بیشترتوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الكتاب: تفسير أبي السعود المؤلف: أبي السعود الجزء: 5 الوفاة: 951 المجموعة: مصادر التفسير عند السنة تحقيق: الطبعة: سنة الطبع: المطبعة: دار إحياء التراث العربي - بيروت الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت ردمك: ملاحظات: الناشر : دار المصحف - مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد / 13 شارع الصنادقية بالأزهر - ص ب 406 بالقاهرة - مركز التوزيع بلبنان - بناية صالحة وصمدى بشارع سوريا ببيروت تفسير أبي السعود المسمى إرشاد العقل السليم إلي مزايا القرآن الكريم لقاضي القضاة الإمام أبي السعود محمد بن محمد العمادي المتوفى سنة 951 هجرية الجزء الخامس الناشر دار المصحف - مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد 13 شارع الصنادقية بالأزهر - ص ب 406 بالقاهرة مركز التوزيع بلبنان - بناية صالحة وصمدي بشارع سوريا ببيروت
1 سورة الرعد مدنية وقيل مكية إلا قوله ويقول الذين كفروا الآية وآيها ثلاث وأربعون «بسم الله الرحمن الرحيم» «المر» اسم للسورة ومحله إما الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هذه السورة مسماة بهذا الاسم وهو أظهر من الرفع على الابتداء إذ لم يسبق العلم بالتسمية كما مر مرارا وقوله تعالى «تلك» على الوجه الأول مبتدأ مستقل وعلى الوجه الثاني مبتدأ ثان أو بدل من الأول أشير به إليه إيذانا بفخامته وأما النصب بتقدير فعل يناسب المقام نحو اقرأ أو اذكر فتلك مبتدأ كما إذا جعل المر مسرودا على نمط التعديد أو بمعنى أنا الله أعلم وأرى على ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما والخبر على التقادير قوله تعالى «آيات الكتاب» أي الكتاب العجيب الكامل الغني عن الوصف به المعروف بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به فهو عبارة عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزل حينئذ حسبما مر في مطلع سورة يونس إذ هو المتبادر من مطلق الكتاب المستغنى عن النعت وبه يظهر ما أريد من وصف الآيات بوصف ما أضيفت إليه من نعوت الكمال بخلاف ما إذا جعل عبارة عن السورة فإنها ليست بتلك المثابة من الشهرة في الاتصاف بذلك المغنية عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها وفيه مالا يخفى من التعسف الذي مر تفصيله في سورة يونس «والذي أنزل إليك من ربك» أي الكتاب المذكور بكماله لا هذه السورة وحدها «الحق» الثابت المطابق للواقع في كل ما نطق به الحقيق بأن يخص به الحقية لعراقته فيها وليس فيه ما يدل على إن ما عداه ليس بحق أصلا على أن حقيته مستتبعة لحقية سائر الكتب السماوية لكونه مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه وفي التعبير عنه بالموصول وإسناد الإنزال إليه بصيغة المبني للمفعول والتعرض لوصف الربوبية مضافا إلى ضميره عليه السلام من الدلالة على فخامة المنزل التابعة لجلالة شأن المنزل وتشريف المنزل إليه والإيماء إلى وجه بناء الخبر مالا يخفى «ولكن أكثر الناس لا يؤمنون» بذلك الحق المبين لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه فعدم إيمانهم متعلق بعنوان حقيته لأنه المرجع للتصديق والتكذيب لا بعنوان كونه منزلا كما قيل ولأنه وارد على طريقة الوصف دون الأخبار «الله الذي رفع السماوات»
2 أي خلقهن مرتفعات على طريقة قولهم سبحان من كبر الفيل وصغر البعوض لا أنه رفعها بعد أن لم تكن كذلك والجملة مبتدأ وخبر كقوله وهو الذي مد الأرض «بغير عمد» أي بغير دعائم جمع عماد كإهاب وأهب وهو ما يعمد به أي يسند يقال عمدت الحائط أي أدعمته وقرئ عمد على جمع عمود بمعنى عماد كرسل ورسول إيراد صيغة الجمع لجمع السماوات لا لأن المنفي عن كل واحدة منها عمد لا عماد «ترونها» استئناف استشهد به على ما ذكر من رفع السماوات بغير عمد وقيل صفة لعمد جيء بها إيهاما لأن لها عمدا غير مرئية هي قدرة الله تعالى «ثم استوى» أي استولى «على العرش» بالحفظ والتدبير أو استوى أمره وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله عز وجل بلا كيف وأياما كان فليس المراد به القصد إلى إيجاد العرش وخلقه فلا حاجة إلى جعل كلمة ثم للتراخي في الرتبة «وسخر الشمس والقمر» ذللهما وجعلهما طائعين لما أريد منهما من الحركات وغيرها «كل» من الشمس والقمر «يجري» حسبما أريد منها «لأجل مسمى» لمدة معينة فيها تتم دورته كالسنة للشمس والشهر للقمر فان كل منهما يجري كل يوم على مدار معين من المدارات اليومية أو لمدة ينتهي فيها حركاتهما ويخرج جميع ما أريد منهما من القوة إلى الفعل أو لغاية يتم عندها ذلك والجملة بيان لحكم تسخيرهما «يدبر» بما صنع من الرفع والاستواء والتسخير أي يقضي ويقدر حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة «الأمر» الخلق كله وأمر ملكوته وربوبيته «يفصل الآيات» الدلالة على كمال قدرته وبالغ حكمته أي يأتي بها مفصلة وهي ما ذكر من الأفعال العجيبة وما يتلوها من الأوضاع الفلكية الحادثة شيئا فشيئا المستتبعة للآثار الغريبة في السفليات على موجب التدبير والتقدير فالجملتان إما حالان من ضمير استوى وقوله وسخر الشمس والقمر من تتمة الاستواء وإما مفسرتان له أو الأولى حال منه والثانية من الضمير فيها أو كلاهما من ضمائر الأفعال المذكورة وقوله كل يجري لأجل مسمى من تتمة التسخير أو خبران عن قوله الله خبرا بعد خبر والموصول صفة للمبتدأ جيء به للدلالة على تحقيق الخبر وتعظيم شأنه كما في قول الفرزدق * إن الذي سمك السماء بنى لنا * بيتا دعائمه أعز وأطول * «لعلكم» عند معاينتكم لها وعثوركم على تفاصيلها «بلقاء ربكم» بملاقاته للجزاء «توقنون» فان من تدبرها حق التدبر أيقن أن من قدر على إبداع هذه الصنائع البديعة على كل شيء قدير وأن لهذه التدبيرات المتينة عواقب وغايات لا بد من وصولها وقد بينت على ألسنة الأنبياء عليهم السلام أن ذلك ابتلاء المكلفين ثم جزاؤهم حسب أعمالهم فإذن لا بد من الإيقان بالجزاء ولما قرر الشواهد العلوية أردفها بذكر الدلائل السفلية فقال (وهو الذي مد الأرض) أي بسطها طولا وعرضا قال الأصم المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه ففيه دلالة على بعد مداها وسعة أقطارها «وجعل فيها رواسي» أي جبالا ثوابت في أحيازها من الرسو وهو ثبات الأجسام الثقيلة ولم يذكر الموصوف لإغناء غلبة الوصف بها
3 عن ذلك وانحصار مجيء فواعل جمعا لفاعل في فوارس وهوالك ونواكس إنما هو في صفات العقلاء وأما في غيرهم فلا يراعى ذلك أصلا كما في قوله تعالى أياما معدودات وقوله الحج أشهر معلومات إلى غير ذلك فلا حاجة إلى أن يجعل مفردها صفة لجمع القلة أعنى أجبلا ويعتبر في جمع الكثرة أعنى جبالا انتظامها لطائفة من جموع القلة وتنزيل كل منها منزلة مفردها كما قيل على أنه لا مجال لذلك فان جمعية كل من صبغتي الجمعين إنما هي باعتبار الأفراد التي تحتها لا باعتبار انتظام جمع القلة للأفراد وجمع الكثرة لجموع القلة فكل منها جمع جبل لا أن جبالا جمع أجبل كما أن طوائف جمع طائفة ولا إلى أن يلتجأ إلى جعل الوصف المذكور بالغلبة في عداد الأسماء التي تجمع على فواعل كما ظن على أنه لا وجه له لما أن الغلبة إنما هي في الجمع دون المفرد والتعبير عن الجبال بهذا العنوان لبيان تفرع قرار الأرض على ثباتها «وأنهارا» مجاري واسعة والمراد ما يجري فيها من المياه وفي نظمها مع الجبال في معمولية فعل واحد إشارة إلى أن الجبال منشأ للأنهار وبيان لفائدة أخرى للجبال غير كونها حافظة للأرض عن الاضطراب المخل بثبات الإقدام وتقلب الحيوان متفرعة على تمكنه وتقلبه وهي تعيشه بالماء والكلأ «ومن كل الثمرات» متعلق بجعل في قوله تعالى «جعل فيها زوجين اثنين» أي اثنينية حقيقية وهما الفردان اللذان كل منهما زوج الآخر وأكد به الزوجين لئلا يفهم أن المراد بذلك الشفعان إذ يطلق الزوج على المجموع ولكن اثنينية ذلك اثنينية اعتبارية أي جعل من كل نوع من أنواع الثمرات الموجودة في الدنيا ضر بين صنفين إما في اللون كالأبيض والأسود أو في الطعم كالحلو والحامض أو في القدر كالصغير والكبير أو في الكيفية كالحار والبارد وما أشبه ذلك ويجوز أن يتعلق بجعل الأول ويكون الثاني استئنافا لبيان كيفية ذلك الجعل «يغشي الليل النهار» استعارة تبعية تمثيلية مبنية على تشبيه إزالة نور الجو بالظلمة بتغطية الأشياء الظاهرة بالأغطية أي يستر النهار بالليل والتركيب وان احتمل العكس أيضا بالحمل على تقديم المفعول الثاني على الأول فان ضوء النهار أيضا ساتر لظلمة الليل إلا أن الأنسب بالليل أن يكون هو الغاشي وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وان كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا باعتبار أن ظهوره في الأرض فان الليل إنما هو ظلها وفيما فرق موقع ظلها لا ليل أصلا ولأن الليل والنهار لهما تعلق بالثمرات من حيث العقد والإنضاج على أنهما أيضا زوجان متقابلان مثلها وقرئ يغشى من التغشية «إن في ذلك» أي فيما ذكر من مد الأرض وايتادها بالرواسي وإجراء الأنهار وخلق الثمرات وإغشاء الليل النهار وفي الإشارة بذلك تنبيه على عظم شأن المشار إليه في بابه (لآيات) باهرة وهي آثار تلك الأفاعيل البديعة جلت حكمت صانعها ففي على معناها فان تلك الآثار مستقرة في تلك الأفاعيل منوطة بها ويجوز أن يشار بذلك إلى تلك الآثار المدلول عليها بتلك الأفاعيل ففي تجريدية «لقوم يتفكرون» فان التفكر فيها يؤدى إلى الحكم بأن تكوين كل من ذلك على هذا النمط الرائق والأسلوب اللائق لا بد له من مكون قادر حكيم يفعل ما يشاء ويختار ما يريد لا معقب لحكمه وهو الحميد المجيد
4 «وفي الأرض قطع» جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أي بقاع كثيرة مختلفة في الأوصاف فمن طيبة إلى سبخة وكريمة إلى زهيدة وصلبة إلى رخوة إلى غير ذلك «متجاورات» أي متلاصقات وفي بعض المصاحف قطعا متجاورات أي جعل في الأرض قطعا «وجنات من أعناب» أي بساتين كثيرة منها «وزرع» من كل نوع من أنواع الحبوب وإفراده لمراعاة أصله ولعل تقديم ذكر الجنات عليه مع كونه عمود المعاش لظهور حالها في اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها وتأخير قوله تعالى «ونخيل» لئلا يقع بينها وبين صفتها وهي قوله تعالى «صنوان وغير صنوان» فاصلة والصنوان جمع صنو كقنوان وقنو وهي النخلة التي لها رأسان وأصلها واحد وقرئ بضم الصاد على لغة بني تميم وقيس وقرئ جنات بالنصب عطفا على زوجين وبالجر على كل الثمرات فلعل عدم نظم قوله تعالى وفي الأرض قطع متجاورات في هذا السلك مع أن اختصاص كل من تلك القطع بما لها من الأحوال والصفات بمحض جعل الخالق الحكيم جلت قدرته حين مد الأرض ودحاها للإيماء إلى كون تلك الأحوال صفات راسخة لتلك القطع وقرئ وزرع ونخيل بالجر عطفا على أعناب أو جنات «يسقى» أي ما ذكر من القطع والجنات والزرع والنخيل وقرئ بالتأنيث مراعاة للفظ والأول أوفق بمقام بيان اتحاد الكل في حالة السقي «بماء واحد» اختلاف في طبعه سواء كان السقي بماء الأمطار أو بماء الأنهار «ونفضل» مع تآخذ أسباب التشابه بمحض قدرتنا واختيارنا «بعضها على بعض» آخر منها «في الأكل» فيما يحصل منها من الثمر والطعم وقرئ بالياء على بناء الفاعل ردا على يدبر ويفصل ويغشى وعلى بناء المفعول وفيه مالا يخفى من الفخامة والدلالة على أن عدم احتمال استناد الفعل إلى فاعل آخر مغن عن بناء الفعل للفاعل «إن في ذلك» الذي فصل من أحوال القطع والجنات «لآيات» كثيرة عظيمة ظاهرة «لقوم يعقلون» يعلمون على قضية عقولهم فان من عقل هذه الأحوال العجيبة لا يتعلثم في الجزم بأن من قدر على إبداع هذه البدائع وخلق تلك الثمار المختلفة في الأشكال والألوان والطعوم والروائح في تلك القطع المتباينة المتجاورة وجعلها حدائق ذات بهجة قادر على إعادة ما أبداه بل هي أهون في القياس وهذه الأحوال وان كانت هي الآيات أنفسها لا أنها فيها إلا انه قد جردت عنها أمثالها مبالغة في كونها آية ففي تجريدية مثلها في قوله تعالى لهم فيها دار الخلد أو المشار إليه الأحوال الكلية والآيات أفرادها الحادثة شيئا فشيئا في الأزمنة وآحادها الواقعة في الأقطار والأمكنة المشاهدة لأهلها ففي على معناها وحيث كانت دلالة هذه الأحوال على مدلولاتها أظهر مما سبق علق كونها آيات بمحض التعقل ولذلك لم يتعرض لغير تفضيل بعضها على بعض في الأكل الظاهر لكل عاقل مع تحقق ذلك في الخواص والكيفيات مما يتوقف العثور عليه على نوع تأمل وتفكر كأنه لا حاجة في ذلك إلى التفكر أيضا وفيه تعريض بأن المشركين غير عاقلين
5 «وإن تعجب» يا محمد من شيء «فعجب» لا أعجب منه حقيق بأن يقصر عليه التعجب «قولهم» بعد مشاهدة ما عدد لك من الآيات الشاهدة بأنه تعالى على كل شيء قدير «أئذا كنا ترابا» على طريقة الاستفهام الإنكاري المفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار وهو في محل الرفع على البدلية من قولهم على أنه بمعنى المقول أو في محل النصب على المفعولية منه على أنه مصدر فالعجب على الأول كلامهم وعلى الثاني تكلمهم بذلك والعامل في إذا ما دل عليه قوله «أئنا لفي خلق جديد» وهو نبعث أو نعاد وتقديم الظرف لتقوية الإنكار بالبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له وتكرير الهمزة في قولهم أئنا لتأكيد الإنكار وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في الخلق الجديد بالفعل عند كونهم بعريضة ذلك واستعدادهم له وفيه من الدلالة على عتوهم وتماديهم في النكير ما لا يخفى وقيل إن تعجب من قولهم في إنكار البعث فعجب قولهم والمآل وان تعجب فقد تعجبت في موضع التعجب وقيل وان تعجب من إنكارهم البعث فعجب قولهم الدال عليه فتأمل وقد جوز كون الخطاب لكل من يصلح له أي إن تعجب يا من ينظر في هذه الآيات من قدرة من هذه أفعاله فازدد تعجبا ممن ينكر مع هذه الدلائل قدرته تعالى على البعث وهو أهون من هذه والأنسب بقوله ويستعجلونك بالسيئة هو الأول وقوله تعالى فعجب خبر قدم على المبتدأ للقصر والتسجيل من أول الأمر بكون قولهم ذاك أمرا عجيبا ويجوز أن يكون مبتدأ لكونه موصوفا بالوصف المقدر كما أشير إليه فالمعنى وان تعجب فالعجب الذي لا عجب وراءه قولهم هذا فاعجب منه وعلى الأول وان تعجب فقولهم هذا عجب لا عجب فوقه «أولئك» مبتدأ والموصول خبره أي أولئك المنكرون لقدرته تعالى على البعث ريثما عاينوا ما فصل من الآيات الباهرة الملجئة لهم إلى الإيمان لو كانوا يبصرون «الذين كفروا بربهم» وتمادوا في ذلك فان إنكارهم لقدرته عز وجل كفر به وأي كفر «وأولئك» مبتدأ خبره قوله «الأغلال في أعناقهم» أي مقيدون بقيود الضلال لا يرجى خلاصهم أو مغلولون يوم القيامة «وأولئك» الموصوفون بما ذكر من الصفات «أصحاب النار هم فيها خالدون» لا ينفكون عنها وتوسيط ضمير الفصل ليس لتخصيص الخلود بمنكري البعث خاصة بل بالجميع المدلول عليه بقوله تعالى «أولئك الذين كفروا بربهم» «ويستعجلونك بالسيئة» بالعقوبة التي أنذروها وذلك حين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بالعذاب استهزاء منهم بإنذاره «قبل الحسنة» أي العافية والإحسان إليهم بالإمهال «وقد خلت من قبلهم المثلات» أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها ولا يحترزون حلول مثلها
6 بهم والجملة الحالية لبيان ركاكة رأيهم في الاستعجال بطريق الاستهزاء أي يستعجلونك بها مستهزئين بإنذارك منكرين لوقوع ما أنذرتهم إياه والحال أنه قد مضت العقوبات النازلة على أمثالهم من المكذبين والمستهزئين والمثلة بوزن السمرة العقوبة سميت بها لما بينها وبين المعاقب عليه من المماثلة ومنه المثال القصاص وقرئ المثلات بضمتين باتباع الفاء العين والمثلات بفتح الميم وسكون الثاء كما يقال السمرة والمثلات بضم الميم وسكون الثاء تخفيف المثلات جمع مثلة كركبة وركبات «وإن ربك لذو مغفرة» عظيمة «للناس على ظلمهم» أنفسهم بالذنوب والمعاصي ومحله النصب على الحالية أي ظالمين والعامل فيه المغفرة والمعنى إن ربك لغفور للناس لا يعجل لهم العقوبة وان كانوا ظالمين بل يمهلهم بتأخيرها «وإن ربك لشديد العقاب» يعاقب من يشاء منهم حين يشاء فتأخير ما استعجلوه ليس للإهمال وعنه عليه الصلاة والسلام لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ لأحد العيش ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد «ويقول الذين كفروا» وهم المستعجلون أيضا وإنما عدل عن الإضمار إلى الموصول ذما لهم ونعيا عليهم كفرهم بآيات الله تعالى التي تخر لها صم الجبال حيث لم يرفعوا لها رأسا ولم يعدوها من جنس الآيات وقالوا «لولا أنزل عليه آية من ربه» مثل آيات موسى وعيسى عليهما الصلاة السلام عنادا ومكابرة وإلا ففي أدنى آية أنزلت عليه الصلاة والسلام غنية وعبرة لأولي الألباب «إنما أنت منذر» مرسل للإنذار من سوء عاقبة ما يأتون ويذرون كدأب من قبلك من الرسل وليس عليك إلا الإتيان بما يعلم به نبوتك وقد حصل ذلك بما لا مزيد عليه ولا حاجة إلى إلزامهم وإلقامهم الحجر بالإتيان بما اقترحوا من الآيات «ولكل قوم هاد» معين لا بالذات بل بعنوان الهداية يعني لكل قوم نبي مخصوص له هداية مخصوصة يقتضي اختصاص كل منهم بما يختص به حكم لا يعلمها إلا الله أو لكل قوم هاد عظيم الشأن قادر على ذلك هو الله سبحانه وما عليك إلا إنذارهم فلا يهمنك عنادهم وإنكارهم للآيات المنزلة عليك وازدراؤهم بها ثم عقبه بما يدل على كمال علمه وقدرته وشمول قضائه وقدره المبنيين على الحكم والمصالح تنبها على أن تخصيص كل قوم بنبي وكل نبي بجنس معين من الآيات إنما هو للحكم الداعية إلى ذلك إظهارا لكمال قدرته على هدايتهم لكن لا يهدي آلا من تعلق بهدايته مشيئته التابعة لحكم استأثر بعلمها فقال «الله يعلم ما تحمل كل أنثى» أي تحمله فما موصولة أريد بها ما في بطنها من حين العلوق إلى زمن الولادة لا بعد تكامل الخلق فقط والعلم متعد إلى واحد أو أي شيء تحمل وعلى أي حال هو من الأحوال المتواردة عليه طورا فطورا فهي استفهامية معلقة للعلم أو حملها فهي مصدرية «وما تغيض الأرحام وما تزداد» أي تنقصه وتزداده في الجثة كالخديج والتام وفي المدة كالمولود في أقل مدة الحمل والمولود في أكثرها وفيما بينهما قيل إن الضحاك ولد في سنتين وهرم بن حيان في أربع ومن ذلك سمي هرما وفي العدد كالواحد فما فوقه يروى أن شريكا كان رابع أربعة أو يعلم نقصها وإزديادها
7 لما فيها فالفعلان متعديان كما في قوله تعالى «وغيض الماء» وقوله تعالى «وازدادوا تسعا» وقوله تزداد كيل بعير أولا زمان قد أسند إلى الأرحام مجازا وهما لما فيها «وكل شيء» من الأشياء «عنده بمقدار» بقدر لا يمكن تجاوزه عنه كقوله انا كل شيء خلقناه بقدر فان كل حادث من الأعيان والأعراض له في كل مرتبة من مراتب التكوين ومباديها وقت معين وحال مخصوص لا يكاد يجاوزه والمراد بالعندية الحضور العلمي بل العلم الحضوري فان تحقق الأشياء في أنفسها في أي مرتبة كانت من مراتب الوجود والاستعداد لذلك علم له بالنسبة إلى الله عز وجل «عالم الغيب» أي الغائب عن الحس «والشهادة» أي الحاضر له عبر عنهما بهما مبالغة وقيل أريد بالغيب المعدوم وبالشهادة الموجود وهو خبر مبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر وقرئ بالنصب على المدح وهذا كالدليل على ما قبله من قوله تعالى الله يعلم الخ «الكبير» العظيم الشأن الذي كل شيء دونه «المتعال» المستعلي على كل شيء بقدرته أو المنزه عن نعوت المخلوقات وبعد ما بين سبحانه أنه عالم بجميع أحوال الإنسان في مراتب فطرته ومحيط بعالمي الغيب والشهادة بين أنه تعالى عالم بجميع ما يأتون وما يذرون من الأفعال والأقوال وأنه لا فرق بالنسبة إليه بين السر والعلن فقال «سواء منكم من أسر القول» في نفسه «ومن جهر به» أظهره لغيره «ومن هو مستخف» مبالغ في الاختفاء كأنه مختف «بالليل» وطالب للزيادة «وسارب» بارز يراه كل أحد «بالنهار» من سرب سروبا أي برز وهو عطف على من هو مستخف أو على مستخف ومن عبارة عن الاثنين كما في قوله تعالى (فان عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان) كأنه قيل سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بالنهار والاستواء وان أسند إلي من أسر ومن جهر والى المستخفي والسارب لكنه في الحقيقة مسند إلي ما أسره وما جهر به أو والى الفاعل من حيث هو فاعل كما في الأخيرين وتقديم الأسرار والاستخفاء لإظهار كمال علمه تعالى فكأنه في التعلق بالخفيات أقدم منه بالظواهر والا فنسبته إلي الكل سواء لما عرفته آنفا «له» أي لكل ممن أسر أو جهر والمستخفي أو السارب «معقبات» ملائكة تعتقب في حفظه جمع معقبة من عقبه مبالغة عقبه إذا جاء على عقبه كأن بعضهم يعقب بعضا أو لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونه أو اعتقب فأدغمت التاء في القاف والتاء للمبالغة أو المراد بالمعقبات الجماعات وقرئ معاقيب جمع معقب أو معقبة على تعويض الياء من إحدى القافين «من بين يديه ومن خلفه» من جميع جوانبه أو من الأعمال ما قدم وأخر «يحفظونه من أمر الله» من بأسه حين أذنب بالاستمهال والاستغفار له أو يحفظونه من المضار أو
8 يراقبون أحوال من أجل أمر الله تعالى وقد قرىء به وقيل من بمعنى الباء وقيل من أمر الله صفة ثانية لمعقبات وقيل المعقبات الحراس والجلاوزة حول السلطان يحفظونه في توهمه من قضاء الله تعالى «إن الله لا يغير ما بقوم» من النعمة والعافية «حتى يغيروا ما بأنفسهم» من الأعمال الصالحة أو ملكاتها التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى أضدادها «وإذا أراد الله بقوم سوءا» لسوء اختيارهم واستحقاقهم لذلك «فلا مرد له» فلا رد له والعامل في إذا ما دل عليه الجواب «وما لهم من دونه من وال» يلي أمرهم ويدفع عنهم السوء الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم وفيه دلالة على أن تخلف مراده تعالى محال وإيذان بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية قد غيروا ما بأنفسهم من الفطرة واستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى وعذابه «هو الذي يريكم البرق خوفا» من الصاعقة «وطمعا» في المطر فوجه تقديم الخوف على الطمع ظاهر لما أن المخوف عليه النفس أو الرزق العتيد والمطموع فيه الرزق المترقب وقيل الخوف أيضا من المطر لكن الخائف منه غير الطامع فيه كالخزاف والحراث ويأباه الترتيب إلا أن يتكلف ما أشير إليه من أن المخوف عتيد والمطموع فيه مترقب وانتصابهما إما على المصدرية أي فتخافون خوفا وتطمعون طمعا أو على الحالية من البرق أو المخاطبين باضمار ذوى أو بجعل المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل مبالغة أو على العلية بتقدير المضاف أي إرادة خوف وطمع أو بتأويل الإخافة والإطماع ليتحد فاعل العلة والفعل المعلل وأما جعل المعلل هي الرؤية التي تتضمنها الإرادة على طريقة قول النابغة * وحلت بيوتي في يفاع ممنع * تخال به راعي الحمولة طائرا * حذارا على أن لا ينال معاوني * ولا نسوتي حتى يمتن حرائرا * أي أحللت بيوتي حذارا فلا سبيل إليه لأن ما وقع في معرض العلة الغائبة لا سيما الخوف لا يصلح علة لرؤيتهم «وينشئ السحاب» الغمام المنسحب في الجو «الثقال» بالماء وهي جمع ثقيلة وصف بها السحاب لكونها اسم جنس في معنى الجمع والواحدة سحابة يقال سحابة ثقيلة وسحاب ثقال كما يقال امرأة كريمة ونسوة كرام «ويسبح الرعد» أي سامعوه من العباد الراجين للمطر ملتبسين «بحمده» أي يضجون بسبحان الله والحمد لله وإسناده إلى الرعد لحمله لهم على ذلك أو يسبح الرعد نفسه على أن تسبيحه عبارة عن دلالته على وحدانيته تعالى وفضله المستوجب لحمده وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول سبحان من يسبح الرعد بحمده وإذا اشتد يقول اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك وعن علي رضي الله عنه سبحان من سبحت له وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن اليهود سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد فقال ملك من الملائكة موكل بالسحاب معه مخا ريق من نار
9 يسوق بها السحاب وعن الحسن خلق من خلق الله تعالى ليس بملك «والملائكة» أي يسبح الملائكة «من خيفته» من هيبته واجلاله جل جلاله وقيل الضمير للرعد «ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء» فيهلكه بذلك «وهم» أي الكفرة المخاطبون في قوله تعالى «هو الذي يريكم البرق» وقد التفت إلى الغيبة ايذانا بإسقاطهم عن درجة الخطاب وإعراضا عنهم وتعديدا لجناياتهم لدى كل من يستحق الخطاب كأنه قيل هو الذي يفعل أمثال هذه الأفاعيل العجيبة من إراءة البرق وإنشاء السحاب الثقال وإرسال الصواعق الدالة على كمال علمه وقدرته ويعقلها من يعقلها من المؤمنين أو الرعد نفسه أو الملك الموكل به والملائكة ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوف من هيبته تعالى وهم أي الكفرة الذين حكيت هناتهم مع ذلهم وهوانهم وحقارة شأنهم «يجادلون في الله» أي في شأنه تعالى حيث يفعلون ما يفعلون من إنكار البعث واستعجال العذاب استهزاء واقتراح الآيات فالواو لعطف الجملة على ما قبلها من قوله تعالى «هو الذي يريكم البرق» الخ أو على قوله «الله يعلم ما تحمل» الخ وأما العطف على قوله تعالى «ويقول الذين كفروا» كما قيل فلا مجال له لأن قوله تعالى الله يعلم الخ استئناف لبيان بطلان قولهم ذلك ونظائره من استعجال العذاب وإنكار البعث قاطع لعطف ما بعده على ما قبله وقيل للحال أي فيصيب بالصواعق من يشاء وهم في الجدال وقد أريد به ما أصاب أربد بن ربيعه أخا لبيد فإنه أقبل مع عامر بن الطفيل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبغيانه الغوائل فدخلا المسجد وهو عليه الصلاة والسلام جالس في نفر من الأصحاب رضي الله عنهم فاستشرفوا الجمال عامر وكان من أجمل الناس وقد كان أوصى إلى أربد أنه إذا رأيتني أكلم محمدا صلى الله عليه وسلم فدر من خلفه واضربه بالسيف فجعل يكلمه صلى الله عليه وسلم فدار أربد من خلفه صلى الله عليه وسلم فاخترط من سيفه شبرا فحبسه الله تعالى فلم يقدر على سله وجعل عامر يومىء إليه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم الحال فقال اللهم اكفنيهما بما شئت فأرسل الله عز وجل على أربد صاعقة في يوم صحو صائف فأحرقته وولى عامر هاربا فنزل في بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم عليه سلاحه وتغير لونه وركب فرسه فجعل يركض في الصحراء ويقول ابرز يا ملك الموت ويقول الشعر ويقول واللات لئن أصحر لي محمد وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي فأرسل الله تعالى ملكا فلطمه بجناحه فأرداه في التراب فخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول غرة كغرة البعير وموت في بيت سلولية ثم دعا بفرسه فركبه فأجراه حتى مات على ظهره وقيل أريد به ما روى عن الحسن أنه كان رجل من طواغيت العرب فبعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا من أصحابه يدعونه إلى الله عز وجل فقال لهم أخبروني عما تدعونني إليه ما هو ومم هو من ذهب أم من فضة أم من نحاس أم من حديد أم من در فاستعظموا مقالته فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه فقال صلى الله عليه وسلم ارجعوا اليه فرجعوا إليه فما زاد إلا مقالته الأولى وأخبث فرجعوا إليه صلى الله عليه وسلم وأخبروه بما صنع فقال صلى الله عليه وسلم ارجعوا إليه فرجعوا فبينما هم عنده ينازعونه إذ ارتفعت سحابة ورعدت وبرقت ورمت بصاعقة فاحترق الكافر فجاءوا يسعون ليخبروه صلى الله عليه وسلم بالخبر فاستقبلهم الأصحاب فقالوا احترق صاحبكم قالوا من أين علمتم قالوا أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم «وهو شديد المحال» أي والحال أنه شديدا لمما حلة والمكابرة والمماكرة لأعدائه من محله إذا كاده وعرضه للهلاك ومنه تمحل إذا تكلف استعمال الحيل وقيل هو محال من
10 المحل بمعنى القوة وقيل محول من الحول أو الحيلة أعل على غير قياس ويعضده أنه قرىء بفتح الميم على أنه مفعل من حال يحول إذا احتال ويجوز أن يكون بمعنى الفقار فيكون مثلا في القوة والقدرة كقولهم فساعد الله أشد وموساه أحد «له دعوة الحق» أي الدعوة الثابتة الواقعة في محلها المجابة عند وقوعها والإضافة للإيذان بملابستها للحق واختصاصها به وكونه بمعزل من شائبة البطلان والضياع والضلال كما يقال كلمة الحق وقبل له دعوة الله سبحانه أي الدعوة اللائقة بحضرته كما في قوله صلى الله عليه وسلم فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله والتعرض لوصف الحقية لتربية معنى الاستجابة والأولى هو الأول لقوله تعالى وما دعاء الكافرين إلا في ضلال وتعلق الجملتين بما قبلهما من حيث أن إهلاك أربد وعامر محال من الله تعالى وإجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما إن كانت الآية نزلت في شأنهما أو من حيث انه وعيد للكفرة على مجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلول محاله بهم وتحذير لهم بإجابة دعوته عليهم «والذين يدعون» أي الأصنام الذين يدعوهم المشركون فحذف العائد «من دونه» من دون الله عز وجل «لا يستجيبون لهم بشيء» من طلباتهم «إلا كباسط كفيه إلى الماء» أي إلا استجابة كائنة كإستجابة الماء لمن بسط كفيه إليه من بعيد فالاستجابة مصدر من المبني للفاعل على ما يقتضيه الفعل الظاهر عني لا يستجيبون ويجوز أن يكون من المبني للمفعول ويضاف إلى الباسط بناء على استلزام المصدر من المبنى للفاعل للمصدر من المبنى للمفعول وجودا وعدما فكأنه قيل لا يستجيبون لهم بشيء فلا يستجاب لهم إلا استجابة كائنة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء كما في قوله * وعضة دهر يا أبن مروان لم تدع * من المال إلا مسحت أو مجلف * أي لم تدع فلم يبق إلا مسحت أو مجلف «ليبلغ» أي الماء بنفسه من غير أن يؤخذ بشيء من إناء ونحوه «فاه وما هو» أي الماء «ببالغه» ببالغ فيه أبدا لكونه جمادا لا يشعر بعطشه ولا ببسط يده إليه فضلا عن الاستطاعة لما أراده من البلوغ إلى فيه شبه حال المشركين في عدم حصولهم في دعاء آلهتهم على شيء أصلا وركاكة رأيهم في ذلك بحال عطشان هائم لا يدري ما يفعل قد بسط كفيه من بعيد إلى الماء يبغي وصوله إلى فيه من غير ملاحظة التشبيه في جميع مفردات الأطراف فان الماء في نفسه شيء نافع بخلاف آلهتهم والمراد نفي الاستجابة رأسا إلا انه قد أخرج الكلام مخرج التهكم بهم فقيل لا يستجيبون لهم شيئا من الاستجابة كائنة في هذه الصورة التي ليست فيها شائبة الاستجابة قطعا فهو في الحقيقة من باب التعليق بالمحال وقرئ تدعون بالتاء وكباسط بالتنوين «وما دعاء الكافرين إلا في ضلال» أي ذهاب وضياع وخسار «ولله» وحده «يسجد» يخضع وينقاد لا لشيء غيره استقلالا ولا اشتراكا فالقصر ينتظم القلب والأفراد «من في السماوات والأرض» من الملائكة والثقلين «طوعا وكرها» أي الطائعين وكارهين أو انقياد طوع وكره أو حال طوع وكره فان خضوع الكل لعظمة الله عز
11 وجل وانقيادهم لإحداث ما أراده فيهم من أحكام التكوين والإعدام شاءوا أو أبوا وعدم مداخلة حكم غيره بل غير حكمه تعالى في تلك الشؤون مما لا يخفى على أحد «وظلالهم» أي وتنقاد له تعالى ظلال من له ظل منهم أعني الإنس حيث تتصرف على مشيئته وتتأتى لإرادته في الامتداد والتقلص والفيء والزوال «بالغدو والآصال» ظرف السجود المقدر أو حال من الظلال وتخصيص الوقتين بالذكر مع أن انقيادها متحقق في جميع أوقات وجودها لظهور ذلك فيهما والغدو جميع غداة كفتى في جمع فتاة والآصال جمع أصيل وقيل جمع أصل وهو جمع أصيل وهو ما بين العصر والمغرب وقيل الغدو مصدر ويؤيده أنه قرىء والإيصال أي الدخول في الأصيل هذا وقد قيل إن المراد حقيقة السجود فان الكفرة حال الاضطرار وهو المعنى بقوله تعالى وكرها يخصون السجود به سبحانه قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال أفهاما وعقولا بها تسجد لله سبحانه كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري ويجوز أن يراد بسجودها ما يشاهد فيها من هيئة السجود تبعا لأصحابها وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر حالة الضرورة والشدة بالله سبحانه لا يجدى فان سجودهم لأصنامهم حالة الرخاء تخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور فالوجه حمل السجود على الانقياد ولأن تحقيق انقياد الكل في الإبداع والإعدام له تعالى أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه من تحقيق سجودهم له تعالى وتخصيص انقياد العقلاء بالذكر مع كون غيرهم أيضا كذلك لأنهم العمدة وانقيادهم دليل انقياد غيرهم على أنه بين ذلك بقوله عز وجل «قل من رب السماوات والأرض» فإنه لتحقيق أن خالقهما ومتولي أمرهما مع ما فيهما على الإطلاق هو الله سبحانه وقوله تعالى «قل الله» أمر بالجواب من قبله صلى الله عليه وسلم إشعارا بأنه متعين للجوابية فهو والخصم في تقريره سواء أو أمر بحكاية اعترافهم إيذانا بأنه أمر لا بد لهم من ذلك كأنه قيل أحك اعترافهم فبكتهم بما يلزمهم من الحجة وألقمهم الحجر أو أمر بتلقينهم ذلك إن تلعثموا في الجواب حذرا من الإلزام فإنهم لا يتمالكون إذ ذاك ولا يقدرون على إنكاره «قل » إلزاما لهم وتبكيتا «أفاتخذتم» لأنفسكم والهمزة لإنكار الواقع كما في قولك أضربت أباك لا لإنكار الوقوع كما في قولك أضربت أبي والفاء للعطف على مقدر بعد الهمزة أي أعلمتم أن ربهما هو الله الذي ينقاد لأمره من فيهما كافة فاتخذتم عقيبه «من دونه أولياء» عاجزين «لا يملكون لأنفسهم نفعا» يستجلبونه «ولا ضرا» يدفعونه عن أنفسهم فضلا عن القدرة على جلب النفع لغيره ودفع الضرر عنه لا على الإنكار متوجها إلى المعطوفين معا كما في قوله تعالى «أفلا تعقلون» إذا قدر المعطوف عليه ألا تسمعون بل إلى ترتب الثاني على الأول مع
12 وجوب أن يترتب عليه نقيضه كما إذا قدر أتسمعون والمعنى أبعد أن علمتم أن ربهما هو الله جل جلاله اتخذتم من دونه أولياء عجزة والحال أن قضية العلم بذلك إنما هو الاقتصار على توليه فعكستم الأمر كما في قوله تعالى كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني ووصف الأولياء ههنا بعدم المالكية للنفع والضر في ترشيح الإنكار وتأكيده كتقييد الاتخاذ هناك بالجملة الحالية أعنى قوله تعالى «وهم لكم عدو» فان كلا منهما مما ينفي الاتخاذ المذكور ويؤكد إنكاره «قل» تصويرا لآرائهم الركيكة بصورة المحسوس «هل يستوي الأعمى» الذي هو المشرك الجاهل بالعبادة ومستحقها «والبصير» الذي هو الموحد العالم بذلك أو الأول عبارة عن المعبود الغافل والثاني إشارة إلى المعبود العالم بكل شيء «أم هل تستوي الظلمات» التي هي عبارة عن الكفر والضلال «والنور» الذي هو عبارة عن التوحيد والإيمان وقرئ بالياء ولما دل النظم الكريم على أن الكفر فيما فعلوا من اتخاذ الأصنام أولياء من دون الله سبحانه في الضلال المحض والخطأ البحت بحيث لا يخفى بطلانه على أحد وأنهم في ذلك كالأعمى الذي لا يهتدي إلى شيء أصلا وليس لهم في ذلك شبهة تصلح أن تكون منشأ لغلطهم وخطئهم فضلا عن الحجة أكد ذلك فقيل «أم جعلوا لله» أي بل اجعلوا له «شركاء خلقوا كخلقه» سبحانه والهمزة لإنكار الوقوع لا لإنكار الواقع مع وقوعه وقوله خلقوا كخلقه هو الذي يتوجه إليه الإنكار وأما نفس الجعل فهو واقع لا يتعلق به الإنكار بهذا المعنى والمعنى أنهم لم يجعلوا لله تعالى شركاء خلقوا كخلقه «فتشابه الخلق عليهم» بسبب ذلك وقالوا هؤلاء خلقوا كخلقه تعالى فاستحقوا بذلك العبادة كما استحقها ليكون ذلك منشأ لخطئهم بل إنما جعلوا له شركاء ما هو بمعزل من ذلك بالمرة وفيه ما لا يخفى من التعريض بركاكة رأيهم والتهكم بهم «قل» تحقيقا للحق وإرشادا لهم إليه «الله خالق كل شيء» كافة لا خالق سواه فيشاركه في استحقاق العبادة «وهو الواحد» المتوحد بالألوهية المتفرد بالربوبية «القهار» لكل ما سواه فكيف يتوهم أن يكون له شريك وبعد مثل المشرك والشرك بالأعمى والظلمات والموحد والتوحيد بالبصير والنور مثل الحق الذي هو القرآن العظيم في فيضانه من جناب القدس على قلوب خالية عنه متفاوتة الاستعداد وفي جريانه عليها ملاحظة وحفظا وعلى الألسنة مذاكرة وتلاوة وفي ثباته فيهما مع كونه ممدا لحياتها الروحانية وما يتلوها من الملكات السنية والأعمال المرضية بالماء النازل من السماء السائل في أودية يابسة لم تجر عادتها بذلك سيلانا مقدرا بمقدار اقتضته الحكمة في إحياء الأرض وما عليها الباقي فيها حسبما يدور عليه منافع الناس وفي كونه حلية تتحلى به النفوس وتصل إلى البهجة الأبدية ومتاعا يتمتع به في المعاش والمعاد بالذهب والفضة وسائر الفلزات التي يتخذ منها أنواع الآلات والأدوات وتبقى منتفعا بها مدة طويلة ومثل الباطل الذي ابتلى به الكفرة لقصور نظرهم بما يظهر فيهما من غير مداخلة له فيهما واخلال بصفائهما من الزبد الرابي فوقهما المضمحل سريعا فقيل
13 «أنزل من السماء» أي من جهتها «ماء» أي كثيرا أو نوعا منه وهو ماء المطر «فسالت» بذلك «أودية» واقعة في مواقعة لا جميع الأودية إذ الأمطار لا نستوعب الأقطار وهو جمع واد وهو مفرج بين جبال أو تلال أو آكام على الشذوذ كناد وأندية وناج وأنجية قالوا وجهه أن فاعلا يجيء بمعنى فعيل كناصر ونصير وشاهد وشهيد وعالم وعليم وحيث جمع فعيل على أفعلة كجريب وأجربة جمع فاعل أيضا على أفعلة فان أريد بها ما يسيل فيها مجازا فاسناد السيلان إليها حقيقي وان أريد معناها الحقيقي فالإسناد مجازى كما في جرى النهر وإيثار التمثيل بها على الأنهار المستمرة الجريان لوضوح المماثلة بين شأنها وشأن ما مثل بها كما أشير إليه «بقدرها» أي سالت ملتبسة بمقدارها الذي عينه الله تعالى واقتضته حكمته في نفع الناس أو بمقدارها المتفاوت قلة وكثرة بحسب تفاوت محالها صغرا وكبرا لا بكونها مالئة لها منطبقة عليها بل بمجرد قلتها بصغرها المستلزم لقلة موارد الماء وكثرتها بكبرها المستدعي لكثرة الموارد فأن مورد السيل الجاري في الوادي الصغير أقل من مورد السيل الجاري في الوادي الكبير هذا ان أريد بالأودية ما يسيل فيها أما أن أريد بها معناها الحقيقي فالمعنى سالت مياهها بقدر تلك الأودية على نحو ما عرفته آنفا أو يراد بضميرها مياهها بطريق الاستخدام ويراد بقدرها ما ذكر أولا من المعنيين «فاحتمل السيل» الجاري في تلك الأودية أي حمل معه «زبدا» أي غثاء ورغوة وانما وصف ذلك بقوله تعالى «رابيا» أي عاليا منتفخا فوقه بيانا لما أريد بالاحتمال المحتمل لكون الحميل غير طاف كالأشجار الثقيلة وانما لم يدفع ذلك الاحتمال بأن يقال فاحتمل السيل فوقه للإيذان بأن تلك الفوقية مقتضى شأن الزبد لا من جهة المحتمل تحقيقا للماثلة بينه وبين ما مثل به من الباطل الذي شأنه الظهور في بادي الرأي من غير مداخلة في الحق «ومما يوقدون عليه في النار» أي يفعلون الإيقاد عليه كائنا في النار والضمير للناس أضمر مع عدم سبق الذكر لظهوره وقرئ بالخطاب «ابتغاء حلية أو متاع» أي لطلب اتخاذ حلية وهي ما يتزين ويتجمل به كالحلي المتخذة من الذهب والفضة أو اتخاذ متاع وهو ما يتمتع به من الأواني والآلات المتخذة من الرصاص والحديد وغير ذلك من الفلزات «زبد» خبث «مثله» مثل ما ذكر من زبد الماء في كونه رابيا فوقه فقوله زبد مبتدأ خبره الظرف المقدم ومن ابتدائية دالة على مجرد كونه مبتدأ وناشئا منه لا تبعيضية معربة عن كونه بعضا منه كما قيل لاخلال ذلك بالتمثيل وفي التعبير عن ذلك بالموصول والتعرض لما في حيز الصلة من ايقاد النار عليه جرى على سنن الكبرياء باظهار التهاون به كما في قوله تعالى فأوقد لي يا هامان على الطين وإشارة إلى كيفية حصول الزبد منه بذوبانه وفي زيادة في النار إشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد كما أشير إليه وعدم التعرض لاخراجه من
14 الأرض لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلا فيه حسبما فصل فيما سلف بل له إخلال بذلك «كذلك» أي مثل ذلك الضرب البديع المشتمل على نكت رائقة «يضرب الله الحق والباطل» أي مثل الحق ومثل الباطل والحذف للأنباء عن كمال التماثل بين الممثل والممثل به كأن المثل المضروب عين الحق والباطل وبعد تحقيق التمثيل مع الإيماء في تضاعيف ذلك إلى وجوه المماثلة على أبدع وجوه وآنقها حسبما أشير إليه في مواقعها بين عاقبة كل من الممثلين على وجه التمثيل مع التصريح ببعض ما به المماثلة من الذهاب والبقاء تتمة للغرض من التمثيل من الحث على اتباع الحق الثابت والردع عن الباطل الزائد فقيل «فأما الزبد» من كل منهما «فيذهب جفاء» أي مرميا به وقرئ جفالا والمعنى واحد «وأما ما ينفع الناس» منهما كالماء الصافي والفلز الخاص «فيمكث في الأرض» أما الماء فيثبت بعضه في منافعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنا والآبار وأما الفلز فيصاغ من بعضه أنواع الحلي ويتخذ من بعضه أصناف الآلات والأدوات فينتفع بكل من ذلك أنواع الانتفاعات مدة طويلة فالمراد ابا لمكث في الأرض ما هو أعم من المكث في نفسها ومن البقاء في أيدي المتقلبين فيها وتغيير ترتيب اللف الواقع في الفذلكة الموافق للترتيب الواقع في التمثيل لمراعاة الملاءمة بين حالتي الذهاب والبقاء وبين ذكريهما فان المعتبر إنما هو بقاء الباقي بعد ذهاب الذاهب لا قبله «كذلك يضرب الله» أي مثل ذلك الضرب العجيب يضرب «الأمثال» في كل باب إظهارا لكمال اللطف والعناية في الإرشاد والهداية وفيه تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله كذلك يضرب الله الحق والباطل إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول أو بجعل ذلك إشارة إليهما جميعا وبعد ما بين شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا أكمل بيان شرع في بيان حال أهل كل منهما مآلا تكميلا للدعوة ترغيبا وترهيبا فقيل «للذين استجابوا لربهم» إذ دعاهم إلى الحق بفنون الدعوة التي من جملتها ضرب الأمثال فإنه الطف ذريعة إلى تفهيم القلوب الغبية وأقوى وسيلة إلى تسخير النفوس الأبية كيف لا وهو تصوير للمعقول بصورة المحسوس وإبراز لا وابد المعاني في هيئة المأنوس فأي دعوة أولى منه بالاستجابة والقبول «الحسنى» أي المثوبة الحسنى وهي الجنة «والذين لم يستجيبوا له» وعاندوا الحق الجلي «لو أن لهم ما في الأرض» من أصناف الأموال «جميعا» بحيث لم يشذ منه شاذ في أقطارها أو مجموعا غير متفرق بحسب الأزمان «ومثله معه لافتدوا به» أي بما في الأرض ومثله معه جميعا ليتخلصوا عما بهم وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان فالموصول مبتدأ والشرطية كما هي خبره لكن لا على أنها وضعت موضع السوءى فوقعت في مقابلة الحسنى الواقعة في القرينة الأولى لمراعاة حسن المقابلة فصار كأنه قيل والذين لم يستجيبوا له السوءى كما يوهم فإن الشرطية وإن دلت على كما سوء حالهم لكنها بمعزل من القيام مقام لفظ السوءى مصحوبا باللام الداخلة على الموصول أو ضميره
15 وعليه يدور حصول المرام وإنما الواقع في تلك المقابلة سوء الحساب في قوله تعالى «أولئك لهم سوء الحساب» وحيث كان اسم الإشارة الواقع مبتدأ في هذه الجملة عبارة عن الموصول الواقع مبتدأ في الجملة السابقة كان خبرها أعني الجملة الظرفية خبرا عن الموصول في الحقيقة ومبينا لإبهام مضمون الشرطية الواقعة خبرا عنه أولا ولذلك ترك العطف فصار كأنه قيل والذين لم يستجيبوا له لهم سوء الحساب وذلك في قوة أن يقال وللذين لم يستجيبوا له سوء الحساب مع زيادة تأكيد فتم حسن المقابلة على أبلغ وجه وآكده ثم بين مؤدى ذلك فقيل «ومأواهم» أي مرجعهم «جهنم» وفيه نوع تأكيد لتفسير الحسنى بالجنة «وبئس المهاد» أي المستقر والمخصوص بالذم محذوف وقيل اللام في قوله تعالى للذين استجابوا لربهم متعلقة بقوله يضرب الله الأمثال أي الأمثال السالفة وقوله الحسنى صفة للمصدر أي استجابوا الاستجابة الحسنى وقوله والذين لم يستجيبوا له معطوف على الموصول الأول وقوله لو أن لهم الخ كلام مستأنف مسوق لبيان ما أعد لغير المستجيبين من العذاب والمعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين المستجيبين والكافرين المعاندين أي هما مثلا الفريقين وأنت خبير بأن عنوان الاستجابة وعدمها لا مناسبة بينه وبين ما يدور عليه أمر التمثيل وأن الاستعمال المستفيض دخول اللام على من يقصد تذكيره بالمثل نعم قد يستعمل في هذا المعنى أيضا كما في قوله سبحانه ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون ونظائره على أن بعض الأمثال المضروبة لا سيما المثل الأخير الموصول بالكلام ليس مثل الفريقين بل مثل للحق والباطل ولا مساغ لجعل الفريقين مضروبا لهم أيضا بأن يجعل في حكم أن يقال كذلك يضرب الله الأمثال للناس إذ لا وجه حينئذ لتنويعهم إلى المستجيبين وغير المستجيبين فنأمل «أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك» من القرآن الذي مثل بالماء المنزل من السماء والإبريز الخالص في المنفعة والجدوى «الحق» الذي لا حق وراءه أو الحق الذي أشير إليه بالأمثال المضروبة فيستجيب له «كمن هو أعمى» عمى القلب لا يشاهده وهو نار على علم ولا يقدر قدره وهو في أقصى مراتب العلو والعظم فيبقى حائرا في ظلمات الجهل وغيا هب الضلال أو لا يتذكر بما ضرب من الأمثال أي كمن لا يعلم ذلك إلا أنه أريد زيادة تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى وإيراد الفاء بعد الهمزة لتوجيه الإنكار إلى ترتب توهم المماثلة على ظهور حال كل منهما بما ضرب من الأمثال وبين المصير والمآل كأنه قيل أبعد ما بين حال كل من الفريقين ومآلهما يتوهم المماثلة بينهما ثم استؤنف فقبل «إنما يتذكر» بما ذكر من المذكرات فيقف على ما بينهما من التفاوت والتنائي «أولوا الألباب» أي العقول الخالصة المبرأة من مشايعة الإلف ومعارضة الوهم «الذين يوفون بعهد الله» بما عقدوا على أنفسهم من الاعتراف بربوبيته تعالى حين قالوا بلى أو ما عهد الله عليهم في كتبه «ولا ينقضون الميثاق» ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين الله وبين
16 العباد وهو تعميم بعد تخصيص وفيه تأكيد للإستمرار المفهوم من صيغة المستقبل «والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل» من الرحم وموالاة المؤمنين والإيمان بجميع الأنبياء المجمعين على الحق من غير تفريق بين أحد منهم ويندرج فيه مراعاة جميع حقوق الناس بل حقوق كل ما يتعلق بهم من الهر والدجاج «ويخشون ربهم» خشية جلال وهيبة ورهبة فلا يعصونه فيما أمر به «ويخافون سوء الحساب» فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا وفيه دلالة على كمال فظاعته حسبما ذكر فيما قبل «والذين صبروا» على كل ما تكرهه النفس من الأفعال والتروك «ابتغاء وجه ربهم» طلبا لرضاه خاصة من غير أن ينظر إلى جانب الخلق رياء وسمعة ولا إلى جانب النفس زينة وعجبا وحيث كان الصبر على الوجه المذكور ملاك الأمر في كل ما ذكر من الصلات السابقة واللاحقة أورد على صيغة الماضي اعتناء بشأنه ودلالة على وجوب تحققه فإن ذلك مما لا بد منه إما في نفس الصلات كما فيما عدا الأولى والرابعة والخامسة أو في إظهار أحكامها كما في الصلات الثلاث المذكورات فإنها وإن استغنت عن الصبر في أنفسها حيث لا مشقة على النفس في الاعتراف بالربوبية والخشية والخوف لكن إظهار أحكامها والجرى على موجبها غير خال عن الاحتياج إليه «وأقاموا الصلاة» المفروضة «وأنفقوا من ما رزقناهم» أي بعضه الذي يجب عليهم إنفاقه «سرا» لمن لم يعرف بالمال أو لمن لا يتهم بترك الزكاة أو عند إنفاقه وإعطائه من تمنعه المروءة من أخذه ظاهرا «وعلانية» لمن لم يكن كما ذكر أو الأول في التطوع والثاني في الفرض «ويدرؤون بالحسنة» أي يجازون الإساءة بالإحسان أو يتبعون الحسنة السيئة فنمحوها عن أبي عباس رضي الله عنهما يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سئ غيرهم وعن الحسن إذا حرموا أعطوا وإذا ظلموا عفوا وإذا قطعوا وصلوا وعن ابن كيسان إذا أذنبوا تابوا وقيل إذا رأوا منكرا أمروا بتغييره وتقديم المجرور على المنصوب لإظهار كما العناية بالحسنة «أولئك» المنعوتون بالنعوت الجليلة والملكات الجميلة وهو مبتدأ خبره الجملة الظرفية أعنى قوله تعالى «لهم عقبى الدار» أي عاقبة الدنيا وما ينبغي أن يكون مآل أمر أهلها وهي الجنة وقيل الجار والمجرور خبر لأولئك وعقبى الدار فاعل الاستقرار وأياما كان فليس فيه قصر حتى يرد أن بعض ما في الصلة ليس من العزائم التي يخل إخلالها بالموصول إلى حسن العاقبة والجملة خبر للموصولات المتعاطفة أو استئناف لبيان ما استوجبه بتلك الصفات أن جعلت الموصولات المتعاطفة صفات لأولي الألباب على طريقة المدح من غير أن يقصد أن يكون للصلات المذكورة مدخل في التذكر «جنات عدن» بدل من عقبى الدار أو مبتدأ
17 خبره «يدخلونها» والعدن الإقامة ثم صار علما لجنة من الجنات أي جنات يقيمون فيها وقيل هو بطنان الجنة «ومن صلح من آبائهم» جمع أبوي كل واحد منهم فكأنه قيل من آبائهم وأمهاتهم «وأزواجهم» وذرياتهم وهو عطف على المرفوع في يدخلون وإنما ساغ ذلك للفصل بالضمير الآخر أو مفعول معه والمعنى أنه يلحق بهم من صلح من أهلهم وإن لم يبلغ مبلغ فضلهم تبعا لهم تعظيما لشأنهم وهو دليل على أن الدرجة تعلو بالشفاعة وأن الموصوف بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض لما بينهم من القرابة والوصلة في دخول الجنة زيادة في أنسهم وفي التقييد بالصلاح قطع للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب «والملائكة يدخلون عليهم من كل باب» من أبواب المنازل أو من أبواب الفتوح والتحف قائلين «سلام عليكم» بشارة لهم بدوام السلامة «بما صبرتم» متعلق بعليكم أو بمحذوف أي هذه الكرامة العظمى بما صبرتم أي بسبب صبركم أو بدل ما احتملتم من مشاق الصبر ومتاعبه والمعنى لئن تعبتم في الدنيا لقد استرحتم الساعة وتخصيص الصبر بما ذكر من بين الصلات السابقة لما قدمناه من أن له دخلا في كل منها ومزية زائدة من حيث إنه ملاك الأمر في كل منها وإن شيئا منها لا يعتد به إلا بأن يكون لإبتغاء وجه الرب تعالى وتقدس «فنعم عقبى الدار» أي فنعم عقبى الدار الجنة وقرئ بفتح النون والأصل نعم فسكن العين بنقل حركتها إلى النون تارة وبدونه أخرى وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأتي قبور الشهداء على راس كل حول فيقول سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار وكذا عن الخلفاء الأربعة رضوان الله عليهم أجمعين «والذين ينقضون عهد الله» أريد بهم من يقابل الأولين ويعاندهم في الاتصاف بنقائض صفاتهم «من بعد ميثاقه» من بعد ما أوثقوه من الاعتراف والقبول «ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل» من الإيمان بجميع الأنبياء المجمعين على الحق حيث يؤمنون ببعضهم ويكفرون ببعضهم ومن حقوق الأرحام وموالاة المؤمنين وغير ذلك مما لا يراعون حقوقه من الأمور المعدودة فيما سلف وإنما لم يتعرض لنفي الخشية والخوف عنهم صريحا لدلالة النقض والقطع على ذلك وأما عدم التعرض لنفي الصبر المذكور فلأنه إنما اعتبر تحققه في ضمن الحسنات المعدودة ليقعن معتدا بهن فلا وجه لنفيه عمن بينه وبين الحسنات بعد المشرقين كما لا وجه لنفي الصلاة والزكاة ممن لا يحوم حول أصل الإيمان بالله تعالى فضلا عن فروع الشرائع وإن أريد بالإنفاق التطوع فنفيه مندرج تحت قطع ما أمر الله تعالى بوصله وأما درء السيئة بالحسنة فانتفاؤه عنهم ظاهر مما سبق ولحق فإن من يجازى إحسانه عز وجل بنقض العهد ومخالفة الأمر ويباشر الفساد بدأ حسبما يحكيه قوله تعالى عز وعلا «ويفسدون في الأرض» أي بالظلم وتهيج الفتن كيف يتصور منه مجازاة الإساءة بالإحسان على أن يشعر بان له دخلا في الإفضاء إلى
18 العقوبة التي ينبئ عنها قوله تعالى «أولئك» الخ أي أولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح «لهم» بسبب ذلك «اللعنة» أي الإبعاد من رحمة الله تعالى «ولهم» مع ذلك «سوء الدار» أي سوء عاقبة الدنيا أو عذاب جهنم فإنها دارهم لأن ترتيب الحكم على الموصول مشعر بعلية الصلة له ولا يخفى أنه لا دخل له في ذلك على أكثر التفاسير فإن مجازاة السيئة بمثلها مأذون فيها ودفع الكلام السيء بالحسن وكذا الإعطاء عند المنع والعفو عند الظلم والوصل عند القطع ليس مما يورث تركه تبعة وأما ما اعتبر اندراجه تحت الصلة الثانية من الإخلال ببعض الحقوق المندوبة فلا ضير في ذلك لأن اعتباره من حيث إنه من مستتبعات الإخلال بالعزائم بالكفر ببعض الأنبياء وعقوق الوالدين وترك سائر الحقوق الواجبة وتكرير لهم للتأكيد والإيذان باختلافهما واستقلال كل منهما في الثبوت «الله يبسط الرزق» أي يوسعه «لمن يشاء» من عباده «ويقدر» أي يضيقه على من يشاء حسبما تقتضيه الحكمة من غير أن يكون لأحد مدخل في ذلك ولا شعور بحكمته فربما يبسطه للكافر إملاء واستدراجا وربما يضيقه على المؤمن زيادة لأجره فلا يغتر ببسط الكافر كما لا يقنط بقدره المؤمن «وفرحوا» أي أهل مكة فرح أشر وبطر لا فرح سرور بفضل الله تعالى «بالحياة الدنيا» وما بسط لهم فيها من نعيمها «وما الحياة الدنيا» وما يتبعها من النعيم «في الآخرة» أي في جنب نعيم الآخرة «إلا متاع» إلا شيء نزر يتمتع به كعجالة الراكب وزاد الراعي والمعنى أنهم رضوا بحظ الدنيا معرضين عن نعيم الآخرة والحال أن ما أشروا به في جنب ما أعرضوا عنه شيء قليل النفع سريع النفاد «ويقول الذين كفروا» أي أهل مكة وإيثار هذه الطريقة على الإضمار مع ظهور إرادتهم عقيب ذكر فرحهم بالحياة الدنيا لذمهم والتسجيل عليهم بالكفر فيما حكى عنهم من قولهم «لولا أنزل عليه آية من ربه» فإن ذلك في أقصى مراتب المكابرة والعناد كأن ما أنزل عليه السلام من الآيات العظام الباهرة ليس بآية حتى اقترحوا مالا تقتضيه الحكمة من الآيات المحسوسة التي لا يبقى لأحد بعد ذلك طاقة بعدم القبول ولذلك أمر في الجواب بقوله تعالى «قل إن الله يضل من يشاء» إضلاله مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها أي يخلق فيه الضلال لصرفه اختياره إلى تحصيله ويدعه منهمكا فيه لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد وشدة الشكيمة والغلو في الفساد فلا سبيل له إلى الاهتداء ولو جاءته كل آية «ويهدي إليه» أي إلى جنابه العلي الكبير هداية موصلة إليه لا دلالة مطلقة على ما يوصل إليه فإن ذلك غير مختص بالمهتدين وفيه من تشريفهم مالا يوصف «من أناب» أقبل
19 إلى الحق وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة وحقيقة الإنابة لدخول في نوبة الخير وإيثار إيرادها في الصلة على إيراد المشيئة كما في الصلة الأولى للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى من المكابرة وفيه حث للكفرة على الإقلاع عماهم عليه من العتو والعناد وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية لسابقة الإنابة كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم «الذين آمنوا» بدل ممن أناب فإن أريد بالهداية الهداية المستمرة فالأمر ظاهر لظهور كون الإيمان مؤديا إليها وإن أريد إحداثها فالمراد بالذين آمنوا الذين صار أمرهم إلى الإيمان كما في قوله تعالى هدى للمتقين أي الصائرين إلى التقوى وإلا فالإيمان لا يؤدي إلى الهداية نفسها أو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين آمنوا أو منصوب على المدح «وتطمئن قلوبهم» أي تستقر وتسكن «بذكر الله» بكلامه المعجز الذي لا ريب فيه كقوله تعالى وهذا ذكر مبارك أنزلناه وقوله إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ويعلمون أن لا أعظم منه فيقترحوها والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان وتجدده حسب تجدد الآيات وتعددها «ألا بذكر الله» وحده «تطمئن القلوب» دون غيره من الأمور التي تميل إليها النفوس من الدنياويات وهذا ظاهر وأما سائر المعجزات فالقصر من حيث إنها ليست في إفادة الطمأنينة بالنسبة إلى من لم يشاهدها بمثابة القرآن المجيد فإنه معجزة باقية إلى يوم القيامة يشاهدها كل أحد وتطمئن به القلوب كافة وفيه إشعار بأن الكفرة ليست لهم قلوب وأفئدتهم هواء حيث لم يطمئنوا بذكر الله تعالى ولم يعدوه آية وهو أظهر الآيات وأبهرها وقيل تطمئن قلوبهم بذكر رحمته ومغفرته بعد القلق والاضطراب من خشيته كقوله تعالى ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته أو بذكره جل وعلا نسا به وتبتلا إليه فالمراد بالهداية دوامها واستمرارها «الذين آمنوا وعملوا الصالحات» بدل من القلوب على حذف المضاف بدل الكل حسبما رمز إليه أي قلوب الذين آمنوا وفيه إيماء إلى أن الإنسان إنما هو القلب أو مبتدأ خبره الجملة الدعائية على التأويل أعنى قوله «طوبى لهم» أو خبر مبتدأ مضمر أو نصب على المدح فطوبى لهم حال عاملها الفعلان وطوبى مصدر من طاب كبشرى وزلفى والواو منقلبة من الياء كموقن وموسر وقرأ مكوزة الأعرابي طيبي لتسلم الياء والمعنى أصابوا خيرا ومحلها النصب كسلاما لك أو الرفع على الابتداء وإن كانت نكرة لكونها في معنى الدعاء كسلام عليك يدل على ذلك القراءة في قوله تعالى «وحسن مآب» بالنصب والرفع واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك «كذلك»
20 مثل ذلك الإرسال العظيم الشأن المصحوب بهذه المعجزة الباهرة «أرسلناك في أمة قد خلت» أي مضت «من قبلها أمم» كثيرة قد أرسل إليهم رسل «لتتلو» لتقرأ «عليهم الذي أوحينا إليك» من الكتاب العظيم الشأن وتهديهم إلى الحق رحمة لهم وتقديم المجرور على المنصوب من قبيل الإبهام ثم البيان كما في قوله تعالى ووضعنا عنك وزرك وفيه مالا يخفى من ترقب النفس إلى ما سيرد وحسن قبولها له عند وروده عليها «وهم» أي والحال أنهم «يكفرون بالرحمن» بالبليغ الرحمة الذي وسعت كل شيء رحمته وأحاطت به نعمته والعدول إلى المظهر المتعرض لوصف الرحمة من حيث إن الإرسال ناشىء منها كما قال تعالى وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين فلم يقدروا قدره ولم يشكروا نعمه لا سيما ما أنعم به عليهم بإرسال مثلك إليهم وإنزال القرآن الذي هو مدار المنافع الدينية والدنياوية عليهم وقيل نزلت في مشركي مكة حين أمروا بالسجود فقالوا وما الرحمن «قل هو» أي الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته «ربي» الرب في الأصل بمعنى التربية وهي تبليغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا ثم وصف به مبالغة كالصوم والعدل وقيل هو نعت أي خالقي ومبلغي إلى مراتب الكمال وإيراده قبل قوله «لا إله إلا هو» أي لا مستحق للعبادة سواه تنبيه على أن استحقاق العبادة منوط بالربوبية وقيل إن أبا جهل سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول يا الله يا رحمن فرجع إلى المشركين فقال إن محمدا يدعو إلهين فنزلت ونزل قوله تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن الآية «عليه توكلت» في جميع أموري لا سيما في النصرة عليكم لا على أحد سواه «وإليه» خاصة «متاب» أي توبتي كقوله تعالى واستغفر لذنبك أمر عليه السلام بذلك إبانة لفضل التوبة ومقدارها عند الله تعالى وأنها صفة الأنبياء وبعثا للكفرة على الرجوع عما هم عليه بأبلغ وجه وألطفه فإنه عليه السلام حيث أمر بها وهو منزه عن شائبة اقتراف ما يوجبها من الذنب وإن قل فتوبتهم وهو عاكفون على أنواع الكفر والمعاصي مما لا بد منه أصلا وقد فسر المتاب بمطلق الرجوع فقيل مرجعي ومرجعكم وزيد فيحكم بيني وبينكم وقد قيل فيثيبني على مصابرتكم فتأمل «ولو أن قرآنا» أي قرآنا ما وهو اسم أن والخبر قوله تعالى «سيرت به الجبال» وجواب لو محذوف لانسياق الكلام إليه بحيث يتلقفه السامع من التالي والمقصود إما بيان عظم شأن القرآن العظيم وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدره العلي ولم يعدوه من قبيل الآيات فاقترحوا غيره مما أوتى موسى وعيسى عليهما السلام وإما بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلال والفساد فالمعنى على الأول لو أن قرآنا سيرت به الجبال أي بإنزاله أو بتلاوته عليها وزعزعت عن مقارها كما فعل ذلك بالطور لموسى عليه الصلاة والسلام «أو قطعت به الأرض» أي شققت وجعلت أنهارا وعيونا كما فعل بالحجر حين ضربه عليه السلام بعصاه أو جعلت قطعا متصدعة «أو كلم به الموتى» أي بعد أن
21 أحيى بقراءته عليها كما أحييت لعيسى عليه السلام لكان ذلك هذا القرآن لكونه الغاية القصوى في الإنطواء على عجائب آثار قدرة الله تعالى وهيبته عز وجل كقوله تعالى لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله لا في الإعجاز إذ لا مدخل له في هذه الآثار ولا في التذكير والإنذار والتخويف لاختصاصها بالعقلاء مع أنه لا علاقة لها بتكليم الموتى واعتبار فيض العقول إليها مخل بالمبالغة المقصودة وتقديم المجرور في المواضع الثلاثة على المرفوع لما مر غير مرة من قصد الإبهام ثم التفسير لزيادة التقرير لأن بتقديم ما حقه التأخير تبقى النفس مستشرفة ومترقبة إلى المؤخر أنه ماذا فيتمكن عند وروده عليها فضل تمكن وكلمة أو في الموضعين لمنع الخلو لا لمنع الجمع واقتراحهم وإن كان متعلقا بمجرد ظهور مثل هذه الأفاعيل العجيبة على يده عليه السلام لا بظهورها بواسطة القرآن لكن ذلك حيث كان مبنيا على عدم اشتماله في زعمهم على الخوارق نيط ظهورها به مبالغة في بيان اشتماله عليها وأنه حقيق بأن يكون مصدرا لكل خارق وإبانة لركاكة رأيهم في شأنه الرفيع كأنه قيل لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه من مقتضيات الحكمة لكان مظهرها هذا القرآن الذي لم يعدوه آية وفيه من تفخيم شأنه العزيز ووصفهم بركاكة العقل مالا يخفى (بل لله الأمر جميعا) أي له الأمر الذي عليه يدور فلك الأكوان وجودا وعدما يفعل ما يشاء وبحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحكم البالغة وهو إضراب عما تضمنه الشرطية من معنى النفي لا بحسب منطوقة بل باعتبار موجبة ومؤداه أي لو أن قرآنا فعل به ما ذكر لكان ذلك هذا القرآن ولكن لم يفعل بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده فالإضراب ليس بمتوجه إلى كون الأمر لله سبحانه بل إلى ما يؤدى إليه ذلك من كون الشأن على ما كان لما تقتضيه الحكمة من بناء التكليف على الاختبار «أفلم ييأس الذين آمنوا» أي أفلم يعلموا على لغة هوازن أو قوم من النخع أو على استعمال اليأس في معنى العلم لتضمنه له ويؤيده قراءة علي وابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أفلم يتبين بطريق التفسير والفاء للعطف على مقدر أي أغفلوا عن كون الأمر جميعا لله تعالى فلم يعلموا «أن لو يشاء الله» على حذف ضمير الشأن وتخفيف أن «لهدى الناس جميعا» بإظهار أمثال تلك الآثار العظيمة فالإنكار متوجه إلى المعطوفين جميعا أو اعلموا كون الأمر جميعا لله فلم يعلموا ما يوجبه ذلك العلم مما ذكر فهو متوجه إلى ترتب المعطوف على المعطوف عليه أي تخلف العلم الثاني عن العلم الأول وعلى التقديرين فالإنكار إنكار الوقوع كما في قوله تعالى ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا إنكار الواقع كما في قولك ألم تخف الله حتى عصيته ثم إن مناط الإنكار ليس عدم علمهم بمضمون الشرطية فقط بل مع عدم علمهم بعدم تحقق مقدمها كأنه قيل ألم يعلموا أن الله تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم وأنه لم يشأها وذلك لأنهم كانوا يودون أن يظهر ما اقترحوا من الآيات ليجتمعوا على الإيمان وعلى الثاني لو أن قرآنا فعل به ما فصل من التعاجيب لما آمنوا به كقوله تعالى ولو أننا أنزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى الآية فالإضراب حينئذ متوجه إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح أي فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعا إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه داعية الحكمة من غير أن يكون لأحد عليه تحكم أو اقتراح واليأس بمعنى القنوط أي ألم يعلم الذين آمنوا حالهم هذه فلم يقنطوا من إيمانهم حتى أحبوا ظهور مقترحاتهم فالإنكار متوجه
22 إلى المعطوفين أو وأعلموا ذلك فلم يقنطوا من إيمانهم فهو متوجه إلى وقوع المعطوف بعد المعطوف عليه أي إلى تخلف القنوط عن العلم المذكور والإنكار على التقديرين إنكار الواقع كما في قوله تعالى «أفلا تتقون» ونظائره لا إنكار الوقوع فإن عدم قنوطهم منه مما لا مرد له وقوله تعالى أن لو يشاء الله الخ متعلق بمحدوف أي أفلم ييأسوا من إيمانهم علما منهم أو عالمين بأنه لو يشاء الله لهدى الناس جميعا وأنه لم يشأ ذلك أو بآمنوا أي أفلم يقنط الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا على معنى أفلم ييأس من إيمانهم المؤمنون بمضمون الشرطية وبعدم تحقق مقدمها المنفهم من مكابرتهم حسبما تحكيه كلمة لو فالوصف المذكور من دواعي إنكار يأسهم وقيل أن أبا جهل وأضرابه قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت نبيا سير بقرآنك الجبال عن مكة حتى تتسع لنا ونتخذ فيها لبساتين والقطائع وقد سخرت لداود عليه السلام فلست بأهون على الله منه إن كنت نبيا كما زعمت أو سخر لنا به الريح كما سخرت لسليمان عليه السلام لنتجر عليها إلى الشام فقد شق علينا قطع الشقة البعيدة أو ابعث لنا به رجلين أو ثلاثة ممن مات من آبائنا فنزلت فمعنى تقطيع الأرض حينئذ قطعها بالسير ولا حاجة حينئذ إلى الاعتذار في إسناد الأفاعيل المذكورة إلى القرآن كما احتيج إليه في الوجهين الأولين وعن القراء أنه متعلق بما قبله من قوله وهم يكفرون بالرحمن وما بينهما اعتراض وهو بالحقيقة دال على الجواب والتقدير ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى لكفروا بالرحمن والتذكير في كلم به الموتى لتغليب المذكر من الموتى على غيره «ولا يزال الذين كفروا» من أهل مكة «تصيبهم بما صنعوا» أي بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه وعدم بيانه إما للقصد إلى تهويله أو استهجانه وهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من عليه الصلة له مع ما في صيغة الصنع من الإيذان برسوخهم في ذلك «قارعة» داهية تقرعهم وتقلقهم وهو ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر والنهب والسلب وتقديم المجرور على الفاعل لما مر مرارا من إرادة التفسير إثر الإبهام لزيادة التقرير والإحكام مع ما فيه من بيان أن مدار الإصابة من جهتهم آثر ذي أثير «أو تحل» تلك القارعة «قريبا» أي مكانا قريبا «من دارهم» فيفزعون منها أو يتطاير إليهم شرارها شبهت القارعة بالعدو المتوجه إليهم فاسند إليها الإصابة تارة والحلول أخرى ففيه استعارة بالكناية وتخييل وترشيح «حتى يأتي وعد الله» أي موتهم أو القيامة فإن كلا منهما وعد محتوم ولا مرد له وفيه دلالة على أن ما يصيبهم عند ذلك من العذاب في غاية الشدة وأن ما ذكر سابقة نفحة يسيرة بالنسبة ألية ثم حقق ذلك بقوله تعالى «إن الله لا يخلف الميعاد» أي الوعد كالميلاد والميثاق بمعنى الولادة والتوثقة لاستحالة ذلك على الله سبحانه وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أراد بالقارعة السرايا التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعثها وكانوا بين إغارة واختطاف وتخويف بالهجوم عليهم في ديارهم فالإصابة والحلول حينئذ من أحوالهم ويجوز على هذا أن يكون قوله تعالى أو تحل قريبا من دارهم خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم مرادا به حلوله الحديبية والمراد بوعد الله ما وعد به من فتح مكة «ولقد استهزئ برسل» كثيرة حلت «من قبلك فأمليت للذين كفروا» أي تركتهم ملاوة من الزمان في أمن
23 ودعة كما يملي للبهيمة في المرعى وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقي من المشركين من التكذيب والاقتراح على طريقة الاستهزاء به ووعيد لهم والمعنى إن ذلك ليس مختصا بك بل هو أمر مطرد قد فعل ذلك برسل كثيرة كائنة من قبلك فأمهلت الذين فعلوه بهم والعدول في الصلة إلى وصف الكفر ليس لأن المملى لهم غير المستهزئين بل لإرادة الجمع بين الوصفين أي فأمليت للذين كفروا مع استهزائهم فقط «ثم أخذتهم فكيف كان عقاب» أي عقابي إياهم وفيه من الدلالة على تناهي كيفيته في الشدة والفظاعة ما يخفى «أفمن هو قائم» أي رقيب مهيمن «على كل نفس» كائنة من كانت «بما كسبت» من خير أو شر لا يخفى عليه شيء من ذلك بل يجازي كلا بعمله وهو الله تعالى والخبر محذوف أي كمن ليس كذلك إنكارا لذلك وإدخال الفاء لتوجيه الإنكار إلى توهم المماثلة غب ما علم مما فعل تعالى بالمستهزئين من الإملاء المديد والأخذ الشديد ومن كون الأمر كله لله تعالى وكون هداية الناس جميعا منوطة بمشيئته تعالى ومن تواتر القوارع على الكفرة إلى أن يأتي وعد الله كأنه قيل الأمر كذلك فمن هذا شأنه كما ليس في عداد الأشياء حتى تشركوه به فالإنكار متوجه إلى ترتب المعطوف أعنى توهم المماثلة على المعطوف عليه المقدر أعني كون الأمر كما ذكر كما في قولك أتعلم الحق فلا تعمل به لا إلى المعطوفين جميعا كما إذا قلت ألا تعلمه فلا تعمل به وقوله تعالى «وجعلوا لله شركاء» جملة مستقلة جيء بها للدلالة على الخبر أو حالية أي أفمن هذه صفاته كما ليس كذلك وقد جعلوا له شركاء لا شريكا واحدا أو معطوفة على الخبر إن قدر ما يصلح لذلك أي أفمن هذا شأنه لم يوحدوه وجعلوا له شركاء ووضع المظهر للتنصيص على وحدانيته ذاتا وإسما وللتنبيه على اختصاصه باستحقاق العبادة مع ما فيه من البيان بعد الإبهام بإيراده موصولا للدلالة على التفخيم وقوله تعالى «قل سموهم» تبكيت لهم إثر تبكيت أي سموهم من هم وماذا أسماؤهم أو صفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة «أم تنبئونه» أي بل أتنبئون الله «بما لا يعلم في الأرض» أي بشركاء مستحقين للعبادة لا يعلمهم الله تعالى ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات والأرض وقرئ بالتخفيف «أم بظاهر من القول» أي بل أتسمونهم بشركاء بظاهر من القول من غير أن يكون له معنى وحقيقة كتسمية الزنجي كافورا كقوله تعالى ذلك قولهم بأفواههم وهاتيك الأساليب البديعة التي ورد عليها الآية الكريمة منادية على أنها خارجة عن قدرة البشر من كلام خلاق القوى والقدر فتبارك الله رب العالمين «بل زين للذين كفروا» وضع الموصول موضع المضمر ذما لهم وتسجيلا عليهم بالكفر «مكرهم» تمويههم الأباطيل أو كيدهم للإسلام بشركهم «وصدوا عن سبيل الله» أي سبيل الحق من صده صدا وقرئ بكسر الصاد على نقل حركة الدال إليها وقرئ بفتحها أي صدوا الناس أو
24 من صد صدودا «ومن يضلل الله» أي يخلق فيه الضلال بسوء اختياره أو يخذله «فما له من هاد» وفقه للهدى «لهم عذاب» شاق «في الحياة الدنيا» بالقتل والأسر وسائر ما يصيبهم من المصائب فإنها إنما تصيبهم عقوبة على كفرهم (ولعذاب الآخرة أشق) من ذلك بالشدة والمدة (وما لهم من الله) من عذابه المذكور (من واق) من حافظ يعصمهم من ذلك فمن الأولى صلة للوقاية والثانية مزيدة للتأكيد (مثل الجنة) أي صفتها العجيبة الشأن التي في الغرابة كالمثل (التي وعد المتقون) عن الكفر والمعاصي وهو مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه أي فيما قصصنا عليك مثل الجنة وقوله تعالى (تجرى من تحتها الأنهار) تفسير لذلك المثل على أنه حال من الضمير المحذوف من الصلة العائد إلى الجنة أي وعدها وهو الخبر عند غيره كقولك شأن زيد يأتيه الناس ويعظمونه أو على حذف موصوف أي مثل الجنة جنة تجري الخ (أكلها) ثمرها (دائم) لا ينقطع (وظلها) أيضا كذلك لا تنسخه الشمس كما تنسخ ظلال الدنيا (تلك) الجنة المنعوتة بما ذكر (عقبى الذين اتقوا) الكفر والمعاصي أي مآلهم ومنتهى أمرهم (وعقبى الكافرين النار) لا غير وفيه مالا يخفى من إطماع المتقين وإقناط الكافرين (والذين آتيناهم الكتاب) هم المسلمون من أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وكعب وإضرابهما ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران وثمانية باليمن واثنان وثلاثون بالحبشة (يفرحون بما أنزل إليك) إذ هو الكتاب الموعود في التوراة والإنجيل (ومن الأحزاب) أي من أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف والسيد العاقب اسقفى نجران واتباعهما (من ينكر بعضه) وهو الشرائع الحادثة إنشاء أو نسخا لا ما يوافق ما حرفوه وإلا لنعي عليهم من أول الأمر أن مدار ذلك إنما هو جنايات أيديهم وأما ما يوافق كتبهم فلم ينكروه وإن لم يفرحوا به وقيل يجوز أن يراد بالموصول الأول عامتهم فإنهم أيضا يفرحون به لكونه مصداقا لكتبهم في الجملة فحينئذ يكون قوله تعالى ومن الأحزاب الخ تتمة بمنزلة أن يقال ومنهم من ينكر بعضه (قل) إلزاما لهم وردا لإنكارهم (إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به) أي شيئا من الأشياء أو لا افعل الإشراك به والمراد قصر الأمر بالعبادة على الله تعالى لا قصر الأمر مطلقا على عبادته تعالى خاصة أي قل إنما أمرت فيما أنزل إلي بعبادة الله وتوحيده وظاهر أن لا سبيل
25 لكم إلى إنكاره لإطباق جميع الأنبياء والكتب على ذلك كقوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا فما لكم تشركون به عزير أو المسيح وقرئ ولا أشرك به بالرفع على الاستئناف أي وأنا لا أشرك به (إليه) إلى الله تعالى خاصة على النهج المذكور من التوحيد أو إلى ما أمرت به من التوحيد (أدعو) الناس لا إلى غيره أولا إلى شيء آخر مما لم يطبق عليه الكتب الإلهية والأنبياء عليهم الصلاة والسلام فما وجه إنكاركم (وإليه) إلى الله تعالى وحده (مآب) مرجعي للجزاء وحيث كانت هذه الحجة الباهرة لازمة لهم لا يجدون عنها محيصا أمر عليه الصلاة والسلام بأن يخاطبهم بذلك إلزاما وتبكيتا لهم ثم شرع في رد إنكارهم لفروع الشرائع الواردة ابتداء أو بدلا من الشرائع المنسوخة ببيان الحكمة في ذلك فقيل (وكذلك أنزلناه) أي ما أنزل إليك وذلك إشارة إلى مصدر أنزلناه أو أنزل إليك ومحله النصب على المصدرية أي مثل ذلك الإنزال البديع المنتظم لأصول مجمع عليها وفروع متشعبة إلى موافقة ومخالفة حسبما تقتضيه قضية الحكمة والمصلحة أنزلناه (حكما) حاكما يحكم في القضايا والواقعات بالحق أو يحكم به كذلك والتعرض لذلك العنوان مع أن بعضه ليس بحكم لتربية وجوب مراعاته وتحتم المحافظة عليه (عربيا) مترجما بلسان العرب والتعرض لذلك للإشارة إلى أن ذلك إحدى مواد المخالفة للكتب السابقة مع أن ذلك مقتضى الحكمة إذ بذلك يسهل فهمه وإدراك إعجازه والاقتصار على اشتمال الإنزال على أصول الديانات المجمع عليها حسبما يفيده قوله تعالى قل إنما أمرت أن أعبد الله الخ يأباه التعرض لاتباع أهوائهم وحديث المحور والإثبات وأن لكل أجل كتاب فإن المجمع عليه لا يتصور فيه الاستتباع والاتباع (ولئن تبعت أهواءهم) التي يدعونك إليها من تقرير الأمور المخالفة لما أنزل إليك من الحق كالصلاة إلى بيت المقدس بعد التحويل (بعد ما جاءك من العلم) العظيم الشأن الفائض من ذلك الحكم العربي أو العلم بمضمونه (مالك من الله) من جنابه العزيز والالتفات من التكلم إلى الغيبة وإيراد الاسم الجليل لتربية المهابة قال الأزهري لا يكون إلها حتى يكون معبودا وحتى يكون خالقا ورازقا ومدبرا (من ولي) يلي أمرك وينصرك على من يبغيك الغوائل (ولا واق) يقيك من مصارع السوء وحيث لم يستلزم نفي الناصر على العدو نفي الواقي من نكايته أدخل على المعطوف حرف النفي للتأكيد كقولك مالي دينار ولا درهم أو مالك من باس الله من ناصر وواق لاتباعك أهواءهم وأمثال هاتيك القوارع إنما هي لقطع أطماع الكفرة وتهييج المؤمنين على الثبات في الدين واللام في لئن موطئة ومالك ساد مسد جوابي الشرط والقسم (ولقد أرسلنا رسلا) كثيرة كائنة (من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذريته)
26 نساء وأولادا كما جعلناها لك وهو رد لما كانوا يعيبونه صلى الله عليه وسلم بالزواج والولاد كما كانوا يقولون ما لهذا الرسول يأكل الطعام الخ (وما كان لرسول) منهم أي ما صح وما استقام ولم يكن في وسعه (أن يأتي آية) مما اقترح عليه وحكم مما التمس منه (إلا بإذن الله) ومشيئته المنية على الحكم والمصالح التي عليها يدور أمر الكائنات لا سيما مثل هذه الأمور العظام والالتفات لما قدمناه ولتحقيق مضمون الجملة بالإيماء إلى العلة (لكل أجل) أي لكل مدة ووقت من المدد والأوقات (كتاب) حكم معين يكتب على العباد حسبما تقتضيه الحكمة فإن الشرائع كلها الإصلاح أحوالهم في المبدأ والمعاد ومن قضية ذلك انه يختلف حسب اختلاف أحوالهم المتغيرة حسب تغيرا الأوقات كاختلاف العلاج حسب اختلاف أحوال المرضى بحسب الأوقات (يمحو الله ما يشاء) أي ينسخ ما يشاء نسخه من الأحكام لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت (ويثبت) بدله ما فيه المصلحة أو يبقيه على حاله غير منسوخ أو يثبت ما شاء إثباته مطلقا أعم منهما ومن الإنشاء ابتداء أو يمحو من ديوان الحفظة الذين ديدنهم كتب كل قول وعمل مالا يتعلق به الجزاء ويثبت الباقي أو يمحو سيئات التائب ويثبت مكانها الحسنة أو يمحو قرنا ويثبت آخرين أو يمحو الفاسدات من العالم الجسماني ويثبت الكائنات أو يمحو الرزق ويزيد فيه أو يمحو الأجل أو السعادة والشقاوة وبه قال ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم والقائلون به يتضرعون إلى الله تعالى أن يجعلهم سعداء وهذا رواه جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم والأنسب تعميم كل من المحو والإثبات ليشمل الكل ويدخل في ذلك مواد الإنكار دخولا أولياء وقرئ بالتشديد (وعنده أم الكتاب) أي أصله وهو اللوح المحفوظ إذ ما من شيء من الذاهب والثابت إلا وهو مكتوب فيه كما هو (وإما نرينك) أصله إن نرك وما مزيدة لتأكيد معنى الشرط ومن ثمة ألحقت النون بالفعل (بعض الذي نعدهم) أي وعدناهم من إنزال العذاب عليهم والعدول إلى صيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو نعدهم وعدا متجددا حسبما تقتضيه الحكمة من إنذار غب إنذار وفي إيراد البعض رمزا إلى إرادة بعض الموعود (أو نتوفينك) قبل ذلك (فإنما عليك البلاغ) أي تبليغ إحكام الرسالة بتمامها لا تحقيق مضمون ما بلغته من الوعيد الذي هو من جملتها (وعلينا) لا عليك (الحساب) محاسبة أعمالهم السيئة والمؤاخذة بها أي كيفما دارت الحال أريناك بعض ما وعدناهم من العذاب الدنيوي أو لم تركه فعلينا ذلك وما عليك إلا تبليغ الرسالة فلا تهتم بما وراء ذلك فنحن نكفيكه ونتم ما وعدناك من الظفر ولا يضجرك تأخره فإن ذلك لما نعلم من المصالح الخفية ثم طيب نفسه عليه الصلاة والسلام بطلوع تباشيره فقال (أولم يروا) استفهام إنكاري والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أأنكروا نزول
27 ما وعدناهم أو أشكوا أو ألم ينظروا في ذلك ولم يروا (أنا نأتي الأرض) أي ارض الكفر (ننقصها من أطرافها) بأن نفتحها على المسلمين شيئا فشيئا ونلحقها بدار الإسلام ونذهب منها أهلها بالقتل والأسر والإجلاء أليس هذا من ذلك ومثله قوله عز سلطانه أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون وقوله ننقصها حال من فاعل نأتي أو من مفعوله وقرئ ننقصها بالتشديد وفي لفظ الإتيان المؤذن بالإستواء المحتوم والاستيلاء العظيم من الفخامة ما لا يخفى كما في قوله عز وجل وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا (والله يحكم) ما يشاء كما يشاء وقد حكم للإسلام بالعزة والإقبال وعلى الكفر بالذلة والإدبار حسبما يشاهد من المخايل والآثار وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة وبناء الحكم على الاسم الجليل من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر بالإشارة إلى العلة ما لا يخفى وهي جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها وقوله تعالى (لا معقب لحكمه) اعتراض في اعتراض لبيان علو شأن حكمه جل جلاله وقيل نصب على الحالية كأنه قيل والله يحكم نافذا حكمه كما تقول جاء زيد لا عمامة على رأسه أي حاسرا والمعقب من يكر على الشيء فيبطله وحقيقته من يعقبه ويقفيه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يقفى غريمه بالاقتضاء والطلب (وهو سريع الحساب) فعما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بأفانين العذاب غب ما عذبهم بالقتل والأسر والإجلاء حسبما يرى وقال ابن عباس رضي الله عنهما سريع الانتقام (وقد مكر) الكفار (الذين) خلوا (من قبلهم) من قبل كفار مكة بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاء وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا عبرة بمكرهم ولا تأثير بل لا وجود له في الحقيقة ولم يصرح بذلك اكتفاء بدلالة القصر المستفاد من تعليله أعني قوله تعالى (فلله المكر) أي جنس المكر (جميعا) لا وجود لمكرهم أصلا إذ هو عبارة عن إيصال المكروه إلى الغير من حيث لا يشعر به وحيث كان جميع ما يأتون وما يذرون بعلم الله تعالى وقدرته وإنما لهم مجرد الكسب من غير فعل ولا تأثير حسبما يبينه قوله عز وجل (يعلم ما تكسب كل نفس) ومن قضيته عصمة أوليائه وعقاب الماكرين بهم توفية لكل نفس جزاء ما تكسبه ظهر أن ليس لمكرهم بالنسبة إلى من مكروا بهم عين ولا أثر وأن المكر كله لله تعالى حيث يؤاخذهم بما كسبوا من فنون المعاصي التي من جملتها مكرهم من حيث لا يحتسبون أو لله المكر الذي باشروه جميعا لا لهم على معنى أن ذلك ليس مكرا منهم بالأنبياء بل هو بعينه مكر من الله تعالى بهم وهم لا يشعرون حيث لا يحيق المكر السيء إلا بأهله (وسيعلم الكفار) حين يقضي بمقتضى علمه فيوفى كل نفس جزاء ما تكسبه (لمن عقبى الدار) أي العاقبة الحميدة من الفريقين وإن جهلوا ذلك يومئذ وقيل السين لتأكيد وقوع ذلك وعلمهم به حينئذ وقرئ سيعلم الكافر على إرادة الجنس والكافرون والكفر أي أهله والذين كفروا وسيعلم على صيغة المجهول من الإعلام أي سيخبر
28 (ويقول الذين كفروا لست مرسلا) قيل قاله رؤساء اليهود وصيغة الاستقبال لاستحضار صورة كلمتهم الشنعاء تعجيبا منها أو للدلالة على تجدد ذلك واستمراره منهم (قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم) فإنه قد أظهر على رسالتي من الحجج القاطعة والبينات الساطعة ما فيه مندوحة عن شهادة شاهد آخر (ومن عنده علم الكتاب) أي علم القرآن وما عليه من النظم المعجز أو من هو من علماء أهل الكتاب الذين أسلموا لأنهم يشهدون بنعته عليه الصلاة والسلام في كتبهم والآية مدنية بالاتفاق أو من عنده علم اللوح المحفوظ وهو الله سبحانه أي كفى به شاهدا بيننا بالذي يستحق العبادة فإنه قد شحن كتابه بالدعوة إلى عبادته وأيدني بأنواع التأييد وبالذي يختص بعلم ما في اللوح من الأشياء الكائنة الثابتة التي من جملتها رسالتي وقرئ من عنده بالكسر وعلم الكتاب على الأول مرتفع بالظرف المعتمد الموصول أو مبتدأ خبره الظرف وهو متعين على الثاني ومن عنده علم الكتاب بالكسر وبناء المفعول ورفع الكتاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الرعد أعطي من الأجر عشر حسنات بوزن كل سحاب مضى وكل سحاب يكون إلى يوم القيامة وبعث يوم القيامة من الموفين بعهد الله عز وجل والله أعلم بالصواب
29 سورة إبراهيم عليه السلام آيتي ثمانية وعشرون وتسعة وعشرون فمدنيتان وآيها اثنان وخمسون) بسم الله الرحمن الرحيم (الر) مر الكلام فيه وفي محله غير مرة وقوله تعالى (كتاب) خبر له على تقدير كون الر مبتدأ أو لمبتدأ مضمر على تقدير كونه خبرا لمبتدأ محذوف أو مسرودا على نمط التعديد ويجوز أن يكون خبرا ثانيا لهذا المبتدأ المحذوف وقوله تعالى «أنزلناه إليك» صفة له وقوله تعالى «لتخرج الناس» متعلق بأنزلناه أي لتخرجهم كافة بما في تضاعيفه من البينات الواضحة المفصحة عن كونه من عند الله عز وجل الكاشفة عن العقائد الحقة وقرئ ليخرج الناس (من الظلمات) أي ليخرج به الناس من عقائد الكفر والضلال التي كلها ظلمات محضة وجهالات صرفة (إلى النور) إلى الحق الذي هو نور بحت لكن لا كيفما كان فإنك لا تهدى من أحببت بل (بإذن ربهم) أي بتيسيره وتوفيقه وللأنباء عن كون ذلك منوطا بإقبالهم إلى الحق كما يفصح عنه قوله تعالى ويهدي إليه من أناب استعير له الإذن الذي هو عبارة عن تسهيل الحجاب لمن يقصد الورود وأضيف إلى ضميرهم اسم الرب المفصح عن التربية التي هي عبارة عن تبليغ الشيء إلى كماله المتوجه إليه وشمول الإذن بهذا المعنى للكل واضح وعليه يدور كون الإنزال لإخراجهم جميعا وعدم تحقق الإذن بالفعل في بعضهم لعدم تحقق شرطه المستند إلى سوء اختيارهم غير مخل بذلك والياء متعلقة بتخرج أو بمضمر وقع حالا من مفعوله أي ملتبسين بإذن ربهم وجعله حالا من فاعله يأباه إضافة الرب إليهم لا إليه وحيث كان الحق مع وضوحه في نفسه وإيضاحه لغيره موصلا إلى الله عز وجل استعير له النور تارة والصراط أخرى فقيل (إلى صراط العزيز الحميد) على وجه الإبدال بتكرير العامل كما في قوله تعالى للذين استضعفوا لمن آمن منهم وإخلال البدل والبيان بالاستعارة إنما هو في الحقيقة لا في المجاز كما في قوله سبحانه حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وقيل هو استئناف مبنى على سؤال كأنه قيل إلى أي نور فقيل إلى صراط العزيز الحميد وإضافة الصراط إليه تعالى لأنه مقصده أو المبين له وتخصيص الوصفين بالذكر للترغيب في سلوكه ببيان ما فيه من الأمن والعاقبة الحميدة (الله) بالجر عطف بيان للعزيز الحميد لجريانه مجرى الأعلام الغالبة بالاختصاص بالمعبود بالحق
30 كالنجم في الثريا وقرئ بالرفع على هو الله أي العزيز الحميد الذي أضيف إليه الصراط الله (الذي له) ملكا وملكا (ما في السماوات وما في الأرض) أي ما وجد فيهما داخلا فيهما أو خارجا عنهما متمكنا فيهما كما مر في آية الكرسي ففيه على القراءتين بيان لكمال فخامة شأن الصراط وإظهار لتحتم سلوكه على الناس قاطبة وتجويز الرفع على الابتداء يجعل الموصول خبرا مبناه الغفول عن هذه النكتة وقوله عز وجل (وويل للكافرين) وعيد لمن كفر بالكتاب ولم يخرج به من الظلمات إلى النور بالويل وهو نقيض الوال وهو النجاة واصله النصب كسائر المصادر ثم رفع رفعها للدلالة على الثبات كسلام عليك (من عذاب شديد) متعلق بويل على معنى يولولون ويضجون منه قائلين يا ويلاه كقوله تعالى دعوا هنالك ثبورا (الذين يستحبون الحياة الدنيا) أي يؤثرونها استفعال من المحبة فإن المؤثر للشيء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها وأفضل عندها من غيره (على الآخرة) أي الحياة الآخرة الأبدية (ويصدون) الناس (عن سبيل الله) التي بين شأنها والاقتصار على الإضافة إلى الاسم الجليل المنطوي على كل وصف جميل لروم الاختصار وهو من صده صدا وقرئ يصدون من أصد المنقول من صد صدودا إذا نكب وهو غير فصيح كأوقف فإن في صده ووقفه لمندوحة عن تكلف النقل (ويبغونها) أي يبغون لها فحذف الجار وأوصل الفعل إلى الضمير أي يطلبون لها (عوجا) أي زيغا واعوجاجا وهي أبعد شيء من ذلك أي يقولون لمن يريدون صده وإضلاله إنها سبيل ناكبة وزائغة غير مستقيمة ومحل موصول هذه الصلات الجر على أنه بدل من الكافرين أو صفة له فيعتبر كل وصف من أوصافهم بإزار ما يناسبه من المعاني المعتبرة في الصراط فالكفر المنبىء عن الستر بإزاء كونه نورا واستحباب الحياة الدنيا الفانية المفصحة عن وخامة العاقبة بمقابلة كون سلوكه محمود العاقبة والصد عنه بإزاء كونه مأمونا وفيه من الدلالة على تماديهم في الغي مالا يخفى أو النصب على الذم أو الرفع على الابتداء والخبر قوله تعالى «أولئك في ضلال بعيد» وعلى الأول جملة مستأنفة وقعت معللة لما سبق من لحوق الويل بهم تأكيدا لما شعر به بناء الحكم على الموصول أي أولئك الموصوفون بالقبائح المذكورة من استحباب الحياة الدنيا على الآخرة وصد الناس عن سبيل الله المستقيمة ووصفها بالاعوجاج وهي منه بنزه في ضلال عن طريق الحق بعيد بالغ في ذلك غاية الغايات القاصية والبعد وإن كان من أحوال الضال إلا أنه قد وصف به وصفه مجازا للمبالغة كجد جده وداهية دهياء ويجوز أن يكون المعنى في ضلال ذي بعد أو فيه بعد فإن الضال قد يضل عن الطريق مكانا قريبا وقد يضل بعيدا وفي جعل الضلال محيطا بهم إحاطة الظرف بما فيه ما لا يخفى من المبالغة
31 (وما أرسلنا) أي في الأمم الخالية من قبلك كما سيذكر إجمالا (من رسول إلا) ملتبسا (بلسان قومه) متكلما بلغة من أرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواء بعث فيهم أولا وقرئ بلسن وهو لغة فيه كريش ورياش وبلسن بضمتين وضمة وسكون كعمد وعمد (ليبين لهم) ما أمروا به فيلتقوا منه بيسر وسرعة ويعملوا بموجبه من غير حاجة إلى الترجمة ممن لم يؤمر به وحيث لم يمكن مراعاة هذه القاعدة في شأن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين لعموم بعثته للثقلين كافة على اختلاف لغاتهم وكان تعدد نظم الكتاب المنزل إليه حسب تعدد ألسنة الأمم أدعى إلى التنازع واختلاف الكلمة وتطرق أيدي التحريف مع أن استقلال بعض من ذلك بالإعجاز دون غيره مئنة لقدح القادحين واتفاق الجميع فيه أمر قريب من الإلجاء وحصر البيان بالترجمة والتفسير اقتضت الحكمة اتحاد النظم المنبىء عن العزة وجلالة الشأن المستتبع لفوائد غنية عن البيان على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعدد إذ لا بد لكل أمة من معرفة توافق الكل وتحاذيه حذو القذة بالقذة من غير مخالفة ولو في خصلة فذة وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحدا أو متعددا وفيه من التعذر ما يتاخم الامتناع ثم لما كان أشرف الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومه الذين بعث فيهم ولغتهم أفضل اللغات نزل الكتاب المتين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامه فيما بين الأمم أجمعين وقيل الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه تعالى أنزل الكتب كلها عربية ثم ترجمها جبريل عليه الصلاة والسلام أو كل من نزل عليه من الأنبياء عليهم السلام بلغة من نزل عليهم ويرده قوله تعالى ليبين لهم فإنه ضمير القوم وظاهر أن جميع الكتب لم ينزل لتبيين العرب وفي رجعه إلى قوم كل نبي كأنه قيل وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قوم محمد صلى الله عليه وسلم ليبين الرسول لقومه الذين أرسل إليهم مالا يخفى من التكلف (فيضل الله من يشاء) إضلاله أي يخلق فيه الضلال لمباشرة أسبابه المؤدية إليه أو يخذله ولا يلطف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الألطاف (ويهدي) بالتوفيق ومنح الألطاف (من يشاء) هدايته لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق والالتفات بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل المنطوي على الصفات لتفخيم شأنهما وترشيح مناط كل منهما والفاء فصيحة مثلها في قوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك البحر فانفلق كأنه قيل فبينوه لهم فأضل الله منهم من شاء إضلاله لما لا يليق إلا به وهدى من شاء هدايته لاستحقاقه لها والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به وجريان كل من أهل الخذلان والهداية على سنته أمر محقق غني عن الذكر والبيان والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو للدلالة على التجدد والاستمرار حسب تجدد البيان من الرسل المتعاقبة عليهم السلام وتقديم الإضلال على الهداية إما لأنه إبقاء ما كان على من كان والهداية إنشاء ما لم يكن أو للمبالغة في بيان أن لا تأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل وأن مدار الأمر إنما هو مشيئته تعالى بإيهام أن ترتب الضلالة على ذلك أسرع من
32 ترتب الاهتداء وهذا محقق لما سلف من تقييد الإخراج من الظلمات إلى النور بإذن الله تعالى (وهو العزيز) فلا يغالب في مشيئته (الحكيم) الذي لا يفعل شيئا من الإضلال والهداية إلا لحكمة بالغة وفيه أن ما فوض إلى الرسل إنما هو تبليغ الرسالة وتبيين طريق الحق وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد (ولقد أرسلنا موسى) شروع في تفصيل ما أجمل في قوله عز وجل وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم الآية (بآياتنا) أي ملتبسا بها وهي معجزاته التي أظهرها لبني إسرائيل (أن أخرج قومك) بمعنى أي أخرج لأن الإرسال فيه معنى القول أو بأن أخرج كما في قوله تعالى وأن أقم وجهك فإن صيغ الأفعال في الدلالة على المصدر سواء وهو المدار في صحة الوصل والمراد بذلك إخراج بني إسرائيل بعد مهلك فرعون (من الظلمات) من الكفر والجهالات التي أدتهم إلى أن يقولوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (إلى النور) إلى الإيمان بالله وتوحيده وسائر ما أمروا به (وذكرهم بأيام الله) أي بنعمائه وبلائه كما ينبئ عنه قوله اذكروا نعمة الله عليكم لكن لا بما جرى عليهم فقط بل عليهم وعلى من قبلهم من الأمم في الأيام الخالية حسبما ينبى عنه قوله تعالى ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم الآيات أو بأيامه المنطوية على ذلك كما يلوح به قوله تعالى إذ أنجاكم والالتفات من التكلم إلى الغبية بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنها والإشعار بعدم اختصاص ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومه كما توهمه الإضافة إلى ضمير المتكلم أي عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد وقيل أيام الله وقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم وأيام العرب وقائعها وحروبها وملاحمها أي أنذرهم وقائعه التي دهمت الأمم الدارجة ويرده ما تصدى له صلى الله عليه وسلم بصدد الامتثال من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى عليك (إن في ذلك) أي في التذكير بها أو في مجموع تلك النعماء والبلاء أو في أيامها (لآيات) عظيمة أو كثيرة دالة على وحدانية الله تعالى وقدرته وعلمه وحكمته فهي على الأول عبارة عن الأيام سواء أريد بها أنفسها أو ما فيها من النعماء والبلاء ومعنى ظرفية التذكير لها كونه مناطا لظهورها وعلى الثالث عن تلك النعماء والبلاء ومعنى الظرفية ظاهر وأما على الثاني وهو كونه إشارة إلى مجموع النعماء فعن كل واحدة من تلك النعماء والبلاء والمشار إليه المجموع المشتمل عليها من حيث هو مجموع أو كلمة في تجريدية مثلها في قوله تعالى لهم فيها دار الخلد (لكل صبار) على بلائه (شكور) لنعمائه وقيل مؤمن والتعبير عنهم بذلك للإشعار بأن الصبر والشكر عنوان المؤمن أي لكل من يليق بكمال الصبر والشكر أو الإيمان ويصير أمره إليها لا لمن اتصف بها بالفعل لأنه تعليل للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكير المؤدى إلى تلك المرتبة فإن من تذكر ما فاض أو نزل عليه أو على من قبله من النعماء والبلاء وتنبه لعاقبة الشكر والصبر أو الإيمان لا يكاد يفارقها وتخصيص الآيات بهم لأنهم المنتفعون بها لا لأنها خافية
33 عن غيرهم فإن النبيين حاصل بالنسبة إلى الكل وتقديم الصبار على الشكور لتقدم متعلق الصبر أعنى البلاء على متعلق الشكر أعني النعماء وكون الشكر عافية الصبر (وإذ قال موسى لقومه) شروع في بيان تصديه عليه الصلاة والسلام لما أمر به من التذكير للإخراج المذكور وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وتعليق الذكر بالوقت مع أن المقصود تذكير ما وقع فيه من الحوادث قد مر سره غير مرة أي أذكر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام لقومه (اذكروا نعمة الله عليكم) بدأ عليه الصلاة والسلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبل وهي إليه أميل والظرف متعلق بنفس النعمة إن جعلت مصدرا أو بمحذوف وقع حالا منها إن جعلت اسما أي اذكروا إنعامه عليكم واذكروا نعمته كائنة عليكم وكذلك كلمة إذ في قوله تعالى (إذ أنجاكم من آل فرعون) إي اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائه إياكم من آل فرعون أو اذكروا نعمة الله مستقرة عليكم وقت إنجائه إياكم منهم أو بدل اشتمال من نعمة الله مرادا بها الإنعام أو العطية (يسومونكم) يبغونكم من سامه خسفا إذا أولاه ظلما وأصل السوم الذهاب في طلب الشيء (سوء العذاب) السوء مصدر ساء يسوء والمراد به جنس العذاب السيء أو استبعادهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة والاستهانة بهم وغير ذلك مما لا يحصرو نصبه على أنه مفعول ليسومونكم (ويذبحون أبناءكم) المولودين وإنما عطفه على يسومونكم إخراجا له عن مرتبة العذاب المعتاد وإنما فعلوا ذلك لأن فرعون رأى في المنام أو قال له الكهنة أنه سيولد منهم من يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلن يغن عنهم من قضاء الله شيئا (ويستحيون نساءكم) أي يبقونهن في الحياة مع الذل والصغار ولذلك عد من جملة البلاء والجمل أحوال من آل فرعون أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعا لأن فيها ضمير كل منهما (وفي ذلكم) أي فيما ذكر من أفعالهم الفظيعة (بلاء من ربكم) أي ابتلاء منه لا أن البلاء عين تلك الأفعال اللهم إلا أن تجعل في تجريدية فنسبته إلى الله تعالى إما من حيث الخلق أو الأقدار والتمكين (عظيم) لا يطاق ويجوز أن يكون المشار إليه الإنجاء من ذلك والبلاء الابتلاء بالنعمة وهو الأنسب كما يلوح به التعرض لوصف الربوبية وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الإنجاء أو باعتبار أن بلاء المؤمن تربية له (وإذ تأذن ربكم) من جملة موسى عليه الصلاة والسلام لقومه معطوف على نعمة الله أي اذكروا نعمة الله عليكم واذكروا حين تأذن ربكم أي آذن إيذانا بليغا لا تبقى معه شائبة لما في صيغة التفعل من معنى التكلف المحمول في حقه سبحانه على غايته التي هي الكمال وقيل هو معطوف على قوله تعالى إذ أنجاكم أي اذكروا نعمته تعالى في هذين الوقتين فإن هذا التأذن أيضا نعمة من الله تعالى عليهم ينالون بها خيرى الدنيا والآخرة وفي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه وإذ قال ربكم ولقد ذكرهم عليه الصلاة والسلام أولا بنعمائه تعالى
34 عليهم صريحا وضمنه تذكير ما أصابهم قبل ذلك من الضراء ثم أمرهم ثانيا بذكر ما جرى من الله سبحانه من الوعد بالزيادة على تقدير الشكر والوعيد بالعذاب على تقدير الكفر والمراد بتذكير الأوقات تذكير ما وقع فيها من الحوادث مفصلة إذ هي محيطة بذلك فإذا ذكرت ذكر ما فيها كأنه مشاهد معاين (لئن شكرتم) يا بني إسرائيل ما خولتكم من نعمة الإنجاء وإهلاك العدو وغير ذلك من النعم والآلاء الفائتة للحصر وقابلتموه بالإيمان والطاعة (لأزيدنكم) نعمة إلى نعمة (ولئن كفرتم) ذلك وغمصتموه (إن عذابي لشديد) فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم ومن عادة الكرام التصريح بالوعد والتعريض الوعيد فما ظنك بأكرم الأكرمين ويجوز أن يكون المذكور تعليلا للجواب المحذوف أي لأعذبنكم واللام في الموضعين موطئة للقسم وكل من الجوابين ساد مسد جوابي الشرط والقسم والجملة إما مفعول لتأذن لأنه ضرب من القول أو لقول مقدر بعده كأنه قيل وإذ تأذن ربكم فقال الخ (وقال موسى إن تكفروا) نعمه تعالى ولم تشكروها (أنتم) يا بني إسرائيل (ومن في الأرض) من الخلائق (جميعا فإن الله لغني) عن شكركم وشكر غيركم (حميد) مستوجب للحمد بذاته لكثرة ما يوجبه من أياديه وإن لم يحمده أحد أو محمود يحمده الملائكة بل كل ذرة من ذرات العالم ناطقة بحمده والحمد حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدل على كماله سبحانه وهو تعليل لما حذف من جواب إن أي إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم فإن الله تعالى لغني عن شكر الشاكرين ولعله عليه الصلاة والسلام إنما قاله عند ما عاين منهم دلائل العناد ومخايل الإصرار على الكفر والفساد وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيب ولا التعريض بالترهيب أو قاله غب تذكيرهم من قول الله عز سلطانه وتحقيقا لمضمونه وتحذيرا لهم من الكفران ثم شرع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الخالية فقال (ألم يأتيكم نبأ الذين من قبلكم) ليتدبروا ما أصاب كل واحد من حزبي المؤمن والكافر فيقلعوا عماهم عليه من الشر وينيبوا إلى الله تعالى وقيل هو ابتداء كلام من الله تعالى خطابا للكفرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فيختص تذكير موسى عليه الصلاة والسلام بما اختص ببني إسرائيل من السراء والضراء والأيام بالأيام الجارية عليهم فقط وفيه مالا يخفى من البعد وأيضا لا يظهر حينئذ وجه تخصيص تذكير الكفرة الذين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بما أصاب أولئك المعدودين مع أن غيرهم أسوة لهم في الخلو قبل هؤلاء (قوم نوح) بدل من الموصول أو عطف بيان (وعاد) معطوف على قوم نوح (وثمود والذين من بعدهم) أي من هؤلاء المذكورين عطف عام على قوم نوح وما عطف
35 عليه وقوله تعالى (لا يعلمهم إلا الله) اعتراض أو الموصول مبتدأ ولا يعلمهم إلى آخره خبره والجملة اعتراض والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله سبحانه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عدنان وإسماعيل ثلاثون أبا لا يعرفون وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا قرأ هذه الآية قال كذب النسابون يعني أنهم يدعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمها عن العباد (جاءتهم رسلهم) استئناف لبيان نبئهم (بالبينات) بالمعجزات الظاهرة والبينات الباهرة فبين كل رسول لأمته طريق الحق وهداهم إليه ليخرجهم من الظلمات إلى النور (فردوا أيديهم في أفواههم) مشيرين بذلك إلى ألسنتهم وما يصدر عنها من المقالة اعتناء منهم بشأنها وتنبيها للرسل على تلقيها والمحافظة عليها وإقناطا لهم عن التصديق والإيمان بإعلام أن لا جواب لهم سواه (وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به) أي على زعمكم وهي البينات التي أظهروها حجة على صحة رسالاتهم كقوله تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ومرادهم بالكفر بها الكفر بدلالتها على صحة رسالاتهم أو فعضوها غيضا وضجرا مما جاءت به الرسل كقوله تعالى عضوا عليكم الأنامل من الغيض أو وضعوها عليها تعجبا منه واستهزاء به كمن غلبه الضحك أو إسكانا للأنبياء عليهم السلام وأمرا لهم بإطباق الأفواه أو ردوها في أفواه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يمنعونهم من التكلم تحقيقا أو تمثيلا أو جعلوا أيدي الأنبياء في أفواههم تعجبا من عتوهم وعنادهم كما ينبئ عنه تعجبهم بقولهم أفي الله شك الخ وقيل الأيدي بمعنى الأيادي عبر بها عن مواعظهم ونصائحهم وشرائعهم التي مدار النعم الدينية والدنياوية لأنهم لما كذبوها فلم يقبلوها فكأنهم ردوها إلى حيث جاءت منه (وإنا لفي شك) عظيم (مما تدعوننا إليه) من الإيمان بالله والتوحيد فلا ينافي شكهم في ذلك كفرهم القطعي بما أرسل به الرسل من البينات فإنهم كفروا بها قطعا حيث لم يعتدوا بها ولم يجعلوها من جنس المعجزات ولذلك قالوا فأتونا بسلطان مبين وقرئ تدعون بالإدغام (مريب) موقع في الريبة من أرابه أو ذي ريبة من أراب الرجل وهي قلق النفس وعدم اطمئنانها بالشيء (قالت رسلهم) استئناف مبني على سؤال ينساق إليه المقال كأنه قيل فماذا قالت لهم رسلهم فأجيب بأنهم قالوا منكرين عليهم ومتعجبين من مقالتهم الحمقاء (أفي الله شك) بإدخال الهمزة على الظرف للإيذان بان مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيما لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلا منقادين عن تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا أأنتم في شك مريب من الله تعالى مبالغة في تنزيه ساحة السبحان عن شائبة الشك وتسجيلا عليهم بسخافة العقول أي أفي شأنه سبحانه من وجوده ووحدته ووجوب الإيمان به وحده شك ما وهو أظهر من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قبله في شك مريب وحيث كان مقصدهم الأقصى الدعوة إلى الإيمان والتوحيد
36 وكان إظهار البينات وسيلة إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قول الكفرة إنا كفرنا بما أرسلتم به واقتصروا على بيان ما هو الغاية القصوى ثم عقبوا ذلك الإنكار بما يوجبه من الشواهد الدالة على انتفاء المنكر فقالوا (فاطر السماوات والأرض) أي مبدعهما وما فيهما من المصنوعات على نظام أنيق شاهد بتحقق ما أنتم منه في شك وهو صفة للإسم الجليل أو بدل منه وشك مرتفع بالظرف لاعتماده على الاستفهام وجعله مبتدأ على أن الظرف خبره يفضي إلى الفصل بين الموصوف والصفة بالأجنبي أعني المبتدأ والفاعل ليس بأجنبي من رافعه وقد جوز ذلك أيضا (يدعوكم) إلى الإيمان بإرساله إبانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهمه قولكم مما تدعوننا إليه (ليغفر لكم) بسببه أو يدعوكم لأجل المغفرة كقولك دعوته ليأكل معي (من ذنوبكم) أي بعضها وهو ما عدا المظالم مما بينهم وبينه تعالى فإن الإسلام بحبه قيل هكذا وقع في جميع القرآن في وعد الكفرة دون وعد المؤمنين تفرقة بين الوعد ولعل ذلك لما أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفرة مرتبة على محض الإيمان وفي شأن المؤمنين مشفوعة بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فيتناول الخروج من المظالم وقيل المعنى ليغفر لكم بدلا من ذنوبكم (ويؤخركم إلى أجل مسمى) إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعماركم على تقدير الإيمان (قالوا) استئناف كما سبق (إن أنتم) أي ما أنتم (إلا بشر مثلنا) من غير فضل يؤهلكم لما تدعونه من النبوة (تريدون) صفة ثانية لبشر حملا على المعنى كقوله تعالى أبشر يهدوننا أو كلام مستأنف أي تريدون بما تتصدون له من الدعوة والإرشاد (إن تصدونا) بتخصيص العبادة بالله سبحانه (عما كان يعبد آباؤنا) أي عن عبادة ما استمر آباؤنا على عبادته من غير شيء يوجبه وإلا (فأتونا) أي وإن لم يكن الأمر كما قلنا بل كنتم رسلا من جهة الله تعالى كما تدعونه فأتونا (بسلطان مبين) يدل على فضلكم واستحقاقكم لتلك الرتبة أو على صحة ما تدعونه من النبوة حتى نترك ما لم نزل نعبده أبا عن جد ولقد كانوا آتوهم من الآيات الظاهرة والبينات الباهرة ما تخر له صم الجبال ولكنهم إنما يقولون ما يقولون من العظائم مكابرة وعنادا وإراءة لمن وراءهم أن ذلك ليس من جنس ما ينطلق عليه السلطان المبين (قالت لهم رسلهم) مجاراة معهم في أول مقالتهم وإنما قيل لهم لاختصاص الكلام بهم حيث أريد إلزامهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوع الشك في الله سبحانه فإن ذلك عام وإن اختص بهم ما يعقبه (إن نحن إلا بشر مثلكم) كما تقولون (ولكن الله يمن) بالنبوة (على من يشاء من عباده) يعنون أن ذلك عطية من الله تعالى يعطيها من يشاء من عباده بمحض الفضل والامتنان من غير داعية توجبه قالوه تواضعا وهضما للنفس أو ما نحن من الملائكة بل نحن بشر مثلكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس ولكن الله يمن بالفضائل والكمالات والإستعدادات على من يشاء المن وما يشاء ذلك إلا لعلمه باستحقاقه لها وتلك الفضائل والكمالات والإستعدادات هي التي يدور عليها فلك الاصطفاء للنبوة (وما كان) وما صح وما استقام (لنا أن نأتيكم
37 بسلطان) أي بحجة من الحجيج فضلا عن السلطان المبين بشيء من الأشياء وسبب من الأسباب (إلا بإذن الله) فإنه أمر يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا (وعلى الله) وحده دون ما عداه مطلقا (فليتوكل المؤمنون) أمر منهم للمؤمنين بالتوكل ومقصود هم حمل أنفسهم عليه آثر ذي أثير ألا يرى إلى قوله عز وجل (ومالنا) أي أي عذر لنا (أن لا نتوكل على الله) أي في أن لا نتوكل عليه والإظهار لإظهار النشاط بالتوكل عليه والاستلذاذ بذكر اسمه تعالى وتعليل التوكل (وقد هدانا) أي والحال أنه قد فعل بنا ما يوجبه ويستدعيه حيث هدانا (سبلنا) أي أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له وأوجب عليه سلوكه في الدين وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكيد القسمي مظهرين لكمال العزيمة (ولنصبرن على ما آذيتمونا) بالعناد واقتراح الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه (وعلى الله) خاصة (فليتوكل المتوكلون) أي فليثبت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل والمراد هو المراد مما سبق من إيجاب التوكل على أنفسهم والمراد بالمتوكلين المؤمنون والتعبير عنهم بذلك لسبق ذكر اتصافهم به ويجوز أن يراد وعليه فليتوكل من توكل دون غيره (وقال الذين كفروا) لعل هؤلاء القائلين بعض المتمردين العاتين الغالين في الكفر من أولئك الأمم الكافرة التي نقلت مقالاتهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيب وأضرابهم ولذلك لم يقل وقالوا (لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا) لم يقنعوا بعصيانهم الرسل ومعاندتهم الحق بعد مار أو البينات الفائتة للحصر حتى اجترءوا على مثل هاتيك العظيمة التي لا يكاد يحيط بها دائرة الإمكان فخلفوا على أن يكون أحد المحالين والعود إما بمعنى مطلق الصيرورة أو باعتبار تغليب المؤمنين على الرسل وقد مر في الأعراف وسيأتي في الكهف (فأوحى إليهم) أي إلى الرسل (ربهم) مالك أمرهم عند تناهي كفر الكفرة وبلوغهم من العتو إلى غاية لا مطمع بعدها في إيمانهم (لنهلكن الظالمين) على إضمار القول أو على إجراء الإيحاء مجراه لكونه ضربا منه (ولنسكننكم الأرض) أي أرضهم وديارهم عقوبة لهم بقولهم لنخرجنكم من أرضنا كقوله تعالى وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها (من بعدهم) أي من بعد إهلاكهم وقرئ ليهلكن وليسكننكم بالياء اعتبارا لأوحى كقولهم حلف زيد ليخرجن غدا (ذلك) إشارة إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أي ذلك الأمر محقق ثابت (لمن خاف
38 مقامي) موقفي وهو الموقف الذي يقف فيه العباد يوم يقوم الناس لرب العالمين أو قيامي عليه وحفظي لأعماله وقيل لفظ المقام مقحم (وخاف وعيد) وعيدى بالعذاب أو عذابي الموعود للكفار والمعنى إن ذلك حق للمتقين كقوله والعافية للمتقين (واستفتحوا) أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح أو استحكموا وسألوه القضاء بينهم من الفتاحة وهي الحكومة كقوله تعالى ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق فالضمير للرسل وقيل للكفرة وقيل للفريقين فإنهم سألوا أن ينصر المحق ويهلك المبطل وهو معطوف على أوحى إليهم وقرئ بلفظ الأمر عطفا على لتهلكن الظالمين أي أوحى إليهم ربهم لنهلكن وقال لهم استفتحوا (وخاب) أي خسر وهلك (كل جبار عنيد) متصف بضد ما اتصف به المتقون أي فنصروا عند استفتاحهم وظفرا بما سألوا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم المعاندون فالخيبة بمعنى مطلق الحرمان دون الحرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعمون أنهم على الحق أو استفتح الكفار على الرسل وخابوا ولم يفلحوا وإنما قيل وخاب كل جبا عنيد ذما لهم وتسجيلا عليهم بالتجبر والعناد لا أن بعضهم ليسوا كذلك وأنه لم يصبهم الخيبة أو استفتحوا جميعا فنصر الرسل وأنجز لهم الوعد وخاب كل عات متمرد فالخيبة بمعنى الحرمان غب الطلب وفي إسناد الخيبة إلى كل منهم مالا يخفى من المبالغة (من ورائه جهنم) أي بين يديه فإنه مرصد لها واقف على شفيرها في الدنيا مبعوث إليها في الآخرة وقيل من وراء حياته وحقيقته ما توارى عنك (ويسقى) معطوف على مقدر جوابا عن سؤال سائل كأنه قيل فماذا يكون إذن فقيل يلقى فيها ويسقى (من ماء) مخصوص لا كالمياه المعهودة (صديد) وهو قيح أو دم مختلط بمدة يسيل من الجرح قال مجاهد وغيره هو ما يسيل من أجساد أهل النار وهو عطف بيان لما أبهم أولا ثم بين بالصديد تهويلا لأمره وتخصيصه بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشد أنواعه (يتجرعه) قيل هو صفة لماء أو حال منه والأظهر أنه استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا يفعل به فقيل يتجرعه أي يتكلف جرعه مرة بعد أخرى لغلبة العطش واستيلاء الحرارة عليه (ولا يكاد يسيغه) أي لا يقارب أن يسيغه فضلا عن الإساغة بل يغص به فيشربه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعة فيطول عذابه تارة بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحال فإن السواغ انحدار الشراب في الحلق بسهولة وقبول نفس ونفيه لا يوجب نفي ما ذكر جميعا وقيل لا يكاد يدخله في جوفه وعبر عنه بالإساغة لما أنها المعهودة في الأشربة وهو حال من فاعل يتجرعه أو من
39 مفعوله أو منهما جميعا (ويأتيه الموت) أي أسبابه من الشدائد (من كل مكان) ويحيط به من جميع الجهات أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعره وإبهام رجله (وما هو بميت) أي والحال أنه ليس بميت حقيقة كما هو الظاهر من مجىء أسبابه لا سيما من جميع الجهات حتى لا يتألم بما غشية من أصناف الموبقات (ومن ورائه) من بين يديه (عذاب غليظ) يستقبل كل وقت عذابا أشد واشق مما كان قبله ففيه دفع ما يتوهم من الخفة بحسب الاعتياد كما في عذاب الدنيا وقيل هو الخلود في النار وقيل هو حبس الأنفاس وقيل المراد بالاستفتاح والخيبة استسقاء أهل مكة في سنيهم التي أرسلها الله تعالى عليهم بدعوته عليه الصلاة والسلام وخيبتهم في ذلك وقد وعد لهم بدل صديد أهل النار (مثل الذين كفروا بربهم) أي صفتهم وحالهم العجيبة الشأن التي هي كالمثل في الغرابة وهو مبتدأ خبره قوله تعالى (أعمالهم كرماد) كقولك صفة زيد عرضه مهتوك وماله منهوب وهو استئناف مبني على سؤال من قال ما بال أعمالهم التي عملوها في وجوه البر من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفداء الأسارى وإغاثة الملهوفين وقرى الأضياف وغير ذلك مما هو من باب المكارم حتى آل أمرهم إلى هذا المآل فأجيب بأن ذلك كرماد (اشتدت به الريح) حملته وأسرعت الذهاب به (في يوم عاصف) العصف اشتداد الريح وصف به زمانها مبالغة كقولك ليلة ساكرة وإنما السكور لريحها شبهت صنائعهم المعدودة لابتنائها على غير أساس من معرفة الله تعالى والإيمان به والتوجه بها إليه تعالى برماد طيرته الريح العاصفة أو استئناف مسوق لبيان أعمالهم للأصنام أو مبتدأ خبره محذوف كما هو رأي سيبويه أي فيما يتلى عليك مثلهم وقوله أعمالهم جملة مستأنفة مبنية على سؤال من يقول كيف مثلهم فقيل أعمالهم كيت وكيت سواء أريد بها صنائعهم أو أعمالهم لأصنامهم وقيل أعمالهم بدل من مثل الذين وقوله كرماد خبره (لا يقدرون) أي يوم القيامة (مما كسبوا) من تلك الأعمال (على شيء) ما أي لا يرون له أثرا من ثواب أو تخفيف عذاب كدأب الرماد المذكور وهو فذلكة التمثيل والاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوبات هائلة للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند الله تعالى وفيه تهكم بهم (ذلك) أي ما دل عليه التمثل دلالة واضحة من ضلالهم مع حسبانهم أنهم على شيء (هو الضلال البعيد) عن طريق الصواب أو عن نيل الثواب (ألم تر) خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام والمراد به أمته وقيل لكل أحد من الكفرة لقوله تعالى يذهبكم والرؤية رؤية القلب وقوله تعالى «أن الله خلق السماوات والأرض» ساد مسد مفعوليها أي ألم تعلم أنه تعالى خلقهما (بالحق) ملتبسة بالحكمة والوجه الصحيح الذي يحق أن تخلق عليه وقرئ خالق السماوات والأرض (إن يشأ يذهبكم) يعدمكم بالمرة (ويأت بخلق جديد) أي يخلق بدلكم خلقا مستأنفا لا علاقة
40 بينكم وبينهم رتب قدرته تعالى على ذلك على قدرته تعالى على خلق السماوات والأرض على هذا النمط البديع إرشادا إلى طريق الاستدلال فإن من قدر على خلق مثل هاتيك الأجرام العظيمة كان على تبديل خلق آخر بهم أقدر ولذلك قال (وما ذلك) أي إذهابكم والإتيان بخلق جديد مكانكم (على الله بعزيز) بمتعذر أو متعسر فإنه قادر لذاته على جميع الممكنات لا اختصاص له بمقدور دون مقدور ومن هذا شأنه حقيق بأن يؤمن به ويرجى ثوابه ويخشى عقابه (وبرزوا الله جميعا) أي يبرزون يوم القيامة وإيثار صيغة الماضي للدلالة على تحقيق وقوعه كما في قوله سبحانه ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أو لأنه لا مضى ولا استقبال بالنسبة إليه سبحانه والمراد بروزهم من قبورهم لأمر الله تعالى ومحاسبته أو لله على ظنهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابهم الفواحش سرا أنها تخفى على الله سبحانه فإذا كان يوم القيامة انكشفوا الله عند أنفسهم (فقال الضعفاء) الأتباع جمع ضعيف والمراد ضعف الرأي وإنما كتب بالواو وعلى لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة (للذين استكبروا) لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغووهم (إنا كنا) في الدنيا (لكم تبعا) في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراض عن نصائحهم وهو جمع تابع كغيب في جمع غائب أو مصدر نعت به مبالغة أو على إضمار أي ذوي تبع (فهل أنتم مغنون) دافعون (عنا) والفاء للدالة على سببيه الاتباع للإغناء والمراد التوبيخ والعتاب والتقريع والتبكيت (من عذاب الله من شيء) من الأولى للبيان واقعة موقع الحال والثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول أي بعض الشيء الذي هو عذاب الله تعالى ويجوز كونهما للتبعيض أي بعض شيء هو بعض عذاب الله والإعراب كما سبق ويجوز أن تكون الأولى مفعولا والثانية مصدرا أي فهل أنتم مغنون عنا بعض العذاب بعض الإغناء ويعضد الأول قوله تعالى فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار (قالوا) أي المستكبرون جوابا عن معاتبة الأتباع واعتذارا عما فعلوا بهم (لو هدانا الله) أي للإيماء ووفقنا له (لهديناكم) ولكن ضللنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنينا عنكم كما عرضنا له ولكن سددوننا طريق الخلاص ولات حين مناص (سواء علينا أجزعنا) مما لقينا (أم صبرنا) على ذلك أي مستو علينا الجزع والصبر في عدم الإنجاء والهمزة وأم لتأكيد التسوية كما في قوله تعالى سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم وإنما أسندوهما ونسبوا استواءهما إلى ضمير المتكلم المنتظم للمخاطبين أيضا مبالغة في النهي عن
41 التوبيخ بإعلام أنهم شركاء لهم فيما ابتلوا به وتسلية لهم ويجوز أن يكون قوله سواء علينا الخ من كلام الفريقين على منوال قوله تعالى ذلك ليعلم أني لم أخنه ويؤيده ما روى أنهم يقولون تعالوا نجزع فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم فيقولون تعالوا نصبر فيصبرون كذلك فلا ينفعهم فعند ذلك يقولون ذلك ولما كان عتاب الاتباع من باب الجزع ذيلوا جوابهم ببيان أن لا جدوى في ذلك فقالوا (ما لنا من محيص) من منجى ومهرب من العذاب من حاص الحمار إذا عدل بالفرار وهو إما اسم مكان كالمبيت والمصيف أو مصدر كالمغيب والمشيب وهي جملة مفسرة لإجمال ما فيه الاستواء فلا محل لها من الإعراب أو حال مؤكدة أو بدل منه (وقال الشيطان) الذي أضل كلا الفريقين واستتبعهما عند ما عتباه بما قاله الأتباع للمستكبرين (لما قضى الأمر) أي أحكم وفرغ منه وهو الحساب ودخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار خطيبا في محفل الأشقياء من الثقلين (إن الله وعدكم وعد الحق) أي وعدا من حقه أن ينجز فأنجزه أو وعدا أنجزه وهو الوعد بالبعث والجزاء (ووعدتكم) أي وعد الباطل وهوان لا بعث ولا جزاء ولئن كان فالأصنام شفعاؤكم ولم يصرح ببطلانه لما دل عليه قوله (فأخلفتكم) أي موعدي على حذف المفعول الثاني أي نقضته جعل وعده كالإخلاف منه كأنه كان قادرا على إنجازه وأنى له ذلك (وما كان لي عليكم من سلطان) أي تسلط أو حجة تدل على صدقي (إلا أن دعوتكم) إلا دعائي إياكم إليه وتسويله وهو وإن لم يكن من باب السلطان لكنه أبرزه في مبروزه على طريقة [تحية بينهم ضرب وجيع] مبالغة في نفي السلطان عن نفسه كأنه قال إنما يكون لي عليكم سلطان إذا كان مجرد الدعاء من بابه ويجوز كون الاستثناء منقطعا (فاستجبتم لي) فأسرعتم إجابتي (فلا تلوموني) بوعدي إياكم حيث لم يكن ذلك على طريقة القسر والإلجاء كما يدل عليه الفاء وقرئ بالياء على وجه الالتفات كما في قوله تعالى حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم (ولوموا أنفسكم) حيث استجبتم لي باختياركم حين دعوتكم بلا حجة ولا دليل بمجرد تزيين وتسويل ولم تستجيبوا ربكم إذا دعاكم دعوة الحق المقرونة بالبينات والحجج وليس مراده التنصل عن توجه اللائمة إليه بالمرة بل بيان أنهم أحق بها منه وليس فيه دلالة على استقلال العبد في أفعاله كما زعمت المعتزلة بل يكفي في ذلك أن يكون لقدرته الكاسبة التي عليها يدور فلك التكليف مدخل فيه فإنه سبحانه إنما يخلق افعاله حسبما يختاره وعليه تترتب السعادة والشقاوة وما قيل من أنه يستدعى أن يقال فلا تلوموني ولا أنفسكم فإن الله قضى عليكم الكفر وأجبركم عليه مبني على عدم الفرق بين مذهب أهل الحق وبين مسلك الجبرية (ما أنا بمصرخكم) أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب (وما أنتم بمصرخي) مما أنا فيه وإنما تعرض لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمال مبالغة في بيان عدم إصراخه إياهم وإيذانا بأنه
42 أيضا مبتلى بمثل ما ابتلوا به ومحتاج إلى الإصراخ فكيف من إصراخ الغير ولذلك آثر الجملة الاسمية فكان ما مضى كان جوابا منه عن توبيخهم وتقريعهم وهذا جواب عن استغاثتهم واستعانتهم به في استدفاع ما دهمهم من العذاب وقرئ بكسر الياء (إني كفرت) اليوم (بما أشركتموني من قبل) أي بإشراككم إياي بمعنى تبرأت منه واستنكرته كقوله تعالى ويوم القيامة يكفرون بشرككم يعني أن إشراككم لي بالله سبحانه هو الذي يطمعكم في نصرتي لكم بأن كان لكم على حق حيث جعلتموني معبودا وكنت أود ذلك وأرغب فيه فاليوم كفرت بذلك ولم أحمده ولم أقبله منكم بل تبرأت منه ومنكم فلم يبقى بيني وبينكم علاقة أو كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى كما في قوله سبحان ما سخر كن لنا فيكون تعليلا لعدم إصراخه فإن الكافر بالله سبحانه بمعزل من الإغاثة والإعانة سواء كان بالمدافعة أو الشفاعة وأما جعله تعليلا لعدم إصراخهم إياه فلا وجه له إذ لا احتمال له حتى يحتاج إلى التعليل ولأن تعليل عدم إصراخهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لولا المانع من جهته (إن الظالمين لهم عذاب أليم) تتمة كلامه أو ابتداء كلام من جهة الله عز وجل وفي حكاية أمثاله لطف للسامعين وإيقاظ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبروا عواقبهم (وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها بإذن ربهم) أي بأمره أو بتوفيقه وهدايته وفي التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم إظهار مزيد من اللطف بهم والمدخلون هم الملائكة عليهم السلام وقرئ على صيغة التكلم فيكون قوله تعالى بإذن ربهم متعلقا بقوله تعالى (تحيتهم فيها سلام) أي يحيهم الملائكة بالسلام بإذن ربهم (ألم تر) الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام وقد علق بما بعده من قوله تعالى (كيف ضرب الله مثلا) أي كيف اعتمده ووضعه في موضعه اللائق به (كلمة طيبة) منصوب بمضمر أي جعل كلمة طيبة هي كلمة التوحيد أو كل كلمة حسنة كالتسبيحة والتحميدة والاستغفار والتوبة والدعوة (كشجرة طيبة) أي حكم بأنها مثلها لا أنه تعالى صيرها مثلها في الخارج وهو تفسير لقوله ضرب الله مثلا كقولك شرف الأمير زيدا كساه حلة وحمله على فرس ويجوز أن يكون كلمة بدلا من مثلا وكشجرة صفتها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي كشجرة وأن يكون أو مفعولي ضرب إجراء له مجرى جعل قد أخر عن ثانيهما أعني مثلا لئلا يبعد عن صفته التي هي كشجرة وقد قرئت بالرفع على الابتداء (أصلها ثابت) أي ضارب بعروقه في الأرض وقرأ أنس بن مالك رضي الله عنه كشجرة طيبة ثاتب أصلها وقراءة الجماعة أقوى سبكا وأنسب بقرينته أعنى قوله تعالى (وفرعها) أي أعلاها (في السماء) في جهة العلو ويجوز أن يراد وفروعها على الاكتفاء بلفظ الجنس عن الجمع
43 (تؤتى أكلها) تعطي ثمرها (كل حين) وقته الله تعالى لإثمارها (بإذن ربها) بإرادة خالفها والمراد بالشجرة المنعوتة إما النخلة كما روى مرفوعا أو شجرة في الجنة (ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون) لأن في ضربها زيادة إفهام وتذكير فإنه تصوير للمعاني بصور المحسوسات (ومثل كلمة خبيثة) هي كلمة الكفر والدعاء إليه أو تكذيب الحق أو ما يعم الكل أو كل كلمة قبيحة (كشجرة خبيثة) أي كمثل شجرة خبيثة قيل هي كل شجرة لا يطيب ثمرها كالحنظل والكشوث ونحوهما وتغيير الأسلوب للإيذان بأن ذلك غير مقصود الضرب والبيان وإنما ذلك أمر ظاهر يعرفه كل أحد (اجتثت) استؤصلت وأخذت جثتها بالكلية (من فوق الأرض) لكون عروقها قريبة منه (مالها من قرار) استقرار عليها (يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكن في قلوبهم وهو الكلمة الطيبة التي ذكرت صفتها العجيبة (في الحياة الدنيا) فلا يزالون عنه إذا افتتنوا في دينهم كزكريا ويحيى وجرجيس وشمسون والذين فتنهم أصحاب الأخدود (وفي الآخرة) فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف ولا تدهشهم أهوال القيامة أو عند سؤال القبر روى أنه صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح المؤمن فقال ثم يعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولون من ربك وما دينك ومن نبيك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمد صلى الله عليه وسلم فينادي مناد من السماء أنه صدق عبدي فذلك قوله تعالى يثبت الله الذين آمنوا وهذا مثال إيتاء الشجرة المذكورة أكلها كل حين قال الثعلبي في تفسيره أخبرني أبو القاسم بن حبيب في سنة وست وثمانين وثلاثمائة قال سمعت أبا الطيب محمد بن علي الخياط يقول سمعت سهل بن عمار العملي يقول رأيت يزيد بن هارون في منامي بعد موته فقلت ما فعل الله بك قال أتاني في قبري ملكان فظان فقالا من ربك وما دينك ومن نبيك فأخذت بلحيتي البيضاء فقلت لهما ألمثلى يقال هذا وقد علمت الناس جوابكما ثمانين سنة فذهبا (ويضل الله الظالمين) أي يخلق فيهما الضلال عن الحق الذي ثبت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارهم والمراد بهم الكفرة بدليل ما يقابله ووصفهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعه وإما باعتبار ظلمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرة الله التي فطر الناس عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابت أو كل من ظلم نفسه بالاقتصار على التقليد والإعراض عن البينات الواضحة فلا يثبت في موقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق فالمراد بالذين آمنوا حينئذ المخلصون في الإيمان الراسخون في الإيقان كما ينبئ عنه التثبيت لكنه يوهم كون كلمة التوحيد إذا كانت لا عن إيقان داخله تحت مالا قرار له من الشجرة المضروبة مثلا (ويفعل
44 الله ما يشاء) من تثبيت بعض وإضلال آخرين حسبما توجبه مشيئته التابعة للحكم البالغة المقتضية لذلك وفي إظهار الاسم الجليل في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة مالا يخفى مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت في مبدأ التثبيت والإضلال فإن مبدأ صدور كل منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العلا غير ما هو مبدأ صدور الأخر (ألم تر) تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرة من الأباطيل التي لا تكاد تصدر عمن له أدنى إدراك أي ألم تنظر (إلى الذين بذلوا نعمة الله) أي شكر نعمته تعالى بأن وضعوا موضعه (كفرا) عظيما وغمطا لها أو بدلوا نفس النعمة كفرا فإنهم لما كفروها سلبوها فصاروا مستبدلين بها كفرا كأهل مكة حيث خلقهم الله سبحانه وأسكنهم حرمه الآمن الذي يجيىء إليه ثمرات كل شيء وجعلهم قوام بيته وشرفهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا ذلك فقحطوا سبع سنين وقتلوا وأسروا يوم بدر فصاروا أذلاء مسلوبي النعمة باقين بالكفر بدلها وعن عمر وعلي رضي الله عنهما هم الأفجران من قريش بنو المغيرة وبنو أمية أما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين كأنهما يتأولان ما سيتلى من قوله عز وجل قل تمتعوا الآية (وأحلوا) أي أنزلوا (قومهم) بإرشادهم إياهم إلى طريقة الشرك والضلال وعدم التعرض لحلولهم لدلالة الإحلال عليه إذ هو فرع الحلول كقوله تعالى يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار (دار البوار) دار الهلاك الذي لإهلاك وراءه (جهنم) عطف بيان لها وفي الإبهام ثم البيان مالا يخفى من التهويل (يصلونها) حال منها أو من قومهم أي داخلين فيها مقاسين لحرها أو استئناف لبيان كيفية الحلول أو مفسر لفعل يقدر ناصبا لجهنم فالمراد بالإحلال المذكور حينئذ تعريضهم للهلاك بالقتل والأسر لكن قوله تعالى قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار أنسب بالتفسير الأول (وبئس القرار) على حذف المخصوص بالذم أي بئس المقر جهنم أو بئس القرار قرارهم فيها وفيه أن حلولهم وصلبهم على وجه الدوام والاستمرار (وجعلوا) عطف على أحلوا وما عطف عليه داخل معهما في حيز الصلة وحكم التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم «الله» الفرد الصمد الذي ليس كمثله شيء هو في الواحد القهار (أندادا) أشبها في العبادة (ليضلوا) قومهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا (عن سبيله) القويم الذي هو التوحيد ويوقعوهم في ورطة الكفر والضلال ولعل تغيير الترتيب مع أن مقتضى ظاهر النظم أن يذكر كفرانهم نعمة الله تعالى ثم كفرهم بذاته تعالى باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار لتثنية التعجيب وتكريره والإيذان بأن كل واحد من وضع الكفر موضع الشكر وإحلال القوم دار البوار واتخاذ الأنداد للإضلال أمر يقضي منه العجب ولو سيق النظم على نسق الوجود لربما فهم التعجيب من مجموع الهنات الثلاث كما في قصة البقرة وقرئ ليضلوا بالفتح
45 وأياما كان فليس ذلك غرضا حقيقيا لهم من اتخاذ الأنداد لكن لما كان ذلك نتيجة له شبه بالغرض وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية (قل) تهديدا لأولئك الضالين المضلين ونعيا عليهم وإيذانا بأنهم لشدة إبائهم قبول الحق وفرط انهما كهم في الباطل وعدم ارعوائهم عن ذلك بحال أحقاء بأن يضرب عنهم صفحا ويعطف عنهم عنان العظة ويخلوا وشأنهم ولا ينهوا عنه بل يؤمروا بمباشرته مبالغة في التخلية والخذلان ومسارعة إلى بيان عاقبته الوخيمة ويقال لهم (تمتعوا) بما أنتم عليه من الشهوات التي من جملتها كفران النعم العظام واستتباع الناس في عبادة الأصنام (فإن مصيركم إلى النار) ليس إلا فلا بد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك ويقتضيه من أحوالكم بل هي في الحقيقة صورة لدخولها ومثال له حسبما يلوح به قوله سبحانه وأحلوا قومهم دار البوار الخ فهو تعليل للأمر المأمور وفيه من التهديد الشديد الوعيد الأكيد مالا يوصف أو قل لهم تصوير الحالهم وتعبيرا عما يلجئهم إلى ذلك تمتعوا إيذانا بأنهم لفرط انغماسهم في التمتع بما هم فيه من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم مأمورون بذلك من قبل آمر الشهوة مذعنون لحكمه منقادون لأمره كدأب مأمور ساع في خدمة آمر مطاع فليس قوله تعالى فإن مصيركم إلى النار حينئذ تعليلا للأمر بل هو جواب شرط ينسحب عليه الكلام كأنه قيل هذه حالكم فإن دمتم عليه فإن مصيركم إلى النار وفيه التهديد والوعيد لا في الأمر (قل لعبادي الذين آمنوا) خصهم بالإضافة إليه تنويها لهم وتنبيها على أنهم المقيمون لوظائف العبودية الموفون بحقوقها وترك العاطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالهما باعتبار المقول تهديدا وتشريفا والمقول ههنا محذوف دل عليه الجواب أي قل لهم أقيموا وأنفقوا (يقيموا الصلاة وينفقوا مما رزقناهم) أي يداوموا على ذلك وفيه إيذان بكمال مطاوعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم وغاية مسارعتهم إلى الامتثال بأوامره وقد جوزوا أن يكون المقول يقيموا وينفقوا بحذف لام الأمر عنهما وإنما حسن ذلك دون الحذف في قوله [محمد تفد نفسك كل نفس * إذا ما خلفت من أمر تبالا] لدلالة قل عليه وقيل هما جوابا أقيموا وأنفقوا قد أقيما مقامهما وليس بذاك (سرا وعلانية) منتصبان على المصدرية من الأمر المقدر لا من جواب الأمر المذكور أي أنفقوا إنفاق سر وعلانية والأحب في الإنفاق إخفاء المتطوع به وإعلان الواجب والمراد حث المؤمنين على الشكر لنعم الله سبحانه بالعبادة البدنية والمالية وترك التمتع بمتاع الدنيا والركون إليها كما هو صنيع الكفر (من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه) فيبتاع المقصر ما يتلافى به تقصيره أو تفتدي به نفسه والمقصود نفي عقد المعاوضة بالمرة وتخصيص البيع بالذكر للإيجاز مع المبالغة في نفي العقد إذ انتفاء البيع المستلزم انتفاء الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه بما يتصور مع تحقق الإيجاب من قبل البائع (ولا خلال) ولا مخالة فيشفع له خليل أو يسامحه بمال يفتدى به نفسه أو من قبل أن يأتي يو لا أثر فيه لما لهجوا بتعاطيه من البيع
46 والمخالة ولا انتفاع بذلك وإنما الانتفاع والارتفاق فيه بالإنفاق لوجه الله سبحانه والظاهر أن مت متعلقة بأنفقوا وتذكير إتيان ذلك اليوم لتأكيد مضمونه كما في سورة البقرة من حيث أن كلا من فقدان الشفاعة وما يتدارك به التقصير معاوضة وتبرعا وانقطاع آثار البيع والخلال الواقعين في الدنيا وعدم الانتفاع بهما من أقوى الدواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائده وتدوم فوائده من الإنفاق في سبيل الله عز وجل أو من حيث إن إدخار المال وترك إنفاقه إنما يقع غالبا للتجارات والمهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجه لادخاره إلى وقت الموت وتخصيص التأكيد بذلك لميل الطباع إلى المال وكونها مجبولة على حبه والضنة به ولا يبعد أن يكون تأكيدا لمضمون الأمر بإقامة الصلاة أيضا من حيث إن تركها كثيرا ما يكون بالاشتغال بالبياعات والمخالات كما في قوله تعالى وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وقرئ بالفتح فيهما على إرادة النفي العام ودلالة الرفع على ذلك باعتبار خطابي هو وقوعه في جواب هل فيه بيع أو خلال (الله) مبتدأ خبره (الذي خلق السماوات) وما فيها من الأجرام العلوية (والأرض) وما فيها من أنواع المخلوقات لما ذكر أحوال الكافرين لنعم الله تعالى وأمر المؤمنين بإقامة مراسم الطاعة شكرا لنعمه شرع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العظام والمنن الجسام حثا للمؤمنين عليها وتقريعا للكفرة المخلين بها الواضعين موضعها الكفر والمعاصي وفي جعل المبتدأ الاسم الجليل والخبر الاسم الموصول بتلك الأفاعيل العظيمة من خلق هذه الأجرام العظام وإنزال الأمطار وإخراج الثمرات وما يتلوها من الآثار العجيبة مالا يخفى من تربية المهابة والدلالة على قوة السلطان (وأنزل من السماء) أي السحاب فإن كل ما علاك سماء أو من الفلك فإن المطر منه يبتدئ إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه ظواهر النصوص أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى الجو فينعقد سحابا ماطرا وأيا ما كان فمن ابتدائية (ماء) أي نوعا منه هو المطر وتقديم المجرور على المنصوب إما باعتبار كونه مبدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك أعطاه السلطان من خزانته مالا أو لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخر (فأخرج به) بذلك الماء (من الثمرات) الفائتة للحصر إما لأن صيغ الجموع يتعاور بعضها موضع بعض وإما لأنه أريد بمفردها جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستان فلان (رزقا لكم) تعيشون له وهو بمعنى المرزوق شامل للمطعوم والملبوس مفعولا لأخرج ومن للتبيين كقولك أنفقت من الدراهم ألفا ويجوز أن يكون من الثمرات مفعولا ورزقا حالا منه أو مصدرا من أخرج بمعنى رزق أو للتبعيض بدليل قوله تعالى فأخرجنا به ثمرات كأنه قيل أنزل من السماء بعض الماء فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم إذ لم ينزل من السماء كل الماء ولا أخرج بالمطر كل الثمار ولا جعل كل الرزق ثمرا وخروج الثمرات وإن كان بمشيئته عز وجل وقدرته لكن جرت عادته تعالى
47 بإضافة صورها وكيفياتها على المواد الممتزجة من الماء والتراب أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار وهو قادر على إيجاد الأشياء بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب كذلك لما أن له تعالى في إنشائها مدرجا من طور إلى طور صنائع وحكما يجدد فيها الأولى الأبصار عبرا وسكونا إلى عظيم قدرته ليس ذلك في إبداعها دفعة وقوله لكم صفة لقوله رزقا إن أريد به المرزوق ومفعول به إن أريد به المصدر كأنه قيل رزقا إياكم (وسخر لكم الفلك) بأن أقدركم على صنعتها واستعمالها بما ألهمكم كيفية ذلك (لتجري في البحر) جريا تابعا لإرادتكم (بأمره) بمشيئة التي نيط بها كل شيء وتخصيصه بالذكر للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمال واستعمال الآلات كما يتراءى من ظاهر الحال (وسخر لكم الأنهار) إن أريد بها المياه العظيمة الجارية في الأنهار العظام كما يومىء إليه ذكرها عند البحر فتسخيرها جعلها معدة لانتفاع الناس حيث يتخذون منها جداول يسقون بها زروعهم وجنانهم وما أشبه ذلك وإن أريد بها نفس الأنهار فتسخيرها تيسيرها لهم (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين) يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالة وخلافة وإصلاحهما لما نيط بهما صلاحه من المكونات (وسخر لكم الليل والنهار) يتعاقبان خلفه لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها ذكر سبحانه وتعالى أنواع النعم الفائضة عليهم وأبرز كل واحدة منها في جملة مستقلة تنويها لشأنها وتنبيها على رفعة مكانها وتنصيصا على كون كل منها نعمة جليلة مستوجبة للشكر وفي التعبير عن التصريف المتعلق بما ذكر من الفلك والأنهار والشمس والقمر والليل والنهار بالتسخير من الإشعار بما فيها من صعوبة المأخذ وعزة المنال والدلالة على عظم السلطان وشدة المحال مالا يخفى وتأخير تسخير الشمس والقمر عن تسخير ما تقدمه من الأمور المعدودة مع ما بينه وبين خلق السماوات من المناسبة الظاهرة لاستتباع ذكرها لذكر الأرض المستدعى لذكر إنزال الماء منها إليها الموجب لذكر إخراج الرزق الذي من جملته ما يحصل بواسطة الفلك والأنهار أو للتفادى عن توهم كون الكل أعنى خلق السماوات والأرض وتسخير الشمس والقمر نعمة واحدة كما مر في قصة البقرة (وآتاكم من كا ما سألتموه) أي أعطاكم بعض جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئته التابعة للحكمة والمصلحة كقوله سبحانه من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أو آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ونيط به انتظام أحوالكم على الوجه المقدر فكأنكم سألتموه أو كل ما طلبتموه بلسان الاستعداد أو كل ما سألتموه على أن من للبيان وكلمة كل للتكثير كقولك فلان يعلم كل شيء وأتاه كل الناس وعليه قوله عز وجل فتحنا عليهم أبواب كل شيء وقيل الأصل وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحذف الثاني لدلالة ما أبقى على ما القى وقرئ بتنوين كل على أن ما نافية ومحل ما سألتموه النصب على الحالية أي آتاكم من كل غير سائليه (وإن تعدوا نعمة الله)
48 التي أنعم بها عليكم (لا تحصوها) لا تطيقوا بحصرها ولو إجمالا فإنها غير متناهية وأصل الإحصاء أن الحاسب إذا بلغ عقدا معينا من عقود الأعداد وضع حصاة ليحفظ بها ففيه إيذان بعدم بلوغ مرتبة معتد بها من مراتبها فضلا عن بلوغ غايتها كيف لا وما من فرد من افراد الناس وإن كان في أقصى مراتب الفقر والإفلاس ممنوا بأصناف العنايا مبتلى بأنواع الرزايا فهو بحيث لو تأملته ألفيته متقلبا في نعم لا تحد ومنن لا تحصى ولا تعد كأنه قد أعطى كل ساعة وآن من النعماء ما حواه حيطة الإمكان وإن كنت في ريب من ذلك فقدر أنه ملك ملك أقطار العالم ودانت له كافة الأمم وأذعنت لطاعته السراة وخضعت لهيبته رقاب العتاة وفاز بكل مرام ونال كل منال وحاز جميع ما في الدنيا من أصناف الأموال من غير ند يزاحمه ولا شريك يساهمه بل قدر أن جميع ما فيها من حجر ومدر يواقيت غالية ونفائس درر ثم قدر أنه قد وقع من فقد مشروب أو مطعوم في حالة بلغت نفسه الحلقوم فهل يشتري وهو في تلك الحال بجميع ماله من الملك والمال لقمة تنجيه عن رواه أو شربة ترويه من ظمأه أم يختار الهلاك فتذهب الأموال والأملاك بغير بدل يبقي عليه ولا نفع يعود إليه كلا بل يبذل لذلك كل ما تحويه اليدان كائنا ما كان وليس في صفقته شائبة الخسران فإذن تلك اللقمة والشربة خير مما في الدنيا بألف رتبة مع أنهما في طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالي والأيام أو قدر أنه قد احتبس عليه النفس فلا دخل منه ما خرج ولا خرج منه ما ولح والحين قد حان وأتاه الموت من كل مكان أما يعطي ذلك كله بمقابلة نفس واحد بل يعطيه وهو لرأيه حامد فاذن هو خير من أموال الدنيا بحملتها ومطالبها برمتها مع أنه أبيح له كل آن من آنات الليالي والأيام حال اليقظة والمنام هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يحفى على أحد من العقلاء وان رمت العثور على حقيقة الحق والوقوف على كل ماجل من السرودق فاعلم أن الانسان بمقتضى حقيقته الممكنة بمعزل عن استحقاق الوجود وما يتبعه من الكمالات اللائقة والملكات الرائقة بحيث لو انقطع ما بينه وبين العناية الإلهية من العلاقة لما استقر له القرار ولا اطمأنت به الدار الا في مطمورة العدم والبوار ومهاوى الهلاك والدمار لكن يفيض عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنه ونقدس في كل زمان يمضى وكل آن يمر وينقض من أنواع الفيوض المتعلقة بذاته ووجوده وسائر صفاته الروحانية والنفسانية والجسمانية مالا يحيط به نطاق التعبير ولا يعلمه إلا العليم الخبير وتوضيحه أنه كمالا يستحق الوجود ابتداء لا يستحقه بقاء وانما ذلك من جناب المبدأ الأول عز وجل فكما لا يتصور وجوده ابتداء ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الأصلي لا يتصور بقاؤه على الوجود بعد تحققه بعلته ما لم ينسد عليه جميع أنحاء عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوام من خصائص الوجود الواجبي وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجوده من الأمور الوجودية التي هي علله وشرائطه وإن وجب كونها متناهية لوجوب تناهى ما دخل تحت الوجود لكن الأمور العدمية التي لها دخل في وجوده ليست كذلك إذ لا استحالة في أن يكون لشيء واحد موانع غير متناهية وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود فارتفاع تلك الموانع التي لا تتناهى أعنى بقاءها على العدم مع إمكان وجودها في أنفسها في كل آن من آنات وجوده نعم غير متناهية حقيقة
49 لا ادعاء وكذا الحال في وجودات علله وشرائطه القريبة والبعيدة ابتداء وبقاء وكذا في كمالاته التابعة لوجوده فاتضح أنه يفيض عليه كل آن نعم لا تتناهى من وجوه شتى فسبحانك سبحانك ما أعظم سلطانك لا تلاحظ العيون بأنظارها ولا تطالعك العقول بأفكارها شأنك لا يضاهي وإحسانك لا يتناهى ونحن في معرفتك حائرون وفي إقامة مراسم شكرك قاصرون نسألك الهداية إلى مناهج معرفتك والتوفيق لاداء حقوق نعمتك لا نحصى تناء عليك لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك (إن الإنسان لظلوم) يظلم النعمة بإغفال شكرها أو بوضعه إياها في غير موضعها أو يظلم نفسه بتعريضها للحرمان (كفار) شديد الكفران وقيل ظلوم في الشدة يشكو ويجزع كفار في النعمة يجمع ويمنع واللام في الإنسان للجنس ومصداق الحكم بالظلم والكفران بعض من وجدا فيه من أفراده ويدخل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله كفرا الخ دخولا أوليا (وإذ قال إبراهيم) أي واذكر وقت قوله عليه الصلاة والسلام والمقصود من تذكيره تذكير ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل والمراد به تأكيد ما سلف من تعجيبه عليه السلام ببيان فن آخر من جناياتهم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصوا أباهم إبراهيم عليه السلام حيث أسكنهم مكة شرفها الله تعالى فإقامة الصلاة والاجتناب عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله تعالى أن يجعله بلدا آمنا ويرزقهم من الثمرات وتهوى قلوب الناس إليهم من كل أوب سحيق فاستجاب الله تعالى دعاءه وجعله حرما آمنا يجيىء إليه ثمرات كل شيء فكفروا بتلك النعم العظام واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار وجعلوا لله أندادا وفعلوا ما فعلوا (رب اجعل هذا البلد) يعني مكة شرفها الله سبحانه (آمنا) أي ذا أمن أو آمنا أهله بحيث لا يخاف فيه على ما مر في سورة البقرة والفرق بينه وبين ما فيها من قوله رب اجعل هذا بلدا آمنا أن المسؤول هناك البلدية والأمن معا وههنا الأمن فقط حيث جعل هو المفعول الثاني للجعل وجعل البلد صفة للمفعول الأول فإن حمل على تعدد السؤال فلعله عليه السلام سأل أولا كلا الأمرين فاستجيب له في أحدهما وتأخر الآخر إلى وقته المقدر لما يقتضيه من الحكمة الداعية إليه ثم كرر السؤال كما هو المعتاد في الدعاء والابتهال أو كان المسؤول أولا مجرد الأمن المصحح للسكن كما في سائر البلاد وقد أجيب إليه وثانيا الأمن المعهود أو كله هو المسؤول فيهما وقد أجيب إليه أيضا لكن السؤال الثاني للاستدامة والاقتصار على ذلك لأنه المقصود الأصلي أو لأن المعتاد في البلدية الاستمرار بعد التحقق بخلاف الأمن وإن حمل على وحدة السؤال وتكرر الحكاية كما هو المتبادر فالظاهر أن المسؤول كلا الأمرين وقد حكى أولا واقتصر ههنا على حكاية سؤال الأمن لا لمجرد أن نعمة الأمن أدخل في استيجاب الشكر فذكره أنسب بمقام تقريع الكفرة على إغفاله كما قيل بل لأن سؤال البلدية قد حكى بقوله تعالى فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم إذا لمسئول هويتها إليهم للمساكنة معهم لا للحج فقط وهو عين سؤال قد حكى بعبارة أخرى وكان ذلك أول ما قدم عليه السلام مكة كما روى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة
50 والسلام لما أسكن إسماعيل وهاجر هناك وعاد متوجها إلى الشام تبعته هاجر وجعلت تقول إلى من تكلنا في هذا البلقع وهو لا يرد عليها جوابا حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال نعم قالت إذا لا يضيعنا فرضيت ومضى حتى إذا استوى على ثنية كداء اقبل على الوادي فقال ربنا إني أسكنت الآية وإنما فصل ما بينهما تثنية للامتنان وإيذانا بأن كلا منهما نعمة جليلة مستتبعة لشكر كثير كما في قصة البقرة (وجنبني وبني) بعدني وإياهم (إن نعبد الأصنام) واجعلنا منها في جانب بعيد أي ثبتنا على ما كنا عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وقرئ واجنبني من الأفعال وهما لغة أهل نجد يقولون جنبني شره وأجنبني شره وأما أهل الحجاز فيقولون جنبني شره وفيه دليل على أن عصمة الأنبياء عليهم السلام بتوفيق الله تعالى والظاهر أن المراد ببنيه أولاده الصلبية فلا احتجاج به لا بن عيينة رضي الله عنه على أن أحدا من أولاد إسماعيل عليه السلام لم يعبد الصنم وإنما كان لكل قوم حجر نصبوه وقالوا هو حجر والبيت حجر فكانوا يدورون به ويسمونه الدوار فاستحب أن يقال طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت وليت شعري كيف ذهب عليه ما في القرآن العظيم من قوارع تنعى على قريش عبادة الأصنام على أن فيما ذكره كرا على ما فر منه (رب إنهن) أي الأصنام (أضللن كثيرا من الناس) أي تسببن له كقوله تعالى وغرتهم الحياة الدنيا وهو تعليل لدعائه وإنما صدره بالنداء إظهارا لاعتنائه به ورغبة في استجابته (فمن تبعني) منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملة الإسلام (فإنه مني) أي بعضي قاله عليه السلام مبالغة في بيان اختصاصه به أو متصل بي لا ينفك عني في أمر الدين (ومن عصاني) أي لم يتبعني والتعبير عنه بالعصيان للإيذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباع من لم يتبعه إنما هو لعصيانه لا لأنه لم يبلغه الدعوة (فإنك غفور رحيم) قادر على أن تغفر له وترحمه ابتداء أو بعد توبته وفيه أن كل ذنب فلله تعالى أن يغفره حتى الشرك خلا أن الوعيد قضى بالفرق بينه وبين غيره (ربنا) آثر عليه السلام ضمير الجماعة لا لما قيل من تقدم ذكره وذكر بنيه وإلا لراعاه في قوله رب إنهن الخ بل لأن الدعاء المصدر به وما أورده بصدد تمهيد مبادى إجابته من قوله (إني أسكنت) الآية متعلق بذريته فالتعرض لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخل في القبول وإجابة المسؤول (من ذريتي) أي بعضهم أو ذرية من ذريتي فحذف المفعول وهو إسماعيل عليه السلام وما سيولد له فإن إسكانه حيث كان على وجه الاطمئنان متضمن لإسكانهم روى أن هاجر أم إسماعيل عليه السلام كانت لسارة فوهبتها من إبراهيم عليه السلام فلما ولدت له إسماعيل عليه السلام غارت عليهما فناشدته أن يخرجهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكة فأظهر الله تعالى عين زمزم (بواد غير ذي زرع) لا يكون فيه زرع أصلا وهو وادي مكة شرفها الله تعالى (عند
51 بيتك) ظرف لأسكنت كقولك صليت بمكة عند الركن لا أنه صفة لواد أو بدل منه إذ المقصود إظهار كون ذلك الإسكان مع فقدان مباديه بالمرة لمحض التقرب إلى الله تعالى والالتجاء إلى جواره الكريم كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الحرمة المؤذن بعزة الملتجأ وعصمته عن المكاره في قوله تعالى (المحرم) حيث حر التعرض له والتهاون به أو لم يزل معظما ممنعا يهابه الجبابرة في كل عصر أو منع منه الطوفان فلم يستول عليه ولذلك سمى عتيقا وتسميته إذ ذاك بيتا ولم يكن له بناء وإنما كان نشزا مثل الرابية تأتيه السيول فتأخذ ذات اليمين وذات الشمال ليست باعتبار ما سيئول إليه الأمر من بنائه عليه السلام فإنه ينزع إلى اعتبار عنوان الحرمة أيضا كذلك بل إنما هي باعتبار ما كان من قبل فإن تعدد بناء الكعبة المعظمة مما لا ريب فيه وإنما الاختلاف في كمية عدده وقد ذكرناها في سورة البقرة بفضل الله تعالى (ربنا ليقيموا الصلاة) متوجهين إليه متبركين به وهو متعلق بأسكنت وتخصيصها بالذكر من بين سائر شعائر الدين لفضلها وتكرير النداء وتوسيطه لإظهار كمال العناية بإقامة الصلاة والاهتمام بعرض أن الغرض من إسكانهم بذلك الوادي البلقع ذلك المقصد الأقصى والمطلب الأسنى وكل ذلك لتمهيد مبادى إجابة دعائه وإعطاء مسئوله الذي لا يتسنى ذلك المرام إلا به ولذلك أدخل عليه الفاء فقال (فاجعل أفئدة من الناس) أي أفئدة من أفئدتهم فمن للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدة الناس لازدحمت عليهم فارس والروم وأما ما زيد عليه من قولهم ولحجت اليهود والنصارى فغير مناسب للمقام إذ المسؤول توجيه القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوى إليه فإنه عين الدعاء بالبلدية قد حكى بعبارة أخرى كما مر أو لابتداء الغاية كقولك القلب مني سقيم أي أفئدة ناس وقرئ آفدة على القلب كآدر في أدؤر أو على أنه اسم فاعل من أفدت الرحلة أي عجلت أي جماعة من الناس وأفدة بطرح الهمزة من الأفئدة أو على النعت من أفد (تهوى إليهم) تسرع إليهم شوقا وودادا وقرئ على البناء للمفعول من أهواه غيره وتهوى من باب علم أي تحب وتعديته إلى لتضمنه معنى الشوق والنروع وأول آثار هذه الدعوة ما روى أنه مرت رفقة من جرهم تريد الشام فرأ والطير تحوم على الجبل فقالوا ان هذا الطائر لعائف على الماء فأشر فوا فإذا هم بهاجر فقالوا لها ان شئت كنا معك وآنسناك والماء ماؤك فأذنت لهم وكانوا معها إلى أن شب إسماعيل عليه السلام وماتت هاجر فتزوج إسماعيل منهم كما هو المشهور (وارزقهم) أي ذريتي الذين أسكنهم هناك أو مع من ينحاز إليهم من الناس وإنما لم يخص الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر اكتفاء بذكر إقامة الصلاة (من الثمرات) من أنواعها بأن بجعل بقرب منه قرى يحصل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطار الشاسعة وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمع فيه الفواكه الربيعية والصيفية والخريفية في يوم واحد 0 روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن الطائف كانت من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقا للحرم وعن الزهري رضى الله عنه أنه تعالى نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم عليه السلام (لعلهم يشكرون) تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء سائر مراسم العبودية وقيل اللام في ليقيموا لام الأمر والمراد أمرهم بإقامة الصلاة والدعاء من الله تعالى
52 بتوفيقهم لها ولا يناسبه الفاء في قوله تعالى فاجعل الخ وفي دعائه عليه السلام من مراعاة حسن الأدب والمحافظة على قوانين الضراعة وعرض الحاجة واستنزال الرحمة واستجلاب الرأفة مالا يخفى فإنه عليه السلام بذكر كون الوادي غير ذي زرع بين كمال افتقارهم إلى المسؤول وبذكر كون إسكانهم عند البيت المحرم أشار إلى أن جوار الكريم يستوجب إفاضة النعيم وبعرض كون ذلك الإسكان مع كمال إعواز مرافق المعاش لمحض إقامة الصلاة وأداء حقوق البيت مهد جميع مبادى إجابة السؤال ولذلك قرنت دعوته عليه السلام بحسن القبول (ربنا إنك تعلم ما نخفى وما نعلن) من الحاجات وغيرها والمراد بما نخفى ما يقابل ما نعلن سواء تعلق به الإخفاء أولا أي تعلم ما نظهره ومالا نظهره فإن علمه تعالى متعلق بما لا يخطر بباله مما فيه من الأحوال الخفية فضلا عن إخفائه وتقديم ما نخفى على ما نعلن لتحقيق المساواة بينهما في تعلق العلم بهما على أبلغ وجه فكأن تعلقه بما يخفى أقدم منه بما يعلن أو لأن مرتبة السرو الخفاء متقدمة على مرتبة العلن إذ ما من شئ يعلن إلا وهو قبل ذلك خفى فتعلق علمه سبحانه بحالته الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية وقصده عليه السلام أن إظهار هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غير معلومة لك بل إنما هو لإظهار العبودية والتخشع لعظمتك والتدلل لعزتك وعرض الافتقار إلى ما عندك والاستعجال لنيل أياديك وتكرير النداء للمبالغة في الضراعة والابتهال وضمير الجماعة لأن المراد ليس مجرد علمه تعالى بسره وعلنه بل بجميع خفايا الملك والملكوت وقد حققه بقوله على وجه الاعتراض (وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء) لما أنه العالم بالذات فما من أمر يدخل تحت الوجود كائنا ما كان في زمان من الأزمان إلا ووجوده في ذاته علم بالنسبة إليه سبحانه وإنما قال وما يخفى على الله الخ دون أن يقول ويعلم ما في السماوات والأرض تحقيقا لما عناه بقوله تعلم ما نخفى من أن علمه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبة خفاء بالنسبة إلى علمه تعالى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقات وكلمة في متعلقة بمحذوف وقع صفة لشيء أي من شيء كائن فيهما أعم من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئية منهما أو بيخفى وتقديم الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القرب والبعد منا المستدعيين للتفاوت بالنسبة إلى علو منا والالتفات من الخطاب إلى اسم الذات المستجمعة للصفات لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم على نهج قوله تعالى ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير والإيذان بعمومه لأنه ليس بشأن يختص به أو بمن يتعلق به بل شامل لجميع الأشياء فالمناسب ذكره تعالى بعنوان مصحح لمبدأ الكل وقيل هو من كلام الله عز وجل وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه وكذلك يفعلون ومن للاستغراق على الوجهين (الحمد لله الذي وهب لي على الكبر) أي مع كبرى ويأسى عن الولد قيد الهبة به استعظاما للنعمة وإظهارا لشكرها (إسماعيل وإسحق) روى أنه ولد له إسماعيل وهو
53 ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة أو مائة وسبع عشرة سنة (إن ربي) ومالك أمرى (لسميع الدعاء) لمجيبه من قولهم سمع الملك كلامه إذا اعتد به وهي من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل أضيف إلى مفعوله أو فاعله بإسناد السماع إلى دعاء الله تعالى مجازا وهو مع كونه من تتمة الحمد والشكر إذ هو وصف له تعالى بأن ذلك الجميل سنته المستمرة تعليل على طريقة التذييل للهبة المذكورة وفيه إيذان بتضاعف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاء بقوله رب هب لي من الصالحين فاقترنت الهبة بقبول الدعوة وتوحيد ضمير المتكلم وإن كان عقيب ذكر هبتهما لما أن نعمة الهبة فائضة عليه خاصة وهما من النعم لا من المنعم عليهم (رب اجعلني مقيم الصلاة) مثابرا عليها معدلا لها وتوحيد ضمير المتكلم مع شمول دعوته لذريته أيضا حيث قال (ومن ذريتي) أي بعضهم من المذكورين ومن يسير سيرتهما من أولادهما للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذريته أتباع له وأن ذكرهم بطريق الاستطراد لا كما في قوله ربنا إني أسكنت الخ فإن إسكانه مع عدم تحققه بلا ملابسة لمن اسكنه إنما هو مذكور بطريق التمهيد للدعاء الذي هو مخصوص بذريته وإنما خص هذا الدعاء ببعض ذريته لعلمه من جهة الله تعالى أن بعضا منهم لا يكون مقيم الصلاة كقوله تعالى ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك (ربنا وتقبل دعاء) أي دعائي هذا المتعلق بجعلي وجعل بعض ذريتي مقيمي الصلاة ثابتين على ذلك مجتنبين عن عبادة الأصنام ولذلك جئ بضمير الجماعة (ربنا اغفر لي) أي ما فرط مني من ترك الأولى في باب الدين وغير ذلك مما لا يسلم منه البشر (ولوالدي) وقرئ بالتوحيد ولأبوى وهذا الاستغفار منه عليه السلام إنما كان قبل تبين الامر له عليه السلام وقيل أراد بوالديه آدم وحواء وقيل بشرط الإسلام ويرده قوله تعالى إلا قول إبراهيم الآية وقد مر في سورة التوبة نوع تحقيق للمقام وسيأتي تمامه في سورة مريم بفضل الله تعالى (وللمؤمنين) كافة من ذريته وغيرهم وللإيذان باشتراك الكل في الدعاء بالمغفرة جئ بضمير الجماعة (يوم يقوم الحساب) أي يثبت ويتحقق محاسبة أعمال المكلفين على وجه العدل استعير له من ثبوت القائم على الرجل بالاستقامة ومنه قامت الحرب على ساق والمراد تهويله وقيل أسند إليه قيام أهله مجازا أو حذف المضاف كما في واسأل القرية واعلم أن ما حكى عنه عليه السلام من الأدعية والأذكار وما يتعلق بها ليس بصادر عنه على الترتيب المحكي ولا على وجه المعية بل صدر عنه في أزمنة متفرقة حكى مرتبا للدلالة على سوء حال الكفرة بعد ظهور أمره في الملة وإرشاد الناس إليها والتضرع إلى الله تعالى لمصالحهم الدينية والدنيوية (ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تثبيته على ما كان عليه من عدم حسبانه عز وجل كذلك نحو قوله ولا تكونن من
54 المشركين ونظائره مع ما فيه من الإيذان بكونه واجب الاحتراز عنه في الغاية حتى نهى عنه من لا يمكن تعاطيه أو نهيه عليه السلام عن حسبانه تعالى تاركا لعقابهم على طريقة العفو والتعبير عنه بذلك للمبالغة في النهي والإيذان بأن ذلك الحسبان بمنزلة حسبانه تعالى غافلا عن أعمالهم إذ العلم بذلك مستوجب لعقابهم لا محالة فتركه لو كان للغفلة عما يوجبه من أعمالهم الخبيثة وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعد له أكيد ووعيد للكفر وسائر الظالمين شديد أو لكل أحد ممن يستعجل عذابهم أو يتوهم إهمالهم للجهل بصفاته تعالى والاغترار بإمهاله وقيل معناه لا تحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل عما عملوا بل معاملة من يحافظ على أعمالهم يجازيهم بذلك نقيرا وقطميرا والمراد بالظالمين أهل مكة ممن عدت مساويهم من تبديل نعمة الله تعالى كفرا وإحلال قومهم دار البوار واتخاذ الأنداد كما يؤذن به التعرض لحكمه التأخير المنبىء عنه قوله تعالى قل تمتعوا الآية أو جنس الظالمين وهم داخلون في الحكم دخولا أولياء (إنما يؤخرهم) يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنياوية ولا يعجل عقوبتهم حسبما يشاهد وهو استئناف وقع تعليلا للنهي السابق أي دم على ما كنت عليه من عدم حسبانه تعالى غافلا عن أعمالهم ولا تحزن بتأخير ما تستوجبه من العذاب الأليم إذ تأخيره للتشديد والتغليظ أولا تحسبنه تعالى تاركا لعقوبتهم لما ترى من تأخيرها إنما ذلك لأجل هذا أولا ولا تحسبنه تعالى يعاملهم معاملة الغافل ولا يؤاخذهم بما عملوا لما ترى من التأخير إنما هو لهذه الحكمة وقرئ بالنون وإيقاع التأخير عليهم مع أن المؤخر إنما هو عذابهم لتهويل الخطب وتفظيع الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مرصدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم وللدلالة على أن حقهم من العذاب هو الاستئصال بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عين ولا أثر وللإيذان بأن المؤخر له من جملة العذاب وعنوانه ولو قيل إنما يؤخر عذابهم الخ لما فهم ذلك (ليوم) هائل (تشخص فيه الأبصار) ترتفع ابصار أهل الموقف فيدخل في زمرتهم الكفرة المعهودون دخولا أوليا أي تبقى مفتوحة لا تتحرك أجفانهم من هول ما يرونه واعتبار عدم قرارها في أماكنها إما باعتبار الارتفاع الحسي في جرم العين وإما بجعل الصيغة من شخص من بلد إلى بلد وسار في الارتفاع (مهطعين) مسرعين إلى الداعي مقبلين عليه بالخوف والذل والخشوع أو مقبلين بأبصارهم عليه لا يقلعون عنه ولا يطرفون هيبة وخوفا وحيث كان إدامه النظر ههنا بالنظر إلى الداعي قيل (مقنعي رؤوسهم) أي رافعيها مع إدامة النظر من غير التفات إلى شيء قاله العتبى وابن عرفة أو ناكسيها ويقال أقنع رأسه أي طأطأها ونكسها فهو من الاضداد وهما حالان مما دل عليه الأبصار من أصحابها والثاني حال متداخلة من الضمير في الأول وإضافته غير حقيقية فلا ينافي الحالية (لا يرتد إليهم طرفهم) أي لا يرجع إليهم تحريك أجفانهم حسبما كان يرجع إليهم كل لحظة بل تبقى أعينهم مفتوحة لا تطرف أولا ترجع إليهم أجفانهم التي هي آلة الطرف فيكون إسناد الرجوع إلى الطرف مجازيا أو هو نفس الجفن قال الفيروزآبادي الطرف العين لا يجمع لأنه مصدر في الأصل أو اسم جامع للعين أولا يرجع نظرهم إلى أنفسهم فضلا عن أن يرجع إلى شيء آخر
55 فيبقون مبهوتين وهو أيضا حال أو بدل من مقنعي الخ أو استئناف والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الأبصار وتأخيره عمن هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكور من المناسبة لتربية هذا المعنى (وأفئدتهم هواء) خالية من العقل والفهم لفرط الحيرة والدهش كأنها نفس الهواء الخالي من كل شاغل ومنه قيل للجبان والأحمق قلبه هواء أي لا قوة ولا رأى فيه واعتبار خلوها عن كل خير لا يناسب المقام وهو إما حال عاملها لا يرتد مفيدة لكون شخوص أبصارهم وعدم ارتداد طرفهم بلا فهم ولا اختيار أو جملة مستقلة (وأنذر الناس) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إعلامه أن تأخيرهم لماذا وأمر له بإنذارهم وتخويفهم منه والمراد بالناس الكفار المعبر عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهر إتيان العذاب والعدول إليه من الإضمار للإشعار بأن المراد بالإنذار هو الزجر عما هم عليه من الظلم شفقة عليهم لا التخويف للإزعاج والإيذاء فالمناسب عدم ذكرهم بعنوان الظلم أو الناس جميعا فإن الإنذار عام للفريقين كقوله تعالى إنما تنذر من اتبع الذكر والإتيان يعمهما من حيث كونهما في الموقف وإن كان لحوقه بالكفار خاصة أي أنذرهم وخوفهم (يوم يأتيهم العذاب) المعهود وهو اليوم الذي وصف بما لا يوصف من الأوصاف الهائلة أعنى يوم القيامة وقيل هو يوم موتهم معذبين بالسكرات ولقاء الملائكة بلا بشرى أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل ويأباه القصر السابق (فيقول الذين ظلموا) أي فيقولون والعدول عنه إلى ما عليه النظم الكريم للتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بأن ما لقوه من الشدة إنما هو لظلمهم وإيثاره على صيغة الفاعل حسبما ذكر أولا للإيذان بأن الظلم في الجملة كاف في الإفضاء إلى ما ذكر من الأهوال من غير حاجة إلى الاستمرار عليه كما ينبئ عنه صيغة الفاعل وعلى تقدير كون المراد بالناس من يعم المسلمين أيضا فالمعنى الذين ظلموا منهم وهم الكفار أو يقول كل من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذرين وغيرهم من الأمم الخالية فإن إتيان العذاب يعمهم كما يشعر بذلك وعدهم باتباع الرسل (ربنا أخرنا) ردنا إلى الدنيا وأمهلنا (إلى أجل قريب) إلى أمد وحد من الزمان قريب (نجب دعوتك) أي الدعوة إليك أي وإلى توحيدك أو دعوتك لنا على ألسنة الرسل ففيه إيماء إلى أنهم صدقوهم في أنهم مرسلون من عند الله تعالى (ونتبع الرسل) فيما جاءونا به أي نتدارك ما فرطنا فيه من إجابة الدعوة واتباع الرسل والجمع إما باعتبار اتفاق الجميع على التوحيد وكون عصيانهم للرسول صلى الله عليه وسلم عصيانا لهم جميعا وإما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعا والمقصود بيان وعد كل أمة باتباع رسولها (أو لم تكونوا أقسمتم من قبل) على إضمار القول معطوفا على فيقول أي فيقال لهم توبيخا وتبكيتا ألم تؤخروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم إذ ذاك بألسنتكم بطرا وأشرا وجهلا وسفها (مالكم من زوال) مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال حيث بنيتم مشيدا
56 وأملتم بعيدا ولم تحدثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة وفيه إشعار بامتداد زمان التأخير وبعد مداه أو مالكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى وأقسموا بالله جهدا أيمانهم لا يبعث الله من يموت وصيغة الخطاب في جواب القسم لمراعاة حال الخطاب في أقسمتم كما في قوله حلف بالله ليخرجن وهو أدخل في التوبيخ من أن يقال مالنا مراعاة لحال المقسم ذكر البيهقي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال لأهل النار خمس دعوات يجيبهم الله تعالى في اربع منها فإذا كانت الخامسة لم يتكلموا بعدها أبدا يقولون ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين فاعترفنا بذنوبنا فهل إلى خروج من سبيل فيجيبهم الله تعالى ذلكم بأنه إذا ادعى الله وحده كفرتم وإن يشرك به تؤمنوا فالحكم لله تعالى الكبير ثم يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحا إنا موقنون فيجيبهم الله تعالى فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا الآية ثم يقولون ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل فيجيبهم الله تعالى أو لم تكونوا أقسمتم الآية ثم يقولون ربنا أخرجنا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل فيجيبهم الله تعالى أو لم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير فيقولون ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين فيجيبهم الله تعالى اخسئوا فيها ولا تكلمون فلا يتكلمون بعدها أبدا إن هو إلا زفير وشهيق وعند ذلك انقطع رجاؤهم وأقبل بعضهم ينبح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنم اللهم إنا بك نعوذ وبكنفك نلوذ عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك (وسكنتم) من السكنى بمعنى التبوؤوا لإيطان وإنما استعمل بكلمة في حيث قيل (في مساكن الذين ظلموا أنفسهم) جريا على الأصل لأنه منقول عن مطلق السكون الذي حقه التعدية بها أو من السكون واللبث أي قررتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتهم في الظلم والكفر والمعاصي غير محدثين لأنفسكم بما لقوا بسبب ما أجترحوا من الموبقات وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيذان بأن غائلة الظلم آئلة إلى صاحبه والمراد بهم إما جميع من تقدم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاص الاستمهال والخطاب السابق بالمنذرين وإما أوائلهم من قوم نوح وهود على تقدير عمومها للكل وهذا الخطاب وما يتلوه باعتبار حال أواخرهم (وتبين لكم) بمشاهدة الآثار وتواتر الأخبار (كيف فعلنا بهم) من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد وكيف منصوب بما بعده من الفعل وليس الجملة فاعلا لتبين كما قاله بعض الكوفيين بل فاعله ما دلت هي عليه دلالة واضحة أي فعلنا العجيب بهم وفيه من المبالغة ما ليس في أن يقال ما فعلنا بهم كما مر في قوله تعالى ليسجننه وقرئ وبين (وضربنا لكم الأمثال) أي بينا لكم في القرآن العظيم على تقدير اختصاص الخطاب بالمنذرين أو على ألسنة الأنبياء عليهم السلام على تقدير عمومه لجميع الظالمين صفات ما فعلوا وما فعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالكم على أعمالهم ومآلكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول
57 العذاب العاجل إلى حلول العذاب الآجل فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي أو بينا لكم أنكم مثلهم في الكفر واستحقاق العذاب والجمل الثلاث في موقع الحال من ضمير أقسمتم أي أقسمتم بالخلود والحال أنكم سكنتم في مساكن المهلكين بظلمهم وتبين لك فعلنا العجيب بهم ونبهنا كم على جلية الحال بضرب الأمثال وقوله عز وجل (وقد مكروا مكرهم) حال من الضمير الأول في فعلنا بهم أو من الثاني أو منهما جميعا وإنما قدم عليه قوله تعالى وضربنا لكم الأمثال لشدة ارتباطه بما قبله أي فعلنا بهم ما فعلنا والحال أنهم قد مكروا في إبطال الحق وتقرير الباطل مكرهم العظيم الذي استفرغوا في عمله المجهود وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدر عليه غيرهم فالمراد بيان تناهيهم في استحقاق ما فعل بهم أو قد مكروا مكرهم المذكور في ترتيب مبادى البقاء ومدافعة أسباب الزوال فالمقصود إظهار عجزهم واضمحلال قدرتهم وحقارتها عند قدرة الله تعالى (وعند الله مكرهم) أي جزاء مكرهم الذي فعلوه على أن المكر مضاف إلى فاعله أو أخذه تعالى بهم على أنه مضاف إلى مفعوله وتسميته مكرا لكونه بمقابلة مكرهم وجودا وذكرا أو لكونه في صورة المكر في الإتيان من حيث لا يشعرون وعلى التقديرين فالمراد به ما أفاده قوله عز وجل كيف فعلنا بهم لا أنه وعيد مستأنف والجملة حال من الضمير في مكروا أي مكروا مكرهم وعند الله جزؤه أو ما هو أعظم منه والمقصود بيان فساد رأيهم حيث باشروا فعلا مع تحقق ما يوجب تركه (وإن كان مكرهم) في العظم والشدة (لتزول منه الجبال) أي وإن كان مكرهم في غاية المتانة والشدة وعبر عن ذلك بكونه مسوى ومعدا لإزالة الجبال عن مقارها لكونه مثلا في ذلك والجملة المصدرة بأن الوصلية معطوفة على جملة مقدرة والمعنى وعند الله جزاء مكرهم أو المكر الذي يحيق بهم إن لم يكن مكرهم لتزول منه الجبال وإن كان الخ وقد حذف ذلك حذفا مطردا لدلالة المذكور عليه دلالة واضحة فإن الشيء إذا تحقق عند وجود المانع القوى فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذه النكتة يدور ما في إن الوصلية من التأكيد المعنوي والجواب محذوف دل عليه ما سبق وهو قوله تعالى وعند الله مكرهم وقيل إن نافية واللام لتأكيدها كما في قوله تعالى وما كان الله ليعذبهم وينصره وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرهم فالجملة حينئذ حال من الضمير في مكروا لا من قوله تعالى وعند الله مكرهم أي مكروا مكرهم والحال أن مكرهم لم يكن لتزول منه الجبال على أنها عبارة عن آيات الله تعالى وشرائعه ومعجزاته الظاهرة على أيدي الرسل السالفة عليهم السلام التي هي بمنزلة الجبال الراسيات في الرسوخ وأما كونها عبارة عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأمر القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذ الماكرون هم المهلكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين وإن خص الخطاب بالمنذرين وقيل هي مخففة من إن والمعنى إنه كان مكرهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات مما ذكر من الآيات والشرائع والمعجزات والجملة كما هي حال من ضمير مكروا أي مكروا مكرهم المعهود وإن الشأن كان مكرهم لإزالة الآيات والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك وكان شأن الآيات والشرائع مانعا من مباشرة المكر
58 لإزالته وقد وقرأ الكسائي لتزول بفتح اللام على أنها الفارقة والمعنى تعظيم مكرهم فالجملة حال من قوله تعالى وعند الله مكرهم أي عنده تعالى جزاء مكرهم أو المكر بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبال أي في غاية الشدة وقرئ بالفتح والنصب على لغة من بفتح لام كي وقرئ وإن كاد مكرهم هذا هو الذي يقتضيه النظم الكريم وينساق إليه الطبع السليم وقد قيل إن الضمير في مكروا للمنذرين والمراد بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك الآية وغيره من أنواع مكرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ولعل الوجه حينئذ أن يكون قوله تعالى وقد مكروا الخ حالا من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحال أنهم مع ما فعلوا من الإقسام المذكور مع ما ينافيه من السكون في مساكن المهلكين وتبين أحوالهم وضرب الأمثال قد مكروا مكرهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجرد الإقسام الذي وبخوا به بل اجترءوا على مثل هذه العظيمة وقوله تعالى وعند الله تعالى مكرهم حال من ضمير مكروا حسبما ذكرنا من قبل وقوله تعالى وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال مسوق لبيان عدم تفاوت الحال في تحقيق الجزاء بين كون مكرهم قويا أو ضعيفا كما مر هناك وعلى تقدير كون إن نافية فهو حال من ضمير مكروا والجبال عبارة عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم أي وقد مكروا والحال أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائع والآيات التي هي في القوة كالجبال وعلى تقدير كونها مخففة من الثقيلة واللام مكسورة يكون حالا منه أيضا على معنى أن ذلك المكر العظيم منهم كان لهذا الغرض على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك لما أن شأن الشرائع أعظم من أن يمكر بها ماكر وعلى تقدير فتح اللام فهو حال من قوله تعالى وعند الله مكرهم كما ذكرنا من قبل فليتأمل (فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله) لم يرد به والله سبحانه أعلم ما وعده بقوله تعالى إنا لننصر رسلنا الآية وقوله كتب الله لأغلبن أنا ورسلي كما قيل فإنه لا اختصاص له بالتعذيب لا سيما الأخروى بل ما سلف آنفا من وعده بتعذيب الظالمين بقوله تعالى إنما يؤخرهم الآية كما يفصح عنه الفاء الداخلة على النهي الذي أريد به تثبيته عليه الصلاة والسلام على ما كان عليه من الثقة بالله تعالى والتيقن بإنجاز وعده المذكور المقرون بالامر بإنذارهم يوم إتيان العذاب المتضمن لذكر تعذيب الأمم السالفة بسبب كفرهم وعصيانهم رسلهم بعد ما وعدهم بذلك كما فصلت قصة كل منهم في القرآن العظيم فكأنه قيل وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقونه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا وبما أجبناهم به وقرعناهم بعدم تأملهم في أحوال من سبقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلهم بإهلاكهم فدم على ما كنت عليه من اليقين بعدم إخلافنا رسلنا وعدنا (إن اله عزيز) غالب لا يماكر وقادر (ذو انتقام) لأوليائه من أعدائه والجملة تعليل للنهي المذكور وتذييل له وحيث كان الوعد عبارة عما ذكرنا من تعذيبهم خاصة لم يذيل بأن يقال إن الله لا يخلف الميعاد بل تعرض لوصف العزة والانتقام المشعرين بذلك والمراد بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبر عنه بالمكر
59 (يوم تبدل الأرض غير الأرض) ظرف لمضمر مستأنف ينسحب عليه النهي المذكور أي ينجزه يوم الخ أو معطوف عليه نحو وارتقب يوم تبدل الأرض غير الأرض أو لانتقام وهو يوم يأتيهم العذاب بعينه ولكن له أحوال جمة يذكر كل مرة بعنوان مخصوص والتقييد به مع عموم انتقامه للأوقات كلها للإفصاح عما هو المقصود من تعذيب الكفرة المؤخر إلى ذلك اليوم بموجب الحكمة الداعية إليه وقيل بدل من يوم يأتيهم العذاب أو نصب باذكر أو بإضمار لا يخلف وعده يوم تبدل الخ وفيه أيضا ما في الوجه الثالث من الحاجة إلى الاعتذار ولا يجوز أن ينتصب بقوله مخلف وعده لأن ما قبل إن لا يعمل فيما بعده وقيل هو غير مانع لان قوله تعالى إن الله عزيز ذو انتقام جملة اعتراضية فلا يبالي بها فاصلا واعلم أن التبديل قد يكون في الذات كما في بدلت الدراهم دنانير وعليه قوله عز وجل بدلناهم جلودا غيرها وقد يكون في الصفات كما في قولك بدلت الحلقة خاتما إذا غيرت شكلها ومنه قوله تعالى يبدل الله سيئاتهم حسنات على بعض الأقوال والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين فعن على رضي الله عنه تبدل أرضا من فضة وسموات من ذهب وعن ابن مسعود رضي الله عنه تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاء نقية لم يسفك فيها دم ولم يعمل عليها خطيئة وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي تلك الأرض وإنما تغير صفاتها وأنشد * [وما الناس بالناس الذين عهدتهم * وما الدار بالدار التي كنت تعلم] * وتبدل السماوات بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبوابا ويدل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال تبدل الأرض غير الأرض فتبسط وتمد مد الأديم العكاظى لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (والسماوات) أي وتبدل السماوات غير السماوات حسبما مر من التفصيل وتقديم تبديل الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظم أثرا بالنسبة إلينا (وبرزوا) أي الخلائق أو الظالمون المدلول عليهم بمعونة السباق والمراد بروزهم من أجداثهم التي في بطون الأرض أو ظهورهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرا ويزعمون أنها لا تظهر أو يعملون عمل من يزعم ذلك ولعل إسناد البروز إليهم مع أنه لأعمالهم للإيذان بتشكلهم بأشكال تناسبها وهو معطوف على تبدل والعدول إلى صيغة الماضي للدلالة على تحقق وقوعه أو حال من الأرض بتقدير قد والرابط بينها وبين صاحبها الواو (لله الواحد القهار) للحساب والجزاء والتعرض للوصفين لتهويل الخطب وتربية المهابة وإظهار بطلان الشرك وتحقيق الانتقام في ذلك اليوم على تقدير كونه ظرفا له وتحقيق إتيان العذاب الموعود على تقدير كونه بدلا من يوم يأتيهم العذاب فإن الأمر إذا كان لواحد غلاب لا يعار وقادر لا يضار ولا يغار كان في غاية ما يكون من الشدة والصعوبة (وترى المجرمين) عطف على برزوا والعدول إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار وأما لبروز فهو دفعي
60 لا استمرار فيه وعلى تقدير حالية برزوا فهو معطوف على تبدل ويجوز عطفه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونه ينجزه (يومئذ) يوم إذ برزوا له عز وجل أو يوم إذ تبدل الأرض أو يوم إذ ينجز وعده (مقرنين) قرن بعضهم مع بعض حسب اقترانهم في الجرائم والجرائر أو قرنوا مع الشياطين الذين أغووهم أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملكات الردية والأعمال السيئة غب تصور كل منها وتشكلهما بما يناسبها من الصور الموحشة والأشكال الهائلة أو قرنت أيديهم وأرجلهم إلى رقابهم وهو حال من المجرمين (في الأصفاد) في القيود أو الأغلال وهو إما متعلق بقوله تعالى مقرنين أو حال من ضميره أي مصفدين (سرابيلهم) أي قمصانهم (من قطران) جملة من مبتدأ وخبر محلها النصب على الحالية من المجرمين أو من ضميرهم في مقرنين رابطتها الضمير فقط كما في كلمته فوه إلى في أو مستأنفة والقطران ما يتحلب من الإبل فيطبخ فتهنأ به الإبل الجربى فيحرق الجرب بما فيه من الحدة الشديدة وقد تصل حرارته إلى الجوف وهو اسود منتن يسرع فيه اشتعال النار يطلى به جلود أهل النار حتى يعود طلاؤه لهم كالسراويل ليجتمع عليهم الألوان الأربعة من العذاب لذعه وحرقته وإسراع النار في جلودهم واللون الموحش والنتن على أن التفاوت بينه وبين ما نشاهده وبين النارين لا يكاد يقادر قدره فكأن ما نشاهده منهما أسماء مسمياتها في الآخرة فبكرمه العميم نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ ويحتمل أن يكون ذلك تمثيلا لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الردية والهنات الوحشية فتجلب إليها الآلام والغموم بل وأن يكون القطران المذكور عين مالا بسوه في هذه النشأة وجعلوه شعارا لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعة لاشتداد العذاب عصمنا الله سبحانه عن ذلك بمنه ولطفه وقرئ من قطرآن أي نحاس مذاب متناه حره (وتغشى وجوههم النار) أي تعلوها وتحيط بها النار التي تمس جسدهم المسربل بالقطران وتخصيص الوجوه بالحكم المذكور مع عمومه لسائر أعضائهم لكونها أعز الأعضاء الظاهرة وأشرفها كقوله تعالى أفمن يتقى بوجهه سوء العذاب الخ ولكونها مجمع المشاعر والحواس التي خلقت لإدراك الحق وقد أعرضوا عنه ولم يستعملوها في تدبيره كما أن الفؤاد أشرف الأعضاء الباطنة ومحل المعرفة وقد ملئوها بالجهالات لذلك قيل تطلع على الأفئدة أو لخلوها عن القطران المغنى عن ذكر غشيان النار لها ولعل تخليتها عنه ليتعارفوا عند انكشاف اللهب أحيانا ويتضاعف عذابهم بالخزى على رؤوس الأشهاد وقرئ تغشى أي تتغشى بحذف إحدى التاءين والجملة نصب على الحالية لا على أن الواو حالية لأنه مضارع مثبت بل على أنها معطوفة على الحال قاله أبو البقاء (ليجزى الله) متعلق بمضمر أي يفعل بهم ذلك ليجزى (كل نفس) مجرمة (ما كسبت) من أنواع الكفر والمعاصي جزاء موافقا لعملها وفيه إبذان بأن جزاءهم مناسب لأعمالهم أو بقوله برزوا
61 على تقدير كونه معطوفا على تبدل والضمير للخلق وقوله وترى المجرمين الخ اعتراض بين المتعلق والمتعلق به أي برزوا للحساب ليجزى الله كل نفس مطيعة أو عاصية ما كسبت من خير أو شر وقد اكتفى بذكر عقاب العصاة تعويلا على شهادة الحال لا سيما مع ملاحظة سبق الرحمة الواسعة (إن الله سريع الحساب) إذ لا يشغله شأن عن شأن فيتمه في أعجل ما يكون من الزمان فيوفى الجزاء بحسبه أو سريع المجىء يأتي عن قريب أو سريع الانتقام كما قال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى وهو سريع الحساب (هذا) أي ما ذكر من قوله سبحانه ولا تحسبن الله غافلا إلى سريع الحساب (بلاغ) كفاية في العظة والتذكير من غير حاجة إلى ما انطوى عليه السورة الكريمة أو كل القرآن المجيد من فنون العظات والقوارع (للناس) للكفار خاصة على تقدير اختصاص الإنذار بهم في قوله تعالى وأنذر الناس أو لهم وللمؤمنين كافة على تقدير شموله لهم أيضا وإن كان ما شرح مختصا بالظالمين (ولينذروا به) عطف على مقدر واللام متعلقة بالبلاغ أي كفاية لهم في ان ينصحوا وينذروا به أو هذا بلاغ لهم ليفهموه ولينذروا به على أن البلاغ بمعنى الإبلاغ كما في قوله تعالى ما على الرسول إلا البلاغ أو متعلقة بمحذوف أي ولينذروا به أنزل أو تلى وقرئ لينذروا به من نذر الشيء إذا علمه وحذروه واستعد له (وليعلموا) بالتأمل فيما فيه من الدلائل الواضحة التي هي إهلاك الأمم وإسكان آخرين مساكنهم وغيرهما مما سبق ولحق (أنما هو إله واحد) لا شريك له وتقديم الإنذار لأنه الداعي إلى التأمل المؤدى إلى ما هو غاية له من العلم المذكور والتذكير في قوله تعالى (وليذكر أولو الألباب) أي ليتذكروا ما كانوا يعملونه من قبل من التوحيد وغيره من شؤون الله عز وجل ومعاملته مع عبادة فيرتدعوا عما يرديهم من الصفات التي ينصف بها الكفار ويتدرعوا بما يحظيهم من العقائد الحقة والأعمال الصالحة وفي تخصيص التذكر بأولى الألباب تلويح باختصاص العلم بالكفار ودلالة على أن المشار إليه بهذا ما ذكرنا من القوارع المسوقة لشأنهم لا كل السورة المشتملة عليها وعلى ما سبق للمؤمنين أيضا فإن فيه ما يفيدهم فائدة جديدة وحيث كان ما يفيده البلاغ من التوحيد وما يترتب عليه من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمرا حادثا وبالنسبة إلى أولى الألباب الثبات على ذلك حسبما أشير إليه عبر عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكير وروعى ترتيب الوجود مع ما فيه من الختم بالحسنى والله سبحانه أعلم ختم الله لنا بالسعادة والحسنى ورزقنا الفوز بمرضاته في الأولى والعقبى آمين عن النبي صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة إبراهيم أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من عبد الأصنام ومن لم يعبده والحمد لله وحده
62 (سورة الحجر مكية إلا آية 87 فمدنية وآيها تسع وتسعون) بسم الله الرحمن الرحيم (الر) قد مر الكلام فيه وفي محله في مطلع سورة الرعد وأخواتها (تلك إشارة إليه أي تلك السورة العظيمة الشأن (أيات الكتاب) الكامل المعهود الغني عن الوصف به المشهور بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق أي بعض منه مترجم مستقل باسم خاص فهو عبارة عن جميع القرآن أو عن الجميع المنزل إذ ذاك إذ هو المتسارع إلى الفهم حينئذ عند الإطلاق وعليه يترتب فائدة وصف الآيات بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمال لا على جعله عبارة عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبة من الشهرة حتى يستغنى عن التصريح بالوصف على أنها عبارة عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارة إلى كل واحدة منها وفيه من التكليف مالا يخفى كما ذكر في سورة الرعد (وقرآن) أي قرآن عظيم الشأن (مبين) مظهر لما في تضاعيفه من الحكم والأحكام أو لسبيل الرشد والغى أو فارق بين الحق والباطل والحلال والحرام ولقد فخم شأنه العظيم مع ما جمع فيه من وصفي الكتابية والقرآنية على الطريقتين إحداهما اشتماله على صفات كمال جنس الكتب الإلهية فكأنه كلها والثانية طريقة كونه ممتازا عن غيره نسيج وحده بديعا في بابه خارجا عن دائرة البيان وأخرت الطريقة الثانية لما أن الإشارة إلى امتيازه عن سائر الكتب بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيره من الكتب أدخل في المدح كيلا يتوهم من أول الأمر أن امتيازه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصة به من غير اشتماله على نعوت كمال سائر الكتب الكريمة وهكذا الكلام في فاتحة سورة النمل خلا أنه قدم فيها القرآن على الكتاب لما سيذكر هناك ولما بين كون السورة الكريمة بعضا من الكتاب والقرآن لتوجيه المخاطبين إلى حسن تلقى ما فيها من الأحكام والقصص والمواعظ شرع في بيان ما تتضمنه فقيل (ربما) بضم الراء وتخفيف الباء المفتوحة وقرئ بالتشديد وبفتح الراء مخففا وبزيادة التاء مشددا وفيه ثماني لغات فتح الراء وضمها مشددا ومخففا وبزيادة التاء أيضا مشددا ومخففا ورب حرف جر لا يدخل إلا على الاسم وما كافة مصححة لدخوله على الفعل وحقه الدخول على الماضي ودخوله على قوله تعالى (بود الذين كفروا) لما ان المترقب في اخباره تعالى كالماضي المقطوع في تحقق الوقوع فكأنه قيل ربما ود الذين كفروا والمراد كفرهم بالكتاب والقرآن وكونه
63 من عند الله تعالى (لو كانوا مسلمين) منقادين لحكمه ومذعنين لأمره وفيه إيذان بأن كفرهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونه من عند الله تعالى وتلك الودادة يوم القيامة أو عند موتهم أو عند معاينة حالهم وحال المسلمين أو عند رؤيتهم خروج عصاة المسلمين من النار وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء تعالى من أهل القبلة قال لهم الكفار ألستم مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا إلى النار قالوا كانت لنا ذنوب فأخذنا بها فيغضب الله سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فيخرجون منها فحينئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا يزال الرب يرحم ويشفع إليه حتى يقول من كان من المسلمين فليدخل الجنة فعند ذلك يتمنون الإسلام والحق أن ذلك محمول على شدة ودادتهم وأما نفس الودادة فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هي مقررة مستمرة في كل آن يمر عليهم وأن المراد بيان ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جئ بصيغة التقليل جريا على سنن العرب فيما يقصدون به الإفراط فيما يعكسون عنه تقول لبعض قواد العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رب فارس عندي أو لا تعدم عندي فارسا وعنده مقانب جمه من الكتائب وقصده في ذلك التمارى في تكثير فرسانه ولكنه يريد إظهار براءته من التزيد وإبراز أنه ممن يقلل لعلو الهمة كثير ما عنده فضلا عن تكثير القليل وهذه الطريقة إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحوم حوله شائبة ريب فيصار إليه هضما للحق فدل النظم الكريم على ودادة الكافرين للإسلام في كل آن من آنات اليوم الآخر وأن ذلك من الظهور بحيث لا يشتبه على أحد ولو جئ بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادة مع كثرتها في نفسها مما يستقل بالنسبة إلى جناب الكبرياء وهذا هو الموافق لمقام بيان حقارة شأن الكفار وعد الاعتداد بما هم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى ذرهم يأكلوا الآية أو ذهابا إلى الإشعار بأن من شأن العاقل إذا عن له أمر يكون مظنون الحمد أو قليلا ما يكون كذلك أن لا يفارقه ولا يقارف ضده فكيف إذا كان متيقن الحمد كما في قولهم لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندم الإنسان على ما فعل فإن المقصود ليس بيان كون الندم مرجو الوجود بلا تيقن به أو قليل الوقوع بل التنبيه على أن العاقل لا يباشر ما يرجى فيه الندم أو يقل وقوعه فيه فكيف بقطعي الوقوع وأنه يكفى قليل الندم في كونه حاجزا عن ذلك الفعل فكيف كثيرة والمقصود من سلوك هذه الطريقة إظهار الترفع والاستغناء عن التصريح بالغرض بناء على ادعاء ظهوره فالمعنى لو كانوا يودون الإسلام مرة واحدة لوجب عليهم أن لا يفارقوه فكيف وهم يودونه كل آن وهذا أوفق بمقام استنزالهم عما هم عليه من الكفر وهذان طريقان متمايزان ذاتا ومقاما فمن ظنهما واحدا فقد نأى عن توفية المقام حقه (ذرهم) دعهم عن النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة إذ لا سبيل إلى إراعوائهم عن ذلك وبالغ في تخليتهم وشأنهم بل مرهم بتعاطى ما يتعاطونه (يأكلوا ويتمتعوا) بدنياهم وفي تقديم الأكل إيذان بأن تمتعهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل
64 والمشارب والمراد دوامهم على ذلك لا إحداثه فإنهم كانوا كذلك أو تمتعهم بلا استماع ما ينغص عيشهم من القوارع والزواجر فإن التمتع على ذلك الوجه أمر حادث يصلح أن يكون مترتبا على تخليتهم وشأنهم (ويلههم) ويشغلهم عن اتباعك أو عن التفكر فيما هم يصيرون إليه أو عن الإيمان والطاعة فإن الأكل والتمتع يفضيان إلى ذلك (الأمل) والتوقع لطول الأعمار وبلوغ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يلقوا في العاقبة والمآل إلا خيرا فالأفعال الثلاثة مجزومة على الجوابية للأمر حسبما عرفت من تضمن الأمر بالترك للأمر بها على طريقة المجاز أو على أن يكون المراد بالأفعال المرقومة مباشرتهم لها غافلين عن وخامة عاقبتها غير سامعين لسوء مغبتها أصلا ولا ريب في ترتب ذلك على الأمر بالترك فإن النهي عما هم عليه من ارتكاب القبائح مما يشوش عليهم متعهم وينغص عليهم عيشهم فأمر عليه السلام بتركه ليتمرغوا فيما هم فيه من حظوظهم فيدهمهم ما يدهمهم وهم عنه غافلون (فسوف يعلمون) سوء صنيعهم أو وخامة عاقبته أو حقيقة الحال التي ألجأتهم إلى التمني المذكور حيث لم يعلموا ذلك من جهتك وهو مع كونه وعيدا أيما وعيد وتهديدا غب تهديد تعليل للأمر بالترك فإن علمهم ذلك علة لترك النهي والنصيحة لهم وفيه إلزام للحجة ومبالغة في الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد إلا بعد تكرر الإنذار وتقرر الجحود والإنكار وكذلك ما ترتب عليه من الأكل والتمتع والإلهاء (وما أهلكنا) شروع في بيان سر تأخير عذابهم إلى يوم القيامة وعدم نظمهم في سلك الأمم الدارجة في تعجيل العذاب أي ما أهلكنا (من قرية) من القرى بالخسف بها وبأهلها كما فعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها غب إهلاكهم كما فعل بآخرين (إلا ولها) في ذلك الشأن (كتاب) أي أجل مقدر مكتوب في اللوح واجب المراعاة بحيث لا يمكن تبديله لوقوعه حسب الحكمة المقتضية له (معلوم) لا ينسى ولا يغفل عنه حتى يتصور التخلف عنه بالتقدم والتأخر فكتاب مبتدأ خبره الظرف والجملة حال من قرية فإنها لعمومها لا سيما بعد تأكده بكلمة من في حكم الموصوفة كما أشير إليه والمعنى ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا حال أن يكون لها كتاب أي أجل موقت لمهلكها قد كتبناه لا نهلكها قبل بلوغه معلوم لا يغفل عنه حتى يمكن مخالفته بالتقدم والتأخر أو مرتفع بالظرف والجملة كما هي حال أي ما أهلكنا قرية من القرى في حال من الأحوال إلا وقد كان لها في حق هلاكها كتاب أي أجل مقدر مكتوب في اللوح معلوم لا يغفل عنه أو صفة لكن لا للقرية المذكورة بل للمقدرة التي هي بدل من المذكورة على المختار فيكون بمنزلة كونه صفة للمذكورة أي ما أهلكنا قرية من القرى إلا قرية لها كتاب معلوم كما في قوله تعالى ليس لهم طعام إلا من ضريع لا يسمن فإن قوله تعالى لا يسمن صفة لكن لا للطعام المذكور لأنه إنما يدل على انحصار طعامهم الذي لا يسمن في الضريع وليس المراد ذلك بل للطعام المقدر بعد إلا أي ليس لهم طعام من شيء من الأشياء إلا طعام لا يسمن فليس فيه فصل بين الموصوف والصفة بكلمة إلا كما توهم وأما توسيط الواو بينهما
65 وإن كان القياس عدمه فللإيذان بكمال الالتصاق بينهما من حيث إن الواو شأنها الجمع والربط فإن ما نحن فيه من الصفة أقوى لصوقا بالموصوف منها به في قوله تعالى وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون فإن امتناع انفكاك الإهلاك عن الأجل المقدر عقلي وعن الإنذار عادى جرى عليه السنة الإلهية ولما بين أن الأمم المهلكة كان لكل منهم وقت معين لهلاكهم لم يكن إلا حسبما كان مكتوبا في اللوح بين أن كل أمة من الأمم منهم ومن غيرهم لها كتاب لا يمكن التقدم عليه ولا التأخر عنه فقيل (ما تسبق من أمة ) من الأمم المهلكة وغيرهم (أجلها) المكتوب في كتابها أي لا يجيء هلاكها قبل مجيء كتابها أولا تمضي أمة قيل مضى أجلها فإن السبق إذا كان واقعا على زماني فمعناه المجاوزة والتخليف فإذا قلت سبق زيد عمرا فمعناه أنه جاوزه وخلفه وراءه وإذا كان واقعا على زمان كان الأمر بالعكس والسر في ذلك أن الزمان يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى المتكلم فما سبقه يتحقق قبل تحققه وأما الزماني فإنما يعتبر فيه الحركة والتوجه إلى ما سيأتي من الزمان فالسابق ما تقدم إلى المقصد وإيراده بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما أن إيراده بعنوان الكتاب المعلوم باعتبار ما يوجبه من الإهلاك (وما يستأخرون) أي وما يتأخرون وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له وإيثار صيغة المضارع في الفعلين بعد ما ذكر نفي الإهلاك بصيغة الماضي لأن المقصود بيان دوامهما واستمرارهما فيما بين الأمم الماضية والباقية وإسنادهما إلى الأمة بعد إسناد الإهلاك إلى القرية لما أن السبق والاستئخار حال الأمة دون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرهم ممن أخرت عقوباتهم إلى الآخرة وتأخير ذكر عدم تأخرهم عن ذكر عدم سبقهم مع كون المقام مقام المبالغة في بيان تحقق عذابهم إما باعتبار تقدم السبق في الوجود وإما باعتبار أن المراد بيان سر تأخير عذابهم مع استحقاقهم لذلك وإيراد الفعل على صيغة جمع المذكر للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصل ولذلك حذف الجار والمجرور والجملة مبينة لما سبق والمعنى أن تأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أشير إليه ببيان ودادتهم للإسلام إذ ذاك وبالأمر بتركهم وشأنهم إلى أن يعلموا حقيقة الحال إنما هو لتأخر أجلهم المقدر لما يقتضيه من الحكم البالغة ومن جملتها ما علم الله تعالى من إيمان بعض من يخرج منهم إلى يوم القيامة (وقالوا) شروع في بيان كفرهم بمن أنزل عليه الكتاب بعد بيان كفرهم بالكتاب وما يؤول إليه حالهم والقائلون مشركو مكة لغاية تماديهم في العتو والغي (يأبها الذي نزل عليه الذكر) خاطبوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسليما لذلك واعتقادا له بل استهزاء به عليه الصلاة والسلام وإشعارا بعلة حكمهم الباطل في قولهم (إنك لمجنون) كدأب فرعون إذ قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون يعنون يامن يدعى مثل هذا الأمر البديع الخارق للعادات إنك بسبب تلك الدعوى أو بشهادة ما يعتريك عند ما تدعى أنه ينزل عليك لمجنون
66 وتقديم الجار والمجرور على القائم مقام الفاعل لأن إنكارهم متوجه إلى كون النازل ذكرا من الله تعالى لا إلى كون المنزل عليه رسول الله بعد تسليم كون النازل منه تعالى كما في قوله تعالى لولا نزيل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم فإن الإنكار هناك متوجه إلى كون المنزل عليه رسول الله تعالى وإيراد الفعل على صيغة المجهول لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعل أو لتوجيه الإنكار إلى كون التنزيل عليه لا إلى استناده إلى الفاعل (لو تأتينا) كلمة لو عند تركبها مع ما تفيد ما تفيده عند تركبها مع لامن معنى امتناع الشيء لوجود غيره ومعنى التحضيض خلا أنه عند إرادته لا يليها إلا فعل ظاهر أو مضمر وعند إرادة المعنى الأول لا يليها إلا اسم ظاهر أو مقدر عند البصريين والمراد ههنا هو الثاني أي هلا تأتينا (بالملائكة) يشهدون بصحة نبوتك ويعضدونك في الإنذار كقوله تعالى لولا أنزل عليه ملك فيكون معه نذيرا أو يعاقبوننا على التكذيب كما تأتي الأمم المكذبة لرسلهم (إن كنت من الصادقين) في دعواك فإن قدرة الله تعالى على ذلك مما لا ريب فيه وكذا احتياجك إليه في تمشية أمرك فإنا لا نصدقك بدون ذلك أو إن كنت من جملة تلك الرسل الصادقين الذين عذبت أممهم المكذبة لهم (ما ننزل الملائكة) بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل وقرئ من الإنزال وقرئ تنزل مضارعا من التنزيل على صيغة البناء للمفعول ومن التنزيل بحذف إحدى التاءين وما ضيا منه ومن التنزيل ومن الثلاثي وهو كلام مسوق إلى النبي صلى الله عليه وسلم جوابا لهم عن مقالتهم المحكية وردا لاقتراحهم الباطل ولشدة استدعاء ذلك للجواب قدم رده على ما هو جواب عن أولها أعني قوله إنا نحن نزلنا الذكر الآية كما فعل في قوله تعالى قال إنما يأتيكم به الله فإنه مع كونه جوابا عن قولهم فائتنا بما تعدنا قدم على قوله ولا ينفعكم نصحى الآية مع كونه جوابا عن أول كلامهم الذي هو قولهم يا نوح قد جادلتنا لما ذكر من شدة اقتضائه للجواب وليكون أحد الجوابين متصلا بالسؤال وفي العكس يلزم انفصال كل من الجوابين عن سؤاله والعدول عن تطبيقه لظاهر كلامهم بصدد الاقتراح وهو أن يقال ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد أخطئوا في التعبير حسبما أخطئوا في الاقتراح وأن الملائكة لعلو رتبتهم أعلى من أن ينسب إليهم مطلق الإتيان الشامل للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها بل من الأسفل إلى الأعلى وأن يكون مقصد حركاتهم أولئك الكفرة وأن يدخلوا تحت ملكوت أحد من البشر وإنما الذي يليق بشأنهم النزول من مقامهم العالي وكون ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل (إلا بالحق) أي ملتبسا بالوجه الذي يحق ملابسة التنزيل به مما تقتضيه الحكمة وتجرى به السنة الإلهية كقوله سبحانه وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هم ومنزلتهم في الحقارة والهوان منزلتهم مما لا يكاد يدخل تحت الصحة الحكمة أصلا فإن ذلك من باب التنزيل بالوحي الذي لا يكاد يفتح على غير الأنبياء الكرام من
67 أفراد كمل المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئام وإنما الذي يدخل في حقهم تحت الحكمة في الجملة هو التنزيل للتعذيب والاستئصال كما فعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة (وما كانوا إذا منتظرين) جزاء الشرط مقدر وفيه إيذان بإنتاج مقدماتهم لنقيض مطلوبهم كما في قوله تعالى وإذن لا يلبثون خلافك إلا قليلا قال صاحب النظم لفظة إذن مركبة من إذ وهو اسم بمعنى الحين تقول أتيتك إذ جئتني أي حين جئتني ثم ضم إليه أن فصار إذ أن ثم استثقلوا الهمزة فحذفوها فمجيء لفظة أن دليل على إضمار فعل بعدها والتقدير وما كانوا إذ أن كان ما طلبوه منظرين والمعنى لو نزلناهم ما كانوا مؤخرين كدأب سائر الأمم المكذبة المستهزئة ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلم القضاء بتأخير عذابهم إلى يوم القيامة حسبما أجمل في قوله تعالى ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل الخ وحال حائل الحكمة بينهم وبين استئصالهم لتعلق العلم والإرادة بازديادهم عذابا وبإيمان بعض ذراريهم وأما نظم إيمان بعضهم في سمط الحكمة فيأباه مقام بيان تماديهم في الكفر والفساد ولجاجهم في المكابرة والعناد هذا هو الذي يستدعيه إعجاز التنزيل الجليل وأما ما قيل في تعليل عدم موافقة التنزيل للحكمة من أنهم حينئذ يكونون مصدقين عن اضطرار أو أنه لا حكمة في أن تأتيكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لبسا أو أن إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحق وحصول الفائدة بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار أنه لو أنزل إليهم الملائكة لبقوا مصرين على كفرهم فيصير إنزالهم عبثا باطلا ولا يكون حقا فمع إخلال كل من ذلك بقطيعة الباقي لا يلزم من فرض وقوع شيء من ذلك تعجيل العذاب الذي يفيده قوله تعالى وما كانوا إذا منظرين هذا على تقدير كون اقتراحهم لإتيان الملائكة لأجل الشهادة أما على تقدير كون ذلك لتعذيبهم فالمعنى إنا ما ننزل الملائكة للتعذيب غلا تنزيلا ملتبسا بالحق الذي تقتضيه الحكمة وتستدعيه المصلحة حتما بحيث لا محيد عنه ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك التنزيل ملتبسا بمقتضى الحكمة الموجبة لتأخير عذابهم إلى يوم القيامة لا رفقا بهم بل تشديدا عليهم كما مر من قبل وحيث كان في نسبة تنزيلهم للتعذيب إلى عدم موافقته الحكمة نوع إيهام لعدم استحقاقهم التعذيب عدل عما يقتضيه الظاهر إلى ما عليه النظم الكريم فكأنه قيل لو نزلناهم ما كانوا منظرين وذلك غير موافق للحكمة الموجبة لتأخير عذابهم لتشديد عقابهم وقيل المراد بالحق الوحي وقيل العذاب فتدبر (إنا نحن نزلنا الذكر) رد لإنكارهم التنزيل واستهزائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وتسلية له أي نحن بعظم شأننا وعلو جنابنا نزلنا ذلك الذكر الذي أنكروه وأنكروا نزوله عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وعموا منزله حيث بنوا الفعل للمفعول إيماء إلى أنه أمر لا مصدر له وفعل لا فاعل له (وإنا له لحافظون) من كل مالا يليق به فيدخل فيه تكذيبهم له واستهزاؤهم به دخولا أوليا فيكون وعيدا للمستهزئين وأما الحفظ عن مجرد التحريف والزيادة والنقص وأمثالها فليس بمقتضى المقام فالوجه الحمل على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه والمجادلة في حقيته ويجوز أن يراد حفظه بالإعجاز دليلا على التنزيل من عنده تعالى إذ لو كان من عند
68 غير الله لتطرق عليه الزيادة والنقص والاختلاف وفي سبك الجملتين من الدلالة على كمال الكبرياء والجلالة وعلى فخامة شأن التنزيل مالا يخفى وفي إيراد الثانية بالجملة الأسمية دلالة على دوام الحفظ والله سبحانه أعلم وقبل الضمير المجرور للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى والله يعصمك من الناس وتأخير هذا الكلام وإن كان جوابا عن أول كلامهم الباطل ردا له لما ذكر آنفا ولارتباطه بما يعقبه من قوله تعالى (ولقد أرسلنا) أي رسلا وإنما لم يذكر لدلالة ما بعده عليه (من قبلك) متعلق بأرسلنا أو بمحذوف هو نعت للمفعول المحذوف أي رسلا كائنة من قبلك (في شيع الأولين) أي فرقهم وأحزابهم جمع شيعة وهي الفرقة المتفقة على طريقة ومذهب من شاعه إذا تبعه وإضافته إلى الأولين من إضافة الموصوف إلى صفته عند الفراء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيع الأمم الأولين ومعنى إرسالهم فيهم جعل كل منهم رسولا فيما بين طائفة منهم ليتابعوه في كل ما يأتي ويذر من أمور الدين (وما يأتيهم من رسول) المراد نفي إتيان كل رسول لشيعته الخاصة به لا نفي إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيع جميعا أو على سبيل البدل وصيغة الاستقبال لاستحضاره الصورة على طريقة حكاية الحال الماضية فإن مالا تدخل في الأغلب على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال أي ما أتى شيعة من تلك الشيع رسول خاص بها (إلا كانوا به يستهزءون) كما يفعله هؤلاء الكفرة والجملة في محل النصب على أنها حال مقدرة من ضمير المفعول في يأتيهم إذا كان المراد بالإتيان حدوثه أو في محل الرفع على أنها صفة رسول فإن محله الرفع على الفاعلية أي إلا رسول كانوا به يستهزءون وأما الجر على أنها صفة باعتبار لفظه فيفضي إلى زيادة من الإستغراقية في الإثبات ويجوز أن يكون منصوبا على الوصفية بأن يقدر الموصوف منصوبا على الاستثناء وإن كان المختار الرفع على البدلية وهذا كما ترى تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه عادة الجهال مع الأنبياء عليهم السلام وحيث كان الرسول مصحوبا بكتاب من عند الله تعالى تضمن ذكر استهزائهم بالرسول استهزاءهم بالكتاب ولذلك قيل (كذلك) إشارة إلى ما دل عليه الكلام السابق من إلقاء الوحي مقرونا بالاستهزاء أي مثل ذلك السلك الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتب (نسلكه) أي الذكر (في قلوب المجرمين) أي أهل مكة أو جنس المجرمين فيدخلون فيه دخولا أوليا ومحله النصب على أنه نعت لمصدر محذوف أو حال منه أي نسلكه سلكا مثل ذلك السلك أو نسلك السلك حال كونه مثله أي مقرونا بالاستهزاء غير مقبول لما تقضيه الحكمة فإنهم من أهل الخذلان ليس لهم استحقاق لقبول الحق وصيغة المضارع لكون المشبه به مقدرا في الوجود وهو السلك الواقع في الأمم السالفة أو للدلالة على استحضار الصورة والسلك إدخال الشيء في آخر يقال سلكت الخيط في الإبرة
69 والرمح في المطعون (لا يؤمنون به) أي بالذكر حال من ضمير نسلكه أي غير مؤمن به أو بيان للجملة السابقة فلا محل لها وقد جعل الضمير للاستهزاء فيتعين البيانية إلا أن يجعل الضمير المجرور أيضا له على أن الباء للملابسة أي نسلك الاستهزاء في قلوبهم حال كونهم غير مؤمنين بملابسته والحال إما مقدرة أو مقارنة للإيذان بأن كفرهم مقارن للإلقاء كما في قوله تعالى فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به (وقد خلت سنة الأولين) أي قد مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في إهلاكهم حين فعلوا ما فعلوا من التكذيب والاستهزاء وهو استئناف جئ له تكملة للتسلية وتصريحا بالوعيد والتهديد (ولو فتحنا عليهم) أي على هؤلاء المقترحين المعاندين (بابا من السماء) أي بابا ما لا بابا أبوابها المعهودة كما قيل ويسرنا لهم الرقي والصعود إليه (فظلوا فيه) في ذلك الباب (يعرجون) بآلة أو بغيرها ويرون ما فيها من العجائب عيانا كما يفيده الظلول أو فظل الملائكة الذين اقترحوا إتيانهم يعرجون في ذلك الباب وهم يرونه عيانا مستوضحين طول نهارهم (لقالوا) لفرط عنادهم وغلوهم في المكابرة وتفاديهم عن قبول الحق (إنما سكرت أبصارنا) أي سدت من الإحساس من السكر كما يدل عليه القراءة بالتخفيف أو حيرت كما يعضده قراءة من قرأ سكرت أي حارت (بل نحن قوم مسحورون) قد سخرنا محمد صلى الله عليه وسلم كما قالوه عند ظهور سائر الآيات الباهرة وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالة على أنهم يبتون القول بذلك وأن ما يرونه لا حقيقة له وإنما هو أمر خيل إليهم بالسحر وفي اسمية الجملة الثانية دلالة على دوام مضمونها وإيرادها بعد تسكير الأبصار لبيان إنكارهم لغير ما يرونه فإن عروج كل منهم إلى السماء وإن كان مرئيا لغيره فهو معلوم بطريق الوجدان مع قطع النظر عن الإبصار فهم يدعون أن ذلك نوع آخر من السحر غير تسكير الأبصار (ولقد جعلنا في السماء بروجا) قصورا ينزلها السيارات وهي البروج الإثنا عشر المشهورة المختلفة الهيئات والخواص حسبما يدل عليه الرصد والتجربة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء والجعل إن جعل بمعنى الخلق والإبداع وهو الظاهر فالجار متعلق به وإن جعل بمعنى التصيير فهو مفعول ثان له متعلق بمحذوف أي جعلنا بروجا كائنة في السماء (وزيناها) أي السماء بتلك البروج المختلفة الأشكال والكواكب سيارات كانت أو ثوابت (للناظرين) إليها فمعنى التزيين ظاهر أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بذلك على قدرة مقدرها وحكمة مدبرها فتزيينها ترتيبها على نظام بديع مستتبع للآثار الحسنة (وحفظناها من كل
70 شيطان رجيم) مرمي بالنجوم فلا يقدر أن يصعد إليها ويوسوس في أهلها ويتصرف فيها ويقف على أحوالها (إلا من استرق السمع) محله النصب على الاستثناء المتصل إن فسر الحفظ بمنع الشياطين عن التعرض لها على الإطلاق والوقوف على ما فيها في الجملة أو المنقطع إن فسر ذلك بالمنع عن دخولها والتصرف فيها عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا لا يحجبون عن السماوات فلما ولد عيسى عليه السلام منعوا من ثلاث سماوات ولما ولد النبي صلى الله عليه وسلم منعوا من السماوات كلها واستراق السمع اختلاسه سرا شبه به خطفتهم اليسيرة من قطان السماوات بما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من الأوضاع (فأتبعه) أي تبعه ولحقه (شهاب) لهب محرق وهو شعلة نار ساطعة وقد يطلق على الكواكب والسنان لما فيهما من البريق (مبين) ظاهر أمره للمبصرين قال معمر قلت لابن شهاب الزهري أكان يرمي بالنجوم في الجاهلية قال نعم وإن النجم ينقض ويرمي به الشيطان فيقتله أو يخبله لئلا يعود إلى استراق السمع ثم يعود إلى مكانه قال أفرأيت قوله تعالى وأنا كنا نقعد منها مقاعد الآية قال غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن قتيبة إن الرجم كان قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن في شدة الحراسة كما بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الشياطين يركب بعضهم بعضا إلى السماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة فيرمون بالكواكب فلا يخطئ أبدا فمنهم من يقتله ومنهم من يحرق وجهه وجنبه ويده حيث يشاء الله تعالى ومنهم من يخبله فيصير غولا فيضل الناس في البوادي قال القرطبي اختلفوا في أن الشهاب هل يقتل أم لا قال ابن عباس رضي الله عنهما يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل وقال الحسن وطائفة يقتل قال والأول أصح (والأرض مددناها) بسطناها وهو بالنصب على الحذف على شريطة التفسير ولم يقرأ بالرفع لرجحان النصب للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى ولقد جعلنا الخ وليوافق ما بعده أعني قوله تعالى (وألقينا فيها رواسي) أي جبالا ثوابت وقد مر بيانه في أول الرعد (وأنبتنا فيها) أي في الأرض أو فيها وفي رواسيها (من كل شيء موزون) بميزان الحكمة ذاتا وصفة ومقدارا وقيل ما يوزن من الذهب والفضة وغيرهما أو من كل شيء مستحسن مناسب أو ما يوزن ويقدر من أبواب النعمة (وجعلنا لكم فيها معايش) ما تعيشون به من المطاعم والملابس وغيرهما مما يتعلق به البقاء وهي بياء صريحة وقرئ بالهمزة تشبيها له بالشمائل (ومن لستم له برازقين) عطف على معايش أو على محل لكم كأنه قيل جعلنا لكم معايش وجعلنا لكم من لستم برازقيه من العيال والمماليك والخدم والدواب وما أشبهها على طريقة التغليب وذكرهم بهذا العنوان لرد حسبانهم أنهم يكفون مؤناتهم ولتحقيق أن الله تعالى هو الذي يرزقهم وإياهم أو وجعلنا لكم فيها معايش ولمن لستم له برازقين
71 (وإن من شيء) إن للنفي ومن مزيدة للتأكيد وشئ في محل الرفع على الابتداء أي ما من شيء من الأشياء الممكنة فيدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا (إلا عندنا خزائنه) الظرف خبر للمبتدأ وخزائنه مرتفع به على أنه فاعله لاعتماده أو خبر له والجملة خبر للمبتدأ الأول والخزائن جمع الخزانة وهي ما يحفظ فيه نفائس الأموال لا غير غلب في العرف على ما للملوك والسلاطين من خزائن أرزاق الناس شبهت مقدوراته تعالى الفائتة للحصر المندرجة تحت قدرته الشاملة في كونها مستورة عن علوم العالمين ومصونة عن وصول أيديهم مع كمال افتقارهم إليها ورغبتهم فيها وكونها مهيأة متأتية لإيجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادة بوجودها وجدت بلا تأخر بنفائس الأموال المخزونة في الخزائن السلطانية فذكر الخزائن على طريقة الاستعارة التخييلية (وما ننزله) أي ما نوجد وما نكون شيئا من تلك الأشياء ملتبسا بشيء من الأشياء (إلا بقدر معلوم) أي إلا ملتبسا بمقدار معين تقتضيه الحكمة وتستدعيه المشيئة التابعة لها لا بما تقتضيه القدرة فإن ذلك غير متناه فإن تخصيص كل شيء بصفة معينة وقدر معين ووقت محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكل في الإمكان واستحقاق تعلق القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاص كل من ذلك بما اختص به وهذا البيان سر عدم تكوين الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في خزائن القدرة وهو إما عطف على مقدر أي ننزله وما ننزله الخ أو حال مما سبق أي عندنا خزائن كل شيء والحال أنا ما ننزله إلا بقدر معلوم فالأول لبيان سعة القدرة والثاني لبيان بالغ الحكمة وحيث كان إنشاء ذلك بطريق التفضل من العالم العلوي إلى العلم السفلي كما في قوله تعالى وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج وكان ذلك بطريق التدريج عبر عنه بالتنزيل وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار (وأرسلنا الرياح) عطف على جعلنا لكم فيها معايش وما بينهما اعتراض لتحقيق ما سبق وترشيح ما لحق أي أرسلنا الرياح (لواقح) أي حوامل شبهت الريح التي تجيء بالخير من إنشاء سحاب ماطر بالحامل كما شبه بالعقيم مالا يكون كذلك أو ملقحات بالشجر والسحاب ونظيره الطوائح بمعنى المطيحات في قوله [ومختبط مما تطيح الطوائح] أي المهلكات وقرئ وأرسلنا الريح على إرادة الجنس (فأنزلنا من السماء) بعد ما أنشأنا بتلك الرياح سحابا ماطرا (ماء فأسقيناكموه) أي جعلناه لكم سقيا وهو أبلغ من سقيناكموه لما فيه من الدلالة على جعل الماء معدا لهم ينتفعون به متى شاءوا (وما أنتم له بخازنين) نفي عنهم ما أثبته لجنابه بقوله وإن من شيء إلا عندنا خزائنه كأنه قيل نحن القادرون على إيجاده وخزنه في السحاب وإنزاله وما أنتم على ذلك بقادرين وقيل ما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه في الغدران والآبار والعيون بل نحن نخزنه فيها ليجعلها سقيا لكم مع أن طبيعة الماء تقتضي الغور (وإنا لنحن نحي) بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها
72 (ونميت) بإزالتها عنها وقد يعمم الإحياء والإماتة لما يشمل الحيوان والنبات وتقديم الضمير للحصر وهو إما تأكيد للأول أو مبتدأ خبره الفعل والجملة خبر لأنا ولا يجوز كونه ضمير الفصل لا لأن اللام مانعة من ذلك كما قيل فإن النجاة جوزوا دخول لام التأكيد على ضمير الفصل كما في قوله تعالى إن هذا لهو القصص الحق بل لأنه لم يقع بين اسمين (ونحن الوارثون) أي الباقون بعد فناء الخلق قاطبة المالكون للملك عند انقضاء زمان الملك المجازى الحاكمون في الكل أولا وآخرا وليس لهم إلا التصرف الصوري والملك المجازى وفيه تنبيه على أن المتأخر ليس بوارث للمتقدم كما يتراءى من ظاهر الحال (ولقد علمنا المستقدمين منكم) من تقدم منكم ولادة وموتا (ولقد علمنا المستأخرين) من تأخر ولادة وموتا أو من خرج من أصلاب الآباء ومن لم يخرج بعد أو من تقدم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ومن تأخر في ذلك لا يخفى علينا شيء من أحوالكم وهو بيان لكمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته فإن ما يدل عليها دليل عليه وفي تكرير قوله تعالى ولقد علمنا مالا يخفى من الدلالة على كمال التأكيد وقيل رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت وقيل إن امرأة حسناء كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم بعض الناس لئلا يراها وتأخر آخرون ليروها فنزلت والأول هو المناسب لما سبق وما لحق من قوله تعالى (وإن ربك هو يحشرهم) أي للجزاء وتوسيط ضمير العظمة للدلالة على أنه هو القادر على حشرهم والمتولى له لا غير لأنهم كانوا يستبعدون ذلك ويستنكرونه ويقولون من يحي العظام وهي رميم أي هو يحشرهم لا غير وفي الالتفات والتعرض لعنوان الربوبية إشعارا بعلة الحكم وفي الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم دلالة على اللطف به عليه الصلاة والسلام (إنه حكيم) بالغ الحكمة متقن في أفعاله فإنها عبارة عن العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والإتيان بالأفعال على ما ينبغي (عليم) وسع علمه كل شيء ولعل تقديم صفة الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء (ولقد خلقنا الإنسان) أي هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقا بديعا منطويا على خلق سائر أفراده انطواء إجماليا كما مر تحقيقه في سورة الأنعام (من صلصال) من طين يابس غير مطبوخ يصلصل أي يصوت عند نقره قيل إذا توهمت في صوته مدا فهو صليل وإن توهمت فيه ترجيعا فهو صلصلة وقيل هو تضعيف صل إذا أنتن (من حمأ) من طين تغير واسود بطول مجاورة الماء وهو صفة لصلصال أي من صلصال كائن من حمأ (مسنون) أي مصور من سنة الوجه وهي صورته أو مصبوب من سن الماء صبه أي مفرغ على هيئة الإنسان كما يفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب وقيل منتن فهو صفة لحمأ وعلى الأولين حقه أن يكون صفة لصلصال وإنما أخر عن حمأ تنبيها على أن ابتداء
73 مسنونيته ليس في حال كونه صلصالا بل في حال كونه حمأ كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوت ثم غيره إلى جوهر آخر فتبارك الله أحسن الخالقين (والجان) أبا الجن وقيل إبليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإنسان لأن تشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقا منها وقرئ بالهمزة وانتصابه بفعل يفسره (خلقناه) وهو أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية (من قبل) من قبل خلق الإنسان ومن هذا يظهر جواز كون المراد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله منكم للكل (من نار السموم) من نار الحر الشديد النافذ في المسام ولا امتناع من خلق الحياة من الأجرام البسيطة كما لا امتناع من خلقها في الجواهر المجردة فضلا عن الأجسام المؤلفة التي غالب أجزائها الجزء الناري فإنها أقبل لها من التي غالب أجزائها الجزء الأرضي وقوله تعالى من نار باعتبار الغالب كقوله تعالى خلقكم من تراب ومساق الآية الكريمة كما هو للدلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر وهو قبول المواد للجمع والإحياء (وإذ قال ربك) نصب بإضمار اذكر وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه من الحوادث وفي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن تبليغ الشيء إلى كماله اللائق به شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعارا بعلة الحكم وتشريف له عليه الصلاة والسلام أي اذكر وقت قوله تعالى (للملائكة إني خالق) فيما سيأتي وفيه ما ليس في صيغة المضارع من الدلالة على أنه تعالى فاعل له البتة من غير صارف يثنيه ولا عاطف يلويه (بشرا) أي إنسانا قيل ليس هذا عين العبارة الجارية وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم إني خالق خلقا من صفته كيت وكيت ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم وقيل جسما كثيفا يلاقي ويباشر وقيل خلقا بادي البشر بلا صوف ولا شعرة (من صلصال) متعلق بخالق أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله أي بشرا كائنا من صلصال كائن (من حمأ مسنون) تقدم تفسيره ولا ينافي هذا ما في قوله تعالى في سورة ص من قوله بشرا من طين فإن عدم التعرض عند الحكاية لوصف الطين من التغير والأسود ولما ورد عليه من آثار التكوين لا يستلزم عدم التعرض لذلك عند وقوع المحكي غايته أنه لم يتعرض له هناك اكتفاء بما شرح ههنا (فإذا سويته) أي صورته بالصورة الإنسانية والخلقة البشرية أو سويت أجزاء بدنه بتعديل طبائعه (ونفخت فيه من روحي) النفخ إجراء الريح إلى تجويف جسم صالح لإمساكها والامتلاء بها وليس ثمة نفخ ولا منفوخ وإنما هو تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها أي فإذا كملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح التي هي من أمري
74 (فقعوا له) من وقع يقع وفيه دليل على أن ليس المأمور به مجرد الانحناء كما قيل أي أسقطوا له (ساجدين) تحية له وتعظيما أو اسجدوا لله تعالى على أنه عليه الصلاة والسلام بمنزلة القبلة حيث ظهر فيه تعاجيب آثار قدرته تعالى وحكمته كقول حسان رضي الله تعالى عنه * أليس أول من صلى قبلتكم * وأعلم الناس بالقرآن والسنن * (فسجد الملائكة) أي فخلقه فسواه فنفخ فيه الروح فسجد الملائكة (كلهم) بحيث لم يشذ منهم أحد (أجمعون) بحيث لم يتأخر في ذلك أحد منهم عن أحد ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيده التأكيد أيضا فإن الاشتقاق الواضح يرشد إلى أن فيه معنى الجمع والمعية بحسب الوضع والأصل في الخطاب التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا ريب في أن السجود معا أكمل أصناف السجود لكن شاع استعماله تأكيدا وأقيم مقام كل من إفادة معنى الإحاطة من غير نظر إلى الكمال فإذا فهمت الإحاطة من لفظ آخر لم يكن بد من مراعاة الأصل صونا للكلام عن الإلغاء وقيل أكد بتأكيدين مبالغة في التعميم هذا وأما أن سجودهم هذا هل ترتب على ما حكى من الأمر التعليقي كما تقتضيه هذه الآية الكريمة والتي في سورة ص أو على الأمر التنجيزى كما يستدعيه ما في غيرهما فقد خرجنا بفضل الله عز وجل عن عهدة تحقيقه في تفسير سورة البقرة (إلا إبليس) استثناء متصل إما لأنه كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة فعد منهم تغليبا وإما لأن من الملائكة جنسا يتوالدون وهو منهم وقوله تعالى (أبى أن يكون من الساجدين) استئناف مبين لكيفية عدم السجود المفهوم من الاستثناء فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الإباء والاستكبار أو منقطع فيتصل به ما بعده أي لكن إبليس أبى أن يكون معهم وفيه دلالة على كمال ركاكة رأيه حيث أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر والاستكبار مع تحقير آدم عليه الصلاة والسلام ومفارقة الجماعة والإباء عن الإنتظام في سلك أولئك المقربين الكرام (قال) استئناف مبنى على سؤال من قال فماذا قال الله تعالى عند ذلك فقيل قال (يا إبليس مالك) أي أي سبب لا أي غرض لك كما قيل لقوله تعالى ما منعك (ألا تكون) في أو لا تكون (مع الساجدين) لآدم مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم وما كان التوبيخ عند وقوعه لمجرد تخلفه عنهم بل لكل من المعاصي الثلاث المذكورة قال تعالى في سورة الأعراف قال ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك وفي سورة ص قال يا إبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ولكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اجتزاء بما ذكر في موطن آخر وإشعارا بأن كل واحدة من تلك المعاصي الثلاث كافية في التوبيخ وإظهار بطلان ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ رأسا في سورة البقرة وسورة بني إسرائيل وسورة الكهف وسورة طه
75 (قال) أي إبليس وهو أيضا استئناف مبنى على السؤال الذي ينساق إليه الكلام (لم أكن لأسجد) اللام لتأكيد النفي أي ينافي حالي ولا يستقيم مني لأني مخلوق من أشرف العناصر وأعلاها أن أسجد (لبشر) أي جسم كثيف (خلقته من صلصال من حمأ مسنون) اقتصر ههنا على الإشارة الإجمالية إلى ادعاء الخيرية وشرف المادة اكتفاء بما صرح به حين قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ولم يكتف اللعين بمجرد ذكر كونه عليه الصلاة والسلام من التراب الذي هو أخس العناصر وأسفلها بل تعرض لكونه مخلوقا منه في أخس أحواله من كونه طينا متغيرا وقد اكتفى في سورة الأعراف وسورة ص بما حكى عنه ههنا فاقتصر على حكاية تعرضه لخلقه عليه الصلاة والسلام من طين وكذا في سورة بني إسرائيل حيث قيل أأسجد لمن خلقت طينا وفي جوابه دليل على أن قوله تعالى مالك ليس استفسار عن الغرض بل هو استفسار عن السبب وفي عدوله عن تطبيق جوابه على السؤال روم للتفصي عن المناقشة وأني له ذلك كأنه قال لم أمتنع عن امتثال الامر ولا عن الانتظام في سلك الملائكة بل عما لا يليق بشأني من الخضوع للمفضول ولقد جرى خذله الله تعالى على سنن قياس عقيم وزل عنه أن ما يدور عليه فلك الفضل والكمال هو التحلي بالمعارف الربانية والتخلي عن الملكات الردية التي أقبحها الكبر والاستعصاء على أمر رب العالمين جلا جلاله (قال فأخرج منها) أي من زمرة الملائكة المعززين لا من السماء فإن وسوسته لآدم عليه الصلاة والسلام في الجنة إنما كانت بعد هذا الطرد وقوله تعالى فاهبط منها ليس نصافي ذلك فإن الخروج من بين الملأ الأعلى هبوط وأي هبوط أو من الجنة على أن وسوسته كانت بطريق النداء من بابها كما روى عن الحسن البصري أو بطريق المشافهة بعد أن احتال في دخولها وتوسل إليه بالحية كما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ولا ينافي هذا طرده على رؤوس الأشهاد لما يقتضيه من الحكم البالغة (فإنك رجيم) مطرود من كل خير وكرامة فإن من يطرد يرجم بالحجارة أو شيطان يرجم بالشهب وهو وعيد يتضمن الجواب عن شبهته فإن من عارض النص بالقياس فهو رجيم ملعون (وأن عليك اللعنة) الإبعاد عن الرحمة وحيث كان ذلك من جهة الله سبحانه وإن كان جاريا على السنة العباد قيل في سورة ص وإن عليك لعنتي (إلى يوم الدين) إلى يوم الجزاء والعقوبة وفيه إشعارا بتأخير عقابه وجزائه إليه وأن اللعنة مع كمال فظاعتها ليست جزاء لفعله وإنما يتحقق ذلك يومئذ وفيه من التهويل مالا يوصف وجعل ذلك أقصى أمد اللعنة ليس لأنها تنقطع هنالك بل لأنه عند ذلك يعذب بما ينسى به اللعنة من أفانين العذاب فتصير هي كالزائل وقيل إنما حدت به لأنه ابعد غاية يضربها الناس كقوله تعالى خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض وحيث أمكن كون تأخير العقوبة مع الموت
76 كسائر من أخرت عقوباتهم إلى الآخرة من الكفرة طلب اللعين تأخير موته كما حكى عنه بقوله تعالى (قال ربي فأنظرني) أي أمهلني وأخرني ولا تمتنى والفاء متعلق بمحذوف ينسحب عليه الكلام أي إذ جعلتني رجيما فأمهلني (إلى يوم يبعثون) أي أدم وذريته للجزاء بعد فنائهم وأراد بذلك أن يجد فسحة لإغوائهم ويأخذ منهم ثأره وينجو من الموت لاستحالته بعد يوم البعث (قال فإنك من المنظرين) ورود الجواب بالجملة الأسمية مع التعرض لشمول ما سأله لآخرين على وجه يؤذن بكون السائل تبعا لهم في ذلك دليل على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلالا إنشاء فإنظار خاص به وقع إجابة لدعائه أي إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا حسبما تقتضيه حكمة التكوين فالفاء ليست لربط نفس الإنظار بالاستنظار بل لربط الإخبار المذكور به كما في قوله * فإن ترحم فأنت لذاك أهل * فإنه لا إمكان لجعل الفاء فيه لربط ما فيه تعالى من الأهلية القديمة للرحمة بوقوع الرحمة الحادثة بل هي لربط الإخبار بتلك الأهلية للرحمة بوقوعها وأن استنظاره كان طلبا لتأخير الموت إذ به يتحقق كونه من جملتهم لا لتأخير العقوبة كما قيل ونظمه في ذلك في سلك من أخرت عقوبتهم إلى الآخرة في علم الله تعالى ممن سبق من الجن ولحق من الثقلين لا يلائم مقام الاستنظار مع الحياة ولأن ذلك التأخير معلوم من إضافة اليوم إلى الدين مع إضافته في السؤال إلى البعث كما عرفته وفي سورة الأعراف قال أنظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين يترك التوقيت والنداء والفاء في الاستنظار والإنظار تعويلا على ما ذكر ههنا وفي سورة ص فإن إيراد كلام واحد على أساليب متعددة غير عزيز في الكتاب العزيز وأما أن كل أسلوب من أساليب النظم الكريم لا بد أن يكون له مقام يقتضيه مغاير لمقام غيره وأن ما حكى من اللعين إنما صدر عنه مرة وكذا جوابه لم يقع إلا دفعة فمقام المحاورة إن اقتضى أحد الأساليب المذكورة فهو المطابق لمقتضى الحال والبالغ إلى طبقة الإعجاز وما عداه قاصر عن رتبة البلاغة فضلا عن الارتقاء إلى معالم الإعجاز فقد مر تحقيقه بتوفيق الله تعالى في سورة الأعراف (إلى يوم الوقت المعلوم) وهو وقت النفخة الأولى التي علم أنه يصعق عندها من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله تعالى ويجوز أن يكون المراد بالأيام واحدا والاختلاف في العبارات لاختلاف الاعتبارات فالتعبير بيوم البعث لأن غرض اللعين به يتحقق وبيوم الدين لما ذكر من الجزاء بيوم الوقت المعلوم لما ذكر أو لاستئثاره تعالى بعلمه فلعل كلا من هلاك الخلق جميعا وبعثهم وجزائهم في يوم واحد يموت اللعين في أوله ويبعث في أواسطه ويعاقب في بقيته يروى أن بين موته وبعثه أربعين سنة من سنى الدنيا مقدار ما بين النفختين ونقل عن الأحنف بن قيس رحمه الله تعالى أنه قال قدمت المدينة أريد أمير المؤمنين عمر رضي الله تعالى عنه فإذا أنا بحلقة عظيمة وكعب الأحبار فيها يحدث
77 الناس وهو يقول لما حضر آدم عليه الصلاة والسلام الوفاة قال يا رب سيشمت بي عدوي إبليس إذا رآني ميتا وهو منظر إلى يوم القيامة فأجيب أن يا آدم إنك سترد إلى الجنة ويؤخر اللعين إلى النظرة ليذوق ألم الموت بعدد الأولين والآخرين ثم قال لملك الموت صف كيف تذيقه الموت فلما وصفه قال يا رب حسبي فضج الناس وقالوا يا ابا إسحق كيف ذلك فأبى فألحوا فقال يقول الله سبحانه لملك الموت عقيب النفخة الأولى قد جعلت فيك قوة أهل السماوات السبع وأهل الأرضين السبع وإني ألبستك اليوم أثواب السخط والعضب كلها فانزل بغضبي وسطوتي على رجيمي إبليس فأذقته الموت واحمل عليه فيه مرارة الأولين والآخرين من الثقلين اضعافا مضاعفة وليكن معك من الزبانية سبعون ألفا قد امتلأوا غيظا وغضبا وليكن مع كل منهم سلسلة من سلاسل جهنم وغل من أغلالها وانزع روحه المنتن بسبعين ألف كلاب من كلاليبها وناد مالكا ليفتح أبواب النيران فينزل ملك الموت بصورة لو نظر إليها أهل السماوات والأرضين لماتوا بغتة من هولها فينتهي إلى إبليس فيقول قف لي يا خبيث لأذيقنك الموت كم من عمر أدركت وقرون أضللت وهذه هو الوقت المعلوم قال فيهرب اللعين إلى المشرق فإذا هو بملك الموت بين عينيه فيهرب إلى المغرب فإذا هو به بين عينيه فيغوص البحار فتنز منه البحار فلا تقبله فلا يزال يهرب في الأرض ولا محيص له ولا ملاذ ثم يقوم في وسط الدنيا عند قبر آدم ويتمرغ في التراب من المشرق إلى المغرب ومن المغرب إلى المشرق حتى إذا كان في الموضع الذي أهبط فيه آدم عليه الصلاة والسلام وقد نصبت له الزبانية الكلاليب وصارت الأرض كالجمرة احتوشته الزبانية وطعنوه بالكلاليب ويبقى في النزع والعذاب إلى حيث يشاء الله تعالى ويقال لآدم وحواء اطلعا اليوم إلى عدو كما كيف يذوق الموت فيطلعان فينظران إلى ما هو فيه من شدة العذاب فيقولان ربنا أتممت علينا نعمتك (قال رب بما أغويتني) الباء للقسم وما مصدرية والجواب (لأزينن لهم) أي أقسم بإغوائك إياي لأزينن لهم المعاصي (في الأرض) أي في الدنيا التي هي دار الغرور كقوله تعالى أخلد إلى الأرض وإقسامه بعزة الله المفسرة بسلطانه وقهره لا ينافي إقسامه بهذا فإنه فرع من فروعها وأثر من آثارها فلعله أقسم بهما جميعا فحكى تارة فسمه بهذا وأخرى بذاك أو للسببية وقوله لأزينن جواب قسم محذوف والمعنى بسبب تسببك لإغوائي أقسم لأفعلن بهم مثل ما فعلت بي من التسبب لإغوائهم بتزيين المعاصي وتسويل الأباطيل والمعتزلة أولوا الإغواء بالنسبة إلى الغي أو التسبب له بأمره إياه بالسجود لآدم عليه الصلاة والسلام واعتذروا عن إمهال الله تعالى وتسليطه له على إغواء بني آدم بأنه تعالى قد علم منه وممن تبعه أنهم يموتون على الكفر ويصيرون إلى النار أمهل أم لم يمهل وأن في إمهاله تعريضا لمن خالفه لاستحقاق مزيد الثواب (ولأغوينهم أجمعين) لأحملنهم على الغواية (إلا عبادك منهم المخلصين) الذين أخلصتهم لطاعتك وطهرتهم من الشوائب
78 فلا يعمل فيهم كيدي وقرئ بكسر اللام أي الذين أخلصوا نفوسهم لله تعالى (قال هذا صراط) أي حق (على) أن أراعيه (مستقيم) لا عوج فيه والإشارة إلى ما تضمنه الاستثناء وهو تخلص المخلصين من إغوائه أو الإخلاص على معنى أنه طريق يؤدى إلى الوصول إلى من غير اعوجاج وضلال والأظهر أن ذلك لما وقع في عبارة إبليس حيث قال لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم الآية وقرئ على من علو الشرف (إن عبادي) وهم المشار إليهم بالمخلصين (ليس عليك سلطان) تسلط وتصرف بالإغواء (إلا من اتبعك من الغاوين) وفيه مع كونه تحقيقا لما قاله اللعين تفخيم لشأن المخلصين وبيان لمنزلتهم ولانقطاع مخالب الإغواء عنهم وأن إغواءه للغاوين ليس بطريق السلطان بل بطريق اتباعهم له بسوء اختيارهم (وإن جهنم لموعدهم) أي موعد المتبعين أو الغاوين والأول أنسب وأدخل في الزجر عن اتباعه وفيه دلالة على أن جهنم مكان الوعد وأن الموعود مما لا يوصف في الفظاعة (أجمعين) تأكيد للضمير أو حال والعامل فيه الموعد إن جعل مصدرا على تقدير المضاف أو معنى الإضافة إن جعل اسم مكان (لها سبعة أبواب) يدخلونها لكثرتهم أو سبع طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في الغواية والمتابعة وهي جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية (لكل باب منهم) من الأتباع أو الغواة (جزء مقسوم) حزب معين مفرز من غيره حسبما يقتضيه استعداده فأعلاها للموحدين والثانية لليهود والثالثة للنصارى والرابعة للصابئين والخامسة للمجوس والسادسة للمشركين والسابعة للمنافقين وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إن جهنم لمن ادعى الربوبية ولظى لعبدة النار والحطمة لعبدة الأصنام وسقر لليهود والسعير للنصارى والجحيم للصابئين والهاوية للموحدين ولعل حصرها في السبع لانحصار المهلكات في المحسوسات بالحواس الخمس ومقتضيات القوة الشهوية والغضبية وقرئ بضم الزاي وبحذف الهمزة وإلقاء حركتها إلى ما قبلها مع تشديدها في الوقف والوصل ومنهم حال من جزء أو من ضميره في الظرف لا في مقسوم لأن الصفة لا تعمل فيما تقدم موصوفها (إن المتقين) من اتباعه في الكفر والفواحش فإن غيرها مكفر (في جنات وعيون) أي مستقرون فيها خالدين لكل واحد منهم جنة وعين منهما كقوله تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان وقرئ بكسر العين حيث وقع في القرآن العظيم
79 (ادخلوها) على إرادة القول أمرا من الله تعالى لهم بالدخول وقرئ أدخلوها أمرا منه تعالى للملائكة بإدخالهم وقرأ الحسن أدخلوها مبنيا للمفعول على صيغة الماضي من الإدخال (بسلام) ملتبسين بسلام أي سالمين أو مسلما عليكم (آمنين) من الآفات والزوال (ونزعنا ما في صدورهم من غل) أي حقد كان في الدنيا وعن علي رضي الله تعالى عنه أرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين (إخوانا) حال من الضمير في قوله تعالى في جنات أو من فاعل ادخلوها أو من الضمير في آمنين أو الضمير المضاف إليه والعامل فيه معنى الإضافة وكذلك قوله تعالى (على سرر متقابلين) ويجوز كونهما صفتين لإخوانا أو حالين من ضميره لأنه بمعنى متصافين وكون الثاني حالا من المستكن في الأول وعن مجاهد تدور بهم الأسرة حيثما داروا فهم متقابلون في جميع أحوالهم (لا يمسهم فيها نصب) أي تعب بأن لا يكون لهم فيها ما يوجبه من الكد في تحصيل مالا بد لهم منه لحصول كل ما يريدونه من غير مزاولة عمل أصلا أو بأن لا يعتريهم ذلك وإن باشروا الحركات العنيفة لكمال قوتهم وهو استئناف أو حال بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين (وما هم منها بمخرجين) أبد الآباد لأن تمام النعمة بالخلود (نبىء عبادي) وهم الذين عبر عنهم بالمتقين (أني أنا الغفور الرحيم) (وأن عذاب هو العذاب الأليم) فذلكة لما سلف من الوعد والوعيد وتقرير له وفي ذكر المغفرة إشعارا بأن ليس المراد بالمتقين من يتقي جميع الذنوب كبيرها وصغيرها وفي وصف ذاته تعالى بها وبالرحمة على وجه القصر دون التعذيب إيذان بأنهما مما يقتضيهما الذات وأن العذاب إنما يتحقق بما يوجبه من خارج (ونبئهم) عطف على نبيء عبادي والمقصود اعتبارهم بما جرى على إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع أهله من البشرى في تضاعيف الخوف وبما حل بقوم لوط من العذاب ونجاته عليه الصلاة والسلام مع أهله التابعين له في ضمن الخوف وتنبيههم بحلول انتقامه تعالى من المجرمين وعلمهم بأن عذاب الله هو العذاب الأليم (عن ضيف إبراهيم) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم جبريل عليه الصلاة والسلام وملكان معه وقال محمد بن كعب وسبعة معه وقيل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم الصلاة والسلام وقال الضحاك كانوا تسعة وعن السدى كانوا أحد
80 عشر على صور الغلمان الوضاء وجوههم وعن مقاتل أنهم كانوا اثني عشر ملكا وإنما لم يتعرض لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام بل إلى قوم لوط حسبما يأتي ذكره (إذ دخلوا عليه) نصب بفعل مضمر معطوف على نبيء أي واذكر وقت دخولهم عليه أو خبر مقدر مضاف إلى ضيف أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه أو بنفس ضيف على أنه مصدر في الأصل (فقالوا) عند ذلك (سلاما) أي نسلم سلاما أو سلمنا أو سلمت سلاما (قال إنا منكم وجلون) أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه قاله عليه الصلاة والسلام حين امتنعوا من أكل ما قربه إليهم من العجل الحنيذ لما أن المعتاد عندهم أنه إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجيء بخير لا عند ابتداء دخولهم لقوله تعالى فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة فلا مجال لكون خوفه عليه الصلاة والسلام بسبب دخولهم بغير إذن ولا بغير وقت إذ لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا حينئذ به ولم يتصد عليه الصلاة والسلام لتقريب الطعام إليهم وإنما لم يذكر ههنا اكتفاء بما بين في غير هذا الموضع ألا يرى إلى أنه لم يذكر ههنا رده عليه الصلاة والسلام لسلامهم (قالوا لا توجل) لا تخف وقرئ لا تأجل ولا توجل من أوجله أي أخافه ولا تواجل من واجله بمعنى أوجله (إنا نبشرك) استئناف لتعليل النهي عن الوجل فإن المبشر به لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهو بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانا طويلا (بغلام) هو إسحق عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى فبشرناها بإسحق ولم يتعرض ههنا لبشارة يعقوب عليه الصلاة والسلام اكتفاء بما ذكر في سورة هود (عليم) إذا بلغ وفي موضع آخر بغلام حليم (قال أبشرتموني) بذلك (على أن مسني الكبر) وأثر في تعجب عليه الصلاة والسلام من بشارتهم بالولد في حالة مباينة للولادة وزاد في ذلك فقال (فبم تبشرون) أي بأي أعجوبة تبشرونني فإن البشارة بما لا يتصور وقوعه عادة بشارة بغير شيء أو بأي طريقة تبشرونني وقرئ بتشديد النون المكسورة على إدغام نون الجمع في نون الوقاية (قالوا بشرناك بالحق) أي بما يكون لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق وهو أمر الله تعالى وقوله (فلا تكن من القانطين) من الآيسين من ذلك فإن الله قادر على أن يخلق بشرا بغير أبوين فكيف من شيخ فإن وعجوز عاقر وقرئ من القنطين وكان مقصده عليه الصلاة والسلام استعظام نعمته تعالى في ضمن التعجب العادي المبني على سنة الله
81 تعالى المسلوكة فيما بين عبادة لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه كما ينبئ عنه قول الملائكة فلا تكن من القانطين دون أن يقولوا من الممترين أو نحوه (قال ومن يقنط) استفهام إنكاري أي لا يقنط (من رحمة ربه إلا الضالون) المخطئون طريق المعرفة والصواب فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته كما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ومراده نفي القنوط عن نفسه على أبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة على وفي التعرض لوصف الربوبية والرحمة مالا يخفى من الجزالة وقرئ بضم النون وبكسرها من قنط بالفتح ولم تكن هذه المفاوضة من الملائكة مع إبراهيم عليه الصلاة والسلام خاصة بل مع سارة أيضا حسبما شرح في سورة هود ولم يذكر ذلك ههنا اكتفاء بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هذه هناك اكتفاء بما ذكر ههنا (قال) أي إبراهيم عليه الصلاة والسلام وتوسيطه بين قوله السابق وبين قوله (فما خطبكم) أي أمركم وشأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة (أيها المرسلون) صريح في أن بينهما مقالة مطوية لهم أشير به إلى مكانها كما في قوله تعالى قال أأسجد لمن خلقت طينا قال أرأيتك هذا الذي كرمت على الآية فإن قوله الأخير ليس موصولا بقوله الأول بل هو مبني على قوله تعالى فأخرج منها فإنك رجيم فإن توسيط قال بين قوليه للإيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل غيره ثم خطابه لهم عليهم الصلاة والسلام بعنوان الرسالة بعد ما كان خطابه السابق مجردا عن ذلك مع تصديره بالفاء دليل على أن مقالتهم المطوية كانت متضمنة لبيان أن مجيئهم ليس لمجرد البشارة بل لهم شأن آخر لأجله أرسلوا فكأنه قال عليه الصلاة والسلام إن لم يكن شأنكم مجرد البشارة فماذا هو فلا حاجة إلى الالتجاء إلى أن علمه عليه الصلاة والسلام بأن كل المقصود ليس البشارة بسبب أنهم كانوا ذوى عدد والبشارة لا تحتاج إلى عدد وذلك اكتفى بالواحد في زكريا عليه الصلاة والسلام ومريم ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها فتأمل (قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين) هم قوم لوط لكن وصفوا بالإجرام وجىء بهم بطريق التنكير ذما لهم واستهانة بهم (إلا آل لوط) استثناء متصل من الضمير في مجرمين أي إلى قوم أجرموا جميعا إلا آل لوط فالقوم والإرسال شاملان للمجرمين وغيرهم والمعنى إنا أرسلنا إلى قوم أجرم كلهم إلا آل لوط لنهلك الأولين وننجى الآخرين ويدل عليه قوله تعالى (إنا لمنجوهم) أي لوطا وآله (أجمعين) أي مما يصيب القوم فإنه
82 استئناف للإخبار بنجاتهم لعدم إجرامهم أو لبيان ما فهم من الاستثناء من مطلق عدم شمول العذاب لهم فإن ذلك قد يكون يكون حالهم بين بين أو لتعليله فإن من تعلق بهم التنجية يمنجى من شمول العذاب أو منقطع من قوم وقوله تعالى إنا لمنجوهم متصل بآل لوط جار مجرى خير لكن وعلى هذا فقوله تعالى (إلا امرأته) استثناء من آل لوط أو من ضميرهم وعلى الأول من الضمير خاصة لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يجعل إنا لمنجوهم اعتراضا وقرئ بالتخفيف (قدرنا إنا لمن الغابرين) الباقين مع الكفرة لتهلك معهم وقرئ قدرنا بالتخفيف وإنما علق فعل التقدير مع اختصاص ذلك بأفعال القلوب لتضمنه معنى العلم ويجوز حمله على معنى قلنا لأنه بمعنى القضاء قول وأصله جعل الشيء على مقدار غيره وإسنادهم له إلى أنفسهم وهو فعل الله سبحانه لما لهم من الزلفى والاختصاص (فلما جاء آل لوط المرسلون) شروع في بيان كيفية إهلاك المجرمين وتنجية آل لوط حسبما أجمل في الاستثناء ثم فصل في التعليل نوع تفصيل ووضع المظهر موضع المضمر للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلوا به من الإهلاك والتنجية وليس المراد به ابتداء مجيئهم بل مطلق كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكى عنه عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى (قال إنكم قوم منكرون) إنما قاله عليه الصلاة والسلام بعدا للتيا والتي حين ضاقت عليه الحيل وعيت به العلل لما لم يشاهد من المرسلين عند مقاساته الشدائد ومعاناته المكايد من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهود والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشمه في تخليصهم إنكارا لخذلانهم له وترك نصرته في مثل تلك المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا مباشرين معه لأسباب المدافعة والممانعة حتى ألجأته إلى أن قال لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد حسبما فصل في سورة هود لا أنه قاله عند ابتداء ورودهم له خوفا أن يطرقوه بشر كما قيل كيف لا وهم بجوابهم المحكي بقوله تعالى (قالوا بل جئناك بما كانوا فيه يمترون) أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون فيه ويكذبونك قد قشروا العصا وبينوا له عليه الصلاة والسلام جلية الأمر فأنى يمكن أن يعتريه بعد ذلك المساءة وضيق الذرع وليست كلمة بل إضرابا عن موجب الخوف المذكور على معنى ما جئناك بما تنكرنا لأجله بل بما يسرك وتقر به عينيك بل هي إضراب عما فهمه عليه الصلاة والسلام من ترك النصرة له والمعنى ما خذلناك وما خلينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمرهم من العذاب الذي كانوا يكذبونك حين كنت تتوعدهم به ولعل تقديم هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهل المدينة من المجادلة للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه الصلاة والسلام بإهلاك
83 قومه وتنجية آله عقيب ذكر بشارة إبراهيم عليه الصلاة والسلام بهما وحيث كان مستدعيا لبيان كيفية النجاة وترتيب مباديها أشير إلى ذلك إجمالا ثم ذكر ما فعل القوم وما فعل بهم ولم يبال بتغيير الترتيب الوقوعي ثقة بمراعاته في مواقع أخر ونسبة المجىء بالعذاب إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه نازل بالقوم بطريق تفويض أمره إليه لا بطريق نزوله عليه كأنهم جاءوه وفوضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعدهم به (وأتيناك بالحق) أي باليقين الذي لا مجال فيه للإمتراء والشك وهو عذابهم عبر عنه بذلك تنصيصا على نفي الإمتراء عنه أو المراد بالحق الإخبار بمجىء العذاب المذكور وقوله تعالى (وإنا لصادقون) تأكيد له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر الحق أي المطابق للواقع وإنا لصادقون في ذلك الخبر أو في كل كلام فيكون كالدليل على صدقهم فيه وعلى الأول تأكيد إثر تأكيد وقوله تعالى (فأسر بأهلك) شروع في ترتيب مبادئ النجاة أي إذهب بهم في الليل وقرئ بالوصل وكلاهما من السرى وهو السير في الليل وقرئ فسر من السير (بقطع من الليل) بطائفة منه أو من آخرة قال * افتحي الباب وانظري في النجوم * كم علينا من قطع ليل بهيم * وقيل هو بعد ما مضى منه شيء صالح (واتبع أدبارهم) وكن على أثرهم تذودهم وتسرع بهم وتطلع على أحوالهم ولعل إيثار الاتباع على السوق مع أنه المقصود بالأمر للمبالغة في ذلك إذ السوق ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزمه عادة الغفلة عن حال المتأخر والالتفات المنهي عنه بقوله تعالى (ولا يلتفت منكم) أي منك ومنهم (أحد) فيرى ما وراءه من الهول فلا يطيقه أو يصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرف منكم أحد ولا يتخلف لغرض فيصيبه العذاب وقيل نهوا عن ذلك ليوطنوا أنفسهم على المهاجرة أو هو نهي عن ربط القلب بما خلفوه أو هو للإسراع في السير فإن الملتفت قلما يخلو عن أدنى وقفه وعدم ذكر استثناء المرأة من الإسراء والالتفات لا يستدعي عدم وقوعه فإن ذلك لما عرفت مرارا للاكتفاء بما ذكر في مواضع أخر (وامضوا حيث تؤمرون) إلى حيث أمركم الله تعالى بالمضي إليه وهو الشام أو مصر وحذف الصلتين على الاتساع المشهور وإيثار المضي إلى ما ذكر على الوصول إليه واللحوق به للإيذان بأهمية النجاة ولمراعاة المناسبة بينه وبين ما سلف من الغابرين (وقضينا) أي أوحينا (إليه) مقضيا ولذلك عدى بإلى (ذلك الأمر) مبهم يفسره (أن دابر هؤلاء مقطوع) على أنه بدل منه وإيثار اسم الإشارة على الضمير للدلالة على اتصافهم بصفاتهم القبيحة التي هي مدار ثبوت الحكم أي دابر هؤلاء المجرمين وإيراد صيغة المفعول بدل صيغة المضارع لكونها أدخل في الدلالة على الوقوع وفي لفظ القضاء والتعبير عن العذاب بالأمر والإشارة
84 إليه بذلك وتأخيره عن الجار والمجرور وإبهامه أولا ثم تفسيره ثانيا من الدلالة على فخامة الأمر وفظاعته مالا يخفى وقرئ بالكسر على الاستئناف والمعنى أنهم يستأصلون عن آخرهم حتى لا يبقى منهم أحد (مصبحين) داخلين في الصبح وهو حال من هؤلاء أو من الضمير وفي مقطوع وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء بمعنى مدبرى هؤلاء (وجاء أهل المدينة) شروع في حكاية ما صدر عن القوم عند وقوفهم على مكان الأضياف من الفعل والقول وما ترتب عليه معد ما أشير إلى ذلك إجمالا حسبما نبه عليه أي جاء أهل سدوم منزل لوط عليه الصلاة والسلام (يستبشرون) أي مستبشرين بأضيافه عليه الصلاة والسلام طمعا فيهم (قال إن هؤلاء ضيفي) الضيف حيث كان مصدرا في الأصل أطلق على الواحد والمتعدد والمذكر والمؤنث وإطلاقه على الملائكة بحسب اعتقاده عليه الصلاة والسلام لكونهم في زي الضيف والتأكيد ليس لإنكارهم بذلك بل لتحقيق اتصافهم به وإظهار اعتنائه بشأنهم وتشمره لمراعاة حقوقهم وحمايتهم من السوء ولذلك قال (فلا تفضحون) أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر وحرمة أولا تفضحون بفضيحة ضيفي فإن من أسىء إلى ضيفه فقد أسيء إليه يقال فضحه فضحا وفضيحة إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار (واتقوا الله) في مباشرتكم لما يسؤوني (ولا تخزون) أي لا تذلوني ولا نهينوني بالتعرض لمن أجرتهم بمثل تلك الفعلة الخبيثة وحيث كان التعرض لهم بعد أن نهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله فلا تفضحون أكثر تأثيرا في جانبه عليه الصلاة والسلام وأجلب للعار إليه إذ التعرض للجار قبل شعور المجير بذلك ربما يتسامح فيه وأما بعد الشعور به والمناصبة لحمايته والذب عنه فذاك أعظم العار عبر عليه الصلاة والسلام عما يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكور بسبب لجاجهم ومجاهرتهم بمخالفته بالخزي وأمرهم بتقوى الله تعالى في ذلك وإنما لم يصرح بالنهي عن نفس تلك الفاحشة لأنه كان يعرف أنه لا يفيدهم ذلك وقيل المراد تقوى الله تعالى في ركوب الفاحشة ولا يساعده توسيطه بين النهيين عن أمرين متعلقين بنفسه عليه الصلاة والسلام وكذلك قوله تعالى (أو لم ننهك عن العالمين) أي عن التعرض لهم بمنعهم عنا وضيافتهم والهمزة للإنكار والواو للعطف على مقدر أي ألم نتقدم إليك ولم ننهك عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد من الغرباء بالسوء وكان عليه الصلاة والسلام ينهاهم عن ذلك بقدر وسعه وكانوا قد نهوه عليه الصلاة والسلام عن أن يجير أحدا فكأنهم قالوا ما ذكرت من الفضيحة والخزي إنما جاءك من قبلك لا من قبلنا إذ لولا تعرضك لما نتصدى له لما اعتراك
85 تلك الحالة ولما رآهم لا يقلعون عما هم عليه (قال هؤلاء بناتي) يعني نساء القوم فإن نبي كل أمة بمنزلة أبيهم أو بناته حقيقة أي فتزوجوهن وقد كانوا من قبل يطلبونهن ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لعدم مشروعية المناكحة بين المسلمات والكفار وقد فصل في سورة هود (إن كنتم فاعلين) أي قضاء الوطر أو ما أقول لكم (لعمرك) قسم من الله تعالى بحياة النبي صلى الله عليه وسلم أو من الملائكة بحياة لوط عليه الصلاة والسلام والتقدير لعمرك قسمي وهي لغة في العمر يختص به القسم إيثارا للخفة لكثرة دورانه على الألسنة (إنهم لفي سكرتهم) غوايتهم أو شدة غلمتهم التي أزالت عقولهم وتمييزهم بين الخطأ والصواب (يعمهون) يتحيرون ويتمادون فكيف يسمعون النصح وقيل الضمير لقريش والجملة اعتراض (فأخذتهم الصيحة) أي الصيحة العظيمة الهائلة وقيل صيحة جبريل عليه الصلاة والسلام (مشرقين) داخلين في وقت شروق الشمس (فجعلنا عاليها) عالي المدينة أو عالي قراهم وهو المفعول الأول لجعلنا وقوله تعالى (سافلها) مفعول ثان له وهو أدخل في الهول والفظاعة من العكس كما مر (وأمطرنا عليهم) في تضاعيف ذلك قبل تمام الانقلاب (حجارة) كائنة (من سجيل) من طين متحجرا أو طين عليه كتاب وقد فصل ذلك في سورة هود (إن في ذلك) أي فيما ذكر من القصة (لآيات) لعلامات يستدل بها على حقيقة الحق (للمتوسمين) أي المتفكرين المتفرسين الذين يثبتون في نظرهم حتى يعرفوا حقيقة الشيء بسمته (وإنها) أي المدينة أو القرى (لبسبيل مقيم) أي طريق ثابت يسلكه الناس ويرون آثارها (إن في ذلك) فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمر أي من الناس يشاهدونها في ذهابهم وإيابهم (لآية) عظيمة (للمؤمنين) بالله ورسوله فإنهم الذين يعرفون أن ما حاق بهم العذاب الذي ترك ديارهم بلا قع إنما حاق بهم لسوء صنيعهم وأما غيرهم فيحملون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية وإفراده الآية بعد جمعها فيما سبق لما أن المشاهد ههنا بقية الآثار لا كل القصة كما فيما سلف
86 (وإن كان) إن مخففة من إن وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف واللام هي الفارقة أي وإن الشأن كان (أصحاب الأيكة) وهو قوم شعيب عليه الصلاة والسلام والأيكة الشجرة الملتفة المتكاثفة وكان عامة شجرهم المقل وكانوا يسكنونها فبعثه الله تعالى إليهم (لظالمين) متجاوزين عن الحد (فانتقمنا منهم) بالعذاب روى إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام ثم بعث سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الروح فبعث الله تعالى عليهم منها نارا فأحرقتهم فهو عذاب يوم الظلة (وإنهما) يعني سدوم والأيكة وقيل الأيكة ومدين فإنه عليه الصلاة والسلام كان مبعوثا إليهما فذكر أحدهما منبه على الآخر (لبإمام مبين) لبطريق واضح والإمام اسم ما يؤتم به سمى به الطريق ومطمر البناء واللوح الذي يكتب فيه لأنها مما يؤتم به (ولقد كذب أصحاب الحجر) يعني ثمود (المرسلين) أي صالحا فإن من كذب واحدا من الأنبياء عليهم السلام فقد كذب الجميع لاتفاقهم على التوحيد والأصول التي لا تخلف باختلاف الأمم والأعصار وقيل المراد صالح ومن معه من المؤمنين كما قيل الخبيبون لخبيب بن عبد الله بين الزبير وأصحابه والحجر واد بين المدينة والشام كانوا يسكنونه (وآتيناهم آياتنا) وهي الآيات المنزلة على نبيهم أو المعجزات من الناقة وسقيها وشربها ودرها أو الأدلة المنصوبة لهم (فكانوا عنها معرضين) إعراضا كليا بل كانوا معارضين لها حيث فعلوا بالناقة ما فعلوا (وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين) من الانهدام ونقب اللصوص وتخريب الأعداء لوثاقتها أو من العذاب لحسبانهم أن ذلك يحميهم منه عن جابر رضي الله تعالى عنه أنه قال مررنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحجر فقال لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين حذارا أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء ثم زجر رسول الله صلى الله عليه وسلم راحلته فاسرع حتى خلفها (فأخذتهم الصيحة مصبحين) وهكذا وقع في سورة هود قيل صاح بهم جبريل عليه الصلاة والسلام وقيل أتتهم من السماء صيحة فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شيء في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم وفي سورة الأعراف فأخذتهم الرجفة أي الزلزلة ولعلها من روادف الصيحة المستتبعة لتموج الهواء تموجا شديدا يفضي إليها كما مر في سورة هود
87 (فما أعنى عنهم) ولم يدفع عنهم ما نزل بهم (ما كانوا يكسبون) من بناء البيوت الوثيقة والأموال الوافرة والعدد المتكاثرة وفيه تهكم بهم والفاء لترتيب عدم الإغناء الخاص بوقت نزول العذاب حسبما كانوا يرجونه لا عدم الإغناء المطلق فإنه أمر مستمر (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق) أي إلا خلقا ملتبسا بالحق والحكمة والمصلحة بحيث لا يلائم استمرار الفساد واستقرار الشرور ولذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم وإرشادا لمن بقي إلى الصلاح أو إلا بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال كما ينبئ عنه قوله تعالى (وإن الساعة لآتية) فينتقم الله تعالى لك فيها ممن كذبك (فاصفح) أي أعرض عنهم (الصفح الجميل) إعراضا جميلا وتحمل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم وقيل هي منسوخة بآية السيف (إن ربك) الذي يبلغك إلى غاية الكمال (هو الخلاق) لك ولهم ولسائر الموجودات على الإطلاق (العليم) بأحوالك وأحوالهم بتفاصيلها فلا يخفى عليه شيء مما جرى بينك وبينهم فهو حقيق بأن تكل جميع الأمور إليه ليحكم بينكم أو هو الذي خلقكم وعلم تفاصيل أحوالكم وقد علم أن الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح فهو تعليل للأمر بالصفح على التقديرين وفي مصحف عثمان وأبي رضي الله تعالى عنهما هو الخالق وهو صالح للقليل والكثير والخلاق مختص بالكثير (ولقد آتيناك سبعا) سبع آيات وهي الفاتحة وعليه عمر وعلي وابن مسعود وأبو هريرة رضي الله تعالى عنهم والحسن وأبو العالية ومجاهد والضحاك وسعيد ابن جبير وقتادة رحمهم الله تعالى وقيل سبع سور وهي الطوال التي سابعتها الأنفال والتوبة فإنهما في حكم سورة واحدة ولذلك لم يفصل بينهما بالتسمية وقيل يونس أو الحواميم السبع وقيل الصحائف السبع وهي الأسباع (من المثاني) بيان للسبع من التثنية وهي التكرير فإن كان المراد الفاتحة وهو الظاهر فتسميتها مثاني لتكرر قراءتها في الصلاة وأما تكرر قراءتها في غير الصلاة كما قيل فليس بحيث يكون مدا ر للتسمية ولأنها تثني بما يقرأ بعدها في الصلاة واما تكرر نزولها فلا يكون وجها للتسمية لأنها كانت مسماة بهذا الاسم قبل نزولها الثاني إذ السورة مكية بالاتفاق وإن كان المراد غيرها من السور فوجه كونها من المثاني أن كلا من ذلك تكرر قراءته وألفاظه أو قصصه ومواعظه أو من الثناء لاشتماله على ما هو ثناء على الله واحدتها مثناة أو مثنية صفة للآية وأما الصحائف وهي الأسباع فلما وقع فيها من تكرير القصص
88 والمواعظ والوعد والوعيد وغير ذلك ولما فيها من الثناء على الله تعالى كأنها تثني عليه سبحانه بأفعاله وصفاته الحسنى ويجوز أن يراد بالمثاني القرآن لما ذكر أولا لأنه مثنى عليه بالإعجاز أو كتب الله تعالى كلها فمن للتبعيض وعلى الأول للبيان (والقرآن العظيم) إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكل على البعض أو العام على الخاص وإن أريد به الأسباع أو كل القرآن فهو عطف أحد الوصفين على الآخر كما في قوله * إلى الملك القرم وابن الهمام * وليث الكتائب في المزدحم * أي ولقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني والقرآن العظيم (لا تمدن عينيك) لا تطمح ببصرك طموح راغب ولا تدم نظرك (إلى ما متعنا به) من زخارف الدنيا وزينتها ومحاسنها وزهرتها (أزواجا منهم) أصنافا من الكفرة فإن ما في الدنيا من أصناف الأموال والذخائر بالنسبة إلى ما أوتيته مستحقر لا يعبأ به أصلا وفي حديث أبي بكر رضي الله تعالى عنه من أوتي القرآن فرأى أن أحدا أوتي أفضل مما أوتي فقد صغر عظيما وعظم صغيرا وروى أنه وافت من بصرى وأذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة والنضير فيها أنواع البز والطيب والجواهر وسائر الأمتعة فقال المسلمون لو كانت هذه الأموال لنا لتقوينا بها وأنفقناها في سبيل الله فقيل لهم قد أعطيتم سبع آيات وهي خير من هذه القوافل السبع (ولا تحزن عليهم) حيث لم يؤمنوا ولم ينتظموا أتباعك في سلك ليتقوى بهم ضعفاء المسلمين وقيل أو أنهم المتمتعون به ويأباه كلمة على فإن تمتعهم به لا يكون مدارا للحزن عليهم (واخفض جناحك للمؤمنين) أي تواضع لهم وارفق بهم وألن جانبك لهم وطب نفسا من إيمان الأغنياء (وقل إني أنا النذير المبين) أي المنذر المظهر لنزول عذاب الله وحلوله (كما أنزلنا على المقتسمين) قيل إنه متعلق بقوله تعالى ولقد آتيناك الخ أي أنزلناه عليك كما أنزلنا على أهل الكتاب (الذين جعلوا القرآن عضين) أي قسموه إلى حق وباطل حيث قالوا عنادا وعدوانا بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما أو اقتسموه لأنفسهم استهزاء حيث كان يقول بعضهم سورة البقرة لي وبعضهم سورة آل عمران لي وهكذا أو قسموا ما قرءوا من كتبهم وحرفوه فأقروا ببعضه وكذبوا ببعضه وحمل توسط قوله تعالى لا تمدن عينيك على إمداد ما هو المراد بالكلام من التسلية وعقب ذلك بأنه جل المقام عن التشبيه ولقد أوتي عليه الصلاة والسلام ما لم يؤت أحد قبله ولا بعده مثله وقيل
89 إنه متعلق بقوله إني أنا النذير المبين فإنه في قوة الأمر بالإنذار كأنه قيل أنذر قريشا مثل ما أنزلنا على المقتسمين يعني اليهود وهو ما جرى على بني قريظة والنضير بأن جعل المتوقع كالواقع وقد وقع كذلك وأنت خبير بأن ما يشبه به العذاب المنذر لا بد أن يكون محقق الوقوع معلوم الحال عند المنذرين إذ به تتحقق فائدة التشبيه وهي تأكيد الإنذار وتشديده وعذاب بني قريظة والنضير مع عدم وقوعه إذ ذاك لم يسبق به وعد ووعيد فهم منه في غفلة محصنة وشك مريب وتنزيل المتوقع منزلة الواقع له موقع جليل من الإعجاز لكن إذا صادف مقاما يقتضيه كما في قوله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا ونظائره على أن تخصيص الاقتسام باليهود بمجرد احتصاص العذاب المذكور بهم مع شركتهم للنصارى في الاقتسام المتفرع على الموافقة والمخالفة وفي الاقتسام بمعنى التحريف الشامل للكتابين بل تخصيص العذاب المذكور بهم مع كونه من نتائج الاقتسام تخصيص من غير مخصص وقد جعل الموصول مفعولا أول لأنذر أي أنذر المعضين الذين جزءوا القرآن إلى سحر وشعر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم فقعد كل منهم في مدخل لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ويقول الآخر شاعر والآخر كذاب فأهلكهم الله تعالى يوم بدر وقبله بآفات وفيه مع ما فيه من الاشتراك لما سبق في عدم كون العذاب الذي شبه به العذاب المنذر واقعا ولا معلوما للمنذرين ولا موعود الوقوع أنه لا داعي إلى تخصيص وصف التعضية بهم وإخراج المقتسمين من بينهم مع كونهم أسوة لهم في ذلك فإن وصفهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما وصفوا من السحر والشعر والكذب متفرع على وصفهم للقرآن بذلك وهل هو إلا نفس التعضية ولا إخراجهم من حكم الإنذار على أن ما نزل بهم من العذاب لم يكن من الشدة بحيث يشبه به عذاب غيرهم ولا مخصوصا بهم بل عاما لكلا الفريقين وغيرهم مع أن بعض المنذرين كالوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود ابن المطلب قد هلكوا قبل مهلك أكثر المقتسمين يوم بدر ولا إلى تقديم المفعول الثاني على الأول كما ترى وقيل إنه وصف لمفعول النذير أقيم مقامه والمقتسمون هم القاعدون في مداخل مكة كما حرر وفيه مع ما مر أن قوله تعالى كما أنزلنا صريح في أنه من قول الله تعالى لا من قول الرسول صلى الله عليه وسلم والاعتذار بأن ذلك من باب ما يقوله بعض خواص الملك أمرنا بكذا وإن كان الأمر هو الملك حسبما سلف في قوله تعالى قدرنا إنها لمن الغابرين تعسف لا يخفى وأن إعمال الوصف الموصوف مما لم يجوزه البصريون فلا بد من الهرب إلى مسلك الكوفيين أو المصير إلى جعله مفعولا غير صريح أي أنا النذير المبين بعذاب مثل عذاب المقتسمين وقيل المراد بالمقتسمين الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه الصلاة والسلام فأهلكهم الله تعالى وأنت تدرى أن عذابهم حيث كان متحققا ومعلوما للمنذرين حسبما نطق به القرآن العظيم صالح لأن يقع مشبها به العذاب المنذر لكن الموصول المذكور عقيبه حيث لم يمكن كونه صفة للمقتسمين حينئذ فسواء جعلناه مفعولا أول للنذير أو لما دل هو عليه من أنذر لا يكون للتعرض لعنوان التعضية في حيز الصلة ولا لعنوان الإقتسام بالمعنى المزبور في حيز المفعول الثاني فائدة لما أن ذلك إنما يكون للإشعار بعلية الصلة والصفة للحكم الثابت للموصول والموصوف فلا يكون هناك وجه شبه يدور عليه
90 تشبيه عذابهم خاصة لعدم اشتراكهم في السبب فإن المعضين بمعزل من التقاسم على التثبيت الذي هو السبب لهلاك أولئك كما أن أولئك بمعزل من التعضية التي هي السبب لهلاك هؤلاء ولا علاقة بين السببين مفهوما ولا وجودا تصحح وقوع أحدهما في جانب والآخر في جانب واتفاق الفريقين على مطلق الاتفاق على الشر المفهوم من الاتفاق على الشر المخصوص الذي هو التثبيت المدلول عليه بالتقاسم غير مفيد إذ لا دلالة لعنوان التعضية على ذلك وإنما يدل عليه اقتسام المداخل وجعل الموصول مبتدأ على أن خبره الجملة القسمية لا يليق بجزالة التنزيل وجلالة شأنه الجليل إذا عرفت هذا فأعلم أن الأقرب من الأقوال المذكورة أنه متعلق بالأول وأن المراد بالمقتسمين أهل الكتابين وأن الموصول مع صلته صفة مبينة لكيفية اقتسامهم ومحل الكاف النصب على المصدرية وحديث جلالة المقام عن التشبيه من لوائح النظر الجليل والمعنى لقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم إيتاء مماثلا لإنزال الكتابين على أهلهما وعدم التعرض لذكر ما أنزل عليهم من الكتابين لأن الغرض بيان المماثلة بين الإيتاءين لا بين متعلقيهما والعدول عن تطبيق ما في جانب المشبه به على ما في جانب المشبه بأن يقال كما آتينا المقتسمين حسبما وقع في قوله تعالى الذين آتيناهم الكتاب الخ للتنبيه على ما بين الإيتاءين من التنائي فأن الأول على وجه التكرمة والامتنان وشتان بينه وبين الثاني ولا يقدح ذلك في وقوعه مشبها به فإن ذلك إنما هو لمسلميته عندهم وتقديم وجوده على المشبه زمانا لا لمزية وتعود إلى ذاته كما في الصلاة الخليلية فإن التشبيه فيها ليس لكون رحمة الله تعالى الفائضة على إبراهيم عليه الصلاة والسلام وآله أتم وأكمل مما فاض على النبي صلى الله عليه وسلم وإنما ذلك للتقدم في الوجود والتنصيص عليه في القرآن العظيم فليس في التشبيه شائبة إشعار بأفضلية المشبه به من المشبه فضلا عن إيهام أفضلية ما تعلق به الأول مما تعلق به الثاني وإنما ذكروا بعنوان الاقتسام إنكارا لاتصافهم به مع تحقق ما ينفيه من الإنزال المذكور وإيذانا بأنه كان من حقهم أن يؤمنوا بكله حسب إيمانهم بما أنزل عليهم بحكم الاشتراك في العلة والاتحاد في الحقيقة التي هي مطلق الوحي وتوسيط قوله تعالى لا تمدن الخ لكمال اتصاله بما هو المقصود من بيان حال ما أوتي النبي صلى الله عليه وسلم ولقد بين أولا علو شأنه ورفعة مكانه بحيث يستوجب اغتباطه عليه الصلاة والسلام بمكانه واستغناءه به عما سواه ثم نهى عن الالتفات إلى زهرة الدنيا وعبر عن إيتائها لأهلها بالتمتيع المنبىء عن وشك زوالها عنهم ثم عن الحزن بعدم إيمان المنهمكين فيها بمراعاة المؤمنين والاكتفاء بهم عن غيرهم وبإظهار قيامه بمواجب الرسالة ومراسم النذارة حسبما فصل في تضاعيف ما أوتي من القرآن العظيم ثم رجع إلى كيفية إيتائه على وجه أدمج فيه ما يزيح شبه المنكرين ويستنزلهم عن العناد من بيان مشاركته لما لا ريب لهم في كونه وحيا صادقا فتأمل والله عنده علم الكتاب هذا وقد قيل المعنى قل إني أنا النذير المبين كما قد أنزلنا في الكتب إنك ستأتي نذيرا على أن المقتسمين أهل الكتاب انتهى يريد أن ما في كما موصولة والمراد بالمشابهة المستفادة من الكاف الموافقة وهي مع ما في حيزها في محل النصب على الحالية من مفعول قل أي قل هذا القول حال كونه كما أنزلنا على أهل الكتابين أي موافقا لذلك فالأنسب حينئذ حمل الاقتسام على التحريف ليكون وصفهم بذلك تعريضا بما فعلوا من تحريفهم وكتمانهم لنعت النبي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى عضين جمع عضة وهي الفرقة
91 أصلها عضوة فعلة من عضى الشاة تعضية إذا جعلها أعضاء وإنما جمعت جمع السلامة جبرا للمحذوف كسنين وعزين والتعبير عن تجزئة القرآن بالتعضية التي هي تفريق الأعضاء من ذي الروح المستلزم لإزالة حياته وإبطال اسمه دون مطلق التجزئة والتفريق اللذين ربما يوجدان فيما لا يضره التبعيض من المثليات للتنصيص على كمال قبح ما فعلوه بالقرآن العظيم وقيل هي فعلة من عضهته إذا بهته وعن عكرمة العضة السحر بلسان قريش فنقصانها على الأول واو وعلى الثاني هاء (فوربك لنسألنهم أجمعين) أي لنسألن يوم القيامة أصناف الكفرة من المقتسمين وغيرهم سؤال توبيخ وتقريع (عما كانوا يعملون) في الدنيا من قول وفعل وترك فيدخل فيه ما ذكر من الاقتسام والتعضية دخولا أوليا ولنجزينهم بذلك جزاءا موفورا وفيه من التشديد وتأكيد الوعيد مالا يخفى والفاء لترتيب الوعيد على أعمالهم التي ذكر بعضها وفي التعرض لوصف الربوبية مضافا إليه عليه الصلاة والسلام إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام (فاصدع بما تؤمر) فاجهر به من صدع بالحجة إذا تكلم بها جهارا أو أفرق بين الحق والباطل وأصله الإبانة والتمييز وما مصدرية أو موصولة والعائد محذوف أي ما تؤمر به من الشرائع المودعة في تضاعيف ما أوتيته من المثاني السبع والقرآن العظيم (وأعرض عن المشركين) أي لا تلتفت إلى ما يقولون ولا تبال بهم ولا تتصد للانتقام منهم (إنا كفيناك المستهزئين) بقمعهم وتدميرهم قيل كانوا خمسة من اشراف قريش الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والحرث بن قيس بن الطلاطلة والأسود بن عبد يغوث والأسود بن المطلب يبالغون في إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستهزاء به فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام فقال قد أمرت أن أكفيكهم فأومأ إلى ساق الوليد فمر بنبال فتعلق بثوبه سهم فلم ينعطف تعظيما لأخذه فأصاب عرقا في عقبه فقطه فمات وأومأ إلى أخمص العاص فدخلت فيه شوكة فقال لدغت لدغت وانتفخت رجله حتى صارت كالرحى فمات وأشار إلى عيني الأسود بن المطلب فعمى وإلى أنف الحرث فامتخط قيحا فمات وإلى الأسود بن عبد يغوث وهو قاعد في أصل شجرة فجعل ينطح برأسه الشجرة ويضرب وجهه بالشوك حتى مات (الذين يجعلون مع الله إلها آخر) وصفهم بذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهوينا للخطب عليه بإعلام أنهم لم يقتصروا على الاستهزاء به عليه الصلاة والسلام بل اجترءوا على العظيمة التي هي الإشراك بالله سبحانه (فسوف يعلمون) عاقبة ما يأتون ويذرون
92 (ولقد نعلم أنك بضيق صدرك بما يقولون) من كلمات الشرك والطعن في القرآن والاستهزاء به وبك وتحلية الجملة بالتأكيد لإفادة تحقيق ما تتضمنه من التسلية وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم حسب استمرار متعلقة باستمرار ما يوجبه من أقوال الكفرة (فسبح بحمد ربك) فافزع إلى الله تعالى فيما نابك من ضيق الصدر والحرج بالتسبيح والتقديس ملتبسا بحمده وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام مالا يخفى من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام والإشعار بعلة الحكم أعني الأمر بالتسبيح والحمد (وكن من الساجدين) أي المصلين يكفيك ويكشف الغم عنك أو فنزهه عما يقولون ملتبسا بحمده على أن هداك للحق المبين وعنه عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة (واعبد ربك) دم على ما أنت عليه من عبادته تعالى وإيثار الإظهار بالعنوان السالف آنفا لتأكيد ما سبق من إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام والإشعار بعلة الأمر بالعبادة (حتى يأتيك اليقين) أي الموت فإنه متيقن اللحوق بكل حي مخلوق وإسناد الإتيان إليه للإيذان بأنه متوجه إلى الحي طالب للوصول إليه والمعنى دم على العبادة ما دمت حيا من غير إخلال بها لحظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الحجر كان له من الأجر عشر حسنا بعدد المهاجرين والأنصار والمستهزئين بمحمد صلى الله عليه وسلم
93 (سورة النحل مكية إلا وإن عاقبتم إلى آخرها وهي مائة وثمان وعشرون آية) بسم الله الرحمن الرحيم (أتى أمر الله) أي الساعة أو ما يعمها وغيرها من العذاب الموعود للكفرة عبر عن ذلك بأمر الله للتفخيم والتهويل وللإيذان بأن تحققه في نفسه وإيتانه منوط بحكمة النافذ وقضائه الغالب وإتيانه عبارة عن دنوه واقترابه على طريقة نظم المتوقع في سلك الواقع أو عن إتيان مباديه القريبة على نهج إسناد حال الأسباب إلى المسببات وأياما كان ففيه تنبيه على كمال قربه من الوقوع واتصاله وتكميل لحسن موقع التفريع في قوله عز وجل (فلا تستعجلوه) فإن النهي عن استعجال الشيء وإن صح تفريعه على قرب وقوعه أو على وقوع أسبابه القريبة لكنه ليس بمثابة تفريعه على وقوعه إذ بالوقوع يستحيل الاستعجال رأسا لا بما ذكر من قرب وقوعه ووقوع مباديه والخطاب للكفرة خاصة كما يدل عليه القراءة على صيغة نهي الغائب واستعجالهم وإن كان بطريق الاستهزاء لكنه حمل على الحقيقة ونهوا عنه بضرب من التهكم لا مع المؤمنين سواء أريد بأمر الله ما ذكر أو العذاب الموعود للكفرة خاصة أما الأول فلأنه لا يتصور من المؤمنين استعجال الساعة أو ما يعمها وغيرها من العذاب حتى يعمهم النهي عنه وأما الثاني فلأن استعجالهم له بطريق الحقيقة واستعجال الكفرة بطريق الاستهزاء كما عرفته فلا ينتظمها صيغة واحدة والالتجاء إلى إرادة معنى مجازى يعمهما معا من غير أن يكون هناك رعاية نكتة سرية تعسف لا يليق بشأن التنزيل الجليل وما روى من أنه لما نزلت اقتربت الساعة قال الكفار فيما بينهم إن هذا يزعم أن القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتى ننظر ما هو كائن فلما تأخرت قالوا ما نرى شيئا فنزلت اقترب للناس حسابهم فأشفقوا وانتظروا أقربها فلما امتدت الأيام قالوا يا محمد ما نرى شيئا مما تخوفنا به فنزلت أتي أمر الله فوثب رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع الناس رؤوسهم فلما نزل فلا تستعجلوه اطمأنوا فليس فيه دلالة على عموم الخطاب كما قيل لا لما توهم من أن التصدير بالفاء يأباه فإنه بمعزل عن إبائه حسبما تحققته بل لأن مناط اطمئنانهم إنما وقوفهم على أن المراد بالإتيان هو الإتيان الادعائي لا الحقيقي الموجب لاستحالة الاستعجال المستلزم لامتناع النهي عنه لما أن النهي عن الشيء يقتضي إمكانه في الجملة ومدار ذلك الوقوف إنما هو النهي عن الاستعجال المستلزم لإمكانه المقتضي لعدم وقوع المستعجل بعد ولا يختلف ذلك باختلاف المستعجل كائنا من كان بل فيه دلالة واضحة على عدم
94 العموم لأن المراد بأمر الله إنما هو الساعة وقد عرفت استحالة صدور استعجالها عن المؤمنين نعم يجوز تخصيص الخطاب بهم على تقدير كون أمر الله عبارة عن العذاب الموعود للكفرة خاصة لكن الذي يقضي به الإعجاز التنزيلي أنه خاص بالكفرة كما ستقف عليه ولما كان استعجالهم ذلك من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله عز وجل إلى مالا يليق به من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقاد أن واحدا يحجزه عن إنجاز وعده وإمضاء وعيده وقد قالوا في تضاعيفه إن صح مجيء العذاب فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها رد ذلك فقيل بطريق الاستئناف (سبحانه وتعالى عما يشركون) أي تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وصيغة الاستقبال للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم لغيرهم وعلى تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين تفوت هذه النكتة كما يفوت ارتباط المنهي عنه بالمتنزه عنه وقرئ على صيغة الخطاب (ينزل الملائكة) بيان لتحتم التوحيد حسبما نبه عليه تنبيها إجماليا ببيان تقدس جناب الكبرياء وتعاليه عن أن يحوم حول شائبة أن يشاركه شيء في شيء وإيذان بأنه دين أجمع عليه جمهور الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأمروا بدعوة الناس إليه مع الإشارة إلى سر البغتة والتشريع وكيفية إلقاء الوحي والتنبيه على طريق علم الرسول صلى الله عليه وسلم بإتيان ما أوعدهم به وباقترابه إزاحة لاستبعادهم اختصاصه عليه الصلاة والسلام بذلك وإظهارا لبطلان رأيهم في الاستعجال والتكذيب وإيثار صيغة الاستقبال للإشعار بأن ذلك عادة مستمرة له سبحانه والمراد بالملائكة إما جبريل عليه السلام قال الواحدي يسمى الواحد بالجمع إذا كان رئيسا أو هو ومن معه من حفظة الوحي بأمر الله تعالى وقرئ ينزل من الإنزال وتنزل بحذف إحدى التاءين وعلى صيغة المبني للمفعول من التنزيل (بالروح) أي بالوحي الذي من جملته القرآن على نهج الاستعارة فإنه يحي القلوب الميتة بالجهل أو يقوم في الدين مقام الروح في الجسد والباء متعلقة بالفعل أو بما هو حال من مفعوله أي ملتبسين بالروح (من أمره) بيان للروح الذي أريد به الوحي فإنه أمر بالخير أو حال منه أي حال كونه ناشئا ومبتدأ منه أو صفة له على رأي من جوز حذف الموصول مع بعض صلته أي بالروح الكائن من أمره الناشئ منه أو متعلق بينزل ومن للسببية كالباء مثل ما في قوله تعالى مما خطيئاتهم أي ينزلهم بأمره (على من يشاء من عباده) أن ينزلهم به عليهم لاختصاصهم بصفات تؤهلهم لذلك (أن أنذروا) بدل من الروح أي ينزلهم ملتبسين بأن أنذروا أي بهذا القول والمخاطبون به الأنبياء الذين نزلت الملائكة عليهم والأمر هو الله سبحانه والملائكة نقلة للأمر كما يشعر به الباء في المبدل منه وأن إما مخففة من أن وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف أي ينزلهم ملتبسين بأن
95 الشأن أقول لكم انذروا أو مفسرة على أن تنزيل الملائكة بالوحي فيه معنى القول كأنه قيل يقول بواسطة الملائكة لمن يشاء من عباده أنذروا فلا محل لها من الإعراب أو مصدرية لجواز كون صلتها إنشائية كما في قوله تعالى وأن أقم وجهك حسبما ذكر في أوائل سورة هود فمحلها الجر على البدلية أيضا والإنذار الإعلام خلا أنه مختص بإعلام المحذور من نذر بالشيء إذا علمه فخذوه وأنذره بالأمر إنذارا أي أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه كذا في القاموس أي أعلموا الناس (أنه لا إله إلا أنا) فالضمير للشأن ومدار وضعه موضعه ادعاء شهرته المغنية عن التصريح به وفائدة تصدير الجملة به الإيذان من أول الأمر بفخامة مضمونها مع ما فيه من زيادة تقرير له في الذهن فإن الضمير لا يفهم منه ابتداء إلا شأن مبهم له خطر فيبقى الذهن مترقبا لما يعقبه فيتمكن لديه عند وروده فضل تمكن كأنه قيل انذروا أن الشأن الخطير هذا وأنباء مضمونه عن المحذور ليس لذاته بل من حيث اتصاف المنذرين بما يضاده من الإشراك وذلك كاف في كون إعلامه إنذارا وقوله سبحانه (فائقون) خطاب للمستعجلين على طريقة الالتفات والفاء فصيحة أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادته تعالى بتنزيل الملائكة على الأنبياء عليهم السلام وأمرهم بأن ينذروا الناس أنه لا شريك له في الألوهية فائقون في الإخلال بمضمونه ومباشرة ما ينافيه من الإشراك وفروعه التي من جملتها الاستعجال والاستهزاء وبعد تمهيد الدليل السمعي للتوحيد شرع في تحرير الأدلة العقلية فقيل (خلق السماوات والأرض بالحق) أي أوجدهما على ما هما عليه من الوجه الفائق والنمط اللائق (تعالى) وتقدس بذاته لا سيما بأفعاله التي من جملتها إبداع هذين المخلوقين (عما يشركون) عن إشراكهم المعهود أو عن شركة ما يشركونه به من الباطل الذي لا يبدىء ولا يعيد وبعد ما نبه على صنعه الكلي المنطوي على تفاصيل مخلوقاته شرع في تعداد ما فيه من خلائقه فبدأ بفعله المتعلق بالأنفس فقال (خلق الإنسان) أي هذا النوع غير الفرد الأول منه (من نطفة) جماد لا حس له ولا حراك سيال لا يحفظ شكلا ولا وضعا (فإذا هو) بعد الخلق (خصيم) منطيق مجادل عن نفسه مكافح للخصوم (مبين) لحجته لقن بها وهذا أنسب بمقام الامتنان بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته تعالى ووحدته أو مخاصم لخالقه منكر له قائل من يحي العظام وهي رميم وهذا أنسب بمقام تعداد هنات الكفرة روى أن أبي به خلف الجمحي أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم فقال يا محمدا أترى الله تعالى يحي هذا بعدما قد رم فنزلت (والأنعام) وهي الأزواج الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعز وانتصابه بمضمر يفسره قوله تعالى (خلقها) أو بالعطف على الإنسان وما بعده بيان ما خلق لأجله والذي بعده تفصيل لذلك وقوله تعالى (لكم) إما متعلق بخلقها وقوله (فيها) خبر مقدم وقوله (دفء) مبتدأ وهو ما يدفأ به فيقي من البرد والجملة حال من المفعول أو
96 الظرف الأول خبر للمبتدأ المذكور وفيها حال من دفء إذ لو تأخر لكان صفة (ومنافع) هي درها وركوبها وحملها والحراثة بها وغير ذلك وإنما عبر عنها بها ليتناول الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم وتقديم الدفء على المنافع لرعاية أسلوب الترقي إلى الأعلى (ومنها تأكلون) أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم وغير ذلك وتغيير النظم للإيماء إلى أنها لا تبقى عند الأكل كما في السابق واللاحق فإن الدفء والمنافع والجمال يحصل منها وهي باقية على حالها ولذلك جعلت محال لها بخلاف الأكل وتقديم الظرف للإيذان بأن الأكل منها هو المعتاد المعتمد في المعاش لأن الأكل مما عداها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر من قبيل التفكه مع أن فيه مراعاة للفواصل ويحتمل أن يكون معنى الأكل منها أكل ما يحصل بسببها فإن الحبوب والثمار المأكولة تكتسب بإكراء الإبل وبإثمار نتاجها وألبانها وجلودها (ولكم فيها) مع ما فصل من أنواع المنافع الضرورية (حمال) أي زينة في أعين الناس ووجاهة عندهم (حين تريحون) تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشي (وحين تسرحون) تخرجونها بالغداة من حظائرها إلى مسارحها فالمفعول محذوف من كلا الفعلين لرعاية الفواصل وتعيين الوقتين لأن ما يدور عليه أمر الجمال من تزين الأفنية والأكناف بها وبتجاوب ثغائها ورغائها إنما هو عند ورودها وصدورها في ذينك الوقتين وأما عند كونها في المراعي فينقطع إضافتها الحسية إلى أربابها وعند كونها في الحظائر لا يراها راء ولا ينظر إليها ناظر وتقديم الإراحة على السرح لتقدم الورود على الصدور ولكونها أظهر منه في استتباع ما ذكر من الجمال وأتم في استجلاب الأنس والبهجة إذ فيها حضور بعد غيبة وإقبال بعد إدبار على أحسن ما يكون ملأي البطون مرتفعة الضروع وقرئ حينا تريحون وحينا تسرحون على أن كلا الفعلين وصف لحينا بمعنى تريحون فيه وتسرحون فيه (وتحمل أثقالكم) جمع ثقل وهو متاع المسافر وقيل أثقالكم أجرامكم (إلى بلد) قال ابن عباس رضي الله عنهما أريد به اليمن ومصر والشام ولعله نظر إلى أنها متاجر أهل مكة وقال عكرمة أريد به مكة ولعله نظر إلى أن أثقالهم وأحمالهم عند القفول من متاجرهم أكثر وحاجتهم إلى الحمولة أمس والظاهر أنه عام لكل بلد سحيق (لم تكونوا بالغيه) واصلين إليه بأنفسكم مجردين عن الأثقال لولا الإبل (إلا بشق الأنفس) فضلا عن استصحابها معكم وقرئ بفتح الشين وهما لغتان بمعنى الكلفة والمشقة وقيل المفتوح مصدر من شق الأمر عليه شقا وحقيقته راجعة إلى الشق الذي هو الصدع والمكسور النصف كأنه يذهب نصف القوة لما يناله من الجهد فالإضافة إلى الأنفس مجازية أو على تقدير مضاف أي وإلا بشق قوى الأنفس وهو استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي لم تكونوا بالغيه بشيء من الأشياء إلا بشق الأنفس ولعل تغيير النظم الكريم السابق الدال على كون الأنعام مدار للنعم السابقة إلى الجملة الفعلية المفيدة لمجرد الحوث للإشعار بأن
97 هذه النعمة ليست في العموم بحسب المنشأ وبحسب المتعلق وفي الشمول للأوقات والاطراد في الأحيان المعهودة بمثابة النعم السالفة فإنها بحسب المنشأ وخاصة بالإبل وبحسب المتعلق بالضاربين في الأرض المتقلبين فيها للتجارة وغيرها في أحايين غير مطردة وأما سائر النعم المعدودة فموجودة في جميع أصناف الأنعام وعامة لكافة المخاطبين دائما أو في عامة الأوقات (إن ربكم لرءوف رحيم) ولذلك أسبغ عليكم هذه النعم الجليلة ويسر لكم الأمور الشاقة (والخيل) هو اسم جنس للفرس لا واحد له من لفظه كالإبل وهو عطف على الأنعام أي خلق الخيل (والبغال والحمير لتركبوها) تعليل بمعظم منافعها وإلا فالإنتفاع بها بالحمل أيضا مما لا ريب في تحققه (وزينة) عطف على محل لتركبوها وتجريده عن اللام لكونه فعلا لفاعل المعلل دون الأول وتأخيره لكون الركوب أهم منه أو مصدر لفعل محذوف أي وتتزينوا بها زينة وقرئ بغير واو أي خلقها زينة لتركبوها ويجوز أن يكون مصدرا واقعا موقع الحال من فاعل تركبوها أو مفعوله أي متزينيين بها أو متزينا بها (ويخلق مالا تعلمون) أي يخلق في الدنيا غير ما عدد من أصناف النعم فيكم ولكم مالا تعلمون كنهه وكيفية خلقه فالعدول إلى صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار والتجدد أو لاستحضار الصورة أو يخلق لكم في الجنة غير ما ذكر من النعم الدنيوية مالا تعلمون أي ما ليس من شأنكم ان تعلموه وهو ما أشير إليه بقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ويجوز أن يكون هذا إخبارا بأنه سبحانه يخلق من الخلائق مالا علم لنا به دلالة على قدرته الباهرة الموجبة للتوحيد كنعمته الباطنة والظاهرة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عن يمين العرش نهرا من نور مثل السماوات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل عليه السلام كل سحر فيغتسل فيزداد نورا إلى نور وجمالا إلى جمال وعظما إلى عظم ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل قطرة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك فيدخل منهم كل يوم سبعون ألف ملك البيت المعمور وسبعون ألف ملك الكعبة لا يعودون إليه إلى يوم القيامة (وعلى الله قصد السبيل) القصد مصدر بمعنى الفاعل يقال سبيل قصد وقاصد أي مستقيم على طريقة الاستعارة أو على نهج إسناد حال سالكه إليه كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه أي حق عليه سبحانه وتعالى بموجب رحمته ووعده المحتوم بيان الطريق المستقيم الموصل لمن يسلكه إلى الحق الذي هو التوحيد بنصب الأدلة وإرسال الرسل وإنزال الكتب لدعوة الناس إليه أو مصدر بمعنى الإقامة والتعديل قاله أبو البقاء ي عليه عز وجل تقويمها وتعديلها أي جعلها بحيث يصل سالكها إلى الحق لكن لا بعدما كانت في نفسها منحرفة عنه بل إبداعها ابتداء كذلك على نهج قوله سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل وحقيقته راجعة إلى ما ذكر من نصب الأدلة وقد فعل ذلك حيث أبدع هذه البدائع التي كل واحد منها
98 لاحب يهتدي بمناره وعلم يستضاء بناره وارسل رسلا مبشرين ومنذرين وأنزل عليهم كتبا من جملتها هذا الوحي الناطق بحقيقة الحق الفاحص عن كل ما جل من الاسرار ودق الهادي إلى سبيل الاستدلال بتلك الأدلة المفضية إلى معالم الهدى المنحية عن فيافي الضلالة ومهاوي الردى ألا يرى كيف بين أولا تنزه جناب الكبرياء وتعاليه بحسب الذات عن أن يحوم حوله شائبة توهم الإشراك ثم أوضح سر إلقاء الوحي على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكيفية أمرهم بإنذار الناس ودعوتهم إلى التوحيد ونهيهم عن الإشراك ثم كر على بيان تعاليه عن ذلك بحسب الأفعال مرشدا إلى طريقة الاستدلال فبدأ بفعله المتعلق بمحيط العالم الجسماني ومركزه بقوله تعالى خلق السماوات والأرض بالحق تعالى عما يشركون ثم فصل افعاله المتعلقة بما بينهما فبدأ بفعله المتعلق بأنفس المخاطبين ثم ذكر ما يتعلق بما لا بد لهم منه في معايشهم ثم بين قدرته على خلق مالا يحيط به علم البشر بقوله ويخلق مالا تعلمون وكل ذلك كما ترى بيان لسبيل التوحيد غب بيان وتعديل له أيما تعديل فالمراد بالسبيل على الأول الجنس بدليل إضافة القصد إليه قوله تعالى (ومنها) في محل الرفع على الابتداء إما باعتبار مضمونه وإما بتقدير الموصوف كما في قوله تعالى ومنادون ذلك وقد مر في قوله تعالى ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر الخ أي بعض السبيل أو بعض من السبيل فإنها تؤنث وتذكر (جائر) أي مائل عن الحق منحرف عنه لا يوصل سالكه إليه وهو طرق الضلال التي لا يكاد يحصى عددها المندرج كلها تحت الجائر وعلى الثاني نفس السبيل المستقيم والضمير في منها راجع إليها بتقدير المضاف أي ومن جنسها لما عرفت من أن تعديل السبيل وتقويمه إبداعه ابتداء على وجه الاستقامة والعدالة لا تقويمه بعد انحرافه وأياما كان فليس في النظم الكريم تغيير الأسلوب رعاية لأمر مطلوب كما قيل فإن ذلك إنما يكون فيما اقتضى الظاهر سبكا معينا ولكن يعدل عن ذلك لنكتة أهم منه كما في قوله سبحانه الذي يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين فإن مقتضى الظاهر أن يقال والذي يسقمني ويشفين ولكن غير إلى ما عليه النظم الكريم تفاديا عن إسناد ما تكرهه النفس إليه سبحانه وليس المراد ببيان قصد السبيل مجرد إعلام أنه مستقيم حتى يصح إسناد أنه جائر إليه تعالى فيحتاج إلى الاعتذار عن عدم ذلك على أنه لو أريد ذاك لم يوجد لتغيير الأسلوب نكتة وقد بين ذلك في مواضع غير معدودة بل المراد ما مر من نصب الأدلة لهداية الناس إليه ولا إمكان لإسناد مثله إليه تعالى بالنسبة إلى الطريق الجائر بأن يقال وجائرها ثم يغير سبك النظم عن ذلك لداعية أقوى منه بل الجملة الظرفية اعتراضية جيء بها لبيان الحاجة إلى البيان والتعديل وإظهار جلالة قدر النعمة في ذلك والمعنى على الله تعالى بيان الطريق المستقيم الموصل إلى الحق وتعديله بما ذكر من نصب الأدلة ليسلكه الناس باختيارهم ويصلوا إلى المقصد وهذا هو الهداية المفسرة بالدلالة على ما يوصل إلى المطلوب لا الهداية المستلزمة للاهتداء البتة فإن ذلك مما ليس بحق على الله تعالى لا بحسب ذاته ولا بحسب رحمته بل هو مخل بحكمته حيث يستدعيه تسوية المحسن والمسيء والمطيع والعاصي بحسب الاستعداد وإليه أشير بقوله تعالى (ولو شاء الله لهداكم أجمعين) أي لو شاء أن يهديكم إلى ما ذكر من التوحيد هداية موصلة إليه البتة مستلزمة لاهتدائكم أجمعين لفعل ذلك ولكن لم يشأه لأن مشيئته تابعة للحكمة الداعية إليها ولا
99 حكمة في تلك المشيئة لما أن الذي عليه يدور فلك التكليف وإليه ينسحب الثواب والعقاب إنما هو الاختيار الجزئي الذي عليه يترتب الأعمال التي بها نيط الجزاء هذا هو الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسن الانتظام وقد فسر كون قصد السبيل عليه تعالى بانتهائه إليه نهج الاستقامة وإيثار حرف الاستعلاء على أداة الانتهاء لتأكيد الاستقامة على وجه تمثيلي من غير أن يكون هناك استعلاء لشيء عليه سبحانه وتعالى عنه علوا كبيرا كما في قوله تعالى هذا صراط على مستقيم فالقصد مصدر بمعنى الفاعل والمراد بالسبيل الجنس كما مر وقوله تعالى ومنها جائر معطوف على الجملة الأولى والمعنى أن قصد السبيل واصل إليه تعالى بالاستقامة وبعضها منحرف عنه ولو شاء لهداكم جميعا إلى الأول وأنت خبير بأن هذا حق في نفسه ولكنه بمعزل عن نكتة موجبة لتوسيطه بين ما سبق من أدلة التوحيد وبين ما لحق ولما بين الطريق السمعي للتوحيد على وجه إجمالي وفصل بعض أدلته المتعلقة بأحوال الحيوانات وعقب ذلك ببيان السر الداعي إليه بعثا للمخاطبين على التأمل فيما سبق وحثا على حسن التلقي لما لحق أتبع ذلك ذكر ما يدل عليه من أحوال النبات فقيل (هو الذي أنزل) بقدرته القاهرة (من السماء) أي من السحاب أو من جانب السماء (ماء) أي نوعا منه وهو المطر وتأخره عن المجرور لما مر مرارا من أن المقصود هو الإخبار بأنه أنزل من السماء شيئا هو الماء لا أنه أنزله من السماء والسر فيه ما سلف من أن عند تأخير ما حقه التقديم يبقى الذهن مترقبا له مشتاقا إليه فيتمكن لديه عند وروده عليه فضل تمكن (لكم منه شراب) أي ما تشربونه وهو إما مرتفع بالظرف الأول أو مبتدأ وهو خبره والجملة صفة لماء والظرف الثاني نصب على الحالية من شراب ومن تبعيضية وليس في تقديمه إيهام حصر المشروب فيه حتى يفتقر إلى الاعتذار بأنه لا باس به لأن مياه العيون والأبيار منه لقوله تعالى فسلكه ينابيع في الأرض وقوله تعالى فأسكناه في الأرض وقيل الظرف الأول متعلق بأنزل والثاني خبر لشراب والجملة صفة لماء وأنت خبير بأن ما فيه من توسيط المنصوب بين المجرورين وتوسيط الثاني منهما بين الماء وصفته مما لا يليق بجزالة نظم التنزيل الجليل (ومنه شجر) من ابتدائية أي ومنه يحصل شجر ترعاه المواشي والمراد به ما ينبت من الأرض سواء كان له ساق أو لا أو تبعيضية مجازا لأنه لما كان سقيه من الماء جعل كأنه منه كقوله أسنمة الآبال في ربابه يعني به المطر الذي ينبت به الكلأ الذي تأكله الإبل فتسمن أسنمتها وفي حديث عكرمة لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت يعني الكلأ (فيه تسيمون) ترعون من سامت الماشية وأسامها صاحبها وأصلها السومة وهي العلامة لأنها تؤثر بالرعي علامات في الأرض (ينبت) أي الله عز وجل وقرئ بالنون (لكم به) بما أنزل من السماء (الزرع والزيتون والنخيل والأعناب) بيان للنعم الفائضة عليهم من الأرض
100 بطريق الاستئناف وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار وأنها سنته الجارية على مر الدهور أو لاستحضار صورة الإنبات وتقديم الظرفين على المفعول الصريح لما مر آنفا مع ما في تقديم أولهما من الاهتمام به لإدخال المسرة ابتداء وتقديم الزرع على ما عداه لأنه أصل الأغذية وعمود المعاش وتقديم الزيتون لما فيه من الشرف من حيث إنه أدام من وجه وفاكهة من وجه وتقديم النخيل على الأعناب لظهور أصالتها وبقائها وجمع الأعناب للإشارة إلى ما فيها من الاشتمال على الأصناف المختلفة وتخصيص الأنواع المعدودة بالذكر مع اندراجها تحت قوله تعالى (ومن كل الثمرات) للإشعار بفضلها وتقديم الشجر عليها مع كونه غذاء للأنعام لحصوله بغير صنع من البشر أو للإرشاد إلى مكارم الأخلاق فإن مقتضاها أن يكون اهتمام الإنسان بأمر ما تحت يده وأكمل من اهتمامه بأمر نفسه أو لأن أكثر المخاطبين من أصحاب المواشي ليس لهم زرع ولا ثمر وقيل المراد تقديم ما يسام لا تقديم غذائه فإنه غذاء حيواني للإنسان وهو أشرف الأغذية وقرئ ينبت من الثلاثي مسندا إلى الزرع وما عطف عليه (إن في ذلك) أي في إنزال الماء وإنبات ما فصل (لآية) عظيمة دالة على تفرده تعالى بالألوهية لاشتماله على كمال العلم والقدرة والحكمة (لقوم يتفكرون) فإن من تفكر في أن الحبة أو النواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشق أسفلها فيخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض وينشق أعلاها وإن كانت منتكسة في الوقوع ويخرج منه ساق فينمو ويخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والخواص والطبائع وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النمط المحرر لا إلى نهاية مع اتحاد المواد واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثيرات العلوية بالنسبة إلى الكل علم أن من هذه أفعاله وآثاره لا يمكن أن يشبهه شيء في شيء من صفات الكمال فضلا عن أن يشاركه أخص الأشياء في أخص صفاته التي هي الألوهية واستحقاق العبادة تعالى عن ذلك علوا كبيرا وحيث افتقر سلوك هذه الطريقة إلى ترتيب المقدمات الفكرية قطع الآية الكريمة بالتفكر (وسخر لكم الليل والنهار) يتعاقبان خلفه لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها (والشمس والقمر) يدأبان في سيرهما وإنارتهما اصالة وخلافة وإصلاحهما لما نيط بهما صلاحه من المكونات التي من جملتها ما فصل وأجمل كل ذلك لمصالحكم ومنافعكم وليس المراد بتسخيرها لها تمكينهم من تصرفها كيف شاءوا كما في قوله تعالى سبحان الذي سخر لنا هذا ونظائره بل هو تصريفه تعالى لها حسبما يترتب عليه منافعهم ومصالحهم كان ذلك تسخير لهم وتصرف من قبلهم حسب إرادتهم وفي التعبير عن ذلك التصريف بالتسخير إيماء إلى ما في المسخرات من صعوبة المأخذ بالنسبة إلى المخاطبين وإيثار صيغة الماضي للدلالة على أن ذلك أمر واحد مستمر وإن تجددت آثاره (والنجوم مسخرات بأمره) مبتدأ وخبر أي سائر النجوم في
101 حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع ونحوهما مسخرات لله تعالى أو لما خلقن له بإرادته ومشيئته وحيث لم يكن عود منافع النجوم إليهم في الظهور بمثابة ما قبلها من الملوين والقمرين لم ينسب تسخيرها إليهم بأداة الاختصاص بل ذكر على وجه يفيد كونها تحت ملكوته تعالى من غير دلالة على شيء آخر ولذلك عدل عن الجملة الفعلية الدالة على الحدوث إلى الاسمية المفيدة للدوام والاستمرار وقرئ برفع الشمس والقمر أيضا وقرئ بنصب النجوم على أنه مفعول أول لفعل مقدر ينبئ عنه الفعل المذكور ومسخرات مفعول ثان له أي وجعل النجوم مسخرات بأمره أو على أنه معطوف على المنصوبات المتقدمة ومسخرات حال من الكل والعامل ما في سخر من معنى نفع أي نفعكم بها حال كونها مسخرات الله الذي خلقها ودبرها كيف شاء أو لما خلقن له بإيجاده وتقديره أو لحكمه أو مصدر ميمي جمع لاختلاف الأنواع أي أنواعا من التسخير وما قيل من أن فيه إيذانا بالجواب عما عسى يقال أن المؤثر في تكوين النبات حركات الكواكب وأوضاعها بأن ذلك إن سلم فلا ريب في أنها أيضا أمور ممكنة الذات والصفات واقعة على بعض الوجوه الممكنة فلا بد لها من موجد مخصص مختار واجب الوجود دفعا للدور والتسلسل فمبناه حسبان ما ذكر أدلة على وجود الصانع تعالى وقدرته واختياره وأنت تدرى أن ليس الأمر كذلك فإنه ليس مما ينازع فيه الخصم ولا يتلعثم في قبوله قال تعالى ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون وقال تعالى ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله الآية وإنما ذلك أدلة التوحيد من حيث أن من هذا شأنه لا يتوهم أن يشاركه شيء في شيء فضلا عن أن يشاركه الجماد في الألوهية (إن في ذلك) أي فيما ذكر من التسخير المتعلق بما ذكر مجملا ومفصلا (لآيات) باهرة متكاثرة (لقوم يعقلون) وحيث كانت هذه الآثار العلوية متعددة ودلالة إما فيها من عظيم القدرة والعلم والحكمة على الوحدانية أظهر جمع الآيات وعلقت بمجرد العقل من غير حاجة إلى التأمل والتفكر ويجوز أن يكون المراد لقوم يعقلون ذلك فالمشار إليه حينئذ تعاجيب الدقائق المودعة في العلويات المدلول عليها بالتسخير التي لا يتصدى لمعرفتها إلا المهرة من أساطين علماء الحكمة ولا ريب في أن احتياجها إلى التفكر أكثر (وما ذرأ) عطف على قوله تعالى والنجوم رفعا ونصبا على أنه مفعول لجعل أي وما خلق (لكم في الأرض) من حيوان ونبات حال كونه (مختلفا ألوانه) أي أصنافه فإن اختلافها غالبا يكون باختلاف اللون مسخر لله تعالى أو لما خلق له من الخواص والأحوال والكيفيات أو جعل ذلك مختلف الألوان أي الأصناف لتتمتعوا من ذلك بأي صنف شئتم وقد عطف على ما قبله من المنصوبات وعقب بأن ذكر الخلق لهم مغن عن ذكر التسخير واعتذر بأن الأول لا يستلزم الثاني لزوما عقليا لجواز كون ما خلق لهم عزيز المرام صعب المنال وقيل هو منصوب بفعل مقدر أي خلق وأنبت على أن قوله مختلفا ألوانه حال من مفعوله (إن في ذلك) الذي ذكر من التسخيرات ونحوها (لآية) بينة الدلالة على أن من هذا شأنه واحد لا ند له ولا ضد (لقوم يذكرون) فإن ذلك غير محتاج إلا إلى تذكر ما عسى يغفل عنه من العلوم
102 الضرورية وأما ما يقال من أن اختلافها في الطباع والهيئات والمناظر ليس إلا بصنع صانع حكيم فمداره ما لو حنا به من حسبان ما ذكر دليلا على إثبات الصانع تعالى وقد عرفت حقيقة الحال فإن إيراد ما يدل على اتصافه سبحانه بما ذكر من صفات الكمال ليس بطريق الاستدلال عليه بل من المقدمات المسلمة جئ به للاستدلال به على ما يقتضيه ضرورة من وحدانيته تعالى واستحالة أن يشاركه شيء في الألوهية (وهو الذي سخر البحر) شروع في تعداد النعم المتعلقة بالبحر إثر تفصيل النعم المتعلقة بالبر حيوانا ونباتا أي جعله بحيث تتمكنون من الانتفاع به بالركوب والغوص والاصطياد (لتأكلوا منه لحما طريا) هو السمك والتعبير عنه باللحم مع كونه حيوانا للتلويح بانحصار الانتفاع به في الأكل ووصفه بالطراوة للإشعار بلطافته والتنبيه على وجوب المسارعة إلى أكله كيلا يتسارع إليه الفساد كما ينبئ عنه جعل البحر مبتدأ أكله وللإيذان بكمال قدرته تعالى في خلقه عذبا طريا في ماء زعاق ومن إطلاق اللحم عليه ذهب مالك والثوري أن من حلف لا يأكل اللحم حنث بأكله والجواب أن مبنى الإيمان العرف ولا ريب في أنه لا يفهم من اللحم عند الإطلاق ولذلك لو أمر خادمه بشراء اللحم فجاء بالسمك لم يكن ممتثلا بالأمر ألا يرى إلى أن الله تعالى سمى الكافر دابة حيث قال إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ولا يحنث بركوبه من حلف لا يركب دابة (وتستخرجوا منه حلية) كاللؤلؤ والمرجان (تلبسونها) عبر في مقام الامتنان عن لبس نسائهم بلبسهم لكونهن منهم أو لكون لبسهن لأجلهم (وترى الفلك) السفن (مواخر فيه) جواري فيه مقبلة ومدبرة ومعترضة بريح واحدة تشقه بحيزومها من المخر وهو شق الماء وقيل هو صوت جرى الفلك (ولتبتغوا) عطف على تستخرجوا وما عطف هو عليه وما بينهما اعتراض لتمهيد مبادئ الابتغاء ودفع توهم كونه باستخراج الحلية أو على علة محذوفة أي لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا ذكره ابن الأنباري أو متعلقة بفعل محذوف أي وفعل ذلك لتبتغوا (من فضله) من سعة رزقه بركوبها للتجارة (ولعلكم تشكرون) أي تعرفون حقوق نعمه الجليلة فتقومون بأدائها بالطاعة والتوحيد ولعل تخصيص هذه النعمة بالتعقيب بالشكر من حيث إن فيها قطعا لمسافة طويلة مع أحمال ثقيلة في مدة قليلة من غير مزاولة أسباب السفر بل من غير حركة أصلا مع أنها في تضاعيف المهالك وعدم توسيط الفوز بالمطلوب بين الابتغاء والشكر للإيذان باستغنائه عن التصريح به وبحصولهما معا (وألقي في الأرض ورأسي) أي جبالا ثوابت وقد مر تحقيقه في أول سورة الرعد (أن تميد بكم) كراهة أن تميل بكم وتضطرب أو لئلا تميد بكم فإن الأرض قبل أن تخلق فيها الجبال كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع وكان من حقها أن تتحرك بالإستدارة كالأفلاك أو تتحرك بأدنى سبب محرك فلما خلقت الجبال تفاوتت حافاتها وتوجهت الجبال
103 بثقلها نحو المركز فصارت كالأوتاد وقيل لما خلق الله تعالى الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة ما هي بمقر أحد على ظهرها فأصبحت وقد أرسيت بالجبال «وأنهارا» أي وجعل فيه أنهارا لأن في ألقى معنى الجعل «وسبلا لعلكم تهتدون» بها إلى مقاصدكم «وعلامات» معالم يستدل بها السابلة بالنهار من جبل ومنهل وريح وقد نقل أن جماعة يشمون التراب ويتعرفون به الطرقات «وبالنجم هم يهتدون» بالليل في البراري والبحار حيث لا علامة غيره والمراد بالنجم الجنس وقيل هو الثريا والفرقدان وبنات النعش والجدي وقرئ بضمتين وبضمة وسكون وهو جمع كرهن ورهن وقيل الأول بطريق حذف الواو من النجوم للتخفيف ولعل الضمير لقريش فإنهم كانوا كثيري التردد للتجارة مشهورين بالاهتداء بالنجوم في أسفارهم وصرف النظم عن سنن الخطاب وتقديم النجم وإقحام الضمير للتخصيص كأنه قيل وبالنجم خصوصا هؤلاء خصوصا يهتدون فالاعتبار بذلك والشكر عليه ألزم لهم وأوجب عليهم «أفمن يخلق» هذه المصنوعات العظيمة ويفعل هاتيك الأفاعيل البديعة أو يخلق كل شيء «كمن لا يخلق» شيئا أصلا وهو تبكيت للكفرة وإبطال لإشراكهم وعبادتهم للأصنام بإنكار ما يستلزمه ذلك من المشابهة بينها وبينه سبحانه وتعالى بعد تعداد ما يقتضي ذلك اقتضاء ظاهرا وتعقيب الهمزة بالفاء لتوجيه الإنكار إلى توهم المشابهة المذكورة على ما فصل من الأمور العظيمة الظاهرة الاختصاص به تعالى المعلومة كذلك فيما بينهم حسبما يؤذن به ما تلوناه من قوله تعالى ولئن سألتهم الآيتين والاقتصار على ذكر الخلق من بينها لكونه أعظمها وأظهرها واستتباعه إياها أو لكون كل منها خلقا مخصوصا أي أبعد ظهور اختصاصه تعالى بمبدئية هذه الشؤون الواضحة الدلالة على وحدانيته تعالى وتفرده بالألوهية واستبداده باستحقاق العبادة يتصور المشابهة بينه وبين ما هو بمعزل من ذلك بالمرة كما هو قضية إشراككم ومدارها وإن كان على تشبيه غير الخالق بالخالق لكن التشبيه حيث كان نسبة تقوم بالمنتسبين اختير ما عليه النظم الكريم مراعاة لحق سبق الملكة على العدم وتفاديا عن توسيط عدمها بينها وبين جزئياتها المفصلة قبلها وتنبيها على كمال قبح ما فعلوه من حيث إن ذلك ليس مجرد رفع الأصنام عن محلها بل هو حط لمنزلة الربوبية إلى مرتبة الجمادات ولا ريب في أنه أقبح من الأول والمراد بمن لا يخلق كل ما هذا شأنه كائنا ما كان والتعبير عنه بما يختص بالعقلاء للمشاكلة أو العقلاء خاصة ويعرف منه حال غيرهم لدلالة النص فإن من يخلق حيث لم يكن كمن لا يخلق وهو من جملة العقلاء فما ظنك بالجماد وأياما كان فدخول الأصنام في حكم عدم المماثلة والمشابهة إما بطريق الاندراج تحت الموصول العام وإما بطريق الانفهام بدلالة النص على الطريقة البرهانية لا بأنها هي المرادة بالموصول خاصة «أفلا تذكرون» أي ألا تلاحظون فلا تتذكرون ذلك فإنه لوضوحه بحيث لا يفتقر إلى شيء سوى التذكر
104 «وإن تعدوا نعمة الله» تذكير إجمالي لنعمه تعالى بعد تعداد طائفة منها وكان الظاهر إيراده عقيبها تكملة لها على طريقة قوله تعالى ويخلق مالا تعلمون ولعل فصل ما بينهما بقوله تعالى أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون للمبادرة إلى إلزام الحجة وإلقام الحجر إثر تفصيل ما فصل من الأفاعيل التي هي أدلة الوحدانية مع ما فيه من سر ستقف عليه ودلالتها عليها وإن لم تكن مقصورة على حيثية الخلق ضرورة ظهور دلالتها من حيثية الإنعام أيضا لكنها حيث كانت مستتبعات الحيثية الأولى استغنى عن التصريح بهائم بين حالها بطريق الإجمال أي إن تعدو نعمته الفائضة عليكم مما ذكر وما لم يذكر حسبما يعرب عنه قوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا «لا تحصوها» أي لا تطيقوا حصرها وضبط عددها ولو إجمالا فضلا عن القيام بشكرها قد خرجنا عن عهدة تحقيقه في سورة إبراهيم بفضل الله سبحانه «إن الله لغفور» حيث يستر ما فرط منكم من كفرانها والإخلال بالقيام بحقوقها ولا يعاجلكم بالعقوبة على ذلك «رحيم» حيث يفيضها عليكم مع استحقاقكم للقطع والحرمان بما تأتون وتذرون من أصناف الكفر التي من جملتها عدم الفرق بين الخالق وغيره وكل من ذلك نعمة وأيما نعمة فالجملة تعليل للحكم بعدم الإحصاء وتقديم وصف المغفرة على نعت الرحمة لتقدم التخلية على التحلية «والله يعلم ما تسرون» تضمرونه من العقائد والأعمال «وما تعلنون» أي تظهرونه منهما وحذف العائد لمراعاة الفواصل أي يستوي بالنسبة إلى علمه المحيط سركم وعلنكم وفيه من الوعيد والدلالة على اختصاصه سبحانه بنعوت الإلهية مالا يخفى وتقديم السر على العلن لما ذكرناه في سورة البقرة وسورة هود من تحقيق المساواة بين علمية المتعلقين بهما على أبلغ وجه كان علمه تعالى بالسر أقدم منه بالعلن أو لأن كل شيء يعلن فهو قبل ذلك مضمر في القلب فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى أقدم من تعلقه بحالته الثانية «والذين يدعون» شروع في تحقيق كون الأصنام بمعزل من استحقاق العبادة وتوضيحه بحيث لا يبقى فيه شائبة ريب بتعديد أوصافها وأحوالها المنافية لذلك منافاة ظاهرة وتلك الأحوال وإن كانت غنية عن البيان لكنها شرحت للتنبيه على كمال حماقة عبدتها وأنهم لا يعرفون ذلك إلا بالتصريح أي والآلهة الذين يعبدهم الكفار «من دون الله» سبحانه وقرئ على صيغة المبني للمفعول وعلى الخطاب «لا يخلقون شيئا» من الأشياء أصلا أي ليس من شأنهم ذلك ولما لم يكن بين نفي الخالقية وبين المخلوقية تلازم بحسب المفهوم وإن تلازما في الصدق أثبت لهم ذلك تصريحا فقيل «وهم يخلقون» أي شأنهم ومقتضى ذاتهم المخلوقية لأنها ذوات ممكنة مفتقرة في ماهياتها ووجوداتها إلى الموجد وبناء الفعل للمفعول لتحقيق التضاد والمقابلة بين ما أثبت لهم وبين ما نفي
105 عنهم من وصفي المخلوقية والخالقية وللإيذان بعدم الافتقار إلى بيان الفاعل لظهور اختصاص الفعل بفاعله جل جلاله ويجوز أن يجعل الخلق الثاني عبارة عن النحت والتصوير رعاية للمشاكلة بينه وبين الأول ومبالغة في كونها مصنوعين لعبدتهم وأعجز عنهم وإيذانا بكمال ركاكة عقولهم حيث أشركوا بخالقهم مخلوقهم وأما جعل الأول أيضا أيضا عبارة عن ذلك كما فعل فلا وجه له إذ القدرة على مثل ذلك الخلق ليست مما يدور عليه استحقاق العبادة أصلا ولما أن إثبات المخلوقية لهم غير مستدع لنفي الحياة عنهم لما أن بعض المخلوقين أحياء صرح بذلك فقيل «أموات» وهو خبر ثان للموصول لا للضمير كما قيل أو خبر مبتدأ محذوف وحيث كان بعض الأموات مما يعتريه الحياة سابقا أو لاحقا كأجساد الحيوان والنطف التي ينشئها الله تعالى حيوانا احترز عن ذلك فقيل «غير أحياء» أي لا يعتريها الحياة أصلا فهي أموات على الإطلاق وأما قوله تعالى «وما يشعرون أيان يبعثون» أي ما يشعر أولئك الآلهة أيان يبعث عبدتهم فعلى طريقة التهكم بهم لأن شعور الجماد بالأمور الظاهرة بديهي الاستحالة عند كل أحد فكيف بما لا يعلمه إلا العليم الخبير وفيه إيذان بأن البعث من لوازم التكليف وإن معرفة وقته مما لابد منه في الألوهية «إلهكم إله واحد» لا يشاركه شيء في شيء وهو تصريح بالمدعى وتمحيض للنتيجة غب إقامة الحجة «فالذين لا يؤمنون بالآخرة» وأحوالها التي من جملتها ما ذكر من البعث وما يعقبه من الجزاء المستلزم لعقوبتهم وذلتهم «قلوبهم منكرة» للوحدانية جاحدة لها أو للآيات الدالة عليها «وهم مستكبرون» عن الاعتراف بها أو عن الآيات الدالة عليها والفاء للإيذان بأن إصرارهم على الإنكار واستمرارهم على الاستكبار وقع موقع النتيجة للدلائل الظاهرة والبراهين الباهرة والمعنى أنه قد ثبت بما قرر من الحجج والبينات اختصاص الإلهية به سبحانه فكان من نتيجة ذلك إصرارهم على ما ذكر من الإنكار والاستكبار وبناء الحكم المذكور على الموصول للإشعار بكونه معللا بما في حيز الصلة فإن الكفر بالآخرة وبما فيها من البعث والجزاء المتنوع إلى الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية يؤدي إلى قصر النظر على العاجل والإعراض عن الدلائل السمعية والعقلية الموجب لإنكارها وإنكار مؤداها والاستكبار عن اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتصديقه وأما الإيمان بها وبما فيها فيدعو لا محالة إلى التأمل في الآيات والدلائل رغبة ورهبة فيورث ذلك يقينا بالوحدانية وخضوعا لأمر الله تعالى «لا جرم» أي حقا وقد مر تحقيقه في سورة هود «أن الله يعلم ما يسرون» من إنكار قلوبهم «وما يعلنون» من استكبارهم وقولهم للقرآن أساطير الأولين وغير ذلك من قبائحهم فيجازيهم بذلك «إنه لا يحب المستكبرين» تعليل لما تضمنه الكلام من الوعيد أي لا يحب المستكبرين عن التوحيد أو عن الآيات الدالة عليها أو
106 لا يحب جنس المستكبرين فكيف بمن استكبر عما ذكر «وإذا قيل لهم» أي لأولئك المنكرين المستكبرين وهو بيان لإضلالهم غب بيان ضلالهم «ماذا أنزل ربكم» القائل الوافدون عليهم أو المسلمون أو بعض منهم على طريق التهكم وماذا منصوب بما بعده أو مرفوع أي أي شيء أنزل أو ما الذي أنزله «قالوا أساطير الأولين» أي ما تدعون نزوله والمنزل بطريق السخرية أحاديث الأولين وأباطيلهم وليس من الإنزال في شيء قيل هؤلاء القائلون هم المقتسمون الذين اقتسموا مداخل مكة ينفرون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سؤال وفود الحاج عما نزل عليه صلى الله عليه وسلم «ليحملوا» متعلق بقالوا أي قالوا ما قالوا ليحملوا «أوزارهم» الخاصة بهم وهي أوزار ضلالهم «كاملة» لم يكفر منها شيء بنكبة أصابتهم في الدنيا كما يكفر بها أوزار المؤمنين «يوم القيامة» ظرف ليحملوا «ومن أوزار الذين يضلونهم» وبعض أوزار من ضل بإضلالهم وهو وزر الإضلال لأنهما شريكان هذا يضله وهذا يطاوعه فيتحاملان الوزر واللام للتعليل في نفس الأمر من غير أن يكون غرضا وصيغة الاستقبال الدلالة على استمرار الإضلال أو باعتبار حال قولهم لا حال الحمل «بغير علم» حال من الفاعل أي يضلونهم غير عالمين بأن ما يدعون إليه طريق الضلال وأما حمله على معنى غير عالمين بأنهم يحملون يوم القيامة أوزار الضلال والإضلال على أن يكون العامل في الحال قالوا وتأييده بما سيأتي م قوله تعالى وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون من حيث إن من حمل ما ذكر من أوزار الضلال والإضلال من قبيل إتيان العذاب من حيث لا يشعرون فيرده أن الحمل المذكور إنما هو يوم القيامة والعذاب المذكور إنما هو العذاب الدنيوي كما ستقف عليه أوحال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال وفائدة التقييد بها الإشعار بأن مكرهم لا يروج عند ذي لب وإنما يتبعهم الأغبياء والجهلة والتنبيه على أن جهلهم ذلك لا يكون عذرا إذ كان يجب عليهم أن يبحثوا ويميزوا بين المحق الحقيق بالاتباع وبين المبطل «ألا ساء ما يزرون» أي بئس شيئا يزرونه ما ذكر «قد مكر الذين من قبلهم» وعيد لهم برجوع غائلة مكرهم إلى أنفسهم كدأب من قبلهم من الأمم الخالية الذين أصابهم ما أصابهم من العذاب العاجل أي قدسوا منصوبات ليمكروا بها رسل الله تعالى «فأتى الله» أي أمر ه وحكمه «بنيانهم» وقرئ بيتهم وبيوتهم «من القواعد» وهي الأساطين التي تعمده أو أساسه فضعضعت أركانه «فخر عليهم السقف من فوقهم» أي سقط عليهم سقف بنيانهم إذ لا يتصور له القيام
107 بعد تهدم القواعد شبهت حال أولئك الماكرين في تسويتهم المكايد والمنصوبات التي أرادوا بها الإيقاع برسل الله سبحانه وفي إبطاله تعالى تلك الحيل والمكايد وجعله إياها أسبابا لهلاكهم بحال قوم بنوا بنيانا وعمدوه بالأساطين فأتى ذلك من قبل أساطينه بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف فهلكوا وقرئ فخر عليهم السقف بضمتين «وأتاهم العذاب» أي الهلاك والدمار «من حيث لا يشعرون» بإتيانه منه بل يتوقعون إتيان مقابله مما يريدون ويشتهون والمعنى أن هؤلاء الماكرين القائلين للقرآن العظيم أساطير الأولين سيأتيهم من العذاب مثل ما أتاهم وهم لا يحتسبون والمراد به العذاب العاجل لقوله سبحانه «ثم يوم القيامة يخزيهم» فإنه عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي هذا الذي فهم من التمثيل من عذاب هؤلاء أو ما هو أعم منه ومما ذكر من عذاب أولئك جزاؤهم في الدنيا ويوم القيامة يخزيهم أي يذلهم بعذاب الخزي على رؤس الأشهاد وأصل الخزي ذل يستحي منه وثم للإيماء إلى ما بين الجزاءين من التفاوت مع ما يدل عليه من التراخي الزماني وتغيير السبك بتقديم الظرف ليس لقصر الخزي على يوم القيامة كما هو المتبادر من تقدير الظرف على الفعل بل لأن الإخبار بجزائهم في الدنيا مؤذن بأن لهم جزاء أخرويا فتقي النفس مترقبة إلى وروده سائلة عنه بأنه ماذا مع تيقنها بأنه في الآخرة فسيق الكلام على وجه يؤذن بأن المقصود بالذكر إخزاؤهم لا كونه يوم القيامة والضمير إما للمفترين في حق القرآن الكريم أولهم ولمن مثلوا بهم من الماكرين كما أشير إليه وتخصيصه بهم يأباه السباق والسياق كما ستقف عليه «ويقول» لهم تفضيحا وتوبيخا فهو الخ بيان للإخزاء «أين شركائي» أضافهم إليه سبحانه حكاية لإضافتهم الكاذبة ففيه توبيخ إثر توبيخ مع الاستهزاء بهم «الذين كنتم تشاقون فيهم» أي تخاصمون الأنبياء والمؤمنين في شأنهم بأنهم شركاء حقا حين بينوا لكم بطلانها والمراد بالاستفهام استحضارها للشفاعة أو المدافعة على طريقة الاستهزاء والتبكيت والاستفسار عن مكانهم لا يوجب غيبتهم حقيقة حتى يعتذر بأنهم يجوز أن يحال بينهم وبين عبدتهم حينئذ ليتفقدوها في ساعة علقوا بها الرجاء فيها أو بأنهم لما لم ينفعوهم فكأنهم غيب بل يكفي في ذلك عدم حضورهم بالعنوان الذي كانوا يزعمون أنهم متصفون من عنوان الإلهية فليس هناك شركاء ولا أماكنها على أن قوله ليتفقدوا ليس بسديد فإنه قد تبين عندهم الأمر حينئذ فرجعوا عن ذلك الزعم الباطل فكيف يتصور منهم التفقد وقرئ بكسر النون أي تشاقونني على أن مشاقة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والمؤمنين لا سيما في شأن متعلق به سبحانه مشاقة له عز وجل (قال الذين أوتوا العلم) من أهل الموقف وهم الأنبياء والمؤمنون الذين أوتوا علما بدلائل التوحيد وكانوا يدعونهم في الدنيا إلى التوحيد فيجادلونهم ويتكبرون عليهم أي توبيخا لهم وإظهار للشماتة بهم وتقريرا لما كانوا يعظونهم وتحقيقا لما أوعدوهم به وإيثار صيغة الماضي الدلالة على تحققه وتحتم وقوعه حسبما هو
108 المعتاد في اخباره سبحانه وتعالى كقوله ونادى أصحاب الجنة ونادى أصحاب الأعراف «إن الخزي» الفضيحة والذل والهوان «اليوم» منصوب بالخزي على رأي من يرى إعمال المصدر المصدر باللام أو بالاستقرار في الظرف وفيه فصل بين العامل والمعمول بالمعطوف إلا أنه مغتفر في الظروف وإبراده للإشعار بأنهم كانوا قبل ذلك في عزة وشقاق «والسوء» العذاب «على الكافرين» بالله تعالى وبآياته ورسله «الذين تتوفاهم الملائكة» بتأنيث الفعل وقرئ بتذكيره وبإدغام التاء في التاء والعدول إلى صيغة المضارع لاستحضار صورة توفيهم إياهم لما فيها من الهول والموصول في محل الجر على أنه نعت للكافرين أو بدل منه أوفى محل النصب أو الرفع على الذم وفائدته تخصيص الخزي والسوء بمن استمر كفره إلى حين الموت دون من آمن منهم ولو في آخر عمره أي على الكافرين المستمرين على الكفر إلى أن يتوفاهم الملائكة «ظالمي أنفسهم» أي حال كونهم مستمرين على الكفر فإنه ظلم منهم لأنفسهم وأي ظلم حيث عرضوها للعذاب المخلد وبدلوا فطرة الله تبديلا «فألقوا السلم» أي فيلقون والعدول إلى صيغة الماضي الدلالة على تحقق الوقوع وهو عطف على قوله تعالى ويقول أين شركائي وما بينهما جملة اعتراضية جيء بها تحقيقا لما حاق بهم من الخزي على رؤوس الأشهاد أي فيسالمون ويتركون المشاقة وينزلون عما كانوا عليه في الدنيا من الكبر وشدة الشكيمة قائلين «ما كنا نعمل» في الدنيا «من سوء» أي من شرك قالوه منكرين لصدوره عنهم كقولهم والله ربنا ما كنا مشركين وإنما عبر واعنه بالسوء اعترافا بكونه سيئا لا إنكارا لكونه كذلك مع الاعتراف بصدوره عنهم ويجوز أن يكون تفسيرا للسلم على أن يكون المراد به الكلام الدال عليه وعلى التقديرين فهو جواب عن قوله سبحانه أين شركائي في سورة الأنعام لا عن قول أولى العلم ادعاء لعدم استحقاقهم لما دهمهم من الخزي والسوء «بلى» رد عليهم من قبل أولى العلم وإثبات لما نفوه أي بلى كنتم تعملون ما تعملون «إن الله عليم بما كنتم تعملون» فهو يجازيكم عليه وهذا أوانه «فأدخلوا أبواب جهنم» أي كل صنف بابه المعدلة وقيل أبوابها أصناف عذابها فالدخول عبارة عن الملابسة والمقاساة «خالدين فيها» إن أريد بالدخول حدوثه فالحال مقدرة وإن أريد مطلق الكون فيها فهي مقارنة «فلبئس مثوى المتكبرين» عن التوحيد كما قال تعالى قلوبهم منكرة وهم مستكبرون وذكرهم بعنوان التكبر للإشعار بعليته لثوائهم فيها والمخصوص بالذم محذوف أي جهنم وتأويل قولهم ما كنا نعمل من سوء بأنا ما كنا عاملين ذلك في اعتقادنا روما للمحافظة على أن لا كذب ثمة يرده الرد المذكور وما فيه سورة الأنعام من قوله تعالى انظر كيف كذبوا على أنفسهم
109 «وقيل للذين اتقوا» أي المؤمنين وصفوا بالتقوى إشعارا بأن ما صدر عنهم من الجواب ناشئ عن التقوى «ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا» سلكوا في الجواب مسلك السؤال من غير تلعثم ولا تغيير في الصورة والمعنى أي أنزل خيرا فإنه جواب مطابق للسؤال ولسبك الواقع في نفس الأمر مضمونا وأما الكفرة فإنهم خذلهم الله تعالى كما غيروا الجواب عن نهج الحق الواقع الذي ليس له من دافع غيروا صورته وعدلوا بها عن سنن السؤال حيث رفعوا الأساطير روما لما مر من إنكار النزول روى أن أحياء العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا جاء الوافد كفه المقتسمون وأمروه بالانصراف وقالوا إن لم تلفه كان خيرا لك فيقول أنا شر وافد إن رجعت إلى قومي دون أن أستطلع أمر محمد وأراه فيلقى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فيخبرونه بحقيقة الحال فهم الذين قالوا خيرا «للذين أحسنوا» أي أعمالهم أو فعلوا الإحسان «في هذه» الدار «الدنيا حسنة» أي مثوبة حسنة مكافأة فيها «ولدار الآخرة» أي مثوبتهم فيها «خير» مما أوتوا في الدنيا من المثوبة أو خير على الإطلاق فيجوز إسناد الخيرية إلى نفس دار الآخرة «ولنعم دار المتقين» أي دار الآخرة حذف لدلالة ما سبق عليه وهذا كلام مبتدأ مدح الله تعالى به المتقين وعد جوابهم المحكى من جملة إحسانهم ووعدهم بذلك ثوابي الدنيا والآخرة فلا محل له من الإعراب أو بدل من خيرا أو تفسير له أي انزل خيرا هو هذا الكلام الجامع قالوه ترغيبا للسائل «جنات عدن» خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف أي لهم جنات ويجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح «يدخلونها» صفة لجنات على تقدير تنكير عدن وكذلك «تجري من تحتها الأنهار» أو كلاهما حال على تقدير علميته «لهم فيها» في تلك الجنات «ما يشاؤون» الظرف الأول خبر لما والثاني حال منه والعامل ما في الأول أو متعلق به أي حاصل لهم فيها ما يشاءون من أنواع المشتهيات وتقديمه للاحتراز عن توهم تعلقه بالمشيئة أو لما مر مرارا من أن تأخير ما حقه التقديم يوجب ترقب النفس إليه فيتمكن عند وروده عليها فضل تمكن «كذلك» مثل ذلك الجزاء الأوفى «يجزي الله المتقين» اللام للجنس أي كل من يتقي من الشرك والمعاصي ويدخل فيه المتقون المذكورون دخولا أوليا ويكون فيه بعث لغيرهم على التقوى أو للعهد فيكون فيه تحسير للكفرة «الذين تتوفاهم الملائكة» نعت للمتقين وقوله تعالى «طيبين» أي طاهرين عن دنس الظلم لأنفسهم حال من الضمير
110 وفائدته الإيذان بأن ملاك الأمر في التقوى هو الطهارة عما ذكر إلى وقت توفيهم ففيه حث للمؤمنين على الاستمرار على ذلك ولغيرهم على تحصيله وقيل فرحين طيبي النفوس ببشارة الملائكة إياهم بالجنة أو طيبين بقبض أرواحهم لتوجه نفسهم بالكلية إلى جناب القدس «يقولون» حال من الملائكة أي قائلين لهم «سلام عليكم» قال القرظي رحمه الله إذا استدعيت نفس المؤمن جاءه ملك الموت عليه السلام فقال السلام عليك يا ولي الله الله تعالى يقرأ عليك السلام وبشره بالجنة «ادخلوا الجنة» اللام للعهد أي جنات عدن الخ لذلك جردت عن النعت والمراد دخولهم لها في وقته فإن ذلك بشارة عظيمة وإن تراخي المبشر به لا دخول القبر الذي هو روضة من رياضها إذ ليس في البشارة به ما في البشارة بدخول نفس الجنة «بما كنتم تعملون» بسبب ثباتكم على التقوى والطاعة أو بالذي كنتم تعملونه من ذلك وقيل المراد بالتوفي التوفي للحشر لأن الأمر بالدخول حينئذ يتحقق «هل ينظرون» أي ما ينتظر كفار مكة المار ذكرهم «إلا أن تأتيهم الملائكة» لقبض أرواحهم بالعذاب جعلوا منتظرين لذلك وشتان بينهم وبين انتظاره لا لأنه يلحقهم البتة لحوق الأمر المنتظر بل لمباشرتهم لأسبابه الموجبة المؤدية إليه فكأنهم يقصدون إتيانه ويترصدون لوروده وقرئ بتذكير الفصل «أو يأتي أمر ربك» التعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم إشعار بأن إتيانه لطف به صلى الله عليه وسلم وإن كان عذابا عليهم والمراد بالأمر العذاب الدنيوي لا القيامة لكن لا لأن انتظارها يجامع انتظار إتيان الملائكة فلا يلائمه العطف بأو لأنها ليست نصافى العناد إذ يجوز أن يعتبر منع الخلو ويراد بإيرادها كفاية كل واحد من الأمرين في عذابهم بل لأن قوله تعالى فيما سيأتي ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم الآية صريح في أن المراد به ما أصابهم من العذاب الدنيوي «كذلك» أي مثل فعل هؤلاء من الشرك والظلم والتكذيب والاستهزاء «فعل الذين» خلوا «من قبلهم» من الأمم «وما ظلمهم الله» بما سيتلى من عذابهم «ولكن كانوا» بما كانوا مستمرين عليه من القبائح الموجبة لذلك «أنفسهم يظلمون» كان الظاهر أن يقال ولكن كانوا هم الظالمين كما في سورة الزخرف لكنه أوثر ما عليه النظم الكريم لإفادة أن غائلة ظلمهم آيلة إليهم وعاقبته مقصورة عليهم مع استلزام اقتصار ظلم كل أحد على نفسه من حيث الوقوع اقتصاره عليه من حيث الصدور وقد مر تحقيقه في سورة يونس «فأصابهم» عطف على قوله تعالى فعل الذين من قبلهم وما بينهما اعتراض لبيان أن فعلهم ذلك ظلم لأنفسهم «سيئات ما عملوا» أي أجزية أعمالهم السيئة على طريقة تسمية المسبب باسم سببه إيذانا بفظاعته لا على حذف المضاف فإنه يوهم أن لهم أعمالا غير سيئاتهم «وحاق بهم» أي أحاط بهم من الحيق الذي هو إحاطة الشر وهو أبلغ من الإصابة وأفظع «ما كانوا به يستهزؤون» من العذاب
111 «وقال الذين أشركوا» أي أهل مكة وهو بيان لفن آخر من كفرهم والعدول عن الإضمار إلى الموصول لتقريعهم بما في حيز الصلة وذمهم بذلك من أول الأمر «لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء» أي لو شاء عدم عبادتنا لشيء غيره كما تقول لما عبدنا ذلك «نحن ولا آباؤنا» الذي نقتدي بهم في ديننا «ولا حرمنا من دونه من شيء» من السوائب والبحائر وغيرها وإنما قالوا ذلك تكذيبا للرسول صلى الله عليه وسلم وطعنا في الرسالة رأسا متمسكين بأن ما شاء الله تعالى يجب وما لم يشأ يمتنع فلو أنه شاء أن نوحده ولا نشرك به شيئا ولا نحرم مما حرمنا شيئا كما يقول الرسل وينقلونه من جهة الله عز وجل لكان الأمر كما شاء من التوحيد ونفي الإشراك وما يتبعهما وحيث لم يكن كذلك ثبت أنه لم يشأ شيئا من ذلك وإنما يقوله الرسل من تلقاء أنفسهم فأجيب عنه بقوله عز وجل «كذلك» أي مثل ذلك الفعل الشنيع «فعل الذين من قبلهم» من الأمم أي أشركوا بالله وحرموا حله وردوا رسله وجادلوهم بالباطل حين نبهوهم على الخطأ وهدوهم إلى الحق «فهل على الرسل» الذين يبلغون رسالات الله وعزائم أمره ونهيه «إلا البلاغ المبين» أي ليست وظيفتهم إلا تبليغ الرسالة تبليغا واضحا أو موضحا وإبانة طريق الحق وإظهار أحكام الوحي الذي من جملتها تحتم تعلق مشيئة الله تعالى باهتداء من صرف قدرته واختباره إلى تحصيل الحق لقوله تعالى والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وأما إلجاؤهم إلى ذلك وتنفيذ قولهم عليهم شاءوا أو أبواكما هو مقتضى استدلالهم فليس ذلك من وظيفتهم ولا من الحكمة التي عليها يدور أمر التكليف في شيء حتى يستدل بعدم ظهور آثاره على عدم حقيقة الرسل أو على عدم تعلق مشيئته تعالى بذلك فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من أفعال العباد لابد في تعلق مشيئته تعالى بذلك فإن ما يترتب عليه الثواب والعقاب من أفعال العباد لابد في تعلق مشيئته تعالى بوقوعه من مباشرتهم الاختيارية له وصرف اختيارهم الجزئي إلى تحصيله وإلا لكان الثواب والعقاب اضطراريين فالفاء للتعليل كأنه قيل كذلك فعل أسلافهم وذلك باطل فإن الرسل ليس شأنهم إلا تبليغ أوامر الله تعالى ونواهيه لا تحقيق مضمونهما وإجراء موجبهما على الناس قسرا وإلجاء وإبراد كلمة على للإيذان بأنهم في ذلك مأمورون أو بأن ما يبلغونه حق للناس عليهم إيفاؤه وبهذا ظهر أن حمل قولهم لو شاء الله الخ على الاستهزاء لا يلائم الجواب والله تعالى أعلم بالصواب «ولقد بعثنا في كل أمة رسولا» تحقيق لكيفية تعلق مشيئته تعالى بأفعال العباد بعد بيان أن الإلجاء ليس من وظائف الرسالة ولا من باب المشيئة المتعلقة بما يدور عليه الثواب والعقاب من الأفعال الاختيارية لهم أي بعثنا في كل أمة من الأمم الخالية رسولا خاصة بهم «أن اعبدوا الله» يجوز أن تكون أن مفسرة لما في البعث من معنى القول وأن تكون مصدرية أي بعثنا بأن اعبدوا الله حده «واجتنبوا
112 الطاغوت» هو الشيطان وكل ما يدعو إلى الضلالة «فمنهم» أي من تلك الأمم والفاء فصيحة أي فبلغوا ما بعثوا به من الأمر بعبادة الله وحده واجتناب الطاغوت فتفرقوا فمنهم «من هدى الله» إلى الحق الذي هو عبادته واجتناب الطاغوت بعد صرف قدرتهم واختيارهم الجزئي إلى تحصيله «ومنهم من حقت عليه الضلالة» أي وجبت وثبتت إلى حين الموت لعناده وإصراره عليها وعدم صرف قدرته إلى تحصيل الحق وتغيير الأسلوب للإشعار بأن ذلك لسوء اختيارهم كقوله تعالى وإذا مرضت فهو يشفين فلم يكن كل من مشيئة الهداية وعدمها إلا حسبما حصل منهم من التوجه إلى الحق وعدمه إلا بطريق القسر والإلجاء حتى يستدل بعدمهما على عدم تعلق مشيئته تعالى بعبادتهم له تعالى وحده «فسيروا» يا معشر قريش «في الأرض فانظروا» في أكنافها «كيف كان عاقبة المكذبين» من عاد وثمود ومن سار سيرتهم ممن حقت عليه الضلالة لعلكم تعتبرون حين تشاهدون في منازلهم وديارهم آثار الهلاك والعذاب وترتيب الأمر بالسير على مجرد الإخبار بثبوت الضلالة عليهم من غير إخبار بحلول العذاب للإيذان بأنه غني عن البيان وأن ليس الخبر كالعيان وترتيب النظر على السير لما أنه بعده وأن ملاك الأمر في تلك العاقبة هو التكذيب والتعلل بأنه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء «إن تحرص» خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقرئ بفتح الراء وهي لغية «على هداهم» أي إن تطلب هدايتهم بجهدك «فإن الله لا يهدي من يضل» أي فاعلم أنه تعالى لا يخلق الهداية جبرا وقسرا فيمن يخلق فيه الضلالة بسوء اختياره والمراد به قريش وإنما وضع الموصول موضع الضمير للتنصيص على أنهم ممن حقت عليه الضلالة وللإشعار بعلة الحكم ويجوز أن يكون المذكور علة للجزاء المحذوف أي إن تحرص على هداهم فلست بقادر على ذلك لأن الله لا يهدي من يضله وهؤلاء من جملتهم وقرئ لا يهدي على بناء المفعول أي لا يقدر أحد على هداية من يضله الله تعالى وقرئ لا يهدي بفتح الهاء وإدغام تاء يهتدي في الدال ويجوز أن يكون يهدي بمعنى يهتدي وقرئ يضل بفتح الياء وقرئ لا هادي لمن يضل ولمن أضل «وما لهم من ناصرين» ينصرونهم في الهداية أو يدفعون العذاب عنهم وصيغة الجمع في الناصرين باعتبار الجمعية في الضمير فإن مقابلة الجمع بالجمع يقتضي انقسام الآحاد إلى الآحاد لا لأن المراد نفي طائفة من الناصرين من كل منهم «وأقسموا بالله» شروع في بيان فن آخر من أباطيلهم وهو إنكارهم البعث «جهد أيمانهم» مصدر في موقع الحال أي جاهدين في أيمانهم «لا يبعث الله من يموت» ولقد رد الله تعالى عليهم أبلغ رد بقوله الحق «بلى» أي بلى يبعثهم «وعدا» مصدر مؤكد لما دل عليه بلى فإن ذلك موعد من الله سبحانه أو المحذوف أي وعد بذلك وعدا «عليه» صفة لوعد أي وعدا ثابتا عليه
113 إنجازه لامتناع الخلف في وعده أو لأن البعث من مقتضيات الحكمة «حقا» صفة أخرى له أو نصب على المصدرية أي حق حقا «ولكن أكثر الناس» لجهلهم بشؤون الله عز شأنه من العلم والقدرة والحكمة وغيرها من صفات الكمال وبما يجوز عليه وما لا يجوز وعدم وقوفهم على سر التكوين والغاية القصوى منه وعلى أن البعث مما يقتضيه الحكمة التي جرت عادته سبحانه بمراعاتها «لا يعلمون» أنه يبعثهم فيبتون القول بعدمه أو أنه وعد عليه حق فيكذبونه قائلين لقد وعدنا نحن وآباؤنا هذا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين «ليبين لهم» غاية لما دل عليه بلى من البعث والضمير لمن يموت إذ التبيين يعم المؤمنين أيضا فإنهم وإن كانوا عالمين بذلك لكنه عند معاينة حقيقة الحال يتضح الأمر فيصل علمهم إلى مرتبة عين اليقين أي يبعثهم ليبين لهم بذلك وبما يحصل لهم من مشاهدة الأحوال كما هي ومعاينتها بصورها الحقيقية الشأن «الذي يختلفون فيه» من الحق المنتظم لجميع ما خالفوه مما جاء به الشرع المبين ويدخل فيه البعث دخولا أوليا «وليعلم الذين كفروا» بالله سبحانه بالإشراك وإنكار البعث وتكذيب وعده الحق «أنهم كانوا كاذبين» في كل ما يقولون لا سيما في قولهم لا يبعث الله من يموت والتعبير عن الحق بالموصول للدلالة على فخامته وللإشعار بعلية ما ذكر في حيز الصلة للتبيين وما عطف عليه وجعلهما غاية للبعث المشار إليه باعتبار وروده في معرض الرد على المخالفين وإبطال مقالة المعاندين المستدعى للتعرض لما يردعهم عن المخالفة ويلجئهم إلى الإذعان للحق فإن الكفرة إذا علموا أن تحقيق البعث إذا كان لتبيين أنه حق وليعلموا أنهم كاذبون في إنكاره كان ذلك أزجر لهم عن إنكاره وأدعى إلى الاعتراف به ضرورة أنه يدل على صدق العزيمة على تحقيقه كما تقول لمن ينكر أنك تصلي لأصلين رغما لأنفك وإظهار لكذبك ولأن تكرر الغايات أدل على وقوع الفعل المغيابها وإلا فالغاية الأصلية للبعث باعتبار ذاته إنما هو الجزاء الذي هو الغاية القصوى للخلق المغيا بمعرفته عز وجل وعبادته وإنما لم يذكر ذلك لتكرار ذكره في مواضع أخر وشهرته وإنما لم يدرج علم الكفار بكذبهم تحت التبيين بأن يقال وإن الذين كفروا كانوا كاذبين بل جئ بصيغة العلم لأن ذلك ليس مما تعلق به التبيين الذي هو عبارة عن إظهار ما كان مبهما قبل ذلك بأن يخبر به فيختلف فيه كالبعث الذي نطق به القرآن فاختلف فيه المختلفون وأما كذب الكافرين فليس من هذا القبيل فما يتعلق به علم ضروري حاصل لهم من قبل أنفسهم وقد مر تحقيقه في سورة التوبة عند قوله تعالى حتى يتبين لك الذين صدقوا وإنما خص الإسناد بهم حيث لم يقل وليعلموا أن الكافرين الآية لأن علم المؤمنين بذلك حاصل قبل ذلك أيضا «إنما قولنا» استئناف لبيان كيفية التكوين على الإطلاق إبداء وإعادة بعد التنبيه على إنية البعث ومنه يظهر كيفيته فما كافة وقولنا مبتدأ وقوله «لشيء» أي أي شيء كان مما عزو هان متعلق به على أن اللام للتبليغ كهي في قولك قلت له قم فقام وجعلها الزجاج سببية أي لأجل شيء وليس بواضح والتعبير عنه بذلك باعتبار وجوده عند تعلق مشيئته تعالى به لا أنه كان شيئا
114 قبل ذلك «إذا أردناه» ظرف لقولنا أي وقت إرادتنا لوجوده «أن نقول له كن» خبر للمبتدأ «فيكون» إما عطف على مقدر يفصح عنه الفاء وينسحب عليه الكلام أي فنقول ذلك فيكون كقوله تعالى إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإما جواب لشرط محذوف أي فإذا قلنا ذلك فهو يكون وليس هناك قول ولا مقول له ولا أمر ولا مأمور حتى يقال إنه يلزم منه أحد المحالين إما خطاب المعدوم أو تحصيل الحاصل أو يقال إنما يستدعيه انحصار قوله تعالى كن وليس يلزم منه انحصار أسباب التكوين فيه كما يفيده قوله تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فإن المراد بالأمر هو الشأن الشامل للقول والفعل ومن ضرورة انحصاره في كلمة كن انحصار أسبابه على الإطلاق فيه بل إنما هو تمثيل لسهولة تأتي المقدورات حسب تعلق مشيئته تعالى بها وتصوير لسرعة حدوثها بما هو علم في ذلك من طاعة المأمور المطيع لأمر الآمر المطاع فالمعنى إنما إيجادنا لشيء عند تعلق مشيئتنا به أن نوجده في أسرع ما يكون ولما عبر عنه بالأمر الذي هو قول مخصوص وجب أن يعبر عن مطلق الإيجاد بالقول المطلق فتأمل وفي الآية الكريمة من الفخامة والجزالة ما يحار فيه العقول والألباب وقرئ بنصب يكون عطفا على نقول أو تشبيها له بجواب الأمر «والذين هاجروا في الله» أي في شأن الله تعالى ورضاه وفي حقه ولوجهه «من بعد ما ظلموا» ولعلهم الذين ظلمهم أهل مكة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخرجوهم من ديارهم فهاجروا إلى الحبشة ثم بوأهم الله تعالى المدينة حسبما وعد بقوله سبحانه «لنبوئنهم في الدنيا حسنة» أي مباءة حسنة أو تبوئة حسنة كما قال قتادة وهو الأنسب بما هو المشهور من كون السورة غير ثلاث آيات من آخرها مكية وأما ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما من أنها نزلت في صهيب وبلال وعمار وخباب وعايس وجبير وأبي جندل بن سهيل أخذهم المشركون فجعلوا يعذبونهم ليردوهم عن الإسلام فأما صهيب فقال لهم أنا رجل كبير إن كنت معكم لم أنفعكم وإن كنت عليكم لم أضركم فافتدى منهم بماله وهاجر فلما رآه أبو بكر رضي الله عنه قال ربح البيع يا صهيب وقال عمر رضي الله عنه نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه فإنما يناسب ما حكى عن الأصم من كون كل السورة مدنية وما نقل عن قتادة من كون هذه الآية إلى آخر السورة مدنية فيحمل ما نقلناه عنه من نزول الآية في أصحاب الهجرتين على أن يكون نزولها بالمدينة بين الهجرتين وأما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من جملتهم فلا يساعده نظم التنزيل ولا شأنه الجليل وقرئ لنثوينهم ومعناه إثواءة حسنة أو لننزلنهم في الدنيا منزلة حسنة وهي الغلبة على من ظلمهم من أهل مكة وعلى العرب قاطبة وأهل الشرق والغرب كافة «ولأجر الآخرة» أي أجر أعمالهم المذكورة في الآخرة «أكبر» مما يعجل لهم في الدنيا وعن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له خذ بارك الله تعالى لك فيه هذا ما وعدك الله تعالى في الدنيا وما ادخر في الآخرة أفضل «لو كانوا يعلمون» الضمير للكفار أي لو علموا أن الله تعالى يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم في الدين وقيل للمهاجرين
115 أي لو علموا ذلك لزادوا في الاجتهاد أو لما تألموا لما أصابهم من المهاجرة وشدائدها «الذين صبروا» على الشدائد من أذية الكفار ومفارقة الأهل والوطن وغير ذلك ومحله النصب أو الرفع على المدح «وعلى ربهم» خاصة «يتوكلون» منقطعين إليه تعالى معرضين عما سواه مفوضين إليه الأمر كله والجملة إما معطوفة على الصلة وتقديم الجار والمجرور للدلالة على قصر التوكل على الله تعالى وصيغة الاستقبال للدلالة على دوام التوكل أو حال من ضمير صبروا «وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم» وقرئ بالياء مبنيا للمفعول وهو رد لقريش حين قالوا الله أجل من أن يكون له رسول من البشر كما هو مبني قولهم لو شاء الله ما عبدنا الخ أي جرت السنة الإلهية حسبما اقتضته الحكمة بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرا يوحى إليهم بواسطة الملك أوامره ونواهيه ليبلغوها الناس ولما كان المقصود من الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنبيه الكفار على مضمونه صرف الخطاب إليهم فقيل «فاسألوا أهل الذكر» أي أهل الكتاب أو علماء الأخبار أو كل من يذكر بعلم وتحقيق ليعلموكم ذلك «إن كنتم لا تعلمون» حذف جوابه لدلالة ما قبله عليه وفيه دلالة على أنه لم يرسل للدعوة العامة ملكا وقوله تعالى جاعل الملائكة رسلا معناه رسلا إلى الملائكة أو إلى الرسل ولا امرأة ولا صبيا ولا ينافيه نبوة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو في المهد لأنها أعم من الرسالة وإشارة إلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم «بالبينات والزبر» بالمعجزات والكتب والباء متعلقة بمقدر وقع جوابا عن سؤال من قال بم أرسلوا فقيل أرسلوا بالبينات والزبر أو بما أرسلنا داخلا تحت الاستثناء مع رجالا عند من يجوزه أي ما أرسلنا إلا رجالا بالبينات كقولك ما ضربت إلا زيدا بالسوط أو على نية التقديم قبل أداة الاستثناء أي ما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالا عند من يجوز تأخر صلة ما قبل إلا إلى ما بعده أو بما وقع صفة للمستثنى أي إلا رجالا ملتبسين بالبينات أو بنوحي على المفعولية أو الحالية من القائم مقام فاعل يوحى وهو إليهم على أن قوله تعالى فاسئلوا اعتراض أو بقوله لا تعلمون على أن الشرط للتبكيت كقول الأجير إن كنت عملت لك فأعطني حقي «وأنزلنا إليك الذكر» أي القرآن وإنما سمي به لأنه تذكير وتنبيه للغافلين «لتبين للناس» كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا «ما نزل إليهم» في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب حسب أعمالهم الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانا شافيا كما ينبئ عنه صيغة التفعيل في الفعلين لا سيما بعد ورود الثاني أولا على صيغة الأفعال ولما أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه دخل تحته القياس على الإطلاق سواء كان في الأحكام الشرعية أو غيرها ولعل قوله عز وجل «ولعلهم يتفكرون» إشارة إلى
116 ذلك أي إرادة أن يتأملوا فيتنبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب «أفأمن الذين مكروا السيئات» هم أهل مكة الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صد أصحابه عن الإيمان عليهم الرضوان لا الذين احتالوا الهلاك الأنبياء كما قيل ولا من يعم الفريقين لما أن المراد تحذير هؤلاء عن إصابة مثل ما أصاب أولئك من فنون العذاب المعدودة والسيئات نعت لمصدر محذوف أي مكروا المكرات السيئات التي قصت عنهم أو مفعول به للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل أي علموا السيئات فقوله تعالى «أن يخسف الله بهم الأرض» مفعول لأمن أو السيئات صفة لما هو المفعول أي أي أفأمن الماكرون العقوبات السيئة وقوله أن يخسف الخ بدل من ذلك وعلى كل حال فالفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه النظم الكريم أي أنزلنا إليك الذكر لتبين لهم مضمونه الذي من جملته أنباء الأمم المهلكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض كما فعل بقارون على توجيه الإنكار إلى المعطوفين معا أو أتفكروا فأمنوا على توجيهه إلى المعطوف على أن الأمن بعد التفكر مما لا يكاد يفعله أحد وقيل هو عطف على مقدر ينبئ عنه الصلة أي أمكر فأمن الذين مكروا الخ «أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون» بإتيانه أي في حالة غفلتهم أو من مأمنهم أو من حيث يرجون إتيان ما يشتهون كما حكى فيما سلف مما نزل بالماكرين «أو يأخذهم في تقلبهم» أي في حالة تقلبهم في مسائرهم ومتاجرهم «فما هم بمعجزين» بممتنعين أو فائتين بالهرب والفرار على ما يوهمه حال التقلب والسير والفاء إما لتعليل الأخذ أو لترتيب عدم الإعجاز عليه دلالة على دوام النفي لا نفي الدوام «أو يأخذهم على تخوف» أي مخافة وحذر عن الهلاك والعذاب بأن يهلك قوما قبلهم فيتخوفوا فيأخذهم العذاب وهم متخوفون وحيث كانت حالتا التقلب والتخوف مظنة للهرب عبر عن إصابة العذاب فيهما بالأخذ وعن إصابته حالة الغفلة المنبئة عن السكون بالإيتان وقيل التخوف التنقص قال قائلهم * تخوف الرحل منها تامكا قردا * كما تخوف عود النبعة السفن * أي يأخذهم على أن ينقصهم شيئا بعد شيء في أنفسهم وأموالهم حتى يهلكوا والمراد بذكر الأحوال الثلاث بيان قدرة الله سبحانه على إهلاكهم بأي وجه كان لا الحصر فيها «فإن ربكم لرؤوف رحيم» حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلم عنكم مع استحقاقكم لها
117 «أولم يروا» استفهام إنكاري وقرئ على صيغة الخطاب والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي ألم ينظروا ولم يروا متوجهين «إلى ما خلق الله من شيء» أي من كل شيء «يتفيأ ظلاله» أي يرجع شيئا فشيئا حسبما يقتضيه إرادة الخالق تعالى فإن التفيؤ مطاوع الإفاءة وقرئ بتأنيث الفعل «عن اليمين والشمائل» أي ألم يروا الأشياء التي لها ظلال متفيئة عن إيمانها وشمائلها أي عن جانبي كل واحد منها استعير لهما ذلك من يمين الإنسان وشماله «سجدا لله» حال من الظلال كقوله تعالى وظلالهم بالغدو والآصال والمراد بسجودها تصرفها على مشيئة الله سبحانه وتأتيها لإرادته تعالى في الامتداد والتقلص وغيرهما غير ممتنعة عليه فيما سخرها له وقوله تعالى «وهم داخرون» أي صاغرون منقادون حال من الضمير في ظلاله والجمع باعتبار المعنى وإيراد الصيغة الخاصة بالعقلاء لما أن الدخور من خصائصهم والمعنى ترجع الظلال من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارها أو باختلاف مشارقها ومغاربها فإنها كل يوم من أيام السنة تتحرك على مدار معين من المدارات اليومية بتقدير العزيز العليم منقادة لما قدر لها من التفيؤ أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد والحال أن أصحابها من الأجرام داخرة منقادة لحكمه تعالى ووصفها بالدخور مغن عن وصف ظلالها به أو كلاهما حال من الضمير المشار إليه والمعنى ترجع ظلال تلك الأجرام حال كونها منقادة لله تعالى داخرة فوصفها بهما مغن عن وصف ظلالها بهما ولعل المراد بالموصول الجمادات من الجبال والأشجار والأحجار التي لا يظهر لظلالها أثر سوى التفيؤ بما ذكر من ارتفاع الشمس وانحدارها أو اختلاف مشارقها ومغاربها وأما الحيوان فظله يتحرك بتحركه وقيل المراد باليمين والشمائل يمين الفلك وهو جانبه الشرقي لأن الكواكب منه تظهر آخذة في الارتفاع والسطوع وشماله وهو جانبه الغربي المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدئ من الشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض وعند الزوال تبتدئ من الغرب واقعة على الربع الشرقي منها وبعد ما بين سجود الظلال وأصحابها من الأجرام السفلية الثابتة في أخبارها ودخورها له سبحانه وتعالى شرع في بيان سجود المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أو لا فقيل «ولله يسجد» أي له تعالى وحده يخضع وينقاد لا لشيء غيره استقلالا أو اشتراكا فالقصر ينتظم القلب والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصر الإفراد كما يؤذن به قوله تعالى وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين «ما في السماوات» قاطبة «وما في الأرض» كائنا ما كان «من دابة» بيان لما في الأرض وتقديمه لقلته ولئلا يقع بين المبين والمبين فصل والإفراد مع أن المراد الجمل لإفادة وضوح شمول السجود لكل فرد من الدواب قال الأخفش هو كقولك ما أتاني من رجل مثله وما أتاني من الرجال مثله «والملائكة» عطف
118 على ما في السماوات عطف جبريل على الملائكة تعظيما وإجلالا أو على أن يراد بما في السماوات الخلق الذي يقال له الروح أو يراد به ملائكة السماوات وبقوله والملائكة ملائكة الأرض من الحفظة وغيرهم «وهم» أي الملائكة مع علو شأنهم «لا يستكبرون» عن عبادته عز وجل والسجود له وتقديم الضمير ليس للقصر والجملة إما حال من ضمير الفاعل في يسجد مسند إلى الملائكة أو استئناف أخبر عنهم بذلك «يخافون ربهم» أي مالك أمرهم وفيه تربية للمهابة وإشعار بعلة الحكم «من فوقهم» أي يخافون جل وعلا خوف هيبة وإجلال وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى وهو القاهر فوق عباده أو يخافون أن يرسل عليهم عذابا من فوقهم والجملة حال من الضمير في لا يستكبرون أو بيان له وتقرير لأن من يخاف الله سبحانه لا يستكبر عن عبادته «ويفعلون ما يؤمرون» أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الجلالة وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استناده إلى غيره سبحانه وفيه أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف والرجاء وبعد ما بين أن جميع الموجودات يخصون الخضوع والانقياد الطبيعي وما يجرى مجراه من عبادة الملائكة حيث لا يتصور منهم عدم الانقياد أصلا لله عز وجل أردف ذلك بحكاية نهيه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقيل «وقال الله» عطفا على قوله ولله يسجد وإظهار الفاعل وتخصيص لفظه الجلالة بالذكر للإيذان بأنه متعين الألوهية وإنما المنهي عنه هو الإشراك به لا أن المنهي عنه مطلق اتخاذ إلهين بحيث يتحقق الانتهاء عنه برفض أيهما كان أي قال تعالى لجميع المكلفين «لا تتخذوا إلهين اثنين» وإنما ذكر العدد مع أن صيغة التثنية مغنية عن ذلك دلالة على أن مساق النهي هي الاثنينية وإنها منافية للألوهية كما أن وصف الإله بالوحدة في قوله تعالى «إنما هو إله واحد» لدلالة على أن المقصود إثبات الوحدانية وأنها من لوازم الإلهية وأما الإلهية فأمر مسلم الثبوت له سبحانه وإليه أشير حيث أسند إليه القول وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة على رأى من اكتفى في تحقق الالتفات بكون الأسلوب الملتفت عنه حق الكلام ولم يشترط سبق الذكر على ذلك الوجه «فإياي فارهبون» التفات من الغيبة إلى التكلم لتربية المهابة وإلقاء الرهبة في القلوب ولذلك قدم وكرر الفعل أي إن كنتم راهبين شيئا فإياي ارهبوا فارهبوا لا غير فإني ذلك الواحد الذي يسجد له ما في السماوات والأرض «وله ما في السماوات والأرض» خلقا وملكا تقرير لعلة انقياد ما فيها له سبحانه خاصة وتحقيق لتخصيص الرهبة به تعالى وتقديم الظرف لتقوية ما في اللام من معنى الاختصاص وكذا في قوله تعالى «وله الدين» أي الطاعة والانقياد «واصبا» أي واجبا ثابتا لا زوال له لما تقرر أنه الإله وحده الحقيق بأن يرهب وقيل واصبا من الوصب أي وله الدين ذا كلفة وقيل الدين الجزاء أي وله
119 الجزاء الدائم بحيث لا ينقطع ثوابه لمن آمن وعقابه لمن كفر «أفغير الله تتقون» الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه السياق أي أعقيب تقرر الشؤون المذكور من تخصيص جميع الموجودات للسجود به تعالى وكون ذلك كله له ونهيه عن اتخاذ الأنداد وكون الدين له واصبا المستدعى ذلك لتخصيص التقوى به سبحانه غير الله الذي شأنه ما ذكر تتقون فتطيعون «وما بكم» أي أي شيء يلابسكم ويصاحبكم «من نعمة» أية نعمة كانت «فمن الله» فهي من الله فما شرطية أو موصولة متضمنة لمعنى الشرط باعتبار الأخبار دون الحصول فإن ملابسة النعمة بهم سبب للإخبار بأنها منه تعالى لا لكونها منه تعالى «ثم إذا مسكم الضر» مساما يسيرا «فإليه تجأرون» تتضرعون في كشفه لا إلى غيره والجؤار رفع الصوت بالدعاء والاستغاثة قال الأعشى * يراوح من صلوات المليك * طورا سجودا وطورا جؤارا * وقرئ تجرون بطرح الهمزة وإلقاء حركتها إلى ما قبلها وفي ذكر المساس المنبئ عن أدنى إصابة وإيراده بالجملة الفعلية المعربة عن الحدوث مع ثم الدالة على وقوعه بعد برهة من الدهر وتحلية الضر بلام الجنس المفيدة لمساس أدنى ما ينطلق عليه اسم الجنس مع إيراد النعمة بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والتعبير عن ملابستها للمخاطبين بباء الصاحبة وإيراد ما المعربة عن العموم مالا يخفى من الجزالة والفخامة ولعل إيراد إذا دون إن للتوسل به إلى تحقق وقوع الجواب «ثم إذا كشف الضر عنكم» وقرئ كاشف الضر وكلمة ثم ليست للدلالة على تمادى زمان مساس الضر ووقوع الكشف بعد برهة مديدة بل للدلالة على تراخي رتبة ما يترتب عليه من مفاجأة الإشراك المدلول عليها بقوله سبحانه «إذا فريق منكم بربهم يشركون» فإن ترتبها على ذلك في أبعد غاية من الضلال ثم إن وجه الخطاب إلى الناس جميعا فمن للتبعيض والفريق فريق الكفرة وأن وجه إلى الكفرة فمن للبيان كأنه قيل إذا فريق كافر وهم أنتم ويجوز أن يكون فيهم من اعتبر وازدجر كقوله تعالى فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد فمن تبعيضية أيضا التعرض لوصف الربوبية للإيذان بكمال قبح ما ارتكبوه من الإشراك والكفر ان «ليكفروا بما آتيناهم» من نعمة الكشف عنهم كأنهم جعلوا غرضهم في الشرك كفر ان النعمة وإنكار كونها من الله عز وجل «فتمتعوا» أمر تهديد والالتفات إلى الخطاب للإيذان بتناهي السخط وقرئ بالياء مبنيا للمفعول عطفا على ليكفروا على أن يكون كفران النعمة والتمتع غرضا لهم من الإشراك ويجوز أن يكون اللام لام الأمر الوارد للتهديد «فسوف تعلمون» عاقبة أمركم وما ينزل بكم من العذاب وفيه وعيد أكيد منبىء عن أخذ شديد حيث لم يذكر المفعول إشعارا بأنه مما لا يوصف
120 «ويجعلون» لعله عطف على ما سبق بحسب المعنى تعدادا لجناياتهم أي يفعلون ما يفعلون من الجؤار إلى الله تعالى عند مساس الضر ومن الإشراك به عند كشفه ويجعلون «لما لا يعلمون» أي لما لا يعلمون حقيقته وقدره الخسيس من الجمادات التي يتخذونها شركاء لله سبحانه وتعالى جهالة وسفاهة ويزعمون أنها تنفعهم وتشفع لهم على أن ما موصولة والعائد إليها محذوف أو لما لا علم له أصلا وليس من شأنه ذلك فما موصولة أيضا والعائد ما في الفعل من الضمير المستكن وصيغة جمع العقلاء لكون ما عبارة عن آلهتهم التي وصفوها بصفات العقلاء أو مصدرية واللام للتعليل أي لعدم علمهم والمجعول له للعلم بمكانه «نصيبا مما رزقناهم» من الزرع والأنعام وغيرهما تقربا إليها «تالله لتسألن» سؤال توبيخ وتقريع «عما كنتم تفترون» في الدنيا بأنها آلهة حقيقة بأن يتقرب إليها وفي تصدير الجملة بالقسم وصرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب المنبئ عن كمال الغضب من شدة الوعيد مالا يخفى «ويجعلون لله البنات» هم خزاعة وكنانة الذين يقولون الملائكة بنات الله «سبحانه» تنزيه وتقديس له عز وجل عن مضمون قولهم ذلك أو تعجيب من جرائتهم على التفوه بمثل تلك العظيمة «ولهم ما يشتهون» من البنين وما مرفوعة المحل على أنه مبتدأ والظرف مقدم خبره والجملة حالية وسبحانه اعتراض في حق موقعه وجعلها منصوبة بالعطف على البنات أي يجعلون لأنفسهم ما يشتهون من البنين يؤدى إلى جعل الجعل بمعنى يعم الزعم والاختيار «وإذا بشر أحدهم بالأنثى» أي أخبر بولادتها «ظل وجهه» أي صار أو دام النهار كله «مسودا» من الكآبة والحياء من الناس واسوداد الوجه كناية عن الاغتمام والتشويش «وهو كظيم» ممتلئ حنقا وغيظا «يتوارى» أي يستخفي «من القوم من سوء ما بشر به» من أجل سوئه والتعبير عنها بما لإسقاطه عن درجة العقلاء «أيمسكه» أي مترددا في أمره محدثا نفسه في شأنه أيمسكه «على هون» ذل وقرئ هو أن «أم يدسه» يخفيه «في التراب» بالوأد والتذكير باعتبار لفظ ما وقرئ بالتأنيث «ألا ساء ما يحكمون» حيث يجعلون ما هذا شأنه عندهم من الهون والحقارة لله المتعالي عن الصاحبة والولد والحال أنهم يتحاشون عنه ويختارون لأنفسهم البنين فمدار الخطأ جعلهم ذلك لله سبحانه مع إبائهم إياه لا جعلهم البنين لأنفسهم ولا عدم جعلهم له سبحانه ويجوز أن يكون مداره التعكيس لقوله تعالى تلك إذا قسمة ضيزى
121 «للذين لا يؤمنون بالآخرة» ممن ذكرت قبائحهم «مثل السوء» صفة السوء الذي كالمثل في القبح وهي الحاجة إلى الولد ليقوم مقامهم عند موتهم وإيثار الذكور للاستظهار بهم ووأد البنات لدفع العار وخشية الإملاق المنادى كل ذلك بالعجز والقصور والشح البالغ ووضع الموصول موضع الضمير للإشعار بأن مدار اتصافهم بتلك القبائح هو الكفر بالآخرة «ولله» سبحانه وتعالى «المثل الأعلى» أي الصفة العجيبة الشأن التي هي مثل في العلو مطلقا وهو الوجوب الذاتي والغني المطلق والجود الواسع والنزاهة عن صفات المخلوقين ويدخل فيه علوه تعالى عما قالوه علوا كبيرا «وهو العزيز» المتفرد بكمال القدرة لا سيما على مؤاخذتهم بذنوبهم «الحكيم» الذي يفعل كل ما يفعل بمقتضى الحكمة البالغة وهذا أيضا من جملة صفاته العجيبة تعالى «ولو يؤاخذ الله الناس» الكفار «بظلمهم» بكفرهم ومعاصيهم التي من جملتها ما عدد من قبائحهم وهذا تصريح بما أفاده قوله تعالى «وهو العزيز الحكيم» وإيذان بأن ما أتوه من القبائح قد تناهى إلى أمد لا غاية وراءه «ما ترك عليها» على الأرض المدلول عليها بالناس وبقوله تعالى «من دابة» أي ما ترك عليها شيئا من دابة قط بل أهلكها بالمرة بشؤم ظلم الظالمين كقوله تعالى «واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رجلا يقول إن الظالم لا يضر إلا نفسه فقال بلى والله حتى أن الحباري لتموت في وكرها بظلم الظالم وعن ابن مسعود رضي الله عنه كاد الجعل يهلك في حجره بذنب ابن آدم أو من دابة ظالمة وقيل لو أهلك الآباء لم يكن الأبناء فيلزم أن لا يكون في الأرض دابة لما أنها مخلوقة لمنافع البشر لقوله سبحانه هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا «ولكن» لا يؤاخذهم بذلك بل «يؤخرهم إلى أجل مسمى» لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا أو يكثر عذابهم «فإذا جاء أجلهم» المسمى «لا يستأخرون» عن ذلك الأجل أي لا يتأخرون وصيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم عنه مع طلبهم له «ساعة» فذة وهي مثل في قلة المدة «ولا يستقدمون» أي لا يتقدمون وإنما تعرض لذكره مع أنه لا يتصور الاستقدام عند مجئ الأجل مبالغة في بيان عدم الاستئخار بنظمه في سلك ما يمتنع كما في قوله تعالى وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموت وهم كفار فإن من مات كافرا مع أنه لا توبة له رأسا قد نظم في سمط من لم تقبل توبته للإيذان فأنهما سيان في ذلك وقد مر في تفسير سورة يونس «ويجعلون لله»
122 أي يثبتون له سبحانه وينسبون إليه في زعمهم «ما يكرهون» لأنفسهم مما ذكر وهو تكرير لما سبق تثنية للتقريع وتوطئة لقوله تعالى «وتصف ألسنتهم الكذب» أي يجعلون له تعالى ما يجعلون ومع ذلك تصف ألسنتهم الكذب وهو «أن لهم الحسنى» العاقبة الحسنى عند الله تعالى كقوله ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى وقرئ الكذب وهو جمع الكذوب على أنه صفة الألسنة «لا جرم» رد لكلامهم ذلك وإثبات لنقيضه أي حقا «أن لهم» مكانه ما أملوا من الحسنى «النار» التي ليس وراء عذابها عذاب وهي علم في السوأى «وأنهم مفرطون» أي مقدمون إليها من أفرطته أي قدمته في طلب الماء وقيل منسيون من أفرطت فلانا خلفي إذا خلفته ونسيته وقرئ بالتشديد وفتح الراء من فرطته في طلب الماء وبكسر الراء المشددة من التفريط في الطاعات وبكسر المخففة من الإفراط في المعاصي فلا يكونان حينئذ من أحوالهم الأخروية كما عطف عليه «تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك» تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يناله من جهالات الكفرة ووعيد لهم على ذلك أي أرسلنا إليهم رسلا فدعوهم إلى الحق فلم يجيبوا إلى ذلك «فزين لهم الشيطان أعمالهم» القبيحة فعكفوا عليها مصرين «فهو وليهم» أي قرينهم وبئس القرين «اليوم» أي يوم زين لهم الشيطان أعمالهم فيه على طريق حكاية الحال الماضية أو في الدنيا أو يوم القيامة على طريق حكاية الحال الآتية وهي حال كونهم معذبين في النار والولي بمعنى الناصر أي فهو ناصرهم اليوم لا ناصر لهم غيره مبالغة في نفي الناصر عنهم ويجوز أن يكون الضمير عائدا إلى مشركي قريش والمعنى زين للأمم السالفة أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم وأن يكون على حذف المضاف أي ولي أمثالهم «ولهم» في الآخرة «عذاب أليم» هو عذاب النار «وما أنزلنا عليك الكتاب» أي القرآن «إلا لتبين» استثناء مفرغ من أعم العلل أي ما أنزلنا عليك لعلة من العلل إلا لتبين «لهم» أي للناس «الذي اختلفوا فيه» من التوحيد والقدر وأحكام الأفعال وأحوال المعاد «وهدى ورحمة» معطوفان على محل لتبين أي وللهداية والرحمة «لقوم يؤمنون» وإنما انتصبا لكونهما أثرى فاعل الفعل المعلل بخلاف التبين حيث لم ينتصب لفقدان شرطه ولعل تقديمه عليهما لتقدمه في الوجود وتخصيص كونهما هدى ورحمة بالمؤمنين لأنهم المغتنمون أثاره «والله أنزل من السماء» من السحاب أو من جانب السماء حسبما مر وهذا تكرير لما سبق تأكيدا لمضمونه وتوطئة لما يعقبه من أدلة التوحيد «ماء» نوعا خاصا من الماء هو المطر وتقديم المجرور على المنصوب لما مر مرارا
123 من التشويق إلى المؤخر فأحيا به الأرض بما أنبت به فيها من أنواع النباتات «بعد موتها» أي بعد يبسها وما يفيده الفاء من التعقيب العادي لا ينافيه ما بين المعطوفين من المهلة «إن في ذلك» أي في إنزال الماء من السماء وإحياء الأرض الميتة به «لآية» وأية آية دالة على وحدته سبحانه وعلمه وقدرته وحكمته «لقوم يسمعون» هذا التذكير ونظائره سماع تفكر وتدبر فكأن من ليس كذلك أصم «وإن لكم في الأنعام لعبرة» عظيمة وأي عبرة تحار في دركها العقول وتهيم في فهمها ألباب الفحول «نسقيكم» استئناف لبيان ما أبهم أولا من العبرة «مما في بطونه» أي بطون الأنعام والتذكير هنا لمراعاة جانب اللفظ فإنه اسم جمع ولذلك عده سيبويه في المفردات المبنية على أفعال كأكباش وأخلاق كما أن تأنيثه في سورة المؤمنين لرعاية جانب المعنى ومن جعله جمع نعم جعل الضمير للبعض فإن اللبن ليس لجميعها أوله على المعنى فإن المراد به الجنس وقرئ بفتح النون ههنا وفي سورة المؤمنين «من بين فرث ودم لبنا» الفرث فضالة ما يبقى من العلف في الكرش المنهضمة بعض الانهضام وكثيف ما يبقى في المعاء وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن البهيمة إذا اعتلفت وانطبخ العلف في كرشها كان أسفله فرثا وأوسطه لبنا وأعلاه دما ولعل المراد به أن أوسطه يكون مادة اللبن وأعلاه مادة الدم الذي يغذو البدن لأن عدم تكونهما في الكرش مما لا ريب فيه بل الكبد تجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش ويبقى ثفله وهو الفرث ثم يمسكها ريثما يهضمها فيحدث أخلاطا أربعة معها مائية فتميز القوة المميزة تلك المائية بما زاد على قدر الحاجة من المرتين الصفراء والسوداء وتدفعها إلى الكلية والمرارة والطحال ثم توزع الباقي على الأعضاء بحسبها فتجري على كل حقه على ما يليق به بتقدير العزيز العليم ثم إن كان الحيوان أنثى زاد أخلاطها على قدر غذائها لاستيلاء البرد والرطوبة على مزاجها فيندفع الزائد أولا لأجل الجنين إلى الرحم فإذا انفصل انصب ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع فيبيض لمجاورته لحومها العذوية البيض ويلذ طعمه فيصير لبنا ومن تدبر في بدائع صنع الله تعالى فيما ذكر من الأخلاط والألبان وأعداد مقارها ومجاريها والأسباب المولدة لها وتسخير القوى المتصرفة فيها كل وقت على ما يليق به اضطر إلى الاعتراف بكمال علمه وقدرته وحكمته وتناهي رأفته ورحمته فمن الأولى تبعيضية لما أن اللبن بعض ما في بطونه لأنه مخلوق من بعض أجزاء الدم المتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث حسبما فصل والثانية ابتدائية كقوله سقيت من الحوض لأن بين الفرث والدم مبدأ الإسقاء وهي متعلقة بنسقيكم وتقديمه على المفعول لما مر مرارا من أن تقديم ما حقه التأخير يبعث للنفس شوقا إلى المؤخر موجبا لفضل تمكينه عند وروده عليها لا سيما إذا كان المقدم متضمنا لوصف مناف لوصف المؤخر كالذي نحن فيه فإن بين وصفي المقدم والمؤخر تنافيا وتنائيا بحيث لا يتراءى ناراهما فإن ذلك مما يزيد الشوق والاستشراف إلى المؤخر
124 كما في قوله تعالى الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا أو حال من لبنا قدم عليه لتنكيره والتنبيه على أنه موضع العبرة «خالصا» عن شائبة ما في الدم والفرث من الأوصاف ببرزخ من القدرة القاهرة الحاجزة عن بغي أحدهما عليه مع كونهما مكتنفين له «سائغا للشاربين» سهل المرور في حلقهم قيل لم يغص أحد باللبن وقرئ سيغا بالتشديد وبالتخفيف مثل هين وهين «ومن ثمرات النخيل والأعناب» متعلق بما يدل عليه الإسقاء من مطلق الإطعام المنتظم لإعطاء المطعوم والمشروب فإن اللبن مطعوم كما أنه مشروب أي ونطعمكم من ثمرات النخيل ومن الأعناب أي من عصيرهما وقوله تعالى «تتخذون منه سكرا» استئناف لبيان كنه الإطعام وكشفه أو بقوله تتخذون منه وتكرير الظرف للتأكيد أو خبر لمبتدأ محذوف صفته تتخذون أي ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه وحذف الموصوف إذا كان في الكلام كلمة من سائغ نحو قوله تعالى «وما منا إلا له مقام معلوم» وتذكير الضمير على الوجهين الأولين لأنه للمضاف المحذوف أعنى العصير أو لأن المراد هو الجنس والسكر مصدر سمي به الخمر وقيل هو النبيذ وقيل هو الطعم «ورزقا حسنا» كالتمر والدبس والزبيب والخل والآية إن كانت سابقة النزول على تحريم الخمر فدالة على كراهتها وإلا فجامعة بين العتاب والمنة «إن في ذلك لآية» باهرة «لقوم يعقلون» يستعملون عقولهم في الآيات بالنظر والتأمل «وأوحى ربك إلى النحل» أي ألهمها وقذف في قلوبها وعلمها بوجه لا يعلمه إلا العليم الخبير وقرئ بفتحتين «أن اتخذي» أي بأن اتخذي على أن أن مصدرية ويجوز أن تكون مفسرة لما في الإيحاء من معنى القول وتأنيث الضمير مع أن النحل مذكر للحمل على المعنى أو لأنه جمع نحلة والتأنيث لغة أهل الحجاز «من الجبال بيوتا» أي أوكارا مع ما فيها من الخلايا وقرئ بيوتا بكسر الباء «ومن الشجر ومما يعرشون» أي يعرشه الناس أي يرفعه من كرم أو سقف وقيل المراد به ما يرفعه الناس ويبنونه للنحل والمعنى اتخذي لنفسك بيوتا من الجبال والشجر إذا لم يكن لك أرباب وإلا فاتخذي ما يعرشونه لك وإيراد حرف التبعيض لما أنها لا تبني في كل جبل وكل شجر وكل عرش ولا في كل مكان منها «ثم كلي من كل الثمرات» من كل ثمرة تشتهينها حلوها ومرها «فاسلكي» ما أكلت منها «سبل ربك» أي مسالكه التي برأها بحيث يحيل فيها بقدرته القاهرة النور المر عسلا من أجوافك أو فاسلكي الطرق التي ألهمك في عمل العسل أو فاسلكي راجعة إلى بيوتك سبل ربك لا تتوعر عليك ولا
125 تلتبس «ذللا» جمع ذلول وهو حال من السبل أي مذللة غير متوعرة ذللها الله سبحانه وسهلها لك أو من الضمير في اسلكي أي أسلكي منقادة لما أمرت به «يخرج من بطونها» استئناف عدل به عن خطاب النحل لبيان ما يظهر منها من تعاجيب صنع الله تعالى التي هي موضع العبرة بعد ما أمرت بما أمرت «شراب» أي عسل لأنه مشروب واحتج به وبقوله تعالى كلي من زعم أن النحل تأكل الأزهار والأوراق العطرة فتستحيل في بطنها عسلا ثم تقيئ إدخارا للشتاء ومن زعم أنها تلتقط بأفواهها أجزاء قليلة حلوة صغيرة متفرقة على الأزهار والأوراق وتضعها في بيوتها فإذا اجتمع فيها شئ كثير يكون عسلا فسر البطون بالأفواه «مختلف ألوانه» أبيض وأسود وأصفر وأحمر حسب اختلاف سن النحل أو الفصل أو الذي أخذت منه العسل «فيه شفاء للناس» إما بنفسه كما في الأمراض البلغمية أو مع غيره كما في سائر الأمراض إذ قلما يكون معجون لا يكون فيه عسل مع أن التنكير فيه مشعر بالتبعية ويجوز كونه للتفخيم وعن قتادة أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي يشتكي بطنه فقال صلى الله عليه وسلم اسقه العسل فذهب ثم رجع فقال قد سقيته فما نفع فقال اذهب فاسقه عسلا فقد صدق الله وكذب بطن أخيك فسقاه فبرئ كأنما أنشط من عقال وقيل الضمير للقرآن أو لما بين الله تعالى من أحوال النحل وعن ابن مسعود رضي الله عنه العسل شفاه لكل داء والقرآن شفاء لما في الصدور فعليكم بالشفاءين العسل والقرآن «إن في ذلك» الذي ذكر من أعاجيب آثار قدرة الله تعالى «لآية» عظيمة «لقوم يتفكرون» فإن من تفكر في اختصاص النحل بتلك العلوم الدقيقة والأفعال العجيبة المشتملة على حسن الصنعة وصحة القسمة التي لا يقدر عليها حذاق المهندسين إلا بآلات رقيقة وأدوات أنيقة وأنظار دقيقة جزم قطعا بأن له خالقا قادرا حكيما يلهمها ذلك ويهديها إليه جل جلاله «والله خلقكم» لما ذكر سبحانه من عجائب أحوال ما ذكر من الماء والنبات والأنعام والنحل أشار إلى بعض عجائب أحوال البشر من أول عمره إلى آخره وتطوراته فيما بين ذلك وقد ضبطوا مراتب العمر في أربع الأولى سن النشور والنماء والثانية سن الوقوف وهي سن الشباب والثالثة سن الانحطاط القليل وهي سن الكهولة والرابعة سن الانحطاط الكبير وهي سن الشيخوخة «ثم يتوفاكم» حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على حكم بالغة بآجال مختلفة أطفالا وشبابا وشيوخا «ومنكم من يرد» قبل توفيه أي يعاد «إلى أرذل العمر» أي أخسه وأحقره وهو خمس وسبعون سنة على ما روى عن على رضي الله عنه وتسعون سنة على ما نقل عن قتادة رضي الله عنه وقيل خمس وتسعون وإيثار الرد على الوصول والبلوغ ونحوهما للإيذان بأن بلوغه والوصول إليه رجوع في الحقيقة إلى الضعف بعد القوة كقوله تعالى ومن نعمره ننكسه في الخلق ولا عمر أسوأ حالا من عمر الهرم الذي يشبه الطفل في نقصان العقل والقوة «لكي لا يعلم بعد علم» كثير «شيئا» من العلم أو من
126 المعلومات أو لكيلا يعلم شيئا بعد علم بذلك الشيء وقيل لئلا يعقل بعد عقله الأول شيئا «إن الله عليم» بمقادير أعماركم «قدير» على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقى الهرم الفاني وفيه تنبيه على أن تفاوت الآجال ليس إلا بتقدير قادر حكيم ركب أبنيتهم وعدل أمزجتهم على قدر معلوم ولو كان ذلك مقتضى الطبائع لما بلغ التفاوت هذا المبلغ «والله فضل بعضكم على بعض في الرزق» أي جعلكم متفاوتين فيه فأعطاكم منه أفضل مما أعطى مماليككم «فما الذين فضلوا» فيه على غيرهم «برادي رزقهم» الذي رزقهم إياه «على ما ملكت أيمانهم» على مماليكهم الذين هم شركاؤهم في المخلوقية والمرزوقية «فهم» أي الملاك والمماليك «فيه» أي في الرزق «سواء» أي لا يردونه عليهم بحيث يساوونهم في التصرف ويشاركونهم في التدبير والفاء للدلالة على ترتيب التساوي على الرد أي لا يردونه عليهم ردا مستتبعا للتساوي وإنما يردون عليهم منه شيئا يسيرا فحيث لا يرضون بمساواة مماليكهم لأنفسهم وهم أمثالهم في البشرية والمخلوقية لله عز سلطانه في شيء لا يختص بهم بل يعمهم وإياهم من الرزق الذي هم أسوة لهم في استحقاقه فما بالهم يشركون بالله سبحانه وتعالى فيما لا يليق إلا به من الألوهية والمعبودية الخاصة بذاته تعالى لذاته بعض مخلوقاته الذي هو بمعزل من درجة الاعتبار وهذا كما ترى مثل ضرب لكمال قباحة ما فعله المشركون تقريعا عليهم كقوله تعالى «هل لكم من ما ملكت أيمانكم من شركاء في ما رزقناكم فأنتم فيه سواء» الآية «أفبنعمة الله يجحدون» حيث يفعلون ما يفعلون من الإشراك فإن ذلك يقتضي أن يضيفوا نعم الله سبحانه الفائضة عليهم إلى شركائهم ويجحدوا كونها من عند الله تعالى أو يحث أنكروا أمثال هذه الحجج البالغة بعدما أنعم الله بها عليهم والباء لتضمين الجحود معنى الكفر نحو وجحدوا بها والفاء للعطف على مقدر وهي داخلة في المعنى على الفعل أي أيشركون به فيجحدون نعمته وقرئ تجحدون على الخطاب أو ليس الموالي برادي رزقهم على مماليكهم بل أنا الذي أرزقهم وإياهم فلا يحسبوا أنهم يعطونهم شيئا وإنما هو رزقي أجريه على أيدهم فهم جميعا في ذلك سواء لا مزية لهم على مماليكهم ألا يفهمون ذلك فيجحدون نعمة الله فهو رد على زعم المفضلين أو على فعلهم المؤذن بذلك أو ما المفضلون برادي بعض فضلهم على مماليكهم فيتساووا في ذلك جميعا مع أن التفضيل ليس إلا ليبلوهم أيشكرون أم يكفرون ألا يعرفون ذلك فيجحدون نعمة الله تعالى كأنه قيل فلم يردوه عليهم والجملة الاسمية للدلالة على استمرارهم على عدم الرد يحكى عن أبي ذر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون فما رؤى عبده بعد ذلك إلا ورداؤه رداؤه وإزاره إزراره من غير تفاوت «والله جعل لكم من أنفسكم»
127 أي من جنسكم «أزواجا» لتأنسوا بها وتقيموا بذلك جميع مصالحكم ويكون أولادكم أمثالكم وقيل هو خلق حواء من ضلع آدم عليه الصلاة والسلام «وجعل لكم من أزواجكم» وضع الظاهر موضع المضمر للإيذان بأن المراد جعل لكل منكم من زوجه لا من زوج غيره «بنين» وبأن نتيجة الأزواج هو التوالد «وحفدة» جمع حافد وهو الذي يسرع في الخدمة والطاعة ومنه قول القانت وإليك نسعى ونحفد أي جعل لكم خدما يسرعون في خدمتكم وطاعتكم فقيل المراد بهم أولاد الأولاد وقيل البنات عبر عنهن بذلك إيذانا بوجه المنة فإنهن يخدمن البيوت أتم خدمة وقيل أولاد المرأة من الزوج الأول وقيل البنون والعطف لاختلاف الوصفين وقيل الأختان على البنات وتأخير المنصوب في الموضعين عن المجرور لما مر من التشويق وتقديم المجرور باللام على المجرور بمن للإيذان من أول الأمر بعود منفعة الجعل إليهم إمداد للتشويق وتقوية له أي جعل لمصلحتكم مما يناسبكم أزواجا وجعل لمنفعتكم من جهة مناسبة لكم بنين وحفدة «ورزقكم من الطيبات» من اللذائذ أو من الحلالات ومن للتبعيض إذ المرزوق في الدنيا أنموذج لما في الآخرة «أفبالباطل يؤمنون» وهو أن الأصنام تنفعهم وأن البحائر ونحوها حرام والفاء في المعنى داخلة على الفعل وهي للعطف على مقدر أي أيكفرون بالله الذي شأنه هذا فيؤمنون بالباطل أو أبعد تحقق ما ذكر من نعم الله تعالى بالباطل يؤمنون دون الله سبحانه «وبنعمة الله» تعالى الفائضة عليهم مما ذكر ومما لا يحيط به دائرة البيان «هم يكفرون» حيث يضيفونها إلى الأصنام وتقديم الصلة على الفعل للاهتمام أو لإيهام الاختصاص مبالغة أو لرعاية الفواصل والالتفات إلى الغيبة للإيذان باستيجاب حالهم للإعراض عنهم وصرف الخطاب إلى غيرهم من السامعين تعجيبا لهم مما فعلوه «ويعبدون من دون الله» لعله عطف على يكفرون داخل تحت الإنكار التوبيخي أي أيكفرون بنعمة الله ويعبدون من دونه «ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا» إن جعل الرزق مصدرا فشيئا نصب على المفعولية منه أي فنصب على البدلية منه بمعنى قليلا ومن السماوات مطرا ولا من الأرض نباتا وإن جعل اسما للمرزوق فنصب على البدلية منه بمعنى قليلا ومن السماوات والأرض صفة لرزقا أي كائنا منهما ويجوز كونه تأكيدا للا يملك أي لا يملك رزقا ما شيئا من الملك «ولا يستطيعون» أن يملكوه إذ لا استطاعة لهم رأسا لأنها موات لا حراك بها فالضمير للآلهة ويجوز أن يكون للكفرة على معنى أنهم مع كونهم أحياء متصرفين في الأمور لا يستطيعون من ذلك شيئا فكيف بالجماد الذي لا حس به «فلا تضربوا لله الأمثال» التفات إلى الخطاب للإيذان بالاهتمام بشأن النهي أي لا تشركوا به شيئا والتعبير عن ذلك بضرب المثل للقصد إلى النهي عن الإشراك به تعالى في شأن من الشؤون فإن ضرب المثل مبناه تشبيه حالة بحالة وقصة بقصة أي لا تشبهوا بشأنه تعالى شأنا من الشؤون واللام مثلها في قوله تعالى ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون لا مثلها في قوله تعالى واضرب لهم مثلا أصحاب القرية
128 ونظائره والفاء للدلالة على ترتب النهي على ما عدد من النعم الفائضة عليهم من جهته سبحانه وكون ما يشركون به تعالى بمعزل من أن يملك لهم من أقطار السماوات والأرض شيئا من رزق ما فضلا عما فصل من نعمة الخلق والتفضيل في الرزق ونعمة الأزواج والأولاد «أن الله يعلم» تعليل للنهي المذكور ووعيد على المنهي عنه أي أنه تعالى يعلم كنه ما تأتون وما تذرون وأنه في غاية العظم والقبح «وأنتم لا تعلمون» ذلك وإلا لما فعلتموه أو أنه تعالى يعلم كنه الأشياء وأنتم لا تعلمونه فدعوا رأيكم وقفوا مواقف الامتثال لما ورد عليكم من الأمر والنهي ويجوز أن يراد فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم كيف تضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ذلك فتقعون فيما تقعون فيه من مهاوي الردى والضلال ثم علمهم كيفية ضرب الأمثال في هذا الباب فقال «ضرب الله مثلا» أي ذكر وأورد شيئا يستدل به على تباين الحال بين جنابه عز وجل وبين ما أشركوا به وعلى تباعدهما بحيث ينادي بفساد ما ارتكبوه نداء جليا «عبدا مملوكا لا يقدر على شيء» بدل من مثلا وتفسير له والمثل في الحقيقة حالته العارضة له من المملوكية والعجز التام وبحسبها ضرب نفسه مثلا ووصف العبد بالمملوكية للتمييز عن الحر لاشتراكهما في كونهما عبدان لله سبحانه وقد أدمج فيه أن الكل عبيد له تعالى وبعدم القدرة لتمييزه عن المكاتب والمأذون اللذين لهما تصرف في الجملة وفي إبهام المثل أولا ثم بيانه بما ذكر مالا يخفى من الفخامة والجزالة «ومن رزقناه» من موصوفة معطوفة على عبدا أي رزقناه بطريق الملك والالتفات إلى التكلم للإشعار باختلاف حالي ضرب المثل والرزق «منا» من جنابنا الكبير المتعالى «رزقا حسنا» حلالا طيبا أو مستحسنا عند الناس مرضيا «فهو ينفق منه» تفضلا وإحسانا والفاء لترتيب الإنفاق على الرزق كأنه قيل ومن رزقناه منا رزقا حسنا فأنفق وإيثار ما عليه النظم الكريم من الجملة الاسمية الفعلية الخير للدلالة على ثبات الإنفاق واستمراره التجددي «سرا وجهرا» أي حال السر والجهر أو انفاق سر وإنفاق جهر والمراد بيان عموم إنفاقه للأوقات وشمول إنعامه لمن يجتنب عن قبوله جهرا والإشارة إلى أصناف نعم الله تعالى الباطنة والظاهرة وتقديم السر على الجهر للإيذان بفضله عليه والعدول عن تطبيق القرينتين بأن يقال وحرا مالكا للأموال مع كونه أدل على تباين الحال بينه وبين قسيمه لتوخي تحقيق الحق بأن الأحرار أيضا تحت ربقة عبوديته سبحانه وتعالى وأن مالكيتهم لما يملكونه ليست إلا بأن يرزقهم الله تعالى إياه من غير أن يكون لهم مدخل في ذلك مع محاولة المبالغة في الدلالة على ما قصد بالمثل من تباين الحال بين الممثلين فإن العبد المملوك حيث لم يكن مثل العبد المالك فما ظنك بالجماد ومالك الملك خلاق العالمين «هل يستوون» جمع الضمير للإيذان بأن المراد بما ذكر من اتصف بالأوصاف المذكورة من الجنسين المذكورين لا فردان معنيان منهما أي هل يستوي العبيد والأحرار المصوفون بما ذكر من الصفات مع أن الفريقين سيان في البشرية والمخلوقية لله سبحانه
129 وأن ما ينفقه الأحرار ليس مما لهم دخل في إيجاده ولا في تملكه بل هو مما أعطاه الله تعالى إياهم فحيث لم يستو الفريقان فما ظنكم برب العالمين حيث تشركون به ما لا ذليل أذل منه وهو الأصنام «الحمد لله» أي كله لأنه مولى جميع النعم لا يستحقه أحد غيره وإن ظهرت على أيدي بعض الوسايط فضلا عن استحقاق العبادة وفيه إرشاد إلى ما هو الحق من أن ما يظهر على يد من ينفق مما ذكر راجع إلى الله سبحانه كما لوح به قوله تعالى رزقناه «بل أكثرهم لا يعلمون» ما ذكر فيضيفون نعمه تعالى إلى غيره ويعبدونه لأجلها ونفي العلم عن أكثرهم للإشعار بأن بعضهم يعلمون ذلك وإنما لا يعلمون بموجبه عنادا كقوله تعالى «يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون» «وضرب الله مثلا» أي مثلا آخر يدل على ما دل عليه المثل السابق على وجه أوضح وأظهرو بعد ما أبهم ذلك لتنتظر النفس إلى وروده وتترقبه حتى يتمكن لديها عند وروده بين فقيل «رجلين أحدهما أبكم» وهو من ولد أخرس «لا يقدر على شيء» من الأشياء المتعلقة بنفسه أو بغيره بحدس أو فراسة لقلة فهمه وسوء إدراكه «وهو كل» ثقل وعيال «على مولاه» على من يعوله ويلي أمره وهذا بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح نفسه بعد ذكر عدم قدرته على شيء مطلقا وقوله تعالى «أينما يوجهه» أي حيث يرسله مولاه في أمر بيان لعدم قدرته على إقامة مصالح مولاه ولو كانت مصلحة يسيرة وقرئ على البناء للمفعول وعلى صيغة الماضي من التوجه «لا يأت بخير» بنجح وكفاية مهم البتة «هل يستوي هو» مع ما فيه من الأوصاف المذكورة «ومن يأمر بالعدل» أي من هو منطبق فهو ذو رأي وكفاية ورشد ينفع الناس بحثهم على العدل الجامع لمجامع الفضائل «وهو» في نفسه مع ما ذكر من نفعه العام للخاص والعام «على صراط مستقيم» ومقابلة الصفات المذكورة بهذين الوصفين لأنهما في حاق ما يقابلها فإن محصل الصفات المذكورة عدم استحقاق المأمورية وملخص هذين استحقاق كمال الآمرية المستتبع لحيازة المحاسن بأجمعها وتغيير الأسلوب حيث لم يقل والآخر آمر بالعدل الآية لمراعاة الملائمة بينه وبين ما هو المقصود من بيان التباين بين القرينتين واعلم أن كلا من الفعلين ليس المراد بهما حكاية الضرب الماضي بل المراد إنشاؤه بما ذكر عقيبه ولا يبعد أن يقال إن الله تعالى ضرب مثلا بخلق الفريقين على ما هما عليه فكان خلقهما كذلك للاستدلال بعدم تساويهما على امتناع التساوي بينه سبحانه وبين ما يشركون فيكون كل من الفعلين حكاية للضرب الماضي «ولله» تعالى خاصة لا لأحد غيره استقلالا ولا اشتراكا «غيب السماوات والأرض» أي الأمور الغائبة عن علوم المخلوقين
130 قاطبة بحيث لا سبيل لهم إليها لا مشاهدة ولا استدلالا ومعنى الإضافة إليهما التعلق بهما إما باعتبار الوقوع فيهما حالا أو مآلا وإما باعتبار الغيبة عن أهلهما والمراد بيان الاختصاص به تعالى من حيث المعلومية حسبما ينبئ عنه عنوان الغيبة لا من حيث المخلوقية والمملوكية وإن كان الأمر كذلك في نفس الأمر وفيه إشعار بأن علمه سبحانه حضوري فإن تحقق الغيوب في نفسها علم بالنسبة إليه تعالى ولذلك لم يقل ولله علم غيب السماوات والأرض «وما أمر الساعة» التي هي أعظم ما وقع فيه المماراة من الغيوب المتعلقة بهما من حيث غيبتها عن أهلهما أو ظهور آثارها فيهما عند وقوعها فإن وقت وقوعها بعينه من الغيوب المختصة به سبحانه وإن كان إنيتها من الغيوب التي نصبت عليها الأدلة أي ما شأنها في سرعة المجيء «إلا كلمح البصر» أي كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها «أو هو» أي بل أمرها فيما ذكر «أقرب» من ذلك وأسرع زمانا بأن يقع في بعض من زمانه فإن ذلك وإن قصر عن حركة أنية لها هوية اتصالية منطبقة على زمان له هوية كذلك قابل للانقسام إلى أبعاض هي أزمنة أيضا بل في آن غير منقسم من ذلك الزمان وهو آن ابتداء تلك الحركة أو ما أمرها إلا كالشئ الذي يستقرب ويقال هو كلمح البصر أو هو أقرب وأياما كان فهو تمثيل لسرعة مجيئها حسبما عبر عنها في فاتحة السورة الشريفة بالإتيان «إن الله على كل شيء قدير» ومن جملة الأشياء أن يجيء بها أسرع ما يكون فهو قادر على ذلك أو وما أمر إقامة الساعة التي كنهها وكيفيتها من الغيوب الخاصة به سبحانه وهي إماتة الأحياء وإيحاء الأموات من الأولين والآخرين وتبديل صور الأكوان أجمعين وقد أنكرها المنكرون وجعلوها من قبيل مالا يدخل تحت الإمكان في سرعة الوقوع وسهولة التأتي إلا كلمح البصر أو هو أقرب على ما مر من الوجهين إن الله على كل شيء قدير فهو قادر على ذلك لا محالة وقيل غيب السماوات والأرض عبارة عن يوم القيامة بعينه لما أن علمه بخصوصه غائب عن أهلهما فوضع الساعة موضع الضمير لتقوية مضمون الجملة «والله أخرجكم من بطون أمهاتكم» عطف على قوله تعالى والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا منتظم معه في سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى والله أنزل من السماء ماء وقوله تعالى والله خلقكم وقوله تعالى والله فضل بعضكم على بعض والأمهات بضم الهمزة وقرئ بكسرها أيضا جمع الأمر زيدت الهاء فيه كما زيدت في إهراق من إراق وشذت زيادتها في الواحدة قال * أمهتي خندف واليأس أبى * «لا تعلمون شيئا» في موقع الحال أي غير عالمين شيئا أصلا «وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة» عطف على أخرجكم وليس فيه دلالة على تأخر الجعل المذكور عن الإخراج لما أن مدلول الواو هو الجمع مطلقا لا الترتيب على أن أثر ذلك الجعل لا يظهر قبل الإخراج أي جعل لكم هذه الأشياء آلات تحصلون بها العلم والمعرفة بأن تحسوا بمشاعركم جزئيات الأشياء وتدركوها بأفئدتكم وتتنبهوا لما بينها من المشاركات والمباينات بتكرر الإحساس فيحصل لكم علوم
131 بديهية تتمكنون بالنظر فيها من تحصيل العلوم الكسبية والأفئدة جمع فؤاد وهو وسط القلب وهو من القلب كالقلب من الصدور وهو من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة وتقديم المجرور على المنصوبات لما مر من الإيذان من أول الأمر بكون المجعول نافعا لهم وتشويق النفس إلى المؤخر ليتمكن عند وروده عليها فضل تمكن «لعلكم تشكرون» كي تعرفوا ما أنعم به عليكم طورا غب طور فتشكروه وتقديم السمع على البصر لما أنه طريق تلقى الوحي أو لأن إدراكه أقدم من إدراك البصر وإفراده باعتبار كونه مصدرا في الأصل «ألم يروا» وقرئ بالتاء «إلى الطير» جمع طائر أي ألم ينظروا إليها «مسخرات» مذللات للطيران بما خلق لها من الأجنحة والأسباب المساعدة له وفيه مبالغة من حيث إن معنى التسخير جعل الشيء منقادا لآخر يتصرف فيه كيف يشاء كتسخير البحر والفلك والدواب للإنسان والواقع ههنا تسخير الهواء للطير لتطير فيه كيف تشاء فكان مقتضى طبيعة الطير السقوط فسخرها الله تعالى للطيران وفيه تنبيه على أن الطيران ليس مقتضى طبع الطير بل ذلك بتسخير الله تعالى «في جو السماء» أي في الهواء المتباعد من الأرض والسكاك واللوح أبعد منه وإضافته إلى السماء لما أنه في جانبها من الناظر ولإظهار كمال القدرة «ما يمسكهن» في الجو حين قبض أجنحتهن وبسطها ووقوفهن «إلا الله» عز وجل بقدرته الواسعة فإن ثقل جسدها ورقة قوام الهواء يقتضيان سقوطها ولا علاقة من فوقها ولا دعامة من تحتها وهو إما حال من الضمير المستتر في مسخرات أو من الطير وإما مستأنف «إن في ذلك» الذي ذكر من تسخير الطير للطيران بأن خلقها خلقة تتمكن بها منه بأن جعل لها أجنحة خفيفة وأذنابا كذلك وجعل أجسادها من الخفة بحيث إذا بسطت أجنحتها وأذنابها لا يطيق ثقلها يخرق ما تحتها من الهواء الرقيق القوام وتخرق ما بين يديها من الهواء لأنها لا تلاقيه بحجم كبير «لآيات» ظاهرة «لقوم يؤمنون» أي من شأنهم أن يؤمنوا وإنما خص ذلك بهم لأنهم المنتفعون به «والله جعل لكم» معطوف على ما مر وتقديم لكم على ما سيأتي من المجرور والمنصوب لما مر من الإيذان من أول الأمر بأنه لمصلحتهم ومنفعتهم لتشويق النفس إلى وروده وقوله تعالى «من بيوتكم» أي من بيوتكم المعهودة التي تبنونها من الحجر والمدر تبيين لذلك المجعول المبهم في الجملة وتأكيد لما سبق من التشويق «سكنا» فعل بمعنى مفعول أي موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم أو تسكنون إليه من غير أن ينتقل من مكانه أي جعل بعض بيوتكم بحيث تسكنون إليه وتطمئنون به «وجعل لكم من جلود
132 الأنعام بيوتا» أي بيوتا أخر مغايرة لبيوتكم المعهودة هي الخيام والقباب والأخبية والفساطيط «تستخفونها» تجدونها خفيفة سهلة المأخذ «يوم ظعنكم» وقت ترحالكم في النقض والحمل والنقل وقرئ بفتح العين «ويوم إقامتكم» وقت نزولكم في الضرب والبناء «ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها» عطف على قوله تعالى من جلود والضمائر للأنعام على وجه التنويع أي وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز «أثاثا» أي متاع البيت وأصله الكثرة والاجتماع ومنه شعر أثيث «ومتاعا» أي شيئا يتمتع به بفنون التمتع «إلى حين» إلى أن تقضوا منه أوطاركم أو إلى أن يبلى ويفنى فإنه في معرض البلا والفناء وقيل إلى أن تموتوا والكلام في ترتيب المفاعيل مثل ما مر من قبل «والله جعل لكم مما خلق» من غير صنع من قبلكم «ظلالا» أشياء تستظلون بها من الحر كالغمام والشجر والجبل وغيرها امتن سبحانه بذلك لما أن تلك الديار غالبة الحرارة «وجعل لكم من الجبال أكنانا» مواضع تسكنون فيها من الكهوف والغيران والسروب والكلام في الترتيب الواقع بين المفاعيل كالذي مر غير مرة «وجعل لكم سرابيل» جمع سربال وهو كل ما يلبس أي جعل لكم ثيابا من القطن والكتان والصوف وغيرها «تقيكم الحر» خصه بالذكر اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر أو لأن وقايته هي الأهم عندهم لما مر آنفا «وسرابيل» من الدروع والجواشن «تقيكم بأسكم» أي البأس الذي يصل إلى بعضكم من بعض في الحرب من الضرب والطعن ولقد من الله سبحانه علينا حيث ذكر جميع نعمه الفائضة على جميع الطوائف فبدأ بما يخص المقيمين حيث قال والله جعل لكم من بيوتكم سكنا ثم بما يخص المسافرين ممن لهم قدرة على الخيام وأضرابها حيث قال وجعل لكم من جلود الأنعام الخ ثم بما يعم من لا يقدر على ذلك ولا يأويه إلا الظلال حيث قال «جعل لكم مما خلق ظلالا» الخ ثم بما لابد منه لأحد حيث قال «وجعل لكم سرابيل» الخ ثم بمالا غنى عنه في الحروب حيث قال وسرابيل تقيكم بأسكم ثم قال «كذلك» أي مثل ذلك الإتمام البالغ «يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون» أي إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة والأنفسية والآفاقية فتعرفوا حق منعهما فتؤمنوا به وحده وتذروا ما كنتم به تشركون وتنقادوا لأمره وإفراد النعمة إما لأن المراد بها المصدر أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل وقرئ تسلمون أي تسلمون من العذاب أو من الشرك وقيل من الجراح بلبس الدروع «فإن تولوا» فعل ماض على طريقة الالتفات وصرف الخطاب عنهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسلية له أي فإن أعرضوا عن الإسلام ولم يقبلوا منك ما ألقى إليهم من البينات والعبرة والعظات «فإنما عليك البلاغ المبين» أي فلا قصور من جهتك لأن وظيفتك هي البلاغ الموضح أو الواضح وقد فعلته بما لا مزيد عليه فهو من باب وضع السبب موضع المسبب
133 «يعرفون نعمة الله» استئناف لبيان أن توليهم وإعراضهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم بما عدد من نعم الله تعالى أصلا فإنهم يعرفونها ويعترفون أنها من الله تعالى «ثم ينكرونها» بأفعالهم حيث يعبدون غير منعمها أو بقولهم أنها بشفاعة آلهتنا أو بسب كذا وقيل نعمة الله تعالى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عرفوها بالمعجزات كما يعرفون أبناءهم ثم أنكروها عنادا ومعنى ثم لاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق من عرف النعمة الاعتراف بها لا الإنكار وإسناد المعرفة والإنكار المتفرع عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاق من باب إسناد حال البعض إلى الكل كقولهم بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل واحد منهم فإن بعضهم ليسوا كذلك لقوله سبحانه «وأكثرهم الكافرون» أي المنكرون بقلوبهم غير المعترفين بما ذكر والحكم عليهم بمطلق الكفر المؤذن بالكمال من حيث الكمية لا ينافي كمال الفرقة الأولى من حيث الكيفية هذا وقد قيل ذكر الأكثر إما لأن بعضهم لم يعرفوا لنقصان العقل أو التفريط في النظر أو لم يقم عليه الحجة لأنه لم يبلغ حد التكليف فتدبر «ويوم نبعث من كل أمة شهيدا» يشهد لهم بالإيمان والطاعة وعليهم بالكفر والعصيان وهو نبيها «ثم لا يؤذن للذين كفروا» في الاعتذار إذ لا عذر لهم وثم للدلالة على أن ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنيء عن الإقناط الكلي وهو عند ما يقال لهم اخسئوا فيها ولا تكلمون أشد من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام عليهم وأطم «ولا هم يستعتبون» يسترضون أي لا يقال لهم أرضوا ربكم إذ الآخرة دار الجزاء لا دار العمل وانتصاب الظرف بمحذوف تقديره اذكر أو خوفهم يوم نبعث الخ أو يوم نبعث يحيق بهم ما يحيق مما لا يوصف وكذا قوله تعالى «وإذا رأى الذين ظلموا العذاب» الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذاب جهنم «فلا يخفف عنهم» ذلك «ولا هم ينظرون» أي يمهلون كقوله تعالى بل تأتيهم بغتة فتبهتهم «وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم» الذين كانوا يدعونهم في الدنيا وهم الأوثان أو الشياطين الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه وقارنوهم في الغي والضلال «قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك» أي نعبدهم أو نطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعا في توزيع العذاب بينهم كما ينبئ عنه قوله سبحانه «فألقوا» أي شركاؤهم «إليهم القول إنكم لكاذبون» فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ليس إلا للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونة وإنما كذبوهم وقد كانوا يعذبونهم ويطيعونهم لأن الأوثان ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكة عليهم
134 السلام بل كانوا يعبدون الجن يعنون أن الجن هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن أو كذبوهم في تسميتهم شركاء وآلهة تنزيها لله سبحانه عن الشريك والشياطين وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاء كما قال إبليس وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فكأنهم قالوا ما عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم «وألقوا» أي الذين أشركوا «إلى الله يومئذ السلم» الاستسلام والانقياد لحكمه العزيز الغالب عبد الاستكبار عنه في الدنيا «وضل عنهم» أي ضاع وبطل «ما كانوا يفترون» من أن لله سبحانه شركاء وأنهم ينصرون ويشفعون لهم وذلك حين كذبوهم وتبرءوا منهم «الذين كفروا» في أنفسهم «وصدوا» غيرهم «عن سبيل الله» بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر «زدناهم عذابا فوق العذاب» الذي كانوا يستحقونه بكفرهم قيل في زيادة عذابهم حيات أمثال البخت وعقارب أمثال البغال تلسع إحداهن فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفا وقيل يخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار «بما كانوا يفسدون» متعلق بقوله زدناهم أي زدنا عذابهم بسب استمرارهم على الإفساد وهو الصد المذكور «ويوم نبعث» تكرير لما سبق تثنية للتهديد «في كل أمة شهيدا عليهم» أي نبيا «من أنفسهم» من جنسهم قطعا لمعذرتهم وفي قوله تعالى عليهم إشعار بأن شهادة أنبيائهم على الأمم تكون بمحضر منهم «وجئنا بك» إيثار لفظ المجيء على البعث لكمال العناية بشأنه عليه السلام وصيغة الماضي للدلالة على تحقق الوقوع «شهيدا على هؤلاء» الأمم وشهدائهم كقوله تعالى فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا وقيل على أمتك والعامل في الظرف محذوف كما مر والمراد به يوم القيامة «ونزلنا عليك الكتاب» الكامل في الكتابية الحقيق بأن يخص باسم الجنس وهو إما استئناف أو حال بتقدير قد «تبيانا» بيانا بليغا «لكل شيء» يتعلق بأمور الدين ومن جملة ذلك أحوال الأمم مع أنبيائهم عليهم السلام فيكون كالدليل على كونه عليه السلام شهيدا عليهم وكذا من جملته ما أخبر به هذه الآية الكريمة من بعث الشهداء وبعثه عليه السلام شهيدا عليهم عليهم الصلاة والسلام والتبيان كالتلقاء في كسر أوله وكونه تبيانا لكل شيء من أمور الدين باعتبار أن فيه نصا على بعضها وإحالة لبعضها على السنة حيث أمر باتباع النبي صلى الله عليه وسلم وطاعته وقيل فيه وما ينطق عن الهوى وحثا على الإجماع وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرق الاجتهاد فكانت السنة والإجماع والقياس مستندة إلى تبيان
135 الكتاب ولم يضر ما في البعض من الخفاء في كونه تبيانا فإن المبالغة باعتبار الكمية دون الكيفية كما قيل في قوله تعالى «وما أنا بظلام للعبيد» إنه من قولك فلان ظالم لعبيده وظلام لعبيده ومنه قوله سبحانه وما للظالمين من أنصار «وهدى ورحمة» للعالمين فإن حرمان الكفر من مغانم آثاره من تفريطهم لا من جهة الكتاب «وبشرى للمسلمين» خاصة أو يكون كل ذلك خاصا بهم لأنهم المنتفعون بذلك «إن الله يأمر» أي فيما نزله تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجدد والاستمرار «بالعدل» بمراعاة التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط وهو رأس الفضائل كلها يندرج تحته فضيلة القوة العقلية الملكية من الحكمة المتوسطة بين الحر مزة والبلادة وفضيلة القوة الشهوية البهيمية من العفة المتوسطة بين الخلاعة والخمود وفضيلة القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهور والجبن فمن الحكم الاعتقادية التوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن العدل هو التوحيد والقول بالكسب المتوسط بين الجبر والقدر ومن الحكم العملية التبعد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب ومن الحكم الخليقية الجود المتوسط بين البخل والتبذير «والإحسان» أي الإتيان بما أمر به على الوجه اللائق وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفية كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك «وإيتاء ذي القربى» أي إعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه وهو تخصيص إثر تعميم اهتماما بشأنه «وينهى عن الفحشاء» الإفراط في مشايعة القوة الشهوية كالزنا مثلا «والمنكر» ما ينكر شرعا أو عقلا من الإفراط في إظهار آثار القوة الغضبية «والبغي» الاستعلاء والاستيلاء على الناس والتجبر عليهم وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانية التي هي حاصلة من رذيلتي القوتين المذكورتين الشهوية والغضبية وليس في البشر شر إلا وهو مندرج في هذه الأقسام صادر عنه بواسطة هذه القوى الثلاث ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه هي أجمع آية في القرآن للخير والشر ولو لم يكن فيه غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانا لكل شيء وهدى «يعظكم» بما يأمر وينهى وهو إما استئناف وإما حال من الضميرين في الفعلين «لعلكم تذكرون» طلبا لأن تتعظوا بذلك «وأوفوا بعهد الله» هو البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها مبايعة لله سبحانه لقوله تعالى إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله «إذا عاهدتم» أي حافظوا على حدود ما عاهدتم الله عليه وبايعتم به رسول الله صلى الله عليه وسلم
136 «ولا تنقضوا الأيمان» التي تحلفون بها عند المعاهدة «بعد توكيدها» حسبما هو المعهود في أثناء العهود لا على أن يكون النهي مقيدا بالتوكيد مختصا به «وقد جعلتم الله عليكم كفيلا» شاهدا رقيبا فإن الكفيل مراع لحال المكفول به محافظ عليه «إن الله يعلم ما تفعلون» من نقض الأيمان والعهود فيجازيكم على ذلك «ولا تكونوا» فيما تصنعون من النقض «كالتي نقضت غزلها» أي ما غزلته مصدر بمعنى المفعول «من بعد قوة» متعلق بنقضت أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامه «أنكاثا» طاقات نكثت فتلها جمع نكث وانتصابه على الحالية من غزلها أو على أنه مفعول ثان لنقضت فإنه بمعنى صيرت والمراد تقبيح حال النقض بتشبيه الناقض بمثل هذه الخرقاء المعتوهة قيل هي ريطة بنت سعد بن تيم وكانت خرقاء اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن «تتخذون أيمانكم دخلا بينكم» حال من الضمير في لا تكونوا أو في الجار والمجرور الواقع موقع الخبر أي مشابهين لا مرأة شأنها هذا حال كونكم متخذين أيمانكم مفسدة ودخلا بينكم وأصل الدخل ما يدخل الشيء ولم يكن منه «أن تكون أمة» أي بأن تكون جماعة «هي أربى» أي أزيد عددا وأوفر مالا «من أمة» من جماعة أخرى أي لا تغدروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة منابذيهم وقوتهم كقريش فإنهم كانوا إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم وحالفوا أعداءهم «إنما يبلوكم الله به» أي بأن تكون أمة أربى من أمة أي يعاملكم بذلك معاملة من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم أم تغترون بكثرة قريش وشوكتهم وقلة المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال «وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون» حين جازاكم بأعمالكم ثوابا وعقابا «ولو شاء الله» مشيئة قسر وإلجاء «لجعلكم أمة واحدة» متفقة على الإسلام «ولكن» لا يشاء ذلك لكونه مزاحما لقضية الحكمة بل «يضل من يشاء» إضلاله أي يخلق فيه الضلال حسبما يصرف اختياره الجزئي إليه «ويهدي من يشاء» هدايته حسبما يصرف اختياره إلى تحصيلها «ولتسألن» جميعا يوم القيامة «عما كنتم تعملون» في الدنيا وهذا إشارة إلى ما لوح به من الكسب الذي عليه يدور أمر الهداية والضلال
137 «ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم» تصريح بالنهي عنه بعد التضمين تأكيدا ومبالغة في بيان قبح المنهي عنه وتمهيدا لقوله سبحانه «فتزل قدم» عن محجة الحق «بعد ثبوتها» عليها ورسوخها فهيا بالإيمان وإفراد القديم وتنكيرها للإيذان بأن زلل قدم واحدة أي قدم كانت عزت أو هانت محذور عظيم فكيف بأقدام كثيرة «وتذوقوا السوء» أي العذاب الدنيوي «بما صددتم» بصدودكم أو بصدكم غيركم «عن سبيل الله» الذين ينتظم الوفاء بالعهود والأيمان فإن من نقض البيعة وارتد جعل ذلك سنة لغيره «ولكم» في الآخرة «عذاب عظيم» «ولا تشتروا بعهد الله» أي لا تأخذوا بمقابلة عهده تعالى وبيعة رسوله صلى الله عليه وسلم أو آياته الناطقة بإيجاب المحافظة على العهود والأيمان «ثمنا قليلا» أي لا تستبدلوا بها عرضا يسيرا وهو ما كانت قريش يعدون ضعفة المسلمين ويشترطون لهم على الارتداد من حطام الدنيا «إنما عند الله» عز وجل من النصر والتغنيم والثواب الأخروي «هو خير لكم» مما يعدونكم «إن كنتم تعلمون» أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز وهو تعليل للنهي على طريقة التحقيق كما أن قوله تعالى «ما عندكم» تعليل للخيرية بطريق الاستئناف أي ما تتمتعون به من نعيم الدنيا وإن جل بل الدنيا وما فيها جميعا «ينفد» وإن جم عدده وينقضى وإن طال أمده «وما عند الله» من خزائن رحمته الدنيوية والأخروية «باق» لا نفاذ له أما الأخروية فظاهرة وأما الدنيوية فحيث كانت موصولة بالأخروية ومستتبعة لها فقد انتظمت في سمط الباقيات الصالحات وفي إيثار الاسم على صيغة المضارع من الدلالة على الدوام ما لا يخفى وقوله تعالى «ولنجزين» بنون العظمة على طريقة الالتفات تكرير الموعد المستفاد من قوله تعالى إن ما عند الله هو خير لكم على نهج التوكيد القسمي مبالغة في الحمل على الثبات في الدين والالتفات عما يقتضيه ظاهر الحال من أن يقال ولنجزينكم أجركم بأحسن ما كنتم تعملون للتوسل إلى التعرض لأعمالهم والإشعار بعليتها للجزاء أي والله لنجزين «الذين صبروا» على أذية المشركين ومشاق الإسلام التي من جملتها الوفاء بالعهود والفقر وقرئ بالياء من غير التفات «أجرهم» مفعول ثان لنجزين أي لنعطينهم أجرهم الخاص بهم بمقابلة صبرهم على ما منوا به من الأمور المذكورة «بأحسن ما كانوا يعملون» أي لنجزينهم بما كانوا يعملونه من الصبر المذكور وإنما أضيف إليه الأحسن للإشعار بكمال حسنه كما في قوله سبحانه وحسن ثواب الآخرة لا لإفادة قصر الجزاء على الأحسن منه دون الحسن فإن ذلك مما لا يخطر ببال أحد لا سيما بعد قوله تعالى أجرهم أو لنجزينهم بحسب أحسن أفراد أعمالهم المذكور على معنى لنعطيهم بمقابلة الفرد الأدنى من أعمالهم المذكورة ما نعطيه بمقابلة الفرد الأعلى منها من الأجر الجزيل لا أنا نعطي الأجر بحسب
138 أفرادها المتفاوتة في مراتب الحسن بأن نجزي الحسن منها بالأجر الحسن والأحسن بالأحسن وفيه ما لا يخفى من العدة الجميلة باغتفار ما عسى يعتريهم في تضاعيف الصبر من بعض جزع ونظمه في سلك الصبر الجميل أو لنجزينهم بجزاء أحسن من أعمالهم وأما التفسير بما ترجح فعله من أعمالهم كالواجبات والمندوبات أو بما ترجح تركه أيضا كالمحرمات والمكروهات دلالة على أن ذلك هو المدار للجزاء دون ما يستوي فعله وتركه كالمباحات فلا يساعده مقام الحث على الثبات على ما هم عليه من الأعمال الحسنة المخصوصة والترغيب في تحصيل ثمراتها بل التعرض لإخراج بعض أعمالهم عن مدارية الجزاء من قبيل تحجير الرحمة الواسعة في مقام توسيع حماما «من عمل صالحا» أي عملا صالحا أي عمل كان وهذا شروع في تحريض كافة المؤمنين على كل عمل صالح غب ترغيب طائفة منهم في الثبات على ما هم عليه من عمل صالح مخصوص دفعا لتوهم اختصاص الأجر الموفور بهم وبعملهم المذكور وقوله تعالى «من ذكر أو أنثى» مبالغة في بان شموله للكل «وهو مؤمن» قيده به إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب أو تخفيف العذاب لقوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وإيثار إيراده بالجملة الاسمية الحالية على نظمه في سلك الصلة لإفادة وجوب دوامه ومقارنته للعمل الصالح «فلنحيينه حياة طيبة» في الدنيا يعيش عيشا طيبا أما إن كان موسرا فظاهر وأما إن كان معسرا فيطيب عيشه بالقناعة والرضى بالقسمة وتوقع الأجر العظيم كالصائم يطيب نهاره بملاحظة نعيم ليله بخلاف الفاجر فإنه إن كان معسرا فظاهر وإن كان موسرا فلا يدعه الحرص وخوف الفوات أن يتهنأ بعيشه «ولنجزينهم» في الآخرة «أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون» حسبما نفعل بالصابرين فليس فيه شائبة تكرار والجمع في الضمائر العائدة إلى الموصول لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد فيما سلف لرعاية جانب اللفظ وإيثار ذلك على العكس لما أن وقوع الجزاء بطريق الاجتماع المناسب للجمعية ووقوع ما في حيز الصلة وما يترتب عليه بطريق الافتراق والتعاقب الملائم للإفراد وإذ قد انتهى الأمر إلى أن مدار الجزاء المذكور هو صلاح العمل وحسنه رتب عليه بالفاء الإرشاد إلى ما به يحسن العمل الصالح ويخلص عن شوب الفاسد فقيل «فإذا قرأت القرآن» أي إذا أردت قراءته عبر بها عن إرادتها على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب إيذانا بأن المراد هي الإرادة المتصلة بالقراءة «فاستعذ بالله» فاسأله عز جاره أن يعيذك «من الشيطان الرجيم» من وساوسه وخطراته كيلا يوسوسك عند القراءة فإن له همة بذلك قال تعالى «وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته» الآية وتوجيه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخصيص قراءة القرآن من بين الأعمال الصالحة بالاستعاذة عند إرادتها للتنبيه على أنها لغيره صلى الله عليه وسلم وفي سائر الأعمال
139 الصالحة أهم فإنه صلى الله عليه وسلم حيث أمر بها عند قراءة القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فما ظنكم بمن عداه صلى الله عليه وسلم فما عدا القراءة من الأعمال والأمر للندب وهذا مذهب الجمهور وعند عطاء للوجوب وقد أخذ بظاهر النظم الكريم فاستعاذ عقيب القراءة أبو هريرة رضي الله عنه ومالك وابن سيرين وداود وحمزة من القراء وعن ابن مسعود رضي الله عنه قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم فقال صلى الله عليه وسلم قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم هكذا أقرأنيه جبريل عليه السلام عن القلم عن اللوح المحفوظ «أنه» الضمير للشأن أو للشيطان «ليس له سلطان» تسلط وولاية «على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون» أي إليه يفوضون أمروهم وبه يعوذون في كل ما يأتون وما يذرون فإن وسوسته لا تؤثر فيهم ودعوته غير مستجابة عندهم وإيثار صيغة الماضي في الصلة الأولى للدلالة على التحقق كما أن اختيار صيغة الاستقبال في الثانية لإفادة الاستمرار التجددي وفي التعرض لوصف الربوبية عدة كريمة بإعادة المتوكلين والجملة تعليل للأمر بالاستعاذة أو لجوابه المنوي أي يعذك أو نحوه «إنما سلطانه» أي تسلطه وولايته بدعوته المستتبعة للاستجابة لا سلطانه بالقسر والإلجاء فإنه منتف عن الفريقين لقوله سبحانه حكاية عنه وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي وقد أفصح عنه قوله تعالى «على الذين يتولونه» أي يتخذونه وليا ويستجيبون دعوته ويطيعونه فإنه المقسور بمعزل من ذلك «والذين هم به» سبحانه وتعالى «مشركون» أو بسبب الشيطان مشركون إذ هو الذي حملهم على الإشراك بالله سبحانه وقصر سلطانه عليهم غب نفيه عن المؤمنين المتوكلين دليل على أن لا واسطة في الخارج بين التوكل على الله تعالى وبين تولي الشيطان وإن كان بينهما واسطة في المفهوم وأن من لم يتوكل عليه تعالى ينتظم في سلك من يتولى الشيطان من حيث لا يحتسب إذ به يتم التعليل ففيه مبالغة في الحمل على التوكل والتحذير عن مقابله وإيثار الجملة الفعلية الاستقبالية في الصلة الأولى لما مر من إفادة الاستمرار التجددي كما أن اختيار الجملة الاسمية في الثانية للدلالة على الثبات وتكرير الموصول للاحتراز عن توهم كون الصلة الثانية حالية مفيدة لعدم دخول غير المشركين من أولياء الشيطان تحت سلطانه وتقديم الأولى على الثانية التي هي بمقابلة الصلة الأولى فيما سلف لرعاية المقارنة بينها وبين ما يقابلها من التوكل على الله تعالى ولو روعي الترتيب السابق لا نفصل كل من القرينتين عما يقابلها «وإذا بدلنا آية مكان آية» أي إذا أنزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها «والله أعلم بما ينزل» أولا وآخرا وبأن كلا من ذلك ما نزلت حيثما نزلت إلا حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة فإن
140 كل وقت له مقتض غير مقتضي الآخر فكم من مصلحة في وقت تنقلب في وقت آخر مفسدة وبالعكس لانقلاب الأمور الداعية إلى ذلك وما الشرائع إلا مصالح للعباد في المعاش والمعاد تدور حسبما تدور المصالح والجملة إما معترضة لتوبيخ الكفرة والتنبيه على فساد رأيهم وفي الالتفات إلى الغيبة مع إسناد الخبر إلى الاسم الجليل المستجمع للصفات ما لا يخفى من تربية المهابة وتحقيق معنى الاعتراض أو حالية وقرئ بالتخفيف من الإنزال «قالوا» أي الكفرة الجاهلون بحكمة النسخ «إنما أنت مفتر» أي متقول على الله تعالى تأمر بشيء ثم يبدو لك فتنهى عنه وحكاية هذا القول عنهم ههنا للإيذان بأن ذلك كفرة ناشئة من نزغات الشياطين وأنه وليهم «بل أكثرهم لا يعلمون» أي لا يعملون شيئا أصلا أو لا يعلمون أن في النسخ حكما بالغة وإسناد هذا الحكم إلى الأكثر لما أن منهم من يعلم ذلك وإنما ينكره عنادا «قل نزله» أي القرآن المدلول عليه بالآية «روح القدس» يعني جبريل عليه السلام أي الروح المطهر من الأدناس البشرية وإضافة الروح إلى القدس وهو الطهر كإضافة حاتم إلى الجود حيث قيل حاتم الجود للمبالغة في ذلك الوصف كأنه طبع منه وفي صيغة التفعيل في الموضعين إشعار بأن التدريج في الإنزال مما تقتضيه الحكم البالغة «من ربك» في إضافة الرب إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من الدلالة على تحقيق إفاضة آثار الربوبية عليه صلى الله عليه وسلم ما ليس في إضافته إلى ياء المتكلم المبنية على التلقين المحض «بالحق» أي ملتبسا بالحق الثابت الموافق للحكمة المقتضية له بحيث لا يفارقها إنشاء ونسخا وفيه دلالة على أن النسخ حق «ليثبت الذين آمنوا» على الإيمان بأنه كلامه تعالى فإنهم إذا سمعوا الناسخ وتدبروا ما فيه من رعاية المصالح اللائقة بالحال رسخت عقائدهم واطمأنت قلوبهم وقرئ ليثبت من الإفعال «وهدى وبشرى للمسلمين» المنقادين لحكمه تعالى وهما معطوفان على محل ليثبت أي تثبيتا وهداية وبشارة وفيه تعريض بحصول أضداد الأمور المذكورة لمن سواهم من الكفار «ولقد نعلم أنهم يقولون» غير ما نقل عنهم من المقالة الشنعاء «إنما يعلمه» أي القرآن «بشر» على طريق البت مع ظهور أنه نزله روح القدس عليه الصلاة والسلام وتحلية الجملة بفنون التأكيد لتحقيق ما تتضمنه من الوعيد وصيغة الاستقبال لإفادة استمرار العلم بحسب الاستمرار التجددي في متعلقه فإنهم مستمرون على تفوه تلك العظيمة يعنون بذلك جبر الرومي غلام عامر بن الحضرمي وقيل جبرا ويسيرا كانا يصنعان السيف بمكة ويقرآن التوراة والإنجيل وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يمر عليهما ويسمع ما يقرآنه قيل عابسا غلام حويطب بن عيد العزي قد أسلم وكان صاحب كتب وقيل سلمان الفارسي وإنما لم يصرح باسم من زعموا أنه يعلمه مع كونه أدخل في ظهور كذبهم للإيذان بأن مدار خطابهم ليس بنسبته عليه السلام إلى التعلم من شخص معين بل من البشر كائنا من كان مع كونه عليه
141 السلام معدنا لعلوم الأولين والآخرين «لسان الذي يلحدون إليه أعجمي» الإلحاد الإمالة من ألحد القبر إذا أمال حفره عن الاستقامة فحفر في شق منه ثم استعير لكل إمالة عن الاستقامة فقالوا ألحد فلان في قوله وألحد في دينه أي لغة الرجل الذي يميلون إليه القول عن الاستقامة أعجمية غير بينة وقرئ بفتح الياء والحاء وبتعريف اللسان «وهذا» أي القرآن الكريم «لسان عربي مبين» ذو بيان وفصاحة والجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم وتقريره أن القرآن معجز بنظمه كما أنه معجز بمعناه فإن زعمتم أن بشرا يعلمه معناه فكيف يعلمه هذا النظم الذي أعجز جميع أهل الدنيا والتشبث في أثناء الطعن بأذيال أمثال هذه الخرافات الركيكة دليل كمال عجزهم «إن الذين لا يؤمنون بآيات الله» أي لا يصدقون انها من عند الله بل يقولون فيها ما يقولون يسمونها تارة افتراء وأخرى أساطير معلمة من البشر «لا يهديهم الله» إلى الحق أو إلى سبيل النجاة هداية موصلة إلى المطلوب لما علم أنهم لا يستحقون ذلك لسوء حالهم «ولهم» في الآخرة «عذاب أليم» وهذا تهديد لهم ووعيد على ما هم عليه من الكفر بآيات الله تعالى ونسبة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الافتراء والتعلم من البشر بعد إماطة شبهتهم ورد طعنهم وقوله تعالى «إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله» رد لقولهم إنما أنت مفتر وقلب للأمر عليهم ببيان أنهم هم المفترون بعد رده بتحقيق أنه منزل من عند الله بواسطة روح القدس وإنما وسط بينهما قوله تعالى ولقد نعلم الآية لما لا يخفى من شدة اتصاله بالرد الأول والمعنى والله تعالى أعلم أن المفترى هو الذين يكذب بآيات الله ويقول إنه افتراء ومعلم من البشر أي تكذيبها على الوجه المذكور هو الافتراء على الحقيقة لأن حقيقته الكذب والحكم بأن ما هو كلامه تعالى ليس بكلامه تعالى في كونه كذبا وافتراء كالحكم بأن ما ليس بكلامه تعالى كلامه تعالى والتصريح بالكذب للمبالغة في بيان قبحه وصيغة المضارع لرعاية المطابقة بينه وبين ما هو عبارة عنه أعني قوله لا يؤمنون وقيل المعنى إنما يفتري الكذب ويليق ذلك بمن لا يؤمن بآيات الله لأنه لا يتقرب عقابا عليه ليرتدع عنها وأما من يؤمن بها ويخاف ما نطقت به من العقاب فلا يمكن أن يصدر عنه افتراء البتة «وأولئك» الموصوفون بما ذكر من عدم الإيمان بآيات الله «هم الكاذبون» على الحقيقة أو الكاملون في الكذب إذ لا كذب أعظم من تكذيب آياته تعالى والطعن فيها بأمثال هاتيك الأباطيل والسر في ذلك أن الكذب الساذج الذي هو عبارة عن الإخبار بعدم وقوع ما هو واقع في نفس الأمر بخلق الله تعالى أو بوقوع ما لم يقع كذلك مدافعة لله تعالى في فعله فقط والتكذيب مدافعة له سبحانه في فعله وقوله المنبئ عنه معا أو الذين عادتهم الكذب لا يزعهم عنه وازع من دين أو مروءة وقيل الكاذبون في قولهم إنما أنت مفتر «من كفر بالله» أي تلفظ بكلمة الكفر «من بعد إيمانه» به تعالى وهو ابتداء كلام لبيان حال
142 من كفر بآيات الله بعد ما آمن بها بعد بيان حال من لم يؤمن بها رأسا ومن موصولة ومحلها الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة الخبر الآتي عليه أو هو خبر لهما معا أو النصب على الذم «إلا من أكره» على ذلك بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه وهو استثناء متصل من حكم الغضب والعذاب أو الذم لأن الكفر لغة يتم بالقول كما أشير إليه وقوله تعالى «وقلبه مطمئن بالإيمان» حال من المستثنى والعامل هو الكفر الواقع بالإكراه لا نفس الاكراه لأن مقارنة اطمئنان القلب بالإيمان للإكراه لا تجدى نفعا وإنما المجدى مقارنته للكفر الواقع به أي إلا من كفر بإكراه من إلا من أكره فكفروا والحال أن قلبه مطمئن بالإيمان لم تتغير عقيدته وإنما لم يصرح به إيماء إلى أنه ليس بكفر حقيقة وفيه دليل على أن الإيمان هو التصديق بالقلب «ولكن من» لم يكن كذلك بل «شرح بالكفر صدرا» أي اعتقده وطاب به نفسا «فعليهم غضب» عظيم لا يكتنه كنهه «من الله» إظهار الاسم الجليل لتربية المهابة وتقوية تعظيم العذاب «ولهم عذاب عظيم» إذ لا جرم أعظم من جرمهم والجمع في الضميرين المجرورين لمراعاة جانب المعنى كما أن الإفراد في المستكن في الصلة لرعاية جانب اللفظ روى أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فأباه أبواه فربطوا سمية بين بعيرين ووجئت بحربة في قبلها وقالوا إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا يسارا وهما أول قتيلين في الإسلام وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوا عليه فقيل يا رسول الله إن عمارا كفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال مالك إن عادوا لك فعد لهم بما قلت وهو دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه الملجئ وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا للدين كما فعله أبواه وروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما ما تقول في محمد قال رسول الله قال فما تقول في قال أنت أيضا فخلاه وقال للآخر ما تقول في محمد قال رسول الله قال فما تقول في قال أنا أصم فأعاد ثلاثا فأعاد جوابه فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أما الأول فقد أخذ برخصة وأما الثاني فقد صدع بالحق «ذلك» إشارة إلى الكفر بعد الإيمان أو إلى الوعيد المذكور «بأنهم» بسبب أنهم «استحبوا الحياة الدنيا» آثروها «على الآخرة وأن الله لا يهدي» إلى الإيمان وإلى ما يوجب الثبات عليه هداية قسروا إلجاء «القوم الكافرين» في علمه المحيط فلا يعصمهم عن الزيغ وما يؤدي إليه من الغضب والعذاب العظيم ولولا أحدا لأمرين إما إيثار الحياة الدنيا على الآخرة وإما عدم هداية الله سبحانه للكافرين هداية قسر بأن آثروا الآخرة على الدنيا أو بأن هداهم الله تعالى هداية قسر لما كان ذلك لكن الثاني مخالف للحكمة والأول مما لا يدخل تحت الوقوع وإليه أشير بقوله تعالى «أولئك» أي أولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح «الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم» فأبت عن إدراك الحق والتأمل فيه «وأولئك هم
143 الغافلون» أي الكاملون في الغفلة إذ لا غفلة أعظم من الغفلة عن تدبر العواقب «لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون» إذ ضيعوا أعمارهم وصرفوها إلى مالا يفضي إلا إلى العذاب المخلد «ثم إن ربك للذين هاجروا» إلى دار الإسلام وهم عمار وأصحابه رضي الله عنهم أي لهم بالولاية والنصر لا عليهم كما يوجبه ظاهر أعمالهم السابقة فالجار والمجرور خبر لأن ويجوز أن يكون خبرها محذوفا لدلالة الخبر الآتي عليه ويجوز أن يكون ذلك خبرا لها وتكون إن الثانية تأكيدا للأولى وثم للدلالة على تباعد رتبة حالهم هذه عن رتبة حالهم التي يفيدها الاستثناء من مجرد الخروج عن حكم الغضب والعذاب بطريق الإشارة لا عن رتبة حال الكفرة «من بعد ما فتنوا» أي عذبوا على الارتداد وتلفظوا بما يرضيهم مع اطمئنان قلوبهم بالإيمان وقرئ على بناء الفاعل أي عذبوا المؤمنين كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتى ارتد ثم أسلما وهاجرا «ثم جاهدوا» في سبيل الله «وصبروا» على مشاق الجهاد «إن ربك من بعدها» من بعد المهاجرة والجهاد والصبر فهو تصريح بما أشعر به بناء الحكم على الموصول من عليه الصلة له أو من بعد الفتنة المذكورة فهو لبيان عدم إخلال ذلك بالحكم «لغفور» لما فعلوا من قبل «رحيم» ينعم عليهم مجازاة على ما صنعوا من بعد وفي التعرض لعنوان الربوبية في الموضعين إيماء إلى علة الحكم وفي إضافة الرب إلى ضميره عليه السلام مع ظهور الأثر في الطائفة المذكورة إظهار لكمال اللطف به عليه السلام وإشعار بأن إفاضة آثار الربوبية عليهم من المغفرة والرحمة بواسطته عليه السلام ولكونهم أتباعا له «يوم تأتي كل نفس» منصوب برحيم وما رتب عليه أو بالذكر وهو يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين «تجادل عن نفسها» عن ذاتها تسعى في خلاصها بالاعتذار لا يهمها شأن غيرها فتقول نفسي نفسي «وتوفى كل نفس» أي تعطى وافيا كاملا «ما عملت» أي جزاء ما عملت بطريق إطلاق اسم السبب على المسبب إشعارا بكمال الاتصال بين الأجزية والأعمال وإيثار الإظهار على الإضمار لزيادة التقرير وللإيذان باختلاف وفتى المجادلة والتوفية وإن كانتا في يوم واحد «وهم لا يظلمون» لا ينقصون أجورهم أولا يعاقبون بغير موجب ولا يزاد في عقابهم على ذنوبهم «وضرب الله مثلا قرية» قيل ضرب المثل صنعه واعتماله وقد مر تحقيقه في سورة البقرة ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحد وإنما عدى إلى الاثنين لتضمنه معنى الجعل وتأخير قرية مع كونها
144 مفعولا أول لئلا يحول المفعول الثاني بينها وبين صفتها وما يترتب عليها إذ التأخير عن الكل مخل بتجاذب أطراف النظم وتجاوبها ولأن تأخير ما حقه التقديم مما يورث النفس ترقبا لوروده وتشوقا إليه لا سيما إذا كان في المقدم ما يدعو إليه فإن المثل مما يدعو إلى المحافظة على لا تفاصيل أحوال ما هو مثل فيتمكن المؤخر عند وروده لديها فضل تمكن والقرية إما محققة في الغابرين وإما مقدرة أي جعلها مثلا لأهل مكة خاصة أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمة ففعلوا ما فعلوا فبدل الله تعالى بنعمتهم نقمة ودخل فيهم أهل مكة دخولا أوليا «كانت آمنة» ذات أمن من كل مخوف «مطمئنة» لا يزعج أهلها مزعج «يأتيها رزقها» أقوات أهلها صفة ثانية لقرية وتغيير سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيان رزقها متجدد وكونها آمنة مطمئنة ثابت مستمر «رغدا» واسعا «من كل مكان» من نواحيها «فكفرت» أي كفر أهلها «بأنعم الله» أي بنعمه جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء كدرع وأدرع أو جمع نعم كبؤس وأبؤس والمراد بها نعمة الرزق والأمن المستمر وإيثار جمع القلة للإيذان بأن كفران نعمة قلية حيث أوجب هذا العذاب فما ظنك بكفران نعم كثيرة «فأذاقها الله» أي أذاق أهلها «لباس الجوع والخوف» شبه أثر الجوع والخوف وضررهما المحيط بهم باللباس الغاشي للابس فاستعير له اسمه وأوقع عليه الإذاقة المستعارة لمطلق الإيصال المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة على نهج التجريد فإنها لشيوع استعمالها في ذلك وكثرة جريانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقة كقول كثير [غمر الرداء إذا تبسم ضاحكا غلقت لضحكته رقاب المال] فإن الغمر مع كونه في الحقيقة من أحوال الماء الكثير لما كان كثير الاستعمال في المعروف المشبه بالماء الكثير جري مجرى الحقيقة فصارت إضافته إلى الرداء المستعار للمعروف تجريدا أو شبه أثرهما وضررهما من حيث الإحاطة بهم والكراهة لديهم تارة باللباس الغاشي للابس المناسب للخوف بجامع الإحاطة واللزوم تشبيه معقول بمحسوس فاستعير له اسمه استعارة تصريحية وأخرى بطعم المر البشع الملائم للجوع الناشئ من فقد الرزق بجامع الكراهة فأومى إليه بأن أوقع عليه الإذاقة المستعارة لإيصال المضار المنبئة عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكي اللامسة والذائقة وتقديم الجوع الناشئ مما ذكر من فقدان الرزق على الخوف المترتب على زوال الأمن المقدم فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسب بالإذاقة أو لمراعاة المقارنة بينها وبين إتيان الرزق وقد قرئ بتقديم الخوف وبنصبه أيضا عطفا على المضاف أو إقامة له مقام مضاف محذوف وأصله ولبسا الخوف «بما كانوا يصنعون» فيما قبل أو على وجه الاستمرار وهو الكفران المذكور أسند ذلك إلى أهل القرية تحقيقا للأمر بعد إسناد الكفران إليها وإيقاع الإذاقة عليها إرادة للمبالغة وفي صيغة الصنعة إيذان بأن كفران نعمة صار صنعة راسخة لهم وسنة مسلوكة «ولقد جاءهم» من تتمة المثل جئ بها لبيان أن ما فعلوه من كفران النعم لم يكن مزاحمة منهم لقضية العقل فقط بل كان ذلك معارضة لحجة الله على
145 الخلق أيضا أي ولقد جاء أهل تلك القرية «رسول منهم» أي من جنسهم يعرفونه بأصله ونسبه فأخبرهم بوجوب الشكر على النعمة وأنذرهم سوء عاقبة ما يأتون وما يذرون «فكذبوه» في رسالته أو فيما أخبرهم به مما ذكر فالفاء فصيحة وعدم ذكره للإيذان بمفاجأتهم بالتكذيب من غير تلعثم «فأخذهم العذاب» المستأصل لشأفتهم غب ما ذاقوا نبذة من ذلك «وهم ظالمون» أي حال التباسهم بما هم عليه من الظلم الذي هو كفران نعم الله تعالى وتكذيب رسوله غير مقلعين عنه بما ذاقوا من مقدماته الزاجرة عنه وفيه دلالة على تماديهم في الكفر والعناد وتجاوزهم في ذلك كل حد معتاد وترتيب العذاب على تكذيب الرسول جرى على سنة الله تعالى حسبما يرشد إليه قوله سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وبه يتم التمثيل فإن حال أهل مكة سواء ضرب المثل لهم خاصة أو لمن سار سيرتهم كافة محاذية لحال أهل تلك القرية حذو القذة بالقذة من غير تفاوت بينهما ولو في خصلة فذة كيف لا وقد كانوا في حرم آمن ويتخطف الناس من حولهم وما يمر ببالهم طيف من الخوف وكانت تجبى إليه ثمرات كل شيء ولقد جاءهم رسول منهم وأي رسول يحار في إدراك سمو رتبته العقول صلى الله عليه وسلم ما اختلف الدبور والقبول فكفروا بأنعم الله وكذبوا رسوله صلى الله عليه وسلم فأذاقهم الله لباس الجوع والخوف حيث أصابهم بدعائه صلى الله عليه وسلم بقوله اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف ما أصابهم من جدب شديد وأزمة حصت كل شيء حتى اضطرتهم إلى أكل الجيف والكلاب الميتة والعظام المحرفة والعلهز وهو الوبر المعالج بالدم وقد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث كانوا يغيرون على مواشيهم وعيرهم وقوافلهم ثم أخذهم يوم بدر ما أخذهم من العذاب هذا هو الذي يقتضيه المقام ويستدعيه حسن النظام وأما ما أجمع عليه أكثر أهل التفسير من أن الضمير في قوله تعالى ولقد جاءهم لأهل مكة قد ذكر حالهم صريحا بعد ما ذكر مثلهم وأن المراد بالرسول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالعذاب ما أصابهم من الجدب ووقعة بدر فبمعزل من التحقيق كيف لا وقوله سبحانه «فكلوا مما رزقكم الله» مفرع على نتيجة التمثيل وصد لهم عما يؤدي إلى مثل عاقبته والمعنى وإذ قد استبان لكم حال من كفر بأنعم الله وكذب رسوله وما حل بهم بسبب ذلك من اللتيا والتي أولا وآخرا فانتهوا عما أنتم عليه من كفران النعم وتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم كيلا يحل بكم مثل ما حل بهم واعرفوا حق نعم الله تعالى وأطيعوا رسوله صلى الله عليه وسلم في أمره ونهيه وكلوا من رزق الله حال كونه «حلالا طيبا» وذروا ما تفترون من تحريم البحائر ونحوها «واشكروا نعمة الله» واعرفوا حقها ولا تقابلوها بالكفران والفاء في المعنى داخلة على الأمر بالشكر وإنما أدخلت على الأمر بالأكل لكون الأكل ذريعة إلى الشكر فكأنه قيل فاشكروا نعمة الله غب أكلها حلالا طيبا وقد أدمج فيه النهى عن زعم الحرمة ولا ريب في أن هذا إنما يتصور حين كان العذاب المستأصل متوقعا بعدو قد تمهدت مباديه وبعدما وقع ما وقع فمن ذا الذي يحظر ومن ذا الذي يؤمر بالأكل والشكر وحمل قوله تعالى فأخذهم العذاب وهم ظالمون على الأخبار بذلك قبل الوقوع يأباه الصدى لاستصلاحهم بالأمر والنهي وتوجيه خطاب الأمر بالأكل إلى المؤمنين
146 مع أن ما يتلوه من خطاب النهي متوجه إلى الكفار كما فعله الواحدي حيث قال فكلوا أنتم يا معشر المؤمنين مما رزقكم الله من الغنائم مما لا يليق بشأن التنزيل الجليل «إن كنتم إياه تعبدون» أي تطيعون أو إن صح زعمكم أنكم تقصدون بعبادة الآلهة عبادته تعالى «إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به» تعليل لحل ما أمرهم بأكله مما رزقهم أي إنما حرم هذه الأشياء دون ما تزعمون حرمته من البحائر والسوائب ونحوها «فمن اضطر» بما اعتراه من الضرورة فتناول شيئا من ذلك «غير باغ» أي على مضطر آخر «ولا عاد» أي متجاوز قدر الضرورة «فإن ربك غفور رحيم» أي لا يؤاخذه بذلك فأقيم سببه مقامه وفي التعرض لوصف الربوبية إيماء إلى علة الحكم وفي الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم إظهار لكمال اللطف به صلى الله عليه وسلم وتصدير الجملة بإنما لحصر المحرمات في الأجناس الأربعة إلا ما ضم إليه كالسباع والحمر الأهلية ثم أكد ذلك بالنهي عن التحريم والتحليل بأهوائهم فقال «ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم» اللام صلة مثلها في قوله تعالى ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات أي لا تقولوا في شأن ما تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة في قولكم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير ترتب ذلك الوصف على ملاحظة وفكر فضلا عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه «الكذب» منتصب بلا تقولوا وقوله تعالى «هذا حلال وهذا حرام» بدل منه ويجوز أن يتعلق بتصف على إرادة القول أي لا تقولوا لما تصف ألسنتكم فتقول هذا حلال وهذا حرام وأن يكون القول المقدر حالا من ألسنتهم أي قائلة هذا حلال الخ ويجوز أن ينتصب الكذب بتصف ويتعلق هذا حلال الخ بلا تقولوا واللام للتعليل وما مصدرية أي لا تقولا هذا حلال وهذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب أي لا تحلوا ولا تحرموا لمجرد وصف ألسنتكم الكذب وتصويرها له بصورة مستحسنة وتزيينها له في المسامع كأن ألسنتهم لكونها منشأ للكذب ومنبعا للزور شخص عالم بكنهه ومحيط بحقيقته يصفه للناس ويعرفه أوضح وصف وأبين تعريف على طريقة الاستعارة بالكناية كما يقال وجهه يصف الجمال وعينه تصف السحر وقرئ بالجر صفة لما مع مدخولها كأنه قيل لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى بدم كذب والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة وقرب الكذب جمع كذوب بالرفع صفة للألسنة وبالنصب على الشتم أو بمعنى الكلم الكواذب أو هو جمع الكذاب من قولهم كذب كذبا ذكره ابن جني «لتفتروا على الله الكذب»
147 فإن مدار الحل والحرمة ليس إلا أمر الله تعالى فالحكم بالحل والحرمة إسناد للتحليل والتحريم إلى الله سبحانه من غير أن يكون ذلك منه واللام لام العاقبة «إن الذين يفترون على الله الكذب» في أمر من الأمور «لا يفلحون» لا يفوزون بمطالبهم التي ارتكبوا الافتراء للفوز بها «متاع قليل» خبر مبتدأ محذوف أي منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة «ولهم» في الآخرة «عذاب أليم» لا يكتنه كنهه «وعلى الذين هادوا» خاصة دون غيرهم من الأولين والآخرين «حرمنا ما قصصنا عليك» أي بقوله تعالى حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما الآية «من قبل» متعلق بقصصنا أو بحرمنا وهو تحقيق لما سلف من حصر المحرمات فيما فصل بإبطال ما يخالفه من فرية اليهود وتكذيبهم في ذلك فإنهم كانوا يقولون لسنا أول من حرمت عليه وإنما كانت محرمة على نوح وإبراهيم ومن بعدهما حتى انتهى المر إلينا «وما ظلمناهم» بذلك التحريم «ولكن كانوا أنفسهم يظلمون» حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه حسبما نعى عليهم قوله تعالى فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم الآية ولقد ألقمهم الحج قوله تعالى كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين روى أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك بهتوا ولم يجسروا أن يخرجوا التوراة كيف وقد بين فيها أن تحريم ما حرم عليهم من الطيبات لظلمهم وبغيهم عقوبة وتشديدا أوضح بيان وفيه تنبيه على الفرق بينهم وبين غيرهم في التحريم «ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة» أي بسبب جهالة أو ملتبسين بها ليعم الجهل بالله وبعقابه وعدم التدبر في العواقب لغلبة الشهوة والسوء يعم الافتراء على الله تعالى وغيره «ثم تابوا من بعد ذلك» أي من بعد ما عملوا ما عملوا والتصريح به مع دلالة ثم عليه للتأكيد والمبالغة «وأصلحوا» أي أصلحوا أعمالهم أو دخلوا في الصلاح «إن ربك من بعدها» من بعد التوبة «لغفور» لذلك السوء «رحيم» يثيب على طاعته تركا وفعلا وتكرير قوله تعالى إن ربك لتأكيد الوعد وإظهار كمال العناية بإنجازه والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم مع ظهور الأثر في التائبين للإيماء إلى أن إفاضة آثار الربوبية من المغفرة والرحمة عليهم بتوسطه صلى الله عليه وسلم وكونهم من أتباعه كما أشير إليه فيما مر «إن إبراهيم كان أمة» على حياله لحيازته من الفضائل البشرية ما لا تكاد توجد إلا متفرقة في
148 أمة جمة حسبما قيل [ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد] وهو رئيس أهل التوحيد وقدوة أصحاب التحقيق جادل أهل الشرك وألقمهم الحجر ببينات باهرة لا تبقى ولا تذر وأبطل مذاهبهم الزائغة بالبراهين القاطعة والحجج الدامغة أو لأنه صلى الله عليه وسلم كان مؤمنا وحده والناس كلهم كفار وقيل هي فعلة بمعنى مفعول كالرحلة والنخبة من أمه إذا قصده أو اقتدى به فإن الناس كانوا يقصدونه ويقتدون بسيرته لقوله تعالى إني جاعلك للناس إماما وإيراد ذكره صلى الله عليه وسلم عقيب تزييف مذاهب المشركين من الشرك والطعن في النبوة وتحريم ما أحله الله تعالى للإيذان بأن حقية دين الإسلام وبطلان الشرك وفروعه أمر ثابت لا ريب فيه «قانتا لله» مطيعا له قائما بأمره «حنيفا» مائلا عن كل دين باطل إلى الدين الحق غير زائل عنه بحال «ولم يك من المشركين» في أمر من أمور دينهم أصلا وفرعا صرح بذلك مع ظهوره لا ردا على كفار قريش فقط في قولهم نحن على ملة أبينا إبراهيم بل عليهم وعلى اليهود المشركين بقولهم عزير ابن الله في افترائهم وادعائهم أنه عليه الصلاة والسلام كان على ما هم عليه كقوله سبحانه ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنفيا مسلما وما كان من المشركين إذ به ينتظم أمر إيراد التحريم والسبت سابقا ولاحقا «شاكرا لأنعمه» صفة ثالثة لأمة وإنما أوثر صيغة جمع القلة للإيذان بأنه عليه السلام كان لا يخل بشكر النعمة القليلة فكيف بالكثيرة وللتصريح بكونه عليه السلام على خلاف ما هم عليه من الكفران بأنعم الله تعالى حسبما بين ذلك بضرب المثل «اجتباه» للنبوة «وهداه إلى صراط مستقيم» موصل إليه سبحانه وهو ملة الإسلام وليست نتيجة هذه الهداية مجرد اهتدائه عليه السلام بل مع إرشاد الخلق أيضا بمعونة قرينة الاجتباء «وآتيناه في الدنيا حسنة» حالة حسنة من الذكر الجميل والثناء فيما بين الناس قاطبة حتى أنه ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه وقيل هي الخلة والنبوة وقيل قول المصلي منا كما صليت على إبراهيم والالتفات إلى التكلم لإظهار كمال الاعتناء بشأنه وتفخيم مكانه عليه الصلاة والسلام «وإنه في الآخرة لمن الصالحين» أصحاب الدرجات العالية في الجنة حسبما سأله بقوله وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم «ثم أوحينا إليك» مع علو طبقتك وسمو رتبتك «أن اتبع ملة إبراهيم» الملة اسم لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء عليهم السلام من أمللت الكتاب إذا أمليته وهو الدين بعينه لكن باعتبار الطاعة له وتحقيقه أن الوضع الإلهي مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى يسمى ملة ومهما نسب إلى من يقيمه ويعمل به يسمى دينا قال الراغب الفرق بينهما أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا تكاد توجد مضافة إلى الله سبحانه ولا إلى آحاد الأمة ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها والمراد بملته عليه السلام الإسلام الذي عبر عنه آنفا بالصراط المستقيم «حنيفا»
149 حال من المضاف إليه لما أن المضاف لشدة اتصاله به عليه السلام جرى منه مجرى البعض فعد بذلك من قبيل رأيت وجه هند قائمة والمأمور به الاتباع في الأصول دون الشرائع المتبدلة بتبدل الأعصار وما في ثم من التراخي في الرتبة للإيذان بأن هذه النعمة من أجل النعم الفائضة عليه السلام «وما كان من المشركين» تكرير لما سبق لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عليه السلام عما هم عليه من عقد وعمل وقوله تعالى «إنما جعل السبت» أي فرض تعظيمه والتخلي فيه للعبادة وترك الصيد فيه تحقيق لذلك النفي الكلي وتوضيح له بإبطال ما عسى يتوهم كونه قادحا في كليته حسبما سلف في قوله تعالى وعلى الذين هادوا حرمنا الخ فإن اليهود كانوا يدعون أن السبت من شعائر الإسلام وأن إبراهيم عليه السلام كان محافظا عليه أي ليس السبت من شرائع إبراهيم وشعائر ملته التي أمرت باتباعها حتى يكون بينه عليه الصلاة والسلام وبين بعض المشركين علاقة في الجملة وإنما شرع ذلك لبني إسرائيل بعد مدة طويلة وإيراد الفعل مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وإيذان بعدم الحاجة إلى التصريح بالفاعل لاستحالة الإسناد إلى الغير وقد قرئ على البناء للفاعل وإنما عبر عن ذلك بالجعل موصولا بكلمة على وعنهم بالاسم الموصول باختلافهم فقيل إنما جعل السبت «على الذين اختلفوا فيه» للإيذان بتضمنه للتشديد والابتلاء المؤدي إلى العذاب وبكونه معللا باختلافهم في شأنه قبل الوقوع إيثارا له على ما أمر الله تعالى به واختيارا للعكس لكن لا باعتبار شمول العلية لطرفي الاختلاف وعموم الغائلة للفريقين بل باعتبار حال منشأ الاختلاف من الطرف المخالف للحق وذلك أن موسى عليه الصلاة والسلام أمر اليهود أن يجعلوا في الأسبوع يوما واحدا للعبادة وأن يكون ذلك يوم الجمعة فأبوا عليه وقالوا نريد اليوم الذي فرغ الله تعالى فيه من خلق السماوات والأرض وهو السبت إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة فأذن الله تعالى لهم في السبت وابتلاهم بتحريم الصيد فيه فأطاع أمر الله تعالى الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله سبحانه قردة دون أولئك المطيعين «وإن ربك ليحكم بينهم» أي بين الفريقين المختلفين فيه «يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون» أي يفصل ما بينهما من الخصومة والاختلاف فيجازي كل فريق بما يستحقه من الثواب والعقاب وفيه إيماء إلى أن ما وقع في الدنيا من مسخ أحد الفريقين وإنجاء الآخر بالنسبة إلى ما سيقع في الآخرة شيء لا يعتد به هذا هو الذي يستدعيه الإعجاز التنزيلي وقيل المعنى إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه أي أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه أخرى وكان حتما عليهم أن يتفقوا على تحريمه حسبما أمر الله سبحانه به وفسر الحكم بينهم بالمجازاة باختلاف أفعالهم بالإحلال تارة والتحريم أخرى ووجه إيراده ههنا بأنه أريد به إنذار المشركين من سخط الله تعالى على العصاة والمخالفين لأوامره كضرب المثل بالقرية التي كفرت بأنعم الله تعالى ولا ريب في أن كلمة بينهم تحكم بأن المراد بالحكم هو فصل ما بين الفريقين من الاختلاف وأن توسيط حديث المسخ للإنذار المذكور بين
150 حكاية أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه الصلاة والسلام وبين أمره صلى الله عليه وسلم بالدعوة إليها من قبيل الفصل بين الشجر ولحائه فتأمل «ادع» أي من بعثت إليهم من الأمة قاطبة فحذف المفعول للتعميم أو افعل الدعوة كما في قولهم يعطي ويمنع أي يفعل الإعطاء والمنع فحذفه للقصد إلى إيجاد نفس الفعل إشعارا بأن عموم الدعوة غني عن البيان وإنما المقصود الأمر بإيجادها على وجه مخصوص «إلى سبيل ربك» إلى الإسلام الذي عبر عنه تارة بالصراط المستقيم وأخرى بملة إبراهيم عليه السلام وفي التعرض لعنوان الربوبية المنبئة عن المالكية وتبليغ الشيء إلى كماله اللائق شيئا فشيئا مع إضافة الرب إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم في مقام الأمر بدعوة الأمة على الوجه الحكيم وتكميلهم بأحكام الشريعة الشريفة من الدلالة على إظهار اللطف به عليه الصلاة والسلام والإيماء إلى وجه بناء الحكم ما لا يخفى «بالحكمة» أي بالمقالة المحكمة الصحيحة وهو الدليل الموضح للحق المزيح للشبهة «والموعظة الحسنة» أي الخطابيات المقنعة والعبر النافعة على وجه لا يخفى عليهم أنك تناصحهم وتقصد ما ينفعهم فالأولى لدعوة خواص الأمة الطالبين للحقائق والثانية لدعوة عوامهم ويجوز أن يكون المراد بهما القرآن المجيد فإنه جامع لكلا الوصفين «وجادلهم» أي ناظر معانديهم «بالتي هي أحسن» بالطريقة التي هي أحسن طرق المناظرة والمجادلة من الرفق واللين واختيار الوجه الأيسر واستعمال المقدمات المشهورة تسكينا لشغبهم وإطفاء للهبهم كما فعله الخليل عليه السلام «إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله» الذي أمرك بدعوة الخلق إليه وأعرض عن قبول الحق بعدما عاين ما عاين من الحكم والمواعظ والعبر «وهو أعلم بالمهتدين» إليه بذلك وهو تعليل لما ذكر من الأمرين والمعنى والله تعالى أعلم اسلك في الدعوة والمناظرة الطريقة المذكورة فإنه تعالى هو أعلم بحال من لا يرعوى عن الضلال بموجب استعداده المكتسب وبحال من يصير أمره إلى الاهتداء لما فيه من خير جبلي فما شرعه لك في الدعوة هو الذي تقتضيه الحكمة فإنه كاف في هداية المهتدين وإزالة عذر الضالين أو ما عليك إلا ما ذكر من الدعوة والمجادلة بالأحسن وأما حصول الهداية أو الضلال والمجازاة عليهما فإلى الله سبحانه إذ هو أعلم بمن يبقى على الضلال وبمن يهتدي إليه فيجازي كلا منهما بما يستحقه وتقديم الضالين لما أن مساق الكلام لهم وإيراد الضلال بصيغة الفعل الدال على الحدوث لما أنه تغيير لفطرة الله التي فطر الناس عليها وإعراض عن الدعوة وذلك أمر عارض بخلاف الاهتداء الذي هو عبارة عن الثبات على الفطرة والجريان على موجب الدعوة ولذلك جيء به على صيغة الاسم المنبئ عن الثبات وتكرير هو أعلم للتأكيد والإشعار بتباين حال المعلومين ومآلهما من العقاب والثواب وبعد ما أمره عليه الصلاة والسلام فيما يختص به من شأن الدعوة بما أمره به من الوجه اللائق عقبه بخطاب شامل له ولمن شايعه فيما يعم الكل فقال «وإن عاقبتم»
151 أي إن أردتم المعاقبة على طريقة قول الطبيب للمحتمي إن أكلت فكل قليلا (فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) أي بمثل ما فعل بكم وقد عبر عنه بالعقاب على طريقة إطلاق اسم المسبب على السبب نحو كما تدين تدان أو على نهج المشاكلة والمقصود إيجاب مراعاة العدل مع من يناصبهم من غير تجاوز حين ما آل الجدال إلى القتال وأدى النزاع إلى القراع فإن الدعوة المأمور بها لا تكاد تنفك عن ذلك كيف لا وهي موجبة لصرف الوجوه عن القبل المعبودة وإدخال الأعناق في قلادة غير معهودة قاضية عليهم بفساد ما يأتون وما يذرون وبطلان دين استمرت عليه آباؤهم الأولون وقد ضاقت عليهم الحيل وعيت بهم العلل وسدت عليهم طرق المحاجة والمناظرة وأرتجت دونهم أبواب المباحثة والمحاورة وقيل إنه عليه الصلاة والسلام لما رأى حمزة رضي الله عنه يوم أحد قد مثل به قال لئن أظفرني الله بهم لأمثلن بسبعين مكانك فنزلت فكفر عن يمينه وكف عما أراده وقرئ وإن عقبتم فعقبوا أي وإن قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم غير متجاوزين عنه والأمر وإن دل على إباحة المماثلة في المثلة من غير تجاوز لكن في تقييده بقوله وإن عاقبتم حيث على العفو تعريضا وقد صرح به على الوجه الآكد فقيل «ولئن صبرتم» أي عن المعاقبة بالمثل «لهو» أي لصبركم ذلك «خير» لكم من الانتصار بالمعاقبة وإنما قيل «للصابرين» مدحا لهم وثناء عليهم بالصبر أو وصفا لهم بصفة تحصل لهم عند ترك المعاقبة ويجوز عود الضمير إلى مطلق الصبر المدلول عليه بالفعل فيدخل فيه صبرهم كدخول أنفسهم في جنس الصابرين دخولا أوليا ثم أمر عليه الصلاة والسلام صريحا بما ندب إليه غيره تعريضا من الصبر لأنه أولى الناس بعزائم الأمور لزيادة علمه بشئونه سبحانه ووفور وثوقه به فقيل «واصبر» أي على ما أصابك من جهتهم من فنون الآلام والأذية وعاينت من إعراضهم عن الحق بالكلية «وما صبرك إلا بالله» استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي وما صبرك ملابسا ومصحوبا بشيء من الأشياء إلا بالله أي بذكره والاستغراق في مراقبة شؤونه والتبتل إليه بمجامع الهمة وفيه من تسليته عليه الصلاة والسلام وتهوين مشاق الصبر عليه وتشريفه مالا مزبد عليه أو إلا بمشيئته المبينة على حكم بالغة مستتبعة لعواقب حميدة فالتسلية من حيث اشتماله على غايات جميلة وقيل إلا بتوفيقه ومعونته فهي من حيث تسهيله وتيسيره فقط «ولا تحزن عليهم» أي على الكفارين بوقوع اليأس من إيمانهم بك ومتابعتهم لك نحو فلا تأس على القوم الكافرين وقيل على المؤمنين وما فعل بهم والأول هو الأنسب بجزالة النظم الكريم «ولا تك في ضيق» بالفتح وقرئ بالكسر وهما لغتان كالقول والقيل أي لا تكن في ضيق صدر وحرج ويجوز أن يكون الأول تخفيف ضيق كهين من هين أي في أمر ضيق «مما يمكرون» أي من مكرهم بك فيما يستقبل فالأول نهى عن التألم بمطلوب من قبلهم فات والثاني عن التألم بمحذور من جهتهم آت والنهي عنهما مع أن انتفاءهما من لوازم الصبر المأمور به لا سيما على الوجه الأول لزيادة التأكيد وإظهار كمال العناية بشأن التسلية وإلا فهل يخطر ببال من توجه إلى الله سبحانه بشر أشر نفسه متنزها عن كل ما سواه من الشواغل شيء من المطلوب فينهي عن الحزن
152 بفواته أو محظور فكيف عن الخوف من وقوعه «إن الله مع الذين اتقوا» تعليل لما سبق من الأمر والنهي والمراد بالمعية الولاية الدائمة التي لا تحوم حول صاحبها شائبة شيء من الجزع والحزن وضيق الصدر وما يشعر به دخول كلمة مع من متبوعية المتقين إنما هي من حيث إنهم المباشرون للتقوى وكذا الحال في قوله سبحانه إن الله مع الصابرين ونظائرهما كافة والمراد بالتقوى المرتبة الثالثة منه الجامعة لما تحتها من مرتبة التوقي عن الشرك ومرتبة التجنب عن كل ما يؤثم من فعل وترك أعني التنزه عن كل ما شغل سره عن الحق والتبتل إليه بشر أشر نفسه وهو التقوى الحقيقي المورث لولايته تعالى المقرونة ببشارة قوله سبحانه ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون والمعنى أن الله ولي الذين تبتلوا إليه بالكلية وتنزهوا عن كل ما يشغل سرهم عنه فلم يخطر ببالهم شيء من مطلوب أو محذور فضلا عن الحزن بفواته أو الخوف من وقوعه وهو المعنى بما به الصبر المأمور به حسبما أشير إليه وبه يحصل التقريب ويتم التعليل كما في قوله تعالى فاصبر إن العاقبة للمتقين على أحد التفسيرين كما حقق في مقامه وإلا فمجرد التوقي عن المعاصي لا يكون مدارا لشيء من العزائم المرخص في تركها فكيف بالصبر المشار إليه ورديفيه وإنما مداره المعنى المذكور فكأنه قيل إن الله مع الذين صبروا وإنما أوثر ما عليه النظم الكريم مبالغة في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوت الجليلة وروادفه كما أن قوله تعالى «والذين هم محسنون» للإشعار بأنه من باب الإحسان الذي يتنافس فيه المتنافسون على ما فصل ذلك حيث قيل واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وقد نبه على أن كلا من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان في قوله تعالى إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين وحقيقة الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق الذي هو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي وقد فسره عليه الصلاة والسلام بقوله أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك وتكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون إحداهما تتمة للأخرى وإيراد الأولى فعلية للدلالة على الحدوث كما أن إيراد الثانية اسمية لإفادة كون مضمونها شيمة راسخة لهم وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية متقدمة على التحلية والمراد بالموصولين إما جنس المتقين والمحسنين وهو عليه الصلاة والسلام داخل في زمرتهم دخولا أوليا وإما هو عليه الصلاة والسلام ومن شايعه عبر عنهم بذلك مدحا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجميلين وفيه رمز إلى أن صنيعه عليه الصلاة والسلام مستتبع لإقتداء الأمة به كقول من قال لابن عباس رضي الله عنهما عند التعزية [اصبر نكن بك صابرين فإنما صبر الرعية عند صبر الرأس] عن هرم بن حيان أنه قيل له حين الاحتضار أوص قال إنما الوصية من المال وأوصيكم بخواتيم سورة النحل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة النحل لم يحاسبه الله تعالى بما أنعم عليه في دار الدنيا وإن مات في يوم تلاها أو ليلته كان له من الأجر كالذي مات وأحسن الوصية والحمد لله وحده والصلاة والسلام على رسوله وآله أجمعين
153 (سورة الإسراء مكية إلا الآيات 26 32 33 57 ومن آية 73 إلى آية 80 فمدنية وآياتها 111) بسم الله الرحمن الرحيم «سبحان الذي أسرى بعبده» سبحان علم للتسبيح كعثمان للرجل وحيث كان المسمى معنى لا عينا وجنسا لا شخصا لم تكن إضافته من قبيل ما في زيد المعارك أو حاتم طئ وانتصابه بفعل متروك الإظهار تقديره أسبح الله سبحان الخ وفيه ما لا يخفي من الدلالة على التنزيه البليغ من حيث الاشتقاق من السبح الذي هو الذهاب والإبعاد في الأرض ومنه فرس سبوح أي واسع الجري ومن جهة النقل إلى التفعيل ومن جهة العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن ومن جهة قيامه مقام المصدر مع الفعل وقيل هو مصدر كغفران بمعنى التنزه ففيه مبالغة من حيث إضافة التنزه إلى ذاته المقدسة ومناسبة تامة بين المحذوف وبين ما عطف عليه في قوله تعالى سبحانه وتعالى كأنه قيل تنزه بذاته وتعالى والإسراء السير بالليل خاصة كالسري وقوله تعالى «ليلا» لإفادة قلة زمان الإسراء لما فيه من التنكير الدال على البعضية من حيث الأجزاء دلالته على البعضية من حيث الأفراد فإن قولك سرت ليلا كما يفيد بعضية زمان سيرك من الليالي يفيد بعضيته من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت سرت الليل فإنه يفيد استيعاب السير له جميعا فيكون معيارا للسير لا ظرفا له ويؤيده قراءة من الليل أي بعضه وإيثار لفظ العبد للإيذان بتمحضه عليه الصلاة والسلام في عبادته سبحانه وبلوغه في ذلك غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية حسبما يلوح به مبدأ الإسراء ومنتهاه وإضافة التنزيه أو التنزه إلى الموصول المذكور للإشعار بعلية ما في حيز الصلة للمضاف فإن ذلك من أدلة كمال قدرته وبالغ حكمته ونهاية تنزهه عن صفات المخلوقين «من المسجد الحرام» اختلف في مبدأ الإسراء فقيل هو المسجد الحرام بعينه وهو الظاهر فإنه روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبريل عليه الصلاة والسلام بالبراق وقيل هو دار أم هانئ بنت أبي طالب والمراد بالمسجد الحرام الحرم لإحاطته بالمسجد والتباسه به أو لأن الحرم كله مسجد فإنه روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء فكان ما كان فقصه عليها فلما قام ليخرج إلى المسجد تشبثت بثوبه صلى الله عليه وسلم لتمنعه خشية أن يكذبه القوم قال صلى الله عليه وسلم وإن كذبوني فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء فقال أبو جهل يا معشر كعب بن لؤي بن غالب هلم
154 فحدثهم فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر فقال إن كان قال ذلك لقد صدق قالوا أتصدقه على ذلك قال إني أصدقه على أبعد من ذلك فسمى الصديق وكان فيهم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا أما النعت فقد أصابه فقالوا أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم هذه والله الشمس قد أشرقت فقال آخر هذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا قاتلهم الله أنى يؤفكون واختلف في وقته أيضا فقيل كان قبل الهجرة بسنة وعن أنس والحسن أنه كان قبل البعثة واختلف أيضا أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه كان في المنام وأكثر الأقاويل بخلافه والحق أنه كان في المنام قبل البعثة وفي اليقظة بعدها واختلف أيضا أنه كان جسمانيا أو روحانيا فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما فقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن عرج بروحه وعن معاوية أنه قال إنما عرج بروحه والحق أنه كان جسمانيا على ما ينبئ عنه التصدير بالتنزيه وما في ضمنه من التعجب فإن الروحاني ليس في الاستبعاد والاستنكار وخرق العادة بهذه المثابة ولذلك تعجبت منه قريش وأحالوه ولا استحالة فيه فإنه قد ثبت في الهندسة أن قطر الشمس ضعف قطر الأرض مائة ونيفا وستين مرة ثم إن طرفها الأسفل يصل إلى موضع طرفها الأعلى بحركة الفلك الأعظم مع معاوقة حركة فلكها لها في أقل من ثانية وقد تقرر أن الأجسام متساوية في قبول الأعراض التي من جملتها الحركة وأن الله سبحانه قادر على كل ما يحيط به حيطة الإمكان فيقدر على أن يخلق يخلق مثل تلك الحركة بل أسرع منها في جسد النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما يحمله ولو لم يكن مستبعدا لم يكن معجزة «إلى المسجد الأقصى» أي بيت المقدس سمى به إذ لم يكن حينئذ وراءه مسجد وفي ذلك من تربية معنى التنزيه والتعجب مالا يخفى «الذي باركنا حوله» ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي ومتعبد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام «لنريه» غاية للإسراء «من آياتنا» العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر ولا يقدح في ذلك كونه قبل الوصول إلى المقصد ومشاهدة بيت المقدس وتمثل الأنبياء له ووقوفه على مقاماتهم العلية عليهم الصلاة والسلام والالتفات إلى التكلم لتعظيم تلك البركات والآيات وقرئ ليريه بالياء «إنه هو السميع» لأقواله عليه الصلاة والسلام بلا أذن «البصير» بأفعاله بلا بصر حسبما يؤذن به القصر فيكرمه ويقربه بحسب ذلك وفيه إيماء إلى أن الإسراء المذكور ليس إلا لتكرمته عليه الصلاة والسلام ورفع منزلته وإلا فالإحاطة بأقواله وأفعاله حاصلة من غير حاجة إلى التقريب والالتفات إلى الغيبة لتربية المهابة «وآتينا موسى الكتاب» أي التوراة وفيه إيماء إلى دعوته عليه الصلاة والسلام إلى الطور وما وقع فيه من المناجاة جمعا بين الأمرين المتحدين في المعنى ولم يذكر ههنا العروج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وما كان فيه مما لا يكتنه كنهه حسبما نطقت به سورة النجم تقريبا للإسراء إلى قبول السامعين أي آتيناه التوراة بعد ما أسرينا به إلى الطور «وجعلناه» أي ذلك
155 الكتاب «هدى لبني إسرائيل» يهتدون بما في مطاويه «ألا تتخذوا» أي لا تتخذوا نحو كتبت إليه أن أفعل كذا وقرئ بالياء على أن أن مصدرية والمعنى آتينا موسى الكتاب لهداية بني إسرائيل لئلا يتخذوا «من دوني وكيلا» أي ربا تكلون إليه أموركم والإفراد لما أن فعيلا مفرد في اللفظ جمع في المعنى «ذرية من حملنا مع نوح» نصب على الاختصاص أو النداء على قراءة النهي والمراد تأكيد الحمل على التوحيد بتذكير إنعامه تعالى عليهم في ضمن إنجاء آبائهم من الغرق في سفينة نوح عليه السلام أو على أنه أحد مفعولي لا يتخذوا على قراءة النفي ومن دوني حال من وكيلا فيكون كقوله تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو بدل من واو لا تتخذوا بإبدال الظاهر من ضمير المخاطب كما هو مذهب بعض البغاددة وقرئ ذرية بكسر الذال «أنه» أي أن نوحا عليه الصلاة والسلام «كان عبدا شكورا» كثير الشكر في مجامع حالاته وفيه إيذان بأن إنجاء من معه كان ببركة شكره عليه الصلاة والسلام وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفران وقيل الضمير لموسى عليه السلام «وقضينا» أي أتممنا وأحكمنا منزلين «إلى بني إسرائيل» أي موحين إليهم «في الكتاب» أي في التوراة فإن الإنزال والوحي إلى موسى عليه السلام إنزال ووحي إليهم «لتفسدن في الأرض» جواب قسم محذوف ويجوز إجراء القضاء المحتوم مجرى القسم كأنه قيل وأقسمنا لتفسدن «مرتين» مصدر والعامل فيه من غير جنسه أولاهما مخالفة حكم التوراة وقتل شعياء عليه الصلاة والسلام وحبس أرمياء حين أنذرهم سخط الله تعالى والثانية قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى عليهم الصلاة والسلام «ولتعلن علوا كبيرا» لتستكبرن عن طاعة الله سبحانه أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان وتفرطن في ذلك إفراطا مجاوز للحدود «فإذا جاء وعد أولاهما» أي أولي كرتي الإفساد أي حان وقت حلول العقاب الموعود «بعثنا عليكم» لمؤاخذتكم بجناياتكم «عبادا لنا» وقرئ عبيدا لنا «أولي بأس شديد» ذوي قوة وبطش في الحروب هم سنجاريب من أهل نينوى وجنوده وقيل بخت نصر عامل لهراسب وقيل جالوت «فجاسوا» أي ترددوا لطلبكم بالفساد وقرئ بالحاء والمعنى واحد وقرئ وجوسوا «خلال الديار» في أوساطها للقتل والغارة وقرئ خلل الديار فقتلوا علماءهم وكبارهم وأحرقوا التوراة وخربوا المسجد وسبوا منهم سبعين ألفا وذلك من قبيل تولية بعض الظالمين بعضا مما جرت
156 به السنة الإلهية «وكان» ذلك «وعدا مفعولا» لا محالة بحيث لا صارف عنه ولا مبدل «ثم رددنا لكم الكرة» أي الدولة والغلبة «عليهم» على الذين فعلوا بكم ما فعلوا بعد مائة سنة حين تبتم ورجعتم عما كنتم عليه من الإفساد والعلو قيل هي قتل بخت نصر واستنقاذ بني إسرائيل أساراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم وذلك أنه لما ورث بهمن بن اسفنديار الملك من جده كشتاسف بن لهراسب ألقى الله تعالى في قلبه الشفقة عليهم فرد أساراهم إلى الشام وملك عليهم دانيال عليه السلام فاستولوا على من كان فيها من أتباع بخت نصر وقيل هي قتل داود عليه السلام لجالوت «وأمددناكم بأموال» كثيرة بعد ما نهبت أموالكم «وبنين» بعدما سبيت أولادكم «وجعلناكم أكثر نفيرا» مما كنتم من قبل أو من عدوكم والنفير من ينفر مع الرجل من قومه وقيل جمع نفروهم القوم المجتمعون للذهاب إلى العدو كالعبيد والمعين «إن أحسنتم» أعمالكم سواء كانت لازمة لأنفسكم أو متعدية إلى الغير أي عملتموها لا على الوجه اللائق ولا يتصور ذلك إلا بعد أن تكون الأعمال حسنة في أنفسها أو إن فعلتم الإحسان «أحسنتم لأنفسكم» لأن ثوابها لها «وإن أسأتم» أعمالكم بأن عملتموها لا على الوجه اللائق ويلزمه السوء الذاتي أو فعلتم الإساءة «فلها» إذ عليها وبالها وعن على كرم الله وجهه ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلاها «فإذا جاء وعد الآخرة» حان وقت ما وعد من عقوبة المرة الآخرة «ليسوؤوا وجوهكم» متعلق بفعل حذف لدلالة ما سبق عليه أي بعثناهم لسوءوا ومعنى ليسوءوا وجوهكم ليجعلوا آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم كقوله تعالى سيئت وجوه الذين كفروا وقرئ ليسوء على أن الضمير لله تعالى أو للوعد أو للبعث ولنسوء بنون العظمة وفي قراءة علي رضي الله عنه لنسو أن على أنه جواب إذا وقرئ لنسو أن بالنون الخفيفة وليسو أن واللام في قوله عز وجل «وليدخلوا المسجد» عطف على ليسوءوا متعلق بما تعلق هو به «كما دخلوه أول مرة» أي في أول مرة «وليتبروا» أي يهلكوا «ما علوا» ما غلبوه واستولوا عليه أو مدة علوهم «تتبيرا» فظيعا لا يوصف بان سلط الله عز سلطانه عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه جودر دوقيل جردوس وقيل دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال لم تصدقوني فقتل على ذلك ألوفا فلم يهدأ الدم ثم قال إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا فقالوا إنه دم يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام فقال لمثل هذا ينتقم منكم ربكم ثم قال يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقى منهم أحدا فهدأ «عسى ربكم أن يرحمكم» بعد المرة الآخرة إن تبتم
157 توبة أخرى وانزجرتم عما كنتم عليه من المعاصي «وإن عدتم» إلى ما كنتم فيه من الفساد مرة أخرى «عدنا» إلى عقوبتكم ولقد عادوا فأعاد الله سبحانه عليهم النقمة بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الإتاوة ونحو ذلك وعن الحسن عادوا فبعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وعن قتادة مثله «وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا» أي محبسا لا يستطيعون الخروج منها أبد الآبدين وقيل بساطا كما يبسط الحصير وإنما عدل عن أن يقال وجعلنا جهنم لكم تسجيلا على كفرهم بالعود وذما لهم بذلك وإشعار بعلة الحكم «إن هذا القرآن» الذي آتيناكه «يهدي» أي الناس كافة لا فرقة مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى «للتي» للطريقة التي «هي أقوم» أي أقوم الطرائق وأسدها أعني ملة الإسلام والتوحيد وترك ذكرها ليس لقصد التعميم لها وللحالة والخصلة ونحوها مما يعبر به عن المقصد المذكور بل للإيذان بالغنى عن التصريح بها لغاية ظهورها لا سيما بعد ذكر الهداية التي هي من روادفها والمراد بهدايته لها كونه بحيث يهتدي إليها من يتمسك به لا تحصيل الاهتداء بالفعل فإنه مخصوص بالمؤمنين حينئذ «ويبشر المؤمنين» بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع وقرئ بالتخفيف «الذين يعملون الصالحات» التي شرحت فيه «أن لهم» أي بأن لهم بمقابلة تلك الأعمال «أجرا كبيرا» بحسب الذات وبحسب التضعيف عشر مرات فصاعدا «وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة» وأحكامها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاء وتخصيصها بالذكر من بين سائر ما كفروا به لكونها معظم ما أمروا بالإيمان به ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها الذي أنبأ عنه قوله عز وجل «اعتدنا لهم عذابا أليما» وهو عذاب جهنم أي اعتدنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا أليما وهو أبلغ في الزجر لما أن إتيان العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع والجملة معطوفة على جملة يبشر بإضمار يخبر أو على قوله تعالى أن لهم داخلة معه تحت التبشير المراد به مجازا مطلق الأخبار المنتظم للأخبار بالخبر السار وبالنبأ الضار حقيقة فيكون ذلك بيانا لهداية القرآن بالترغيب والترهيب ويجوز كون التبشير بمعناه والمراد تبشير المؤمنين ببشارتين ثوابهم وعقاب أعدائهم وقوله تعالى «ويدع الإنسان بالشر» بيان لحال المهدي أثر بيان حال الهادي وإظهار لما بينهما من التبيان والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه فالمعنى على الأول أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر ورائه من العذاب الأليم وهو أي
158 بعض منه وهو الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم اللهم إن كان هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ومن قال فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين إلى غير ذلك مما حكى عنهم وأما بأعمالهم السيئة المفضية إليه الموجبة له مجازا كما هو ديدن كلهم «دعاءه بالخير» أي مثل دعاءه بالخير المذكور فرضا لا تحقيقا فإنه بمعزل من الدعاء به وفيه رمز إلى أنه اللائق بحاله «وكان الإنسان» أي من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده «عجولا» يسارع إلى طلب ما يخطر بباله متعاميا عن ضرره أو مبالغا في العجلة يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة ففيه نوع تهكم به وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم تحمل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال وعلى الثاني أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير وهو في بعض أحيانه كما عند الغضب يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر وكان الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه روى أنه عليه الصلاة والسلام دفع إلى سودة أسيرا فأرخت كتافه رحمة لأنينه بالليل من ألم القيد فهرب فلما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم قال اللهم اقطع يديها فرفعت سودة يديها تتوقع الإجابة فقال صلى الله عليه وسلم إن سألت الله تعالى أن يجعل دعائي على من لا يستحق من أهلي عذابا رحمة أو يدعو بما هو شر وهو يحسبه خيرا وكان الإنسان عجولا غير متبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به وما هو شر جدير بالاستعاذة منه «وجعلنا الليل والنهار آيتين» شروع في بيان بعض وجوه ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية التي كل واحدة منها برهان نير لا ريب فيه ومنهاج بين لا يضل من لا ينتحيه فإن الجعل المذكور وما عطف عليه من محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة وإن كانت من الهدايات التكوينية لكن الأخبار بذلك من الهدايات القرآنية المنبهة على تلك الهدايات وتقديم الليل لمراعاة الترتيب الوجودي إذ منه ينسلخ النهار وفيه تظهر غرر الشهور ولو أن الليلة أضيفت إلى ما قبلها من النهار لكانت من شهر وصاحبها من شهر آخر ولترتيب غاية آية النهار عليها بلا واسطة أي جعلنا الملوين بهيا تهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر على وتيرة عجيبة يحار في فهمها العقول آيتين تدلان على أن لهما صانعا حكيما قادرا عليما وتهديان إلى ما هدى إليه القرآن الكريم من ملة الإسلام والتوحيد «فمحونا آية الليل» الإضافة أما بيانية كما في إضافة العدد إلى المعدود أي محونا الآية التي هي الليل وفائدتها تحقيق مضمون الجملة السابقة ومحوها جعلها ممحوة الضوء مطموسته لكن لا بعد أن لم يكن كذلك بل إبداعها على ذلك كما في قولهم سبحان من صغر البعوض وكبر الفيل أي أنشأهما كذلك والفاء تفسيرية لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليس مما يحصل عقيب جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتمماته «وجعلنا آية النهار» أي الآية التي هي النهار على نحو ما مر «مبصرة»
159 أي مضيئة يبصر فيها الأشياء وصفا لها بحال أهلها أو مبصرة للناس من أبصره فبصره وإما حقيقية وآية الليل والنهار نيراهما ومحو القمر إما خلقه مطموس التور في نفسه فالفاء كما ذكر وأما نقص ما استفادوا من الشمس شيئا فشيئا إلى المحاق على ما هو معنى المحو والفاء للتعقيب وجعل الشمس مبصرة إبداعها مضيئة بالذات ذات أشعة تظهر بها الأشياء المظلمة «لتبتغوا» متعلق بقوله تعالى وجعلنا آية النهار كما أشير إليه أي وجعلناها مضيئة لتطلبوا لأنفسكم في بياض النهار «فضلا من ربكم» أي رزقا إذ لا يتسنى ذلك في الليل وفي التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرض لصفة الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئا فشيئا دلالة على أن ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب وإنما الإعطاء إلى الله سبحانه لا بطريق الوجوب عليه بل تفضلا بحكم الربوبية «ولتعلموا» متعلق بكلا الفعلين أعنى محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة لا بأحدهما فقط إذ لا يكون ذلك بإنفراده مدارا للعلم المذكور أي لتعلموا بتفاوت الجديدين أو نيريهما ذاتا من حيث الإظلام والإضاءة مع تعاقبهما أو حركتهما وأوضاعهما وسائر أحوالهما «عدد السنين» التي يتعلق بها غرض علمي لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية «والحساب» أي الحساب المتعلق بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهر والليالي والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة ونفس السنة من حيث تحققها مما ينتظمه الحساب وإنما الذي تعلق به العد طائفة منها وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من الحيثية المذكورة أعني حيثية تحققها وتحصلها من عدة أشهر قد تحصل كل واحد منها من عدة أيام قد حصل كل منها بطائفة من الساعات مثلا فإن ذلك وظيفة الحساب بل من حيث أنها فرد من تلك الطائفة المعدودة يعدها أي يفنيها من غير أن يعتبر في ذلك تحصل شي معين وتحقيقه ما مر في سورة يونس من أن الحساب أحصاه ماله كمية منفصلة بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص وحكم مستقل كما أشير إليه آنفا والعد إحصاؤه بمجرد تكرير أمثاله من غير أن يتحصل منه شيء كذلك ولما أن السنين لم يعتبر فيها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل أضيف إليها الغدد وعلق الحساب بما عاداها مما اعتبر فيه تحصل مراتب معينة لها أسام خاصة وأحكام مستقلة وتحصل مراتب الأعداد من العشرات والمئات والألوف اعتباري لا يجدي في تحصل المعدودات وتقديم العدد على الحساب مع أن الترتيب بين متعلقيهما وجودا وعلما على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا أو لأن العدد من حيث أنه لم يعتبر فيه تحصل شيء آخر منه حسبما ذكر نازل من الحساب المعتبر فيه ذلك منزلة البسيط من المركب أو لأن العلم المتعلق بالأول أقصى المراتب فكان جديرا بالتقديم في مقام الامتنان والله سبحانه أعلم «وكل شيء» تفتقرون إليه في المعاش والمعاد سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية وهو منصوب بفعل يفسره قوله تعالى «فصلناه تفصيلا» أي بيناه في القرآن الكريم بيانا بليغا لا التباس معه كقوله تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بينا
160 «وكل إنسان» مكلف «ألزمناه طائره» أي عمله الصادر عنه باختياره حسبما قدر له كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر أو ما وقع له في القسمة الأزلية الواقعة حسب استحقاقه في العلم الأزلي من قولهم طار له سهم كذا «في عنقه» تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط أي ألزمناه عمله بحيث لا يفارقه أبدا بل يلزمه لزوم القلادة أو الغل للعنق لا ينفك عنه بحال وقرئ بسكون النون «ونخرج له» بنون العظمة وقد قرئ بالياء مبنيا للفاعل على أن الضمير لله عز وجل وللمفعول والضمير للطائر كما في قراءة يخرج من الخروج «يوم القيامة» والبعث للحساب «كتابا» مسطورا فيه ما ذكر من عمله نقيرا وقطميرا وهو مفعول لنخرج على القراءتين الأوليين أو حال من المفعول المحذوف الراجع إلى الطائر وعلى الأخريين حال من المستتر في الفعل من ضمير الطائر «يلقاه» أي يلقى الإنسان أو يلقاه الإنسان «منشورا» وهما صفتان للكتاب أو الأولى صفة والثاني حال منها وقرئ يلقاه من لقيته كذا أي يلقى الإنسان إياه قال الحسن بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان فهما عن يمينك وعن شمالك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت معك في قبرك حتى تخرج لك يوم القيامة «اقرأ كتابك» أي قائلين لك ذلك عن قتادة يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا وقيل المراد بالكتاب نفسه المنتقشة بآثار أعماله فإن كل عمل يصدر من الإنسان خيرا أو شرا يحدث منه في جوهر روحه أمر مخصوص إلا أنه يخفى ما دام الروح متعلقا بالبدن مشتغلا بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقته عن البدن قامت قيامته لأن النفس كانت ساكنة مستقرة في الجسد وعند ذلك قامت وتوجهت نحو الصعود إلى العالم العلوي فيزول الغطاء وتنكشف الأحوال ويظهر على لوح النفس نقش كل شيء عمله في مدة عمره وهذا معنى الكتابة والقراءة «كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا» أي كفى نفسك والباء زائدة واليوم ظرف لكفى وحسيبا تمييز وعلى صلته لأنه بمعنى الحاسب كالصريم بمعنى الصارم من حسب عليه كذا أو بمعنى الكافي ووضع موضع الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه وتذكيره لأن ما ذكر من الحساب والكفاية مما يتولاه الرجال أو لأنه مبنى على تأويل النفس بالشخص على أنها عبارة عن النفس المذكر كقول جبلة بن حريث [يا نفس إنك باللذات مسرور فاذكر فهل ينفعنك اليوم تذكير] «من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه» فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هاديا لأقوم الطرائق ولزوم الأعمال لأصحابها أي من اهتدى بهدايته وعلم بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود
161 منفعته اهتدائه إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد «ومن ضل» عن الطريقة التي يهديه إليها «فإنما يضل عليها» أي فإنما وبال ضلاله عليها لا على من عداه ممن لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل صاحبه «ولا تزر وازرة وزر أخرى» تأكيد للجملة الثانية أي لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعلمه من التلازم بل إنما تحمل كل منها وزرها وهذا تحقيق لمعنى قوله عز وجل ولك إنسان ألزمناه طائره في عنقه وأما ما يدل عليه قوله تعالى من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها وقوله تعالى ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له وإنما الذين يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال وإنما خص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم «وما كنا معذبين» بيان للعناية الربانية إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائنا السابق أن نعذب أحدا من أهل الضلال والأوزار اكتفاء بقضية العقل «حتى نبعث» إليهم «رسولا» يهديهم إلى الحق ويردعهم عن الضلال ويقيم الحجج ويمهد الشرائع حسبما في تضاعيف الكتاب المنزل عليه والمراد بالعذاب المنفي إما عذاب الاستئصال كما قاله الشيخ أبو منصورا لما تريدي رحمه الله وهو المناسب لما بعده أو الجنس الشامل للدنيوي والأخروي هو من أفراده وأياما كان فالبعث غاية لعدم صحة وقوعه في وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقا كيف لا والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوي أيضا لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق والعصيان ألا يرى إلى قوم نوح كيف تأخر عنهم ما حل بهم زهاء ألف سنة وقوله تعالى «وإذا أردنا أن نهلك قرية» بيان لكيفية وقوع التعذيب بعد البعثة التي جعلت غاية لعدم صحته وليس المراد بالإرادة تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنها المراد ولا الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد في وقته المقدر له إذ لا يقارنه الجزاء الآتي بل دنو وقتها كما في قوله تعالى أتى أمر الله أي وإذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاك قرية بأن نعذب أهلها بما ذكرنا من عذاب الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين «أمرنا » بواسطة الرسول المبعوث إلى أهلها «مترفيها» متنعميها وجباريها وملوكها خصهم بالذكر مع توجه الأمر
162 إلى الكل لأنهم الأصول في الخطاب والباقي أتباع لهم ولأن توجه الأمر إليهم آكدو عدم التعرض للمأمور به إما لظهور أن المراد به الحق والخير لأن الله لا يأمر بالفحشاء لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه وإما لأن المراد وجد منا الأمر كما يقال فلان يعطي ويمنع «ففسقوا فيها» أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا «فحق عليها القول» أي ثبت وتحقق موجبه بحلول العذاب إثر ما ظهر منهم من الفسق والطغيان «فدمرناها» بتدمير أهلها «تدميرا» لا يكتنه كنهه ولا يوصف هذا هو المناسب لما سبق وقيل الأمر مجاز عن الحمل على الفسق والتسبب له بأن صب عليهم ما أبطرهم وأفضى بهم إلى الفسوق وقيل هو بمعنى التكثير يقال أمرت الشيء فأمر أي كثرته فكثر وفي الحديث خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة أي كثيرة النتاج ويعضده قراءة آمرنا وأمرنا من الإفعال والتفعيل وقد جعلتا من الإمارة أي جعلناهم أمراء وكل ذلك لا يساعده مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء فإن مؤدى ذلك أن طغيانهم منوطا بإرادة الله سبحانه وإنعامه عليهم بنعم وافرة أبطرتهم وحملتهم على الفسق حملا حقيقا بأن يعبر عنه بالأمر به «وكم أهلكنا» أي وكثيرا ما أهلكنا «من القرون» بيان لكم وتمييز له والقرن مدة من الزمان يخترم فيها القوم وهي عشرون أو ثلاثون أو أربعون أو ثمانون أو مائة وقد أيد ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام دعا لرجل فقال عش قرنا فعاش مائة سنة أو مائة وعشرون «من بعد نوح» من بعد زمنه عليه الصلاة والسلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت أحوالهم في القرآن العظيم ومن لم تقص وعدم نظم قومه عليه الصلاة والسلام في تلك القرون المهلكة لظهور أمرهم على أن ذكره عليه الصلاة والسلام رمز إلى ذكرهم «وكفى بربك» أي كفى ربك «بذنوب عباده خبيرا بصيرا» يحيط بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها وتقديم الخبير لتقدم متعلقة من الاعتقادات والنيات التي هي مبادئ الأعمال الظاهرة أو لعمومه حيث يتعلق بغير المبصرات أيضا وفيه إشارة إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه «من كان يريد» بأعماله التي يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول الكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثاني أهل الرياء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد لمحض الغنيمة «العاجلة» فقط من غير أن يريد معها الآخرة كما ينبئ عنه الاستمرار المستفاد من زيادة كان ههنا مع الاقتصار على مطلق الإرادة في قسيمة والمراد بالعاجلة الدار الدنيا وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى ومن كان يريد حرث الدنيا ويجوز ان يراد الحياة العاجلة كقوله عز وجل من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها لكن الأول أنسب بقوله «عجلنا له فيها» أي في تلك العاجلة فإن
163 الحياة واستمرارها من جملة ما عجل له فالأنسب بذلك كلمة من كما في قوله تعالى ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها «ما نشاء» أي ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد «لمن نريد» تعجيل ما نشاء له وهو بدل من الضمير في له بإعادة الجار بدل البعض فإنه راجع إلى الموصول المنبئ عن الكثرة وقرئ لمن يشاء على أن الضمير لله سبحانه وقيل هو لمن فيكون مخصوصا بمن أراد به ذلك وهو واحد من الدهماء وتقييد المعجل والمعجل له بما ذكر من المشيئة والإرادة لما أن الحكمة التي عليها يدور فلك التكوين لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه وأما ما يتراءى من قوله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون من نيل كل مؤمل لجميع آماله ووصول كل عامل إلى نتيجة أعماله فقد أشير إلى تحقيق القول فيه في سورة هود بفضل الله تعالى «ثم جعلنا له» مكان ما عجلنا له «جهنم» وما فيها من أصناف العذاب «يصلاها» يدخلها وهو حال من الضمير المجرور أو من جهنم أو استئناف «مذموما مدحورا» مطرودا من رحمة الله تعالى وقيل الآية في المنافقين كانوا يراءون المسلمين ويغزون معهم ولم يكن غرضهم إلا مساهمتهم في الغنائم ونحوها ويأباه ما يقال إن السورة مكية سوى آيات معينة «ومن أراد» بأعماله «الآخرة» الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم «وسعى لها سعيها» أي السعي اللائق بها وهو الإتيان بما أمر والانتهاء عما نهى لا التقرب بما يخترعون بآرائهم وفائدة اللام اعتبار النية والإخلاص «وهو مؤمن» إيمانا صحيحا لا يخالطه شيء قادح فيه وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيز الصلة «فأولئك» إشارة إلى الموصول بعنوان اتصافه بما في حيز الصلة وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماء إلى أن الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أي أولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان «كان سعيهم مشكورا» مقبولا عند الله تعالى أحسن القبول مثابا عليه وفي تعليق المشكورية بالسعي دون قرينيه إشعار بأنه العمدة فيها «كلا» التنوين عوض عن المضاف إليه أي كل واحد من الفريقين لا الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط «نمد» أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددا للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلا على ما سبق تصريحا وتلويحا واتكالا على ما لحق عبارة وإشارة كما ستقف عليه وقوله تعالى «هؤلاء» بدل من كلا «وهؤلاء» عطف عليه أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بماله من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين المضاف إليه المحذوف دفعا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم
164 المفعول وقوله تعالى «من عطاء ربك» أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له متعلق بنمد ومغن عن ذكر ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل بل بمحض التفضل «وما كان عطاء ربك» أي دنيويا كان أو أخرويا وإنما أظهر إظهارا لمزيد الاعتناء بشأنه وإشعارا بعليته للحكم «محظورا» ممنوعا ممن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبينة على الحكمة وإن وجد منه ما يقتضي الحظر كالكافر وهو في معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين والتعرض لعنوان الربوبية في الموضعين للإشعار بمبدئيتها لما ذكر من الإمداد وعدم الحظر «انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض» كيف في محل النصب بفضلنا على الحالية والمراد توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم به من العطايا العاجلة فمن وضيع ورفيع وظالع وضليع ومالك ومملوك وموسر وصعلوك تعرف بذلك مراتب العطايا الآجلة ودرجات تفاضل أهلها على طريقة الاستشهاد بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى «وللآخرة أكبر» أي هي وما فيها أكبر من قدرها ولا يكتنه كنهها كيف لا وقد عبر عنه بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر هذا ويجوز أن يراد بما به الإمداد العطايا العاجلة فقط ويحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصولهم إلهيا بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثاني إرادة ووصولا مما توهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل واحد من الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد ممن يريده وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة الآية واعتبار عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقا لشمول الإمداد له كما فعله الجمهور حيث قالوا لا يمنعه من عاص لعصيانه يقتضي كون القصر لدفع توهم اختصاص الإمداد الدنيوي بالفريق الثاني مع أنه لم يسبق في الكلام ما يوهم ثبوته له فضلا عن إيهام اختصاصه «لا تجعل مع الله إلها آخر» الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أمته وهو من باب التهييج والإلهاب أو كل أحد ممن يصلح للخطاب «فتقعد» بالنصب جوابا للنهي والقعود بمعنى الصيرورة من قولهم شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها خربة أو بمعنى العجز من قعد عنه أي عجز عنه «مذموما مخذولا» خبران أو حالان أي جامعا على نفسك الذم من الملائكة والمؤمنين والخذلان من الله تعالى وفيه إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة
165 «وقضى ربك» أي أمر أمرا مبرما وقرئ وأوصى ربك ووصى ربك «أن لا تعبدوا» أي بأن لا تعبدوا «إلا إياه» على أن أن مصدرية ولا نافيه أو أي لا تعبدوا على أنها مفسرة ولا ناهية لأن العبادة غاية التعظيم فلا تحق إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام وهو كالتفصيل للسعي للآخرة «وبالوالدين» أي وبأن تحسنوا بهما أو وأحسنوا بهما «إحسانا» لأنهما السبب الظاهر للوجود والتعيش «إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما» إما مركبة من أن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها ولذلك دخل الفعل نون التأكيد ومعنى عندك في كنفك وكفالتك وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخر عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان وأحدهما فاعل للفعل وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه وقرئ يبلغان فأحدهما بدل من ضمير التثنية وكلاهما عطف عليه ولا سبيل إلى جعل كلاهما تأكيدا للضمير وتوحيد ضمير الخطاب في عندك وفيما بعده مع أن ما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد فإن المقصود نهى كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما ولو قوبل الجمع بالجمع أو بالتثنية لم يحصل هذا المرام «فلا تقل لهما» أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع «أف» وهو صوت ينبئ عن تضجر أو اسم فعل هو أتضجر وقرئ بالكسر بلا تنوين وبالفتح والضم منونا وغير منون أي لا تتضجر بها تستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما وبهذا النهي يفهم الهي عن سائر ما يؤذيهما بدلالة النص وقد خص بالذكر بعضه إظهار اللاعتناء بشأنه فقيل «ولا تنهرهما» أي لا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ قيل النهي والنهر والنهم أخوات «وقل لهما» بدل التأفيف والنهر «قولا كريما» ذات كرم أو هو وصف له بوصف صاحبه أي قولا صادرا عن كرم ولطف وهو القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أباه ويا أماه كدأب إبراهيم عليه السلام إذ قال لأبيه يا أبت مع ما به من الكفر ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب وديدن الدعار وسئل الفضيل بن عياض عن بر الوالدين فقال أن لا تقوم إلى خدمتهما عن كسل وقيل أن لا ترفع صوتك عليهما ولا تنظر إليهما شزرا ولا يريا منك مخالفة في ظاهر ولا باطن وأن تترحم عليهما ما عاشا وتدعو لهما إذا ماتا وتقوم بخدمة أودائهما من بعدهما فعن النبي صلى الله عليه وسلم إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه «واخفض لهما جناح الذل» عبارة عن إلانة الجانب والتواضع والتذلل لهما فإن إعزازهما لا يكون إلا بذلك فكأنه قيل واخفض لهما جناحك الذليل أو جعل لذله جناح كما جعل لبيد في قوله [وغداة ريح قد كشفت وقرة إذا أصبحت بيد الشمال زمامها] للقرة زماما وللشمال يدا تشبيها له بطائر يخفض جناحه لأفراخه تربية لها وشفقة عليها وأما جعل خفض الجناح عبارة عن ترك الطيران كما فعله القفال فلا يناسب
166 المقام «من الرحمة» من فرط رحمتك وعطفك عليهما ورقتك لهما لافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله تعالى إليهما ولا تكتف برحمتك الفانية بل ادع الله لهما برحمته الواسعة الباقية «وقل رب ارحمهما» برحمتك الدنيوية والأخروية التي من جملتها الهداية إلى الإسلام فلا ينافي ذلك كفرهما «كما ربياني» الكاف في محل النصب على نعت لمصدر محذوف أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة ويجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل رب ارحمهما وربهما كما رحماني وربياني «صغيرا» ويجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربتهما لي كقوله تعالى واذكروه كما هداكم ولقد بالغ عز وجل في التوصية بهما حيث افتتحها بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمها في سلك القضاء بهما معا ثم ضيق الأمر في باب مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجر مع ماله من موجبات الضجر مالا يكاد يدخل تحت الحصر وختمها بأن جعل رحمته التي وسعت كل شيء مشبهة بتربيتهما وعن النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله في رضى الوالدين وسخطه في سخطهما وروي يفعل البار ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار ويفعل العاق ما يشاء أن يفعل فلن يدخل الجنة وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبوي بلغا من الكبر أني إلي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما قال لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وأنت تريد موتهما وري أن شيخا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن ابني هذا له مال كثير وإنه لا ينفق على من ماله فنزل جبريل عليه السلام وقال إن هذا الشيخ قد أنشأ في أنبه أبياتا ما قرع سمع بمثلها فاستنشدها فأنشدها الشيخ فقال * غذوتك مولدا ومنتك يافعا * تعل بما أجني عليك وتنهل * إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت * لسقمك إلا باكيا أتململ * كأني أنا المطروق دونك بالذي * طرقت به دوني وعيني تهمل * فلما بلغت السن والغاية التي * إليها مدى ما كنت فيك أؤمل * جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك * أنت المنعم المتفضل * فليتك إذ لم ترع حق أبوتي * فعلت كما الجار المجاور يفعل * فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أنت ومالك لأبيك «ربكم أعلم بما في نفوسكم» من البر والعقوق «إن تكونوا صالحين» قاصدين للصلاح والبر دون العقوق والفساد «فإنه» تعالى «كان للأوابين» أي الرجاعين إليه تعالى عما فرط منهم مما لا يكاد يخلو عنه البشر «غفورا» لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية فعلية أو قولية وفيه مالا يخفى من التشديد في الأمر بمراعاة حقوقهما ويجوز أن يكون عاما لكل تائب ويدخل فيه الجاني على أبويه دخولا أوليا «وآت ذا القربى» أي ذا القرابة «حقه» توصية بالأقارب إثر التوصية ببر الوالدين ولعل المراد بهم المحارم وبحقهم النفقة كما ينبئ عنه قوله تعالى «والمسكين وابن السبيل» فإن المأمور به في حقهما المواساة المالية لا محالة أي وآتهما حقهما مما كان مفترضا بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهي عن التبذير وعن الإفراط في القبض
167 والبسط فإن الكل من التصرفات المالية «ولا تبذر تبذيرا» نهى عن صرف المال إلى من سواهم ممن لا يستحقه فإن التبذير تفريق في غير موضعه مأخوذ من تفريق حبات وإلقائها كيفما كان من غير تعهد لمواقعة لا عن الإكثار في صرفه إليهم وإلا لناسبه الإسراف الذي هو تجاوز الحد في صرفه وقد نهى عنه بقوله تعالى ولا تبسطها وكلاهما مذموم «إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين» تعليل للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزا في قرن الشياطين والمراد بالإخوة المماثلة التامة في كل مالا خير فيه من صفات السوء التي من جملتها التبذير أي كانوا بما فعلوا من التبذير أمثال الشياطين أو الصداقة والملازمة أي كانوا أصدقاءهم وأتباعهم فيما ذكر من التبذير والصرف في المعاصي فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر مالا خير فيه من المباهي والملاهي أو المقارنة أي قرناءهم في النار على سبيل الوعيد «وكان الشيطان لربه كفورا» من تتمة التعليل أي مبالغا في كفران نعمته تعالى لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت هي له من أنواع المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر بالله وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به وتخصيص هذا الوصف بالذكر من بين سائر أوصافه القبيحة للإيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له والتعرض لوصف الربوبية للإشعار بكمال عتوه فإن كفران نعمة الرب مع كون الربوبية من قوى الدواعي إلى شكرها غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان «وإما تعرضن عنهم» أي إن اعتراك أمر اضطرك إلى أن تعرض عن أولئك المستحقين «ابتغاء رحمة من ربك» أي لفقد رزق من ربك إقامة للمسبب مقام السبب فإن الفقد سبب للابتغاء «ترجوها» من الله تعالى لتعطيهم وكان صلى الله عليه وسلم إذا سئل شيئا وليس عنده أعرض عن السائل وسكت حياء فأمر بتعهدهم بالقول الجميل لئلا تعتريهم الوحشة بسكوته صلى الله عليه وسلم فقيل «فقل لهم قولا ميسورا» سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا من يسر الأمر نحو سعد أو قل لهم رزقنا الله وإياكم من فضله على أنه دعاء لهم ييسر عليهم فقرهم «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط» تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر زجرا لهما عنهما وحملا على ما بينهما من الاقتصاد [كلا طرفي قصد الأمور ذميم] وحيث كان قبح الشح مقارنا له معلوما من أول الأمر روعي ذلك في التصوير بأقبح الصور ولما كان غائلة الإسراف في آخره بين قبحه في أثره فقيل «فتقعد ملوما» أي فتصير ملوما عند الله وعند الناس وعند نفسك إذا احتجت وندمت على ما فعلت «محسورا» نادما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسره السفر إذا بلغ منه وما قيل من أنه
168 روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد إذ أتاه صبي فقال إن أمي تستكسيك درعا فقال صلى الله عليه وسلم من ساعة إلى ساعة فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت له قل إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظروا فلم يخرج للصلاة فنزلت فيأباه أن السورة مكية خلا آيات في آخرها كذا ما قيل إنه صلى الله عليه وسلم أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وكذا عيينة بن حصن الفزاري فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول * أتجعل نهي ونهب العبي * د بين عيينة والأقرع * وما كان حصن ولا حابس * يفوقان مرداس في مجمع * وما كنت دون امرئ منهما * ومن تضع اليوم لا يرفع * فقال صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل وكانوا جميعا من المؤلفة القلوب فنزلت «إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر» تعليل لما مر أي يوسعه على بعض ويضيقه على آخرين حسبما تتعلق به مشيئته التابعة للحكمة فليس ما يرهقك من الإضافة التي تحوجك إلى الإعراض عن السائلين أو نفاذ ما في يدك إذا بسطتها كل البسط إلا لمصلحتك «إنه كان بعباده خبيرا بصيرا» تعليل لما سبق أي يعلم سرهم وعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم ويجوز أن يراد أن البسط والقبض من أمر الله العالم بالسرائر والظواهر الذي بيده خزائن السماوات والأرض وأما العباد فعليهم أن يقتصدوا وأن يراد أنه تعالى يبسط تارة ويقبض أخرى فاستنوا بسنته فلا تقبضوا كل القبض ولا تبسطوا كل البسط وأن يراد أنه تعالى يبسط ويقدر حسب مشيئته فلا تبسطوا على من قدر عليه رزقه وأن يكون تميهدا لقوله «ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق» أي مخافة فقر وقرئ بكسر الخاء كانوا يئدون بناتهم مخافة الفقر فنهوا عن ذلك «نحن نرزقهم وإياكم» لا أنتم فلا تخافوا الفاقة بناء على علمكم بعجزكم عن تحصيل رزقهم وهو ضمان لرزقهم وتعليل للنهي المذكور بإبطال موجبه في زعمهم وتقديم ضمير الأولاد على المخاطبين على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بأصالتهم في إفاضة الرزق أو لأن الباعث على القتل هناك الإملاق الناجز ولذلك قيل من إملاق وههنا الإملاق المتوقع ولذلك قيل خشية إملاق فكأنه قيل نرزقهم من غير أن ينتقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه وإياكم أيضا رزقا إلى رزقكم «إن قتلهم كان خطأ كبيرا» تعليل آخر ببيان أن المنهي عنه في نفسه منكر عظيم والخطء الذنب والإثم يقال خطىء خطأ كإثم إثما وقرئ بالفتح والسكون وبفتحتين بمعناه كالحذر والحذر وقيل بمعنى ضد الصواب وبكسر الخاء والمد وبفتحها ممدودا وبفتحها وحذف الهمزة وبكسرها كذلك «ولا تقربوا الزنى» بمباشرة مباديه القريبة أو البعيدة فضلا عن مباشرته وإنما نهى عن قربانه على خلاف ما سبق ولحق من القتل للمبالغة في النهي عن نفسه ولأن قربانه داع إلى مباشرته وتوسيط النهي
169 عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرمة على الإطلاق باعتبار أنه قتل للأولاد لما أنه تضييع للأنساب فإن من لم يثبت نسبه ميت حكما «إنه كان فاحشة» فعلة ظاهرة القبح متجاوزة عن الحد «وساء سبيلا» أي بئس طريقا طريقه فإنه غصب الأبضاع المؤدي إلى اختلال أمر الأنساب وهيجان الفتن كيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا زنى العبد خرج منه الإيمان فكان على رأسه كالظلة فإذا انقطع رجع إليه وقال صلى الله عليه وسلم لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم إياكم والزنا فإن فيه ست خصال ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة فأما التي في الدنيا فذهاب البهاء ودوام الفقر وقصر العمر وأما التي في الآخرة فسخط الله تعالى وسوء الحساب والخلود في النار «ولا تقتلوا النفس التي حرم الله» قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد «إلا بالحق» إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس معصومة عمدا فالاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق أو ملتبسين أو ملتبسة بشيء من الأشياء ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لا تقتلوها قتلا ما إلا قتلا ملتبسا بالحق «ومن قتل مظلوما» بغير حق يوجب قتله أو يبيحه للقاتل حتى إنه لا يعتبر إباحته لغير القاتل فإن من عليه القصاص إذا قتله غير من له القصاص يقتص له ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك ما لم يكن الأمر ظاهرا «فقد جعلنا لوليه» لمن يلي أمره من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث «سلطانا» تسلطا واستيلاء على القاتل يؤاخذه بالقصاص أو بالدية حسبما تقتضيه جنايته أو حجة غالبة «فلا يسرف» وقرئ لا نسرف «في القتل» أي لا يسرف الولي في أمر القتل بأن يتجاوز الحد المشروع بأن يزيد عليه المثلة أو بأن يقتل غير القاتل من أقاربه أو بأن يقتل الاثنين مكان الواحد كما يفعله أهل الجاهلية أو بأن يقتل القاتل في مادة الدية وقرئ بصيغة النفي مبالغة في إفادة معنى النهي «إنه كان منصورا» تعليل للنهي والضمير للولي على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب له القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فلا يبغ ما وراء حقه ولا يستزد عليه ولا يخرج من دائرة أمر الناصر أو للمقتول ظلما على معنى أنه تعالى نصره بما ذكر فلا يسرف وليه في شأنه أو للذي يقتله الولي ظلما وإسرافا ووجه التعليل ظاهر وعن مجاهد أن الضمير في لا يسرف للقاتل الأول ويعضده قراءة فلا تسرفوا والضميران في التعليل عائدان إلى الولي أو المقتول فالمراد بالإسراف حينئذ إسراف القاتل على نفسه بتعريضه لها للهلاك العاجل والآجل لا الإسراف وتجاوز الحد في القتل أي لا يسرف على نفسه في شأن القتل كما في قوله تعالى «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم» «ولا تقربوا مال اليتيم» نهى عن قربانه لما ذكر من المبالغة في النهي
170 عن التعرض له ومن إفضاء ذلك إليه وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى «إلا بالتي هي أحسن» أي إلا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن الخصال والطرائق وهي حفظه واستثماره «حتى يبلغ أشده» غاية لجواز التصرف على الوجه الأحسن المدلول عليه بالاستثناء لا للوجه المذكور فقط «وأوفوا بالعهد» سواء جرى بينكم وبين ربكم أو بينكم وبين غيركم من الناس والإيفاء بالعهد والوفاء به هو القيام بمقتضاه والمحافظة عليه ولا يكاد يستعمل إلا بالباء فرقا بينه وبين الإيفاء الحسي كإيفاء الكيل والوزن «إن العهد» أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال العناية بشأنه أو لأن المراد مطلق العهد المنتظم للعهد المعهود «كان مسؤولا» أي مسؤولا عنه على حذف الجار وجعل الضمير بعد انقلابه مرفوعا مستكنا في اسم المفعول كقوله تعالى «وذلك يوم مشهود» أي مشهود فيه ونظيره ما في قوله تعالى تلك آيات الكتاب الحكيم على أن أصله الحكيم قائله فحذف المضاف وجعل الضمير مستكنا في الحكيم بعد انقلابه مرفوعا ويجوز أن يكون تخييلا كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفي بك تبكيتا للناكث كما يقال للموءودة بأي ذنب قتلت «وأوفوا الكيل» أي أتموه ولا تخسروه «إذا كلتم» أي وقت كيلكم للمشترين وتقييد الأمر بذلك لما أن التطفيف هناك يكون وأما وقت الاكتيال على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى إذا اكتالوا على الناس يستوفون الآية «وزنوا بالقسطاس» وهو القرسطون وقيل كل ميزان صغيرا كان أو كبيرا رومي معرب ولا يقدح ذلك في عربية القرآن لانتظام المعربات في سلك الكلم العربية وقرئ بضم القاف «المستقيم» أي العدل السوي ولعل الاكتفاء باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن لما أن عند استقامته لا يتصور الجور غالبا بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاء بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءه لا يتصور بدون تعديل المكيال وقد أمر بتقويمه أيضا في قوله تعالى وأوفوا الكيل والميزان بالقسط «ذلك» أي إيفاء الكيل والوزن بالميزان السوي «خير» في الدنيا إذ هو أمانة توجب الرغبة في معاملته والذكر الجميل بين الناس «وأحسن تأويلا» عاقبة تفعيل من آل إذا رجع والمراد ما يؤول إليه «ولا تقف» ولا تتبع من قفا أثره إذا تبعه وقرئ ولا تقف من قاف أثره أي قفاه ومنه القافة في جمع القائف «ما ليس لك به علم» أي لا تكن في اتباع مالا علم لك به من قول أو فعل كمن يتبع مسلكا لا يدري أنه يوصله إلى مقصده واحتج به من منع اتباع الظن وجوابه أن المراد بالعلم هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند قطعيا كان أو ظنيا واستعماله بهذا المعنى مما لا ينكر شيوعه وقيل إنه مخصوص بالعقائد وقيل بالرمي وشهادة الزور ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه الله تعالى في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج ومنه قول الكميت * ولا أرمي البرئ بغير ذنب * ولا أقفوا الحواصن إن رمينا * «إن السمع والبصر والفؤاد» وقرئ بفتح الفاء والواو المقلوبة من الهمزة عند ضم الفاء «كل أولئك»
171 أي كل واحد من تلك الأعضاء فأجريت مجرى العقلاء لما كان مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها هذا وإن أولاء وإن غلب في العقلاء لكنه من حيث إنه اسم جمع لذا الذي يعم القبيلين جاء لغيرهم أيضا قال * ذم المنازل بعد منزلة اللوى * والعيش بعد أولئك الأيام * «كان عنه مسؤولا» أي كان كل من تلك الأعضاء مسؤولا عن نفسه على أن اسم كان ضمير يرجع إلى كل وكذا الضمير المجرور وقد جوز أن يكون الاسم ضمير القافي بطريق الالتفات إذ الظاهر أن يقال كنت عنه مسؤولا وقيل الجار والمجرور في محل الرفع قد أسند إليه مسؤولا معللا بأن الجار والمجرور لا يلتبس بالمبتدأ وهو السبب في منع تقديم الفاعل وما يقوم مقامه ولكن النحاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا ومجرورا ويجوز أن يكون من باب الحذف على شريطة التفسير ويحذف الجار من المفسر ويعود الضمير مستكنا كما ذكرنا في قوله تعالى يوم مشهود وجوز أن يكون مسؤولا مسندا إلى المصدر المدلول عليه بالفعل وأن يكون فاعله المصدر وهو السؤال وعنه في محل النصب وسأل ابن جني أبا على عن قولهم فيك يرغب وقال لا يرتفع بما بعده فأين المرفوع فقال المصدر أي فيك يرغب الرغبة بمعنى تفعل الرغبة كما في قولهم يعطي ويمنع أي يفعل الإعطاء والمنع وجوز أن يكون اسم كان أو فاعله ضمير كل بحذف المضاف أي كان صاحبه عنه مسؤولا أو مسؤولا صاحبه «ولا تمش في الأرض» التقييد لزيادة التقرير والإشعار بأن المشي عليها مما لا يليق بالمرح «مرحا» تكبرا وبطرا واختيالا وهو مصدر وقع موقع الحال أي ذا مرح أو تمرح مرحا أو لأجل المرح وقرئ بالكسر «إنك لن تخرق الأرض» تعليل للنهي وفيه تهكم بالمختال وإيذان بأن ذلك مفاخرة مع الأرض وتكبر عليها أي لن تخرق الأرض بدوسك وشدة وطأتك وقرئ بضم الراء «ولن تبلغ الجبال» التي هي بعض أجزاء الأرض «طولا» حتى يمكن لك أن تنكير عليها إذ التكبر إنما يكون بكثرة القوة وعظم الجنة وكلاهما مفقود وفيه تعريض بما عليه المختال من رفع رأسه ومشيه على صدور قدميه «كل ذلك» إشارة إلى ما علم في تضاعيف ذكر الأوامر والنواهي من الخصال الخمس والعشرين «كان سيئه» الذي نهى عنه وهي اثنتا عشرة خصلة «عند ربك مكروها» مبغضا غير مرضي أو غير مراد بالإرادة الأولية لا غير مراد مطلقا لقيام الأدلة القاطعة على أن جميع الأشياء واقعة بإرادته سبحانه وهو تتمة لتعليل الأمور المنهي عنها جميعا ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن البعض من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الانتهاء عن ذلك وتوجيه الإشارة إلى الكل ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء لما أن البعض المذكور ليس بمذكور جملة بل على وجه الاختلاط وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيا عنده تعالى وإنما لم يصرح بذلك إيذانا بالغني عنه وقيل الإضافة بيانية كما في آية الليل وآية النهار وقرئ سيئة على أنه خبر كان وذلك إشارة إلى ما نهى عنه من الأمور المذكورة
172 ومكروها بدل من سيئة أو صفة لها محمولة على المعنى فإنه بمعنى سيئا وقد قرئ به أو مجرى على موصوف مذكر أي أمرا مكروها أو مجرى مجرى الأسماء زال عنه معنى الوصفية ويجوز كونه حالا من المستكن في كان أو في الظرف على أنه صفة سيئة وقرئ سيئاته وقرئ شأنه «ذلك» أي الذي تقدم من التكاليف المفصلة «مما أوحى إليك ربك» أي بعض منه أو من جنسه «من الحكمة» التي هي علم الشرائع أو معرفة الحق لذاته والعمل به أو من الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن هذه الآيات الثماني عشرة كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها لا تجعل مع الله إلها آخر قال تعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وهي عشر آيات في التوراة ومن إما متعلقة بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائية وإما بمحذوف وقع حالا من الموصول أو من ضميره المحذوف في الصلة أي كائنا من الحكمة وإما بدل من الموصول بإعادة الجار («ولا تجعل مع الله إلها آخر» الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد غيره ممن يتصور منه صدور المنهي عنه وقد كرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه وأنه رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم ينفعه علومه وحكمه وإن بذفيها أساطين الحكماء وحك بيافوخه عنان السماء وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أو لا حيث قيل فتقعد مذموما مخذولا ورتب عليه ههنا نتيجته في العقبى فقيل «فتلقى في جهنم ملوما» من جهة نفسك ومن جهة غيرك «مدحورا» مبعدا من رحمة الله تعالى وفي إيراد الإلقاء مبينا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وازدراء بالمشرك وجعل له من قبيل خشبة يأخذها آخذ بكفه فيطرحها في التنور «أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا» خطاب للقائلين بأن الملائكة بنات الله سبحانه والإصفاء بالشيء جعله خالصا والهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر يفسره المذكور أي أفضلكم على جنابه فخصكم بأفضل الأولاد على وجه الخلوص وآثر لذاته أخسها وأدناها كما في قوله سبحانه ألكم الذكر وله الأنثى وقوله تعالى «أم له البنات ولكم البنون» وقد قصد ههنا بالتعرض لعنوان الربوبية تشديد النكير وتأكيده وأشير بذكر الملائكة عليهم السلام وإيراد الإناث مكان البنات إلى كفرة لهم أخرى وهي وصفهم لهم عليهم السلام بالأنوثة التي هي أخس صفات الحيوان كقوله تعالى وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا «إنكم لتقولون» بمقتضى مذهبكم الباطل الذي هو إضافة الولد إليه سبحانه «قولا عظيما» لا يقادر قدره في استتباع الإثم وخرقه لقضايا العقول بحيث لا يجترئ عليه أحد حيث يجعلونه تعالى من قبيل الأجسام المتجانسة السريعة الزوال وليس كمثله شيء وهو الواحد القهار الباقي بذاته ثم تضيفون إليه ما تكرهون من أخس الأولاد وتفضلون عليه أنفسكم بالبنين ثم تصفون الملائكة الذين هم من أشرف الخلائق بالأنوثة التي هي أخس أوصاف الحيوان فيالها
173 من ضلة ما أقبحها وكفرة ما أشنعها وأفظعها «ولقد صرفنا» هذا المعنى وكررناه «في هذا القرآن» على وجوه من التصريف في مواضع منه وإنما ترك الضمير تعويلا على الظهور وقرئ بالتخفيف «ليذكروا» ما فيه ويقفوا على بطلان ما يقولونه والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء الحال أن يعرض عنهم ويحكي للسامعين هناتهم وقرئ بالتخفيف من الذكر بمعنى التذكر ويجوز أن يراد بهذا القرآن ما نطق ببطلان مقالتهم المذكورة من الآيات الكريمة الواردة على أساليب مختلفة ومعنى التصريف فيه جعله مكانا له أي أوقعنا فيه التصريف كقوله يجرح في عراقيها نصلي وقد جوز أن يراد به إبطال إضافتهم إليه تعالى البنات وأنت تعلم أن إبطالها من آثار القرآن ونتائجها «وما يزيدهم» أي والحال أنه ما يزيدهم ذلك التصريف البالغ «إلا نفورا» عن الحق وإعراضا عنه فضلا عن التذكر المؤدي إلى معرفة بطلان ما هم عليه من القبائح «قل» في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى «لو كان معه» تعالى «آلهة كما يقولون» أي المشركون قاطبة وقرئ بالتاء خطابا لهم من قبل النبي صلى الله عليه وسلم والكاف في محل النصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي كونا مشابها لما يقولون والمراد بالمشابهة الموافقة والمطابقة «إذا لابتغوا» جواب عن مقالتهم الشنعاء وجزاء للو أي لطلبوا «إلى ذي العرش» أي إلى من له الملك والربوبية على الإطلاق «سبيلا» بالمغالبة والممانعة كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض على طريقة قوله تعالى لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا وقيل بالتقرب إليه تعالى كقوله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة والأول هو الأظهر الأنسب «سبحانه» فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم من حيث لا يحتسبون وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقرير ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون بل هو أمر يعتقدونه رأسا أي تنزه بذاته تنزها حقيقا به «وتعالى» متباعدا «عما يقولون» من العظيمة التي هي أن يكون معه آلهة وأن يكون له بنات «علوا» تعاليا كقوله تعالى والله أنبتكم من الأرض نباتا «كبيرا» لا غاية وراءه كيف لا وإنه سبحانه في أقصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه من أن له تعالى شركاء وأولادا في أبعد مراتب العدم أعني الامتناع لا لأنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجود لذاته واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه كما قيل فإن ما يقولونه ليس مجرد اتخاذ الولد بل اتخاذه تعالى له وأن يكون معه آلهة ولا ريب في أن ذلك ليس بداخل في حد الإمكان فضلا عن دخوله تحت الوجود وكونه من أدنى مراتب الوجود إنما هو بالنسبة إلى من شأنه ذلك
174 «تسبح» بالفوقانية وقرئ بالتحتانية وقرئ سبحت «له السماوات السبع والأرض ومن فيهن» من الملائكة والثقلين على أن لمراد بالتسبيح معنى منتظم لما ينطق به لسان المقال ولسان الحال بطريق عموم المجاز (وإن من شيء) من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا (إلا يسبح) ملتبسا (بحمده) أي ينزهه تعالى بلسان الحال عما لا يليق بذاته الأقدس من لوازم الإمكان ولواحق الحدوث إذ ما من موجود إلا وهو بإمكانه وحدوثه يدل دلالة واضحة على أن له صانعا عليما قادرا حكيما واجبا لذاته قطعا للسلسلة (ولكن لا تفقهون تسبيحهم) أيها المشركون لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم ذلك وقرئ لا يفقهون على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل (إنه كان حليما) ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة مع ما أنتم عليه من موجباتها من الإعراض عن التدبر في الدلائل الواضحة الدالة على التوحيد والانهماك في الكفر والإشراك (غفورا لمن تاب منكم (وإذا قرأت القرآن) الناطق بالتسبيح والتنزيه ودعوتهم إلى العمل بما فيه من التوحيد ورفض الشرك وغير ذلك من الشرائع (جعلنا) بقدرتنا ومشيئتنا المنية على دواعي الحكم الخفية (بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة) أوثر الموصول على الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة وإنما خص بالذكر كفرهم بالآخرة من بين سائر ما كفروا به من التوحيد ونحوه دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن وتمهيدا لما سينقل عنهم من إنكار البعث واستعجاله ونحو ذلك (حجابا) يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة ويفهموا قدرك الجليل ولذلك اجترموا على تفوه العظيمة التي هي قولهم إن تتبعون إلا رجلا مسحورا أو حمل الحجاب على ما روى عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه من أنه لما نزلت سورة تبت أقبلت العوراء أم جميل امرأة أبي لهب وفي يدها فهر والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه فلما رآها قال يا رسول الله لقد أقبلت هذه وأخاف إن تراك قال صلى الله عليه وسلم إنها لن تراني وقرأ قرآنا فوقفت على أبي بكر رضي الله عنه ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم (مستورا) ذا ستر كما في قولهم سيل مفعم أو مستورا عن الحسن بمعنى غير حسي أو مستورا في نفسه بحجاب آخر أو مستورا كونه حجابا حيث لا يدرون أنهم لا يدرون (وجعلنا على قلوبهم أكنه) أغطية كثيرة جمع كنان (أن يفقهوه) مفعول لأجله أي كراهة أن يفقهوه أو مفعول لما دل عليه الكلام أي منعناهم أن يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند الله تعال (وفي
175 آذانهم وقرا) صمما وثقلا مانعا من سماعه اللائق به وهذه تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جيء بها بيانا لعدم فقههم لتسبيح لسان المقال إثر بيان عدم فقههم لتسبيح لسان الحال وإيذانا بأن هذا التسبيح من الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيها على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق لا حكاية لما فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيها على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق لا حكاية لما قالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب كيف لا وقصدهم بذلك أنما هو الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم جهلا وكفرا من اتصافهما بأوصاف مانعة من التصديق والأيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير وقس عليه حال النبي صلى الله عليه وسلم لا الإخبار بأن هناك أمرا وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام (وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده) واحدا غير مشفوع به آلهتهم وهو مصدر وقع موقع الحال أصله يحدو حده (ولوا على أدبارهم) أي هربوا ونفروا (نفورا) أو ولوا نافرين (نحن أعلم بما يستمعون به) ملتبسين به من اللغو الاستخفاف والهزء بك وبالقرآن يروي أنه كان يقوم عن يمينه صلى الله عليه وسلم رجلان من بني عبد الدار وعن يساره رجلان فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار (إذ يستمعون إليك) ظرف لأعلم وفائدته تأكيد الوعيد بالإخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لا أن العلم يستفاد هناك من أحد وكذا قوله تعالى (وإذ هم نجوى) لكن لا من حيث تعلقه بما به الاستماع بل بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم والمعنى نحن أعلم بالذي يستمعون ملتبسين به مما لا خير فيه من الأمور المذكورة وبالذي يتناجون به فيما بينهم أو الأول ظرف ليستمعون والثاني ليتناجون والمعنى نحن أعلم بما به الاستماع وقت استماعهم غير تأخير وبما به التناجي وقت تناجيهم ونجوى مرفوع على الخبرية بتقدير المضاف أي ذوو نجوى أو هو جمع نجى كقتلى جمع قتيل أي متناجون (إذ يقول الظالمون) بدل من إذ هم وفيه دليل على أن ما يتناجون به غير ما يستمعون به وإنما وضع الظالمون موضع المضمر إشعارا بأنهم في ذلك ظالمون مجاوزون للحد أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم (إن تتبعون) ما تتبعون إن وجد منكم الاتباع فرضا أو ما تتبعون باللغو والهزء (إلا رجلا مسحورا) أي سحر فجن أو رجلا ذا سحر أي رئة يتنفس أي بشرا مثلكم (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) أي مثلوك بالشاعر والساحر والمجنون (فضلوا) في جميع ذلك عن منهاج المحاجة (فلا يستطيعون سبيلا) إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخبطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه أحد أو إلى سبيل الحق والرشاد وفيه من الوعيد وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى
176 «وقالوا أئذا كنا عظاما ورفاتا» استفهام إنكاري مفيد لكمال الاستبعاد والاستنكار للبعث بعد ما آل الحال إلى هذا المآل لما بين غضاضة الحي ويبوسة الرميم من التنافي كان استحالة الأمر من الظهور بحيث لا يقدر المخاطب على التكلم به والرفات ما بولغ في دقه وتفتيته وقال الفراء هو التراب وهو قول مجاهد وقيل هو الحطام وإذا متمحضة للظرفية وهو الأظهر والعامل فيها ما دل عليه قوله تعالى (أئنا لمبعوثون) لا نفسه لأن ما بعد إن والهمزة واللام لا يعمل فيما قبلها وهو نبعث أو نعاد وهو المرجع للإنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيصه به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله بل لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له وتكرير الهمزة في قولهم أئنا لتأكيد النكير وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم فإن تقديم الهمزة لاقتضائها الصدارة كما في مثل قوله تعالى أفلا تعقلون ونظائره على رأي الجمهور فإن المعنى عندهم تعقيب الإنكار لا إنكار التعقيب كما هو المشهور وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم عظاما ورفاتا كما يتراءى من ظاهر الجملة الاسمية بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيد عليه (خلقا جديدا) نصب على المصدر من غير لفظه أو الحالية على أن الخلق بمعنى المخلوق (قل) جوابا لهم وقريبا لما استبعدوه (كونوا حجارة أو حديدا) (أو خلقا) آخر (مما يكبر في صدوركم) أي يعظم عندكم عن قبول الحياة لكمال المباينة والمنافاة بينها وبينه فإنكم مبعوثون ومعادون لا محالة (فسيقولون من يعيدنا) مع ما بيننا وبين الإعادة من مثل هذه المباعدة والمباينة (قل) لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشاد لهم إلى طريقة الاستدلال (الذي) أي يعيدكم القادر العظيم الذي (فطركم) اخترعكم (أول مرة) من غير مثال يحتذيه ولا أسلوب ينتحيه وكنتم ترابا ما شم رائحة الحياة أليس الذي يقدر على ذلك بقادر على أن يعيد العظام البالية إلى حالتها المعهودة بلى إنه على كل شيء قدير (فسينغضون إليك رؤوسهم) أي سيحركونها نحوك تعجبا وإنكارا (ويقولون) استهزاء (متى هو) أي ما ذكرته من الإعادة (قل) لهم (عسى أن يكون) ذلك (قريبا) نصب على أنه خبر ليكون أو ظرف على أن كان تامة أي أن يقع في زمان قريب ومحل أن مع ما في حيزها إما نصب على أنه خبر لعسى وهي ناقصة واسمها ضمير عائد إلى ما عاد إليه هو أي عسى البعث أن يكون قريبا أو عسى البعث يقع في زمان قريب أو رفع على أنه فاعل
177 لعسى وهي تامة أي عسى كونه قريبا أو وقوعه في زمان قريب (يوم يدعوكم) منصوب بفعل مضمر أي اذكروا أو على أنه بدل من قريبا على أنه ظرف أو بيكون تامة بالاتفاق أو ناقصة عند من يجوز إعمال الناقصة في الظروف أو بضمير المصدر المستكن في عسى أو يكون أعنى البعث عند من يجوز إعمال ضمير المصدر كما في قول زهير * وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم * وما هو عنها بالحديث المرجم * فهو ضمير المصدر وقد تعلق به ما بعده من الجار (فتستجيبون) أي يوم يبعثكم فتبعثون وقد استعير لهما الدعاء والإجابة إيذانا بكمال سهولة التأتي وبأن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجواب (بحمده) حال من ضمير تستجيبون أي منقادين له حامدين لما فعل بكم غير مستعصين أو حامدين له تعالى على كمال قدرته عند مشاهدة آثارها ومعاينة أحكامها (وتظنون) عطف على تستجيبون أي تظنون عند ما ترون ما ترون من الأمور الهائلة (إن لبثتم) أي ما لبثتم في القبور (إلا قليلا) كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدنيا (وقل لعبادي) أي المؤمنين (يقولوا) عند محاورتهم مع المشركين (التي) أي الكلمة التي (هي أحسن) ولا يخاشنوهم كقوله تعالى ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن (إن الشيطان ينزغ بينهم) أي يفسد ويهيج الشر والمراء ويغري بعضهم على بعض لتقع بينهم المشاقة والمشارة والمعارة والمضارة فلعل ذلك يؤدي إلى تأكد العناد وتمادي الفساد فهو تعليل للأمر السابق وقرئ بكسر الزاء (إن الشيطان كان) قدما (للإنسان عدوا مبينا) ظاهر العداوة وهو تعليل لما سبق من أن الشيطان ينزغ بينهم (ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم) بالتوفيق للإيمان (أو إن يشأ يعذبكم) بالإمانة على الكفر وهذا تفسير التي هي أحسن وما بينهما اعتراض أي قولوا لهم هذه الكلمة وما يشاكلها ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن العاقبة مما لا يعلمه إلا الله سبحانه فعسى يهديهم إلى الإيمان (وما أرسلناك عليهم وكيلا) موكولا إليك أمورهم تقسرهم على الإيمان وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا فدارهم ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال وترك المحاقة والمشاقة وذلك قبل نزول آية السيف وقبل نزلت في عمر رضي الله عنه شتمه رجل فأمر بالعفو وقيل أفرط أذية المشركين بالمؤمنين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وقيل الكلمة التي هي أحسن أن يقولوا يهديكم الله ويرحمكم الله (وربك أعلم بمن في السماوات والأرض)
178 وتفاصيل أحوالهم الظاهرة والكامنة التي بها يستأهلون الاصطفاء والاجتباء فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن يستحقه وهو رد عليهم إذ قالوا بعيد أن يكون يتيم أبي طالب نبيا وأن يكون العراة الجوع أصحابه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديد وذكر من في السماوات لإبطال قولهم لولا أنزل علينا الملائكة وذكر من في الأرض لرد قولهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) بالفضائل النفسانية والتنزه عن العلائق الجسمانية لا بكثرة الأموال والاتباع (وآتينا داود زبورا) بيان لحيثية تفضيله عليه الصلاة والسلام فإن ذلك إيتاء الزبور لا إيتاء الملك والسلطنة وفيه إيذان بتفضيل النبي صلى الله عليه وسلم فإن نعوته الجليلة وكونه خاتم النبيين مسطورة في الزبور وأن المراد بعباد الله الصالحين في قوله تعالى إن الأرض يرثها عبادي الصالحون هو النبي صلى الله عليه وسلم وأمته وتعريف الزبور تارة وتنكيره أخرى إما لأنه في الأصل فعول بمعنى المفعول كالحلوب أو مصدر بمعناه كالقول وإما لأن المراد آتينا داود زبورا من الزبر أو بعضا من الزبور فيه ذكره صلى الله عليه وسلم وقرئ بضم الزاي على أنه جمع زبر بمعنى مزبور (قل ادعوا الذين زعمتم) أنها آلهة (من دونه) تعالى من الملائكة والمسيح وعزير (فلا يملكون) فلا يستطيعون (كشف الضر عنكم) بالمرة كالمرض والفقر والقحط ونحو ذلك (ولا تحويلا) أي ولا تحويله إلى غيركم (أولئك الذين يدعون) أي أولئك الآلهة الذين يدعوهم المشركون من المذكورين (يبتغون) يطلبون لأنفسهم (إلى ربهم) ومالك أمورهم (الوسيلة) القربة بالطاعة والعبادة (أيهم أقرب) بدل من فاعل يبتغون وأي موصولة أي يبتغي من هو أقرب إليه تعالى الوسيلة فكيف بمن دونه أو ضمن الابتغاء معنى الحرص فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إليه تعالى بالطاعة والعبادة (ويرجون رحمته) بها (ويخافون عذابه) بتركها كدأب سائر العباد فأين هم من كشف الضر فضلا عن الآلهية (إن عذاب ربك كان محذورا) حقيقا بأن يحذره كل أحد حتى الملائكة والرسل عليهم الصلاة والسلام وهو تعليل لقوله تعالى ويخافون عذابه وتخصيصه بالتعليل لما أن المقام مقام التحذير من العذاب وأن بينهم وبين العذاب بونا بعيدا (وإن من قرية) بيان لتحتم حلول عذابه تعالى بمن لا يحذره إثر بيان أنه حقيق بالحذر وأن أساطين الخلق من الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام على حذر من ذلك وكلمة إن نافية ومن استغراقية والمراد بالقرية القرية الكافرة أي ما من قرية من قرى الكفار (إلا نحن مهلكوها)
179 أي مخربوها بالخسف بها أو بإهلاك أهلها أهلها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجب لذلك وفي صيغة الفاعل وإن كانت بمعنى المستقبل ما ليس فيه من الدلالة على التحقق والتقرر وإنما قيل (قبل يوم القيامة) لأن الإهلاك يومئذ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا (أو معذبوها) أي معذبوا أهلها على الإسناد المجازي (عذابا شديدا) لا بالقتل والسبي ونحوهما من البلايا الدنيوية فقط بل بما لا يكتنه كنهه من فنون العقوبات الأخروية أيضا حسبما يفصح عنه إطلاق التعذيب عما قيد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة كيف لا وكثير من القرى العاتية العاصية قد أخرت عقوباتها إلى يوم القيامة (كأن ذلك) الذي ذكر من الإهلاك والتعذيب (في الكتاب) أي اللوح المحفوظ (مسطورا) مكتوبا لم يغادر منه شيء إلا بين فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له هذا وقد قيل الهلاك للقرى الصالحة والعذاب للطالحة وعن مقاتل وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكة فيخربها الحبشة وتهلك المدينة بالجوع والبصرة بالغرق والكوفة بالترك والجبال بالصواعق والرواجف وأما خراسان فهلاكها ضروب ثم ذكرها بلدا بلدا وقال الحافظ أبو عمرو الدواني في كتاب الفتن أنه روى عن وهب ابن منبه أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية آمنة حتى تخرب مصر ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينية على يدي رجل من بني هاشم وخراب الأندلس من قبل الزنج وخراب أفريقية من قبل الأندلس وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها وخراب العراق من الجوع وخراب الكوفة من قبل عدو من ورائهم يحصرهم حتى لا يستطيعون أن يشربوا من الفرات قطرة وخراب البصرة من قبل الغرق وخراب الأيلة من قبل عدو يحصرهم برا وبحرا وخراب الري من الديلم وخراب خراسان من قبل التبت وخراب التبت من قبل الصين وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان وخراب مكة من الحبشة وخراب المدينة من قبل الجوع وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة وقد أخرجه العمري من هذا الوجه وأنت خبير بأن تعميم القرية لا يساعده السباق ولا السياق (وما منعنا أن نرسل بالآيات) أي الآيات التي اقترحتها قريش من إحياء الموتى وقلب الصفا ذهبا ونحو ذلك (إل أن كذب بها الأولون) استثناء مفرغ من أعم الأشياء أي وما منعنا إرسالها شيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين بها حين جاءتهم باقتراحهم وعدم إرساله تعالى بها وإن كان بمشيئته المبنية على الحكم البالغة لا لمنع مانع عن ذلك من التكذيب أو غيره لاستحالة العجز عليه تعالى لكن تكذيبهم المذكور بواسطة استتباعه لاستئصالهم بحكم السنة الإلهية واستلزمه لتكذيب الآخرين بحكم الاشتراك في العتو والعتاد وإفضائه إلى أن يحل بهم مثل ما حل بهم بحكم الشركة في الجريرة لما كان منافيا لإرسال ما اقترحوه
180 من الآيات لتعيين التكذيب المستدعى للاستئصال المخالف لما جرى به قلم القضاء من تأخير عقوبات هذه الأمة إلى الآخرة لحكم باهرة من جملتها ما يتوهم من إيمان بعض أعقابهم عبر عن تلك المنافاة بالمنع على نهج الاستعارة إيذانا بتعاضد مبادئ الإرسال لا كما زعموا من عدم إرادته تعالى لتأييده صلى الله عليه وسلم بالمعجزات وهو السر في إيثار الإرسال على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآيات إلى النزول لولا أن تمسكها يد التقدير وإسناد على هذا المنع إلى تكذيب الأولين لا إلى عمله تعالى بما سيكون من الآخرين كما في قوله تعالى ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون لإقامة الحجة عليهم بإبراز الا نموذج وللإيذان بان مدار عدم الإجابة إلى إيتاء مقترحهم ليس إلا صنيعهم (وآتينا ثمود الناقة) عطف على ما يفصح عنه النظم الكريم كأنه قيل وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث آتيناهم ما اقترحوا من الآيات الباهرة فكذبوها وآتينا باقتراحهم ثمود الناقة (مبصرة) على صيغة الفاعل أي بينة ذات إبصار أو بصائر يدركها الناس أو أسند إليها حال من يشاهدها مجازا أو جاعلتهم ذوي بصائر من أبصره جعله بصيرا وقرئ على صيغة المفعول وبفتح الميم والصادر وهي نصب على الحالية وقرئ بالرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف (فظلموا بها) فكفروا بها ظالمين أي لم يكتفو بمجرد الكفر بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر أو ظلموا أنفسهم وعرضوها للهلاك بسبب عقرها ولعل تخصيصها بالذكر لما أن ثمود عرب مثلهم وأن لهم من العلم بحالهم مالا مزيد عليه حيث يشاهدون آثار هلاكهم ورودا أو صدودا أو لأنها من جهة أنها حيوان أخرج من الحجر أوضح دليل على تحقق مضمون قوله تعالى قل كونوا حجارة أو حديدا (وما نرسل بالآيات) المقترحة (إلا تخويفا) لمن أرسلت هي عليهم مما يعقبها من العذاب المستأصل كالطليعة له وحيث لم يخافوا ذلك فعل بهم ما فعل فلا محل للجملة حينئذ من الاعراب ويجوز أن تكون حالا من ضمير ظلموا أي ظلموا بها ولم يخافوا عاقبته والحال أنا ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفا من العذاب الذي يعقبها فنزل بهم ما نزل (وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس) أي علما كما نقله الإمام الثعلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما فلا يخفى عليه شيء من أفعالهم الماضية والمستقبلة من الكفر والتكذيب وفي قوله تعالى (وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس) إلى آخر الآية تنبيه على تحققها بالاستدلال عليها بما صدر عنهم عند مجىء بعض الآيات لاشتراك الكل في كونها أمورا خارقة للعادات منزلة من جانب الله سبحانه لتصديق النبي صلى الله عليه وسلم فتكذيبهم لبعضها مستلزم لتكذيب الباقي كما أن تكذيب الآخرين بغير المقترحة يدل على تكذيبهم بالآيات المقترحة والمراد بالرؤيا ما عاينه صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من عجائب الأرض والسماء حسبما ذكر في فاتحة السورة الكريمة والتعبير عن ذلك بالرؤيا إما لأنه لا فرق بينها وبين الرؤية أو لأنها وقعت بالليل أو لأن الكفرة قالوا لعلها رؤيا أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عيانا مع كونها أية عظيمة وآية آية حقيقة بأن
181 لا يتلعثم في تصديقها أحد ممن له أدنى بصيرة إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعضهم (والشجرة الملعونة في القرآن) عطف على الرؤيا والمراد بلعنها فيه لعن طاعمها على الإسناد المجازي أو إبعادها عن الرحمة فإنها تنبت في أصل الجحيم في أبعد مكان من الرحمة أي وما جعلناها إلى فتنة لهم حيث أنكروا ذلك وقالوا إن محمدا يزعم أن الجحيم يحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر ولقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا حيث كابروا قضية عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة فلا تضرها ويشاهدون المناديل المتخذة من وبر السمندر تلقى في النار فلا تؤثر فيها ويرون أن في كل شجر نارا وقرئ بالرفع على حذف الخبر كأنه قيل والشجرة الملعونة في القرآن كذلك (وتخوفهم) بذلك وبنظائرها من الآيات فإن الكل للتخويف وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على التجدد والاستمرار فما يزيدهم التخويف (إلا طغيانا كبيرا) متجاوزا عن الحد فلو أنا أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها ما فعلوا بنظائرها وفعل بهم ما فعل بأشياعهم وقد قضينا بتأخير العقوبة العامة لهذه الأمة إلى الطامة الكبرى هذا هو الذي يستدعيه النظم الكريم وقد حمل أكثر المفسرين الإحاطة على الإحاطة بالقدرة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما عسى يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات التي اقترحوها لأن إنزالها ليس بمصلحة من نوع حزن من طعن الكفرة حيث كانوا يقولون لو كنت رسولا حقا لأتيت بهذه المعجزات كما أتى بها موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فكأنه قيل اذكر وقت قولنا لك إن ربك اللطيف بك قد أحاط بالناس فهم في قبضة قدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته فهو يحفظك منهم فلا تهتم بهم وامضى لما أمرتك به من تبليغ الرسالة ألا يرى أن الرؤيا التي أريناك من قبل جعلناها فتنة للناس مورثة للشبهة مع أنها ما أورثت ضعفا لأمرك وفتورا في حالك وقد فسر الإحاطة بإهلاك قريش يوم بدر وإنما عبر عنه بالماضي مع كونه منتظرا حسبما ينبئ عنه قوله تعالى سيهزم الجمع ويولون الدبر وقوله تعالى قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وغير ذلك جريا على عادته سبحانه في أخباره وأولت الرؤيا بما رآه صلى الله عليه وسلم في المنام من مصارعهم لما روى أنه صلى الله عليه وسلم لما ورد ماء بدر قال والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يومئ إلى الأرض هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان فتسامعت به قريش فاستسخروا منه وبما رآه النبي صلى الله عليه وسلم أنه سيدخل مكة وأخبر به أصحابه فتوجه إليها فصده عام المشركون الحديبية واعتذر عن كون ما ذكر مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بإهلاكهم وكذا الرؤيا واقعا بمكة وذكر الرؤيا وتعيين المصارع واقعين بعد الهجرة وأنت خبير بأنه يلزم منه أن يكون افتتان الناس بذلك واقعا بعد الهجرة وأن يكون ازديادهم طغيانا متوقعا غير واقع عند نزول الآية وقد قيل الرؤيا ما رآه صلى الله عليه وسلم في وقعة بدر من مضمون قوله تعالى إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولا ريب في أن تلك الرؤيا مع وقوعها في المدينة ما جعلت فتنة للناس (وإذا قلنا للملائكة) تذكير لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعة من غير تردد وتحقيق لمضمون ما سبق من قوله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا ويعلم
182 من حال الملائكة حال غيرهم من عيسى وعزير عليهما السلام في الطاعة وابتغاء الوسيلة ورجاء الرحمة ومخافة العذاب ومن حال إبليس حال من يعاند الحق ويخالف الأمر أي واذكر وقت قولنا لهم (اسجدوا لآدم) تحية وتكريما لما له من الفضائل المستوجبة لذلك (فسجدوا) له من غير تلعثم امتثالا للأمر وأداء لحقه عليه الصلاد والسلام (إلا إبليس) وكان داخلا في زمرتهم مندرجا تحت الأمر بالسجود (قال) أي عند ما وبخ بقوله عز سلطانه يا إبليس ما لك أن لا تكون مع الساجدين وقوله ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك وقوله ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي كما أشير إليه في سورة الحجر (أأسجد) وأنا مخلوق من العنصر العالي (لمن خلقت طينا) نصب على نزع الخافض أي من طين أو حال من الراجع إلى الموصول أي خلقته وهو طين أو من نفس الموصول أي أأسجد له وأصله طين والتعبير عنه صلى الله عليه وسلم بالموصول لتعليل إنكاره بما في حيز الصلة (قال) أي إبليس لكن لا عقيب كلامه المحكي بل بعد الإنظار المترتب على استنظاره المتفرع على الأمر بخروجه من بين الملأ الأعلى باللعن المؤبد وإنما لم تصرح بذلك اكتفاء بما ذكر في مواضع أخر فإن توسيط قال بين كلامي اللعين للإيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره كما في قوله تعالى قال فما خطبكم بعد قوله تعالى قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا لضالون (أرأيتك هذا الذي كرمت على) الكاف لتأكيد الخطاب لا محل لها من الإعراب وهذا مفعول أول والموصول صفته والثاني محذوف لدلالة الصلة عليه أي أخبرني عن هذا الذي كرمته على بأن أمرتني بالسجود له لم كرمته على وقيل هذا مبتدأ حذف عنه حرف الاستفهام والموصول مع صلته خبره ومقصوده الاستصغار والاستحقار ما يخاطبه به عقيبه (لئن أخرتن) حيا (إلى يوم القيامة) كلام مبتدأ واللام موطئة للقسم وجوابه قوله (لأحتنكن ذريته) أي لأستأصلنهم من قولهم احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا أو لأقودنهم حيث ما شئت ولأستولين عليهم استيلاء قويا من قولهم حنكت الدابة واحتنكتها إذا جعلت في حنكها الأسفل حبلا تقودها به وهذا كقوله لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين وإنما علم تسني ذلك المطلب له تلقيا من جهة الملائكة عليهم الصلاة والسلام أو استنباطا من قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء أو نوسما من خلقه (إلا قليلا) منهم وهم المخلصون الذين عصمهم الله تعالى (قال اذهب) أي امض لشأنك الذي اخترته وهو طرد له وتخلية بينه وبين ما سولت له نفسه (فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم) أي جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب في الغائب رعاية الحق المتبوعية (جزاء موفورا) أي جزاء مكملا من قولهم فر لصاحبك عرضه فرة أي وفر وهو نصب على أنه مصدر مؤكد لما في قوله فإن جهنم جزاؤكم من معنى تجازون أو للفعل المقدر أو حال موطئه لقوله موفورا
183 (واستفزز) أي استخف (من استطعت منهم) أن تستفزه (بصوتك) بدعائك إلى الفساد (واجلب عليهم) أي صح عليهم من الجلبة وهي الصياح (بخيلك ورجلك) أي بأعوانك وأنصارك من راكب وراجل من أهل العبث والفساد قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وقتادة إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وما كان من راجل يقاتل في معصية الله تعالى فهو من رجل إبليس والخيل الخيالة ومنه قوله صلى الله عليه وسلم يا خيل الله اركبي والرجل اسم جمع للراجل كالصحب والركب وقرئ بكسر الجيم وهي قراءة حفص على أنه فعل بمعنى فاعل كتعب وتاعب وبضمه مثل حدث وحدث وندس وندس وندس ونظائرهما أي جمعك الراجل ليطابق الخيل وقرئ رجالك ورجالك ويجوز أن يكون استفزازه بصوته وإجلابه بخيله ورجله تمثيلا لتسلطه على من يغويه فكأنه مغوار أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يزعجهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم واجلب عليهم يجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم (وشاركهم في الأموال) بحملهم على كسبها وجمعها من الحرام والتصرف فيها على ما لا ينبغي (والأولاد) بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة والإشراك كتسميتهم بعبد العزى والتضليل بالحمل على الأديان الزائغة والحرف الذميمة والأفعال القبيحة (وعدهم) المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة والاتكال على كرامة الآباء وتأخير التوبة بتطويل الأمل (وما يعدهم الشيطان إلا غرورا) اعتراض لبيان شأن مواعيده والالتفات إلى الغيبة لتقوية معنى الاعتراض مع ما فيه من صرف الكلام عن خطابه وبيان شأنه للناس ومن الإشعار بعلية شيطنته للغرور وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب (إن عبادي) الإضافة للتشريف وهم المخلصون وفيه أن من تبعه ليس منهم وأن الإضافة لثبوت الحكم في قوله تعالى (ليس لك عليهم سلطان) أي تسلط وقدرة على إغوائهم كقوله تعالى إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون (وكفى بربك وكيلا) لهم يتوكلون عليه ويستمدون به في الخلاص عن إغوائك والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي مع الإضافة إلى ضمير إبليس للإشعار بكيفية كفايته تعالى لهم أعني سلب قدرته على إغوائهم (ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر) مبتدأ وخبر والإزجاء السوق حالا بعد حال أي هو القادر الحكيم الذي يسوق لمنافعكم الفلك ويجريها في البحر (لتبتغوا من فضله) من رزقه الذي هو فضل من قبله أو من الربح الذي هو معطيه ومن مزيدة أو تبعيضية وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائل التوحيد وتمهيد لذكر توحيدهم
184 عند مساس الضر تكملة لما مر من قوله تعالى فلا يملكون الآية (إنه كان بكم) أزلا وأبدا (رحيما) حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من مباديه وهذا تذييل فيه تعليل لما سبق من الإزجاء لابتغاء الفضل وصيغة الرحيم للدلالة على أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة (وإذا مسكم الضر في البحر) خوف الغرق فيه (ضل من تدعون) أي ذهب عن خواطركم ما كنتم تدعون من دون اله من الملائكة أو المسيح أو غيرهم (إلا إياه) وحده من غير أن يخطر ببالكم أحد منهم وتدعوه لكشفه استقلالا أو اشتراكا أو ضل كل من تدعونه عن إغاثتكم وإنقاذكم ولم يقدر على ذلك إلا الله على الاستثناء المنقطع (فلما نجاكم) من الغرق وأوصلكم (إلى البر أعرضتم) عن التوحيد أو اتسعتم في كفران النعمة (وكان الإنسان كفورا) تعليل لما سبق من الإعراض (أفأمنتم) الهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره أنجوتم فأمنتم (أن يخسف بكم جانب البر) الذي هو مأمنكم أي يقلبه ملتبسا بكم أو بسبب كونكم فيه وفي زيادة الجانب تنبيه على تساوي الجوانب والجهات بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى وقهره وسلطانه وقرئ بنون العظمة (أو يرسل عليكم) من فوقكم وقرئ بالنون (حاصبا) ريحا ترمى بالحصباء (ثم لا تجدوا لكم وكيلا) يحفظكم من ذلك أو يصرفه عنكم فإنه لا راد لأمره الغالب (أم أمنتم أن يعيدكم فيها) في البحر أو ثرت كلمة في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم فيه (تارة أخرى) أسناد لإعادة إليه تعالى مع أن العود إليه باختيارهم باعتبار خلق الدواعي الملجئة لهم إلى ذلك وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لا قوة في التارة الأولى بحيث لولا الإعادة لما عادوا (فيرسل عليكم) وأنتم في البحر وقرئ بالنون (قاصفا من الريح) وهي التي لا تمر بشيء إلا كسرته وجعلته كالرميم أو التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر (فيغرقكم) بعد كسر فلككم كما ينبئ عنه عنوان القصف وقرئ بالنون وبالتاء على الإسناد إلى ضمير الريح (بما كفرتم) بسبب إشراككم أو كفرانكم لنعمة الإنجاء (ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا) أي ثائرا يطالبنا بما فعلنا انتصارا منا ودركا للثأر من جهتنا كقوله سبحانه ولا يخاف عقباها
185 (ولقد كرمنا بني آدم) قاطبة تكريما شاملا لبرهم وفاجرهم أي كرمناهم بالصورة والقامة المعتدل والتسلط على ما في الأرض والتمتع به والتمكن من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يحيط به نطاق العبارة ومن جملته ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن كل حيوان يتناول طعامه بفيه إلا الإنسان فإنه يرفعه إليه بيده وما قيل من شركة القرد له في ذلك مبنى على عدم الفرق بين اليد والرجل فإنه متناول له برجله التي يطأ بها القاذورات لا بيده (وحملناهم في البر والبحر) على الدواب والسفن من حملته إذا جعلت له ما يركبه وليس من المخلوقات شيء كذلك وقيل حملناهم فيها حيث لم نخسف بهم الأرض ولم نغرقهم بالماء وأنت خبير بأن الأول هو الأنسب بالتكريم إذ جميع الحيوانات كذلك (ورزقناهم من الطيبات) أي فنون النعم وضروب المستلذات مما يحصل بصنيعهم وبغير صنيعهم (وفضلناهم) في العلوم والإدراكات بما ركبنا فيهم من القوى المدركة التي بها يتميز الحق من الباطل والحسن من القبيح (على كثير ممن خلقنا) وهم من عدا الملائكة عليهم الصلاة والسلام (تفضيلا) عظيما فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم ولا يكفروها ويستعملوا قواهم في تحصيل العقائد الحقة ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذي لا يقبله أحد ممن له أدنى تميز فضلا عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقول المحضة وإنما استثنى جنس الملائكة من هذا التفضيل لأن علومهم دائمة عارية عن الخطأ والخلل وليس فيه دلالة على أفضليتهم بالمعنى المتنازع فيه فإن المراد هنا بيان التفضيل في أمر مشترك بين جميع أفراد البشر صالحها وطالحها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضل في عظم الدرجة وزيادة القربة عند الله سبحانه إن قيل أي حاجة إلى تعيين ما فيه التفضيل بعد بيان ما هو المراد بالمفضلين فإن استثناء الملائكة عليهم الصلاة والسلام من تفضيل جميع أفراد البشر عليهم لا يستلزم استثناءهم من تفضيل بعض أفراده عليهم قلنا لا بد من تعيينه البتة إذ ليس من الأفراد الفاجرة للبشر أحد يفضل على أحد من المخلوقات فيما هو المتنازع فيه أصلا بل هم أدنى من كل دنئ حسبما ينبئ عنه قوله تعالى أولئك كالانعام بل هم أضل وقوله تعالى إن شر الدواب عند الله الذين كفروا (يوم ندعو) نصب على المفعولية بإضمار اذكر أو ظرف لما دل عليه قوله تعالى ولا يظلمون وقرئ بالياء على البناء للفاعل وللمفعول ويدعو بقلب الألف واوا على لغة من يقول في أفعى افعو وقد جوز كون الواو علامة الجمع كما في قوله تعالى وأسروا النجوى أو ضميره وكل بدلا منه والنون محذوفة لقلة المبالاة فإنها ليست إلا علامة الرفع وقد يكتفي بتقديره كما في يدعي (كل أناس) من بني آدم الذين
186 فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم والتفضيل وهذا شروع في بيان تفاوت أحوالهم في الآخرة بحسب أحوالهم وأعمالهم في الدنيا (بإمامهم) أي بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين وقيل بكتاب أعمالهم التي قدموها فيقال يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر أو يا أهل دين كذا يا أهل كتاب كذا وقيل الإمام جمع أم كخف وخفاف والحكمة في دعوتهم بأمهاتهم بإجلال عيسى عليه السلام وتشريف الحسنين رضي الله عنهما والستر على أولاد الزنا (فمن أوتي) يومئذ من أولئك المدعوين (كتابه) صحيفة أعماله (بيمينه) إبانة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفا لصاحبه وتبشيرا له من أول الأمر بما في مطاوية (فأولئك) إشارة إلى من باعتبار معناه إيذانا بأنهم حزب مجتمعون على شأن جليل أو إشعار بأن قراءتهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما في حال الإيتاء وما فيه من الدلالة على البعد للإشعار برفعة درجاتهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامة التي يشعر بها الإيتاء المزبور (يقرءون كتابهم) الذي أوتوه على الوجه المبين تبجحا بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات (ولا يظلمون) أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة (فتيلا) أي قدر فتيل وهو القشرة التي في شق النواة أو أدنى شيء فإن الفتيل مثل في القلة والحقارة (ومن كان) من المدعوين المذكورين (في هذه) الدنيا التي فعل بهم فيها ما فعل من فنون التكريم والتفضيل (أعمى) فاقد البصيرة لا يهتدي إلى رشده ولا يعرف ما أوليناه من نعمة التكرمة والتفضيل فضلا عن شكرها والقيام بحقوقها ولا يستعمل ما أودعناه فيه من العقول والقوى فيما خلقن له من العلوم والمعارف الحقة (فهو في الآخرة) التي عبر عنها بيوم ندعو (أعمى) كذلك أي لا يهتدي إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه لأن العمى الأول موجب للثاني وقد جوز كون الثاني بمعنى التفضيل على أن عماه في الآخرة أشد من عماه في الدنيا ولذلك قرأ أبو عمرو الأول مما لا والثاني مفخما (وأضل سبيلا) أي من الأعمى لزوال الاستعداد الممكن وتعطل الآلات بالكلية وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له ولعل العدول عن ذكره بذلك العنوان مع أنه الذي يستدعيه حسن المقابلة حسبما هو الواقع في سورة الحاقة وسورة الانشقاق للإيذان بالعلة الموجبة له كما في قوله تعالى وأما إن كان من المكذبين الضالين بعد قوله تعالى فأما إن كان من أصحاب اليمين وللرمز إلى علة حال الفريق الأول وقد ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخرة السبب ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلا على شهادة العقل كما في قوله عز وعلا وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله (وإن كادوا ليفتنونك) نزلت في ثقيف إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا نجبي في صلاتنا كل ربا لنا فهو لنا كل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم
187 وأدينا وج كما حرمت مكة فإذا قالت العرب لم فعلت فقل إن الله أمرني بذلك وقيل في قريش حيث قالوا اجعل لنا آية عذاب آية رحمة وآية رحمة آية عذاب أو قالوا لا نمكنك من استلام الحجر حتى تلم بآلهتنا فإن مخففة من المشددة وضمير الشأن الذي هو اسمها محذوف واللام هي الفارقة بينها وبين النافية أي أن الشأن قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين (عن الذي أوحينا إليك) من أوامرنا ونواهينا ووعدنا ووعيدنا (لتفتري علينا غيره) لتتقول علينا غير الذي أوحينا إليك مما اقترحته ثقيف أو قريش حسبما نقل (وإذن لاتخذوك خليلا) أي لو اتبعت أهواءهم لكنت لهم وليا ولخرجت من ولايتي (ولولا أن ثبتناك) على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك (لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا) من الركون الذي هو أدنى ميل أي لولا تثبيتنا لك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من الميل اليسير لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك العصمة فنمنعك من أن تقرب من أدنى مراتب الركون إليهم فضلا عن نفس الركون وهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم ما هم بإجابتهم مع قوة الداعي إليها ودليل على أن العصمة بتوفيق الله تعالى وعنايته (إذن) لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركنة (لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات) أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ضعف ما يعذب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك لأن خطأ الخطير خطير وكان أصل الكلام عذابا ضعفا في الحياة وعذابا ضعفا في الممات بمعنى مضاعفا ثم حذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه ثم أضيفت إضافة موصوفها وقيل الضعف من أسماء العذاب وقيل المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة وبضعف الممات عذاب القبر (ثم لا تجد لك علينا نصيرا) يدفع عنك العذاب (وإن كادوا) الكلام فيه كما في الأول أي كاد أهل مكة (ليستفزونك) أي ليزعجونك بعداوتهم ومكرهم (من الأرض) أي الأرض التي أنت فيها وهي أرض مكة (ليخرجوك منها وإذن لا يلبثون) بالرفع عطفا على خبر كاد وقرئ لا يلبثوا بالنصب بأعمال إذن على أن الجملة معطوفة على جملة وإن كادوا ليستفزونك (خلافك) أي بعدك قال * خلت الديار خلافهم فكأنما * بسط الشواطب بينهن حصيرا * أي وله خرجت لا يبقون بعد خروجك وقرئ خلفك (إلا قليلا) إلا زمانا قليلا وقد كان كذلك فإنهم أهلكوا ببدر بعد هجرته صلى الله عليه وسلم وقيل نزلت الآية في اليهود حيث حسدوا مقام النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا الشام مقام الأنبياء عليهم السلام فإن كنت نبيا فالحق بها حتى نؤمن بك فوقع ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم فخرج مرحلة فنزلت فرجع ثم قتل منهم بنو قريظة وأجلى بنوا النضير بقليل (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا) نصب على
188 المصدرية أي سن الله تعالى سنة وهي أن يهلك كل أمة أخرجت رسولهم من بين أظهرهم فالسنة لله تعالى وإضافتها إلى الرسل لأنها سنت لأجلهم على ما ينطق به قوله عز وجل (ولا تجد لسنتنا تحويلا) أي تغييرا (أقم الصلاة لدلوك الشمس) لزوالها كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل عليه السلام والدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر واشتقاقه من الدلك لأن من نظر إليها حينئذ يدلك عينه وقيل لغروبها من دلكت الشمس أي غربت وقيل أصل الدلوك الميل فينتظم كلا المعنيين واللام للتأقيت مثلها في قولك لثلاث خلون (إلى غسق الليل) إلى اجتماع ظلمته وهو وقت صلاة العشاء وليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرار بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام كما أن اعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه صلى الله عليه وسلم ولعل الاكتفاء بيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلوات من غير فصل بينها لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدهما عن الآخر ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات وقيل المراد بالصلاة صلاة المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدئه ومنتهاه واستدل به على امتداد وقته إلى غروب الشفق وقوله تعالى (وقرآن الفجر) أي صلاة الفجر نصب عطفا على مفعول أقم أو على الإغراء قاله الزجاج وإنما سميت قرآنا لأنه ركنها كما تسمى ركوعا وسجودا واستدل به على الركنية ولكن لا دلالة له على ذلك لجواز كون مدار الجوز كون القراءة مندوبة فيها نعم لو فسر بالقراءة في صلاة الفجر لدل الأمر بإقامتها عن الوجوب فيها نصا وفيما عداها دلالة ويجوز أن يكون وقرآن الفجر حثا على تطويل القراءة في صلاة الفجر (إن قرآن الفجر) أظهر في مقام الإضمار إبانة لمزيد الاهتمام به (كان مشهودا) يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار أو شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت أو يشهده كثير من المصلين أو من حقه أن يشهده الجم الغفير فالآية على تفسير الدلوك بالزوال جامعة للصلوات الخمس وعلى تفسيره بالغروب لما عدا الظهر والعصر (ومن الليل) قيل هو نصب على الإغراء أي ألزم بعض الليل وقيل لا يكون المغرى به حرفا ولا يجدي نفعا كون معناها التبعيض فإن واو مع ليست اسما بالاجتماع وإن كانت بمعنى الاسم الصريح بل هو منصوب على الظرفية بمضمر أي قم بعض الليل (فتهجد به) أي أزل والق الهجر أي النوم فإن صيغة التفعل تجيء للإزالة كالتحرج والتحنث والتأثم ونظائرها والضمير المجرور للقرآن من حيث هو لا يقيد لا إضافته إلى الفجر أو للبعض المفهوم من قوله تعالى ومن الليل أي تهجد في ذلك البعض على أن الباء بمعنى في وقيل منصوب يتهجد أي تهجد بالقرآن بعض الليل على طريقة وإياي فارهبون (نافلة لك) فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة ولعله هو الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر مع تقدم وقتها على وقتها أو تطوعا لكن لا لكونها زيادة
189 على الفرائض بل لكونها زيادة له صلى الله عليه وسلم في الدرجات على ما قال مجاهد والسدي فإنه صلى الله عليه وسلم مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيكون تطوعه زيادة في درجاته بخلاف من عداه من الأمة فإن تطوعهم لتكفير ذنوبهم وتدارك الخلل الواقع في فرائضهم وانتصابها إما على المصدرية بتقدير تنفل أو بجعل تهجد بمعناه أو يجعل نافلة بمعنى تهجدا فإن ذلك عبادة زائدة وإما على الحالية من الضمير الراجع إلى القرآن أي حال كونها صلاة نافلة وإما على المفعولية لتهجد إذا جعل بمعنى صل وجعل الضمير المجرور للبعض أي فصل في ذلك البعض نافلة لك (عسى أن يبعثك ربك) الذي يبلغك إلى كمالك اللائق بك من بعد الموت الأكبر كما انبعثت من النوم الذي هو الموت الأصغر بالصلاة والعبادة (مقاما) نصب على الظرفية على إضمار فيقيمك أو تضمين البعث معنى الإقامة إذ لا بد من أن يكون العامل في مثل هذا الظرف فعلا فيه معنى الاستقرار ويجوز أن يكون حالا بتقدير مضاف أي يبعثك ذا مقام (محمودا) عندك وعند جميع الناس وفيه تهوين لمشقة قيام الليل وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المقام المحمود هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي وعن ابن عباس رضي الله عنهما مقاما يحمدك فيه الأولون والآخرون تشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطى وتشفع فتشفع ليس أحد إلا تحت لوائك وعن حذيفة رضي الله عنه يجمع الناس في صعيد واحد فلا تتكلم فيه نفس فأول مدعو محمد صلى الله عليه وسلم فيقول لبيك وسعديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت (وقل رب أدخلني) أي القبر (مدخل صدق) أي إدخال مرضيا (وأخرجني) أي منه عند البعث (مخرج صدق) أي إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة فهو تلقين الدعاء بما وعده من البعث المقرون بالإقامة المعهودة التي لا كرامة فوقها وقيل المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة وتغيير ترتيب الوجود لكون الإدخال هو المقصد وقيل إدخاله صلى الله عليه وسلم مكة ظاهرا عليها وإخراجه منها آمنا من المشركين وقيل إدخاله الغار وإخراجه منه سالما وقيل إدخاله فيما حمله من أعباء الرسالة وإخراجه منه مؤديا حقه وقيل إدخاله في كل ما يلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه وقرئ مدخل ومخرج بالفتح على معنى أدخلني فأدخل دخولا وأخرجوني فأخرج خروجا كقوله * وعضة دهر يا ابن مروان لم تدع * من المال إلا مسحت أو مجلف * أي لم تدع فلم يبق (واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) حجة تنصرني على من يخالفني أو ملكا عزا ناصرا للإسلام مظهرا له على الكفر فأجيبت دعوته صلى الله عليه وسلم بقوله عز وعلا والله يعصمك من الناس الا إن حزب الله هم الغالبون ليظهره على الدين كله ليستخلفنهم في الأرض (وقل جاء الحق) أي الإسلام والوحي الثابت الراسخ (وزهق الباطل) أي ذهب وهلك الشرك والكفر وتسويلات الشيطان من زهق روحه إذا خرج (إن الباطل) كائنا ما كان (كان زهوقا) أي شأنه أن يكون مضمحلا غير ثابت
190 وهو عدة كريمة بإجابة الدعاء بالسلطان النصير الذي لقنه عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل ينكت بمخصرة كانت بيده في عين واحد واحد ويقول جاء الحق وزهق الباطل فينكب لوجهه حتى ألقى جميعها وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة وكان من صفر فقال يا علي ارم به فصعد فرمى به فكسره (وتنزل من القرآن) وقرئ ننزل من الإنزال (ما هو شفاء) لما في الصدور من أدواء الريب وأسقام الأوهام (ورحمة للمؤمنين) به العالمين بما في تضاعيفه أي ما هو في تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى من بيانية قدمت على المبين اعتناء فإن كل القرآن كذلك وعن النبي صلى الله عليه وسلم من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله أو تبعيضية لكن لا بمعنى أن بعضه ليس كذلك بل بمعنى أنا ننزل منه في كل نوبة ما تستدعي الحكمة نزوله حينئذ فيقع ذلك ممن نزل عليهم بسبب موافقته لأحوالهم الداعية إلى نزوله موقع الدواء الشافي المصادف للا بأنه من المرضى المحتاجين إليه بحسب الحال من غير تقديم ولا تأخير فكل بعض منه متصف بالشفاء لكن لا في كل حين بل عند تنزيله وتحقيق التبعيض باعتبار الشفاء الجسماني كما في الفاتحة وآيات الشفاء لا يساعده قوله سبحانه (ولا يزيد الظالمين إلى خسارا) أي لا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الكافرين المكذبين به الواضعين لأشياء في غير مواضعها مع كونه في نفسه شفاء من الأسقام إلا خسارا أي هلاكا بكفرهم وتكذيبهم لا نقصانا كما قيل فإن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الأسقام فيهم وزيادتهم في مراتب الهلاك من حيث أنهم كلما جددوا الكفر والتكذيب بالآيات النازلة تدريجيا ازدادوا بذلك هلاكا وفيه إيماء إلى أن ما بالمؤمنين من الشبه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم هم المزدادون في ذلك بسوء صنيعهم واعتبار كونه سببا لذلك وفيه تعجيب من أمره حيث يكون مدارا للشفاء والهلاك (وإذا أنعمنا على الإنسان) بالصحة والنعمة (أعرض) عن ذكرنا فضلا عن القيام بموجب الشكر (ونأى) تباعد عن طاعتنا (بجانبه) النأي بالجانب أن يلوي عن الشيء عطفه ويوليه عرض وجهه فهو تأكيد للإعراض أو عبارة عن الاستكبار لأنه من ديدن المستكبرين (وذا مسه الشر) من فقر أو مرض أو نازلة من النوازل وفي إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الإنعام إلى ضمير الجلالة إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك (كان يئوسا) شديد اليأس من روحنا وهذا وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة ولا ينافيه وقوله تعالى وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ونظائره فإن ذلك شأن بعض آخرين منهم وقيل أريد به الوليد بن المغيرة وقرئ ناء إما على القلب كما يقال راء في رأى وإما على أنه بمعنى نهض
191 (قل كل) أي كل أحد منكم وممن هو على خلافكم (يعمل) عمله (على شاكلته) طريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلال أو جوهر روحه وأحواله التابعة لمزاج بدنه (قربكم) الذي برأكم على هذه الطبائع المتخالفة (أعلم بمن هو أهدى سبيلا) أي أسد طريقا وأبين منهاجا وقد فسرت الشاكلة بالطبيعة والعادة والدين (ويسألونك عن الروح) الظاهر أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدبر البدن الإنساني ومبدأ حياته روى أن اليهود قالوا لقريش سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها جميعا أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فبين لهم القصتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة (قل الروح) أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال الاعتناء بشأنه (من أمر ربي) كلمة من بيانية والأمر بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الايجادي لاشتراك الكل فيه وفيها من تشريف المضاف مالا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هو من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك روى أنه صلى الله عليه وسلم لما قال لهم ذلك قالوا نحن مختصون بهذا الخطاب قال صلى الله عليه وسلم بل نحن وأنتم فقالوا ما أعجب شأنك ساعة تقول ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وساعة تقول هذا فنزلت ولو أن ما الأرض من شجرة أقلام الآية وإنما قالوا ذلك لركاكة عقولهم فإن الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه الطاقة البشرية بل ما نيط به المعاش والمعاد وذلك بالإضافة إلى مالا نهاية له من معلوماته سبحانه قليل ينال به خير كثير في نفسه أو بالنسبة إلى الإنسان أو هو من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكويني من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كأعضاء الجسد حتى يمكن تعريفه ببعض مباديه ومآله أنه من عالم الأمر لا من عالم الخلق وليس هذا من قبيل قوله سبحانه إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فإن ذلك عبارة عن سرعة التكوين سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق وفيه تنبيه على أنه مما لا يحيط بكنهه دائرة إدراك البشر وإنما الممكن هذا القدر الإجمالي المندرج تحت ما استثنى بقوله تعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلا أي إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو من إحساس الجزيئات ولذلك قيل من فقد حسا فقد فقد علما ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس ولا شيء من أحواله التي يدور عليها معرفة ذاته وأما حمل ما ذكر على السؤال عن قدمه وحدوثه وجعل الجواب إخبارا بحدوثه أي كائن بتكوينه حادث بإحداثه بالأمر التكويني فمع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمهم حينئذ وقد أخبر عنه وقيل المراد بالروح خلق عظيم روحاني أعظم من الملك وقيل جبريل عليه السلام وقيل القرآن ومعنى من أمر ربي من وحيه وكلامه لا من كلام البشر
192 (ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك) من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين ومنبع للعلوم التي أوتيتموها وثبتناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه ولولاه لكدت تركن إليهم شيئا قليلا وإنما عبر عنه بالموصول تفخيما لشأنه ووصفا له بما في حيز الصلة ابتداء وإعلاما بحاله من أول الأمر وبأنه ليس من قبيل كلام المخلوق واللام موطئة للقسم ولنذهبن جوابه النائب مناب جزاء الشرط وبذلك حسن حذف مفعول المشيئة والمراد من الذهاب به المحو من المصاحف والصدور وهو أبلغ من الإذهاب عن ابن مسعود رضي الله عنه أن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة وآخر ما تفقدون الصلاة وليصلين قوم ولا دين لهم وأن هذا القرآن تصبحون يوما وما فيكم منه شيء فقال رجل كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم فقال يسرى عليه ليلا فيصبح الناس منه فقراء ترفع المصاحف وينزع ما في القلوب (ثم لا تجد لك به) أي القران (علينا وكيلا) من يتوكل علينا استرداده مسطورا محفوظا (الا رحمة من ربك) فإنها ان نالتك لعلها تسترده عليك ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا بمعنى ولكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به فيكون امتنانا بابقائه بعد المنة بتنزيله وترغيبا في المحافظة على أداء حقوقه وتحذيرا من أن لا يقدر قدره الجليل ويفرط في القيام بشكره وهو أجل النعم وأعظمها (ان فضله كان عليك كبيرا) كإرسالك وانزال الكتاب عليك وابقائه في حفظك وغير ذلك (قل) للذين لا يعرفون جلالة قدر التنزيل ولا يفهمون فخامة شأنه الجليل بل يزعمون أنه من كلام البشر (لئن اجتمعت الانس والجن) أي اتفقوا (على أن يأتو بمثل هذا القران) المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة في البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة (لا يأتون بمثله) أوثر الإظهار على ايراد الضمير الراجع إلى المثل المذكور احترازا عن أن يتوهم أن له مثلا معينا وايذانا بأن المراد نفي الاتيان بمثل ما أي لا يأتون بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات البديعة وفيهم العرب العاربة أرباب البراعة والبيان وهو جواب للقسم الذي ينبئ عنه اللام الموطئة وساد مسد جزاء الشرط ولولاها لكان جوابا له بغير جزم لكون الشرط ماضيا كما في قول زهير * وان أتاه خليل يوم مسألة * يقول لا غائب مالي ولا حرم * وحيث كان المراد بالاجتماع على الاتيان بمثل القران مطلق الاتفاق عل ذلك سواء كان التصدي للمعارضة من كل واحد منهم على الانفراد أو من المجموع بأن يتألبوا على تلفيق كلام واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الأنظار قيل ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا
193 أي في تحقيق ما يتوخونه من الاتيان بمثله وهو عطف على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم ظهيرا لبعض ولو كان الخ وقد حذف المعطوف عليه حذفا مطردا لدلالة المعطوف عليه دلالة واضحة فإن الاتيان بمثله حيث انتفى عند التظاهر فلأن ينتفي عند عدمه أولى وعلى هذه النكتة يدور ما في إن ولو الوصليتين من التأكيد كما مر غير مرة ومحله النصب على الحالية حسبما عطف عليه أي لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في هذه الحال المنافية لعدم الاتيان به فضلا عن غيرها وفيه حسم لأطماعهم الفارغة في روم تبديل بعض آياته ببعض ولا مساغ لكون الآية تقريرا لما قبلها من قوله تعالى ثم لا تجد لك به علينا وكيلا كما قيل لكن لا لما قيل من أن الإتيان بمثله أصعب من استرداد عينه ونفي الشيء إنما يقرره نفي ما دونه لا نفي ما فوقه فإن أصعبية الاسترداد بغير أمره تعالى من الاتيان بمثله مما لا شبهة فيه بل لأن الجملة القسمية ليست مسوقة إلي النبي صلى الله عليه وسلم بل إلي المكابرين من قبله صلى الله عليه وسلم (واقد صر فنا) كررنا ورددنا علي انحاء مختلفه توجب زيادة تقرير وبيان ووكادة رسوخ واطمئنان (للناس في هذا القرآن) المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة (من كل مثل) من كل معنى بديع هو في الحسن والغرابة واستجلاب النفس كالمثل ليتلقوه بالقبول (فأبى أكثر الناس (أوثر الإظهار على الإضمار تأكيدا وتوضيحا (إلا كفورا) أي إلا جحودا وإنما صح الاستثناء من الموجب مع أنه لا يصح ضربت إلا زيدا لأنه متأول بالنفي كأنه قيل ما قبل أكثرهم إلا كفورا وفيه من المبالغة ما ليس في أبو الإيمان لأن فيه دلالة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفور من الإيمان والتوقف في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء (وقالوا) عند ظهور عجزهم ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي وغيره من المعجزات الباهرة متعللين بما لا يمكن في العادة وجوده ولا تقتضي الحكمة وقوعه من الأمور كما هو ديدن المبهوت المحجوج (لن نؤمن لك حتى تفجر) وقرئ بالتشديد (لنا من الأرض) أرض مكة (ينبوعا) عينا لا ينضب ماؤها بفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر (أو تكون لك جنة) أي بستان تستر أشجاره ما تحتها من العرصة (من نخيل وعنب فتفجر الأنهار) أي تجريها بقوة (خلالها تفجيرا) كثرا والمراد إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبئ عنه الفاء لا ابتداؤه (أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا) جمع كسفة كقطعة وقطع لفظا ومعنى وقرئ بالسكون كسدرة وسدر وهي حال من السماء والكاف في كما في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي أسقاطا مماثلا لما زعمت
194 يعنون بذلك قوله تعالى أو تسقط عليهم كسفا من السماء (أو تأتي بالله والملائكة قبيلا) أي مقابلا كالعشير والمعاشر أو كفيلا يشهد بصحة ما تدعيه وهو حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة لدلالتها عليها أي والملائكة قبلاء كما حذف الخبر في قوله فإني وقيار بها الغريب أو جماعة فيكون حالا من الملائكة (أو يكون لك بيت من زخرف) من ذهب وقد قرئ به وأصله الزينة (أو ترقى في السماء) أي في معارجها فحذف المضاف يقال رقى في السلم وفي الدرجة (ولن نؤمن لرقيك) أي لأجل رقيك فيها وحده أو لن نصدق رقيك فيها (حتى تتنزل) منها (علينا كتابا) فيه تصديقك (نقرؤه) نحن من غير أن يتلقى من قبلك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال عبد الله بن أبي أمية لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بصك منشور معه أربعة من الملائكة يشهدون أنك كما تقول وما كانوا يقصدون بهاتيك الاقتراحات الباطلة إلا العناد واللجاج ولو أنهم أوتو أضعاف ما اقترحوا من الآيات ما زادهم ذلك إلا مكابرة وإلا فقد كما يكفيهم بعض ما شاهدوا من المعجزات التي تخر لها صم الجبال (قل) تعجبا من شدة شكيمتهم وتنزيها لساحة السبحات عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحات الشنيعة التي تكاد السماوات يتفطرن منها أو عن طلبك ذلك وتنبيها على بطلان ما قالوه (سبحان ربي) وقرئ قال سبحان ربي (هل كنت إلا بشرا) لا ملكا حتى يتصور مني الرقى في السماء ونحوه (رسولا) مأمورا من قبل ربي بتبليغ الرسالة من غير أن يكون لي خيرة في الأمر كسائر الرسل وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله على أيديهم حسبما يلائم حال قومهم ولم يكن أمر الآيات إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله سبحانه بشيء منها وقوله بشرا خبر لكنت ورسولا صفته (وما منع الناس) أي الذين حكيت أباطيلهم (أن يؤمنوا) مفعول ثان لمنع وقوله (إذا جاءهم الهدى) أي الوحي ظرف لمنع أو يؤمنوا أي وما منعهم وقت مجئ الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك أو ما منعهم أن يؤمنوا بذلك وقت مجئ ما ذكر (إلا أن قالوا) في محل الرفع على أنه فاعل منع أي إلا قولهم (أبعث الله بشرا رسولا) منكرين أن يكون رسول الله تعالى من جنس البشر وليس المراد أن هذا القول صدر عن بعضهم فمنع بعضا آخر منهم بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل المستتبع لهذا القول منهم وإنما عبر عنه بالقول إيذانا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهوم ومصداق وحصر المانع من الإيمان فيما ذكر مع أن لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال أعنى عند سماع الجواب بقوله تعالى هل كنت إلا بشرا رسولا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية وفيه إيذان بكمال عنادهم حيث يشير إلى أن الجواب المذكور مع كونه حاسما لمواد
195 شبههم ملجئا إلى الإيمان يعكسون الأمر ويجعلونه مانعا منه (قل) لهم أولا من قبلها تبيينا للحكمة وتحقيقا للحق المزيح للريب (لو كان) أي ولو وجد واستقر (في الأرض) بدل البشر (ملائكة يمشون مطمئنين) قارين فيها من غير أن يعرجوا في السماء ويعلموا ما يجب أن يعلم (لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا) يهديهم إلى الحق ويرشدهم إلى الخير لتمكنهم من الاجتماع والتلقي منه وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضة الملكية فكيف لا وهي منوطة بالتناسب والتجانس فبعث الملك إليهم مزاحم للحكمة التي عليها مبنى التكوين والتشريع وإنما يبعث الملك من بينهم إلى الخواص المختصين بالنفوس الزكية المؤيدين بالقوة القدسية المتعلقين بكلا العالمين الروحاني والجسماني ليتلقوا من جانب ويلقوا إلى جانب وقوله تعالى ملكا يحتمل أن يكون حالا من رسولا وأن يكون موصوفا به وكذلك بشرا في قوله تعالى أبعث الله بشرا رسولا والأول أولى (قل) لهم ثانيا من جهتك بعد ما قلت لهم من قبلنا ما قلت وبينت لهم ما تقتضيه الحكمة في البعثة ولم يرفعوا إليه رأسا 0 كفى بالله) وحده (شهيدا) على أني أديت ما علي من مواجب الرسالة أكمل أداء وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد وتوجيه الشهادة إلى كونه صلى الله عليه وسلم رسولا بإظهار المعجزة على وفق دعواه كما اختير لا يساعده قوله تعالى (بين وبينكم) وما بعده من التعليل وإنما لم يقل بيننا تحقيقا للمفارقة وإبانة للمباينة وشهيدا إما حال أو تمييز (إنه كان بعباده) من الرسل والمرسل إليهم (خبيرا بصيرا) محيطا بظواهر أحوالهم وبواطنها فيجازيهم على ذلك وهو تعليل الكفاية وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار (ومن يهد الله) كلام مبتدأ يفصل ما أشار إليه الكلام السابق من مجازاة العباد إشارة إجمالية أي من يهده الله إلى الحق بما جاء من قبله من الهدى (فهو المهتد) إليه وإلى ما يؤدي إليه من الثواب أو المهتد إلى كل مطلوب (ومن يضلل) أي يخلق فيه الضلال بسوء اختياره كهؤلاء المعاندين (فلن تجد لهم) أوثر ضمير الجماعة اعتبارا لمعنى من غب ما أوثر في مقابله الإفراد نظرا إلى لفظها تلويحا بوحدة طريق الحق وقلة سالكيه وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال (أولياء من دونه) من دون الله تعالى أي أنصارا يهدونهم إلى طريق الحق أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيوية والآخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالهم على معنى أن تجد لأحد منهم وليا على ما تقتضيه قضية مقابلة بالجمع من انقسام الآحاد إلى الآحاد (ونحشرهم) التفات من الغيبة إلى التكلم إيذانا بكمال الاعتناء بأمر الحشر (يوم القيامة على وجوههم) حال من الضمير المنصوب أي
196 كائنين عليها سحبا كقوله تعالى يوم يسحبون في النار على وجوههم أو مشيا فقد روى أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم (عميا) حال من الضمير المجرور في الحال السابقة (وبكما وصما) لا يبصرون ما يقر أعينهم ولا ينطقون ما يقبل منهم ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم لما قد كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر ولا ينطقون بالحق ولا يستمعونه ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى النار موفي القوى والحواس وأن يحشروا كذلك ثم يعاد إليهم قواهم وحواسهم فإن إدراكاتهم بهذه المشاعر في بعض المواطن مما لا ريب فيه (مأواهم جهنم) إما حال أو استئناف وكذا قوله تعالى «كلما خبت زدناهم سعيرا» أي كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق فيهم ما تتعلق به النار وتحرقه زدناهم توقدا بأن بدلناهم جلودا غيرها فعادت ملتهبة ومستعرة ولعل ذلك عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الفناء بتكريرها مرة بعد أخرى ليروها عينا حيث لم يعلموها برهانا كما يفصح عنه قوله تعالى (ذلك) أي ذلك العذاب (جزاؤهم بأنهم) أي بسبب أنهم «كفروا بآياتنا» العقلية والنقلية الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة فذلك مبتدأ وجزاؤهم خبره ويجوز أن يكون مبتدأ ثانيا وبأنهم خبره والجملة خبرا لذلك وأن يكون جزاؤهم بدلا من ذلك أو بيانا له والخبر هو الظرف (وقالوا) منكرين أشد الانكار «أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا» إما مصدر مؤكد من غير لفظه أي لمبعوثون بعثا جديدا وإما حال أي مخلوقين مستأنفين (أو لم يروا) أي ألم يتفكروا ولم يعلموا «أن الله خلق السماوات والأرض» من غير مادة مع عظمهما «قادر على أن يخلق مثلهم» في الصغر على أن المثل مقحم والمراد بالخلق الإعادة كما عبر عنها بذلك حيث قيل خلقا جديدا «وجعل لهم أجلا لا ريب فيه») عطف على أولم يروا فإنه في قوة قدر أو واو المعنى قد علموا أن من قدر على خلق السماوات والأرض فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس وجعل لهم ولبعثهم أجلا محققا لا ريب فيه هو يوم القيامة «فأبى الظالمون» وضع موضع الضمير تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد بالمرة «إلا كفورا» أي جحودا «قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي» خزائن رزقه التي أفاضها على كافة الموجودات وأنتم مرتفع بفعل يفسره المذكور كقول حاتم لو ذات سوار لطمتني وفائدة ذلك المبالغة والدلالة على الاختصاص (إذن لأمسكتم) لبخليم (خشية الانفاق) مخالفة النفاد
197 بالإنفاق إذ ليس في الدنيا أحد إلا وهو يختار النفع لنفسه ولو آثر غيره بشيء فإنما يؤثره لعوض يفوقه فإذن هو بخيل بالإضافة إلى جود الله سبحانه «وكان الإنسان قتورا» مبالغا في البخل لأن مبنى أمره على الحاجة والضنة بما يحتاج إليه وملاحظة العوض بما يبذله «ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات» واضحات الدلالة على نبوته وصحة ما جاء به من عند الله وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والطوفان والسنون ونقص الثمرات وقيل انفجار الماء من الحجر ونتق الطور على بنى إسرائيل وانفلاق البحر بدل الثلاث الأخيرة ويأباه أن هذه الثلاث لم تكن منزلة إذ ذاك وأن الأولين لا تعلق لهما بفرعون وإنما أوتيهما بنو إسرائيل عن صفوان بن عسال أن يهوديا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال أن لا تشركوا به شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبل اليهودي يده ورجله صلى الله عليه وسلم ولا يساعده أيضا ما ذكر ولعل جوابه صلى الله عليه وسلم بذلك لما أنه المهم للسائل وقبوله لما أنه كان في التوراة مسطورا وقد علم أنه ما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة الوحي «فاسأل بني إسرائيل» وقرئ فسل اي فقلنا له سلهم من فرعون وقل له ارسل معي بني إسرائيل أو سلهم عن ايمانهم أو عن حال دينهم أو سلهم أن يعاضدوك ويؤيده قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم على صيغة الماضي وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي فاسألهم عن تلك الآيات لتزداد يقينا وطمأنينة أو ليظهر صدقك «إذ جاءهم» متعلق بقلنا وبسأل على القراءة المذكورة وبآياتنا أو بمضمر هو يخبروك أو اذكر على تقدير كون الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم (فقال له فرعون) الفاء فصيحة أي فأظهر عند فرعون ما آتيناه من الآيات البينات وبلغه ما أرسل به فقال له فرعون «إني لأظنك يا موسى مسحورا» سحرت فتخبط عقلك «قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء» يعني الآيات التي أظهرها «إلا رب السماوات والأرض») خالقهما ومدبرهما والتعرض لربوبيته تعالى لهما للايذان بأنه لا يقدر على إيتاء مثل هاتيك الآيات العظام الا خالقهما ومدبرهما «بصائر» حال من الآيات أي بينات مكشوفات تبصرك صدقي ولكنك تعاند وتكابر نحو وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ومن ضرورة ذلك العلم العلم بأنه صلى الله عليه وسلم على كمال رصانة العقل فضلا عن توهم المسحورية وقرئ علمت على صيغة التكلم أي لقد علمت بيقين أن هذه الآيات الباهرة أنزلها الله عز سلطانه فكيف يتوهم أن يحوم حولي سحر «وإني لأظنك يا فرعون مثبورا») مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم ما ثبرك عن هذا أي ما صرفك أو هالكا ولقد قارع صلى الله عليه وسلم ظنه بظنه وشتان بينهما كيف لا وظن فرعون
198 إنك مبين وظنه صلى الله عليه وسلم يتاخم اليقين (فأراد) أي فرعون (أن يستفزهم) أي يستخفهم ويزعجهم «من الأرض» أرض مصر أو من الأرض مطلقا بالقتل كقوله سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم «فأغرقناه ومن معه جميعا» فعكسنا عليه مكره واستفززناه وقومه بالإغراق «وقلنا من بعده» من بعد إغراقهم «لبني إسرائيل اسكنوا الأرض» التي أراد أن يستفزكم منها «فإذا جاء وعد الآخرة» الكرة الآخرة أو الحياة أو الساعة والدار الآخرة أي قيام القيامة «جئنا بكم لفيفا» مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم اللفيف الجماعات من قبائل شتى «وبالحق أنزلناه وبالحق نزل») أي وما أنزلنا القرآن إلا ملتبسا بالحق المقتضى لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه أو ما أنزلناه من السماء الا محفوظا وما نزل على الرسول الا محفوظا من تخليط الشياطين ولعل المراد بيان عدم اعتراء البطلان له أول الأمر وآخره «وما أرسلناك إلا مبشرا» للمطيع بالثواب «ونذيرا» للعاصي من العقاب وهو تحقيق لحقية بعثته صلى الله عليه وسلم إثر تحقيق حقية إنزال القرآن «وقرآنا» منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى «فرقناه» وقرئ بالتشديد دلالة على كثرة نجومه «لتقرأه على الناس على مكث» على مهل وتثبت فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم وقرئ بالفتح وهو لغة فيه «ونزلناه تنزيلا» حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة ويقع من الحوادث والواقعات «قل» للذين كفروا «آمنوا به أو لا تؤمنوا» فإن ايمانكم به لا يزيده كمالا وامتناعكم لا يورثه نقصا «إن الذين أوتوا العلم من قبله» أي العلماء الذين قرءوا الكتب السالفة من قبل تنزيله وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل والمحق والمبطل ورأوا فيها نعتك ونعت ما انزل إليك (إذا يتلى) أي القرآن «عليهم يخرون للأذقان» أي يسقطون على وجوههم «سجدا» تعظيما لأمر الله تعالى أو شكرا لانجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك وتخصيص الأذقان بالذكر للدلالة على كمال التذلل إذ حينئذ يتحقق الخرور عليها وإيثار اللام للدلالة على اختصاص الخرور بها كما في قوله [فخر صريعا لليدين وللفم وهو تعليل لما يفهم من قوله تعالى آمنوا به أو لا تؤمنوا من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم ويجوز أن يكون تعليلا لقل على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وإعراضهم
199 «ويقولون» في سجودهم «سبحان ربنا» عما يفعل الكفرة من التكذيب أو عن خلف وعده «إن كان وعد ربنا لمفعولا» إن مخففة من المثقلة واللام فارقة أي إن الشأن هذا «ويخرون للأذقان يبكون» كرر الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكر لإنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن حال كونهم باكين من خشية الله «ويزيدهم» أي القرآن بسماعهم «خشوعا» كما يزيدهم علما ويقينا بالله تعالى «قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن») نزل حين سمع المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا الله يا رحمن فقالوا أنه ينهانا عن عبادة إلهين وهو يدعو إلها آخر وقالت اليهود إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثره الله تعالى في التوراة والمراد على الأول هو التسوية بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحدة وإن اختلف الاعتبار والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود وعلى الثاني أنهما سيان في حسن الاطلاق والإفضاء إلى المقصود وهو أوفق لقوله تعالى (أياما تدعوا فله الأسماء الحسنى) والدعاء بمعنى التسمية وهو يتعدى إلى مفعولين حذف أولهما استغناء عنه وأو للتخيير والتنوين في أيا عوض عن المضاف إليه وما مزيدة لتأكيد ما في أي من الإبهام والضمير في له للمسمى لأن التسمية له لا للإسم وكان أصل الكلام أياما تدعوا فهو حسن فوضع موضعه فله الأسماء الحسنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه إذ حسن جميع أسمائه يستدعى حسن ذينك الاسمين وكونها حسنى لدلالتها على صفات الكمال من الجلالة والجمال والإكرام (ولا تجهر بصلاتك) أي بقراءة صلاتك بحيث تسمع المشركين فإن ذلك يحملهم على السب واللغو فيها «ولا تخافت بها» أي بقراءتها بحيث لا تسمع من خلفك من المؤمنين «وابتغ بين ذلك» اي بين الجهر والمخافتة على الوجه المذكور «سبيلا» أمرا وسطا قصدا فإن خير الأمور أوساطها والتعبير عن ذلك بالسبيل باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدون ويوصلهم إلى المطلوب وروى أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان يخفت ويقول أناجي ربي وقد علم حاجتي وعمر رضي الله عنه كان يجهر بها ويقول أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان فلما نزلت أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابا بكر أن يرفع قليلا وعمر أن يخفض قليلا وقيل المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها بأسرها وابتغ بين ذلك سبيلا بالمخافتة نهارا والجهر ليلا وقيل بصلاتك بدعائك وذهب قوم إلى أنها منسوخة بقوله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية
200 «وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا» كما يزعم اليهود والنصارى وبنو مليح حيث قالوا عزيز ابن الله والمسيح ابن الله والملائكة بنات الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا «ولم يكن له شريك في الملك» أي الألوهية كما يقوله الثنوية القائلون بتعدد الآلية «ولم يكن له ولي من الذل» ناصر ومانع منه لاعتزازه به أو لم يوال أحدا من أجل مذلة ليدفعها به وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من هذه نعوته دون غيره إذ بذلك يتم الكمال والقدرة التامة على الإيجاد وما يتفرع عليه من إضافة أنواع النعم وما عداه ناقص مملوك نعمته أو منعم عليه ولذلك عطف عليه قوله تعالى (وكبره تكبيرا) وفيه تنبيه على أن العبد وإن بالغ في التنزيه والتمجيد واجتهد في الطاعة والتحميد ينبغي أن يعترف بالقصور في ذلك روى أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أفصح الغلام من بنى عبد المطلب علمه هذه الآية لكريمة وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين كان له قنطار في الجنة والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية والحمد لله سبحانه وله الكبرياء والعظمة والجبروت
201 (سورة الكهف مكية إلا الآيات 28 ومن آية 83 إلى آية 101 فمدنية وآياتها 110) بسم الله الرحمن الرحيم «الحمد لله الذي أنزل على عبده» محمد صلى الله عليه وسلم «الكتاب» أي الكتاب الكامل الغنى عن الوصف بالكمال المعروف بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به وهو عبارة عن جميع القرآن أو عن جميع المنزل حينئذ كما مر مرارا وفي وصفه تعالى بالموصول إشعار بعلية ما في حيز الصلة لاستحقاق الحمد وإيذان بعظم شأن التنزيل الجليل كيف لا وعليه يدور فلك سعادة الدارين وفي التعبير عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالعبد مضافا إلى ضمير الجلالة تنبيه على بلوغه صلى الله عليه وسلم إلى أعلى معارج العبادة وتشريف له أي تشريف وإشعار بأن شان الرسول أن يكون عبدا للمرسل لا كما زعمت النصارى في حق عيسى عليه السلام وتأخير المفعول الصريح عن الجار والمجرور مع أن حقه التقديم عليه ليتصل به قوله تعالى «ولم يجعل له عوجا» أي شيئا من العوج بنوع اختلال في النظم وتناف في المعنى أو انحرف عن الدعوة إلى الحق وهو في المعاني كالعوج في الأعيان وأما قوله تعالى لا ترى فيها عوجا ولا أمتا مع كون الجبال من الأعيان فللدلالة على انتفاء مالا يدرك من العوج بحاسة البصر بل إنما يوقف عليه بالبصيرة بواسطة استعمال المقاييس الهندسية ولما كان ذلك مما لا يشعر به بالمشاعر الظاهرة عد من قبيل ما في المعاني وقيل الفتح في اعوجاج المنتصب كالعود والحائط والكسر في اعوجاج غيره عينا كان أو معنى «قيما» بالمصالح الدينية والدنيوية للعباد على ما ينبئ عنه ما بعده من الإنذار والتبشير فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال أو على ما قبله من الكتب السماوية شاهدا بصحتها ومهيمنا عليها أو متناهيا في الاستقامة فيكون تأكيدا لما دل عليه نفي العوج مع إفادة كون ذلك من صفاته الذاتية اللازمة له حسبما تنبئ عنه الصيغة لا أنه نفى عنه العوج مع كونه من شأنه وانتصابه على تقدير كون الجملة المتقدمة معطوفة على الصلة بمضمر ينبئ عنه نفي العوج تقديره جعله قيما وأما على تقدير كونها حالية فهو على الحالية من الكتاب إذ لا فصل حينئذ بني أبعاض المعطوف عليه بالمعطوف وقرئ قيما «لينذر» متعلق بأنزل والفاعل ضمير الجلالة كما في الفعلين المعطوفين عليه والإطلاق عن ذكر المفعول الأول للايذان بأن ما سيق له الكلام هو
202 المفعول الثاني وأن الأول ظاهر لا حاجة إلى ذكره أي أنزل الكتاب لينذر بما فيه الذين كفروا له «بأسا» أي عذابا «شديدا من لدنه» أي صادرا من عنده نازلا من قبله بمقابلة كفرهم وتكذيبهم وقرئ من لدنه بسكون الدال مع إشمام الضمة وكسر النون لالتقاء الساكنين وكسر الهاء للاتباع «ويبشر» بالشديد وقرئ بالتخفيف «المؤمنين» أي المصدقين به «الذين يعملون الصالحات» الأعمال الصالحة التي بينت في تضاعيفه وإيثار صيغة الاستقبال في الصلة للاشعار بتجدد الأعمال الصالحة وإستمرارها وإجراء الموصول على موصوفه المذكور لما أن مدار قبول الأعمال هو الإيمان «أن لهم» أي بأن لهم بمقابلة إيمانهم وأعمالهم المذكورة «أجرا حسنا» هو الجنة وما فيها من المثوبات الحسنى «ماكثين» حال من الضمير المجرور في لهم «فيه» اي في ذلك الأجر «أبدا» من غير انتهاء أي خالدين فيه وهو نصب على الظرفية لماكثين وتقديم الإنذار على التبشير لاظهار كمال العناية بزجر الكفار عما هم عليه مع مراعاة تقديم التخلية على التحلية وتكرير الإنذار بقوله تعالى «وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا» متعلقا بفرقة خاصة ممن عمه الإنذار السابق من مستحقي البأس الشديد لإيذان بكمال فظاعة حالهم لغاية شناعة كفرهم وضلالهم أي وينذر من بين سائر الكفرة هؤلاء المتفوهين بمثل هاتيك العظيمة خاصة وهم كفار العرب الذين يقولون الملائكة بنات الله تعالى واليهود القائلون عزيز ابن الله والنصارى القائلون المسيح ابن الله وترك إجراء الموصول على الموصوف كما فعل في قوله تعالى ويبشر المؤمنين للايذان بكفاية ما في حيز الصلة في الكفر على أقبح الوجوه وإيثار صيغة الماضي في الصلة للدلالة على تحقق صدور تلك الكلمة القبيحة عنهم فيما سيق وجعل المفعول المحذوف فيما سلف عبارة عن هذه الطائفة يؤدي إلى خروج سائر أصناف الكفرة عن الإنذار والوعيد وتعميم الإنذار هناك للمؤمنين أيضا بحمله على معنى مجرد الاخبار بالخبر الضار من غير اعتبار حلول المنذر به على المنذر كما في قوله تعالى أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا يفضى إلى خلو النظم الكريم عن الدلالة على حلول البأس الشديد على من عدا هذه الفرقة ويجوز أن يكون الفاعل في الأفعال الثلاثة ضمير الكتاب أو ضمير الرسول صلى الله عليه وسلم «ما لهم به» أي باتخاذه سبحانه وتعالى ولدا «من علم» مرفوع على الابتداء أو الفاعلية لاعتماد الظرف ومن مزيده لتأكيد النفي والجملة حالية أو مستأنفة لبيان حالهم في مقالهم أي مالهم بذلك شيء من علم أصلا لا لإخلالهم بطريقة مع تحقق المعلوم أو إمكانه بل لاستحالته في نفسه «ولا لآبائهم» الذين قلدوهم فتاهوا جميعا في تيه الجهالة والضلالة أو ما لهم علم بما قالوه أهو صواب أم خطأ بل إنما قالوه رميا عن عمى وجهالة من غير فكر وروية كما في قوله تعالى وخرقوا له بنين وبنات بغير علم أو بحقيقة ما قالوه وبعظم رتبته في الشناعة كما في قوله تعالى وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات
203 يتفطرن من الآيات وهو الأنسب بقوله تعالى «كبرت كلمة» أي عظمت مقالتهم هذه في الكفر والافتراء لما فيها من نسبته سبحانه إلى ما لا يكاد يليق بجناب كبريائه والفاعل في كبرت إما ضمير المقالة المدلول عليها بقالوا وكلمة نصب على التمييز أو ضمير مبهم مفسر بما بعده من النكرة المنصوبة تمييزا كبئس رجلا والمخصوص بالذم محذوف تقديره كبرت هي كلمة خارجه من أفواههم وقرئ كبرت بإسكان الباء مع إشمام الضم وقرئ كلمة بالرفع (تخرج من أفواههم) صفة للكلمة مفيدة لاستعظام أجترائهم على التفوه بها وإسناد الخروج إليها مع أن الخارج هو الهواء المتكيف بكيفية الصوت لملابسته بها «إن يقولون» ما يقولون في ذلك لا الشأن «إلا كذبا» أي إلا قولا كذبا لا يكاد يدخل تحت إمكان الصدق أصلا والضميران لهم لآبائهم مثل حاله صلى الله عليه وسل 4 م في شدة الوجد على إعراض القوم وتوليهم عن الإيمان بالقرآن وكمال التحسر عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه إثر فوت ما يحبه عند مفارقة أحبته تأسفا على مفارقتهم وتلهفا عليهم على مهاجرتهم فقيل على طريقة التمثيل حملا له صلى الله عليه وسلم على الحذر والإشفاق من ذلك «فلعلك باخع» أي مهلك «نفسك على آثارهم» غما ووجدا على فراقهم وقرئ بالإضافة «إن لم يؤمنوا بهذا الحديث» أي القرآن الذي عبر عنه في صدر السورة بالكتاب وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة ما سبق عليه وقرئ بأن المفتوحة أي لأن لم يؤمنوا فإعمال باخع يحمله على حكاية حال ماضيه لاستحضار الصورة كما في قوله عز وجل باسط ذراعيه «أسفا» مفعول له لباخع أي لفرط الحزن والغضب أو حال مما فيه من الضمير أي متأسفا عليهم ويجوز حمل النظم الكريم على الاستعارة التبعية بجعل التشبيه بين أجزاء الطرفين لا بين الهيئتين المنتزعتين منهما كما في التمثيل وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى ختم الله على قلوبهم «إنا جعلنا ما على الأرض» استئناف وتعليل لما في لعل من معنى الإشفاق أي إنا جعلنا ما عليها ممن عدا من وجه إليه التكليف من الزخارف حيوانا كان أو نباتا أو معدنا كقوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا «زينة» مفعول ثان للجعل إن حمل على معنى التصيير أو حال إن حمل على معنى الإبداع واللام في «لها» إما متعلقة بزينة أو بمحذوف هو صفة لها أي كائنة لها أي ليتمتع بها الناظرون من المكلفين وينتفعوا بها نظرا واستدلالا فإن الحيات والعقارب من حيث تذكيرهما لعذاب الآخرة من قبيل المنافع بل كل حادث داخل تحت الزينة من حيث دلالته على وجود الصانع ووحدته فإن الأزواج والأولاد أيضا من زينة الحياة الدنيا بل أعظمها ولا يمنع ذلك كونهم من جملة المكلفين فإنهم من جهة انتسابهم إلى أصحابهم داخلون تحت الزينة ومن جهة كونهم مكلفين داخلون تحت الابتلاء «لنبلوهم» متعلق بجعلنا أي جعلنا ما جعلنا لنعاملهم معاملة من يختبرهم «أيهم أحسن عملا» فنجازيهم بالثواب والعقاب حسبما تبين المحسن من المسئ وامتازت طبقات أفراد كل من الفريقين حسب امتياز مراتب علوهم المرتبة
204 على انظارهم وتفاوت درجات أعمالهم المتفرعة على ذلك كما قررناه في مطلع سورة هود وأي إما استفهامية مرفوعة بالابتداء وأحسن خبرها والجملة في محل النصب معلقة لفعل البلوى لما فيه من معنى العلم باعتبار عاقبته كالسؤال والنظر ولذلك أجرى مجراه بطريق التمثيل أو الاستعارة التبعية وإما موصولة بمعنى الذي وأحسن خبر مبتدأ مضمر والجملة صلة لها وهي في حيز النصب بدل من مفعول لنبلوهم والتقدير لنبلو الذي هو أحسن عملا فحينئذ يحتمل أن تكون الضمة في أيهم للبناء كما في قوله عز وجل ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد على الرحمن عتيا على أحد الأقوال لتحقق شرط البناء الذي هو الإضافة لفظا وحذف صدر الصلة وأن تكون للأعراب لأن ما ذكر شرط لجواز البناء لا لوجوبه وحسن العمل الزهد فيها وعدم الاغترار بها والقناعة باليسير منها وصرفها على ما ينبغي والتأمل في شأنها وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها والتمتع بها حسبما أذن له الشرع وأداء حقوقها والشكر لها لا اتخاذها وسيلة إلى الشهوات والأغراض الفاسدة كما يفعله الكفرة وأصحاب الأهواء وإيراد صيغة التفضيل مع أن الابتلاء شامل للفريقين باعتبار أعمالهم المنقسمة إلى الحسن والقبيح أيضا لا إلى الحسن والأحسن فقط للإشعار بأن الغاية الأصلية للجعل المذكور إنما هو ظهور كمال إحسان المحسنين على ما حقق في تفسير قوله تعالى ليبلوكم أيكم أحسن عملا «وإنا لجاعلون» فيما سيأتي عند تناهي عمر الدنيا «ما عليها» من المخلوقات قاطبة بإفنائها بالكلية وإنما أظهر في مقام الاضمار لزيادة التقرير أو لادراج المكلفين فيه «صعيدا» مفعول ثان للجعل والصعيد التراب أو وجه الأرض قال أبو عبيدة هو المستوى من الأرض وقال الزجاج هو الطريق الذي لانبات فيه «جرزا» ترابا لا نبات فيه بعد ما كان يتعجب من بهجته النظار وتتشرف بمشاهدته الأبصار يقال أرض جرز لا نبات فيها وسنة جرز لا مطر فيها قال الفراء جرزت الأرض فهي مجروزة أي ذهب نباتها بقحط أو جراد ويقال جرزها الجراد والشاة والإبل إذا أكلت ما عليها وهذه الجملة لتكميل ما في السابقة من التعليل والمعنى لا تحزن بما عاينت من القوم من تكذيب ما أنزلنا عليك من الكتاب فإنا قد جعلنا ما على الأرض من فنون الأشياء زنية لها لنختبر أعمالهم فنجازيهم بحسبها وإنا لمفنون جميع ذلك عن قريب ومجازون لهم بحسب أعمالهم «أم حسبتم» الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد إنكار حسبان أمته وأم منقطعة مقدرة ببل التي هي للانتقال من حديث إلى حديث لا للابطال وبهمزة الاستفهام عند الجمهور وببل وحدها عند غيرهم أي بل أحسبت «أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا» في بقائهم على الحياة مدة طويلة من الدهر «من آياتنا» من بين آياتنا التي من جملتها ما ذكرناه من جعل ما على الأرض زينة لها للحكمة المشار إليها ثم جعل ذلك كله صعيدا جرزا كأن لم تغن بالأمس «عجبا» أي آية ذات عجب وضعا له موضع المضاف أو وصفا لذلك بالمصدر مبالغة وهو خبر لكانوا ومن آياتنا حال منه والمعنى أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادات ليست بعجيبة بالنسبة
205 إلى سائر الآيات التي من جملتها ما ذكر من تعاجيب خلق الله تعالى بل هي عندها كالنزر الحقير والكهف الغار الواسع في الجبل والرقيم كلبهم قال أمية بن أبي الصلت * وليس بها الا الرقيم مجاورا * وصيدهم والقوم في الكهف همد * وقيل هو لوح رصاصي أو حجري رقمت فيه أسماؤهم وجعل على باب الكهف وقيل هو الوادي الذي فيه الكهف فهو من رقمة الوادي أي جانبه وقيل الجبل وقيل قريتهم وقيل مكانهم بين غضبان وأيلة دون فلسطين وقيل أصحاب الرقيم آخرون وكانوا ثلاثة انطبق عليهم الغار فنجوا بذكر كل منهم أحسن عمله على ما فصل في الصحيحين «إذ أوى» ظرف لعجبا لا لحسبت أو مفعول لا ذكر أي حين التجأ «الفتية» أي أصحاب الكهف أوثر الاظهار على الإضمار لتحقيق ما كانوا عليه في أنفسهم من حال الفتوة فإنهم كانوا فتية من أشراف الروم أرادهم دقيانوس على الشرك فهربوا منه بدينهم ولأن صاحبيه الكهف من فروع التجائهم إلى الكهف فلا يناسب اعتبارها معهم قبل بيانه «إلى الكهف» بجبلهم للجلوس واتخذوه مأوى «فقالوا ربنا آتنا من لدنك» من خزائن رحمتك الخاصة المكنونة عن عيون أهل العادات فمن ابتدائية متعلقة بآيتنا أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله الثاني قدمت عليه لكونه نكرة ولو تأخرت لكانت صفة له أي آتنا كائنة من لدنك «رحمة» خاصة تستوجب المغفرة والرزق والأمن من الأعداء «وهيئ لنا من أمرنا» الذي نحن عليه من مهاجرة الكفار والمثابرة على طاعتك وأصل التهيئة إحداث هيئة الشئ أي اصلح ورتب وأتمم لنا من أمرنا «رشدا» إصابة للطريق الموصل إلى المطلوب واهتداء إليه وكلا الجارين متعلق بهيء لاختلافهما في المعنى وتقديم المجرورين على المفعول الصريح لاظهار الاعتناء بهما وإبراز الرغبة في المؤخر بتقديم أحواله فإن تأخير ما حقه التقديم عما هو من أحواله المرغبة فيه كما يورث شوق السامع إلى وروده ينبيء عن كمال رغبة المتكلم فيه واعتنائه بحصوله لا محالة وكذا الكلام في تقديم قوله تعالى من لدنك على تقدير تعلقه بآتنا وتقديم لنا على من أمرنا للإيذان من أول الأمر يكون المسؤول مرغوبا فيه لديهم أو اجعل أمرنا رشدا كله على أن من تجريدية مثلها في قولك رأيت منك أسدا «فضربنا على آذانهم» أي أنمناهم على طريقة التمثيل المبنى على تشبيه الإنامة الثقيلة المانعة عن وصول الأصوات إلى الآذان بضرب الحجاب عليها وتخصيص الآذان بالذكر مع اشتراك سائر المشاعر لها في الحجب عن الشعور عند النوم لما أنها المحتاج إلى الحجب عادة إذ هي الطريقة للتيقظ غالبا لا سيما عند انفراد النائم واعتزاله عن الخلق وقيل الضرب على الآذان كناية عن الإنامة الثقيلة وحمله على تعطيلها كما في قولهم ضرب الأمير على يد الرعية أي منعهم من التصرف مع عدم ملاءمته لما سيأتي من البعث لا يدل على النوم مع أنه المراد قطعا والفاء في فضربنا كما في قوله عز وجل فاستجبنا له بعد قوله تعالى إذ نادى فإن الضرب المذكور وما ترتب عليه من التقليب ذات اليمين وذات الشمال والبعث وغير ذلك
206 إيتاء رحمة لدنية خافية عن أبصار المتمسكين بالأسباب العادية استجابة لدعوتهم «في الكهف» ظرف مكان لضربنا «سنين» ظرف زمان له باعتبار بقائه لا ابتدائه «عددا» أي ذوات عدد أو تعد عددا على أنه مصدر أو معدودة على أنه بمعنى المفعول ووصف السنين بذلك إما للتكثير وهو الأنسب بإظهار كمال القدرة أو للتقليل وهو الأليق بمقام إنكار كون القصة عجبا من بين سائر الآيات العجيبة فإن مدة لبثهم كبعض يوم عنده عز وجل «ثم بعثناهم» أي أيقظناهم من تلك النومة الثقيلة الشبيهة بالموت «لنعلم» بنون العظمة وقرئ بالياء مبنيا للفاعل بطريق الالتفات وأيا ما كان فهو غاية للبعث لكن لا يجعل العلم مجازا من الإظهار والتمييز أو بحمله على ما يصح وقوعه غاية للبعث الحادث من العلم الحالي الذي يتعلق به الجزاء كما في قوله تعالى إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وقوله تعالى وليعلم الله الذين آمنوا ونظائرهما التي يتحقق فيها العلم بتحقق متعلقه قطعا فإن تحويل القبلة قد ترتب عليه تحزب الناس إلى متبع ومنقلب وكذا مداولة الأيام بين الناس ترتب عليه تحزبهم إلى الثابت على الإيمان والمتزلزل فيه وتعلق بكل من الفريقين العلم الحالي والإظهار والتمييز وأما بعث هؤلاء فلم يترتب عليه تفرقهم إلى المحصي وغيره حتى يتعلق بهما العلم أو الإظهار والتمييز ويتسنى نظم شيء من ذلك في سلك الغاية وإنما الذي تربت عليه تفرقهم إلى مقدر تقديرا غير مصيب ومفوض إلى العلم الرباني وليس شيء منهما من الإحصاء في شيء بل يحمل النظم الكريم على التمثيل المبني على جعل العلم عبارة عن الاختبار مجازا بطريق إطلاق اسم المسبب على السبب وليس من ضرورة الاختبار صدور الفعل المختبر به عن المختبر قطعا بل قد يكون لإظهار عجزه عنه على سنن التكاليف التعجيزية كقوله تعالى فأت بها من المغرب وهو المراد ههنا فالمعنى بعثناهم لنعاملهم معاملة من يختبرهم «أي الحزبين» أي الفريقين المختلفين في مدة لبثهم بالتقدير والتفويض كما سيأتي «أحصى» أي أضبط «لما لبثوا» أي للبثهم «أمدا» أي غاية فيظهر لهم عجزهم ويفوضوا ذلك إلى العليم الخبير وليتعرفوا حالهم وما صنع الله تعالى بهم من حفظ أبدانهم وأديانهم فيزدادوا يقينا بكمال قدرته وعلمه ويستبصروا به أمر البعث ويكون ذلك لطفا لمؤمني زمانهم وآية بينة لكفارهم وقد اقتصر ههنا من تلك الغايات الجليلة على ذكر مبدئها الصادر عنه عز وجل وفيما سيأتي على ما صدر عنهم من التساؤل المؤدي إليها وهذا أولي من تصوير التمثيل بأن يقال بعثناهم بعث من يريد أن يعلم الخ حسبما وقع في تفسير قوله تعالى وليعلم الله الذين آمنوا على أحد الوجوه حيث حمل على معنى فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان من غير الثابت إذ ربما يتوهم منه استلزام الإرادة لتحقق المراد فيعود المحذور فيصار إلى جعل إرادة العلم عبارة عن الاختبار فاختبر واختر هذا وقد قرئ ليعلم مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل من الإعلام على أن المفعول الأول محذوف والجملة المصدرة بأي في موقع المفعول الثاني فقط إن جعل العلم عرفانيا أوفى موقع المفعولين إن جعل يقينيا أي ليعمل الله الناس أي الحزبين أحصى الخ وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أحد الحزبين الفتية والآخر الملوك الذين تداولوا المدينة ملكا
207 بعد ملك وقيل كلاهما من غيرهم والأول هو الأظهر فإن اللام للعهد ولا عهد لغيرهم والأمد بمعنى المدى كالغاية في قولهم ابتداء الغاية وانتهاء الغاية وهو مفعول لأحصى والجار والمجرور حال منه قدمت عليه لكونه نكرة وليس معنى إحصاء تلك المدة ضبطها من حيث كميتها المتصلة الذاتية فإنه لا يسمى إحصاء بل ضبطها من حيث كميتها المفصلة العارضة لها باعتبار قسمتها إلى السنين وبلوغها من تلك الحيثية إلى مراتب الأعداد على ما يرشدك إليه كون تلك المدة عبارة عما سبق من السنين ويجوز أن يراد بالأمد معناه الوضعي بتقدير المضاف أي لزمان لبثهم وبدونه أيضا فإن اللبث عبارة عن الكون المستمر المنطبق على الزمان المذكور فباعتبار الامتداد العارض له بسبه يكون له أمد لا محالة لكن ليس المارد به ما يقع غاية ومنتهى لذلك الكون المستمر باعتبار كميته المتصلة العارضة له بسبب انطباقه على الزمان الممتد بالذات وهو أن انبعاثهم من نومهم فإن معرفته من تلك الحيثية لا تخفى على أحد ولا تسمى إحصاء كما مر بل باعتبار كميته المفصلة معارضة له بسبب عروضها لزمانه المنطبق هو عليه باعتبار انقسامه إلى السنين ووصوله إلى مرتبة معينة من مراتب العدد كما حقق في الصورة الأولى والفرق بين الاعتبارين أن ما تعلق به الإحصاء في الصورة السابقة نفس المدة المقسمة إلى السنين فهو مجموع ثلاثمائة وتسع سنين وفي الصورة الأخيرة منتهى تلك المدة المنقسمة إلهيا أعني السنة التاسعة بعد الثلثمائة وتعلق الإحصاء بالأمد بالمعنى الأول ظاهر وأما تعلقه به بالمعنى الثاني فباعتبار انتظامه لما تحته من مراتب العدد واشتماله عليها هذا على تقدير كون ما في قوله تعالى لما لبثوا مصدرية ويجوز أن تكون موصولة حذف عائدها من الصلة أي للذي لبثوا فيه من الزمان الذي عبر عنه فيما قبل بسنين عددا فالأمد بمعناه الوضعي على ما تحققته وقيل اللام مزيدة والموصول مفعول وأمدا نصب على التمييز وأما ما قيل من أن أحصى اسم تفضيل لأنه الموافق لما وقع في سائر الآيات الكريمة نحو أيهم أحسن عملا أيهم أقرب لكم نفعا إلى غير ذلك مما لا يحصى ولأن كونه فعلا ماضيا يشعر بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم على البعث لا بالإحصاء المتأخر عنه وليس كذلك وادعاء أن مجيء أفعل التفضيل من المزيدة عليه غير قياسي مدفوع بأنه عند سيبويه قياس مطلقا وعند ابن عصفور فيما ليست همزته للنقل ولا ريب في أن ما نحن فيه من ذلك القبيل وامتناع عمله إنما هو في غير التمييز من المعمولات وأما أن التمييز يجب كونه فاعلا في المعنى فلمانع أن يمنعه بصحة أن يقال أيهم أحفظ لهذا الشعر وزنا أو تقطيعا أو يقال أن العامل في أمدا فعل محذوف يدل عليه المذكور أي يحصي لما لبثوا أمدا كما في قوله [وأضرب منا بالسيوف القوانسا] وحديث الوقوع في المحذور بلا فائدة مدفوع بما أشير إليه من فائدة الموافقة للنظائر فمع ما فيه من الاعتساف والخلل بمعزل من السداد لأن مؤداه أن يكون المقصود بالإخبار إظهار أفضل الحزبين وتمييزه عن الأدنى مع تحقق أصل الإحصاء فيهما ومن البين أن لا تحقق له أصلا وأن المقصود بالاختبار إظهار عجز الكل عنه رأسا فهو فعل ماض قطعا وتوهم إيذانه بأن غاية البعث هو العلم بالإحصاء المتقدم عليه مردود بأن صيغة الماضي باعتبار حال الحكاية والله تعالى أعلم
208 «نحن نقص عليك» شروع في تفصيل ما أجمل فيما سلف من قوله تعالى إذ أوى الفتية الخ أي نحن نخبرك بتفاصيل أخبارهم وقد مر بيان اشتقاقه في مطلع سورة يوسف عليه السلام «نبأهم» النبأ الخبر الذي له شأن وخطر «بالحق» إما صفة لمصدر محذوف أو حال من ضمير نقص أو من نبأهم أو صفة له على رأى من يرى حذف الموصول مع بعض صلته أي نقص قصصا ملتبسا بالحق أو نقصه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبسا به أو نبأهم الملتبس به أو نبأهم حسبما ذكره محمد بن إسحاق بن يسار أنه قد مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت ملوكهم فعبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت وكان ممن بالغ في ذلك وعتا عتوا كبيرا دقيانوس فإنه غلا فيه غلوا شديدا فجاس خلال الديار والبلاد بالعيث والفساد وقتل من خالفه من المتمسكين بدين المسيح عليه السلام وكان يتبع الناس فيخيرهم بين القتل وعبادة الأوثان فمن رغب في الحياة الدنيا الدنية يصنع ما يصنع ومن آثر عليها الحياة الأبدية قتله وقطع آرابه وعلقها في سور المدينة وأبوابها فلما رأى الفتية ذلك وكانوا عظماء أهل مدينتهم وقيل كانوا من خواص الملك قاموا فتضرعوا إلى الله عز وجل واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوان الجبار فأحضروهم بين يديه فقال لهم ما قال وخيرهم بين القتل وبين عبادة الأوثان فقالوا إن لنا إلها ملأ السماوات والأرض عظمته وجبورته لن ندعو من دونه أحدا ولن نقر لما تدعونا إليه أبدا فاقض ما أنت قاض فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخر وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة نينوى لبعض شأنه وأمهلهم إلى رجوعه ليتأملوا في أمرهم فإن تبعوه وإلا فعل بهم ما فعل بسائر المسلمين فأزمعت الفتية على الفرار بالدين والالتجاء إلى الكهف الحصين فأخذ كل منهم من بيت أبيه شيئا فتصدقوا ببعضه وتزودوا بالباقي فأووا إلى الكهف فجعلوا يصلون فيه آناء الليل وأطراف النهار ويبتهلون إلى الله سبحانه بالأنين والجؤار وفوضوا أمر نفقتهم إلى يمليخا فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابه الحسان ويلبس لباس المساكين ويدخل المدينة ويشتري ما يهمهم ويتحسس ما فيها من الأخبار ويعود إلى أصحابه فلبثوا على ذلك إلى أن قدم الجبار إلى المدينة فطلبهم وأحضر آباءهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالهم وبذروها في الأسواق وفروا إلى الجبل فلما رأى يمليخا ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليل من الزاد فأخبرهم بما شهده من الهول ففزعوا إلى الله عز وجل وخروا له سجدا ثم رفعوا رؤوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فبينما هم كذلك إذ ضرب الله تعالى على آذانهم فناموا ونفقتهم عند رؤوسهم فخرج دقيانوس في طلبهم بخيله ورجله فوجدوهم قد دخلوا الكهف فأمر بإخراجهم فلم يطق أحد أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعا قال قائل منهم أليس لو كنت قدرت عليهم قتلتهم قال بلى قال فابن عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعا وعطشا وليكن كهفهم قبرا لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله عز وجل عنهم «إنهم فتية» استئناف تحقيقي مبني على تقدير السؤال من قبل المخاطب والفتية جمع قلة للفتى كالصبية للصبي «آمنوا بربهم» أوثر
209 الالتفات للإشعار بعلية وصف الربوبية لإيمانهم ولمراعاة ما صدر عنهم من المقالة حسبما سيحكى عنهم «وزدناهم هدى» بأن ثبتناهم على ما كانوا عليه من الدين وأظهرنا لهم مكنونات محاسنه وفيه التفات من الغيبة إلى ما عليه سبك النظم سباقا وسياقا من التكلم «وربطنا على قلوبهم» أي قويناها حتى اقتحموا مضايق الصبر على هجر الأهل والأوطان والنعيم والإخوان واجترؤا على الصدع بالحق من غير خوف وحذار والرد على دقيانوس الجبار «إذ قاموا» منصوب بربطنا والمراد بقيامهم انتصابهم لإظهار شعار الدين قال مجاهد خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعاد فقال أكبرهم إني لأجد في نفسي شيئا إن ربي رب السماوات والأرض فقالوا نحن أيضا كذلك فقاموا جميعا «فقالوا ربنا رب السماوات والأرض» ضمنوا دعواهم ما يحقق فحواها ويقضي بمقتضاها فإن ربوبيته عز وجل لهما تقتضي ربوبيته لما فيهما أي اقتضاء وقيل المراد قيامهم بين يدي الجبار من غير مبالاة به حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام فحينئذ يكون ما سيأتي من قوله تعالى هؤلاء الخ منقطعا عما قبله صادرا عنهم بعد خروجهم من عنده «لن ندعوا» لن نعبد أبدا «من دونه إلها» معبودا آخر لا استقلالا ولا اشتراكا والعدول عن أن يقال ربا للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامهم آلهة وللإشعار بأن مدار العبادة وصف الألوهية وللإيذان بأن ربوبيته تعالى بطريق الألوهية لا بطريق المالكية المجازية «لقد قلنا إذا شططا» أي قولا ذا شطط أي تجاوز عن الحد أو قولا هو عين الشطط على أنه وصف بالمصدر مبالغة ثم اقتصر على الوصف مبالغة على مبالغة وحيث كانت العبادة مستلزمة للقول لما أنها لا تعرى عن الاعتراف بألوهية المعبود والتضرع إليه قيل لقد قلنا وإذا جواب وجزاء أي لو دعونا من دونه إلها والله لقد قلنا قولا خارجا عن حد العقول مفرطا في الظلم «هؤلاء» هو مبتدأ وفي اسم الإشارة تحقير لهم «قومنا» عطف بيان له «اتخذوا من دونه آلهة» خبره وفيه معنى الإنكار «لولا يأتون» تحضيض فيه معنى الإنكار والتعجيز أي هلا يأتون «عليهم» على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذهم لها آلهة «بسلطان بين» بحجة ظاهرة الدلالة على مدعاهم وهو تبكيت لهم وإلقام حجر «فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا» بنسبة الشريك إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا والمعنى أنه أظلم من كل ظالم وإن كان سبك النظم على إنكار الأظلمية من غير تعرض لإنكار المساواة كما مر تحقيقه في سورة هود
210 «وإذ اعتزلتموهم» أي فارقتموهم في الاعتقاد أو أردتم الاعتزال الجسماني «وما يعبدون إلا الله» عطف على الضمير المنصوب وما موصولة أو مصدرية أي إذ اعتزلتموهم ومعبوديهم إلا الله أو وعبادتهم إلا عبادة الله وعلى التقديرين فالاستثناء متصل على تقدير كونهم مشركين كأهل مكة ومنقطع على تقدير تمحضهم في عبادة الأوثان ويجوز كون ما نافية على أنه إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترض بين إذ وجوابه «فأووا» أي التجئوا «إلى الكهف» قال الفراء هو جواب إذ كما تقول إذ فعلت فافعل كذا وقيل هو دليل على جوابه أي إذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا أو إذا أردتم اعتزالهم فافعلوا ذلك بالالتجاء إلى الكهف «ينشر لكم» يبسط لكم ويوسع عليكم «ربكم» مالك أمركم «من رحمته» في الدارين «ويهيئ لكم» يسهل لكم «من أمركم» الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين «مرفقا» ما ترتفقون وتنتفعون به وقرئ بفتح الميم وكسر الفاء مصدرا كالمرجع وتقديم لكم في الموضعين لما مر مرارا من الإيذان من أول الأمر بكون المؤخر من منافعهم والتشويق إلى وروده «وترى الشمس» بيان لحالهم بعد ما أووا إلى الكهف ولم يصرح به إيذانا بعدم الحاجة إليه لظهور جريانهم على موجب الأمر به لكونه صادرا عن رأي صائب وتعويلا على ما سلف من قوله سبحانه إذ أوى الفتية إلى الكهف وما لحق من إضافة الكهف إليهم وكونهم في فجوة منه والخطاب للرسول صلى لله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب وليس المراد به الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا بل الإنباء بكون الكهف بحيث لو رأيته ترى الشمس «إذا طلعت تزاور» أي تتزاور وتتنحى بحذف إحدى التاءين وقرئ بإدغام التاء في الزاي وتزور كتخمر وتزوار كتحمار وتزوئر وكلها من الزور وهو الميل «عن كهفهم» الذي أووا إليه فالإضافة لأدنى ملابسة «ذات اليمين» أي جهة ذات يمين الكهف عند توجه الداخل إلى قعره أي جانبه الذي يلي المغرب فلا يقع عليهم شعاعها فيؤذيهم «وإذا غربت» أي تراها عند غروبها «تقرضهم» أي تقطعهم من القطيعة والصرم ولا تقربهم «ذات الشمال» أي جهة ذات شمال الكهف أي جانبه الذي يلي المشرق وكان ذلك بتصريف الله سبحانه على منهاج خرق العادة كرامة لهم وقوله تعالى «وهم في فجوة منه» جملة حالية مبينة لكون ذلك أمرا بديعا أي تراها تميل عنهم يمينا وشمالا ولا تحوم حولهم مع أنهم في متسع من الكهف معرض لإصابتها لولا أن عرفتها عنهم يد التقدير «ذلك» أي ما صنع الله بهم من تزاور الشمس وقرضها حالتي الطلوع والغروب
211 مع كونهم في موقع شعاعها «من آيات الله» العجيبة الدالة على كمال علمه وقدرته وحقية التوحيد وكرامة أهله عنده سبحانه وتعالى وهذا قبل أن سد دقيانوس باب الكهف وقيل كان باب الكهف شماليا مستقبل بنات نعش وأقرب المشارق والمغارب إلى محاذاته رأس مشرق السرطان ومغربه والشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن وهو الذين يلي المغرب وتغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جنبيه وتحلل عفونته وتعدل هواءه ولا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم ويبلى ثيابهم ولعل ميل الباب إلى جانب الغرب كان أكثر ولذلك أوقع التزاور على كهفهم والقرض على أنفسهم فذلك حينئذ إشارة إلى إيوائهم إلى كهف هذا شأنه وأما جعله إشارة إلى حفظ الله سبحانه إياهم في ذلك الكهف تلك المدة الطويلة أو إلى اطلاعه سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم على أخبارهم فلا يساعده إيراده في تضاعيف القصة «من يهد الله» إلى الحق بالتوفيق له «فهو المهتد» الذي أصاب الفلاح والمراد إما الثناء عليهم والشهادة لهم بإصابة المطلوب والإخبار بتحقيق ما أملوه من نشر الرحمة وتهيئة المرافق أو التنبيه على أن أمثال هذه الآية كثيرة ولكن المنتفع بها من وفقه الله تعالى للاستبصار بها «ومن يضلل» أي يخلق فيه الضلال لصرف اختياره إليه «فلن تجد له» أبدا وإن بالغت في التتبع والاستقصاء «وليا» ناصرا «مرشدا» يهديه إلى ما ذكر من الفلاح لاستحالة وجوده في نفسه لا أنك لا تجده مع وجوده أو إمكانه «وتحسبهم» بفتح السين وقرئ بكسرها أيضا والخطاب فيه كما سبق «أيقاظا» جمع يقظ بكسر القاف وفتحها وهو اليقظان ومدار الحسبان انفتاح عيونهم على هيئة الناظر وقيل كثرة تقلبهم ولا يلائمه قوله تعالى ونقلبهم «وهم رقود» أي نيام وهو تقرير لما لم يذكر فيما سلف اعتمادا على ذكره السابق من الضرب على آذانهم «ونقلبهم» في رقدتهم «ذات اليمين» نصب على الظرفية أي جهة تلي أيمانهم «وذات الشمال» أي جهة تلي شمائلهم كيلا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم قال ابن عباس رضي الله عنهما لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض قيل لهم تقليبتان في السنة وقيل تقليبة واحدة يوم عاشوراء وقيل في كل تسع سنين وقرئ يقلبهم على الإسناد إلى ضمير الجلالة وتقلبهم على المصدر منصوبا بمضمر ينبئ عنه وتحسبهم أي وترى تقلبهم «وكلبهم» قيل هو كلب مروا به فتبعهم فطروده مرار فلم يرجع فأنطقه الله تعالى فقال لا تخشوا جانبي فإني أحب أحباء الله تعالى فناموا حتى أحرسكم وقيل هو كلب راع قد تبعهم على دينهم ويؤيده قراءة كلبهم إذ الظاهر لحوقه بهم وقيل كلب صيد أحدهم أو زرعه أو غنمه واختلف في لونه فقيل كان أنمر وقيل أصفر وقيل أصهب وقيل غير ذلك وقيل كان اسمه قطمير وقيل ريان وقبل تتوه وقيل قطمور وقيل ثور قال خالد بن معدان ليس في الجنة من الدواب إلا كلب أصحاب الكهف وحمار بلعم وقيل لم يكن ذلك من جنس الكلاب بل كان أسدا «باسط ذراعيه» حكاية حال ماضية ولذلك أعلم اسم الفاعل وعند الكسائي وهشام وأبي جعفر من البصريين يجوز
212 إعماله مطلقا والذراع من المرفق إلى رأس الإصبع الوسطى «بالوصيد» أي بموضع الباب من الكهف «لو اطلعت عليهم» أي لو عاينتهم وشاهدتهم وأصل الاطلاع الإشراف على الشيء بالمعاينة والمشاهدة وقرئ بضم الواو «لوليت منهم فرارا» هربا مما شاهدت منهم وهو إما نصب على المصدرية من معنى ما قبله إذ التولية والفرار من واد واحد وإما على الحالية يجعل المصدر بمعنى الفاعل أي فارا أو يجعل الفاعل مصدرا مبالغة كما في قولها فإنما هي إقبال وإدبار وإما على أنه مفعول له «ولملئت منهم رعبا» وقرئ بضم العين أي خوفا يملأ الصدر ويرعبه وهو إما مفعول ثان أو تمييز ذلك لما ألبسهم الله عز وجل من الهيبة والهيئة كانت أعينهم مفتحة كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم وقيل لطول أظفارهم وشعورهم ولا يساعده قولهم لبثنا يوما أو بعض يوم وقوله ولا يشعرون بكم أحدا فإن الظاهر من ذلك عدم اختلاف أحوالهم في أنفسهم وقيل لعظم أجرامهم ولعل تأخير هذا عن ذكر التولية للإيذان باستقلال كل منهما في الترتب على الاطلاع إذ لو روعي ترتيب الوجود لتبادر إلى الفهم ترتب المجموع من حيث هو هو عليه وللإشعار بعدم زوال الرعب بالفرار كما هو المعتاد وعن معاوية لما غزا الروم فمر بالكهف قال لو كشفت لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس رضي الله عنهما ليس لك ذلك قد منع الله تعالى من هو خير منك حيث قال لو اطلعت عليهم الآية قال معاوية لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث ناسا وقال لهم اذهبوا فانظروا ففعلوا فلما دخلوا الكهف بعث الله تعالى ريحا فأحرقتهم وقرئ بتشديد اللام على التكثير وبإبدال الهمزة ياء مع التخفيف والتشديد «وكذلك بعثناهم» أي كما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلى والتحلل آية دالة على كمال قدرتنا بعثناهم من النوم «ليتساءلوا بينهم» أي ليسأل بعضهم بعضا فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة وجعله غاية للبعث المعلل فيما سبق بالاختبار من حيث إنه من أحكامه المترتبة عليه والاقتصار على ذكره لاستتباعه لسائر آثاره «قال» استئناف لبيان تساؤلهم «قائل منهم» هو رئيسهم واسمه مكسلمينا «كم لبثتم» في منامكم لعله قاله لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة «قالوا» أي بعضهم «لبثنا يوما أو بعض يوم» قبل إنما قالوه لما أنهم دخلوا الكهف غدوة وكان انتباههم آخر النهار فقالوا لبثنا يوما فلما رأوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا أو بعض يوم وكان ذلك بناء على الظن الغالب فلم يعزوا إلى الكذب «قالوا» أي بعض آخر منهم بما سنح لهم من الأدلة أو بإلهام من الله سبحانه «ربكم أعلم بما لبثتم» أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم وإنما يعلمها الله سبحانه وهذا رد منهم على الأولين بأجمل ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق وقد قيل القائلون جميعهم ولكن في حالتين ولا يساعده النظم الكريم فإن الاستئناف في الحكاية والخطاب في المحكي يقضي بأن الكلام جار على منهاج المحاورة
213 والمجاوبة وإلا لقيل ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا «فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة» قالوه إعراضا عن التعمق في البحث وإقبالا على ما يهمهم بحسب الحال كما ينبئ عنه الفاء والورق الفضة مضروبة أو غير مضروبة ووصفها باسم الإشارة يشعر بان القائل ناولها بعض أصحابه ليشتري بها قوت يومهم ذلك وقرئ بسكون الراء وإدغام القاف في الكاف وبكسر الواو وبسكون الراء مع الإدغام وحملهم لها دليل على أن التزود لا ينافي التوكل على الله تعالى «فلينظر أيها» أي أهلها «أزكى» أحل وأطيب أو أكثر وأرخص «طعاما فليأتكم برزق منه» أي من ذلك الأزكى طعاما «وليتلطف» وليتكلف اللطف في المعاملة كيلا يغبن أو في الاستخفاء لئلا يعرف «ولا يشعرن بكم أحدا» من أهل المدينة فإنه يستدعى شيوع أخباركم أي لا يفعلن ما يؤدي إلى ذلك فالنهي على الأول تأسيس وعلى الثاني تأكيد للأمر بالتلطف «إنهم» تعليل لما سبق من الأمر والنهي أي ليبالغ في التلطف وعدم الإشعار لأنهم «إن يظهروا عليكم» أي يطلعوا عليكم أو يظفروا بكم والضمير للأهل المقدر في أيها «يرجموكم» إن ثبتم على ما أنتم عليه «أو يعيدوكم في ملتهم» أي يصيروكم إلهيا ويدخلوكم فيها كرها من العود بمعنى الصيرورة كقوله تعالى أو لتعودن في ملتنا وقيل كانوا أولا على دينهم وإيثار كلمة في على كلمة إلى للدلالة على الاستقرار الذي هو أشد شيء عندهم كراهة وتقديم احتمال الرجم على احتمال الإعادة لأن الظاهر من حالهم هو الثبات على الدين المؤدي إليه وضمير الخطاب في المواضع الأربعة للمبالغة في محل المبعوث على الاستخفاء وحث الباقين على الاهتمام بالتوصية فإن محاض النصح أدخل في القبول واهتمام الإنسان بشأن نفسه أكثروا أوفر «ولن تفلحوا إذا» أي إن دخلتم فيها ولو بالكره والإلجاء لن تفوزوا بخير «أبدا» لا في الدنيا ولا في الآخرة وفيه من التشديد في التحذير مالا يخفى «وكذلك» أي وكما أنمناهم وبعثناهم لما مر من ازديادهم في مراتب اليقين «أعثرنا» أي أطلعنا الناس «عليهم ليعلموا» أي الذين أعثرناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة «إن وعد الله» أي وعده بالبعث أو موعوده الذي هو البعث أو أن كل وعده أو كل موعوده فيدخل فيه وعده بالبعث أو البعث الموعود دخولا أوليا «حق» صادق لا خلف فيه أو ثابت لا مرد له لأن نومهم وانتباهم كحال من يموت ثم يبعث «وإن الساعة» أي القيامة التي هي عبارة عن وقت بعث الخلائق جميعا للحساب والجزاء «لا ريب فيها» لا شك في قيامها فإن من شاهد أنه جل وعلا توفي نفوسهم وأمسكها ثلاثمائة سنة وأكثر حافظا أبدانها من التحلل والتفتت ثم أرسلها إليها لا يبقى له شائبة شك في أن وعده تعالى حق وأنه يبعث من في القبور فيرد إليهم
214 أرواحهم فيحاسبهم ويجزيهم بحسب أعمالهم «إذ يتنازعون» ظرف لقوله أعثرنا قدم عليه الغاية إظهارا لكمال العناية بذكرها لا لقوله ليعلموا كما قيل لدلالته على أن التنازع يحدث بعد الإعثار وليس كذلك أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون «بينهم أمرهم» ليرتفع الخلاف ويتبين الحق قيل المتنازع فيه أمر دينهم حيث كانوا مختلفين في البعث فمن مقر له وجاحد به وقائل يقول ببعث الأرواح دون الأجساد وآخر يقول ببعثهما معا قيل كان ملك المدينة حينئذ رجلا صالحا مؤمنا وقد اختلف أهل مملكته في البعث حسبما فصل فدخل الملك بيته وأغلق بابه ولبس مسحا وجلس على رماد وسأل ربه أن يظهر الحق فألقى الله عز وجل في نفس رجل من رعيانهم فهدم ما سد به دقيانوس باب الكهف ليتخذه حظيرة لغنمه فعند ذلك بعثهم الله تعالى فجرى بينهم من التقاول ما جرى روي أن المبعوث لما دخل المدينة أخرج الدرهم ليشتري به الطعام وكان على ضرب دقيانوس فاتهموه بأنه وجد كنزا فذهبوا به إلى الملك فقص عليه القصة فقال بعضهم إن آباءنا أخبرونا بأن فتية فروا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاء فانطلق الملك وأهل المدينة من مسلم وكافر وأبصروهم وكلموهم ثم قالت الفتية للملك نستودعك الله ونعيذك به من شر الإنس والجن ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا فألقى الملك عليهم ثيابه وجعل لكم منهم تابوتا من ذهب فرآهم في المنام كارهين للذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجدا وقيل لما انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى مكانكم حتى أدخل أولا لئلا يفزعوا فدخل فعمى عليهم المدخل فبنوا ثمة مسجدا وقيل المتنازع فيه أمر الفتية قبل بعثهم أي أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرهم وما جرى بينهم وبين دقيانوس من الأحوال والأهوال ويتلقون ذلك من الأساطير وأفواه الرجال وعلى التقديرين فالفاء في قوله عز وجل «فقالوا» فصيحة أي أعثرناهم عليهم فرأوا ما رأوا فماتوا فقالوا أي قال بعضهم «ابنوا عليهم» أي على باب كهفهم «بنيانا» لئلا يتطرق إليهم الناس ضنا يتربتهم ومحافظة عليها وقوله تعالى «ربهم أعلم بهم» من كلام المتنازعين كأنهم لما رأوا عدم اهتدائهم إلى حقيقة حالهم من حيث النسب ومن حيث العدد ومن حيث اللبث في الكهف قالوا ذلك تفويضا للأمر إلى علام الغيوب أو من كلام الله تعالى ردا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المنازعين وقيل هو أمرهم وتدبيرهم عند وفاتهم أو شأنهم في الموت والنوم حيث اختلفوا في أنهم ماتوا أو ناموا كما في أول مرة فإذا حينئذ متعلق بقوله تعالى «قال الذين غلبوا على أمرهم» وهم الملك والمسلمون «لنتخذن عليهم مسجدا» وقوله تعالى فقالوا معطوف على يتنازعون وإيثار صيغة الماضي للدلالة على أن هذا القول ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازع وقيل متعلق باذكر مضمرا وأما تعلقه بأعثرنا فيأباه أن إعثارهم ليس في زمان تنازعهم فيما ذكر بل قبله وجعل وقت التنازع ممتدا يقع في بعضه الإعثار وفي بعضه التنازع تعسف لا يخفى مع أنه لا مخصص لإضافته إلى التنازع وهو مؤخر في الوقوع «سيقولون»
215 الضمير في الأفعال الثلاثة للخائضين في قصتهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب والمسلمين لكن لا على وجه إسناد كل منها إلى كلهم بل إلى بعضهم «ثلاثة رابعهم كلبهم» أي هم ثلاثة أشخاص رابعهم أي جاعلهم أربعة بانضمامه إليهم كلبهم قيل قالته اليهود وقيل قاله السيد من نصارى نجران وكان يعقوبيا وقرئ ثلاة بإدغام الثاء في التاء «ويقولون خمسة سادسهم كلبهم» قيل قالته النصارى أو العاقب منهم وكان نسطوريا «رجما بالغيب» رميا بالخبر الخفي الذي لا مطلع عليه أو ظنا بالغيب من قولهم رجم بالظن إذا ظن وانتصابه على الحالية من الضمير في الفعلين جميعا أي راجمين أو على المصدرية منهما فإن الرجم والقول واحد أو من محذوف مستأنف واقع موقع الحال من ضمير الفعلين معا أي يرجمون رجما وعدم إيراد السين للاكتفاء بعطفه على ما فيه ذلك «ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم» هو ما يقوله المسلمون بطريق التلقي من هذا الوحي وما فيه مما يرشدهم إلى ذلك من عدم نظمه في سلك الرجم بالغيب وتغيير سبكه بزيادة الواو المفيدة لزيادة وكادة النسبة فيما بين طرفيها لا بوحي آخر كما قيل «قل» تحقيقا للحق وردا على الأولين «ربي أعلم» أي أقوى علما «بعدتهم» بعددهم «ما يعلمهم» أي ما يعلم عدتهم أو ما يعلمهم فضلا عن العلم بعدتهم «إلا قليل» من الناس قد وفقهم الله تعالى للاستشهاد بتلك الشواهد قال ابن عباس رضي الله عنه حين وقعت الواو وانقطعت العدة وعليه مدار قوله رضي الله عنه أنا من ذلك القليل ولو كان في ذلك وحي آخر لما خفي عليه ولما احتاج إلى الاستشهاد بالواو ولكان المسلمون أسوة له في العلم بذلك وعن على كرم الله وجهه أنهم سبعة نفر أسماؤهم بمليخا ومكشليينا ومشليينا هؤلاء أصحاب يمين الملك وكان عن يساره مرنوش ودبرنوش وشاذنوش وكان يستشير هؤلاء الستة في أمره والسابع الراعي الذي وافقهم حين هربوا من ملكهم دقيانوس واسمه كفيشططيوش «فلا تمار» الفاء لتفريع النهي على ما قبله أي إذ قد عرفت جهل أصحاب القولين الأولين فلا تجادلهم «فيهم» في شأن الفتية «إلا مراء ظاهرا» قدر ما تعرض له الوحي من وصفهم بالرجم بالغيب وعدم العلم على الوجه الإجمالي وتفويض العلم إلى الله سبحانه من غير تصريح بجهلهم وتفضيح لهم فإنه مما يخل بمكارم الأخلاق «ولا تستفت فيهم» في شأنهم «منهم» من الخائضين «أحدا» فإن فيما قص عليك لمندوحة عن ذلك مع أنه لا علم لهم بذلك وقال عطاء إلا قليل من أهل الكتاب فالضمائر الثلاثة في الأفعال الثلاثة لهم وما ذكر من الشواهد لإرشاد المؤمنين إلى صحة القول الثالث وفيه محيص عما في الأول من التكلف في جعل أحد الأقوال المحكية المنظومة في سمط واحد ناشئا عن الحكاية مع كون الأخيرين بخلافه ووضوح في سبب حذف المفعول في لا تمار والمعنى حينئذ وإذ قد وقفت على أن كلهم ليسوا على خطأ في ذلك فلا تجادلهم إلا جدالا ظاهرا نطق به الوحي المبين من غير تجهيل لجميعهم فإن فيهم مصيبا وإن قل والنهي عن الاستفتاء لدفع ما عسى يتوهم من احتمال جوازه أو احتمال وقوعه بناء على إصابة بعضهم فالمعنى لا تراجع إليهم في شأن الفتية ولا تصدق القول الثالث من حيث صدوره عنهم بل من حيث التلقي من الوحي «ولا تقولن لشيء» أي لأجل شيء تعزم عليه «إني فاعل
216 ذلك» الشيء «غدا» أي فيما يستقبل من الزمان مطلقا فيدخل فيه الغد دخولا أوليا فإنه نزل حين قالت اليهود لقريش سلوه عن الروح وعن أصحاب الكهف وذي القرنين فسألوه صلى الله عليه وسلم فقال ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحي حتى شق عليه وكذبته قريش وما قيل من أن المدلول بالعبارة هو الغد وما بعد ذلك مفهوم بطريق دلالة النص يرده أن ما بعده ليس بمعناه في مناط النهي فإن وسعة المجال دليل القدرة فليتأمل «إلا أن يشاء الله» استثناء مفرغ من النهي أي لا تقولن ذلك في حال من الأحوال إلا حال ملابسته بمشيئته تعالى على الوجه المعتاد وهو أن يقال إن شاء الله أو في وقت من الأوقات إلا وقت أن يشاء الله أن تقوله لا مطلقا بل مشيئته إذن مشيئته إذن فإن النسيان أيضا بمشيئته تعالى ولا مساغ لتعليقه بفاعل لعدم سداد استثناء اقتران المشيئة بالفعل ومنافاة استثناء اعتراضها النهي وقيل الاستثناء جار مجرى التأييد كأنه قيل لا تقولنه أبدا كقوله تعالى وما كان لنا أن نعود فهيا إلا أن يشاء الله «واذكر ربك» بقولك إن شاء الله مداركا له «إذا نسيت» إذا فرط منك نسيان ثم ذكرته وعن ابن عباس رضي الله عنهما ولو بعد سنة ما لم يحث ولذلك جوز تأخير الاستثناء وعامة الفقهاء على خلافه إذ لو صح ذلك لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب قال القرطبي هذا في تدارك التبرك والتخلص عن الإثم وأما الاستثناء المغير للحكم فلا يكون إلا متصلا ويجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء مبالغة في الحث عليه أو اذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارك أو اذكره إذا اعتراك النسيان ليذكرك المنسي وقد حمل على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها «وقل عسى أن يهدين ربي» أي يوفقني «لأقرب من هذا» أي لشيء أقرب وأظهر من نبأ أصحاب الكهف من الآيات والدلائل الدالة على نبوتي «رشدا» أي إرشادا للناس ودلالة على ذلك وقد فعل عز وجل ذلك حيث آتاه من البينات ما هو أعظم من ذلك وأبين كقصص الأنبياء المتباعد أيامهم والحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة أو لأقرب رشدا وأدنى خبرا من المنسي «ولبثوا في كهفهم» أحياء مضروبا على آذانهم «ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا» وهي جملة مستأنفة مبينة لما أجمل فيما سلف وأشير إلى عزة مناله وقيل إنه حكاية كلام أهل الكتاب فإنهم اختلفوا في مدة لبثهم كما اختلفوا في عدتهم فقال بعضهم هكذا وبعضهم ثلاثمائة وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية والله تعالى ذكر السنة القمرية والتفاوت بنيهما في كل مائة سنة ثلاث سنين فيكون ثلاثمائة وتسع سنين وسنين عطف بيان ثلاثمائة وقيل بدل وقرئ على الإضافة وضعا للجمع موضع المفرد ومما يحسنه ههنا أن علامة الجمع فيه جبر
217 لما حذف في الواحد وأن الأصل في العدد إضافته إلى الجمع «قل الله أعلم بما لبثوا» أي بالزمان الذين لبثوا فيه «له غيب السماوات والأرض» أي ما غاب فيهما وخفي من أحوال أهلهما واللام للاختصاص العلمي دون التكويني فإنه غير مختص بالغيب «أبصر به وأسمع» دل بصيغة التعجب على أن شأن علمه سبحانه بالمبصرات والمسموعات خارج عما عليه إدراك المدركين لا يحجبه شيء ولا يحول دونه حائل ولا يتفاوت بالنسبة إليه اللطيف والكثيف والصغير والكبير والخفي والجلي والهاء ضمير الجلالة ومحله الرفع على الفاعلية والباء مزيدة عند سيبويه وكان أصله أبصر أي صار ذا بصر ثم نقل إلى صيغة الأمر للإنشاء فبرز الضمير لعدم لياقة الصيغة له أو لزيادة الباء كما في كفى به والنصب على المفعولية عند الأخفش والفاعل ضمير المأمور وهو كل أحد والباء مزيدة إن كانت الهمزة التعدية ومعدية إن كانت للصيرورة ولعل تقديم أمر إبصاره تعالى لما أن الذي نحن بصدده من قبيل المبصرات «ما لهم» لأهل السماوات والأرض «من دونه» تعالى «من ولي» يتولى أمورهم وينصرهم استقلالا «ولا يشرك في حكمه» في قضائه أو في علم الغيب «أحدا» منهم ولا يجعل له فيه مدخلا وهو كما ترى أبلغ في نفي الشريك من أن يقال من ولي ولا شريك وقرئ على صيغة نهى الحاضرة على أن الخطاب لكل أحد ولما دل انتظام القرآن الكريم لقصة أصحاب الكهف من يحث إنها بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم من المغيبات على أنه وحي معجز أمره صلى الله عليه وسلم بالمداومة على دراسته فقال «واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك» ولا تسمع لقولهم ائت بقرآن غير هذا أو بدله «لا مبدل لكلماته» لا قادر على تبديله وتغييره غيره «ولن تجد» أبد الدهر وإن بالغت في الطلب «من دونه ملتحدا» ملجأ تعدل إليه عند إلمام ملمة «واصبر نفسك» احبسها وثبتها مصاحبة «مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي» أي دائبين على الدعاء في جميع الأوقات وقيل في طرف في النهار وقرئ بالغدوة على أن إدخال اللام عليها وهي علم في الأغلب على تأويل التنكير بهم والمراد بهم فقراء المؤمنين مثل صهيب وعمار وخباب ونحوهم رضي الله عنهم وقيل أصحاب الصفة وكانوا نحو سبعمائة رجل قيل إنه قال قوم من رؤساء الكفرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم نح هؤلاء الموالي الذين كأن ريحهم ريح الضأن حتى نجالسك كما قال قوم نوح عليه السلام أنؤمن لك واتبعك الأرذلون فنزلت والتعبير عنهم بالموصول لتعليل الأمر بما في حيز
218 الصلة من الخصلة الداعية إلى إدامة الصحبة «يريدون» بدعائهم ذلك «وجهه» حال من المستكن في يدعون أي مريدين لرضاه تعالى وطاعته «ولا تعد عيناك عنهم» أي لا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم من عداه أي جاوزه واستعماله بعن لتضمينه معنى النبو أولا تصرف عيناك النظر عنهم إلى غيرهم من عدوته عن الأمر أي صرفته عنه على أن المفعول محذوف لظهوره وقرئ ولا تعد عينيك ولا تعد عينيك من الإعداء والتعدية ووالمراد نهيه صلى الله عليه وسلم عن الازدراء بهم لرثاثة زيهم طموحا إلى زي الأغنياء «تريد زينة الحياة الدنيا» أي تطلب مجالسة الأشراف والأغنياء وأصحاب الدنيا وهي حال من الكاف على الوجه الأول من القراءة المشهورة ومن الفاعل على الوجه الثاني منها وضمير تريد للعينين وإسناد الإرادة إليه مجاز وتوحيده للتلازم كما في قوله * لمن زحلوقة زل * بها العينان تنهل * ومن المستكن في الفعل على القراءتين الأخيرتين «ولا تطع» في تحية الفقراء عن مجالسك «من أغفلنا قلبه» أي جعلناه غافلا لبطلان استعداده للذكر بالمرة أو وجدناه غافلا كقولك أجبنته وأبخلته إذا وجدته كذلك أو هو من أغفل إبله أي لم نسمه بالذكر «عن ذكرنا» كأولئك الذين يدعونك إلى طرد الفقراء عن مجلسك فإنهم غافلون عن ذكرنا على خلاف ما عليه المؤمنون من الدعاء في مجامع الأوقات وفيه تنبيه على أن الباعث له على ذلك الدعاء غفلة قلبه عن جناب الله سبحانه وجهته وانهماكه في الحسيات حتى خفي عليه أن الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد وقرئ أغفلنا قلبه على إسناد الفعل إلى القلب أي حسبنا غافلين عن ذكرنا إياه بالمؤاخذة من أغفلته إذا وجدته غافلا «واتبع هواه وكان أمره فرطا» ضياعا وهلاكا أو متقدما للحق والصواب نابذا له وراء ظهره من قولهم فرس فرط أي متقدم للخيل أو هو بمعنى الإفراط والتفريط فإن الغفلة عن ذكره سبحانه تؤدي إلى اتباع الهوى المؤدي إلى التجاوز والتباعد عن الحق والصواب والتعبير عنهم بالموصول للإيذان بعلية ما في حيز الصلة للنهي عن الإطاعة «وقل» لأولئك الغافلين المتبعين هواهم «الحق من ربكم» أي ما أوحى إلى الحق لا غير كائنا من ربكم أو الحق المعهود من جهة ربكم لا من جهتي حتى يتصور فيه التبديل أو يمكن التردد في اتباعه وقوله تعالى «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» إما من تمام القول المأمور به والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها بطريق التهديد لا لتفريعه عليه كما في قوله تعالى «هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب» وقوله تعالى الحق من ربك فلا تكونن من الممترين أي عقيب تحقق أن ما أوحي إلى حق لا ريب فيه وأن ذلك الحق من جهة ربكم فمن شاء أن يؤمن به فليؤمن كسائر المؤمنين ولا يتعلل بما لا يكاد يصلح للتعليل ومن شاء أن يكفر به فليفعل وفيه من التهديد وإظهار الاستغناء عن متابعتهم وعدم المبالاة بهم وبإيمانهم وجودا وعدما مالا يخفى وإما تهديد من جهة الله تعالى والفاء لترتيب ما بعدها من التهديد على الأمر لا على مضمون
219 المأمور به والمعنى قل لهم ذلك وبعد ذلك من شاء أن يؤمن به أو أن يصدقك فيه فليؤمن ومن شاء أن يكفر به أو يكذبك فيه فليفعل فقوله تعالى «إنا اعتدنا» وعيد شديد وتأكيد للتهديد وتعليل لما يفيده من الزجر عن الكفر أو لما يفهم من ظاهر التخيير من عدم المبالاة بكفرهم وقلة الاهتمام بزجرهم عنه فإن إعداد جزائه من دواعي الإملاء والإمهال وعلى الوجه الأول هو تعليل للأمر بما ذكر من التخيير التهديدي أي قل لهم ذلك إنا اعتدنا «للظالمين» أي هيأنا للكافرين بالحق بعد ما جاء من الله سبحانه والتعبير عنهم بالظالمين للتنبيه على أن مشيئة الكفر واختياره تجاوز عن الحد ووضع للشيء في غير موضعه «نارا» عظيمة عجيبة «أحاط بهم» أي يحيط بهم وإيثار صيغة الماضي للدلالة على التحقق «سرادقها» أي فسطاطها شبه به ما يحيط بهم من النار وقيل السرادق الحجرة التي تكون حول الفسطاط وقيل سرادقها دخانها وقيل حائط من نار «وإن يستغيثوا» من العطش «يغاثوا بماء كالمهل» كالحديد المذاب وقيل كدردى الزيت وهو على طريقة قوله فاعتبوا بالصيلم «يشوي الوجوه» إذا قدم ليشرب انشوى الوجه لحرارته عن النبي صلى الله عليه وسلم هو كعكر الزيت فإذا قرب إليه سقطت فروة وجهه «بئس الشراب» ذلك «وساءت» النار «مرتفقا» متكأ وأصل الاتفاق نصب المرفق تحت الخد وأنى ذلك في النار وإنما هو بمقابلة قوله تعالى «وحسنت مرتفقا» «إن الذين آمنوا» في محل التعليل للحث على الإيمان المنفهم من التخيير كأنه قيل والذين آمنوا ولعل تغيير سبكه للإيذان بكمال تنافي مآلي الفريقين أي إن الذين آمنوا بالحق الذي أوحى إليك «وعملوا الصالحات» حسبما بين في تضاعيفه «إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا» خبر إن الأولى هي الثانية مع ما في حيزها والراجع محذوف أي من أحسن منهم عملا أو مستغنى عنه كما في قولك نعم الرجل زيدا أو واقع موقعه الظاهر فإن من أحسن عملا في الحقيقة هو الذين آمن وعلم الصالحات «أولئك» المنعوتون بالنعوت الجليلة «لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار» استئناف لبيان الأجر أو هو الخبر وما بنيهما اعتراض أو هو خبر بعد خبر «يحلون فيها من أساور من ذهب» من الأولى ابتدائية والثانية بيانية صفة لأساور والتنكير للتفخيم وهو جمع أسورة أو أسور جمع سوار «ويلبسون ثيابا خضرا» خصت الخضرة بثيابهم لأنها أحسن الألوان وأكثرها طراوة «من سندس وإستبرق» أي ممارق من الديباج وما غلظ جمع بين النوعين للدلالة على أن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين «متكئين فيها على الأرائك» على السرر على ما هو شأن المتنعمين «نعم الثواب» ذلك «وحسنت» أي الأرائك «مرتفقا»
220 أي متكأ «واضرب لهم» أي للفريقين الكافر والمؤمن «مثلا رجلين» مفعولان لا ضرب أولهما ثانيهما لأنه المحتاج إلى التفصيل والبيان أي اضرب للكافرين والمؤمنين لا من حيث أحوالهما المستفادة مما ذكر آنفا من أن للأولين في الآخرة كذا وللآخرين كذا بل من حيث عصيان الأولين مع تقلبهم في نعم الله تعالى وطاعة الآخرين مع مكابدتهم مشاق الفقر مثلا حال رجلين مقدرين أو محققين هما أخوان من بني إسرائيل أو شريكان كافر اسمه قطروس ومؤمن اسمه يهوذا اقتسما ثمانية آلاف دينار فاشترى الكافر بنصيبه ضياعا وعقارا وصرف المؤمن نصيبه إلى وجوه المبار فآل أمرهما إلى ما حكاه الله تعالى وقيل هما أخوان من نبي مخزوم كافر هو الأسود بن عبد الأسد ومسلم هو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد زوج أم سلمة رضي الله عنها أولا «جعلنا لأحدهما» وهو الكفار «جنتين» بستانين «من أعناب» من كروم متنوعة والجملة بتمامها بيان للتمثيل أو صفة لرجلين «وحففناهما بنخل» أي جعلنا النخل محيطة بهما مؤزرا بها كرومهما يقال حفه القوم إذا طافوا به وحففته بهم جعلتهم حافين حوله فيزيده الباء مفعولا آخر كقولك غشيته به «وجعلنا بينهما» وسطهما «زرعا» ليكون كل منهما جامعا للأفوات والفواكه متواصل العمارة على الهيئة الرائقة والوضع الأنيق «كلتا الجنتين آتت أكلها» ثمرها وبلغت مبلغا صالحا للأكل وقرئ بسكون الكاف وقرئ كل الجنتين آتي أكله «ولم تظلم منه» لم تنقص من أكلها «شيئا» كما يعهد ذلك في سائر البساتين فإن الثمار غالبا تكثر في عام وتقل في آخر وكذا بعض الأشجار يأتي بالثمر في بعض الأعوام دون بعض «وفجرنا خلالهما» فيما بين كل من الجنتين «نهرا» على حدة ليدوم شربهما ويزيد بهاؤهما وقرئ بالتخفيف ولعل تأخير ذكر تفجير النهر عن ذكر إيتاء الكل مع أن الترتيب الخارجي على العكس للإيذان باستقلال كل من إيتاء الأكل وتفجير النهر في تكميل محاسن الجنتين كما في قصة البقرة ونحوها ولو عكس لا نفهم أن المجموع خصلة واحدة بعضها مترتب على بعض فإن إيتاء الأكل متفرع على السقي عادة وفيه إيماء إلى أن إيتاء الأكل لا يتوقف على السقي كقوله تعالى «يكاد زيتها يضيء» ولو لم تمسسه نار «وكان له» لصاحب الجنتين «ثمر» أنواع من المال غير الجنتين من ثمر ماله إذا كثرة قال ابن عباس رضي الله عنهما هو جميع المال من الذهب والفضة والحيوان وغير ذلك وقال مجاهد هو الذهب والفضة خاصة «فقال لصاحبه» المؤمن «وهو» أي القائل «يحاوره» أي صاحبه المؤمن وإن جاز العكس أي يراجعه في الكلام من حار إذا رجع «أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا» حشما وأعوانا أو أولادا ذكورا لأنهم الذين ينفرون معه
221 «ودخل جنته» التي شرحت أحوالها وعددها وصفاتها وهيآتها وتوحيدها إما لعدم تعلق الغرض بتعدادها وإما لاتصال إحداهما بالأخرى وإما لأن الدخول يكون في واحدة فواحدة «وهو ظالم لنفسه» ضار لها بعجبه وكفره «قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من ذكر دخول جنته حال ظلمه لنفسه كأنه قيل فماذا قال إذ ذاك فقيل قال «ما أظن أن تبيد هذه» الجنة أي تفنى «أبدا» لطول أمله وتمادي غفلته واغتراره بمهلته ولعله إنما قاله بمقابلة موعظة صاحبه وتذكيره بفناء جنتيه ونهيه عن الاغترار بهما وأمره بتحصيل الباقيات الصالحات «وما أظن الساعة قائمة» كائنة فيما سيأتي «ولئن رددت» بالبعث عند قيامها كما تقول «إلى ربي لأجدن» يومئذ «خيرا منها» أي من هذه الجنة وقرئ منهما أي من الجنتين «منقلبا» مرجعا وعاقبة ومدار هذا الطمع واليمين الفاجرة اعتقاد أنه تعالى إنما أولاه ما أولاه في الدنيا لاستحقاقه الذاتي وكرامته عليه سبحانه ولم يدر أن ذلك استدراج «قال له صاحبه» استئناف كما سبق «وهو يحاوره» جملة حالية كما مر فائدتها التنبيه من أول الأمر على أن ما يتلوه كلام معتنى بشأنه مسوق للمحاورة «أكفرت» حيث قلت ما أظن الساعة قائمة «بالذي خلقك» أي في ضمن خلق أصلك «من تراب» فإن خلق آدم عليه السلام منه متضمن لخلقه منه لما أن خلق كل فرد من أفراد البشر له حظ من خلقه عليه السلام إذ لم تكن فطرته الشريفة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرة سائر أفراد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان خلقه عليه السلام من التراب خلقا للكل منه وقيل خلقك منه لأنه أصل مادتك إذ به يحصل الغذاء الذي منه تحصل النطفة فتدبر «من نطفة» هي مادتك القريبة فالمخلوق واحد والمبدأ متعدد «ثم سواك رجلا» أي عدلك وكملك إنسانا ذكرا أو صيرك رجلا والتعبير عنه تعالى بالموصول للإشعار بعلية ما في حيز الصلة لإنكار الكفر والتلويح بدليل البعث الذي نطق به قوله عز من قائل يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الخ «لكن هو الله ربي» أصله لكن إنا وقد قرئ كذلك فحذفت الهمزة فتلاقت النونان فكان الإدغام وهو ضمير الشأن وهو مبتدأ خبره الله ربي وتلك الجملة خبر إنا والعائد منها إليه الضمير وقرئ بإثبات ألف إنا في الوصل وفي الوقف جميعا وفي الوقف خاصة وقرئ لكنه بالهاء ولكن بطرح إنا ولكن إنا لا إله إلا هو ربي ومدار الاستدراك قوله تعالى أكفرت كأنه قال أنت كافر لكني مؤمن موحد «ولا أشرك بربي أحدا» فيه إيذان بأن كفره كان
222 بطريق الإشراك «ولولا إذ دخلت جنتك قلت» أي هلا قلت عندما دخلتها وتقديم الظرف على المحضض عليه للإيذان بتحتم القول في آن الدخول من غير ريث لا للقصر «ما شاء الله» أي الأمر ما شاء الله أو ما شاء الله كأن على أن ما موصولة مرفوعة المحل أو أي شيء شاء الله كان على أنها شرطية منصوبة والجواب محذوف والمراد تحضيضه على الاعتراف بأنها وما فيها بمشيئة الله تعالى إن شاء أبقاها وإن شاء أفناها «لا قوة إلا بالله» أي هلا قلت ذلك اعترافا بعجزك وبأن ما تيسر لك من عمارتها وتدبير أمرها إنما هو بمعونته تعالى وإقداره عن النبي صلى الله عليه وسلم من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره «إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا» أنا إما مؤكد لياء المتكلم أو ضمير فصل بين مفعولي الرؤية إن جعلت عملية وأقل ثانيهما وحال إن جعلت بصرية فيكون أنا حينئذ تأكيدا لا غير لأن شرط كونه ضمير فصل توسطه بين المبتدأ والخبر أو ما أصله المبتدأ والخبر وقرئ أقل بالرفع خبرا لأنا والجملة مفعول ثان للرؤية أو حال وفي قوله تعالى وولدا نصرة لمن فسر النفر بالولد «فعسى ربي أن يؤتين خيرا من جنتك» هو جواب الشرط والمعنى إن ترن أفقر منك فأنا أتوقع من صنع الله سبحانه أن يقلب ما بي وما بك من الفقر والغنى فيرزقني لإيماني جنة خيرا من جنتك ويسلبك لكفرك نعمته ويخرب جنتك «ويرسل عليها حسبانا» هو مصدر بمعنى الحساب كالبطلان والغفران أي مقدارا قدره الله تعالى وحسبه وهو الحكم بتخريبها وقيل عذاب حسبان وهو حساب ما كسبت يداه وقيل مرامي جمع حسبانا وهي الصواعق ومساعدة النظم الكريم فيما سيأتي للأولين أكثر «من السماء فتصبح صعيدا زلقا» مصدر أريد به المفعول مبالغة أي أرض ملساء يزلق عليها لاستئصال ما عليها من البناء والشجر والنبات «أو يصبح» عطف على قوله تعالى فتصبح وعلى الوجه الثالث على يرسل «ماؤها غورا» أي غائرا في الأرض أطلق عليه المصدر المبالغة «فلن تستطيع» أبدا «له» أي للماء الغائر «طلبا» فضلا عن وجدانه ورده «وأحيط بثمره» أهلك أمواله المعهودة من جنتيه وما فيهما وأصله من إحاطة العدو وهو عطف على مقدر كأنه قيل فوقع بعض ما توقع من المحذور وأهلك أمواله وإنما حذف لدلالة السياق والسياق عليه كما في المعطوف عليه بالفاء الفصيحة «فأصبح يقلب كفيه» ظهرا لبطن وهو كناية عن الندم كأنه قيل فأصبح يندم «على ما أنفق فيها» أي في عمارتها من المال لعل تخصيص الندم به دون ما هلك الآن من الجنة لما أنه إنما يكون على الأفعال الاختيارية ولأن ما أتفق في عمارتها كان
223 مما يمكن صيانته عن طوارق الحدثان وقد صرفه إلى مصالحها رجاء أي يتمتع بها أكثر مما يتمتع به وكان يرى أنه لا تنالها أيدي الردى ولذلك قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا فلما ظهر له أنها مما يعتريه الهلاك ندم على ما صنع بناء على الزعم الفاسد من إنفاق ما يمكن ادخاره في مثل هذا الشيء السريع الزوال «وهي» أي الجنة من الأعناب المحفوفة بنخل «خاوية» ساقطة «على عروشها» أي دعائمها المصنوعة للكروم لسقوطها قبل سقوطها وتخصيص حالها بالذكر دون النخل والزرع أما لأنها العمدة وهما من متمماتها وأما لأن ذكر هلاكها مغن عن ذكر هلاك الباقي لأنها حيث هلكت وهي مشيدة بعروشها فهلاك ما عداها بالطريق الأولي وإما لأن الإنفاق في عمارتها أكثر وقيل أرسل الله تعالى نارا فأحرقتها وغار ماؤها «ويقول» عطف على يقلب أو حال من ضميره أي وهو يقول «يا ليتني لم أشرك بربي أحدا» كأنه تذكر موعظة أخيه وعلم أنه إنما أتى من قبل شركه فتمنى لو لم يكن مشركا فلم يصبه ما أصابه قبل ويحتمل أن يكون ذلك توبة من الشرك وندما على ما فرط منه «ولم تكن له» وقرئ بالتاء التحتانية «فئة ينصرونه» يقدرون على نصره بدفع الإهلاك وعلى رد المهلك والإتيان بمثله وجمع الضمير باعتبار المعنى كما في قوله عز وعلا يرونهم مثليهم «من دون الله» أنه القادر على ذلك وحده «وما كان» في نفسه «منتصرا» ممتنعا بقوته عن انتقامه سبحانه «هنالك» في ذلك المقام وفي تلك الحال «الولاية لله الحق» أي النصر له وحده لا يقدر عليها أحد فهو تقرير لما قبله وينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة كما نصر بما فعل بالكافر أخاه المؤمن ويعضده قوله تعالى «هو خير ثوابا وخير عقبا» أي لأوليائه وقرأ الولاية بكسر الواو ومعناه الملك والسلطان أي هنالك السلطان له عز وجل لا يغلب ولا يمتنع منه أو لا يعبد غيره كقوله تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فيكون تنبيها على أن قوله «يا ليتني لم أشرك» الخ كان عن اضطرار وجزع عما دهاه على أسلوب قوله تعالى الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين وقيل هناك إشارة إلى الآخرة كقوله تعالى «لمن الملك اليوم لله الواحد القهار» وقرئ برفع الحق على أنه صفة الولاية وبنصبه على أنه مصدر مؤكد وقرئ عقبا بضم القاف وعقبا كرجعى والكل بمعنى العاقبة «واضرب لهم مثل الحياة الدنيا» أي واذكر لهم ما يشبهها في زهرتها ونضارتها وسرعة زوالها لئلا يطمئنوا بها ولا يعكفوا عليها ولا يضربوا عن الآخرة صفحا بالمرة أو بين لهم صفتها العجيبة التي هي في الغرابة كالمثل «كماء» استئناف لبيان المثل أي هي كماء «أنزلناه من السماء» ويجوز كونه مفعولا ثانيا لا ضرب على أنه بمعنى صير «فاختلط به» اشتبك بسبيه «نبات
224 الأرض» فالتف وخالط بعضه بعضا من كثرته وتكاثفه أو نجع الماء في النبات حتى رو ورف فمقتضى الظاهر حينئذ فاختلط بنبات الأرض وإيثار ما عليه النظم الكريم عليه للمبالغة بالكثرة فإن كلا المختلطين موصوف بصفة صاحبه «فأصبح» ذلك النبات الملتف أثر بهجتها ورفيفها «هشيما» مهشوما مكسورا «تذروه الرياح» تفرقه وقرئ تذريه من أذراه وتذروه الريح وليس المشبه به نفس الماء بل هو الهيئة المنتزعة من الجملة وهي حال النبات المنبت بالماء يكون أخضر وارفا ثم هشيما تطيره الرياح كأن لم يغن بالأمس «وكان الله على كل شيء» من الأشياء التي من جملتها الإنشاء والإفناء «مقتدرا» قادرا على الكمال «المال والبنون زينة الحياة الدنيا» بيان لشأن ما كانوا يفتخرون به من محسنات الحياة الدنيا كما قال الأخ الكافر أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا أثر بيان شأن نفسها بما مر من المثل وتقديم المال على البنين مع كونهم أعز منه كما في الآية المحكية آنفا وقوله تعالى «وأمددناكم بأموال وبنين» وغير ذلك من الآيات الكريمة لعراقته فيما نيط به من الزينة والإمداد وغير ذلك وعمومه بالنسبة إلى الأفراد والأوقات فإنه زينة وممد لكل أحد من الآباء والبنين في كل وقت وحين وأما البنون فزينتهم وإمدادهم إنما يكون بالنسبة إلى من بلغ مبلغ الأبوة ولأن المال مناط لبقاء النفس والبنين لبقاء النوع ولأن الحاجة إليه أمس من الحاجة إليهم ولأنه أقدم منهم في الوجود ولأنه زينة بدونهم من غير عكس فإن من له بنون بلا مال فهو في ضيق حال ونكال وإفراد الزينة مع أنها مسندة إلى الاثنين لما أنها مصدر في الأصل أطلق على المفعول مبالغة كأنهما نفس الزينة والمعنى أن ما يفتخرون به من المال والبنين شيء يتزين به في الحياة الدنيا وقد علم شأنها في سرعة الزوال وقرب الاضمحلال فكيف بما هو من أوصافها التي شأنها أن تزول قبل زوالها «والباقيات الصالحات» هي أعمال الخير وقيل هي في الصلوات الخمس وقيل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقيل كل ما أريد به وجه الله تعالى وعلى كل تقدير يدخل فيها أعمال فقراء المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه دخولا أوليا أما صلاحها فظاهر وأما بقاؤها فبقاء عوائدها عند فناء كل ما تطمح إليه النفس من حظوظ الدنيا «خير» أي مما نعت شأنه من المال والبنين وإخراج بقاء تلك الأعمال وصلاحها مخرج الصفات المفروغ عنها مع أن حقهما أي يكون مقصودى الإفادة لا سيما في مقابلة إثبات الفناء لما يقابلها من المال والبنين على طريقة قوله تعالى ما عندكم ينفذ وما عند الله باق للإيذان بأن بقاؤها أمر محقق لا حاجة إلى بيانه بل لفظ الباقيات اسم له وصف ولذلك لم يذكر الموصوف وإنما الذي يحتاج إلى التعرض له خيرتها «عند ربك» أي في الآخرة وهو بيان لما يظهر فيه آثار خيرتها بمنزلة إضافة الزينة إلى الحياة الدنيا لا لأفضليتها فيها من المال والبنين مع مشاركة الكل في الأصل إذ لا مشاركة لهما في الخيرية في الآخرة «ثوابا» عائدة تعود إلى صاحبها «وخير أملا» حيث ينال بها صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله في الدنيا
225 وأما ما مر من المال والبنين فليس لصاحبه أملا يناله وتكرير خير للإشعار باختلاف حيثية الخيرية والمبالغة فيها «ويوم نسير الجبال» منصوب بمضمر أي اذكر حين نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو على هيئاتها كما ينبئ عنه قوله تعالى وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب أو نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منبثا والمراد بتذكيره تحذير المشركين مما فيه من الدواهي وقيل هو معطوف على ما قبله من قوله تعالى «عند ربك» أي الباقيات الصالحات خير عند الله ويوم القيامة وقرئ تسير على صيغة البناء للمفعول من التفعيل جريا على سنن الكبرياء وإيذانا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لتعينه وقرئ تسير «وترى الأرض» أي جميع جوانبها والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد ممن يتأتى منه الرؤيا وقرئ ترى على صيغة البناء للمفعول «بارزة» أما بروز ما تحت الجبال فظاهر وأما ما عاداه فكانت الجبال تحول بينه وبين الناظر قبل ذلك فالآن أضحى قاعا صفصفا لنرى فيها ولا أمة «وحشرناهم» جمعناهم إلى الموقف من كل أوب وإيثار صيغة الماضي بعد نسير وترى للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المنكرون وعليه يدور أمر الجزاء وكذا الكلام فيما عطف عليه منفيا وموجبا وقيل هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال كأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك «فلم نغادر» أي لم نترك «منهم أحدا» يقال غادره وأغدره إذا تركه ومنه الغدر الذي هو ترك الوفاء والغدير الذي هو ماء يتركه السيل في الأرض الغائرة وقرئ بالياء وبالفوقانية على إسناد الفعل إلى ضمير الأرض كما في قوله تعالى وألقت ما فيها وتخلت «وعرضوا على ربك» شبهت حالهم بحال جند عرضوا على السلطان ليأمر فيهم بما يأمر وفي الالتفات إلى الغيبة وبناء الفعل للمفعول مع التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من تربية المهابة والجري على سنن الكبرياء وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى «صفا» أي غير متفرقين ولا مختلطين فلا تعرض فيه لوحدة الصف وتعدده وقد ورد في الحديث الصحيح يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا «لقد جئتمونا» على إضمار القول على وجه يكون حالا من ضمير عرضوا أي مقولة لهم أو وقلنا لهم وأما كونه عاملا في يوم نسير كما قيل فبعيد من جزالة التنزيل الجليل كيف لا ويلزم منه أن هذا القول هو المقصود بالأصالة دون سائر القوارع مع أنه خاص التعلق بما قبله من العرض والحشر دون تسيير الجبال وبروز الأرض «كما خلقناكم» نعت لمصدر مقدر أي مجيئا كائنا مجيئكم عند خلقنا لكم «أول مرة» أوحال من ضمير جئتمونا أي كائنين كما خلقناكم أول مرة حفاة عراة غرلا أو ما معكم شيء مما تفتخرون به من الأموال والأنصار كقوله تعالى «ولقد جئتمونا» فرادى «كما خلقناكم أول مرة» وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم «بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا» إضراب وانتقال من كلام إلى كلام كلاهما للتوبيخ
226 والتقريع أي زعمتم في الدنيا أنه لن نجعل لكم أبدا وقتا ننجز فيه ما وعدناه من البعث وما يتبعه وأن مخففة من المثقلة فصل بحرف النفي بينها وبين خبرها لكونه جملة فعلية متصرفة غير دعاء والظرف أما مفعول ثان للجعل وهو بمعنى التصيير والأول هو موعدا أو حال من موعد أو هو بمعنى الخلق والإبداع «ووضع الكتاب» عطف على عرضوا داخل تحت الأمور الهائلة التي أريد تذكيرها بتذكير وقتها أورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي دلالة على التقرر أيضا أي وضع صحائف الأعمال وإيثار الأفراد للاكتفاء بالجنس والمراد بوضعها أما وضعها في أيدي أصحابها يمينا وشمالا وأما في الميزان «فترى المجرمين» قاطبة فيدخل فيهم الكفرة المنكرون للبعث دخولا أوليا «مشفقين» خائفين «مما فيه» من الجرائم والذنوب «ويقولون» عند وقوفهم على ما في تضاعيفه نقيرا وقطميرا «يا ويلتنا» منادين لهلكتهم التي هلكوها من بين الهلكات مستدعين لها ليهلكوا ولا يروا هول ما لقوه أي يا ويلتنا أحضرى فهذا آوان حضورك «ما لهذا الكتاب» أي أي شيء له وقوله تعالى «لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها» أي حواها وضبطها جملة حالية محققة لما في الجملة الاستفهامية من التعجب أو استئنافية مبنية على سؤال نشأ من التعجب كأنه قيل ما شأنه حتى يتعجب منه فقيل لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها «ووجدوا ما عملوا» في الدنيا من السيئات أو جزاء ما عملوا «حاضرا» مسطورا عتيدا «ولا يظلم ربك أحدا» فيكتب ما لم يعمل من السيئات أو يزيد في عقابه المستحق فيكون إظهارا لمعدلة القلم الأزلي «وإذ قلنا للملائكة» أي اذكر وقت قولنا لهم «اسجدوا لآدم» سجود تحية وتكريم وقد مر تفصيله «فسجدوا» جميعا امتثالا بالأمر «إلا إبليس» فإنه لم يسجد بل أبى واستكبر وقوله تعالى «كان من الجن» كلام مستأنف سيق مساق التعليل لما يفيده استثناء اللعين من الساجدين كأنه قيل ماله لم يسجد فقيل كان أصله جنيا «ففسق عن أمر ربه» أي خرج عن طاعته كما ينبئ عنه الفاء أو صار فاسقا كافرا بسبب أمر الله تعالى إذ لولاه أبى وتعرض لوصف الربوبية المنافية للفسق لبيان كمال قبح ما فعله والمراد بتذكير قصته تجديد النكير على المتكبرين المفتخرين بأنسابهم وأموالهم المستنكفين عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين ببيان أن ذلك من صنيع إبليس وأنه في ذلك تابعون لتسويله كما ينبئ عنه قوله تعالى «أفتتخذونه» الخ فإن الهمزة للإنكار والتعجيب والفاء للتعقيب والفاء أي أعقيب علمكم بصدور تلك القبائح عنه تتخذونه «وذريته» أي وأولاده وأتباعه جعلوا ذريته مجازا قال قتادة يتوالدون كما يتوالد بنو آدم وقيل يدخل ذنبه في دبره فيبيض فتنفلق البيضة عن جماعة من الشياطين «أولياء من دوني» فتستبدلونهم بي فتطيعونهم
227 بدل طاعتي «وهم» أي والحال أن إبليس وذريته «لكم عدو» أي أعداءكما في قوله تعالى فإنهم عدو لي إلا رب العالمين وقوله تعالى هم العدو وإنما فعل به ذلك تشبيها له بالمصدر نحو القبول والولوع وتقيد الاتخاذ بالجملة الحالية لتأكيد الإنكار وتشديده فإن مضمونها مانع من وقوع الاتخاذ ومناف له قطعا «بئس للظالمين» أي الواضعين للشيء في غير موضعه «بدلا» من الله سبحانه إبليس وذريته وفي الالتفات إلى الغيبة مع وضع الظالمين موضع الضمير من الإيذان بكمال السخط والإشارة إلى أن ما فعلوه ظلم قبيح ما لا يخفى «ما أشهدتهم» استئناف مسوق لبيان عدم استحقاقهم للاتخاذ المذكور في أنفسهم بعد بيان الصوارف عن ذلك من خباثة المحتد والفسق والعداوة أي ما أحضرت إبليس وذريته «خلق السماوات والأرض» حيث خلقتهما قبل خلقهم «ولا خلق أنفسهم» أي ولا أشهدت بعضهم خلق بعض كقوله تعالى «ولا تقتلوا أنفسكم» هذا ما أجمع عليه الجمهور حذارا من تفكيك الضميرين ومحافظة على ظاهر لفظ الأنفس ولك أن ترجع الضمير الثاني إلى الظالمين وتلتزم التفكيك بناء على قود المعنى إليه فإن نفي إشهاد الشياطين خلق الذين يتولونهم هو الذي يدور عليه إنكار اتخاذهم أولياء بنا على أن أدنى ما يصحح التولي حضور الولي خلق المتولى وحيث لا حضور لا مصحح للتولي قطعا وأما نفي إشهاد بعض الشياطين خلق بعض منهم فليس من مدارية الإنكار المذكور في شيء على أن إشهاد بعضهم خلق بعض إن كان مصححا لتولي الشاهد بناء على دلالته على كماله باعتبار أن له مدخلا في خلق المشهود في الجملة فهو مخل بتولي المشهود بناء على قصوره عمن شهد خلقه فلا يكون نفي الإشهاد المذكور متمحضا في نفي الكمال المصحح للتولي عن الكل والمناط للإنكار المذكور «وما كنت متخذ المضلين» أي متخذهم وإنما وضع موضعه المظهر ذما لهم وتسجيلا عليهم بالإضلال وتأكيدا لما سبق من إنكار اتخاذهم أولياء «عضدا» أعوانا في شأن الخلق أو في شأن من شئوني حتى يتوهم شركتهم في التولي بناء على الشركة في بعض أحكام الربوبية وفيه تهكم بهم وإيذان بكمال ركاكة عقولهم وسخافة آرائهم حيث لا يفهمون هذا الأمر الجلي الذي لا يكاد يشتبه على البله والصبيان فيحتاجون إلى التصريح به وإيثار نفي الإشهاد على نفي شهودهم ونفي اتخاذهم أعوانا على نفي كونهم كذلك للإشعار بأنهم مقهورون تحت قدرته تعالى تابعون لمشيئته وإرادته فيهم وأنهم بمعزل من استحقاق الشهود والمعونة من تلقاء أنفسهم من غير إحضار واتخاذ وإنما قصارى ما يتوهم في شأنهم أن يبلغوا ذلك المبلغ بأمر الله عز وجل ولم يكد ذلك يكون وقيل الضمير للمشركين والمعنى ما أشهدتم خلق ذلك وما أطلعتهم على أسرار التكوين وما خصصتهم بفضائل لا يحويها غيرهم حتى يكونوا قدوة للناس فيؤمنوا بإيمانهم كما يزعمون فلا يلتفت إلى قولهم طمعا في نصرتهم الدين فإنه لا ينبغي لي أن أعتضد بالمضلين ويعضده القراءة بفتح التاء خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى ما صح لك الاعتضاد بهم ووصفهم بالإضلال
228 لتعليل نفي الاتخاذ وقرئ متخذا المضلين على الأصل وقرئ عضدا بضم العين وسكون الضاد وبفتح وسكون بالتخفيف وبضمتين بالاتباع وبفتحتين على أنه جمع عاضد كرصد وراصد «ويوم يقول» أي الله عز وجل للكافرين توبيخا وتعجيزا وقرئ بنون العظمة «نادوا شركائي الذين زعمتم» أنهم شفعاؤكم ليشفعوا لكم والمراد بهم كل ما عبد من دونه تعالى وقيل إبليس وذريته «فدعوهم» أي نادوهم للإغاثة وفيه بيان لكمال اعتنائهم بإعانتهم على طريقة الشفاعة إذ معلوم أن لا طريق إلى المدافعة «فلم يستجيبوا لهم» فلم يغيثوهم إذ لا إمكان لذلك وفي إرادة مع ظهوره تهكم بهم وإيذان بأنهم في الحماقة بحيث لا يفهمونه إلا بالتصريح به «وجعلنا بينهم» بين الداعين والمدعوين «موبقا» اسم مكان أو مصدر من وبق وبوقا كوثب وثوبا أو وبق وبقا كفرح فرحا إذا هلك أي مهلكا يشتركون فيه وهو النار أو عداوة هي في الشدة نفس الهلاك كقول عمر رضي الله عنه لا يكن حبك كلفا ولا بغضك تلفا وقيل البين الوصل أي وجعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا في الآخرة ويجوز أن يكون المراد بالشركاء الملائكة وعزيرا وعيسى عليهم السلام ومريم وبالموبق البرزخ البعيد أي جعلنا بينهم أمدا بعيدا يهلك فيه الأشواط لفرط بعدهم لأنهم في قعر جهنم وهم في أعلى الجنان «ورأى المجرمون النار» وضع المظهر مقام المضمر تصريحا بإجرامهم وذما لهم بذلك «فظنوا» أي فأيقنوا «أنهم مواقعوها» مخالطوها واقعون فيها أو ظنوا إذ رأوها من مكان بعيد أنهم مواقعوها الساعة «ولم يجدوا عنها مصرفا» انصرافا أو معدلا ينصرفون إليه «ولقد صرفنا» أي كررنا وأوردنا على وجوه كثيرة من النظم «في هذا القرآن للناس» لمصلحتهم ومنفعتهم «من كل مثل» من جملته ما مر من مثل الرجلين ومثل الحياة الدنيا أو من كل نوع من أنواع المعاني البديعة الداعية إلى الإيمان التي هي في الغرابة والحسن واستجلاب النفس كالمثل ليتلقوه بالقبول فلم يفعلوا «وكان الإنسان» بحسب جبلته «أكثر شيء جدلا» أي أكثر الأشياء التي يتأتى منها الجدل وهو ههنا شدة الخصومة بالباطل والمماراة من الجدل الذي هو الفتل والمجادلة الملاواة لأن كلا من المجادلين يلتوى على صاحبه وانتصابه على التمييز والمعنى أن جد له أكثر من جدل كل مجادل «وما منع الناس» أي أهل مكة الذين حكيت أباطيلهم «أن يؤمنوا» من أن يؤمنوا بالله تعالى ويتركوا ما هم فيه من الإشراك «إذ جاءهم الهدى» أي القرآن العظيم الهادي إلى الإيمان بما فيه من فنون المعاني الموجبة له «ويستغفروا ربهم» عما فرط منهم من أنواع الذنوب
229 التي من جملتها مجادلتهم للحق بالباطل «إلا أن تأتيهم سنة الأولين» أي إلا طلب إتيان سنتهم أو إلا انتظار إتيانها أو إلا تقديره فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وسنتهم الاستئصال «أو يأتيهم العذاب» أي عذاب الآخرة «قبلا» أي أنواعا جمع قبيل أو عيانا كما في قراءة قبلا بكسر القاف وفتح الباء وقرئ بفتحتين أي مستقبلا يقال لقيته قبلا وقبلا وقبلا وانتصابه على الحالية من الضمير أو العذاب والمعنى إن ما تضمنه القرآن الكريم من الأمور المستوجبة للإيمان بحيث لو لم يكن مثل هذه الحكمة القوية لما امتنع الناس من الإيمان وإن كانوا مجبولين على الجدل المفرط «وما نرسل المرسلين» إلى الأمم ملتبسين بحال من الأحوال «إلا» حال كونهم «مبشرين» للمؤمنين بالثواب «ومنذرين» للكفرة والعصاة بالعقاب «ويجادل الذين كفروا بالباطل» باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات والسؤال عن قصة أصحاب الكهف ونحوها تعنتا «ليدحضوا به» أي بالجدال «الحق» أي يزيلوه عن مركزه ويبطلوه من إدحاض القدم وهو إزلاقها وهو قولهم للرسل عليهم الصلاة والسلام ما أنتم إلا بشر مثلنا ولو شاء الله لأنزل ملائكة ونحوهما «واتخذوا آياتي» التي تخر لها صم الجبال «وما أنذروا» أي أنذروه من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب أو إنذارهم «هزوا» استهزاء وقرئ بسكون الزاي وهو ما يستهزأ به «ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه» وهو القرآن العظيم «فأعرض عنها» ولم يتدبرها ولم يتذكر بها وهذا السبك وإن كان مدلوله الوضعي نفي الأظلمية من غير تعرض لنفي المساواة في الظلم إلا أن مفهومه العرفي أنه أظلم من كل ظالم وبناء الأظلمية على ما في حيز الصلة من الإعراض عن القرآن للإشعار بأن ظلم من يجادل فيه ويتخذه هزوا خارج عن الحد «ونسي ما قدمت يداه» أي عمله من الكفر والمعاصي التي من جملتها ما ذكر من المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق ولم يتفكر في عاقبتها «إنا جعلنا على قلوبهم أكنة» أغطية كثيرة جمع كنان وهو تعليل لإعراضهم ونسيانهم بأنهم مطبوع على قلوبهم «أن يفقهوه» مفعول لما دل عليه الكلام أي منعناهم أن قفوا على كنهه أو مفعول له أي كراهة أن يفقهوه «وفي آذانهم» أي جعلنا فيها «وقرا» ثقلا يمنعهم من استماعه «وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبدا» أي فلن يكون منهم اهتداء البتة مدة التكليف وإذن جزاء للشرط وجواب عن سؤال النبي صلى الله عليه وسلم المدلول عليه بكمال عنايته بإسلامهم كأنه قال صلى الله عليه وسلم مالي لا أدعوهم فقيل إن تدعهم الخ وجمع الضمير الراجع إلى الموصول في هذه المواضع الخمسة باعتبار معناه كما أن إفراده في المواطن الخمسة المتقدمة باعتبار لفظه
230 «وربك» مبتدأ وقوله تعالى «الغفور» خبره وقوله تعالى «ذو الرحمة» أي الموصوف بها خبر بعد خبر وإيراد المغفرة على صيغة المبالغة دون الحرمة للتنبيه على كثرة الذنوب ولأن المغفرة ترك المضار وهو سبحانه قادر على ترك ما لا يتناهى من العذاب وأما الرحمة فهي فعل وإيجاد ولا يدخل تحت الوجود إلا ما يتناهى وتقديم الوصف الأول لأن التخلية قبل التحلية أو لأنه أهم بحسب الحال إذا المقام مقام بيان تأخر العقوبة عنهم بعد استيجابهم لها كما يعرب عنه قوله عز وجل «لو يؤاخذهم» أي لو يريد مؤاخذتهم «بما كسبوا» من المعاصي التي من جملتها ما حكى عنهم من مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن آيات ربهم وعدم المبالاة بما اجترحوا من الموبقات «لعجل لهم العذاب» لاستيجاب أعمالهم لذلك وإيثار المؤاخذة المنبئة عن شدة الأخذ بسرعة على التعذيب والعقوبة ونحوهما للإيذان بأن النفي المستفاد من مقدم الشرطية متعلق بوصف السرعة كما ينبئ عنه تاليها وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان المعنى على المضي لإفادة أن انتفاء تعجيل العذاب لهم بسبب استمرار عدم إرادة المؤاخذة فإن المضارع الواقع موقع الماضي يفيد استمرار انتفاء الفعل فيما مضى كما حقق في موضعه «بل لهم موعد» اسم زمان هو يوم بدر أو يوم القيامة والجملة معطوفة على مقدر كأنه قيل لكنهم ليسوا بمؤاخذين بغتة «لن يجدوا» البتة «من دونه موئلا» منجي أو ملجأ يقال وأل أي نجا ووأل إليه أي لجأ إليه «وتلك القرى» أي قرى عاد وثمود وأضرابها وهي مبتدأ على تقدير المضاف أي وأهل تلك القرى خبره قوله تعالى «أهلكناهم» أو مفعول مضمر مفسر به «لما ظلموا» أي وقت ظلمهم كما فعلت قريش بما حكى عنهم من القبائح وترك المفعول إما لتعميم الظلم أو لتنزيله منزلة اللازم أي لما فعلوا الظلم ولما إما حرف كما قال ابن عصفور وإما ظرف استعمل للتعليل وليس المراد به الوقت المعين الذي عملوا فيه الظلم بل زمان ممتد من ابتداء الظلم إلى آخره «وجعلنا لمهلكهم» أي عينا لهلاكهم «موعدا» أي وقتا معينا لا محيد لهم عن ذلك وهذا استشهاد على ما فعل بقريش من تعيين الموعد ليتنبهوا لذلك ولا يغتروا بتأخر العذاب وقرئ بضم الميم وفتح اللام أي إهلاكهم وبفتحهما «وإذ قال موسى» نصب بإضمار فعل أي اذكر وقت قوله عليه السلام «لفتاه» وهو يوشع بن نون بن أفرايم بن يوسف عليه السلام سمى فتاه إذ كان يخدمه ويتبعه وقيل كان يتعلم منه ويسمى التلميذ فتى وإن كان شيخا ولعل المراد بتذكيره عقيب بيان أن لكل أمة موعدا تذكير ما في القصة من موعد الملاقاة مع ما فيها من سائر المنافع الجليلة «لا أبرح» من برح الناقص كزال يزال أي لا أزال أسير فحذف الخبر اعتمادا على
231 قرينة الحال إذ كان ذلك عند التوجه إلى السفر واتكالا على ما يعقبه من قوله «حتى أبلغ» فإن ذلك غاية تستدعي ذا غاية يؤدي إليها ويجوز أن يكون أصل الكلام لا يبرح مسيري حاصلا حتى أبلغ فيحذف المضاف ويقام المضاف إليه مقامه فينقلب الضمير البارز المجرور المحل مرفوعا مستكنا والفعل من صيغة الغيبة إلى التكلم ويجوز أن يكون من برح التام كزال يزول أي لا أفارق ما أنا بصدده حتى أبلغ «مجمع البحرين» هو ملتقى بحر فارس والروم مما يلي المشرق وقيل طنجة وقيل هما الكر والرس بأرمينية وقيل إفريقية وقرئ بكسر الميم كمشرق «أو أمضي حقبا» أسير زمانا طويلا أتيقن معه فوات المطلب والحقب الدهر أو ثمانون سنة وكان منشأ هذه العزيمة أن موسى عليه السلام لما ظهر على مصر مع بني إسرائيل واستقروا بها بعد هلاك القبط أمره الله عز وجل أن يذكر قومه النعمة فقام فيهم خطيبا بخطبة بديعة رقت بها القلوب وذرفت العيون فقالوا له من أعلم الناس قال أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه عز وجل فأوحى إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر عليه السلام وكان في أيام أفريذون قبل موسى عليه السلام وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى وقيل إن موسى عليه السلام سأل ربه أي عبادك أحب إليك قال الذي يذكرني ولا ينساني قال فأي عباد أقضي قال الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى قال فأي عبادك أعلم قال الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدله على هدى أو ترده عن ردى فقال إن كان في عبادك من هو اعلم مني فدلني عليه قال أعلم منك الخضر قال أين أطلبه قال على ساحل البحر عند الصخرة قال يا رب كيف لي به قال تأخذ حوتا في مكتل فحيثما فقدته فهو هناك فأخذ حوتا فجعله في مكتل فقال لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني فذهبا يمشيان «فلما بلغا» الفاء فصيحة كما أشير إليه «مجمع بينهما» أي مجمع البحرين وبينهما ظرف أضيف إليه اتساعا أو بمعنى الوصل «نسيا حوتهما» الذي جعل فقدانه أمارة وجدان المطلوب أي نسيا تفقد أمره وما يكون منه وقيل نسي يوشع أن يقدمه وموسى عليه أن يأمره فيه بشيء روي أنهما لما بلغا مجمع البحرين وفيه الصخرة وعين الحياة التي لا يصيب ماؤها ميتا إلا حي وضعا رؤوسهما على الصخرة فناما فلما أصاب الحوت برد الماء وروحه عاش وقد كانا أكلا منه وكان ذلك بعد ما استيقظ يوشع عليه السلام وقيل توضأ عليه السلام من تلك العين فانتضح الماء على الحوت فعاش فوقع في الماء «فاتخذ سبيله في البحر سربا» مسلكا كالسرب وهو النفق قيل امسك الله عز وجل جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه معجزة لموسى أو للخضر عليهما السلام وانتصاب سربا على أنه مفعول ثان لاتخذ وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز أن يتعلق باتخذ «فلما جاوزا» أي مجمع البحرين الذي جعل موعدا للملاقاة قيل أدلجا وسار الليلة والغد إلى الظهر وألقى على موسى عليه السلام الجوع فعند ذلك «قال لفتاه آتنا غداءنا» أي ما نتغدى به وهو الحوت كما ينبئ عنه الجواب «لقد لقينا من
232 سفرنا هذا» إشارة إلى ما سارا بعد مجاوزة الموعد «نصبا» تعبا وإعياء قيل لم ينصب ولم يجمع قبل ذلك والجملة في محل التعليل للأمر بإيتاء الغداء إما باعتبار أن النصب إنما يعترى بسب الضعف الناشئ عن الجوع وإما باعتبار ما في أثناء التغدي من استراحة ما «قال» أي فتاه عليه السلام «أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة» أي التجأنا إليها وأقمنا عندها وذكر الإواء إليها مع أن المذكور فيما سبق مرتين بلوغ مجمع البحرين لزيادة تعيين محل الحادثة فإن المجمع محل متسع لا يمكن تحقيق المراد المذكور بنسبة الحادثة إليه ولتمهيد العذر فإن الأواء إليها والنوم عندها مما يؤدي إلى النسيان عادة والرؤية مستعارة للمعرفة التامة والمشاهدة الكاملة ومراده بالاستفهام تعجيب موسى عليه السلام مما اعتراه هناك من النسيان مع كون ما شاهده من العظائم التي لا تكاد تنسى وقد جعل فقدانه علامة لوجدان المطلوب وهذا أسلوب معتاد فيما بين الناس يقول أحدهم لصاحبه إذا نابه خطب أرأيت ما نابني يريد بذلك تهويله وتعجيب صاحبه منه وأنه مما لا يعهد وقوعه لا استخباره عن ذلك كما قيل والمفعول محذوف اعتمادا على ما يدل عليه من قوله عز وجل «فإني نسيت الحوت» وفيه تأكيد للتعجيب وتربية لاستعظام المنسي وإيقاع النسيان على اسم الحوت دون ضمير الغداء مع أنه المأمور بإتيانه للتنبيه من أول الأمر على أنه ليس من قبيل نسيان المسافر زاده في المنزل وأن ما شاهده ليس من قبيل الأحوال المتعلقة بالغداء من حيث هو غداء وطعام بل من حيث هو حوت كسائر الحيتان مع زيادة أي نسيت أن أذكر لك أمره وما شاهدت منه من الأمور العجيبة «وما أنسانيه إلا الشيطان» بوسوسته الشاغلة عن ذلك وقوله تعالى «أن أذكره» بدل اشتمال من الضمير أي ما أنساني أن أذكره لك وفي تعليق الإنساء بضمير الحوت أولا وبذكره له ثانيا على طريق الإبدال المنبئ عن تنحية المبدل منه إشارة إلى أن متعلق النسيان أيضا ليس نفس الحوت بل ذكر أمره وقرئ أن أذكره وإيثار أن أذكره على المصدر للمبالغة فإن مدلوله نفس الحدث عند وقوعه والحال وإن كانت غريبة لا يعهد نسيانها لكنه لما تعود بمشاهدة أمثالها عند موسى عليه السلام وألفها قل اهتمامه بالمحافظة عليها «واتخذ سبيله في البحر عجبا» بيان لطرف من أمر الحوت منبئ عن طرف آخر منه وما بينهما اعتراض قدم عليه للاعتناء بالاعتذار كأنه قيل حيي واضطرب ووقع في البحر واتخذ سبيله فيه سبيلا عجبا فعجبا ثاني مفعولي اتخذ والظرف حال من أولهما أو ثانيهما أو هو المفعول الثاني وعجبا صفة مصدر محذوف أي اتخاذا عجبا وهو كون مسلكه كالطاق والسرب أو مصدر فعل محذوف أي أتعجب منه عجبا وقد قيل إنه من كلام موسى عليه الصلاة والسلام وليس بذاك «قال» أي موسى عليه الصلاة والسلام «ذلك» الذي ذكرت من أمر الحوت «ما كنا
233 نبغ» وقرئ بإثبات الياء والضمير العائد إلى الموصول محذوف أصله نبغيه أي نطلبه لكونه أمارة للفوز بالمرام «فارتدا» أي رجعا «على آثارهما» طريقهما الذي جاءا منه «قصصا» يقصان قصصا أي يتبعان آثارهما اتباعا أو مقتصين حتى أتيا الصخرة «فوجدا عبدا من عبادنا» التنكير للتفخيم والإضافة للتشريف والجمهور على أنه الخصر واسمه بليا بن ملكان وقيل اليسع وقيل إلياس عليهم الصلاة والسلام «آتيناه رحمة من عندنا» هي الوحي والنبوة كما يشعر به تنكير الرحمة واختصاصها بجناب الكبرياء «وعلمناه من لدنا علما» خاصا لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره وهو علم الغيوب «قال له موسى» استئناف مبني على سؤال نشأ من السباق كأنه قيل فماذا جرى بنيهما من الكلام فقيل قال له موسى «هل أتبعك على أن تعلمن» استئذانا منه في اتباعه له على وجه التعلم «مما علمت رشدا» أي علما ذا رشد أرشد به في ديني والرشد إصابة الخير وقرئ بفتحتين وهو مفعول تعلمن ومفعول علمت محذوف وكلاهما منقول من علم المتعدي إلى مفعول واحد ويجوز كونه علة لأتبعك أو مصدرا بإضمار فعله ولا ينافي نبوته وكونه صاحب شريعة أن يتعلم من نبي آخر مالا تعلق له بأحكام شريعته من أسرار العلوم الخفية ولقد راعى في سوق الكلام غاية التواضع معه عليهما السلام «قال» أي الخصر «إنك لن تستطيع معي صبرا» نفى عنه استطاعة الصبر معه على وجه التأكيد كأنه مما لا يصح ولا يستقيم وعلله بقوله «وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا» إيذانا بأنه يتولى أمورا خفية المدار منكرة الظواهر والرجل الصالح لا سيما صاحب الشريعة لا يتمالك أن يشمئز عند مشاهدتها وفي صحيح البخاري قال الخضر يا موسى إني على علم من علم الله تعالى علمنيه لا تعلمه وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه وخبرا تمييز أي لم يحط به خبرك «قال» موسى عليه الصلاة والسلام «ستجدني إن شاء الله صابرا» معك غير معترض عليك وتوسيط الاستثناء بين مفعولي الوجدان لكمال الاعتناء بالتيمن ولئلا يتوهم تعلقه بالصبر «ولا أعصي لك أمرا» عطف على صابرا أي ستجدني صابرا وغير عاص وفي وعد هذا الوجدان من المبالغة ما ليس في الوعد بنفس الصبر وترك العصيان أو على ستجدني فلا محل له من الإعراب والأول هو الأولى لما عرفته ولظهور تعلقه بالاستثناء حينئذ وفيه دليل على أن أفعال العباد بمشيئة الله سبحانه وتعالى
234 «قال فإن اتبعتني» إذن له في الاتباع بعد اللتيا والتي والفاء لتفريع الشرطية على ما مر من التزام موسى عليه الصلاة والسلام للصبر والطاعة «فلا تسألني عن شيء» تشاهده من أفعالي أي لا تفاتحني بالسؤال عن حكمته فضلا عن المناقشة والاعتراض «حتى أحدث لك منه ذكرا» ي حتى أبتدئ ببيانه وفيه إيذان بأن كل ما صدر عنه فله حكمة وغاية حميدة البتة وهذا من أدب المتعلم من العالم والتابع مع المتبوع وقرئ فلا تسألني بالنون المثقلة «فانطلقا» أي موسى والخضر عليهما الصلاة والسلام على الساحل يطلبان السفينة وأما يوشع فقد صرفه موسى عليه الصلاة السلام إلى بني إسرائيل قيل إنهما مرا بسفينة فكلما أهلها فعرفوا الخضر فحملوهما بغير نول «حتى إذا ركبا في السفينة» استعمال الركوب في أمثال هذه المواقع بكلمة في مع تجريده عنها في مثل قوله عز وجل لتركبوها وزينة على ما يقتضيه تعديته بنفسه لما أشرنا إليه في قوله تعالى وقال اركبوا فيها لا لما قيل من أن في ركوبها معنى الدخول «خرقها» قيل خرقها بعد ما لججوا حيث أخذ فاسا فقلع من ألواحها لوحين مما يلي الماء فعند ذلك «قال» موسى عليه السلام «أخرقتها لتغرق أهلها» من الإغراق وقرئ بالتشديد من التغريق وليغرق أهلها من الثلاثي «لقد جئت» أتيت وفعلت « شيئا إمرا» أي عظيما هائلا من أمر الأمر إذا عظم قيل الأصل أمرا فخفف «قال» أي الخضر عليه السلام «ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا» تذكير لما قاله من قبل وتحقيق لمضمونه متضمن للإنكار على عدم الوفاء وعده «قال لا تؤاخذني بما نسيت» بنسياني أو بالذي نسيته أو بشيء نسيته وهو وصيته بأن لا يسأله عن حكمة ما صدر عنه من الأفعال الخفية الأسباب قبل بيانه أراد أنه نسي وصيته ولا مؤاخذة على الناسي كما ورد في صحيح البخاري من أن الأول كان من موسى نسيانا أو أخرج الكلام في معرض النهي عن المؤاخذة بالنسيان يوهمه أنه قد نسي ليبسط عذره في الإنكار وهو من معاريض الكلام التي يتقي بها الكذب مع التوصل إلى الغرض أو أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة «ولا ترهقني» أي لا تغشنى ولا تحملني «من أمري» وهو اتباعه إياه «عسرا» أي لا تعسر على متابعتك ويسرها على بالإغضاء وترك المناقشة وقرئ عسرا بضمتين «فانطلقا» الفاء فصيحة أي فقبل عذره فخرجا من السفينة فانطلقا «حتى
235 إذا لقيا غلاما فقتله» قيل كان الغلام يلعب مع الغلمان فقتل عنقه وقيل ضرب برأسه الحائط وقيل أضجعه فذبحه بالسكين «قال» أي موسى عليه الصلاة والسلام «أقتلت نفسا زكية» طاهرة من الذنوب وقرئ زاكية «بغير نفس» أي بغير قتل نفس محرمة وتخصيص نفي هذا المبيح بالذكر من بين سائر المبيحات من الكفر بعد الإيمان والزنا بعد الإحصان لأنه الأقرب إلى الوقوع نظرا إلى حال الغلام ولعل تغيير النظم الكريم بجعل ما صدر عن الخضر عليه الصلاة والسلام ههنا من جملة الشرط وإبراز ما صدر عن موسى عليه الصلاة والسلام في معرض الجزاء المقصود إفادته مع أن الحقيق بذلك إنما هو ما صدر عن الخضر عليه الصلاة والسلام من الخوارق البديعة لاستشراف النفس إلى ورود خبرها لقلة وقوعها في نفس الأمر وندرة وصول خبرها إلى الأذهان ولذلك روعيت تلك النكتة في الشرطية الأولى لما أن صدور الخوارق منه عليه الصلاة والسلام خرج بوقوعه مرة مخرج العادة فانصرفت النفس عن ترقبه إلى ترقب أحوال موسى عليه الصلاة والسلام هل يحافظ على مراعاة شرطه بموجب وعده الأكيد عند مشاهدة خارق آخر أو يسارع إلى المناقشة كما مر في المرة الأولى فكان المقصود إفادة ما صدر عنه عليه الصلاة والسلام ففعل ما فعل ولله در شأن التنزيل وأما ما قيل من أن القتل أقبح والاعتراض عليه أدخل فكان جديرا بأن يجعل عمدة في الكلام فليس من دفع الشبهة في شيء بل هو مؤيد لها فإن كون القتل أقبح من مبادى قلة صدوره عن المؤمن العاقل وندرة وصول خبره إلى الأسماع وذلك مما يستدعى جعله مقصودا بالذات وكون الاعتراض عليه أدخل من موجبات كثرة صدوره عن كل عاقل وذلك مما لا يقتضي جعله كذلك «لقد جئت شيئا نكرا» قيل معناه أنكر من الأول إذ لا يمكن تداركه كما يمكن تدارك الأول بالسد ونحوه وقيل الأمر أعظم من النكرة لأن قتل نفس واحدة أهون من إغراق أهل السفينة «قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا» زيد لك لزيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية وقلة التثبت والصبر لما تكرر منه الاشمئزاز والاستنكار ولم يرعو بالتذكير حتى زاد في النكير في المرة الثانية «قال» أي موسى عليه الصلاة والسلام «إن سألتك عن شيء بعدها» أي بعد هذه المرة «فلا تصاحبني» وقرئ من الإفعال أي لا تجعلني صاحبك «قد بلغت من لدني عذرا» أي قد أعذرت ووجدت من قبلي عذرا حيث خالفتك ثلاث مرات عن النبي صلى الله عليه وسلم رحم الله أخي موسى استحيا فقال ذلك لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب وقرئ لدني بتخفيف النون وقرئ بسكون الدال كعضد في عضد «فانطلقا حتى إذا
236 أتيا أهل قرية» هي أنطاكية وقيل أيلة وهي أبعد أرض الله من السماء وقيل هي برقة وقيل بلدة بأندلس عن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أهل قرية لئاما وقيل شر القرى التي لا يضاف فيها الضيف ولا يعرف لابن السبيل حقه وقوله تعالى «استطعما أهلها» في محل الجر على أنه صفة لقرية ولعل العدول عن استطعماهم على أن يكون صفة لأهل لزيادة تشنيعهم على سوء صنيعهم فإن الإباء من الضيافة وهم أهلها قاطنون بها أقبح وأشنع روى أيهما طافا في القرية فاستطعماهم فلم يطعموهما واستضافاهم «فأبوا أن يضيفوهما» بالتشديد وقرئ بالتخفيف من الإضافة يقال ضافه إذا كان له ضيفا وأضافه وضيفه أنزله وجعله ضيفا له وحقيقة ضاف مال إليه من ضاف السهم عن الغرض ونظيره زاره من الإزورار «فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض» أي يداني أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارفة للدلالة على المبالغة في ذلك والانقضاض الإسراع في السقوط وهو انفعال من القض يقال قضضته فانقض ومنه انقضاض الطير والكوكب لسقوطه بسرعة وقيل هو افعلال من النقض كاحمر من الحمرة وقرئ أن ينقض من النقض وأن ينقاض من انقاضت السن إذا انشقت طولا «فأقامه» قيل مسحه بيده فقام وقيل نقضه وبناه وقيل أقامه بعمود عمده به قيل كان سمكه مائة ذاع «قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا» تحريضا له على أخذ الجعل لينتعشا به أو تعريضا بأنه فضول لما في لو من النفي كأنه لما رأى الحرمان ومساس الحاجة واشتغاله بما لا يعنيه لم يتمالك الصبر واتخذ افتعل من تخذ بمعنى أخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين وقرئ لتخذت أي لأخذت وقرئ بإدغام الذال في التاء «قال» أي الخضر عليه الصلاة والسلام «هذا فراق بيني وبينك» على إضافة المصدر إلى الظرف اتساعا وقد قرئ على الأصل والمشار إليه إما نفس الفراق كما في هذا أخوك أو الوقت الحاضر أي هذا الوقت وقت فراق بيني وبينك أو السؤال الثالث أي هذا سبب ذلك الفراق حسبما هو الموعود «سأنبئك» السين للتأكيد لعدم تراخي التنبئة «بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا» التأويل رجع الشيء إلى مآله والمراد به ههنا المآل والعاقبة إذ هو المنبأ به دون التأويل وهو خلاص السفينة من اليد العادية وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبدل الأحسن واستخراج اليتيمين للكنز وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعة موسى عليه الصلاة والسلام للصبر دون أن يقال بتأويل ما فعلت أو بتأويل ما رأيت ونحوهما نوع تعريض به عليه الصلاة والسلام وعتاب «أما السفينة» التي خرقتها «فكانت لمساكين» لضعفاء لا يقدرون على مدافعه الظلمة وقيل كانت لعشرة إخوة خمسة منهم زمني وخمسة «يعملون في البحر» وإسناد العمل إلى الكل حينئذ إنما هو بطريق التغليب أو لأن عمل الوكلاء بمنزلة عمل الموكلين «فأردت أن أعيبها» أي أجعلها ذات عيب «وكان وراءهم ملك» أي أمامهم وقد قرئ به أو خلفهم وكان رجوعهم
237 عليه لا محالة واسمه جلندي بن كركر وقيل منولة بن جلندي الأزدي «يأخذ كل سفينة» أي صالحة وقد قرئ كذلك «غصبا» من أصحابها وانتصابه على أنه مصدر مبين لنوع الأخذ ولعل تفريع إرادة تعييب السفينة على مسكنة أصحابها قبل بيان خوف الغصب مع أن مدارها كلا الأمرين للاعتناء بشأنها إذ هي المحتاجة إلى التأويل وللإيذان بأن الأقوى في المدارية هو الأمر الأول ولذلك لا يبالي بتخليص سفن سائر الناس مع تحقق خوف الغصب في حقهم أيضا ولأن في التأخير فصلا بين السفينة وضميرها مع توهم رجوعه إلى الأقرب «وأما الغلام» الذي قتله «فكان أبواه مؤمنين» لم يصرح بكفرانه أو بكفره إشعارا بعدم الحاجة إلى الذكر لظهوره «فخشينا أن يرهقهما» فخفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين «طغيانا» عليهما «وكفرا» لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه ويلحق بهما شرا وبلاء أو يقرن بإيمانهما طغيانه وكفره فيجتمع في بيت واحد مؤمنان وطاغ كافر أو يعديهما بدائه ويضلهما بضلاله فيرتدا بسببه وإنما خشي الخضر عليه الصلاة والسلام منه ذلك لأن الله سبحانه أعلمه بحاله وأطلعه على سر أمره وقرئ فخاف ربك أي كره سبحانه كراهة من خاف سوء عاقبة الأمر فغيره ويجوز أن تكون القراءة المشهورة على الحكاية بمعنى فكرهنا كقوله تعالى لأهب لك «فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا» منه بأن يرزقهما بدله ولدا خيرا «منه» وفي التعرض لعنوان الربوبية والإضافة إليهما مالا يخفى من الدلالة على إرادة وصول الخير إليهما «زكاة» طهارة من الذنوب والأخلاق الرديئة «وأقرب رحما» أي رحمة وعطفا قيل ولدت لهما جارية تزوجها نبيا فولدت نبيا هدى الله تعالى على يديه أمة من الأمم وقيل ولدت سبعين نبيا وقيل أبدلهما ابنا مؤمنا مثلهما وقرئ يبدلهما بالتشديد وقرئ رحما بضم الحاء أيضا وانتصابه على التمييز مثل زكاة «وأما الجدار» المعهود «فكان لغلامين يتيمين في المدينة» هي القرية المذكورة فيما سبق ولعل التعبير عنها بالمدينة لإظهار نوع اعتداد بها باعتداد ما فيها من اليتيمين وأبيهما الصالح قيل اسماهما إصرم وصريم واسم المقتول جيسور «وكان تحته كنز لهما» من فضة وذهب كما روى مرفوعا والذم على كنزهما في في قوله عز وجل والذين يكنزون الذهب والفضة لمن لا يؤدي زكاتهما وسائر حقوقهما وقيل كان لوحا من ذهب مكتوبا فيه عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها لا إله الله محمد رسول الله وقيل
238 صحف فيها علم «وكان أبوهما صالحا» تنبيه على أن سعيه في ذلك كان لصلاحه قيل كان بينهما وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء «فأراد ربك» أي مالكك ومدبر أمورك ففي إضافة الرب إلى ضمير موسى عليه الصلاة والسلام دون ضميرهما تنبيه له عليه الصلاة والسلام على تحتم كمال الانقياد والاستسلام لإرادته سبحانه ووجوب الاحتراز عن المناقشة فيما وقع بحسبها من الأمور المذكورة «أن يبلغا أشدهما» أي حلمهما وكما رأيهما «ويستخرجا» بالكلية «كنزهما» من تحت الجدار ولولا أنى أقمته لا نقض وخرج الكنز من تحته قبل اقتدارهما على حفظ المال وتنميته وضاع «رحمة من ربك» مصدر في موقع الحال أي مرحومين منه عز وجل أو مفعول له أو مصدر مؤكد لأراد فإن إرادة الخير رحمة وقيل متعلق بمضمر أي فعلت ما فعلت من الأمور التي شاهدتها رحمة من ربك ويعضده إضافة الرب إلى ضمير المخاطب دون ضميرهما فيكون قوله عز وعلا «وما فعلته عن أمري» أي عن رأيي واجتهادي تأكيد لذلك «ذلك» إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد درجتها في الفخامة «تأويل ما لم تسطع» أي لم تستطع فحذف التاء للتخفيف «عليه صبرا» من الأمور التي رابته أي مآله وعاقبته فيكون إنجازا للتنبئة الموعودة أو إلى البيان نفسه فيكون التأويل بمعناه وعلى كل حال فهو فذلكة لما تقدم وفي جعل الصلة عين ما مر تكرير للتنكير وتشديد للعتاب تنبيه اختلفوا في حياة الخضر عليه الصلاة والسلام فقيل إنه حي وسببه إنه كان على مقدمة ذي القرنين فلما دخل الظلمات أصاب الخضر عين الحياة فنزل واغتسل منها وشرب من مائها وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد قالوا وإلياس أيضا في الحياة يلتقيان كل سنة بالموسم وقيل إنه ميت لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء ذات ليلة ثم قال أرأيتكم ليلتكم هذه فإن رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد ولو كان الخضر حينئذ حيا لما عاش بعد مائة عام روى أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يفارقه قال أوصني قال لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به «ويسألونك عن ذي القرنين» هم اليهود سألوه على وجه الامتحان أو سأله قريش بتلقينهم وصيغة الاستقبال للدلالة على استمرارهم على ذلك إلى ورود الجواب وهو ذو القرنين الأكبر واسمه الإسكندر ابن فيلفوس اليوناني وقال ابن إسحاق اسمه مر زبان بن مردبه من ولد يافث بن نوح عليه الصلاة والسلام وكان أسود وقيل اسمه عبد الله بن الضحاك وقيل مصعب بن عبد الله بن الضحاك وقيل مصعب بن عبد الله بن فينان بن منصور بن عبد الله بن الآزر بن عون بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يعرب بن قحطان وقال السهيلي قيل إن اسمه مرزبان بن مدركة ذكره ابن هشام وهو أول التبابعة وقيل إنه افريذون بن النعمان الذي قتل الضحاك وذكر أبو الريحان البيروتي في كتابه المسمى بالآثار الباقية عن القرون الخالية أن ذا القرنين هو أبو كرب سمى ابن عيرين بن افريقيس الحميري وأن ملكه بلغ مشارق الأرض ومغاربها وهو الذي افتخر به التبع اليماني حيث قال * قد كان ذو القرنين جدى مسلما * ملكا علا في الأرض غير مفند * بلغ المشارق والمغارب يبتغي * أسباب أمر من حكيم مرشد * وجعل هذا القول أقرب لأن الأذواء كانوا من اليمن كذي المنار وذي نواس وذي النون وذي
239 رعين وذي يزن وذي جدن قال الإمام الرازي والأول هو الأظهر لأن من بلغ ملكه من السعة والقوة إلى الغاية التي نطق بها التنزيل الجليل إنما هو الإسكندر اليوناني كما تشهد به كتب التواريخ يروي أنه لما مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف ثم قصد ملوك العرب وقهرهم ثم أمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر ثم عاد إلى مصر فبنى الإسكندرية وسماها باسمه ثم دخل الشأم وقصد بني إسرائيل وورد بيت المقدس وذبح في مذبحه ثم انعطف إلى أرمينية وباب الأبواب ودان له العراقيون والقبط والبربر ثم توجه نحو دار ابن دارا وهزمه مرارا إلى أن قتله صاحب حرسه واستولى على ممالك الفرس وقصد الهند وفتحه وبنى مدينة سرنديب وغيرها من المدن العظام ثم قصد الصين وغزا الأمم البعيدة ورجع إلى خراسان وبنى بها مدائن كثيرة ورجع إلى العراق ومرض بشهر زور ومات انتهى كلام الإمام وروى أن أهل النجوم قالوا له إنك لا تموت إلا على أرض من حديد وتحت سماه من خشب وكان يدفن كنز كل بلدة فيها ويكتب ذلك بصفته وموضعه فبلغ بابل فرعف وسقط عن دابته فبسطت له دروع فنام عليها فآذته الشمس فأظلوه بترس فنظر فقال هذه أرض من حديد وسماء من خشب فأيقن بالموت فمات وهو ابن ألف وستمائة سنة وقيل ثلاثة آلاف سنة قال ابن كثير وهذا غريب وأغرب منه ما قاله ابن عساكر من أنه بلغني أنه عاش ستا وثلاثين سنة أو ثنتين وثلاثين سنة وأنه كان بعد داود وسليمان عليهما السلام فإن ذلك لا ينطبق إلا على ذي القرنين الثاني كما سنذكره قلت وكذا ما ذكره الإمام من قصد بني إسرائيل وورود بيت المقدس والذبح في مذبحه فإنه مما لا يكاد يتأتى نسبته إلى الأول واختلف في نبوته بعد الاتفاق على إسلامه وولايته فقيل كان نبيا لقوله تعالى إنا مكنا له في الأرض وظاهر أنه متناول للتمكين في الدين وكماله بالنبوة ولقوله تعالى «وآتيناه من كل شيء سببا» ومن جملة الأشياء النبوة ولقوله تعالى «قلنا يا ذا القرنين» ونحو ذلك وقيل كان ملكا لما روي أن عمر رضي الله عنه سمع رجلا يقول لآخر يا ذا القرنين فقال اللهم غفرا أما رضيتم أن تتسموا بأسماء الأنبياء حتى تسميتم بأسماء الملائكة قال ابن كثير والصحيح أنه ما كان نبيا ولا ملكا وإنما كان ملكا صالحا عادلا ملك الأقاليم وقهر أهلها من الملوك وغيرهم ودانت له البلاد وأنه كان داعيا إلى الله تعالى سائرا في الخلق بالمعدلة التامة والسلطان المؤيد المنصور وكان الخضر على مقدمة جيشه بمنزلة المستشار الذي هو من الملك بمنزلة الوزير وقد ذكر الأزرقي وغيره أنه أسلم على يدي إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فطاف معه بالكعبة هو وإسماعيل عليهم السلام وروي أنه حج ماشيا فلما سمع إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقدومه تلقاه ودعا له وأوصاه بوصايا ويقال إنه أتى بفرس ليركب فقال لا أركب في بلد فيه الخليل فعند ذلك سخر له السحاب وطوى له الأسباب وبشره إبراهيم عليه الصلاة والسلام بذلك فكانت السحاب تحمله وعساكره وجميع آلاتهم إذا أرادوا غزوة قوم وقال أبو الطفيل سئل عنه على كرم الله وجهه أكان نبيا أم ملكا فقال لم يكن نبيا ولا ملكا لكن كان عبدا أحب الله فأحبه وناصح الله فناصحه سخر له السحاب ومد له الأسباب واختلف في وجه تسميته بذي القرنين فقيل لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها وقيل لأنه ملك الروم وفارس وقيل الروم والترك وقيل لأنه كان في رأسه أو في تاجه ما يشبه القرنين وقيل لأنه كان له ذؤابتان وقيل لأنه كانت صفحتا رأسه من النحاس وقيل لأنه دعا الناس إلى الله عز وجل فضرب
240 بقرنه الأيمن فمات ثم بعثه الله تعالى فضرب بقرنه الأيسر فمات ثم بعثه الله تعالى وقيل لأنه رأى في منامه أنه صعد الفلك فأخذ بقرني الشمس وقيل لأنه انقرض في عهده قرنان وقيل لأنه سخر له النور والظلمة فإذا سرى يهديه النور من أمامه وتحوطه الظلمة من ورائه وقيل لقب به لشجاعته هذا وأما ذو القرنين الثاني فقد قال ابن كثير أنه الإسكندر بن فيليس بن مصريم بن هرمس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان ابن يافث بن نونه بن شرخون بن رومية بن ثونط بن نوفيل بن رومي بن الأصفر بن العنز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليهما الصلاة والسلام كذا نسبه ابن عساكر المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندرية الذي يؤرخ بأيامه الروم وكان متأخرا عن الأول بدهر طويل أكثر من ألفي سنة كان هذا قبل المسيح عليه السلام بنحو من ثلاثمائة سنة وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف وهو الذي قتل دارا ابن دار أو أذل ملوك الفرس ووطئ أرضهم ثم قال ابن كثير وإنما بينا هذا لأن كثيرا من الناس يعتقد أنهما واحد وأن المذكور في القرآن العظيم هو هذا المتأخر فيقع بذلك خطأ كبير وفساد كثير كيف لا والأول كان عبدا صالحا مؤمنا وملكا عادلا وزيره الخضر عليه الصلاة والسلام وقد قيل إنه كان نبيا وأما الثاني فقد كان كافرا وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف وقد كان ما بينهما من الزمان أكثر من ألفي سنة فأين هذا من ذاك انتهى قلت المقدوني نسبة إلى بلد من بلاد الروم غربي دار السلطنة السنية قسطنطينية المحمية لا زالت مشحونة بالشعائر الدينية بينهما من المسافة مسيرة خمسة عشرة يوما أو نحو ذلك عند مدينة سيروز اسمها بلغة اليونانيين مقدونيا كانت سرير ملك هذا الإسكندر وهي اليوم بلقع لا يقيم بها أحد ولكن فيها علائم تحكى كمال عظمها في عهد عمرانها ونهاية شوكة واليها وسلطانها ولقد مررت بها عند القفول من بعض المغازي السلطانية فعاينت فيها من تعاجيب الآثار ما فيه عبرة لأولى الأبصار «قل» لهم في الجواب «سأتلو عليكم» أي سأذكر لكم «منه» أي من ذي القرنين «ذكرا» أي نبأ مذكور أو حيث كان ذلك بطريق الوحي المتلو حكاية عن جهة الله عز وجل قيل سأتلو أو سأتلو في شأنه من جهته تعالى ذكرا أي قرآنا والسين للتأكيد والدلالة على التحقيق المناسب لمقام تأييده عليه الصلاة والسلام وتصديقه بإنجاز وعده أي لا أترك التلاوة البتة كما في قول من قال * سأشكر عمرا إن تراخت منيتي * أيادي لم تمنى وإن هي جلت * لا الدلالة على أن التلاوة ستقع فيما يستقبل كما قيل لأن هذه الآية ما نزلت بانفرادها قبل الوحي بتمام القصة بل موصولة بما بعدها ريثما سألوه صلى الله عليه وسلم عنه وعن الروح وعن أصحاب الكهف فقال لهم صلى الله عليه وسلم ائتوني غدا أخبركم فأبطأ عليه الوحي خمسة عشرة يوما أو أربعين كما ذكر فيما سلف وقوله عز وجل «إنا مكنا له في الأرض» شروع في تلاوة الذكر المعهود حسبما هو الموعود والتمكين ههنا الإقدار وتمهيد الأسباب يقال مكنه ومكن له ومعنى الأول جعله قادرا وقويا ومعنى الثاني جعل له قدرة وقوة ولتلازمها في الوجود وتقاربهما في المعنى يستعمل كل منهما في محل الآخر كما في قوله عز وعلا مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم أي جعلناهم
241 قادرين من حيث القوى والأسباب والآلات على أنواع التصرفات فيها ما لم نجعله لكم من القوة والسعة في المال والاستظهار بالعدد والأسباب فكأنه قيل ما لم نمكنكم فيها أي ما لم نجعلكم قادرين على ذلك فيها أو مكنا لهم في الأرض ما لم نمكن لكم وهكذا إذا كان التمكين مأخوذا من المكان بناء على توهم ميمه أصلية كما أشير إليه في سورة يوسف عليه الصلاة والسلام والمعنى إنا جعلنا له مكنة وقدرة على التصرف في الأرض من يحث التدبير والرأي والأسباب حيث سخر له السحاب ومدله في الأسباب وبسط له النور وكان الليل والنهار عليه سواء وسهل عليه السير في الأرض وذللت له طرقها «وآتيناه من كل شيء» أراده من مهمات ملكه ومقاصده المتعلقة بسلطانه «سببا» أي طريقا يوصله إليه وهو كل ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة «فأتبع» بالقطع أي فأراد بلوغ المغرب فأتبع «سببا» يوصله إليه ولعل قصد بلوغ المغرب ابتداء لمراعاة الحركة الشمسية وقرئ فاتبع من الافتعال والفرق أن الأول فيه معنى الإدراك والإسراع دون الثاني «حتى إذا بلغ مغرب الشمس» أي منتهى الأرض من جهة المغرب بحيث لا يتمكن أحد من مجاوزته ووقف على حافة البحر المحيط الغربي الذي يقال له أوقيانوس الذي فيه الجزائر المسماة بالخالدات التي هي مبدأ الأطوال على أحد القولين «وجدها» أي الشمس «تغرب في عين حمئة» أي ذات حمأة وهي الطين الأسود من حمئت البئر إذا كثرت حمأتها وقرئ حامية أي حارة روى أن معاوية رضي الله عنه قرأ حامية وعنده ابن عباس رضي الله عنهما فقال حمئة فقال معاوية لعبد الله بن عمرو بن العاص كيف تقرأ قال كما يقرأ أمير المؤمنين ثم وجه إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال في ماء وطين وروى في ثأط فوافق قول ابن عباس رضي الله عنهما وليس بينهما منافاة قطعية لجواز كون العين جامعة بين الوصفين وكون الياء في الثانية منقلبة عن الهمزة لانكسار ما قبلها وأما رجوع معاوية إلى قول ابن عباس رضي الله عنهم بما سمعه من كعب مع أن قراءته محتملة ولعله لما بلغ ساحل المحيط رآها كذلك إذ ليس في مطمح بصره غير الماء كما يلوح به قوله تعالى وجدها تغرب «ووجد عندها» عند تلك العين «قوما» قيل كان لباسهم جلود لوحوش وطعامهم ما لفظه البحر وكانوا كفارا فخيره الله جل ذكره بين أن يعذبهم بالقتل وأن يدعوهم إلى الإيمان وذلك قوله تعالى «قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب» بالقتل من أول الأمر «وإما أن تتخذ فيهم حسنا» أي أمرا ذا حسن على حذف المضاف أو على طريقة إطلاق المصدر على موصوفه مبالغة وذلك بالدعوة إلى الإسلام والإرشاد إلى الشرائع ومحل أن مع صلته إما الرفع على الابتداء أو الخبرية وإما النصب على المفعولية أي إما تعذيبك واقع أو إما أمرك تعذيبك
242 أو إما تفعل تعذيبك وهكذا الحال في الاتخاذ ومن لم يقل بنبوته قال كان ذلك الخطاب بواسطة نبي في ذلك العصر أو كان ذلك إلهاما لا وحيا بعد أن كان ذلك التخيير موافقا لشريعة ذلك النبي «قال» أي ذو القرنين لذلك النبي أو لمن عنده من خواصه بعد ما تلقى أمره تعالى مختار للشق الأخير «أما من ظلم» أي نفسه ولم يقبل دعوتي وأصر على ما كان عليه من الظلم العظيم الذي هو الشرك «فسوف نعذبه» بالقتل وعن قتادة أنه كان يطبخ من كفر في القدور ومن آمن أعطاه وكساه «ثم يرد إلى ربه» في الآخرة «فيعذبه» فيها «عذابا نكرا» أي منكرا فظيعا وهو عذاب النار وفيه دلالة ظاهرة على أن الخطاب لم يكن بطريق الوحي إليه وأن مقاولته كانت مع النبي أو مع من عنده من أهل مشورته «وأما من آمن» بموجب دعوتي «وعمل» عملا «صالحا» حسبما يقتضيه الإيمان «فله» في الدارين «جزاء الحسنى» أي فله المثوبة الحسنى أو الفعلة الحسنى أو الجنة جزاء على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة قدم على المبتدأ اعتناء به أو منصوب بمضمر أي نجزي بها جزاء والجملة حالية أو معترضة بين المبتدأ والخبر المتقدم عليه أو حال أي مجزيا بها أو تمييز وقرئ منصوبا غير منون على أنه سقط تنويه لالتقاء الساكنين ومرفوعا منونا على أنه المبتدأ والحسنى بدله ولخبر الجار والمجرور وقيل خير بين القتل والأسر والجواب من باب الأسلوب الحكيم لأن الظاهر التخيير بينهما وهم كفار فقال أما الكافر فيراعى في حقه قوة الإسلام وأما المؤمن فلا يتعرض له إلا بما يجب ويجوز أن تكون إما وإما للتوزيع دون التخيير أي وليكن شأنك معهم إما التعذيب وإما الإحسان فالأول لمن بقي على حاله والثاني لمن تاب «وسنقول له من أمرنا» أي مما نأمر به «يسرا» أي سهلا متيسرا غير شاق وتقديره ذا يسر أو أطلق عليه المصدر مبالغة وقرئ بضمتين «ثم أتبع سببا» أي طريقا راجعا من مغرب الشمس موصلا إلى مشرقها «حتى إذا بلغ مطلع الشمس» يعني الموضع الذي تطلع عليه الشمس أولا من معمورة الأرض وقرئ بفتح اللام على تقدير مضاف أي مكان طلوع الشمس فإنه مصدر قيل «وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا» من اللباس والبناء قيل هم الزنج وعن كعب أن أرضهم لا تمسك الأبنية وبها أسراب فإذا طلعت الشمس دخلوا الأسراب أو البحر فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم وعن بعضهم خرجت حتى جاوزت الصين فسألت عن هؤلاء فقالوا بينك وبينهم مسيرة يوم وليلة فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه ويلبس الأخرى ومعي صاحب يعرف لسانهم فقالوا له جئتنا تنظر كيف
243 تطلع الشمس قال فبينما نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة فغشي على ثم أفقت وهم يمسحونني بالدهن فلما طلعت الشمس على الماء إذا هو فوق الماء كهيئة الزيت فأدخلونا سربا لهم فلما ارتفع النهار خرجوا إلى البحر يصطادون السمك ويطرحونه في الشمس فينضج لهم وعن مجاهد من لا يلبس الثياب من السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع أهل الأرض «كذلك» أي أمر ذي القرنين كما وصفناه لك في رفعة المحل وبسطة الملك أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير والاختيار ويجوز أن يكون صفة مصدر محذوف لوجد أو نجعل أو صفة قوم أي على قوم مثل ذلك القبيل الذي تغرب عليهم الشمس في الكفر والحكم أو سترا مثل ستركم من اللباس والأكنان والجبال وغير ذلك «وقد أحطنا بما لديه» من الأسباب والعدد والعدد «خبرا» يعني أن ذلك من الكثرة بحيث لا يحيط به إلا علم اللطيف الخبير هذا على الوجه الأول وأما على الوجوه الباقية فالمراد بما لديه ما يتناول ما جرى عليه وما صدر عنه وما لاقاه فتأمل «ثم أتبع سببا» أي طريقا ثلثا معترضا بين المشرق والمغرب آخذا من الجنوب إلى الشمال «حتى إذا بلغ بين السدين» بين الجبلين الذين سد ما بينهما وهو منقطع أرض الترك مما يلي المشرق لا جبلا أرمينية وأذربيجان كما توهم وقرئ بالضم قيل ما كان من خلق الله تعالى فهو مضموم وما كان من عمل الخلق فهو مفتوح وانتصاب بين على المفعولية لأنه مبلوغ وهو من الظروف التي تستعمل أسماء أيضا كما ارتفع في قوله تعالى لقد تقطع بينكم وانجر في قوله تعالى هذا فراق بيني وبينك «وجد من دونهما» أي من ورائهما مجاوزا عنهما «قوما» أي أمة من الناس «لا يكادون يفقهون قولا» لغرابة لغتهم وقلة فطنتهم وقرئ من باب الإفعال أي لا يفهمون السامع كلامهم واختلفوا في أنهم من أي الأقوام فقال الضحاك هم جيل من الترك وقال السدي الترك سرية من يأجوج ومأجوج خرجت فضرب ذو القرنين السد فبقيت خارجة فجميع الترك منهم وعن قتادة أنهم اثنتان وعشرون قبيلة سد ذو القرنين على إحدى وعشرين قبيلة منهم وبقيت واحدة فسموا الترك لأنهم تركوا خارجين قال أهل التاريخ أولاد نوح عليه السلام ثلاثة سام وحام ويافث فسام أبو العرب والعجم والروم وحام أبو الحبشة والزنج والنوبة ويافث أبو الترك والخزر والصقالبة ويأجوج ومأجوج «قالوا» أي بواسطة مترجمهم أو بالذات على أن يكون فهم
244 ذي القرنين كلامهم وإفهام كلامه إياهم من جملة ما آتاه الله تعالى من الأسباب «يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج» قد ذكرنا أنهما من أولاد يافث بن نوح عليه السلام وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل واختلف في صفاتهم فقيل في غاية صغر الجثة وقصر القامة لا يزيد قدهم على شبر واحد وقيل في نهاية عظم الجسم وطول القامة تبلغ قدودهم نحو مائة وعشرين ذراعا وفيهم من عرضه كذلك وقيل لهم مخالب وأضراس كالسباع وهما اسمان أعجميان بدليل منع الصرف وقيل عربيان من أج الظليم إذا أسرع وأصلهما الهمزة كما قرأ عاصم وقد قرئ بغير همزة ومنع صرفهما للتعريف والتأنيث «يفسدون في الأرض» أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلاف الزروع قيل كانوا يخرجون أيام الربيع فلا يتركون أخضر إلا أكلوه ولا يابسا إلا احتملوه وقيل كانوا يأكلون الناس أيضا «فهل نجعل لك خرجا» أي جعلا من أموالنا والفاء لتفريع العرض على إفسادهم في الأرض وقرئ خراجا وكلاهما واحد كالنول والنوال وقيل الخراج ما على الأرض والذمة والخرج المصدر وقيل الخرج ما كان على كل رأس والخراج ما كان على البلد وقيل الخرج ما تبرعت به والخراج ما لزمك أداؤه «على أن تجعل بيننا وبينهم سدا» وقرئ بالضم «قال ما مكني» بالإدغام وقرئ بالفك أي ما مكنني «فيه ربي» وجعلني فيه مكينا قادرا من الملك والمال وسائر الأسباب «خير» أي مما تريدون أن تبذلوه إلى من الخرج فلا حاجة بي إليه «فأعينوني بقوة» أي بفعلة وصناع يحسنون البناء والعمل وبآلات لابد منها في البناء والفاء لتفريع الأمر بالإعانة على خيرية ما مكنه الله تعالى فيه من مالهم أو على عدم قبول خرجهم «اجعل» جواب للأمر «بينكم وبينهم» تقديم إضافة الظرف إلى ضمير المخاطبين على إضافته إلى ضمير يأجوج ومأجوج لإظهار كمال العناية بمصالحهم كما راعوه في قولهم بيننا وبينهم «ردما» أي حاجزا حصينا وبرزخا متينا وهو أكبر من السد وأوثق يقال ثوب مردم أي فيه رقاع فوق رقاع وهذا إسعاف بمرامهم فوق ما يرجونه «آتوني زبر الحديد» جمع زبرة كغرف في غرفة وهي القطعة الكبيرة وهذا لا ينافي رد خراجهم لأن المأمور به الإيتاء بالثمن أو المناولة كما ينبئ عنه القراءة بوصل الهمزة أي جيئوني بزبر الحديد على حذف الباء كما في أمرتك الخير ولأن إيتاء الآلة من قبيل الإعانة بالقوة دون الخراج على العمل ولعل تخصيص الأمر بالإيتاء بها دون سائر الآلات من الصخور والحطب ونحوهما لما أن الحاجة إليها أمس إذ هي الركن في السد ووجودها أعز قيل حفر للأساس حتى بلغ الماء وجعل الأساس من الصخر والنحاس المذاب والبنيان من زبر الحديد بينها الحطب والفحم حتى سد ما بين الجبلين إلى أعلاهما وكان مائة فرسخ وذلك قوله عز قائلا «حتى إذا ساوى بين الصدفين» أي أتوه إياها فأخذ يبني شيئا فشيئا حتى إذا جعل ما بين ناحيتي الجبلين من البنيان مساويا لهما
245 في السمك على النهج المحكي قيل كان ارتفاعه مائتي ذراع وعرضه خمسين ذراعا وقرئ سوى من التسوية وسووي على البناء للمجهول «قال» للعملة «انفخوا» أي بالكيران في الحديد المبني ففعلوا «حتى إذا جعله» أي المنفوخ فيه «نارا» أي كالنار في الحرارة والهيئة وإسناد الجعل المذكور إلى ذي القرنين مع أنه فعل الفعلة للتنبيه على أنه العمدة في ذلك وهم بمنزلة الآلة «قال» للذين يتولون أمر النحاس من الإذابة ونحوها «آتوني أفرغ عليه قطرا» أي آتوني قطرا أي نحاسا مذابا أفرغ عليه قطرا فحذف الأول لدلالة الثاني عليه وقرئ بالوصل أي جيئوني كأنه يستدعيهم للإعانة باليد عند الإفراغ وإسناد الإفراغ إلى نفسه للسر الذي وقفت عليه آنفا وكذا الكلام في قوله تعالى ساوى وقوله تعالى أجعل «فما اسطاعوا» بحذف تاء الافتعال تخفيفا وحذرا عن تلاقي المتقاربين وقرئ بالإدغام وفيه جمع بين الساكنين على غير حده وقرئ بقلب السين صادا والفاء فصيحة أي فعلوا ما أمروا به من إيتاء القطر أو الإتيان فأفرغه عليه فاختلط والتصق بعضه ببعض فصار جبلا صلدا فجاء يأجوج ومأجوج فقصدوا أن يعلوه وينقبوه فما استطاعوا «أن يظهروه» أي يعلوه ويرقوا فيه لارتفاعه وملاسته «وما استطاعوا له نقبا» لصلابته وثخانته وهذه معجزة عظيمة لأن تلك الزبر الكثيرة إذا أثرت فيها حرارة النار لا يقدر الحيوان على أن يحوم حولها فضلا عن النفخ فيها إلى أن تكون كالنار أو عن إفراغ القطر عليها فكأنه سبحانه وتعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك المباشرين للأعمال فكان ما كان والله على كل شيء قدير وقيل بناه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض بكلاليب من حديد ونحاس مذاب في تجاويفها بحيث لم يبق هناك فرجة أصلا «قال» أي ذو القرنين لمن عنده من أهل تلك الديار وغيرهم «هذا» إشارة إلى السد وقيل إلى تمكينه من بنائه والفضل للمتقدم أي هذا الذي ظهر على يدي وحصل بمباشرتي من السد الذي شأنه ما ذكر من المتانة وصعوبة المنال «رحمة» أي أثر رحمة عظيمة عبر عنه بها مبالغة «من ربي» على كافة العباد لا سيما على مجاوريه وفيه إيذان بأنه ليس من قبيل الآثار الحاصلة بمباشرة الخلق عادة بل هو إحسان إلهي محض وإن ظهر بمباشرتي والتعرض لوصف الربوبية لتربية معنى الرحمة «فإذا جاء وعد ربي» مصدر بمعنى المفعول وهو يوم القيامة لا خروج يأجوج ومأجوج كما قيل إذ لا يساعده النظم الكريم والمراد بمجيئة ما ينتظم مجيئه ومجئ مباديه من خروجهم وخروج الدجال ونزول عيسى عليه الصلاة والسلام ونحو ذلك لا دنو وقوعه فقط كما قيل فإن بعض الأمور التي ستحكى تقع بعد مجيئه حتما «جعله» أي السد المشار إليه مع متانته ورصانته وفيه من الجزالة ما ليس في توجيه الإشارة السابقة إلى التمكين المذكور «دكاء» أي أرضا مستوية وقرئ دكا أي مدكوكا مسوى بالأرض وكل ما انبسط بعد ارتفاع فقد اندك ومنه الجمل الأدك أي المنبسط السنام وهذا الجعل وقت مجيء الوعد بمجيء بعض مباديه وفيه بيان لعظم قدرته عز
246 وجل بعد بيان سعة رحمته «وكان وعد ربي» أي وعده المعهود أو كل ما وعد به فيدخل فيه ذلك دخولا أوليا «حقا» ثابتا لا محالة واقعا البتة وهذه الجملة تذييل من ذي القرنين لما ذكره من الجملة الشرطية ومقرر مؤكد لمضمونها وهو آخر ما حكى من قصته وقوله عز وجل «وتركنا بعضهم» كلام مسوق من جنابه تعالى معطوف على قوله تعالى جعله دكاء ومحقق لمضمونه أي جعلنا بعض الخلائق «يومئذ» أي يوم إذ جاء الوعد بمجيء بعض مباديه «يموج في بعض» آخر منهم يضطربون اضطراب أمواج البحر ويختلط إنسهم وجنهم حيارى من شدة الهول ولعل ذلك قبل النفخة الأولى أو تركنا بعض يأجوج ومأجوج يموج في بعض آخر منهم حين يخرجون من السد مزدحمين في البلاد روى أنهم يأتون البحر فيشربون ماءه ويأكلون دوابه ثم يأكلون الشجر ومن ظفروا به ممن لم يتحصن منهم من الناس ولا يقدرون أن يأتوا مكة والمدينة وبيت المقدس ثم يبعث الله عز وجل نغفا في أقفائهم فيدخل آذانهم فيموتون موت نفس واحدة فيرسل الله تعالى عليهم طيرا فتلقيهم في البحر ثم يرسل مطرا يغسل الأرض ويطهرها من نتنهم حتى يتركها كالزلفة ثم يوضع فيها البركة وذلك بعد نزول عيسى عليه الصلاة والسلام وقتل الدجال «ونفخ في الصور» هي النفخة الثانية بقضية الفاء في قوله تعالى «فجمعناهم» ولعل عدم التعرض لذكر النفخة الأولى لأنها داهية عامة ليس فيها حالة مختصة بالكفار ولئلا يقع الفصل بين ما يقع في النشأة الأولى من الأحوال والأهوال وبين ما يقع منها في النشأة الآخرة أي جمعنا الخلائق بعدما تفرقت أوصالهم وتمزقت أجسادهم في صعيد واحد للحساب والجزاء «جمعا» أي جمعا عجيبا لا يكتنه كنهه «وعرضنا جهنم» أي أظهرناها وأبرزناها «يومئذ» أي يوم إذ جمعنا الخلائق كافة «للكافرين» منهم حيث جعلناها بحيث يرونها ويسمعون لها تغيظا وزفيرا «عرضا» أي عرضا فظيعا هائلا لا يقادر قدره وتخصيص العرض بهم مع أنها بمرأى من أهل الجمع قاطبة لأن ذلك لأجلهم خاصة «الذين كانت أعينهم» وهم في الدنيا «في غطاء» كثيف وغشاوة غليظة محاطة بذاك من جميع الجوانب «عن ذكري» عن الآيات المؤدية لأولى الأبصار المتدبرين فيها إلى ذكرى بالتوحيد والتمجيد أو كانت أعين بصائرهم في غطاء عن ذكري على وجه يليق بشأني أو عن القرآن الكريم «وكانوا» مع ذلك «لا يستطيعون» لفرط تصامهم عن الحق وكمال عداوتهم للرسول صلى الله عليه وسلم «سمعا» استماعا لذكرى وكلامي الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وهذا تمثيل لإعراضهم عن الأدلة السمعية كما أن الأول تصوير لتعاميهم عن الآيات المشاهدة بالأبصار والموصول نعت للكافرين أو بدل منه أو بيان جيء به لذمهم بما في حيز الصلة وللإشعار بعليته لإصابة ما أصابهم من عرض جهنم لهم
247 فإن ذلك إنما هو لعدم استعمال مشاعرهم فيما عرض لهم في الدنيا من الآيات وإعراضهم عنها مع كونها أسبابا منجية عما ابتلوا به في الآخرة «أفحسب الذين كفروا» أي كفروا بي كما يعرب عنه قوله تعالى عبادي والحسبان بمعنى الظن وقد قرئ أفظن والهمزة للإنكار والتوبيخ على معنى إنكار الواقع واستقباحه كما في قولك أضربت أباك لا إنكار الوقوع كما في قوله أضرب أبى والفاء للعطف على مقدر يفصح عنه الصلة على توجيه الإنكار والتوبيخ إلى المعطوفين جميعا كما إذا قدر المعطوف عليه في قوله تعالى أفلا تعقلون منفيا أي ألا تسمعون فلا تعقلون لا إلى المعطوف فقط كما إذا قدر مثبتا أي أتسمعون فلا تعقلون والمعنى أكفروا بي مع جلالة شأني فحسبوا «أن يتخذوا عبادي من دوني» من الملائكة وعيسى وعزير عليهم السلام وهم تحت سلطاني وملكوتي «أولياء» معبودين ينصرونهم من بأسي وما قيل إنها للعطف على ما قبلها من قوله تعالى كانت الخ وكانوا الخ دلالة على أن الحسبان ناشيء من التعامي والتصام وأدخل عليها همزة الإنكار ذما على ذم وقطعا له عن المعطوف عليهما لفظا لا معنى للإيذان بالاستقلال المؤكد للذم يأباه ترك الإضمار والتعرض لوصف آخر غير التعامي والتصام على أنهما أخرجا مخرج الأحوال الجبلية لهم ولم يذكروا من حيث أنهما من أفعالهم الاختيارية الحادثة كحسبانهم ليحسن تفريعه عليهما وأيضا فإنه دين قديم لهم لا يمكن جعله ناشئا عن تصامهم عن كلام الله عز وجل وتخصيص الإنكار بحسبانهم المتأخر عن ذلك تعسف لا يخفى وما في حيز صلة أن ساد مسد مفعولي حسب كما في قوله تعالى وحسبوا أن لا تكون فتنة أي أفحسبوا أنهم يتخذونهم أولياء على معنى أن ذلك ليس من الاتخاذ في شيء لما أنه إنما يكون من الجانبين وهم عليهم الصلاة والسلام منزهون عن ولايتهم بالمرة لقولهم سبحانك أنت ولينا من دونهم وقيل مفعوله الثاني محذوف أي أفحسبوا اتخاذهم نافعا لهم والوجه هو الأول لأن في هذا تسليما لنفس الاتخاذ واعتدادا به في الجملة وقرئ أفحسب الذين كفروا أي أفحسبهم وكافيهم أن يتخذوهم أولياء على الابتداء والخبر أو الفعل والفاعل فإن النعت إذا اعتمد الهمزة ساوى الفعل في العمل فالهمزة حينئذ بمعنى إنكار الوقوع «إنا اعتدنا جهنم» أي هيأناها «للكافرين» المعهودين عدل عن الإضمار ذما لهم وإشعارا بأن ذلك الاعتاد بسبب كفرهم المتضمن لحسبانهم الباطل «نزلا» أي شيئا يتمتعون به عند ورودهم وهو ما يقام للنزيل أي الضيف مما حضر من الطعام وفيه تخطئه لهم في حسبانهم وتهكم بهم حيث كان اتخاذهم إياهم أولياء من قبيل إعتاد العتاد وإعداد الزاد ليوم المعاد فكأنه قيل إنا اعتدنا لهم مكان ما أعدوا لأنفسهم من العدة والذخر جهنم عدة وفي إيراد النزل إيماء إلى أن لهم وراء جهنم من العذاب ما هو أنموذج له وقيل النزل موضع النزول ولذلك فسره ابن عباس رضي الله عنهما بالمثوى «قل هل ننبئكم» الخطاب الثاني للكفرة على وجه
248 التوبيخ والجمع في صيغة المتكلم لتعيينه من أول الأمر وللإيذان بمعلومية النبأ للمؤمنين أيضا «بالأخسرين أعمالا» نصب على التمييز والجمع للإيذان بتنوعها وهذا بيان لحال الكفرة باعتبار ما صدر عنهم من الأعمال الحسنة في أنفسها وفي حسبانهم أيضا حيث كانوا معجبين بها واثقين بنيل ثوابها ومشاهدة آثارها غب بيان حالهم باعتبار أعمالهم السيئة في أنفسها مع كونها حسنة في حسبانهم «الذين ضل سعيهم» في إقامة تلك الأعمال أي ضاع وبطل بالكلية «في الحياة الدنيا» متعلق بالسعي لا بالضلال لأن بطلان سعيهم غير مختص بالدنيا قيل المراد بهم أهل الكتابين قاله ابن عباس وسعد بن أبي وقاص ومجاهد رضي الله عنهم ويدخل في الأعمال حينئذ ما عملوه من الأحكام المنسوخة المتعلقة بالعبادات وقيل الرهابنة الذين يحبسون أنفسهم في الصوامع ويحملونها على الرياضات الشاقة ولعله ما يعمهم وغيرهم من الكفرة ومحل الموصول الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف لأنه جواب للسؤال كأنه قيل من هم فقيل الذين الخ وجعله مجرورا على أنه نعت للأخسرين أو بدل منه أو منصوبا على الذم على أن الجواب ما سيأتي من قوله تعالى أولئك الآية يأباه أن صدره ليس منبئا عن خسران الأعمال وضلال السعي كما يستدعيه مقام الجواب والتفريع الأول وإن دل على حبوطها لكنه ساكت عن أنباء ما هو العمدة في تحقيق معنى الخسران من الوثوق بترتب الربح واعتقاد النفع فيما صنعوا على أن التفريع الثاني مما يقطع ذلك الاحتمال رأسا إذ لا مجال لإدراجه تحت الأمر بقضية نون العظمة «وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا» الإحسان الإتيان بالأعمال على الوجه اللائق وهو حسنها الوصفي المستلزم لحسنها الذاتي أي يحسبون أنهم يعملون ذلك على الوجه اللائق وذلك لإعجابهم بأعمالهم التي سعوا في إقامتها وكابدوا في تحصيلها والجملة حال من فاعل ضل أي بطل سعيهم المذكور والحال أنهم يحسبون أنهم يحسنون في ذلك وينتفعون بآثاره أو من المضاف إليه لكونه في محل الرفع نحو قوله تعالى إليه مرجعكم جميعا أي بطل سعيهم والحال أنهم الخ والفرق بينهما أن المقارن لحال حسبانهم المذكور في الأول ضلال سعيهم وفي الثاني نفس سعيهم والأول أدخل في بيان خطئهم «أولئك» كلام مستأنف من جنابه تعالى مسوق لتكميل تعريف الأخسرين وتبيين سبب خسرانهم وضلال سعيهم وتعيينهم بحيث ينطبق التعريف على المخاطبين غير داخل تحت الأمر أي أولئك المنعوتون بما ذكر من ضلال السعي مع الحسبان المزبور «الذين كفروا بآيات ربهم» بدلائله الداعية إلى التوحيد عقلا ونقلا والتعرض لعنوان الربوبية لزيادة تقبيح حالهم في الكفر المذكور «ولقائه» بالبعث وما يتبعه من أمور الآخرة على ما هي عليه «فحبطت» لذلك «أعمالهم» المعهودة حبوطا كليا «فلا
249 نقيم لهم» أي لأولئك الموصوفين بما مر من حبوط الأعمال وقرئ بالياء «يوم القيامة وزنا» أي فنزدريهم ولا نجعل لهم مقدارا واعتبارا لأن مداره الأعمال الصالحة وقد حبطت بالمرة وحيث كان هذا الازدراء من عواقب حبوط الأعمال عطف عليه بطريق التفريع وأما ما هو من أجزيه الكفر فسيجئ بعد ذلك أولا نضع لأجل وزن أعمالهم ميزانا لأنه إنما يوضع لأهل الحسنات والسيئات من الموحدين ليتميز به مقادير الطاعات والمعاصي ليترتب عليه التكفير أو عدمه لأن ذلك في الموحدين بطريق الكمية وأما الكفر فإحباطه للحسنات بحسب الكيفية دون الكمية فلا يوضع لهم الميزان قطعا «ذلك» بيان لمآل كفرهم وسائر معاصيهم إثر بيان مآل أعمالهم المحبطة بذلك أي الأمر ذلك وقوله عز وجل «جزاؤهم جهنم» جملة مبينة له أو ذلك مبتدأ والجملة خبره والعائد محذوف أي جزاؤهم به أو جزاؤهم بدله وجهنم خبره أو جزاؤهم خبره وجهنم عطف بيان للخبر «بما كفروا» تصريح بأن ما ذكر جزاء لكفرهم المتضمن لسائر القبائح التي أنبأ عنها قوله تعالى «واتخذوا آياتي ورسلي هزوا» أي مهزوا بهما فإنهم لم يقتنعوا بمجرد الكفر بالآيات والرسل بل ارتكبوا مثل تلك العظيمة أيضا «إن الذين آمنوا» بيان بطريق الوعد لمآل الذين اتصفوا بأضداد ما اتصف به الكفرة إثر بيان مآلهم بطريق الوعيد أي آمنوا بآيات ربهم ولقائه «وعملوا الصالحات» من الأعمال «كانت لهم» فيما سبق من حكم الله تعالى ووعده وفيه إيماء إلى أن أثر الرحمة يصل إليهم بمقتضى الرأفة الأزلية بخلاف ما مر من جعل جهنم للكافرين نزلا فإنه بموجب ما حدث من سوء اختيارهم «جنات الفردوس» عن مجاهد أن الفردوس هو البستان بالرومية وقال عكرمة هو الجنة بالحبشية وقال الضحاك هو الجنة الملتفة الأشجار وقيل هي الجنة التي تنبت ضروبا من النبات وقيل هي الجنة من الكرم خاصة وقيل ما كان غالبه كرما وقال المبرد هو فيما سمعت من العرب الشجر الملتف والأغلب عليه أن يكون من العنب وعن كعب أنه ليس في الجنان أعلى من جنة الفردوس وفيها الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة مائة درجة ما بين كل درجة مسيرة مائة عام والفردوس أعلاها وفيها الأنهار الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإن فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة «نزلا» خبر كانت والجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه حال من نزلا أو على أنه بيان أو حال من جنات الفردوس والخبر هو الجار والمجرور فإن جعل النزول بمعنى ما يهيأ للنازل فالمعنى كانت لهم ثمار جنات الفردوس نزلا أو جعلت نفس الجنات نزلا مبالغة في الإكرام وفيه إيذان بأنها عند ما أعد الله لهم على ما جرى على لسان النبوة من قوله أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بمنزلة النزل بالنسبة إلى الضيافة وإن جعل بمعنى المنزل فالمعنى ظاهر
250 (خالدين فيها) نصب على الحالية (لا يبغون عنها حولا) مصدر كالعوج والصغر أي لا يطلبون تحولا عنها إذ لا يتصور أن يكون شيء أعز عندهم وأرفع منها حتى تنازعهم إليه أنفسهم وتطمح نحوه أبصارهم ويجوز أن يراد نفي التحول وتأكيد الخلود والجملة حال من صاحب خالدين أو من ضميره فيه فيكون حالا متداخلة (قل لو كان البحر) أي جنس البحر (مدادا) وهو ما تمد به الدواة من الحبر (لكلمات ربي) لتحرير كلمات علمه وحكمته التي من جملتها ما ذكر من الآيات الداعية إلى التوحيد المحذرة من الإشراك (لنفذ البحر) مع كثرته ولم يبق منه شيء لتناهيه (قبل أن تنفد) وقرئ بالياء والمعنى من غير أن تنفد (كلمات ربي) لعدم تناهيها فلا دلالة للكلام على نفادها بعد نفاد البحر وفي إضافة الكلمات إلى اسم الرب المضاف إلى ضميره صلى الله عليه وسلم في الموضعين من تفخيم المضاف وتشريف المضاف إليه ما لا يخفى وإظهار البحر والكلمات في موضع الإضمار لزيادة التقرير (ولو جئنا) كلام من جهته تعالى غير داخل في الكلام الملقن جيء به لتحقيق مضمونه وتصديق مدلوله مع زيادة مبالغة وتأكيد والواو لعطف الجملة على نظيرتها المستأنفة المقابلة لها المحذوفة لدلالة المذكورة عليها دلالة واضحة أي لنفد البحر من غير نفاد كلماته تعالى لو لم نجيء بمثله مدادا ولو جئنا بقدرتنا الباهرة (بمثله مدادا) عونا وزيادة لأن مجموع المتناهيين متناه بل مجموع ما يدخل تحت الوجود من الأجسام لا يكون إلا متناهيا لقيام الأدلة القاطعة على تناهي الأبعاد وقرئ مدادا جمع مدة وهي ما يستمده الكاتب وقرئ مدادا (قل) لهم بعد ما بينت لهم شأن كلماته تعالى (إنما أنا بشر مثلكم) لا أدعي الإحاطة بكلماته التامة (بوحي إلى) من تلك الكلمات (إنما إلهكم إله واحد) لا شريك له في الخلق ولا في سائر أحكام الألوهية وإنما تميزت عنكم بذلك (فمن كان يرجو لقاء ربه) الرجاء توقع وصول الخير في المستقبل والمراد بلقائه تعالى كرامته وإدخال الماضي على المستقبل للدلالة على أن اللائق بحال المؤمن الاستمرار والاستدامة على رجاء اللقاء أي فمن استمر على رجاء كرامته تعالى (فليعمل) لتحصيل تلك الطلبة العزيزة (عملا صالحا) في نفسه لائقا بذلك المرجو كما فعله الذين آمنوا وعملوا الصالحات (ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) إشراكا جليا كما فعله الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه ولا إشراكا خفيا كما يفعله أهل الرياء ومن يطلب به أجرا وإيثار وضع المظهر موضع المضمر في الموضعين مع التعرض لعنوان الربوبية لزيادة التقرير وللإشعار بعلية العنوان للأمر والنهي ووجوب الامتثال فعلا وتركا روى أن جندب بن زهير رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إني لأعمل العمل لله تعالى فإذا اطلع عليه سرني فقال صلى الله عليه وسلم إن الله لا يقبل ما شورك فيه
251 فنزلت تصديقا له وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له لك أجران أجر السر وأجر العلانية وذلك إذا قصد أن يقتدي به وعنه صلى الله عليه وسلم اتقوا الشرك الأصغر قيل وما الشرك الأصغر قال الرياء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة الكهف من آخرها كانت له نورا من قرنه إلى قدمه ومن قرأها كلها كانت له نورا من الأرض إلى السماء وعنه صلى الله عليه وسلم من قرأ عند مضجعه قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي الخ كان له مضجعه نورا يتلألأ إلى مكة حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يقوم وإن كان مضجعه بمكة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى البيت المعمور حشو ذلك النور ملائكة يصلون عليه حتى يستيقظ الحمد لله سبحانه على نعمه العظام سورة مريم عليها السلام مكية إلا الآيات 58 و 71 فمدنيتان وآيتها 98 بسم الله الرحمن الرحيم (كهيعص) بإمالة الهاء والياء وإظهار الدال وقرئ بفتح الهاء وإمالة الياء وبتفخيمهما وبإخفاء النون قبل الصاد لتقاربهما وقد سلف أن مالا يكون من هذه الفواتح مفردة ولا موازنة لمفرد فطريق التلفظ بها الحكاية فقط ساكنة الأعجاز على الوقف سواء جعلت أسماء للسور أو مسرودة على نمط التعديد وإن لزمها التقاء الساكنين لكونه مغتفرا في باب الوقف قطعا فحق هذه الفاتحة الكريمة أن يوقف عليها جريا على الأصل وقرئ بإدغام الدال فيما بعدها لتقاربهما في المخرج فإن جعلت اسما للسورة على ما عليه إطباق الأكثر فمحله الرفع إما على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير هذا كهيعص أي مسمى به وإنما صحت الإشارة إليه مع عدم جريان ذكره لأنه باعتبار كونه على جناح الذكر صار في حكم الحاضر المشاهد كما يقال هذا ما اشترى فلان أو على أنه مبتدأ خبره (ذكر رحمة ربك) أي المسمى به ذكر رحمة الخ فإن ذكرها لما كان مطلع السورة الكريمة ومعظم ما انطوت هي عليه جعلت كأنها نفس ذكرها والأول هو الأولى لأن ما يجعل عنوانا للموضوع حقه أن يكون معلوم الانتساب إليه عند المخاطب وإذ لا علم بالتسمية من قبل فحقها الإخبار بها كما في الوجه الأول وإن جعلت مسرودة على نمط التعديد حسما جنح إليه أهل التحقيق فذكر الخ خبر لمبتدأ محذوف هو ما ينبئ عنه تعديد الحروف كأنه قيل المؤلف من جنس هذه الحروف المبسوطة مرادا به السورة ذكر الرحمة الخ أو اسم إشارة أشير به إليه تنزيلا لحضور المادة منزلة حضور المؤلف منها أي هذا ذكر رحمة الخ وقيل هو مبتدأ قد حذف خبره
252 أي فيما يتلى عليك ذكرها وقرئ ذكر رحمة ربك على صيغة الماضي من التذكير أي هذا المتلو ذكرها وقرئ ذكر على صيغة الأمر والتعرض لوصف الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال مع الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم للإيذان بأن تنزيل السورة عليه صلى الله عليه وسلم تكميل له صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى (عبده) مفعول لرحمة ربك على أنها مفعول لما أضيف إليها وقيل للذكر على أنه مصدر أضيف إلى فاعله على الاتساع ومعنى ذكر الرحمة بلوغها وإصابتها كما يقال ذكرني معروف فلان أي بلغني وقوله عز وعلا (زكريا) بدل منه أو عطف بيان له (إذ نادى ربه نداء خفيا) ظرف لرحمة ربك وقيل لذكر على أنه مضاف إلى فاعله اتساعا لا على الوجه الأول لفساد المعنى وقيل هو بدل اشتمال من زكريا كما في قوله واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت ولقد راعى عليه الصلاة والسلام حسن الأدب في إخفاء دعائه فإنه مع كونه بالنسبة إليه عز وجل كالجهر أدخل في الإخلاص وأبعد من الرياء وأقرب إلى الخلاص عن لائمة الناس على طلب الولد لتوقفه على مباد لا يليق به تعاطيها في أوان الكبر والشيخوخة وعن غائلة مواليه الذين كان يخافهم وقيل كان ذلك منه عليه السلام لضعف الهرم قالوا كان سنة حينئذ ستين وقيل خمسا وستين وقيل سبعين وقيل خمسا وسبعين وقيل ثمانين وقيل أكثر منها كما مر في تفسير سورة آل عمران (قال) جملة مفسرة لنادى لا محل لها من الإعراب (رب إني وهن العظم مني) إسناد الوهن إلى العظم لما أنه عماد البدن ودعام الجسد فإذا أصابه الضعف والرخاوة أصاب كله أو لأنه أشد أجزائه صلابة وقواما وأقلها تأثرا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن وإفراده للقصد إلى الجنس المنبئ عن شمول الوهن لكل فرد من أفراده ومنى متعلق بمحذوف هو حال من العظم وقرئ وهن بكسر الهاء وبضمها أيضا وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها (واشتغل الرأس شيبا) شبه عليه الصلاة والسلام الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرجه مخرج التمييز وأطلق الرأس اكتفاء بما قيد به العظم وفيه من فنون البلاغة وكمال الجزالة مالا يخفى حيث كان الأصل اشتعل شيب رأسي فأسند الاشتعال إلى الرأس كما ذكر لإفادة شموله لكلها فإن وزانه بالنسبة إلى الأصل وزان اشتعل بيته نارا بالنسبة إلى اشتعل النار في بيته ولزيادة تقريره بالإجمال أولا والتفصيل ثانيا ولمزيد تفخيمه بالتنكير وقرئ بإدغام السين في الشين (ولم أكن بدعائك رب شقيا) أي ولم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي والجملة معطوفة على ما قبلها أو حال من ضمير المتكلم إذ المعنى واشتعل رأسي شيبا وهذا توسل منه عليه الصلاة والسلام بما سلف منه من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة ويستجلب الرأفة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعد ما عود عبده بالإجابة دهرا طويلا لا يكاد
253 يخيبه أبدا لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إضافة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لا سيما توسيطه بين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع ولذلك قيل إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته (وإني خفت الموالي) عطف على قوله تعالى إني وهن العظم مترتب مضمونه على مضمونه فإن ضعف القوي وكبر السن من مبادئ خوفه عليه السلام من يلي أمره بعد موته ومواليه بنو عمه وكانوا أشرار بني إسرائيل فخاف أن لا يحسنوا خلافته في أمته ويبدلوا عليهم دينهم وقوله (من ورائي) أي بعد موتي متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أي فعل الموالي من بعدي أو جور الموالي وقد قرئ كذلك أو بما في الموالي من معنى الولاية أي خفت الذين يلون الأمر من ورائي لا يخفت لفساد المعنى وقرئ ورأي بالقصر وفتح الياء وقرئ خفت الموالي من ورائي أي قلوا وعجزوا عن القيام بأمور الدين بعدي أو خفت الموالي القادرون على إقامة مراسم الملة ومصالح الأمة من خف القوام أي ارتحلوا مسرعين أي درجوا قدامي ولم يبق منهم من به تقو واعتضاد فالظرف حينئذ متعلق بخفت (وكانت امرأتي عاقرا) أي لا تلد من حين شبابها (فهب لي من لدنك) كلا الجارين متعلق بهب لاختلاف معنييهما فاللام صلة له ومن لابتداء الغاية مجازا وتقديم الأول لكون مدلوله أهم عنده ويجوز تعلق الثاني بمحذوف وقع حالا من المفعول ولدن في الأصل ظرف بمعنى أول غاية زمان أو مكان أو غيرهما من الذوات وقد مر تفصيله في أوائل سورة آل عمران أي أعطني من محض فضلك الواسع وقدرتك الباهرة بطريق الاختراع لا بواسطة الأسباب العادية (وليا) أي ولدا من صلبي وتأخيره عن الجارين لإظهار كمال الاعتناء بكون الهبة له على ذلك الوجه البديع مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مستشرفة فعند وروده لها يتمكن عندها فضل تمكن ولأن فيه نوع طول بما بعده من الوصف فتأخيرهما عن الكل أو توسيطهما بين الموصوف والصفة مما لا يليق بجزالة النظم الكريم والفاء لترتيب ما بعدها على ما قيلها فإن ما ذكره عليه الصلاة والسلام من كبر السن وضعف القوى وعقر المرأة موجب لانقطاع رجائه عليه السلام عن حصول الولد بتوسط الأسباب العادية واستيهابه على الوجه الخارق للعادة ولا يقدح في ذلك أن يكون هناك داع آخر إلى الإقبال على الدعاء المذكور من مشاهدته عليه السلام للخوارق الظاهرة في حق مريم كما يعرب عنه قوله تعالى هنالك دعا زكريا ربه الآية وعدم ذكره ههنا للتعويل على ذكره هناك كما أن عدم ذكر مقدمة الدعاء هناك للاكتفاء بذكره ههنا فإن الاكتفاء بما ذكر في موطن عما ترك في موطن آخر من النكت التنزيلية وقوله تعالى (يرثني) صفة لوليا وقرئ هو وما عطف عليه بالجزم جوابا للدعاء أي يرثني من حيث العلم والدين والنبوة فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يورثون المال قال صلى الله عليه وسلم
254 نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة وقيل يرثني الحبورة وكان عليه السلام حبرا (ويرث من آل يعقوب) يقال ورثه وورث منه لغتان وآل الرجل خاصته الذين يؤول إليه أمرهم للقرابة أو الصحبة أو الموافقة في الدين وكانت زوجة زكريا أخت أم مريم أي ويرث منهم الملك قيل هو يعقوب بن إسحاق ابن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام وقال الكلبي ومقاتل هو يعقوب بن ماثان أخو عمران بن ماثان من نسل سليمان عليه السلام وكان آل يعقوب أخوال يحيى بن زكريا قال الكلبي كان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وملوكهم وكان زكريا رئيس الأحبار يومئذ فأراد أن يرثه ولده حبورته ويرث من بني ماثان ملكهم وقرئ ويرث وارث آل يعقوب على أنه حال من المستكن في يرث وقرئ أو يرث آل يعقوب بالتصغير ففيه إيماء إلى وراثته عليه السلام لما يرثه في حالة صغره وقرئ وارث من آل يعقوب على أنه فاعل يرثني على طريقة التجريد أي يرثني به وارث وقيل من للتبعيض إذ لم يكن كل آل يعقوب عليه السلام أنبياء ولا علماء (واجعله رب رضيا) مرضيا عندك قولا وفعلا وتوسيط رب بين مفعولي اجعل للمبالغة في الاعتناء بشأن ما يستدعيه (يا زكريا) على إرادة القول أي قال تعالى يا زكريا (إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى) لكن لا بأن يخاطبه عليه الصلاة والسلام بذلك بالذات بل بواسطة الملك على أن يحكي له عليه الصلاة والسلام هذه العبارة عنه عز وجل على نهج قوله تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا الآية وقد مر تحقيقه في سورة آل عمران وهذا جواب لندائه عليه الصلاة والسلام ووعد بإجابة دعائه لكن لا كلا كما هو المتبادر من قوله تعالى فاستجبنا له ووهبنا له يحيى الخ بل بعضا حسبما تقتضيه المشيئة الإلهية المبنية على الحكم البالغة فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وإن كانوا مستجابي الدعوة لكنهم ليسوا كذلك في جميع الدعوات ألا يرى إلى دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في حق أبيه وإلى دعوة النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال وسألته أن لا يذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها وقد كان من قضائه عز وعلا أن يهبه يحيى نبيا مرضيا ولا يرثه فاستجيب دعاؤه في الأول دون الثاني حيث قتل قبل موت أبيه عليهما الصلاة والسلام على ما هو المشهور وقيل بقي بعده برهة فلا إشكال حينئذ وفي تعيين اسمه عليه الصلاة والسلام تأكيد للوعد وتشريف له عليه الصلاة والسلام وفي تخصيصه به عليه السلام حسبما يعرب عنه قوله تعالى (لم نجعل له من قبل سميا) أي شريكا له في الاسم حيث لم يسم أحد قبله بيحيى مزيد تشريف وتفخيم له عليه الصلاة والسلام فإن التسمية بالأسامي البديعة الممتازة عن أسماء سائر الناس تنويه بالمسمى لا محالة وقيل سميا شبها في الفضل والكمال كما في قوله تعالى هل تعلم له سميا فإن المتشاركين في الوصف بمنزلة المتشاركين في الاسم قالوا لم يكن له عليه الصلاة والسلام مثل في أنه لم يعص الله تعالى ولم يهم بمعصية قط وأنه ولد من شيخ فان وعجوز عاقر وأنه كان حصورا فيكون هذا إجمالا لما نزل بعده من قوله تعالى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين والأظهر أنه اسم أعجمي وإن كان عربيا فهو منقول عن الفعل كيعمر ويعيش قيل سمي به لأنه حي به رحم أمه أوحى دين الله تعالى بدعوته
255 (قال) استئناف مبني على السؤال كأنه قيل فماذا قال عليه الصلاة والسلام حينئذ فقيل قال (رب) ناداه تعالى بالذات مع وصول خطابه تعالى إليه بتوسيط الملك للمبالغة في التضرع والمناجاة والجد في التبتل إليه تعالى والاحتراز عما عسى يوهم خطابه للملك من توهم أن علمه تعالى بما يصدر عنه متوقف على توسطه كما أن علم البشر بما يصدر عنه سبحانه متوقف على ذلك في عامة الأوقات (أنى يكون لي غلام) كلمة أنى بمعنى كيف أو من أين وكان إما تامة وأنى واللام متعلقتان بها وتقديم الجار على الفاعل لما مر مرارا من الاعتناء بما قدم والتشويق إلى ما أخر أي كيف أو من أين يحدث لي غلام ويجوز أن تتعلق اللام بمحذوف وقع حالا من غلام إذ لو تأخر لكان صفة له أي أنى يحدث كائنا لي غلام أو ناقصة اسمها ظاهر وخبرها إما أني ولي متعلق بمحذوف كما مر أو هو الخبر وأنى نصب على الظرفية وقوله تعالى (وكانت امرأتي عاقرا) حال من ضمير المتكلم بتقدير قد وكذا قوله تعالى (وقد بلغت من الكبر عتيا) حال منه مؤكدة للاستبعاد إثر تأكيد أي كانت امرأتي عاقرا لم تلد في شبابها وشبابي فكيف وهي الآن عجوز وقد بلغت أنا من أجل كبر السن جساوة وقحولا في المفاصل والعظام أو بلغت من مدارج الكبر ومراتبه ما يسمى عتيا من عتا يعتو وأصله عتو وكقعود فاستثقل توالي الضمتين والواوين فكسرت التاء فانقلبت الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ثم قلبت الثانية أيضا لاجماع الواو والياء وسبق إحداهما بالسكون وكسرت العين اتباعا لها لما بعدها وقرئ بضمها ولعل البداءة ههنا بذكر حال امرأته على عكس ما في سورة آل عمران لما أنه قد ذكر حاله في تضاعيف دعائه وإنما المذكور ههنا بلوغه أقصى مراتب الكبر تتمة لما ذكر قبل وأما هنالك فلم يسبق في الدعاء ذكر حاله فلذلك قدمه على ذكر حال امرأته لما أن المسارعة إلى بيان قصور شأنه أنسب وإنما قاله عليه الصلاة والسلام مع سبق دعائه بذلك وقوة يقينه بقدرة الله لا سيما بعد مشاهدته للشواهد المذكورة في سورة آل عمران استعظاما لقدرة الله تعالى وتعجيبا منها واعتدادا بنعمته تعالى عليه في ذلك بإظهار أنه من محض لطف الله عز وعلا وفضله مع كونه في نفس من الأمور المستحيلة عادة لا استبعادا له وقيل إنما قاله ليجاب بما أجيب به فيزداد المؤمنون إيقانا ويرتدع المبطلون وقيل كان ذلك منه عليه الصلاة والسلام استفهاما عن كيفية حدوثه وقيل بل كان ذلك بطريق الاستبعاد حيث كان بين الدعاء والبشارة ستون سنة وكان قد نسي دعاءه وهو بعيد (قال) استئناف كما مر مبني على سؤال نشأ مما سلف والكاف في قوله تعالى (كذلك قال ربك) مقحمة كما في مثلك لا يبخل محلها إما النصب على أنه مصدر تشبيهي لقال الثاني وذلك إشارة إلى مصدره الذي هو عبارة عن الوعد السابق لا إلى قول آخر شبه هذا به وقد مر تحقيقه في تفسير قوله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا وقوله تعالى (هو على هين) جملة مقررة للوعد المذكور دالة على إنجازه داخلة في حيز قال الأول كأنه قيل قال الله عز وجل مثل
256 ذلك القول البديع قلت أي مثل ذلك الوعد الخارق للعادة وعدت هو على خاصة هين وإن كان في العادة مستحيلا وقرئ وهو علي هين فالجملة حينئذ حال من ربك والياء عبارة عن ضميره كما ستعرفه أو اعتراض وعلى كل حال فهي مؤكدة ومقررة لما قبلها ثم أخرج القول الثاني مخرج الالتفات جريا على سنن الكبرياء لنريه المهابة وإدخال الروعة كقول الخلفاء أمير المؤمنين يرسم لك مكان أنا أرسم ثم أسند إلى أسم الرب المضاف إلى ضميره عليه السلام تشريفا له وإشعارا بعلة الحكم فإن تذكير جريان أحكام ربوبيته تعالى عليه الصلاة والسلام من إيجاده من العدم وتصريفه في أطوار الخلق من حال إلى حال شيئا فشيئا إلى أن يبلغ كماله اللائق به مما يقلع أساس استبعاده عليه الصلاة والسلام لحصول الموعود ويورثه عليه الصلاة والسلام الاطمئنان بإنجازه لا محالة ثم التفت من ضمير الغائب العائد إلى الرب إلى ياء العظمة إيذانا بأن مدار كونه هينا عليه سبحانه هو القدرة الذاتية لا ربوبيته تعالى له عليه الصلاة والسلام خاصة وتمهيدا لما يعقبه وقيل ذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله تعالى هو علي هين على طريقة قوله تعالى وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ولا يخرج هذا الوجه على القراءة بالواو ولأنها لا تدخل بين المفسر والمفسر وإما الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف وذلك إشارة إلى ما تقدم من وعده تعالى أي قال عز وعلا الأمر كما وعدت وهو واقع لا محالة وقوله تعالى قال ربك الخ استئناف مقرر لمضمونه والجملة المحكية على القراءة الثانية معطوفة على المحكية الأولى أو حال من المستكن في الجار والمجرور وأيا ما كان فتوسيط قال بينهما مشعر بمزيد الاعتناء بكل منهما والكلام في إسناد القول إلى الرب ثم الالتفات إلى التكلم كالذي مر آنفا وقيل ذلك إشارة إلى ما قاله زكريا عليه الصلاة والسلام أي قال تعالى الأمر كما قلت تصديقا له فيما حكاه من الحالة المباينة للولادة في نفسه وفي امرأته وقوله تعالى قال ربك الخ استئناف مسوق لإزالة استبعاده بعد تقريره أي قال تعالى وهو مع بعده في نفسه علي هين والقراءة الثاني أدخل في إفادة هذا المعنى على أن الواو للعطف وأما جعلها للحال فمخل بسداد المعنى لأن مآله تقرير صعوبته حال سهولته عليه تعالى مع أن المقصود بيان سهولته عليه سبحانه مع صعوبته في نفسه وقوله تعالى (وقد خلقتك من قبل ولم تكن شيئا) جملة مستأنفة مقررة لما قبلها والمراد به ابتداء خلق البشر هو الواقع إثر العدم المحض لا ما كان بعد ذلك بطريق التوالد المعتاد وإنما لم ينسب ذلك إلى آدم عليه الصلاة والسلام وهو المخلوق من العدم حقيقة بأن يقال وقد خلقت أباك أو آدم من قبل ولم يك شيئا مع كفايته في إزالة الاستبعاد بقياس حال ما بشر به على حاله عليه الصلاة والسلام لتأكيد الاحتجاج به وتوضيح منهاج القياس حيث نبه على أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من إنشائه عليه الصلاة والسلام من العدم إذ لم تكن فطرته البديعة مقصورة على نفسه بل كانت أنموذجا منطويا على فطرية سائر آحاد الجنس انطواء إجماليا مستتبعا لجريان آثارها على الكل فكان إبداعه عليه الصلاة والسلام على ذلك الوجه إبداعا لكل أحد من فروعه كذلك ولما كان خلقه عليه الصلاة والسلام على هذا النمط الساري إلى جميع أفراد ذريته أبدع من أن يكون ذلك مقصورا على نفسه كما هو المفهوم من نسبة الخلق المذكور إليه وأدل على عظم قدرته تعالى وكمال علمه وحكمته وكان عدم
257 زكريا حينئذ أظهر عنده وأجلى وكان حاله أولى بأن يكون معيارا لحال ما بشر به نسب الخلق المذكور إليه كما نسب الخلق والتصوير إلى المخاطبين في قوله تعالى ولقد خلقناكم ثم صورناكم توفية لمقام الامتنان حقه فكأنه قيل وقد خلقتك من قبل في تضاعيف خلق آدم ولم تكن إذ ذاك شيئا أصلا بل عدما بحتا ونفيا صرفا هذا وأما حمل الشيء على المعتد به أي ولم تكن شيئا معتدا به فيأباه المقام ويرده نظم الكلام وقرئ خلقناك (قال رب اجعل آية) أي علامة تدلني على تحقق المسؤول ووقوع الحبل ولم يكن هذا السؤال منه عليه الصلاة والسلام لتأكيد البشارة وتحقيقها كما قيل فإن ذلك مما لا يليق بمنصب الرسالة وإنما كان ذلك لتعريف وقت العلوق حيث كانت البشارة مطلقة عن تعيينه وهو أمر خفي لا يوقف عليه فأراد أن يطلعه الله تعالى عليه ليتلقى تلك النعمة الجلية بالشكر من حين حدوثها ولا يؤخره إلى أن تظهر ظهورا معتادا وقد مرت الإشارة في تفسير سورة آل عمران إلى أن هذا السؤال ينبغي أن يكون بعدما مضى بعد البشارة برهة من الزمان لما روي أن يحيى كان أكبر من عيسى عليهما الصلاة والسلام بستة أشهر أو بثلاث سنين ولا ريب في أن دعاء زكريا عليه الصلاة والسلام كان في صغر مريم لقوله تعالى هنالك دعا زكريا ربه وهي إنما ولدت عيسى عليه الصلاة والسلام وهي بنت عشر سنين أو بنت ثلاث عشرة سنة والجعل إبداعي واللام متعلقة به وتقديمها على المفعول به لما مر مرارا من الاعتناء بالمقدم والتشويق إلى المؤخر أو بمحذوف وقع حالا من آية إذ لو تأخر لكان صفة لها وقيل بمعنى التصبير المستدعي لمفعولين أو لهما آية وثانيهما الظرف وتقديمه لأنه لا مسوغ لكون آية مبتدأ عند انحلال الجملة إلى مبتدأ وخبر سوى تقديم الظرف فلا يتغير حالهما بعد ورود الناسخ (قال آيتك أن لا تكلم الناس) أي أن لا تقدر على أن تكلمهم بكلام الناس مع القدرة على الذكر والتسبيح (ثلاث ليال) مع أيامهن للتصريح بها في سورة آل عمران (سويا) حال من فاعل تكلم مفيد لكون انتفاء التكلم بطريق الاضطرار دون الاختيار أي تمنع الكلام فلا تطيق به حال كونك سوى الخلق سليم الجوارح ما بك شائبة بكم ولا خرس (فخرج على قومه من المحراب) أي من المصلى أو من الغرفة وكانوا من وراء المحراب ينتظرونه ان يفتح لهم الباب فيدخلوه ويصلوا إذ خرج عليهم متغيرا لونه فأنكروه وقالوا مالك (فأوحى إليهم) أي أومأ إليهم لقوله تعالى إلا رمزا وقيل كتب على الأرض وأن في قوله تعالى (أن سبحوا) إما مفسرة لأوحى أو مصدرية والمعنى أي صلوا أو بأن صلوا (بكرة وعشيا) هما ظرفا زمان للتسبيح عن أبي العالية أن المراد بهما صلاة الفجر وصلاة العصر أو نزهوا ربكم طرفي النهار ولعله كان مأمورا بأن يسبح شكرا ويأمر قومه بذلك (يا يحيى) استئناف طوى قبله جمل كثيرة مسارعة إلى الإنباء بإنجاز الوعد الكريم أي قلنا
258 يا يحيى (خذ الكتاب) التوراة (بقوة) أي بجد واستظهار بالتوفيق (وآتيناه الحكم صبيا) قال ابن عباس رضي الله عنهما الحكم النبوة استنبأه وهو ابن ثلاث سنين وقيل الحكم الحكمة وفهم التوراة والفقه في الدين روى أنه دعاه الصبيان إلى اللعب فقال ما للعب خلقنا (وحنانا من لدنا) عطف على الحكم وتنوينه للتفخيم وهو التحنن والاشتياق ومن متعلقة بمحذوف وقع صفة له مؤكدة لما أفاده التنوين من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية أي وآتيناه رحمة عظيمة عليه كائنة من جنابنا أو رحمة في قلبه وشفقة على أبويه وغيرهما (وزكاة) أي طهارة من الذنوب أو صدقة تصدقنا به على أبويه أو وفقناه للتصديق على الناس (وكان تقيا) مطيعا متجنبا عن المعاصي (وبرا بوالديه) عطف على تقيا اي بارا بهما لطيفا بهما محسنا إليهما (ولم يكن جبارا عصيا) متكبرا عاقا لهما أو عاصيا لربه (وسلام عليه) من الله عز وجل (يوم ولد) من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم (ويوم يموت) من عذاب القبر (ويوم يبعث حيا) من هول القيامة وعذاب النار (واذكر في الكتاب) مستأنف خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بذكر قصة مريم إثر قصة زكريا لما بينهما من كمال الاشتباك والمراد بالكتاب السورة الكريمة لا القرآن إذ هي التي صدرت بقصة زكريا المستتبعة لذكر قصتها وقصص الأنبياء المذكورين فيها أي واذكر للناس (مريم) أي نبأها فإن الذكر لا يتعلق بالأعيان وقوله تعالى (إذ انتبذت) ظرف لذلك المضاف لكن لا على أن يكون المأمور به ذكر نبذها عند انتباذها فقط بل كل ما عطف عليه وحكى بعده بطريق الاستئناف داخل في حيز الظرف متمم للنبأ وقيل بدل اشتمال من مريم على أن المراد بها نبؤها فإن الظروف مشتملة على ما فيها وقيل بدل الكل على أن المراد بالظرف ما وقع فيه وقيل إذ بمعنى أن المصدرية كما في قولك أكرمتك إذ لم تكرمني أي لأن لم تكرمني فهو بدل اشتمال لا محالة وقوله تعالى (من أهلها) متعلق بانتبذت وقوله (مكانا شرقيا) مفعول له باعتبار ما في ضمنه من معنى الإتيان المترتب وجودا واعتبارا على أصل معناه العامل في الجار والمجرور وهو السرفي تأخيره عنه أي اعتزلت وانفردت منهم وأتت مكانا شرقيا من بيت المقدس أو من دارها لتتخلى هنالك للعبادة وقيل قعدت مشرقة لتغتسل من الحيض محتجبة بحائط أو بشيء يسترها وذلك قوله تعالى (فاتخذت من دونهم حجابا) وكان موضعها المسجد فإذا حاضت تحولت إلى بيت خالتها وإذا طهرت عادت إلى المسجد فبينا هي
259 في مغتسلها أتاها الملك عليه الصلاة والسلام في صورة آدمي شاب أمرد وضئ والوجه جعد الشعر وذلك قوله تعالى (فأرسلنا إليها روحنا) أي جبريل عليه الصلاة والسلام عبر عنه بذلك توفية للمقام حقه وقرئ بفتح الراء لكونه سببا لما فيه من روح العباد الذي هو عدة المقربين في قوله تعالى فأما إن كان من المقربين فروح وريحان (فتمثل لها بشرا سويا) سوى الخلق كامل البنية لم يفقد من حسان نعوت الآدمية شيئا وقيل تمثل في سورة ترب لها اسمه يوسف من خدم بيت المقدس وذلك لتستأنس بكلامه وتتلقى منه ما يلقي إليها من كلماته تعالى إذ لو بدا لها على الصورة الملكية لنفرت منه ولم تستطع مفاوضته وأما ما قبل من أن ذلك لتهييج شهوتها فتنحدر نطفتها إلى رحمها فمع مخالفته لمقام بيان آثار القدرة الخارقة للعادة يكذبه قوله تعالى (قالت إني أعوذ بالرحمن منك) فإنه شاهد عدل بأنه لم يخطر ببالها شائبة ميل ما إليه فضلا عما ذكر من الحالة المترتبة على أقصى مراتب الميل والشهوة نعم كان تمثيله على ذلك الحسن الفائق والجمال الرائق لابتلائها وسبر عفتها ولقد ظهر منها من الورع والعفاف ما لا غاية وراءه وذكره تعالى بعنوان الرحمانية للمبالغة في العياذ به تعالى واستجلاب آثار الرحمة الخاصة التي هي العصمة مما دهمها وقوله تعالى (إن كنت تقيا) أي تتقي الله تعالى وتبالي بالاستعاذة به وجواب الشرط محذوف ثقة بدلالة السياق عليه أي فإني عائذة به أو فتعوذ بتعوذي أو فلا تتعرض لي (قال إنما أنا رسول ربك) يريد عليه الصلاة والسلام إني لست ممن يتوقع منه ما توهمت من الشر وإنما أنا رسول ربك الذي استعذت به (لأهب لك غلاما) أي لأكون سببا في هبته بالنفخ في الدرع ويجوز أن يكون ذلك حكاية لقوله تعالى ويؤيده القراءة بالياء والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتسليتها والإشعار بعلة الحكم فإن هبة الغلام لها من أحكام تربيتها وفي بعض المصاحف أمرني أن أهب لك غلاما (زكيا) طاهرا من الذنوب أو ناميا على الخير أي مترقيا من سن إلى سن على الخير والصلاح (قالت أنى يكون لي غلام) كما وصفت (ولم يمسسني بشر) أي والحال أنه لم يباشرني بالنكاح رجل وإنما قيل بشر مبالغة في بيان تنزهها من مبادئ الولادة (ولم أك بغيا) عطف على لم يمسسني داخل معه في حكم الحالية مفصح عن كون المساس عبارة عن المباشرة بالنكاح أي ولم أكن فاجرة تبغي الرجال وهي فعول بمعنى الفاعل أصلها بغوي فأدغمت الواو بعد قلبها ياء في الياء وكسرت الغين للياء وقيل هي فعيل بمعنى الفاعل وإلا لقيل بغو كما يقال فلان نهو عن المنكر وإنما لم تلحقه التاء لأنها من باب النسب كطالق أو بمعنى المفعول أي يبغيها الرجال للفجور بها (قال) أي
260 الملك تقرير لمقالته وتحقيقا لها (كذلك) أي الأمر كما قالت لك وقوله تعالى (قال ربك) الخ استئناف مقرر له أي قال ربك الذي أرسلني إليك (هو) أي ما ذكرت لك من هبة الغلام من غير أن يمسك بشر أصلا (على) خاصة (هين) وإن كان مستحيلا عادة لما أنى أحتاج إلى الأسباب والوسائط وقوله تعالى (ولنجعله آية للناس) إما علة لمعلل محذوف أي ولنجعل وهب الغلام آية لهم وبرهانا يستدلون به على كمال قدرتنا نفعل ذلك أو معطوف على علة أخرى مضمرة أي لنبين به عظم قدرتنا ولنجعله آية الخ والواو على الأول اعتراضية والالتفات إلى نون العظمة لإظهار كمال الجلالة (ورحمة) عظيمة كائنة (منا) عليهم يهتدون بهدايته ويسترشدون بإرشاده (وكان) ذلك (أمرا مقضيا) محكما قد تعلق به قضاؤنا الأزلي أو قدر وسطر في اللوح لا بد من جريانه عليك البتة أو كان أمرا حقيقيا بأن يقضي ويفعل لتضمنه حكما بالغة (فحملته) بأن نفخ جبريل علية الصلاة والسلام في درعها فدخلت النفخة في جوفها قيل إنه علية الصلاة والسلام رفع درعها فنفخ في جيبه فحملت وقيل نفخ عن بعد فوصل الريح إليها فحملت في الحال وقيل إن النفحة كانت في فيها وكانت مدة حملها سبعة أشهر وقيل ثمانية ولم يعش مولود وضع لثمانية أشهر غيرة وقيل تسعة أشهر وقيل ثلاث ساعات وقيل ساعة كما حملت وضعته وسنها حينئذ ثلاث عشرة سنة وقيل عشر سنين وقد حاضت حيضتين «فانتبذت به» أي فاعتزلت وهو في بطنها كما في قوله * تدوس بنا الجماجم والنريبا * فالجار والمجرور في حيز النصب على الحالية أي فانتبذت ملتبسة به «مكانا قصيا» بعيدا من أهلها وراء الجبل وقيل أقصى الدار وهو الأنسب بقصر مدة الحمل «فأجاءها المخاض» أي فألجأها وهو في الأصل منقول من جاء لكنه لم يستعمل في غيره كآتي في أعطى وقرئ المخاض بكسر الميم وكلاهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج «إلى جذع النخلة» لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا راس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء والتعريف إما للجنس أو للعهد إذا لم يكن ثمة غيرها وكانت كالمتعالم عند الناس ولعلة تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياتها ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها «قالت يا ليتني مت» بكسر الميم من مات يمات كخفت وقرئ بضمها من مات يموت «قبل هذا» أي هذا الوقت الذي لقيت فيه ما لقيت وإنما قالته مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل عليه السلام من الوعد الكريم استحياء من الناس وخوفا من لأئمتهم أو حذارا من وقوع الناس في المعصية بما تكلموا فيها أو جريا على سنن الصالحين عند اشتداد الأمر عليهم كما روى عن عمر رضي الله عنه أنه أخذ تبنة من الأرض فقال يا ليتني هذه التبنة ولم أكن شيئا وعن بلال أنه قال ليت بلال لم تلده أمه «وكنت نسيا» أي شيئا تافها شأنه أن ينسى ولا يعتد به أصلا وقرئ بالكسر قيل هما لغتان في ذلك كالوتر والوتر وقيل هو بالكسر اسم لما ينسى كالنقض اسم
261 لما ينقض وبالفتح مصدر سمي به المفعول مبالغة وقرئ بهما مهموزا من نسأت اللبن إذا صببت عليه الماء فصار مستهلكا فيه وقرئ نسا كعصا «منسيا» لا يخطر ببال أحد من الناس وهو نعت للمبالغة وقرئ بكسر الميم اتباعا له بالسين «فناداها» أي جبريل عليه السلام «من تحتها» قيل أنه كان يقبل الولد وقيل من تحتها أي من مكان أسفل منها تحت الأكمة وقيل من تحت النخلة وقيل ناداها عيسى عليه السلام وقرئ فخاطبها من تحتها بفتح الميم «ألا تحزني» أي لا تحزني على أن أن مفسرة أو بأن لا تحزني على أنها مصدرية قد حذف عنها الجار «قد جعل ربك تحتك» أي بمكان أسفل منك وقيل تحت أمرك إن أمرت بالجري جرى وإن أمرت بالإمساك أمسك «سريا» أي نهرا صغيرا حسبما روى مرفوعا قال ابن عباس رضي الله عنه إن جبريل عليه السلام ضرب برجله الأرض فظهرت عين ماء عذب فجرى جدولا وقيل فعله عيسى عليه السلام وقيل كان هناك نهر يابس أجرى الله عز وجل فيه الماء حينئذ كما فعل مثله بالنخلة فإنها كانت نخلة يابسة لا راس لها ولا ورق فضلا عن الثمر وكان الوقت شتاء فجعل الله لها إذ ذاك رأسا وخوصا وثمرا وقيل كان هناك ماء جار والأول هو الموافق لمقام بيان ظهور الخوارق والمتبادر من النظم الكريم وقيل سريا أي سيدا نبيلا رفيع الشأن جليلا وهو عيسى عليه السلام فالتنوين للتفخيم والجملة تعليل لانتفاء الحزن المفهوم من النهي عنه والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرها لتشريفها وتأكيد التعليل وتكميل التسلية «وهزي» هز الشيء تحريكه إلى الجهات المتقابلة تحريكا عنيفا متداركا والمراد ههنا ما كان منه بطريق الجذب والدفع لقوله تعالى «إليك» أي إلى جهتك والباء في قوله عز وجل «بجذع النخلة» صلة للتأكيد كما في قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم الخ قال الفراء تقول العرب هزه وهز به وأخذ الخطام وأخذ بالخطام أو لإلصاق الفعل بمدخولها أي افعلي الهز بجذعها أو هزي الثمرة بهزه وقيل هي متعلقة بمحذوف وقع حالا من مفعول الهز أي هزي إليك الرطب كائنا بجذعها «تساقط» أي تسقط النخلة «عليك» إسقاطا متواترا حسب تواتر الهز وقرئ تسقط ويسقط من الإسقاط بالتاء والياء وتتساقط بإظهار التاءين وتساقط بطرح الثانية وتساقط بإدغامها في السين ويساقط بالياء كذلك وتسقط ويسقط من السقوط على أن التاء في الكل للنخلة والياء للجذع وقوله تعالى «رطبا» على القراءات الثلاث الأولى مفعول وعلى ولست البواقي تمييز وقوله تعالى «جنيا» صفة له وهو ما قطع قبل يبسه فعيل بمعنى مفعول أي رطبا مجنيا اي صالحا للاجتناء وقيل بمعنى فاعل أي طريا طيبا وقرئ جنيا بكسر الجيم للاتباع «فكلي واشربي»
262 أي ذلك الرطب وماء السرى أو من الرطب وعصيره «وقري عينا» وطيبي نفسا وارفضي عنها ما أحزنك وأهمك فإنه تعالى قد نزه ساحتك عما اختلج في صدور المتعبدين بالأحكام العادية بأن أظهر لهم من البسائط العنصرية والمركبات النباتية ما يخرق العادات التكوينية ويرشدهم إلى الوقوف على سريرة أمرك وقرئ وقرى بكسر القاف وهي لغة نجد واشتقاقه من القرار فإن العين إذا رأت ما يسر النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره أو من القر فإن دمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة ولذلك يقال قرة العين وسخنة العين للمحبوب والمكروه «فإما ترين من البشر أحدا» أي آدميا كائنا من كان وقرئ ترئن على لغة من يقول لبأت بالحج لما بين الهمزة والياء من التآخي «فقولي» له إن استنطقك «إني نذرت للرحمن صوما» أي صمتا وقد قرئ كذلك أو صياما وكان صيامهم بالسكوت «فلن أكلم اليوم إنسيا» أي بعد أن أخبرتكم بنذري وإنما أكلم الملائكة وأناجي ربي وقيل أمرت بأن تخبر بنذرها بالإشارة وهو الأظهر قال الفراء العرب تسمي كل ما وصل إلى الإنسان كلاما بأي طريق وصل ما لم يؤكد بالمصدر فإذا أكد لم يكن إلا حقيقة الكلام وإنما أمرت بذلك لكراهة مجادلة السفهاء ومناقلتهم والاكتفاء بكلام عيسى عليه السلام فإنه نص قاطع في قطع الطعن «فأتت به قومها» أي جائتهم مع ولدها راجعة إليهم عندما طهرت من نفسها «تحمله» أي حاملة له «قالوا» مؤنبين لها «يا مريم لقد جئت» أي فعلت «شيئا فريا» أي عظيما بديعا منكرا من فرى الجلد أي قطعه أو جئت مجيئا عجيبا عبر عنه بالشيء تحقيقا للاستغراب «يا أخت هارون» استئناف لتجديد التعبير وتأكيد التوبيخ عنوا به هارون النبي صلى الله عليه وسلم وكانت من أعقاب من كان معه في طبقة الأخوة وقيل كانت من نسله وكان بينهما ألف سنة وقيل هو رجل صالح أو طالح كان في زمانهم شبهوها به أي كنت عندنا مثله في الصلاح أو شتموها به «ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا» تقرير لكون ما جاءت به فريا منكرا وتنبيه على أن ارتكاب الفواحش من أولاد الصالحين أفحش «فأشارت إليه» أي إلى عيسى عليه السلام أن كلموه والظاهر أنها حينئذ بينت نذرها وأنها بمعزل عن محاورة الإنس حسبما أمرت ففيه دلالة على أن المأمور به بيان نذرها بالإشارة لا بالعبارة والجمع بينهما مما لا عهد به «قالوا» منكرين لجوابها «كيف نكلم من كان في المهد صبيا» ولم نعهد فيما سلف صبيا يكلمه عاقل وقيل كان لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم صالح لقريبه وبعيده وهو ههنا لقريبه خاصة بدليل أنه مسوق للتعجب وقيل هي زائدة والظرف صلة من وصبيا حال من المستكن فيه أو هي تامة أو دائمة كما في قوله تعالى وكان الله عليما حكيما
263 «قال» استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظم الكريم كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال عيسى عليه السلام «إني عبد الله» أنطقه الله عز وجل بذلك آثر ذي أثير تحقيقا للحق وردا على من يزعم ربوبيته قيل كان المستنطق لعيسى زكريا عليهما الصلاة والسلام وعن السدي رضي الله عنه لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا أشد علينا مما فعلت وروى أنه عليه السلام كان يرضع فلما سمع ذلك ترك الرضاع واقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار إليهم بسبابته فقال ما قال الخ وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغا يتكلم فيه الصبيان «آتاني الكتاب» أي الإنجيل «وجعلني نبيا» «وجعلني» مع ذلك «مباركا» نفاعا معلما للخير والتعبير بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتوم أو بجعل ما في شرف الوقوع لا محالة واقعا وقيل أكمله الله عقلا واستنبأه طفلا «أين ما كنت» أي حيثما كنت «وأوصاني بالصلاة» أي أمرني بها أمرا مؤكدا «والزكاة» زكاة المال إن ملكته أو بتطهير النفس عن الرذائل «ما دمت حيا» في الدنيا «وبرا بوالدتي» عطف على مباركا أي جعلني بارا بها وقرئ بالكسر على أنه مصدر وصف به مبالغة أو منصوب بمضمر دل عليه أوصاني أي وكلفني برا ويؤيده القراءة بالكسر والجر عطفا على الصلاة والزكاة والتنكير للتفخيم «ولم يجعلني جبارا شقيا» عنيدا لله تعالى لفرط تكبره «والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا» كما هو على يحيى على أن التعريف للعهد والأظهر أنه للجنس والتعريض باللعن على أعدائه فإن إثبات جنس السلام لنفسه تعريض بإثبات ضده لأضداده كما في قوله تعالى والسلام على من اتبع الهدى فإنه تعريض بأن العذاب على من كذب وتولى «ذلك» إشارة إلى من فصلت نعوته الجليلة وما فيه من معنى البعد للدلالة على علو مرتبته وبعد منزلته وامتيازه بتلك المناقب الحميدة عن غيره ونزوله منزلة المشاهد المحسوس «عيسى ابن مريم» لا ما يصفه النصارى وهو تكذيب لهم فيما يزعمونه على الوجه الأبلغ والمنهاج البرهاني حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه «قول الحق» بالنصب على أنه مصدر مؤكد لقال إني عبد الله الخ وقوله تعالى ذلك «عيسى ابن مريم» اعتراض مقرر لمضمون ما قبله وقرئ بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو قول الحق الذي لا ريب فيه والإضافة للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة وقيل صفة عيسى أو بدله أو خبر ثان
264 ومعناه كلمة الله وقرئ قال الحق وقول الحق فإن القول والقال في معنى واحد «الذي فيه يمترون» أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهود ساحر والنصارى ابن الله وقرئ بتاء الخطاب «ما كان لله» أي ما صح وما استقام له تعالى «أن يتخذ من ولد سبحانه» تكذيب للنصارى وتنزيه له تعالى عما بهتوه وقوله تعالى «إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون» تبكيت لهم ببيان أن شأنه تعالى إذا قضى أمرا من الأمور أن يعلق به إرادته فيكون حينئذ بلا تأخير فمن هذا شأنه كيف يتوهم أن يكون له ولد وقرئ فيكون بالنصب على الجواب وقوله تعالى «وإن الله ربي وربكم فاعبدوه» من تمام كلام عيسى عليه السلام قيل هو عطف على قوله إني عبد الله داخل تحت القول وقد قرئ بغير واو وقرئ بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأنه تعالى ربي وربكم فاعبدوه كقوله تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وقيل معطوف على الصلاة «هذا» أي الذي ذكرته من التوحيد «صراط مستقيم» لا يضل سالكه والفاء في قوله تعالى «فاختلف الأحزاب من بينهم» لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيها على سوء صنيعهم بجعلهم ما يوجب الاتفاق منشأ للاختلاف فإن ما حكى من مقالات عيسى عليه السلام مع كونها نصوصا قاطعة في كونه عبده تعالى ورسوله قد اختلفت اليهود والنصارى بالتفريط والإفراط أو فرق النصارى فقالت النسطورية هو ابن الله وقالت اليعقوبية هو الله هبط إلى الأرض ثم صعد إلى السماء تعالى عن ذلك علوا كبيرا وقالت الملكانية هو عبد الله ونبيه «فويل للذين كفروا» وهم المختلفون عبر عنهم بالموصول إيذانا بكفرهم جميعا وإشعارا بعلة الحكم «من مشهد يوم عظيم» أي من شهود يوم عظيم الهول والحساب والجزاء وهو يوم القيامة أو من وقت شهوده أو من مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن يشهد عليهم الملائكة والأنبياء عليهم السلام وألسنتهم وآذانهم وأيديهم وأرجلهم وسائر آرابهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها وقيل هو ما شهدوا به في حق عيسى وأمه عليهما السلام «أسمع بهم وأبصر» تعجب من حدة سمعهم وأبصارهم يومئذ ومعناه أن أسماعهم وأبصارهم «يوم يأتوننا» للحساب والجزاء أي يوم القيامة جدير بأن يتعجب منها بعد أن كانوا في الدنيا صما عميا أو تهديد بما سيسمعون ويبصرون يومئذ وقيل أمر بأن يسمعهم ويبصرهم مواعيد ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه والجار والمجرور على الأول في موقع الرفع وعلى الثاني في حيز النصب «لكن الظالمون اليوم» أي في الدنيا
265 «في ضلال مبين» لا تدرك غايته حيث أغفلوا الاستماع والنظر بالكلية ووضع الظالمين موضع الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم «وأنذرهم يوم الحسرة» أي يوم يتحسر الناس قاطبة أما المسئ فعلى إساءته وأما المحسن فعلى قلة إحسانه «إذ قضي الأمر» أي فرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك فقال حين يجاء بالموت على صورة كبش أملح فيذبح والفريقان ينظرون فينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح وأهل النار غما إلى غم وإذ بدل من يوم الحسرة أو ظرف للحسرة فإن المصدر المعرف باللام يعمل في المفعول الصريح عند بعضهم فكيف بالظرف «وهم في غفلة» أي عما يفعل بهم في الآخرة «وهم لا يؤمنون» وهما جملتان حاليتان من الضمير المستتر في قوله تعالى في ضلال مبين أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين وما بينهما اعتراض أو من مفعول أنذرهم أي أنذرهم غافلين غير مؤمنين فيكون حال متضمنة لمعنى التعليل «إنا نحن نرث الأرض ومن عليها» لا يبقى لأحد غيرنا عليها وعليهم ملك ولا ملك أو نتوفى الأرض ومن عليها بالإفناء والإهلاك توفى الوارث لإرثه «وإلينا يرجعون» أي يردون للجزاء لا إلى غيرنا استقلالا أو اشتراكا «واذكر» عطف على أنذرهم «في الكتاب» أي في السورة أو في القرآن «إبراهيم» أي أتل على الناس قصته وبلغها إياهم كقوله تعالى واتل عليهم نبأ إبراهيم فإنهم ينتمون إليه عليه السلام فعساهم باستماع قصته يقلعون عما هم في من القبائح «إنه كان صديقا» ملازما للصدق في كل ما يأتي ويذر أو كثير التصديق لكثرة ما صدق به من غيوب الله تعالى وآياته وكتبه ورسله والجملة استئناف مسوق لتعليل موجب الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكره «نبيا» خبر آخر لكان مقيد للأول مخصص له كما ينبئ عنه قوله تعالى من النبيين والصديقين الآية أي كان جامعا بين الصديقية والنبوة ولعل هذا الترتيب للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنوبة فإن كل نبي صديق «إذ قال» بدل اشتمال من إبراهيم وما بينهما اعتراض مقرر لما قبله أو متعلق بكان أو بنبيا وتعليق الذكر بالأوقات مع أن المقصود تذكير ما وقع فيها من الحوادث قد مر سره مرارا أي كان جامعا بين الأثرتين حين قال «لأبيه» آزر متلطفا في الدعوة مستميلا له «يا أبت» أي يا أبي فإن التاء عوض عن ياء الإضافة ولذلك لا يجتمعان وقد قيل يا أبتا لكون الألف بدلا من الياء «لم تعبد ما لا يسمع» ثناءك عليه عند عبادتك له وجؤارك إليه «ولا يبصر» خضوعك وخشوعك بين يديه أولا يسمع ولا يبصر شيئا من المسموعات والمبصرات فيدخل في ذلك
266 ما ذكر دخولا أولياء «ولا يغني» أي لا يقدر على أن يغني «عنك شيئا» في جلب نفع أو دفع ضر ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج وأقوم سبيل واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل لئلا يركب متن المكابرة والعناد ولا ينكب بالكلية عن محجة الرشاد حيث طلب منه علة عبادته لما يستخف به عقل كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون غليه فضلا عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحق إلا لمن له الاستغناء التام والإنعام العام الخالق الرازق المحيي المميت المثيب المعاقب ونبه على أن العاقل يجب أن يفعل كل ما يفعل لداعية صحيحة وغرض صحيح والشيء لو كان حيا مميزا سميعا بصيرا قادرا على النفع والضر مطيقا بإيصال الخير والشر لكن كان ممكنا لاستنكف العقل السليم عن عبادته وإن كان أشرف الخلائق لما يراه مثله في الحاجة والانقياد للقدرة القاهرة الواجبة فما ظنك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ليس له من أوصاف الأحياء عين ولا أثر ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديه إلى الحق المبين لما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلا بالنظر السوي مصدرا لدعوته بما مر من الاستمالة والاستعطاف حيث قال «يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك» ولم يسم أباه بالجهل المفرط وإن كان في أقصاه ولا نفسه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رفيق له أعرف بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال «فاتبعني أهدك صراطا سويا» أي مستقيما موصلا إلى أسنى المطالب منجيا عن الضلال المؤدي إلى مهاوي الردى والمعاطب ثم ثبطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كل عاقل ببيان أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلب لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادة الشيطان لما أنه الآمر به فقال «يا أبت لا تعبد الشيطان» فإن عبادتك للأصنام عبادة له إذ هو الذي يسو لهالك ويغريك عليها وقوله «إن الشيطان كان للرحمن عصيا» تعليل لموجب النهي وتأكيد له ببيان أنه مستعص على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم ولا ريب أن المطيع للعاصي عاص وكل من هو عاص حقيق بأن يسترد منه النعم وينتقم منه والإظهار في موضع الإضمار لزيادة التقرير والاقتصاد على ذكر عصيانه من بين سائر جناياته لأنه ملاكها أو لأنه نتيجة معاداته لآدم عليه السلام وذريته فتذكيره داع لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته والتعرض لعنوان الرحمانية لإظهار كمال شناعة عصيانه وقوله «يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن» تحذير من سوء عاقبة ما كان عليه من عبادة الشيطان وهو ابتلاؤه بما ابتلي به معبوده من العذاب الفظيع وكلمة من متعلقة بمضمر وقع صفة للعذاب مؤكدة لما افاده التنكير من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية وإظهار الرحمن للإشعار بأن وصف الرحمانية لا يدفع حلول العذاب كما في قوله عز وجل ما غرك بربك الكريم «فتكون للشيطان وليا» أي قرينا له في اللعن المخلد وذكر الخوف للمجاملة
267 وإبراز الاعتناء بأمره «قال» استئناف مبني على سؤال نشا من صدر الكلام كأنه قيل فماذا قال أبوه عندما سمع منه عليه السلام هذه النصائح الواجبة القبول فقيل قال مصرا على عناده «أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم» أي أمعرض ومنصرف أنت عنها بتوجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجب كأن الرغبة عنها مما لا يصدر عن العاقل فضلا عن ترغيب الغير عنها وقوله «لئن لم تنته لأرجمنك» تهديد وتحذير عما كان عليه من العظة والتذكير أي والله لئن لم تنته عما كنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجمنك بالحجارة وقيل باللسان «واهجرني» أي فاحذرني واتركني «مليا» أي زمانا طويلا أو مليا بالذهاب مطيقا به «قال» استئناف كما سلف «سلام عليك» توديع ومتاركة على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة أي لا أصيبك بمكروه بعد ولا أشافهك بما يؤذيك ولكن «سأستغفر لك ربي» اي أستدعيه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديك إلى الإيمان كما يلوح به تعليل قوله تعالى واغفر لأبي بقوله تعالى إنه كان من الضالين والاستغفار بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه وإنما المحظور استدعاء المغفرة له مع بقائه على الكفر فإنه مما لا مساغ له عقلا ولا نقلا وأما الاستغفار له بعد موته على الكفر فلا تأباه قضية العقل وإنما الذي يمنعه السمع ألا يرى إلى أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه فنزل قوله تعالى «ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين» الآية والاشتباه في أن هذا الوعد من إبراهيم عليه السلام وكذا قوله لأستغفرن لك وما ترتب عليهما من قوله واغفر لأبي الآية إنما كان قبل انقطاع رجائه عن إيمانه لعدم تبين أمره لقوله تعالى فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه كما مر في تفسير سورة التوبة واستثناؤه عما يؤتسى به في قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك لا يقدح في جوازه لكن لا لأن ذلك كان قبل ورود النهي أو لموعدة وعدها إياه كما قيل لما أن النهي إنما ورد في شأن الاستغفار بعد تبين الأمر وقد كان استغفاره عليه السلام قبل التبين فلم يتناوله النهي أصلا وأن الوعد بالمحظور لا يرفع خطره بل لأن المراد بما يؤتسى به ما يجب الائتساء به حتما لورود الوعيد على الإعراض عنه بقوله تعالى لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد فاستثناؤه عن ذلك إنما يفيد عدم وجوب استدعاء الإيمان للكافر المرجو إيمانه لا سيما وقد انقطع ذلك عند ورود الاستثناء وذلك مما لا يتردد فيه أحد من العقلاء وأما عدم جوازه قبل تبين الأمر فلا دلالة للاستثناء عليه قطعا وتوجيه الاستثناء إلى العدة بالاستغفار لا إلى نفس الاستغفار بقوله واغفر لأبي الآية لأنها كانت هي الحاملة له عليه السلام عليه وتخصيص تلك العدة بالذكر دون ما وقع ههنا لورودها على نهج التأكيد القسمي واما جعل الاستغفار دائرة عليها وترتيب التبرؤ على تبين الأمر فقد مر تحقيقه في تفسير سورة التوبة وقوله «إنه كان بي حفيا» أي بليغا في البر والألطاف تعليل لمضمون ما قبله
268 «وأعتزلكم» أي أتباعد عنك وعن قومك «وما تدعون من دون الله» بالمهاجرة بديني حيث لم تؤثر فيكم نصائحي «وأدعو ربي» أعبده وحده وقد جوز أن يراد به دعاؤه المذكور في تفسير سورة الشعراء ولا يبعد أن يراد به استدعاء الولد أيضا بقوله «رب هب لي من الصالحين» حسبما يساعده السباق والسياق «عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا» أي خائبا ضائع السعي وفيه تعريض بشقائهم في عبادة آلهتهم وفي تصدير الكلام بعسى من إظهار التواضع ومراعاة حسن الأدب والتنبيه على حقيقة الحق من أن الإجابة والإثابة بطريق التفضل منه عز وجل لا بطريق الوجوب وأن العبرة بالخاتمة وذلك من الغيوب المختصة بالعليم الخبير ما لا يخفي «فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله» بالمهاجرة إلى الشام «وهبنا له إسحاق ويعقوب» بدل من فارقهم من أقربائه الكفرة لكن لا عقيب المهاجرة فإن المشهور أن الموهوب حينئذ إسماعيل عليه السلام لقوله تعالى فبشرناه بغلام حليم إثر دعائه بقوله «رب هب لي من الصالحين» ولعل ترتيب هبتهما على اعتزاله ههنا لبيان كمال عظم النعم التي أعطاها الله تعالى إياه بمقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقرباء فإنها شجرتا الأنبياء لهما أولاد وأحفاد أولو شأن خطير وذو عدد كثير هذا وقد روى أنه عليه السلام لما قصد الشام أتى أولا حران وتزوج بسارة وولدت له إسحق وولد لإسحاق يعقوب والأول هو الأقرب الأظهر «وكلا» أي كل واحد منهما أو منهم وهو مفعول أول لقوله تعالى «جعلنا نبيا» قدم عليه للتخصيص لكن لا بالنسبة إلى من عداهم بل بالنسبة إلى بعضهم أي كل واحد منهم جعلنا نبيا لا بعضهم دون بعض «ووهبنا لهم من رحمتنا» هي النبوة وذكرها بعد ذكر جعلهم نبيا للإيذان بأنها من باب الرحمة وقيل هي المال والأولاد ما بسط لهم من سعة الرزق وقيل هو الكتاب والأظهر أنها عامة لكل خير ديني ودنيوي أوتوه مما لم يؤته أحد من العالمين (وجعلنا لهم لسان صدق عليا) يفتخر بهم الناس ويثنون عليهم استجابة لدعوة بقوله واجعل لي لسان صدق في الآخرين والمراد باللسان ما يوجد به الكلام ولسان العرب لغتهم واضافته إلى إلى الصدق ووصفه بالعلو للدلال على أنهم أحقاء بما يثنون عليهم وأن محامدهم لا تخفى على تباعد الأعصار وتبدل الدول وتحول الملل والنحل (واذكر في الكتاب موسى) قدم ذكرة على ذكر إسماعيل لئلا ينفصل عن ذكر يعقوب عليهما السلام (إنه كان مخلصا) موحدا أخلص عبادته عن الشرك والرياء أو أسلم وجهه لله تعالى وأخلص نفسه عما سواه وقرئ مخلصا على أن الله تعالى أخلصه (وكان رسولا نبيا) أرسله الله تعالى إلى الخلق فأنبهم عنه ولذلك قدم رسولا مع كونه أخص وأعلى
269 (وناديناه من جانب الطور الأيمن) الطور جبل بين مصر ومدين والأيمن صفة للجانب أي ناديناه من ناحيته اليمنى من اليمين وهي التي تلي يمين موسى عليه السلام أو من جانبه الميمون من اليمن ومعنى ندائه منه أنه له الكلام من تلك الجهة (وقربناه نجيا) تقريب تشريف مثل حاله عليه السلام بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته ونجيا أي مناجيا حال من أحد الضميرين في ناديناه أو قربناه وقيل مرتفعا لما روى أنه عليه السلام رفع فوق السماوات حتى سمع صريف القلم (ووهبنا له من رحمتنا) أي من أجل رحمتنا ورأفتنا له أو بعض رحمتنا (أخاه) أي معاضدة أخيه ومؤازرته إجابة لدعوته بقولة واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي لا نفسه لأنه كان أكبر منه عليهما السلام وهو على الأول مفعول لوهبنا وعلى الثاني بدل قوله تعالى (هارون) عطف بيان له وقوله تعالى (نبيا) حال منه (واذكر الكتاب إسماعيل) فصل ذكره عن ذكر أبيه وأخيه لإبراز كمال الاعتناء بأمره بإيراده مستقلا وقوله تعالى (إنه كان صادق الوعد) تعليل لموجب الأمر وإيرادك عليه السلام بهذا الوصف لكمال شهرته به وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح بقوله ستجدني إن شاء الله من الصابرين فوفي (وكان رسولا نبيا) فيه دلالة على أن الرسول لا يجب أن يكون صاحب شريعة فإن أولاد إبراهيم عليه السلام كانوا على شريعته (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) اشتغالا بالأهم وهو أن يقبل الرجل بالتكميل على نفسه ومن هو أقرب الناس إليه قال تعالى وأنذر عشيرتك الأقربين وأمر أهلك بالصلاة قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقصدا إلى تكميل الكل بتكميلهم لأنهم قدوة يؤتسى بهم وقيل أهله أمته فإن الأنبياء عليهم السلام آباء الأمم (وكان عند ربه مرضيا) لاتصافه بالنعوت الجليلة التي من جملتها ما ذكر من خصاله الحميدة (واذكر في الكتاب إدريس) وهو سبط شيث وجد أبي نوح فإنه نوح بن لمك بن متو شلح بن أخنوخ وهو إدريس عليه السلام واشتقاقه من الدرس يرده منع صرفه نعم لا يبعد أن يكون معناه في تلك اللغة قريبا من ذلك فلقب به لكثرة دراسته روى أنه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة وأنه أول من حط بالقلم ونظر في علم النجوم والحساب (إنه كان صديقا) ملازما للصدق في جميع أحواله (نبيا) خبر آخر لكان مخصص للأول إذ ليس كل صديق نبيا
270 (ورفعنا مكانا عليا) هو شرف النبوة والزلفى عند الله عز وجل وقيل علو الرتبة بالذكر الجميل في الدنيا كما في قوله تعالى ورفعنا لك ذكرك وقيل الجنة وقيل السماء السادسة أو الرابع روى عن كعب وغيره في سبب رفع إدريس عليه السلام أنه سئل ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس فقال يا رب إني قد مشيت فيها يوما وقد أصابني منها وأصابني فكيف من يحملها مسيرة خمسمائة عام في يوم واحد اللهم خفف عنه من ثقلها وحرها فما أصبح الملك وجد من خفة الشمس وحرها مالا يعرف فقال يا رب ما الذي قضيت فيه قال إن عبدي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته قال يا رب أجعل بيني وبينه خلة فأذن الله تعالى له فرفعه إلى السماء (أولئك) إشارة إلى المذكورين في السورة الكريمة وما فيه من معنى البعد للإشارة بعلو رتبهم منزلتهم في الفضل وهو مبتدأ وقوله تعالى (الذين أنعم الله عليهم) صفته أي أنعم عليهم بفنون النعم الدينية والدنيوية حسبما أشير إليه مجملا وقوله تعالى (من النبيين) بيان للموصول وقوله تعالى (من ذرية آدم) بدل منه بإعادة الجار ويجوز أن تكون كلمة من فيه للتبعيض لأن المنعم عليهم أعم من الأنبياء وأخص من الذرية «وممن حملنا مع نوح» أي ومن ذرية من حملنا معه خصوصا وهم من عدا إدريس عليه السلام فإن إبراهيم كان من ذرية سام بن نوح (ومن ذرية إبراهيم) وهم الباقون (وإسرائيل) عطف على إبراهيم أي ومن ذرية إسرائيل وكان منهم موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وفيه دليل على أن أولاد البنات من الذرية (وممن هدينا واجتبينا أي ومن جملة من هديناهم إلى الحق واجتبيناهم للنبوة والكرامة وقوله تعالى (إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا) خبر لأولتك ويجوز أن يكون الخبر هو الموصول وهذا استئنافا مسوقا لبيان خشيتهم من الله تعالى واخباتهم له مع حالهم من علو الرتبة وسمو الطبقة في شرف النسب وكمال النفس والزلفى من الله عز سلطانه وسجدا وبكيا حالان من ضمير خروا أي ساجدين باكين عن النبي صلى الله عليه وسلم المو القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا والبكى جمع باك كالسجد جمع ساجد وأصله بكوى فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الباء وحركت الكاف بالكسر المجانس للياء وقرئ يتلى بالياء التحتانية لأن التأنيث غير حقيقي وقرئ بكيا بكسر الباء للاتباع قالوا ينبغي أن يدعو الساجد في سجدته بما يليق بآيتها فههنا يقول اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم المهدبين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك وفي آية الإسراء يقول اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك وفي آية التنزيل السجدة يقول اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك
271 «فخلف من بعدهم خلف» يقال لعقب الخير خلف بفتح اللام ولعقب شر خلف بالسكون أي فعقبهم وجاء بعدهم عقب سوء «أضاعوا الصلاة» وقرئ الصلوات أي تركوها أو أخروها عن وقتها «واتبعوا الشهوات» من شرب الخمر واستحلال نكاح الأخت من الأب والانهماك في فنون المعاصي وعن علي رضي الله عنه هم من بني المشيد وركب المنظور ولبس المشهور «فسوف يلقون غيا» أي شرا فإن كل شر عند العرب غي وكل خير رشاد كقوله * فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره * ومن يغولا يعدم على الغي لائما * وعن الضحاك جزاء غي كقوله تعالى «يلق أثاما» أي جزاء أثام أو غيا عن طريق الجنة وقيل غي واد في جهنم تستعيذ منه أوديتها وقوله تعالى «إلا من تاب وآمن وعمل صالحا» يدل على أن الآية في حق الكفرة «فأولئك» إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة وما فيه من معنى البعد لما مر مرارا اي فأولئك المنعوتون بالتوبة والإيمان والعمل الصالح «يدخلون الجنة» بموجب الوعد المحتوم وقرئ يدخلون على البناء للمفعول «ولا يظلمون شيئا» أي لا ينقصون من جزاء أعمالهم شيئا أو لا ينقصون شيئا من النقص وفيه تنبيه على أن كفرهم السابق لا يضرهم ولا ينقص أجورهم «جنات عدن» بدل من الجنة بدل البعض لاشتمالها عليها وما بينهما اعتراض أو نصب على المدح وقرئ بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي هي أو تلك جنات الخ أو مبتدأ خبره إلى وعد الخ وقرئ جنة عدن نصبا ورفعا وعدن علم لمعنى العدن وهو الإقامة كما أن فينة وسحر وأمس فيمن لم يصرفها أعلام لمعاني الفينة وهي الساعة التي أنت فيها والسحر والأمس فجرى لذلك مجرى العدن أو هو علم الأرض الجنة خاصة ولولا ذلك لما ساغ إبدال ما أضيف إليه من الجنة بلا وصف عند غير البصريين ولا وصفة بقوله تعالى «التي وعد الرحمن عباده» وجعله بدلا منه خلاف الظاهر فإن الموصول في حكم المشتق وقد نصوا على أن البدل بالمشتق ضعيف والتعرض لعنوان الرحمة للإيذان بأن وعدها وإنجازه لكمال سعة رحمته تعالى والباء في قوله تعالى «بالغيب» متعلقة بمضمر هو حال من المضمر العائد إلى الجنات أو من عباده أي وعدها إياهم ملتبسة أو ملتبسين بالغيب أي غائبة عنهم غير حاضرة أو غائبين عنها لا يرونها وإنما آمنوا بها بمجرد الإخبار أو بمضمر هو سبب للوعد أي وعدها إياهم بسبب إيمانهم «إنه كان وعده» أي موعوده كائنا ما كان فيدخل فيه الجنات الموعودة دخولا أوليا ولما كانت هي مثابة يرجع إليها قيل «مأتيا» أي يأتيه من وعد له لا محالة بغير خلف وقيل هو مفعول بمعنى فاعل وقيل مأتيا أي مفعولا منجزا من أتى إليه إحسانا أي فعله «لا يسمعون
272 فيها لغوا» أي فضول كلام لا طائل تحته وهو كناية عن عدم صدور اللغو عن أهلها وفيه تنبيه على أن اللغو مما ينبغي أن يجتنب عنه في هذه الدار ما أمكن «إلا سلاما» استثناء منقطع أي لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم أو تسليم بعضهم على بعض أو متصل بطريق التعليق بالمحال أي لا يسمعون لغوا ما إلا سلاما فيحث استحال كون السلام لغوا استحال سماعهم له بالكلية كما في قوله * ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم * بهن فلول من قراع الكتائب * أو على أن معناه الدعاء بالسلامة وهم أغنياء عنه من باب اللغو ظاهرا وإنما فائدته الإكرام وقوله تعالى «ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا» وأراد على عادة المتنعمين في هذه الدار وقيل المراد دوام رزقهم ودروره وإلا فليس فيها بكرة ولا عشى «تلك الجنة» مبتدأ وخبر جيء به لتعظيم شأن الجنة وتعيين أهلها فإن ما في اسم الإشارة من معنى البعد للإيذان يبعد منزلتها وعلو رتبتها «التي نورث» أي نورثها «من عبادنا من كان تقيا» أي نبقيها عليهم بتقواهم ونمتعهم بها كما نبقى على الوارث مال مورثه ونمتعه به والوراثة أقوى ما يستعمل في التملك والاستحقاق من الألفاظ من حيث إنها لا تعقب بفسخ ولا استرجاع ولا إبطال وقيل يورث المتقون من الجنة المساكن التي كانت لأهل النار لو آمنوا وأطاعوا زيادة في كرامتهم وقرئ نورث بالتشديد «وما نتنزل إلا بأمر ربك» حكاية لقول جبريل حين استبطأه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح فلم يدر كيف يجيب ورجا أن يوحى إليه فيه فأبطأ عليه أربعين يوما أو خمسة عشر فشق ذلك عليه مشقة شديدة وقال المشركون ودعه ربه وقلاه ثم نزل ببيان ذلك وأنزل الله عز وجل هذه الآية وسورة الضحى والتنزيل النزول على مهل لأنه مطاوع للتنزيل وقد يطلق على مطلق النزول كما يطلق التنزيل على الإنزال والمعنى وما نتنزل وقتا غب وقت إلا بأمر الله تعالى على ما تقتضيه حكمته وقرئ وما يتنزل بالياء والضمير للوحي «له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك» وهو ما نحن فيه من الأماكن والأزمنة ولا ينتقل من مكان إلى مكان ولا نتنزل في زمان دون زمان إلا بأمره ومشيئته «وما كان ربك نسيا» أي تاركا لك يعني أن عدم النزول لم يكن إلا لعدم الأمر به لحكمة بالغة فيه ولم يكن لتركه تعالى لك وتوديعه إياك كما زعمت الكفرة وفي إعادة اسم الرب المعرب عن التبليغ إلى الكمال اللائق مضافا إلى ضميره عليه السلام من تشريفه والإشعار بعلة الحكم مالا يخفى وقيل أول الآية حكاية قول المتقين حين يدخلون الجنة مخاطبا بعضهم بعضا بطريق التبجح والابتهاج والمعنى وما نتنزل الجنة إلا بأمر الله تعالى ولطفه وهو مالك الأمور كلها سالفها ومترقيها وحاضرها فما وجدناه وما نجده من لطفه وفضله وقوله تعالى وما كان ربك نسيا تقرير لقولهم من وجهة الله تعالى أي وما كان ناسيا لأعمال العاملين وما وعدهم من الثواب عليها وقوله تعالى «رب السماوات والأرض وما بينهما» بيان لاستحالة النسيان عليه تعالى
273 فإن من بيده ملكوت السماوات والأرض وما بينهما كيف يتصور أن يحوم حول ساحة سبحانه الغفلة والنسيان وهو خبر مبتدأ محذوف أو بدل من ربك والفاء في قوله تعالى «فاعبده واصطبر لعبادته» لترتيب ما بعدها من موجب الأمرين على ما قبلها من كونه تعالى رب السماوات والأرض وما بينهما وقيل من كونه تعالى غير تارك له عليه السلام أو غير ناس لأعمال العاملين والمعنى فحين عرفته تعالى بما ذكر من الربوبية الكاملة فاعبده الخ فإن إيجاب معرفته تعالى كذلك لعبادته مما لا ريب فيه أو حين عرفت أنه تعالى لا ينساك أو ينسى أعمال العاملين كائنا من كان فأقبل على عبادته واصطبر على مشاقها ولا تحزن بإبطاء الوحي وهزؤ الكفرة فإنه يراقبك ويراعيك ويلطف بك في الدنيا والآخرة وتعدية الاصطبار باللام لا بحرف الاستعلاء كما في قوله تعالى «واصطبر عليها» لتضمينه معنى الثبات للعبادة فيما تورد عليه من الشدائد والمشاق كقولك للمبارز اصطبر لقرنك أي أثبت له فيما يورد عليك من شدائده «هل تعلم له سميا» السمي هو الشريك في الاسم والظاهر أن يراد به ههنا الشريك في اسم خاص قد عبر عنه تعالى بذلك وهو رب السماوات والأرض وما بينهما والمراد بإنكار العلم ونفيه إنكار المعلوم ونفيه على أبلغ وجه وآكد فالجملة تقرير لما أفاده الفاء من علية ربوبيته العامة لوجوب عبادته بل لوجوب تخصيصها به تعالى ببيان استقلاله عز وجل بذلك الاسم وانتفاء إطلاقه على الغير بالكلية حقا أو باطلا وقيل المراد هو الشريك في الاسم الجليل فإن المشركين مع غلوهم في المكابرة لم يسموا الصنم بالجلالة أصلا وقيل هو الشريك في اسم الإله والمراد بالتسمية التسمية على الحق فالمعنى هل تعلم شيئا يسمى بالاستحقاق إلها وأما التسمية على الباطل فهي كلا تسمية فتقرير الجملة لوجوب العبادة باعتبار ما في الاسمين الكريمين من الإشعار باستحقاق العبادة فتدبر «ويقول الإنسان» المراد به إما الجنس بأسره وإسناد القول إلى الكل لوجود القول فيما بينهم وإن لم يقله الجميع كما يقال بنو فلان قتلوا فلانا وإنما القاتل واحد منهم وإما البعض المعهود منهم وهو الكفرة أو أبي بن خلف فإن أخذ عظاما بالية ففتها وقال يزعم محمد أنا نبعث بعد ما نموت ونصير إلى هذه الحال أي يقول بطريق الإنكار والإستبعاد «أئذا ما مت لسوف أخرج حيا» أي أبعث من الأرض أو من حال الموت وتقديم الظرف وإيلاؤه حرف الإنكار لما أن المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة وانتصابه بفعل دل عليه أخرج لا به فإن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها وهي ههنا مخلصة للتوكيد مجردة عن معنى الحال كما خلصت الهمزة واللام للتعويض في يا الله فساغ اقترانها بحرف الاستقبال وقرئ إذا ما مت بهمزة واحدة مكسورة على الخبر «أولا يذكر الإنسان» من الذكر الذي يراد به التفكر والإظهار في موقع الإضمار لزيادة التقرير والإشعار بأن الإنسانية من دواعي التفكر فيما جرى عليه من شؤون التكوين المنحية بالقلع عن القول المذكور وهو السرفي إسناده إلى الجنس أو إلى الفرد بذلك العنوان والهمزة للإنكار التوبيخي والواو
274 لعطف الجملة المنفية على مقدر يدل عليه يقول أي أيقول ذلك ولا يذكر «أنا خلقناه من قبل» أي من قبل الحالة التي هو فيها وهي حالة بقائه «ولم يك شيئا» أي والحال أنه لم يكن حينئذ شيئا أصلا فحيث خلقناه وهو في تلك الحالة المنافية للخلق بالكلية مع كونه أبعد من الوقوع فلأن نبعثه بجمع المواد المتفرقة وإيجاد مثل ما كان فيها من الأعراض أولى وأظهر فماله لا يذكره فيقع فيما يقع فيه من النكير وقرئ يذكر ويتذكر على الأصل «فوربك» إقسامه باسمه عزت أسماؤه مضافا إلى ضميره عليه السلام لتحقيق الأمر بالإشعار بعليته وتفخيم شأنه صلى الله عليه وسلم ورفع منزلته «لنحشرنهم» أي لنجمعن القائلين بالسوق إلى المحشر بعد ما أخرجناهم من الأرض أحياء ففيه إثبات للبعث بالطريق البرهاني على أبلغ وجه وآكده كأنه أمر واضح غني عن التصريح به وإنما المحتاج إلى البيان ما بعد ذلك من الأهوال «والشياطين» معطوف على الضمير المنصوب أو مفعول معه روى أن الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين التي كانت تغويهم كل منهم مع شيطانه في سلسلة وهذا وإن كان مختصا بهم لكن ساغ نسبته إلى الجنس باعتبار أنهم لما حشروا وفيهم الكفرة مقرونين بالشياطين فقد حشروا معهم جميعا كما ساغ نسبة القول المحكي إليه مع كون القائل بعض أفراده «ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا» ليرى السعداء ما نجاهم الله تعالى منه فيزدادوا غبطة وسرورا وينال الأشقياء ما ادخروا لمعادهم عدة ويزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى دار الثواب وشماتتهم بهم والجثي جمع جاث من جثا إذا قعد على ركبتيه وأصله جثو وبواوين فاستثقل اجتماعهما بعد ضمتين فكسرت الثاء لتخفيف فانقلبت الواو الأولى ياء لسكونها وانكسار ما قبلها فاجتمعت واو وياء وسبق إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء الأولى وكسرت الجيم اتباعا لما بعدها وقرئ بضمها ونصبه على الحالية من الضمير البارز أي لنحضرنهم حول جهنم جاثين على ركبهم لما يدهمهم من هول المطلع أو لأنه من توابع التواقف للحساب قبل التواصل إلى الثواب والعقاب فإن أهل الموقف جاثون كما ينطق به قوله تعالى وترى كل أمة جاثية على ما هو المعتاد في مواقف التقاول وإن كان المراد بالإنسان الكفرة فلعلهم يساقون من الموقف إلى شاطئ جهنم جثاة إهانة بهم أو لعجزهم عن القيام لما اعتراهم من الشدة «ثم لننزعن من كل شيعة» أي من كل أمة شاعت دينا من الأديان «أيهم أشد على الرحمن عتيا» أي من كان منهم أعصى وأعتى فنطرحهم فيها وفي ذكر الأشد تنبيه على أنه تعالى يعفو عن بعض من أهل العصيان وعلى تقدير تفسير الإنسان بالكفرة فالمعنى إنا نميز من كل طائفة منهم أعصاهم فأعصاهم وأعتاهم فأعتاهم فنطرحهم في النار على الترتيب أو ندخل كلا منهم طبقتها اللائقة به وأيهم مبني على الضم عند سيبويه لأن حقه أن يبنى كسائر الموصولات لكنه أعرب حملا على كل وبعض للزوم الإضافة وغذا حذف صدر صلته زاد نقصه فعاد إلى حقه ومنصوب المحل بننزعن ولذلك قرئ منصوبا ومرفوع عند غيره بالابتداء
275 على أنه استفهامي وخبرة أشد والجملة محكية والتقدير لننزعن من كل شيعة الذين يقال لهم أيهم أشد أو معلق عنها لننزعن لتضمنه معنى التمييز اللازم للعلم أو مستأنفة والفعل واقع على كل شيعة على زيادة من أو على معنى لننزعن بعض كل شيعة كقوله تعالى ووهبنا لهم من رحمتنا وعلى للبيان فيتعلق بمحذوف كأن سائلا قال على من عتوا فقيل على الرحمن أو متعلق بأفعل وكذا الباء في قوله تعالى «ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليا» أي هم أولى بصلبها أو صليهم أولى بالنار وهم المنتزعون ويجوز أن يراد بهم وبأشدهم عتيا رؤساء الشيعة فإن عذابهم مضاعف لضلالهم وإضلالهم والصلي كالعتى صيغة وإعلالا وقرئ بضم الصاد «وإن منكم» التفات لإظهار مزيد الاعتناء بمضمون الكلام وقيل هو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور ويؤيد الأول أنه قرئ وإن منهم أي ما منكم أيها الإنسان «إلا واردها» أي واصلها وحاضر دونها يمر بها المؤمنون وهي خامدة وتهار بغيرهم وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم سئل عنه فقال إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي خامدة وأما قوله تعالى «أولئك عنها مبعدون» فالمراد به الإبعاد عن عذابها وقيل ورودها الجواز على الصراط الممدود عليها «كان» أي ورودهم إياها «على ربك حتما مقضيا» أي أمرا محتوما أوجبه الله عز وجل على ذاته وقضى أنه لا بد من وقوعه البتة وقيل أقسم عليه «ثم ننجي الذين اتقوا» الكفر والمعاصي مما كانوا عليه من حال الجثو على الركب على الوجه الذي سلف فيساقون إلى الجنة وقرئ ننجي بالتخفيف وينجي وينجى على البناء للمفعول وقرئ ثمة ننجي بفتح الثاء أي هناك ننجيهم «ونذر الظالمين» بالكفر والمعاصي «فيها جثيا» منهارا بهم كما كانوا قيل فيه دليل على أن المراد بالورود الجثو حواليها وأن المؤمنين يفارقون الفجرة بعد تجاثيهم حولها ويلقى الفجرة فيها على هيآتهم وقوله تعالى «وإذا تتلى عليهم» الآية إلى آخرها حكاية لما قالوا عند سماع الآيات الناعية عليهم فظاعة حالهم ووخامة مآلهم أي وإذا تتلى على المشركين «آياتنا» التي من جملتها هاتيك الآيات الناطقة بحسن حال المؤمنين وسوء حال الكفرة وقوله تعالى «بينات» أي مرتلات الألفاظ مبينات المعاني بنفسها أو ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم أو بينات الإعجاز حال مؤكدة من آياتنا «قال الذين كفروا» أي قالوا ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه على أنهم قالوا ما قالوا كافرين بما يتلى عليهم رادين له أو قال الذين مردوا منهم على الكفر ومرنوا على العتو والعناد وهم النضر بن الحرث وأتباعه
276 الفجرة واللام في قوله تعالى «للذين آمنوا» للتبليغ كما في مثل قوله تعالى وقال لهم نبيهم وقيل لام الأجل كما في قوله تعالى وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقونا إليه أي قالوا لأجلهم وفي حقهم والأول هو الأولى لأن قولهم ليس في حق المؤمنين فقط كما ينطق به قوله تعالى «أي الفريقين» أي المؤمنين والكافرين كأنهم قالوا أينا «خير» نحن أو أنتم «مقاما» أي مكانا وقرئ بضم الميم أي موضع إقامة ومنزل «وأحسن نديا» أي مجلسا ومجتمعا يروى أنهم كانوا يرجلون شعورهم ويدهنونها ويتطيبون ويتزينون بالزين الفاخر ثم يقولون ذلك لفقراء المؤمنين يريدون بذلك أن خيريتهم حالا وأحسنيتهم منالا مما لا يقبل الإنكار وأن ذلك لكرامتهم على الله سبحانه وزلفاهم عنده إذ هو العيار على الفضل والنقصان والرفعة والضعة وأن من ضرورته هوان المؤمنين عليه تعالى لقصور حظهم العاجل وما هذا القياس العقيم والرأي السقيم إلا لكونهم جهلة لا يعلمون إلا ظاهرا من الحياة الدنيا وذلك مبلغهم من العلم فرد عليهم ذلك من جهته تعالى بقوله «وكم أهلكنا قبلهم من قرن هم أحسن أثاثا ورئيا» اي كثيرا من القرون التي كانت أفضل منهم فيما يفتخرون به من الحظوظ الدنيوية كعاد وثمود وأضرابهم من الأمم العاتية قبل هؤلاء أهلكناهم بفنون العذاب ولو كان ما آتيناهم لكرامتهم علينا لما فعلنا بهم ما فعلنا وفيه من التهديد والوعيد مالا يخفى كأنه قيل فينتظر هؤلاء أيضا مثل ذلك فكم مفعول أهلكنا ومن قرن بيان لإبهامها وأهل كل عصر قرن لمن بعدهم لأنهم يتقدمونهم مأخوذ من قرن الدابة وهو مقدمها وقوله تعالى «هم أحسن أثاثا» في حيز النصب على انه صفة لكم وأثاثا تمييز النسبة وهو متاع البيت وقيل هو ما جد منه والخرثي ما لبس منه ورث والرئى المنظر فعل من الرؤية لما يرى كالطحن لما يطحن وقرئ ريا على قلب الهمزة ياء وإدغامها أو على أنه من الري وهو النعمة والترفه وقرئ ريئا على القلب وريا بحذف الهمزة وزيا بالزاي المعجمة من الزي وهو الجمع فإنه عبارة عن المحاسن المجموعة «قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا» لما بين عاقبة أمر الأمم المهلكة مع ما كان لهم من التمتع بفنون الحظوظ العاجلة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ ببيان مآل أمر الفريقين إما على وجه كلي متناول لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللذة الفانية المبتهجين بها على أن من على عمومها وإما على وجه خاص بهم على أنها عبارة عنهم ووصفهم بالتمكن لذمهم والإشعار بعلة الحكم أي من كان مستقرا في الضلالة مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور فليمدد له الرحمن أي يمد له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال والتمكين من التصرفات وإخراجه على صيغة الأمر للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما ينبئ عنه قوله عز وجل «أولم نعمركم» ما يتذكر فيه من تذكر أو للإستدراج كما ينطق به
277 قوله تعالى إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وقيل المراد به الدعاء بالمد والتنفيس وعلى اعتبار الاستقرار في الضلال لما أن المد لا يكون إلا للمصرين عليها إذ رب ضال يهديه الله عز وجل والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المد من أحكام الرحمة الدنيوية وقوله تعالى «حتى إذا رأوا ما يوعدون» غاية للمد الممتد لا لقول المفتخرين كما قيل إذ ليس فيه امتداد بحسب الذات وهو ظاهر ولا استمرار بحسب التكرار لوقوعه في حيز جواب إذا وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من كما أن الأفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها وقوله تعالى «إما العذاب وإما الساعة» تفصيل للموعود بدل منه على سبيل البدل فإنه إما لعذاب الدنيوي بغلبة المسلمين واستيلائهم عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا وإما يوم القيامة وما نالهم فيه من الخزي والنكال على طريقة منع الخلو دون منع الجواب فإن العذاب الأخروي لا ينفك عنهم بحال وقوله تعالى «فسيعلمون» جواب الشرط والجملة محكية بعد حتى أي حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي أو الأخروي فقط فسيعلمون حينئذ «من هو شر مكانا» من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنهم شر مكانا لا خير مقاما «وأضعف جندا» أي فئة وأنصار ألا أحسن نديا كما كانوا يدعونه وليس المراد أن له ثمة جندا ضعفاء كلا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا وإنما ذكر ذلك ردا لما كانوا يزعمون أن لهم أعوانا من الأعيان وأنصارا من الأخيار ويفتخرون بذلك في الأندية والمحافل «ويزيد الله الذين اهتدوا هدى» كلام مستأنف سيق لبيان حال المهتدين إثر بيان حال الضالين وقيل عطف على فليمدد لأنه في معنى الخبر حسبما عرفته كأن قيل من كان في الضلالة يمده الله ويزيد المهتدين هداية كقوله تعالى والذين اهتدوا زادهم هدى وقيل عطف على الشرطية المحكية بعد القول كأنه لما بين أن إمهال الكافر وتمتيعه بالحياة ليس لفضله عقب ذلك ببيان أن قصور حظ المؤمن منها ليس لنقصه بل لأنه تعالى أراد به ما هو خير من ذلك وقوله تعالى «والباقيات الصالحات خير» على تقديري الاستئناف والعطف كلام مستأنف وارد من جهته تعالى لبيان فضل أعمال المهتدين غير داخل في حيز الكلام الملقن لقوله تعالى «عند ربك» أي الطاعات التي تبقى فوائدها وتدوم عوائدها ومن جملتها ما قيل من الصلوات الخمس وما قيل من قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خير عند الله تعالى والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره لتشريفه صلى الله عليه وسلم «ثوابا» أي عائدة مما يتمتع به الكفرة من النعم المخدجة الفانية التي يفتخرون بها لا سيما ومآلها النعيم المقيم ومآل هذه الحسرة السرمدية والعذاب الأليم كما أشير إليه بقوله تعالى «وخير مردا» أي مرجعا وعافية وتكرير الخير لمزيد الاعتناء ببيان الخيرية وتأكيد لها وفي التفضيل مع أن ما للكفرة بمعزل من أن يكون له خيرية في العاقبة تهكم بهم «أفرأيت الذي
278 كفر بآياتنا» أي بآياتنا التي من جملتها آيات البعث نزلت في العاص بن وائل كان لخباب بن الأرت عليه مال فاقتضاه فقال لا حتى تكفر بمحمد قال لا والله لا أكفر به حيا ولا ميتا ولا حين بعثت قال فإذا بعثت جئني فيكون لي ثمة مال وولد فأعطيك وفي رواية قال لا أكفر به حتى يميتك ثم تبعث فقال إني لميت ثم مبعوث قال نعم قال دعني حتى أموت وأبعث فسأوتى مالا وولدا فاقضيك فنزلت فالهمزة للتعجيب من حاله والإيذان بأنها من الغرابة والشناعة بحيث يجب أن ترى ويقضى منها العجب ومن فرق بين ألم ترو إلى أرأيت بعد بيان اشتراكهما في الاستعمال لقصد التعجيب بأن الأول يعلق بنفس المتعجب منه فيقال ألم تر إلى الذي صنع كذا بمعنى انظر إليه فتعجب من حاله والثاني يعلق بمثل المتعجب منه فيقال أرأيت مثل الذي صنع كذا بمعنى أنه من الغرابة بحيث لا يرى له مثل فقد حفظ شيئا وغابت عنه أشياء وكأنه ذهب عليه قوله عز وجل أرأيت الذي يكذب بالدين والفاء للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا الباهرة التي حقها أن يؤمن بها كل من يشاهدها «وقال» مستهزئا بها مصدر لكلامه باليمن الفاجرة والله «لأوتين» في الآخرة «مالا وولدا» أي أنظر إليه فتعجب من حالته البديعة وجراءته الشنيعة هذا هو الذي يستدعيه جزالة النظم الكريم وقد قيل إن أرأيت بمعنى أخبر والفاء على أصلها والمعنى أخبر بقصة هذا الكافر عقيب حديث أولئك الذين قالوا أي الفريقين خير مقاما الآية وأنت خبير بأن المشهور استعمال أرأيت في معنى أخبرني بطريق الاستفهام جاريا على أصله أو مخرجا إلى ما يناسبه من المعاني لا بطريق الأمر بالإخبار لغيره وقرئ ولدا على أنه جمع ولد كأسد جمع أسد أو على أنه لغة فيه كالعرب والعرب وقوله تعالى «أطلع الغيب» رد لكلمته الشنعاء وإظهار لبطلانها إثر ما أشير إليه بالتعجيب منها أي أقد بلغ من عظمة الشأن إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الذي استأثر به العليم الخبير حتى ادعى أن أن يؤتي في الآخرة مالا وولدا وأقسم عليه «أم اتخذ عند الرحمن عهدا» بذلك فإنه لا يتوصل إلى العلم به إلا بأحد هذين الطريقين والتعرض لعنوان الرحمانية للإشعار بعلية لإيتاء ما يدعيه وقيل العهد كلمة الشهادة وقيل العمل الصالح فإن وعده تعالى بالثواب عليهما كالعهد وهذا مجاراة مع اللعين بحسب منطوق مقاله كما أن كلامه مع خباب كان كذلك وقوله تعالى «كلا» ردع له عن التفوه بتلك العظيمة وتنبيه على خطئه «سنكتب ما يقول» أي سنظهر أنا كتبنا قوله كقوله * إذا ما نتسبنا لم تلدني لئيمة * أي يتبين أني لم تلدني لئيمة أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة الجاني وحفظها عليه فإن نفس الكتيبة لا تكاد تتأخر عن القول لقوله عز وعلا ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد فمبني الأول تنزيل إظهار الشيء الخفي منزله إحداث الأمر المعدوم بجامع أن كلا منهما إخراج من الكمون إلى البروز فيكون استعارة تبعية مبنية على تشبيه إظهار الكتابة على رؤوس الأشهاد بإحداثها ومدار الثاني تسمية الشيء باسم سببه فإن
279 كتابه جريمة المجرم سبب لعقوبته قطعا «ونمد له من العذاب مدا» مكان ما يدعيه لنفسه من الإمداد بالمال والولد أي نطول له من العذاب ما يستحقه أو نزيد عذابه ونضاعفه له لكفره وافترائه على الله سبحانه واستهزائه بآياته العظام ولذلك اكد بالمصدر دلالة على فرط الغضب «ونرثه» بموته «ما يقول» أي مسمى ما يقول ومصداقه وهو ما أوتيه في الدنيا من المال والولد وفيه إيذان بأنه ليس لما يقوله مصداق موجود سوى ما ذكر أي ننزع عنه ما آتيناه «ويأتينا» يوم القيامة «فردا» لا يصحبه مال ولا ولد كان له في الدنيا فضلا أن يؤتى ثمة زائدا وقيل نزوي عنه ما زعم أنه يناله في الآخرة ونعطيه ما يستحقه ويأباه معنى الإرث وقيل المراد بما يقول نفس القول المذكور لا مسماه والمعنى إنما يقول هذا القول ما دام حيا فإذا قبضناه حلنا بينه وبين أن يقوله ويأتينا رافضا له منفردا عنه وأنت خبير بأن ذلك مبني على أن صدور القول المذكور عنه بطريق الاعتقاد وأنه مستمر على التفوه به راج لوقوع مضمونه ولا ريب في أن ذلك مستحيل ممن كفر بالبعث وإنما قال ما قال بطريق الاستهزاء وتعليق أداء دينه بالمحال «واتخذوا من دون الله آلهة» حكاية لجناية عامة للكل مستتبعة لضد ما يرجعون ترتبه عليها إثر حكاية مقالة الكافر المعهود واستتباعها لنقيض مضمونها أي اتخذوا الأصنام آلهة متجاوزين الله تعالى «ليكونوا لهم عزا» أي ليتعززوا بهم بأن يكونوا لهم وصلة إليه عز وجل وشفعاء عنده «كلا» ردع لهم عن ذلك الاعتقاد الباطل وإنكار لوقوع ما علقوا به أطماعهم الفارغة «سيكفرون بعبادتهم» أي ستجحد الآلهة بعبادتهم لها بأن ينطقها الله تعالى وتقول ما عبدتمونا أو سينكر الكفرة حين شاهدوا سوء عاقبة كفرهم عبادتهم لها كما في قوله تعالى والله ربنا ما كنا مشركين ومعنى قوله تعالى «ويكونون عليهم ضدا» على الأول تكون الآلهة التي كانوا يرجون أن تكون لهم عزا ضدا للعز أي ذلا وهوانا أو تكون عونا عليهم وآلة لعذابهم حيث تجعل وقود النار وحصب جنهم أو حيث كانت عبادتهم لها سببا لعذابهم وإطلاق الضد على العون لما أن عون الرجل يضاد عدوه وينافيه بإعانته له عليه وعلى الثاني يكون الكفرة ضدا وأعداء اللآلهة كافرين بها بعد أن كانوا يحبونها كحب الله ويعبدونها وتوحيد الضد لوحدة المعنى الذي عليه تدور مضادتهم فإنهم بذلك كشيء واحد كما في قوله عليه السلام وهم يد على من سواهم وقرئ كلا بفتح الكاف والتنوين على قلب الألف نونا في الوقف قلب ألف الإطلاق في قوله * أقلى اللوم عاذل والعتابن * وقولي إن أصبت لقد أصابن * أو على معنى كل هذا الرأي كلا وقرئ كلا على إضمار فعل يفسره ما بعده أي سيجحدون كلا سيكفرون الخ
280 «ألم تر أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين» تعجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما نطقت به الآيات الكريمة السالفة وحكته عن هؤلاء الكفرة والغواة والمردة العتاة من فنون القبائح من الأقاويل والأفاعيل والتمادي في الغي والانهماك في الضلال والإفراط في العناد والتصميم على الكفر من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم والإجماع على مدافعة الحق بعد اتضاحه وانتفاء الشك عنه بالكلية وتنبيه على أن جميع ذلك منهم بإضلال الشياطين وإغوائهم لا لأن له مسوغا ما في الجملة ومعنى إرسال الشياطين عليهم إما تسليطهم عليهم وتمكينهم من إضلالهم وإما تقييضهم لهم وليس المراد تعجيبه عليه السلام من إرسالهم عليهم كما يوهمه تعليق الرؤية به بل مما ذكر من أحوال الكفرة من حيث كونها من آثار إغواء الشياطين كما ينبئ عنه قوله تعالى «تؤزهم أزا» فإنه إما حال مقدرة من الشياطين أو استئناف وقع جوابا عما نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يفعل الشياطين بهم حينئذ فقيل تؤزهم أي تغريهم وتهيجهم على المعاصي تهييجا شديدا بأنواع الوساوس والتسويلات فإن الأز والهز والاستفزاز أخوات معناها شدة الإزعاج «فلا تعجل عليهم» أي بأن يهلكوا حسبما تقتضيه جناياتهم ويبيدوا عن آخرهم وتطهر الأرض من فساداتهم والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظلة لوقوع المنهي عنه محوجة إلى النهي كما في قوله تعالى إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة وقوله تعالى «إنما نعد لهم عدا» تعليل لموجب النهي ببيان اقتراب هلاكهم أي لا تستعجل بهلاكهم فإنه لم يبق لهم إلا أيام وأنفاس نعدها عدا «يوم نحشر المتقين» منصوب على الظرفية بفعل مؤخر قد حذف للإشعار بضيق العبارة عن حصره وشرحه لكمال فظاعة ما يقع فيه من الطامة التامة والدواهي العامة كأنه قيل يوم نحشر المتقين أي نجمعهم «إلى الرحمن» إلى ربهم الذي يغمرهم برحمته الواسعة «وفدا» وافدين عليه كما يفد الوفود على الملوك منتظرين لكرامتهم وإنعامهم «ونسوق المجرمين» كما تساق البهائم «إلى جهنم وردا» عطاشا فإن من يرد الماء لا يورده إلا العطش أو كالدواب التي ترد الماء نفعل بالفريقين من الأفعال مالا يفي ببيانه نطاق المقال وقيل منصوب على المفعولية بمضمر مقدم خوطب به النبي الله صلى الله عليه وسلم أي اذكر لهم بطريق الترغيب والترهيب يوم نحشر الخ وقيل على الظرفية لقوله تعالى «لا يملكون
281 الشفاعة» والذي يقتضيه مقام التهويل وتستدعيه جزالة التنزيل أن ينتصب بأحد الوجهين الأولين ويكون هذا استئنافا مبينا لبعض ما فيه من الأمور الدالة على هوله وضميره عائدا إلى العباد المدلول عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيهما وقيل إلى المتقين خاصة وقيل إلى المجرمين من الكفرة وأهل الإسلام والشفاعة على الأولين مصدر من المبني للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن تكون مصدرا من المبني للمفعول وقوله تعالى «إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا» على الأول استثناء متصل من لا يملكون ومحل المستثنى إما الرفع على البدل أو النصب على أصل الاستثناء والمعنى لا يملك العباد أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعد له بالتحلي بالإيمان والتقوى أو من أمر بذلك من قولهم عهد الأمير إلى فلان بكذا إذا أمره به فيكون ترغيبا للناس في تحصيل الإيمان والتقوى المؤدي إلى نيل هذه الرتبة وعلى الثاني استثناء من الشفاعة على حذف المضاف والمستثنى منصوب على البدل أو على أصل الاستثناء أي لا يملك المتقون الشفاعة إلا شفاعة من اتخذ العهد بالإسلام فيكون ترغيبا في الإسلام وعلى الثالث استثناء من لا يملكون أيضا والمستثنى مرفوع على البدل أو منصوب على الأصل والمعنى لا يملك المجرمون أن يشفع لهم إلا من كان منهم مسلما «وقالوا اتخذ الرحمن ولدا» حكاية لجناية اليهود والنصارى ومن يزعم من العرب أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا إثر حكاية عبدة الأصنام بطريق عطف القصة على القصة وقوله تعالى «لقد جئتم شيئا إدا» رد لمقالتهم الباطلة وتهويل لأمرها بطريق الالتفات المبني عن كمال السخط وشدة الغضب المفصح عن غاية التشنيع والتقبيح وتسجيل عليهم بنهاية الوقاحة والجهل والجراءة والإد بالكسر والفتح العظيم المنكر والإدة الشدة وأدنى الأمر وآدنى أثقلني وعظم على أي فعلتم أمرا منكرا شديدا لا يقادر قدره من جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته وقوله تعالى «تكاد السماوات» الخ صفة لإدا أو استئناف ببيان عظيم شأنه في الشدة والهول وقرئ يكاد بالتذكير «يتفطرن منه» يتشققن مرة بعد أخرى من عظم ذلك الأمر وقرئ ينفطرن والأول أبلغ لأن تفعل مطاوع فعل وانفعل مطاوع فعل ولأن أصل التفعل التكلف «وتنشق الأرض» أي وتكاد تنشق الأرض «وتخر الجبال» أي تسقط وتتهدم وقوله تعالى «هدا» مصدر مؤكد لمحذوف وهو حال من الجبال أي تهد هدا أو مصدر من المبني للمفعول مؤكد لتخر على غير الصدر لأنه حينئذ بمعنى التهدم والخرور كأنه قيل وتخر الجبال خرورا أو مصدر بمعنى المفعول منصوب على الحالية أي مهدودة أو مفعول له أي لأنها تهد وهذا تقرير لكونه إدا والمعنى أن هول تلك الشنعاء وعظمها بحيث لو تصورت بصورة محسوسة لم تطق بها هاتيك الأجرام العظام وتفتت من شدتها أو أن فظاعتها في استجلاب الغضب واستيجاب السخط
282 بحيث لولا حلمه تعالى لخرب العالم وبددت قوائمه غضبا على من تفوه بها «أن دعوا للرحمن ولدا» منصوب على حذف اللام المتعلقة بتكاد أو مجرور بإضمارها أي تكاد السماوات يتفطرن والأرض تنشق والجبال تخر لأن دعوا له سبحانه ولدا وقيل اللام متعلقة بهدا وقيل الجملة بدل من الضمير المجرور في منه كما في قوله * على جوده لضن بالماء حاتم * وقيل خبر مبتدأ محذوف أي الموجب لذلك أن دعوا الخ وقيل فاعل هدا أي هدها دعاء الولد والأول هو الأولى ودعوا من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين وقد اقتصر على ثانيهما ليتناول كل ما دعي له ولدا أو من دعا بمعنى نسب الذي مطاوعه ادعى إلى فلان أي انتسب إليه وقوله تعالى «وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا» حال من فاعل قالوا أو دعوا مقررة لبطلان مقالتهم واستحالة تحقق مضمونها أي قالوا اتخذ الرحمن ولدا أو أن دعوا للرحمن ولدا والحال أنه ما يليق به تعالى اتخاذ الولد ولا يتطلب له لو طلب مثلا لاستحالته في نفسه ووضع الرحمن موضع الضمير للإشعار بعلة الحكم بالتنبيه على أن كل ما سواه تعالى إما نعمة أو منعم عليه فكيف يتسنى أن يجانس من هو مبدأ النعم ومولي أصولها وفروعها حتى يتوهم أن يتخذه ولدا وقد صرح له قوم به عز قائلا «إن كل من في السماوات والأرض» أي ما منهم أحد من الملائكة والثقلين «إلا آتي الرحمن عبدا» إلا وهو مملوك له يأوي إليه بالعبودية والانقياد وقرئ آت الرحمن على الأصل «لقد أحصاهم» أي حصرهم وأحاط بهم بحيث لا يكاد يخرج منهم أحد من حيطة علمه وقبضة قدرته وملكوته «وعدهم عدا» أي عد أشخاصهم وأنفاسهم وأفعالهم وكل شيء عنده بمقدار «وكلهم آتيه يوم القيامة فردا» أي كل واحد منهم آت إياه تعالى منفردا من الأتباع والأنصار وفي صيغة الفاعل من الدلالة على إتيانهم كذلك البتة ما ليس في صيغة المضارع لو قيل يأتيه فإذا كان شأنه تعالى وشأنهم كما ذكر فأنى يتوهم احتمال أن يتخذ شيئا منهم ولدا «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات» لما فصلت قبائح أحوال الكفرة عقب ذلك بذكر محاسن أحوال المؤمنين «سيجعل لهم الرحمن ودا» اي سيحدث لهم في القلوب مودة من غير تعرض منهم لأسبابها سوى ما لهم من الإيمان والعمل الصالح والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن الموعود من آثارها
283 وعن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أحب الله عبدا يقول لجبريل عليه السلام إني أحب فلانا فأحبه فيحبه جبريل ثم ينادي في أهل السماء إن الله أحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء ثم يوضع له المحبة في الأرض والسين لأن السورة مكية وكانوا إذ ذاك ممقوتين بين الكفرة فوعدهم ذلك ثم أنجزه حين ربا الإسلام أو لأن الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد فينزع ما في صدورهم من الغل الذي كان في الدنيا ولعل إفراد هذا بالوعد من بين ما سيؤتون يوم القيامة من الكرامات السنية لما أن الكفرة سيقع بينهم يومئذ تباغض وتضاد وتقاطع وتلاعن «فإنما يسرناه» أي القرآن «بلسانك» بان أنزلناه على لغتك والباء بمعنى على وقيل ضمن التيسير معنى الإنزال أي يسرنا القرآن منزلين له بلغتك والفاء لتعليل أمر ينساق إليه النظم الكريم كأنه قيل بعد إيحاء السورة الكريمة بلغ هذا المنزل أو بشر به وأنذر فإنما يسرناه بلسانك العربي المبين «لتبشر به المتقين» أي الصائرين إلى التقوى بامتثال ما فيه من الأمر والنهي «وتنذر به قوما لدا» لا يؤمنون به لجاجا وعنادا واللد جمع الآلد وهو الشديد الخصومة اللجوج المعاند وقوله تعالى «وكم أهلكنا قبلهم من قرن» وعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ضمن وعيد الكفرة بالإهلاك وحث له صلى الله عليه وسلم على الإنذار أي قرنا كثيرا أهلكنا قبل هؤلاء المعاندين وقوله تعالى «هل تحس منهم من أحد» استئناف مقرر لمضمون ما قبله أي هل تشعر بأحد منهم وترى «أو تسمع لهم ركزا» أي صوتا خفيا واصل الركز هو الخفاء ومنه ركز الرمح إذا غيب طرفه في الرض والركاز المال المدفون المخفى والمعنى أهلكناهم بالكلية واستأصلناهم بحيث لا يرى منهم أحد ولا يسمع منهم صوت خفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرأ سورة مريم أعطي عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدق به ويحيى وعيسى ومريم وسائر الأنبياء المذكورين فيها وبعدد من دعا الله تعالى في الدنيا ومن لم يدع الله تعالى (تم الجزء الخامس ويليه الجزء السادس وأوله سورة طه)