بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: شرح نهج البلاغة المؤلف: ابن أبي الحديد الجزء: 4 الوفاة: 656 المجموعة: مصادر الحديث السنية ـ القسم العام تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم الطبعة: سنة الطبع: المطبعة: الناشر: دار إحياء الكتب العربية - عيسى البابي الحلبي وشركاه ردمك: ملاحظات: مؤسسة مطبوعاتي إسماعيليان شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم الجزء الرابع دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه
1 منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي قم - إيران 1404 ه ق
2 بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الحكيم، وصلى الله على رسوله الكريم. * * * ومنها (1) في ذكر يوم النحر وصفة الأضحية: ومن تمام الأضحية استشراف أذنها، وسلامة عينها، فإذا سلمت الاذن والعين سلمت الأضحية و تمت، ولو كانت عضباء القرن تجر رجلها إلى المنسك. * * * قال الرضى رحمه الله: والمنسك هاهنا: المذبح. الشرح: الأضحية: ما يذبح يوم النحر، وما يجرى مجراه أيام التشريق من النعم. واستشراف أذبها: انتصابها وارتفاعها، أذن شرفاء أي منتصبة. والعضباء: المكسورة القرن. والتي تجر رجلها إلى المنسك، كناية عن العرجاء، ويجوز المنسك، بفتح السين وكسرها. * * * [اختلاف الفقهاء في حكم الأضحية] واختلف الفقهاء في وجوب الأضحية، فقال أبو حنيفة: هي واجبة على المقيمين من أهل
(1) تتمة الخطبة الثانية والخمسين، الجزء السابق ص 333. 3 الأمصار، ويعتبر في وجوبها النصاب، وبه قال مالك والثوري، إلا أن مالكا لم يعتبر الإقامة. وقال الشافعي: الأضحية سنة مؤكدة، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد. واختلفوا في العمياء، هل تجزئ أم لا؟ فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام في هذا الفصل يقتضى ذلك، لأنه قال: إذا سلمت العين سلمت الأضحية، فيقتضى أنه إذا لم تسلم العين لم تسلم الأضحية. ومعنى انتفاء سلامة الأضحية انتفاء أجزائها. وحكى عن بعض أهل الظاهر أنه قال: تجزئ العمياء. وقال محمد بن النعمان المعروف بالمفيد رضى الله تعالى عنه، أحد فقهاء الشيعة في كتابه المعروف،، بالمقنعة،،: إن الصادق عليه السلام سئل عن الرجل يهدى الهدى أو الأضحية وهي سمينة، فيصيبها مرض، أو تفقأ عينها أو تنكسر، فتبلغ يوم النحر وهي حية، أتجزئ عنه؟ فقال: نعم. فأما الاذن، فقال أحمد: لا يجوز التضحية بمقطوعة الاذن، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يقتضى ذلك. وقال سائر الفقهاء: تجزئ إلا أنه مكروه. وأما العضباء، فأكثر الفقهاء على أنها تجزئ، إلا أنه مكروه، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يقتضى ذلك، وكذلك الحكم في الجلحاء، وهي التي لم يخلق لها قرن، والقصماء: وهي التي انكسر غلاف قرنها، والشرفاء: وهي التي انثقبت أذنها من الكي، والخرقاء: وهي التي شقت أذنها طولا. وقال مالك: إن كانت العضباء يخرج من قرنها دم لم تجزئ. وقال أحمد والنخعي: لا تجوز التضحية بالعضباء.
4 فأما العرجاء التي كنى عنها بقوله: (تجر رجلها إلى المنسك)، فأكثر الفقهاء على أنها لا تجزئ، وكلام أمير المؤمنين عليه السلام يقتضى أنها تجزئ. وقد نقل أصحاب الشافعي عنه في أحد قوليه أن الأضحية إذا كانت مريضة مرضا يسيرا أجزأت. وقال الماوردي من الشافعية في كتابه المعروف ب (الحاوي): إن عجزت عن أن تجر رجلها خلقة أجزأت، وإن كان ذلك عن مرض لم تجزئ.
5 (53) ومن كلام له عليه السلام في ذكر البيعة: الأصل: فتداكوا على تداك الإبل الهيم يوم وردها، وقد أرسلها راعيها، وخلعت مثانيها، حتى ظننت أنهم قاتلي، أو بعضهم قاتل بعض لدى. وقد قلبت هذا الامر بطنه وظهره حتى منعني النوم، فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فكانت معالجة القتال أهون على من معالجة العقاب، وموتات الدنيا أهون على موتات الآخرة. الشرح: تداكوا: ازدحموا. واليهم: العطاش. ويوم وردها: يوم شربها الماء. والمثاني: الحبال، جمع مثناة ومثناة بالفتح والكسر، وهو الحبل. وجهاد البغاة واجب على الامام، إذا وجد أنصارا، فإذا أخل بذلك أخل بواجب، واستحق العقاب. فإن قيل: إنه عليه السلام قال: (لم يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم)، فكيف يكون تارك الواجب جاحدا لما جاء به النبي صلى الله عليه وآله! قيل: إنه في حكم الجاحد، لأنه مخالف وعاص، لا سيما على مذهبنا في أن تارك الواجب يخلد في النار وإن لم يجحد النبوة
6 [بيعة على وأمر المتخلفين عنها] اختلف الناس في بيعة أمير المؤمنين عليه السلام، فالذي عليه أكثر الناس وجمهور أرباب السير أن طلحة والزبير بايعاه طائعين غير مكرهين، ثم تغيرت عزائمهما، وفسدت نياتهما، وغدرا به. وقال الزبيريون، منهم عبد الله بن مصعب، والزبير بن بكار وشيعتهم ومن وافق قولهم من بنى تيم بن مرة، أرباب العصبية لطلحة: إنهما بايعا مكرهين، وإن الزبير كان يقول: بايعت واللج على قفى، واللج سيف الأشتر، وقفى لغة هذلية، إذا أضافوا المقصور إلى أنفسهم قلبوا الألف ياء، وأدغموا إحدى الياءين في الأخرى، فيقولون: قد وافق ذلك هوى، أي هواي، وهذه عصى، أي عصاي. * * * وذكر صاحب (1) كتاب، الأوائل،، أن الأشتر جاء إلى علي عليه السلام حين قتل عثمان، فقال: قم فبايع الناس، فقد اجتمعوا لك، ورغبوا فيك، والله لئن نكلت عنها لتعصرن عليها عينيك مرة رابعة، فجاء حتى دخل بئر سكن، واجتمع الناس، وحضر طلحة والزبير، لا يشكان أن الامر شورى، فقال الأشتر: أتنتظرون أحدا! قم يا طلحة فبايع، فتقاعس، فقال: قم يا بن الصعبة - وسل سيفه - فقام طلحة يجر رجله، حتى بايع، فقال قائل: أول من بايعه أشل! لا يتم أمره، ثم لا يتم، قال: قم يا زبير، والله لا ينازع أحد إلا وضربت قرطه بهذا السيف، فقام الزبير فبايع، ثم انثال الناس عليه العسكري. (*)
7 وأولهم عبد الرحمن بن عديس البلوى، فبايعوا. وقال له عبد الرحمن: خذها إليك واعلمن أبا حسن * أنا نمر الامر إمرار الرسن وقد ذكرنا نحن في شرح الفصل (1) الذي فيه أن الزبير أقر بالبيعة، وادعى الوليجة أن بيعة أمير المؤمنين لم تقع إلا عن رضا جميع أهل المدينة، أولهم طلحة والزبير، وذكرنا في ذلك ما يبطل رواية الزبير. وذكر أبو مخنف في كتاب،، الجمل،، أن الأنصار والمهاجرين اجتمعوا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، لينظروا من يولونه أمرهم، حتى غص المسجد بأهله، فاتفق رأى عمار وأبى الهيثم بن التيهان ورفاعة بن رافع ومالك بن عجلان وأبى أيوب خالد بن يزيد على إقعاد أمير المؤمنين عليه السلام في الخلافة، وكان أشدهم تهالكا عليه عمار، فقال لهم: أيها الأنصار، قد سار فيكم عثمان بالأمس بما رأيتموه، وأنتم على شرف من الوقوع في مثله إن لم تنظروا لأنفسكم، وإن عليا أولى الناس بهذا الامر، لفضله وسابقته، فقالوا: رضينا به حينئذ، وقالوا بأجمعهم لبقية الناس من الأنصار والمهاجرين: أيها الناس، إنا لن نألوكم خيرا وأنفسنا إن شاء الله، وإن عليا من قد علمتم، وما نعرف مكان أحد أحمل لهذا الامر منه، ولا أولى به. فقال الناس بأجمعهم: قد رضينا، وهو عندنا ما ذكرتم وأفضل. وقاموا كلهم، فأتوا عليا عليه السلام، فاستخرجوه من داره، وسألوه بسط يده، فقبضها فتداكوا عليه تداك الإبل الهيم على وردها، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا، فلما رأى منهم ما رأى، سألهم أن تكون بيعته في المسجد ظاهرة للناس. وقال: إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الامر. فنهض الناس معه حتى دخل المسجد، فكان أول من بايعه طلحة. فقال قبيصة بن ذؤيب الأسدي: تخوفت ألا يتم له أمره، لان أول يد بايعته شلاء، ثم بايعه الزبير،
(1) الجزء الأول ص 230، الوليجة: الامر يسر ويكتم. 8 وبايعه المسلمون بالمدينة إلا محمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وسعد ابن أبي وقاص، وكعب بن مالك وحسان بن ثابت، وعبد الله بن سلام. فأمر بإحضار عبد الله بن عمر، فقال له: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع جميع الناس، فقال له عليه السلام: فأعطني حميلا ألا تبرح، قال: ولا أعطيك حميلا، فقال الأشتر: يا أمير المؤمنين؟ إن هذا قد أمن سوطك وسيفك، فدعني أضرب عنقه، فقال: لست أريد ذلك منه على كره، خلوا سبيله، فلما انصرف قال أمير المؤمنين: لقد كان صغيرا وهو سيئ الخلق، وهو في كبره أسوأ خلقا. ثم أتى بسعد بن أبي وقاص، فقال له بايع، فقال: يا أبا الحسن خلنى، فإذا لم يبق غيري بايعتك، فوالله لا يأتيك من قبلي أمر تكرهه أبدا، فقال: صدق، خلوا سبيله. ثم بعث إلى محمد بن مسلمة، فلما أتاه قال له: بايع، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني إذا اختلف الناس وصاروا هكذا - وشبك بين أصابعه - أن أخرج بسيفي فأضرب به عرض أحد فإذا تقطع أتيت منزلي، فكنت فيه لا أبرحه حتى تأتيني يد خاطية، أو منية قاضية. فقال له عليه السلام: فانطلق إذا، فكن كما أمرت به. ثم بعث إلى أسامة بن زيد، فلما جاء قال له: بايع، فقال: إني مولاك ولا خلاف منى عليك، وستأتيك بيعتي إذا سكن الناس. فأمره بالانصراف، ولم يبعث إلى أحد غيره. وقيل له: ألا تبعث إلى حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن سلام! فقال: لا حاجة لنا فيمن لا حاجة له فينا. فأما أصحابنا فإنهم يذكرون في كتبهم أن هؤلاء الرهط إنما اعتذروا بما اعتذروا به.
9 لما ندبهم إلى الشخوص معه لحرب أصحاب الجمل، وأنهم لم يتخلفوا عن البيعة، وإنما تخلفوا عن الحرب. وروى شيخنا أبو الحسين رحمه الله تعالى في كتاب،، الغرر،، أنهم لما اعتذروا إليه بهذه الاعذار، قال لهم: ما كل مفتون يعاتب، أعندكم شك في بيعتي؟ قالوا: لا، قال: فإذا بايعتم فقد قاتلتم. وأعفاهم من حضور الحرب. فإن قيل: رويتم أنه قال: إن كرهني رجل واحد من الناس لم أدخل في هذا الامر، ثم رويتم أن جماعة من أعيان المسلمين كرهوا ولم يقف مع كراهتهم. قيل: إنما مراده عليه السلام أنه متى وقع الاختلاف قبل البيعة نفضت يدي عن الامر ولم أدخل فيه، فأما إذا بويع ثم خالف ناس بعد البيعة، فلا يجوز له أن يرجع عن الامر ويتركه، لان الإمامة تثبت بالبيعة، وإذا ثبتت لم يجز له تركها. وروى أبو مخنف عن ابن عباس، قال: لما دخل علي عليه السلام المسجد، وجاء الناس ليبايعوه خفت أن يتكلم بعض أهل الشنان لعلى عليه السلام ممن قتل أباه أو أخاه، أو ذا قرابته في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيزهد على في الامر ويتركه، فكنت أرصد ذلك وأتخوفه، فلم يتكلم أحد حتى بايعه الناس كلهم راضين مسلمين غير مكرهين. * * * لما بايع الناس عليا عليه السلام، وتخلف عبد الله بن عمر، وكلمه علي عليه السلام في البيعة فامتنع عليه، أتاه في اليوم الثاني، فقال: إني لك ناصح، إن بيعتك لم يرض بها كلهم، فلو نظرت لدينك ورددت الامر شورى بين المسلمين! فقال علي عليه السلام: ويحك! وهل ما كان عن طلب منى له! ألم يبلغك صنيعهم؟ قم عنى يا أحمق ما أنت وهذا الكلام!
10 فلما خرج أتى عليا في اليوم الثالث آت، فقال: إن ابن عمر قد خرج إلى مكة يفسد الناس عليك، فأمر بالبعث في أثره، فجاءت أم كلثوم ابنته، فسألته وضرعت إليه فيه، وقالت: يا أمير المؤمنين، إنما خرج إلى مكة ليقيم بها، وإنه ليس بصاحب سلطان ولا هو من رجال هذا الشأن، وطلبت إليه أن يقبل شفاعتها في أمره، لأنه ابن بعلها. فأجابها وكف عن البعثة إليه، وقال: دعوه وما أراده.
11 (54) ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين. الأصل: أما قولكم: أكل ذلك كراهية الموت! فوالله ما أبالي، دخلت إلى الموت أو خرج الموت إلى. وأما قولكم شكا في أهل الشام! فوالله ما دفعت الحرب يوما إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي، وتعشو إلى ضوئي، فهو أحب إلى من أن أقتلها على ضلالها، وإن كانت تبوء بآثامها. * * * الشرح: من رواه: (أكل ذلك) بالنصب فمفعول فعل مقدر، أي تفعل كل ذلك، وكراهية منصوب لأنه مفعول له ومن رواه (أكل ذلك) بالرفع أجاز في (كراهية) الرفع والنصب، أما الرفع فإنه يجعل (كل) مبتدأ، وكراهية خبره، وأما النصب فيجعلها مفعولا له كما قلنا في الرواية الأولى، ويجعل خبر المبتدأ محذوفا، وتقديره: أكل هذا مفعول! أو تفعله كراهية للموت! ثم أقسم أنه لا يبالي أتعرض هو للموت حتى يموت، أم جاءه الموت ابتداء من غير أن يتعرض له. وعشا إلى النار يعشو: استدل عليها ببصر ضعيف، قال: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره * تجد خير نار عندها خير موقد (1)
(1) للحطيئة، ديوانه 25 12 وهذا الكلام استعارة شبه من عساه يلحق به من أهل الشام بمن يعشو ليلا إلى النار، وذلك لان بصائر أهل الشام ضعيفة، فهم من الاهتداء بهداه عليه السلام كمن يعشو ببصر ضعيف إلى النار في الليل، قال: ذاك أحب إلى من أن أقتلهم على ضلالهم، وإن كنت لو قتلتهم على هذه الحالة لباءوا بآثامهم، أي رجعوا، قال سبحانه: (إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك) (1) أي ترجع. * * * [من أخبار يوم صفين] لما ملك أمير المؤمنين عليه السلام الماء بصفين ثم سمح لأهل الشام بالمشاركة فيه والمساهمة، رجاء أن يعطفوا إليه، واستمالة لقلوبهم وإظهارا للمعدلة وحسن السيرة فيهم، مكث أياما لا يرسل إلى معاوية، ولا يأتيه من عند معاوية أحد، واستبطأ أهل العراق إذنه لهم في القتال، وقالوا: يا أمير المؤمنين، خلفنا ذرارينا ونساءنا بالكوفة، وجئنا إلى أطراف الشام لنتخذها وطنا، ائذن لنا في القتال، فإن الناس قد قالوا. قال لهم عليه السلام: ما قالوا؟ فقال منهم قائل: إن الناس يظنون أنك تكره الحرب كراهية للموت، وإن من الناس من يظن أنك في شك من قتال أهل الشام. فقال عليه السلام: ومتى كنت كارها للحرب قط! إن من العجب حبى لها غلاما ويفعا، وكراهيتي لها شيخا بعد نفاد العمر وقرب الوقت! وأما شكى في القوم فلو شككت فيهم لشككت في أهل البصرة، والله لقد ضربت هذا الامر ظهرا وبطنا، فما وجدت يسعني إلا القتال أو أن أعصى الله ورسوله، ولكني أستأني بالقوم، عسى أن يهتدوا أو تهتدي منهم طائفة، فإن
(1) سور، المائدة 29 13 رسول الله صلى الله عليه وآله قال لي يوم خيبر: لان يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك مما طلعت عليه الشمس. * * * قال نصر بن مزاحم: حدثنا (1) محمد بن عبيد الله عن الجرجاني، قال: فبعث علي عليه السلام إلى معاوية بشير بن عمرو بن محصن الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني وشبث بن الربعي التميمي، فقال: ائتوا هذا الرجل، فادعوه [إلى الله عز وجل، و] (2) إلى الطاعة والجماعة، وإلى اتباع أمر الله سبحانه. فقال له شبث: يا أمير المؤمنين، ألا تطمعه في سلطان توليه إياه، ومنزلة يكون له بها أثرة عندك إن هو بايعك؟ فقال: ائتوه الان والقوه واحتجوا عليه، وانظروا ما رأيه في هذا (3). فأتوه فدخلوا عليه، فحمد أبو عمرو بن محصن الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد يا معاوية فإن الدنيا عنك زائلة، وإنك راجع إلى الآخرة، وإن الله مجازيك بعملك ومحاسبك بما قدمت يداك، وإنني أنشدك الله ألا تفرق جماعة هذه الأمة، وألا تسفك دماءها بينها. فقطع معاوية عليه الكلام وقال: فهلا أوصيت صاحبك! فقال: سبحان الله! إن صاحبي لا يوصى، إن صاحبي ليس مثلك، صاحبي أحق الناس بهذا الامر في الفضل والدين والسابقة في الاسلام والقرابة من الرسول. قال معاوية: فتقول ماذا؟ قال: أدعوك إلى تقوى ربك، وإجابة ابن عمك إلى ما يدعوك إليه من الحق، فإنه أسلم لك في دينك، وخير لك في عاقبة أمرك. قال: ويطل دم عثمان! لا والرحمن لا أفعل ذلك أبدا.
(1) صفين 209 وما بعدها (2) تكملة من صفين. (3) صفين: (وانظروا ما رأيه - وهذا في شهر ربيع الاخر - فأتوه). 14 فذهب سعيد بن قيس يتكلم، فبدره شبث بن الربعي، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معاوية، قد فهمت ما رددت على ابن محصن، إنه لا يخفى علينا ما تقر وما تطلب، إنك لا تجد شيئا تستغوي به الناس، ولا شيئا تستميل به أهواءهم، وتستخلص به طاعتهم إلا أن قلت لهم: قتل إمامكم مظلوما، فهلموا نطلب بدمه، فاستجاب لك سفهاء طغام رذال، وقد علمنا أنك أبطأت عنه بالنصر، وأحببت له القتل، لهذه المنزلة التي تطلب، ورب مبتغ أمرا، وطالب (1) له يحول الله دونه، وربما أوتى المتمني أمنيته، وربما لم يؤتها، ووالله مالك في واحدة منهما خير، والله لئن أخطأك ما ترجو إنك لشر العرب حالا، ولئن أصبت ما تتمناه لا تصيبه حتى تستحق صلى النار، فاتق الله يا معاوية، ودع ما أنت عليه، ولا تنازع الامر أهله. فحمد معاوية الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد فإن أول ما عرفت به سفهك وخفه حلمك قطعك على هذا الحسيب الشريف سيد قومه منطقه. ثم عتبت بعد فيما لا علم لك به، ولقد كذبت ولؤمت (2) أيها الاعرابي الجلف الجافي في كل ما وصفت [وذكرت] (3). انصرفوا من عندي فإنه ليس بيني وبينكم إلا السيف. وغضب فخرج القوم وشبث يقول: أعلينا تهول بالسيف! أما والله لنجعلنه إليك، [فأتوا عليا عليه السلام، فأخبروه بالذي كان من قوله، وذلك في شهر ربيع الاخر] (3). قال نصر: وخرج قراء أهل العراق، وقراء أهل الشام فعسكروا ناحية صفين ثلاثين ألفا.
(1) صفين: (وطالبه). (2) صفين: (ولويت). (3) تكملة من صفين. 15 قال: وعسكر علي عليه السلام على الماء، وعسكر معاوية فوقه على الماء أيضا، ومشت القراء فيما بين علي عليه السلام ومعاوية، منهم عبيدة السلماني، وعلقمة بن قيس النخعي، وعبد الله بن عتبة، وعامر بن عبد القيس - وقد كان في بعض تلك السواحل - فانصرف إلى عسكر علي عليه السلام، فدخلوا على معاوية فقالوا: يا معاوية، ما الذي تطلب؟ قال: أطلب بدم عثمان، قالوا: ممن تطلب بدم عثمان؟ قال: أطلبه من على، قالوا: وعلى قتله؟ قال: نعم هو قتله، وآوى قتلته، فانصرفوا من عنده فدخلوا على علي عليه السلام، فقالوا: إن معاوية يزعم أنك قتلت عثمان، قال: اللهم لكذب فيما قال، لم أقتله. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه، فقال لهم: إنه إن لم يكن قتله بيده فقد أمر ومالا، فرجعوا إلى علي فقالوا: إن معاوية يزعم أنك إن لم تكن قلت بيدك، فقد أمرت ومالأت على قتل عثمان، فقال: اللهم لكذب فيما قال، فرجعوا إلى معاوية، فقالوا: إن عليا يزعم أنه لم يفعل، فقال معاوية: إن كان صادقا فليقدنا (1) من قتلة عثمان، فإنهم في عسكره وجنده وأصحابه وعضده. فرجعوا إلى علي عليه السلام، فقالوا: إن معاوية يقول لك: إن كنت صادقا فادفع إلينا قتلة عثمان أو مكنا منهم، فقال لهم: إن القوم تأولوا عليه القرآن، ووقعت الفرقة، فقتلوه في سلطانه، وليس على ضربهم قود، فخصم (2) على معاوية. * * * - قلت: على ضربهم هاهنا، على مثلهم، يقال: زيد ضرب عمرو ومن ضربه، أي مثله ومن صنفه، ولا أدرى لم عدل عليه السلام عن الحجة بما هو أوضح من هذا الكلام، وهو أن يقول: إن الذين باشروا قتله بأيديهم كانوا اثنين وهما قتيرة بن وهب وسودان بن حمران، وكلاهما قتل يوم الدار، قتلهما عبيد عثمان، والباقون الذين هم جندي وعضدي
(1) صفين: (فليمكنا) (2) خصمه، أي غلبه بالحجة. 16 كما تزعمون، لم يقتلوا بأيديهم، وإنما أغروا به، وحصروه وأجلبوا عليه، وهجموا على داره، كمحمد بن أبي بكر والأشتر وعمرو بن الحمق وغيرهم، وليس على مثل هؤلاء قود - قال نصر: فقال لهم معاوية: إن كان الامر كما تزعمون، فلم ابتز الامر (1) دوننا على غير مشورة منا ولا ممن هاهنا معنا؟ فقال علي عليه السلام: إن الناس تبع المهاجرين والأنصار، وهم شهود للمسلمين في البلاد على ولاتهم وأمراء دينهم، فرضوا بي وبايعوني، ولست أستحل أن أدع ضرب (2) معاوية يحكم بيده على الأمة ويركبهم ويشق عصاهم. فرجعوا إلى معاوية فأخبروه بذلك، فقال: ليس كما يقول، فما بال من هاهنا من المهاجرين والأنصار لم يدخلوا في هذا الامر ويؤامروا فيه (3)! فانصرفوا إلى علي عليه السلام، فأخبروه بقوله، فقال: ويحكم! هذا للبدريين دون الصحابة، ليس في الأرض بدري إلا وقد بايعني وهو معي، أو قد قام ورضى، فلا يغرنكم معاوية من أنفسكم ودينكم. قال نصر: فتراسلوا بذلك ثلاثة أشهر: ربيع الاخر، وجماديين، وهم مع ذلك يفزعون الفزعة فيما بينهما، فيزحف بعضهم إلى بعض، وتحجز القراء بينهم. قال: فزعوا في ثلاثة أشهر خمسا وثمانين فزعة، كل فزعة يزحف بعضهم إلى بعض، وتحجز القراء بينهم لا يكون بينهم قتال. قال نصر: وخرج أبو أمامة الباهلي وأبو الدرداء، فدخلا على معاوية - وكانا معه - فقالا: يا معاوية، علام تقاتل هذا الرجل؟ فوالله لهو أقدم منك إسلاما (4)، وأحق بهذا
(1) صفين: (فماله ابتز الامر دوننا)؟ (2) ضرب معاوية: شبيهه. (3) المؤامرة: المشاورة، وفي صفين: (فيؤامروه). (4) صفين: (سلما)، وهما بمعنى. 17 الامر، وأقرب من رسول الله صلى الله عليه وآله، فعلام تقاتله؟ فقال: أقاتله على دم عثمان، وأنه آوى قتلته، فقولوا له: فليقدنا من قتلته وأنا أول من بايعه من أهل الشام. فانطلقوا إلى علي عليه السلام فأخبروه بقول معاوية، فقال: إنما يطلب الذين ترون، فخرج عشرون ألفا أو أكثر متسربلين الحديد، لا يرى منهم إلا الحدق، فقالوا: كلنا قتله، فإن شاءوا فليروموا ذلك منا. فرجع أبو أمامة وأبو الدرداء فلم يشهدا شيئا من القتال. قال نصر: حتى إذا كان رجب، وخشي معاوية أن يتابع القراء عليا عليه السلام، أخذ في المكر، وأخذ يحتال للقراء لكيما يحجموا ويكفوا حتى ينظروا. قال: فكتب في سهم: من عبد الله الناصح، إني أخبركم أن معاوية يريد أن يفجر عليكم الفرات فيغرقكم، فخذوا حذركم. ثم رمى بالسهم في عسكر علي عليه السلام، فوقع السهم في يد رجل فقرأه ثم أقرأه صاحبه، فلما قرأه وقرأته الناس وأقرأه من أقبل وأدبر، قالوا: هذا أخ لنا ناصح، كتب إليكم يخبركم بما أراد معاوية، فلم يزل السهم يقرأ ويرتفع حتى رفع إلى علي عليه السلام، وقد بعث معاوية مائتي رجل من العملة إلى عاقول (1) من النهر، بأيديهم المرور والزبل (2) يحفرون فيها بحيال عسكر علي عليه السلام. فقال علي عليه السلام: ويحكم! إن الذي يعالج معاوية لا يستقيم له، ولا يقوى عليه، إنما يريد أن يزيلكم عن مكانكم، فانتهوا عن ذلك فقالوا له: لا ندعهم والله يحفرون، فقال علي عليه السلام: لا تكونوا ضعفي، ويحكم! لا تغلبوني على رأيي. فقالوا: والله لنرتحلن، فإن شئت فارتحل، وإن شئت فأقم، فارتحلوا وصعدوا بعسكرهم مليا، وارتحل علي عليه السلام في أخريات الناس، وهو يقول:
(1) عاقول النهر: ما أعوج منه (2) المرور: جمع مر، وهو المسحاة. والزبل: جمع زبيل وهو القفة. 18 فلو أنى أطعت عصمت قومي * إلى ركن اليمامة أو شمام (1) ولكني متى أبرمت أمرا * منيت بخلف آراء الطغام قال: وارتحل معاوية حتى نزل معسكر علي عليه السلام الذي كان فيه، فدعا علي عليه السلام الأشتر، فقال: ألم تغلبني على رأيي (2) أنت والأشعث! فدونكما. فقال الأشعث: أنا أكفيك يا أمير المؤمنين، سأداوي ما أفسدت اليوم من ذلك، فجمع كندة فقال لهم: يا معشر كندة، لا تفضحوني اليوم ولا تخزوني، فإني إنما أقارع بكم أهل الشام، فخرجوا معه رجالة يمشون، وبيده رمح له يلقيه على الأرض، ويقول: امشوا قيد رمحي هذا، فيمشون، فلم يزل يقيس لهم الأرض برمحه، ويمشون معه رجالة حتى لقى معاوية وسط بنى سليم واقفا على الماء، وقد جاء أداني عسكره، فاقتتلوا قتالا شديدا على الماء ساعة، وانتهى أوائل أهل العراق فنزلوا، وأقبل الأشتر في خيل من أهل العراق، فحمل على معاوية، والأشعث يحارب في ناحية أخرى، فانحاز معاوية في بنى سليم، فرد وجوه إبله قدر ثلاثة فراسخ، ثم نزل ووضع أهل الشام أثقالهم، والأشعث يهدر ويقول: أرضيتك يا أمير المؤمنين! ثم تمثل بقول طرفة بن العبد: ففداء لبني سعد على * ما أصاب الناس من خير وشر (3) ما أقلت قدماي إنهم * نعم الساعون في الحي الشطر (4) ولقد كنت عليكم عاتبا * فعقبتم بذنوب غير مر (5)
(1) صفين: (عصبت قومي). وشمام: جبل لباهلة. (2) صفين: (على رائى)، والرائي والرأي بمعنى. (3) ديوانه 72 وروايته: (لبني قيس... من سر وضر) (4) الشطر: جمع شطير، وهو الغريب البعيد (5) عاتبا: واجدا، وعقبتم، أي جدتم عقب ذلك. ومر: نقيض حلو، قال شارح الديوان: (أي عقبتم عتبي عليكم بعطاء حلو). 19 كنت فيكم كالمغطي رأسه * فانجلى اليوم قناعي وخمر (1) سادرا أحسب غيي رشدا * فتناهيت وقد صابت بقر (2) وقال الأشتر: يا أمير المؤمنين، قد غلب الله لك على الماء، فقال علي عليه السلام: أنتما كما قال الشاعر: تلاقين قيسا وأشياعه * فيوقد للحرب نارا فنارا أخو الحرب إن لقحت بازلا * سما للعلا وأجل الخطارا (3) قال نصر: فكان كل واحد من على ومعاوية يخرج الرجل الشريف في جماعة، فيقاتل مثله، وكانوا يكرهون أن يتزاحفوا بجميع الفيلق مخافة الاستئصال والهلاك، فاقتتل الناس ذا الحجة كله، فلما انقضى تداعوا إلى أن يكف بعضهم عن بعض إلى أن ينقضي المحرم، لعل الله أن يجرى صلحا أو إجماعا، فكف الناس في المحرم بعضهم عن بعض. * * * قال نصر: حدثنا عمر بن سعد، عن أبي المجاهد عن المحل بن خليفة قال (4): لما توادعوا في المحرم، اختلفت الرسل فيما بين الرجلين رجاء الصلح، فأرسل علي عليه السلام إلى معاوية عدى بن حاتم الطائي وشبث بن ربعي التميمي ويزيد بن قيس وزياد ابن خصفة، فلما دخلوا عليه، حمد الله تعالى عدى بن حاتم الطائي وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإنا أتيناك لندعوك إلى أمر يجمع الله فيه كلمتنا وأمتنا، ويحقن به دماء
(1) المغطى: اسم فاعل من التغطية. وانجلى: انكشف. وخمر: جمع خمار. (2) السادر الذي لا يهتم ولا يبالي ما صنع. وتناهيت، أي انتهيت من سفهي. (3) البعير البازل: الذي طعن في التاسعة، والخطار: المخاطرة. (4) صفين 221، تاريخ الطبري 5: 5 20 المسلمين ندعوك إلى أفضل الناس سابقة، وأحسنهم في الاسلام آثارا، وقد اجتمع إليه (1) الناس، وقد أرشدهم الله بالذي رأوا وأتوا، فلم يبق أحد غيرك وغير من معك، فانته يا معاوية من قبل أن يصيبك الله وأصحابك بمثل يوم الجمل. فقال له معاوية: كأنك إنما جئت مهددا، ولم تأت مصلحا! هيهات يا عدى! إني لابن حرب! ما يقعقع لي بالشنان (2). أما والله إنك من المجلبين على عثمان، وإنك لمن قتلته، وإني لأرجو أن تكون ممن يقتله الله. فقال له شبث بن ربعي وزياد بن خصفة، وتنازعا كلاما واحدا: أتيناك فيما يصلحنا وإياك، فأقبلت تضرب لنا الأمثال، دع ما لا ينفع من القول والفعل، وأجبنا فيما يعمنا وإياك نفعه. وتكلم يزيد بن قيس الأرحبي، فقال: إنا لم نأتك إلا لنبلغك ما بعثنا به إليك، ولنؤدي عنك ما سمعنا منك، ولم ندع أن ننصح لك، وأن نذكر ما ظننا أن لنا عليك به حجة، أو أنه راجع بك إلى الألفة والجماعة إن صاحبنا من قد عرفت وعرف المسلمون فضله، ولا أظنه يخفى عليك، إن أهل الدين والفضل لا يعدلونك بعلي، ولا يميلون (3) بينك وبينه، فاتق الله يا معاوية ولا تخالف عليا، فإنا والله ما رأينا رجلا قط أعمل بالتقوى، ولا أزهد في الدنيا، ولا أجمع لخصال الخير كلها منه. فحمد الله معاوية وأثنى عليه، وقال: أما بعد، فإنكم دعوتم إلى الجماعة والطاعة، فأما الجماعة التي دعوتم إليها فنعما هي! وأما الطاعة لصاحبكم فإنا لا نراها، إن صاحبكم قتل خليفتنا، وفرق جماعتنا، وآوى ثأرنا وقتلتنا، وصاحبكم يزعم أنه لم يقتله، فنحن
(1) صفين: (اجتمع له الناس). الطبري: (استجمع له الناس). (2) الشنان: جمع شن، وهو القربة الخلق، كانوا يحر كونها للإبل إذا أرادوا حثها على السير، والكلام على التمييل. (3) التمييل: الترجيح بين الشيئين. 21 لا نرد ذلك عليه أرأيتم قتله صاحبنا! ألستم تعلمون أنهم أصحاب صاحبكم، فليدفعهم إلينا فلنقتلهم به، ونحن نجيبكم إلى الطاعة والجماعة. فقال له شبث بن ربعي: أيسرك بالله يا معاوية أن أمكنت من عمار بن ياسر فقتلته! قال: وما يمنعني من ذلك! والله لو أمكنني صاحبكم من ابن سمية ما قتلته بعثمان، ولكني كنت أقتله بنائل مولى عثمان! فقال شبث: وإله السماء ما عدلت معدلا، ولا والذي لا إله إلا هو، لا تصل إلى قتل ابن ياسر حتى تندر الهام عن كواهل الرجال، وتضيق الأرض الفضاء عليك برحبها. فقال معاوية: إنه إذا كان ذلك كانت عليك أضيق. ثم رجع القوم عن معاوية، فبعث إلى زياد بن خصفة من بينهم، فأدخل عليه، فحمد معاوية الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا أخا ربيعة، فإن عليا قطع أرحامنا، وقتل إمامنا، وآوى قتله صاحبنا، وإني أسألك النصرة بأسرتك وعشيرتك، ولك على عهد الله وميثاقه إذا ظهرت أن أوليك أي المصرين أحببت. قال أبو المجاهد: فسمعت زياد بن خصفة يحدث بهذا الحديث. قال: فلما قضى معاوية كلامه، حمدت الله وأثنيت عليه، ثم قلت: أما بعد، فإني لعلى بينة من ربى وبما أنعم على، فلن أكون ظهيرا للمجرمين، ثم قمت. فقال معاوية لعمرو بن العاص - وكان إلى جانبه -: ما لهم عضبهم (1) الله! ما قلبهم إلا قلب رجل واحد! * * * قال نصر: وحدثنا سليمان بن أبي راشد، عن عبد الرحمن بن عبيد أبى الكنود،
(1) العضب: القطع، وهو دعاء عند العرب. 22 قال (1) بعث معاوية حبيب بن مسلمة الفهري إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، وبعث معه شرحبيل بن السمط ومعن بن يزيد بن الأخنس السلمي، فدخلوا على علي عليه السلام فتكلم حبيب بن مسلمة، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد فإن عثمان بن عفان كان خليفة مهديا، يعمل بكتاب الله ويثيب إلى أمر الله، فاستثقلتم حياته، واستبطأتم وفاته. فعدوتم عليه فقتلتموه، فادفع إلينا قتلة عثمان نقتلهم به، فإن قلت: إنك لم تقتله، فاعتزل أمر الناس، فيكون أمرهم هذا شورى بينهم، يولى الناس أمرهم من أجمع عليه رأيهم. فقال له على: وما أنت لا أم لك والولاية والعزل والدخول في هذا الامر! اسكت فإنك لست هناك، ولا بأهل لذاك! فقام حبيب بن مسلمة وقال: أما والله لتريني حيث تكره فقال له عليه السلام: وما أنت! ولو أجلبت بخيلك ورجلك. اذهب فصوب وصعد ما بدا لك، فلا أبقى الله عليك إن أبقيت! فقال شرحبيل بن السمط: إن كلمتك، فلعمري ما كلامي لك إلا نحو كلام صاحبي، فهل لي عندك جواب غير الجواب الذي أجبته به؟ (2 فقال: نعم، قال: فقله 2)، فحمد الله علي عليه السلام، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، فإن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه فأنقذ به من الضلالة، ونعش (3) به من الهلكة، وجمع به بعد الفرقة، ثم قبضه الله إليه، وقد أدى ما عليه، فاستخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبو بكر عمر، فأحسنا السيرة، وعدلا في الأمة، ووجدنا
(1) وقعة صفين 225، وتاريخ الطبري 5: 7 (2 - 2) وقعة صفين: (فقال علي عليه السلام: عندي جواب غير الذي أجبته به، لك ولصاحبك). وفي الطبري: (نعم لك ولصاحبك جواب غير الذي أجبته به). (3) الطبري:، وانتاش به من الهلكة). 23 عليهما أن توليا الامر دوننا، ونحن آل الرسول، وأحق بالامر، فغفرنا ذلك لهما، ثم ولى أمر الناس عثمان، فعمل بأشياء عابها الناس عليه، فسار إليه ناس فقتلوه، ثم أتاني الناس وأنا معتزل أمرهم، فقالوا لي: بايع، فأبيت عليهم، فقالوا لي: بايع، فإن الأمة لا ترضى إلا بك، وإنا نخاف إن لم تفعل أن يفترق الناس، فبايعتهم فلم يرعني إلا شقاق رجلين قد بايعا (1)، وخلاف معاوية إياي الذي لم يجعل الله له سابقة في الدين، ولا سلف صدق في الاسلام، طليق ابن طليق، وحزب من الأحزاب، لم يزل لله ولرسوله وللمسلمين عدوا هو وأبوه حتى دخلا في الاسلام كارهين مكرهين، فيا عجبا (2) لكم، ولإجلابكم معه، وانقيادكم له، وتدعون آل بيت نبيكم الذين لا ينبغي لكم شقاقهم ولا خلافهم، ولا تعدلوا بهم أحدا من الناس، إني أدعوكم إلى كتاب ربكم وسنة نبيكم، وإماتة الباطل، وإحياء معالم الدين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لنا ولكل مؤمن ومؤمنة، ومسلم ومسلمة. فقال له شرحبيل ومعن بن يزيد: أتشهد أن عثمان قتل مظلوما؟ فقال لهما: إني لا أقول ذلك، قالا: فمن لم يشهد أن عثمان قتل مظلوما، فنحن برآء منه! ثم قاما فانصرفا. فقال علي عليه السلام: (إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين * وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون) (3). ثم أقبل على أصحابه فقال: لا يكن هؤلاء في ضلالتهم بأولى بالجد منكم في حقكم وطاعة إمامكم. ثم مكث الناس متوادعين إلى انسلاخ المحرم، فلما انسلخ المحرم واستقبل الناس صفرا من سنة سبع وثلاثين، بعث علي عليه السلام نفرا من أصحابه، حتى إذا كانوا
(1) صفين: (قد بايعاني) (2) صفين: (فعجبنا لكم). وفي الطبري: (فلا غرو إلا خلافكم معه). (3) سورة النمل 80، 81. 24 من معسكر معاوية بحيث يسمعونهم الصوت، قام مرثد بن الحارث الجشمي، فنادى عند غروب الشمس: يا أهل الشام إن أمير المؤمنين عليا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يقولون لكم: إنا لم نكف عنكم شكا في أمركم، ولا إبقاء عليكم، وإنما كففنا عنكم لخروج المحرم، وقد انسلخ وإنا قد نبذنا إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. قال: فتحاجز الناس وثاروا إلى أمرائهم. * * * قال نصر: فأما (1) رواية عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي الزبير أن نداء مرثد بن الحارث الجشمي، كانت صورته: يا أهل الشام، ألا إن أمير المؤمنين يقول لكم: إني قد استدمتكم واستأنيت بكم، لتراجعوا الحق، وتثيبوا إليه، واحتججت عليكم بكتاب الله، ودعوتكم إليه، فلم تتناهوا عن طغيان، ولم تجيبوا إلى حق، وإني قد نبذت إليكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. قال: فثار الناس إلى أمرائهم ورؤسائهم. قال نصر: وخرج معاوية وعمرو بن العاص يكتبان الكتائب، ويعبيان العساكر، وأوقدوا النيران، وجاءوا بالشموع، وبات علي عليه السلام تلك الليلة كلها، يعبى الناس، ويكتب الكتائب، ويدور في الناس ويحرضهم. * * * قال نصر: حدثنا عمر بن سعد، بإسناده عن عبد الله بن جندب، عن أبيه أن (2) عليا عليه السلام كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه، فيقول:
(1) صفين 228 (2) وقعة صفين 229 وتاريخ الطبري 5: 10، 11 25 لا تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم، فهي حجة أخرى لكم عليهم، فإذا قاتلتموهم فهزمتموهم فلا تقتلوا مدبرا، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تمثلوا بقتيل، فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، ولا تدخلوا دارا إلا بإذن، ولا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تهيجوا امرأة، وإن شتمن أعراضكم، وتناولن أمراءكم وصلحاءكم، فإنهن ضعاف القوى والأنفس والعقول، ولقد كنا وإنا لنؤمر بالكف عنهن وهن مشركات، وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالهراوة أو الحديد فيعير بها عقبه من بعده. * * * قال نصر: وحدثنا عمر بن سعد، عن إسماعيل بن يزيد - يعنى ابن أبي خالد - عن أبي صادق، أن عليا (1) عليه السلام حرض الناس في حروبه، فقال: عباد الله، اتقوا الله وغضوا أبصاركم، واخفضوا الأصوات، وأقلوا الكلام، ووطنوا أنفسكم على المنازلة والمجاولة والمبارزة والمعانقة، واثبتوا: (واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) (2)، (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين) (3). اللهم ألهمهم الصبر، وأنزل عليهم النصر، وأعظم لهم الاجر. * * * قال نصر: وكان (4) ترتيب عسكر علي عليه السلام، بموجب ما رواه لنا عمرو بن شمر، عن جابر، عن محمد بن علي، وزيد بن حسن، ومحمد بن عبد المطلب: أنه جعل على الخيل عمار بن ياسر، وعلى الرجالة عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، ودفع اللواء
(1) وقعة صفين 230. (2) سورة الأنفال آية 45 (3) سورة الأنفال آية 46 (4) وقعة صفين 231 26 إلى هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري، وجعل على الميمنة الأشعث بن قيس، وعلى الميسرة عبد الله بن العباس، وجعل على رجالة الميمنة سليمان بن صرد الخزاعي، وعلى رجالة الميسرة الحارث بن مرة العبدي، وجعل القلب مضر الكوفة والبصرة، وجعل على ميمنة القلب اليمن وعلى ميسرته ربيعة، وعقد ألوية القبائل، فأعطاها قوما منهم بأعيانهم، وجعلهم رؤساءهم وأمراءهم، وجعل على قريش وأسد وكنانة عبد الله بن عباس، وعلى كندة حجر بن عدي الكندي، وعلى بكر البصرة الحصين بن المنذر الرقاشي، وعلى تميم البصرة الأحنف بن قيس، وعلى خزاعة عمرو بن الحمق، وعلى بكر الكوفة نعيم بن هبيرة، وعلى سعد البصرة وربابها جارية بن قدامة السعدي، وعلى بجيلة رفاعة بن شداد، وعلى ذهل الكوفة رويما الشيباني - أو يزيد بن رويم - وعلى عمرو البصرة وحنظلتها أعين بن ضبيعة، وعلى قضاعة وطيئ عدى بن حاتم الطائي، وعلى لهازم الكوفة عبد الله بن حجل العجلي، وعلى تميم الكوفة عمير بن عطارد، وعلى الأزد واليمن جندب بن زهير، وعلى ذهل البصرة خالد بن المعمر السدوسي، وعلى عمرو الكوفة وحنظلتها شبث بن ربعي، وعلى همدان سعيد بن قيس، وعلى لهازم البصرة حريث ابن جابر الجعفي (1)، وعلى سعد الكوفة وربابها الطفيل أبا صريمة، وعلى مذحج الأشتر بن الحارث النخعي، وعلى عبد القيس الكوفة صعصعة بن صوحان، وعلى عبد القيس البصرة عمرو بن حنظلة، وعلى قيس الكوفة عبد الله بن الطفيل البكائي، [وعلى قريش البصرة الحارث بن نوفل الهاشمي] (2) وعلى قيس البصرة قبيصة بن شداد الهلالي، وعلى اللفيف من القواصي القاسم بن حنظلة الجهني. وأما معاوية فاستعمل على الخيل عبيد الله بن عمر بن الخطاب، وعلى الرجالة مسلم بن عقبة المري، وجعل على الميمنة عبد الله بن عمرو بن العاص، وعلى الميسرة حبيب
(1) صفين: (الحنفي). 27 ابن مسلمة الفهري، وأعطى اللواء عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وجعل على أهل دمشق - وهم القلب - الضحاك بن قيس الفهري، وعلى أهل حمص - وهم الميمنة - ذا الكلاع الحميري، وعلى أهل قنسرين - وهم في الميمنة أيضا - زفر بن الحارث الكلابي، وعلى أهل الأردن - وهم الميسرة - سفيان بن عمرو أبا الأعور السلمي، وعلى أهل فلسطين - وهم في الميسرة أيضا - مسلمة بن مخلد، وعلى رجالة أهل دمشق بسر بن أبي أرطاة العامري بن لؤي بن غالب، وعلى رجالة أهل حمص حوشبا ذا ظليم، وعلى رجالة قيس طريف بن حابس الألهاني، وعلى رجالة الأردن عبد الرحمن بن قيس القيني، وعلى رجالة أهل فلسطين الحارث بن خالد الأزدي، وعلى رجالة قيس دمشق همام بن قبيصة، وعلى قضاعة حمص وإيادها بلال بن أبي هبيرة الأزدي، [وحاتم بن المعتمر الباهلي] (1)، وعلى رجالة الميمنة حابس بن سعيد الطائي، وعلى قضاعة دمشق حسان بن بحدل الكلبي، وعلى قضاعة عباد بن يزيد الكلبي، وعلى كندة دمشق حسان بن حوى السكسكي، وعلى كندة حمص يزيد بن هبيرة السكوني، وعلى سائر اليمن يزيد بن أسد البجلي، وعلى حمير وحضر موت اليمان بن غفير، وعلى قضاعة الأردن حبيش بن دلجة القيني، وعلى كنانة فلسطين شريكا الكناني، وعلى مذحج الأردن المخارق بن الحارث الزبيدي، وعلى جذام فلسطين ولخمها ناتل بن قيس الجذامي، وعلى همدان الأردن حمزة بن مالك الهمداني، وعلى الخثعم حمل بن عبد الله الخثعمي، وعلى غسان الأردن يزيد بن الحارث وعلى جميع القواصي القعقاع بن أبرهة الكلاعي، أصيب في المبارزة أول يوم تراءت فيه الفئتان. * * * قال نصر: فأما رواية الشعبي التي رواها عنه إسماعيل بن أبي عميرة (2)، فإن عليا
(1) من صفين. (2) صفين 234. 28 عليه السلام بعث على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعلى ميسرته عبد الله بن بعث على ميمنته عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعلى ميسرته عبد الله بن العباس، وعلى خيل الكوفة الأشتر، وعلى البصرة سهل بن حنيف، وعلى رجالة الكوفة عمار بن ياسر، وعلى رجالة أهل البصرة قيس بن سعد - كان قد أقبل من مصر إلى صفين - وجعل معه هاشم بن عتبة، وجعل مسعود بن فدكي التميمي على قراء أهل البصرة، وأما قراء أهل الكوفة فصاروا إلى عبد الله بن بديل، وعمار بن ياسر. * * * قال نصر: وأما ترتيب عسكر الشام - فيما رواه لنا عمر بن سعد، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن جابر، عن القاسم مولى يزيد بن معاوية - فإن معاوية بعث على ميمنته ذا الكلاع، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهري، وعلى مقدمته من يوم أقبل من دمشق أبا الأعور السلمي، وكان على خيل دمشق كلها عمرو بن العاص، ومعه خيول أهل الشام بأسرها، وجعل مسلم بن عقبة المري على رجالة دمشق، والضحاك بن قيس على سائر الرجالة بعد. * * * قال نصر: (2) وتبايع رجال من أهل الشام على الموت وتحالفوا عليه وعقلوا أنفسهم بالعمائم، وكانوا صفوفا خمسة [معقلين] (3)، كانوا يخرجون فيصطفون أحد عشر صفا، ويخرج أهل العراق فيصطفون أحد عشر صفا أيضا. قال نصر: فخرجوا أول يوم من صفر من سنة سبع وثلاثين، وهو يوم الأربعاء، فاقتتلوا، وعلى من خرج يومئذ من أهل الكوفة الأشتر، وعلى أهل الشام حبيب بن مسلمة
(1) صفين 239. (2) صفين 239. (3) من صفين. 29 فاقتتلوا قتالا شديدا جل النهار، ثم تراجعوا وقد انتصف بعضهم من بعض. ثم خرج في اليوم الثاني هاشم بن عتبة في خيل ورجال حسن عددها وعدتها، فخرج إليه من أهل الشام أبو الأعور السلمي، فاقتتلوا يومهم ذلك، تحمل الخيل على الخيل والرجال على الرجال. ثم انصرفوا وقد صبر القوم بعضهم لبعض، وخرج في اليوم الثالث عمار بن ياسر، وخرج إليه عمرو بن العاص، فاقتتل الناس كأشد قتال كان، وجعل عمار يقول: يا أهل الشام، أتريدون أن تنظروا إلى من عادى الله ورسوله وجاهدهما، وبغى على المسلمين، وظاهر المشركين. فلما أراد الله أن يظهر دينه، وينصر رسوله أتى إلى النبي صلى الله عليه وآله فأسلم، وهو والله فيما يرى راهب غير راغب. ثم قبض الله رسوله، وإنا والله لنعرفه بعداوة المسلم، ومودة المجرم! ألا وإنه معاوية، فقاتلوه والعنوه، فإنه ممن يطفئ نور الله، ويظاهر أعداء الله. قال: وكان مع عمار زياد بن النضر على الخيل، فأمره أن يحمل في الخيل، فحمل فصبروا (1) له، وشد عمار في الرجالة، فأزال عمرو بن العاص عن موقفه، وبارز يومئذ زياد بن النضر أخا له (2) من بنى عامر يعرف بمعاوية بن عمرو العقيلي، وأمهما هند الزبيدية، فانصرف كل واحد منهما عن صاحبه بعد المبارزة سالما، ورجع الناس يومهم ذلك، * * * قال نصر: وحدثني (3) أبو عبد الرحمن المسعودي قال: حدثني يونس بن الأرقم، عمن حدثه من شيوخ بكر بن وائل، قال: كنا مع علي عليه السلام بصفين، فرفع عمرو بن العاص شقة خميصة سوداء في رأس رمح، فقال ناس: هذا لواء عقده له رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يزالوا يتحدثون حتى وصل ذلك إلى علي عليه السلام، فقال:
(1) في الأصول: (فصبر)، والصواب ما أثبته من صفين. (2) في الطبري: (لامه). (3) صفين 241. 30 أتدرون ما أمر هذا اللواء! إن عدو الله عمرا أخرج له رسول الله صلى الله عليه وآله هذه الشقة، فقال: من يأخذها بما فيها؟ فقال عمرو: وما فيها يا رسول الله؟ قال: فيها ألا تقاتل بها مسلما، ولا تقربها من كافر، فأخذها، فقد والله قربها من المشركين، وقاتل بها اليوم المسلمين، والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أسلموا ولكنهم استسلموا وأسروا الكفر، فلما وجدوا عليه أعوانا أظهروه. * * * وروى نصر، عن أبي عبد الرحمن المسعودي، عن يونس بن الأرقم، عن عوف ابن عبد الله، عن عمرو بن هند البجلي، عن أبيه، قال (1): لما نظر علي عليه السلام إلى رايات معاوية وأهل الشام، قال: والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، ما أسلموا ولكن استسلموا، وأسروا الكفر، فلما وجدوا عليه أعوانا، رجعوا إلى عداوتهم لنا، إلا أنهم لم يتركوا الصلاة. * * * وروى نصر، عن عبد العزيز بن سياه، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: (1) لما كان قتال صفين، قال رجل لعمار: يا أبا اليقظان، ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قاتلوا الناس حتى يسلموا، فإذا أسلموا عصموا منى دماءهم وأموالهم)؟ قال: بلى، ولكن والله ما أسلموا، ولكن استسلموا، وأسروا الكفر حتى وجدوا عليه أعوانا. * * * وروى نصر، عن عبد العزيز عن حبيب بن أبي ثابت، عن منذر الثوري، قال: قال محمد بن الحنفية: لما (1) أتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله من أعلى الوادي ومن أسفله،
(1) صفين 241، 242 31 وملأ الأودية كتائب - يعنى يوم فتح مكة - استسلموا حتى وجدوا أعوانا. وروى نصر، عن الحكم بن ظهير عن إسماعيل، عن الحسن، قال: وحدثنا الحكم أيضا عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (إذا رأيتم معاوية بن أبي سفيان يخطب على منبري فاضربوا عنقه)، فقال الحسن: فوالله ما فعلوا ولا أفلحوا (1).
(1) صفين 243 32 (55) ومن كلام له عليه السلام: الأصل: ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا، ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما، ومضيا على اللقم، وصبرا على مضض الألم، وجدا (1) في جهاد العدو. ولقد كان الرجل منا والاخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين، يتخالسان أنفسهما، أيهما يسقى صاحبه كأس المنون، فمرة لنا من عدونا، ومرة لعدونا منا، فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقر الاسلام ملقيا جرانه، ومتبوئا أوطانه. ولعمري لو كنا نأتى ما أتيتم، ما قام للدين عمود، ولا اخضر للايمان عود. وأيم الله لتحتلبنها دما، ولتتبعنها ندما! * * * الشرح: لقم الطريق: الجادة الواضحة منها. والمضض: لذع الألم وبرحاؤه. والتصاول: أن يحمل كل واحد من القرنين على صاحبه. والتخالس: التسالب والانتهاب. والكبت: الإذلال. وجران البعير: مقدم عنقه. وتبوأت المنزل: نزلته. ويقال لمن أسرف في الامر: لتحتلبن دما، وأصله الناقة يفرط في حلبها فيحلب الحالب الدم.
(1) ساقطة من مخطوطة النهج. 33 وهذه ألفاظ مجازية من باب الاستعارة، وهي: قوله: (استقر الاسلام ملقيا جرانه)، أي ثابتا متمكنا، كالبعير يلقى جرانه على الأرض. وقوله: (متبوئا أوطانه)، جعله كالجسم المستقر في وطنه ومكانه. وقوله: (ما قام للدين عمود)، جعله كالبيت القائم على العمد. وقوله: (ولا اخضر للايمان عود)، جعله كالشجرة ذات الفروع والأغصان. فأما قتلهم الأقارب في ذات الله فكثير، قتل علي عليه السلام الجم الغفير من بنى عبد مناف وبنى عبد الدار في يوم بدر وأحد، وهم عشيرته وبنو عمه، وقتل عمر ابن الخطاب يوم بدر خاله العاص بن هشام بن المغيرة، وقتل حمزة بن عبد المطلب شيبة ابن ربيعة يوم بدر، وهو ابن عمه، لأنهما ابنا عبد مناف، ومثل ذلك كثير مذكور في كتب السيرة. وأما كون الرجل منهم وقرنه يتصاولان ويتخالسان، فإن الحال كذلك كانت، بارز علي عليه السلام الوليد بن عتبة، وبارز طلحة بن أبي طلحة، وبارز عمرو بن عبد ود، وقتل هؤلاء الاقران مبارزة، وبارز كثيرا من الابطال غيرهم وقتلهم، وبارز جماعة من شجعان الصحابة جماعة من المشركين، فمنهم من قتل، ومنهم من قتل، وكتب المغازي تتضمن تفصيل ذلك. * * * [فتنة عبد الله بن الحضرمي بالبصرة] وهذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السلام في قصة ابن الحضرمي حيث قدم البصرة من قبل معاوية، واستنهض أمير المؤمنين عليه السلام أصحابه إلى البصرة، فتقاعدوا. قال أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال الثقفي في كتاب،، الغارات،،:
34 حدثنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا الحسن بن علي الزعفراني، عن محمد بن عبد الله ابن عثمان، عن ابن أبي سيف، عن يزيد بن حارثة الأزدي، عن عمرو بن محصن، أن معاوية لما أصاب محمد بن أبي بكر بمصر وظهر عليها، دعا عبد الله بن عامر الحضرمي، فقال له: سر إلى البصرة، فإن جل أهلها يرون رأينا في عثمان، ويعظمون قتله، وقد قتلوا في الطلب بدمه، فهم موتورون حنقون لما أصابهم، ودوا لو يجدون من يدعوهم ويجمعهم وينهض بهم في الطلب بدم عثمان، واحذر ربيعة، وانزل في مضر، وتودد الأزد، فإن الأزد كلها معك إلا قليلا منهم، وإنهم إن شاء الله غير مخالفيك. فقال عبد الله بن الحضرمي له: أنا سهم في كنانتك، وأنا من قد جربت، وعدو أهل حربك، وظهيرك على قتله عثمان، فوجهني إليهم متى شئت. فقال: اخرج غدا إن شاء الله. فودعه وخرج من عنده. فلما كان الليل جلس معاوية وأصحابه يتحدثون، فقال لهم معاوية: في أي منزل ينزل القمر الليلة؟ فقالوا: بسعد الذابح، فكره معاوية ذلك، وأرسل إليه ألا تبرح حتى يأتيك أمري. فأقام. * * * ورأي معاوية أن يكتب إلى عمرو بن العاص وهو يومئذ بمصر، عامله عليها، يستطلع رأيه في ذلك، فكتب إليه، وقد كان تسمى بإمرة المؤمنين بعد يوم صفين، وبعد تحكيم الحكمين: من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص: سلام عليك، أما بعد، فإني قد رأيت رأيا هممت بإمضائه، ولم يخذلني عنه
35 إلا استطلاع رأيك، فإن توافقني أحمد الله وأمضه، وإن تخالفني فإني أستخير الله وأستهديه. إني نظرت في أمر أهل البصرة فوجدت معظم أهلها لنا وليا ولعلي وشيعته عدوا، وقد أوقع بهم على الوقعة التي علمت، فأحقاد تلك الدماء ثابتة في صدورهم لا تبرح ولا تريم، وقد علمت أن قتلنا ابن أبي بكر، ووقعتنا بأهل مصر قد أطفأت نيران أصحاب على في الآفاق، ورفعت رؤوس أشياعنا أينما كانوا من البلاد، وقد بلغ من كان بالبصرة على مثل رأينا من ذلك ما بلغ الناس، وليس أحد ممن يرى رأينا أكثر عددا، ولا أضر خلافا على على من أولئك، فقد رأيت أن أبعث إليهم عبد الله بن عامر الحضرمي، فينزل في مضر ويتودد الأزد، ويحذر ربيعة، ويبتغي دم ابن عفان، ويذكرهم وقعة على بهم، التي أهلكت صالحي إخوانهم وآبائهم وأبنائهم. فقد رجوت عند ذلك أن يفسد على على وشيعته ذلك الفرج من الأرض، ومتى يؤتوا من خلفهم وأمامهم يضل سعيهم، ويبطل كيدهم، فهذا رأيي. فما رأيك؟ فلا تحبس رسولي إلا قدر مضى الساعة التي ينتظر فيها جواب كتابي هذا. أرشدنا الله وإياك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. فكتب عمرو بن العاص إلى معاوية: أما بعد، فقد بلغني رسولك وكتابك، فقرأته وفهمت رأيك الذي رأيته، فعجبت له، وقلت: إن الذي ألقاه في روعك، وجعله في نفسك هو الثائر بابن عفان، والطالب بدمه، وإنه لم يك منك ولا منا منذ نهضنا في هذه الحروب وبادينا أهلها (1)، ولا رأى الناس رأيا أضر على عدوك، ولا أسر لوليك من هذا الامر الذي ألهمته، فامض رأيك مسددا، فقد وجهت الصليب الأريب الناصح غير الظنين والسلام. * * *
(1) كذا في ج، وفي ا، ب: (ونادينا) 36 فلما جاءه كتاب عمرو دعا ابن الحضرمي - وقد كان ظن حين تركه معاوية أياما لا يأمره بالشخوص، أن معاوية قد رجع عن إشخاصه إلى ذلك الوجه - فقال: يا بن الحضرمي، سر على بركة الله إلى أهل البصرة فأنزل في مضر، واحذر ربيعة، وتودد الأزد، وانع ابن عفان، وذكرهم الوقعة التي أهلكتهم، ومن لمن سمع وأطاع دنيا لا تفنى، وأثرة (1) لا يفقدها حتى يفقدنا أو نفقده. فودعه ثم خرج من عنده، وقد دفع إليه كتابا، وأمره إذا قدم أن يقرأه على الناس. قال عمرو بن محصن: فكنت معه حين خرج، فلما خرجنا سرنا ما شاء الله أن نسير، فسنح لنا ظبي أعضب (2) عن شمائلنا، فنظرت إليه، فوالله لرأيت الكراهية في وجهه، ثم مضينا حتى نزلنا البصرة في بنى تميم، فسمع بقدومنا أهل البصرة، فجاءنا كل من يرى رأى عثمان، فاجتمع إلينا رؤوس أهلها، فحمد الله ابن الحضرمي وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، أيها الناس، فإن إمامكم إمام الهدى عثمان بن عفان، قتله علي بن أبي طالب ظلما، فطلبتم بدمه، وقاتلتم من قتله، فجزاكم الله من أهل مصر خيرا، وقد أصيب منكم الملاء الأخيار، وقد جاءكم الله بإخوان لكم، لهم بأس يتقى، وعدد لا يحصى، فلقوا عدوكم الذين قتلوكم، فبلغوا الغاية التي أرادوا صابرين، ورجعوا وقد نالوا ما طلبوا، فمالئوهم وساعدوهم، وتذكروا ثاركم لتشفوا صدوركم من عدوكم. فقام إليه الضحاك بن عبد الله الهلالي، فقال: قبح الله ما جئتنا به، وما دعوتنا إليه! جئتنا والله بمثل ما جاء به صاحباك طلحة والزبير، أتيانا وقد بايعنا عليا، واجتمعنا له، فكلمتنا واحدة ونحن على سبيل مستقيم، فدعوانا إلى الفرقة، وقاما فينا بزخرف القول، حتى ضربنا بعضنا ببعض عدوانا وظلما، فاقتتلنا على ذلك، وأيم الله، ما سلمنا من عظيم وبال
(1) في اللسان: (فلان أثير عند فلان، ذو أثرة، إذا كان خاصا). (2) الأعضب: مكسور أحد القرنين، وكانوا يتشاءمون منه 37 ذلك، ونحن الان مجمعون على بيعة هذا العبد الصالح الذي أقال العثرة، وعفا عن المسئ وأخذ بيعة غائبنا وشاهدنا. أفتأمرنا الان أن نختلع أسيافنا من أغمادها، ثم يضرب بعضنا بعضا، ليكون معاوية أميرا، وتكون له وزيرا، ونعدل بهذا الامر عن علي! والله ليوم من أيام على مع رسول الله صلى الله عليه وآله خير من بلاء معاوية وآل معاوية لو بقوا في الدنيا، ما الدنيا باقية. فقام عبد الله بن خازم السلمي، فقال للضحاك: اسكت، فلست بأهل أن تتكلم في أمر العامة. ثم أقبل على ابن الحضرمي، فقال: نحن يدك وأنصارك، والقول ما قلت، وقد فهمنا عنك، فادعنا أنى شئت! فقال الضحاك لابن خازم: يا بن السوداء، والله لا يعز من نصرت، ولا يذل بخذلانك من خذلت، فتشاتما. * * * قال صاحب كتاب الغارات: والضحاك هذا هو الذي يقول: يا أيها ذا السائلي عن نسبي * بين ثقيف وهلال منصبي * أمي أسماء وضحاك أبى * قال: وهو القائل في بنى العباس: ما ولدت من ناقة لفحل * في جبل نعلمه وسهل كستة من بطن أم الفضل * أكرم بها من كهلة وكهل عم النبي المصطفى ذي الفضل * وخاتم الأنبياء بعد الرسل قال: فقام عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي ثم التيمي، فقال: عباد الله، إنا لم ندعكم إلى الاختلاف والفرقة، ولا نريد أن تقتتلوا ولا تتنابزوا، ولكنا إنما ندعوكم إلى أن تجمعوا كلمتكم، وتوازروا إخوانكم الذين هم على رأيكم، وأن تلموا شعثكم
38 وتصلحوا ذات بينكم، فمهلا مهلا! رحمكم الله، استمعوا لهذا الكتاب، وأطيعوا الذي يقرأ عليكم. ففضوا كتاب معاوية وإذا فيه: من عبد الله معاوية أمير المؤمنين، إلى من قرئ كتاب هذا عليه من المؤمنين والمسلمين من أهل البصرة. سلام عليكم. أما بعد، فإن سفك الدماء بغير حلها، وقتل النفوس التي حرم الله قتلها هلاك موبق، وخسران مبين، لا يقبل الله ممن سفكها صرفا ولا عدلا، وقد رأيتم رحمكم الله آثار ابن عفان وسيرته، وحبه للعافية، ومعدلته، وسده للثغور، وإعطاءه في الحقوق، وإنصافه للمظلوم، وحبه الضعيف، حتى توثب عليه المتوثبون، وتظاهر عليه الظالمون، فقتلوه مسلما محرما، ظمآن صائما، لم يسفك فيهم دما، ولم يقتل منهم أحدا ولا يطلبونه بضربة سيف ولا سوط، وإنما ندعوكم أيها المسلمون إلى الطلب بدمه، وإلى قتال من قتله، فإنا وإياكم على أمر هدى واضح، وسبيل مستقيم. إنكم إن جامعتمونا طفئت النائرة، واجتمعت الكلمة، واستقام أمر هذه الأمة، وأقر الظالمون المتوثبون الذين قتلوا إمامهم بغير حق، فأخذوا بجرائرهم وما قدمت أيديهم. إن لكم أن أعمل فيكم بالكتاب، وأن أعطيكم في السنة عطائين، ولا أحتمل فضلا من فيئكم عنكم أبدا. فسارعوا إلى ما تدعون إليه رحمكم الله! وقد بعثت إليكم رجلا من الصالحين، كان من أمناء خليفتكم المظلوم ابن عفان وعماله وأعوانه على الهدى والحق، جعلنا الله وإياكم ممن يجيب إلى الحق ويعرفه، وينكر الباطل ويجحده، والسلام عليكم ورحمة الله. قال: فلما قرئ عليهم الكتاب، قال معظمهم: سمعنا وأطعنا. قال: وروى محمد بن عبد الله بن عثمان، عن علي، عن أبي زهير، عن أبي منقر الشيباني، قال: قال الأحنف لما قرئ عليهم كتاب معاوية: أما أنا فلا ناقة لي في هذا ولا جمل. واعتزل أمرهم ذلك.
39 وقال عمرو بن مرجوم، من عبد القيس: أيها الناس، الزموا طاعتكم، ولا تنكثوا بيعتكم، فتقع بكم واقعة وتصيبكم قارعة، ولا يكن بعدها لكم بقية، ألا إني قد نصحت لكم، ولكن لا تحبون الناصحين. * * * قال إبراهيم بن هلال: وروى محمد بن عبد الله، عن ابن أبي سيف، عن الأسود بن قيس، عن ثعلبة بن عباد، أن الذي كان سدد لمعاوية رأيه في تسريح ابن الحضرمي كتاب كتبه إليه عباس بن ضحاك العبدي، وهو ممن كان يرى رأى عثمان، ويخالف قومه في حبهم عليا عليه السلام ونصرتهم إياه، وكان الكتاب: أما بعد، فقد بلغنا وقعتك بأهل مصر، الذين بغوا على إمامهم، وقتلوا خليفتهم طمعا وبغيا، فقرت بذلك العيون، وشفيت بذلك النفوس، وبردت أفئدة أقوام كانوا لقتل عثمان كارهين، ولعدوه مفارقين، ولكم موالين، وبك راضين، فإن رأيت أن تبعث إلينا أميرا طيبا ذكيا ذا عفاف ودين، إلى الطلب بدم عثمان فعلت، فإني لا أخال الناس إلا مجمعين عليك، وإن ابن عباس غائب عن المصر. والسلام. قال: فلما قرأ معاوية كتابه قال: لا عزمت رأيا سوى ما كتب به إلى هذا، وكتب إليه جوابه: أما بعد، فقد قرأت كتابك، فعرفت نصيحتك، وقبلت مشورتك، رحمك الله وسددك، أثبت هداك الله على رأيك الرشيد، فكأنك بالرجل الذي سألت قد أتاك، وكأنك بالجيش قد أطل عليك فسررت وحبيت، والسلام. * * * قال إبراهيم: وحدثنا محمد بن عبد الله، قال: حدثني علي بن أبي سيف عن أبي زهير
40 قال: لما نزل ابن الحضرمي في بنى تميم أرسل إلى الرؤوس فأتوه، فقال لهم: أجيبوني إلى الحق، وانصروني على هذا الامر. قال: وإن الأمير بالبصرة يومئذ زياد بن عبيد قد استخلفه عبد الله بن عباس، وقدم على علي عليه السلام إلى الكوفة يعزيه عن محمد بن أبي بكر، قال: فقام إليه ابن ضحاك، فقال: أي والذي له أسعى، وإياه أخشى، لننصرنك بأسيافنا وأيدينا. وقام المثنى بن مخرمة العبدي فقال: لا والذي لا إله إلا هو، لئن لم ترجع إلى مكانك الذي أقبلت منه لنجاهدنك بأسيافنا وأيدينا، ونبالنا وأسنة رماحنا. نحن ندع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله، وسيد المسلمين، وندخل في طاعة حزب من الأحزاب طاغ! والله لا يكون ذلك أبدا حتى نسير كتيبة، ونفلق السيوف بالهام. فأقبل ابن الحضرمي على صبرة بن شيمان (1) الأزدي فقال: يا صبرة، أنت رأس قومك، وعظيم من عظماء العرب، وأحد الطلبة بدم عثمان، رأينا رأيك، ورأيك رأينا، وبلاء القوم عندك في نفسك وعشيرتك ما قد ذقت ورأيت، فانصرني وكن من دوني. فقال له: إن أنت أتيتني فنزلت في داري نصرتك ومنعتك. فقال: إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أن أنزل في قومه من مضر، فقال: اتبع ما أمرك به. وانصرف من عنده، وأقبل الناس إلى ابن الحضرمي، وكثر تبعه، ففزع لذلك زياد وهاله وهو في دار الامارة، فبعث إلى الحضين بن المنذر ومالك بن مسمع، فدعاهما، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإنكم أنصار أمير المؤمنين وشيعته وثقته، وقد جاءكم هذا الرجل بما قد بلغكم، فأجيروني حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين ورأيه. فأما مالك بن مسمع، فقال: هذا أمر فيه نظر، أرجع إلى من ورائي، وأنظر وأستشير في ذلك. وأما الحضين بن المنذر فقال، نعم، نحن فاعلون ولن نخذلك ولن نسلمك.
(1) ب: (سليمان)، تحريف. 41 فلم ير زياد من القوم ما يطمئن إليه، فبعث إلى صبرة بن شيمان الأزدي، فقال: يا بن شيمان، أنت سيد قومك، وأحد عظماء هذا المصر، فإن يكن فيه أحد هو أعظم أهله فأنت ذاك، أفلا تجيرني و تمنعني، وتمنع بيت مال المسلمين! فإنما أنا أمين عليه. فقال: بلى، إن تحملت حتى تنزل في داري منعتك، فقال: إني فاعل. فارتحل ليلا حتى نزل دار صبرة بن شيمان، وكتب إلى عبد الله بن عباس - ولم يكن معاوية ادعى زيادا بعد، لأنه إنما ادعاه بعد وفاة علي عليه السلام: للأمير (1) عبد الله بن عباس من زياد بن عبيد. سلام عليك، أما بعد فإن عبد الله بن عامر بن الحضرمي أقبل من قبل معاوية حتى نزل في بنى تميم، ونعى ابن عفان، ودعا إلى حرب، فبايعه جل أهل البصرة، فلما رأيت ذلك استجرت بالأزد، بصبرة بن شيمان وقومه لنفسي ولبيت مال المسلمين، ورحلت من قصر الامارة فنزلت فيهم، وإن الأزد معي، وشيعة أمير المؤمنين من فرسان القبائل تختلف إلى وشيعة عثمان تختلف إلى ابن الحضرمي، والقصر خال منا ومنهم، فارفع ذلك إلى أمير المؤمنين، ليرى فيه رأيه، وأعجل إلى بالذي ترى أن يكون منه فيه. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. قال: فرفع ذلك ابن عباس إلى علي عليه السلام، وشاع في الناس بالكوفة ما كان من ذلك، وكانت بنو تميم وقيس، ومن يرى رأى عثمان قد أمروا ابن الحضرمي أن يسير إلى قصر الامارة حين خلاه زياد، فلما تهيأ لذلك ودعا أصحابه، ركبت الأزد، وبعثت إليه وإليهم: إنا والله لا ندعكم تأتون القصر فتنزلون فيه من لا نرضى، ومن نحن له كارهون، حتى يأتي رجل لنا ولكم رضا، فأبى أصحاب ابن الحضرمي إلا أن يسيروا إلى القصر، وأبت الأزد إلا أن يمنعوهم. فركب الأحنف، فقال لأصحاب ابن الحضرمي: إنكم والله
(1) ب: (للأمين) 42 ما أنتم أحق بقصر الامارة من القوم، وما لكم أن تؤمروا عليهم من يكرهونه، فانصرفوا عنهم: ففعلوا، ثم جاء إلى الأزد، فقال: إنه لم يكن ما تكرهون، ولا يؤتى إلا ما تحبون، فانصرفوا رحمكم الله، ففعلوا. * * * قال إبراهيم: وحدثنا محمد بن عبد الله بن أبي سيف، عن الكلبي، أن ابن الحضرمي لما أتى البصرة، ودخلها نزل في بنى تميم في دار سنبيل (1)، ودعا بنى تميم وأخلاط مضر، فقال زياد لأبي الأسود الدؤلي: أما ترى ما صغى (2) أهل البصرة إلى معاوية، وما في الأزد لي مطمع، فقال: إن كنت تركتهم لم ينصروك، وإن أصبحت فيهم منعوك. فخرج زياد من ليلته، فأتى صبرة بن شيمان الحداني الأزدي، فأجاره، وقال له حين أصبح: يا زياد، إنه ليس حسنا بنا أن تقيم فينا مختفيا أكثر من يومك هذا، فأعد له منبرا وسريرا في مسجد الحدان، وجعل له شرطا، وصلى بهم الجمعة في مسجد الحدان. وغلب ابن الحضرمي على ما يليه من البصرة وجباها، وأجمعت الأزد على زياد، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا معشر الأزد، إنكم كنتم أعدائي فأصبحتم أوليائي، وأولى الناس بي. وإني لو كنت في بنى تميم وابن الحضرمي فيكم لم أطمع فيه أبدا وأنتم دونه، فلا يطمع ابن الحضرمي في وأنتم دوني، وليس ابن آكلة الا كباد في بقية الأحزاب وأولياء الشيطان بأدنى إلى الغلبة من أمير المؤمنين في المهاجرين والأنصار، وقد أصبحت فيكم مضمونا، وأمانة مؤداة، وقد رأينا وقعتكم يوم الجمل، فاصبروا مع الحق صبركم مع الباطل، فإنكم لا تحمدون إلا على النجدة، ولا تعذرون على الجبن. فقام شيمان أبو صبرة - ولم يكن شهد يوم الجمل، وكان غائبا - فقال: يا معشر الأزد،
(1) في الأصول: (سبيل)، والصواب ما أثبته من تاريخ الطبري 5: 112. (2) ب: (صغو أهل البصرة). 43 ما أبقت عواقب الجمل عليكم إلا سوء الذكر، وقد كنتم أمس على علي عليه السلام، فكونوا اليوم له، واعلموا أن إسلامكم له ذل، وخذلانكم إياه عار، وأنتم حي مضماركم الصبر، وعاقبتكم الوفاء، فإن سار القوم بصاحبهم فسيروا بصاحبكم، وإن استمدوا معاوية، فاستمدوا عليا عليه السلام، وإن وادعوكم فوادعوهم. ثم قام صبرة ابنه، فقال: يا معشر الأزد، إنا قلنا يوم الجمل: نمنع مصرنا، ونطيع أمنا، نطلب دم خليفتنا المظلوم، فجددنا في القتال، وأقمنا بعد انهزام الناس، حتى قتل منا من لا خير فينا بعده، وهذا زياد جاركم اليوم، والجار مضمون، ولسنا نخاف من على ما نخاف من معاوية، فهبوا لنا أنفسكم، وامنعوا جاركم أو فأبلغوه مأمنه. فقالت الأزد: إنما نحن لكم تبع فأجيروه. فضحك زياد، وقال: يا صبرة، أتخشون ألا تقوموا لبني تميم! فقال صبرة: إن جاؤونا بالأحنف جئناهم بأبي صبرة، (1 وإن جاؤونا بالحباب جئت أنا، وإن كان فيهم شباب كثير 1) فقال زياد: إنما كنت مازحا. فلما رأت بنو تميم أن الأزد قد قامت دون زياد بعثت إليهم: أخرجوا صاحبكم ونحن نخرج صاحبنا، فأي الأميرين غلب - على أو معاوية - دخلنا في طاعته، ولا نهلك عامتنا. فبعث إليهم أبو صبرة إنما كان هذا يرجى عندنا قبل أن نجيره، ولعمري ما قتل زياد وإخراجه إلا سواء، وإنكم لتعلمون أنا لم نجره إلا كرما، فالهوا عن هذا. * * * قال: وروى أبو الكنود أن شبث بن ربعي قال لعلي عليه السلام: يا أمير المؤمنين، ابعث إلى هذا الحي من تميم، فادعهم إلى طاعتك، ولزوم بيعتك، ولا تسلط عليهم، أزد عمان البعداء البغضاء، فإن واحدا من قومك خير لك من عشرة من غيرهم.
(1 - 1) كذا في الأصول، وفي العبارة غموض. 44 فقال له مخنف بن سليم الأزدي: إن البعيد البغيض، من عصى الله وخالف أمير المؤمنين، وهم قومك، وإن الحبيب القريب من أطاع الله ونصر أمير المؤمنين، وهم قومي، واحدهم خير لأمير المؤمنين من عشرة من قومك. فقال أمير المؤمنين عليه السلام: مه! تناهوا أيها الناس، وليردعكم الاسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي، ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين الله الذي لا يقبل من أحد غيره، وكلمة الاخلاص التي هي قوام الدين، وحجة الله على الكافرين، واذكروا إذ كنتم قليلا مشركين متباغضين متفرقين، فألف بينكم بالاسلام فكثرتم، واجتمعتم وتحاببتم. فلا تفرقوا بعد إذ اجتمعتم، ولا تتباغضوا بعد إذ تحاببتم، وإذا رأيتم الناس بينهم النائرة (1) وقد تداعوا إلى العشائر والقبائل، فاقصدوا لهامهم ووجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى الله، وإلى كتابه وسنة نبيه، فأما تلك الحمية من خطرات الشياطين فانتهوا عنها، لا أبا لكم تفلحوا وتنجحوا! ثم إنه عليه السلام دعا أعين بن ضبيعة المجاشعي، وقال: يا أعين، ألم يبلغك أن قومك وثبوا على عاملي مع ابن الحضرمي بالبصرة، يدعون إلى فراقي وشقاقي ويساعدون الضلال القاسطين على! فقال: لا تسأل يا أمير المؤمنين، ولا يكن ما تكره. ابعثني إليهم، فأنا لك زعيم بطاعتهم وتفريق جماعتهم، ونفى ابن الحضرمي من البصرة أو قتله. قال: فأخرج الساعة. فخرج من عنده ومضى حتى قدم البصرة.
(1) النائرة: الفتنة. 45 هذه رواية ابن هلال صاحب كتاب الغارات. * * * وروى الواقدي أن عليا عليه السلام، استنفر بني تميم أياما لينهض منهم إلى البصرة من يكفيه أمر ابن الحضرمي، ويرد عادية بنى تميم الذين أجاروه، بها فلم يجبه أحد، فخطبهم، وقال: أليس من العجب أن ينصرني الأزد، وتخذلني مضر! وأعجب من ذلك تقاعد تميم الكوفة بي، وخلاف تميم البصرة على، وأن أستنجد بطائفة منها، تشخص إلى إخوانها فتدعوهم إلى الرشاد، فإن أجابت وإلا فالمنابذة والحرب. فكأني أخاطب صما بكما لا يفقهون حوارا، ولا يجيبون نداء، كل هذا جبنا عن الباس، وحبا للحياة، لقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا....... الفصل إلى آخره. قال: فقام إليه أعين بن ضبيعة المجاشعي، فقال: أنا - إن شاء الله - أكفيك يا أمير المؤمنين هذا الخطب، وأتكفل لك بقتل ابن الحضرمي، أو إخراجه عن البصرة. فأمره بالتهيؤ للشخوص، فشخص حتى قدم البصرة. * * * قال إبراهيم بن هلال: فلما قدمها دخل على زياد وهو بالأزد مقيم، فرحب به وأجلسه إلى جانبه، فأخبره بما قال له علي عليه السلام، وما رد عليه، وما الذي عليه رأيه، فإنه إذ يكلمه جاءه كتاب من علي عليه السلام فيه: من عبد الله على أمير المؤمنين إلى زياد بن عبيد: سلام عليك، أما بعد، فإني قد بعثت أعين بن ضبيعة، ليفرق قومه عن ابن الحضرمي، فارقب ما يكون منه، فإن فعل وبلغ من ذلك ما يظن به، وكان في ذلك تفريق تلك الأوباش فهو ما نحب، وإن ترامت الأمور بالقوم إلى الشقاق والعصيان،
46 فانبذ بمن (1) أطاعك إلى من عصاك، فجاهدهم فإن ظهرت فهو ما ظننت، وإلا فطاولهم وماطلهم، فكأن كتائب المسلمين قد أطلت عليك، فقتل الله المفسدين الظالمين، ونصر المؤمنين المحقين، والسلام. فلما قرأه زياد أقرأه أعين بن ضبيعة، فقال له: إني لأرجو أن يكفي هذا الامر إن شاء الله. ثم خرج من عنده، فأتى رحله، فجمع إليه رجالا من قومه، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا قوم، على ماذا تقتلون أنفسكم، وتهريقون دماءكم على الباطل مع السفهاء الأشرار! وإني والله ما جئتكم حتى عبيت إليكم الجنود، فإن تنيبوا إلى الحق يقبل منكم، ويكف عنكم، وإن أبيتم فهو والله استئصالكم وبواركم. فقالوا: بل نسمع ونطيع. فقال: انهضوا الان على بركة الله عز وجل فنهض بهم إلى جماعة ابن الحضرمي، فخرجوا إليه مع ابن الحضرمي فصافوه وواقفهم (2) عامة يومه يناشدهم الله، ويقول: يا قوم لا تنكثوا بيعتكم، ولا تخالفوا إمامكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلا، فقد رأيتم وجربتم كيف صنع الله بكم عند نكثكم بيعتكم وخلافكم.. فكفوا عنه، ولم يكن بينه وبينهم قتال، وهم في ذلك يشتمونه وينالون منه، فانصرف عنهم وهو منهم منتصف. فلما أوى إلى رحله تبعه عشرة نفر يظن الناس أنهم خوارج، فضربوه بأسيافهم وهو على فراشه، ولا يظن أن الذي كان يكون، فخرج يشتد عريانا، فلحقوه في الطريق فقتلوه، فأراد زياد أن يناهض ابن الحضرمي حين قتل أعين بجماعة من معه من الأزد وغيرهم من شيعة علي عليه السلام، فأرسل بنو تميم إلى الأزد: والله ما عرضنا لجاركم إذ أجرتموه، ولا لمال هو له، ولا لأحد ليس على رأينا، فما تريدون
(1) كذا في ا، ج، وفي ب: (من). (2) صافوه، أي وقفوا صفوفا ويقال: واقفه في الحرب، أي وقف كل منهما مع الاخر. 47 إلى حربنا وإلى جارنا! فكأن الأزد عند ذلك كرهت قتالهم. فكتب زياد إلى علي عليه السلام: أما بعد يا أمير المؤمنين، فإن أعين بن ضبيعة قدم علينا من قبلك بجد ومناصحة وصدق ويقين، فجمع إليه من أطاعه من عشيرته، فحثهم على الطاعة والجماعة، وحذرهم الخلاف والفرقة، ثم نهض بمن أقبل معه إلى من أدبر عنه، فواقفهم عامة النهار، فهال أهل الخلاف تقدمه، وتصدع عن ابن الحضرمي كثير ممن كان يريد نصرته، فكان كذلك حتى أمسى، فأتى في رحله فبيته نفر من هذه الخارجة المارقة، فأصيب رحمه الله تعالى، فأردت أن أناهض ابن الحضرمي عند ذلك، فحدث أمر قد أمرت صاحب كتابي هذا أن يذكره لأمير المؤمنين، وقد رأيت إن رأى أمير المؤمنين ما رأيت، أن يبعث إليهم جارية بن قدامة، فإنه نافذ البصيرة، ومطاع في العشيرة، شديد على عدو أمير المؤمنين، فإن يقدم يفرق بينهم بإذن الله. والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فلما جاء الكتاب، دعا جارية بن قدامة، فقال له: يا بن قدامة، تمنع الأزد عاملي وبيت مالي، وتشاقني مضر وتنابذني! وبنا ابتدأها الله تعالى بالكرامة، وعرفها الهدى، وتداعوا إلى المعشر الذين حادوا الله ورسوله، وأرادوا إطفاء نور الله سبحانه، حتى علت كلمة الله، وهلك الكافرون. فقال: يا أمير المؤمنين، ابعثني إليهم، واستعن بالله عليهم. قال: قد بعثتك إليهم، واستعنت بالله عليهم. * * * قال إبراهيم: فحدثنا محمد بن عبد الله، قال: حدثني ابن أبي السيف، عن سليمان بن أبي راشد، عن كعب بن قعين، قال: خرجت مع جارية من الكوفة إلى البصرة
48 في خمسين رجلا من بنى تميم، ما كان فيهم يماني غيري، وكنت شديد التشيع، فقلت لجارية: إن شئت كنت معك، وإن شئت ملت إلى قومي! فقال: بل معي، فوالله لوددت أن الطير والبهائم تنصرني عليهم، فضلا عن الانس * * * قال: وروى كعب بن قعين أن عليا عليه السلام كتب مع جارية كتابا، وقال: أقرأه على أصحابك، قال: فمضينا معه، فلما دخلنا البصرة، بدأ بزياد، فرحب به وأجلسه إلى جانبه، وناجاه ساعة وساءله، ثم خرج فكان أفضل ما أوصاه به أن قال: احذر على نفسك، واتق أن تلقى ما لقى صاحبك القادم قبلك. وخرج جارية من عنده، فقام في الأزد، فقال: جزاكم الله من حي خيرا! ما أعظم غناءكم، وأحسن بلاءكم، وأطوعكم لأميركم! لقد عرفتم الحق إذ ضيعه من أنكره، ودعوتم إلى الهدى إذ تركه من لم يعرفه. ثم قرأ عليهم وعلى من كان معه من شيعة علي عليه السلام وغيرهم - كتاب علي عليه السلام، فإذا فيه: من عبد الله على أمير المؤمنين إلى من قرئ عليه كتابي هذا من ساكني البصرة من المؤمنين والمسلمين: سلام عليكم، أما بعد فإن الله حليم ذو أناة، لا يعجل بالعقوبة قبل البينة، ولا يأخذ المذنب عند أول وهلة، ولكنه يقبل التوبة، ويستديم الأناة، ويرضى بالإنابة، ليكون أعظم للحجة، وأبلغ في المعذرة، وقد كان من شقاق جلكم أيها الناس ما استحققتم أن تعاقبوا عليه، فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم، وقبلت من مقبلكم، وأخذت بيعتكم، فإن تفوا ببيعتي، وتقبلوا نصيحتي، وتستقيموا على طاعتي، أعمل
49 فيكم بالكتاب والسنة وقصد الحق، وأقم فيكم سبيل الهدى، فوالله ما أعلم أن واليا بعد محمد صلى الله عليه وآله أعلم بذلك منى، ولا أعمل بقولي. أقول قولي هذا صادقا، غير ذام لمن مضى، ولا منتقصا لأعمالهم، وإن خبطت (1) بكم الأهواء المردية، وسفه الرأي الجائر إلى منابذتي، تريدون خلافي! فها أنا ذا قربت جيادي، ورحلت ركابي، وأيم الله لئن ألجأتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة، لا يكون يوم الجمل عندها إلا كلعقة لاعق، وإني لظان ألا تجعلوا - إن شاء الله - على أنفسكم سبيلا. وقد قدمت هذا الكتاب إليكم حجة عليكم، ولن أكتب إليكم من بعده كتابا، إن أنتم استغششتم نصيحتي، ونابذتم رسولي، حتى أكون أنا الشاخص نحوكم، إن شاء الله تعالى. والسلام. قال: فلما قرئ الكتاب على الناس قام صبرة بن شيمان، فقال: سمعنا وأطعنا، ونحن لمن حارب أمير المؤمنين حرب، ولمن سالم سلم، إن كفيت يا جارية قومك بقومك فذاك، وإن أحببت أن ننصرك نصرناك. وقام وجوه الناس فتكلموا بمثل ذلك ونحوه، فلم يأذن لأحد منهم أن يسير معه، ومضى نحو بنى تميم. فقام زياد في الأزد، فقال: يا معشر الأزد، إن هؤلاء كانوا أمس سلما، فأصبحوا اليوم حربا، وإنكم كنتم حربا فأصبحتم سلما، وإني والله ما اخترتكم إلا على التجربة، ولا أقمت فيكم إلا على الامل، فما رضيتم أن أجرتموني، حتى نصبتم لي منبرا وسريرا، وجعلتم لي شرطا وأعوانا، ومناديا وجمعة، فما فقدت بحضرتكم شيئا إلا هذا الدرهم، لا أجبيه اليوم، فإن لم أجبه اليوم أجبه غدا إن شاء الله. واعلموا أن حربكم اليوم معاوية أيسر عليكم في الدنيا والدين من حربكم أمس عليا، وقد قدم عليكم جارية بن قدامة، وإنما أرسله على
(1) كذا في ا، ج، وفي ب: (خطت). 50 ليصدع أمر قومه، والله ما هو بالأمير المطاع، ولو أدرك أمله في قومه لرجع إلى أمير المؤمنين أو لكان لي تبعا، وأنتم الهامة العظمى، والجمرة (1) الحامية، فقدموه إلى قومه، فإن اضطر إلى نصركم فسيروا إليه، إن رأيتم ذلك. فقام أبو صبرة شيمان فقال: يا زياد، إني والله لو شهدت قومي يوم الجمل، رجوت ألا يقاتلوا عليا، وقد مضى الامر بما فيه. وهو يوم بيوم، وأمر بأمر، والله إلى الجزاء بالاحسان أسرع منه إلى الجزاء بالسيئ، والتوبة مع الحق، والعفو مع الندم، ولو كانت هذه فتنة لدعونا القوم إلى إبطال الدماء، واستئناف الأمور، ولكنها جماعة دماؤها حرام، وجروحها قصاص، ونحن معك نحب ما أحببت. فعجب زياد من كلامه، وقال: ما أظن في الناس مثل هذا. ثم قام صبرة ابنه، فقال: إنا والله ما أصبنا بمصيبة في دين ولا دنيا كما أصبنا أمس يوم الجمل، وإنا لنرجو اليوم أن نمحص ذلك بطاعة الله وطاعة أمير المؤمنين، وأما أنت يا زياد، فوالله ما أدركت أملك فينا، ولا أدركنا أملنا فيك دون ردك إلى دارك، ونحن رادوك إليها غدا إن شاء الله تعالى، فإذا فعلنا فلا يكن أحد أولى بك منا، فإنك إلا تفعل لم تأت ما يشبهك (2)، وإنا والله نخاف من حرب على في الآخرة، ما لا نخاف من حرب معاوية في الدنيا، فقدم هواك وأخر هوانا، فنحن معك وطوعك. ثم قام خنقر (3) الحماني، فقال: أيها الأمير، إنك لو رضيت منا بما ترضى به من غيرنا، لم نرض ذلك لأنفسنا، سر بنا إلى القوم إن شئت، وأيم الله ما لقينا قوما (4) قط إلا اكتفينا بعفونا دون جهدنا، إلا ما كان أمس.
(1) الجمرة: كل جماعة انضموا فصاروا يدا واحدة ولم يحالفوا غيرهم. (2) ج: (تشبهه). (3) كذا في ب، وفي ج: (حيقن). (4) ب: (يوما). 51 قال إبراهيم: فأما جارية فإنه كلم قومه فلم يجيبوه، وخرج إليه منهم أوباش (1) فناوشوه بعد أن شتموه وأسمعوه، فأرسل إلى زياد والأزد، يستصرخهم ويأمرهم أن يسيروا إليه فسارت الأزد بزياد، وخرج إليهم ابن الحضرمي، وعلى خيله عبد الله بن خازم السلمي، فاقتتلوا ساعة، وأقبل شريك بن الأعور الحارثي - وكان من شيعة علي عليه السلام، وصديقا لجارية بن قدامة - فقال: ألا أقاتل معك عدوك؟ فقال: بلى، فما لبثت بنو تميم أن هزموهم واضطروهم إلى دار سنبيل السعدي، فحصروا ابن الحضرمي وحدوه، فأتى رجل من بنى تميم، ومعه عبد الله بن خازم السلمي، فجاءت أمه وهي سوداء حبشية اسمها عجلى، فنادته، فأشرف عليها، فقالت: يا بنى، انزل إلى، فأبى فكشفت رأسها وأبدت قناعها، وسألته النزول فأبى، فقالت: والله لتنزلن أو لا تعرين، وأهوت بيدها إلى ثيابها (2)، فلما رأى ذلك نزل، فذهبت به، وأحاط جارية وزياد بالدار، وقال جارية: على بالنار، فقالت الأزد: لسنا من الحريق بالنار في شئ، وهم قومك وأنت أعلم، فحرق جارية الدار عليهم، فهلك ابن الحضرمي في سبعين رجلا، أحدهم عبد الرحمن بن عمير بن عثمان القرشي التيمي، وسمى جارية منذ ذلك اليوم محرقا، وسارت الأزد بزياد حتى أوطنوه قصر الامارة، ومعه بيت المال، وقالت له: هل بقي علينا من جوارك شئ؟ قال: لا، قالوا: فبرئنا منه؟ فقال: نعم، فانصرفوا عنه. وكتب زياد إلى أمير المؤمنين عليه السلام: أما بعد، فإن جارية بن قدامة العبد الصالح قدم من عندك، فناهض جمع ابن الحضرمي بمن نصره وأعانه من الأزد، ففضه واضطره إلى دار من دور البصرة في عدد كثير من أصحابه، فلم يخرج حتى حكم الله تعالى بينهما، فقتل ابن الحضرمي وأصحابه، منهم من أحرق بالنار، ومنهم من ألقى عليه جدار، ومنهم من هدم عليه البيت من أعلاه، ومنهم من قتل بالسيف، وسلم
(1) الأوباش: الأخلاط والسفلة من الناس. (2) ا، ب: (ساقها). 52 منهم نفر أنابوا وتابوا، فصفح عنهم، وبعدا لمن عصى وغوى! والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله و بركاته. فلما وصل كتاب زياد قرأه علي عليه السلام على الناس، وكان زياد قد أنفذه مع ظبيان بن عمارة، فسر علي عليه السلام بذلك وسر أصحابه، وأثنى على جارية وعلى الأزد، وذم البصرة فقال: إنها أول القرى خرابا، إما غرقا وإما حرقا، حتى يبقى مسجدها كجؤجؤ سفينة. ثم قال لظبيان: أين منزلك منها؟ فقال: مكان كذا، فقال: عليك بضواحيها. وقال ابن العرندس الأزدي يذكر تحريق ابن الحضرمي، ويعير تميما بذلك: رددنا زيادا إلى داره * وجار تميم ينادى الشجب (1) لحا الله قوما شووا جارهم * لعمري لبئس الشواء الشصب (2) ينادى الخناق وأبناءها * وقد شيطوا رأسها باللهب والخناق لقب قوم بنى تميم.
(1) الشجب: الهلاك (2) الشصب: الشاة المسلوخة. 53 (56) ومن كلام له عليه السلام لأصحابه: الأصل: أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم، مندحق البطن، يأكل ما يجد، ويطلب ما لا يجد، فاقتلوه - ولن تقتلوه. ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة منى، فأما السب فسبوني، فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا منى، فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الايمان والهجرة. الشرح: مندحق البطن: بارزها، والدحوق من النوق: التي يخرج رحمها عند (1) الولادة. وسيظهر: سيغلب. ورحب البلعوم: واسعه. وكثير من الناس يذهب إلى أنه عليه السلام عنى زيادا، وكثير منهم يقول: إنه عنى الحجاج. وقال قوم: إنه عنى المغيرة بن شعبة، والأشبه عندي أنه عنى معاوية، لأنه كان موصوفا بالنهم وكثرة الاكل، وكان بطينا، يقعد بطنه إذا جلس على فخذيه، وكان معاوية جوادا بالمال والصلات، وبخيلا على الطعام، يقال: إنه مازح أعرابيا على طعامه، وقد قدم بين يديه خروف، فأمعن الاعرابي في أكله، فقال له: ما ذنبه إليك، أنطحك أبوه؟ فقال الاعرابي: وما حنوك عليه؟ أأرضعتك أمه! وقال لأعرابي يأكل بين يديه، وقد استعظم أكله: ألا أبغيك سكينا؟ فقال:
(1) ج: (بعد). 54 كل امرئ سكينه في رأسه، فقال: ما اسمك؟ قال: لقيم، قال: منها أتيت. كان معاوية يأكل فيكثر، ثم يقول: ارفعوا، فوالله ما شبعت ولكن مللت وتعبت. تظاهرت الاخبار أن رسول الله صلى الله عليه وآله دعا على معاوية لما بعث إليه يستدعيه، فوجده يأكل، ثم بعث فوجده يأكل، فقال: (اللهم لا تشبع بطنه)، قال الشاعر: وصاحب لي بطنه كالهاويه * كأن في أحشائه معاوية * * * وفي هذا الفصل مسائل: الأولى: في تفسير قوله عليه السلام: (فاقتلوه ولن تقتلوه) فنقول: إنه لا تنافى بين الامر بالشئ والاخبار عن أنه لا يقع، كما أخبر الحكيم سبحانه عن أن أبا لهب لا يؤمن وأمره بالايمان، وكما قال تعالى: (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين) (1)، ثم قال: (ولا يتمنونه أبدا) (2)، وأكثر التكليفات على هذا المنهاج. * * * [مسألة كلامية في الامر بالشئ مع العلم بأنه لا يقع] واعلم ن أهل العدل والمجبرة لم يختلفوا في أنه تعالى قد يأمر بما يعلم أنه لا يقع، أو يخبر عن أنه لا يقع، وإنما اختلفوا: هل يصح أن يريد ما يعلم أنه لا يقع، أو يخبر عنه أنه لا يقع؟ فقال أصحابنا: يصح ذلك، وقال المجبرة: لا يصح، لان إرادة ما يعلم المريد أنه لا يقع قضية متناقضة، لان تحت قولنا: (أراد) مفهوم أن ذلك المراد مما يمكن حصوله، لان إرادة المحال ممتنعة. وتحت قولنا: (إنه يعلم أنه لا يقع) مفهوم أن ذلك المراد مما لا يمكن حصوله، لأنا قد
(1) سورة البقرة 95. (2) سورة الجمعة 7. 55 فرضنا أنه لا يقع وما لا يقع لا يمكن حصوله مع فرض كونه لا يقع، فقال لهم أصحابنا: هذا يلزمكم في الامر، لأنكم قد أجزتم أن يأمر بما يعلم أنه لا يقع، فقالوا في الجواب: نحن عندنا أنه يأمر بما لا يريد، فإذا أمر بما يعلم أنه لا يقع، أو يخبر عن أنه لا يقع، كان ذلك الامر أمرا عاريا عن الإرادة، والمحال إنما نشأ من إرادة ما علم المريد أنه لا يقع، وهاهنا لا إرادة. فقيل لهم: هب أنكم ذهبتم إلى أن الامر قد يعرى من الإرادة مع كونه أمرا، ألستم تقولون: إن الامر يدل على الطلب، والطلب شئ آخر غير الإرادة! وتقولون: إن ذلك الطلب قائم بذات البارئ، فنحن نلزمكم في الطلب القائم بذات البارئ، الذي لا يجوز أن يعرى (1) الامر منه ما ألزمتمونا في الإرادة. ونقول لكم: كيف يجوز أن يطلب الطالب ما يعلم أنه لا يقع! أليس تحت قولنا: طلب مفهوم، أن ذلك المطلوب مما يمكن وقوعه! فالحال في الطلب كالحال في الإرادة، حذو النعل بالنعل. ولنا في هذا الموضع أبحاث دقيقة ذكرناها في كتبنا الكلامية. * * * [فصل فيما روى من سب معاوية وحزبه لعلى] المسألة الثانية: في قوله عليه السلام: (يأمركم بسبي والبراءة منى)، فنقول: إن معاوية أمر الناس بالعراق والشام وغيرهما بسب علي عليه السلام والبراءة منه. وخطب بذلك على منابر الاسلام، وصار ذلك سنة في أيام بنى أميد إلى أن قام عمر بن عبد العزيز رضى الله تعالى عنه فأزاله. وذكر شيخنا أبو عثمان الجاحظ أن معاوية كان يقول في آخر خطبة الجمعة: اللهم إن أبا تراب الحد في دينك، وصد عن سبيلك
(1) ا: (يتعرى). 56 فالعنه لعنا وبيلا، وعذبه عذابا أليما وكتب بذلك إلى الآفاق، فكانت هذه الكلمات يشاربها على المنابر، إلى خلافة عمر بن عبد العزيز. وذكر أبو عثمان أيضا أن هشام بن عبد الملك لما حج خطب بالموسم، فقام إليه إنسان، فقال: يا أمير المؤمنين، إن هذا يوم كانت الخلفاء تستحب فيه لعن أبى تراب، فقال: اكفف، فما لهذا جئنا. وذكر المبرد في،، الكامل،، أن خالد بن عبد الله القسري لما كان أمير العراق في خلافة هشام، كان يلعن عليا عليه السلام على المنبر، فيقول: اللهم العن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم، صهر رسول الله صلى الله عليه وآله على ابنته، وأبا الحسن والحسين! ثم يقبل على الناس، فيقول هل كنيت (1)! وروى أبو عثمان أيضا أن قوما من بنى أمية قالوا لمعاوية: يا أمير المؤمنين، إنك قد بلغت ما أملت، فلو كففت عن لعن هذا الرجل! فقال: لا والله حتى يربو عليه الصغير، ويهرم عليه الكبير، ولا يذكر له ذاكر فضلا! وقال أبو عثمان أيضا: وما كان عبد الملك - مع فضله وأناته وسداده ورجحانه - ممن يخفى عليه فضل علي عليه السلام، وأن لعنه على رؤوس الاشهاد، وفي أعطاف الخطب، وعلى صهوات المنابر مما يعود عليه نقصه، ويرجع إليه وهنه، لأنهما جميعا من بنى عبد مناف، والأصل واحد، والجرثومة منبت لهما، وشرف علي عليه السلام وفضله عائد عليه، ومحسوب له، ولكنه أراد تشييد الملك وتأكيد ما فعله الأسلاف، وأن يقرر في أنفس الناس أن بني هاشم لاحظ لهم في هذا الامر، وأن سيدهم الذي به يصولون، وبفخره يفخرون،
(1) الكامل 414 (طبع أوروبا). 57 هذا حاله وهذا مقداره، فيكون من ينتمي إليه ويدلي به عن الامر أبعد، وعن الوصول إليه أشحط وأنزح. وروى أهل السيرة أن الوليد بن عبد الملك في خلافته ذكر عليا عليه السلام، فقال: لعنه (الله - بالجر - كان لص ابن لص). فعجب الناس من لحنه فيما لا يلحن فيه أحد، ومن نسبته عليا عليه السلام إلى اللصوصية وقالوا: ما ندري أيهما أعجب! وكان الوليد لحانا. وأمر المغيرة بن شعبة - وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل معاوية - حجر بن عدي أن يقوم في الناس، فليلعن عليا عليه السلام، فأبى ذلك، فتوعده، فقام فقال: أيها الناس، إن أميركم أمرني أن ألعن عليا فالعنوه فقال أهل الكوفة: لعنه الله، وأعاد الضمير إلى المغيرة بالنية والقصد. وأراد زياد أن يعرض أهل الكوفة أجمعين على البراءة من علي عليه السلام ولعنه وأن يقتل كل من امتنع من ذلك، ويخرب منزله، فضربه الله ذلك اليوم بالطاعون، فمات - لا رحمه الله - بعد ثلاثة أيام، وذلك في خلافة معاوية. وكان الحجاج - لعنه الله - يلعن عليا عليه السلام، ويأمر بلعنه وقال له متعرض به يوما وهو راكب: أيها الأمير، إن أهلي عقوني فسموني عليا، فغير اسمي، وصلني بما أتبلغ به فإني فقير. فقال: للطف ما توصلت به قد سميتك كذا، ووليتك العمل الفلاني فاشخص إليه. * * * فأما عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فإنه قال: كنت غلاما أقرأ القرآن على بعض ولد عتبة بن مسعود فمر بي يوما وأنا ألعب مع الصبيان، ونحن نلعن عليا،
58 فكره ذلك ودخل المسجد، فتركت الصبيان وجئت إليه لأدرس عليه وردي، فلما رآني قام فصلى وأطال في الصلاة - شبه المعرض عنى - حتى أحسست منه بذلك، فلما انفتل من صلاته كلح في وجهي، فقلت له: ما بال الشيخ؟ فقال لي: يا بنى، أنت اللاعن عليا منذ اليوم؟ قلت: نعم، قال: فمتى علمت أن الله سخط على أهل بدر بعد أن رضى عنهم! فقلت: يا أبت، وهل كان على من أهل بدر! فقال: ويحك! وهل كانت بدر كلها إلا له! فقلت: لا أعود، فقال: الله أنك لا تعود! قلت: نعم فلم ألعنه بعدها ثم كنت أحضر تحت منبر المدينة، وأبى يخطب يوم الجمعة - وهو حينئذ أمير المدينة - فكنت أسمع أبى يمر في خطبه تهدر شقاشقه، حتى يأتي إلى لعن علي عليه السلام فيجمجم، ويعرض له من الفهاهة والحصر ما الله عالم به، فكنت أعجب من ذلك، فقلت له يوما: يا أبت، أنت أفصح الناس وأخطبهم، فما بالي أراك أفصح خطيب يوم حفلك، حتى إذا مررت بلعن هذا الرجل، صرت ألكن عليا! فقال: يا بنى، إن من ترى تحت منبرنا من أهل الشام وغيرهم، لو علموا من فضل هذا الرجل ما يعلمه أبوك لم يتبعنا منهم أحد فوقرت كلمته في صدري، مع ما كان قاله لي معلمي أيام صغرى، فأعطيت الله عهدا، لئن كان لي في هذا الامر نصيب لأغيرنه، فلما من الله على بالخلافة أسقطت ذلك، وجعلت مكانه: (إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون) (1)، وكتب به إلى الآفاق فصار سنة. وقال كثير بن عبد الرحمن يمدح عمر ويذكر قطعه السب: وليت فلم تشتم عليا ولم تخف * بريا ولم تقبل إساءة مجرم (2) وكفرت بالعفو الذنوب مع الذي * أتيت فأضحى راضيا كل مسلم
(1) سورة النحل 90 (2) الأغاني 9: 258 (طبعة الدار) مع اختلاف في الرواية. 59 ألا إنما يكفي الفتى بعد زيغه * من الأود البادي ثقاف المقوم وما زلت تواقا إلى كل غاية * بلغت بها أعلى العلاء المقدم فلما أتاك الامر عفوا ولم يكن * لطالب دنيا بعده من تكلم تركت الذي يفنى لان كان بائدا * وآثرت ما يبقى برأي مصمم وقال الرضى أبو الحسن رحمه الله تعالى: يا بن عبد العزيز لو بكت العين فتى من أمية لبكيتك (1) غير أنى أقول إنك قد طبت وإن لم يطب ولم يزك بيتك أنت نزهتنا عن السب والقذف * فلو أمكن الجزاء جزيتك ولو انى رأيت قبرك لاستحييت من أن أرى وما حييتك وقليل أن لو بزلت دماء البدن صرفا على الذرا وسقيتك دير سمعان: فيك مأوى أبى حفص * بودي لو أنني آويتك دير سمعان، لا أغبك غيث * خير ميت من آل مروان ميتك (2) أنت بالذكر بين عيني وقلبي * إن تدانيت منك أو إن نأيتك وإذا حرك الحشا خاطر منك توهمت أنني قد رأيتك وعجيب أنى قليت بنى مر * وان طرا وأنني ما قليتك قرب العدل منك لما نأى الجور * بهم فاجتويتهم واجتبيتك فلو أنى ملكت دفعا لما * نابك من طارق الردى لفديتك * * *
(1) ديوانه لوحة 124 (2) دير سمعان، بكسر السين وفتحها، دير بنواحي دمشق عنده قبر عمر بن عبد العزيز (ياقوت) 60 وروى ابن الكلبي عن أبيه، عن عبد الرحمن بن السائب، قال: قال الحجاج يوما لعبد الله بن هانئ، وهو رجل من بنى أود - حي من قحطان - وكان شريفا في قومه، قد شهد مع الحجاج مشاهده كلها، وكان من أنصاره وشيعته: والله ما كافأتك بعد! ثم أرسل إلى أسماء بن خارجة سيد بنى فزارة: أن زوج عبد الله بن هانئ بابنتك فقال: لا والله ولا كرامة! فدعا بالسياط، فلما رأى الشر قال: نعم أزوجه، ثم بعث إلى سعيد بن قيس الهمداني رئيس اليمانية: زوج ابنتك من عبد الله بن أود، فقال: ومن أود! لا والله لا أزوجه ولا كرامة! فقال: على بالسيف، فقال: دعني حتى أشاور أهلي، فشاورهم، فقالوا: زوجه ولا تعرض نفسك لهذا الفاسق، فزوجه. فقال: الحجاج لعبد الله: قد زوجتك بنت سيد فزارة وبنت سيد همدان، وعظيم كهلان وما أود هناك! فقال: لا تقل أصلح الله الأمير ذاك! فإن لنا مناقب ليست لأحد من العرب، قال: وما هي؟ قال: ما سب أمير المؤمنين عبد الملك في ناد لنا قط، قال: منقبة والله، قال: وشهد منا صفين مع أمير المؤمنين معاوية سبعون رجلا، ما شهد منا مع أبي تراب إلا رجل واحد، وكان والله ما علمته امرأ سوء، قال: منقبة والله، قال: ومنا نسوة نذرن: إن قتل الحسين بن علي أن تنحر كل واحدة عشر قلائص، ففعلن، قال: منقبة والله، قال: وما منا رجل عرض عليه شتم أبى تراب ولعنه إلا فعل وزاد ابنيه حسنا وحسينا وأمهما فاطمة، قال: منقبة والله، قال: وما أحد من العرب له من الصباحة والملاحة ما لنا، فضحك الحجاج، وقال: أما هذه يا أبا هانئ فدعها وكان عبد الله دميما شديد الأدمة (1) مجدورا، في رأسه عجر، مائل الشدق، أحول، قبيح الوجه، شديد الحول. * * * وكان عبد الله بن الزبير يبغض عليا عليه السلام، وينتقصه وينال من عرضه.
(1) الأدمة: السمرة. (2) عجر، أي نتوء. 61 وروى عمر بن شبه وابن الكلبي والواقدي وغيرهم من رواة السير، أنه مكث أيام ادعائه الخلافة أربعين جمعة لا يصلى فيها على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: لا يمنعني من ذكره إلا أن تشمخ رجال بآنافها. وفي رواية محمد بن حبيب وأبى عبيدة معمر بن المثنى: أن له أهيل سوء ينغضون رؤوسهم عند ذكره. وروى سعيد بن جبير أن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن عباس: ما حديث أسمعه عنك؟ قال: وما هو؟ قال: تأنيبي وذمي! فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بئس المرء المسلم يشبع ويجوع جاره)، فقال ابن الزبير: إني لأكتم بغضكم أهل هذا البيت منذ أربعين سنة. وذكر تمام الحديث. وروى عمر بن شبة أيضا عن سعيد بن جبير، قال: خطب عبد الله بن الزبير، فنال من علي عليه السلام، فبلغ ذلك محمد بن الحنفية، فجاء إليه وهو يخطب، فوضع له كرسي، فقطع عليه خطبته، وقال: يا معشر العرب، شاهت الوجوه! أينتقص على وأنتم حضور! إن عليا كان يد الله على أعداء الله، وصاعقة من أمره أرسله على الكافرين والجاحدين لحقه، فقتلهم بكفرهم فشنئوه وأبغضوه، وأضمروا له الشنف (1) والحسد، وابن عمه صلى الله عليه وسلم حي بعد لم يمت، فلما نقله الله إلى جواره، وأحب له ما عنده، أظهرت له رجال أحقادها، وشفت أضغانها، فمنهم من ابتز حقه، ومنهم من ائتمر به ليقتله، ومنهم من شتمه وقذفه بالأباطيل، فإن يكن لذريته وناصري دعوته دولة تنشر عظامهم، وتحفر على أجسادهم، والأبدان منهم يومئذ بالية، بعد أن تقتل الاحياء منهم، وتذل رقابهم، فيكون الله عز اسمه قد عذبهم بأيدينا وأخزاهم، ونصرنا عليهم، وشفا صدورنا منهم، إنه والله ما يشتم عليا إلا كافر يسر شتم رسول الله صلى الله عليه وآله ويخاف أن يبوح به،
(1) الشنف: البغض، وفي ب: (السيف). 62 فيكني بشتم علي عليه السلام عنه. أما إنه قد تخطت المنية منكم من امتد عمره، وسمع قول رسول الله صلى الله عليه وآله فيه: (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)، فعاد ابن الزبير إلى خطبته، وقال: عذرت بنى الفواطم يتكلمون، فما بال ابن أم حنيفة! فقال محمد: يا بن أم رومان (1)، وما لي لا أتكلم! وهل فاتني من الفواطم إلا واحدة! ولم يفتني فخرها، لأنها أم أخوى أنا ابن فاطمة بنت عمران بن عائذ بن مخزوم، جدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا ابن فاطمة بنت أسد بن هاشم، كافلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقائمة مقام أمه، أما والله لولا خديجة بنت خويلد ما تركت في بنى أسد بن عبد العزى عظما إلا هشمته! ثم قام فانصرف. * * * [فصل في ذكر الأحاديث الموضوعة في ذم على] وذكر شيخنا أبو جعفر (2) الإسكافي رحمه الله تعالى - وكان من المتحققين بموالاة علي عليه السلام، والمبالغين في تفضيله، وإن كان القول بالتفضيل عاما شائعا في البغداديين من أصحابنا كافة، إلا أن أبا جعفر أشدهم في ذلك قولا، وأخلصهم فيه اعتقادا - أن معاوية وضع قوما من الصحابة وقوما من التابعين على رواية أخبار قبيحة في علي عليه السلام، تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلا يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه، منهم أبو هريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة، ومن التابعين عروة بن الزبير. روى الزهري أن عروة بن الزبير حدثه، قال: حدثتني عائشة قالت: كنت عند
(1) كذا في ا، ب وفي ج: (قتيلة). (2) هو أبو جعفر محمد بن عبد الله الإسكافي، من متكلمي المعتزلة وأحد أئمتهم، وإليه تنسب الطائفة الإسكافية منهم، وهو بغدادي أصله من سمرقند، قال ابن النديم: كان عجيب الشأن في العلم والذكاء والصيانة ونبل الهمة والنزاهة، بلغ في مقدار عمرد ما لم يبلغه أحد، وكان المعتصم يعظمه. وله مناظرات مع الكرابيسي وغيره. توفى سنة 240، لسان الميزان 5: 221 63 رسول الله إذ أقبل العباس وعلى، فقال: يا عائشة، إن هذين يموتان على غير ملتي - أو قال ديني. وروى عبد الرزاق عن معمر، قال: كان عند الزهري حديثان عن عروة عن عائشة في علي عليه السلام، فسألته عنهما يوما، فقال: ما تصنع بهما وبحديثهما! الله أعلم بهما، إني لأتهمهما في بني هاشم. قال: فأما الحديث الأول، فقد ذكرناه، وأما الحديث الثاني فهو أن عروة زعم أن عائشة حدثته، قالت: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أقبل العباس وعلى، فقال: (يا عائشة، إن سرك أن تنظري إلى رجلين من أهل النار فانظري إلى هذين قد طلعا)، فنظرت، فإذا العباس وعلي بن أبي طالب. وأما عمرو بن العاص، فروى عنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما مسندا متصلا بعمرو بن العاص، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين). وأما أبو هريرة، فروى عنه الحديث الذي معناه أن عليا عليه السلام خطب ابنة أبى جهل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسخطه، فخطب على المنبر، وقال: لاها الله! لا تجتمع ابنة ولى الله وابنة عدو الله أبى جهل! إن فاطمة بضعة (1) منى يؤذيني ما يؤذيها، فإن كان على يريد ابنة أبى جهل فليفارق ابنتي، وليفعل ما يريد)، أو كلاما هذا معناه، والحديث مشهور من رواية الكرابيسي. قلت: هذا الحديث أيضا مخرج في صحيحي مسلم والبخاري عن المسور بن مخرمة الزهري، وقد ذكره المرتضى في كتابه (المسمى تنزيه الأنبياء والأئمة)، وذكر أنه رواية
(1) بضعة، أي قطعة. 64 حسين الكرابيسي (1)، وأنه مشهور بالانحراف عن أهل البيت عليهم السلام، وعداوتهم والمناصبة لهم، فلا تقبل روايته. ولشياع هذا الخبر وانتشاره ذكره مروان بن أبي حفصة في قصيدة يمدح بها الرشيد، ويذكر فيها ولد فاطمة عليهم السلام وينحى عليهم، ويذمهم، وقد بالغ حين ذم عليا عليه السلام ونال منه، وأولها: سلام على جمل، وهيهات من جمل * ويا حبذا جمل وإن صرمت حبلى يقول فيها: علي أبوكم كان أفضل منكم * أبا ذوو الشورى وكانوا ذوي الفضل وساء رسول الله إذ ساء بنته * بخطبته بنت اللعين أبى جهل فذم رسول الله صهر أبيكم * على منبر بالمنطق الصادع الفضل وحكم فيها حاكمين أبوكم * هما خلعاه خلع ذي النعل للنعل وقد باعها من بعده الحسن ابنه * فقد أبطلت دعواكم الرثة الحبل وخليتموها وهي في غير أهلها * وطالبتموها حين صارت إلى أهل وقد روى هذا الخبر على وجوه مختلفة، وفيه زيادات متفاوتة، فمن الناس من يروى فيه: (مهما ذممنا من صهر فإنا لم نذم صهر أبى العاص بن الربيع)، ومن الناس من يروى فيه: (ألا إن بنى المغيرة أرسلوا إلى علي ليزوجوه كريمتهم...) وغير ذلك. وعندي أن هذا الخبر لو صح لم يكن على أمير المؤمنين فيه غضاضة ولا قدح، لان
(1) هو أبو علي الحسين بن علي بن زيد الكرابيسي البغدادي، صاحب الإمام الشافعي، وأشهرهم بارتياد مجلسه وأحفظهم لمذهبه، وله تصانيف كثيرة في أصول الفقه وفروعه. توفى سنة 248. ابن خلكان 1: 145 65 الأمة مجمعة على أنه لو نكح ابنة أبى جهل، مضافا إلى نكاح فاطمة عليها السلام لجاز. لأنه داخل تحت عموم الآية المبيحة للنساء الأربع، فابنة أبى جهل المشار إليها كانت مسلمة، لأن هذه القصة كانت بعد فتح مكة، وإسلام أهلها طوعا وكرها، ورواة الخبر موافقون على ذلك، فلم يبق إلا أنه إن كان هذا الخبر صحيحا فإن رسول الله صلى الله عليه وآله لما رأى فاطمة عليها السلام قد غارت، وأدركها ما يدرك النساء، عاتب عليا عليه السلام عتاب الأهل، وكما يستثبت الوالد رأى الولد، ويستعطفه إلى رضا أهله وصلح زوجته. ولعل الواقع كان بعض هذا الكلام فحرف وزيد فيه. ولو تأملت أحوال النبي صلى الله عليه وآله مع زوجاته، وما كان يجرى بينه وبينهن من الغضب تارة، والصلح أخرى، والسخط تارة والرضا أخرى، حتى بلغ الامر إلى الطلاق مرة، وإلى الايلاء مرة، وإلى الهجر والقطيعة مرة، وتدبرت ما ورد في الروايات الصحيحة مما كن يلقينه عليه السلام به، ويسمعنه إياه، لعلمت أن الذي عاب الحسدة والشائنون عليا عليه السلام به بالنسبة إلى تلك الأحوال قطرة من البحر المحيط، ولو لم يكن إلا قصة مارية وما جرى بين رسول الله صلى الله عليه وآله وبين تينك الامرأتين من الأحوال والأقوال، حتى أنزل فيهما قرآن يتلى في المحاريب، ويكتب في المصاحف، وقيل لهما ما لا يقال للإسكندر ملك الدنيا لو كان حيا، منابذا الرسول الله صلى الله عليه وآله: (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير) (1)، ثم أردف بعد ذلك بالوعيد والتخويف: (عسى ربه إن طلقكن...) (1) الآيات بتمامها. ثم ضرب لهما مثلا امرأة نوح وامرأة لوط اللتين خانتا بعليهما، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا، وتمام الآية معلوم. فهل ما روى في الخبر من تعصب فاطمة على علي عليه السلام
(1) سورة التحريم 4، 5 66 وغيرتها من تعريض بنى المغيرة له بنكاح عقيلتهم، إذا قويس إلى هذه الأحوال وغيرها مما كان يجرى إلا كنسبة التأفيف (1) إلى حرب البسوس! ولكن صاحب الهوى والعصبية لا علاج له. * * * ثم نعود إلى حكاية كلام شيخنا أبى جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى. قال أبو جعفر: وروى الأعمش، قال: لما قدم أبو هريرة العراق مع معاوية عام الجماعة، جاء إلى مسجد الكوفة، فلما رأى كثرة من استقبله من الناس جثا على ركبتيه، ثم ضرب صلعته مرارا، وقال: يا أهل العراق، أتزعمون أنى أكذب على الله وعلى رسوله، وأحرق نفسي بالنار! والله لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: (إن لكل نبي حرما، وإن حرمي بالمدينة، ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)، وأشهد بالله أن عليا أحدث فيها: فلما بلغ معاوية قوله أجازه وأكرمه وولاه إمارة المدينة. قلت: أما قوله: (ما بين عير إلى ثور (2))، فالظاهر أنه غلط من الراوي، لان ثورا بمكة وهو جبل يقال له: ثور أطحل، وفيه الغار الذي دخله النبي صلى الله عليه وآله وأبو بكر، وإنما قيل: (أطحل) لان أطحل بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ابن عدنان كان يسكنه. وقيل: اسم الجبل أطحل، فأضيف (ثور) إليه، وهو ثور بن عبد مناف، والصواب: (ما بين عير إلى أحد) (3). فأما قول أبي هريرة: (إن عليا عليه السلام أحدث في المدينة)، فحاش لله! كان علي عليه السلام أتقى لله من ذلك، والله لقد نصر عثمان نصرا لو كان المحصور جعفر بن أبي طالب لم يبذل له إلا مثله. قال أبو جعفر: وأبو هريرة مدخول عند شيوخنا غير مرضى الرواية، ضربه عمر
(1) ج: (التأفف). (2) عير: جبل بالحجاز. (3) معجم البلدان 6: 246: (وهما بالمدينة). 67 بالدرة، وقال: قد أكثرت من الرواية وأحر بك أن تكون كاذبا على رسول الله صلى الله عليه! وروى سفيان الثوري عن منصور، عن إبراهيم التيمي، قال: كانوا لا يأخذون عن أبي هريرة إلا ما كان من ذكر جنة أو نار. وروى أبو أسامة عن الأعمش، قال: كان إبراهيم صحيح الحديث، فكنت إذا سمعت الحديث أتيته فعرضته عليه، فأتيته يوما بأحاديث من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، فقال: دعني من أبي هريرة إنهم كانوا يتركون كثيرا من حديثه. وقد روى عن علي عليه السلام أنه قال: ألا إن أكذب الناس - أو قال: أكذب الاحياء - على رسول الله صلى الله عليه وآله أبو هريرة الدوسي. وروى أبو يوسف، قال: قلت لأبي حنيفة: الخبر يجئ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخالف قياسنا ما تصنع به؟ قال: إذا جاءت به الرواة الثقات عملنا به وتركنا الرأي، فقلت: ما تقول في رواية أبى بكر وعمر؟ فقال: ناهيك بهما! فقلت: على و عثمان، قال: كذلك، فلما رآني أعد الصحابة قال: والصحابة كلهم عدول ما عدا رجالا، ثم عد منهم أبا هريرة وأنس بن مالك. وروى سفيان الثوري، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عمر بن عبد الغفار، أن أبا هريرة لما قدم الكوفة مع معاوية، كان يجلس بالعشيات بباب كندة، ويجلس الناس إليه، فجاء شاب من الكوفة، فجلس إليه، فقال: يا أبا هريرة، أنشدك الله، أسمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول لعلي بن أبي طالب: (اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)! فقال: اللهم نعم، قال: فأشهد بالله، لقد واليت عدوه، وعاديت وليه! ثم قام عنه.
68 وروت الرواة أن أبا هريرة كان يؤاكل الصبيان في الطريق، ويلعب معهم، وكان يخطب وهو أمير المدينة، فيقول: الحمد لله الذي جعل الدين قياما، وأبا هريرة إماما، يضحك الناس بذلك. وكان يمشى وهو أمير المدينة في السوق، فإذا انتهى إلى رجل يمشى أمامه، ضرب برجليه الأرض، ويقول: الطريق الطريق! قد جاء الأمير! يعنى نفسه. قلت قد ذكر ابن قتيبة هذا كله في كتاب،، المعارف،، (1) في ترجمة أبي هريرة، وقوله فيه حجة لأنه غير متهم عليه. * * * قال أبو جعفر: وكان المغيرة بن شعبة يلعن عليا عليه السلام لعنا صريحا على منبر الكوفة، وكان بلغه عن علي عليه السلام في أيام عمر أنه قال: لئن رأيت المغيرة لأرجمنه بأحجاره - يعنى واقعة الزنا بالمرأة التي شهد عليه فيها أبو بكرة، ونكل زياد عن الشهادة - فكان يبغضه لذاك ولغيره من أحوال اجتمعت في نفسه. قال: وقد تظاهرت الرواية عن عروة بن الزبير أنه كان يأخذه الزمع (2) عند ذكر علي عليه السلام فيسبه ويضرب بإحدى يديه على الأخرى، ويقول: وما يغنى أنه لم يخالف إلى ما نهى عنه، وقد أراق من دماء المسلمين ما أراق! * * * قال: وقد كان في المحدثين من يبغضه عليه السلام، ويروى فيه الأحاديث المنكرة، منهم حريز بن عثمان، كان يبغضه وينتقصه، ويروى فيه أخبارا مكذوبة. وقد روى
(1) المعارف ص 121 (2) الزمع: الرعدة. 69 المحدثون أن حريزا رئي في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: كاد يغفر لي لولا بغض على. قلت: قد روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب،، السقيفة،، قال: حدثني أبو جعفر بن الجنيد، قال: حدثني إبراهيم بن الجنيد، قال حدثني محفوظ ابن المفضل بن عمر، قال: حدثني أبو البهلول يوسف بن يعقوب، قال حدثنا حمزة ابن حسان - وكان مولى لبني أمية، وكان مؤذنا عشرين سنة، وحج غير حجة، وأثنى أبو البهلول عليه خيرا - قال: حضرت حريز بن عثمان، وذكر علي بن أبي طالب، فقال: ذاك الذي أحل حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كاد يقع. قال محفوظ: قلت ليحيى بن صالح الوحاظي: قد رويت عن مشايخ من نظراء حريز، فما بالك لم تحمل عن حريز! قال: إني أتيته فناولني كتابا، فإذا فيه: حدثني فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة أوصى أن تقطع يد علي بن أبي طالب عليه السلام، فرددت الكتاب، ولم أستحل أن أكتب عنه شيئا. قال أبو بكر: وحدثني أبو جعفر، قال: حدثني إبراهيم، قال: حدثني محمد ابن عاصم، صاحب الخانات، قال: قال لنا حريز بن عثمان: أنتم يا أهل العراق تحبون علي بن أبي طالب عليه السلام ونحن نبغضه، قالوا: لم؟ قال: لأنه قتل أجدادي. قال محمد بن عاصم: وكان حريز بن عثمان نازلا علينا. * * * قال أبو جعفر رحمه الله تعالى: وكان المغيرة بن شعبة صاحب دنيا، يبيع دينه بالقليل النزر منها ويرضى معاوية بذكر علي بن أبي طالب عليه السلام، قال يوما في مجلس معاوية: إن عليا لم ينكحه رسول الله ابنته حبا، ولكنه أراد أن يكافئ، بذلك إحسان أبى طالب إليه.
70 قال: وقد صح عندنا أن المغيرة لعنه على منبر العراق مرات لا تحصى، ويروى أنه لما مات ودفنوه، أقبل رجل راكب ظليما، فوقف قريبا منه ثم قال: أمن رسم دار من مغيرة تعرف * عليها زواني الإنس والجن تعزف فإن كنت قد لاقيت فرعون بعدنا * وهامان فاعلم أن ذا العرش منصف قال: فطلبوه فغاب عنهم ولم يروا أحدا، فعلموا أنه من الجن. * * * قال: فأما مروان بن الحكم فأحقر وأقل من أن يذكر في الصحابة الذين قد غمصناهم وأوضحنا سوء رأينا فيهم، لأنه كان مجاهرا بالإلحاد هو وأبوه الحكم بن أبي العاص، وهما الطريدان اللعينان، كان أبوه عدو رسول الله صلى الله عليه وآله يحكيه في مشيه، ويغمز عليه عينه، ويدلع (1) له لسانه ويتهكم به، ويتهافت (2) عليه، هذا وهو في قبضته وتحت يده، وفي دار دعوته بالمدينة، وهو يعلم أنه قادر على قتله أي وقت شاء من ليل أو نهار، فهل يكون هذا إلا من شأني شديد البغضة، ومستحكم العداوة، حتى أفضى أمره إلى أن طرده رسول الله صلى الله عليه وآله عن المدينة، وسيره إلى الطائف! وأما مروان ابنه فأخبث عقيدة، وأعظم إلحادا وكفرا، وهو الذي خطب يوم وصل إليه رأس الحسين عليه السلام إلى المدينة، وهو يومئذ أميرها وقد حمل الرأس على يديه فقال: يا حبذا بردك في اليدين * وحمرة تجرى على الخدين * كأنما بت بمسجدين *
(1) يدلع لسانه: يخرجه. (2) التهانف: الضحك مع الاستهزاء. 71 ثم رمى بالرأس نحو قبر النبي، وقال: يا محمد، يوم بيوم بدر وهذا القول مشتق من الشعر الذي تمثل به يزيد بن معاوية وهو شعر ابن الزبعرى يوم وصل الرأس إليه. والخبر مشهور (1). قلت: هكذا قال شيخنا أبو جعفر، والصحيح أن مروان لم يكن أمير المدينة يومئذ بل كان أميرها عمرو بن سعيد بن العاص، ولم يحمل إليه الرأس، وإنما كتب إليه عبيد الله بن زياد يبشره بقتل الحسين عليه السلام، فقرأ كتابه على المنبر، وأنشد الرجز المذكور، وأومأ إلى القبر قائلا: يوم بيوم بدر، فأنكر عليه قوله قوم من الأنصار. ذكر ذلك أبو عبيدة في كتاب،، المثالب،،. قال: وروى الواقدي أن معاوية لما عاد من العراق إلى الشام بعد بيعة الحسن عليه السلام واجتماع الناس إليه خطب فقال: أيها الناس، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: (إنك ستلي الخلافة من بعدي، فاختر الأرض المقدسة، فإن فيها الابدال، وقد اخترتكم، فالعنوا أبا تراب. فلعنوه، فلما كان من الغد كتب كتابا، ثم جمعهم فقرأه عليهم، وفيه: هذا كتاب كتبه أمير المؤمنين معاوية، صاحب وحى الله الذي بعث محمدا نبيا، وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب، فاصطفى له من أهله وزيرا كاتبا أمينا، فكان الوحي ينزل على محمد وأنا أكتبه، وهو لا يعلم ما أكتب، فلم يكن بيني وبين الله أحد من خلقه. فقال له الحاضرون كلهم: صدقت يا أمير المؤمنين.
(1) ذكر أبو الفرج الأصفهاني في مقاتل الطالبين 119: (وقيل: إنه تمثل أيضا والرأس بين يديه بقول عبد الله بن الزبعرى: ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل قد قتلنا القرم من أشياخهم * وعدلناه ببدر فاعتدل والبيتان من قصيدة أنشدها يوم أحد، في الحيوان 5: 564، وسيرة ابن هشام 3: 144، وطبقات الشعراء لابن سلام 199، 200 72 قال أبو جعفر: وقد روى أن معاوية بذل لسمرة بن جندب مائة ألف درهم حتى يروى أن هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام * وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد) (1)، وأن الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى: (ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله) (2)، فلم يقبل، فبذل له مائتي ألف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف فقبل، وروى ذلك. قال: وقد صح أن بنى أمية منعوا من إظهار فضائل علي عليه السلام، وعاقبوا [على] ذلك الراوي له، حتى إن الرجل إذا روى عنه حديثا لا يتعلق بفضله بل بشرائع الدين لا يتجاسر على ذكر اسمه، فيقول: عن أبي زينب. وروى عطاء، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: وددت أن أترك فأحدث بفضائل علي بن أبي طالب عليه السلام يوما إلى الليل، وأن عنقي هذه ضربت بالسيف. قال: فالأحاديث الواردة في فضله لو لم تكن في الشهرة والاستفاضة وكثرة النقل إلى غاية بعيدة، لا نقطع نقلها للخوف والتقية من بنى مروان مع طول المدة، وشدة العداوة، ولولا أن لله تعالى في هذا الرجل سرا يعلمه من يعلمه لم يرو في فضله حديث، ولا عرفت له منقبة، ألا ترى أن رئيس قرية لو سخط على واحد من أهلها، ومنع الناس أن يذكروه بخير وصلاح لخمل ذكره، ونسي اسمه، وصار وهو موجود معدوما، وهو حي ميتا! هذه خلاصة ما ذكره شيخنا أبو جعفر رحمه الله تعالى في هذا المعنى في كتاب التفضيل. * * *
(1) سورة البقرة 204، 205 (2) سورة البقرة 207 73 [فصل في ذكر المنحرفين عن علي] وذكر جماعة من شيوخنا البغداديين أن عدة من الصحابة والتابعين والمحدثين كانوا منحرفين عن علي عليه السلام، قائلين فيه السوء، ومنهم من كتم مناقبه وأعان أعداءه ميلا مع الدنيا، وإيثارا للعاجلة، فمنهم أنس بن مالك، ناشد علي عليه السلام الناس في رحبة القصر - أو قال رحبة الجامع بالكوفة -: أيكم سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كنت مولاه فعلى مولاه)؟ فقام اثنا عشر رجلا فشهدوا بها، وأنس بن مالك في القوم لم يقم، فقال له: يا أنس، ما يمنعك أن تقوم فتشهد، ولقد حضرتها! فقال: يا أمير المؤمنين، كبرت ونسيت، فقال: اللهم إن كان كاذبا فارمه بها بيضاء لا تواريها العمامة قال طلحة بن عمير: فوالله لقد رأيت الوضح به بعد ذلك أبيض بين عينيه. وروى عثمان بن مطرف أن رجلا سأل أنس بن مالك في آخر عمره عن علي بن أبي طالب، فقال: إني آليت ألا أكتم حديثا سئلت عنه في علي بعد يوم الرحبة، ذاك رأس المتقين يوم القيامة، سمعته والله من نبيكم. * * * وروى أبو إسرائيل عن الحكم عن أبي سليمان المؤذن، أن عليا عليه السلام نشد الناس من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: (من كنت مولاه فعلى مولاه)، فشهد له قوم وأمسك زيد بن أرقم، فلم يشهد - وكان يعلمها - فدعا علي عليه السلام عليه بذهاب البصر فعمى، فكان يحدث الناس بالحديث بعد ما كف بصره. * * * قالوا: وكان الأشعث بن قيس الكندي وجرير بن عبد الله البجلي يبغضانه، وهدم علي عليه السلام دار جرير بن عبد الله. قال إسماعيل بن جرير: هدم على دارنا مرتين.
74 وروى الحارث بن حصين، أن رسول الله صلى الله عليه وآله دفع إلى جرير بن عبد الله نعلين نعاله، وقال: احتفظ بهما، فإن ذهابهما ذهاب دينك، فلما كان يوم الجمل ذهبت إحداهما، فلما أرسله علي عليه السلام إلى معاوية ذهبت الأخرى، ثم فارق عليا واعتزل الحرب. * * * وروى أهل السيرة أن الأشعث خطب إلى علي عليه السلام ابنته، فزبره، وقال: يا بن الحائك، أغرك ابن أبي قحافة! وروى أبو بكر الهذلي عن الزهري، عن عبيد الله بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف، قال: قام الأشعث إلى علي عليه السلام، فقال: إن الناس يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله عهد إليك عهدا لم يعهده إلى غيرك، فقال: إنه عهد إلى ما في قراب سيفي، لم يعهد إلى غير ذلك. فقال الأشعث: هذه إن قلتها فهي عليك لا لك، دعها ترحل عنك، فقال له: وما علمك بما على مما لي! منافق ابن كافر، حائك ابن حائك! إني لأجد منك بنه (1) الغزل. ثم التفت إلى عبيد الله بن عدي بن الخيار، فقال: يا عبيد الله، إنك لتسمع خلافا وترى عجبا، ثم أنشد (2): أصبحت هزءا لراعي الضأن أتبعه (3) * ماذا يريبك منى راعى الضان! وقد ذكرنا في بعض الروايات المتقدمات أن سبب قوله: (هذه عليك لا لك)، أمر آخر، والروايات تختلف. وروى يحيى بن عيسى الرملي، عن الأعمش: أن جريرا والأشعث خرجا إلى جبان (4) الكوفة، فمر بهما ضب يعدو، وهما في ذم علي عليه السلام، فنادياه: يا أبا حسل، هلم
(1) البنة: الرائحة، وأهل اليمن معروفون بالغزل والحياكة. (2) البيت لكلاب بن أمية بن الاسكر، من أبيات له في ذيل الأمالي 180 (3) ج: (أصبحت فردا). (4) الجبان في الأصل: الصحراء، وأهل الكوفة يسمعون المقبرة جبانة، وفي، ا: (إلى الجبال). انظر مراصد الاطلاع. 75 يدك نبايعك بالخلافة، فبلغ عليا عليه السلام قولهما، فقال: أما إنهما يحشران يوم القيامة وإمامهما ضب. * * * وكان أبو مسعود الأنصاري منحرفا عنه عليه السلام، روى شريك، عن عثمان ابن أبي زرعة، عن زيد بن وهب، قال: تذاكرنا القيام إذا مرت الجنازة عند علي عليه السلام، فقال أبو مسعود الأنصاري: قد كنا نقوم، فقال علي عليه السلام: ذاك وأنتم يومئذ يهود. وروى شعبة، عن عبيد بن الحسن، عن عبد الرحمن بن معقل، قال: حضرت عليا عليه السلام، وقد سأله رجل عن امرأة توفى عنها زوجها وهي حامل، فقال: تتربص أبعد الأجلين، فقال رجل: فإن أبا مسعود يقول: وضعها انقضاء عدتها، فقال علي عليه السلام: إن فروجا لا يعلم، فبلغ قوله أبا مسعود، فقال: بلى، والله إني لأعلم أن الاخر شر. * * * وروى المنهال، عن نعيم بن دجاجة، قال: كنت جالسا عند علي عليه السلام، إذ جاء أبو مسعود، فقال علي عليه السلام: جاءكم فروج، فجاء فجلس، فقال له علي عليه السلام: بلغني أنك تفتى الناس، قال: نعم، وأخبرهم أن الاخر شر، قال: فهل سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا؟ قال: نعم، سمعته يقول: (لا يأتي على الناس سنة مائة وعلى الأرض عين تطرف)، قال: أخطأت استك الحفرة، وغلطت في أول ظنك، إنما عنى من حضره يومئذ، وهل الرخاء إلا بعد المائة! * * *
76 وروى جماعة من أهل السير أن عليا عليه السلام كان يقول عن كعب الأحبار: إنه لكذاب، وكان كعب منحرفا عن علي عليه السلام. وكان النعمان بن بشير الأنصاري منحرفا عنه، وعدوا له، وخاض الدماء مع معاوية خوضا، وكان من أمراء يزيد ابنه حتى قتل وهو على حاله. وقد روى أن عمران بن الحصين كان من المنحرفين عنه عليه السلام، وأن عليا سيره إلى المدائن، وذلك أنه كان يقول: إن مات على فلا أدرى ما موته، وإن قتل فعسى أنى إن قتل رجوت له. ومن الناس من يجعل عمران في الشيعة. * * * وكان سمرة بن جندب من شرطة زياد، روى عبد الملك بن حكيم عن الحسن، قال: جاء رجل من أهل خراسان إلى البصرة، فترك مالا كان معه في بيت المال، وأخذ براءة، ثم دخل المسجد فصلى ركعتين، فأخذه سمرة بن جندب، واتهمه برأي الخوارج، فقدمه فضرب عنقه، وهو يومئذ على شرطة زياد، فنظروا فيما معه فإذا البراءة بخط بيت المال، فقال أبو بكرة (1): يا سمرة، أما سمعت الله تعالى يقول: (قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى) (2)! فقال: أخوك (3) أمرني بذلك. وروى الأعمش، عن أبي صالح، قال: قيل لنا: قد قدم رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتيناه فإذا هو سمرة بن جندب، وإذا عند إحدى رجليه خمر، وعند الأخرى ثلج، فقلنا: ما هذا؟ قالوا: به النقرس، وإذا قوم قد أتوه، فقالوا يا سمرة،
(1) هو أبو بكرة الثقفي، واسمه نفيع بن مسروح (2) سورة الأعلى 14، 15. (3) يريد زياد بن أبيه، وكان أخا أبى بكر لامه سمية. 77 ما تقول لربك غدا؟ تؤتى بالرجل فيقال لك: هو من الخوارج فتأمر بقتله، ثم تؤتى بأخر فيقال لك: ليس الذي قتلته بخارجي، ذاك فتى وجدناه ماضيا في حاجته، فشبه علينا، وإنما الخارجي هذا، فتأمر بقتل الثاني! فقال سمرة: وأي بأس في ذلك! إن كان من أهل الجنة مضى إلى الجنة، وإن كان من أهل النار مضى إلى النار! * * * وروى واصل مولى أبى عيينة، عن جعفر بن محمد بن علي عليه السلام عن آبائه، قال: كان لسمرة بن جندب نخل في بستان رجل من الأنصار، فكان يؤذيه، فشكا الأنصاري ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، فبعث إلى سمرة، فدعاه فقال له: بع نخلك من هذا، وخذ ثمنه، قال: لا أفعل، قال: فخذ نخلا مكان نخلك، قال: لا أفعل، قال: فاشتر منه بستانه، قال: لا أفعل، قال: فاترك لي هذا النخل ولك الجنة، قال: لا أفعل، فقال صلى الله عليه وسلم للأنصاري: (اذهب فاقطع نخله، فإنه لا حق له فيه). * * * وروى شريك قال: أخبرنا عبد الله بن سعد عن حجر بن عدي، قال: قدمت المدينة فجلست إلى أبي هريرة، فقال: ممن أنت؟ قلت: من أهل البصرة، قال: ما فعل سمرة ابن جندب؟ قلت: هو حي، قال: ما أحد أحب إلى طول حياة منه. قلت: ولم ذاك؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي وله ولحذيفة بن اليمان: (آخركم موتا في النار)، فسبقنا حذيفة، وأنا الان أتمنى أن أسبقه، قال: فبقي سمرة بن جندب حتى شهد مقتل الحسين. وروى أحمد بن بشير عن مسعر بن كدام، قال: كان سمرة بن جندب أيام مسير
78 الحسين عليه السلام إلى الكوفة على شرطة عبيد الله بن زياد، وكان يحرض الناس على الخروج إلى الحسين عليه السلام وقتاله. * * * ومن المنحرفين عنه، المبغضين له عبد الله بن الزبير، وقد ذكرناه آنفا، كان علي عليه السلام يقول: ما زال الزبير منا أهل البيت حتى نشأ ابنه عبد الله، فأفسده. وعبد الله هو الذي حمل الزبير على الحرب، وهو الذي زين لعائشة مسيرها إلى البصرة، وكان سبابا فاحشا، يبغض بني هاشم، ويلعن يسب علي بن أبي طالب عليه السلام. وكان علي عليه السلام يقنت في صلاة الفجر وفي صلاة المغرب، ويلعن معاوية، وعمرا، والمغيرة، والوليد بن عقبة، وأبا الأعور، والضحاك بن قيس، وبسر بن أرطاة، وحبيب بن مسلمة، وأبا موسى الأشعري، ومروان بن الحكم، وكان هؤلاء يقنتون (1) عليه ويلعنونه. * * * وروى شيخنا أبو عبد الله البصري المتكلم رحمه الله تعالى، عن نصر بن عاصم الليثي، عن أبيه، قال: أتيت مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله، والناس يقولون: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله! فقلت: ما هذا؟ قالوا: معاوية قام الساعة، فأخذ بيد أبي سفيان ، فخرجا من المسجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: (لعن الله التابع والمتبوع، رب يوم لامتي من معاوية ذي الإستاه)، قالوا: يعنى الكبير العجز. وقال: روى العلاء بن حريز القشيري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاوية: (لتتخذن يا معاوية البدعة سنة، والقبح حسنا، أكلك كثير، وظلمك عظيم). قال: وروى الحارث بن حصيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، قال: قال
(1) يقنتون عليه، يدعون عليه. 79 علي عليه السلام: نحن وآل أبي سفيان قوم تعادوا في الامر، والامر يعود كما بدا. قلت: وقد ذكرنا نحن في تلخيص نقض،، السفيانية،، ما فيه كفاية في هذا الباب. * * * وروى صاحب كتاب الغارات عن أبي صادق، عن جندب بن عبد الله، قال: ذكر المغيرة بن شعبة عند علي عليه السلام وجده مع معاوية، قال: وما المغيرة! إنما كان إسلامه لفجرة وغدرة غدرها بنفر من قومه فتك بهم، وركبها منهم، فهرب منهم، فأتى النبي صلى الله عليه وآله كالعائذ بالاسلام، والله ما رأى أحد عليه منذ ادعى الاسلام خضوعا ولا خشوعا، ألا وإنه يكون (1) من ثقيف فراعنة قبل يوم القيامة يجانبون الحق، ويسعرون نيران الحرب ويوازرون الظالمين، ألا إن ثقيفا قوم غدر، لا يوفون بعهد، يبغضون العرب كأنهم ليسوا منهم، ولرب صالح قد كان منهم. فمنهم عروة بن مسعود وأبو عبيد بن مسعود المستشهد يوم قس الناطف. وإن الصالح في ثقيف لغريب. * * * قال شيخنا أبو القاسم البلخي: من المعلوم الذي لا ريب فيه لاشتهار الخبر به، وإطباق الناس عليه، أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط كان يبغض عليا ويشتمه، وأنه هو الذي لاحاه في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله ونابذه، وقال له: أنا أثبت منك جنانا، وأحد سنانا، فقال له علي عليه السلام: اسكت يا فاسق، فأنزل الله تعالى فيهما: (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون...) (2) الآيات المتلوة، وسمى الوليد بحسب ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله الفاسق، فكان لا يعرف إلا بالوليد الفاسق.
(1) ب: (كائن من ثقيف). (2) سورة السجدة 18. 80 وهذه الآية من الآيات التي نزل فيها القرآن بموافقة علي عليه السلام، كما نزل في مواضع بموافقة عمر، وسماه الله تعالى فاسقا في آية أخرى، وهو قوله تعالى: (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) (1)، وسبب نزولها مشهور، وهو كذبه على بنى المصطلق، وادعاؤه أنهم منعوا الزكاة وشهروا السيف، حتى أمر النبي صلى الله عليه وآله بالتجهز (2) للمسير إليهم، فأنزل الله تعالى في تكذيبه وبراءة ساحة القوم هذه الآية (3). وكان الوليد مذموما معيبا عند رسول الله صلى الله عليه وآله يشنؤه ويعرض عنه، وكان الوليد يبغض رسول الله صلى الله عليه وآله أيضا ويشنؤه، وأبوه عقبة بن أبي معيط هو العدو الأزرق بمكة، والذي كان يؤذى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهله، وأخباره في ذلك مشهورة، فلما ظفر به يوم بدر ضرب عنقه. وورث ابنه الوليد الشنآن والبغضة (4) لمحمد وأهله فلم يزل عليهما إلى أن مات. قال الشيخ أبو القاسم: وهو أحد الصبية الذين قال أبو عقبة فيهم، وقد قدم ليضرب عنقه: من للصبية يا محمد؟ فقال: (النار، اضربوا عنقه). قال: وللوليد شعر يقصد فيه الرد على رسول الله صلى الله عليه وآله حيث قال: (إن تولوها عليا، تجدوه هاديا مهديا). قال: وذلك أن عليا عليه السلام لما قتل قصد بنوه أن يخفوا قبره خوفا من بنى أمية أن يحدثوا في قبره حدثا، فأوهموا الناس في موضع قبره تلك الليلة - وهي ليلة دفنه - إيهامات مختلفة، فشدوا على جمل تابوتا موثقا بالحبال، يفوح منه روائح الكافور، وأخرجوه من الكوفة في سواد الليل صحبة ثقاتهم، يوهمون أنهم يحملونه إلى المدينة فيدفنونه عند فاطمة عليها السلام، وأخرجوا بغلا وعليه جنازة (5) مغطاة،
(1) سورة الحجرات 6 (2) ج: (التجهيز). (3) أسباب النزول 291، 292. (4) البغضة: شدة البغض. (5) الجنازة، بالكسر وبفتح: الميت. 81 يوهمون أنهم يدفنونه بالحيرة، وحفروا حفائر عدة، منها بالمسجد، ومنها برحبة القصر، قصر الامارة، ومنها في حجرة من دور آل جعدة بن هبيرة المخزومي، ومنها في أصل دار عبد الله ابن يزيد القسري بحذاء باب الوراقين مما يلي قبلة المسجد، ومنها في الكناسة، ومنها في الثوية، فعمى على الناس موضع قبره، ولم يعلم دفنه على الحقيقة إلا بنوه والخواص المخلصون من أصحابه، فإنهم خرجوا به عليه السلام وقت السحر في (1) الليلة الحادية والعشرين من شهر رمضان، فدفنوه على النجف، بالموضع المعروف بالغري، بوصاة منه عليه السلام إليهم في ذلك، وعهد كان عهد به إليهم، وعمى موضع قبره على الناس، واختلفت الأراجيف في صبيحة ذلك اليوم اختلافا شديدا، وافترقت الأقوال في موضع قبره الشريف وتشعبت، وادعى قوم أن جماعة من طيئ وقعوا على جمل في تلك الليلة، وقد أضله أصحابه ببلادهم، وعليه صندوق، فظنوا فيه مالا، فلما رأوا ما فيه خافوا أن يطلبوا به، فدفنوا الصندوق بما فيه، ونحروا البعير وأكلوه، وشاع ذلك في بنى أمية وشيعتهم، واعتقدوه حقا، فقال الوليد بن عقبة من أبيات يذكره عليه السلام فيها: فإن يك قد ضل البعير بحمله * فما كان مهديا ولا كان هاديا وروى الشيخ أبو القاسم البلخي أيضا، عن جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة الضبي، قال: مر ناس بالحسن بن علي عليه السلام، وهم يريدون عيادة الوليد بن عقبة، وهو في علة له شديدة، فأتاه الحسن عليه السلام معهم عائدا، فقال للحسن: أتوب إلى الله تعالى مما كان بيني وبين جميع الناس، إلا ما كان بيني وبين أبيك، فإني لا أتوب منه. قال شيخنا أبو القاسم البلخي: وأكد بغضه له ضربه إياه الحد في ولاية عثمان، وعزله عن الكوفة.
(1) ج: (من الليلة). 82 وقد اتفقت الأخبار الصحيحة التي لا ريب فيها عند المحدثين، على أن النبي صلى الله عليه وآله قال: (لا يبغضك إلا منافق، ولا يحبك إلا مؤمن). قال: وروى حبة العرني، عن علي عليه السلام أنه قال: إن الله عز وجل أخذ ميثاق كل مؤمن على حبى وميثاق كل منافق على بغضي، فلو ضربت وجه المؤمن بالسيف ما أبغضني، ولو صببت الدنيا على المنافق ما أحبني. وروى عبد الكريم بن هلال، عن أسلم المكي، عن أبي الطفيل، قال: سمعت عليا عليه السلام، وهو يقول ل: وضربت خياشيم المؤمن بالسيف ما أبغضني ولو نثرت (1) على المنافق ذهبا وفضة ما أحبني، إن الله أخذ ميثاق المؤمنين بحبي، وميثاق المنافقين ببغضي، فلا يبغضني مؤمن، ولا يحبني منافق أبدا. قال الشيخ أبو القاسم البلخي: وقد روى كثير من أرباب الحديث عن جماعة من الصحابة، قالوا: ما كنا نعرف المنافقين على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إلا ببغض علي بن أبي طالب. * * * ذكر إبراهيم بن هلال صاحب كتاب،، الغارات،، فيمن فارق عليا عليه السلام والتحق بمعاوية يزيد بن حجية التيمي، من بنى تيم بن ثعلبة بن بكر بن وائل، وكان عليه السلام قد استعمله على الري ودستبنى (2)، فكسر الخوارج، واحتجن المال لنفسه، فحبسه علي عليه السلام، وجعل معه سعدا مولاه، فقرب يزيد ركائبه، وسعد نائم، فالتحق بمعاوية وقال:
(1) ج: (صببت). (2) دستبنى، بالفتح، ثم السكون وفتح التاء: كورة كانت مشتركة بين الري وهمذان. 83 خادعت سعدا وارتمت بي ركائبي * إلى الشام واخترت الذي هو أفضل وغادرت سعدا نائما في عباءة (1) * وسعد غلام مستهام مضلل ثم خرج حتى أتى الرقة، وكذلك كان يصنع من يفارق عليا عليه السلام، يبدأ بالرقة حتى يستأذن معاوية في القدوم عليه، وكانت الرقة والرها وقرقيسيا (2) وحران من حيز معاوية، وعليها (3) الضحاك بن قيس، وكانت هيت وعانات ونصيبين ودارا وآمد وسنجار من حيز علي عليه السلام، وعليها الأشتر، وكانا يقتتلان في كل شهر. وقال يزيد بن حجية وهو بالرقة يهجو عليا عليه السلام: يا طول ليلى بالرقات لم أنم * من غير عشق صبت نفسي ولا سقم لكن لذكر أمور جمة طرقت * أخشى على الأصل منها زلة القدم أخشى عليا عليهم أن يكون لهم * مثل العقور الذي عفى على إرم وبعد ذلك ما لا نذكره. قال إبراهيم بن هلال: وقد كان زياد بن خصفة التيمي، قال لعلي عليه السلام يوم هرب يزيد بن حجية: ابعثني يا أمير المؤمنين في أثره أرده إليك، فبلغ قوله يزيد بن حجية، فقال في ذلك: أبلغ زيادا أنني قد كفيته * أموري وخليت الذي هو عاتبه وباب شديد موثق قد فتحته * عليك، وقد أعيت عليك مذاهبه هبلت أما ترجو غنائي ومشهدي * إذ الخصم لم يوجد له من يجاذبه! (3)
(1) كذا في ج، وفي ا، ب (غيابة). (2) قرقيسياء: بلد على الحابور عند مصبه. (3) في الأصول: (عليهم). (3) يجاذبه، أي يحوله عن طريقه. 84 فأقسم لولا أن أمك أمنا * وأنك مولى ما طفقت أعاتبه وأقسم لو أدركتني ما رددتني * كلانا قد اصطفت إليه جلائبه قال ابن هلال: وكتب إلى العراق شعرا يذم فيه عليا عليه السلام، ويخبره أنه من أعدائه، فدعا عليه وقال لأصحابه عقيب الصلاة: ارفعوا أيديكم فادعوا عليه، فدعا عليه وأمن أصحابه. قال أبو الصلت التيمي: كان دعاؤه عليه: اللهم إن يزيد بن حجية هرب بمال المسلمين ولحق بالقوم الفاسقين، فاكفنا مكره وكيده واجزه جزاء الظالمين. قال: ورفع القوم أيديهم يؤمنون، وكان في المسجد عفاق بن شرحبيل بن أبي رهم التيمي شيخا كبيرا، وكان يعد ممن شهد على حجر بن عدي حتى قتله معاوية، فقال عفاق: على من يدعو القوم؟ قالوا: على يزيد بن حجية، فقال: تربت أيديكم! أعلى أشرافنا تدعون! فقاموا إليه فضربوه حتى كاد يهلك. وقام زياد بن خصفة - وكان من شيعة علي عليه السلام - فقال: دعوا لي ابن عمى، فقال علي عليه السلام: دعوا للرجل ابن عمه، فتركه الناس، فأخذ زياد بيده فأخرجه من المسجد، وجعل يمشى معه يمسح التراب عن وجهه، وعفاق يقول: والله لا أحبكم ما سعيت ومشيت، والله لا أحبكم ما اختلفت الدرة والجرة، وزياد يقول: ذلك أضر لك، ذلك شر لك. وقال زياد بن خصفة يذكر ضرب الناس عفاقا: دعوت عفاقا للهدى فاستغشني * وولى فريا قوله وهو مغضب ولولا دفاعي عن عفاق ومشهدي * هوت بعفاق - عوض - عنقاء مغرب (1)
(1) عوض، معناه أبدا. وعنقاء مغرب، قال في اللسان: (العنقاء المغرب: كلمة لا أصل لها، ويقال إنها طائر عظيم لا ترى إلا في الدهور، ثم كثر ذلك حتى سموا الداهية عنقاء مغربا ومغربة). 85 أنبئه أن الهدى في اتباعنا * فيأبى، ويضريه المراء فيشغب (1) فإن لا يشايعنا عفاق فإننا (2) * على الحق ما غنى الحمام المطرب سيغني الاله عن عفاق وسعيه * إذا بعثت للناس جأواء تحرب (3) قبائل من حيى معد ومثلها * يمانية لا تنثني حين تندب (4) لهم عدد مثل التراب وطاعة * تود، وبأس في الوغى لا يؤنب فقال له عفاق: لو كنت شاعرا لأجبتك، ولكني أخبركم عن ثلاث خصال كن منكم، والله ما أرى أن تصيبوا بعدهن شيئا مما يسركم. أما واحدة فإنكم سرتم إلى أهل الشام حتى إذا دخلتم عليهم بلادهم قاتلتموهم، فلما ظن القوم أنكم لهم قاهرون رفعوا المصاحف، فسخروا بكم فردوكم عنهم، فلا والله لا تدخلونها بمثل ذلك الجد والحد والعدد الذي دخلتم به أبدا. وأما الثانية، فإنكم بعثتم حكما وبعث القوم حكما، فأما حكمكم فخلعكم، وأما حكمهم فأثبتهم، فرجع صاحبهم يدعى أمير المؤمنين، ورجعتم متلاعنين متباغضين، فوالله لا يزال القوم في علاء، ولا تزالون في سفال. وأما الثالثة، فإنه (5) خالفكم قراؤكم وفرسانكم فعدوتم عليهم فذبحتموهم بأيديكم، فوالله لا تزالون بعدها متضعضعين (6). قال: وكان يمر عليهم بعد، فيقول: اللهم إني منهم برئ، ولابن عفان ولى! فيقولون: اللهم إنا لعلى أولياء، ومن ابن عفان برآء، ومنك يا عفاق!
(1) الشغب: الشر. (2) ج: (يتابعنا). (3) كتيبة جأواء: هي التي يعلوها لون السواد لكثرة الدروع. (4) تندب: تدعى فتخف للدعوى. (5) ج: (فإنكم). (6) تضعضع: خضع وذل. 86 قال: فأخذ لا يقلع، فدعوا رجلا منهم له سجاعة كسجاعة الكهان، فقالوا: ويحك! أما تكفينا بسجعك وخطبك هذا! فقال: كفيتكم، فمر عفاق عليهم، فقال كما كان يقول، فلم يمهله أن قال: له اللهم اقتل عفاقا، فإنه أسر نفاقا، وأظهر شقاقا، وبين فراقا، وتلون أخلاقا. فقال عفاق: ويحكم! من سلط على هذا؟ قال: الله بعثني إليك، وسلطني عليك لأقطع لسانك، وأنصل سنامك (1)، وأطرد شيطانك. قال: فلم يك يمر عليهم بعد، إنما يمر على مزينة. * * * وممن فارقه عليه السلام عبد الله بن عبد الرحمن بن مسعود بن أوس بن إدريس بن معتب الثقفي، شهد مع علي عليه السلام صفين، وكان في أول أمره مع معاوية، ثم صار إلى علي عليه السلام، ثم رجع بعد إلى معاوية، وكان علي عليه السلام يسميه الهجنع، والهجنع: الطويل. * * * ومنهم القعقاع بن شور، استعمله علي عليه السلام على كسكر، فنقم منه أمورا، منها أنه تزوج امرأة فأصدقها مائة ألف درهم، فهرب إلى معاوية. * * * ومنهم النجاشي الشاعر من بنى الحارث بن كعب، كان شاعر أهل العراق بصفين، وكان علي عليه السلام يأمره بمحاربة شعراء أهل الشام، مثل كعب بن جعيل وغيره، فشرب الخمر بالكوفة، فحده علي عليه السلام، فغضب ولحق بمعاوية، وهجا عليا عليه السلام.
(1) أنصل السنان: جعل له سنا: ونزعه عنه: من الأضداد. 87 حدث ابن الكلبي عن عوانة، قال: (1) خرج النجاشي في أول يوم من شهر رمضان، فمر بأبي سمال الأسدي، وهو قاعد بفناء داره، فقال له: أين تريد؟ قال: أردت الكناسة، فقال: هل لك في رؤوس وأليات قد وضعت في التنور من أول الليل، فأصبحت قد أينعت وقد تهرأت؟ قال: ويحك! في أول يوم من رمضان! قال: دعنا مما لا نعرف، قال: ثم مه، قال: أسقيك من شراب كالورس، يطيب النفس، ويجرى في العرق، ويزيد في الطرق، يهضم الطعام، ويسهل للفدم (2) الكلام، فنزل، فتغديا، ثم أتاه بنبيذ فشرباه، فلما كان آخر النهار علت أصواتهما، ولهما جار من شيعة علي عليه السلام، فأتاه فأخبره بقصتهما، فأرسل إليهما قوما فأحاطوا بالدار، فأما أبو سمال فوثب إلى دور بنى أسد فأفلت، وأخذ النجاشي فأتى عليه السلام به، فلما أصبح أقامه في سراويل، فضربه ثمانين، ثم زاده عشرين سوطا، فقال: يا أمير المؤمنين، أما الحد فقد عرفته، فما هذه العلاوة (3)؟ قال: لجرأتك على الله، وإفطارك في شهر رمضان. ثم أقامه في سراويله للناس، فجعل الصبيان يصيحون به: خرى النجاشي، خرى النجاشي! وجعل يقول: كلا إنها يمانية وكاؤها شعر. قال: ومر به هند بن عاصم السلولي، فطرح عليه مطرفا، فجعل الناس يمرون به ويطرحون عليه المطارف، حتى اجتمعت عليه مطارف كثيرة، فمدح بنى سلول فقال: إذا الله حيا صالحا من عباده * تقيا فحيا الله هند بن عاصم وكل سلولي إذا ما دعوته * سريع إلى داعي العلا والمكارم هم البيض أقداما وديباج أوجه * جلوها إذا اسودت وجوه الملائم ولا يأكل الكلب السروق نعالهم * ولا يبتغى المخ الذي في الجماجم
(1) الخبر في الشعر والشعراء 289 والخزانة 4: 368 (2) الفدم: الغبي. (3) العلاوة، بالكسر: كل ما زاد عن الشئ 88 ثم لحق معاوية، وهجا عليا عليه السلام، فقال: ألا من مبلغ عنى عليا * بأني قد أمنت فلا أخاف عمدت لمستقر الحق لما * رأيت أموركم فيها اختلاف وروى عبد الملك بن قريب الأصمعي، عن ابن أبي الزناد، قال: دخل النجاشي على معاوية، وقد أذن للناس عامة، فقال لحاجبه: ادع النجاشي، والنجاشي، بين يديه، ولكن اقتحمته عينه، فقال: هأنذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين، إن الرجال ليست بأجسامها، إنما لك من الرجل أصغراه: قلبه ولسانه، قال: ويحك! أنت القائل (1): ونجى ابن حرب سابح ذو علالة * أجش هزيم والرماح دواني (2) إذا قلت أطراف الرماح تنوشه * مرته به الساقان والقدمان (3) ثم ضرب بيده إلى ثديه (4)، فقال: ويحك! إن مثلي لا تعدو به الخيل، فقال: يا أمير المؤمنين، إني لم أعنك، إنما عنيت عتبة. وروى صاحب كتاب،، الغارات،، أن عليا عليه السلام لما حد النجاشي غضبت اليمانية لذلك، وكان أخصهم به طارق بن عبد الله بن كعب النهدي، فدخل عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة، وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل ومعادن الفضل سيان في الجزاء، حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث،
(1) البيتان في الأغاني 13: 260 (طبعة الدار)، والأول مع الخبر في الشعر والشعراء 219 (2) السايح: الفرس السريع كأنه يسبح بيديه والعلالة هنا بقية جرى الفرس. والأجش الغليظ الصوت في صهيله، وهو مما يحمد في الخيل. والهزيم: الفرس الشديد الصوت. (3) مرته: استدرت جريه. (4) في الشعر والشعراء: (ثندوتيه)، والثندوة: اللحم الذي حول الثدي. 89 فأوغرت صدورنا، وشتت أمورنا، وحملتنا على الجادة (1) التي كنا نرى أن سبيل مركبها النار. فقال علي عليه السلام: (وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين) (2)، يا أخا نهد، وهل هو إلا رجل من المسلمين انتهك حرمة من حرم الله، فأقمنا عليه حدا كان كفارته! إن الله تعالى يقول: (ولا يجرمنكم شنان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (3) قال: فخرج طارق من عنده، فلقيه الأشتر، فقال: يا طارق، أنت القائل لأمير المؤمنين: (أوغرت صدورنا، وشتت أمورنا)؟ قال طارق: نعم، أنا قائلها قال: والله ما ذاك كما قلت، إن صدورنا له لسامعة، وإن أمورنا له لجامعة. فغضب طارق وقال: ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت، فلما جنه الليل همس (4) هو والنجاشي إلى معاوية، فلما قدما عليه، دخل آذنه فأخبره بقدومهما، وعنده وجوه أهل الشام، منهم عمرو بن مرة الجهني وعمرو بن صيفي وغيرهما، فلما دخلا نظر إلى طارق، وقال: مرحبا بالمورق غصنه، والمعرق أصله، المسود غير المسود، من رجل كانت منه هفوة ونبوة، باتباعه صاحب الفتنة، ورأس الضلالة والشبهة، الذي اغترز في ركاب الفتنة حتى استوى على رجلها، ثم أوجف في عشوة ظلمتها وتيه ضلالتها، واتبعه رجرجة (5) من الناس، وأشابة (6) من الحثالة لا أفئدة لهم: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (7). فقام طارق، فقال: يا معاوية إني متكلم فلا يسخطك، ثم قال: وهو متكئ على سيفه: إن المحمود على كل حال رب علا فوق عباده، فهم منه بمنظر ومسمع، بعث فيهم
(1) الجادة: معظم الطريق، وأوسطه. (2) سورة البقرة 45. (3) سورة المائدة 8. (4) الهمس: السير بالليل (5) الرجرجة: الجماعة الكثيرة من الناس (6) الأشابة: أخلاط الناس (7) سورة محمد 24 90 رسولا منهم، يتلو كتابا لم يكن من قبله ولا يخطه بيمينه، إذا لارتاب المبطلون، فعليه السلام من رسول كان بالمؤمنين برا رحيما! أما بعد، فإن ما كنا نوضع فيما أوضعنا فيه بين يدي إمام تقى عادل، مع رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، أتقياء مرشدين، ما زالوا منارا للهدى، ومعالم للدين، خلفا عن سلف مهتدين، أهل دين لا دنيا، كل الخير فيهم، واتبعهم من الناس ملوك وأقيال، وأهل بيوتات وشرف، ليسوا بناكثين ولا قاسطين، فلم يكن رغبة من رغب عنهم وعن صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث جرعوها، ولو عورته حيث سلكوها، وغلبت عليهم دنيا مؤثرة، وهو متبع، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وقد فارق الاسلام قبلنا جبلة بن الأيهم فرارا من الضيم، وأنفا (1) من الذلة، فلا تفخرن يا معاوية، إن شددنا نحوك الرحال، وأوضعنا إليك الركاب. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولجميع المسلمين. فعظم على معاوية ما سمعه وغضب، لكنه أمسك (2)، وقال: يا عبد الله، إنا لم نرد بما قلناه أن نوردك مشرع ظمأ، ولا أن نصدرك عن مكرع ري، ولكن القول قد يجرى بصاحبه إلى غير ما ينطوي عليه من الفعل، ثم أجلسه معه على سريره، ودعا له بمقطعات وبرود فصبها عليه، وأقبل نحوه بوجهه يحدثه حتى قام. وقام معه عمرو بن مرة وعمرو بن صيفي الجهنيان، فأقبلا عليه بأشد العتاب وأمضه، يلومانه في خطبته، وما واجه به معاوية. فقال طارق: والله ما قمت بما سمعتماه حتى خيل لي أن بطن الأرض خير لي من ظهرها عند سماعي ما أظهر من العيب والنقص لمن هو خير منه في الدنيا والآخرة، وما زهت به نفسه، وملكه عجبه، وعاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله واستنقصهم، فقمت مقاما أوجب الله على فيه ألا أقول إلا حقا، وأي خير فيمن لا ينظر ما يصير إليه غدا!
(1) ج: (وأنفة من المذلة). (2) ج: (تماسك). 91 فبلغ عليا عليه السلام قوله، فقال: لو قتل النهدي يومئذ لقتل شهيدا. وقال معاوية للهيثم بن الأسود أبى العريان - وكان عثمانيا، وكانت امرأته علوية الرأي، تكتب بأخبار معاوية في أعنة الخيل وتدفعها إلى عسكر علي عليه السلام بصفين فيدفعونها إليه - فقال معاوية بعد التحكيم: يا هيثم، أهل العراق كانوا أنصح لعلى في صفين أم أهل الشام لي؟ فقال: أهل العراق قبل أن يضربوا بالبلاء كانوا أنصح لصاحبهم، قال: كيف قلت ذلك؟ قال: لان القوم ناصحوه على الدين، وناصحك أهل الشام على الدنيا، وأهل الدين أصبر، وهم أهل بصيرة، وإنما أهل الدنيا أهل طمع، ثم والله ما لبث أهل العراق أن نبذوا الدين وراء ظهورهم، ونظروا إلى الدنيا، فالتحقوا بك. فقال معاوية: فما الذي يمنع الأشعث أن يقدم علينا، فيطلب ما قبلنا؟ قال: إن الأشعث يكرم نفسه أن يكون رأسا في الحرب، وذنبا في الطمع. * * * ومن المفارقين لعلى عليه السلام أخوه عقيل بن أبي طالب، قدم على أمير المؤمنين بالكوفة يسترفده (1)، فعرض عليه عطاءه، فقال: إنما أريد من بيت المال، فقال: تقيم إلى يوم الجمعة، فلما صلى عليه السلام الجمعة، قال له: ما تقول فيمن خان هؤلاء أجمعين؟ قال بئس الرجل! قال: فإنك أمرتني أن أخونهم وأعطيك، فلما خرج من عنده شخص إلى معاوية، فأمر له يوم قدومه بمائة ألف درهم، وقال له: يا أبا يزيد، أنا خير لك أم على؟ قال: وجدت عليا أنظر لنفسه منه لي، ووجدتك أنظر لي منك لنفسك. وقال معاوية لعقيل: إن فيكم يا بني هاشم لينا، قال: أجل إن فينا لينا من غير
(1) يسترفده: يطلب عطاءه. 92 ضعف، وعزا من غير عنف، وإن لينكم يا معاوية غدر، وسلمكم كفر. فقال معاوية: ولا كل هذا يا أبا يزيد. وقال الوليد بن عقبة لعقيل في مجلس معاوية: غلبك أخوك يا أبا يزيد على الثروة! قال: نعم، وسبقني وإياك إلى الجنة، قال: أما والله إن شدقيه لمضمومان من دم عثمان، فقال: وما أنت وقريش! والله ما أنت فينا إلا كنطيح التيس. فغضب الوليد وقال: والله لو أن أهل الأرض اشتركوا في قتله لأرهقوا صعودا (1)، وإن أخاك لأشد هذه الأمة عذابا، فقال: صه! والله إنا لنرغب بعبد من عبيده عن صحبة أبيك عقبة ابن أبي معيط. وقال معاوية يوما - وعنده عمرو بن العاص، وقد أقبل عقيل: لأضحكنك من عقيل، فلما سلم قال معاوية: مرحبا برجل عمه أبو لهب، فقال عقيل: وأهلا برجل عمته: (حمالة الحطب * في جيدها حبل من مسد) (2)، لان امرأة أبى لهب أم جميل بنت حرب ابن أمية. قال معاوية: يا أبا يزيد ما ظنك بعمك أبى لهب! قال: إذا دخلت النار فخذ على يسارك تجده مفترشا عمتك حمالة الحطب، أفناكح في النار خير أم منكوح! قال: كلاهما شر، والله. * * * وممن فارقه عليه السلام حنظلة الكاتب، خرج هو وجرير بن عبد الله البجلي من الكوفة إلى قرقيسيا، وقالا: لا نقيم ببلدة يعاب فيها عثمان. * * *
(1) الصعود: العقبة الشاقة. (2) المسد: حبل من ليف المقل. 93 وممن فارقه وائل بن حجر الحضرمي، وخبره مذكور في قصة بسر بن أرطاة. * * * وروى صاحب كتاب،، الغارات،، عن إسماعيل بن حكيم، عن أبي مسعود الجريري. قال: كان ثلاثة من أهل البصرة يتواصلون على بغض علي عليه السلام: مطرف بن عبد الله ابن الشخير، والعلاء بن زياد، وعبد الله بن شفيق. قال صاحب كتاب،، الغارات،،: وكان مطرف عابدا ناسكا، وقد روى هشام بن حسان عن ابن سيرين: أن عمار بن ياسر دخل على أبى مسعود وعنده ابن الشخير، فذكر عليا بما لا يجوز أن يذكر به، فقال عمار: يا فاسق وإنك لهاهنا! فقال أبو مسعود: أذكرك الله يا أبا اليقظان في ضيفي! قال: وأكثر مبغضيه عليه السلام أهل البصرة كانوا عثمانية، وكانت في أنفسهم أحقاد يوم الجمل، وكان هو عليه السلام قليل التألف للناس، شديدا في دين الله، لا يبالي مع علمه بالدين، واتباعه الحق من سخط ومن رضى. قال: وقد روى يونس بن أرقم، عن يزيد بن أرقم، عن أبي ناجية مولى أم هانئ، قال: كنت عند علي عليه السلام، فأتاه رجل عليه زي السفر. فقال: يا أمير المؤمنين، إني أتيتك من بلدة ما رأيت لك بها محبا، قال: من أين أتيت؟ قال: من البصرة، قال: أما إنهم لو يستطيعون أن يحبوني لأحبوني، إني وشيعتي في ميثاق الله لا يزاد فينا رجل لا ينقص إلى يوم القيامة. * * * وروى أبو غسان البصري، قال: بنى عبيد الله بن زياد أربعة مساجد بالبصرة تقوم على بغض علي بن أبي طالب والوقيعة فيه: مسجد بنى عدى، ومسجد بنى مجاشع،
94 ومسجد كان في العلافين على فرضة البصرة، ومسجد في الأزد. * * * ومما قيل عنه إنه يبغض عليا عليه السلام ويذمه، الحسن بن أبي الحسن البصري أبو سعيد، وروى عنه حماد بن سلمة أنه قال: لو كان على يأكل الحشف (1) بالمدينة لكان خيرا له مما دخل فيه. ورواه عنه أنه كان من المخذلين عن نصرته. وروى عنه أن عليا عليه السلام رآه وهو يتوضأ للصلاة - وكان ذا وسوسة - فصب على أعضائه ماء كثيرا، فقال له: أرقت ماء كثيرا يا حسن، فقال: ما أراق أمير المؤمنين من دماء المسلمين أكثر! قال: أو ساءك ذلك؟ قال: نعم، قال: فلا زلت مسوء. قالوا: فما زال الحسين عابسا قاطبا مهموما إلى أن مات. فأما أصحابنا فإنهم يدفعون ذلك عنه وينكرونه ويقولون: إنه كان من محبي علي بن أبي طالب عليه السلام والمعظمين له. وروى أبو عمر بن عبد البر المحدث في كتابه المعروف ب،، الاستيعاب في معرفة الصحاب،، أن إنسانا سأل الحسن عن علي عليه السلام، فقال: كان والله سهما صائبا من مرامي الله على عدوه، ورباني هذه الأمة وذا فضلها، وذا سابقتها، وذا قرابتها من رسول الله صلى الله عليه وآله، لم يكن بالنؤمة عن أمر الله، ولا بالملومة في دين الله، ولا بالسروقة لمال الله، أعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مونقة، ذلك علي بن أبي طالب يا لكع! وروى الواقدي، قال: سئل الحسن عن علي عليه السلام - وكان يظن به الانحراف عنه، ولم يكن كما يظن - فقال: ما أقول فيمن جمع الخصال الأربع: ائتمانه على براءة،
(1) الحشف: أردأ التمر. 95 وما قال له الرسول في غزاة تبوك، فلو كان غير النبوة شئ يفوته لاستثناه، وقول النبي صلى الله عليه وآله: (الثقلان كتاب الله وعترتي)، وإنه لم يؤمر عليه أمير قط وقد أمرت الامراء على غيره. وروى أبان بن عياش، قال: سألت الحسن البصري عن علي عليه السلام، فقال: ما أقول فيه! كانت له السابقة، والفضل والعلم والحكمة والفقه والرأي والصحبة والنجدة والبلاء والزهد والقضاء والقرابة، إن عليا كان في أمره عليا، رحم الله عليا، وصلى عليه! فقلت: يا أبا سعيد، أتقول: (صلى عليه) لغير النبي! فقال: ترحم على المسلمين إذا ذكروا، وصل على النبي وآله وعلى خير آله. فقلت: أهو خير من حمزة وجعفر؟ قال: نعم، قلت: وخير من فاطمة وابنيها؟ قال: نعم، والله إنه خير آل محمد كلهم، ومن يشك أنه خير منهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (وأبوهما خير منهما)! ولم يجر عليه اسم شرك، ولا شرب خمر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله لفاطمة عليها السلام: (زوجتك خير أمتي)، فلو كان في أمته خير منه لاستثناه، ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بين أصحابه، فآخى بين على ونفسه، فرسول الله صلى الله عليه وآله خير الناس نفسا، وخيرهم أخا. فقلت: يا أبا سعيد، فما هذا الذي يقال عنك! إنك قلته في علي؟ فقال: يا بن أخي، أحقن دمى من هؤلاء الجبابرة، ولولا ذلك لشالت (1) بي الخشب. * * * قال شيخنا أبو جعفر الإسكافي رحمه الله تعالى، ووجدته أيضا في كتاب،، الغارات،، لإبراهيم بن هلال الثقفي: وقد كان بالكوفة من فقهائها من يعادي عليا ويبغضه، مع غلبة التشيع على الكوفة، فمنهم مرة الهمداني.
(1) ب: (لسالت). 96 وروى أبو نعيم الفضل بن دكين عن فطر بن خليفة، قال: سمعت مرد يقول: لان يكون على جملا يستقى عليه أهله خير له مما كان عليه. وروى إسماعيل بن بهرام، عن إسماعيل بن محمد، عن عمرو بن مرة، قال: قيل لمرة الهمداني: كيف تخلفت عن علي؟ قال (1): سبقنا بحسناته، وابتلينا بسيئاته. قال إسماعيل بن بهرام: وقد روينا عنه أنه قال أشد فحشا من هذا، ولكنا نتورع عن ذكره. وروى الفضل بن دكين عن الحسن بن صالح، قال: لم يصل أبو صادق على مرة الهمداني. قال الفضل بن دكين: وسمعت أن أبا صادق قال في أيام حياة مرة: والله لا يظلني وإياه سقف بيت أبدا. قال: ولما مات لم يحضره عمرو بن شرحبيل، قال: لا أحضره لشئ كان في قلبه على علي بن أبي طالب. قال إبراهيم بن هلال: فحدثنا المسعودي، عن عبد الله بن نمير بهذا الحديث. قال: ثم كان عبد الله بن نمير يقول - وكذلك أنا، والله لو مات رجل في نفسه (2) شئ على علي عليه السلام لم أحضره، ولم أصل عليه. * * * ومنهم الأسود بن يزيد ومسروق بن الأجدع، روى سلمة بن كهيل: أنهما كانا يمشيان إلى بعض أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله، فيقعان في علي عليه السلام، فأما الأسود فمات على ذلك، وأما مسروق فلم يمت حتى كان لا يصلى لله تعالى صلاة
(1): ب (فقال). (2) ب (في قلبه). 97 إلا صلى بعدها على علي بن أبي طالب عليه السلام، لحديث سمعه من عائشة في فضله. وروى أبو نعيم الفضل بن دكين، عن عبد السلام بن حرب، عن ليث بن أبي سليم، قال: كان مسروق يقول: كان على كحاطب ليل، قال: فلم يمت مسروق حتى رجع عن رأيه هذا. وروى سلمة بن كهيل، قال: دخلت أنا وزبيد اليمامي على امرأة مسروق بعد موته، فحدثتنا، قالت: كان مسروق والأسود بن يزيد يفرطان في سب على ابن أبي طالب، ثم ما مات مسروق حتى سمعته يصلى عليه، وأما الأسود فمضى لشأنه. قال: فسألناها: لم ذلك؟ قالت: شئ سمعه من عائشة ترويه عن النبي صلى الله عليه وآله فيمن أصاب الخوارج. وروى أبو نعيم، عن عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق، قال: ثلاثة لا يؤمنون على على ابن أبي طالب: مسروق، ومرة، وشريح. وروى أن الشعبي رابعهم. وروى عن هيثم، عن مجالد، عن الشعبي، أن مسروقا ندم على إبطائه عن علي ابن أبي طالب عليه السلام. وروى الأعمش، عن إبراهيم التيمي، قال: قال علي عليه السلام لشريح، وقد قضى قضية نقم عليه أمرها: والله لأنفينك إلى بانقيا (1) شهرين تقضى بين اليهود، قال: ثم قتل علي عليه السلام ومضى دهر، فلما قام المختار بن أبي عبيد قال لشريح: ما قال لك أمير المؤمنين عليه السلام يوم كذا؟ قال: إنه قال لي كذا، قال: فلا والله لا تقعد، حتى تخرج إلى بانقيا تقضى بين اليهود. فسيره إليها فقضى بين اليهود شهرين. * * *
(1) بانقيا، بكسر النون: ناحية من نواحي الكوفة كانت على شواطي الفرات (مراصد الاطلاع). 98 ومنهم أبو وائل شقيق بن سلمة، كان عثمانيا يقع في علي عليه السلام، ويقال: إنه كان يرى رأى الخوارج، ولم يختلف في أنه خرج معهم، وأنه عاد إلى علي عليه السلام منيبا مقلعا. روى خلف بن خليفة، قال: قال أبو وائل: خرجنا أربعة آلاف، فخرج إلينا على، فما زال يكلمنا حتى رجع منا ألفان. وروى صاحب كتاب،، الغارات،، عن عثمان بن أبي شيبة، عن الفضل ابن دكين، عن سفيان الثوري، قال: سمعت أبا وائل يقول: شهدت صفين وبئس الصفوف كانت! قال: وقد روى أبو بكر بن عياش، عن عاصم بن أبي النجود، قال: كان أبو وائل عثمانيا، وكان زر بن حبيش علويا. * * * ومن المبغضين القالين: أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، ورث البغضة له، لا عن كلالة (1). وروى عبد الرحمن بن جندب، قال: قال أبو بردة لزياد: أشهد أن حجر بن عدي قد كفر بالله كفرة أصلع، قال عبد الرحمن: إنما عنى بذلك نسبة الكفر إلى علي ابن أبي طالب عليه السلام، لأنه كان أصلع. قال: وقد روى عبد الرحمن المسعودي، عن ابن عياش المنتوف، قال: رأيت أبا بردة قال لأبي العادية الجهني قاتل عمار بن ياسر: أأنت قتلت عمار بن ياسر؟ قال: نعم، قال: ناولني يدك، فقبلها، وقال: لا تمسك النار أبدا.
(1) يقال: لم يرثه كلالة، أي لم يرثه عن عرض بل قرب، يريد أنه ورث البغض عن أبيه أبى موسى الأشعري. 99 وروى أبو نعيم عن هشام بن المغيرة، عن الغضبان بن يزيد، قال: رأيت أبا بردة قال لأبي العادية قاتل عمار بن ياسر: مرحبا بأخي هاهنا! فأجلسه إلى جانبه. * * * ومن المنحرفين عنه عليه السلام أبو عبد الرحمن السلمي القارئ، روى صاحب كتاب ،، الغارات،، عن عطاء بن السائب، قال: قال رجل لأبي عبد الرحمن السلمي: أنشدك بالله، إن سألتك لتخبرني؟ قال: نعم، فلما أكد عليه قال: بالله هل أبغضت عليا إلا يوم قسم المال في الكوفة فلم يصلك ولا أهل بيتك منه بشئ! قال: أما إذ أنشدتني بالله، فلقد كان كذلك. قال: وروى أبو عمر الضرير، عن أبي عوانة، قال: كان بين عبد الرحمن بن عطية وبين أبى عبد الرحمن السلمي شئ في أمر علي عليه السلام، فأقبل أبو عبد الرحمن على حيان، فقال: هل تدرى ما جرأ صاحبك على الدماء؟ يعنى عليا، قال وما جرأه لا أبا لغيرك! قال: حدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، أو كلاما هذا معناه. * * * وكان عبد الله بن عكيم عثمانيا، وكان عبد الرحمن بن أبي ليلى علويا، فروى موسى الجهني، عن ابنة عبد الله بن عكيم، قالت: تحدثا يوما فسمعت أبي يقول لعبد الرحمن: أما إن صاحبك لو صبر لأتاه الناس. * * * وكان سهم بن طريف عثمانيا، وكان علي بن ربيعة علويا، فضرب أمير الكوفة على الناس بعثا، وضرب على سهم بن طريف معهم، فقال سهم لعلي بن ربيعة: اذهب إلى الأمير فكلمه في أمري ليعفيني، فأتى علي بن ربيعة الأمير، فقال: أصلحك الله!
100 إن سهما أعمى فأعفه، قال: قد أعفيته، فلما التقيا قال: قد أخبرت الأمير أنك أعمى، وإنما عنيت عمى القلب. * * * وكان قيس بن أبي حازم يبغض عليا عليه السلام، روى وكيع عن إسماعيل ابن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، قال: أتيت عليا عليه السلام ليكلم لي عثمان في حاجة، فأبى فأبغضته. قلت: وشيوخنا المتكلمون - رحمهم الله - يسقطون روايته عن النبي صلى الله عليه وآله: (إنكم لترون ربكم ترون القمر ليلة البدر)، و يقولون: إنه كان يبغض عليا عليه السلام، فكان فاسقا، ونقلوا عنه أنه قال: سمعت عليا عليه السلام يخطب على المنبر، ويقول: (انفروا إلى بقية الأحزاب)، فدخل بغضه في قلبي. * * * وكان سعيد بن المسيب منحرفا عنه عليه السلام، وجبهه عمر بن علي عليه السلام في وجهه بكلام شديد. روى عبد الرحمن بن الأسود، عن أبي داود الهمداني، قال: شهدت سعيد ابن المسيب - وأقبل عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال له سعيد: يا بن أخي، ما أراك تكثر غشيان مسجد رسول الله صلى الله عليه كما يفعل إخوتك وبنو أعمامك! فقال عمر: يا بن المسيب، أكلما دخلت المسجد أجئ فأشهدك! فقال سعيد: ما أحب أن تغضب، سمعت أباك يقول: إن لي من الله مقاما لهو خير لبني عبد المطلب مما على الأرض من شئ. فقال عمر: وأنا سمعت أبي يقول: ما كلمة حكمة
101 في قلب منافق فيخرج من الدنيا، حتى (1) يتكلم بها. فقال سعيد: يا بن أخي، جعلتني منافقا! قال: هو ما أقول لك. ثم انصرف. * * * وكان الزهري من المنحرفين عنه عليه السلام. وروى جرير بن عبد الحميد، عن محمد بن شيبة قال: شهدت مسجد المدينة، فإذا الزهري وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليا عليه السلام، فنالا منه، فبلغ ذلك على ابن الحسين عليه السلام، فجاء حتى وقف عليهما، فقال: أما أنت يا عروة، فإن أبى حاكم أباك إلى الله، فحكم لأبي على أبيك، وأما أنت يا زهري، فلو كنت بمكة لأريتك كبر أبيك. وقد روى من طرق كثيرة، أن عروة بن الزبير كان يقول: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه يزهو إلا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد. وروى عاصم بن أبي عامر البجلي، عن يحيى بن عروة، قال: كان أبى إذا ذكر عليا نال منه. وقال لي مرة: يا بنى، والله ما أحجم الناس عنه إلا طلبا للدنيا، لقد بعث إليه أسامة بن زيد أن ابعث إلى بعطائي، فوالله إنك لتعلم أنك لو كنت في فم أسد لدخلت معك. فكتب إليه: إن هذا المال لمن جاهد عليه، ولكن لي مالا بالمدينة فأصب منه ما شئت. قال يحيى: فكنت أعجب من وصفه إياه بما وصفه به، ومن عيبه له وانحرافه عنه. * * * وكان زيد بن ثابت عثمانيا شديدا في ذلك، وكان عمرو بن ثابت عثمانيا، من أعداء علي عليه السلام ومبغضيه، وعمرو بن ثابت هو الذي روى عن أبي أيوب الأنصاري حديث: (ستة أيام من شوال).
(1) ب: (إلا). 102 روى عن عمرو أنه كان يركب ويدور القرى بالشام ويجمع أهلها، ويقول: أيها الناس، إن عليا كان رجلا منافقا، أراد أن ينخس برسول الله صلى الله عليه وآله ليلة العقبة، فالعنوه، فيلعنه أهل تلك القرية، ثم يسير إلى القرية الأخرى، فيأمرهم بمثل ذلك، وكان في أيام معاوية. * * * وكان مكحول من المبغضين له عليه السلام، روى زهير بن معاوية عن الحسن بن الحر، قال: لقيت مكحولا، فإذا هو مطبوع - يعنى مملوءا - بغضا لعلى عليه السلام - فلم أزل به حتى لان وسكن. وروى المحدثون عن حماد بن زيد، أنه قال: أرى أن أصحاب على أشد حبا له من أصحاب العجل لعجلهم. وهذا كلام شنيع. وروى عن شبابة بن سوار أنه ذكر عنده ولد علي عليه السلام، وطلبهم الخلافة فقال: والله لا يصلون إليها أبدا، والله ما استقامت لعلى، ولا فرح بها يوما، فكيف تصير إلى ولده! هيهات هيهات لا! والله لا يذوق طعم الخلافة من رضى بقتل عثمان. * * * وقال شيخنا أبو جعفر الإسكافي: كان أهل البصرة كلهم يبغضونه، وكثير من أهل الكوفة وكثير من أهل المدينة، وأما أهل مكد فكلهم كانوا يبغضونه قاطبة، وكانت قريش كلها على خلافه، وكان جمهور الخلق مع بنى أمية عليه. وروى عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، قال: سمعت عليا عليه السلام، وهو يقول: ما لقى أحد من الناس ما لقيت! ثم بكى عليه السلام. وروى الشعبي، عن شريح بن هانئ، قال: قال علي عليه السلام: اللهم إني أستعديك
103 على قريش، فإنهم قطعوا رحمي، وأصغوا (1) إنائي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي. وروى جابر عن أبي الطفيل، قال: سمعت عليا عليه السلام، يقول: اللهم إني أستعديك على قريش، فإنهم قطعوا رحمي، وغصبوني حقي، وأجمعوا على منازعتي أمرا كنت أولى به، ثم قالوا: إن من الحق أن نأخذه، ومن الحق أن تتركه. وروى المسيب بن نجبة الفزاري، قال: قال علي عليه السلام: من وجدتموه من بنى أمية في ماء فغطوا على صماخه، حتى يدخل الماء في فيه. وروى عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة، عن المسور بن مخرمة، قال: لقى عبد الرحمن ابن عوف عمر بن الخطاب، فقال: ألم نكن نقرأ من جملة القرآن: قاتلوهم في آخر الامر كما قاتلتموهم في أوله؟ قال: بلى، ولكن ذاك إذا كان الامراء بنى أمية والوزراء بنى مخزوم! وروى أبو عمر النهدي، قال: سمعت علي بن الحسين يقول: ما بمكة والمدينة عشرون رجلا يحبنا. وروى سفيان الثوري، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري، قال: أثنى رجل على علي بن أبي طالب في وجهه - وكان يبغضه - فقال على: أنا دون ما تقول، وفوق ما في نفسك. وروى أبو غسان النهدي، قال: دخل قوم من الشيعة على علي عليه السلام في الرحبة، وهو على حصير خلق، فقال: ما جاء بكم؟ قالوا: حبك يا أمير المؤمنين، قال: أما إنه من أحبني رآني حيث يحب أن يراني، ومن أبغضني رآني حيث يكره أن يراني، ثم قال: ما عبد الله أحد قبلي إلا نبيه عليه السلام، ولقد هجم أبو طالب علينا وأنا وهو ساجدان، فقال: أو فعلتموها! ثم قال لي وأنا غلام: ويحك، انصر ابن عمك! ويحك لا تخذله،
(1) يقال: أصغى فلان إناء فلان إذا أماله ونقصه حقه. (اللسان). 104 وجعل يحثني على مؤازرته ومكانفته، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله: (أفلا تصلى أنت معنا يا عم!) فقال: لا أفعل يا بن أخي، لا تعلوني إستي. ثم انصرف. وروى جعفر بن الأحمر، عن مسلم الأعور، عن حبة العرني، قال: قال علي عليه السلام: من أحبني كان معي، أما إنك لو صمت الدهر كله، وقمت الليل كله، ثم قتلت بين الصفا والمروة - أو قال بين الركن والمقام - لما بعثك الله إلا مع هواك بالغا ما بلغ، إن في جنة ففي جنة، وإن في نار ففي نار. وروى جابر الجعفي، عن علي عليه السلام أنه قال: من أحبنا أهل البيت فليستعد عدة للبلاء. وروى أبو الأحوص، عن أبي حيان عن علي عليه السلام: يهلك في رجلان، محب غال، ومبغض قال. وروى حماد بن صالح، عن أيوب، عن كهمس، أن عليا عليه السلام قال: يهلك في ثلاثة: اللاعن والمستمع المقر، وحامل الوزر، وهو الملك المترف، الذي يتقرب إليه بلعنتي، ويبرأ عنده من ديني، وينتقص عنده حسبي، وإنما حسبي حسب رسول الله صلى الله عليه وآله، وديني دينه. وينجو في ثلاثة: من أحبني، ومن أحب محبي، ومن عادى عدوى، فمن أشرب قلبه بغضي أو ألب على بغضي، أو انتقصني، فليعلم أن الله عدوه وخصمه (1)؟ والله عدو للكافرين. وروى محمد بن الصلت، عن محمد بن الحنفية، قال: من أحبنا نفعه الله بحبنا، ولو كان أسيرا بالديلم. وروى أبو صادق، عن ربيعة بن ناجد، عن علي عليه السلام، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله: (إن فيك لشبها من عيسى بن مريم، أحبته النصارى حتى أنزلته بالمنزلة التي ليست له، وأبغضته اليهود حتى بهتت أمه).
(1) ج: (و جبريل خصمه). 105 وروى صاحب كتاب،، الغارات،، حديث البراءة على غير الوجه المذكور في كتاب،، نهج البلاغة،،، قال: أخبرنا يوسف بن كليب المسعودي، عن يحيى بن سليمان العبدي، عن أبي مريم الأنصاري، عن محمد بن علي الباقر عليه السلام، قال: خطب علي عليه السلام على منبر الكوفة، فقال: سيعرض عليكم سبى، وستذبحون عليه، فإن عرض عليكم سبى فسبوني، وإن عرض عليكم البراءة منى، فإني على دين محمد صلى الله عليه وسلم؟ ولم يقل: (فلا تبرءوا منى). وقال أيضا: حدثني أحمد بن مفضل، قال: حدثني الحسن بن صالح، عن جعفر بن محمد عليه السلام. قال: قال علي عليه السلام: والله لتذبحن على سبى - وأشار بيده إلى حلقه - ثم قال: فإن أمروكم بسبي فسبوني، وإن أمروكم أن تبرءوا منى فإني على دين محمد صلى الله عليه وآله. ولم ينههم عن إظهار البراءة. وروى شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى، عن سلمة بن كهيل، عن المسيب بن نجبة، قال: بينا علي عليه السلام يخطب إذ قام أعرابي، فصاح: وا مظلمتاه! فاستدناه علي عليه السلام، فلما دنا قال له: إنما لك مظلمة واحدة، وأنا قد ظلمت عدد المدر والوبر. قال: وفي رواية عباد بن يعقوب، أنه دعاه فقال له: ويحك! وأنا والله مظلوم أيضا، هات فلندع على من ظلمنا. وروى سدير الصير في، عن أبي جعفر محمد بن علي، قال: اشتكى علي عليه السلام شكاة، فعاده أبو بكر وعمر، وخرجا من عنده، فأتيا النبي صلى الله عليه وآله، فسألهما: من أين جئتما؟ قالا: عدنا عليا، قال: كيف رأيتماه؟ قال، رأيناه يخاف عليه مما به، فقال: (كلا إنه لن يموت حتى يوسع غدرا وبغيا، وليكونن في هذه الأمة عبرة يعتبر به الناس من بعده).
106 وروى عثمان بن سعيد، عن عبد الله بن الغنوي، أن عليا عليه السلام خطب بالرحبة، فقال: أيها الناس، إنكم قد أبيتم إلا أن أقولها! ورب السماء والأرض، إن من عهد النبي الأمي إلى: (إن الأمة ستغدر بك بعدي). وروى هيثم بن بشير، عن إسماعيل بن سالم مثله، وقد روى أكثر أهل الحديث هذا الخبر بهذا اللفظ أو بقريب منه. وروى أبو جعفر الإسكافي أيضا أن النبي صلى الله عليه وآله دخل على فاطمة عليها السلام، فوجد عليا نائما، فذهبت تنبهه، فقال: (دعيه فرب سهر له بعدي طويل، ورب جفوة لأهل بيتي من أجله شديدة) فبكت، فقال: (لا تبكي فإنكما معي، وفي موقف الكرامة عندي). وروى الناس كافة أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال له: (هذا وليي وأنا وليه عاديت من عاداه، وسالمت من سالمه)، أو نحو هذا اللفظ. وروى أيضا محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن زيد بن علي بن الحسين عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله لعلى عليه السلام: (عدوك عدوي وعدوي عدو الله عز وجل). وروى يونس بن حباب، عن أنس بن مالك، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وعلي بن أبي طالب معنا، فمررنا بحديقة، فقال على: يا رسول الله، ألا ترى ما أحسن هذه الحديقة! فقال: (إن حديقتك في الجنة أحسن منها)، حتى مررنا بسبع حدائق، يقول على ما قال، ويجيبه رسول الله صلى الله عليه وآله بما أجابه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وقف فوقفنا، فوضع رأسه على رأس على وبكى، فقال على: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: (ضغائن في صدور قوم لا يبدونها لك حتى يفقدوني)،
107 فقال: يا رسول الله، أفلا أضع سيفي على عاتقي فأبيد خضراءهم! قال: بل قصير، قال: فإن صبرت! قال: تلاقى جهدا، قال: أفي سلامة من ديني؟ قال: نعم، قال: فإذا لا أبالي. وروى جابر الجعفي، عن محمد بن علي عليه السلام، قال: قال علي عليه السلام: ما رأيت منذ بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله رخاء، لقد أخافتني قريش صغيرا، وأنصبتني كبيرا، حتى قبض الله رسوله، فكانت الطامة الكبرى، والله المستعان على ما تصفون! وروى صاحب كتاب،، الغارات،، عن الأعمش، عن أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: سيظهر على الناس رجل من أمتي، عظيم السرم، واسع البلعوم، يأكل ولا يشبع، يحمل وزر الثقلين، يطلب الامارة يوما، فإذا أدركتموه فابقروا بطنه، قال: وكان في يد رسول الله صلى الله عليه وآله قضيب، قد وضع طرفه في بطن معاوية. قلت: هذا الخبر مرفوع مناسب لما قاله علي عليه السلام في،، نهج البلاغة،، ومؤكد لاختيارنا أن المراد به معاوية، دون ما قاله كثير من الناس أنه زياد والمغيرة. وروى جعفر بن سليمان الضبعي، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وآله يوما لعلى ما يلقى بعده من العنت فأطال، فقال له عليه السلام: أنشدك الله والرحم يا رسول الله لما دعوت الله أن يقبضني إليه قبلك! قال: كيف أسأله في أجل مؤجل! قال: يا رسول الله، فعلام أقاتل من أمرتني بقتاله؟ قال: على الحدث في الدين. وروى الأعمش، عن عمار الدهني، عن أبي صالح الحنفي، عن علي عليه السلام قال:
108 قال لنا يوما: لقد رأيت الليلة رسول الله صلى الله عليه وآله في المنام، فشكوت إليه ما لقيت حتى بكيت، فقال لي: انظر، فنظرت فإذا جلاميد، وإذا رجلان مصفدان - قال الأعمش: هما معاوية وعمرو بن العاص - قال: فجعلت أرضخ رؤوسهما ثم تعود، ثم أرضخ ثم تعود، حتى انتبهت. وروى نحو هذا الحديث عمرو بن مرة، عن أبي عبد الله بن سلمة عن علي عليه السلام، قال: رأيت الليلة رسول الله صلى الله عليه وآله، فشكوت إليه، فقال: هذه جهنم، فانظر من فيها، فإذا معاوية وعمرو بن العاص معلقين بأرجلهما منكسين، ترضخ رؤوسهما بالحجارة - أو قال: تشدخ. وروى قيس بن الربيع، عن يحيى بن هانئ المرادي، عن رجل من قومه يقال له رياد ابن فلان، قال: كنا في بيت مع علي عليه السلام نحن شيعته (1) وخواصه، فالتفت فلم ينكر منا أحدا، فقال: إن هؤلاء القوم سيظهرون عليكم فيقطعون أيديكم ويسملون أعينكم، فقال رجل منا: وأنت حي يا أمير المؤمنين؟ قال: أعاذني الله من ذلك، فالتفت فإذا واحد يبكى، فقال له: يا بن الحمقاء، أتريد اللذات في الدنيا والدرجات في الآخرة! إنما وعد الله الصابرين. وروى زرارة بن أعين عن أبيه، عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، قال: كان علي عليه السلام إذا صلى الفجر لم يزل معقبا إلى أن تطلع الشمس، فإذا طلعت اجتمع إليه الفقراء والمساكين وغيرهم من الناس، فيعلمهم الفقه والقرآن، وكان له وقت يقوم فيه من مجلسه ذلك، فقام يوما فمر برجل، فرماه بكلمة هجر - قال: لم يسمه محمد بن علي عليه السلام - فرجع عوده على بدئه حتى صعد المنبر، وأمر فنودي: الصلاة جامعة! فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على نبيه ثم قال: أيها الناس، إنه ليس شئ أحب إلى الله ولا أعم نفعا من
(1) ب: (نحن وشيعته وخواصه). 109 حلم إمام وفقهه، ولا شئ أبغض إلى الله ولا أعم ضررا من جهل إمام وخرقه، ألا وإنه من لم يكن له من نفسه واعظ لم يكن له من الله حافظ، ألا وإنه من أنصف من نفسه لم يزده الله إلا عزا، ألا وإن الذل في طاعة الله أقرب إلى الله من التعزز في معصيته. ثم قال: أين المتكلم آنفا؟ فلم يستطع الانكار، فقال: هأنذا يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني لو أشاء لقلت، فقال: إن تعف وتصفح، فأنت أهل ذلك، قال، قد عفوت وصفحت، فقيل لمحمد بن علي عليه السلام: ما أراد أن يقول؟ قال: أراد أن ينسبه. وروى زرارة أيضا، قال: قيل لجعفر بن محمد عليه السلام: إن قوما هاهنا ينتقصون عليا عليه السلام، قال: بم ينتقصونه لا أبا لهم! وهل فيه موضع نقيصة! والله ما عرض لعلى أمران قط كلاهما لله طاعة إلا عمل بأشدهما وأشقهما عليه، ولقد كان يعمل العمل كأنه قائم بين الجنة والنار، ينظر إلى ثواب هؤلاء فيعمل له، وينظر إلى عقاب هؤلاء فيعمل له، وإن كان ليقوم إلى الصلاة فإذا قال: وجهت وجهي تغير لونه، حتى يعرف ذلك في وجهه (1)، ولقد أعتق ألف عبد من كد يده، كل منهم (2) يعرق فيه جبينه، وتحفي فيه كفه، ولقد بشر بعين نبعت في ماله مثل عنق الجزور، فقال: بشر الوارث بشر، ثم جعلها صدقة على الفقراء والمساكين وابن السبيل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ليصرف الله النار عن وجهه، ويصرف وجهه عن النار. وروى القناد، عن أبي مريم الأنصاري، عن علي عليه السلام: لا يحبني كافر ولا ولد زنا. وروى جعفر بن زياد، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا بنور إيماننا نحب علي بن أبي طالب عليه السلام، فمن أحبه عرفنا أنه منا. * * *
(1) ج: (لونه). (2) ب: (كلهم). 110 [فصل في معنى قول على: (فسبوني فإنه لي زكاة)] المسألة الثالثة: في معنى قوله عليه السلام: (فسبوني، فإنه لي زكاة، ولكم نجاة)، فنقول: إنه أباح لهم سبه عند الاكراه، لان الله تعالى قد أباح عند الاكراه التلفظ بكلمة الكفر، فقال: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان)، والتلفظ بكلمة الكفر أعظم من التلفظ بسب الامام. فأما قوله: (فإنه لي زكاة ولكم نجاة)، فمعناه أنكم تنجون من القتل إذا أظهرتم ذلك، ومعنى الزكاة يحتمل أمرين: أحدهما ما ورد في الاخبار النبوية أن سب المؤمن زكاة له وزيادة في حسناته. والثاني: أن يريد به أن سبهم لي لا ينقص في الدنيا من قدري، بل أزيد به شرفا وعلو قدر، وشياع ذكر، وهكذا كان، فإن الله تعالى جعل الأسباب التي حاول أعداؤه بها الغض منه عللا لانتشار صيته في مشارق الأرض ومغاربها. وقد لمح هذا المعنى أبو نصر بن نباتة، فقال للشريف الجليل محمد بن عمر العلوي: وأبوك الوصي أول من شاد * منار الهدى وصام وصلى نشرت حبله قريش فأعطته إلى صبحة القيامة فتلا واحتذيت أنا حذوه، فقلت لأبي المظفر هبة الله بن موسى الموسوي رحمه الله تعالى: في قصيدة أذكر فيها أباه: أمك الدرة التي أنجبت من * جوهر المجد راضيا مرضيا وأبوك الإمام موسى كظيم الغيظ حتى يعيده منسيا
111 وأبوه تاج الهدى جعفر الصادق * وحيا عن الغيوب وحيا وأبوه محمد باقر العلم مضى لنا هاديا مهديا وأبوه السجاد أتقى عباد الله * لله مخلصا ووفيا والحسين الذي تخير أن يقضى عزيزا ولا يعيش دنيا وأبوه الوصي أول من طاف * ولبى سبعا وساق الهديا طامنت مجده قريش فأعطته إلى سدرة السماء رقيا أخملت صيته فطار إلى أن * ملا الأفق ضجة ودويا وأبو طالب كفيل أبى القاسم كهلا ويافعا وفتيا ولشيخ البطحاء تاج معد * شيبة الحمد هل علمت سميا! وأبو عمر العلا هاشم الجود * ومن مثل هاشم بشريا! وأبوه الهمام عبد مناف * قل تقل صادقا وتبدي بديا ثم زيد - أعني قصي الذي لم * يك عن ذروة العلاء قصيا نسب إن تلفع النسب المحض لفاعا كان السليب العريا وإذا أظلمت مناسخة الأنساب * يوما كان المنير الجليا يا له مجدة على قدم الدهر وقد يفضل العتيق الطريا وذكرنا هاهنا ما قبل المعنى وما بعده، لان الشعر حديث، والحديث - كما قيل - يأخذ بعضه برقاب بعض، ولان ما قبل المعنى وما بعده مكمل له، وموضح مقصده. فإن قلت: أي مناسبة بين لفظ (الزكاة) وانتشار الصيت والسمع؟ قلت: لان الزكاة هي النماء والزيادة، ومنه سميت الصدقة المخصوصة زكاة لأنها تنمى المال المزكى، وانتشار الصيت نماء وزيادة * * *
112 [فصل في اختلاف الرأي في معنى السب والبراءة] المسألة الرابعة: أن يقال: كيف قال عليه السلام: (فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تبرءوا منى)؟ وأي فرق بين السب والبراءة؟ وكيف أجاز لهم السب ومنعهم عن التبرؤ، والسب أفحش من التبرؤ! والجواب، أما الذي يقوله أصحابنا في ذلك فإنه لا فرق عندهم بين سبه (1) والتبرؤ منه، في أنهما حرام وفسق وكبيرة، وأن المكره عليهما يجوز له فعلهما عند خوفه على نفسه، كما يجوز له إظهار كلمة الكفر عند الخوف. ويجوز ألا يفعلهما وإن قتل، إذا قصد بذلك إعزاز الدين، كما يجوز له أن يسلم نفسه للقتل ولا يظهر كلمة الكفر إعزاز للدين، وإنما استفحش عليه السلام البراءة لأن هذه اللفظة ما وردت في القرآن العزيز إلا عن المشركين، ألا ترى إلى قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين (2))، وقال تعالى: (.. أن الله برئ من المشركين ورسوله) (3)، فقد صارت بحسب العرف الشرعي مطلقه على المشركين خاصة، فإذن يحمل هذا النهى على ترجيح تحريم لفظ البراءة على لفظ السب، وإن كان حكمهما واحدا، ألا ترى أن إلقاء المصحف في القذر أفحش من إلقاء المصحف في دن الشراب، وإن كانا جميعا محرمين، وكان حكمهما واحدا! فأما الامامية فتروي عنه عليه السلام أنه قال: إذا عرضتم على البراءة منا فمدوا الأعناق. ويقولون: إنه (4) لا يجوز التبرؤ منه، وإن كان الحالف صادقا، وإن عليه الكفارة.
(1) ج: (السب). (2) سورة التوبة 1. (3) سورة التوبة 3. (4) ساقطة من ا. 113 ويقولون: إن حكم البراءة من الله تعالى ومن الرسول ومنه عليه السلام ومن أحد الأئمة عليهم السلام، حكم واحد. ويقولون: إن الاكراه على السب يبيح إظهاره، ولا يجوز الاستسلام للقتل معه، وأما الاكراه على البراءة، فإنه يجوز معه الاستسلام للقتل ويجوز أن يظهر التبرؤ، والأولى أن يستسلم للقتل. * * * [فصل في معنى قول على: (إني ولدت على الفطرة)] المسألة الخامسة: أن يقال: كيف علل نهيه لهم على البراءة منه عليه السلام، بقوله: (فإني ولدت على الفطرة)، فإن هذا التعليل لا يختص به عليه السلام، لان كل أحد (1) يولد على الفطرة، قال النبي صلى الله عليه وآله: (كل مولود يولد على الفطرة، وإنما أبواه يهودانه وينصرانه). والجواب، أنه عليه السلام علل نهيه لهم عن البراءة منه بمجموع أمور وعلل، وهي كونه ولد على الفطرة، وكونه سبق إلى الايمان والهجرة، ولم يعلل بآحاد هذا المجموع، ومراده هاهنا بالولادة على الفطرة أنه لم يولد في الجاهلية، لأنه ولد عليه السلام لثلاثين عاما مضت من عام الفيل، والنبي صلى الله عليه وآله أرسل لأربعين سنة مضت من عام الفيل، وقد جاء في الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وآله مكث قبل الرسالة سنين عشرا يسمع الصوت ويرى الضوء، ولا يخاطبه أحد، وكان ذلك إرهاصا لرسالته عليه السلام فحكم تلك السنين العشر حكم أيام رسالته صلى الله عليه وآله، فالمولود فيها إذا كان في حجره وهو المتولي لتربيته مولود في أيام كأيام النبوة، وليس بمولود في جاهلية محضة، ففارقت حاله حال من يدعى له من الصحابة مماثلته في الفضل. وقد روى أن السنة التي ولد فيها على
(1) ج: (واحد) 114 عليه السلام هي السنة التي بدئ فيها برسالة رسول الله صلى الله عليه وآله، فأسمع الهتاف من الأحجار والأشجار، وكشف عن بصره، فشاهد أنوارا وأشخاصا، ولم يخاطب فيها (1) بشئ. وهذه السنة هي السنة التي ابتدأ فيها بالتبتل والانقطاع والعزلة في جبل حراء، فلم يزل به حتى كوشف بالرسالة، وأنزل عليه الوحي، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله يتيمن بتلك السنة وبولادة علي عليه السلام فيها، ويسميها سنة الخير وسنة البركة، وقال لأهله ليلة ولادته، وفيها شاهد ما شاهد من الكرامات والقدرة الإلهية، ولم يكن من قبلها شاهد من ذلك شيئا: (لقد ولد لنا الليلة مولود يفتح الله علينا به أبوابا كثيرة من النعمة والرحمة)، وكان كما قال صلوات الله عليه، فإنه عليه السلام كان ناصره والمحامي عنه وكاشف الغماء (2) عن وجهه، وبسيفه ثبت دين الاسلام، ورست دعائمه، وتمهدت قواعده عليه السلام. وفي المسألة تفسير آخر، وهو أن يعنى بقوله عليه السلام: (فإني ولدت على الفطرة)، أي على الفطرة التي لم تتغير ولم تحل، وذلك أن معنى قول النبي صلى الله عليه وآله: (كل مولود يولد على الفطرة) أن كل مولود فإن الله تعالى قد هيأه بالعقل الذي خلقه فيه وبصحة الحواس والمشاعر لان يعلم التوحيد والعدل، ولم يجعل فيه مانعا يمنعه عن ذلك، ولكن التربية والعقيدة في الوالدين والألف لاعتقادهما وحسن الظن فيهما يصده عما فطر عليه، وأمير المؤمنين عليه السلام دون غيره، ولد على الفطرة التي لم تحل ولم يصد عن مقتضاها مانع، لا من جانب الأبوين ولا من جهة غيرهما، وغيره ولد على الفطرة، ولكنه حال عن مقتضاها، وزال عن موجبها. ويمكن أن يفسر بأنه عليه السلام أراد بالفطرة العصمة، وأنه منذ ولد لم يواقع قبيحا،
(1) ج: (منها). (2) ج: (الغم). 115 ولا كان كافرا طرفة عين قط، ولا مخطئا ولا غالطا في شئ من الأشياء المتعلقة بالدين. وهذا تفسير الامامية. * * * [فصل فيما قيل من سبق على إلى الاسلام] المسألة السادسة: أن يقال: كيف قال: (وسبقت إلى الايمان)، وقد قال قوم (1) من الناس: إن أبا بكر سبقه، وقال قوم: إن زيد بن حارثة سبقه؟ والجواب، أن أكثر أهل الحديث وأكثر المحققين من أهل السيرة رووا أنه عليه السلام أول من أسلم، ونحن نذكر كلام أبى عمر يوسف بن عبد البر، المحدث في كتابه المعروف،، بالاستيعاب،،. قال أبو عمر في ترجمة (2) علي عليه السلام: المروي عن سلمان وأبي ذر والمقداد وخباب وأبى سعيد الخدري وزيد بن أسلم أن عليا عليه السلام أول من أسلم، وفضله هؤلاء على غيره. قال أبو عمر: وقال ابن إسحاق: أول من آمن بالله وبمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو قول ابن شهاب، إلا أنه قال: (من الرجال بعد خديجة). قال أبو عمر: و حدثنا أحمد بن محمد، قال: حدثنا أحمد بن الفضل، قال: حدثنا محمد بن جرير، قال: حدثنا علي بن عبد الله الدهقان، قال: حدثنا محمد بن صالح، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: لعلى عليه السلام أربع خصال، ليست
(1) ب: (كثير)، وما أثبته من ج. (2) الاستيعاب 1089 وما بعدها. 116 لأحد غيره: هو أول عربي وعجمي صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو الذي كان معه لواؤه في كل زحف، وهو الذي صبر معه يوم فر عنه غيره، وهو الذي غسله وأدخله قبره. قال أبو عمر: وروى عن سلمان الفارسي أنه قال: أول هذه الأمة ورودا على نبيها صلى الله عليه وآله الحوض، أولها إسلاما: علي بن أبي طالب. وقد روى هذا الحديث مرفوعا عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: (أول هذه الأمة ورودا على الحوض أولها إسلاما: علي بن أبي طالب). قال أبو عمر: ورفعه أولى، لان مثله لا يدرك بالرأي. قال أبو عمر: فأما إسناد المرفوع، فإن أحمد بن قاسم، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ قال: حدثنا ابن الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثني يحيى بن هاشم، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن أبي صادق، عن حنش بن المعتمر، عن عليم (1) الكندي، عن سلمان الفارسي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: (أولكم واردا على الحوض أولكم إسلاما، علي بن أبي طالب). قال أبو عمر: وروى أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بلج، عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس أنه قال: أول من صلى مع النبي صلى الله عليه وآله بعد خديجة علي بن أبي طالب. قال أبو عمر: وحدثنا عبد الوارث بن سفيان، قال: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا أحمد بن زهير بن حرب، قال: حدثنا الحسن بن حماد، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بلج عن عمرو بن ميمون، عن ابن عباس، قال: كان على أول من آمن من الناس بعد خديجة. قال أبو عمر: هذا الاسناد لا مطعن فيه لأحد، لصحته وثقة نقلته، وقد عارض (2)
(1) في الأصول: (عكيم)، وما أثبته عن الاستيعاب. (2) ج. (عورض)، والاستيعاب: (وهو يعارض). 117 ما ذكرنا في باب أبى بكر الصديق، عن ابن عباس، والصحيح في أمر أبى بكر أنه أول من أظهر إسلامه، كذلك قاله مجاهد وغيره، قالوا: ومنعه قومه. قال أبو عمر: اتفق ابن شهاب، وعبد الله بن محمد بن عقيل، وقتادة، وابن إسحاق على أن أول من أسلم (1) من الرجال على. واتفقوا على أن خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقه فيما جاء به، ثم على بعد ها. وروى عن أبي رافع مثل ذلك. قال أبو عمر: وحدثنا عبد الوارث، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا عبد السلام بن صالح، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، قال: حدثنا عمر مولى غفرة، قال: سئل محمد بن كعب القرظي عن أول من أسلم: على أم أبى بكر؟ فقال: سبحان الله! على أولهما إسلاما، وإنما شبه على الناس، لان عليا أخفى إسلامه من أبى طالب، وأسلم أبو بكر فأظهر إسلامه. قال أبو عمر: ولا شك عندنا أن عليا أولهما إسلاما، ذكر عبد الرزاق في جامعه، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن وغيره قالوا: أول من أسلم بعد خديجة علي بن أبي طالب عليه السلام. وروى معمر عن عثمان الجزري، عن مقسم (2) عن ابن عباس، قال: أول من أسلم علي بن أبي طالب. قال أبو عمر: روى ابن فضيل عن الأجلح، عن حبة بن جوين العرني، قال: سمعت عليا عليه السلام، يقول: لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين. قال أبو عمر: وروى شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حبة العرني، قال: سمعت عليا يقول: أنا أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه.
(1) ج: (آمن). (2) هو مقسم بن بجرة. ويقال: نجدة. 118 قال أبو عمر: وقد روى سالم بن أبي الجعد، قال: قلت لابن الحنفية: أبو بكر كان أولهما إسلاما؟ قال: لا. قال أبو: عمر وروى مسلم الملائي، عن أنس بن مالك، قال: استنبئ النبي صلى الله عليه وآله يوم الاثنين، وصلى على يوم الثلاثاء. قال أبو عمر: وقال زيد بن أرقم أول من آمن بالله بعد رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب. قال: وقد روى حديث زيد بن أرقم من وجوه، ذكرها النسائي وأسلم بن موسى وغيرهما، منها ما حدثنا به عبد الوارث، قال: حدثنا قاسم، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا علي بن الجعد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني عمرو بن مرة، قال: سمعت أبا حمزة الأنصاري قال: سمعت زيد بن أرقم يقول: أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب. قال أبو عمر: [وحدثنا عبد الوارث، حدثنا قاسم، حدثنا أحمد بن زهير بن حرب، (1)]، حدثنا أبي، قال: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، قال: حدثنا ابن إسحاق قال: حدثنا يحيى بن أبي الأشعث، عن إسماعيل بن إياس بن عفيف الكندي، عن أبيه، عن جده، قال: كنت امرأ تاجرا، فقدمت الحج، فأتيت العباس ابن عبد المطلب لابتاع منه بعض التجارة - وكان امرأ تاجرا - فوالله إني لعنده بمنى إذ خرج رجل من خباء قريب منه، فنظر إلى الشمس، فلما رآها قد مالت قام يصلى، ثم خرجت امرأة من ذلك الخباء الذي خرج منه ذلك الرجل، فقامت خلفه تصلى، ثم خرج غلام حين راهق الحلم من ذلك الخباء، فقام معه يصلى، فقلت للعباس: ما هذا يا عباس؟ قال: هذا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، ابن أخي، قلت: من هذه المرأة؟
(1) من الاستيعاب. 119 قال امرأته خديجة بنت خويلد، قلت: ما هذا الفتى؟ قال: علي بن أبي طالب ابن عمه، قلت: ما هذا الذي يصنع؟ قال: يصلى، وهو يزعم أنه نبي، ولم يتبعه على أمره إلا امرأته وابن عمه هذا الغلام، وهو يزعم أنه سيفتح على أمته كنوز كسرى وقيصر، قال: فكان عفيف الكندي يقول - وقد أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه: لو كان الله رزقني الاسلام يومئذ كنت أكون ثانيا مع علي. قال أبو عمر: وقد ذكرنا هذا الحديث من طرق في باب عفيف الكندي من هذا الكتاب. قال أبو عمر: ولقد قال علي عليه السلام: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وآله كذا وكذا، لا يصلى معه غيري إلا خديجة. فهذه الروايات والاخبار كلها، ذكرها أبو عمر يوسف بن عبد البر في الكتاب المذكور، وهي كما تراها تكاد تكون إجماعا. قال أبو عمر: وإنما الاختلاف في كمية سنة عليه السلام يوم أسلم، ذكر الحسن ابن علي الحلواني في كتاب،، المعرفة،، له، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا الليث ابن سعد، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، أنه بلغه أن عليا والزبير أسلما وهما ابنا ثماني سنين. كذا يقول أبو الأسود يتيم عروة، وذكره أيضا ابن أبي خيثمة عن قتيبة بن سعيد، عن الليث بن سعد، عن أبي الأسود، وذكره عمر بن شبة، عن الحزامي، عن أبي وهب، عن الليث، عن أبي الأسود، قال الليث: وهاجرا وهما ابنا ثمان عشرة سنة. قال أبو عمر: ولا أعلم أحدا قال بقول أبى الأسود هذا. قال أبو عمر: وروى الحسن بن علي الحلواني، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، قال: أسلم على وهو ابن خمس عشرة سنة.
120 قال أبو عمر: وأخبرنا أبو القاسم خلف بن قاسم بن سهل، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن إسماعيل الطوسي، قال: أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق بن إبراهيم السراج، قال: حدثنا محمد بن مسعود، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن، قال: أسلم على - وهو أول من أسلم - وهو ابن خمس عشرة سنة، أو ست عشرة سنة. قال أبو عمر: قال ابن وضاح: وما رأيت أحدا قط أعلم بالحديث من محمد بن مسعود، ولا بالرأي من سحنون. قال أبو عمر: قال ابن إسحاق: أول ذكر آمن (1) بالله ورسوله علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو يومئذ ابن عشر سنين. قال أبو عمر: والروايات في مبلغ سنه عليه السلام مختلفة، قيل: أسلم وهو ابن ثلاث عشرة سنة. وقيل: ابن اثنتي عشرة سنة. وقيل: ابن خمس عشرة سنة. وقيل: ابن ست عشرة. وقيل: ابن عشر. وقيل: ابن ثمان. قال أبو عمر: وذكر عمر بن شبة، عن المدائني، عن ابن جعدة، عن نافع، عن ابن عمر قال: أسلم على وهو ابن ثلاث عشرة سنة. قال: وأخبرنا إبراهيم بن المنذر الحرامي، قال: حدثنا محمد بن طلحة، قال: حدثني جدي إسحاق بن يحيى، عن طلحة، قال: كان علي بن أبي طالب عليه السلام والزبير ابن العوام وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص أعمارا واحدة. قال: وأخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن، قال: حدثنا إسماعيل بن علي الخطبي، قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا حجين أبو عمر، قال: حدثنا حبان، عن معروف، عن أبي معشر، قال: كان علي عليه السلام وطلحة والزبير في سن واحدة.
(1) ج: (أسلم). 121 قال: وروى عبد الرزاق، عن الحسن وغيره: أن أول من أسلم بعد خديجة على ابن أبي طالب عليه السلام، وهو ابن خمس عشرة سنة، أو ست عشرة. قال أبو عمر: وروى أبو زيد عمر بن شبة، قال: حدثنا شريح بن النعمان، قال: حدثنا الفرات بن السائب، عن ميمون بن مهران، عن ابن عمر، قال: أسلم على وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وتوفى وهو ابن ثلاث وستين سنة. قال أبو عمر: هذا أصح ما قيل في ذلك والله أعلم. انتهى حكاية كلام أبى عمر في كتاب،، الاستيعاب،،. * * * واعلم أن شيوخنا المتكلمين لا يكادون يختلفون في أن أول الناس إسلاما على ابن أبي طالب عليه السلام، إلا من عساه خالف في ذلك من أوائل البصريين، فأما الذي تقررت المقالة عليه الان فهو القول بأنه أسبق الناس إلى الايمان، لا تكاد تجد اليوم في تصانيفهم وعند متكلميهم والمحققين منهم خلافا في ذلك. واعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام ما زال يدعى ذلك لنفسه، ويفتخر به، ويجعله في أفضليته على غيره، ويصرح بذلك، وقد قال غير مرة: أنا الصديق الأكبر، والفاروق الأول، أسلمت قبل إسلام أبى بكر، وصليت قبل صلاته. وروى عنه هذا الكلام بعينه أبو محمد بن قتيبة في كتاب،، المعارف،، (1) وهو غير متهم في أمره. ومن الشعر المروي عنه عليه السلام في هذا المعنى الأبيات التي أولها: محمد النبي أخي وصهري * وحمزة سيد الشهداء عمى ومن جملتها: سبقتكم إلى الاسلام طر * غلاما ما بلغت أوان حلمي
(1) المعارف 167 122 والأخبار الواردة في هذا الباب كثيرة جدا لا يتسع هذا الكتاب لذكرها، فلتطلب من مظانها. ومن تأمل كتب السير والتواريخ عرف من ذلك ما قلناه. فأما الذاهبون إلى أن أبا بكر أقدمهما إسلاما فنفر قليلون، ونحن نذكر ما أورده ابن عبد البر أيضا في كتاب،، الاستيعاب،، في ترجمة أبى بكر (1). قال أبو عمر: حدثني خالد بن القاسم، قال: حدثنا أحمد بن محبوب، قال: حدثنا محمد ابن عبدوس، قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا شيخ لنا، قال: أخبرنا مجالد، عن الشعبي، قال: سألت ابن عباس - أو سئل: - أي الناس كان أول إسلاما؟ فقال: أما سمعت قول حسان بن ثابت: إذا تذكرت شجوا من أخي ثقة * فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا (2) خير البرية أتقاها وأعدلها * بعد النبي وأوفاها بما حملا والثاني التالي المحمود مشهده * وأول الناس منهم صدق الرسلا ويروى أن النبي صلى الله عليه وآله، قال لحسان: (هل قلت في أبى بكر شيئا؟)، قال: نعم، وأنشده هذه الأبيات، وفيها بيت رابع: وثاني اثنين في الغار المنيف وقد * طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله، وقال: (أحسنت يا حسان)، وقد روى فيها بيت خامس: وكان حب رسول الله قد علموا * من البرية لم يعدل به رجلا
(1) كتاب الاستيعاب ص 964 (2) ديوانه 299، 300 مع اختلاف في الرواية وترتيب الأبيات. 123 وقال أبو عمر: وروى شعبة، عن عمرو بن مرة، عن إبراهيم النخعي، قال: أول من أسلم أبو بكر. قال: وروى الجريري، عن أبي نصر، قال: قال أبو بكر لعلى عليه السلام: أنا أسلمت قبلك، في حديث ذكره فلم ينكره عليه. قال أبو عمر: وقال فيه أبو محجن الثقفي: وسميت صديقا وكل مهاجر * سواك يسمى باسمه غير منكر سبقت إلى الاسلام والله شاهد * وكنت جليسا بالعريش المشهر وبالغار إذ سميت خلا وصاحبا * وكنت رفيقا للنبي المطهر قال أبو عمر: وروينا من وجوه، عن أبي أمامة الباهلي، قال: حدثني عمرو ابن عبسة، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو نازل بعكاظ، فقلت: يا رسول الله، من اتبعك على هذا الامر؟ فقال: حر وعبد: أبو بكر وبلال. قال: فأسلمت عند ذلك، وذكر الحديث. هذا مجموع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في هذا الباب في ترجمة أبى بكر، ومعلوم أنه لا نسبة لهذه الروايات إلى الروايات التي ذكرها في ترجمة علي عليه السلام الدالة على سبقه، ولا ريب أن الصحيح ما ذكره أبو عمر أن عليا عليه السلام كان هو السابق، وأن أبا بكر هو أول من أظهر إسلامه، فظن أن السبق له. وأما زيد بن حارثة، فإن أبا عمر بن عبد البر رضى الله تعالى عنه ذكر في كتاب ،، الاستيعاب،، أيضا في ترجمة زيد بن حارثة، قال: ذكر معمر بن شبة في جامعه عن الزهري أنه قال: ما علمنا أحدا أسلم قبل زيد بن حارثة (1).
(1) الاستيعاب 542 124 قال عبد الرزاق: وما أعلم أحدا ذكره غير الزهري. ولم يذكر صاحب،، الاستيعاب،، ما يدل على سبق زيد إلا هذه الرواية، واستغربها، فدل مجموع ما ذكرناه أن عليا عليه السلام أول الناس إسلاما، وأن المخالف في ذلك شاذ، الشاذ لا يعتد به. * * * [فصل فيما ذكر من سبق على إلى الهجرة] المسألة السابعة: أن يقال: كيف قال: (إنه سبق إلى الهجرة) ومعلوم أن جماعة من المسلمين هاجروا قبله، منهم عثمان بن مظعون وغيره، وقد هاجر أبو بكر قبله، لأنه هاجر في صحبة النبي صلى الله عليه وآله، وتخلف علي عليه السلام عنهما (1)، فبات على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله، ومكث أياما يرد الودائع التي كانت عنده، ثم هاجر بعد ذلك؟ والجواب، أنه عليه السلام لم يقل: (وسبقت كل الناس إلى الهجرة)، وإنما قال: (وسبقت) فقط، ولا يدل ذلك على سبقه للناس كافة، ولا شبهة أنه سبق معظم المهاجرين إلى الهجرة، ولم يهاجر قبله أحد إلا نفر يسير جدا. وأيضا فقد قلنا إنه علل أفضليته وتحريم البراءة منه مع إلا كراه بمجموع أمور: منها ولادته على الفطرة، ومنها سبقه إلى الايمان، ومنها سبقه إلى الهجرة، وهذه الأمور الثلاثة لم تجتمع لأحد غيره، فكان بمجموعها متميزا عن كل أحد من الناس. وأيضا فإن اللام في (الهجرة) يجوز ألا تكون للمعهود السابق، بل تكون للجنس، وأمير المؤمنين عليه السلام سبق أبا بكر وغيره إلى الهجرة التي قبل هجرة المدينة، فإن النبي صلى الله عليه وآله هاجر عن مكة مرارا يطوف على أحياء العرب، وينتقل من
(1) ج: (عنه). 125 أرض قوم إلى غيرها، وكان علي عليه السلام معه دون غيره. أما هجرته إلى بنى شيبان، فما اختلف أحد من أهل السيرة أن عليا عليه السلام كان معه هو وأبو بكر، وأنهم غابوا عن مكة ثلاثة عشر يوما وعادوا إليها، لما لم يجدوا عند بنى شيبان ما أرادوه من النصرة. وروى المدائني في كتاب،، الأمثال،، عن المفضل الضبي، أن رسول الله صلى الله عليه وآله لما خرج عن مكة يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج إلى ربيعة، ومعه علي عليه السلام وأبو بكر، فدفعوا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر - وكان نسابة - فسلم فردوا عليه السلام، فقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة، قال: أمن هامتها أم من لهازمها؟ (2) قالوا: من هامتها العظمى، فقال: من أي هامتها العظمى أنتم؟ قالوا: من ذهل الأكبر، قال: أفمنكم عوف الذي يقال له: لا حر بوادي عوف؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم بسطام ذو اللواء ومنتهى الاحياء؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم جساس حامى الذمار ومانع الجار؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم الحوفزان، قاتل الملوك وسالبها أنفسها؟ قالوا: لا، قال: أفمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا، قال: أفأنتم أخوال الملوك من كندة؟ قالوا: لا، قال: فلستم إذن ذهلا الا كبر، أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام قد بقل (3) وجهه، اسمه دغفل، فقال: إن على سائلنا أن نسأله * والعبء لا تعرفه أو تحمله
(1) الخبر في مجمع الأمثال 17، 18 (2) فسره صاحب اللسان فقال: (وفي حديث أبي بكر والنسابة: (أمن هامتها أو لهازمها)، أي من أشرافها أنت أو من أوساطها، واللهازم أصول الحنكين، واحدتها لهزمة بالكسر، فاستعارها لوسط النسب والقبيلة). (3) بقل وجهه، أي خرج شعره. 126 يا هذا، إنك قد سألتنا فأجبناك، ولم نكتمك شيئا، فممن الرجل؟ قال: من قريش، قال: بخ بخ! أهل الشرف والرياسة، فمن أي قريش أنت؟ قال: من تيم بن مرة، قال: أمكنت والله الرامي من الثغرة (1)، أمنكم قصي بن كلاب الذي جمع القبائل من فهر فكان يدعى مجمعا؟ قال: لا، قال: أفمنكم هاشم الذي هشم لقومه الثريد؟ (2) قال: لا، قال: أفمنكم شيبة الحمد، مطعم طير السماء؟ (3) قال: لا، قال: أفمن المفيضين بالناس أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل الرفادة (4) أنت قال: لا، قال: أفمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا، قال: أفمن أهل السقاية؟ قال: لا، قال: فاجتذب أبو بكر زمام ناقته، ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وآله هاربا من الغلام، فقال دغفل: * صادف درء السيل درء يصدعه (5) * أما والله لو ثبت لأخبرتك أنك من زمعات (6) قريش، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وآله. وقال علي عليه السلام لأبي بكر: لقد وقعت يا أبا بكر من الاعرابي على باقعة، قال: أجل، إن لكل طامة طامة والبلاء موكل بالمنطق، فذهبت مثلا. * * * وأما هجرته صلى الله عليه وآله إلى الطائف، فكان معه علي عليه السلام وزيد بن
(1) في مجمع الأمثال: (من صفاء الثغرة) (2) بعده في مجمع الأمثال: (ورجال مكة مسنتون عجاف). (3) بعده في مجمع الأمثال: (الذي كان في وجهه قمر يضئ ليل الظلام الداجي). (4) في اللسان: (الرفادة شئ كانت قريش تترافد به في الجاهلية، فيخرج كل إنسان مالا بقدر طاقته، فيجمعون من ذلك مالا عظيما أيام الموسم، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام الموسم، وكانت الرفادة والسقاية لبني هاشم والسدانة واللواء لبني عبد الدار، وكان أول من قام بالرفادة هاشم بن عبد مناف). (5) درأ الوادي بالسيل، دفعه، وأورد المثل صاحب اللسان وفسره بقوله: (يقال للسيل إذا أتاك من حيث لا تحتسبه: سيل درء، أي يدفع هذا ذاك وذاك هذا). (6) الزمعة في الأصل: التلعة الصغيرة، أي لست من أشرافهم. وانظر اللسان (زمع). 127 حارثة في رواية أبى الحسن المدائني، ولم يكن معهم أبو بكر. وأما رواية محمد بن إسحاق، فإنه قال: كان معه زيد بن حارثة وحده، وغاب رسول الله صلى الله عليه وآله عن مكة في هذه الهجرة أربعين يوما، ودخل إليها في جوار مطعم بن عدي. * * * وأما هجرته صلى الله عليه وآله إلى بنى عامر بن صعصعة وإخوانهم من قيس عيلان، فإنه لم يكن معه إلا علي عليه السلام وحده، وذلك عقيب وفاة أبى طالب، أوحى إليه صلى الله عليه وآله: اخرج منها، فقد مات ناصرك، فخرج إلى بنى عامر بن صعصعة، ومعه علي عليه السلام وحده، فعرض نفسه عليهم وسألهم النصر، وتلا عليهم القرآن فلم يجيبوه، فعادا عليهما السلام إلى مكة، وكانت مدة غيبته في هذه الهجرة عشرة أيام، وهي أول هجرة هاجرها صلى الله عليه وآله بنفسه. فأما أول هجرة هاجرها أصحابه ولم يهاجر بنفسه فهجرة الحبشة، هاجر فيها كثير من أصحابه عليه السلام إلى بلاد الحبشة في البحر، منهم جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فغابوا عنه سنين، ثم قدم عليه منهم من سلم وطالت أيامه (1) وكان قدوم جعفر عليه عام فتح خيبر، فقال صلى الله عليه وآله: (ما أدرى بأيهما أنا أسر، أبقدوم جعفر أم بفتح خيبر)!
(1) ج: (مدته). 128 (57) ومن كلام له عليه السلام كلم به الخوارج: الأصل: أصابكم حاصب، ولا بقي منكم آبر. أبعد إيماني بالله، وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه، أشهد على نفسي بالكفر! لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. فأوبوا شر مآب، وارجعوا على أثر الأعقاب. أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا، وسيفا قاطعا، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة. * * * قال الرضى رحمه الله: قوله عليه السلام: (ولا بقي منكم آبر)، يروى على ثلاثة أوجه: أحدها أن يكون كما ذكرناه: (آبر) بالراء، من قولهم: رجل آبر، للذي يأبر النخل، أي يصلحه. ويروى: (آثر) بالثاء، بثلاث نقط، يراد به الذي يأثر الحديث، أي يرويه ويحكيه، وهو أصح الوجوه عندي، كأنه عليه السلام قال: لا بقي منكم مخبر. ويروى: (آبز) بالزاي المعجمة، وهو الواثب، والهالك أيضا يقال له: آبز. * * *
129 الشرح: الحاصب: الريح الشديدة التي تثير الحصباء، وهو صغار الحصى، ويقال لها أيضا حصبه، قال لبيد: جرت عليها إذ خوت من أهلها * أذيالها كل عصوف حصبه (1) فأما التفسيرات التي فسر بها الرضى رحمه الله تعالى قوله عليه السلام: (آبر) فيمكن أن يزاد فيها، فيقال: يجوز أن يريد بقوله: (ولا بقي منكم آبر) أي نمام يفسد ذات البين، والمئبرة: النميمة، وأبر فلان، أي نم، والآبر أيضا: من يبغي القوم الغوائل خفية، مأخوذ من أبرت الكلب إذا أطعمته الإبرة في الخبز، وفي الحديث: (المؤمن كالكلب المأبور)، ويجوز أن يكون أصله (هابر)، أي من يضرب بالسيف فيقطع، وأبدلت الهاء همزة، كما قالوا في: (آل) أهل، وإن صحت الرواية الأخرى (آثر) بالثاء بثلاث نقط، فيمكن أن يريد به ساجي باطن خف البعير، وكانوا يسجون باطن الخف بحديدة ليقتص أثره، رجل آثر وبعير مأثور. وقوله عليه السلام: (فأوبوا شر مآب)، أي ارجعوا شر مرجع. والأعقاب: جمع عقب بكسر القاف، وهو مؤخر القدم، وهذا كله دعاء عليهم، قال لهم أولا: أصابكم حاصب، وهذا من دعاء العرب، قال تميم بن أبي مقبل: فإذا خلت من أهلها وقطينها * فأصابها الحصباء والسفان ثم قال لهم ثانيا: (لا بقي منكم مخبر). ثم قال لهم ثالثا: (ارجعوا شر مرجع)، ثم قال لهم رابعا: (عودوا على أثر الأعقاب): وهو مأخوذ من قوله تعالى: (ونرد (2)
(1) ديوانه 355 البيت أيضا في اللسان 1: 310 (2) سورة الأنعام 71 130 على أعقابنا بعد إذ هدانا الله)، والمراد انعكاس حالهم، وعودهم من العز إلى الذل، ومن الهداية إلى الضلال. وقوله عليه السلام: (وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة) فالإثرة هاهنا الاستبداد عليهم بالفئ والغنائم واطراح جانبهم، وقال النبي صلى الله عليه وآله للأنصار: (ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني).
131 [أخبار الخوارج وذكر رجالهم وحروبهم] واعلم أن الخوارج على أمير المؤمنين عليه السلام كانوا أصحابه وأنصاره في الجمل وصفين قبل التحكيم، وهذه المخاطبة لهم، وهذا الدعاء عليهم، وهذا الاخبار عن مستقبل حالهم، وقد وقع ذلك، فإن الله تعالى سلط على الخوارج بعده الذل الشامل، والسيف القاطع، والإثرة من السلطان، وما زالت حالهم تضمحل، حتى أفناهم الله تعالى وأفنى جمهورهم، ولقد كان لهم من سيف المهلب بن أبي صفرة وبنيه الحتف القاضي، والموت الزؤام. ونحن نذكر من أخبار الخوارج وحروبهم هاهنا طرفا. * * * [عروة بن حدير] فمنهم عروة بن حدير أحد بنى ربيعة بن حنظلة من بنى تميم، ويعرف بعروة ابن أدية وأدية جدة له جاهلية، وكان له أصحاب وأتباع وشيعة، فقتله زياد في خلافة معاوية صبرا. * * * [نجدة بن عويمر الحنفي] ومنهم نجدة بن عويمر (1) الحنفي، كان من رؤسائهم، وله مقاله (2) مفردة من مقالة الخوارج
(1) وهو نجدة بن عامر، وانظر الكامل 3: 184. (2) انظر الملل والنحل للشهرستاني 1: 110 - 112 132 وله أتباع وأصحاب، وإليهم أشار الصلتان العبدي بقوله (1): أرى أمة شهرت سيفها * وقد زيد في سوطها الأصبحي (2) بنجدية أو حرورية * وأزرق يدعو إلى أزرقي فملتنا أننا مسلمون * على دين صديقنا والنبي أشاب الصغير وأفنى الكبير * مر الغداة وكر العشى إذا ليلة أهرمت يومها * أنى بعد ذلك يوم فتى نروح ونغدو لحاجاتنا * وحاجة من عاش لا تنقضي تموت مع المرء حاجاته * وتبقى له حاجة ما بقي وكان نجدة يصلى بمكة بحذاء عبد الله بن الزبير في جمعه [في كل جمعة] (3)، وعبد الله يطلب الخلافة، فيمسكان عن القتال من أجل الحرم. وقال الراعي يخاطب عبد الملك (4): إني حلفت على يمين برة * لا أكذب اليوم الخليفة قيلا ما إن أتيت أبا خبيب وافدا * يوما أريد لبيعتي تبديلا (5) ولما أتيت نجيدة بن عويمر * أبغي الهدى فيزيدني تضليلا من نعمة الرحمن لا من حيلتي * أنى أعد له على فضولا! واستولى نجدة على اليمامة، وعظم أمره، حتى ملك اليمن والطائف وعمان والبحرين ووادي تميم وعامر، ثم إن أصحابه نقموا عليه أحكاما أحدثها في مذهبهم، منها قوله: إن
(1) الأبيات في ديوان الحماسة 3: 191 - بشرح التبريزي ومعاهد التنصيص 1: 73، 74، والكامل 6: 101 - بشرح المرصفي مع اختلاف في الرواية وعدد الأبيات وترتيبها. (2) السوط الأصبحي: منسوب إلى ذي أصبح الحميري، وكان أول من اتخذ هذه السياط التي يعاقب عليها السلطان. انظر الكامل 2: 246 - بشرح المرصفي (3) من كتاب الكامل بشرح المرصفي 6: 102 (4) من ملحمته في جمهرة أشعار العرب 174 (5) أبو خبيب: كنية ابن الزبير. 133 المخطئ بعد الاجتهاد معذور، وإن الدين أمران: معرفة الله ومعرفة رسوله، وما سوى ذلك فالناس معذورون بجهله، إلى أن تقوم عليهم الحجة، فمن استحل محرما من طريق الاجتهاد فهو معذور، حتى إن من تزوج أخته أو أمه مستحلا لذلك بجهالة فهو معذور ومؤمن، فخلعوه وجعلوا اختيار الإمام إليه، فاختار لهم أبا فديك، أحد بنى قيس بن ثعلبة، فجعله رئيسهم. ثم إن أبا فديك أنفذ إلى نجدة بعد من قتله، ثم تولاه بعد قتله طوائف من أصحابه بعد أن تفرقوا عليه، وقالوا: قتل مظلوما. * * * [المستورد بن سعد التميمي] ومنهم المستورد بن سعد أحد بنى تميم، كان ممن شهد يوم النخيلة ونجا بنفسه فيمن نجا من سيف علي عليه السلام، ثم خرج بعد ذلك بمدة على المغيرة بن شعبة، وهو والى الكوفة لمعاوية بن أبي سفيان في جماعة من الخوارج، فوجه المغيرة إليه معقل بن قيس الرياحي، فلما تواقفا دعاه المستورد إلى المبارزة وقال له: علام تقتل الناس بيني وبينك؟ فقال معقل: النصف سألت، فأقسم عليه أصحابه، فقال: ما كنت لأبي عليه، فخرج إليه فاختلفا ضربتين، خر كل واحد منهما من ضربة صاحبه قتيلا. وكان المستورد ناسكا كثير الصلاة، وله آداب وحكم مأثورة (1). * * * [حوثرة الأسدي] ومنهم حوثرة الأسدي، خرج على معاوية في عام الجماعة عصابة من الخوارج، فبعث إليه معاوية جيشا من أهل الكوفة، فلما نظر حوثرة إليهم، قال لهم: يا أعداء الله، أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه، وأنتم اليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه! فلما
(1) الكامل 577 (طبعة أوروبا)، وأورد من كلامه: إذا أفضيت بسري إلى صديقي فأفشاه لم ألمه، لأني كنت أولى بحفظه. لا تفش إلى أحد سرا وإن كان مخلصا إلا على وجه المشاورة. كن أحرص الناس على حفظ سر صاحبك منك على حقن دمك. 134 التحمت الحرب قتل حوثرة، قتله رجل من طيئ، وفضت جموعه (1). * * * [قريب بن مرة وزحاف الطائي] ومنهم قريب بن مرة الأزدي، وزحاف الطائي، كانا عابدين مجتهدين من أهل البصرة، فخرجا في أيام معاوية في إمارة زياد، واختلف الناس: أيهما كان الرئيس؟ فاعترضا الناس، فلقيا شيخا ناسكا من بنى ضبيعة من ربيعة بن نزار فقتلاه - وكان يقال له رؤبة الضبعي - وتنادى الناس، فخرج رجل من بنى قطيعة، من الأزد، وفي يده السيف، فناداه الناس من ظهور البيوت الحرورية: انج بنفسك، فنادوه: لسنا حرورية، نحن الشرط [فوقف] (2) فقتلوه، فبلغ أبا بلال مرداس بن أدية خبرهما، فقال: قريب، لا قربه الله! وزحاف لا عفا الله عنه! ركباها عشواء مظلمة - يريد اعتراضهما الناس - ثم جعلا لا يمران بقبيلة إلا قتلا من وجدا، حتى مرا على بنى علي بن سود، من الأزد، وكانوا رماة، كان فيهم مائة يجيدون الرمي، فرموهم رميا شديدا فصاحوا: يا بنى على، البقيا، لا رماء بيننا. فقال رجل من بنى علي بن سود: لا شئ للقوم سوى السهام * مشحوذة في غلس الظلام فعرد عنهم الخوارج (3)، وخافوا الطلب واشتقوا مقبرة بنى يشكر حتى نفذوا إلى مزينة ينتظرون من يلحق بهم من مضر وغيرها، فجاءهم ثمانون، وخرجت إليهم بنو طاحية، من بنو سود، وقبائل من مزينة، وغيرها، فاستقتلت الخوارج، وحاربت حتى قتلت عن آخرها، وقتل قريب وزحاف (4).
(1) الكامل 579 (طبع أوروبا). (2) من كتاب الكامل (3) عردوا، من التعريد وهو الفرار. (4) الكامل 581، 582 (طبع أوروبا). 135 ومنهم أبو بلال مرداس بن أدية، وهو أخو عروة بن حدير الذي ذكرناه أولا، خرج في أيام عبيد الله بن زياد، وأنفذ إليه ابن زياد عباس بن أخضر المازني، فقتله وقتل أصحابه، وحمل رأسه إلى ابن زياد، وكان أبو بلال عابدا ناسكا شاعرا، ومن قدماء أصحابنا من يدعيه، لما كان يذهب إليه من العدل وإنكار المنكر، ومن قدماء الشيعة من يدعيه أيضا. * * * [نافع بن الأزرق الحنفي] ومنهم نافع بن الأزرق الحنفي، وكان شجاعا مقدما في فقه الخوارج، وإليه تنسب الأزارقة، وكان يفتى بأن الدار دار كفر، وأنهم جميعا في النار، وكل من فيها كافر، إلا من أظهر إيمانه، ولا يحل للمؤمنين أن يجيبوا داعيا منهم إلى الصلاة، ولا أن يأكلوا من ذبائحهم، ولا أن يناكحوهم، ولا يتوارث الخارجي وغيره، وهم مثل كفار العرب وعبدة الأوثان، لا يقبل منهم إلا الاسلام أو السيف والقعد بمنزلتهم، والتقية لا تحل، لان الله تعالى يقول: (إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية) (1)، وقال فيمن كان على خلافهم: (يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم) (2)، فتفرق عنه جماعة من الخوارج، منهم نجدة بن عامر، واحتج نجدة بقول الله تعالى: (وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه)، (3) فسار نجدة وأصحابه إلى اليمامة، وأضاف نافع إلى مقالته التي (4) قدمناها، استحلاله الغدر بأمانته لمن خالفه، فكتب نجدة إليه:
(1) سورة النساء 77 (2) سورة المائدة 54 (3) سورة غافر 28 (4) ب: (مقالة). 136 أما بعد، فإن عهدي بك وأنت لليتيم كالأب الرحيم، وللضعيف كالأخ البر، تعاضد قوى المسلمين، وتصنع للأخرق منهم، لا تأخذك في الله لومة لائم، ولا ترى معونة ظالم، كذلك كنت أنت وأصحابك، أولا (1) تتذكر قولك: لولا أنى أعلم أن للامام العادل مثل أجر رعيته ما توليت أمر رجلين من المسلمين! فلما شريت نفسك في طاعة ربك ابتغاء مرضاته، وأصبت من الحق فصه (2)، وصبرت على مره، تجرد لك الشيطان، ولم يكن أحد أثقل عليه وطأة منك ومن أصحابك، فاستمالك واستهواك، وأغواك فغويت، وأكفرت الذين عذرهم الله تعالى في كتابه، من قعدة المسلمين وضعفتهم، قال الله عز وجل، وقوله الحق، ووعده الصدق: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) (3): ثم سماهم تعالى أحسن الأسماء فقال: (ما على المحسنين من سبيل) (4) ثم استحللت قتل الأطفال، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم عن قتلهم، وقال الله جل ثناؤه: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) (4)، وقال سبحانه في القعدة خيرا، فقال: (وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما) (5) فتفضيله المجاهدين على القاعدين لا يدفع منزلة من هو دون المجاهدين، أو ما سمعت قوله تعالى: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر) (6) فجعلهم من المؤمنين. [وفضل عليهم المجاهدين بأعمالهم] (7) ثم إنك لا تؤدى أمانة إلى من خالفك، والله تعالى قد أمر أن تؤدى الأمانات إلى أهلها. فاتق الله في نفسك، واتق يوما لا يجزى فيه والد عن ولده، ولا مولود هو جاز عن والده شيئا، فإن الله بالمرصاد، وحكمه العدل، وقوله الفصل. والسلام (8).
(1) الكامل: (أما) (2) فصه: كنهه (3) سورة التوبة 91 (4) سورة الإسراء 15 (5) سورة النساء 95 (6) سورة النساء 95 (7) من كتاب الكامل (8) الكامل 612 (طبع أوروبا) 137 فكتب إليه نافع: أما بعد، أتاني كتابك تعظني فيه، وتذكرني وتنصح لي وتزجرني، وتصف ما كنت عليه من الحق، وما كنت أوثره من الصواب، وأنا أسأل الله أن يجعلني من القوم الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وعبت على ما دنت به، من إكفار القعدة وقتل الأطفال، واستحلال الأمانة من المخالفين، وسأفسر لك إن شاء الله... أما هؤلاء القعدة، فليسوا كمن ذكرت ممن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه، ولأنهم كانوا بمكة مقهورين محصورين لا يجدون إلى الهرب سبيلا، ولا إلى الاتصال بالمسلمين طريقا، وهؤلاء قد تفقهوا في الدين، وقرأوا القرآن، والطريق لهم نهج واضح. وقد عرفت ما قال الله تعالى فيمن كان مثلهم، إذ قالوا: (كنا مستضعفين في الأرض) (1) فقال: (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) (1)، وقال سبحانه: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) (2)، وقال: (وجاء المعذرون من الاعراب ليؤذن لهم) (3) فخبر بتعذيرهم، وأنهم كذبوا الله ورسوله، ثم قال: (سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم) (3) فانظر إلى أسمائهم وسماتهم. وأما الأطفال، فإن نوحا نبي الله كان أعلم بالله منى ومنك، وقد قال: (رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) (4)، فسماهم بالكفر وهم أطفال، وقبل أن يولدوا، فكيف كان ذلك
(1) سورة النساء 97 (2) سورة التوبة 81 (3) سورة التوبة 90 (4) سورة نوح 26، 27 138 في قوم نوح، ولا تقوله في قومنا (1)، والله تعالى يقول: (أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر) (2)، وهؤلاء كمشركي العرب، لا يقبل منهم جزية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الاسلام. وأما استحلال أمانات من خالفنا فإن الله تعالى أحل لنا أموالهم، كما أحل دماءهم لنا، فدماؤهم حلال طلق (3)، وأموالهم فئ للمسلمين، فاتق الله وراجع نفسك، فإنه لا عذر لك إلا بالتوبة، ولن يسعك خذلاننا والقعود عنا وترك ما نهجناه لك من مقالتنا، والسلام على من أقر بالحق وعمل به (4). وكتب إلى من بالبصرة من المحكمة: أما بعد فإن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون. إنكم لتعلمون أن الشريعة واحدة، والدين واحد، ففيم المقام بين أظهر الكفار ترون الظلم ليلا ونهارا، وقد ندبكم الله عز وجل إلى الجهاد، فقال: (وقاتلوا المشركين كافة) (5)، ولم يجعل لكم في التخلف عذرا في حال من الأحوال، فقال: (انفروا خفافا وثقالا) (6) وإنما عذر الضعفاء والمرضى، والذين لا يجدون ما ينفقون، ومن كانت إقامته لعلة، ثم فضل عليهم مع ذلك المجاهدين فقال: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله) (7)، فلا تغتروا وتطمئنوا إلى الدنيا، فإنها غرارة مكارة، لذتها نافدة، ونعيمها بائد، حفت بالشهوات اغترارا، وأظهرت حبرة (8) وأضمرت عبرة، فليس آكل منها أكلة تسره، ولا شارب منها شربة تؤنقه (9) إلا ودنا بها درجة إلى أجله، وتباعد بها مسافة من أمله، وإنما جعلها الله دار المتزود منها، إلى النعيم المقيم، والعيش السليم، فليس يرضى بها حازم دارا ولا حكيم قرارا، فاتقوا الله وتزودوا
(1) الكامل: ولا نكون نقوله في قومنا). (2) سورة 43 (3) يقال: حل طلق، أي حلال طيب. (4) الكامل للمبرد 613 (طبع أوروبا). (5) سورة التوبة 36 (6) سورة التوبة 41 (7) سورة النساء. (8) الحبرة: النعمة. (9) تؤنقه: تعجبه. 139 فإن خير الزاد التقوى، والسلام على من اتبع الهدى (1). فلما أظهر نافع مقالته هذه، وانفرد عن الخوارج بها، أقام في أصحابه بالأهواز يستعرض الناس، ويقتل الأطفال، ويأخذ الأموال، ويجبي الخراج، وفشا عماله بالسواد، فارتاع لذلك أهل البصرة، واجتمع منهم عشرة آلاف إلى الأحنف، وسألوه أن يؤمر عليهم أميرا يحميهم من الخوارج، ويجاهد بهم، فأتى عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهو المسمى ببة، فسأله أن يؤمر عليهم - وببة يومئذ أمير البصرة من قبل ابن الزبير - فأمر عليهم مسلم بن عبيس بن كريز، وكان دينا شجاعا، فلما خرج بهم من جسر البصرة، أقبل عليهم، وقال: أيها الناس، إني ما خرجت لامتيار (2) ذهب ولا فضة، وإني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما وراءهم إلا السيوف والرماح، فمن كان شأنه الجهاد، فلينهض، ومن أحب الحياة فليرجع. فرجع نفر يسير، ومضى الباقون معه، فلما صاروا بدولاب (3) خرج إليهم نافع وأصحابه، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح: وعقرت الخيل: وكثر الجراح والقتل، وتضاربوا بالسيوف والعمد (4)، فقتل ابن عبيس أمير أهل البصرة، وقتل نافع بن الأزرق أمير الخوارج: وادعى قتله سلامة الباهلي، وكان نافع قد استخلف عبيد الله ابن بشير بن الماحوز السليطي اليربوعي، واستخلف ابن عبيس الربيع بن عمرو الأجذم الغداني اليربوعي، فكان الرئيسان من بنى يربوع، فاقتتلوا بعد قتل ابن عبيس ونافع قتالا شديدا نيفا وعشرين يوما، حتى قال الربيع لأصحابه: إني رأيت البارحة كأن يدي
(1) الكامل 615 (طبع أوروبا). (2) امتيار: مصدر أمتار لأهله، أي جلب لهم الميرة، والميرة: الطعام. (3) دولاب: قرية بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ. (4) العمد، بفتحتين، أو بضمتين جمعان للعمود. 140 التي أصيبت بكابل انحطت من السماء، فاستشلتني (1)، فلما كان الغد قاتلهم إلى الليل. ثم عاودهم القتال، فقتل، فتدافع أهل البصرة الراية، حتى خافوا العطب، إذ لم يكن لهم رئيس. ثم أجمعوا على الحجاج بن رباب الحميري، فأباها، فقيل له: ألا ترى رؤساء العرب قد اختاروك من بينهم! فقال: إنها مشؤومة، لا يأخذها أحد إلا قتل، ثم أخذها فلم يزل يقاتل القوم بدولاب حتى التقى بعمران بن الحارث الراسبي، وذلك بعد أن اقتتلوا زهاء شهر، فاختلفا ضربتين، فخرا ميتين (2). وقام حارثة بن بدر الغداني بأمر أهل البصرة بعده، وثبت بإزاء الخوارج يناوشهم القتال مناوشة خفيفة، ويزجي الأوقات انتظارا لقدوم أمير من قبل ببة يلي حرب الخوارج: وهذه الحرب تسمى حرب دولاب: وهي من حروب الخوارج المشهورة، انتصف فيها الخوارج من المسلمين، وانتصف المسلمون منهم، فلم يكن فيها غالب ولا مغلوب. * * * [عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي] ومنهم عبيد الله بن بشير بن الماحوز اليربوعي، قام بأمر الخوارج يوم دولاب بعد قتل نافع بن الأزرق: وقام بأمر أهل البصرة عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي: ولاه عبد الله بن الزبير ذلك، ولقيه كتابه بالإمارة وهو يريد الحج، وقد صار إلى بعض الطريق، فرجع فأقام بالبصرة، وولى أخاه عثمان بن عبيد الله بن معمر محاربة الأزارقة، فخرج إليهم في اثنى عشر ألفا، فلقيه أهل البصرة الذين كانوا في وجه الأزارقة، ومعهم حارثة بن بدر الغداني، يقوم بأمرهم عن غير ولاية، وكان ابن الماحوز حينئذ في سوق الأهواز، فلما عبر
(1) استشلتني، قال المبرد: استشلتني، أي أخذتني إليها واستنقذتني، يقال: استشلاه واشتلاه. (2) الكامل 616 - 617 - (طبع أوروبا). 141 عثمان إليهم دجيلا، نهضت إليه الخوارج، فقال عثمان لحارثة: ما الخوارج إلا ما أرى، فقال حارثة: حسبك بهؤلاء! قال: لا جرم! لا أتغدى حتى أناجزهم، فقال حارثة: إن هؤلاء القوم لا يقاتلون بالتعسف، فأبق على نفسك وجندك، فقال: أبيتم يا أهل العراق إلا جبنا! وأنت يا حارثة ما علمك بالحرب! أنت والله بغير هذا أعلم - يعرض له بالشراب، وكان حارثة بن بدر صاحب شراب - فغضب حارثة، فاعتزل، وحاربهم عثمان يومه إلى أن غربت الشمس، فأجلت الحرب عنه قتيلا، وانهزم الناس، وأخذ حارثة بن بدر الراية، وصاح بالناس: أنا حارثة بن بدر! فثاب إليه قوم فعبر بهم دجيلا، وبلغ قتل عثمان البصرة، فقال شاعر من بنى تميم: مضى ابن عبيس صابرا غير عاجز * وأعقبنا هذا الحجازي عثمان (1) فأرعد من قبل اللقاء ابن معمر * وأبرق، والبرق اليماني خوان (2) فضحت قريشا غثها وسمينها * وقيل بنو تيم بن مرة عزلان (3) فلو لا ابن بدر للعراقين لم يقم * بما قام فيه للعراقين إنسان إذا قيل من حامى الحقيقة؟ أومأت * إليه معد بالأكف وقحطان ووصل الخبر إلى عبد الله بن الزبير بمكة، فكتب إلى عمر بن عبيد الله بن معمر بعزله، وولى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي المعروف بالقباع (4) البصرة، فقدمها، فكتب إليه حارثة بن بدر يسأله الولاية والمدد، فأراد توليته، فقال له رجل من بكر بن
(1) الأبيات في الكامل 625 (طبعة أوروبا) (2) قال المبرد: قوله: (فأرعد) زعم الأصمعي أنه خطأ... وأنه لا يقال إلا رعد وبرق... وروى غير الأصمعي: أرعد وأبرق على ضعف. وقوله: والبرق اليماني خوان، يريد: والبرق اليماني يخون (3) كذا في الكامل: وفي ا، ج: (غيلان)، وفي ب: (غرلان). وعزلان: جمع أعزل، وهو من لا سلاح معه. (4) قال المبرد: (وإنما سمى الحارث بن عبد الله القباع، لأنه ولى البصرة، فعير على الناس مكاييلهم، فنظر إلى مكيال صغير في مرأة العين، وقد أحاط بدقيق استكثره، فقال: إن مكيالكم هذا لقباع، والقباع: الذي يخفى أو يخفى ما فيه. الكامل 7: 43 - بشرح المرصفي. 142 وائل: إن حارثة ليس بذلك، إنما هو صاحب شراب، وكان حارثة مستهترا بالشراب، معاقرا للخمر، وفيه يقول رجل من قومه (1): ألم تر أن حارثة بن بدر * يصلى وهو أكفر من حمار ألم تر أن للفتيان حظا * وحظك في البغايا والعقار (2) فكتب إليه القباع: تكفى حربهم إن شاء الله. فأقام حارثة يدافعهم حتى تفرق أصحابه عنه وبقى في خف منهم، فأقام بنهر تيرى، فعبرت إليه الخوارج، فهرب من تخلف معه من أصحابه، وخرج يركض حتى أتى دجيلا، فجلس في سفينة، وأتبعه جماعة من أصحابه، فكانوا معه فيها، ووافاه رجل من بنى تميم، عليه سلاحه والخوارج وراءه، وقد توسط حارثة دجيلا، فصاح به: يا حارثة، ليس مثلي يضيع! فقال للملاح: قرب، فقرب إلى جرف (3)، ولا فرضة هناك، فطفر (4) بسلاحه في السفينة، فساخت بالقوم جميعا، وهلك حارثة (5). * * * وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب،، الأغاني الكبير،، أن (6) حارثة لما عقدوا له الرئاسة وسلموا إليه الراية، أمرهم بالثبات، وقال لهم: إذا فتح الله عليكم فللعرب زيادة فريضتين، وللموالي زيادة فريضة، وندب الناس، فالتقوا وليس بأحد منهم طرق (7) قد فشت فيهم الجراحات، وما تطأ الخيل إلا على القتلى، فبينا هم كذلك، إذ أقبل جمع
(1) نقل المرصفي في رغبة الامل أن البيتين نسبا إلى علقمة بن معبد المازني. (2) العقار: الخمر. (3) الجرف: ما أكله السيل من أسفل سن الوادي والنهر. (4) طفر: وثب. (5) الكامل 626 وما بعدها (طبعة أوروبا) (6) الأغاني 6: 146 وما بعدها (طبعة الدار). مع اختلاف في الرواية. (7) طرق، أي قوة. 143 من الشراة من جهة اليمامة، - يقول المكثر: إنهم مائتان، والمقلل: إنهم أربعون - فاجتمعوا وهم مريحون مع أصحابهم، فصاروا كوكبة (1) واحدة، فلما رآهم حارثة بن بدر ركض برايته منهزما، وقال لأصحابه: كرنبوا ودولبوا * أو حيث شئتم فاذهبوا (2) وقال: أير الحمار فريضة لعبيدكم * والخصيتان فريضة الاعراب قال: كرنبوا، أي اطلبوا كرنبى، وهي قرية قريبة من الأهواز، ودولبوا: اطلبوا دولاب، وهي ضيعة بينها وبين الأهواز أربعة فراسخ. قال: فتتابع الناس على أثره منهزمين، وتبعتهم الخوارج، فألقى الناس أنفسهم في الماء، فغرق منهم بدجيل الأهواز خلق كثير. * * * [الزبير بن علي السليطي وظهور أمر المهلب] ومنهم الزبير بن علي السليطي التميمي، كان على (3) مقدمة ابن الماحوز، وكان ابن الماحوز يخاطب بالخلافة، ويخاطب الزبير بالأمارة. ووصل الزبير بعد هلاك حارثة ابن بدر، وهرب أصحابه إلى البصرة، فخافه الناس خوفا شديدا، وضج أهل البصرة إلى الأحنف، فأتى القباع، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا العدو قد غلبنا على سوادنا وفيئنا، فلم يبق إلا أن يحصرنا في بلدنا حتى نموت هزالا. قال: فسموا إلى رجلا يلي الحرب، فقال الأحنف: لا (3) أرى لها رجلا إلا المهلب بن أبي صفرة، فقال: أو هذا رأى
(1) الكوكبة: الجماعة، وفي الأغاني (كبكبة) وهما بمعنى. (2) الكامل للمبرد 8: 10 وما بعدها - بشرح المرصفي. (3) في الكامل قبل هذه الكلمة: (أن الرأي لا يخيل)، أي لا يشكل ولا يشتبه. 144 جميع أهل البصرة؟ اجتمعوا إلى في غد لأنظر. وجاء الزبير حتى نزل على البصرة، وعقد الجسر ليعبر إليها، فخرج أكثر أهل البصرة إليه، وانضم إلى الزبير جميع كور الأهواز وأهلها رغبة ورهبة، فوافاه البصريون في السفن وعلى الدواب (1)، فاسودت بهم الأرض، فقال الزبير لما رآهم: أبى قومنا إلا كفرا، وقطع الجسر، وأقام الخوارج بإزائهم، واجتمع الناس عند القباع، وخافوا الخوارج خوفا شديدا، وكانوا ثلاث فرق: سمى قوم المهلب، وسمى قوم مالك بن مسمع، وسمى قوم زياد بن عمرو بن أشرف العتكي، فاختبر القباع ما عند مالك وزياد، فوجدهما متثاقلين عن الحرب، وعاد إليه من أشار بهما، وقالوا: قد رجعنا عن رأينا، ما نرى لها إلا المهلب، فوجه إليه القباع فأتاه، فقال له: يا أبا سعيد، قد ترى ما قد رهقنا من هذا العدو، وقد أجمع أهل مصرك عليك، وقال له الأحنف: يا أبا سعيد، إنا والله ما آثرناك، ولكنا لم نر من يقوم مقامك. ثم قال القباع - وأومأ إلى الأحنف -: إن هذا الشيخ لم يسمك إلا إيثارا للدين والبقيا (2) وكل من في مصرك ماد عينه إليك، راج أن يكشف الله عنه هذه الغمة بك، فقال المهلب: لا حول ولا قوة إلا بالله، إني عند نفسي لدون ما وصفتم، ولست آبي ما دعوتم إليه، لكن لي شروطا أشترطها، قالوا: قل، قال: على أن أنتخب من أحببت! قال الأحنف: ذاك لك، قال: ولى إمرة كل بلد أغلب عليه! قالوا: لك ذلك، قال: ولى فئ كل بلد أظفر به! قال الأحنف: ليس ذاك لك ولا لنا، إنما هو فئ للمسلمين فإن سلبتهم إياه كنت عليهم كعدوهم، ولكن لك أن تعطى أصحابك من فئ كل بلد تغلب عليه ما أحببت، وتنفق منه على محاربة عدوك، فما فضل عنكم كان للمسلمين، فقال المهلب: لا حول ولا قوة إلا بالله! فمن لي بذلك؟ قال الأحنف: نحن وأميرك وجماعة أهل مصرك، قال: قد قبلت. فكتبوا بينهم بذلك كتابا، ووضع على يدي الصلت بن حريث بن جابر الجعفي، وانتخب المهلب من جميع الأخماس، فبلغت نخبته اثنى عشر ألفا، ونظروا في بيت المال،
(1) في الكامل بعد هذه الكلمة: (ورجالة). (2) كذا في ج. وفي ا، ب: (التقى)، وهي ساقطة من الكامل. 145 فلم يكن إلا مائتي ألف درهم، فعجزت. فبعث المهلب إلى التجار، فقال: إن تجاراتكم منذ حول قد فسدت بانقطاع مواد الأهواز وفارس عنكم، فهلموا فبايعوني واخرجوا معي أوفكم حقوقكم. فبايعوه وتاجروه، فأخذ منهم من المال ما أصلح به عسكره، واتخذ لأصحابه الخفاتين (1) والرانات المحشوة بالصوف، ثم نهض - وكان أكثر أصحابه رجالة - حتى إذا صار بحذاء القوم أمر بسفن فأصلحت وأحضرت، فما ارتفع النهار حتى فرغ منها، ثم أمر الناس بالعبور، وأمر عليهم ابنه المغيرة، فخرج الناس، فلما قاربوا الشط خاضت إليهم الخوارج، فحاربوهم وحاربهم المغيرة، ونضحهم (2) بالسهام حتى تنحوا، وصار هو وأصحابه على الشط، فحاربوا الخوارج، فكشفوهم وشغلوهم حتى عقد المهلب الجسر وعبر، والخوارج منهزمون، فنهى الناس عن اتباعهم، ففي ذلك يقول شاعر من الأزد: إن العراق وأهله لم يخبروا * مثل المهلب في الحروب فسلموا أمضى وأيمن في اللقاء نقيبة * وأقل تهليلا إذا ما أحجموا وأبلى مع المغيرة يومئذ عطية بن عمرو العنبري، من فرسان تميم وشجعانهم. ومن شعر عطية (3): يدعى رجال للعطاء وإنما * يدعى عطية للطعان الأجرد وقال فيه شاعر من بنى تميم: وما فارس إلا عطية فوقه * إذا الحرب أبدت عن نواجذها الفما به هزم الله الأزارق بعد ما * أباحوا من المصرين حلا ومحرما فأقام المهلب أربعين ليلة يجبى الخراج بكور دجلة، والخوارج بنهر تيرى، والزبير ابن علي منفرد بعسكره عن عسكر ابن الماحوز، فقضى المهلب التجار، وأعطى أصحابه،
(1) الخفتان: ثوب من القطن يلبس فوق الدرع. الألفاظ الفارسية 56 (2) نضحهم: رشقهم ورماهم. (3) الكامل: (فقال عطية). 146 فأسرع الناس إليه رغبة في مجاهدة العدو وطمعا في الغنائم والتجارات، فكان فيمن أتاه محمد بن واسع الأزدي وعبد الله بن رباح ومعاوية بن قرة المزني، وكان يقول: لو جاءت الديلم من هاهنا والحرورية من هاهنا لحاربت الحرورية، وجاءه أبو عمران الجوني. وكان يروى عن كعب أن قتيل (1) الحرورية يفضل قتيل (1) غيرهم بعشره أبواب. ثم أتى المهلب إلى نهر تيرى، فتنحوا عنه إلى الأهواز، وأقام المهلب يجبى ما حواليه من الكور، وقد دس الجواسيس إلى عسكر الخوارج يأتونه بأخبارهم ومن في عسكرهم، وإذا حشوة (2)، ما بين قصاب وحداد وداعر (3). فخطب المهلب الناس، وذكر لهم ذلك، وقال: أمثل هؤلاء يغلبونكم على فيئكم! ولم يزل مقيما حتى فهمهم، وأحكم أمرهم وقوى أصحابه، وكثرت الفرسان في عسكره، وتتام (4) أصحابه عشرين ألفا. ثم مضى يؤم كور الأهواز، فاستخلف أخاه المعارك بن أبي صفرة على نهر تيرى، وجعل المغيرة على مقدمته، فسار حتى قاربهم، فناوشهم وناوشوه، فانكشف عن المغيرة بعض أصحابه، وثبت المغيرة نفسه بقية يومه وليلته يوقد النيران، ثم غاداهم فإذا القوم قد أوقدوا النيران في بقية متاعهم، وارتحلوا عن سوق الأهواز، فدخلها المغيرة، وقد جاءت أوائل خيل المهلب، فأقام بسوق الأهواز، وكتب بذلك إلى الحارث القباع كتابا يقول فيه: أما بعد، فإنا مذ خرجنا نؤم العدو، في نعم من فضل الله متصلة علينا، ونقم متتابعة عليهم، نقدم ويحجمون، ونحل ويرتحلون، إلى أن حللنا سوق الأهواز، والحمد لله رب العالمين، الذي من عنده النصر، وهو العزيز الحكيم.
(1) ب (فتك)، وما أثبته من ا، ج والكامل. (2) الحشوة: رذال الناس. (3) الداعر: الخبيث المفسد. وفي الكامل: (ما بين قصار وضباغ وداعر وحداد) (4) ج: (والتأم) 147 فكتب إليه الحارث: هنيئا لك أخا الأزد الشرف في الدنيا والاجر في الآخرة، إن شاء الله. فقال المهلب لأصحابه: ما أجفى أهل الحجاز أما ترونه عرف (1) اسمي وكنيتي واسم أبى! قالوا: وكان المهلب يبث الأحراس في الامن، كما يبثهم في الخوف، ويذكى (2) العيون في الأمصار كما يذكيها في الصحارى، ويأمر أصحابه بالتحرز، ويخوفهم البيات (3)، وإن بعد منه العدو، ويقول (4): احذروا أن تكادوا كما تكيدون، ولا تقولوا: هزمناهم وغلبناهم، والقوم خائفون وجلون، فإن الضرورة تفتح باب الحيلة. ثم قام فيهم خطيبا، فقال: أيها الناس، قد عرفتم مذهب هؤلاء الخوارج، وأنهم إن قدروا عليكم فتنوكم في دينكم، وسفكوا دماءكم، فقاتلوهم على ما قاتلهم عليه أولكم علي بن أبي طالب، لقد لقيهم (5) الصابر المحتسب مسلم بن عبيس، والعجل المفرط عثمان بن عبيد الله، والمعصى المخالف حارثة بن بدر، فقتلوا جميعا وقتلوا، فالقوهم بحد وجد فإنما هم مهنتكم وعبيدكم، وعار عليكم ونقص في أحسابكم وأديانكم أن يغلبكم هؤلاء على فيئكم، ويطأوا حريمكم. ثم سار يريدهم وهم بمناذر (6) الصغرى، فوجه عبيد الله بن بشير بن الماحوز رئيس الخوارج رجلا يقال له واقد، مولى لآل أبى صفرة من سبى الجاهلية، في خمسين رجلا، فيهم صالح بن مخراق إلى نهر تيرى، وبها المعارك بن أبي صفرة، فقتلوه وصلبوه، فنمى
(1) الكامل: (يعرف). (2) العيون: الجواسيس، وإذكاؤها إرسالها. (3) البيات: اسم من (بيت القوم واعد وتبييتا)، أوقع بهم ليلا وهم غارون. (4) ج: (فإن بعد منه العدو يقول). (5) الكامل: (لقيهم قبلكم)، وفي ب (لقيتم)، وما أثبته من ج (6) مناذر الصغرى، وكذلك مناذر الكبرى: كورتان من كور الأهواز 148 الخبر إلى المهلب، فوجه ابنه المغيرة، فدخل نهر تيرى، وقد خرج واقد منها، فاستنزل عمه فدفنه، وسكن الناس، واستخلف بها ورجع إلى أبيه، وقد نزل بسولاف (1) والخوارج بها، فواقعهم، وجعل على بنى تميم الحريش بن هلال، فخرج رجل من أصحاب المهلب، يقال له عبد الرحمن الإسكاف، فجعل يحض الناس ويهون أمر الخوارج، ويختال بين الصفين، فقال رجل من الخوارج لأصحابه: يا معشر المهاجرين، هل لكم في قتله فيها الجنة! فحمل جماعة منهم على الإسكاف فقاتلهم وحده فارسا، ثم كبا به فرسه، فقاتلهم راجلا قائما وباركا، ثم كثرت به الجراحات فذبب بسيفه، ثم جعل يحثو في وجوههم التراب، والمهلب غير حاضر، فقتل، ثم حضر المهلب فأعلم، فقال للحريش ولعطية العنبري: أسلمتما سيد أهل العراق (2)، لم تعيناه ولم تستنقذاه حسدا له، لأنه رجل من الموالي، ووبخهما. وحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب فقلته، فحمل عليه المهلب فطعنه فقتله، ومال الخوارج بأجمعهم على العسكر، فانهزم الناس، وقتل منهم سبعون رجلا، وثبت المهلب وابنه المغيرة يومئذ، وعرف مكانه. ويقال: حاص (3) المهلب يومئذ حيصة. ويقول الأزد: بل كان يرد المنهزمة ويحمى أدبارهم، وبنو تميم تزعم أنه فر، وقال شاعرهم: بسولاف أضعت دماء قومي * وطرت على مواشكة درور (4) وقال آخر من بنى تميم: تبعنا الأعور الكذاب طوعا * يزجي كل أربعة حمارا (5)
(1) سولاف، بضم السين: قرية في غرب دجيل، قرب مناذر الكبرى. (2) كذا في ا، ج، وفي ب والكامل: (سيد أهل العسكر). (3) حاص حيصة: جال جولة. (4) قال المبرد: مواشكة، يريد سريعة، ودرور، (فعول)، من در الشئ إذا تتابع. (5) يزجي: يسوق. 149 فيا ندمي على تركي عطائي * معاينة وأطلبه ضمارا (1) إذا الرحمن يسر لي قفولا * فحرق في قرى سولاف نارا قوله: (الأعور الكذاب)، يعنى به المهلب كانت عينه عارت بسهم أصابها، وسموه الكذاب، لأنه كان فقيها، وكان يتأول ما ورد في الأثر من أن كل كذب يكتب كذبا إلا ثلاثة: الكذب في الصلح بين رجلين، وكذب الرجل لامرأته بوعد، وكذب الرجل في الحرب بتوعد وتهدد (2). قالوا: وجاء عنه صلى الله عليه وآله: (إنما أنت رجل فخذل عنا ما استطعت). وقال: (إنما الحرب خدعة)، فكان المهلب ربما صنع الحديث ليشد به من أمر المسلمين ما ضعف، ويضعف به من أمر الخوارج ما اشتد، وكان حي من الأزد يقال لهم الندب، إذا رأو المهلب رائحا إليهم قالوا: راح ليكذب، وفيه يقول رجل منهم: أنت الفتى كل الفتى * لو كنت تصدق ما تقول فبات المهلب في ألفين، فلما أصبح رجع بعض المنهزمة، فصاروا في أربعة آلاف، فخطب أصحابه، فقال: والله ما بكم من قلة، وما ذهب عنكم إلا أهل الجبن والضعف والطبع (3) والطمع، فإن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله، فسيروا إلى عدوكم على بركة الله. فقام إليه الحريش بن هلال، فقال: أنشدك الله أيها الأمير أن تقاتلهم، إلا أن يقاتلوك، فإن في أصحابك جراحا، وقد أثخنتهم هذه الجولة. فقبل منه، ومضى المهلب في عشرة فأشرف على عسكر الخوارج، فلم ير منهم أحدا
(1) الضمار: الغائب الذي لا يرتجى. (2) الكامل: (يتوعد ويتهدد). (3) الطبع في الأصل: الصدأ يكثر على السيف وغيره، ثم استعير فيما يشبه ذلك من الأوزار والأنام 150 يتحرك، فقال له الحريش: ارتحل عن هذا المنزل، فارتحل، فعبر دجيلا وصار إلى عاقول (1) لا يؤتى إلا من جهة واحدة، فأقام به، وأقام الناس ثلاثا مستريحين. وفي يقوم سولاف يقول ابن قيس الرقيات: ألا طرقت من آل مية طارقه * على أنها معشوقة الدل عاشقه (2) تراءت وأرض السوس بيني وبينها * ورستاق سولاف حمته الأزارقة إذا نحن شئنا صادفتنا عصابة * حرورية فيها من الموت بارقه أجازت علينا العسكرين كليهما (3) * فباتت لنا دون اللحاف معانقه فأقام المهلب في ذلك العاقول ثلاثة أيام ثم ارتحل، والخوارج بسلى وسلبرى فنزل قريبا منهم، فقال ابن الماحوز لأصحابه: ما تنتظرون بعدوكم وقد هزمتموهم بالأمس، وكسرتم حدهم! فقال له واقد مولى أبى صفرة: يا أمير المؤمنين، إنما تفرق عنهم أهل الضعف والجبن، وبقى أهل النجدة والقوة، فإن أصبتهم لم يكن ظفرا (4) هينا، لأني أراهم لا يصابون حتى يصيبوا، وإن غلبوا ذهب الدين. فقال أصحابه: نافق واقد، فقال ابن الماحوز: لا تعجلوا على أخيكم، فإنه إنما قال هذا نظرا لكم. ثم وجه الزبير بن علي إلى عسكر المهلب، لينظر ما حالهم، فأتاهم في مائتين فحزرهم ورجع. وأمر المهلب أصحابه بالتحارس، حتى إذا أصبح ركب إليهم في تعبئة، فالتقوا بسلى وسلبرى، فتصافوا، فخرج من الخوارج مائة فارس، فركزوا رماحهم بين الصفين، واتكأوا عليها، وأخرج إليهم المهلب أعدادهم، ففعلوا مثل ما فعلوا، لا يرعون إلا الصلاة، حتى إذا أمسوا رجع كل قوم إلى معسكرهم، ففعلوا هكذا ثلاثة أيام.
(1) العاقول: منعطف الوادي. (2) ديوانه 162. (3) في الكامل: (أجازت إلينا)، وفي الديوان: (أجازت إلى). (4) (ظفرك). 151 ثم إن الخوارج تطاردوا لهم في اليوم الثالث، فحمل عليهم هؤلاء الفرسان، فجالوا ساعة، ثم إن رجلا من الخوارج حمل على رجل فطعنه، فحمل عليه المهلب فطعنه، فحمل الخوارج بأجمعهم، كما صنعوا يوم سولاف فضعضعوا الناس، وفقد المهلب وثبت المغيرة في جمع أكثرهم أهل عمان. ثم نجم (1) المهلب في مائة، وقد انغمس كماه (2) في الدم، وعلى رأسه قلنسوة مربعة فوق المغفر محشوة قزا وقد تمزقت، وإن حشوها ليتطاير وهو يلهث، وذلك في وقت الظهر، فلم يزل يحاربهم حتى أتى الليل، وكثر القتلى في الفريقين، فلما كان الغد غاداهم، وقد كان وجه بالأمس رجلا من طاحية بن سود بن مالك بن فهم، من الأزد من ثقاته وأصحابه، يرد المنهزمين، فمر به عامر بن مسمع فرده، فقال: إن الأمير أذن لي في الانصراف، فبعث إلى المهلب، فأعلمه، فقال: دعه فلا حاجة لي في مثله من أهل الجبن والضعف. ثم غاداهم المهلب في ثلاثة آلاف، وقد تفرق عنه أكثر الناس، وقال لأصحابه: ما بكم من قلة! أيعجز أحدكم أن يلقى رمحه ثم يتقدم فيأخذه! ففعل ذلك رجل من كندة، و اتبعه قوم، ثم قال المهلب لأصحابه: أعدوا مخالي فيها حجارة، وارموا بها في وقت الغفلة، فإنها تصد الفارس، وتصرع الراجل، ففعلوا. ثم أمر مناديا ينادى في أصحابه، يأمرهم بالجد والصبر، ويطمعهم في العدو، ففعل ذلك حتى مر ببني العدوية، من بنى مالك بن حنظلة، فنادى فيهم فضربوه، فدعا المهلب بسيدهم - وهو معاوية بن عمرو - فجعل يركله (3) برجله، فقال: أصلح الله الأمير! اعفني من أم كيسان - والأزد تسمى الركبة أم كيسان - ثم حمل المهلب و حملوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فجهد - الأزد تسمى الركبة أم كيسان - ثم حمل المهلب وحملوا، واقتتلوا قتالا شديدا، فجهد الخوارج، ونادى مناد منهم: ألا إن المهلب قد قتل.
(1) نجم: ظهر. (2) الكامل: (كفاه). (3) الركل: الضرب بالرجل خاصة. 152 فركب المهلب برذونا وردا (1)، وأقبل يركض بين الصفين، وإن إحدى يديه لفي القباء، وما يشعر لها، وهو يصيح: أنا المهلب! فسكن الناس بعد أن كانوا قد ارتاعوا وظنوا أن أميرهم قد قتل، وكل الناس مع العصر، فصاح المهلب بابنه المغيرة: تقدم، ففعل وصاح بذكوان مولاه: قدم رأيتك، ففعل، فقال له رجل من ولده: إنك تغرر بنفسك، فزبره وزجره، وصاح: يا بنى سلمة، آمركم فتعصونني! فتقدم وتقدم الناس فاجتلدوا أشد جلاد، حتى إذا كان مع المساء قتل ابن الماحوز، وانصرف الخوارج ولم يشعر المهلب بقتله، فقال لأصحابه: ابغوا لي رجلا جلدا يطوف في القتلى، فأشاروا عليه برجل من جرم، وقالوا: إنا لم نر قط رجلا أشد منه، فجعل يطوف ومعه النيران، فجعل إذا مر بجريح من الخوارج، قال: كافر ورب الكعبة! فأجهز عليه، وإذا مر بجريح من المسلمين أمر بسقيه وحمله، وأقام المهلب يأمرهم بالاحتراس، حتى إذا كان في نصف الليل، وجه رجلا من اليحمد (2) في عشرة، فصاروا إلى عسكر الخوارج، فإذا هم قد تحملوا إلى أرجان، فرجع إلى المهلب فأعلمه، فقال لهم: أنا الساعة أشد خوفا، احذروا البيات. ويروى عن شعبة بن الحجاج أن المهلب قال لأصحابه يوما: إن هؤلاء الخوارج قد يئسوا من ناحيتكم إلا من جهة البيات، فإن يكن ذلك فاجعلوا شعاركم: (حم لا ينصرون) فإن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأمر بها. ويروى أنه كان شعار أصحاب علي بن أبي طالب عليه السلام. فلما أصبح القوم غدوا على القتلى، فأصابوا ابن الماحوز قتيلا، ففي ذلك يقول رجل من الخوارج:
(1) الكامل: (برذونا قصيرا أشهب). (2) اليحمد: بطن من الأزد. 153 بسلى وسلبرى مصارع فتية * كرام وعقرى من كميت ومن ورد (1) وقال آخر: بسلى وسلبرى جماجم فتية * كرام وصرعى لم توسد خدودها (2) وقال رجل من موالي المهلب: لقد صرعت يومئذ بحجر واحد ثلاثة، رميت به رجلا فصرعته، ثم رميت به رجلا فأصبت به أصل أذنه فصرعته، ثم أخذت الحجر وصرعت به ثالثا، وفي ذلك يقول رجل من الخوارج: أتانا بأحجار ليقتلنا بها * وهل يقتل الابطال ويحك بالحجر! وقال رجل من أصحاب المهلب في يوم سلى وسلبرى وقتل ابن الماحوز: ويوم سلى وسلبرى أحاط بهم * منا صواعق لا تبقى ولا تذر (3) حتى تركنا عبيد الله منجدلا * كما تجدل جذع مال منقعر (4) ويروى أن رجلا من الخوارج يوم سلى حمل على رجل من أصحاب المهلب، فطعنه، فلما خالطه الرمح صاح: يا أمتاه! فصاح به المهلب: لا كثر الله منك في المسلمين (5)! فضحك الخارجي، وقال: أمك خير لك منى صاحبا * تسقيك محضا وتعل رائبا وكان المغيرة بن المهلب إذا نظر إلى الرماح قد تشاجرت في وجهه، نكس (6) على
(1) نقل المرصفي عن ابن بري أنه لأبي المقدام بيهس بن صهيب الحنفي. وعقرى: جمع عقير، بمعنى معقور، من عقر الفرس والبعير، إذا قطع قوائمه. (2) سلى وسلبرى، ضبطهما المبرد بكسر السين، وقال الأخفش بفتحهما، وقال: موضعان بالأهواز (3) قال المبرد: (تقول العرب: صاعقة وصواعق، وهو مذهب أهل الحجاز، وبه نزل القرآن، وبنو تميم يقولون: صاقعة وصواقع). (4) المنقعر: المنقلع من أصله. (5) كذا في ج، وفي ب: (مثلك)، وفي الكامل: (بمثلك المسلمين). (6) نكس: طأطأ. 154 قربوس (1) السرج، وحمل من تحتها، فبراها بسيفه، وأثر في أصحابها، فتحوميت الميمنة من أجله، وكان أشد ما تكون الحرب استعارا أشد ما يكون تبسما. وكان المهلب يقول: ما شهد معي حربا قط إلا رأيت البشرى في وجهه! وقال رجل من الخوارج في هذا اليوم: فإن تك قتلى يوم سلى تتابعت * فكم غادرت أسيافنا من قماقم! (2) غداة نكر المشرقية فيهم * بسولاف يوم المأزق المتلاحم (3) فكتب المهلب إلى الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة القباع (4): أما بعد، فإنا لقينا الأزارقة المارقة بحد وجد، فكانت في الناس جولة، ثم ثاب أهل الحفاظ والصبر بنيات صادقة، وأبدان شداد، وسيوف حداد، فأعقب الله خير عاقبة، وجاوز بالنعمة مقدار الامل، فصاروا دريئة (5) رماحنا، وضرائب (6) سيوفنا، وقتل الله أميرهم ابن الماحوز، وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها. والسلام. فكتب إليه القباع: قد قرأت كتابك يا أخا الأزد، فرأيتك قد وهب (7) لك شرف الدنيا وعزها، وذخر لك إن شاء الله ثواب الآخرة وأجرها، ورأيتك أوثق حصون المسلمين، وهاد
(1) قربوس السرج: مقدمه، ولكل سرج قربوسان مقدم ومؤخر. (2) القماقم، بضم أوله: السيد الكثير الواسع الفضل، كالقمقام. (3) المأزق: الموضع الضيق يقتتلون فيه، والمتلاحم، من قولهم: شجة متلاحمة، وهي التي تشق اللحم دون العظم ثم تتلاحم فلا يجوز فيها المسبار. والمشرفية: السيوف نسبت إلى المشارف من أرض الشام. (4) في الكامل: (بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد...). (5) الدريئة: حلقة يتعلم عليها الطعن. (6) الضرائب: جمع ضريبة، وهو كل ما ضربت بسيفك (7) الكامل: (وهب الله لك... وذخر لك...). 155 أركان المشركين، وذا الرياسة وأخا السياسة، فاستدم الله بشكره، يتمم عليك نعمه. والسلام. وكتب إليه أهل البصرة يهنئونه، ولم يكتب إليه الأحنف، ولكن قال: اقرأوا عليه السلام وقولوا: أنا لك على ما فارقتك عليه. فلم يزل يقرأ الكتب وينظر في تضاعيفها، ويلتمس كتاب الأحنف فلا يراه، فلما لم يره، قال لأصحابه: أما كتب أبو بحر؟ فقال له الرسول: إنه حملني إليك رسالة، فأبلغه، فقال: هذا أحب إلى من هذه الكتب. واجتمعت الخوارج بأرجان، فبايعوا الزبير بن علي، وهو من بنى سليط بن يربوع، من رهط ابن الماحوز، فرأى فيهم انكسارا شديدا، وضعفا بينا، فقال لهم: اجتمعوا، فاجتمعوا، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد رسوله صلى الله عليه وآله، ثم أقبل عليهم فقال: إن البلاء للمؤمنين تمحيص وأجر، وهو على الكافرين عقوبة وخزي، وإن يصب منكم أمير المؤمنين، فما صار إليه خير مما خلف، وقد أصبتم منهم مسلم بن عبيس وربيعا الأجذم والحجاج بن رباب (1) وحارثة بن بدر، وأشجيتم المهلب وقتلتم أخاه المعارك، والله يقول لإخوانكم المؤمنين: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس) (2)، فيوم سلى كان لكم بلاء وتمحيصا، ويوم سولاف كان لهم عقوبة ونكالا، فلا تغلبن على الشكر في حينه، والصبر في وقته، وثقوا بأنكم المستخلفون في الأرض، و العاقبة للمتقين. ثم تحمل للمحاربة نحو المهلب، فنفحهم المهلب نفحة فرجعوا وأكمنوا للمهلب - في غمض (3) من غموض الأرض يقرب من عسكره - مائة فارس ليغتالوه، فسار المهلب
(1) الكامل: (باب). (2) سورة آل عمران 140 (3) الغمض: المطمئن من الأرض 156 يوما يطيف بعسكره، ويتفقد سواده، فوقف على جبل، فقال: إن من التدبير لهذه المارقة أن تكون قد أكمنت في سفح هذا الجبل كمينا، فبعث المهلب عشرة فوارس، فاطلعوا على المائة، فلما علموا بهم قطعوا القنطرة ونجوا وانكشفت الشمس فصاحوا: يا أعداء الله، لو قامت القيامة لجددنا ونحن في جهادكم (1). ثم يئس الزبير من ناحية المهلب، فضرب إلى ناحية أصبهان، ثم كر راجعا إلى أرجان، وقد جمع جموعا، وكان المهلب يقول: كأني بالزبير وقد جمع لكم، فلا ترهبوهم، فتنخب (2) قلوبكم، ولا تغفلوا الاحتراس فيطمعوا فيكم. فجاءوه من أرجان، فلقوه مستعدا آخذا بأفواه الطرق، فحاربهم فظهر عليهم ظهورا بينا، ففي ذلك يقول رجل من بنى يربوع: سقى الله المهلب كل غيث * من الوسمي ينتحر انتحارا (3) فما وهن المهلب يوم جاءت * عوابس خيلهم تبغى الغوارا (4) وقال المهلب يومئذ: ما وقفت في مضيق من الحرب إلا رأيت أمامي رجالا من بنى الهجيم بن عمرو بن تميم يجالدون، وكأن لحاهم أذناب العقاعق (5) و [كانوا] (6) صبروا معه في غير مواطن. وقال رجل من أصحاب المهلب من بنى تميم:
(1) في الكامل: (لجددنا في جهادكم). (2) تنخب: تضعف، وفي الكامل: (تخبث). (3) - - -: مطر الربيع الأول، سمى به لأنه يسم الأرض بالنبات، وانتحر الوسمي، أي انبعق بماء كثير، ومنه قول الراغي: فمر على منازلها ألقى * بها الأثقال وانتحر انتحارا (4) الغوار: مصدر غاور العدو مغاورة وغوارا، أغار عليه. (5) العقاعق: جمع عقعق، وهو طائر ذو لونين: أبيض وأسود طويل الذنب. (6) من الكامل. 157 ألا يامن لصب مستهام (1) * قريح القلب قد مل المزونا (2) لهان على المهلب ما لقينا * إذا ما راح مسرورا بطينا (3) يجر السابري ونحن شعث * كأن جلودنا كسيت طحينا (4) وحمل يومئذ الحارث بن هلال على قيس الأكاف، وكان من أنجد فرسان الخوارج، فطعنه فدق صلبه، وقال: قيس الأكاف غداة الروع يعلمني * ثبت المقام إذا لاقيت أقراني وقد كان بعض جيش المهلب يوم سلى وسلبرى صاروا إلى البصرة، فذكروا أن المهلب قد أصيب، فهم أهل البصرة بالنقلة إلى البادية، حتى ورد كتابه بظفره، فأقام الناس، وتراجع من كان ذهب منهم، فعند ذلك قال الأحنف: البصرة بصرة المهلب. وقدم رجل من كندة يعرف بابن أرقم، فنعى ابن عم له، وقال: إني رأيت رجلا من الخوارج، وقد مكن رمحه من صلبه، فلم ينشب أن قدم المنعى سالما، فقيل له ذلك، فقال: صدق ابن أرقم، لما أحسست برمحه بين كتفي صحت به: البقية، فرفعه، وتلا: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) (5) ووجه المهلب بعقب هذه الوقعة رجلا من الأزد، برأس عبيد الله بن بشير بن الماحوز إلى الحارث بن عبد الله، فلما صار بكربج (6) دينار لقيته إخوة عبيد الله: حبيب وعبد الملك وعلى بنو بشير بن الماحوز
(1) الكامل: (مستحن)، من استحنه الشوق إلى وطنه، أي استطربه. (2) قال المبرد: المزون: عمان، وهو اسم من أسمائها، قال الكميت: فأما الأزد أزد بنى سعيد * فأكره أن أسميها المزونا وقال جرير: وأطفأت نيران المزون وأهلها * وقد حاولوها فتنة أن تسعرا (3) البطين: عظيم البطن (4) السابري من الثياب: ما كان رقيقا. (5) سورة هود 86 (6) كربج: موضع قرب سوق الأهواز. 158 فقالوا: ما الخبر؟ وهو لا يعرفهم، فقال: قتل الله ابن الماحوز المارق، وهذا رأسه معي، فوثبوا عليه فقتلوه وصلبوه، ودفنوا رأس أخيهم عبيد الله، فلما ولى الحجاج دخل عليه على ابن بشير، وكان وسيما جسيما، فقال: من هذا؟ فخبره، فقتله ووهب ابنه الأزهر وابنته لأهل الأزدي المقتول، وكانت زينب بنت بشير لهم مواصلة، فوهبوهما لها. * * * قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتاب،، الكامل،، (1): ولم يزل المهلب يقاتل الخوارج في ولاية الحارث القباع، حتى عزل وولى مصعب بن الزبير، فكتب إلى المهلب أن أقدم على، واستخلف ابنك المغيرة ففعل بعد أن جمع الناس، وقال لهم: إني قد استخلفت المغيرة عليكم، وهو أبو صغيركم رقة ورحمة، وابن كبيركم طاعة وبرا وتبجيلا، وأخو مثله مواساة ومناصحة، فلتحسن له طاعتكم، وليلن له جانبكم، فوالله ما أردت صوابا قط إلا سبقني إليه. ثم مضى إلى مصعب، فكتب مصعب إلى المغيرة بولايته، وكتب إليه: إنك إن لم تكن كأبيك، فإنك كاف لما وليت (2)، فشمر وائتزر (3)، وجد واجتهد. ثم شخص المصعب إلى المزار، فقتل أحمر بن شميط، ثم أتى الكوفة فقتل المختار، وقال للمهلب: أشر على برجل أجعله بيني وبين عبد الملك، فقال له: أذكر واحدا من ثلاثة: محمد بن عمير بن عطارد الدارمي، أو زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي، أو داود ابن قحذم، قال: أو تكفيني أنت؟ قال: أكفيك إن شاء الله. فشخص فولاه الموصل فخرج إليها، وصار مصعب إلى البصرة لينفر إلى أخيه بمكة. فشاور الناس فيمن يستكفيه
(1) الكامل 643 وما بعدها (طبع أوروبا) (2) الكامل: (وليتك) (3) الكامل: (واتزر) 159 أمر الخوارج، فقال قوم: ول عبد الله بن أبي بكرة، وقال قوم: ول عمر بن عبيد الله بن معمر، وقال قوم: ليس لهم إلا المهلب فاردده إليهم، وبلغت المشورة الخوارج فأداروا الامر بينهم، فقال قطري بن الفجاءة المازني - ولم يكن أمروه عليهم بعد -: إن جاءكم عبد الله بن أبي بكرة أتاكم سيد سمح كريم جواد مضيع لعسكره، وإن جاءكم عمر بن عبيد الله أتاكم فارس شجاع، بطل جاد، يقاتل لدينه ولملكه، وبطبيعة لم أر مثلها لأحد، فقد شهدته في وقائع، فما نودي في القوم لحرب إلا كان أول فارس، حتى يشد على قرنه ويضربه، وإن رد المهلب فهو من قد عرفتموه، إذا أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الاخر، يمده إذا أرسلتموه، ويرسله إذا مددتموه، لا يبدؤكم إلا أن تبدأوه، إلا أن يرى فرصة فينتهزها، فهو الليث المبر (1)، والثعلب الرواغ، والبلاء المقيم. فولى مصعب عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر، ولاه فارس، والخوارج بأرجان يومئذ، وعليهم الزبير بن علي السليطي، فشخص إليهم فقاتلهم، وألح عليهم حتى أخرجهم منها، فألحقهم بأصبهان، فلما بلغ المهلب أن مصعبا ولى حرب الخوارج عمر بن عبيد الله، قال: رماهم بفارس العرب وفتاها. فجمع الخوارج له، وأعدوا واستعدوا، ثم أتوا سابور (2). فسار إليهم حتى نزل منهم على أربعة فراسخ، فقال له مالك بن أبي حسان الأزدي: إن المهلب كان يذكى العيون، ويخاف البيات، ويرتقب الغفلة، وهو على أبعد من هذه المسافة منهم. فقال عمر: اسكت، خلع الله قلبك! أتراك تموت قبل أجلك! وأقام هناك، فلما كان ذات ليلة بيته الخوارج، فخرج إليهم فحاربهم حتى أصبح، فلم يظفروا منه بشئ. فأقبل على مالك بن أبي حسان، فقال: كيف رأيت؟ فقال: قد سلم الله، ولم يكونوا
(1) المبر: الغالب، أبر عليه، إذا غلبه. (2) سابور: كورة مشهورة بأرض فارس، بينها وبين شيراز خمسة وعشرون فرسخا. 160 يطمعون في مثلها من المهلب، فقال: أما إنكم لو ناصحتموني مناصحتكم المهلب، لرجوت أن أنفى هذا العدو، ولكنكم تقولون: قرشي حجازي، بعيد الدار خيره لغيرنا، فتقاتلون معي تعذيرا (1). ثم زحف إلى الخوارج من غد ذلك اليوم، فقاتلهم قتالا شديدا، حتى ألجأهم إلى قنطرة، فتكاثف الناس عليها حتى سقطت، فأقام حتى أصلحها (2)، ثم عبر، وتقدم ابنه عبيد الله بن عمر - وأمه من بنى سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب - فقاتلهم حتى قتل، فقال قطري للخوارج: لا تقاتلوا عمر اليوم، فإنه موتور، قد قتلتم ابنه - ولم يعلم عمر بقتل ابنه حتى أفضى إلى القوم، وكان مع ابنه النعمان بن عباد - فصاح به عمر: يا نعمان، أين ابني؟ قال: احتسبه فقد استشهد صابرا مقبلا غير مدبر، فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون! ثم حمل على الخوارج حمله لم ير مثلها، وحمل أصحابه بحملته، فقتلوا في وجههم ذلك تسعين رجلا من الخوارج، وحمل على قطري فضربه على جبينه ففلقه، وانهزمت الخوارج وانتهبها، فلما استقروا ورأي ما نزل بهم، قال: ألم أشر عليكم بالانصراف! فجعلوه حينئذ من (3) وجوههم، حتى خرجوا من فارس، وتلقاهم في ذلك الوقت الفزر بن مهزم العبدي، فسألوه عن خبره، وأرادوا قتله، فأقبل على قطري، وقال: إني مؤمن مهاجر، فسأله عن أقاويلهم فأجاب إليها، فخلوا عنه، ففي ذلك يقول في كلمة له: فشدوا وثاقي ثم ألجوا خصومتي * إلى قطري ذي الجبين المفلق وحاججتهم في دينهم فحججتهم * وما دينهم غير الهوى والتخلق ثم رجعوا وتكانفوا (4)، وعادوا إلى ناحية أرجان، فسار إليهم عمر بن عبيد الله، وكتب إلى مصعب:
(1) تعذيرا، أي تقاتلون معي من غير تمام أو مبالغة. (2) ج: (فأصلحها). (3) كذا في ب، وفي ا، ج والكامل بحذف كلمة (من). (4) في زيادات الأخفش على الكامل: (تكانفوا، أعان بعضهم بعضا واجتمعوا وصار بعضهم في كنف بفض). 161 أما بعد، فإني لقيت الأزارقة، فرزق الله عز وجل عبيد الله بن عمر الشهادة، ووهب له السعادة، ورزقنا بعد عليهم الظفر، فتفرقوا شذر مذر (1). وبلغني عنهم عودة فيممتهم، وبالله أستعين، وعليه أتوكل. فسار إليهم ومعه عطية بن عمرو، ومجاعة بن سعر فالتقوا، فألح عليهم عمر حتى أخرجهم، وانفرد من أصحابه، فعمد إلى أربعة عشر رجلا من مذكوريهم وشجعانهم، وفي يده عمود، فجعل لا يضرب رجلا منهم ضربة إلا صرعه، فركض إليه قطري على فرس طمر (2)، وعمر على مهر، فاستعلاه قطري بقوة فرسه، حتى كاد يصرعه، فبصر به مجاعة، فأسرع إليه، فصاحت الخوارج: يا أبا نعامة، إن عدو الله قد رهقك (3). فانحط قطري على قربوسه وطعنه مجاعة، وعلى قطري درعان فهتكهما وأسرع السنان في رأس قطري، فكشط جلده ونجا، وارتحل القوم إلى أصفهان، فأقاموا برهة، ثم رجعوا إلى الأهواز، وقد ارتحل عمر بن عبيد الله إلى إصطخر (4) فأمر مجاعة فجبى الخراج أسبوعا، فقال له: كم جبيت؟ قال: تسعمائة ألف، فقال: هي لك. وقال يزيد بن الحكم لمجاعة: ودعاك دعوة مرهق فأجبته * عمر وقد نسي الحياة وضاعا (5) فرددت عادية الكتيبة عن فتى * قد كاد يترك لحمه أوزاعا (6) قال: ثم عزل مصعب بن الزبير، وولى عبد الله بن الزبير العراق ابنه حمزة
(1) شذر، مذر، بالتحريك فيهما: ذهبوا في كل وجه، ومذر: اتباع. (2) فرس طمر، هو الطويل القوائم الخفيف، أو هو المستفز للوثب والعدو، والأنثى طمرة. (3) رهقك: غشاك. (4) إصطخر: بلد من أعيان بلاد فارس. (5) المرهق: هو الذي أدرك ليقتل، من أرهق الرجل إذا قتله. و (عمر) فاعل: (دعاك). (6) العادية: الخيل تعدو، أو الرجال يعدون. وأوزاعا: قطعا. 162 ابن عبد الله بن الزبير، فمكث قليلا، ثم أعيد مصعب إلى العراق، والخوارج بأطراف أصبهان، والوالي عليها عتاب بن ورقاء الرياحي، فأقام الخوارج هناك يجبون شيئا من القرى، ثم أقبلوا إلى الأهواز من ناحية فارس، فكتب مصعب إلى عمر بن عبيد الله: ما أنصفتنا! أقمت بفارس تجبى الخراج، ومثل هذا العدو يجتاز بك لا تحاربه! والله لو قاتلت ثم هزمت لكان أعذر لك! وخرج مصعب من البصرة يريدهم، وأقبل عمر بن عبيد الله يريدهم، فتنحى الخوارج إلى السوس، ثم أتوا إلى المدائن، وبسطوا في القتل، فجعلوا يقتلون النساء والصبيان! حتى أتوا المذار (1)، فقتلوا أحمر طيئ، وكان شجاعا وكان من فرسان عبيد الله بن الحر، وفي ذلك يقول الشاعر: تركتم فتى الفتيان أحمر طيئ * بساباط لم يعطف عليه خليل (2) ثم خرجوا عامدين إلى الكوفة، فلما خالطوا سوادها - وواليها الحارث القباع - تثاقل عن الخروج، وكان جبانا، فذمره (3) إبراهيم بن الأشتر، ولامه الناس، فخرج متحاملا حتى أتى النخيلة، ففي ذلك يقول الشاعر: إن القباع سار سيرا نكرا * يسير يوما ويقيم عشرا وجعل يعد الناس بالخروج ولا يخرج، والخوارج يعيثون، حتى أخذوا امرأة، فقتلوا أباها بين يديها، وكانت جميلة، ثم أرادوا قتلها، فقالت: أتقتلون من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين! فقال قائل منهم: دعوها، فقالوا: قد فتنتك، ثم قدموها فقتلوها.
(1) المذار: بلدة في ميسان بين واسط البصرة. (2) ساباط: موضع بالمدائن، يقال له: ساباط كسرى. (3) ذمره، أي حضه مع لوم ليجد. 163 وقربوا امرأة أخرى وهم بإزاء القباع، والجسر معقود بينهم، فقطعه القباع وهو في ستة آلاف، والمرأة تستغيث به وهي تقبل، وتقول: علام تقتلونني! فوالله ما فسقت، ولا كفرت، ولا زنيت (1)، والناس يتفلتون إلى القتال، والقباع يمنعهم. فلما خاف أن يعصوه أمر عند ذاك بقطع الجسر، فأقام بين دبيرى ودباها (2) خمسة أيام، والخوارج بقربه، وهو يقول للناس في كل يوم: إذا لقيتم العدو غدا، فأثبتوا أقدامكم واصبروا، فإن أول الحرب الترامي، ثم إشراع الرماح، ثم السلة (3) فثكلت رجلا أمه فر من الزحف! فقال بعضهم لما أكثر عليهم: أما الصفة فقد سمعناها، فمتى يقع الفعل؟ وقال الراجز: إن القباع سار سيرا ملسا (4) * بين دباها ودبيرى خمسا وأخذ الخوارج حاجتهم، وكان شأن القباع التحصن منهم، ثم انصرفوا ورجع إلى الكوفة، وساروا من فورهم إلى أصبهان، فبعث عتاب بن ورقاء الرياحي إلى الزبير بن علي : أنا ابن عمك، ولست أراك تقصد في انصرافك من كل حرب غيري. فبعث إليه الزبير: إن أدنى الفاسقين وأبعدهم في الحق سواء. فأقام الخوارج يغادون عتاب بن ورقاء القتال ويراوحونه، حتى طال عليهم المقام، ولم يظفروا بكبير شئ فلما كثر عليهم ذلك انصرفوا، لا يمرون بقرية بين أصبهان والأهواز إلا استباحوها، وقتلوا من فيها. وشاور المصعب الناس فيهم، فأجمع رأيهم على
(1) الكامل: (ارتددت). (2) دبيرى ودباها، بفتح الدال فيهما: قريتان من نواحي بغداد. (3) السلة: استلال السيوف. (4) الملس: السير الشديد. 164 المهلب، فبلغ الخوارج مشاورتهم، فقال لهم قطري: إن جاءكم عتاب بن ورقاء، فهو فاتك يطلع في أول المقنب (1) ولا يظفر بكثير (2) وإن جاءكم عمر بن عبيد الله ففارس يقدم، إما عليه وإما له، وإن جاءكم المهلب فرجل لا يناجزكم حتى تناجزوه، ويأخذ منكم ولا يعطيكم، فهو البلاء الملازم، والمكروه الدائم. وعزم مصعب على توجيه المهلب، وأن يشخص هو لحرب عبد الملك. فلما أحس به الزبير خرج إلى الري - وبها يزيد بن الحارث بن رويم - فحاربه ثم حصره، فلما طال عليه الحصار خرج إليه، فكان الظفر للخوارج، فقتل يزيد بن الحارث بن رويم، ونادى يزيد ابنه حوشبا، ففر عنه وعن أمه لطيفة [وكان علي بن أبي طالب عليه السلام دخل على الحارث بن رويم يعود ابنه يزيد، فقال: عندي جارية لطيفة الخدمة أبعث بها إليك، فسماها يزيد لطيفة] (3)، فقتلت مع بعلها (4) يزيد يومئذ. وقال الشاعر: مواقفنا في كل يوم كريهة * أسر وأشفى من مواقف حوشب دعاه أبوه والرماح شوارع (5) * فلم يستجب بل راغ ترواغ ثعلب ولو كان شهم النفس أو ذا حفيظة * رأى ما رأى في الموت عيسى بن مصعب وقال آخر: نجى حليلته وأسلم شيخه * نصب الأسنة حوشب بن يزيد
(1) المقنب: جماعة الخيل. (2) كذا في ا، ج. وفي ب والكامل: (بكبير). (3) تكملة من كتاب الكامل. (4) الكامل: (فقتلت معه). (5) كذا في ا، ج والكامل، وفي ب: (تنوشه): (6) نصب الأسنة، أي مخافتها. 165 قال: ثم (1) انحط الزبير على أصفهان، فحصر بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر، وعتاب يحاربه في بعضهن، فلما طال به الحصار قال لأصحابه: ما تنتظرون! والله ما تؤتون من قلة، وأنكم لفرسان عشائركم، ولقد حاربتموهم مرارا فانتصفتم منهم، وما بقي مع هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم، فيموت أحدكم، فيدفنه أخوه، ثم يموت أخوه فلا يجد من يدفنه، فقاتلوا القوم وبكم قوة من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشى إلى قرنه. فلما أصبح صلى بهم الصبح، ثم خرج إلى الخوارج وهم غارون (2)، وقد نصب لواء لجارية له يقال لها ياسمين، فقال: من أراد البقاء فليلحق بلواء ياسمين، ومن أراد الجهاد فليخرج معي، فخرج في ألفين وسبعمائة فارس، فلم يشعر بهم الخوارج حتى غشوهم، فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج منهم مثله، فعقروا منهم خلقا كثيرا وقتل الزبير بن علي، وانهزمت الخوارج، فلم يتبعهم عتاب ففي ذلك يقول القائل: ويوم بجي تلافيته (3) * ولو لاك لاصطلم العسكر (4) وقال آخر: خرجت من المدينة مستميتا * ولم أك في كتيبة ياسمينا
(1) في الكامل قيل هذا الكلام: (وقال ابن حوشب لبلال بن أبي بردة يعيره بأمه - وبلال مشدود عند يوسف بن عمر يا بن حوراء! فقال بلال - وكان جلدا: إن الأمة تسمى حوراء وجيداء ولطيفة وزعم الكلبي أن بلالا كان جلدا حيث ابتلى. قال الكلبي: ويعجبني أن أرى الأسير جلدا. قال: وقال خالد بن صفوان له بحضرة يوسف: الحمد لله الذي أزال سلطانك، وهد ركنك، وغير حالك، فوالله لقدم كنت شديد الحجاب، مستخفا بالشريف، مظهرا للعصبية، فقال له بلال: إنما طال لسانك يا خالد لثلاث معك هن على: الامر عليك مقبل وهو عنى مدبر، وأنت مطلق وأنا مأسور، وأنت في طينتك وأنا في هذا البلد غريب - وإنما جرى إلى هذا لأنه يقال: إن أصل آل الأهتم من الحيرة، وأنهم أشابة دخلت في بنى منقر من الروم). (2) غارون: غافلون. (3) جي: اسم مدينة كانت ناحية أصبهان، والبيت لأعشى همدان (ياقوت). (4) اصطلم: أبيد. 166 أليس من الفضائل أن قومي * غدوا مستلئمين مجاهدينا (1) قال: وتزعم الرواة أنهم في أيام حصارهم كانوا يتواقفون، ويحمل بعضهم على بعض، وربما كانت مواقفة (2) بغير حرب، و ربما اشتدت الحرب بينهم، وكان رجل من أصحاب عتاب - يقال له: شريح، و يكنى أبا هريرة - إذا تحاجز (3) القوم مع المساء نادى بالخوارج والزبير بن علي: يا بن أبي الماحوز والأشرار * كيف ترون يا كلاب النار شد أبي هريرة الهرار * يهركم بالليل والنهار ألم تروا جيا على المضمار * تمسي من الرحمن في جوار فغاظهم ذلك، فكمن له عبيدة بن هلال، فضربه بالسيف، واحتمله أصحابه، وظنت الخوارج أنه قد قتل، فكانوا إذا تواقفوا نادوهم: ما فعل الهرار؟ فيقولون: ما به من بأس، حتى أبل من علته، فخرج إليهم، فقال: يا أعداء الله، أترون بي بأسا؟ فصاحوا به: قد كنا نرى أنك قد لحقت بأمك الهاوية، إلى النار الحامية. * * * [قطري بن الفجاءة المازني] ومنهم قطري بن الفجاءة المازني، قال أبو العباس (4): لما قتل (3) الزبير بن علي أدارت الخوارج أمرها، فأرادوا تولية عبيدة بن هلال، فقال: أدلكم على من هو خير لكم منى؟ من يطاعن في قبل، ويحمى في دبر، عليكم
(1) مستلئمين: لا بسين اللامة، وهي الدرع، وفي ج: (مستسلمين). (2) المواقفة في الحرب والخصومة: أن يقف كل من الطرفين أمام الاخر. (3) ج: (تأخر). (4) الكامل 652 وما بعدها (طبعة أوروبا). 167 بقطري بن الفجاءة المازني. فبايعوه. وقالوا: يا أمير المؤمنين، امض بنا إلى فارس، فقال: إن بفارس عمر بن عبيد الله بن معمر، ولكن نسير إلى الأهواز، فإن خرج مصعب من البصرة دخلناها، فأتوا الأهواز ثم ترفعوا عنها على إيذج (1) - وكان المصعب قد عزم على الخروج إلى باجميرا (2) - وقال لأصحابه: إن قطريا لمطل علينا، وإن خرجنا عن البصرة دخلها، فبعث إلى المهلب فقال: أكفنا هذا العدو، فخرج إليهم المهلب، فلما أحس به قطري يمم نحو كرمان، وأقام المهلب بالأهواز، ثم كر عليه قطري، وقد استعد، وكانت الخوارج في حالاتهم أحسن عدة ممن يقاتلهم بكثرة السلاح وكثرة الدواب، وحصانة الجنن (3) فحاربهم المهلب، فدفعهم فصاروا إلى رامهرمز، وكان الحارث بن عميرة الهمداني قد صار إلى المهلب مراغما لعتاب بن ورقاء، ويقال: إنه لم يرضه عن قتله الزبير بن علي، وكان الحارث بن عميرة، هو الذي قتله وخاض إليه أصحابه، ففي ذلك يقول أعشى همدان: إن المكارم أكملت أسبابها * لابن الليوث الغر من همدان (4) للفارس الحامي الحقيقة معلما * زاد الرفاق وفارس الفرسان (5)
(1) إيذج، بكسر الهمزة وفتح الذال: بلد بين خوزستان وأصبهان. (2) باجميرا، بضم الجيم وفتح الميم وياء ساكنة: موضع دون تكريت. (3) الجنن: جمع جنة، وهي الدرع. (4) ديوان الأعشين 343، وروايته: (من قحطان)، وهي رواية الكامل أيضا. (5) ديوان الأعشين والكامل: (زاد الرفاق إلى قرى نجران)، قال المبرد: وتأويله أن الرفقة إذا صحبها أغناها عن التزود، كما فال جرير - وأراد ابن له سفرا، وفي ذلك السفر يحيى بن أبي حفصة، فقال لأبيه: زودني، فقال جرير: أزادا سوى يحيى تريد وصاحبا * ألا إن يحيى نعم زاد المسافر فما تنكر الكو ماء ضربة سيفه * إذا أرملوا أو خف ما في الغرائر وزاد في الديوان بعد هذا البيت: حتى تداركهم أغر سميدع * فحماهم إن الكريم يمان 168 الحارث بن عميرة الليث الذي * يحمى العراق إلى قرى نجران (1) ود الأزارق لو يصاب بطعنة * ويموت من فرسانهم مائتان قال أبو العباس: وخرج مصعب إلى باجميرا، ثم أتى الخوارج خبر مقتله بمسكن، ولم يأت المهلب وأصحابه، فتواقفوا يوما برامهرمز على الخندق، فناداهم الخوارج: ما تقولون في مصعب؟ قالوا: إمام هدى، قالوا: فما تقولون في عبد الملك؟ قالوا: ضال مضل، فلما كان بعد يومين أتى المهلب قتل المصعب، وأن أهل العراق قد اجتمعوا على عبد الملك، وورد عليه كتاب عبد الملك بولايته، فلما تواقفوا ناداهم الخوارج: ما تقولون في المصعب؟ قالوا: لا نخبركم، قالوا: فما تقولون في عبد الملك؟ قالوا: إمام هدى، قالوا: يا أعداء الله، بالأمس ضال مضل، واليوم إمام هدى! يا عبيد الدنيا عليكم لعنة الله! * * * وروى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب،، الأغاني الكبير،،، قال: (2) كان الشراة والمسلمون في حرب المهلب وقطري يتواقفون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك، على أمان وسكون، لا يهيج بعضهم بعضا، فتواقف يوما عبيدة بن هلال اليشكري، وأبو حزابة (3) التميمي، فقال عبيدة: يا أبا حزابة، إني أسألك عن أشياء، أفتصدقني عنها في الجواب؟ قال: نعم، إن ضمنت لي مثل ذلك، قال: قد فعلت، قال: فسل عما بدا لك، قال: ما تقولون في أئمتكم؟ قال: يبيحون الدم الحرام، قال: ويحك! فكيف فعلهم في المال؟ قال: يحبونه من غير حله، وينفقونه في غير وجهه، قال: فكيف فعلهم في اليتيم؟ قال: يظلمونه ماله، ويمنعونه حقه، وينيكون أمه، قال: ويحك يا أبا حزابة! أمثل هؤلاء تتبع! قال: قد أجبتك، فاسمع سؤالي، ودع عتابي على رأيي،
(1) الديوان: (إلى قرى كرمان). (2) الأغاني 6: 149 وما بعدها (طبعة الدار). (3) هو الوليد بن حنيفة أحد شعراء الدولة الأموية. 169 قال: سل، قال: أي الخمر أطيب، خمر السهل أم خمر الجبل؟ قال: ويحك! أمثلي يسأل عن هذا! قال: قد أوجبت على نفسك أن تجيب، قال: أما إذ أبيت، فإن خمر الجبل أقوى وأسكر، وخمر السهل أحسن وأسلس، قال: فأي الزواني أفره؟ أزواني رامهرمز، أم زواني أرجان؟ قال: ويحك! إن مثلي لا يسأل عن هذا، قال: لا بد من الجواب أو تغدر. قال: أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا، وزواني أرجان أحسن أدانا. قال: فأي الرجلين اشعر، جرير أم الفرزدق؟ قال: عليك وعليهما لعنة الله، قال: لا بد أن تجيب، قال: أيهما الذي يقول: وطوى الطراد مع القياد بطونها * طي التجار بحضرموت برودا قال: جرير، قال: فهو أشعرهما. قال أبو الفرج: وقد كان الناس تجادلوا في أمر جرير والفرزدق في عسكر المهلب، حتى تواثبوا، وصاروا إليه محكمين له في ذلك، فقال: أتريدون أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين، فيمضغاني! ما كنت لأحكم بينهما، ولكني أدلكم على من يحكم بينهما، ثم يهون عليه سبابهما، عليكم بالشراة فاسألوهم إذا تواقفتم، فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك، فأجابه بهذا الجواب. * * * وروى أبو الفرج أن (1) امرأة من الخوارج كانت مع قطري بن الفجاءة، يقال لها أم حكيم، وكانت من أشجع الناس وأجملهم وجها، وأحسنهم بالدين تمسكا، وخطبها
(1) الأغاني 6: 150 (طبعة الدار). 170 جماعة منهم فردتهم ولم تجبهم، فأخبر من شاهدها في الحرب أنها كانت تحمل على الناس وترتجز، فتقول: أحمل رأسا قد سئمت حمله * وقد مللت دهنه وغسله * ألا فتى يحمل عنى ثقله * والخوارج يفدونها بالآباء والأمهات، فما رأينا قبلها ولا بعدها مثلها. * * * وروى أبو الفرج (1)، قال: كان عبيدة بن هلال، إذا تكاف الناس ناداهم: ليخرج إلى بعضكم، فيخرج إليه فتيان من عسكر المهلب، فيقول لهم: أيما أحب إليكم؟ أقرأ عليكم القرآن أم أنشدكم الشعر؟ فيقولون له: أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك، ولكن تنشدنا، فيقول: يا فسقة، قد والله علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن! ثم لا يزال ينشدهم ويستنشدهم حتى يملوا ويفترقوا. * * * قال أبو العباس (2): وولى خالد بن عبد الله بن أسيد فقدم فدخل البصرة، فأراد عزل المهلب، فأشير عليه بالا يفعل، وقيل له: إنما أمن [أهل] (3) هذا المصر، لان المهلب بالأهواز وعمر بن عبيد الله بفارس، فقد تنحى عمر، وإن نحيت المهلب لم تأمن على البصرة. فأبى إلا عزله، فقدم المهلب البصرة: وخرج خالد إلى الأهواز، فاستصحبه (4)، فلما صار بكربج دينار لقيه قطري، فمنعه حط أثقاله، وحاربه ثلاثين يوما. ثم أقام قطري بإزائه، وخندق على نفسه، فقال المهلب لخالد: إن قطريا ليس
(1) الأغاني 6: 151 (طبعة الدار) (2) الكامل 654 (طبعة أوروبا). (3) من الكامل. (4) الكامل: (فأشخصه). 171 بأحق بالخندق منك، فعبر دجيلا إلى شق نهر تيرى، واتبعه قطري فصار إلى مدينة نهر تيرى، فبنى سورها، وخندق عليها، فقال المهلب لخالد: خندق على نفسك، فإني لا آمن البيات، فقال: يا أبا سعيد، الامر أعجل من ذاك، فقال المهلب لبعض ولده: انى أرى أمرا ضائعا، ثم قال لزياد بن عمرو: خندق علينا، فخندق المهلب على نفسه (1)، وأمر بسفنه ففرغت، وأبى خالد أن يفرغ سفنه، فقال المهلب لفيروز حصين، صر معنا، فقال: يا أبا سعيد، إن الحزم ما تقول، غير أنى أكره أن أفارق أصحابي، قال: فكن بقربنا، قال: أما هذه فنعم. وقد كان عبد الملك كتب إلى بشر بن مروان يأمره أن يمد خالدا بجيش كثيف، أميره عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث: ففعل، فقدم عليه عبد الرحمن، فأقام قطري يغاديهم القتال ويراوحهم أربعين يوما، فقال المهلب لمولى أبى عيينة: سر (2) إلى ذلك الناووس، فبت عليه كل ليلة، فمتى أحسست خبرا للخوارج، أو حركة أو صهيل خيل، فاعجل إلينا. فجاءه ليلة، فقال: قد تحرك القوم، فجلس المهلب بباب الخندق، وأعد قطري سفنا فيها حطب وأشعلها نارا، وأرسلها على سفن خالد، وخرج في أدبارها حتى خالطهم، لا يمر برجل إلا قتله، ولا بدابة إلا عقرها، ولا بفسطاط إلا هتكه، فأمر المهلب يزيد ابنه، فخرج في مائة فارس. فقاتل، وأبلى عبد الرحمن بن محمد ابن الأشعث يومئذ بلاء حسنا، وخرج فيروز حصين في مواليه، فلم يزل يرميهم بالنشاب هو ومن معه، فأثر أثرا جميلا، وصرع يزيد بن المهلب يومئذ، وصرع عبد الرحمن ابن محمد بن الأشعث، فحامى عنهما أصحابهما حتى ركبا، وسقط فيروز حصين في
(1) كذا في الأصول، وهي ساقطة من الكامل. (2) كذا في ب، وفي ج: (شد)، وفي الكامل: (انتبذ)، أي سر إليه منفردا. والناووس في الأصل: مقابر النصارى. 172 الخندق، فأخذ بيده رجل من الأزد، فاستنقذه، فوهب له فيروز عشرة آلاف، وأصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء (1)، فجعل لا يرى إلا قتيلا أو جريحا، فقال للمهلب: يا أبا سعيد، كدنا نفتضح! فقال: خندق على نفسك، فإن لم تفعل عادوا إليك، فقال: اكفني أمر الخندق، فجمع له الأحماس (2) فلم يبق شريف إلا عمل فيه، فصاح بهم الخوارج: والله لولا هذا الساحر المزوني، لكان الله قد دمر عليكم - وكانت الخوارج تسمى المهلب الساحر -، لأنهم كانوا يدبرون الامر فيجدون المهلب قد سبق إلى نقض تدبيرهم. وقال أعشى همدان لابن الأشعث، يذكره بلاء القحطانية عنده، في كلمة طويلة (3): ويوم أهوازك لا تنسه * ليس الثنا والذكر بالبائد ثم مضى قطري إلى كرمان، وانصرف خالد إلى البصرة، وأقام قطري بكرمان شهرا، ثم عمد لفارس، فخرج خالد إلى الأهواز وندب الناس للرحيل، فجعلوا يطلبون المهلب، فقال خالد: ذهب المهلب بحظ هذا المصر، إني قد وليت أخي قتال الأزارقة. فولى أخاه عبد العزيز، واستخلف المهلب على الأهواز في ثلاثمائة، ومضى عبد العزيز والخوارج بدرا بجرد وهو في ثلاثين ألفا، فجعل عبد العزيز يقول في طريقه: يزعم أهل البصرة أن هذا الامر لا يتم إلا بالمهلب، سيعلمون! قال صقعب (4) بن يزيد: فلما خرج عبد العزيز عن الأهواز، جاءني كردوس،
(1) الحرة: أرض ذات حجارة سوداء نخرة، كأنما أحرقت بالنار. (2) الأحماس: هم جند البصرة. (3) ديوان الأعشين 34، ومطلعها: هل تعرف الدار عفار سمها * بالحضر فالروضة من آمد دار لخود طفلة رودة * بانت فأمسى حبها عامدي (4) الكامل: (صعب بن زيد). 173 حاجب المهلب، فدعاني، فجئت إلى المهلب وهو في سطح، وعليه ثياب هروية، فقال: يا صقعب، أنا ضائع كأني أنظر إلى هزيمة عبد العزيز، وأخشى أن توافيني الأزارقة ولا جند معي، فابعث رجلا من قبلك يأتيني بخبرهم سابقا إلى به، فوجهت رجلا من قبلي يقال يقال له عمران بن فلان، وقلت له: اصحب عسكر عبد العزيز، واكتب إلى بخبر يوم فيوم، فجعلت أورده على المهلب، فلما قاربهم عبد العزيز وقف وقفة، فقال له الناس: هذا منزل، فينبغي أن تنزل فيه أيها الأمير، حتى نطمئن ثم نأخذ أهبتنا، فقال: كلا، الامر قريب، فنزل الناس عن غير أمره، فلم يستتم النزول، حتى ورد عليه سعد الطلائع في خمسمائة فارس، كأنهم خيط ممدود، فناهضهم عبد العزيز فواقفوه ساعة، ثم انهزموا عنه مكيدة، واتبعهم فقال له الناس: لا تتبعهم، فإنا على غير تعبية، فأبى، فلم يزل في آثارهم حتى اقتحموا عقبة، فاقتحمها وراءهم والناس ينهونه ويأبى، وكان قد جعل على بنى تميم عبس بن طلق الصريمي الملقب عبس الطعان، وعلى بكر بن وائل مقاتل بن مسمع، وعلى شرطته رجلا من بنى ضبيعة بن ربيعة بن نزار. فنزلوا عن العقبة، ونزل خلفهم و [كان] (1) لهم في بطن العقبة كمين، فلما صاروا من ورائها، خرج عليهم الكمين، وعطف سعد الطلائع، فترجل عبس بن طلق، فقتل وقتل مقاتل بن مسمع، وقتل الضبيعي، صاحب شرطة عبد العزيز، وانحاز عبد العزيز واتبعهم الخوارج فرسخين يقتلونهم كيف شاءوا، وكان عبد العزيز قد أخرج معه أم حفص بنت المنذر ابن الجارود امرأته، فسبوا النساء يومئذ، وأخذوا أسارى لا تحصى، فقذفوهم في غار بعد أن شدوهم وثاقا، ثم سدوا عليهم بابه، حتى ماتوا فيه. وقال بعض من حضر ذلك اليوم: رأيت عبد العزيز، وإن ثلاثين رجلا ليضربونه
(1) من الكامل. 174 بسيوفهم، فما تحيك في جنبه (1)، نودي على السبي يومئذ، فغولي بأم حفص، فبلغ بها رجل سبعين ألفا، وكان ذلك الرجل من مجوس كانوا أسلموا، ولحقوا بالخوارج، ففرضوا لكل رجل منهم خمسمائة، فكاد ذلك الرجل يأخذ أم حفص، فشق ذلك على قطري، وقال: ما ينبغي لرجل مسلم أن يكون عنده سبعون ألفا، إن هذه لفتنة! فوثب عليها أبو الحديد العبدي فقتلها، فأتى به قطري، فقال: مهيم (2) يا أبا الحديد! فقال: يا أمير المؤمنين، رأيت المؤمنين تزايدوا في هذه المشركة فخشيت عليهم الفتنة، فقال قطري: أحسنت، فقال رجل من الخوارج: كفانا فتنة عظمت وجلت * بحمد الله سيف أبي الحديد أهاب المسلمون بها وقالوا * على فرط الهوى هل من مزيد! (3) فزاد أبو الحديد بنصل سيف * رقيق الحد فعل فتى رشيد وكان العلاء بن مطرف السعدي ابن عم عمرو القنا، وكان يحب أن يلقاه في صدر مبارزة (4)، فلحقه عمرو القنا يومئذ، وهو منهزم، فضحك منه وقال متمثلا: تمناني ليلقاني لقيط * أعام لك ابن صعصعة بن سعد (5) ثم صاح به: انج يا أبا المصدى (6)، وكان العلاء بن مطرف قد حمل معه امرأتين:
(1) قال المبرد: (يقال: ما أحاك فيه السيف، وما يحييك فيه، وما حك ذا المر في صدري، وما حكى في صدري، وما احتكى في صدري. ويقال: حاك الرجل في مشيته يحيك إذا تبختر). (2) مهيم: حرف استفهام، معناه: ما الخبر؟ وما المر؟ فهو دال على ذلك محذوف الخبر. (3) أهاب به: أعلن. (4) الكامل: (في تلك الحروب مبارزة). (5) البيت من شرح سيبويه 1: 329، في باب المنادى، ونسبه لشريح بن الأحوص، ونسبه المبرد في الكامل إلى يزيد بن الصعق وفي شرح الشواهد للأعلم: (الشاهد في قوله: (لك)، والمعنى: يا عامر، دعائي لك، والمعنى معنى التعجب، كما تقول: يا لك فارسا!، أي يا هذا دعائي لك من فارس، أي أعجب لك في هذه الحال... وكان لقيط بن زرارة التميمي قد توعد الأحوص أبا شريح الكلابي، وتمنى أن يلقاه فيقتله، فقال هذا متعجبا لقومه من بنى عامر من تمنيه لقتله وتوعده له... وأراد عامر ابن صعصعة فرخم). (6) هي كنية عمرو القنا. 175 إحداهما من بنى ضبة، يقال لها أم جميل، والأخرى بنت عمه، يقال لها فلانة بنت عقيل فطلق الضبية، وحملها أولا، وتخلص بابنة عمه، فقال في ذلك: ألست كريما إذ أقول لفتيتي * قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل ولو لم يكن عودي نضارا لأصبحت * تجر على المتنين أم جميل (1) قال الصقعب بن يزيد: وبعثني المهلب لآتيه بالخبر، فصرت إلى قنطرة أربك (2) على فرس اشتريته بثلاثة آلاف درهم، فلم أحس خبرا، فسرت مهجرا (3) إلى أن أمسيت، فلما أمسينا وأظلمنا، سمعت كلام رجل عرفته من الجهاضم، فقلت: ما وراءك؟ قال: الشر، قلت: فأين عبد العزيز؟ قال: أمامك، فلما كان آخر الليل، إذا أنا بزهاء خمسين فارسا معهم لواء، فقلت: لواء من هذا؟ قالوا: لواء عبد العزيز، فتقدمت إليه، فسلمت عليه، وقلت: أصلح الله الأمير! لا يكبرن عليك ما كان، فإنك كنت في شر جند وأخبثه، قال لي: أو كنت معنا؟ قلت: لا، ولكن كأني شاهد أمرك، ثم أقبلت إلى المهلب وتركته، فقال لي: ما وراءك؟ قلت: ما يسرك، هزم الرجل وفل جيشه، فقال: ويحك! وما يسرني من هزيمة رجل من قريش وفل جيش من المسلمين! قلت: قد كان ذلك، ساءك أو سرك، فوجه رجلا إلى خالد يخبره بسلامة أخيه. قال الرجل: فلما خبرت خالدا، قال: كذبت ولؤمت، ودخل رجل من قريش فكذبني، فقال لي خالد: والله لقد هممت أن أضرب عنقك، فقلت: أصلح الله الأمير! إن كنت كاذبا فاقتلني، وإن كنت صادقا فأعطني مطرف هذا المتكلم، فقال خالد: لبئس ما أخطرت به دمك! فما برحت حتى دخل عليه بعض الفل، وقدم عبد العزيز سوق الأهواز، فأكرمه المهلب وكساه، وقدم معه على خالد، واستخلف المهلب ابنه حبيبا، وقال له:
(1) الكامل: (تخر على المتنين) (2) أربك: قرية بخوزستان. (3) مهجرا: وقت الهاجرة. 176 تجسس الاخبار، فإن أحسست بخيل الأزارقة قريبا منك فانصرف إلى البصرة على نهر تيرى. فلما أحس حبيب بهم، دخل البصرة، وأعلم خالدا بدخوله، فغضب وخاف حبيب منه، فاستتر في بنى عامر بن صعصعة، وتزوج هناك في استتاره الهلالية، وهي أم ابنه عباد بن حبيب. وقال الشاعر لخالد يفيل (1) رأيه: بعثت غلاما من قريش فروقة * وتترك ذا الرأي الأصيل المهلبا (2) أبى الذم واختار الوفاء وأحكمت * قواه، وقد ساس الأمور وجربا وقال الحارث بن خالد المخزومي: فر عبد العزيز إذ راء عيسى * وابن داود نازلا قطريا (3) عاهد الله إن نجا من ملمنايا * ليعودن بعدها حرميا (4) يسكن الخل (5) والصفاح فغورينا مرارا ومرة نجديا حيث لا يشهد القتال ولا يسمع يوما لكر خيل دويا وكتب خالد إلى عبد الملك بعذر عبد العزيز، وقال للمهلب: ما ترى أمير المؤمنين صانعا بي؟ قال: يعزلك، قال: أتراه قاطعا رحمي! قال: نعم، قد أتته هزيمة أمية أخيك (6) ففعل - يعنى هرب أمية من سجستان - فكتب عبد الملك إلى خالد:
(1) يفيل رأيه: يخطئه. (2) الفروقة: شديد الفزع. (3) في الكامل: فر عبد العزيز لما رأى الابطال في السفح نازلوا قطريا (4) قال المبرد: العرب تنسب الحرم فيقولون: حرمي وحرمى. (5) الخل والصفاح وغورين مواضع، ورواية البيت في الكامل: يسكن الخل والصفاح فمران * وسلعا وتارة نجديا (6) عبارة الكامل: (أتته هزيمة أمية أخيك من البحرين وتأتيه هزيمة أخيك عبد العزيز من فارس!) 177 أما بعد، فإني كنت حددت لك حدا في [أمر] (1) المهلب، فلما ملكت أمرك، نبذت طاعتي وراءك، واستبددت برأيك، فوليت المهلب الجباية، ووليت أخاك حرب الأزارقة، فقبح الله هذا رأيا! أتبعث غلاما غرا لم يجرب الأمور والحروب للحرب، وتترك سيدا شجاعا مدبرا حازما قد مارس الحروب ففلج (3)، فشغلته بالجباية! أما لو كافأتك على قدر ذنبك لأتاك من نكيري ما لا بقية لك معه! ولكن تذكرت رحمك فكفتني عنك، وقد جعلت عقوبتك عزلك. والسلام. قال: وولى بشر بن مروان الامارة وهو بالكوفة، وكتب إليه: أما بعد، فإنك أخو أمير المؤمنين يجمعك وإياه مروان بن الحكم، وإن خالدا لا مجتمع له مع أمير المؤمنين دون أمية، فانظر المهلب بي أبى صفرة، فوله حرب الأزارقة، فإنه سيد بطل مجرب، وامدده من أهل الكوفة بثمانية آلاف رجل، والسلام. فشق على بشر ما أمره به في المهلب، وقال: والله لأقتلنه، فقال له موسى بن نصير: أيها الأمير، إن للمهلب حفاظا ووفاء وبلاء. وخرج بشر بن مروان يريد البصرة، فكتب موسى بن نصير وعكرمة بن ربعي إلى المهلب أن يتلقاه لقاء لا يعرفه به، فتلقاه المهلب على بغل، وسلم عليه في غمار (4) الناس، فلما جلس بشر مجلسه، قال: ما فعل أميركم المهلب؟ قالوا: قد تلقاك أيها الأمير، وهو شاك. فهم بشر أن يولى حرب الأزارقة عمر بن عبيد الله بن معمر، وشد عزمه أسماء
(1) من الكامل. (2) ج: (فاستبددت). (3) فلج: ظفر وانتصر. (4) غمار، بكسر الغين: جمع غمرة، والغمرة: المزدحم. وفي الكامل: (خمار الناس)، وخمار الناس كثرتهم وزحمتهم وجماعتهم. 178 ابن خارجة، وقال له: إنما ولاك أمير المؤمنين لترى رأيك، فقال له عكرمة بن ربعي: اكتب إلى أمير المؤمنين فأعلمه علة المهلب، فكتب إليه بذلك، وأن بالبصرة من يغنى غناءه، ووجه بالكتاب مع وفد أوفدهم إليه، رئيسهم عبد الله بن حكيم المجاشعي. فلما قرأ عبد الملك الكتاب خلا بعبد الله، فقال له: إن لك دينا ورأيا وحزما، فمن لقتال هؤلاء الأزارقة؟ قال: المهلب، قال: إنه عليل، قال: ليست علته بمانعة (1)، فقال عبد الملك: لقد أراد بشر أن يفعل ما فعل خالد، فكتب إليه يعزم عليه أن يولى المهلب الحرب، فوجه إليه، فقال: أنا عليل، ولا يمكنني الاختلاف، فأمر بشر بحمل الدواوين إليه، فجعل ينتخب، فعزم عليه بشر بالخروج، فاقتطع أكثر نخبته، ثم عزم عليه ألا يقيم بعد ثالثة، وقد أخذت الخوارج الأهواز وخلفوها وراء ظهورهم، وصاروا بالفرات، فخرج المهلب حتى صار إلى شهار طاق، فأتاه شيخ من بنى تميم، فقال: أصلح الله الأمير! إن سنى ما ترى، فهبني لعيالي، فقال (2): على أن تقول للأمير إذا خطب فحثكم على الجهاد: كيف تحثنا على الجهاد، وأنت تحبس عنه أشرافنا، وأهل النجدة منا! ففعل الشيخ ذلك، فقال له بشر: وما أنت وذاك! ثم أعطى المهلب رجلا ألف درهم، على أن يأتي بشرا فيقول له: أيها الأمير، أعن (3) المهلب بالشرطة والمقاتلة، ففعل الرجل ذلك، فقال له بشر: وما أنت وذاك؟ فقال: نصيحة حضرتني للأمير والمسلمين، ولا أعود إلى مثلها، فأمده بشر بالشرطة والمقاتلة، وكتب إلى خليفته على الكوفة أن يعقد لعبد الرحمن بن مخنف على ثمانية آلاف، من كل ربع ألفين، ويوجه بهم مددا للمهلب.
(1) الكامل: (بما نعته). (2) ساقطة من ج. (3) ب: (أغن). 179 فلما أتاه الكتاب، بعث إلى عبد الرحمن بن مخنف الأزدي يعقد (1) له، واختار من كل ربع ألفين، فكان على ربع أهل المدينة بشر بن جرير بن عبد الله البجلي، وعلى ربع تميم وهمدان محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، وعلى ربع كندة محمد ابن إسحاق بن الأشعث بن قيس الكندي، وعلى ربع مذحج وأسد زحر بن قيس المذحجي، فقدموا على بشر بن مروان، فخلا بعبد الرحمن بن مخنف، وقال له: قد عرفت رأيي فيك، وثقتي بك، فكن عند ظني بك، وانظر إلى هذا المزوني، فخالفه في أمره، وأفسد عليه رأيه. فخرج عبد الرحمن، وهو يقول: ما أعجب ما طلب (2) منى هذا الغلام! يأمرني أن أصغر شأن (3) شيخ من مشايخ أهلي، وسيد من ساداتهم! فلحق بالمهلب. فلما أحس الأزارقة بدنو المهلب منهم انكشفوا عن الفرات، فاتبعهم المهلب إلى سوق الأهواز، فنفاهم عنها، ثم اتبعهم إلى رامهرمز فهزمهم عنها، فدخلوا فارس، وأبلى يزيد ابنه في وقائعه هذه بلاء شديدا، تقدم فيه وهو ابن إحدى وعشرين سنة. فلما صار القوم إلى فارس، وجه إليهم ابنه المغيرة، فقال له عبد الرحمن بن صالح: أيها الأمير، إنه ليس لك برأي قتل هذه الأكلب، ولئن والله قتلتهم لتقعدن في بيتك، ولكن طاولهم، وكل بهم. فقال: ليس هذا من الوفاء، فلم يلبث برامهرمز الا شهرا، حتى أتاه موت بشر بن مروان. فاضطرب الجند على ابن مخنف، فوجه إلى إسحاق بن الأشعث وابن زحر فاستحلفهما ألا يبرحا، فحلفا له ولم يفيا، وجعل الجند من أهل الكوفة يتسللون حتى اجتمعوا
(1) الكامل: (فعقد). (2) كذا في ا، ج، وفي الكامل، و ب: (طمع). (3) ج: (رأى). 180 بسوق الأهواز، وأراد أهل البصرة الانسلال من المهلب، فخطبهم فقال: إنكم لستم كأهل الكوفة، إنما تذبون عن مصركم وأموالكم وحرمكم. فأقام منهم قوم، وتسلل منهم قوم كثير. وكان خالد بن عبد الله خليفة بشر بن مروان، فوجه مولى له بكتاب منه إلى من بالأهواز، يحلف بالله مجتهدا: لئن لم يرجعوا إلى مراكزهم، وانصرفوا عصاة لا يظفر بأحد إلا قتله. فجاءهم مولاه، فجعل يقرأ عليهم الكتاب، ولا يرى في وجوههم قبولا، فقال: إني أرى وجوها ما القبول من شأنها، فقال له ابن زحر: أيها العبد، اقرأ ما في الكتاب، وانصرف إلى صاحبك، فإنك لا تدرى ما في أنفسنا. وجعلوا يستحثونه بقراءته، ثم قصدوا قصد الكوفة، فنزلوا النخيلة، وكتبوا إلى خليفة بشر يسألونه أن يأذن لهم في دخول الكوفة، فأبى، فدخلوها بغير إذن. فلم يزل المهلب ومن معه من قواده وابن مخنف، في عدد قليل، فلم يلبثوا أن ولى الحجاج العراق. فدخل الكوفة قبل البصرة، وذلك في سنة خمس وسبعين، فخطبهم الخطبة المشهورة (1)، وتهددهم، ثم نزل فقال لوجوه أهلها: ما كانت الولاة تفعل بالعصاة؟ قالوا: كانت تضرب وتحبس، فقال: ولكن ليس لهم عندي إلا السيف، إن المسلمين لو لم يغزوا المشركين لغزاهم المشركون، ولو ساغت المعصية لأهلها، ما قوتل عدو، ولا جبى فئ، ولا عز دين. ثم جلس لتوجيه الناس، فقال: قد أجلتكم ثلاثا، وأقسم بالله لا يتخلف أحد من
(1) في الكامل: (وقد ذكرنا الخطبة متقدما)، وهي في الكامل 217 (طبعة أوروبا). 181 أصحاب ابن مخنف بعدها إلا قتلته. ثم قال لصاحب حرسه ولصاحب شرطته (1): إذا مضت ثلاثة أيام، فاشحذا (2) سيوفكما. (3 فجاءه عمير بن ضابئ [البرجمي] (4) بابنه فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا أنفع لكم منى، وهو أشد بنى تميم أبدانا (5)، وأجمعهم سلاحا، وأربطهم جأشا، وأنا شيخ كبير عليل، واستشهد [جلساءه] (4)، فقال له الحجاج: إن عذرك لواضح، وإن ضعفك لبين، ولكني أكره أن يجترئ بك الناس على، وبعد، فأنت ابن ضابئ صاحب عثمان، وأمر به فقتل 3)، فاحتمل الناس، وإن أحدهم ليتبع بزاده وسلاحه، ففي ذلك يقول [عبد الله] (4) بن الزبير الأسدي (6): أقول لعبد الله يوم لقيته * أرى الامر أمسى منصبا متشعبا (7)
(1) الكامل: (شرطه). (2) الكامل: (فاتخذا). (3 - 3) وفي رواية أخرى للمبرد 217: (فوضع للناس أعطياتهم، فجعلوا يأخذون، حتى أتاه شيخ يرعش كبرا، فقال: أيها الأمير، إني من الضعف على ما ترى، ولى ابن هو أقوى على الاسفار منى، فتقبله بدلا منى، فقال الحجاج: نفعل أيها الشيخ، فلما ولى قال له قائل (هو عنبسة بن سعيد الأموي): أتدري من هذا أيها الأمير؟ قال: لا، قال: هذا عمير بن ضابئ البرجمي الذي يقول أبوه: هممت ولم أفعل وكدت وليتني * تركت على عثمان تبكي حلائله ودخل هذا الشيخ على عثمان مقتولا، فوطئ بطنه، فكسر ضلعين من أضلاعه. فقال: ردوه، فلما رد قال له الحجاج: أيها الشيخ، هلا بعثت إلى أمير المؤمنين عثمان بدلا يوم الدار! إن في قتلك أيها الشيخ لصلاحا للمسلمين، يا حرسي، اضرب عنقه، فجعل الرجل يضيق عليه أمره فيرتحل، ويأمر وليه أن يلحقه بزاده، ففي ذلك يقول عبد الله بن الزبير....) الأبيات. وانظر الشعر والشعراء 311، وطبقات الشعراء لابن سلام 145. (4) من الكامل. (5) الكامل: (أيدا). (6) نقل المرصفي في رغبة الامل 4: 270، أنه في هذه الأبيات يخاطب إبراهيم بن عامر الأسدي، وروى البيت الأول: أقول لإبراهيم لما لقيته * أرى المر أضحى منصبا متشعبا وذكر بعده: تجهز وأسرع فالحق الجيش لا أرى * سوى الجيش إلا في المهالك مذهبا فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه * مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا (7) منصبا: معييا مجهدا. 182 تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ * عميرا، وإما أن تزور المهلبا هما خطتا خسف نجاؤك منهما * ركوبك حوليا من الثلج أشهبا (1) فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه * مدى الدهر حتى يترك الطفل أشيبا فأضحى ولو كانت خراسان دونه * رآها مكان السوق أو هي أقربا (2) وهرب سوار بن المضرب السعدي من الحجاج، وقال: أقاتلي الحجاج إن لم أزر له * دراب وأترك عند هند فؤاديا (3) في قصيدة مشهورة له. فخرج الناس عن الكوفة، وأتى الحجاج البصرة، فكان أشد عليهم إلحاحا، وقد كان أتاهم خبره بالكوفة، فتحمل الناس قبل قدومه. وأتاه رجل من بنى يشكر، وكان شيخا أعور، يجعل على عينه العوراء صوفة، فكان يلقب ذا الكرسفة، فقال:
(1) نقل المرصفي بعده: فكائن ترى من مكره الغزو مسمرا * تحمم حنو السرج حتى تحنبا والمسمر: الذي لم ينم، وتحمم حنو السرج: لزمه، حتى صار كأنه حميم له. وحنو السرج: ما انعطف منه. وتحنب: تقوس. (2) الهاء في (دونه) عائدة على المهلب، أي لو كانت خراسان قريبة من موضع غزوه، والسوق: هو سوق حكمة، موضع بنواحي الكوفة. وأقرب مفعول ثان، على أن (رأى) بمعنى (ظن)، والضمير المرفوع وضع موضع الضمير المنصوب، و (أو) بمعنى (بل)، وانظر الكامل - بشرح المرصفي 4: 79 (3) دراب، هي درا بجرد، اقتصر على أحد الجزأين: كورة بفارس وروى المبرد في الكامل 289 (طبع أوروبا) بعد هذا البيت: فإن كان لا يرضيك حتى تردني * إلى قطري ما إخالك راضيا إذ جاوزت درب المجيزين ناقتي * فباست أبى الحجاج لما ثنانيا أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي * وقومي تميم والفلاة ورائيا! 183 أصلح الله الأمير! إن بي فتقا، وقد عذرني بشر بن مروان، وقد رددت العطاء، فقال: إنك عندي لصادق، ثم أمر به فضربت عنقه، ففي ذلك يقول كعب الأشقري - أو الفرزدق (1): لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة * تقرقر منها بطن كل عريف (2) * * * ويروى عن أبي البئر (3)، قال: إنا لنتغدى معه يوما، إذ جاءه رجل من بنى سليم (4) برجل يقوده، فقال: أصلح الله الأمير! إن هذا عاص، فقال له الرجل: أنشدك الله أيها الأمير في دمى! فوالله ما قبضت ديوانا قط، ولا شهدت عسكرا قط، وإني لحائك، أخذت من تحت الحف (5) فقال: اضربوا عنقه. فلما أحس بالسيف سجد، فلحقه السيف وهو ساجد، فأمسكنا عن الاكل، فأقبل علينا، وقال: ما لي أراكم قد صفرت أيديكم، واصفرت وجوهكم، وحد نظركم من قتل رجل واحد! ألا إن العاصي يجمع خلالا، يخل بمركزه، ويعصى أميره، ويغر المسلمين، وهو أجير لهم، وإنما يأخذ الأجرة لما يعمل، والوالي مخير فيه، إن شاء قتل، وإن شاء عفا. ثم كتب إلى المهلب: أما بعد، فإن بشرا استكره نفسه (6) عليك، وأراك غناه (7) عنك، وأنا أريك حاجتي إليك، فأرني الجد في قتال عدوك، ومن خفته على المعصية ممن قبلك فاقتله،
(1) انظر ديوان الفرزدق 2: 570. (2) تقرقر: صوت، والعريف: النقيب دون الرئيس. (3) كذا في ب، وفي ا، ج: (عن أبي النسر)، وفي الكامل: (ابن أبي ميرة). (4) كذا في ب والكامل، وفي ا، ج: (من بنى تميم). (5) الحف: القصبة التي تجئ وتذهب. (6) استكره نفسه: أدارها على الكره منها. (7) أي أراك أنه في غنى عنك. 184 فإني قاتل من قبلي، ومن كان عندي ممن هرب عنك، فأعلمني مكانه، فإني أرى أن آخذ السمي بالسمي، والولي بالولي. فكتب إليه المهلب: ليس قبلي إلا مطيع - وإن الناس إذا [خافوا العقوبة كبروا الذنب، وإذا] (1) أمنوا العقوبة صغروا الذنب، وإذا يئسوا من العفو أكفرهم (2) ذلك، فهب لي هؤلاء الذين سميتهم عصاة، فإنهم فرسان أبطال، أرجو أن يقتل الله بهم العدو - [ونادم على ذنبه] (3). فلما رأى المهلب كثرة الناس عنده قال: اليوم قوتل هذا العدو. * * * ولما رأى ذلك قطري، قال لأصحابه: انهضوا بنا نريد السردن (4)، فنتحصن فيها، فقال عبيدة بن هلال: أو تأتى (5) سابور، فتأخذ منها ما نريد، وتصير إلى كرمان. فأتوا سابور، وخرج المهلب في آثارهم فأتى أرجان، وخاف أن يكونوا قد تحصنوا بالسردن - وليست بمدينة، ولكنها جبال محدقة منيعة - فلم يصب بها أحدا، فخرج فعسكر بكازرون (6)، واستعدوا لقتاله، فخندق على نفسه، ووجه إلى عبد الرحمن
(1) من الكامل. (2) أكفر هم: حملهم على الكفر. (3) من الكامل و: (نادم) معطوف على (مطيع). (4) السردن: موضع ببلاد فارس إزاء كازرون. (5) سابور: كورة بينها وبين شيراز خمسة وعشرون فرسخا. (6) كازرون، بتقديم الزاي: مدينة من أخصب مدن سابور، وذكر ياقوت أن لها ذكرا في أخبار الخوارج، وروى للنعمان بن عقبة من أصحاب المهلب: ليت الحواصن في الخدور شهدننا * فيرين من وغل الكتيبة أولا وقروا وكنا في الوقار كمثلهم * إذ ليس تسمع غير قدم أو هلا رعدوا فأبرقنا لهم بسيوفنا * ضربا ترى منه السواعد تختلي تركوا الجماجم والرماح تجيلها * في كازرون كما تجيل الحنظلا 185 ابن مخنف: خندق على نفسك. فوجه إليه: خنادقنا سيوفنا، فوجه المهلب إليه: إني لا آمن عليك البيات، فقال ابنه جعفر: ذاك أهون علينا من ضرطة جمل، فأقبل المهلب على ابنه المغيرة، فقال: لم يصيبوا الرأي، ولم يأخذوا بالوثيقة. فلما أصبح القوم عاودوه الحرب، فبعث إلى ابن مخنف يستمده، فأمده بجماعة، جعل عليهم ابنه جعفرا، فجاءوا وعليهم أقبية بيض جدد، فأبلوا يومئذ حتى عرف مكانهم المهلب، وأبلى بنوه يومئذ كبلاء الكوفيين أو أشد. ثم أتى رئيس من الخوارج، يقال له صالح بن مخراق، وهو ينتخب قوما من جلة العسكر حتى بلغ أربعمائة، فقال لابنه المغيرة: ما أراه يعد هؤلاء إلا للبيات (1). وانكشفت الخوارج، والامر للمهلب عليهم، وقد كثر فيهم الجراح والقتل، وقد كان الحجاج يتفقد العصاة، ويوجه الرجال، وكان يحبسهم نهارا، ويفتح الحبس ليلا، فيتسلل الرجال إلى ناحية المهلب، وكان الحجاج لا يعلم، فإذا رأى إسراعهم تمثل: إن لها لسائقا عشنزرا * إذا وثبن وثبة تغشمرا. * * * ثم كتب الحجاج إلى المهلب يستحثه: أما بعد، فإنه قد بلغني أنك قد أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدو، وإني وليتك (3) وأنا أرى مكان عبد الله بن حكيم المجاشعي، وعباد بن الحصين الحبطي، واخترتك وأنت من أهل عمان، ثم رجل من الأزد، فالقهم يوم كذا في مكان كذا، وإلا أشرعت إليك صدر الرمح
(1) الكامل: (ما يعد هؤلاء إلا للبيات). (2) في الكامل: (إذا ونين ونية)، وفيه (العشنزر: الصلب، والتغشمر: ركوب الرأس، والمتغشمر: الجاد على ما خيلت) يريد: ما خيلت نفسه، وهم يحذفون فاعل هذا الفعل. (3) يريد أبقيتك على ولايتك. 186 فشاور المهلب بنيه، فقالوا: أيها الأمير (1، لا تغلظ عليه في الجواب 1). فكتب إليه: ورد إلى كتابك، تزعم أنى أقبلت على جباية الخراج، وتركت قتال العدو، ومن عجز عن جباية الخراج، فهو عن قتال العدو أعجز. وزعمت أنك وليتني، وأنت ترى مكان عبد الله بن حكيم وعباد بن الحصين، ولو وليتهما لكانا مستحقين لذلك لفضلهما وغنائهما وبطشهما. وزعمت أنك اخترتني وأنا رجل من الأزد، ولعمري إن شرا من الأزد لقبيلة تنازعتها ثلاث قبائل، لم تستقر في واحدة منهن. وزعمت أنى إن لم ألقهم يوم كذا في مكان كذا أشرعت إلى صدر الرمح، لو فعلت لقلبت لك ظهر المجن (2). والسلام. قال: ثم كانت الوقعة بينه وبين الخوارج عقيب هذا الكتاب. * * * فلما انصرف الخوارج تلك الليلة، قال لابنه المغيرة: إني أخاف البيات على بنى تميم، فانهض إليهم فكن فيهم، فأتاهم المغيرة، فقال له الحريش بن هلال: يا أبا حاتم، أيخاف الأمير أن يؤتى من ناحيتنا! قل له: فليبت آمنا، فإنا كافوه ما قبلنا إن شاء الله. فلما انتصف الليل، وقد رجع المغيرة إلى أبيه، سرى صالح بن مخراق في القوم الذين كان أعدهم للبيات إلى ناحية بنى تميم، ومعه عبيدة بن هلال، وهو يقول: إني لمذك للشراة نارها * ومانع ممن أتاها دارها * وغاسل بالسيف عنها عارها. *
(1 - 1) الكامل: (إنه أمير، فلا تغلظ عليه في الجواب). (2) المجن من السلاح: ما يتقى به. 187 فوجد بنى تميم أيقاظا متحارسين، وخرج إليهم الحريش بن هلال، وهو يقول: وجدتمونا وقرا أنجادا * لا كشفا ميلا ولا أوغادا (1) ثم حمل على الخوارج، فرجعوا عنه، فاتبعهم ثم صاح بهم: إلى أين يا كلاب النار! فقالوا: إنما أعدت لك ولأصحابك، فقال الحريش: كل مملوك لي حر إن لم تدخلوا النار، ما دخلها مجوسي فيما بين سفوان (2) وخراسان. ثم قال بعضهم لبعض: نأتى عسكر ابن مخنف، فإنه لا خندق عليه، وقد بعث فرسانهم اليوم مع المهلب، وقد زعموا أنا أهون عليهم من ضرطة جمل. فأتوهم فلم يشعر ابن مخنف وأصحابه، إلا وقد خالطوهم في عسكرهم. وكان ابن مخنف شريفا، وفيه يقول رجل من بنى عامر لرجل يعاتبه، ويضرب بابن مخنف المثل: تروح وتغدو كل يوم معظما * كأنك فينا مخنف وابن مخنف فترجل عبد الرحمن تلك الليلة يجالدهم، حتى قتل وقتل معه سبعون رجلا من القراء، فيهم نفر من أصحاب علي بن أبي طالب، ونفر من أصحاب ابن مسعود. وبلغ الخبر المهلب - وجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف عند المهلب - فجاءهم مغيثا فقاتل حتى ارتث (3)، ووجه المهلب إليهم ابنه حبيبا، فكشفهم، ثم جاء المهلب حتى صلى على عبد الرحمن بن مخنف وأصحابه، وصار جنده في جند المهلب، فضمهم إلى ابنه حبيب، فعيرهم البصريون، وسموا جعفرا خضفة الجمل.
(1) في الكامل: (قوله): وجدتم وقرا، جمع وقور، والنجد: ضد البليد، وهو المتيقظ الذي لا كسل عنده ولا فتور. والأميل، فيه قولان: قالوا: الذي لا يستقر على الدابة، وقالوا: الذي لا سيف معه. والا كشف: الذي لا ترس معه. والأجم: الذي لا رمح معه، والحاسر: الذي لا درع عليه. والأعزل: الذي لا يتقوم على هر الدابة. و الوغد: الضعيف). وذكر بعده هذا البيت: هيهات لا تلفوننا رقادا * لا بل إذا صيح بنا آسادا (2) سفوان، بفتحتين: ماء على قدر مرحلة من مربد البصرة. (3) المرتث: الذي يحمل من المعركة جريحا وبه رمق. 188 وقال رجل منهم لجعفر بن عبد الرحمن بن مخنف: تركت أصحابكم تدمى نحورهم * وجئت تسعى إلينا خضفة الجمل. (1) فلام المهلب (2) أهل البصرة، وقال بئسما قلتم، والله ما فروا ولا جبنوا، ولكنهم خالفوا أميرهم، أفلا تذكرون فراركم بدولاب عنى، وفراركم بدارس (3) عن عثمان (4)! * * * ووجه الحجاج البراء بن قبيصة إلى المهلب يستحثه في مناجزة القوم، وكتب إليه: إنك تحب بقاءهم لتأكل بهم، فقال المهلب لأصحابه: حركوهم، فخرج فرسان من أصحابه، فخرج إليهم من الخوارج جمع كثير، فاقتتلوا إلى الليل: فقال لهم الخوارج: ويلكم! أما تملون! فقالوا: لا، حتى تملوا، فقالوا: فمن أنتم؟ قالوا: تميم، فقالت الخوارج: ونحن تميم أيضا، فلما أمسوا افترقوا، فلما كان الغد خرج عشرة من أصحاب المهلب، وخرج إليهم من الخوارج عشرة، واحتفر كل واحد منهم حفيرة، وأثبت قدميه فيها، كلما قتل رجل جاء رجل من أصحابه فاجتره وقام (5) مكانه حتى أعتموا (6)، فقال لهم الخوارج: ارجعوا، فقالوا: بل ارجعوا أنتم، قالوا لهم: ويلكم من أنتم! قالوا: تميم، قالوا: ونحن
(1) في الكامل: (تركت أصحابنا)، وفيه: قوله: (خضفة الجمل، يريد ضرطة الجمل، يقال: خضف البعير، وأنشدني الرياشي لأعرابي يذم رجلا اتخذ وليمة: إنا وجدنا خلفا بئس الخلف * أغلق عنا بابه ثم حلف لا يدخل البواب إلا من عرف * عبدا إذا ما ناء بالحمل خضف (2) في الكامل: (فلامهم). (3) في الأصول: (بفارس)، وما أثبته عن الكامل. ودارس. موضع ذكره البكري وقال: إنه في ناحية مسرقان. ومسرقان: قرية من أعمال البصرة. (4) هو عثمان بن قطن بن عبيد الله، أحد بنى الحارث بن كعب، وكان الحجاج بعثه إلى شبيب، فانهزم أصحابه عنه، وقاتل حتى قتل. (5) الكامل: (ووقف). (6) أعتموا: صاروا في العتمة، وهي ثلث الليل الأول بعد مغيب الشفق. 189 تميم أيضا: فرجع البراء بن قبيصة إلى الحجاج فقال له: مهيم؟ (1) قال: رأيت أيها الأمير قوما لا يعين عليهم إلا الله. وكتب المهلب جواب الحجاج: إني منتظر بهم إحدى ثلاث: موتا ذريعا، (2) أو جوعا مضرا، أو اختلافا من أهوائهم. وكان المهلب لا يتكل في الحراسة على أحد، كان يتولى ذلك بنفسه، ويستعين عليه بولده، وبمن يحل محلهم في الثقة عنده. قال أبو حرملة العبدي يهجو المهلب، وكان في عسكره: عدمتك يا مهلب من أمير * أما تندى يمينك للفقير! بدولاب أضعت دماء قومي * وطرت على مواشكة درور (3) فقال له المهلب: ويحك! والله إني لأقيكم بنفسي وولدي، قال: جعلني الله فداء الأمير! فذاك الذي نكره منك، ما كلنا يحب الموت. قال: ويحك! وهل عنه من محيص! قال لا، ولكنا نكره التعجيل، وأنت تقدم عليه إقداما، قال المهلب: ويلك! أما سمعت قول الكلحبة اليربوعي: فقلت لكاس ألجميها فإنما * نزلنا الكثيب من زرود لنفزعا. (4)
(1) مهيم، كلمة استفهام معناها: ما الخبر وما الامر؟ وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عبد الرحمن بن عوف، وعليه درع خلق، فقال: مهيم؟ فقال: تزوجت يا رسول الله. وفي الكامل: (مه) وهي بمعنى الاستفهام أيضا. (2) ذريع: سريع. (3) قال المبرد: قوله: (مواشكة)، يريد سريعة، ويقال: نحن على وشك رحيل. ويقال: ذميل مواشك، إذا كان سريعا، قال ذو الرمة: إذا ما رمينا رمية في مفازة * عراقيبها بالشيظمي المواشك و (درور) فعول، من در الشئ، إذا تتابع. (4) كأس: اسم بنته، والعرب لا تثق بأحد في خيلها إلا بأولادها ونسائها. والكثيب، القطعة المستطيلة من الرمل، محدودبة. وزرود: موضع. والفزع: هنا الإغاثة وهو من الأضداد. وقبل هذا البيت: ونادى منادى الحي أن قد أتيتم * وقد شربت ماء المزادة أجمعا وهما من قصيدة مفضلية وفيها: أمرتكم أمري بمنعرج اللوى * ولا أمر للمعصي إلا مضيعا إذا المرء لم يغش الكريهة أو شكت * حبال الهوينى بالفتى أن تقطعا 190 فقال: بلى، قد سمعت، ولكن قولي أحب إلى منه: ولما وقفتم غدوة وعدوكم * إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري وطرت ولم أحفل ملامة جاهل * يساقى المنايا بالردينية السمر (1) فقال المهلب: بئس حشو الكتيبة أنت والله يا أبا حرملة! إن شئت أذنت لك فانصرفت إلى أهلك. قال: بل أقيم معك أيها الأمير، فوهب له المهلب وأعطاه، فقال يمدحه: يرى حتما عليه أبو سعيد * جلاد القوم في أولى النفير إذا نادى الشراة أبا سعيد * مشى في رفل محكمة القتير (2) قال: وكان المهلب يقول: ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع مكان بيهس بن صهيب، فيقال له: أيها الأمير، بيهس ليس بشجاع، فيقول: أجل، ولكنه سديد الرأي، محكم العقل، وذو الرأي حذر سئول، فأنا آمن أن يغتفل، ولو كان مكانه ألف شجاع لخلت أنهم ينشامون (3) حيث يحتاج إليهم. قال: ومطرت السماء مطرا شديدا وهم بسابور، وبين المهلب وبين الشراة عقبة، فقال المهلب: من يكفينا أمر هذه العقبة الليلة؟ فلم يقم أحد، فلبس المهلب سلاحه، وقام إلى العقبة واتبعه ابنه المغيرة، فقال رجل من أصحابه: دعانا الأمير إلى ضبط العقبة، والحظ
(1) الكامل: (ملامة عاجز)، الردينية: الرماح، منسوبة إلى ردينة، امرأة كانت تقوم الرماح. (2) الرفل بكسر الراء: الذيل، وقد أرفل رفله، أرسل ذيله، وأما الرفل بفتحها، فمصدر رفل كنصر: جر ذيله وركضه برجله، والقتير: رؤوس مسامير حلق الدروع. (3) ينشامون، من انشام الشئ دخل فيه واختبأ، كتشيم، يريد أنهم يكونون بمعزل مخافة أن يغتفلوا. 191 في ذلك لنا، فلم نطعه، ولبس سلاحه واتبعه جماعة من العسكر، فصاروا إليه، فإذا المهلب والمغيرة ولا ثالث لهما، فقالوا: انصرف أيها الأمير فنحن نكفيك إن شاء الله، فلما أصبحوا إذا هم بالشراة على العقبة، فخرج إليهم غلام من أهل عمان على فرس، فجعل يحمل وفرسه تزلق، ويلقاه مدرك في جماعة معه، حتى ردوهم عن العقبة. فلما كان يوم النحر والمهلب على المنبر يخطب الناس، إذ الشراة قد أكبوا (2)، فقال المهلب: سبحان الله! أفي مثل هذا اليوم! يا مغيرة اكفنيهم: فخرج إليهم المغيرة، وأمامه سعد بن نجد القردوسي (3) وكان سعد مقدما في شجاعته، وكان الحجاج (4) إذا ظن برجل أن نفسه قد أعجبته قال له: لو كنت سعد بن نجد القردوسي ما عدا (5)! فخرج أمام المغيرة، ومع المغيرة جماعة من فرسان المهلب، فالتقوا، وأمام الخوارج غلام جامع السلاح، مديد القامة، كريه الوجه، شديد الحملة، صحيح الفروسية، فأقبل يحمل على الناس، ويرتجز فيقول: نحن صبحناكم غداة النحر * بالخيل أمثال الوشيج تجرى (6) فخرج إليه سعد بن نجد القردوسي، من الأزد، فتجاولا ساعة ثم طعنه سعد فقتله، والتقى الناس، فصرع المغيرة يومئذ، فحامي عليه سعد بن نجد ودينار السجستاني (7) وجماعة من الفرسان، حتى ركب وانكشف الناس عند سقطة المغيرة حتى صاروا إلى المهلب، فقالوا: قتل المغيرة، فأتاه دينار السجستاني، فأخبره بسلامته، فأعتق كل مملوك كان بحضرته.
(1) الشراة: الخوارج، قال الجوهري: سموا بذلك لقولهم: إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله، أي بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة. (2) الكامل: (تألبوا). (3) في الأصول: (الفردوسي)، تصحيف صوابه من الكامل، وقردوس: قبيلة من الأزد. (4) الكامل: (المهلب). (5) أي ما تجاوز إعجابك إعجابه. (6) الوشيج: ما نبت من شجر الرماح ملتفا دخل بعضه في بعض، أو ما صلب فيه. (7) الكامل: (السختياني). 192 قال: ووجه الحجاج الجراح بن عبد الله إلى المهلب يستبطئه في مناجزة القوم، وكتب إليه: أما بعد، فإنك جبيت الخراج بالعلل (1)، وتحصنت بالخنادق، وطاولت القوم وأنت أعز ناصرا، وأكثر عددا، وما أظن بك مع هذا معصية ولا جبنا، ولكنك اتخذتهم أكلا (2)، وكان بقاؤهم أيسر عليك من قتالهم، فناجزهم وإلا أنكرتني، والسلام. فقال المهلب للجراح: يا أبا عقبة، والله ما تركت حيلة إلا احتلتها، ولا مكيدة إلا أعملتها، وما العجب من إبطاء النصرة (3) وتراخى الظفر، ولكن العجب أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يبصره. ثم ناهضهم ثلاثة أيام، يغاديهم القتال، فلا يزالون كذلك إلى العصر، وينصرف أصحابه وبهم قرح، وبالخوارج قرح وقتل. فقال له الجراح: قد أعذرت. فكتب المهلب إلى الحجاج: أتاني كتابك تستبطئني في لقاء القوم، على أنك لا تظن بي معصية ولا جبنا، وقد عاتبتني معاتبة الجبان (4)، وأوعدتني وعيد (5) العاصي، فسل الجراح. والسلام. فقال الحجاج للجراح: كيف رأيت أخاك؟ قال: والله أيها الأمير، ما رأيت مثله قط، ولا ظننت أن أحدا يبقى على مثل ما هو عليه، ولقد شهدت أصحابه أياما ثلاثة يغدون إلى الحرب، ثم ينصرفون عنها، وهم يتطاعنون بالرماح، ويتجالدون بالسيوف،
(1) بالعلل، أي سترته بالعلل. (2) الاكل بالضم: اسم للمأكول. (3) الكامل: (النصر). (4) أي معاتبتك للجبان. (5) في الأصول: (وعد)، وما أثبته من الكامل. 193 ويتخابطون بالعمد، ثم يروحون كأن لم يصنعوا شيئا، رواح قوم تلك عادتهم وتجارتهم. فقال الحجاج: لشد ما مدحته (1) أبا عقبة! فقال: الحق أولى. وكانت ركب الناس (2) قديما من الخشب، فكان الرجل يضرب ركابه فينقطع، فإذا أراد الضرب أو الطعن لم يكن له معتمد، فأمر المهلب بضرب (3) الركب من الحديد: فهو أول من أمر بطبعها، وفي ذلك يقول عمران بن عصام العنزي: ضربوا الدراهم في إمارتهم * وضربت للحدثان والحرب حلقا ترى منها مرافقهم * كمناكب الجمالة الجرب (4) * * * قال: وكتب الحجاج إلى عتاب بن ورقاء الرياحي، من بنى رياح بن يربوع - وهو والى أصفهان - يأمره بالمسير إلى المهلب، وأن يضم إليه جند عبد الرحمن بن مخنف، فكل بلد يدخلانه من فتوح أهل البصرة فالمهلب أمير الجماعة فيه، وأنت على أهل الكوفة، فإذا دخلتم بلدا فتحه أهل الكوفة (5) فأنت أمير الجماعة، والمهلب على أهل البصرة. فقدم عتاب في إحدى جماديين من سنة ست وسبعين على المهلب، وهو بسابور - وهي من فتوح أهل البصرة - فكان المهلب أمير الناس وعتاب على أصحاب ابن مخنف، والخوارج بأيديهم كرمان، وهم بإزاء المهلب بفارس، يحاربونه من جميع النواحي.
(1) كذا في ب والكامل، وفي ا، ج: (وصفته). (2) ركب الناس، الركب، بضمتين: جمع ركاب، وهو ما يعتمد عليه راكب السرج بقدميه، فأما ما يعتمد على راكب البعير، فهو الغرز. (3) ج: (فضربت). (4) المرافق هنا: معتمدات الأرجل من الحلق، ويريد بمناكب الجمالة الجرب أنها رقيقة الوسط عريضة الطرفين. والجمالة، مثلثة الجيم مخففة الميم: الطائفة من الجمال. (5) الكامل: (فتحه لأهل الكوفة). 194 قال: ووجه الحجاج إلى المهلب رجلين يستحثانه لمناجزة القوم: أحدهما يقال له زياد ابن عبد الرحمن، من بنى عامر بن صعصعة، والاخر من آل أبي عقيل من رهط الحجاج، فضم المهلب زيادا إلى ابنه حبيب، وضم الثقفي إلى ابنه يزيد، وقال لهما: خذا يزيد وحبيبا بالمناجزة، وغادوا الخوارج. فاقتتلوا أشد قتال، فقتل زياد بن عبد الرحمن العامري، وفقد الثقفي. ثم باكروهم في اليوم الثاني، وقد وجد الثقفي، فدعا به المهلب، ودعا بالغداء، فجعل النبل يقع قريبا منهم ويتجاوزهم، والثقفي يعجب من أمر المهلب، فقال الصلتان العبدي: ألا يا اصبحاني قبل عوق العوائق (1) * وقبل اختراط القوم مثل العقائق (2) غداة حبيب في الحديد يقودنا * يخوض المنايا في ظلال الخوافق حرون إذا ما الحرب طار شرارها (3) * وهاج عجاج النقع فوق المفارق (4) فمن مبلغ الحجاج أن أمينه * زيادا أطاحته رماح الأزارق! فلم يزل عتاب بن ورقاء مع المهلب ثمانية أشهر حتى ظهر شبيب بن يزيد، فكتب الحجاج إلى عتاب يأمره بالمصير إليه ليوجهه إلى شبيب، وكتب إلى المهلب يأمره أن يرزق الجند، فرزق أهل البصرة، وأبى أن يرزق أهل الكوفة، فقال له عتاب: ما أنا ببارح حتى ترزق أهل الكوفة، فأبى، فجرت بينهما غلظة، فقال له عتاب: قد كان يبلغني أنك شجاع، فرأيتك جبانا، وكان يبلغني أنك جواد، فرأيتك بخيلا. فقال له المهلب: يا بن اللخناء، فقال له عتاب: لكنك معم مخول!
(1) اصبحاني، من صبحه إذا سقاه صبوحا من خمر أولين. والعوائق: جمع عائقة، وهي كل ما صرفك عما تريد. (2) في الكامل: (قوله: وقبل اختراط القوم مثل العقائق، يعنى السيوف، والعقائق: جمع عقيقة، يقال: سيف كأنه عقيقة برق، أي كأنه لمعة برق، ويقال: انعق البرق إذا تبسم). (3) حرون، لقب حبيب، لأنه كان يحرن في الحرب فلا يبرح، وذلك مستعر من قولهم: فرس حرون لا ينقاد، وانظر رغبة الامل 4: 88. (4) الكامل: (البوارق)، والبوارق: السيوف. 195 فغضبت بكر بن وائل للمهلب للحلف، ووثب نعيم بن هبيرة، ابن أخي مصقلة ابن هبيرة على عتاب فشتمه، وقد كان المهلب كارها للحلف، فلما رأى نصرة بكر ابن وائل له سره، واغتبط به، فلم يزل يؤكده، وغضبت تميم البصرة لعتاب، وغضبت أزد الكوفة للمهلب، فلما رأى ذلك المغيرة مشى بين أبيه وبين عتاب، وقال لعتاب: يا أبا ورقاء، إن الأمير يصير إلى كل ما تحب، وسأل أباه أن يرزق أهل الكوفة، ففعل فصلح الامر، فكانت تميم قاطبة وعتاب بن ورقاء يحمدون المغيرة بن المهلب، وكان عتاب يقول: إني لأعرف فضله على أبيه. وقال رجل من الأزد، من بنى إياد بن سود: ألا أبلغ أبا ورقاء عنا * فلو لا أننا كنا غضابا على الشيخ المهلب إذ جفانا * للاقت خيلكم منا ضرابا * * * قال: وكان المهلب يقول لبنيه: لا تبدءوا الخوارج بقتال حتى يبدأوكم، ويبغوا عليكم، فإنهم إذا بغوا عليكم نصرتم عليهم. فشخص عتاب إلى الحجاج في سنة سبع وسبعين، فوجهه إلى شبيب فقتله شبيب. وأقام المهلب على حربهم، فلما انقضى من مقامه ثمانية عشر شهرا اختلفوا وافترقت كلمتهم. وكان سبب اختلافهم أن رجلا حدادا من الأزارقة، كان يعمل نصالا مسمومة، فيرمى بها أصحاب المهلب، فرفع ذلك إلى المهلب، فقال: أنا أكفيكموه إن شاء الله، فوجه رجلا من أصحابه بكتاب وألف درهم إلى عسكر قطري، فقال له: ألق هذا الكتاب في العسكر والدراهم، واحذر على نفسك - وكان الحداد يقال له أبزى - فمضى الرجل. وكان في الكتاب: أما بعد، فإن نصالك قد وصلت إلى، وقد وجهت إليك بألف درهم فاقبضها وزدنا من هذه النصال.
196 فوقع الكتاب إلى قطري، فدعا بأبزى، فقال: ما هذا الكتاب؟ قال: لا أدرى، قال: فما هذه الدراهم؟ قال: لا أعلم، فأمر به فقتل. فجاءه عبد ربه الصغير مولى بنى قيس بن ثعلبة، فقال له: أقتلت رجلا على غير ثقة (1) ولا تبين! قال قطري: فما حال هذه الألف؟ قال: يجوز أن يكون أمرها كذبا، ويجوز أن يكون حقا، فقال قطري: إن قتل رجل في صلاح الناس غير منكر، وللامام أن يحكم بما رآه صلاحا، وليس للرعية أن تعترض عليه. فتنكر له عبد ربه في جماعة معه، ولم يفارقوه. وبلغ ذلك المهلب فدس إليهم رجلا نصرانيا، جعل له جعلا يرغب في مثله، وقال له: إذا رأيت قطريا فاسجد له، فإذا نهاك فقل: إنما سجدت لك، ففعل ذلك النصراني، فقال قطري: إنما السجود لله تعالى، فقال ما سجدت إلا لك، فقال رجل من الخوارج: إنه قد عبدك من دون الله، وتلا: (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) (2)، فقال قطري: إن النصارى قد عبدوا عيسى بن مريم، فما ضر عيسى ذلك شيئا. فقام رجل من الخوارج إلى النصراني فقتله، فأنكر قطري ذلك عليه، وأنكر قوم من الخوارج إنكاره. وبلغ المهلب ذلك، فوجه إليهم رجلا يسألهم، فأتاهم الرجل، فقال: أرأيتم رجلين خرجا مهاجرين إليكم، فمات أحدهما في الطريق، وبلغ الاخر إليكم فامتحنتموه فلم يجز المحنة، ما تقولون فيهما؟ فقال بعضهم: أما الميت فمؤمن من أهل الجنة، وأما الذي لم يجز المحنة فكافر حتى يجيز المحنة. وقال قوم آخرون: بل هما كافران حتى يجيز المحنة، فكثر الاختلاف. وخرج قطري إلى حدود إصطخر، فأقام شهرا، والقوم في اختلافهم. ثم أقبل فقال
(1) ج: (وثيقة). (2) سورة الأنبياء 98 197 لهم صالح بن مخراق: يا قوم، إنكم أقررتم عين عدوكم، وأطمعتموه فيكم بما يظهر من خلافكم (1)، فعودوا إلى سلامة القلوب، واجتماع الكلمة. وخرج عمرو القنا - وهو من بنى سعد بن زيد مناة بن تميم - فنادى: يا أيها المحلون (2)، هل لكم في الطراد فقد طال عهدي به! ثم قال: ألم تر أنا مذ ثلاثين ليلة * جديب وأعداء الكتاب على خفض (3) فتهايج القوم، وأسرع بعضهم إلى بعض، وكانت الوقعة، وأبلى يومئذ المغيرة بن المهلب، وصار في وسط الأزارقة، فجعلت الرماح تحطه وترفعه، واعتورت رأسه السيوف، وعليه ساعد حديد، فوضع يده على رأسه، فلم يعمل السيف فيه شيئا، واستنقذه فرسان من الأزد بعد أن صرع، وكان الذي صرعه عبيدة بن هلال بن يشكر بن بكر بن وائل، وكان يقول يومئذ: أنا ابن خير قومه هلال * شيخ على دين أبى بلال * وذاك ديني آخر الليالي * فقال رجل للمغيرة: كنا نعجب كيف تصرع، والآن نعجب كيف تنجو! وقال المهلب لبنيه: إن سرحكم (4) لغار، ولست آمنهم عليه، أفوكلتم به أحدا؟ قالوا: لا، فلم يستتم الكلام حتى أتاه آت، فقال: إن صالح بن مخراق قد أغار على السرح، فشق على المهلب، وقال: كل أمر لا إليه بنفسي فهو ضائع، وتذمر عليهم، فقال له بشر بن المغيرة: أرح نفسك، فإن كنت إنما تريد مثلك فوالله ما يعدل خيرنا شسع (5) نعلك،
(1) ج: (اختلافكم). (2) المحلون: الذين لا يحفظون عهدا ولا يرعون حرمة، فكأنما أحلوا أعراضهم وأموالهم أن تستباح. (3) الحفض. الدعة ولين العيش. (4) السرح: المال السائم في المرعى من الانعام، وأراد بالغار الذي يطمع الناس في أخذه حيث لا راعى له يحفظه. (5) الشسع: قبال النعل. 198 فقال: خذوا عليهم الطريق، فبادر بشر بن المغيرة، ومدرك والمفضل ابنا المهلب، فسبق بشر إلى الطريق، فإذا رجل أسود من الأزارقة يشل السرح (1)، وهو يقول: نحن قمعناكم بشل السرح * وقد نكأنا القرح بعد القرح (2) ولحقه المفضل ومدرك، فصاحا برجل من طيئ: أكفنا الأسود، فاعتوره الطائي وبشر ابن المغيرة فقتلاه، وأسرا رجلا من الأزارقة من همدان، واستردا السرح (3). قال: وكان عياش الكندي شجاعا بئيسا (4)، فأبلى يومئذ، فلما مات على فراشه بعد ذلك، قال المهلب: لا وألت (5) نفس الجبان بعد عياش! وقال المهلب: ما رأيت تالله كهؤلاء القوم، كلما انتقص (6) منهم يزيد فيهم! * * * ووجه الحجاج رجلين إلى المهلب يستحثانه بالقتال: أحدهما من كلب، والاخر من سليم، فقال المهلب متمثلا بشعر لأوس بن حجر: ومستعجب مما يرى من أناتنا * ولو زبنته الحرب لم يترمرم (7) فقال المهلب ليزيد ابنه: حرك القوم، فحركهم فتهايجوا، وذلك في قرية من قرى إصطخر، فحمل رجل من الخوارج على رجل من أصحاب المهلب وطعنه، فشك فخذه بالسرج، فقال المهلب للسلمي والكلبي: كيف يقاتل (8) قوم هذا طعنهم وحمل
(1) في الكامل: (يشل السرح، أي يطرده). (2) في الكامل: (الشل: الطرد. ويقال: نكأت القرحة، مهموز، ونكيت العدو غير مهموز، من النكاية، ونكأت القرحة نكأ، قال ابن هرمة: ولا أراها تزال ظالمة * تحدث لي قرحة وتنكوها (3) في الكامل: (وخلى سبيله). (4) البئيس، من بؤس الرجل يبؤس، إذا اشتدت شجاعته. (5) لا وألت، أي لا نجت. (6) الكامل: (ينقص). (7) قال المبرد: قوله زبنته، يقول: دفعته. ولم يترمرم: لم يتحرك، يقال: قيل له كذا وكذا فما ترمرم. (8) الكامل: (نقاتل). 199 يزيد عليهم، وقد جاء الرقاد - وهو من فرسان المهلب - وهو أحد بنى مالك بن ربيعة على فرس له أدهم، وبه نيف وعشرون جراحة، وقد وضع عليها القطن، فلما حمل يزيد ولى الجمع، وحماهم فارسان منهم، فقال يزيد لقيس الخشني، مولى العتيك: من لهذين؟ قال: أنا، فحمل عليهما، فعطف عليه أحدهما فطعنه قيس فصرعه، وحمل عليه الاخر فتعانقا، فسقطا جميعا إلى الأرض، فصاح قيس الخشني: اقتلونا جميعا، فحملت خيل هؤلاء وخيل هؤلاء، فحجزوا بينهما، فإذا معانق قيس امرأة، فقام قيس مستحييا، فقال له يزيد: يا أبا بشر، أما أنت فبارزتها على أنها رجل، فقال: أرأيت لو قتلت، أما كان يقال: قتلته امرأة! وأبلى يومئذ ابن المنجب السدوسي، فقال غلام له يقال له خلاج: والله لوددنا أنا فضضنا عسكرهم حتى نصير إلى مستقرهم، فأستلب مما هناك جاريتين. فقال له مولاه ابن المنجب: وكيف تمنيت ويحك اثنتين! فقال: لأعطيك إحداهما وآخذ الأخرى، فقال ابن المنجب: أخلاج إنك لن تعانق طفلة * شرقا بها الجادي كالتمثال (1) حتى تلاقى في الكتيبة معلما * عمرو القنا وعبيدة بن هلال (2) وترى المقعطر في الفوارس مقدما * في عصبة نشطوا على الضلال (3)
(1) قال المبرد: (قوله: طفلة، يقول: ناعمة، وإذا كسرت الطاء فقلت: طفلة، فهي الصغيرة. والجادي: الزعفران). (2) قال المبرد: (الكتيبة: الجيش، وإنما سمى الجيش كتيبة لانضمام أهله بعضهم إلى بعض، وبهذا سمى الكتاب، ومنه قولهم: كتبت البغلة والناقة، وكتبت القربة، إذا خرزت ذلك الموضع. المعلم. الذي قد شهر نفسه بعلامة، إما بعمامة صبيغ، أو بمشهرة، وإما بغير ذلك.. وعمرو القنا من بنى سعد بن زيد مناة بن تميم، وعبيدة بن هلال من بنى يشكر بن بكر بن وائل. والذي طعن صاحب المهلب في فخذه فشكها مع السرج من بنى تميم، قال: ولا أدرى: أعمرو هو أم غيره؟). (3) في الكامل: (قسطوا مع الضلال). قال: والمقعطر: من عبد القيس، وقوله: (قسطوا)، أي جاروا، يقال: قسط يقسط فهو قاسط، إذا جار، قال الله جل ثناؤه: (وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا). 200 أو أن يعلمك المهلب غزوة * وترى جبالا قد دنت لجبال قال: وكان بدر بن الهذيل من أصحاب المهلب شجاعا، وكان لحانة، كان إذا أحس بالخوارج ينادى: (يا خيل الله اركبي)، وإليه يشير القائل: وإذا طلبت إلى المهلب حاجة * عرضت توابع دونه وعبيد (1) العبد كردس وبدر مثله * وعلاج باب الأحمرين شديد (2) قال: وكان بشر بن المغيرة بن أبي صفرة أبلى يومئذ بلاء حسنا عرف مكانه فيه، وكانت بينه وبين المهلب جفوة، فقال لبنيه: يا بنى عم، إني قد قصرت عن شكاة العاتب (3)، وجاوزت شكاة المستعتب (4)، حتى كأني لا موصول ولا محروم، فاجعلوا لي فرجة أعيش بها، وهبوني امرأ رجوتم نصره، أو خفتم لسانه. فرجعوا له ووصلوه، وكلموا فيه المهلب، فوصله. وولى الحجاج كردما فارس، ووجهه إليها والحرب قائمة، فقال رجل من أصحاب المهلب: ولو رآها كردم لكردما * كردمة العير أحس الضيغما (5) فكتب المهلب إلى الحجاج يسأله أن يتجافى له عن إصطخر ودار أبجرد لأرزاق الجند، ففعل. وقد كان قطري هدم مدينة إصطخر، لان أهلها كانوا يكاتبون المهلب بأخباره، وأراد مثل ذلك بمدينة فسا، فاشتراها منه آزاذ مرد بن الهربذ بمائة ألف درهم
(1) قال المبرد: توابع، أراد به الرجال، فجاز في الشعر، وإنما رده إلى أصله للضرورة، وما كان من النعوت على (فاعل) مجمعه (فاعلون)، لئلا يلتبس بجمع (فاعلة، التي هي نعت). (2) قال المبرد: كردوس: رجل من الأزد، وكان حاجب المهلب. وقوله: (وعلاج باب الأحمرين شديد)، العرب تسمى العجم الحمراء. (3) العاتب: الساخط. (4) المستعتب: الطالب الرضا. (5) في الكامل: (الضيغم: الأسد، والكردمة: النفوز). 201 فلم يهدمها. فواقعه وجه المهلب فهزمه، فنفاه إلى كرمان، وأتبعه المغيرة ابنه، وقد كان دفع إليه سيفا وجه به الحجاج إلى المهلب، وأقسم عليه أن يتقلده، فدفعه إلى المغيرة بعد ما تقلده، فرجع به المغيرة إليه وقد دماه، فسر المهلب، وقال: ما يسرني أن يكون كنت دفعته إلى غيرك من ولدى، وقال له: اكفني جباية خراج هاتين الكورتين، وضم إليه الرقاد، فجعلا يجبيان، ولا يعطيان الجند شيئا، ففي ذلك يقول رجل من بنى تميم في كلمة له: ولو علم ابن يوسف ما نلاقي * من الآفات والكرب الشداد لفاضت عينه جزعا علينا * وأصلح ما استطاع من الفساد ألا قل للأمير جزيت خيرا * أرحنا من مغيرة والرقاد فما رزق الجنود بهم قفيزا * وقد ساست مطامير الحصاد (1) أي وقع فيها السوس (2). قال: ثم حاربهم المهلب بالسيرجان (3) حتى نفاهم عنها إلى جيرفت (4) واتبعهم ونزل قريبا منهم. * * * ثم اختلفت كلمة الخوارج، وكان سبب ذلك أن عبيدة بن هلال اتهم بامرأة رجل نجار، رأوه يدخل مرارا إليها بغير إذن، فأتى قطريا فذكروا ذلك له، فقال لهم: إن عبيدة من الدين بحيث علمتم، ومن الجهاد بحيث رأيتم، فقالوا: إنا لا نقار على الفاحشة، فقال:
(1) المطامير: جمع مطمورة، وهي حفرة تحت الأرض يوسع أسفلها، تخبأ فيها الحبوب. (2) يقال: ساس الطعام وأساس، إذا وقع فيه السوس. (3) السيرجان، بكسر السين وسكون الياء وفتح الراء: مدينة بين كرمان وفارس. (4) جيرفت، بكسر فسكون ففتح راء وسكون فاء: مدينة بكرمان. 202 انصرفوا، ثم بعث عبيدة، فأخبره، وقال له: أنا لا أقار على الفاحشة، فقال: بهتوني (1) يا أمير المؤمنين فما ترى؟ قال: إني جامع بينك وبينهم، فلا تخضع خضوع المذنب، ولا تتطاول تطاول البرئ، فجمع بينهم، فتكلموا، فقام عبيدة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، (إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم)... حتى تلا الآيات (2)، فبكوا وقاموا إليه فاعتنقوه، وقالوا: استغفر لنا. ففعل، فقال عبد ربه الصغير مولى بنى قيس بن ثعلبة: والله لقد خدعكم، فتابع عبد ربه منهم ناس كثير، ولم يظهروا، ولم يجدوا على عبيدة في إقامة الحد ثبتا (3). * * * وكان قطري قد استعمل رجلا من الدهاقين، فظهرت له أموال كثيرة، فأتوا قطريا، فقالوا: إن عمر بن الخطاب لم يكن يقار عماله على مثل هذا، فقال قطري: إني استعملته، وله ضياع وتجارات، فأوغر ذلك صدورهم، وبلغ المهلب ذلك، فقال: اختلافهم أشد عليهم منى، ثم قالوا لقطري: ألا تخرج بنا إلى عدونا؟ فقال: لا، ثم خرج فقالوا: قد كذب وارتد، فاتبعوه يوما، فأحس بالشر، ودخل دارا مع جماعة من أصحابه، فاجتمعوا عليه وصاحوا: اخرج إلينا يا دابة، فخرج إليهم فقال: أرجعتم بعدي كفارا! قالوا: أولست دابة! قال الله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) (4)، ولكنك قد كفرت بقولك. (إنا قد رجعنا كفارا)، فتب إلى الله. فشاور عبيدة في ذلك، فقال له: إن تبت لم يقبلوا منك، فقل: إني استفهمت فقلت: (أرجعتم بعدي كفارا؟) فقال لهم ذلك، فقبلوا منه، فرجع إلى منزله.
(1) بهتوني: قالوا على ما لم أفعل. (2) سورة النور 11 - 20 (3) ثبتا، بالتحريك، أي حجة. (4) سورة هود 6. 203 [عبد ربه الصغير] ومنهم عبد ربه الصغير، أحد موالي قيس بن ثعلبة. لما (1) اختلفت الخوارج على قطري بايعه منهم جمع كثير، وكان قطري قد عزم على أن يبايع للمقعطر العبدي، ويخلع نفسه، فجعله أمير الجيش في الحرب قبل أن يعهد إليه بالخلافة فكرهه القوم وأبوه، وقال صالح بن مخراق عنهم وعن نفسه: ابغ لنا غير المقعطر، فقال لهم قطري: إني أرى طول العهد قد غيركم، وأنتم بصدد عدو، فاتقوا الله وأقبلوا على شأنكم، واستعدوا للقاء القوم، فقال صالح: إن الناس قبلنا قد سألوا عثمان بن عفان أن يعزل سعيد بن العاصي عنهم ففعل. ويجب على الامام أن يعفى الرعية مما كرهت. فأبى قطري أن يعزل المقعطر، فقال له القوم: فإنا قد خلعناك وبايعنا عبد ربه الصغير - وكان عبد ربه هذا معلم كتاب، وكان عبد ربه الكبير بائع رمان: وكلاهما من موالي قيس ابن ثعلبة - فانفصل إلى عبد ربه الصغير أكثر من شطرهم: وجلهم الموالي والعجم، وكان منهم هناك ثمانية آلاف وهم القراء، ثم ندم صالح بن مخراق، وقال لقطري: هذه نفخة من نفخات الشيطان فاعفنا من المقعطر، وسر بنا إلى عدونا وعدوك، فأبى قطري إلا للمقعطر، وحمل فتى من الشراة على صالح بن مخراق، فطعنه فأنفذه، وأوجره الرمح (2). فنشبت الحرب بينهم، فتهايجوا. ثم انحاز كل قوم إلى صاحبهم، فلما كان الغد اجتمعوا، فاقتتلوا، فأجلت الحرب عن ألفي قتيل، فلما كان الغد عاودوا الحرب، فلم ينتصف النهار حتى أخرجت العجم العرب عن المدينة، فأقام عبد ربه بها، وصار قطري خارجا من
(1) الكامل 3: 392 وما بعدها. (2) قال المبرد: (ومعنى أوجره الرمح طعنه وترك الرمح فيه، قال عنترة: وآخر منهم أجررت رمحي * وفي البجلي معبلة وقيع 204 مدينة جيرفت بإزائهم، فقال له عبيدة بن هلال: يا أمير المؤمنين، إن أقمت لم آمن هذه العبيد عليك، إلا أن تخندق على نفسك، فخندق على باب المدينة وجعل يناوشهم، وارتحل المهلب، وكان منهم على ليلة، ورسول الحجاج معه يستحثه، فقال له: أصلح الله الأمير! عاجلهم قبل أن يصطلحوا، فقال المهلب: إنهم لن يصطلحوا، ولكن دعهم فإنهم سيصيرون إلى حال لا يفلحون معها، ثم دس رجلا من أصحابه، فقال: ائت عسكر قطري، فقل: إني لم أزل أرى قطريا يصيب الرأي، حتى نزل منزله هذا، فظهر خطؤه: أيقيم بين المهلب وعبد ربه، يغاديه القتال هذا، ويراوحه هذا! فنمى الكلام إلى قطري، فقال: صدق: تنحوا بنا عن هذا الموضع، فإن اتبعنا المهلب قاتلناه، وإن أقام على عبد ربه رأيتم فيه ما تحبون. فقال له الصلت بن مرة: يا أمير المؤمنين، إن كنت إنما تريد الله فأقدم على القوم، وإن كنت إنما تريد الدنيا فأعلم أصحابك حتى يستأمنوا، ثم قال: قل للمحلين قد قرت عيونكم * بفرقة القوم والبغضاء والهرب كنا أناسا على دين فغيرنا * طول الجدال وخلط الجد باللعب ما كان أغنى رجالا قل جيشهم * عن الجدال وأغناهم عن الخطب إني لأهونكم في الأرض مضطبا * مالي سوى فرسي والرمح من نشب ثم قال: أصبح المهلب يرجو منا ما كنا نطمع منه فيه. وارتحل قطري، وبلغ ذلك المهلب، فقال لهزيم بن أبي طحمة المجاشعي: إني لا آمن أن يكون كاذبا بترك موضعه، اذهب فتعرف الخبر، فمضى الهزيم في اثنى عشر فارسا، فلم ير في المعسكر إلا عبدا وعلجا، مريضين فسألهما عن قطري وأصحابه، فقالا:
(1) الكامل: (ضل سعيهم). 205 مضوا يرتادون غير هذا المنزل، فرجع هزيم إلى المهلب، فأخبره، فارتحل حتى نزل خندق قطري، فجعل يقاتل عبد ربه أحيانا بالغداة، وأحيانا بالعشي، فقال رجل من سدوس، يقال له المعتق، وكان فارسا: ليت الحرائر بالعراق شهدننا * ورأيننا بالسفح ذي الأجبال فنكحن أهل الجد من فرساننا (1) * والضاربين جماجم الابطال ووجه المهلب يزيد ابنه إلى الحجاج يخبره بأنه قد نزل منزل قطري، وأنه مقيم على عبد ربه، ويسأله أن يوجه في أثر قطري رجلا جلدا. فسر بذلك الحجاج سرورا أظهره. ثم كتب إلى المهلب يستحثه لمناجزة القوم مع عبيد بن موهب: أما بعد، فإنك تتراخى عن الحرب حتى تأتيك رسلي فيرجعون بعذرك، وذلك أنك تمسك حتى تبرأ الجراح، وتنسى القتلى، وتحمل الكال (2) ثم تلقاهم، فتحمل منهم ثقل ما يحتملون منك من وحشة القتل، وألم الجراح، ولو كنت تلقاهم بذلك الجد لكان الداء قد حسم، والقرن (3) قد قصم، ولعمري ما أنت والقوم سواء، لان من ورائك رجالا، وأمامك أموالا، وليس للقوم إلا ما نعهد، ولا يدرك الوجيف (4) بالدبيب، ولا الظفر بالتعذير. فلما ورد عليه الكتاب، قال لأصحابه: يا قوم إن الله قد أراحكم من أمور أربعة: قطري بن الفجاءة، وصالح بن مخراق، وعبيدة بن هلال، وسعد بن الطلائع، وإنما بين أيديكم عبد ربه الصغير في خشار من خشار (5) الشيطان، تقتلونهم إن شاء الله تعالى.
(1) الكامل: (أهل الجزء)، والجزء: الغناء والكفاية في الحرب. (2) الكامل: (ويجم الناس). (3) قصم القرن، أي كسر، يكنى بذلك عن هلاك القوم. (4) الوجيف: ضرب من السير السريع. (5) الخشار: الردئ وما لا خير فيه. 206 فكانوا يتغادون القتال ويتراوحون، فتصيبهم الجراح، ثم يتحاجزون، فكأنما انصرفوا عن مجلس كانوا يتحدثون فيه، يضحك بعضهم إلى بعض، فقال عبيد بن موهب للمهلب: قد بان عذرك، فاكتب فإني مخبر الأمير. فكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإني لم أعط رسلك على قول الحق أجرا، ولم أحتج منهم عن المشاهدة إلى تلقين. ذكرت إني أجم القوم، ولا بد من وقت راحة يستريح فيه الغالب، ويحتال فيه المغلوب. وذكرت أن في الجمام ما ينسى القتلى، وتبرأ [منه] (1) الجراح، هيهات أن ينسى ما بيننا وبينهم! تأبى ذلك قتلى لم تجن (2)، وقروح لم تتقرف (3)، ونحن والقوم على حالة، وهم يرقبون منا حالات، إن طمعوا حاربوا، وإن ملوا وقفوا، وإن يئسوا انصرفوا. وعلينا أن نقاتلهم إذا قاتلوا، ونتحرز إذا وقفوا، ونطلب إذا هربوا، فإن تركتني والرأي، كان القرن مقصوما، والداء بإذن الله محسوما، وإن أعجلتني لم أطعك ولم أعصك، وجعلت وجهي إلى بابك، وأعوذ بالله من سخط الله ومقت الناس. قال: ولما اشتد الحصار على عبد ربه، قال لأصحابه: لا تفتقروا إلى من ذهب عنكم من الرجال، فإن المسلم لا يفتقر مع الاسلام إلى غيره، والمسلم إذا صح توحيده عز بربه، وقد أراحكم الله من غلظة قطري، وعجلة صالح بن مخراق ونخوته، واختلاط عبيدة بن هلال، ووكلكم إلى بصائركم، فالقوا عدوكم بصبر ونية، وانتقلوا عن منزلكم هذا، فمن قتل منكم قتل شهيدا، ومن سلم من القتل فهو المحروم.
(1) من الكامل. (2) لم تجن: لم تدفن في الجنن، وهو القبر (3) لم تتقرف: لم تتقشر. 207 قال: وورد في ذلك الوقت على المهلب عبيد بن أبي ربيعة بن أبي الصلت الثقفي من عند الحجاج، يستحثه بالقتال، ومعه أمينان، فقال للمهلب: خالفت وصيه الأمير، وآثرت المدافعة والمطاولة. فقال له المهلب: والله ما تركت جهدا. فلما كان العشى خرجت الأزارقة، وقد حملوا حريمهم وأموالهم، وخف (1) متاعهم لينتقلوا، فقال المهلب لأصحابه: الزموا مصافكم، وأشرعوا (2) رماحكم، ودعوهم والذهاب، فقال له عبيدة بن أبي ربيعة: هذا لعمري أيسر عليك. فغضب وقال للناس: ردوهم عن وجههم، وقال لبنيه: تفرقوا في الناس وقال لعبيدة بن أبي ربيعة: كن مع [يزيد، فخذه بالمحاربة أشد الاخذ، وقال لأحد الأمينين: كن مع] (3) المغيرة، ولا ترخص له في الفتور. فاقتتلوا قتالا شديدا، حتى عقرت الخيل (4)، وصرع الفرسان، وقتلت الرجالة (5)، وجعلت الخوارج تقاتل عن القدح (6) يؤخذ منها، والسوط والعلف والحشيش (7) أشد قتال. وسقط رمح لرجل من مراد، من الخوارج، فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل، وذلك مع المغرب، والمرادي يرتجز، ويقول: الليل ليل فيه ويل ويل * قد سال بالقوم الشراة السيل * إن جاز للأعداء فينا قول *
(1) الخف، بالكسر: الخفيف، ومنه قول امرئ القيس: * يزل الغلام الخف عن صهواتها * (2) أشرع الرمح: رفعه. (3) من الكامل. (4) الكامل: (الدواب). (5) الكامل: (الرجال). (6) الكامل (على القدح). (7) الكامل: (والعلق الخسيس). 208 فلما عظم الخطب في ذلك (1) الرمح بعث المهلب إلى المغيرة: خل لهم عن الرمح، عليهم لعنة الله! فخلوا لهم عنه، ومضت الخوارج، فنزلت على أربعة فراسخ من جيرفت، فدخلها المهلب، وأمر بجمع ما كان لهم من متاع، وما خلفوه من دقيق، وجثم عليه وهو والثقفي والأمينان، ثم اتبعهم فوجدهم قد نزلوا على ماء وعين لا يشرب منها أحد إلا قوى (2)، يأتي الرجل بالدلو قد شدها في طرف رمحه فيستقي بها، وهناك قرية فيها أهلها، فغاداهم القتال، وضم الثقفي إلى ابنه يزيد، وأحد الأمينين إلى المغيرة، فاقتتل القوم إلى نصف النهار. وقال المهلب لأبي علقمة العبدي - وكان شجاعا، وكان عاتيا هازلا -: أمددنا يا أبا علقمة بخيل اليحمد، وقل لهم: فليعيرونا جماجمهم ساعة، فقال: أيها الأمير، إن جماجمهم ليست بفخار فتعار، ولا أعناقهم كرادي (3) فتنبت. وقال: لحبيب بن أوس: كر على القوم، فلم يفعل، وقال: يقول لي الأمير بغير علم * تقدم حين جد به المراس فمالي إن أطعتك من حياة * ومالي غير هذا الرأس رأس (4) وقال لمعن بن المغيرة بن أبي صفرة: احمل، فقال: لا، إلا أن تزوجني ابنتك أم مالك، فقال: قد زوجتك، فحمل على الخوارج فكشفهم، وطعن فيهم، وقال: ليت من يشترى الحياة بمال * ملكة كان عندنا فيرانا (5)
(1) الكامل: (فيه). (2) الكامل: (على عين لا يشرب منها إلا قوى). (3) في الأصول: (كراث)، وصوابه من الكامل، قال أبو الحسن الأخفش: (تقول العرب لأعذاق النخل كراد، وهو فارسي عرب). (4) في الكامل: نصب (غير)، لأنه استثناء مقدم. (5) رواية الكامل: ليت من يشترى الغداة بمال * هلكه اليوم عندنا فيرانا 209 نصل الكر عند ذاك بطعن * إن للموت عندنا ألوانا قوله: (ملكة)، أي تزويجا ونكاحا. قال: ثم جال الناس جوله عند حملة حملها عليهم الخوارج، فالتفت المهلب، فقال للمغيرة ابنه: ما فعل الأمين الذي كان معك؟ قال: قتل وهرب الثقفي، فقال ليزيد: ما فعل عبيد بن أبي ربيعة؟ قال: لم أره منذ كانت الجولة، فقال الأمين الاخر للمغيرة: أنت قتلت صاحبي، فلما كان العشى رجع الثقفي، فقال رجل من بنى عامر بن صعصعة: ما زلت يا ثقفي تخطب بيننا * وتغمنا بوصية الحجاج حتى إذا ما الموت أقبل زاخرا * وسقى لنا صرفا بغير مزاج وليت يا ثقفي غير مناظر * تنساب بين أحزة وفجاج (1) ليست مقارعة الكماة لدى الوغى * شرب المدامة في إناء زجاج فقال المهلب للأمين الاخر: ينبغي أن تتوجه مع ابني حبيب في ألف رجل، حتى تبيتوا عسكرهم فقال: ما تريد أيها الأمير إلا أن تقتلني كما فعلت بصاحبي! فضحك المهلب، وقال: ذاك إليك. ولم يكن للقوم خنادق، فكان كل حذرا من صاحبه، غير أن الطعام والعدة مع المهلب، وهو في زهاء ثلاثين ألفا، فلما أصبح أشرف على واد فإذا هو برجل معه رمح مكسور مخضوب بالدم، وهو ينشد: وإني لأعفي ذا الخمار وصنعتي * إذا راح أطواء بنى الأصاغر (2)
(1) قال المبرد. (قوله: بين أحزة)، هو جمع حزيز، وهو متن ينقاد من الأرض ويغلظ، والفجاج: الطرق، واحدها فج. (2) قال المبرد: (قوله: (ذو الخمار)، يعنى فرسا، وكان ذو الخمار فرس مالك بن نويرة، قال جرير يهجو الفرزدق: بيربوع فخرت وآل سعد * فلا مجدي بلغت ولا افتخاري بيربوع فوارس كل يوم * يوارى شمسه رهج الغبار عتيبة والأحمير وابن عمرو * وعتاب وفارس ذي الخمار وقوله: (أطواء، يقال: رجل طوى البطن، أي منطو، يخبر أنه كان يؤثر فرسه على ولده فيشبعه وهم جياع، وذلك قوله: * أخادعهم عنه ليغبق دونهم * والغبوق: شرب آخر النهار، وهو شئ تفتخر به العرب)، واللهنه: الطعم الذي يتعلل به قبل الغداء، وفي الكامل: جزاني دوائي ذو الخمار وصنعتي * إذا بات أطواء بنى الأصاغر قال المرصفي: دوائي، بالكسر، مصدر دوى الفرس مداواة: سقاه اللبن، وصنعته الفرس: حسن القيام عليه. 210 أخادعهم عنه ليغبق دونهم * وأعلم غير الظن إني مغاور كأني وأبدان السلاح عشية * يمر بنا في بطن فيحان طائر (1) فقال له: أتميمي أنت؟ قال: نعم، قال: أحنظلي؟ قال: نعم، قال: أيربوعي؟ قال: نعم، قال: أمن آل نويرة؟ قال، نعم، أنا ولد مالك بن نويرة، قال: قد عرفتك بالشعر. قال أبو العباس: وذو الخمار فرس مالك بن نويرة. قال: فمكثوا أياما يتحاربون (2) ودوابهم مسرجة، ولا خنادق لهم، حتى ضعف الفريقان، فلما كان الليلة التي قتل في صبيحتها عبد ربه، جمع أصحابه، فقال: يا معشر المهاجرين، إن قطريا وعبيدة هربا طلبا للبقاء، ولا سبيل إلى البقاء، فالقوا عدوكم غدا، فإن غلبوكم على الحياة، فلا يغلبنكم على الموت، فتلقوا الرماح بنحوركم، والسيوف بوجوهكم، وهبوا أنفسكم لله في الدنيا يهبها لكم في الآخرة. فلما أصبحوا، غادوا المهلب، فاقتتلوا قتالا شديدا أنسى ما كان قبله، وقال رجل من الأزد، من أصحاب المهلب: من يبايعني على الموت؟ فبايعه أربعون رجلا من الأزد، فصرع بعضهم، وقتل بعضهم، وجرح بعضهم.
(1) أبدان السلاح: جمع بدن، وهو الدرع القصيرة، وفيحان: موضع أو واد في بنى أسد. (2) الكامل: (يتحارسون). 211 وقال عبد الله بن رزام الحارثي للمهلب: احملوا، فقال المهلب: أعرابي مجنون - وكان من أهل نجران - فحمل وحده، فاخترق القوم حتى خرج من ناحية [أخرى]، ثم كر ثانية ففعل فعلته الأولى، وتهايج الناس، فترجلت الخوارج، وعقروا دوابهم، فناداهم عمرو القنا - ولم يترجل هو ولا أصحابه (2)، وهم زهاء أربعمائة - فقال: موتوا على ظهور دوابكم كراما، ولا تعقروها، فقالوا: إنا إذا كنا على الدواب ذكرنا الفرار، [فاقتتلوا] (3)، ونادى المهلب بأصحابه: الأرض الأرض! وقال لبنيه: تفرقوا في الناس ليروا وجوهكم، ونادت الخوارج: ألا إن العيال لمن غلب، فصبر بنو المهلب (4 وقاتل يزيد بين يدي أبيه قتالا شديدا 4)، أبلى فيه، فقال له أبوه: يا بنى إني أرى موطنا لا ينجو فيه إلا من صبر، وما مر بي يوم مثل هذا منذ مارست الحروب. وكسرت الخوارج أجفان سيوفها، وتجاولوا، فأجلت جولتهم عن عبد ربه مقتولا. فهرب عمرو القنا وأصحابه، واستأمن قوم، وأجلت الحرب عن أربعة آلاف قتيل وجريح من الخوارج ومأسور، وأمر المهلب أن يدفع كل جريح إلى عشيرته، وظفر بعسكرهم، فحوى ما فيه، ثم انصرف إلى جيرفت، فقال: الحمد لله الذي ردنا إلى الخفض والدعة، فما كان عيشنا ذلك العيش (5). ثم نظر المهلب إلى قوم في عسكره ولم يعرفهم، فقال: ما أشد عادة السلاح (6)! ناولني درعي، فلبسها، ثم قال: خذوا هؤلاء، فلما صيرهم إليه، قال: ما أنتم؟ قالوا: جئنا لنطلب غرتك للفتك (7) بك. فأمر بهم فقتلوا.
(1) من الكامل. (2) الكامل: (هو وأصحابه). (3) من الكامل. (4 - 4) الكامل: (وصبر يزيد بين يدي أبيه، وقاتل قتالا شديدا). (5) الكامل: (فما كان عيشنا بعيش). (6) وكذا في الكامل، ويرى السيد جاسم أن الأنسب: (ما أشد عادة لبس السلاح). (7) الكامل: (لنفتك بك). 212 [طرف من اخبار المهلب وبينه] ووجه كعب بن معد الأشقري (1) ومرة بن بليد الأزدي، فوردا على الحجاج، فلما طلعا عليه، تقدم كعب فأنشده (2): * يا حفص إني عداني عنكم السفر (3) * فقال الحجاج: أشاعر أم خطيب؟ قال: شاعر، فأنشده القصيدة، فأقبل عليه الحجاج، وقال: خبرني عن بنى المهلب، قال: المغيرة سيدهم وفارسهم، وكفى بيزيد فارسا شجاعا!
(1) الأشقري: منسوب إلى الأشقر، بطن في الأزد. (2) قصيدة طويلة، يذكر فيها يوم رامهرمز وأيام سابور وجيرفت، أوردها الطبري في تاريخه 6: 104 (3) وبقيته: * وقد أرقت فآذى عيني السهر * ومنها: علقت يا كعب بعد الشيب غانية * والشيب فيه عن الأهواء مزدجر أممسك أنت عنها بالذي عهدت * أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر علقت خودا بأعلى الطف منزلها * في غرفة دونها الأبواب والحجر درما منا كبا ريا مآكمها * تكاد إذ نهضت للمشي تنبتر وقد تركت بشط الزابيين لها * دارا بها يسعد البادون والحضر واخترت دارا بها حي أسر بهم * ما زال فيهم لمن تختارهم خير لما نبت بي بلادي سرت منتجعا * وطالب الخير مرتاد ومنتظر أبا سعيد فإني جئت منتجعا * أرجو نوالك لما مسني الضرر لولا المهلب ما زرنا بلادهم * ما دامت الأرض فيها الماء والشجر فما من الناس من حي علمتهم * إلا يرى فيهم من سيبكم أثر 213 وجوادهم وسخيهم قبيصة، ولا يستحى الشجاع أن يفر من مدرك، وعبد الملك سم ناقع، وحبيب موت ذعاف، ومحمد ليث غاب، وكفاك بالفضل نجدة! فقال له: فكيف خلفت جماعة الناس؟ قال: خلفتهم بخير، قد أدركوا ما أملوا، وأمنوا ما خافوا، قال: فكيف كان بنو المهلب فيهم؟ قال: كانوا حماة السرح فإذا أليلوا ففرسان البيات، قال: فأيهم كان أنجد؟ قال: كانوا كالحلقة المفرغة، لا يدرى [أين] طرفاها، قال: فكيف كنتم أنتم وعدوكم؟ قال: كنا إذا أخذنا عفونا وإذا أخذوا يئسنا منهم، وإذا اجتهدنا واجتهدوا طمعنا فيهم. قال الحجاج: إن العاقبة للمتقين، فكيف أفلتكم قطري؟ قال: (2 كدناه وظن أن قد كادنا، بأن صرنا منه إلى التي نحب 2). قال: فهلا اتبعتموه؟ قال: كان حرب الحاضر آثر عندنا من اتباع الفل (3)، قال: فكيف كان المهلب لكم وكنتم له؟ قال: كان لنا منه شفقة الوالد، وله منا بر الولد، قال: فكيف كان اغتباط الناس به؟ قال: نشأ (4) فيهم الامن، وشملهم النفل (5)، قال: أكنت أعددت [لي] (6) هذا الجواب؟ قال: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: هكذا والله تكون الرجال! المهلب كان أعلم بذلك حيث بعثك. هذه رواية أبى العباس (7). وروى أبو الفرج في الأغاني (8) أن كعبا لما أوفده المهلب إلى الحجاج أنشده قصيدته التي أولها:
(1) من الكامل. (2 - 2) الكامل: (كدناه ببعض ما كادنا به، فصرنا منه إلى الذي نحب). (3) الكامل: (كان الحد عندنا آثر من الفل) (4) الكامل: (فشا). (5) النفل: الغنيمة. (6) من الكامل. (7) الكامل 695 (طبع أوروبا). (8) الأغاني الجزء الرابع عشر 284 - 285 (طبعة الدار). 214 يا حفص إني عداني عنكم السفر * وقد سهرت وآذى عيني السهر (1) يذكر فيها حروب المهلب مع الخوارج، ويصف وقائعه فيهم في بلد، وهي طويلة، ومن جملتها (2): كنا نهون قبل اليوم شأنهم * حتى تفاقم أمر كان يحتقر (3) لما وهنا وقد حلوا بساحتنا * واستنفر الناس تارات فما نفروا (4) نادى امرؤ لا خلاف في عشيرته * عنه، وليس به عن مثله قصر خبوا كمينهم بالسفح إذ نزلوا * بكازرون فما عزوا ولا نصروا (5) باتت كتائبنا تردى مسمومة * حول المهلب حتى نور القمر (6) هناك ولوا خزايا بعد ما هزموا * وحال دونهم الأنهار والجدر تأبى علينا حزازات النفوس فما * نبقى عليهم ولا يبقون إن قدروا فضحك الحجاج، وقال: إنك لمنصف يا كعب، ثم قال له: كيف كانت حالكم مع عدوكم؟ قال: كنا إذا لقيناهم بعفونا وعفوهم يئسنا (7) منهم، وإذا لقيناهم بجدنا وجدهم (8) طمعنا فيهم. قال: فكيف كان بنو المهلب؟ قال: حماة الحريم نهارا، وفرسان الليل تيقظا (9)، قال: فأين السماع من العيان؟ قال: السماع دون العيان، قال:
(1) عداه عن الامر: صرفه عنه. (2) قال أبو الفرج بعد أن أورد أبياتا منها: (وهي قصيدة طويلة، قد ذكرها الرواة في الخبر، فتركت ذكرها لطولها، يقول فيها...) وأورد الأبيات. (3) في الأغاني قبل هذا البيت: فما يجاوز باب الجسر من أحد * قد عضت الحرب أهل المصر فانجحروا (4) استنفر الناس: استنجدهم. (5) في الطبري، (عبوا جنودهم). (6) الكتيبة: جماعة الخيل، وتردى: تضرب الأرض بحوافرها. (7) الأغاني: (فعفوهم تأنيس لهم). (8) الأغاني: (بجهدنا وجهدهم). (9) الأغاني: (أيقاظا). 215 صفهم لي رجلا رجلا. قال: المغيرة فارسهم وسيدهم، نار ذاكية، وصعدة (1) عالية. وكفى بيزيد فارسا شجاعا! ليث غاب، وبحر جم العباب. وجوادهم قبيصة، ليث المغار، وحامى الذمار، ولا يستحى الشجاع أن يفر من مدرك، وكيف لا يفر من مدرك، وكيف لا يفر من الموت الحاضر، والأسد الخادر (2)! وعبد الملك سم ناقع، وسيف قاطع، وحبيب الموت الذعاف (3)، طود شامخ، وبحر باذح (4)، وأبو عيينة البطل الهمام، والسيف الحسام، وكفاك بالمفضل نجدة، ليث هدار وبحر مواز (5)! ومحمد ليث غاب، وحسام ضراب. قال: فأيهم أفضل؟ قال: هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها (6)، قال: فكيف جماعة الناس؟ قال: على أحسن حال، أرضاهم العدل، وأغناهم النفل. قال: فكيف رضاهم بالمهلب؟ قال: أحسن رضا، يعدمون (7 منه إشفاق الوالد، ولا يعدم منهم بر الولد 7). وذكر تمام الحديث. وقال: إن الحجاج أمر له بعشرين ألف درهم، وحمله على فرس، وأوفده على عبد الملك، فأمر له بعشرين ألفا أخرى. قال أبو الفرج: وكعب (8) الأشقري من شعراء المهلب ومادحيه، وهو شاعر مجيد. قال عبد الملك بن مروان للشعراء (9): تشبهونني مرة بالأسد، ومرة ه بالبازي، ألا قلتم كما قال كعب الأشقري للمهلب وولده: براك الله حين براك بحرا * وفجر منك أنهارا غزارا
(1) ذكت النار: اشتد لهبا، والصعدة: القناة المستوية تنبت كذلك. (2) أسد خادر: مقيم في عرينه داخل في الخدر. (3) الذعاف: السريع. (4) الباذخ: العالي. (5) موار: مضطرب. (6) في الأصول: (طرفها)، وما أثبته من الأغاني. (7 - 7) الأغاني: (وكيف لا يكونون كذلك، وهم لا يعدمون رضا الوالد، ولا يعدم منهم بر الولد) (8) الأغاني 14: 286، 287 (9) الأغاني: (كان يقول للشعراء). 216 بنوك السابقون إلى المعالي * إذا ما أعظم الناس الخطارا (1) كأنهم نجوم حول بدر * تكمل إذ تكمل فاستدارا (2) ملوك ينزلون بكل ثغر * إذا ما الهام يوم الروع طارا (3) رزان في الخطوب ترى عليهم * من الشيخ الشمائل والنجارا (4) نجوم يهتدى بهم إذا ما * أخو الغمرات في الظلماء حارا (5) قال أبو الفرج: وهذا الشعر من قصيدة لكعب، يمدح بها المهلب، ويذكر الخوارج (6)، ومنها: سلوا أهل الأباطح من قريش * عن المجد المؤثل أين صارا (7)
(1) الخطار: المراهنة. (2) الأغاني: * دراري تكمل فاستدارا * (3) الهام: الرؤس. (4) في الأغاني: (رزان في الأمور)، والنجار: الحسب والأصل (5) في الأغاني: (أخو الظلماء). (6) ذكر صاحب الأغاني ثلاثة أبيات من أولها، مما فيه غناء: طربت وهاج لي ذاك ادكارا * بكش وقد أطلت به الحصارا وكنت ألذ بعض العيش حتى * كبرت وصار لي همى شعارا رأيت الغانيات كرهن وصلى * وأبدين الصريمة لي جهارا (7) الأغاني 14: 295، وذكر قبلها: غرضن بمجلسي وكرهن وصلى * أوان كسيت من شمط عذارا زرين على حين بدا مشيبي * وصارت ساحتي للهم دارا أتاني والحديث له نماء * مقالة جائر أحفى وجارا وذكر بعده: ومن يحمى الثغور إذا استحرت * حروب لا ينون لها غرارا 217 لقوم الأزد في الغمرات أمضى * وأوفى ذمة وأعز جارا (1) هم قادوا الجياد على وجاها * من الأمصار يقذفن المهارا (2) إلى كرمان يحملن المنايا * بكل ثنية يوقدن نارا (3) شوازب ما أصبنا الثار حتى * رددناها مكلمة مرارا (4) غداة تركن مصرع عبد رب * نثرن عليه من رهج غبارا (5) ويوم الزحف بالأهواز ظلنا * نروي منهم الأسل الحرارا (6) فقرت أعين كانت حزينا * قليلا نومها إلا غرارا (7) ولولا الشيخ بالمصرين ينفى * عدوهم لقد نزلوا الديارا (8) ولكن قارع الابطال حتى * أصابوا الامن واحتلوا القرارا (9)
(1) الأغاني: (لقومي الأزد). (2) الوجى: الحفى، وذكر بعده: بكل مفازة وبكل سهب * بسابس لا يرون لها منارا (3) الثنية: الطريق في الجبل. (4) مكلمة: مجروحة، وفي الأغاني: (لم يصبن)، وبعده: ويشجرن العوالي السمر حتى * ترى فيها عن الأسل ازورارا (5) هو عبد ربه الصغير أمير الأزارقة المذكور قبلا، بعد قطري. وفي الأغاني: (يثرن عليه من رهج عصارا)، والعصار هو الغبار. (6) الحرار: جمع حران، وهو العطشان. (7) حزين، فعيل، مما يستوي فيه المفرد والمثنى والجمع، والمذكر والمؤنث، وفي الأغاني: (حديثا)، وبعده في الأغاني: صنائعنا السوابغ والمذاكي * ومن بالمصر يحتلب العشارا فهن يبحن كل حمى عزيز * ويحمين الحقائق والذمارا طوالات المتون يصن إلا * إذا سار المهلب حيث سارا (8) المصران: البصرة والكوفة. وفي الأغاني: (تركوا الديارا). (9) الأغاني: * أصابوا الامن واجتنبوا الفرارا * 218 إذا وهنوا وحل بهم عظيم * يدق العظم كان لهم جبارا ومبهمة يحيد الناس عنها * تشب الموت شد لها إزارا شهاب تنجلي الظلماء عنه * يرى في كل مظلمة منارا (1) براك الله حين براك بحرا * وفجر منك أنهارا غزارا. الأبيات المتقدمة. * * * قال أبو الفرج: وحدثني (2) محمد بن خلف وكيع، بإسناد ذكره، أن الحجاج لما كتب إلى المهلب يأمره بمناجزة الخوارج حينئذ، ويستبطئه، ويضعفه ويعجزه من تأخيره أمرهم، ومطاولته لهم، قال المهلب لرسوله قل له: إنما البلاء أن يكون الامر لمن يملكه، لا لمن يعرفه، فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم - على أن أدبرها كما أرى، فإذا أمكنتني فرصة انتهزتها، وإن لم تمكني توقفت - فأنا أدبر ذلك بما يصلحه، وإن أردت أن أعمل برأيك وأنا حاضر وأنت غائب - فإن كان صوابا فلك، وإن كان خطأ فعلى - فابعث من رأيت مكاني، وكتب من فوره بذلك إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى الحجاج: لا تعارض المهلب فيما يراه، ولا تعجله ودعه يدبر أمره. قال: وقام كعب الأشقري إلى المهلب، فأنشده بحضرة رسول الحجاج: إن ابن يوسف غره من أمركم * خفض المقام بجانب الأمصار (3) لو شهد الصفين حيث تلاقيا * ضاقت عليه رحيبة الأقطار من أرض سابور الجنود وخيلنا * مثل القداح بريتها بشفار
(1) الأغاني: (في كل مظلمة). (2) الأغاني 14: 290، 292 (3) الأغاني: (غره من غزوكم). 219 من كل صنديد يرى بلبانه * وقع الظباة مع القنا الخطار (1) لرأى معاودة الرباع غنيمة * أزمان كان محالف الاقتار فدع الحروب لشيبها وشبابها * وعليك كل غريرة معطار (2) فبلغت أبياته الحجاج، فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري إليه: فأعلم [المهلب] (3) كعبا بذلك، وأوفده إلى عبد الملك من ليلته، وكتب إليه يستوهبه منه، فقدم كعب على عبد الملك برسالة المهلب، فاستنطقه فأعجبه، وأوفده إلى الحجاج، وكتب إليه يقسم عليه أن يصفح، ويعفو عما بلغه من شعره، فلما دخل قال: إيه يا كعب! * لرأى معاودة الرباع غنيمة * فقال: أيها الأمير، والله لوددت في بعض ما شاهدته من تلك الحروب، وما أوردناه المهلب (4) من خطرها، أن أنجو منها وأكون حجاما أو حائكا، قال: أولى لك! لولا قسم أمير المؤمنين ما نفعك ما تقول، الحق بصاحبك، ورده إلى المهلب (5). * * * قال أبو العباس: وكان (6) كتاب المهلب إلى الحجاج، الذي بشره فيه بالظفر والنصر: [بسم الله الرحمن الرحيم] (7) الحمد لله الكافي بالاسلام فقد ما سواه، الحاكم بألا ينقطع المزيد من فضله حتى ينقطع الشكر من عباده، أما بعد:
(1) اللبان هنا: المصدر، والظباة: جمع ظبة، وهي حد السيف. ورمح خطار: ذو اهتزاز شديد. (2) امرأة معطار: اعتادت أن تتعهد نفسها بالطيب وتكثر منه. (3) من الأغاني. (4) الأغاني: (يوردناه). (5) الأغاني: (من وقته). (6) الكامل 3: 404 وما بعدها (طبعة نهضة مصر). (7) من الكامل. 220 فقد كان من أمرنا ما قد بلغك، وكنا نحن وعدونا على حالين مختلفين، يسرنا منهم أكثر مما يسوءنا، ويسؤهم منا أكثر مما يسرهم، على اشتداد شوكتهم، فقد كان علا أمرهم حتى ارتاعت له الفتاة، ونوم به الرضيع، فانتهزت الفرصة منهم في وقت إمكانها، وأدنيت السواد من (1) السواد، حتى تعارفت الوجوه، فلم نزل كذلك حتى بلغ الكتاب أجله، فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين. فكتب إليه الحجاج: أما بعد، فقد فعل الله بالمسلمين خيرا، وأراحهم من بأس الجلاد، وثقل الجهاد، ولقد كنت أعلم بما قبلك، فالحمد لله رب العالمين، فإذا ورد عليك كتابي فاقسم في المجاهدين فيئهم، ونفل (2) الناس على قدر بلائهم، وفضل من رأيت تفضيله، وإن كانت بقيت من القوم بقية فخلف خيلا تقوم بإزائهم، واستعمل على كرمان من رأيت، وول الخيل شهما من ولدك، ولا ترخص لأحد في اللحاق بمنزله دون أن تقدم بهم على، وعجل القدوم إن شاء الله. فولى المهلب يزيد ابنه كرمان، وقال له: يا بنى، إنك اليوم لست كما كنت، إنما لك من كرمان ما فضل عن الحجاج، ولن تحتمل إلا على ما احتمل عليه أبوك، فأحسن إلى من تبعك، وإن أنكرت من إنسان شيئا فوجه إلى، وتفضل على قومك، [إن شاء الله] (3)
(1) أي قربت ما بين الفريقين. (2) قال المبرد: قوله: (نفل) أي أقسم بينهم، والنفل: العطية التي تفضل، كذا كان الأصل، وإنما تفضل الله عز وجل بالغنائم على عباده، قال لبيد: إن تقوى ربنا خير نفل * وبإذن الله ريث وعجل وقال جل جلاله له: (يسألونك عن الأنفال)، ويقال: نفلتك كذا وكذا، أي أعطيتك، ثم صار النفل لازما واجبا. (3) من الكامل 221 ثم قدم المهلب على الحجاج، فأجلسه إلى جانبه، وأظهر بره وإكرامه، وقال: يا أهل العراق، أنتم عبيد قن للمهلب، ثم قال: أنت والله كما لقيط (1): فقلدوا أمركم لله دركم * رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا (2) لا يطعم النوم إلا ريث يبعثه * هم يكاد حشاه يقصم الضلعا (3) لا مترفا إن رخاء العيش ساعده * ولا إذا عض مكروه به خشعا (4) ما زال يحلب هذا الدهر أشطره * يكون متبعا طورا ومتبعا (5) حتى استمرت على شرر مريرته * مستحكم الرأي لا قحما ولا ضرعا (6) وروى أنه قام إليه رجل فقال: أصلح الله الأمير! والله لكأني أسمع الساعة قطريا وهو يقول لأصحابه: المهلب والله كما قال لقيط الأيادي، ثم أنشد هذا الشعر. فسر الحجاج حتى امتلأ سرورا، فقال المهلب: أما والله ما كنا أشد من عدونا ولا أحد، ولكن دمغ الحق الباطل، وقهرت الجماعة الفتنة، والعاقبة للمتقين (7)، وكان ما كرهناه من المطاولة خيرا لنا مما أحببناه من المعاجلة.
(1) هو لقيط بن يعمر الأيادي، من قصيدة طويلة، ذكرها ابن الشجري في مختاراته 1 - 6، أنذر فيها قومه من إياد بغز وكسرى، وكان كاتبا في ديوانه، وأولها: يا دار عمرة من محتلها الجرعا * هاجت لي الهم والأحزان والوجعا تامت فؤادي بذات الجزع خرعبة * مرت تريد بذات العذبة البيعا (2) رحب الذراع: يريد واسع الصدر متباعد ما بين المنكبين، كناية عن قوته وشدة مراسه، ومضطلعا: أي يحمل الامر ويقوم عليه. (3) ريث يبعثه، أي مقدار ما يبعثه. (4) المترف: المتنعم السادر في ملاذه. (5) يحلب أشطره، أي أنه اختبر ضروب الدهر من خير شر وحلو ومر. (6) المريرة من الحبال: ما طال واشتد فتله، واستمرت استحكمت، والشزر: الفتل إلى فوق، خلاف اليسر، وهو الفتل إلى أيسر، والأول أحكم الفتلين، ضرب ذلك مثلا لاستجماع قوته. والضرع: الصغير الضعيف، والقحم: آخر سن الشيخ. (7) الكامل: (للتقوى). 222 فقال الحجاج: صدقت، أذكر لي القوم الذين أبلوا، وصف لي بلاءهم، [فأمر الناس فكتبوا ذلك إلى الحجاج، فقال لهم المهلب: ما ذخر الله لكم خير لكم من عاجل الدنيا إن شاء الله] (1)، فذكرهم (2) المهلب على مراتبهم في البلاء، وتفاضلهم في الغناء، وقدم بنيه: المغيرة، ويزيد، ومدركا، وحبيبا، وقبيصة، والمفضل، وعبد الملك، ومحمدا، وقال: والله لو واحد يقدمهم في البلاء لقدمته عليهم، ولولا أن أظلمهم لأخرتهم. فقال الحجاج: صدقت، وما أنت أعلم بهم منى، وإن حضرت وغبت إنهم لسيوف من سيوف الله. ثم ذكر معن بن المغيرة والرقاد وأشباههما. فقال الحجاج: من الرقاد (3)؟ فدخل رجل طويل أجنأ (4)، فقال المهلب: هذا فارس العرب، فقال الرقاد للحجاج: أيها الأمير، إني كنت أقاتل مع غير المهلب فكنت كبعض الناس، فلما صرت مع من يلزمني الصبر، ويجعلني أسوة نفسه وولده، ويجازيني على البلاء، صرت أنا وأصحابي فرسانا. فأمر الحجاج بتفضيل قوم على قوم على قدر بلائهم، وزاد ولد المهلب ألفين ألفين، وفعل بالرقاد وبجماعة شبيها بذلك. وقال يزيد بن حبناء من الأزارقة: دعى اللوم إن العيش ليس بدائم * ولا تعجلي باللوم يا أم عاصم (4) فإن عجلت منك الملامة فاسمعي * مقالة معنى بحقك عالم ولا تعذلينا في الهدية إنما * تكون الهدايا من فضول المغانم
(1) من الكامل. (2) الكامل: (ثم ذكرهم). (3) الكامل: (أين الرقاد). (4) أجنأ، من الجنأ، بالتحريك، وهو ميل في الظهر. (4) الكامل 3: 409، 410 223 وليس بمهد من يكون نهاره * جلادا، ويمسي ليله غير نائم (1) يريد ثواب الله يوما بطعنة * غموس كشدق العنبري ابن سالم (2) أبيت وسربالي دلاص حصينة * ومغفرها، والسيف فوق الحيازم (3) حلفت برب الواقفين عشية * لدى عرفات حلفة غير آثم لقد كان في القوم الذين لقيتهم * بسابور شغل عن بزوز اللطائم (4) توقد في أيديهم زاعبية * ومرهفة تفري شؤون الجماجم (5) وقال المغيرة الحنظلي من أصحاب المهلب: إني امرؤ كفني ربى وأكرمني * عن الأمور التي في غبها وخم (6) وإنما أنا إنسان أعيش كما * عاشت رجال وعاشت قبلها أمم ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا * عي بما صنعوا حولي ولا صمم (7) ولو أردت قفولا ما تجهمني * إذن الأمير ولا الكتاب إذ رقموا إن المهلب إن أشتق لرؤيته * أو أمتدحه فإن الناس قد علموا أنه الأريب الذي ترجى نوافله * والمستنير الذي تجلى به الظلم والقائل الفاعل الميمون طائره * أبو سعيد إذا ما عدت النعم أزمان كرمان إذ غص الحديد بهم * وإذ تمنى رجال أنهم هزموا.
(1) قال المبرد: (يريد يمسي هو في ليله، ويكون هو في نهاره، ولكنه جعل الفعل لليل والنهار على السعة، وفي القرآن: (بل مكر الليل والنهار) والمعنى: بل مكركم في الليل والنهار). (2) قال المبرد: قوله غموس، يريد واسعة، والعنبري ابن سالم: رجل منهم كان يقال له الأشدق. (3) الدلاص: الدرع الملساء اللينة. (4) اللطائم، واحدتها لطيمة، وهي الإبل التي تحمل البز والعطر. (5) زاعبية، يعنى الرماح. والزاعبية: منسوبة إلى زاعب، وهو رجل من الخزرج كان يعمل الرماح وتفرى: تقد. (6) الكامل. (في رعيها وخم). (7) الكامل. (عنى بما صنعوا عجز ولا بكم). 224 وقال حبيب بن عوف من قواد المهلب: أبا سعيد جزاك الله صالحة * فقد كفيت ولم تعنف على أحد (1) داويت بالحلم أهل الجهل فانقمعوا * وكنت كالوالد الحاني على الولد وقال عبيدة بن هلال الخارجي يذكر رجلا من أصحابه: يهوى فترفعه الرماح كأنه * شلو تنشب في مخالب ضار (2) يهوى صريعا والرماح تنوشه * إن الشراة قصيرة الأعمار (3) * * * [شبيب بن يزيد الشيباني] ومنهم (4) شبيب بن يزيد الشيباني، وكان في ابتداء أمره يصحب صالح بن مسرح، أحد الخوارج الصفرية، وكان ناسكا مصفر الوجه، صاحب عبادة، وله أصحاب يقرئهم القرآن، ويفقههم ويقص عليهم (5)، ويقدم الكوفة، فيقيم بها الشهر والشهرين. وكان بأرض الموصل والجزيرة، وكان إذا فرغ من التحميد والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله، ذكر أبا بكر فأثنى عليه، وثنى بعمر، ثم ذكر عثمان وما كان من أحداثه، ثم عليا عليه السلام وتحكيمه الرجال في دين الله، ويتبرأ من عثمان وعلى، ثم
(1) لم تعنف، من العنف، وهو الشدة. (2) الشلو: العضو. (3) الكامل: (فثوى صريعا). (4) نقل المؤلف أخبار شبيب من تاريخ الطبري 5: 216 وما بعدها، أحيانا بنصها، وأحيانا مع تصرف واختصار. (5) في الطبري: (فكان قبيصة بن عبد الرحمن حدث أصحابنا أن قصص صالح بن مسرح عنده، وكان ممن سرى رأيهم، فسألوه أن يبعث بالكتاب إليهم، ففعل، وكان قصصه: الحمد لله رب العالمين، الذي خلق السماوات والأرض....)، ثم أورد نص الكتاب، وآخره: (جعلنا الله وإياكم من الشاكرين الذاكرين الذين يهدون بالحق وبه يعدلون)، وقد أورده المؤلف ملخصا. 225 يدعو إلى مجاهدة أئمة الضلال، وقال: تيسروا يا إخواني للخروج من دار الفناء إلى دار البقاء، واللحاق بإخواننا المؤمنين، الذين باعوا الدنيا بالآخرة، ولا تجزعوا من من القتل في الله، فإن القتل أيسر من الموت، والموت نازل بكم، مفرق بينكم وبين آبائكم وإخوانكم، وأبنائكم وحلائلكم ودنياكم، وإن اشتد لذلك جزعكم، ألا فبيعوا أنفسكم طائعين وأموالكم، تدخلوا الجنة... وأشباه هذا من الكلام. وكان فيمن يحضره من أهل الكوفة سويد والبطين، فقال يوما لأصحابه: ماذا تنتظرون؟ ما يزيد أئمة الجور إلا عتوا وعلوا، وتباعدا من الحق، وجراءة على الرب، فراسلوا إخوانكم حتى يأتوكم، وننظر في أمورنا ما نحن صانعون. وأي وقت إن خرجنا نحن خارجون. فبينا هو كذلك إذ أتاه المحلل بن وائل (1) بكتاب من شبيب بن يزيد، وقد كتب إلى صالح: أما بعد، فقد [أردت الشخوص، وقد] (2) كنت دعوتني إلى أمر أستجيب (3) لك، فإن كان ذلك (4) من شأنك، فإنك شيخ المسلمين، ولم يعدل بك منا أحد (5)، وإن أردت تأخير ذلك أعلمني (6)، فإن الآجال غادية ورائحة، ولا آمن أن تخترمني المنية، ولما أجاهد الظالمين، [فيا له غبنا ويا له فضلا!] (2)، جعلنا الله وإياكم ممن يريد الله بعلمه [ورضوانه والنظر إلى وجهه، ومرافقة الصالحين في دار السلام] (2). والسلام عليك.
(1) ب: (قائد)، وما أثبته عن ا، ج والطبري. (2) تكملة من تاريخ الطبري. (3) الطبري: (فاستجبت لك). (4) الطبري: (فإن كان ذلك اليوم). (5) الطبري: (ولن نعدل بك منا أحدا). (6) الطبري: (وإن أردت تأخير ذلك اليوم أعلمتني). 226 فأجابه صالح بجواب جميل، يقول فيه (1: إنه لم يمنعني من الخروج - مع ما أنا فيه من الاستعداد - إلا انتظارك، فاقدم علينا، ثم اخرج بنا، فإنك ممن لا تقضى الأمور دونه، والسلام عليك 1). فلما ورد كتابه على شبيب، دعا القراء من أصحابه، فجمعهم إليه، منهم أخوه مصاد ابن يزيد والمحلل بن وائل، والصقر بن حاتم، وإبراهيم بن حجر وجماعة مثلهم (2)، ثم خرج حتى قدم على صالح بن مسرح، وهو بدارات (3) أرض الموصل، فبث صالح رسله، وواعدهم بالخروج، في هلال صفر ليلة الأربعاء سنة ست وتسعين. فاجتمع بعضهم إلى بعض، واجتمعوا عنده تلك الليلة، فحدث فروة بن لقيط (4)، قال: إني لمعهم تلك الليلة عند صالح (5)، وكان رأيي استعراض الناس، لما رأيت من المكر والفساد في الأرض، فقمت إليه، فقلت: يا أمير المؤمنين، كيف ترى السيرة في هؤلاء الظلمة، أنقتلهم قبل الدعاء، أم ندعوهم قبل القتال؟ فإني أخبرك برأيي فيهم قبل أن تخبرني بذلك، إنا نخرج على قوم طاغين، قد تركوا أمر الله، أو راضين بذلك، فأرى أن نضع السيف، فقال: لا، بل ندعوهم، ولعمري لا يجيبك إلا من يرى رأيك، وليقاتلنك من يزرى عليك، والدعاء أقطع لحجتهم، وأبلغ في الحجة عليهم لك. فقلت:
(1 - 1) الكتاب كما في الطبري: (أما بعد، فقد كان كتابك وخبرك أبطأ عني، حتى أهمنى ذلك، ثم إن أميرا من أمراء المسلمين نبأني بنبأ مخرجك ومقدمك، فنحمد الله على قضاء ربنا، وقد قدم على رسولك بكتابك، فكل ما فيه قد فهمته، ونحن في جهاز واستعداد للخروج، ولم يمنعني من الخروج إلا انتظارك، فأقبل إلينا ثم اخرج بنا متى أحببت، فإنك ممن لا يستغنى عن رأيه، ولا تقضى دونه الأمور، والسلام). (2) في الطبري: (وإبراهيم بن حجر أبو الصقير من بنى محلم والفضل بن عامر من بنى ذهل بن شيبان). (3) في حواشي ج: (الدارة: كل أرض واسعة بين جبال، ومن الرمل ما استدار معه وجمعه دارات ودور)، وفي الطبري: (قدم على صالح بدارا). (4) في الطبري: (قال أبو مخنف: فحدثني فروة بن لقيط). (5) كذا في الأصول، وفي الطبري: (قال - أي فروة - والله إني لمع شبيب بالمدائن، إذ حدثنا عن مخرجهم، قال: لما هممنا بالخروج اجتمعنا إلى صالح بن مسرح ليلة خرج، فكان رأيي استعراض الناس....) إلى آخر الخبر مع اختلاف في الرواية. 227 وكيف ترى فيمن قاتلنا فظفرنا به؟ وما تقول في دمائهم وأموالهم؟ فقال: إن قتلنا وغنمنا فلنا وإن تجاوزنا وعفونا فموسع علينا. ثم قال صالح (1) لأصحابه ليلته (2) تلك: اتقوا الله عباد الله، ولا تعجلوا إلى قتال أحد من الناس، إلا أن يكونوا [قوما] (3) يريدونكم [وينصبون لكم] (3)، فإنكم إنما خرجتم غضبا لله حيث انتهكت محارمه، وعصى في الأرض، (4 وسفكت الدماء بغير حقها، وأخذت الأموال غصبا 4)، فلا تعيبوا على قوم أعمالا ثم تعملونها (5)، [فإن كل ما أنتم عاملون أنتم عنه مسؤولون، وإن عظمكم رجالة] (3)، وهذه دواب لمحمد بن مروان في هذا الرستاق (6)، وابدأوا بها فاحملوا عليها راجلكم، وتقووا بها على عدوكم (7). ففعلوا ذلك، وتحصن منهم أهل دارا (8). وبلغ خبرهم محمد بن مروان وهو يومئذ أمير الجزيرة، فاستخف بأمرهم، وبعث إليهم عدى بن عميرة في خمسمائة، وكان صالح في مائة وعشرة، فقال عدى: أصلح الله
(1) الخبر في الطبري عن أبي مخنف أيضا عن رجل من بنى محلم. (2) الطبري: (ليلة خرج). (3) من الطبري. (4 - 4) الطبري: (فسفكت الدماء بغير حلها، وأخذت الأموال بغير حقها). (5) الطبري: (تعملون بها). (6) الرستاق - فيما ذكره حمزة بن الحسن - مشتق من (روذه فستا)، وروذه: اسم للسطر والصف والسماط. وفستا: اسم للحال، والمعنى أنه على التسطير والنظام. قال ياقوت: (والذي عرفناه وشاهدناه في زماننا في بلاد الفرس أنهم يعنون بالرستاق: كل موضع فيه مزارع وقرى ولا يقال ذلك للمدن كالبصرة وبغداد، فهو عند الفرس بمنزلة السواد عند أهل بغداد) معجم البلدان 1: 37. (7 - 7) الطبري: (فابدأوا بها، فشدوا عليها، فاحملوا أرجلكم، وتقووا بها على عدوكم). (8) الطبري: (أهل دارا وأهل نصيبين وأهل سنجار، وخرج صالح ليلة خرج في مائة وعشرين، وقيل: في مائة وعشرة). 228 الأمير! تبعثني إلى رأس الخوارج [منذ عشرين سنة] (1)، ومعه رجال سموا لي [كانوا يعازوننا] (1)، وإن الرجل منهم خير من مائة فارس في خمسمائة! فقال له: إني أزيدك خمسمائة، فسر إليهم في ألف فارس. فسار من حران في ألف رجل، وكأنما يساقون إلى الموت - وكان عدى رجلا ناسكا (2) - فلما نزل دوغان (3) نزل بالناس، وأنفذ إلى صالح بن مسرح رجلا دسه إليه فقال: إن عديا بعثني إليك يسألك أن تخرج عن هذا البلد، وتأتي بلدا آخر فتقاتل أهله، فإني للقتال كاره، فقال له صالح: ارجع إليه، فقل له: إن كنت ترى رأينا، فأرنا من ذلك ما نعرف، ثم نحن مدلجون (4) عنك، وإن كنت على رأى الجبابرة، وأئمة السوء، رأينا رأينا، فإما بدأنا بك، وإلا رحلنا إلى غيرك. فانصرف إليه الرسول، فأبلغه، فقال له عدى: ارجع إليه فقل له: إني والله لا أرى رأيك، ولكني أكره قتالك وقتال غيرك من المسلمين (5). فقال صالح لأصحابه: اركبوا، فركبوا، واحتبس الرجل عنده، ومضى بأصحابه حتى أتى عديا في سوق دوغان، وهو قائم يصلى الضحى، فلم يشعر إلا بالخيل طالعة عليهم، فلما دنا صالح منهم، رآهم على غير تعبية (6)، وقد تنادوا، وبعضهم يجول في بعض، فأمر شبيبا فحمل عليهم في كتيبة، ثم أمر سويدا فحمل في كتيبة، فكانت هزيمتهم،
(1) من الطبري. (2) الطبري: (يتنسك). (3) دوغان: قرية بين رأس عين ونصيبين، كانت سوقا لأهل الجزيرة يجتمع إليها أهلها مرة في كل شهر. (مراصد الاطلاع). (4) الدلج والدلجة: السير آخر لليل. (5) في الطبري بعدها: (فقاتل غيري). (6) عبأ الجيش للحرب تعبئة: هيأه وجهزه، يقال بالهمز وبغير الهمز. 229 وأتى عدى بدابته فركبها، ومضى على وجهه، واحتوى صالح على عسكره وما فيه، وذهب فل عدى حتى لحقوا بمحمد بن مروان، فغضب، ثم دعا بخالد بن جزء السلمي فبعثه في ألف وخمسمائة، ودعا الحارث بن جعونة في ألف وخمسمائة، وقال لهما: اخرجا إلى هذه الخارجة القليلة الخبيثة، وعجلا [الخروج، وأغذا السير] (1) فأيكما سبق، فهو الأمير على صاحبه، فخرجا وأغذا (2) في السير، وجعلا يسألان عن صالح، فقيل لهما: توجه نحو آمد (3)، فاتبعاه حتى انتهيا إليه بآمد، فنزلا ليلا، وخندقا وهما متساندان، كل، واحد منهما على حدته، فوجه صالح شبيبا إلى الحارث بن جعونة في شطر أصحابه، وتوجه هو نحو خالد السلمي، فاقتتلوا أشد قتال اقتتله قوم حتى حجز بينهم الليل، وقد انتصف بعضهم من بعض. فتحدث بعض أصحاب (4) صالح، قال: كنا إذا حملنا عليهم استقبلنا رجالهم بالرماح، ونضحنا (5) رماتهم بالنبل، وخيلهم تطاردنا في خلال ذلك، فانصرفنا عند الليل، وقد كرهناهم وكرهونا، فلما رجعنا وصلينا وتروحنا وأكلنا من الكسر (6)، دعانا صالح وقال: يا أخلائي، ماذا ترون؟ فقال شبيب: إنا إن قاتلنا هؤلاء القوم وهم معتصمون بخندقهم، لم ننل منهم طائلا، والرأي أن نرحل عنهم، فقال صالح: وأنا أرى ذلك، فخرجوا من تحت ليلتهم حتى قطعوا أرض الجزيرة، وأرض الموصل، ومضوا حتى قطعوا أرض الدسكرة. فلما بلغ ذلك الحجاج سرح عليهم الحارث بن عميرة في ثلاثة آلاف،
(1) من الطبري. (2) أغذ في السير: أسرع فيه. (3) آمد، بكسر الميم: بلد قديم حصين، تحيط دجلة بأكثره. مراصد الاطلاع. (4) في الطبري: (قال أبو مخنف: (فحدثني المحلمي قال...)، وأورد الخبر باختلاف في الرواية. (5) النضح: الرمي بالنبل. (6) الكسرة: القطعة من الخبز، وجمعه كسر. 230 فسار وخرج صالح نحو جلولاء وخانقين (1) واتبعه الحارث حتى انتهى إلى قرية يقال لها المدبج (2)، وصالح يومئذ في تسعين رجلا، فعبى الحارث بن عميرة أصحابه ميمنة وميسرة، وجعل صالح أصحابه ثلاثة كراديس وهو في كردوس (3)، وشبيب في ميمنة في كردوس، وسويد بن سليم في كردوس في ميسرته، في كل كردوس منهم ثلاثون رجلا، فلما شد عليهم الحارث بن عميرة انكشف سويد بن سليم، وثبت صالح فقتل، وضارب شبيب حتى صرع عن فرسه، فوقع بين رجاله، فجاء حتى انتهى إلى موقف صالح، فوجده قتيلا فنادى: إلى يا معشر المسلمين! فلاذوا به، فقال لأصحابه: ليجعل كل رجل منكم ظهره إلى ظهر صاحبه، وليطاعن عدوه إذا قدم عليه، حتى ندخل هذا الحصن، ونرى رأينا. ففعلوا ذلك حتى دخلوا الحصن، وهم سبعون رجلا مع شبيب، وأحاط بهم الحارث بن عميرة ممسيا، وقال لأصحابه: أحرقوا الباب، فإذا صار جمرا فدعوه، فإنهم لا يقدرون على الخروج حتى نصبح (4) فنقتلهم، ففعلوا ذلك بالباب، ثم انصرفوا إلى معسكرهم. فقال شبيب لأصحابه: يا هؤلاء، ما تنتظرون! فوالله إن صبحوكم غدوة (5) إنه لهلاككم، فقالوا له: مرنا بأمرك، فقال لهم: [إن الليل أخفى للويل] (6)، بايعوني إن شئتم، أو بايعوا من شئتم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نشد عليهم في عسكرهم، فإنهم آمنون منكم، وإني أرجو أن ينصركم الله عليهم. قالوا: ابسط يدك، فبايعوه، فلما جاءوا
(1) جلولاء: موضع في طريق خراسان، بينه وبين خانقين سبعة فراسخ، وخانقين: في نواحي السواد في طريق همذان. (2) في الطبري: (المدبج: من أرض الموصل، على تخوم ما بينها وبين أرض جوخى). (3) الكردوس: القطعة من الخيل، وجمعه كراديس. (4) الطبري: (نصبحهم). (5) صبحوكم: أغاروا عليكم صباحا. (6) من الطبري. 231 إلى الباب، وجدوه جمرا، فأتوه باللبود (1) فبلوها بالماء، ثم ألقوها عليه وخرجوا، فلم يشعر الحارث بن عميرة إلا وشبيب وأصحابه يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، فضارب الحارث حتى صرع، واحتمله أصحابه، وانهزموا وخلوا لهم المعسكر وما فيه، ومضوا حتى نزلوا المدائن، وكان ذلك الجيش أول جيش هزمه شبيب (2). * * * [دخول شبيب الكوفة وأمره مع الحجاج] ثم ارتفع في أداني أرض الموصل (3)، ثم ارتفع إلى نحو أذربيجان يجبى الخراج، وكان سفيان بن أبي العالية قد أمر أن يحارب صاحب طبرستان، فأمر بالقفول نحو شبيب، وأن يصالح صاحب طبرستان، فصالحه، فأقبل في ألف فارس، وقد ورد عليه كتاب من الحجاج: (4 أما بعد، فأقم بالدسكرة فيمن معك، حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة. قاتل صالح بن مسرح، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه 4). ففعل سفيان ذلك، ونزل إلى الدسكرة حتى أتوه، وخرج مرتحلا في طلب شبيب، فارتفع شبيب عنهم، كأنه يكره قتالهم ولقائهم، وقد أكمن لهم أخاه مصادا في خمسين رجلا، في هضم (5) من الأرض، فلما رأوا شبيبا جمع أصحابه، ولهم، ومضى في سفح من الجبل
(1) اللبد: كل شعر أو صوف متبلد، سمى به للصوق بعضه ببعض، وجمعه لبود. (2) في الطبري بعدها: (وأصيب صالح بن مسرح يوم الثلاث لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى من سنته). (3) في الطبري بعدها: (وتخوم أرض جوخى). (4 - 4) الكتاب كما في الطبري: (أما بعد فسر حتى تنزل الدسكرة فيمن معك، ثم أقم حتى يأتيك جيش الحارث بن عميرة الهمداني بن ذي المشعار، وهو الذي قتل صالح بن مسرح وخيل المناظر، ثم سر إلى شبيب حتى تناجزه). (5) الهضم: المكان المطمئن من الأرض، وفي الطبري: (هزم من الأرض)، وهما بمعنى. 232 مشرقا، قالوا: هرب عدو الله، واتبعوه. فقال لهم عدى بن عميرة الشيباني: أيها الناس، لا تعجلوا عليهم حتى نضرب في الأرض ونستبرئها (1): فإن يكونوا أكمنوا كمينا حذرناه، وإلا كان طلبهم بين أيدينا لن يفوتنا. فلم يسمعوا منه، فأسرعوا في آثارهم. * * * فلما رأى شبيب أنهم قد جازوا الكمين، عطف عليهم، فحمل من أمامهم، وخرج الكمين من ورائهم، فلم يقاتل (2) أحد، وإنما كانت الهزيمة، وثبت سفيان بن أبي العالية في مائتي رجل، فقاتل (3 قتالا شديدا حتى انتصف من شبيب 3)، فقال سويد بن سليم لأصحابه: أمنكم أحد يعرف أمير القوم ابن أبي العالية (4)؟ فقال له شبيب: أنا من أعرف الناس به، أما ترى صاحب الفرس الأغر الذي دونه المرامية! فإنه هو، (5) فإن كنت تريده فأمهله قليلا. ثم قال: يا قعنب، اخرج في عشرين، فأتهم من ورائهم. فخرج قعنب في عشرين فارتفع عليهم، فلما رأوه يريد أن يأتيهم من ورائهم، جعلوا ينتقصون ويتسللون، وحمل سويد بن سليم على سفيان بن أبي العالية يطاعنه (6)، فلم تصنع رماحهما شيئا، ثم اضطربا بسيفهما، ثم اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فوقعا إلى الأرض يعتركان، ثم تحاجزا، وحمل عليهم شبيب، فانكشف من كان مع سفيان، ونزل غلام له يقال له غزوان عن برذونه، وقال لسفيان: اركب يا مولاي، فركب سفيان، وأحاط به أصحاب شبيب، فقاتل دونه غزوان حتى قتل، وكان معه رايته، وأقبل سفيان منهزما، حتى انتهى
(1) يقال: استبرأ أرض بنى فلان، إذا سار فيها وانتهى إلى آخرها. وفي الطبري: (نسير بها). (2) الطبري: (فلم يقاتلهم أحد). (3 - 3) الطبري: (فقاتلهم قتالا شديدا حسنا حتى ظن أنه انتصف من شبيب وأصحابه). (4) في الطبري بعدها: (فوالله لئن عرفته لأجهدن نفسي في قتله). (5) الطبري: (فإنه ذلك). (6) الطبري: (فطاعنه). 233 إلى بابل مهروذ، فنزل بها، وكتب إلى الحجاج (1)، وكان الحجاج أمر سورة ابن أبجر أن يلحق بسفيان، فكاتب سورة سفيان، وقال له: انتظرني، فلم يفعل وعجل نحو الخوارج، فلما عرف الحجاج خبر سفيان، و قرأ كتابه، قال للناس: من صنع كما صنع هذا وأبلى كما أبلى فقد أحسن. ثم كتب إليه يعذره (2)، ويقول: إذا خف عليك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك. وكتب إلى سورة بن أبجر: (3 أما بعد يا بن أم سورة، فما كنت خليقا 3) أن تجترئ على ترك عهدي، وخذلان جندي، فإذا أتاك كتابي فابعث رجلا ممن معك صليبا إلى (4) المدائن، فلينتخب من جندها خمسمائة رجل، ثم ليقدم بهم عليك، [ثم سر بهم] (5) حتى تلقى هذه المارقة، واحزم أمرك، وكد عدوك، فإن أفضل أمر الحروب حسن المكيدة. والسلام. فلما أتى سورة كتاب الحجاج بعث عدى بن عمير إلى المدائن، وكان بها ألف فارس، فانتخب منهم خمسمائة، ثم رحل بهم (6) حتى قدم على سورة ببابل مهروذ،
(1) كتابه إلى الحجاج كما في الطبري: (أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله! إني اتبعت هذه المارقة حتى لحقتهم بخانقين فقاتلتهم، فضرب الله وجوههم ونصرنا عليهم، فبينا نحن كذلك إذ أتاهم قوم كانوا غيبا عنهم، فحملوا على الناس فهزموهم، فنزلت في رجال من أهل الدين والصبر، فقاتلتهم حتى خررت بين القتلى، فحملت مرتثا، فأتى بي بابل مهروذ، فها أنا بها والجند الذين وجههم الأمير وافوا إلا سورة بن أبجر، فإنه لم يأتني، ولم يشهد معي، حتى إذا ما نزلت بابل مهروذ أتاني يقول ما لا أعرف، ويعتذر بغير العذر والسلام). (2) كتاب الحجاج إلى سفيان كما في الطبري: (أما بعد، فقد أحسنت البلاء، وقضيت الذي عليك، فإذا خف عنك الوجع فأقبل مأجورا إلى أهلك. والسلام). (3 - 3) الطبري: (أما بعد فيا بن أم سورة، ما كنت خليقا أن تجترئ على). (4) الطبري: (إلى الخيل التي بالمدائن). (5) من الطبري. (6) عبارة الطبري: (ثم دخل على عبد الله بن أبي عصيفير، وهو أمير الدائن إمارته الأولى، فسلم عليه، فأجازه بألف درهم، وحمله على فرس وكساه أثوابا، ثم إنه خرج من عنده، فأقبل بأصحابه حتى قدم بهم على سورة...) 234 فخرج بهم في طلب شبيب، وخرج شبيب يجول في جوخى (1)، وسورة في طلبه، فجاء شبيب إلى المدائن فتحصن منه أهلها فانتهب المدائن الأولى، وأصاب دواب من دواب الجند، وقتل من ظهر له، ولم يدخل البيوت، ثم أتى فقيل له: هذا سورة قد أقبل إليك، فخرج في أصحابه حتى [انتهى إلى النهروان، فنزلوا به وتوضئوا وصلوا، ثم] (2) أتوا مصارع إخوانهم الذين قتلهم علي بن أبي طالب، فاستغفروا لهم، وتبرأوا من على وأصحابه، وبكوا فأطالوا البكاء، ثم عبروا جسر النهروان، فنزلوا جانبه الشرقي، وجاء سورة حتى نزل بنفطرانا (3) وجاءته عيونه، فأخبروه بمنزل شبيب بالنهروان، فدعا سورة رؤوس أصحابه، فقال لهم: إن الخوارج قلما يلقون في صحراء أو على ظهر إلا انتصفوا، وقد حدثت أنهم لا يزيدون على مائة رجل، وقد رأيت أن أنتخبكم، وأسير في ثلاثمائة رجل منكم، من أقويائكم وشجعانكم فأبيتهم (4 فإنهم آيسون من بياتكم 4)، وإني والله أرجو أن يصرعهم الله مصارع إخوانهم في النهروان من قبل، فقالوا: اصنع ما أحببت. فاستعمل على عسكره حازم بن قدامة، وانتخب ثلاثمائة من شجعان أصحابه، ثم أقبل بهم حتى قرب من النهروان، وبات وقد أذكى الحرس، ثم بيتهم، فلما دنا أصحاب سورة منهم نذروا (5) بهم، فاستووا على خيولهم، وتعبوا تعبيتهم، فلما انتهى إليهم سورة وأصحابه، أصابوهم وقد نذروا، فحمل عليهم سورة، فصاح شبيب بأصحابه، فحمل عليهم
(1) جوخى، بالقصر وقد يفتح: نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد، بالجانب الشرقي منه الرذان، وهو بين خانقين وخوزستان، قالوا: ولم يكن ببغداد مثل كورة جوخى، كان خراجها ثمانين ألف ألف درهم، حتى صرفت دجلة عنها فخربت، وأصابهم بعد ذلك طاعون شيرون فأتى عليهم، ولم يزل السواد في إدبار من ذلك الطاعون. مراصد الاطلاع 1: 355 (2) من الطبري. (3) كذا في الأصول وفي الطبري: (قطراثا). (4 - 4) الطبري: (فآتيهم الان فإنهم آمنون لبياتكم). (5) نذروا بهم: علموا بهم. وفي ج: (حذروا). 235 حتى تركوا له العرصة، وحمل شبيب، وجعل يضرب ويقول: * من ينك العير ينك نياكا (1) * فرجع (2 سورة مفلولا، قد هزم فرسانه وأهل القوة من أصحابه، وأقبل نحو المدائن، وتبعه شبيب، حتى انتهى سورة إلى بيوت المدائن، وانتهى شبيب إليهم، وقد دخل الناس البيوت، وخرج ابن أبي عصيفير، وهو أمير المدائن يومئذ في جماعة، فلقيهم في شوارع المدائن، ورماهم الناس بالنبل والحجارة من فوق البيوت. ثم سار شبيب إلى تكريت 2)، فبينا ذلك الجند بالمدائن إذ أرجف (3) الناس فقالوا: هذا شبيب قد أقبل يريد أن يبيت أهل المدائن، فارتحل عامة الجند، فلحقوا بالكوفة، (4) وإن شبيبا بتكريت، فلما أتى الحجاج (5) الخبر، قال: قبح الله سورة! ضيع العسكر وخرج يبيت الخوارج، والله لأسوأنه (6).
(1) بقيته في الطبري: * جندلتان اصطكتا اصطكاكا * (2 - 2) الطبري: (فرجع سورة إلى عسكره، وقد هزم الفرسان وأهل القوة، فتحمل بهم حتى أقبل بهم نحو المدائن، فدفع إليهم وقد تحمل وتعدى الطريق الذي فيه شبيب، واتبعه شبيب، وهو يرجو أن يلحقه فيصيب عسكره، ويصيب بهزيمته أهل العسكر، فأغذ السير في طلبهم، فانتهوا إلى المدائن فدخلوها، وجاء شبيب حتى انتهى إلى بيوت المدائن فدفع إليهم وقد دخل الناس، وخرج ابن أبي عصيفير في أهل المدائن، فرماهم بالنبل ورموا من فوق البيوت بالحجارة، فارتفع شبيب بأصحابه عن المدائن، فمر على كلوذا فأصاب بها دواب كثيرة للحجاج، فأخذها، ثم أخذ يسير في أرض جوخى ثم مضى نحو تكريت...). (3) أرجف القوم، أي خاضوا في الاخبار السيئة، وذكر الفتن، على أن يوقعوا في الناس الاضطراب من غير أن يصح عندهم شئ، وفي القرآن الكريم: (والمرجفون في المدينة). (4) في الطبري عن عبد الله بن علقمة الخثعمي: (والله لقد هربوا من المدائن، وقالوا: نبيت الليلة، وإن شبيبا لبتكريت، ولما أتى الفل على الحجاج، سرح الجزل بن سعيد بن شرحبيل بن عمرو الكندي) (5) في الطبري: (عن فضيل بن خديج الكندي: أن الحجاج لما أتاه الفل قال...) (6) في الطبري: (وكان قد حبسه ثم عفا عنه). 236 ثم دعا الحجاج بالجزل، وهو عثمان بن سعيد، فقال له: تيسر للخروج إلى هذه المارقة، فإذا لقيتهم فلا تعجل عجلة الخرق النزق (1)، ولا تحجم إحجام الواني الفرق (2)، أفهمت (3)؟ قال: نعم أصلح الله الأمير قد فهمت، قال: فأخرج وعسكر بدير عبد الرحمن حتى يخرج الناس إليك، فقال: أصلح الله الأمير! لا تبعث معي أحدا من الجند المهزوم المفلول، فإن الرعب قد دخل قلوبهم، وقد خشيت ألا ينفعك والمسلمين منهم أحد، قال: ذلك لك، ولا أراك إلا قد أحسنت الرأي، ووفقت، ثم دعا أصحاب الدواوين، فقال، اضربوا على الناس البعث، وأخرجوا أربعة آلاف من الناس، وعجلوا، فجمعت العرفاء، وجلس أصحاب الدواوين، وضربوا البعث، فأخرجوا أربعة آلاف، فأمرهم باللحاق بالعسكر، ثم نودي فيهم بالرحيل، فارتحلوا، ونادى منادى الحجاج: أن برئت الذمة من رجل أصبناه من بعث الجزل متخلفا. فمضى بهم الجزل، [وقد قدم بين يديه عياض بن أبي لينة الكندي على مقدمته فخرج] (4)، حتى أتى المدائن، فأقام بها ثلاثا، ثم خرج وبعث إليه ابن أبي عصيفير بفرس وبرذون وألفى درهم، ووضع للناس من الحطب (5) والعلف ما كفاهم ثلاثة أيام، وأصاب الناس ما شاءوا من ذلك. * * * ثم إن الجزل خرج بالناس إثر شبيب، فطلبه في أرض جوخى، فجعل شبيب يريه الهيبة، فيخرج من رستاق إلى رستاق، ومن طسوج إلى طسوج [ولا يقيم له] (4)،
(1) الخرق: الرجل الأحمق، والنزق: الطائش الخفيف عند الغضب. (2) الفرق: الشديد الفزع. (3) في الطبري بعدها: (الله أنت يا أخا بنى عمرو بن معاوية). (4) من الطبري. (5) الطبري: (الجزر). 237 يريد بذلك أن يفرق الجزل أصحابه، ويتعجل إليه فيلقاه في عدد يسير على غير تعبية، فجعل الجزل لا يسير إلا على تعبية، ولا ينزل إلا خندق على نفسه وأصحابه، فلما طال ذلك على شبيب، دعا يوما أصحابه، وهم مائة وستون رجلا، هو في أربعين، ومصاد أخوه في أربعين، وسويد بن سليم في أربعين، والمحلل بن وائل في أربعين، وقد أتته عيونه [فأخبرته] (1)، أن الجزل بن سعيد قد نزل ببئر سعيد (2). فقال لأخيه وللأمراء الذين ذكرناهم: إني أريد أن أبيت الليلة هذا العسكر، فأتهم أنت يا مصاد من قبل حلوان (3)، وسآتيهم أنا من أمامهم من قبل الكوفة، وأتهم أنت يا سويد من قبل المشرق، وأتهم أنت يا محلل، من قبل المغرب، وليلج كل امرئ منكم على الجانب الذي يحمل عليه، ولا تقلعوا عنهم حتى يأتيكم أمري. قال فروة بن لقيط (4): وكنت أنا في الأربعين الذين كانوا معه (5، فقال لجماعتنا: تيسروا، وليسر كل امرئ منكم مع أميره، ولينظر ما يأمره به أميره فليتبعه، فلما قضمت دوابنا - وذلك أول ما هدأت العيون - خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرارة، فإذا القوم عليهم مسلحة بن أبي لينة، فما هو إلا أن رآهم مصاد أخو شبيب حتى حمل عليهم في أربعين رجلا، وكان شبيب أراد أن يرتفع عليهم، حتى يأتيهم من ورائهم، كما أمره 5).
(1) من الطبري. (2) الطبري: (بدير يزدجرد). (3) تطلق حلوان على عدة مواضع، وهي هنا حلوان العراق، آخر حدود السواد مما يلي العراق، كانت مدينة عامرة لم يكن بالعراق بعد البصرة والكوفة، وواسط بغداد أكبر منها. (مراصد الاطلاع). (4) هو راوي الخبر في الطبري، حدثه به عنه أبو مخنف. (5 - 5) النص كما في الطبري: (حتى إذا قضمت دوابنا، وذلك أول الليل، أول ما هدأت العيون، خرجنا حتى انتهينا إلى دير الخرارة، فإذا للقوم مسلحة، عليهم عياض بن لينة، فما هو إلا أن انتهينا إليهم، فحمل عليهم مصاد أخو شيبي في أربعين رجلا - وكان أمام شبيب - وقد كان أراد أن يسبق شبيبا حتى يرتفع عليهم ويأتيهم من ورائه كما أمره). 238 فلما لقى هؤلاء قاتلهم، فصبروا له ساعة وقاتلوه. ثم إنا دفعنا إليهم جميعا، فهزمناهم، وأخذوا الطريق الأعظم، وليس بينهم وبين عسكرهم بدير يزدجرد إلا نحو ميل (1)، فقال لنا شبيب: اركبوا معاشر المسلمين أكتافهم، حتى تدخلوا معهم عسكرهم إن استطعتم، فأتبعناهم ملظين (2) بهم، ملحين عليهم، ما نرفه عنهم وهم منهزمون، ما لهم همة إلا عسكرهم. فمنعهم أصحابهم أن يدخلوا عليهم، ورشقوهم (3) بالنبل، وكانت لهم عيون قد أتتهم فأخبرتهم بمكاننا، وكان الجزل قد خندق عليهم وتحرز، ووضع هذه المسلحة الذين لقيناهم [بدير الخرارة] (4)، ووضع مسلحة أخرى مما يلي حلوان. فلما اجتمعت المسالح، ورشقوهم بالنبل، ومنعونا من خندقهم، رأى (5) شبيب أنه لا يصل إليهم، فقال لأصحابه: سيروا ودعوهم، فلما سار عنهم أخذ على طريق حلوان، حتى كان منهم على سبعة أميال، قال لأصحابه: أنزلوا فأقضموا دوابكم، وقيلوا وتروحوا، فصلوا ركعتين، ثم اركبوا. ففعلوا ذلك. ثم أقبل بهم راجعا إلى عسكر الكوفة، وقال: سيروا على تعبيتكم التي عبأتكم عليها أول الليل، وأطيفوا (6) بعسكرهم كما أمرتكم. فأقبلنا (7) معه، وقد أدخل أهل العسكر مسالحهم إليهم، وأمنوا، فما شعروا حتى سمعوا وقع حوافر الخيل، فانتهينا إليهم قبيل الصبح، وأحطنا بعسكرهم، وصحنا بهم من كل ناحية، فقاتلونا، ورمونا بالنبل، فقال شبيب (8) لأخيه مصاد، وكان يقاتلهم من الجانب
(1) الطبري: (قريب من ميل). (2) ملظين: ملحين. (3) الطبري: (ورشقونا). (4) من الطبري. (5) الطبري: (ثم أطيفوا بعسكركم). (6) في الأصول: (نظر)، والأجود ما أثبته من تاريخ الطبري). (7) الطبري: (فأقبلوا). (8) الطبري: (ثم أن شبيبا). 239 الذي يلي الكوفة: خل لهم سبيل [طريق] (1) الكوفة، فخلى لهم، وقاتلناهم من [تلك] (1) الوجوه الثلاثة الأخرى إلى الصبح (2)، ثم سرنا وتركناهم، لأنا لم نظفر بهم، فلما سار شبيب سار الجزل في أثره يطلبه، وجعل لا يسير إلا على تعبية وترتيب، ولا ينزل إلا على خندق، وأما شبيب فضرب في أرض جوخى، وترك الجزل، فطال أمره على الحجاج، فكتب إلى الجزل كتابا قرئ على الناس وهو: أما بعد، فإني بعثتك في فرسان [أهل] (1) المصر ووجوه الناس، وأمرتك باتباع هذه (3 المارقة، وألا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها 3)، فجعلت (4) التعريس في القرى، والتخييم في الخنادق، أهون عليك من المضي لمناهضتهم ومناجزتهم. [والسلام] (5). قال: فشق كتاب الحجاج على الجزل، وأرجف الناس بأمره، وقالوا: سيعزله، فما لبث الناس أن بعث الحجاج سعيد بن المجالد أميرا بدله، وعهد إليه: إذا لقى المارقة أن يزحف إليهم، ولا يناظرهم، ولا يطاولهم، ولا يصنع صنع الجزل (6)، وكان الجزل يومئذ قد انتهى في طلب شبيب إلى النهروان، وقد لزم عسكره، وخندق عليهم، فجاء سعيد حتى دخل عسكر أهل الكوفة أميرا، فقام فيهم خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل الكوفة، إنكم قد عجزتم ووهنتم، وأغضبتم عليكم أميركم، أنتم في طلب هذه الأعاريب العجف منذ شهرين، قد أخربوا بلادكم، وكسروا خراجكم، وأنتم
(1) من الطبري. (2) الطبري: (حتى أصبحنا). (3 - 3) الطبري: (المارقة الضالة المضلة، حتى تلقاها فلا تقلع عنها حتى تقتلها وتفنيها). (4) الطبري: (فوجدت). (5) في الطري، بعدها: (فقرئ الكتاب علينا، ونحن بقطرثا ودير أبى مريم). (6) بعدها في الطبري: (واطلبهم طلب السبع، وحد عنهم حيدان الضبع). 240 حذرون في جوف هذه الخنادق لا تزايلونها إلا أن يبلغكم أنهم قد ارتحلوا عنكم، ونزلوا بلدا سوى بلدكم، اخرجوا على اسم الله إليهم. ثم خرج وخرج الناس معه (1)، فقال له الجزل: ما تريد أن تصنع؟ قال: أقدم على شبيب وأصحابه في هذه الخيل، فقال له الجزل: أقم أنت في جماعة الناس (2)، فارسهم وراجلهم (3، ولا تفرق أصحابك، ودعني أصحر له (4)، فإن ذلك خير لك وشر لهم 3). فقال سعيد: بل تقف أنت في الصف، وأنا أصحر له، فقال الجزل: إني برئ من رأيك هذا، سمع الله ومن حضر من المسلمين! فقال سعيد: هو رأيي، إن أصبت فيه، فالله وفقني، وإن أخطأت (5) فيه فأنتم برآء. فوقف الجزل في صف [أهل] (6) الكوفة، وقد [أخرجهم من الخندق و] (6) جعل على ميمنتهم عياض بن أبي لينة الكندي، وعلى ميسرتهم عبد الرحمن بن عوف أبا حميد الراسبي (7)، ووقف الجزل في جماعتهم، واستقد سعيد بن مجالد فخرج [وأخرج] (6) الناس معه، وقد أخذ شبيب إلى براز الروز (8)، فنزل قطفتا (9)، وأمر دهقانها أن يشوى لهم غنما، ويعد لهم غداء ففعل، وأغلق مدينة قطفتا، ولم يفرغ
(1) في الطبري بعدها: (وجمع إليه خيول أهل العسكر). (2) الطبري: (الجيش). (3 - 3) عبارة الطبري: (وأصحر له، فوالله ليتقدمن عليك، فلا تفرق أصحابك، فإن ذلك شر لهم وخير لك). (4) أصحر القوم، إذا برزوا في الصحراء، لا يواريهم شئ. (5) الطبري: (وإن يكن غير صواب). (6) من الطبري. (7) في الأصول: (وأبا حميد)، والصواب ما أثبته من الطبري. (8) براز الروز، بالزاي، وألف ولام وراء مضمومة: من طساسيج السواد ببغداد، من الجانب الشرقي من أستان البهقباذ، كان للمعتضد به أبنية جليلة. (مراصد الاطلاع). (9) قطفتا: محلة غربي بغداد. 241 الدهقان من طعامه حتى أحاط بها ابن مجالد، فصعد الدهقان، ثم نزل، وقد تغير لونه، فقال شبيب: ما بالك؟ قال: قد جاءك جمع عظيم، قال: أبلغ (1) شواؤك؟ قال: لا، قال: دعه يبلغ، ثم أشرف الدهقان إشرافة أخرى، ثم نزل فقال: قد أحاطوا بالجوسق، قال: هات شواءك، فجعل يأكل غير مكترث بهم ولا فزع، فلما فرغ قال لأصحابه، قوموا إلى الصلاة، وقام فتوضأ، فصلى بأصحابه صلاة الأولى، ولبس درعه، وتقلد سيفه، وأخذ عموده الحديد، ثم قال: أسرجوا لي بغلتي، فقال أخوه: أفي مثل هذا اليوم تركب (2) بغلة؟ قال: نعم، أسرجوها، فركبها، ثم قال: يا فلان، أنت على الميمنة، وأنت يا فلان على الميسرة، وأنت يا مصاد - يعنى أخاه - على القلب، وأمر الدهقان ففتح الباب في وجوههم. فخرج إليهم وهو يحكم (3)، وحمل حملة عظيمة، فجعل سعيد وأصحابه يرجعون القهقرى، حتى صار بينهم وبين الدير ميل، وشبيب يصيح: أتاكم الموت الزؤام! فاثبتوا، وسعيد يصيح: يا معشر همدان، إلى إلى، أنا ابن ذي مران! فقال شبيب لمصاد: ويحك! استعرضهم استعراضا، فإنهم قد تقطعوا، وإني حامل على أميرهم، وأثكلنيك الله إن لم أثكله ولده، ثم حمل على سعيد فعلاه بالعمود، فسقط (4) ميتا وانهزم أصحابه، ولم يقتل يومئذ من الخوارج إلا رجل واحد. وانتهى قتل سعيد إلى الجزل، فناداهم: أيها الناس، إلى إلى، وصاح عياض ابن أبي لينة: أيها الناس، إن يكن أميركم هذا القادم هلك، فهذا أميركم الميمون النقيبة، أقبلوا إليه، فمنهم من أقبل إليه، ومنهم من ركب فرسه منهزما، وقاتل الجزل يومئذ قتالا شديدا حتى صرع، وحامى عنه خالد بن نهيك، وعياض بن أبي لينة، حتى استنقذاه
(1) الطبري: (أبلغ الشواء) وبلوغ الشواء: نضجه. (2) الطبري: (تسرج). (3) التحكيم: قول الخوارج: (لا حكم إلا لله). (4) في الأصول: (ثم سقط)، والأجود ما أثبته من الطبري. 242 مرتثا، وأقبل الناس منهزمين حتى دخلوا الكوفة، وأتى بالجزل جريحا حتى دخل المدائن، فكتب إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير - أصلحه الله - أنى خرجت فيمن قبلي من الجند الذي وجهني فيه إلى عدوه، وقد كنت حفظت عهد الأمير إلى فيهم ورأيه، فكنت أخرج إلى المارقين (1) إذا رأيت الفرصة، وأحبس [الناس] (2) عنهم إذا خشيت الورطة، فلم أزل كذلك أدير الامر، وأرفق في التدبير، وقد أرادني العدو بكل مكيدة، فلم يصب منى غرة، حتى قدم على سعيد بن مجالد، فأمرته بالتؤدة، ونهيته عن العجلة، وأمرته ألا يقاتلهم إلا في جماعة الناس عامة، فعصاني وتعجل إليهم في الخيل، فأشهدت الله عليه وأهل المصرين أنى برئ من رأيه الذي رأى، وأنى لا أهوى الذي صنع، فمضى فقتل، تجاوز الله عنه! ودفع (3) الناس [إلى] (2) فنزلت ودعوتهم إلى نفسي (4) ورفعت رايتي، وقاتلت حتى صرعت، فحملني أصحابي من بين القتلى، فما أفقت إلا وأنا على أيديهم، على رأس ميل من المعركة، وأنا اليوم بالمدائن، وفي جراحات (5) قد يموت الانسان من دونها، وقد يعافى من مثلها، فليسأل الأمير أصلحه الله عن نصيحتي له ولجنده، وعن مكايدتي عدوه، وعن موقفي يوم البأس، فإنه سيبين (6) له عند ذلك إني صدقته ونصحت له. والسلام. فكتب إليه الحجاج:
(1) الطبري: (إليهم). (2) من الطبري (3) دفع الناس، أي جاءوا مرة مجتمعين. (4) الطبري: (ودعوتهم إلى). (5) الطبري: (جراحة). (6) الطبري: (يستبين). 243 أما بعد، فقد أتاني كتابك وقرأته، (1 وفهمت كل ما ذكرته فيه من أمر سعيد وأمر نفسك، وقد صدقتك في نصيحتك لأميرك وحيطتك على أهل مصرك، وشدتك على عدوك، وقد رضيت عجلة سعيد وتؤدتك 1). فأما عجلته فإنها أفضت به إلى الجنة، وأما تؤدتك (2 فإنها ما لم تدع الفرصة إذا أمكنت حزم 2)، وقد أحسنت وأصبت وأجرت، وأنت عندي من أهل السمع والطاعة والنصيحة، وقد أشخصت إليك حيان بن أبجر (3) الطبيب ليداويك، ويعالج جراحاتك، وقد بعثت إليك بألفي درهم نفقة تصرفها في حاجتك وما ينوبك (4). والسلام. وبعث عبد الله بن أبي عصيفير والى المدائن إلى الجزل بألف درهم، وكان يعوده ويتعاهده بالألطاف والهدايا. وأما شبيب، فأقبل حتى قطع دجلة عند الكرخ، وأخذ بأصحابه نحو الكوفة. وبلغ الحجاج مكانه بحمام أعين، فبعث إليه سويد بن عبد الرحمن السعدي، فجهزه بألفي فارس منتخبين، وقال له: اخرج إلى شبيب فالقه ولا تتبعه، فخرج بالناس بالسبخة (5)، وبلغه أن شبيبا قد أقبل، فسار نحوه كأنما يساق إلى الموت هو وأصحابه، وأمر الحجاج عثمان بن قطن، فعسكر بالناس في السبخة، ونادى: ألا برئت الذمة من رجل من هذا الجند، بات الليلة بالكوفة، ولم يخرج إلى عثمان بن قطن بالسبخة، فبينا سويد بن عبد الرحمن يسير في الألفين الذين معه، وهو يعبيهم ويحرضهم، إذ قيل له:
(1 - 1) الطبري: (وفهمت كل كما ذكرت فيه، وقد صدقتك في كل ما وصفت به نفسك من نصيحتك لأميرك وحيطتك على أهل مصرك وشدتك على عدوك، وقد فهمت ما ذكرت من أمر سعيد وعجلته إلى عدوه وتؤدتك.) (2 - 2) الطبري: (فإنها لم تدع الفرصة إذا أمكنت، وترك الفرصة إذا لم تمكن حزم). (3) ب: (جبار بن الاعن). (4) في الطبري بعدها: (فقدم عليه حيان بن أبجر الكناني، من بنى فراس، وهم يعالجون الكي وغيره، فكان يداويه). (5) السبخة: موضع بالبصرة. 244 قد غشيك شبيب، فنزل ونزل معه جل أصحابه، وقدم رايته، فأخبر أن شبيبا لما علم بمكانه تركه، ووجد مخاضة (1) فعبر الفرات، يريد الكوفة من غير الوجه الذي سويد ابن عبد الرحمن به، ثم قيل: أما تراهم! فنادى في أصحابه، فركبوا في آثارهم، فأتى شبيب دار الرزق فنزلها، وقيل له: إن أهل الكوفة بأجمعهم معسكرون، فلما بلغهم مكان شبيب، ماج الناس بعضهم إلى بعض، وجالوا وهموا بدخول الكوفة، حتى قيل: هذا سويد بن عبد الرحمن في آثارهم قد لحقهم، وهو يقاتلهم في الخيل، ومضى شبيب حتى أخذ على شاطئ الفرات، ثم أخذ على الأنبار، ثم دخل دقوقاء (2)، ثم ارتفع إلى أداني أذربيجان. وخرج الحجاج من الكوفة إلى البصرة حيث بعد شبيب، واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة بن شعبة، فما شعر الناس إلا بكتاب [من] (3) مادارسب (4)، دهقان بابل مهروز إلى عروة بن المغيرة بن شعبة، أن تاجرا من تجار [الأنبار من] (3) أهل بلادي
(1) المخاضة: موضع الخوض في الماء. (2) دقوقاء، بفتح أوله وضم ثانيه وبعد الواو قاف أخرى وألف ممدودة ومقصورة: مدينة بين إربل وبغداد معروفة، قال ياقوت: لها ذكر في الاخبار والفتوح، كان بها وقعة للخوارج فقال الجعدي بن أبي حمام الذهلي يرثيهم: شباب أطاعوا الله حتى أحبهم * وكلهم شار يخاف ويطمع فلما تبووا من دقوقا بمنزل * لميعاد إخوان تداعوا فأجمعوا دعوا خصمهم بالمحكمات وبينوا * ضلالتهم، والله ذو العرش يسمع بنفسي قتلى في دقوقاء غودرت * وقد قطعت منها رؤوس وأذرع لتبك نساء المسلمين عليهم * وفي دون ما لا قين مبكى ومجزع (3) من الطبري. (4) الطبري: (ماذ رواسب). 245 أتاني يذكر أن شبيبا يريد أن يدخل الكوفة في أول هذا الشهر المستقبل، وأحببت إعلامك [ذلك] (1) لترى رأيك، (2 وإني لم ألبث بعد ذلك إذ جاءني اثنان من جيراني 2) فحدثاني أن شبيبا قد نزل خانيجار (3). فأخذ عروة كتابه فأدرجه وسرح به إلى الحجاج إلى البصرة. فلما قرأ الحجاج أقبل جادا (4) إلى الكوفة، وأقبل شبيب [يسير] (1) حتى انتهى إلى قرية حربي (5) على شاطئ دجلة، فعبرها وقال (6) لأصحابه: يا هؤلاء إن الحجاج ليس بالكوفة، وليس دون أخذها شئ إن شاء الله. فسيروا بنا، فخرج يبادر الحجاج إلى الكوفة، وكتب عروة إلى الحجاج: إن شبيبا قد أقبل مسرعا يريد الكوفة، فالعجل العجل. فطوى الحجاج المنازل مسابقا (7) لشبيب إلى الكوفة، فسبقه ونزلها صلاة العصر، ونزل شبيب السبخة صلاة العشاء الآخرة، فأصاب هو وأصحابه من الطعام شيئا يسيرا، ثم ركبوا خيولهم، فدخل شبيب الكوفة في أصحابه حتى انتهى إلى السوق، وشد حتى ضرب باب القصر بعموده، فحدث جماعة (8) أنهم رأوا أثر ضربة شبيب بالعمود بباب القصر، ثم أقبل حتى وقف عند باب المصطبة، وأنشد:
(1) من الطبري (2 - 2) الطبري: (ثم لم ألبث إلا ساعة حتى جاءني جابيان من جباتي). (3) خانيجار: بليدة قريبة من دقوقاء. (4) الطبري: (جوادا). (5) قال ياقوت: (حربي مقصور، والعامة تتلفظ به ممالا: بليدة في أقصى دجيل، بين بغداد وتكريت مقابل الحظيرة)... (6) في الطبري بعدها: (فقال: ما اسم هذه القرية؟ فقالوا: حربي، فقال: حرب يصلى بها عدوكم، ورحب (بالفتح) تدخلونه بيوتهم، إنما يتطير من يقوف ويعيف. ثم ضرب رايته، وقال لأصحابه: سيروا، فأقبل حتى نزل عقرقوفا، فقال له سويد بن سليم: يا أمير المؤمنين، لو تحولت بنا من هذه القرية المشؤومة الاسم؟ قال: وقد تطيرت أيضا! والله لا أتحول عنها حتى أسير إلى عدوى منها، إنما شؤمها إن شاء الله على عدوكم، تحملون عليهم فيها فالعقر لهم). (7) (واستبقا إلى الكوفة). (8) الطبري: (قال أبو المنذر، رأيت ضربة شبيب...) 246 وكأن حافرها بكل ثنية * فرق يكيل به شحيح معدم (1) (2 ثم أقحم هو وأصحابه المسجد الجامع، ولا يفارقه قوم يصلون 2) فيه، فقتل منهم جماعة، ومر هو بدار حوشب - وكان هو على شرطة الحجاج - فوقف على بابه في جماعة، فقالوا: إن الأمير - يعنون الحجاج - يدعو حوشبا، وقد أخرج ميمون غلامه برذونه ليركب، [فكأنه أنكرهم، فظنوا أنه قد اتهمهم] (3) فأراد أن يدخل إلى صاحبه، فقالوا له: كما أنت حتى يخرج صاحبك إليك، فسمع حوشب الكلام، فأنكر القوم، وذهب لينصرف فعجلوا نحوه، فأغلق الباب دونه، فقتلوا غلامه ميمونا، وأخذوا برذونه، ومضوا حتى مروا بالجحاف بن نبيط الشيباني، من رهط حوشب. فقال له سويد: انزل إلينا، فقال: ما تصنع بنزولي! فقال: انزل، إني لم أقضك ثمن البكرة التي ابتعتها منك بالبادية، فقال الجحاف: بئس ساعة القضاء هذه! وبئس المكان لقضاء الدين هذا. ويحك! أما ذكرت أداء أمانتك إلا والليل مظلم، وأنت على متن فرسك! قبح الله يا سويد دينا لا يصلح ولا يتم إلا بقتل الأنفس (4) وسفك الدماء. ثم مروا بمسجد بنى ذهل، فلقوا ذهل بن الحارث، وكان يصلى في مسجد قومه، فيطيل الصلاة إلى الليل، فصادفوه منصرفا إلى منزله فقتلوه (5) ثم خرجوا متوجهين نحو الردمة (6)، وأمر الحجاج المنادى: يا خيل الله اركبي وأبشري، وهو فوق باب القصر، وهناك (7) مصباح مع غلام له قائم.
(1) الفرق: مكيال يسع ثلاثة آصع، أو ستة عشر رطلا. وفي الطبري: (كيل يكيل به)، وبعده: عبد دعى من ثمود أصله * لا بل يقال أبو أبيهم يقدم (2 - 2) الطبري: (ثم اقتحموا المسجد الأعظم، وكان لا يفارقه قوم يصلون فيه). (3) من الطبري. (4) الطبري: (بقتل ذوي القرابة وسفك دماء هذه الأمة). (5) في الطبري: (فشدوا عليه ليقتلوه، فقال: اللهم إني أشكو إليك هؤلاء وظلمهم وجهلهم، اللهم إني عنهم ضعيف فانتصر لي منهم، فضربوه حتى قتلوه). (6) الطبري: (المردمة). (7) الطبري: (وثم). 247 وكان أول من جاء من الناس عثمان بن قطن، ومعه مواليه وناس من أهله، وقال: أعلموا الأمير مكاني، أنا عثمان بن قطن، فليأمرني بأمره. فناداه الغلام صاحب المصباح: قف مكانك حتى يأتيك أمر الأمير، وجاء الناس من كل جانب، وبات عثمان مكانه فيمن اجتمع إليه من الناس، حتى أصبح. وقد كان عبد الملك بن مروان بعث محمد بن موسى بن طلحة على سجستان، وكتب له عهده عليها، وكتب إلى الحجاج: إذا قدم عليك محمد بن موسى الكوفة، فجهز معه ألفي رجل، وعجل سراحه إلى سجستان. فلما قدم الكوفة، جعل يتجهز (1)، فقال له أصحابه ونصحاؤه: تعجل أيها الرجل إلى عملك، فإنك لا تدرى ما يحدث، وعرض أمر شبيب حينئذ ودخوله الكوفة، فقيل للحجاج: إن محمد بن موسى إن سار إلى سجستان مع نجدته وصهره لأمير المؤمنين عبد الملك، فلجأ إليه أحد ممن تطلبه، منعك منه. قال: فما الحيلة؟ قالوا: أن تذكر له أن شبيبا في طريقه وقد أعياك، وأنك ترجو أن يريح الله منه على يده، فيكون له ذكر ذلك وشهرته. فكتب إليه الحجاج: إنك عامل على كل بلد مررت به، وهذا شبيب في طريقك تجاهده ومن معه، ولك أجره وذكره وصيته، ثم تمضي إلى عملك، فاستجاب له. وبعث الحجاج بشر بن غالب الأسدي في ألفي رجل، وزياد بن قدامة في ألفين، وأبا الضريس مولى تميم في ألف من الموالي، وأعين صاحب حمام أعين مولى لبشر بن مروان في ألف، وجماعة غيرهم، فاجتمعت تلك الامراء في أسفل الفرات، وترك شبيب الوجه الذي فيه جماعة هؤلاء القواد، وأخذ نحو القادسية، فوجه الحجاج زحر بن قيس
(1) الطبري: (جعل يتحبس في الجهاز)، والتحبس: التوقف والتباطؤ. 248 في جريدة خيل، نقاوة (1)، عدتها ألف وثمانمائة فارس، وقال له: اتبع شبيبا حتى تواقعه حيثما أدركته، فخرج زحر بن قيس حتى انتهى إلى السيلحين (2)، وبلغ شبيبا مسيره إليه فأقبل نحوه، فالتقيا، وقد جعل زحر على ميمنته عبد الله بن كناز، وكان شجاعا، وعلى ميسرته عدى بن عدي بن عميرة الكندي، وجمع شبيب خيله كلها كبكبة (3) واحدة، ثم اعترض بها الصف يوجف (4) وجيفا، حتى انتهى إلى زحر بن قيس، فنزل زحر، فقاتل حتى صرع وانهزم أصحابه، وظن أنه قد قتل. فلما كان الليل وأصابه البرد، قام يمشى حتى دخل قرية، فبات بها وحمل منها إلى الكوفة، وبوجهه أربع (5) عشرة ضربة، فمكث أياما، ثم أتى الحجاج، وعلى وجهه [وجراحه] (6) القطن، فأجلسه معه على السرير (7). وقال أصحاب شبيب لشبيب،
(1) نقاوة الشئ: خياره. (2) قال ياقوت: (ذكر سيلحين في الفتوح وغيرها من الشعر يدل على أنها قرب الحيرة ضاربة في البر قرب القادسية، ولذلك ذكر الشعراء أيام القادسية مع الحيرة والقادسية، فقال سليمان بن ثمامة حين سير امرأته من اليمامة إلى الكوفة: فمرت بباب القادسية غدوة * وراحتها بالسيلحين العبائر فلما انتهت دون الخورنق عادها * وقصر بنى النعمان حيث الأواخر إلى أهل مصر أصلح الله حاله * به المسلمون والجهود الأكابر فصارت إلى أرض الجهاد وبلدة * مباركة والأرض فيها مصائر فألقت عصاها واستقر بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر (3) الكبكبة: الجماعة من الناس (4) أو جفت الخيل في السير: سارت سيرا فسيحا واسعا. وفي الطبري: (فوجب وجيفا). (5) الطبري: (وبوجهه بضع عشرة جراحة، من بين ضربة وطعنة). (6) من الطبري. (7) في الطبري بعدها: (وقال لمن حوله: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة يمشى بين الناس وهو شهيد، فلينظر إلى هذا). 249 وهم يظنون أنهم قد قتلوا زحرا: قد هزمنا جندهم، وقتلنا أميرا من أمرائهم عظيما، فانصرف بنا الان موفورين (1). فقال لهم: (2 إن قتلكم هذا الرجل (3) وهزيمتكم هذا الجند قد أرعب هؤلاء الامراء 2)، فاقصدوا بنا قصدهم، فوالله لئن نحن قتلناهم ما دون قتل الحجاج وأخذ الكوفة شئ. فقالوا له: نحن طوع لأمرك ورأيك، فانقض بهم جادا (4)، حتى أتى ناحية عين (5) التمر، واستخبر عن القوم، فعرف اجتماعهم في روذبار (6) في أسفل الفرات، على رأس أربعة وعشرين فرسخا من الكوفة. وبلغ الحجاج مسير شبيب إليهم، فبعث إليهم (7): إن جمعكم قتال، فأمير الناس زائدة بن قدامة. فانتهى (8) إليهم شبيب، وفيهم سبعة أمراء، على جماعتهم زائدة بن قدامة، وقد عبى كل أمير أصحابه على حدة، وهو واقف في أصحابه، فأشرف شبيب على الناس، وهو على فرس أغر كميت (9)، فنظر إلى تعبيتهم، ثم رجع إلى أصحابه، وأقبل في ثلاث كتائب يزحف (10) بها، حتى إذا دنا من الناس مضت كتيبة فيها سويد بن سليم،
(1) الطبري: وافرين) (2 - 2) الطبري: (فقال لهم: إن قتلنا هذا الرجل وهزيمتنا هذا الجند قد أرعبت هذه الامراء والجنود التي بعثت في طلبهم). (3) الطبري: (ما دون الحجاج من شئ وأخذ الكوفة إن شاء الله). (4) الطبري: (جوادا). (5) في الطبري: (نجران الكوفة ناحية عين التمر). ونجران الكوفة، على يومين منها، فيما بينها وبين واسط (على الطريق، سكنه أهل نجران لما أجلاهم عمر، فسموا الموضع باسمهم. وعين التمر: بلدة في طرف البادية على غربي الفرات، أكثر نخلها القسب، ويحمل إلى سائر الأماكن. (مراصد الاطلاع). (6) روذبار، ضبطه صاحب مراصد الاطلاع، بضم أوله وسكون ثانية وذال معجمة، وباء موحدة، وآخره راء، قال: ويطلق على عدة مواضع. (7) في الطبري: (فبعث إليهم عبد الرحمن بن الفرق، مولى ابن أبي عقيل، وكان على الحجاج كريما). (8) الكلام في الطبري، عن أبي مخنف عن عبد الرحمن بن جندب. (9) الكميت من الخيل: ما بين الأسود والأحمر. والأغر: ما كان بجبهته غرة. (10) في الطبري: (يوجفون بها). 250 فوقفت بإزاء ميمنة زائدة بن قدامة، وفيها زياد بن عمرو العتكي، ومضت كتيبة فيها مصاد أخو شبيب، فوقفت بإزاء الميسرة، وفيها بشر بن غالب الأسدي، وجاء شبيب في كتيبة، حتى وقف مقابل القوم في القلب، فخرج زائدة بن قدامة يسير في الناس بين الميمنة والميسرة، يحرض الناس، ويقول: عباد الله! إنكم الطيبون الكثيرون، وقد نزل بكم الخبيثون القليلون، فاصبروا جعلت لكم الفداء! إنما هي حملتان أو ثلاث، ثم هو النصر ليس دونه شئ، ألا ترونهم والله لا يكونون مائتي رجل، إنما هم أكلة رأس (1) وهم السراق المراق، إنما جاءوكم ليهريقوا دماءكم، ويأخذوا فيئكم، فلا يكونوا على أخذه أقوى منكم على منعه، وهم قليل وأنتم كثير، وهم أهل فرقة وأنتم أهل جماعة، غضوا الابصار واستقبلوهم بالأسنة، ولا تحملوا عليهم حتى آمركم. ثم انصرف إلى موقفه، فحمل سويد بن سليم على زياد بن عمرو العتكي، فكشف صفه، وثبت زياد قليلا ثم ارتفع سويد عنهم يسيرا ثم كر عليهم ثانية (2). فقال فروة بن لقيط الخارجي (3): أطعنا ذلك اليوم ساعة فصبروا لنا حتى ظننت أنهم لن يزولوا، وقاتل زياد بن عمرو قتالا شديدا (4)، ولقد رأيت سويد بن سليم يومئذ وإنه لأشد العرب قتالا وأشجعهم، وهو واقف لا يعرض لهم، ثم ارتفعنا عنهم، فإذا هم يتقوضون، فقال بعض أصحابنا لبعض: ألا ترونهم يتقوضون! احملوا (5) عليهم، فأرسل إلينا شبيب: خلوهم لا تحملوا عليهم حتى يخفوا، فتركناهم قليلا، ثم حملنا عليهم الثالثة فانهزموا، فنظرت إلى زياد بن عمرو، وإنه ليضرب بالسيوف (6)، وما من سيف يضرب به
(1) يقولون: هم أكلة رأس، أي هم قليل يشبعهم رأس واحد. (2) في الطبري بعدها: (فاطعنوا ساعة) (3) في الطبري: (قال أبو مخنف: فحدثني فروة) (4) في الطبري بعدها: (وجعل ينادى: يا خيلي، ويشد بالسيف، فيقاتل قتالا شديدا). (5) الطبري: (احمل عليهم). (6) الطبري: (بالسيف). 251 إلا نبا عنه، ولقد اعتوره أكثر من عشرين سيفا وهو مجفف، فما ضره شئ منها، ثم انهزم (1). وانتهينا إلى محمد بن موسى بن طلحة أمير سجستان عند المغرب، وهو قائم في أصحابه، فقاتلناه قتالا شديدا، وصبر لنا. ثم إن مصادا حمل (2) على بشر بن غالب في الميسرة فصبر وكرم وأبلى، ونزل معه رجال من أهل البصرة نحو خمسين، فضاربوا بأسيافهم (3) حتى قتلوا، ثم انهزم أصحابه فشددنا على أبى الضريس فهزمناه، ثم انتهينا إلى موقف أعين، ثم شددنا على أعين، فهزمناهم حتى انتهينا إلى زائدة بن قدامة، فلما انتهوا إليه، نزل ونادى: يا أهل الاسلام، الأرض الأرض! ألا لا يكونون على كفرهم أصبر منكم على إيمانكم. فقاتلوا عامة الليل إلى السحر. ثم إن شبيبا شد على زائدة بن قدامة في جماعة من أصحابه، فقتله وقتل ربضة (4) حوله من أهل الحفاظ، ونادى شبيب في أصحابه: ارفعوا السيف، وادعوهم إلى البيعة، فدعوهم عند الفجر إلى البيعة. قال عبد الرحمن (5) بن جندب: فكنت فيمن تقدم فبايعه بالخلافة، وهو واقف على
(1) في الطبري بعدها. (وقد جرح جراحة يسيرة، وذلك عند المساء، قال: شددنا على عبد الأعلى ابن عبد الله بن عمر، فهزمناه وما قاتلنا كثير قتال، وقد ضارب ساعة، وقد بلغني أنه كان جرح ثم لحق بزياد بن عمرو فمضيا منهزمين، حتى انتهينا إلى محمد بن موسى...). (2) الكلام من هنا في الطبري عن هشام عن أبي مخنف، عن عبد الرحمن بن جندب وفروة بن لقيط. (3) في الطبري بعدها: (حتى قتلوا عن آخرهم، وكان فيهم عروة بن زهير بن ناجذ الزدى، وأمه زرارة، امرأة ولدت في الأزد، فيقال لهم بنو زرارة، فلما قتلوه وانهزم أصحابه، مالوا فشدوا على أبى الضريس). (4) في الطبري: (وتركهم ربضة حوله)، والربضة: كل قوم قتلوا في موقعة واحدة، وفي الحديث: (الذين قتلوا يوم الجماجم كانوا ربضة واحدة). (5) في الطبري بعدها عن أبي مخنف: (وحدثني عبد الرحمن بن جندب قال: سمعت زائدة بن قدامة ليلتئذ رافعا صوته، يقول: يا أيها الناس، اصبروا وصابروا، يا أيها الذين آمنوا، إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. ثم ما برح يقاتلهم مقبلا غير مدبر حتى قتل). 252 فرس أغر كميت، وخيله واقفة دونه وكل من جاء ليبايعه ينزع سيفه عن عاتقه، ويؤخذ سلاحه، ثم يدنو من شبيب فيسلم عليه بإمرة المؤمنين، (1) ثم يبايع، فإنا كذلك إذ أضاء الفجر (2) ومحمد بن موسى بن طلحة في أقصى العسكر مع أصحابه، وكان الحجاج قد جعل موقفه آخر الناس، وزائدة بن قدامة بين يديه، ومقام محمد بن موسى مقام الأمير على الجماعة كلها، فأمر محمد مؤذنه فأذن، فلما سمع شبيب الاذان، قال: ما هذا؟ قيل: هذا ابن طلحة لم يبرح، قال: ظننت أن حمقه وخيلاءه سيحملانه على هذا، نحوا هؤلاء عنا، وانزلوا بنا فلنصل، فنزل وأذن هو، ثم استقدم فصلى بأصحابه، وقرأ: (ويل لكل همزة لمزة)، و (أرأيت الذي يكذب بالدين)، ثم سلم وركب (3): وأرسل إلى محمد بن موسى بن طلحة: إنك امرؤ مخدوع قد اتقى بك الحجاج المنية، وأنت لي جار بالكوفة، ولك حق فانطلق لما أمرت به، ولك الله ألا أسوءك (4)، فأبى محاربته (5) فأعاد عليه الرسول فأبى إلا قتاله، فقال له شبيب: كأني بأصحابك لو التقت حلقتا (6) البطان قد أسلموك، وصرعت مصرع أمثالك، فأطعني وانصرف
(1) في الطبري: (ثم يخلى سبيله). (2) في الطبري: (إذ انفجر الفجر). (3) في الطبري: (ثم ركبوا فحمل عليهم، فانكشفت طائفة من أصحابه، وثبتت طائفة، قال فروة: فما أنسى قوله، وقد غشيناه وهو يقاتل بسيفه، وهو يقول: (ألم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون. ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين). قال: وضارب حتى قتل، فسمعت أصحابي يقولون: إن شبيبا هو الذي قتله. ثم إنا نزلنا فأخذنا ما كان في العسكر من شئ، وهرب الذين كانوا بايعوا شبيبا، فلم يبق منهم أحد...). (4) الطبري: (ولك الله لا آذيتك). (5) الكلام هنا يختلف عما في الطبري، بالتقديم والتأخير واختلاف العبارات. (6) البطان: حزام الرحل أو القتب الذي يلي البطن، له حلقتان في كل طرف حلقة، يصعب التقاؤهما، فإذا التقتا، بلغ الشد غايته، يريدون أن الشدة بلغت منتهاها، وهو مثل، ومنه قول أوس: وإذا التقت حلقتا البطان بأقوام وطارت نفوسهم جزعا 253 لشأنك، فإني أنفس بك عن القتل، فأبى وخرج بنفسه، ودعا إلى البراز، فبرز له البطين ثم قعنب بن سويد، وهو يأبى إلا شبيبا. فقالوا لشبيب: إنه قد رغب عنا إليك، قال: فما ظنكم بمن يرغب عن الاشراف! ثم برز له، وقال له: أنشدك الله يا محمد في دمك، فإن لك جوارا! فأبى إلا قتاله، فحمل عليه بعموده الحديد، وكان فيه اثنا عشر رطلا، فهشم رأسه وبيضة كانت عليه فقتله، ونزل إليه فكفنه ودفنه، وتتبع ما غنم الخوارج من عسكره، فبعث به إلى أهله، واعتذر إلى أصحابه، وقال: هو جارى بالكوفة، ولى أن أهب ما غنمت. فقال له أصحابه: ما دون الكوفة الان أحد يمنعك، فنظر فإذا أصحابه قد فشا فيهم الجراح، فقال: (1 ليس عليكم أكثر مما قد فعلتم 1). وخرج بهم على نفر (2)، ثم خرج بهم نحو بغداد (3)، يطلب خانيجار (4). وبلغ الحجاج أن شبيبا قد أخذ نحو نفر، فظن أنه يريد المدائن، وهي باب الكوفة، ومن أخذ المدائن كان ما في يديه من أرض الكوفة أكثر، فهال ذلك الحجاج، وبعث إلى عثمان بن قطن، فسرحه إلى المدائن، وولاه منبرها والصلاة ومعونة جوخى كلها، وخراج الأستان، فجاء مسرعا حتى نزل المدائن، وعزل الحجاج ابن أبي عصيفير عن المدائن، وكان الجزل مقيما بها يداوى جراحاته، وكان ابن أبي عصيفير يعوده ويكرمه، ويلطفه (5)، فلما قدم عثمان بن قطن لم يكن يتعاهده ولا يلطفه بشئ، فكان الجزل يقول: اللهم زد ابن أبي عصيفير فضلا وكرما، وزد عثمان بن قطن ضيقا وبخلا. * * *
(1 - 1) الكلام هنا يختلف عما في الطبري، بالتقديم والتأخير واختلاف العبارات. (2) نفر، بكسر أوله وتشديد ثانيه وفتحه وراء: بلدة أو قرية على نهر الترس، من بلاد الفرس، عن الخطيب، فإن كان عنى أنه من بلاد الفرس قديما جاز، فأما الان فهو من نواحي بابل بأرض الكوفة (ياقوت). (3) في الطبري: (ثم على الصراة، ثم على بغداد). (4) بعدها في الطبري: (فأقام بها). (5) ألطف فلان فلانا: أكرمه وبره وأتحفه. 254 ثم إن الحجاج دعا عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فقال له: انتخب الناس، فأخرج ستمائة من قومه من كندة، وأخرج من سائر الناس ستة آلاف، واستحثه الحجاج على الشخوص، فخرج بعسكره بدير عبد الرحمن، فلما استتموا هناك كتب إليهم الحجاج كتابا قرئ عليهم. أما بعد فقد اعتدتم عادة الأذلاء، ووليتم الدبر يوم الزحف، دأب الكافرين (1) وقد صفحت عنكم مرة بعد مرة، وتارة بعد أخرى، وإني أقسم بالله قسما صادقا لئن عدتم لذلك لأوقعن بكم إيقاعا يكون أشد عليكم من هذا العدو الذي تنهزمون (2) منه في بطون الأودية والشعاب، وتستترون منه بأثناء (3) الأنهار وألواذ (4) الجبال، فليخف من كان له معقول (5) على نفسه، ولا يجعل عليها سبيلا، فقد أعذر من أنذر. والسلام. وارتحل عبد الرحمن بالناس حتى مر بالمدائن، فنزل بها يوما ليشترى أصحابه منها حوائجهم، ثم نادى في الناس بالرحيل، وأقبل حتى دخل على عثمان بن قطن مودعا، ثم أتى الجزل عائدا، فسأله عن جراحته، وحادثه، فقال الجزل: يا بن عم، إنك تسير إلى فرسان العرب وأبناء الحرب وأحلاس (6) الخيل، والله لكأنما خلقوا من ضلوعها، ثم ربوا (7) على ظهورها، ثم هم أسد الأجم، الفارس منهم أشد من مائة، إن لم يبدأ به
(1) الطبري: (وذلك دأب الكافرين). (2) الطبري: (تهربون) (3) الأثناء: جمع ثنى، وهو المنعطف. (4) الألواذ: جمع لوذ، وهو جانب الجبل. (5) المعقول هنا: العقل، وهو مصدر من المصادر التي وردت على اسم المفعول، كالمجهود والميسور، وفي المثل: (ماله حول ولا معقول). (6) الحلس في الأصل: كل شئ ولى ظهر البعير والدابة تحت الرحل والقتب والسرج، كالمرشحة تكون تحت اللبد. ويقال: فلان من أحلاس الخيل، أي من راضتها وساستها والملازمين ظهورها، على التشبيه بالحلس. (7) في الطبري: (بنوا). 255 بدأ هو، وإن هجهج (1) أقدم، وإني قد قاتلتهم وبلوتهم، فإذا أصحرت لهم انتصفوا منى، وكان لهم الفضل على، وإذا خندقت أو قاتلت في مضيق نلت منهم ما أحب، وكانت لي عليهم، فلا تلقهم وأنت تستطيع إلا وأنت في تعبية أو خندق، ثم ودعه، وقال له: هذه فرسي الفسيفساء خذها فيها لا تجاري، فأخذها ثم خرج بالناس نحو شبيب، فلما دنا منه ارتفع شبيب عنه إلى دقوقاء وشهرزور، فخرج عبد الرحمن في طلبه، حتى إذا كان على تخوم تلك الأرض أقام، وقال: إنما هو في أرض الموصل، فليقاتل أمير الموصل وأهلها عن بلادهم أو فليدعوا. وبلغ ذلك الحجاج، فكتب إليه: أما بعد فاطلب شبيبا واسلك في أثره (2) أين سلك حتى تدركه فتقتله أو تنفيه عن الأرض، فإنما السلطان سلطان أمير المؤمنين، والجند جنده. والسلام. فلما قرأ عبد الرحمن كتاب الحجاج خرج في طلب شبيب، فكان شبيب يدعه، حتى إذا دنا منه ليبيته فيجده قد خندق وحذر، فيمضى ويتركه، فيتبعه عبد الرحمن فإذا بلغ شبيبا أنه قد تحمل وسار يطلبه كر في الخيل نحوه، فإذا انتهى إليه وجده قد صف خيله ورجالته المرامية، فلا يصيب له غرة ولا غفلة (3)، فيمضى ويدعه. ولما رأى شبيب أنه لا يصيب غرته، ولا يصل إليه، صار يخرج كلما دنا منه عبد الرحمن، حتى ينزل على مسيرة عشرين فرسخا، ثم يقيم في أرض غليظة وعرة، فيجئ عبد الرحمن في ثقله وخيله، حتى إذا دنا من شبيب ارتحل، فسار عشرين أو خمسة عشر فرسخا، فنزل منزلا غليظا خشنا، ثم يقيم حتى يبلغ عبد الرحمن ذلك المنزل، ثم يرتحل، فعذب العسكر، وشق عليهم، وأحفى دوابهم، ولقوا منه كل بلاء.
(1) هجهج: صيح به. (2) ج: (واسلك أينما سلك). (3) الطبري: (ولا له علة). 256 فلم يزل عبد الرحمن يتبعه، حتى صار إلى خانقين وجلولاء، ثم أقبل على تامرا (1)، فصار إلى البت (2)، ونزل على تخوم الموصل ليس بينه وبين الكوفة إلا نهر حولايا (3)، وجاء عبد الرحمن حتى نزل بشرقي حولايا، وهم في راذان (4) الأعلى من أرض جوخى، ونزل في عواقيل (5) من النهر، ونزلها عبد الرحمن حيث نزلها، وهي تعجبه، يرى أنها مثل الخندق الحصين. فأرسل شبيب إلى عبد الرحمن أن هذه الأيام أيام عيد لنا ولكم، فإن رأيتم أن توادعونا حتى تمضي هذه الأيام فعلتم، فأجابه عبد الرحمن إلى ذلك، ولم يكن شئ أحب إلى عبد الرحمن من المطاولة والموادعة، فكتب عثمان بن قطن إلى الحجاج: أما بعد، فإني أخبر الأمير أصلحه الله، أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد حفر جوخى كلها عليه خندقا واحدا، وخلى شبيبا، وكسر خراجها، فهو يأكل أهلها، والسلام. فكتب إليه الحجاج: قد فهمت ما ذكرت، وقد لعمري فعل عبد الرحمن، فسر إلى الناس، فأنت أميرهم، وعاجل المارقة حتى تلقاهم، [فإن الله إن شاء ناصرك عليهم] (6)، والسلام. وبعث الحجاج على المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة، وخرج عثمان حتى قدم على
(1) تامرا، بفتح الميم وتشديد الراء، والقصر: نهر كبير تحت بغداد، شرقيها، مخرجه من جبال شهرزور. (مراصد الاطلاع). (2) البت: قرية من قرى الموصل (الطبري). (3) حولايا، بفتح الحاء وسكون الواو آخره ياء وألف: قرية كانت بالنهروان خربت بخرابه. (مراصد الاطلاع). (4) في الأصول: (ذاذان) تصحيف، وصوابه من الطبري، قال في مراصد الاطلاع: راذان بعد الألف ذال معجمة وآخره نون: راذان الأعلى وراذان الأسفل: كورتان ببغداد تشتمل على قرى كثيرة). (5) العواقيل: جمع عاقول، وهو منعطف النهر. (6) من الطبري. 257 عبد الرحمن ومن معه، وهم معسكرون على نهر حولايا، قريبا من البت، وذلك يوم التروية (1) عشاء، فنادى في الناس، وهو على تلعة (2): أيها الناس، اخرجوا إلى عدوكم. فوثبوا إليه، وقالوا: ننشدك الله! هذا المساء قد غشينا، والناس لم يوطنوا أنفسهم على القتال فبت الليلة ثم اخرج على تعبية، فجعل يقول: لأناجزنهم الليلة، ولتكونن الفرصة لي أو لهم، فأتاه عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، فأخذ بعنان بغلته، وناشده الله لما نزل، وقال له عقيل بن شداد السلولي: إن الذي تريده من مناجزتهم الساعة أنت فاعله غدا، وهو خير لك وللناس، إن هذه ساعة ريح قد اشتدت مساء فأنزل، ثم أبكر بنا غدوة. فنزل وسفت عليه الريح، وشق عليه الغبار، فاستدعى صاحب الخراج علوجا، فبنوا له قبة، فبات فيها، ثم أصبح فخرج بالناس، فاستقبلتهم ريح شديدة وغبرة، فصاح الناس إليه، وقالوا: ننشدك الله ألا تخرج بنا في هذا اليوم! فإن الريح علينا، فأقام ذلك اليوم. وكان شبيب يخرج إليهم، فلما رآهم لا يخرجون إليه أقام، فلما كان الغد خرج عثمان يعبى الناس على أرباعهم، وسألهم: من كان على ميمنتكم وميسرتكم؟ فقالوا: خالد بن نهيك بن قيس الكندي على ميسرتنا، وعقيل بن شداد السلولي على ميمنتنا، فدعاهما وقال لهما: قفا في مواقفكما التي كنتما بها فقد وليتكما المجنبتين، فاثبتا ولا تفرا، فوالله لا أزول حتى تزول نخيل راذان عن أصولها. فقالا: نحن والله الذي لا إله إلا هو لا نفر حتى نظفر أو نقتل، فقال لهما: جزاكما الله خيرا! ثم أقام حتى صلى بالناس الغداة، ثم خرج بالخيل، فنزل يمشى في الرجال، وخرج شبيب ومعه يومئذ مائة وأحد وثمانون رجلا، فقطع إليهم النهر، وكان هو في ميمنة أصحابه، وجعل على الميسرة سويد بن سليم، وجعل في القلب مصادا أخاه وزحفوا، وكان عثمان بن قطن يقول لأصحابه فيكثر: (قل لن
(1) يوم التروية: الثامن من ذي الحجة. (2) التلعة هنا: ما علا من الجبل، وفي الطبري، (على بغلة). 258 ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذا لا تمتعون إلا قليلا) (1). ثم قال شبيب لأصحابه: إني حامل على ميسرتهم، مما يلي النهر، فإذا هزمتها فليحمل صاحب ميسرتي على ميمنتهم، ولا يبرح صاحب القلب حتى يأتيه أمري، ثم حمل في ميمنة أصحابه مما يلي النهر على ميسرة عثمان بن قطن، فانهزموا، ونزل عقيل بن شداد مع طائفة من أهل الحفاظ، فقاتل حتى قتل وقتلوا معه (2). ودخل شبيب عسكرهم، وحمل سويد بن سليم في ميسرة شبيب على ميمنة عثمان بن قطن فهزمها، وعليها خالد بن نهيك الكندي، فنزل خالد، وقاتل قتالا شديدا، فحمل عليه شبيب من ورائه، فلم ينثن حتى علاه بالسيف فقتله، ومشى عثمان بن قطن، وقد نزلت معه العرفاء والفرسان وأشراف الناس نحن القلب، وفيه أخو شبيب في نحو من ستين رجلا، فلما دنا منهم عثمان، شد عليهم في الاشراف وأهل الصبر، فضربهم مصاد وأصحابه، حتى فرقوا بينهم، وحمل شبيب من ورائهم بالخيل، فما شعروا إلا والرماح في أكتافهم تكبهم لوجوههم، وعطف عليهم سويد بن سليم أيضا في خيله، وقاتل عثمان فأحسن القتال. ثم إن الخوارج شدوا عليهم، فأحاطوا بعثمان، وحمل عليه مصاد أخو شبيب: فضربه ضربة بالسيف فاستدار لها، وسقط، وقال: (وكان أمر الله قدرا مقدورا) (3)، فقتل وقتل معه العرفاء ووجوه الناس، وقتل من كندة يومئذ مائة وعشرون رجلا، وقتل من سائر الناس نحو ألف، ووقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى الأرض، فعرفه
(1) سورة الأحزاب 16 (2) في الطبري: وقتل يومئذ مالك بن عبد الله الهمداني، ثم المرهبي، عم عياش بن عبد الله بن عياش المنتوف، وجعل يومئذ عقيل بن شداد يقول وهو يجالدهم: لأضربن بالحسام الباتر * ضرب غلام من سلول صابر (3) سورة الأحزاب 33 259 ابن أبي سبرة، فنزل وأركبه، وصار رديفا له (1). وقال له عبد الرحمن: ناد في الناس، الحقوا بدير ابن أبي مريم، فنادى بذلك، وانطلقا ذاهبين، وأمر شبيب أصحابه، فرفعوا عن الناس السيف، ودعاهم إلى البيعة، فأتاه من بقي من الرجال، فبايعوه، وبات عبد الرحمن بدير اليعار، فأتاه فارسان ليلا، فخلا به أحدهما يناجيه طويلا، وقام الاخر قريبا منهما، ثم مضيا ولم يعرفا، فتحدث الناس أن المناجي له كان شبيبا، وأن الذي كان يرقبهما كان مصادا أخاه، واتهم عبد الرحمن بمكاتبة شبيب من قبل. ثم خرج عبد الرحمن آخر الليل، فسار حتى أتى دير ابن أبي مريم، فإذا هو بالناس قبله قد سبقوه. وقد وضع لهم ابن أبي سبرة صبر الشعير وألقت (2) كأنها القصور، ونحر لهم من الجزور ما شاءوا، واجتمع الناس إلى عبد الرحمن، فقالوا له: إن علم شبيب بمكانك أتاك فكنت له غنيمة، قد تفرق الناس عنك، وقتل خيارهم، فالحق أيها الرجل بالكوفة. فخرج وخرج معه الناس، حتى دخل الكوفة مستترا من الحجاج، إلى أن أخذ له الأمان بعد ذلك. * * * ثم إن شبيبا اشتد عليه الحر وعلى أصحابه، فأتى ماه بهراذان، فصيف (3) بها ثلاثة أشهر، وأتاه ناس ممن كان يطلب الدنيا والغنيمة كثير، ولحق به ناس ممن كان يطلبهم
(1) في الطبري: (فقال عبد الرحمن بن محمد: أينا الرديف؟ قال ابن أبي سبرة: سبحان الله! أنت الأمير تكون المقدم، فركب). (2) في الأصول: (ألقيت)، وما أثبته من الطبري، وفيه: (بعضه على بعض). (3) صيف بالمكان: أقام به صيفا، وفي الطبري: (تصيف)، وهما بمعنى. 260 الحجاج بمال وتبعة (1)، فمنهم رجل يقال له الحر بن عبد الله بن عوف، كان قتل دهقانين من أهل نهر دير قيط، كانا أساءا إليه، ولحق بشبيب حتى شهد معه مواطنه إلى أن هلك، وله مقام عند الحجاج، وكلام سلم به من القتل، وهو أن الحجاج بعد هلاك شبيب، أمن كل من خرج إليه ممن كان يطلبهم الحجاج بمال، أو تبعة، فخرج إليه الحر فيمن خرج، فجاء أهل الدهقانين يستعدون عليه الحجاج، فأحضره، وقال: يا عدو الله، قتلت رجلين من أهل الخراج، فقال: قد كان أصلحك الله منى ما هو أعظم من هذا، قال: وما هو؟ قال: خروجي عن الطاعة، وفراقي الجماعة، ثم إنك أمنت كل من خرج عليك، وهذا أماني وكتابك لي. فقال الحجاج: قد لعمري فعلت، ذلك أولى لك! وخلى سبيله. ثم لما بأخ الحر (2)، وسكن عن شبيب خرج من ماه نهروان في نحو من ثمانمائة رجل فأقبل نحو المدائن، وعليها المطرف بن المغيرة بن شعبة، فجاء حتى نزل قناطر حذيفة (3) بن اليمان فكتب ماذراسب (4) وهو عظيم بابل مهروذ إلى الحجاج يخبره خبر شبيب وقدومه إلى قناطر حذيفة، فقام الحجاج في الناس وخطبهم، وقال: أيها الناس، لتقاتلن عن بلادكم وفيئكم، أو لأبعثن إلى قوم هم أطوع وأسمع، وأصبر على البلاء (5) منكم، فيقاتلون عدوكم ويأكلون فيئكم - يعنى جند الشام. فقام إليه الناس من كل جانب، يقولون: بل نحن نقاتلهم، ونغيث (6) الأمير، ليندبنا إليهم، فإنا حيث يسره.
(1) في الطبري: (التباعات). (2) بأخ الحر: سكن وفتر. وفي الطبري: (انفسح). (3) قناطر حذيفة: بسواد بغداد. (4) في الطبري: (ماذرواسب). (5) الطبري: (اللاواء). (6) الطبري: (ونعتب). 261 وقام إليه زهرة بن حوية - وهو يومئذ شيخ كبير لا يستتم قائما، حتى يؤخذ بيده - فقال: أصلح الله الأمير! إنك إنما تبعث الناس متقطعين، فاستنفر إليهم الناس كافة، وابعث عليهم رجلا متينا شجاعا مجربا، يرى الفرار هضما وعارا، والصبر مجدا وكرما. فقال الحجاج: فأنت ذاك، فأخرج. فقال: أصلح الله الأمير! إنما يصلح لهذا الموقف رجل يحمل الرمح والدرع، ويهز السيف، ويثبت على متن الفرس، وأنا لا أطيق ذلك، قد ضعفت وضعف بصرى (1 ولكن ابعثني مع أمير تعتمده، فأكون في عسكره، وأشير عليه برأيي 1). فقال: (2 جزاك الله عن الاسلام والطاعة خيرا 2)، لقد نصحت وصدقت، وأنا مخرج الناس كافة، ألا فسيروا أيها الناس. فانصرف الناس يتجهزون وينتشرون، ولا يدرون من أميرهم. وكتب الحجاج إلى عبد الملك: أما بعد، فإني أخبر أمير المؤمنين أكرمه الله، أن شبيبا قد شارف المدائن، وإنما يريد الكوفة، وقد عجز أهل العراق عن قتاله في مواطن كثيرة، في كلها تقتل أمراؤهم ويفل خيولهم (3) وأجنادهم، فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إلى جندا من جند الشام ليقاتلوا عدوهم، ويأكلوا بلادهم فعل إن شاء الله. فلما أتى عبد الملك كتابه بعث إليه سفيان بن الأبرد في أربعة آلاف، وبعث إليه حبيب ابن عبد الرحمن [الحكمي] (4) من (5) مذحج في ألفين وسرحهم نحوه حين أتاه الكتاب (6).
(1 - 1) الطبري: (ولكن أخرجني في الناس مع الأمير، فإني إنما أثبت على الراحلة، فأكون مع الأمير في عسكره، وأشير عليه برأيي). (2 - 2) الطبري: (جزاك الله عن الاسلام وأهله في أول الاسلام خيرا، وجزاك الله عن الاسلام في آخر الاسلام خيرا). (3) الطبري: (جنودهم). (4) من الطبري. (5) في الأصول. (ابن)، وما أثبته من الطبري. (6) بعدها في الطبري: (من الحجاج). 262 وقد كان الحجاج بعث إلى عتاب بن ورقاء الرياحي ليأتيه، وكان على خيل الكوفة مع المهلب، ودعا الحجاج أشراف أهل الكوفة، منهم زهرة بن حوية، وقبيصة بن والق، فقال: من ترون أن أبعث على هذا الجيش؟ قالوا: رأيك أيها الأمير أفضل، قال: إني قد بعثت إلى عتاب بن ورقاء وهو قادم عليكم الليلة، فيكون هو الذي يسير بالناس، فقال زهرة بن حوية: أصلح الله الأمير! رميتهم بحجرهم، لا والله لا يرجع إليك حتى يظفر أو يقتل. فقال قبيصة بن والق: وإني مشير عليك أيها الأمير برأي اجتهدته، نصيحة لك ولأمير المؤمنين ولعامة المسلمين، إن الناس قد تحدثوا أن جيشا قد وصل إليك من الشام، لان أهل الكوفة قد هزموا، وهان عليهم الفرار والعار من الهزيمة، فكأنما قلوبهم في صدور قوم آخرين، فإن رأيت أن تبعث إلى الجيش الذي قد أمددت به من أهل الشام، فليأخذوا حذرهم، ولا يثبتوا بمنزل إلا وهم يرون أنهم يبيتون فعلت، فإن فعلت فإنك إنما تحارب حولا قلبا محلالا مظعانا (1)، إن شبيبا بينا هو في أرض إذا هو في أخرى، ولا آمن أن يأتيهم وهم غارون، فإن يهلكوا يهلك العراق كله. فقال الحجاج: لله أبوك! ما أحسن ما رأيت! وما أصح ما أشرت به! فبعث إلى الجيش الوارد عليه من الشام كتابا قرأوه وقد نزلوا هيت، وهو: أما بعد، فإذا حاذيتم هيت، فدعوا طريق الفرات والأنبار، وخذوا على عين التمر، حتى تقدموا الكوفة، إن شاء الله (2). فأقبل القوم سراعا، وقدم عتاب بن ورقاء في الليلة التي قال الحجاج إنه فيها قادم، فأمره الحجاج، فخرج بالناس، وعسكر بحمام (3) أعين، وأقبل شبيب حتى انتهى
(1) الطبري: (ظعانا رحالا). (2) في الطبري بعدها: (وخذوا حذركم وعجلوا السير، والسلام). (3) حمام أعين: موضع بالكوفة، منسوب إلى أعين مولى سعد بن أبي وقاص. 263 إلى كلواذى (1)، فقطع منها دجلة، وأقبل حتى نزل بهرسير (2)، وصار بينه وبين مطرف ابن المغيرة بن شعبة جسر دجلة، فقطع مطرف الجسر، ورأي رأيا صالحا كاد به شبيبا، حتى حبسه عن وجهه، وذلك أنه بعث إليه: أن ابعث إلى رجالا من فقهاء أصحابك وقرائهم، وأظهر له أنه يريد أن يدارسهم القرآن، وينظر فيما يدعون إليه، فإن وجد حقا اتبعه، فبعث إليه شبيب رجالا، فيهم قعنب وسويد والمحلل، ووصاهم ألا يدخلوا السفينة حتى يرجع رسوله من عند مطرف، وأرسل إلى مطرف: أن ابعث إلى من أصحابك ووجوه فرسانك بعدة أصحابي، ليكونوا رهنا في يدي، حتى ترد على أصحابي. فقال مطرف لرسوله: القه، وقل له: كيف آمنك الان على أصحابي، إذ أبعثهم إليك، وأنت لا تأمنني على أصحابك! فأبلغه الرسول، فقال: قل له: قد علمت أنا لا نستحل الغدر في ديننا، وأنتم قوم غدر تستحلون الغدر وتفعلونه. فبعث إليه مطرف جماعة من وجوه أصحابه، فلما صاروا في يد شبيب، سرح إليه أصحابه، فعبروا إليه في السفينة، فأتوه، فمكثوا أربعة أيام يتناظرون، ولم يتفقوا على شئ، فلما تبين لشبيب أن مطرفا كاده، وأنه غير متابع له، تعبي للمسير، وجمع إليه أصحابه، وقال لهم: إن هذا الثقفي قطعني عن رأيي منذ أربعة أيام، وذلك أنى هممت أن أخرج في جريدة من الخيل، حتى ألقى هذا الجيش المقبل من الشام، وأرجو أن أصادف غرتهم قبل أن يحذروا، وكنت ألقاهم منقطعين عن المصر، ليس عليهم أمير كالحجاج يستندون إليه، ولا لهم مصر كالكوفة يعتصمون به، وقد جاءني عيون (3) أن أوائلهم قد دخلوا عين التمر، فهم الان قد شارفوا الكوفة، وجاءني أيضا عيون من نحو عتاب (3) أنه نزل بحمام أعين بجماعة أهل الكوفة (4 وأهل البصرة، فما أقرب ما بيننا وبينهم! فتيسروا بنا للمسير إلى عتاب.
(1) كلواذى: موضع قرب بغداد. (2) بهر سير: من نواحي بغداد قرب المدائن. (3) الطبري. (عيوني). (4) الطبري: (بجماعة أهل الكوفة الصراة). 264 و كان عتاب حينئذ قد أخرج معه خمسين ألفا من المقاتلة، وهددهم الحجاج إن هربوا كعادة أهل الكوفة، وتوعدهم، وعرض شبيب أصحابه بالمدائن، فكانوا ألف رجل فخطبهم وقال: يا معشر المسلمين، إن الله عز وجل كان ينصركم وأنتم مائة ومائتان، واليوم فأنتم مئون [ومئون] (1)، ألا وإني مصل الظهر، ثم سائر بكم إن شاء الله. فصلى الظهر، ثم نادى في الناس، فتخلف عنه بعضهم. قال فروة بن (2) لقيط: فلما جاز ساباط، ونزلنا معه، قص علينا، وذكرنا بأيام الله، وزهدنا في الدنيا، ورغبنا في الآخرة. ثم أذن مؤذنة فصلى بنا العصر، ثم أقبل حتى أشرف على عتاب بن ورقاء، فلما رأى جيش عتاب نزل من ساعته، وأمر مؤذنه، فأذن ثم تقدم، فصلى بأصحابه صلاة المغرب (3)، وخرج عتاب بالناس كلهم فعبأهم، وكان قد خندق على نفسه مذ يوم نزل. وجعل على ميمنته محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني، قال له: يا بن أخي إنك شريف، فاصبر وصابر، فقال: أما أنا فوالله لأقاتلن ما ثبت معي إنسان. وقال لقبيصة بن والق التغلبي (4): اكفني الميسرة، فقال: (5 أنا شيخ كبير، غايتي أن أثبت تحت رايتي، أما تراني لا أستطيع القيام إلا أن أقام، وأخي نعيم بن عليم ذو غناء، فابعثه على الميسرة. فبعثه عليها 5). وبعث حنظلة بن الحارث الرياحي ابن عمه، وشيخ
(1) من الطبري. (2) راوي الخبر في الطبري. (3) في الطبري: (وكان مؤذنه سلام بن سيار الشيباني). (4) في الطبري: (وكان على ثلث بنى تغلب) (5 - 5) الطبري: (أنا شيخ كبير، كثير منى أن أثبت تحت رايتي، قد انبت منى القيام، ما أستطيع القيام إلا أن أقام، ولكن هذا عبيد الله بن الحليس، ونعيم بن عليم التغلبيان، وكان كل واحد منهما على ثلث من أثلاث تغلب، أبعث أيهما أحببت، فأيهما بعثت فلتبعثن ذا حزم وعزم وغناء، فبعث نعيم بن عليم على ميسرته). 265 أهل بيته على الرجالة، وبعث معه ثلاثة صفوف: صف فيه الرجالة ومعهم السيوف، وصف هم أصحاب الرماح، وصف فيه المرامية. ثم سار عتاب بين الميمنة والميسرة يمر بأهل راية راية، فيحرض من تحتها على الصبر، ومن كلامه يومئذ: إن أعظم الناس نصيبا من الجنة الشهداء، وليس الله لأحد أمقت منه لأهل البغي، ألا ترون عدوكم هذا يستعرض المسلمين بسيفه، لا يرى ذلك إلا قربة لهم! فهم شرار أهل الأرض، وكلاب أهل النار. فلم يجبه أحد، فقال: أين القصاص يقصون على الناس، ويحرضونهم؟ فلم يتكلم أحد، فقال: أين من يروى شعر عنترة، فيحرك الناس؟ فلم يجبه أحد ولا رد عليه كلمة، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، والله لكأني بكم وقد تفرقتم عن عتاب وتركتموه تسفى في استه الريح، ثم أقبل حتى جلس في القلب، ومعه زهرة بن حوية، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. وأقبل شبيب في ستمائة، وقد تخلف عنه من الناس أربعمائة، فقال: إنه لم يتخلف عنى إلا من لا أحب أن أراه معي، فبعث سويد بن سليم في مائتين إلى الميسرة، وبعث المحلل بن وائل في مائتين إلى القلب، ومضى هو في مائتين إلى الميمنة، وذلك بين المغرب والعشاء الآخرة، حين أضاء القمر، فناداهم: لمن هذه الرايات؟ قالوا: رايات همدان. فقال: رايات طالما نصرت الحق، وطالما نصرت الباطل، لها في كل (1) نصيب، أنا أبو المدله أثبتوا إن شئتم. ثم حمل عليهم، وهم على مسناة أمام الخندق، ففضهم، وثبت أصحاب رايات قبيصة بن والق. فجاء شبيب فوقف عليه، وقال لأصحابه: مثل هذا قوله تعالى: (واتل عليهم
(1) بعدها في الطبري: (والله لأجاهدنكم محتسبا للخير في جهادكم، أنتم ربيعة وأنا شبيب، أنا أبو المدله لا حكم إلا لله) 266 نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين)، (1) ثم حمل على الميسرة ففضها، وصمد نحو القلب، وعتاب جالس على طنفسة، هو وزهرة ابن حوية، فغشيهم شبيب، فانفض الناس عن عتاب وتركوه، فقال عتاب: يا زهرة، هذا يوم كثر فيه العدد، وقل فيه الغناء، لهفي على خمسمائة فارس من وجوه الناس، ألا صابر لعدوه! ألا مواس بنفسه! فمضى الناس على وجوههم، فلما دنا منه شبيب وثب إليه في عصابة قليلة صبرت معه، فقال له بعضهم: إن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث قد هرب، وانصفق معه ناس كثير، فقال: أما إنه قد فر قبل اليوم، وما رأيت مثل ذلك الفتى، ما يبالي ما صنع، ثم قاتلهم ساعة، وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط موطنا لم أبل بمثله، أقل ناصرا، ولا أكثرها ربا خاذلا، فرآه رجل من بنى تغلب من أصحاب شبيب - وكان أصاب دما في قومه، والتحق بشبيب: فقال: إني لأظن هذا المتكلم عتاب ابن ورقاء، فحمل عليه فطعنه، فوقع وقتل، ووطئت الخيل زهرة بن حوية، فأخذ يذبب بسيفه، وهو شيخ كبير لا يستطيع أن ينهض، فجاءه الفضل بن عامر الشيباني فقتله، وانتهى إليه شبيب، فوجده صريعا فعرفه، فقال: من قتل هذا؟ قال الفضل: أنا قتلته، فقال شبيب: هذا زهرة بن حوية، أما والله لئن كنت قتلت على ضلالة، لرب يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك، وعظم فيه غناؤك، ولرب خيل للمشركين هزمتها، وسرية لهم ذعرتها، ومدينة لهم فتحتها! ثم كان في علم الله أن تقتل ناصرا للظالمين. وقتل يومئذ وجوه العرب من عسكر العراق في المعركة: واستمكن شبيب من أهل العسكر، فقال: ارفعوا عنهم السيف، ودعاهم إلى البيعة، فبايعه الناس عامة من ساعتهم، واحتوى على جميع ما في العسكر، وبعث إلى أخيه وهو بالمدائن، فأتاه فأقام بموضع المعركة يومين، ودخل سفيان بن الأبرد الكلبي، وحبيب بن عبد الرحمن فيمن معهما
(1) سورة الأعراف 175 267 إلى الكوفة، فشدوا ظهر الحجاج، واستغنى بهم عن أهل العراق، ووصلته أخبار عتاب وعسكره، فصعد المنبر، فقال: يا أهل الكوفة، لا أعز الله من أراد بكم العز، ولا نصر من أراد منكم النصر، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا، والحقوا بالحيرة، فانزلوا مع اليهود والنصارى، (1 ولا يقاتلن معنا إلا من لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء 1). وخرج شبيب يريد الكوفة، فانتهى إلى سورا (2)، فقال لأصحابه: أيكم يأتيني برأس عاملها، فانتدب إليه قطين، وقعنب، وسويد، ورجلان من أصحاب شبيب، فكانوا خمسة، وساروا حتى انتهوا إلى دار الخراج، والعمال فيها، فقالوا: أجيبوا الأمير، فقال الناس: أي أمير؟ قالوا: أمير قد خرج من قبل الحجاج، يريد هذا الفاسق شبيبا، فاغتر بذلك عامل سورا، فخرج إليهم فلما خالطهم شهروا السيوف، وحكموا وخبطوه بها حتى قتلوه، وقبضوا ما وجدوا في دار الخراج من مال، ولحقوا بشبيب. فلما رأى شبيب البدر، قال: أتيتمونا بفتنة المسلمين! هلم يا غلام الحربة، فخرق بها البدر، وأمر أن تنخس الدواب التي كانت البدر عليها، فمرت رائحة، والمال يتناثر من البدر، حتى وردت الصراة، فقال: إن كان بقي شئ فاقذفوه في الماء. * * * وقال سفيان بن الأبرد للحجاج: ابعثني إلى شبيب أستقبله قبل أن يرد الكوفة، فقال: لا، ما أحب أن نفترق حتى ألقاه في جماعتكم، والكوفة في ظهرنا، وأقبل شبيب حتى نزل حمام أعين، دعا الحجاج الحارث بن معاوية بن أبي زرعة بن مسعود الثقفي فوجهه في ناس لم يكونوا شهدوا يوم عتاب. فخرج في ألف رجل، حتى انتهى إلى شبيب ليدفعه عن الكوفة، فلما رآه شبيب حمل عليه فقتله، وفل أصحابه. فجاءوا حتى دخلوا
(1 - 1) الطبري: (ولا تقاتلوا معنا إلا من كان لنا عاملا، ومن لم يكن شهد قتال عتاب بن ورقاء). (2) سورا: كورة قريبة من الفرات. 268 الكوفة، وبعث شبيب البطين في عشرة فوارس يرتادون له منزلا على شاطئ الفرات، في دار الرزق، فوجه الحجاج حوشب بن يزيد، في جمع من أهل الكوفة، فأخذوا بأفواه السكك، فقاتلهم البطين فلم يقو عليهم، فبعث إلى شبيب، فأمده بفوارس من أصحابه، فعقروا فرس حوشب وهزموه، فنجا بنفسه، ومضى البطين إلى دار الرزق في أصحابه، ونزل شبيب بها، ولم يوجه إليه الحجاج أحدا، فابتنى مسجدا في أقصى السبخة، وأقام ثلاثا لم يوجه إليه الحجاج أحدا، ولا يخرج إليه من أهل الكوفة، ولا من أهل الشام أحد، وكانت امرأته غزالة نذرت أن تصلى في مسجد الكوفة ركعتين، تقرأ فيهما بالبقرة وآل عمران (1). * * * فجاء شبيب مع امرأته حتى أوفت بنذرها في المسجد، وأشير على الحجاج أن يخرج بنفسه إليه، فقال لقتيبة بن مسلم: إني خارج، فأخرج أنت، فارتد لي معسكرا، فخرج وعاد، فقال: وجدت المدى سهلا، فسر أيها الأمير على اسم الله والطائر الميمون، فخرج الحجاج بنفسه، ومر على مكان فيه كناسة وأقذار، فقال: ألقوا لي هنا بساطا، فقيل له: إن الموضع قذر، فقال: ما تدعوني إليه أقذر، الأرض تحته طيبة، والسماء فوقة طيبة. ووقف هناك وأخرج مولى له يعرف بأبي الورد، وعليه تجفاف (2)، وأحاط به غلمان كثير، وقيل: هذا الحجاج، فحمل عليه شبيب فقتله، وقال: إن يكن الحجاج، فقد أرحت الناس (3) منه، ودلف الحجاج نحوه حينئذ، وعلى ميمنته مطر بن ناجية، وعلى ميسرته خالد بن عتاب بن ورقاء، وهو في زهاء أربعة آلاف، فقيل له: أيها الأمير لا نعرف
(1) بعدها في الطبري: (ففعلت). (2) التجفاف: آلة للحرب يلبسها الفارس في الحرب للوقاية: كأنها درع (3) الطبري: (أرحتكم). 269 شبيبا بمكانك، فتنكر، وأخفى مكانه، وتشبه به مولى آخر للحجاج في هيئته وزيه، فحمل عليه شبيب، فضربه بالعمود فقتله، ويقال إنه قال لما سقط: (أخ) بالخاء المعجمة فقال شبيب: قاتل الله ابن أم الحجاج! اتقى الموت بالعبيد، وذلك أن العرب تقول عند التأوه (أح) بالحاء المهملة. ثم تشبه بالحجاج أعين صاحب حمام أعين، ولبس لبسته، فحمل عليه شبيب فقتله، فقال الحجاج: على بالبغل لأركبه، فأتى ببغل محجل، وقيل: أيها الأمير، أصلحك الله! إن الأعاجم كانت تتطير أن تركب مثل هذا البغل في مثل هذا اليوم، فقال: أدنوه منى فإنه أغر محجل، وهذا يوم أغر محجل، فركبه، ثم سار في الناس يمينا وشمالا ثم قال: اطرحوا لي عباءة، فطرحت له، فنزل فجلس عليها، ثم قال: ائتوني بكرسي، فأتى به، فقام فجلس عليه، ثم نادى أهل الشام، فقال: يا أهل الشام، يا أهل السمع والطاعة، لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم، غضوا الابصار، واجثوا على الركب، واستقبلوا القوم بأطراف الأسنة، فجثوا على الركب، وكأنهم حرة سوداء. ومنذ هذا الوقت ركدت ريح شبيب، وأذن الله تعالى في إدبار أمره، وانقضاء أيامه فأقبل، حتى إذا دنا من أهل الشام عبى أصحابه ثلاثة كراديس، كتيبة معه، وكتيبة مع سويد بن سليم وكتيبة مع المحلل بن وائل، وقال لسويد: احمل عليهم في خيلك، فحمل عليهم فثبتوا له حتى إذا غشى أطراف أسنتهم، وثبوا في وجهه، فقاتلهم طويلا، فصبروا له، ثم طاعنوه، قدما قدما، حتى ألحقوه بأصحابه. فلما رأى شبيب صبرهم، نادى: يا سويد، احمل في خيلك في هذه الرايات الأخرى، لعلك تزيل أهلها، فتأتي الحجاج من ورائه، ونحمل نحن عليه من أمامه. فحمل سويد على تلك الرايات، وهي بين جدران الكوفة، فرمى بالحجارة من سطوح البيوت، ومن أفواه السكك، فانصرف ولم يظفروا.
270 ورماه عروة بن المغيرة بن شعبة بالسهام، وقد كان الحجاج جعله في ثلاثمائة رام من أهل الشام ردءا له كي لا يؤتى من ورائه، فصاح شبيب في أصحابه. يا أهل الاسلام! إنما شريتم لله، ومن يكن شراؤه لله لم يضره ما أصابه من ألم وأذى (1)، لله أبوكم! الصبر الصبر، شدة كشداتكم الكريمة في مواطنكم المشهورة. فشدوا شدة عظيمة، فلم يزل أهل الشام عن مراكزهم، فقال شبيب: الأرض! دبوا دبيبا تحت تراسكم، حتى إذا صارت أسنة أصحاب الحجاج فوقها، فأذلقوها صعدا، وادخلوا تحتها، واضربوا سوقهم وأقدامهم، وهي الهزيمة بإذن الله. فأقبلوا يدبون دبيبا تحت الحجف: صمدا صمدا، نحو أصحاب الحجاج. فقال خالد بن عتاب بن ورقاء: أيها الأمير، أنا موتور، ولا أتهم في نصيحتي (2)، فأذن لي حتى آتيهم من ورائهم، فأغير على معسكرهم وثقلهم، فقال: افعل ذلك (3)، فخرج في جمع من مواليه وشاكريته (4) وبنى عمه، حتى صار من ورائهم، فالتقى بمصاد أخي شبيب فقتله، وقتل غزالة امرأة شبيب، وألقى النار في معسكرهم، والتفت شبيب والحجاج، فشاهدا النار، فأما الحجاج فكبر وكبر أصحابه، وأما شبيب، فوثب هو وكل راجل من أصحابه على خيولهم مرعوبين، فقال الحجاج لأصحابه: شدوا عليهم، فقد أتاهم ما أرعبهم، فشدوا عليهم، فهزموهم، وتخلف شبيب في خاصة الناس، حتى خرج من الجسر، وتبعه خيل الحجاج، وغشيه النعاس، فجعل يخفق برأسه، والخيل تطلبه. قال أصغر الخارجي (5): كنت معه ذلك اليوم، فقلت: يا أمير المؤمنين، التفت
(1) الطبري: (ومن شرى الله لم يكبر عليه ما أصابه من الأذى). (2) الطبري: (في نصيحة). (3) الطبري: (ما بدا لك). (4) الشاكرية: جمع شاكري. وهو الأجير. (5) في الطبري: (قال هشام: فحدثني أصغر الخارجي، قال: حدثني من كان مع شبيب...) 271 فانظر من خلفك، فالتفت غير مكترث، وجعل (1) يخفق برأسه. قال: ودنوا منا، فقلت: يا أمير المؤمنين، قد دنا القوم منك، فالتفت والله ثانية غير مكترث بهم، وجعل يخفق برأسه، وبعث الحجاج خيلا تركض تقول: دعوه يذهب في حرق الله، فتركوه وانصرفوا عنه (2). ومضى شبيب بأصحابه، حتى قطعوا جسر المدائن، فدخلوا ديرا هناك، وخالد بن عتاب يقفوهم، فحصرهم في الدير، فخرج شبيب إليه فهزمه وأصحابه نحوا من فرسخين، حتى ألقى خالد نفسه في دجلة هو وأصحابه بخيولهم، فمر به شبيب، فرآه في دجلة، ولواؤه في يده، فقال: قاتله الله فارسا، وقاتل فرسه! فرس هذا أشد الناس قوة، وفرسه أقوى فرس في الأرض، وانصرف، فقيل له بعد انصرافه: إن الفارس الذي رأيت هو خالد بن عتاب بن ورقاء، فقال: معرق في الشجاعة! لو علمت لأقحمت خلفه، ولو دخل النار. ثم دخل الحجاج الكوفة بعد هزيمة شبيب، فصعد المنبر، وقال: والله ما قوتل شبيب قط قبل اليوم، ولى هاربا، وترك امرأته يكسر في استها القصب. ثم دعا حبيب بن عبد الرحمن فبعثه في أثره في ثلاثة آلاف من أهل الشام، وقال: احذر بياته، وحيثما لقيته فنازله، فإن الله تعالى قد فل حده، وقصم نابه. فخرج حبيب في أثره، حتى نزل الأنبار، وبعث الحجاج إلى العمال: أن دسوا إلا أصحاب شبيب، من جاءنا منكم فهو آمن، فكان كل من ليست له بصيرة في دين الخوارج، ممن هزه (3) القتال. وكرهه ذلك اليوم يجئ فيؤمن. وقبل ذلك كان الحجاج نادى يوم هزم شبيب: من جاءنا فهو آمن، فتفرق عن شبيب ناس كثير من أصحابه.
(1) الطبري: (ثم أكب يخفق برأسه). (2) الطبري: (ورجعوا). (3) الطبري: (هذه القتال). 272 وبلغ شبيبا منزل حبيب بن عبد الرحمن بالأنبار، فأقبل بأصحابه حتى دنا منه، فقال يزيد السكسكي (1): كنت مع أهل الشام بالأنبار ليلة جاءنا شبيب، فبيتنا، فلما أمسينا جمعنا حبيب بن عبد الرحمن، فجعلنا أرباعا، وجعل على كل ربع أميرا، وقال لنا: ليحم (2) كل ربع منكم جانبه، فإن قتل هذا الربع فلا يعنهم الربع الاخر، فإنه بلغني أن الخوارج منكم قريب، فوطنوا أنفسكم على أنكم مبيتون فمقاتلون، قال: فما زلنا على تعبيتنا حتى جاءنا شبيب تلك الليلة فبيتنا، فشد على (3 ربع منا فصابرهم طويلا، فما زالت قدم إنسان منهم. ثم تركهم وأقبل إلى ربع آخر، فقاتلهم طويلا فلم يظفر بشئ، ثم طاف بنا يحمل علينا ربعا ربعا، حتى ذهب ثلاثة أرباع الليل 3) ولصق بنا 4) حتى قلنا: لا يفارقنا، ثم ترجل فنازلنا راجلا نزالا طويلا هو وأصحابه، فسقطت والله بيننا وبينهم الأيدي والأرجل، وفقئت الأعين، وكثرت القتلى، فقتلنا منهم نحو ثلاثين، وقتلوا منا نحو مائة، وأيم الله لو كانوا أكثر من مائتي رجل لأهلكونا، ثم فارقونا وقد مللناهم وملونا، وكرهناهم وكرهونا، ولقد رأيت الرجل منا يضرب الرجل منهم بالسيف فما يضره من الإعياء والضعف، ولقد رأيت الرجل منا يقاتل جالسا ينفخ بسيفه ما يستطيع أن يقوم من الإعياء والبهر. حتى ركب شبيب، وقال لأصحابه الذين نزلوا معه: اركبوا، وتوجه بهم منصرفا عنا. فقال فروة بن لقيط الخارجي - وكان شهد معه مواطنه كلها - قال لنا ليلتئذ، وقد رأى
(1) في الطبري: (قال أبو مخنف، فحدثني أبو يزيد السكسكي قال). (2) الطبري: (ليجز كل ربع). (3 - 3) الطبري: (فشد على ربع منا، عليهم عثمان بن سعيد العذري، فضاربهم طويلا، فما زالت قدم الانسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الاخر، وقد جعل عليهم سعد بن بجل العامري، فقاتلهم فما زالت قدم إنسان منهم، ثم تركهم وأقبل على الربع الاخر، وعليهم النعمان بن سعد الحميري، فما قدر منهم على شئ. ثم أقبل على الربع الاخر وعليهم ابن أقيصر الخثعمي، فقاتلهم طويلا، فلم يظفر بشئ، ثم أطاف بنا يحمل علينا، حتى ذهب ثلاثة أرباع لليل). (4) الطبري: (وألز بنا). 273 بنا كآبة ظاهرة، وجراحات شديدة: ما أشد هذا الذي بنا لو كنا نطلب الدنيا! وما أيسر هذا في طاعة الله وثوابه! فقال أصحابه: صدقت يا أمير المؤمنين. قال فروة بن لقيط: وسمعته تلك الليلة يحدث سويد بن سليم، ويقول له: لقد قتلت منهم أمس رجلين من أشجع (1) الناس، خرجت عشية أمس طليعة لكم، فلقيت منهم ثلاثة نفر دخلوا قرية يشترون منها حوائجهم، فاشترى أحدهم حاجته، وخرج قبل أصحابه فخرجت معه، فقال لي: أراك لم تشتر علفا (2)! فقلت: إن لي رفقاء قد كفوني ذلك، ثم قلت له: أين ترى عدونا [هذا نزل] (3)؟ فقال: بلغني أنه قد نزل قريبا منا، وأيم الله لوددت أنى لقيت شبيبهم هذا، قلت: أفتحب ذلك؟ قال: أي والله، قلت: فخذ حذرك، فأنا والله شبيب، وانتضيت السيف، فخر والله ميتا [فقلت له: ارتفع ويحك! وذهبت أنظر فإذا هو قد مات] (3) فانصرفت راجعا، فاستقبلت الاخر خارجا من القرية، فقال: أين تذهب هذه الساعة التي يرجع فيها الناس إلى معسكرهم؟ فلم أكلمه، ومضيت، فنفرت بي فرسي، وذهبت تتمطر (4)، فإذا به في أثرى حتى لحقني، فعطفت عليه، وقلت: ما بالك؟ قال: أظنك والله من عدونا. قلت: أجل والله، قال: إذا لا تبرح حتى أقتلت أو تقتلني، فحملت عليه وحمل على، فاضطربنا بسيفينا ساعة، فوالله ما فضلته في شدة نفس ولا إقدام، إلا أن سيفي كان أقطع من سيفه فقتلته. * * * وبلغ شبيبا أن جند الشام الذي مع حبيب حملوا معهم حجرا، وحلفوا لا يفرون حتى يفر هذا الحجر، فأراد أن يكذبهم، فعمد إلى أربعة أفراس، وربط في أذنابها ترسة،
(1) الطبري: (قتلت منهم أمس رجلين: أحدهما أشجع الناس، والاخر أجبن الناس). (2) الطبري: (كأنك لم تشتر علفا). (3) من الطبري. (4) تتمطر: تسرع في جريها. 274 في ذنب كل فرس ترسين، ثم ندب ثمانية نفر من أصحابه، وغلاما له يقال له حيان - كان شجاعا فاتكا - وأمره أن يحمل معه إداوة من ماء، ثم سار ليلا حتى أتى ناحية من عسكر أهل الشام، فأمر أصحابه أن يكونوا في نواحي العسكر الأربع، وأن يكون مع كل رجلين فرس: ثم يلبسوها الحديد حتى تجد حره، ثم يخلوها في العسكر، وواعدهم تلعة قريبة من العسكر، وقال: من نجا منكم، فإن موعده التلعة، فكره أصحابه الاقدام على ما أمرهم، فنزل بنفسه حتى صنع بالخيل ما أمرهم به، حتى دخلت في العسكر، ودخل هو يتلوها، ويشد خلفها شدا محكما، فتفرقت في نواحي العسكر، واضطرب الناس، فضرب بعضهم بعضا، وماجوا، ونادى حبيب بن عبد الرحمن: ويحكم إنها مكيدة! فالزموا الأرض حتى يتبين لكم الامر، ففعلوا، وحصل شبيب بينهم، فلزم الأرض معهم، حتى رآهم قد سكنوا، وقد أصابته ضربة عمود أوهنته. فلما هدأ الناس ورجعوا إلى مراكزهم خرج في غمارهم، حتى أتى التلعة، فإذا مولاه حيان، فقال: أفرغ ويحك على رأسي من هذه الإداوة! فلما مد رأسه ليصب عليه من الماء هم حيان بضرب عنقه، وقال لنفسه: لا أجد مكرمة لي، ولا ذكرا أرفع من هذا في هذه الخلوة، وهو أماني من الحجاج، فأخذته الرعدة حين هم بما هم به، فلما أبطأ عليه، قال له: ويحك! ما انتظارك بحلها! ناولنيها، وتناول السكين من موزجه (1) فخرقها به، ثم ناوله إياها، فأفرغ عليه من الماء، فكان حيان بعد ذلك يقول: لقد هممت فأخذتني الرعدة فجبنت عنه، وما كنت أعهد نفسي جبانا. * * * ثم إن الحجاج أخرج الناس إلى شبيب، وقسم فيهم أموالا عظيمة، وأعطى الجرحى وكل ذي بلاء، وأمر سفيان بن الأبرد أن يسير بهم، فشق ذلك على حبيب،
(1) الموزج: الخف. 275 ابن عبد الرحمن، وقال: تبعث سفيان إلى رجل قد فللته، وقتلت فرسانه! وكان شبيب قد أقام بكرمان حتى جبر، واستراش هو وأصحابه، فمضى سفيان بالرجال، واستقبله شبيب بدجيل الأهواز، وعليه جسر معقود، فعبر إلى سفيان، فوجده قد نزل بالرجال، وجعل مهاصر (1) بن صيفي على خيله، وبشر بن حسان (1) الفهري على ميمنته، وعمر بن هبيرة الفزاري على ميسرته، وأقبل شبيب في ثلاثة كراديس، هو في كتيبة، وسويد بن سليم في كتيبة، وقعنب في كتيبة، وخلف المحلل في عسكره، فلما حمل سويد وهو في ميمنته على ميسرة سفيان وقعنب وهو في ميسرته على ميمنة سفيان، حمل هو على سفيان، ثم اضطربوا مليا، حتى رجعت الخوارج إلى مكانها الذي كانوا فيه. فقال يزيد السكسكي - وكان من أصحاب سفيان يومئذ: كر علينا شبيب وأصحابه أكثر من ثلاثين كرة، ولا يزول من صفنا أحد، فقال لنا سفيان: لا تحملوا عليهم متفرقين، ولكن لتزحف عليهم الرجال زحفا، ففعلنا، وما زلنا نطاعنهم حتى اضطررناهم إلى الجسر، فقاتلونا عليه أشد قتال يكون لقوم قط. ثم نزل شبيب، ونزل معه نحو مائة رجل، فما هو إلا أن نزلوا حتى أوقعوا بنا من الضرب والطعن شيئا ما رأينا مثله قط، ولا ظنناه يكون، فلما رأى سفيان أنه لا يقدر عليهم، ولا يأمن ظفرهم، دعا الرماة فقال: ارشقوهم بالنبل، وذلك عند المساء، وكان الالتقاء ذلك اليوم نصف النهار، فرشقهم أصحابه، وقد كان سفيان صفهم على حدة، وعليهم أمير، فلما رشقوهم شدوا عليهم، فشددنا نحن، وشغلناهم عنهم، فلما رأوا ذلك ركب شبيب وأصحابه، وكروا على أصحاب النبل كرة شديدة، صرعوا منهم فيها أكثر من ثلاثين راميا، ثم عطف علينا يطاعننا بالرماح، حتى اختلط الظلام، ثم انصرف عنا، فقال سفيان بن الأبرد لأصحابه:
(1) ب: (مضاض). 276 يا قوم، دعوهم لا تتبعوهم، يا قوم دعوهم لا تتبعوهم حتى نصبحهم. قال: فكففنا عنهم وليس شئ أحب إلينا من أن ينصرفوا عنا. قال فروة بن لقيط الخارجي: فلما انتهينا إلى الجسر، قال شبيب: اعبروا معاشر المسلمين فإذا أصبحنا باكرناهم إن شاء الله تعالى، قال: فعبرنا أمامه، وتخلف في آخرنا، وأقبل يعبر الجسر، وتحته حصان جموح، وبين يديه فرس أنثى ماذيانة، فنزا حصانه عليها وهو على الجسر، فاضطربت الماذيانة وزل حافر فرس شبيب عن حرف السفينة، فسقط في الماء، فسمعناه يقول لما سقط: (ليقضى الله أمرا كان مفعولا) (1) واغتمس (2) في الماء ثم ارتفع فقال: (ذلك تقدير العزيز العليم) (3) ثم اغتمس في الماء، فلم يرتفع. هكذا روى أكثر الناس. وقال قوم: إنه كان مع شبيب رجال كثير بايعوه في الوقائع التي كان يهزم الجيش فيها، وكانت بيعتهم إياه على غير بصيرة، وقد كان أصاب عشائرهم وساداتهم، فهم منه موتورون، فلما تخلف في أخريات الناس يومئذ، قال بعضهم لبعض: هل لكم أن نقطع به الجسر، فندرك ثأرنا الساعة! فقالوا: هذا هو الرأي، فقطعوا الجسر، فمالت به السفينة: ففزع حصانه ونفر، فسقط في الماء وغرق. والرواية الأولى أشهر، فحدث قوم من أصحاب سفيان، قالوا: سمعنا صوت الخوارج يقولون: غرق أمير المؤمنين، فعبرنا إلى عسكرهم، فإذا هو ليس فيه صافر (4) ولا أثر، فنزلنا فيه، وطلبنا شبيبا حتى استخرجناه من الماء، وعليه الدرع، فيزعم الناس أنهم
(1) سورة الأنفال 42 (2) الطبري: (ارتمس)، وهما بمعنى. (3) سورة يس 38 (4) هو مثل، يقال: (ما بالدار من صافر) أي أحد. 277 شقوا بطنه وأخرجوا قلبه فكان مجتمعا صلبا كالصخرة، وأنه كان يضرب به الأرض فينبو، ويثب قامة الانسان. ويحكى أن أم شبيب كانت لا تصدق أحدا نعاه إليها، وقد كان قيل لها مرارا إنه قد قتل فلا تقبل، فلما قيل لها: إنه قد غرق بكت، فقيل لها في ذلك، فقالت: رأيت في المنام حين ولدته أنه خرج من فرجى نار ملأت الآفاق، ثم سقطت في ماء فخمدت، فعلمت أنه لا يهلك إلا بالغرق (1). * * * وهذا آخر الجزء الرابع من شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ويتلوه الجزء الخامس إن شاء الله (2)
(1) وفي رواية أخرى ذكرها الطبري: (كان شبيب ينعى لامه، فيقال: قتل، فلا تقبل، فقيل لها: إنه غرق، فقبلت وقالت: إني رأيت حين ولدته أنه خرج منى شهاب نار، فعلمت أنه لا يطفئه إلا الماء). (2) هذا آخر ما ورد في نسخة (ج)، وجاء في آخر نسخة (ب): (وهذا آخر الجزء الرابع من شرح نهج البلاغة، ويتلوه الجزء الخامس إن شاء الله تعالى. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيد الأنبياء وسند الأصفياء محمد وآله الطيبين الطاهرين). 278