وكان مقصود البخاري أن يشير إلى الخلاف فلم يتم. فافهم.
ذكر رجاله: وهم سبعة: الأول: بشر، بكسر الباء الموحدة وسكون الشين المعجمة: ابن محمد أبو محمد السجستاني المروزي، مات سنة أربع وعشرين ومائتين. الثاني: عبد الله بن المبارك. الثالث: ابن يونس بن يزيد الأيلي. الرابع: محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب. السادس: أبوه عبد الله بن عمر. السابع: رزيق، بضم الراء وفتح الزاي: ابن حكيم، بضم الحاء وفتح الكاف: الفزاري مولى بني فزارة الأيلي: والي أيلة لعمر بن عبد العزيز، وقيل: زريق بتقديم الزاي على الراء، والمشهور الأول. وقال ابن الحذاء: وكان حاكما بالمدينة. وقال ابن ماكولا: كان عبدا صالحا. وقال النسائي: ثقة، وقال علي بن المديني: حدثنا سفيان مرة: رزيق بن حكيم أو حكيم، وكثيرا ما كان يقول: ابن حكيم بالفتح، والصواب الضم.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار كذلك في موضعين بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: السماع. وفيه: الكتابة. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده.

189
وفيه: أن الاثنين الأولين من الرواة مروزيان والثالث أيلي، وكان مرجئا، وكذا السابع، والرابع والخامس مدنيان. وفيه: قوله: وزاد الليث، إشارة إلى أن رواية الليث متفقة مع ابن المبارك، إلا في القصة، فإنها مختصة برواية الليث، ورواية الليث معلقة، وقد وصلها الذهلي عن أبي صالح كاتب الليث عنه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الوصايا عن بشر بن محمد أيضا. وأخرجه مسلم في المغازي عن حرملة عن ابن وهب، وأخرج مسلم والترمذي أيضا جحديث: (كلكم راع) بغير هذه القصة عن نافع عن ابن عمر. ورواه البخاري أيضا في النكاح، وقد رواه عن ابن عمر غير نافع أيضا، ورواه أيضا شعبة عن الزهري.
ذكر معناه: قوله: (كلكم راع) أصل: راع راعي فاعل، إعلال قاض، من رعى رعاية، وهو حفظ الشيء وحسن التعهد له، والراعي: هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، فكل من كان تحت نظره شيء فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته، فإن وفى ما عليه من الرعاية حصل له الحظ الأوفر والجزاء الأكبر، وإن كان غير ذلك طالبه كل أحد من رعيته بحقه. قوله: (وزاد الليث) إلى قوله: (يخبره)، تعليق أي: زاد الليث بن سعد في روايته على رواية عبد الله بن المبارك، وقد وصله الذهلي كما ذكرنا. قوله: (وأنا معه) جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (بوادي القرى)، هو من أعمال المدينة. وقال ابن السمعاني: وادي القرى مدينة بالحجاز مما يلي الشام، وفتحها النبي صلى الله عليه وسلم في جمادي الآخرة سنة سبع من الهجرة لما انصرف من خيبر، بعد أن امتنع أهلها وقاتلوا وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم قاتل فيها، ولما فتحها عنوة قسم أموالها وترك الأرض والنخل في أيدي اليهود، وعاملهم على نحو ما عامل عليه أهل خيبر، وأقام عليها أربع ليالي. قوله: (أن أجمع) أي: أصلي بمن معي الجمعة. قوله: (على أرض يعملها)، أي: يزرع فيها. قوله؛ (من السودان).
قوله: (على أيلة)، بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح اللام، قال أبو عبيد: هي مدينة على شاطىء البحر في منتصف ما بين مصر ومكة وتبوك، ورد صاحب أيلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطاه الجزية. وقال البكري: سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، وقد روي أن أيلة هي القرية التي كانت حاضرة البحر. وقال اليعقوبي: أيلة مدينة جليلة على ساحل البحر الملح، وبها يجتمع حاج الشام ومصر والمغرب، وبها التجارة الكثيرة، ومن القلزم إلى أيلة ست مراحل في برية صحراء يتزود الناس من القلزم إلى أيلة لهذه المراحل. قلت: هي الآن خراب ينزل بها الحاج المصري والمغربي والغزي، وبعض آثار المدينة ظاهر. قوله: (فكتب ابن شهاب وأنا أسمع قول يونس المذكور فيه) أي: كتب محمد بن مسلم بن الشهاب الزهري، والحال أنا أسمع، والمكتوب هو الحديث، والمسموع المأمور به، قاله الكرماني، والظاهر أن الذي كتب هو ابن شهاب، لأن الأصل في الإسناد الحقيقة، ويجوز أن يكون كاتبه كتبه بإملائه عليه فسموه يونس منه، ففي الوجه الأول فيه تقدير، وهو: كتب ابن شهاب وقرأه وأنا أسمعه. قوله: (يأمره) جملة حالية أي: يأمر ابن شهاب رزيق بن حكيم في كتابه إليه أن يجمع، أي: بأن يجمع أي: بأن يصلي بالناس الجمعة، ثم استدل ابن شهاب على أمره إياه بالتجميع بحديث سالم عن أبيه عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (كلكم راع...) إلى آخره. وجه الاستدلال به أن رزيقا كان أميرا على الطائفة المذكورة، فكل من كان أميرا كان عليه أن يراعي حقوق رعيته، ومن جملة حقوقهم إقامة الجمعة. قوله: (يخبره) أي: يخبر ابن شهاب رزيقا في كتابه الذي كتب إليه أن سالما حدثه.. إلى آخره. فإن قلت: ما محل: يخبره، من الإعراب؟ قلت: هي جملة وقعت حالا من الضمير المرفوع الذي في: يأمره، من الأحوال المتداخلة، كما أن قوله: (اسمع). وقوله: (يأمره) من الأحوال المترادفة. قوله: (يقول: سمعت) محل: يقول، من الإعراب الرفع لأنه خبر إن ومحل: يقول، الثاني على الحال أي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حال كونه يقول: (كلكم راع)، وهذه جملة اسمية، وإفراد الخبر بالنظر إلى لفظة: كل، وقد اشترك الإمام والرجل والمرأة والخادم في هذه التسمية، ولكن المعاني مختلفة: فرعاية الإمام إقامة الحدود والأحكام فيهم على سنن الشرع، ورعاية الرجل أهله سياسته لأمرهم وتوفية حقهم في النفقة والكسوة والعشرة، ورعاية

190
المرأة حسن التدبير في بيت زوجها والنصح له والأمانة في ماله وفي نفسها، ورعاية الخادم لسيده حفظ ما في يده من ماله والقيام بما يستحق من خدمته، والرجل ليس
له بإمام ولا له أهل ولا خادم يراعي أصحابه وأصدقاءه بحسن المعاشرة على منهج الصواب. فإن قيل: إذا كان كل من هؤلاء راعياد فمن المرعي؟ أجيب: هو أعضاء نفسه وجوارحه وقواه وحواسه، أو الراعي يكون مرعيا باعتبار أمر آخر، ككون الشخص مرعيا للإمام راعيا لأهله، أو الخطاب خاص بأصحاب التصرفات ومن تحت نظره ما عليه إصلاح حاله. قوله: (قال: وحسبت) فاعل قال يونس بن يزيد المذكور فيه، كذا قاله الكرماني جزما، والظاهر أن فاعله: سالم بن عبد الله الراوي، وكلمة: أن مخففة من المثقلة، والتقدير: وحسبت أنه، أي: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قد قال: (والرجل راع في مال أبيه..) إلى آخره، ثم في هذا الموضع من النكتة أنه: عمم أولا ثم خصص ثانيا، وقسم الخصوصية إلى أقسام من جهة الرجل ومن جهة المرأة ومن جهة الخادم ومن جهة النسب، ثم عمم ثانيا وهو قوله: (وكلكم راع..) إلى آخره تأكيدا، وردا للعجز إلى الصدر بيانا لعموم الحكم أولا وآخرا.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه: الأول: قال صاحب (التوضيح): إيراد البخاري هذا الحديث لأجل أن أيلة إما مدينة أو قرية، وقد ترجم لهما. قلت: المشهور عند الجمهور أنها مدينة كما ذكرناه، ولا وجه للتردد فيها، وقد ذكر البخاري الباب بترجمتين، بقوله: في القرى والمدن، وذكر فيه حديثين: الأول: منهما مطابق للترجمة الأولى على زعمه، والثاني: مطابق للترجمة الثانية، وكلام صاحب (التوضيح) لا طائل تحته.
الثاني: قال بعضهم: في هذه القصة يعني القصة المذكورة في الحديث إيماء إلى أن الجمعة تنعقد بغير إذن من السلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم. قلت: الذي يقوم بمصالح القوم هو المولى عليهم من جهة السلطان، ومن كان مولى من جهة السلطان كان مأذونا بإقامة الجمعة لأنها من أكبر مصالحهم، والعجب من هذا القائل أنه يستدل على عدم إذن السلطان لإقامة الجمعة بالإيماء، ويترك ما دل على ذلك حديث جابر أخرجه ابن ماجة وفيه: (من تركها في حياتي أو بعدي وله إمام عادل أو جائر استخفافا بها وجحودا لها فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره، ألا ولا صلاة له ولا زكاة له ولا حج له ولا صوم له ولا بر له). الحديث، ورواه البزار أيضا ورواه الطبراني في (الأوسط): عن ابن عمر مثله، فإن قلت: في سند ابن ماجة: عبد الله بن محمد العدوي، وفي سند البزار: علي بن زيد بن جدعان، وكلاهما متكلم فيه؟ قلت: إذا روي الحديث من طرق ووجوه مختلفة تحصل له قوة، فلا يمنع من الاحتجاج به، ولا سيما اعتضد بحديث ابن عمر، والقائل المذكور أشار بقوله إلى قول الشافعي، فإن عنده إذن السلطان ليس بشرط لصحة الجمعة، ولكن السنة أن لا تقام إلا بإذن السلطان، وبه قال مالك وأحمد في رواية، وعن أحمد أنه شرط كمذهبنا، واحتجوا بما روي أن عثمان، رضي الله تعالى عنه لما كان محصورا بالمدينة صلى علي، رضي الله تعالى عنه، الجمعة بالناس، ولم يرو أنه صلى بأمر عثمان، وكان الأمر بيده. قلنا هذا الاحتجاج ساقط لأنه يحتمل أن عليا فعل ذلك بأمره، أو كان لم يتوصل إلى إذن عثمان، ونحن أيضا نقول: إذا لم يتوصل إلى إذن الإمام فللناس أن يجتمعوا ويقدموا من يصلي بهم، فمن أين علم أن عليا فعل ذلك بلا إذن عثمان، وهو بحيث يتوصل إلى إذنه؟ وقال ابن المنذر: مضت السنة بأن الذي يقيم الجمعة السلطان أو من قام بها بأمره، فإذا لم يكن ذلك صلوا الظهر. وقال الحسن البصري: أربع إلى السلطان، فذكر منها الجمعة. وقال حبيب بن أبي ثابت: لا تكون الجمعة إلا بأمير وخطبة، وهو قول الأوزاعي ومحمد بن مسلمة ويحيى بن عمر المالكي وعن مالك: إذا تقدم رجل بغير إذن الإمام لم يجزهم، وذكر صاحب (البيان) قولا قديما للشافعي: أنها لا تصح إلا خلف السلطان أو من أذن له. وعن أبي يوسف: إن لصاحب الشرطة أن يصلي بهم دون القاضي، وقيل: يصلي القاضي.
الثالث: قال بعضهم: في الحديث إقامة الجمعة في القرى خلافا لمن شرط لها المدن؟ قلت: لا دليل على ذلك أصلا لأنه إن كان يدعى بذلك بنفس الحديث المتصل فلا يقوم به حجة، ولا يتم. وإن كان يدعي بكتاب ابن شهاب يأمر فيه لرزيق بن حكيم بأن يجمع فلا تتم به حجته أيضا، لأنه من أين علم أنه أمر بذلك؟ سواء كان في قرية أو مدينة؟ فإن قال: رزيق كان عاملا على أرض يعملها، وكان فيها جماعة من السودان وغيرهم، وليس هذا إلا قرية، فلا يتم به استدلاله أيضا، لأن الموضع المذكور صار حكمه حكم المدينة بوجود المتولي عليهم من جهة الإمام، وقد قلنا فيما مضى: إن

191
الإمام إذا بعث إلى قرية نائبا لإقامة الأحكام تصير مصرا، على أن إمامه لا يرى قول الصحابي حجة، فكيف بقول التابعي؟
الرابع: قال الخطابي: فيه دليل على أن الرجلين إذا حكما رجلا بينهما نقد حكمه إذا أصاب.
الخامس: قال الحافظ المنذري عن بعضهم: إنه استدل به على سقوط القطع عن المرأة إذا سرقت من مال زوجها، وعن العبد إذا سرق من مال سيده إلا فيما حجبهما عنه، ولم يكن لهما فيه تصرف. والله أعلم.
12
((باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم))
أي: هذا باب ترجمته: هل على من.. إلى آخره، وإنما اقتصر على الاستفهام ولم يجزه بالحكم لوقوع الإطلاق والتقييد في أحاديث هذا الباب، منها: حديث أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه: (حق على كل مسلم أن يغتسل)، فإنه مطلق يتناول الجميع. ومنها: حديث ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)، فإنه مقيد بالمجيء، ويخرج من ذلك من لم يجيء. ومنها: حديث أبي سعيد الخدري: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم)، فإنه مقيد بالاحتلام، فيخرج الصبيان. ومنها: حديث النهي عن منع النساء عن المساجد إلا بالليل، فإنه يخرج الجمعة، وقد مضى الكلام مستوفى، في هذه الأحاديث.
قوله: (وغيرهم)، أي: وغير النساء والصبيان، مثل المسافرين والعبيد وأهل السجن والمرضى والعميان ومن بهم زمانه.
وقال ابن عمر إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة
مطابقة هذا الأثر للترجمة من حيث إنه نبه به على أن الغسل يوم الجمعة لا يشرع إلا على من تجب عليه الجمعة، وأن مراده بالاستفهام في الترجمة الحكم بعدم الوجوب على من لم يشهد الجمعة، وهذا التعليق وصله البيهقي بإسناد صحيح عن ابن عمر.
894 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال حدثني سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من جاء منكم الجمعة فليغتسل. (انظر الحديث 877 وطرفه).
مطابقته للترجمة من حيث المفهوم، لأن عدم وجوب الغسل على من لم يجيء الجمعة، ومن لم يجيء لم يشهدها، ونبه به أيضا على أن مراده بالاستفهام الحكم بعدم الوجوب على من لم يشهد، وقد أخرج البخاري هذا في: باب فضل الغسل يوم الجمعة عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل)، وقد مر الكلام فيه مستوفى هناك، وأبو اليمان الحكم بن نافع والزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب.
895 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم.
مطابقته للترجمة من حيث المفهوم، لأن مفهومه عدم وجوب الغسل على كل من لم يحتلم، ومن لم يحتلم ممن لا يشهد الجمعة، والحديث أخرجه البخاري في: باب وضوء الصبيان عن علي بن عبد الله عن سفيان عن صفوان عن عطاء عن أبي سعيد. وأخرجه أيضا في: باب فضل الغسل يوم الجمعة عن عبد الله بن يوسف عن مالك، وههنا عن عبد الله بن مسلمة القعنبي عن مالك، وقد ذكرنا في: باب وضوء الصبيان جميع ما يتعلق به.
896 حدثنا مسلم بن إبراهيم قال حدثنا وهيب قال حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن الآخرون السابقون يوم القيامة أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهاذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله فغدا لليهود وبعد غد

192
للنصارى فسكت. ثم قال حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما يغسل فيه رأسه وجسده)
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله ' كل مسلم ' لأن المراد من كل مسلم هو المسلم المحتلم لأن الأحاديث الواردة في هذا الباب يفسر بعضها بعضا وقد مر في الحديث السابق على كل محتلم وليس المراد من لفظ محتلم أي محتلم كان بل المراد كل محتلم مسلم وهذا معلوم بالضرورة فإذا كان المراد المسلم المحتلم يخرج عنه المسلم غير المحتلم وهو يدخل في قوله ' من لم يشهد الجمعة ' وأيضا المراد من المسلم هو المسلم الذي يجيء إلى الجمعة يدل عليه حديث ابن عمر المذكور في أول الباب والمسلم الذي لا يجيء يخرج منه وبهذا التقرير يخرج الجواب عما قاله الكرماني التحقيق أن الحديث الأول أعني حديث ابن عمر دل على أن الغسل لمن جاء إلى الجمعة خاصة وهذا الحديث أعنى حديث أبي هريرة عام للمجمع وغيره فلا يحتاج إلى الجواب بقوله لا منافاة بين ذكر الخاص والعام لأن المنافاة حاصلة بحسب الظاهر لاتحاد المحل والتحقيق ما ذكرناه
(ذكر رجاله) وهم خمسة مسلم بن إبراهيم الأزدي القصاب البصري ووهيب بن خالد البصري صاحب الكرابيس وابن طاوس عبد الله وأبوه طاوس بن كيسان وأبو هريرة
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع وفيه العنعنة في موضعين وفيه القول في أربعة مواضع وفيه أن الاثنين الأولين من الرواة بصريان والاثنين الآخرين يمانيان وفيه رواية الابن عن الأب
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في ذكر بني إسرائيل عن موسى بن إسماعيل عن وهيب وأخرجه مسلم في الجمعة عن ابن عمر عن سفيان عن ابن طاوس به دون ذكر الغسل وعن محمد بن حاتم عن بهز بن أسد عن وهيب بذكر الغسل فقط وأخرجه النسائي فيه عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عن سفيان مثل حديث ابن أبي عمر وأول الحديث وهو من قوله ' نحن الآخرون السابقون بعد غد ' أخرجه البخاري في باب فرض الجمعة عن أبي اليمان عن شعيب عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة وقد تكلمنا على جميع ما يتعلق به هناك * قوله ' فغدا لليهود ' ظرف متعلق إما بالخبر وإما بالمبتدأ تقديره الاجتماع لليهود في غد وللنصارى من بعد غد ويروى فغد بالرفع على أنه مبتدأ في حكم المضاف فلا يضر كونه في الصورة نكرة تقديره فغد الجمعة لليهود وغد بعد غد للنصارى قوله ' فسكت ' أي النبي
قوله ' فحق ' الفاء فيه يجوز أن تكون جواب شرط محذوف تقديره إذا كان الأمر كذلك فحق على كل مسلم أن يغتسل وكلمة أن مصدرية قوله ' يوما ' مبهم هنا وقد عينه جابر في حديث عند النسائي بلفظ ' الغسل واجب على كل مسلم في كل أسبوع يوما وهو يوم الجمعة ' وصححه ابن خزيمة وروى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة من حديث البراء بن عازب مرفوعا نحوه ولفظه ' من الحق على المسلم أن يغتسل يوم الجمعة ' وبنحوه روى الطحاوي من طريق محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن رجل من الصحابة مرفوعا قوله ' وجسده ' أي ويغسل جسده أيضا وإنما ذكر الرأس وإن كان ذكر الجسد يشمله للاهتمام به من حيث أنه قوام البدن والعمدة فيه
(رواه أبان بن صالح عن مجاهد عن طاوس عن أبي هريرة قال قال النبي
لله تعالى على كل مسلم حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يوما)
أي روى الحديث المذكور أبان بن صالح بفتح الهمزة وتخفيف الباء الموحدة وهذا التعليق وصله البيهقي من طريق سعيد بن أبي هلال عن أبان عن مجاهد بن جبر وأخرجه الطحاوي من وجه آخر عن طاوس وصرح فيه بسماعه له من أبي هريرة رضي الله تعالى عنه * -

193
899 حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا شبابة قال حدثنا ورقاء عن عمرو بن دينار عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ائذنوا للنساء بالليل إلى
المساجد..
مطابقته للترجمة من حيث إنه يخرج الجمعة في حقهن فلا يلزمهن شهودها، ومن لم يشهدها فليس عليه غسل، وقال الكرماني: فإن قلت: ما وجه تعلقه بالترجمة؟ قلت: عادة البخاري أنه إذا عقد ترجمة للباب وذكر ما يتعلق بها يذكر أيضا ما يناسبها، فجاء بهذا الحديث والذي بعده ليبين إن النساء لهن شهود الجمعة. انتهى. قلت: الإذن مقيد بالليل، فكيف يكون لهن الخروج إلى الجمعة وهي نهارية؟ قلت: قال الكرماني، فيما قبل كلامه هذا فإن قلت: لفظ بالليل مفهومه أن لا يؤذن في الخروج بالنهار؟ قلت: إذا جاز خروجهن بالليل الذي هو محل الوقوع في الفتن، فجواز الخروج بالنهار بالطريق الأولى. انتهى. قلت: الذي قاله مخالف لما قاله العلماء، فإنهم قالوا: يخرجن بالليل لوقوع الأمن من الفساد من جهة الفساق، لأنهم بالليل إما مشغولون بفسقهم أو نائمون، ولا يخرجن بالنهار لعدم الأمن لانتشار الفساق.
ذكر رجاله: وهم ستة: عبد الله بن محمد البخاري المسندي، وقد مر غير مرة، وشبابة، بفتح الشين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف باء موحدة أخرى: ابن سوار الفزاري أبو عمرو المدايني، وقد مر في: باب الصلاة على النفساء، وورقاء بن عمرو المدائني مر في: باب وضع الماء عند الخلاء، وعمرو بن دينار تكرر ذكره، ومجاهد بن جبر مر في أول كتاب الإيمان. قالوا، قد رأى هاروت وماروت وكاد يتلف.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: أن رواته ما بين بخاري ومدائني ومكيين وهما: عمرو ومجاهد.
وقد أخرج البخاري هذا الحديث في: باب خروج النساء إلى المساجد بالليل، عن عبد الله بن عمر بغير هذا الإسناد وغير هذا اللفظ، أما إسناده: فعن عبيد الله بن موسى عن حنظلة عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر، وأما لفظه: (إذا استأذنكم نساؤكم بالليل إلى المسجد فأذنوا لهن). وقال هناك: تابعه شعبة عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عمر وقد أوضحناه هناك.
900 حدثنا يوسف بن موسى ا قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد فقيل لها لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذالك ويغار قالت وما يمنعه أن ينهاني قال يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تمنعوا إماء الله مساجد الله..
هذا الحديث مطلق، والذي قبله مقيد، فكأن البخاري حمل هذا المطلق على ذاك المقيد، فإذا كان كذلك يكون المعنى: لا تمنعوا أماء الله مساجد الله بالليل، والجمعة تخرج عنه لأنها نهارية، فحينئذ لا تشهدها، ومن لا يشهدها ليس عليه غسل، فحصلت المطابقة بينه وبين الترجمة بهذا الطريق. فافهم.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: يوسف بن موسى بن راشد بن بلال القطان الكوفي، مات ببغداد سنة اثنتين وخمسين ومائتين. الثاني: أبو أسامة حماد بن أسامة الليثي، مات سنة إحدى ومائتين وهو ابن ثمانين سنة. الثالث: عبيد الله بتصغير العبد ابن عمر حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو عثمان المدني، وقد تكرر ذكره. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده وفيه: أن رواته ما بين كوفي ومدني. وفيه: أحد الرواة بالكنية والآخر بالتصغير، وقد ذكره المزي في (الأطراف) من حديث ابن عمر في مسنده، وقيل: هو من مسند عمر، رضي الله تعالى عنه، والحديث أيضا من أوله إلى قوله: (قول رسول الله صلى الله عليه وسلم) من المرسلات.

194
ذكر معناه: قوله: (كانت امرأة لعمر، رضي الله تعالى عنه) اسمها: عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، أخت سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرة، وعينها الزهري في رواية عبد الرزاق: (عن معمر عنه، قال: كانت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل عند عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، وكانت تشهد الصلاة في المسجد، وكان عمر يقول لها: والله إنك لتعلمين أني ما أحب هذا، قالت: والله لا أنتهي حتى تنهاني! قال: فلقد طعن عمر، رضي الله تعالى عنه، وإنها لفي المسجد). كذا ذكره مرسلا، ورواه عبد الأعلى عن معمر موصولا بذكر سالم بن عبد الله عن أبيه، لكن أبهم المرأة. أخرجه أحمد عنه وسماها من وجه آخر عن سالم قال: (كان عمر رجلا غيورا، وكان إذا خرج إلى الصلاة اتبعته عاتكة بنت زيد...) الحديث، وهو مرسل. قوله: (تشهد) أي: تحضر. قوله: (فقيل لها) أي: لامرأة عمر، وقال بعضهم: إن قائل ذلك كله هو عمر، ولا مانع أن يعبر عن نفسه بقوله: (إن عمر...) إلى آخره، فيكون من باب التجريد والالتفات. انتهى. قلت: هو من باب التجريد لا من باب الالتفات. قوله: (لم تخرجين؟) أصله: لما تخرجين، فحذفت الألف كما في قوله تعالى: * (عم يتساءلون) * (النبأ: 1). قوله: (وقد تعلمين)، جملة وقعت حالا. وقد علم أن الفعل المضارع إذا وقع حالا وهو مثبت تدخل فيه كلمة: قد. قوله: (ذلك) إشارة إلى خروجها الذي يدل عليه قوله: (تخرجين) قوله: (ويغار)، على وزن: يخاف، من الغيرة. قوله: (فما يمنعه)، ويروى: (وما يمنعه، بالواو وكلمة: أن، مصدرية في محل الرفع لأنه فاعل، والتقدير: فما يمنعني بأن ينهاني، أي: بنهيه إياي، وقد مر البحث فيه مستوفى، في: باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد، قبيل كتاب الجمعة.
14
((باب الرخصة إن لم يحضر الجمعة في المطر))
أي: هذا باب في بيان حكم الرخصة إن لم يحضر المصلي صلاة الجمعة في وقت نزول المطر، وكلمة: إن، بالكسر، و: لم يحضر، على صيغة المعلوم. وقال الكرماني: و: أن، بالفتح أي: في أن، و: يحضر، على لفظ المبني للمفعول، وفي بعض النسخ: باب الرخصة لمن لم يحضر الجمعة، وهذه أحسن من غيرها
على ما لا يخفى.
والرخصة في اللغة عبارة عن الإطلاق والسهولة، وفي الشريعة ما يكون ثابتا على إعذار العباد تيسيرا يسمى: رخصة.
901 حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل قال أخبرني عبد الحميد صاحب الزيادي. قال حدثنا عبد الله بن الحارث ابن عم محمد بن سيرين قال ابن عباس لمؤذنه في يوم مطير إذا قلت أشهد أن محمدا رسول الله فلا تقل حي على الصلاة قل صلوا في بيوتكم فكأن الناس استنكروا. قال فعله من هو خير مني إن الجمعة عزمة وإني كرهت أن أحرجكم فتمشون في الطين والدحض. (انظر الحديث 616 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة، والكلام في هذا الحديث قد مر في: باب الكلام في الأذان مستوفى، لأنه أخرجه هناك: عن مسدد عن حماد عن أيوب وعبد الحميد بن دينار صاحب الزيادي، وعاصم الأحول عن عبد الله بن الحارث قال: (خطبنا ابن عباس في يوم ردغ..) الحديث، وهنا أخرجه: عن مسدد أيضا عن إسماعيل بن علية إلى آخره. قوله: (في يوم مطير). قوله: (فكأن الناس استنكروا) أي: استنكروا. قوله: (فلا تقل: حي على الصلاة، قل: صلوا في بيوتكم)، وفي رواة الحجبي: كأنهم أنكروا ذلك، وفي: باب الكلام في الأذان، فنظر القوم بعضهم إلى بعض، أي: نظر إنكار. قوله: (فقال) أي: ابن عباس. قوله: (فعله) أي: فعل ما قلته للمؤذن. قوله: (من هو خير مني) أراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم. قوله: (عزمة)، بسكون الزاي، أي: واجبة متحتمة. وقال الإسماعيلي. قوله: (إن الجمعة عزمة) لا أظنه صحيحا، فإن أكثر الروايات بلفظ: إنها عزمة أي: إن كلمة الأذان وهي: حي على الصلاة عزمة لأنها دعاء إلى الصلاة يقتضي لسامعه الإجابة، ولو كان المعنى: إن الجمعة عزمة، لكانت

195
عزيمة لا تزول بترك بقية الأذان. انتهى. قلت: كأن الإسماعيلي إنما استشكل هذا بالنظر إلى معنى العزيمة، وهو ما يكون ثابتا ابتداء غير متصل بمعارض، ولكن المراد بقول ابن عباس: وإن كانت الجمعة عزيمة، ولكن المطر من الأعذار التي تصير العزيمة رخصة، وهذا مذهب ابن عباس: أن من جملة الأعذار لترك الجمعة المطر، وإليه ذهب ابن سيرين وعبد الرحمن بن سمرة وهو قول أحمد وإسحاق. وقالت طائفة: لا يتخلف عن الجمعة في اليوم المطير، وروى ابن قانع: قيل لمالك: أتتخلف عن الجمعة في اليوم المطير؟ قال: ما سمعت، قيل له: في الحديث: (ألا صلوا في الرحال!) قال: ذلك في السفر، وقد رخص في ترك الجمعة بأعذار أخر غير المطر، روى ابن القاسم عن مالك أنه أجاز أن يتخلف عنها لجنازة أخ من إخوانه لينظر في أمره. وقال ابن حبيب عن مالك: وكذا إن كان له مريض يخشى عليه الموت، وقد زار ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، ابنا لسعد بن زيد ذكر له شكواه، فأتاه إلى العقيق وترك الجمعة، وهو مذهب عطاء والأوزاعي. وقال الشافعي في أمر الوالد: إذا خاف فوات نفسه. وقال عطاء: إذا استصرخ على أبيك يوم الجمعة والإمام يخطب فقم إليه واترك الجمعة. وقال الحسن: يرخص ترك الجمعة للخائف، وقال مالك في (الواضحة): وليس على المريض والصحيح الفاني جمعة. وقال أبو مجلز: إذا اشتكى بطنه لا يأتي الجمعة. وقال ابن حبيب: أرخص صلى الله عليه وسلم في التخلف عنها لمن شهد الفطر والأضحى صبيحة ذلك اليوم من أهل القرى الخارجة عن المدينة، لما في رجوعه من المشقة لما أصابهم من شغل العيد، وفعله عثمان، رضي الله تعالى عنه، لأهل الغوالي، واختلف قول مالك فيه، والصحيح عند الشافعية: السقوط، واختلف في تخلف العروس والمجذوم، حكاه ابن التين، واعتبر بعضهم شدة المطر، واختلف عن مالك: هل عليه أن يشهدها؟ وكذا روي عنه، فيمن يكون مع صاحبه فيشتد مرضه: لا يدع الجمعة إلا أن يكون في الموت. قوله: (أن أحرجكم) من الإحراج، بالحاء المهملة وبالجيم من: الحرج، وهو المشقة. والمعنى: إني كرهت أن أشق عليكم بإلزامكم السعي إلى الجمعة في الطين والمطر. ويروى: (أن أخرجكم) من الإخراج، بالخاء المعجمة من الخروج. ويروى: (كرهت أو أؤثمكم) أي: أن أكون سببا لاكتسابكم الإثم عند ضيق صدوركم. قوله: (في الدحض)، بفتح الدال والحاء المهملتين وفي آخره ضاد معجمة، ويجوز تسكين الحاء وهو: الزلق. قال في (المطالع): كذا في رواية الكافة، وعند القابسي بالراء، وفسره بعضهم بما يجري في البيوت من الرحاضة، وهو بعيد إنما الرحض: الغسل، والمرحاض خشبة يضرب بها الثوب ليغسل عند الغسل، وأما ابن التين فإنه ذكره بالراء. قال: وكذا لأبي الحسن، ورحضت الشيء غسلته، ومنه المرحاض، أي: المغتسل، فوجهه أن الأرض حين يصيبها المطر تصير كالمغتسل، والجامع بينهما: الزلق.
15
((باب من أين تؤتى الجمعة وعلى عن تجب لقول الله عز وجل * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) * (الجمعة: 9).))
أي: هذا باب ترجمته: من أين تؤتى الجمعة؟ وكلمة: أين، استفهام عن المكان. وقوله: تؤتى، مجهول من الإتيان. قوله: (وعلى من تجب؟) أي: الجمعة. قوله: (لقوله تعالى) يتعلق بقوله: (تجب)، وأراد بإيراده بعض هذه الآية الكريمة الإشارة إلى وجوب الجمعة، وهذا لا خلاف فيه، ولكن الخلاف فيمن تجب عليه، فكأنه ذكر الترجمة بالاستفهام لهذا المعنى، وقد تكلمنا فيما يتعلق بالآية الكريمة في أول كتاب الجمعة لأنه ذكر الآية الكريمة هناك.
وقال عطاء إذا كنت في قرية جامعة فنودي بالصلاة من يوم الجمعة فحق عليك أن تشهدها سمعت النداء أو لم تسمعه
عطاء هو: ابن أبي رباح، ووصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، وزاد في روايته: عن ابن جريج أيضا قلت لعطاء: ما القرية الجامعة؟ قال: ذات الجماعة والأمير والقاضي والدور المجتمعة الآخذ بعضها ببعض، مثل جدة. انتهى. قلت: هذا الذي ذكره حد المدينة أطلق عليها اسم القرية. كما في قوله تعالى: على رجل من القريتين) * (الزخرف: 31). وهما: مكة والطائف، وبهذا قال أصحابنا الحنفية. قوله: (سمعت النداء أو لم تسمعه) يعني: إذا كان داخل البلد، وبهذا صرح

196
أحمد، ونقل النووي: أنه لا خلاف فيه.
وكان أنس رضي الله تعالى عنه في قصره أحيانا يجمع وأحيانا لا يجمع وهو بالزاوية على فرسخين
أنس هو ابن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا التعليق وصله ابن أبي شيبة، قال: حدثنا وكيع عن أبي البختري، قال: رأيت أنسا شهد الجمعة من الزاوية، وهي على فرسخين من البصرة. قوله: (أحيانا) أي: في بعض الأوقات، وانتصابه على الظرفية. قوله: (يجمع)، بضم الياء وتشديد الميم أي: يصلي الجمعة بمن معه، أأو: يشهد الجمعة بجامع البصرة. قوله: (وهو) أي: القصر (بالزاوية): وهو موضع ظاهر البصرة معروف، بينها وبين البصرة فرسخان، والفرسخ، فيه وقعة كبيرة بين الحجاج وابن الأشعث قوله: (فرسخين) أي: من البصرة. فإن قلت: روى عبد الرزاق عن معمر عن ثابت قال: كان أنس يكون في أرضه وبينه وبين البصرة ثلاثة أميال، فيشهد الجمعة بالبصرة، فهذا يعارض ما رواه ابن أبي شيبة؟ قلت: ليس الأمر كذلك، لأن الأرض المذكورة غير القصر، وأيضا الفرسخ ثلاثة أميال، والميل أربعة آلاف خطوة.
902 حدثنا أحمد قال حدثنا عبد الله بن وهب. قال أخبرني عمرو بن الحارث عن عبيد الله بن أبي جعفر أن محمد بن جعفر بن الزبير حدثه عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت كان الناس ينتابون يوم الجمعة من منازلهم والعوالي فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار والعرق فيخرج منهم العرق فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي فقال النبي صلى الله عليه وسلم لو أنكم تطهرتم ليومكم هاذا.
مطابقته للترجمة ظاهرة في قوله: (كان الناس ينتابون الجمعة من منازلهم والعوالي).
ذكر رجاله: وهم سبعة: الأول: أحمد بن صالح، كذا في رواية أبي ذر، وبه قال ابن السكن، وذكر الجياني أن البخاري روى عن أحمد، يعني: غير مسمى، عن ابن وهب في كتاب الصلاة في موضعين، وقال: حدثنا أحمد حدثنا ابن وهب قال...، ونسبه أبو علي بن السكن في نسخته، فقال: أحمد بن صالح المصري، وقال الحاكم: روى البخاري في كتاب الصلاة في ثلاثة مواضع عن أحمد عن ابن وهب، فقيل: إنه ابن صالح المصري. وقيل: ابن عيسى التستري، ولا يخلو أن يكون واحدا منهما، فقد روى عنهما في (الجامع) ونسبهما في مواضع، وذكر أبو نصر الكلاباذي، قال: قال لي أبو أحمد، يعني الحاكم: أحمد عن ابن وهب في (الجامع) هو ابن أخي ابن وهب. وقال الحاكم أبو عبد الله: من قال هذا فقد وهم وغلط، دليله أن المشايخ الذين ترك البخاري الرواية عنهم في (الجامع) فقد روى عنهم في سائر مصنفاته: كابن صالح وغيره، وليس له عن ابن أخي وهب رواية في موضع، فهذا يدل على أنه لم يكتب عنه، أو كتب عنه ثم ترك الرواية عنه أصلا. وقال الكلاباذي: قال ابن منده: كلما قال البخاري في (الجامع): حدثنا أحمد عن ابن وهب فهو ابن صالح، ولم يخرج عن ابن أخي ابن وهب في (الصحيح) وإذا حدث عن أحمد بن عيسى نسبة. الثاني: عبد الله بن وهب المصري. الثالث: عمرو بن الحارث، مر في: باب المسح على الخفين. الرابع: عبيد الله بن أبي جعفر الأموي القرشي، واسم أبي جعفر: يسار، أحد أعلام مصر، مات سنة خمس أو ست وثلاثين ومائة. الخامس: محمد بن جعفر بن الزبير بن العوام القرشي. السادس: عروة بن الزبير بن العوام. السابع: أم المؤمنين عائشة، رضي الله تعالى عنها.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن الأربعة من الرواة مصريون وهم: شيخه وثلاثة بعده متناسقون، واثنان بعدههما مدنيان. وفيه: رواية الرجل عن عمه.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن هارون بن سعيد وأحمد بن عيسى، كلاهما عن ابن وهب. وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن صالح عن ابن وهب.
ذكر معناه: قوله: (ينتابون الجمعة)، أي: يحضرونها بالنوبة، وهو من الانتياب من النوبة، وهو المجيء نوبا،

197
ويروى (يتناوبون) من النوبة أيضا. قوله: (والعوالي) جمع العالية، وهي مواضع وقرى بقرب مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة المشرق من ميلين إلى ثمانية أميال. وقيل: أدناها من أربعة أميال. قوله: (فيأتون في الغبار يصيبهم الغبار) كذا وقع لأكثر الرواة، وعند القابسي: (فيأتون في العباء)، بفتح العين المهملة وبالمد جمع: عباءة، وعباية، لغتان مشهورتان، وكذا شرحه النووي في (شرحه) لأنه عند مسلم كذا هو، وكذا عند الإسماعيلي وغيرهما، وهو الصواب. قوله: (إنسان منهم)، وفي رواية الإسماعيلي: (أناس منهم). قوله: (لو أنكم تطهرتم)، كلمة: لو، تقتضي دخولها على الفعل، تقديره: لو ثبت تطهركم، ثم إن: لو، هذه يجوز أن تكون للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، ويجوز أن تكون على أصلها والجزاء محذوف تقديره: لكان حسنا.
ذكر ما يستفاد منه اختلف العلماء في هذا الباب أعني: في وجوب الجمعة على من كان خارج المصر فقالت طائفة: تحب على من آواه الليل إلى أهله، وروي ذلك عن أبي هريرة وأنس وابن عمر ومعاوية، وهو قول نافع والحسن وعكرمة والحكم والنخعي وأبي عبد الرحمن السلمي وعطاء والأوزاعي وأبي ثور، حكاه ابن المنذر عنهم لحديث أبي هريرة مرفوعا: (الجمعة على من آواه الليل إلى أهله)، رواه الترمذي والبيهقي وضعفاه، ونقل عن أحمد أنه لم يره شيئا، وقال لمن ذكره له: استغفر ربك استغفر ربك، ومعنى هذا الحديث: أنه إذا جمع مع الإمام أمكنه العود إلى أهله آخر النهار قبل دخول الليل. وقالت طائفة: إنها تجب على من سمع النداء، روي ذلك عن عبد الله بن عمر أيضا وحكاه الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق، وحكاه ابن العربي عن مالك أيضا واستدل له بحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه أبو داود من رواية سفيان عن محمد بن سعيد عن أبي سلمة بن نبيه عن عبد الله بن هارون عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (الجمعة على من سمع النداء). قال أبو داود: روى هذا الحديث جماعة عن سفيان مقصورا على عبد الله بن عمرو، ولم يرفعوه. ورواه الدارقطني من رواية الوليد عن زهير بن محمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الجمعة على من سمع النداء)، والوليد هو ابن مسلم، وزهير ابن محمد،
كلاهما من رجال (الصحيح). لكن زهيرا روى عنه أهل الشام مناكير، منهم: الوليد والوليد مدلس، وقد رواه بالعنعنة فلا تصح، وقد رواه الدارقطني أيضا من رواية محمد ابن الفضل بن عطية عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (والجمعة على من يهدىء الصوت). قال داود بن رشيد: يعني حيث يسمع الصوت، ومحمد بن الفضل بن عطية ضعيف جدا، والحجاج هو: ابن أرطأة، وهو مدلس مختلف في الاحتجاج به، وقال ابن العربي: الوجوب على من سمع النداء عند الشافعي، قال: وتعليقه السعي على سماع النداء يسقطه عمن كان في المصر الكبير إذا لم يسمعه، وقالت طائفة: يجب على أهل المصر، ولا يجب على من كان خارج المصر، سمع النداء أو لم يسمعه. قال شيخنا في (شرح الترمذي): وهو قول أبي حنيفة بناء على قوله: إن الجمعة لا تجب على أهل القرى والبوادي ما لم يكن في المصر، ورجحه القاضي أبو بكر بن العربي، وقال: إن الظاهر مع أبي حنيفة، رضي الله تعالى عنه. قلت: مذهب أبي حنيفة: أن الجمعة لا تصح إلا في مصر جامع، أو في مصلى المصر نحو مصلى العيد. وفي (المفيد) و (الاسبيجابي) و (التحفة): لا تجب الجمعة عندنا إلا في مصر جامع، أو فيما هو في حكمه، كمصلى العيد. وفي (جوامع الفقه): وأرباض المصر كالمصر، وفي (الينابيع): لو كان منزله خارج المصر لا تجب عليه. قال: وهذا أصح ما قيل فيه، وفي (قاضيخان): عن أبي يوسف هو رواية عنه، وعنه من ثلاثة فراسخ، وعنه إذا شهد الجمعة فإن أمكنه المبيت بأهله لزمته الجمعة، واختاره كثير من مشايخنا. وفي (الذخيرة): في ظاهر رواية أصحابنا: لا يجب شهود الجمعة إلا على من يسكن المصر والأرباض دون السواد، سواء كان قريبا من مصر أو بعيدا عنها. وعن محمد: إذا كان بينه وبين المصر ميل أو ميلان أو ثلاثة أميال فعليه الجمعة، وهو قول مالك والليث، وفي (منية المفتي) على أهل السواد الجمعة إذا كانوا على قدر فرسخ هو المختار، وعنه: إذا كان أقل من فرسخين تجب، وفي الأكثر. لا، وفي رواية: كل موضع لو خرج الإمام إليه صلى الجمعة فتجب، وعن معاذ بن جبل: يجب الحضور من خمسة عشر فرسخا. وقال ابن المنذر: يجب عند ابن المنكدر وربيعة والزهري في رواية: من أربعة أميال، وعن الزهري: من ستة أميال، وحكاه ابن التين عن النخعي وعن مالك والليث: ثلاثة أميال. وحكى أبو حامد عن عطاء: عشرة أميال.
واختلف أصحاب مالك: هل مراعاة

198
ثلاثة أميال من المنار أو من طرف المدينة؟ فالأول قاله القاضي أبو محمد، والثاني قاله محمد بن عبد الحكم. وعن حذيفة: ليس على من على رأس ميل جمعة. وقال صاحب (التوضيح): في حديث الباب رد لقول الكوفيين أن الجمعة لا تجب على من كان خارج المصر، لأن عائشة، رضي الله تعالى عنها، أخبرت عنهم بفعل دائم أنهم كانوا يتناوبون الجمعة، فدل على لزومها عليهم. قلت: هذا نقله عن القرطبي، وهو ليس بصحيح، لأنه لو كان واجبا على أهل العوالي ما تناوبوا، ولكانوا يحضرون جميعا.
وفيه من الفوائد: رفق العالم بالمتعلم، واستحباب التنظيف لمجالسة أهل الخير، واجتناب أذى المسلم بكل طريق، وحرص الصحابة على امتثال الأمر ولو شق عليهم.
16
((باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس))
أي: هذا باب في بيان أن وقت صلاة الجمعة إذا زالت الشمس من كبد السماء: وقال بعضهم: جزم بهذه المسألة مع وقوع الخلاف فيها لضعف دليل المخالف عنده. قلت: لا حاجة إلى القيد بلفظ: عنده، لأن عند غيره أيضا من جماهير العلماء: إن وقت الجمعة إذا زالت الشمس.
وكذالك يروى عن عمر وعلي والنعمان بن بشير وعمرو بن حريث رضي الله تعالى عنهم
أي: كما ذكرنا: إن وقت الجمعة إذا زالت الشمس، كذلك روي عن هؤلاء الصحابة، رضي الله تعالى عنهم. وهذه أربع تعاليق.
الأول: عن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه، فرواه ابن أبي شيبة من طريق سويد بن غفلة أنه: صلى مع أبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، حين تزول الشمس، وفي حديث السقيفة، عن ابن عباس قال: فلما كان يوم الجمعة وزالت الشمس خرج عمر فجلس على المنبر.
الثاني: عن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، فرواه ابن أبي شيبة عن وكيع عن أبي العنبس عمرو بن مروان عن أبيه، قال: كنا نجمع مع علي إذا زالت الشمس، وقال ابن حزم: روينا عن أبي إسحاق، قال: شهدت علي بن أبي طالب يصلي الجمعة إذا زالت الشمس.
عن النعمان بن بشير، فرواه ابن أبي شيبة بسند صحيح: عن عبيد الله بن موسى عن سماك، قال: كان النعمان يصلي بنا الجمعة بعد ما تزول الشمس. انتهى. وكان النعمان أميرا على الكوفة في أول خلافة يزيد بن معاوية.
الرابع: عن عمرو بن حريث، فرواه ابن أبي شيبة أيضا من طريق الوليد بن الغيزار قال: (ما رأيت إماما كان أحسن صلاة للجمعة من عمرو بن حريث، فكان يصليها إذا زالت الشمس). إسناده صحيح، وكان عمرو ينوب عن زياد وعن ولده في الكوفة أيضا. فإن قلت: لم اقتصر البخاري على هؤلاء الصحابة دون غيرهم؟ قلت: قيل: لأنه نقل عنهم خلاف ذلك، وفي التوضيح لأنه روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، رضي الله تعالى عنهم، أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال، من طريق لا يثبت قاله ابن بطال. وروى ابن أبي شيبة من طريق أبي رزين، قال: كنا نصلي مع علي الجمعة فأحيانا نجد فيئا، وأحيانا لا نجد. وروي أيضا عن طريق عبد الله بن سلمة، بكسر اللام، وقال: صلى بنا عبد الله يعني ابن مسعود الجمعة ضحى، وقال: خشيت عليكم الحر. وروي أيضا من طريق سعيد بن سويد قال: صلى بنا معاوية الجمعة ضحى، وروي أيضا عن غندر عن شعبة عن سلمة بن كهيل عن مصعب بن سعد قال: كان سعد يقيل بعد الجمعة. قلت: الجواب عما روي عن علي، رضي الله تعالى عنه، إنه محمول على المبادرة عند الزوال أو التأخير قليلا، وأما الذي روي عن ابن مسعود، ففيه عبد الله، وهو صدوق ولكنه تغير لما كبر، قاله
شعبة وغيره، وأما الذي روى عن معاوية ففي سنده سعد، ذكره ابن عدي في الضعفاء. وقال البخاري: لا يتابع على حديثه، وأما الذي روى عن سعد فلا يدل على فعلها قبل الزوال، بل أنه كان يؤخر النوم للقائلة إلى بعد الزوال لاشتغاله بالتهيئة إلى الجمعة من الغسل والتنظيف أو لتبكيره إليها.
26 - (حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يحيى بن سعيد أنه سأل عمرة عن الغسل يوم الجمعة فقالت قالت عائشة رضي الله عنها كان الناس مهنة أنفسهم وكانوا إذا راحوا

199
إلى الجمعة راحوا في هيئتهم فقيل لهم لو اغتسلتم)
مطابقته للترجمة تؤخذ من قوله ' وكانوا إذا راحوا إلى الجمعة راحوا ' لأن الرواح لا يكون إلا بعد الزوال (فإن قلت) روي عن الزهري أنه قال المراد بالرواح في قوله ' من اغتسل يوم الجمعة ثم راح ' الذهاب مطلقا فإذا كان كذلك لا توجد المطابقة بين الحديث والترجمة (قلت) إما يكون مجازا أو مشتركا فعلى كل من التقديرين فالقرينة مخصصة في قوله ' من راح في الساعة الأولى ' قائمة في إرادة مطلق الذهاب وفي هذا قائمة في الذهاب بعد الزوال
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول عبدان بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وتخفيف الدال المهملة وبعد الألف نون واسمه عبد الله بن عثمان بن جبلة الأزدي أبو عبد الرحمن المروزي مات سنة إحدى وعشرين ومائتين. الثاني عبد الله بن المبارك. الثالث يحيى بن سعيد الأنصاري. الرابع عمرة بفتح العين المهملة وسكون الميم بنت عبد الرحمن بن سعد الأنصارية المدنية. الخامس عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد وبصيغة الإخبار كذلك في موضعين وفيه السؤال وفيه القول في أربعة مواضع وفيه شيخ البخاري مذكور باللقب وفيه رواية التابعية عن الصحابية وفيه رواية التابعي عن التابعية وفيه من الرواة مروزيان وهما شيخه وشيخ شيخه ومدني ومدنية وهما يحيى وعمرة
(ذكر من أخرجه غيره) أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن محمد بن رمح عن الليث وأخرجه أبو داود في الطهارة عن مسدد عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد به
(ذكر معناه) قوله ' مهنة أنفسهم ' بفتح الميم والهاء والنون جمع ما هن ككتبة جمع كاتب والماهن الخادم وحكى ابن التين أنه روي بكسر الميم وسكون الهاء وهو مصدر ومعناه أصحاب خدمة أنفسهم (قلت) هي رواية أبي ذر وفي رواية مسلم من طريق الليث عن يحيى بن سعيد أكان الناس أهل عمل ولم يكن لهم كفاءة أي لم يكن لهم من يكفيهم العمل من الخدم قوله ' إذا راحوا ' أي إذا ذهبوا بعد الزوال لأن حقيقة الرواح بعد الزوال عند أكثر أهل اللغة وفيه سؤال ذكرناه عن قريب مع جوابه قوله ' لو اغتسلتم ' كلمة لو إما للتمني فلا تحتاج إلى جواب وإما على أصلها فجوابها محذوف نحو لكان حسنا ونحو ذلك
(ومما يستفاد منه) أن وقت الجمعة بعد الزوال وهو وقت الظهر وإن الاغتسال مستحب لإزالة الرائحة الكريهة حتى لا يتأذى الناس بل الملائكة أيضا * -
904 حدثنا سريج بن النعمان قال حدثنا فليح بن سليمان عن عثمان بن عبد الرحمان بن عثمان التيمي عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وسريج، بضم السين المهملة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره جيم: ابن النعمان بضم النون البغدادي، مات سنة سبع عشرة ومائتين، وفليح، بضم الفاء، مر في أول كتاب العلم. قوله: (عن أنس) صرح الإسماعيلي من طريق زيد بن الحباب عن فليح بسماع عثمان له من أنس.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه أبو داود أيضا في الصلاة عن الحسن بن علي عن زيد بن الحباب عن فليح به. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع عن سريج بن النعمان به وعن يحيى بن موسى عن أبي داود عن فليح نحوه، وقال: حسن صحيح. وقال: وفي الباب عن سلمة بن الأكوع وجابر والزبير بن العوام. قلت: وفيه أيضا عن سهل بن سعد وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر وسعد القرظي وبلال، رضي الله تعالى عنهم. أما حديث سلمة بن الأكوع فأخرجه الأئمة الستة خلا الترمذي من رواية إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به). وفي رواية لمسلم: (كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء). أما حديث جابر، فأخرجه مسلم والنسائي من رواية جعفر بن محمد عن جابر بن عبد الله، قال: (كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نرجع فنريح نواضحنا. قال حسن: يعني ابن عياش، فقلت لجعفر: في أي ساعة تلك؟ قال: بعد زوال الشمس). وأما حديث

200
الزبير بن العوام فأخرجه أحمد من رواية مسلم بن جندب عن الزبير قال: (كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم ننصرف فنبتدر في الأجام فما نجد من الظل إلا قدر موضع أقدامنا). قال يزيد بن هارون، الأجام: الأطام. وأما حديث سهل بن سعد فأخرجه البخاري على ما يأتي، وأخرجه أيضا مسلم والنسائي والترمذي. وأما حديث عبد الله بن مسعود فأخرجه أحمد في (مسنده). وأما حديث عمار بن ياسر فرواه الطبراني في (الكبير) عنه قال: (كنا نصلي الجمعة ثم ننصرف فما نجد للحيطان فيئا نستظل به) وأما حديث سعد القرظي، فأخرجه ابن ماجة عنه: (أنه كان يؤذن يوم الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان الفيء مثل الشراك). وأما حديث بلال فرواه الطبراني في (الكبير): (أنه كان يؤذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة إذا كان الفيء قدر الشراك، إذا قعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر).
ذكر ما يستفاد منه: أجمع العلماء على أن وقت الجمعة بعد زوال الشمس إلا ما روي عن مجاهد أنه قال: يجوز فعلها في وقت صلاة العيد، لأنها صلاة عيد، وقال أحمد: تجوز قبل الزوال، ونقله ابن المنذر عن عطاء وإسحاق، ونقله الماوردي عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، في السادسة. وقال ابن قدامة، في (المقنع): يشترط لصحة الجمعة أربعة شروط: أحدها الوقت، وأوله أول وقت صلاة العيد، قال: وقال الجرمي: يجوز فعلها في الساعة السادسة، قال: وروي عن ابن
مسعود وجابر وسعد ومعاوية أنهم صلوها قبل الزوال، وقال القاضي وأصحابه: يجوز فعلها في وقت صلاة العيد. قال: وروي ذلك عن عبد الله عن أبيه، قال: نذهب إلى أنها كصلاة العيد، وأراد بعبد الله عبد الله بن أحمد بن حنبل، وقال عطاء: كل عيد حين يمتد الضحى الجمعة والأضحى والفطر، لما روي (عن ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، قال: ما كان عيدا إلا في أول النهار، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا الجمعة في ظل الحطيم). رواه ابن البختري في (أماليه) بإسناده، واحتج بعض الحنابلة بقوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين)، قالوا: فلما سماه عيدا جازت الصلاة فيه، في وقت العيد، كالفطر والأضحى، وفيه نظر، لأنه لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيدا أن يشتمل على جميع أحكام العيد، بدليل أن يوم العيد يحرم وصومه مطلقا، سواء صام قبله أو بعده بخلاف يوم الجمعة بالاتفاق.
17
((باب إذا اشتد الحر يوم الجمعة))
أي: هذا باب ترجمته إذا اشتد الحر، وجواب: إذا، محذوف تقديره: إذا اشتد الحر يوم الجمعة أبرد بها، وإنما لم يجزم بالحكم الذي يفهم من الجواب لكونه لم يتيقن أن قوله: يعني الجمعة، من كلام التابعي أو من كلام من دونه، لأن قول أنس: (كان

201
النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة)، ومطلق يتناول الظهر والجمعة، كما أن قوله في رواية حميد عنه: (كنا نبكر بالجمعة)، مطلق يتناول شدة الحر وشدة البرد، والحاصل أن النقل عن أنس، رضي الله تعالى عنه، مختلف. فرواية حميد عنه تدل على التبكير بالجمعة مطلقا، ورواية أبي خلدة عنه تدل على التفصيل فيها، وروايته الثانية عنه تدل على أن هذا الحكم بالصلاة مطلقا، يعني: سواء كان جمعة أو ظهرا، وروايته الثالثة التي رواها عنه بشر بن ثابت تدل على أن هذا الحكم بالظهر، ويحصل الائتلاف بين هذه الروايات بأن نقول: الأصل في الظهر التبكير عند اشتداد البرد والإبراد عند اشتداد الحر، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، والأصل في الجمعة، التبكير لأن يوم الجمعة يوم اجتماع الناس وازدحامهم، فإذا أخرت يشق عليهم: وقال ابن قدامة: ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها إذا زالت الشمس صيفا وشتاء على ميقات واحد، ثم إن أنسا، رضي الله تعالى عنه، قاس الجمعة على الظهر عند اشتداد الحر لا بالنص، لأن أكثر الأحاديث تدل على التفرقة في الظهر وعلى التبكير في الجمعة.
906 حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي قال حدثنا حرمي بن عمارة قال حدثنا أبو خلدة هو خالد بن دينار قال سمعت أنس بن مالك يقول كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البرد بكر بالصلاة وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة يعني الجمعة.
مطابقته للترجمة في قوله: (إذا اشتد الحر).
ذكر رجاله: وهم أربعة: المقدمي، بضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المفتوحة، وحرمي، بفتح الحاء المهملة والراء وكسر الميم: ابن عمارة، بضم العين المهملة وتخفيف الميم، وأبو خلدة، بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام وبفتحها أيضا، وهو كنية خالد بن دينار التميمي السعدي البصري الخياط، بفتح الخاء المعجمة وتشديد الياء آخر الحروف.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: السماع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أحد الرواة بصيغة النسبة والآخر بالكنية وتصريح الاسم. وفيه: أن الرواة كلهم بصريون. وفيه: أن البخاري روى هذا الحديث الواحد فقط من أبي خلدة. قاله الغساني، وأخرجه النسائي ولم يذكر فيه لفظ: الجمعة، بل ذكره بعد قوله: تعجيل الظهر في البرد.
قال يونس بن بكير أخبرنا أبو خلدة فقال بالصلاة ولم يذكر الجمعة
هذا التعليق وصله البخاري في (الأدب المفرد) ولفظه: (سمعت أنس بن مالك، وهو مع الحكم أمير البصرة على السرير، يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بالصلاة). قوله: (وقال بالصلاة)، أي: وقال أبو خلدة في رواية يونس عنه بلفظ: الصلاة، فقط، ولم يذكر الجمعة، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي الحسن: حدثنا أبو هشام عن يونس بلفظ: (إذا كان الحر أبرد بالصلاة وإذا كان البرد بكرها)، يعني: الظهر، وكذا أخرجه البيهقي من حديث عبيد بن يعيش عنه بلفظ: (الصلاة)، فقط. وقال الكرماني: قوله: ولم يذكر الجمعة، موافق لقول الفقهاء حيث قالوا: ندب الإبراد إلا في الجمعة لشدة الخطر في فواتها، ولأن الناس يبكرون إليها فلا يتأذون بالحر.
وقال بشر بن ثابت حدثنا أبو خلدة قال صلى بنا أمير الجمعة ثم قال لأنس رضي الله تعالى عنه كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر
هذا التعليق وصله الإسماعيلي من حديث إبراهيم بن مرزوق عن بشر عن أنس، بلفظ: (إذا كان الشتاء بكر بالظهر، وإذا كان الصيف أبرد بها، ولكن يصلي العصر والشمس بيضاء نقية). وأخرجه البيهقي أيضا. قوله: (أمير) سماه البخاري في كتاب (الأدب المفرد) على ما ذكرناه، وهو: الحكم بن أبي عقيل الثقفي، كان نائبا عن ابن عمه الحجاج بن يوسف، وكان على طريقة

202
ابن عمه في تطويل الخطبة يوم الجمعة حتى يكاد الوقت أن يخرج، واستدل به ابن بطال على أن وقت الجمعة وقت الظهر، لأن أنسا سوى بينهما في جوابه للحكم المذكور، حتى قيل: كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر خلافا لمن أجاز الجمعة قبل الزوال؟ وقال التيمي: معنى الحديث أن الجمعة وقتها وقت الظهر، وأنها تصلى بعد الزوال ويبرد بها في شدة الحر، ولا يكون الإبراد إلا بعد تمكن الوقت،
18
((باب المشي إلى الجمعة وقول الله جل ذكره فاسعوا إلى ذكر الله ومن قال السعي العمل والذهاب لقوله تعالى: * (وسعى لها سعيها) * () الإسراء: 19).))
أي: هذا باب في بيان المشي إلى صلاة الجمعة، أراد أن في حالة المشي إليها ما يترتب من الحكم. قوله: (وقول الله) بالجر عطف على قوله: (المشي) أي: وفي بيان معنى قول الله عز وجل: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * (الجمعة: 9). والسعي في لسان العرب: الإسراع في المشي والاشتداد. وفي (المحكم): السعي عدو دون الشد، سعى يسعى سعيا، والسعي الكسب وكل عمل من خير أو شر سعي. وقال ابن التين: ذهب مالك إلى أن المشي والمضي يسميان سعيا من حيث كانا عملا، وكل من عمل بيده أو غيرها، فقد سعى، وأما السعي بمعنى الجري فهو الإسراع، يقال: سعى إلى كذا بمعنى: العدو، والجري، فيتعدى بإلى، وإن كان بمعنى العمل فيتعدى باللام. وقال الكرماني: في قوله: * (وسعى لها سعيها) * (الإسراء: 19). أي: عمل لها وذهب إليها. فإن قلت: هذا معدى باللام، وذلك بإلى؟ قلت لا تفاوت بينهما إلا بإرادة الاختصاص والانتهاء. انتهى كلامه. قلت: الفرق بين: سعى له وسعى إليه، بما ذكرنا، وهو الذي ذكره أهل اللغة وإليه أشار البخاري. بقوله: (ومن قال السعي: العمل) والذهاب يعني من فسر السعي بالعمل والذهاب يقول باللام كما في قوله تعالى: * (وسعى لها سعيها) * (الإسراء: 19). أي: عمل لها، ولكن: باللام، لا تأتي إلا في تفسير السعي بالعمل، وأما في تفسير السعي بالذهاب فلا يأتي إلا بإلى، ثم اختلفوا في معنى قوله تعالى: * (فاسعوا) * (الجمعة: 9). فمنهم من قال: معناه: فامضوا، واحتجوا بأن عمر وابن مسعود، 0 ما، كانا يقرآن: فامضوا إلى ذكر الله. قالا: ولو قرأناها فاسعوا لسعينا حتى يسقط رداؤنا. وقال عمر، رضي الله تعالى عنه، لأبي بن كعب، رضي الله تعالى عنه، وقرأ: فاسعوا، لا تزال تقرأ المنسوخ؟ كذا ذكره ابن الأثير. وفي تفسير عبد بن حميد، قيل لعمر، رضي الله تعالى عنه: إن أبيا يقرأ: فاسعوا: فامشوا؟ فقال عمر: أبي أعلمنا بالمنسوخ. وفي (المعاني) للزجاج: وقرأ أبي وابن مسعود: فامضوا، وكذا ابن الزبير فيما ذكره ابن التين، ومنهم من قال: معنى: فاسعوا، فاقصدوا. وفي تفسير أبي القاسم الجوزي: فاسعوا، أي: فاقصدوا إلى صلاة الجمعة، ومنهم من قال: معناه: فامشوا، كما ذكرناه عن أبي. وقال ابن التين: ولم يذكر أحد من المفسرين أنه الجريء، وقد ذكرنا نبذا من ذلك في أول كتاب الجمعة.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يحرم البيع حينئذ
أي: حين نودي للصلاة، وهذا التعليق وصله ابن حزم من طريق عكرمة عن ابن عباس بلفظ: (لا يصلح البيع يوم الجمعة حتى ينادى للصلاة، فإذا قضيت الصلاة فاشتر وبع). وقال الزجاج: البيع في وقت الزوال من يوم الجمعة إلى انقضاء الصلاة كالحرام. وقال الفراء: إذا أذن المؤذن حرم البيع والشراء، لأنه إذا أمر بترك البيع فقد أمر بترك الشراء. ولأن المشتري والبائع يقع عليهما البيعان، وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي: عن محمد بن عجلان عن أبي الزبير عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحرم التجارة عند الأذان، ويحرم الكلام عند الخطبة، ويحل الكلام بعد الخطبة وتحل التجارة بعد الصلاة). وعن قتادة: (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة حرم البيع والشراء). وقال الضحاك: إذا زالت الشمس، وعن عطاء والحسن مثله، وعن أيوب: لأهل المدينة ساعة يوم الجمعة ينادون: حرم البيع، وذلك عند خروج الإمام وفي (المصنف): عن مسلم ابن يسار إذا علمت أن النهار قد انتصف يوم الجمعة فلا تتبايعن شيئا. وعن مجاهد: من باع شيئا بعد زوال الشمس يوم الجمعة فإن بيعه مردود. وقال صاحب (الهداية) قيل: المعتبر في وجوب السعي وحرمة البيع هو الأذان الأصلي الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بين يدي المنبر. قلت: هو مذهب الطحاوي، فإنه قال: هو ا لمعتبر في وجوب السعي إلى الجمعة على المكلف، وفي حرمة البيع والشراء، وفي (فتاوى العتابي): هو المختار، وبه قال الشافعي وأحمد وأكثر فقهاء الأمصار، ونص في المرغيناني: أنه هو

203
الصحيح. وقال ابن عمر: الأذان الأول بدعة، ذكره ابن أبي شيبة في (مصنفه) عنه: ثم البيع إذا وقع فعند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والشافعي: يجوز البيع مع الكراهة، وهو قول الجمهور. وقال مالك وأحمد والظاهرية: يبطل البيع. وفي (المحلى): يفسخ البيع إلى أن تقضى الصلاة، ولا يصححه خروج الوقت، ولو كانا كافرين، ولا يحرك نكاح ولا إجارة ولا سلم. وقال مالك: كذلك في البيع الذي فيه سلم، وكذا في النكاح والإجارة والسلم، وأباح الهبة والقرض والصدقة. وعن الثوري: البيع صحيح وفاعله عاص لله تعالى، وروى ابن القاسم عن مالك: أن البيع مفسوخ وهو قول أكثر المالكية، وروى عنه ابن وهب وعلي بن زياد: بئس ما صنع، ويستغفر الله تعالى. وقال عنه: ولا أرى الربح فيه حراما. وقال ابن القاسم: لا يفسح ما عقد من النكاح، ولا يفسخ الهبة والصدقة والرهن والحمالة. وقال أصبغ: يفسخ النكاح. وقال ابن التين: كل من لزمه التوجه إلى الجمعة يحرم عليه ما يمنعه منه من بيع أو نكاح أو عمل. قال: واختلف في النكاح والإجارة، قال: وذكر القاضي أبو محمد: أن الهبات والصدقات مثل ذلك. وقال أبو محمد: من انتقض وضوؤه فلم يجد ماء إلا بثمن جاز له أن يشتريه ليتوضأ به، ولا يفسخ شراؤه. قال الشافعي: في (الام): ولو تبايع رجلان ليسا من أهل فرض الجمعة لم يحرم بحال ولا يكره، وإذا بايع رجلان من أهل فرضها أو أحدهما من أهل فرضها. فإن كان قبل الزوال فلا كراهة، وإن كان بعده وقبل ظهور الإمام أو قبل جلوسه على المنبر أو قبل شروع المؤذن في الأذان بين يدي الخطيب كره كراهة تنزيه، وإن كان بعد جلوسه وشروع المؤذن فيه حرم على المتبايعين جميعا، سواء كان من أهل الفرض أو أحدهما، ولا يبطل البيع. وحرمة البيع ووجوب السعي مختصان بالمخاطبين بالجمعة، أما غيرهم كالنساء فلا يثبت في حقه ذلك، وذكر ابن أبي موسى في غير المخاطبين روايتين.
وقال عطاء: تحرم الصناعات كلها
هذا التعليق عن عطاء بن أبي رباح وصله عبد بن حميد في (تفسيره الكبير) عن روح عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: هل من شيء يحرم إذا نودي بالأول سوى
البيع؟ قال عطاء: إذا نودي بالأول حرم اللهو والبيع، والصناعات كلها بمنزلة البيع، والرقاد، وأن يأتي الرجل أهله، وأن يكتب كتابا.
وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري إذا أذن المؤذن يوم الجمعة وهو مسافر فعليه أن يشهد
إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أبو إسحاق الزهري القريشي المدني، كان على قضاء بغداد يروي عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، وأخرج أبو داود في (مراسيله): حدثنا قتيبة عن أبي صفوان عن أبي ذئب (عن صالح بن أبي كثير أن ابن شهاب خرج لسفر يوم الجمعة من أول النهار، قال: فقلت له في ذلك، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج لسفر يوم الجمعة من أول النهار). ورواه ابن أبي شيبة: عن الفضل حدثنا ابن أبي ذئب عن ابن شهاب بغير واسطة، وقال ابن المنذر: اختلف فيه عن الزهري، وقد روى عنه مثل قول الجماعة. أي: لا جمعة على مسافر، كذا رواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن الزهري، وقال ابن المنذر: هو كالإجماع من أهل العلم على ذلك لأن الزهري اختلف عليه فيه. وقيل: يحمل كلام الزهري على حالين، فحيث قال: لا جمعة على مسافر، وأراد على طريق الوجوب. وحيث قال: فعليه أن يشهد، أراد على طريق الاستحباب. وأما رواية إبراهيم بن سعد عنه فيمكن أن تحمل على أنه إذا اتفق حضوره في موضع تقام فيه الجمعة فسمع النداء لها أنها تلزم المسافر، وقال ابن بطال: وأكثر العلماء على أنه لا جمعة على مسافر، حكاه ابن أبي شيبة عن علي بن أبي طالب وابن عمر وأنس بن مالك وعبد الرحمن بن سمرة وابن مسعود ونفر من أصحاب عبد الله ومكحول وعروة بن المغيرة وإبراهيم النخعي وعبد الملك بن مروان والشعب وعمر بن عبد العزيز. ولما ذكر ابن التين قول الزهري، قال: إن أراد وجوبها فهو قول شاذ، وفي (شرح المهذب): أما السفر ليلها يعني: ليلة الجمعة قبل طلوع الفجر فيجوز عندنا، وعند العلماء كافة إلا ما حكاه العبدري عن إبراهيم النخعي قال: لا يسافر بعد دخول العشاء من يوم الخميس حتى يصلي الجمعة، وهذا مذهب باطل لا أصل له. انتهى. قلت: بل له أصل صحيح، رواه ابن أبي شيبة عن أبي معاوية عن ابن جريج عن عطاء عن عائشة، قالت: (إذا أدركتك ليلة الجمعة فلا تخرج حتى تصلي

204
الجمعة)، وأما السفر قبل الزوال فجوزه عمر بن الخطاب والزبير بن العوام وأبي عبيدة بن الجراح وعبد الله بن عمر والحسن وابن سيرين، وبه قال مالك وابن المنذر. وفي (شرح المهذب): الأصح تحريمه. وبه قالت عائشة وعمر بن عبد العزيز وحسان بن عطية ومعاذ بن جبل. وأما السفر بعد الزول يوم الجمعة إذا لم يخف فوت الرفقة ولم يصل الجمعة في طريقه فلا يجوز عند مالك وأحمد، وجوزه أبو حنيفة.
907 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا يزيد بن أبي مريم قال حدثنا عبابة بن رفاعة قال أدركني أبو عبس وأنا أذهب إلى الجمعة فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار (الحديث 907 طرفه في: 2811).
مطابقته للترجمة من حيث إن الجمعة تدخل في قوله: (في سبيل الله)، لأن السبيل اسم جنس مضاف فيفيد العموم، ولأن أبا عبس جعل حكم السعي إلى الجمعة حكم الجهاد.
ذكر رجاله: وهم خمسة: علي بن عبد الله بن المديني، قد تكرر ذكره. والوليد بن مسلم قد مر في: باب وقت المغرب، ويزيد، بفتح الياء آخر الحروف وكسر الزاي ابن أبي مريم أبو عبد الله الأنصاري الدمشقي إمام جامعها، مات سنة أربع وأربعين ومائة، وعباية، بفتح العين المهملة والباء الموحدة المخففة وبعد الألف ياء آخر الحروف مفتوحة: ابن رفاعة، بكسر الراء وتخفيف الفاء وبعد الألف عين مهملة: ابن رافع بن خديج، بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وبالجيم: الأنصاري، وأبو عبس، بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة وفي آخره سين مهملة: واسمه عبد الرحمن على الصحيح ابن جبير، بفتح الجيم وسكون الباء الموحدة وبالراء. وقال الذهبي: وقيل: جابر بن عمرو الأنصاري الأوسي الحارثي، بدري مشهور.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في أربعة مواضع. وفيه: السماع. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: أن الأولين من الرواة مدنيان والآخران دمشقيان. وفيه: أنه ليس للبخاري في الكتاب من أبي عبس إلا هذا الحديث الواحد. وفيه: أن يزيد هذا من أفراد البخاري. وفيه: رواية التابعي عن التابعي عن الصحابي، لأن يزيد بن أبي مريم رأى واثلة بن الأسقع. ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن إسحاق عن محمد بن المبارك. وأخرجه الترمذي في الجهاد عن أبي عمار الحسين بن حريث عن الوليد بن مسلم به، وقال: حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي في الجهاد أيضا كذلك، ولفظه: قال يزيد بن أبي مريم: لحقني عباية بن رافع بن خديج وأنا ماش إلى الجمعة، فقال: أبشر فإن خطاك هذه في سبيل الله، سمعت أبا عبس يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اغبرت قدماه في سبيل الله فهو حرام على النار). وزاد الإسماعيلي في روايته: (وهو راكب، فقال: احتسب خطاك هذه). فذكر الحديث، والظاهر أن القصة المذكورة وقعت لكل منهما، والله أعلم. وفي الباب عن ابن عمر رواه الفلاس عن أبي نصر التمار عن كوثر بن حكيم عن نافع عنه عن أبي بكر الصديق، رضي الله تعالى عنه: (حرمها الله على النار). وعن عثمان، رضي الله تعالى عنه، عند ابن المقري، ولفظه: (ما اغبرت قدما رجل في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار). وعن معاذ يرفعه عند ابن عساكر، ولفظه: (والذي نفسي بيده، ما اغبرت قدما عبد ولا وجهه في عمل أفضل عند الله يوم القيامة بعد المكتوبة من جهاد في سبيل الله). وعن عبادة يرفعه عند المخلص بسند جيد: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف امرئ مسلم). وعن أبي سعيد الخدري، مثله عند أبي نعيم، وعن مالك بن عبد الله النخعي مثله عند أحمد، وعن أبي الدرداء، رضي الله تعالى عنه، عند الطبراني: (لا تلثموا من الغبار في سبيل الله فإنه مسك الجنة)، وعن أنس عنده أيضا (الغبار في سبيل الله إسفار الوجوه يوم القيامة). وعن أبي أمامة عند ابن عساكر: (ما من رجل يغبر وجهه في سبيل الله إلا أمن الله وجهه من النار، وما من رجل يغبر قدماه في سبيل الله إلا أمن الله قدمه من النار يوم القيامة)، وعن عائشة رضي الله تعالى عنها، عند الخلعي: (من اغبرت
قدماه في سبيل الله فلن يلج النار أبدا).
ذكر معناه: قوله: (وأنا أذهب)، جملة اسمية وقعت حالا، وكذا وقع عند البخاري أن القصة وقعت لعباية مع أبي عبس

205
وعند الإسماعيلي من رواية علي بن بحر وغيره عن الوليد بن مسلم أن القصة وقعت ليزيد بن أبي مريم مع عباية، وكذا أخرجه النسائي كما ذكرناه عن قريب، وذكرنا التوفيق بين الروايتين. قوله: (اغبرت قدماه) أي: أصابها الغبار، وإنما ذكر القدمين وإن كان الغبار يعم البدن كله عند ثورانه: لأن أكثر المجاهدين في ذلك الزمان كانوا مشاة والأقدام تتغبر على كل حال سواء كان الغبار قويا أو ضعيفا، ولأن أساس ابن آدم على القدمين، فإذا سلمت القدمان من النار سلم سائر أعضائه عنها. وكذلك الكلام في ذكر الوجه في سبيل الله.
908 حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب قال حدثنا الزهري عن سعيد وأبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وحدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمان أن أبا هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا. (انظر الحديث 636).
مطابقته للترجمة من حيث وجود لفظ السعي في كل منهما، مع الإشارة إلى أن بين لفظي السعي فيهما مغايرة، بيانه أن السعي المذكور في قوله تعالى: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * (الجمعة: 9). المذكور في الترجمة، غير السعي المذكور في هذا الحديث. في قوله: (فلا تأتوها تسعون)، بيان ذلك أن السعي المذكور في الآية المأمور به مفسر بالمضي والذهاب، والسعي المذكور في هذا الحديث مفسر بالعدو، وحيث قابله المشي، بقوله: (واتوها تمشون)، وهذا الحديث قد ذكر في: باب (لا يسعى إلى الصلاة وليأتها بالسكينة والوقار) في أواخر كتاب الأذان بالإسناد المذكور هنا: عن آدم بن أبي إياس عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن محمد بن مسلم الزهري عن سعيد بن المسيب. وأخرجه هناك أيضا من طريق آخر عن آدم، وههنا أخرجه أيضا من طريقين الأول: عن آدم إلى آخره، والثاني: عن أبي اليمان الحكم بن نافع عن شعيب بن أبي حمزة عن الزهري. وفي ألفاظ الحديث بعض تفاوت، وقد تكلمنا هناك على جميع ما يتعلق به.
قوله: (تسعون) جملة حالية، فالنهي يتوجه إليه لا إلى الإتيان. قال الكرماني: فإن قلت: كيف نهى عنه والقرآن قد أمر به حيث قال: * (فاسعوا إلى ذكر الله) * (الجمعة: 9). قلت: المراد بالسعي هنا هو الإسراع، وفي القرآن: القصد أو الذهاب أو العمل. انتهى. قلت: الذي ذكرناه الآن في وجه المطابقة يغني عن هذا السؤال مع جوابه. قوله: (السكينة)، بالنصب يعني: الزموا السكينة، ومعناها: الهنيئة والتأني، ويجوز بالرفع على الابتداء.
909 حدثنا عمرو بن علي قال حدثني أبو قتيبة قال حدثنا علي بن المبارك عن يحياى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة قال أبو عبد الله لا أعلمه إلا عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تقوموا حتى تروني وعليكم السكينة. (انظر الحديث 637 وطرفه).
وجه المطابقة بين هذا الحديث وبين الترجمة قريب من وجه المطابقة المذكورة في الحديث السابق، ويؤخذ ذلك من لفظ السكينة، وإن كان فيه بعض التعسف. وأخرج البخاري هذا الحديث في أواخر كتاب الأذان في: باب متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة: عن مسلم بن إبراهيم عن هشام، قال: كتب إلى يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني)، وهنا أخرجه: عن عمرو بن علي الفلاس عن أبي قتيبة، بضم القاف وفتح المثناة من فوق وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة: واسمه سلم، بفتح السين المهملة وسكون اللام: ابن قتيبة الشعيري، بفتح الشين المعجمة: الخراساني سكن البصرة، مات بعد المائتين، عن علي بن المبارك الهنائي، بضم الهاء وتخفيف النون وبالمد، وقد تكلمنا هناك على جميع ما يتعلق به.
قوله: (قال أبو عبد الله) المراد به البخاري نفسه. قوله: (لا أعلمه)، هو مقول: قال أبو عبد الله، أي: قال البخاري: لا أعلم رواية عبد الله هذا الحديث عن أحد

206
إلا عن أبيه. وقوله: قال أبو عبد الله) في رواية المستملي وحده، وأشار به إلى أن عنده توقف في وصله لكونه كتبه من حفظه أو لغير ذلك، ولأجل ذلك قال الكرماني: هذا منقطع لأن شيخه لم يروه إلا منقطعا وأن حكم البخاري بأنه رواه من أبيه، قيل: في الأصل هو موصول لا شك فيه لأن الإسماعيلي أخرجه عن ابن ناجية عن أبي حفص، وهو عمرو بن علي شيخ البخاري، فقال فيه: عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه، ولم يشك.
19
((باب لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة))
أي: هذا باب ترجمته: لا يفرق أي الداخل المسجد بين اثنين يوم الجمعة.
910 حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبيه عن ابن وديعة عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من اغتسل يوم الجمعة وتطهر بما استطاع من طهر ثم ادهن أو مس من طيب ثم راح فلم يفرق بين اثنين فصلى ما كتب له ثم إذا خرج الإمام أنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى. (انظر الحديث 883).
مطابقته للترجمة في قوله: (فلم يفرق بين اثنين)، والحديث قد مضى في: باب الدهن للجمعة. أخرجه: عن آدم بن أبي إياس عن ابن أبي ذئب إلى آخره، وقد تكلمنا هناك على ما يتعلق به من سائر الوجوه، لكن لم نمعن في الكلام في التفريق بين اثنين، ونذكره ههنا إن شاء الله تعالى.
وعبدان، بفتح العين المهملة وسكون الباء الموحدة: وهو لقب عبد الله بن عثمان أبو عبد الرحمن المروزي، وقد تكرر ذكره، وعبد الله هو ابن المبارك، وابن أبي ذئب
هو محمد بن عبد الرحمن، وقد تكرر ذكره، وأبو سعيد اسمه كيسان، وابن وديعة اسمه عبد الله، ووديعة، بفتح الواو، وقد مر الكلام فيه هناك مستوفى.
واختلفوا في التفرقة بين اثنين والأشبه بتأويله أن لا يتخطى رجلين أو يجلس بينهما على ضيق الموضع، ويؤيده ما في (الموطأ): عن أبي هريرة: (لأن يصلي أحدكم بظهر الحرة خير له من أن يقعد حتى إذا قام الإمام جاء يتخطى رقاب الناس). ومعناه: أن المأثم عنده في التخطي أكثر من المأثم في التخلف عن الجمعة، كذا تأوله القاضي أبو الوليد. وقال أبو عبد الملك: إن صلاته بالحرة أحب إلي من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة). وعن سعيد بن المسيب مثله، وقال كعب: لأن أدع الجمعة أحب إلي من أن أتخطى رقاب الناس يوم الجمعة. وقال سلمان: إياك والتخطي، واجلس، وهو قول عطاء والثوري وأحمد.
وقد ورد في هذا الباب أحاديث. منها: ما رواه الترمذي من حديث سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرا إلى جهنم)، وقال: حديث سهل بن معاذ عن أبيه حديث غريب. ومنها: حديث جابر بن عبد الله: (أن رجلا دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجعل يتخطى الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إجلس فقد آذيت وآنيت). أخرجه ابن ماجة، وفي سنده: إسماعيل بن مسلم المكي وهو ضعيف. ومنها: حديث عبد الله بن بسر، رواه أبو داود والنسائي بإسناد جيد من رواية أبي الزاهرية، واسمه: صدير بن كريب، قال: (كنا مع عبد الله بن بسر، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الجمعة فجاء رجل يتخطى رقاب الناس والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إجلس فقد آذيت). ومنها: حديث عبد الله بن عمرو، رواه أبو داود بإسناد حسن من رواية عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من اغتسل يوم الجمعة..) إلى آخره، وفيه: (ومن لغا وتخطى رقاب الناس كانت له ظهرا)، يعني: لا تكون له كفارة لما بينهما. ومنها: حديث الأرقم أخرجه أحمد في (مسنده): عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الذي يتخطى رقاب الناس ويفرق بين اثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار)، ورواه الطبراني أيضا في (المعجم الكبير)، وفي سنده هشام بن زياد، ضعفه أحمد وأبو داود والنسائي. ومنها: حديث عثمان بن الأزرق، أخرجه الطبراني في (الكبير) ولفظه: (من تخطى رقاب الناس بعد خروج الإمام وفرق بين اثنين كان

207
كالجار قصبه في النار)، وقال الذهبي: عثمان بن الأزرق له صحبة، قاله في معجم الطبراني. ومنها: حديث أبي الدرداء أخرجه الطبراني في (الأوسط) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تأكل متكئا، ولا تخط رقاب الناس يوم الجمعة). وفي سنده عبد الله بن زريق، قال الأزدي لم يصح حديثه. ومنها: حديث أنس، رضي الله تعالى عنه، أخرجه الطبراني أيضا، قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ جاء رجل فتخطى رقاب الناس..) الحديث، وفيه: (رأيتك تخطى رقاب الناس وتؤذيهم، من آذى مسلما فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، عز وجل. قوله: (اتخذ جسرا)، قال شيخنا في (شرح الترمذي): المشهور: اتخذ، على بناء المجهول بمعنى: يجعل جسرا على طريق جهنم ليوطأ ويتخطى كما تخطى رقاب الناس، فإن الجزاء من جنس العمل، ويحتمل إن يكون على بناء الفاعل، أي: اتخذ لنفسه جسرا يمشي عليه إلى جهنم بسبب ذلك. قوله: (وآنيت) أي: أخرت المجيء وأبطأت. قوله: (قصبه)، القصب، بضم القاف: المعاء، وجمعه: أقصاب، وقيل: القصب اسم للأمعاء كلها، وقيل: هو ما كان أسفل البطن من الأمعاء. قوله: (متكئا) أي: حال كونك متكئا.
وقال صاحب (التوضيح): وقد اختلف العلماء في التخطي، فمذهبنا أنه مكروه إلا أن يكون قدامه فرجة لا يصليها إلا بالتخطي فلا يكره حينئذ، وبه قال الأوزاعي وآخرون، وقال ابن المنذر بكراهته مطلقا عن سلمان الفارسي وأبي هريرة، وكعب وبن سعيد بن المسيب وعطاء وأحمد بن حنبل، وعن مالك: كراهته إذا جلس على المنبر، ولا بأس به قبله. وقال قتادة: يتخطاهم إلى مجلسه. وقال الأوزاعي: يتخطاهم إلى السعة وهذا يشبه قول الحسن، قال: لا بأس بالتخطي إذا كان في المسجد سعة، وقال أبو بصرة: يتخطاهم بإذنهم. وقال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك عندي، لأن الأذى يحرم قليله وكثيره، وقال صاحب (التوضيح): وهو المختار، وعند أصحابنا الحنفية لا بأس بالتخطي والدنو من الإمام إذا لم يؤذ الناس. وقيل: لا بأس به إذا لم يأخذ الإمام في الخطبة، ويكره إن أخذ. وقال الحلواني: الصحيح أن الدنو من الإمام أفضل لا التباعد منه، ثم تقييد التخطي بالكراهة يوم الجمعة هو المذكور في الأحاديث، وكذلك قيده الترمذي في حكايته عن أهل العلم، وكذلك قيده الشافعية في كتب فقههم في أبواب الجمعة، وكذا هو عبارة الشافعي في (الأم): وأكره تخطي رقاب الناس يوم الجمعة لما فيه من الأذى وسوء الأدب. انتهى. قلت: هذا التعليل يشمل يوم الجمعة وغيره من سائر الصلوات في المساجد وغيرها، وسائر المجامع من حلق العلم وسماع الحديث ومجالس الوعظ، وعلى هذا يحمل التقييد بيوم الجمعة على أنه خرج مخرج الغالب لاختصاص الجمعة بمكان الخطبة وكثرة الناس، بخلاف غيره. ويؤيد ذلك ما رآه أبو منصور الديلمي في (مسند الفردوس) من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تخطى حلقة قوم بغير إذنهم فهو عاص)، ولكنه ضعيف لأنه من رواية جعفر بن الزبير، فإنه كذبه شعبة وتركه للناس.
ثم اختلفوا في كراهة ذلك: هل هو للتحريم أو لا؟ فالمتقدمون يطلقون الكراهة ويريدون كراهة التحريم وحكى الشيخ أبو حامد في تعليقه عن نص الشافعي التصريح بتحريمه، وحكى الرافعي في الشهادات عن صاحب (العدة) أنه عده من الصغائر، ونازعه الرافعي وقال: إنه من المكروهات، وقال في: باب الجمعة: إن تركه من المندوبات، وصرح النووي في (شرح المهذب) بأنه مكروه كراهة تنزيه. وقال في (زوائد الروضة): إن المختار تحريمه، للأحاديث الصحيحة. واقتصر أصحاب أحمد على الكراهة فقط، وقال شارح الترمذي: ويستثنى من التحريم أو الكراهة: الإمام أو من كان بين يديه فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي، وأطلق النووي في (الروضة) استثناء الإمام ومن بين يديه فرجه، ولم يقيد الإمام بالضرورة ولا الفرجة بكون التخطي إليها يزيد على صفين. وقيد ذلك في (شرح المهذب) فقال: فإن كان إماما لم يجد طريقا إلى المنبر والمحراب إلا بالتخطي لم يكره، لأنه ضرورة. وفي (الأم): فإن كان الزحاام دون الإمام لم أكره له من التخطي ما أكره
للمأموم، لأنه مضطر إلى أن يمضي إلى الخطبة، وقال في (الأم) أيضا: فإن كان دون مدخل الرجل زحام وأمامه فرجة، وكان تخطيه إليها بواحد أو اثنين رجوت أن يسعه التخطي، وإن كرهته إلا أن لا يجد السبيل إلى مصلى، فيه الجمعة إلا أن يتخطى، فيسعه التخطي: إن شاء الله تعالى. ونقل النووي عن الشافعي في (الفروق): إنه إذا وصل إليها بتخطي واحد أو اثنين فلا بأس به، فإن كان أكثر من ذلك كرهت له أن يتخطى، ثم لا فرق في كراهة التخطي أو تحريمه بين أن يكون المتخطي من ذوي الحشمة والأصالة، أو رجلا صالحا أوليس فيه وصف منهما. ونقل صاحب (البيان) عن القفال: أنه لو كان محتشما أو محترما لم يكره التخطي. قلت: هذا ليس بشيء، والأصل عدم

208
التخصيص، وقال المتولي: إذا كان له موضع يألفه وهو معظم في نفوس الناس لا يكره له التخطي قلت: فيه نظر.
20
((باب لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه))
أي: هذا باب ترجمته لا يقيم الرجل.. إلى آخره. قوله: (ويقعد) يجوز فيه الرفع والنصب، أما الرفع فعلى أنه عطف على: لا يقيم، أي: لا يقيم أخاه ولا يقعد مكانه، فيكون كل منهما ممنوعا. وأما النصب فعلى تقدير: وأن يقعد، فيكون حينئذ منعا عن الجمع بين الإقامة والقعود، ويجوز أن يكون: ويقعد، في محل النصب على الحال، فتقديره: وهو يقعد، فيكون ممنوعا، كالأول. فلو أقامه ولم يقعد هو في مكانه لم يكن مرتكبا للنهي، ولو أقامه وقعد غيره فالقياس عليه أن لا يرتكب النهي. فإن قلت: لم قيد الترجمة بيوم الجمعة، مع أن الحديث الذي أورده في الباب مطلق، والحديث الذي فيه التقييد بالجمعة أخرجه مسلم من طريق أبي الزبير، رضي الله تعالى عنه، عن جابر بلفظ: (لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: تفسحوا). وكان المناسب للترجمة هذا الحديث قلت: إنما لم يخرج هذا الحديث لأنه ليس على شرطه، ولكن أشار بهذا القيد إلى هذا الحديث.
911 حدثنا محمد قال أخبرنا مخلد بن يزيد قال أخبرنا ابن جريج قال سمعت نافعا يقول سمعت ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه. قلت لنافع الجمعة وغيرها.
قد ذكرنا أن حديث الباب مطلق والترجمة مقيدة بيوم الجمعة، وأجبنا عنه. وأيضا لما كان يوم الجمعة يوم ازدحام فربما يحتاج شخص في الجلوس إلى مكان الغير، وأيضا فيه إشارة إلى التبكير، فمن بكر لم يحتج إلى شيء من ذلك.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد بن سلام، بتخفيف اللام: ابن الفرج أبو عبد الله البخاري البيكندي، مات يوم الأحد لتسع خلون من صفر سنة خمس وعشرين ومائتين. الثاني: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإخبار كذلك في موضعين. وفيه: السماع في موضعين. وفيه: القول في خمسة مواضع. وفيه: شيخ البخاري من أفراده. وفيه: ذكر أبيه وهو رواية أبي ذر. وفيه: ذكر أحد الرواة منسوبا إلى جده وهو ابن جريج لأنه هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. وفيه: أن الراوي الأول بخاري والثاني حراني والثالث مكي والرابع مدني، والحديث أخرجه مسلم، رضي الله تعالى عنه، في الاستئذان عن يحيى بن حبيب.
ذكر معناه: قد علم أن قول الصحابي: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أو قوله: أمر النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (أن يقيم) كلمة: أن، مصدرية أي: نهى عن إقامة الرجل أخاه. قوله: (مقعدة)، بفتح الميم: موضع قعوده. قوله: (ويجلس) بالنصب عطفا على قوله: (أن يقيم)، أي: وأن يجلس، والمعنى: كل واحد منهما منهي عنه، ولو صحت الرواية بالرواية بالرفع لكان الكل المجموعي منهيا عنه. قوله: (قلت لنافع: الجمعة؟) القائل لنافع هو ابن جريج، يعني هذا النهي في يوم الجمعة خاصة أو مطلقا؟ قال، أي: نافع: الجمعة وغيرها، يعني: النهي عام في حق سائر الأيام في مواضع الصلوات. وقوله: (الجمعة) مرفوع عى أنه مبتدأ. وقوله: وغيرها، عطف عليه، والخبر محذوف أي: الجمعة وغيرها متساويان في النهي، أو التقدير: منهي عن الإقامة فيهما ويجوز النصب فيهما أي: في الجمعة وغيرها، فيكون النصب بنزع الخافض.
ذكر ما يستفاد منه: وجه الكراهة في هذا الباب هو أنه لا يفعل إلا تكبرا واحتقارا للذي يقيمه، قال الله تعالى: * (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا) * (القصص: 83). وهذا من الفساد، وأيضا فالإيثار ممنوع في الأعمال الأخروية، ولأن المسجد بيت الله والناس فيه سواء فمن سبق إلى مكان فهو أحق به. وقال الكرماني: النهي ظاهر في التحريم فلا يعدل عنه إلا بدليل

209
وذكر ابن قدامة في (المغني) فإن قدم صاحبا فجلس في موضع حتى إذا قام وأجلسه مكانه جاز، فعل ابن سيرين ذلك، كان يرسل غلامه يوم الجمعة فيجلس في مكان فإذا جاء قام الغلام، فإن لم يكن له نائب وجاء فقام له شخص ليجلسه مكانه جاز، لأنه باختياره فإن انتقل القائم إلى مكان أقرب لسماع الخطبة فلا بأس، وإن انتقل إلى دونه كره، ولو آثر شخصا بمكانه لم يجز لغيره أن يسبقه إليه لأن الحق للجالس آثر به غيره فقام مقامه في استحقاقه، كما لو حجر مواتا ثم آثر به غيره. وقال ابن عقيل: يجوز، لأن القائم أسقط حقه فبقي على الأصل، وإن فرش مصلاه في مكان ففيه وجهان: أحدهما يجوز رفعه والجلوس في موضعه لأنه لا حرمة له، ولأن السبق بالأجسام لا بالمصلى. والثاني: لا يجوز لأنه ربما يفضي إلى الخصومة، ولأنه سبق إليه فصار كحجر الموات. وقال القاضي أبو الطيب من الشافعية: تجوز إقامة الرجل من مكانه في ثلاث صور: وهو أن يقعد في موضع الإمام، أو في طريق يمنع الناس من المرور فيه، أو بين يدي الصف مستقبل القبلة.
21
((باب الأذان يوم الجمعة))
أي: هذا باب في بيان حكم الأذان يوم الجمعة متى يشرع.
912 حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن السائب بن يزيد قال كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فلما كان عثمان رضي الله تعالى عنه وكثر الناس زاد النداء الثالث على الزوراء.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: آدم بن أبي إياس، ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري، والسائب بن يزيد الكندي ابن أخت النمر.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين وفيه القول في موضعين وفيه عن السائب، وفي رواية عقيل: عن ابن شهاب أن السائب ابن يزيد أخبره، وفي رواية يونسوفيه: عن الزهري سمعت السائب، وستأتي هاتان الروايتان عن قريب إن شاء الله تعالى.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الجمعة عن أبي نعيم وعن يحيى بن بكير وعن محمد بن مقاتل. وأخرجه أبو داود في الصلاة عن محمد بن سلمة المرادي وعن عبد الله بن محمد النفيلي وعن هناد بن السري وعن محمد بن يحيى بن فارس. وأخرجه الترمذي فيه عن أحمد بن منيع وقال: حسن صحيح. وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن سلمة المرادي به وعن محمد بن يحيى وعن محمد بن عبد الأعلى. وأخرجه ابن ماجة فيه عن يوسف بن موسى القطان وعن عبد الله بن سعيد.
ذكر معناه: قوله: (كان النداء)، أي: الأذان، وكذا وقع في رواية ابن خزيمة عن وكيع عن ابن أبي ذئب، (كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر أذانين يوم الجمعة) يريد بالأذانين: الأذان والإقامة. تغليبا، أو لاشتراكهما في الإعلام وفي رواية لابن خزيمة عن أبي عامر: (عن ابن أبي ذئب: كان ابتداء النداء الذي ذكره الله تعالى في القرآن يوم الجمعة). قوله: (أوله)، بالرفع بدل من النداء. قوله: (إذا جلس الإمام على المنبر) جملة في محل النصب لأنها خبر: كان، وفي رواية أبي عامر المذكورة: (إذا خرج الإمام وإذا أقيمت الصلاة). وكذا في رواية البيهقي من طريق ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب. وفي رواية النسائي عن سليمان التيمي: عن الزهري (كان بلال يؤذن إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فإذا نزل أقام، ثم كان كذلك في زمن أبي بكر وعمر). وفي رواية أبي داود: (كان يؤذن بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على باب المسجد وأبي بكر وعمر). وكذا في رواية الطبراني، وفي رواية عبد بن حميد في تفسيره: (في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعامة خلافة عثمان، فلما تباعدت المنازل وكثر الناس أمر بالنداء الثالث فلم يعب ذلك عليه، وعيب عليه إتمام الصلاة بمنى). وقال الشافعي، رحمه الله: حدثنا بعض أصحابنا عن ابن أبي ذئب، وفيه: ثم أحدث عثمان الأذان الأول على الزوراء. وفي (مصنف عبد الرزاق): عن ابن جريج، قال سليمان بن موسى: (أول من زاد الأذان بالمدينة عثمان، رضي الله تعالى عنه، فقال عطاء: كلا إنما كان يدعو الناس دعاء ولا

210
يؤذن غير أذان واحد)، وفيه أيضا عن الحسن: (النداء الأول يوم الجمعة الذي يكون عند خروج الإمام، والذي يكون قبل ذلك محدث). وكذا قال ابن عمر في رواية عنه: الأذان الأول يوم الجمعة بدعة، وعن الزهري: أول من أحدث الأذان الأول عثمان، يؤذن لأهل الأسواق. وفي لفظ: (فأحدث عثمان التأذينة الثالثة على الزوراء ليجتمع الناس). ووقع في (تفسير جويبر): عن الضحاك عن برد بن سنان عن مكحول (عن معاذ بن عمر، هو الذي زاد: فلما كانت خلافة عمر، رضي الله تعالى عنه، وكثر السلمون أمر مؤذنين أن يؤذنا للناس بالجمعة خارجا في المسجد حتى يسمع الناس الأذان، وأمر أن يؤذن بين يديه كما كان يفعل المؤذن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وبين يدي أبي بكر، ثم قال عمر أما الأذان الأول فنحن ابتدعناه لكثرة المسلمين فهو سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ماضية). وقيل: إن أول من أحدث الأذان الأول بمكة: الحجاج، وبالبصرة: زياد. قوله: (فلما كان عثمان) أراد أنه لما صار خليفة. قوله: (وكثر الناس) أي: بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وصرح به في رواية الماجشون، وظاهر هذا أن عثمان أمر بذلك في ابتداء خلافته، لكن في رواية أبي حمزة عن يونس عند أبي نعيم في (المستخرج) أن ذلك كان بعد مضي مدة خلافته. قوله: (زاد النداء الثالث) إنما سمي ثالثا باعتبار كونه مزيدا، لأن الأول هو الأذان عند جلوس الإمام على المنبر، والثاني هو الإقامة للصلاة عند نزوله، والثالث عند دخول وقت الظهر فإن قلت: هو الأول لأنه مقدم عليهما قلت: نعم هو أول في الوجود، ولكنه ثالث باعتبار شرعيته باجتهاد عثمان وموافقة سائر الصحابة به بالسكوت وعدم الإنكار، فصار إجماعا سكوتيا وإنما أطلق الأذان على الإقامة لأنها إعلام كالأذان، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين صلاة لمن شاء). ويعني به بين الأذان والإقامة وإنما أولناه هكذا حتى لا يلزم أن يكون الأذان ثلاثا، ولم يكن كذلك، ولا يلزم أيضا أن يكون في الزمن الأول أذانان، ولم يكن إلا أذان واحد، فالأذان الثالث الذي زاده عثمان هو الأول اليوم، فيكون الأول: هو الأذان الذي كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أبي بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، عند الجلوس على المنبر، والثاني: هو الإقامة. والثالث: الأذان الذي زاده عثمان، فأذن به على الزوراء.
ذكر ما يستفاد منه: قيل استدل البخاري بهذا الحديث على الجلوس على المنبر قبل الخطبة، قال بعضهم: خلافا لبعض الحنفية، وقال صاحب (التوضيح) قوله: (إذا جلس الإمام على المنبر) هذا سنة، وعليه عامة العلماء، خلافا لأبي حنيفة، كذا قاله ابن بطال وتبعه ابن التين. وقالا: خالف الحديث قلت: هما خالفا الحديث حيث نسبا إليه ما لم يقل، لأن مذهبه ما ذكره صاحب (الهداية). وإذا صعد الإمام على المنبر جلس وأذن المؤذن بين يدي المنبر، بذلك جرى التوارث. انتهى. واختلف أن جلوس الإمام على المنبر قبل الخطبة هل هو للأذان أو لراحة الخطيب؟ فعلى الأول لا يسن في العيد، لأنه لا أذان له. ومما يستفاد منه أن الأذان قبل الخطبة وأن
الخطبة قبل الصلاة. ومنه: أن التأذين كان بواحد، وقال أبو عمر: اختلف الفقهاء هل يؤذن بين يدي الإمام واحد أو مؤذنون؟ فذكر ابن عبد الحكم عن مالك: إذا جلس على المنبر ونادى المنادي منع الناس من البيع تلك الساعة، هذا يدل على أن النداء عنده واحد بين يدي الإمام، ونص عليه الشافعي، ويشهد له حديث السائب: (لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير مؤذن واحد)، وهذا يحتمل أن يكون أراد بلالا لمواظبته على الأذان دون ابن أم مكتوم وغيره، وعن ابن القاسم، عن مالك: إذا جلس الإمام على المنبر وأخذ المؤذنون في الأذان حرم البيع، فذكر المؤذنون بلفظ الجماعة، ويشهد لهذا حديث الزهري عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي: (أنهم كانوا في زمن عمر بن الخطاب يصلون يوم الجمعة حتى يخرج عمر، رضي الله تعالى عنه، وجلس على المنبر وأذن المؤذنون..) الحديث، وهكذا حكاه الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه، قال ابن عمر: ومعلوم عند الناس أنه جائز أن يكون المؤذنون واحدا وجماعة في كل صلاة إذا كان ذلك مترادفا لا يمنع من إقامة الصلاة في وقتها، وعن الداودي: كانوا يؤذنون في أسفل المسجد ليسوا بين يدي الإمام، فلما كان عثمان، رضي الله تعالى عنه، جعل من يؤذن على الزوراء، وهي كالصومعة، فلما كان هشام جعل المؤذنين أو بعضهم يؤذنون بين يديه، فصاروا ثلاثة، فسمي فعل عثمان ثالثا لذلك. فإن قلت: قد مر عن السائب: (لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير مؤذن واحد)، رواه أبو داود والنسائي، وفي رواية البخاري: (لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد)، فقد ثبت في الصحيح أن ابن أم مكتوم كان يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم فلذلك قال: (فكلوا واشربوا حتى تسمعوا

211
تأذين ابن أم مكتوم)، وكان من مؤذنيه أيضا سعد القرظ وأبو محذورة والحارث الصدائي، فما التوفيق بين هذه الروايات؟ قلت: أراد السائب بقوله: (لم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم غير مؤذن واحد)، يعني في الجمعة، فلم ينقل أن غيره كان يؤذن للجمعة، فالذي ورد عنه التأذين يوم الجمعة، بلال، رضي الله تعالى عنه، ولم ينقل أن ابن أم مكتوم كان يؤذن للجمعة. وأما سعد القرظ فكان جعله مؤذنا بقباء، وأما أبو محذورة جعله مؤذنا بمكة، شرفها الله تعالى، وأما الحارث، فإنه تعلم الأذان حتى يؤذن لقومه.
قال أبو عبيد الله الزوراء موضع بالسوق بالمدينة
أبو عبد الله هو البخاري نفسه، والزوراء، بفتح الزاي وسكون الواو بعدها راء ممدودة، وقد فسرها البخاري بقوله: موضع بالسوق بالمدينة. وقال ابن بطال: هو حجر كبير عند باب المسجد. قال أبو عبيد: هي ممدودة ومتصلة بالمدينة، وبها كان مال أحيحة بن الجلاح، وهي التي عنيت بقوله:
* إني مقيم على الزوراء أعمرها
* إن الكريم على الإخوان ذو المال
*
وقال أبو عبد الله الحموي: هي قرب الجامع مرتفعة كالمنارة، ويفرق بينها وبين أرض أحيحة وفي (فتاوى ابن يعقوب الخاصي): هي المأذنة، وفيه نظر. ولم يكن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم مأذنة التي يقال لها: المنارة، نعم كل موضع مرتفع عال يشبه بالمنارة، وعند ابن ماجة وابن خزيمة بلفظ: (زاد النداء الثالث على دار في السوق يقال لها: الزوراء)، وعند الطبراني: (فأمر بالنداء الأول على دار له يقال لها الزوراء).
22
((باب المؤذن الواحد يوم الجمعة))
أي: هذا باب ترجمته: المؤذن الواحد يوم الجمعة، وأشار بهذه الترجمة إلى الرد على من قال: (كان النبي، صلى الله عليه وسلم، إذا رقي المنبر وجلس أذن المؤذنون، وكانوا ثلاثة واحدا بعد واحد، فإذا فرغ الثالث قام فخطب). وممن قال به ابن حبيب.
913 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن الزهري عن السائب بن يزيد أن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه حين كثر أهل المدينة ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام يعني على المنبر.
مطابقته للترجمة ظاهرة، والحديث أخرجه في الباب الذي قبله عن آدم بن أبي إياس، وأخرجه ههنا لأجل الترجمة المذكورة للزيادة التي فيه، وهي قوله: (ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد)، عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن عبد العزيز ابن أبي سلمة، بفتح اللام الماجشون، بفتح الجيم وكسرها، عن محمد بن مسلم الزهري... إلى آخره.
وفيه أن عثمان هو الذي زاد الأذان الثالث الذي هو الأول في الوجود، كما ذكرنا وجهه مستقصى وذكرنا أيضا وجه قوله: (ولم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم مؤذن غير واحد). وفيه: أن المستحب أن يجلس الإمام على المنبر بعد صعوده، إما للأذان أو للاستراحة، كما ذكرناه في الباب السابق، وأن المستحب الخطبة على المنبر، فإن لم يكن فعلى موضع عال مشرف، وسمي المنبر أيضا به لأنه من النبر وهو الارتفاع، والقياس فيه فتح الميم، ولكن المسموع كسرها. فافهم.
23
((باب يجيب الإمام على المنبر إذا سمع النداء))
أي: هذا باب ترجمته يجيب الإمام وهو على المنبر إذا سمع النداء أي: الأذان، وإنما أطلق الأذان عليه. وإن كان جوابا له، لأن صورته صورة الأذان. وفي رواية كريمة: يؤذن، بدل: يجيب، فكأنه سماه أذانا لكونه بلفظه.

212
914 حدثنا بن مقاتل قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال سمعت معاوية بن أبي سفيان وهو جالس على المنبر أذن المؤذن قال الله أكبر الله أكبر قال معاوية الله أكبر الله أكبر قال أشهد أن لا إله إلا الله فقال معاوية وأنا فقال أشهد أن محمدا رسول الله فقال معاوية وأنا فلما أن قضى التأذين قال يا أيها الناس إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا المجلس حين أذن المؤذن يقول ما سمعتم مني من مقالتي. (انظر الحديث 612 وطرفه).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد بن مقاتل المروزي المجاور بمكة، ثقة صاحب حديث، مات سنة ست وعشرين ومائتين. الثاني: عبد الله بن المبارك المروزي. الثالث: أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف، بضم الحاء المهملة وفتح النون وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره فاء. الرابع: أبو أمامة، بضم الهمزة: واسمه أسعد بن سهل بن حنيف. الخامس: معاوية بن أبي سفيان، واسمه: صخر بن حرب بن أمية.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار كذلك في موضعين. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: رواية الرجل عن عمه، وهي رواية أبي بكر عن أبي أمامة. وفيه: رواية الصحابي عن الصحابي. وفيه: عن أبي أمامة. وفيه: رواية الإسماعيلي: سمعت أبا أمامة. وفيه: أن الأولين من الرواة مروزيان والاثنان مدنيان.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه النسائي في الصلاة وفي اليوم والليلة عن محمد بن قدامة وعن سويد بن نصر عن عبد الله بن المبارك وعن محمد بن منصور. وأخرج البخاري أيضا حديث أبي أمامة بهذا الإسناد بعينه: في باب وقت العصر، وتكلمنا في حديث الباب مستقصى في: باب ما يقول إذا سمع المنادي.
قوله: (وهو جالس على المنبر) جملة اسمية وقعت حالا. قوله: (أنا) أي: وأنا أشهد أيضا به، أو وأنا أيضا أقول مثله. قوله: (فلما أن قضى) كلمة: أن، زائدة وسقطت في رواية الأصيلي، ومعناه: فلما فرغ. وفي راية الكشميهني: (فلما أن انقضى) أي: انتهى.
ومما يستفاد منه: تعلم العلم وتعليمه من الإمام وهو على المنبر. وفيه: إجابة الخطيب للمؤذن وهو على المنبر. وفيه: قول المجيب: وأنا كذلك، ونحوه. وظاهره أن هذا المقدار يكفي، ولكن الأولى أن يقول مثل قول المؤذن. وفيه: إباحة الكلام قبل الشروع في الخطبة. وفيه: الجلوس قبل الخطبة.
24
((باب الجلوس على المنبر عند التأذين))
أي: هذا باب في بيان جلوس الخطيب على المنبر عند التأذين، أي: عند الأذان أو عند تأذين المؤذن بين يديه.
915 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب أن السائب ابن يزيد أخبره أن التأذين الثاني يوم الجمعة أمر به عثمان حين كثر أهل المسجد وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام.
مطابقته للترجمة في قوله: (وكان التأذين يوم الجمعة..) إلى آخره. وكان المناسب أن يقول: باب التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام على المنبر، ورجاله قد ذكروا غير مرة، و: عقيل، بضم العين المهملة: ابن خالد، وقد تقدم ما فيه من المباحث.
52
((باب التأذين عند الخطبة))
أي: هذا باب في بيان التأذين عند الخطبة أي: قبلها عند إرادتها.

213
916 حدثنا محمد بن مقاتل قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري قال سمعت السائب بن يزيد يقول إن الأذان يوم الجمعة كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما فلما كان في خلافة عثمان رضي الله تعالى عنه وكثروا أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث فأذن به على الزوراء فثبت الأمر على ذالك.
مطابقته للترجمة في قوله: (حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر)، وقد مر الكلام فيه عن قريب، وعبد الله هو ابن المبارك، ويونس ابن يزيد. قوله: (كان أوله)، أي: أول الأذان أي: قبل أمر عثمان به. قوله: (وكثروا) أي: الناس. قوله: (أمر) جواب: (فلما). قوله: (بالأذان الثالث) قد مر وجه ذلك، وتسميته بالثالث. قوله: (فأذن به) على صيغة المجهول من التأذين. قوله: (فثبت الأمر) أي: أمر الأذان على ذلك، أي: على أذانين وإقامة كما أن اليوم العمل عليه في جميع الأمصار اتباعا للخلف والسلف.
26
((باب الخطبة على المنبر))
أي: هذا باب في بيان الخطبة على المنبر، يعني مشروعيتها عليه، وإنما لم يقل يوم الجمعة ليتناول الجمعة وغيرها.
وقال أنس رضي الله تعالى عنه خطب النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر
هذا التعليق وصله البخاري في الاعتصام، وفي الفتن مطولا، وفيه قصة عبد الله بن حذافة، وحديث أنس أيضا في الاستسقاء في قصة الذي قال: هلك المال، وسيأتي
إن شاء الله تعالى.
917 حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا يعقوب بن عبد الرحمان بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري القرشي الإسكندراني قال حدثنا أبو حازم بن دينار أن رجالا أتوا سهل بن سعد الساعدي وقد امتروا في المنبر مم عوده فسألوه عن ذالك فقال والله إني لاعرف مما هو ولقد رأيته أول يوم وضع يوم جلس عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فلانة امرأة قد سماها سهل مري غلامك النجار أن يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس فأمرته فعملها من طرفاء الغابة ثم جاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بها فوضعت هاهنا ثم رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى عليها وكبر وهو عليها ثم ركع وهو عليها ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر ثم عاد فلما فرغ أقبل على الناس فقال أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي..
مطابقته للترجمة في قوله: (إذا كلمت الناس) إذ العادة أن الخطيب لا يتكلم على المنبر، إلا بالخطبة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: قتيبة بن سعيد، وقد تكرر ذكره. الثاني: يعقوب بن عبد الرحمن هو القاري، بالقاف وبالراء المخففة وبياء النسبة إلى القارة، وهي قبيلة. وإنما قيل له: القرشي، لأنه حليف بني زهرة، و: المدني، لأن أصله من المدينة، و: الإسكندراني لأنه سكن فيها ومات بها سنة إحدى وثمانين ومائة. الثالث: أبو حازم، بالحاء المهملة وبالزاي، واسمه سلمة بن دينار الأعرج. الرابع: سهل بن سعد الساعدي، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخ البخاري بلخي، والاثنان مدنيان، والحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي، جميعهم عن قتيبة.

214
ذكر معناه: قد مضى الكلام فيه مستوفى في: باب الصلاة في المنبر والسطوح والخشب، ولكن نذكر ههنا ما لم نذكر هناك زيادة للبيان وإن وقع فيه بعض تكرار، فنقول: قوله: (إن رجالا) لم يسموا من هم. قوله: (وقد امتروا) جملة في محل النصب على الحال من: الامتراء. قال الكرماني: وهو الشك، وقال بعضهم: من المماراة: وهي المجادلة، والذي قاله الكرماني هو الأصوب. قوله: (والله إني لا أعرف مما هو) أي: من أي شيء هو، أي: عوده، وإنما أتى بالقسم مؤكدا بالجملة الإسمية وبكلمة: أن، التي للتحقيق، وبلام التأكيد في الخبر لإرادة التأكيد فيما قاله للسامع. قوله: (ولقد رأيته أول يوم وضع) أي: لقد رأيت المنبر في أول يوم وضع في موضعه، وهو زيادة على السؤال، وكذا قوله: (وأول يوم جلس عليه)، أي: أول يوم جلس النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، وفائدة هذه الزيادة المؤكدة باللام وكلمة: قد للإعلام بقوة معرفته بما سألوه. قوله: (ارسل رسول الله صلى الله عليه وسلم) إلى آخره شرح جوابه لهم وبيانه فلذلك فصله عما قبله ولم يذكره بعطف قوله (إلى فلانة)، فلان للمذكر وفلانة للمؤنث، كناية عن اسم سمي به المحدث عنه خاص غاالب، ويقال في غير الناس الفلان والفلانة، والمانع من صرفه، وجود العلتين: العلمية والتأنيث. وقد ذكرنا في: باب الصلاة على المنبر، ما قالوا في اسمها، وكذلك ذكرنا الاختلاف في صانع المنبر على أقوال كثيرة مستقصاة، وفي حديث سهل المذكور وهناك: عمله فلان مولى فلانة، وههنا قوله: (مري غلامك) تقديره: أرسل إليها، وقال لها: مري غلامك، وهو أمر من: أمر يأمر، وأصله: أؤمري، على وزن افعلي، فاجتمعت همزتان فنقلتا فحذفت الثانية واستغنيت عن همزة الوصل فصار مري على وزن: علي، لأن المحذوف فاء الفعل. قوله: (غلامك النجار) بنصب النجار لأنه صفة للغلام، وقد سماه عباس بن سهل بأن اسمه ميمون، وقد ذكرنا هناك من رواه، ويقال اسمه: مينا، ذكره إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه، قال: عمل المنبر غلام لامرأة من الأنصار من بني سلمة أو بني ساعدة أو امرأة لرجل منهم يقال له مينا. وأشبه الأقوال التي ذكرت في صانع المنبر بالصواب قول من قال: هو ميمون، لكون الإسناد فيه من طريق سهل بن سعد، وبقية الأقوال بأسانيد ضعيفة بل فيها شيء واه.
فإن قلت: كيف يكون طريق الجمع بين هذه الأقوال وهي سبعة على ما ذكرنا في: باب الصلاة على المنبر؟ قلت: لا طريق في هذا إلا أن يحمل على واحد بعينه ما هو في صنعته والبقية أعوانه. فإن قلت: لم لا يجوز أن يكون الكل قد اشتركوا في العمل؟ قلت: جاء في روايات كثيرة أنه لم يكن بالمدينة إلا نجار واحد. فإن قلت: متى كان عمل هذا المنبر؟ قلت: ذكر ابن سعد أنه كان في السنة السابعة، لكن يرده ذكر العباس وتميم فيه، وكان قدوم العباس بعد الفتح في آخر سنة ثمان، وقدوم تميم سنة تسع، وذكر ابن النجار بأنه كان في سنة ثمان، ويرده أيضا ما ورد في حديث الإفك في (الصحيحين): (عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: فثار الحيان الأوس والخزرج حتى كادوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فحفضهم حتى سكتوا). وعن الطفيل بن أبي ابن كعب عن أبيه قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جذع إذ كان المسجد عريشا، وكان يخطب إلى ذلك الجذع. فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله! هل لك أن نجعل لك منبرا تقوم عليه يوم الجمعة وتسمع الناس يوم الجمعة خطبتك؟ قال: نعم، فصنع له ثلاث درجات هي على المنبر، فلما صنع المنبر وضع موضعه الذي وضعه فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقوم فيخطب عليه، فمر إليه، فلما جاز الجذع الذي كان يخطب إليه خار حتى تصدع وانشق، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع صوت الجذع فمسحه بيده ثم رجع إلى المنبر). وعن عائشة، رضي الله تعالى عنها: (لما وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على الجذع وسكنه غار الجذع فذهب). وقيل: لما سكن لم يزل على حاله، فلما هدم المسجد أخذ ذلك أبي بن كعب فكان عنده إلى أن بلي وأكلته الأرض، فعاد رفاتا، رواه الشافعي وأحمد وابن ماجة. وفي رواية: لما وضع يده على الجذع سكن حنينه، وجاء في رواية أخرى: (لو لم أفعل ذلك لحن إلى قيام الساعة). فإن قلت: حكى بعض أهل السير أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب على منبر من طين قبل أن يتخذ المنبر الذي من خشب. قلت: يرده الحديث الذي ذكرناه، والأحاديث الصحيحة، أنه صلى الله عليه وسلم كان يستند إلى الجذع إذا خطب.
ثم إعلم أن المنبر لم يزل على حاله ثلاث درجات حتى زاده مروان في خلافة معاوية ست درجات من أسفله، وكان سبب ذلك ما حكاه الزبير بن بكار في (أخبار المدينة
) بإسناده إلى حميد بن عبد الرحمن بن عوف، قال: بعث معاوية إلى مروان وهو عامله على المدينة أن يحمل المنبر إليه فأمر به فقلع: فأظلمت المدينة، فخرج مروان فخطب فقال:

215
إنماأمرني أمير المأمنين أن أرفعه، فدعا نجارا وكان ثلاث درجات فزاد فيه الزيادة التي هو عليها اليوم. ورواه من وجه آخر، قال: فكسفت الشمس حتى رأينا النجوم، قال: وزاد فيه ست درجات، وقال: إنما زدت فيه حين كثر الناس. فإن قلت: روى أبو داود عن ابن عمر أن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما بدن قال له تميم الداري: (ألا اتخذ لك منبرا يا رسول الله يجمع أو يحمل عظامك؟ قال: بلى، فاتخذ له منبرا مرقاتين) أي: اتخذ له منبرا درجتين، فبينه وبين ما ثبت في الصحيح أنه ثلاث درجات منافاة. قلت: الذي قال: مرقاتين، لم يعتبر الدرجة التي كان يجلس عليها صلى الله عليه وسلم. وقال ابن النجار وغيره: استمر على ذلك إلا ما أصلح منه إلى أن أحترق مسجد المدينة سنة أربع وخمسين وستمائة، فاحترق ثم جدد المظفر صاحب اليمن سنة ست وخمسين منبرا ثم أرسل الظاهر بيبرس رحمه الله بعد عشر سنين منبرا، فأزيل منبر المظفر فلم يزل ذلك إلى هذا العصر، فأرسل الملك المؤيد شيخ، رحمه الله، في سنة عشرين وثمان مائة منبرا جديدا، وكان أرسل في سنة ثماني عشرة منبرا جديدا إلى مكة أيضا.
قوله: (وأجلس)، بالرفع والجزم، قاله الكرماني. قلت: أما الرفع فعلى تقدير: وأنا أجلس، وأما الجزم فلأنه جواب الأمر، قوله: (من طرفاء الغابة)، وفي رواية سفيان عن أبي حازم: من أثل الغابة. الطرفاء، بفتح الطاء وسكون الراء المهملتين وبعد الراء فاء ممدودة، وهو شجر من شجر البادية، واحدها طرفة، بفتح الفاء مثل قصبة وقصباء، وقال سيبويه: الطرفاء وأحمد وجمع. والأثل بسكون الثاء المثلثة، قال القزاز: هو ضرب من الشجر يشبه الطرفاء، وقال الخطابي، هو الشجرة الطرفاء. قلت: فعلى هذا لا منافاة بين الروايتين، والغاية، بالغين المعجمة وبعد الألف باء موحدة: وهي أرض على تسعة أميال من المدينة كانت إبل النبي صلى الله عليه وسلم مقيمة بها للمرعى، وبها وقعت قصة العرنيين الذي أغاروا على سرحه، وقال ياقوت: بينها وبين المدينة أربعة أميال. وقال الزمخشري: الغابة بريد من المدينة من طريق الشام. وفي (الجامع): كل شجر ملتف فهو غابة. وفي (المحكم): الغابة الأجمة التي طالت ولها أطراف مرتفعة باسقة. وقال أبو حنيفة: هي أجمة القصب. قال: وقد جعلت جماعة الشجر غابا مأخوذا من الغيابة، والجمع غابات وغاب. قوله: (فأرسلت) أي: المرأة تعلم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه فرغ. قوله: (فأمر بها فوضعت) أنث الضمير في الموضعين باعتبار الأعواد والدرجات. قوله: (عليها) أي: على الأعواد. قوله: (وهو عليها)، جملة حالية. قوله: (ثم نزل القهقرى)، وهو الرجوع إلى خلف. قيل: يقال رجع القهقرى، ولا يقال: نزل القهقرى، لأنه نوع من الرجوع لا من النزول. وأجيب: بأنه لما كان النزول رجوعا من فوق إلى تحت صح ذلك، وكان الحامل على ذلك المحافظة على استقبال القبلة، ولم يذكر في هذه الرواية القيام بعد الركوع ولا القراءة بعد التكبير، وقد بين ذلك في رواية سفيان عن أبي حازم، ولفظه: (كبر فقرأ وركع ثم رفع رأسه ثم رجع القهقرى)، وفي رواية هشام بن سعد عن أبي حازم عند الطبراني: (فخطب الناس عليه ثم أقيمت الصلاة فكبر وهو على المنبر). قوله: (في أصل المنبر) أي: على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه. قوله: (ثم عاد)، وزاد مسلم من رواية عبد العزيز: (حتى فرغ من آخر صلاته). قوله: (ولتعلموا)، بكسر اللام وفتح التاء المثناة من فوق وتشديد اللام، وأصله: لتتعلموا، فحذفت إحدى التاءين، وعرف منه أن الحكمة في صلاته في أعلى المنبر ليراه من قد يخفى عليه رؤيته إذا صلى على الأرض. وقال ابن حزم، وبكيفية هذه الصلاة قال أحمد والشافعي والليث وأهل الظاهر. ومالك وأبو حنيفة لا يجيزانها، وقال ابن التين: الأشبه أن ذلك كان له خاصة.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن من فعل شيئا يخالف العادة بين حكمته لأصحابه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى هذه الصلاة بهذه الكيفية وكان ذلك لمصلحة بيناها، فنقول: إذا كان مثل ذلك لمصلحة ينبغي أن لا تفسد صلاته ولا تكره أيضا، كما في مسألة من انفرد خلف الصف وحده، فإن له أن يجذب واحدا من الصف إليه ويصطفان، فإن المجذوب لا تبطل صلاته ولو مشى خطوة أو خطوتين، وبه صرح أصحابنا في الفقه. وفيه: دليل على أن الفعل الكثير بالخطوات وغيرها إذا تفرق لا يبطل الصلاة، لأن النزول عن المنبر والصعود تكرر، وجملته كثيرة، ولكن أفراده المتفرقة كل واحد منها قليل. وفيه: استحباب اتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه، ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب مستقبل القبلة فإن لم يكن منبر فموضع عال، وإلا فإلى خشبة للاتباع فإنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب إلى جذع قبل اتخاذ المنبر، فلما صنع تحول إليه، ويكره المنبر الكبير جدا الذي يضيق على المصلين إذا لم يكن المسجد متسعا. وفيه: استحباب الافتتاح بالصلاة في كل شيء جديد، إما شكرا وإما تبركا.

216
918 حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا محمد بن جعفر قال أخبرني يحيى بن سعيد قال أخبرني ابن أنس أنه سمع جابر بن عبد الله قال كان جذع يقوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما وضع له المنبر سمعنا للجذع مثل أصوات العشار حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم فوضع يده عليه.
مطابقته للترجمة تفهم من قوله: (حتى نزل النبي، صلى الله عليه وسلم)، لأن نزول كان بعد صعودة إلى المنبر.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: سعيد بن أبي مريم، وقد تكرر ذكره. الثاني: محمد بن جعفر بن أبي كثير ضد قليل الأنصاري. الثالث: يحيى بن سعيد الأنصاري. الرابع: ابن أنس، هو حفص بن عبيد الله بن أنس، وقد بينه باسمه في الرواية المعلقة التي تأتي عن قريب. وقال الكرماني: هو مجهول، فصار الإسناد به من باب الرواية عن المجاهيل، ثم أجاب عنه بأن يحيى لما كان لا يروي إلا عن العدل الضابط فلا بأس به، أو لما علم من الطريق الذي بعده أنه حفص بن عبيد الله بن أنس، فاكتفى به. وقال أبو مسعود الدمشقي في (الأطراف): إنما أبهم البخاري حفصا لأن محمد بن جعفر بن أبي كثير يقول: عبيد الله بن حفص فيقبله، وكذا رواه أبو نعيم في (المستخرج) من طريق محمد بن مسكين عن ابن أبي مريم شيخ البخاري فيه، وكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق عبد الله بن يعقوب بن إسحاق عن يحيى بن سعيد
، ولكن أخرجه من طريق أبي الأحوص محمد بن الهيثم عن ابن أبي مريم، فقال: عن حفص بن عبيد الله على الصواب. وقال: الصواب فيه حفص بن عبيد الله. وقال البخاري في (تاريخه): قال بعضهم: عبد الله بن حفص، ولا يصح. وفي نسخة أبي ذر: حفص بن عبد الله بتكبير العبد وصوابه: عبيد الله، بالتصغير. وحفص هذا روى له البخاري ومسلم روى عن جده وجابر بن عبد الله وابن عمر وأبي هريرة، وقال أبو حاتم: لا يثبت له السماع إلا من جده. وفي البخاري في (علامات النبوة): عن جابر مصرحا به. الخامس: جابر بن عبد الله الأنصاري.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: السماع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: رواية عن مجهول صورة، وبينا وجهه. وفيه: ليس لابن أنس عن جابر في البخاري إلا هذا الحديث، قاله الحميدي في جمعه. وفيه: إطلاق الابن على ابن ابنه مجازا. وفيه: أن شيخ البخاري مصري والاثنان مدنيان، والرابع بصري.
ذكر معناه: قوله: (جذع)، بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة. قاله الجوهري: واحد جذوع النخل. قوله: (يقوم عليه) ويروى: (يقوم إليه. قوله: (مثل أصوات العشار)، بكسر العين المهملة بعدها شين معجمة، قاله الجوهري: العشار جمع عشراء، بالضم، ثم الفتح، وهي الناقة الحامل التي مضت لها عشرة أشهر ولا يزال ذلك اسمها، إلى أن تلد. وفي (المطالع): العشار النوق الحوامل. قال الداودي: هي التي معها أولادها. وقال الخطابي: هي التي قاربت الولادة. يقال: ناقة عشراء ونوق عشار على غير قياس، ونقل ابن التين: أنه ليس في الكلام فعلاء على فعال، غير: نفساء وعشراء، ويجمع على: عشراوات ونفساوات. ومثل: صوت الجذع بأصوات العشار عند فراق أولادها، وفيه علم عظيم من أعلام نبوته، صلى الله عليه وسلم، ودليل على صحة رسالته، وهو حنين الجماد، وذلك أن الله تعالى جعل للجذع حياة حن بها، وهذا من باب الإفضال من الرب، جل جلاله، الذي يحيي الموتى بقوله: * (كن فيكون) *. (البقرة: 217، آل عمران: 47 لأ 59، الأنعام: 273، النحل: 240، مريم: 35، ي
1764; س
1764;: 83، وغافر: 68). وفيه: الرد على القدرية، لأن الصياح ضرب من الكلام وهم لا يجوزون الكلام إلا ممن له فم ولسان.
قال سليمان عن يحيى أخبرني حفص بن عبيد الله بن أنس أنه سمع جابر بن عبد الله
هذا التعليق عن سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد إلى آخره، وقد وصله البخاري في علامات النبوة بهذا الإسناد، وزعم بعضهم أنه سليمان بن كثير

217
لأنه رواه عن يحيى بن سعيد، ورد بأن سليمان بن كثير قال فيه: عن يحيى عن سعيد بن المسيب عن جابر، كذلك أخرجه الدارمي عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان فإن كان هذا محفوظا فليحيى بن سعيد فيه شيخان، وقال المزي في (الأطراف): ذكر أبو مسعود وخلف إن سليمان الذي استشهد به البخاري في الصلاة هو ابن بلال، وذكر أن سليمان بن كثير أيضا رواه عن يحيى بن سعيد عن حفص بن عبد الله بن أنس، كما قال سليمان والذي ذكره الذهلي والدارقطني أن سليمان بن كثير رواه عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن جابر، رضي الله تعالى عنه.
919 حدثنا آدم بن أبي إياس قال حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن سالم عن أبيه قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر فقال من جاء إلى الجمعة فليغتسل. (انظر الحديث 877 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم)، ولأجل هذا المقدار أورده ههنا لأجل الترجمة. وأخرج بقيته في: باب فضل الغسل يوم الجمعة، عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل). وأخرجه أيضا في: باب هل على من لم يشهد الجمعة غسل؟ عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري وحدثني سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من جاء منكم الجمعة فليغتسل)، وههنا أخرجه عن آدم عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن محمد بن مسلم الزهري عن سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر بن الخطاب.
والمستفاد منه أن الخطبة ينبغي أن تكون على المنبر إن وجد، وإلا فعلى موضع مشرف.
27
((باب الخطبة قائما))
أي: هذا باب في بيان حكم الخطبة قائما، أي: يكون الخطيب فيها قائما، هذا التقدير على كون الباب مضافا إلى الخطبة، ويجوز أن ينقطع عن الإضافة وينون على أنه خبر مبتدأ محذوف، ويكون لفظ: الخطبة، مرفوعا على الابتداء، ويكون التقدير: هذا باب ترجمته الخطبة يخطبها الخطيب حال كونه قائما. فانتصاب قائما على الوجه الأول بكونه خبر: يكون، وعلى الوجه الثاني على أنه حال من الخطيب، وهذا كله لا يخلو عن تعسف لأجل التعسف في تركيب الترجمة.
وقال أنس بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما
هذا التعليق موافق للترجمة، وهو طرف من حديث الاستسقاء على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. وقد مر غير مرة أن: بينا، أصله: بين، فأشبعت فتحة النون فصارت ألفا. وهو ظرف زمان بمعنى المفاجأة مضاف إلى الجملة من مبتدأ وخبر، ويحتاج إلى جواب يتم به المعنى، وجوابه: في حديث الاستسقاء.
والمستفاد منه أن يكون الخطيب قائما، لكن على أي وجه؟ نبينه عن قريب، إن شاء الله تعالى.
920 حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال حدثنا خالد بن الحارث قال حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما ثم يقعد ثم يقوم كما تفعلون الآن.. (الحديث 920 طرفه في: 928).
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: عبيد الله بتصغير العبد ابن عمر بن ميسرة البصري أبو سعيد القواريري، والقواريري، بالقاف: نسبة لمن يعمل القوارير أو يبيعها. الثاني: خالد بن الحارث بن سليم الهجيمي البصري، مات سنة ست وثمانين ومائة، ومر ذكره في: باب استقبال القبلة. الثالث: عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن نصف رواته بصري والنصف الآخر مدني.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم في الصلاة عن القواريري وأبي كامل فضيل بن الحسين الجحدري. وأخرجه الترمذي فيه عن حميد بن مسعدة عن خالد بن الحارث وروى أحمد والبزار وأبو يعلى والطبراني من رواية الحجاج بن أرطاة عن الحكم، (عن مقسم عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه:

218
كان يخطب يوم الجمعة قائما ثم يقعد ثم يقوم ثم يخطب)، اللفظ لأحمد وأبي يعلى. قوله: (ثم يقعد) أي: بعد الخطبة الأولى ثم يقوم للخطبة الثانية.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: الإخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يخطب قائما. قال شيخنا في (شرح الترمذي): في اشتراط القيام في الخطبتين إلا عند العجز، وإليه ذهب الشافعي وأحمد في رواية. انتهى. قلت: لا يدل الحديث على الاشتراط، غاية ما في الباب أنه يدل على السنية. وفي (التوضيح): القيام للقادر شرط لصحتها، وكذا الجلوس بينهما عند الشافعي، رضي الله تعالى عنه، وأصحابه. فإن عجز عنه استخلف، فإن خطب قاعدا أو مضطجعا للعجز جاز قطعا كالصلاة، ويصح الاقتداء به حينئذ، وعندنا وجه: أنها تصح قاعدا للقادر، وهو شاذ، نعم هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد كما حكاه النووي عنهم، قاسوه على الأذان. وحكى ابن بطال عن مالك كالشافعي، وعن ابن القصار كأبي حنيفة، ونقل ابن التين عن القاضي أبي محمد أنه مسيىء، ولا يبطل حجة الشافعي حديث الباب. قلت: حديث الباب لا يدل على الاشتراط، واستدل بعضهم للشافعي، رضي الله تعالى عنه، بما في (صحيح مسلم): (أن كعب بن عجرة دخل المسجد وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعدا، فقال: انظروا إلى هذا الخطيب يخطب قاعدا، وقال تعالى: * (وتركوك قائما) * (الجمعة: 11). وفي (صحيح ابن خزيمة): (قال كعب: ما رأيت كاليوم قط إمام يؤم المسلمين يخطب وهو جالس، يقول ذلك مرتين). وأجيب: عنه بأن إنكار كعب عليه إنما هو لتركه السنة، ولو كان القيام شرطا لما صلوا معه مع ترك الفرض. فإن قلت: روى مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة من رواية سماك بن حرب عن جابر ابن سمرة قال: (كانت للنبي، صلى الله عليه وسلم، خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس) وفي رواية: (كان يخطب قائما ثم يجلس ثم يقوم فيخطب قائما، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا فقد كذب، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة). قلت: هذا محمول على المبالغة، لأن هذا القدر من الجمع إنما يكمل في نيف وأربعين سنة، وهذا القدر لم يصله رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قلت: قال النووي: المراد الصلوات الخمس لا الجمع، لأنه غير ممكن. قلت: سياق الكلام ينافي هذا التأويل، لأن الكلام في الجمع لا في الصلوات الخمس، واحتجوا أيضا بما ذكره ابن أبي شيبة عن طاووس، قال: (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان قياما، وأول من جلس على المنبر معاوية، قال الشعبي: حين كثر شحم بطنه ولحمه). ورواه ابن حزم عن علي، رضي الله تعالى عنه، أيضا، والجواب عنه وعن كل حديث ورد فيه القيام في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم وعن قوله: * (وتركوك قائما) * (الجمعة: 11). بأن ذلك إخبار عن حالته التي كان عليها عند انقضاضهم، وبأنه صلى الله عليه وسلم كان يواظب على الشيء الفاضل مع جواز غيره، ونحن نقول به، ومن أقوى الحجج لأصحابنا ما رواه البخاري (عن أبي سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله)، على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، وحديث سهل: (مري غلامك يعمل لي أعوادا أجلس عليهن إذا كلمت الناس).
28
((باب يستقبل الإمام القوم واستقبال الناس الإمام إذا خطب))
أي: هذا باب في بيان استقبال الناس الإمام، والاستقبال مصدر مضاف إلى فاعله، والإمام بالنصب مفعول له، وفي رواية كريمة: باب يستقبل الإمام القوم واستقبال الناس الإمام إذا خطب.
واستقبل ابن عمر وأنس، رضي الله تعالى عنه، الإمام
مطابقته للترجمة ظاهرة، أما أثر عبد الله بن عمر فأخرجه البيهقي من طريق الوليد بن مسلم، قال: ذكرت الليث بن سعد فأخبرني عن ابن عجلان عن نافع أن ابن عمر كان يفرغ من سبحته يوم الجمعة قبل خروج الإمام، فإذا خرج لم يقعد الإمام حتى يستقبله، وأما أثر أنس بن مالك فأخرجه ابن أبي شيبة: حدثنا عبد الصمد (عن المستمر بن ريان، قال: رأيت أنسا إذا أخذ الإمام يوم الجمعة في الخطبة يستقبله بوجهه حتى يفرغ الإمام من خطبته). ورواه ابن المنذر من وجه آخر: (عن أنس أنه جاء يوم الجمعة فاستند إلى الحائط واستقبل الإمام). قال ابن المنذر: ولا أعلم في ذلك خلافا بين العلماء، وحكى غيره: (عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يستقبل هشام بن إسماعيل إذا خطب، فوكل به هشام شرطيا يعطفه إليه). وهشام هذا هو هشام بن إسماعيل بن الوليد بن

219
المغيرة المخزومي، كان واليا بالمدينة وهو الذي ضرب سعيد بن المسيب أفضل التابعين بالسياط، فويل له من ذلك، وفي (المغني): روي عن الحسن أنه استقبل القبلة ولم ينحرف إلى الإمام، وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا). وفي إسناده محمد بن الفضل، وقال الترمذي: هو ضعيف ذاهب الحديث عند أصحابنا، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وغيرهم يستحبون استقبال الإمام إذا خطب، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق، ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء. وروى ابن ماجة عن عدي بن ثابت عن أبيه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر استقبله الناس). وفي (سنن الأثر): عن مطيع أبي يحيى المزني عن أبيه عن جده، قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام على المنبر أقبلنا بوجوهنا إليه). وقال ابن أبي شيبة: أخبرنا هشيم أخبرنا عبد الحميد بن جعفر الأنصاري بإسناد لا أحفظه، قال: (كانوا يجيؤن يوم الجمعة يجلسون حول المنبر ثم يقبلون على النبي صلى الله عليه وسلم بوجوههم)، وفي (المبسوط): كان أبو حنيفة إذا فرغ المؤذن من أذانه أدار وجهه إلى الأمام، وهو قول شريح وطاووس ومجاهد وسالم والقاسم وزادان وعمر بن عبد العزيز وعطاء، وبه قال مالك والأوزاعي والثوري وسعيد بن عبد العزيز وابن جابر ويزيد بن أبي مريم والشافعي وأحمد وإسحاق، قال ابن المنذر: وهذا كالإجماع.
921 حدثنا معاذ بن فضالة قال حدثنا هشام عن يحيى عن هلال بن أبي ميمونة قال حدثنا عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري قال إن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ذات يوم على المنبر وجلسنا حوله..
مطابقته للترجمة من حيث إن جلوسهم حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون إلا وهم ينظرون إليه، وهو عين الاستقبال.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: معاذ بن فضالة أبو زيد الزهراني البصري. الثاني: هشام الدستوائي. الثالث: يحيى بن أبي كثير. الرابع: هلال بن أبي ميمونة، ويقال: هلال بن هلال، وهو هلال بن علي، تقدم ذكره في أول كتاب العلم. الخامس: عطاء بن يسار، بفتح الياء آخر الحروف. السادس: أبو سعيد الخدري، واسمه: سعد بن مالك مشهور باسمه وكنيته.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن الأول من الرواة بصري. والثاني أهوازي، والثالث يماني والرابع والخامس مدنيان.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري في الجهاد أيضا عن محمد بن سنان عن فليح وفي الزكاة عن معاذ بن فضالة أيضا وفي الرقاق عن إسماعيل بن عبد الله عن مالك. وأخرجه مسلم في الزكاة عن أبي الطاهر ابن السرح وعن علي بن حجر. وأخرجه النسائي فيه عن زياد بن أيوب عن ابن علية به. وأخرجه الترمذي عن ابن مسعود، وقد ذكرناه عن قريب، وفي الباب عن ابن عمر رواه الطبراني في (الأوسط) والبيهقي في (سننه) من رواية عيسى ابن عبد الله الأنصاري عن نافع عن ابن عمر، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دنا من منبره يوم الجمعة سلم على من عنده، فإذا صعده استقبل الناس بوجهه). لفظ البيهقي، وضعفه، وقال الطبراني: (فإذا صعد المنبر توجه إلى الناس وسلم عليهم)، وعيسى بن عبد الله فيه مقال، وعن عدي بن ثابت عن أبيه أخرجه ابن ماجة، وقد ذكرناه عن قريب، وعن مطيع أبي يحيى عن أبيه عن جده أخرجه الأثرم، وقد ذكرناه عن قريب، وعن البراء من طريق أبان بن عبد الله البجلي أخرجه ابن خزيمة، وقال: إنه معلول.
ذكر ما يستفاد منه: الحكمة في استقبالهم للخطيب أن يتفرغوا لسماع موعظته وتدبر كلامه ولا يشتغلوا بغيره. قال الفقهاء: إنما استدبر القبلة لأنه إذا استقبلها فإن كان في صدر المسجد كان مستديرا للقوم، واستدبارهم وهم المخاطبون قبيح خارج عن عرف المخاطبات، وإن كان في آخره فإما أن يستقبله القوم فيكونوا مستدبرين القبلة، واستدبار واحد أهون من استدبار الجماعة، وإما أن يستدبروه فتلزم الهيئة القبيحة، ولو خالف الخطيب فاستدبرهم واستقبل القبلة كره وصحت خطبته، وحكى الشاشي وجها شاذا: أنه لا يصح. فإن قلت: ما المراد باستقبال الناس الخطيب؟ هل المراد من يواجهه؟ أو المراد جميع أهل

220
المسجد حتى أن من هو في الصف الأول والثاني وإن طالت الصفوف ينحرفون بأبدانهم أو بوجوههم لسماع الخطبة؟ قلت: الظاهر أن المراد بذلك من يسمع الخطبة دون من بعد فلم يسمع فاستقبال القبلة أولى به من توجهه لجهة الخطيب، ثم إن الرافعي والنووي جزما باستحباب ذلك، وصرح القاضي أبو الطيب بوجوب ذلك، ثم بقي هنا استقبال الخطيب للناس فذكر الرافعي: أنه من سنن الخطبة، ولو خطب مستدبرا للناس جاز، وإن خالف السنة. وحكى في (البيان) وغيره وجه: أنه لا يجزيه، كما ذكرنا عن قريب عن الشاشي. فإن قلت: حول النبي صلى الله عليه وسلم ظهره إلى الناس في خطبة الاستسقاء؟ قلت: كان ذلك تفاؤلا بتغير الحال، كما قلب رداءه فيها تفاؤلا بذلك، فأما في الجمعة فلم ينقل ذلك مع كونه قد استسقى في خطبة الجمعة ولم يحول وجهه في الدعاء للقبلة، وكل منهما أصل بنفسه لا يقاس عليه غيره، واستنبط الماوردي وغيره من الحديث المذكور أن الخطيب لا يلتفت يمينا ولا شمالا حالة الخطبة. وفي (شرح المهذب): اتفق العلماء على كراهة ذلك، وهو معدود في البدع المنكرة، خلافا لأبي حنيفة، فإنه قال: يلتفت يمنة ويسرة كالأذان، نقله الشيخ أبو حامد. قلت: في هذا النقل عن أبي حنيفة نظر، ولا يصح ذلك عنه، ومن السنة عندنا أن يترك الخطيب السلام من وقت خروجه إلى دخوله في الصلاة، والكلام أيضا، وبه قال مالك. وقال الشافعي وأحمد: السنة إذا صعد المنبر أن يسلم على القوم إذا أقبلهم بوجهه، كذا روي عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قلت: هذا الحديث أورده ابن عدي من حديث ابن عمر في ترجمة عيسى بن عبد الله الأنصاري وضعفه، وكذا ضعفه ابن حبان. فإن قلت: روى ابن أبي شيبة: حدثنا أبو أسامة عن مجالد: (عن الشعبي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر يوم الجمعة استقبل الناس فقال: السلام عليكم..) قلت: هذا مرسل فلا يحتج به عندهم، وقال عبد الحق في (الأحكام الكبرى)
: هو مرسل، وإن أسنده أحمد من حديث عبد الله بن لهيعة فهو معروف في الضعفاء، فلا يحتج به. وقال البيهقي: الحديث ليس بقوي.
29
((باب من قال في الخطبة بعد الثناء أما بعد))
أي: هذا باب في بيان قول من قال في الخطبة بعد الثناء عن الله عز وجل كلمة: أما بعد، وكان البخاري، رحمه الله، لم يجد في صفة خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة حديثا على شرطه، فاقتصر على ذكر الثناء واللفظ وضع للفصل بينه وبين ما بعده من موعظة ونحوها، وقال أبو جعفر النحاس عن سيبويه: معنى أما بعد، مهما يكن من شيء، وقال أبو إسحاق: إذا كان رجل في حديث وأراد أن يأتي بغيره قال: أما بعد، وأجاز الفراء: أما بعدا، بالنصب والتنوين، و: أما بعد، بالرفع والتنوين، وأجاب هشام: أما بعد، بفتح الدال. واعلم أن: بعد وقبل، من الظروف التي قطعت عن الإضافة، فإذا أريد منهما المضاف إليه المتعين بعد القطع يبنى ولا يعرب، ويكون بناؤهما على الضم لأن بناءهما عارض يزول بالإضافة، فكانت الحركة ضمة لأنها لا توهم إعرابا، لأن الضم لا يدخلهما مضافين. وفي (المحكم): معناه أما بعد دعائي لك. وفي (الجامع): يعني بعد الكلام المتقدم، أو بعد ما بلغني من الخبر.
واختلف في أول من قالها. فقيل: داود، عليه الصلاة والسلام، رواه الطبراني مرفوعا من حديث أبي موسى الأشعري، وفي اسناده ضعف، وقيل: قس بن ساعدة. وقيل: يعرب بن قحطان. وقيل: كعب بن لؤي جد النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: سحبان بن وائل. وفي (غرائب مالك) للدارقطني بسند ضعيف: (لما جاء ملك الموت إلى يعقوب، عليه الصلاة والسلام، قال يعقوب في جملة كلامه: أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء)، وذكر الحافظ أبو محمد عبد القادر بن عبد الله الرهاوي أن جماعة من الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، رووا هذه اللفظة عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم: سعد بن أبي وقاص وابن مسعود وأبو سعيد الخدري وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله والفضل ابنا العباس بن عبد المطلب وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وسمرة بن جندب وعدي بن حاتم وأبو حميد الساعدي وعقبة بن عامر والطفيل بن سخبرة وجرير بن عبد الله البجلي وأبو سفيان بن حرب وزيد بن أرقم وأبو بكرة وأنس بن مالك وزيد بن خالد وقرة بن دعموص والمسور بن مخرمة وجابر بن سمرة وعمرو بن ثعلبة ورزين بن أنس السلمي والأسود بن سريع وأبو شريح بن عمرو وعمرو بن حزم وعبد الله ابن عليم وعقبة بن مالك وأسماء بنت أبي بكر، رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

221
رواه عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم
أي: روى القول بكلمة: أما بعد، في الخطبة عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا التعليق وصله البخاري في آخر هذا الباب: عن إسماعيل بن أبان عن ابن الغسيل عن عكرمة: (عن ابن عباس، قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر...) الحديث.
45 - (وقال محمود حدثنا أبو أسامة قال حدثنا هشام بن عروة قال أخبرتني فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر قالت دخلت على عائشة رضي الله عنها والناس يصلون قلت ما شأن الناس فأشارت برأسها إلى السماء فقلت آية فأشارت برأسها أي نعم قالت فأطال رسول الله
جدا حتى تجلاني الغشي وإلى جنبي قربة فيها ماء ففتحتها فجعلت أصب منها على رأسي فانصرف رسول الله
وقد تجلت الشمس فخطب الناس وحمد الله بما هو أهله ثم قال أما بعد قالت ولغط نسوة من الأنصار فانكفأت إليهن لأسكتهن فقلت لعائشة ما قال قالت قال من شيء لم أكن أريته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار وإنه قد أوحي إلي أنكم تفتنون في القبور مثل أو قريبا من فتنة المسيح الدجال يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل فأما المؤمن أو قال الموقن شك هشام فيقول هو رسول الله هو محمد
جاءنا بالبينات والهدى فآمنا وأجبنا واتبعنا وصدقنا فيقال له نم صالحا قد كنا نعلم أن كنت لتؤمن به وأما المنافق أو قال المرتاب شك هاشم فيقال له ما علمك بهذا الرجل فيقول لا أدري سمعت الناس يقولون شيئا فقلت قال هشام فلقد قالت لي فاطمة فأوعيته غير أنها ذكرت ما يغلط عليه)
مطابقته للترجمة ظاهرة وهي قوله ' ثم قال أما بعد '.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول محمود بن غيلان أحد مشايخه مر في باب النوم قبل العشاء. الثاني أبو أسامة حماد بن أسامة الليثي وقد تكرر ذكره. الثالث هشام بن عروة بن الزبير بن العوام وقد تكرر ذكره. الرابع فاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام امرأة هشام بن عروة. الخامس أسماء بنت أبي بكر الصديق أم عبد الله بن الزبير وعروة أخت عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهما
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين والإخبار بصيغة الإفراد في موضع وفيه العنعنة في موضع وفيه القول في أربعة مواضع وفيه قال محمود ولم يقل حدثنا محمود أو أخبرنا لأن الظاهر أنه ذكره له محاورة ومذاكرة لا نقلا وتحميلا لكن كلام أبي نعيم في المستخرج يشعر بأنه قال حدثنا محمود وفيه رواية الرجل عن بنت عمه وزوجته وفيه رواية التابعية عن الصحابية وفيه رواية الصحابية عن الصحابية وفيه شيخ البخاري مروزي وشيخه كوفي والبقية مدنية
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري في مواضع قد بيناه في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس في كتاب العلم وقد ذكرنا أيضا من أخرجه غير البخاري وذكرنا جميع ما يتعلق به هناك ونذكر ههنا مختصرا عما قد ذكرناه هناك وما لم نذكره قوله ' والناس يصلون ' جملة حالية قوله ' ما شأن الناس ' أي قائمين فزعين قوله ' فأشارت ' أي عائشة قوله ' فقلت آية ' أصله بهمزة الاستفهام أي آية وارتفاعها على أنها خبر مبتدأ محذوف أي أهي آية أي

222
علامة لعذاب الناس كأنها مقدمة له قوله ' حتى تجلاني ' بفتح التاء المثناة من فوق والجيم وتشديد اللام وأصله تجللني أي علاني وكذا وقع في رواية هناك قوله ' الغشي '
بفتح الغين المعجمة وسكون الشين المعجمة وفي آخره ياء آخر الحروف مخففة من غشي عليه غشية وغشيا وغشيانا فهو مغشي عليه واستغشى بثوبه وتغشى أي تغطي به قوله ' وقد تجلت الشمس ' جملة حالية أي انكشفت قوله ' ثم قال أما بعد ' هذا لم يذكر هناك قال الكرماني كلمة أما لا بد لها من أخت فما هي إذا وقعت بعد الثناء على الله كما هو العادة في ديباجة الرسائل والكتب بأن يقال الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد وأجاب بأن الثناء أو الحمد مقدم عليه كأنه قال أما الثناء على الله فكذا وأما بعد فكذا ولا يلزم في قسيمه أن يصرح بلفظه بل يكتفي ما يقوم مقامه قيل هي من أفصح الكلام وهو فصل بين الثناء على الله وبين الخبر الذي يريد الخطيب إعلام الناس به ومثل هذه الكلمة تسمى بفصل الخطاب الذي أوتي داود عليه الصلاة والسلام لأنه فصل ما تقدم وقال الحسن هي فصل القضاء وهي ' البينة على المدعي واليمين على من أنكر ' قوله ' لغط نسوة من الأنصار ' اللغط بالتحريك الأصوات المختلفة التي لا تفهم قال ابن التين ضبطه بعضهم بفتح الغين وبعضهم بكسرها وهو عند أهل اللغة بالفتح قوله ' فانكفأت ' أي ملت بوجهي ورجعت إليهن لأسكتهن وأصله من كفأت الإناء إذا أملته وكببته قوله ' ما من شيء ' كلمة ما للنفي وكلمة من زائدة لتأكيد النفي وشئ اسم ما وقوله ' لم أكن أريته ' جملة في محل الرفع لأنها صفة لشيء وهو مرفوع في الأصل وإن كان جر بمن الزائدة واسم أكن مستتر فيه وأريته بضم الهمزة جملة في محل النصب لأنها خبر لم أكن قوله ' إلا وقد رأيته ' استثناء مفرغ وتحقيق الكلام قد ذكرناه قوله ' حتى الجنة والنار ' يجوز فيهما الرفع على أن تكون حتى ابتدائية ورفع الجنة على الابتداء محذوف الخبر تقديره حتى الجنة مرئية والنار عطف عليها ويجوز فيهما النصب على أن تكون حتى عاطفة على الضمير المنصوب في رأيته ويجوز الجر أيضا على أن تكون حتى جارة قوله ' أوحي إلي ' على صيغة المجهول قوله ' أنكم ' بفتح الهمزة قوله ' مثل أو قريبا ' أصله مثل فتنة الدجال أو قريبا من فتنة الدجال وتحقيقه قد مر قوله ' يؤتى ' على صيغة المجهول قوله ' الموقن ' أي المصدق بنبوة محمد
أو الموقن بنبوته قوله ' صالحا ' أي منتفعا بأعمالك قوله ' أن كنت ' أن هذه مخففة من الثقيلة أي أن الشأن كنت وهي مكسوة ودخلت اللام في قوله ' لموقنا ' لتفرق بين أن هذه وبين أن النافية قوله ' المنافق ' هو المظهر خلاف ما يبطن والمرتاب الشاك وهو في مقابلة الموقن وهذا اللفظ مشترك فيه الفاعل والمفعول والفرق تقديري قوله ' فأوعيته ' الأصل في مثل هذا أن يقال وعيته يقال وعيت العلم وأوعيت المتاع وقال ابن الأثير في حديث الإسراء ذكر في كل سماء أنبياء قد سماهم فأوعيت منهم إدريس في الثانية هكذا روي فإن صح فيكون معناه أدخلته في وعاء قلبي يقال أوعيت الشيء في الوعاء إذا أدخلته فيه ولو روى وعيت بمعنى حفظت لكان أبين وأظهر يقال وعيت الحديث أعيه وعيا فأنا واع إذا حفظته وفهمته وفلان أوعى من فلان أي أحفظ وأفهم وههنا كذلك إن صحت الرواية فيكون معناه أدخلته في وعاء قلبي وإلا فالقياس وعيته بدون الهمزة فافهم وفي بعض النسخ فوعيته على الأصل قوله ' ما يغلظ عليه ' ويروى ' ما يغلظ فيه '
(وما يستفاد منه) الافتتان في القبر وهو الاختبار ولا فتنة أعظم من هذه الفتنة وقد وردت فيه أحاديث كثيرة. منها حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي من رواية سعيد بن أبي سعيد المقبري عنه قال قال رسول الله
' إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهما المنكر وللآخر النكير فيقولان ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول ما كان يقول هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول هذا ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعا في سبعين ثم ينور له فيه ثم يقال له نم فيقول أرجع إلى أهلي فأخبرهم فيقولان نم كنومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك فإن كان منافقا قال سمعت الناس يقولون فقلت مثله لا أدري فيقولان قد كنا نعلم أنك تقول ذلك فيقال للأرض التئمي عليه فتلتئم عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذبا حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك ' انفرد بإخراجه الترمذي من هذا الوجه وله طريق آخر من رواية

223
سعيد بن يسار عن أبي هريرة أخرجه ابن ماجة عن النبي
قال ' إن الميت يصير إلى القبر فيجلس الرجل الصالح في قبره غير فزع ولا مشغوب ثم يقال له فيم كنت فيقول كنت في الإسلام فيقال له ما هذا الرجل فيقول محمد رسول الله جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه فيقال له هل رأيت الله فيقول ما ينبغي لأحد أن يرى الله فتفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له انظر إلى ما وقاك الله ثم يفرج له فرجة قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له هذا مقعدك ويقال له على اليقين كنت وعليه مت وعليه تبعث إن شاء الله ويجلس الرجل السوء في قبره فزعا مشغوبا فيقال له فيم كنت فيقول لا أدري فيقال له ما هذا الرجل فيقول سمعت الناس يقولون قولا فقلته فيفرج له قبل الجنة فينظر إلى زهرتها وما فيها فيقال له انظر إلى ما صرف الله عنك ثم يفرج له فرجة إلى النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضا فيقال له هذا مقعدك على الشك كنت عليه ومت وعليه تبعث إن شاء الله ' وأخرجه النسائي في سننه الكبرى في التفسير وفي الملائكة من هذا الوجه وأخرج أبو داود من حديث أنس وفيه قال ' إن المؤمن إذا وضع في قبره أتاه ملك فيقول له ما كنت تعبد فإن الله إذا هداه قال كنت أعبد الله فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول هو عبد الله ورسوله وما يسأل عن شيء غيرها فينطلق به إلى بيت كان له في النار فيقال له هذا بيتك كان في النار ولكن الله عصمك ورحمك فأبدلك به بيتا في الجنة فيقول دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي فيقال له اسكن وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فيهزه فيقول له ما كنت تعبد فيقول لا أدري فيقول له لا دريت ولا تليت فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل فيقول كنت أقول ما يقول الناس فيضربه بمطراق من حديد بين أذنيه فيصيح صيحة يسمعها الخلق غير الثقلين ' وأخرجه أبو داود أيضا من حديث البراء على اختلاف طرقه وفيه ' ثم يقيض له أعمى أبكم معه مرزبة من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابا قال فيضرب ضربة يسمعها من بين المشرق والمغرب إلا الثقلين فيصير ترابا ثم يعاد فيه الروح '. وأخرج أبو داود الطيالسي حديث البراء بن عازب ' يقول العبد هو رسول الله ' الحديث ' وفيه يمثل له عمله في هيئة رجل حسن الوجه طيب الريح حسن الثياب فيقول أبشر بما أعد الله لك أبشر برضوان الله تعالى وجنات في نعيم مقيم فيقول بشرك الله بخير من أنت فوجهك الذي جاء بالخير فيقول هذا يومك الذي كنت توعد أنا عملك الصالح '. وأخرج
الطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة مرفوعا ' فيأتيه الملكان أعينهما مثل قدور النحاس ' وفي رواية معمر ' أصواتهما كالرعد القاصف وأبصارهما كالبرق الخاطف معهما مرزبة من حديد لو اجتمع عليها أهل الأرض لم يقلوها '. وعند الحكيم الترمذي ' خلقهما لا يشبه خلق الآدميين ولا خلق الملائكة ولا خلق الطير ولا خلق البهائم ولا خلق الهوام بل هما خلق بديع ' الحديث وروى أبو نعيم من حديث جابر رضي الله تعالى عنه قال سمعت رسول الله
يقول ' إن ابن آدم لفي غفلة عما خلقه الله عز وجل ' الحديث وفيه ' فإذا أدخل حفرته رد الروح في جسده ثم يرتفع ملك الموت ثم جاءه ملكا القبر فامتحناه ' وذكر بقية الحديث. وقد روي في عذاب القبر عن جماعة من الصحابة وهم أبو هريرة عند الترمذي والبخاري وزيد بن ثابت عند مسلم وابن عباس عند الستة وأبو أيوب عند الشيخين والنسائي وأنس عند الشيخين وأبو داود والنسائي وجابر عند ابن ماجة وعائشة عند الشيخين والنسائي وأبو سعيد عند ابن مردويه في تفسيره وابن عمر عند النسائي وعمر بن الخطاب عند أبي داود والنسائي وابن ماجة وسعد عند البخاري والترمذي والنسائي وابن مسعود عند الطحاوي وزيد بن أرقم عند مسلم وأبو بكرة عند النسائي وعبد الرحمن بن حسنة عند أبي داود والنسائي وابن ماجة وعبد الله بن عمرو عند النسائي وأسماء بنت أبي بكر عند البخاري والنسائي وأسماء بنت يزيد عند النسائي وأم مبشر عند ابن أبي شيبة في المصنف وأم خالد عند البخاري والنسائي
46 - (حدثنا محمد بن معمر قال حدثنا أبو عاصم عن جرير بن حازم قال سمعت الحسن يقول حدثنا عمرو بن تغلب أن رسول الله
أتي بمال أو سبي فقسمه فأعطى رجالا

224
وترك رجالا فبلغه أن الذين ترك عتبوا فحمد الله ثم أثنى عليه ثم قال أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي ولكن أعطي أقواما لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع وأكل أقواما إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى والخير فيهم عمرو بن تغلب فوالله ما أحب أن لي بكلمة رسول الله
حمر النعم '
مطابقته للترجمة في قوله ' ثم قال أما بعد '.
(ذكر رجاله) وهم خمسة. الأول محمد بن معمر بفتح الميمين أبو عبد الله البصري العبسي المعروف بالبحراني ضد البراني. الثاني أبو عاصم النبيل واسمه الضحاك بن مخلد. الثالث جرير بفتح الجيم وتكرار الراءين ابن حازم بالحاء المهملة وبالزاي. الرابع الحسن البصري. الخامس عمرو بفتح العين ابن تغلب بفتح التاء المثناة من فوق وسكون الغين المعجمة وكسر اللام وفي آخره باء موحدة العبدي التميمي البصري روي له عن النبي
حديثان رواهما البخاري
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين في الرواة وفي موضع آخر عن الصحابي وفيه العنعنة في موضع واحد وفيه السماع وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن رواته كلهم بصريون وفيه أن هذا الحديث من إفراد البخاري. وأخرجه أيضا في الخمس عن موسى بن إسماعيل وفي التوحيد عن أبي النعمان وقال عبد الغني لم يرو عن عمرو بن تغلب غير الحسن البصري فيما قاله غير واحد (قلت) لعل مراده في الصحيح وإلا فقد قال ابن عبد البر أن الحكم بن الأعرج روى عنه أيضا كما نبه عليه المزي رحمه الله (فإن قلت) قال الحكم وعليه الجمهور أن شرط البخاري في صحيحه أن لا يذكر إلا حديثا رواه صحابي مشهور عن رسول الله
وله راويان ثقتان فأكثر ثم يرويه عنه تابعي مشهور وله أيضا راويان ثقتان فأكثر ثم كذلك في كل درجة وهذا الحديث لم يروه عن عمرو بن تغلب إلا راو واحد وهو الحسن (قلت) قد ذكرت لك أن الحكم بن الأعرج روى عنه أيضا
(ذكر معناه) قوله ' أتى بالمال أو بشيء ' بالشين المعجمة وسكون الياء آخر الحروف بعدها همزة ويروى بسبي بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة بعدها ياء آخر الحروف ويروى ' أو سبي ' بدون حرف الباء وفي رواية الإسماعيلي ' أتى بمال من البحرين ' قوله ' فبلغه أن الذين ترك ' كذا بخط الحافظ الدمياطي وقال الحافظ قطب الدين الذي في أصل روايتنا ' أن الذي ترك ' (قلت) الضمير الذي في ترك يرجع إلى رسول الله
ومفعوله محذوف تقديره أن الذين تركهم رسول الله
عتبوا حيث حرموا عن العطاء وأما وجه أن الذي بإفراد الموصول فعل تقدير أن الصنف الذي تركه رسول الله
قوله ' أما بعد ' أي أما بعد الحمد لله تعالى والثناء عليه قوله ' وإني أعطي الرجل ' أعطي بلفظ المتكلم لا بلفظ المجهول من الماضي قوله ' وأدع الرجل ' أي الرجل الآخر وأدع بلفظ المتكلم أيضا أي أترك قوله ' من الذي أعطي ' على لفظ المتكلم أيضا ومفعول أعطي الذي هو صلة الموصول محذوف قوله ' لما أرى ' من نظر القلب لا من نظر العين قوله ' من الجزع ' بالتحريك ضد الصبر يقال جزع جزعا وجزوعا فهو جزع وجازع وقال يعقوب الجزع الفزع وقال ابن سيده وجزع وجزاع قوله ' والهلع ' بالتحريك أيضا وهو أفحش الفزع وقال محمد بن عبد الله بن طاهر لأحمد بن يحيى ما الهلوع فقال قد فسره الله تعالى حيث قال * (إن الإنسان خلق هلوعا) * بقوله * (إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا) * ويقال الهلع والهلاع والهلعان الجبن عند اللقاء وفي أمالي ثعلب الهلواعة الرجل الجبان وفي تهذيب أبي منصور قال الحسن بن أبي الحسن الهلوع الشره وعن الفراء الضجور وقال أبو إسحق الهلوع الذي يفزع ويجزع من الشر وقال القزاز الهلع سوء الجزع ورجل هلعته مثال همزة إذا كان يجزع سريعا قوله ' من الغنى والخير ' أي أتركهم مع ما وهب الله تعالى لهم من غنى النفس فصبروا وتعففوا عن المسألة والشره قوله ' بكلمة رسول الله ' مثل هذه الباء تسمى بالباء البدلية وباء المقابلة نحو اعتضت بهذا الثوب خير منه أي ما أحب أن حمر النعم لي بدل

225
كلمة رسول الله
أي يقابلها أي هذه الكلمة كانت أحب إلي منها وكيف لا والآخرة خير وأبقى والحمر بضم الحاء المهملة وسكون الميم * (تابعه يونس)
لم يوجد هذا في كثير من النسخ ويونس هو ابن عبيد الله بن دينار العبدي المصري ووصله أبو نعيم بإسناده عنه عن الحسن عن عمرو بن ثعلب * -
924 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني عروة أن عائشة أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة من جوف الليل فصلى في المسجد فصلى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم فصلوا معه فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلوا بصلاته فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح فلما قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد فإنه لم يخف علي مكانكم لكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها..
مطابقته للترجمة في قوله: (فتشهد ثم قال: أما بعد)، فإن قلت: الترجمة هو القول في الخطبة بكلمة: أما بعد، ولا ذكر للخطبة ههنا؟ قلت: معنى قوله: (فتشهد)، هو التشهد في صدر الخطبة، ونظير هذا الحديث قد مر في: باب إذا كان بين الإمام والقوم حائط أو سترة. أخرجه هناك: عن محمد عن عبدة عن يحيى بن سعيد عن عمرة (عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته..) الحديث. وأخرجه في كتاب الصوم في: باب فضل من قام رمضان بهذا الإسناد بعينه: عن يحيى ابن بكير عن الليث بن سعد عن عقيل بن خالد عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عروة بن الزبير عن عائشة إلى آخره.. نحوه، وفي آخره: (فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك)، وقد مضى بعض الكلام هناك، وستأتي البقية في الصوم، إن شاء الله تعالى.
تابعه يونس
يونس هو ابن يزيد الأيلي، وقد وصله مسلم من طريقه عن حرملة عن ابن وهب عنه. وأخرجه النسائي عن زكريا بن يحيى عن إسحاق عن عبد الله بن الحارث عن يونس، وقال خلف: قوله: (تابعه يونس) أي: في قوله: (أما بعد) وتبعه المزي على ذلك. وقال الشيخ قطب الدين: إنه روى جميع الحديث فلا يختص: بأما بعد، فقط.
925 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني عروة عن أبي حميد هو الساعدي أنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام عشية بعد الصلاة فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ورجاله قد ذكروا غير مرة، وأبو اليمان: هو الحكم بن نافع، وشعيب هو ابن أبي حمزة، والزهري هو محمد بن شهاب الزهري وأبو حميد اسمه: عبد الرحمن وقيل: غير ذلك، وقد مر غير مرة، وهذا بعض حديث ذكره في الزكاة وترك الحيل والاعتكاف والنذور (استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأزد يقال له: ابن اللتيبة على الصدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدى لي، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال: أما بعد، فإني استعمل الرجل منكم). وأخرجه مسلم في المغازي عن أبي بكر بن أبي شيبة وعمرو بن محمد الناقذ وابن أبي عمر، وأخرجه أيضا من وجوه كثيرة، وأخرجه أبو داود في الجراح عن أبي الطاهر بن سرح ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، كلاهما عن سفيان بن عيينة عن الزهري

226
.
تابعه أبو معاوية وأبو أسامة عن هشام عن أبيه عن أبي حميد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أما بعد
أما متابعة أبي معاوية محمد بن حازم الضرير الكوفي فأخرجها مسلم في المغاوي عن أبي كريب محمد بن العلاء عن أبي معاوية به، وأما متابعة أبي أسامة حماد بن أسامة فأخرجها البخاري في الزكاة.
وتابعه العدني عن سفيان في أما بعد
العدني هو: محمد بن يحيى، وسفيان هو ابن عيينة، وأخرج مسلم متابعة العدني عنه عن هشام، قيل: يحتمل أن يكون العدني هو: عبد الله بن الوليد، وسفيان هو: الثوري، ومن هذا الوجه وصله الإسماعيلي، وفيه: قوله: أما بعد. قلت: الذي ذكره مسلم هو الأقرب إلى الصواب. قوله: (في: أما بعد) أي: تابعه في مجرد كلمة: أما بعد، لا في تمام هذا الحديث.
927 حدثنا إسماعيل بن أبان قال حدثنا ابن الغسيل قال حدثنا عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وكان آخر مجلس جلسه متعطفا ملحفة على منكبه قد عصب راسه بعصابة دسمة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إلي فثابوا إليه ثم قال أما بعد فإن هاذا الحي من الأنصار يقلون ويكثر الناس فمن ولي شيئا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فاستطاع أن يضر فيه أحدا أو ينفع فيه أحدا فليقل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: إسماعيل بن أبان، بفتح الهمزة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف نون: أبو إسحاق الوراق الأزدي الكوفي. الثاني: عبد الرحمن بن الغسيل، هو: عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب المعروف بابن الغسيل الأنصاري المدني، مات سنة إحدى وسبعين ومائة، وحنظلة هو غسيل الملائكة، استشهد بأحد وغسلته الملائكة، فسألوا امرأته فقالت: سمع الهيعة وهو جنب فلم يتأخر للاغتسال. الثالث: عكرمة مولى ابن عباس. الرابع: عبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: أن شيخه كوفي والبقية مدنيون.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في علامات النبوة عن أبي نعيم، وفي فضائل الأنصار عن أحمد بن يعقوب. وأخرجه الترمذي في الشمائل: عن يوسف بن عيسى عن وكيع عنه مختصرا.

227
ذكر معناه: قوله: (متعطفا) أي: مرتديا، يقال: تعطفت بالعطاف أي: ارتديت بالرداء، والتعطف التردي بالرداء، وسمي الرداء: عطافا، لوقوعه على عطف الرجل، وهما ناحيتا عنقه ومنكب الرجل عطفه، وكذلك العطف، وقد اعتطف به وتعطف ذكره الهروي، وفي (المحكم): الجمع العطف، وقيل: المعاطف: الأردية لا واحد لها. قوله: (ملحفة)، بكسر الميم وهو الإزار الكبير. قوله: (على منكبه)، ويروى: منكبيه، بالتثنية. قوله: (بعصابة دسمة)، وفي رواية: (دسما)، ذكرها في اللباس، وضبط صاحب (المطالع): دسمة، بكسر السين. وقال: الدسماء السوداء، وقيل: لونه لون الدسم كالزيت، وشبهه من غير أن يخالطها شيء من الدسم، وقيل: متغيرة اللون من الطيب والغالية، وزعم الداودي أنها على ظاهرها من عرقه صلى الله عليه وسلم في المرض، وقال ابن دريد: الدسمة غبرة فيها سواد، والعصابة: العمامة، سميت عصابة لأنها تعصب الرأس أي: تربطه، ومنه الحديث: (أمرنا أن نمسح على العصائب). قوله: (إلي)، بتشديد الياء متعلق بمحذوف تقديره: تقربوا إلي. قوله: (فتابوا إليه) أي: اجتمعوا إليه، من: ثاب، بالثاء المثلثة: يثوب إذا رجع وهو رجوع إلى الأمر بالمبادرة، ومنه قوله تعالى: * (وإذ جعلنا البيت مثابة للناس) * (البقرة: 125). أي: مرجعا ومجتمعا. قوله: (ثم قال: أما بعد) أي: بعد الحمد لله والثناء عليه. قوله: (هذا الحي من الأنصار)، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل المدينة. قوله: (يقلون)، وفي رواية: حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام)، هو من معجزاته وإخباره عن المغيبات، فإنهم الآن فيهم القلة. قوله: (فليقبل من محسنهم)، أي: الحسنة (ويتجاوز) أي: يعف، وذلك في غير الحدود.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أنه، صلى الله عليه وسلم، كان إذا أراد المبالغة في الموعظة طلع المنبر فيتأسى به. وفيه: الخطبة بالوصية. وفيه: فضيلة الأنصار. وفيه: البداءة بالحمد والثناء. وفيه: الإخبار بالغيب، لأن الأنصار قلوا وكثر الناس. وفيه: دليل على أن الخلافة ليست في الأنصار، إذ لو كانت فيهم لأوصاهم ولم يوص بهم. وفيه: من جوامع الكلم، لأن الحال منحصر في الضر أو النفع والشخص في المحسن والمسيىء.
30
((باب القعدة بين الخطبتين يوم الجمعة))
أي: هذا باب في بيان القعدة الكائنة بين الخطبتين يوم الجمعة، إنما لم يبين حكم هذه القعدة، هل هي واجبة أم سنة؟ لأن الحديث حكاية حال ولا عموم له.
928 حدثنا مسدد قال حدثنا بشر بن المفضل قال حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن عبد الله بن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يقعد بينهما. (انظر الحديث 920).
مطابقته للترجمة ظاهرة لأنه يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقعد بين الخطبتين.
ورجاله قد تكرر ذكرهم، ورواه مسلم عن عبيد الله بن عمر القواريري، والنسائي عن إسماعيل بن مسعود، وابن ماجة عن يحيى بن خلف، ورواه النسائي أيضا من رواية عبد الرزاق بلفظ: (كان يخطب خطبتين بينهما جلسة)، وفي لفظ: (مرتين) مكان: (خطبتين)، ورواه أبو داود من رواية عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ، أراه المؤذن، ثم يقوم فيخطب ثم يجلس ولا يتكلم، ثم يقوم فيخطب). واستدل به على مشروعية الجلوس بين الخطبتين، ولكن هل هو على سبيل الوجوب أو على سبيل الندب؟ فذهب الشافعي إلى أن ذلك على سبيل الوجوب، وذهب أبو حنيفة ومالك إلى أنها سنة، وليست بواجبة، كجلسة الاستراحة في الصلاة عند من يقول باستحبابها. وقال ابن عبد البر: ذهب مالك والعراقيون وسائر فقهاء الأمصار إلا الشافعي: إلى أن الجلوس بين الخطبتين سنة لا شيء على من تركها، وذهب بعض الشافعية إلى أن المقصود الفصل، ولو بغير الجلوس، حكاه صاحب (الفروع). وقيل: الجلسة بعينها ليست معتبرة، وإنما المعتبر حصول الفصل، سواء حصل بجلسة أو بسكتة أو بكلام من غير ما هو فيه. وقال القاضي ابن كج: إن هذا الوجه غلط، وقال ابن قدامة: هي مستحبة للاتباع وليست بواجبة في قول أكثر أهل العلم، لأنها جلسة ليس فيها ذكر مشروع، فلم تكن واجبة. وفي (التوضيح): وصرح إمام الحرمين بأن الطمأنينة بينهما واجبة، وهو خفيف جدا قدر قراءة سورة الإخلاص تقريبا. وفي وجه شاذ: يكفي السكوت في حق القائم، لأنه فصل. وذكر ابن التين: أن مقدارها كالجلسة بين السجدتين، وعزاه لابن القاسم،

228
وجزم الرافعي وغيره أن يكون بقدر سورة الإخلاص، وحكي وجه بوجوب هذا المقدار، حكاه الرافعي عن رواية الروياني، ولفظ الروياني: ولا يجوز أقل من ذلك، نص عليه. وقال ابن بطال: حديث الباب دال على السنية، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يفعله، ولم يقل: لا يجزيه غيره، لأن البياض فرض عليه. وقال الطحاوي: لم يقل بوجوب الجلوس بين الخطبتين غير الشافعي، قيل: حكى القاضي عياض عن مالك رواية كمذهب الشافعي؟ قلت: ليست هذه الرواية عنه صحيحة، وقال الكرماني: وفي الحديث أن خطبة الجمعة خطبتان وفيه الجلوس بينهما لاستراحة الخطيب ونحوها، وهما واجبتان لقوله صلى الله عليه وسلم: (صلوا كما رأيتموني أصلي) قلت: هذا أصل لا يتناول الخطبة لأنها ليست بصلاة حقيقة، وقال أحمد: روي عن أبي إسحاق أنه قال: رأيت عليا يخطب على المنبر فلم يجلس ختى فرغ،
وفي (شرح الترمذي): وفيه اشتراط خطبتين لصحة الجمعة، وهو قول الشافعي وأحمد في روايته المشهورة عنه، وعند الجمهور: يكتفي بخطبة واحدة، وهو قول مالك وأبي حنيفة والأوزاعي وإسحاق ابن راهويه وأبي ثور وابن المنذر، وهو رواية عن أحمد.
31
((باب الاستماع إلى الخطبة))
أي: هذا باب في بيان الاستماع، أي: الإصغاء إلى الخطبة، والإصغاء من: صغى يصغو ويصغي صغوا، أي: مال، وأصغيت إلى فلان: إذا أملت بسمعك نحوه، وقال الكرماني، رحمه الله: الاستماع الإصغاء للسماع، والتوجه له والقصد إليه، وكل مستمع سامع دون العكس. قلت: الاستماع من باب الافتعال، وفيه تكلف واعتمال، بخلاف السماع.
929 حدثنا آدم قال حدثنا ابن أبي ذئب عن الزهري عن أبي عبد الله الأغر عن أبي هريرة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول ومثل المهجر كمثل الذي يهدي بدنة ثم كالذي يهدي بقرة ثم كبشا ثم دجاجة ثم بيضة فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر. (الحديث 929 طرفه في: 3211).
مطابقته للترجمة في قوله: (ويستمعون الذكر) أي: الخطبة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: آدم بن أبي أياس. الثاني: محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب. الثالث: محمد بن مسلم الزهري. الرابع: أبو عبد الله، واسمه سلمان الجهني مولاهم، معدود في أهل المدينة، وأصله من أصفهان، ولقبه الأغر، بفتح الهمزة والغين المعجمة وتشديد الراء. الخامس: أبو هريرة، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أحد الرواة مذكور بكنيته ولقبه والآخر بنسبته إلى جده والآخر بنسبته إلى قبيلته. وفيه: أن شيخ البخاري من أفراده. وفيه: أنه خراساني سكن عسقلان، والبقية مدنيون.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في بدء الخلق عن أحمد بن يونس. وأخرجه مسلم في الجمعة عن أبي الطاهر بن السرح وحرملة بن يحيى وعمرو بن سواد. وأخرجه النسائي في الصلاة عن نصر بن علي وفي الملائكة عن أحمد بن عمرو الحارث بن مسكين وعمرو بن سواد وعن سويد بن نصر وعن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وأخرج أيضا فيهما عن محمد بن خالد.
ذكر معناه: قوله: (المهجر) أي: المبكر إلى المسجد. قوله: (يهدي: أي: يقرب).
وقد استوفينا معناه في: باب فضل الجمعة، لأنه روى عن أبي هريرة قريبا من هذا الحديث عن عبد الله بن يوسف عن مالك عن سمي عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: الإنصات إلى الخطبة وهو مطلوب بالاتفاق. وفي (التوضيح): والجديد الصحيح من مذهب الشافعي أنه لا يحرم الكلام ويسن الإنصات، وبه قال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير والشعبي والنخعي والثوري وداود، والقديم أنه يحرم، وبه قال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد، رحمهم الله. وقال ابن بطال: استماع الخطبة واجب وجوب سنة عند أكثر العلماء، ومنهم من جعله فريضة، وروي عن مجاهد، أنه قال: لا يجب الإنصات للقرآن إلا في موضعين: في الصلاة

229
والخطبة. ثم نقل عن أكثر العلماء أن الإنصات واجب على من سمعها ومن لم يسمعها، وأنه قول مالك، وقد قال عثمان: للمنصت الذي لا يسمع من الأجر مثل ما للمنصت الذي يسمع. وكان عروة لا يرى بأسا بالكلام إذا لم يسمع الخطبة. وقال أحمد: لا بأس أن يذكر الله ويقرأ من لم يسمع الخطبة. وقال ابن عبد البر: لا خلاف علمته بين فقهاء الأمصار في وجوب الإنصات لها على من سمعها.
واختلف فيمن لم يسمعها. قال: وجاء في هذا المعنى خلاف عن بعض التابعين، فروي عن الشعبي وسعيد ابن جبير والنخعي وابن بردة: أنهم كانوا لا يتكلمون والإمام يخطب إلا في قراءة القرآن في الخطبة خاصة، لقوله تعالى: * (فاستمعوا له وأنصتوا) * (الأعراف: 204). وفعلهم مردود عند أهل العلم، وأحسن أحوالهم أنهم لم يبلغهم الحديث في ذلك، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت..) الحديث، لأنه حديث انفرد به أهل المدينة، ولا علم لمتقدمي أهل العراق به، وقال ابن قدامة: وكان سعيد بن جبير وإبراهيم بن مهاجر وأبو بردة والنخعي والشعبي يتكلمون والحجاج يخطب. انتهى. وقال أصحابنا: إذا اشتغل الإمام بالخطبة ينبغي للمستمع أن يجتنب ما يجتبه في الصلاة لقوله عز وجل: * (فاستمعوا إليه وأنصتوا) * (الأعراف: 204). وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا قلت لصاحبك أنصت..) الحديث، فإذا كان كذلك يكره له رد السلام وتشميت العاطس إلا في قول جديد للشافعي: إنه يرد ويشمت، وقال شيخ الإسلام: والأصح أنه يشمت، وفي (المجتبي): قيل: وجوب الاستماع مخصوص بزمن الوحي، وقيل: في الخطبة الأولى دون الثانية لما فيها من مدح الظلمة، وعن أبي حنيفة: إذا سلم عليه يرده بقلبه، وعن أبي يوسف: يرد السلام ويشمت العاطس فيها، وعن محمد: يرد ويشمت بعد الخطبة ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في قلبه، واختلف المتأخرون فيمن كان بعيدا لا يسمع الخطبة، فقال محمد بن سلمة: المختار السكوت وهو الأفضل، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. وقال نصر بن يحيى: يسبخ ويقرأ القرآن، وهو قول الشافعي. وأجمعوا أنه لا يتكلم. وقيل: الاشتغال بالذكر وقراءة القرآن أفضل من السكوت. وأما دراسة الفقه والنظر في كتب الفقه وكتابته، فقيل: يكره،
وقيل: لا بأس به. وقال شيخ الإسلام: الاستماع إلى خطبة النكاح والختم وسائر الخطب واجب، وفي (الكامل): ويقضي الفجر إذا ذكره في الخطبة ولو تغذى بعد الخطبة أو جامع فاغتسل يعيد الخطبة، وفي الوضوء في بيته لا يعيد.
ثم اختلف العلماء في وقت الإنصات، فقال أبو حنيفة: خروج الإمام يقطع الكلام والصلاة جميعا، لقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا خرج الإمام طووا صحفهم ويستمعون الذكر..) وقالت طائفة: لا يجب الإنصات إلا عند ابتداء الخطبة، ولا بأس بالكلام قبلها، وهو قول مالك والثوري وأبي يوسف ومحمد والأوزاعي والشافعي. وقال بعضهم: وقالت الحنفية: يحرم الكلام من ابتداء خروج الإمام وورد فيه حديث ضعيف. قلت: حديث الباب هو حجة للحنفية وحجة عليهم بالتأمل يدرى.
32
((باب إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره أن يصلي ركعتين))
أي: هذا باب ترجمته: إذا رأى الإمام.. إلى آخره. قوله: (جاء) جملة في محل النصب على أنها صفة: لرجلا. قوله: (وهو يخطب) جملة اسمية وقعت حالا عن الإمام. قوله: (أمره) جواب: إذا، وإنما يأمره إذا كان لم يصل الركعتين قبل أن يراه. قوله: (أن يصلي) أي: بأن يصلي، وكلمة: أن، مصدرية تقديره: أمره بصلاة ركعتين.
930 حدثنا أبو النعمان قال حدثنا حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة فقال أصليت يا فلان قال لا قال قم فاركع ركعتين.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد ذكروا غير مرة، وأبو النعمان هو محمد بن الفضل السدوسي.
وأخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن أبي بكر بن أبي شيبة ويعقوب الدورقي، وعن أبي الربيع وقتيبة. وأخرجه أبو داود فيه عن سليمان بن حرب. وأخرجه الترمذي والنسائي جميعا فيه عن قتيبة، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
ذكر معناه: قوله: (جاء رجل)، هذا الرجل هو: سليك، بضم السين المهملة وفتح اللام وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره

230
كاف: ابن هدبة وقيل: ابن عمر، والغطفاني، بفتح الغين المعجمة والطاء المهملة والفاء: من غطفان بن سعيد بن قيس غيلان، وهكذا وقع في رواية مسلم في هذه القصة من رواية الليث بن سعد عن أبي الزبير عن جابر ولفظه: (جاء سليك الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر، لا فقعد سليك قبل أن يصلي فقال له: أصليت ركعتين؟ قال: لا، فقال: قم فاركعهما). ومن طريق الأعمش عن أبي سفيان عن جابر نحوه، وفيه: (فقال له: يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما). هكذا رواه حفاظ أصحاب الأعمش عنه. وروى أبو داود من رواية حفص ابن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر وعن أبي صالح عن أبي هريرة قالا: (جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له: أصليت؟ قال: لا. قال: صل ركعتين تجوز فيهما). وروى النسائي قال: أخبرنا قتيبة بن سعيد، قال: حدثنا الليث عن أبي الزبير عن جابر، قال: (جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أركعت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فاركعهما). وقال ابن ماجة: حدثنا هشام بن عمار حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار سمع جابرا، وأبو الزبير سمع جابرا، قال: (دخل سليك الغطفاني المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، قال: أصليت؟ قال: لا. قال: فصل ركعتين). وأما عمرو فلم يذكر سليكا. وروى أيضا عن أبي صالح عن أبي هريرة وعن أبي سفيان (عن جابر قال: جاء سليك الغطفاني..) الحديث، وروى الطحاوي من طريق حفص بن غياث عن الأعمش، قال: سمعت أبا صالح يحدث بحديث سليك الغطفاني ثم سمعت أبا سفيان يحدث به عن جابر، فظهر من هذه الروايات أن هذه القصة لسليك، وأن من روى بلفظ: رجل، غير مسمى فالمراد منه: سليك، ففي رواية البخاري بلفظ: رجل، كما مر، وكذلك في رواية أبي داود كرواية البخاري، وفي رواية الترمذي كذلك، وفي رواية للنسائي كذلك، وكذلك لابن ماجة في رواية. وجاء أيضا في هذا الباب من غير جابر، وهو ما رواه الطبراني من طريق أبي صالح: (عن أبي ذر أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فقال لأبي ذر: صليت ركعتين؟ قال: لا..) الحديث، وفي إسناده ابن لهيعة. وشذ بقوله: (وهو يخطب)، فإن الحديث مشهور: (عن أبي ذر أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد..) أخرجه ابن حبان وغيره، وروى الطبراني في (الكبير) من رواية منصور بن الأسود عن الأعمش عن أبي سفيان (عن جابر، قال: دخل النعمان بن قوقل ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يخطب يوم الجمعة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: صل ركعتين تجوز فيهما). وروى الدارقطني من حديث معتمر عن أبيه عن قتادة (عن أنس: دخل رجل من قيس المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: قم فاركع ركعتين، وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته) فإن قلت: كيف وجه هذه الروايات؟ قلت: كون معنى هذه الأحاديث واحدا لا يمنع تعدد القضية، وأما حديث أنس، رضي الله تعالى عنه فإنه لا يخالف كون الداخل فيه من قيس أن يكون سليكا، فإن سليكا غطفاني، وغطفان من قيس. قوله: (صليت؟) أي: أصليت؟ وهمزة الاستفهام فيه مقدرة، ويروى بإظهار الهمزة.
ذكر ما يستفاد منه: قال النووي: هذه الأحاديث كلها صريحة في الدلالة لمذهب الشافعي، وأحمد وإسحاق وفقهاء المحدثين أنه إذا دخل الجامع يوم الجمعة والإمام يخطب يستحب له أن يصلي ركعتين تحية المسجد، ويكره الجلوس قبل أن يصليهما. وأنه يستحب أن يتجوز فيهما ليسمع الخطبة. وحكي هذا المذهب أيضا عن الحسن البصري وغيره من المتقدمين. وقال القاضي: قال مالك والليث وأبو حنيفة والثوري وجمهور السلف من الصحابة والتابعين: لا يصليهما، وهو مروي عن عمر وعثمان
وعلي، رضي الله تعالى عنهم، وحجتهم: الأمر بالإنصات للإمام، وتأولوا هذه الأحاديث أنه كان عريانا فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام ليراه الناس ويتصدقوا عليه، وهذا تأويل باطل يرده صريح قوله: (إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما) وهذا نص لا يتطرق إليه تأويل، ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ صحيحا فيخالفه. قلت: أصحابنا لم يأولوا الأحاديث المذكورة بهذا الذي ذكره حتى يشنع عليهم هذا التشنيع، بل أجابوا بأجوبة غير هذا. الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنصت له حتى فرغ من صلاته، والدليل عليه، ما رواه الدارقطني في (سننه) من حديث عبيد بن محمد العبدي: حدثنا معتمر عن أبيه عن قتادة عن أنس، قال: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:

231
قم فاركع ركعتين، وأمسك عن الخطبة حتى فرغ من صلاته) فإن قلت: قال الدارقطني: أسنده عبيد بن محمد ووهم فيه. قلت: ثم أخرجه (عن أحمد بن حنبل حدثنا معتمر عن أبيه قال: جاء رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: يا فلان أصليت؟ قال: لا. قال: قم فصل، ثم انتظره حتى صلى). قال: وهذا المرسل هو الصواب. قلت: المرسل حجة عندنا، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي شيبة: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أبو معشر (عن محمد بن قيس: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، حيث أمره أن يصلي ركعتين أمسك عن الخطبة حتى فرغ من ركعتيه، ثم عاد إلى خطبته).
الجواب الثاني: أن ذلك كان قبل شروعه، صلى الله عليه وسلم، في الخطبة. وقد بوب النسائي في (سننه الكبرى) على حديث سليك، قال: باب الصلاة قبل الخطبة. ثم أخرج عن أبي الزبير عن جابر قال: (جاء سليك الغطفاني ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر، فقعد سليك قبل أن يصلي. فقال له، صلى الله عليه وسلم: أركعت ركعتين؟ قال: لا. قال: قم فاركعهما).
الثالث: أن ذلك كان منه قبل أن ينسخ الكلام في الصلاة، ثم لما نسخ في الصلاة نسخ أيضا في الخطبة لأنها شطر صلاة الجمعة أو شرطها. وقال الطحاوي: ولقد تواترت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من قال لصاحبه: أنصت والإمام يخطب يوم الجمعة فقد لغا، فإذا كان قول الرجل لصاحبه والإمام يخطب: أنصت، لغوا، كان قول الإمام للرجل: قم فصل لغوا أيضا، فثبت بذلك أن الوقت الذي كان فيه من رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الأمر لسليك بما أمره به إنما كان قبل النهي، وكان الحكم فيه في ذلك بخلاف الحكم في الوقت الذي جعل مثل ذلك لغوا، وقال ابن شهاب: خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام، وقال ثعلبة بن أبي مالك: كان عمر، رضي الله تعالى عنه، إذا خرج للخطبة أنصتنا. وقال عياض: كان أبو بكر وعمر وعثمان يمنعون من الصلاة عند الخطبة.
وقال ابن العربي: الصلاة حين ذاك حرام من ثلاثة أوجه: الأول: قوله تعالى: * (وإذا قرىء القرآن فاستمعوا له) * (الأعراف: 204). فكيف يترك الفرض الذي شرع الإمام فيه إذا دخل عليه فيه ويشتغل بغير فرض؟ الثاني: صح عنه، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (إذا قلت لصاحبك أنصت فقد لغوت). فإذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الأصلان المفروضان الركنان في المسألة يحرمان في حال الخطبة، فالنفل أولى أن يحرم. الثالث: لو دخل والإمام في الصلاة ولم يركع، والخطبة صلاة، إذ يحرم فيها من الكلام والعمل ما يحرم في الصلاة.
وأما حديث سليك فلا يعترض على هذه الأصول من أربعة أوجه: الأول: هو خبر واحد. الثاني: يحتمل أنه كان في وقت كان الكلام مباحا في الصلاة، لأنا لا نعلم تاريخه، فكان مباحا في الخطبة، فلما حرم في الخطبة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو آكد فرضية من الاستماع، فأولى أن يحرم ما ليس بفرض. الثالث: أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كلم سليكا وقال له: قم فصل، فلما كلمه وأمره سقط عنه فرض الاستماع، إذ لم يكن هناك قول في ذلك الوقت إلا مخاطبته له وسؤاله وأمره. الرابع: أن سليكا كان ذا بذاذة، فأراد، صلى الله عليه وسلم، أن يشهره ليرى حاله.
وعند ابن بزيزة: كان سليك عريانا فأراد النبي صلى الله عليه وسلم، أن يراه الناس. وقد قيل: إن ترك الركوع حالتئذ سنة ماضية وعمل مستفيض في زمن الخلفاء، وعولوا أيضا على حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، يرفعه: (لا تصلوا والإمام يخطب). واستدلوا بإنكار عمر، رضي الله تعالى عنه، على عثمان في ترك الغسل ولم ينقل أنه أمره بالركعتين، ولا نقل أنه صلاهما. وعلى تقدير التسليم لما يقول الشافعي، فحديث سليك ليس فيه دليل له، إذ مذهبه أن الركعتين تسقطان بالجلوس. وفي (اللباب): وروى علي بن عاصم عن خالد الحذاء أن أبا قلابة جاء يوم الجمعة والإمام يخطب، فجلس ولم يصل. وعن عقبة بن عامر. قال: (الصلاة والإمام على المنبر معصية). وفي (كتاب الأسرار): لنا ما روى الشعبي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صعد الإمام المنبر فلا صلاة، ولا كلام حتى يفرغ). والصحيح من الرواية: (إذا جاء أحدكم والإمام على المنبر فلا صلاة ولا كلام). وقد تصدى بعضهم لرد ما ذكر من الاحتجاج في منع الصلاة والإمام يخطب يوم الجمعة، فقال جميع ما ذكروه مردود، ثم قال: لأن الأصل عدم الخصوصية. قلنا: نعم، إذا لم تكن قرينة، وهنا قرينة على الخصوصية، وذلك في حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه النسائي عنه يقول: (جاء رجل يوم الجمعة والنبي، صلى الله عليه وسلم، يخطب بهيئة بذة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصليت؟ قال: لا، قال:

232
صل ركعتين، وحث الناس على الصدقة، قال: فألقوا ثيابا فأعطاه منها ثوبين، فلما كانت الجمعة الثانية جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فحث الناس على الصدقة، قال. فألقى أحد ثوبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء هذا يوم الجمعة بهيئة بذة فأمرت الناس بالصدقة فألقوا ثيابا، فأمرت له منها بثوبين، ثم جاء الآن فأمرت الناس بالصدقة فألقى أحدهما، فانتهره وقال: خذ ثوبك). انتهى. وكان مراده بأمره إياه بصلاة ركعتين أن يراه الناس ليتصدقوا عليه، لأنه كان في ثوب خلق. وقد قيل: إنه كان عريانا، كما ذكرناه، إذ لو كان مراده إقامة السنة بهذه الصلاة لما قال في حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت). وهو حديث مجمع على صحته من غير خلاف لأحد فيه، حتى كاد أن يكون متواترا، فإذا منعه من الأمر
بالمعروف الذي هو فرض في هذه الحالة فمنعه من إقامة السنة، أو الاستحباب بالطريق الأولى، فحينئذ قول هذا القائل، فدل على أن قصة التصديق عليه جزء علة لا علة كاملة غير موجه، لأنه علة كاملة. وقال أيضا: وأما إطلاق من أطلق أن التحية تفوت بالجلوس، فقد حكى النووي في (شرح مسلم) عن المحققين أن ذلك في حق العامد العالم أما الجاهل أو الناسي فلا. قلت: هذا حكم بالاحتمال، والاحتمال إذا كان غير ناشىء عن دليل فهو لغو لا يعتد به، وقال أيضا
1764; في قولهم: (إنه صلى الله عليه وسلم لما خاطب سليكا سكت عن خطبته حتى فرغ سليك من صلاته) رواه الدارقطني بما حاصله أنه مرسل، والمرسل حجة عندهم. وقال أيضا: فيما قاله ابن العربي، من أنه صلى الله عليه وسلم لما تشاغل بمخاطبة سليك سقط فرض الاستماع عنه، إذ لم يكن منه حينئذ خطبة لأجل تلك المخاطبة، وادعى أنه أقوى الأجوبة. قال: هو من أضعف الأجوبة، لأن المخاطبة لما انقضت رجع صلى الله عليه وسلم إلى خطبة وتشاغل سليك بامتثال ما أمر به من الصلاة. فصح أنه صلى في حالة الخطبة. قلت: يرد ما قاله من قوله هذا ما في حديث أنس الذي رواه الدارقطني الذي ذكرنا عنه أنه قال: والصواب أنه مرسل، وفيه: (وأمسك أي النبي صلى الله عليه وسلم عن الخطبة حتى فرغ من صلاته) يعني: سليك، فكيف يقول هذا القائل: فصح أنه صلى في حالة الخطبة، والعجب منه أنه يصحح الكلام الساقط؟ وقال أيضا: قيل: كانت هذه القضية قبل شروعه صلى الله عليه وسلم في الخطبة، ويدل عليه قوله في رواية الليث عند مسلم: (والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر). وأجيب: بأن القعود على المنبر لا يختص بالابتداء، بل يحتمل أن يكون بين الخطبتين أيضا، قلت: الأصل ابتداء قعوده بين الخطبتين، محتمل فلا يحكم به على الأصل على أن أمره صلى الله عليه وسلم إياه بأن يصلي ركعتين، وسؤاله إياه هل صليت؟ وأمره للناس بالصدقة، يضيق عن القعود بين الخطبتين، لأن زمن هذا القعود لا يطول. وقال هذا القائل أيضا: ويحتمل أيضا أن يكون الراوي تجوز في قوله: (قاعد). قلت: هذا ترويج لكلامه، ونسبة الراوي إلى ارتكاب المجاز مع عدم الحاجة والضرورة. وقال أيضا: قيل: كانت هذه القضية قبل تحريم الكلام في الصلاة، ثم رده بقوله: إن سليكا متأخر الإسلام جدا، وتحريم الكلام متقدم حجدا، فكيف يدعى نسخ المتأخر بالمتقدم مع أن النسخ لا يثبت بالاحتمال؟ قلت: لم يقل أحد إن قضية سليك كانت قبل تحريم الكلام في الصلاة، وإنما قال هذا القائل: إن قضية سليك كانت في حالة إباحة الأفعال في الخطبة قبل أن ينهى عنها، ألا يرى أن في حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، فألقى الناس ثيابهم، وقد أجمع المسلمون أن نزع الرجل ثوبه والإمام يخطب مكروه، وكذلك مس الحصى، وقول الرجل لصاحبه أنصت، كل ذلك مكروه، فدل ذلك على أن ما أمر به صلى الله عليه وسلم سليكا، وما أمر به الناس بالصدقة عليه كان في حال إباحة الأفعال في الخطبة. ولما أمر صلى الله عليه وسلم بالإنصات عند الخطبة وجعل حكم الخطبة كحكم الصلاة، وجعل الكلام فيها لغوا كما كان، جعله لغوا في الصلاة. ثبت بذلك أن الصلاة فيها مكروهة، فهذا وجه قول القائل بالنسخ، ومبنى كلامه هذا على هذا الوجه لا على تحريم الكلام في الصلاة. وقال هذا القائل أيضا: قيل: اتفقوا على أن منع الصلاة في الأوقات المكروهة يستوي فيه من كان داخل المسجد أو خارجه، وقد اتفقوا على أن من كان داخل المسجد يمتنع عليه التنفل حال الخطبة، فليكن الآتي كذلك، قاله الطحاوي، وتعقب بأنه قياس في مقابلة النص، فهو فاسد. قلت: لم يبن الطحاوي كلامه ابتداء على القياس حتى يكون ما قاله قياسا في مقابلة النص، وإنما مدعي الفساد لم يحرر ما قاله الطحاوي، فادعى الفساد، فوقع في الفساد. وتحرير كلام الطحاوي أنه روى أحاديث عن سليمان وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وأوس بن أوس رضي الله تعالى عنهم، كلها تأمر بالإنصات إذا خطب الإمام، فتدل كلها أن موضع كلام الإمام ليس بموضع للصلاة، فبالنظر إلى ذلك يستوي الداخل والآتي

233
ومع هذا الذي قاله الطحاوي وافقه عليه الماوردي وغيره من الشافعية. وقال هذا القائل أيضا: قيل: اتفقوا على أن الداخل والإمام في الصلاة تسقط عنه التحية. ولا شك أن الخطبة صلاة، فتسقط عنه فيها أيضا، وتعقب بأن الخطبة ليست صلاة من كل وجه، والداخل في حال الخطبة مأمور بشغل البقعة بالصلاة قبل جلوسه، بخلاف الداخل في حال الصلاة، فإن إتيانه بالصلاة التي أقيمت تحصل المقصود. قلت: هذا القائل لم يدع أن الخطبة صلاة من كل وجه حتى يرد عليه ما ذكره من التعقيب، بل قال: هي صلاة من حيث إن الصلاة قصرت لمكانها، فمن حيث هذا الوجه يستوي الداخل والآتي، ويؤيد هذا حديث أبي الزاهرية: (عن عبد الله بن بشر، قال: كنت جالسا إلى جنبه يوم الجمعة، فقال: جاء رجل يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إجلس فقد آذيت وآنيت). ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالجلوس ولم يأمره بالصلاة؟ فهذا خلاف حديث سليك فافهم. وقال هذا القائل أيضا: قيل: اتفقوا على سقوط التحية عن الإمام مع كونه يجلس على المنبر، مع أن له ابتداء الكلام في الخطبة دون المأموم، فيكون ترك المأموم التحية بطريق الأولى، وتعقب بأنه أيضا قياس في مقابلة النص فهو فاسد؟ قلت: إنما يكون القياس في مقابلة النص فاسدا إذا كان ذلك النص سالما عن المعارض، ولم يسلم سليك عن أمور ذكرناها، وروي أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين، رضي الله تعالى عنهم، منع الصلاة للداخل والإمام يخطب. أما الصحابة فهم: عقبة بن عامر الجهني وثعلبة ابن أبي مالك القرظي وعبد الله بن صفوان بن أمية المكي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس.
أما أثر عقبة فأخرجه الطحاوي عنه أنه قال: الصلاة والإمام على المنبر معصية. فإن قلت: في إسناده عبد الله بن لهيعة وفيه مقال! قلت: وثقه أحمد وكفى به ذلك.
وأما أثر ثعلبة بن مالك فأخرجه الطحاوي أيضا بإسناد صحيح: أن جلوس الإمام على المنبر يقطع الصلاة، وأخرج ابن أبي شيبة في (مصنفه): حدثنا عباد بن العوام عن يحيى بن سعيد عن يزيد بن عبد الله عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال: (أدركت عمر وعثمان، رضي الله تعالى عنهما، فكان الإمام إذا خرج تركنا الصلاة، فإذا تكلم تركنا الكلام).
وأما أثر عبد الله بن صفوان فأخرجه الطحاوي أيضا بإسناد صحيح عن هشام بن عروة قال: (رأيت عبد الله بن صفوان ابن أمية دخل المسجد يوم الجمعة، وعبد الله بن الزبير يخطب على المنبر. وعليه ازار ورداء ونعلان وهو معتم بعمامة، فاستلم الركن ثم قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، ثم جلس ولم يركع.
وأما أثر عبد الله بن عمر وعبد الله ابن عباس، رضي الله تعالى عنهم، فأخرجه الطحاوي أيضا (عن عطاء قال: كان ابن عمر وابن عباس يكرهان الكلام والصلاة إذا خرج الإمام يوم الجمعة).
وأما التابعون فهم: الشعبي والزهري وعلقمة وأبو قلابة ومجاهد.
فأثر الشعبي عامر بن شراحيل أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه عن شريح أنه: إذا جاء وقد خرج الإمام لم يصل. وأثر الزهري محمد بن مسلم أخرجه الطحاوي أيضا بإسناد صحيح عنه في: الرجل يدخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب، قال: يجلس ولا يسبح.
وأثر علقمة فأخرجه الطحاوي أيضا بإسناد صحيح عن القاضي بكار عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد عن شعبة عن منصور بن المعتمر عن إبراهيم قال لعلقمة: أتكلم والإمام يخطب وقد خرج الإمام؟ قال: لا... إلى آخره.
وأثر أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أخرجه الطحاوي أيضا بإسناد صحيح عنه أنه: جاء يوم الجمعة والإمام يخطب فجلس ولم يصل. وأثر مجاهد أخرجه الطحاوي أيضا بإسناد صحيح عنه: كره أن يصلي والإمام يخطب. وأخرجه ابن أبي شيبة أيضا.
فهؤلاء السادات من الصحابة والتابعين الكبار لم يعمل أحد منهم بما في حديث سليك، ولو علموا أنه يعمل به لما تركوه، فحينئذ بطل اعتراض هذا المعترض.
فإن قلت: روى الجماعة من حديث أبي قتادة السلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس)، فهذا عام يتناول كل داخل في المسجد، سواء كان يوم الجمعة والإمام يخطب أو غيره. قلت: هذا على من دخل المسجد في حال تحل فيها الصلاة لا مطلقا، ألا يرى أن من دخل المسجد عند طلوع الشمس وعند غروبها، أو عند قيامها في كبد السماء، لا يصلي في هذه الأوقات للنهي الوارد فيه؟ فكذلك لا يصلي والإمام يخطب يوم الجمعة، لورود وجوب الإنصات فيه. والصلاة حينئذ مما يخل بالانصات. وقال أيضا: قيل: لا نسلم

234
أن المراد بالركعتين المأمور بهما تحية المسجد، بل يحتمل أن تكون صلاة فائتة كالصبح مثلا، ثم قال: وقد تولى رده ابن حبان في (صحيحه) فقال: لو كان كذلك لم يتكرر أمره له بذلك مرة بعد أخرى. قلت: هذا القائل نقل عن ابن المنير ما يقوي القول المذكور، حيث قال: لعله صلى الله عليه وسلم كان كشف له عن ذلك، وإنما استفهمه ملاطفة له في الخطاب. قال: ولو كان المراد بالصلاة التحية لم يحتج إلى استفهامه، لأنه قد رآه لما قد دخل، وهذه تقوية جيدة بإنصاف. وما نقله عن ابن حبان ليس بشيء، لأن تكراره يدل على أن الذي أمره به من الصلاة الفائتة، لأن التكرار لا يحسن في غير الواجب، ومن جملة ما قال هذا القائل: وقد نقل حديث أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، أنه دخل ومروان يخطب، فصلى الركعتين، فأراد حرس مروان أن يمنعوه فأبى حتى صلاهما، ثم قال: ما كنت لأدعهما بعد أن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بهما. انتهى. ولم يثبت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك، ونقل أيضا عن شارح الترمذي أنه قال: كل من نقل عنه منع الصلاة والإمام يخطب محمول على من كان داخل المسجد، لأنه لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية. انتهى. قلت: قد ذكرنا أن الطحاوي روى عن عقبة بن عامر: الصلاة والإمام على المنبر معصية، وكيف يقول هذا القائل ولم يثبت عن أحد من الصحابة ما يخالف ذلك؟ وإي مخالفة تكون أقوى من هذا حيث جعل الصلاة والإمام على المنبر معصية؟ وكيف يقول الشارح الترمذي: لم يقع عن أحد منهم التصريح بمنع التحية؟ وأي تصريح يكون أقوى من قول عقبة حيث أطلق على فعل هذه الصلاة معصية؟ فلو كان قال: يكره أو لا يفعل لكان منعا صريحا، فضلا أنه قال: معصية وفعل المعصية حرام، وإنما أطلق عليه المعصية لأنها في هذا الوقت تخل بالإنصات المأمور به، فيكون بفعلها تاركا للأمر، وتارك الأمر يسمى عاصيا، وفعله يسمى معصية، وفي الحقيقة هذا الإطلاق مبالغة. فإن قلت: في سند أثر عقبة بن عبد الله بن لهيعة؟. قلت: ماله، وقد قال أحمد: من كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟ وحدث عنه أحمد كثيرا، وقال ابن وهب: حدثني الصادق البار والله عبد الله بن لهيعة، وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلابا للعلم.
وقال هذا القائل أيضا: وأما ما رواه الطحاوي عن عبد الله بن صفوان أنه دخل المسجد وابن الزبير يخطب فاستلم الركن ثم سلم عليه ثم جلس وعبد الله بن صفوان وعبد الله بن الزبير صحابيان صغيران، فقد استدل به الطحاوي، فقال: لما لم ينكر ابن الزبير على ابن صفوان، ولا من حضرهما من الصحابة ترك التحية، فدل على صحة ما قلناه، وتعقب بأن تركهم النكير لا يدل على تحريمها، بل يدل على عدم وجوبها، ولم يقل به مخالفوهم. قلت: هذا التعقيب متعقب لأنه ما ادعى تحريمها حتى يرد ما استدل به الطحاوي، ولم يقل هو ولا غيره بالحرمة، وإنما دعواهم أن الداخل ينبغي أن يجلس ولا يصلي شيئا، والحال أن الإمام يخطب، وهو الذي ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين.
وقال هذا القائل أيضا: هذه الأجوبة التي قدمناها تندفع من أصلها بعموم قوله، صلى الله عليه وسلم، في حديث أبي قتادة: (إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين). قلت: قد أجبنا عن هذا بأنه مخصوص، وقال النووي: هذا نص لا يتطرق إليه التأويل، ولا أظن عالما يبلغه هذا اللفظ، ويعتقده صحيحا فيخالفه قلت: فرق بين التأويل والتخصيص ولم يقل أحد من المانعين عن الصلاة والإمام يخطب: أنه مؤول، بل قالوا: إنه مخصوص. وقال القائل المذكور: وفي هذا الحديث، أعني: حديث هذا الباب جواز صلاة التحية في الأوقات المكروهة، لأنها إذا لم تسقط في الخطبة مع الأمر بالإنصات لها فغيرها أولى. قلت: من جملة الأوقات المكروهة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها ووقت استوائها، وحديث عقبة ابن عامر، رضي الله تعالى عنه: (ثلاث ساعات كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، نهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازعة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف الشمس للغروب حتى تغرب). رواه مسلم والأربعة، فإن هذا الحديث بعمومه يمنع سائر الصلوات في هذه الأوقات من الفرائض والنوافل، وصلاة التحية من النوافل.
33
((باب من جاء والإمام يخطب صلى ركعتين خفيفتين))
أي: هذا باب ترجمته: من جاء... إلى آخره، وكلمة: من، في محل الرفع على الابتداء. وقوله: (صلى ركعتين) خبره. قوله: (والإمام يخطب)، جملة حالية.

235
931 حدثنا علي بن عبد الله قال حدثنا سفيان عن عمر و وسمع جابرا قال دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال أصليت قال لا قال قم فصل ركعتين. (انظر الحديث 930 وطرفه).
مطابقته للترجمة في قوله: (فصل ركعتين)، قيل: في الترجمة قيد الركعتين، بقوله: (خفيفتين)، وليس في الحديث هذا القيد فلم تقع المطابقة تامة. وأجيب: بأن من عادته أن يشير إلى ما وقع في بعض طرق الحديث، وهذا القيد وقع في سنن أبي قرة: عن الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بلفظ: (قم فاركع ركعتين خفيفتين)، ووقع في مسلم بمعناه بلفظ: (وتجوز فيهما). وهذا الحديث هو المذكور في الباب الذي قبله، غير أنه أخرج حديث ذاك الباب: عن أبي النعمان عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن جابر، وأخرج حديث هذا الباب، عن علي بن عبد الله المعروف بابن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو عن جابر، والفرق بينهما في بعض الألفاظ: ففي حديث الباب الأول لم يصرح بسماع عمرو عن جابر، وههنا قد صرح بقوله: عن عمرو سمع جابرا، ونسب عمرا إلى أبيه دينار في الحديث الأول، وههنا لم ينسبه. وقوله: (أصليت؟) بهمزة الاستفهام في رواية كريمة والمستملي، وفي رواية غيرهما بحذف الهمزة، كما في الحديث السابق. قوله: (قال: قم فصل) هكذا في رواية أبي ذر (قال: قم فصل)، وقد مر الكلام فيه مستوفى في بيان حكم رفع اليدين، في الباب السابق.
34
((باب رفع اليدين في الخطبة))
أي: هذا باب في بيان حكم رفع اليدين في الخطبة.
932 حدثنا مسدد قال حدثنا حماد بن زيد عن عبد العزيز عن أنس وعن يونس عن ثابت عن أنس قال بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قام رجل فقال يا رسول الله هلك الكراع وهلك الشاء فادع الله أن يسقينا فمد يديه ودعا..
مطابقته للترجمة في قوله: (فمد يديه ودعا). فإن قلت: في الترجمة رفع اليدين، وفي الحديث المد، ومن أين التطابق؟ قلت: في الحديث الذي بعده: (فرفع يديه)، كلفظ الترجمة، فكأنه أشار بذلك إلى أن المراد بالرفع هنا المد، لا كالرفع الذي في الصلاة.
وأخرج هذا الحديث من طريقين: الأول: عن مسدد عن حماد بن زيد عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس. والثاني: عن مسدد أيضا عن حماد بن زيد عن يونس بن عبيد عن ثابت عن أنس، والرجال كلهم بصريون، والبخاري أخرجه بالطريق الأول أيضا في علامات النبوة عن مسدد. وأخرجه أبو داود ونحوه عن مسدد، وبالطريق الثاني أخرجه النسائي عن حماد بن زيد عن يونس عن ثابت عن أنس، وهذا طرف من حديث أنس في الاستسقاء أخرجه مطولا ومختصرا في مواضع عديدة على ما يأتي، إن شاء الله تعالى.
قوله: (بينما)، أصله: بين، فزيدت فيه الألف والميم، وقد تكرر ذكره فيما مضى، وأضيف إلى الجملة بعده، وقوله: (إذا قام)، وجوابه وفي الحديث الذي بعده: (قام أعرابي)، وفي أخرى: (فقام المسلمون)، وفي أخرى: (جاء من نحو دار القصار) وفي أخرى في الاستسقاء: (فقام الناس فصاحوا: يا رسول الله قحط المطر). قوله: (الكراع)، بضم الكاف وضبطه بعضهم عن الأصيلي بالكسر، وهو خطأ وهو اسم لجمع الخيل. قوله: (الشاء) جمع شاة وأصل الشاة شاهة لأن تصغيرها شويهة، والجمع شياه بالهاء في العدد، تقول: ثلاث شياه إلى العشرة، فإذا جاوزت فبالتاء، فإذا كثرت قيل هذه: شاء كثيرة، وجمع الشاء: شوى. قوله: (فمد يديه)، قذ ذكرنا أن المراد من المدليس الرفع، كما في الصلاة.
35
((باب الاستسقاء في الخطبة يوم الجمعة))
أي: هذا باب في بيان الاستسقاء: الاستسقاء استفعال، وهو طلب السقيا، بضم السين وهو: المطر، يقال: سقى الله عباده الغيث، وأسقاهم وأسقيت فلانا، إذا طلبت منه أن يسقيك، وفي (المطالع): يقال: سقى وأسقى بمعنى واحد.

236
56 - (حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثنا أبو عمرو قال حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال أصابت الناس سنة على عهد النبي
فبينا النبي
يخطب في يوم جمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا فرفع يديه وما نرى في السماء قزعة فوالذي نفسي بيده وما وضعهما حتى ثار السحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته
فمطرنا يومنا ذلك ومن الغد وبعد الغد والذي يليه حتى الجمعة الأخرى وقام ذلك الأعرابي أو قال غيره فقال يا رسول الله تهدم البناء وغرق المال فادع الله لنا فرفع يديه
فقال اللهم حوالينا ولا علينا فما يشير بيده إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت وصارت المدينة مثل الجوبة وسال الوادي قناة شهرا ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود)
مطابقته للترجمة في قوله ' فرفع يديه ' لأنه إنما رفعهما لكونه استسقى فببركته وبركة دعائه أنزل الله المطر حتى سال الوادي قناة شهرا.
(ذكر رجاله) وهم خمسة والأوزاعي اسمه عبد الرحمن بن عمرو ونسبته إلى الأوزاع وهي من قبائل شتى وقال ابن الأثير نسبته إلى الأوزاع بطن من ذي الكلاع من اليمن وقيل نسبته إلى الأوزاع قرية بدمشق
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع وبصيغة الإفراد في موضع وفيه العنعنة في موضع وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن شيخه من أفراده وفيه أحد الرواة مذكور بكنيته ونسبته وفيه أن شيخه مدني واثنان بعده دمشقيان والذي بعدهما مدني أيضا.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الاستسقاء عن الحسن بن بشر وفي الاستئذان عن محمد بن مقاتل وأخرجه مسلم في الصلاة عن داود بن رشيد وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن خالد كلاهما عن الوليد به
(ذكر معناه) قوله ' سنة ' بفتح السين أي شدة وجهد من الجدوبة وهو من قوله تعالى * (ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين) * وأصل السنة سنهة بوزن جبهة فحذفت لامها ونقلت حركتها إلى النون فبقيت سنة لأنها من سنهت النخل وتسنهت إذا أتى عليها السنون وقيل أن أصلها سنوة بالواو فحذفت كما حذفت الهاء لقولهم تسنيت عنده إذا أقمت عنده سنة فلهذا يقال على الوجهين استأجرته مسانهة ومساناة وأما السنة التي هي أول النوم فبكسر السين وأصله وسن لأنه من الوسن بفتحتين يقال وسن يوسن كعلم يعلم سنة فحذفت الواو وعوضت منها الهاء كما في عدة قوله ' على عهد النبي
' أي على زمنه قوله ' فبينا ' قد مر الكلام فيه في الباب الذي قبله قوله ' قام أعرابي ' الأعرابي نسبة إلى الأعراب لأنه لا واحد له وليس هو جمعا لعرب وإنما الأعراب سكان البادية خاصة والعرب جيل من الناس والنسبة إليه عربي بين العروبة وهم أهل الأمصار وقال ابن الأثير الأعراب ساكنوا البادية من العرب الذين لا يقيمون في الأمصار ولا يدخلونها إلا لحاجة والعرب اسم لهذا الجيل المعروف من الناس ولا واحد له من لفظه وسواء أقام بالبادية أو المدن والنسبة إليها أعرابي وعربي قوله ' هلك المال ' المراد بالمال هنا وما بعده الحيوان كذا فسره في حديث الموطأ ومعنى هلك المال يعني الحيوانات هلكت إذ لم تجد ما ترعى قوله ' والعيال ' قال الجوهري عيال الرجل من يعوله وواحد العيال عيل والجمع عيايل مثل جيد جياد وجيايد وأعال الرجل أي كثر عياله فهو معيل وامرأة معيلة قال الأخفش أي صار ذا عيال وذكر الجوهري هذه المادة في عيل في الياء آخر الحروف وذكره ابن الأثير في عول في الواو ثم قال يقال عال الرجل عياله يعولهم إذا قام بما يحتاجون إليه من قوت وكسوة وغيرهما وقال الكسائي يقال عال الرجل يعول إذا كثر عياله واللغة الجيدة أعال يعيل قوله ' قزعة ' بالقاف والزاي والعين المهملة المفتوحات وهي القطعة من السحاب وفي المحكم القزع قطع من السحاب

237
رقاق كأنها ظل إذا مرت من تحت السحاب الكثيرة قال أبو عبيدة وأكثر ما يكون ذلك في الخريف وقال يعقوب عن الباهلي يقال ما على السماء قزعة أي شيء من غيم وفي تهذيب الأزهري كل شيء متفرق فهو قزع قوله ' حتى ثار السحاب ' بالثاء المثلثة أي هاج يقال ثار الشيء يثور إذا ارتفع وانتشر قوله ' كأمثال الجبال ' أي لكثرتها وإطباقها وجه السماء قوله ' يتحادر ' أي ينزل ويقطر وهو يتفاعل من الحدور وهو ضد الصعود ويقال حدر في قراءته إذا أسرع وكذلك في أذانه وهو يتعدى ولا يتعدى وأصل باب التفاعل للمشاركة بين قوم وههنا ليس كذلك لأن تفاعل قد تجيء بمعنى فعل مثل توانيت أي ونيت وهذا كذلك ومعناه يحدر قوله ' فمطرنا يومنا ذلك ' بضم الميم وكسر الطاء معناه حصل لنا المطر يقال مطرت السماء تمطر ومطرتهم تمطرهم مطرا وأمطرتهم أصابتهم بالمطر وأمطرهم الله بالعذاب خاصة ذكره ابن سيده وقال الفراء قطرت السماء وأقطرت مثل مطرت السماء وأمطرت وفي الجامع مطرت السماء تمطر مطرا فالمطر بالسكون المصدر والمصدر بالحركة الاسم وفيه لغة أخرى مطرت تمطر مطرا وكذا أمطرت السماء تمطر وفي الصحاح مطرت السماء وأمطرها الله وناس يقولون مطرت السماء وأمطرت بمعنى قوله ' يومنا ' منصوب على الظرفية يعني في يومنا ذلك قوله ' ومن الغد ' كلمة من إما بمعنى في أي في الغد وإما تبعيضية قوله ' حتى الجمعة الأخرى ' مثل أكلت السمكة حتى رأسها في جواز الحركات الثلاث في مدخولها أما النصب فعلى أن حتى عاطفة على المنصوب قبله وأما الرفع فعلى أن مدخولها مبتدأ وخبره محذوف وأما الجر فعلى أن حتى جارة قوله ' حوالينا ' بفتح اللام وفي مسلم ' حولنا ' وكلاهما صحيح يقال قعدوا حوله وحواله وحواليه أي مطيفين به من جوانبه وهو ظرف متعلق بمحذوف تقديره اللهم أنزل أو أمطر حوالينا ولا تنزل علينا (فإن قلت) إذا مطرت حول المدينة فالطريق ممتنعة فإذا لم يزل شكواهم (قلت) أراد بحوالينا الآكام والضراب وشبههما كما في الحديث فتبقى الطرق على هذا مسلوكة كما سألوا قوله ' ولا علينا ' أي ولا تمطر علينا أراد به الأبنية قوله ' إلا انفرجت ' أي إلا انكشفت وقال ابن القاسم معناه تدورت كما يدور جيب القميص وقال ابن وهب معناه انقطعت عن المدينة كما ينقطع الثوب وقال ابن شعبان خرجت عن المدينة كما يخرج الجيب عن الثوب قوله ' مثل الجوبة ' بفتح الجيم وسكون الواو وفتح الباء الموحدة قال الداودي أي صارت مستديرة كالحوض المستدير وأحاطت بها المياه ومنه قوله تعالى * (وجفان كالجواب) * وقال ابن التين هذا عندي وهم لأن اشتقاق الجابية من جبا العين بكسر الجيم مقصور وهو ما جمع فيها من الماء فيكون اسم الفعلة منه جبوة وإنما من باب جاب يجوب إذا قطع من قوله تعالى * (جابوا الصخر بالواد) * فالعين منه واو فتكون الفعلة منه جوبة كما في الحديث وقال الجوهري الجوبة الفرجة من السحاب والجبال وقال ابن فارس الجوبة كالغائط من الأرض وقال الخطابي هي الترس وفي حديث آخر ' فبقيت المدينة كالترس ' وقال والجوبة أيضا الوهدة المنقطعة عما علا عن الأرض وجاء في حديث آخر ' مثل الإكليل ' أي دار بها السحاب قوله ' الوادي قناة ' بفتح القاف وتخفيف النون وهو علم لبقعة غير منصرف مرفوع لأنه بدل عن الوادي والوادي مرفوع لأنه فاعل سال والقناة اسم واد من أودية
المدينة قال الكرماني وفي بعض الروايات قناة بالنصب والتنوين فهو بمعنى البئر المحفور أي سال الوادي مثل القناة وفي بعض الروايات قناة بالجر بإضافة الوادي إليها قوله ' بالجودة ' بفتح الجيم وسكون الواو وفي آخره دال مهملة وهو المطر الغزير الواسع يقال جادهم المطر يجودهم جودا
(ذكر ما يستفاد منه) فيه معجزة ظاهرة للنبي
في إجابة دعائه متصلا به في الدعاء فإنه لم يسأل رفع المطر من أصله بل سأل دفع ضرره وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق بحيث لا يتضرر به ساكن ولا ابن سبيل وسأل بقاءه في مواضع الحاجة بحيث يبقى نفعه وخصبه في بطون الأودية ونحوها. وفيه استحباب طلب انقطاع المطر عن المنازل إذا كثر وتضرروا به. وفيه رفع اليدين في الخطبة. واختلف العلماء في رفع اليدين عند الدعاء فكرهه مالك في رواية وأجازه غيره في كل الدعاء وبعض العلماء جوزوه في الاستسقاء فقط وقال جماعة من العلماء السنة في دعاء رفع البلاء أن يرفع يديه ويجعل ظهرهما إلى السماء وفي دعاء سؤال شيء وتحصيله يجعل بطنهما إلى السماء وعن مالك بن يسار أن رسول الله
قال ' إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها ' وقال
فيما رواه سلمان الفارسي

238
من عند الترمذي محسنا ' إن الله حي كريم يستحيي أن يرفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا ' قال الترمذي رواه بعضهم فلم يرفعه وعن أبي يوسف إن شاء رفع يديه في الدعاء وإن شاء أشار بإصبعيه وفي المحيط بإصبعه السبابة وفي التجريد من يده اليمنى وقال ابن بطال رفع اليدين في الخطبة في معنى الضراعة إلى الجليل والتذلل له وقال الزهري رفع الأيدي يوم الجمعة محدث وقال ابن سيرين أول من رفع يديه في الجمعة عبيد الله بن عبد الله بن معمر. وفيه الاستسقاء بالدعاء بدون صلاة وهو مذهب أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وبه احتج على ذلك وفيه قيام الواحد بأمر العامة. وفيه إتمام الخطبة في المطر وفيه قال ابن شعبان في قوله ' إلا انفرجت ' خرجت عن المدينة كما يخرج الجيب عن الثوب وقال ابن التين فيه دليل على أن من أودع وديعة فجعلها في جيب قميصه أنه يضمن قال وقيل لا يضمن قال والأول أحوط لهذا الحديث * -
36
((باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب وإذا قال لصاحبه أنصت فقد لغا))
أي: هذا باب في بيان حكم الإنصات يوم الجمعة في حالة خطبة الإمام. قوله: (والإمام يخطب) جملة حالية ذكرها للإشعار بأن الإنصات قبل شروع الإمام فيها لا يجب، خلافا لقوم في ذلك، ولكن الأولى الإنصات من وقت خروج الإمام. قوله: (وإذا قال لصاحبه: انصت، فقد لغا) من جملة الترجمة، وهو لفظ حديث الباب في بعض طرقه، وهي رواية النسائي عن قتيبة عن الليث عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال الرجل لصاحبه يوم الجمعة، والإمام يخطب: انصت، فقد لغا) وبهذا السند روى الترمذي عن قتيبة عن الليث إلى آخره، ولفظه: (من قال يوم الجمعة والإمام يخطب: انصت، فقد لغا). قوله: (لصاحبه) المراد به، جليسه، وقيل: الذي يخاطبه بذلك مطلقا، وإنما أطلق عليه الصاحب باعتبار أنه صاحبه في الخطاب أو الجلوس. قوله: (أنصت) أمر من أنصت ينصب إنصاتا. وقال أبو المعاني في (المنتهى): نصت ينصت إذا سكت، وأنصت لغتان أي: استمع يقال: انصته وأنصت له وينشد:
* إذا قالت حذام فأنصتوها
*
ويروى: فصدقوها، وفي (المحكم): أنصت أعلى، والنصتة الاسم من الإنصات. وفي (الجامع): والرجل ناصت ومنصت. وفي (المجمل) و (المغرب): الإنصات السكوت للاستماع وأنشد الراغب في المجالسات:
* السمع للإنصات والإنصات للأذن
*
وقد مر عن قريب: باب الاستماع إلى الخطبة، وقد ذكرنا هناك أن الاستماع هو الإصغاء، ويعلم الفرق بين الاستماع والإنصات مما ذكرنا الآن، فلذلك ذكر البخاري ترجمة للاستماع وترجمة للانصات. قوله: (فقد لغا) اللغو واللغاء: السقط وما لا يعتد به من كلام وغيره، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع واللغو في الأيمان: لا والله وبلى والله، وقيل: معناه الإثم، ولغا في القول يلغو ويلغى لغوا ولغا وملغاة: أخطا، ولغا يلغو لغوا: تكلم ذكره ابن سيده. وفي (الجامع): اللغو: الباطل، تقول: لغيت ألغى لغيا ولغى بمعنى، ولغا الطائر يلغو لغوا: إذا صوت. وفي (التهذيب): لغوت اللغو والغى ولغى، ثلاث لغات، واللغو: كل ما لا يجوز. وقال الأخفش، اللغو الساقط من القول، وقيل: الميل عن الصواب. وقال النضر بن شميل، معنى لغوت خبت من الأجر. وقيل: بطلت فضيلة جمعتك، وقيل: صارت جمعتك ظهرا. وقيل: تكلمت بما لا ينبغي.
وقال سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم ينصت إذا تكلم الإمام
هذا التعليق قطعة من حديث سلمان الذي أخرجه في: باب الدهن للجمعة، وفي: باب لا يفرق بين اثنين يوم الجمعة.
934 حدثنا يحيى بن بكير قال حدثنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب قال أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت.
مطابقته للترجمة ظاهرة، ورجاله قد تكرر ذكرهم، وعقيل: بضم العين: هو ابن خالد الأيلي، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.
وأخرجه مسلم في الصلاة عن قتيبة ومحمد بن رمح، كلاهما عن الليث عنه به. وعن عبد الملك بن شعيب عن الليث بن سعد عن أبيه عن جده عن عقيل عن الزهري، ورواه أبو داود عن القعنبي عن مالك عن ابن شهاب

239
عن سعيد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك: أنصت، والإمام يخطب فقد لغوت). وأخرجه الترمذي عن قتيبة عن الليث عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال يوم الجمعة والإمام يخطب: انصت، فقد لغا). وأخرجه النسائي أيضا عن قتيبة عن الليث إلى آخره،، وقد ذكرناه في أول الباب. وأخرجه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن شبابة بن سوار عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن الزهري عن سعيد ابن المسيب عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت) ولما روى الترمذي حديثه. قال: وفي الباب عن ابن أبي أوفى وجابر بن عبد الله، أما حديث ابن أبي أوفى فرواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) من رواية إبراهيم بن السكسكي، قال: سمعت ابن أبي أوفى قال: (ثلاث من سلم منهن غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى: من أن يحدث حدثا، يعني: أذى، أو أن يتكلم أو أن يقول: صه). ورجاله ثقات، وهذا، وإن كان موقوفا، فمثله لا يقال من قبل الرأي، فحكمه الرفع. وأما حديث جابر، رضي الله تعالى عنه، فرواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) والبزار وأبو يعلى في (مسنديهما) من رواية مجالد بن سعيد عن عامر (عن جابر، قال: قال سعد لرجل يوم الجمعة: لا صلاة لك، قال: فذكر ذلك الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن سعدا قال: لا صلاة لك، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم، لم يا سعد؟ قال: إنه كان يتكلم وأنت تخطب قال: صدق سعد). اللفظ لابن أبي شيبة، وقال أبو يعلى والبزار: سمعت سعد بن أبي وقاص، رضي الله تعالى عنه، ومجالد ضعفه الجمهور؟
قلت: وفي الباب عن ابن عباس وأبي ذر وأبي الدرداء وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وعلي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم. أما حديث ابن عباس فرواه أحمد والبزار في (مسنديهما) والطبراني في (الكبير) من رواية مجالد عن عامر عن ابن عباس، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا، والذي يقول له: أنصت، ليس له جمعة). وأما حديث أبي ذر وأبي الدرداء فرواهما الطبراني من رواية أنس ابن عياض عن شريك عن عطاء بن يسار (عن أبي الدرداء وأبي ذر: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة على المنبر سورة، فغمز أبو الدرداء أبي بن كعب، فقال: متى أنزلت هذه السورة.. فإني لم أسمعها إلا الآن؟ فأشار إليه أن: اسكت. فلما انصرفوا قال أبي: ليس لك من صلاتك إلا ما لغوت، فأخبر أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم بما قال أبي، فقال: صدق أبي). وأما حديث عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه، فرواه ابن أبي شيبة في (المصنف) والطبراني في (الكبير) من رواية الركين بن الربيع عن أبيه عن عبد الله، قال: (كفى لغوا، إذا صعد الإمام المنبر أن تقول لصاحبك: أنصت) ورجاله ثقات فهو في حكم المرفوع، لأنه لا يقال من قبل الرأي. وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه أبو داود حدثنا مسدد وأبو كامل قالا: حدثنا يزيد عن حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يحضر الجمعة ثلاثة نفر: رجل حضرها بلغو فهو حظه منها، ورجل حضرها يدعو فهو رجل دعا الله عز وجل إن شاء أعطاه وإن شاء منعه، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحدا فهي كفارة إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيام، وذلك بأن الله تعالى يقول: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها). وأما حديث علي فأخرجه أحمد مرفوعا. (ومن قال: صه، فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له.
قوله: (لصاحبك) المراد منه: الجليس، كما ذكرنا. قوله: (والإمام يخطب) جملة حالية. قوله: (فقد لغوت)، قد مر تفسيره. قال الكرماني: وفي بعض الروايات: لغيت، وظاهر القرآن يقتضي هذه اللغة، قال الله تعالى: * (والغوا فيه) * (فصلت: 26). وهذا من لغى يلغي، إذ لو كان من لغى يلغو لقال: والغوا بضم الغين.
ومما يستفاد منه أن فيه: النهي عن جميع الكلام حال الخطبة، ونبه بهذا على ما سواه لأنه إذا قال: أنصت، وهو في الأصل أمر بمعروف، وسماه لغوا، فغيره أولى. قيل: ذلك لأن الخطبة أقيمت مقام الركعتين. فكما لا يجوز التكلم في المنوب لا يجوز في النائب، وقد استقصينا الكلام فيه في باب الاستماع إلى الخطبة. وقال النووي: وقوله: (والإمام يخطب) دليل على أن وجوب الإنصات والنهي عن الكلام إنما هو في حال الخطبة، وهذا مذهبنا ومذهب مالك والجمهور. وقال أبو حنيفة: يجب الإنصات بخروج الإمام قلت: أخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) عن علي وابن عباس وابن عمر، رضي الله تعالى عنهم، أنهم كانوا يكرهون الصلاة والكلام بعد خروج الإمام.

240
37
((باب الساعة التي في يوم الجمعة))
أي: هذا باب في بيان الساعة التي الدعوة فيها مستجابة في يوم الجمعة.
935 حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال فيه ساعة لا يوافقها عبد وهو
قائم يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده ويقللها.
مطابقته للترجمة من حيث إن المذكور فيه ذكر الساعة التي في يوم الجمعة، ففي كل من الحديث والترجمة الساعة مبهمة، وقد بينت في أحاديث أخرى كما نذكره إن شاء الله تعالى.
ورجاله قد تكرر ذكرهم، وأبو الزناد، بالزاي والنون: عبد الله بن ذكوان، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز.
وأخرجه مسلم أيضا في الجمعة عن يحيى بن يحيى وقتيبة وأخرجه النسائي فيه أيضا عن قتيبة وفي اليوم والليلة عن محمد بن مسلمة عن ابن القاسم عن مالك به، وروى هذا الحديث عن أبي هريرة ابن عباس وأبو موسى ومحمد بن سيرين وأبو سلمة بن عبد الرحمن وهمام ومحمد بن زياد وأبو سعيد المقبري وسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وأبو رافع وأبو الأحوص وأبو بردة ومجاهد ويعقوب بن عبد الرحمن. أما طريق ابن عباس فأخرجها النسائي في اليوم والليلة. وأما طريق أبي موسى فذكرها الدارقطني في علله. وأما طريق ابن سيرين فأخرجها البخاري في الطلاق على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى. وأما طريق أبي سلمة فأخرجها أبو داود حدثنا القعنبي عن مالك عن يزيد بن عبد الله بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة...)، الحديث بطوله، وفيه: (وفيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله حاجة إلا أعطاه إياها). وأخرجه الترمذي: حدثنا إسحاق بن موسى الأنصاري حدثنا معن حدثنا مالك بن أنس إلى آخره نحوه، وأخرجه النسائي: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا بكر وهو ابن مضر عن ابن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة، قال: (أتيت الطور فوجدت فيه كعبا...) الحديث بطوله، وفيه: (وفيها ساعة لا يصادفها عبد مؤمن وهو في الصلاة يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه). وأما طريق همام فأخرجها مسلم. وأما طريق محمد بن زياد فأخرجها مسلم أيضا. وأما طريق أبي سعيد المقبري فأخرجها النسائي في اليوم والليلة. وأما طريق سعيد بن المسيب فأخرجها النسائي أيضا في اليوم والليلة. وأما طريق عطاء من أبي رباح فأخرجها الدارقطني وقال: وهو موقوف. ومن رفعه فقد وهم. وأما طريق أبي رافع فذكرها الدارقطني في (علله). وأما طريق أبي الأحوص فأخرجها الدارقطني أيضا وقال: الأشبه عن ابن مسعود. وأما طريق أبي بردة ومجاهد فذكرهما الدارقطني أيضا. وأما طريق عبد الرحمن بن يعقوب فذكرها أبو عمر بن عبد البر وصححها.
قوله: (لا يوافقها) أي: لا يصادفها وهذه اللفظة أعم من أن يقصد لها أو يتفق له وقوع الدعاء فيها. قوله: (مسلم) وفي رواية النسائي: (مؤمن). قوله: (وهو قائم) جملة اسمية وقعت حالا. وقال الكرماني: قوله: (وهو قائم)، مفهومه أنه لو لم يكن قائما لا يكون له هذا الحكم، ثم أجاب بأن شرط مفهوم المخالفة أن لا يخرج مخرج الغالب، وههنا ورد بناء على أن الغالب في المصلي أن يكون قائما، فلا اعتبار لهذا المفهوم، قوله: (يصلي)، جملة فعلية حالية. وقوله: (يسأل الله) أيضا جملة حالية من الأحوال المترادفة أو المتداخلة. وقال بعضهم: (وهو قائم يصلي يسأل الله)، صفات: (لمسلم) قلت: لا يصح ذلك لأن لفظ: مسلم، ولفظ: صالح، صفتان لعبد، والصفة والموصوف في حكم شيء واحد، والنكرة إذا اتصفت يكون حكمها حكم المعرفة، فلا يجوز وقوع الجمل بعدها صفات لها، لأن الجمل لا تقع صفة للمعرفة، بل إذا وقعت بعدها تكون حالا كما هو المقرر في موضعه، والعجب منه أنه قال: ويحتمل أن يكون: يصلي، حالا فلا وجه لذكر الاحتمال لكونه حالا محققا. قوله: (قائم يصلي) يحتمل الحقيقة، أعني حقيقة القيام، ويحتمل: الدعاء

241
ويحتمل الانتظار ويحتمل المواظبة على الشيء لا الوقوف من قوله تعالى: * (ما دمت عليه قائما) * (آل عمران: 75). يعني: مواظبا وقال النووي: قال بعضهم: معنى (يصلي)، يدعو، ومعنى: (قائم)، ملازم ومواظب، وإنما ذكر هذه الاحتمالات لئلا يرد الإشكال بأصح الأحاديث الواردة في تعيين الساعة المذكورة، وهما حديثان: أحدهما من جلوس الخطيب على المنبر إلى انصرافه من الصلاة. والآخر: من بعد العصر إلى غروب الشمس، ففي الأول حال الخطبة كله، وليست صلاة حقيقة وفي الثاني: ليست ساعة صلاة ألا ترى أن أبا هريرة، رضي الله تعالى عنه، لما روى حديثه المذكور قال: (فلقيت عبد الله بن سلام، فذكرت له هذا الحديث، فقال: أنا أعلم تلك الساعة، فقلت: أخبرني بها ولا تضنن بها علي! قال: هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس. قلت: وكيف تكون بعد العصر وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي)، وتلك الساعة لا يصلي فيها؟ قال عبد الله ابن سلام: أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من جلس مجلسا ينتظر الصلاة فهو في صلاة؟ قلت: بلى، قال: فهو ذاك) انتهى. فهذا دل على أن المراد من الصلاة الدعاء ومن القيام الملازمة والمواظبة لا حقيقة القيام، ولهذا سقط قوله: (قائم)، من رواية أبي مصعب وابن أبي أويس ومطرف والتنيسي وقتيبة، وأثبتها الباقون. قال أبو عمر: وهذه زيادة محفوظة عن أبي الزناد من رواية مالك وورقاء وغيرهما عنه، وكان محمد بن وضاح يأمر بحذف هذه الزيادة من الحديث لأجل أنه كان يستشكل بالإشكال الذي ذكرناه، ولكن الجواب ما ذكرناه. قوله: (شيئا) أي: مما يليق أن يدعو به المسلم ويسأل الله، وفي رواية عند البخاري في الطلاق: (يسأل الله خيرا)، وفي رواية لمسلم كذلك، وفي رواية ابن ماجة: (ما لم يسأل حراما). وعند أحمد في حديث سعد بن عبادة: (ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم)، فإن قلت: قطيعة رحم من جملة الإثم. قلت: هو من عطف الخاص على العام للاهتمام به. قوله: (وأشار بيده)، أي: وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وكذا هو في رواية أبي مصعب عن مالك. قوله: (يقللها)، جملة وقعت حالا، وهو من التقليل خلاف التكثير، يريد أن الساعة لحظة خفيفة، وفي رواية لمسلم: (يزهدها)، وهو بمعناه،، وفي لفظ: (وهي ساعة خفيفة)، وللطبراني في (الأوسط) في حديث أنس: (وهي قدر هذا)، يعني قبضة. ثم بقي الكلام هنا في بيان الساعة المذكورة وبيان ما فيها من الأقوال وهو مشتمل على وجوه:
الأول: في حقيقة الساعة، وهي: اسم لجزء مخصوص من الزمان ويرد على أنحاء: أحدها يطلق على جزء من أربعة وعشرين جزأ، وهي مجموع اليوم والليلة،
وتارة تطلق مجازا على جزء ما غير مقدر من الزمان. فلا يتحقق. وتارة تطلق على الوقت الحاضر، ولأرباب النجوم والهندسة وضع آخر، وذلك أنهم يقسمون كل نهار وكل ليلة باثني عشر قسما سواء كان النهار طويلا أو قصيرا، وكذلك الليل، ويسمون كل ساعة من هذه الأقسام ساعة، فعلى هذا تكون الساعة تارة طويلة وتارة قصيرة على قدر النهار في طوله وقصره، ويسمون هذه الساعات المعوجة، وتلك الأول: مستقيمة.
الثاني: إن في هذه الساعة اختلافا هل هي باقية أو رفعت؟ فزعم قوم أنها رفعت، حكاه أبو عمر بن عبد البر وزيفه، وقال عياض: رده السلف على قائله، واحتج أبو عمر فيه بما رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن داود بن أبي عاصم (عن عبد الله بن يحنس مولى معاوية، قال: قلت لأبي هريرة: زعموا أن الساعة التي في يوم الجمعة قد رفعت؟ قال: كذب من قال ذلك. قلت: فهي باقية في كل جمعة استقبلها؟ قال: نعم). إسناده قوي، قال أبو عمر على هذا تواترت الأخبار. وفي (صحيح الحاكم) من حديث أبي سلمة: (قلت: يا أبا سعيد، إن أبا هريرة حدثنا عن الساعة التي في يوم الجمعة، هل عندك فيها علم؟ فقال: سألنا النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: إني كنت أعلمها ثم أنسيتها كما أنسيت ليلة القدر). ثم قال: صحيح. وخرجه ابن خزيمة أيضا في (صحيحه) وفي (كتاب ابن زنجويه): عن محمد ابن كعب القرظي أن كلبا مر بعد العصر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل من الصحابة: اللهم اقتله، فمات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد وافق هذا الساعة التي إذا دعي استجيب.
الثالث: أنها لما ثبت أنها باقية، هل هي في كل جمعة أو في جمعة واحدة من كل سنة؟ قال كعب الأحبار: في كل سنة يوم، فقال أبو هريرة، بلى في كل جمعة! قال: فقرأ كعب التوراة، فقال: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود والنسائي والترمذي، فرجع كعب إليه.
الوجه الرابع: في بيان وقتها، وهو على أقوال، فقيل: هي مخفية في جميع اليوم كليلة القدر، قاله ابن قدامة، وحكاه القاضي

242
عياض وغيره، ونقله ابن الصباغ عن كعب الأحبار. والحكمة في إخفائها الجد والاجتهاد في طلبها في كل اليوم كما أخفى أولياءه في خلقه تحسينا للظن بالصالحين. وقيل: إنها تنتقل في يوم الجمعة ولا تلزم ساعة معينة لا ظاهرة ولا مخفية، قال الغزالي: هذا أشبه الأقوال، وجزم به ابن عساكر وغيره. وقال المحب الطبري: إنه هو الأظهر. وقيل: إذا أذن المؤذن لصلاة الغداة، ذكره ابن أبي شيبة. وقيل: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ورواه ابن عساكر من طريق أبي جعفر الرازي عن ليث بن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة، قوله: وقيل مثله، وزاد: ومن العصر إلى الغروب، رواه سعيد بن منصور عن خلف بن خليفة عن ليث ابن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة، وتابعه فضيل بن عياض عن ليث عن ابن المنذر، وقيل مثله وزاد: وما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن يكبر، رواه حميد بن زنجويه في (الترغيب) له من طريق عطاء بن قرة عن عبد الله بن سمرة عن أبي هريرة، قال: التمسوا الساعة التي يجاب فيها الدعاء يوم الجمعة في هذه الأوقات الثلاثة، فذكرها. وقيل: إنها أول ساعة بعد طلوع الشمس، حكاه المحب الطبري. وقيل: عند طلوع الشمس، حكاه الغزالي في (الإحياء) وقيل: في آخر الثالثة من النهار، لما رواه أحمد من طريق علي بن أبي طلحة عن أبي هريرة مرفوعا: (يوم الجمعة فيه طبعت طينة آدم، وفي آخره ثلاث ساعات منه ساعة، من دعى الله تعالى فيها استجيب له). وفي إسناده فرح بن فضالة وهو ضعيف، وعلي لم يسمع من أبي هريرة. وقيل: من الزوال إلى أن يصير الظل نصف ذراع، حكاه المحب الطبري في (الأحكام) وقيل: مثله لكن قال إلى أن يصير الظل ذراعا، حكاه عياض والقرطبي والنووي. وقيل: بعد زوال الشمس بشبر إلى ذراع، رواه ابن المنذر وابن عبد البر بإسناد قوي إلى الحارث بن يزيد الحضرمي عن عبد الرحمن بن حجيرة عن أبي ذر أن امرأته سألته عنها فقال ذلك. وقيل: إذا زالت الشمس، حكاه ابن المنذر عن أبي العالية، وروى ابن سعد في (الطبقات): عن عبيد الله بن نوفل نحوه، وروى ابن عساكر من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: كانوا يرون الساعة المستجاب فيها الدعاء إذا زالت الشمس. وقيل: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة، رواه ابن المنذر عن عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: يوم الجمعة مثل يوم عرفة تفتح فيه أبواب السماء، وفيه ساعة لا يسأل الله فيها العبد شيئا إلا أعطاه. قيل: أية ساعة؟ قالت: إذا أذن المؤذن لصلاة الجمعة، والفرق بينه وبين القول الذي قبله من حيث إن الأذان قد يتأخر عن الزوال. وقيل: من الزوال إلى أن يدخل الرجل في الصلاة، ذكره ابن المنذر عن أبي السوار العدوي، وحكاه ابن الصباغ بلفظ: إلى أن يدخل الإمام. وقيل: من الزوال إلى خروج الإمام، حكاه القاضي أبو الطيب الطبري: وقيل: من الزوال إلى غروب الشمس، حكي عن الحسن ونقله صاحب (التوضيح). وقيل: ما بين خروج الإمام إلى أن تقام الصلاة، رواه ابن المنذر عن الحسن. وقيل: عند خروج الإمام، روي ذلك عن الحسن. وقيل: ما بين خروج الإمام إلى أن تنقضي الصلاة، رواه ابن جرير من طريق إسماعيل بن سالم عن الشعبي. قوله: (من طريق معاوية) بن قرة عن أبي بردة لبن أبي موسى، قوله: (وفيه أن ابن عمر استصوب ذلك). وقيل: ما بين أن يحرم البيع إلى أن يحل، رواه سعيد بن منصور وابن المنذر عن الشعبي. قوله: (وقيل ما بين الأذان إلى انقضاء الصلاة)، رواه حميد بن زنجويه عن ابن عباس، وحكاه البغوي في (شرح السنة) عنه. وقيل: ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة، رواه مسلم وأبو داود من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة بن أبي موسى أن ابن عمر سأله عما سمع من أبيه في ساعة الجمعة، فقال: سمعت أبي يقول: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلمد، يقول، فذكره.. ويحتمل أن يكون هذا والقولان اللذان قبله متحدة. وقيل: عند التأذين، وعند تذكير الإمام، وعند الإمامة، رواه حميد بن زنجويه من طريق سليم بن عامر عن عوف بن مالك الأشجعي الصحابي، رضي الله تعالى عنه. وقيل: مثله لكن قال: إذا أذن وإذا رقي المنبر، وإذا أقيمت الصلاة، رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أبي أمامة الصحابي. قوله. وقيل: من حين يفتتح الإمام الخطبة حتى يفرغها، رواه ابن عبد البر من طريق محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا، وإسناده ضعيف. وقيل: إذا بلغ الخطيب المنبر وأخذ في الخطبة، حكاه الغزالي في (الإحياء). وقيل: عند الجلوس بين الخطبتين حكاه الطيبي عن بعض شراح (المصابيح). وقيل: عند نزول الإمام عن المنبر، رواه ابن أبي شيبة وحميد بن زنجويه وابن جرير وابن المنذر بإسناد صحيح
إلى أبي إسحاق عن أبي بردة قوله. وقيل: حين تقام الصلاة حتى يقوم الإمام في مقامه، حكاه ابن المنذر عن الحسن

243
أيضا، ورواه الطبراني من حديث ميمونة بنت سعد نحوه مرفوعا بإسناد ضعيف. وقيل: من إقامة الصلاة إلى تمام الصلاة رواه الترمذي وابن ماجة من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده مرفوعا، وفيه قالوا: (أية ساعة يا رسول الله؟ قال: حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها). ورواه البيهقي في (شعب الإيمان) من هذا الوجه بلفظ: (ما بين أن ينزل الإمام من المنبر إلى أن تنقضي الصلاة)، ورواه ابن أبي شيبة من طريق مغيرة عن واصل الأحدب عن أبي بردة قوله، وإسناده قوي، وفيه أن ابن عمر استحسن ذلك منه. وبرك عليه ومسح على رأسه، ورواه ابن جرير وسعيد بن منصور عن ابن سيرين نحوه. وقيل: هي الساعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها الجمعة، رواه ابن عساكر بإسناد صحيح عن ابن سيرين. وقيل: من صلاة العصر إلى غروب الشمس، رواه ابن جرير من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفا، ومن طريق صفوان بن سليم عن أبي سلمة عن أبي سعيد مرفوعا بلفظ: (فالتمسوها بعد العصر)، ورواه الترمذي من طريق موسى بن وردان عن أنس مرفوعا بلفظ: بعد العصر إلى غيبوبة الشمس، وإسناده ضعيف. وقيل: في صلاة العصر، رواه عبد الرزاق عن عمر بن أبي ذر عن يحيى بن إسحاق بن أبي طلحة عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. وقيل: بعد العصر إلى آخر وقت الاختيار، حكاه الغزالي في (الأحياء). وقيل: بعد العصر مطلقا، رواه أحمد من طريق محمد بن سلمة الأنصاري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وابن سعيد مرفوعا بلفظ: (وهي بعد العصر)، ورواه ابن المنذر عن مجاهد مثله. وقيل: من حين تصفر الشمس إلى أن تغيب، رواه عبد الرزاق عن ابن جريج عن إسماعيل بن كيسان عن طاووس قوله. وقيل: آخر ساعة بعد العصر، رواه أبو داود من حديث جابر مرفوعا، ولفظه: (يوم الجمعة ثنتا عشرة، يريد ساعة لا يوجد مسلم يسأل الله شيئا إلا أتاه الله، فالتمسوها آخر الساعة يوم الجمعة)، وأخرجه النسائي والحاكم. وقيل: من حين يغيب نصف قرص الشمس إلى أن يتكامل غروبها، رواه الطبراني في (الأوسط) والدارقطني في (العلل) والبيهقي في (الشعب) و (فضائل الأوقات) من طريق زيد بن علي بن الحسين بن علي، رضي الله تعالى عنهم: (حدثتني مرجانة مولاة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: حدثتني فاطمة، رضي الله تعالى عنها، عن أبيها... فذكر الحديث، وفيه: (قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: أي ساعة هي؟ قال: إذا تدلى نصف الشمس للغروب، فكانت فاطمة، رضي الله تعالى عنها...
فهذه أربعون قولا، وكثير من هذه الأقوال يمكن اتحاده مع غيره. وقال المحب الطبري: أصح الأحاديث فيها حديث أبي موسى، وأشهر الأقوال فيها قول عبد الله بن سلام. وقال البيهقي بإسناده إلى مسلم أنه قال: حديث أبي موسى أجود شيء في هذا الباب وأصحه، وبذلك قال البيهقي وابن العربي وجماعة آخرون. وقال القرطبي هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره. وقال النووي: هو الصحيح بل الصواب، وجزم في (الروضة) أنه هو الصواب، ورجح أيضا بكونه مرفوعا صريحا في أحد الصحيحين، وذهب الأخرون إلى ترجيح قول عبد الله بن سلام، فحكى الترمذي عن أحمد أنه قال: أكثر الأحاديث على ذلك. وقال ابن عبد البر: إنه أثبت شيء في هذا الباب قلت: حديث أبي موسى أخرجه مسلم من رواية مخرمة بن بكير عن أبيه عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، قال: (قال لي عبد الله بن عمر: أسمعت أباك؟..) الحديث، وقد ذكرناه، ولما روى الترمذي من حديث أنس وأبي هريرة قال: وفي الباب عن أبي موسى وأبي ذر وسلمان وعبد الله بن سلام وأبي أمامة وسعد بن عبادة. قلت: وفيه أيضا: عن جابر وعلي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم وميمونة بنت سعد. فحديث أبي موسى عند مسلم كما ذكرناه، وحديث أبي ذر عند. وحديث سلمان عند وحديث عبد الله بن سلام عند ابن ماجة. وحديث أبي أمامة عند ابن ماجة أيضا. وحديث سعد بن عبادة عند أحمد والبزار والطبراني. وحديث جابر عند أبي داود والنسائي. وحديث علي بن أبي طالب عند البزار. وحديث أبي سعيد عند أحمد. وحديث فاطمة عند الطبراني في (الأوسط). وحديث ميمونة بنت سعد عند الطبراني في (الكبير)
[/ ح.
وقال شيخنا شارح الترمذي: حديث أبي هريرة أصحها وليس بين حديث أبي هريرة وبين حديث أبي موسى اختلاف ولا تباين،

244
وإنما الاختلاف بين حديث أبي موسى وبين الأحاديث الواردة في كونها بعد العصر أو آخر ساعة منه، فإما أن يصار إلى الجمع أوالترجيح، فأما الجمع فإنما يمكن بأن يصار إلى القول بالانتقال، وإن لم يقل بالانتقال يكون الأمر بالترجيح، فلا شك أن الأحاديث الواردة في كونها بعد العصر أرجح لكثرتها واتصالها بالسماع، ولهذا لم يختلف في رفعها، والاعتضاد بكونه قول أكثر الصحابة ففيها أوجه من وجوه الترجيح.
وفي حديث أبي موسى وجه واحد من وجوه الترجيح، وهو كونه في أحد الصحيحين دون بقية الأحاديث، ولكن عارض كونه في أحد الصحيحين أمران: أحدهما: أنه ليس متصلا بالسماع بين مخرمة بن بكير وبين أبيه بكير بن عبد الله بن الأشج، قال أحمد بن حنبل: مخرمة ثقة ولم يسمع من أبيه، وقال عباس الدوري عن ابن معين: مخرمة ضعيف الحديث ليس حديثه بشيء، يقولون: إن حديثه عن أبيه كتاب. والأمر الثاني: أن أكثر الرواة جعلوه من قول أبي بردة مقطوعا، وأنه لم يرفعه غير مخرمة عن أبيه، وهذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم.
38
((باب إذا نفر الناس عن الإمام في صلاة الجمعة فصلاة الإمام ومن بقي جائزة))
أي: هذا باب ترجمته إذا نفر الناس عن الإمام... إلى آخره، يعني خرجوا عن مجلس الإمام وذهبوا. قوله: (فصلاة الإمام) كلام إضافي مبتدأ. قوله: (ومن بقي)، عطف عليه، أي: وصلاة منبقي من القوم مع الإمام. قوله: (جائزة) خبر المبتدأ. وفي رواية الأصيلي: تامة. وظاهر هذه الترجمة يدل على أن البخاري،
رحمه الله، لا يرى استمرار الجمعة الذين تنعقد بهم الجمعة إلى تمامها شرطا في صحة الجمعة، وسيجئ بيان الاختلاف فيه مفصلا، إن شاء الله تعالى.
936 حدثنا معاوية بن عمر و قال حدثنا زائدة عن حصين عن سالم بن أبي الجعد قال حدثنا جابر بن عبد الله قال بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم أذ أقبلت عير تحمل طعاما فالتفتوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا فنزلت هاذه الآية وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما..
مطابقته للترجمة من حيث إن الصحابة لما انفضوا حين إقبال العير ولم يبق منهم إلا اثنا عشر نفسا أتم النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الجمعة بهم، لأنه لم ينقل أنه أعاد الظهر، فدل على الترجمة من هذه الحيثية.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: معاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي البغدادي، أصله كوفي، مات في جمادي الأولى سنة أربع عشرة ومائتين. الثاني: زائدة بن قدامة أبو الصلت الكوفي. الثالث: حصين، بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وسكون الياء آخر الحروف وبعدها نون: ابن عبد الرحمن الواسطي. الرابع: سالم بن أبي الجعد واسم أبي الجعد رافع الكوفي. الخامس: جابر بن عبد الله الأنصاري.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن البخاري روى هنا عن معاوية بن عمر وبلا واسطة وروى في مواضع عنه بواسطة عبد الله بن المسندي ومحمد بن عبد الرحيم وأحمد بن أبي رجاء. وفيه: أن رواته ما بين بغدادي وكوفي وواسطي، وقد علم ذلك مما سلف. وفيه: أن مدار هذا الحديث في الصحيحين على حصين المذكور، لأنه تارة يرويه عن سالم بن أبي الجعد وحده كما هنا، وهي رواية أكثر أصحابه، وتارة عن أبي سفيان طلحة بن نافع وحده، وهي رواية قيس بن الربيع وإسرائيل عند ابن مردويه، وتارة جمع بينهما عن جابر وهي رواية خالد بن عبد الله عند البخاري في التفسير، وعند مسلم وكذا رواية هشيم عنده أيضا.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في البيوع عن طلق بن غنام عن زائدة وعن محمد هو ابن سلام عن محمد بن فضيل وفي التفسير عن حفص بن عمر عن خالد بن عبد الله. وأخرجه مسلم في الصلاة عن عثمان ابن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم وعن أبي بكر بن أبي شيبة وعن رفاعة بن الهيثم وعن إسماعيل بن سالم. وأخرجه

245
الترمذي في التفسير عن أحمد بن منيع. وأخرجه النسائي فيه وفي الصلاة عن عبد الله بن أحمد بن عبد الله.
ذكر معناه: قوله: (بينما)، قد مر غير مرة أن أصله: بين، فزيدت عليه: الألف والميم، وأضيف إلى الجملة بعده. وقوله: (إذا أقبلت) جوابه، ويروى: (بينا) بدون الميم. قوله: (نحن نصلي) ظاهره أن انفضاضهم كان بعد دخولهم في الصلاة، والدليل عليه رواية خالد بن عبد الله عند أبي نعيم في (المستخرج): (بينما نحن مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الصلاة). ولكن وقع عند مسلم: (ورسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخطب) وله في رواية: (بينا النبي، صلى الله عليه وسلم، قائم) وزاد أبو عوانة في (صحيحه) والترمذي والدارقطني من طريقه: (يخطب). فإن قلت: كيف التوفيق بين الكلامين؟ قلت: قالوا: قوله: (نصلي) أي: ننتظر الصلاة، وهو معنى: قوله: (في الصلاة) في رواية أبي نعيم في الخطبة، وهو من تسمية الشيء بما قاربه. وقال النووي: والمراد بالصلاة انتظارها في حال الخطبة ليوافق رواية مسلم، وقال ابن الجوزي: معناه حضرنا الصلاة وكان صلى الله عليه وسلم يخطب يومئذ قائما، وبين هذا في حديث جابر أنه، صلى الله عليه وسلم، كان يخطب قائما. وقال البيهقي: الأشبه أن يكون الصحيح رواية من روى أن ذلك كان في الخطبة. قلت: إخراج كلام جابر الذي رواه البخاري يؤدي إلى عدم مطابقته للترجمة، لأنه وضع الترجمة في نفور القوم عن الإمام وهو في الصلاة، وما ذكره يدل على أنهم نفروا والإمام يخطب. قوله: (عير)، بكسر العين المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء: وهي الإبل التي تحمل التجارة طعاما كانت أو غيره، وهي مؤنثة لا واحد لها من لفظها، وقال الزمخشري في قوله تعالى: * (فأذن مؤذن أيتها العير) * (يوسف: 70). إنها الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي: تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير، ثم كثر حتى قيل لكل قافلة: عير، كأنها جمع: عير، بفتح العين والمراد: أصحاب العير، فعلى هذا إسناد الإقبال إلى العير مجاز وفي (المحكم): والجمع: عيرات وعير، ونقل عبد الحق في جمعه: أن البخاري لم يخرج قوله: (إذا أقبلت عير تحمل طعاما)، وليس كذلك، فإنه ثبت هنا وفي أوائل البيوع، نعم سقط ذلك في التفسير. وزاد البخاري في البيوع، أنها أقبلت من الشام، ومثله لمسلم من طريق جرير عن حصين فإن قلت: لمن كانت العير المذكورة؟ قلت: في رواية الطبري من طريق السدي أن الذي قدم بها من الشام هو دحية بن خليفة الكلبي، وقال السهيلي: ذكر أهل الحديث أن دحية بن خليفة الكلبي قدم من الشام بعير له تحمل طعاما وبرا، وكان الناس إذ ذاك محتاجين، فانفضوا إليها وتركوا النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية ابن مردويه من طريق الضحاك، عن ابن عباس: جاءت عير لعبد الرحمن بن عوف، رضي الله تعالى عنه، فإن قلت: كيف التوفيق بين الروايتين؟ قلت: قيل جمع بين هاتين الروايتين بأن التجارة كانت لعبد الرحمن وكان دحية السفير فيها. قلت: يحتمل أن يكونا مشتركين فصحت نسبتها لكل منهما بهذا الاعتبار. قوله: (فالتفتوا إليها) أي: إلى العير، وفي رواية ابن فضيل في البيوع: (فانفض الناس) أي: فتفرق الناس، وهو موافق لنص القرآن، فدل هذا على أن المراد من الالتفات: الانصراف، وبهذا يرد على من حمل الالتفات على ظاهره حيث قال: لا يفهم من هذا الانصراف عن الصلاة وقطعها، وإنما الذي يفهم منه التفاتهم بوجوههم أو بقلوبهم، ويرد هذا أيضا قوله: (حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا) فإن بقاء اثني عشر رجلا منهم يدل على أن الباقين ما بقوا معه صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: وفي قوله: (فالتفتوا)، التفات لأن السياق يقتضي أن يقول: فالتفتنا، وكأن النكتة في عدول جابر عن ذلك أنه هو لم يكن ممن التفت. قلت: ليس فيه التفات، لأن جابرا، رضي الله تعالى عنه، كان من الاثني عشر، على ما جاء أنه قال: وأنا فيهم، فيكون هذا إخبارا عن الذين انفضوا، فلا عدول فيه عن الأصل. قوله: (إلا اثنا عشر) استثناء من الضمير الذي في لفظه: بقي، الذي يعود
إلى المصلي، فإذا كان كذلك يجوز فيه الرفع والنصب، وجاءت الرواية بهما، ولا يقال: إن الاستثناء مفرغ، فيتعين الرفع لأن إعرابه على حسب العوامل، لأن ما ذكر يمنع أن يكون مفرغا. وهنا وجه آخر لجواز الرفع والنصب، أما الرفع فيكون المستثنى فيه محذوفا تقديره: ما بقي أحد مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا عدد كانوا اثني عشر رجلا، وأما النصب فلإعطاء اثني عشر حكم أخواته التي هي ثلاثة عشر وأربعة عشر وغيرهما، لأن الأصل فيها البناء لتضمنها الحرف. فافهم.
ثم تعيين عدد الذين بقوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما هو في (الصحيح) وهم: اثني عشر، وفي الدارقطني ليس معه صلى الله عليه وسلم إلا أربعين رجلا أنا فيهم، ثم قال الدارقطني: لم يقل كذلك

246
إلا علي بن عاصم عن حصين، وخالفه أصحاب حصين فقالوا: اثني عشر رجلا، وفي (المعاني) للفراء إلا ثمانية نفر، وفي تفسير عبد بن حميد: إلا سبعة. ووقع في (تفسير الطبري) وابن أبي حاتم بإسناد صحيح إلى قتادة (قال: قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: كم أنتم؟ فعدوا أنفسهم فإذا اثنا عشر رجلا وامرأة). وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي: وامرأتان، ولابن مردويه من حديث ابن عباس، رضي الله تعالى عنهما: وسبع نسوة، لكن إسناده ضعيف.
وأما تسميتهم فوقع في رواية خالد الطحان عند مسلم أن جابرا قال: أنا فيهم، وله في رواية هشيم: فيهم أبو بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما. وفي تفسير إسماعيل بن أبي زياد الشامي: أن سالما مولى أبي حذيفة منهم، روى العقيلي عن ابن عباس: أن منهم الخلفاء الأربعة وابن مسعود وأناس من الأنصار، وحكى السهيلي أن أسد بن عمرو روى بسند منقطع أن الاثني عشر هم: العشرة المبشرة وبلال وابن مسعود. قال: وفي رواية: عمار، بدل: ابن مسعود. وأهمل جابرا، وهو منهم. كما ذكر في الصحيح.
قوله: (فنزلت هذه الآية) ظاهر هذا أن سبب نزول هذه الآية قدوم العير المذكورة، وفي (مراسيل أبي داود): حدثنا محمود بن خالد حدثنا الوليد أخبرني بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حبان قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين، حتى كان يوم جمعة، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال: إن دحية قدم بتجارته، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف، فخرج الناس لم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء، فأنزل الله عز وجل: * (وإذا رأوا تجارة) * (الجمعة: 11). الآية، فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة، فكان أحد لا يخرج لرعاف أو حدث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم، يشير إليه بإصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه بيده) قال السهيلي: هذا، وإن لم ينقل من وجه ثابت، فالظن الجميل بالصحابة يوجب أن يكون صحيحا. وقال عياض: وقد أنكر بعضهم كونه صلى الله عليه وسلم خطب قط بعد صلاة الجمعة، وفي (سنن الشافعي) رحمه الله: عن إبراهيم بن محمد (حدثني جعفر بن محمد عن أبيه: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، وكانت لهم سوق يقال لها: البطحاء، كانت بنو سليم يجلبون إليها الخيل والإبل والسمن، وقدموا فخرج إليهم الناس وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهم لهو إذا تزوج أحد من الأنصار يضربونه، يقال له: الكبر، فعيرهم الله بذلك فقال: * (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) * (الجمعة: 11). وهو مرسل، لأن محمد الباقر من التابعين، ووصله أبو عوانة في (صحيحه) والطبري يذكر جابرا فيه: أنهم كانوا إذ نكحوا تضرب لهم الجواري بالمزامير فيشتد الناس إليهم ويدعون رسول الله صلى الله عليه وسلمقائما، فنزلت هذه الآية، وفي تفسير عبد بن حميد: حدثنا يعلى عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: قدم دحية بتجارة فخرجوا ينظرون إلا سبعة نفر، وأخبرني عمرو بن عوف عن هشيم عن يونس، (عن الحسن قال: فلم يبق معه صلى الله عليه وسلم إلا رهط منهم: أبو بكر وعمر، رضي الله تعالى عنهما، فنزلت هذه الآية: * (وإذا رأوا تجارة) * (الجمعة: 11). فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى معي أحد منكم لسال بكم الوادي نارا). حدثنا يونس عن شيبان (عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قام يوم جمعة فخطبهم، فقيل: جاءت عير، فجعلوا يقومون حتى بقيت عصابة منهم، فقال: كم أنتم فعدوا أنفسهم فإذا اثنا عشر رجلا وامرأة، ثم قام الجمعة الثانية فخطبهم ووعظهم فقيل: جاءت عير، فجعلوا يقومون حتى بقيت منهم عصابة، فقيل لهم: كم أنتم فعدوا أنفسهم فإذا اثنا عشر رجلا وامرأة. فقال: والذي نفس محمد بيده لو اتبع آخركم أولكم لألهب الوادي عليكم نارا، فأنزل الله تعالى فيها ما تسمعون: * (وإذا رأوا تجارة) * (الجمعة: 11). الآية). حدثنا شيبان عن ورقاء عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: * (وإذا رأوا تجارة أو لهو) * (الجمعة: 11). قال: كان رجال يقومون إلى نواضحهم وإلى السفر يقدمون يتبعون التجارة واللهو. وفي (تفسير ابن عباس): جمع إسماعيل بن أبي زياد الشامي عن جويبر عن الضحاك عن أبان (عن أنس: بينما نحن مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يخطب يوم الجمعة إذ سمع أهل المسجد صوت الطبول والمزامير، وكان أهل المدينة إذا قدمت عليهم العير من الشام بالبر والزبيب استقبلوها فرحا بالمعازف، فقدمت عير لدحية والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من ههنا؟ فقال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة.. فإذا اثنا عشر رجلا وامرأتان. فقال صلى الله عليه وسلم: لو اتبع آخركم أولكم لاضطرم الوادي عليكم نارا، ولكن الله تطول على بكم

247
فرفع العقوبة بكم عمن خرج، فنزلت الآية. وفي (تفسير النسفي): وكانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل والتصفيق، وهو المراد باللهو، وفيه أيضا: (بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي ثم أحد بني الخزرج ثم أحد بني زيد بن مناة من الشام بتجارة، وكان إذا قدم لم يبق بالمدينة عاتق، وكان يقدم إذا قدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق أو بر أو غيره، فنزل عند أحجار الزيت، وهو مكان في سوق المدينة، ثم يضرب الطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه، فقدم ذات يوم جمعة، وكان ذلك قبل أن يسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب، فخرج إليه الناس فلم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كم بقي في المسجد؟ فقالوا: اثني عشر رجلا وامرأة. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا
هؤلاء لقد سومت لهم الحجارة من السماء، وأنزل الله تعالى هذه الآية).
قوله: (انفضوا إليها) من الانفضاض، وهو التفرق. يقال: فضضت القوم فانفضوا أي: فرقتهم فتفرقوا. قال الزمخشري: كيف قال: إليها، وقد ذكر شيئين؟ قلت: تقديره إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وكذلك قراءة من قرأ: انفضوا إليه، وقراءة من قرأ لهوا أو تجارة انفضوا إليها. وقرئ: إليهما. انتهى. وقيل: أعيد الضمير إلى التجارة فقط لأنها كانت أهم إليهم. وقال الزجاج: يجوز في الكلام: انفضوا إليه وإليها وإليهما، ولأن العطف إذا كان ضميرا فقياسه عوده إلى أحدهما لا إليهما، وأن الضمير أعيد إلى المعنى دون اللفظ أي: انفضوا إلى الرؤية التي رأوها، أي: مالوا إلى طلب ما رأوه.
ذكر ما يستفاد منه: يستفاد من ظاهر حديث الباب أن القوم إذا نفروا عن الإمام وهو في صلاة الجمعة فصلاة من بقي وصلاة الإمام على حالها، فلذلك ترجم البخاري الباب بقوله: باب إذا نفر الناس.. إلى آخره. وقال ابن بطال: اختلف العلماء في الإمام يفتتح صلاة الجمعة بجماعة ثم يتفرقون، فقال الثوري: إذا ذهبوا إلا رجلين صلى ركعتين، وإن بقي واحد صلى أربعا. وقال أبو ثور: يصليها جمعة. انتهى. قلت: إذا اقتدى الناس بالإمام في صلاة الجمعة ثم عرض للناس عارض أداهم إلى النفور فنفروا وبقي الإمام وحده، وذلك قبل أن يركع ويسجد استقبل الظهر عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: إن نفروا عنه بعدما افتتح الصلاة صلى الجمعة، وإن بقي وحده. وبه قال المزني: في قول، وإن نفروا عنه بعدما ركع وسجد سجدة بنى على الجمعة، في قولهم جميعا، خلافا لزفر، فعنده: يصلي الظهر، وعند مالك: ان انفضوا بعد الإحرام ويئس من رجوعهم بنى على إحرامه أربعا، وإلا جعلها نافلة وانتظرهم، وإن انفضوا بعد ركعة، قال أشهب وعبد الوهاب: يتمها جمعة، وهو اختيار المزني. وقال سحنون: هو كما بعد الإحرام، فتشترط إلى الانتهاء. وقال إسحاق: إن بقي معه اثنا عشر صلى الجمعة، وظاهر كلام أحمد استدامة الأربعين.
وقال النووي: لو أحرم بالأربعين المشروطة ثم انفضوا، ففيه خمسة أقوال: أصحها: يتمها ظهرا كالابتداء، وللمزني تخريجان: أحدهما: يتمها جمعة وحده، والثاني: إن صلى ركعة بسجدتيها أتمها جمعة. وقيل: إن بقي معه واحد أتمها جمعة، نص عليه في القديم وذكر ابن المنذر: إن بقي معه اثنان أتمها جمعة. وهي رواية البويطي. وقال صاحب (التقريب): يحتمل أن يكتفي بالعبد والمسافر، وأقام الماوردي الصبي والمرأة مقامهما، فالحاصل بقاء الأربعين في كل الصلاة، هل هو شرط أم لا؟ قولان: فإن قلنا: لا، فهل يشترط بقاء عدد أم لا؟ فقولان: فإن قلنا: لا. فهل يفصل بين الركعة الأولى والثانية أم لا؟ قولان، فإن قلنا: نعم فكم يشترط؟ قولان: أحدهما: ثلاثة، والآخر، اثنان فإذا أردت اختصار ذلك؟ قلت: في المسألة خمسة أقوال: أحدها: يتمها ظهرا كيف ما كان، وهو الصحيح. والثاني: جمعة كيف ما كان. والثالث: إن بقي معه اثنان أتمها جمعة. وإلا ظهرا. الرابع: إن بقي معه واحد أتمها جمعة. والخامس: إن انفضوا أو بعضهم بعد تمام الركعة بسجدتيها أتمها جمعة وإلا ظهرا.
قلت: الأصل أن الجماعة من شرائط الجمعة لأنها مشتقة منها. وأجمعت الأمة على أن الجمعة لا تصح من المنفرد إلا ما ذكر ابن حزم في (المحلى) عن بعض الناس: أن الفذ يصلي الجمعة كالظهر. ثم أقل الجماعة عند أبي حنيفة ثلاثة سوى الإمام، وبه قال زفر والليث بن سعد، وحكاه ابن المنذر عن الأوزاعي والثوري في قول وأبي ثور، واختاره المزني وعند أبي يوسف ومحمد: اثنان سوى الإمام. وبه قال أبو ثور والثوري في قول: وهو قول الحسن البصري، ثم الجماعة للجمعة شرط تأحكد العقد بالسجدة عند أبي حنيفة، وعندهما للشروع، وعند زفر يشترط دوامها كالوقت

248
والطهارة، وفائدة الخلاف تظهر فيما ذكرناه عنهم الآن.
وفي العدد الذي تصح به الجمعة أربعة عشر قولا. ثلاثة سوى الإمام عند أبي حنيفة، واثنان سواه عندهما، وواحد سواه عند النخعي والحسن بن حي وجميع الظاهرية، وسبعة عن عكرمة، وتسعة واثنا عشر عن ربيعة، وثلاثة عشر وعشرون وثلاثون عن مالك في رواية ابن حبيب، وأربعون موالي عن عمر بن عبد العزيز، وأربعون أحرارا بالغين عقلاء مقيمين لا يظعنون صيفا ولا شتاء إلا ظعن حاجة عند الشافعي، وأحمد في ظاهر قوله، وخمسون رجلا عن أحمد في رواية وعمر بن عبد العزيز في رواية، وثمانون ذكره المازري وغير محدود بعدد ذكره المازري أيضا. وقال الكرماني: وفي الحديث دليل لمالك حيث قال: تنعقد الجمعة بإثني عشر، وأجاب الشافعي بأنه محمول على أنهم رجعوا أو رجع منهم تمام أربعين، فأتم بهم الجمعة. قلت: في استدلال مالك نظر، وكذا في جواب الشافعية، لأنه لم يرد أنه أتم الصلاة، ويحتمل أنه أتمها ظهرا. وقيل: إن إسحاق بن راهويه ذهب إلى ظاهر هذا الحديث، فقال: إذا تفرقوا بعد الانعقاد يشترط بقاء اثني عشر، وتعقب بأنها واقعة عين لا عموم لها، وقال بعضهم: ترجح كون انفضاض القوم وقع في الخطبة لا في الصلاة،، وهو اللائق بالصحابة تحسينا للظن بهم. وقال الأصيلي: وصف الله تعالى الصحابة بخلاف هذا فقال: * (رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) * (النور: 37). قلت: قيل: إن نزول الآية بعد وقوع هذا الأمر على أنه ليس في الآية تصريح بنزولها في الصحابة، ولئن سلمنا فلم يكن تقدم لهم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة وفهموا منها ذم ذلك اجتنبوه فوصفوا بعد ذلك بآية النور.
39
((باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها))
أي: هذا باب في بيان كمية الصلاة بعد صلاة الجمعة وقبلها.
9337 حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين وبعد
المغرب ركعتين في بيته وبعد العشاء ركعتين وكان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف فيصلي ركعتين...
مطابقته للترجمة في قوله: (وكان لا يصلي بعد الجمعة..) إلى آخره. فإن قلت: الترجمة مشتملة على بعد الجمعة وقبلها، وليس في الحديث إلا بعدها؟ قلت: أجيب عنه من وجوه: الأول: كأنه أشار إلى ما وقع في بعض طرق حديث الباب وهو ما رواه أبو داود وابن حبان من طريق أيوب، (عن نافع قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة ويصلي بعدها ركعتين، ويحدث أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم: كان يفعل ذلك وقد جرت عادته بمثل ذلك). والثاني: أنه أشار به إلى استواء الظهر والجمعة حتى يدل الدليل على خلافه، لأن الجمعة بدل الظهر، وكانت عنايته بحكم الصلاة بعدها أكثر، فلذلك ذكره في الترجمة مقدما على خلاف العادة في تقديم القبل على البعد. والثالث: ورود الخبر في البعد صريح، وأشار إلى الذي فيه القبل، فذكر الذي فيه البعد صريحا، وأشار الذي فيه القبل.
وأما رجال الحديث فقد ذكروا غير مرة.
وأما من أخرجه غيره: فقد أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق مالك عن نافع إلى آخره. وأخرجه الترمذي من حديث الزهري عن سالم عن ابن عمر عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه كان يصلي بعد الجمعة ركعتين). وأخرجه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الزهري، وأخرج الترمذي أيضا من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا). وفي (سنن سعيد ابن منصور): عن أبي عبد الرحمن السلمي، قال: (علمنا ابن مسعود، رضي الله تعالى عنه، أن نصلي بعد الجمعة أربعا، فلما قدم علينا علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنه، علمنا أن نصلي ستا..). وروى ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير، رضي الله تعالى عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان). وعند أبي داود، وقال: هو مرسل: (عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره الصلاة نصف النهار إلا يوم الجمعة). وقال: (إن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة). وعن أبي هريرة مثله، رواه

249
الشافعي عن إبراهيم شيخه. وفي (الأوسط) للطبراني من حديث ابن عبيدة عن أبيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا). وعند ابن ماجة بسند ضعيف عن ابن عباس، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يركع قبل الجمعة أربعا لا يفصل في شيء منهن)، ورواه الطبراني في (المعجم الكبير): برجال ابن ماجة، وهي رواية بقية عن مبشر بن عبيد عن حجاج بن أرطاة عن عطية العوفي عن ابن عباس، فزاد فيه: (وبعدها أربعا). قال النووي في (الخلاصة): هذا حديث باطل اجتمع فيه هؤلاء الأربعة وهم ضعفاء، ومبشر وضاع صاحب أباطيل. قلت: بقية بن الوليد موثق ولكنه مدلس، وحجاج صدوق روى له مسلم مقرونا بغيره، وعطية مشاه يحيى بن معين فقال فيه: صالح ولكن ضعفهما الجمهور.
قوله: (حتى ينصرف) أي: إلى البيت. قوله: (فيصلي) بالرفع لا بالنصب.
ومما يستفاد منه: أن صلاة النوافل في البيت أولى، وقال ابن بطال: إنما أعاد ابن عمر ذكر الجمعة بعد ذكر الظهر من أجل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي سنة الجمعة في بيته، بخلاف الظهر، قال: والحكمة فيه أن الجمعة لما كانت بدل الظهر واقتصر فيها على ركعتين ترك التنفل بعدها في المسجد خشية أن يظن أنها التي حذفت. انتهى. وقد أجاز مالك الصلاة بعد الجمعة في المسجد للناس ولم يجز للأمة. وقال ابن بطال: اختلف العلماء في الصلاة بعد الجمعة، فقالت طائفة: يصلي بعدها ركعتين في بيته كالتطوع بعد الظهر، وروي ذلك عن عمر وعمران بن حصين والنخعي، وقال مالك: إذا صلى الإمام الجمعة فينبغي أن لا يركع في المسجد، لما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أنه: كان ينصرف بعد الجمعة ولم يركع في المسجد، حتى قال: ومن خلفه أيضا إذا سلموا، فأحب أن ينصرفوا، ولا يركعوا في المسجد، وإن ركعوا فذاك واسع. وقالت طائفة: يصلي بعدها ركعتين ثم أربعا، روي ذلك عن علي وابن عمر وأبي موسى، وهو قول عطاء والثوري وأبي يوسف إلا أن أبا يوسف استحب أن تقدم الأربع قبل الركعتين. وقال الشافعي: ما أكثر المصلي بعد الجمعة من التطوع فهو أحب إلي. وقالت طائفة: يصلي بعدها أربعا لا يفصل بينهن بسلام، وروي ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والنخعي، وهو قول أبي حنيفة وإسحاق.
حجة الأولين حديث ابن عمر: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي بعد الجمعة إلا ركعتين في بيته). قال المهلب: وهما الركعتان بعد الظهر. وحجة الطائفة الثانية ما رواه أبو إسحاق (عن عطاء قال: صليت مع ابن عمر الجمعة، فلما سلم قام فركع ركعتين ثم صلى أربع ركعات ثم انصرف). وجه قول أبي يوسف ما رواه الأعمش عن إبراهيم عن سليمان بن مسهر عن حرشة بن الحر: أن عمر، رضي الله تعالى عنه، كره أن تصلي بعد صلاة مثلها. وحجة الطائفة الثالثة ما رواه ابن عيينة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا: (من كان منكم مصليا بعد الجمعة فليصل أربعا). وقد مر ذكره.
وبقي الكلام في سنة الظهر والمغرب والعشاء. أما سنة الظهر فسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى. وأما سنة المغرب، فقد روى الترمذي من حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: (ما أحصي ما سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقرأ في الركعتين بعد المغرب وفي الركعتين قبل صلاة الفجر. * (بقل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله أحد) * وأخرجه ابن ماجة أيضا. وأخرجه الترمذي أيضا من رواية أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: (حفظت من النبي، صلى الله عليه وسلم، عشر ركعات...) الحديث. وفيه: (ركعتين بعد المغرب في بيته). واتفق عليه الشيخان من رواية يحيى بن سعيد عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما. وفي هذا الباب عن عبد الله بن جعفر عند الطبراني في (الأوسط) وابن عباس عند أبي داود وأبي أمامة عند الطبراني في (الكبير) وأبي هريرة عند النسائي وابن ماجة: وهاتان الركعتان بعد المغرب من السنن المؤكدة، وبالغ بعض التابعين فيهما، فروى ابن أبي شيبة في (مصنفه): عن وكيع عن جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم الأسدي عن سعيد بن جبير، قال: لو تركت الركعتين بعد المغرب لخشيت أن لا يغفر لي، وقد شذ الحسن البصري فقال بوجوبهما، ولم يقل مالك
بشيء من التوابع للفرائض إلا ركعتي الفجر، وروى ابن أبي شيبة (عن ابن عمر، قال: من صلى بعد المغرب أربعا كان كالمعقب غزوة بعد غزوة). وروي أيضا عن مكحول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى ركعتين بعد المغرب)، يعني: قبل أن يتكلم (رفعت صلاته في عليين). قال شارح الترمذي: وهذا لا يصح لإرساله، وأيضا فلا يدري من القائل، يعني: قبل أن يتكلم.

250
قلت: رواه متصلا أبو الشيخ ابن حبان في كتاب (الثواب وفضائل الأعمال) من رواية مقاتل عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا: (ما من صلاة أحب إلى الله من المغرب). الحديث، وفيه: (فمن صلاها ثم صلى بعدها ركعتين قبل أن يتكلم جليسه رفعت صلاته في أعلى عليين). قلت: يصح هذا مستندا لأصحابنا في استحبابهم إيصال السنن للفرائض. وقال شارح الترمذي: وله وجه في المغرب بسبب ضيق وقتها على القول بأن وقتها ضيق على قول الشافعي في الجديد، ثم المستحب في ركعتي المغرب أن تكونا في بيته لظاهر الحديث، وكذلك سائر النوافل التابعة للفرائض أن تكون في البيت عند جمهور العلماء، للحديث المتفق عليه: (أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة). وعند الثوري ومالك: نوافل النهار كلها في المسجد أفضل، وذهب ابن ألي ليلى إلى أن سنة المغرب لا يجزئ فعلها في المسجد. وأما سنة العشاء، وهما الركعتان بعدها، فمن السنن المؤكدة، وقد صح أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يدعهما. وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى ركعتين بعد العشاء الآخرة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وعشرين مرة. * (قل هو الله أحد) * بنى الله عز وجل له قصرا في الجنة). رواه أبو الشيخ ابن حبان.
40
((با قول الله تعالى فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله))
أي: هذا باب في بيان المراد من ذكر قول الله عز وجل: * (فإذا قضيت) * (الجمعة: 10). وأراد بذكر هذه الآية الكريمة هنا الإشارة إلى أن الأمر في قوله: * (فانتشروا) * (الجمعة: 10). والأمر في قوله: * (وابتغوا) * (الجمعة: 10). للإباحة لا للوجوب، لأنهم منعوا عن الانتشار في الأرض للتكسب وقت النداء يوم الجمعة، لأجل إقامة صلاة الجمعة، فلما صلوا وفرغوا أمروا بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله، وهو رزقه، وإنما قلنا: هذا الأمر للإباحة لأنه لمنفعة لنا، فلو كان للوجوب لعاد علينا، وذلك كما في قوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * (المائدة: 2). فإنه حرم عليهم الصيد وهم محرمون، فلما خرجوا عن الإحرام أحل لهم الصيد، كما كان أولا. وقال ابن التين: جماعة أهل العلم على أن هذا إباحة بعد الحظر، وقيل: هو أمر على بابه. وعن الداودي: هو إباحة لمن كان له كفاف ولا يطيق التكسب، وفرض على من لا شيء له، ويطيق التكسب. وقال غيره: من تعطف عليه بسؤال أو غيره ليس طلب التكسب عليه بفريضة. وفي (تفسير النسفي) * (فإذا قضيت الصلاة) * (الجمعة: 10). فرغ منها * (فانتشروا في الأرض) * (الجمعة: 10). للتجارة والتصرف في حوائجكم. * (وابتغوا من فضل الله) * (الجمعة: 10). أي: الرزق، ثم أطلق لهم ما حظر عليهم بعد قضاء الصلاة من الانتشار، وابتغاء الربح مع التوصية بإكثار الذكر وأن لا يلهيهم شيء من التجارة ولا غيرها عنه، وهما أمر إباحة وتخيير كما في قوله: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * (المائدة: 2). وعن أنس، رضي الله تعالى عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله: * (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) * (الجمعة: 10). ليس لطلب دنياكم، ولكن عيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله. وقيل: صلاة تطوع. وقال الحسن وسعيد بن جبير ومحكول: وابتغوا من فضل الله، هو طلب العلم، وقال جعفر الصادق، رضي الله تعالى عنه: وابتغوا من فضل الله يوم السبت.
938 حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبو غسان قال حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد قال كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقا فكانت إذا كان يوم جمعة تنزع أصول السلق فتجعله في قدر ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها فتكون اصول السلق عرقه وكنا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلم عليها فتقرب ذالك الطعام إلينا فنلعقه وكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذالك.
مطابقته للترجمة التي هي آية من القرآن الكريم من حيث إن في الآية الانتشار بعد الفراغ من الصلاة، وهو الانصراف منها، وفي الحديث أيضا: كانوا ينصرفون بعد فراغهم من صلاة الجمعة، وفي الآية الابتغاء من فضل الله الذي هو الرزق

251
وفي الحديث أيضا: كانوا بعد انصرافهم منها يبتغون ما كانت تلك المرأة تهيؤه من أصول السلق، وهو أيضا رزق ساقه الله إليهم. ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: سعيد بن أبي مريم وهو سعيد بن محمد بن الحكم بن أبي مريم الجمحي مولاهم البصري. الثاني: أبو غسان، بفتح الغين المعجمة وتشديد السين المهملة: هو محمد بن مطرف المدني. الثالث: أبو حازم، بالحاء المهملة وبالزاي: هو سلمة بن دينار. الرابع: سهيل بن سعيد بن مالك الأنصاري والساعدي..
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: راويان مذكوران بالكنية. وفيه: أن رجاله مدنيون ما خلا شيخ البخاري فإنه مصري.
ذكر معناه: قوله: (امرأة)، لم يعلم اسمها. قوله: (تجعل) بالجيم والعين المهملة، وفي رواية الكشميهني: تحقل، بالحاء المهملة والقاف أي: تزرع. وقال الجوهري: الحقل الزرع إذا تشعب ورقه قبل أن يغلظ سوقه، تقول منه: أحقل الزرع، ومنه: المحاقلة، وهو بيع الزرع وهو في سنبله. قوله: (على أربعاء)، جمع: ربيع، كأنصباء جمع نصيب. وهو الجداول، وذكر ابن سيده أن الربيع هو الساقية الصغيرة تجري إلى النخل مجاريه، وقال ابن التين: هي الساقية. وقيل: النهر الصغير. وقال عبد الملك: هو حافات الأحواض ومجاري المياه. الجداول: جمع جدول، وهو النهر الصغير، قاله الجوهري. قوله: (في مزرعة) بفتح
الراء، وحكى ابن مالك جواز تثليثها. قوله: (سلقا)، بكسر السين وهو معروف، وانتصابه على أنه مفعول تجعل أو تحقل على الروايتين، وقال الكرماني: وسلق، بالرفع مبتدأ خبره: لها، أو مفعول ما لم يسم فاعله على تقدير أن يجعل بلفظ المجهول، وبالنصب إن كان بلفظ المعروف، وحينئذ الأصل فيه أن يكتب بالألف، لكن جاز على اللغة الربيعية أن يسكن بدون الألف لأنهم يقفون على المنصوب المنون بالسكون، فلا يحتاج الكاتب على لغتهم إلى الألف، ومثله كثير في هذا الصحيح، نحو: سمعت أنس، ورأيت سالم. انتهى. قلت: تصرفه في إعراب: سلقا، تعسف مع عدم مجيء الرواية على الرفع، وهو منصوب قطعا على ما ذكرنا. قوله: (تطحنها) من الطحن، ومحله النصب على الحال من: شعير، قاله الكرماني، وليس كذلك، لأن شرط ذي الحال أن يكون معرفة والجملة بعد النكرة صفة، وفي رواية المستملي: (تطبخها) من الطبخ. قوله: (عرقه)، بفتح العين وسكون الراء المهملتين وفتح القاف بعدها هاء الضمير أي: عرق الطعام الذي تطبخه المرأة من أصول السلق، وقال بعضهم أي: عرق الطعام وليس بشيء، لأنه لم يمض ذكره، ولفظ الطعام قد ذكر فيما بعده، والعرق اللحم الذي على العظم، يقال: عرقت العظم عرقا إذا أكلت ما عليه من اللحم، والمراد: أن أصول السلق كانت عوضا عن اللحم. وفي رواية الكشميهني: (غرقة)، بفتح الغين المعجمة وكسر الراء وبعد القاف هاء تأنيث بمعنى: مغروقة، يعني السلق يغرق في المرقة لشدة نضجه. قوله: (فنلعقه)، من: لعق يلعق من باب: علم يعلم، واختيار ثعلب في الفصيح هكذا، بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: جواز السلام على النسوة الأجانب واستحباب التقرب بالخير ولو بالشيء الحقير. وفيه: قناعة الصحابة، رضي الله تعالى عنهم، وشدة العيش وعدم حرصهم على الدنيا ولذاتها. وفيه: المبادرة إلى الطاعة.
939 حدثنا عبد الله بن مسلمة قال حدثنا ابن أبي حازم عن أبيه عن سهل بهاذا وقال ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة..
عبد الله بن مسلمة، بفتح الميمين: هو القعنبي، وابن أبي حازم هو عبد العزيز ابن أبي حازم سلمة بن دينار المدني، مات سنة أربع وثمانين ومائة، وهو ساجد. وقال أبو داود: مات فجأة يوم الجمعة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في التاريخ المذكور. قوله: (بهذا)، أي: بهذا الحديث الذي قبله، وأشار بهذا إلى أن أبا غسان وعبد العزيز المذكور اشتركا في رواية هذا الحديث عن أبي حازم، وزاد عبد العزيز قوله: ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. قوله: (نقيل) بفتح النون من: قال يقيل قيلولة فهو قائل، والقيلولة: الاستراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم، وكذلك: المقيل، وأصله أجوف يائي. قوله: (ولا نتغدى) بالغين المعجمة والدال المهملة من: الغداء، وهو الطعام الذي يؤكل أول النهار، واستدلت الحنابلة بهذا الحديث لأحمد على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال، ورد عليهم بما قاله ابن بطال: بأنه لا دلالة فيه على هذا، لأنه لا يسمى بعد الجمعة وقت الغداء، بل فيه أنهم كانوا يتشاغلون عن الغداء والقائلة بالتهيىء

252
للجمعة ثم بالصلاة ثم ينصرفون فيقيلون ويتغدون، فتكون قائلتهم وغداؤهم بعد الجمعة عوضا عما فاتهم في وقته من أجل بكورهم، وعلى هذا التأويل جمهور الأئمة وعامة العلماء، وقد استوفينا الكلام فيه في: باب وقت الجمعة إذا زالت الشمس.
41
((باب القائلة بعد الجمعة))
أي: هذا باب في بيان حكم القائلة بعد صلاة الجمعة، والقائلة على وزن الفاعلة بمعنى: القيلولة، وقد ذكرناه عن قريب.
940 حدثنا محمد بن عقبة الشيباني قال حدثنا أبو إسحاق الفزاري عن حميد قال سمعت أنسا يقول كنا نبكر إلى الجمعة ثم نقيل (انظر الحديث 905).
مطابقته للترجمة ظاهرة لأن ظاهر الحديث أنهم كانوا يصلون الجمعة ثم يقيلون.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: محمد بن عقبة أبو عبد الله الشيباني الكوفي، أخو الوليد. الثاني: أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الفزاري، بفتح الفاء وتخفيف الزاي وبالراء، المصيصي بإهمال الصادين، مات سنة ست وثمانين ومائة. الثالث: حميد بضم الحاء: ابن أبي حميد الطويل البصري. الرابع: أنس بن مالك، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن رواته كوفي ومصيصي وبصري.
قوله: (نبكر) من التبكير وهو الإسراع إلى الشيء.
وفيه: نوم القائلة وهو مستحب، وقد قال الله تعالى: * (وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة) * (النور: 58). أي: من القائلة.
941 حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبو غسان قال حدثني أبو حازم عن سهل. قال كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة ثم تكون القائلة.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وأبو غسان محمد بن مطرف، وقد مر في الباب السابق، وكذلك أبو حازم وهو: سلمة بن دينار. قوله: (ثم تكون القائلة) أي: تقع القيلولة، والكلام فيه قد مر عن قريب مستوفى.
هذا آخر كتاب الجمعة
12
((كتاب الخوف))
1 أبواب صلاة الخوف وقول الله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا * وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم إذا من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا) * (النساء: 101 و 102)
[/ ح.
أي: هذه أبواب في بيان حكم صلاة الخوف، كذا وقع لفظة أبواب بصيغة الجمع في رواية المستملي وأبي الوقت، وفي رواية الأصيلي وكريمة: باب، بالإفراد، وسقط في رواية الباقين. قوله: (وقول الله) بالجر، عطف على ما قبله، وثبتت الآيتان بتمامهما إلى قوله: * (عذابا مهينا) * في رواية كريمة وفي رواية الأصيلي اقتصر على قوله: * (وإذا ضربتم في الأرض فيس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة) * ثم قال: إلى قوله: * (عذابا مهينا) * وأما في رواية، أبي ذر فساق الآية الأولى بتمامها، ومن الآية الثانية ساق إلى قوله: * (معك) * ثم قالإلى قوله (عذبا مهينا) وإنما ذكر هاتين الآيتين الكريمتين في هذه الترجمة إشارة إلى أن صلاة الخوف في هيئة خارجة عن هيئات بقية الصلوات، إنما ثبتت بالكتاب، وأما بيان صورتها على اختلافها فبالسنة.

253
قوله: * (وإذا ضربتم في الأرض) * الضرب في الأرض السفر، ويقال: ضربت في الأرض إذا سافرت، وتأتي هذه المادة لمعان كثيرة. قوله: * (جناح) * أي: إثم. قوله: * (أن تقصروا) * ظاهره التخيير بين القصر والإتمام، وأن الإتمام أفضل، وإليه ذهب الشافعي، وعن أبي حنيفة: القصر في السفر عزيمة غير رخصة، لا يجوز غيره. وقرئ: إن تقصروا، بضم التاء من: الإقصار، وقرأ الزهري ان تقصروا، بالتشديد، والقصر ثابت بنص الكتاب في حال الخوف خاصة. وهو قوله: * (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) * وأما في حال الأمن فبالسنة، واحتج الشافعي أيضا بما رواه مسلم والأربعة عن يعلى بن أمية. قال: قلت لعمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه: قال الله تعالى: * (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم) * فقد أمن الناس، قال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (صدقة تصدق الله تعالى بها عليكم، فاقبلوا صدقته). فقد علق القصر بالقبول وسماه صدقة والمتصدق عليه مخير في قبول الصدقة، فلا يلزمه القبول حتما.
ولنا أحاديث: منها: حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها، قالت: (فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر). رواه البخاري ومسلم. ومنها: حديث ابن عباس قال: (فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع ركعات، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة). رواه مسلم. ومنها: حديث عمر، رضي الله تعالى عنه، قال: (صلاة السفر ركعتان، وصلاة الضحى ركعتان، وصلاة الفطر ركعتان، وصلاة الجمعة ركعتان، تمام غير قصر على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم). رواه النسائي وابن ماجة وابن حبان في (صحيحه) والجواب عن حديث يعلى بن أمية أنه دليلنا لأنه أمر بالقبول والأمر للوجوب.
قوله: (أن يفتنكم)، المراد من الفتنة ههنا القتال والتعرض لما يكره. قوله: (وإذا كنت فيهم) تعلق به أبو يوسف وذهب إلى أن صلاة الخوف غير مشروعة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وبه قال الحسن بن زيادة والمزني وإبراهيم بن علية، فعلل المزني بالنسخ في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، حيث أخرها يوم الخندق، وعلل أبو يوسف بأن الله شرط كون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم لإقامتها، ورد ما قاله المزني بما روي عن الصحابة في هذا الباب بعد الخندق، والخندق مقدم على المشهور، فكيف ينسخ المتأخر؟ ذكره النووي وغيره، ورد ما قاله أبو يوسف بأن الصحابة فعلوها بعده صلى الله عليه وسلم، وأن سببها الخوف وهو متحقق بعده، كما في حياته، ثم إعلم أن الخوف لا يؤثر في نقصان عدد الركعات إلا عند ابن عباس والحسن البصري وطاووس حيث قالوا: إنها ركعة، وروى مسلم من حديث مجاهد، (عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة). وأخرجه الأربعة أيضا، وإليه ذهب أيضا عطاء وطاووس ومجاهد والحكم بن عتيبة وقتادة وإسحاق والضحاك. وقال ابن قدامة: والذي قال منهم: ركعة، إنما جعلها عند شدة القتال، وروي مثله عن زيد بن ثابت وأبي هريرة وجابر، قال جابر: إنما القصر ركعة عند القتال، وقال إسحاق: يجزيك عن الشدة ركعة تومىء إيماء فإن لم تقدر فسجدة واحدة، فإن لم تقدر فتكبيرة لأنها ذكر الله تعالى. وعن الضحاك أنه قال: ركعة، فإن لم تقدر كبر تكبيرة حيث كان وجهك،. وقال القاضي: لا تأثير للخوف في عدد الركعات، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم ابن عمر والنخعي والثوري ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه، وسائر أهل العلم من علماء الأمصار لا يجيزون ركعة.
942 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال سألته هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم يعني صلاة الخوف قال أخبرني سالم أن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نجد فوازينا العدو فصاففنا لهم فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي لنا فقامت طائفة معه تصلي وأقبلت طائفة على العدو وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن معه وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاؤا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ركعة وسجد سجدتين ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين..
مطابقته للترجمة من حيث إن المذكور فيها مشروعية صلاة الخوف، والحديث فيه كذلك مع بيان صفتها.
ذكر

254
رجاله: وهم خمسة: الأول: أبو اليمان الحكم بن نافع. الثاني: شعيب بن أبي حمزة. الثالث: محمد بن مسلم الزهري. الرابع: سالم بن عبد الله بن عمر. الخامس
: أبوه عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإخبار كذلك في موضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن الأولين من الرواة حمصيان والاثنين بعدهما مدنيان.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في المغازي عن أبي اليمان. وأخرجه مسلم أيضا عن عبد ابن حميد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. وأخرجه أبو داود عن مسدد بن عبد الملك عن يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري. وأخرجه الترمذي عن محمد بن عبد الملك عن يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري، وأخرجه النسائي عن كثير ابن عبيد عن بقية عن شعيب عن الزهري عن سالم عن أبيه. وأخرجه النسائي أيضا عن عبد الأعلى بن واصل عن يحيى بن آدم عن سفيان عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر، ولما أخرج الترمذي حديث ابن عمر قال: وفي الباب عن جابر وحذيفة وزيد بن ثابت وابن عباس وأبي هريرة وابن مسعود سهل ابن أبي حثمة وأبي عياش الزرقي، واسمه زيد بن صامت وأبي بكرة. قلت: وفيه أيضا عن علي وعائشة وخوات بن جبير وأبي موسى الأشعري. فحديث جابر عند مسلم موصولا، وعند البخاري معلقا في المغازي. وحديث حذيفة عند أبي داود والنسائي. وحديث زيد بن ثابت عند النسائي. وحديث ابن عباس عند البخاري والنسائي. وحديث أبي هريرة عند البخاري في التفسير والنسائي في الصلاة. وحديث ابن مسعود عند أبي داود. وحديث سهل بن أبي حثمة عند الترمذي. وحديث أبي عياش عند أبي داود والنسائي. وحديث أبي بكرة عند أبي داود والنسائي. وحديث علي عند البزار. وحديث عائشة عند أبي داود. وحديث خوات بن جبير عند ابن منده في (معرفة الصحابة) وحديث أبو موسى عند ابن البر في (التمهيد)
[/ ح.
ذكر معناه: قوله: (سألته) السائل هو: شعيب، أي: سألت الزهري. قوله: (هل صلى النبي صلى الله عليه وسلم؟) وفي رواية السراج: عن محمد بن يحيى عن أبي اليمان شيخ البخاري: (سألته هل صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف وكيف صلاها إن كان صلاها؟ قوله: (قبل نجد)، بكسر القاف وفتح الباء، أي: جهة نجد، والنجد كل ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد، وهذه الغزوة هي غزوة ذات الرقاع. وقال ابن إسحاق: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد غزوة بني النضير شهري ربيع وبعض جمادى، ثم غزا نجدا يريد بني محارب وبني ثعلبة من غطفان، واستعمل على المدينة أبا ذر، رضي الله تعالى عنه، قال ابن هشام: ويقال: عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه. قال ابن إسحاق: فسار حتى نزل نجدا وهي غزوة ذات الرقاع، قلت: ذكرها في السنة الرابعة من الهجرة، وكانت فيها غزوة بني النضير أيضا، وهي التي أنزل الله تعالى فيها سورة الحشر، وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال: كانت غزوة بني النضير أيضا بعد بدر بستة أشهر قبل أحد، وكانت غزوة أحد في شوال سنة ثلاث.
واختلفوا في أي سنة نزل بيان صلاة الخوف؟ فقال الجمهور: إن أول ما صليت في غزوة ذات الرقاع، قاله محمد بن سعد وغيره. واختلف أهل السير في أي سنة كانت؟ فقيل: سنة أربع، وقيل: سنة خمس، وقيل: سنة ست، وقيل: سنة سبع، فقال محمد بن إسحاق كانت أول ما صليت قبل بدر الموعد، وذكر ابن إسحاق وابن عبد البر أن بدر الموعد كانت في شعبان من سنة أربع. وقال ابن إسحاق: وكانت ذات الرقاع في جمادي الأولى، وكذا قال أبو عمر ابن عبد البر: إنها في جمادى الأولى سنة أربع. فإن قلت: قال الغزالي في (الوسيط) وتبعه عليه الرافعي: إن غزوة ذات الرقاع آخر الغزوات. قلت: هذا غير صحيح، وقد أنكر عليه ابن الصلاح في (مشكل الوسيط) وقال: ليست آخرها ولا من أواخرها، وإنما آخر غزواته: تبوك، وهو كما ذكره أهل السير، وإن أراد أنها آخر غزاة صلى فيها صلاة الخوف فليس بصحيح أيضا، فقد صلى معه صلاة الخوف أبو بكرة، وإنما نزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الطائف، تدلى ببكرة فكنى بها، وليس بعد غزوة الطائف إلا غزوة تبوك، ولهذا قال ابن حزم: إن صفة صلاة الخوف في حديث أبي بكرة أفضل صلاة الخوف، لأنها آخر فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لها.
قوله: (فوازينا العدو) أي: قابلنا من الموازاة، وهي المقابلة والمحاذاة وأصله من الإزاء: بالهمزة، في أوله يقال: هو بإزائه: أي: بحذائه، وقد آزيته إذا حاذيته. ولا تقل: وازيته، قاله الجوهري. قلت: فعلى هذا أصل. قوله: (فوازينا) أي: فآزينا

255
قلبت الهمزة واوا كما أن الوار تقلب همزة في مواضع منها: أواقي أصله وواقي. قوله: (فصاففناهم)، وفي رواية المستملي والسرخسي: (فصاففنا لهم)، ويروى: (فصففناهم). قوله: (يصلي لنا)، أي: لأجلنا أو يصلي بنا. قوله: (ركعة وسجدتين)، وفي رواية عبد الرزاق عن ابن جريج عن الزهري: مثل نصف صلاة الصبح، وهذه الزيادة تدل على أن الصلاة المذكورة كانت غير الصبح: فتكون رباعية، وسيأتي في المغازي ما يدل على أنها كانت صلاة العصر، وصرح في رواية مسلم في حديث جابر بالعصر، وفي حديث أبي بكرة بالظهر. قوله: (ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل) أي: فقاموا في مكانهم، وصرح فيه في رواية بقية عن شعيب عن الزهري عن النسائي.
ذكر ما يستفاد منه: هذا الحديث حجة لأصحابنا الحنفية في صلاة الخوف، وحديث ابن مسعود أيضا رواه أبو داود: حدثنا عمران بن ميسرة حدثنا ابن فضيل حدثنا خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه، قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فقاموا صفا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف مستقبل العدو، فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم جاء الآخرون فقاموا مقامهم فاستقبل هؤلاء العدو فصلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم ركعة ثم سلم فقام هؤلاء فصلوا الأنفسهم ركعة ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو، ورجع أولئك إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة ثم سلموا) ورواه البيهقي أيضا
، وقال: أبو عبيدة لم يسمع من أبيه، وخصيف ليس بالقوي. قلت: أبو عبيدة أخرج له البخاري محتجا به في غير موضع، وروى له مسلم، وقال أبو داود: كان أبو عبيدة يوم مات أبوه ابن سبع سنين مميزا، وابن سبع سنين يحتمل السماع والحفظ، ولهذا يؤمر الصبي ابن سبع سنين بالصلاة تخلقا وتأدبا، وخصيف، بالخاء المعجمة، وثقه أبو زرعة والعجلي وابن معين وابن سعد، وقال النسائي: صالح، وجعل المازري حديث ابن عمر قول الشافعي وأشهب، وحديث جابر قول أبي حنيفة، وهو سهو فيهما، بل أخذ أبو حنيفة وأصحابه وأشهب برواية ابن عمر، والشافعي برواية سهل بن أبي حثمة، وقال النووي: ولو فعل مثل رواية ابن عمر ففي صحته قولان، والصحيح المشهور صحته. قال: وقول الغزالي قاله بعض أصحابنا، بعيد وغلط في شيئين أحدهما: نسبته إلى بعض الأصحاب، بل نص عليه الشافعي في (الجديد) وفي (الرسالة) وفي الثاني: تضعيفه انتهى. قلت: هم يقولون: قال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وأي شيء يكون أصح من حديث ابن عمر وقد خرجته الجماعة؟ وقال القدوري في (شرح مختصر الكرخي) وأبو نصر البغدادي في (شرح مختصر القدوري): الكل جائز، وإنما الخلاف في الأولى.
فائدة: قال الخطابي: صلاة الخوف أنواع صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في أيام مختلفة وأشكال متباينة يتحرى في كلها ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في الخراسة، فهي على اختلاف صورها متفقة المعنى. وقال ابن عبد البر في (التمهيد): روي في صلاة الخوف عن النبي صلى الله عليه وسلم وجوه كثيرة فذكر منها ستة أوجه: الأول: ما دل عليه حديث ابن عمر، قال به من الأئمة الأوزاعي وأشهب. قلت: قال به أبو حنيفة وأصحابه على ما ذكرنا. الثاني: حديث صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة، قال به مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور. الثالث: حديث ابن مسعود قال به أبو حنيفة وأصحابه إلا أبا يوسف. الرابع: حديث أبي عياش الزرقي، قال به ابن أبي ليلى والثوري. الخامس: حديث حذيفة قال به الثوري في (مجيزه) وهو المروي عن جماعة من الصحابة منهم: حذيفة وابن عباس وزيد بن ثابت وجابر بن عبد الله. السادس: حديث أبي بكرة أنه صلى بكل طائفة ركعتين، وكان الحسن البصري يفتي به، وقد حكى المزني عن الشافعي: أنه لو صلى في الخوف بطائفة ركعتين ثم سلم فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين ثم سلم كان جائزا. قال: وهكذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخل، قال ابن عبد البر: وروي أن صلاته هكذا كانت يوم ذات الرقاع، وذكر أبو داود في (سننه) لصلاة الخوف ثمانية صور، وذكرها ابن حبان في (صحيحه) تسعة أنواع، وذكر القاضي عياض في (الإكمال) لصلاة الخوف ثلاثة عشر وجها، وذكر الثوري أنها تبلغ ستة عشر وجها، ولم يبين شيئا من ذلك. وقال شيخنا الحافظ زين الدين في (شرح الترمذي): قد جمعت طرق الأحاديث الواردة في صلاة الخوف فبلغت سبعة عشر وجها، وبينها، لكن يمكن التداخل في بعضها. وحكى ابن القصار المالكي: أن

256
النبي صلى الله عليه وسلم صلاها عشر مرات، وقال ابن العربي: صلاها أربعا وعشرين مرة وبين القاضي عياض تلك المواطن، فقال: وفي حديث ابن أبي حثمة وأبي هريرة وجابر أنه صلاها في يوم ذات الرقاع سنة خمس من الهجرة، وفي حديث أبي عياش الزرقي أنه صلاها بعسفان ويوم بني سليم، وفي حديث جابر في غزاة جهينة وفي غزاة بني محارب بنخل، وروى أنه صلاها في غزوة نجد يوم ذات الرقاع، وهي غزوة نجد وغزوة غطفان. وقال الحاكم في (الإكليل) حين ذكر غزوة ذات الرقاع: وقد تسمى هذه الغزوة غزوة محارب، ويقال: غزوة خصفة، ويقال: غزوة ثعلبة، ويقال: غطفان، والذي صح أنه صلى بها صلاة الخوف من الغزوات: ذات الرقاع وذو قرد وعسفان وغزوة الطائف، وليس بعد غزوة الطائف إلا تبوك وليس فيها لقاء العدو، والظاهر أن غزوة نجد مرتان، والذي شهدها أبو موسى وأبو هريرة هي غزوة نجد الثانية لصحة حديثيهما في شهودها.
ومما يستفاد من حديث الباب من قوله: (طائفة) أنه لا فرق بين أن تكون إحدى الطائفتين أكثر من الأخرى عددا أو تساوى عددهما، لأن الطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد، فلو كانوا ثلاثة ووقع عليهم الخوف جاز لأحدهم أن يصلي بواحد ويحرس واحد، ثم يصلي الآخر، وهو أقل ما يتصور في صلاة الخوف جماعة، على القول: بأن أقل الجماعة ثلاثة، لكن الشافعي قال: أكره أن تكون كل طائفة أقل من ثلاثة، لأنه أعاد عليهم ضمير الجمع بقوله: (أسلحتهم)، ذكره النووي.
ومن ذلك أنهم كانوا مسافرين، فلو كانوا مقيمين فحكمهم حكم المسافرين عند الخوف، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك في المشهور عنه، وعنه: لا تجوز صلاة الخوف في الحضر. وقال أصحابه: تجوز خلافا لابن الماجشون، فإنه قال: لا تجوز، ونقل النووي عن مالك عدم الجواز في الحضر على الإطلاق غير صحيح، لأن المشهور عنه الجواز.
2
((باب صلاة الخوف رجالا وركبانا))
أي: هذا باب في بيان حكم صلاة الخوف حال كون المصلين رجالا وركبانا، فالرجال جمع: راجل، والركبان جمع: راكب، وذلك عند الاختلاط وشدة الخوف، وأشار بهذه الترجمة إلى أن الصلاة لا تسقط عند العجز عن النزول عن الدابة فإنهم يصلون ركبانا فرادى يومئون بالركوع والسجود إلى أي جهة شاؤوا. وفي (الذخيرة): إذا اشتد الخوف صلوا رجالا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها. وقال القاضي عياض في (الإكمال): لا يجوز ترك استقبال القبلة فيها عند أبي حنيفة وهذا غير صحيح، ولا تجوز بجماعة عند أبي حنيفة وأبي يوسف وابن أبي ليلة، وعن محمد: تجوز، وبه قال الشافعي، وإذا لم يقدروا على الصلاة على ما وصفنا أخروها ولا يصلون صلاة غير مشروعة، وعن مجاهد وطاووس والحسن وقتادة والضحاك: يصلون ركعة واحدة لا بإيماء، وعن الضحاك: فإن لم يقدروا يكبرون تكبيرتين حيث كانت وجوههم، وقال إسحاق: إن لم يقدروا على الركعة فسجدة واحدة، وإلا فتكبيرة واحدة.
راجل قائم
أشار بهذا إلى شيئين: أحدهما: أن رجالا في الترجمة جمع: راجل، لا جمع: رجل. والثاني: أن الراجل بمعنى الماشي، كما في سورة الحج * (يأتوك رجالا) * (الحج: 27).
943 حدثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي قال حدثني أبي قال حدثنا ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر نحوا من قول مجاهد إذا اختلطوا قياما. وزاد ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كانوا أكثر من ذالك فليصلوا قياما وركبانا..
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم سبعة: الأول: سعيد بن يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص القرشي، يكنى أبا عثمان البغدادي، مات في النصف من ذي القعدة سنة تسع وأربعين ومائتين. الثاني: أبوه يحيى بن سعيد المذكور، قال البخاري: حدثني سعيد بن يحيى أنه قال: مات أبي في النصف من شعبان سنة أربع وتسعين ومائة. الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. الرابع: موسى بن عقبة بن أبي عياش، مولى الزبير بن العوام، مات سنة أربعين ومائة. الخامس: نافع مولى ابن عمر. السادس: عبد بن عمر السابعمجاهد بن جبير.

257
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع وهي قوله: حدثني أبي، ويروى بصيغة الجمع أيضا. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه بغدادي وأبوه كوفي وابن جريج ومجاهد مكيان وموسى ونافع مدنيان. وفيه: أن أحد الرواة منسوب إلى جده.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة والنسائي عن عبد الأعلى بن واصل، كلاهما عن يحيى بن آدم عن سفيان عن موسى بن عقبة، فذكر صلاة الخوف نحو سياق الزهري عن سالم، وقال في آخره: قال ابن عمر، فإذا كان الخوف أكثر من ذلك فليصل راكبا أو قائما يومىء إيماء، ورواه ابن المنذر من طريق داود بن عبد الرحمن عن موسى بن عقبة موقوفا، كله، لكن قال في آخره: وأخبرنا نافع أن عبد الله بن عمر كان يخبر بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فاقتضى ذلك رفعه كله، ورواه مالك في (الموطأ) عن نافع كذلك، لكن قال في آخره: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وزاد في آخره: مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.
ذكر معناه: قوله: (عن نافع عن ابن عمر نحوا من قول مجاهد) أي: روى نافع عن ابن عمر مثل قول مجاهد، وقول مجاهد هو قوله: إذا اختلطوا، بين ذلك الإسماعيلي من رواية حجاج بن محمد عن ابن محمد عن ابن جريج عن عبد الله بن كثير عن مجاهد: إذا اختلطوا فإنما الإشارة بالرأس هو الذكر، وإشارة الرأس، وكل واحد من قول ابن عمر وقول مجاهد موقوف، أما رواية نافع عن ابن عمر فإنها موقوفة على ابن عمر، وأما قول مجاهد فإنه موقوف على نفسه، لأنه لم يروه عن ابن عمر، ولا عن غيره، وقال ابن بطال: أما صلاة الخوف رجالا وركبانا فلا تكون إلا إذا اشتد الخوف واختلطوا في القتال، وهذه الصلاة تسمى: بصلاة المسايفة، وممن قال بذلك ابن عمر، وإن كان خوفا شديدا صلوا قياما على أقدامهم أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها، وهو قول مجاهد: روى ابن جريج عن مجاهد قال: إذا اختلطوا فإنما هو الذكر والإشارة بالرأس، فمذهب مجاهد أنه يجزيه الإيماء عند شدة القتال كمذهب ابن عمر، وقول البخاري: وزاد ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: (وإن كانوا أكثر من ذلك فليصلوا قياما وركبانا) أراد به أن ابن عمر رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس من رأيه، وإنما هو مسند، وهذا هو التحقيق في هذا المقام، وليس أحد من الشراح غير ابن بطال أعطى لهذا الحديث حقه. قوله: (إذا اختلطوا قياما) أي: قائمين، وانتصابه على الحال، وذو الحال محذوف تقديره: يصلون قياما، والمراد من الاختلاط: اختلاط المسلمين بالعدو. قوله: (وإن كانوا أكثر من ذلك) أي: وإن كان العدو أكثر عند اشتداد الخوف. وقوله: (من ذلك) أي: من الخوف الذي لا يمكن معه القيام في موضع ولا إقامة صف فليصلوا حينئذ قياما وركبانا. وانتصابهما على الحال، ومعنى: ركبانا أي: على رواحلهم، لأن فرض النزول سقط. وقال الطخاوي: ذهب قوم إلى أن الراكب لا يصلي الفريضة على دابته وإن كان في حال لا يمكنه فيها النزول، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل يوم الخندق راكبا.
والحديث أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما، وهو ما روي عن حذيفة قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول يوم الخندق: شغلونا عن صلاة العصر، قال: ولم يصلها يومئذ حتى غربت الشمس، ملأ الله قبورهم نارا وقلوبهم نارا وبيوتهم نارا). هذا لفظ الطحاوي. قلت: وأراد الطحاوي بالقوم: ابن أبي ليلى والحكم بن عتيبة والحسن بن حي، وقال: وخالفهم في ذلك آخرون، وأراد بهم: الثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدا وزفر ومالكا وأحمد، فإنهم قالوا: إن كان الراكب في الحرب يقاتل لا يصلي وإن كان راكبا لا يقاتل ولا يمكنه النزول يصلي، وعند الشافعي: يجوز له أن يقاتل وهو يصلي من غير تتابع الضربات والطعنات، ثم قال الطحاوي: وقد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل يومئذ لأنه لم يكن أمر حينئذ أن يصلي راكبا، دل على ذلك حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: حبسنا يوم الخندق حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل حتى كفينا، وذلك قول الله عز وجل: * (وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا) * (الأحزاب: 25). قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأقام الظهر فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها، ثم أمره فأقام العصر فصلاها كذلك، ثم أمره فأقام المغرب فصلاها كذلك، وذلك قبل أن ينزل الله عز وجل في صلاة الخوف: * (فرجالا أو ركبانا) * (البقرة: 239). فأخبر أبو سعيد أن تركهم للصلاة يومئذ ركبانا إنما كان قبل أن يباح لهم ذلك، ثم أبيح لهم بهذه الآية.

258
3
((باب يحرس بعضهم بعضا في صلاة الخوف))
أي: هذا باب ترجمته: يحرس بعض المصلين بعضا في صلاة الخوف. قال ابن بطال: ومحل هذه الصورة إذا كان العدو في جهة القبلة فلا يفترقون بخلاف الصورة الماضية في حديث ابن عمر، قال الطحاوي: ليس بخلاف القرآن لجواز إن يكون قوله تعالى: * (ولتأت طائفة أخرى) * (النساء: 102). إذا كان العدو في غير القبلة، وذلك ببيانه، صلى الله عليه وسلم، ثم بين كيفية الصلاة إذا كان العدو في جهة القبلة.
67 - (حدثنا حيوة بن شريح قال حدثنا محمد بن حرب عن الزبيدي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قام النبي
وقام الناس معه فكبر وكبروا معه وركع وركع ناس منهم ثم سجد وسجدوا معه ثم قام للثانية فقام الذين سجدوا وحرسوا إخوانهم وأتت الطائفة الأخرى فركعوا وسجدوا مع والناس كلهم في صلاة ولكن يحرس بعضهم بعضا)
مطابقته للترجمة في قوله ' حرسوا إخوانهم '.
(ذكر رجاله) وهم ستة. الأول حيوة بفتح الحاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الواو وفي آخره هاء ابن شريح بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره حاء مهملة أبو العباس الحمصي الحضرمي وهو حيوة الأصغر مات سنة أربع وعشرين ومائتين. الثاني محمد بن حرب ضد الصلح الخولاني الحمصي المعروف بالأبرش مات سنة اثنتين وتسعين ومائة. الثالث محمد بن الوليد الزبيدي يكنى أبا الهذيل الشامي الحمصي والزبيدي بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وكسر الدال المهملة نسبة إلى زبيد وهو منبه بن صعب وهذا هو زبيد الأكبر. الرابع محمد بن مسلم بن شهاب الزهري. الخامس عبيد الله بضم العين ابن عبد الله بالتكبير ابن عتبة بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق وفتح الباء الموحدة ابن مسعود الهزلي أبو عبد الله المدني الفقيه الأعمى أحد الفقهاء السبعة بالمدينة مات سنة تسع وتسعين. السادس عبد الله بن عباس
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في ثلاثة مواضع وفيه القول في موضعين وفيه عن الزبيدي وفي رواية الإسماعيلي حدثنا الزبيدي وفيه أن الثلاثة الأول من الرواة حمصيون والاثنان بعدهم مدنيان وفيه الاثنان منهم مذكوران بالنسبة وفيه أحدهم اسمه مصغر. والحديث أخرجه النسائي في الصلاة أيضا عن عمرو بن عثمان عن محمد بن حرب عن الزبيدي عنه به.
(ذكر معناه) قوله ' وركع ناس منهم ' زاد الكشميهني ' معه ' قوله ' ثم قام للثانية ' أي للركعة الثانية وكذا في رواية النسائي والإسماعيلي ' ثم قام إلى الركعة الثانية فتأخر الذين سجدوا معه ' قوله ' وأتت الطائفة الأخرى ' أي الذين لم يركعوا ولم يسجدوا معه في الركعة الأولى قوله ' فركعوا وسجدوا ' وفي رواية النسائي والإسماعيلي ' فركعوا مع النبي
' قوله ' كلهم في صلاة ' زاد الإسماعيلي ' يكبرون ' ولم يقع في رواية الزهري هذه هل أكملوا الركعة الثانية أم لا وقد رواه النسائي من طريق أبي بكر بن أبي الجهم عن شيخه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة فزاد في آخره ولم يقضوا وهذا كالصريح في اقتصارهم على كل ركعة ركعة
(ذكر ما يستفاد منه) هذا الحديث في صورة ما إذا كان العدو بينه وبين القبلة فيصف الناس صفين فيركع بالصف الذي يليه ويسجد معه والصف الثاني قائم يحرس فإذا قام من سجوده إلى الركعة الثانية تقدم الصف الثاني وتأخر الأول فركع
بهم وأكمل الركعة وهم كلهم في صلاة وقد روي الحديث من طريق آخر ' عن ابن عباس أنه
صلى بهم صلاة الخوف بذي قرد والمشركون بينه وبين القبلة ' وقد روى نحوه أبو عياش الزرقي وجابر بن عبد الله مرفوعا وبه قال ابن

259
عباس إذا كان العدو في القبلة أن يصلي على هذه الصفة وهو مذهب ابن أبي ليلى وحكى ابن القصار عن الشافعي نحوه وقال الطحاوي ذهب أبو يوسف إلى أن العدو إذا كان في القبلة فالصلاة هكذا وإذا في غيرها فالصلاة كما روى ابن عمر وغيره قال وبهذا تتفق الأحاديث قال وليس هذا بخلاف التنزيل لأنه يجوز أن يكون قوله (ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك) إذا كان العدو في غير القبلة ثم أوحي إليه بعد ذلك كيف حكم الصلاة إذا كانوا في القبلة ففعل الفعلين جميعا كما جاء الخبران وترك مالك وأبو حنيفة العمل بهذا الحديث لمخالفته للقرآن وهو قوله * (ولتأت طائفة أخرى) * الآية والقرآن يدل على ما جاءت به الروايات في صلاة الخوف عن ابن عمر وغيره من دخول الطائفة الثانية في الركعة الثانية ولم يكونوا صلوا قبل ذلك وقال أشهب وسحنون إذا كان العدو في القبلة لا أحب أن يصلى بالجيش أجمع لأنه يتعرض أن يفتنه العدو ويشغلوه ويصلى بطائفتين شبه صلاة الخوف والله تعالى أعلم * -
4
((باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو))
أي: هذا باب في بيان الصلاة عند مناهضة الحصون. يقال: ناهضته أي: قاومته، وتناهض القوم في الحرب: إذا نهض كل فريق إلى صاحبه، وثلاثية من باب: فعل يفعل بالفتح فيهم، يقال: نهض ينهض نهضا ونهوضا ونهوا أي: قام، وأنهضته أنا فانتهض واستنهضته لأمر كذا، إذا أمرته بالنهوض. والحصون جمع: حصن، بكسر الحاء، وقد فسر الجوهري: القلعة بالحصن، حيث قال: القلعة الحصن على الجبل، والظاهر أن بينهما فرق باعتبار العرف، فإن القلعة تكون أكبر من الحصن، وتكون على الجبل والسهل، والحصن غالبا يكون على الجبل وألطف من القلعة. وأصل معنى الحصن: المنع، سمي به لأنه يمنع من فيه ممن يقصده. قوله: (ولقاء العدو) أي: والصلاة عند لقاء العدو، واللقاء: الملاقاة، وهذا العطف من عطف العام على الخاص.
وقال الأوزاعي إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرىء لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخر الصلاة حتى ينكشف القتال أو يأمنوا فيصلو ركعتين فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين فإن لم يقدروا فلا يجزئهم التكبير ويؤخروها حتى يأمنوا
أشار بهذا إلى مذهب عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي أنه إن كان تهيأ الفتح، أي: تمكن فتح الحصن. والحال أنهم لم يقدروا على الصلاة، أي: على إتمامها أفعالا وأركانا. وفي رواية القابسي: إن كان بها الفتح، بالباء الموحدة، وهاء الضمير، قيل: إنه تصحيف. قوله: (صلوا إيماء) أي: صلوا مومئين إيماء. قوله: (كل امرئ لنفسه) أي: كل شخص يصلي بالإيماء منفردا بدون الجماعة. قوله: (لنفسه) أي: لأجل نفسه دون غيره بأن لا يكون أماما لغيره. قوله: (فإن لم يقدروا على الإيماء) أي: بسبب اشتغال القلب والجوارح، لأن الحرب إذا اشتد غاية الاشتداد لا يبقى قلب المقاتل وجوارحه إلا عند القتال، ويتعذر عليه الإيماء. وقيل: يحتمل أن الأوزاعي كان يرى استقبال القبلة شرطا في الإيماء، فيعجز عن الإيماء إلى جهة القبلة. فإن قلت: كيف يتعذر الإيماء مع حصول العقل؟ قلت: عند وقوع الدهشة يغلب العقل فلا يعمل عمله. قوله: (أو يأمنوا) استشكل فيه ابن رشيد بأنه جعل الأمن قسيم الانكشاف، وبه يحصل الأمن فكيف يكون قسيمه؟ وأجاب الكرماني عن هذا فقال: قد ينكشف ولا يحصل الأمن لخوف المعاودة، وقد يأمن لزيادة القوة وإيصال المدد مثلا، ولم يكن منكشفا بعد. قوله: (فإن لم يقدروا) يعني: على صلاة ركعتين صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا على صلاة ركعة وسجدتين يؤخرون الصلاة، فلا يجزيهم التكبير. وقال الثوري: يجزيهم التكبير، وروى ابن أبي شيبة من طريق عطاء وسعيد بن جبير وأبي البختري في آخرين، قالوا: إذا التقى الزحفان وحضرت الصلاة فقالوا: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، فتلك صلاتهم بلا إعادة. وعن مجاهد والحكم: إذا كان عند الطراد والمسايفة يجزئ أن تكون صلاة الرجل تكبيرا، فإن لم يمكن إلا تكبيرة أجزأته اين كان وجهه. وقال إسحاق بن راهويه: تجزىء عند المسايفة ركعة واحدة يومىء بها إيماء فإن لم يقدر فسجدة، فإن لم يقدر فتكبيرة. قوله: (حتى يأمنوا) أي: حتى يحصل لهم الأمن التام، وحجة الأوزاعي فيما قاله حديث جابر، رضي الله تعالى

260
عنه: إن لم يقدر على الإيماء أخر الصلاة حتى يصليها كاملة، ولا يجزئ عنها تسبيح ولا تهليل، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أخرها يوم الخندق. وهذا استدلال ضعيف، لأن آية صلاة الخوف لم تكن نزلت قبل ذلك.
وبه قال مكحول
أي: بقول الأوزاعي قال مكحول أبو عبد الله الدمشقي فقيه أهل الشام التابعي، ولد مكحول بكابل لأنه من سبيه، فرفع إلى سعيد بن العاص فوهب لأمرأة من هذيل فأعتقته، وقيل غير ذلك. وقال محمد بن سعد: مات سنة ست عشرة ومائة. قال العجلي: تابعي ثقة، وروى له البخاري في (كتاب الأدب) و (القراءة خلف الإمام) وروى له مسلم والأربعة. وقال الكرماني: قوله: وبه قال مكحول، يحتمل أن يكون من تتمة كلام الأوزاعي، وأن يكون تعليقا من البخاري؟ قلت: الظاهر أنه تعليق وصله عبد بن حميد في (تفسيره) عنه من غير طريق الأوزاعي بلفظ: إذا لم يقدر القوم على أن يصلوا على الأرض صلوا على ظهر الدواب ركعتين، فإن لم يقدروا فركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا أخروا الصلاة حتى يأمنوا فيصلوا بالأرض.
وقال أنس حضرت عند مناهضة حصن تستر عند إضاءة الفجر واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها مع أبي موسى ففتح لنا. وقال أنس وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها
هذا التعليق وصله ابن سعد وابن أبي شيبة من طريق قتادة عنه، وقال خليفة بن خياط في (تاريخه): حدثنا ابن زريع عن سعيد عن قتادة عن أنس قال: لم نصل يومئذ الغداة حتى انتصف النهار. قال خليفة: وذلك في سنة عشرين. قوله: (تستر)، بضم التاء المثناة من فوق وسكون السين المهملة وفتح التاء الثانية وفي آخره راء: وهي مدينة مشهورة من كور الأهوار بخورستان، وهي بلسان العامة: ششتر، بشينين أولاهما مضمومة والثانية ساكنة وفتح التاء المثناة من فوق. إعلم أن تستر فتحت مرتين الأولى: صلحا، والثانية عنوة. قال ابن جرير: كان ذلك في سنة سبع عشرة في قول سيف، وقال غيره: سنة ست عشرة، وقيل: في سنة تسع عشرة. قال الواقدي: لما فرغ أبو موسى الأشعري من فتح السوس صار إلى تستر فنزل عليها وبها يومئذ الهرمزان، وفتحت على يديه، ومسك الهرمزان وأرسل به إلى عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنه. قوله: (فلم يقدروا على الصلاة) إما للعجز عن النزول أو عن الإيما، وجزم الأصيلي بأن سببه أنهم لم يجدوا إلى الوضوء سبيلا من شدة القتال. قوله: (إلا بعد ارتفاع النهار) وفي رواية عمر بن أبي شيبة: (حتى انتصف النهار). قوله: (ما يسرني بتلك الصلاة) الباء فيها للمقابلة والبدلية، أي: بدل تلك الصلاة ومقابلتها. وفي رواية الكشميهني: من تلك الصلاة. قوله: (الدنيا) فاعل: (ما يسرني)، وقيل: معناه لو كانت في وقتها كانت أحب إلي من الدنيا وما فيها. وفي رواية خليفة: (الدنيا كلها) بدل: (الدنيا وما فيها).
945 حدثنا يحيى قال حدثنا وكيع عن علي بن المبارك عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله قال جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول يا رسول الله ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب فقال النبي صلى الله عليه وسلم وأنا والله ما صليتها بعد قال فنزل إلى بطحان فتوضأ وصلى العصر بعدما غابت الشمس ثم صلى المغرب بعدها..
مطابقته للجزء الثاني من الترجمة. وهو قوله: (ولقاء العدو)، وكان الحكم فيه من جملة الأحكام التي ذكرناها تأخير الصلاة إلى وقت الأمن. وفي هذا الحديث أيضا: أخرت الصلاة عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وعن عمر وغيرهما: حتى نزلوا إلى بطحان، بضم الباء الموحدة: واد بالمدينة، فصلواها فيه. وصرح ههنا بأن الفائتة هي صلاة العصر، وفي (الموطأ): الظهر والعصر. وفي النسائي: الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وفي الترمذي: أربع صلوات. وقد استوفينا الكلام
في هذا الحديث

261
من سائر الوجوه في: باب من صلى بالناس جماعة بعد ذهاب الوقت، لأنه أخرجه هناك: عن معاذ بن فضالة عن هشام عن يحيى عن أبي سلمة عن جابر، وههنا أخرجه: عن يحيى بن جعفر، والنسخ مختلفة فيه ففي أكثر الروايات: حدثنا يحيى حدثنا وكيع، ووقع في رواية أبي ذر: يحيى بن موسى، ووقع في نسخة صحيحة بعلامة المستملي: يحيى بن جعفر، ووقع في بعض النسخ: يحيى ابن موسى بن جعفر، وهو غلط. والنسخة المعتمد عليها: يحيى بن جعفر بن أعين أبو زكريا البخاري يحيى البيكندي، مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين، وهو من أفراد البخاري، وأما يحيى بن موسى بن عبد ربه بن سالم فهو الملقب: بخت، بفتح الخاء المعجمة وتشديد التاء المثناة من فوق، وهو أيضا من مشايخ البخاري، وهو أيضا من أفراده، وروى عنه البخاري في البيوع والحج ومواضع، وقال: مات سنة أربعين ومائتين.
ثم اختلفوا في سبب تأخير الصلاة يوم الخندق، فقال بعضهم: اختلفوا هل كان نسيانا أو عمدا، وعلى الثاني: هل كان للشغل بالقتال أو لتعذر الطهارة؟ أو قبل نزول آية الخوف؟ انتهى. قلت: الأحسن في ذلك مع مراعاة الأدب هو الذي قاله الطحاوي: وقد يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل يومئذ يعني: يوم الخندق لأنه كان يقاتل، فالقتال عمل والصلاة لا يكون فيها عمل، وقد يجوز أن يكون: لم يصل يومئذ لأنه لم يكن أمر حينئذ أن يصلي راكبا. وأما القتال في الصلاة فإنه يبطل الصلاة عندنا، وقال مالك والشافعي وأحمد: لا يبطل، والله تعالى أعلم.
5
((باب صلاة الطالب والمطلوب راكبا وإيماء))
أي: هذا باب في بيان صلاة الطالب وصلاة المطلوب. قوله: (راكبا) حال. قوله: (وقائما) عطف عليه، وفي بعض النسخ: أو قائما، من القيام بالقاف في رواية الحموي وفي رواية الأكثرين: (راكبا وإيماء) أي: حال كونه موميا.
وقال الوليد ذكرت للأوزاعي صلاة شرحبيل بن السمط وأصحابه على ظهر الدابة فقال كذالك الأمر عندنا إذا تخوف الفوت واحتج الوليد بقول النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة
مطابقته للترجمة من حيث إن شرحبيل ومن معه كانوا ركبانا، والإجماع على أن المطلوب لا يصلي إلا راكبا، فكانوا مطلوبين راكبين، ولو كانوا طالبين أيضا فالمطابقة حاصلة، والوليد، بفتح الواو: وهو ابن مسلم القرشي الأموي الدمشقي يكنى أبا العباس،، وقال كاتب الواقدي: حج سنة أربع وتسعين ومائة. ثم انصرف فمات في الطريق قبل أن يصل إلى دمشق، والأوزاعي: هو عبد الرحمن بن عمرو، وشرحبيل، بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء المهملة وكسر الباء الموحدة: ابن السمط، بفتح السين المهملة وكسر الميم، على وزن: الكتف، قاله الغساني. وقال ابن الأثير: بكسر السين وسكون الميم: ابن الأسود بن جبلة بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن كندة الكندي أبو يزيد، ويقال: أبو السمط الشامي، مختلف في صحبته، ذكره في (الكمال) من التابعين. وقال: ويقال: له صحبة للنبي صلى الله عليه وسلم. ويقال: لا صحبة له، وذكره محمد بن سعد في الطبقة الرابعة: وقال: جاهلي إسلامي، وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلم، وقد شهد القادسية وولي حمص، وهو الذي افتتحها وقسمها منازل، وقال النسائي: ثقة، وقال أحمد بن محمد بن عيسى البغدادي صاحب (تاريخ الحمصيين): توفي بسلمية سنة ست وثلاثين، ويقال: سنة أربعين، ويقال: مات بصفين، وليس له في البخاري في غير هذا الموضع، وهو تعليق رواه الطبراني وابن عبد البر من وجه آخر: (عن الأوزاعي قال: قال شرحبيل بن السمط لأصحابه: لا تصلوا الصبح إلا على ظهر، فنزل الأشتر يعني: النخعي فصلى على الأرض، فقال شرحبيل: مخالف خالف الله به). وروى ابن أبي شيبة عن وكيع: حدثنا ابن عون (عن رجاء بن حيوة الكندي، قال: كان ثابت بن السمط أو السمط بن ثابت في مسير في خوف، فحضرت الصلاة فصلوا ركبانا، فنزل الأشتر، فقال ماله؟ فقالوا: نزل يصلي. قال: ماله خالف؟ خولف به) انتهى. وذكر ابن حبان أن ثابت بن السمط أخو شرحبيل بن السمط، فإذا كان كذلك فيشبه أن يكونا كانا في ذلك الجيش فنسب إلى كل منهما، وقد ذكر شرحبيل جماعة في الصحابة، وثابتا في التابعين، وقال ابن بطال: طلبت قصة شرحبيل بن السمط بتمامها

262
لأتبين هل كانوا طالبين أم لا؟ فذكر الفزاري في (السنن) عن ابن عون: (عن رجاء عن ثابت بن السمط أو السمط بن ثابت قال: كانوا في السفر في خوف فصلوا ركبانا، فالتفت فرأى الأشتر قد نزل للصلاة، فقال: خالف خولف به، فجرح الأشتر في الفتنة). قال: فبان بهذا الخبر أنهم كانوا حين صلوا ركبانا لأن الإجماع حاصل على أن المطلوب لا يصلي إلا راكبا، وإنما اختلفوا في الطالب فقال ابن التين: صلاة ابن السمط ظاهرها إنها كانت في الوقت، وهو من قوله تعالى: * (رجالا أو ركبانا) * (البقرة: 239)
[/ ح.
قوله: (كذلك الأمر) أي: أداء الصلاة على ظهر الدابة بالإيماء، وهو الشان والحكم عند خوف فوات الوقت أو فوات العدو أو فوات النفس. قوله: (واحتج الوليد) أي: الوليد المذكور، وقال بعضهم: معناه أن الوليد قوى مذهب الأوزاعي في مسألة الطالب بهذه القصة. قلت: لا يفهم من احتجاج الوليد بالحديث تقوية ما ذهب إليه الأوزاعي صريحا وإنما وجه الاستدلال به بطريق الأولوية، لأن الذين أخروا الصلاة حتى وصلوا إلى بني قريظة لم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم مع كونهم فوتوا الوقت، فصلاة من لا يفوت الوقت بالإيماء أو كيف ما تمكن، أولى من تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها. وقال الداودي: احتجاج الوليد بحديث بني قريظة ليس فيه حجة
، لأنه قبل نزول صلاة الخوف قال: وقيل: إنما صلى شرحبيل على ظهر الدابة لأنه طمع في فتح الحصن، فصلى إيماء ثم فتحه. وقال ابن بطال: وأما استدلال الوليد بقصة بني قريظة على صلاة الطالب راكبا، فلو وجد في بعض طرق الحديث أن الذين صلوا في الطريق صلوا ركبانا لكان بينا، ولما لم يوجد ذلك احتمل أن يقال: إنه يستدل بأنه كما ساغ للذين صلوا في بني قريظة مع ترك الوقت، وهو فرض، كذلك ساغ للطالب أن يصلي في الوقت راكبا بالإيماء، ويكون تركه للركوع والسجود كترك الوقت ويقال: لا حجة في حديث بني قريظة لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أراد سرعة سيرهم، ولم يجعل لهم بني قريظة موضعا للصلاة، ومذاهب الفقهاء في هذا الباب، فعند أبي حنيفة: إذا كان الرجل مطلوبا فلا بأس بصلاته سائرا، وإن كان طالبا فلا. وقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء، كل واحد منهما يصلي على دابته. وقال الأوزاعي والشافعي في آخرين كقول أبي حنيفة، وهو قول عطاء والحسن والثوري وأحمد وأبي ثور وعن الشافعي: إن خاف الطالب فوت المطلوب أومأ وإلا فلا.
69 - (حدثنا عبد الله بن محمد بن أسماء قال حدثنا جويرية عن نافع عن ابن عمر قال قال النبي
لنا لما رجع من الأحزاب لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدرك بعضهم العصر في الطريق فقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها. وقال بعضهم بل نصلي لم يرد منا ذلك فذكر للنبي
فلم يعنف واحدا منهم)
مطابقته للترجمة من حيث أنه يدل على أن المطلوب إذا صلى في الوقت بالإيماء جاز كما أن الذين صلوا في بني قريظة مع ترك الوقت جاز لهم ذلك ولهذا لم يعنفهم النبي
فعلى هذا فالجواز في المطلوب أقوى (فإن قلت) فيه ترك الركوع والسجود وهما فرضان (قلت) كذلك في صلاتهم في بني قريظة ترك الوقت والوقت فرض ولما ذكر البخاري احتجاج الوليد بحديث قصة بني قريظة ذكره مسندا عقيبه ليعلم صحة الحديث عنده وصحة الاستدلال به فافهم.
(ذكر رجاله) وهم أربعة. الأول عبد الله بن محمد بن أسماء بن عبيد بن مخارق الضبعي البصري ابن أخي جويرية المذكور وهو مصغر جارية بالجيم ابن أسماء روى عنه مسلم أيضا مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين. الثاني جويرية بن أسماء يكنى أبا مخراق البصري. الثالث نافع مولى ابن عمر. الرابع عبد الله بن عمر.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضعين وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن النصف الأول من الرواة بصريان والنصف الثاني مدنيان وفيه رواية الرجل عن عمه وفيه اسم أحد الرواة بالتصغير والحال أن أصل وضعه للأنثى. والحديث أخرجه البخاري أيضا في المغازي وأخرجه مسلم أيضا في المغازي عن شيخ البخاري عن جويرية به
(ذكر معناه) قوله ' من الأحزاب ' هي غزوة الخندق وقد أنزل الله فيها سورة الأحزاب وكانت في شوال

263
سنة خمس من الهجرة نص على ذلك ابن إسحاق وعروة بن الزبير وقتادة وقال موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال ثم كانت الأحزاب في شوال سنة أربع وكذلك قال مالك بن أنس فيما رواه أحمد عن موسى بن داود عنه والجمهور على قول ابن إسحاق وسميت بالأحزاب لأن الكفار تألفوا من قبائل العرب وهم عشرة آلاف نفس وكانوا ثلاثة عساكر وجناح الأمر إلى أبي سفيان وسميت أيضا بغزوة الخندق لأن النبي
لما سمع بهم وما جمعوا له من الأمر ضرب الخندق على المدينة قال ابن هشام يقال أن الذي أشار به سلمان رضي الله تعالى عنه قال الطبري والسهيلي أول من حفر الخنادق منوجهر بن أيرج وكان في زمن موسى عليه الصلاة والسلام وذكر ابن إسحاق لما انصرف رسول الله
عن الخندق راجعا إلى المدينة والمسلمون قد وضعوا السلاح فلما كان الظهر أتى جبريل عليه الصلاة والسلام قال له ما وضعت الملائكة السلاح بعد وإن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة فإني عائد إليهم فأمر رسول الله
بلالا فأذن في الناس من كان سامعا مطيعا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة قال ابن سعد ثم سار إليهم وهم ثلاثة آلاف وذلك يوم الأربعاء لتسع بقين من ذي القعدة عقيب الخندق قوله ' لا يصلين ' بالنون الثقيلة المؤكدة قوله ' في بني قريظة ' بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء آخر الحروف وفتح الظاء المعجمة وفي آخره هاء وهم فرقة من اليهود وقريظة والنضير والنحام وعمرو وهو هدل بين الخزرج بن الصريح بن نومان بن السمط ينتهي إلى إسرائيل بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام وقال ابن دريد القرظ ضرب من الشجر يدبغ به يقال أديم مقروظ وتصغيره قريظة وبه سمي البطن من اليهود وفي رواية البخاري التنصيص على العصر وكذا في رواية الإسماعيلي العصر وفي صحيح مسلم التنصيص على الظهر وكذا في رواية ابن حبان ومستخرج أبي نعيم قبل التوفيق بين الروايتين إن هذا الأمر كان بعد دخول وقت الظهر وقد صلى الظهر بعضهم دون بعض فقيل للذين لم يصلوا الظهر لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة وللذين صلوها بالمدينة لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة وقيل يحتمل أنه قال للجميع لا تصلوا العصر ولا الظهر إلا في بني قريظة وقيل يحتمل أنه قيل للذين ذهبوا أولا لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة وللذين ذهبوا بعدهم لا تصلوا العصر إلا بها قوله ' فأدرك بعضهم ' الضمير فيه يرجع إلى لفظ أحد وفي بعضهم الثاني والثالث إلى البعض قوله ' لم يرد منا ' على صيغة المجهول من المضارع أي المراد من قوله ' لا يصلين أحد ' لازمه وهو الاستعجال في الذهاب إلى بني قريظة لا حقيقة ترك الصلاة أصلا ولم يعنهم رسول الله
على مخالفة النهي لأنهم فهموا منه الكناية عن العجلة ولا التاركين للصلاة المؤخرين عن أول وقتها لحملهم النهي على ظاهره
(ذكر ما يستفاد منه) من ذلك ما استنبط منه ابن حبان معنى حسنا حيث قال لو كان تأخير المرء للصلاة عن وقتها إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى يلزمه بذلك اسم
الكفر لما أمر المصطفى بذلك. ومنه ما قاله السهيلي فيه دليل على أن كل مختلفين في الفروع من المجتهدين مصيب إذ لا يستحيل أن يكون الشيء صوابا في حق إنسان خطأ في حق غيره فيكون من اجتهد في مسألة فأداه اجتهاده إلى الحل مصيبا في حلها وكذا الحرمة وإنما المحال أن يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد وإنما عسر فهم هذا الأصل على طائفتين الظاهرية والمعتزلة أما الظاهرية فإنهم علقوا الأحكام بالنصوص فاستحال عندهم أن يكون النص يأتي بحظر وإباحة معا إلا على وجه النسخ وأما المعتزلة فإنهم علقوا الأحكام بتقبيح العقل وتحسينه فصار حسن الفعل عندهم أو قبحه صفة عين فاستحال عندهم أن يتصف فعل بالحسن في حق زيد والقبح في حق عمرو كما يستحيل ذلك في الألوان وغيرها من الصفات القائمة بالذوات وأما ما عدا هاتين الطائفتين فليس الحظر عندهم والإباحة بصفات أعيان وإنما هي صفات أحكام وزعم الخطابي أن قول القائل في هذا كل مجتهد مصيب ليس كذلك وإنما هو ظاهر خطاب خص بنوع من الدليل ألا تراه قال بل نصلي لم يرد منا ذلك يريد أن طاعة رسول الله
فيما أمره به من إقامة الصلاة في بني قريظة لا يوجب تأخيرها عن وقتها على عموم الأحوال وإنما هو كأنه قال صلوا في بني قريظة إلا أن يدرككم وقتها قبل أن تصلوا إليها وكذا الطائفة الأخرى في تأخيرهم الصلاة كأنه قيل لهم صلوا الصلاة في أول وقتها إلا أن يكون لكم عذر فأخروها إلى آخر وقتها وقال النووي رحمه الله تعالى لا احتجاج فيه

264
على إصابة كل مجتهد لأنه لم يصرح بإصابة الطائفتين بل بإصابة ترك تعنيفهما ولا خلاف في ترك تعنيف المجتهد وإن أخطأ إذا بذل وسعه وأما اختلافهم فسببه أن الأدلة تعارضت فإن الصلاة مأمور بها في الوقت والمفهوم من ' لا يصلين ' المبادرة بالذهاب إليهم فأخذ بعضهم بذلك فصلوا حين خافوا فوت الوقت والآخرون بالآخر فأخروها ويقال اختلاف الصحابة في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها وتأخيرها سببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم فإن الصلاة مأمور بها في الوقت مع أن المفهوم من قوله ' لا يصلين أحد إلا في بني قريظة ' المبادرة بالذهاب إليه وأن لا يشتغل عنه بشيء لا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه من حيث أنه تأخير فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظرا إلى المعنى لا إلى اللفظ فصلوا حين خافوا فوات الوقت وأخذ آخرون بظاهر اللفظ وحقيقته ولم يعنف الشارع واحدا منهما لأنهم مجتهدون ففيه دليل لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى ولمن يقول بالظاهر أيضا (قلت) هذا القول مثل ما قال النووي مع بعض زيادة فيه وقال الداودي فيه أن المتؤول إذا لم يبعد في التأويل ليس بمخطىء وأن السكوت على فعل أمر كالقول بإجازته * -
6
((باب التكبير والغلس بالصبح والصلاة عند الإغارة والحرب))
أي: هذا باب في بيان التكبير من كبر يكبر تكبيرا، وهو قول: الله أكبر، هكذا هو في معظم الروايات، وفي رواية الكشميهني: التبكير، بتقديم الباء الموحدة من: بكر يبكر تبكيرا إذا أسرع وبادر، و: الغلس، بفتحتين: الظلمة آخر الليل، والمراد منه التغليس بصلاة الصبح. قوله: (عند الإغارة) يتعلق بالتكبير، وما عطف عليه، والإغارة، بكسر الهمزة في الأصل: الإسراع في العدو، ويقال: أغار يغير إغارة، وكذلك الغارة، والمراد به ههنا: الهجوم على العدو على وجه الغفلة، فهو من الأجوف الواوي. فإن قلت: ما مناسبة ذكر هذا الباب في كتاب صلاة الخوف؟ قلت: قيل: أشار بذلك إلى أن صلاة الخوف لا يشترط فيها التأخير إلى آخر الوقت، كما شرطه من شرطه في صلاة شدة الخوف عند التحام القتال، وقيل: يحتمل أن يكون للإشارة إلى تعيين المبادرة إلى الصلاة في أول وقتها. قلت: هذا وجه بعيد لا يخفى ذلك، لأن محل ذلك في كتاب الصلاة.
947 حدثنا مسدد قال حدثنا حماد عن عبد العزيز بن صهيب وثابت البناني عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الصبح بغلس ثم ركب فقال الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين فخرجوا يسعون في السكك ويقولون محمد والخميس قال والخميس الجيش فظهر عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل المقاتلة وسبى الذراري فصارت صفية لدحية الكلبي وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تزوجها وجعل صداقها عتقها فقال عبد العزيز لثابت يا أبا محمد أأنت سألت أنسا ما أمهرها قال أمهرها نفسها فتبسم..
مطابقته للترجمة في قوله: (صلى الصبح بغلس ثم ركب فقال الله أكبر).
ورجاله قد ذكروا غير مرة. وأخرجه البخاري أيضا في: باب ما يذكر في الفخذ، بأطول منه، وأتم عن يعقوب بن إبراهيم عن إسماعيل بن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس، رضي الله تعالى عنهم. وتكلمنا هناك على جميع ما يتعلق به.
قوله: (بغلس) أي: في أول الوقت. وقيل: التغليس بالصبح سنة سفرا أو حضرا، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم ذلك. قلت: إنما غلس هنا لأجل مبادرته إلى الركوب، وقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة بالأمر بالإسفار. قوله: (فقال: الله أكبر) فيه: أن التكبير عند الإشراف على المدن والقرى سنة، وكذا عندما يسر به من ذلك عند رؤية الهلال، وكذا رفع الصوت به إظهارا لعلو دين الله تعالى، وظهور أمره. قوله: (خربت خيبر)، يحتمل الإنشاء والخبر، وفيه التفاؤل، وبخرابه سعادة المسلمين فهو من الفأل الحسن لا من الطيرة. قوله: (بساحة قوم) قال ابن التين: الساحة الموضع، وقيل: ساحة الدار. قوله: (فساء صباح المنذرين) أي: أصابهم السوء من القتل على الكفر

265
والاسترقاق. قوله: (يسعون) جملة حالية. قوله: (في السكك)، بكسر السين: جمع سكة. وهي الزقاق. قوله: (والخميس) سمي الجيش خميسا لانقسامه إلى خمسة أقسام: الميمنة والميسرة والقلب والمقدمة والساقة. قوله: (المقاتلة) أي: النفوس المقاتلة، وهم الرجال. والذراري: جمع الذرية وهي الولد، ويجوز فيها
تخفيف الياء وتشديدها، كما في العواري وكل جمع مثله. قوله: (فصارت صفية لدحية الكلبي، وصارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم) ظاهره أنها صارت لهما جميعا، وليس كذلك، بل صارت أولا لدحية ثم صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا: الواو، في: وصارت، بمعنى: ثم، أي: ثم صارت للنبي صلى الله عليه وسلم أو تكون بمعنى: الفاء، والحروف ينوب بعضها عن بعض، ويجوز أن يكون هنا مقدر للقرينة الدالة عليه، تقديره: فصارت صفية أولا لدحية وبعده صارت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكيفية الصيرورتين قد مضت في ذلك الباب. وقال الكرماني: النساء ليست داخلات تحت لفظ الذراري، فكيف قال: فصارت صفية لدحية؟ ثم أجاب: بأن المراد بالذراري غير المقاتلة بدليل أنه قسيمه. قوله: (وجعل صداقها عتقها) لأنها كانت بنت ملك، ولم يكن مهرها إلا كثيرا، ولم يكن بيده ما يرضيها فجعل صداقها عتقها، لأن عتقها عندها كان أعز من الأموال الكثيرة. قوله: (فقال عبد العزيز)، هو عبد العزيز بن صهيب المذكور. قوله: (لثابت) هو البناني. قوله: (أأنت؟) بهمزتين: أولاهما للاستفهام، وفائدة هذا السؤال مع علمه ذلك بقوله: (وجعل صداقها عتقها) للتأكيد، أو كان استفسره بعد الرواية ليصدق روايته. قوله: (ما أمهرها) قال ابن الأثير: يقال: مهرت المرأة وأمهرتها إذا جعلت لها مهرا، وإذا سقت إليها مهرا، وهو: الصداق: وقال الشيخ قطب الدين الحلبي في (شرحه): صوابه مهرها يعني بحذف الألف، وبخط الحافظ الدمياطي، مثل ما قاله ابن الأثير، وأنكر أبو حاتم: أمهرت، إلا في لغة ضعيفة، والحديث يرد عليه، وصححه أبو زيد، وقيل: مهرت، ثلاثي أفصح وأعرب.
13
((كتاب العيدين))
أي: هذا كتاب في بيان أمور العيدين: عيد الفطر وعيد الأضحى وأصل العيد: عود لأنه مشتق من: عاد يعود عودا. وهو الرجوع، قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها، كالميزان والميقات من الوزن والوقت، ويجمع على: أعياد، وكان من حقه أن يجمع على أعواد، لأنه من العود كما ذكرنا، ولكن جمع بالياء للزومها في الواحد، أو للفرق بينه وبين أعواد الخشبة، وسميا عيدين لكثرة عوائد الله تعالى فيهما، وقيل: لأنهم يعودون إليه مرة بعد أخرى. وفي بعض النسخ: أبواب العيدين أي: هذه أبواب العيدين أي: في بيانهما. وهي رواية المستملي وفي رواية الأصيلي وغيره: باب العيدين.
بسم الله الرحمن الرحيم
1
((باب في العيدين والتجمل فيه))
ليست في رواية أبي ذر البسملة، ولما ذكر الكتاب شرع يذكر الأبواب التي يتضمنها الكتاب واحدا بعد واحد: أي: هذا باب في بيان العيدين وبيان التجمل فيه، أي: التزين. قوله: (فيه) أي: في كل واحد من العيدين، وفي رواية الكشميهني: (فيهما)، أي: في العيدين، وهي على الأصل وفي بعض النسخ: باب العيدين بدون كلمة في، وفي بعضها: باب ما جاء في العيدين.
948 حدثنا أبو اليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر قال أخذ عمر جبة من إستبرق تباع في السوق فأخذها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ابتع هاذه تجمل بها للعيد والوفود فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هاذه لباس من لا خلاق له فلبث عمر ما شاء الله أن يلبث ثم أرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بجبة ديباج فأقبل بها عمر فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنك قلت إنما هاذه

266
لباس من لا خلاق له وأرسلت إلي بهاذه الجبة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيعها وتصيب بها حاجتك..
مطابقته للجزء الأخير من الترجمة ظاهرة.
ورجاله بهذا النسق قد ذكروا غير مرة، وأبو اليمان: الحكم بن نافع والزهري: هو محمد بن مسلم بن شهاب.
وأخرجه النسائي أيضا في الزينة عن عبيد الله بن فضالة عن أبي اليمان به، وقد مر أكثر الكلام فيه في كتاب الجمعة في: باب ما يلبس أحسن ما يجد. 1 قوله: (أخذ عمر)، بهمزة وخاء وذال معجمتين، كذا هو في معظم الروايات، وفي بعض النسخ: (وجد عمر)، بواو وجيم، وكذا أخرجه الإسماعيلي والطبراني في (مسند الشاميين) وغير واحد من طرق إلى أبي اليمان شيخ البخاري، فيه. قيل: هو الصواب. وقال الكرماني: أراد من أخذ ملزومه وهو الشراء، قلت: الشراء لم يقع ولكن إن أراد به السوم فله وجه. قوله: (جبة) الجبة، بضم الجيم وتشديد الباء، معروفة وجمعها: جباب. قال الجوهري: الجباب ما يلبس من الثياب. قوله: (من إستبرق) الإستبرق، بكسر الهمزة: الغليظ من الديباج، والديباج: الثياب المتخذة من الإبريسم فارسي معرب، وقد تفتح داله ويجمع على: دياييج ودبابيج بالياء والباء، لأن أصله دباج، بالتشديد. قوله: (تباع في السوق) جملة في محل الجر لأنها صفة: لاستبرق. قوله: (فأخذها) أي: عمر، رضي الله تعالى عنه. وهذا من الأخذ بلا خلاف، وفائدة التكرار التأكيد إذا كان الأخذ في الموضعين سواء، وأما على نسخة: وجد، فلا يجيء معنى التأكيد. قوله: (ابتاع هذه) إشارة إلى الجبة المذكورة. وقال الكرماني: هذه إشارة إلى نوع تلك الجبة لا إلى شخصها. قلت: ظاهر التركيب يشهد لصحة ما ذكرته. وقوله: (ابتاع) أمر وقياسه حذف الألف، ولكن بعض الرواة أشبع فتحة التاء فصار: ابتاع، وهذه رواية أبي ذر عن المستملي والسرخسي، ورواية الأكثرين: ابتع، بحذف الألف على الأصل، وعلى الوجهين. قوله: (تجمل)، مجزوم لأنه جواب الأمر، وأصل: تجمل تتجمل، بتاءين، فحذفت إحدى التاءين كما في قوله تعالى: * (نارا تلظى) * (الليل: 14). أصله: تتلظى، وقيل: آبتاع؟ بهمزة استفهام ممدودة على صيغة لفظ المتكلم، ومعناه: أأشتري؟ فعلى هذا يكون: تجمل، مرفوعا. قوله: (للعيد والوفود) وتقدم
في كتاب الجمعة للجمعة بدل العيد، وهي رواية نافع، والتي هنا رواية سالم، وكان ابن عمر ذكرهما معا، فأخذ كل راو واحدا منهما، والوفود جمع وفد. وقال الكرماني: القصة واحدة والجمعة أيضا عيد. قوله: (تبيعها وتصيب بها حاجتك) وفي رواية الكشميهني: (أو تصيب)، ومعنى الأول تنتفع بثمنها، ومعنى الثاني تجعلها لبعض نسائك مثلا.
ومن فوائده: استحباب التجمل بالثياب في أيام الأعياد والجمع، وملاقاة الناس، ولهذا لم ينكر الشارع إلا كونها حريرا، وهذا على خلاف بعض المتقشفين، وقد روي عن الحسن البصري أنه خرج يوما وعليه حلة يمان، وعلى فرقد جبة صوف، فجعل فرقد ينظر ويمس حلة الحسن ويسبح، فقال له: يا فرقد ثيابي ثياب أهل الجنة وثيابك ثياب أهل النار يعني القسيسين والرهبان، ثم قال له: يا فرقد التقوى لست في هذا الكساء، وإنما التقوى ما وقر في الصدر وصدقه العمل. وفيه: استفهام الصحابة عند اختلاف القول والفعل ليعلموا الوجه الذي ينصرف إليه الأمر. وفيه: ائتلاف الصحابة بالعطاء وقبول العطية إذا لم يجر عن مسألة وفضل الكفاف. وفيه: جواز بيع الحرير للرجال والنساء وهبته، وهذا الحديث أغلظ حديث جاء في لبس الحرير.
2
((باب الحراب والدرق يوم العيد))
أي: هذا باب في بيان ذكر الحراب والدرق اللذين جاء ذكرهما في الحديث يوم العيد، فكأنه أشار بهذا إلى أن يوم العيد يوم انبساط وانشراح يغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره، والحراب، بكسر الحاء: جمع حربة، والدرق بفتحتين: جمع درقة وهي الترس الذي يتخذ من الجلود
2 - (حدثنا أحمد قال حدثنا ابن وهب قال أخبرنا عمرو أن محمد بن عبد الرحمن

267
الأسدي حدثه عن عروة عن عائشة قالت دخل علي رسول الله
وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه ودخل أبو بكر فانتهرني وقال مزمارة الشيطان عند النبي
فأقبل عليه رسول الله
فقال دعهما فلما غفل غمزتهما فخرجتا وكان يوم عيد يلعب السودان بالدرق والحراب فإما سألت النبي
وإما قال أتشتهين تنظرين فقلت نعم فأقامني وراءه خدي على خده وهو يقول دونكم يا بني أرفدة حتى إذا مللت قال حسبك قلت نعم قال فاذهبي)
مطابقته للترجمة من حيث أن المذكور فيه لفظ الدرق والحراب وهذه المناسبة في مجرد الذكر لأن الترجمة ما وضعت لبيان حكمه ولهذا قال ابن بطال ليس في حديث الباب أنه
خرج بأصحاب الحراب معه يوم العيد ولا أمر أصحابه بالتأهب بالسلاح فلا يطابق الحديث الترجمة وقد ذكرنا وجهه فلا يحتاج إلى مطابقة تامة بل أدنى الاستئناس في ذلك كاف.
(ذكر رجاله) وهم ستة * الأول أحمد بن عيسى بن حسان أبو عبد الله التستري مصري الأصل مات سنة ثلاث وأربعين ومائتين تكلم فيه يحيى بن معين هكذا وقع أحمد بن عيسى في رواية أبي ذر وابن عساكر وبه جزم أبو نعيم في المستخرج وفي رواية الأكثرين وقع حدثنا أحمد غير منسوب وقال أبو علي بن السكن كل ما في البخاري حدثنا أحمد غير منسوب فهو أحمد بن صالح وقال الحاكم روي في كتاب الصلاة في ثلاثة مواضع عن أحمد عن ابن وهب فقيل أنه أحمد بن صالح وقيل أحمد بن عيسى التستري ولا يخلو أن يكون واحدا منهما فقد روي عنهما في جامعه ونسيهما في مواضع وذكر الكلاباذي عن أبي أحمد الحافظ أحمد عن ابن وهب في جامع البخاري هو ابن أخي ابن وهب قال الحاكم وهذا وهم وغلط والدليل على ذلك أن المشايخ الذين ترك أبو عبد الله الرواية عنهم في الصحيح قد روي عنهم في سائر تصانيفه كابن صالح وغيره وليس عن ابن أخي وهب رواية في موضع فهذا يدلك على أنه لم يكتب عنه أو كتب عنه ثم ترك الرواية عنه أصلا وقال ابن مندة كل ما في البخاري حدثنا أحمد عن ابن وهب فهو ابن صالح ولم يخرج البخاري عن ابن أخي ابن وهب في صحيحه شيئا وإذا حدث عن أحمد بن عيسى نسبه * الثاني عبد الله بن وهب المصري * الثالث عمرو بن الحارث وقد تكرر ذكره * الرابع محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود الأسدي القرشي المدني يتيم عروة دخل مصر في زمن بني أمية ومات سنة سبع عشرة ومائة * الخامس عروة بن الزبير بن العوام * السادس عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم.
(ذكر لطائف إسناده) فيه التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضع وفيه الإخبار بصيغة الجمع في موضعين وفيه العنعنة في موضعين وفيه القول في ثلاثة مواضع وفيه أن الشطر الأول من الرواة مصريون والثاني مدنيون رحمهم الله.
(ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره) أخرجه البخاري أيضا في الجهاد عن إسماعيل بن أبي أويس وأخرجه أيضا عقيب هذا الباب وفي باب نظر المرأة إلى الحبشة وفي باب إذا قام العبد يصلي ركعتين وفي حسن العشرة مع الأهل وفي باب أصحاب الحراب في المسجد فهذه سبعة أبواب وأخرجه مسلم في الصلاة عن هارون بن سعيد الأيلي ويونس بن عبد الأعلى كلاهما عن ابن وهب
(ذكر معناه) قوله ' دخل على رسول الله
' زاد في رواية الزهري عن عروة ' في أيام منى ' قوله ' جاريتان ' تثنية جارية والجارية في النساء كالغلام في الرجال ويقال على من دون البلوغ منهما وسيجئ في الباب الذي بعده من جواري الأنصار وفي رواية الطبراني من حديث أم سلمة أن إحداهما كانت لحسان بن ثابت في العيدين لابن أبي الدنيا من طريق فليح عن هشام بن
عروة ' وحمامة وصاحبتها تغنيان ' وإسناده صحيح ولم يذكر أحد من مصنفي أسماء الصحابة حمامة هذه وذكر الذهبي في التجريد حمامة أم بلال رضي الله تعالى عنه اشتراها أبو بكر وأعتقها

268
قوله ' تغنيان ' جملة في محل الرفع على أنها صفة لجاريتين وزاد في رواية الزهري ' تدففان ' بفاءين أي تضربان بالدف وفي رواية مسلم عن هشام ' تغنيان بدف ' وفي رواية النسائي ' دفين ' والدف بضم الدال وفتحها والضم أشهر ويقال له أيضا الكربال بكسر الكاف وهو الذي لا جلاجل فيه فإن كانت فيه فهو المزهر ويأتي في الباب الذي بعده ' تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث ' أي قال بعضهم لبعض من فخر أو هجاء وسيأتي في الهجرة ' بما تعازفت ' بعين مهملة وزاي وفاء من العزف وهو الصوت الذي له دوي وفي رواية ' تقاذفت ' بقاف بدل العين وذال معجمة بدل الزاي من القذف وهو هجاء بعضهم لبعض وعند أحمد في رواية حماد بن سلمة عن هشام ' تذكران يوم بعاث ' يوم قتل فيه صناديد الأوس والخزرج قوله ' بغناء بعاث ' الغناء بكسر الغين المعجمة وبالمد قال الجوهري الغناء بالكسر من السماع وبالفتح النفع وقال ابن الأثير ولما يرد به الغناء المعروف من أهل اللهو واللعب وقد رخص عمر رضي الله تعالى عنه في غناء الأعراب وهو صوت كالحداء وبعاث بضم الباء الموحدة وتخفيف العين المهملة وفي آخره ثاء مثلثة والمشهور أنه لا ينصرف ونقل عياض عن أبي عبيدة بالغين المعجمة ونقل ابن الأثير عن صاحب العين خليل كذلك وكذا حكى عنه البكري في معجم البلدان وجزم أبو موسى في ذيل الغريب بأنه تصحيف وتبعه صاحب النهاية وقال أبو موسى وصاحب النهاية هو اسم حصن للأوس وفي كتاب أبي الفرج الأصفهاني في ترجمة أبي قيس بن الأسلت هو موضع في ديار بني قريظة فيه أموالهم وكان موضع الوقعة في مزرعة لهم هناك وقال الخطابي يوم بعاث يوم مشهور من أيام العرب كانت فيه مقتلة عظيمة للأوس على الخزرج وبقيت الحرب مائة وعشرون سنة إلى الإسلام على ما ذكره ابن إسحاق وغيره وكان أول هذه الوقعة فيما ذكره ابن إسحاق وهشام ابن الكلبي وغيرهما أن الأوس والخزرج لما نزلوا المدينة وجدوا اليهود مستوطنين بها فحالفوهم وكانوا تحت قهرهم ثم غلبوا على اليهود لعنهم الله بمساعدة أبي جبلة ملك غسان فلم يزالوا على اتفاق بينهم حتى كانت أول حرب وقعت بينهم حرب سمير بضم السين المهملة وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء بسبب رجل يقال له كعب من بني ثعلبة نزل على مالك بن العجلان الخزرجي فحالفه فقتله رجل من الأوس يقال له سمير فكان ذلك سبب الحرب بين الحيين ثم كانت بينهم وقائع من أشهرها يوم السرارة بمهملات ويوم فارع بفاء وراء وعين مهملة ويوم الفجار الأول والثاني وحرب حصين بن الأسلت وحرب حاطب بن قيس إلى أن كان آخر ذلك يوم بعاث وكان رئيس الأوس فيه حضير والد أسيد وكان يقال له حضير الكتائب وجرح يومئذ ثم مات بعد مدة من جراحته وكان رئيس الخزرج عمرو بن النعمان وجاءه سهم في القتال فصرعه فهزموا بعد أن كانوا قد استظهروا ولحسان وغيره من الخزرج وكذا لقيس بن الحطيم وغيره من الأوس في ذلك أشعار كثيرة مثبتة في دواوينهم قوله ' فاضطجع على الفراش ' وفي رواية الزهري ' أنه تغشى بثوبه ' وفي رواية لمسلم ' تسجى ' أي التف بثوبه قوله ' ودخل أبو بكر ' ويروى ' وجاء أبو بكر ' وفي رواية هشام بن عروة في الباب الذي بعده ' ودخل على أبو بكر وكأنه جاء زائرا لها بعد أن دخل على النبي
بيته ' (قلت) يمكن أن يكون مجيئه لمنعه الجاريتين المذكورتين عن الغناء قوله ' فانتهرني ' أي زجرني وفي رواية الزهري ' فانتهرهما ' أي الجاريتين والتوفيق بينهما أنه نهر عائشة لتقريرها ذلك ونهرهما لفعلهما ذلك في بيت النبي
قوله ' مزمارة الشيطان ' بكسر الميم يعني الغناء أو الدف وهمزة الاستفهام قبلها مقدرة وهي مشتقة من الزمير وهو الصوت الذي له صفير وسميت به الآلة المعروفة التي يرمز بها وإضافتها إلى الشيطان من جهة أنها تلهي وتشغل القلب عن الذكر وفي رواية حماد بن سلمة عند أحمد ' فقال يا عباد الله المزمور عند رسول الله
' قال القرطبي ' المزمور ' الصوت وضبطه عياض بضم الميم وحكى فتحها وقال ابن سيده يقال زمر يزمر زميرا وزمرانا غنى في القصب وامرأة زامرة ولا يقال رجل زامر إنما هو زمار وقد حكى بعضهم رجل زامر وفي الجامع في الحديث ' نهى عن كسب الزمارة ' يريد الفاجرة وفي الصحاح ولا يقال للمرأة زمارة وفي كتاب ابن التين الزمر الصوت الحسن ويطلق على الغناء أيضا وجمع المزمار مزامير قوله ' فأقبل عليه ' أي على أبي بكر رضي الله تعالى عنه وفي رواية الزهري ' فكشف النبي
عن وجهه ' وفي رواية فليح ' فكشف رأسه ' وقد مضى أنه كان ملتفا قوله ' فقال دعهما ' أي فقال

269
النبي
لأبي بكر دع الجاريتين أي اتركهما وفي رواية هشام ' يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا ' هذا تعليل لنهيه
إياه بقوله ' دعهما ' وبيان لخلاف ما ظنه أبو بكر من أنهما فعلتا ذلك بغير علمه لكونه دخل فوجد النبي
مغطى بثوبه نائما ولا سيما كان المقرر عنده منع الغناء واللهو فبادر إلى إنكار ذلك قياما عن النبي
فأوضح
الحال وبينه بقوله ' إن لكل قوم عيدا ' أي أن لكل طائفة من الملل المختلفة عيدا يسمونه باسم مثل النيروز والمهرجان وإن هذا اليوم يوم عيدنا وهو يوم سرور شرعي فلا ينكر مثل هذا على أن ذلك لم يكن بالغناء الذي يهيج النفوس إلى أمور لا تليق ولهذا جاء في رواية ' وليستا بمغنيتين ' يعني لم تتخذا الغناء صناعة وعادة وروى النسائي وابن حبان بإسناد صحيح ' عن أنس قدم النبي
المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما فقال قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرا منهما يوم الفطر ويوم الأضحى ' قوله ' غمزتهما ' جواب ' لما ' الغمز بالمعجمتين الإشارة بالعين والحاجب أو اليد والرمز كذلك قوله ' فخرجتا ' بفاء العطف والمشهور خرجتا بدون الفاء قال الكرماني خرجتا بدون الفاء بدل أو استئناف قوله ' وكان يوم عيد ' أي كان ذلك اليوم يوم عيد وكان القائل بذلك عائشة رضي الله تعالى عنها ويدل عليه ما وقع في رواية الجوزقي في هذا الحديث ' وقالت عائشة كان يوم عيد ' وبهذا يظهر أيضا
أنه موصول كغيره قوله ' يلعب فيه ' أي في ذلك اليوم قوله ' فأما سألت ' أي التمست من رسول الله
النظر إليهم وكلمة أما فيه تدل على ترددها فيما كان وقع منها هل كان
أذن لها في ذلك ابتداء منه من غير سؤال منها أو كان عن سؤال منها إياه في ذلك قيل هذا بناء على أن ' سألت ' بسكون اللام على أنه كلامها ويحتمل أن يكون بفتح اللام كلام الراوي (قلت) سكون اللام يدل على أنه لفظ المتكلم وحده وفتح اللام يدل على أنه فعل ماض مفرد مؤنث والاحتمال الذي ذكره يبعده قوله ' فقلت نعم ' لا يدرى إلا بالتأمل على أن جعله من كلامها أولى من جعله من كلام الراوي لأن كلام الراوي ليس من الحديث فافهم قوله ' تشتهين ' كلمة الاستفهام فيه مقدرة وكذلك أن المصدرية مقدرة في قوله ' تنظرين ' والتقدير أتشتهين النظر إلى السودان وقد اختلفت الروايات عنها في ذلك ففي رواية النسائي من طريق يزيد بن رومان عنها ' سمعنا لغطا وصوت صبيان فقام النبي
فإذا حبشية تزفن ' أي ترقص ' والصبيان حولها فقال يا عائشة تعالي فانظري ' فهذا يدل على أنه سألها وفي رواية عبيد بن عمير عنها عند مسلم ' أنها قالت للعابين وددت أني أراهم ' ففي هذا يحتمل أن يكون السائل هو النبي
وأن تكون عائشة لا كما جزم به البعض أنها سألته ورواية للنسائي من طريق أبي سلمة عنها ' دخل الحبشة المسجد يلعبون فقال لي النبي
يا حميراء تحبين أن تنظري إليهم فقلت نعم ' إسناده صحيح قال بعضهم ولم أر في حديث صحيح ذكر الحميراء إلا في هذا (قلت) روي من حديث هشام بن عروة عن أبيه ' عن عائشة قالت استخنت ماء في الشمس فقال النبي
لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص ' وهذا الحديث وإن كان ضعيفا ففيه ذكر الحميراء وفي مسند السراج من حديث أنس ' أن الحبشة كانت تزفن بين يدي النبي
ويتكلمون بكلام لهم فقال ما يقولون قال يقولون محمد عبد صالح ' قوله ' خدي على خده ' جملة حالية بلا واو كما في قوله تعالى * (قلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو) * وقول القائل كلمته فوه إلى في (قلت) قال الكرماني (فإن قلت) حقق لي هذه المسألة فإن الزمخشري في الكشاف تارة يجعلها حالا بدون الواو فصيحا وأخرى ضعيفا (قلت) إذا أمكن وضع مفرد مقامهما استفحصه كقوله تعالى * (اهبطوا بعضكم لبعض عدو) * أي اهبطوا معادين وههنا أيضا ممكن إذ تقديره أقامني متلاصقين انتهى (قلت) كل جملة أي جملة كانت لا يكتسى محلها إعرابا إلا إذا وقعت موقع المفرد فلا يحتاج إلى تفصيل والظاهر أن الكرماني لم يمعن نظره في هذا الموضع وقد اختلفت الروايات في هذا اللفظ ففي رواية مسلم عن هشام عن أبيه ' فوضعت رأسي على منكبيه ' وفي رواية أبي سلمة ' فوضعت ذقني على عاتقه وأسندت وجهي إلى خده ' وفي رواية عبيد بن عمير عنها ' أنظر بين أذنيه وعاتقه ' وفي رواية الزهري عن عروة التي تأتي بعد ' فيسترني وأنا أنظر ' وقد مضى في أبواب المساجد بلفظ ' يسترني بردائه ' قوله ' وهو يقول ' جملة اسمية وقعت حالا قوله ' دونكم ' بالنصب

270
على الظرفية وهو كلمة الإغراء بالشيء والمغرى به محذوف أي الزموا ما أنتم فيه وعليكم به والعرب تغري بعليك وعندك وأخواتهما وشأنها أن يتقدم الاسم كما في هذا الحديث وقد جاء تأخيرها شاذا كقوله
* يا أيها المانح دلوي دونكا
* إني رأيت الناس يمدونكا
*
قوله ' يا بني أرفدة ' بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الفاء وفتحها والكسر أشهر وهو لقب للحبشة أو اسم أبيهم الأقدم وقيل جنس منهم يرقصون وقيل المعنى يا بني الآماء وفي رواية الزهري عن عروة ' فزجرهم عمر رضي الله تعالى عنه فقال النبي
أمنا بني أرفدة ' وبين الزهري أيضا عن سعيد عن أبي هريرة وجه الزجر حيث قال ' فأهوى إلى الحصباء فحصبهم بها فقال النبي
دعهم يا عمر ' وسيأتي في الجهاد وزاد أبو عوانة في صحيحه فيه ' فإنهم بنو أرفدة ' كأنه يعني أن هذا شأنهم وطريقتهم وهو من الأمور المباحة فلا إنكار عليهم قال المحب الطبري فيه تنبيه على أنهم يغتفر لهم ما لم يغتفر لغيرهم لأن الأصل في المساجد تنزيهها عن اللعب فيقتصر على ما ورد فيه النص قوله ' أمنا بني أرفدة ' منصوب بفعل محذوف أي ائمنوا أمنا ولا تخافوا ويجوز أن يكون أمنا الذي هو مصدر أقيم مقام الصفة كقولك رجل عدل أي عادل والمعنى آمنين بني أرفدة وقال ابن التين وضبط في بعض الكتب آمنا على وزن فاعلا ويكون أيضا بمعنى آمنين قوله ' حتى إذا مللت ' بكسر اللام الأولى من الملل وهو السآمة وفي رواية الزهري ' حتى أكون أنا الذي أسأم ' ولمسلم من طريقه ' حتى أكون أنا الذي أنصرف ' وفي رواية يزيد بن رومان عند النسائي ' أما شبعت أما شبعت فجعلت أقول لا لأنظر منزلتي عنده ' وله من رواية أبي سلمة عنها ' قلت يا رسول الله لا تعجل فقام لي ثم قال حسبك قلت لا تعجل قلت وما بي حب النظر إليهم ولكن أحببت أن تبلغ النساء مقامه لي ومكانه مني ' قوله ' حسبك ' الاستفهام مقدر أي أحسبك والخبر محذوف أي أكافيك هذا القدر
(ذكر ما يستفاد منه) وهو على وجوه. الأول الكلام في الغناء قال القرطبي أما الغناء فلا خلاف في تحريمه لأنه من اللهو واللعب المذموم بالاتفاق فأما ما يسلم من المحرمات فيجوز القليل منه في الأعراس والأعياد وشبههما ومذهب أبي حنيفة تحريمه وبه يقول أهل العراق ومذهب الشافعي كراهته وهو المشهور من مذهب مالك واستدل جماعة من الصوفية بحديث الباب على إباحة الغناء وسماعه بآلة وبغير آلة ويرد عليهم بأن غناء الجاريتين لم يكن إلا في وصف الحرب والشجاعة وما يجري في القتال فلذلك رخص رسول الله
فيه وأما الغناء المعتاد عن المشتهرين به الذي يحرك الساكن ويهيج الكامن الذي فيه وصف محاسن الصبيان والنساء ووصف الخمر ونحوها من الأمور المحرمة فلا يختلف في تحريمه ولا اعتبار لما أبدعته الجهلة من الصوفية في ذلك فإنك إذا تحققت أقوالهم في ذلك ورأيت أفعالهم وقفت على آثار الزندقة منهم وبالله المستعان وقال بعض مشايخنا مجرد الغناء والاستماع إليه معصية حتى قالوا استماع القرآن بالألحان معصية والتالي والسامع آثمان واستدلوا في ذلك بقوله تعالى * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) * جاء في التفسير أن المراد به الغناء وفي فردوس الأخبار ' عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال إحذروا الغناء فإنه من قبل إبليس وهو شرك عند الله ولا يغني إلا الشيطان ' ولا يلزم من إباحة الضرب بالدف في العرس ونحوه إباحة غيره من الآلات كالعود ونحوه وسئل أبو يوسف عن الدف أتكرهه في غير العرس مثل المرأة في منزلها والصبي قال فلا كراهة وأما الذي يجيء منه اللعب الفاحش والغناء فإني أكرهه. الثاني فيه جواز اللعب بالسلاح للتدريب على الحرب والتنشيط عليه. وفيه جواز المسايفة لما فيها من تمرين الأيدي على آلات الحرب. الثالث فيه جواز نظر النساء إلى فعل الرجال الأجانب لأنه إنما يكره لهن النظر إلى المحاسن والاستلذاذ بذلك ونظر المرأة إلى وجه الرجل الأجنبي إن كان بشهوة فحرام اتفاقا وإن كان بغير شهوة فالأصح التحريم وقيل هذا كان قبل نزول * (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن) * أو كان قبل بلوغ عائشة رضي الله تعالى عنها (قلت) فيه نظر لأن في رواية ابن حبان أن ذلك وقع لما قدم وفد الحبشة وكان قدومهم سنة سبع فيكون عمرها حينئذ خمس عشرة سنة. الرابع فيه مشروعية التوسعة على العيال في أيام الأعياد بأنواع ما يحصل لهم به بسط النفس وترويح البدن من كلف العبادة وإن الإعراض عن ذلك أولى. الخامس فيه أن إظهار السرور في الأعياد من شعائر الدين. السادس فيه جواز دخول الرجل على

271
ابنته وهي عند زوجها إذا كانت له بذلك عادة. السابع فيه الأب ابنته بحضرة الزوج وإن تركه الزوج إذ التأديب وظيفة الآباء والعطف مشروع من الأزواج للنساء. الثامن فيه الرفق بالمرأة واستجلاب مودتها. التاسع فيه أن مواضع أهل الخير تنزه عن اللهو واللغو وإن لم يكن لهم فيه إثم إلا بإذنهم. العاشر فيه أن التلميذ إذا رأى عند شيخه ما يستنكر مثله بادر إلى إنكاره ولا يكون في ذلك افتيات على شيخه بل هو أدب منه ورعاية لحرمته وإجلال منصبه. الحادي عشر فيه فتوى التلميذ بحضرة شيخه بما يعرف من طريقته ويحتمل أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه ظن أن النبي
نام فخشي أن يستيقظ فيغضب على ابنته فبادر إلى سد هذه الذريعة وفي قول عائشة رضي الله تعالى عنها في آخر هذا الحديث ' فلما غفل غمزتهما فخرجتا ' دلالة على أنها مع ترخيص النبي
لها في ذلك راعت خاطر أبيها أو خشيت غضبه عليها فأخرجتهما واقتناعها في ذلك بالإشارة فيما يظهر للحياء من الكلام بحضرة من هو أكبر منها. الثاني عشر فيه جواز سماع صوت الجارية بالغناء وإن لم تكن مملوكة لأنه
لم ينكر على أبي بكر سماعه بل أنكر إنكاره واستمرت إلى أن أشارت إليهما عائشة بالخروج ولكن لا يخفى أن محل الجواز ما إذا أمنت الفتنة بذلك وقال المهلب الذي أنكره أبو بكر كثرة التغنيم وإخراج الإنشاد من وجهه إلى معنى التطريب بالألحان ألا ترى أنه لم ينكر الإنشاد وإنما أنكر مشابهة الزمر بما كان في المعتاد الذي فيه اختلاف النغمات وطلب الإطراب فهو الذي يخشى منه وقطع الذريعة فيه أحسن وما كان دون ذلك من الإنشاد ورفع الصوت حتى لا يخفى معنى البيت وما أراده الشاعر بشعره فغير منهي عنه وقد روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه رخص في غناء الأعرابي وهو صوت كالحداء يسمى النصب إلا أنه رقيق. الثالث عشر استدل به ابن حزم وقال الغناء واللعب واللزفن في أيام العيدين حسن في المسجد وغيره وقال ابن التين كان هذا في أول الإسلام لتعلم القتال وقال أبو الحسن في التبصرة هو منسوخ بالقرآن العظيم قال الله تعالى * (إنما يعمر مساجد الله) * الآية وبقوله
' جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم '. الرابع عشر فيه جواز اكتفاء المرأة في الستر بالقيام خلف من تتستر به من زوج أو ذي محرم. الخامس عشر فيه بيان أخلاق النبي
الحسنة ولطفه وحسن شمائله
* -.
3
((باب سنة العيدين لأهل الإسلام))
أي: هذا باب في بيان سنية الدعاء في العيد، وهكذا هو في رواية أبي ذر عن الحموي، وفي رواية الأكثرين: باب سنة العيدين لأهل الإسلام، وسنذكر وجه الترجمتين على القولين.
951 حدثنا حجاج قال حدثنا شعبة قال أخبرني زبيد قال سمعت الشعبي عن البراء قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال إن أول ما نبدأ من يومنا هاذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل فقد أصاب سنتنا.
مطابقته للترجمة المروية عن الحموي في قوله: يخطب)، فإن الخطبة مشتملة على الدعاء كما أنها تشتمل على غيره من بيان أحكام العيد، وأما الترجمة المروية عن الأكثرين فظاهره، لأن فيه بيان سنة العيد لأهل الإسلام، وإنما ذكر قوله: (لأهل الإسلام)، إيضاحا أن سنة أهل الإسلام في العيد خلاف ما يفعله غير أهل الإسلام، لأن غير أهل الإسلام أيضا لهم أعياد كما ذكر في الحديث. (إن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا). فإن قلت: الحديث في بيان سنة عيد النحر، فما وجه قوله: (سنة العيدين) بالتثنية؟ قلت: من جملة سنة العيدين وأعظمها: الصلاة، ولا يخلو العيدان منها بضم الزاي وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره دال مهملة:
ابن الحارث اليامي الكوفي

272
وكل ما في البخاري: زبيد فهو بالباء الموحدة، وكل ما في (الموطأ) فهو: بالياء آخر الحروف. الرابع: عامر بن شراحيل الشعبي. الخامس: البراء بن عازب.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضع. وفيه: السماع في موضعين. وفيه: القول في موضع. وفيه: أن الأول من الرواة بصري والثاني واسطي والثالث والرابع كوفيان.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في العيدين عن آدم وعن سليمان بن حرب وفي العيدين أيضا عن بندار عن شعبة وفي العيدين أيضا عن أبي نعيم وفي الأضاحي عن موسى بن إسماعيل وعن مسدد وفي العيدين أيضا عن عثمان عن جرير وعن مسدد عن أبي الأحوص وفي الأيمان والنذور وكتب إلي محمد بن بشار. وأخرجه مسلم في الذبائح عن يحيى بن يحيى عن هشيم وعن محمد بن المثنى وعن يحيى بن يحيى عن خالد وعن أبي موسى وبندار، كلاهما عن غندر وعن عبد الله بن معاذ وعن هناد وقتيبة، كلاهما عن أبي الأحوص وعن عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، كلاهما عن جرير وعن أبي بكر بن أبي شيبة عن عبد الله بن نمير وعن محمد بن عبد الله بن نمير وعن أحمد بن سعيد. وأخرجه أبو داود في الأضاحي عن مسدد عن أبي الأحوص وعن خالد به. وأخرجه الترمذي فيه عن علي بن حجر. وأخرجه النسائي في الصلاة عن عثمان ابن عبد الله وعن محمد بن عثمان وفي الأضاحي عن قتيبة به وعن هناد عن يحيى.
ذكر معناه: قوله: (يخطب)، جملة فعلية في محل النصب على أنها أحد مفعولي سمعت على مذهب الفارسي، والصحيح أنه لا يتعدى إلا إلى مفعول واحد، فحينئذ يكون محل: يخطب، نصبا على الحال. قوله: (هذا) أشار به إلى يوم العيد، وهو عيد النحر. قوله: (ثم نرجع)، بالنصب والرفع، فالنصب على العطف على: (أن نصلي)، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: ثم نحن نرجع. قوله: (فمن فعل) أي: الابتداء بالصلاة ثم بعدها بالنحر فقد أصاب سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على وجوه: الأول: فيه أن صلاة العيد سنة ولكنها مؤكدة، وهو قول الشافعي، وقال الإصطخري من أصحابه فرض كفاية، وبه قال أحمد ومالك وابن أبي ليلى، والصحيح عن مالك أنه كقول الشافعي، رضي الله تعالى عنه، وعند أبي حنيفة وأصحابه: واجبة. وقال صاحب (الهداية): وتجب صلاة العيد على كل من تجب عليه الجمعة. وفي مختصر أبي موسى الضرير، هي فرض كفاية، وكذا قال في الغزنوي، وفي (القنية): قيل: هي فرض. ونقل القرطبي عن الأصمعي أنها فرض. واختلف فيمن يخاطب بالعيد، فروى ابن القاسم عن مالك: في القرية فيها عشرون رجلا أرى أن يصلوا العيدين، وروى ابن نافع عنه أنه: ليس ذلك إلا على من تجب عليه الجمعة، وهو قول الليث، وأكثر أهل العلم فيما حكاه ابن بطال. وقال ربيعة: كانوا يرون الفرسخ وهو ثلاثة أميال. وقال الأوزاعي: من آواه الليل إلى أهله فعليه الجمعة والعيد. وقال ابن القاسم وأشهب: إن شاء من لا تلزمهم الجمعة أن يصلوها بإمام فعلوا، ولكن لا خطبة عليهم، فإن خطب فحسن، وحجة أصحابنا في الوجوب مواظبته، صلى الله عليه وسلم، من غير ترك. واستدل شيخ الإسلام على وجوبها بقوله تعالى: * (ولتكبروا الله على ما هداكم) * (البقرة: 185 والحج: 37). قيل: المراد من صلاة العيد، والأمر للوجوب. وقيل في قوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * (الكوثر: 2). إن المراد به صلاة عيد النحر، فتجب بالأمر.
الوجه الثاني: أن السنة أن يخطب بعد الصلاة، لما روى البخاري ومسلم عن نافع عن ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما، قال: (كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ثم أبو بكر وعمر يصلون العيد قبل الخطبة). وقال ابن بطال: فيه أن صلاة العيد سنة، وأن النحر لا يكون إلا بعد الصلاة، وأن الخطبة أيضا بعدها. وقال الكرماني: الأخير ممنوع، بل المستفاد منه أن الخطبة مقدمة على الصلاة. قلت: لا نسلم ما قاله لأنه صرح بأن أول ما يبدأ به يوم العيد الصلاة ثم النحر، ولقد غر الكرماني ظاهر قوله: (يخطب، فقال: فالفاء فيه تفسيرية، فسر في خطبته التي خطب بها بعد الصلاة أن أول ما يبدأ به يوم العيد الصلاة، ولأنها هي الأمر المهم، والخطبة من التوابع، حتى لو تركها لا يضر صلاته، بخلاف خطبة الجمعة. فإن قلت: وقع للنسائي استدلاله بحديث البراء على أن الخطبة قبل الصلاة، وترجم له: باب الخطبة يوم العيد قبل الصلاة، واستدل في ذلك بقوله: (أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم ننحر)، وتأول أن قوله: هذا قبل الصلاة لأنه كيف يقول: (أول ما نبدأ به أن نصلي)

273
وهو قد صلى. قلت: قال ابن بطال: غلط النسائي في ذلك لأن العرب قد تضع الفعل المستقبل مكان الماضي، فكأنه قال صلى الله عليه وسلم: أول ما يكون الابتداء به في هذا اليوم الصلاة التي قدمنا فعلها، وبدأنا بها، وهو مثل قوله تعالى: * (وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله) * (البروج: 8). المعنى إلا الإيمان المتقدم منهم، وقد بين ذلك في: باب استقبال الإمام للناس في خطبة العيد، فقال: إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة، وللنسائي: (خطب يوم النحر بعد الصلاة).
الوجه الثالث: أن النحر بعد الفراغ من الصلاة، وسيجئ الكلام فيه فيما بعد، إن شاء الله تعالى.
952 حدثنا عبيد بن إسماعيل قال حدثنا أبو أسامة عن هشام عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت دخل أبو بكر وعندي جاريتان من جواري الأنصار تغنيان بما تقاولت الأنصار يوم بعاث قالت وليستا بمغنيتين فقال أبو بكر أبمزامير الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذالك في يوم عيد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن لكل قوم عيدا وهاذا عيدنا..
مطابقته للترجمة المروية عن الحموي غير ظاهرة، اللهم إلا إذا قلنا بالتكلف، بأن قوله صلى الله عليه وسلم: (وهذا عيدنا)، تقرير منه لما وقع من الجاريتين في هذا اليوم الذي هو يوم السرور والفرح، وتقريره رضاه بذلك، والرضى منه صلى الله عليه وسلم يقوم مقام الدعاء. وأما مطابقته للترجمة المروية عن الأكثرين فلا تتأتى إلا
إذا حملنا لفظ السنة على معناها اللغوي، وبهذا المقدار يستأنس به وجه المطابقة. وفيه الكفاية، وحديث عائشة هذا قد مضى الكلام فيه في باب الحراب والدرق يوم العيد، لأنه أخرجه هناك عن أحمد بن عيسى عن ابن وهب عن عمرو عن محمد بن عبد الرحمن عن عروة عن عائشة، وهنا أخرجه: عن عبيد بن إسماعيل الهباري القرشي الكوفي، وهو من أفراد البخاري يروي عن أبي أسامة حماد بن أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عروة عن عائشة، ومن زوائده على ذاك قوله: (وليستا بمغنيتين) أي: ليس الغناء عادة لهما ولا هما معروفتان به. وقال القاضي عياض: أي: ليستا ممن تغني بعادة المغنيات من التشويق والهوى والتعريض بالفواحش والتشبب بأهل الجمال وما يحرك النفوس كما قيل: الغناء رقية الزنا وليستا أيضا ممن اشتهر بإحسان الغناء الذي فيه تمطيط وتكسير، وعمل يحرك الساكن ويبعث الكامن، ولا ممن اتخذه صنعة وكسبا. وقال الخطابي: هي التي اتخذت الغناء صناعة، وذلك مما لا يليق بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. وأما الترنم بالبيت والبيتين وتطريب الصوت بذلك مما ليس فيه فحش أو ذكر محظور فليس مما يسقط المروءة، وحكم اليسير منه خلاف حكم الكثير. قوله: (أبمزامير؟) ويروى: (أمزامير؟) بدون الباء أي: أتلتبسون أو تشتغلون بها، وهو جمع: مزمور، وقد مر معناه مستقصى. قوله: (وهذا عيدنا) يريد به أن إظهار السرور في العيدين من شعائر الدين وإعلاء أمره. قاله الخطابي: قيل: وفيه دليل على أن العيد موضوع للراحات وبسط النفوس والأكل والشرب والجماع، ألا ترى أنه أباح الغناء من أجل عذر العيد؟ /
4
((باب الأكل يوم الفطر قبل الخروج))
أي: هذا باب في بيان حكم الأكل يوم عيد الفطر قبل الخروج إلى المصلى لأجل صلاة العيد.
953 حدثنا محمد بن عبد الرحيم قال حدثنا سعيد بن سليمان قال حدثنا هشيم قال أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر بن أنس عن أنس قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تمرات.
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد بن عبد الرحيم المشهور بالصاعقة، وقد تقدم. الثاني: سعيد بن سليمان الملقب بسعدويه، وقد تقدم. الثالث: هشيم، بضم الهاء: ابن بشير، بضم الباء الموحدة وفتح الشين المعجمة: ابن القاسم ابن دينار السلمي الواسطي. الرابع: عبيد الله بالتصغير ابن أبي بكر بن أنس. الخامس: جده أنس بن مالك.

274
ذكر لطائف إسناده: فيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد والإخبار كذلك في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وهو بغدادي، وسعيد وهشيم واسطيان وعبيد الله مدني. وفيه: روى سعيد بن سليمان عن هشيم وتابعه أبو الربيع الزهري عند الإسماعيلي وجبارة بن المغلس عند ابن ماجة. قاال: حدثنا جبارة بن المغلس حدثنا هشيم عن عبيد الله ابن أبي بكر (عن أنس بن مالك قال: كان النبي، صلى الله عليه وسلم، لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم تمرات). ورواه عن هشيم قتيبة عند الترمذي وأحمد بن منيع عند ابن خزيمة وأبو بكر بن أبي شيبة عند ابن حبان وعمرو بن عون عند الحاكم، فقالوا كلهم: عن هشيم عن محمد بن إسحاق عن حفص بن عبيد الله ابن أنس، وأعله الإسماعيلي بأن هشيما مدلس، وقد اختلف عليه. فيه، وابن إسحاق ليس من شرط البخاري. قلت: هشيم صرح هنا بالإخبار فأمن تدليسه على أن البخاري نزل فيه درجة، لأن سعيد بن سليمان من شيوخه، وقد أخرج هذا الحديث عنه بواسطة لكونه لم يسمعه منه. وقال صاحب (التوضيح): هذا الحديث من أفراد البخاري قلت: ليس كذلك، لأن ابن ماجة أخرجه أيضا كما ذكرناه عن قريب.
ذكر معناه: قوله: (كان لا يغدو) وفي لفظ ابن ماجة: (لا يخرج)، وفي لفظ ابن حبان والحاكم: (ما خرج يوم فطر حتى يأكل تمرات). قوله: (حتى يأكل تمرات) وفي رواية ابن ماجة: (حتى يطعم تمرات)، وفي لفظ ابن حبان: (حتى يأكل تمرات ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أقل من ذلك أو أكثر وترا). وفي لفظ أحمد: (ويأكلهن أفرادا).
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن السنة لا يخرج إلى المصلى يوم عيد الفطر إلا بعد أن يطعم تمرات وترا وله شواهد: منها: حديث بريدة: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل، ولا يأكل يوم الأضحى حتى يرجع). أخرجه الترمذي وابن ماجة وفي لفظ البيهقي: (فيأكل من كبد أضحيته). ومنها: حديث ابن عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغدو يوم الفطر حتى تغدى الصحابة من صدقة الفطر)، أخرجه ابن ماجة، وفي سنده عمرو بن صهبان وهو متروك. ومنها: حديث أبي سعيد الخدري قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأكل يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى)، أخرجه ابن أبي شيبة في (مصنفه) والبزار في مسنده، وزاد: (فإذا خرج صلى ركعتين للناس، وإذا رجع صلى في بيته ركعتين، وكان لا يصلي قبل الصلاة شيئا يعني يوم العيد). وروى الترمذي، محسنا، عن الحارث (عن علي، رضي الله تعالى عنه، قال: من السنة أن يطعم الرجل يوم الفطر قبل أن يخرج إلى المصلى)، وأخرجه الدارقطني عنه وعن ابن عباس. وفي (الموطأ) (عن ابن المسيب: أن الناس كانوا يؤمرون بالأكل قبل الغدو يوم الفطر)، وعن الشافعي: حدثنا إبراهيم بن محمد (أخبرني صفوان بن سليم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يطعم قبل أن يخرج إلى الجبانة ويأمر به). وهذا مرسل، وقد روي مرفوعا عن علي ورواه الشافعي بمعناه عن ابن المسيب وعروة بن الزبير (وعن السائب بن يزيد قال: مضت السنة أن يأكل قبل أن يغدو يوم الفطر) وعن أبي إسحاق (عن رجل من الصحابة أنه: كان يأمر بالأكل يوم الفطر قبل أن يأتي المصلى)، وحكاه عن معاوية ابن سويد بن مقرن وابن مغفل وعروة وصفوان بن محرز وابن سيرين وعبد الله بن شداد والأسود بن يزيد وأم الدرداء وعمر
بن عبد العزيز ومجاهد وتميم بن سلمة وأبي مخلد، وعن عبد الله بن نمير: (حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه كان يخرج إلى المصلى ولا يطعم شيئا)، وحدثنا هشيم (أخبرنا مغيرة عن إبراهيم قال: إن طعم فحسن وإن لم يطعم فلا بأس)، وحكاه الدارقطني عن ابن مسعود (إن شاء أكل وإن شاء لم يأكل)، وعن النخعي مثله، وكان بعض التابعين يأمرهم بالأكل في الطريق، قال ابن المنذر: والذي عليه الأكثر استحباب الأكل. فإن قلت: ما الحكمة في استحباب التمر؟ قلت: قيل: لما في الحلو من تقوية البصر الذي يضعفه الصوم، وهو أيسر من غيره، ومن ثمة استحب بعض التابعين أن يفطر على الحلو مطلقا كالعسل، رواه ابن أبي شيبة عن معاوية بن قرة وابن سيرين وغيرهما، وروى فيه حكمة أخرى عن ابن عون أنه سئل عن ذلك فقال: إنه يحبس البول. قلت: يحتمل أن يكون التعيين في التمر لكونه أيسر الموجود وأكثره وأكثر قوتهم مع ما فيه من الحلو. وقيل: الحكمة فيه أن النخلة ممثلة بالمسلم، وقيل: لأنها هي الشجرة الطيبة. وأما الحكمة في جعلهن وترا فلأنه صلى الله عليه وسلم كان يوتر في جميع أموره استشعارا للوحدانية، وأما الحكمة في نفس الأكل قبل صلاة عيد الفطر

275
فلئلا يظن أن الصيام يلزم يوم الفطر إلى أن يصلي صلاة العيد مع التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال مرجى رجاء حدثني عبيد الله قال حدثني أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ويأكلهن وترا
ذكر البخاري هذا المعلق لإفادة أربعة أشياء: الأول: أن فيه التصريح بإخبار عبيد الله بن أبي بكر عن أنس، رضي الله تعالى عنه، لأن في الرواية الأولى: عنعنة. والثاني: الإشارة إلى أن الأكل مقيد بالوتر للحكمة التي ذكرناها. والثالث: الإشارة إلى أن مرجى قد تابع هشيما على روايته عن عبيد الله بن أبي بكر. والرابع: أن مرجى، ضم الميم وفتح الراء وتشديد الجيم المفتوحة والياء المقصورة، ورجاء، بفتح الراء وتخفيف الجيم وبالمد: السمرقندي.
5
((باب الأكل يوم النحر))
أي: هذا باب في بيان حكم الأكل يوم عيد النحر، ولم يذكر الأكل هنا في وقت معين كما ذكره معينا في باب الأكل يوم الفطر، فإنه قيده بقوله: قبل الخروج، يعني إلى المصلى، لأن في حديث الباب: فقام رجل فقال: هذا يوم يشتهى فيه اللحم، ولم يقيد بوقت، وكذلك في حديث البراء: (إن اليوم يوم أكل وشرب)، ولكن يمكن أن يكون المراد من اليوم بعض اليوم كما في قوله تعالى: * (ومن يولهم يومئذ دبره) * (سورة:!!). ثم إن هذا البعض مجمل، وقد فسره في حديث بريدة، أخرجه الترمذي والحاكم، وقد ذكرناه في الباب السابق، فإنه بين فيه أن وقت الأكل في هذا اليوم بعد الصلاة، كما بين أن وقته في عيد الفطر قبل الصلاة.
954 حدثنا مسدد قال حدثنا إسماعيل عن أيوب عن محمد عن أنس قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من ذبح قبل الصلاة فليعد فقام رجل فقال هاذا يوم يشتهى فيه اللحم وذكر من جيرانه فكأن النبي صلى الله عليه وسلم صدقه قال وعندي جذعة أحب ألي من شاتي لحم فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم فلا أدري أبلغت الرخصة من سواه أم لا؟.
مطابقته للترجمة يمكن أن تؤخذ من قوله: (هذا يوم يشتهي فيه اللحم)، فإنه أطلق ذكر اليوم، وكذلك في الترجمة.
ذكر رجاله: وهم خمسة، قد ذكروا غير مرة، وإسماعيل هو ابن علية، وأيوب هو السختياني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الأضاحي عن مسدد، وعن علي بن عبد الله، وعن صدقة بن الفضل، وفي صلاة العيد عن حامد بن عمر. وأخرجه مسلم في الذبائح عن يحيى بن أيوب وزهير بن حرب وعمرو الناقد، ثلاثتهم عن ابن علية به، وعن زياد بن يحيى وعن محمد بن عبيد. وأخرجه النسائي في الصلاة، وفي الأضاحي عن يعقوب بن إبراهيم الدورقي وعن إسماعيل بن مسعود. وأخرجه ابن ماجة في الأضاحي عن عثمان بن أبي شيبة عن إسماعيل بن علية به مختصرا.
ذكر معناه: قوله: (من ذبح قبل الصلاة فليعد)، أي: من ذبح أضحيته قبل صلاة عيد الأضحى فليعد أضحيته، لأن الذبح للتضحية لا يصح قبل الصلاة. قوله: (فقام رجل) هو أبو بردة بن نيار كما جاء في الحديث الذي يأتي بعده وهو خال البراء بن عازب. قوله: (فقال هذا يوم يشتهى فيه اللحم)، وهذا يدل على أنه يوم فطر. قوله: (وذكر من جيرانه)، يعني: ذكر منهم فقرهم واحتياجهم، كما يجيء هذا المعنى في الحديث الذي يأتي في: باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، وفي لفظ: (وذكره هنة من جيرانه، وكذا هو في نسخة شيخه قطب الدين، وبخط الدمياطي. وذكر): (من جيرانه) بدون لفظ: هنة، كما هو المذكور ههنا، والهنة: الحاجة والفقر، وحكى الهروي عن بعضهم شد النون في: هن وهنة، وأنكره الأزهري، وقال الخليل: من العرب من يسكنه يجريه مجرى: من، ومنهم من ينونه في الوصل، قال ابن قرقول: وهو أحسن من الإسكان. قوله:

276
(فكأن النبي صلى الله عليه وسلم صدقه) أي: فيما قال عنهم. قوله: (جذعة)، بفتح الجيم والذال المعجمة والعين المهملة: الطاعنة في السنة الثانية، والذكر الجذع، وعن الأصمعي: الجذع من المعز لسنة ومن الضان لثمانية أشهر أو تسعة. وفي (الصحاح): والجمع جذعات. وفي (المحكم) الجذع الصغير السن. وقيل: الجذع من الغنم، تيسا كان أو كبشا: الداخل في السنة الثانية، وقيل: الجذع من الغنم لسنة والجمع جذعات وجذعان وجذاع والاسم: الجذوعة، وقيل: الجذوعة في الدواب والأنعام قبل أن يثنى بسنة، وفي (الموعب): الجذعة السمينة من الضان، والجمع: جذع، وعن عياض: الجذع ما قوي من الغنم قبل أن يحول عليه الحول فإذا تم له حول صار ثنيا. قوله: (فلا أدري) أي: هذا الحكم كان خاصا به أو عاما لجميع المكلفين، وهذا يدل على أن أنسا لم يبلغه. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تذبحوا إلا مسنة). قوله: (الرخصة) أي: في تضحية الجذعة، والمراد منها: جذعة المعز، كما جاء في الرواية الأخرى: (عناقا جذعة)، والعناق من أولاد
المعز.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن من ذبح أضحيته قبل صلاة العيد فإنه لا يجوز، ووقت الأضحية يدخل بطلوع الفجر من يوم النحر، وقال إسحاق وأحمد وابن المنذر: إذا مضى من نهار يوم العيد قدر ما تحل فيه الصلاة والخطبتان جازت الأضحية، سواء صلى الإمام أو لم يصل، وسواء كان في المصر أو في القرى، وعندنا: لا يجوز لأهل الأمصار أن يضحوا حتى يصلي الإمام العيد، فأما أهل السواد فيذبحون بعد الفجر، ولا يشترط فيهم صلاة الإمام، واشترط الشافعي فراغ الإمام عن الخطبة، واشترط مالك نحر الإمام، واختلف أصحاب مالك في الإمام الذي لا يجوز أن يضحي قبل تضحيته، فقال بعضهم: هو أمير المؤمنين، وقال بعضهم: هو أمير البلد، وقال بعضهم: هو الذي يصلي بالناس صلاة العيد. وفيه: مواساة الجيران بالإحسان. وفيه: أن جواز التضحية بالجذعة من المعز اختص لأبي بردة، والإجماع منعقد على أن الجذعة من المعز لا تجوز بخلاف جذعة الضأن، وقد قلنا: إن المراد من الجذعة في الحديث الجذعة من المعز لا الجذعة من الضان، لما في رواية مسلم: (لا تذبحوا إلا مسنة)، وهي التثنية من كل شيء، ففيه تصريح بأنه: لا تجوز الجذعة من غير الضأن، وحكي عن الأوزاعي وعطاء جواز الجذع من كل حيوان حتى المعز، وكأن الحديث لم يبلغهما. وفيه: حجة لأبي حنيفة على وجوب الأضحية لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بإعادة أضحية من ذبحها قبل الصلاة، ولو لم تكن واجبة لما أمر بإعادتها عند وقوعها في غير محلها.
955 حدثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن الشعبي عن البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما قال خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا أو نسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فإنه قبل الصلاة ولا نسك له فقال أبو بردة ابن نيار خال البراء يا رسول الله فإني نسكت شاتي قبل الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب وأحببت أن تكون شاتي أول ما يذبح في بيتي فذبحت شاتي وتغديت قبل أن آتي الصلاة قال شاتك شاة لحم قال يا رسول الله فإن عندنا عناقا لنا جذعة هي أحب إلي من شاتين أفتجزي عني قال نعم ولن تجزي عن أحد بعدك..
مطابقته للترجمة في قوله: (وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب)، ولهذا إنه صلى الله عليه وسلم لم يعنف أبا بردة لما قال له: (تغديت قبل أن آتي الصلاة).
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: عثمان بن أبي شيبة اسمه إبراهيم بن عثمان أبو الحسن العبسي الكوفي، أخو أبي بكر بن أبي شيبة، وهو أكبر من أبي بكر بثلاث سنين، مات في المحرم سنة تسع وثلاثين ومائتين. الثاني: جرير، بفتح الجيم: ابن عبد الحميد الضبي، أبو عبد الله الرازي، وقد تقدم. الثالث: منصور بن المعتمر الكوفي. الرابع: الشعبي عامر ابن شراحيل. الخامس: البراء بن عازب، رضي الله تعالى عنه.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في

277
موضعين. وفيه: أن رواته كلهم كوفيون، وجرير أصله من الكوفة. وفيه: أنه ذركر شيخه بلا نسبة لشهرته، وقد ذكرنا تعدد موضعه ومن أخرجه غيره.
ذكر معناه: قوله: (ونسك نسكنا)، يقال: نسك ينسك من باب: نصر ينصر، نسكا بفتح النون: إذا ذبح، والنسيكة الذبيحة، وجمعها: نسك، ومعنى: (من نسك نسكنا) أن من ضحى مثل ضحيتنا. وفي (المحكم): نسك، بضم السين عن اللحياني، والنسك العبادة، وقيل لثعلب: هل يسمى الصوم نسكا؟ فقال: كل حق لله عز وجل يسمى نسكا، والمنسك والمنسك شرعة النسك، ورجل ناسك أي: عابد، وتنسك: إذا تعبد. قوله: (فإنه) أي: النسك، حاصل المعنى أن من نسك قبل الصلاة فلا اعتداد بنسكه، ولفظ: (ولا نسك له) كالتوضيح والبيان له. قوله: (أبو بردة)، بضم الباء الموحدة وسكون الراء: واسمه هانىء، بالنون ثم بالهمز: ابن عمرو بن عبيد البلوي المدني، وقيل: اسمه الحارث بن عمرو، ويقال: مالك بن هبيرة، والأول أصح، ونيار، بكسر النون وتخفيف الياء آخر الحروف وبعد الألف راء. قوله: (أول شاة) بالإضافة، ويروى بدون الإضافة مفتوحا ومضموما. أما الضم فلأنه من الظروف المقطوعة عن الإضافة، نحو: قبل وبعد، وأما الفتح فلأنه من المضاف إلى الجملة، فيجوز أن يقال: إنه مبني على الفتح، أو: إنه منصوب، وعلى التقديرين هو خبر الكون. قوله: (شاتك شاة لحم)، أي: ليست أضحية ولا ثواب فيها، بل هي لحم لك تنتفع به. قيل: هو كقولهم: خاتم فضة، كأن الشاة شاتان شاة تذبح لأجل اللحم، وشاء تذبح لأجل التقرب إلى الله تعالى. قوله: (لنا جذعة)، هما صفتان للعناق، ولا يقال: عناقة، لأنه موضوع للأنثى من ولد المعز، فلا حاجة إلى التاء الفارقة بين المذكر والمؤنث. وقال ابن سيده: الجمع عنوق وأعنق، وعن ابن دريد: وعنق. قوله: (أحب إلي من شاتين) يعني: من جهة طيب لحمها وسمنها وكثرة قيمتها. قوله: (أفتجرىء؟) الهمزة فيه للاستفهام. قوله: (ولن تجزي) قال النووي: هو بفتح التاء، هكذا الرواية فيه في جميع الكتب، ومعناه: لن تكفي كقوله تعالى: * (لا تجزي نفس عن نفس شيئا) *. (البقرة: 48، 23). * (ولا يجزي والد عن ولده) * (لقمان: 33). وفي (التوضيح): هو من جزى يجزي بمعنى: قضى، وأجزى يجزى بمعنى: كفى. قوله: (بعدك) أي: غيرك، وذلك لأنه لا بد في تضحية المعز من الثني وهذا من خصائص أبي بردة، كما أن قيام شهادة خزيمة، رضي الله تعالى عنه، مقام شهادتين من خصائص خزيمة، ومثله كثير.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن الخطبة يوم العيد بعد الصلاة. وفيه: أن يوم النحر يوم أكل إلا أنه لا يستحب فيه الأكل قبل المضي إلى الصلاة. قال ابن بطال: ولا ينهى عنه، وأنه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لم يحسن أكل البراء ولا عنفه عليه، وإنما أجابه عما به الحاجة إليه من سنة الذبح، وعذره في الذبح لما قصده من إطعام جيرانه لحاجتهم وفقرهم، ولم ير صلى الله عليه وسلم أن يخيب فعلته الكريمة، فأجاز له أن يضحي بالجذعة من المعز، وقد مرت بقية الكلام فيما مضى عن قريب.
6
((باب الخروج إلى المصلى بغير منبر))
أي: هذا باب في بيان خروج الإمام إلى مصلى صلاة العيد بغير منبر أراد أن يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى الجبانة يوم عيد الأضحى والفطر لأجل الصلاة وكان يخطب قائما بغير منبر وذلك لأجل تواضعه صلى الله عليه وسلم.
956 حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا محمد بن جعفر قال أخبرني زيد عن عياض بن عبد الله بن أبي سرح عن أبي سعيد الخدري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس والناس جلوس على صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه أو يأمر بشيء أمر به ثم ينصرف. قال أبو سعيد فلم يزل (الناس على ذالك حتى خرجت مع مروان وهو أمير المدينة في أضحى أو فطر فلما أتينا المصلى اذا منبر بناه كثير بن الصلت فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي فجبذت بثوبه فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة

278
فقلت له غيرتم والله فقال أبا سعيد قد ذهب ما تعلم فقلت ما أعلم والله خير مما لا أعلم فقال إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة فجعلتها قبل الصلاة..
مطابقته للترجمة ظاهرة لأن المذكور فيه خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مصلى العيد بغير منبر يحمل معه ولا معد له هناك قبل خروجه.
ذكر رجاله: وهم خمسة قد ذكروا كلهم لأن الإسناد بعينه قد تقدم في: باب ترك الحائض الصوم، لأنه ذكر أول الحديث هناك مختصرا. ومحمد بن جعفر هو ابن أبي كثير. ورجاله كلهم مدنيون. وقوله: عن أبي سعيد، في رواية عبد الرزاق: عن داود بن قيس عن عياض، قال: سمعت أبا سعيد، وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق ابن وهب عن داود.
ذكر معناه: قوله: (إلى المصلى)، بضم الميم: هو موضع بالمدينة معروف، بينه وبين باب المسجد ألف ذراع، قاله عمر ابن شيبة في (أخبار المدينة) عن أبي غسان الكتاني صاحب مالك، رحمه الله. قوله: (فأول شيء) ارتفاع أول على أنه مبتدأ وقوله: (الصلاة)، خبره ولفظ: أول، وإن كان نكرة فقد تخصص بالإضافة، والأولى أن تكون: الصلاة، مبتدأ. وأول، خبره، وقوله: (يبدأ به) جملة في محل الجر لأنها صفة لشيء. قوله: (ثم ينصرف) أي: من الصلاة. قوله: (فيقوم مقابل الناس) أي: مواجها لهم، وفي رواية ابن حبان من طريق داود بن قيس: (فينصرف إلى الناس قائما في مصلاه). وروى ابن خزيمة في مختصره: (خطب يوم عيد على رجليه). قوله: (والناس جلوس)، جملة اسمية وقعت حالا، و: جلوس، جمع جالس. قوله: (فيعظهم) من: وعظ يعظ وعظا وعظة، و: (يوصيهم) من: وصى يوصي توصية، ومعنى: يعظهم: يخوفهم بعواقب الأمور، ومعنى يوصيهم في حق الغير: لينصحوا لهم، ومعنى: (يأمرهم) يأمر بالحلال والحرام. قوله: (فإن كان يريد) أي: النبي صلى الله عليه وسلم إن كان يريد في ذلك الوقت (أن يقطع بعثا) أي: أن يفرد قوما من غيرهم بعثهم إلى الغزو، والبعث، بفتح الباء الموحدة وسكون العين المهملة وفي آخره ثاء مثلثة بمعنى المبعوث وهو: الجيش. قوله: (قطعه) أي: أفرده، والضمير المنصوب يرجع إلى البعث. قوله: (أو يأمر بشيء) بالنصب أي: أو إن كان يريد أن يأمر بشيء مما يتعلق بالبعث لأمر به، وليس هذا بتكرار لأن معناه غير معنى الأول على ما لا يخفى. قوله: (ثم ينصرف) أي: ثم هو ينصرف إلى المدينة. قوله: (قال أبو سعيد) هو أبو سعيد الخدري الراوي واسمه: سعد بن مالك. قوله: (على ذلك) أي: على الابتداء بالصلاة والخطبة بعدها. قوله: (حتى خرجت مع مروان) وهو ابن الحكم كان معاوية استعمله على المدينة، وقد مر ذكره في: باب البزاق في المسجد، وزاد عبد الرزاق عن داود ابن قيس وهو بيني وبين أبي مسعود، يعني: عقبة بن عمرو الأنصاري، يعني: مروان بيني وبين أبي مسعود. قوله: (وهو) أي: ومروان، والواو للحال. قوله: (أو فطر) شك من الراوي. قوله: (إذا منبر) كلمة: إذا، للمفاجأة وارتفاع: منبر، على أنه مبتدأ وخبره هو قوله: (بناه مروان)، ويجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره: إذا منبر هناك، ويكون (بناء كثير)، جملة حالية، والعامل في: إذا، معنى المفاجأة، والمعنى: فاجأنا المنبر زمان الإتيان. وقيل: إذا، حرف لا يحتاج إلى عامل. قوله: (كثير بن الصلت)، كثير ضد القليل والصلت، بالتاء المثناة من فوق، وهو كثير بن الصلت بن معاوية الكندي، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقدم المدينة هو وأخوته بعده، فسكنها وحالف بني جميح، وروى ابن سعد بإسناد صحيح إلى نافع قال: كان اسم كثير بن الصلت قليلا، فسماه عمر كثيرا، ورواه أبو عوانة فوصله بذكر ابن عمر ورفعه بذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والأول أصح. وقال الذهبي في (تجريد الصحابة): كثير بن الصلت بن معدي كرب الكندي أخو زبيد، ولد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم روى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن كثير بن الصلت كان اسمه: قليلا فسماه النبي كثيرا. الأصح أن الذي سماه كثيرا عمر، رضي الله تعالى عنه. انتهى. وقد صح سماع كثير من عمرو من بعده. وقال العجلي: هو تابعي مدني ثقة. وكان له شرف وحال جميلة في نفسه، وله دار كبيرة بالمدينة في المصلى وقبلة المصلى في العيدين إليها، وكان كاتبا لعبد الملك بن مروان على الرسائل، وهو ابن أخي جمد، بفتح الجيم وسكون الميم أو فتحها: أحد ملوك كندة الذين قتلوا في الردة، وقد ذكر ابن منده: الصلت، في الصحابة. وقال الذهبي: والصلت أبو زبيد الكندي مختلف في صحبته، وروى عنه ابنه زبيد، وكثير. قوله: (أن يرتقيه) أي: يريد أن يصعد إليه، و: أن، مصدرية. قوله: (فجبذت بثوبه) الجابذ هو أبو سعيد الخدري إنما جبذه ليبدأ بالصلاة قبل

279
الخطبة على العادة. قوله: (فارتفع) أي: مروان على المنبر. قوله: (غيرتم) خطاب لمروان وأصحابه، أي: غيرتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه فإنهم كانوا يقدمون الصلاة على الخطبة. قوله: (ما أعلم) أي: الذي أعلمه خير لأنه هو طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يكون غيره خيرا منه؟ قوله: (والله) قسم معترض بين المبتدأ والخبر. قوله: (فجعلتها) أي: الخطبة، فالقرينة تدل على هذا، وإن لم يمض ذكر الخطبة.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان يخطب في المصلى في العيدين وهو واقف ولم يكن على المنبر ولم يكن في المصلى في زمانه منبر
، ومقتضى قول أبي سعيد: إن أول من اتخذ المنبر في المصلى مروان، وقد رواه مسلم أيضا من رواية عياض: (عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج يوم الأضحى..) الحديث، وفيه: (فخرجت محاضرا مروان حتى أتينا المصلى، فإذا كثير بن الصلت قد بنى منبرا من طين ولبن..) الحديث. وقد اختلف في أول من فعل ذلك. فقيل: عمر بن الخطاب، رواه ابن أبي شيبة في (مصنفه) وهو شاذ. وقيل: عثمان، وليس له أصل. وقيل: معاوية، حكاه القاضي عياض. وقيل: زياد بالبصرة في خلافة معاوية، حكاه عياض أيضا. بل الصواب أن أول من فعله مروان بالمدينة في خلافة معاوية، كما أشار إليه في (الصحيحين) عن أبي سعيد الخدري، رضي الله تعالى عنه، وإنما اختص كثير بن الصلت ببناء المنبر بالمصلى لأن داره كانت مجاورة بالمصلى على ما يجيء في حديث ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم أتى في يوم العيد إلى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت. قال ابن سعيد: كانت دار كثير بن الصلت قبلة المصلى في العيدين وهي تطل على بطحان الوادي الذي في وسط المدينة. وفيه: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإن كان المنكر عليه واليا، ألا يرى أن أبا سعيد كيف أنكر على مروان وهو وال بالمدينة. وفيه: أن الصلاة قبل الخطبة، ولهذا أنكر أبو سعيد على مروان خطبته قبل الصلاة، وممن قال بتقديم الصلاة على الخطبة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والمغيرة وأبو مسعود وابن عباس، وهو قول الثوري والأوزاعي وأبي ثور وإسحاق والأئمة الأربعة وجمهور العلماء، وعند الحنفية والمالكية: لو خطب قبلها جاز وخالف السنة ويكره، ولا يكره الكلام عندها. قال الكرماني: فإن قلت: كيف جاز لمروان تغيير السنة؟ قلت: تقديم الصلاة في العيد ليس واجبا فجاز تركه. وقال ابن بطال: إنه ليس تغييرا للسنة لما فعل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الجمعة، ولأن المجتهد قد يؤدي اجتهاده إلى ترك الأولى إذا كان فيه المصلحة. انتهى. قلت: حمل أبو سعيد فعل النبي صلى الله عليه وسلم على التعيين، وحمله مروان على الأولوية واعتذر عن ترك الأولى بما ذكره من تغير حال الناس، فرأى أن المحافظة على أصل السنة وهو استماع الخطبة أولى من المحافظة على هيئة ليست من شرطها. فإن قلت: وقع عند مسلم من طريق طارق بن شهاب، قال: أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان، فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك. فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، وهذا ظاهر في أنه غير أبي سعيد. قلت: أجيب بأنه يحتمل أن يكون هو أبا مسعود الذي وقع في رواية عبد الرزاق أنه كان معهما، ويحتمل تعدد القضية. فإن قلت: روى الشافعي عن إبراهيم بن محمد، قال: حدثني داود بن الحصين عن عبد الله بن يزيد الخطمي: (أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا يبدأون بالصلاة قبل الخطبة حتى قدم معاوية فقدم معاوية الخطبة)، وهذا يدل على أن ذلك لم يزل إلى آخر زمن عثمان، وعبد الله صحابي، وإنما قدم معاوية في حال خلافته. وحديث أبي سعيد هذا: أول من قدمها مروان. قلت: يمكن الجمع بأن مروان كان أميرا على المدينة لمعاوية فأمره معاوية بتقديمها، فنسب أبو سعيد التقديم إلى مروان لمباشرته التقديم، ونسبه عبد الله إلى معاوية لأنه أمر به. وفيه: بنيان المنبر، وإنما اختاروا أن يكون باللبن والطين لا من الخشب لكونه يترك بالصحراء في غير حرز فلا يخاف عليه من النقل، بخلاف منابر الجوامع. وفيه: إخراج المنبر إلى المصلى في الأعياد، قياسا على البناء، وعن بعضهم: لا بأس بإخراج المنبر، وعن بعضهم: كره بنيانه في الجبانة، ويخطب قائما أو على دابته. وعن أشهب: إخراج المنبر إلى العيدين واسع، وعن مالك: لا يخرج فيهما، من شأنه أن يخطب إلى جانبه، وإنما يخطب على المنبر الخلفاء. وفيه: إن المنبر لم يكن قبل بناء كثير بن الصلت. وفيه: مواجهة الخطيب للناس، وأنهم بين يديه. وفيه:

280
البروز إلى المصلى والخروج إليه، ولا يصلي في المسجد إلا عن ضرورة، وروى ابن زياد عن مالك، قال: السنة الخروج إلى الجبانة إلا لأهل مكة، ففي المسجد، وقال الشافعي في (الأم): بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج في العيدين إلى المصلى بالمدينة وكذا من بعده إلا من عذر مطر ونحوه، وكذا عامة أهل البلدان إلا مكة، شرفها الله تعالى. وفيه: جواز عمل العالم بخلاف الأولى، لأن أبا سعيد حضر الخطبة ولم ينصرف فيستدل به على أن البداءة بالصلاة فيها ليست بشرط في صحتها. وفيه: وعظ الإمام في صلاة العيد ووصيته وتخويفه عن عواقب الأمور، وفيه: أن الزمان تغير في زمن مروان.
7
((باب المشي والركوب إلى العيد والصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة))
أي: هذا باب في بيان حكم المشي والركوب إلى صلاة العيد، وبيان حكم الصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة.
759 ح دثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أنس عن عبيد الله عن نافع عن عبد الله ابن عمر أن رسول الله كان يصلي في الأضحى والفطر ثم يخطب بعد الصلاة. (الحديث 957 طرفه في: 963).
مطابقته للجزء الثاني للترجمة، وهو: الصلاة قبل الخطبة، ولترجمة الباب ثلاثة أجزاء: الأول: في صفة التوجه، والثاني: في تأخير الخطبة عن الصلاة، والثالث: في ترك النداء فيها. وطابق قوله: (كان يصلي ثم يخطب)، الجزء الثاني من الترجمة صريحا.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: إبراهيم بن المنذر بن عبد الله، أبو إسحاق الحزامي، بكسر الحاء المهملة وتخفيف الزاي: نسبة إلى حزام أحد أجداده، واشتبه بالحرامي، بفتح الحاء وتخفيف الراء المهملتين. الثاني: أنس بن عياض أبو ضمرة وليس هو بأخي يزيد بن عياض، وليس بينهما قرابة. الثالث: عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله تعالى عنهم. الرابع: نافع مولى ابن عمر. الخامس: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاث مواضع. وفيه: القول في موضع واحد. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن الرواة كلهم مدنيون.
وروى مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا عبد بن سليمان وأبو أسامة عن عبيد الله عن نافع، (عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر
كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة).
958 حدثنا إبراهيم بن موساى قال أخبرنا هشام أن ابن جريج أخبرهم قال أخبرني عطاء عن جابر ابن عبد الله. قال سمعته يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فبدأ بالصلاة قبل الخطبة.
960 وأخبرني عطاء عن ابن عباس وعن جابر ابن عبد الله قالا لم يكن يؤذن يوم الفطر ولا يوم الأضحى.
961 وعن جابر بن عبد الله قال سمعته يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس بعد فلما فرغ نبي الله صلى الله عليه وسلم نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء صدقة قال قلت لعطاء أترى حقا على الإمام الآن أن يأتي النساء فيذكرهن حين يفرغ قال إن ذالك لحق عليهم وما لهم أن لا يفعلوا. (انظر الحديث 958 وطرفه).
مطابقة هذا الحديث للجزء الثاني والثالث للترجمة ظاهرة، وأما مطابقته في الثاني ففي قوله: (فبدأ بالصلاة قبل الخطبة)، وفي قوله: (قام فبدأ بالصلاة ثم خطب الناس)، وأما مطابقته في الثالث ففي قوله: (لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر ولا يوم الأضحى)، وبقي الجزء الأول خاليا عن حديث يدل عليه ظاهرا، ولهذا اعترض ابن التين فقال، ليس فيما ذكره من الأحاديث

281
ما يدل على مشي ولا ركوب. وأجيب: بأن عدم ذلك مشعر بتسويغ كل منهما، وأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. قلت: هذا ليس بشيء، ولكن يستأنس في ذلك من قوله: (وهو يتوكأ على يد بلال) لأن فيه تخفيفا عن مشقة المشي، فكذلك في الركوب هذا المعنى، ففي كل من التوكىء والركوب ارتفاق، وإن كان الركوب أبلغ في ذلك.
ذكر رجاله: وهم سبعة: الأول: إبراهيم بن موسى بن يزيد التميمي الفراء أبو إسحاق الرازي يعرف بالصغير. الثاني: هشام بن يوسف أبو عبد الرحمن الصنعاني اليماني قاضيها، مات سنة سبع وتسعين ومائة باليمن. الثالث: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج، وقد تكرر ذكره. الرابع: عطاء بن أبي رباح. الخامس: جابر بن عبد الله. السادس: عبد الله بن عباس. السابع: عبد الله ابن الزبير.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع واحد. وفيه: الإخبار كذلك في موضع وبصيغة الإفراد في أربعة مواضة. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: السماع في موضعين. وفيه: أن شيخه رازي والثاني من الرواة يماني والثالث والرابع مكيان. وفيه: أن هشاما من أفراده.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه مسلم أيضا في الصلاة عن إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع، كلاهما عن عبد الرزاق. وأخرجه أبو داود فيه عن أحمد بن حنبل عن عبد الرزاق ومحمد بن بكر.
ذكر معناه: قوله: (إلى ابن الزبير)، وهو عبد الله ابن الزبير. قوله: (في أول ما بويع له) أي: لابن الزبير بالخلافة، وكان ذلك في سنة أربع وستين، عقيب موت يزيد بن معاوية. قوله: (لم يكن يؤذن)، على صيغة المجهول من التأذين أي: لم يكن يؤذن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، والضمير في (أنه)، وفي: (لم يكن)، للشأن. قوله: (قال: وأخبرني عطاء) والقائل هو ابن جريج في الموضعين، وهو معطوف على الإسناد المذكور، وكذا قوله: (وعن جابر بن عبد الله) معطوف أيضا. قوله: (وإنما الخطبة بعد الصلاة)، كذا للأكثرين. وفي رواية المستملي: (وأما) بدل: (وإنما). قيل: إنه تصحيف؟ قلت: دعوى التصحيف ما لها وجه لأن المعنى صحيح. قوله: (فذكرهن)، بالتشدد من التذكير أي: وعظهن. قوله: (وهو يتوكأ) جملة حالية أي: يعتمد على يد بلال، وكذا الواو في: وبلال، للحال. قوله: (يلقي) بضم الياء من الإلقاء وهو: الرمي. قوله: (أن يأتي النساء) مفعول أول للرؤية. قوله: (حقا)، مفعول ثان. قوله: (ما لهم أن لا يفعلوا؟) يريد بذلك التأسي بهم. فإن قلت: كلمة: ما، هذه ما هي؟ قلت: يحتمل أن تكون نافية، وأن تكون استفهامية.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: الخروج إلى المصلى. وفيه: أن الصلاة قبل الخطبة. وفيه: أن لا أذان لصلاة العيدين ولا إقامة. وروى مسلم من حديث جابر بن سمرة، قال: (صليت مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة. وروى أبو داود من حديث طاووس (عن بن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العيد بلا أذان ولا إقامة وأبا بكر وعمر وعثمان). وأخرجه ابن ماجة، وروى البزار من حديث سعد بن أبي وقاص: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العيد بغير أذان ولا إقامة). وروى الطبراني في (الأوسط) من حديث البراء بن عازب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في يوم الأضحى بغير أذان ولا إقامة). وروى الطبراني في (الكبير: من حديث محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد ماشيا يصلي بغير أذان ولا إقامة). وقال ابن أبي شيبة: حدثنا ابن مهدي: (عن سماك، قال: رأيت المغيرة بن شعبة والضحاك وزيادا يصلون يوم الفطر والأضحى بلا أذان ولا إقامة). وحدثنا عبد الأعلى عن بردة عن مكحول نه كان يقول: ليس في العيدين أذان ولا إقامة، وكذلك قاله عكرمة وإبراهيم وأبو وائل. وقال الشعبي والحكم: هو بدعة، وقال محمد: وبسند صحيح عن ابن المسيب: أول من أحدثه معاوية. وحدثنا ابن أويس عن حصين: أول من أذن في العيد زياد، وفي (الواضحة) لابن حبيب: أول من فعله هشام. وقال الداودي: مروان، وعند الشافعي وغيره: ينادي لهما: الصلاة جامعة، بنصب الأولى على الإغراء ونصب الثاني على الحال. وفي (شرح الترمذي) للحافظ زين الدين، قال الشافعي: واجب أن يأمر الإمام المؤذن أن يقول في الأعياد وما جمع الناس من الصلاة: الصلاة جامعة، أو الصلاة. فإن قال: هلموا إلى الصلاة لم نكرهه، فإن قال: حي على الصلاة، فلا بأس به. ونقل الماوردي في (الحاوي) عن الشافعي أنه قال: فإن قال: هلموا إلى الصلاة، أو: حي على الصلاة، أو: قد قامت الصلاة كرهنا له ذلك، وأجزأه. وحكى ابن الرفعة عن القاضي حسين أنه يقول: الصلاة الصلاة، ولا
يقول: جامعة. وفيه: الأمر بالصدقة للنساء، وخصهن بذلك في قول بعض العلماء (لقد رأيتكن أكثر أهل

282
النار). وفيه: الحجة لأبي حنيفة في وجوب الزكاة في الحلي، وأما المشي إلى العيد ففي الترمذي (عن علي: من السنة أن يخرج إلى العيد ماشيا) وعند ابن ماجة (عن سعد القرظ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى العيد ماشيا)، وعند ابن ماجة أيضا من حديث ابن عمر: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يخرج إلى العيد ماشيا ويرجع ماشيا) وإسناده ضعيف جدا وعند البزار من حديث سعد بن أبي وقاص: (أن النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يخرج إلى العيد ماشيا ويرجع في طريق غير الطريق الذي خرج منه).
8
((باب الخطبة بعد العيد))
أي: هذا باب في بيان أن الخطبة تكون بعد صلاة العيد. فإن قلت: كون الخطبة بعد صلاة العيد، علم من حديث عبد الله بن عمر وحديث جابر بن عبد الله المذكورين في الباب الذي قبله، وكذلك علم من حديث أبي سعيد الخدري المذكور في باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، فلم كرر هذا؟ وما فائدة إعادة هذا الحكم؟ قلت: لشدة الاعتناء به، وما هذا شأنه يذكر بطريق الاستقلال والاستبداد، والمذكور في الأحاديث السابقة، وإن كان في بعضها تصريح به، ولكنه بطريق التبعية. والذي يذكر بطريق التبعية لا يكون مثل الذي يذكر بطريق الاستقلال.
962 حدثنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني الحسن بن مسلم عن طاووس عن ابن عباس. قال شهدت العيد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة.
مطابقته للترجمة ظاهرة، لأن الصلاة إذا كانت قبل الخطبة تكون الخطبة بعدها ضرورة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: أبو عاصم الضحاك بن مخلد، بفتح الميم: الشيباني النبيل البصري. الثاني: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. الثالث: الحسن ابن مسلم، بضم الميم: من الإسلام ابن يناق، بفتح الياء آخر الحروف وتشديد النون وبعد الألف قاف. الرابع: طاووس بن كيسان. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع، وكذلك بصيغة الإخبار في موضع وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه بصري والراوي الثاني والثالث مكيان والرابع يماني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في تفسير سورة الممتحنة عن محمد بن عبد الرحيم. وأخرجه مسلم في الصلاة أيضا عن محمد بن رافع عن عبد الرزاق عن ابن جريج إلى آخره مطولا. وأخرج أبو داود عن ابن عباس من طريق عطاء (أنه، صلى الله عليه وسلم، خرج يوم فطر فصلى ثم خطب..) الحديث، وبقية الكلام قد مرت.
963 حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما يصلون العيدين قبل الخطبة. (انظر الحديث 957).
مطابقته للترجمة ظاهرة، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي أبو يوسف، وأبو أسامة حماد بن أسامة، وعبيد الله بن عمر ابن حفص، وقد مر عن قريب. وأخرجه مسلم عن ابن أبي شيبة عن عبدة بن سليمان وأبي أسامة عن عبيد الله عن نافع (عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة).
964 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن عدي بن ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوم الفطر ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة فجعلن يلقين تلقي المرأة خرصها وسخابها.

283
مطابقته للترجمة تأتي بالتكلف من حيث إن الترجمة مشتملة على العيد، والمراد منه: صلاة العيد، وأشار بالحديث إلى أن صلاة العيد ركعتان. وقال الكرماني: فإن قلت: كيف يدل على الترجمة؟ قلت: كأنه جعل أمر النساء بالصدقة من تتمة الخطبة، وتبعه بعضهم على هذا. قلت: الذي ذكرته من الوجه في الدلالة على الترجمة قد استبعدته، وذكرته بالتعسف، فالذي ذكره الكرماني أبعد من ذلك.
ورجاله قد ذكروا غير مرة.
وأخرجه البخاري أيضا عن أبي الوليد في العيدين وفي الزكاة أيضا عن مسلم بن إبراهيم، وفي اللباس عن محمد بن عرعرة وحجاج بن منهال فرقهما. وأخرجه مسلم في الصلاة عن عبيد الله بن معاذ عن أبيه وعن عمرو الناقد وعن بندار وأبي بكر بن نافع كلاهما عن غندر، وأخرجه أبو داود فيه عن حفص بن عمر. وأخرجه الترمذي فيه عن محمود بن غيلان، وأخرجه النسائي فيه عن عبيد الله بن سعيد. وأخرجه ابن ماجة فيه عن بندار.
ذكر معناه: قوله: (تلقي المرأة) فائدة التكرار فيه أنه ذكر الإلقاء أولا مجملا ثم ذكره مفصلا، وهذا أوقع في القلوب، لأنه يكون علمين: علم إجمالي وعلم تفصيلي، والعلمان خير من علم واحد. قوله: (خرصها) الخرص، بضم الخاء المعجمة وكسرها: القرط بحبة واحدة، وقيل: هي الحلقة من الذهب أو الفضة، والجمع: خرصة، والخرصة لغة فيها وفي (الصحاح): الخرص بالضم وبالكسر والجمع: خرصان. قوله: (وسخابها)، بكسر السين وبالخاء المعجمة الخفيفة وبعد الألف باء موحدة، وقال أبو المعالي: وهو قلادة تتخذ من طيب وغيره ليس فيها جوهر، وربما عمل من خرزات أو نوى الزيتون، والجمع: سخب، مثل كتاب وكتب. وقال ابن سيده: هي قلادة تتخذ من قرنفل وسك ومحلب. وفي (الجامع) للقزاز: ويكون من الطيب والجوهر والخرز. وقيل: هو خيط فيه خرز، وسمي سخابا لصوت
خرزه عند الحركة، مأخوذ من السخب وهو اختلاط الأصوات، يقال: بالصاد وبالسين.
ذكر ما يستفاد منه: وهو على ثلاثة أوجه: الأول: أن صلاة العيد ركعتان، قال ابن بزيزة: انعقد الإجماع على أن صلاة العيد ركعتان لا أكثر إلا ما روي عن علي في (الجامع): أربع، فإن صليت في المصلى فهي ركعتان كقول الجمهور.
الثاني: أن الحديث يدل على أن لا تنفل قبل صلاة العيد ولا بعدها، وقد اختلف العلماء فيه فذهب أبو حنيفة والثوري إلى أنه يجوز التنفل بعد صلاة العيد، ولا يتنفل قبلها. وقال الشافعي: يتنفل قبلها وبعدها، وروى ابن وهب وأشهب عن مالك: لا يتنفل قبلها ويباح بعدها. وفي (البدرية): يجوز في بيته. وعن ابن حبيب: قال قوم: هي سبحة ذلك اليوم يقتصر عليها إلى الزوال، قال: وهو أحب إلي. وفي (الذخيرة): ليس قبل صلاة العيد صلاة، كذا ذكره محمد بن الحسن في الأصل، وإن شاء تطوع قبل الفراغ من الخطبة، يعني: ليس قبلها صلاة مسنونة لا إنها تكره إلا أن الكرخي نص على الكراهة قبل العيد حيث قال: يكره لمن حضر المصلى التنفل قبل صلاة العيد. وفي (شرح الهداية): كان محمد بن مقاتل المروزي يقول: لا بأس بصلاة الضحى قبل الخروج إلى المصلى، وإنما تكره في الجبانة، وعامة المشايخ على الكراهة مطلقا. وعن علي وابن مسعود وجابر وابن أبي أوفى أنهم كانوا لا يرونها قبل ولا بعد، وهو قول ابن عمر ومسروق والشعبي والضحاك وسالم وقاسم والزهري ومعمر وابن جريج وأحمد، وقال أنس والحسن وسعيد بن أبي الحسن وابن زيد وعروة والشافعي: يصلي قبلها وبعدها، وزاد ابن أبي شيبة: أبا الشعثاء وأبا بردة الأسلمي ومكحولا والأسود وصفوان بن محرز ورجالا من الصحابة، وهو قول الشافعي في غير (الأم): وقال أبو مسعود البدري: لا يصلي قبلها ويصلي بعدها، وهو قول علقمة والأسود والثوري والنخعي والأوزاعي وابن أبي ليلى. وقال الترمذي، بعد أن أخرج حديث ابن عباس المذكور: والعمل عليه عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وبه يقول الشافعي وأحمد وإسحاق، وقد رأى طائفة من أهل العلم الصلاة بعد صلاة العيد وقبلها من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم، والقول الأول أصح. ولما روى الترمذي حديث ابن عباس هذا، قال: وفي الباب عن عبد الله بن عمر وأبي سعيد؟ قلت: قد أخرج ابن ماجة حديث عبد الله بن عمر ومن حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها)، وانفرد بإخراجه ابن ماجة. وأما حديث أبي سعيد فقد أخرجه ابن ماجة أيضا، وانفرد به من حديث عطاء بن يسار: (عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي قبل العيد شيئا، فإذا

284
رجع إلى منزله صلى ركعتين). قلت: وفي الباب أيضا عن علي بن أبي طالب وأبي مسعود وكعب بن عجرة وعبد الله بن أبي أوفى، فحديث علي عند البراء في حديث طويل، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها، فمن شاء فعل ومن شاء ترك). وحديث أبي مسعود عند الطبراني في الكبير (عن أبي مسعود، قال: ليس من السنة الصلاة قبل خروج الإمام يوم العيد). وحديث كعب بن عجرة عند الطبراني أيضا في حديث وفيه: (إن هاتين الركعتين سبحة هذا اليوم حتى تكون الصلاة تدعوك)، وحديث ابن أبي أوفى عنده أيضا من رواية قائد أبي الورقاء، قال: قدت عبد الله بن أبي أوفى في يوم العيد إلى الجبانة فقال: أدنني من المنبر، فأدنيته فجلس فلم يصل قبلها ولا بعدها، وأخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصل قبلها ولا بعدها، وقائد متروك.
الوجه الثالث: إتيانه صلى الله عليه وسلم النساء بعد خطبته وأمرهن بالصدقة. وفيه: استحباب عظتهن وتذكيرهن الآخرة وحثهن على الصدقة، وهذا إذا لم يترتب عليه مفسدة وخوف على الواعظ والموعوظ أو غيرهما، وهذه الأوجه الثلاثة صرح بها ظاهر الحديث. وفيه: أيضا أن صدقة التطوع لا تحتاج إلى إيجاب وقبول بل يكفي فيها المعاطاة، لأنهن ألقين الصدقة في ثوب بلال من غير كلام منهن ولا من بلال ولا من غيره، وهو الصحيح من مذهب الشافعي، وأكثر العراقيين قالوا: تفتقر إلى الإيجاب والقبول باللفظ كالهبة. وفيه: جواز خروج النساء للعيدين، واختلف السلف في ذلك، فرأى جماعة ذلك حقا عليهن منهم: أبو بكر وعلي وابن عمر، وغيرهم وقال أبو قلابة: (قالت عائشة، رضي الله تعالى عنها: كانت الكواعب تخرج لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفطر والأضحى). وكان علقمة والأسود يخرجان نساءهم في العيد ويمنعانهن الجمعة، وروى ابن نافع عن مالك أنه: لا بأس أن يخرج النساء إلى العيدين والجمعة وليس بواجب،. ومنهم من منعهن ذلك، منهم: عروة والقاسم والنخعي ويحيى الأنصاري وأبو يوسف وأجازه أبو حنيفة مرة ومنعه مرة، وقول: من رأى خروجهن أصح بشهادة السنة الثابتة له. قلت: الغالب في هذا الزمان الفتنة والفساد فينبغي أن يمنعهن عن ذلك مطلقا. وفيه: إن النساء إذا حضرن صلاة الرجال ومجامعهم يكن بمعزل عنهم خوفا من الفتنة والفساد. وفيه: جواز صدقة المرأة من مالها، وعن مالك: لا يجوز الزيادة على ثلث مالها إلا برضى زوجها.
965 حدثنا آدم قال حدثنا شعبة قال حدثنا زبيد قال سمعت الشعبي عن البراء بن عازب قال قال النبي صلى الله عليه وسلم إن أول ما نبدأ به في يومنا هاذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذالك فقد أصاب سنتنا ومن نحر قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء فقال رجل من الأنصار يقال له أبو بردة بن نيار يا رسول الله ذبحت وعندي جذعة خير من مسنة فقال اجعله مكانه ولن توفي أو تجزي عن أحد بعدك..
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد ذكر الحديث في: باب سنة العيدين لأهل الإسلام، غير أنه روي هناك: عن حجاج عن شعبة وههنا عن آدم بن أبي إياس عن شعبة إلى آخره نحوه. وزاد ههنا: (ومن نحر قبل الصلاة...) إلى آخره، وقد ذكرنا هناك ما يتعلق به من الأشياء.
قوله: (ذبحت) أي: قبل الصلاة. قوله: (مسنة)، هي التي تدلت أسنانها، قاله الداودي، وقال غيره: هي الثنية. قوله: (إجعله مكانه)، إنما ذكر الضميرين مع أنهما يرجعان إلى المؤنث اعتبارا لمسماهما، إذ الجذعة عبارة عن معز ذي سنة، والمسنة عن معز ذي سنتين. قوله: (ولن توفي أو تجزي)، شك من البراء. قال الخطابي: يقال: وفى وأوفى بمعنى واحد، ويقال جزى يجزي ههنا مهموزا، لأن المهموز لا يستعمل معه: عن، عند العرب، وإنما يقولون: هذا يجزي من هذا
، أي: يكون مكانه، وبنو تميم يقولون: أجزأ يجزئ بالهمزة، وقال الخطابي: هذا من النبي صلى الله عليه وسلم تخصيص لعين من الأعيان بحكم منفرد وليس من باب النسخ فإن المنسوخ إنما يقع للأمة عامة غير خاص لبعضهم.

285
9
((باب ما يكره من حمل السلاح في العيد والحرم))
أي: هذا باب في بيان الذي يكره من حمل السلاح، وكلمة: من، بيانية. أعترض بأن هذه الترجمة تخالف الترجمة التي هي قوله: باب الخراب والدرق يوم العيد. بيان ذلك أن الترجمة تدل على الإباحة والندب لدلالة حديثها عليها، وهذه الترجمة تدل على الكراهة والتحريم، لقول عبد الله بن عمر في الحديث الذي يأتي: من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله.. وأجيب: بأن حديث الترجمة الأولى يدل على وقوعها ممن حملها بالتحفظ عن إصابة أحد من الناس، وطلب السلامة من إيصال الإيذاء إلى أحد، وحديث هذه الترجمة يدل على قلة مبالاة حامله وعدم احترازه عن إيصال الأذى إلى أحد منه، بل الظاهر أن حمله إياه ههنا لم يكن إلا بطرا وأشرا، ولا سيما عند مزاحمة الناس والمسالك الضيقة.
وقال الحسن نهوا أن يحملوا السلاح يوم عيد إلا أن يخافوا عدوا
الحسن: هو البصري وقوله: (نوا) بضم النون وأصله: نهيوا، مثل نفوا أصله: نفيوا. استثقلت الضمة على الياء فنقلت إلى ما قبلها بعد سلب حركة ما قبلها ثم حذفت الياء لالتقاء الساكنين. وجه النهي خوفا من إيصال أذى لأحد، ووجه الاستثناء أن الخوف من العدو يبيح ما حرم من حمل السلاح للضرورة، وروى عبد الرزاق بإسناد مرسل، قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرج بالسلاح يوم العيد)، وروى ابن ماجة بإسناد ضعيف عن ابن عباس: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يلبس السلاح في بلاد الإسلام في العيدين إلا أن يكونوا بحضرة العدو).
966 حدثنا زكرياء بن يحيى أبو السكين قال حدثنا المحاربي قال حدثنا محمد بن سوقة عن سعيد بن جبير قال كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح في أخمص قدمه فلزقت قدمه بالركاب فنزلت فنزعتها وذالك بمنى فبلغ الحجاج فجعل يعوده فقال الحجاج لو نعلم من أصابك فقال ابن عمر أنت أصبتني قال وكيف قال حملت السلاح في يوم لم يكن يحمل فيه وأدخلت السلاح الحرم ولم يكن السلاح يدخل الحرم (الحديث 966 طرفه في: 967).
مطابقته للترجمة في قوله: (لم يكن يحمل فيه...) إلى آخر الحديث.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: زكريا بن يحيى بن عمر الطائي الكوفي، وكنيته أبو السكين، بضم السين المهملة وفتح الكاف وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون، وقد مر في أول كتاب التيمم. الثاني: المحاربي، بضم الميم وبالحاء المهملة وكسر الراء وبالباء الموحدة، وهو عبد الرحمن بن محمد يكنى أبا محمد، مات سنة خمس وتسعين ومائة. الثالث: محمد بن سوقة، بضم السين المهملة وسكون الواو وفتح القاف: أبو بكر الغنوي الكوفي. الرابع: سعيد بن جبير، رضي الله تعالى عنه. الخامس: عبد الله بن عمر، رضي الله تعالى عنهما.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده. وفيه: أن الرواة كلهم كوفيون. وفيه: رواية التابعي عن التابعي، لأن محمد بن سوقة تابعي صغير من أجلة الناس.
وأخرجه البخاري أيضا في العيدين عن أحمد بن يعقوب عن إسحاق بن سعيد عن محمد بن سوقة.
ذكر معناه: قوله: (أخمص قدمه)، بإسكان الخاء المعجمة وفتح الميم وبالصاد المهملة، قال ثابت في (كتاب خلق الإنسان): وفي القدم الأخمص وهو خصر باطنها الذي يتجافى عن الأرض لا يصيبها إذا مشى الإنسان. وفي (المحكم): هو باطن القدم، وما رق من أسفلها. قوله: (فنزعتها)، أي: فنزعت السنان، وإنما أنث الضمير إما باعتبار السلاح لأنه مؤنث، وإما باعتبار أنها حديدة، أو يكون الضمير راجعا إلى: القدم، فيكون من باب القلب كما يقال: أدخلت الخف في الرجل. قوله: (وذلك بمنى) أي: ما ذكر وقع في منى، وهو يصرف ويمنع، سمي بها لأن الدماء تمنى فيها أي: تراق، أو لأن جبريل، عليه السلام، لما أراد مفارقة آدم، عليه السلام،

286
قال له: تمن فقال: أتمنى الجنة، أو لتقدير الله فيها الشعائر من منى الله أي: قدره. قوله: (فبلغ الحجاج) أي: ابن يوسف الثقفي، وكان إذ ذاك أميرا على الحجاز، وذلك بعد قتل عبد الله بن الزبير بسنة، وكان عاملا على العراق عشرين سنة وفعل فيها ما فعل من سفك الدماء والإلحاد في حرم الله وغير ذلك من المفاسد، مات بواسط سنة خمس وتسعين ودفن بها، وعفى قبره وأجري عليه الماء. قوله: (فجاء)، أي: الحجاج (يعوده) أي: يعود عبد الله بن عمر، وهي جملة في محل النصب على الحال. وقوله: (فجاء)، رواية المستملي ويؤيده رواية الإسماعيلي (فآتاه) وفي رواية غيره: (فجعل يعوده)، وهو من أفعال المقاربة التي وضعت للدلالة على الشروع في العمل، ويعود خبره. قوله: (لو نعلم)، بنون المتكلم، (ما أصابك) كذا هو في رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي، وفي رواية غيرهما: (لو نعلم من أصابك)، وجواب: لو، محذوف تقديره: لجازيناه أو عزرناه، والدليل عليه ما جاء في رواية ابن سعد عن أبي نعيم عن إسحاق بن سعيد، فقال فيه: (لو نعلم من أصابك عاقبناه). وله من وجه آخر قال: لو أعلم الذي أصابك لضربت عنقه، ويجوز أن تكون كلمة: لو، للتمني، فلا تحتاج إلى جواب، واعلم أن الإصابة تستعمل متعدية إلى مفعول نحو أصابه سنان الرمح، وإلى مفعولين نحو أنت أصبتني أي سنانه. قوله: (أنت أصبتني) خطاب ابن عمر للحجاج، وفيه نسبة الفعل إلى الآمر بشيء يتسبب منه ذلك الفعل، لكن حكى الزبير في (الأنساب): أن عبد الملك لما كتب إلى الحجاج: أن لا يخالف ابن عمر، رضي الله تعالى عنهما،
شق عليه، فأمر رجلا معه حربة، يقال: إنها مسمومة، فلصق ذلك الرجل به، فأمر الحربة على قدمه فمرض منها أياما ثم مات. وذلك في سنة أربع وسبعين. قوله: (قال: وكيف؟) أي: قال الحجاج: وكيف أصبتك. قال ابن عمر: حملت السلاح في يوم أي في يوم العيد لم يكن يحمل فيه سلاح، وأدخلت السلاح في حرم مكة وخالفت السنة من وجهين: لأنه حمل السلاح في غير مكانه وغير زمانه.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: أن منى من الحرم. وفيه: المنع من حمل السلاح في الحرم للأمن الذي جعله الله لجماعة المسلمين فيه لقوله تعالى: * (ومن دخله كان آمنا) * (آل عمران: 97). وحمل السلاح في المشاهد التي لا يحتاج إلى الحرب فيها مكروه لما يخشى فيها من الأذى والعقر عند تزاحم الناس، وقد قال صلى الله عليه وسلم للذي رآه يحمل: (أمسك بنصالها لا تعقرن بها مسلما). فإن خافوا عدوا فمباح حملها، كما قال الحسن: وقد أباح الله تعالى حمل السلاح في الصلاة في الخوف. فإن قلت: ذكر في كتاب الصريفيني، لما أنكر عبد الله على الحجاج نصب المنجنيق يعني: على الكعبة، وقتل عبد الله بن الزبير، أمر الحجاج بقتله، فضربه به رجل من أهل الشام ضربة، فلما أتاه الحجاج يعوده قال له عبد الله: تقتلني ثم تعودني؟ كفى الله حكما بيني وبينك؟ هذا صريح بأنه أمر بقتله وهو قاتله، ولهذا قال عبد الله: تقتلني ثم تعودني؟ وفيما حكاه الزبير في (الأنساب) الأمر بالقتل غير صريح، وروى ابن سعد من وجه آخر أن الحجاج دخل على ابن عمر يعوده لما أصيبت رجله، فقال له: يا أبا عبد الرحمن هل تدري من أصاب رجلك؟ قال: لا. قال أما والله لو علمت من أصابك لقتلته! قال: فأطرق ابن عمر، فجعل لا يكلمه ولا يلتفت إليه، فوثب كالمغضب. قلت: يحتمل تعدد الواقعة وتعدد السؤال، وأما أمر عبد الله معه فثلاثة أحوال: الأولى: عرض به، والثانية: صرح به، والثالثة: أعرض عنه ولم يتكلم بشيء. وفيه: ميل من البخاري إلى أن قول الصحابي: كان يفعل كذا، على صيغة المجهول حكم منه برفعه.
967 حدثنا أحمد بن يعقوب قال حدثني إسحاق بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي عن أبيه قال دخل الحجاج على ابن عمر وأنا عنده فقال كيف هو فقال صالح فقال من أصابك قال أصابني من أمر بحمل السلاح في يوم لا يحل فيه حمله يعني الحجاج. (انظر الحديث 966).
مطابقته للجزء الأخير للترجمة وهو قوله: (من أمر بحمل السلاح..) إلخ، وأحمد بن يعقوب أبو يعقوب المسعودي الكوفي، وهو من أفراده، وإسحاق بن سعيد هو أخو خالد بن سعيد الأموي القرشي، مات سنة ست وسبعين ومائة، وأبو سعيد بن عمرو بن سعيد ابن العاص القرشي الأموي، يكنى أبا عثمان، مر في: باب الاستنجاء بالحجارة، وقد مر الكلام فيه. قوله: (يعني: الحجاج) بالنصب على المفعولية، وقائله هو ابن عمر، وزاد الإسماعيلي في هذه الطريق قال: لو عرفناه لعاقبناه، قال: وذلك لأن الناس

287
نفروا عشية ورجل من أصحاب الحجاج عارض حربته، فضرب ظهر قدم ابن عمر فأصبح وهنا منها ثم مات.
10
((باب التبكير إلى العيد))
أي: هذا باب في بيان التبكير للعيد، من بكر إذا بادر وأسرع، وكذا هو للأكثرين: بالباء، الموحدة قبل الكاف، وكذا شرحه الشارحون، ووقع للمستملي: باب التكبير، بتقديم الكاف. قيل: هو تحريف، وفي بعض النسخ: باب التكبير إلى العيد.
وقال عبد الله بن بسر إن كنا فرغنا في هاذه الساعة وذالك حين التسبيح
عبد الله بن بسر، بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة وفي آخره راء: أبو صفوان السلمي المازني الصحابي ابن الصحابي، مات بحمص فجأة وهو يتوضأ سنة ثمان وثمانين، وهو آخر من مات من الصحابة بالشام، وهو ممن صلى إلى القبلتين. وهذا التعليق وصله أبو داود: حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا أبو المغيرة حدثنا صفوان حدثنا يزيد بن خمير الرحبي قال: (خرج عبد الله بن بسر صاحب النبي، صلى الله عليه وسلم، مع الناس في يوم عيد فطر أو أضحى، فأنكر إبطاء الإمام، وقال: إن كنا قد فرغنا ساعتنا هذه وذلك حين التسبيح). وأخرجه ابن ماجة أيضا. قلت: أبو المغيرة عبد القدوس بن الحجاج الحمصي الشامي، وخمير، بضم الخاء المعجمة وفتح الميم: أبو عمر الشامي الرحبي نسبة إلى رحبة، بفتح الراء والحاء المهملة والباء الموحدة، وهو رحبة بن زرعة بن سبأ الأصفر. بطن من حمير.
قوله: (إن كنا)، وفي رواية أبي داود: (إنا كنا)، وكلمة: إن، ههنا هي المخففة من الثقيلة، وأصله:
إنه، بضمير الشان. قوله: (وذلك حين التسبيح) أي: حين صلاة السبحة، وهي صلاة الضحى، وذلك إذا مضى وقت الكراهة. وفي رواية صحيحة للطبراني: (وذلك حين تسبيح الضحى)، وقال الكرماني: حين التسبيح أي: حين صلاة الضحى أو حين صلاة العيد، لأن صلاة العيد سبحة ذلك اليوم.
968 حدثنا سليمان بن حرب قال حدثنا شعبة عن زبيد عن الشعبي عن البراء قال خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر قال إن أول ما يبدأ به في يومنا هاذا أن نصلي ثم نرجع فننحر فمن فعل ذالك فقد أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن يصلي فإنما هو لحم عجله لأهله ليس من النسك في شيء فقام خالي أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله أنا ذبحت قبل أن أصلي وعندي جذعة خير من مسنة قال اجعلها مكانها أو قال اذبحها ولن تجزي جذعة عن أحد بعدك..
مطابقته للترجمة حيث إن الابتداء بالصلاة يوم العيد والمبادرة إليها قبل الاشتغال بكل شيء غير التأهب لها، ومن لوازم ذلك التبكير إليها، والحديث قد مر في: باب الأكل يوم النحر عن قريب. وأخرجه هناك عن عثمان عن جرير عن منصور عن الشعبي... إلى آخره، فانظر إلى التفاوت الذي بينهما في الألفاظ. وأخرجه أيضا في: باب الخطبة بعد العيد، عن آدم عن شعبة عن زبيد.. إلى آخره، وهذا الإسناد وإسناد حديث الباب واحد غير المغايرة في شيخه الذي روى عنه.
والاختلاف في متنيهما قليل، وفي حديث هذا الباب: (ومن ذبح) وهناك: (ومن نحر). والفرق بينهما أن المشهور أن النحر في الإبل والذبح في غيره. وقالوا:
النحر في اللب مثل الذبح في الحلق، وهنا أطلق النحر على الذبح باعتبار أن كلا منهما إنهار الدم، واختلفوا في وقت الغدو إلى العيد، فكان ابن عمر يصلي الصبح ثم يغدو، وكما هو إلى المصلى، وفعله سعيد بن المسيب، وقال إبراهيم: كانوا يصلون الفجر وعليهم ثيابهم يوم العيد، وعن أبي مجلز مثله، وعن رافع بن خديج: أنه كان يجلس في المسجد بنيه، فإذا طلعت الشمس صلى ركعتين، ثم يذهبون إلى الفطر والأضحى، وكان عروة لا يأتي العيد حتى تشعل الشمس، وهو قول عطاء والشعبي. وفي (المدونة): عن مالك يغدو من داره أو من المسجد إذا طلعت الشمس. وقال علي بن زياد عنه: ومن غدا إليها قبل الطلوع فلا

288
بأس، ولكن لا يكبر حتى تطلع الشمس، ولا ينبغي أن يأتي المصلي حتى تحين الصلاة، وقال الشافعي يأتي إلى المصلى حين تبرز الشمس في الأضحى، ويؤخر الغدو في الفطر قليلا.
11
((باب فضل العمل في أيام التشريق))
أي: هذا باب في بيان فضل العمل في أيام التشريق، وهو مصدر من شرق اللحم إذا بسطه في الشمس ليجف، وسميت بذلك أيام التشريق لأن لحوم الأضاحي كانت تشرق فيها بمنى، وقيل: سميت به لأن الهدي والضحايا لا تنحر حتى تشرق الشمس، أي: تطلع. وكان المشركون يقولون: أشرق ثبير كيما نغير، و: ثبير، بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره راء: وهو جبل بمنى، أي: أدخل أيها الجبل في الشروق، وهو ضوء الشمس، كيما نغير أي: ندفع للنحر، وذكر بعضهم أن أيام التشريق سميت بذلك، وقيل: التشريق صلاة العيد لأنها تؤدي عند إشراق الشمس وارتفاعها، كما جاء في الحديث: (لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع). أخرجه أبو عبيد بإسناد صحيح إلى علي، رضي الله تعالى عنه، موقوفا، ومعناه: لا صلاة جمعة ولا صلاة عيد. وفي (الخلاصة): أيام النحر ثلاثة، وأيام التشريق ثلاثة، ويمضي ذلك في أربعة أيام، فإن العاشر من ذي الحجة نحر خاص، والثالث عشر تشريق خاص، وما بينهما اليومان للنحر والتشريق جميعا.
وقال ابن عباس واذكروا الله في أيام معلومات أيام العشر والأيام المعدودات أيام التشريق
قال ابن عباس: واذكروا الله... إلى آخره، رواية كريمة وابن شبويه ورواية المستملي والحموي: * (ويذكروا الله في أيام معدودات) * (الحج: 28). ورواية أبي ذر عن الكشميهني: * (ويذكروا الله في أيام معلومات) * (البقرة: 203). الحاصل من ذلك إن ابن عباس لا يريد به لفظ القرآن، إذ لفظه هكذا: * (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) * (الحج: 28). ومراده أن الأيام المعلومات هي: العشر الأول من ذي الحجة والأيام المعدودات المذكورة في قوله تعالى: * (واذكروا الله في أيام معدودات) * (الحج: 28). هي الأيام الثلاثة هي: الحادي عشر من ذي الحجة المسمى بيوم النفر، والثاني عشر والثالث عشر المسميان بالنفر الأول والنفر الثاني.
والتعليق المذكور وصله عبد الله بن حميد في تفسيره: حدثنا قبيصة عن سفيان عن ابن جريج: (عن عمرو بن دينار: سمعت ابن عباس يقول: اذكروا الله في أيام معدودات: الله أكبر، واذكروا الله في أيام معلومات: الله أكبر الأيام المعدودات أيام التشريق والأيام المعلومات العشر). واختلف السلف في الأيام المعدودات والمعلومات، فالأيام المعلومات العشر، والمعدودات أيام التشريق وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر عند أبي حنيفة، رواه عنه الكرخي، وهو قول الحسن وقتادة، وروي عن علي وابن عمر أن المعلومات هي: ثلاثة أيام النحر، والمعدودات: أيام التشريق، وهو قول أبي يوسف ومحمد: سميت معدودات لقلتهن ومعلومات لجزم الناس على علمها لأجل فعل المناسك في الحج، وقال الشافعي: من الأيام المعلومات النحر، وروي عن علي وعمر: يوم النحر ويومان بعده، وبه قال مالك. قال الطحاوي: وإليه أذهب لقوله تعالى: * (ليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) * (الحج: 28). وهي أيام النحر، وسميت معدودات لقوله تعالى: * (واذكروا الله في أيام معدودات فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) * (البقرة: 203). وسميت أيام التشريق معدودات لأنه إذا زيد عليها في البقاء كان حصرا. لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبقين مهاجري بمكة بعد قضاء نسكه فوق ثلاث).
وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما
كذا ذكره البغوي والبيهقي عن ابن عمر وأبي هريرة معلقا. وقال صاحب (التوضيح): أخرجه الشافعي: حدثنا إبراهيم بن محمد أخبرني عبيد الله عن نافع (عن ابن عمر: أنه كان يغدو إلى المصلى يوم الفطر إذا طلعت الشمس فيكبر حتى يأتي المصلى يوم العيد، ثم يكبر بالمصلى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير). زاد في (المصنف): (ويرفع صوته حتى يبلغ الإمام). قلت: الذي

289
رواه الشافعي ليس بمطابق لما علقه البخاري، فكيف يقول صاحب (التوضيح): أخرجه الشافعي؟ ولهذا قال صاحب (التلويح) الذي هو عمدته في شرحه: قال الشافعي: حدثنا إبراهيم... إلى آخره، ولم يقل: أخرجه ولا وصله، ونحو ذلك. وقال البيهقي: ورواه عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم في رفع الصوت بالتهليل والتكبير حتى يأتي المصلى، وروى في ذلك عن علي وغيره من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وأعترض: على البخاري في ذكر هذا الأثر في ترجمة العمل في أيام التشريق وأجيب: بأن البخاري كثيرا يذكر الترجمة ثم يضيف إليها ما له أدنى ملابسة بها استطرادا.
وكبر محمد بن علي خلف النافلة
محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله تعالى عنهم، المعروف بالباقر، مر في: باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين. وهذا التعليق وصله
الدارقطني في (المؤتلف) من طريق معن بن عيسى القزاز: أخبرنا أبو وهنة رزيق المدني، قال: رأيت أبا جعفر محمد بن علي يكبر بمنى في أيام التشريق خلف النوافل، و: أبو وهنة، بفتح الواو وسكون الهاء وبالنون. ورزيق بتقديم الراء مصغرا. وقال السفاقسي: لم يتابع محمدا على هذا أحد، وعن بعض الشافعية: يكبر عقيب النوافل والجنائز على الأصح. وعن مالك قولان، والمشهور أنه: مختص بالفرائض. قال ابن بطال: وهو قول الشافعي، وسائر الفقهاء لا يرون التكبير إلا خلف الفريضة. وفي (الأشراف): التكبير في الجماعة مذهب ابن مسعود، وبه قال أبو حنيفة، وهو المشهور عن أحمد، وقال أبو يوسف ومحمد ومالك والشافعي: يكبر المنفرد، والصحيح مذهب أبي حنيفة: إن التكبير واجب. وفي (قاضيخان): سنة، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، واختلف المشايخ على قول أبي حنيفة: هل يشترط على إقامتها الحرية أم لا؟ والأصح أنها ليست بشرط عنده، وكذا السلطان ليس بشرط عنده، وليس على جماعة النساء إذا لم يكن معهن رجل، فإذا كان يجب عليهن بطريق التبعية.
969 حدثنا محمد بن عرعرة قال حدثنا شعبة عن سليمان عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هاذه قالوا ولا الجهاد قال ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء.
مطابقته للترجمة ظاهرة إن كان المراد من قوله: (في هذه) أيام التشريق. فإن قلت: المراد منه أيام العشر، بدليل أن الترمذي روى الحديث المذكور من حديث الأعمش: عن مسلم عن سعيد عن ابن عباس بلفظ: (ما من أيام العمل الصالح فيهم أحب إلى الله من هذه الأيام العشر...) الحديث، فحينئذ لا يكون الحديث مطابقا للترجمة. قلت: يحتمل أن البخاري زعم أن قوله: (في هذه)، إشارة إلى أيام التشريق وفسر العمل بالتكبير لكونه أورد الآثار المذكورة المتعلقة بالتكبير فقط. فإن قلت: الأكثرون من الرواة على أن قوله: (في هذه) على الإبهام، إلا رواية كريمة عن الكشميهني: (ما العمل في أيام العشر أفضل من العمل في هذه). قلت: هذا مما يقوي ما زعمه البخاري. فإن قلت: رواية كريمة شاذة مخالفة لما رواه أبو ذر، وهو من الحفاظ عن الكشميهني شيخ كريمة بلفظ: (ما العمل في أيام
1764; أفضل منها في هذا العشر)، وكذا أخرجه أحمد وغيره عن غندر عن شعبة بالإسناد المذكور، ورواه أبو داود الطيالسي في (مسنده) عن شعبة فقال: (في أيام أفضل منه في عشر ذي الحجة)، وكذا رواه الدارمي عن سعيد بن الربيع عن شعبة، وروى أبو عوانة وابن حبان في (صحيحيهما) من حديث جابر: (ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة)، فظهر من هذا كله أن المراد بالأيام في حديث الباب أيام عشر ذي الحجة، فعلى هذا لا مطابقة بين الحديث والترجمة. قلت: الشيء يشرف بمجاورته للشيء الشريف، وأيام التشريق تقع تلو أيام العشر، وقد ثبت بهذا الحديث أفضلية أيام العشر، وثبت أيضا بذلك أفضلية أيام التشريق، وأيضا قد ذكرنا أن من جملة صنيع البخاري في جامعه أنه يضيف إلى ترجمة شيئا من غيرها لأدنى ملابسة بها.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: محمد بن عرعرة، بفتح العينين المهملتين وتكرير الراء، وقد تقدم. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: سليمان

290
الأعمش. الرابع: مسلم، بلفظ الفاعل من الإسلام، وهو مسلم بن أبي عمران الكوفي، والبطين، بفتح الباء الموحدة وكسر الطاء المهملة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره نون: وهو صفة لمسلم، لقب بذلك لعظم بطنه. الخامس: سعيد بن جبير، وقد تكرر ذكره. السادس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه بصري والثاني من الرواة بسطامي والبقية كوفيون. وفيه: أن الأعمش يروي عن البطين بالعنعنة، وفي رواية الطيالسي عن الأعمش سمعت مسلما، وأخرجه أبو داود من رواية وكيع عن الأعمش، فقال: عن مسلم ومجاهد وأبي صالح عن ابن عباس أما طريق مجاهد فقد رواه أبو عوانة من طريق موسى بن أبي عائشة عن مجاهد، فقال: عن ابن عمر بدل عن ابن عباس. وأما طريق أبي صالح فقد رواها أبو عوانة أيضا من طريق موسى بن أعين عن الأعمش فقال: عن أبي صالح عن أبي هريرة، والمحفوظ في هذا حديث ابن عباس، وفيه اختلاف آخر عن الأعمش، رواه أبو إسحاق الفزاري عن الأعمش، فقال: عن أبي وائل عن ابن مسعود أخرجه الطبراني.
ذكر من أخرجه غيره: أخرجه أبو داود في الصيام عن عثمان بن أبي شيبة عن وكيع عن الأعمش. وأخرجه الترمذي فيه عن هناد، وقال: حسن صحيح غريب. وأخرجه ابن ماجة فيه عن علي بن محمد عن أبي معاوية.
ذكر معناه: قوله: (ما العمل)، قال ابن بطال: العمل في أيام التشريق هو التكبير المسنون، وهو أفضل من صلاة النافلة، لأنه لو كان هذا الكلام حضا على الصلاة والصيام في هذه الأيام لعارضه ما قاله صلى الله عليه وسلم: (إنها أيام أكل وشرب). وقد نهى عن صيام هذه الأيام، وهذا يدل على تفريغ هذه الأيام للأكل والشرب، فلم يبق تعارض إذا عنى بالعمل التكبير، ورد عليه بأن الذي يفهم من العمل عند الإطلاق: العبادة، وهي لا تنافي استيفاء حظ النفس من الأكل وسائر ما ذكر، فإن ذلك لا يستغرق اليوم والليلة. وقال الكرماني: العمل في أيام التشريق لا ينحصر في التكبير، بل المتبادر منه إلى الذهن أنه هو المناسك من: الرمي وغيره، الذي يجتمع بالأكل والشرب، مع أنه لو حمل على التكبير لم يبق لقوله بعده: باب التكبير أيام منى، معنى، ويكون تكرارا محضا. ورد عليه بعضهم: بأن الترجمة الأولى لفضل التكبير، والثانية لمشروعيته أو صفته. أو أراد تفسير العمل المجمل في الأولى بالتكبير المصرح به في الثانية، فلا تكرار. قلت: الذي يدل على فضل التكبير يدل على مشروعيته أيضا بالضرورة، والمجمل والمفسر في نفس الأمر شيء واحد. قوله: (منها) أي: في هذه الأيام أي: في أيام التشريق على تأويل من أوله بهذا، ولكن الذي يدل عليه رواية الترمذي: أنها أيام العشر، كما ذكرناه مبينا عن قريب. قوله: (ولا الجهاد) أي: ولا الجهاد أفضل منها. وفي رواية سلمة بن كهيل: (فقال رجل: ولا الجهاد)، وفي رواية غندر عند الإسماعيلي، قال: (ولا الجهاد في سبيل الله، مرتين). قوله: (إلا رجل) فيه حذف أي: إلا جهاد رجل. قوله: (يخاطر بنفسه)، جملة حالية أي: يكافح العدو بنفسه وسلاحه وجواده فيسلم من القتل أو لا يسلم، فهذه المخاطرة وهذا العمل أفضل من هذه الأيام وغيرها، مع أن هذا
العمل لا يمنع صاحبه من إتيان التكبير والإعلان به، وفي رواية المستملي: (ولا الجهاد إلا من خرج يخاطر). قوله: (فلم يرجع بشيء) أي: من ماله ويرجع هو ويحتمل أن لا يرجع هو ولا ماله فيرزقه الله الشهادة، وقد وعد الله عليها الجنة. قيل: قوله: (فلم يرجع بشيء) يستلزم أنه يرجع بنفسه، ولا بد ورد بأن. قوله: (بشيء) نكرة في سياق النفي، فتعم ما ذكر. وقال الكرماني: (بشيء) أي: لا بنفسه ولا بماله كليهما، أو لا بماله إذ صدق هذه السالبة يحتمل أن يكون بعدم الرجوع، وأن يكون بعدم المرجوع به. وفي رواية أبي عوانة من طريق إبراهيم بن حميد عن شعبة بلفظ: (إلا من عقر جواده وأهريق دمه)، وله في رواية القاسم بن أبي أيوب: (إلا من لا يرجع بنفسه ولا ماله). وفي طريق سلمة بن كهيل، فقال: (لا إلا أن لا يرجع) وفي حديث جابر: (إلا من عفر وجهه في التراب).
ذكر ما يستفاد منه: فيه: تعظيم قدر الجهاد وتفاوت درجاته، وأن الغاية القصوى فيه بذل النفس لله تعالى. وفيه: تفضيل بعض الأزمنة على بعض، كالأمكنة، وفضل أيام عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة، وتظهر فائدة ذلك فيمن نذر الصيام أو علق عملا من الأعمال بأفضل الأيام، فلو أفرد يوما منها تعين يوم عرفة لأنه على الصحيح أفضل أيام العشر

291
المذكور، فإن أراد أفضل أيام الأسبوع تعين يوم الجمعة جمعا بين حديث الباب وحديث أبي هريرة مرفوعا: (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة). رواه مسلم. وقال الداودي: لم يرد صلى الله عليه وسلم أن هذه الأيام خير من يوم الجمعة، لأنه قد يكون فيها يوم الجمعة فيلزم تفضيل الشيء على نفسه، ورد بأن المراد أن كل يوم من أيام العشر أفضل من غيره من أيام السنة، سواء كان يوم الجمعة أم لا، ويوم الجمعة فيه أفضل من يوم الجمعة في غيره. لاجتماع الفضيلتين فيه، والله أعلم.
12
((باب التكبير أيام منى وإذا غدا إلى عرفة))
أي: هذا باب في بيان التكبير أيام منى، وهي يوم العيد والثلاثة بعده. قوله: (وإذا غدا إلى عرفة) أي: صبيحة يوم التاسع.
وكان عمر رضي الله تعالى عنه يكبر في قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون ويكبر أهل الأسواق حتى ترتج منى تكبيرا
مطابقته للجزء الأول للترجمة ظاهرة، وهو تعليق وصله سعيد بن منصور من رواية عبيد بن عمير، قال: (كان عمر يكبر في قبته بمنى ويكبر أهل المسجد ويكبر أهل السوق حتى ترتج منى تكبيرا). قوله: (في قبته) د القبة بضم القاف وتشديد الباء الموحدة من الخيام: بين صغير مستدير، وهو من بيوت العرب. قوله: (حتى ترتج) يقال: ارتج البحر، بتشديد الجيم إذا اضطرب، والرج: التحريك. قوله: (منى) فاعل: ترتج. قوله: (تكبيرا) نصب على التعليل، أي: لأجل التكبير، وهو مبالغة في اجتماع رفع الأصوات.
وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام وخلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاطه ومجلسه وممشاه تلك الأيام جميعا
مطابقته للجزء الأول للترجمة ظاهرة، وهو تعليق وصله ابن المنذر، والفاكهي في (أخبار مكة) من طريق ابن جريج: أخبرني نافع أن ابن عمر... فذكره سواء، ذكره البيهقي أيضا. قوله: (تلك الأيام) أي: أيام منى. قوله: (خلف الصلوات) ظاهره يتناول الفرائض والنوافل. قوله: (وعلى فرشه)، ويروى (فراشه). قوله: (وفي فسطاطه) فيه ست لغات: فسطاط وفستاط وفساط بتشديد السين أصله فسساط فأدغمت السين وأصل فسساط فستاط قلبت التاء سينا وأدغمت السين في السين لاجتماع المثلثين وبضم الفاء وكسرها. قال الكرماني: هو بيت من الشعر، وقال الزمخشري: هو ضرب من الأبنية في السفر دون السرادق، وبه سميت المدينة التي فيهما مجتمع الناس، وكل مدينة فسطاط. ويقال لمصر والبصرة: الفسطاط، ويقال: الفسطاط الخيمة الكبيرة. قوله: (وممشاه)، بفتح الميم الأولى موضع المشي، ويجوز أن يكون مصدرا ميميا بمعنى المشي. قوله: (تلك الأيام) أي: في تلك الأيام، وإنما كرره للتأكيد والمبالغة، وأكده أيضا بلفظ (جميعا) ويروى: (وتلك الأيام) بواو العطف، وبدون الواو رواية أبي ذر على أن يكون ظرفا للمذكورات.
وكانت ميمونة تكبر يوم النحر
ميمونة: هي بنت الحارث الهلالية، زوج النبي صلى الله عليه وسلم، تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ست من الهجرة، توفيت بسرف وهو ما بين مكة والمدينة حيث بنى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك سنة إحدى وخمسين، وصلى عليها عبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهما، وروى البيهقي أيضا تكبير ميمونة يوم النحر.
وكن النساء يكبرن خلف أبان بن عثمان وعمر بن عبد العزيز ليالي التشريق مع الرجال في المسجد
أبان، بفتح الهمزة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف نون: ابن عثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه، وكان فقيها مجتهدا، مات بالمدينة سنة خمس ومائة، وعمر بن عبد العزيز، أمير المؤمنين من الخلفاء الراشدين، وقد تقدم في أول كتاب الإيمان. قوله:

292
(وكان النساء) هكذا هو في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره: (وكن النساء) على لغة: أكلوني البراغيث، وقد دلت هذه الآثار المذكورة على استحباب التكبير أو وجوبه على الاختلاف في أيام التشريق ولياليها عقيب الصلاة.
وفيه اختلاف من وجوه:
الأول: إن تكبير التشريق واجب عند أصحابنا، ولكن عند أبي حنيفة عقيب الصلوات المفروضة على المقيمين في الأمصار في الجماعة المستحبة، فلا يكبر عقيب الوتر وصلاة العيد والسنن والنوافل، وليس على المسافرين ولا على المنفرد، وهو مذهب ابن مسعود، وبه قال الثوري، وهو المشهور عن أحمد. وقال أبو يوسف ومحمد
: على كل من صلى المكتوبة، سواء كان مقيما أو مسافرا أو منفردا أو بجماعة. وبه قال الأوزاعي ومالك، وعند الشافعي: يكبر في النوافل والجنائز على الأصح، وليس على جماعة النساء إذا لم يكن معهن رجل، ولا على المسافرين إذا لم يكن معهم مقيم.
الثاني: في وقت التكبير فعند أصحابنا يبدأ بعد صلاة الفجر يوم عرفة ويختم عقيب العصر يوم النحر، عند أبي حنيفة، وهو قول عبد الله بن مسعود، رضي الله تعالى عنه، وعلقمة والأسود والنخعي، وعند أبي يوسف ومحمد: يختم عقيب صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وهو قول عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس، وبه قال سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وأبو ثور وأحمد والشافعي في قول، وفي (التحرير) ذكر عثمان معهم، وفي (المفيد): وأبا بكر، وعليه الفتوى، وههنا تسعة أقوال وقد ذكرنا القولين. الثالث: يختم بعد ظهر يوم النحر، وروي ذلك عن ابن مسعود، فعلى هذا يكبر في سبع صلوات، وعلى قوله: الأول في ثمان صلوات، وعلى قولهما: في ثلاث وعشرين صلاة. الرابع: يكبر من ظهر يوم النحر ويختم في صبح آخر أيام التشريق، وهو قول مالك والشافعي في المشهور، ويحيى الأنصاري. وروي ذلك عن ابن عمر وعمر بن عبد العزيز، وهو رواية عن أبي يوسف. الخامس: من ظهر عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، حكى ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير. السادس: يبدأ من ظهر يوم النحر إلى ظهر يوم النفر الأول، وهو قول بعض أهل العلم. السابع: حكاه ابن المنذر عن ابن عيينة، واستحسنه أحمد: إن أهل منى يبدأون من ظهر يوم النحر، وأهل الأمصار من صبح يوم عرفة، وإليه مال أبو ثور. الثامن: من ظهر عرفة إلى ظهر يوم النحر، حكاه ابن المنذر. التاسع: من مغرب ليلة النحر عند بعضهم، قاله قاضيخان وغيره.
الثالث: في صفة التكبير، وهو أن يقول مرة واحدة: الله أكبر الله أكبر، لا إله لا الله والله كبر الله كبر ولله الحمد. وهو قول عمر بن الخطاب وابن مسعود، وبه قال النوري وأحمد وإسخاق. وفيه أقوال أخر: الأول: قول الشافعي: إنه يكبر ثلاثا نسقا وهو قول ابن جبير. الثاني: قول مالك، إنه يقف على الثانية ثم يقطع فيقول: الله كبر، لا إله إلا الله، حكاه الثعلبي عنه. الثالث: عن ابن عباس: الله كبر الله كبر الله أكبر وأجل الله أكبر ولله الحمد. الرابع: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وهو مروي عن ابن عمر. الخامس: عن ابن عباس أيضا: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله هو الحي القيوم يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير. السادس: عن عبد الرحمن: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله الله أكبر الحمد لله، ذكره في (المحلى). السابع: أنه ليس فيه شيء مؤقت، قاله الحاكم وحماد، وقول أصحابنا أولى لأن عليه جماعة من الصحابة والتابعين، رضي الله تعالى عنهم، ولم يثبت في شيء من ذلك حديث وأصح ما ورد فيه عن الصحابة قول علي وابن مسعود، رضي الله تعالى عنهما، أنه: من صبح يوم عرفة إلى آخر أيام منى، أخرجهما ابن المنذر وغيره.
970 حدثنا أبو نعيم قال حدثنا مالك بن أنس قال حدثني محمد بن أبي بكر الثقفي قال سألت أنسا ونحن غاديان من منى إلى عرفات عن التلبية كيف كنتم تصنعون مع النبي صلى الله عليه وسلم قال كان يلبي الملبي لا ينكره عليه ويكبر المكبر فلا ينكر عليه (الحديث 970 طرفه في: 1659).
مطابقته للجزء الثاني للترجمة في قوله: (ويكبر المكبر).
ذكر رجاله: وهم أربعة: أبو نعيم، الفضل بن دكين تكرر ذكره، ومحمد بن أبي بكر بن عوف بن رباح الثقفي، بالثاء المثلثة والقاف المفتوحتين.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين وبصيغة الإفراد في موضع. وفيه: السؤال. وفيه: القول في ثلاثة مواضع.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الحج عن عبد الله بن يوسف عن مالك، وأخرجه مسلم في المناسك عن يحيى بن

293
يحيى عن مالك وعن شريح بن يونس عن عبد الله بن رجاء. وأخرجه النسائي فيه عن إسحاق بن إبراهيم عن أبي نعيم به، وعن إسحاق بن عبد الله بن رجاء به. وأخرجه ابن ماجة فيه عن محمد بن يحيى.
ذكر معناه: قوله: (سألت أنسا) وفي رواية أبي ذر: (سألت أنس بن مالك). قوله: (ونحن) الواو للحال، قوله: (غاديان)، من غدا يغدو غدوا، والمعنى: نحن سائران من منى متوجهان إلى عرفات. قوله: (عن التلبية)، يتعلق بقوله: (سألت). قوله: (كان) أي: الشان. قوله: (لا ينكر عليه)، على صيغة المعلوم في الموضعين، والضمير المرفوع الذي فيه يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم والتكبير المذكور من نوع من الذكر، أدخله الملبي في خلال التلبية من غير ترك للتلبية، لأن المروي عن الشارع أنه لم يقطع التلبية حتى رمى جمرة العقبة، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، قال مالك: يقطع إذا زالت الشمس، وقال مرة أخرى: إذا وقف، وقال أيضا: إذا راح إلى مسجد عرفة. وقال الخطابي: السنة المشهورة فيه أن لا يقطع التلبية حتى يرمي أول حصاة من جمرة العقبة يوم النحر، وعليها العمل. وأما قول أنس هذا فقد يحتمل أن يكون تكبير المكبر منهم شيئا من الذكر يدخلونه في خلال التلبية الثابتة في السنة من غير ترك التلبية.
971 حدثنا محمد قال حدثنا عمر بن حفص قال حدثنا أبي عن عاصم عن حفصة عن أم عطية قالت كنا نؤمر أن نخرج يوم العيد حتى نخرج البكر من خدرها حتى نخرج الحيض فيكن خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذالك اليوم وطهرته..
مطابقته للترجمة من حيث إن يوم العيد يوم مشهود كأيام منى، فكما أن التكبير في أيام منى، فكذلك في أيام الأعياد، والجامع بينهما كونها أياما مشهودات.
ذكر رجاله: وهم ستة: الأول: محمد، ذكر في بعض النسخ غير منسوب، قال أبو علي: كذا رواه أبو ذر، وكذلك أخرجه أبو مسعود الدمشقي في كتابه: محمد عن عمر، قال أبو علي: وفي روايتنا: عن أبي علي بن السكن وأبي أحمد وأبي زيد حدثنا عمر بن حفص، لم يذكروا محمدا قبل عمر، ويشبه أن يكون محمد بن يحيى الذهلي، وإليه أشار الحاكم في هذا الموضع. وأما خلف والطرقي فذكرا أن البخاري رواه عن عمر بن حفص، لم يذكرا محمدا قبل عمر، وكذا ذكر أبو نعيم أن البخاري رواه عن عمر بن حفص، فعلى هذا لا واسطة بين البخاري وبين عمر بن حفص فيه، وقد حدث البخاري عن عمر ابن حفص كثيرا بغير واسطة، وربما أدخل
بينه وبينه الواسطة أحيانا، قيل الراجح سقوط الواسطة بينهما في هذا الإسناد. قلت: لم يبين وجه الرجحان، والموضع موضع الاحتمال، والكرماني جزم بالواسطة، فقال محمد: أي ابن يحيى الذهلي، بضم الذال وسكون الهاء: أبو عبد الله النيسابوري الحافظ، مات بعد موت البخاري سنة ثمان وخمسين ومائتين. الثاني: عمر بن حفص بن غياث النخعي الكوفي. الثالث: أبو حفص النخعي، وقد تقدما في: باب المضمضة والاستنشاق في الجنابة. الرابع: عاصم بن سليمان الأحول، وقد مر أيضا. الخامس: حفصة بنت سيرين أم الهذيل الأنصارية، أخت محمد بن سيرين. السادس: أم عطية، واسمها: نسيبة بنت كعب الأنصارية، وقد تقدمت في: باب التيمن في الوضوء.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه غير منسوب على الاختلاف فيه. وفيه: رواية التابعية عن الصحابية. وفيه: أن شيخه نيسابوري على تقدير كونه الذهلي، والثاني من الرواة والثالث كوفيان، والرابع والخامس بصريان.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: قد أخرج البخاري بعضه في حديث مطول في: باب شهود الحائض العيدين، عن محمد بن سلام عن عبد الوهاب عن أيوب عن حفصة، وقد ذكرنا هناك أنه أخرجه أيضا في العيدين: عن أبي معمر عن عبد الوارث عن عبد الله الحجبي عن حماد، وفي الحج عن مؤمل بن هشام، أربعتهم عن أيوب، وذكرنا أيضا أن بقية الستة أخرجوه.
ذكر معناه: قوله: (كنا نؤمر)، على صيغة المجهول، وهذه الصيغة تعد من المرفوع كما قد ذكرنا غير مرة، وقد جاء

294
ذلك صريحا كما سيجيء إن شاء الله تعالى. قوله: (أن نخرج) بنون المتكلم، وكلمة: أن، مصدرية والتقدير: بأن نخرج، أي: بالإخراج. قوله: (حتى نخرج البكر) كلمة: حتى، للغاية و: حتى الثانية غاية الغاية أو عطف على الغاية الأولى. والواو محذوف منها وهو جائز عندهم. قوله: (من خدرها)، بكسر الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة: وهو ستر يكون في ناحية البيت تقعد البكر وراءه. وقيل: هو الهودج، وقيل: سرير عليه ستر. وقيل: هو البيت، وقد استقصينا الكلام فيه في: باب شهود الحائض العيدين. قوله: (الحيض) بضم الحاء وتشديد الياء آخر الحروف، جمع حائض. قوله: (فيكبرن) أي: النساء، ويدعون كذلك وهذه اللفظة مشتركة بين الجمع المذكر والجمع المؤنث، والفرق تقديري، فوزن الجمع المذكر: يفعلون، ووزن الجمع المؤنث: يفعلن. قوله: (يرجون بركة ذلك اليوم)، هذا شأن المؤمن يرجو عند العمل ولا يقطع ولا يدري ما يحدث له. قوله: (وطهرته)، بضم الطاء المهملة وسكون الهاء أي: طهرة ذلك اليوم أي طهارته.
ذكر ما يستفاد منه: قال الخطابي وابن بطال: معنى التكبير في هذه الأيام أن الجاهلية كانوا يذبحون لطواغيتها فجعلوا التكبير استشعارا للذبح لله تعالى حتى لا يذكر في أيام الذبح غيره. وفيه: تأخير النساء عن الرجال. وفيه: تساوي النساء والرجال في التكبير والدعاء. وفيه: إخراج النساء يوم العيد إلى المصلى حتى الحيض منهن، ولكنهن، يعتزلن المصلى، وفيه: استحباب التكبير يوم العيد، وكذا في ليلته في طريق المصلى، وروي عن علي، رضي الله تعالى عنه، أنه كبر يوم الأضحى حتى أتى الجبانة، وعن أبي قتادة: أنه كان يكبر يوم العيد حتى يبلغ المصلى، وعن ابن عمر أنه كان يكبر في العيد حتى يبلغ المصلى ويرفع صوته بالتكبير، وهو قول مالك والأوزاعي. وقال مالك: يكبر في المصلى إلى أن يخرج الإمام، فإذا خرج قطعه ولا يكبر إلا إذا رجع. وقال الشافعي: أحب إظهار التكبير ليلة النحر، وإذا غدوا إلى المصلى حتى يخرج الإمام ليلة الفطر عقيب الصلوات في الأصح. وقال أبو حنيفة: يكبر يوم الأضحى، يخرج في ذهابه ولا يكبر يوم الفطر، وقال الطحاوي: ومن كبر يوم الفطر تأول فيه قوله تعالى: * (ولتكبروا الله على ما هداكم) * (البقرة: 185، والحج: 37،). وتأول ذلك زيد بن أسلم، ويجعل ذلك تعظيم الله بالأفعال والأقوال كقوله: * (وكبره تكبيرا) * (الإسراء: 111). والقياس أن يكبر في العيدين جميعا، لأن صلاتي العيدين لا تختلفان في التكبير فيهما، والخطبة بعدهما وسائر سنتهما، وكذلك التكبير في الخروج إليهما.
13
((باب الصلاة إلى الحربة يوم العيد))
أي: هذا باب في بيان الصلاة إلى الحربة، يعني: يصلي والحربة بين يديه، والحربة دون الرمح العريض النصل. قوله: (يوم العيد)، من زوائد الكشميهني.
972 حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان تركز الحربة قدامه يوم الفطر والنحر ثم يصلي.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مر هذا الحديث في: باب سترة الإمام سترة لمن خلفه، فإنه أخرجه هناك عن إسحاق عن عبد الله بن نمير عن عبيد الله بن عمر عن نافع، (عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه..) الحديث. وأخرجه أيضا في: باب الصلاة إلى الحربة: عن مسدد عن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر، وقد ذكرنا في: باب سترة الإمام، جميع ما يتعلق به من الأشياء، وعبد الوهاب هو ابن عبد المجيد الثقفي.
14
((باب حمل العنزة أو الحربة بين يدي الإمام يوم العيد))
أي: هذا باب في بيان حمل العنزة، وهي أقصر من الرمح وفي طرفها زج.
973 حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا الوليد قال حدثنا أبو عمر و قال أخبرني نافع عن ابن عمر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يغدو إلى المصلى والعنزة بين يديه
تحمل وتنصب

295
بالمصلى بين يديه فيصلي إليها.
مطابقته للترجمة ظاهرة، وإبراهيم بن المنذر تقدم عن قريب في: باب المشي والركوب إلى العيد، والحزامي، بالحاء المهملة وبالزاي، والوليد هو ابن مسلم، والأوزاعي هو عبد الرحمن بن عمرو. والحديث أخرجه ابن ماجة في الصلاة عن هشام ابن عمار عن عيسى بن يونس وعن دحيم عن الوليد، وقد مر الكلام فيه مستوفى في: باب ستره الإمام.
قوله: (فصلى)، ويروى (يصلى)، ويروى: (فيصلى). فإن قلت: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بمنى إلى غير جدار، رواه ابن عباس؟ قلت: ذلك ليبين أن السترة ليست شرطا بل سنة، أو كان ذلك نادرا منه، والذي واظب عليه النبي، صلى الله عليه وسلم، طول دهره: الصلاة إلى سترة.
15
((باب خروج النساء والحيض إلى المصلى))
أي: هذا باب في بيان حكم خروج النساء الطاهرات والنساء الحيض إلى المصلى يوم العيد، والحيض، بضم الحاء وتشديد الياء: جمع حائض، وهو من عطف الخاص على العام.
23 - (حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد عن أم عطية قالت أمرنا أن نخرج العواتق وذوات الخدور)
مطابقته للترجمة في قوله ' خروج النساء فقط ' وهو الجزء الأول للترجمة وحديث أيوب عن حفصة يطابق الجزء الثاني للترجمة وهو قوله ' والحيض ' وقد مر حديث أم عطية هذه في باب التكبير أيام منى عن قريب قوله ' حماد بن زيد ' كذا وقع بالنسبة في رواية الأكثرين وفي رواية كريمة حدثنا حماد بلا نسبة قوله ' أمرنا ' بفتح الراء كذا هو في رواية أبي ذر عن المستملي والحموي وفي رواية الباقين ' أمرنا ' بضم الهمزة على صيغة المجهول بدون لفظ نبينا وفي رواية مسلم عن أبي الربيع الزهراني عن حماد ' قالت أمرنا ' يعني النبي
قوله ' العواتق ' جمع العاتق وهي التي بلغت وسميت بها لأنها عتقت عن أمهاتها في الخدمة أو عن قهر أبويها يقال عتقت الجارية فهي عاتق مثل حاضت فهي حائض والعتيق القديم وقال ابن الأثير ويروى في حديث أم عطية ' أمرنا أن نخرج في العيدين الحيض والعتيق ' والخدور جمع خدر وهو الستر وقد مر الكلام فيه مستوفي في كتاب الحيض في باب شهود الحائض العيدين
(وعن أيوب عن حفصة بنحوه)
هو معطوف على الإسناد المذكور والحاصل أن حمادا روى عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أم عطية وروى أيضا عن أيوب عن حفصة بنت سيرين عن أم عطية بنحوه أي بنحو ما روى أيوب عن محمد وكلتا الروايتين رواهما أبو داود أما الأولى فرواها عن موسى بن إسماعيل حدثنا حماد عن أيوب ويونس وحبيب ويحيى بن عتيق وهشام في آخرين ' عن محمد أن أم عطية قالت أمرنا رسول الله
أن نخرج ذوات الخدور يوم العيد ' الحديث وأما الثانية فرواها عن محمد بن عبيد حدثنا حماد حدثنا أيوب عن محمد عن أم عطية بهذا الخبر قال وحدث عن حفصة عن امرأة تحدثه امرأة أخرى أي حدث محمد بن سيرين عن أخته حفصة بنت سيرين ويقال هذا كان في ذلك الزمان لأمنهن عن المفسدة بخلاف اليوم ولهذا صح ' عن عائشة لو رأى رسول الله
ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل ' فإذا كان الأمر قد تغير في زمن عائشة حتى قالت هذا القول فماذا يكون اليوم الذي عم الفساد فيه وفشت المعاصي من الكبار والصغار فنسأل الله العفو والتوفيق
(وزاد في حديث حفصة قال أو قالت العواتق وذوات الخدور ويعتزلن الحيض المصلى)
أي وزاد أيوب في حديث حفصة في رواية عنها قال أو قالت حفصة يعني شك أيوب في أنها قالت نخرج العواتق ذوات الخدور على أن ذوات الخدور تكون صفة للعواتق أو قالت وذوات الخدور بواو العطف ومعناها صواحب الخدور

296
وإعراب ذوات كإعراب مسلمات قوله ' ويعتزلن الحيض ' من باب أكلوني البراغيث والأمر بالاعتزال إما لئلا يلزم الاختلاف بين الناس من صلاة بعضهم وترك الصلاة لبعضهم أو لئلا تنجس المواضع أو لئلا تؤذي جارتها إن حصل أذى منها * -
16
((باب خروج الصبيان إلى المصلى))
أي: هذا باب في بيان خروج الصبيان إلى مصلى العيد مع القوم، وإنما قال: إلى المصلى، ولم يقل: إلى صلاة العيد ليشمل من يتأتى منه الصلاة ومن لا يتأتى.
975 حدثنا عمرو بن عباس قال حدثنا عبد الرحمان قال حدثنا سفيان عن عبد الرحمان قال سمعت ابن عباس قال خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فصلى العيد ثم خطب ثم أتى النساء فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة.
مطابقته للترجمة من حيث إن ابن عباس كان وقت خروجه مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى صلاة العيد طفلا، لأنه عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان ابن ثلاث
عشرة سنة. فإن قلت: ليس في الحديث ما يشعر بكون ابن عباس طفلا حينئذ؟ قلت: سيأتي في: باب العلم الذي بالمصلى، قال: (ولولا مكاني من الصغر ما شهدته)، فجرت عادته في التراجم أنه يترجم بما ورد في بعض طرق الحديث الذي يورده.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: عمرو بن عباس أبو عثمان البصري، وعمرو بالواو، وعباس، بالباء الموحدة المشددة، وقد تقدم ذكره. الثاني: عبد الرحمن بن مهدي بن حسان الأزدي العنبري. الثالث: سفيان الثوري. الرابع: عبد الرحمن بن عابس، بالعين المهملة وبعد الألف باء موحدة مكسورة، تقدم في آخر كتاب الصلاة. الخامس: عبد الله بن عباس.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في ثلاثة مواضع. وفيه: العنعنة في موضع واحد. وفيه: السماع. وفيه: القول في أربعة مواضع. وفيه: أن شيخه من أفراده وهو بصري وشيخه كذلك، وسفيان كوفي وعبد الرحمن بن عابس كذلك، وفيه: سفيان عن عبد الرحمن، وصرح يحيى القطان عنه بأن عبد الرحمن المذكور حدثه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا عن عمرو بن علي في الصلاة وفي العيدين عن مسدد وعن أحمد بن محمد وفي الاعتصام عن محمد بن كثير، وأخرجه أبو داود في الصلاة عن محمد بن كثير به، وأخرجه النسائي فيه عن عمرو بن علي به.
ذكر معناه: قوله: (أو أضحى)، شك من الراوي، والظاهر أن الشك من عبد الرحمن بن عابس. قوله: (فوعظهن) الوعظ: الإنذار بالعقاب. قوله: (وذكرهن)، بتشديد الكاف: من التذكير، وهو الإخبار بالثواب، ويجوز أن تكون هذه الجملة تفسيرا لقوله: (وعظهن) أو تأكيدا لها. وقيل: التذكير لأمر علم سابقا.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: خروج الصبيان إلى المصلى ولكن بشرط التمييز، ألا يرى أن ابن عباس كيف ضبط القصة؟ وفيه: خروج النساء أيضا، وسواء فيه الطاهرات والحيض، كما جاء في الحديث السابق. وفيه: أن الصلاة قبل الخطبة. وفيه: الوعظ للنساء والأمر لهن بالصدقة دون الرجال، لأنهن أكثر أهل النار، والله أعلم.
71
((باب استقبال الإمام الناس في خطبة العيد))
أي: هذا باب في بيان استقبال الإمام الناس وقت خطبته بعد صلاة العيد. فإن قلت: قد تقدم في كتاب الجمعة: باب استقبال الناس الإمام إذا خطب، وعلم من ذلك أن الاستقبال سنة في الخطبة فيكون هذا تكرارا. قلت: أجيب بأنه إنما ذكر هذه الترجمة لدفع وهم من يتوهم أن العيد يخالف الجمعة في ذلك، لأن استقبال الإمام في الجمعة ضروري لأنه يخطب على منبر، بخلاف العيد فإنه يخطب فيه على رجليه كما تقدم في باب خطبة العيد.

297
قال أبو سعيد قام النبي صلى الله عليه وسلم مقابل الناس
هذا طرف من حديث أبي سعيد الخدري، وصله البخاري في: باب الخروج إلى المصلى بغير منبر، قاال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى، فأول شيء يبدأ به الصلاة ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس..) الحديث، وفي رواية مسلم: (قام فأقبل على الناس..) الحديث.
18
((باب العلم الذي بالمصلى))
أي: هذا باب في بيان العلم الذي هو بمصلى العيد، والعلم بفتحتين هو الشيء الذي عمل من بناء أو وضع حجر أو نصب عمود ونحو ذلك ليعرف به المصلى.
977 حدثنا مسدد قل حدثنا يحيى عن سفيان قال حدثني عبد الرحمان بن عابس قال سمعت ابن عباس قيل له أشهدت العيد مع النبي صلى الله عليه وسلم قال نعم ولولا مكاني من الصغر ما شهدته حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت فصلى ثم خطب ثم أتى النساء ومعه بلال فوعظهن وذكرهن وأمرهن بالصدقة فرأيتهن يهوين بأيديهن يقذفنه في ثوب بلال ثم انطلق هو وبلال إلاى بيته.
مطابقته للترجمة في قوله: (حتى أتى العلم الذي عند دار كثير بن الصلت)، والحديث قد مر في: باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور، قبل كتاب الجمعة بأربعة أبواب. فإنه أخرجه هناك: عن عمرو بن علي عن يحيى عن سفيان، وهنا أخرجه: عن مسدد عن يحيى، ويحيى هو القطان وسفيان هو الثوري، وقد تكلمنا هناك على جميع ما يتعلق به من الأشياء، ولنذكر هنا ما يحتاج إليه.
قوله: (قيل له)، أي: لابن عباس، رضي الله تعالى عنه، وهناك: (وقال له رجل). قوله: (أشهدت؟) أي: أحضرت؟ والهمزة فيه للاستفهام على سبيل الاستخبار. قوله: (ولولا مكاني من الصغر ما شهدته)، فيه تقديم وتأخير

298
وحذف تقديره: ولولا مكاني من رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أشهده لأجل الصغر، وكلمة: من، للتعليل، والحديث المذكور هناك يؤيد هذا المعنى. وهو قوله: (لولا مكاني منه ما شهدته) أي: لولا مكاني من النبي صلى الله عليه وسلم ما حضرته أي: العيد، وفسر الراوي هناك علة عدم الحضور بقوله: (يعني من صغره)، فالصغر علة لعدم الحضور، ولكن قرب ابن عباس منه صلى الله عليه وسلم ومكانه عنده كان سببا لحضوره. قوله: (حتى أتى العلم)، بفتحتين، وهو العلامة التي عملت عند دار كثير بن الصلت، وقد مر الكلام فيه في: باب وضوء الصبيان، و: كلمة: حتى، للغاية ولكن فيه مقدر تقديره: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى العلم. قوله: (ومعه بلال) أي: مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والواو فيه للحال. قوله: (يهوين)، بضم الياء آخر الحروف من: أهوى يهوي
إهواء. يقال: أهوى الرجل بيده إلى الشيء ليتناوله ويأخذه، وقال ابن الأثير: يقال: أهوى بيده إليه أي: مدها نحوه، وأمالها إليه، يقال أهوى يده وبيده إلى الشيء ليأخذه، والمعنى هنا يمددن أيديهن بالصدقة ليتناولها بلال، وفسره بعضهم بقوله: أي: يلقين، وليس كذلك، لأن لفظ: (يلقين) تفسير قوله: (يقذفنه، وإذا فسر: يهوين بيلقين يكون قوله: (يقذفنه) تكرارا بلا فائدة، ومحل: (يقذفنه) من الإعراب النصب لأنها وقعت حالا، والضمير المنصوب فيه يرجع إلى المتصدق به، يدل عليه لفظ الصدقة. وبقية فوائده ذكرت هناك.
19
((باب موعظة الإمام النساء يوم العيد))
أي: هذا باب في بيان وعظ الإمام النساء يوم العيد إذا لم يسمعن الخطبة مع الرجال.
978 حدثني إسحاق بن إبراهيم بن نصر قال حدثني عبد الرزاق قال حدثنا ابن جريج قال أخبرني عطاء عن جابر بن عبد الله قال سمعته يقول قام النبي يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة ثم خطب فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال وبلال باسط ثوبه يلقي فيه النساء الصدقة قلت لعطاء زكاة يوم الفطر قال لا ولاكن صدقة يتصدقن حينئذ تلقى فتخها ويلقين قلت أترى حقا على الإمام ذالك ويذكرهن قال إنه لحق عليهم وما لهم لا يفعلونه. (انظر الحديث 958 وطرفه).
979 قال ابن جريج وأخبرني الحسن بن مسلم عن طاووس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال شهدت الفطر مع النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم يصلونها قبل الخطبة ثم يخطب بعد خرج النبي صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس بيده ثم أقبل يشقهم حتى جاء النساء معه بلال فقال يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك الآية ثم قال حين فرغ منها آنتن على ذالك قالت امرأة واحدة منهن لم يجبه غيرها نعم لا يدري حسن من هي قال فتصدقن فبسط بلال ثوبه ثم هلم لكن فداء أبي وأمي فيلقين الفتخ والخواتيم في ثوب بلال، قال عبد الرزاق الفتخ الخواتيم العظام كانت في الجاهلية..
مطابقته للترجمة في قوله: (فأتى النساء فذكرهن).
ذكر رجاله: وهم ثمانية: الأول: إسحاق بن نصر: هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر أبو إبراهيم السعدي البخاري. الثاني: عبد الرزاق بن همام صاحب (المسند) و (المصنف). الثالث: عبد الملك ابن عبد العزيز بن جريج، وقد تكرر ذكره. الرابع: عطاء بن أبي رباح. الخامس: جابر بن عبد الله الأنصاري. السادس: الحسن بن مسلم بن يناق المكي. السابع: طاووس بن كيسان. الثامن: عبد الله بن عباس، رضي الله تعالى عنهم..
ذكر

299
لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: الإخبار بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإفراد في موضعين. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في تسعة مواضع. وفيه: إن شيخه من أفراده وأن نسبته إلى جده وهو رواية الأصيلي فإنه روى عنه في كتابه في مواضع، فمرة يقول: حدثنا إسحاق بن نصر فينسبه إلى جده، ومرة يقول: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، فينسبه إلى أبيه. وفيه: أن شيخه بخاري سكن المدينة والثاني يماني والثالث والرابع مكيان والسادس كذلك والسابع يماني.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في التفسير عن محمد بن عبد الرحيم. وأخرجه مسلم في الصلاة عن محمد بن رافع وعبد بن حميد، كلاهما عن عبد الرزاق به، ولم يذكر حديث عطاء عن جابر، وأخرجه أبو داود فيه عن مسدد. وأخرجه ابن ماجة فيه عن أبي بكر بن خلاد.
ذكر معناه: قوله: (فلما فرغ) أي: عن الخطبة، نزل قيل: فيه إشعار أنه كان يخطب على مكان مرتفع، لأن النزول يدل على ذلك. (واعترض عليه) بأن تقدم في: باب الخروج إلى المصلى، أنه صلى الله عليه وسلم كان يخطب في المصلى على الأرض. وأجيب: بأن الراوي لعله ضمن النزول معنى الانتقال قلت: يحتمل تعدد القضية. قوله: (وهو يتوكأ) الواو فيه للحال، وكذلك: الواو في: (وبلال). قوله: (تلقي) بضم التاء من الإقاء، والنساء بالرفع فاعله. قوله: (قلت لعطاء) القائل هو ابن جريج، وهو موصول بالإسناد الأول. قوله: (زكاة يوم الفطر)، كلام إضافي مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف مع تقدير الاستفهام أي: أهي زكاة يوم الفطر؟ وأطلق على صدقة الفطر اسم: الزكاة، فدل أنها واجبة. قوله: (ولكن صدقة) أي: ولكن هي صدقة، فارتفاعها على أنها خبر مبتدأ محذوف. قوله: (تلقي)، بضم التاء المثناة من فوق من الإلقاء أي: تلقي النساء، والنساء، وإن كان جمعا للمرأة من غير لفظه، ولكنه مفرد لفظا. قوله: (فتخها)، بالنصب مفعول: تلقي، الفتخ، بفتح الفاء والتاء المثناة من فوق والخاء المعجمة: جمع فتخة، وهو خواتم بلا فصوص كأنها حلق، وسيأتي تفسيره عن قريب. قوله: (يلقين)، من الإلقاء أيضا وإنما كرر ليفيد العموم. وقال بعضهم: المعنى تلقي الواحدة وكذلك الباقيات. قلت: التركيب لا يقتضي هذا على ما لا يخفى، ومفعول: (يلقين)، محذوف وهو: كل نوع من أنواع حليهن. قوله: (قلت لعطاء) القائل هو ابن جريج أيضا والمسؤول عطاء. قوله: (أترى حقا على الإمام ذلك؟) الهمزة فيه للاستفهام، و: حقا، منصوب على أنه مفعول: ترى، وذلك إشارة إلى ما ذكر من الوعظ للنساء والأمر إياهن بالصدقة، والظاهر أن عطاء يرى وجوب ذلك، ولهذا قال عياض: لم يقل بذلك غيره، والنووي وغيره حملوه على الاستحباب.
قوله: (قال ابن جريج: وأخبرني حسن بن مسلم) معطوف على الإسناد الأول، وقد أخرج مسلم هذا الحديث ولكنه قدم الثاني على الأول، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم ومحمد بن رافع، قال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء (عن جابر بن عبد الله قال: سمعته يقول: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، قام يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة قبل الخطبة ثم خطب الناس، فلما فرغ نبي الله، صلى الله عليه وسلم، نزل فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد
بلال، وبلال باسط ثوبه، يلقين النساء صدقة. قلت لعطاء: زكاة الفطر؟ قال: لا ولكن صدقة يتصدقن بها حينئذ، تلقي المرأة فتخها ويلقين. قلت لعطاء: أحقا على الإمام الآن إن يأتي النساء حين يفرغ فيذكرهن؟ قال: أي لعمري إن ذلك لحق عليهم، وما لهم لا يفعلون ذلك؟ قوله: (ثم يخطب بعد) لفظ: (يخطب) على صيغة المجهول. قال الكرماني: معناه: ثم يخطب كل واحد، فعلى تفسيره هو على صيغة المعلوم، وبعد مبني على الضم أي: بعد إن يصلوا. قوله: (خرج النبي صلى الله عليه وسلم)، كذا وقع بدون حرف العطف. قيل: قد حذف منه حرف العطف وأصله: وخرج. قلت: لا يحتاج إلى ذلك، لأن هذا ابتداء كلام من ابن عباس. قوله: (حين يجلس بيده)، بتشديد اللام المكسورة من: التجليس، ومفعوله محذوف أي: حين يجلس الناس بيده، وتفسره رواية مسلم قال: (فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم كأني أنظر إليه حين يجلس الرجال بيده). وذلك لأنهم أرادوا الانصراف فأمرهم بالجلوس حتى يفرغ من حاجته ثم ينصرفوا جميعا، أو، أنهم: أرادوا أن يتبعوه فمنعهم وأمرهم بالجلوس. قوله: (يشقهم)، أي: يشق صفوف الرجال الجالسين. قوله: (معه بلال) جملة حالية وقعت بلا واو قوله: (فقال: * (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات) *) (الممتحنة: 12). أي: قال النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: تلا هذه الآية. وفي صحيح مسلم: (فتلا هذه الآية حتى فرغ) منها، وهذه الآية الكريمة في سورة الممتحنة: * (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) * (الممتحنة: 1). ثم الآية المذكورة

300
هي: * (يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم) * (الممتحنة: 12). وإنما تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية الكريمة ليذكرهن البيعة التي وقعت بينه وبين النساء لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من أمر الفتح اجتمع الناس للبيعة، فجلس بهم على الصفا، ولما فرغ من بيعة الرجال بايع النساء وذكر لهن ما ذكر الله في الآية المذكورة. قوله: (أنتن على ذلك) مقول القول، والخطاب للنساء أي: أنتن على ما ذكر في هذه الآية. قوله: (فقالت امرأة واحدة منهن) أي: من النساء. قوله: (نعم)، مقول القول أي: نعم نحن على ذلك. قوله: (لا يدري حسن من هي) أي: لا يدري حسن بن مسلم الراوي عن طاووس المذكور فيه من هي المرأة المجيبة، ووقع في رواية مسلم وحده: (لا يدري حينئذ من هي)، هكذا وقع في جميع نسخ مسلم، وكذا نقله القاضي عن جميع النسخ. قال: هو وغيره، وهو تصحيف وصوابه: (لا يدري حسن من هي)، كما في رواية البخاري قيل: يحتمل أن تكون هذه المرأة هي: أسماء بنت يزيد بن السكن التي تعرف بخطيبة النساء فإنها روت أصل هذه القصة في حديث أخرجه الطبراني، وغيره من طريق شهر بن حوشب: (عن أسماء بنت يزيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى النساء، وأنا معهن، فقال: يا معشر النساء إنكن أكثر حطب جهنم، فناديت رسول الله، وكنت عليه جريئة: لم يا رسول الله؟ قال: لأنكن تكثرن اللعن وتكفرن العشير). فلا يبعد أن تكون هي التي أجابته أولا: بنعم، فإن القصة واحدة. قلت: هذا تخمين وحسبان، ويحتمل إن يكون غيرها، وباب الاحتمال واسع. قوله: (قال: فتصدقن) هذه صيغة الأمر أمرهن صلى الله عليه وسلم بالصدقة، وهذه الصيغة تشترك فيها جماعة النساء من الماضي، ومن الأمر لهن ويفرق بينهما بالقرينة. فإن قلت: ما هذه الفاء فيها؟ قلت: يجوز أن تكون للجواب لشرط محذوف تقديره: إن كنتن على ذلك فتصدقن، ويجوز أن تكون للسببية. قوله: (ثم قال: هلم) أي: ثم قال بلال: ولفظ: هلم من أسماء الأفعال المتعدية نحو: هلم زيدا: أي: هاته وقربه، وهو مركب من: الهاء، و: لم، من: لممت الشيء جمعته، ويستوي فيه الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث. تقول: هلم يا رجل، هلم يا رجلان، هلم يا رجال، هلم يا امرأة، هلم يا امرأتان، هلم يا نسوة. هذه لغة أهل الحجاز، وأما بنو تميم فيقولون: هلم هلما هلموا هلمي هلما هلممن، والأولى أفصح، ويجيء لازما أيضا، قال تعالى: * (والقائلين لإخوانهم هلم إلينا) * (الأحزاب: 18). قوله: (لكن)، بضم الكاف وتشديد النون، لأنه خطاب للنساء، فإذا وقع لفظ: هلم، متعديا تدخل عليه اللام، ويقال: هلم لك هلم لكما هلم لكم هلم لك بكسر الكاف، هلم لكما هلم لكن. قوله: (فداء) إذا كسر الفاء يمد ويقصر، وإذا فتح فهو مقصور، والفداء: فكاك الأسير. يقال: فداه يفديه فداء وفدى وفاداه يفاديه مفاداة، إذا أعطى فداءه وأنقذه، وفداه بنفسه وفداه إذا قال له: جعلت فداك. وقيل: المفاداة أن يفتك الإسير بأسير مثله. قوله: (فداء) مرفوع لأنه خبر لقوله: (أبي وأمي) عطف عليه، والتقدير: أبي وأمي مفدى لكن. قوله: (فيلقين)، بضم الياء من الإلقاء وهو الرمي. قوله: (الفتخ) منصوب لأنه مفعول: (يلقين). قوله: (والخواتيم) عطف عليه، والفتخ، بفتحتين: جمع فتخة، وقد فسرناها عن قريب، وفسرها عبد الرزاق بما ذكره في الكتاب، ولكن لم يذكر في أي شيء كانت تلبس، وقد ذكر ثعلب أنهن كن يلبسنها في أصابع الأرجل، ولهذا عطف عليها: الخواتيم، لأنها عند الإطلاق تنصرف إلى ما يلبس في الأيدي، وقد ذكرنا عن الخليل أن: الفتخ: الخواتيم التي لا فصوص لها، فعلى هذا يكون هذا من عطف العام على الخاص، والخواتيم جمع: ختام، أو خاتام، وهما لغتان في: خاتم.
ذكر ما يستفاد منه: فيه: استحباب وعظ النساء وتعليمهن أحكام الإسلام وتذكيرهن بما يجب عليهن، وما يستحب، وحثهن على الصدقة وتخصيصهن بذلك في مجلس منفرد، ومحل ذلك كله إذا أمنت الفتنة والمفسدة. وقال ابن بطال: أما إتيانه إلى النساء ووعظهن فهو خاص به عند العلماء، لأنه أب لهن وهم مجمعون أن الخطيب لا يلزمه خطبة أخرى للنساء ولا يقطع خطبته ليتمها عند النساء. وفيه: جواز التفدية بالأب والأم. وفيه: ملاطفة العامل على الصدقة بمن يدفعها إليه. وفيه: أن الصدقة من دوافع العذاب لأنه أمرهن بالصدقة ثم علل بأنهن أكثر أهل النار لما يقع منهن من كفران النعم وغير ذلك. وفيه: بذل النصيحة والإغلاظ بها لمن احتيج في حقه إلى ذلك. وفيه: جواز طلب الصدقة من الأغنياء للمحتاجين. وفيه: مبادرة تلك النسوة إلى الصدقة بما يعز عليهن من حليهن، مع ضيق الحال في ذلك الوقت، وفي ذلك

301
دلالة على علو مقامهن في الدين وحرصهن على أمر الرسول، صلى الله عليه وسلم. وفيه: أن قول المخاطب: نعم، يقوم مقام الخطاب. وفيه: أن جواب الواحد كاف عن الجماعة. وفيه: بسط الثوب لقبول الصدقة. وفيه: أن الصلاة يوم العيد مقدمة على الخطبة.
20
((باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد))
أي: هذا باب في بيان حال المرأة إذا لم يكن لها جلباب في العيد، ولم يذكر جواب الشرط اعتمادا على ما ورد في حديث الباب، والتقدير: إذا لم يكن لها جلباب في يوم العيد تلبسها صاحبتها من جلبابها، كما ذكر في متن الحديث، ويجوز أن يقدر هكذا، إذا لم يكن لها جلباب في يوم العيد تستعير من غيرها جلبابا فتخرج فيه. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المعنى: تعيرها من جنس ثيابها، ويحتمل أن يكون المراد: تشركها معها في ثوبها، ويؤيده رواية أبي داود: (تلبسها صاحبتها طائفة من ثوبها). ويؤخذ منه: جواز اشتمال المرأتين في ثوب واحد. قلت: الذي قال هذا القائل لم يقل به أحد ممن له ذوق من معاني التركيب. وإنه ظن أن معنى قوله في رواية أبي داود: (طائفة من ثوبها)، بعضا من ثوبها بأن تدخلها في ثوبها حتى تصير كلتاهما في ثوب واحد، وهذا لم يقل به أحد، ويعسر ذلك عليهما جدا في الحركة، وإنما معنى: طائفة من ثوبها، يعني: قطعة من ثيابها من التي لا تحتاج إليها، مثل الجلباب والخمار والمقنعة، ونحو ذلك. وكذا فسروا قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث الباب: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها)، يعني: لتعيرها جلبابا لا تحتاج إليه، والجلباب: ثوب أقصر وأعرض من الخمار. قال النضر: هو المقنعة. وقيل: ثوب واسع يغطي صدرها وظهرها، وقيل: هو كالملحفة. وقيل: الإزار. وقيل: الخمار.
980 حدثنا أبو معمر قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا أيوب عن حفصة بنت سيرين قالت كنا نمنع جوارينا أن يخرجن يوم العيد فجاءت امرأة فنزلت قصر بني خلف فأتيتها فحدثت أن زوج اختها غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم ثنتي عشرة غزوة فكانت أختها معه في ست غزوات فقالت فكنا نقوم على المرضى ونداوي الكلمى فقالت يا رسول الله على إحدانا بأس إذا لم يكن لها جلباب أن لا تخرج فقال لتلبسها صاحبتها من جلبابها فليشهدن الخير ودعوة المؤمنين قالت حفصة فلما قدمت أم عطية أتيتها فسألتها أسمعت في كذا وكذا قالت نعم بأبي وقلما ذكرت النبي صلى الله عليه وسلم إلا قالت بأبي قال ليخرج العواتق ذوات الخدور أو قال العواتق وذوات الخدور شك أيوب والحيض ويعتزل الحيض المصلى وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين قالت فقلت لها آلحيض قالت نعم أليس الحائض تشهد عرفات وتشهد كذا وتشهد كذا..
مطابقته للترجمة في قوله: (لتلبسها صاحبتها من جلبابها)، وقد مر هذا الحديث في أول: باب شهود الحائض العيدين، فإنه أخرجه هناك: عن محمد بن سلام عن عبد الوهاب عن أيوب عن حفصة، وأخرجه هنا: عن أبي معمر، بفتح الميمين: عبد الله ابن عمرو المقعد عن عبد الوارث بن سعيد التميمي عن أيوب السختياني. وقد ذكرنا هناك جميع ما يتعلق به من الأشياء.
قوله: (قصر بني خلف) بفتح الخاء المعجمة واللام: هو بالبصرة منسوب إلى خلف جد طلحة بن عبد الله بن خلف، جمع: الكليم، وهو المجروح. قوله: (أسمعت؟) بهمزة الاستفهام. قوله: (قالت: نعم، بأبي) أي: مفدى بأبي، أو: أفديه بأبي، وهذه رواية كريمة وأبي الوقت. وفي رواية غيرهما: (قالت: نعم بأبا)، وقد ذكرنا أن فيه أربع روايات: الأولى: هذه، والثانية:

302
بأبا، والثالثة: بيبي. والرابعة: بيبا. قوله: (لتخرج العواتق ذوات الخدور) هكذا هو في رواية الأكثرين، وفي رواية الكشميهني: (أو قال: العواتق وذوات الخدور). شك أيوب، هل هو بواو العطف أو لا؟. قال الكرماني: فإن قلت: هذا الكلام موقوف عليها أو مرفوع إلى رسول الله، صلى الله عليه وسلم؟ قلت: مرفوع، إذ معنى قولها: نعم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لتخرج العواتق. قوله: (فقلت لها) القائلة المرأة، والمقول لها: أم عطية، قيل: يحتمل أن تكون القائلة حفصة والمقول لها امرأة، وهي أخت أم عطية. قوله: (وتشهد كذا وتشهد كذا) يريد: مزدلفة ورمي الجمار.
قال ابن بطال: فيه تأكيد خروجهن إلى العيد لأنه إذا أمر من لا جلباب لها، فمن لها جلباب بالطريق الأولى. وقال أبو حنيفة: الملازمات البيوت لا يخرجن. وقال الطحاوي: يحتمل أن يكون هذا الأمر في أول الإسلام والمسلمون قليل، فأريد التكثير بحضورهن ترهيبا للعدو، فأما اليوم فلا يحتاج إلى ذلك. وقال الكرماني: وهو مردود لأنه يحتاج إلى معرفة تاريخ الوقت، والنسخ لا يثبت إلا باليقين، وأيضا فإن الترهيب لا يحصل بهم، ولذلك لم يلزمهن الجهاد. قلت: رده مردود. وقوله: فإن الترهيب لا يحصل بهن غير مسلم، لأنهن يكثرن السواد، والعدو يخاف من كثرة السواد، بل فيهن من هي أقوى قلبا من كثير من الرجال الذين ليس لهم ثبات عند الحرب. وقوله: ولذلك لم يلزمهن الجهاد. قلنا: لا نسلم ذلك، فعند النفير العام يلزم سائر الناس حتى تخرج المرأة من غير إذن زوجها، والعبد من غير إذن مولاه، على ما عرف في بابه. وقال بعضهم: وقد أفتت به أم عطية بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة، ولم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها في ذلك، والاستنصار بالنساء والتكثر بهن في الحرب دال على الضعف. قلت: هذه عائشة، رضي الله تعالى عنها، صح عنها أنها قالت: (لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن عن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل). فإذا كان الأمر في خروجهن إلى المساجد هكذا، فبالأحرى أن يكون ذلك في خروجهن إلى المصلى، فكيف يقول هذا القائل: لم يثبت عن أحد من الصحابة مخالفتها، وأين أم عطية من عائشة، رضي الله تعالى عنها؟ ولم يكن في حضورهن المصلى في ذلك الوقت استنصار بهن، بل كان القصد تكثير السواد أثرا في إرهاب العدو. ألا ترى أن أكثر الصحابة كيف كانوا يأخذون نساءهم معهم في بعض الفتوحات لتكثير السواد؟ بل وقع منهن في بعض المواضع نصرة لهم بقتالهن وتشجيعهن الرجال، وهذا لا يخفى على من له اطلاع في السير والتواريخ.
21
((باب اعتزال الحيض المصلى))
أي: هذا باب في بيان اعتزال الحيض المصلى، بضم الحاء وتشديد الياء: جمع حائض، يعني: يعتزلن مصلى العيد، وإنما ذكر هذه الترجمة مع أن مضمون حديثها قد
تقدم في الباب السابق للاهتمام به مع التنبيه على اختلاف الرواة.
981 حدثنا محمد بن المثنى قال حدثنا ابن أبي عدي عن ابن عون عن محمد. قال قالت أم عطية أمرنا أن نخرج فنخرج الحيض والعواتق وذوات الخدور قال ابن عون أو العواتق ذوات الخدور فأما الحيض فيشهدن جماعة المسلمين ودعوتهم ويعتزلن مصلاهم..
مطابقته للترجمة في قوله: (ويعتزلن مصلاهم)، قد مر الكلام فيه في: باب شهود الحائض العيدين، وابن أبي عدي هو محمد بن إبراهيم، مر ذكره في: إذا جامع ثم عاد، في كتاب الغسل، وابن عون هو: عبد الله بن عون مر في: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم رب مبلغ، ومحمد هو ابن سيرين.
قوله: (وقال ابن عون: أو العواتق) شك فيه، هو كما شك أيوب في الحديث الذي قبله، وفي رواية الترمذي: عن منصور بن زادان عن ابن سيرين: (نخرج الأبكار والعواتق وذوات الخدور).
وفيه: من الفوائد: جواز مداواة المرأة للرجال الأجانب. وفيه: من شأن العواتق والمخدرات عدم البروز إلا فيما أذن لهن فيه. وفيه: استحباب إعداد الجلباب للمرأة ومشروعية عارية الثياب. قيل: وفيه استحباب خروج النساء إلى شهود العيدين، سواء كن شواب أو ذوات هيئات أم لا. قلت: في هذا الزمان لا يفتي به لظهور الفساد وعدم الأمن، مع أن جماعة من السلف منعوا

303
ذلك، وهم: عروة والقاسم ويحيى الأنصاري ومالك وأبو حنيفة في رواية وأبو يوسف. ومنع الشافعية ذوات الهيئات والمستحسنات لغلبة الفتنة، وكذلك الثوري منع خروجهن اليوم.
22
((باب النحر والذبح يوم النحر بالمصلى))
أي: هذا باب في بيان النحر.. إلى آخره. قالوا: النحر في الإبل والذبح في غيره، والنحر في اللبة والذبح في الحلق، وإنما ذكر النحر والذبح كليهما ليفهم أنهما مشتركان في الحكم، وليعلم أنه لا يمنع أن يجمع يوم النحر بين النسكين أحدهما مما ينحر، والآخر مما يذبح.
982 حدثنا عبد الله بن يوسف قال حدثنا الليث قال حدثني كثير بن فرقد عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينحر أو يذبح بالمصلى..
مطابقته للترجمة من حيث إن المذكور فيه النحر والذبح معا، وإن كان بالتردد، وكثير ضد قليل خليل بن فرقد، بالفاء والراء والقاف: نزيل مصر.
والحديث أخرجه البخاري أيضا في الأضاحي عن يحيى بن بكير. وأخرجه النسائي في الصلاة وفي الأضاحي عن محمد بن عبد الملك والذبح بالمصلى للإعلام بذبح الإمام ليترتب عليه ذبح الناس، ولأن الأضحية من القرب العامة وإظهارها أفضل لأن فيه إحياء لسنتها. وقد أمر ابن عمر نافعا أن يذبح أضحيته بالمصلى، وكان مريضا لم يشهد العيد، أخرجه في (الموطأ). وقال ابن حبيب: يستحب الإعلان بها لكي تعرف ويعرف الجاهل سنيتها، وكان ابن عمر إذا ابتاع أضحيته يأمر غلامه بحملها في السوق، يقول: هذه أضحية ابن عمر، وهذا المعنى يستوي فيه الإمام وغيره. وقال ابن بطال: لما كانت أفعال العيد والجماعات إلى الإمام وجب أن يكون متقدما فيها، والناس له تبع. ولهذا قال مالك: لا يذبح أحد حتى يذبح الإمام، ولم يختلفوا أن من رمى الجمرة حل له الذبح، وإن لم يذبح الإمام إلا بعده، فالمعنى المتعبد به الوقت لا الفعل، واجمعوا أن الإمام لو لم يذبح أصلا ودخل وقت الذبح أن الذبح حلال.
23
((باب كلام الإمام والناس في خطبة العيد، وإذا سئل الإمام عن شيء وهو يخطب))
أي: هذا باب في بيان حكم كلام الإمام، والحال أنه والناس معه في خطبة العيد، هذه ترجمة. وقوله: (وإذا سئل الإمام..) الخ، ترجمة أخرى، وليس في ذلك تكرار وإن كان يرى ذلك بحسب الظاهر، لأن الترجمة الأولى أعم من الثانية، ولم يذكر جواب الشرط في الترجمة الثانية اكتفاء بما في الحديث، وليس الكلام في خطبة العيد كالكلام في خطبة الجمعة. وقال شعبة: كلمني الحكم بن عيينة يوم عيد والإمام يخطب، مع أنه إذا كان الكلام من أمر الدين للسائل والمسؤول عنه فإنه جائز، وقد قال صلى الله عليه وسلم للذين قتلوا ابن أبي الحقيق، دخلوا عليه يوم الجمعة وهو يخطب: أفلحت الوجوه، وقال عمر، رضي الله تعالى عنه، وهو على المنبر: أملكوا العجين، فإنه أحد رواة هشام بن عروة عن أبيه، ولكن كره العلماء كلام الناس والإمام يخطب، روي ذلك عن عطاء والحسن والنخعي. وقال مالك: لينصت للخطبة وليستقبل.
983 حدثنا مسدد قال حدثنا أبو الأحوص قال حدثنا منصور بن المعتمر عن الشعبي عن البراء بن عازب قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ومن نسك قبل الصلاة فتلك شاة لحم فقام أبو بردة بن نيار فقال يا رسول الله والله لقد نسكت قبل أن أخرج إلى الصلاة وعرفت أن اليوم يوم أكل وشرب فتعجلت وأكلت وأطعمت أهلي وجيراني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك

304
شاة لحم قال فإن عندي عناق جذعة هي خير من شاتي لحم فهل تجزي عني قال نعم ولن تجزي عن أحد بعدك..
مطابقته للترجمة ظاهرة، فإن فيه: كلام الإمام في الخطبة. وفيه: أن الإمام سئل وأجاب، والحديث قد مر غير مرة، وأبو الأحوص هو سلام بن سليم الحنفي الكوفي، مات هو مالك وحماد وخالد الطحان كلهم في سنة تسع وسبعين ومائة، والشعبي هو عامر بن شراحيل.
984 حدثنا حامد بن عمر عن حماد بن زيد عن أيوب عن محمد أن أنس بن مالك قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى يوم النحر ثم خطب فأمر من ذبح قبل
الصلاة أن يعيد ذبحه فقام رجل من الأنصار فقال يا رسول الله جيران لي إما قال بهم خصاصة وإما قال بهم فقر وإني ذبحت قبل الصلاة وعندي عناق لي أحب إلي من شاتي لحم فرخص له فيها..
مطابقته للترجمة ظاهرة، وقد مر الحديث، وحامد بن عمر هو البكراوي من ولد أبي بكرة قاضي كرمان، مات سنة ثلاث وثلاثين ومائتين، روى عنه مسلم أيضا، وأيوب هو السختياني، ومحمد هو ابن سيرين. قوله: (ذبحه) بكسر الذال، أي: مذبوحه. وقوله: (جيران) مبتدأ وقوله: (لي) صفته، والجملة بعد خبره، (والخصاصة) الجوع.
985 حدثنا مسلم قال حدثنا شعبة عن الأسود عن جندب قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم خطب ثم ذبح فقال من ذبح قبل أن يصلي فليذبح أخرى مكانها ومن لم يذبح فليذبح باسم الله..
مطابقته للترجمة الأولى ظاهرة، لأن قوله: (من ذبح)، من جملة الخطبة وليس معطوفا على قوله: (ثم ذبح)، لئلا يلزم تخلل الذبح بين الخطبة.
ذكر رجاله: وهم أربعة: الأول: مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي، مولاهم، وقد تكرر ذكره. الثاني: شعبة بن الحجاج. الثالث: الأسود بن قيس العبدي، بسكون الباء الموحدة الكوفي: وهو ليس بأسود بن يزيد، لأن شعبة لم يلحق الأسود بن يزيد. الرابع: جندب، بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة وفتحها وفي آخره باء موحدة: ابن عبد الله بن سفيان البجلي العلقي، بالعين المهملة المفتوحة وفتح اللام أيضا وبالقاف، مات بعد فتنة ابن الزبير.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضعين. وفيه: العنعنة في موضعين. وفيه: القول في ثلاثة مواضع. وفيه: أن شيخه بصري وشيخ شيخه واسطي الأسود كوفي. وفيه: راويان مذكوران بلا نسبة، وفي الثاني يحتاج إلى التيقظ للاشتباه.
ذكر تعدد موضعه ومن أخرجه غيره: أخرجه البخاري أيضا في الأضاحي عن آدم وفي النذور عن سليمان بن حرب وفي التوحيد عن حفص بن عمر وفي الذبائح عن قتيبة عن أبي عوانة. وأخرجه مسلم في الأضاحي عن أحمد بن يونس ويحيى ابن يحيى، كلاهما عن زهير بن معاوية وعن أبي بكر وعن قتيبة وعن إسحاق وابن أبي عمر عن عبد الله بن معاذ وعن أبي موسى وبندار، وأخرجه النسائي في الأضاحي وفي القنوت عن قتيبة به وعن هناد عن أبي الأحوص به. وأخرجه ابن ماجة في الأضاحي عن هشام بن عمار عن سفيان بن عيينة به.
ذكر معناه: قوله: (وقال: من ذبح) هو من جملة الخطبة كما ذكرنا عن قريب. قوله: (فليذبح باسم الله)، قيل: الباء، بمعنى: اللام، أي: فليذبح لله، ويجوز أن تتعلق الباء بمحذوف أي: فليذبح متبركا باسم الله، وإنما كرر هذا للتأكيد، فعن هذا قال أبو حنيفة بوجوب الأضحية، وبه قال محمد وزفر والحسن وأبو يوسف في رواية، وهو قول مالك والليث وربيعة والثوري والأوزاعي، وعن أبي يوسف: إنها سنة، وبه قال الشافعي وأحمد، وهو قول أكثر أهل العلم، وذكر الطحاوي: إن على قول أبي حنيفة واجبة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد: سنة مؤكدة، وجه السنية ما رواه مسلم والأربعة من حديث أم سلمة، رضي

305
الله تعالى عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى هلال ذي الحجة منكم، وأراد أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره)، والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب، ولوجه الوجوب أحاديث منها: ما رواه ابن ماجة من حديث أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان له سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا)، ورواه أحمد وإسحاق وأبو يعلى والدارقطني والحاكم في (مستدركه) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ومنها: ما رواه الدارقطني من حديث علي عن النبي صلى الله عليه وسلم (نسخ الأضحى كل ذبح، ورمضان كل صوم). وقال البيهقي: إسناده ضعيف بمرة، وفي إسناده: المسيب بن شريك وهو متروك. ومنها: ما أخرجه الدارقطني أيضا من حديث عائشة، (قالت: يا رسول الله أستدين وأضحي؟ قال: نعم، وإنه دين مقضي) وفي إسناده: هدير بن عبد الرحمن وهو ضعيف، ولم يدرك عائشة.
24
((باب من خالف الطريق إذا رجع يوم العيد))
أي: هذا باب في بيان حكم من خالف الطريق التي توجه فيها إذا رجع يوم العيد.
986 حدثنا محمد قال أخبرنا أبو تميلة يحيى بن واضح عن فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث عن جابر قال كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم عيد خالف الطريق
مطابقته للترجمة ظاهرة.
ذكر رجاله: وهم خمسة: الأول: محمد، كذا وقع للأكثرين غير منسوب، وفي رواية أبي علي بن السكن: حدثنا محمد بن سلام، وكذا للحفصي، وجزم به الكلاباذي، وكذا ذكره أبو الفضل بن طاهر، وكذا الكرماني في شرحه، وذكر في أطراف خلف أنه وجد حاشية هو: محمد بن مقاتل. الثاني: أبو تميلة بضم التاء المثناة من فوق وفتح الميم وسكون الياء آخر الحروف واسمه يحيى بن واضح الأنصاري المروزي. الثالث: فليح، بضم الفاء: ابن سليمان، تقدم في أول كتاب العلم. الرابع: سعيد بن الحارث بن المعلى الأنصاري المدني قاضيها. الخامس: جابر بن عبد الله الأنصاري.
ذكر لطائف إسناده: وفيه: التحديث بصيغة الجمع في موضع وبصيغة الإخبار كذلك. وفيه: العنعنة في ثلاثة مواضع. وفيه: القول في موضعين. وفيه: أن شيخه غير منسوب على الاختلاف. وفيه: الثاني من الرواة مروزي والثالث والرابع مدنيان.
ذكر معناه: قوله: (إذا كان)، كان هذه تامة. وقوله: (يوم عيد) اسمه فلا يحتاج إلى خبر. وقوله: خالف الطريق) جواب الشرط معناه: كان الرجوع في غير طريق الذهاب إلى المصلى، وفي رواية الإسماعيلي: (كان إذا خرج إلى العيد رجع من غير الطريق الذي ذهب فيه).
والحكمة فيه على ما ذكره أكثر الشراح أنه ينتهى إلى عشرة أوجه، ولكن أكثر من ذلك، بل ربما ذكروا فيه ما ينتهي إلى عشرين وجها. الأول: ى نه فعل ذلك لتشهد له الطريقان. الثاني: ليشهد له الإنس والجن من سكان الطريق. الثالث: ليسوي بينهما في مرتبة الفضل بمرورة. الرابع: لأن طريقه إلى المصلى كانت على اليمين فلو رجع منها لرجع على جهة الشمال، فرجع من غيرها. الخامس: لإظهار شعائر الإسلام فيهما. السادس: لإظهار ذكر الله تعالى. السابع: ليغيظ المنافقين أو اليهود. الثامن: ليرهبهم بكثرة من معه. التاسع: للحذر من كيد الطائفتين أو من إحداهما. العاشر: ليعم أهل الطريقين بالسرور به. الحادي عشر: ليتبركوا بمروره وبرؤيته. الثاني عشر: ليقضي حاجة من يحتاج إليها من نحو صدقة أو استرشاد إلى شيء أو استشفاع ونحو ذلك. الثالث عشر: ليجيب من يستفتي في أمر دينه. الرابع عشر: ليسلم عليهم فيحصل لهم أجر الرد. الخامس عشر: ليزور أقاربه الأحياء والأموات. السادس عشر: ليصل رحمه. السابع عشر: ليتفاءل بتغير الحال إلى المغفرة والرضى. الثامن عشر: لأنه كان يتصدق في ذهابه، فإذا رجع لم يبق معه شيء فيرجع في طريق أخرى لئلا يرد من سأله. التاسع عشر: فعل ذلك لتخفيف الزحام. العشرون: لأنه كان طريقه التي يتوجه منها أبعد من التي يرجع فيها، فأراد تكثير الأجر بتكثير الخطى في الذهاب، وقال بعضهم: ثبت من هذه الأوجه ما كان الواهي منها، ونقل عن القاضي عبد الوهاب: أن أكثرها دعاوى فارغة. قلت: هذه كلها اختراعات جيدة فلا تحتاج إلى دليل، ولا إلى تصحيح وتضعيف.
ذكر ما يستفاد منه: وهو استحباب مخالفة الطريق يوم العيد في الذهاب إلى المصلى والرجوع منه، فجمهور العلماء

306
على استحباب ذلك، قال مالك: وأدركنا الأئمة يفعلونه، وقال أبو حنيفة: يستحب له ذلك، فإن لم يفعل فلا حرج عليه، وقال الترمذي: أخذ بهذا بعض أهل العلم فاستحبه للإمام، وبه يقول الشافعي، وذكر في (الأم): أنه يستحب للإمام والمأموم، وبه قال أكثر الشافعية. وقال الرافعي: لم يتعرض في (الوجيز) إلا للإمام، وبالتعميم قال أكثر أهل العلم، ومنهم من قال: إن علم المعنى وثبتت العلة بقي الحكم، وإلا انتفى بانتفائها، فإن لم يعلم المعنى بقي الاقتداء. وقال الأكثرون: يبقى الحكم ولو انتفت العلة للاقتداء، كما في الرمل وغيره.
تابعه يونس بن محمد عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة وحديث جابر أصح
أي: تابع أبا تميلة يونس بن محمد البغدادي أبو محمد المؤدب، وقد مر في: باب الوضوء مرتين، ومتابعته إياه في روايته عن فليح عن سعيد المذكور عن أبي هريرة، هكذا وقع عند جمهور رواه البخاري من طريق الفربري، ولكن فيه إشكال واعتراض على البخاري، لأن قوله: (وحديث جابر أصح) ينافي قوله: (تابعه)، لأن المتابعة تقتضي المساواة، فكيف تقتضي الأصحية؟ لأن قوله: أصح، أفعل التفضيل، فيقتضي زيادة على المفضل عليه، ويزول الإشكال بأحد الوجهين: أحدهما: بما ذكره أبو علي الجبائي: إنه سقط قوله: وحديث جابر أصح من رواية إبراهيم بن معقل النسفي عن البخاري. والآخر: بما ذكره أبو مسعود في كتابه، قال قال: البخاري في كتاب العيدين: قال محمد بن الصلت: عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة بنحو حديث جابر، فقال الغساني: لم يقع لنا في (الجامع) حديث محمد بن الصلت إلا من طريق أبي مسعود، ولا غنى بالباب عنه لقول البخاري: وحديث جابر أصح. قلت: حينئذ تظهر الأصحية، لأنه يكون حديث أبي هريرة صحيحا ويكون حديث جابر أصح منه، ألا ترى أن الترمذي روى في (جامعه): حدثنا عبد الأعلى وأبو زرعة، قالا: حدثنا محمد بن الصلت عن فليح ابن سليمان عن سعيد بن الحارث عن أبي هريرة، رضي الله تعالى عنه، قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج يوم العيد في طريق رجع من غيره)، ثم قال: حديث أبي هريرة غريب، ورواه أبو نعيم أيضا في مستخرجه بما يزيل الإشكال بالكلية، فقال: أخرجه البخاري عن محمد عن أبي تميلة، وقال: تابعه يونس بن محمد عن فليح، وقال محمد بن الصلت: عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة، وحديث جابر أصح. وبهذا أشار البرقاني أيضا. وكذا قال البيهقي: أنه وقع كذلك في بعض النسخ، وقد اعترض على البخاري أيضا بوجهين آخرين: أحدهما: هو الذي اعترضه أبو مسعود في (الأطراف) على قوله: (تابعه يونس) فقال: إنما رواه يونس بن محمد عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة، إلا جابر. والآخر: أن البخاري روى حديث جابر المذكور وحكم بأنه أصح من حديث أبي هريرة، مع كون البخاري قد أدخل أبا تميلة في كتابه في الضعفاء. وأجيب عن الأول: بمنع الحصر، فإن الإسماعيلي وأبا نعيم أخرجا في (مستخرجيهما) من طريق أبي بكر بن أبي شيبة: عن يونس عن فليح عن سعيد عن أبي هريرة. وعن الثاني: بأن أبا حاتم الرازي قال: تحول أبو تميلة في كتابه في الضعفاء، فإنه ثقة، وكذا وثقه يحيى بن معين والنسائي ومحمد بن سعد، واحتج به مسلم وبقية الستة. وقال شيخنا الحافظ زين الدين، مدار هذا الحديث مع هذا الاختلاف على فليح بن سليمان، وهو، إن احتج به الشيخان، فقد قال فيه ابن معين: لا يحتج بحديثه. وقال فيه مرة، ليس هذا بثقة، وقال مرة: ضعيف، وكذا قال النسائي، وقال أبو داود: لا يحتج بحديثه، وقال الدارقطني: يختلفون فيه، ولا بأس به. وقال ابن عدي: هو عندي لا بأس به. وقال الساجي: ثقة، وذكره ابن حبان في الثقات.
25
((باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين))
أي: هذا باب ترجمته: إذا فاتت الرجل صلاة العيد مع الإمام يصلي ركعتين، وفهم من هذه الترجمة حكمان: أحدهما: أن صلاة العيد إذا فاتت الرجل مع الجماعة فإنه يصليها، سواء كان الفوت بعارض أو غيره. والآخر: أنها تقضي ركعتين كأصلها، وفي كل واحد من الوجهين اختلاف العلماء.
أما الوجه الأول: فقد قال قوم: لا قضاء عليه أصلا وبه قال مالك وأصحابه، وهو قول المزني، وعند أصحابنا الحنفية كذلك: لا يقضيها إذا فاتت عن الصلاة مع الإمام، وأما إذا فاتت عنه مع الإمام فإنه يصليها مع الجماعة في اليوم الثاني. وفي قاضيخان: إذا تركها بغير عذر لا يقضيها أصلا، وبعذر يقضيها في اليوم الثاني في وقتها، وبه قال

307
الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق. قال ابن المنذر: وبه أقول: فإن تركها في اليوم الثاني بعذر أو بغير عذر لا يصليها، وقال الشافعي: من فاتته صلاة العيد يصلي وحده كما يصلي مع الإمام، وهذا بناء على أن المنفرد: هل يصلي صلاة العيد؟ عندنا لا يصلي، وعنده يصلي. وقال السرخسي: وللشافعي قولان، الأصح قضاؤها، فإن أمكن جمعهم في يومهم صلى بهم، وإلا صلاها من الغد، وهو فرع قضاء النوافل عنده، وعلى القول الآخر: هي كالجمعة يشترط لها الجماعة والأربعون ودار الإقامة، وفعله في الغد إن قلنا أداء لا يصليها في بقية اليوم، وإلا صلاها في بقيته، وهو الصحيح عندهم، وتأخرها عنه لا يسقط أبدا. وقيل: إلى آخر الشهر.
وأما الوجه الثاني: فقد قالت طائفة: إذا فاتت صلاة العيد يصلي ركعتين، وهو قول مالك والشافعي وأبي ثور، إلا أن مالكا استحب له ذلك من غيرإيجاب، وقال الأوزاعي: يصلي ركعتين ولا يجهر بالقراءة ولا يكبر تكبير الإمام، وليس بلازم. وقالت طائفة: يصليها إن شاء أربعا، روي ذلك عن علي وابن مسعود، وبه قال الثوري وأحمد، وقال أبو حنيفة: إن شاء صلى وإن شاء لم يصل، فإن شاء صلى أربعا، وإن شاء ركعتين. وقال إسحاق: إن صلى في الجبانة صلى كصلاة الإمام، فإن لم يصل فيها صلى أربعا.
وكذالك النساء
أي: وكذلك النساء اللاتي لم يحضرن المصلى مع الإمام يصلين صلاة العيد، والآن يأتي دليله.
ومن كان في البيوت والقرى
وكذلك يصلي العيد من كان في البيوت من الذين لا يحضرون المصلى. قوله: (والقرى) أي: وكذلك يصلي العيد من كان في القرى.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم هاذا عيدنا أهل الإسلام
هذا دليل لما تقدم من الأشياء الثلاثة. وجه الاستدلال به أنه أضاف إلى كل أمة الإسلام من غير فرق بين من كان مع الإمام أو لم يكن. وقوله: (هذا عيدنا) قد مضى في حديث عائشة، رضي الله تعالى عنها في قصة المغنيتين. وأما قوله: (أهل الإسلام)، فقال بعض الشراح: كأنه من البخاري، وقيل: لعله مأخوذ من حديث عقبة بن عامر مرفوعا: (أيام منى عيدنا أهل الإسلام)، وهو في (السنن): وصححه ابن خزيمة: (وأهل الإسلام)، بالنصب على أنه منادى مضاف حذف منه حرف النداء، أو بتقدير: أعني أو أخص.
وأمر أنس بن مالك مولاهم ابن عتبة بالزاوية فجمع أهله وبنيه وصلى كصلاة أهل المصر وتكبيرهم
هذا التعليق ذكره ابن أبي شيبة فقال: حدثنا ابن علية عن يونس، قال: حدثني بعض آل أنس بن مالك أن أنسا كان ربما جمع أهله وحشمه يوم العيد فيصلي بهم عبد الله بن أبي غنية ركعتين، وقال البيهقي في (السنن): أخبرنا أبو الحسن الفقيه وأبو الحسن بن أبي سيد الإسفرايني حدثنا ابن سهل بشر بن أحمد حدثنا حمزة بن محمد الكاتب حدثنا نعيم بن حماد حدثنا هشيم عن عبد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك، (قال: كان أنس بن مالك إذا فاتته صلاة العيد مع الإمام جمع أهله يصلي بهم مثل صلاة الإمام في العيد). قال: ويذكر عن أنس أنه كان إذا كان بمنزله بالزاوية فلم يشهد العيد بالبصرة جمع مواليه وولده ثم يأمر مولاه عبد الله بن أبي غنية فيصلي بهم كصلاة أهل المصر ركعتين، ويكبر بهم كتكبيرهم. وبه قال فيما ذكره ابن أبي شيبة ومجاهد وابن الحنفية وإبراهيم وابن سيرين وحماد وأبو إسحاق السبيعي. قوله: (وأمر أنس مولاه) وفي رواية المستملي: (مولاهم). قوله: (ابن أبي غنية)، بفتح الغين المعجمة وكسر النون وتشديد الياء آخر الحروف، هذا في رواية أبي ذر، وفي رواية غيره، بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق وفتح الباء الموحدة، وهو الأكثر الأشهر. قوله: (بالزاوية) بالزاي، موضع على فرسخين من البصرة كان بها قصر وأرض لأنس، رضي الله تعالى عنه، وكان يقيم هناك كثيرا، وكانت بالزاوية وقعة عظيمة بين الحجاج والأشعث. قوله: (بعض آل أنس بن مالك، المراد: عبيد الله بن أبي بكر بن أنس.

308
وقال عكرمة أهل السواد يجتمعون في العيد يصلون ركعتين كما يصنع الإمام
هذا التعليق وصله ابن أبي شيبة فقال: حدثنا غندر عن شعبة عن قتادة عن عكرمة أنه قال في القوم يكونون في السواد وفي السفر في يوم عيد فطر أو أضحى، قال: يجتمعون فيصلون ويؤمهم أحدهم.
وقال عطاء إذا فاته العيد صلى ركعتين
عطاء بن أبي رباح، وفي رواية الكشميهني: وكان عطاء، والأول أصح، ورواه الفريابي في (مصنفه) عن الثوري عن ابن جريج: (عن عطاء قال: من فاته العيد فليصل ركعتين)، ورواه ابن أبي شيبة في فصل: من فاتته صلاة العيد لم يصل، حدثنا يحيى بن سعيد عن ابن جريج، (عن عطاء قال: يصلي ركعتين ويكبر). وقوله: (ويكبر)، إشارة إلى أنها تقضي كهيئتها لا أن الركعتين مطلق نفل.
26
((باب الصلاة قبل العيد وبعدها))
أي: هذا باب في بيان حكم الصلاة قبل صلاة العيد وبعدها، ولم يذكر حكم ذلك لأن الأثر الذي ذكره عن ابن عباس

309
يحتمل أن يراد به منع التنفل أو منع الراتبة، وعلى الوجهين هل هو لكونه وقعت كراهة أو الأعم من ذلك؟ ولكن قوله في الأثر: (قبل العيد) يدل على أن المراد منع التنفل مطلقا.
وقال أبو المعلى سمعت سعيدا عن ابن عباس كره الصلاة قبل العيد
مطابقته للترجمة ظاهرة مع بيان الحكم فيه، وأبو المعلى، بضم الميم وفتح العين المهملة وتشديد اللام المفتوحة: اسمه يحيى ابن دينار العطار، قاله الكرماني: وقال صاحب (التوضيح) يحيى بن ميمون العطار: سماه الحاكم أبو أحمد، ومسلم وليس له عند البخاري سوى هذا الموضع، وقد سمع من سعيد بن جبير عن ابن عباس.
989 حدثنا أبو الوليد قال حدثنا شعبة قال حدثني عدي بن ثابت قال سمعت سعيد ابن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ركعتين لم يصل قبلها ولا بعدها ومعه بلال..
مطابقته للترجمة مثل ما ذكرنا في مطابقة أثر ابن عباس، وقد ذكر البخاري الحديث عن ابن عباس في باب الخطبة بعد العيد عن سليمان بن حرب عن شعبة إلى آخره، وذكرنا هناك جميع ما يتعلق به من الأشياء، وأبو الوليد: هشام بن عبد الملك الطيالسي. قوله: (قبلها) أي: قبل صلاة العيد التي عبر عنها بالركعتين، ويروى: (قبلهما) أي: قبل الركعتين التي هي صلاة العيد.
كمل بعون الله، جلت قدرته، الجزء السادس من عمدة القاري شرح صحيح البخاري، ويتلوه إن شاء الله تعالى الجزء السابع ومطلعه: (كتاب الوتر)، نسأله سبحانه التوفيق لإتمامه، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت. وإليه أنيب.

310
/ 1