بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: شرح نهج البلاغة المؤلف: ابن أبي الحديد الجزء: 1 الوفاة: 656 المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة: الأولى سنة الطبع: 1378 - 1959 م المطبعة: الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه ردمك: ملاحظات: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الجزء الأول دار احياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه
تعريف الكتاب 1 جميع الحقوق المحفوظة الطبعة الأولى [1378 ه - 1959 م] شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد لابن أبي الحديد (586 - 656) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم
تعريف الكتاب 2 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة * 1 - نهج البلاغة اجتمع للإمام علي بن أبي طالب من صفات الكمال، ومحمود الشمائل والخلال، وسناء الحسب وباذخ الشرف، مع الفطرة النقية، والنفس المرضية، ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال.
* مصادر البحث والترجمة: 1 - البداية والنهاية، لابن كثير - 13 - 198 - 199، (مطبعة السعادة). 2 - تلخيص مجمع الآداب لابن الفوطي - الجزء الرابع الورقة 9، (مصورة معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية). 3 - الحوادث الجامعة والتجارب النافعة في المائة السابعة، لابن الفوطي ص 336، (طبعة المكتبة العرب ببغداد) 4 - درة الأسلاك في دولة الأتراك، لابن حبيب الحلبي - وفيات سنة 655، (مصورة دار الكتب المصرية رقم 6170 ح). 5 - روضات الجنات لمحمد باقر الخوانساري 406 - 409، (طبع العجم). (6) عقد الجمان للعيني - وفيات سنة 655، (مخطوطة دار الكتب المصرية 1584 تاريخ). 7 - عيون التواريخ لابن شاكر - وفيات سنة 655، (مخطوطة دار الكتب المصرية رقم 1497 تاريخ). 8 - فوات الوفيات 1: 519 - 527 (مطبعة النهضة المصرية). 9 - كشف الظنون 1273، 1291، 1291، 1576، 1991، (طبع استانبول 1943). 10 - مجمع الآداب لابن الفوطي، (في ذيل الجزء الرابع من شرح نهج البلاغة - طبعة الحلبي). 12 - نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر، ليوسف بن يحيى الصنعاني، الورقة 260 - 262 (مصورة دار الكتب المصرية 13849 ح) مقدمة المحقق 3 تحدر من أكرم المناسب، وانتمى إلى أطيب الأعراق، فأبوه أبو طالب عظيم المشيخة من قريش، وجده عبد المطلب أمير مكة وسيد البطحاء، ثم هو قبل ذلك من هامات بني هاشم وأعيانهم، وبنو هاشم كانوا كما وصفهم الجاحظ: ملح الأرض، وزينة الدنيا، وحلي العالم، والسنام الأضخم، والكامل الأعظم، ولباب كل جوهر كريم، وسر كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك، والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم، وينبوع العلم... " (1). واختص بقرابته القريبة من الرسول عليه السلام، فكان ابن عمه، وزوج ابنته، وأحب عترته إليه، كما كان كاتب وحيه، وأقرب الناس إلى فصاحته وبلاغته، وأحفظهم لقوله وجوامع كلمه، أسلم على يديه صبيا قبل أن يمس قلبه عقيدة سابقة، أو يخالط عقله شوب من شرك موروث، ولازمه فتيا يافعا، في غدوة ورواحه، وسلمه وحربه، حتى تخلق بأخلاقه، واتسم بصفاته، وفقه عنه الدين، وثقف ما نزل به الروح الأمين، فكان من أفقه أصحابه وأقضاهم، وأحفظهم وأوعاهم، وأدقهم في الفتيا، وأقربهم إلى الصواب، وحتى قال فيه عمر: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن، وكانت حياته كلها مفعمة بالاحداث، مليئة بحلائل الأمور، فعلي عهد الرسو عليه السلام ناضل المشركين واليهود، فكان فارس الحلبة ومشعر الميدان، صليب النبع جميع الفؤاد... وفي أيام خلافته كانت له أحداث أخرى، لقى فيها ما لقى من تفرق الكلمة واختلاف الجماعة، وانفصام العروة، ما طوى أضالعه على الهم والأسى، ولاع قلبه بالحزن والشجن، وفى كل ما لقى من أحداث وأمور، وما صادف من محن وخطوب، بلا الناس وخبرهم، وتفطن لمطاوي نفوسهم، واستشف ما وراء مظاهرهم، فكان العالم المجرب الحكيم، والناقد الصيرفي الخبير، وكان لطيف الحسن، نقى الجوهر وضاء النفس، سليم الذوق، مستقيم الرأي،
(1) زهر الآداب 1: 59. مقدمة المحقق 4 حسن الطريقة سريع البديهة، حاضر الخاطر، حولا قلبا، عارفا بمهمات الأمور إصدارا وإيرادا...، بل كان كما وصفه الحسن البصري: سهما صائبا من ما رمي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة وذا فضلها وذا فضلها وسابقتها وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن بالنئومة عن أمر الله، ولا بالملومة في دين الله، ولا بالسروقة لمال الله، أعطى القرآن عزائمه، ففاز منه برياض مونقة، وأعلام مشرقة، ذاك علي بن أبي طالب! * * * كل هذه المزايا مجتمعة، وتلك الصفات متآزرة متناصرة، وما صاحبها من نفح إلهي، وإلهام قدسي، مكنت للامام على من موجوه البيان، وملكته أعنقه الكلام، وألهمته أسمى المعاني وأكرمها، وهيأت له أشرف المواقف وأعزها، فجزت على لسانه الخطب الرائعة، والرسائل الجامعة، والوصايا النافعة، والكلمة يرسلها عفو الخاطر فتغدو حكمة، والحديث يلقيه بلا تعمل ولا إعنات فيصبح مثلا، في أداء محكم، ومعنى واضح، ولفظ عذب سائغ... وإذا هذا الكلام يملأ السهل والجبل، ويتنقل في البدو والحضر، يرويه على كثرته الرواة ويحفظه العلماء والدارسون، قال المسعودي: والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة، ونيف وثمانون خطبة، يوردها على البديهة، تداول عنه الناس ذلك قولا وعملا (1). ثم ظل هكذا محفوظا في الصدور مرويا على الأسنة، حتى كان عصر التدوين والتأليف، فانتثرت خطبه ورسائله في كتب التاريخ والسير والمغازي والمحاضرات والأدب
(1) تاريخ المسعودي 2: 431. مقدمة المحقق 5 على الخصوص، كما انتخبت كلماته ومأثور حكمه فيما وضعوه من أبواب المواعظ والدعاء: وفي كتابي الغريب لأبي عبيد القاسم بن سلام وابن قتيبة منه الشئ الكثير. وإذ كان لكلام الامام على طابع خاص يميزه عن غيره من الخطباء، ونهج واضح يخالف غيره من البلغاء والمترسلين، فقد حاول كثير من العلماء والأدباء على مر العصور أن يفردوه لكلامه كتبا خاصة ودواوين مستقلة، بقي بعضها وذهب الكثير منها على الأيام، منهم نصر بن مزاحم صاحب صفين، وأبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي، وأبو مخنف لوط بن يحيى الأزدي، ومحمد بن عمر الواقدي، وأبو الحسن علي بن محمد المدائني، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وأبو الحسن علي بن الحسين المسعودي، وأبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي، و عبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد التميمي، ورشيد الدين محمد بن محمد المعروف بالوطواط، وعز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد، وغيرهم كثيرون. إلا أن أعظم هذه المحاولات خطرا، وأعلاها شأنا، وأحسنها أبوابها: وأبعدها صيتا وشأوا، هو مجموع ما اختار الشريف الرضى أبو الحسن محمد بن الحسين الموسوي، في كتابه " " نهج البلاغة ". بناه على ما أفرده في كتاب " خصائص الأئمة " من " فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في الحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة (1) "، ثم جعله كتابا " يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه ومتشعبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وآداب، علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام، ولا مجموع الأطراف في كتاب " (1)
(1) مقدمة الراضي للنهج. مقدمة المحقق 6 وأدار اختياره على ثلاثة أقطاب: أولها الخطب والأوامر، وثانيها الكتب والرسائل، وثالثها الحكم والمواعظ، وأسماه كتاب " نهج البلاغة " " إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها، ويقرب عليه طلابها، فيه حاجة العالم والمتعلم، وبغية البليغ والزاهد " (1). ومنذ أن صدر هذا الكتاب عن جامعة سار في الناس ذكره، وتألق نجمه، أشام وأعرق، وأنجد وأتهم، وأعجب به الناس حيث كان، وتدارسوه في كل مكان. لما اشتمل عليه من اللفظ المنتقى، والمعنى المشرق، وما احتواه من جوامع الكلم، ونوابغ الحكم، في أسلوب متساوق الأغراض، محكم السبك، يعد في الذروة العليا من النثر العربي الرائع. * * * ولم يذكر الشريف الرضي في صدر كتابه المصادر التي رجع إليها، أو الشيوخ الذين نقل عنهم، إلا أنه - كما يبدو من تضاعيف الكتاب - نقل في بعض ما نقل عن كتاب البيان والتبيين للجاحظ، والتبيين للجاحظ، والمقتضب للمبرد، وكتاب المغازي لسعيد بن يحيى الأموي، وكتاب الجمل للواقدي، والمقامات في مناقب أمير المؤمنين لأبي جعفر الإسكافي، وتاريخ ابن جريج الطبري، وحكاية أبي جعفر محمد بن علي الباقر، ورواية اليماني عن أحمد ابن قتيبة، وما وجد بخط هشام بن الكلبي وخبر ضرار بن حمزة الصدائي، ورواية جحيفة، وحكاية ثعلب عن أبي الاعرابي (2)، ولعله في غير ما نقل عن هؤلاء، نقل من مصادر أخرى لم يصرح بها. * * * وعلى مر العصور والأزمان كانت نسبة ما في كتاب نهج البلاغة إلى الامام على مثارا للشك عند العلماء والباحثين، المتقدمين والمتأخرين.
(1) مقدمة الرضى للنهج. (2) انظر نهج البلاغة 1:: 93، 566، 568 - و 2: 147، 178، 189، 180، 216، 293، 294، (المطبعة اليمنية 1328 ه). مقدمة المحقق 7 وقد تناول ابن أبي الحديد هذه القضية بالبحث، فقال: " كثيرة من أرباب الهوى يقولون: إن كثيرا من نهج البلاغة كلام محدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربما عزوا بعضه إلى الرضى أبى الحسن أو غيره، وهؤلاء أعمت العصبية أعينهم فضلوا عن النهج الواضح، وركبوا بنيات (1) الطريق، ضلالا وقلة معرفة بأساليب الكلام. وأنا أوضح لك بكلام مختصر ما في هذا الخاطر من الغلط فأقول: لا يخلوا إما أن يكون كل نهج البلاغة مصنوعا منحولا، أو بضعه. والأول باطل بالضرورة، لأنا نعلم بالتواتر صحة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدثون، كلهم أو جلهم - والمؤرخون كثيرا منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك. والثاني: يدل على ما قلناه، لان من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طرفا من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب، لابد أن يفرق بين الكلام الركيك، والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولد، وإذا وقف على كراس واحد يتضمن كلاما لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط، فلا بد أن يفرق بين الكلامين، ويميز بين الطريقين، ألا ترى أنا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفحنا ديوان أبى تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبى تمام نفسه وطريقته ومذهبه في القريض، ألا ترى أن العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيره منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر! وكذلك حذفوا من شعر أبى نواس كثيرا
(1) بينات الطريق: هي الطرف الصغار تتشعب من الجادة، وهي الترهات. مقدمة المحقق 8 لما ظهر أنه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلا على الذوق خاصة. وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماء واحدا، ونفسا واحدا، وأسلوبا واحدا، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفا لباقي الألفاظ في الماهية، وكالقرآن العزيز، أوله كوسطه، وأوسطه كآخره، وكل سورة منه، وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور. ولو كان بعض نهج البلاغة منحولا، وبعضه صحيحا لم يكن ذلك كذلك، فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السلام. واعلم أن قائل هذا القول يطرق على نفسه ما لا قبل له به، لأنا متى فتحنا هذا الباب، وسلطنا الشكوك على أنفسنا في هذا النحو، لم نتق بصحة كلام منقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله أبدا وساغ لطاعن أن يطعن ويقول: هذا الخبر منحول، وهذا كلام مصنوع، وكذا ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ والآداب وغير ذلك وكل أمر جعله هذا الطاعن مستندا له فيما يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم وآله والأئمة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسلين والخطباء - فلناصري أمير المؤمنين عليه السلام أن يستعدوا إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره، وهذا واضح " (1)
(1) ابن أبي الحديد 2: 546 طبعة الحلبي مقدمة المحقق 9 2 - شرح نهج البلاغة وقد تصدر لشرح كتاب " نهج البلاغة " كثيرون من العلماء والفضلاء، ذكر السيد هبة الله شهرستاني (1) أنها تنوف على الخمسين شرحا، ما بين مبسوط ومختصر، منهم أبو الحسين البيهقي، والامام فخر الدين الرازي، والقطب الراوندي، وكمال الدين محمد ميثم البحراني، من المتقدمين، والشيخ محمد عبده ومحمد نائل المرصفي من المتأخرين... ولكن أعظم هذه الشروح وأطولها، وأشملها بالعلوم والآداب والمعارف وأملؤها، هو شرح عز الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المدائني، صنفه برسم خزانة مؤيد الدين أبى طالب محمد بن أحمد بن العلقمي، وزير المستعصم بالله، آخر ملوك العباسيين. " كان من فضلاء الشيعة وأعيانهم ببغداد، مائلا للآداب مقربا للأدباء، وكانت له خزانة كتب فيها عشرة آلاف مجلد من نفائس الكتب " (2). شرع في تأليفه في غرة شهر رجب من سنة أربع وأربعين وستمائة، وأئمة في آخر سلخ صفر من سنة تسع وأربعين وستمائة، فقضى أربع سنين وثمانية أشهر، وكانت كما يقول: " مقدار مدة خلافة أمير المؤمنين عليه السلام "، وكسره على عشرين جزءا. ولما فرغ من تصنيفه أنفذه على يد أخيه موفق الدين أبى المعالي، فبعث إليه بمائة دينار وخلعة سنية وفرس، فكتب إلى الوزير: أيا رب العباد رفعت ضبعي * وطلت بمنكبي وبللت ريقي وزيغ الأشعري كشفت عنى * فلم أسلك بنيات الطريق
(1) في كتابه ما هو نهج البلاغة 8 - 10 (2) الفخري 295 مقدمة المحقق 10 أحب الاعتزال وناصريه * ذوي الألباب والنظر الدقيق فأهل العدل والتوحيد أهلي * ونعم فريقهم أبدا فريقي وشرح النهج لم أدركه إلا * بعونك بعد مجهدة وضيق تمثل إذ بدأت به لعيني * هناك كذروة الطود السحيق فتم بحسن عونك وهو أنأى * من العيون أو بيض الأنوق بال العلقمي ورت زنادي * وقامت بين أهل الفضل سوقي فكم ثوب أنيق نلت منهم * ونلت بهم وكم طرف عتيق أدام الله دولتهم وأنحى * على أعدائهم بالخنفقيق (1) وقد ذكر في صدر كتابه أنه لم يسبقه أحد بشرح النهج سوى سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه، المعروف بالراوندي، وأنه قد تعرض لهذا الشرح فيما ناقضه فيه، في مواضع يسيرة، وأعرض عن كثير مما قاله، وقد التزم في شرحه أن يقسم الكلام فصولا، فيشرح كلمات كل فصل شرحا دقيقا، مشتملا على " الغريب والمعاني وعلم البيان، وما عساه يشتبه ويشكل من الاعراب والتصريف " (2)، ثم يورد " ما يطابقه من النظائر والأشباه نثرا ونظما "، (2) ثم يستطرد إلى ذكر " ما يتضمنه من السير والوقائع والاحداث... " (2)، ويشير إلى ما ينطوي عليه هذا الفضل " من دقائق علم التوحيد والعدل إشارة خفية (2) "، ويلوح " إلى ما يستدعى الشرح ذكره من الأنساب والأمثال والنكت تلويحات لطيفة " (2)، ويرصعه بما يشاء " من المواعظ الزهدية، والزواجر الدينية والحكم النفيسة، والآداب الخليفة، المناسبة لفقره والمشاكلة لدرره (2) ". ثم ينتقل إلى الفصل الذي يليه، وهكذا،
(1) الخنفقيق: الداهية. (2) مقدمة الشارح. مقدمة المحقق 11 وهو بهذا النهج الذي التزمه، والطريق الذي سلكه، قد نقل إلى هذا الكتاب عصارة ما في كتب الأدب والنقد والتاريخ والنسب والمغازي والسير والفقه والجدل والمناظرة وعلوم الكلام، وخلاصة ما اشتملت عليه الرسائل والمتون والشروح والحواشي والتعاليق، وطرزه بما اختاره من روائع الخطب ونوابغ الحكم ومصطفى الرسائل، مما نطق به مصاقع الخطباء وبلغاء الكتاب وزعما القول في الجاهلية والاسلام، ثم وشاه بما انتحله من دواوين الشعراء الجاهلين والمخضرمين والإسلاميين والمولدين من فاخر القول وحر الكلام، في متنوع فنون الشعر ومذاهبه، ومختلف أغراضه ومراميه. وقد ارتفع أسلوبه في جميع مراحل الكتاب عن الخلل والتعقيد، وتجافى عن الركاكة والتعسف والابهام، والتزم الأسلوب الرصين، والتعبير الفصيح، واللفظ العربي الأصيل، سوى بعض الألفاظ التي تدست فيما نقله عن المتكلمين وأصحاب المقولات، من نحو قولهم: " المحسوسات "، و " الكل والبعض "، وقولهم: " الصفات الذاتية والجسمانيات "، وقولهم: " أما أولا فالحال كذا "، ونحو ذلك مما يأباه الفصيح من الألفاظ والسليم من الأساليب. وقد اعتذر عن ذلك المؤلف بقوله: " استهجنا تبديل ألفاظهم وتغيير عباراتهم، فمن كلم قوما كلمهم باصطلاحهم، ومن دخل ظفار حمر " (1). وما أحسن ما اعتذر به! وبتلك المزايا المتنوعة للكتاب، خرج " كتابا كاملا في فنه، واحدا بين أبناء جنسه، ممتعا بمحاسنه، جليلة فوائده، شريفة مقاصده، عظيما شانه، عالية منزلته ومكانه "، يرد شرعته العلماء وينهل من مورده الباحثون والأدباء.
(1) خاتمة الشرح، المجلد الرابع ص 574 مقدمة المحقق 12 3 - ابن أبي الحديد ومؤلف هذا الشرح هو عز الدين أبو حامد بن هبة الله بن محمد بن محمد بن الحسين ابن أبي الحديد المدائني، أحد جهابذة العلماء، وأثبات المؤرخين، ممن نجم في العصر العباسي الثاني، أزهى العصور الاسلامية إنتاجا وتأليفا، وأحفلها بالشعراء والكتاب والأدباء والمؤرخين واللغويين وأصحاب المعاجم والموسوعات. كان فقيها أصوليا، وله في ذلك مصنفات معروفة مشهورة، وكان متكلما جدليا نظارا، اصطنع مذهب الاعتزال، وعلى أساسه جادل وناظر، وحاج وناقش، وفى شرح النهج وكثير من كتبه آراء منثورة مما ذهب إليه، وله مع الأشعري والغزالي والرازي كتب ومواقف. وكان أديبا ناقدا، ثاقب النظر، خبيرا بمحاسن الكلام ومساوئه، وكتابه " الفلك الدائر على المثل السائر " دليل على بعد غوره، ورسوخ قدمه في نقد الشعر وفنون البيان. ثم كان أديبا متضلعا في فنون الأدب، متقنا لعلوم اللسان، عارفا باخبار العرب، مطلعا على لغاتها، جامعا لخطبها ومنافراتها، راويا لأشعارها وأمثالها، حافظا لملحها وطرفها، قارئا مستوعبا لكل ما حوته الكتب والاسفار في زمانه. وكان وراء هذا شاعرا عذب المورد، مشرق المعنى، متصرفا مجيدا، كما كان كاتبا بديع الانشاء حسن الترسل ناصع البيان. ولد بالمدائن في غرة ذي الحجة سنة ست و ثمانين وخمسمائة، ونشأ بها، وتلقى عن
مقدمة المحقق 13 شيوخها، ودرس المذاهب الكلامية فيها، ثم مال إلى مذهب الاعتزال منها، وكان الغالب على أهل المدائن التشيع والتطرف والمغالاة، فسار في دربهم، وتقيل مذهبهم، ونظم القصائد المعروفة بالعلويات السبع على طريقتهم، وفيها غالى وتشيع، وذهب به الاسراف في كثير من أبياتها كل مذهب، يقول في أحدها (1): علم الغيوب إليه غير مدافع * والصبح أبيض مسفر لا يدفع وإليه في يوم المعاد حسابنا * وهو الملاذ لنا غدا والمفزع هذا اعتقادي قد كشفت غطاءه * سيضر معتقدا له أو ينفع يا من له في أرض قلبي منزل * نعم المراد الرحب والمستربع وتكاد نفسي أن تذوب صبابة * خلقا وطبعا لا كمن يتطبع ورأيت دين الاعتزال وأنني * أهوى لأجلك كل من يتشيع ولقد علمت بأنه لابد من * مهديكم وليومه أتوقع تحميه من جند الاله كتائب * كاليم أقبل زاخرا يتدفع فيها لآل أبي الحديد صوارم * مشهورة ورماح خط شرع ورجال موت مقدمون كأنهم * أسد العرين الربد لا تتكعكع تلك المنى إما أغب عنها فلي * نفس تنازعني وشوق ينزع تالله لا أنسى الحسين وشلوه * تحت السنابك بالعراء موزع متلفعا حمر الثياب وفى غد * بالخضر من فردوسه يتلفع تطأ السنابك صدره وجبينه * والأرض ترجف خيفة وتضعضع والشمس ناشرة الذوائب ثاكل * والدهر مشقوق الرداء مقنع
(1) العلويات السبع 16، 17 مقدمة المحقق 14 لهفي على تلك تراق في * أيدي أمية عنوة وتضيع يأبى أبو العباس أحمد إنه * خير الورى من أن يطل ويمنع (1) فهو الولي لثارها وهو الحمول * لعبئها إذ كل عود يضلع والدهر طوع والشبيبة غصة * والسيف غضب والفؤاد مشيع (2) وحينما انقضت أيام صباه، وطوى رداء شبابه، خف إلى بغداد، حاضرة الخلافة، وكعبة القصاد، وعش العلماء، وكانت خزائنها بالكتب معمورة، ومجالسها بالعلم والأدب مأهولة، فقرأ الكتب واستزاد من العلم، وأوغل في البحث، ووعى المسائل، ومحص الحقائق، واختلط بالعلماء من أصحاب المذاهب، ثم جنح إلى الاعتدال، وأصبح كما يقول صاحب " نسمة السحر ": معتزليا جاحظيا... في أكثر شرحه للنهج - بعد أن كان شيعيا غاليا. وفى بغداد أيضا نال الحظوة عند الخلفاء من العباسيين ومدحهم، وأخذ جوائزهم، ونال عندهم سنى المراتب ورفيع المناصب، فكان كاتبا في دار التشريفات، ثم في الديوان، ثم ناظرا للبيمارستان، وأخيرا فوض إليه أمر خزائن الكتب في بغداد، وفى كل هذا كان مرموق الجانب، عزيز المحل، كريم المنزلة إلى أن مات. وكان مع اشتغاله بالمناصب، ومعاناته للتأليف، شاعرا مجيدا، ذكره صاحب " نسمة السحر في ذكر من تشيع وشعر "، وكان له ديوان، ذكر ابن شاكر أنه كان معروفا مشهورا. وقد جال بشعره في شتى المعاني ومختلف الأغراض، فقال في المدح والرثاء، والحكم والوصف
(1) هو الخليفة أبو العباس أحمد بن المستضئ بأمر الله المعروف بالناصر، بويع بالخلافة سنة 575، ومات سنة 629، وكان يرى رأى الامامية، الفخري 280 (2) المشيع: الشجاع. مقدمة المحقق 15 والغزل، إلا أن الغرض (1) الذي غلب عليه واشتهر به هو المناجاة والمخاطبة على مسلك أرباب الطريقة، أورد في النهج كثير منه فمن ذلك قوله: فلا والله ما وصل ابن سينا * ولا أغنى ذكاء أبى الحسين ولا رجعا بشئ بعد بحث * وتدقيق سوى خفى حنين لقد طوفت أطلبكم ولكن * يحول الوقت بينكم وبيني فهل بعد انقضاء الوقت أحظى * بوصلكم غدا وتقر عيني منى عشنا بها زمنا وكانت * تسوفنا بصدق أو بمين فان أكذب فذاك ضياع ديني * وان أجذب فذاك حلول ديني وقوله: وحقك إن أدخلتني النار قلت للذين بها قد كنت ممن أحبه وأفنيت عمري في علوم دقيقة * وما بغيتي إلا رضاه وقربه هبوني مسيئا أوتغ الجهل قلبه * وأوبقه بين البرية ذنبه (2) أما يقتضى شرع التكرم عتقه * أيحسن أن ينسى هواه وحبه! أما كان ينوى الحق فيما يقوله * ألم تنصر التوحيد والعدل كتبه أما رد زيغ ابن الخطيب وشكه * وإلحاده إذ حل في الدين خطبه أما قلتم من كان فينا مجاهدا * سنكرم مثواه ونعذب شربه فأي اجتهاد فوق ما كان صانعا * وقد أحرقت رزق الشياطين شهبه فان تصفحوا نغنم وإن تتجرموا * فتعذيبكم حلوا المذاقة عذبه وآية صدق الصب يعذب الأذى * إذا كان من يهوى عليه يصبه
(1) المجلد الرابع ص 29، 30 (2) أوتغ: أهلك. مقدمة المحقق 16 ونحو هذا من الشعر في شرح النهج كثير. ومن طريف ما أورد له صاحب نسمة السحر قوله: لولا ثلاث لم أخف صرعتي * ليست كما قال فتى العبد (1) أن أنصر التوحيد والعدل في * كل مكان باذلا جهدي وأن أناجي الله مستمتعا * بخلوة أحلى من الشهد وأن أتيه الدهر كبرا على * كل لئيم أصعر الخد كذاك لا أهوى فتاه ولا * خمرا ولاذا ميعة نهد وقد اضطرب المؤرخون في تاريخ وفاته، فذكر بعضهم أنه توفى في سنة 655، ذهب إلى ذلك ابن شاكر في كتابيه: فوات الوفيات وعيون التواريخ، وكذلك ابن كثير، والعيني، وابن حبيب الحلبي في كتابه درة الأسلاك. ونقل صاحب كتاب " نسمة السحر " عن الديار بكري أنه توفى قبل الدخول التتار بغداد بنحو سبعة عشر يوما، وكان دخولهم إليها في العشرين من المحرم سنة 656، على ما ذكره المؤرخون، وقال الذهبي في سير النبلاء (2): " انه توفى في الخامس من جمادى الآخرة سنة ست وخمسين وستمائة ".
(1) بشير بهذا البيت إلى قول طرفة في معلقته: ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى * وحقك لم أحفل متى قام عودي فمنهن سبق العاذلات بشربة * كميت متى ما تعل بالماء تزبد وكرى إذ نادى المضاف محنبا * كسيد الغضا نبهته المتورد وتقصير يوم الدجن والدجن معجب * ببهكنة تمت الخباء المعمد (2) المجلد الثالث عشر، الورقة 316 (مصورة دار الكتب المصرية رقم 12195 ح) مقدمة المحقق 17 وذكر ابن الفوطي في كتاب مجمع الألقاب أنه أدرك سقوط بغداد، وأنه كان ممن خلص من القتل في دار الوزير مؤيد الدين العلقمي مع أخيه موفق الدين، كما ذكر أيضا في كتابه الحوادث الجامعة، في وفيات سنة 656: " توفى فيها الوزير مؤيد الدين محمد بن العلقمي في جمادى الآخرة ببغداد... والقاضي موفق الدين أبو المعالي القاسم بن أبي الحديد المدائني في جمادى الآخرة، فرثاه أخوه عز الدين عبد الحميد بقوله: أأبا المعالي هل سمعت تأوهي * فلقد عهدتك في الحياة سميعا عيني بكتك ولو تطيق جوانحي * وجوارحي أجرت عليك نجيعا أنفا غضبت على الزمان فلم تطع * حبلا لأسباب الوفاء قطوعا ووفيت للمولى الوزير فلم تعش * من بعده شهرا ولا أسبوعا وبقيت بعد كما فلو كان الردى * بيدي لفارقنا الحياة جميعا فعاش عز الدين بعد أخيه أربعة عشر يوما ". وله من المصنفات: 1 - الاعتبار، على كتاب الذريعة في أصول الشريعة، ذكره ابن الفوطي وصاحب روضات الجنات. 2 - انتقاد المستصفى للغزالي، ذكره ابن الفوطي. 3 - الحواشي على كتاب المفضل في النحو، ذكره ابن الفوطي. 4 - شرح المحصل للامام فخر الدين الرازي، وهو يجرى مجرى النقص له، ذكره ابن الفوطي.
مقدمة المحقق 18 5 - شرح مشكلات الغرر لأبي الحسين البصري في أصول الكلام، ذكره ابن الفوطي وصاحب روضات الجنات. 6 - ديوان شعره، ذكره ابن شاكر الكتبي. 7 - شرح نهج البلاغة. 8 - شرح الياقوت لابن نوبخت في الكلام، ذكره ابن الفوطي وصاحب روضات الجنات. 9 - العبقري الحسان، ذكره صاحب الجنات، وقال: وهو كتاب غريب الوضع قد اختار فيه قطعة وافرة من الكلام والتواريخ والاشعار وأودعه شيئا من إنشائه وترسلاته ومنظوماته. 10 - الفلك الدائر على الملك السائر (1)، ألفه برسم الخليفة المستنصر، بدأ في تأليفه في أول ذي الحجة سنة 633، وفرغ منه في خمسة عشر يوما. 11 - القصائد السبع العلويات (2)، ذكر ابن الفوطي أنه نظمها في صباه وهو بالمدائن سنة 611. 12 - المستنصريات، كتبها برسم الخليفة المستنصر، ومنه نسخة بمكتبة السماوي بالنجف. 13 - نظم فصيح ثعلب، ذكره ابن شاكر وصاحب الظنون. 14 - نقض المحصول في علم الأصول للامام فخر الدين الرازي، ذكره ابن الفوطي وصاحب روضات الجنات وصاحب كشف الظنون. 15 - الوشاح الذهبي في العلم الأبي، ذكره ابن الفوطي.
(1) طبع بالهند سنة 1309 ه (2) طبع بمصر سنة 1317 مقدمة المحقق 19 4 - تحقيق الكتاب وحينما شرعت في تحقيق هذا الكتاب بذلت الجهد الممكن في الحصول على النسخ التي تعين على تحقيقه، وقد وقع لي من ذلك ما يأتي: 1 - نسخة كاملة تقع في عشرين جزءا، بخطوط مختلفة، مصورة عن الأصل المحفوظ بمكتبة المتحف البريطاني برقم 126 وتشتمل على المجموعات الآتية: ا - المجموعة الأولى، وتشتمل على الجزء الأول والثاني والثالث والرابع منها، مكتوبة بقلم تعليق، ولم يعلم ناسخها ولا تاريخ نسخها، ويبدو أنها كتبت في القرن الثاني عشر تقريبا، وتقع في 249 ورقة، ومسطرتها تسعة وعشرون سطرا، في كل سطر 25 كلمة تقريبا. ب - المجموعة الثانية، وتشتمل على الجزء الخامس والسادس. ح - المجموعة الثالثة و تشتمل على الجزء السابع والثامن والتاسع. ء - المجموعة الرابعة وتشتمل على الاجزاء من الخامس عشر إلى السادس عشر. ه - والمجموعة الخامسة وتشتمل على الاجزاء، من السادس عشر إلى آخر الكتاب. وقد رمزت إلى هذه النسخة بالحرف (ا). 2 - نسخة مطبوعة على الحجر في طهران سنة 1271، على أصل مخطوط في هذا التاريخ. وعلى هاتين النسختين كان اعتمادي في تحقيق الاجزاء الأولى من هذا الكتاب.
مقدمة المحقق 20 3 - نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية برقم 4029 أدب، بها عشرة أجزاء، وهي من السادس إلى العاشر، ومن السادس عشر إلى آخر الكتاب. 4 - نسخة أخرى مصورة عن مكتبة المتحف البريطاني، محفوظة بها برقم 4029، وهي قطع من أجزاء متفرقة، تبدأ من أثناء الجزء الثالث عشر. 5 - نسخة أخرى مصورة عن نسخة مخطوطة بمكتبة الفاتيكان برقم 988، وبها الجزء السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر. 6 - نسخة مصورة عن نسخة مخطوطة بمكتبة الفاتيكان محفوظة بها برقم 986، تشتمل على الجزء الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين. وسأتولى وصف المجموعة الثانية والثالثة والرابعة والخامسة من النسخة الأولى، التي رمزت إليها بالحرف (ا)، كما سأتولى وصف النسخ الباقية وما عساه أن أحصل عليه من نسخ أخرى منه حينما يأتي موضعها من الكتاب (1). ورجعت في تحقيق نص كتاب نهج البلاغة - فوق النسخ التي اعتمدت عليها في شرحه - إلى نسخة منه مخطوطة محفوظة بمكتبة طلعت بدار الكتب المصرية برقم 4840 أدب، وهي نسخة خزائنية نفسية، كتب بالقلم النسخ الجميل، مضبوطة بالشكل الكامل، ومحلاة بالذهب واللازورد، وبصفحة العنوان دائرة مذهبة برسم خزانة " غياث الحق والدين " يليها صفحتان متقابلتان منقوشتان بنقوش هندسية بالذهب
(1) وهناك بدار الكتب المصرية نسخة مخطوطة محفوظة برقم 576 أدب، تمت كتابتها في صبيحة يوم الخميس التاسع من شهر شعبان سنة 1292، لم أرجع إليها، إذ ترجيح عندي أنها منسوخة من مطبوعة طهران سنة 1271، كما أن النسخة المطبوعة في مصر سنة 1329 قد طبعت عن هذه النسخة، فلم أرجع إليها أيصا. مقدمة المحقق 21 والألوان، وبداخلهما عنوان: " كتاب نهج البلاغة، من كلام علي عليه السلام والصلاة على محمد وآله الطاهرين ". وبعض عناوين النسخة مكتوبة بالذهب، وفواصل الفقرات محلاة بالذهب أيضا. وبآخرها خاتمة النسخة داخل حلية مذهبة جاء بها: " تم الكتاب بالحضرة الشريفة المقدسة النجفية بمشهد مولانا وسيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، أخي الرسول، وزوج البتول، ووالد أولاد الرسول صلوات الله عليهم ". وكتبه وذهبه الحسين بن محمد الحسنى، في شهور سنة الثنتين وثمانين وستمائة. والنسخة مجلدة بجلد أثرى بالضغط والتذهيب، والمرجع أنه من عصر الكتابة. وتقع في 421 ورقة، ومسطرتها 13 سطرا. وقد اقتضاني تحقيق هذا الكتاب الجامع أن أرجع إلى ما أمكنني العثور عليه من الكتب التي رجع إليها المؤلف، كتاريخ الطبري، والأغاني ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني، والحيوان والبيان والتبيين والعثمانية للجاحظ، والشافي للشريف المرتضى، والمغني للقاضي عبد الجبار، وحلية الأولياء لأبي نعيم، وكتاب صفين للمنقري، والكامل للمبرد، والأوائل لأبي هلال العسكري، ونسب قريش للزبير بن بكار، والمنتظم لابن الجوزي والصحاح للجوهري، وغيرها من كتب الأدب واللغة والتاريخ، كما أنى رجعت فيما أورده من الشعر إلى دواوين الشعراء والمجموعات المختارة منها. وحاولت أن أضبط الاعلام والنصوص اللغوية والشعرية ضبطا صحيحا، وعلقت في الحواشي ما اقتضاه إيضاح النص تعليقا وسطا في غير إسراف ولا تقصير.
مقدمة المحقق 22 كما أنى فصلت موضوعاته بعناوين وضعتها بين علامتي الزيادة، لتتضح معالم الكتاب، وتسهل الإحاطة بما فيه. وسيخرج - بما أرجو من الله المعونة والتأييد - في عشرين جزءا كما وضعه مؤلفه، أما الفهارس العامة المتنوعة فسأفرد لها جزءا خاصا في آخر الكتاب، والله الموفق للصواب (ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير). محمد أبو الفضل إبراهيم القاهرة (10 جمادى الآخرة سنة 1378 ه 21 ديسمبر سنة 1958 م)
مقدمة المحقق 23 فاتحة مخطوطة نهج البلاغة
مقدمة المحقق 24 شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (586 - 656) الجزء الأول تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم
1 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله (1) الواحد العدل الحمد لله الذي تفرد بالكمال فكل كامل سواه منقوص، واستوعب عموم المحامد والممادح فكل ذي عموم عداه مخصوص الذي وزع منفسات نعمه بين من يشاء من خلقه واقتضت حكمته ان نافس الحاذق في حذقه فأحتسب به عليه من رزقه وزوى (2) الدنيا عن الفضلاء فلم يأخذها الشريف بشرفه ولا السابق بسبقه. وقدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف واختص الأفضل من جلائل الماثر ونفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه ويجل عن التكييف. وصلى الله على رسوله محمد، الذي (3) المكنى عنه شعاع من شمسه، وغصن من غرسه، وقوه من قوى نفسه، ومنسوب إليه نسبه الغد إلى يومه، واليوم إلى أمسه، فما هما الا سابق ولاحق، وقائد وسائق، وساكت وناطق، ومجل ومصل، سبقا لمحه البارق، وأنارا سدفه الغاسق، صلى الله عليهما ما استخلب (4) خبير، وتناوح حراء وثبير (5). وبعد، فان مراسم المولى الوزير الأعظم، الصاحب (6)، الصدر الكبير المعظم العالم العادل المظفر المنصور المجاهد، المرابط (7) مؤيد الدين عضد الاسلام، سيد وزراء الشرق والغرب، أبى محمد
(1 - 1) تكملة من ب. (2) زوى الدنيا: نحاها وصرفها. (3) في ا: " والذي ". (4) استخلب، بالبناء للمجهول: قطع. والخبير: النبات، وورد في حديث طهفة: " ونستخلب الخبير " قال ابن الأثير: الخبير: النبات والعشب، شبه بخبير الإبل، وهو وبرها. النهاية 1: 280 (5) يقال: هما جبلان يتناوحان، إذا كانا متقابلين، وثبير: جبل شامخ بمكة يقابل حراء، وهو أرفع من ثبير. ياقوت 3: 240 (6) ب: " صاحب ". (7) ا: والمرابط. 3 ابن أحمد بن محمد العلقمي (1)، نصير أمير المؤمنين - أسبغ الله عليه من ملابس النعم أضفاها، وأحله من مراقب السعادة مراتب السيادة أشرفها وأعلاها - لما شرفت عبد دولته، وربيب نعمته بالاهتمام بشرح " نهج البلاغة " - على صاحبه أفضل الصلوات، ولذكره أطيب التحيات - بادر إلى ذلك مبادرة من بعثه من قبل عزم، ثم حمله (2) أمر جزم، وشرع فيه بادي الرأي شروع مختصر، وعلى ذكر الغريب والمعنى مقتصر، ثم تعقب الفكر فرأى أن هذه النغبة (3) لا تشفى أو اما، ولا تزيد الحائم الا حياما، فتنكب ذلك المسلك، ورفض ذلك المنهج، وبسط القول في شرحه بسطا اشتمل على الغريب والمعاني وعلم البيان، وما عساه يشتبه ويشكل من الاعراب والتصريف، وأورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر والأشباه، نثرا ونظما، وذكر ما يتضمنه من السير والوقائع والاحداث فصلا فصلا، وأشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد والعدل إشارة خفيفه، ولوح إلى ما يستدعى الشرح ذكره من الأنساب والأمثال والنكت تلويحات لطيفه، ورصعه من المواعظ الزهدية، والزواجر الدينية، والحكم النفسية، والآداب الخلقية، المناسبة لفقره، والمشاكلة لدرره، والمنتظمة مع معانيه في سمط، والمتسقة مع جواهره في لط (4)، بما يهزأ بشنوف النضار، ويخجل قطع الروض غب القطار، وأوضح ما يومئ إليه من المسائل الفقهية، وبرهن على أن كثيرا من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية، لاشتمالها على
(1) هو مؤيد الدين أبو طالب محمد بن أحمد بن العلقمي البغدادي، وزير المستعصم بالله، الخليفة العباسي. اشتغل في صباه بالأدب، ففاق فيه، وكتب خطا مليحا، وترسل ترسلا فصيحا، وكان لبيبا كريما، رئيسا متمسكا بقوانين الرياسة، خبيرا بأدوات السياسة، محبا للأدب، مقربا لأهل العلم، اقتنى كتبا كثيرة نفيسة، وصنف الناس له، منهم الصغاني، صنف له العباب، وهذا المصنف الذي ألف برسمه، وكان ممدحا، مدحه الشعراء، وانتجعه الفضلاء، وأخباره الطيبة كثيرة وجليلة. توفي سنة 656. الفخري 265، 266 (2) ب " حركة ". (4) النغبة في الأصل: الجرعة من الماء. وفي ا: " البغية "، والأجود ما أثبته من ب. (4) للط: العقد. 4 الاخبار الغيبية، وخروجها عن وسع الطبيعة البشرية. وبين من مقامات العارفين، التي يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله إلا العالمون، ولا يدركه إلا الروحانيون المقربون. وكشف عن مقاصده عليه السلام في لفظه يرسلها، ومعضلة (1) يكنى عنها، وغامضة يعرض بها، وخفايا يجمجم بذكرها، وهنات تجيش في صدره فينفث بها نفثه المصدور، ومرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب. فخرج هذا الكتاب كتابا كاملا في فنه، واحدا بين أبناء جنسه، ممتعا بمحاسنه، جليلة فوائده، شريفة مقاصده، عظيما شانه، عاليه منزلته ومكانه. ولا عجب ان يتقرب بسيد الكتب إلى سيد الملوك، وبجامع الفضائل إلى جامع المناقب، وبواحد العصر إلى أوحد الدهر، فالأشياء بأمثالها أليق، وإلى اشكالها أقرب، وشبه الشئ إليه منجذب، ونحوه دان ومقترب. ولم يشرح هذا الكتاب قبلي فيما أعلمه الا واحد، وهو سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي (2)، وكان من فقهاء الإمامية، ولم يكن من رجال هذا الكتاب، لاقتصاره مدة عمره على الاشتغال بعلم الفقه وحده، وأنى للفقيه ان يشرح هذه الفنون المتنوعة، ويخوض في هذه العلوم المتشعبة، لا جرم ان شرحه لا يخفى حاله عن الذكي، وجرى الوادي فطم على القرى (3). وقد تعرضت في هذا الشرح لمنا قضته
(1) ا: " معضلة " بدون الواو. (2) هو سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي، أحد فقهاء الشيعة، وتصانيفه كثيرة متنوعة، أسمى كتابه في شرح النهج " منهاج البراعة، في شرح نهج البلاغة "، وتوفي سنة 573. لسان الميزان 3: 48، روضات الجنان 302 (3) جرى الوادي فطم على القرى، مثل، قال الميداني في شرحه: أي جرى الوادي فطم، أي دفن، يقال: طم السيل الركية، أي دفنها. والقرى: مجرى الماء في الروضة، والجمع أقرية وقريان، و " على " من صلة المعنى، أي أتى على القرى، يعنى أهلكه بأن رفنه، يضرب عند تجاوز الشئ حده ". مجمع الأمثال 1: 159 5 في مواضع يسيرة اقتضت الحال ذكرها، وأعرضت عن كثير مما قاله إذ لم أر في ذكره ونقضه كبير فائدة. * * * وانا قبل ان أشرع في الشرح، أذكر أقوال أصحابنا رحمهم الله في الإمامة والتفضيل، والبغاة والخوارج. ومتبع ذلك بذكر نسب أمير المؤمنين عليه السلام، ولمع يسيرة من فضائله. ثم أثلث بذكر نسب الرضى أبى الحسن محمد بن الحسين الموسوي رحمه الله، وبعض خصائصه ومناقبه. ثم أشرع في شرح خطبه " نهج البلاغة " التي هي من كلام الرضى أبى الحسن رحمه الله (1)، فإذا أنهيت من ذلك كله ابتدأت بعون الله وتوفيقه في شرح كلام أمير المؤمنين ع شيئا فشيئا. * * * ومن الله سبحانه استمد المعونة، واستدر أسباب العصمة، واستميح غمائم الرحمة، وأمتري إخلاف البركة، واشيم بارق النماء والزيادة، فما المرجو الا فضله، ولا المأمول الا طوله، ولا الوثوق الا برحمته، ولا السكون الا إلى رأفته " ربنا عليك توكلنا واليك أنبنا واليك المصير. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا انك أنت العزيز الحكيم " (2).
(1) ب: " رضي الله عنه ". (2) سورة الممتحنة 4، 5 6 اتفق شيوخنا كافه رحمهم الله، المتقدمون منهم والمتأخرون، والبصريون والبغداديون، على أن بيعه أبى بكر الصديق بيعه صحيحه شرعية، وانها لم تكن عن نص وإنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالاجماع، وبغير الاجماع كونه طريقا إلى الإمامة. واختلفوا في التفضيل، فقال قدماء البصريين كأبي عثمان عمرو بن عبيد، وأبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام، وأبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وأبى معن ثمامة بن أشرس، وأبى محمد هشام بن عمرو الفوطي، وأبى يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام، وجماعه غيرهم: ان أبا بكر أفضل من علي عليه السلام، وهؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة. وقال البغداديون قاطبة، قدماؤهم ومتأخروهم، كأبي سهل بشر بن المعتمر، وأبي موسى عيسى بن صبيح، وأبى عبد الله جعفر بن مبشر، وأبى جعفر الإسكافي، وأبى الحسين الخياط، وأبى القاسم عبد الله بن محمود البلخي وتلامذته ان عليا عليه السلام أفضل من أبى بكر. وإلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي أخيرا وكان من قبل من المتوقفين، كان يميل إلى التفضيل ولا يصرح به، وإذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته. وقال في كثير من تصانيفه: ان صح خبر الطائر فعلى أفضل (1).
(1) يشير إلى ما رواه الترمذي في باب المناقب 13: 170، بسنده عن أنس بن مالك، ولفظه هذا الطير " فجاء على فأكل معه. قال أبو عيسى: هذا حديث غريب لا يعرف من حديث السدى إلا من هذا الوجه. 7 ثم إن قاضى القضاة رحمه الله ذكر في شرح " المقالات " لأبي القاسم البلخي ان أبا على رحمه الله ما مات حتى قال بتفضيل علي عليه السلام، وقال إنه نقل ذلك عنه سماعا، ولم يوجد في شئ من مصنفاته. وقال أيضا: إن أبا على رحمه الله يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه، - وكان قد ضعف عن رفع الصوت - فألقى إليه أشياء، من جملتها القول بتفضيل علي عليه السلام. وممن ذهب من البصريين إلى تفضيله عليه السلام الشيخ أبو عبد الله الحسين بن علي البصري رضي الله عنه، كان متحققا بتفضيله، ومبالغا في ذلك وصنف فيه كتابا مفردا. وممن ذهب إلى تفضيله عليه السلام من البصريين قاضى القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمه الله، ذكر ابن متويه عنه في كتاب " الكفاية " في علم الكلام انه كان من المتوقفين بين علي عليه السلام وأبى بكر، ثم قطع على تفضيل علي عليه السلام بكامل المنزلة. ومن البصريين الذاهبين إلى تفضيله عليه السلام أبو محمد الحسن بن متويه صاحب " التذكرة " نص في كتاب " الكفاية " على تفضيله عليه السلام على أبى بكر، احتج لذلك، وأطال في الاحتجاج. فهذان المذهبان كما عرفت. وذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله إلى التوقف فيهما، وهو قول أبى حذيفة واصل بن عطاء، وأبى الهذيل محمد بن الهذيل العلاف، من المتقدمين. وهما - وان ذهبا إلى التوقف (1) بينه عليه السلام وبين أبى بكر وعمر - قاطعان على تفضيله على عثمان.
(2) ب " الوقف ". 8 ومن الذاهبين إلى الوقف الشيخ أبو هاشم عبد السلام بن أبي على رحمهما الله، والشيخ أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري رحمه الله. واما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون، من تفضيله عليه السلام. وقد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل، وهل المراد به الأكثر ثوابا أو (1) الأجمع لمزايا الفضل والخلال الحميدة، وبينا انه عليه السلام أفضل على التفسيرين معا. وليس هذا الكتاب موضوعا لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره، ولهذا موضع هو أملك به. واما (2) القول في البغاة عليه (3) والخوارج، فعلى (4) ما أذكره لك: اما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلهم الا عائشة وطلحة والزبير، (5 رحمهم الله 5) فإنهم تابوا، ولولا التوبة لحكم لهم بالنار لإصرارهم على البغي. واما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكون كلهم عند أصحابنا لا يحكم لأحد منهم الا بالنار، لإصرارهم على البغي وموتهم عليه، رؤساؤهم والاتباع جميعا. واما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه، ولا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار. وجملة الامر ان أصحابنا يحكمون بالنار لكل فاسق مات على فسقه، ولا ريب في أن الباغي على الإمام الحق والخارج عليه بشبهه أو بغير شبهه فاسق، وليس هذا مما يخصون به عليا عليه السلام، فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة الاسلام العدول (6) لكان حكمهم حكم من خرج على على صلوات الله عليه.
(1) ب: " أم ". (2) ب: " فأما ". (3) ساقطة من أ (4) ب: " فهو على ". (5 - 5) ساقط من ب (6) ب: " من أئمة العدل ". (7) ب: " يرى " تصحيف. (8) ب: " كثير ". 9 وكان شيخنا أبو القاسم البلخي إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير، يقول: لا خير فيه. وقال مرة: لا يعجبني صلاته وصومه، وليسا بنافعين له مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام: " لا يبغضك الا منافق ". وقال أبو عبد الله البصري رحمه الله لما سئل عنه: ما صح عندي انه تاب من يوم الجمل، ولكنه استكثر مما كان عليه. فهذه هي المذاهب والأقوال، اما الاستدلال عليها فهو مذكور في الكتب الموضوعة لهذا الفن.
10 القول في نسب أمير المؤمنين علي عليه السلام وذكر لمع يسيرة من فضائله هو أبو الحسن علي بن أبي طالب - واسمه عبد مناف - بن عبد المطلب - واسمه شيبه - بن هاشم - واسمه عمرو - بن عبد مناف بن قصي. الغالب عليه من الكنية عليه السلام أبو الحسن. وكان ابنه الحسن عليه السلام يدعوه في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله أبا الحسين، ويدعوه الحسين عليه السلام أبا الحسن، ويدعوان رسول الله صلى الله عليه وآله أباهما، فلما توفى النبي صلى الله عليه وآله (1) دعواه بأبيهما. وكناه رسول الله صلى الله عليه وآله أبا تراب، وجده نائما في تراب، قد سقط عنه رداؤه، أصاب التراب جسده، فجاء حتى جلس عند رأسه، وأيقظه، وجعل يمسح التراب عن ظهره ويقول له: اجلس، إنما أنت أبو تراب (2). فكانت من أحب كناه إليه صلوات الله عليه، وكان يفرح إذا دعى بها، وكانت ترغب (3) بنو أمية خطباءها
(1) ساقطة من أ (2) رواية الخبر كما في صحيح البخاري، في كتاب فضائل الصحابة 2: 300، بسنده عن عبد الله ابن مسلمة: " أن رجلا جاء إلى سهل بن سعد، فقال: هذا فلان - لأمير المدينة - يدعو عليا عند المنبر، قال: فيقول ماذا؟ قال: يقول له: أبو تراب. فضحك، قال: والله ما سماه إلا النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان له اسم أحب إليه منه. فاستطعمت الحديث سهلا، وقلت: يا أبا عباس، كيف؟ قال: دخل علي على فاطمة، ثم خرج فاضطجع في المسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أين ابن عمك؟ قالت: في المسجد، فخرج إليه فوجد رداءه قد سقط عن ظهره، وخلص التراب إلى ظهره، فجعل يمسح التراب عن ظهره فيقول: اجلس يا أبا تراب، مرتين ". ولهذا الخبر رواية أخرى ذكرها صاحب الرياض النضرة 2: 154 (3) ب: " فدعت بنو أمية ". 11 أن يسبوه بها على المنابر، وجعلوها نقيصة له ووصمة عليه، فكأنما كسوه بها الحلي والحلل، كما قال الحسن البصري رحمه الله. وكان اسمه الأول الذي سمته به أمه حيدرة، باسم أبيها أسد بن هاشم - والحيدرة: الأسد - فغير أبوه اسمه، وسماه عليا. وقيل: ان حيدره اسم كانت قريش تسميه به. والقول الأول أصح، يدل عليه خبره (1) يوم برز إليه مرحب، وارتجز عليه فقال: * انا الذي سمتني أمي مرحبا (2) * فأجابه عليه السلام رجزا: * انا الذي سمتني أمي حيدره (3) * ورجزهما معا مشهور منقول لا حاجه لنا الان إلى ذكره. وتزعم الشيعة انه خوطب في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله بأمير المؤمنين، خاطبه بذلك جلة المهاجرين والأنصار، ولم يثبت ذلك في اخبار المحدثين، الا انهم قد رووا ما يعطى هذا المعنى، وان لم يكن اللفظ بعينه، وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله له: " أنت يعسوب الدين والمال يعسوب الظلمة "، وفي رواية أخرى: " هذا يعسوب المؤمنين،
(1) الخبر رواه مسلم مفصلا بسنده عن إياس بن سلمة عن أبيه، في كتاب الجهاد والسير ص 1433 - 1441، في غزوة خيبر (2) رواية مسلم: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب (3) بقيته، كما رواه مسلم: كليث غاب كريه المنظره أوفيهم بالصاع كيل السندرة والسندرة: مكيال واسع. 12 وقائد الغر المحجلين " (1). واليعسوب: ذكر النحل وأميرها. روى هاتين الروايتين أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني في " المسند " في كتابه " فضائل الصحابة "، ورواهما أبو نعيم الحافظ في " حليه الأولياء " (2). ودعى بعد وفاه رسول الله صلى الله عليه وآله بوصي رسول الله، لوصايته إليه بما أراده. وأصحابنا لا ينكرون ذلك، ولكن يقولون: انها لم تكن وصيه بالخلافة، بل بكثير من المتجددات بعده، أفضى بها إليه عليه السلام. وسنذكر طرفا من هذا المعنى فيما بعد. وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، أول هاشمية ولدت لهاشمي، كان علي عليه السلام أصغر بنيها، وجعفر أسن منه بعشر سنين، وعقيل أسن منه بعشر سنين، وطالب أسن من عقيل بعشر سنين، وفاطمة بنت أسد أمهم جميعا. وأم فاطمة بنت أسد، فاطمة (1) بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص (ابن عامر بن لؤي وأمها حدية بنت) (4) وهب بن ثعلبه بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر. (وأمها فاطمة بنت عبيد بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي. وأمها سلمى بنت عامر بن ربيعه بن هلال بن أهيب بن ضبه بن الحارث بن فهر) (4). وأمها عاتكة بنت أبي همهمة - واسمه عمرو بن عبد العزى - بن عامر بن عميره بن وديعة بن الحارث بن فهر. (وأمها تماضر بنت عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مره بن كعب بن لؤي) (4). وأمها حبيبه، وهي أمة الله بنت عبد يا ليل بن سالم بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسى، وهو ثقيف. وأمها فلانة بنت مخزوم بن أسامة بن ضبع (5) بن وائلة بن نصر بن صعصعه بن ثعلبه بن كنانه بن عمرو بن قين بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان
(1) ورواه أيضا الطبراني في الكبير، ونقله صاحب الرياض النضيرة 2: 155، مع اختلاف في اللفظ. (2) حليلة الأولياء 1: 63، بسنده عن أنس، ولفظه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أنس، أول من يدخل من هذا الباب أمير المؤمنين، وسيد المسلمين، وقائد الغر المحجلين، وخاتم الوصيين ". (3) تكملة في مقاتل الطالبين. (4) كذا في ب، وفي أ: " ضجيج " وفي مقاتل الطالبيين " صبح ". 13 ابن مضر. وأمها ربطه بنت يسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن ثقيف. وأمها كلة (1) بنت حصين بن سعد بن بكر بن هوازن. وأمها حبى بنت الحارث بن النابغة بن عميره بن عوف بن نصر بن بكر بن هوازن. ذكر هذا النسب أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب " مقاتل الطالبيين " (2). أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشره من المسلمين، وكانت الحادي عشر، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يكرمها ويعظمها ويدعوها: أمي، وأوصت إليه حين حضرتها الوفاة، فقبل وصيتها، وصلى عليها، ونزل في لحدها، واضطجع معها فيه بعد أن ألبسها قميصه، فقال له أصحابه إنا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها، فقال إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها، إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة، واضطجعت معها ليهون عليها ضغطه القبر. وفاطمة أول امرأة بايعت رسول الله صلى الله عليه وآله من النساء. وأم أبى طالب بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم. وهي أم عبد الله، والد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله، وأم الزبير بن عبد المطلب، وسائر ولد عبد المطلب بعد لأمهات شتى. واختلف في مولد علي عليه السلام أين كان؟ فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة، والمحدثون لا يعترفون بذلك، ويزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام ابن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. واختلف في سنه حين أظهر النبي صلى الله عليه وآله الدعوة، إذ تكامل له صلوات الله عليه أربعون سنة، فالأشهر من الروايات أنه كان ابن عشر. وكثير من أصحابنا المتكلمين يقولون: إنه كان ابن ثلاث عشرة سنة، ذكر ذلك شيخنا أبو القاسم البلخي وغيره من شيوخنا.
(1) مقاتل الطالبيين: " كلية بنت قصية ". (2) في ترجمة جعفر بن أبي طالب ص 7. 14 والأولون يقولون: إنه قتل وهو ابن ثلاث وستين سنة، وهؤلاء يقولون: ابن ست وستين، والروايات في ذلك مختلفة. ومن الناس من يزعم أن سنه كانت دون العشر، والأكثر الأظهر خلاف ذلك. وذكر أحمد بن يحيى البلاذري وعلي بن الحسين الأصفهاني أن قريشا أصابتها أزمة وقحط، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لعميه: حمزه والعباس: ألا نحمل ثقل أبى طالب في هذا المحل! فجاءوا إليه وسألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم، فقال: دعوا لي عقيلا وخذوا من شئتم - وكان شديد الحب لعقيل - فأخذ العباس طالبا، وأخذ حمزه جعفرا، وأخذ محمد صلى الله عليه وآله عليا، وقال لهم: قد اخترت - من اختاره الله لي عليكم - عليا، قالوا فكان علي عليه السلام في حجر رسول الله صلى الله عليه وآله، منذ كان عمره ست سنين. وكان ما يسدي إليه ص من إحسانه وشفقته وبره وحسن تربيته، كالمكافأة والمعاوضة لصنيع أبى طالب به، حيث مات عبد المطلب وجعله في حجره. وهذا يطابق قوله عليه السلام: لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين. وقوله كنت أسمع الصوت وأبصر الضوء سنين سبعا، ورسول الله صلى الله عليه وآله حينئذ صامت ما أذن له في الانذار والتبليغ، وذلك لأنه إذا كان عمره يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة، وتسليمه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من أبيه وهو ابن ست - فقد صح انه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين، و أبيه وهو ابن ست - فقد صح أنه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين، وابن ست تصح منه العبادة إذا كان ذا تمييز على أن عبادة مثله هي التعظيم والإجلال وخشوع القلب، واستخذاء الجوارح إذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه وآياته الباهرة، ومثل هذا موجود في الصبيان. وقتل عليه السلام ليله الجمعة لثلاث عشرة بقين من شهر رمضان، سنه أربعين في
15 رواية أبى عبد الرحمن السلمي (1) - وهي الرواية المشهورة - وفي رواية أبى مخنف أنها كانت لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان، وعليه الشيعة في زماننا. والقول الأول أثبت عند المحدثين، والليلة السابعة عشره من شهر رمضان هي ليلة بدر، وقد كانت الروايات وردت أنه يقتل في ليله بدر، عليه السلام، وقبره بالغري. وما يدعيه أصحاب الحديث من الاختلاف في قبره، وأنه حمل إلى المدينة، أو أنه دفن في رحبة الجامع، أو عند باب قصر الامارة أو ند البعير الذي حمل عليه فأخذته الاعراب - باطل كله، لا حقيقة له، وأولاده أعرف بقبره، وأولاد كل الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب، وهذا القبر الذي زاره بنوه لما قدموا العراق، منهم جعفر بن محمد عليه السلام وغيره من أكابرهم وأعيانهم. وروى أبو الفرج في " مقاتل الطالبيين " بإسناد (2) ذكره هناك ان الحسين عليه السلام لما سئل: أين دفنتم أمير المؤمنين؟ فقال: خرجنا به ليلا من منزله بالكوفة، حتى مررنا به على مسجد الأشعث، حتى انتهينا به إلى الظهر بجنب الغري. وسنذكر خبر مقتله عليه السلام فيما بعد. فأما فضائله عليه السلام، فإنها قد بلغت من العظم والجلالة والانتشار والاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها، والتصدي لتفصيلها، فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل والمعتمد: رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك، كالمخبر عن ضوء النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، فأيقنت أنى حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الاخبار عنك إلى علم الناس بك. وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه،
(1) نقلها أبو الفرج في مقاتل الطالبيين. (2) مقاتل الطالبيين ص 42، وفيه " الحسن ". 16 ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الاسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيله في إطفاء نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكرا، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعه وسموا، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار ان حجبت عنه عين واحدة، أدركته عيون كثيره! وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها، وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذى. وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لان شرف العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم. ومن كلامه عليه السلام اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى، ومنه ابتدأ فإن المعتزلة (1) - الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن - تلامذته وأصحابه، لان كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية (2)، وأبو هاشم تلميذ أبيه وأبوه تلميذه عليه السلام. وأما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبى الحسن علي بن " إسماعيل بن " أبى بشر الأشعري، وهو تلميذ أبى على الجبائي، وأبو علي أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب عليه السلام. وأما الامامية والزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر. * * *
(1) انظر أمالي المرتضى 1: 148 وما بعدها، في كلام المؤلف عن سند المعتزلة إلى علي عليه السلام (2) هو إمام الكيسانية، وعنه انتقلت البيعة إلى بنى العباس. " تنقيح المقال 2: 212 ". 17 ومن العلوم: علم الفقه، وهو عليه السلام أصله وأساسه، وكل فقيه في الاسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه، أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما، فأخذوا عن أبي حنيفة، وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن، فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة، وأما أحمد بن حنبل، فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد عليه السلام، وقرأ جعفر على أبيه عليه السلام، وينتهي الامر إلى علي عليه السلام. وأما مالك بن أنس، فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب (1)، وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة. واما فقه الشيعة: فرجوعه إليه ظاهر وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا: عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس، وكلاهما أخذ عن علي عليه السلام. أما ابن عباس فظاهر، وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: لولا على لهلك عمر، وقوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن. وقوله: لا يفتين أحد في المسجد وعلى حاضر، فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه. وقد روت العامة والخاصة قوله صلى الله عليه وآله: " أقضاكم على " (2)، والقضاء هو الفقه، فهو إذا أفقههم. وروى الكل أيضا أنه عليه السلام قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضيا: " اللهم اهد قلبه وثبت لسانه " قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين (3)،
(1) ب: " عن علي ". (2) نقله السيوطي في الجامع الصغير 1: 58 عن مسند أبي يعلي بلفظ: " أرأف أمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي... " وضعفه. (3) رواه أبو داود في كتاب الأقضية 3: 409 بسنده عن علي، ولفظه: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيا فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء! فقال: " إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء "، قال: فما زلت قاضيا - أو ما شككت في قضاء بعد. 18 وهو عليه السلام الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهو الذي أفتى في الحامل الزانية (1)، وهو الذي قال في المنبرية (2): صار ثمنها تسعا. وهذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب، فما ظنك بمن قاله بديهة، واقتضبه ارتجالا. ومن العلوم: علم تفسير القرآن، وعنه أخذ، ومنه فرع. وإذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك، لان أكثره عنه وعن عبد الله بن عباس، وقد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له، وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه وخريجه. وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟ فقال: كنسبة قطره من المطر إلى البحر المحيط. ومن العلوم: علم الطريقة والحقيقة، وأحوال التصوف، وقد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام، إليه ينتهون، وعنده يقفون، وقد صرح بذلك الشبلي، والجنيد، وسري (3)، وأبو يزيد البسطامي، وأبو محفوظ معروف الكرخي، وغيرهم. ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة (4) التي هي شعارهم إلى اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه عليه السلام.
(1) ذكر القرطبي في تفسيره 16: 193، عند الكلام على قوله تعالى: " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا " أن عثمان قد أتى بامرأة ولدت لستة أشهر، فأراد أن يقضي عليها بالحد، فقال له علي رضي الله عنه: ليس ذلك عليها، قال الله تعالى: " وحمله وفصاله ثلاثون شهرا ". (2) سميت المنبرية، لأنه سئل عنها وهو على المنبر، فأفتى من غير روية، وبيانها أنه سئل في ابنتين وأبوين وامرأة، فقال: صار ثمنها تسعا، قال أبو عبيد، أراد أن السهام عالت حتى صار للمرأة التسع، ولها في الأصل الثمن، وذلك أن الفريضة لو لم تعل كانت أربعة وعشرين، فلما عالت صارت من سبعة وعشرين، فللابنتين الثلثان: ستة عشر سهما، وللأبوين السدسان، ثمانية أسهم، وللمرأة ثلاثة من سبع وعشرين، وهو التسع، وكان لها قبل العول ثلاثة من أربعة وعشرين، وهو الثمن. وانظر النهاية لابن الأثير 3: 139، واللسان 13: 512، وحاشية البقري على متن الرحبية 34. (3) هو سري بن المغلس السقطي، خال الجنيد وأستاذه، وصاحب معروف الكرخي، وأول من تكلم ببغداد في لسان التوحيد وحقائق الأحوال. مات سنة 251. " طبقات الصوفية للسلمي ص 48 ". (4) فصل السهروردي في الباب الثاني عشر من كتابه عوارف المعارف " 4: 191 وما بعدها - على هامش الاحياء " الكلام في شرح خرقة المشايخ الصوفية ولبسها. 19 ومن العلوم: علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافه أنه هو الذي ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبى الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف. ومن جملتها: تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الاعراب إلى الرفع والنصب والجر والجزم (1)، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات، لان القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط. وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها (2). وأما الشجاعة: فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة، وهو الشجاع الذي ما فر قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز أحدا إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية، وفي الحديث " كانت ضرباته وترا "، ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفك، فقال معاوية: ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم! أتأمرني بمبارزة أبي الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي! وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه عليه السلام قتلهم أظهر وأكثر، قالت أخت عمرو بن عبد ود ترثيه: لو كان قاتل عمرو غير قاتله * بكيته أبدا ما دمت في الأبد (3)
(1) معجم الأدباء 14: 42 - 50 (2) اقتباس من قول سحيم بن وثيل الرياحي: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا * متى أضع العمامة تعرفوني وابن جلا، أي الواضح الامر، وطلاع الثنايا: كناية عن السمو إلى معالي الأمور، والثنايا في الأصل: جمع ثنية، وهي الطريق في الجبل. وانظر اللسان 18: 165. (3) من أبيات ذكرها صاحب اللسان 8: 395، وروايته: لو كان قاتل عمرو غير قاتله * بكيته ما أقام الروح في جسدي لكن قاتله من لا يعاب به * وكان يدعى قديما بيضة البلد 20 لكن قاتله من لا نظير له * وكان يدعى أبوه بيضة البلد (1) وانتبه يوما معاوية، فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره، فقعد، فقال له عبد الله يداعبه: يا أمير المؤمنين، لو شئت أن أفتك بك لفعلت، فقال: لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر، قال: وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب! قال: لا جرم إنه قتلك وأباك بيسرى يديه، وبقيت اليمنى فارغة، يطلب من يقتله بها. وجملة الامر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي، وباسمه ينادى في مشارق الأرض ومغاربها. * * * وأما القوة والأيد: فبه يضرب المثل فيهما، قال ابن قتيبة في " المعارف ": (2) ما صارع أحدا قط إلا صرعه. وهو الذي قلع باب خيبر، واجتمع عليه عصبه من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه، وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة، وكان عظيما جدا، وألقاه (3) إلى الأرض. وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته عليه السلام بيده بعد عجز الجيش كله عنها، وأنبط (4) الماء من تحتها. وأما السخاء والجود: فحاله فيه ظاهرة، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده، وفيه أنزل " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا " (5). وروى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا، وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فأنزل فيه: " الذين
(1) بيضة البلد، يريد علي بن أبي طالب، أي أنه فرد ليس مثله في الشرف كالبيضة التي هي تريكة وحدها، ليس معها غيرها، كذا فسر في اللسان. (2) المعارف ص 90 (3) ب: " فألقاه ". (4) ب: " فأنبط ". (5) سورة الانسان 9، 10. 21 ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية " (1). وروى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة، حتى مجلت (2) يده، ويتصدق بالأجرة، ويشد على بطنه حجرا. وقال الشعبي وقد ذكره عليه السلام: كان أسخى الناس، كان على الخلق الذي يحبه الله: السخاء والجود، ما قال: " لا " لسائل قط. وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن (3) بن أبي محفن الضبي لما قال له: جئتك من عند أبخل الناس، فقال: ويحك "! كيف تقول إنه أبخل الناس، لو ملك بيتا من تبر وبيتا من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه. وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها، وهو الذي قال: يا صفراء، ويا بيضاء، غري غيري. وهو الذي لم يخلف ميراثا، وكانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام. وأما الحلم والصفح: فكان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسئ، وقد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل، حيث ظفر بمروان بن الحكم - وكان أعدى الناس له، وأشدهم بغضا - فصفح عنه. وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الاشهاد، وخطب يوم البصرة فقال: قد أتاكم الوغد (4) اللئيم علي بن أبي طالب - وكان علي عليه السلام يقول: ما زال الزبير
(1) سورة البقرة 274، وللمفسرين في هذه الآية أسباب أخرى للنزول، ذكرها القرطبي في التفسير 19: 128، وانظر أسباب النزول للواحدي 231. (2) مجلت يده، أي ثخن جلده وتعجز وظهر فيه ما يشبه البثر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة، ومنه حديث فاطمة، أنها شكت إلى علي مجل يديها من الطحن. النهاية لابن الأثير 4: 80. (3) كذا ضبطه الذهبي بالقلم في المشتبه ص 464. (5) في ب: " الوغب "، وهما بمعنى. 22 رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله - فظفر به يوم الجمل، فأخذه أسيرا، فصفح عنه، وقال: اذهب فلا أرينك، لم يزده على ذلك. وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة، وكان له عدوا، فأعرض عنه ولم يقل له شيئا. وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها أكرمها، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم، وقلدهن بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به، وتأففت وقالت: هتك سترى برجاله وجنده الذين وكلهم بي فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن، وقلن لها: إنما نحن نسوة. وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف، وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار العسكر: ألا لا يتبع (1) مول، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الامام فهو آمن. ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئا من أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو وتقيل سنة رسول الله صلى الله عليه وآله يوم فتح مكة، فإنه عفا والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تنس. ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء، وأحاطوا بشريعة الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا، سألهم علي عليه السلام وأصحابه أن يشرعوا (2) لهم شرب الماء، فقالوا: لا والله، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان، فلما رأى عليه السلام أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة، حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع، سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملكوا عليهم الماء،
(1) أ: " ألا يتبع مول ". (2) كذا في أ، وفي ب: " يسوغوا ". 23 وصار أصحاب معاوية في الفلاة، لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: أمنعهم الماء يا أمير المؤمنين، كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف العطش، وخذهم قبضا بالأيدي فلا حاجه لك إلى الحرب، فقال: لا والله لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض الشريعة، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك. فهذه إن نسبتها إلى الحلم والصفح فناهيك بها جمالا وحسنا، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله عليه السلام!. وأما الجهاد في سبيل الله: فمعلوم عند صديقه وعدوه أنه سيد المجاهدين، وهل الجهاد لأحد من الناس إلا له! وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وآله وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى، قتل فيها سبعون من المشركين، قتل علي نصفهم، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر. وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ الاشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك، دع من قتله في غيرها كأحد والخندق وغيرهما، وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه، لأنه من المعلومات الضرورية، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما. * * * وأما الفصاحة: فهو عليه السلام إمام الفصحاء، وسيد البلغاء، وفي (1) كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين. ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثم فاضت. وقال ابن نباتة (2): حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الانفاق الا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب. ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية: جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك!
(1) ب: " وعن كلامه ". (2) هو عبد الرحيم بن محمد بن محمد بن إسماعيل الفارقي الجذامي. 24 كيف يكون أعيا الناس! فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره، ويكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة. وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر، ولا نصف العشر مما دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب " البيان والتبيين " وفي غيره من كتبه. وأما سجاحة الأخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة المحيا، والتبسم: فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه، قال عمرو بن العاص لأهل الشام: أنه ذو دعابة شديدة. وقال علي عليه السلام في ذاك: عجبا لابن النابغة! يزعم لأهل الشام أن في دعابة، وأني امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس (1)! وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه: لله أبوك لولا دعابة فيك! إلا أن عمر اقتصر عليها، وعمرو زاد فيها وسمجها. قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته وأصحابه: كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، وكنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه. وقال معاوية لقيس بن سعد: رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشا بشا، ذا فكاهة، قال قيس: نعم، كان رسول الله صلى الله عليه وآله يمزح ويبتسم إلى أصحابه، وأراك تسر حسوا في ارتغاء (2)، وتعيبه بذلك! أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى، وليس كما يهابك طغام أهل الشام!.
(1) التلعابة، بفتح التاء وكسرها: الكثير اللعب والمرح. والمعافسة: الملاعبة أيضا. والممارسة: ملاعبة النساء. والخبر أورده ابن الأثير في النهاية 1: 117، و 3: 59، 110، و 4: 59، 89. (2) في المثل: " هو يسر حسوا في ارتغاء "، يضرب لمن يظهر أمرا وهو يريد غيره. (اللسان 19: 46). 25 وقد بقي هذا الخلق متوارثا متناقلا في محبيه وأوليائه إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك. * * * وأما الزهد في الدنيا: فهو سيد الزهاد، وبدل الابدال، وإليه تشد الرحال، وعنده تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط. وكان أخشن الناس مأكلا وملبسا، قال عبد الله بن أبي رافع: دخلت إليه يوم عيد، فقدم جرابا مختوما، فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا، فقدم فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف تختمه؟ قال: خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت. وكان ثوبه مرقوعا بجلد تارة، وليف أخرى، ونعلاه من ليف. وكان يلبس الكرباس (1) الغليظ، فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة، ولم يخطه، فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له، وكان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض، فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلا، ويقول: لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان. وكان مع ذلك أشد الناس قوة وأعظمهم أيدا، لا ينقض (2) الجوع قوته، ولا يخون (3) الإقلال منته. وهو الذي طلق الدنيا وكانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الاسلام إلا من الشام، فكان يفرقها ويمزقها، ثم يقول: هذا جناي وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه (4)
(1) الكرباس بالكسر: ثوب من القطن الأبيض، معرب. (2) ب: " ينقص ". (3) يخون: ينقص، وفي ب: " يخور "، وما أثبته عن أ. (4) البيت أنشده عمرو بن عدي حينما كان غلاما، وكان يخرج مع الخدم يجتنون للملك " جذيمة الأبرش " الكمأة، فكانوا إذا وجدوا كمأة خيارا أكلوها وأتوا بالباقي إلى الملك، وكان عمرو لا يأكل منه، ويأتي به كما هو، وينشد البيت. وانظر القاموس 3: 259 - 260، وحديث علي ورد مفصلا في حلية الأولياء 1: 81. 26 وأما العبادة: فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوما، ومنه تعلم الناس صلاة الليل، وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير، فيصلي عليه ورده، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يمينا وشمالا، فلا يرتاع لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته! وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده. وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزته والاستخذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الاخلاص، وفهمت من أي قلب خرجت، وعلى أي لسان جرت!. وقيل لعلي بن الحسين عليه السلام - وكان الغاية في العبادة: أين عبادتك من عبادة جدك؟ قال: عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله صلى الله عليه وآله وأما قراءته القرآن واشتغاله به: فهو المنظور إليه في هذا الباب، اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يكن غيره يحفظه، ثم هو أول من جمعه، نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبى بكر، فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة، بل يقولون: تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن، لأنه لو كان مجموعا في حياه رسول الله صلى الله عليه وآله لما احتاج إلى أن يتشاغل (1) بجمعه بعد وفاته صلى الله عليه وآله. وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه، كأبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النجود وغيرهما، لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ، وأبو عبد الرحمن كان
(1) ب: " تشاغل ". 27 تلميذه، وعنه أخذ القرآن، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا، مثل كثير مما سبق. وأما الرأي والتدبير: فكان من أسد الناس رأيا، وأصحهم تدبيرا، وهو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم والفرس بما أشار. وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها، ولو قبلها لم يحدث عليه ما حدث. وإنما قال أعداؤه: لا رأي له، لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه. وقد قال عليه السلام: لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب. وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه، سواء أكان مطابقا للشرع أم لم يكن. ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده، ولا يقف مع ضوابط وقيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه، تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب. وأما السياسة: فإنه كان شديد السياسة، خشنا في ذات الله، لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه، ولا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به. وأحرق قوما بالنار، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله البجلي، وقطع جماعة وصلب آخرين. ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين والنهروان، وفي أقل القليل منها مقنع، فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل عليه السلام في هذه الحروب بيده وأعوانه. * * * فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الامام المتبع فعله، والرئيس المقتفى أثره. وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة، وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها،
28 حاملا سيفه، مشمرا لحربه، وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها! كان علي سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة صورته، وكان علي سيف إلب أرسلان وابنه ملكشاه صورته، كأنهم يتفاءلون به النصر والظفر. وما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به، وود كل أحد أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه، حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها: ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك، فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه، وصنفوا في ذلك كتبا، وجعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه، وقصروه عليه وسموه سيد الفتيان، وعضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي، انه سمع من السماء يوم أحد: لا سيف إلا ذو الفقا ر ولا فتى إلا علي وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء، وشيخ قريش، ورئيس مكة، قالوا: قل أن يسود فقير، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له، وكانت قريش تسميه الشيخ. وفي حديث عفيف الكندي، لما رأى (1) النبي صلى الله عليه وآله يصلى في مبدأ الدعوة، ومعه غلام وامرأة، قال: فقلت للعباس أي شئ هذا؟ قال: هذا ابن أخي، يزعم أنه رسول من الله إلى الناس، ولم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام - وهو ابن أخي أيضا - وهذه الامرأة، وهي زوجته. قال: فقلت: ما الذي تقولونه أنتم؟ قال: ننتظر ما يفعل الشيخ - يعني أبا طالب. وأبو طالب هو الذي كفل رسول الله صلى الله عليه وآله صغيرا، وحماه وحاطه كبيرا، ومنعه من مشركي قريش، ولقي لأجله عنتا عظيما، وقاسى بلاء شديدا، وصبر على نصره والقيام بأمره. وجاء في الخبر أنه لما توفى أبو طالب أوحى إليه عليه السلام وقيل له: اخرج منها، فقد مات ناصرك. وله مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمد سيد الأولين والآخرين، وأخاه جعفر ذو الجناحين، الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: " أشبهت خلقي وخلقي " فمر يحجل
(1) الخبر في أسد الغابة 3: 414 مع اختلاف في الرواية. 29 فرحا. وزوجته سيدة نساء العالمين، وابنيه سيدا شباب أهل الجنة، فآباؤه آباء رسول الله، وأمهاته أمهات رسول الله، وهو مسوط بلحمه ودمه، لم يفارقه منذ خلق الله آدم، إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله وأبى طالب، وأمهما واحدة، فكان منهما سيد الناس، هذا الأول وهذا التالي، وهذا المنذر وهذا الهادي!. وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى، وآمن بالله وعبده، وكل من في الأرض يعبد الحجر، ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير، محمد رسول الله صلى الله عليه وآله. ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه عليه السلام أول الناس اتباعا لرسول الله صلى الله عليه وآله إيمانا به، ولم يخالف في ذلك إلا الأقلون. وقد قال هو عليه السلام: أنا الصديق الأكبر، وأنا الفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام الناس، وصليت قبل صلاتهم. ومن وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك وعلمه واضحا. وإليه ذهب الواقدي، وابن جرير الطبري، وهو القول الذي رجحه ونصره صاحب كتاب " الاستيعاب " (1). ولأنا إنما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضائله عنت بالعرض لا بالقصد، وجب أن نختصر ونقتصر، فلو أردنا شرح مناقبه وخصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه، وبالله التوفيق (2).
(1) الإستيعاب لابن عبد البر النمري القرطبي 2: 457. (2) وانظر ترجمته وأخباره أيضا في أسد الغابة 4: 16 - 40، والاستيعاب 2: 256 - 274، والإصابة 4: 269 - 271، وإنباه الرواة 1: 10 - 12، وتاريخ الاسلام للذهبي 2: 191 - 207، وتاريخ بغداد 1: 133 - 138، وتاريخ أبي الفدا 1: 181 - 182، وتاريخ الطبري 6: 88 - 91، وتاريخ ابن كثير 7: 332 - 361، و 8: 1 - 13، وتذكرة الحفاظ 1: 10 - 13، وتهذيب الأسماء واللغات 1: 344 - 349، وتهذيب التهذيب 7: 334 - 339، وحلية الأولياء 1: 49 - 51، وصفة الصفوة 1: 119 - 144، وطبقات ابن سعد 6: 6، وطبقات القراء لابن الجزري 1: 146 - 547، ومروج الذهب 2: 45 - 50، والمعارف 88 - 92، ومعجم الأدباء 14: 41 - 50، ومعجم الشعراء 279 - 280، ومقاتل الطالبيين 24 - 45، والنجوم الزاهرة 1: 119 - 120. 30 القول في نسب الرضي أبي الحسن رحمه الله وذكر طرف من خصائصه ومناقبه هو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم ابن موسى بن جعفر الصادق عليه السلام. مولده سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. وكان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر، عظيم المنزلة في دولة بني العباس ودولة بني بويه، ولقب بالطاهر ذي المناقب، وخاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد، وولي نقابة الطالبيين خمس دفعات، ومات وهو متقلدها بعد أن حالفته الأمراض، وذهب بصره، وتوفي عن سبع وتسعين سنة، فإن مولده كان في سنة أربع وثلاثمائة، وتوفي سنة أربعمائة. وقد ذكر ابنه الرضى أبو الحسن كمية عمره في قصيدته التي رثاه بها، وأولها: وسمتك حالية الربيع المرهم * وسقتك ساقية الغمام المرزم (1) سبع وتسعون اهتبلن لك العدا * حتى مضوا وغبرت غير مذمم لم يلحقوا فيها بشأوك بعد ما * أملوا فعاقهم اعتراض الأزلم (2) إلا بقايا من غبارك أصبحت * غصصا وأقذاء لعين أو فم إن يتبعوا عقبيك في طلب العلا * فالذئب يعسل في طريق الضيغم (3) ودفن النقيب أبو أحمد أولا في داره، ثم نقل منها إلى مشهد الحسين عليه السلام. وهو الذي كان السفير بين الخلفاء وبين الملوك من بنى بويه والامراء من بني حمدان وغيرهم. وكان مبارك الغرة ميمون النقيبة، مهيبا نبيلا، ما شرع في إصلاح أمر فاسد
(1) ديوانه، لوحة 153 (2) الأزلم: الدهر. (3) عسل الذئب: مضى مسرعا واضطرب في عدوه. 31 إلا وصلح على يديه، وانتظم بحسن سفارته، وبركة همته، وحسن تدبيره ووساطته. ولاستعظام عضد الدولة أمره، وامتلاء صدره وعينه به حين قدم العراق ما (1) قبض عليه وحمله إلى القلعة بفارس، فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة، فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس شير ذيل بن عضد الدولة، واستصحبه في جملته حيث قدم إلى بغداد، وملك الحضرة، ولما توفي عضد الدولة ببغداد كان عمر الرضي أبي الحسن أربع عشرة سنة، فكتب إلى أبيه وهو معتقل بالقلعة بشيراز: أبلغا عنى الحسين ألوكا * أن ذا الطود بعد عهدك ساخا (2) والشهاب الذي اصطليت لظاه * عكست ضوءه الخطوب فباخا (3) والفنيق الذي تذرع طول الأرض * خوى به الردى وأناخا (4) إن يرد مورد القذى وهو راض * فبما يكرع الزلال النقاخا (5) والعقاب الشغواء أهبطها النيق وقد أرعت النجوم صماخا (6) أعجلتها المنون عنا ولكن * خلفت في ديارنا أفراخا وعلي ذاك فالزمان بهم عاد * غلاما من بعد ما كان شاخا وأم الرضي أبي الحسن فاطمة بنت الحسين (بن أحمد) (7) بن الحسن الناصر الأصم صاحب الديلم، وهو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام. شيخ الطالبيين وعالمهم وزاهدهم، وأديبهم وشاعرهم،
(1) ما هنا بمعنى المصدر. (2) لوحة 182. (3) بأخ: سكن وفتر. (4) الفنيق في الأصل: الفحل المكرم لا يؤذي لكرامته على أهله ولا يركب. (5) النقاخ: البارد العذب الصافي. (6) الشغواء من وصف العقاب، قيل لها ذلك لفضل في منقارها الأعلى على الأسفل. والنيق: حرف من حروف الجبل. (7) تكملة من أ. 32 ملك بلاد الديلم والجبل، ويلقب بالناصر للحق، جرت له حروب عظيمة مع السامانية، وتوفي بطبرستان سنة أربع وثلاثمائة، وسنة تسع وسبعون سنة، وانتصب في منصبه الحسن ابن القاسم بن الحسين الحسني، ويلقب بالداعي إلى الحق. وهي أم أخيه أبى القاسم علي المرتضى أيضا. وحفظ الرضي رحمه الله القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة، وعرف من الفقه والفرائض طرفا قويا. وكان رحمه الله عالما أديبا، وشاعرا مفلقا، فصيح النظم، ضخم الألفاظ، قادرا على القريض، متصرفا في فنونه، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الألفاظ في المدح (1) أتى بما لا يشق فيه غباره، وإن قصد في المراثي جاء سابقا والشعراء منقطع أنفاسها على أثره. وكان مع هذا مترسلا ذا كتابة قوية، وكان عفيفا شريف النفس، عالي الهمة، ملتزما (2) بالدين وقوانينه، ولم يقبل من أحد صلة ولا جائزة، حتى أنه رد صلات أبيه، وناهيك بذلك شرف نفس، وشدة ظلف (3). فاما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل. وكان يرضى بالاكرام وصيانة الجانب وإعزاز الاتباع والأصحاب، وكان الطائع (4) أكثر ميلا إليه من القادر (5)، وكان هو أشد حبا وأكثر ولاء للطائع منه للقادر، وهو القائل للقادر في قصيدته التي مدحه بها، منها:
(1) ب: " في المدح وغيره ". (2) ب: " مستلزما "، وما أثبته عن أ. (3) الظلف، من ظلف نفسه عن الشئ بظلفها ظلفا: منعها وحبسها. (4) هو أبو بكر عبد الكريم الطائع لأمر الله، بويع بالخلافة له سنة 363، ثم خلع، وقبض عليه الديلم سنة 381، وبويع لأخيه القادر، فحمل إليه الطائع، وبقي عنده إلى أن توفي سنة 393. الفخري 254، وابن الأثير حوادث سنة 381. (5) هو أبو العباس أحمد بن إسحاق بن المقتدر، المعروف بالقادر، بويع له بالخلافة بعد خلع أخيه، وتوفي سنة 422. الفخري 254. 33 عطفا أمير المؤمنين فإننا * في دوحة العلياء لا نتفرق (1) ما بيننا يوم الفخار تفاوت * أبدا كلانا في المعالي معرق إلا الخلافة شرفتك فإنني * أنا عاطل منها وأنت مطوق فيقال أن القادر قال له على رغم أنف الشريف. وذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ في وفاة الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري الفقيه المالكي، قال: كان شيخ الشهود المعدلين ببغداد ومتقدمهم، وسمع الحديث الكثير، وكان كريما مفضلا على أهل العلم، قال: وعليه قرأ الشريف الرضي رحمه الله القرآن، وهو شاب حدث " السن " (3)، فقال له يوما: أيها الشريف أين مقامك؟ قال: في دار أبى، بباب محول، فقال: مثلك لا يقيم بدار أبيه، قد نحلتك داري بالكرخ المعروفة بدار البركة. فامتنع الرضي من قبولها وقال له: لم أقبل من أبى قط شيئا، فقال إن حقي عليك أعظم من حق أبيك عليك، لأني حفظتك كتاب الله تعالى فقبلها (4). وكان الرضي لعلو همته تنازعه نفسه (5) إلى أمور عظيمة يجيش بها خاطره، وينظمها شعره، ولا يجد من (6) الدهر عليها مساعدة، فيذوب كمدا، ويفنى وجدا، حتى توفي ولم يبلغ غرضا. فمن ذلك قوله: ما أنا للعلياء إن لم يكن * من ولدي ما كان من والدي (7) ولا مشت بي الخيل إن لم أطأ * سرير هذا الأصيد الماجد (8)
(1) ديوانه لوحة 40. (2) الديوان: " ميزتك وإنني ". (3) تكملة من أ. (4) المنتظم " حوادث سنة 393. (5) أ: " في " وما أثبته عن ب. (6) أ: " في الدهر " وما أثبته عن ب. (7) ديوانه، لوحة 89. (8) ديوانه " الأغلب الماجد ". 34 ومنه قوله: متى تراني مشيحا في أوائلهم * يطفو بي النقع أحيانا ويخفيني (1) " لتنظرني مشيحا في أوائلها * يغيب بي النقع أحيانا ويبديني " (2) لا تعرفوني إلا بالطعان وقد * أضحى لثامي معصوبا بعرنيني (3) ومنه قوله - يعني نفسه: فوا عجبا مما يظن محمد * وللظن في بعض المواطن غدار (4) يؤمل أن الملك طوع يمينه (5) * ومن دون ما يرجو المقدر أقدار لئن هو أعفى للخلافة لمة * لها طرر فوق الجبين وإطرار ورام العلا بالشعر والشعر دائبا * ففي الناس شعر خاملون وشعار وإني أرى زندا تواتر قدحه * ويوشك يوما أن تكون له نار ومنه قوله (6): لا هم قلبي بركوب العلا * يوما ولا بلت يدي بالسماح (7)
(1) ديوانه ص 522 - مطبعة نخبة الاخبار، من قصيدة يذكر فيها القبض على الطائع لله، ويصف خروجه من الدار سليما، وأنه حين أحسن بالامر بادر ونزل دجلة، وتلوم من القضاة والاشراف والشهود، فامتهنوا وأخذت ثيابهم. ومطلعها: لواعج الشوق تخطيهم وتصميني * واللوم في الحب ينهاهم ويغريني ولو لقوا بعض ما ألقى نعمت بهم * لكنهم سلموا مما يعنيني (2) هذا البيت لم يذكر في أ، ب، وهو في المطبوعة المصرية والديوان. (3) الديوان " إذا " (4) ديوانه لوحة 214، وروايته: " غرار ". وفي أ: " بعض المواضع ". (5) الديوان " يقدر أن الملك ". (6) ديوانه لوحة 84، من قصيدة أولها: نبهتهم مثل عوالي الرماح * إلى الوغى قبل نموم الصباح فوارس نالوا المنى بالقنا * وصافحوا أغراضهم بالصفاح (7) الديوان: " ولا بل يدي ". 35 إن لم أنلها باشتراط كما * شئت على بيض الظبي واقتراح أفوز منها باللباب * الذي يعيي الأماني نيله والصراح فما الذي يقعدني عن مدى * ما هو بالبسل ولا باللقاح يطمح من لا مجد يسمو به * إني إذا أعذر عند الطماح أما فتى نال المنى فاشتفى * أو بطل ذاق الردى فاستراح! وفي هذه القصيدة ما هو أخشن مسا، وأعظم نكاية، ولكنا عدلنا عنه وتخطيناه، كراهية لذكره. وفي شعره الكثير الواسع من هذا النمط. * * * وكان أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي (1) الكاتب له صديقا، وبينهما لحمة الأدب ووشائجه، ومراسلات (2) ومكاتبات بالشعر، فكتب الصابي إلى الرضي في هذا النمط: أبا حسن لي في الرجال فراسة * تعودت منها أن تقول فتصدقا (3) وقد خبرتني عنك أنك ماجد * سترقى إلى العلياء أبعد مرتقى (4) فوفيتك التعظيم قبل أوانه * وقلت أطال الله للسيد البقا
(1) هو أبو إسحاق الصابي، صاحب الرسائل المشهورة، كان كاتب الانشاء ببغداد عن الخليفة، وعن عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه الديلمي، وكان صابئيا متشددا في دينه، وجهد عليه عز الدولة أن يسلم فلم يفعل، ولكنه كان يصوم شهر رمضان مع المسلمين، ويحفظ القرآن الكريم أحسن حفظ، ويستعمله في رسائله، ولما مات رثاه الشريف بقصيدته الدالية المشهورة: أرأيت من حملوا على الأعواد * أرأيت كيف خبا ضياء النادي وعاتبه الناس في ذلك لكونه شريفا يرثي صابئا، فقال: إنما رثيت فضله. توفي سنة 384. " ابن خلكان 1: 12 ". (2) ب: " وبينهما ". (3) ديوان الرضي، لوحة 194. (4) الديوان " من العلياء ". 36 وأضمرت منه لفظة لم أبح بها * إلى أن أرى إظهارها لي مطلقا فإن مت أو إن عشت فاذكر بشارتي * وأوجب بها حقا عليك محققا وكن لي في الأولاد والأهل حافظا * إذا ما اطمأن الجنب في مضجع البقا فكتب إليه الرضي جوابا عن ذلك قصيدة، أولها: سننت لهذا الرمح غربا مذلقا * وأجريت في ذا الهندواني رونقا (1) وسومت ذا الطرف الجواد وإنما * شرعت لها نهجا فخب وأعنقا وهي قصيدة طويلة ثابتة في ديوانه، يعد فيها نفسه، ويعد الصابي أيضا ببلوغ آماله إن ساعد الدهر وتم المرام، وهذه الأبيات أنكرها الصابي لما شاعت، وقال: إني عملتها في الحسن علي بن عبد العزيز حاجب النعمان، كاتب الطائع، وما كان الامر كما ادعاه، ولكنه خاف على نفسه. * * * وذكر أبو الحسن الصابي (2) وابنه غرس النعمة محمد في تاريخهما أن القادر بالله عقد مجلسا أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الموسوي وابنه أبا القاسم المرتضى وجماعة من القضاة والشهود والفقهاء، وأبرز إليهم أبيات الرضي أبي الحسن التي أولها: ما مقامي على الهوان وعندي * مقول صارم وأنف حمي (3) وإباء محلق بي عن الضيم * كما زاغ طائر وحشي أي عذر له إلى المجد إن * ذل غلام في غمده المشرفي
(1) ديوانه، 194. (2) هو هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي، حفيد أبي إسحاق الصابي، ذكر صاحب كشف الظنون 290 أن ثابت بن قرة الصابي كتب تاريخا سنة 190 إلى سنة 363، وذيله ابن أخته هلال بن محسن الصابي، وانتهى إلى سنة 447، وذيله ولده غرس النعمة محمد بن هلال ولم يتم. (3) ديوانه 546 (مطبعة نخبة الأخيار) 37 أحمل الضيم في بلاد الأعادي (1) * وبمصر الخليفة العلوي من أبوه أبى ومولاه مولاي * إذا ضامني البعيد القصي لف عرقي بعرفة سيدا الناس * جميعا محمد وعلي وقال القادر للنقيب أبى أحمد: قل لولدك محمد: أي هو ان قد أقام عليه عندنا! وأي ضيم لقى من جهتنا! وأي ذل أصابه في مملكتنا (2)! وما الذي يعمل معه صاحب مصر أكثر من هذا ما نظنه كان يكون لو حصل عنده الا واحدا من أبناء الطالبيين بمصر فقال النقيب أبو أحمد اما هذا الشعر فمما لم نسمعه منه ولا رأيناه بخطه ولا يبعد ان يكون بعض أعدائه نحله إياه وعزاه إليه فقال القادر إن كان كذلك فلتكتب الان محضرا يتضمن القدح في أنساب ولاه مصر ويكتب محمد خطه فيه فكتب محضرا بذلك شهد فيه جميع من حضر المجلس منهم النقيب أبو أحمد وابنه المرتضى وحمل المحضر إلى الرضى ليكتب خطه فيه حمله أبوه وأخوه فامتنع من سطر خطه وقال لا اكتب وأخاف دعاه صاحب مصر وأنكر الشعر وكتب خطه وأقسم فيه انه ليس بشعره وانه لا يعرفه فأجبره أبوه على أن يكتب خطه في المحضر فلم يفعل وقال أخاف دعاه المصريين وغيلتهم لي فإنهم معروفون بذلك فقال أبوه يا عجباه ا تخاف من بينك وبينه ستمائة فرسخ ولا تخاف من بينك وبينه مائه ذراع وحلف الا يكلمه وكذلك المرتضى فعلا ذلك تقيه وخوفا من القادر
(1) الديوان: " ألبس الذل في ديار الأعادي ". (2) ب: " في ملكنا ". (3) ب،: " ضيعتنا ". (4) ب،: " فكتب محضر "، بالبناء للمجهول. (6) ب،: " يسطر ". 38 وتسكينا له ولما انتهى الامر إلى القادر سكت على سوء أضمره وبعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة وولاها محمد بن عمر النهر سايسي. وقرات بخط محمد بن إدريس الحلي الفقيه الامامي قال حكى أبو حامد أحمد بن محمد الأسفراييني الفقيه الشافعي قال كنت يوما عند فخر الملك أبى غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضى أبو الحسن فأعظمه وأجله ورفع من منزلته وخلى ما كان بيده من الرقاع و القصص واقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسم رحمه الله فلم يعظمه ذلك التعظيم ولا أكرمه ذلك الاكرام وتشاغل عنه برقاع يقرؤها وتوقيعات يوقع بها فجلس قليلا وسأله أمرا فقضاه ثم انصرف. قال أبو حامد فتقدمت إليه وقلت له أصلح الله الوزير الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا، فلما لم يبق إلا غلمانه وحجابه، دعا بالطعام، فلما أكلنا وغسل يديه وانصرف عنه أكثر آ غلمانه، ولم يبق عنده غيري، قال لخادم: هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام، وأمرتك أن تجعلهما في السفط الفلاني. فأحضرهما، فقال: هذا كتاب الرضي اتصل بي أنه قد ولد له ولد، فأنفذت إليه ألف دينار، وقلت له: هذه للقابلة، فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء
(1) منسوب إلى نهر سايس، فوق واسط. " ياقوت ". 39 إلى أخلائهم وذوي مودتهم مثل هذا. في مثل هذه الحال، فردها وكتب إلي: هذا الكتاب فأقرأه، قال: فقرأته، وهو اعتذار عن الرد، وفي جملته: إننا أهل بيت لا نطلع على أحوالنا قابلة غريبة، وإنما عجائزنا يتولين هذا الامر من نسائنا، ولسن ممن يأخذن أجره، ولا يقبلن صلة. قال: فهذا هذا. وأما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا وقسطنا على الأملاك ببادوريا تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى، فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما، ثمنها دينار واحد، قد كتب إلي منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب، فأقرأه، فقرأته، وهو أكثر من مائة سطر، يتضمن من الخضوع والخشوع والاستمالة والهز والطلب والسؤال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه. قال فخر الملك: فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل؟ هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد ونفسه هذه النفس، أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة، ونفسه تلك النفس! فقلت: وفق الله تعالى سيدنا الوزير، فما زال موفقا، والله ما وضع سيدنا الوزير الامر إلا في موضعه، ولا أحله إلا في محله! وقمت فانصرفت. * * * وتوفي الرضي رحمه الله في المحرم من سنة أربع وأربعمائة، وحضر الوزير فخر الملك، وجميع الأعيان والاشراف والقضاة جنازته، والصلاة عليه، ودفن في داره بمسجد الأنباريين بالكرخ، ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر عليهما السلام، لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه، وصلى عليه فخر الملك أبو غالب، ومضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي، فألزمه بالعود إلى داره.
40 ومما رثاه به أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التي من جملتها (1): يا للرجال لفجعة جذمت يدي * ووددت لو ذهبت علي برأسي (2) ما زلت آبي وردها حتى أتت * فحسوتها في بعض ما أنا حاسي ومطلتها زمنا فلما صممت * لم يثنها مطلي وطول مكاسي لله عمرك من قصير طاهر * ولرب عمر طال بالأدناس! * * * وحدثني فخار بن معد العلوي الموسوي رحمه الله، قال: رأى المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان الفقيه الامام في منامه، كأن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت عليه وهو في مسجده بالكرخ، ومعها ولداها: الحسن والحسين عليهما السلام، صغيرين، فسلمتهما إليه، وقالت له: علمهما الفقه. فانتبه متعجبا من ذلك، فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر، وحولها جواريها وبين يديها ابناها محمد الرضي وعلي المرتضى صغيرين، فقام إليها وسلم عليها (3)، فقالت له (3): أيها الشيخ، هذان ولداي، قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه فبكى أبو عبد الله وقص عليها المنام، وتولى تعليمهما الفقه (3)، وأنعم الله عليهما، وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا، وهو باق ما بقي الدهر (4).
(1) ب: " التي من جملة مرثيته "، وما أثبته عن أ. (2) ديوانه ج 2، لوحة 142 " مصورة دار الكتب المصرية ". (3) ساقط من ب. (4) وانظر ترجمة الشريف الرضي أيضا في أخبار المحمدين من الشعراء 88 - 89، وإنباه الرواة 3: 114 - 115، وتاريخ ابن الأثير 7: 280، وتاريخ بغداد 2: 246 - 247، وتاريخ أبي الفدا 2: 145، وتاريخ ابن كثير 12: 3 - 4، وابن خلكان 2: 2 - 4، ودمية القصر 73 - 75، وروضات الجنان 573 - 579، وشذرات الذهب 3: 182، وعيون التواريخ " وفيات 406 "، ولسان الميزان 5: 141، ومرآة الجنان 3: 18 - 20، والمنتظم لابن الجوزي " وفيات 406 "، والنجوم الزاهرة 4: 240، والوافي بالوفيات 2: 374 - 379، ويتيمة الدهر 3: 116 - 135، وله أيضا ترجمة في مقدمة كتابه المجازات النبوية " طبع بغداد " منقولة عن كتاب " تأسيس الشيعة الكرام لفنون الاسلام "، بتحقيق السيد حسن صدر بالدين. 41 القول في شرح خطبة نهج البلاغة قال الرضي رحمه الله: بسم الله الرحمن الرحيم " أما بعد حمد (1) الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه، ومعاذا من بلائه، ووسيلا إلى جنانه، وسببا لزيادة إحسانه. والصلاة على رسوله، نبي الرحمة، وإمام الأئمة، وسراج الأمة، المنتجب من طينة الكرم، وسلالة المجد الأقدم، ومغرس الفخار المعرق، وفرع العلاء المثمر المورق، وعلى أهل بيته مصابيح الظلم، وعصم الأمم، ومنار الدين الواضحة، ومثاقيل الفضل الراجحة. فصلى الله عليهم أجمعين، صلاة تكون إزاء لفضلهم، ومكافأة لعملهم، وكفاء لطيب أصلهم وفرعهم، ما أنار (2) فجر طالع، وخوى نجم ساطع (3) ". * * * الشرح: اعلم أني لا أتعرض في هذا الشرح للكلام فيما قد فرغ من أئمة العربية، ولا لتفسير ما هو ظاهر مكشوف، كما فعل القطب الراوندي، فإنه شرع أولا في تفسير قوله: " أما بعد "، ثم قال: هذا هو فصل الخطاب، ثم ذكر ما معنى الفصل، وأطال فيه، وقسمه أقساما، يشرح ما قد فرع له منه، ثم شرح الشرح. وكذلك أخذ يفسر قوله: " من بلائه "، وقوله: " إلى جنانه "، وقوله: " وسببا "، وقوله: " المجد "، وقوله:
(1) أ: " حمدا ". (2 - 2) ب: " ما أنار فجر ساطع، وخوى نجم طالع ". وكذا في مخطوطة النهج. 42 " الأقدم "، وهذا كله إطالة وتضييع للزمان من غير فائدة، ولو أخذنا بشرح مثل ذلك لوجب أن نشرح لفظه " أما " المفتوحة، وأن نذكر الفصل بينها وبين " إما " المكسورة، ونذكر: هل المكسورة من حروف العطف أو لا؟ ففيه خلاف، ونذكر هل المفتوحة مركبة أو مفردة؟ ومهملة أو عاملة؟ ونفسر معنى قول الشاعر: أبا خراشة أما كنت ذا نفر * فإن قومي لم تأكلهم الضبع (1) بالفتح، ونذكر بعد لم ضمت إذا قطعت عن الإضافة؟ ولم فتحت هاهنا حيث أضيفت؟ ونخرج عن المعنى الذي قصدناه من موضوع الكتاب، إلى فنون أخرى قد أحكمها أربابها. ونبتدئ الآن فنقول: قال لي إمام من أئمة اللغة في زماننا: هو الفخار، بكسر الفاء، قال: وهذا مما يغلط فيه الخاصة فيفتحونها، وهو غير جائز، لأنه مصدر " فاخر "، وفاعل يجئ مصدره على " فعال " بالكسر لا غير، نحو: قاتلت قتالا، ونازلت نزالا، وخاصمت خصاما، وكافحت كفاحا، وصارعت صراعا. وعندي أنه لا يبعد أن تكون الكلمة مفتوحة الفاء، وتكون مصدر " فخر " لا مصدر " فاخر "، فقد جاء مصدر الثلاثي إذا كان عينه أو لامه حرف حلق على " فعال "، بالفتح، نحو سمح سماحا، وذهب ذهابا، اللهم إلا أن ينقل ذلك عن شيخ أو كتاب موثوق به نقلا صريحا، فتزول الشبهة. والعصم جمع عصمة، وهو ما يعتصم به. والمنار: الاعلام، واحدها منارة، بفتح الميم. والمثاقيل: جمع مثقال، وهو مقدار وزن الشئ، تقول مثقال حبة، ومثقال قيراط، ومثقال دينار. وليس كما تظنه العامة أنه اسم للدينار خاصة، فقوله: " مثاقيل الفضل "، أي زنات الفضل، وهذا من باب الاستعارة. وقوله: " تكون إزاء لفضلهم "، أي مقابلة له. ومكافأة بالهمز، من كافأته أي جازيته، وكفاء، بالهمز والمد، أي نظيرا.
(1) البيت لعباس بن مرداس السلمي، وأبو خراشة كنية خفاف بن ندبة. " اللسان 8: 183 ". 43 وخوى النجم، أي سقط. وطينة المجد، أصله. وسلالة المجد فرعه. والوسيل: جمع وسيلة هو ما يتقرب به، ولو قال: " وسبيلا إلى جنانه " لكان حسنا وإنما قصد الإغراب، على أنا قد قرأناه كذلك في بعض النسخ. وقوله: " ومكافأة لعملهم " إن أراد أن يجعله قرينة " لفضلهم " كان مستقبحا عند من يريد البديع، لان الأولى ساكنة الأوسط، والأخرى متحركة الأوسط. وأما من لا يقصد البديع كالكلام القديم فليس بمستقبح، وإن لم يرد أن يجعلها قرينه بل جعلها من حشو السجعة الثانية، وجعل القرينة " واصلهم "، فهو جائز إلا أن السجعة الثانية تطول جدا. ولو قال عوض " لعملهم "، " لفعلهم " لكان حسنا. * * * قال الرضي رحمه الله: " فإني كنت في عنفوان السن، وغضاضة الغصن، ابتدأت تأليف كتاب في خصائص الأئمة عليهم السلام، يشتمل على محاسن أخبارهم، وجواهر كلامهم، حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب، وجعلته أمام الكلام. وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا، صلوات الله عليه، وعاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام، ومماطلات الزمان. وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا، وفصلته فصولا، فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام، من الكلام القصير في المواعظ والحكم والأمثال والآداب، دون الخطب الطويلة، والكتب المبسوطة، فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره، معجبين ببدائعه، ومتعجبين من نواصعه، وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وأدب علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة، وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنياوية، ما لا يوجد مجتمعا في كلام، ولا مجموع الأطراف
44 في كتاب، إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومنشأ البلاغة ومولدها، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سبق وقصروا، وقد تقدم وتأخروا، لان كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النبوي ". * * * الشرح: عنفوان السن: أولها. ومحاجزات الأيام: ممانعاتها. ومماطلات الزمان: مدافعاته. وقوله: " معجبين " ثم قال: و " متعجبين "، ف " معجبين " من قولك: أعجب فلان برأيه، وبنفسه فهو معجب بهما، والاسم العجب بالضم، ولا يكون ذلك إلا في المستحسن، و " متعجبين " من قولك: تعجبت من كذا، والاسم العجب. وقد يكون في الشئ يستحسن ويستقبح ويتهول منه ويستغرب، مراده هنا التهول والاستغراب، ومن ذلك قول أبي تمام: أبدت أسى إذ رأتني مخلس القصب * وآل ما كان من عجب إلى عجب (1) يريد أنها كانت معجبة به أيام الشبيبة لحسنه، فلما شاب انقلب ذلك العجب عجبا، إما استقباحا له أو تهولا منه واستغرابا. وفي بعض الروايات: " معجبين ببدائعه "، أي أنهم يعجبون غيرهم. والنواصع: الخالصة. وثواقب الكلم: مضيئاتها، ومنه الشهاب الثاقب. وحذا كل قائل: اقتفى واتبع. وقوله: " مسحة " يقولون. على فلان مسحة من جمال، مثل قولك: شئ، وكأنه هاهنا يريد ضوءا وصقالا. وقوله: " عبقة "، أي رائحة،
(1) ديوانه 1: 115، مطلع قصيدة يمدح فيها الحسن بن سهل. المخلس، من قولهم: أخلس رأسه إذا صار فيه بياض وسواد. والقصب: جمع قصبة، وهي خصلة من الشعر تجعل كهيئة القصبة الدقيقة. " من شرح الديوان ". 45 ولو قال عوض " العلم الإلهي " " الكتاب الإلهي " لكان أحسن. * * * قال الرضي رحمه الله: " فأجبتهم إلى الابتداء بذلك، عالما بما فيه من عظيم النفع، ومنشور الذكر، ومذخور الاجر. واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدثرة، والفضائل الجمة، وأنه انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين، الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر، والشاذ الشارد، فأما كلامه عليه السلام فهو البحر الذي لا يساجل، والجم الذي لا يحافل، وأردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به صلوات الله عليه بقول الفرزدق: أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع " * * * الشرح: المحاسن الدثرة: الكثيرة، مال دثر، أي كثير، والجمة مثله، ويؤثر عنهم، أي يحكي وينقل، قلته آثرا، أي حاكيا، ولا يساجل، أي لا يكاثر، أصله من النزع بالسجل، وهو الدلو الملئ، قال: من يساجلني يساجل ماجدا * يملأ الدلو إلى عقد الكرب (1) ويروى: " ويساحل " بالحاء، من ساحل البحر وهو طرفه، أي لا يشابه في بعد ساحله. ولا يحافل، أي لا يفاخر بالكثرة، أصله من الحفل، وهو الامتلاء. والمحافلة: المفاخرة بالامتلاء، ضرع حافل، أي ممتلئ.
(1) للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب، اللسان 13: 346، ونقل عن ابن بري: " أصل المساجلة، أن يستقي ساقيان فيخرج كل واحد منهما في سجله مثل ما يخرج الآخر، فأيهما نكل فقد غلب، فضربته العرب أصلا للمفاخرة ". 46 والفرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي، ومن هذه الأبيات (1): ومنا الذي اختير الرجال سماحة * وجودا إذا هب الرياح الزعازع (2) ومنا الذي أحيا الوئيد وغالب * وعمرو ومنا حاجب والأقارع (3) ومنا الذي قاد الجياد على الوجا (4) * بنجران حتى صبحته الترائع ومنا الذي أعطى الرسول عطية * أسارى تميم والعيون هوامع الترائع: الكرام من الخيل، يعني غزاة الأقرع بن حابس قبل الاسلام بني تغلب بنجران، وهو الذي أعطاه الرسول يوم حنين أسارى تميم - ومنا غداة الروع فرسان غارة * إذا منعت بعد الزجاج الأشاجع (5) ومنا خطيب لا يعاب وحامل * أغر إذا التفت عليه المجامع (6) - أي إذا مدت الأصابع بعد الزجاج إتماما لها، لأنها رماح قصيرة. وحامل، أي حامل للديات -
(1) من نقيضته لقصيدة جرير التي أولها: ذكرت وصال البيض والشيب شائع * ودار الصبا من عهدهن بلاقع وهما في النقائض 685 - 705 " طبع أوروبا "، ويختلف ترتيب القصيدة هنا عن ترتيبها هناك. (2) رواية النقائض: " منا الذي اختير "، بحذف الواو، وهو ما يسمى بالخرم، فتحذف الفاء من " فعولن "، في أول البيت من القصيدة. وانظر خبر غالب بن صعصعة، أبو الفرزدق مع عمير بن قيس الشيباني وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري في الأغاني 19: 5 " طبعة الساسي ". (3) الذي أحيا الوئيد، هو جده صعصعة بن ناجية بن عقال، وغالب أبوه، وعمرو بن عمرو بن عدس، والأقارع: الأقرع، وفراس ابنا حابس بن عقال، وانظر أخبار هؤلاء جميعا في شرح النقائض. (4) الوجا: الحفا. (5) منعت، يريد ارتفعت بالسيوف بعد الطعان بالرماح. والأشاجع: عصب ظاهر الكف. وفي الديوان " فتيان غارة ". (6) قوله: " خطيب " نعني شبه بن عقال بن صعصعة. والحامل، يعني عبد الله بن حكيم بن نافد، من بني حوي بن سفيان بن مشاجع، الذي حمل الحملات يوم المربد حين قتل مسعود بن عمرو العتكي، وكان يقال له القرين. والأغر من الرجال: المعروف كما يعرف الفرس بغرته في الخيل، يقول: فهو معروف في الكرم والجود. " من شرح النقائض ". 47 أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع بهم اعتلى ما حملتنيه دارم (1) * وأصرع أقراني الذين أصارع أخذنا بآفاق السماء عليكم * لنا قمراها والنجوم الطوالع (2) فوا عجبا حتى كليب تسبني * كان أباها نهشل أو مجاشع! * * * قال الرضي رحمه الله: " ورأيت كلامه عليه السلام، يدور على أقطاب ثلاثة: أولها الخطب والأوامر، وثانيها الكتب والرسائل، وثالثها الحكم والمواعظ، فأجمعت بتوفيق الله سبحانه على الابتداء باختيار محاسن الخطب، ثم محاسن الكتب، ثم محاسن الحكم والأدب، مفردا لكل صنف من ذلك بابا، ومفصلا فيه أوراقا، ليكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا، ويقع إلي آجلا، وإذا جاء شئ من كلامه الخارج في أثناء حوار، أو جواب سؤال، أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها، وقررت القاعدة عليها، نسبته إلى أليق الأبواب به، وأشدها ملامحة لغرضه. وربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة، ومحاسن كلم غير منتظمة، لأني أورد النكت واللمع، ولا أقصد التتالي والنسق ". الشرح: قوله: " أجمعت على الابتداء "، أي عزمت. وقال القطب الراوندي: تقديره: أجمعت عازما على الابتداء، قال: لأنه لا يقال إلا أجمعت الامر، ولا يقال: أجمعت على الامر، قال سبحانه: " فأجمعوا أمركم " (3).
(1) النقائض: ما حملتني مجاشع ". (2) قمراها: الشمس والقمر، فغلب المذكر مع حاجته إلى إقامة البيت. (3) سورة يونس 71. 48 هذا الذي ذكره الراوندي خلاف نص أهل اللغة، قالوا: أجمعت الامر، وعلى الامر كله جائز، نص صاحب " الصحاح " على ذلك. والمحاسن: جمع حسن، على غير قياس، كما قالوا: الملامح والمذاكر (2)، ومثله المقابح. والحوار، بكسر الحاء: مصدر حاورته، أي خاطبته. والأنحاء: الوجوه والمقاصد. وأشدها ملامحة لغرضه، أي أشدها إبصارا له ونظرا إليه، من لمحت الشئ وهذه استعارة، يقال: هذا الكلام يلمح الكلام الفلاني، أي يشابهه، كأن ذلك الكلام يلمح ويبصر من هذا الكلام. * * * قال الرضي رحمه الله: " ومن عجائبه عليه السلام التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمل، وفكر فيه المفكر (3)، وخلع من قلبه أنه كلام مثله، ممن عظم قدره، ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه، لم يعترضه الشك في أنه كلام من لاحظ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت، أو انقطع إلى (4) سفح جبل، لا يسمع إلا حسه، ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب، مصلتا سيفه، فيقط الرقاب، ويجدل الابطال، ويعود به ينطف دما، ويقطر مهجا، وهو مع تلك الحال، زاهد الزهاد، وبدل الابدال. وهذه من فضائله العجيبة، وخصائصه اللطيفة، التي جمع بها بين الأضداد، وألف بين الأشتات، وكثيرا ما أذاكر الاخوان بها، واستخرج عجبهم منها، وهي موضع العبرة بها (5)، والفكرة فيها. * * *
(1) الصحاح 3: 1198. (2) ب: " المذاكير "، وما أثبته عن أ. (3) ب: " المتفكر "، وما أثبته عن أ. (4) مخطوطة النهج: " في سفح ". (5) كلمة " بها " ساقطة من ب، وهي في أ. 49 الشرح: قبع القنفذ قبوعا، إذا أدخل رأسه في جلده، وكذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه، وكل من انزوى في جحر أو مكان ضيق فقد قبع. وكسر البيت: جانب الخباء. وسفح الجبل أسفله، وأصله حيث يسفح فيه الماء. ويقط الرقاب: يقطعها عرضا لا طولا، كما قاله الراوندي، وإنما ذاك القد، قددته طولا، وقططته عرضا. قال ابن فارس صاحب " المجمل ": قال ابن عائشة: كانت ضربات علي عليه السلام في الحرب أبكارا، إن اعتلى قد، وإن اعترض قط، ويجدل الابطال: يلقيهم على الجدالة، وهي وجه الأرض. وينطف دما: يقطر، والابدال: قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم، إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر، قد ورد ذلك في كثير من كتب الحديث. كان أمير المؤمنين عليه السلام ذا أخلاق متضادة. فمنها ما قد (1) ذكره الرضي رحمه الله، وهو موضع التعجب، لان الغالب على أهل الشجاعة والاقدام والمغامرة والجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية، وفتك وتمرد وجبرية، والغالب على أهل الزهد ورفض الدنيا وهجران ملاذها والاشتغال بمواعظ الناس وتخويفهم المعاد، وتذكيرهم الموت، أن يكونوا ذوي رقة ولين، وضعف قلب، وخور طبع، وهاتان حالتان متضادتان، وقد اجتمعتا له عليه السلام. ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وإراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية، وطباع حوشية وغرائز وحشية، وكذلك الغالب على أهل الزهادة وأرباب الوعظ والتذكير ورفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق، وعبوس في الوجوه، ونفار من الناس
(1) كلمة " قد " ساقطة من ب. 50 واستيحاش، وأمير المؤمنين عليه السلام كان أشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم، وأزهد الناس وأبعدهم عن ملاذ الدنيا، وأكثرهم وعظا وتذكيرا بأيام الله ومثلاته، وأشدهم اجتهادا في العبادة، وآدابا لنفسه في المعاملة. وكان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا، وأسفرهم وجها، وأكثرهم بشرا، وأوفاهم هشاشة، وأبعدهم عن انقباض موحش، أو خلق نافر، أو تجهم مباعد، أو غلظة وفظاظة تنفر معهما نفس، أو يتكدر معهما قلب. حتى عيب بالدعابة، ولما لم يجدوا فيه مغمزا ولا مطعنا تعلقوا بها، واعتمدوا في التنفير عنه عليها. * وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (1) * وهذا من عجائبه وغرائبه اللطيفة. ومنها أن الغالب على شرفاء الناس ومن هو من أهل بيت السيادة والرياسة أن يكون ذا كبر وتيه وتعظم وتغطرس، خصوصا إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى، وكان أمير المؤمنين عليه السلام في مصاص الشرف ومعدنه ومعانيه، لا يشك عدو ولا صديق أنه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه صلوات الله عليه، وقد حصل له من الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة، قد ذكرنا بعضها، ومع ذلك فكان أشد الناس تواضعا لصغير وكبير، وألينهم عريكة، وأسمحهم خلقا، وأبعدهم عن الكبر، وأعرفهم بحق، وكانت حاله هذه في كلا زمانيه: زمان خلافته،
(1) " الشكاة توضع موضع العيب والذم، وعير الرجل عبد الله بن الزبير بأمه، فقال ابن الزبير: * وتلك شكاة ظاهر عنك عارها * أراد أن تعبيره إياه بأن أمه كانت ذات النطاقين ليس بعار. ومعنى قوله: " ظاهر عنك عارها "، أي ناب، أراد أن هذا ليس عارا يلزق به، وأنه يفخر بذلك، لأنها إنما سميت ذات النطاقين، لأنه كان لها نطاقان تحمل في أحدهما الزاد إلى أبيها وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، وكانت تنتطق بالنطاق الآخر، وهي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها ". اللسان: " 19: 171 "، وديوان الهذليين (1: 21)، وهذا العجز لأبي ذؤيب الهذلي، وصدره: * وعيرها الواشون أني أحبها * 51 والزمان الذي قبله، لم تغيره الامرة، ولا أحالت خلقه الرياسة، وكيف تحيل الرياسة خلقه وما زال رئيسا! وكيف تغير الامرة سجيته وما برح أميرا لم! يستفد بالخلافة شرفا، ولا أكتسب بها زينة، بل هو كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل، ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف " بالمنتظم " تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر وعلي وقالوا فأكثروا، فرفع رأسه إليهم، وقال: قد أكثرتم! إن عليا لم تزنه الخلافة، ولكنه زانها. وهذا الكلام دال بفحواه ومفهومه على أن غيره ازدان بالخلافة وتممت نقيصته، وأن عليا عليه السلام لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمم بالخلافة، وكانت الخلافة ذات نقص في نفسها، فتم نقصها بولايته إياها. ومنها أن الغالب على ذوي الشجاعة وقتل الأنفس وإراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح، بعيدي العفو لان أكبادهم واغرة، وقلوبهم ملتهبة، والقوة الغضبية عندهم شديدة، وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في كثرة إراقة الدم وما عنده من الحلم والصفح، ومغالبة هوى النفس، وقد رأيت فعله يوم الجمل، ولقد أحسن مهيار في قوله (1): حتى إذا دارت رحى بغيهم * عليهم وسبق السيف العذل عاذوا بعفو ماجد معود * للعفو حمال لهم على العلل فنجت البقيا عليهم من نجا * وأكل الحديد منهم من أكل أطت بهم أرحامهم فلم يطع * ثائرة الغيظ ولم يشف الغلل ومنها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط، كان عبد الله بن الزبير شجاعا وكان أبخل الناس، وكان الزبير أبوه شجاعا وكان شحيحا، قال له عمر: لو وليتها لظلت تلاطم الناس
(1) من قصيدة في ديوانه 3: 109 - 116 يذكر فيها مناقب الإمام علي وما منى به من أعدائه. 52 في البطحاء على الصاع والمد. وأراد علي عليه السلام أن يحجر على عبد الله بن جعفر لتبذيره المال، فاحتال لنفسه، فشارك الزبير في أمواله وتجاراته، فقال عليه السلام: أما إنه قد لاذ بملاذ، ولم يحجر عليه. وكان طلحة شجاعا وكان شحيحا، أمسك عن الانفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر. وكان عبد الملك شجاعا وكان شحيحا، يضرب به المثل في الشح، وسمي رشح الحجر، لبخله. وقد علمت حال أمير المؤمنين عليه السلام في الشجاعة والسخاء، كيف هي وهذا من أعاجيبه أيضا عليه السلام! * * * قال الرضى رحمه الله: وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد، والمعنى المكرر، والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا، فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول، أما بزيادة مختارة، أو بلفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد استظهارا للاختيار، وغيرة على عقائل الكلام. وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا، فأعيد بعضه سهوا ونسيانا، لا قصدا أو اعتمادا. ولا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام، حتى لا يشذ عني منه شاذ، ولا يند ناد بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي، والحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي، وما علي إلا بذل الجهد، وبلاغة الوسع، وعلى الله سبحانه نهج السبيل، وإرشاد الدليل. ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب ب " نهج البلاغة "، إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها، ويقرب عليه طلابها، وفيه حاجة العالم والمتعلم، وبغية البليغ والزاهد، ويمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه الخلق، ما هو بلال كل غلة، وشفاء كل علة، وجلاء كل شبهة. ومن الله أستمد التوفيق والعصمة، وأتنجز التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ
53 اللسان، ومن زلة الكلم قبل زلة القدم، وهو حسبي ونعم الوكيل ". الشرح: في أثناء هذا الاختيار: تضاعيفه، واحدها ثني كعذق وأعذاق. والغيرة: بالفتح، والكسر خطأ. وعقائل الكلام: كرائمه، وعقيلة الحي: كريمته، وكذلك عقيلة الذود. والأقطار: الجوانب، وأحدها قطر. والناد: المنفرد، ند البعير يند. الربقة: عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة. وقوله: " وعلى الله نهج السبيل "، أي إبانته وإيضاحه، نهجت له نهجا. وأما أسم الكتاب ف " نهج البلاغة " والنهج هنا ليس بمصدر، بل هو اسم للطريق الواضح نفسه. والطلاب بكسر الطاء: الطلب. والبغية: ما يبتغي. وبلال كل غلة، بكسر الباء: ما يبل به الصدى، ومنه قوله: أنضحوا الرحم ببلالها، أي صلوها بصلتها وندوها، قال أوس: كأني حلوت الشعر حين مدحته * صفا صخرة صماء يبس بلالها (1) وإنما استعاذ من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان، لان خطأ الجنان أعظم وأفحش من خطأ اللسان، ألا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الانسان بلسانه وهو غير معتقد للكفر بقلبه، وإنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم لأنه أراد زلة القدم الحقيقية، ولا ريب أن زلة القدم أهون وأسهل، لان العاثر يستقيل من عثرته، وذا الزلة تجده ينهض من صرعته، وأما الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها، ولا ينهض صريعها، وطالما كانت لا شوى (3) لها، قال أبو تمام: يا زلة ما وقيتم شر مصرعها * وزلة الرأي تنسي زلة القدم (3)
(1) يهجو الحكم بن مروان بن زنباع، اللسان 13: 67، 18: 210 وحلا الرجل الشئ يحلوه، أعطاه إياه، أي جعل الشعر حلوانا له مثل العطاء. (2) لا شوى لها، أي لا برء لها، قال الكميت: أجيبوا رقي الآسي النطاسي واحذروا * مطفئة الرصيف التي لا شوى لها (3) ديوانه 3: 194، وروايته: " يا عثرة ما وقيتم ". 54 باب الخطب والأوامر
55 قال الرضي رحمه الله: باب المختار من خطب أمير المؤمنين صلوات الله عليه وأوامره ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة والمواقف المذكورة، والخطوب الواردة الشرح: المقامات: جمع مقامة، وقد تكون المقامة المجلس والنادي الذي يجتمع إليه الناس، وقد يكون اسما للجماعة، والأول أليق هاهنا بقوله. المحضورة، أي التي قد حضرها الناس. ومنذ الآن نبتدئ بشرح كلام أمير المؤمنين عليه السلام، ونجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه " الأصل " فإذا أنهيناه قلنا: " الشرح "، فذكرنا ما عندنا فيه وبالله التوفيق. * * * (1) الأصل: فمن خطبة له عليه السلام يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وخلق آدم " الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون، ولا يحصي نعماءه العادون، ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم، ولا يناله غوص الفطن. الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه ".
57 الشرح: الذي عليه أكثر الأدباء والمتكلمين أن الحمد والمدح أخوان، لا فرق بينهما، تقول: حمدت زيدا على أنعامه، ومدحته على أنعامه، وحمدته على شجاعته، ومدحته على شجاعته، فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الانسان، وفيما ليس من فعله، كما ذكرناه من المثالين، فأما الشكر فأخص من المدح، لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة، ولا يكون إلا صادرا من منعم عليه، فلا يجوز عندهم أن يقال: شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد. إن قيل: الاستعمال خلاف ذلك، لأنهم يقولون: حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد. قيل: ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان، فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد، وتكون لفظة " زيد " التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة، ويكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور، ومدحا باعتبار آخر، وهو المناداة على ذلك الجميل والثناء الواقع بجنسه. ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد والمدح والشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء والتعظيم، فإن استعمل شئ من ذلك في الافعال بالجوارح كان مجازا. وبقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان، فإن الاستعمال لا يساعدهم، لان أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره، أو شكره رياء وسمعه: إنه قد مدحه وشكره وإن كان منافقا عندهم. ونظير هذا الموضع الايمان، فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني، بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي، فأما
58 أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية (1) والامامية (2)، أو تؤخذ معه أمور أخرى وهي فعل الواجب وتجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة (3)، ولا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية (4)، فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا، ونظروا إلى مجرد الظاهر، فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا. والمدحة: هيئة المدح، كالركبة، هيئة الركوب، والجلسة هيئة الجلوس (5)، والمعنى مطروق جدا، ومنه في الكتاب العزيز كثير، كقوله تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " (6) وفي الأثر النبوي: " لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "، وقال الكتاب (7) من ذلك ما يطول ذكره، فمن جيد ذلك قول بعضهم: الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها، وإن عجزنا عن إحصائها وعدها. وقالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد: فما بلغت كف امرئ متناول * بها المجد إلا والذي نلت أطول (8)
(1) الأشعرية هم أصحاب أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، المنتسب إلى أبي موسى الأشعري، وهي جماعة الصفاتية، الذين يثبتون لله تعالى الصفات الأزلية، كالعلم والقدرة والحياة وغيرها. وانظر الكلام عليهم في الملل والنحل للشهرستاني 1: 58 - 94. (2) الامامية هم القائلون بإمامة علي رضي الله عنه بعد النبي عليه السلام، وهم فرق متعددة ذكرهم الشهرستاني في الملل والنحل 1: 144 - 154. (3) المعتزلة ويسمون أصحاب العدل والتوحيد، انظر أيضا الكلام عليهم، وتعداد فرقهم في المصدر السابق 1: 49 - 78. (4) الكرامية هم أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام، عدهم الشهرستاني من جماعة الصفاتية، لأنهم كانوا ممن يثبتون الصفات، إلا أنهم انتهوا فيها إلى التجسيم والتشبيه، الملل والنحل 1: 99 - 104. (5 - 5) أ: " كالركبة والجلسة هيئة الركوب والجلوس ". (6) سورة إبراهيم 34، النحل 18. (7) ب: " في الكتاب "، وكلمة " في " مقحمة. (8) ديوانها 184، والرواية هناك فما بلغت كف امرئ متناول * بها المجد إلا حيث ما نلت أطول وما بلغ المهدون في القول مدحة * ولا صفة إلا الذي فيك أفضل 59 ولا حبر المثنون في القول مدحة * وإن أطنبوا إلا وما فيك أفضل * * * ومن مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم الباري عز جلاله بلفظ (1) " الحمد " قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية: الحمد لله بقدر الله * لا قدر وسع العبد ذي التناهي والحمد لله الذي برهانه * أن ليس شأن ليس فيه شانه والحمد لله الذي من ينكره * فإنما ينكر من يصوره وأما قوله " الذي لا يدركه "، فيريد أن همم النظار وأصحاب الفكر وإن علت وبعدت فإنها لا تدركه تعالى، ولا تحيط به. وهذا حق لان كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا، أو متخيلا، أو موجودا من فطرة النفس، والاستقراء يشهد بذلك. مثال المحسوس السواد والحموضة، مثال المتخيل إنسان يطير، أو بحر من دم، مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم واللذة. ولما كان الباري سبحانه خارجا عن هذا أجمع (2) لم يكن متصورا. فأما قوله: " الذي ليس لصفته حد محدود " فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه وحقيقته يقول: ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة، لأنه ليس بمركب، وكل محدود مركب. ثم قال: " ولا نعت موجود " أي (3) ولا يدرك بالرسم، كما تدرك الأشياء برسومها، وهو أن تعرف بلازم من لوازمها، وصفة من صفاتها. ثم قال: " ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود "، فيه إشارة إلى الرد على من قال: إنا
(1) أ: " بلفظة ". (2) ب: " جميعا ". (3) ب: " لا يدرك "، من غير واو. 60 نعلم كنه الباري سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة، فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون: إنا نعرف حينئذ كنهه، فهو عليه السلام رد قولهم، وقال: إنه لا وقت أبدا على الاطلاق تعرف فيه حقيقته وكنهه، لا الآن ولا بعد الآن، وهو الحق، لأنا لو رأيناه في الآخرة وعرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين، ولا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته، ولا جهة له سبحانه. وقد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف ب " زيادات النقضين (1) "، وبينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة، وأنها لا تجري مجرى العلم، لان العلم لا يشخص المعلوم، والرؤية تشخص المرئي، والتشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة. واعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع، منها قوله تعالى: " ولا يحيطون به علما " (2) ومنها قوله: " ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير " (3) وقال بعض الصحابة: العجز عن درك الإدارك إدراك، وقد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحة المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي: أتبعته فكري حتى إذا بلغت * غاياتها بين تصويب وتصعيد (4) رأيت موضع برهان يلوح وما * رأيت موضع تكييف وتحديد (5) وهذا مدح يليق بالخالق تعالى، ولا يليق بالمخلوق. فأما قوله: " فطر الخلائق... " إلى آخر الفصل، فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز، فقوله: " فطر الخلائق بقدرته " من قوله تعالى: " قال من رب السماوات والأرض
(1) كذا في ب، وفي أ: " زيادات التقصير "، ولم أعثر على ذكر له في كتب التراجم والفهارس. (2) سورة طه 110. (3) سورة الملك 4. (4) ديوانه 210. (5) الديوان: " برهان يبين ". 61 وما بينهما " (1) وقوله: " ونشر الرياح برحمته " من قوله: يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته " (2). وقوله: " ووتد بالصخور ميدان أرضه "، من قوله: " والجبال أوتادا " (3). والميدان: التحرك والتموج. * * * فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال، إنه عليه السلام أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله، وذلك من ظاهر كلامه، ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمد الله، وأخبر عليه السلام أنه ثابت على ذلك مدة حياته، وأنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا، ولو قال " أحمد الله " لم يعلم منه جميع ذلك. ثم قال: والحمد أعم من الشكر، والله أخص من الاله، قال فأما قوله: " الذي لا يبلغ مدحته القائلون " فإنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه، فكيف بمحامده! والمعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذي حقت العبادة له في الأزل، واستحقها حين خلق الخلق، وأنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة. * * * ولقائل أن يقول: أنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله، وليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم: العظمة والجلال لهذا الملك، أنه قد أمرهم بتعظيمه وإجلاله. ولا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدة حياته، وأنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا. ولا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي! فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق، ولكن
(1) سورة الشعراء 24. (2) سورة الأعراف 57، وهي قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو (الجامع لأحكام القرآن 7: 229). (3) سورة النبأ 7. 62 ليس مستفادا من الكلام، وهو أنه (1) قال: إن ذلك موجود في الكلام. فأما قوله: لو كان قال: أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك، فإنه لا فرق في انتفاء دلالة " أحمد الله " على ذلك ودلالة " الحمد لله "، وهما سواء في أنهما لا يدلان على شئ من أحوال غير القائل، فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك ودوامه في حق غير القائل. وأما قوله: الله أخص من الاله، فإن أراد في أصل اللغة، فلا فرق، بل الله هو الاله وفخم بعد حذف الهمزة، هذا قول كافة البصريين، وإن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الأصنام لفظة " الآلهة " ولا يسمونها " الله " فحق، وذلك عائد إلى عرفهم واصطلاحهم، لا إلى أصل اللغة والاشتقاق، ألا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة، وإن كانت في أصل اللغة دابة! فأما قوله: قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده! فكلام يقتضى أن المدح غير الحمد، ونحن لا نعرف فرقا بينهما. وأيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب، لا من الممادح ولا من المحامد، ولا فيه تعرض لذكر الوجوب، وإنما نفى أن يبلغ القائلون مدحته، لم يقل غير ذلك. وأما قوله: الذي حقت العبادة له في الأزل واستحقها حين خلق الخلق، وأنعم بأصول النعم فكلام ظاهره متناقض، لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق، فكيف يقال: إنه استحقها في الأزل! وهل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة! واعلم أن المتكلمين لا يطلقون على الباري سبحانه أنه معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل (3)، لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى، ولا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة، حتى إنهم قالوا في الأثر الوارد: " يا قديم
(1) ب: " وهو إنما ". (2) ساقطة من ب. (3) أ: " ولا بالفعل ". 63 الاحسان ": إن معناه أن إحسانه متقادم العهد، لا أنه قديم حقيقة، كما جاء في الكتاب العزيز: " حتى عاد كالعرجون القديم " (1)، أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة. * * * ثم (2) قال الراوندي: والحمد والمدح يكونان بالقول وبالفعل، والألف واللام في " القائلون " لتعريف الجنس، كمثلهما في الحمد. والبلوغ المشارفة، يقال: بلغت المكان إذا أشرفت عليه، وإذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول فكيف توصل إليه بالفعل! والإله: مصدر بمعنى المألوه. * * * ولقائل أن يقول: الذي سمعناه أن التعظيم يكون بالقول والفعل وبترك القول والفعل، قالوا: فمن قال لغيره: يا عالم فقد عظمه، ومن قام لغيره فقد عظمه، ومن ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه، ومن كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه. وكذلك الاستخفاف والإهانة تكون بالقول والفعل وبتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم. فأما الحمد والمدح فلا وجه لكونهما بالفعل، وأما قوله: أن اللام في " القائلون " لتعريف الجنس، كما أنها في الحمد كذلك فعجيب، لأنها للاستغراق في " القائلون " لا شبهة في ذلك كالمؤمنين والمشركين، ولا يتم المعنى إلا به، لأنه للمبالغة، بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم. وجعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى إن أراد بالجنس المعهود، وإن أراد الجنسية العامة، فلا نزاع بيننا وبينه، إلا أن قوله: " كما أنها في الحمد كذلك " يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح، لأنها ليست في الحمد للاستغراق، يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق لما جاز أن يحمد رسول الله صلى الله عليه وآله ولا غيره من الناس، وهذا باطل.
(1) سورة يس 39. (2) كلمة " ثم " ساقطة من أ. 64 وأيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس، والأصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة، ولا يفيد الاستغراق، فإن جاء منه شئ للاستغراق، كقوله: " إن الانسان لفي خسر " (1)، وأهلك الناس الدرهم والدينار، فمجاز، والحقيقة ما ذكرناه. فأما قوله: البلوغ المشارفة: يقال: بلغت المكان إذا أشرفت عليه. فالأجود أن يقول قالوا: بلغت المكان، إذا شارفته، وبين قولنا: " شارفته "، و " أشرفت عليه " فرق. وأما قوله: " وإذا لم يشرف على حمده بالقول فكيف يوصل إليه بالفعل! "، فكلام مبني على أن الحمد قد يكون بالفعل، وهو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة. وقوله: والإله مصدر بمعنى المألوه، كلام طريف، أما أولا، فإنه ليس بمصدر، بل هو اسم كوجار للضبع، وسرار للشهر (2)، وهو اسم جنس كالرجل والفرس، يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غلب على المعبود بالحق، كالنجم اسم لكل كوكب، ثم غلب على الثريا، والسنة: اسم لكل عام، ثم غلب على عام القحط. وأظنه رحمه الله لما رآه " فعالا " ظن أنه اسم مصدر كالحصاد والجذاذ وغيرهما. وأما ثانيا، فلان المألوه صيغة " مفعول " وليست صيغة مصدر إلا في ألفاظ نادرة، كقولهم: ليس له معقول ولا مجلود، ولم يسمع " مألوه " في اللغة، لأنه قد ألفاظ نادرة، كقولهم: ليس له معقول ولا مجلود، ولم يسمع " مألوه " في اللغة، لأنه قد جاء: أله الرجل إذا دهش وتحير، وهو فعل لازم لا يبنى منه مفعول. * * * ثم قال الراوندي: وفي قول الله تعالى: " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها "، بلفظ الافراد. وقول أمير المؤمنين عليه السلام: " لا يحصي نعماءه العادون " بلفظ الجمع سر عجيب، لأنه تعالى أراد أن نعمة واحدة من نعمه لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمه. وأراد أمير المؤمنين عليه السلام أن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها، فكيف تعد
(1) سورة العصر 1. (2) السرار: بالفتح والكسر: آخر ليلة من الشهر 65 وجوه فروع نعمائه. وكذلك في كون الآية واردة بلفظة " إن " الشرطية وكلام أمير المؤمنين عليه السلام على صيغة الخبر، تحته لطيفة عجيبة، لأنه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمة لم تقدروا على حصرها، وعلي عليه السلام أخبر أنه قد أنعم النظر، فعلم أن أحدا لا يمكنه حصر نعمه تعالى. * * * ولقائل أن يقول: الصحيح أن المفهوم من قوله: " وإن تعدوا نعمة الله " الجنس، كما يقول القائل: أنا لا أجحد إحسانك إلي، وامتنانك علي، ولا يقصد بذلك إحسانا واحدا، بل جنس الاحسان. وما ذكره من الفرق بين كلام البارئ وكلام أمير المؤمنين عليه السلام غير بين، فإنه لو قال تعالى: وإن تعدوا نعم الله، وقال عليه السلام: ولا يحصي نعمته العادون، لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر. أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا ولا مليحة، لأنه لو انعكس الامر، فكان القرآن بصيغة الخبر، وكلام علي عليه السلام بصيغة الشرط، لكان مناسبا أيضا، حسب مناسبته، والحال بعكس ذلك، اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي عليه السلام تنبو عن لفظة الشرط، وإلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك لم تجد فرقا، ونحن نعوذ بالله من التعسف والتعجرف الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوى المنكرة. * * * ثم قال الراوندي: إنه لو قال أمير المؤمنين عليه السلام: " الذي لا يعد نعمه الحاسبون " لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته، لان اشتقاق الحساب من الحسبان، وهو الظن. قال: وأما اشتقاق العدد فمن العد، وهو الماء الذي له مادة، والإحصاء: الإطاقة، أحصيته، أي أطقته، فتقدير الكلام: لا يطيق عد نعمائه العادون، ومعنى ذلك
66 أن مدائحه تعالى لا يشرف على ذكرها الأنبياء والمرسلون، لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون، والكرام الكاتبون. * * * ولقائل أن يقول: أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن، كما توهمه، بل هو أصل برأسه، ألا ترى أن أحدهما حسبت أحسب، والآخر حسبت أحسب، وأحسب بالفتح والضم، وهو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة، وأيضا فإن " حسبت " بمعنى ظننت يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما، و " حسبت " من العدد يتعدى إلى مفعول واحد. ثم يقال له: وهب أن " الحاسبين " لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة، بل المبالغة كادت تكون أكثر، لان النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه. وأما قوله: العدد مشتق من العد، وهو الماء الذي له مادة، فليس كذلك، بل هما أصلان. وأيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر، لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد، لان المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها سواء، أكان المشتق فعلا أو اسما (1)، ألا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق: إن الضرب: الرجل الخفيف، مشتق من الضرب، أي السير في الأرض للابتغاء، قال الله تعالى: " لا يستطيعون ضربا في الأرض " (2)، فجعل الاسم منقولا ومشتقا من المصدر. وأما الإحصاء فهو الحصر والعد وليس هو الإطاقة كما ذكر، لا يقال: أحصيت الحجر، أي أطقت حمله. وأما ما قال: إنه معنى الكلمة فطريف، لأنه عليه السلام لم يذكر الأنبياء ولا الملائكة
(1) كذا عطف بأو بعد الهمزة التسوية، قال ابن هشام: وقد أولع الفقهاء وغيرهم بأن يقولوا: سواء أكان كذا أو كذا، والصواب العطف بأم. المعنى 1: 39. (2) سورة البقرة 273. 67 لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما، وأي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به، ومراده عليه السلام ظاهر، وهو أن نعمة جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما، هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص. * * * قال الراوندي: فأما قوله: " لا يدركه بعد الهمم "، فالادراك هو الرؤية والنيل والإصابة، ومعنى الكلام: الحمد لله الذي ليس بجسم ولا عرض، إذ لو كان أحدهما لرآه الراؤون إذا أصابوه، وأنما خص " بعد الهمم " بإسناد نفي الادراك " وغوص الفطن " بإسناد نفي النيل لغرض صحيح، وذلك أن الثنوية (1) يقولون بقدم النور والظلمة، ويثبتون النور جهة العلو، والظلمة جهة السفل، ويقولون: إن العالم ممتزج منهما، فرد عليه السلام عليهم بما معناه: إن النور والظلمة جسمان، والأجسام محدثة، والبارئ تعالى قديم. * * * ولقائل أن يقول: إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام، لأنه عليه السلام لم يقل: الذي لا تدركه العيون ولا الحواس، وإنما قال: " لا يدركه بعد الهمم "، وهذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه وحقيقته. وأيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية، لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له: هب أن الامر كما تزعم، ألست تريد بيان الامر الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الادراك، وخصص غوص الفطن بنفي النيل! وقلت: إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح، وما رأيناك أوضحت هذا الغرض، وإنما حكيت مذهب الثنوية، وليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الادراك دون نفي النيل، ولا يوجب تخصيص غوص الفطن
(1) الثنوية: هم أصحاب الاثنين الأزليين، يزعمون أن النور والظلمة أزليان قديمان. الشهرستاني 1: 224 68 بنفي النيل دون نفي الادراك، وأكثر ما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهي العالم: النور والظلمة، وهما جسمان، وأمير المؤمنين عليه السلام يقول: لو كان صانع العالم جسما لرئي، وحيث لم ير لم يكن جسما، أي شئ في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم والتخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه وقسمه لغرض صحيح!. ثم (1) قال الراوندي: ويجوز أن يقال: البعد والغوص مصدران هاهنا بمعنى الفاعل، كقولهم: فلان عدل، أي عادل وقوله تعالى: " إن أصبح ماؤكم غورا " (2)، أي غائرا، فيكون المعنى: لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل! ويكون المقصد بذلك الرد على من قال: أن محمدا صلى الله عليه وآله رأى ربه ليلة الاسراء، وأن يونس عليه السلام رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر. * * * ولقائل أن يقول: إن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة، لا يجوز القياس عليها، ولو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل، لأنه مصدر مضاف، والمصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل. ولو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه عليه السلام على الرد على من أثبت إن البارئ سبحانه مرئي، لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا، وإنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه، وإن الأفكار والانظار لا تحيط بكنهه، ولا تتعقل خصوصية ذاته، جلت عظمته. * * * ثم قال الراوندي: فأما قوله: " الذي ليس لصفته حد محدود، ولا نعت موجود، ولا وقت معدود، ولا أجل ممدود "، فالوقت: تحرك الفلك ودورانه على وجه، والأجل:
(1) كلمة " ثم " ساقطة من أ. (2) سورة الملك 30. 69 مدة الشئ، ومعنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد عند تجدد كل ساعة، ولهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها وهي الثانية، كما أبدل الثانية من الأولى. * * * ولقائل أن يقول: الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك، لا نفس حركته، والأجل ليس مطلق الوقت، ألا تراهم يقولون: جئتك وقت العصر، ولا يقولون، أجل العصر! والأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه، مأخوذ من أجل الدين، وهو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه. فأما قوله: ومعنى الكلام أن شكري متجدد لله تعالى في كل وقت، ففاسد، ولا ذكر في هذه الألفاظ للشكر، ولا أعلم من أين خطر هذا للراوندي! وظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط، لأنها صفات، كل واحدة منها صفة بعد أخرى، كما تقول: مررت بزيد العالم، الظريف، الشاعر. * * * قال الراوندي: فأما قوله: " الذي ليس لصفته حد " فظاهره إثبات الصفة له سبحانه، وأصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة، كما يثبتها الأشعرية، لكنهم يجعلونه على حال، ويجعلونه متميزا بذاته، فأمير المؤمنين عليه السلام بظاهر كلامه - وإن أثبت له صفة - إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثبات على الحقيقة. وقد سألني سائل فقال: هاهنا كلمتان، أحداهما كفر، والأخرى ليست بكفر، وهما: لله تعالى شريك غير بصير. ليس شريك الله تعالى بصيرا، فأيهما كلمه الكفر؟ فقلت له: القضية الثانية، وهي " ليس شريك الله تعالى بصيرا " كفر، لأنها تتضمن إثبات الشريك، وأما الكلمة الأخرى، فيكون معناها لله شريك غير بصير؟ بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة.
70 ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة والمعنى، ويبطل مذهب الأشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا، وأخذ في توحيد الصفة لم جاء؟ وكيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات؟ وانتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم (1)، ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين (2)، وأطال جدا فيما لا حاجة إليه (3). * * * ولقائل أن يقول: الامر أسهل مما تظن، فإنا قد بينا أن مراده نفي الإحاطة بكنهه، وأيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف، فيكون المعنى: لا ينتهي الواصف إلى حد إلا وهو قاصر عن النعت لجلالته وعظمته جلت قدرته!. فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما فالصواب غير ما أجاب به فيهما، وهو أن القضية الأولى كفر، لأنها صريحة في إثبات الشريك، والثانية لا تقتضي ذلك، لأنه قد ينفي قول الشريك بصيرا على أحد وجهين، أما لان هناك شريكا لكنه غير بصير، لان الشريك غير موجود وإذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا، فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا لم يكن كفرا، وصار كالأثر المنقول: " كان مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله لا تؤثر هفواته "، أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر وتحكى، (4 وليس أنه كان 4) المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر. * * * قال الراوندي: فأن قيل: تركيب هذه الجملة يدل على إنه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السماوات والأرض.
(1) هو أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي الجبائي، وانظر ص 9 من هذا الجزء. (2) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، وانظر ص 9 من هذا الجزء. (3) ب: " فيه ". (4 - 4) ب: " وليس المراد أنه قد كانت ". 71 قلنا: قد أختلف في ذلك فقيل: أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية، يخلق فيها، شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به، ولهذا قيل: تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث وقبيح. وقيل: لا مانع من تقديم خلق الجماد إذا علم أن علم بعض المكلفين فيما بعد بخلقه قبله لطف له. * * * ولقائل أن يقول: أما إلى حيث انتهى به الشرح فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه قبل خلق السماوات والأرض وإنما قد يوهم تأمل كلامه عليه السلام فيما بعد شيئا من ذلك، لما قال: " ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء "، على أنا إذا تأملنا لم نجد في كلامه عليه السلام ما يدل على تقديم خلق الحيوان، لأنه قبل أن يذكر خلق السماء لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق. وتارة قال: " أنشأ الخلق "، ودل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح، وأنه خلق الأرض وهي مضطربة فأرساها بالجبال، كل هذا يدل عليه كلامه، وهو مقدم في كلامه على فتق الهواء والفضاء وخلق السماء، فإما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره فلم يتعرض كلامه عليه السلام له، فلا معنى لجواب الراوندي. وذكره ما يذكره المتكلمون من أنه: هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا؟. * * * الأصل أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله،
72 ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال: " فيم " فقد ضمنه، ومن قال: " علام " فقد أخلى منه. * * * الشرح: إنما قال عليه السلام: " أول الدين معرفته "، لان التقليد باطل، وأول الواجبات الدينية المعرفة. ويمكن أن يقول قائل: ألستم تقولون في علم الكلام: أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى، وتارة تقولون: القصد إلى النظر؟ فهل يمكن الجمع بين هذا وبين كلامه عليه السلام!. وجوابه أن النظر والقصد إلى النظر إنما وجبا بالعرض لا بالذات، لأنهما وصلة إلى المعرفة، والمعرفة هي المقصود بالوجوب وأمير المؤمنين عليه السلام أراد أول واجب مقصود بذاته من الدين معرفة البارئ سبحانه، فلا تناقض بين كلامه وبين آراء المتكلمين. وأما قوله: " وكمال معرفته التصديق به "، فلان معرفته قد تكون ناقصة، وقد تكون غير ناقصة، فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بأن للعالم صانعا غير العالم، وذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر، فمن علم هذا فقط علم الله تعالى، ولكن علما ناقصا، وأما المعرفة التي ليست ناقصة، فإن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات، والخارج عن كل الممكنات ليس بممكن، وما ليس ممكن فهو واجب الوجود، فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود فقد عرفه عرفانا أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط، وهذا الأمر الزائد هو المكنى عنه بالتصديق به، لان أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود.
73 وأما (1) قوله عليه السلام: " وكمال التصديق به توحيده "، فلان من علم أنه تعالى واجب الوجود مصدق بالبارئ سبحانه، لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا، وقد يكون غير ناقص، فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط، والتصديق الذي هو أكمل من ذلك وأتم هو العلم بتوحيده سبحانه، باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين، لان فرض واجبي الوجود يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما، وامتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك، وذلك يفضي إلى تركيبهما وإخراجهما عن كونهما واجبي الوجود، فمن علم البارئ سبحانه واحدا، أي لا واجب الوجود إلا هو، يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك، وإنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط. وأما قوله: " وكمال توحيده الاخلاص له "، فالمراد بالاخلاص له هاهنا هو نفي الجسمية والعرضية ولوازمهما عنه، لان الجسم مركب، وكل مركب ممكن، وواجب الوجود ليس بممكن. وأيضا فكل عرض مفتقر، وواجب الوجود غير مفتقر، فواجب الوجود ليس بعرض. وأيضا فكل جرم محدث، وواجب الوجود ليس بمحدث، فواجب (2) الوجود ليس بجرم. وأيضا فكل حاصل في الجهة، إما جرم أو عرض، وواجب الوجود ليس بجرم ولا عرض، فلا يكون حاصلا في جهة، فمن عرف وحدانية البارئ ولم يعرف هذه الأمور كان توحيده ناقصا، ومن عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانيته تعالى فهو المخلص في عرفانه جل اسمه، ومعرفته تكون أتم وأكمل. وأما قوله: " وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه "، فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة، وهو نفي المعاني القديمة (3) التي تثبتها الأشعرية وغيرهم، قال عليه السلام:
(1) ب: " فأما ". (2) ب: " وواجب ". (3) إ: " التقدمية ". 74 " لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة "، وهذا هو دليل المعتزلة بعينه، قالوا: لو كان عالما بمعنى قديم، لكان ذلك المعنى إما هو أو غيره أوليس هو ولا غيره. والأول باطل، لأنا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له علما، والمتصور مغاير لما ليس بمتصور. والثالث باطل أيضا، لان إثبات شيئين: أحدهما ليس هو الآخر ولا غيره، معلوم فساده ببديهة العقل، فتعين القسم الثاني وهو محال، إما أولا فبإجماع أهل الملة، وإما ثانيا فلما سبق من أن وجوب الوجود لا يجوز إن يكون لشيئين، فإذا عرفت هذا، فاعرف أن الاخلاص له تعالى قد يكون ناقصا وقد لا يكون، فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده، وأنه واحد ليس بجسم ولا عرض، ولا (1) يصح عليه ما يصح على الأجسام والاعراض. والاخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعاني القديمة، مضافا إلى تلك العلوم السابقة، وحينئذ تتم المعرفة وتكمل. ثم أكد أمير المؤمنين عليه السلام هذه الإشارات الإلهية بقوله: " فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه "، وهذا حق، لان الموصوف يقارن الصفة، والصفة تقارنه. قال: " ومن قرنه فقد ثناه "، وهذا حق، لأنه قد أثبت قديمين، وذلك محض التثنية. قال: " ومن ثناه فقد جزأه "، وهذا حق، لأنه إذا أطلق لفظة الله تعالى على الذات والعلم القديم فقد جعل مسمى هذا اللفظ وفائدته متجزئة، كإطلاق لفظ " الأسود " على الذات التي حلها سواد. قال: " ومن جزأه فقد جهله "، وهذا حق، لان الجهل هو اعتقاد الشئ على خلاف ما هو به. قال: " ومن أشار إليه فقد حده "، وهذا حق، لان كل مشار إليه فهو محدود،
(1) ب: " فلا يصح ". 75 لان المشار إليه لا بد أن يكون في جهة مخصوصة، وكل ما هو في جهة فله حد وحدود، أي أقطار وإطراف. قال: " ومن حده فقد عده "، أي جعله من الأشياء المحدثة، وهذا حق، لان كل محدود معدود في الذوات المحدثة. قال: " ومن قال: فيم؟ فقد ضمنه "، وهذا حق، لان من تصور أنه في شئ فقد جعله أما جسما مستترا في مكان، أو عرضا ساريا في محل، والمكان متضمن للتمكن، والمحل متضمن للعرض. قال: " ومن قال: علام؟ فقد أخلى منه "، وهذا حق، لان من تصور إنه تعالى على العرش، أو على الكرسي، فقد أخلى منه غير ذلك الموضع. وأصحاب تلك المقالة يمتنعون من ذلك، ومراده عليه السلام إظهار تناقض أقوالهم، وإلا فلو قالوا (1): هب إنا قد أخلينا منه غير ذلك الموضع، أي محذور يلزمنا؟ فإذا قيل لهم: لو خلا منه موضع دون موضع لكان جسما، ولزم حدوثه، قالوا: لزوم الحدوث والجسمية إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه، وأنتم إنما احتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه، فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم لا استدلال على فساد قولهم. * * * فأما القطب الراوندي فإنه قال في معنى قوله: " نفى الصفات عنه ": أي صفات المخلوقين، قال: لأنه تعالى عالم قادر، وله بذلك صفات، فكيف يجوز أن يقال: لا صفة له! وأيضا فإنه عليه السلام قد أثبت لله تعالى صفة أولا، حيث قال: " الذي ليس لصفته حد محدود " فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة.
(1) ب: " قال ". 76 وأيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة: " إنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين "، فوجب أن يحمل قوله الآن: " وكمال توحيده نفي الصفات عنه "، على صفات المخلوقين، حملا للمطلق على المقيد. * * * ولقائل أن يقول: لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية، وهو قوله: " لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف "، لان هذا الاستدلال لا ينطبق على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين، بل كان ينبغي أن يستدل بأن صفات المخلوقين من لوازم الجسمية والعرضية، والبارئ ليس بجسم ولا عرض، ونحن قد بينا أن مراده عليه السلام إبطال القول بالمعاني القديمة، وهي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم، ولهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية، فأما كونه قادرا وعالما فأصحابها أصحاب الأحوال، وقد بينا أن مراده عليه السلام بقوله: " ليس لصفته حد محدود "، أي لكنهه وحقيقته. وأما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه ذكر الصفات على صفات المصنوعين، لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة، وأين هذا من باب حمل المطلق على المقيد!، لا سيما وقد ثبت أن التعليل والاستدلال يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين. وقد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله عليه السلام نفي الصفات عنه بقوله: " لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف "، بكلام عجيب، وأنا أحكي ألفاظه لتعلم، قال: معنى هذا التعليل أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل، والفاعل غير الفعل، لان ما يوصف به الغير إنما هو الفعل، أو معنى الفعل، كالضارب والفهم، فإن الفهم والضرب كلاهما فعل، والموصوف بهما فاعل، والدليل لا يختلف شاهدا وغائبا، فإذا كان تعالى قديما وهذه الأجسام محدثة كانت معدومة ثم وجدت، يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها ومدبرها.
77 انقضى كلامه، وحكايته تغنى عن الرد عليه. ثم قال: الأول، على وزن " أفعل " يستوي فيه المذكر والمؤنث، إذا لم يكن فيه الألف واللام، فإذا كانا فيه قيل للمؤنث " الأولى ". وهذا غير صحيح، لأنه يقال: كلمت فضلاهن، وليس فيه (1) ألف ولام، وكان ينبغي أن يقول إذا كان منكرا مصحوبا بمن استوى المذكر والمؤنث في لفظ " أفعل "، تقول: زيد أفضل من عمرو، وهند أحسن من دعد. * * * الأصل كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شئ بمقارنة، وغير كل شئ لا بمزايلة. فاعل لا بمعنى الحركات والآلة. بصير، إذ لا منظور إليه من خلقه. متوحد، إذ لا سكن يستأنس به، ولا يستوحش لفقده. أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء، بلا روية أجالها، ولا تجربة استفادها، ولا حركة أحدثها، ولا همامة نفس اضطرب فيها. أحال الأشياء لأوقاتها، ولاءم بين مختلفاتها، وغرز غرائزها، وألزمها أشباحها، عالما بها قبل ابتدائها، محيطا بحدودها وانتهائها، عارفا بقرائنها وأحنائها. * * * الشرح: قوله عليه السلام: " كائن "، وإن كان في الاصطلاح العرفي مقولا على ما ينزه البارئ عنه، فمراده (2) به المفهوم اللغوي، وهو اسم فاعل من " كان " بمعنى وجد: كأنه قال: موجود غير محدث.
(1) ب: " فيهن ". (2) إ: " فمراد ". 78 فإن قيل: فقد قال بعده: " موجود لا عن عدم " فلا يبقى بين الكلمتين فرق. قيل: بينهما فرق، ومراده بالموجود لا عن عدم هاهنا وجوب وجوده ونفي إمكانه، لان من أثبت قديما ممكنا، فإنه وإن نفى حدوثه الزماني فلم ينف حدوثه الذاتي، وأمير المؤمنين عليه السلام نفى عن البارئ تعالى في الكلمة الأولى الحدوث الزماني، ونفى عنه في الكلمة الثانية الذاتي. وقولنا في الممكن: إنه موجود من عدم، صحيح عند التأمل، لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا، بل سابق لوجوده ذاتا، لان الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته. وأما قوله: " مع كل شئ لا بمقارنة "، فمراده بذلك أنه يعلم الجزئيات والكليات كما قال سبحانه: " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم " (1). وأما (2) قوله: " وغير كل شئ لا بمزايلة "، فحق، لان الغيرين في الشاهد هما ما زايل أحدهما الآخر وباينه بمكان أو زمان، والبارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة منزهة عن المكان والزمان، فصدق عليه أنه غير كل شئ لا بمزايلة. وأما قوله: " فاعل لا بمعنى الحركات والآلة "، فحق، لان فعله اختراع، والحكماء يقولون: إبداع، ومعنى الكلمتين واحد، وهو أنه يفعل لا بالحركة والآلة كما يفعل الواحد منا، ولا يوجد شيئا من شئ. وأما قوله: " بصير إذ لا منظور إليه من خلقه "، فهو حقيقة مذهب أبي هاشم (3) رحمه الله وأصحابه، لأنهم يطلقون عليه في الأزل أنه سميع بصير، وليس هناك مسموع ولا مبصر، ومعنى ذلك كونه بحال يصح منه إدراك المسموعات والمبصرات إذا وجدت،
(1) سورة المجادلة 7. (2) أ: " فأما ". (3) هو أبو هاشم عبد السلام بن أبي محمد الجبائي المتكلم المشهور، وأحد كبار المعتزلة، وله مقالات في هذا المذهب زخرت بها كتب الكلام. توفي سنة 321. (ابن خلكان 1: 292). 79 وذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به، ولا يطلقون عليه أنه سامع مبصر في الأزل، لان السامع المبصر هو المدرك بالفعل لا بالقوة. وأما قوله: " متوحد إذ لا سكن يستأنس به، ويستوحش لفقده "، ف " إذ " هاهنا ظرف، ومعنى الكلام أن العادة والعرف إطلاق " متوحد " على من قد كان له من يستأنس بقربه ويستوحش ببعده فانفرد عنه، والبارئ سبحانه يطلق عليه أنه متوحد في الأزل ولا موجود سواه، وإذا صدق سلب الموجودات كلها في الأزل صدق سلب ما يؤنس أو يوحش، فتوحده سبحانه بخلاف توحد غيره. وأما قوله عليه السلام: " أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء "، فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء والبلغاء، كقوله سبحانه: " لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب " (1). وقوله: " لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا " (2). وقوله: " بلا روية أجالها "، فالروية الفكرة، وأجالها: رددها، ومن رواه: " أحالها " بالحاء، أراد صرفها. وقوله: " ولا تجربة استفادها "، أي لم يكن قد خلق من قبل أجساما فحصلت له التجربة التي إعانته على خلق هذه الأجسام. وقوله: " ولا حركة أحدثها "، فيه رد على الكرامية الذين يقولون: إنه إذا أراد أن يخلق شيئا مباينا عنه أحدث في ذاته حادثا، يسمى الاحداث، فوقع ذلك الشئ المباين عن ذلك المعنى المتجدد المسمى إحداثا. وقوله: " ولا همامة نفس اضطرب فيها "، فيه رد على المجوس والثنوية القائلين بالهمامة، ولهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات، وهذا يدل على صحة ما يقال: أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يعرف آراء المتقدمين والمتأخرين، ويعلم العلوم كلها، وليس ذلك ببعيد من فضائله ومناقبه عليه السلام.
(1) سورة فاطر 35. (2) سورة المائدة 48. 80 وأما قوله: " أحال الأشياء لأوقاتها "، فمن رواها: " أحل الأشياء لأوقاتها "، فمعناه جعل محل كل شئ ووقته، كمحل الدين. ومن رواها: " أحال " فهو من قولك: حال في متن فرسه، أي وثب، وأحاله غيره، أي أوثبه على متن الفرس، عداه بالهمزة، وكأنه لما أقر الأشياء في أحيانها وأوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه. وقوله: " ولاءم بين مختلفاتها "، أي جعل المختلفات ملتئمات (1)، كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي، جلت عظمته!. وقوله: " وغرز غرائزها "، المروي بالتشديد، والغريزة الطبيعة، وجمعها غرائز، وقوله: " غرزها "، أي جعلها غرائز، كما قيل: سبحان من ضوأ الأضواء! ويجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست. وقد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف. وقوله: " وألزمها أشباحها "، الضمير المنصوب في " ألزمها " عائد إلى الغرائز، أي ألزم الغرائز أشباحها، أي أشخاصها، جمع شبح، وهذا حق، لان كلا مطبوع على غريزة لازمة، فالشجاع لا يكون جبانا، والبخيل لا يكون جوادا، وكذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل. وقوله: " عالما بها قبل ابتدائها "، إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل. وقوله: " محيطا بحدودها وانتهائها "، أي بأطرافها ونهاياتها. وقوله: " عارفا بقرائنها وأحنائها "، القرائن جمع قرونه (2)، وهي النفس. والأحناء الجوانب، جمع حنو، يقول: أنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها، عارف بجهاتها وسائر أحوالها المتعلقة بها والصادرة عنها. * * *
(1) ب: " ملتئمة "، وما أثبته عن أ. (2) ومنه قول أوس بن حجر: فلاقي امرأ من ميدعان وأسمحت * قرونته باليأس منها فعجلا أي طابت نفسه بتركها. 81 فأما القطب الراوندي فإنه قال: معنى قوله عليه السلام: " كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم ": إنه لم يزل موجودا، ولا يزال موجودا، فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا، وهذا ليس بجيد، لان اللفظ لا يدل على ذلك ولا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال. وقال أيضا: قوله عليه السلام: " لا يستوحش "، كلام مستأنف. ولقائل أن يقول: كيف يكون كلاما مستأنفا، والهاء " في فقده " ترجع إلى " السكن " المذكور أولا!. وقال أيضا: يقال ما له في الامر همة ولا همامة، أي لا يهم به، والهمامة: التردد، كالعزم. ولقائل أن يقول: العزم هو إرادة جازمة حصلت بعد التردد، فبطل قوله: إن الهمامة هي نفس التردد كالعزم. وأيضا فقد بينا مراده عليه السلام بالهمامة، حكى زرقان (1) في كتاب " المقالات " وأبو عيسى الوراق (2)، والحسن بن موسى (3)، وذكره شيخنا أبو القاسم البلخي (4) في كتابه في " المقالات " أيضا عن الثنوية: أن النور الأعظم اضطربت عزائمه وإرادته في غزو الظلمة والإغارة عليها، فخرجت من ذاته قطعة وهي الهمامة المضطربة في نفسه فخالطت الظلمة غازية لها، فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم، وحالت بينها وبينه، وخرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم، فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة، ومزجها بأجزائه، وامتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا، ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان
(1) هو زرقان المتكلم، تلميذ إبراهيم بن سيار النظام، وقد حكى زرقان عن النظام أقوالا في الفرق 50 - 51، وذكره المسعودي في التنبيه والاشراف 342. (2) هو أبو عيسى محمد بن هارون الوراق، كان من نظاري المعتزلة، وله تصانيف على مذهبهم. توفي سنة 247. لسان الميزان 5: 412. (3) هو أبو محمد الحسن بن موسى النوبختي، من متكلمي الإمامية، وذكره الطوسي في طبقاتهم، عاش في القرن الثالث. لسان الميزان 2: 258، روضات الجنات 31، تنقيح المقال 1: 312. (4) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي الكعبي، شيخ المعتزلة، وكان على رأس طائفة منهم يقال لهم الكعبية، توفي سنة 319. ابن خلكان 1: 252. 82 وتتدانيان وهما ممتزجتان، بأجزاء هذا وهذا، حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس. ولهم في الهمامة كلام مشهور، وهي لفظة اصطلحوا عليها، واللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة، والذي عرفناه الهمة والهمة، بالكسر والفتح، والمهمة، وتقول: لا همام لي بهذا الامر، مبني على الكسر كقطام، ولكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها. الأصل: ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء، وشق الارجاء، وسكائك الهواء، فأجرى (1) فيها ماء متلاطما تياره، متراكما زخاره، حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة، فأمرها برده، وسلطها على شده، وقرنها إلى حده، الهواء من تحتها فتيق، والماء من فوقها دفيق. ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها، وأدام مربها، وأعصف مجراها، وأبعد منشاها، فأمرها بتصفيق الماء الزخار، وإثارة موج البحار، فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء، ترد أوله على آخره، وساجيه إلى (2) مائره، حتى عب عبابه، ورمى بالزبد ركامه، فرفعه في هواء منفتق، وجو منفهق، فسوى منه سبع سماوات جعل سفلاهن موجا مكفوفا، وعلياهن سقفا محفوظا، وسمكا مرفوعا، بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينتظمها (3). ثم زينها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب، وأجرى فيها سراجا مستطيرا، وقمرا منيرا، في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر.
(1) أ: " فأجاز "، وكذلك في مخطوطة النهج. (2) أ " على "، وكذلك في مخطوطة النهج. (3) مخطوطة النهج: " ينتظمها ". 83 الشرح: لسائل أن يسأل فيقول: ظاهر هذا الكلام أنه سبحانه خلق الفضاء والسماوات بعد خلق كل شئ، لأنه قد قال قبل: " فطر الخلائق، ونشر الرياح، ووتد الأرض بالجبال "، ثم عاد فقال: " أنشأ الخلق إنشاء، وابتدأه ابتداء "، وهو الآن يقول: " ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء "، ولفظة " ثم " للتراخي. فالجواب أن قوله (1): " ثم " هو تعقيب وتراخ، لا في مخلوقات البارئ سبحانه، بل في كلامه عليه السلام، كأنه يقول: ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم: إنه تعالى أنشأ فتق الأجواء. ويمكن أن يقال: أن لفظة " ثم " هاهنا تعطي معنى الجمع المطلق كالواو، ومثل ذلك قوله تعالى: " وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى " (2). واعلم أن كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفصل يشتمل على مباحث: منها: أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذي هو الفراغ الذي يحصل فيه الأجسام خلقه الله تعالى ولم يكن من قبل، وهذا يقتضي كون الفضاء شيئا، لان المخلوق لا يكون عدما محضا. وليس ذلك ببعيد، فقد ذهب إليه قوم من أهل النظر، وجعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الأجسام. ومنهم من جعله مجردا. فان قيل: هذا الكلام يشعر بأن خلق الأجسام في العدم المحض قبل خلق الفضاء ليس بممكن، وهذا ينافي العقل. قيل: بل هذا هو محض مذهب الحكماء، فأنهم يقولون إنه لا يمكن وجود جسم
(1) كذا في أ، وفي ب: " فالجواب قوله ". (2) سورة طه 82. 84 ولا حركة جسم خارج الفلك الأقصى، وليس ذلك إلا لاستحالة وجود الأجسام وحركتها، إلا في الفضاء. ومنها إن البارئ - سبحانه - خلق في الفضاء الذي أوجده ماء جعله على متن الريح، فاستقل عليها وثبت وصارت مكانا له، ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع، فخلق منه السماوات. وهذا أيضا قد قاله قوم من الحكماء، ومن جملتهم تاليس الإسكندراني، وزعم أن الماء أصل كل (1) العناصر، لأنه إذا انجمد صار أرضا، وإذا لطف صار هواء، والهواء يستحيل نارا، لان النار صفوة الهواء. ويقال: إن في التوراة في أول السفر الأول كلاما يناسب هذا، وهو أن الله تعالى خلق جوهرا، فنظر إليه نظر الهيبة، فذابت أجزاؤه فصارت ماء، ثم ارتفع من ذلك الماء بخار كالدخان، (2 فخلق منه السماوات، وظهر على وجه ذلك الماء زبد 2)، فخلق منه الأرض، ثم أرساها بالجبال. ومنها: أن السماء الدنيا موج مكفوف، بخلاف السماوات الفوقانية. وهذا أيضا قول قد ذهب إليه قوم، واستدلوا عليه بما نشاهده (3) من حركة الكواكب المتحيرة وارتعادها في مرأى (4) العين واضطرابها. قالوا: لان المتحيرة متحركة في أفلاكها، ونحن نشاهدها بالحس البصري، وبيننا وبينها أجرام الأفلاك الشفافة، ونشاهدها مرتعدة حسب ارتعاد الجسم السائر في الماء، وما ذاك إلا لان السماء الدنيا ماء متموج، فارتعاد الكواكب
(1) كلمة " كل " ساقطة من أ. (2 - 2) ساقط من أ. (3) ب: " شاهده ". (4) إ: " مرائي ". 85 المشاهدة حسا إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الأدنى. قالوا فأما الكواكب الثابتة فإنما (1) لم نشاهدها كذلك، لأنها ليست بمتحركة، وأما القمر وإن كان في السماء الدنيا، إلا أن فلك تدويره من جنس الاجرام الفوقانية، وليس بماء متموج كالفلك الممثل التحتاني. وكذلك القول في الشمس. ومنها: أن الكواكب في قوله: " ثم زينها بزينة الكواكب " أين هي؟ فإن اللفظ محتمل، وينبغي أن يتقدم على ذلك بحث في أصل قوله تعالى: " إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب. وحفظا من كل شيطان مارد " (2). فنقول: إن ظاهر هذا اللفظ أن الكواكب في السماء الدنيا، وأنها جعلت فيها حراسة للشياطين من استراق السمع، فمن دنا منهم لذلك رجم بشهاب، وهذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ. ومذهب الحكماء أن السماء الدنيا ليس فيها إلا القمر وحده، وعندهم أن الشهب المنقضة هي آثار تظهر في الفلك الأثيري الناري الذي تحت فلك القمر، والكواكب لا ينقض منها شئ، والواجب التصديق بما في ظاهر لفظ الكتاب العزيز، وأن يحمل كلام أمير المؤمنين عليه السلام على مطابقته، فيكون الضمير في قوله: " زينها " راجعا إلى " سفلاهن "، التي قال " إنها موج مكفوف "، (3) ويكون الضمير في قوله: " وأجرى فيها " راجعا إلى جملة السماوات: إذا وافقنا الحكماء في أن الشمس في السماء الرابعة. ومنها: أن ظاهر الكلام يقتضي أن خلق السماوات بعد خلق الأرض، ألا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الأرض أصلا! وهذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة،
(1) أ: " فإنا ". (2) سورة الصافات 6، 7. (3) أ: " فيكون ". 86 واستدلوا (1) عليه بقوله تعالى: " قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين " (2)، ثم قال: " ثم أستوى إلى السماء وهي دخان " (3). ومنها: أن الهاء في قوله: " فرفعه في هواء منفتق " والهاء في قوله: " فسوى منه سبع سماوات " إلى ماذا ترجع؟ فإن آخر المذكورات قبلها " الزبد ". وهل يجوز أن تكون السماوات مخلوقة من زبد الماء؟ الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه، لا إلى الزبد، فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء، وإنما قالوا: إنها مخلوقة من بخاره. ومنها: أن يقال: أن البارئ سبحانه قادر على خلق الأشياء إبداعا واختراعا، فما الذي اقتضى أن خلق المخلوقات على هذا الترتيب؟ وهلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شئ!. فيقال في جواب ذلك على طريق أصحابنا: لعل إخباره للمكلفين بذلك على هذا الترتيب يكون لطفا لهم، ولا يجوز الاخبار منه تعالى إلا والمخبر عنه مطابق للاخبار. فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل. * * * ثم نشرع في تفسير ألفاظه: أما الأجواء فجمع جو، والجو هنا الفضاء العالي بين السماء والأرض. والأرجاء:
(1) إ: " استدلوا " (2) سورة فصلت 9. (3) سورة فصلت 10. 87 الجوانب، واحدها رجا مثل عصا. والسكائك: جمع سكاكة، وهي أعلى الفضاء، كما قالوا: ذؤابة وذوائب. والتيار: الموج، والمتراكم: الذي بعضه فوق بعض. والزخار: الذي يزخر، أي يمتد ويرتفع. والريح الزعزع: الشديدة الهبوب، وكذلك القاصفة، كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها. ومعنى قوله: " فأمرها برده "، أي بمنعه عن الهبوط، لأن الماء ثقيل، ومن شأن الثقيل الهوي. ومعنى قوله: " وسلطها على شده "، أي على وثاقه، كأنه سبحانه لما سلط الريح على منعه من الهبوط، فكأنه قد شده بها وأوثقه ومنعه من الحركة. ومعنى قوله: " وقرنها إلى حده "، أي جعلها مكانا له، أي جعل حد الماء المذكور - وهو سطحه الأسفل - مما ساطح الريح التي تحمله وتقله. والفتيق: المفتوق المنبسط. والدفيق: المدفوق. واعتقم مهبها، أي جعل هبوبها عقيما، والريح العقيم: التي لا تلقح سحابا ولا شجرا، وكذلك كانت تلك الريح المشار إليها، لأنه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط. وأدام مربها، أي ملازمتها، أرب بالمكان مثل ألب به، أي لازمه. ومعنى قوله: " وعصفت به عصفها بالفضاء "، فيه (1) معنى لطيف، يقول: إن الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كان عصفها شديدا لعدم المانع، وهذه الريح عصمت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا، كأنها تعصف في فضاء لا ممانع لها فيه من الأجسام. والساجي: الساكن. والمائر: الذي يذهب ويجئ. وعب عبابة: أي ارتفع أعلاه. وركامه: ثبجه وهضبته (2). والجو المنفهق: المفتوح الواسع. والموج المكفوف: الممنوع من السيلان. وعمد يدعمها: يكون لها دعامة. والدسار: واحد الدسر وهي المسامير. والثواقب النيرة: المشرقة. وسراجا مستطيرا، أي منتشر الضوء، يقال: قد استطار
(1) كلمة " فيه " ساقطة من ب. (2) أ: " هضبه "؟. 88 الفجر، أي انتشر ضوءه. ورقيم مائر، أي لوح متحرك، سمي الفلك رقيما تشبيها باللوح، لأنه مسطح. * * * فأما القطب الراوندي فقال: إنه عليه السلام ذكر قبل هذه الكلمات أنه أنشأ حيوانا له أعضاء وأحناء، ثم ذكر هاهنا أنه فتق السماء، وميز بعضها عن بعض، ثم ذكر أن بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وهي سبع سماوات وكذلك بين كل أرض وأرض، وهي سبع أيضا. وروى حديث البقرة التي تحمل الملك الحامل للعرش، والصخرة التي تحمل البقرة، والحوت الذي يحمل الصخرة. * * * ولقائل أن يقول: إنه عليه السلام لم يذكر فيما تقدم أن الله تعالى خلق حيوانا ذا أعضاء، ولا قوله الآن: " ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء "، هو معنى قوله تعالى: " أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما " (1)، ألا تراه كيف صرح عليه السلام بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذي هو الفضاء، وعبر عن ذلك بقوله: " ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء "، وليس فتق الأجواء هو فتق السماء!. فإن قلت: فكيف يمكن التطبيق بين كلامه عليه السلام وبين الآية؟ قلت: إنه تعالى لما سلط الريح على الماء فعصفت به، حتى جعلته بخارا وزبدا، وخلق من أحدهما السماء ومن الآخر الأرض، كان فاتقا لهما من شئ واحد، وهو الماء. فأما حديث البعد بين السماوات وكونه مسيرة خمسمائة عام بين كل سماء وسماء، فقد ورد ورودا لم يوثق به، وأكثر (2) الناس على خلاف ذلك. وكون الأرض سبعا أيضا
(1) سورة الأنبياء 30. (2) أ: " فأكثر 2، وما أثبته عن أ ب. 89 خلاف ما يقوله جمهور العقلاء، وليس في القرآن العزيز ما يدل على تعدد الأرض إلا قوله تعالى: " ومن الأرض مثلهن " (1)، وقد أولوه على الأقاليم السبعة. وحديث الصخرة والحوت والبقرة من الخرافات في غالب الظن، والصحيح أن الله تعالى يمسك الكل بغير واسطة جسم آخر. * * * ثم قال الراوندي: السكائك: جمع سكاك، وهذا (2) غير جائز، لان " فعالا " لا يجمع على " فعائل "، وإنما هو جمع سكاكة، ذكر ذلك الجوهري (3). ثم قال: " وسلطها على شده "، الشد: العدو. ولا يجوز حمل الشد هاهنا على العدو، لأنه لا معنى له، والصحيح ما ذكرناه. وقال في تفسير قوله عليه السلام: " جعل سفلاهن موجا مكفوفا "، أراد تشبيهها بالموج لصفائها واعتلائها، فيقال له: إن الموج ليس بعال ليشبه به الجسم العالي، وأما صفاؤه فإن كل السماوات صافية، فلماذا خص سفلاهن بذلك!. ثم قال: ويمكن أن تكون السماء السفلى قد كانت أول ما وجدت موجا ثم عقدها. يقال له: والسماوات الاخر كذلك كانت، فلماذا خص السفلى بذلك!. ثم قال: الريح الأولى غير الريح الثانية، لان أحداهما معرفة والأخرى نكرة، وهذا مثل قوله: صم اليوم، صم يوما، فإنه يقتضي يومين. يقال له: ليست المغايرة بينهما مستفادة من مجرد التعريف والتنكير، لأنه لو كان قال
(1) سورة الطلاق 12. (2) ب: " وهو "، وما أثبته عن أ. (3) الصحاح ص 1591، والذي فيه: " والسكاك والسكاكة: الهواء الذي يلاقي أعنان السماء ". 90 عليه السلام: " وحمله على متن ريح عاصفة وزعزع قاصفة " لكانت الريحان الأولى والثانية منكرتين معا، وهما متغايرتان، وإنما علمنا تغايرهما، لان أحداهما تحت الماء، والأخرى فوقه، والجسم الواحد لا يكون في جهتين. * * * الأصل: ثم فتق ما بين السماوات العلا، فملأهن أطوارا من ملائكته، منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون، ولا سهو العقول، ولا فترة الأبدان، ولا غفلة النسيان. ومنهم أمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه (1) وأمره. ومنهم الحفظة لعباده، والسدنة لأبواب جنانه. ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم، ناكسة دونه أبصارهم، متلفعون تحته بأجنحتهم، مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة، لا يتوهمون ربهم بالتصوير، ولا يجرون عليه صفات المصنوعين، ولا يحدونه بالأماكن، ولا يشيرون إليه بالنظائر. * * * الشرح: القول في الملائكة وأقسامهم الملك عند المعتزلة حيوان نوري، فمنه شفاف عادم اللون كالهواء، ومنه ملون بلون الشمس. والملائكة عندهم قادرون عالمون أحياء، بعلوم وقدر وحياة، كالواحد منا، ومكلفون كالواحد منا، إلا أنهم معصومون. ولهم في كيفية تكليفهم كلام، لان التكليف
(1) مخطوطة النهج: " لقضائه ". 91 مبني على الشهوة، وفي كيفية خلق الشهوة فيهم نظر، وليس هذا الكتاب موضوعا للبحث في ذلك. وقد جعلهم عليه السلام في هذا الفصل أربعة أقسام: القسم الأول: أرباب العبادة، فمنهم من هو ساجد أبدا لم يقم من سجوده ليركع، ومنهم من هو راكع أبدا لم ينتصب قط، ومنهم الصافون في الصلاة بين يدي خالقهم لا يتزايلون، ومنهم المسبحون الذين لا يملون التسبيح والتحميد له سبحانه. والقسم الثاني: السفراء بينه تعالى وبين المكلفين من البشر بتحمل الوحي الإلهي إلى الرسل والمختلفون بقضائه وأمره إلى أهل الأرض. والقسم الثالث: ضربان أحدهما حفظة العباد كالكرام الكاتبين، وكالملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك والورطات، ولولا ذلك لكان العطب أكثر من السلامة. وثانيهما سدنة الجنان. القسم الرابع: حمله العرش. ويجب أن يكون الضمير في " دونه " - وهو الهاء - راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه. وكذلك الهاء في قوله: " تحته ". ويجب أن تكون الإشارة بقوله: " وبين من دونهم " إلى الملائكة الذين دون هؤلاء في الرتبة. فأما ألفاظ الفصل فكلها غنية عن التفسير إلا يسيرا، كالسدنة جمع سادن وهو الخادم، والمارق: الخارج. وتلفعت بالثوب، أي التحفت به. * * * وأما (1) القطب الراوندي فجعل الامناء على الوحي وحفظة العباد وسدنة الجنان
(1) أ: " فأما ". 92 قسما واحدا فأعاد الأقسام الأربعة إلى ثلاثة وليس بجيد لأنه قال ومنهم الحفظة فلفظه ومنهم تقتضي كون الأقسام أربعة لأنه بها فصل بين الأقسام. وقال أيضا معنى قوله عليه السلام " لا يغشاهم نوم العيون " يقتضى أن لهم نوما قليلا يغفلهم عن ذكر الله سبحانه فأما البارئ سبحانه فإنه لا تأخذه سنة ولا نوم أصلا مع أنه حي وهذه هي المدحة العظمى. ولقائل أن يقول لو ناموا قليلا لكانوا زمان ذلك النوم - وان قل - غافلين عن ذكر الله سبحانه لان الجمع بين النوم وبين الذكر مستحيل. والصحيح أن الملك لا يجوز عليه النوم كما لا يجوز عليه الأكل والشرب لان النوم من توابع المزاج والملك لا مزاج له وأما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنه ولا نوم فخارج عن هذا الباب لأنه تعالى يستحيل عليه النوم استحالة ذاتية لا يجوز تبدلها والملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا بأن يخلق في أجزاء جسمه رطوبة ويبوسة وحرارة وبرودة يحصل من اجتماعها مزاج ويتبع ذلك المزاج النوم فاستحالة النوم عليه إنما هي ما دام ملكا فهو كقولك: الماء بارد أي ما دام ماء لأنه يمكن ان يستحيل هواء ثم نارا فلا يكون باردا لأنه ليس حينئذ ماء. والبارئ جلت عظمته يستحيل على ذاته ان يتغير فاستحال عليه النوم استحالة مطلقة مع أنه حي ومن هذا انشاء التمدح وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله أن الله خلق الخلق أربعة أصناف الملائكة والشياطين والجن والانس ثم جعل الأصناف الأربعة عشره أجزاء فتسعة منها الملائكة وجزء واحد الشياطين والجن والانس ثم جعل هؤلاء الثلاثة عشره أجزاء فتسعة منها الشياطين وجزء واحد الجن والإنس ثم جعل الجن والإنس عشره أجزاء فتسعة منها الجن وجزء واحد الانس ".
93 وفى الحديث الصحيح: إن الملائكة كانت تصافح عمران بن الحصين وتزوره، ثم افتقدها، فقال: يا رسول الله، إن رجالا كانوا يأتونني لم أر أحسن وجوها، ولا أطيب أرواحا منهم، ثم انقطعوا. فقال عليه السلام: " أصابك جرح فكنت تكتمه "؟ فقال: أجل، قال: " ثم أظهرته "؟ قال: أجل، قال: " أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت "، وكان هذا الجرح أصابه في سبيل الله. وقال سعيد بن المسيب وغيره: الملائكة ليسوا بذكور ولا إناث، ولا يتوالدون ولا يأكلون ولا يشربون، والجن يتوالدون وفيهم ذكور وإناث ويموتون، والشياطين ذكور وإناث، ويتوالدون ولا يموتون حتى يموت إبليس. وقال النبي صلى الله عليه وآله في رواية أبي ذر: " إني أرى ما لا ترون، وأسمع ما لا تسمعون، أطت السماء وحق لها أن تئط (1) فما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد واضع جبهته لله، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا، ولبكيتم كثيرا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله، والله لوددت أنى كنت شجرة تعضد " (2). قلت: ويوشك هذه الكلمة الأخيرة أن تكون قول أبي ذر. واتفق أهل الكتب على أن رؤساء الملائكة وأعيانهم أربعة: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، وهو ملك الموت. وقالوا: إن إسرافيل صاحب الصور، وإليه النفخة، وإن ميكائيل صاحب النبات والمطر، وإن عزرائيل على أرواح الحيوانات، وإن جبرائيل على جنود السماوات والأرض كلها وإليه تدبير الرياح، وهو ينزل إليهم كلهم بما يؤمرون به.
(1) ذكره ابن الأثير في النهاية 1: 35، وقال: " الأطيط: صوت الأقتاب، وأطيط الإبل: أصواتها وحنينها، أي أن كثرة ما فيها من الملائكة قد أثقلها حتى أطت، وهذا مثل وإيذان بكثرة الملائكة، وإن لم يكن ثم أطيط، وإنما هو كلام تقريب، أريد به تقرير عظمة الله تعالى ". (2) تعضد: تقطع، وانظر النهاية لابن الأثير 3: 104. 94 وروى أنس بن مالك أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وآله: ما هؤلاء الذين استثنى بهم في قوله تعالى: (فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله)؟ (1) فقال: " جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وعزرائيل، فيقول الله عز وجل لعزرائيل: يا ملك الموت، من بقي؟ وهو سبحانه أعلم - فيقول: سبحانك ربى ذا الجلال والاكرام! بقي جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت - فيقول: يا ملك الموت، خذ نفس إسرافيل، فيقع في صورته التي خلق عليها كأعظم ما يكون من الأطواد، ثم يقول: - وهو أعلم - من بقي يا ملك الموت؟ فيقول: سبحانك ربى يا ذا الجلال والاكرام! جبرائيل وميكائيل، وملك الموت، فيقول: خذ نفس ميكائيل، فيقع في صورته التي خلق عليها، وهي أعظم ما يكون من خلق إسرافيل بأضعاف مضاعفة. ثم يقول سبحانه: يا ملك الموت، من بقي؟ فيقول: سبحانك ربى ذا الجلال والاكرام: جبرائيل، وملك الموت، فيقول تعالى: يا ملك الموت، مت فيموت، ويبقى جبرائيل - وهو من الله تعالى بالمكان الذي ذكر لكم - فيقول الله: يا جبرائيل، إنه لا بد من أن يموت أحدنا، فيقع جبرائيل ساجدا يخفق بجناحيه، يقول: سبحانك ربى وبحمدك! أنت الدائم القائم الذي لا يموت، وجبرائيل الهالك الميت الفاني، فيقبض الله روحه، فيقع على ميكائيل وإسرافيل، وإن فضل خلقه على خلقهما كفضل الطود العظيم على الظرب (2) من الظراب. وفى الأحاديث الصحيحة أن جبرائيل كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله على صورة دحية الكلبي، وإنه كان يوم بدر على فرس اسمه حيزوم، وإنه سمع ذلك اليوم صوته: أقدم حيزوم.
(1) سورة الزمر 68. (2) الضرب، ككتف: الجبل الصغير. 95 والكروبيون (1) عند أهل الملة سادة الملائكة، كجبرائيل وميكائيل. وعند الفلاسفة أن سادة الملائكة هم الروحانيون - يعنون العقول الفعالة وهي المفارقة للعالم الجسماني المسلوبة التعلق به، لا بالحول ولا بالتدبير. وأما الكروبيون فدون الروحانيين في المرتبة وهي أنفس الأفلاك المدبرة لها، الجارية منها مجرى نفوسنا مع أجسامنا. ثم هي على قسمين: قسم أشرف وأعلى من القسم الآخر، فالقسم الأشرف ما كان نفسا ناطقة غير حالة في جرم الفلك، كأنفسنا بالنسبة إلى أبداننا. والقسم الثاني ما كان حالا في جرم الفلك، ويجرى ذلك مجرى القوى التي في أبداننا، كالحس المشترك والقوة الباصرة. * * * الأصل: منها في صفة آدم عليه السلام: ثم جمع سبحانه من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحناء، ووصول وأعضاء وفصول أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت، لوقت معدود، وأجل معلوم. ثم نفخ فيها من روحه فتمثلت (2) إنسانا ذا أذهان يجيلها، وفكر يتصرف بها، وجوارح يختدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل، والأذواق والمشام، والألوان والأجناس، معجونا بطينته الألوان المختلفة،
(1) الكروبيون، مخففة الراء - على ما قاله صاحب القاموس -: هم أقرب الملائكة إلى حملة العرش، وأصله من الكرب وهو القرب، قال أمية: ملائكة لا يفترون عبادة كروبية منهم ركوع وسجد (2) مخطوطة النهج: " فمثلت " 96 (1 والأشباه المؤتلفة 1)، والأضداد المتعادية، والأخلاط المتباينة، من الحر والبرد، والبلة والجمود، والمساءة والسرور. واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم، وعهد وصيته إليهم، في الاذعان بالسجود له، والخنوع لتكرمته، فقال لهم: (اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) (2) وقبيله، اعترتهم الحمية، وغلبت عليهم الشقوة، وتعززوا بخلقه النار، واستوهنوا خلق الصلصال، فأعطاه الله النظرة استحقاقا للسخطة، واستتماما للبلية، وإنجازا للعدة، فقال: (فإنك من المنظرين. إلى يوم الوقت المعلوم) (3). * * * الشرح: الحزن: ما غلظ من الأرض. وسبخها: ما ملح منها. وسنها بالماء، أي ملسها، قال: ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء تمشى في مرمر مسنون (4) أي مملس. ولاطها، من قولهم: لطت الحوض بالطين، أي ملطته وطينته به. والبلة بفتح الباء، من البلل. لزبت، بفتح الزاي، أي التصقت وثبتت. فجبل منها، أي خلق. والأحناء: الجوانب، جمع حنو. وأصلدها: جعلها صلدا، أي صلبا متينا. وصلصلت: يبست، وهو الصلصال. ويختدمها: يجعلها في مآربه وأوطاره كالخدم الذين تستعملهم وتستخدمهم. واستأدى الملائكة وديعته: طلب منهم أداءها. والخنوع: الخضوع. والشقوة، بكسر الشين، وفي الكتاب العزيز: (ربنا غلبت علينا
(1 - 1) تكملة مخطوطة النهج. (2) سورة البقرة 34. (3) سورة ص 80، 81 (4) لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت من أبيات يشبب فيها بابنة معاوية، كذا نسبه صاحب اللسان 17: 88 ونقل عن ابن بري أنها تروى لأبي دهبل. 97 شقوتنا) (1). واستوهنوا: عدوه واهنا ضعيفا. والنظرة، بفتح النون وكسر الظاء: الامهال والتأخير. فأما معاني الفصل فظاهرة، وفيه مع ذلك مباحث: منها أن يقال: اللام في قوله: " لوقت معدود " بماذا تتعلق؟ والجواب، أنها تتعلق بمحذوف تقديره: " حتى صلصلت كائنة لوقت "، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال، ويكون معنى الكلام أنه أصلدها حتى يبست وجفت معدة لوقت معلوم، فنفخ حينئذ روحه فيها. ويمكن أن تكون اللام متعلقة بقوله: " فجبل " أي جبل وخلق من الأرض هذه الجثة لوقت، أي لأجل وقت معلوم، وهو يوم القيامة. * * * ومنها أن يقال: لماذا قال: " من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها "؟ والجواب، أن المراد من ذلك أن يكون الانسان مركبا من طباع مختلفة، وفيه استعداد للخير والشر، والحسن والقبح. * * * ومنها أن يقال: لماذا أخر نفخ الروح في جثة آدم مدة طويلة، فقد قيل: إنه بقي طينا تشاهده الملائكة أربعين سنة، ولا يعلمون ما المراد به؟ والجواب، يجوز أن يكون في ذلك (2 لطف للملائكة، لأنهم تذهب ظنونهم في ذلك 2) كل مذهب، فصار كإنزال المتشابهات الذي تحصل به رياضة الأذهان وتخريجها، وفى ضمن ذلك يكون اللطف. ويجوز أن يكون في إخبار ذرية آدم بذلك فيما بعد لطف لهم، ولا يجوز إخبارهم بذلك إلا إذا كان المخبر عنه حقا.
(1) سورة المؤمنين 106. (2 - 2) ساقط من ا. 98 ومنها أن يقال: ما المعنى بقوله: " ثم نفخ فيها من روحه "؟ الجواب، أن النفس لما كانت جوهرا مجردا، لا متحيزة ولا حالة في المتحيز، حسن لذلك نسبتها إلى البارئ، لأنها أقرب إلى الانتساب إليه من الجثمانيات. ويمكن أيضا أن تكون لشرفها مضافة إليه، كما يقال: بيت الله للكعبة. وأما النفخ فعبارة عن إفاضة النفس على الجسد، ولما كان نفخ الريح في الوعاء عبارة عن إدخال الريح إلى جوفه، وكان الاحياء عبارة عن إفاضة النفس على الجسد، ويستلزم ذلك حلول القوى والأرواح في الجثة باطنا وظاهرا، سمى ذلك نفخا مجازا. * * * ومنها أن يقال: ما معنى قوله: " معجونا بطينته الألوان المختلفة "؟ الجواب: أنه عليه السلام قد فسر ذلك بقوله: " من الحر والبرد، والبلة والجمود "، يعنى الرطوبة واليبوسة، ومراده بذلك المزاج الذي هو كيفية واحدة حاصلة من كيفيات مختلفة، قد انكسر بعضها ببعض. وقوله: " معجونا " صفة " إنسانا ". والألوان المختلفة، يعنى الضروب والفنون، كما تقول (1): في الدار ألوان من الفاكهة. * * * ومنها أن يقال: ما المعنى بقوله: " واستأدى الملائكة وديعته لديهم "؟ وكيف كان هذا العهد والوصية بينه وبينهم؟ الجواب، أن العهد والوصية هو قوله تعالى لهم: (إني خالق بشرا من طين. فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين) (2). * * *
(1) ا: " كما يقال ". (2) سورة ص 71، 72. 99 ومنها أن يقال: كيف كانت شبهة إبليس وأصحابه في التعزز بخلقه النار؟ الجواب، لما كانت النار مشرقة بالذات، والأرض مظلمة، وكانت النار أشبه بالنور، والنور أشبه بالمجردات، جعل إبليس ذلك حجة احتج بها في شرف عنصره على عنصر آدم عليه السلام، ولان النار أقرب، إلى، الفلك من الأرض، وكل شئ كان أقرب إلى الفلك من غيره كان أشرف، والبارئ تعالى لم يعتبر ذلك، وفعل سبحانه ما يعلم أنه المصلحة والصواب. * * * ومنها أن يقال: كيف يجوز السجود لغير الله تعالى؟ والجواب، أنه قيل: إن السجود لم يكن إلا لله تعالى، وإنما كان آدم عليه السلام قبلة. ويمكن أن يقال: إن السجود لله على وجه العبادة، ولغيره على وجه التكرمة، كما سجد أبو يوسف وإخوته له. يجوز أن تختلف الأحوال والأوقات في حسن ذلك وقبحه. * * * ومنها أن يقال: كيف جاز على ما تعتقدونه من حكمة البارئ أن يسلط إبليس على المكلفين، أليس هذا هو الاستفساد الذي تأبونه وتمنعونه! والجواب: أما الشيخ أبو علي رحمه الله فيقول: حد المفسدة ما وقع عند الفساد، ولولاه لم يقع مع تمكن المكلف من الفعل في الحالين، ومن فسد بدعاء إبليس لم يتحقق فيه هذا الحد، لان الله تعالى علم أن كل من فسد عند دعائه، فإنه يفسد، ولو لم يدعه. وأما أبو هاشم رحمه الله فيحد المفسدة بهذا الحد أيضا، ويقول: إن في الاتيان بالطاعة مع دعاء إبليس إلى القبيح مشقة زائدة على مشقة الاتيان بها، لو لم يدع إبليس إلى
100 القبيح، فصار الاتيان بها مع اعتبار دعاء إبليس إلى خلافها خارجا عن الحد المذكور، وداخلا في حيز التمكن الذي لو فرضنا ارتفاعه لما صح من المكلف الاتيان بالفعل، ونحن قلنا في الحد مع تمكن المكلف من الاتيان بالفعل في الحالين. * * * ومنها أن يقال: كيف جاز للحكيم سبحانه أن يقول لإبليس: (إنك من المنظرين) إلى يوم القيامة! وهذا إغراء بالقبيح، وأنتم تمنعون أن يقول الحكيم لزيد: أنت لا تموت إلى سنة، بل إلى شهر أو يوم واحد، لما فيه من الاغراء بالقبيح، والعزم على التوبة قبل انقضاء الأمد. والجواب، أن أصحابنا قالوا: إن البارئ تعالى لم يقل لإبليس: إني منظرك إلى يوم القيامة، وإنما قال: (إلى يوم الوقت المعلوم)، وهو عبارة عن وقت موته واخترامه، وكل مكلف من الإنس والجن منظر إلى يوم الوقت المعلوم على هذا التفسير، وإذا (1) كان كذلك لم يكن إبليس عالما أنه يبقى لا محالة، فلم يكن في ذلك إغراء له (2) بالقبيح. فإن قلت: فما معنى قوله عليه السلام: " وإنجازا للعدة "؟ أليس معنى ذلك أنه قد كان وعده أن يبقيه إلى يوم القيامة!. قلت: إنما وعده الانظار، ويمكن أن يكون إلى يوم القيامة، وإلى غيره من الأوقات الأوقات ولم يبين له، فهو تعالى أنجز له وعده في الانظار المطلق، وما من وقت إلا ويجوز فيه إبليس (3) أن يخترم، فلا يحصل الاغراء بالقبيح. وهذا الكلام عندنا ضعيف، ولنا فيه نظر مذكور في كتبنا الكلامية. * * *
(1) ا: (فإذا). (2) كلمة (له) ساقطة من ا. (3) كلمة (إبليس) ساقطه من ب. 101 الأصل ثم أسكن آدم دارا أرغد فيها عيشته، وآمن فيها محلته، وحذره إبليس وعداوته، فاغتره عدوه نفاسة عليه بدار المقام، ومرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكه، والعزيمة بوهنه، واستبدل بالجذل وجلا، وبالاغترار ندما. ثم بسط الله سبحانه له في توبته، ولقاه كلمة رحمته، ووعده المرد إلى جنته، فأهبطه إلى دار البلية، وتناسل الذرية. * * * الشرح أما الألفاظ فظاهرة، والمعاني أظهر، وفيها ما يسأل عنه: * * * فمنها أن يقال: الفاء في قوله عليه السلام: (فأهبطه) تقتضي أن تكون التوبة على آدم قبل هبوطه من الجنة! والجواب، أن ذلك أحد قولي المفسرين، ويعضده قوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. قال اهبطا منها) (1)، فجعل الهبوط بعد قبول التوبة. * * * ومنها أن يقال: إذا كان تعالى قد طرد إبليس عن الجنة لما أبى السجود، فكيف توصل إلى آدم وهو في الجنة حتى استنزله عنها بتحسين أكل الشجرة له! الجواب، أنه يجوز أن يكون إنما منع من دخول الجنة على وجه التقريب والاكرام،
(1) سورة طه 121 - 123. 102 كدخول الملائكة، ولم يمنع من دخولها على غير ذلك الوجه. وقيل: إنه دخل في جوف الحية، كما ورد في التفسير. ومنها أن يقال: كيف اشتبه على آدم الحال في الشجرة المنهي عنها فخالف النهى! الجواب، أنه قيل له: لا تقربا هذه الشجرة، وأريد بذلك نوع الشجرة، فحمل آدم النهى على الشخص، وأكل من شجرة أخرى من نوعها. ومنها أن يقال: هذا الكلام من أمير المؤمنين عليه السلام، تصريح بوقوع المعصية من آدم عليه السلام، وهو قوله: (فباع اليقين بشكه، والعزيمة بوهنه)، فما قولكم في ذلك؟ الجواب، اما أصحابنا، فإنهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه، ويقولون إنها كانت صغيرة، وعندهم أن الصغائر جائزة على الأنبياء عليهم السلام. وأما الامامية فيقولون: إن النهى كان نهى تنزيه، لا نهى تحريم، لأنهم لا يجيزون على الأنبياء الغلط والخطأ، لا كبيرا ولا صغيرا، وظواهر هذه الألفاظ تشهد بخلاف قولهم. * * * [اختلاف الأقوال في خلق البشر] وأعلم أن الناس اختلفوا في ابتداء خلق البشر كيف كان، فذهب أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى إلى أن مبدأ البشر هو آدم، الأب الأول عليه السلام، وأكثر، ما في القرآن العزيز من قصة آدم مطابق لما في التوراة. وذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك. أما الفلاسفة، فإنهم زعموا أنه لا أول لنوع البشر، ولا لغيرهم من الأنواع. وأما الهند، فمن كان منهم على رأى الفلاسفة، فقوله ما ذكرناه. ومن لم يكن منهم
103 على رأى الفلاسفة ويقول بحدوث الأجسام لا يثبت آدم، ويقول: إن الله تعالى خلق الأفلاك وخلق فيها طباعا محركة لها بذاتها، فلما تحركت - وحشوها أجسام لاستحالة الخلاء - كانت تلك الأجسام، على طبيعة واحدة، فاختلفت طبائعها بالحركة الفلكية، فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن وألطف، والبعيد أبرد وأكثف. ثم اختلطت العناصر، وتكونت منها المركبات، ومنها تكون نوع البشر كما يتكون الدود في الفاكهة واللحم، والبق في البطائح والمواضع العفنة، ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد، وصار ذلك قانونا مستمرا، ونسي التخليق الأول الذي كان بالتولد. ومن الممكن أن يكون بعض البشر في بعض الأراضي القاصية مخلوقا بالتوالد، وإنما انقطع التوالد، لان الطبيعة إذا وجدت للتكون طريقا استغنت به عن طريق ثان. وأما المجوس فلا يعرفون آدم، ولا نوحا، ولا ساما، ولا حاما، ولا يافث. وأول متكون عندهم من البشر البشرى (1) المسمى " كيومرث "، ولقبه " كوشاه " أي ملك الجبل، لان " كو " هو الجبل بالفهلوبة، وكان هذا البشر في الجبال. ومنهم من يسميه " كلشاه "، أي ملك الطين و " كل " اسم الطين، لأنه لم يكن حين إذن بشر ليملكهم. وقيل تفسير " كيومرث " حي ناطق ميت، قالوا: وكان قد رزق من الحسن ما لا يقع عليه بصر حيوان إلا وبهت وأغمي عليه، ويزعمون أن مبدأ تكونه وحدوثه أن يزدان - وهو الصانع الأول عندهم - أفكر (2) في أمر أهرمن، - وهو الشيطان عندهم - فكرة أوجبت أن عرق جبينه، فمسح العرق ورمى به، فصار منه كيومرث. ولهم خبط طويل في كيفية تكون " أهرمن " من فكرة " يزدان " أو من إعجابه بنفسه، أو من توحشه، وبينهم خلاف في قدم " أهرمن "، وحدوثه لا يليق شرحه بهذا الموضع (3).
(1) ب: " البشر ". (2) أفكر وفكر بالتشديد، بمعنى. (3) انظر الشاهنامة 14. 104 ثم اختلفوا في مدة بقاء كيومرث في الوجود، فقال الأكثرون: ثلاثون سنة. وقال الأقلون: أربعون سنة. وقال قوم منهم: إن كيومرث مكث في الجنة التي في السماء ثلاثة آلاف سنة، وهي ألف الحمل، وألف الثور، وألف الجوزاء. ثم أهبط إلى الأرض فكان بها آمنا مطمئنا ثلاثة آلاف سنة أخرى، وهي ألف السرطان، وألف الأسد، وألف السنبلة. ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة في حرب وخصام بينه وبين أهرمن حتى هلك (1). واختلفوا في كيفية هلاكه مع اتفاقهم، على أنه هلك قتلا، فالأكثرون قالوا: إنه قتل ابنا لأهرمن يسمى خزوره، فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان، فلم يجد بدا من أن يقاصه به حفظا للعهود التي بينه وبين أهرمن، فقتله بابن أهرمن. وقال قوم: بل قتله أهرمن في صراع كان بينهما، قهره فيه أهرمن، وعلاه وأكله (1). وذكروا في كيفية ذلك الصراع أن كيومرث كان هو القاهر لأهرمن في بادئ الحال، وأنه ركبه، وجعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن عن أي الأشياء أخوف له وأهولها عنده، فقال له: باب جهنم، فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه، ولم يستمسك، فعلاه وسأله عن أي الجهات يبتدئ به في الاكل، فقال: من جهة الرجل لأكون ناظرا إلى حسن العالم مدة ما، فأبتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه، فبلغ إلى موضع الخصي وأوعية المنى من الصلب، فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض فنبت منهما ريباستان (2) في جبل بإصطخر يعرف بجبل دام داذ، ثم ظهرت على تينك الريباستين الأعضاء البشرية في أول الشهر التاسع، وتمت في آخره، فتصور منهما بشران: ذكر وأنثى، وهما " ميشى "، " وميشانه "، وهما بمنزلة آدم وحواء عند المليين. ويقال لهما أيضا: " ملهى " " وملهيانه "، ويسميهما مجوس خوارزم: " مرد " و " مردانه "،
(1) انظر الشاهنامه 14. (2) الريباس، بالكسر: نبت له عساليج غضه خضراء، عراض الورق، طعمها حامض مع قبض، ينبت في الجبال ذات الثلوج والبلاد الباردة من غير زرع. المعتمد 123 105 وزعموا أنهما مكثا خمسين سنة مستغنين عن الطعام والشراب، متنعمين غير متأذيين بشئ إلى أن ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير، فحملهما على التناول من فواكه الأشجار وأكل منها، وهما يبصرانه شيخا، فعاد شابا، فأكلا منها حينئذ، فوقعا في البلايا والشرور، وظهر فيهما الحرص حتى تزاوجا، وولد لهما ولد فأكلاه حرصا، ثم ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة، فولد لهما بعد ذلك ستة أبطن، كل بطن ذكر وأنثى، وأسماؤهم - في كتاب أپستا، وهو الكتاب الذي جاء به زرادشت - معروفة، ثم كان في البطن السابع " سياميك " و " فرواك "، فتزاوجا، فولد لهما الملك المشهور الذي لم يعرف قبله ملك وهو " أوشهنج "، وهو الذي خلف جده كيومرث، وعقد التاج، وجلس على السرير، وبنى مدينتي بابل والسوس. فهذا ما يذكره المجوس في مبدأ الخلق. قول بعض الزنادقة في تصويب إبليس الامتناع عن السجود لآدم وكان في المسلمين - ممن يرمى بالزندقة - من يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود، ويفضله على آدم، وهو بشار بن برد المرعث (1)، ومن الشعر المنسوب إليه: النار مشرقة والأرض مظلمة والنار معبودة مذ كانت النار (2)
(1) الأغاني 3: 145 (2) في اللسان: " سمى بذلك لرعاث كانت له في صغره في أذنه ". والرعاث جمع رعثة، وهي ما علق في الاذن من قرط ونحره. وروى صاحب الأغاني: وإنما سمى المرعث بقوله: قلت ريم مرعث * ساحر الطرف والنظر لست والله نائلي * قلت أو يغلب القدر أنت إن رمت وصلنا * فانج، هل تدرك القمر! 106 وكان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ (1)، أخو أبى حامد محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي، قاصا لطيفا وواعظا مفوها، وهو من خراسان من مدينة طوس، وقدم إلى بغداد، ووعظ بها، وسلك في وعظه مسلكا منكرا، لأنه كان يتعصب لإبليس، ويقول: إنه سيد الموحدين، وقال يوما على المنبر: من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق، أمر أن يسجد لغير سيده فأبى ولست بضارع إلا إليكم * وأما غيركم حاشا وكلا وقال مرة أخرى لما قال له موسى: " أرني " فقال: " لن (2) " قال: هذا شغلك (3)، تصطفى آدم ثم تسود وجهه، وتخرجه من الجنة، وتدعوني إلى الطور، ثم تشمت بي الأعداء! هذا عملك بالأحباب (4)، فكيف تصنع بالأعداء (5)! وقال مرة أخرى وقد ذكر إبليس على المنبر: لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت، وأن قسى القدر إذا رمت أصمت. ثم قال: لسان حال آدم ينشد في قصته وقصة إبليس: وكنت وليلى في صعود من الهوى * فلما توافينا ثبت وزلت وقال مرة أخرى: التقى موسى وإبليس عند عقبة الطور، فقال موسى: يا إبليس، لم لم تسجد لآدم عليه السلام؟ فقال: كلا، ما كنت لأسجد لبشر، كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره! ولكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل، فأنا أصدق منك في التوحيد.
(1) ذكره ابن الجوزي في الجزء التاسع من المنتظم ص 260، ضمن وفيات سنة 520، وقال عنه: " الغالب على كلامه التخليط ورواية الأحاديث الموضوعة والحكايات الفارغة والمعاني الفاسدة، وقد علق عنه كثير من ذلك ". وذكره أيضا ابن حجر في لسان الميزان 1: 293 (2) يشير إلى قوله تعالى في قصة موسى من سورة الأعراف 143: (ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال ربى أرني أنظر إليك قال لن تراني...). (3) المنتظم: " شأنك ". (4) المنتظم: " الأخيار ". (5) المنتظم 9: 261. 107 وكان هذا النمط في كلامه ينفق على أهل بغداد، وصار له بينهم صيت مشهور، واسم كبير. وحكى عنه أبو الفرج بن الجوزي في " التاريخ " أنه قال على المنبر: معاشر الناس، إني كنت دائما أدعوكم إلى الله، وأنا اليوم أحذركم منه، والله ما شدت الزنانير إلا في حبه، ولا أديت الجزية إلا في عشقه. وقال أيضا: إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده، فقال له: لا تسلم، فقال له الناس: كيف تمنعه من الاسلام؟ فقال: احملوه إلى أبى حامد - يعنى أخاه - ليعلمه " لا " (1) إلى المنافقين. ثم قال: ويحكم أتظنون أن قوله: " لا إله إلا الله " منشور ولايته! ذا منشور عزله (2). وهذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو والشطح. ويروى عن أبي يزيد البسطامي (3) منه كثير. ومما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله: فمن آدم في البين * ومن إبليس لولاكا! فتنت الكل والكل * مع الفتنة يهواكا ويقال: أول من قاس إبليس، فأخطأ في القياس وهلك بخطئه. ويقال: إن أول حمية وعصبية ظهرت عصبية إبليس وحميته. [اختلاف الأقوال في خلق الجنة والنار] فإن قيل: فما قول شيوخكم في الجنة والنار، فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا، وسيخلقان
(1) في المنتظم: " يعنى: لا إله إلا الله ". (2) عبارة المنتظم: " أفنسوا عزله! ". قال ابن الجوزي بعد أن أورد هذه الحكايات: " لقد أدهشني نفاق هذا الهذيان في بغداد وهي دار العلم، ولقد حضر مجلسه يوسف الهمذاني، فقال: مدد كلام هذا شيطاني، لا رباني، ذهب دينه والدنيا لا تبقى له ". (3) هو أبو يزيد طيفور بن عيسى، توفى سنة 261. طبقات الصوفية للسلمي 67 108 عند قيام الأجساد، وقد دل القرآن العزيز، ونطق كلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفصل، بأن آدم كان في الجنة وأخرج منها! قيل: قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة، فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن يقول: قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم ولا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى، بدليل قوله: (كل شئ هالك إلا وجهه) (1) وقوله: (هو الأول والآخر) (2)، فلما كان " أولا " بمعنى أنه لا جسم في الوجود معه في الأزل وجب أن يكون " آخرا "، بمعنى أنه لا يبقى في الوجود جسم من الأجسام معه فيما لا يزال، وبآيات كثيرة أخرى. وإذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام لم يكن في خلق الجنة والنار قبل أوقات الجزاء فائدة، لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام التي تفنى يوم القيامة فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى. ويحملون الآيات التي دلت على كون آدم عليه السلام كان في الجنة وأخرج منها، على بستان من بساتين الدنيا. قالوا: والهبوط لا يدل على كونهما في السماء، لجواز أن يكون في الأرض، إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض. وأما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا: إنهما مخلوقتان الآن، واعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء والثواب، وقالوا: لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين بوجود الجنة والنار لطف لهم في التكليف، وإنما يحسن الاخبار بذلك إذا كان صدقا، وإنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه. [القول في آدم والملائكة أيهما أفضل] فإن قيل: فما الذي يقوله شيوخكم في آدم والملائكة: أيهما أفضل؟ قيل: لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله أن الملائكة أفضل من آدم ومن جميع الأنبياء
(1) سورة القصص 88. (2) سورة الحديد 3. 109 عليهم السلام، ولو لم يدل على ذلك ألا قوله تعالى في هذه القصة: (إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين) (1) لكفى. وقد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى: (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) (2)، وهذا كما تقول: لا يستنكف الوزير أن يعظمني ويرفع من منزلتي، ولا الملك أيضا. فإن هذا يقتضى كون الملك أرفع منزلة من الوزير. وكذلك قوله: (ولا الملائكة المقربون)، يقتضى كونهم أرفع منزلة من عيسى. ومما احتجوا به قولهم: إنه تعالى لما ذكر جبريل ومحمدا عليهما السلام، في معرض المدح، مدح جبريل عليه السلام بأعظم مما مدح به محمدا عليه السلام، فقال: (إنه لقول رسول كريم. ذي قوة عند ذي العرش مكين. مطاع ثم أمين. وما صاحبكم بمجنون. ولقد رآه بالأفق المبين. وما هو على الغيب بضنين) (3). فالمديح الأول لجبريل، والثاني لمحمد عليهما السلام، ولا يخفى تفاوت ما بين المدحين. فإن قيل: فهل كان إبليس من الملائكة أم من نوع آخر؟ قيل: قد اختلف في ذلك فمن قال: إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله: (فسجد الملائكة) كلهم أجمعون. إلا إبليس ((4)، وقال: إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الأصل. ومن قال: إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى: (إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) (4). وأجاب الأولون عن هذا فقالوا: إن الملائكة يطلق عليهم لفظ الجن لاجتنانهم واستتارهم عن الأعين. وقالوا: قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى: (وجعلوا بينه
(1) سورة الأعراف 20. (2) سورة النساء 172 (3) سورة التكوير 19 - 24. (4) سورة الحجر 29، 30 110 وبين الجنة نسبا) (1)، والجنة هاهنا هم الملائكة، لأنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله، بدليل قوله: (أفأصفاكم ربكم بالبنين. واتخذ من الملائكة إناثا)، وكتب التفسير تشتمل من هذا على ما لا نرى الإطالة بذكره. * * * فأما القطب الراوندي فقال في هذين الفصلين في تفسير ألفاظهما اللغوية: العذب من الأرض ما ينبت، والسبخ ما لا ينبت، وهذا غير صحيح لان السبخ ينبت النخل، فليزم أن يكون عذبا على تفسيره. وقال: فجبل منها صورة، أي خلق خلقا عظيما. ولفظة " جبل " في اللغة تدل على " خلق " سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم. وقال: الوصول: جمع وصل، وهو العضو، وكل شئ اتصل بشئ فما بينهما وصلة. والفصول: جمع فصل وهو الشئ المنفصل، وما عرفنا في كتب اللغة أن الوصل هو العضو، ولا قيل هذا. وقوله بعد ذلك: وكل شئ اتصل بشئ فما بينهما وصله لا معنى لذكره بعد ذلك التفسير. والصحيح أن مراده عليه السلام أظهر من أن يتكلف له هذا التكلف، ومراده عليه السلام أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة، كعظم الساق أو عظم الساعد، وذات أعضاء منفصلة في الحقيقة، وإن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها، كاتصال الساعد بالمرفق، واتصال الساق بالفخذ. ثم قال: يقال استخدمته لنفسي ولغيري، واختدمته لنفسي خاصة، وهذا مما لم أعرفه، ولعله نقله من كتاب.
(1) سورة الكهف 50 (2) سورة الصافات 158 111 ثم قال: والاذعان: الانقياد، والخنوع: الخضوع، وإنما كرر الخنوع بعد الاذعان، لان الأول يفيد أنهم أمروا بالخضوع له في السجود، والثاني يفيد ثباتهم على الخضوع لتكرمته أبدا. ولقائل أن يقول: إنه لم يكرر لفظة " الخنوع "، وإنما ذكر أولا الاذعان، وهو الانقياد والطاعة، ومعناه أنهم سجدوا، ثم ذكر الخنوع الذي معناه الخضوع، وهو يعطى معنى غير المعنى الأول، (1) لأنه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه، فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه. وقول الراوندي: أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ، ولا معنى الكلام. ثم قال: قبيل إبليس نسله، قال تعالى: (إنه يراكم هو وقبيله) (2)، وكل جيل من الإنس والجن قبيل. والتصحيح أن قبيله نوعه، كما أن البشر قبيل كل بشرى، سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا. وقد قيل أيضا: كل جماعة قبيل وإن اختلفوا، نحو أن يكون بعضهم روما وبعضهم زنجا. وبعضهم عربا. وقوله تعالى: (إنه يراكم هو وقبيله) لا يدل على أنهم نسله. وقوله بعد: وكل جيل من الإنس والجن قبيل. ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله. ثم تكلم في المعاني فقال: إن القياس الذي قاسه إبليس كان باطلا، لأنه ادعى أن النار أشرف من الأرض، والامر بالعكس، لان كل ما يدخل إلى النار ينقص، وكل ما يدخل التراب يزيد. وهذا عجيب! فإنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الأرض تنقص أجسامها، وكذلك الأشجار المدفونة في الأرض، على أن التحقيق أن المحترق بالنار والبالي بالتراب لم تعدم أجزاؤه ولا بعضها، وإنما استحالت إلى صور أخرى.
(1) ا: (فإنه). (2) سورة الإسراء 40 112 ثم قال: ولما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح، علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة في ذلك الوقت وفيما بعده. ولقائل أن يقول: أليس قد سجد يعقوب ليوسف عليه السلام! أفيدل ذلك على أن يوسف أفضل من يعقوب! ولا يقال: إن قوله تعالى: (ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا) (1) لا يدل على سجود الوالدين، فلعل الضمير يرجع إلى الاخوة خاصة، لأنا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله: (والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين) (2)، وهو كناية عن الوالدين. وأيضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه، وأن آدم كان قبلة، والقبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها، ألا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي عليه السلام! * * * الأصل: واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه، واجتالتهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم (3) رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة، من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعايش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم. ولم يخل الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجة لازمة،
(1) سورة يوسف 100. (2) سورة يوسف 4 (3) مخطوطة النهج: (إليهم). 113 أو محجة قائمة، رسل لا تقصر بهم قلة عددهم، ولا كثرة المكذبين لهم من سابق سمى له من بعده، أو غابر عرفه من قبله. * * * الشرح: " اجتالتهم الشياطين ": أدارتهم، تقول: اجتال فلان فلانا، واجتاله عن كذا وعلى كذا، أي أداره عليه، كأنه يصرفه تارة هكذا، وتارة هكذا، يحسن له فعله، ويغريه به. وقال الراوندي: اجتالتهم: عدلت بهم، وليس بشئ. وقوله عليه السلام: " واتر إليهم أنبيائه "، أي بعثهم وبين كل نبيين فترة، وهذا مما تغلط فيه العامة فتظنه كما ظن الراوندي أن المراد به المرادفة والمتابعة. والأوصاب: الأمراض. والغابر: الباقي. * * * ويسأل في هذا الفصل عن أشياء: منها، عن قوله عليه السلام: " أخذ على الوحي ميثاقهم ". والجواب، أن المراد أخذ على أداء الوحي ميثاقهم، وذلك أن كل رسول أرسل فمأخوذ عليه أداء الرسالة، كقوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته) (1). ومنها أن يقال: ما معنى قوله عليه السلام: " ليستأدوهم ميثاق فطرته "؟ هل هذا
(1) سورة المائدة 67 114 إشارة إلى ما يقوله أهل الحديث في تفسير قوله تعالى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى) (1). والجواب، أنه لا حاجة في تفسير هذه اللفظة إلى تصحيح ذلك الخبر، ومراده عليه السلام بهذا اللفظ أنه لما كانت المعرفة به تعالى وأدلة التوحيد والعدل مركوزة في العقول، أرسل سبحانه الأنبياء أو بعضهم، ليؤكدوا (2) ذلك المركوز في العقول. وهذه هي الفطرة المشار إليها بقوله عليه السلام: " كل مولود يولد على الفطرة ". ومنها أن يقال: إلى ماذا يشير بقوله: " أو حجة لازمة "؟ هل هو إشارة إلى ما يقوله الامامية، من أنه لابد في كل زمان من وجود إمام معصوم؟ الجواب، أنهم يفسرون هذه اللفظة بذلك. ويمكن أن يكون المراد بها حجة العقل. وأما القطب الراوندي، فقال في قوله عليه السلام: " واصطفى سبحانه من ولده أنبياء ": الولد يقال على الواحد والجمع، لأنه مصدر في الأصل، وليس بصحيح، لان الماضي " فعل " بالفتح، والمفتوح لا يأتي مصدره بالفتح، ولكن " فعلا " مصدر " فعل " بالكسر، كقولك: ولهت عليه ولها، ووحمت المرأة وحما. ثم قال: إن الله تعالى بعث يونس قبل نوح، وهذا خلاف إجماع المفسرين وأصحاب السير. ثم قال: وكل واحد من الرسل والأئمة كان يقوم بالامر، ولا يردعه عن ذلك قلة عدد أوليائه، ولا كثرة عدد أعدائه. فيقال له: هذا خلاف قولك في الأئمة المعصومين، فإنك تجيز عليهم التقية، وترك القيام بالامر إذا كثرت أعداؤهم. وقال في تفسير قوله عليه السلام: " من سابق سمى له من بعده، أو غابر عرفه
(1) سورة المائدة 167. (2) ا: " يؤكد ". 115 من قبله ": كان من ألطاف الأنبياء المتقدمين وأوصيائهم، أن يعرفوا الأنبياء المتأخرين وأوصياءهم، فعرفهم الله تعالى ذلك، وكان من اللطف بالمتأخرين وأوصيائهم أن يعرفوا أحوال المتقدمين من الأنبياء والأوصياء، فعرفهم الله تعالى ذلك أيضا، فتم اللطف لجميعهم. ولقائل أن يقول: لو كان عليه السلام: " قال أو غابر عرف من قبله " لكان هذا التفسير مطابقا، ولكنه عليه السلام لم يقل ذلك، وإنما قال: " عرفه من قبله " وليس هذا التفسير مطابقا لقوله: " عرفه ". والصحيح أن المراد به: من نبي سابق عرف من يأتي بعده من الأنبياء أي عرفه الله تعالى ذلك، أو نبي غابر نص عليه من قبله، وبشر به كبشارة الأنبياء بمحمد عليه السلام. * * * الأصل: على ذلك نسلت القرون، ومضت الدهور، وسلفت الآباء، وخلفت الأبناء، إلى أن بعث الله سبحانه محمدا صلى الله عليه لإنجاز عدته، وإتمام (1) نبوته، مأخوذا على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته، كريما ميلاده، وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة، وأهواء منتشرة، وطرائق متشتتة، بين مشبه لله بخلقه، أو ملحد في اسمه، أو مشير إلى غيره، فهداهم به من الضلالة وأنقذهم بمكانه من الجهالة. ثم اختار سبحانه لمحمد صلى الله عليه لقاءه، ورضى له ما عنده، وأكرمه (2) عن دار الدنيا، ورغب به عن مقام البلوى، فقبضه إليه كريما، وخلف فيكم ما خلفت الأنبياء في أممها - إذ لم يتركوهم هملا بغير طريق واضح،
(1) مخطوطة النهج: " وتمام ". (2) مخطوطة النهج: " فأكرمه ". 116 ولا علم قائم - كتاب ربكم، مبينا لكم (1) حلاله وحرامه، وفرائضه وفضائله، وناسخه ومنسوخه، ورخصه وعزائمه، وخاصه وعامه، وعبره وأمثاله، ومرسله ومحدوده، ومحكمه ومتشابهه، مفسرا مجمله (2)، ومبينا غوامضه، بين مأخوذ ميثاق علمه، وموسع على العباد في جهله، وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنة نسخه، وواجب في السنة أخذه، ومرخص في الكتاب تركه، وبين واجب بوقته، وزائل في مستقبله. ومباين بين محارمه، من كبير أوعد عليه نيرانه، أو صغير أرصد له غفرانه. وبين مقبول في أدناه، موسع في أقصاه. * * * الشرح: قوله عليه السلام: " نسلت القرون "، ولدت. والهاء في قوله: " لإنجاز عدته " راجعة إلى البارئ سبحانه. والهاء في قوله: " وإتمام نبوته "، راجعة إلى محمد صلى الله عليه وآله. وقوله: " مأخوذ على النبيين ميثاقه "، قيل: لم يكن نبي قط إلا وبشر بمبعث محمد صلى الله عليه وآله، وأخذ عليه تعظيمه، وإن كان بعد لم يوجد. فأما قوله: " وأهل الأرض يومئذ ملل متفرقة "، فإن العلماء يذكرون أن النبي صلى الله عليه وآله بعث والناس أصناف شتى في أديانهم: يهود، ونصارى، ومجوس، وصابئون، عبدة أصنام، وفلاسفة وزنادقة. [أديان العرب في الجاهلية] فأما الأمة التي بعث محمد صلى الله عليه وآله فيها فهم العرب. وكانوا أصنافا شتى،
(1) ب: " فيكم ". وهي ساقطة من مخطوطة النهج. (2) مخطوطة النهج: " جمله ". 117 فمنهم معطلة، ومنهم غير معطلة. فأما المعطلة منهم، فبعضهم أنكر الخالق والبعث والإعادة، وقالوا ما قال القرآن العزيز عنهم: (ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر) (1)، فجعلوا الجامع لهم الطبع، والمهلك لهم الدهر. وبعضهم اعترف بالخالق سبحانه وأنكر البعث، وهم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله: (قال من يحيى العظام وهي رميم). ومنهم من أقر بالخالق ونوع من الإعادة، وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام، وزعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة، وحجوا، لها ونحروا لها الهدى، وقربوا لها القربان، وحللوا وحرموا، وهم جمهور العرب، وهم الذين قال الله تعالى عنهم: (وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق) (2). فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر (3): فماذا بالقليب قليب بدر * من الفتيان والقوم الكرام! (4) وماذا بالقليب قليب بدر * من الشيزى تكلل بالسنام! (5) أيخبرنا ابن كبشة أن سنحيا * وكيف حياة أصداء وهام! إذا ما الرأس زال بمنكبيه * فقد شبع الأنيس من الطعام أيقتلني إذا ما كنت حيا * ويحييني إذا رمت عظامي!
(1) سورة الجاثية 24. (2) سورة الفرقان 7. (3) سيرة ابن هشام 2: 113 مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات وعددها، ونسبها إلى شداد ابن الأسود. (4) ابن هشام: * من القينات والشرب الكرام * والقليب: البئر. (5) البيت في اللسان 7: 230، ورواه: " يزين بالسنام "، وقال في شرحه: الشيزى: شجر يتخذ منه الجفان، وأراد بالجفان أربابها الذين كانوا يطمعون فيها وقتلوا ببدر وألقوا في القليب، فهو يرثيهم، وسمى الجفان شيزى بأسم أصلها ". 118 وكان من العرب من يعتقد التناسخ وتنقل الأرواح في الأجساد، ومن هؤلاء أرباب الهامة، التي قال عليه السلام عنهم: لا عدوى ولا هامة ولا صفر (1) وقال ذو الإصبع: يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي * أضربك حيث تقول الهامة أسقوني (2) وقالوا: إن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير خرج إليها هامة من القبر صائحة، أفزعت ناقتها، فوقصت (3) بها فماتت، وكان ذلك تصديق قوله: ولو أن ليلى الأخيلية سلمت * على ودوني جندل وصفائح (4) لسلمت تسليم البشاشة أو زقى * إليها صدى من جانب القبر صائح وكان توبة وليلى في أيام بنى أمية. وكانوا في عبادة الأصنام مختلفين، فمنهم من يجعلها مشاركة للبارئ تعالى، ويطلق عليها لفظة الشريك، ومن ذلك قولهم: في التلبية: لبيك اللهم لبيك: لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. ومنهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك، ويجعلها وسائل وذرائع إلى الخالق سبحانه، وهم الذين قالوا: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) (5). وكان في العرب مشبهة ومجسمة، منهم أمية بن أبي الصلت، وهو القائل: من فوق عرش جالس قد حط رجليه إلى كرسيه المنصوب وكان جمهورهم عبدة الأصنام، فكان ود لكلب بدومة الجندل، وسواع الهذيل،
(1) كانت العرب تزعم أن في البطن حية يقال لها الصفر، تصيب الانسان إذا جاع وتؤذيه. نهاية ابن الأثير 2: 226. (2) من قصيدة مفضلية، المفضليات 163. (3) وقصت بها، أي سقطت عنها فماتت. (4) ديوان الحماسة لأبي تمام بشرح التبريزي 3: 267. والصفائح: الحجارة العراض تكون على القبور (5) سورة الزمر 3. 119 ونسر لحمير، ويغوث لهمدان، واللات لثقيف بالطائف، والعزى لكنانة وقريش وبعض بنى سليم، ومناة لغسان والأوس والخزرج، وكان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة، وأساف ونائلة على الصفا والمروة. وكان في العرب من يميل إلى اليهودية، منهم جماعة من التبابعة وملوك اليمن، ومنهم نصارى كبني تغلب والعباديين رهط عدى بن زيد، ونصارى نجران، ومنهم من كان يميل إلى الصابئة ويقول بالنجوم والأنواء. فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب، فالقليل منهم، وهم المتألهون أصحاب الورع (1) والتحرج عن القبائح كعبد الله، وعبد المطلب وابنه أبى طالب، وزيد بن عمرو بن نفيل، وقس بن ساعدة الأيادي، وعامر بن الظرب العدواني، وجماعة غير هؤلاء. وغرضنا من هذا الفصل بيان قوله عليه السلام: " بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه " إلى غير ذلك، وقد ظهر بما شرحناه. * * * ثم ذكر عليه السلام أن محمدا صلى الله عليه وآله خلف في الأمة بعده كتاب الله تعالى طريقا واضحا، وعلما قائما، والعلم المنار يهتدى به. ثم قسم ما بينه عليه السلام في الكتاب أقساما. فمنها حلاله وحرامه، فالحلال كالنكاح، والحرام كالزنا. ومنها فضائله وفرائضه، فالفضائل النوافل، أي هي فضلة غير واجبة كركعتي الصبح وغيرهما، والفرائض كفريضة الصبح. وقال الراوندي: الفضائل هاهنا جمع فضيلة وهي الدرجة الرفيعة. وليس بصحيح، ألا تراه كيف جعل الفرائض في مقابلتها وقسيما لها، فدل ذلك على أنه أراد النوافل.
(1) ا: " التورع ". 120 ومنها ناسخه ومنسوخه، فالناسخ كقوله: (اقتلوا المشركين) (1)، والمنسوخ كقوله: (لا إكراه في الدين) (2). ومنها رخصه وعزائمه، فالرخص كقوله تعالى: (فمن اضطر في مخمصة) (3) والعزائم، كقوله: (فاعلم أنه لا إله إلا الله) (4). ومنها خاصه وعامه، فالخاص، كقوله تعالى: (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي) (5)، والعام كالألفاظ الدالة على الاحكام العامة لسائر المكلفين كقوله: (أقيموا الصلاة) (6). ويمكن أن يراد بالخاص العمومات التي يراد بها الخصوص، كقوله: (وأوتيت من كل شئ) (6) وبالعام ما ليس مخصوصا، بل هو على عمومه كقوله تعالى: (والله بكل شئ عليم) (7). ومنها عبره وأمثاله، فالعبر كقصة أصحاب الفيل، وكالآيات التي تتضمن النكال والعذاب النازل بأمم الأنبياء من قبل، والأمثال كقوله: (كمثل الذي استوقد نارا) (8). ومنها مرسله ومحدوده، وهو عبارة عن المطلق والمقيد، وسمى المقيد محدودا وهي لفظة فصيحة جدا، كقوله: (فتحرير رقبة) (9) وقال في موضع آخر: (وتحرير رقبة مؤمنة) (10). ومنها محكمه ومتشابهه، فمحكمه كقوله تعالى: (قل هو الله أحد) (11)، والمتشابه، كقوله: (إلى ربها ناظره) (12). ثم قسم عليه السلام الكتاب قسمة ثانية، فقال: إن منه ما لا يسع أحدا جهله
(1) سورة التوبة 5. (2) البقرة 256 (3) سورة المائدة 3 (4) سورة محمد 19 (5) سورة الأحزاب 50 (6) سورة النمل 23 (7) سورة البقرة 282 (8) سورة البقرة 17 (9) سورة المائدة 3 (10) سورة النساء 92 (11) سورة الاخلاص 1 (12) سورة القيامة 23 121 ومنه ما يسع الناس، جهله، مثال الأول قوله: (الله لا إله الا هو الحي القيوم) (1) ومثال الثاني: (كهيعص) (حمعسق). ثم قال: ومنه ما حكمه مذكور في الكتاب منسوخ بالسنة وما حكمه مذكور في السنة منسوخ بالكتاب، مثال الأول قوله تعالى: (فامسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت) (2) نسخ بما سنه عليه السلام من رجم الزاني المحصن. ومثال الثاني صوم يوم عاشوراء كان واجبا بالسنة ثم نسخه صوم شهر رمضان الواجب بنص الكتاب. ثم قال: " وبين واجب بوقته، وزائل في مستقبله "، يريد الواجبات المؤقتة كصلاة الجمعة، فإنها تجب في وقت مخصوص، ويسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت. ثم قال عليه السلام: " ومباين بين محارمه "، الواجب أن يكون " ومباين " بالرفع لا بالجر، فإنه ليس معطوفا على ما قبله، ألا ترى أن جميع ما قبله يستدعى الشئ وضده، أو الشئ ونقيضه. وقوله؟: " ومباين بين محارمه " لا نقيض ولا ضد له. لأنه ليس القرآن العزيز على قسمين: أحدهما مباين بين محارمه والآخر غير مباين، فإن ذلك لا يجوز فوجب رفع " مباين "، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف، ثم فسر ما معنى المباينة بين محارمه، فقال: إن محارمه تنقسم إلى كبيرة وصغيرة فالكبيرة أوعد سبحانه عليها بالعقاب، والصغيرة مغفورة، وهذا نص مذهب المعتزلة في الوعيد. ثم عدل عليه السلام عن تقسيم المحارم المتباينة، ورجع إلى تقسيم الكتاب فقال، " وبين مقبول في أدناه، وموسع في أقصاه "، كقوله: (فاقرءوا ما تيسر منه.) (3) فإن القليل من القرآن مقبول، والكثير منه موسع مرخص في تركه. * * *
(1) سورة البقرة 255. (2) سورة النساء 15. (3) سورة المزمل 20. 122 الأصل: وفرض عليكم حج بيته الحرام، الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الانعام، ويألهون إليه ولوه الحمام، وجعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته، واختار من خلقه سماعا أجابوا إليه دعوته، وصدقوا (1) كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عنده موعد مغفرته. جعله سبحانه وتعالى للاسلام علما، وللعائذين حرما، وفرض حقه، وأوجب حجه (2) وكتب عليكم وفادته، فقال سبحانه: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غنى عن العالمين) (3). * * * الشرح: الوله: شدة الوجد، حتى يكاد العقل يذهب، وله الرجل يوله ولها. ومن روى: " يألهون إليه ولوه الحمام " فسره بشئ آخر، وهو يعكفون عليه عكوف الحمام، وأصل " أله " عبد، ومنه الاله، أي المعبود. ولما كان العكوف على الشئ كالعبادة له لملازمته والانقطاع إليه قيل: أله فلان إلى كذا، أي عكف عليه كأنه يعبده. ولا يجوز أن يقال: " يألهون إليه " في هذا الموضع بمعنى " يولهون "، وأن أصل الهمزة الواو كما فسره الراوندي لان " فعولا " لا يجوز أن يكون مصدرا من فعلت بالكسر، ولو كان يألهون هو يولهون، كان أصله أله بالكسر، فلم يجز أن يقول: " ولوه الحمام "، وأما على ما فسرناه نحن فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا، لان " أله " مفتوح، فصار كقولك: دخل دخولا. وباقي الفصل غنى عن التفسير.
(1) مخطوطة النهج: " وصدقوا إليه ". (2) مخطوطة النهج: " فرض حجه، وأوجب حقه " (3) سورة آل عمران 97 123 [فضل الكعبة] جاء في الخبر الصحيح أن في السماء بيتا يطوف به الملائكة طواف البشر بهذا البيت اسمه الضراح، وأن هذا البيت تحته على خط مستقيم، وأنه المراد بقوله تعالى: (والبيت المعمور) (1)، أقسم سبحانه به لشرفه ومنزلته عنده، وفي الحديث أن آدم لما قضى مناسكه، وطاف بالبيت لقيته الملائكة، فقالت: يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. قال مجاهد: إن الحاج: ذا قدموا مكة استقبلتهم الملائكة، فسلموا على ركبان الإبل، وصافحوا ركبان الحمير، واعتنقوا المشاة اعتناقا. من سنة السلف أن يستقبلوا الحاج، ويقبلوا بين أعينهم ويسألوهم الدعاء لهم، ويبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالذنوب والآثام. وفي الحديث: " إن الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف، فإن (2) نقصوا أتمهم الله بالملائكة، وإن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة، وكل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها، حتى تدخل الجنة فيدخلون معها ". وفي الحديث إن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة. وفيه: " أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن أن الله لا يغفر له ". عمر بن ذر الهمداني لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة وقال مودعا للبيت: ما زلنا نحل إليك عروة، ونشد إليك أخرى، ونصعد لك أكمة، ونهبط أخرى، وتخفضنا أرض، وترفعنا أخرى، حتى أتيناك. فليت شعري بم يكون منصرفنا؟ أبذنب مغفور، فأعظم بها من نعمة! أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة! فيا من له خرجنا وإليه
(1) سورة الطور 4. (2) ا: " وإن " 124 قصدنا، وبحرمه أنخنا، ارحم. يا معطي الوفد بفنائك، فقد أتيناك بها معراة جلودها، ذابلة أسنمتها، نقبة (1) أخفافها، وإن أعظم الرزية أن نرجع وقد اكتنفتنا الخيبة. اللهم وإن للزائرين حقا، فاجعل حقنا عليك غفران ذنوبنا، فإنك جواد كريم، ماجد لا ينقصك نائل، ولا يبخلك سائل. ابن جريج، ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة، حتى كنت باليمن، فسمعت منشدا ينشد قوله: بالله قولا له في غير معتبة * ماذا أردت بطول المكث في اليمن! (2) إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها (3) * فما أخذت بترك الحج من ثمن! فحركني ذلك على ترك اليمن، والخروج إلى مكة، فخرجت فحججت. سمع أبو حازم امرأة حاجة ترفث (4) في كلامها، فقال: يا أمة الله، ألست حاجة! ألا تتقين الله! فسفرت عن وجه صبيح، ثم قالت له: أنا من اللواتي قال فيهن عمر بن أبي ربيعة (5): أماطت كساء الخز عن حر وجهها * وردت على الخدين بردا مهلهلا من اللائي لم يحججن يبغين حسبة * ولكن ليقتلن البرئ المغفلا. فقال أبو حازم: فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار. فبلغ ذلك سعيد بن المسيب، فقال: رحم الله أبا حازم! لو كان من عباد العراق، لقال لها: اعزبي يا عدوة الله! ولكنه ظرف نساك الحجاز.
(1) نقبة، من نقب البعير، إذا رقت أخفافه. (2) ديوانه 276، والمعتبة: العتاب. (3) الديوان: " أو نعمت بها ". (4) الرفث: الفحش في القول. (5) الصواب أنهما للعرجى، وهما من قصيدة في ديوانه 71 - 75 مطلعها: رأتني خضيب الرأس شمرت مئزري * وقد عهدتني أسود الرأس مسبلا ونسبهما إليه أبو الفرج في الأغاني 1: 404 (طبعة دار الكتب). 125 [فصل في الكلام على السجع] واعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع، وأدخلوا خطب أمير المؤمنين عليه السلام في جملة ما عابوه، لأنه يقصد فيها السجع، وقالوا: إن الخطب الخالية من السجع، والقرائن والفواصل، هي خطب العرب، وهي المستحسنة الخالية من التكلف، كخطبة النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع، وهي (1): الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على العمل بطاعته، وأستفتح الله بالذي هو خير، أما بعد، أيها الناس، اسمعوا منى أبين لكم، فإني لا أدرى، لعلى لا ألقاكم بعد عامي هذا، في موقفي هذا أيها الناس، إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا. ألا هل بلغت اللهم اشهد. من كانت عنده أمانه فليؤدها إلى من أئتمنه عليها، وإن ربا الجاهلية موضوع (2)، وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب، وإن دماء الجاهلية موضوعة، وأول دم أبدأ به دم آدم (3) بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وإن مآثر الجاهلية موضوعة غير
(1) الخطبة في سيرة ابن هشام 2: 350، والبيان والتبيين 2: 31، والطبري 3: 168 وإعجاز القرآن للباقلاني 198، والعقد 4: 57، وابن الأثير 2: 205. (2) يقال: وضعت الدين والجزية عنه ونحوهما، إذا أسقطته. (3) كذا في ب، وهو يوافق ما ذكره السهيلي، قال: اسمه آدم، وكان مسترضعا في هذيل، وقيل اسمه تمام، وكان سبب قتله حرب كانت بين قبائل هذيل، تقاذفوا فيها بالحجارة، فأصاب الطفل حجر وهو يحبو بين البيوت. وفى ا " عامر "، وهو يوافق ما في البيان والتبيين والعقد، وفى الطبري والباقلاني: " دم ابن ربيعة بن الحارث بن الحارث ". 126 السدانة والسقاية (1). والعمد (2) قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، فيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية. أيها الناس، إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضى أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم. أيها الناس، إنما النسئ (3) زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاما، ويحرمونه عاما، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب، الذي بين جمادى وشعبان، ألا هل بلغت. أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقا، ولكم عليهن حقا، فعليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم، ولا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فقد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن، فإن انتهين وأطعنكم فعليكم كسوتهن ورزقهن بالمعروف، فإنما النساء عندكم عوان (4) لا يملكن لأنفسهن شيئا، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهن خيرا.
(1) السدانة: خدمة الكعبة، بفتح السين وكسرها. والسقاية: ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء. (2) القود: القصاص، أي من قتل متعمدا يقتل. (3) النسئ: تأخير حرمة شهر آخر، وذلك أن العرب في الجاهلية كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهر آخر، فيحملون المحرم ويحرمون صفرا، فإن احتاجوا أحلوه وحرموا ربيعا الأول، وهكذا حتى استدار التحريم على شهور السنة كلها، وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لا خصوصية الأشهر المعلومة، وأول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني. وانظر تفسير الآلوسي 3: 305 (4) عوان: أسيرات. 127 أيها الناس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لامرئ مال أخيه إلا على طيب نفس، ألا هل بلغت اللهم اشهد. ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا، كتاب الله ربكم، ألا هل بلغت اللهم اشهد. أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى، ألا فليبلغ الشاهد الغائب. أيها الناس، إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر، من ادعى إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فهو ملعون، لا يقبل الله منه صرفا (1) ولا عدلا. والسلام عليكم ورحمة الله عليكم. * * * واعلم أن السجع لو كان عيبا لكان كلام الله سبحانه معيبا لأنه مسجوع، كله ذو فواصل وقرائن، ويكفي هذا القدر وحده مبطلا لمذهب هؤلاء. فأما خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله هذه فإنها وإن لم تكن ذات سجع، فإن أكثر خطبه مسجوع، كقوله: إن مع العز ذلا، وان مع الحياة موتا، وإن مع الدنيا آخرة، وإن لكل شئ حسابا و لكل حسنة ثوابا، ولكل سيئة عقابا، وإن على كل شئ رقيبا، وأنه لا بد لك من قرين يدفن معك هو حي وأنت ميت، فإن كان كريما أكرمك، وإن كان لئيما أسلمك، ثم لا يحشر إلا معك، ولا تبعث إلا معه، ولا تسأل إلا عنه، فلا تجعله إلا صالحا، فإنه إن صلح أنست به، وإن فسد لم تستوحش إلا منه، وهو عملك. فأكثر هذا الكلام مسجوع كما تراه، وكذلك خطبه الطوال كلها. وأما كلامه
(1) أي لا يقبل منهم شئ، وأصل العدل أن يقتل الرجل الرجل، وانصرف: أن ينصرف عن الدم إلى أخذ الدية. 128 القصير، فإنه غير مسجوع، لأنه لا يحتمل السجع، وكذلك القصير من كلام أمير المؤمنين عليه السلام. فأما قولهم: إن السجع يدل على التكلف، فإن المذموم هو التكلف الذي تظهر سماجته وثقله للسامعين، فأما التكلف المستحسن، فأي عيب فيه! ألا ترى أن الشعر نفسه لا بد فيه من تكلف إقامة الوزن، وليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك. واحتج عائبو السجع بقوله عليه السلام لبعضهم منكرا عليه: " أسجعا كسجع الكهان! ". ولولا أن السجع منكر لما أنكر عليه السلام سجع الكهان وأمثاله، فيقال لهم: إنما أنكر عليه السلام السجع الذي يسجع الكهان أمثاله، لا السجع على الاطلاق، وصورة الواقعة أنه عليه السلام أمر في الجنين بغرة (1)، فقال قائل: أأدي من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهل، ومثل هذا يطل! فأنكر عليه السلام ذلك، لان الكهان كانوا يحكمون في الجاهلية بألفاظ مسجوعة كقولهم: حبة بر، في إحليل مهر. وقولهم: عبد المسيح، على جمل مشيح (2)، لرؤيا المؤبذان، وارتجاس الإيوان. ونحو ذلك من كلامهم. وكان عليه السلام قد أبطل الكهانة والتنجيم والسحر، ونهى عنها، فلما سمع كلام ذلك القائل أعاد الانكار، ومراده به تأكيد تحريم العمل على أقوال الكهنة. ولو كان عليه السلام قد أنكر السجع لما قاله، وقد بينا أن كثيرا من كلامه مسجوع، وذكرنا خطبته. ومن كلامه عليه السلام المسجوع خبر ابن مسعود رحمه الله تعالى، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: " استحيوا من الله حق الحياء "، فقلنا إنا لنستحي يا رسول الله من الله تعالى، فقال: " ليس ذلك ما أمرتكم به، وإنما الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس
(1) الغرة: ما بلغ ثمنه نصف عشر الدية من العبيد والإماء. انظر النهاية لابن الأثير (3: 155). (2) جمل مشيح: جاد مسرع. 129 وما وعى، والبطن وما حوى، وتذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا. ومن ذلك كلامه المشهور لما قدم المدينة عليه السلام أول قدومه إليها: " أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ". وعوذ الحسن عليهما السلام، فقال: " أعيذك من الهامة، والسامة، وكل عين لامة "، وإنما أراد " ملمة "، فقال: " لامة " لأجل السجع. وكذلك قوله: " ارجعن مأزورات، غير مأجورات " وإنما هو " موزورات "، بالواو. * * *
130 - 2 - ومن خطبة له عليه السلام بعد انصرافه من صفين: صفين: اسم الأرض التي كانت فيها الحرب، والنون فيها أصلية، ذكر ذلك صاحب " الصحاح " (1) فوزنها على هذا: " فعيل " كفسيق، وخمير، وصريع، وظليم، وضليل. فإن قيل: فاشتقاقه مما ذا يكون؟ قيل: لو كان اسما لحيوان لأمكن أن يكون من صفن الفرس - إذا قام على ثلاث وأقام الرابعة على طرف الحافر - يصفن، بالكسر صفونا. أو من صفن القوم، إذا صفوا أقدامهم لا يخرج بعضها من بعض (2). فإن قيل: أيمكن أن يشتق من ذلك وهو اسم أرض؟ قيل: يمكن على تعسف، وهو أن تكون تلك الأرض لما كانت مما تصفن فيها الخيل، أو تصطف فيها الاقدام، سميت صفين. فإن قيل: أيمكن أن تكون النون زائدة مع الياء، كما هما في " غسلين " " وعفرين ". قيل: لو جاء في الأصل " صف "، بكسر الصاد لأمكن أن تتوهم الزيادة، كالزيادة
(1) الصحاح، 215، أي أنه ذكرها في مادة " صفن ". (2) ا: " عن بعض " 131 في غسل، وهو ما يغتسل به نحو الخطمي وغيره، فقيل: غسلين، لما يسيل من صديد أهل النار ودمائهم، وكالزيادة في عفر وهو الخبيث الداهي (1)، فقيل: عفرين، لمأسدة بعينها. وقيل: عفريت للداهية، هكذا ذكروه. ولقائل أن يقول لهم: أليس قد قالوا للأسد: عفرني، بفتح العين، وأصله العفر، بالكسر، فقد بان أنهم لم يراعوا في اشتقاقهم وتصريف كلامهم الحركة المخصوصة، وإنما يراعون الحرف، ولا كل الحروف، بل الأصلي منها، فغير ممتنع على هذا عندنا أن تكون الياء والنون زائدتين في " صفين ". وصفين: اسم غير منصرف للتأنيث والتعريف، قال (2): إني أدين بما دان الوصي به * يوم الخريبة من قتل المحلينا (3) وبالذي دان يوم النهر دنت به * وشاركت كفه كفى بصفينا تلك الدماء معا يا رب في عنقي * ثم اسقني مثلها آمين آمينا * * * الأصل: أحمده استتماما لنعمته، واستسلاما لعزته، واستعصاما من معصيته. وأستعينه فاقة إلى كفايته، إنه لا يضل من هداه، ولا يئل من عاداه، ولا يفتقر من كفاه، فإنه أرجح ما وزن، وأفضل ما خزن. وأشهد أن لا إله إلا الله (4 وحده لا شريك له 4)، شهادة ممتحنا إخلاصها، معتقدا مصاصها، نتمسك بها أبدا
(1) يقال: رجل داه وداهية، بمعنى. (2) هو السيد الحميري، والأبيات بنسبتها إليه في الكامل 7: 107 - بشرح المرصفي. (3) الخريبة: موضع بالبصرة، كانت عنده وقعة الجمل، ذكره ياقوت، واستشهد بالبيت، وفى الأصول: " الحربية "، بالحاء، تصحيف. وفى الكامل: " يوم النخلة ". (4 - 4) ساقط من ا: ومخطوطة النهج. 132 ما أبقانا، وندخرها لأهاويل ما يلقانا، فإنها عزيمة الايمان، وفاتحة الاحسان، ومرضاة الرحمن، ومدحرة الشيطان. * * * الشرح: وأل، أي نجا، يئل. والمصاص: خالص الشئ. والفاقة الحاجة والفقر. الأهاويل: جمع أهوال، والأهوال: جمع هول، فهو جمع الجمع، كما قالوا: أنعام وأناعيم. وقيل: أهاويل أصله تهاويل، وهي ما يهولك من شئ، أي يروعك، وإن جاز هذا فهو بعيد، لان التاء قل أن تبدل همزة. والعزيمة: النية المقطوع عليها. ومدحرة الشيطان، أي تدحره، أي تبعده وتطرده. وقوله عليه السلام: " استتماما " و " استسلاما " و " استعصاما " من لطيف الكناية وبديعها، فسبحان من خصه بالفضائل التي لا تنتهي السنة الفصحاء إلى وصفها، وجعله إمام كل ذي علم، وقدوة كل صاحب خصية! وقوله: " فإنه أرجح "، الهاء عائدة إلى ما دل عليه قوله: " أحمده "، يعنى الحمد، والفعل، يدل على المصدر، وترجع الضمائر إليه كقوله تعالى: (بل هو شر) (1) وهو ضمير البخل الذي دل عليه قوله: " يبخلون ". [لزوم ما لا يلزم وإيراد أمثلة منه] وقوله عليه السلام: وزن وخزن، بلزوم الزاي، من الباب المسمى لزوم ما لا يلزم، وهو أحد أنواع البديع، وذلك أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا، هذا
(1) سورة آل عمران 180 133 في المنثور، وأما في المنظوم فأن تتساوى الحروف التي قبل الروى مع كونها ليست بواجبة التساوي، مثال ذلك قول بعض شعراء الحماسة (1): بيضاء باكرها النعيم فصاغها * بلباقة فأدقها وأجلها (2) حجبت تحيتها فقلت لصاحبي * ما كان أكثرها لنا وأقلها وإذا وجدت لها وساوس سلوة شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها (3) ألا تراه كيف قد لزم اللام الأولى من اللامين اللذين صارا حرفا مشددا! فالثاني منهما هو الروى، واللام الأول الذي قبله التزام ما لا يلزم، فلو قال في القصيدة: وصلها، وقبلها، وفعلها، لجاز. واحترزنا نحن بقولنا: مع كونها ليست بواجبة التساوي عن قول الراجز، وهو من شعر الحماسة أيضا: وفيشة ليست كهذي الفيش * قد ملئت من نزق وطيش (4) إذا بدت قلت أمير الجيش * من ذاقها يعرف طعم العيش. فإن لزوم الياء قبل حرف الروى ليس من هذا الباب، لأنه لزوم واجب، ألا ترى أنه لو قال في هذا الرجز: البطش والفرش والعرش لم يجز، لان الردف (5) لا يجوز أن يكون حرفا خارجا عن حروف العلة، وقد جاء من اللزوم في الكتاب العزيز مواضع
(1) من أبيات أربعة، أولها: إن التي زعمت فؤادك ملها * خلقت هواك كما خلقت هوى لها وهي في المرزوقي 1235، وأمالي القالي (1: 156) من غير نسبة، ونقل التبريزي عن أبي رياش أنها لعروة بن أذينة. (2) أدقها وأجلها، أي أتى بها دقيقة العين والأنف والثغر والخصر، جليلة الساق والفخذ والصدر. (3) الحماسة: * شفع الضمير لها إلى فسلها * (4) ديوان الحماسة - بشرح التبريزي 4: 340. (5) الردف عند العروضيين هو حرف لين أو مد قبل الروى يتصلان به. 134 ليست بكثيرة، فمنها قوله سبحانه: (فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا) (1)، وقوله تعالى: (ولكن كان في ضلال بعيد. قال لا تختصموا لدى وقد قدمت إليكم بالوعيد) (2). وقوله: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الانسان من علق) (3)، وقوله: (والطور. وكتاب مسطور) (4)، وقوله: (بكاهن ولا مجنون. أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون) (5)، وقوله: (في سدر مخضود. وطلح منضود) (6)، وقوله: (فإن انتهوا فإن الله بما يعملون بصير. وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير) (7)، والظاهر أن ذلك غير مقصود قصده. ومما ورد منه في كلام العرب أن لقيط بن زرارة تزوج ابنة قيس بن خالد الشيباني، فأحبته، فلما قتل عنها تزوجت غيره، فكانت تذكر لقيطا، فسألها عن حبها له، فقالت: أذكره وقد خرج تارة في يوم دجن، وقد تطيب وشرب الخمر، وطرد بقرا، فصرع بعضها، ثم جاءني وبه نضح دم وعبير، فضمني ضمة، وشمني شمة، فليتني كنت مت ثمة. وقد صنع أبو العلاء المعرى كتابا في اللزوم من نظمه، فأتى فيه بالجيد والردئ، وأكثره متكلف، ومن جيده قوله: لا تطلبن بآلة لك حالة * قلم البليغ بغير حظ مغزل (8) سكن السما كان السماء كلاهما * هذا له رمح وهذا أعزل * * * الأصل: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالدين المشهور، والعلم المأثور،
(1) سورة مريم 44، 45. (2) سورة 27، 28 (3) سورة العلق 1، 2. (4) سورة الطور 1، 2 (5) سورة الطور 29، 30. (6) سورة الواقعة 28، 29 (7) سورة الأنفال 39، 40. (8) لم يرد البيتان نسخ اللزوميات، ونسبهما إليه ابن خلكان (1: 33)، وابن الوردي، ومرآة الجنان، وابن كثير حوادث 449، وشذرات الذهب 3: 281، وتقديم أبى بكر لا بن حجه 435. 135 والكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، والامر الصادع، إزاحة للشبهات، واحتجاجا بالبينات، وتحذيرا بالآيات، وتخويفا بالمثلات، والناس في فتن انجذم فيها (1) حبل الدين، وتزعزعت سواري اليقين، واختلف النجر، وتشتت الامر، وضاق المخرج، وعمى المصدر، فالهدى خامل، والعمى شامل، عصى الرحمن، ونصر الشيطان، وخذل الايمان، فانهارت دعائمه، وتنكرت معالمه، ودرست سبله، وعفت شركه. أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه، ووردوا مناهله، بهم سارت أعلامه، وقام لواؤه. في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابكها، فهم فيها تائهون حائرون، جاهلون مفتونون، في خير دار وشر جيران، نومهم سهود، وكحلهم دموع، بأرض عالمها ملجم، وجاهلها مكرم. * * * الشرح: قوله عليه السلام: " والعلم المأثور "، يجوز أن يكون عنى به القرآن، لان المأثور المحكى، والعلم ما يهتدى، به، والمتكلمون يسمون المعجزات أعلاما. ويجوز أن يريد به أحد معجزاته غير القرآن، فإنها كثيرة ومأثورة، ويؤكد هذا قوله بعد: " والكتاب المسطور "، فدل على تغايرهما، ومن يذهب إلى الأول يقول: المراد بهما واحد، والثانية توكيد الأولى على قاعدة الخطابة والكتابة. والصادع: الظاهر الجلي، قال تعالى: (فاصدع بما تؤمر) (2) أي أظهره ولا تخفه. والمثلات، بفتح الميم وضم الثاء: العقوبات، جمع مثلة قال تعالى: (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات) (3). وانجذم: انقطع. والسواري: جمع سارية، وهي الدعامة يدعم بها السقف. والنجر:
(1) مخطوطة النهج: " فيها " (2) سورة الرعد 6. (3) سورة الحجر 94 136 الأصل، ومثله النجار. وانهارت: تساقطت. والشرك: الطرائق، جمع شراك. والأخفاف للإبل، والأظلاف للبقر والمعز. وقال الراوندي في تفسير قوله: " خير دار، وشر جيران ": خير دار: الكوفة. وقيل: الشام، لأنها الأرض المقدسة، وأهلها شر جيران، يعنى أصحاب معاوية. وعلى التفسير الأول يعنى أصحابه عليه السلام. قال: وقوله: " نومهم سهود " يعنى أصحاب معاوية لا ينامون طول الليل، بل يرتبون أمره. وإن كان وصفا لأصحابه عليه السلام بالكوفة - وهو الأقرب - فالمعنى أنهم خائفون يسهرون ويبكون لقلة موافقتهم إياه، وهذا شكاية منه عليه السلام لهم. وكحلهم دموع، أي نفاقا فإنه إذا تم نفاق المرء ملك عينيه. ولقائل أن يقول: لم يجر فيما تقدم ذكر أصحابه عليه السلام ولا أصحاب معاوية، والكلام كله في وصف أهل الجاهلية قبل مبعث محمد صلى الله عليه وآله. ثم لا يخفى ما في هذا التفسير من الركاكة والفجاجة وهو أن يريد بقوله: " نومهم سهود " أنهم طوال الليل يرتبون أمر معاوية، لا ينامون، وأن يريد بذلك أن أصحابه يبكون من خوف معاوية وعساكره، أو أنهم يبكون نفاقا، والامر أقرب من أن يتمحل له مثل هذا. ونحن نقول: إنه عليه السلام لم يخرج من صفة أهل الجاهلية، وقوله: " في خير دار " يعنى مكة، " وشر جيران " يعنى قريشا، وهذا لفظ النبي صلى الله عليه وآله حين حكى بالمدينة حالة كانت في مبدأ البعثة، فقال: " كنت في خير دار " و " شر جيران "، ثم حكى عليه السلام ما جرى له مع عقبة بن أبي معيط، والحديث مشهور. وقوله: " نومهم سهود، وكحلهم دموع " مثل أن يقول: جودهم بخل، وأمنهم خوف، أي لو استماحهم محمد عليه السلام النوم لجادوا عليه بالسهود، عوضا عنه، ولو استجداهم الكحل لكان كحلهم الذي يصلونه به الدموع.
137 ثم قال: " بأرض عالمها ملجم " أي من عرف صدق محمد صلى الله عليه وآله وآمن به في تقية وخوف. " وجاهلها مكرم "، أي من جحد نبوته وكذبه في عز ومنعه، وهذا ظاهر. * * * الأصل ومنها، ويعني آل النبي صلى الله عليه: هم موضع سره، ولجأ أمره، وعيبه علمه، وموئل حكمه، وكهوف كتبه، وجبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره، وأذهب ارتعاد فرائصه. الشرح: اللجأ: ما تلتجئ إليه، كالوزر ما تعتصم به. والموئل: ما ترجع إليه، يقول: إن أمر النبي صلى الله عليه وآله، أي شانه ملتجئ إليهم، وعلمه مودع عندهم، كالثوب يودع العيبة. وحكمه، أي شرعه يرجع ويؤول إليهم. وكتبه - يعنى القرآن والسنة عندهم، فهم كالكهوف له، لاحتوائهم عليه. وهم جبال دينه لا يتحلحلون عن الدين، أو أن الدين ثابت بوجودهم، كما أن الأرض ثابتة بالجبال، ولولا الجبال لمادت بأهلها. والهاء في " ظهره " ترجع إلى الدين، وكذلك الهاء في " فرائصه "، والفرائص: جمع فريصة، اللحمة بين الجنب والكتف لا تزال ترعد من الدابة. الأصل: ومنها في المنافقين: زرعوا الفجور، وسقوه الغرور، وحصدوا الثبور، لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. هم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفئ الغالي، وبهم يلحق
138 التالي، ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله. الشرح: جعل ما فعلوه من القبيح بمنزلة زرع زرعوه، ثم سقوه، فالذي زرعوه الفجور، ثم سقوه بالغرور، الاستعارة واقعة موقعها، لان تماديهم، وما سكنت إليه نفوسهم من الامهال، هو الذي أوجب استمرارهم على القبائح التي واقعوها، فكان ذلك كما يسقى الزرع، ويربي بالماء، ويستحفظ. ثم قال: " وحصدوا الثبور "، أي كانت نتيجة ذلك الزرع والسقي حصاد ما هو الهلاك والعطب. وإشارته هذه ليست إلى المنافقين كما ذكر الرضى رحمه الله، وإنما هي إشارة إلى من تغلب عليه، وجحد حقه كمعاوية وغيره. ولعل الرضى رحمه الله تعالى عرف ذلك وكنى عنه. ثم عاد إلى الثناء على آل محمد صلى الله عليه وآله، فقال: " هم أصول الدين، إليهم يفئ الغالي، وبهم يلحق التالي، " جعلهم كمقنب يسير في فلاة، فالغالي منه أي الفارط المتقدم، الذي قد غلا في سيره يرجع إلى ذلك المقنب إذا خاف عدوا، ومن قد تخلف عن ذلك المقنب فصار تاليا له يلتحق به إذا أشفق من أن يتخطف. ثم ذكر خصائص حق الولاية، والولاية الامرة، فأما الامامية فيقولون: أراد نص النبي صلى الله عليه وآله وعلى أولاده. ونحن نقول: لهم خصائص حق ولاية الرسول صلى الله عليه وآله على الخلق. ثم قال عليه السلام: " وفيهم الوصية والوراثة "، أما الوصية فلا ريب عندنا أن عليا عليه السلام كان وصى رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن خالف في ذلك من هو منسوب
139 عندنا إلى العناد، ولسنا نعنى بالوصية النص والخلافة، ولكن أمورا أخرى لعلها - إذا لمحت - أشرف وأجل. وأما الوراثة فالإمامية يحملونها على ميراث المال، والخلافة، ونحن نحملها على وراثة العلم. ثم ذكر عليه السلام أن الحق رجع الآن إلى أهله، وهذا يقتضى أن يكون فيما قبل في غير أهله، ونحن نتأول ذلك على غير ما تذكره الامامية، ونقول: إنه عليه السلام كان أولى بالامر وأحق، لا على وجه النص، بل على وجه الأفضلية، فإنه أفضل البشر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، وأحق بالخلافة من جميع المسلمين، لكنه ترك حقه لما علمه من المصلحة، وما تفرس فيه هو والمسلمون من اضطراب الاسلام، وانتشار الكلمة، لحسد العرب له، وضغنهم عليه. وجائز لمن كان أولى بشئ فتركه ثم استرجعه أن يقول: قد رجع الامر إلى أهله. وأما قوله: " وانتقل إلى منتقله "، ففيه مضاف محذوف، تقديره: " إلى موضع منتقله "، والمنتقل بفتح القاف مصدر بمعنى الانتقال، كقولك: لي في هذا الامر مضطرب، أي اضطراب، قال: قد كان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض (1) وتقول: ما معتقدك؟ أي ما اعتقادك. قد رجع الامر إلى نصابه، وإلى الموضع الذي هو على الحقيقة الموضع الذي يجب أن يكون انتقاله إليه. فإن قيل: ما معنى قوله عليه السلام: " لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد، ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه ابدا ". قيل لا شبهة أن المنعم أعلى وأشرف من المنعم عليه، ولا ريب أن محمدا صلى الله
(1) ديوان الحماسة 1: 287 بشرح المرزوقي، من أبيات نسبها إلى خطاب بن المعلى، واسمه في التبريزي: " حطان بن المعلى ". 140 عليه وآله وأهله الأدنين من بني هاشم، لا سيما عليا عليه السلام، أنعموا على الخلق كافة بنعمة لا يقدر قدرها، وهي الدعاء إلى الاسلام والهداية إليه، فمحمد صلى الله عليه وآله وإن كان هدى الخلق بالدعوة التي قام بها بلسانه ويده، ونصره الله تعالى له بملائكته وتأييده، وهو السيد المتبوع، والمصطفى المنتجب الواجب الطاعة، إلا أن لعلى عليه السلام من الهداية أيضا - وإن كان ثانيا لأول، ومصليا على إثر سابق - ما لا يجحد، ولو لم يكن إلا جهاده بالسيف أولا وثانيا، وما كان بين الجهادين من نشر العلوم وتفسير القرآن وإرشاد العرب إلى ما لم تكن له فاهمة ولا متصورة، لكفى في وجوب حقه، وسبوغ نعمته عليه السلام. فإن قيل: لا ريب في أن كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه، فأي نعمة له عليهم؟ قيل: نعمتان. الأولى منهما الجهاد عنهم وهم قاعدون، فإن من أنصف علم أنه لولا سيف علي عليه السلام لاصطلم المشركون، من أشار إليه وغيرهم من المسلمين، وقد علمت آثاره في بدر، وأحد، والخندق، وخيبر، وحنين، وأن الشرك فيها فغرفاه، فلولا أن سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة - والثانية علومه التي لو لاها لحكم بغير الصواب في كثير من الاحكام، وقد اعترف عمر له بذلك، والخبر مشهور: " لولا على لهلك عمر ". ويمكن أن يخرج كلامه على وجه آخر، وذلك أن العرب تفضل القبيلة التي (2) منها الرئيس الأعظم على سائر القبائل، وتفضل الأدنى منه نسبا فالأدنى على سائر آحاد تلك القبيلة، فإن بنى دارم يفتخرون بحاجب وإخوته، وبزرارة أبيهم على سائر بنى تميم، ويسوغ للواحد من أبناء بنى دارم، أن يقول: لا يقاس ببني دارم أحد من بنى تميم، ولا يستوي بهم من جرت رياستهم عليه أبدا، ويعني بذلك أن واحدا من بنى دارم قد رأس على بنى تميم، فكذلك لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله رئيس الكل،
(1)... (2) ا: " فيها ". 141 والمنعم على الكل، جاز لواحد من بني هاشم، لا سيما مثل علي عليه السلام أن يقول هذه الكلمات. * * * واعلم أن عليا عليه السلام كان يدعى التقدم على الكل، والشرف على الكل، والنعمة على الكل، بابن عمه صلى الله عليه وآله، وبنفسه وبأبيه أبى طالب، فإن من قرأ علوم السير عرف، أن الاسلام لولا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا. وليس لقائل أن يقول: كيف يقال هذا في دين تكفل الله تعالى بإظهاره، سواء أبو طالب موجودا أو معدوما؟ لأنا نقول: فينبغي على هذا ألا يمدح رسول الله صلى الله عليه وآله، لا يقال: إنه هدى الناس من الضلالة، وأنقذهم من الجهالة، وأن له حقا على المسلمين. وأنه لو لاه لما عبد الله تعالى في الأرض، وألا يمدح أبو بكر، ولا يقال: إن له أثرا في الاسلام، وأن عبد الرحمن وسعدا وطلحة وعثمان، وغيرهم من الأولين في الدين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وآله لاتباعه له، وأن له يدا غير مجحودة في الانفاق، واشتراء المعذبين واعتاقهم، وأنه لو لاه لاستمرت الردة بعد الوفاة، وظهرت دعوة مسيلمة وطليحة وأنه لولا عمر لما كانت الفتوح، ولا جهزت الجيوش، ولا قوى أمر الدين بعد ضعفه، ولا انتشرت الدعوة بعد خمولها. فإن قلتم في كل ذلك: إن هؤلاء يحمدون ويثني عليهم، لان الله تعالى أجرى هذه الأمور على أيديهم، ووفقهم لها، والفاعل بذلك بالحقيقة هو الله تعالى، وهؤلاء آلة مستعملة، ووسائط تجرى الافعال على أيديها، فحمدهم والثناء عليهم، والاعتراف لهم إنما هو باعتبار ذلك. قيل: لكم في شأن أبى طالب مثله (1). * * *
(1) ا: " قبل لهم " 142 واعلم أن هذه الكلمات، وهي قوله عليه السلام: " الآن إذ رجع الحق إلى أهله "، إلى آخرها يبعد عندي أن تكون مقولة عقيب انصرافه عليه السلام من صفين، لأنه انصرف عنها وقتئذ مضطرب الامر، منتشر الحبل، بواقعة التحكيم، ومكيدة ابن العاص، وما تم لمعاوية عليه من الاستظهار، وما شاهد في عسكره من الخذلان، وهذه الكلمات لا تقال في مثل هذه الحال، وأخلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بيعته، قبل أن يخرج من المدينة إلى البصرة، وأن الرضى رحمه الله تعالى نقل ما وجد، وحكى ما سمع، والغلط من غيره، والوهم سابق له، وما ذكرناه واضح. [ما ورد في وصاية على من الشعر] ومما رويناه من الشعر المقول في صدر الاسلام المتضمن كونه عليه السلام وصى رسول الله قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحرث ابن عبد المطلب: ومنا على ذاك صاحب خيبر * وصاحب بدر يوم سالت كتائبه وصى النبي المصطفى وابن عمه * فمن ذا يدانيه ومن ذا يقاربه! وقال عبد الرحمن بن جعيل: لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة * على الدين، معروف العفاف موفقا عليا وصى المصطفى وابن عمه * وأول من صلى أخا الدين والتقى وقال أبو الهيثم بن التيهان - وكان بدريا: قل للزبير وقل لطلحة إننا * نحن الذين شعارنا الأنصار نحن الذين رأت قريش فعلنا * يوم القليب أولئك الكفار كنا شعار نبينا ودثاره يفديه * منا الروح والابصار
143 إن الوصي إمامنا وولينا * برح الخفاء وباحت الاسرار (1). وقال عمر بن حارثة الأنصاري، وكان مع محمد بن الحنفية يوم الجمل، وقد لامه أبوه عليه السلام لما أمره بالحملة، فتقاعس: أبا حسن أنت فصل الأمور * يبين بك الحل والمحرم جمعت الرجال على راية * بها ابنك يوم الوغى مقحم ولم ينكص المرء من خيفة * ولكن توالت له أسهم فقال رويدا ولا تعجلوا * فإني إذا رشقوا مقدم فأعجلته والفتى مجمع * بما يكره الوجل المحجم سمى النبي وشبه الوصي * ورايته لونها العندم وقال رجل من الأزد يوم الجمل: هذا على وهو الوصي * آخاه يوم النجوة النبي وقال هذا بعدي الولي * وعاه واع ونسي الشقي وخرج يوم الجمل غلام من بنى ضبة شاب معلم (2) من عسكر عائشة، وهو يقول: نحن بنو ضبة أعداء على * ذاك الذي يعرف قدما بالوصي وفارس الخيل على عهد النبي * ما أنا عن فضل على بالعمى لكنني أنعى ابن عفان التقى * إن الولي طالب ثأر الولي وقال سعيد بن قيس الهمداني يوم الجمل وكان في عسكر علي عليه السلام: أية حرب أضرمت نيرانها * وكسرت يوم الوغى مرانها (3)
(1) برح الخفاء، أي ظهر ما كان خافيا وانكشف، مأخوذ من براح، وهو البارز الظاهر. (2) المعلم، بكسر اللام: الذي علم مكانه في الحرب بعلامة أعلمها. (3) المران: الرماح الصلبة اللدنة، واحدة مرانة. 144 قل للوصي أقبلت قحطانها * فادع بها تكفيكها همدانها * هم بنوها وهم إخوانها * وقال زياد بن لبيد الأنصاري يوم الجمل، وكان من أصحاب علي عليه السلام: كيف ترى الأنصار في يوم الكلب * إنا أناس لا نبالي من عطب ولا نبالي في الوصي من غضب * وإنما الأنصار جد لا لعب هذا على وابن عبد المطلب ننصره * اليوم على من قد كذب * من يكسب البغي فبئسما اكتسب * وقال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضا: يا ربنا سلم لنا عليا * سلم لنا المبارك المضيا المؤمن الموحد التقيا * لا خطل الرأي ولا غويا بل هاديا موفقا مهديا * واحفظه ربى واحفظ النبيا فيه فقد كان له وليا ثم * ارتضاه بعده وصيا وقال خزيمة بن ثابت الأنصاري، ذو الشهادتين - وكان بدريا - في يوم الجمل أيضا: ليس بين الأنصار في جحمة الحرب * وبين العداة إلا الطعان وقراع الكماة بالقضب * البيض إذا ما تحطم المران فادعها تستجب فليس من * الخزرج والأوس يا علي جبان يا وصى النبي قد أجلت * الحرب الأعادي وسارت الأظعان واستقامت لك الأمور سوى * الشام وفي الشام يظهر الاذعان حسبهم ما رأوا وحسبك منا * هكذا نحن حيث كنا وكانوا
145 وقال خزيمة أيضا في يوم الجمل: أعائش خلى عن علي وعيبه * بما ليس فيه إنما أنت والده وصى رسول الله من دون أهله * وأنت على ما كان من ذاك شاهده وحسبك منه بعض ما تعلمينه * ويكفيك لو لم تعلمي غير واحده إذا قيل ما ذا عبت منه رميته * بخذل ابن عفان وما تلك آبده وليس سماء الله قاطرة دما لذاك * وما الأرض الفضاء بمائدة وقال ابن بديل بن ورقاء الخزاعي يوم الجمل أيضا: يا قوم للخطة العظمى التي حدثت * حرب الوصي وما للحرب من آسى الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت * تلك القبائل أخماسا لأسداس (1) وقال عمرو بن أحيحة يوم الجمل في خطبة الحسن بن علي عليه السلام بعد خطبة عبد الله ابن الزبير: حسن الخير يا شبيه أبيه قمت * فينا مقام خير خطيب قمت بالخطبة التي صدع الله * بها عن أبيك أهل العيوب وكشفت القناع فاتضح الامر * وأصلحت فاسدات القلوب لست كابن الزبير لجلج في * القول وطأطأ عنان فسل مريب وأبى الله أن يقوم بما قام * به ابن الوصي وابن النجيب إن شخصا بين النبي - لك * الخير - وبين الوصي غير مشوب
(1) يقال لمن يظهر شيئا ويريد غير: ضرب أخماسا لأسداس. والخمس والسدس من أضماء الإبل، والأصل فيه أن الرسل إذا أراد سفرا بعيدا عود إبله أن يشرب خمسا، ثم سدسا، حتى إذا أخذت في السير صبرت عن الماء. (مجمع الأمثال 1: 418). 146 وقال زحر بن قيس الجعفي يوم الجمل أيضا: أضربكم حتى تقروا لعلى * خير قريش كلها بعد النبي من زانه الله وسماه الوصي * إن الولي حافظ ظهر الولي * كما الغوي تابع أمر الغوي * ذكر هذه الاشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى (1) في كتاب وقعة الجمل. وأبو مخنف من المحدثين وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار، وليس من الشيعة ولا معدودا من رجالها. * * * ومما رويناه من أشعار صفين التي تتضمن تسميته عليه السلام بالوصي ما ذكره نصر ابن مزاحم (2) بن يسار المنقري في كتاب صفين، وهو من رجال الحديث، قال نصر ابن مزاحم: قال زحر (3) بن قيس الجعفي: فصلى الاله على أحمد * رسول المليك تمام النعم رسول المليك ومن بعده * خليفتنا القائم المدعم عليا عنيت وصى النبي * نجالد عنه غواة الأمم قال نصر: ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث بن قيس (4): أتانا الرسول رسول الأنام * فسر بمقدمه المسلمونا رسول الوصي وصى النبي * له السبق والفضل في المؤمنينا
(1) هو لوط بن يحيى بن سعيد بن مخنف بن سليم الأسدي، كان راوية أخبار وصاحب تصانيف في الفتوح وحروب الاسلام، توفى سنة 157. معجم الأدباء 17: 41، الفهرست 93. (2) ذكره ابن حجر في لسان الميزان 6: 157، وقال: إنه توفى سنة 212. (3) زحر، ضبطه صاحب القاموس بفتح الزاي وسكون الحاء المهملة، والذي في كتاب صفين ص 22، أنها لجرير بن عبد الله البجلي، ضمن عشرة أبيات. (4) كتاب صفين لنصر بن مزاحم 27. 147 ومن الشعر المنسوب إلى الأشعث أيضا: أتانا الرسول رسول الوصي * على المهذب من هاشم (1) وزير النبي وذو صهره * وخير البرية والعالم (2) قال نصر بن مزاحم: من شعر أمير المؤمنين عليه السلام في صفين لا يا عجبا لقد سمعت منكرا * كذبا على الله يشيب الشعرا (3) ما كان يرضى أحمد لو أخبرا * أن يقرنوا وصيه والأبترا شاني الرسول واللعين الأخزرا * (4) إني إذا الموت دنا وحضرا (5) شمرت ثوبي ودعوت قنبرا: * قدم لوائي لا تؤخر حذرا لا يدفع الحذار ما قد قدرا (6) * لو أن عندي يا بن حرب جعفرا أو حمزة القرم الهمام الأزهرا * رأت قريش نجم ليل ظهرا
(1) كتاب صفين 28 (2) كتاب صفين: " وخير البرية في العالم (3) كتاب صفين 48، وبعد هذا البيت: * يسترق السمع ويغشى البصرا * (4) كذا في ا، وفى كتاب صفين، وفى ب " الأخورا "، وبعده هناك: كلاهما في جنده قد عسكرا * قد باع هذا دينه فأفجرا من ذا بدينا قد خسرا * بملك مصر أن أصاب الضفر (5) ا: " وأحضرا ": (6) كتاب صفين: " لن يدفع "، وبعده. لما رأيت الموت موتا أحمرا * عبأت همدان وعبوا حميرا حي يمان يعظمون الخطرا * قرم إذا ناطح قرنا كسرا قل لابن لا تدب الخمرا * أردد قليلا أبدى منك الضجرا لا تحسبني يبن حرب عمرا * وسل بنا بدرا معا وخيبرا كانت قريش يوم بدر جزرا * إذ وردوا الامر فذموا الصدرا 148 وقال جرير بن عبد الله البجلي، كتب بهذا الشعر إلى شرحبيل بن السمط الكندي، رئيس اليمامة من أصحاب معاوية: نصحتك يا بن السمط لا تتبع الهوى * فما لك في الدنيا من الدين من بدل (1) ولا تك كالمجري إلى شر غاية * فقد خرق السربال واستنوق الجمل مقال ابن هند في علي عضيهة * ولله في صدر ابن أبي طالب أجل (2) وما كان إلا لازما قعر بيته * إلى أن أتى عثمان في بيته الاجل وصى رسول الله من دون أهله * وفارسه الحامي به يضرب المثل (3) وقال النعمان بن عجلان الأنصاري (4): كيف التفرق والوصي إمامنا * لا كيف إلا حيرة وتخاذلا لا تغبنن عقولكم، لا خير في * من لم يكن عند البلابل عاقلا وذروا معاوية الغوي وتابعوا * دين الوصي لتحمدوه آجلا (5) وقال عبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي: ألا أبلغ معاوية بن حرب * فما لك لا تهش إلى الضراب؟ فإن تسلم وتبق الدهر يوما * يزرك بجحفل عدد التراب يقودهم الوصي إليك حتى * يردك عن ضلال وارتياب وقال المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب: يا عصبة الموت صبرا لا يهولكم * جيش ابن حرب فإن الحق قد ظهرا (6) وأيقنوا أن من أضحى يخالفكم * أضحى شقيا وأمسى نفسه خسرا
(1) كتاب صفين ص 53، 54، وروايته هناك: " شرحبيل يبن السمط ". (2) صفين: " وقال ابن هند ". (3) صفين: " وفارسه الأولى به ". (4) صفين ص 415، وفيه: " النضر بن عجلان ". (5) صفين: " تصادفوه عاجلا ". (6) صفين 437، وفيه: " يا شرطة الخير " 149 فيكم وصى رسول الله قائدكم * وصهره وكتاب الله قد نشرا وقال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب (1): وصى رسول الله من دون أهله * وفارسه إن قيل هل من منازل فدونكه إن كنت تبغى مهاجرا * أشم كنصل السيف عير حلاحل (2) والاشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثير جدا، ولكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ما قيل في هذين الحزبين، فأما ما عداهما، فإنه يجل عن الحصر، ويعظم عن الإحصاء والعد، ولولا خوف الملالة والإضجار، لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقا كثيرة. * * *
(1) صفين 474 (2) عير القوم: سيدهم، والحلاحل بالفتح: جمع حلاحل، بالضم، وهو الشجاع. 150 - 3 - ومن خطبة له وهي المعروفة بالشقشقية (1): الأصل: أما والله. لقد تقمصها ابن أبي قحافة (2)، وإنه ليعلم أن محلى منها محل القطب من الرحا، ينحدر عنى السيل، ولا يرقى إلى الطير. فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء، أو أصبر على طخية عمياء، يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير، ويكدح فيها مؤمن (3) حتى يلقى ربه، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى، وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا. الشرح: سدلت دونها ثوبا، أي أرخيت، يقول ضربت بيني وبينها حجابا، فعل الزاهد فيها، الراغب عنها. وطويت عنها كشحا، أي قطعتها وصرمتها، وهو مثل، قالوا: لان من كان إلى جانبك الأيمن ماثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه، والكشح: ما بين الخاصرة والجنب. وعندي أنهم أرادوا غير ذلك، وهو أن من أجاع نفسه فقد طوى كشحه، كما أن من أكل وشبع فقد ملا كشحه، فكأنه أراد أنى أجعت نفسي عنها، ولم ألتهمها. واليد الجذاء بالدال المهملة وبالذال المعجمة، والحاء المهملة مع الذال المعجمة، كله بمعنى المقطوعة. والطخية: قطعة من الغيم والسحاب. وقوله: " عمياء "، تأكيد لظلام الحال واسودادها، يقولون: مفازة عمياء، أي يعمى فيها الدليل. ويكدح: يسعى ويكد
(1) مخطوطة النهج: " الشقشقية والمقمصة " (2) مخطوطة النهج: " فلان " (3) مخطوطة النهج: " المؤمن ". 151 مع مشقة قال تعالى: (إنك كادح إلى ربك كدحا) (1). وهاتا، بمعنى هذه " ها " للتنبيه، و " تا " للإشارة، ومعنى " تا " ذي، وهذا أحجى من كذا أي أليق بالحجا، وهو العقل. * * * وفي هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ: أولها: قوله: " لقد تقمصها "، أي جعلها كالقميص مشتملة عليه، والضمير للخلافة، ولم يذكرها للعلم بها، كقوله سبحانه: (حتى توارت بالحجاب) (2)، وكقوله: (كل من عليها فان) (3)، وكقول حاتم: أماوي ما يغنى الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (4) وهذه اللفظة مأخوذة من كتاب الله تعالى في قوله سبحانه: (ولباس التقوى) (5)، وقول النابغة (6): تسربل سربالا من النصر وارتدى عليه بعضب في الكريهة فاصل الثانية: قوله: " ينحدر عنى السيل "، يعنى رفعة منزلته عليه السلام، كأنه في ذروة جبل أو يفاع مشرف، ينحدر السيل عنه إلى الوهاد والغيطان، قال الهذلي: وعيطاء يكثر فيها الزليل وينحدر السيل عنها انحدارا (7) الثالثة قوله عليه السلام: " ولا يرقى إلى الطير "، هذه أعظم في الرفعة والعلو من التي قبلها، لان السيل ينحدر عن الرابية والهضبة، وأما تعذر رقى الطير فربما يكون للقلال الشاهقة جدا، بل ما هو أعلى من قلال الجبال، كأنه يقول: إني لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها، قال أبو الطيب: فوق السماء وفوق ما طلبوا فإذا أرادوا غاية نزلوا (8)
(1) سورة الانشقاق 6 (2) سورة ص 32 (3) سورة الرحمن 26 (4) ديوانه 118 (5) سورة الأعراف 26 (6) كذا في الأصول، والصواب أنه لأبي تمام، ديوانه 3: 82 (7) عيطاء: مرتفعة. والزليل: الزلل (8) ديوانه 3: 31 152 وقال حبيب: مكارم لجت في علو كأنما تحاول ثأرا عند بعض الكواكب (1) الرابعة: قوله: " سدلت دونها ثوبا "، قد ذكرناه. الخامسة: قوله: " وطويت عنها كشحا "، قد ذكرناه أيضا. السادسة: قوله: " أصول بيد جذاء "، قد ذكرناه. السابعة قوله: " أصبر على طخية عمياء "، قد ذكرناه أيضا. الثامنة: قوله: " وفى العين قذى "، أي صبرت على مضض كما يصبر الأرمد. التاسعة: قوله: " وفي الحلق شجا "، وهو ما يعترض في الحلق، أي كما يصبر من غص بأمر فهو يكابد الخنق. العاشرة: قوله: " أرى تراثي نهبا "، كنى عن الخلافة بالتراث، وهو الموروث من المال. * * * فأما قوله عليه السلام: " إن محلى منها محل القطب من الرحا "، فليس من هذا النمط الذي نحن فيه، ولكنه تشبيه محض، خارج من باب الاستعارة والتوسع، يقول: كما أن الرحا لا تدور إلا على القطب، ودورانها بغير قطب لا ثمرة له ولا فائدة فيه، كذلك نسبتي إلى الخلافة، فإنها لا تقوم إلا بي، ولا يدور أمرها إلا على. هكذا فسروه. وعندي أنه أراد أمرا آخر، وهو أنى من الخلافة في الصميم، وفي وسطها وبحبوحتها، كما أن القطب وسط دائرة الرحا، قال الراجز (2):
(1) ديوانه 1: 217 (2) هو جرير بن عطية، ديوانه. 52، والأبيات أيضا في الكامل 300، 545، يقولها في الحكم ابن أيوب بن أبي عقيل الثقفي، ابن عم الحجاج، وكان عامله على البصرة. 153 على قلاص مثل خيطان السلم (1) * إذا قطعن علما بدا علم (2) حتى أنخناها إلى باب الحكم (3) * خليفة الحجاج غير المتهم * في سرة المجد وبحبوح الكرم (4) * وقال أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان: فحللت منها بالبطاح وحل غيرك بالظواهر (5) وأما قوله: " يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير "، فيمكن أن يكون من باب الحقائق، ويمكن أن يكون من باب المجازات والاستعارات، أما الأول فإنه يعنى به طول مدة ولاية المتقدمين عليه، فإنها مدة يهرم فيها الكبير، ويشيب فيها الصغير. وأما الثاني فإنه يعنى بذلك صعوبة تلك الأيام، حتى إن الكبير من الناس يكاد يهرم لصعوبتها، والصغير يشيب من أهوالها، كقولهم: هذا أمر يشيب له، الوليد وإن لم يشب على الحقيقة.
(1) القلاص: جمع قلوص، وهي الناقة الفتية. والخيطان: والخوط جمع خوط، جمع خوطة، وهي الغصن الناعم. والسلم: شجر، واحدته سلمة، يصف ضورها. وبعده في رواية الديوان: قد طويت بطونها على الأدم * بعد انفضاج البدن واللحم الزيم (2) بعده في رواية الديوان: * فهن بحثا كمضلات الخدم * (3) رواية الديوان: * حتى تناهين إلى باب الحكم * (4) رواية الديوان: * في ضئضئ الممجد وبؤبو الكرم * (5) البطاح: بطن مكة، والظواهر أعلاها، والبيت في اللسان 6: 197 منسوب للكميت: بهذه الرواية فحللت معتلج البطاح * وحل غيرك بالظواهر 154 واعلم أن في الكلام تقديما وتأخيرا، وتقديره: ولا يرقى إلى الطير، فطفقت أرتئي بين كذا وكذا، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فسدلت دونها ثوبا، وطويت عنها كشحا، ثم " فصبرت وفي العين قذى "، إلى آخر القصة، لأنه لا يجوز أن يسدل دونها ثوبا ويطوي عنها كشحا، ثم يطفق يرتئي بين أن ينابذهم أو يصبر، ألا ترى أنه إذا سدل دونها ثوبا، وطوى عنها كشحا، فقد تركها وصرمها، ومن يترك ويصرم لا يرتئي في المنابذة! والتقديم والتأخير طريق لأحب، وسبيل مهيع في لغة العرب، قال سبحانه: (الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. قيما)، (1) أي أنزل على عبده الكتاب قيما، ولم يجعل له عوجا، وهذا كثير. وقوله عليه السلام: " حتى يلقى ربه " بالوقف والاسكان، كما جاءت به الرواية في قوله سبحانه: (ذلك لمن خشي ربه) (2) بالوقف أيضا. [نسب أبى بكر ونبذه من أخبار أبيه] ابن أبي قحافة المشار إليه هو أبو بكر، واسمه القديم عبد الكعبة، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله عبد الله. واختلفوا في " عتيق "، فقيل: كان اسمه في الجاهلية، وقيل: بل سماه به رسول الله صلى الله عليه وآله. واسم أبى قحافة عثمان، وهو عثمان بن عامر بن عمرو ابن كعب بن سعد بن تيم بن مره بن كعب بن لؤي بن غالب. وأمه ابنة عم أبيه، وهي أم الخير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد. أسلم أبو قحافة يوم الفتح، جاء به ابنه أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وآله، وهو شيخ كبير، رأسه كالثغامة البيضاء، فأسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " غيروا شيبته ".
(1) سورة الكهف 1، 2 (2) سورة البينة 8 (3) أورد الخبر ابن الأثير في النهاية (1: 129): " أنى بأبي قحافة يوم الفتح وكأن رأسه ثغامة ". وقال: " هو نبت أبيض الزهر والثمر، يشبه به الشيب. وقيل: هي شجرة تبيض كأنها الثلج ". 155 وولى ابنه الخلافة وهو حي منقطع في بيته، مكفوف عاجز عن الحركة، فسمع ضوضاء الناس، فقال: ما الخبر؟ فقالوا ولى ابنك الخلافة، فقال: رضيت بنو عبد مناف بذلك؟ قالوا: نعم، قال: اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت. ولم يل الخلافة من أبوه حي إلا أبو بكر، وأبو بكر عبد الكريم (1) الطائع لله، ولى الامر وأبوه المطيع حي، خلع نفسه من الخلافة، وعهد بها إلى ابنه. وكان المنصور يسمى عبد الله بن الحسن بن الحسن (2) أبا قحافة تهكما به، لان ابنه (3) محمدا ادعى الخلافة وأبوه حي. ومات أبو بكر وأبو قحافة حي، فسمع الأصوات فسأل، فقيل: مات ابنك، فقال: رزء جليل. وتوفى أبو قحافة في أيام عمر في سنة أربع عشرة للهجرة، وعمره سبع وتسعون سنة، وهي السنة التي توفى فيها نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم (4). إن قيل: بينوا لنا ما عندكم في هذا الكلام! أليس صريحه دالا على تظليم القوم ونسبتهم إلى اغتصاب الامر! فما قولكم في ذلك؟ إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم، وإن لم تحكموا عليهم بذلك، فقد طعنتم في المتظلم المتكلم عليهم! قيل: أما الامامية من الشيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها، وتذهب إلى أن النبي صلى الله عليه وآله نص على أمير المؤمنين عليه السلام، وأنه غصب حقه.
(1) أصيب المطيع لله بالفالج، ولما قوى عليه وثقل لسانه، خلع نفسه. وبويع لولده الطائع، وكان ذلك في سنة 364. الفخري ص 253 (2) كان عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، شيخ بني هاشم في وقته، والمقدم فيهم. وانظر أخباره في مقاتل الطالبيين ص 179 - 185. (3) كان علماء آل أبي طالب يرون في محمد بن عبد الله بن الحسن أنه النفس الزكية، وكان أفضل أهل بيته في علمه بكتاب الله وحفظه له، مع فقهه في الدين وشجاعته وجوده وبأسه وكل أمر يجمل بمثله. وانظر ترجمته وأخباره في مقاتل الطالبيين ص 232 - 299 (4) هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، له صحبة، وكان أسن من أسلم من بني هاشم، حتى من عميه حمزة والعباس. الإصابة 6: 258 156 وأما أصحابنا رحمهم الله، فلهم أن يقولوا: إنه لما كان أمير المؤمنين عليه السلام هو الأفضل والأحق، وعدل عنه إلى من لا يساويه في فضل، ولا يوازيه في جهاد وعلم، ولا يماثله في سؤدد وشرف - ساغ إطلاق هذه الألفاظ، وإن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيا، وكانت بيعته بيعة صحيحة، ألا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان: أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة، فيجعل السلطان الأنقص علما منهما قاضيا، فيتوجد الأعلم (1) ويتألم، وينفث أحيانا بالشكوى، ولا يكون ذلك طعنا في القاضي ولا تفسيقا له، ولا حكما منه بأنه غير صالح، بل للعدول عن الأحق والأولى! وهذا أمر مركوز في طباع البشر، ومجبول في أصل الغريزة والفطرة، فأصحابنا رحمهم الله، لما أحسنوا الظن بالصحابة، وحملوا ما وقع منهم على وجه الصواب، وأنهم نظروا إلى مصلحة الاسلام، وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط، بل وتفضي إلى ذهاب النبوة والملة، فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق، إلى فاضل آخر دونه، فعقدوا له - احتاجوا إلى تأويل هذه الألفاظ الصادرة عمن يعتقدونه في الجلالة والرفعة قريبا من منزلة النبوة، فتأولوها بهذا التأويل، وحملوها على التألم، للعدول عن الأولى. وليس هذا بأبعد من تأويل الامامية قوله تعالى: (وعصى آدم ربه فغوى) (2)، وقولهم: معنى " عصى " أنه عدل عن الأولى، لان الامر بترك أكل الشجرة كان أمرا على سبيل الندب، فلما تركه آدم، كان تاركا للأفضل والأولى، فسمى عاصيا باعتبار مخالفة الأولى، وحملوا " غوى " على " خاب " لا على الغواية بمعنى الضلال. ومعلوم أن تأويل كلام أمير المؤمنين عليه السلام وحمله على أنه شكا من تركهم الأولى أحسن من حمل قوله تعالى: (وعصى آدم) على أنه ترك الأولى.
(1) ب: " الأعظم "، والأجود ما أثبته من ا (2) سورة طه 121 157 إن قيل: لا تخلو الصحابة إما أن تكون عدلت عن الأفضل لعلة ومانع في الأفضل، أو لا لمانع. فإن كان لا لمانع، كان ذلك عقدا للمفضول بالهوى، فيكون باطلا، وأن كان لمانع - وهو ما تذكرونه من خوف الفتنة، وكون الناس كانوا يبغضون عليا عليه السلام ويحسدونه - فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين عليه السلام في العدول عنه، ويعلم أن العقد لغيره هو المصلحة للاسلام، فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك، ويتوجد عليهم! وأيضا، فما معنى قوله: " فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء "، على ما تأولتم به كلامه؟ فإن تارك الأولى لا يصال عليه بالحرب! قيل: يجوز أن يكون أمير المؤمنين عليه السلام لم يغلب على ظنه ما غلب على ظنون الصحابة من الشغب وثوران الفتنة، والظنون تختلف باختلاف الامارات، فرب إنسان يغلب على ظنه أمر يغلب على ظن غيره خلافه. وأما قوله: " أرتئي بين أن أصول "، فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب، بل صيال الجدل والمناظرة، يبين ذلك أنه لو كان جادلهم وأظهر ما في نفسه لهم، فربما خصموه بأن يقولوا له: قد غلب على ظنوننا أن الفساد يعظم ويتفاقم إن وليت الامر، ولا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلم الامر إليك، فهو عليه السلام قال: طفقت أرتئي بين أن أذكر لهم فضائلي عليهم، وأحاجهم بها، فيجيبوني بهذا الضرب من الجواب - الذي تصير حجتي به جذاء مقطوعة، ولا قدرة لي على تشييدها ونصرتها - وبين أن أصبر على ما منيت به، ودفعت إليه. إن قيل: إذا كان عليه السلام لم يغلب على ظنه وجود العلة والمانع فيه، وقد استراب الصحابة وشكاهم لعدولهم عن الأفضل الذي لا علة فيه عنده فقد سلمتم أنه ظلم الصحابة ونسبهم إلى غصب حقه، فما الفرق بين ذلك وبين أن يستظلمهم لمخالفة النص؟ وكيف
158 هربتم من نسبته لهم إلى الظلم لدفع النص، ووقعتم في نسبته لهم إلى الظلم لخلاف الأولى من غير علة في الأولى! ومعلوم أن مخالفة الأولى من غير علة في الأولى كتارك النص، لأن العقد في كلا الموضعين يكون فاسدا! قيل: الفرق بين الامرين ظاهر، لأنه عليه السلام لو نسبهم إلى مخالفة النص لوجب وجود النص، ولو كان النص موجودا لكانوا فساقا أو كفارا لمخالفته. وأما إذا نسبهم إلى ترك الأولى من غير علة في الأولى، فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعى عليه السلام، وأحد الامرين لازم، وهو إما أن يكون ظنهم صحيحا، أو غير صحيح، فإن كان ظنهم هو الصحيح فلا كلام في المسألة، وإن لم يكن ظنهم صحيحا كانوا كالمجتهد إذا ظن وأخطأ، فإنه معذور، ومخالفة النص خارج عن هذا الباب، لان مخالفه غير معذور بحال، فافترق المحملان. [مرض رسول الله وإمرة أسامة بن زيد على الجيش] لما مرض رسول الله صلى الله عليه وآله مرض الموت، دعا أسامة بن زيد بن حارثة، فقال: سر إلى مقتل أبيك، فأوطئهم الخيل، فقد وليتك على هذا الجيش، وإن أظفرك الله بالعدو، فاقلل اللبث، وبث العيون، وقدم الطلائع، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلا كان في ذلك الجيش، منهم أبو بكر وعمر، فتكلم قوم وقالوا: يستعمل هذا الغلام على جلة المهاجرين والأنصار! فغضب رسول الله صلى الله عليه وآله لما سمع ذلك، وخرج عاصبا رأسه، فصعد المنبر وعليه قطيفة (2) فقال: " أيها الناس، ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة! لئن طعنتم في تأميري أسامة، فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وأيم الله إن كان لخليقا بالأمارة، وابنه من (3) بعده لخليق بها،
(1) قتل زيد بن حارثة بمؤتة، إحدى قرى البلقاء، وتفصيل الخبر في الطبري، (حوادث السنة الثامنة). (2) القطيفة: كساء له أهداب (3) ا: " وإن ابنه من بعده الخليق بها " 159 وإنهما لمن أحب الناس إلى، فاستوصوا به خيرا، فإنه من خياركم " ثم نزل ودخل بيته، وجاء المسلمون يودعون رسول الله صلى الله عليه وآله، ويمضون إلى عسكر أسامة بالجرف (1). وثقل (2) رسول الله صلى الله عليه وآله، واشتد ما يجده، فأرسل بعض نسائه إلى أسامة وبعض من كان معه، يعلمونهم ذلك، فدخل أسامة من معسكره - والنبي صلى الله عليه وآله مغمور، وهو اليوم الذي لدوه (3) فيه - فتطأطأ أسامة عليه فقبله، ورسول الله صلى الله عليه وآله قد أسكت، فهو لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة، كالداعي له، ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره، والتوجه لما بعثه فيه، فرجع أسامة إلى عسكره ثم أرسل نساء رسول الله صلى الله عليه وآله إلى أسامة يأمرنه بالدخول، ويقلن: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قد أصبح بارئا، فدخل أسامة من معسكره يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله مفيقا، فأمره بالخروج وتعجيل النفوذ وقال: اغد على بركة الله، وجعل يقول: أنفذوا بعث أسامة، ويكرر ذلك، فودع رسول الله صلى الله عليه وآله، وخرج ومعه أبو بكر وعمر، فلما ركب جاءه رسول أم أيمن، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله يموت، فأقبل ومعه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فانتهوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله حين زالت الشمس من هذا اليوم، وهو يوم الاثنين، وقد مات واللواء مع بريدة بن الحصيب، فدخل باللواء فركزه عند باب رسول الله صلى الله عليه وآله وهو مغلق، وعلي عليه السلام وبعض بني هاشم مشتغلون بإعداد جهازه وغسله، فقال العباس لعلى - وهما في الدار: امدد يدك أبايعك، فيقول الناس: عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك
(1) الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام. (2) ثقل، بالكسر: اشتد مرضه (3) يقال لد المريض، بالبناء للمجهول أي دووي باللدود، بالفتح، وهو من الأدوية ما يسقاه المريض في أحد شقي الفم، وانظر النهاية لابن الأثير 3: 55، واللسان 4: 393 160 اثنان، فقال له: أو يطمع يا عم فيها طامع غيري! قال: ستعلم، فلم يلبثا أن جاءتهما الاخبار بأن الأنصار أقعدت سعدا لتبايعه، وأن عمر جاء بأبي بكر فبايعه وسبق الأنصار بالبيعة، فندم علي عليه السلام على تفريطه في أمر البيعة وتقاعده عنها، وأنشده العباس قول دريد: أمرتهم أمري بمنعرج اللوى * فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد (1) * * * وتزعم الشيعة أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يعلم موته، وأنه سير أبا بكر وعمر في بعث أسامة لتخلو دار الهجرة منهما، فيصفو الامر لعلى عليه السلام، ويبايعه من تخلف من المسلمين بالمدينة على سكون وطمأنينة، فإذا جاءهما الخبر بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وبيعة الناس لعلى عليه السلام بعده، كانا عن المنازعة والخلاف أبعد، لان العرب كانت تلتزم بإتمام تلك البيعة، ويحتاج في نقضها إلى حروب شديدة، فلم يتم له ما قدر، وتثاقل أسامة بالجيش أياما، مع شدة حث رسول الله صلى الله عليه وآله على نفوذه وخروجه بالجيش، حتى مات صلى الله عليه وآله وهما بالمدينة، فسبقا عليا إلى البيعة وجرى ما جرى. وهذا عندي غير منقدح، لأنه إن كان صلى الله عليه وآله يعلم موته، فهو أيضا يعلم أن أبا بكر سيلي الخلافة، وما يعلمه لا يحترس منه، وإنما يتم هذا ويصح إذا فرضنا أنه عليه السلام كان يظن موته ولا يعلمه حقيقة، ويظن أن أبا بكر وعمر يتمالآن على ابن عمه، ويخاف وقوع ذلك منهما ولا يعلمه حقيقة، فيجوز إن كانت الحال هكذا أن ينقدح هذا التوهم، ويتطرق هذا الظن، كالواحد منا له ولدان: يخاف من أحدهما
(1) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 2: 814، وروايته: " فلم يستبينوا الرشد ". 161 أن يتغلب بعد موته على جميع ماله، ولا يوصل أخاه إلى شئ من حقه، فإنه قد يخطر له عند مرضه الذي يتخوف أن يموت فيه أن يأمر الولد المخوف جانبه بالسفر إلى بلد بعيد في تجارة يسلمها إليه، يجعل ذلك طريقا إلى دفع تغلبه على الولد الآخر. * * * الأصل: حتى مضى الأول لسبيله، فأدلى بها إلى ابن الخطاب بعده (1): شتان ما يومى على كورها * ويوم حيان أخي جابر فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته، لشد ما تشطرا ضرعيها فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلمها، ويخشن مسها، ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة، إن أشنق لها خرم، وإن أسلس لها تقحم، فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس، وتلون واعتراض، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة. * * * الشرح: مضى لسبيله: مات، والسبيل الطريق، وتقديره: مضى على سبيله، وتجئ اللام بمعنى " على " كقوله (2): * فخر صريعا لليدين وللفم * وقوله: " فأدلى بها " من قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل
(1) في مخطوطة النهج: " ثم تمثل بقول الأعشى ". وكذلك في حواشي ب (2) لجابر بن حنى التغلبي، وصدره: * تناوله بالرمح ثم اتنى له * من قصيدة له مفضلية 208 - 212، وهو أيضا من شواهد المغني: 212، على وضع اللام موضع " على ". 162 وتدلوا بها إلى الحكام) (1)، أي تدفعوها إليهم رشوة، وأصله من: أدليت الدلو في البئر، أرسلتها. فإن قلت: فإن أبا بكر إنما دفعها إلى عمر حين، مات ولا معنى للرشوة عند الموت! قلت: لما كان عليه السلام يرى أن العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق، شبه ذلك بإدلاء الانسان بماله إلى الحاكم، فإنه إخراج للمال إلى غير وجهه، فكان ذلك من باب الاستعارة. [عهد أبى بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب] وابن الخطاب هو أبو حفص عمر الفاروق، وأبوه الخطاب بن نفيل بن عبد العزى ابن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب. وأم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. لما احتضر أبو بكر، قال للكاتب اكتب: هذا ما عهد عبد الله بن عثمان (2)، آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة، في الساعة التي يبر فيها الفاجر، ويسلم فيها الكافر. ثم أغمي عليه فكتب الكاتب: عمر بن الخطاب، ثم أفاق أبو بكر، فقال: اقرأ ما كتبت، فقرأ وذكر اسم عمر، فقال: أنى لك هذا! قال: ما كنت لتعدوه، فقال: أصبت، ثم قال: أتم كتابك، قال: ما أكتب؟ قال اكتب: وذلك حيث أجال رأيه وأعمل فكره، فرأى أن هذا الامر (3 لا يصلح آخره إلا بما به أوله ولا 3)، ولا يحتمله إلا أفضل العرب مقدرة، وأملكهم لنفسه، وأشدهم في حال الشدة، وأسلسهم في حال اللين، وأعلمهم برأي ذوي الرأي، لا يتشاغل بما لا يعنيه، ولا يحزن لما لم ينزل به، ولا يستحى من التعلم، ولا يتحير
(1) سورة البقرة 188 (2) عثمان اسم أبى قحافة (3 - 3) ب: " لا يصلح آخره إلا بما يصلح به أوله ". 163 عند البديهة. قوى على الأمور، لا يجوز بشئ منها حده عدوانا ولا تقصيرا، يرصد لما هو آت عتاده من الحذر. فلما فرغ من الكتاب، دخل عليه قوم من الصحابة، منهم طلحة، فقال له (1): ما أنت قائل لربك غدا، وقد وليت علينا فظا غليظا، تفرق منه النفوس، وتنفض عنه القلوب! فقال أبو بكر: أسندوني - وكان مستلقيا - فأسندوه، فقال لطلحة: أبالله تخوفني! إذا قال لي ذلك غدا قلت له: وليت عليهم خير أهلك. ويقال (2): أصدق الناس فراسة ثلاثة: العزيز في قوله لامرأته عن يوسف عليه السلام: (وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا) (3)، وابنة شعيب حيث قالت لأبيها في موسى: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوى الأمين) (4)، وأبو بكر في عمر. * * * وروى كثير من الناس أن أبا بكر لما نزل به الموت (5) دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: إنه أفضل من رأيك فيه إلا أن فيه غلظة، فقال أبو بكر: ذاك لأنه يراني رقيقا، ولو قد أفضى الامر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، وقد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أراني الرضا عنه، وإذا ألنت له أراني الشدة عليه. ثم دعا عثمان ابن عفان، فقال: أخبرني عن عمر، فقال: سريرته خير (6) من علانيته، وليس فينا مثله، فقال لهما: لا تذكرا مما قلت لكما شيئا، ولو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان، والخيرة لك ألا تلى من أمورهم شيئا، ولوددت أنى كنت من أموركم خلوا، وكنت فيمن مضى من سلفكم. ودخل طلحة بن عبيد الله على أبى بكر، فقال: إنه بلغني أنك يا خليفة
(1) كلمة " له " ساقطة من ب (2) ا: " ويقال إنه " (3) سورة يوسف 21 (4) سورة القصص 26 (5) ساقطة من ب (6) ا: " تقصر عن علانيته " 164 رسول الله، استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم، وأنت غدا لاق ربك، فيسألك عن رعيتك! فقال أبو بكر: أجلسوني، ثم قال: أبالله تخوفني! إذا لقيت ربى فسألني، قلت: استخلفت عليهم خير أهلك. فقال طلحة: أعمر خير الناس يا خليفة رسول الله! فاشتد غضبه، وقال: أي والله، هو خيرهم وأنت شرهم. أما والله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك، ولرفعت نفسك فوق قدرها، حتى يكون الله هو الذي يضعها! أتيتني وقد دلكت عينك، تريد أن تفتنني عن ديني، وتزيلني عن رأيي! قم لا أقام الله رجليك! أما والله لئن عشت فواق ناقة، وبلغني أنك غمصته فيها، أو ذكرته بسوء، لألحقنك بمحمضات قنة، حيث كنتم تسقون ولا تروون، وترعون ولا تشبعون، وأنتم بذلك الحجون راضون! فقام طلحة فخرج. * * * أحضر أبو بكر عثمان - وهو يجود بنفسه - فأمره أن يكتب عهدا، وقال - اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد عبد الله بن عثمان (1) إلى المسلمين، ثم أما بعد، ثم أغمي عليه، وكتب عثمان: قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، وأفاق أبو بكر فقال: اقرأ فقرأه، فكبر أبو بكر، وسر، وقال: أراك خفت أن يختلف الناس إن مت في غشيتي! قال: نعم، قال: جزاك الله خيرا عن الاسلام وأهله، ثم أتم العهد، وأمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم، ثم أوصى عمر، فقال له: إن لله حقا بالليل لا يقبله في النهار، وحقا في النهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل نافلة ما لم تؤد الفريضة، وإنما ثقلت موازين من اتبع الحق مع ثقله عليه، وإنما خفت موازين من اتبع الباطل لخفته، عليه إنما أنزلت آية الرخاء مع آية الشدة، لئلا يرغب المؤمن رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له، ولئلا
(1) في تاريخ الطبري 4: 52: " أبو بكر بن أبي قحافة ". 165 يرهب رهبة يلقى فيها بيده، فإن حفظت وصيتي، فلا يكن غائب أحب إليك من الموت، ولست معجزه. ثم توفى أبو بكر. * * * دعا أبو بكر عمر يوم موته بعد عهده إليه، فقال: إني لأرجو إن أموت في يومى هذا فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى بن حارثة، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس معه، ولا تشغلنكم مصيبة عن دينكم، وقد رأيتني متوفى رسول الله صلى الله عليه وآله كيف صنعت. وتوفى أبو بكر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة. * * * وأما البيت الذي تمثل به عليه السلام، فإنه للأعشى الكبير، أعشى قيس. وهو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل، من القصيدة التي قالها في منافرة علقمة بن علاثة وعامر بن الطفيل، وأولها: علقم ما أنت إلى عامر * الناقض الأوتار والواتر (1) يقول فيها: وقد أسلى الهم إذ يعترى * بجسرة دوسرة عاقر (2) زيافة بالرحل خطارة * تلوى بشرخي ميسة قاتر (3) - شرخا الرحل: مقدمه ومؤخره، والميس: شجر يتخذ منه الرحال، ورحل قاتر: جيد الوقوع على ظهر البعير -.
(1) ديوانه 104 - 108، ويقع هذا البيت الخامس عشر منها، وأولها: شاقتك من قتلة أطلاها * بالشط فالوتر إلى حاجر (2) الجسرة: الناقة السريعة، والدوسرة: الضخمة. والعاقر: التي لم تحمل، وفى الديوان: " حين اعترى ". (3) الزيافة: المختالة في سيرها. والخطارة: التي تخطر بذنبها نشاطا. 166 شتان ما يومى على كورها * ويوم حيان أخي جابر أرمى بها البيداء إذ هجرت * وأنت بين القرو والعاصر (1) في مجدل شيد بنيانه * يزل عنه ظفر الطائر تقول: شتان ما هما، وشتان هما، ولا يجوز شتان ما بينهما، إلا على قول ضعيف. وشتان أصله شتت، كوشكان ذا خروجا، من وشك. وحيان وجابر ابنا السمين الحنفيان، وكان حيان صاحب شراب ومعاقرة خمر، وكان نديم الأعشى، وكان أخوه جابر أصغر سنا منه، فيقال: إن حيان قال للأعشى: نسبتني إلى أخي، وهو أصغر سنا منى! فقال: إن الروى اضطرني إلى ذلك، فقال: والله لا نازعتك كأسا أبدا ما عشت. يقول: شتان يومى وأنا في الهاجرة والرمضاء، أسير على كور هذه الناقة، ويوم حيان وهو في سكرة الشراب، ناعم البال، مرفه من الأكدار والمشاق. والقرو شبه حوض، يتخذ من جذع أو من شجر ينبذ فيه، والعاصر: الذي يعتصر العنب. والمجدل: الحصن المنيع. * * * وشبيه بهذا المعنى قول الفضل بن الربيع في أيام فتنة الأمين يذكر حاله وحال أخيه المأمون: إنما نحن (2) شعب من أصل، أن قوى قوينا، وإن ضعف ضعفنا، وإن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء، يشاور النساء، ويقدم على الرؤيا، قد أمكن أهل الخسارة واللهو من سمعه، فهم يمنونه الظفر، ويعدونه عقب الأيام، والهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل، ينام نوم الظربان، وينتبه انتباه الذئب، همه بطنه وفرجه، لا يفكر في زوال نعمة، ولا يروى في إمضاء رأى ولا مكيدة، قد شمر له عبد الله
(1) لم يرد هذا البيت في ديوانه، وهو في اللسان 20: 34، وروايته: * أرمى بها البيداء إذ أعرضت * (2) الخبر بالتفصيل في تاريخ الطبري (حوادث سنة 196). 167 عن ساقه، وفوق إليه أسد سهامه، يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ، والموت القاصد، قد عبأ له المنايا على متون الخيل، وناط له البلايا بأسنة الرماح وشفار السيوف، فهو كما قال الشاعر: لشتان ما بيني وبين ابن خالد * أمية في الرزق الذي الله يقسم (1) يقارع أتراك ابن خاقان ليلة * إلى أن يرى الاصباح لا يتلعثم وآخذها حمراء كالمسك ريحها * لها أرج من دنها يتنسم فيصبح من طول الطراد وجسمه * نحيل وأضحى في النعيم أصمم وأمية المذكور في هذا الشعر، هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص ابن أمية بن عبد شمس، كان والى خراسان، وحارب الترك. والشعر للبعيث. * * * يقول أمير المؤمنين عليه السلام: شتان بين يومى في الخلافة مع ما انتقض على من الامر، ومنيت به من انتشار الحبل، واضطراب أركان الخلافة، وبين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهدة، وأركان ثابتة، وسكون شامل، فانتظم أمره، واطرد حاله، وسكنت أيامه. قوله عليه السلام: " فيا عجبا " أصله، فيا عجبي، كقولك: يا غلامي، ثم قلبوا الياء ألفا، فقالوا: يا عجبا، كقولهم: يا غلاما، فإن وقفت وقفت على هاء السكت، فقلت: يا عجباه! ويا غلاماه! قال: العجب منه، وهو يستقيل المسلمين من الخلافة أيام حياته، فيقول: أقيلوني، ثم يعقدها عند وفاته لآخر، وهذا يناقض الزهد فيها والاستقالة منها. وقال شاعر من شعراء الشيعة: حملوها يوم السقيفة أوزارا * تخف الجبال وهي ثقال
(1) رواية الطبري: فشتان ما بيني وبين ابن خالد * أمية في الرزق الذي الله قاسم 168 ثم جاءوا من بعدها يستقيلون *، وهيهات عثرة لا تقال! وقد اختلف الرواة في هذه اللفظة، فكثير من الناس رواها: " أقيلوني فلست بخيركم "، ومن الناس من أنكر هذه اللفظة ولم يروها، وإنما روى قوله: " وليتكم ولست بخيركم ". واحتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الإمامة. ومن رواها اعتذر لأبي بكر فقال: إنما قال: أقيلوني، ليثور (1) ما في نفوس (2) الناس من بيعته، ويخبر ما عندهم من ولايته، فيعلم مريدهم وكارههم، ومحبهم ومبغضهم. فلما رأى النفوس إليه ساكنة، والقلوب لبيعته مذعنة، استمر على إمارته وحكم حكم الخلفاء في رعيته، ولم يكن منكرا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته. قالوا: وقد جرى مثل ذلك لعلى عليه السلام، فإنه قال للناس بعد قتل عثمان: دعوني والتمسوا غيري، فأنا لكم وزيرا خير منى لكم أميرا. وقال لهم: اتركوني، فأنا كأحدكم، بل أنا أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، فأبوا عليه وبايعوه، فكرهها أولا، ثم عهد بها إلى الحسن عليه السلام عند موته. قالت الامامية: هذا غير لازم، والفرق بين الموضعين ظاهر، لان عليا عليه السلام لم يقل: إني لا أصلح، ولكنه كره الفتنة، وأبو بكر قال كلاما معناه: إني لا أصلح لها، لقوله: " لست بخيركم "، ومن نفى عن نفسه صلاحيته للإمامة، لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره. واعلم أن الكلام في هذا الموضع مبنى على أن الأفضلية هل هي شرط في الإمامة أم لا؟ وقد تكلمنا في شرح " الغرر " لشيخنا أبى الحسين (3) رحمه الله تعالى في هذا البحث بما لا يحتمله هذا الكتاب.
(1) يثور: يبحث (2) ا: " قلوب ". (3) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب المتكلم المعتزلي، توفى سنة 436، وكتابه " غرر الأدلة "، ذكره ابن خلكان 1: 482. 169 وقوله عليه السلام: " لشد ما تشطرا ضرعيها "، شد أصله " شدد "، كقولك: حب في " حبذا " أصله حبب، ومعنى " شد " صار شديدا جدا، ومعنى " حب " صار حبيبا، قال البحتري: شد ما أغريت ظلوم بهجري * بعد وجدي بها وقلة صبري (1) وللناقة أربعة أخلاف: خلفان قادمان وخلفان آخران، وكل اثنين منهما شطر. وتشطر ضرعيها: اقتسما فائدتها ونفعهما، والضمير للخلافة، وسمى القادمين معا ضرعا، وسمى الآخرين معا ضرعا لما كانا لتجاورهما، ولكونهما لا يحلبان إلا معا كشئ واحد. قوله عليه السلام: " فجعلها في حوزة خشناء "، أي في جهة صعبة المرام، شديدة الشكيمة. والكلم: الجرح. وقوله: " يغلظ "، من الناس من قال: كيف قال: يغلظ كلمها، والكلم لا يوصف بالغلظ؟ وهذا قلة فهم بالفصاحة، ألا ترى كيف قد وصف الله سبحانه العذاب بالغلظ، فقال: (ونجيناهم من عذاب غليظ) (2) أي متضاعف! لان الغليظ من الأجسام هو ما كثف وجسم، فكان أجزاؤه وجواهره متضاعفة، فلما كان العذاب - أعاذنا الله منه - متضاعفا، سمى غليظا، وكذلك الجرح إذا أمعن وعمق، فكأنه قد تضاعف وصار جروحا، فسمى غليظا. إن قيل: قد قال عليه السلام " في حوزة خشناء "، فوصفها بالخشونة، فكيف عاد ذكر الخشونة ثانية فقال: " يخشن مسها "؟ قيل: الاعتبار مختلف، لان مراده بقوله " في حوزة خشناء " أي لا ينال ما عندها ولا يرام يقال: إن فلانا لخشن الجانب ووعر الجانب، ومراده بقوله: " يخشن
(1) ديوانه 2: 19 (2) سورة هود 58 170 مسها " أي تؤذى وتضر وتنكئ من يمسها، يصف جفاء أخلاق الوالي المذكور، ونفور طبعه وشدة بادرته. قوله عليه السلام: " ويكثر العثار فيها، والاعتذار منها "، يقول: ليست هذه الجهة جددا مهيعا، بل هي كطريق كثيرة الحجارة، لا يزال الماشي فيه عاثرا. وأما " منها " في قوله عليه السلام: " والاعتذار منها "، فيمكن أن تكون " من " على أصلها، يعنى أن عمر كان كثيرا ما يحكم بالامر ثم ينقضه، ويفتى بالفتيا ثم يرجع عنها، ويعتذر مما أفتى به أولا. ويمكن أن تكون " من " هاهنا للتعليل والسببية، أي ويكثر اعتذار الناس عن أفعالهم وحركاتهم لأجلها، قال: أمن رسم دار مربع ومصيف * لعينيك من ماء الشؤون وكيف! (1) أي لأجل أن رسم المربع والمصيف هذه الدار، وكف دمع عينيك! والصعبة من النوق: ما لم تركب ولم ترض، إن أشنق لها راكبها بالزمام خرم أنفها، وإن أسلس زمامها تقحم في المهالك فألقته في مهواة أو ماء أو نار، أو ندت فلم تقف حتى ترديه عنها فهلك. وأشنق الرجل ناقته إذا كفها بالزمام، وهو راكبها، واللغة المشهورة شنق، ثلاثية. وفي الحديث أن طلحة أنشد قصيدة فما زال شانقا راحلته، حتى كتبت له (2). وأشنق البعير نفسه، إذا رفع رأسه، يتعدى ولا يتعدى، وأصله من الشناق، وهو خيط يشد به فم القربة. وقال الرضى أبو الحسن رحمه الله تعالى: إنما قال عليه السلام: أشنق لها، ولم يقل: " أشنقها "، لأنه جعل ذلك في مقابلة قوله: " أسلس لها " وهذا حسن، فإنهم إذا
(1) وكيف الدمع: سيلانه. (2) الخبر في الفائق 1: 677، وقال في شرحه: " هو أن يجذب رأسها بزمامها، حتى يداني قفاها قامة الرحل. وقد شنقها وأشنقها ". 171 قصدوا الازدواج في الخطابة فعلوا مثل هذا، قالوا: الغدايا والعشايا، والأصل الغدوات جمع غدوة وقال صلى الله عليه وآله: " ارجعن مأزورات غير مأجورات "، وأصله " موزورات " بالواو، لأنه من الوزر. وقال الرضى رحمه الله تعالى: ومما يشهد على أن أشنق بمعنى " شنق " قول عدى ابن زيد العبادي: ساءها ما لها تبين في الأيدي وإشناقها إلى الأعناق قلت: " تبين " في هذا البيت فعل ماض، تبين يتبين تبينا، واللام في " لها " تتعلق ب " تبين "، يقول: ظهر لها ما في أيدينا فساءها. وهذا البيت من قصيدة أولها: ليس شئ على المنون بباق * غير وجه المسبح الخلاق (1) وقد كان زارته بنية له صغيرة اسمها هند، وهو في الحبس، حبس النعمان، ويداه مغلولتان إلى عنقه فأنكرت ذلك، وقالت: ما هذا الذي في يدك وعنقك يا أبت؟ وبكت، فقال: هذا الشعر. وقبل هذا البيت: ولقد غمني زيارة ذي قربى * صغير لقربنا مشتاق ساءها ما لها تبين في الأيدي وإشناقها إلى الأعناق (2) أي ساءها ما ظهر لها من ذلك. ويروى: " ساءها ما بنا تبين " أي ما بان وظهر، ويروى " ما بنا تبين " بالرفع على أنه مضارع. ويروى " إشناقها " بالرفع عطفا على " ما "، التي هي بمعنى الذي وهي فاعلة. ويروى بالجر عطفا على الأيدي.
(1) في الأغاني 2: 116 (طبعة دار الكتب المصرية) (2) بعده في رواية الأغاني: فاذهبي يا أميم غير بعيد * لا يؤاتى من في الوثاق واذهبي يا أميم إن يشأ الله ينفس من أزم هذا الخناق 172 وقال الرضى رحمه الله تعالى أيضا: ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله خطب الناس وهو على ناقة قد شنق لها، وهي تقصع بجرتها. قلت: الجرة: ما يعلو من الجوف وتجتره الإبل، والدرة ما يسفل. وتقصع بها: تدفع، وقد كان للرضي رحمه الله تعالى إذا كانت الرواية قد وردت هكذا أن يحتج بها على جواز " أشنق لها " فإن الفعل في الخبر قد عدى باللام لا بنفسه. قوله عليه السلام: " فمني الناس " أي بلى الناس، قال. * منيت بزمردة كالعصا * (1) والخبط: السير على غير جادة، والشماس: النفار. والتلون: التبدل. والاعتراض: السير لا على خط مستقيم، كأنه يسير عرضا في غضون سيره طولا، وإنما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط. وبعير عرضي: يعترض في مسيره، لأنه لم يتم رياضته، وفي فلان عرضية، أي عجرفة وصعوبة. [طرف من أخبار عمر بن الخطاب] وكان عمر بن الخطاب صعبا، عظيم الهيبة شديد السياسة، لا يحابى أحدا، ولا يراقب شريفا ولا مشروفا. وكان أكابر الصحابة يتحامون ويتفادون من لقائه، كان أبو سفيان ابن حرب في مجلس عمر، وهناك زياد بن سمية وكثير من الصحابة، فتكلم زياد فأحسن، وهو يومئذ غلام، فقال علي عليه السلام - وكان حاضرا لأبي سفيان وهو إلى جانبه - لله هذا الغلام: لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه. فقال له أبو سفيان: أما والله لو عرفت أباه لعرفت أنه من خير أهلك، قال: ومن أبوه؟ قال أنا وضعته والله في رحم أمه فقال علي عليه السلام: فما يمنعك من استلحاقه! قال: أخاف هذا العير (2) الجالس أن يخرق على إهابي! وقيل لابن عباس لما أظهر قوله في العول (3) بعد موت عمر - ولم يكن قبل يظهره:
(1) لأبي الغطمش الحنفي، ذكره أبو تمام الحماسة 1881 بشرح المرزوقي، وبقيته: * ألص وأخبث من كندش * (2) عير القوم: سيدهم. (3) عول الفريضة، وهو أن تزيد سهامها، فيدخل النقصان على أهل الفرائص. 173 هلا قلت هذا وعمر حي؟ قال: هبته، وكان امرأ مهابا (1). واستدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر وكانت حاملا، فلشدة هيبته ألقت ما في بطنها، فأجهضت به جنينا ميتا، فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك، فقالوا: لا شئ عليك، إنما أنت مؤدب، فقال له علي عليه السلام: إن كانوا راقبوك فقد غشوك، وإن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا عليك غرة - يعنى عتق رقبة - فرجع عمر والصحابة إلى قوله وعمر هو الذي شد بيعة أبى بكر، ورقم المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لما جرده، ودفع في صدر المقداد، ووطئ في السقيفة سعد بن عبادة، وقال: اقتلوا سعدا، قتل الله سعدا. وحطم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة: أنا جذيلها (2) المحكك، وعذيقها المرجب. وتوعد من لجأ إلى دار فاطمة عليها السلام من الهاشميين، وأخرجهم منها ولولاه لم يثبت لأبي بكر أمر، ولا قامت له قائمة. * * * وهو الذي ساس العمال وأخذ أموالهم في خلافته، وذلك من أحسن السياسات. وروى الزبير بن بكار، قال: لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر، بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق وصامت، فكتب إليه، أما بعد: فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك، ولا كان لك مال قبل أن أستعملك، فأنى لك هذا! فوالله لو لم يهمني في ذات الله إلا من أختان في مال الله، لكثر همى، وانتثر أمري، ولقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك، ولكني قلدتك رجاء غنائك، فاكتب إلى من أين لك هذا المال، وعجل.
(1) كذا في ا، وفى ب: " وكان أمرا مهيبا " (2) الفائق ا: 180، وبقية الخبر فيه: " منا أمير ومنكم أمير ". الجذيل: تصغير الجذل، بالكسر، وهو في الأصل عود ينصب للجربى تحتك به فتستشفي. والمحكك: الذي كثر به الاحتكاك حتى صار مملسا. به كثير في مثل هذه الحادثة، وأنا في كثرة التجارب والعلم بموارد الأحوال فيها وفى أمثالها ومصادرها كالنخلة الكثيرة الحمل ". 174 فكتب إليه عمرو: أما بعد، فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين فأما ما ظهر لي من مال، فإنا قدمنا بلادا رخيصة الأسعار، كثيرة الغزو، فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها، ووالله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك. وقد ائتمنتني، فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك. وذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير منى، فإذا كان ذاك فوالله ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا، ولا فتحت لك قفلا. فكتب إليه عمر: أما بعد، فإني لست من تسطيرك الكتاب وتشقيقك الكلام في شئ، ولكنكم معشر الامراء، قعدتم على عيون الأموال، ولن تعدموا عذرا، وإنما تأكلون النار، وتتعجلون العار، وقد وجهت إليك محمد بن مسلمة، فسلم إليه شطر مالك. فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاما ودعاه فلم يأكل، وقال هذه تقدمة الشر، ولو جئتني بطعام الضيف لأكلت، فنح عنى طعامك، وأحضر لي مالك، فأحضره، فأخذ شطره. فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه، قال: لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر، والله لقد رأيت عمر وأباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية (1) لا تجاوز مأبض (2) ركبتيه، وعلى عنقه حزمة حطب، والعاص بن وائل في مزررات الديباج. فقال محمد: إيها عنك يا عمرو! فعمر والله خير منك، وأما أبوك وأبوه فإنهما في النار، ولولا الاسلام لألفيت معتلفا شاة، يسرك غزرها، ويسوءك بكوءها، (3) قال: صدقت فاكتم على، قال أفعل. * * * قال الربيع بن زياد الحارثي: كنت (4) عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين
(1) قطوانية: منسوبة إلى قطوان، موضع بالكوفة، تنسب إليه الأكسية. (2) المأبض: باطن الركبة. (3) يقال: بكأت الناقة بكوءا، إذا قل لبنها. (4) الخبر في الكامل 87 - 88 (طبع أوروبا). 175 فكتب إليه عمر بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا جميعا. فلما قدمنا المدينة اتيت يرفأ حاجب عمر، فقلت: يا يرفأ، مسترشد وابن سبيل! أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى بالخشونة، فاتخذت خفين مطارقين (1)، ولبست جبة صوف، ولثت عمامتي على رأسي، ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه، فصعد بصره فينا وصوب، فلم فلم تأخذ أحدا غيري، فدعاني، فقال: من أنت؟ قلت: الربيع بن زياد الحارثي، قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين، قال: كم ترزق؟ قلت ألفا، قال: كثير، فما تصنع به؟ قلت: أتقوت منه شيئا، وأعود بباقيه على أقارب لي، فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين، قال: لا بأس، ارجع إلى موضعك، فرجعت إلى موضعي من الصف، فصعد فينا وصوب، فلم تقع عينه إلا على فدعاني، فقال: كم سنك؟ قلت: خمس وأربعون، فقال: الآن حيث استحكمت! ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديث عهدهم بلين العيش، وقد تجوعت له، فأتى بخبز يابس وأكسار (2) بعير، فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد، وأنا أنظر إليه، وهو يلحظني من بينهم، ثم سبقت منى كلمة تمنيت لها أنى سخت في الأرض، فقلت: يا أمير المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا! فزجرني، ثم قال: كيف قلت؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لك اللحم كذلك، فتؤتى بالخبز لينا، وباللحم غريضا. فسكن من غربه، وقال: أهاهنا غرت (3)! قلت: نعم، فقال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق (4) وسبائك (5) وصناب (6)، ولكني رأيت الله نعى على قوم شهواتهم، فقال: (أذهبتم طيباتكم
(1) ليست خفين مطارقين، أي مطبقين، واحدا فوق الآخر، يقال: أطرق النعل وطارقها. (2) كسور الإبل، أي أعضاؤها، واحدها كسر، بالفتح والكسر. (3) غرت: ذهبت، وفى الأصول: " غرب " تحريف. (4) الصلائق: جمع صليقة، وهي الخبزة الرقيقة والقطعة المشواة من اللحم. (5) السبائك: ما سبك من الدقيق ونخل فأخذ خالصه، يعنى الحوارى، وكانوا يسمون الرقاق السبائك. (6) الصناب: صباغ يؤتدم به. 176 في حياتكم الدنيا) (1)، ثم أمر أبا موسى بإقراري، وأن يستبدل بأصحابي. * * * أسلم عمر بعد جماعة من الناس، وكان سبب إسلامه أن أخته وبعلها أسلما سرا من عمر، فدخل إليهما خباب بن الأرت، يعلمهما الدين خفية، فوشى بهم واش إلى عمر، فجاء دار أخته، فتوارى خباب منه داخل البيت، فقال عمر: ما هذه الهينمة عندكم؟ قالت أخته: ما عدا حديثا تحدثناه بيننا. قال أراكما قد صبوتما، قال ختنه: أرأيت إن كان هو الحق! فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا، فجاءت أخته فدفعته عنه، فنفحها بيده، فدمي وجهها، ثم ندم ورق، وجلس واجما، فخرج إليه خباب فقال: أبشر يا عمر، فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله لك الليلة، فإنه لم يزل يدعو منذ الليلة: " اللهم أعز الاسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام ". قال: فانطلق عمر متقلدا سيفه حتى أتى إلى الدار التي فيها رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ وهي الدار التي في أصل الصفا، وعلى الباب حمزة وطلحة وناس من المسلمين، فوجل القوم من عمر إلا حمزة فإنه قال: قد جاءنا عمر، فإن يرد الله به خيرا يهده، وإن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا، والنبي صلى الله عليه وآله داخل الدار يوحى إليه، فسمع كلامهم، فخرج حتى أتى عمر، فأخذ بمجامع ثوبه وحمائل سيفه، وقال: " ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي والنكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة، اللهم هذا عمر، اللهم أعز الاسلام بعمر "، فقال عمر: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. * * * مر يوما عمر في بعض شوارع المدينة، فناداه إنسان: ما أراك إلا تستعمل عمالك، وتعهد إليهم العهود، وترى أن ذلك قد أجزأك! كلا والله، إنك المأخوذ بهم إن لم تتعهدهم،
(1) سورة الأحقاف 20 177 قال: ما ذاك؟ قال عياض بن غنم، يلبس اللين، ويأكل الطيب، ويفعل كذا وكذا قال: أساع (1)؟ قال: بل مؤد ما عليه، فقال لمحمد بن مسلمة: الحق بعياض بن غنم فأتني به كما تجده، فمضى محمد بن مسلمة حتى أتى باب عياض، وهو أمير على حمص، وإذا عليه بواب، فقال له: قل لعياض: على بابك رجل يريد أن يلقاك، قال: ما تقول؟ قال: قل له ما أقول لك فقام كالمعجب فأخبره، فعرف عياض أنه أمر حدث، فخرج فإذا محمد بن مسلمة، فأدخله، فرأى على عياض قميصا رقيقا، ورداء لينا، فقال: إ ن أمير المؤمنين أمرني ألا أفارقك حتى آتيه بك كما أجدك. فأقدمه على عمر وأخبره أنه وجده في عيش ناعم، فأمر له بعصا وكساء، وقال: إذهب بهذه الغنم، فأحسن رعيها، فقال: الموت أهون من ذلك، فقال: كذبت، ولقد كان ترك ما كنت عليه أهون عليك من ذلك. فساق الغنم بعصاه، والكساء في عنقه، فلما بعد رده، وقال: أرأيت إن رددتك إلى عملك أتصنع خيرا؟ قال: نعم والله يا أمير المؤمنين، لا يبلغك منى بعدها ما تكره. فرده إلى عمله، فلم يبلغه عنه بعدها ما ينقمه عليه. * * * كان الناس بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها، فيصلون عندها، فقال عمر: أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى! ألا لا أوتى منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد، ثم أمر بها فقطعت. * * * لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله، وشاع بين الناس موته، طاف عمر على الناس قائلا: أنه لم يمت، ولكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه، وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم، يزعمون أنه مات؟ فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا ويخبطه ويتوعده، حتى جاء أبو بكر، فقال: أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات،
(1) الساعي هنا: الواشي. 178 ومن كان يعبد رب محمد، فإنه حي لم يمت، ثم تلا قوله تعالى: (أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) (1)، قالوا: فوالله لكأن الناس ما سمعوا هذه الآية حتى تلاها أبو بكر. وقال عمر: لما سمعته يتلوها هويت إلى الأرض، وعلمت أن رسول الله قد مات. * * * لما قتل خالد مالك بن نويرة ونكح امرأته، كان في عسكره أبو قتادة الأنصاري، فركب فرسه، والتحق بأبي بكر، وحلف ألا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا، فقص على أبى بكر القصة، فقال أبو بكر: لقد فتنت الغنائم العرب، وترك خالد ما أمرته، فقال عمر: إن عليك أن تقيده بمالك، فسكت أبو بكر، وقدم خالد فدخل المسجد وعليه ثياب قد صدئت من الحديد، وفي عمامته ثلاثة أسهم، فلما رآه عمر قال: أرياء يا عدو الله! عدوت على رجل من المسلمين فقتلته، ونكحت امرأته، أما والله إن أمكنني الله منك لأرجمنك، ثم تناول الأسهم من عمامته فكسرها، وخالد ساكت لا يرد عليه، ظنا أن ذلك عن أمر أبى بكر ورأيه، فلما دخل إلى أبى بكر وحدثه، صدقه فيما حكاه وقبل عذره. فكان عمر يحرض أبا بكر على خالد ويشير عليه أن يقتص منه بدم مالك، فقال أبو بكر: إيها يا عمر! ما هو بأول من أخطأ، فارفع لسانك عنه، ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين. * * * لما صالح خالد أهل اليمامة وكتب بينه وبينهم كتاب الصلح، وتزوج ابنة مجاعة بن مرارة الحنفي، وصل إليه كتاب أبى بكر: لعمري يا بن أم خالد، إنك لفارغ حتى تزوج النساء، وحول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد... في كلام أغلظ له فيه، فقال خالد: هذا الكتاب ليس من عمل أبى بكر، هذا عمل الأعيسر يعنى عمر
(1) سورة آل عمران 144 179 عزل عمر خالدا عن إمارة حمص في سنة سبع عشرة، وأقامه للناس، وعقله بعمامته، ونزع قلنسوته عن رأسه وقال: أعلمني، من أين لك هذا المال؟ وذلك أنه أجاز الأشعث ابن قيس بعشرة آلاف درهم، فقال من الأنفال والسهمان؟ فقال: لا والله، لا تعمل لي عملا بعد اليوم، وشاطره ماله، وكتب إلى الأمصار بعزله، وقال: إن الناس فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه، وأحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع. * * * لما أسر الهرمزان حمل إلى عمر من تستر إلى المدينة، ومعه رجال من المسلمين، منهم الأحنف بن قيس، وأنس بن مالك، فأدخلوه المدينة في هيئته وتاجه وكسوته، فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد، فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه، فقال الهرمزان: وأين عمر؟ قالوا: ها هو ذا، قال أين حرسه؟ قالوا: لا حاجب له ولا حارس قال: فينبغي أن يكون هذا نبيا، قالوا: إنه يعمل بعمل الأنبياء. واستيقظ عمر، فقال الهرمز! فقالوا نعم، قال: لا أكلمه أو لا يبقى عليه من حليته شئ، فرموا ما عليه، وألبسوه ثوبا صفيقا، فلما كلمه عمر، أمر أبا طلحة أن ينتضي سيفه ويقوم على رأسه، ففعل. ثم قال له: ما عذرك في نقض الصلح ونكث العهد! - وقد كان الهرمزان صالح أولا ثم نقض وغدر - فقال: أخبرك، قال: قل، قال: وأنا شديد العطش! فاسقني ثم أخبرك. فأحضر له ماء، فلما تناوله جعلت يده ترعد، قال: ما شأنك؟ قال: أخاف أن أمد عنقي وأنا أشرب فيقتلني سيفك؟ قال لا بأس عليك حتى تشرب، فألقى الاناء عن يده، فقال: ما بالك؟ أعيدوا عليه الماء، ولا تجمعوا عليه بين القتل والعطش، قال: إنك قد أمنتني، قال: كذبت! قال: لم أكذب، قال أنس: صدق يا أمير المؤمنين، قال: ويحك يا أنس! أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور والبراء بن مالك! والله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك، قال: أنت يا أمير المؤمنين قلت: لا بأس عليك حتى تشرب. وقال له ناس من المسلمين
180 مثل قول أنس، فقال للهرمزان: ويحك أتخدعني! والله لأقتلنك إلا أن تسلم، ثم أومأ إلى أبى طلحة، فقال الهرمزان: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فأمنه وأنزله المدينة. * * * سأل عمر عمرو بن معد يكرب عن السلاح فقال له: ما تقول في الرمح؟ قال: أخوك وربما خانك، قال فالنبل؟ قال: رسل المنايا! تخطئ وتصيب، قال فالدرع؟ قال: مشغلة للفارس، متعبة للراجل، وإنها مع ذلك لحصن حصين، قال فالترس؟ قال: هو المجن، وعليه تدور الدوائر، قال: فالسيف؟ قال: هناك قارعت أمك الهبل، قال: بل أمك، قال: بل أمي، والحمى أمرعني (1) لك. * * * وأول من ضرب عمر بالدرة أم فروة بنت أبي قحافة، مات أبو بكر فناح النساء عليه، وفيهن أخته أم فروة، فنهاهن عمر مرارا، وهن يعاودن، فأخرج أم فروة من بينهن، وعلاها بالدرة فهربن وتفرقن. * * * كان يقال: درة عمر أهيب من سيف الحجاج. وفي الصحيح أن نسوة كن عند رسول الله صلى الله عليه وآله قد كثر لغطهن، فجاء عمر فهربن هيبة له، فقال لهن: يا عديات أنفسهن! أتهبنني ولا تهبن رسول الله! قلن: نعم، أنت أغلظ وأفظ. * * * وكان عمر يفتى كثيرا بالحكم ثم ينقضه، ويفتى بضده وخلافه، قضى في الجد مع الاخوة قضايا كثيرة مختلفة، ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال: من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه.
(1) ب: " أصرعتني "، وما أثبته من ا 181 وقال مرة: لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها، فقالت له امرأة: ما جعل الله لك ذلك، إنه تعالى قال: (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا) (1) فقال: كل النساء أفقه من عمر، حتى ربات الحجال! ألا تعجبون من إمام أخطأ وامرأة أصابت، فأضلت إمامكم ففضلته! * * * ومر يوما بشاب من فتيان الأنصار وهو ظمآن، فاستسقاه، فجدح (2) له ماء بعسل فلم يشربه، وقال: إن الله تعالى يقول: (أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) فقال له الفتى: يا أمير المؤمنين، إنها ليست لك ولا لأحد من هذه القبيلة، اقرأ ما قبلها: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا) (3)، فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر! * * * وقيل إن عمر كان يعس بالليل، فسمع صوت رجل وامرأة في بيت، فارتاب فتسور الحائط، فوجد امرأة ورجلا، وعندهما زق خمر، فقال: يا عدو الله، أكنت ترى أن الله يسترك وأنت على معصيته! قال: يا أمير المؤمنين، إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث، قال الله تعالى: (ولا تجسسوا) (4)، وقد تجسست. وقال: (وأتوا البيوت من أبوابها) (5)، وقد تسورت، وقال: (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا) (6)، وما سلمت! وقال: متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا محرمهما، ومعاقب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج. وهذا الكلام وإن كان ظاهره منكرا فله عندنا مخرج وتأويل، وقد ذكره أصحابنا الفقهاء في كتبهم. * * *
(1) سورة النساء 20 (2) جدح: خلط (3) سورة الأحقاف 20 (4) سورة الحجرات 12 (5) سورة البقرة 189 (6) سورة النور 61 182 وكان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء وعنجهية ظاهرة، يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد، ويتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده، فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله صلى الله عليه وآله. ومعاذ الله أن يقصد بها ظاهرها! ولكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته، ولم يتحفظ منها. وكان الأحسن أن يقول: " مغمور " أو " مغلوب بالمرض "، وحاشاه أن يعنى بها غير ذلك! ولجفاة الاعراب من هذا الفن كثير، سمع سليمان بن عبد الملك أعرابيا يقول في سنة قحط: رب العباد ما لنا وما لكا! * قد كنت تسقينا فما بدا لكا! أنزل علينا القطر لا أبا لكا! فقال سليمان: أشهد أنه لا أب له ولا صاحبة ولا ولد، فأخرجه أحسن مخرج (1). وعلى نحو هذا يحتمل كلامه في صلح الحديبية لما قال للنبي صلى الله عليه وآله: ألم تقل لنا: ستدخلونها، في ألفاظ نكره حكايتها، حتى شكاه النبي صلى الله عليه وآله إلى أبى بكر، وحتى قال له أبو بكر: الزم بغرزه (2)، فوالله إنه لرسول الله. وعمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة، بل مفارقة دار الاسلام كلها، وعاد مرتدا داخلا في دين النصرانية، لأجل لطمة لطمها. وقال جبلة بعد ارتداده متندما على ما فعل: تنصرت الاشراف من أجل لطمة * وما كان فيها لو صبرت لها ضرر! فيا ليت أمي لم تلدني وليتني * رجعت إلى القول الذي قاله عمر * * *
(1) الخبر في الكامل 7: 145 بشرح المرصفي (2) الغرز في الأصل: ركاب الرحل، وفى الكلام استعارة، والمراد هنا: اتبع قوله. 183 الأصل: حتى إذا مضى لسبيله، جعلها في جماعة زعم أنى أحدهم، فيا لله وللشورى! متى اعترض الريب في مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر! لكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا، فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن. الشرح: لا للام في " يا لله " مفتوحة، واللام في و " للشورى " مكسورة، لان الأولى للمدعو، والثانية للمدعو إليه، قال: يا للرجال ليوم الأربعاء أما ينفك يحدث لي بعد النهى طربا اللام في " للرجال " مفتوحة، وفي " ليوم " مكسورة. وأسف الرجل، إذا دخل في الامر الدنئ أصله من " أسف الطائر " إذا دنا من الأرض في طيرانه. والضغن: الحقد. وقوله: " مع هن وهن "، أي مع أمور يكنى عنها ولا يصرح بذكرها، وأكثر ما يستعمل ذلك في الشر، قال (1): * على هنوات شرها متتابع * يقول عليه السلام: إن عمر لما طعن جعل الخلافة في ستة، هو عليه السلام أحدهم، ثم تعجب من ذلك، فقال: متى اعترض الشك في مع أبي بكر، حتى أقرن بسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأمثالهما! لكني طلبت الامر وهو موسوم بالأصاغر منهم، كما طلبته أولا وهو موسوم بأكابرهم، أي هو حقي فلا أستنكف من طلبه، إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة. وصغا الرجل بمعنى مال، الصغو: الميل، بالفتح والكسر.
(1) البيت في اللسان (20: 243) من غير نسبه، وأوله: * أرى ابن نزار قد جفاني وملني * 184 [قصة الشورى] وصورة هذه الواقعة أن عمر لما طعنه أبو لؤلؤة، وعلم أنه ميت، استشار فيمن يوليه الامر بعده، فأشير عليه بابنه عبد الله، فقال: لاها الله إذا لا يليها رجلان من ولد الخطاب! حسب عمر ما حمل! حسب عمر ما احتقب، لاها الله! لا أتحملها حيا وميتا! ثم قال: إن رسول الله مات وهو راض عن هذه الستة من قريش: على، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، وقد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم. ثم قال: إن أستخلف فقد استخلف من هو خير منى - يعنى أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خير منى - يعنى رسول الله صلى الله عليه وآله - ثم قال: ادعوهم لي، فدعوهم، فدخلوا عليه وهو ملقى على فراشه يجود بنفسه. فنظر إليهم فقال: أكلكم يطمع في الخلافة بعدي! فوجموا، فقال لهم ثانية، فأجابه الزبير وقال: وما الذي يبعدنا منها! وليتها أنت فقمت بها، ولسنا دونك في قريش ولا في السابقة ولا في القرابة. - قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ: والله لولا علمه أن عمر يموت في مجلسه ذلك لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلام بكلمة، ولا أن ينبس منه بلفظه -. فقال عمر: أفلا أخبركم عن أنفسكم! قال: قل، فإنا لو استعفيناك لم تعفنا. فقال: أما أنت يا زبير فوعق لقس (1)، مؤمن الرضا، كافر الغضب، يوما إنسان ويوما شيطان، ولعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير! أفرأيت إن أفضت إليك، فليت شعري، من يكون للناس يوم تكون شيطانا، ومن يكون يوم تغضب! وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة، وأنت على هذه الصفة. ثم أقبل على طلحة - وكان له مبغضا منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر - فقال له: أقول أم أسكت: قال: قل، فإنك لا تقول من الخير شيئا، قال: أما إني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أحد وائيا (2) بالذي حدث لك، ولقد مات رسول الله صلى الله عليه وآله
(1) الوعق: الضجر المتبرم، واللقس: من لا يستقيم على وجه. (2) وائيا: غاضبا. 185 ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب. قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه الله تعالى: الكلمة المذكورة أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله: ما الذي يعنيه حجابهن اليوم، وسيموت غدا فننكحهن! قال أبو عثمان أيضا: لو قال لعمر قائل: أنت قلت: إن رسول الله صلى الله عليه وآله مات وهو راض عن الستة، فكيف تقول الآن لطلحة أنه مات عليه السلام ساخطا عليك للكلمة التي قلتها - لكان قد رماه بمشاقصه (1) ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا، فكيف هذا! قال: ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال: إنما أنت صاحب مقنب (2) من هذه المقانب، تقاتل به، وصاحب قنص وقوس وأسهم، وما زهرة (3)، والخلافة وأمور الناس! ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف، فقال: وأما أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به، ولكن ليس يصلح هذا الامر لمن فيه ضعف كضعفك، وما زهرة وهذا الامر! ثم أقبل على علي عليه السلام، فقال: لله أنت لولا دعابة فيك! أما والله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح، والمحجة البيضاء. ثم أقبل على عثمان، فقال: هيها إليك! كأني بك قد قلدتك قريش هذا الامر لحبها إياك، فحملت بنى أمية وبنى أبى معيط على رقاب الناس، وآثرتهم بالفئ، فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب، فذبحوك على فراشك ذبحا. والله لئن فعلوا لتفعلن، ولئن فعلت ليفعلن، ثم أخذ بناصيته، فقال: فإذا كان ذلك فاذكر قولي، فإنه كائن. ذكر هذا الخبر كله شيخنا أبو عثمان في كتاب " السفيانية " (4) وذكره جماعة غيره في باب فراسة عمر، وذكر أبو عثمان في هذا الكتاب عقيب رواية هذا الخبر قال: وروى
(1) المشاقص: جمع مشقص، وهو نصل السهم إذا كان طويلا (2) المقنب: جماعة خيل (3) زهرة: قبيلة سعد بن أبي وقاص (4) كتاب السفيانية... 186 معمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس، قال: سمعت عمر ابن الخطاب يقول لأهل الشورى: إنكم إن تعاونتم وتوازرتم وتناصحتم أكلتموها وأولادكم، وإن تحاسدتم وتقاعدتم وتدابرتم وتباغضتم، غلبكم على هذا الامر معاوية بن أبي سفيان، وكان معاوية حينئذ أمير الشام. ثم رجع بنا الكلام إلى تمام قصة الشورى. ثم قال: ادعوا إلى أبا طلحة الأنصاري، فدعوه له فقال: انظر يا أبا طلحة، إذا عدتم من حفرتي، فكن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفكم، فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الامر وتعجيله، واجمعهم في بيت، وقف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا ويختاروا واحدا منهم، فإن اتفق خمسة وأبى واحد فاضرب عنقه، وإن اتفق أربعة وأبى اثنان فاضرب أعناقهما، وإن اتفق ثلاثة وخالف ثلاثة، فانظر، الثلاثة التي فيها عبد الرحمن، فارجع إلى ما قد اتفقت عليه، فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها، وإن مضت ثلاثة أيام ولم يتفقوا على أمر، فاضرب أعناق الستة ودع المسلمين يختاروا لأنفسهم. فلما دفن عمر، جمعهم أبو طلحة، ووقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار، حاملي سيوفهم، ثم تكلم القوم وتنازعوا، فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان، وذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به، عليا وعثمان، وأن الخلافة لا تخلص له وهذان موجودان، فأراد تقوية أمر عثمان وإضعاف جانب علي عليه السلام، بهبة أمر لا انتفاع له به، ولا تمكن له منه. فقال الزبير في معارضته: وأنا أشهدكم على نفسي أنى قد وهبت حقي من الشورى لعلى، وإنما فعل ذلك لأنه لما رأى عليا قد ضعف وانخزل بهبة طلحة حقه لعثمان، دخلته حمية النسب، لأنه ابن عمة أمير المؤمنين عليه السلام، وهي صفية بنت عبد المطلب، وأبو طالب خاله. وإنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي عليه السلام، باعتبار أنه
187 تيمي، وابن عم أبى بكر الصديق، وقد كان حصل في نفوس بني هاشم من بنى تيم حنق شديد لأجل الخلافة، وكذلك صار في صدور تيم على بني هاشم، وهذا أمر مركوز في طبيعة البشر، وخصوصا طينة العرب وطباعها، والتجربة إلى الآن تحقق ذلك، فبقي من الستة أربعة. فقال سعد بن أبي وقاص: وأنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمى عبد الرحمن - وذلك لأنهما من بنى زهرة، ولعلم سعد أن الامر لا يتم له - فلما لم يبق إلا الثلاثة. قال عبد الرحمن لعلى وعثمان: أيكما يخرج نفسه من الخلافة، ويكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين؟ فلم يتكلم منهما أحد، فقال عبد الرحمن: أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة، على أن أختار أحدهما، فأمسكا، فبدأ بعلي عليه السلام، وقال له: أبايعك على كتاب الله، وسنة رسول الله، وسيرة الشيخين: أبى بكر وعمر. فقال: بل على كتاب الله وسنة رسوله واجتهاد رأيي. فعدل عنه إلى عثمان، فعرض ذلك عليه، فقال: نعم، فعاد إلى علي عليه السلام، فأعاد قوله، فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثا، فلما رأى أن عليا غير راجع عما قاله، وأن عثمان ينعم له (1) بالإجابة صفق على يد عثمان، وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فيقال: إن عليا عليه السلام قال له. والله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه، دق الله بينكما عطر منشم (2). قيل: ففسد بعد ذلك بين عثمان وعبد الرحمن، فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن. * * *
(1) أنعم له، إذا قال مجيبا " نعم ". (2) قال الأصمعي: منشم، بكسر الشين: اسم امرأة كانت بمكة عطارة، وكانت خزاعة وجرهم إذا أرادوا القتال تطيبوا من طيبها، وكانوا إذا فعلوا ذلك كثرت القتلى فيما بينهم، فكان يقال: أشأم من عطر منشم، فصار مثلا. صحاح الجوهري 5: 2041 188 ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل. أما قوله عليه السلام " فصغا رجل منهم لضغنه "، فإنه يعنى طلحة. وقال القطب الراوندي: يعنى سعد بن أبي وقاص، لان عليا عليه السلام قتل أباه يوم بدر. وهذا خطأ فإن أباه أبو وقاص، واسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب ابن لؤي بن غالب، مات في الجاهلية حتف أنفه. وأما قوله: " ومال الآخر لصهره " فإنه يعنى عبد الرحمن مال إلى عثمان، لان أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت تحته، وأم كلثوم هذه هي أخت عثمان من أمه، أروى بنت كريز. وروى القطب الراوندي أن عمر لما قال: كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها، قال ابن عباس لعلى عليه السلام: ذهب الامر منا، الرجل يريد أن يكون الامر في عثمان، فقال علي عليه السلام: وأنا أعلم ذلك، ولكني أدخل معهم في الشورى، لان عمر قد أهلني الآن للخلافة، وكان قبل ذلك (1) يقول: إن رسول الله صلى الله عليه قال: إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت، فأنا (2) أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته. الذي ذكره (3) الراوندي غير معروف، ولم ينقل عمر هذا عن رسول الله صلى الله عليه، ولكنه قال لعبد الله بن عباس يوما: يا عبد الله، ما تقول في منع قومكم منكم؟ قال: لا أعلم يا أمير المؤمنين، قال: اللهم غفرا! إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة، فتذهبون في السماء بذخا وشمخا، لعلكم تقولون: إن أبا بكر أراد الامرة عليكم، وهضمكم! كلا، لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل، ولولا رأى أبى بكر
(1) كلمة " ذلك " ساقطة من ب (2) ا: " وأنا " (3) ب " رواه " 189 في بعد موته لأعاد أمركم إليكم، ولو فعل ما هنأكم مع قومكم، إنهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره. فأما الرواية التي جاءت بأن طلحة لم يكن حاضرا يوم الشورى، فإن صحت فذو الضغن هو سعد بن أبي وقاص، لان أمه حمية بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، والضغينة التي عنده على علي عليه السلام من قبل أخواله الذين قتل صناديدهم، وتقلد دماءهم، ولم يعرف أن عليا عليه السلام قتل أحدا من بنى زهرة لينسب الضغن إليه. * * * وهذه الرواية هي التي اختارها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب " التاريخ " قال: لما طعن عمر (1) قيل له: لو استخلفت: [يا أمير المؤمنين] (2) فقال [من أستخلف] (2)! لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته (3) وقلت لربي لو سألني: سمعت نبيك يقول: " أبو عبيدة أمين هذه الأمة "، ولو كان سالم مولى أبى حذيفة حيا استخلفته، (5) وقلت لربي إن سألني: سمعت نبيك عليه السلام يقول: " إن سالما شديد الحب لله "، فقال له رجل: ول (6) عبد الله بن عمر، فقال: قاتلك الله! والله ما الله أردت بهذا الامر! [ويحك] (2)! كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته! لا أرب لعمر في خلافتكم (7)، ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي، إن تك خيرا فقد أصبنا منه، وإن تك شرا يصرف عنا، حسب آل عمر أن يحاسب منهم [رجل] (2) واحد، ويسأل عن أمر أمة محمد. فخرج الناس من عنده، ثم راحوا إليه فقالوا له: لو عهدت عهدا! قال: قد كنت أجمعت بعد مقالتي [لكم] (2) أن أولى أمركم رجلا، هو أحراكم أن يحملكم على الحق -
(1) تاريخ الرسل والملوك 5: 33 وما بعدها، مع تصرف واختصار. (2) تكملة من تاريخ الطبري (3) الطبري: " استخلفته " (4) الطبري: " إنه أمين هذه الأمة " (5) الطبري: " فإن سألني ربى قلت... " (6) الطبري: " أدلك عليه عبد الله بن عمر " (7) الطبري: " أموركم ". 190 وأشار إلى علي عليه السلام - فرهقتني غشية، فرأيت رجلا يدخل جنة، فجعل يقطف كل غضة ويانعة، فيضمها إليه، ويصيرها تحته، فخفت أن أتحملها حيا وميتا، وعلمت أن الله غالب أمره عليكم بالرهط الذي قال رسول الله عنهم: إنهم من أهل الجنة، ثم ذكر خمسة: عليا، وعثمان، وعبد الرحمن، والزبير، وسعدا. قال: ولم يذكر في هذا المجلس طلحة، ولا كان طلحة يومئذ بالمدينة. ثم قال لهم: انهضوا إلى حجرة عائشة فتشاوروا فيها: ووضع رأسه وقد نزفه الدم، فقال العباس لعلى عليه السلام: لا تدخل معهم، وارفع نفسك عنهم، قال: إني أكره الخلاف، قال: إذن ترى ما تكره، فدخلوا الحجرة فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم، فقال عبد الله بن عمر: إن أمير المؤمنين لم يمت بعد، ففيم هذا اللغط! وانتبه عمر، وسمع الأصوات، فقال: ليصل بالناس صهيب، ولا يأتين اليوم الرابع من يوم موتى إلا وعليكم أمير، وليحضر عبد الله بن عمر مشيرا وليس له شئ من الامر وطلحة بن عبيد الله شريككم في الامر، فإن قدم إلى ثلاثة أيام فأحضروه أمركم، وإلا فارضوه، ومن لي برضا طلحة! فقال سعد: أنا لك به، ولن يخالف إن شاء الله تعالى. ثم ذكر وصيته لأبي طلحة الأنصاري وما خص به عبد الرحمن بن عوف من كون الحق في الفئة التي هو فيها وأمره بقتل من يخالف، ثم خرج الناس فقال علي عليه السلام لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم قومكم من قريش لم تؤمروا أبدا. وقال للعباس: عدل بالامر عنى يا عم. قال: وما علمك؟ قال: قرن بي عثمان. وقال عمر كونوا مع الأكثر، فإن رضى رجلان رجلا ورجلان رجلا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن، فسعد لا يخالف ابن عمه، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان، فيوليها أحدهما الآخر، فلو كان الآخران معي لم يغنيا شيئا، فقال العباس: لم أرفعك إلى شئ إلا رجعت إلى
191 مستأخرا بما أكره، أشرت عليك عند مرض رسول الله صلى الله عليه أن تسأله عن هذا الامر فيمن هو، فأبيت، وأشرت عليك عند وفاته أن تعاجل البيعة (1) فأبيت، وقد أشرت عليك حين سماك عمر في الشورى اليوم، أن ترفع نفسك عنها، ولا تدخل معهم فيها، فأبيت، فاحفظ عنى واحدة، كلما عرض عليك القوم الامر فقل: لا، إلا أن يولوك. واعلم أن هؤلاء لا يبرحون يدفعونك عن هذا الامر حتى يقوم لك به غيرك، وأيم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير، فقال عليه السلام: أما إني أعلم أنهم سيولون عثمان، وليحدثن البدع والاحداث، ولئن بقي لأذكرنك، وإن قتل أو مات ليتداولنها بنو أمية بينهم، وإن كنت حيا لتجدني حيث تكرهون، ثم تمثل: حلفت برب الراقصات عشية * غدون خفافا يبتدرن المحصبا (2) ليجتلبن رهط ابن يعمر غدوة * نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا. قال: ثم التفت فرأى أبا طلحة الأنصاري، فكره مكانه، فقال أبو طلحة لا نزاع أبا حسن، فلما مات عمر، ودفن وخلوا بأنفسهم للمشاورة في الامر، وقام أبو طلحة يحجبهم بباب البيت، جاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، فجلسا بالباب، فحصبهما سعد وأقامهما، وقال: إنما تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أصحاب الشورى. فتنافس القوم في الامر وكثر بينهم الكلام، فقال أبو طلحة: أنا كنت لان تدافعوها أخوف منى عليكم أن تنافسوها! ألا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي وقفت لكم، فاصنعوا ما بدا لكم! قال: ثم إن عبد الرحمن قال لابن عمه سعد بن أبي وقاص: إني قد كرهتها، وسأخلع نفسي منها، لأني رأيت الليلة روضة خضراء كثيرة العشب، فدخل فحل ما رأيت
(1) الطبري: " الامر " (2) الطبري: " فابتدرن ". 192 أكرم منه، فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شئ منها حتى قطعها، لم يعرج ودخل بعير يتلوه تابع أثره حتى خرج منها. ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه، ومضى قصد الأولين، ثم دخل بعير رابع، فوقع في الروضة يرتع ويخضم، ولا والله لا أكون الرابع، وإن أحدا لا يقوم مقام أبى بكر وعمر فيرضى الناس عنه. ثم ذكر خلع عبد الرحمن نفسه من الامر، على أن يوليها أفضلهم في نفسه، وأن عثمان أجاب إلى ذلك، وأن عليا عليه السلام سكت، فلما روجع رضى على موثق أعطاه عبد الرحمن، أن يؤثر الحق، ولا يتبع الهوى، ولا يخص ذا رحم، ولا يألو الأمة نصحا، وأن عبد الرحمن ردد القول بين على وعثمان متلوما، وأنه خلا بسعد تارة، وبالمسور بن مخرمة الزهري تارة أخرى، وأجال فكره، وأعمل نظره، ووقف موقف الحائر بينهما، قال: قال علي عليه السلام لسعد بن أبي وقاص: يا سعد، اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلى الله عليه وبرحم عمى حمزة منك، ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا. - قلت: رحم حمزة من سعد، هي أن أم حمزة هالة بنت أهيب بن عبد مناف ابن زهرة، وهي أيضا أم المقوم، وحجل - واسمه المغيرة - والغيداق أبناء عبد المطلب بن هاشم ابن عبد مناف، هؤلاء الأربعة بنو عبد المطلب من هالة، وهالة هذه هي عمة سعد بن أبي وقاص، فحمزة إذن ابن عمة سعد، وسعد ابن خال حمزة. - قال أبو جعفر: فلما أتى اليوم الثالث، جمعهم عبد الرحمن، واجتمع الناس كافة، فقال عبد الرحمن: أيها الناس، أشيروا على في هذين الرجلين! فقال عمار بن ياسر: إن أردت ألا يختلف الناس، فبايع عليا عليه السلام، فقال المقداد: صدق عمار، وإن بايعت عليا سمعنا وأطعنا، فقال عبد الله بن أبي سرح: إن أردت ألا يختلف قريش،
193 فبايع عثمان، قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي: صدق، إن بايعت عثمان سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح، وقال له: متى كنت تنصح الاسلام! فتكلم بنو هاشم وبنو أمية، وقام عمار، فقال: أيها الناس، إن الله أكرمكم بنبيه، وأعزكم بدينه، فإلى متى تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم! فقال رجل من بنى مخزوم: لقد عدوت طورك يا بن سمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها! فقال سعد: يا عبد الرحمن، افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس. فحينئذ عرض عبد الرحمن على علي عليه السلام العمل بسيرة الشيخين، فقال: بل أجتهد برأيي. فبايع عثمان بعد أن عرض عليه، فقال: نعم، فقال علي عليه السلام: ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليته الامر إلا ليرده إليك، والله كل يوم في شأن. فقال عبد الرحمن: لا تجعلن على نفسك سبيلا يا علي - يعنى أمر عمر أبا طلحة أن يضرب عنق المخالف - فقام علي عليه السلام فخرج، وقال: سيبلغ الكتاب أجله، فقال عمار: يا عبد الرحمن، أما والله لقد تركته، وإنه من الذين يقضون بالحق وبه كانوا يعدلون. فقال المقداد: تالله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم، وا عجبا لقريش! لقد تركت رجلا ما أقول ولا أعلم أن أحدا أقضى بالعدل ولا أعلم ولا أتقى منه! أما والله لو أجد أعوانا! فقال عبد الرحمن: اتق الله يا مقداد، فإني خائف عليك الفتنة. وقال علي عليه السلام: إني لأعلم ما في أنفسهم إن الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر في صلاح شأنها، فتقول: إن ولى الامر بنو هاشم لم يخرج منهم أبدا، وما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش. قال: وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان فتلكأ ساعة، ثم بايع. * * *
194 وروى أبو جعفر رواية أخرى أطالها، وذكر خطب أهل الشورى وما قاله كل منهم، وذكر كلاما قاله علي عليه السلام في ذلك اليوم، وهو: الحمد لله الذي اختار محمدا منا نبيا، وابتعثه إلينا رسولا، فنحن أهل بيت النبوة ومعدن الحكمة، أمان لأهل الأرض، ونجاة لمن طلب، إن لنا حقا إن نعطه نأخذه، وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل، وإن طال السرى، لو عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وآله عهدا لأنفذنا عهده، ولو قال لنا قولا لجالدنا عليه حتى نموت، لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق وصلة رحم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. اسمعوا كلامي وعوا منطقي، عسى أن تروا هذا الامر بعد هذا الجمع تنتضى فيه السيوف، وتخان فيه العهود، حتى لا يكون لكم جماعة، وحتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة وشيعة لأهل الجهالة. * * * قلت: وقد ذكر الهروي (1) في كتاب " الجمع بين الغريبين " قوله: " وإن نمنعه نركب أعجاز الإبل "، وفسره على وجهين: أحدهما: أن من ركب عجز البعير يعاني مشقة، ويقاسي جهدا، فكأنه قال: وإن نمنعه نصبر على المشقة، كما يصبر عليها راكب عجز البعير. والوجه الثاني أنه أراد: نتبع غيرنا، كما أن راكب عجز البعير يكون رديفا لمن هو أمامه، فكأنه قال: وإن نمنعه نتأخر ونتبع غيرنا، كما يتأخر راكب البعير! * * *
(1) هو أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي، صيف كتابه في الجمع بين غريبي القرآن والحديث. 195 وقال أبو هلال العسكري في كتاب " الأوائل ": استجيبت دعوة علي عليه السلام في عثمان وعبد الرحمن، فما ماتا إلا متهاجرين متعاديين، أرسل عبد الرحمن إلى عثمان يعاتبه وقال لرسوله: قل له: لقد وليتك ما وليتك من أمر الناس، وإن لي لأمور اما هي لك، شهدت بدرا وما شهدتها، وشهدت بيعة الرضوان وما شهدتها، وفررت يوم أحد وصبرت، فقال عثمان لرسوله، قل له: أما يوم بدر فإن رسول الله صلى الله عليه ردني إلى ابنته لما بها من المرض، وقد كنت خرجت للذي خرجت له، ولقيته عند منصرفه، فبشرني بأجر مثل أجوركم، وأعطاني سهما مثل سهامكم. وأما بيعة الرضوان فإنه صلى الله عليه بعثني أستأذن قريشا في دخوله إلى مكة، فلما قيل له: إني قتلت، بايع المسلمين على الموت لما سمعه عنى، وقال: إن كان حيا فأنا أبايع عنه، وصفق بإحدى يديه على الأخرى، وقال: يساري خير من يمين عثمان، فيدك أفضل أم يد رسول الله صلى الله عليه! وأما صبرك يوم أحد وفراري، فلقد كان ذلك فأنزل الله تعالى العفو عنى في كتابه، فعيرتني بذنب غفره الله لي، ونسيت من ذنوبك ما لا تدرى أغفر لك أم لم يغفر. لما بنى عثمان قصره طمار بالزوراء، وصنع طعاما كثيرا، ودعا الناس إليه، كان فيهم عبد الرحمن، وفلما نظر للبناء والطعام قال: يا بن عفان، لقد صدقنا عليك، ما كنا نكذب فيك، وإني أستعيذ بالله من بيعتك. فغضب عثمان، وقال: أخرجه عنى يا غلام، فأخرجوه، وأمر الناس ألا يجالسوه، فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس، كان يأتيه فيتعلم منه القرآن والفرائض. ومرض عبد الرحمن فعاده عثمان، وكلمه فلم يكلمه حتى مات. * * *
196 الأصل: إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه، بين نثيله ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله، وكبت به بطنته. الشرح: نافجا حضنيه: رافعا لهما، والحضن: ما بين الإبط والكشح، يقال للمتكبر: جاء نافجا حضنيه، ويقال لمن امتلأ بطنه طعاما: جاء نافجا حضنيه، ومراده عليه السلام هذا الثاني. والنثيل: الروث. والمعتلف: موضع العلف، يريد أن همه الاكل والرجيع، وهذا من ممض الذم، وأشد من قول الحطيئة الذي قيل إنه أهجى بيت للعرب: دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي (1) والخضم: أكل بكل الفم، وضده القضم، وهو الاكل بأطراف الأسنان. وقيل: الخضم أكل الشئ الرطب، والقضم أكل الشئ اليابس، والمراد على التفسيرين لا يختلف، وهو أنهم على قدم عظيمة من النهم وشدة الاكل وامتلاء الأفواه. وقال أبو ذر رحمه الله تعالى عن بنى أمية: يخضمون ونقضم، والموعد الله. والماضي " خضمت " بالكسر، ومثله قضمت. والنبتة، بكسر النون كالنبات، تقول: نبت الرطب نباتا ونبتة. وانتكث فتله: انتقض، وهذه استعارة. وأجهز عليه عمله: تمم قتله. يقال: أجهزت على الجريح، مثل ذففت إذا أتممت قتله وكبت به بطنته، كبا الجواد إذا سقط لوجهه. والبطنة الاسراف في الشبع. * * *
(1) ديوانه 54 197 [نتف من أخبار عثمان بن عفان] وثالث القوم هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، كنيته أبو عمرو، وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. بايعه الناس بعد انقضاء الشورى واستقرار الامر له، وصحت فيه فراسة عمر، فإنه أوطأ بنى أمية رقاب الناس، وولاهم الولايات وأقطعهم القطائع، وافتتحت إفريقية في أيامه، فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان، فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي: أحلف بالله رب الأنام * ما ترك الله شيئا سدى ولكن خلقت لنا فتنة * لكي نبتلي بك أو تبتلى فإن الأمينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى فما أخذا درهما غيلة * ولا جعلا درهما في هوى وأعطيت مروان خمس البلاد * فهيهات سعيك ممن سعى! الأمينان: أبو بكر وعمر. وطلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة، فأعطاه أربعمائة ألف درهم. وأعاد الحكم بن أبي العاص، بعد أن كان (1) رسول الله صلى الله عليه وآله، قد سيره ثم لم يرده أبو بكر ولا عمر، وأعطاه مائة ألف درهم. وتصدق رسول الله صلى الله عليه وآله بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين، فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم. وأقطع مروان فدك (2)، وقد كانت فاطمة عليها السلام طلبتها بعد وفاة أبيها صلوات الله
(1) كلمة " كان " ساقطة من ب (2) فدك: قربة بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، أفاءها الله على رسوله في سنة سبع صلحا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل خيبر، وفتح حصونها، ولم يبق إلا ثلث، واشتد بهم الحصار، راسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه أن ينزلهم على الجلاء، وفعل، وبلغ ذلك أهل فدك، فأرسلوا إلى رسول الله أن يصالحهم على النصف من ثمارها وأموالهم فأجابهم إلى ذلك، فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه. معجم البلدان 6: 343. 198 عليه تارة بالميراث، وتارة بالنحلة فدفعت عنها. وحمى المراعى حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بنى أمية. وأعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب، وهي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين. وأعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال، في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال، وقد كان زوجه ابنته أم أبان، فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح، فوضعها بين يدي عثمان وبكى، فقال عثمان: أتبكي أن وصلت رحمي! قال: لا، ولكن أبكى لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله. والله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا، فقال: ألق المفاتيح يا بن أرقم، فإنا سنجد غيرك. وأتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة، فقسمها كلها في بنى أمية. وأنكح الحارث ابن الحكم ابنته عائشة، فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنه. وانضم إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون، كتسيير أبي ذر رحمه الله تعالى إلى الربذة، وضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه، وما أظهر من الحجاب والعدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود، ورد المظالم، وكف الأيدي العادية والانتصاب لسياسة الرعية، وختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين، واجتمع عليه كثير من أهل المدينة مع القوم الذين وصلوا من مصر لتعديد أحداثه عليه فقتلوه. وقد أجاب أصحابنا عن المطاعن في عثمان بأجوبة مشهورة مذكورة في كتبهم. والذي نقول نحن: إنها وإن كانت أحداثا، إلا أنها لم تبلغ المبلغ الذي يستباح به دمه،
199 وقد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة حيث لم يستصلحوه لها، ولا يعجلوا بقتله، وأمير المؤمنين عليه السلام أبرأ الناس من دمه، وقد صرح بذلك في كثير من كلامه، من ذلك قوله عليه السلام: والله ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله. وصدق صلوات الله عليه. * * * الأصل: فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إلى، ينثالون على من كل جانب، حتى لقد وطئ الحسنان، وشق عطفاي، مجتمعين حولي كربيضة الغنم. فلما نهضت بالامر نكثت طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون، كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) (1)، بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم، وراقهم زبرجها!. * * * الشرح: عرف الضبع: ثخين، ويضرب به المثل في الازدحام. وينثالون يتتابعون مزدحمين. والحسنان: الحسن والحسين عليهما السلام. والعطفان: الجانبان من المنكب إلى الورك، ويروى " عطافي "، والعطاف الرداء وهو أشبه بالحال، إلا أن الرواية الأولى أشهر، والمعنى خدش جانباي لشدة الاصطكاك منهم والزحام. * * * وقال القطب الراوندي: الحسنان: إبهاما الرجل، وهذا لا أعرفه.
(1) سورة القصص 83 200 وقوله: " كربيضة الغنم " أي كالقطعة الرابضة من الغنم، يصف شدة ازدحامهم حوله، وجثومهم بين يديه. وقال القطب الراوندي: يصف بلادتهم ونقصان عقولهم، لان الغنم توصف بقلة الفطنة. وهذا التفسير بعيد وغير مناسب للحال. فأما الطائفة الناكثة، فهم أصحاب الجمل، وأما الطائفة القاسطة فأصحاب صفين. وسماهم رسول الله صلى الله عليه وآله القاسطين. وأما الطائفة المارقة فأصحاب النهروان، وأشرنا نحن بقولنا: سماهم رسول الله صلى الله عليه وآله القاسطين إلى قوله عليه السلام: " ستقاتل بعدي الناكثين، والقاسطين والمارقين ". وهذا الخبر من دلائل نبوته صلوات الله عليه، لأنه إخبار صريح بالغيب، لا يحتمل التمويه والتدليس، كما تحتمله الاخبار المجملة، وصدق قوله عليه السلام: والمارقين "، قوله أولا في الخوارج: " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية "، وصدق قوله عليه السلام الناكثين كونهم نكثوا البيعة بادئ بدء، وقد كان عليه السلام يتلو وقت مبايعتهم له: (ومن نكث فإنما ينكث على نفسه) (1). وأما أصحاب صفين، فإنهم عند أصحابنا رحمهم الله مخلدون في النار لفسقهم، فصح فيهم قوله تعالى: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا) (2). وقوله عليه السلام: " حليت الدنيا في أعينهم " تقول: حلا الشئ في فمي يحلو، وحلي لعيني يحلى. والزبرج: الزينة من وشى أو غيره ويقال: الزبرج الذهب. فأما الآية فنحن نذكر بعض ما فيها، فنقول: إنه تعالى لم يعلق الوعد بترك العلو في الأرض والفساد، ولكن بترك إرادتهما، وهو كقوله تعالى: (ولا تركنوا إلى الذين)
(1) سورة الفتح 10 (2) سورة الجن 15 201 ظلموا فتمسكم النار) (1) علق الوعيد بالركون إليهم والميل معهم، وهذا شديد في الوعيد. ويروى عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال: إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أحسن من شراك نعل صاحبه فيدخل تحت هذه الآية. ويقال: إن عمر بن عبد العزيز كان يرددها حتى قبض. * * * الأصل: أما والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر، وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم، ولا سغب مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أولها، ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز. * * * الشرح: فلق الحبة، من قوله تعالى: (فالق الحب والنوى) (2)، والنسمة: كل ذي روح من البشر خاصة. قوله: " لولا حضور الحاضر "، يمكن أن يريد به لولا حضور البيعة - فإنها بعد عقدها تتعين المحاماة عنها - ويمكن أن يريد بالحاضر من حضره من الجيش الذين يستعين بهم على الحرب. والكظة بكسر الكاف: ما يعتري الانسان من الثقل والكرب عند الامتلاء من الطعام. والسغب: الجوع. وقولهم: قد ألقى فلان حبل فلان على غاربه،
(1) سورة هود 113 (2) سورة الأنعام 95 202 أي تركه هملا يسرح حيث يشاء من غير وازع ولا مانع، والفقهاء يذكرون هذه اللفظة في كنايات الطلاق. وعفطة عنز: ما تنثره من أنفها عفطت تعفط بالكسر، وأكثر ما يستعمل ذلك في النعجة، فأما العنز فالمستعمل الأشهر فيها " النفطة " بالنون، ويقولون: ما له عافط ولا نافط، أي نعجة ولا عنز. فإن قيل: أيجوز أن يقال العفطة هاهنا الحبقة؟ فإن ذلك يقال في العنز خاصة، عفطت تعفط. قيل: ذلك جائز، إلا أن الأحسن والأليق بكلام أمير المؤمنين عليه السلام التفسير الأول، فإن جلالته وسؤدده تقتضي أن يكون ذاك أراد لا الثاني. فإن صح أنه لا يقال في العطسة عفطة إلا للنعجة. قلنا: إنه استعمله في العنز مجازا. يقول عليه السلام: لولا وجود من ينصرني - لا كما كانت الحال عليها أولا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، فإني لم أكن حينئذ واجدا للناصر مع كوني مكلفا ألا أمكن الظالم من ظلمه - لتركت الخلافة، ولرفضتها الآن كما رفضتها قبل، ولوجدتم هذه الدنيا عندي أهون من عطسة عنز، وهذا إشارة إلى ما يقوله أصحابنا من وجوب النهى عن المنكر عند التمكن. * * * الأصل: قالوا: وقام إليه رجل من أهل السواد عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته، فناوله كتابا فأقبل ينظر فيه، قال له ابن عباس رضي الله عنهما: يا أمير المؤمنين، لو اطردت خطبتك من حيث أفضيت! فقال: هيهات يا بن عباس! تلك شقشقة هدرت ثم قرت. قال ابن عباس: فوالله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام ألا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد. * * *
203 قال الرضى: قوله عليه السلام في هذه الخطبة: " كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم "، يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها، وإن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها. يقال: أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه، شنقها أيضا، ذكر ذلك ابن السكيت في " إصلاح المنطق ". وإنما قال عليه السلام: " أشنق لها " ولم يقل " أشنقها " لأنه جعله في مقابلة قوله: " أسلس لها "، فكأنه قال: إن رفع لها رأسها بالزمام أمسكه عليها بالزمام، وفى الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وقد شنق لها فهي تقصع بجرتها. ومن الشاهد على أن " أشنق " بمعنى شنق قول عدى بن زيد العبادي: ساءها ما لها تبين في الأيدي وإشناقها إلى الأعناق * * * الشرح: سمى السواد سوادا لخضرته بالزروع والأشجار والنخل، والعرب تسمى الأخضر أسود، قال سبحانه: (مدهامتان) يريد الخضرة. وقوله: " لو اطردت مقالتك، أي أتبعت الأول قولا ثانيا! من قولهم: اطرد النهر إذا تتابع جريه. وقوله: " من حيث أفضيت " أصل أفضى خرج إلى الفضاء، فكأنه شبهه عليه السلام حيث سكت عما كان يقوله، بمن خرج من خباء أو جدار إلى فضاء من الأرض، وذلك لان النفس والقوى والهمة عند ارتجال الخطب، والاشعار تجتمع إلى القلب، فإذا قطع الانسان وفرغ، تفرقت وخرجت عن حجر الاجتماع واستراحت.
204 والشقشقة بالسكر فيهما: شئ يخرجه البعير من فيه إذا هاج، وإذا قالوا للخطيب: ذو شقشقة فإنما شبهوه بالفحل. والهدير: صوتها. وأما قول ابن عباس: " ما أسفت على كلام... " إلى آخره، فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي (1) في سنة ثلاث وستمائة، قال: قرأت على الشيخ أبى محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة، فلما انتهيت إلى هذا الموضع، قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد! والله ما رجع عن الأولين ولا عن الآخرين، ولا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله صلى الله عليه وآله. قال مصدق: وكان ابن الخشاب صاحب دعابة وهزل، قال: فقلت له: أتقول أنها منحولة! فقال: لا والله، وإني لأعلم أنها كلامه، كما أعلم أنك مصدق. قال فقلت له: إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضى، رحمه الله تعالى. فقال: إني للرضي ولغير الرضى هذا النفس وهذا الأسلوب! قد وقفنا على رسائل الرضى، وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر: ثم قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضى بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط من هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضى. قلت: وقد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبى القاسم (2) البلخي
(1) مصدق بن شبيب بن الحسين الصلحي الواسطي، ذكره القفطي في إنباه الرواة (3: 274)، وقال إنه قدم بغداد، وقرأ بها على ابن الخشاب وحبشي بن محمد الضرير، وعبد الرحمن بن الأنباري وغيرهم، وتوفى ببغداد سنة 605 (3) أبو القاسم البلخي، ذكره ابن النديم وقال: " كان من أهل بلخ، يطوف البلاد ويجول الأرض، حسن المعرفة عبد الله بن أحمد بالفلسفة والعلوم القديمة... ورأيت بخطه شيئا كثيرا في علوم كثيرة مسودات ودساتير، يخرج منها إلى الناس كتاب تام " الفهرست 299. وابن خلكان 1: 252 205 إمام البغداديين من المعتزلة، وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضى بمدة طويلة. ووجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبى جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية (1) وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب " الانصاف ". وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبى القاسم البلخي رحمه الله تعالى، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضى رحمة الله تعالى موجودا. * * *
(1) هو أبو جعفر بن قبة، من متكلمي الشيعة وحذاقهم، وله من الكتب كتاب الانصاف في الإمامة، الفهرست 176 206 (4) الأصل: من خطبة له عليه السلام: بنا اهتديتم في الظلماء، وتسنمتم ذروة العلياء (1)، وبنا انفجرتم عن السرار. وقر سمع لم يفقه الواعية، وكيف يراعى النبأة من أصمته الصيحة. ربط جنان لم يفارقه الخفقان. ما زلت أنتظر بكم عواقب الغدر، وأتوسمكم بحلية المغترين. حتى (2) سترني عنكم جلباب الدين، وبصرنيكم صدق النية. أقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلة، حيث تلتقون ولا دليل، وتحتفرون ولا تميهون. اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان. عزب رأى امرئ تخلف عنى، ما شككت في الحق مذ أريته. لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه، بل أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال. اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل. من وثق بماء لم يظمأ. * * *
(1) كذا في ا، وفى ب: " تسنمتم العلياء ". (2) ب: ومخطوطة النهج سترني بحذف كلمة " حتى " 207 الشرح: هذه الكلمات والأمثال ملتقطة من خطبة طويلة، منسوبة إليه عليه السلام، قد زاد (1) فيها قوم أشياء حملتهم عليها أهواؤهم، لا توافق ألفاظها طريقته عليه السلام في الخطب، ولا تناسب فصاحتها فصاحته، ولا حاجة إلى ذكرها، فهي شهيرة. ونحن نشرح هذه الألفاظ، لأنها كلامه عليه السلام، لا يشك في ذلك من له ذوق ونقد ومعرفة بمذاهب الخطباء والفصحاء في خطبهم ورسائلهم، ولان الرواية لها كثيرة، ولان الرضى رحمة الله تعالى عليه قد التقطها ونسبها إليه عليه السلام، وصححها وحذف ما عداها. وأما قوله عليه السلام: " بنا اهتديتم في الظلماء "، فيعني بالظلماء الجهالة، وتسنمتم العلياء: ركبتم سنامها، وهذه استعارة. قوله: " وبنا انفجرتم عن السرار "، أي دخلتم في الفجر، والسرار: الليلة والليلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشهر فلا يظهر. وروى " أفجرتم "، وهو أفصح وأصح، لان " انفعل " لا يكون إلا مطاوع " فعل "، نحو كسرته فانكسر، وحطمته فانحطم، إلا ما شذ من قولهم: أغلقت الباب فانغلق وأزعجته فانزعج. وأيضا فإنه لا يقع إلا حيث يكون علاج وتأثير، نحو انكسر وانحطم، ولهذا قالوا: إن قولهم انعدم خطأ وأما " أفعل " فيجئ لصيرورة الشئ على حال وأمر، نحو أغد البعير، أي صار ذا غدة، وأجرب الرجل، إذا صار ذا إبل جربى، وغير ذلك. فأفجرتم، أي صرتم ذوي فجر. وأما " عن " في قوله: " عن السرار " فهي للمجاوزة على حقيقة معناها الأصلي، أي منتقلين عن السرار ومتجاوزين له. وقوله عليه السلام: " وقر سمع " هذا دعاء على السمع الذي لم يفقه الواعية بالثقل والصمم، وقرت أذن زيد، بضم الواو فهي موقورة، والوقر، بالفتح. الثقل في الاذن
(1) ب " رأى ". 208 وقرت أذنه، بفتح الواو وكسر القاف توقر وقرا أي صمت، والمصدر في هذا الموضع جاء بالسكون، وهو شاذ، وقياسه التحريك بالفتح، نحو ورم ورما. والواعية: الصارخة، من الوعاء، وهو الجلبة والأصوات، والمراد العبر والمواعظ. قوله: " كيف يراعى النبأة "، هذا مثل آخر، يقول: كيف يلاحظ ويراعى العبر الضعيفة من لم ينتفع بالعبر الجلية الظاهرة، بل فسد عندها، وشبه ذلك بمن أصمته الصيحة القوية، فإنه محال أن يراعى بعد ذلك الصوت الضعيف. والنبأة: هي الصوت الخفي. فإن قيل: هذا يخالف قولكم: إن الاستفساد لا يجوز على الحكيم سبحانه، فإن كلامه عليه السلام صريح في أن بعض المكلفين يفسد عند العبر والمواعظ. قيل: إن لفظة " أفعل " قد تأتى لوجود الشئ على صفة، نحو أحمدته، إذا أصبته محمودا. وقالوا: أحييت الأرض، إذا وجدتها حية النبات (1)، فقوله: " أصمته الصيحة "، ليس معناه أن الصيحة كانت علة لصممه، بل بمعناه صادفته أصم، وبهذا تأول أصحابنا قوله تعالى: (وأضله الله على علم) (2). قوله: " ربط جنان لم يفارقه الخفقان "، هذا مثل آخر، وهو دعاء لقلب لا يزال خائفا من الله يخفق بالثبوت والاستمساك. قوله: " ما زلت أنتظر بكم "، يقول: كنت مترقبا غدركم متفرسا فيكم الغرر، وهو الغفلة. وقيل: إن هذه الخطبة خطبها بعد مقتل طلحة والزبير، مخاطبا بها، لهما ولغيرهما من أمثالهما، كما قال النبي صلى الله عليه وآله يوم بدر، بعد قتل من قتل من قريش: " يا عتبة بن ربيعة،
(1) ا: " ذا نبات " (2) سورة الجاثية 23 209 يا شيبة بن ربيعة، يا عمرو بن هشام "، وهم جيف منتنة قد جروا إلى القليب. قوله: " سترني عنكم "، هذا يحتمل وجوها، أوضحها أن إظهاركم شعار الاسلام عصمكم منى مع علمي بنفاقكم، وإنما أبصرت نفاقكم وبواطنكم الخبيثة بصدق نيتي، كما يقال: المؤمن يبصر بنور الله. ويحتمل أن يريد: سترني عنكم جلباب ديني ومنعني أن أعرفكم نفسي وما أقدر عليه من عسفكم، كما تقول لمن استهان بحقك: أنت لا تعرفني ولو شئت لعرفتك نفسي. وفسر القطب الراوندي قوله عليه السلام: " وبصرنيكم صدق النية "، قال: معناه أنكم إذا صدقتم نياتكم، ونظرتم بأعين لم تطرف بالحسد والغش وأنصفتموني، أبصرتم عظيم منزلتي. وهذا ليس بجيد، لأنه لو كان هو المراد لقال: وبصركم إياي صدق النية، ولم يقل ذلك، وإنما قال: " بصرنيكم "، فجعل صدق النية مبصرا له لا لهم. وأيضا فإنه حكم بأن صدق النية هو علة التبصير، وأعداؤه لم يكن فيهم صادق النية، وظاهر الكلام الحكم والقطع، لا التعليق بالشرط. قوله: " أقمت لكم على سنن الحق "، يقال: تنح عن سنن الطريق وسنن الطريق بفتح السين وضمها، فالأول مفرد، والثاني جمع سنة، وهي جادة الطريق والواضح منها، وأرض مضلة ومضلة، بفتح الضاد وكسرها: يضل سالكها. وأماه المحتفر يميه، أنبط الماء، يقول: فعلت من إرشادكم وأمركم بالمعروف ونهيكم عن المنكر ما يجب على مثلي، فوقفت لكم على جادة الحق ومنهجه، حيث طرق الضلال كثيرة مختلفة من سائر جهاتي، وأنتم تائهون فيها تلتقون، ولا دليل لكم، وتحتفرون لتجدوا ماء تنقعون به غلتكم فلا تظفرون بالماء، وهذه كلها استعارات.
210 قوله: " اليوم أنطق "، هذا مثل آخر، والعجماء التي لا نطق لها، وهذا إشارة إلى الرموز التي تتضمنها هذه الخطبة، يقول: هي خفية غامضة وهي مع غموضها جلية لأولي الألباب، فكأنها تنطق، كما ينطق ذوو الألسنة، كما قيل: ما الأمور الصامتة الناطقة؟ فقيل: الدلائل المخبرة، والعبر الواعظة. وفي الأثر: سل الأرض: من شق أنهارك، وأخرج ثمارك؟ فإن لم تجبك حوارا، أجابتك اعتبارا. قوله: " عزب رأى امرئ تخلف عنى " هذا كلام آخر، عزب، أي بعد، والعازب: البعيد. ويحتمل أن يكون هذا الكلام إخبارا، وأن يكون دعاء، كما أن قوله تعالى: (حصرت صدورهم) (1)، يحتمل الامرين. قوله: " ما شككت في الحق مذ رأيته "، هذا كلام آخر، يقول: معارفي ثابتة لا يتطرق إليها الشك والشبهة. قوله: " لم يوجس موسى "، هذا كلام شريف جدا، يقول: إن موسى لما أوجس الخيفة بدلالة قوله تعالى: (فأوجس في نفسه خيفة موسى) (2) لم يكن ذلك الخوف على نفسه، وإنما خاف من الفتنة والشبهة الداخلة على المكلفين عند إلقاء السحرة عصيهم، فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وكذلك أنا لا أخاف على نفسي من الأعداء الذين نصبوا لي الحبائل، وأرصدوا لي المكائد، وسعروا على نيران الحرب، وإنما أخاف أن يفتتن المكلفون بشبههم وتمويهاتهم، فتقوى دولة الضلال، وتغلب كلمة الجهال. قوله: " اليوم تواقفنا "، القاف قبل الفاء، تواقف القوم على الطريق، أي وقفوا كلهم عليها، يقول: اليوم اتضح الحق والباطل، وعرفناهما نحن وأنتم. قوله: " من وثق بماء لم يظمأ "، الظمأ الذي يكون عند عدم الثقة بالماء، وليس
(1) سورة النساء 90 (2) سورة طه 67 211 يريد النفي المطلق، لان الواثق بالماء قد يظمأ، ولكن لا يكون عطشه على حد العطش الكائن عند عدم الماء، وعدم الوثوق بوجوده، وهذا كقول أبى الطيب: وما صبابة مشتاق على أمل من اللقاء كمشتاق بلا أمل (1) والصائم في شهر رمضان يصبح جائعا تنازعه نفسه إلى الغذاء، وفي أيام الفطر لا يجد تلك المنازعة في مثل ذلك الوقت، لان الصائم ممنوع، والنفس تحرص على طلب ما منعت منه، يقول: إن وثقتم بي وسكنتم إلى قولي، كنتم أبعد عن الضلال وأقرب إلى اليقين وثلج النفس، كمن وثق بأن الماء في إداوته، يكون عن الظمأ وخوف الهلاك من العطش أبعد ممن لم يثق بذلك. * * *
(1) ديوانه 3: 75 212 (5) الأصل: ومن كلام له (1) عليه السلام لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن (2) يبايعا له بالخلافة: أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح، أو استسلم (3) فأراح. هذا (4) ماء آجن، ولقمة يغص بها آكلها. ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه، فإن أقل يقولوا حرص على الملك، وإن أسكت يقولوا جزع من الموت. هيهات بعد اللتيا والتي! والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوى البعيدة (5). * * * الشرح: المفاخرة: أن يذكر كل واحد من الرجلين مفاخره وفضائله وقديمه، ثم يتحاكما إلى ثالث. والماء الآجن: المتغير الفاسد، أجن الماء، بفتح الجيم، يأجن ويأجن، بالكسر والضم. والإيناع: إدراك الثمرة. واللتيا: تصغير التي، كما أن اللذيا تصغير الذي. واندمجت: انطويت. والطوى: البئر المطوية بالحجارة. يقول: تخلصوا عن الفتنة وانجوا منها بالمتاركة والمسالمة والعدول عن المنافرة والمفاخرة.
(1) ا: " خطبة " (2) ا: " أن يبايعاه ". (3) ا: " واستسلم " (4) ساقطة من ا ومخطوطة النهج (5) بعد هذه الكلمة في مخطوطة النهج: " السلام " 213 أفلح من نهض بجناح، أي مات، شبه الميت المفارق للدنيا بطائر نهض عن الأرض بجناحه. ويحتمل أن يريد بذلك: أفلح من اعتزل هذا العالم، وساح في الأرض منقطعا عن تكاليف الدنيا. ويحتمل أيضا أن يريد أفلح من نهض في طلب الرياسة بناصر ينصره، وأعوان يجاهدون بين يديه، وعلى التقادير كلها تنطبق اللفظة الثانية، وهي قوله: " أو استسلم فأراح (1) "، أي أراح نفسه باستسلامه. ثم قال: الإمرة على الناس وخيمة العاقبة، ذات مشقة في العاجلة، فهي في عاجلها كالماء الآجن يجد شاربه مشقة، وفي آجلها كاللقمة التي تحدث عن أكلها الغصة. ويغص مفتوح حرف المضارعة ومفتوح الغين، أصله: " غصصت " بالكسر: ويحتمل أن يكون الأمران معا للعاجلة، لان الغصص في أول البلع، كما أن ألم شرب الماء الآجن يحدث في أول الشرب. ويجوز ألا يكون عنى الامرة المطلقة، بل هي (2) الامرة المخصوصة، يعنى بيعة السقيفة. ثم أخذ في الاعتذار عن الامساك وترك المنازعة، فقال: مجتني الثمرة قبل أن تدرك لا ينتفع بما اجتناه، كمن زرع في غير أرضه، ولا ينتفع بذلك الزرع، يريد أنه ليس هذا الوقت هو الوقت الذي يسوغ لي فيه طلب الامر وأنه لم يأن بعد. ثم قال: قد حصلت بين حالين، إن قلت، قال الناس: حرص على الملك، وإن لم أقل، قالوا: جزع من الموت. قال: هيهات، استبعادا لظنهم فيه (3) الجزع. ثم قال: " اللتيا والتي "، أي أبعد اللتيا والتي أجزع! أبعد أن قاسيت الأهوال الكبار والصغار، ومنيت بكل داهية عظيمة وصغيرة فاللتيا الصغيرة والتي الكبيرة.
(1) ا: " واستسلم ": (2) ا: " هذه " (3) ساقطة من ا 214 ذكر أن أنسه بالموت كأنس الطفل بثدي أمه، وأنه انطوى على علم هو ممتنع لموجبه من المنازعة، وأن ذلك العلم لا يباح به (1)، ولو باح به لاضطرب سامعوه كاضطراب الأرشية، وهي الحبال في البئر البعيدة القعر، وهذا إشارة إلى الوصية التي خص بها عليه السلام، أنه قد كان من جملتها الامر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه. [استطراد بذكر طائفة من الاستعارات] واعلم أن أحسن الاستعارات ما تضمن مناسبة بين المستعار والمستعار منه، كهذه الاستعارات، فإن قوله عليه السلام: " شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة " من هذا النوع، وذلك لان الفتن قد تتضاعف وتترادف، فحسن تشبيهها بأمواج البحر المضطربة. ولما كانت السفن الحقيقة تنجي من أمواج البحر، حسن أن يستعار لفظ السفن لما ينجي من الفتن، وكذلك قوله: " وضعوا تيجان المفاخرة "، لان التاج لما كان مما يعظم به قدر الانسان استعاره لما يتعظ به الانسان من الافتخار وذكر القديم وكذلك استعارة النهوض بالجناح لمن اعتزل الناس، كأنه لما نفض يديه عنهم صار كالطائر الذي ينهض من الأرض بجناحيه. وفي الاستعارات ما هو خارج عن هذا النوع، وهو مستقبح، وذلك كقول أبى نواس: بح صوت المال مما * منك يبكى وينوح (2) وكذلك قوله: ما لرجل المال أضحت * تشتكي منك الكلالا (3)
(1) ساقطة من ب (2) ديوانه 119 (3) ديوانه 70 215 وقول أبى تمام: وكم أحرزت منكم على قبح قدها * صروف النوى من مرهف حسن القد (1) وكقوله: بلوناك، أما كعب عرضك في العلا * فعال، ولكن خد مالك أسفل (2) فإنه لا مناسبة بين الرجل والمال، ولا بين الصوت والمال، ولا معنى لتصييره للنوى قدا، ولا للعرض كعبا، ولا للمال خدا. وقريب منه أيضا قوله: لا تسقني ماء الملام فإنني * صب قد استعذبت ماء بكائي (3) ويقال: إن مخلدا الموصلي (4) بعث إليه بقارورة يسأله أن يبعث له فيها قليلا من ماء الملام، فقال لصاحبه: قل له يبعث إلى بريشة من جناح الذل لاستخرج بها من القارورة ما أبعثه إليه. وهذا ظلم من أبى تمام لمخلد، وما الأمران سواء، لان الطائر إذا أعيا وتعب ذل وخفض جناحيه، وكذلك الانسان إذا استسلم ألقى بيديه ذلا، ويده جناحه، فذاك هو الذي حسن قوله تعالى: (واخفض لهما جناح الذل) (5) ألا ترى أنه لو قال: واخفض لهما ساق الذل أو بطن الذل لم يكن مستحسنا! * * * ومن الاستعارة المستحسنة في الكلام المنثور، ما اختاره قدامة بن جعفر في كتاب " الخراج " نحو قول أبى الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة في جوابه لأبي الجيش خمارويه
(1) ديوانه 2: 110 (2) ديوانه 3: 73 (3) ديوانه 1: 25 (4) هو مخلد بن بكار الموصلي، وله مع أبي تمام أخبار ومساجلات، ذكرها الصولي في كتابه أخبار أبى تمام 234 - 243 (5) سورة الإسراء 24 216 ابن أحمد بن طولون عن المعتضد بالله، لما كتب بإنفاذ ابنته قطر الندى التي تزوجها المعتضد، وذلك قول ابن ثوابة هذا: وأما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك، عناية بها وحياطة لها ورعاية لمودتك فيها. وقال ابن ثوابة لما كتب هذا الكتاب لأبي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد والله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة. وذكر أحمد بن يوسف الكاتب رجلا خلا بالمأمون فقال: ما زال يفتله في الذروة والغارب حتى لفته عن رأيه. وقال إسحق بن إبراهيم الموصلي: النبيذ قيد الحديث. وذكر بعضهم رجلا فذمه، فقال: هو أملس (1) ليس فيه مستقر لخير ولا شر. ورضى بعض الرؤساء عن رجل من موجدة، ثم أقبل يوبخه عليها، فقال: إن رأيت ألا تخدش وجه رضاك بالتوبيخ فافعل. وقال بعض الاعراب: خرجنا في ليلة حندس (2)، قد ألقت على الأرض أكارعها، فمحت صورة الأبدان، فما كنا نتعارف إلا بالآذان. وغزت حنيفة نميرا، فاتبعتهم نمير فأتوا عليهم، فقيل لرجل منهم: كيف صنع قومك؟ قال: اتبعوهم والله، وقد أحقبوا كل جمالية خيفانة (3)، فما زالوا يخصفون آثار المطي بحوافر الخيل حتى لحقوهم، فجعلوا المران (4) أرشية الموت، فاستقوا بها أرواحهم. ومن كلام لعبد الله بن المعتز، يصف القلم: يخدم الإرادة، ولا يمل الاستزادة،
(1) ا: " إبليس " تحريف. (2) ليلة حندس: شديدة الظلمة (3) الجمالية، الناقة الوثيقة، تشبه بالجمل في خلقتها وشدتها وعظمها. والخيفانة: السريعة، شبهت بالجرادة السريعة. (4) حاشية ب: " المران: الرماح... " 217 ويسكت واقفا، وينطق سائرا، على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضئ. * * * فأما القطب الراوندي، فقال: قوله عليه السلام: " شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة " معناه: كونوا مع أهل البيت لأنهم سفن النجاة، لقوله عليه السلام: " مثل أهل بيتي كسفينة نوح، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق ". ولقائل أن يقول: لا شبهة أن أهل البيت سفن النجاة، ولكنهم لم يرادوا هاهنا بهذه اللفظة لأنه لو كان ذلك هو المراد، لكان قد أمر أبا سفيان والعباس بالكون مع أهل البيت، ومراده الآن ينقض ذلك، لأنه يأمر بالتقية وإظهار اتباع الذين عقد لهم الامر، ويرى أن الاستسلام هو المتعين، فالذي ظنه الراوندي لا يحتمله الكلام ولا يناسبه. وقال أيضا: التعريج على الشئ الإقامة عليه، يقال: عرج فلان على المنزل، إذا حبس نفسه عليه، فالتقدير: عرجوا على الاستقامة منصرفين عن المنافرة. ولقائل أن يقول: التعريج يعدى تارة ب " عن " وتارة ب " على "، فإذا عديته بعن أردت التجنب والرفض، وإذا عديته ب " على " أردت المقام والوقوف، وكلامه عليه السلام معدى ب " عن " قال: " وعرجوا عن طريق المنافرة ". وقال أيضا " آنس بالموت " أي أسر به، وليس بتفسير صحيح، بل هو من الانس ضد الوحشة. [اختلاف الرأي في الخلافة بعد وفاة رسول الله] لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله، واشتغل علي عليه السلام بغسله ودفنه، وبويع أبو بكر، خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بعباس وعلي عليه
218 السلام، لإجالة الرأي، وتكلموا بكلام يقتضى الاستنهاض والتهييج، فقال العباس رضي الله عنه: قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم، ولا لظنة نترك آراءكم، فأمهلونا نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الاثم مخرج يصر بنا وبهم الحق صرير الجدجد، ونبسط إلى المجد أكفا لا نقبضها أو نبلغ المدى، وإن تكن الأخرى، فلا لقلة في العدد ولا لوهن في الأيد، والله لولا أن الاسلام قيد الفتك، لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلى. فحل علي عليه السلام حبوته، وقال: الصبر حلم، والتقوى دين، والحجة محمد، والطريق الصراط، أيها الناس شقوا أمواج الفتن... الخطبة، ثم نهض فدخل إلى منزله وافترق القوم. * * * وقال البراء بن عازب: لم أزل لبني هاشم، محبا فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الامر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول، مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبي صلى الله عليه وآله في الحجرة، وأتفقد وجوه قريش، فأنى كذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر، وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بنى ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر، فلم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة، وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه، وقدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبى بكر يبايعه، شاء ذلك أو أبى، فأنكرت عقلي، وخرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم، والباب مغلق، فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا، وقلت: قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة، فقال العباس تربت أيديكم إلى آخر الدهر، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني. فمكثت أكابد ما في نفسي، ورأيت
219 في الليل المقداد وسلمان وأبا ذر وعبادة بن الصامت وأبا الهيثم بن التيهان وحذيفة وعمارا، وهم يريدون أن يعيدوا الامر شورى بين المهاجرين. وبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فأرسلا إلى أبى عبيدة وإلى المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي، فقال المغيرة: الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له ولولده في هذه الامرة نصيبا، ليقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب. فانطلق أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والمغيرة، حتى دخلوا على العباس، وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله، فحمد أبو بكر الله وأثنى عليه، وقال: إن الله ابتعث لكم محمدا صلى الله عليه وآله نبيا، وللمؤمنين وليا، فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم، حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم متفقين غير مختلفين، فاختاروني عليهم واليا، ولأمورهم راعيا، فتوليت ذلك، وما أخاف بعون الله وتسديده وهنا ولا حيرة ولا جبنا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، وما أنفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين، يتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع، وخطبه البديع، فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس، أو صرفتموهم عما مالوا إليه، فقد جئناك، ونحن نريد أن نجعل لك في هذا الامر نصيبا، ولمن بعدك من عقبك، إذ كنت عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله صلى الله عليه وآله، ومكان أهلك ثم عدلوا بهذا الامر عنكم وعلى رسلكم بني هاشم ، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم. فاعترض كلامه عمر، وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد وإتيان الامر من أصعب جهاته، فقال: أي والله، وأخرى إنا لم نأتكم حاجة إليكم، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم فيتفاقم الخطب بكم وبهم فانظروا لأنفسكم ولعامتهم. ثم سكت.
220 فتكلم العباس، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله ابتعث محمدا نبيا، كما وصفت، ووليا للمؤمنين، فمن الله به على أمته حتى اختار له ما عنده، فخلى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم، مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى، فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت، وإن كنت بالمؤمنين فنحن منهم، ما تقدمنا في أمركم فرطا، ولا حللنا وسطا، ولا نزحنا شحطا، فإن كان هذا الامر يجب لك بالمؤمنين، فما وجب، إذ كنا كارهين وما أبعد قولك إنهم طعنوا من قولك أنهم مالوا إليك، وأما ما بذلت لنا، فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك، وإن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه، وإن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض. وما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه، ولكن للحجة نصيبها من البيان. وأما قولك: إن رسول الله صلى الله عليه وآله منا ومنكم، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله من شجرة نحن أغصانها، وأنتم جيرانها، وأما قولك: يا عمر، إنك تخاف الناس علينا، فهذا الذي قدمتموه أول ذلك، وبالله المستعان. * * * لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبى بكر، أقبل أبو سفيان وهو يقول: أما والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم! يا لعبد مناف، فيم أبو بكر من أمركم! أين المستضعفان؟ أين الأذلان! يعنى عليا والعباس، ما بال هذا الامر في أقل حي من قريش. ثم قال لعلي: أبسط يدك أبايعك، فوالله إن شئت لأملأنها على أبى فضيل - يعنى أبا بكر - خيلا ورجلا، فامتنع عليه علي عليه السلام، فلما يئس منه قام عنه وهو ينشد شعر المتلمس:
221 ولا يقيم على ضيم يراد به * إلا الأذلان عير الحي والوتد (1) هذا على الخسف مربوط برمته * وذا يشج فلا يرثى له أحد (2) * * * قيل لأبي قحافة يوم ولى الامر ابنه: قد ولى ابنك الخلافة، فقرأ (قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء) (3)، ثم قال: لم ولوه؟ قالوا: لسنه قال أنا أسن منه. نازع أبو سفيان أبا بكر في أمر فأغلظ له أبو بكر، فقال له أبو قحافة: يا بنى، أتقول هذا لأبي سفيان شيخ البطحاء! قال: إن الله تعالى رفع بالاسلام بيوتا، ووضع بيوتا، فكان مما رفع بيتك يا أبت، ومما وضع بيت أبي سفيان.
(1) معاهد التنصيص 2: 306. والعير هنا: الحمار. (2) الخسف: النقيصة. والرمة: القطعة من الحبل. (3) سورة آل عمران 26 222 (6) الأصل: ومن كلام له لما أشير عليه بألا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال: والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم، حتى يصل إليها طالبها، ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المطيع العاصي المريب أبدا، حتى يأتي على يومى. فوالله ما زلت مدفوعا عن حقي، مستأثرا على منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه حتى يوم الناس هذا. الشرح: يقال: أرصد له بشر، أي أعد له وهيأه، وفي الحديث: " (1) إلا أن أرصده لدين على ". واللدم: صوت الحجر أو العصا أو غيرهما، تضرب به الأرض ضربا ليس بشديد. ولما شرح الراوندي هذه اللفظات، قال: وفي الحديث: " والله لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد "، وقد كان - سامحه الله - وقت تصنيفه الشرح ينظر في " صحاح الجوهري " (2) وينقل منها، فنقل هذا الحديث ظنا منه أنه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله، وليس كما ظن، بل الحديث الذي أشار إليه الجوهري هو حديث علي عليه السلام الذي نحن بصدد تفسيره. ويختلها راصدها: يخدعها مترقبها، اختلت فلانا، خدعته. ورصدته: ترقبته. ومستأثرا على أي مستبدا دوني بالامر، والاسم الأثرة، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وآله،
(1) نقله ابن الأثير في النهاية (2: 82) عن أبي ذر: قال له عليه الصلاة والسلام: " ما أحب عندي مثل أحد ذهبا فأنفقه في سبيل الله، وتمسي ثالثة وعندي منه دينارا، إلا دينارا أرصده لدين " (2) صحاح الجوهري 5: 2029 223 قال للأنصار: " ستلقون بعدي أثرة، فإذا كان ذلك، فاصبروا حتى تردوا على الحوض " (1). والعرب تقول في رموزها وأمثالها: أحمق من الضبع (2)، ويزعمون أن الصائد يدخل عليها وجارها، فيقول لها أطرقي أم طريق، خامري أم عامر، ويكرر ذلك عليها مرارا. معنى أطرقي أم طريق، طأطئي رأسك، وكناها أم طريق لكثرة إطراقها على " فعيل " كالقبيط للناطف، والعليق لنبت. ومعنى خامري: الزمي وجارك واستتري فيه، خامر الرجل منزله إذا لزمه، قالوا: فتلجأ إلى أقصى مغارها وتتقبض، فيقول: أم عامر ليست في وجارها، أم عامر نائمة، فتمد يديها ورجليها، وتستلقي فيدخل عليها فيوثقها، وهو يقول لها أبشري أم عامر بكم (3) الرجال، أبشري أم عامر بشاء هزلى، وجراد عظلي (4)، أي يركب بعضه بعضا، فتشد عراقيبها فلا تتحرك، ولو شاءت أن تقتله لأمكنها، قال الكميت: فعل المقرة للمقالة * خامري يا أم عامر (5) وقال الشنفري: لا تقبروني إن قبري محرم * عليكم ولكن خامري أم عامر (6) إذا ما مضى رأسي وفي الرأس أكثري * وغودر عند الملتقى ثم سائري (7) هنا لك لا أرجو حياة تسرني * سجيس الليالي مبسلا بالجرائر (8)
(1) ذكره ابن الأثير في النهاية (1: 15)، وقال: " الأثرة "، بفتح الهمزة والثاء الاسم من آثر يؤثر إيثار، إذا أعطى، أراد أنه يستأثر عليكم فيفضل غيركم في نصيبه في الفئ ". (2) المثل في جمهرة الأمثال 1: 276 (3) كم: جمع كمة، وهي قلفة الذكر، وفى جمهرة الأمثال: " كمر "، جمع كمرة، وهي رأس الذكر. (4) في اللسان: " تعاظلت الجراد، إذا تسافدت " وأورد المثل. (5) من أبيات في معاني ابن قتيبة 1: 214 (6) ديوانه 36 (من مجموعة الطائف الأدبية)، وفيه: " أبشري أم عامر " (7) ديوانه: * إذا احتملوا رأسي وفى الرأس أكثري * (8) سجيس الليالي، أي أبدا، ومبسلا، أي مسلما، كذا فسره صاحب اللسان في (7: 408)، (3: 57)، واستشهد بالبيت. 224 أوصاهم ألا يدفنوه إذا قتل، وقال: اجعلوني أكلا للسباع، كالشئ الذي يرغب به الضبع في الخروج، وتقدير الكلام: لا تقبروني ولكن اجعلوني كالتي يقال لها: خامري أم عامر، وهي الضبع، فإنها لا تقبر. ويمكن أن يقال أيضا: أراد لا تقبروني واجعلوني فريسة للتي يقال لها: خامري أم عامر، لأنها تأكل الجيف وأشلاء القتلى والموتى. وقال أبو عبيدة: يأتي الصائد فيضرب بعقبه الأرض عند باب مغارها ضربا خفيفا، وذلك هو اللدم، ويقول: خامري أم عامر، مرارا بصوت ليس بشديد، فتنام على ذلك، فيدخل إليها، فيجعل الحبل في عرقوبها ويجرها فيخرجها. يقول: لا أقعد عن الحرب والانتصار لنفسي وسلطاني، فيكون حالي مع القوم المشار إليهم حال الضبع مع صائدها، فأكون قد أسلمت نفسي، فعل العاجز الأحمق، ولكني أحارب من عصاني بمن أطاعني حتى أموت، ثم عقب ذلك بقوله: إن الاستئثار على، والتغلب أمر لم يتجدد الآن، ولكنه كان منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله. [طلحة والزبير ونسبهما] وطلحة هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة. أبوه ابن عم أبى بكر، وأمه الصعبة بنت الحضرمي، وكانت قبل أن تكون عند عبيد الله تحت أبي سفيان صخر بن حرب، فطلقها ثم تبعتها نفسه، فقال فيها شعرا أوله: إني وصعبة فيما أرى * بعيدان والود ود قريب في أبيات مشهورة. وطلحة أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد أصحاب الشورى، وكان له في الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد أثر عظيم، وشلت بعض
225 أصابعه يومئذ وقى رسول الله صلى الله عليه وآله بيده من سيوف المشركين، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله يومئذ: " اليوم أوجب طلحة الجنة " (1). * * * والزبير هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي، أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، عمة رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو أحد العشرة أيضا، وأحد الستة، وممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم أحد وأبلى بلاء حسنا، وقال النبي صلى الله عليه وآله: " لكل نبي حواري وحواري الزبير ". والحواري: الخالصة، تقول: فلان خالصة فلان، وخلصانه وحواريه، أي شديد الاختصاص به والاستخلاص له. [خروج طارق بن شهاب لاستقبال علي بن أبي طالب] خرج طارق بن شهاب الأحمسي يستقبل عليا عليه السلام وقد صار بالربذة طالبا عائشة وأصحابها، وكان طارق من صحابة علي عليه السلام وشيعته، قال: فسألت عنه قبل أن ألقاه: ما أقدمه؟ فقيل: خالفه طلحة والزبير وعائشة فأتوا البصرة، فقلت في نفسي: إنها الحرب! أفأقاتل أم المؤمنين! وحواري رسول الله صلى الله عليه وآله! إن هذا لعظيم، ثم قلت: أأدع عليا، وهو أول المؤمنين إيمانا بالله، وابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيه! هذا أعظم! ثم أتيته فسلمت عليه، ثم جلست إليه، فقص على قصة القوم وقصته، ثم صلى بنا الظهر، فلما انفتل جاءه الحسن ابنه عليهما السلام، فبكى بين يديه، قال: ما بالك؟ قال أبكى لقتلك غدا بمضيعة ولا ناصر لك. أما إني أمرتك فعصيتني، ثم أمرتك فعصيتني! فقال عليه السلام: لا تزال تحن حنين الأمة! ما الذي أمرتني به فعصيتك! قال: أمرتك حين أحاط الناس بعثمان أن تعتزل، فإن الناس إذا قتلوه طلبوك أينما كنت حتى يبايعوك، فلم تفعل. ثم أمرتك لما قتل عثمان ألا توافقهم على
(1) أي عمل أوجب له الجنة. وانظر النهاية لابن الأثير 4: 194 226 البيعة حتى يجتمع الناس ويأتيك وفود العرب فلم تفعل. ثم خالفك هؤلاء القوم، فأمرتك ألا تخرج من المدينة، وأن تدعهم وشأنهم، فإن اجتمعت عليك الأمة فذاك، وإلا رضيت بقضاء الله. فقال عليه السلام: والله لا أكون كالضبع تنام على اللدم حتى يدخل إليها طالبها فيعلق الحبل برجلها، ويقول لها دباب دباب، حتى يقطع عرقوبها. وذكر تمام الفصل. فكان طارق بن شهاب يبكى إذا ذكر هذا الحديث. دباب اسم الضبع، مبنى على الكسر كبراح اسم الشمس. * * *
227 (7) الأصل: ومن خطبة له عليه السلام: اتخذوا الشيطان لأمرهم ملاكا، واتخذهم له أشراكا، فباض وفرخ في صدورهم، ودب ودرج في حجورهم فنظر بأعينهم، ونطق بألسنتهم، فركب بهم الزلل، وزين لهم الخطل، فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه، ونطق بالباطل على لسانه. الشرح: يجوز أن يكون أشراكا، جمع شريك، كشريف وأشراف. ويجوز أن يكون جمع شرك، كجبل وأجبال، والمعنى بالاعتبارين مختلف. وباض وفرخ في صدورهم، استعارة للوسوسة والإغواء، ومراده طول مكثه وإقامته عليهم، لان الطائر لا يبيض ويفرخ إلا في الأعشاش التي هي وطنه ومسكنه. ودب ودرج في حجورهم، أي ربوا الباطل كما يربي الوالدان الولد في حجورهما. ثم ذكر أنه لشدة اتحاده بهم وامتزاجه صار كمن ينظر بأعينهم، وينطق بألسنتهم، أي صار الاثنان كالواحد، قال أبو الطيب: ما الخل إلا من أود بقلبه * وأرى بطرف لا يرى بسوائه (1) وقال آخر: كنا من المساعدة * نحيا بروح واحده
(1) ديوانه 1: 4 228 وقال آخر: جبلت نفسك في نفسي كما * تجبل الخمرة بالماء الزلال فإذا مسك شئ مسني * فإذا أنت أنا في كل حال والخطل: القول الفاسد. ويجوز: أشركه الشيطان في سلطانه، بالهمزة، وشركه أيضا، وبغير الهمزة أفصح * * *
229 (8) الأصل: ومن كلام له عليه السلام يعنى به الزبير في حال اقتضت ذلك: يزعم أنه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه، فقد أقر بالبيعة، وادعى الوليجة، فليأت عليها بأمر يعرف، وإلا فليدخل فيما خرج منه. * * * الشرح: الوليجة: البطانة، والامر يسر ويكتم، قال الله سبحانه: (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) (1). كان الزبير يقول: بايعت بيدي لا بقلبي، وكان يدعى تارة أنه أكره، ويدعى تارة أنه ورى في البيعة تورية، ونوى دخيلة، وأتى بمعاريض لا تحمل على ظاهرها، فقال عليه السلام هذا الكلام، إقرار منه بالبيعة وادعاء أمر آخر لم يقم عليه دليلا، ولم ينصب له برهانا، فإما أن يقيم دليلا على فساد البيعة الظاهرة، وأنها غير لازمة له، وإما أن يعاود طاعته. قال علي عليه السلام للزبير يوم بايعه: إني لخائف أن تغدر بي وتنكث بيعتي، قال: لا تخافن، فإن ذلك لا يكون منى أبدا، فقال عليه السلام: فلي الله عليك بذلك راع وكفيل، قال: نعم، الله لك على بذلك راع وكفيل. [أمر طلحة والزبير مع علي بن أبي طالب بعد بيعتهما له] لما بويع علي عليه السلام كتب إلى معاوية: أما بعد فإن الناس قتلوا عثمان عن غير
(1) سورة التوبة 16 230 مشورة منى وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي، وأوفد إلى أشراف أهل الشام قبلك. فلما قدم رسوله على معاوية، وقرأ كتابه، بعث رجلا من بنى عميس، وكتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان: سلام عليك، أما بعد، فإني قد بايعت لك أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا (1)، كما يستوسق الجلب، فدونك الكوفة والبصرة، لا يسبقك إليها ابن أبي طالب، فإنه لا شئ بعد هذين المصرين، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجد والتشمير، أظفركما الله، وخذل مناوئكما! فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سر به، وأعلم به طلحة وأقرأه إياه، فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي عليه السلام. * * * جاء الزبير وطلحة إلى علي عليه السلام بعد البيعة بأيام، فقالا له: يا أمير المؤمنين، قد رأيت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها، وعلمت رأى عثمان كان في بنى أمية، وقد ولاك الله الخلافة من بعده، فولنا بعض أعمالك، فقال لهما: ارضيا بقسم الله لكما، حتى أرى رأيي، واعلما أنى لا أشرك في أمانتي إلا من أرضى بدينه وأمانته من أصحابي، ومن قد عرفت دخيلته، فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس، فاستأذناه في العمرة. * * *
(1) استوسقوا: استجمعوا وانضموا. وفى نهاية ابن الأثير: " ومنه حديث أحد: استوسقوا كما يستوسق جرب الغنم، أي استجمعوا ". 231 طلب طلحة والزبير من علي عليه السلام أن يوليهما المصرين: البصرة والكوفة، فقال: حتى أنظر. ثم استشار المغيرة بن شعبة، فقال له: أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس. فخلا بابن عباس، وقال: ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الكوفة والبصرة عين الخلافة، وبهما كنوز الرجال، ومكان طلحة والزبير من الاسلام ما قد علمت، ولست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمرا. فأخذ علي عليه السلام برأي ابن عباس. وقد كان استشار المغيرة أيضا في أمر معاوية، فقال له: أرى إقراره على الشام، وأن تبعث إليه بعهده إلى أن يسكن شغب الناس، ولك بعد رأيك. فلم يأخذ برأيه. فقال المغيرة بعد ذلك: والله ما نصحته قبلها، ولا أنصحه بعدها، ما بقيت. * * * دخل الزبير وطلحة على علي عليه السلام، فاستأذناه في العمرة، فقال: ما العمرة تريدان، فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة، فقال لهما: ما العمرة تريدان، وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة، فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث بيعة يريدان، وما رأيهما غير العمرة. قال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية، فأعاداها بأشد ما يكون من الايمان والمواثيق، فأذن لهما، فلما خرجا من عنده، قال لمن كان حاضرا: والله لا ترونهما إلا في فتنة يقتتلان فيها. قالوا: يا أمير المؤمنين، فمر بردهما عليك، قال: ليقضى الله أمرا كان مفعولا. * * * لما خرج الزبير وطلحة من المدينة إلى مكة لم يلقيا أحدا إلا وقالا له: ليس لعلى في أعناقنا بيعة، وإنما بايعناه مكرهين. فبلغ عليا عليه السلام قولهما، فقال: أبعدهما الله وأغرب (1) دارهما، أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل، ويأتيان من
(1) يقال: أغرب دار: أبعدها. 232 وردا عليه بأشأم يوم، والله ما العمرة يريدان، ولقد أتياني بوجهي فاجرين، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين، والله لا يلقيانني بعد اليوم إلا في كتيبة خشناء، يقتلان فيها أنفسهما، فبعدا لهما وسحقا. * * * وذكر أبو مخنف في " كتاب الجمل ": أن عليا عليه السلام خطب لما سار الزبير وطلحة من مكة، ومعهما عائشة يريدون البصرة، فقال: أيها الناس، إن عائشة سارت إلى البصرة، ومعها طلحة والزبير، وكل منهما يرى الامر له دون صاحبه، أما طلحة فابن عمها، وأما الزبير فختنها، والله لو ظفروا بما أرادوا - ولن ينالوا ذلك ابدا - ليضربن أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد. والله إن راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة ولا تحل عقدة إلا في معصية الله وسخطه، حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة، أي والله ليقتلن ثلثهم، وليهربن ثلثهم: وليتوبن ثلثهم، وإنها التي تنبحها كلاب الحوأب، وإنهما ليعلمان أنهما مخطئان. ورب عالم قتله جهله، ومعه علمه لا ينفعه، وحسبنا الله ونعم الوكيل! فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية، أين المحتسبون؟ أين المؤمنون؟ ما لي ولقريش! أما والله لقد قتلتهم كافرين، ولأقتلنهم مفتونين! وما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيزنا، والله لأبقرن الباطل، حتى يظهر الحق من خاصرته، فقل لقريش فلتضج ضجيجها. ثم نزل. * * * برز علي عليه السلام يوم الجمل، ونادى بالزبير: يا أبا عبد الله، مرارا، فخرج الزبير، فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما، فقال له علي عليه السلام: إنما دعوتك لأذكرك حديثا قاله لي ولك رسول صلى الله عليه، أتذكر يوم رآك وأنت معتنقي، فقال لك:
233 " أتحبه "؟ قلت: وما لي لا أحبه وهو أخي وابن خالي! فقال: " أما إنك ستحاربه وأنت ظالم له "، فاسترجع الزبير، وقال: أذكرتني ما أنسانيه الدهر، ورجع إلى صفوفه. فقال له عبد الله ابنه: لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به! فقال: أذكرني على حديثا أنسانيه الدهر، فلا أحاربه أبدا، وإني لراجع وتارككم منذ اليوم. فقال له عبد الله: ما أراك إلا جبنت عن سيوف بنى عبد المطلب، إنها لسيوف حداد، تحملها فتية أنجاد، فقال الزبير: ويلك! أتهيجني على حربه، أما إني قد حلفت ألا أحاربه، قال: كفر عن يمينك، لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت، وما كنت جبانا، فقال الزبير: غلامي مكحول حر كفارة عن يميني، ثم أنصل (1) سنان رمحه، وحمل على عسكر علي عليه السلام برمح لا سنان له، فقال علي عليه السلام: أفرجوا له، فإنه مخرج، ثم عاد إلى أصحابه، ثم حمل ثانية، ثم ثالثة، ثم قال لابنه: أجبنا ويلك ترى! فقال: لقد أعذرت. * * * لما أذكر علي عليه السلام الزبير بما أذكره به ورجع الزبير، قال: نادى على بأمر لست أنكره * وكان عمر أبيك الخير مذ حين فقلت حسبك من عذل أبا حسن * بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيني ترك الأمور التي تخشى مغبتها * والله أمثل في الدنيا وفي الدين فاخترت عارا على نار مؤججة * أنى يقوم لها خلق من الطين! * * * لما خرج علي عليه السلام لطلب الزبير، خرج حاسرا، وخرج إليه الزبير دارعا مدججا، فقال للزبير: يا أبا عبد الله، قد لعمري أعددت سلاحا، وحبذا فهل أعددت عند الله عذرا؟ فقال الزبير: إن مردنا إلى الله، قال علي عليه السلام: (يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين) (2)، ثم أذكره الخبر، فلما كر
(1) أنصل سنان رمحه، أي نزعه. (2) سورة النور 25 234 الزبير راجعا إلى أصحابه نادما واجما، رجع علي عليه السلام إلى أصحابه جذلا مسرورا، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، تبرز إلى الزبير حاسرا، وهو شاك في السلاح، وأنت تعرف شجاعته! قال: إنه ليس بقاتلي، إنما يقتلني رجل خامل الذكر، ضئيل النسب، غيلة في غير مأقط (1) حرب، ولا معركة رجال، ويلمه أشقى البشر! ليودن أن أمه هبلت به! أما إنه وأحمر ثمود لمقرونان في قرن! * * * لما انصرف الزبير عن حرب علي عليه السلام، مر بوادي السباع، والأحنف ابن قيس هناك في جمع من بنى تميم قد اعتزل الفريقين، فأخبر الأحنف بمرور الزبير، فقال رافعا صوته: ما أصنع بالزبير! لف غارين (2) من المسلمين، حتى أخذت السيوف منهما مأخذها، انسل وتركهم. أما إنه لخليق بالقتل، قتله الله! فاتبعه عمرو بن جرموز - وكان فاتكا - فلما قرب منه وقف الزبير، وقال: ما شأنك؟ قال: جئت لأسألك عن أمر الناس، قال الزبير: إني تركتهم قياما في الركب، يضرب بعضهم وجه بعض بالسيف. فسار ابن جرموز معه، وكل واحد منهما يتقى الآخر. فلما حضرت الصلاة، قال الزبير: يا هذا، إنا نريد أن نصلى. فقال ابن جرموز: وأنا أريد ذلك، فقال الزبير: فتؤمني وأؤمنك؟ قال: نعم، فثنى الزبير رجله، وأخذ وضوءه. فلما قام إلى الصلاة شد ابن جرموز عليه فقتله، وأخذ رأسه وخاتمه وسيفه، وحثا عليه ترابا يسيرا، ورجع إلى الأحنف، فأخبره، فقال: والله ما أدرى أسأت أم أحسنت؟ اذهب إلى علي عليه السلام فأخبره، فجاء إلى علي عليه السلام، فقال للآذن: قل له: عمرو بن جرموز بالباب ومعه رأس الزبير وسيفه، فأدخله. وفي كثير من الروايات أنه لم يأت بالرأس بل بالسيف، فقال له: أنت قتلته؟! قال: نعم، قال: والله ما كان ابن صفية جبانا ولا لئيما، ولكن الحين ومصارع السوء،
(1) المأقط: ساحة القتال. (2) الغار هنا: الجيش، وفى اللسان 6: 34: " جمع غارين ". 235 ثم قال: ناولني سيفه، فناوله فهزه، وقال: سيف طالما به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال ابن جرموز: الجائزة يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: " بشر قاتل ابن صفية بالنار "، فخرج ابن جرموز خائبا، وقال: أتيت عليا برأس الزبير أبغي به عنده الزلفه (1) فبشر بالنار يوم الحساب * فبئست بشارة ذي التحفة فقلت له إن قتل الزبير لولا رضاك من الكلفه فإن ترض ذاك فمنك الرضا * وإلا فدونك لي حلفه ورب المحلين والمحرمين * ورب الجماعة والألفه لسيان عندي قتل الزبير * وضرطة عنز بذي الجحفة ثم خرج ابن جرموز على علي عليه السلام، مع أهل النهر، فقتله معهم فيمن قتل.
(1) المسعودي 1: 373 236 (9) الأصل: ومن كلام له عليه السلام: وقد أرعدوا وأبرقوا، ومع هذين الامرين الفشل، ولسنا نرعد حتى نوقع، ولا نسيل نمطر. * * * الشرح: أرعد الرجل وأبرق، إذا أوعد وتهدد، وكان الأصمعي ينكره، ويزعم أنه لا يقال: إلا رعد وبرق، ولما احتج عليه ببيت الكميت: أرعد وأبرق يا يزيد فما وعيدك لي بضائر قال: الكميت قروي لا يحتج بقوله (1). وكلام أمير المؤمنين عليه السلام حجة دالة على بطلان قول الأصمعي. والفشل: الجبن والخور. وقوله: " ولا نسيل حتى نمطر " كلمة فصيحة، يقول: إن أصحاب الجمل في وعيدهم وإجلابهم بمنزلة من يدعى أنه يحدث السيل قبل إحداث المطر، وهذا محال، لان السيل إنما يكون من المطر، فكيف يسبق المطر! وأما نحن فإنا لا ندعى ذلك، وإنما نجري الأمور على حقائقها، فإن كان منا مطر كان منا سيل، وإذا أوقعنا بخصمنا أوعدنا حينئذ بالإيقاع به غيره من خصومنا.
(1) الخبر والبيت في أمالي القالي 1: 96 237 وقوله عليه السلام: " ومع هذين الامرين الفشل " معنى حسن، لان الغالب من الجبناء كثرة الضوضاء والجلبة يوم الحرب، كما أن الغالب من الشجعان الصمت والسكون. وسمع أبو طاهر (1) الجنابي ضوضاء عسكر المقتدر بالله ودبادبهم (2) وبوقاتهم، وهو في ألف وخمسمائة، وعسكر المقتدر في عشرين ألفا، مقدمهم يوسف بن أبي الساج، فقال لبعض أصحابه: ما هذا الزجل (3)؟ قال: فشل، قال: أجل. ويقال: إنه ما رئي جيش كجيش أبى طاهر، ما كان يسمع لهم صوت، حتى إن الخيل لم تكن لها حمحمة، فرشق عسكر ابن أبي الساج (4) القرامطة بالسهام المسمومة، فجرح منهم أكثر من خمسمائة إنسان. وكان أبو طاهر في عمارية له، فنزل وركب فرسا، وحمل بنفسه ومعه أصحابه حملة عظيمة على عسكر ابن أبي الساج، فكسروه وفلوه وخلصوا إلى يوسف فأسروه، وتقطع عسكره بعد أن أتى بالقتل على كثير منهم، وكان ذلك في سنة خمس عشرة وثلاثمائة. ومن أمثالهم: الصدق ينبئ عنك لا الوعيد.
(1) هو أبو طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، كان أبوه الحسن كبير القرامطة، وقتل سنة 301، قتله خام له صقلبي، فتولى ابنه أبو طاهر أمر القرامطة بعده، بعد أن عجز أخوه سعيد عن الامر. ابن الأثير 6: 147 (2) في اللسان: " الدبادب: صوت كأنه دب، دب، وهي حكاية الصوت ". (3) الزجل: الجلبة ورفع الصوت 6: (4) هو يوسف بن أبي الساج، أحد ولاة الري في عهد المقتدر، وكان استقل عن الخليفة، ثم عاد إلى طاعته. وانظر طرفا من أخباره في ابن الأثير في 6: 175، وما بعدها. 238 (10) الأصل: ومن خطبة له عليه السلام: ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله ورجله، وإن معي لبصيرتي، ما لبست على نفسي، ولا لبس على. وأيم الله لأفرطن لهم حوضا أنا ماتحه، لا يصدرون عنه، ولا يعودون إليه. * * * الشرح: يمكن أن يعنى بالشيطان الشيطان الحقيقي، ويمكن أن يعنى به معاوية، فإن عنى معاوية، فقوله: " قد جمع حزبه، واستجلب خيله ورجله " كلام جار على حقائقه، وإن عنى به الشيطان، كان ذلك من باب الاستعارة، ومأخوذا من قوله تعالى: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك) (1)، والرجل: جمع راجل، كالشرب، جمع شارب، والركب: جمع راكب. قوله: " وإن معي لبصيرتي "، يريد أن البصيرة التي كانت معي في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله تتغير. وقوله: " ما لبست " تقسيم جيد، لان كل ضال عن الهداية، فإما أن يضل من تلقاء نفسه، أو بإضلال غيره له. وقوله: " لأفرطن " من رواها بفتح الهمزة، فأصله " فرط " ثلاثي يقال: فرط
(1) سورة الإسراء 64 239 زيد القوم أي سبقهم، ورجل فرط: يسبق القوم إلى البئر، فيهيئ لهم الأرشية والدلاء، ومنه قوله عليه السلام: " أنا فرطكم على الحوض "، ويكون تقدير الكلام: وأيم الله لأفرطن لهم إلى حوض، فلما حذف الجار عدى الفعل بنفسه، فنصب، كقوله تعالى: (واختار موسى قومه) (1)، وتكون اللام في " لهم " إما لام التعدية، كقوله: " ويؤمن للمؤمنين " أي ويؤمن المؤمنين، أو تكون لام التعليل، أي لأجلهم. ومن رواها " لأفرطن " بضم الهمزة، فهو من أفرط المزادة، أي ملأها. والماتح: المستقى، متح يمتح، بالفتح، والمايح، بالياء: الذي ينزل إلى البئر فيملأ الدلو. وقيل لأبي على رحمه الله: ما الفرق بين الماتح والمايح؟ فقال: هما كإعجامهما، يعنى أن التاء بنقطتين من فوق، وكذلك الماتح لأنه المستقى، فهو فوق البئر، والياء بنقطتين من تحت، وكذلك المايح لأنه تحت في الماء الذي في البئر يملأ الدلاء. ومعنى قوله: " أنا ماتحه " أنا خبير به، كما يقل من يدعى معرفة الدار: أنا باني هذه الدار، والكلام استعارة، يقول لأملأن لهم حياض الحرب التي هي دربتي وعادتي، أو لأسبقنهم إلى حياض حرب أنا متدرب لها، مجرب لها، إذا وردوها لا يصدرون عنها يعنى قتلهم وإزهاق أنفسهم ومن فر منهم لا يعود إليها، ومن هذا اللفظ قول الشاعر: مخضت بدلوه حتى تحسى ذنوب الشر ملأى أو قرابا (2) * * *
(1) سورة الأعراف 155 (2) البيت في شرح الحماسة للمرزوقي 533 من غير نسبة. 240 (11) الأصل: ومن كلام له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل: تزول الجبال ولا تزل، عض على ناجذك، أعر الله جمجمتك، تد في الأرض قدمك، ارم ببصرك أقصى القوم، وغض بصرك، واعلم أن النصر من عند الله سبحانه. الشرح: قوله: " تزول الجبال ولا تزل "، خبر فيه معنى الشرط، تقديره: إن زالت الجبال فلا تزل أنت، والمراد المبالغة. في أخبار صفين أن بنى عكل - وكانوا مع أهل الشام - حملوا في يوم من أيام صفين، خرجوا وعقلوا أنفسهم بعمائمهم، وتحالفوا أنا لا نفر حتى يفر هذا " الحكر "، بالكاف، قالوا: لان عكلا تبدل الجيم كافا. والناجذ: أقصى الأضراس. وتد أمر من وتد قدمه في الأرض، أي أثبتها فيها كالوتد. ولا تناقض بين قوله: " ارم ببصرك " وقوله: " غض بصرك "، وذلك لأنه في الأولى أمره أن يفتح عينه ويرفع طرفه، ويحدق إلى أقاصي القوم ببصره، فعل الشجاع المقدام غير المكترث ولا المبالي، لان الجبان تضعف نفسه ويخفق قلبه فيقصر، بصره ولا يرتفع طرفه، ولا يمتد عنقه، ويكون ناكس الرأس، غضيض الطرف. وفي الثانية أمره أن يغض بصره عن بريق سيوفهم ولمعان دروعهم، لئلا يبرق بصره، ويدهش ويستشعر خوفا. وتقرير الكلام و " احمل " وحذف ذلك للعلم به، فكأنه قال: إذا عزمت على الحملة
241 وصممت، فغض حينئذ بصرك واحمل، وكن كالعشواء التي تخبط ما أمامها ولا تبالي. وقوله: " عض على ناجذك "، قالوا: إن العاض على نواجذه ينبو السيف عن دماغه، لان عظام الرأس تشتد وتصلب، وقد جاء في كلامه عليه السلام هذا مشروحا في موضع آخر، وهو قوله: " وعضوا على النواجذ، فإنه أنبى للصوارم عن الهام ". ويحتمل أن يريد به شدة الحنق. قالوا: فلان يحرق على الأرم، يريدون شدة الغيظ، والحرق: صريف الأسنان وصوتها، والارم: الأضراس. وقوله: " أعر الله جمجمتك "، معناه ابذلها في طاعة الله، ويمكن أن يقال: إن ذلك إشعار له أنه لا يقتل في تلك الحرب، لان العارية مردودة، ولو قال له: بع الله جمجمتك، لكان ذلك إشعارا له بالشهادة فيها. وأخذ يزيد بن المهلب هذه اللفظة فخطب أصحابه بواسط، فقال: إني قد أسمع قول الرعاع: جاء مسلمة، وجاء العباس (1)، وجاء أهل الشام، ومن أهل الشام! والله ما هم إلا تسعة أسياف، سبعة منها معي، واثنان على، وأما مسلمة فجرادة صفراء، وأما العباس فنسطوس ابن نسطوس، أتاكم في برابرة وصقالبة وجرامقة وأقباط وأخلاط، إنما أقبل إليكم الفلاحون وأوباش كأشلاء اللحم. والله ما لقوا قط كحديدكم وعديدكم، أعيروني سواعدكم ساعة تصفقون بها خراطيمهم، فإنما هي غدوة أو روحة، حتى يحكم الله بيننا وبين القوم الظالمين. من صفات الشجاع قولهم: فلان مغامر، وفلان غشمشم، أي لا يبصر ما بين يديه في الحرب، وذلك لشدة تقحمه وركوبه المهلكة، وقلة نظره في العاقبة، وهذا هو معنى قوله عليه السلام لمحمد: " غض بصرك ".
(1) هما مسلمة بن عبد الملك والعباس بن الوليد بن عبد الملك جهزهما يزيد بن بن عبد الملك لقتال يزيد بن المهلب. انظر ابن خلكان، ترجمة يزيد بن عبد الملك. 242 [ذكر خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب] وكان حمزة بن عبد المطلب مغامرا غشمشما لا يبصر أمامه، قال جبير بن مطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف لعبده وحشي يوم أحد: ويلك! إن عليا قتل عمى طعيمة سيد البطحاء يوم بدر، فإن قتلته اليوم فأنت حر، وإن قتلت محمدا فأنت حر، وإن قتلت حمزة فأنت حر، فلا أحد يعدل عمى إلا هؤلاء. فقال: أما محمد فإن أصحابه دونه، ولن يسلموه، ولا أراني أصل إليه، وأما على فرجل حذر مرس، (1) كثير الالتفات في الحرب لا أستطيع قتله، ولكن سأقتل لك حمزة، فإنه رجل لا يبصر أمامه في الحرب، فوقف لحمزة حتى إذا حاذاه زرقه بالحربة كما تزرق (2) الحبشة بحرابها، فقتله. [محمد بن الحنفية ونسبه وبعض أخباره] دفع أمير المؤمنين عليه السلام يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه عليه السلام، وقد استوت الصفوف، وقال له: احمل، فتوقف قليلا، فقال له: احمل، فقال: يا أمير المؤمنين، أما ترى السهام كأنها شآبيب المطر! فدفع في صدر، فقال: أدركك عرق من أمك، ثم أخذ الراية فهزها، ثم قال: أطعن بها طعن أبيك تحمد * لا خير في الحرب إذا لم توقد * بالمشرفي والقنا المسدد * ثم حمل وحمل الناس خلفه، فطحن عسكر البصرة. * * *
(1) رجل مرس: شديد العلاج للأمور. (2) زرقه: طعنه. 243 قيل لمحمد لم يغرر بك أبوك في الحرب ولا يغرر بالحسن والحسين عليهما السلام؟ فقال: إنهما عيناه وأنا يمينه، فهو يدفع عن عينيه بيمينه. * * * كان علي عليه السلام يقذف بمحمد في مهالك الحرب، ويكف حسنا وحسينا عنها. ومن كلامه في يوم صفين: أملكوا عنى هذين الفتيين، أخاف أن ينقطع بهما نسل رسول الله صلى الله عليه وآله. أم محمد رضي الله عنه، خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع ابن ثعلبة ابن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل. واختلف في أمرها، فقال قوم: إنها سبية من سبايا الردة، قوتل أهلها على يد خالد ابن الوليد في أيام أبى بكر، لما منع كثير من العرب الزكاة، وارتدت بنو حنيفة، وادعت نبوة مسيلمة، وإن أبا بكر دفعها إلى علي عليه السلام من سهمه في المغنم. وقال قوم، منهم أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني: هي سبية في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله، قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وآله عليا إلى اليمن، فأصاب خولة في بنى زبيد، وقد ارتدوا مع عمرو بن معدي كرب، وكانت زبيد سبتها من بنى حنيفة في غارة لهم عليهم، فصارت في سهم علي عليه السلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: إن ولدت منك غلاما فسمه باسمي، وكنه بكنيتي، فولدت له بعد موت فاطمة عليها السلام محمدا، فكناه أبا القاسم. وقال قوم، وهم المحققون، وقولهم الأظهر: إن بنى أسد أغارت على بنى حنيفة في خلافة أبى بكر الصديق، فسبوا خولة بنت جعفر، وقدموا بها المدينة فباعوها من علي عليه السلام،
244 وبلغ قومها خبرها، فقدموا المدينة على علي عليه السلام، فعرفوها وأخبروه بموضعها منهم، فأعتقها ومهرها وتزوجها، فولدت له محمدا، فكناه أبا القاسم. وهذا القول، هو اختيار أحمد بن يحيى البلاذري في كتابه المعروف ب " تاريخ الاشراف ". * * * لما تقاعس محمد يوم الجمل عن الحملة، وحمل علي عليه السلام بالراية، فضعضع أركان عسكر الجمل، دفع إليه الراية، وقال: امح الأولى بالأخرى، وهذه الأنصار معك. وضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين، في جمع من الأنصار، كثير منهم من أهل بدر، فحمل حملات كثيرة، أزال بها القوم عن مواقفهم وأبلى بلاء حسنا. فقال خزيمة بن ثابت لعلى عليه السلام: أما إنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح، ولئن كنت خفت عليه الجبن وهو بينك وبين حمزة وجعفر لما خفناه عليه، وإن كنت أردت ان تعلمه الطعان فطالما علمته الرجال. وقالت الأنصار: يا أمير المؤمنين، لولا ما جعل الله تعالى للحسن والحسين عليه السلام لما قدمنا على محمد أحدا من العرب. فقال علي عليه السلام: أين النجم من الشمس والقمر! أما إنه قد أغنى وأبلى، وله فضله، ولا ينقص فضل صاحبيه عليه، وحسب صاحبكم ما انتهت به نعمة الله تعالى إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا والله لا نجعله كالحسن والحسين، ولا نظلمهما له، ولا نظلمه - لفضلهما عليه - حقه، فقال علي عليه السلام: أين يقع ابني من ابني بنت رسول الله صلى الله عليه وآله! فقال خزيمة بن ثابت فيه: محمد ما في عودك اليوم وصمة * ولا كنت في الحرب الضروس معردا (1) أبوك الذي لم يركب الخيل مثله * على، وسماك النبي محمدا فلو كان حقا من أبيك خليفة * لكنت، ولكن ذاك ما لا يرى بدا
(1) معرد: منهزم. 245 وأنت بحمد الله أطول غالب (1) * لسانا، وأنداها بما ملكت يدا وأقربها من كل خير تريده * قريش وأوفاها بما قال موعدا وأطعنهم صدر الكمي برمحه * وأكساهم للهام عضبا مهندا سوى أخويك السيدين، كلاهما * إمام الورى والداعيان إلى الهدى أبى الله أن يعطى عدوك مقعدا * من الأرض أو في الأوج مرقى ومصعدا * * *
(1) غالب يقصد به ذرية غالب بن قهر بن مالك. 246 ومن كلام له عليه السلام، لما أظفره الله بأصحاب الجمل، وقد قال له بعض أصحابه: وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال علي عليه السلام: أهوى أخيك معنا؟ فقال: نعم، قال: فقد شهدنا، ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام (1) في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان، ويقوى بهم الايمان. * * * الشرح: يرعف بهم الزمان: يوجدهم ويخرجهم، كما يرعف الانسان بالدم الذي يخرجه من أنفه، قال الشاعر: وما رعف الزمان بمثل عمرو ولا تلد النساء له ضريبا والمعنى مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وآله لعثمان - ولم يكن شهد بدرا، تخلف على رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله لما مرضت مرض موتها: " لقد كنت شاهدا وإن كنت غائبا، لك أجرك وسهمك "، [من أخبار يوم الجمل] قال الكلبي: قلت لأبي صالح: كيف لم يضع علي عليه السلام السيف في أهل البصرة يوم الجمل بعد ظفره، قال: سار فيهم بالصفح والمن الذي سار به رسول الله صلى الله عليه
(1) مخطوطة النهج: " قوم ". 247 عليه وآله في أهل مكة يوم الفتح، فإنه أراد أن يستعرضهم بالسيف، ثم من عليهم، وكان يحب أن يهديهم الله. قال فطر بن خليفة: ما دخلت دار الوليد بالكوفة التي فيها القصارون إلا وذكرت بأصواتهم وقع السيوف يوم الجمل. حرب بن جيهان الجعفي: لقد رأيت الرماح يوم الجمل قد أشرعها الرجال، بعضها في صدور بعض، كأنها آجام القصب، لو شاءت الرجال أن تمشى عليها لمشت، ولقد صدقونا القتال حتى ما ظننت أن ينهزموا، وما رأيت يوما قط أشبه بيوم الجمل من يوم جلولاء الوقيعة (1). الأصبغ بن نباتة: لما انهزم أهل البصرة ركب علي عليه السلام بغلة رسول الله صلى الله عليه وآله الشهباء، وكانت باقية عنده، وسار في القتلى يستعرضهم، فمر بكعب بن سور القاضي، قاضى البصرة، وهو قتيل، فقال: أجلسوه فأجلس، فقال له: ويل أمك كعب ابن سور! لقد كان لك علم لو نفعك! ولكن الشيطان أضلك فأزلك، فعجلك إلى النار، أرسلوه. ثم مر بطلحة بن عبيد الله قتيلا، فقال: أجلسوه، فأجلس - قال أبو مخنف في كتابه: فقال! ويل أمك طلحة! لقد كان لك قدم لو نفعك! ولكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار. وأما أصحابنا فيروون غير ذلك، يروون أنه عليه السلام قال له لما أجلسوه: أعزز على أبا محمد أن أراك معفرا تحت نجوم السماء وفي بطن هذا الوادي! أبعد جهادك في الله، وذبك عن رسول الله صلى الله عليه وآله! فجاء إليه إنسان فقال: أشهد يا أمير المؤمنين، لقد مررت عليه بعد أن أصابه السهم وهو صريع، فصاح بي، فقال: من أصحاب من أنت؟ فقلت: من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: امدد يدك لأبايع
(1) جلولاء: موضع في خراسان، كانت بها وقعة المسلمين على الفرس سنة 16، وسميت الوقيعة لما أوقع بهم المسلمون (ياقوت). 248 لأمير المؤمنين عليه السلام، فمددت إليه يدي فبايعني لك. فقال علي عليه السلام: أبى الله ان يدخل طلحة الجنة إلا وبيعتي في عنقه. ثم مر بعبد الله بن خلف الخزاعي، وكان عليه السلام قتله بيده مبارزة، وكان رئيس أهل البصرة، فقال: أجلسوه، فأجلس، فقال: الويل لك يا بن خلف! لقد عانيت أمرا عظيما. وقال شيخنا أبو عثمان الجاحظ: ومر عليه السلام بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، فقال: أجلسوه، فأجلس، فقال: هذا يعسوب قريش، هذا اللباب المحض من بنى عبد مناف! ثم قال: شفيت نفسي، وقتلت معشري، إلى الله أشكو عجري وبجري! (1) قتلت الصناديد من بنى عبد مناف، وأفلتني الأعيار (2) من بنى مذحج. فقال له قائل: لشد ما أطريت هذا الفتى منذ اليوم يا أمير المؤمنين! قال: إنه قام عنى وعنه نسوة لم يقمن عنك. * * * قال أبو الأسود الدؤلي، لما ظهر علي عليه السلام يوم الجمل، دخل بيت المال بالبصرة في ناس من المهاجرين والأنصار وأنا معهم، فلما رأى كثرة ما فيه، قال: غري غيري، مرارا، ثم نظر إلى المال، وصعد فيه بصره وصوب، وقال: اقسموه بين أصحابي خمسمائة، فقسم بينهم، فلا والذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد درهما، كأنه كان يعرف مبلغه ومقداره، وكان ستة آلاف ألف درهم، والناس اثنا عشر ألفا.
(1) عجري وبجري، نقل صاحب اللسان (6: 216) عن محمد بن يزيد: " معناه همومي وأحزاني، وقيل: ما أبدى وأخفى، وكله على المثل ". وقال: " وأصل العجر العروق المنعقدة في الصدر، والبجر العروق المنعقدة في البطن خاصة ". (2) الأعيار هنا: جمع عير، وعير القوم: سيدهم، وعليه قول الحارث بن حلزة: زعموا أن كل من ضرب العير موال لنا وأنى الولاء 249 حبه العرني، (1) قسم علي عليه السلام بيت مال البصرة على أصحابه خمسمائة خمسمائة، وأخذ خمسمائة درهم كواحد منهم، فجاءه إنسان لم يحضر الوقعة، فقال: يا أمير المؤمنين، كنت شاهدا معك بقلبي، وإن غاب عنك جسمي، فاعطني من الفئ شيئا. فدفع إليه الذي أخذه لنفسه وهو خمسمائة درهم، ولم يصب من الفئ شيئا. * * * اتفقت الرواة كلها على أنه عليه السلام قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح ودابة ومملوك ومتاع وعروض، فقسمه بين أصحابه، وأنهم قالوا له: أقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقا، فقال: لا، فقالوا: فكيف تحل لنا دماءهم وتحرم علينا سبيهم! فقال: كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة وإسلام! أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم، وأما ما وارت الدور وأغلقت عليه الأبواب فهو لأهله، ولا نصيب لكم في شئ منه، فلما أكثروا عليه قال: فاقرعوا على عائشة، لأدفعها إلى من تصيبه القرعة! فقالوا: نستغفر الله يا أمير المؤمنين! ثم انصرفوا.
(1) حبة، بفتح أوله، ثم موحدة ثقيلة، بن جوين العرني، الكوفي. كان غاليا في التشيع، قال في التهذيب: مات أول ما قدم الحجاج العراق سنة 76 250 (13) الأصل: ومن كلام له عليه السلام في ذم أهل البصرة: كنتم جند المرأة، وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم، وعقر فهربتم، أخلاقكم دقاق، وعهدكم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق، والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه، كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة، قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها، وغرق من في ضمنها. وفي رواية: وأيم الله، لتغرقن بلدتكم، حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة، أو نعامة جاثمة. وفي رواية: كجؤجؤ طير في لجة بحر. وفي رواية أخرى: بلادكم أنتن بلاد الله تربة، أقربها من الماء، وأبعدها من السماء وبها تسعة أعشار الشر، المحتبس فيها بذنبه، والخارج بعفو الله. كأني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء، حتى ما يرى منها إلا شرف المسجد، كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر. * * *
251 الشرح: قوله: " وأتباع البهيمة "، يعنى الجمل، وكان جمل عائشة راية عسكر البصرة، قتلوا دونه كما تقتل الرجال تحت راياتها. وقوله: " أخلاقكم دقاق "، يصفهم باللؤم، وفى الحديث أن رجلا قال له: يا رسول الله إني أحب أن أنكح فلانة، إلا أن في أخلاق أهلها دقة، فقال له: " إياك وخضراء الدمن، إياك والمرأة الحسناء في منبت السوء ". قوله: " وعهدكم شقاق " يصفهم بالغدر، يقول: عهدكم وذمتكم لا يوثق بها، بل هي وإن كانت في الصورة عهدا أو ذمة، فإنها في المعنى خلاف وعداوة. قوله: " وماؤكم زعاق "، أي ملح، وهذا وإن لم يكن من أفعالهم إلا أنه مما تذم به المدينة، كما قال: بلاد بها الحمى وأسد عرينة * وفيها المعلى يعتدى ويجور فإني لمن قد حل فيها لراحم * وإني من لم يأتها لنذير ولا ذنب لأهلها في أنها بلاد الحمى والسباع: ثم وصف المقيم بين أظهرهم بأنه مرتهن بذنبه، لأنه إما أن يشاركهم في الذنوب أو يراها فلا ينكرها، ومذهب أصحابنا أنه لا تجوز الإقامة في دار الفسق، كما لا تجوز الإقامة في دار الكفر. والجؤجؤ: عظم الصدر وجؤجؤ السفينة: صدرها.
252 فأما إخباره عليه السلام أن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها، فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم تدل على أن البصرة تهلك بالماء الأسود ينفجر من أرضها، فتغرق ويبقى مسجدها. والصحيح أن المخبر به قد وقع، فإن البصرة غرقت مرتين، مرة في أيام القادر، بالله ومرة في أيام القائم بأمر الله، غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر، حسب ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السلام، جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس، ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام، وخربت دورها، وغرق كل ما في ضمنها، وهلك كثير من أهلها. وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة، يتناقلها خلفهم عن سلفهم. [من أخبار يوم الجمل أيضا] قال أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني ومحمد بن عمر الواقدي: ما حفظ رجز قط أكثر من رجز قيل يوم الجمل، وأكثره لبني ضبة والأسد، الذين كانوا حول الجمل يحامون عنه، ولقد كانت الرؤوس تندر (1) عن الكواهل، والأيدي تطيح من المعاصم، وأقتاب البطن (2) تندلق من الأجواف، وهم حول الجمل كالجراد الثابتة لا تتحلحل ولا تتزلزل، حتى لقد صرخ عليه السلام بأعلى صوته: ويلكم اعقروا، الجمل فإنه شيطان! ثم قال: اعقروه وإلا فنيت العرب. لا يزال السيف قائما وراكعا حتى يهوى هذا البعير
(1) تندر: تقطع. (2) الأقتاب: الأمعاء، واحده قتب، محركة بالتاء أو بكسر فسكون 253 إلى الأرض، فصمدوا له حتى عقروه فسقط وله رغاء شديد، فلما برك كانت الهزيمة. * * * ومن الأراجيز المحفوظة يوم الجمل لعسكر البصرة قول بعضهم (1): نحن بنو ضبة أصحاب الجمل * ننازل الموت إذا الموت نزل ننعي ابن عفان بأطراف الأسل * ردوا علينا شيخنا ثم بجل (2) الموت أحلى عندنا من العسل * لا عار في الموت إذا خان الاجل إن عليا هو من شر البدل إن تعدلوا بشيخنا لا يعتدل * أين الوهاد وشماريخ القلل * فأجابه رجل من عسكر الكوفة من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام: نحن قتلنا نعثلا فيمن قتل * أكثر من أكثر فيه أو أقل (4) أنى يرد نعثل وقد قحل نحن * ضربنا وسطه حتى انجدل (5) لحكمه حكم الطواغيت الأول * آثر بالفئ وجافى في العمل فأبدل الله به خير بدل * إني امرؤ مستقدم غير وكل * مشمر للحرب معروف بطل * ومن أراجيز أهل البصر ة: يا أيها الجند الصليب الايمان * قوموا قياما واستغيثوا الرحمن
(1) الأبيات في الطبري (5: 209)، منسوبة إلى رجل يدعى الحارث من بنى ضبة، وفى المسعودي (2: 37) من غير نسبة، مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات. (2) بجل: حسب، كذا فسره صاحب اللسان (13: 48)، واستشهد بالبيت. (3) الشماريخ: رؤوس الجبال. (4) قال صاحب اللسان: " نعثل رجل من أهل مصر، كان طويل اللحية، قيل إنه كان يشبه عثمان رضي الله عنه، هذا قول أبى عبيد. وشاتمو عثمان رضي الله عنه يسمونه نعثلا، تشبيها بالرجل المصري لطول لحيته، ولم يكونوا يجدون فيه عيبا غير هذا " (5) قحل: مات وجف جلده. وانجدل: سقط. 254 إني أتاني خبر ذو ألوان * أن عليا قتل ابن عفان ردوا إلينا شيخنا كما كان * يا رب وابعث ناصرا لعثمان * يقتلهم بقوة وسلطان * فأجابه رجل من عسكر الكوفة: أبت سيوف مذحج وهمدان * بأن ترد نعثلا كما كان خلقا سويا بعد خلق الرحمن * وقد قضى بالحكم حكم الشيطان وفارق الحق ونور الفرقان * فذاق كأس الموت شرب الظمآن. ومن الرجز المشهور المقول يوم الجمل قاله، أهل البصرة: يا أمنا عائش لا تراعى * كل بنيك بطل المصاع (1) ينعى ابن عفان إليك ناعي * كعب بن سور كاشف القناع فارضى بنصر السيد المطاع * والأزد فيها كرم الطباع. ومنه قول بعضهم: يا أمنا يكفيك منا دنوه * لن يؤخذ الدهر الخطام عنوه وحولك اليوم رجال شنوه * وحى همدان رجال الهبوه (2) والمالكيون القليلو الكبوه * والأزد حي ليس فيهم نبوة قالوا: وخرج من أهل البصرة شيخ صبيح الوجه، نبيل، عليه جبة وشى، يحض الناس على الحرب، ويقول: يا معشر الأزد عليكم أمكم * فإنها صلاتكم وصومكم والحرمة العظمى التي تعمكم * فأحضروها جدكم وحزمكم
(1) المصاع: الجلاد والضرب. (2) الهبوة: الغبرة، يريد ما يتناثر في المعارك من الغبار والتراب. 255 لا يغلبن سم العدو سمكم إن * العدو إن علاكم زمكم وخصكم بجوره وعمكم * لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم قال المدائني والواقدي: وهذا الرجز يصدق الرواية أن الزبير وطلحة قاما في الناس، فقالا: إن عليا إن يظفر فهو فناؤكم يا أهل البصرة، فاحموا حقيقتكم، فإنه لا يبقى حرمة إلا انتهكها، ولا حريما إلا هتكه، ولا ذرية إلا قتلها، ولا ذوات خدر إلا سباهن، فقاتلوا مقاتلة من يحمى عن حريمه، ويختار الموت على الفضيحة يراها في أهله. وقال أبو مخنف: لم يقل أحد من رجاز البصرة قولا كان أحب إلى أهل الجمل من قول هذا الشيخ: استقتل الناس عند قوله: وثبتوا حول الجمل، وانتدبوا، فخرج عوف بن قطن الضبي، وهو ينادى: ليس لعثمان ثأر إلا علي بن أبي طالب وولده، فأخذ خطام الجمل، وقال: يا أم يا أم خلا منى الوطن * لا أبتغي القبر ولا أبغي الكفن من هاهنا محشر عوف بن قطن * إن فاتنا اليوم على فالغبن أو فاتنا ابناه حسين وحسن * إذا أمت بطول هم وحزن ثم تقدم، فضرب بسيفه حتى قتل. وتناول عبد الله بن أبزى خطام الجمل، وكان كل من أراد الجد في الحرب وقاتل قتال مستميت يتقدم إلى الجمل فيأخذ بخطامه، ثم شد على عسكر علي عليه السلا م، وقال: أضربهم ولا أرى أبا حسن * ها إن هذا حزن من الحزن فشد عليه على أمير المؤمنين عليه السلام بالرمح فطعنه فقتله، وقال: قد رأيت أبا حسن، فكيف رأيته! وترك الرمح فيه. * * *
256 وأخذت عائشة كفا من حصى، فحصبت به أصحاب علي عليه السلام، وصاحت بأعلى صوتها شاهت الوجوه! كما صنع رسول الله صلى الله عليه وآله يوم حنين، فقال لها قائل: وما رميت إذ رميت ولكن الشيطان (1) رمى. وزحف علي عليه السلام نحو (2) الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار، وحوله بنوه: حسن وحسين ومحمد عليهم السلام ودفع الراية إلى محمد، وقال: أقدم بها حتى تركزها في عين (3) الجمل، ولا تقفن دونه. فتقدم محمد، فرشقته السهام، فقال لأصحابه: رويدا حتى تنفد سهامهم، فلم يبق لهم إلا رشقة أو رشقتان. فأنفذا إليه علي عليه السلام يستحثه، ويأمره بالمناجزة، فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه، فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن، وقال له: أقدم لا أم لك! فكان محمد رضي الله عنه إذا ذكر ذلك بعد يبكى، ويقول: لكأني أجد ريح نفسه في قفاي، والله لا أنسى ذلك أبدا. ثم أدركت عليا عليه السلام رقة على ولده، فتناول الراية منه بيده اليسرى، وذو الفقار مشهور في يمنى يديه، ثم حمل فغاص في عسكر الجمل، ثم رجع وقد انحنى سيفه، فأقامه بركبته. فقال له أصحابه وبنوه والأشتر وعمار، نحن نكفيك يا أمير المؤمنين. فلم يجب أحدا منهم ولا رد إليهم بصره، وظل ينحط (4) ويزأر زئير الأسد، حتى فرق من حوله. وتبادروه وإنه لطامح ببصره نحو عسكر البصرة، لا يبصر من حوله، ولا يرد حوارا، ثم دفع الراية إلى ابنه محمد، ثم حمل حملة ثانية وحده، فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدما قدما، والرجال تفر من بين يديه وتنحاز عنه يمنة ويسرة، حتى خضب الأرض بدماء القتلى، ثم رجع وقد انحنى سيفه، فأقامه بركبته، فاعصوصب (5) به أصحابه، وناشدوه الله في نفسه وفي الاسلام، وقالوا: إنك إن تصب يذهب الدين، فأمسك ونحن نكفيك. فقال: والله ما أريد بما ترون إلا وجه الله والدار الآخرة. ثم قال لمحمد ابنه: هكذا تصنع يا بن الحنفية، فقال الناس: من الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين!
(1) كذا في ا، وفى ب " ولكن الله ". (2) ا: " يوم ". (3) ا: " عجز " (4) ينحط: يزفر. (5) اعصوصبوا به: استجمعوا والتفوا حوله. 257 ومن كلماته الفصيحة عليه السلام في يوم الجمل، ما رواه الكلبي عن رجل من الأنصار، قال: بينا أنا واقف في أول الصفوف يوم الجمل، إذ جاء علي عليه السلام فانحرفت إليه فقال: أين مثرى القوم؟ فقلت: هاهنا، نحو عائشة. قال الكلبي: يريد أين عددهم؟ وأين جمهورهم وكثرتهم؟ والمال الثرى على " فعيل " هو الكثير، ومنه رجل ثروان، وامرأة ثروى، وتصغيرها ثريا: والصدقة مثراة للمال، أي مكثرة له. * * * قال أبو مخنف: وبعث علي عليه السلام إلى الأشتر: أن احمل على ميسرتهم، فحمل عليها وفيها هلال بن وكيع، فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتل هلال، قتله الأشتر، فمالت الميسرة إلى عائشة، فلاذوا بها، وعظمهم بنو ضبة وبنو عدى، ثم عطفت الأزد وضبة وناجية وباهلة إلى الجمل، فأحاطوا به، واقتتل الناس حوله قتالا شديدا، وقتل كعب بن سور قاضى البصرة، جاءه سهم (1) غرب، فقتله وخطام الجمل في يده، ثم قتل عمرو بن يثربي الضبي (2)، وكان فارس أصحاب الجمل وشجاعهم، بعد أن قتل كثيرا من أصحاب علي عليه السلام. قالوا: كان عمرو أخذ بخطام الجمل، فدفعه إلى ابنه، ثم دعا إلى البراز، فخرج إليه علباء بن الهيثم السدوسي، فقتله عمرو، ثم دعا إلى البراز، فخرج إليه هند بن عمرو الجملي (3) فقتله عمرو، ثم دعا إلى البراز، فقال زيد بن صوحان العبدي لعلى عليه السلام: يا أمير المؤمنين، إني رأيت يدا أشرفت على من السماء وهي تقول، هلم إلينا، وأنا خارج إلى
(1) يقال: أصابه سهم غرب (بفتحتين) وغرب (بفتح فسكون)، إذا كان لا يدرى من رماه، وقيل: إذا أتاه من حيث لا يدرى. اللسان 2: 133 (2) عمرو بن يثربي. كان من رؤوس ضبة في الجاهلية ثم أسلم، واستقضاه عثمان على البصرة. الإصابة 5: 120، والاشتقاق 413 (3) هو هند بن عمرو الجملي، نسبة إلى نجمل بن سعد العشيرة، حي من مذحج. الاشتقاق 413. 258 ابن يثربي، فإذا قتلني فادفني بدمي، ولا تغسلني، فإني مخاصم عند ربى. ثم خرج فقتله عمرو، ثم رجع إلى خطام الجمل مرتجزا يقول: أرديت علباء وهندا في طلق * ثم ابن صوحان خضيبا في علق (1) قد سبق اليوم لنا ما قد سبق * والوتر منا في عدى ذي الفرق والأشتر الغاوي وعمرو بن الحمق (2) * والفارس المعلم في الحرب الحنق ذاك الذي في الحادثات لم يطق * أعني عليا ليته فينا مزق قال: قوله: " والوتر منا في عدى " يعنى عدى بن حاتم الطائي، وكان من أشد الناس على عثمان، ومن أشدهم جهادا مع علي عليه السلام. ثم ترك ابن يثربي الخطام، وخرج يطلب المبارزة فاختلف في قاتله، فقال قوم: إن عمار بن ياسر خرج إليه، والناس يسترجعون له، لأنه كان أضعف من برز إليه يومئذ. أقصرهم سيفا، وأقصفهم رمحا، وأحمشهم (3) ساقا، حمالة سيفه من نسعة (4) الرحل، وذباب سيفه (5) قريب من إبطه. فاختلفا ضربتين، فنشب سيف ابن يثربي في حجفة (6) عمار فضربه عمار على رأسه فصرعه، ثم أخذ برجله يسحبه حتى انتهى به إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين استبقني أجاهد بين يديك، وأقتل منهم مثل ما قتلت منكم. فقال له علي عليه السلام: أبعد زيد وهند وعلباء أستبقيك! لاها الله إذا! قال: فأدنني منك أسارك، قال له: أنت متمرد، وقد أخبرني رسول الله صلى الله عليه وآله بالمتمردين، وذكرك فيهم. فقال: أما والله لو وصلت إليك لعضضت أنفك عضة أبنته منك. فأمر به عليه السلام فضربت عنقه.
(1) الطلق: الشوط، والفلق: الدم (2) عمرو بن الحمق، يعرف بالكاهن، صحب الرسول عليه السلام وشهد المشاهد مع علي، وقتله معاوية بالجزيرة، وكان رأسه أول رأس صلب في الاسلام. الاشتقاق 474 (3) أحمش الساقين: دقيقهما. (4) المسع: سير ينسج عريضا على هيئة أعنة النعال، تشتد به الرحال، والقطعة منه نسعة. (5) الذباب: حد السيف، أو طرفه المتطرف. (6) الحجفة: واحدة الحجف، وهي التروس من جلد أو خشب. 259 وقال قوم: إن عمرا لما قتل من قتل، وأراد أن يخرج لطلب البراز، قال للأزد: يا معشر الأزد، إنكم قوم لكم حياء وبأس، وإني قد وترت القوم وهم قاتلي، وهذه أمكم نصرها دين، وخذلانها عقوق، ولست أخشى أن أقتل حتى أصرع، فإن صرعت فاستنقذوني. فقالت له الأزد: ما في هذا الجمع أحد نخافه عليك إلا الأشتر، قال: فإياه أخاف. قال أبو مخنف: فقيضه الله له، وقد أعلما جميعا، فارتجز الأشتر: إني إذا ما الحرب أبدت نابها * وأغلقت يوم الوغى أبوابها ومزقت من حنق أثوابها * كنا قداماها ولا أذنابها (1) ليس العدو دوننا أصحابها * من هابها اليوم فلن أهابها * لا طعنها أخشى ولا ضرابها * ثم حمل عليه فطعنه فصرعه، وحامت عنه الأزد فاستنقذوه، فوثب وهو وقيذ ثقيل (2)، فلم يستطع أن يدفع عن نفسه، واستعرضه عبد الرحمن بن طود البكري، فطعنه فصرعه ثانية، ووثب عليه رجل من سدوس، فأخذه مسحوبا برجله حتى أتى به عليا عليه السلام، فناشده الله، وقال: يا أمير المؤمنين، اعف عنى، فإن العرب لم تزل قائلة عنك: إنك لم تجهز على جريح قط. فأطلقه، وقال: إذهب حيث شئت، فجاء إلى أصحابه وهو لما به. حضره الموت، فقالوا له: دمك عند أي الناس؟ فقال: أما الأشتر فلقيني وأنا كالمهر الأرن (3)، فعلا حده حدى، ولقيت رجلا يبتغى له عشرة أمثالي. وأما البكري فلقيني، وأنا لما بي، وكان يبتغى لي عشرة أمثاله، وتولى أسرى أضعف القوم، وصاحبي الأشتر. قال أبو مخنف: فلما انكشفت الحرب، شكرت ابنة عمرو بن يثربي الأزد، وعابت قومها، فقالت:
(1) قدامي الجيش: مقدمه. (2) الوقيذ: الجريح المشرف على الموت. (3) الأردن: النشيط. 260 يا ضب إنك قد فجعت بفارس * حامي الحقيقة قاتل الاقران عمرو بن يثرب الذي فجعت به * كل القبائل من بنى عدنان لم يحمه وسط العجاجة قومه * وحنت عليه الأزد، أزد عمان فلهم على بذاك حادث نعمة * ولحبهم أحببت كل يمان لو كان يدفع عن منية هالك * طول الأكف بذابل المران أو معشر وصلوا الخطا بسيوفهم * وسط العجاجة والحتوف دواني ما نيل عمر والحوادث جمة * حتى ينال النجم والقمران لو غير الأشتر ناله لندبته * وبكيته ما دام هضب أبان (1) لكنه من لا يعاب بقتله * أسد الأسود وفارس الفرسان قال أبو مخنف: وبلغنا أن عبد الرحمن بن طود البكري قال لقومه: أنا والله قتلت عمرا، وان الأشتر كان بعدي وأنا أمامه في الصعاليك، فطعنت عمرا طعنة لم أحسب أنها تجعل للأشتر دوني، وإنما الأشتر ذو حظ في الحرب، وإنه ليعلم أنه كان خلفي، ولكن أبى الناس إلا أنه صاحبه، ولا أرى أن أكون خصم العامة، وإن الأشتر لأهل ألا ينازع. فلما بلغ الأشتر قوله قال: أما والله لولا أنى أطفأت جمرته عنه ما دنا منه، وما صاحبه غيري، وإن الصيد لمن وقذه. فقال عبد الرحمن: لا أنازع فيه، ما القول إلا ما قاله، وأنى لي أن أخالف الناس! * * * قال: وخرج عبد الله بن خلف الخزاعي، وهو رئيس البصرة، وأكثر أهلها مالا وضياعا، فطلب البراز، وسأل ألا يخرج إليه إلا علي عليه السلام، وارتجز فقال: أبا تراب ادن منى فترا (2) * فإنني دان إليك شبرا وإن في صدري عليك غمرا (3)
(1) أبان: من أسماء الجبال عندهم. (2) كذا في ا، وفى " يا با تراب ". (3) الغمر الحقد والعداوة. 261 فخرج إليه علي عليه السلام، فلم يمهله أن ضربه، فقلق هامته. * * * قالوا: استدار الجمل كما تدور الرحا، وتكاثفت الرجال من حوله، واشتد رغاؤه واشتد زحام الناس عليه، ونادى الحتات المجاشعي: أيها الناس، أمكم أمكم! واختلط الناس، فضرب بعضهم بعضا، وتقصد أهل الكوفة قصد الجمل، والرجال دونه كالجبال، كلما خف قوم جاء أضعافهم، فنادى علي عليه السلام: ويحكم! ارشقوا الجمل بالنبل، اعقروه لعنه الله! فرشق بالسهام، فلم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل، وكان متجفجفا (1) فتعلقت السهام به، فصار كالقنفذ، ونادت الأزد وضبة: يا لثارات عثمان! فاتخذوها شعارا، ونادى أصحاب علي عليه السلام: يا محمد! فاتخذوها شعارا، واختلط الفريقان، ونادى علي عليه السلام بشعار رسول الله صلى الله عليه وآله: يا منصور أمت (2). وهذا في اليوم الثاني من أيام الجمل، فلما دعا بها تزلزلت أقدام القوم، وذلك وقت العصر، بعد أن كانت الحرب من وقت الفجر. قال الواقدي: وقد روى أن شعاره عليه السلام كان في ذلك اليوم " حم لا ينصرون. اللهم انصرنا على القوم الناكثين "، ثم تحاجز الفريقان، والقتل فاش فيهما، إلا أنه في أهل البصرة أكثر، وأمارات النصر لائحة لعسكر الكوفة، ثم تواقفوا في اليوم الثالث، فبرز أول الناس عبد الله بن الزبير، ودعا إلى المبارزة، فبرز إليه الأشتر، فقالت عائشة: من برز إلى عبد الله؟ قالوا: الأشتر، فقالت: وا ثكل أسماء! فضرب كل منهما صاحبه فجرحه، ثم اعتنقا، فصرع الأشتر عبد الله، وقعد على صدره، واختلط الفريقان: هؤلاء لينقذوا عبد الله، وهؤلاء ليعينوا الأشتر. وكان الأشتر طاويا ثلاثة أيام
(1) متجفجفا، من قولهم تجفجف الثوب، إذا ابتل ثم جف وفيه ندى. (2) هو أمر بالموت، والمراد به التفاؤل بالنصر بعد الامر بالإماتة، مع حصول الغرض (النهاية لابن الأثير). 262 لم يطعم، وهذه عادته في الحرب، وكان أيضا شيخا عالي السن، فجعل عبد الله ينادى: * اقتلوني ومالكا (1) * فلو قال: " اقتلوني والأشتر " لقتلوهما، إلا أن أكثر من كان يمر بهما لا يعرفهما، لكثرة من وقع في المعركة صرعى بعضهم فوق بعض، وأفلت ابن الزبير من تحته أو لم يكد، فذلك قول الأشتر: أعائش لولا أنني كنت طاويا * ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا غداة ينادى والرجال تحوزه * بأضعف صوت: اقتلوني ومالكا! فلم يعرفوه إذ دعاهم وغمه * خدب عليه في العجاجة باركا (2) فنجاه منى أكله وشبابه * وأنى شيخ لم أكن متماسكا * * * وروى أبو مخنف عن الأصبغ بن نباتة، قال: دخل عمار بن ياسر ومالك بن الحارث الأشتر على عائشة بعد انقضاء أمر الجمل فقالت عائشة: يا عمار، من معك؟ قال الأشتر: فقالت: يا مالك، أنت الذي صنعت بابن أختي ما صنعت؟ قال: نعم، ولولا أنى كنت طاويا ثلاثة أيام لأرحت أمة محمد منه، فقالت: أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه قال: " لا يحل دم مسلم الا بأحد أمور ثلاث: كفر بعد الايمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق "! قال الأشتر: على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا أم المؤمنين، وأيم الله ما خانني سيفي قبلها، ولقد أقسمت ألا يصحبني بعدها. قال أبو مخنف: ففي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشعر الذي ذكرناه: وقالت على أي الخصال صرعته * بقتل أتى، أم ردة لا أبا لكا! أم المحصن الزاني الذي حل قتله * فقلت لها لا بد من بعض ذلكا * * *
(1) بقيته * واقتلوا مالكا معي * وانظر المسعودي 2: 376 (2) الخدب: الضخم. 263 قال أبو مخنف: وانتهى الحارث بن زهير الأزدي من أصحاب علي عليه السلام إلى الجمل، ورجل (1) آخذ بخطامه، لا يدنو منه أحد إلا قتله، فلما رآه الحارث بن زهير مشى إليه بالسيف وارتجز، فقال لعائشة: يا أمنا أعق أم نعلم (2) * والام تغذو ولدها وترحم أما ترين كم شجاع يكلم! * وتختلي هامته والمعصم! (3) فاختلف هو والرجل ضربتين، فكلاهما أثخن صاحبه. قال جندب بن عبد الله الأزدي: فجئت حتى وقفت عليهما وهما يفحصان بأرجلهما حتى ماتا. قال: فأتيت عائشة بعد ذلك أسلم عليها بالمدينة، فقالت: من أنت؟ قلت: رجل من أهل الكوفة، قالت: هل شهدتنا يوم البصرة؟ قلت: نعم، قالت: مع أي الفريقين؟ قلت: مع علي، قالت: هل سمعت مقالة الذي قال: * يا أمنا أعق أم نعلم * قلت: نعم، وأعرفه، قالت: ومن هو؟ قلت: ابن عم لي، قالت: وما فعل؟ قلت: قتل عند الجمل وقتل قاتله، قال: فبكت حتى ظننت والله أنها لا تسكت، ثم قالت: لوددت والله أنني كنت مت قبل ذلك اليوم بعشرين سنة. قالوا: وخرج رجل من عسكر البصرة يعرف بخباب بن عمرو الراسبي، فارتجز فقال: أضربهم ولو أرى عليا * عممته أبيض مشرفيا * أريح منه معشرا غويا * فقصده الأشتر فقتله. ثم تقدم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، وهو
(1) هو عمرو بن الأشرف. الطبري 5: 211 (2) ذكر الطبري رواية أخرى في هذا الرجز: * يا أمنا يا خير أم نعلم * (3) تختلي: تقطع 264 من أشراف قريش - وكان اسم سيفه " ولول " - فارتجز، فقال: أنا ابن عتاب وسيفي ولول * والموت دون الجمل المجلل (1) فحمل عليه الأشتر فقتله. ثم خرج عبد الله بن حكيم بن حزام، من بنى أسد بن عبد العزى ابن قصي، من أشراف قريش أيضا، فارتجز وطلب المبارزة، فخرج إليه الأشتر فضربه على رأسه فصرعه، ثم قام فنجا بنفسه. قالوا: وأخذ خطام الجمل سبعون من قريش، قتلوا كلهم، ولم يكن يأخذ بخطام الجمل أحد إلا سالت نفسه، أو قطعت يده. وجاءت بنو ناجية، فأخذوا بخطام الجمل، ولم يكن يأخذ الخطام أحد إلا سألت عائشة: من هذا؟ فسألت عنهم، فقيل: بنو ناجية، فقالت عائشة: صبرا يا بنى ناجية، فإني أعرف فيكم شمائل قريش. قالوا: وبنو ناجية مطعون في نسبهم (2 إلى قريش 2)، فقتلوا حولها جميعا. قال أبو مخنف: وحدثنا إسحاق بن راشد عن عبد الله بن الزبير، قال: أمسيت يوم الجمل وبي سبعة وثلاثون جرحا، من ضربة وطعنة ورمية، وما رأيت مثل يوم الجمل قط، ما كان الفريقان إلا كالجبلين لا يزولان. قال أبو مخنف: وقام رجل إلى علي عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، أي فتنة أعظم من هذه؟ إن البدرية ليمشي بعضها إلى بعض بالسيف! فقال علي عليه السلام: ويحك! أتكون فتنة أنا أميرها وقائدها! والذي بعث محمدا بالحق وكرم وجهه، ما كذبت ولا كذبت، ولا ضللت ولا ضل بي، ولا زللت ولا زل بي، وإني لعلى بينة من ربى، بينها الله لرسوله، وبينها رسوله لي، وسأدعى يوم القيامة ولا ذنب لي، ولو كان لي ذنب لكفر عنى ذنوبي ما أنا فيه من قتالهم. قال أبو مخنف: وحدثنا مسلم الأعور عن حبة العرني قال: فلما رأى علي عليه السلام
(1) ب: " عند الجمل " (2 - 2) ساقطة من ب 265 أن الموت عند الجمل، وأنه ما دام قائما فالحرب لا تطفأ، وضع سيفه على عاتقه، وعطف نحوه، وأمر أصحابه بذلك، ومشى نحوه والخطام مع بنى ضبة، فاقتتلوا قتالا شديدا، واستحر القتل في بنى ضبة، فقتل منهم مقتلة عظيمة، وخلص علي عليه السلام في جماعة من النخع وهمدان إلى الجمل، فقال لرجل من النخع اسمه بجير: دونك الجمل يا بجير، فضرب عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه، وضرب بجرانه الأرض، وعج عجيجا لم يسمع بأشد منه، فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب، واحتملت عائشة بهودجها، فحملت إلى دار عبد الله بن خلف، وأمر علي عليه السلام بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح. وقال عليه السلام: لعنه الله من دابة! فما أشبهه بعجل بني إسرائيل، ثم قرأ: (وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا) (1). * * *
(1) سورة طه 97 266 (14) الأصل: ومن كلام له عليه السلام في مثل ذلك: أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء. خفت عقولكم، وسفهت حلومكم، فأنتم غرض لنابل، وأكلة لآكل، وفريسة لصائل. * * * الشرح: الغرض: ما ينصب ليرمى بالسهام. والنابل: ذو النبل. والاكلة، بضم الهمزة: المأكول. وفريسة الأسد: ما يفترسه. وسفه فلان، بالكسر، أي صار سفيها، وسفه بالضم أيضا. فإذا قلت: سفه فلان رأيه أو حلمه أو نفسه، لم تقل إلا بالكسر، لان " فعل " بالضم لا يتعدى. وقولهم: سفه فلان نفسه، وغبن رأيه، وبطر عيشه، وألم بطنه، ورفق حاله، ورشد أمره، كان الأصل فيه كله: سفهت نفس زيد، فلما حول الفعل إلى الرجل انتصب ما بعده بالمفعولية. هذا مذهب البصريين والكسائي من الكوفيين: وقال الفراء: لما حول الفعل إلى الرجل خرج ما بعده مفسرا ليدل على أن السفاهة فيه، وكان حكمه أن يكون: سفه زيد نفسا، لان المفسر لا يكون إلا نكرة، ولكنه ترك على إضافته، ونصب كنصب النكرة، تشبيها بها. ويجوز عند البصريين والكسائي تقديم المنصوب، كما يجوز: ضرب غلامه زيد، وعند الفراء لا يجوز تقديمه، لان المفسر لا يتقدم (1).
(1) الصحاح 6: 2235 267 فأما قوله: " أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء "، فقد قدمنا (1) معنى قوله " قريبة من الماء " وذكرنا غرقها من بحر فارس دفعتين، ومراده عليه السلام بقوله: " قريبة من الماء "، أي قريبة من الغرق بالماء. وأما " بعيدة من السماء "، فإن أرباب علم الهيئة وصناعة التنجيم يذكرون أن أبعد موضع في الأرض عن السماء الأبلة (2)، وذلك موافق لقوله عليه السلام. ومعنى البعد عن السماء هاهنا هو بعد تلك الأرض المخصوصة عن دائرة معدل النهار والبقاع، والبلاد تختلف في ذلك. وقد دلت الأرصاد والآلات النجومية على أن أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو الأبلة، والأبلة هي قصبة البصرة. وهذا الموضع من خصائص أمير المؤمنين عليه السلام، لأنه أخبر عن أمر لا تعرفه العرب، ولا تهتدي إليه، وهو مخصوص بالمدققين من الحكماء. وهذا من أسراره وغرائبه البديعة
(1) ص 253 من هذا الجزء. (2) الأبلة بضم أوله وثانيه وتشديد اللام وفتحها: بلدة على شاطئ دجلة البصرة العظمى، في زاوية الخليج الذي يدخل إلى مدينة البصرة، وهي أقدم من البصرة. مراصد الاطلاع 1: 18 268 (15) الأصل: ومن كلام له عليه السلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضي الله عنه: والله لو وجدته قد تزوج به النساء، وملك به الإماء، لرددته، فإن في العدل سعة. ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق. * * * الشرح: القطائع: ما يقطعه الامام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج، ويسقط عنه خراجه، ويجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج. وقد كان عثمان أقطع كثيرا من بنى أمية وغيرهم من أوليائه وأصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة، وقد كان عمر أقطع قطائع، ولكن لأرباب الغناء في الحرب والآثار المشهورة في الجهاد، فعل ذلك ثمنا عما بذلوه من مهجهم في طاعة الله سبحانه، وعثمان أقطع القطائع صلة لرحمه، وميلا إلى أصحابه، عن غير عناء في الحرب ولا أثر. وهذه الخطبة ذكرها الكلبي مروية مرفوعة إلى أبى صالح عن ابن عباس رضي الله عنه : أن عليا عليه السلام خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة، فقال: ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإن الحق القديم لا يبطله شئ، ولو وجدته وقد (1) تزوج به النساء، وفرق في البلدان، لرددته إلى حاله (2)، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق.
(1) ب: " قد ". (2) ب: " على حاله ". 269 وتفسير هذا الكلام أن الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات أموره في العدل، فهي في الجور أضيق عليه، لان الجائر في مظنة أن يمنع ويصد عن جوره. * * * قال الكلبي: ثم أمر عليه السلام بكل سلاح وجد لعثمان في داره، مما تقوى به على المسلمين فقبض، وأمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة، فقبضت، وأمر بقبض سيفه ودرعه، وأمر ألا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمون، وبالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره وفي غير داره، وأمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها. فبلغ ذلك عمرو بن العاص، وكان بأيلة من أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان، فنزلها فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعا فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها. وقال الوليد بن عقبة - وهو أخو عثمان من أمه - يذكر قبض علي عليه السلام نجائب عثمان وسيفه وسلاحه (1): بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم * ولا تنهبوه لا تحل مناهبه بني هاشم كيف الهوادة بيننا * وعند على درعه ونجائبه! بني هاشم كيف التودد منكم * وبز ابن أروى فيكم وحرائبه! (2) بني هاشم إلا تردوا فإننا * سواء علينا قاتلاه وسالبه بني هاشم إنا وما كان منكم * كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه * كما غدرت يوما بكسري مرازبه (3)
(1) الأبيات في المسعودي 2: 356، مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات. (2) البز: متاع البيت من الثياب. الحرائب: جمع حريبة، وهو مال الرجل الذي يقوم به أمره، وراية البيت في المسعودي: بني هاشم، كيف الهوادة بيننا * وسيف ابن أروى عندكم وحرائبه (3) رواية المسعودي: * غدرتم به كيما تكونوا مكانه * 270 فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة (1)، من جملتها: فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم * أضيع وألقاه لدى الروع صاحبه وشبهته كسرى وقد كان مثله * شبيها بكسرى هديه وضرائبه أي كان كافرا، كما كان كسرى كافرا. وكان المنصور رحمه الله تعالى إذا أنشد هذا الشعر (2) يقول: لعن الله الوليد! هو الذي فرق بين بنى عبد مناف بهذا الشعر! * * *
(1) نسبها المسعودي إلى الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، ذكر بعد البيت الأول: سلوا أهل مصر عن سلاح ابن أختنا * فهم سلبوه سيفه وحرائبه وكان ولى الامر بعد محمد * علي وفى كل المواطن صاحبه على ولى الله أظهر دينه * وأنت مع الأشقين فيما تحاربه وأنت امرؤ من أهل صفواء نازح * فمالك فينا من حميم تعاتبه وقد أنزل الرحمن أنك فاسق * فمالك في الاسلام سهم تطالبه (2) ب: " البيت ". 271 (16) الأصل: ومن خطبة له عليه السلام لما بويع بالمدينة: ذمتي بما أقول رهينة، وأنا به زعيم. إن من صرحت له العبر عما بين يديه من المثلات، حجزته التقوى عن تقحم الشبهات. ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه (1). والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم. وليسبقن سابقون كانوا قصروا، وليقصرن سباقون كانوا سبقوا. والله ما كتمت وشمة، ولا كذبت كذبة، ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم. ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها، وخلعت لجمها، فتقحمت بهم في النار. ألا وإن التقوى مطايا ذلل، حمل عليها أهلها، وأعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة. حق وباطل، ولكل أهل، فلئن أمر الباطل لقديما فعل، ولئن قل الحق لربما ولعل، ولقلما أدبر شئ فأقبل. * * * (2 قال الرضى عليه السلام 2) وأقول: إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع
(1) كذا في ا ومخطوطة النهج، وفى ب: " نبيهم ". (2 - 2) ساقط من ب 272 الاحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان، وإن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به، وفيه مع الحال التي وصفنا (1) زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان، ولا يطلع فجها إنسان، ولا يعرف ما أقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق، وجرى فيها على عرق، (وما يعقلها إلا العالمون). * * * ومن هذه الخطبة: شغل من الجنة والنار أمامه. ساع سريع نجا، وطالب بطئ رجا، ومقصر في النار هوى. اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي (2) الكتاب وآثار النبوة منها منفذ السنة، وإليها مصير العاقبة. هلك من ادعى وخاب من افترى. من أبد صفحته للحق هلك (3). * وكفى بالمرء جهلا ألا يعرف قدره. لا يهلك على التقوى سنخ أصل، ولا يظمأ عليها زرع قوم، فاستتروا في بيوتكم، وأصلحوا ذات بينكم، والتوبة من ورائكم، ولا يحمد حامد إلا ربه، ولا يلم لائم إلا نفسه. * * *
(1) مخطوطة النهج: " وصفناه ". (2) مخطوطة النهج: " ما في الكتاب ". (3) زاد في مخطوطة النهج بعد هذه الكلمة: " عند جهلة الناس ". 273 الشرح: الذمة: العقد والعهد، يقول: هذا الدين في ذمتي، كقولك: في عنقي، وهما كناية عن الالتزام والضمان والتقلد. والزعيم: الكفيل، ومخرج الكلام لهم مخرج الترغيب في سماع ما يقوله، كما يقول المهتم بإيضاح أمر لقوم لهم: أنا المدرك المتقلد بصدق ما أقوله لكم. وصرحت: كشفت. والعبر: جمع عبرة، وهي الموعظة. والمثلات: العقوبات. وحجزه منعه. وقوله: " لتبلبلن " أي لتخلطن، تبلبلت الألسن، أي اختلطت. " ولتغربلن " يجوز أن يكون من الغربال الذي يغربل به الدقيق، ويجوز أن يكون من غربلت اللحم، أي قطعته. فإن كان الأول كان له معنيان: أحدهما الاختلاط، كالتبلبل، لان غربلة الدقيق تخلط بعضه ببعض. والثاني أن يريد بذلك أنه يستخلص الصالح منكم من الفاسد، ويتميز كما يتميز الدقيق عند الغربلة من نخالته. وتقول: ما عصيت فلانا وشمة، أي كلمة. وحصان شموس: يمنع ظهره، شمس الفرس، بالفتح، وبه شماس. وأمر الباطل: كثر. وقوله: " لقديما فعل " أي لقديما فعل الباطل ذلك، ونسب الفعل إلى الباطل مجازا. ويجوز أن يكون " فعل " بمعنى " انفعل " كقوله (1): * قد جبر الدين الاله فجبر * أي فانجبر. والسنخ: الأصل، وقوله: " سنخ أصل " كقوله (2): * إذا حاص عينيه كرى النوم... * وفي بعض الروايات: " من أبدى صفحته للحق هلك عند جهله الناس "، والتأويل مختلف فمراده على الرواية الأولى - وهي الصحيحة - من كاشف الحق مخاصما له هلك،
(1) مطلع أرجوزة للعجاج، ديوانه 15، واللسان 5: 185 (2) لتأبط شرا، والبيت برواية أبى تمام في الحماسة - بشرح المرزوقي 1: 97: إذا عينيه كرى النوم لم يزل له كالئ من قلب شيحان فاتك 274 وهي كلمة جارية مجرى المثل. ومراده على الرواية الثانية: من أبدى صفحته لنصره الحق غلبه أهل الجهل، لأنهم العامة، وفيهم الكثرة، فهلك. * * * وهذه الخطبة من جلائل خطبه عليه السلام ومن مشهوراتها، قد رواها الناس كلهم، وفيها زيادات حذفها الرضى، إما اختصارا أو خوفا من إيحاش السامعين، وقد ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب " البيان والتبيين " على وجهها (1)، ورواها عن أبي عبيدة معمر بن المثنى. قال: أول خطبة خطبها أمير المؤمنين علي عليه السلام بالمدينة في خلافته (2 حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله وآله 2)، ثم قال: ألا لا يرعين (3) مرع إلا على نفسه. شغل من الجنة والنار أمامه (4). ساع مجتهد [ينجو] (5)، وطالب يرجو، ومقصر في النار (6)، ثلاثة. واثنان: ملك طار بجناحيه، ونبي أخذ الله بيده (7)، لا سادس. لك من ادعى، وردي من اقتحم. (8) اليمين والشمال مضلة، والوسطى الجادة (9)، منهج عليه باقي الكتاب والسنة وآثار النبوة. إن الله داوى هذه الأمة بدواءين: السوط والسيف، لا هوادة عند الامام فيهما. استتروا في بيوتكم (10)، وأصلحوا ذات بينكم (11)، والتوبة من ورائكم. من أبدى صفحته
(1) البيان والتبيين (2: 50 - 52)، ورواها أيضا ابن قتيبة في عيون الأخبار (2: 236). (2 - 2) البيان: " أنه قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه ". (3) البيان: " أما بعد فلا يرعين ". (4) في البيان: " فإن من أرعى على غير نفسه شغل عن الجنة والنار أمامه " (5) تكملة من البيان والتبيين (6) عند ابن قتيبة في العيون: " ساع سريع نجا، وطالب بطئ رجاء، ومقصر في النار هوى ". (7) البيان والعيون: " بيديه " (8) البيان: " فإن اليمين ". (9) الجادة: الطريق الواضح. (10) البيان: " استتروا بيوتكم "، والعيون " فاستتروا ببيوتكم ". (11) البيان: " وأصلحوا فيما بينكم ". 275 للحق هلك. قد كانت [لكم] أمور [ملتم فيها على ميلة] (1) لم تكونوا عندي فيها محمودين (2) [ولا مصيبين] (1). أما إني لو أشاء لقلت: عفا الله عما سلف. سبق الرجلان وقام الثالث كالغراب، همته بطنه. ويحه (3) لو قص جناحاه، وقطع رأسه لكان خير له! انظروا فإن أنكرتم فأنكروا، وإن عرفتم فآزروا. حق وباطل، ولكل أهل. ولئن أمر الباطل لقديما فعل، وإن (4) قل الحق لربما ولعل، وقلما أدبر شئ فأقبل (5). ولئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء، وإني لأخشى أن تكونوا في فترة، وما علينا إلا الاجتهاد. قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى: وقال أبو عبيدة: وزاد (6 فيها في رواية جعفر ابن محمد عليه السلام عن آبائه عليهم السلام 6): ألا إن أبرار عترتي، وأطايب أرومتي، أحلم الناس صغارا، وأعلم الناس كبارا. ألا وإنا أهل بيت من علم الله علمنا، وبحكم الله حكمنا، ومن قول صادق سمعنا، فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا، وإن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا. ومعنا راية الحق، من تبعها لحق، ومن تأخر عنها غرق. ألا وبنا يدرك ترة كل مؤمن، وبنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم (7)، وبنا فتح (8) لا بكم، ومنا يختم لا بكم. * * * قوله: " لا يرعين " أي لا يبقين، أرعيت عليه، أي أبقيت، يقول: من أبقى على الناس فإنما أبقى على نفسه. والهوادة: الرفق والصلح، وأصله اللين، والتهويد: المشي،
(1) تكملة من البيان والتبيين. (2) البيان: " بمحمودين " (3) البيان: " يا ويحه ". (4) البيان: " ولئن قل ". (5) البيان: " ما أدبر شئ فأقبل ". (6 - 6) البيان: " وروى فيها جعفر بن محمد ". (7) البيان: " من أعناقكم ". (8) ا، والبيان: " فتح الله ". 276 رويدا، وفي الحديث: " أسرعوا المشي في الجنازة ولا تهودوا كما تهود أهل الكتاب ". وآزرت: زيدا: أعنته. والترة: والوتر. والربقة: الحبل يجعل في عنق الشاة. وردي: هلك، من الردى، كقولك: عمى من العمى، وشجي من الشجى. وقوله: " شغل من الجنة والنار أمامه "، يريد به أن من كانت هاتان الداران أمامه لفي شغل عن أمور الدنيا إن كان رشيدا. وقوله: " ساع مجتهد " إلى قوله: " لا سادس " كلام تقديره: المكلفون على خمسة أقسام: ساع مجتهد، وطالب راج، ومقصر هالك. ثم قال: ثلاثة، أي فهؤلاء ثلاثة أقسام، وهذا ينظر إلى قوله سبحانه: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله) (1)، ثم ذكر القسمين: الرابع والخامس، فقال: هما ملك طار بجناحيه، ونبي أخذ الله بيده، يريد عصمة هذين النوعين من القبيح، ثم قال: " لا سادس "، أي لم يبق في المكلفين قسم سادس. وهذا يقتضى أن العصمة ليست إلا للأنبياء والملائكة، ولو كان الامام يجب أن يكون معصوما لكان قسما سادسا، فإذن قد شهد هذا الكلام بصحة ما تقوله المعتزلة في نفى اشتراط العصمة في الإمامة، اللهم إلا أن يجعل الامام المعصوم داخلا في القسم الأول، وهو الساعي المجتهد. وفيه بعد وضعف. وقوله: " هلك من ادعى، وردي من اقتحم "، يريد هلك من ادعى وكذب، لا بد من تقدير ذلك، لان الدعوى تعم الصدق والكذب، وكأنه يقول: هلك من ادعى الإمامة، وردي من اقتحمها وولجها عن غير استحقاق، لان كلامه عليه السلام في هذه الخطبة كله كنايات عن الإمامة لا عن غيرها.
(1) سورة فاطر 32 277 وقوله: " اليمين والشمال "، مثال لان السالك الطريق المنهج اللاحب ناج، والعادل عنها يمينا وشمالا معرض للخطر. ونحو هذا الكلام ما روى عن عمر، أنه لما صدر عن منى في السنة التي قتل فيها، كوم كومة من البطحاء (1) فقام عليها، فخطب الناس، فقال: أيها الناس، قد سنت لكم السنن، وفرضت لكم الفرائض، وتركتم على الواضحة، إلا أن تميلوا بالناس يمينا وشمالا گ ثم قرأ: (ألم نجعل له عينين. ولسانا وشفتين. وهديناه النجدين) (2) ثم قال الا إنهما نجدا الخير والشر، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير. * * * [من كلام للحجاج وزياد نسجا فيه على منوال كلام على] وقوله: " إن الله داوى هذه الأمة بدواءين " كلام شريف، وعلى منواله نسج الحجاج وزياد كلامهما المذكور فيه السوط والسيف. فمن ذلك قول الحجاج (3): من أعياه داؤه، فعلى دواؤه، ومن استبطأ أجله فعلى أن أعجله، ومن استثقل رأسه وضعت عنه ثقله، ومن استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه، إن للشيطان طيفا، وإن للسلطان سيفا، فمن سقمت سريرته، صحت عقوبته، ومن وضعه ذنبه، رفعه صلبه، ومن لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة، ومن سبقته بادرة فمه، سبق بدنه سفك دمه. إني لأنذر ثم لا أنظر، وأحذر ثم لا أعذر، وأتوعد ثم لا أغفر، إنما أفسدكم (4) ترقيق ولاتكم. ومن استرخى لببه (5)، ساء أدبه. إن الحزم والعزم سلباني
(1) البطحاء: التراب السهل مما جرته السيول. (2) سورة البلد 8 - 10 (3) نهاية الإرب 7: 224، صبح الأعشى 1: 220، سرح العيون 122 (4) في صبح الأعشى: " ترنيق "، والترنيق الضعف في الامر. (5) اللبب: ما يشد في صدر الدابة ليمنع استئخار الرحل، يريد أن الهوادة واللين لمما يفسد الرعية. 278 سوطي، (1 وجعلا سوطي سيفي 1)، فقائمه في يدي، ونجاده (2) في عنقي، وذبابه (3) قلادة لمن عصاني. الله لا آمر أحدا أن يخرج من (4 باب من 4) أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه. ومن ذلك قول زياد: إنما هو زجر بالقول، ثم ضرب بالسوط، ثم الثالثة التي لا شوى (5) لها. فلا يكونن لسان أحدكم شفرة (6) تجرى على أوداجه (7)، وليعلم إذا خلا بنفسه أنى قد حملت سيفي بيده، فإن شهره لم أغمده، وإن أغمده لم أشهره. * * * وقوله عليه السلام: " كالغراب " يعنى الحرص والجشع، والغراب يقع على الجيفة، ويقع على الثمرة، ويقع على الحبة، وفي الأمثال: " أجشع من غراب "، " وأحرص من غراب. وقوله: " ويحه لو قص "، يريد لو كان قتل أو مات قبل أن يتلبس بالخلافة لكان خيرا له، من أن يعيش ويدخل فيها، ثم قال لهم: أفكروا فيما قد قلت، فإن كان منكرا فأنكروه، وإن كان حقا فأعينوا عليه. وقوله: " استتروا في بيوتكم " نهى لهم عن العصبية (8) والاجتماع والتحزب، فقد كان قوم بعد قتل عثمان تكلموا في قتله من شيعة بنى أمية بالمدينة.
(1 - 1) صبح الأعشى: " وأبدلاني به سيفي ". (2) النجاد: علاقة السيف. (3) ذباب السيف: حده. (4 - 4) ساقط من ب، وهو في ا وصبح الأعشى. (5) لا شوى لها، أي لا خطأ لها، أو لا براء، ومنه قول الكميت: أجيبوا رقى الآسي النطاسي واحذروا * مطفئة الرضف التي لا شوى لها (6) الشفرة: السكين العظيم، أو ما عرض من الحديد وحدد. (7) الأوداج: عروق العنق. (8) ا: " المعصية " 279 وأما قوله: " قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين "، فمراده أمر عثمان وتقديمه في الخلافة عليه. ومن الناس من يحمل ذلك على خلافة الشيخين أيضا. ويبعد عندي أن يكون أراده، لان المدة قد كانت طالت، ولم يبق من يعاتبه ليقول: قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين، فإن هذا الكلام يشعر بمعاتبة قوم على أمر كان أنكره منهم. وأما بيعة عثمان، ثم ما جرى بينه وبين عثمان من منازعات طويلة، وغضب تارة، وصلح أخرى، ومراسلات خشنة ولطيفة، وكون الناس بالمدينة كانوا حزبين وفئتين: إحداهما معه عليه السلام، والأخرى مع عثمان، فإن (1) صرف الكلام إلى ما قلناه بهذا الاعتبار أليق. ولسنا نمنع من أن يكون في كلامه عليه السلام الكثير من التوجد والتألم لصرف الخلافة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله عنه، وإنما كلامنا الآن في هذه اللفظات التي في هذه الخطبة، على أن قوله عليه السلام: " سبق الرجلان " والاقتصار على ذلك فيه كفاية في انحرافه عنهما. وأما قوله: " حق وباطل " إلى آخر الفصل، فمعناه كل أمر فهو إما حق، وإما باطل، ولكل واحد من هذين أهل، وما زال أهل الباطل أكثر من أهل الحق، ولئن كان الحق قليلا فربما كثر، ولعله ينتصر أهله. ثم قال على سبيل التضجر بنفسه: " وقلما أدبر شئ فأقبل "، استبعد عليه السلام أن تعود دولة قوم بعد زوالها عنهم، وإلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله: وقالوا يعود الماء في النهر بعد ما * ذوي نبت جنبيه وجف المشارع فقلت إلى أن يرجع النهر جاريا * ويعشب جنباه يموت الضفادع
(1) ا: " وإن ". 280 ثم قال: " ولئن رجعت عليكم أموركم " أي إن ساعدني الوقت، وتمكنت من أن أحكم فيكم بحكم الله تعالى ورسوله، وعادت إليكم أيام شبيهة بأيام رسول الله صلى الله عليه وآله، وسيرة مماثلة لسيرته في أصحابه، إنكم لسعداء. ثم قال: " وإني لأخشى أن تكونوا في فترة "، الفترة هي الأزمنة التي بين الأنبياء إذا انقطعت الرسل فيها، كالفترة التي بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وآله، لأنه لم يكن بينهما نبي، بخلاف المدة التي كانت بين موسى وعيسى عليهما السلام، لأنه بعث فيها أنبياء كثيرون، فيقول عليه السلام: إني لأخشى ألا أتمكن من الحكم بكتاب الله تعالى فيكم، فتكونوا كالأمم الذين في أزمنة الفترة لا يرجعون إلى نبي يشافههم بالشرائع والاحكام، وكأنه عليه السلام قد كان يعلم أن الامر سيضطرب عليه. ثم قال: " وما علينا إلا الاجتهاد "، يقول: أنا أعمل ما يجب على (1 من الاجتهاد 1) في القيام بالشريعة وعزل ولاة السوء وأمراء الفساد عن المسلمين، فإن تم ما أريده فذاك، وإلا كنت قد أعذرت. وأما التتمة المروية عن جعفر بن محمد عليهما السلام فواضحة الألفاظ، وقوله في آخرها: " وبنا تختم لا بكم " إشارة إلى المهدى الذي يظهر في آخر الزمان. وأكثر المحدثين على أنه من ولد فاطمة عليها السلام. وأصحابنا المعتزلة لا ينكرونه، وقد صرحوا بذكره في كتبهم، واعترف به شيوخهم، إلا أنه عندنا لم يخلق بعد، وسيخلق. وإلى هذا المذهب يذهب أصحاب الحديث أيضا. وروى قاضى القضاة رحمه الله تعالى عن كافي الكفاة أبى القاسم إسماعيل بن عباد
(1 - 1) ساقط من ب 281 رحمه الله بإسناد متصل بعلي عليه السلام أنه ذكر المهدى، وقال: إنه من ولد الحسين عليه السلام، وذكر حليته (1)، فقال رجل: أجلى الجبين، أقنى الانف، ضخم البطن، أزيل (2) الفخذين، أبلج الثنايا، بفخذه اليمنى شامة... وذكر هذا الحديث بعينه عبد الله بن قتيبة في كتاب " غريب الحديث ". * * *
(1) الحلية هنا: الصفة. (2) الزيل، محركة: تباعد ما بين الفخذين، وهو أزيل. 282 (17) ومن كلام له عليه السلا م في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة وليس لذلك بأهل: إن أبغض الخلائق إلى الله تعالى رجلان: رجل وكله الله إلى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة، ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن، افتتن به، ضال عن هدى من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته. حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلا، موضع في جهال الأمة، عاد في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة، قد سماه أشباه الناس عالما، وليس به. بكر فاستكثر من جمع، ما قل منه خير مما كثر، حتى إذا ارتوى من آجن، واكتنز من غير طائل. جلس بين الناس قاضيا، ضامنا لتخليص ما التبس على غيره. فإن نزلت به إحدى المبهمات، هيأ لها حشوا رثا من رأيه، ثم قطع به. فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت، لا يدرى أصاب أم أخطأ، فإن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب. جاهل خباط جهالات، عاش ركاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع. يذري الروايات إذراء الريح الهشيم، لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه، ولا هو أهل لما فوض إليه. لا يحسب العلم في شئ مما أنكره، ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره، وإن أظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج منه المواريث.
283 إلى الله من معشر يعيشون جهالا، ويموتون ضلالا، ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلى حق تلاوته، ولا سلعة أنفق بيعا، ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه، ولا عندهم أنكر من المعروف، ولا أعرف من المنكر. * * * الشرح: وكله إلى نفسه: تركه ونفسه، وكلته وكلا ووكولا. والجائر: الضال العادل عن الطريق. وقمش جهلا: جمعه. وموضع: مسرع، أوضع البعير أسرع، وأوضعه راكبه فهو موضع به، أي أسرع به. وأغباش الفتنة: ظلمها، الواحدة غبش، وأغباش الليل: بقايا ظلمته، ومنه الحديث في صلاة الصبح: " والنساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغبش ". والماء الآجن: الفاسد. وأكثر، كقولك: " استكثر "، ويروى: " اكتنز "، أي اتخذ العلم كنزا. والتخليص: التبيين، وهو والتلخيص متقاربان، ولعلهما شئ واحد من المقلوب. والمبهمات: المشكلات، وإنما قيل لها مبهمة، لأنها أبهمت عن البيان، كأنها أصمتت فلم يجعل عليها دليل ولا إليها سبيل، أو جعل عليها دليل وإليها سبيل، إلا أنه متعسر مستصعب، ولهذا قيل لما لا ينطق من الحيوان: بهيمة، وقيل للمصمت اللون الذي لا شية فيه بهيم. وقوله: " حشوا رثا " كلام مخرجه الذم، والرث: الخلق، ضد الجديد. وقوله " حشوا "، يعنى كثيرا لا فائدة فيه. وعاش: خابط في ظلام. وقوله: " لم يعض " يريد أنه لم يتقن ولم يحكم الأمور، فيكون بمنزلة من يعض بالناجذ، وهو آخر الأضراس وإنما
(1) مروطهن: أكسيتهن. 284 يطلع إذا استحكمت شبيبة الانسان واشتدت مرته، ولذلك يدعوه العوام ضرس الحلم (1)، كأن الحلم يأتي مع طلوعه، ويذهب نزق الصبا، ويقولون: رجل منجذ، أي مجرب محكم، كأنه قد عض على ناجذه وكمل عقله. وقوله: " يذري الروايات " هكذا أكثر النسخ، وأكثر الروايات " يذري " من " أذرى " رباعيا، وقد أوضحه قوله: " إذراء الريح "، يقال: طعنه فأذراه، أي ألقاه، وأذريت الحب للزرع، أي ألقيته، فكأنه يقول: يلقى الروايات كما يلقى الانسان الشئ على الأرض، والأجود الأصح الرواية الأخرى " يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم "، وهكذا ذكر ابن قتيبة في " غريب الحديث " لما ذكر هذه الخطبة عن أمير المؤمنين عليه السلام، قال تعالى: (فأصبح هشيما تذروه الرياح)، (2) والهشيم: ما يبس من النبت وتفتت. قوله: " لا ملئ "، أي لا قيم به، وفلان غنى ملئ، أي ثقة بين الملا والملاء، بالمد. وفي كتاب ابن قتيبة تتمة هذا الكلام: " ولا أهل لما قرظ به "، قال: أي ليس بمستحق للمدح الذي مدح به. والذي رواه ابن قتيبة من تمام كلام أمير المؤمنين عليه السلام هو الصحيح الجيد، لأنه يستقبح في العربية أن تقول: لا زيد قائم، حتى تقول: ولا عمرو. أو تقول: ولا قاعد، فقوله عليه السلام: " لا ملئ " أي لا هو ملئ، وهذا يستدعى " لا " ثانية، ولا يحسن الاقتصار على الأولى. وقوله عليه السلام: " اكتتم به " أي كتمه وستره. وقوله: " تصرخ منه وتعج ". العج: رفع الصوت، وهذا من باب الاستعارة. وفي كثير من النسخ: " إلى الله أشكو " فمن روى ذلك وقف على " المواريث "،
(1) الحلم، بالكسر: الأناة والمقل. (2) سورة الكهف 45 285 ومن روى الرواية الأولى وقف على قوله: " إلى الله " ويكون قوله: " من معشر " من تمام صفات ذلك الحاكم، أي هو من معشر صفتهم كذا. وأبور " أفعل " من البور الفاسد، بار الشئ، أي فسد، وبارت السلعة، أي كسدت ولم تنفق، وهو المراد هاهنا، وأصله الفساد أيضا. إن قيل: بينوا الفرق بين الرجلين اللذين أحدهما وكله الله إلى نفسه، والآخر رجل قمش جهلا، فإنهما في الظاهر واحد. قيل: أما الرجل الأول، فهو الضال في أصول العقائد، كالمشبه والمجبر ونحوهما، ألا تراه كيف قال: " مشغوف بكلام بدعة، ودعاء ضلالة "، وهذا يشعر بما قلناه، من أن مراده به المتكلم في أصول الدين، وهو ضال عن الحق، ولهذا قال: إنه فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدى من قبله، مضل لمن يجئ بعده. وأما الرجل الثاني فهو المتفقه في فروع الشرعيات، وليس بأهل لذلك، كفقهاء السوء، ألا تراه كيف يقول: جلس بين الناس قاضيا! وقال أيضا: " تصرخ من جور قضائه الدماء، وتعج منه المواريث ". فإن قيل: ما معنى قوله في الرجل الأول: " رهن بخطيئته "؟ قيل: لأنه إن كان ضالا في دعوته مضلا لمن اتبعه، فقد حمل خطاياه وخطايا غيره، فهو رهن بالخطيئتين معا، وهذا مثل قوله تعالى: (وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم) (1). إن قيل: ما معنى قوله " عم بما في عقد الهدنة "؟ قيل: الهدنة أصلها في اللغة السكون، يقال: هدن إذا سكن، ومعنى الكلام أنه لا يعرف ما في الفتنة من الشر، ولا ما في السكون والمصالحة (2) من الخير.
(1) سورة العنكبوت 13 (2) ا: ا " المصلحة "، تصحيف. 286 ويروى " بما في غيب الهدنة " أي في طيها وفي ضمنها. ويروى " غار في أغباش الفتنة "، أي غافل ذو غرة. وروى " من جمع " بالتنوين فتكون " ما " على هذا اسما موصولا، وهي وصلتها في موضع جر لأنها صفة " جمع "، ومن لم يرو التنوين في " جمع " حذف الموصوف، تقديره: من جمع شئ ما قل منه خير مما كثر، فتكون " ما " مصدرية، وتقدير الكلام: قلته خير من كثرته، ويكون موضع ذلك جرا أيضا بالصفة. * * *
287 (18) الأصل: ومن كلام له عليه السلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا: ترد على أحدهم القضية في حكم من الاحكام، فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلاف قوله (1)، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الامام الذي استقضاهم، فيصوب آراءهم جميعا وإلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد. أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه! أم نهاهم عنه فعصوه! أم أنزل الله (2) سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه! أم كانوا شركاء له، فلهم أن يقولوا، وعليه أن يرضى! أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول عن تبليغه وأدائه، والله سبحانه يقول: (ما فرطنا في الكتاب من شئ (3))، (4 وفيه تبيان كل شئ. 4) وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا، وأنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (5). وإن القرآن ظاهره أنيق وباطنه عميق، لا تفنى عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات إلا به. * * *
(1) كذا في ا ومخطوطة النهج، وفى ب " بخلافه ". (2) ا: " أم أنزل إليهم ". (3) سورة الأنعام 38 (4 - 4) في ب: " وقال: فيه تبيان كل شئ "، والأصوب ما أثبته من ا، ومخطوطة النهج. (5) سورة النساء 82 288 الشرح: الأنيق: المعجب، وآنقني الشئ، أي أعجبني، يقول: لا ينبغي أن يحمل جميع ما في لكتاب العزيز على ظاهره، فكم من ظاهر فيه غير مراد، بل المراد به أمر آخر باطن، والمراد الرد على أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وإفساد قول من قال: كل مجتهد مصيب، وتلخيص الاحتجاج من خمسة أوجه: الأول: أنه لما كان الاله سبحانه واحدا، والرسول صلى الله عليه وآله واحدا، والكتاب واحدا، وجب أن يكون الحكم في الواقعة واحدا، كالملك الذي يرسل إلى رعيته رسولا بكتاب يأمرهم فيه بأوامر يقتضيها ملكه وإمرته، فإنه لا يجوز أن تتناقض أوامره، ولو تناقضت لنسب إلى السفه والجهل. الثاني: لا يخلو الاختلاف الذي ذهب إليه المجتهدون، إما أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه، والأول باطل، لأنه ليس في الكتاب والسنة ما يمكن الخصم أن يتعلق به، في كون الاختلاف مأمورا به. والثاني حق، ويلزم منه تحريم الاختلاف. الثالث: إما أن يكون دين الاسلام ناقصا أو تاما، فإن كان الأول، كان الله سبحانه قد استعان بالمكلفين على إتمام شريعة ناقصة أرسل بها رسوله، إما استعانة على سبيل النيابة عنه، أو على سبيل المشاركة له، وكلاهما كفر وإن كان الثاني، فإما أن يكون الله تعالى أنزل الشرع تاما فقصر الرسول عن تبليغه، أو يكون الرسول قد أبلغه على تمامه وكماله، فإن كان الأول فهو كفر أيضا، وإن كان الثاني فقد بطل الاجتهاد، لان الاجتهاد إنما يكون فيما لم يتبين فأما ما قد بين فلا مجال للاجتهاد فيه. الرابع: الاستدلال بقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شئ (1))، وقوله: (تبيانا لكل شئ) (2)، وقوله سبحانه: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب
(1) سورة الأنعام 38 (2) سورة النحل 89، وفى الأصول: وقوله: " فيه تبيان كل شئ "، والتلاوة ما أثبته 289 مبين) (1)، فهذه الآيات دالة على اشتمال الكتاب العزيز على جميع الأحكام، فكل ما ليس في الكتاب وجب ألا يكون في الشرع. الخامس: قوله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) (2)، فجعل الاختلاف دليلا على أنه ليس من عند الله، لكنه من عند الله سبحانه بالأدلة القاطعة الدالة على صحة النبوة، فوجب ألا يكون فيه اختلاف. واعلم أن هذه الوجوه هي التي يتعلق بها الامامية ونفاة القياس والاجتهاد في الشرعيات، وقد تكلم عليها أصحابنا في كتبهم، وقالوا: إن أمير المؤمنين عليه السلام كان يجتهد ويقيس، وادعوا إجماع الصحابة على صحة الاجتهاد والقياس، ودفعوا صحة هذا الكلام المنسوب في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقالوا: إنه من رواية الامامية، وهو معارض بما ترويه الزيدية عنه وعن أبنائه عليهم السلام في صحة القياس والاجتهاد، ومخالطة الزيدية لائمة أهل البيت عليهم السلام كمخالطة الامامية لهم، ومعرفتهم بأقوالهم وأحوالهم ومذاهبهم كمعرفة الامامية، لا فرق بين الفئتين في ذلك. والزيدية قاطبة جاروديتها وصالحيتها (3) تقول بالقياس والاجتهاد، وينقلون في ذلك نصوصا عن أهل البيت عليهم السلام. وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا، وعدنا إلى الأدلة المذكورة في هذه المسألة. وقد تكلمت في " اعتبار الذريعة " للمرتضى (4) على احتجاجه في إبطال القياس والاجتهاد بما ليس هذا موضع ذكره.
(1) سورة الأنعام 59 (2) سورة النساء 82 (3) الزيدية: أتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهم أصناف ثلاثة: جارودية، وهم أصحاب أبي الجارود زياد بن أبي زياد، وسليمانية وهم أصحاب سليمان بن جرير، وصالحية أصحاب الحسن بن صالح بن حي، ومن هؤلاء البترية أصحاب كثير الأبتر. وانظر بتفصيل مذهبهم في الملل والنحل للشهرستاني 1: 137 - 143 (4) هو كتاب الذريعة إلى أصول الشريعة، للشريف المرتضى، شرحه ابن أبي الحديد وسمى شرحه الاعتبار على كتاب الذريعة، في ثلاثة مجلدات. وانظر كتاب الذريعة إلى تصانيف الشيعة 10: 26 290 (19) الأصل: ومن كلام له عليه السلام، قاله للأشعث بن قيس، وهو على منبر الكوفة يخطب، فمضى في بعض كلامه شئ اعترضه الأشعث فيه، فقال: يا أمير المؤمنين، هذه عليك لا لك، فخفض عليه السلام إليه بصره، ثم قال: ما يدريك ما على مما لي، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين! حائك ابن حائك، منافق ابن كافر. والله لقد أسرك الكفر مرة والاسلام أخرى، فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك. وإن امرأ دل على قومه السيف، وساق إليهم الحتف، لحري أن يمقته الأقرب، ولا يأمنه الأبعد. قال الرضى رحمه الله: يريد عليه السلام أنه أسر في الكفر مرة وفي الاسلام مرة. وأما قوله عليه السلام: " دل على قومه السيف "، فأراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة، غر فيه قومه، ومكر بهم، حتى أوقع بهم خالد، وكان قومه بعد ذلك يسمونه عرف النار، وهو اسم للغادر عندهم * * *
291 الشرح: فض إليه بصره: طأطأه. وقوله: " فما فداك " لا يريد به الفداء الحقيقي فإن الأشعث فدى في الجاهلية بفداء يضرب به المثل، فقال: " أغلى فداء من الأشعث "، وسنذكره، وإنما يريد: ما دفع عنك الأسر مالك ولا حسبك. ويمقته: يبغضه، والمقت: البغض. [الأشعث ونسبه وبعض أخباره] اسم الأشعث معدي كرب، وأبوه قيس الأشج - سمى الأشج، لأنه شج في بعض حروبهم - بن معدي كرب بن معاوية بن معدي كرب بن معاوية بن جبلة ابن عبد العزى بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن الحارث ابن معاوية بن ثور بن مرتع (1) بن معاوية بن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث ابن مرة بن أدد. وأم الأشعث كبشة بنت يزيد بن شرحبيل بن يزيد بن امرئ القيس بن عمرو المقصور الملك. كان الأشعث أبدا أشعث الرأس، فسمى الأشعث، وغلب عليه حتى نسي اسمه، ولعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يقول أعشى همدان (2): يا بن الأشج قريع كندة * لا أبالي فيك عتبا (3)
(1) مرتع، كمحدث، وكمحسن أيضا. القاموس. (2) هو أبو مصح عبد الرحمن بن عبد الله، من أبيات في ديوانه الأعشير 311، أولها: من مبلغ الحجاج أنى قد ندبت إليه حربا حربا مذكرة عوانا * تترك الشبان شهبا (3) في الديوان: لابن الأشج قريع كندة * لا أبين فيه عتبا 292 أنت الرئيس ابن الرئيس * وأنت أعلى الناس كعبا (1). وتزوج رسول الله صلى الله عليه وآله قتيلة أخت الأشعث، فتوفى قبل أن تصل إليه. فأما الأسر الذي أشار أمير المؤمنين عليه السلام إليه في الجاهلية فقد ذكره ابن الكلبي في " جمهرة النسب " فقال: إن مرادا لما قتلت قيسا الأشج، خرج الأشعث طالبا بثأره (2)، فخرجت كندة متساندين على ثلاثة ألوية: على أحد الألوية كبس ابن هانئ بن شرحبيل بن الحارث بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين - ويعرف هانئ بالمطلع، لأنه كان يغزو فيقول: اطلعت بنى (3) فلان، فسمى المطلع. وعلى أحدها القشعم أبو جبر (4) بن يزيد الأرقم. وعلى أحدها الأشعث فأخطأوا مرادا، ولم يقعوا. عليهم، ووقعوا على بنى الحارث بن كعب، فقتل كبس والقشعم أبو جبر، وأسر الأشعث، ففدى بثلاثة آلاف بعير، لم يفد بها عربي بعده ولا قبله، فقال في ذلك عمرو بن معدي كرب الزبيدي: فكان فداؤه ألفي بعير * وألفا من طريفات وتلد. وأما الأسر الثاني في الاسلام، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما قدمت كندة حجاجا قبل الهجرة، عرض رسول الله صلى الله عليه وآله نفسه عليهم، كما كان يعرض نفسه على أحياء العرب، فدفعه بنو وليعة من بنى عمرو بن معاوية ولم يقبلوه، فلما هاجر صلى الله عليه وآله وتمهدت دعوته، وجاءته وفود العرب، جاءه وفد كندة، فيهم الأشعث وبنو وليعة فأسلموا، فأطعم رسول الله صلى الله عليه وآله بنى وليعة طعمة من صدقات حضرموت، وكان قد استعمل على حضرموت زياد بن لبيد البياضي الأنصاري، فدفعها زياد إليهم، فأبوا أخذها، وقالوا: لا ظهر لنا (5)، فابعث بها إلى بلادنا على ظهر
(1) الديوان: " أعلى القوم ". (2) ا: " ثأره ". (3) أطلع القوم: هجم عليهم. (4) ا: " القاسم بن جبر "، وصوابه من ب، والاشتقاق 365 (5) الظهر: الركاب التي تحمل الاسفار في السفر سميت بذلك لحملها إياها على ظهورها. 293 من عندك، فأبى زياد، وحدث بينهم وبين زياد شر، كاد يكون حربا، فرجع منهم قوم إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وكتب زياد إليه عليه السلام يشكوهم. وفي هذه الوقعة كان الخبر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وآله، قال لبني وليعة: " لتنتهن يا بنى وليعة، أو لأبعثن عليكم رجلا عديل نفسي، يقتل مقاتلتكم، ويسبي ذراريكم ". قال عمر بن الخطاب: فما تمنيت الامارة إلا يومئذ، وجعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول: هو هذا، فأخذ بيد علي عليه السلام، وقال: " هو هذا ". ثم كتب لهم رسول الله صلى الله عليه وآله، إلى زياد، فوصلوا إليه الكتاب، وقد توفى رسول الله صلى الله عليه وآله، وطار الخبر بموته إلى قبائل العرب، فارتدت بنو وليعة، وغنت بغاياهم، وخضبن له أيديهن. وقال محمد بن حبيب: كان إسلام بنى وليعة ضعيفا، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يعلم ذلك منهم. ولما حج رسول الله صلى الله عليه وآله حجة الوداع، وانتهى إلى فم الشعب دخل أسامة بن زيد ليبول، فانتظره رسول الله صلى الله عليه وآله، وكان أسامة أسود أفطس، فقال بنو وليعة: هذا الحبشي حبسنا! فكانت الردة في أنفسهم. قال أبو جعفر محمد بن جرير (1): فأمر أبو بكر زيادا على حضر موت، وأمره بأخذ البيعة على أهلها واستيفاء صدقاتهم، فبايعوه إلا بنى وليعة، فلما خرج ليقبض الصدقات من بنى عمرو بن معاوية، أخذ ناقة لغلام منهم يعرف بشيطان بن حجر، وكانت صفية (2) نفيسة، اسمها شذرة، فمنعه الغلام عنها، وقال: خذ غيرها، فأبى زياد ذلك ولج، فاستغاث شيطان بأخيه العداء بن حجر، فقال لزياد: دعها وخذ غيرها، فأبى زياد ذلك، ولج الغلامان في أخذها ولج زياد وقال لهما: لا تكونن شذرة عليكما كالبسوس،
(1) تاريخ الطبري 3: 270، مع تصرف. (29 الصفية: الناقة الغزيرة اللبن. 294 فهتف الغلامان: يا لعمرو! أنضام ونضطهد! إن الذليل من أكل في داره. وهتفا بمسروق بن معدي كرب، فقال مسروق لزياد أطلقها، فأبى، فقال مسروق: يطلقها شيخ بخديه الشيب (1) * ملمعا فيه كتلميع الثوب (2) ماض على الريب إذا كان الريب (3) ثم قام فأطلقها، فاجتمع إلى زياد بن لبيد أصحابه، واجتمع بنو وليعة، وأظهروا أمرهم، فبيتهم زياد وهم غارون، فقتل منهم جمعا كثيرا، ونهب وسبى، ولحق فلهم بالأشعث بن قيس، فاستنصروه فقال: لا أنصركم حتى تملكوني عليكم. فملكوه وتوجوه كما يتوج الملك من قحطان. فخرج إلى زياد في جمع كثيف، وكتب أبو بكر إلى المهاجر ابن أبي أمية وهو على صنعاء، أن يسير بمن معه إلى زياد، فاستخلف على صنعاء، وسار إلى زياد، فلقوا الأشعث فهزموه وقتل مسروق، ولجأ الأشعث والباقون إلى الحصن المعروف بالنجير (4). فحاصرهم المسلمون حصارا شديدا حتى ضعفوا، ونزل الأشعث ليلا إلى المهاجر وزياد، فسألهما الأمان على نفسه، حتى يقدما به على أبى بكر فيرى فيه رأيه، على أن يفتح لهم الحصن ويسلم إليهم من فيه. وقيل: بل كان في الأمان عشرة من أهل الأشعث. فأمناه وأمضيا شرطه، ففتح لهم الحصن، فدخلوه واستنزلوا كل من فيه، وأخذوا أسلحتهم، وقالوا للأشعث: اعزل العشرة، فعزلهم، فتركوهم وقتلوا الباقين - وكانوا ثمانمائة - وقطعوا أيدي النساء اللواتي شمتن برسول الله صلى الله عليه وآله، وحملوا الأشعث
(1) الطبري: " يمنعها " (2) الطبري: * ملمع كما يلمع الثوب * (3) لم يرد هذا البيت في الطبري. (4) كذا ضبطه صاحب مراصد الاطلاع بالتصغير، وقال: " حصن باليمن قرب حضر موت " 295 إلى أبى بكر موثقا في الحديد هو والعشرة، فعفا عنه وعنهم، وزوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة - وكانت عمياء - فولدت للأشعث محمدا وإسماعيل وإسحاق. وخرج الأشعث يوم البناء عليها إلى سوق المدينة، فما مر بذات أربع إلا عقرها، وقال للناس: هذه وليمة البناء، وثمن كل عقيرة في مالي. فدفع أثمانها إلى أربابها. قال أبو جعفر محمد بن جرير في التاريخ: وكان المسلمون يلعنون الأشعث ويلعنه الكافرون أيضا وسبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار، وهو اسم للغادر عندهم (1). وهذا عندي هو الوجه، وهو أصح مما ذكره الرضى رحمه الله تعالى من قوله في تفسير قول أمير المؤمنين: " وإن امرأ دل على قومه السيف ": إنه أراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غر فيه قومه، ومكر بهم حتى قتلهم، فإنا لم نعرف في التواريخ إن الأشعث جرى له باليمامة مع خالد هذا ولا شبهه، وأين كندة واليمامة؟ كندة باليمن، واليمامة لبني حنيفة، ولا أعلم من أين نقل الرضى رحمه الله تعالى هذا! * * * فأما الكلام الذي كان أمير المؤمنين عليه السلام قاله على منبر الكوفة فاعترضه فيه الأشعث، فإن عليا عليه السلام قام إليه وهو يخطب، ويذكر أمر الحكمين، فقام رجل من أصحابه، بعد أن انقضى أمر الخوارج، فقال له: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها، فما ندري أي الامرين أرشد! فصفق عليه السلام بإحدى يديه على الأخرى، وقال: هذا جزاء من ترك العقدة. وكان مراده عليه السلام: هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي والحزم، وأصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم، فظن الأشعث أنه أراد: هذا جزائي حيث تركت الرأي والحزم وحكمت، لأن هذه اللفظة محتملة، ألا ترك أن الرئيس
(1) الطبري 3: 275، وعبارته: " كلام يمان به الغادر " 296 إذا شغب عليه جنده وطلبوا منه اعتماد أمر ليس بصواب، فوافقهم تسكينا لشغبهم لا استصلاحا لرأيهم، ثم ندموا بعد ذلك، قد يقول: هذا جزاء من ترك الرأي، وخالف وجه الحزم، ويعني بذلك أصحابه، وقد يقوله يعنى به نفسه حيث وافقهم. وأمير المؤمنين عليه السلام إنما عنى ما ذكرناه دون ما خطر للأشعث، فلما قال له: هذه عليك لا لك، قال له: وما يدريك ما على مما لي، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين! وكان الأشعث من المنافقين في خلافة علي عليه السلام، وهو في أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام، كما كان عبد الله بن أبي بن سلول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه. وأما قوله عليه السلام للأشعث: " حائك ابن حائك "، فإن أهل اليمن يعيرون بالحياكة وليس هذا مما يخص الأشعث. ومن كلام خالد بن صفوان: ما أقول في قوم ليس فيهم إلا حائك برد، أو دابغ جلد، أو سائس قرد، ملكتهم امرأة، وأغرقتهم فأرة، ودل عليهم هدهد! * * *
297 (20) الأصل: ومن خطبة له عليه السلام: فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم، لجزعتم ووهلتم وسمعتم وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يطرح الحجاب! ولقد بصرتم إن أبصرتم وأسمعتم إن سمعتم، وهديتم إن اهتديتم، وبحق أقول لكم (1): لقد جاهرتكم العبر، وزجرتم بما فيه مزدجر، وما يبلغ عن الله بعد رسل السماء إلا البشر. * * * الشرح: الوهل: الخوف، وهل الرجل يوهل. و " ما " في قوله: " ما يطرح " مصدرية، تقديره: " وقريب طرح الحجاب "، يعنى رفعه بالموت. وهذا الكلام يدل على صحة القول بعذاب القبر، وأصحابنا كلهم يذهبون إليه، وإن شنع عليهم أعداؤهم من الأشعرية وغيرهم بجحده. وذكر قاضى القضاة رحمه الله تعالى: أنه لم يعرف (2) معتزليا نفى عذاب القبر، لا من
(1) كلمة " لكم " ساقطة من ا (2): " يعرف ". 298 متقدميهم ولا من متأخريهم، قال: وإنما نفاه ضرار (1) بن عمرو، ولمخالطته لأصحابنا وأخذه عن شيوخنا، ما نسب قوله إليهم. ويمكن أن يقول قائل: هذا الكلام لا يدل على صحة القول بعذاب القبر، لجواز أن يعنى بمعاينة من قد مات، ما يشاهده المحتضر من الحالة الدالة على السعادة أو الشقاوة، فقد جاء في الخبر: " لا يموت امرؤ حتى يعلم مصيره، هل هو إلى جنة أم إلى النار ". ويمكن أن يعنى به ما يعاينه المحتضر من ملك الموت وهول قدومه. ويمكن أن يعنى به ما كان عليه السلام يقوله عن نفسه: إنه لا يموت ميت حتى يشاهده عليه السلام حاضرا عنده. والشيعة تذهب إلى هذا القول وتعتقده، وتروى عنه عليه السلام شعرا قاله للحارث الأعور الهمداني: يا حار همدان من يمت يرني * من مؤمن أو منافق قبلا يعرفني طرفه وأعرفه * بعينه واسمه وما فعلا أقول للنار وهي توقد للعرض * ذريه لا تقربي الرجلا ذريه لا تقربيه إن له * حبلا بحبل الوصي متصلا وأنت يا حار إن تمنى * فلا تخف عثرة ولا زللا (2) أسقيك من بارد على ظمأ * تخاله في الحلاوة العسلا وليس هذا بمنكر، إن صح أنه عليه السلام قاله عن نفسه، ففي الكتاب العزيز ما يدل على أن أهل الكتاب لا يموت منهم ميت حتى يصدق بعيسى بن مريم عليه السلام، وذلك قوله: (وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم
(1) ضرار بن عمرو، صاحب مذهب الضرارية من فرق الجبرية، وكان في بدء أمره تلميذا لواصل ابن عطاء المعتزلي، ثم خالفه في خلق الأعمال وإنكار عذاب القبر. الفرق بين الفرق 201 (2) هذا البيت والذي يليه لم يذكرا في ب 299 القيامة يكون عليهم شهيدا) (1)، قال كثير من المفسرين: معنى ذلك أن كل ميت من اليهود وغيرهم من أهل الكتب السالفة إذا احتضر رأى المسيح عيسى (2) عنده، فيصدق به من لم يكن في أوقات التكليف مصدقا به. وشبيه بقوله عليه السلام: " لو عاينتم ما عاين من مات قبلكم " قول أبى حازم لسليمان بن عبد الملك في كلام يعظه به: إن آباءك ابتزوا هذا الامر من غير مشورة، ثم ماتوا، فلو علمت ما قالوا وما قيل لهم! فقيل: إنه (3 بكى حتى سقط 3). * * *
(1) سورة النساء 159 (2) ساقطة من ب (3 - 3) ا: " إن سليمان بكى حتى سقط ". 300 (21) الأصل: ومن خطبة له عليه السلام: فإن الغاية أمامكم، وإن وراءكم الساعة تحدوكم. تخففوا تلحقوا، فإنما ينتظر بأولكم آخركم. * * * قال الرضى رحمه الله: أقول إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه، وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه وآله بكل كلام لمال به راجحا، وبرز عليه سابقا. فأما قوله عليه السلام: " تخففوا تلحقوا "، فما سمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر منه (1) محصولا، وما أبعد غورها من كلمة! وأنقع نطفتها من حكمة! وقد نبهنا في كتاب " الخصائص " (2) على عظم قدرها، وشرف جوهرها. * * * الشرح: غاية المكلفين هي الثواب أو العقاب، فيحتمل أن يكون أراد ذلك، ويحتمل أن يكون أراد بالغاية الموت، وإنما جعل ذلك أمامنا، لان الانسان كالسائر إلى الموت، أو كالسائر إلى الجزاء، فهما أمامه، أي بين يديه.
(1) ساقطة من ب. (2) كتاب خصائص الأئمة للشريف الرضى. انظر الذريعة في مصنفات الشيعة 7: 164 301 ثم قال: " وإن وراءكم الساعة تحدوكم "، أي تسوقكم، وإنما جعلها وراءنا، لأنها إذا وجدت ساقت الناس إلى موقف الجزاء كما يسوق الراعي الإبل، فلما كانت سائقة لنا، كانت كالشئ يحفز الانسان من خلفه، ويحركه من ورائه، إلى جهة ما بين يديه. ولا يجوز أن يقال: إنما سماها " وراءنا "، لأنها تكون بعد موتنا وخروجنا من الدنيا، وذلك أن الثواب والعقاب هذا شأنهما، وقد جعلهما أمامنا. وأما القطب الراوندي، فإنه قال: معنى قوله: " فإن الغاية أمامكم "، يعنى أن الجنة والنار خلفكم. ومعنى قوله: " وراءكم الساعة "، أي قدامكم. ولقائل أن يقول: أما الوراء بمعنى القدام فقد ورد، ولكن ما ورد " أمام " بمعنى " خلف "، ولا سمعنا ذلك. وأما قوله: " تخففوا تلحقوا "، فأصله الرجل يسعى، وهو غير مثقل بما يحمله، يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه، ومثله قوله: " نجا المخففون ". وقوله عليه السلام: " فإنما ينتظر بأولكم آخركم "، يريد: إنما ينتظر ببعث الذين ماتوا في أول الدهر، مجئ من ما يخلقون ويموتون في آخره، كأمير يريد إعطاء جنده إذا تكامل عرضهم، إنما يعطى الأول منهم إذا انتهى عرض الأخير. وهذا كلام فصيح جدا. والغور: العمق. والنطفة ما صفا من الماء، وما أنقع هذا الماء! أي ما أرواه للعطش!
302 (22) الأصل: ومن خطبة له عليه السلام: ألا وإن الشيطان قد ذمر حزبه، واستجلب جلبه، ليعود الجور إلى أوطانه (1)، ويرجع الباطل إلى نصابه. والله ما أنكروا على منكرا، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا، وإنهم ليطلبون حقا هم تركوه ودما هم سفكوه، فلئن كنت شريكهم فيه، فإن لهم لنصيبهم منه، ولئن كانوا ولوه دوني، فما التبعة إلا عندهم. وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم، يرتضعون أما قد فطمت، ويحيون بدعة قد أميتت. يا خيبة الداعي! من دعا! وإلام أجيب! وإني لراض بحجة الله عليهم، وعلمه فيهم، فإن أبوا أعطيتهم حد السيف، وكفى به شافيا من الباطل، وناصرا للحق! ومن العجب بعثهم إلى أن أبرز للطعان، وأن أصبر للجلاد. هبلتهم الهبول! لقد كنت وما أهدد بالحرب، ولا أرهب بالضرب. وإني لعلى يقين من ربى، وغير شبهة من ديني * * *
(1) ا: " قطابه ". 303 الشرح: يروى: " ذمر " بالتخفيف، و " ذمر " بالتشديد، وأصله الحض والحث، والتشديد دليل على التكثير. واستجلب جلبه، الجلب بفتح اللام: ما يجلب، كما يقال: جمع جمعه. ويروى: " جلبه " و " جلبه "، وهما بمعنى، وهو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه، أي جمع قوما كالجهام الذي لا نفع فيه. وروى: " ليعود الجور إلى قطابه "، والقطاب: مزاج الخمر بالماء، أي ليعود الجور ممتزجا بالعدل كما كان. ويجوز أن يعنى بالقطاب قطاب الجيب، وهو مدخل الرأس فيه، أي ليعود الجور إلى لباسه وثوبه. وقال الراوندي: قطابه: أصله، وليس ذلك بمعروف في اللغة. وروى " الباطل " بالنصب، على أن يكون " يرجع " متعديا، تقول: رجعت زيدا إلى كذا، والمعنى: ويرد الجور الباطل إلى أوطانه. وقال الراوندي: " يعود " أيضا مثل " يرجع "، يكون لازما ومتعديا، وأجاز نصب " الجور " به، وهذا غير صحيح، لان " عاد " لم يأت متعديا، وإنما يعدى بالهمزة. والنصف: الذي ينصف. وقال الراوندي: النصف: النصفة (1)، والمعنى لا يحتمله، لأنه لا معنى لقوله: ولا جعلوا بيني وبينهم إنصافا، بل المعنى: لم يجعلوا ذا إنصاف بيني وبينهم. يرتضعون أما قد فطمت: يقول: يطلبون الشئ بعد فواته، لان الام إذا فطمت ولدها فقد انقضى إرضاعها. وقوله: " يا خيبة الداعي "، هاهنا كالنداء في قوله تعالى: (يا حسرة على العباد)، (2) وقوله: (يا حسرتنا على ما فرطنا فيها) (3) أي يا خيبة احضري، فهذا أوانك!
(1) كذا في ا، وفى ب: " النصف "، والنصفة: العدل (2) سورة يس 30 (3) سورة الأنعام 31 304 وكلامه في هذه الخطبة مع أصحاب الجمل، والداعي هو أحد الثلاثة: الرجلان والمرأة. ثم قال على سبيل الاستصغار لهم والاستحقار: " من دعا! وإلى ما ذا أجيب! " أي أحقر بقوم دعاهم هذا الداعي! وأبح بالامر الذي أجابوه إليه، فما أفحشه وأرذله! وقال الراوندي: يا خيبة الداعي، تقديره: يا هؤلاء، فحذف المنادى، ثم قال: خيبة الداعي، أي خاب الداعي خيبة. وهذا ارتكاب ضرورة لا حاجة إليها، وإنما يحذف المنادى في المواضع التي دل الدليل فيها على الحذف، كقوله: * يا فانظرا أيمن الوادي على إضم * وأيضا، فإن المصدر الذي لا عامل فيه غير جائز حذف عامله، وتقدير حذفه تقدير ما لا دليل عليه. وهبلته أمه: ثكلته بكسر الباء. وقوله: " لقد كنت وما أهدد بالحرب "، معناه: ما زلت لا أهدد بالحرب، والواو زائدة. وهذه كلمة فصيحة كثيرا ما تستعملها العرب. وقد ورد في القرآن العزيز " كان " بمعنى " ما زال " في قوله: (وكان الله عليما حكيما) ونحو ذلك من الآي، معنى ذلك: لم يزل الله عليما حكيما. والذي تأوله المرتضى رحمه الله تعالى في " تكملة الغرر والدرر " (2) كلام متكلف، والوجه الصحيح ما ذكرناه. * * * وهذه الخطبة ليست من خطب صفين كما ذكره الراوندي، بل من خطب الجمل، وقد ذكر كثيرا منها أبو مخنف رحمه الله تعالى، قال: حدثنا مسافر بن عفيف بن أبي الأخنس،
(1) سورة النساء 170 (2) تكملة الغرر والدرر 2: 300 - 302 305 قال: لما رجعت رسل علي عليه السلام من عند طلحة والزبير وعائشة يؤذنونه بالحرب، قام فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله صلى الله عليه، ثم قال: أيها الناس، إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يرعووا أو يرجعوا، ووبختهم بنكثهم، وعرفتهم بغيهم فلم يستحيوا، وقد بعثوا إلى أن أبرز للطعان، وأصبر للجلاد، وإنما تمنيك نفسك أماني الباطل، وتعدك الغرور. ألا هبلتهم الهبول، لقد كنت وما أهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب! ولقد أنصف القارة من راماها (1)، فليرعدوا وليبرقوا، فقد رأوني قديما، وعرفوا نكايتي، فكيف رأوني! أنا أبو الحسن، الذي فللت حد المشركين، وفرقت جماعتهم، وبذلك القلب ألقى عدوى اليوم، وإني لعلى ما وعدني ربى من النصر والتأييد، وعلى يقين من أمري، وفي غير شبهة من ديني. أيها الناس، إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه الهارب، ليس عن الموت محيد ولا محيص، من لم يقتل مات. إن أفضل الموت القتل، والذي نفس على بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش. اللهم إن طلحة نكث بيعتي، وألب على عثمان حتى قتله، ثم عضهني (2) به ورماني. اللهم فلا تمهله. اللهم إن الزبير قطع رحمي، ونكث بيعتي، وظاهر على عدوى، فاكفنيه اليوم بما شئت. ثم نزل * * *
(1) قد أنصف القارة من راماها، مثل، والقارة: قوم رماة من العرب. وفى اللسان (6: 436) عن التهذيب: " كانوا رماة الحدق في الجاهلة، وهم اليوم في اليمن ينسبون إلى أسد، والنسبة إليهم قاري، وزعموا أن رجلين التقيا، أحدهما قاري والآخر أسدى، فقال القاري: إن شئت صارعتك، وإن شئت سابقتك، وإن شئت راميتك، فقال: اخترت المراماة، فقال القاري: القد أنصفتني، وأنشد: قد أنصف القارة من راماها * إنا إذا ما فئة نلقاها * نرد أولاها على أخراها * ثم انتزع له سهما فشك فؤادها. (2) عضهه، أي قال فيه ما لم يكن. 306 [خطبة على بمكة في أول إمارته] واعلم أن كلام أمير المؤمنين عليه السلام وكلام أصحابه وعماله في واقعة الجمل، كله يدور على هذه المعاني التي اشتملت عليها ألفاظ هذا الفصل، فمن ذلك الخطبة التي رواها أبو الحسن علي بن محمد المدائني، عن عبد الله بن جنادة، قال: قدمت الحجاز أريد العراق، في أول إمارة علي عليه السلام، فمررت بمكة، فاعتمرت، ثم قدمت المدينة، فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، إذ نودي: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، وخرج علي عليه السلام متقلدا سيفه، فشخصت الابصار نحوه، فحمد الله وصلى على رسوله صلى الله عليه وآله، ثم قال: أما بعد، فإنه لما قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله، قلنا: نحن أهله وورثته وعترته، وأولياؤه دون الناس، لا ينازعنا سلطانه أحد، ولا يطمع في حقنا طامع، إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا، فصارت الامرة (1) لغيرنا. وصرنا سوقة، يطمع فينا الضعيف، ويتعزز علينا الذليل، فبكت الأعين منا لذلك، وخشنت الصدور، وجزعت النفوس. وأيم الله لولا مخافة الفرقة بين المسلمين، وأن يعود الكفر، ويبور الدين، لكنا على غير ما كنا لهم عليه، فولى الامر ولاة لم يألوا الناس خيرا، ثم استخرجتموني أيها الناس من بيتي، فبايعتموني على شين منى لامركم، وفراسة تصدقني ما في قلوب كثير منكم، وبايعني هذان الرجلان في أول من بايع، تعلمون ذلك، وقد نكثا وغدرا، ونهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم، ويلقيا بأسكم بينكم. اللهم فخذهما بما عملا أخذة رابية (2)،
(1) ا: " الامارة ". (2) ب: " أخذة واحدة رابية "، وما أثبته عن ا. وأخذة رابية، أي أخذة تزيد على الأخذات، وقال الجوهري: أي زائدة، كقولك: أربيت، إذا أخذت أكثر مما أعطيت، قال تعالى: (فعصوا رسول ربهم فأخذهم أخذة رابية). 307 ولا تنعش (1) لهما صرعة، ولا تقل لهما عثرة، ولا تمهلهما فواقا (2)، فإنهما يطلبان حقا تركاه، ودما سفكاه. اللهم إني أقتضيك وعدك، فإنك قلت وقولك الحق، ثم بغى عليه لينصرنه الله (3). اللهم فأنجز لي موعدك، ولا تكلني إلى نفسي، إنك على كل شئ قدير. ثم نزل. * * * [خطبته عند مسيره للبصرة] وروى الكلبي، قال: لما أراد علي عليه السلام المسير إلى البصرة، قام فخطب الناس، فقال بعد أن حمد الله وصلى على رسوله، صلى الله عليه: إن الله لما قبض نبيه، استأثرت علينا قريش بالامر، ودفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة، فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين، وسفك دمائهم. والناس حديثو عهد بالاسلام، والدين يمخض مخض الوطب، يفسده أدنى وهن، ويعكسه أقل خلف. فولى الامر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا، ثم انتقلوا إلى دار الجزاء، والله ولى تمحيص سيئاتهم، والعفو عن هفواتهم. فما بال طلحة والزبير، وليسا من هذا الامر بسبيل! لم يصبرا على حولا ولا شهرا حتى وثبا ومرقا، ونازعاني أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا، بعد أن بايعا طائعين غير مكرهين، يرتضعان أما قد فطمت، ويحييان بدعة قد أميتت. أدم عثمان زعما؟ والله ما التبعة إلا عندهم وفيهم، وإن أعظم حجتهم لعلى
(1) النعش: الرافع، نعشت فلانا، إذا جبرته بعد فقر، ورفعته بعد عثرة. (2) الفواق، بفتح الفاء وضمها: ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب، يقال: ما أقام عندنا إلا فواقا، أي قدر فواق. (3) إشارة إلى قوله تعالى في سورة الحج 60: (ذلك ومن عاقب بمثل ما عوقب به ثم بغى عليه لينصرنه الله إن الله لعفو غفور). 308 أنفسهم، وأنا راض بحجة الله عليهم وعمله فيهم، فإن فاءا وأنابا فحظهما أحرزا، وأنفسهما غنما، وأعظم بها غنيمة! وإن أبيا أعطيتهما حد السيف، وكفى به ناصرا لحق، وشافيا لباطل! ثم نزل. * * * [خطبته أيضا بذي قار] وروى أبو مخنف عن زيد بن صوحان، قال: شهدت عليا عليه السلام بذي قار (5)، وهو معتم بعمامة سوداء، ملتف بساج يخطب، فقال في خطبة: الحمد لله على كل أمر وحال، في الغدو والآصال، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، ابتعثه رحمة للعباد، وحياة للبلاد، حين امتلأت الأرض فتنة، واضطرب حبلها، وعبد الشيطان في أكنافها، واشتمل عدو الله إبليس على عقائد أهلها، فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، الذي أطفأ الله به نيرانها، وأخمد به شرارها، ونزع به أوتادها، وأقام به ميلها إمام الهدى، والنبي المصطفى، صلى الله عليه وآله. فلقد صدع بما أمر به، وبلغ رسالات ربه، فأصلح الله به ذات البين، وآمن به السبل، وحقن به به الدماء، وألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور، حتى أتاه اليقين، ثم قبضه الله إليه حميدا. ثم استخلف الناس أبا بكر، فلم يأل جهده، ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده، ثم استخلف الناس عثمان، فنال منكم ونلتم منه، حتى إذا كان من أمره ما كان، أتيتموني لتبايعوني، فقلت: لا حاجة لي في ذلك، ودخلت منزلي، فاستخرجتموني فقبضت يدي فبسطتموها، وتداككتم (2) على، حتى ظننت أنكم قاتلي، وأن بعضكم قاتل بعض، فبايعتموني وأنا غير مسرور بذلك، ولا جذل.
(1) ذو قار: موضع قريب من البصرة، وهو المكان الذي كانت فيه الحرب بين العرب والفرس. (2) تزاحمتم. 309 وقد علم الله سبحانه أنى كنت كارها للحكومة، بين أمة محمد صلى الله عليه وآله، ولقد سمعته يقول: " ما من وال يلي شيئا من أمر أمتي إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رؤوس الخلائق، ثم ينشر كتابه، فإن كان عادلا نجا، وإن كان جائرا هوى "، حتى اجتمع على ملؤكم، وبايعني طلحة والزبير، وأنا أعرف الغدر في أوجههما، والنكث في أعينهما، ثم استأذناني في العمرة، فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان، فسارا إلى مكة واستخفا عائشة وخدعاها، وشخص معهما أبناء الطلقاء (5)، فقدموا البصرة، فقتلوا بها المسلمين، وفعلوا المنكر. ويا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر وعمر وبغيهما على! هما يعلمان أنى لست دون أحدهما، ولو شئت أن أقول لقلت، ولقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه، فكتماه عنى، وخرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان، والله ما أنكرا على منكرا، ولا جعلا بيني وبينهم نصفا، وإن دم عثمان لمعصوب بهما، ومطلوب منهما. يا خيبة الداعي! إلام دعا! وبما ذا أجيب؟ والله إنهما لعلى ضلالة صماء، وجهالة عمياء، وإن الشيطان قد ذمر لهما حزبه، واستجلب منهما خيله ورجله، ليعيد الجور إلى أوطانه، ويرد الباطل إلى نصابه. ثم رفع يديه، فقال: اللهم إن طلحة والزبير قطعاني، وظلماني، وألبا على، ونكثا بيعتي، فاحلل ما عقدا، وانكث ما أبرما، ولا تغفر لهما أبدا، وأرهما المساءة فيما عملا وأملا! قال أبو مخنف: فقام إليه الأشتر، فقال: الحمد لله الذي من علينا فأفضل، وأحسن إلينا فأجمل، قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين، ولقد أصبت ووفقت، وأنت ابن عم نبينا وصهره، ووصيه، وأول مصدق به، ومصل معه، شهدت
(1) الطلقاء: هم الذين خلى عليهم الرسول عليه السلام يوم فتح مكة، وأطلقهم فلم يسترقهم، واحدهم طليق، فعيل بمعنى مفعول، وهو الأسير إذا أطلق سبيله. 310 مشاهده كلها، فكان لك الفضل فيها على جميع الأمة، فمن اتبعك أصاب حظه، واستبشر بفلجه، ومن عصاك، ورغب عنك، فإلى أمة الهاوية! لعمري يا أمير المؤمنين ما أمر طلحة والزبير وعائشة علينا بمخيل، ولقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه، وفارقا على غير حدث أحدثت، ولا جور صنعت، فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما فإنهما أول من ألب عليه، وأغرى الناس بدمه، وأشهد الله، لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنهما بعثمان، فإن سيوفنا في عواتقنا، وقلوبنا في صدورنا، ونحن اليوم كما كنا أمس. ثم قعد. * * *
311 (23) الأصل: ومن خطبة له عليه السلام: أما بعد، فإن الامر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان، فإن (1) رأى أحدكم لأخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس، فلا تكونن له فتنة، فإن المرء المسلم ما لم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت ويغري بها لئام الناس، كان كالفالج الياسر الذي ينتظر أول فوزة من قداحه توجب له المغنم، ويرفع عنه بها المغرم. وكذلك المرء المسلم البرئ من الخيانة ينتظر من الله إحدى الحسنيين، إما داعي الله فما عند الله خير له، وإما رزق الله، فإذا هو ذو أهل ومال، ومعه دينه وحسبه. وإن (2) المال والبنين حرث الدنيا، والعمل الصالح حرث الآخرة، وقد يجمعهما الله تعالى لأقوام، فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه، واخشوه خشية ليست بتعذير، واعملوا في غير رياء ولا سمعة، فإنه من يعمل لغير الله يكله الله لمن عمل له. نسأل الله منازل الشهداء، ومعايشة السعداء، ومرافقة الأنبياء! أيها الناس، إنه لا يستغنى الرجل وإن كان ذا مال عن عترته (3)، ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه، وألمهم لشعثه، وأعطفهم
(1) ب: " فإذا ". (2) ب: " إن ". (3) ب: " عشيرته ". 312 عليه عند نازلة إن (1) نزلت به، ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره (2). ومنها: ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه. ومن يقبض يده عن عشيرته، فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة. ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة. * * * قال الرضى رحمه الله (3): أقول: الغفيرة هاهنا الزيادة والكثرة، من قولهم للجمع الكثير: الجم الغفير، والجماء الغفير. ويروى: " عفوة من (4) أهل أو مال "، والعفوة: الخيار من الشئ، يقال: أكلت عفوة الطعام، أي خياره. وما أحسن المعنى الذي أراده عليه السلام بقوله: " ومن يقبض يده عن عشيرته... " إلى تمام الكلام، فإن الممسك خيره عن عشيرته، إنما يمسك نفع يد واحدة، فإذا احتاج إلى نصرتهم واضطر إلى مرافدتهم، قعدوا عن نصره، وتثاقلوا عن صوته، فمنع ترافد الأيدي الكثيرة وتناهض الاقدام الجمة. * * *
(1) ب: " إذا ". (2) ب: " يورثه غيره ". (3) ساقطة من ا (4) ا " في ". 313 الشرح: الفالج: الظافر الفائز، فلج يفلج، بالضم، وفي المثل: " من يأت الحكم وحده يفلج ". والياسر: الذي يلعب بالقداح، واليسر مثله، والجمع أيسار. وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: كالياسر الفالج، أي كاللاعب بالقداح المحظوظ منها، وهو من باب تقديم الصفة على الموصوف، كقوله تعالى: (وغرابيب سود) (5)، وحسن ذلك هاهنا أن اللفظتين صفتان، وإن كانت إحداهما مرتبة على الأخرى. وقوله: " ليست بتعذير "، أي ليست بذات تعذير، أي تقصير، فحذف المضاف، كقوله تعالى: (قتل أصحاب الأخدود النار) (2) أي ذي النار. وقوله: " هم أعظم الناس حيطة " كبيعة، أي رعاية وكلاءة، ويروى، " حيطة "، كغيبة، وهي مصدر حاط، أي تحننا وتعطفا. والخصاصة: الفقر، يقول: القضاء والقدر ينزل من السماء إلى الأرض كقطر المطر، أي مبثوث في جميع أقطار الأرض إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان، في المال والعمر والجاه والولد وغير ذلك. فإذا رأى أحدكم لأخيه زيادة في رزق أو عمر أو ولد وغير ذلك، فلا يكونن ذلك له فتنة تفضي به إلى الحسد، فإن الانسان المسلم إذا كان غير مواقع لدناءة وقبيح يستحيى من ذكره بين الناس، ويخشع إذا قرع به، ويغري لئام الناس بهتك ستره به، كاللاعب بالقداح، المحظوظ منها، ينتظر أول فوزة وغلبة من قداحه، تجلب له نفعا، وتدفع عنه ضرا، كذلك من وصفنا حاله، يصبر وينتظر إحدى الحسنيين، إما أن يدعوه الله فيقبضه إليه، ويستأثر به، فالذي عند الله خير له. وإما أن ينسأ في أجله، فيرزقه الله أهلا ومالا، فيصبح وقد اجتمع له ذلك مع حسبه ودينه ومروءته المحفوظة عليه. ثم قال: " المال والبنون حرث الدنيا " وهو من قوله سبحانه: (المال والبنون
(1) سورة فاطر 27 (2) سورة البروج، 5 314 زينة الحياة الدنيا)، ومن قوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة) نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب) (5). قال: وقد يجمعهما الله لأقوام، فإنه تعالى قد يرزق الرجل الصالح مالا وبنين، فتجمع له الدنيا والآخرة. ثم قال: " فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه "، وذلك لأنه تعالى قال: (فاتقون)، (2) وقال: (فارهبون)، (3) وقال: (فلا تخشوا الناس واخشون)، (4) وغير ذلك من آيات التحذير. ثم قال: ولتكن التقوى منكم أقصى نهايات جهدكم، لا ذات تقصيركم، فإن العمل القاصر، قاصر الثواب، قاصر المنزلة [فصل في ذم الحاسد والحسد وما قيل في ذلك من الكلام] واعلم أن مصدر هذا الكلام النهى عن الحسد، وهو من أقبح الأخلاق المذمومة. وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله: " ألا لا تعادوا نعم الله "، قيل: يا رسول الله، ومن الذي يعادي نعم الله؟ قال: " الذين يحسدون الناس ". وكان ابن عمر يقول: تعوذوا بالله من قدر وافق إرادة حسود.
(1) سورة الشورى 20 (2) سورة البقرة 41: (ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وإياي فاتقون) (3) سورة البقرة 40 (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) (4) سورة المائدة 44 315 قيل لأرسطو: ما بال الحسود أشد غما من المكروب؟ قال: لأنه يأخذ نصيبه من غموم الدنيا، ويضاف إلى ذلك غمه بسرور الناس. وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: " استعينوا على حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود ". وقال منصور الفقيه (1): منافسة الفتى فيما يزول * على نقصان همته دليل ومختار القليل أقل منه * وكل فوائد الدنيا قليل ومن الكلام المروي عن أمير المؤمنين عليه السلام: لله در الحسد! ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله. ومن كلام عثمان بن عفان: يكفيك من انتقامك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك. وقال مالك بن دينار: شهادة القراء مقبولة في كل شئ إلا شهادة بعضهم على بعض، فإنهم أشد تحاسدا من السوس في الوبر. وقال أبو تمام: وإذا أراد الله نشر فضيلة * طويت، أتاح لها لسان حسود (2) لولا اشتعال النار فيما جاورت * ما كان يعرف طيب عرف العود لولا محاذرة العواقب لم تزل * للحاسد النعمى على المحسود وتذاكر قوم من ظرفاء البصرة الحسد، فقال رجل منهم: إن الناس ربما حسدوا على الصلب، فأنكروا ذلك، ثم جاءهم بعد ذلك بأيام، فقال: إن الخليفة قد أمر بصلب
(1) هو منصور بن إسماعيل بن عيسى التميمي أحد فقهاء الشافعة. طبقات السبكي 2. 317 316 الأحنف (1 بن قيس 5)، ومالك بن مسمع، وحمدان الحجام، فقالوا: هذا الخبيث يصلب مع هذين الرئيسين! فقال: ألم أقل لكم إن الناس يحسدون على الصلب! وروى أنس بن مالك مرفوعا " أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب ". وفي الكتب القديمة: يقول الله عز وجل: الحاسد عدو نعمتي، متسخط لفعلي، غير راض بقسمتي. وقال الأصمعي: رأيت أعرابيا قد بلغ مائة وعشرين سنة، فقلت له: ما أطول عمرك! فقال: تركت الحسد فبقيت. وقال بعضهم: ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد. وقال الشاعر: تراه كأن الله يجدع أنفه * وأذنيه إن مولاه ثاب إلى وفر وقال آخر: قل للحسود إذا تنفس ضغنه * يا ظالما وكأنه مظلوم! ومن كلام الحكماء: إياك والحسد، فإنه يبين فيك ولا يبين في المحسود. ومن كلامهم: من دناءة الحسد أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب. وقيل لبعضهم: لزمت البادية، وتركت قومك وبلدك! قال: وهل بقي إلا حاسد نعمة، أو شامت بمصيبة! بينا عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه، إذ هتف هاتف: يا أمير المؤمنين، طأطئ من إشرافه، وقصر من عنانه، واشدد من شكاله - وكان عبد الملك متهما
(1) ساقط من ب 317 عند الرشيد بالطمع في الخلافة - فقال الرشيد: ما يقول هذا؟ فقال عبد الملك: مقال حاسد، ودسيس حاقد يا أمير المؤمنين. قال: قد صدقت، نقص القوم وفضلتهم، وتخلفوا وسبقتهم، حتى برز شأوك، وقصر عنك غيرك، ففي صدورهم جمرات التخلف، وحزازات التبلد. قال عبد الملك: فأضرمها يا أمير المؤمنين عليهم بالمزيد. وقال شاعر: يا طالب العيش في أمن وفي دعة * محضا بلا كدر، صفوا بلا رنق خلص فؤادك من غل ومن حسد * فالغل في القلب مثل الغل في العنق. ومن كلام عبد الله بن المعتز: إذا زال المحسود عليه، علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شئ. ومن كلامه: الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له، بخيل بما لا يملكه. ومن كلامه: لا راحة لحاسد ولا حياء لحريص. ومن كلامه: الميت يقل الحسد له، ويكثر الكذب عليه. ومن كلامه: ما ذل قوم حتى ضعفوا، وما ضعفوا حتى تفرقوا، وما تفرقوا حتى اختلفوا، وما اختلفوا حتى تباغضوا، وما تباغضوا حتى تحاسدوا، وما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض. وقال الشاعر: إن يحسدوني فإني غير لائمهم * قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا (1) فدام لي ولهم ما بي وما بهم * ومات أكثرنا غيظا بما يجد
(1) من أبيات في أمالي المرتضى 1: 414، ونسبها إلى الكميت بن زيد، وهي في شرح المختار من شعر بشار 67 من غير نسبة. 318 ومن كلامهم: ما خلا جسد عن حسد. وحد الحسد هو أن تغتاظ مما رزقه غيرك، وتود أنه زال عنه وصار إليك. والغبطة ألا تغتاظ ولا تود زواله عنه، وإنما تود أن ترزق مثله، وليست الغبطة بمذمومة. وقال الشاعر: حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه * فالكل أعداء له وخصوم كضرائر الحسناء قلن لوجهها * - حسدا وبغيا - إنه لدميم (1) * * * [فصل في مدح الصبر وانتظار الفرج وما قيل في ذلك من الكلام] واعلم أنه عليه السلام بعد أن نهى عن الحسد أمر بالصبر وانتظار الفرج من الله، أما بموت مريح، أو بظفر بالمطلوب. والصبر من المقامات الشريفة، وقد ورد فيه آثار كثيرة، روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله: " إن الصبر نصف الايمان، واليقين الايمان كله ". وقالت عائشة: لو كان الصبر رجلا لكان كريما. وقال علي عليه السلام: الصبر إما صبر على المصيبة، أو على الطاعة، أو عن المعصية، وهذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين. وعنه عليه السلام: الحياء زينة والتقوى كرم، وخير المراكب مركب الصبر. وعنه عليه السلام: القناعة سيف لا ينبو، والصبر مطية لا تكبو، وأفضل العدة الصبر على الشدة. قال الحسن عليه السلام: جربنا وجرب المجربون، فلم نر شيئا أنفع وجدانا، ولا أضر فقدانا من الصبر، تداوى به الأمور، ولا يداوى هو بغيره.
(1) لأبي الأسود الدؤلي، ملحق ديوانه 51. 319 وقال سعيد بن حميد الكاتب (1): لا تعتبن على النوائب * فالدهر يرغم كل عاتب واصبر على حدثانه * إن الأمور لها عواقب كم نعمة مطوية * لك بين أثناء النوائب (2) ومسرة قد أقبلت * من حيث تنتظر المصائب ومن كلامهم: الصبر مر، لا يتجرعه إلا حر. قال أعرابي: كن حلو الصبر عند مرارة النازلة. وقال كسرى لبزر جمهر: ما علامة الظفر بالأمور المطلوبة المستصعبة؟ قال: ملازمة الطلب، والمحافظة على الصبر، وكتمان السر. وقال الأحنف برقيق: لست حليما، إنما أنا صبور، فأفادني الصبر صفتي بالحلم. وسئل علي عليه السلام. أي شئ أقرب إلى الكفر؟ قال: ذو فاقة لا صبر له. ومن كلامه عليه السلام: الصبر يناضل الحدثان، والجزع من أعوان الزمان. وقال أعشى همدان: إن نلت لم أفرح بشئ نلته * وإذا سبقت به فلا أتلهف (3) ومتى تصبك من الحوادث نكبة * فاصبر فكل غيابة تتكشف والامر يذكر بالامر، وهذا البيت هو الذي قاله له الحجاج يوم قتله، ذكر ذلك أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في " الأمالي " قال: لما أتى الحجاج بأعشى همدان أسيرا، وقد كان خرج مع ابن الأشعث، قال له: يا بن اللخناء! أنت القائل لعدو الرحمن - يعنى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث:
(1) البيتان الثالث والرابع في شرح المختار من شعر بشار 314، من غير نسبة. (2) شرح المختار: " كم فرجة " (3) ديوان الأعشين 35، مع اختلاف في الرواية والترتيب. 320 يا بن الأشج قريع كندة * لا أبالي فيك عتبا (1) أنت الرئيس ابن الرئيس، * وأنت أعلى الناس كعبا (2) نبئت حجاج بن يوسف * خر من زلق فتبا فانهض هديت لعله * يجلو بك الرحمن كربا (3) وأبعث عطية في الحروب * يكبهن عليه كبا ثم قال: عبد الرحمن خر من زلق فتب، وخسر وانكب، وما لقى ما أحب. ورفع بها صوته، واهتز منكباه، ودر ودجاه (4)، واحمرت عيناه، ولم يبق في المجلس إلا من هابه، فقال: أيها الأمير، وأنا القائل: أبى الله إلا أن يتمم نوره * ويطفئ نار الكافرين فتخمدا (5) وينزل ذلا بالعراق وأهله * كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا وما لبث الحجاج أن سل سيفه * علينا، فولى جمعنا وتبددا فالتفت الحجاج إلى من حضر، فقال: ما تقولون؟ قالوا: لقد أحسن أيها الأمير، ومحا بآخر قوله أوله، فليسعه حلمك. فقال: لاها الله! إنه لم يرد ما ظننتم، وإنما أراد تحريض أصحابه، ثم قال له: ويلك! ألست القائل: إن نلت لم أفرح بشئ نلته * وإذا سبقت به فلا أتلهف ومتى تصبك من الحوادث نكبة * فاصبر، فكل غيابة تتكشف أما والله لتظلمن عليك غيابة لا تنكشف أبدا، ألست القائل في عبد الرحمن: وإذا سألت المجد أين محله * فالمجد بين محمد وسعيد
(1) ديوان الأعشين 312 (2) ديوان الأعشين: " أعلى القوم ". (3) ديوان الأعشين: " فديت ". (4) يقال: در العرق، إذا امتلأ دما، والودجان: عرقان في العنق. (5) ديوان الأعشين 320، مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات. 321 بين الأشج وبين قيس نازل * بخ بخ لوالده وللمولود (1) والله لا ينجح بعدها أبدا. يا حرسي اضرب عنقه. * * * ومما جاء في الصبر قيل للأحنف: إنك شيخ ضعيف، وإن الصيام يهدك. فقال: إني أعده لشر يوم طويل، وإن الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله. ومن كلامه: من لم يصبر على كلمة سمع كلمات. رب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه. يونس بن عبيد: لو أمرنا بالجزع لصبرنا. ابن السماك: المصيبة واحدة، فإن جزع صاحبها منها صارت اثنتين. يعنى: فقد المصاب وفقد الثواب. الحارث بن أسد المحاسبي: لكل شئ جوهر، وجوهر الانسان العقل، وجوهر العقل الصبر. جابر بن عبد الله: سئل رسول الله صلى الله عليه وآله عن الايمان، فقال: " الصبر والسماحة ". وقال العتابي: اصبر إذا بدهتك نائبة * ما عال منقطع إلى الصبر الصبر أولى ما اعتصمت به * ولنعم حشو جوانح الصدر ومن كلام علي عليه السلام: الصبر مفتاح الظفر، والتوكل على الله رسول الفرج. ومن كلامه عليه السلام: انتظار الفرج بالصبر عبادة. أكثم بن صيفي: الصبر على جرع الحمام أعذب من جنا الندم.
(1) ديوان الأعشين 323 322 ومن كلام بعض الزهاد: واصبر على عمل لا غناء بك عن ثوابه، واصبر عن عمل لا صبر على عقابك به. وكتب ابن العميد: أقرأ في الصبر سورا، ولا أقرأ في الجزع آية. وأحفظ في التماسك والتجلد قصائد، ولا أحفظ في التهافت قافية. وقال الشاعر: ويوم كيوم البعث ما فيه حاكم * ولا عاصم إلا قنا ودروع حبست به نفسي على موقف الردى * حفاظا وأطراف الرماح شروع وما يستوي عند الملمات إن عرت * صبور على مكروهها وجزوع أبو حية النميري: إني رأيت وفي الأيام تجربة * للصبر عاقبة محمودة الأثر (1) وقل من جد في أمر يحاوله * واستصحب الصبر إلا فاز بالظفر ووصف الحسن البصري عليا عليه السلام، فقال: كان لا يجهل، وإن جهل عليه حلم. ولا يظلم، وإن ظلم غفر. ولا يبخل، وإن بخلت الدنيا عليه صبر. عبد العزيز بن زرارة الكلابي: قد عشت في الدهر أطوارا على طرق * شتى فقاسيت منه الحلو والبشعا (2) كلا بلوت فلا النعماء تبطرني * ولا تخشعت من لأوائها جزعا لا يملأ الامر صدري قبل موقعه * ولا يضيق به صدري إذا وقعا ومن كلام بعضهم: من تبصر تصبر. الصبر يفسح الفرج، ويفتح المرتتج. المحنة إذا تلقيت بالرضا والصبر كانت نعمة دائمة، والنعمة إذا خلت من الشكر كانت محنة لازمة.
(1) المقدسي 43 من غير نسبة. (2) ديوان المعاني 1: 88، وفى نسبة هذه الأبيات وروايتها خلاف، أنظره في حواشي اللآلئ 412 323 قيل لأبي مسلم صاحب الدولة: بم أصبت ما أصبت؟ قال: ارتديت بالصبر، واتزرت بالكتمان، وحالفت الحزم، وخالفت الهوى، ولم أجعل العدو صديقا، ولا الصديق عدوا. منصور النمري في الرشيد: وليس لأعباء الأمور إذا عرت * بمكترث لكن لهن صبور يرى ساكن الأطراف باسط وجهه * يريك الهوينى والأمور تطير من كلام أمير المؤمنين عليه السلام: أوصيكم بخمس، لو ضربتم إليهن آباط الإبل كانت لذلك أهلا: لا يرجون أحدكم إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، ولا يستحين إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، ولا يستحيى إذا جهل أمرا أن يتعلمه. وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد فكما لا خير في جسد لا رأس له، لا خير في إيمان لا صبر معه. وعنه عليه السلام: لا يعدم الصبور الظفر، وإن طال به الزمان. نهشل بن حرى: ويوم كأن المصطلين بحره * وإن لم يكن جمرا قيام على جمر صبرنا له حتى تجلى وإنما * تفرج أيام الكريهة بالصبر علي عليه السلام: اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر وحسن اليقين. وعنه عليه السلام: وإن كنت جازعا على ما تفلت من يديك، فاجزع على كل ما لم يصل إليك! وفي كتابه عليه السلام، الذي كتبه إلى عقيل أخيه: ولا تحسبن ابن أمك - ولو أسلمه الناس - متضرعا متخشعا، ولا مقرا للضيم واهنا، ولا سلس الزمام للقائد، ولا وطئ الظهر للراكب، ولكنه كما قال أخو بنى سليم:
324 فإن تسأليني كيف أنت فإنني * صبور على ريب الزمان صليب (1) يعز على أن ترى بي كآبة * فيشمت عاد أو يساء حبيب [فصل في الرياء والنهى عنه] واعلم أنه عليه السلام، بعد أن أمرنا بالصبر، نهى عن الرياء في العمل، والرياء في العمل منهي عنه، بل العمل ذو الرياء ليس بعمل على الحقيقة، لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى. وأصحابنا المتكلمون يقولون: ينبغي أن يعمل المكلف الواجب لأنه واجب ويجتنب القبيح لأنه قبيح، ولا يفعل الطاعة ويترك المعصية رغبة في الثواب، وخوفا من العقاب، فإن ذلك يخرج عمله من أن يكون طريقا إلى الثواب، وشبهوه بالاعتذار في الشئ، فإن من يعتذر إليك من ذنب خوفا أن تعاقبه على ذلك الذنب، لا ندما على القبيح الذي سبق منه، لا يكون عذره مقبولا، ولا ذنبه عندك مغفورا. وهذا مقام جليل لا يصل إليه إلا الافراد من ألوف الألوف. وقد جاء في الآثار من النهى عن الرياء والسمعة كثير، روى عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال " يؤتى في يوم القيامة بالرجل قد عمل اعمال الخير كالجبال - أو قال: كجبال تهامة - وله خطيئة واحدة، فيقال إنما عملتها ليقال عنك، فقد قيل، وذاك ثوابك وهذه خطيئتك، أدخلوه بها إلى جهنم ". وقال عليه السلام: " ليست الصلاة قيامك وقعودك، إنما الصلاة إخلاصك، وأن تريد بها الله وحده ". وقال حبيب الفارسي: لو أن الله تعالى أقامني يوم القيامة وقال: هل تعد سجدة سجدت ليس للشيطان فيها نصيب؟ لم أقدر على ذلك.
(1) مجموعة المعاني 72، وهما لصخر بن عمرو السلمي، أخي الخنساء، والأول من أبيات أربعة في الأغاني 13: 131 (طبعة الساسي). 325 توصل عبد الله بن الزبير إلى امرأة عبد الله بن عمر - وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي - في أن تكلم بعلها عبد الله بن عمر أن يبايعه. فكلمته في ذلك، وذكرت صلاته وقيامه وصيامه، فقال لها: أما رأيت البغلات الشهب التي كنا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة؟ قالت: بلى، قال: فإياها يطلب ابن الزبير بصومه وصلاته! وفي الخبر المرفوع: " إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء في العمل، ألا وإن الرياء في العمل هو الشرك الخفي ": صلى وصام لأمر كان يطلبه * حتى حواه فلا صلى ولا صاما [فصل في الاعتضاد بالعشيرة والتكثر بالقبيلة] ثم إنه عليه السلام بعد نهيه عن الرياء وطلب السمعة، أمر بالاعتضاد بالعشيرة والتكثر بالقبيلة، فأن الانسان لا يستغنى عنهم وإن كان ذا مال، وقد قالت الشعراء في هذا المعنى كثيرا، فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة (1): إذا المرء لم يغضب له حين يغضب * فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبوا ولم يحبه بالنصر قوم أعزة * مقاحيم في الامر الذي يتهيب (2) تهضمه أدنى العداة فلم يزل * وإن كان عضا بالظلامة يضرب (3) فآخ لحال السلم من شئت واعلمن * بأن سوى مولاك في الحرب أجنب ومولاك مولاك الذي إن دعوته * أجابك طوعا والدماء تصبب فلا تخذل المولى وإن كان ظالما * فإن به تثأى الأمور وترأب (4).
(1) في الحماسة: " قراد بن عباد "، وصححه التبريزي: " قراد بن العيار "، وقال: " أبوه العيار أحد شياطين العرب "، والأبيات في 2: 669، من ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي. (2) مقاحيم: جمع مقحام، وهو الذي يخوض قحمة الشئ، أي معظمه. (3) تهضمه، أي كسره وأذله. والعض: المنكر الشديد اللسان. (4) تثأى: بخرق وتفتق. وفى الأصول: " تنأى "، تصحيف. 326 ومن شعر الحماسة أيضا: أفيقوا بنى حزن وأهواؤنا معا * وأرحامنا موصولة لم تقضب (1) لعمري لرهط المرء خير بقية * عليه وإن عالوا به كل مركب إذا كنت في قوم وأمك منهم * لتعزى إليهم في خبيث وطيب وإن حدثتك النفس إنك قادر * على ما حوت أيدي الرجال فكذب ومن شعر الحماسة أيضا: لعمرك ما أنصفتني حين سمتني * هواك مع المولى وأن لا هوى ليا (2) إذا ظلم المولى فزعت لظلمه * فحرق أحشائي وهرت كلابيا ومن شعر الحماسة أيضا: وما كنت أبغي العم يمشى على شفا * وإن بلغتني من أذاه الجنادع (3) ولكن أواسيه وأنسى ذنوبه * لترجعه يوما إلى الرواجع وحسبك من ذل وسوء صنيعة * مناوأة ذي القربى وإن قيل قاطع ومن شعر الحماسة أيضا: ألا هل أتى الأنصار أن ابن بحدل * حميدا شفى كلبا فقرت عيونها (4) فإنا وكلبا كاليدين متى تقع * شمالك في الهيجا تعنها يمينها
(1) ديوان الحماسة (1: 311) بشرح المرزوقي، ونسبه التبريزي (1: 297) إلى جندل بن عمرو. معا، أي مجتمعة. والقضب: القطع، ولم يرد في الحماسة سوى البيت الأول. (2) ديوان الحماسة (1: 350) بشرح التبريزي، ونسبه إلى حريث بن جابر. (3) ديوان الحماسة (1: 380) بشرح التبريزي، ونسبه إلى محمد بن عبد الله الأزدي وروايته: " لا أدفع ابن العم يمشى... "، وشفا الشئ: حرفه. والجنادع: الدواهي. (4) ديوان (الحماسة 2: 522) بشرح المرزوقي وهي هناك أربعة أبيات، هنا الأول والرابع منها، ونسبها إلى بعض بنى جهينة. 327 ومن شعر الحماسة أيضا: أخوك أخوك من ينأى وتدنو * مودته وإن دعى استجابا (1) إذا حاربت حارب من تعادي * وزاد غناؤه منك اقترابا (2) يواسى في كريهته ويدنو * إذا ما مضلع الحدثان نابا (3) [فصل في حسن الثناء وطيب الأحدوثة] ثم إنه عليه السلام ذكر إن لسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خيرا له من المال يورثه غيره. ولسان الصدق هو أن يذكر الانسان بالخير، ويثني عليه به، قال سبحانه: (واجعل لي لسان صدق في الآخرين) (4). وقد ورد في هذا المعنى من النثر (5) والنظم الكثير الواسع، فمن ذلك قول عمر لابنة هرم: ما الذي أعطى أبوك زهيرا؟ قالت: أعطاه مالا يفنى، وثيابا تبلى. قال: لكن ما أعطاكم زهير لا يبليه الدهر، ولا يفنيه الزمان. ومن شعر الحماسة أيضا: إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد * بفضل الغنى ألفيت ما لك حامد (6) وقل غناء عنك مال جمعته * إذا كان ميراثا وواراك لأحد وقال يزيد بن المهلب: المال والحياة أحب شئ إلى الانسان، والثناء الحسن أحب إلى منهما، ولو أنى أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن يكون لي إذن أسمع بها ما يقال في غدا وقد مت كريما. وحكى أبو عثمان الجاحظ عن إبراهيم السندي، قال: قلت في أيام ولايتي الكوفة
(1) ديوان الحماسة - بشرح المرزوقي 2: 542، ونسبها إلى ربيعة بن مقروم. (2) الحماسة: " وزاد سلاحه ". (3) لم يذكر هذا البيت في الحماسة (4) سورة الشعراء 84. (5) ديوان الحماسة 3: 1199 بشرح المرزوقي، من أبيات نسبها إلى محمد بن أبي شحاذ. (6) ب: " الشعر "، والأجود ما أثبته من ا. 328 لرجل من وجوهها - كان لا يجف لبده ولا يستريح قلمه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الناس، وإدخال السرور على قلوبهم، والمرافق على ضعفائهم، وكان عفيف الطعمة. خبرني عما هون عليك النصب، وقواك على التعب؟ فقال: قد والله سمعت غناء الأطيار بالأسحار على أغصان الأشجار، وسمعت خفق الأوتار، وتجاوب العود والمزمار، فما طربت من صوت قط، طربي من ثناء حسن، على رجل محسن، فقلت: لله أبوك! فلقد ملئت كرما. وقال حاتم: أماوي إن يصبح صداي بقفرة * من الأرض لا ماء لدى ولا خمر (1) ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني (2) * وأن يدي مما بخلت به صفر أماوي ما يغنى الثراء عن الفتى * إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر (3) بعض المحدثين: من اشترى بماله حسن الثناء ما غبن، أفقره سماحته فذلك الفقر الغنى. ومن أمثال الفرس: كل ما يؤكل ينتن، وكل ما يوهب يأرج. وقال أبو الطيب: ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته * ما فاته وفضول العيش أشغال (4) [فصل في مواساة الأهل وصلة الرحم] ثم إنه عليه السلام بعد أن قرظ الثناء والذكر الجميل، وفضله على المال، أمر بمواساة
(1) ديوانه 118 (2) الديوان: " ما أهلكت ". (3) الديوان: " إذا حشرجت نفس ". (4) ديوانه 3: 288 329 الأهل، وصلة الرحم وإن قل ما يواسى به، فقال: ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة... "، إلى آخر الفصل، وقد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا. فمن ذلك قول زهير: ومن يك ذا فضل فيبخل بفضله * على قومه يستغن عنه ويذمم (1). وقال عثمان: إن عمر كان يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله، وأنا أعطيتهم ابتغاء وجه الله، ولن تروا مثل عمر. أبو هريرة مرفوعا: " الرحم مشتقة من الرحمن، والرحمن اسم من أسماء الله العظمى، قال الله لها: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته ". وفى الحديث المشهور: " صلة الرحم تزيد في العمر ". وقال طرفة يهجو إنسانا بأنه يصل الأباعد ويقطع الأقارب: وأنت على الأدنى شمال عرية * شآمية تروى الوجوه بليل (2) وأنت على الأقصى صبا غير قرة * وقد آب منها مزرع ومسيل (3) ومن شعر الحماسة: لهم جل مالي إن تتابع لي غنى * وإن قل مالي لا أكلفهم رفدا (4) ولا أحمل الحقد القديم عليهم * وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
(1) ديوانه 30 (من مجموعة خمسة دواوين) (2) ديوانه 52. الأدنى: الأقرب والشمال: ريح غير محمودة. بلبل: ريح باردة. (3) الأقصى البعيد. والصبا: ريح مهبها من مطلع الثريا، وهي محمودة عندهم. وقرة: باردة. (4) للمقنع الكندي، الحماسة - بشرح المرزوقي 3: 1180 330 (24) الأصل: من خطبه له عليه السلام: ولعمري ما على من قتال من خالف الحق، وخابط الغي، من إدهان ولا إيهان. فاتقوا الله عباد الله، وفروا إلى الله من الله، وامضوا في الذي نهجه لكم، وقوموا بما عصبه بكم، فعلى ضامن لفلجكم آجلا، إن لم تمنحوه عاجلا. * * * الشرح: الادهان: المصانعة والمنافقة، قال سبحانه: (ودوا لو تدهن فيدهنون) (1). والإيهان: مصدر أوهنته، أي أضعفته، ويجوز وهنته، بحذف الهمزة. ونهجه: أوضحه وجعله نهجا، أي طريقا بينا. وعصبه بكم: ناطه بكم وجعله كالعصابة التي تشد بها الرأس. والفلج: الفوز والظفر. وقوله: " وخابط الغي " كأنه جعله والغي متخابطين، يخبط أحدهما في الآخر، وذلك أشد مبالغة من أن تقول: خبط في الغي، لان من يخبط ويخبطه غيره يكون أشد اضطرابا ممن يخبط ولا يخبطه غيره. وقوله: " ففروا إلى الله من الله "، أي اهربوا إلى رحمة الله من عذابه. وقد نظر الفرزدق إلى هذا فقال: إليك فررت منك ومن زياد * ولم أحسب دمى لكم حلالا (2)
(1) سورة القلم 9 (2) ديوانه 608، في مدح سعيد بن العاصي، ورايته: " ولم أجعل دمى ". 331 (25) الأصل: ومن خطبة له عليه السلام وقد تواترت عليه الاخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد، وقدم عليه عاملاه على اليمن، وهما عبيد الله بن عباس وسعيد بن نمران، لما غلب عليهما بسر بن أرطاة، فقام عليه السلام على المنبر، ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد، ومخالفتهم له في الرأي، فقال: ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها، إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك فقبحك الله! وتمثل بقول الشاعر: لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني * على وضر من ذا الاناء قليل (1) ثم قال عليه السلام: أنبئت بسرا قد اطلع اليمن، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق، وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته. اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فأبدلني بهم خيرا منهم،
(1) الوضر: بقية الدسم في الاناء. 332 وأبدلهم بي شرا منى! اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء. أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بنى فراس بن غنم: هنالك لو دعوت أتاك منهم * فوارس مثل أرمية الحميم (1) * * * ثم نزل عليه السلام من المنبر: قال الرضى رحمه الله: أقول الأرمية: جمع رمى، وهو السحاب. والحميم هاهنا: وقت الصيف، وإنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولا، وأسرع خفوقا، لأنه لا ماء فيه، وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء، وذلك لا يكون في الأكثر إلا زمان الشتاء، وإنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا، والإغاثة إذا استغيثوا، والدليل على ذلك قوله: * هنالك لو دعوت أتاك منهم * الشرح: تواترات عليه الاخبار، مثل ترادفت وتواصلت. من الناس من يطعن في هذا، ويقول: التواتر لا يكون إلا مع فترات بين أوقات الاتيان، ومنه قوله سبحانه: (ثم أرسلنا رسلنا تترى) (2)، ليس المراد أنهم مترادفون، بل بين كل نبيين فترة، قالوا: وأصل " تترى " من الواو، واشتقاقها من " الوتر "، وهو الفرد: وعدوا هذا الموضع مما تغلط فيه الخاصة.
(1) البيت في اللسان (19: 54)، ونسبه إلى أبى جندب الهذلي، وروايته: " رجال مثل أرمية الحميم ". (2) سورة المؤمنين 44 333 [نسب معاوية وبعض أخباره] ومعاوية هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. وأمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي. وهي أم أخيه عتبة بن أبي سفيان. فأما يزيد بن أبي سفيان، ومحمد بن أبي سفيان، وعنبسة بن أبي سفيان، وحنظلة بن أبي سفيان، وعمرو بن أبي سفيان، فمن أمهات شتى. وأبو سفيان هو الذي قاد قريشا في حروبها إلى النبي صلى الله عليه وآله، وهو رئيس بنى عبد شمس بعد قتل عتبة بن ربيعة ببدر، ذاك صاحب العير وهذا صاحب النفير، وبهما يضرب المثل، فيقال للخامل: " لا في العير ولا في النفير ". وروى الزبير بن بكار أن عبد الله بن يزيد بن معاوية جاء إلى أخيه خالد بن يزيد في أيام عبد الملك، فقال: لقد هممت اليوم يا أخي أن أفتك بالوليد بن عبد الملك، قال: بئسما هممت به في ابن أمير المؤمنين، وولى عهد المسلمين! فما ذاك؟ قال: إن خيلي مرت به فعبث بها وأصغرني، فقال خالد: أنا أكفيك، فدخل على عبد الملك والوليد عنده، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الوليد مرت به خيل ابن عمه عبد الله، فعبث بها وأصغره - وكان عبد الملك مطرقا - فرفع رأسه، وقال: (إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون) (1)، فقال خالد: (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) (2)، فقال عبد الملك: أفي عبد الله تكلمني! والله لقد دخل أمس على فما أقام لسانه لحنا! قال
(1) سورة النمل 44 (2) سورة الإسراء 16 334 خالد: أفعلى الوليد تعول يا أمير المؤمنين! قال عبد الملك: إن كان الوليد يلحن فإن أخاه خالد [لا] (1)، فالتفت الوليد إلى خالد وقال له: اسكت ويحك فوالله ما تعد في العير ولا في النفير، فقال: اسمع يا أمير المؤمنين، ثم التفت إلى الوليد، فقال له: ويحك! فمن صاحب العير والنفير غير جدي أبي سفيان صاحب العير، وجدي عتبة صاحب النفير! ولكن لو قلت: غنيمات وحبيلات والطائف، ورحم الله عثمان "، لقلنا: صدقت (2). * * * وهذا من الكلام المستحسن، والألفاظ الفصيحة، والجوابات المسكتة، وإنما كان أبو سفيان صاحب العير، لأنه هو الذي قدم بالعير التي رام رسول الله صلى الله عليه وآله وأصحابه أن يعترضوها، وكانت قادمة من الشام إلى مكة تحمل العطر والبر، فنذر بهم أبو سفيان، فضرب وجوه العير إلى البحر، فساحل (3) بها حتى أنقذها منهم، وكانت وقعة بدر العظمى لأجلها، لان قريشا أتاهم النذير بحالها، وبخروج النبي صلى الله عليه وآله بأصحابه من المدينة في طلبها، لينفروا، وكان رئيس الجيش النافر لحمايتها عتبة بن ربيعة ابن شمس جد معاوية لامه. وأما " غنيمات وحبيلات... " إلى آخر الكلام، فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما طرد الحكم بن أبي العاص إلى الطائف لأمور نقمها عليه، أقام بالطائف في حبلة ابتاعها - وهي الكرمة - وكان يرعى غنيمات اتخذها، يشرب من لبنها. فلما ولى أبو بكر، شفع إليه عثمان في أن يرده، فلم يفعل، فلما ولى عمر شفع إليه أيضا فلم يفعل، فلما ولى هو الامر رده. والحكم جد عبد الملك، فعيرهم خالد بن يزيد به. * * * وبنو أمية صنفان: الأعياص والعنابس، فالأعياص: العاص، وأبو العاص،
(1) من مجمع الأمثال. (2) الخبر في مجمع الأمثال 2: 222 (3) ساحل بها: أتى بها ساحل البحر. 335 والعيص، وأبو العيص. والعنابس: حرب، وأبو حرب، وسفيان، وأبو سفيان. فبنو مروان وعثمان من الأعياص، ومعاوية وابنه من العنابس، ولكل واحد من الصنفين المذكورين وشيعتهم كلام طويل، واختلاف شديد، في تفضيل بعضهم على بعض. * * * وكانت هند تذكر في مكة بفجور وعهر. وقال الزمخشري في كتاب " ربيع الأبرار ": كان معاوية يعزى إلى أربعة: إلى مسافر بن أبي عمرو، وإلى عمارة بن الوليد بن المغيرة، وإلى العباس بن عبد المطلب، وإلى الصباح، مغن كان لعمارة بن الوليد. قال: وقد كان أبو سفيان دميما قصيرا، وكان الصباح عسيفا (1) لأبي سفيان، شابا وسيما، فدعته هند إلى نفسها فغشيها. وقالوا: إن عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضا، وقالوا: إنها كرهت أن تدعه في منزلها، فخرجت إلى أجياد، فوضعته هناك. وفى هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة بين المسلمين والمشركين في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله قبل عام الفتح (2): لمن الصبي بجانب البطحاء * في الترب ملقى غير ذي مهد نجلت به بيضاء آنسة * من عبد شمس صلته الخد (3) والذين نزهوا هند عن هذا القذف رووا غير هذا. فروى أبو عبيدة معمر بن المثنى أن هندا كانت تحت الفاكه بن المغيرة المخزومي، وكان له بيت ضيافة يغشاه الناس، فيدخلونه من غير إذن، فخلا ذلك البيت يوما، فاضطجع فيه الفاكه وهند، ثم قام الفاكه وترك هندا في البيت لأمر عرض له، ثم عاد إلى البيت، فإذا رجل قد خرج من البيت، فأقبل إلى هند، فركلها برجله، وقال: من الذي كان عندك؟ فقالت: لم يكن عندي
(1) العسيف: الأجير. (2) ديوانه 157 (3) نجلت به ولدته، وصلته الخد، الصلت: الأملس: وفى الأصول: " صلبة " تصحيف 336 أحد، وإنما كنت نائمة. فقال: الحقي بأهلك، فقامت من فورها إلى أهلها، فتكلم الناس في ذلك، فقال لها عتبة أبوها: يا بنية، إن الناس قد أكثروا في أمرك، فأخبريني بقصتك على الصحة، فإن كان لك ذنب دسست إلى الفاكه من يقتله، فتنقطع عنك القالة. فحلفت أنها لا تعرف لنفسها جرما، وإنه لكاذب عليها. فقال عتبة للفاكه: إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم، فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة؟ فخرج الفاكه في جماعة من بنى مخزوم، وخرج عتبة في جماعة من بنى عبد مناف، وأخرج معه هندا ونسوة معها، فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند، وتنكر أمرها، واختطف لونها. فرأى ذلك أبوها، فقال لها: إني أرى ما بك، وما ذاك إلا لمكروه عندك! فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا! قالت: يا أبت، إن الذي رأيت منى ليس لمكروه عندي، ولكني أعلم أنكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب، ولا آمن أن يسمني ميسما يكون على عارا عند نساء مكة. قال لها: فإني سأمتحنه قبل المسألة بأمر، ثم صفر بفرس له فأدلى، ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليله، وشده بسير وتركه. حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم، ونحر لهم. فقال عتبة: إنا قد جئناك لأمر، وقد خبأت لك خبيئا أختبرك به، فانظر ما هو؟ فقال: ثمرة في كمرة، فقال: أبين من هذا، قال: حبة بر، في إحليل مهر، قال: صدقت، انظر الآن في أمر هؤلاء النسوة. فجعل يدنو من واحدة واحدة منهن، ويقول: انهضي، حتى صار إلى هند، فضرب على كتفها، وقال: انهضي غير رقحاء ولا زانية، ولتلدن ملكا يقال له معاوية. فوثب إليها الفاكه، فأخذها بيده وقال: قومي إلى بيتك، فجذبت يدها من يده، وقالت: إليك عنى، فوالله لا كان منك، ولا كان إلا من غيرك! فتزوجها أبو سفيان بن حرب. الرقحاء: البغي التي تكتسب بالفجور، والرقاحة: التجارة.
337 وولى معاوية اثنتين وأربعين سنة، منها اثنتان وعشرون سنة ولى فيها إمارة الشام منذ مات أخوه يزيد بن أبي سفيان، بعد خمس سنين من خلافة عمر، إلى أن قتل أمير المؤمنين علي عليه السلام في سنة أربعين. ومنها عشرون سنة خليفة إلى أن مات في سنة ستين. ومر به إنسان وهو غلام يلعب مع الغلمان، فقال: إني أظن هذا الغلام سيسود قومه، فقالت هند: ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه! ولم يزل معاوية ذا همة عالية، يطلب معالى الأمور، ويرشح نفسه للرياسة، وكان أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله. واختلف في كتابته له كيف كانت، فالذي عليه المحققون من أهل السيرة أن الوحي كان يكتبه علي عليه السلام وزيد بن ثابت، وزيد بن أرقم، وأن حنظلة بن الربيع التيمي ومعاوية بن أبي سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك وإلى رؤساء القبائل، ويكتبان حوائجه بين يديه، ويكتبان ما يجبى من أموال الصدقات وما يقسم في أربابها. وكان معاوية على أس (1) الدهر مبغضا لعلى عليه السلام، شديد الانحراف عنه، وكيف لا يبغضه، وقد قتل أخاه حنظلة يوم بدر، وخاله الوليد بن عتبة، وشرك عمه في جده وهو عتبة - أو في عمه، وهو شيبة، على اختلاف الرواية - وقتل من بنى عمه عبد شمس نفرا كثيرا من أعيانهم وأماثلهم، ثم جاءت الطامة الكبرى واقعة عثمان، فنسبها كلها إليه بشبهة إمساكه عنه، وانضواء كثير من قتلته إليه عليه السلام، فتأكدت البغضة، وثارت الأحقاد، وتذكرت تلك الترات الأولى، حتى أفضى الامر إلى ما أفضى إليه. وقد كان معاوية، مع عظم قدر علي عليه السلام في النفوس، واعتراف العرب بشجاعته، وأنه البطل الذي لا يقام له، يتهدده - وعثمان بعد حي - بالحرب والمنابذة، ويراسله من الشام رسائل خشنة، حتى قال له في وجهه ما رواه أبو هلال العسكري في كتاب " الأوائل "، قال:
(1) أس الدهر، بفتح الهمزة أو ضمها أو كسرها: قدم الدهر ووجهه. 338 قدم معاوية المدينة قدمة أيام عثمان في أواخر خلافته، فجلس عثمان يوما للناس، فاعتذر من أمور نقمت عليه، فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله قبل توبة الكافر، وإني رددت الحكم عمى لأنه تاب، فقبلت توبته، ولو كان بينه وبين أبى بكر وعمر من الرحم ما بيني وبينه لآوياه، فأما ما نقمتم على إني أعطيت من مال الله، فإن الامر إلى، أحكم في هذا المال بما أراه صلاحا للأمة، وإلا فلما ذا كنت خليفة! فقطع عليه الكلام معاوية وقال للمسلمين الحاضرين عنده: أيها المهاجرون، قد علمتم أنه ليس منكم رجل إلا وقد كان قبل الاسلام مغمورا في قومه، تقطع الأمور من دونه، حتى بعث الله رسوله فسبقتم إليه، وأبطأ عنه أهل الشرف والرياسة، فسدتم بالسبق لا بغيره، حتى إنه ليقال اليوم: رهط فلان، وآل فلان، ولم يكونوا قبل شيئا مذكورا، وسيدوم لكم هذا الامر ما استقمتم، فإن تركتم شيخنا هذا يموت على فراشه وإلا خرج منكم، ولا ينفعكم سبقكم وهجرتكم. فقال له علي عليه السلام: ما أنت وهذا يا بن اللخناء! فقال معاوية: مهلا يا أبا الحسن عن ذكر أمي، فما كانت بأخس نسائكم، ولقد صافحها رسول الله صلى الله عليه يوم أسلمت ولم يصافح امرأة غيرها، أما لو قالها غيرك! فنهض علي عليه السلام ليخرج مغضبا، فقال عثمان: اجلس، فقال له: لا أجلس، فقال: عزمت عليك لتجلسن، فأبى وولى، فأخذ عثمان طرف ردائه فترك الرداء في يده وخرج، فأتبعه عثمان بصره، فقال: والله لا تصل إليك ولا إلى أحد من ولدك. قال أسامة بن زيد: كنت حاضرا هذا المجلس، فعجبت في نفسي من تألى عثمان، فذكرته لسعد بن أبي وقاص، فقال: لا تعجب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه يقول: " لا ينالها على ولا ولده " قال أسامة: فإني في الغد لفي المسجد، وعلى وطلحة والزبير وجماعة من المهاجرين جلوس، إذ جاء معاوية، فتآمروا بينهم ألا يوسعوا له، فجاء حتى جلس بين أيديهم،
339 فقال: أتدرون لماذا جئت؟ قالوا: لا، قال: إني أقسم بالله إن لم تتركوا شيخكم يموت على فراشه لا أعطيكم إلا هذا السيف! ثم قام فخرج. فقال علي عليه السلام: لقد كنت أحسب أن عند هذا شيئا، فقال له طلحة: وأي شئ يكون عنده أعظم مما قال! قاتله الله! لقد رمى الغرض فأصاب، والله ما سمعت يا أبا الحسن كلمة هي أملا لصدرك منها. ومعاوية مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم الله، يرمى بالزندقة. وقد ذكرنا في نقض " السفيانية " على شيخنا أبى عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه من الالحاد والتعرض لرسول الله صلى الله عليه وآله، وما تظاهر به من الجبر والإرجاء، ولو لم يكن شئ من ذلك، لكان في محاربته الامام ما يكفي في فساد حاله، لا سيما على قواعد أصحابنا، وكونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار والخلود فيها، إن لم تكفرها التوبة. [بسر بن أرطاة ونسبه] وأما (1) بسر بن أرطاة فهو (2 بسر بن أرطاة 2) - وقيل ابن أبي أرطاة - بن عويمر بن عمران بن الحليس بن سيار بن نزار بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف، وأمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي عليه السلام، فقتل خلقا كثيرا، وقتل فيمن قتل ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكانا غلامين صغيرين، فقالت أمهما ترثيهما: يا من أحس بنيي اللذين هما * كالدرتين تشظى عنهما الصدف (1) في أبيات مشهورة.
(1) ب: " أما " (2 - 2) ساقط من ب، وما أثبته من ا (3) تشظى: تفرق شظايا. والأبيات في الكامل 8 - 158 - بشرح المرصفي. 340 [عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب] وكان عبيد الله عامل علي عليه السلام على اليمن، وهو عبيد الله بن العباس ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي. أمه وأم إخوته: عبد الله، وقثم، ومعبد، وعبد الرحمن لبابة بنت الحارث بن حزن، من بنى عامر بن صعصعة. ومات عبيد الله بالمدينة، وكان جوادا، وأعقب ومن أولاده: قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس ولاه أبو جعفر المنصور المدينة، وكان جوادا ممدوحا، وله يقول ابن المولى (1): أعفيت من كور ومن رحلة * يا ناق إن أدنيتني من قثم في وجهه نور وفي باعه * طول وفي العرنين منه شمم ويقال: ما رئي قبور إخوة أكثر تباعدا من قبور بنى العباس رحمه الله تعالى: قبر عبد الله بالطائف، وقبر عبيد الله بالمدينة، وقبر قثم بسمرقند، وقبر عبد الرحمن بالشام، وقبر معبد بأفريقية. * * * ثم نعود إلى شرح الخطبة: الأعاصير: جمع إعصار، وهي الريح المستديرة على نفسها، قال الله تعالى: (فأصابها إعصار فيه نار) (2). والوضر: بقية الدسم في الاناء. وقد اطلع اليمن، أي غشيها وغزاها وأغار عليها. وقوله: " سيدالون منكم "، أي يغلبونكم وتكون لهم الدولة عليكم. وماث زيد الملح في الماء: أذابه وبنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، حي مشهور بالشجاعة، منهم
(1) كذا بهذه النسبة في نسب قريش 33، وهما من أبيات تنسب إلى داود بن سلم، في الأغاني 6: 20، 9: 169 (طبعة الدار) وفى الكامل 369 (طبعة أوروبا) منسوبة إلى سليمان بن قتة. (2) سورة البقرة 266 341 علقمة بن فراس، وهو جذل الطعان. ومنهم ربيعة بن مكدم بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن فراس، الشجاع المشهور، حامي الظعن حيا وميتا، ولم يحم الحريم وهو ميت أحد غيره، عرض له فرسان من بنى سليم، ومعه ظعائن من أهله يحميهم وحده، فطاعنهم، فرماه نبيشة ابن حبيب بسهم أصاب قلبه، فنصب رمحه في الأرض، واعتمد عليه وهو ثابت في سرجه لم يزل ولم يمل. وأشار إلى الظعائن بالرواح، فسرن حتى بلغن بيوت الحي، وبنو سليم قيام إزاءه لا يقدمون عليه، ويظنونه حيا، حتى قال قائل منهم: إني لا أراه إلا ميتا، ولو كان حيا لتحرك، إنه والله لماثل راتب على هيئة واحدة، لا يرفع يده، ولا يحرك رأسه. فلم يقدم أحد منهم على الدنو منه، حتى رموا فرسه بسهم، فشب من تحته، فوقع وهو ميت، وفاتتهم الظعائن. وقال الشاعر: لا يبعدن ربيعة بن مكدم * وسقى الغوادي قبره بذنوب (1) نفرت قلوصي من حجارة حرة * بنيت على طلق اليدين وهوب لا تنفري يا ناق منه فإنه * شريب خمر مسعر لحروب لولا السفار وبعد خرق مهمه * لتركتها تجثو على العرقوب نعم الفتى أدى نبيشة بزه * يوم اللقاء نبيشة بن حبيب وقوله عليه السلام: " ما هي إلا الكوفة "، أي ما ملكتي إلا الكوفة. اقبضها وأبسطها، أي أتصرف فيها، كما يتصرف الانسان في ثوبه، يقبضه ويبسطه كما يريد. ثم قال على طريق صرف الخطاب: " فإن لم تكوني إلا أنت "، خرج من الغيبة إلى خطاب الحاضر، كقوله تعالى: (الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. إياك نعبد وإياك نستعين)، يقول: إن لم يكن لي من الدنيا ملك إلا ملك الكوفة ذات الفتن، والآراء المختلفة، فأبعدها الله!
(1) لحسان بن ثابت، وقيل هي لضرار بن الخطاب، وهي الأغاني 14: 126 (طبعة الساس) والكامل 668 (طبع أوروبا) في اختلاف في الرواية. 342 وشبه ما كان يحدث من أهلها من الاختلاف والشقاق بالأعاصير، لإثارتها التراب وإفسادها الأرض. ثم ذكر علة إدالة أهل الشام من أهل العراق، وهي اجتماع كلمتهم وطاعتهم لصاحبهم وأداؤهم الأمانة وإصلاحهم بلادهم. [أهل العراق وخطب الحجاج فيهم] وقال أبو عثمان الجاحظ: العلة في عصيان أهل العراق على الامراء وطاعة أهل الشام أن أهل العراق أهل نظر وذوو فطن ثاقبة، ومع الفطنة والنظر يكون التنقيب والبحث، ومع التنقيب والبحث يكون الطعن والقدح والترجيح بين الرجال، والتمييز بين الرؤساء، وإظهار عيوب الامراء. وأهل الشام ذوو بلادة وتقليد وجمود على رأى واحد، لا يرون النظر، ولا يسألون عن مغيب الأحوال. وما زال العراق موصوفا أهله بقلة الطاعة، وبالشقاق على أولى الرئاسة. * * * ومن كلام الحجاج (1): يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق! أما والله لألحونكم لحو العصا، ولأعصبنكم عصب السلم، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل، إني أسمع لكم تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب، ولكنه تكبير الترهيب. ألا إنها عجاجة تحتها قصف (2)، يا بنى اللكيعة، وعبيد العصا، وأبناء الإماء! إنما مثلي ومثلكم كما قال ابن براقة (4): وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم * فهل أنا في ذا يال همدان ظالم! (5)
(1) البيان والتبيين 2: 137، وتاريخ الطبري 7: 212، مع اختلاف في الرواية. (2) العجاجة: شدة الغبار، والقصف: شدة الريح. (3) اللكيعة: اللئيمة. (4) هو عمرو بن الحارث بن عمرو بن منبه بن شهر بن سهم الهمداني، وبراقة أمه، ينسب إليها. (5) البيتان من قصيدة طويلة له، ذكرها القالي في الأمالي 2: 122، في خبر له مع حريم المرادي حين أغار عليه. 343 متى تجمع القلب الذكي وصارما * وأنفا حميا تجتنبك المظالم والله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الذاهب. وكانت هذه الخطبة عقيب سماعه تكبيرا منكرا في شوارع الكوفة، فأشفق من الفتنة. * * * ومما خطب به في ذم أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم (1). يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، إن الشيطان استبطنكم، فخالط اللحم والدم والعصب، والمسامع والأطراف والأعضاء والشغاف، ثم أفضى إلى الامخاخ والاصماخ، ثم ارتفع فعشش، ثم باض ففرخ، فحشاكم نفاقا وشقاقا، وملأكم غدرا وخلافا، اتخذتموه دليلا تتبعونه، وقائدا تطيعونه، ومؤامرا تستشيرونه، فكيف تنفعكم تجربة، أو تعظكم واقعة، أو يحجزكم إسلام، أو يعصمكم ميثاق! ألستم أصحابي بالأهواز، حيث رمتم المكر، وسعيتم بالغدر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته، وأنا أرميكم بطرفي، وأنتم تتسللون لواذا، وتنهزمون سراعا! ثم يوم الزاوية (2)! وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وكسلكم وتخاذلكم وتنازعكم، وبراءة الله منكم، ونكول وليكم عنكم، إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء عن أخيه، ولا يلوي الأب على بنيه، لما عضكم السلاح، وقصمتكم (3) الرماح. ثم يوم دير الجماجم، وما يوم دير الجماجم!
(1) وقعة دير الجماجم، كانت بين الحجاج وابن الأشعث قرب الكوفة سنة 83، وهزم فيها ابن الأشعث الطبري (8: 21) والخطبة في البيان والتبيين 2: 138، العقد 4: 115، نهاية الإرب 7: 245 مع اختلاف الرواية (2) الزاوية: موضع قرب البصرة، كانت به وقعة بين الحجاج وابن الأشعث، قتل فيها خلق كثير، وذلك سنة 82. الطبري (8: 12). (3) قصمتكم: كسرتكم وغلبتكم، وفى البيان: " وقصتكم "، وهما بمعنى. 344 بها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله (1). يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق! الكفرات بعد الفجرات، والغدرات بعد الخترات (2)، والنزوة بعد النزوات! إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم (3) وخنتم، وإن أمنتم أرجفتم، وإن خفتم نافقتم. لا تذكرون حسنة، ولا تشكرون نعمة. هل استخفكم ناكث، أو استغواكم غاو، أو استفزكم عاص، أو استنصركم ظالم، أو استعضدكم خالع، إلا اتبعتموه وآويتموه، ونصرتموه وزكيتموه! يا أهل العراق، هل شغب شاغب، أو نعب ناعب، أو زفر كاذب (4)، إلا كنتم أشياعه وأتباعه، وحماته وأنصاره! يا أهل العراق، ألم تزجركم المواعظ! ألم تنبهكم الوقائع! ألم تردعكم الحوادث! ثم التفت إلى أهل الشام وهم حول المنبر، فقال: يا أهل الشام، إنما أنا لكم كالظليم الرامح (5) عن فراخه، ينفى عنها القذر (6) ويباعد عنها الحجر، ويكنها من المطر، ويحميها من الضباب، ويحرسها من الذئاب! يا أهل الشام، أنتم الجنة والرداء، وأنتم العدة والحذاء. ثم نزل. * * *
(1) أخذه من رجز عمار بن ياسر يوم صفين، وفيه: ضرب يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله ومقيله: موضعه. وانظر وقعة صفين 366 - 387 (2) الخترات: جمع خترة، وهي الغدر والخديعة. (3) الغل هنا: الخيانة. (4) العد: " زفر زافر ". (5) الظليم: ذكر النعام، والرامح: المدافع. (6) البيان والعقد: " المدر ". 345 ومن خطبه في هذا المعنى وقد أراد الحج (1): يا أهل الكوفة، إني أريد الحج وقد استخلفت عليكم ابني محمدا، وأوصيته بخلاف وصية رسول الله صلى الله عليه في الأنصار، فإنه أمر أن يقبل من محسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم، وأنى قد أوصيته ألا يقبل من محسنكم، ولا يتجاوز عن مسيئكم. ألا وإنكم ستقولون بعدي: لا أحسن الله له الصحابة! ألا وإني معجل لكم الجواب: لا أحسن الله لكم الخلافة! * * * ومن خطبة له في هذا المعنى: يا أهل الكوفة، إن الفتنة تلقح بالنجوى (2)، وتنتج بالشكوى، وتحصد بالسيف، أما والله إن أبغضتموني لا تضروني، وإن أحببتموني لا تنفعوني! وما أنا بالمستوحش لعداوتكم، ولا المستريح إلى مودتكم، زعمتم أنى ساحر وقد قال الله تعالى: (ولا يفلح الساحر) (3)، وقد أفلحت. وزعمتم أنى أعلم الاسم الأكبر، فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون! ثم التفت إلى أهل الشام فقال: لأزواجكم أطيب من المسك، ولأبناؤكم آنس بالقلب من الولد، وما أنتم إلا كما قال أخو ذبيان: إذا حاولت في أسد فجورا * فإني لست منك ولست منى (4) هم درعي التي استلامت فيها * إلى يوم النسار وهم مجني (5)
(1) عيون الأخبار 2: 245 (2) النجوى: المسارة. (3) سورة طه 63 (4) ديوانه 79 (من مجموعة خمسة دواوين) (5) استلام: لبس اللامة، وهي الدرع. النسار: ماء لبني عامر. والمجن: الترس. 346 ثم قال: بل أنتم يا أهل الشام، كما قال الله سبحانه: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون) (1). * * * وخطب مرة بعد موت أخيه وابنه قال: بلغني أنكم تقولون: يموت الحجاج، ومات الحجاج! فمه! وما كان ما ذا! والله ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت! وما رضى الله البقاء إلا لاهون المخلوقين عليه، إبليس، (قال أنظرني إلى يوم يبعثون. قال إنك من المنظرين) (2). ثم قال: يا أهل العراق، أتيتكم وأنا ذو لمة وافرة أرفل فيها، فما زال بي شقاقكم وعصيانكم حتى أحص شعري. ثم كشف رأسه وهو أصلع، وقال: من يك ذا لمة يكشفها * فإنني غير ضائري زعري (3) لا يمنع المرء أن يسود وأن * يضرب بالسيف - قلة الشعر * * * فأما قوله عليه السلام: " اللهم أبدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا منى "، ولا خير فيهم ولا شر فيه عليه السلام، فإن " أفعل " هاهنا بمنزلته في قوله تعالى: (أفمن يلقى في النار خير أمن يأتي آمنا يوم القيامة) (4)، وبمنزلته في قوله: (قل أذلك خير أم جنة الخلد) (5).
(1) سورة الصافات 171 - 173 (2) سورة الأعراف 14، 15 (3) الزعر: ذهاب أصول الشعر. (4) سورة فصلت 40 (5) سورة الفرقان 15 347 ويحتمل أن يكون الذي تمناه عليه السلام من إبداله بهم خيرا منهم قوما صالحين ينصرونه ويوفقون لطاعته. ويحتمل أن يريد بذلك ما بعد الموت من مرافقة النبي صلى الله عليه وآله. وقال القطب الراوندي: بنو فراس بن غنم هم الروم. وليس بجيد، والصحيح ما ذكرناه. والبيت المتمثل به أخيرا لأبي جندب الهذلي، وأول الأبيات: ألا يا أم زنباع أقيمي صدور العيس نحو بنى تميم * * * وهذه الخطبة، خطب بها أمير المؤمنين عليه السلام بعد فراغه من صفين، وانقضاء أمر الحكمين والخوارج، وهي من أواخر خطبه عليه السلام. * * * تم الجزء الأول (1) من شرح نهج البلاغة بحمد الله ومنه، والحمد لله وحده العزيز، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
(1) من تجزئة المؤلف، وهذه خاتمة نسخة ب، وفى آخر نسخة ا: " هذا آخر الجزء الأول، ويتلوه الجزء الثاني إن شاء الله ". 348